رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام المجلد 1

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام/ تاليف جعفر السبحاني.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق (ع) ، 14ق. = 13 -

مشخصات ظاهري : 10ج.

يادداشت : عربي.

يادداشت : فهرست نويسي بر اساس جلد ششم: 1428ق. = 1386.

يادداشت : كتابنامه.

موضوع : اسلام -- بررسي و شناخت

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندي كنگره : BP11 /س2ر5 1300ي

رده بندي ديويي : 297

شماره كتابشناسي ملي : 1053076

ص :1

اشارة

ص :2

رسائل و مقالات (ج1)

المقدمة

ص:3

ص:4

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه رب العالمين،و الصلاة و السلام على نبيه و آله الطاهرين.

أمّا بعد:

هذه رسائل و مقالات كتبت في ظروف مختلفة لدواعي شتى،يجمعُها هدف واحد،و هو الذب عن الإسلام و التعريف بالتشيع، و فيها بحوث فلسفية و كلامية و تاريخية،صرفتُ في كتابتها وقتاً كثيراً،على أملِ أن تكون مشعلاً منيراً في سبيل الوحدة الإسلامية التي هي أُمنية كل مسلم واعٍ،و كل مؤمن ملمّ بالأخطار المحدِقة بالإسلام و المسلمين.

و اللّه من وراء القصد

قم المشرفة-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

جعفر السبحاني

ص:5

قد طلب الاُستاذ رئيس تحرير مجلة«آفاق الإسلام»التي تصدر في المملكة الأردنية الهاشمية،منّي كتابة مقال مسهب أُبين فيه أُصول المذهب الجعفري و فروعه،فنزلت عند رغبته و بعثت بهذا المقال إليه،فنشره على صفحات مجلته،السنة الخامسة،العدد الأوّل، آذار 1997،و قد نشر قبل هذا العدد ترجمة الأئمّة الأربعة للمذاهب الفقهية،و بهذا المقال اكتملت الحلقات حول المذاهب الفقهية الإسلامية.

نعم يمتاز هذا المقال أنّه صب اهتمامه على أُصول الشيعة و فروعها مكان ترجمة الإمام الصادق عليه السلام.

فأتقدّم بالشكر الجزيل إلى الاُستاذ رئيس التحرير على مساهمته في إنجاز هذا العمل و نفض غبار التعصب من خلال نشر هذا المقال في الأوساط السنية.

شكر اللّه مساعي الجميع

المؤلف

ص:6

الرسائل

الرسالة الاولى:الشيعة الإمامية الاثنا عشرية

اشارة

رسالة موجزة تتناول تاريخ الشيعة الإمامية الاثني عشرية،نشأتهم، عقائدهم،و منهجهم الفقهي

الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على نبيّه و آله

و على رواة سُنَنِه و حملة أحاديثه،و حفظة كلمه

صلاة دائمة ما دام الفرقدان و كرّ الجديدان.

أمّا بعد:

فهذا مقال موجز عن الشيعة الإمامية يبيّن نشأتهم و عقائدهم و منهجهم الفقهي و التراث العلمي الذي تركوه،إلى غير ذلك ممّا يمت لهم بصلة.

إنّ المذهب الشيعي الإمامي يقوم على دعامتين:

1- الاُصول التي يتبنّاها في مجال العقيدة.

2- الشريعة التي يقرّرها دستوراً لجوانب الحياة كافة.

ص:7

و ليس المذهب الشيعي مذهباً فقهياً بحتاً كالمذاهب الأربعة،و إنّما هو منهج متكامل يغذِّي الإنسانَ فكراً و عملاً،و على ضوء ذلك فلا محيص عن دراسة المذهب من جانبين:أحدهما يتعلّق بالاُصول،و الآخر بالفروع.

و إليك الكلام في الجانب الأوّل.

تمهيد::الشيعة لغةً و اصطلاحاً و تاريخاً

اشارة

الشيعة لغة هم الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم،يقال تشايعَ القومُ:إذا تعاونوا،و ربّما يُطلق على مطلق التابع،قال تعالى: «وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ* إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» 1.

و أمّا اصطلاحاً فتطلق على من يشايع علياً و الأئمة من بعده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،نصبهم لهذا المقام بأمرٍ من اللّه سبحانه.

فالتشيّع عبارة عن استمرار قيادة النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد وفاته،بمن نصَبه للناس إماماً و قائداً للاُمّة.

و أمّا تاريخاً فالشيعة هم ثلّة من المسلمين الأوائل الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و آزروه و عاضدوه في مواقف عصيبة،فلمّا مضى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى الرفيق الأعلى انطووا تحت قيادة عليّ عليه السلام و أولاده باعتباره الممثل الشرعي للخلافة و المنصوص عليه من قبل النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:8

فليس التشيّع ظاهرة طارئة على الإسلام،و لا أَنّ الشيعة وليدة الأحداث التي رافقت وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

و ليس للتشيع تاريخ وراء تاريخ الإسلام،و لا للشيعة أُصول سوى أنّهم رهط من المسلمين الأوائل في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و من جاء بعدهم عبر القرون،كل ذلك يعلم من خلال التحليلات التي ستمرّ عليك.

تسمية التشيّع:

إنّ الآثار المروية على لسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم تكشف اللثام عن وجه الحقيقة و تعرب عن التفاف ثلة من المهاجرين و الأنصار حول الإمام عليّ في حياة الرسول و كانوا معروفين بشيعة علي،و انّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم سمّاهم الشيعة و وصفهم بأنّهم الفائزون،و إليك بعض ما روي مقتصراً بالقليل من الكثير:

1- أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه،قال:كنّا عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم فأقبل عليّ،فقال صلى الله عليه و آله و سلم:و الذي نفسي بيده إنّ هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة،و نزلت: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» 1 فكان أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذا أقبل عليّ قالوا:جاء خير البرية (1).

2- أخرج ابن عدي عن ابن عباس قال:لمّا نزلت: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ عليه السلام:هو أنت و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين (2).

ص:9


1- 2) .السيوطي:الدر المنثور:589/2.و [1]لاحظ الصواعق:161؛و [2]النهاية لابن الأثير مادة«قمح»:106/4؛ربيع الأبرار للزمخشري،فالروايات الواردة في تسمية النبيّ من يتابع علياً شيعياً،تقارب عشرين رواية.
2- 3) .السيوطي:الدر المنثور:589/2.و [3]لاحظ الصواعق:161؛و [4]النهاية لابن الأثير مادة«قمح»:106/4؛ربيع الأبرار للزمخشري،فالروايات الواردة في تسمية النبيّ من يتابع علياً شيعياً،تقارب عشرين رواية.

و على ضوء هذه التسمية غلب لفظ الشيعة على من يشايع علياً في كلمات غير واحد من المؤرخين.

3- قال المسعودي في حوادث وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم:إنّ الإمام علياً أقام و من معه من شيعته في منزله بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر (1).

4- و قال النوبختي:إنّ أوّل فرق الشيعة هم فرقة علي بن أبي طالب المسمّون شيعة عليّ في زمان النبي و بعده معروفون بانقطاعهم إليه و القول بإمامته (2).

5- و قال الإمام أبو الحسن الأشعري:إنّما قيل لهم الشيعة لأنّهم شايعوا علياً و قدّموه على سائر أصحاب رسول اللّه (3).

6- يقول الشهرستاني:الشيعة هم الذين شايعوا علياً على الخصوص و قالوا بإمامته و خلافته نصاً و وصية (4).

7- و قال ابن حزم:و من وافق الشيعة في أنّ علياً أفضل الناس بعد رسول اللّه و أحقّهم بالإمامة و ولده من بعده فهو شيعي و إن خالفهم فيما عدا ذلك ممّا اختلف فيه المسلمون،فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعياً (5).

جاءت دعوته صلى الله عليه و آله و سلم إلى التشيّع متزامنة مع دعوته للرسالة،فقد بذر التشيع حال حياته في غير موقف من مواقفه الحاسمة، و إليك نماذج منها:

1- حديث يوم الدار الذي جمع فيه أكابر بني هاشم و عشيرته و عرض

ص:10


1- 1) .المسعودي:الوصية:121.
2- 2) .النوبختي:فرق الشيعة:15. [1]
3- 3) .الأشعري:مقالات الإسلاميين:65/1. [2]
4- 4) .الشهرستاني:الملل و النحل:131/1. [3]
5- 5) .ابن حزم:الملل و النحل:113/2،طبعة بغداد.

عليهم رسالته،و قال:إنّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة و قد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه،فأيّكم يؤمن بي و يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم؟ فلم يقم أحد إلّا عليّ،فقال:إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم،فاسمعوا له و أطيعوا (1).

2- حديث المنزلة أعني قوله:«أما ترضى (مخاطباً علياً) أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» (2).

3- حديث الغدير الذي سيوافيك تفصيله.

إنّ هذه الأحاديث و غيرها الناصّة على إمامة علي عليه السلام و خلافته بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم توقفنا على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم هو الذي بذر بذرة التشيع حال حياته و ألفت أنظار المهاجرين و الأنصار إلى قيادة عليّ عليه السلام للأُمة بعد رحيله صلى الله عليه و آله و سلم،مضافاً إلى ما صدر على لسانه صلى الله عليه و آله و سلم من الفضائل و المناقب لعلي و عترته حيث صار سبباً لاستقطاب الناس حوله في حال حياته صلى الله عليه و آله و سلم و بعد رحيله.

هذا،و قد تزامنت دعوته صلى الله عليه و آله و سلم للرسالة،دعوته للإمامة دون أن يكون بينهما سبق و لحوق.

و هو ما عبّرنا عنه أَنّ التشيع ليس ظاهرة طارئة،و لا الشيعة وليدة الأحداث التي رافقت وفاته صلى الله عليه و آله و سلم،بل إنّ الإسلام و التشيع وجهان لعملة واحدة.

و إليك أسماء مجموعة من روّاد الشيعة في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

روّاد التشيع في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

ص:11


1- 1) .الطبري:التاريخ:62/2، [1]الجزري:الكامل:40/2،و [2]لاحظ التفاسير بشأن قوله سبحانه:«و أنْذر عَشيرتَكَ الأقربين»(الشعراء214/). [3]
2- 2) .مسلم:الصحيح:ج6،باب فضائل علي ص 120 طبع محمد علي صبيح.
روّاد التشيع في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

لمّا كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو الباذر الأوّل للتشيّع في عصره،فقد التفّ حول الإمام عليّ عليه السلام مجموعة من المهاجرين و الأنصار في عصره صلوات اللّه عليه و بعد رحيله،و ناصروه في مواقف عديدة و عُرفوا بشيعة عليّ،و لأجل مرافقة المدعى بالدليل نذكر هنا أسماء روّاد التشيع من الصحابة في صدر الإسلام:

1- عبد اللّه بن عباس.2- الفضل بن العباس.

3- قثم بن العباس.4- عبد الرحمن بن العباس.

5- تمام بن العباس.6- عقيل بن أبي طالب.

7- أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب.8-نوفل بن الحرث.

9- عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب.10- عون بن جعفر.

11- محمد بن جعفر.12- ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب.

13- الطفيل بن الحرث.14- المغيرة بن نوفل بن الحارث.

15- عبد اللّه بن الحرث بن نوفل.16- عبد اللّه بن أبي سفيان بن الحرث.

17- العباس بن ربيعة بن الحرث.18- العباس بن عتبة بن أبي لهب.

19- عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث.20- جعفر بن أبي سفيان بن الحرث.

هؤلاء من مشاهير بني هاشم،و أمّا غيرهم فإليك أسماء لفيف منهم:

21- سلمان المحمدي.22- المقداد بن الأسود الكندي.

23- أبو ذر الغفاري.24- عمار بن ياسر.

25- حذيفة بن اليمان.26- خزيمة بن ثابت.

27- أبو أيوب الأنصاري (مضيّف النبي صلى الله عليه و آله و سلم).28- أبو الهيثم مالك بن التيهان.

ص:12

29- أُبي بن كعب.30- قيس بن سعد بن عبادة.

31- عدي بن حاتم.32- عبادة بن الصامت.

33- بلال بن رباح الحبشي.34- أبو رافع مولى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

35- هاشم بن عتبة.36- عثمان بن حنيف.

37- سهل بن حنيف.38- حكيم بن جبلة العبدي.

39- خالد بن سعيد بن العاص.40- بريدة بن الحصيب الأسلمي.

41- هند بن أبي هالة التميمي.42- جعدة بن هبيرة.

43- حجر بن عدي الكندي.44- عمرو بن الحمق الخزاعي.

45- جابر بن عبد اللّه الأنصاري.46- محمد بن الخليفة أبي بكر.

47- أبان بن سعيد بن العاص.48- أُم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

49- أُم هاني بنت أبي طالب.50- أسماء بنت عميس.

هؤلاء خمسون صحابياً من روّاد الشيعة،فمن أراد التفصيل و الوقوف على حياتهم و تشيعهم فليرجع إلى الكتب المؤلفة في الرجال.

قال محمد كرد علي في كتابه«خطط الشام»:عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مثل:سلمان الفارسي القائل:بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين و الائتمام بعلي بن أبي طالب و الموالاة له،و مثل:أبي سعيد الخدري الذي يقول:

أُمر الناس بخمس فعملوا بأربع و تركوا واحدة،و لما سئل عن الأربع،قال:الصلاة،و الزكاة،وصوم شهر رمضان،و الحج،فقيل:فما الواحدة التي تركوها؟ قال:ولاية علي بن أبي طالب،قيل له:و إِنّها لمفروضة معهن؟ قال:نعم هي مفروضة معهن،و مثل:أبي ذر الغفاري،و عمّار بن ياسر،و حذيفة بن اليمان،وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت،و أبي أيوب الأنصاري،و خالد بن سعيد،

ص:13

و قيس بن سعد بن عبادة (1).

و بذلك يستغني القارئ عن الافتراضات الوهمية التي أبداها لفيف من المستشرقين تبعاً لما ورد على لسان بعض الباحثين من أُسطورة عبد اللّه بن سبأ التي حاكها سيف بن عمر الكذّاب الوضّاع (2).

***

هذا هو معنى الشيعة لغة و اصطلاحاً و تاريخاً ذكرناه بصورة موجزة و التفصيل يطلب من الكتب المعدّة لهذا الغرض.

و أمّا دراسة عقائد الشيعة و منهجهم الفقهي فتتمّ ضمن فصول سبعة:

الأول:الشيعة و التوحيد.

الثاني:الشيعة و العدل.

الثالث:الشيعة و النبوّة.

الرابع:الشيعة و المعاد.

الخامس:الشيعة و الإمامة و الخلافة.

السادس:الشيعة و المنهج الفقهي.

السابع:الشيعة و التراث الفكري.

ص:14


1- 1) .خطط الشام:251/5. [1]
2- 2) .لاحظ ميزان الاعتدال:للذهبي:438/1،تهذيب التهذيب:لابن حجر:285/4،اللئالي المصنوعة:157/1 و 199.

الفصل الأول::الشيعة و التوحيد

اشارة

الشيعة تصف اللّه سبحانه كما وصف به نفسه و يقول: «قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ* اَللّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ* وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» .

و تصفه بأنّه سبحانه قديم لم يزل و لا يزال،عالم قادر،حيّ قيّوم،سميع بصير،متعال عن جميع صفات خلقه،خارج عن الحدّين:

حدّ التعطيل،و حدّ التشبيه،لا يجوز تعطيل ذاته عن صفاته كما لا يجوز تشبيه ذاته بمخلوقاته.

تعتقد الشيعة في توحيده ما كتبه الإمام الرضا عليه السلام للمأمون العباسي،حيث سأله المأمون أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز و الاختصار.

فكتب عليه السلام له:«إنّ محض الإسلام شهادة أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له،إلهاً واحداً أحداً فرداً،صمداً،قيوماً،سميعاً بصيراً، قديراً قديماً قائماً،باقياً،عالماً لا يجهل،قادراً لا يعجز،غنيّاً لا يحتاج،عدلاً لا يجور و أنّه خالق كلّ شيء،و ليس كمثله شيء،لا شبه له، و لا ضدّ له،و لا ندّ له،و لا كفو له،و أنّه المقصود بالعبادة و الدعاء،و الرغبة و الرهبة» (1).

و قد عرض عبد العظيم الحسني عقيدته على الإمام الهادي علي بن محمد النقي عليهما السلام فقال له:يا بن رسول اللّه،إنّي أُريد أن أعرض عليك ديني،فإن كان مرضيّاً ثبتُّ عليه حتى ألقى اللّه عزّ و جلّ.

ص:15


1- 1) .الصدوق:عيون أخبار الرضا عليه السّلام:121/2. [1]

فقال عليه السلام:هاتها.

فقلت:إنّي أقول إنّ اللّه تبارك و تعالى واحد ليس كمثله شيء،خارج عن الحدّين:حدّ الإبطال،و حدّ التشبيه،و انّه ليس بجسم و لا صورة و لا عرض و لا جوهر،بل هو مجسِّم الأجسام و مصوِّر الصور،و خالق الأعراض و الجواهر،و ربّ كل شيء و مالكه و جاعله و محدثه (1).

هذه عقيدة الشيعة في توحيده و تنزيهه،و القارئ إذا رجع إلى الكتب الكلامية و العقائدية التي أُلّفت بيد علماء الشيعة منذ أوائل القرن الثالث إلى العصر الحاضر يرى اتّفاقهم على ما ذكرنا،و قد اخترنا لك نصّين:

أحدهما:للرضا عليه السلام الإمام الثامن للشيعة الإمامية (148-203 ه).

و ثانيهما:للإمام الهادي الإمام العاشر (232-254 ه) فقد أمضى ما ذكره عبد العظيم الحسني عليه.

اخترنا هذين النصّين ليُعلم أنّ الشيعة أهل التنزيه منذ عهدٍ مبكّر،و مع ذلك كلّه فقد قسّم علماء الشيعة التوحيد إلى مراتب و درجات نذكرها على وجه الإيجار.

1- التوحيد الذاتي:واحد لا نظير له.

2- التوحيد الذاتي أيضاً:بسيط ليس بمركب.

3- التوحيد الأفعالي:إنّه لا خالق في الكون إلّا هو.

4- التوحيد التدبيري:إنّه لا مدبّر للكون إلّا هو.

5- التوحيد العبادي:لا معبود سواه.

ص:16


1- 1) .الصدوق:التوحيد،باب التوحيد و التشبيه:81 برقم 37.

ثمّ إنّ هناك مراتب للتوحيد ذكرها علماء الشيعة في كتبهم الكلامية و استنبطوها من القرآن الكريم و أحاديث العترة الطاهرة،و هي:

6- التوحيد في التقنين و التشريع:إنّه لا مقنّن و لا مشرّع إلّا هو،و ليس لأحد حقّ التشريع.

7- التوحيد في الطاعة:إنّه لا مطاع بالذات إلّا هو،و لو وجبت إطاعة النبي و الإمام فإنّما هي بأمره سبحانه.

8- التوحيد في الحاكمية:لا حاكم إلّا هو،و انّه ليس لأحد أن يحكم إلّا بإذنه سبحانه.

9- التوحيد في الشفاعة:و المراد أنَّ الشفاعة حقّ للّه سبحانه،و لا يشفع لأحد إلّا بإذنه «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى» 1.

10- التوحيد في الاستعانة:و انّه لا يستعان إلّا به،و لو استعان بغيره بزعم أنّه يقوم بالإعانة مستقلاً فهو مشرك،و لو استعان بغيره معتقداً بأنّه معين بحول و قوّة منه سبحانه فهو عين التوحيد.

11- التوحيد في المغفرة:و إنّه لا يغفر الذنوب إلّا هو.

12- التوحيد في الرازقية:و إنّه لا رازق إلّا هو.

هذه مراتب التوحيد الاثنا عشر التي يتفقون فيها مع إخوانهم أهل السنّة لا سيما الأشاعرة.

نعم هناك مرتبة من التوحيد تختص بالشيعة الإمامية يختلفون فيها عن سائر الفرق و الطوائف الإسلامية و هي:

ص:17

التوحيد في الصفات:و المراد به أنّ صفاته الثبوتية كالعلم و القدرة و الحياة عين ذاته لا زائدة على الذات و إلّا يلزم تعدد القدماء الثمانية-و هي مسألة كلامية خاض فيها عباقرة علم الكلام-خلافاً للأشاعرة القائلين بزيادة الصفات على الذات.

و هناك مصطلح كلامي و هو الصفات الخبرية و المقصود منها هي الصفات التي أخبر بها القرآن الكريم و أثبتها الوحي للّه سبحانه كعين اللّه،و يد اللّه،و استوائه على العرش،و ما ماثلها،و المسلمون فيها على أقوال:فمن معطِّل يفوِّض تفسير هذه الآيات و الصفات إلى اللّه تبارك و تعالى،إلى مجسِّم يفسّرها بالمعاني اللغوية من دون أن يجعلها ذريعة إلى المعاني المجازية،إلى مؤوّل يؤوّلها إلى معاني تجتمع مع تنزيهه.

و الشيعة الإمامية تحملها على المعاني اللغوية و لكن تجعلها كناية عن المفاهيم العالية،و لا ترى ذلك تأويلاً،فإنّ كلام العرب مشحون بالمجاز فاليد في قوله سبحانه: «يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» 1 مستعملة في نفس المعنى اللغوي لكن كناية عن سعة قدرته،و هو أمر رائج بين البلغاء و لا يعدّ تأويلاً.

ثمّ إنّ توحيده سبحانه بكونه الخالق و المدبّر لا يعني سلب التأثير عن العوامل الطبيعية و الجنود الغيبية للربّ،فإنّ سلب التأثير الظلي و التبعي عن كل موجود سوى اللّه،يردّه الذكر الحكيم بقوله سبحانه: «وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ» 2.

و على ضوء ذلك فالماء يروي العطشان،كما أنّ الخبز يشبعُ الجائع،و الماء ينبت النبت و الزرع،لكن بأثر مودع فيه من جانب خالقه،فالقول بتأثيره في ظل

ص:18

إرادته سبحانه و أمره عَيْن التوحيد الذي دعا إليه الذكر الحكيم.

و من أراد أن يفسّر التوحيد في الخالقية و التدبير،بسلب الأثر عن كل موجود سواه،فقد خالف القرآن و الوجدان الصريح و وقع في متاهات الجبر الذي سيوافيك بطلانه في الفصل الثاني.

تقسيم صفاته إلى ذاتي و فعلي:

إنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى ذاتي قائم بذاته،و فعليّ يعدّ وصفاً لفعله،و الميزان في تمييز الصفات الذاتية عن الفعلية هو أنّ القسم الأول لا يقبل السلب و الإيجاب،بخلاف الثاني و لذلك لا يصحّ أن يقال اللّه يعلم و لا يعلم،أو يقدر و لا يقدر،بخلاف الرزق فيصدق إنّه يرزق و لا يرزق و لذلك تعتقد الشيعة بأنّ من صفاته الفعلية كونه متكلّماً فالتكلّم صفة من صفاته الفعلية بالشرح التالي:

في تكلمه سبحانه:

اتفقت الشيعة على انّه سبحانه متكلّم،و لكن التكلّم عندهم من صفات الأفعال و يفسّر كونه متكلماً بأمرين.

الأوّل:إنّ كل ما في الكون كلام اللّه سبحانه،فكما أنّ الكلمة تعرب عمّا يقوم في نفس المتكلّم من المعاني فكذلك كل ما في الكون يُعرب عن حكمته و علمه و قدرته الواسعة قال سبحانه: «وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ» 1.

قال عليّ عليه السلام:يقولُ لِمَنْ أراد كونه:«كُن فيكون»،لا بِصَوتٍ يَقرَعُ،و لا بِنِداءٍ

ص:19

يُسمَعُ،و إنّما كلامُه سبحانه فِعلٌ منه أنشأَهُ و مثَّلَه،لم يكن من قبلِ ذلك كائناً،و لو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً (1).

فكل ما في صحيفة الوجود من الموجودات الإمكانية،كلماته و تخبر عما في خالقها من كمال و جمال،و علم و قدرة.

الثاني:إنّه سبحانه يخلق الحروف المنظومة و الأصوات المقطّعة،يسمعها نبيّه و رسوله أو يرسل رسولاً فيبلّغه آياته،أو يلقي في روع النبي،و إلى هذه الأقسام الثلاثة يشير سبحانه،بقوله: «وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» 2.

و قد بيّن تعالى أن تكلّمه مع الأنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية:

1- «إِلاّ وَحْياً».

2- «أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ».

3- «أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً».

فقد أشار بقوله: «إِلاّ وَحْياً» إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة و خفاء.

كما أشار بقوله: «أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» إلى الكلام المسموع لموسى عليه السلام في البقعة المباركة.قال تعالى: «فَلَمّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» 3.

ص:20


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة:186. [1]

و أشار بقوله: «أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً» إلى الإلقاء الذي يتوسّط فيه ملك الوحي،قال سبحانه: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ» 1 ففي الحقيقة الموحي في الأقسام الثلاثة هو اللّه سبحانه،تارة بلا واسطة،بالإلقاء في الروع،و أُخرى بالتكلّم من وراء حجاب بحيث يُسمَع الصوت و لا يُرى المتكلم و ذلك بخلق الأصوات و الحروف،و ثالثة بواسطة الرسول (أمين الوحي جبرائيل)،فهذه الأقسام الثلاثة الواردة في الآية المباركة.

إنّ موقف أئمّة أهل البيت في مسألة خلق القرآن و قدمه هو الموقف الإيجابي و إنّهم كانوا يرون القرآن حادثاً لا قديماً و إلّا يلزم أن يكون القرآن إلهاً ثانياً.

و أمّا انّه مخلوق فلو أُريد انّه مختلق فهو أمر باطل شبيه قول الوليد بن المغيرة الذي حكاه القرآن عنه: «إِنْ هذا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ» 2 .

و إن أُريد انّه مخلوق للّه،و هو منزِّله و هو نفس المطلوب،و قد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن واقع القرآن فقال:هو كلام اللّه،و قول اللّه،و كتاب اللّه،و وحي اللّه و تنزيله،و هذا الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (1).

و من هنا يعلم أنّ مسألة خلق القرآن كانت فتنة ابتلي بها المسلمون في عصر المأمون و استغلتها النصارى لصالحهم،و أوجدت فجوة عميقة بين المسلمين و كان النزاع نزاعاً بلا ثمر.

ص:21


1- 3) .الصدوق:التوحيد:224،الحديث 2.
تقسيم صفاته إلى ثبوتية و سلبية:

إنّ المتكلّمين قسّموا صفاته سبحانه إلى ثبوتية و سلبية و قد بسطوا القول فيها و من جملتها انّه سبحانه:

1- ليس بجسم.

2- ليس في جهة.

3- ليس في محل.

4- ليس حالاًّ في شيء و لا متّحداً مع غيره.

إلى غير ذلك من الصفات السلبية التي مرجعها إلى سلب النقائص عن ذاته سبحانه لأنّه الكمال المطلق.

و أمّا رؤيته سبحانه فقد اتفق المسلمون على أنّه سبحانه لا يُرى في الدنيا و إنّما اختلفوا في رؤيته في الآخرة.

رؤيته تعالى في الآخرة:

ذهبت الشيعة الإمامية تبعاً للذكر الحكيم و ما جاء في خطب الإمام أمير المؤمنين إلى امتناع رؤيته،قال سبحانه: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» 1.

و قال الإمام عليّ عليه السلام في وصفه سبحانه:الأوّل الذي لم يكن له قبل،فيكون شيء قبله،و الآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده،و الرادع أناسيَّ الأبصارِ عن أن تنالَهُ أو تُدركَه (1).

ص:22


1- 2) .نهج البلاغة:الخطبة 87.و [1]الأناسي:جمع إنسان،و إنسان البصر هو ما يرى وسط الحدقة ممتازاً عنها في لونها.

و في خطبة أُخرى:الحمد للّه الذي لا تُدركُه الشواهدُ،و لا تَحويه المشاهدُ،و لا تَراه النواظرُ،و لا تحجُبُه السواتِرُ (1).

و في كلامه لذعلب اليماني عند ما قال له:هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام:«أ فأعبد ما لا أرى؟»فقال:و كيف تراه؟ فقال:«لا تدركه العيون بمشاهدةِ العِيانِ،لكن تدركه القلوبُ بحقائقِ الإيمانِ،قريبٌ من الأشياءِ،غيرَ ملابِس،بعيدٌ منها غيرَ مُباين» (2).

و أمّا ما يستدل به على جواز الرؤية في الآخرة فليس بتامّ،و قد استدلّ القائلون بجوازها قديماً و حديثاً بقوله سبحانه: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ* وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ» 3.

و الدقة في الآيات الأربع توقفنا على أنّ المراد بالنظر هو انتظار الرحمة و ذلك لوجهين:

1- إنّه سبحانه:يسنِد النظر إلى الوجوه لا العيون،فلو كان المراد من النظر هو الرؤية كان اللازم أن يقول مكان«الوجوه»:العيون.

2- إنّ مقابلة بعض الآيات ببعض يرفع الإبهام عن قوله: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» ويتعيّن كونه بمعنى انتظار الرحمة و ذلك بالشكل التالي:

أ- «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ» يقابلها قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ» .

ب- «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» يقابلها قوله: «تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ» .

لا شك أنّ الفقرتين الأوليتين واضحتان جداً،و إنّما الكلام في الفقرة الثالثة

ص:23


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 180. [1]
2- 2) .نهج البلاغة:الخطبة 174. [2]

فيجب رفع إبهامها عن طريق الفقرة الرابعة التي تقابل الثالثة،بحكم أنّ الأشياء تعرف بأضدادها.

و بما أنّ المراد من الفقرة الرابعة هو توقّع العذاب الكاسر للفقار،و القاصم للظهر يكون ذلك قرينة على أنّ المراد من الفقرة الثالثة ضدّ ذلك و ليس هو إلّا انتظار فضله سبحانه و كرمه.

على أنّه نسأل من يدّعي إمكان الرؤية للّه سبحانه في الآخرة،هل الرؤية تتعلّق بكل ذاته أو ببعضه؟ فإن تعلّقت بالجميع يكون سبحانه محاطاً مع أنّه جلّ جلاله محيط.

و إن تعلّقت بالبعض فصار ذات أجزاء و أبعاض تعالى عن التركيب.

و أمّا ما ورد في الروايات حول الرؤية فكلّها أخبار آحاد لا تثبت بها العقيدة خصوصاً إذا كانت مضادّة للذكر الحكيم و العقل السليم، على أنّ في سند البعض ضعفاً.

هذا إجمال القول في توحيده و صفاته الذاتية و الفعلية،و الإيجابية و السلبية.

نتيجة البحث:

و قد خرجنا من هذا البحث الضافي بالنتيجة التالية:

إنّ المسلمين متّفقون جميعاً على توحيده و تنزيهه و وصفه بالكمال،و إنّما تختلف الشيعة عن أهل السنّة في المسائل الكلامية التالية:

أ- إنّ صفاته الثبوتية كالعلم و القدرة عين ذاته وجوداً و تحققاً و إن كانت

ص:24

غيره مفهوماً،و ذلك لئلاّ يلزم تعدّد القدماء خلافاً للأشاعرة حيث قالوا بزيادة الأوصاف على الذات،و لو أرادت الأشاعرة المغايرة و الزيادة مفهوماً،لا تحققاً و خارجاً يصبح النزاع لفظياً،و لو أرادت المغايرة خارجاً و عيناً يلزم تعدد القدماء،تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

ب-إنّ التكلم من صفاته الفعلية كالرزق و المغفرة و الرحمة خلافاً للأشاعرة حيث فسّروه بالكلام النفسي القائم بذاته.

ج-إنّه سبحانه منزّه عن الرؤية في الدنيا و الآخرة خلافاً لأهل السنّة حيث قالوا بجوازها في الآخرة.

ص:25

الفصل الثاني::الشيعة و العدل

اشارة

اتّفق المسلمون على أنّه سبحانه عادل لا يجور،غير انّ الشيعة اعتمدت في حكمها هذا على البرهان العقلي كما سيوافيك بيانه، و اعتمدت السنّةُ في وصفه بالعدل على السمع،حيث يصفه القرآن الكريم بكونه قائماً بالقسط،قال سبحانه: «شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ» 1.

و الاختلاف في مصدر عدله نابع عن الاختلاف في مسألة أُخرى و هي مسألة التحسين و التقبيح العقليين أو الشرعيين،فذهبت الشيعة الإمامية إلى أنّ العقل قادر على أن يدرك حسنَ الأفعال و قبحها،و يستقلَّ بالبعث إلى الفعل الحسن،و الزجرِ عن الفعل القبيح، كالعدل و الظلم فكل إنسان إذا جرّد نفسه عن كل شيء يرى في صميم ذاته حسنَ الأول و قبحَ الثاني،و مثله مجازاة الإحسان بالإحسان أو بالسوء،و العمل بالميثاق و نقضه فيستقلّ بحسن الأوليين و قبح الأخيريين و لأجله قالوا بأنّ التحسين و التقبيح عقليان لا شرعيان.

و لو حكم الشارع بحسن شيء أو قبحه فقد حكم العقل به قبله،لأنّه رسول باطني،و حكم الشرع مؤكّد لحكم العقل و ليس حكماً تأسيسياً.

هذا هو موقف الشيعة في مسألة التحسين و التقبيح العقليين و على ذلك بنت أُصولاً كلامية لا تقبل النقاش،و إليك تلك الاُصول:

ص:26

1- لا جبر و لا تفويض:

طرحت مسألة الجبر و التفويض في أواسط القرن الأوّل بين المسلمين فصاروا إلى أقوال و أوجدت فجوة سحيقة بين المسلمين و لم تزل آثارها إلى يومنا هذا.

فمن قائل بالجبر و انّه سبحانه هو الخالق لفعل الإنسان و الموجد له و ليس للإنسان أيّ دور في أفعاله و أعماله،و إنّما هو ظرف لظهور إرادته سبحانه في أعماله و أفعاله.

و إنّما ذهب القائل إلى هذا القول لأجل أنّه فسّر التوحيد بالخالقية بالمعنى الباطل و زعم أنّ معناه سلب الأثر عن العلل و العوامل الطبيعية،و عند ذاك يتجلّى الإنسان في مجال الأفعال كالظرف ليس له دور و لا تأثير في أفعاله و أعماله.

و لا شك أنّ تفسير التوحيد بالخالقية بهذا المعنى باطل،لما عرفت من تصريح الذكر الحكيم بدور العلل الطبيعية في نمو الأزهار و الأشجار-مضافاً إلى أنّ القول بالجبر ينافي عدله سبحانه-فكيف يكون هو الخالق لعمل الإنسان و لا يكون له دور فيه،لكن هو المسئول عن العمل؟!

إنّ للقول بالجبر سبباً آخر و هو تفسير القضاء و القدر-الذي لا غبار في صحتهما-بالمعنى السالب للاختيار عن الإنسان، و سيوافيك أنّ القضاء و القدر حقّ و لكنّهما لا يسلبان الاختيار عن الإنسان.

فهذا و ذاك صارا سببين لنشوء القول بالجبر بين كثير من المسلمين حيث صيّرهم مكتوفي الأيدي أمام الحوادث و الطوارئ.

فكما أنّ الجبر يخالف عدله سبحانه فكذلك التفويض ينافي توحيده،لأنّ

ص:27

معنى القول بالتفويض كون الإنسان مستقلاً في فعله و عمله عن اللّه سبحانه،و بذلك يصبح العمل إلهاً ثانياً لاستغنائه عن اللّه، مضافاً إلى أنّه كيف يمكن الجمع بين فقر الإنسان في ذاته،و غناه في فعله عنه مع أنّ الفعل أثر الذات،و الفعل متوقّف على ذات الفاعل و هو الواجب مفيض الوجود،فيكون الفعل-بالتالي-متوقفاً على الواجب؟

و الصحيح أنّه لا جبر و لا تفويض بل أمر بين أمرين،و معناه أنّ الإنسان في فعله يعتمد على قدرته سبحانه و مواهبه فبذلك يكون للواجب دور في عمله،و بما أنّه إنسان موجود مختار في أعمال القدرة و السلطنة في أيّ جانب من جوانب حياته،يكون هو المسئول عن عمله لا غيره فالعمل نتاج المواهب الإلهية و إعمال السلطنة من ناحية العبد.و لتقريب ذلك المعنى أمثلة كثيرة مسطورة في الكتب الكلامية.

2- التكليف بما لا يُطاق أمر غير جائز:

إذا قلنا بأنّه سبحانه عادل لا يجور فلا يصحّ على الحكيم تكليف العبد فوق قدرته،و قولنا إنّه لا يصحّ للّه سبحانه ذلك النوع من التكليف لا يعني تحكيم فكرتنا و إرادتنا على اللّه سبحانه بل معناه إنّا نستكشف من التدبر في صفاته سبحانه و هو كونه حكيماً لا يعبث، و عادلاً لا يجور،إنّه لا يكلّف إنساناً إلّا بما في وسعه و قدرته،قال سبحانه: «لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها» 1.

3- أفعاله سبحانه معلّلة بالأغراض:

اتفقت الشيعة-بما أنّه سبحانه حكيم لا يعبث-على أنّ أفعاله معلّلة بالأغراض،و معنى ذلك أنّ فعله لا ينفكّ عن الغرض، و ليس الغرض غرضاً

ص:28

للفاعل و إنّما هو غرض لنفس الفعل،و كم فرق بين كون الغرض عائداً إلى الفاعل،و بين كون الفعل غير خال عن الغرض،و مقتضى الحكمة هو الثاني،أي عدم خلو فعله عن الغرض،و مقتضى غناه و كماله المطلق عدم عود الغرض إلى الفاعل.

و أظنّ أنّ النزاع بين الشيعة و أهل السنّة لفظيّ،فإنّ أهل السنّة ينفون أن يكون له سبحانه غرض في فعله يستكمل به ذاته و الشيعة أيضاً يوافقونهم على ذلك و يقولون بأنّه سبحانه هو فوق الكمال و من هو بهذه المكانة أسمى من أن يطلب غرضاً يستكمل به.

و لكنّ الشيعة تعتقد أنّ الغرض لا ينحصر بالغرض العائد إلى الفاعل بل هناك قسم آخر يخرج به الفعل عن العبثية و يضفي عليه وصف الحكمة و يكون غرضه سبحانه عائداً إلى المكلّفين،و هذا ما يتراءى من الذكر الحكيم في موارد مختلفة و يقول: «سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ» 1.

فإنّ خلق السماوات و الأرض لم يكن عبثاً،قال سبحانه: «أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» 2.

و قال سبحانه: «وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» 3.

4- القضاء و القدر لا يسلبان الاختيار:

إنّ القضاء و القدر من المفاهيم الإسلامية الواردة في الكتاب و السنّة،قال سبحانه: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ

ص:29

أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ» 1.

و في السنّة النبوية و أحاديث العترة الطاهرة تصريحات بالقضاء و القدر،و هذا ممّا اتّفق عليه المسلمون و إنّما الكلام في تفسيرهما.

إنّ اليهود ممّن غالت في التقدير حتى جعلته إلهاً ثانياً إلى حدٍّ ليس للّه سبحانه تغيير قضائه و قدره،يقول سبحانه حاكياً عنهم:

«وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ...» 2.

فَمن أراد تفسير القضاء و القدر على نحو يسلبان الاختيار عن الإنسان فقد وقع في متاهات الجبر فالإيمان بالقضاء و القدر يجب أن يكون بنحوٍ لا يسلب عن الإنسان اختياره قال سبحانه: «وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» 3 و قال سبحانه: «إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً» 4.

إنّ تقديره وقضاءه سبحانه يختلف حسب اختلاف الفاعل،فلو كان الفاعل فاعلاً موجَباً كالنار بالنسبة إلى الحرارة،و سقوط الحجر على الأرض فقد قدَّر و قضى بصدور الفعل عن الفاعل عن جبر و اضطرار،و أمّا إذا كان الفاعل فاعلاً مختاراً و مسئولاً أمام اللّه فقد قدَّر و قضى على صدور فعله منه عن إرادة و اختيار.

فالتقدير و القضاء عند الشيعة يخالفان الجبر و يؤيدان الاختيار قال سبحانه: «ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللّهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ» (1).

ص:30


1- 5) .الحشر:5. [1]
5- تعذيب البريء مخالف لعدله:

اتّفقت الشيعة على أنّه لا يجوز سبحانه أن يعذّب أطفال الكفّار يوم القيامة،و ذلك أنّ تعذيبهم بغير جرم اقترفوه مخالف لعدله و حكمته.

و قد أشرنا أنّ قولنا«لا يجوز»أو«يجوز»لا يعني تحكيم إرادتنا و فكرتنا على اللّه سبحانه حتى يكون الواجب محكوماً بحكم البشر فإنّ ذلك باطل لا مرية فيه،و لكن المراد هو استكشاف حال الواجب من خلال أوصافه من كونه حكيماً عادلاً فنستكشف من هذين الوصفين أنّه لا يعذّب طفلاً بريئاً سواء أ كان طفلاً لمسلم أم لكافر.

6- وجوب المعرفة:

اتّفقت الشيعة على لزوم معرفة اللّه سبحانه لزوماً عقلياً بمعنى أنّ العقل يحكم بحسن المعرفة و قبح تركها،لما في المعرفة من أداء شكر المنعم و هو حسن،و في تركها احتمال الوقوع في الضرر و هو قبيح.

نعم غير الشيعة لم تلتزم بلزوم معرفة اللّه إلّا سمعاً و نقلاً،و لكن لم يتبيّن لنا كنه مرادهم فإنّ المفروض أنّ الشريعة بعد لم تثبت فكيف يثبت وجوب المعرفة بحكم الشريعة؟

7- لزوم تكليف العباد:

إذا كان فعله سبحانه منزّهاً عن العبث يستقل العقل بالحكم بلزوم إيصال كلّ مكلّف إلى الغاية التي خلق لها،و ذلك يتحقق في مورد الانسان بالتكليف.

ص:31

8-لزوم بعث الأنبياء:

إذا كان الإنسان لم يُخلق سدى بل خلق لغاية،و الغاية ممّا لا يدركها البشر بعقله العادي،ففي ذمّته سبحانه إرسال الرسل لهداية الناس إلى الغايات المنشودة و إلّا يلزم أن يكون خلق الإنسان سُدى و عبث.

9- قاعدة اللطف:

إنّ قاعدة اللطف لها دور في الكلام الشيعي و تترتّب عليها قواعد و أحكام،و حاصلها أنّه إذا كان الغرض المترتب على التكليف لا يحصل إلّا بفعل يقرّب العبد من الطاعة و يبعّده عن المعصية،كان على اللّه سبحانه القيام بذلك.

و بعبارة أُخرى كل ما هو دخيل في تحقق الرغبة إلى الطاعة و الابتعاد عن التمرد و المعصية في نفوس الأكثرية الساحقة من البشر يجب على اللّه سبحانه القيام به صوناً للتكليف عن اللغو يقول سبحانه: «وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» 1 .و قال تعالى: «وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ» 2.

فإنّ تعليل ابتلاء الناس بالسراء و الضراء لرجاء رجوعهم للطاعة دليل على أنّ كل ما يكون سبباً للجوء الناس للطاعة كان عليه سبحانه أن يقوم به لأنّه مقتضى حكمته.و العقل يستقلّ بحسن ذلك.

10- لزوم النظر في برهان مدّعي النبوّة:

يجب النظر في برهان المدعي إذا ادّعى مسألة تمتّ إلى الدين بصلة على وجه يعاقب الإنسان لو لم يعتقد بها أو اعتقد بالخلاف.

ص:32

إنّ للتحسين و التقبيح العقليين دوراً عظيماً في المسائل الكلامية اقتصرنا على هذه النتائج القليلة و من أراد التفصيل فعليه مراجعة الكتب الكلامية المطوّلة (1).

خاتمة المطاف:
اشارة

و في خاتمة هذا الفصل أود أن أطرح مسألتين لهما دويّ في الأوساط العلمية،و المسألتان هما عبارة عن القول بالبداء و التقية،فقد وقعا غرضاً للنبال و أخذ المخالف يعترض على الشيعة بالقول بهما غافلاً عن أنّ النزاع بين الطائفتين نزاع لفظي و لو وقف المخالف على الحقيقة،لتجاوب معها و إليك البيان:

البداء عند الشيعة:

البداء في اللّغة هو الظهور بعد الخفاء،قال سبحانه: «وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ* وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 2.

و البداء بهذا المعنى،لا يطلق على اللّه تعالى بتاتاً،لاستلزامه حدوث علمه بعد جهله بالشيء،تعالى عمّا يقول الظالمون.

و هذا هو الذي ينسبه متكلمو السنّة إلى الشيعة،و هم براء من تلك النسبة و إنّما أرادوا منه المعنى الثاني الآتي.

و هو أنّ تقديره سبحانه للحوادث على قسمين:

أ- تقدير قطعي و قضاء مبرم.

ب-تقدير معلّق و قضاء غير منجّز.

ص:33


1- 1) .راجع الإلهيات:257/1-262 بقلم المؤلف.

فأمّا القسم الأوّل:فلا يتسرّب إليه البداء لافتراض كونه تقديراً حتمياً و قضاءً مبرماً،و إنّما يتسرّب البداء إلى القسم الثاني و هو القضاء المعلق فهو يتغيّر إمّا بالأعمال الصالحة أو الطالحة قال سبحانه: «إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» 1.

و قال سبحانه: «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» 2.

و قال تعالى:حاكياً عن شيخ الأنبياء نوح عليه السلام: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً» 3.

فالبداء بهذا المعنى ممّا اتفق عليه المسلمون قاطبة كما اتفقوا على عدم صحة البداء بالمعنى الأول،و أمّا استعمال البداء«بدا للّه» في هذا المقام مع أنّه بداء لنا من اللّه فهو أشبه بالمجاز و قد استعمل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في حديث الأقرع و الأبرص و الأعمى تلك اللفظة،و قال:

و بدا للّه عزّ و جلّ أن يبتليهم (1).و على كلّ تقدير فليس النزاع في اللفظ و التسمية بل مورده هو المسمى و المقصود.

و لو أنّ علماء السنّة وقفوا على ما هو المقصود من القول بالبداء للّه لما اعترضوا على الشيعة الإمامية.و كم من مسائل خلافية لو طرحت في جوٍّ هادئ يسوده روح البحث العلمي بعيدٍ عن التعصب لزالت حواجز الاختلاف و لتقاربت و جهات نظر الطائفتين.

ص:34


1- 4) .البخاري:الصحيح:171/4.
التقية عند الشيعة:

التقية من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم،و الغاية منها هي صيانة النفس و العرض و المال، و ذلك في البيئات التي صودرت فيها الحريات في القول و العمل،و الرأي و العقيدة،فلا ينجو المخالف إلّا بالصمت و السكوت،مرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة و أفكارها.

إنّ التقية سلاح الضعيف و كهف الخائف أمام القوي الغاشم،سلاح من يبتلى بمن لا يحترم دمه و عرضه و ماله،لا لشيء إلّا لأنّه لا يتفق معه في بعض الأفكار و المبادئ.

و هذا شيء يستسيغه العقل كما ورد في الشرع،قال سبحانه: «مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» 1.

و قال سبحانه: «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» 2.

و لا تختصّ بتقية المسلم من المشرك و الكافر بل تعمّ تقية المسلم من المسلم الجائر أيضاً.

قال الرازي:إنّ مذهب الشافعي (رض):إنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين و الكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس،و قال:التقية جائزة لصون النفس،و هل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى الله عليه و آله و سلم:حرمة مال المسلم كحرمة دمه،و قوله صلى الله عليه و آله و سلم:من قتل دون ماله فهو شهيد (1).

ص:35


1- 3) .الرازي:مفاتيح الغيب:13/8. [1]

و قال جمال الدين القاسمي:و زاد الحق غموضاً و خفاءً،أمران:خوف العارفين-مع قلتهم-من علماء السوء و سلاطين الجور و شياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن،و إجماع أهل الإسلام،و ما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق،و ما برح المحق عدوّاً لأكثر الخلق،و قد صحّ عن أبي هريرة (رض) أنّه قال في ذلك العصر الأوّل:حفظت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعاءين،أمّا أحدهما فبثثته في الناس و أمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم (1).

و ليعلم أنّ التقية إنّما تتصور في القضايا الشخصية أي تقية شخص من شخص آخر في بيئته.و أمّا التقية العامة بأن تصور العقائد أو الأحكام في الكتب الفقهية بشكل يوافق عقائد الموافق و فقهه فهذا ليس بصحيح.

فالشيعة لم تتّق و لن تتّق في محاضراتها و كتبها و منشوراتها قدر شعرة،فمن يتهم الشيعة بالتقية في كتمان عقائدها و تحرير فقهها، فقد خبط خبطة عشواء لما عرفت من أنّ التقية ترجع إلى القضايا الشخصية.و أين هم من الباطنيّة الذين يخفون كتبهم حتّى عن معتنقيهم، و الشيعة الإمامية لم تزل مجهرة بعقائدها بشتى الطرق و أساليبها.

أضف إلى ذلك أنّ الشيعة قامت لهم دول مختلفة في فترات كثيرة من التاريخ منذ ألف سنة فلما ذا تتقي في تحرير عقائدها و نشر أفكارها و بثِّ فقهها؟!

ص:36


1- 1) .جمال الدين القاسمي:محاسن التأويل:82/4. [1]

الفصل الثالث::الشيعة و النبوّة العامة و الخاصة

اشارة

النبوّة عند الشيعة كسائر المسلمين:سفارة بين اللّه و بين ذوي العقول من عباده لهدايتهم إلى ما فيه السعادة في معاشهم و معادهم.

و النبيّ هو الإنسان المخبر عن اللّه تعالى بإحدى الطرق المعروفة الواردة في الذكر الحكيم.

أعني قوله سبحانه: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» 1.

و بما أنّ صفحات التاريخ تشهد على وجود أُناس ادّعوا السفارة من اللّه و الإنباء عنه عن كذب و افتراء و لم يكن لهم متاعٌ غير التزوير،و لا سلعة سوى السلطة فلا بد في

تمييز النبي عن المتنبّي
اشارة

من معايير و ضوابط تكون هي الفصل في القضاء بالحق،و هي إحدى الأُمور الثلاثة التالية:

1- التحدي بالإعجاز:

تجهيز الأنبياء بالمعاجز عند طرحهم دعوى النبوّة.و الإعجاز يدل بالدلالة المنطقية على صدق دعواه،و ذلك لأنّ المعجزة فيها خرق للنواميس الطبيعية فلا

ص:37

يمكن أن تقع من أحد إلّا بعناية من اللّه تعالى،و اقتدار منه،فلو كان مدّع النبوّة كاذباً في دعواه كان إقداره على المعجزة من قبله سبحانه إغراراً بالجهل،و إشادة بالباطل،و ذلك محال على الحكيم تعالى،فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالّة على صدقه و كاشفة عن نبوّته.

يقول سبحانه: «وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» 1.

يريد سبحانه أنّ محمداً الذي أثبتنا نبوّته و أظهرنا المعجزة بتصديقه لا يمكن أن يتقوّل علينا بعض الأقاويل و لو صنع ذلك لأخذنا منه باليمين و لقطعنا منه الوتين،فإنّ في سكوتنا عن هذه الأقاويل إمضاءً منّا لها و إدخالاً للباطل في شريعة الحق فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء كما يجب علينا حفظها في مرحلة الحدوث.

2- تنصيص النبيّ السابق على نبوّة النبيّ اللاحق:

إذا ثبتت نبوّة نبيّ بدلائل مفيدة للعلم ثمّ نصّ هذا النبيُّ على نبوّة نبيّ لاحق يأتي من بعده،كان ذلك حجة قطعية على نبوّة النبيّ اللاحق لا تقل في دلالتها عن المعجزة.

و لأجل ذلك يستدل المسلمون بالبشارات الواردة في العهدين على نبوّة نبيّ الإسلام،و يرشدنا إليه قوله سبحانه حاكياً عن المسيح: «وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (1).

ص:38


1- 2) .الصف:6. [1]
3- جمع القرائن و الشواهد:

إنّ جمع القرائن و الشواهد ضابطة مطردة في المحاكم الوضعيّة تتّخذها القضاة في إصدار أحكامهم،و يستند إليها المحامون في إبراء موكليهم،فبجمع تلك القرائن و الشواهد يمكن أن نستعلم صحّة دعوى المدّعي أو إنكار المنكر.

فعلى ضوء ذلك،فللباحث أن يتحرّى القرائن المكتنفة بدعوى النبوّة حتى يقطع معها بصدق الدعوى أو كذبها و هذه القرائن تتلخّص في الاُمور التالية:

أ- سيرة المدّعي قبل الدعوة.

ب-سمات بيئته.

ج-مضمون الدعوة.

د-ثباته في طريق الدعوة.

ه-الأدوات التي يستخدمها في نشر دعوته.

و-المؤمنون الملتفّون حوله.

ز-مكانة أتباعه في الورع و التقوى و العلم و الوعي.

هذه القرائن و أشباهها ترشدنا إلى أحد الأمرين:

إمّا أنّه نبيّ صادق أو متنبّي كاذب.

الوحي:

إنّ تحديد حقيقة الوحي و تبيين ماهيته من المواضيع الحساسة في أبحاث النبوّة العامة،و الأنبياء يتلقّون تعاليمهم عن هذا الطريق و لولاه لانقطعت أخبار السماء عن الأرض وصلة الأنبياء باللّه.

ص:39

و الشيعة الإمامية تعتقد بأنّ الوحي يختصّ بالأنبياء و ليس هو نتاج الحسّ و لا العقل و لا الغريزة و إنّما هو شعور خاص لا نَعْلم حقيقته،و هو يغاير الشعور الفكري المشترك بين أفراد الإنسان قاطبة.

و الوحي لا يغلط معه النبي في إدراكه،و لا يشتبه،و لا يختلجه شك و لا يعترضه ريب فهو يدركه من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو التماس دليل،أو إقامة حجة،إذ لو افتقر إلى شيء من ذلك لكان اكتساباً عن طريق القوة النظرية لا تلقّياً من الغيب من غير توسط القوة الفكرية.

قال سبحانه: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» 1.

سمات الأنبياء:

إنّ أخطر المناصب و أكبرها مسئولية قيادة المجتمع البشري و هدايته إلى السعادة فإنّها تتطلّب في المتصدي لها،مؤهّلات و امتيازات خاصة ينفرد بها عن سائر الناس،و هذه في الأنبياء تتلخّص في الأمور التالية:

1- العصمة و لها مراتب ثلاث:

المرتبة الاُولى:المصونية عن الذنب و مخالفة الأوامر المولوية قبل البعثة و بعدها،و خالف بعض أهل السنّة في عصمة النبي قبلها خصوصاً في صغائر الذنوب فجوزها له.

المرتبة الثانية:المصونية في تلقّي الوحي و وعيه و إبلاغه إلى الناس.

المرتبة الثالثة:المصونية من الخطأ و الاشتباه في تطبيق الشريعة و الاُمور

ص:40

الفردية و الاجتماعية.

2- التنزّه عن كل ما يوجب نفرة الناس عنه و عقم التبليغ.

3- الاطّلاع على أُصول الدين و فروعه و كلّ ما أُلقي إبلاغه على عاتقه.

4- التحلّي بكفاءة خاصة في القيادة و الإدارة مقترنة بحسن التدبير،و قد برهن الكلام الشيعي على لزوم هذه السمات في الأنبياء عامّة و النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خاصة.و من أراد الوقوف فعليه الرجوع إلى الكتب الكلامية.

النبوّة الخاصة:

كان الكلام السابق في النبوّة العامّة من دون تخصيص بنبيّ،و أمّا النبوّة الخاصة أي نبوّة نبيّ الإسلام،فالشيعة الإمامية تعتقد بأنّ محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نبيّ اللّه الخاتم جاء لهداية الناس في الوقت الذي عمّت سيادة الشرك و عبادة الأصنام أكثر ربوع المعمورة،و في هذا الظرف قام رجل بين أُمّة متقهقرة تقطن أراض جدباء،و معشر ليس لهم من الحضارة أيّ سهم يذكر،يسفكون دماءهم و يقطعون أرحامهم،فادّعى النبوّة و السفارة من اللّه تعالى على أساس نشر التوحيد،و رفض الوثنية و عبادة الأصنام،و إقامة العدل،و بسط القسط، و رفض التمييز،و حماية المضطهدين و المظلومين،و قد كان تاريخ دعوته في أوائل القرن السابع الميلادي 610 و أوّل ما بدأ به،بدأ بدعوة أقربائه و عشيرته.

و استطاع هداية جمع من عشيرته ثمّ وجّه دعوته إلى عموم الناس من غير خصوصية بين قبيلة و غيرها.و يُستدل على صحّة دعوته بالطرق الثلاثة:

1- معجزته الخالدة القرآن الكريم الذي تحدّى به الأُمم و لم يزل متحدّياً إلى يومنا هذا،قال سبحانه: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا

ص:41

اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» 1.

مضافاً إلى سائر معجزاته التي كانت تظهر منه بين آونة و أُخرى.

2- بشائره في العهدين و قد بقيت-بحمد اللّه-إلى يومنا هذا.

3- دلالة القرائن الداخلية و الخارجية على صحة دعوته.

سمات دعوته::
أوّلاً:عالمية رسالته:

اتفقت الشيعة على أنّ الإسلام عقيدة و عمل لا ينفرد بهما شعب أو مجتمع خاص و لا يختص ببلد دون بلد،بل هو دين يعمّ المجتمع الإنساني ككل،على اختلافه في العنصر و الوطن و اللسان،و لا يفترض لنفوذه حاجزاً بين أبناء الإنسان،و لا يعترف بأية فواصل قوميّة أو إقليمية.

قال سبحانه: «قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» 2.

و قال تعالى: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً» 3.

ثانياً:خاتمية رسالته:

اتّفقت الشيعة عن بكرة أبيها على أنّ نبيّها محمداً خاتم النبيين،و أنّ شريعته خاتمة الشرائع،و كتابه خاتم الكتب و الصحف،فهو آخر السفراء الإلهيين أُوصد به باب الرسالة و النبوّة و ختمت به رسالة السماء إلى الأرض،و أنّ دينه دين اللّه

ص:42

الأبدي،و أنّ كتابه كتاب اللّه الخالد،و قد أنهى اللّه إليه كلّ تشريع فاكتملت بدينه و كتابه الشرائع السماوية التي هي رسالة السماء إلى الأرض قال سبحانه: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» 1.

صيانة القرآن من التحريف:

القرآن الكريم هو المصدر الأوّل لدى المسلمين من غير فرق بين الشيعة و أهل السنّة،و هو كلام اللّه و وحيه و قوله و كتابه،لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم عليم،و انّه الحق الفصل و ما هو بالهزل،و إنّ اللّه تبارك و تعالى منزله و حافظه صانه من الزيادة و النقيصة.

و هذه عقيدة كبار المحققين من الشيعة.

قال السيد المرتضى (355-436 ه):إنّ جماعة من الصحابة مثل عبد اللّه بن مسعود،و أُبي بن كعب و غيرهما ختم القرآن على النبيّ عدة ختمات و كل ذلك يدلّ بأدنى تأمل على أنّه مجموع مرتّب غير مبتور و لا مبثوث (1).

و قد تقدمه في هذا القول (صيانة القرآن من التحريف) مشايخ الشيعة كالفضل بن شاذان (المتوفّى 260 ه) و الشيخ الصدوق ( 306-381 ه) و الشيخ المفيد (336-413 ه) و تبعه أيضاً الطوسي (385-460) و الطبرسي (471-548 ه) و السيد ابن طاوس ( المتوفّى 664 ه) إلى غير ذلك من أعلام الاُمّة إلى يومنا هذا.

و إليك كلمة قيّمة للاُستاذ الأكبر الإمام الخميني قدس سره في محاضراته حيث

ص:43


1- 2) .الطبرسي:مجمع البيان:10/1،نقلاً عن رسالة جواب المسائل الطرابلسية للسيد المرتضى.

قال:

إنّ الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب و حفظه و ضبطه قراءة و كتابة يقف على بطلان دعوى التحريف و انّه لا ينبغي أن يركن إليها،و ما وردت من الأخبار في التحريف فهي:بين ضعيف لا يستدل به،إلى مجهول تدل أمارات الجعل على وضعه،إلى غريب يقضي بالعجب،إلى صحيح يدل على أنّ الساقط هو تأويل الكتاب و تفسيره لا نفس الكتاب... (1).

نعم ذهب شذّاذ من الاخبارية و الحشوية من الشيعة و السنّة إلى القول بالتحريف فلا يقام لأقوالهم وزن بعد كونها مخالفة للقرآن الكريم بإجماع الاُمّة.

***

خرجنا بالنتيجة التالية:

لا خلاف بين الشيعة و السنّة في حقل النبوّة العامة و الخاصّة إلّا شيئاً لا يذكر و هو تجويز العصيان للأنبياء قبل دعوى النبوّة فتنفيه الشيعة،و مجموعة من السنّة و يجوّزه لفيف منهم.

ص:44


1- 1) .تهذيب الأُصول، [1]محاضرات الإمام الخميني:56/2 [2] بقلم المؤلف.

الفصل الرابع::الشيعة و المعاد

اشارة

المعاد و حشر الإنسان بعد الدنيا إجابة عن أحد الأسئلة التي طالما أخذت جلَّ تفكيره فمذ فتح عينيه على الحياة يسأل نفسه عن الاُمور التالية:

1- ما هو مبدأ العالم و الإنسان؟

2- ما هو الهدف من وجود الإنسان؟

3- إلى أين المصير بعد الموت؟

فالبحث عن الصانع إجابة عن السؤال الأوّل.

كما أنّ البحث عن كونه حكيماً و أنّ فعله منزّه عن العبث إجابة عن الثاني.

و القول بأنّ الموت ليس نهاية الحياة و إنّ الإنسان لا يفنى بموته،و إنّما هو جسر ينتقل عبره من نشأة إلى نشأة أُخرى أكمل من الاولى ،هو جواب عن السؤال الثالث.

إنّ الاعتقاد بالمعاد عنصر أساسي في كل شريعة لها صلة بالسماء،و لأجل ذلك أصبح المعاد في الشرائع السابقة أصلاً مسلَّماً حتى عند اليهود في العهد القديم (1).

ص:45


1- 1) .صموئيل الأوّل:الإصحاح الثاني:الجملة 6،طبع دار الكتاب المقدس.

و إذا كان المعاد يحتلّ المكانة العليا في الشرائع السماوية و كان القرآن خاتم الكتب،و المبعوث به خاتم الأنبياء فيناسب أن يكون المعاد مطروحاً فيه بشكل واسع مقترناً بالدلائل العقلية المقنعة.

و قد صدق الخُبرُ الخبر،فالذكر الحكيم يعتني بالمعاد،و يهتم به اهتماماً بالغاً تكشف عنه كثرة الآيات الواردة في مجال المعاد و ربّما تبلغ زهاء ألف و أربعمائة آية،و كان أُستاذنا العلاّمة الطباطبائي يقول:تربُو على الألفين و لعلّه قدس سره ضم الإشارة إلى التصريح به فبلغت ما تربو على ألفي آية.

و على أية حال فالشيعة لا تختلف عن سائر الفرق الإسلامية في هذا الأصل الخطير و تقول:إنّ اللّه سبحانه سيجمع الناس يوم القيامة و يضع الموازين القسط فلا يظلم أحداً مثقال ذرة،و توفّى كل نفس ما عملت فإمّا إلى النعيم الدائم أو إلى العذاب المقيم.

و هناك أُصول اتّفقت الشيعة عليها نذكرها لشدّة مناسبتها بالمقام:

1- اتّفقت الشيعة على أنّ المسلم المؤمن العاصي غير مخلّد في النار و هو مؤمن فاسق فليس بكافر و لا بالمنزلة بين المنزلتين.

2- اتّفقت على أنّ الشفاعة حقّ،و انّ لخاتم الأنبياء مقام الشفاعة الكبرى كما تعتقد بجواز طلبها من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في حياته و مماته.

قال سبحانه: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً» 1.

و ليس طلب الشفاعة إلّا طلب الدعاء فإذا جاز في حال الحياة يجوز بعد الرحيل أيضاً لافتراض أنّه صلى الله عليه و آله و سلم حيّ يُرزق و أنّه بإذنه سبحانه يسمع كلامنا و يجيب سلامنا.

ص:46

3- اتّفقت الشيعة على أنّ التناسخ باطل و القائل به كافر،و المراد منه انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر في هذه النشأة فإذا مات البدن الثاني انتقلت إلى ثالث و هكذا.

و الداعي للقول بالتناسخ هو إنكار المعاد كما حقّق في محلّه.

4- اتّفقت الشيعة على أنّ حقيقة التوبة عبارة عن الندم عمّا مضى و العزم على عدم العودة عليه و إذا قدر الإنسان عليها وجبت و لا تقبل حين الموت.

5- اتّفقت الشيعة على أنّ حبّ النبيّ و الأئمّة المعصومين يقرب الإنسان من اللّه تبارك و تعالى و يبعث في روعه روح الطاعة و المشاكلة معهم في الإتيان بالواجبات و التحرّز عن المحرمات،و أمّا الحب المجرَّد عن العمل فليس سبباً للنجاة و إنّما النجاة هو العمل بعد الحب.

6- إنّ الشيعة تبعاً و اقتداءً بأئمتهم يقدّسون الصحابة الذين عملوا بكتاب اللّه سبحانه و سنّة نبيّه،و لم يتجاوزوهما،كما أنّهم يتبرّءون ممن خالف كتاب اللّه و سنّة رسوله و في هذا المقام كلمة مباركة للإمام زين العابدين قال في دعاء له:

«اللّهمّ و أصحاب محمّد خاصة الذين أحسنوا الصحبة و الذين أبلوا البلاءَ الحسن في نصره،و كانفوه و أسرعوا إلى وفادته،و سابقوا إلى دعوته،و استجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته،و فارقوا الأزواج و الأولاد في إظهار كلمته،و قاتلوا الآباء و الأبناء في تثبيت نبوّته، و انتصروا به و من كانوا منطوين على محبّته يرجون تجارة لن تبور في مودّته،و الذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته و انتفت منهم القربات إذ سكنوا في ظلّ قرابته،فلا تنس لهم اللّهمّ ما تركوا لك و فيك و أرضهم من رضوانك و بما حاشوا الخلق عليك و كانوا مع رسولك دعاة لك إليك،و اشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم و خروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه،و مَن كَثَّرْتَ في إعزاز دينك من مظلومهم.اللّهمّ و أوصل إلى التابعين لهم بإحسان

ص:47

الذين يقولون ربّنا اغفر لنا و لإخواننا (1).

نعم لا يقولون بعدالة كلّ صحابي و كل من رأى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و لو يوماً أو أياماً بل يقسّمون الصحابة كالتابعين إلى قسمين تبعاً للذكر الحكيم و السنّة النبوية،و هذا هو الذكر الحكيم يصف بعض الصحابة بالفسق يقول: «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» 2.

كما أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم يصفهم في حديث الحوض بما لا يتلاءم مع عدالة الجميع.

روى البخاري و مسلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي و يُحلَّئون عن الحوض فأقول:يا ربِّ أصحابي فيقول:إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنّهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى (2).

هذا هو قدامة بن مظعون صحابي بدري شرب الخمر و أقام عليه عمر الحدّ (3).

و من الصحابة من خضبوا وجه الأرض بالدماء،فهذا بسر بن أرطأة قد قتل مئات المسلمين و ما نقم منهم إلّا أنّهم كانوا يحبّون علي بن أبي طالب،و لم يكتف بذلك فحسب،بل قتل طفلين لعبيد اللّه بن عباس (4).

***

ص:48


1- 1) .الصحيفة السجادية،الدعاء الرابع مع شرح«في ظلال الصحيفة السجادية»:55-56. [1]
2- 3) .لاحظ في الوقوف على هذا النوع من الأحاديث جامع الاُصول لابن الأثير:ج11 كتاب الحوض:120-121.
3- 4) .الجزري:أُسد الغابة:199/4.
4- 5) .الثقفي:الغارات:591/2؛ [2]اليعقوبي:التاريخ:186/1؛ [3]الجزري:الكامل:192/3.
إلى هنا خرجنا بالنتيجة التالية:

لا اختلاف بين المذهبين:فيما يرجع إلى المعاد و الاُصول الستة التي تتبنّاها الشيعة إلّا في الأصل السادس فالسنّة تعتقد بعدالة كلّ صحابي خلافاً للشيعة حيث تقسّمهم إلى مثالي يُستدر به الغمام،و مؤمن يضحّي بنفسه و نفيسه في طريق الدين و إعلاء كلمة اللّه،إلى من يصفه سبحانه في محكم كتابه (1)على خلاف هذين الصنفين.

ص:49


1- 1) .انظر الحجرات:6.

الفصل الخامس::الشيعة و الإمامة و الخلافة

اشارة

الخلافة عند الشيعة إمرة إلهية و استمرار لتحقيق أهداف النبي صلى الله عليه و آله و سلم و وظائفه،و الإمام له نفس الصلاحيات و الوظائف المخولة إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم غير انّه ليس بنبيّ و لا يوحى إليه و النبوّة أُوصدت و ختمت بالرسول فلا نبيّ و لا رسول بعده،و لكن الوظائف كلّها مستمرة،و لأجل ذلك يجب أن يكون الإمام قائماً بوظائفه الروحية و المادّية و العلمية و الاجتماعية كي يسدّ الفراغ الحاصل بوفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و من جملة وظائفه صلى الله عليه و آله و سلم:

1- تبيين الأحكام الشرعية و الوظائف الاجتماعية.

2- تفسير القرآن الكريم و توضيح إجماله و تبيين متشابهه.

3- تبيين الأحكام الشرعية للحوادث المستجدّة.

4- إزالة الشبهات الطارئة من قبل الفرق المختلفة.

5- إزالة الخلاف الناجم بين أصحابه باعتباره محوراً للحق و الباطل.

هذا ما يرجع إلى الوظائف الروحية و أمّا ما يرجع إلى الوظائف المادية فحدّث عنها و لا حرج فقد كان رئيساً للدولة،مرسلاً الجيوش لنشر الدعوة الإسلامية،مؤمِّناً لميزانية الدولة عن طريق جلب الضرائب و الزكوات،باعثاً السرايا لإخماد الفتن إلى غير ذلك.

فالإمام عند الشيعة الإمامية هو الذي يقوم بهذه الوظائف كافةً بلا استثناء

ص:50

و لا يقوم بها إلّا الأمثل فالأمثل من الاُمّة،و من تمتَّع بتربية إلهية و كان ذا كفاءة و جدارة على إدارة الدولة بمختلف شئونها،و ليس التعرّف على مثل ذلك الإنسان أمراً يسيراً بل لا يعلمه إلّا اللّه سبحانه و النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق إبلاغه.

و هذه هي نظرية التنصيص عند الإمامية فهم لا يرضون إلّا بتنصيص النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على من يخلفه لملء الفراغ الحاصل بعد غيابه صلى الله عليه و آله و سلم عن المسرح السياسي و الاجتماعي و ليس في مقدرة الشورى و لا وسع البيعة العامة التعرّف على ذلك الرجل المثالي و الكفوء الذي يلي النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الفضائل و المناقب.

إنّ انتخاب الخليفة عن طريق شورى المهاجرين و الأنصار أو البيعة العامّة قد تعرّض إليه علماء الكلام نظرياً،دون أن يدخل حيز التطبيق العملي بل واقع الخلافة في صدر الإسلام أثبت خلاف ذلك،و يعرب هذا عن أنّ المعهود في ذلك العصر هو التنصيص لا المشاورة و لا الاستفتاء و لا بيعة عامة.

فهذا عمر بن الخطاب قد أخذ بزمام الاُمور من قبل الخليفة الأوّل حيث قال:إنّي أستخلف عليكم عمر بن الخطاب (1).

كما أنّ الخليفة الثالث تسلّم مقاليد الاُمور عن طريق شورى سداسية عيّن أعضاءها عمر بن الخطاب (2).

روى المؤرّخون أنّ عمر بن الخطاب لمّا أحسّ بالموت قال لابنه عبد اللّه:اذهب إلى عائشة و اقرأها منّي السلام و استأذن منها أن أُقبر في بيتها مع رسول اللّه و مع أبي بكر.

فأتاها عبد اللّه بن عمر فأعلمها فقالت:نعم و كرامة،ثمّ قالت:يا بُنيّ أبلغ عمر سلامي و قل له:لا تدع أُمّة محمّد بلا راع و استخلف عليهم و لا تدعهم

ص:51


1- 1) .ابن قتيبة الدينوري:الإمامة و السياسة:18؛ [1]الجزري:الكامل:425/2. [2]
2- 2) .الطبري:التاريخ:294/3.

بعدك هملا فإنّي أخشى عليهم الفتنة (1).

إنّ عبد اللّه بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته،فقال:إنّي سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك،و زعموا أنّك غير مستخلف و انّه لو كان لك راع إبل،أو راع غنم ثمّ جاءك و تركها لرأيت أن قد ضيع فرعاية الناس أشد (2).

إلى غير ذلك من النصوص الحاكية على أنّ النظرية التي تبنّاها المسلمون الأوائل هي نظرية التنصيص،و لكنّهم عدلوا عن تنصيصه سبحانه إلى تنصيص نفس الخليفة.

هل المصلحة كانت تكمن في تعيين الوصي أو تركه إلى انتخاب الاُمّة؟

هل المصلحة العامّة عند الرسول تكمن في تعيين الوصي و القائم بشئون الخلافة،أو تكمن في تركه إلى الاُمّة؟

إنّ دراسة أحوال المسلمين يوم ذاك،تحتم علينا،أن نقول بأنّ المصلحة العامة كانت رهن تعيين الوصيّ.

و قد فرضت الأخطار الداخلية و الخارجية المحدقة بالإسلام على النبي صلى الله عليه و آله و سلم تعيين وصيّ يسدّ ذلك الفراغ الحاصل بغيابه عن المسرح السياسي و يسدّ باب الجدل و النقاش في وجه الاُمّة.

إنّ الخطر الثلاثي لم يكن أمراً خفياً على الرسول صلى الله عليه و آله و سلم خاصّة إنّ امبراطورية إيران ذات الحضارة الزاهرة تهدّد كيان الحكومة الفتيّة،كما انّ الامبراطورية البيزنطية في شمال الجزيرة العربية لم تكن بأقل من امبراطورية إيران خطراً في إيجاد

ص:52


1- 1) .ابن قتيبة الدينوري:الإمامة و السياسة:32. [1]
2- 2) .أبو نعيم الاصفهاني:حلية الأولياء:444/1. [2]

الفتن و الفوضى فأخذت تشغل بال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و لم يبارحه التفكير في خطرها حتى لحق بالرفيق الأعلى،و أضف إلى ذلك خطر المنافقين من الداخل الذين كانوا يتحيّنون الفرص و يتربّصون الدوائر لتسديد ضربة قاصمة إلى الإسلام.

و اتّحاد هذا المثلث الخطر:الفرس و الروم و المنافقون،لاكتساح الإسلام و اجتثاث جذوره،بات أمراً محتملاً،خاصّة بعد رحيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و غيابه عن الساحة السياسية.

أ فهل يمكن أن يغيب عن قلب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هذا الخطر ليحول دون وقوعه بتعيين الوصي فيلتفّ المسلمون حوله و يفض النقاش و الجدال بينهم؟!

هذا التهديد التاريخي يجرّنا إلى القول بأنّ المصلحة اقتضت التنصيص على الوصي لا أن يترك الأمر سُدىً يتلقفه الصحابة بالجدال و النقاش الحاد دون أن ينتهي عند حد.

فنرى أنّ الشيخ الرئيس-ذلك العقل الكبير-يقول:

و الاستخلاف بالنص أصوب،فانّ ذلك لا يؤدّي إلى التشعّب و التشاغب و الاختلاف (1).

السنّة النبويّة و التنصيص على إمامة عليّ:
اشارة

إنّ من أحاط علماً بسيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في تأسيس دولة الإسلام،و تشريع أحكامها و تمهيد قواعدها،و بمواقف عليَّ بن أبي طالب وزير رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أمره و ظهيره على عدوّه،و عيبة علمه،و وارث حكمه،و ولي عهده،و صاحب الأمر بعده

ص:53


1- 1) .ابن سينا:الشفاء، [1]الإلهيات، [2]المقالة العاشرة،الفصل الثالث و الخمسون؛و لاحظ المبدأ و المعاد:558.

و من وقف على أقوال النبي و أفعاله في حلّه و ترحاله،يجدّ انّ نصوص النبي صلى الله عليه و آله و سلم في خلافة علي عليه السلام و إمامته متواترة،و إليك البيان:

أ- حديث بدء الدعوة:

أخرج الطبري و غيره انّه لما نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» 1 دعا رسول اللّه علياً،فقال له:يا عليّ إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعاً و عرفت أنّي حتى أُباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره،فاصنع لنا يا عليّ صاعاً من طعام و اجعل عليه رجل شاة و املأ عساً من اللبن.

فلمّا جاء القوم و أكلوا و شربوا قام النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و قال:يا بني عبد المطلب إنّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة،و قد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه،فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر،على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم؟

قال:فأحجم القوم عنها جميعاً،و قلت:أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثمّ قال:إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم، فاسمعوا له و أطيعوا (1).

و دلالة الحديث على الخلافة لعلي و الوصاية له لا تحتاج إلى بيان،و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ النبوّة و الإمامة كانتا متعاقدتين بعقد واحد تتجليان معاً و لا تتخلفان.

ص:54


1- 2) .الطبري:التاريخ:63/2-64 و [1]ابن الأثير:الكامل:40/2، [2]أبو الفداء عماد الدين الدمشقي في تاريخه:90/3 و الإمام أحمد:المسند:159/1 إلى غير ذلك من المصادر.
ب-حديث المنزلة:

روى البخاري و مسلم في صحيحيهما و كثير من أهل السير و التاريخ انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خلّف عليَّ بن أبي طالب عليه السلام على أهله في المدينة عند توجّهه إلى تبوك فأرجف به المنافقون،و قالوا:ما خلفه إلّا استثقالاً له،و تخفّفاً به،فلمّا قال ذلك المنافقون أخذ عليّ بن أبي طالب عليه السلام سلاحه و خرج حتى أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و هو نازل بالجرف،فقال:يا نبيّ اللّه،زعم المنافقون أنّك إنّما خلفتني انّك استثقلتني،و تخففت بي،فقال:كذبوا،و لكنّي خلفتك لما تركت ورائي،فارجع فاخلفني في أهلي و أهلك،أ فلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟

فرجع علي إلى المدينة و مضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في سفره (1).

الحديث يدلّ بوضوح على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أفاض على علي عليه السلام بإذن من اللّه سبحانه الخلافة و الوصاية،فكل مقام كان ثابتاً لهارون فهو أيضاً ثابت لعليّ عليه السلام إلّا ما استثناه و هي النبوّة،على أنّ الاستثناء دليل العموم.

و ما جاء في صدر الحديث من أنّه خلّفه على أهله لا يكون دليلاً على التخصيص لبداهة أنّ المورد لا يكون مخصّصاً.

ج-حديث الغدير:

حديث الغدير حديث الولاية الكبرى،حديث كمال الدين و إتمام النعمة

ص:55


1- 1) .البخاري:الصحيح،غزوة تبوك:3/6،طبع عام 1314 ه،و مسلم:الصحيح:فضائل علي:120/7،و ابن ماجة:السنن في فضائل أصحاب النبيّ:55/1،و أحمد:المسند:173/1،175،177،179،182،185،330.

و رضى الرب تعالى و هو حديث نزل به كتاب اللّه المبين و تواترت به السنّة النبوية،و تواصلت حلقات أسانيده منذ عهد الصحابة و التابعين إلى يومنا هذا.

و قد صبّ شعراء الإسلام واقعة الغدير في قوالب شعرية و إليك خلاصة تلك الواقعة:

أجمع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم الخروج إلى الحجّ في السنة العاشرة من الهجرة تلك الحجة التي سميت بحجّة الوداع و حجّة الإسلام و حجّة البلاغ،فلمّا قضى مناسكه انصرف راجعاً إلى المدينة و من معه من الجموع المذكورة وصل إلى غدير خمّ من الجحفة التي تتشعّب فيها طرق المدنيين و المصريين و العراقيين،و ذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة فعند ذاك نزل جبرئيل الأمين بقوله: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» 1.

و كان أوائل القوم قريبين من الجحفة فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يرد من تقدّمهم و يحبس من تأخر عنهم حتى إذا أخذ القوم منازلهم نودي بالصلاة،صلاة الظهر،فصلّى الناس،و كان يوماً حارّاً يضع الرجل بعض ردائه على رأسه و بعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء، فلمّا انصرف من صلاته قام خطيباً وسط القوم على اقتاب الإبل،و أسمع الجميع رافعاً عقيرته،فقال:

الحمد للّه،و نستعينه،و نؤمن به،و نتوكّل عليه،و نعوذ باللّه من شرور أنفسنا،و من سيئات أعمالنا،الذي لا هادي لمن أضلّ و لا مضلّ لمن هدى،و أشهد أن لا إله إلّا اللّه،و أنّ محمداً عبده و رسوله،أمّا بعد:أيّها الناس،إنّي أُوشك أن أُدعى فأجيب،و إنّي مسئول و أنتم مسئولون،فما ذا أنتم قائلون؟

قالوا:«نشهد أنّك قد بلّغت و نصحت،و جاهدت،فجزاك اللّه خيراً».

ص:56

قال:«أ لستم تشهدون أنّ لا إله إلّا اللّه،و أنّ محمداً عبده و رسوله،و أنّ جنّته حقّ،و ناره حقّ،و أنّ الموت حقّ،و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها،و أنّ اللّه يبعث من في القبور؟».

قالوا:«بلى نشهد بذلك».

قال:«اللّهم اشهد».ثمّ قال:«أيّها الناس،أ لا تسمعون؟»

قالوا:«نعم».

قال:«فإنّي فرط على الحوض،فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».

فنادى مناد:«و ما الثقلان يا رسول اللّه؟»

قال:الثقل الأكبر،كتاب اللّه،و الآخر الأصغر،عترتي،و إنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض،فلا تقدموهما فتهلكوا،و لا تقصروا عنهما فتهلكوا».

ثمّ أخذ بيد عليّ فرفعها،حتى رؤي بياض آباطهما،و عرفه القوم أجمعون،فقال:«أيُّها الناس،من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟».

قالوا:«اللّه و رسوله أعلم».

قال:«إنّ اللّه مولاي،و أنا مولى المؤمنين،و أنا أولى بهم من أنفسهم،فمن كنت مولاه،فعليّ مولاه-يقولها ثلاث مرات-ثمّ قال:

اللّهمّ وال من والاه،و عاد من عاداه،و أحب من أحبّه،و ابغض من أبغضه،و انصر من نصره،و اخذل من خذله،و أدر الحق معه حيث دار،ألا فليبلغ الشاهد الغائب».

ثمّ لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي اللّه بقوله:

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» الآية (1)،فقال

ص:57


1- 1) .المائدة:3. [1]

رسول اللّه:«اللّه أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضى الربّ برسالتي،و الولاية لعليّ من بعدي».

ثمّ أخذ الناس يهنِّئون عليّاً،و ممّن هنّأه في مقدّم:الشيخان أبو بكر و عمر،كلّ يقول:بخ بخ،لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي،و مولى كل مؤمن و مؤمنة.

و قال حسّان:أ تأذن لي يا رسول اللّه أن أقول في عليٍّ أبياتاً،فقال:قل على بركة اللّه،فقام حسان،فقال: يناديهم يوم الغدير نبيّهم

ص:58

فلمّا سمع النبيّ أبياته قال:«لا تزال يا حسّان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك».

هذا مجمل الحديث في واقعة الغدير،و قد أصفقت الاُمّة على نقله،فلا نجد حديثاً يبلغ درجته في التواتر و التضافر و لا في الاهتمام به نظماً و نثراً.

لا أظن أن أحداً ينكر سند الحديث و تواتره،فقد رواه:

1- من الصحابة 110 صحابياً.

2- و من التابعين 84.

و أمّا عدد الرواة من العلماء و المحدثين فنذكرهم على ترتيب القرون.

3- في القرن الثاني:56 عالماً و محدِّثاً.

4- في القرن الثالث:92 عالماً و محدِّثاً.

5- في القرن الرابع:43 عالماً و محدِّثاً.

6- في القرن الخامس:24 عالماً و محدِّثاً.

7- في القرن السادس:20 عالماً و محدِّثاً.

8- في القرن السابع:20 عالماً و محدِّثاً.

9- في القرن الثامن:19 عالماً و محدِّثاً.

10- في القرن التاسع:16 عالماً و محدِّثاً.

11- في القرن العاشر:14 عالماً و محدِّثاً.

ص:59

12- في القرن الحادي عشر:12 عالماً و محدِّثاً.

13- في القرن الثاني عشر:13 عالماً و محدِّثاً.

14- في القرن الثالث عشر:12 عالماً و محدِّثاً.

15- في القرن الرابع عشر:19 عالماً و محدِّثاً (1).

و قد ألّف غير واحد من أعلام الفريقين كتباً في اسناد الحديث و تواتره و إنّما المهم هو تبيين دلالة الحديث على الإمامة الكبرى.

دلالة الحديث على الولاية الكبرى:

إنّ لفظة«مولى»في كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم«من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه»بمعنى«أولى»كما في قوله سبحانه: «فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ» 2.

و قد فسّر المفسّرون قوله: «هِيَ مَوْلاكُمْ» بقولهم هي أولى لكم،و هناك قرائن حالية و مقالية على أنّ المراد من ذلك اللفظ هي الولاية.

أمّا القرائن الحالية فهي أنّ النبي أمر بحبس المتقدم في السير و منع التالي في محل ليس صالحاً للنزول،غير أنّ الوحي حبسه هناك و الناس قد أنهكتهم وعثاء السفر و حرّ الهجير و حراجة الموقف حتى أنّ أحدهم ليضع طرفاً من ردائه تحت قدميه فعند ذاك رقى رسول اللّه منبر الأهداج.

فهل يصحّ أن يراد من المولى في هذا الموقف الحرج غير إبلاغ الولاية لعليّ و انّه هو المتصرّف و الآخذ بالزمام بعده،و إلّا فلو أغمض على هذا المعنى و قيل بأنّ

ص:60


1- 1) .راجع في الوقوف على مصادر هذا البحث الكتاب القيم«الغدير»الجزء الأوّل.

المراد من المولى الناصر و المحب لسقط الكلام عن البلاغة و احتفظ عامة الناس بحقّ النقد و الرد على النبيّ بعدم ضرورة حبس هذه الحشود في ذلك الموقف غير الصالح للنزول،و إلقاء الخطبة لأجل تفهيم الجميع أمراً واضحاً و هو الدعوة إلى نصرة عليّ و حبّه.

فلا يسوغ للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حشر الجماهير في حرّ الرمضاء إلّا أن تكون الخطبة حول أمر خطير تناط به حياة الإسلام و كيان المسلمين و هي تعيين الوصي بعده و إضفاء الولاية العامة على من بعده.

و أمّا القرائن المقالية فكثيرة و نشير إلى بعضها:

الاُولى:صدر الحديث و هو قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«أ لست أولى بكم من أنفسكم»،فهذه قرينة على أنّ المراد من المولى ما ورد في الصدر و هي الأولوية في النفوس و الأموال قال سبحانه: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» 1.

الثانية:قوله في ذيل الحديث:«اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه»و في جملة من الحديث قوله«و انصر من نصره و اخذل من خذله»أو ما يؤدي مؤداه فلو أُريد منه غير الولاية العامة و الأولوية بالتصرّف فما معنى هذه الإطالة.

الثالثة:أخذ الشهادة من الناس حيث قال:«أ لستم تشهدون أن لا إله إلّا اللّه،و أنّ محمداً عبده و رسوله و أنّ الجنة حقّ و النار حقّ» فانّ وقوع قوله«من كنت مولاه»في سياق الشهادة بالتوحيد و الرسالة يحقّق انّ المراد هو الخلافة بعد الرسالة للأولوية على الناس.

و لعلّ يكفيك ما ذكرنا من القرائن و لم يفهم الشعراء و الأُدباء منذ صدور الحديث من صاحب الرسالة إلّا الولاية العامة لعليّ عليه السلام ،و قد أنشأ حسان شعراً في هذا المقام حيث قال:

ص:61

فقال له قم يا عليّ فإنّني رضيتك من بعدي إماماً و هاديا

و هذا هو علي صاحب الولاية يقول في شعره: و أوجب لي ولايته عليكم رسولُ اللّه يوم غدير خم

و هذا هو قيس بن سعد بن عبادة ذلك الصحابي العظيم يقول: و عليٌّ إمامُنا و إمامٌ

هذا هو داهية العرب عمرو بن العاص يكتب إلى معاوية رسالة و فيها قصيدته المعروفة بالجلجلية يقول فيها معترضاً على معاوية: و كم قد سمعنا من المصطفى

هذا هو خلاصة القول في إمامة علي بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من اللّه.

و من عجائب الاُمور أنّ الشيعة قد ذهبت إلى أنّ عدد الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو اثنا عشر خليفة،و نرى ذلك أيضاً في الصحاح و المسانيد،و قد تضافرت الروايات الناهزة على سبع عشرة رواية،أنّ عدد خلفاء الرسول هو اثنا عشر خليفة و المواصفات المحدّدة لهم تنطبق بالتمام على أئمّة الشيعة،و إليك بيانه.

روى البخاري عن جابر بن سمرة قال:سمعت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يقول:يكون اثنا

ص:62

عشر أميراً،فقال كلمة لم أسمعها،فقال أبي:إنّه قال:كلّهم من قريش (1).

و روى مسلم عن جابر بن سمرة قال:سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة»ثمّ قال كلمة لم أفهمها،فقلت لأبي:ما قال؟ قال:«كلّهم من قريش» (2).

و روى أيضاً:لا يزال هذا الدين منيعاً إلى اثني عشر خليفة،فقال كلمة صمنيها الناس،فقلت لأبي ما قال؟ قال:«كلّهم من قريش» (3).

هذه النصوص تثبت أنّ صيغة الحكومة و الإمامة عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم كانت هي التنصيص و قد نصّ على عليّ عليه السلام و هو نصَّ على ولده الحسن عليه السلام و هو على أخيه الحسين عليه السلام و توالت الأوصياء حسب التنصيص إلى اثني عشر إماماً،و على ضوء ذلك اتّفقت الشيعة على أنّ الأئمّة الاثني عشر خلفاء الرسول و انّهم منصوبون من اللّه لزعامة الاُمة و قد نصّ الرسول على عددهم بل و على أسمائهم كما و نصّ كل خليفة سابق منهم على الخليفة من بعده و دونك أسماءهم:

أوّلهم الإمام عليّ بن أبي طالب،ابن عمّ الرسول و صهره تربّى في حجره،و لم يزل يقفو أثره طول حياته و هو أوّل النّاس إسلاماً و أشدّهم استقامة في طاعة اللّه و تفانياً في الدين،بلغ في علمه و تقاه درجة تقاصر عنها شأو أقرانه.

كان الإمام أفضل الناس و أمثلهم بعد رسول اللّه و لم يكن يومذاك رجل أليق بزعامة الاُمّة و قيادتها منه.

نعم قدمت مجموعة من المهاجرين غيره عليه عليه السلام و تناسوا النصّ و أجمعوا

ص:63


1- 1) .البخاري:الصحيح:9،باب الاستخلاف،ص 81،و ما رواه متن ناقص كما سيظهر ممّا نقله مسلم.
2- 2) .مسلم:الصحيح:3/6،باب الناس تبع لقريش،من كتاب الامارة.
3- 3) .المصدر السابق،و لاحظ مسند أحمد:98/5. [1]

على صرف الخلافة من أوّل يومها عن وليّه المنصوص عليه.

و لم ير الإمام بداً-لحفظ مصالح الدين و المسلمين-من تسليم الأمر إليهم فلزم عقر داره مدة خمسة و عشرين عاماً إلى أن رجعت إليه الخلافة و اتّفقت على قيادته و زعامته كلمتهم لا سيما جبهة الأنصار و سنام العرب.فتولى الإمام مقاليد الخلافة و أحيا سنّة النبيّ الأعظم في عدله و إنصافه و مساواته بين الناس و لم يكن لأحد فيه مطمع،و لا عنده هوادة و لم يكن يقيم وزناً لغير الحق و لم يحكم بين الأمّة إلّا بالحقّ و العدالة حتى قتل في محراب عبادته لشدة عدله.

فالحقّ أنّ الإمام مفخرة من مفاخر المسلمين على الإطلاق بل الإنسانية جمعاء.

فالإمام عليّ عليه السلام أوّل الأئمة الاثني عشر،و يليه:

الحسن بن علي،الحسين بن علي،فعلي بن الحسين زين العابدين،فمحمد ابن علي الباقر،فجعفر بن محمد الصادق،فموسى بن جعفر الكاظم،فعلي بن موسى الرضا،فمحمد بن علي الجواد،فعلي بن محمد الهادي،فالحسن بن علي العسكري،فمحمد بن علي بن الحسن الحجة المهدي المنتظر.

هؤلاء أئمّة الشيعة الاثني عشر و قادتهم يقتبس من أنوارهم و يهتدي بهداهم و قد حُفظت تواريخهم و آثارهم و دُوِّنت أحاديثهم و ما رويت عنهم.

و الإمام الثاني عشر هو الإمام المهدي المنتظر الذي تواترت الروايات على ظهوره في آخر الزمان.

إنّ الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظر عقيدة مشتركة بين جميع المسلمين،إلّا من أصمّه اللّه،فكلّ من كان له أدنى إلمام بالحديث يقف على تواتر البشارة عن النبيّ و آله و أصحابه،بظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة الجهل و الظلم،و نشر

ص:64

أعلام العلم و العدل،و إعلاء كلمة الحق و إظهار الدين كله و لو كره المشركون،و هو بإذن اللّه ينجي العالم من ذلّ العبودية لغير اللّه و يبطل القوانين الكافرة التي سفّتها الأهواء.و يقطع دابر التعصّبات القومية و العنصرية،و يزيل العداء و البغضاء التي صارت سبباً لاختلاف الاُمّة و اضطراب الكلمة،و تأجيج نار الفتن و المنازعات،و يحقق اللّه بظهوره وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله:

«وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» 1.

و قال سبحانه: «وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ» 2.

هذا ما اتّفق عليه المسلمون في الصدر الأوّل و الأزمنة اللاحقة و قد تضافر مضمون قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم:«لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوَّل اللّهُ ذلك اليومَ حتى يخرج رجلٌ من ولدي،فيملأها عدلاً و قسطاً كما مُلِئت ظُلماً و جَوراً».

و لو وُجد هناك خلاف بين أكثر السنّة و الشيعة فالاختلاف في ولادته،فانّ الأكثرية من أهل السنّة يقولون بأنّه سيولد في آخر الزمان،و الشيعة بفضل الروايات المتواترة تذهب إلى أنّه ولد في«سرّ من رأى»عام 255 ه،و غاب بأمر اللّه سبحانه سنة وفاة والده،عام 260 ه،و هو يحيى حياة طبيعية كسائر الناس غير انّ الناس يرونه و لا يعرفونه،و سوف يظهره اللّه سبحانه ليحقّق عدله.

و هذا المقدار من الاختلاف لا يجعل العقيدة بالمهدي من المسائل الخلافية،

ص:65

و من أراد أن يقف على عقيدة السنّة و الشيعة في مسألة المهدي،فعليه أن يرجع إلى الكتب التالية لمُحققي السنّة و محدّثيهم:

1-«صفة المهدي»للحافظ أبي نعيم الاصفهاني.

2-«البيان في أخبار صاحب الزمان»للكنجي الشافعي.

3-«البرهان في علامات مهدي آخر الزمان»لملاّ علي المتقي.

4-«العرف الوردي في أخبار المهدي»للحافظ السيوطي.

5-«القول المختصر في علامات المهدي المنتظر»لابن حجر.

6-«عقد الدرر في أخبار الإمام المنتظر»للشيخ جمال الدين الدمشقي.

و على ضوء ذلك اتّفقت الشيعة على أنّ الأرض لا تخلو من قائم للّه بحجة إمّا ظاهراً مشهوراً أو غائباً مستوراً،و تلك الحجج في عامة الأدوار تتمثّل إمّا في نبيّ أو في وصيّ نبيّ،و الحجة المهدي (عجل اللّه تعالى فرجه) هو خاتم الأوصياء حيّ يرزق منحه اللّه من العمر أطوله كما منح للمسيح ذلك،و ليس على اللّه بعسير فهو القادر على كل شيء فله أن يمنح عبداً من عباده أيّ قدر شاء من العمر،فلا قدرة اللّه متناهية و لا الموضوع في نفسه محال و لا أُسس علم الحياة تعانده،و ما جاء العلم بحدٍّ لحياة البشر لا يتجاوزه.

و قد ادّخره اللّه ليوم يتظاهر فيه الزمان بالجور و العدوان و القتل و سفك الدماء و الفساد و إحاطة المجتمع بأنواع العذاب و البلاء.

فهذه الكوارث و المكاره تهيّئ المجتمع و تدفعه إلى ثورة عارمة على الظلم و العدوان،تقتلع بها جذور الفساد و تقطع دابر الجبابرة عن أديم الأرض،حتى ترفرف رايات العدل و الإسلام في شرق الأرض و غربها بقيادة آخر الخلفاء و خاتم الأوصياء فيملأ اللّه به الأرض عدلاً و أمناً كما مُلئت ظلماً و جوراً.

ص:66

هذه خلاصة القول في الإمام المهدي.

و في خاتمة المطاف نأتي بما كتبه الدكتور عبد الباقي في كتابه الذي أسماه«بين يدي الساعة»و قد طبع في السعودية،فقال في تضافر الأخبار الواردة في حق المهدي:

إنّ المشكلة ليست في حديث أو حديثين أو راوٍ أو راويين إنّها مجموعة من الأحاديث و الأخبار تبلغ الثمانين تقريباً اجتمع على تناقلها مئات الرواة و أكثر من صاحب كتاب صحيح.

فلما ذا تردّ كل هذه الكمية،أ كلّها فاسدة؟ لو صح هذا الحكم لانهار الدين-و العياذ باللّه-نتيجة تطرّق الشك و الظن الفاسد إلى ما عداهما من سنّة رسول اللّه.

و إذا نظرنا إلى المهدي نظرة مجردة فإنّا لا نجد حرجاً من قبولها و تصديقها أو على الأقل عدم رفضها (1).

ص:67


1- 1) .الدكتور عبد الباقي:بين يدي الساعة:123.

الفصل السادس::الشيعة و المنهج الفقهي

اشارة

لقد سبق قولنا أنّ مذهب الشيعة مزيج من العقيدة و الشريعة و ليس مذهباً كلامياً بحتاً حتى نقتصر في دراسته على بيان الاُصول الكلامية،و لا مذهباً فقهياً كالمذاهب الفقهية الأربعة حتى يُكتفى في تعريفه بما يتبنّى من فروع في باب العبادات و المعاملات و الإيقاعات و السياسات،و قد وقفت على موجز عقائدهم في المسائل الكلامية في الفصول الخمسة السالفة الذكر،و إليك الإشارة إلى ما يدينون به في باب الأحكام.

ينقسم فقه الشيعة إلى:

1- عبادات 2-عقود 3- إيقاعات (1)4- سياسات.

و هناك تقسيم آخر و هو تقسيمه إلى العبادات،و المعاملات،و الأحوال الشخصية،و السياسات.

مصادر الفقه الشيعي:

تعتمد الشيعة في استنباط الأحكام الشرعية على الأدلة الأربعة لا غير:

الأوّل:كتاب اللّه العزيز و لا يعدل عنه إلى غيره مطلقاً.

الثاني:السنّة المأثورة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق أئمّة أهل البيت و سائر الثقات،

ص:68


1- 1) .العقد:اتفاقية قائمة بالطرفين كالبيع و النكاح،بخلاف الإيقاع فإنّه إنشاء أمر قائم بطرف واحد،كالطلاق و العتق.و ربّما يعبر عن الرابع ب«أحكام»و هو أمتن و أشمل.

فإنّ المأثور عن أئمّة أهل البيت يصل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بسند عالٍ غير خاضع للنقاش.

الثالث:الإجماع:إجماع المسلمين على حكم شرعي،أو إجماع الطائفة الشيعية الكاشف عن وجود النص الواصل إلى يد المجمعين و غير الواصل إلينا.و ليس الإجماع عندهم بنفسه حجة،بل لأجل كشفه عن دليل شرعي موجود لدى المجمعين.

الرابع:العقل:أعني الإدراكات القطعية العقلية التي لا يتردد فيها و لا يشك في صحتها،كيف و العقل هو الحجة الباطنية التي يحتجّ بها المولى سبحانه على العباد،ثمّ بحكم العقل الذي له صلاحية الحكم و القضاء يُستكشف حكم الشرع،للملازمة بين حكم العقل و الشرع و استحالة التفكيك بينهما،فمثلاً إذا استقلّ العقل بقبح العقاب بلا بيان فيفتي المجتهد في الموارد التي لم يرد فيها دليل شرعي على الحكم الشرعي،بالبراءة أو الحلّية.

هذه هي مصادر التشريع عند الشيعة و ليس هناك مصدر آخر تعتمد عليه.

و أمّا الرجوع إلى العرف،فإنّما هو لتحديد المفاهيم و تبيين الأوضاع كالرجوع إلى قول اللغوي.

نعم،رفضت الشيعة منذ زمن مبكر القياس و الاستحسان و سدّ الذرائع و ما يماثلها من الأدلة الظنية التي لم يقم دليل عندهم على حجيتها.

اتفقت الشيعة على أنّ السنّة المطهرة كما تثبت بالخبر المتواتر،و الخبر المحفوف بالقرائن،تثبت أيضاً بالخبر الواحد إذا كان رواته ثقات في جميع السلسلة.

***

ص:69

فتح باب الاجتهاد:

الاجتهاد هو بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المعينة و هو رمز خلود الدين و بقاء قوانينه،لأنّه يحفظ غضارته و طراوته و يصونه عن الاندراس و يغني المسلمين عن التطفل على موائد الأجانب بإعطاء كل موضوع ما يقتضيه من الحكم.

و قد حثّ أئمّة أهل البيت شيعتهم على التفقه في الدين و الاجتهاد فيه و انّه من لم يتفقّه في الدين فهو أعرابي،و أرشدوهم إلى كيفية استخراج الفروع المتشابكة،من الآيات و الأُصول المتلقّاة عنهم،كل ذلك صار سبباً لاندفاع الشيعة نحو دراسة كتاب اللّه و الأحاديث المروية و بذل الجهد في استنباط الأحكام من أدلّتها الشرعية و رأوا أنّ الاجتهاد أمرٌ لازمٌ لأنّ بين الأخبار ما هو عام و خاص و مطلق و مقيد، و بين الآيات ناسخ و منسوخ،و بين الأحكام ما هو مجمع عليه و مختلف فيه.كل ذلك جرهم إلى فتح باب الاجتهاد أي بذل الوسع في فهم الحكم الشرعي من أدلته.

و أمّا لزوم فتح هذا الباب في عصرنا فلا يحتاج إلى البرهنة و الدليل،لأنّنا أمام موضوعات مستجدّة تتطلب لنفسها الجواب، و الجواب إمّا يطلب من بذل الوسع في استنباط أحكام الموضوعات المستجدة من الأُصول و القواعد الإسلامية،أو اتّباع المبادئ الغربية من غير نظر إلى مقاصد الشريعة.و من المعلوم تعيّن الأوّل و بطلان الثاني.

فقهاء الشيعة:

لقد أنجبت مدرسة أهل البيت فقهاء في عصر الأئمّة ك«زرارة بن أعين»(80-150ه) و«محمد بن مسلم الطائفي»(80-150 ه) و«محمد بن

ص:70

أبي عمير»(المتوفّى 217 ه) و«الحسن بن محبوب»(150-224 ه) إلى غير ذلك من فقهاء الشيعة في القرن الثاني و الثالث.

احتفل القرن الرابع و الخامس بفقهاء كبار لهم مكانتهم في الفقه الشيعي ك«علي بن بابويه»(المتوفّى 329 ه)،و«محمد بن جعفر بن قولويه»(المتوفّى 369ه)،و«الشيخ الصدوق»(306-381ه) و«الشيخ المفيد»(336-413 ه)،و«السيد المرتضى» (355-436 ه)،و«الشيخ الكراجكي»(المتوفّى 449 ه)،و«الشيخ الطوسي»(385-460 ه)،و«سلار الديلمي»مؤلف المراسم، و«ابن البراج»(401-489 ه) مؤلف المهذب،و غيرهم من الذين ملأت أسماؤهم كتب التراجم و الرجال،و من أراد الوقوف على حياتهم و كتبهم فعليه الرجوع إلى الموسوعات الرجالية و فهارس المؤلفات،و أخص بالذكر كتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة،و توالى التأليف في الفقه بأشكال و صور مختلفة إلى العصر الحاضر و ترى فيه موسوعات كبيرة كجواهر الكلام في 42 جزءاً،و الحدائق الناضرة في 26 جزءاً.

إنّ لكل كتاب أو باب فقهي شأناً و مكانة خاصة تدور عليها رحى الحياة المادّية و الروحية للمسلم و لا يستغني المجتمع الإسلامي عن واحد منها،غير أنّ هناك موضوعات تعدّ بمثابة أُصول لها منزلة متميّزة و هي ما نسمّيه أركان الفقه.

أركان الفقه و أُسسه:

1- الصلاة:و هو ركن عظيم إسلامي،فيجب على كل مسلم أن يقيم الصلوات اليومية في أوقاتها الخاصة إلى الجهة (القبلة) التي نصّ عليها القرآن و أطبق المسلمون عليها،و هي الكعبة.

2- الصوم:يجب على كل مسلم أن يصوم شهر رمضان كلّه بادئاً برؤية

ص:71

هلاله و خاتماً بهلال شوال.

3- الحج:يجب على كل مسلم مستطيع أن يحج بيت اللّه الحرام و لو مرّة واحدة،و يجتمع مع سائر إخوانه في ذلك المشهد العظيم الذي ينعقد مرة واحدة كل سنة.

4- الزكاة:و هي عند الشيعة ركن اجتماعي بارز و ضريبة إسلامية،و هي حق الجماعة في عنق الفرد و على عاتق المكلفين،حدّد لها الإسلام نصاباً،و جعل لها شرائط،و أوضح جهة مصارفها كمساعدة الفقراء و المساكين و تجهيز المجاهدين و دعم المرابطة و علاج المرضى و كل ما يمت إلى مصالح الإسلام و المسلمين بصلة.

5- الخمس:و هي ضريبة إسلامية أُخرى تتعلق بأموال المتمكنين من المسلمين و لها شرائط و ضوابط محرّرة في مواضعها.

6- الجهاد:و هو ركن من أركان الإسلام فيجب على كل مسلم الوقوف أمام أعداء الإسلام بكل حول و قوة بتضحية النفوس و الأموال.

7 و 8-الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر:هما من أفضل القربات لدى الشيعة أساسهما الدعوة إلى الحق،و الهدى،و مكافحة الفساد،بألوانه المختلفة الفردية و الاجتماعية على ضوء العلم و المنطق الصحيح،و هما وظيفة الشعب المسلم و لا يختص بطائفة دون أُخرى ليقف على الأحداث المهددة لمجتمعه و يعالجها بالحكمة و الموعظة الحسنة.و أمّا تنفيذهما فيقع على عاتق الدولة الإسلامية و ليس له شكل خاص و إنّما يتبع المصالح العامّة حسب اختلاف الظروف.

ما ذكرنا من العناوين الفقهية تعدّ من أركان الفقه و أُسسه،و أمّا الكتب الفقهية التي وقعت في إطار البحث و النقاش بين فقهاء الشيعة فتربو على أكثر

ص:72

من خمسين كتاباً،و إليك أسماءها:

1- كتاب الطهارة.

2- كتاب الصلاة.

3- كتاب الزكاة.

4- كتاب الخمس.

5- كتاب الصوم.

6- كتاب الاعتكاف.

7- كتاب الحج.

8-كتاب الجهاد.

9- كتاب الكفارات.

10- كتاب النذر.

11- كتاب القضاء.

12- كتاب الشهادات.

13- كتاب الوقف.

14- كتاب العطية.

15- كتاب المتاجر.

16- كتاب الدين.

17- كتاب الرهن.

18- كتاب الحجر.

19- كتاب الضمان.

20- كتاب الحوالة.

21- كتاب الكفالة.

22- كتاب الصلح.

23- كتاب الشركة.

24- كتاب المضاربة.

25- كتاب الوديعة.

26- كتاب العارية.

27- كتاب المزارعة.

28- كتاب المساقاة.

29- كتاب الإجارة.

30- كتاب الوكالة.

31- كتاب الشفعة.

32- كتاب السبق و الرماية.

33- كتاب الجعالة.

34- كتاب الوصايا.

35- كتاب النكاح.

36- كتاب الطلاق.

37- كتاب الخلع و المباراة.

38- كتاب الظهار.

39- كتاب الإيلاء.

40- كتاب اللعان.

41- كتاب العتق.

42- كتاب التدبير و المكاتبة و الاستيلاء.

43- كتاب الإقرار.

44- كتاب الغصب.

45- كتاب اللقطة.

46- كتاب إحياء الموات.

47- كتاب الصيد و الذبائح.

48- كتاب الأطعمة و الأشربة.

49- كتاب الميراث.

50- كتاب الحدود.

51- كتاب القصاص.

52- كتاب الديات.

ص:73

الملامح العامّة للفقه الشيعي:

إنّ للفقه الشيعي ملامح عامة يتميز بها عن سائر المناهج الفقهية،و إليك بيانها:

1- الفقه الشيعي هو حصيلة النصوص الشرعية الواردة في الكتاب و السنّة و ذلك،لأنّ الأحاديث الفقهية عند أهل السنّة لا تتجاوز عن 500 حديث يدعمها مراسيل و موقوفات،قال السيد محمد رشيد رضا مؤلف المنار:إنّ أحاديث أحكام الاُصول خمسمائة حديث فعدها أربعة آلاف فيما أذكر (1)،و ما يذكره من أربعة آلاف إنّما هي موقوفات و مراسيل لا يحتج بها.

و على كل تقدير صار ذلك سبباً للجوئهم في استنباط الأحكام إلى غير النصوص،كالقياس و الاستحسان و سدّ الذرائع،و أمّا الشيعة فبما أنّهم أناخوا مطيتهم على باب العترة الطاهرة فتسنّى لهم الوقوف على حجم هائل من الأحاديث النبوية أكثر من غيرهم حتى صار ذلك سبباً لثراء الفقه الشيعي،من غير حاجة إلى العمل بغير النصوص.

2- قد عرفت أنّ باب الاجتهاد مفتوح عندهم منذ رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا و لم يتوقف يوماً ما فأدّى إلى نضارة الفقه و تبلوره و إعداده للإجابة على المستجدات الطارئة.

و لا شك أنّ الحقيقة بنت البحث،و العلم يتكامل إذا دخل حلبة الصراع الفكري،و فقهاء الشيعة بذلوا جهوداً مضنية على هذا الصعيد بغية تنمية الفقه و تكامله فصار فقههم متكامل الجوانب.

ص:74


1- 1) .الوحي المحمدي:212،الطبعة السادسة. [1]

3- إنّ الاجتهاد عند فقهاء الشيعة ليس اجتهاداً في مذهب خاص و إنّما هو اجتهاد حر موضوعي لا يختص بمذهب دون آخر.

فالمجتهد الحنفي إنّما يجتهد للبحث عن رأي إمامه في المسألة،و هكذا المجتهد الشافعي و لا يخرج عن إطار المذهب و إن تبين أنّ الحق على خلافه.

و أمّا الاجتهاد في المذهب الشيعي فليس اجتهاد في مذهب الإمام جعفر الصادق أو غيره من أئمّة الشيعة،إذ ليست الأئمّة عندهم مجتهدين أو مفتين و إنّما هم رواة سنن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عيبة علمه غير مشوب بالخطإ،فالمجتهد الشيعي إنّما هو بصدد استنباط الحكم الواقعي الذي نزل به الوحي و بيّنه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

4- المذهب الفقهي يتمتع بالدقة في السند و الدلالة فربّ رواية يراها الإنسان العادي دليلاً على الحكم الشرعي،و لكنّهم بإمعان الدقة،يرونها غير دالة عليه،يعلم ذلك بالرجوع إلى كتبهم الفقهية.

5- الشيعة تستمد اجتهادها من القواعد العامّة المسماة بأُصول الفقه،و قد تكامل هذا العلم منذ عصر الأئمّة إلى يومنا هذا على وجه أوجد فجوة سحيقة بين ما ألفه علماء السنّة في الأُصول كالمختصر لابن الحاجب،و المستصفى للغزالي،و ما ألفه علماء الشيعة في أُصول الفقه في القرنين الأخيرين،و ما ذلك إلّا نتيجة التعمّق في القواعد الأُصولية من خلال فتح باب الاجتهاد.

***

و حصيلة القول

إنّ الفقه الشيعي كالفقه السنّي يسيران جنباً إلى جنب في استنباط الحكم الشرعي مع اختلاف يسير في الطرق و المشارب.

فالأدلّة الفقهية عند الشيعة هي الأربعة السالفة الذكر،و عند السنّة إضافة

ص:75

إلى الكتاب و السنّة و الإجماع،القياس و الاستحسان و سدّ الذرائع.

فنجد أنّ الفقه الشيعي يتّفق في غالب المسائل الفقهية مع أحد المذاهب الأربعة نتيجة اتّفاقهم في أُصول الاستنباط،و أمامك كتاب الخلاف للشيخ الطوسي (385-460 ه) فهو خير شاهد على ما ندّعيه،فإنّه فقه مقارن يبحث عن الحكم الشرعي على ضوء المذاهب الخمسة.

نعم ثمة مسائل خلافية انفردت الشيعة بها و نشير إلى بعضها:

1- إنّ الشيعي يمسح الرجلين في الوضوء و السنّي يغسلهما.

2- إنّ الشيعي يصلي بلا قبض اليسرى باليمنى و السنّي يصلي مع القبض إلّا المالكي.

3- الشيعي يطلق ضريبة الخمس إلى أرباح المكاسب و السنّي يخصصها بالغنائم الحربية.

4- الشيعي جوّز الوصية للوارث دون السنّي.

5- السنّي يقول بالعول و التعصيب في الارث دون الشيعي.

و هذا المقدار الضئيل من الاختلافات ليس بشيء أمام الفقه الإسلامي الواسع و الذي هو محيط لا يدرك ساحله و لا يضر بالوحدة المنشودة و لا يقطع عرى الاُخوة.

و لو أقيم مؤتمر فقهيّ حول هذه المسائل التي تفرّدت بها الشيعة لتجلّت الحقيقة بأجلى مظاهرها،و تقاربت الخطى و أخذ الجميع برأيٍ واحدٍ كما صار الحال كذلك في الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد،فقد أخذ الفقه المصري في هذه المسألة برأي الشيعة الإمامية من انّه يحسب طلاقاً واحداً،لا ثلاثاً و صادقت المحاكم المصرية على ذلك.

ص:76

الفصل السابع::الشيعة و التراث الفكريّ

اشارة

إنّ المسلمين بصورة عامة شيّدوا أركان الحضارة الإسلامية في ظلّ الخطوط التي رسمها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من خلال القرآن و السنّة فأصبحت لهم قوة اقتصادية و نظم سياسية و تقاليد دينية و خلقية،و أصبحت العلوم و الفنون تتطور و تتقدم،و قد قاموا بترجمة كتب اليونانيين و الفرس و غيرهم إلى لغتهم فصارت الحضارة الإسلامية مزدهرة،بفضل هذه العلوم و تطويرها.

و الذي يطيب لنا في هذا الموضوع ذكر

مساهمة الشيعة في بناء الحضارة
اشارة

خصوصاً فيما يرجع إلى العلوم و الفنون:

1- الشيعة و علم النحو:

قام أبو الأسود الدؤلي-الذي كان من سادات التابعين و صاحب علياً عليه السلام و شهد معه الجمل و صفّين-بوضع قواعد نحوية و دوّنها بأمر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام و إرشاده و تعليمه قسماً من القواعد.

و من المعلوم أنّ هذه القواعد لم تكن تسدّ الحاجة الملحّة و لكن أبا الأسود قام بإكمالها،ثمّ عُرف فيما بعد بأنّه مدوّن علم النحو و واضعه و توالى التأليف بعده من الطائفتين.

ص:77

2- الشيعة و علم الصرف:

كما أنّ أوّل من دوّن الصرف هو أبو عثمان المازني،و كان قبل ذلك مندرجاً في علم النحو كما ذكره في كشف الظنون.و أبسط كتاب في الصرف،ما كتبه نجم الأئمة أعني محمد بن الحسن الاسترآبادي الغروي،له شرح الشافية في الصرف كما له شرح الكافية في النحو،و كلا الكتابين جليلا الخطر محمودا الأثر.

3- الشيعة و علم اللغة:

و قد ألّفت الشيعة كتباً في علم اللغة،فأوّل من ضبط اللغة هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد البصري الفراهيدي الأزدي الذي وضع علم العروض فهو سيد أهل الأدب،و قد سبق الجميع إلى تدوين اللغة و ترتيب ألفاظها على حروف المعجم،فألّف كتابه«العين» جمع فيه ما كان معروفاً في أيامه من ألفاظ اللغة و أحكامها و قواعدها،و رتب ذلك على ترتيب خاص.

و لم يشك أحد من علمائنا أنّ الخليل كان شيعياً،و عن المرزباني أنّه ولد عام مائة بعد الهجرة و توفي عام 170 أو 175 ه،و قد ألف كتاباً في الإمامة كما نقله ابن قانع.

4- الشيعة و علم العروض:

و إذا كانت الشيعة هي التي ابتكرت علم النحو بهداية من أمير المؤمنين عليّ عليه السلام،و لحسن الحظ أنّها المبتكرة أيضاً لعلم العروض و ظهوره إلى الوجود،كما تقدّم و قد ألف كافي الكفاة الصاحب بن عباد الذائع الصيت،كتاباً في العروض أسماه«الاقناع»و قد توالى التأليف بعده إلى عصرنا هذا،و من أراد التفصيل فليرجع إلى المعاجم حول مصنّفات الشيعة.

ص:78

5- الشيعة و الشعر:

وجدت في الشيعة طبقة راقية منذ أوائل القرون الاُولى،و كان أئمّة أهل البيت يقدّرون جهودهم و يرحّبون بهم بكل حفاوة كما نطق به التاريخ في حقّ الفرزدق و ميميته،و هاشميات الكميت،و عينية الحميري،و تائية دعبل،لقد حظوا جميعاً بتقدير و احترام الأئمّة و صار عملهم في هذا المجال أُسوة الشيعة.

و إليك أسماء قليل من شعراء الشيعة:

1- قيس بن سعد بن عبادة.

2- الكميت.

3- السيد الحميري.

4- دعبل الخزاعي.

5- ابن الرومي.

6- أبو فراس.

7- أبو الطيب المتنبي.

6- الشيعة و علم التفسير:

إنّ مدرسة الشيعة منذ أن ارتحل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا،أنتجت تفاسير على أصعدة مختلفة و خدمت الذكر الحكيم بصور شتى.

إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام بعد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم هم المفسرون للقرآن الكريم حيث فسروا القرآن بالعلوم التي نحلهم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بأقوالهم و أفعالهم و تقريراتهم التي لا تشذّ عن قول الرسول و فعله و تقريره،و من الظلم الفادح أن نذكر الصحابة و التابعين في عداد المفسرين و لا نعترف بحقوق أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

ص:79

عكف المسلمون على دراسة القرآن و أوّل ما فوجئوا به بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو قصور باع لفيف منهم عن فهم بعض ألفاظ القرآن،و القرآن و إن نزل بلغة الحجاز،لكن توجد فيه ألفاظ غير رائجة و ربّما كانت رائجة بين القبائل الاُخرى،و هذا النوع من الألفاظ ما سمّوه«غريب القرآن».

و بما أنّ تفسير غريب القرآن كانت الخطوة الاُولى لتفسيره،ألف غير واحد من علماء الشيعة إبَّان التدوين كتباً في ذلك المضمار، نذكر إليك بعضها:

1- غريب القرآن لأبان بن تغلب بن رباح البكري (المتوفّى 141 ه).

2- غريب القرآن لمحمد بن السائب الكلبي من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام.

3- غريب القرآن لأبي روق،عطية بن الحارث الهمداني الكوفي التابعي.

4- غريب القرآن لعبد الرحمن بن محمد الأزدي الكوفي.

5- غريب القرآن للشيخ أبي جعفر أحمد بن محمد الطبري الآملي الوزير الشيعي المتوفّى عام 313 ه.

كما أنّ هناك لوناً آخر من التفسير يهدف إلى بيان مقاصده و معانيه فيما إذا كانت الآية مشتملة على المجاز و الكناية و الاستعارة، و نأتي ببعض ما أُلف في ذلك المجال بيد أعلام الشيعة:

1- مجاز القرآن،لشيخ النحاة الفرّاء يحيى بن زياد الكوفي المتوفّى عام 207 ه.

2- مجاز القرآن،لمحمد بن جعفر أبو الفتح الهمداني و له كتاب«ذكر المجاز في القرآن».

3- مجازات القرآن،للشريف الرضي المسمّى ب«تلخيص البيان في مجازات القرآن».

ص:80

و هناك لون آخر من التفسير يندفع فيه المفسر إلى توضيح قسم من الآيات تجمعها صلة خاصة كالمحكم و المتشابه،و الناسخ و المنسوخ،و آيات الأحكام،و قصص الأنبياء،و أمثال القرآن،و الآيات الواردة في مغازي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و النازلة في حقّ العترة الطاهرة إلى غيرها من الموضوعات التي لا تعم جميع آيات القرآن بل تختص بموضوع واحد.

و قد خدمت الشيعة كتاب اللّه العزيز بهذه الأنواع من التفاسير و من أراد أن يقف عليها فعليه أن يرجع إلى المعاجم و أخص بالذكر الذريعة إلى تصانيف الشيعة.

7- الشيعة و التفسير الموضوعي:

إنّ هذا النمط من التفسير هو غير النمط المعروف بالتفسير الترتيبي فإنّ النمط الثاني يتّجه إلى تفسير القرآن سورة بعد سورة و آية بعد آية،و أمّا النمط الأوّل فيحاول فيه المفسر إيراد الآيات الواردة في موضوع خاص في مجال البحث و تفسير الجميع جملة واحدة و في محل واحد.

و لعلّ العلاّمة المجلسي (1037-1110 ه) أوّل من فتح هذا الباب على مصراعيه في موسوعته«بحار الأنوار»حيث يورد في أوّل كل باب الآيات الواردة حولها ثمّ يفسّرها إجمالاً،و بعد الفراغ عنها،ينتقل إلى الأحاديث التي لها صلة بالباب.

8-الشيعة و التفسير الترتيبي:

إنّ المنهج الراسخ بين القدماء و أكثر المتأخرين هو التفسير الترتيبي،و قد نهجت الشيعة منذ عصر الإمام عليٍّ إلى العصر الحاضر هذا النمط من التفسير،

ص:81

إمّا بتفسير جميع السور أو بعضها،و الغالب على التفاسير المعروفة في القرون الثلاثة الاُولى،هو التفسير بالأثر و لكن تحول إلى اسلوب آخر و هو التفسير العلمي و التحليلي منذ أواخر القرن الرابع.

فأوّل من ألف من الشيعة على هذا الاسلوب هو الشريف الرضي (357-406 ه) مؤلف كتاب«حقائق التأويل»في عشرين جزءاً ثمّ جاء بعده أخوه الشريف المرتضى فسلك مسلكه في أماليه المعروفة بالدرر و الغرر،ثمّ توالى التأليف على هذا الاسلوب في عصر الشيخ الأكبر الطوسي (385-460ه) مؤلف«التبيان في تفسير القرآن»في عشرة أجزاء.

9- الشيعة و علم الحديث:

إنّ السنّة هي المصدر الثاني للثقافة الإسلامية على كافة الأصعدة،و لم يكن شيء أهم،بعد كتابة القرآن و تدوينه و صيانته من نقص و زيادة،من كتابة حديث الرسول و تدوينه و صيانته من الدس و الدجل و قد أمر به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم غير مرّة.

لقد تعرّفت على أنّ أئمّة أهل البيت هم رواة سنن النبيّ و أحاديثه و قد التفّ حولهم الشيعة فأنجبت مدرسة أهل البيت في القرون الثلاثة الاُولى محدّثين كبار لكلّ منهم جامع حديثي نذكر منهم ما يلي:

1- يونس بن عبد الرحمن،من تلامذة الإمام موسى بن جعفر و الإمام الرضا عليهما السلام،و قد وصفه ابن النديم في فهرسته بعلاّمة زمانه، له جوامع الآثار،و الجامع الكبير،و كتاب الشرائع.

2- صفوان بن يحيى البجلي (المتوفّى 220 ه) كان أوثق أهل زمانه و صنّف ثلاثين كتاباً.

ص:82

3 و 4- الحسن و الحسين ابنا سعيد بن حماد الأهوازي صنّفا 30 كتاباً.

5- أحمد بن محمد بن خالد البرقي (المتوفّى 274 ه) صاحب كتاب المحاسن.

6- محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري القمي صاحب الجامع المعروف (المتوفّى حوالي 293 ه).

7- أحمد بن محمد ابن أبي نصر البزنطي (المتوفّى 221 ه) صاحب الجامع المعروف.

هذه هي الجوامع الحديثية الأوّلية للشيعة،و هناك جوامع حديثية أُخرى أُلفت في القرن الرابع و الخامس مستمدة تأليفها من الجوامع الأولية و هي:

1- الكافي،لثقة الإسلام الكليني (المتوفّى 329 ه) طبع في 8 أجزاء.

2- من لا يحضره الفقيه،للشيخ الصدوق (306-381 ه) طبع في 4 أجزاء.

3- التهذيب طبع في عشرة أجزاء.

4- الاستبصار طبع في أربعة أجزاء.

كلاهما لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي (385-460 ه).

و هذه هي الجوامع الحديثية الثانوية.

و هناك جوامع أُخرى أُلّفت في القرن الحادي عشر و قد استمد مؤلّفوها من الجوامع الثانوية و هي:

1- وسائل الشيعة،للشيخ الحر العاملي (المتوفّى 1104 ه) و طبع في 20 جزءاً.

ص:83

2- الوافي،للمحدث الكاشاني (المتوفّى 1091 ه) طبع حديثاً وراء طبعته القديمة في خمسة و عشرين جزءاً.

3- بحار الأنوار،للشيخ محمد باقر المجلسي (1037-1110 ه) و قد طبع في مائة و عشرة أجزاء.

و الركب بعدُ غير متوقف فقد انتشر في الآونة الأخيرة جامع حديثي للشيعة ألفته لجنة علمية بإشراف من فقيه العصر و محدثه السيد حسين البروجردي،و قد تمّ طبعه في 26 جزءاً.

كل ذلك ينم عن اعتناء الشيعة بالأحاديث النبوية و الآثار المروية عن أئمة أهل البيت،و لو رجع محدّثو السنّة و فقهاؤهم إلى هذه الكنوز الثمينة لوجدوا فيها درراً و لآلئ لامعة تقرّ بها عيونهم.

10- الشيعة و علم أُصول الفقه:

انبرى أئمّة أهل البيت عليهم السلام إلى إملاء ضوابط و قواعد يرجع إليها الفقيه عند فقدان النص،أو إجماله أو تعارضه إلى غير ذلك من الحالات،و تلك الاُصول هي التي تشكّل أساساً لعلم أُصول الفقه،و لقد جمعها عدة من الأعلام في كتب خاصّة أفضلها«الفصول المهمة في أُصول الأئمّة»للشيخ المحدث الحر العاملي المتوفى عام 1104 ه.

كما و نرى أنّ لفيفاً من صحابة الأئمة درسوا بعض مسائل أُصول الفقه نظير:

1- هشام بن الحكم (المتوفى سنة 199 ه) صنف كتاب الألفاظ.

2- يونس بن عبد الرحمن،صنّف كتاب اختلاف الحديث و مسائله.

3- إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت (237-

ص:84

311 ه) صنّف كتاب الخصوص و العموم و كتاب إبطال القياس و كتاب نقض اجتهاد الرأي.

4- أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي من علماء القرن الثالث،له كتاب الخصوص و العموم و الخبر الواحد.

5- محمد بن أحمد بن داود بن علي المتوفى عام 368 ه،له كتاب الحديثين المختلفين.

6- محمد بن أحمد بن الجنيد المتوفى عام 381ه،له كتاب كشف التمويه و الالتباس في إبطال القياس.

11- الشيعة و علم المغازي و السير:

مغازي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم جزء من تاريخ حياته و سيرته،و الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قدوة و أُسوة و فعله كقوله حجة بلا إشكال،و قد وضع بعضهم كتباً في فقه السيرة فكان على المسلمين ضبط دقيقها و جليلها و قد قاموا بذلك لو لا أنّ الجهاز الحاكم حال دون تحقق تلك الاُمنية.

و لكن قيّض اللّه سبحانه رجالاً من الشيعة في ذلك المجال ضبطوا سيرة الرسول و مغازيه،منهم:

1- محمد بن إسحاق بن يسار (المتوفّى 151 ه).

2- عبيد اللّه بن أبي رافع،من أصحاب الإمام أمير المؤمنين فقد عمل كتاباً أسماه«تسمية من شهد مع أمير المؤمنين الجمل و صفين و النهروان من الصحابة».

3- كما ألّف جابر بن يزيد الجعفي (المتوفّى 128 ه) كتباً في ذلك المجال،منها:كتاب الجمل،كتاب صفين،كتاب النهروان، كتاب مقتل أمير

ص:85

المؤمنين و كتاب مقتل الحسين عليه السلام.

4- أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي.

5- أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي الغامدي،شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة،صنّف كتباً منها:كتاب المغازي،و كتاب السقيفة، و كتاب الردّة،و كتاب فتوح الإسلام،و كتاب المختار الثقفي،و كتاب صفين،و كتاب الجمل.

6- نصر بن مزاحم ألف كتباً كثيرة في هذا المجال أشهرها كتاب صفين،و هو كبير الحجم.

7- هشام بن محمد بن السائب الكلبي (المتوفّى 206 ه).

12- الشيعة و علم الرجال:

اهتم علماء الشيعة بعد عصر التابعين بعلم الرجال،نذكر المؤلفين الأوائل منهم:

1- عبد اللّه بن جبلة الكناني (المتوفّى 219 ه).

2- علي بن الحسن بن فضال،كان فقيه أصحابنا بالكوفة و وجههم و ثقتهم و عارفهم بالحديث.

3- الحسن بن محبوب السراد (150-224 ه) له كتاب«المشيخة»و«معرفة رواة الأخبار».

4- أبو عمرو الكشي،له كتاب«معرفة الرجال».

5- أبو العباس أحمد بن علي النجاشي (372-450 ه).

6- الطوسي (385-460 ه) له كتاب«الفهرست»و«الرجال».

ص:86

13- الشيعة و العلوم العقلية:

إنّ خطب الإمام علي عليه السلام و رسائله و قصار حكمه شكلت احدى المصادر المهمّة لكلام الشيعة و آرائهم في العقائد و المعارف، و لم يقف نشاط الشيعة عند هذا الحد بل جاءت الأئمّة عليهم السلام و حثوا شيعتهم على التدبّر و التفكّر في المعارف حتى تربّى في مدرستهم رواد الفكر من عصر سيد الساجدين إلى عصر الإمام العسكري،تجد أسماءهم و تآليفهم و أفكارهم في المعاجم و كتب الرجال.

و قد نبغ في عصر أئمّة أهل البيت مفكّرون بارزون أفادوا الأجيال من بعدهم.

و إليك أسماء بعض متكلمي الشيعة في القرون الاُولى:

1- زرارة بن أعين،شيخ أصحابنا في زمانه،كان قارئاً متكلّماً،قال ابن النديم:و زرارة أكبر رجال الشيعة فقهاً و حديثاً و معرفة بالكلام (المتوفّى 150ه).

2-محمد بن علي بن النعمان البجلي المعروف بمؤمن الطاق (المتوفّى 148ه).له كتب في الكلام قال ابن النديم:و كان متكلّماً حاذقاً،و له من الكتب:كتاب الإمامة و المعرفة،و كتاب الرد على المعتزلة.

3- هشام بن الحكم،قال ابن النديم:هو من متكلّمي الشيعة الإمامية و بطانتهم،و قد ذكر الرجالي المعروف النجاشي كتبه الكلامية البالغة 30 كتاباً،قال أحمد أمين المصري:هشام بن الحكم أكبر شخصية شيعية في الكلام،و كان قوي الحجة،ناظر المعتزلة و ناظروه.

4- قيس بن الماصر،أحد أعلام المتكلّمين تعلّم الكلام من عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام،و هو من عيون المتكلّمين بين أصحاب الإمام الصادق عليه السلام.

5- عيسى بن روضة،كان متكلِّماً جيّد الكلام و له كتب في الإمامة.

ص:87

إلى غير ذلك من متكلّمي القرن الثاني و يليهم في القرن الثالث أُناس بارزون في الكلام،و إليك أسماء طائفة منهم:

1- الفضل بن شاذان (المتوفّى 260 ه).

2- الحكم بن هشام بن الحكم المتوفّى في أوائل القرن الثالث.

3- محمد بن عبد اللّه بن مملك الاصفهاني،له كتاب مجالس مع أبي علي الجبائي.

4- إسماعيل بن محمد المخزومي،له كتاب المعرفة.

إلى غير ذلك من متكلّمي الشيعة في القرن الثالث.

دخل القرن الرابع و برز متكلّمون من الشيعة،كالحسن بن علي بن أبي عقيل،و إسماعيل بن علي بن نوبخت،و محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي،و الحسن بن موسى أبي محمد النوبختي،مؤلّف كتاب الآراء و الديانات،و كتاب فرق الشيعة.

و أمّا القرن الخامس فحدّث عن متكلّمي الشيعة فيه و لا حرج كابن المعلم المفيد (المتوفّى 413 ه) الذي انتهت إليه رئاسة متكلّمي الشيعة و تلميذه السيد الرضي،و تلميذه الآخر السيد المرتضى و غيرهم.

و أمّا مساهمة الشيعة في العلوم الطبيعية فمن أكبر علمائهم جابر بن حيان و هو الذي ظهر في حقل الكيمياء،و الشريف أبو القاسم علي بن قاسم القصري من علماء القرن الرابع،إلى إن وصلت النوبة إلى نصير الملّة و الدين نصير الدين الطوسي،فأسّس معهداً للأبحاث الطبيعية لا مثيل له و جهزه بالآلات الفلكية التي زادت في شهرة المعهد و رفعت مكانته.

كما أسس مرصد مراغة و جلب إليه علماء من مختلف أنحاء المعمورة.

ص:88

تقول السيدة زيغريد هونكه:«إنّ نصير الدين أحضر إلى مكتبة المعهد أربعمائة ألف مجلّد كانت قد سرقت من مكتبات بغداد و سوريا و بلاد بابل،و قد استدعى علماء ذوي شهرة واسعة من اسبانيا و دمشق و تفليس و الموصل إلى مدينة مراغة لكي يعملوا على وضع الازياج بأسرع وقت ممكن» (1).

و في مجال الجغرافيا نذكر في المقام رحّالتين طافا في البلاد الإسلامية و كتبا ما يرجع إلى جغرافية البلدان و قد صار كتاباهما أساساً للآخرين:

1- أحمد بن أبي يعقوب بن واضح المعروف باليعقوبي،المتوفّى في أواخر القرن الثالث،فهو أوّل جغرافي بين العرب وصف الممالك معتمداً على ملاحظاته الخاصة متوخّياً ضبط ما أراد من وصف البلد و خصائصه.

2- أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (المتوفّى 346 ه) فقد ألّف في ذلك المضمار كتاب«مروج الذهب و معادن الجوهر» و كتابه الآخر:«التاريخ في أخبار الاُمم من العرب و العجم»و كتابه الثالث«التنبيه و الاشراف»فقد اشتمل وراء التاريخ على الجغرافية و تقويم البلدان،و قد جرّه حبّه للاستطلاع إلى السفر إلى بلاد نائية فكتب ما رآه و شاهده.

***

هذه إلمامة عابرة حول الشيعة و فقهها و تاريخها،و تراثها،و الأعمال التي قامت بها في بناء الحضارة الإسلامية ذكرناها على وجه الإيجاز،و من أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب الموسعة المعدّة لذلك،و نذكر على سبيل المثال:

1- المراجعات،تأليف السيد شرف الدين الموسوي العاملي (1290-

ص:89


1- 1) .السيدة زيغريد هونكه:شمس العرب تسطع على الغرب:133.و التسمية الأجدر:شمس الإسلام....

1377 ه).

2- أصل الشيعة و أُصولها،للشيخ محمد كاشف الغطاء (1295-1373ه).

3- تاريخ الشيعة،للشيخ محمد حسين المظفر (المتوفّى 1375 ه).

4- أوائل المقالات،للشيخ المفيد (336-403 ه).

5- الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الإمامية،للسيد صدر الدين المدني الحسيني (المتوفّى 1120 ه).

6- الذريعة إلى تصانيف الشيعة،للشيخ آغا بزرگ الطهراني (1293-1389ه).

7- الشيعة و التشيّع،تأليف محمد جواد مغنية (المتوفّى 1400 ه).

8- الشيعة بين الأشاعرة و المعتزلة،تأليف هاشم معروف الحسني (المتوفّى 1407 ه).

9- أعيان الشيعة،للسيد محسن الأمين العاملي (1284-1371 ه).

10- آخرها«الإلهيات»بقلم المؤلف.

جامعات الشيعة:
اشارة

الإسلام دين العلم و المعرفة يحاول دفع الإنسان من حضيض الجهل إلى أعلى مستويات العلم و الكمال،فأراد للإنسان حياة نابضة بالفكر و الثقافة و قد كانت للشيعة خلال القرون الماضية جامعات في أقطار مختلفة نشير إلى بعضها:

1- المدينة المنورة:

إنّ الجامعة الاُولى للشيعة أُسست بيد الإمامين الهمامين الباقر و الصادق

ص:90

عليهما السلام فقد تقاطر طلاب العلم و عشاق الحقيقة إلى الاستفادة من علومهما،و كان لهما دور في صيانة و إحياء السنّة النبوية و تفسير القرآن الكريم و تربية طليعة إسلامية في العلوم المختلفة.

2- الكوفة و جامعها الكبير:

لمّا هاجر الإمام أمير المؤمنين من المدينة إلى الكوفة،استوطن معه خيار شيعته و من تربّى على يديه من الصحابة و التابعين و كانت نواة لجامعة شيعية ثانية.

و لمّا غادر الإمام الصادق المدينة المنورة إلى الكوفة أيام أبي العباس السفاح حيث مكث فيها مدة سنتين مغتنماً تلك الفرصة الذهبية التي أوجدتها الظروف السياسية،فربى جيلاً كبيراً من المحدّثين و الفقهاء في عصره،و كان أبو حنيفة واحداً ممن تربّى على يد الإمام الصادق عليه السلام مدة سنتين.

و هذا هو الحسن بن علي الوشاء يحكي لنا ازدهار مدرسة الكوفة بعد رحيل الإمام الصادق عليه السلام يقول:أدركت في هذا المسجد يعني مسجد الكوفة تسعمائة شيخ كلٌّ يقول حدّثني جعفر بن محمد عليهما السلام.

و يضيف النجاشي-ذلك الرجالي الكبير-و يقول:

كان هذا الشيخ (الحسن بن الوشاء) عيناً من عيون هذه الطائفة،ثمّ ذكر كتبه.

و من خريجي هذه المدرسة:هشام بن محمد بن سالم الكلبي الذي ألّف أكثر من مائتي كتاب،و ابن شاذان الذي ألّف 280 كتاباً، و ابن أبي عمير الذي صنّف 194 كتاباً،و ابن دوئل الذي صنف 100 كتاب،و جابر بن حيّان أُستاذ الكيمياء و العلوم الطبيعية.

ص:91

3- مدرسة قم و الرَّي:

كانت مدرسة الكوفة مزدهرة بالعلم و الثقافة ففي حوالي سنة 250 ه هاجر إبراهيم بن هاشم الكوفي إلى قم و نشر فيها حديث الكوفيين فصارت مدرسة قم و الرَّي مزدهرة بالمحدثين و الرواة الكبار،و ساعد على ذلك بسط الدولة البويهية نفوذها على تلك البلدان، و قد خرج من تلك المدرسة علماء و محدّثون،نظراء:

1- محمد بن يعقوب الكليني المتوفّى 329 ه مؤلّف الكافي في الاُصول و الفروع.

2- علي بن حسين بن بابويه والد الشيخ الصدوق صاحب الشرائع المتوفّى عام 329 ه.

3- ابن قولويه أبي القاسم جعفر بن محمد (285-368 ه) إلى غير ذلك من أعلام الحديث و الفقه.

4- مدرسة بغداد:

كانت مدرسة الكوفة تزدهر بمختلف النشاطات العلمية حينما كانت بغداد عاصمة للخلافة.و لمّا أخذ الضعف يدبّ في الخلافة العباسية و كانت مقاليد الاُمور بيد البويهيين،تنفّس علماء الشيعة الصعداء في أكثر مناطق العراق فأسسوا مدرسة رابعة للشيعة في بغداد أنجبت شخصيات مرموقة تفتخر بها الإنسانية و من نتائجها ظهور أعلام نظير:

1- الشيخ المفيد (336-413 ه) تلك الشخصية الفذّة حيث اعترف الموافق و المخالف بعلمه و فضله.

2- السيد المرتضى (355-436 ه) صاحب الانتصار في الفقه و الأمالي.

ص:92

3- السيد الرضي (359-406 ه)جامع نهج البلاغة،و مؤلف الكتب القيمة في التفسير و الأدب،و هو و أخوه كوكبان في سماء العلم و الأدب غنيان عن التعريف.

4- الشيخ الطوسي (385-460 ه) و هو شيخ الطائفة و من أعلام الاُمّة تربّى على يد شيخه المفيد و السيد المرتضى و له كتاب «التبيان في تفسير القرآن»و«التهذيب»و«الاستبصار»و هما من المصادر المهمّة عند الشيعة.

و كانت مدرسة بغداد زاهرة في عهد هؤلاء الأعلام،و قام كلّ منهم بدور كبير في تطوير العلوم و تقدّمها من خلال تخريج نخبة من المجتهدين و المحدثين،من الشيعة و السنّة.

5- جامعة النجف الأشرف:

لمّا دخل طغرل بك-الحاكم التركي-بغداد و أشعل نار الفتنة بين الطائفتين السنّة و الشيعة،و أحرق دوراً في الكرخ و مكتبة الشيخ الطوسي،لم يجد زعيم الشيعة آنذاك بدّاً من مغادرة بغداد إلى النجف الأشرف،و تأسيس جامعة علمية فقهية عند جوار ضريح أمير المؤمنين عليه السلام سنة 448 ه.

و قد مضى على عمرها قرابة ألف سنة و هي جامعة كبيرة لها حقوقها الكبرى على الإسلام و المسلمين،و قد خرّجت الكثير من المحقّقين و المفكّرين في مختلف أصناف العلوم و لم تزل مشعّة حتى اليوم.

6- مدرسة الحلّة:

في الوقت الذي كانت جامعة النجف تزدهر و تنجب أفذاذاً أُسست جامعة في الحلة الفيحاء و كانت تحتضن كبار المحققين، كالمحقق الحلّي صاحب

ص:93

الشرائع (602-667 ه)،و جمال الدين الحسن بن يوسف المعروف بالعلامة الحلي (648-726 ه) صاحب الموسوعات الفقهية الكبيرة،و فخر المحققين ولد العلامة الحلي (682-771ه)،إلى غير ذلك من رجال الفكر كابن طاوس،و ابن ورام،و ابن نما، و ابن أبي الفوارس الذين أنجبتهم مدرسة الحلة.

7- الجامع الأزهر:

امتدّ سلطان الدولة الفاطمية من المحيط الأطلسي غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً،و نافست الدولةُ الفاطمية الشيعية خلافةَ الحكّام العباسيين في بغداد،و كان المعز لدين اللّه (319-365 ه) أحد الخلفاء الفاطميين بمصر رجلاً مثقفاً و مولعاً بالعلوم و الآداب،و قد أسس أعظم جامعة علمية إسلامية باسم الجامع الأزهر،و كانت جامعة شيعية من بدء تأسيسها إلى قرنين.

و هناك جامعات أُخرى للشيعة في أقطار العالم كأفغانستان و باكستان و الهند و سوريا تضم علماء و مدرّسين كبار.

و أمّا اليوم فالجامعة العلمية بقم التي أسسها الشيخ عبد الكريم الحائري (1274-1355 ه) عام 1340 ه أكبر جامعة شيعية تحتضن قرابة 28 ألف أستاذ و مساعد و طالب و محقق و كاتب و مفكّر.

دول الشيعة:

حاول الاُمويون القضاء على التشيّع و أراد العباسيون الحدّ من انتشاره بعد اليأس من استئصاله و لكن نما و ازدهر عبر القرون بالرغم من تلك العوائق،بل قامت لهم هنا و هناك دول و دويلات نظير:

ص:94

1- دولة الادارسة في المغرب (194-305 ه).

2- دولة العلويين في الديلم (205-304 ه).

3- دولة البويهيين في العراق و ما يتصل بها من بلاد فارس (321-447ه).

4- دولة الحمدانيين في سوريا و الموصل و كركوك (293-392 ه).

5- دولة الفاطميين في مصر (296-567 ه).

6- دولة الصفويين في إيران (905-1133 ه).

7- دولة الزنديين (1148-1193 ه).

8-دولة القاجاريين (1200-1344 ه).

أضف إلى ذلك وجود امارات للشيعة في نقاط مختلفة.

إنّ اطناب القول في مؤسس هذه الدول و ترجمة أحوالهم و ما آل إليه مصيرهم يحوجنا إلى تأليف كتاب مستقل فنترك المقال في ذلك و على القراء مراجعة الكتب المؤلفة في هذه المواضيع.

أمّا اليوم فتتواجد الشيعة في جميع أنحاء العالم بنسب مختلفة و ربّما تعد بعض البلدان معقل الشيعة و التشيّعُ مذهباً سائداً فيها.

و إليك أسماء بعضها و هي:إيران،و العراق،و الحجاز،و الشام،و تركيا،و افغانستان،و الباكستان،و الهند،و اليمن،و مصر،و الامارات العربية المتحدة،و البحرين،و الاحساء،و القطيف،و الكويت،و مسقط،و عمان،و التبت،و الصين،و جمهورية آذربايجان،و طاجيكستان، و الجمهوريات المتحررة بانحلال الاتحاد السوفيتي،و ماليزيا،و اندونيسيا،و سيلان،و تايلند،و سنغافورة،و افريقيا الشمالية،و الصومال، و الارجنتين،و بريطانيا،و المانيا،و فرنسا،و البانيا،و الولايات المتحدة،و كندا،و غيرها مما يعسر عدها.

ص:95

خاتمة المطاف::قاربوا الخطى أيُّها المسلمون

قد تعرّفت على المنهج الشيعي عقيدة و شريعة،بقيت هنا كلمة و هي أنّ المذهب الشيعي على الرغم من امتيازه بأُصول و فروع نابعة عن صميمه،لكنه لا يحول دون اتحاد المسلم الشيعي مع أخيه المسلم السنّي.

هذا هو القرآن الكريم يتطرق إلى الوحدة و رصّ الصفوف و يمدحه بحماس و يقول: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» 1.

و يقول أيضاً: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» 2.

و يذم بشدة كل ما يمس بهذه الوحدة قائلاً: «وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» 3.

حتى إنّه سبحانه يعدّ الفرقة نوع عذاب من اللّه سبحانه إلى من سعى إليها.

و يقول سبحانه: «قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» 4.

ففي ظلّ هذه الدعوة المباركة ترحّب الشيعة بكلّ خطوة نحو التقريب و لمّ الشمل و تندد بكل نعرة طائفية تفرّق شمل المسلمين و تهدّد كيانهم.

إنّ دعاة الوحدة لا يبغون سوى تقريب الخطى و تعريف المسلمين بعضهم

ص:96

ببعض حتى يقفوا على المشتركات الكثيرة التي تجمعهم و هي الكتاب و سنّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و إنّما اختلافهم في فهم هذين المصدرين و لكلٍّ حجته و دليله.و للمصيب أجران و للمخطي أجر واحد.

نحن نعيش في عصر تحالفت فيه القوى الكافرة،على إطفاء نور اللّه و الحدّ من الصحوة الإسلامية فعلى الرغم من التشتّت السائد بين تلك القوى الغاشمة في أُصول السياسة و الاقتصاد،لكنّهم متفقون على إبعاد الإسلام عن ساحة الصراع الحضاري و للحيلولة دون وصول المسلمين إلى مركزهم المرموق في بناء الحضارة.

فالمعسكر الشرقي و الغربي طرفا مقص يتحركان معاً لاجتثاث الإسلام.

فإذا كان هذا ديدنهم فلما ذا لا نتّحد نحن معاشر المسلمين فإنّ ما يجمعنا أكثر ممّا يفرّقنا؟

إنّ التعاون و المواساة من أهمّ الاُصول الاجتماعية،إذ بالتعاون يقوم صرح المجتمع و قد ندب إليه الإسلام حيث قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«من أصبح و لم يهتم بأُمور المسلمين فليس بمسلم»،فعلى المسلمين جميعاً أن يتعاونوا في مسائلهم الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و الصناعية ليستغنوا بذلك عن القوى الشرقية و الغربية.

يا أبناء أُمتنا الإسلامية المجيدة فاللّه ربّكم و القرآن كتابكم و الكعبة قبلتكم و السنّة منهجكم،فكونوا يداً واحدة على من سواكم، و رصّوا صفوفكم أمام أعدائكم،و لا تصغوا لكلّ نعرة تهدّد وحدة كلمتكم.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربِّ العالمين

جعفر السبحاني

قم-الحوزة العلمية

/11ربيع الآخر1417/ ه

ص:97

ص:98

الرسالة الثانية:الشيعة الإمامية في دائرة المعارف المصرية«السفير»

اشارة

الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على محمّد و آله الطاهرين.

أمّا بعد:فقد وقفت على مقال حول الفرقة الاثني عشرية في دائرة المعارف المصرية«السفير»،قرأته بامعان و دقّة فوجدت فيه أخطاءً لا تُغفر،و زلات لا تُسْتقال،علّقتُ عليه التعاليق الآتية مع تبنّي الايجاز و الاختصار.

إنّ السنّة المتّبعة عند كتّاب دائرة المعارف هو تبيين المفاهيم المختلفة استناداً إلى المصادر و المراجع المقبولة،بلا أيّ تحيّز،لكن المقال كُتِبَ لغاية الردّ على هذه الطائفة لا على تبيين عقائدها حقّة كانت أم باطلة.

كان من اللازم على كاتبه أن يشير إلى عقائدهم و أُصولهم و فروع مذهبهم في مقال خاص،ثمّ يُعلِّق عليها في آخر المقال بشيء...، لا أن يبتدئ بالردّ و النقد العنيف معتمداً على كتب الخصوم بدلَ كتبهم الخاصة بهم.

هذه هي السنّة الدارجة بين أبناء دائرة المعارف و لكن الكاتب لم يتّبعها.فما هو الوجه؟ لا أدري و لا المنجم يدري،و لا القراء يدرون !!

و لإيقاف القارئ على ما في المقال من الأخطاء و القضاء الجائر نأتي بنصه أوّلاً ثمّ نردفه بالتعاليق ثانياً:

ص:99

نص المقال في دائرة المعارف المصرية«السفير»::الاثنا عشرية

اشارة

هي إحدى فرق الشيعة،و يُطلق عليها أيضاً عدة أسماء أُخرى،منها:

«الجَعْفرية»نسبة إلى«جعفر الصادق».

و«الرافضة»لأنّهم رفضوا نصرة الإمام«زيد بن علي زين العابدين»(79-122 ه 698-740 م) حين طلبوا منه سبّ«أبي بكر» و«عمر»-رضي اللّه عنهما-فأبى.

و«الإمامية»نظراً لآرائهم الخاصة في الإمامة،و جعلهم إياها أصلاً من أُصول الدين.

أمَّا لقبهم«الاثنا عشرية»؛فلقولهم بأنّ منصب الإمامة ليس باختيار الأُمّة،و إنّما قد حدده اللّه و عينه في«علي بن أبي طالب»رضي اللّه عنه،و في أحد عشر من ذريته من أولاد«فاطمة الزهراء»رضي اللّه عنها،و هم بالتتابع بعد«علي»رضي اللّه عنه (المعروف عندهم بعلي المرتضى):

1-«الحسن بن علي»المتوفى سنة (50ه 670م) و لقبه«الحسن المُجْتَبى».

2-«الحسين بن علي»المتوفى سنة (61ه 680م) و لقبه«الحسين الشهيد».

3-«علي زين العابدين بن الحسين»المتوفى سنة (94ه 712م)و لقبه«السجَّاد».

ص:100

4-«محمد بن علي زين العابدين»المتوفى سنة (114ه 732م) و لقبه«محمد الباقر».

5-«جعفر بن محمد»المتوفى سنة (148ه 765 م) و لقبه«جعفر الصادق».

6-«موسى بن جعفر»المتوفى سنة (183 ه 799م) و لقبه«موسى الكاظم».

7-«علي بن موسى»المتوفى سنة (203 ه 818 م) و لقبه«علي الرِّضا».

8-«محمد بن علي»المتوفى سنة (226 ه 840 م) و لقبه«محمد الجواد».

9-«علي بن محمد»المتوفى سنة (254 ه 868 م) و لقبه«علي الهادي».

10-«الحسن بن علي»المتوفى سنة (260ه 873 م) و لقبه«الحسن العسكري».

11-«محمد بن الحسن»المتوفى سنة (265 ه 878 م) و لقبه«محمد المَهْدِي».

و«الاثنا عشرية»أكثر فرق الشيعة عدداً في العالم،و بخاصة في قارة«آسيا»،و يبلغ عدد الشيعة بعامة قرابة (100) مليون شخص يمثلون حوالي 10%تقريباً من إجمالي عدد المسلمين.

و في أواخر عهد الإمام السادس«جعفر الصادق»أخذ بعض الغُلاة يتجمعون حول ولده إسماعيل؛مما دفعه إلى جمع الناس و إشهادهم على وفاة إسماعيل الذي مات في حياة أبيه عام (143 ه 760 م) و اختار ولده الآخر«موسى الكاظم»-كما تروي الاثنا عشرية-إماماً بعده،و قد قام بأمر الطائفة في نطاق سياسة أبيه«جعفر»التي نزعت إلى السلم،و اتجهت إلى العلم و النشاط

ص:101

الروحي،و من«الكاظم»تناسل الأئمة حتى«محمد بن الحسن العسكري»الإمام الثاني عشر و«المهدي المنتظر».

لكن الشيعة انقسموا بعد وفاة«جعفر»-رضي اللّه عنه-فتبع أكثرهم«الكاظم»و هم الاثنا عشرية،و أصرت طائفة أُخرى على إمامة «إسماعيل»منكرة إمامة«الكاظم»،و قالوا بإمامة«محمد بن إسماعيل»بعد«جعفر»مباشرة،و من هؤلاء تشكلت طائفة الإسماعيلية التي تغلو في التأويل الباطني،و ترى أنّ للإمام وظيفة كونية بجانب سلطته التشريعية كمصدر للشرع،و سلطته التنفيذية كمنفذ له.كما نزعت إلى المبالغة في التَّقيَّة و الاختفاء،و الظاهر و الباطن في تأويل أحكام الدين،و قد استخدمت دولتها الفاطمية في«مصر»و«المغرب»في تحقيق ما ترمي إليه.

و كان الشيعة الاثنا عشرية-بخلاف«الزيدية»و«الإسماعيلية»-قد اتجهوا وجهة ثقافية روحية بتأثير«جعفر الصادق»،و أعرضوا عن النشاط السياسي إلى حد كبير؛و بخاصة النشاط الثوري المسلح الذي لجأت إليه فرق الشيعة الأُخرى،إلّا ما كان منهم عند سقوط «بغداد»في يد«التتار»و نشوء الدولة«الإيلخانية»التي قامت بعد ذلك في القرنين (7،8 ه 13،14م).

و على الرغم ممّا يؤخذ عليهم في أثناء هذه الفترة،فقد أسهموا في تحويل بعض قادة المغول إلى الإسلام،و إلى التشيع بطبيعة الحال،و لكنّهم أحسوا ببعض القوة في العهد الجديد الذي أعقب سقوط الخلافة العباسية؛ممّا كان له أثر في إشعال الجدل الطائفي الذي يتمثل في عدة مؤلفات:من أبرزها كتاب«الحسن بن المطهر»«منهاج الكرامة»الذي ردّ عليه«ابن تيمية»بكتابه«منهاج السنّة»،و تابعه علماء آخرون،و بخاصة في الهند و فارس و ما حولهما.و من أبرز ما كتبه أهل السنّة في ذلك«التحفة الاثنا عشرية»للشيخ«عبد العزيز بن ولي اللّه الدهلوي».

ص:102

و في أواخر عهد الأئمّة كان من بين الاثني عشرية رجل بلغ النشاط و الحماسة للمذهب،مع نزوع إلى الغلو،اسمه«محمد بن نُصَيْر النميري»(270 ه 883 م) و قد عاصر الأئمّة الثلاثة المتأخرين:«علي الهادي»(214-254 ه 829-868 م) و«الحسن العسكري»(230 -260 ه 844-873 م) و«محمد المهدي»الثاني عشر المولود (255 ه 868 م) و المنتظر ظهوره فيما يعتقدون.

و قد زعم«ابن نصير»هذا أنّه«الباب»إلى الإمام«الحسن العسكري»،فتبعه طائفة من الشيعة سموا بالنُّصَيْرية،و خالفه جمهورهم الذين أنكروا ادعاءاته،و قالوا بأنّ المرجعية الدينية بعد موت«العسكري»و غيبة ولده«المهدي»ترجع إلى لجنة من أربعة أشخاص،هم:

«عثمان بن سعيد العمري»،و«محمد بن عثمان بن سعيد»،و«الحسين بن روح النوبختي»،و«علي بن محمد السمري».

و يغلب الغلو على عقائد النصيرية،إذ يؤلّهون علياً،و يتركون ظاهر الشرع،و يهملون المساجد و صيام رمضان،و يخالفون بعض الأحكام في النكاح و غيره،و يقولون بثالوث من علي و محمد و سلمان الفارسي،و أنّ معنى الألوهية تَشَخَّص في عليّ،ثمّ محمد،ثمّ سلمان الفارسي،ثمّ المقداد.

و تتسم عقيدتهم بالمبالغة في السرية،و هم في هذا كلّه يقلدون من سبقهم من غلاة الشيعة منذ عبد اللّه بن سبأ،و من جاء بعده؛ و خاصة«الخطابية»أتباع«أبي الخطاب الكاهلي»الذي زعم أنّه (الباب) للإمام الخامس (1)«موسى الكاظم»،ثمّ قال بتأليه الأئمّة و نسخ بعض الأحكام الشرعية،و الإسراف في التأويل الباطني،فأخذ النصيرية بهذا كله.

و لكن«الاثني عشرية»ينكرون مزاعم«ابن نصير»و يكفرون من اعتقد هذه

ص:103


1- 1) .كذا في أصل المقال،و الصحيح:السابع.المعلق.

الأقاويل،بصرف النظر عن العلاقات العملية التي قد تقوم بين الطائفتين.

و قد عادت الطائفة«الاثنا عشرية»إلى تقاليدها المسالمة و عنايتها بإشاعة العلم و الاهتمام بالشئون الاجتماعية و الروحية لأتباعها إلى أن قامت للاثني عشرية دولة في«إيران»لأوّل مرة في التاريخ على يد الشاه«إسماعيل الصفوي»(906-930 ه 1500-1523 م) الذي نزع هو و خلفاؤه إلى التشيع على الرغم من أُصولهم السنية الصوفية.و قد استمر حكم«الصوفيين»لإيران قرابة قرنين و نصف قرن إلى سنة (1148ه (1)1735م)،و كانوا خلال حكمهم في عداء شبه مستمر مع الخلافة العثمانية،و نشبت بينهما الحروب التي أسهمت في انحسار المد الإسلامي عن«أوروبا»و تمزق بلدان العالم الإسلامي و تفككها،ثمّ سقوطها في براثن الاستعمار الغربي،و مما ساعد على ذلك:اتفاق الشاه«إسماعيل الصفوي»مع البرتغاليين ضد دولة الخلافة العثمانية،و سيطرتهم على بعض جزر الخليج كقاعدة موجهة لحرب«الخلافة العثمانية»،ثمّ قيام الشاه«عباس الصفوي»بعد توليه الحكم عام (996 ه 1587 م) بالتحالف مع«الإنجليز»لمحاربة دولة الخلافة،كما توقف الحج إلى«مكة»في عهده،و روجت الدولة لزيارة مدينة«مَشْهد»،و هي مدينة«طُوس»القديمة التي دفن بها «الرشيد»و ولد فيها«أبو حامد الغزالي»و غيره من أئمّة المسلمين،و لكن مكانتها الدينية لدى الاثني عشرية ترجع إلى كونها تضم رفات الإمام الثامن«علي الرضا».و هو الإمام الوحيد المدفون بإيران،و بسبب ذلك اشتهرت باسمها الحالي.

و هذا التحالف مع الغزاة الأجانب،مع تمادي الخلاف بين الدولتين،قد مهد للاستعمار الغربي فرصة تمزيق العالم الإسلامي و احتلال أراضيه،و كان هذا الصراع المذهبي و السياسي من أهم أسباب هزيمة العثمانيين-و العالم الإسلامي

ص:104


1- 1) .الصحيح:1135 ه.المعلق.

من ورائهم-أمام حمية الغرب الغازية.

و حين تحولت«الدولة الصفوية»إلى المذهب الشيعي كثر التشيع بإيران و صار أتباعه هناك أكثرية.بعد أن كانت الأغلبية سنية في تلك البلاد،و يرجع الاضطراب بين الطائفتين-إلى حد كبير-إلى العداء الذي خلفته«الدولة الصفوية»في إيران ضد أهل السنّة،فبرغم أنّ عدد أهل السنّة يصل الآن حوالي 20%من إجمالي عدد السكان في إيران إلّا أنّهم محرومون من تولي الوظائف الرئيسية في الدولة،و من صلاة العيدين،و من بناء مسجد لهم بطهران العاصمة،على الرغم من وجود (12) كنيسة للنصارى بها و معبدين لليهود،و مثلهما للمجوس،و آخرين للهندوس.

و قد تطور مذهب الاثني عشرية على مر الزمن و أسهم العداء السياسي و الغلو المذهبي في انفراد الطائفة بعقائد و مبادئ تتجافى عن روح الإسلام السمحة،و مقتضيات المنطق السليم،و منها:

1.الإمامة و الخلافة:

يدعي«الاثنا عشرية»أنّ اللّه أمر نبيَّه بأن يعلن في الناس أنّ عليّاً وصيُّه و أنّه الإمام من بعده عُقَيب حجة الوادع في طريق عودته من مكة إلى المدينة عند مكان يسمى«غدير خُمّ»،و يرون أن تستمر الإمامة في ولد«علي بن أبي طالب»و«فاطمة الزهراء»إلى يوم القيامة، و أنّ«عليّاً»هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم بلا فصل بتعيين اللّه له،و لكن الصحابة بايعوا«أبا بكر الصديق»و«عمر»و«عثمان»-رضي اللّه عنهم-و لذلك فإنّهم يعتقدون أنّ أكثر الصحابة خالفوا النص،و هو قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:«من كنت مولاه فعلي مولاه». (1)

ص:105


1- 1) .سنن الترمذي:كتاب المناقب.

و قوله:«...اللهم والِ من والاه،اللهم عادِ من عاداه». (1)

و قد ورد كلا الحديثين فيما يرويه أهل السنّة من سنن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و آثاره،و معناهما-فيما يتأوله«الاثنا عشرية»-الوصية له بالخلافة،و لكنها لدى أهل السنّة وصية عامة بإكرام آل البيت،و تنويه بمكانة«علي»رضي اللّه عنه.

و هم يستشهدون أيضاً بآثار أُخرى،بعضها ضعيف و الآخر موضوع (زائف) تدلّ لديهم على ولاية الإمام«علي بن أبي طالب»- رضي اللّه عنه-و خلافته للنبي صلى الله عليه و آله و سلم،و هذه الآثار لا تدل عند علماء السلف و الخلف من أهل السنّة على ما ذهبوا إليه من وصية الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لعلي بالخلافة من بعده؛إذ الولاية تَرِد بمعنى النصرة و المودة و الولاء و الأخوة،لا بمعنى الإمامة و الخلافة حتْماً،كما في قوله تعالى عن ولاية المؤمنين بعضهم بعضاً:

«وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» . (2)

كما قال سبحانه عن ولاية الكافرين بعضهم بعضاً:

«وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» . (3)

و الإمامة عند الاثني عشرية من حق«علي»رضي اللّه عنه،و أحد عشر من ذريته،حيث نص كل إمام على من بعده حسب رواياتهم المتداولة فيما بينهم.

و هم يعنون الإمامة ركناً و أصلاً من أُصول الدين،و لكنها (أي الإمامة) أصل مذهبي في رأيهم،فمن لم يعرف إمام زمانه و لم يُبايعْه عُدَّ خارجاً عن المذهب،و لكنّه في عامة المسلمين،و ربّما غلا بعضهم فكفره،غير أنّهم يرون فسق من لم يُبايع الإمام و كفر من يحاربه،مع أنّ الإمام«عليّاً»-رضي اللّه عنه-لم يكفِّر

ص:106


1- 1) .مسند أحمد:118/1.
2- 2) .الأنفال:من 72
3- 3) .الأنفال:من 73.

الخوارج الذين كفَّروه و حاربوه،و أمر ألا يُمنعوا من المساجد،و أن يُدفَن موتاهم في مقابر المسلمين.

و يزعم«الاثنا عشرية»أنّ أئمّتهم معصومون من الخطأ،و المعصية،و لهم صفة المعرفة اللّدُنِّية،دون حاجة إلى تلقين الرواة،فيصح لهم أن يرووا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مباشرة دون سند من الرجال،كما أنّهم يعلمون الغيب،و لا يموتون إلّا باختيار منهم،و لذا يعتبرون عهد الوحي مستمراً إلى غيبة الإمام الثاني عشر،و لا يُباح الاجتهاد مع وجود الإمام،و إنّما يبدأ الاجتهاد الفقهي بعد تلك الغيبة.

و فكرة«الإمامة»على هذا النحو ترجع إلى آراء مغالية ظهرت في الفترات الأولى من تاريخ المسلمين،ثمّ ورثها الاثنا عشرية، و اتخذوها أُصولاً لهم،و كان من نتائجها إيقاع العداوة و الشقاق بين جمهور المسلمين.

و ممّا يدل على بطلان مبدأ«الإمامة»بصيغته تلك-عند«الاثني عشرية»-ما فعله الإمام«علي»رضي اللّه عنه؛إذ بايع«أبا بكر الصديق»،و نصره بنفسه و ولده،ممّا يدل على عدم وجود نص لديه يوصي له بالإمامة،و لو وُجِد هذا النص لأخذ به الصحابة-رضوان اللّه عنهم-الذين كانوا أشد حرصاً على طاعة اللّه و رسوله،و كذلك بايع«علي»-رضي اللّه عنه-كلاَّ من«عمر»و«عثمان»-رضي اللّه عنهما-بالخلافة،و سمى أولاده بأسمائهم،كما زوّج«عمر بن الخطاب»من ابنته«أُم كلثوم»،و أخلص لهؤلاء الخلفاء الثلاثة المشورة و النصرة.

و كل هذه الوقائع تدل على أنّه بايع مختاراً،و ليس مكرهاً كما يدعي«الاثنا عشرية»،و عند ما سئل و هو على فراش الموت عمن يستخلفه من بعده،قال:«لا،و لكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم».

و لو كانت الإمامة حُدِّدت في«علي»و أولاده كما يزعمون،لعيَّن الإمام«علي ابن أبي طالب»-كرم اللّه وجهه-ابنه«الحسن»- رضي اللّه عنه-خليفة للمسلمين

ص:107

من بعده.

و بعد أن بُويع«الحسن»بالخلافة،صالح«معاوية بن أبي سفيان»-رضي اللّه عنه-و تنازل له عن الخلافة حقناً لدماء المسلمين، مما يسقط دعاوى القوم في بطلان ولاية أي إمام غير الاثني عشر.

ثمّ إنّ الإمامة لو كانت معينة بوصية الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في«علي»و أولاده كما يرون،لما استطاع أحد من الصحابة أن يخالفها.

2.المعاد و الرجعة:

تعتقد الاثنا عشرية بالمعاد و اليوم الآخر،و بتفاصيل ذلك من الجنّة و النار،و النعيم و العذاب الحِسِّيَّيْن،و بالحياة البرزخية، و الحشر و النشر،و الميزان و الصراط كما وردت في الكتاب و السنّة،و أنّ اللّه تعالى هو الذي يحاسب الخلق على ما قدموا في حياتهم الدنيا،و يجزيهم عليها،إن خيراً فخير و إن شرّاً فشر.

و يعتقدون برجعة«المهدي المنتظر»الإمام الثاني عشر«محمد بن الحسن العسكري»قبل القيامة مهما طالت غيبته ليملأ الأرض عدلاً كما ملئت جَوراً،و يقول بعض غلاتهم برجوع الأئمة الاثني عشر إلى الدنيا بعد أن يكون«المهدي»قد سبقهم إليها،كما يعود إلى الحياة أعداء الأئمّة من الصحابة و غيرهم ليُقتص منهم على رءوس الأشهاد،ثمّ يموتون انتظاراً للبعث و الجزاء الأخروي.

و هذه المعتقدات الغالية-مما لا دليل عليه-ليست عامّة في مذهبهم،و لكن ما هي إلّا روايات ضعيفة منسوبة إلى بعض أئمّتهم.

و أوّل من قال بفكرة (الرجعة) و دعا إليها«عبد اللّه بن سبأ»اليهودي،فأخذ يقول برجعة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مثل«عيسى»عليه السلام، و استشهد بقول اللّه تعالى:

ص:108

«إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» . (1)

ثمّ قال برجعة«علي بن أبي طالب»-رضي اللّه عنه-.و قد ترتب على القول بعقيدة«الرجعة»تمزيق الصف الإسلامي،و تقوية الفرقة بين الشيعة و أهل السنّة،كما أثَّرت في دعاة الفرق الغالية المتأخرة التي تشبثت بهذه الأقاويل الفاسدة،من آخرهم:«ميرزا محمد» مؤسس«البابية»(و هي فرقة دينية نشأت بإيران منشقّة عن الاثني عشرية إبان القرن 13 ه 19 م) و«الميرزا حسين،بهاء اللّه»مؤسس «البهائية»و هي صورة متطورة من البابية اختلفت عنها في أهدافها و أساليبها،تنحت تقليد الغلاة السابقين،و أعلنت نفسها ديانة جديدة تنسخ الجهاد و تنادي بالسلام،و تتخذ كتباً مقدسة بديلة عن القرآن،و تهدد وحدة الأُمة الإسلامية بوجه خاص،و تحظى بتأييد الغرب و أجهزته الاستعمارية،و يعيش رؤساؤها الآن في ظعن الدولة الصهيونية التي تحتل فلسطين.

3.سب بعض الصحابة و أزواج الرسول صلى الله عليه و آله و سلم:

و يستبيح«الاثنا عشرية»سب بعض الصحابة و أزواج الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،و بخاصة السيدة«حفصة»و السيدة«عائشة»رضي اللّه عنهما،على الرغم من نهي النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن سب الصحابة-رضوان اللّه عليهم -،فقال:

«لا تسبُّوا أصحابي،فلو أنّ أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً،ما بلغ مُدَّ أحدهم و لا نصيفه». (2)

و برغم أنّ سب الصحابة-رضوان اللّه عليهم-و اتهامهم بالكذب قد يؤدي

ص:109


1- 1) .القصص:من 85.
2- 2) .صحيح البخاري:كتاب فضائل الصحابة. المُدّ:مكيال قديم،نصيفه:نصفه،و المراد أنّ القليل الذي أنفقه أحدهم خير من الكثير الذي ينفقه غيرهم.

إلى التشكيك في القرآن الكريم و السنّة النبوية،لأنّهما نُقِلا عن طريق الصحابة رضوان اللّه عليهم،و من بعدهم من علماء الأمة بالشروط الشرعية في العدالة،و الضبط و ما يتصل بهما.و سب الصحابة يشيع للأسف بين عوام الاثني عشرية،و يوجد كذلك في كتب شيوخهم و علمائهم،و كان ينبغي تنزههم عن ذلك ما داموا يدعون إلى تقارب المذاهب و الفرق الإسلامية.

4.الطعن في القرآن الكريم و دعوى التحريف:

يؤمن جمهور«الاثني عشرية»بالمصحف الذي بين أيدي المسلمين،و يعتقد بعض غُلاتهم أنّ الإمام«عليّاً»-كرم اللّه وجهه - و السيدة«فاطمة الزهراء»-رضي اللّه عنها-كان لهما مصحف يخالف هذا المصحف المتواتر بين المسلمين،و يزعم هؤلاء الغلاة أنّ الصحابة قاموا بتبديله فأسقطوا كثيراً من السور و الآيات التي نزلت في فضائل أهل البيت،و من جملة ما يدَّعون إسقاطه ما يسمونه سورة «الولاية»،و ادّعوا أنّه كان فيها:(يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالنبي و الولي اللذين بعثناهما يهديانكم إلى صراط مستقيم...الخ).

و قد يضيفون أحياناً إلى بعض الآيات في السور الموجودة بالمصحف المتواتر عبارات من عندهم ليؤيدوا بها ولاية«علي»- رضي اللّه عنه-و أبناءه الأئمة،و من ذلك:(أ لم نشرح لك صدرك [بعلي].و من يطع اللّه و رسوله [ في ولاية علي و الأئمة بعده] فقد فاز فوزاً عظيماً).

و هؤلاء الغلاة من دعاة التحريف يتواصون بالعمل بما في المصحف الذي بين أيدينا؛حتى يخرج«المهدي»و معه المصحف الكامل في زعمهم.

و لا يخفى أنّ ما ذهبوا إليه باطل من أساسه،فقد تكفَّل اللّه تعالى بحفظ القرآن،فقال:

ص:110

«إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ» . (1)

و قد روت الأمة-بأجيالها المتعاقبة و شعوبها في أركان الأرض-القرآن الكريم بسوره و آياته و حروفه بالتواتر و الإجماع،كما شهدت الأمة كلها على مدى (14) قرناً أنّ المصحف الذي بين الدفتين هو القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه و آله و سلم دون تحريف أو تبديل،و لم يثبت وجود مصحف لعلي أو«فاطمة الزهراء»-رضي اللّه عنهما-مخالف لما في أيدي المسلمين،و كان سائر أئمتهم يتلون هذا القرآن في صلواتهم و يستشهدون به في دروسهم،و كل ما روي عنهم ما زال على ما هو عليه الآن في أيدي المسلمين.

و قد سئل«علي بن أبي طالب»نفسه:هل عندكم شيء ما ليس في القرآن،فقال:و الذي فَلَقَ الحَبَّة و بَرَأَ النَّسمَةَ (كل كائن حي فيه روح) ما عندنا إلّا ما في القرآن،إلّا فهماً يُعْطَى رجل في كتابه...». (2)

و هذا ما أجمع عليه المسلمون كافة.

5.التَّقِيَّة:

و يقصدون بها أن يُظهر الإنسان خلاف ما يُبْطن،فيقول شيئاً و يضمر غيره،أو أن يقوم بعمل تعبدي لا يعتقد صحته،ثمّ يؤديه بعد ذلك بالصورة التي يعتقد صحتها،فالشيعي يتصرف بين خصومه كما لو كان يدين بعقيدتهم.و قد بدءوا العمل بهذا المبدأ منذ القرن الرابع الهجري،و قد يصل العمل بهذه التقية إلى حد استباحة الكذب و النفاق،و إخفاء العقيدة الأصلية عن الخصوم،و مع هذا فإنّهم ينسبونها إلى أئمّتهم؛بل يرفعونها إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فيما زعموا،مع أنّه صلى الله عليه و آله و سلم-و أبناءه

ص:111


1- 1) .الحجر:9. [1]
2- 2) .صحيح البخاري:كتاب الديات.

من علماء أهل البيت-كانوا أبعد الناس عن التقية،و كانوا من الشجاعة و الإقدام بحيث يتحملون المشاق الناجمة عن مواقفهم و آرائهم بلا خوف أو تردد.

و هم ينسبون إلى«جعفر الصادق»قوله:«التقية ديني و دين آبائي».و التقية مبيحة للكذب و النفاق مبدأ مذموم في الإسلام،قال تعالى في معرض ذمه للمنافقين:

«وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ» . (1)

و قال صلى الله عليه و آله و سلم:«كبرت خيانة أن تُحدِّث أخاك حديثاً هو لك به مصدق و أنت له به كاذب». (2)

و قال أيضاً:

«إنّ الصدق بر،و إنّ البر يهدي إلى الجنّة،و إنّ العبد ليتحرى الصدق حتى يُكتب عند اللّه صديقاً،و إنّ الكذب فجور،و إنّ الفجور يهدي إلى النار،و إنّ العبد ليتحرى الكذب حتى يُكتب كذاباً». (3)

و قد كانت التقية من أهم الأسباب التي أدت إلى غلو كثير من الشيعة،و إلى إنشاء الجمعيات المنحرفة ذات الأهداف الباطنية الهدامة،و إن كان القرآن الكريم قد أباح للمسلم-في حالة الخوف و الإكراه الملجئ-أن ينطق بكلمة الكفر ظاهراً و قلبه مطمئن بالإيمان، كما في قوله تعالى:

«إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» . (4)

ص:112


1- 1) .البقرة:14. [1]
2- 2) .سنن أبي داود:كتاب الأدب. [2]
3- 3) .صحيح مسلم:كتاب البر و الصلة و الآداب.
4- 4) .النحل:من 106.
6.البدَاء:

يقول بعض الغلاة بأنّ اللّه سبحانه و تعالى يبدو له-أحياناً-غير الذي أراده فيرجع عن إرادته الأولى إلى الذي بَدَا له،و في هذا مساس بالقدرة الإلهية،و الكمال الإلهي،مما يتناقض مع العقيدة السليمة و مقتضيات العقل،كما يتعارض مع صريح القرآن الكريم،قال تعالى:

«لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى» . (1)

و قال تعالى: «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ» . (2)

و البدَاء بهذا المعنى فكرة يهودية روجها«عبد اللّه بن سبأ»و استغلها بعض الشيعة،لئلا يظهر على أئمّتهم كذب فيما يدعونه من علم الغيب،فإن تحقق ما يقولونه لأتباعهم،قالوا لهم:أ لم نُعلمكم أنّ هذا سيكون،فنحن نعلم من قِبَل اللّه عزّ و جلّ ما علمته الأنبياء عن اللّه،و إن جاء الواقع بخلافه اعتذروا لشيعتهم و قالوا لهم:بدا للّه في ذلك أمر.

و لكن«الاثني عشرية»و إن قالوا بالبداء،فهم يفسرونه بمثل ما قال به بعض أهل السنّة،من قضاء مبرم و قضاء معلق،و ما أشارت إليه خواتيم سورة الرعد من محو و إثبات:

«يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» . (3)

فأمّا القضاء المعلَّق فهو ما توجهت إليه الإرادة من البداية معلقاً على شرط حصوله،و كلاهما مراد منذ البدء دون بداء أو تغير في العلم أو الإرادة،و ليس هذا من قبيل ما كان يلجأ إليه كذبة الغلاة تضليلاً لأتباعهم حين يتخلف بعض ما

ص:113


1- 1) .طه:من 52.
2- 2) .ق:29.
3- 3) .الرعد:39. [1]

قالوا،و لا هو مستلزم لنسبة الجهل أو تخلف المعلوم إلى اللّه تعالى و يقولون بأنّ النسخ في عالم التكوين كالنسخ في عالم التشريع،فكما أنّ للنسخ حكماً و أسراراً قد تظهر أو لا تظهر،فللبداء بهذا المعنى حكم و مصالح قد تخفى على العباد.

7.زواج المتعة:

و هو الزواج لمدة محددة،و كان الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قد أباحه في بدء البعثة (1)،ثمّ حرمه تحريماً مؤبداً بعد ذلك و ثبت ذلك عنه صلى الله عليه و آله و سلم،كما حرمه الإمام«علي بن أبي طالب»أيضاً و عمل الإمام حجة ملزمة عند الشيعة،و مع هذا فإنّ جمهور الشيعة و بعض علمائها يبيحونه و يستدلون له بآية من سورة النساء كما يؤولونها،و هي قوله سبحانه:

«فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» . (2)

و إباحة زواج المتعة يُسبب اضطراب العلاقة الزوجية،و يهز أركان الأسرة المسلمة،و إن كانوا يبررونها بأمور،منها أنّها تحل مشاكل الشباب المسلم حين يرحل إلى خارج العالم الإسلامي،غير أنّ مسألة نكاح المتعة على كل حال حكم فرعي لا يتصل بالعقيدة.

و قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم نسخه،حيث قال:

«يا أيها الناس إنّي قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء.و إنّ اللّه قد حرم ذلك إلى يوم القيامة،فمن كان عنده منهن شيء فليُخَلّ سبيله،و لا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً». (3)

ص:114


1- 1) .الصحيح:في دار الهجرة.
2- 2) .النساء:من 24.
3- 3) .صحيح مسلم:كتاب النكاح.
8.بدع يوم عاشوراء:

يقوم عوام الشيعة بضرب ظهورهم بالسلاسل حتى يدموها،و ضرب أجسادهم بالسيوف حتى يقطعوها حزناً على استشهاد «الحسين»و فقده،أو تطهراً من مسئولية خذلانه،و غالباً ما تؤدي هذه العادات المنكرة إلى حدوث صراع بين الشيعة و السنّة في المجتمعات المشتركة،و ذهاب العديد من الأرواح البريئة.و ليست هذه الأمور من أُصول المذهب أو فروعه،و لكنها شاعت بين جماهيره - و خاصة العوام منهم-في أقطار عديدة.

و كانت السياسة الاستعمارية قد روجت لشيوع ذلك في العالم الإسلامي منذ (200) عام،و بخاصة في شبه القارة الهندية،و لا يزال لهذه العادة نفوذ بالغ و أثر سيئ هناك؛و إن أخذت تقل حدتها و تختفي في مناطق أُخرى.و يستغل أعداء الإسلام فرصة هذه المواكب المشينة في يوم عاشوراء،و يسجلونها،و يصفون المسلمين من أجلها بالوحشية و الرجعية.

9.الخُمُس:

يرى الاثنا عشرية وجوب دفع الخمس من دَخْل كل اثني عشري في كل عام إلى مراجع المذهب،و هم المجتهدون من قادة الطائفة الذين يتبعهم العوام و يقلدونهم و يلتزمون بفتاواهم،و ذلك لينفق منه على الشئون المذهبية و المصالح الدينية التي يقدرها هؤلاء القادة،و هم يرون ذلك بديلاً عن الزكاة و في بعض المجتمعات التي فرضت فيها الزكاة الشرعية بحكم القانون-كباكستان-رفض الاثنا عشرية دفعها للدولة بسبب دفعهم هذا الخمس إلى مراجعهم الدينية الخاصة.

هذا و قد أحدثت«الاثنا عشرية»في الصلاة أُموراً منها«السجود على التربة

ص:115

الحسينية»و ذلك لأنّهم يقدسون تراب مدينة كربلاء (النجف) التي استشهد فيها الإمام«الحسين بن علي»رضي اللّه عنهما،فلا يكاد يخلو بيت من بيوت الشيعة من تلك التربة.

و من مظاهر تقديسهم لها أنّهم يقومون بالسجود عليها و تقبيلها و التبرك بها،بل و أكل قليل منها للشفاء-على الرغم من أنّ الفقه الشيعي يحرم أكل التراب-كما يصنعون من هذه التربة أشكالاً مختلفة يحملونها في سفرهم و يسجدون عليها في صلواتهم التماساً للقبول و البركة.

و أهم تطور في حياة الفرقة«الاثني عشرية»في العصر الحديث هو اتجاههم إلى النشاط السياسي،و العمل على إقامة الدولة التي ترعى المذهب و تحقق أهدافه و تنشر مبادئه،و أهم مظهر لذلك هو قيام دولتهم المسماة«بالجمهورية الإسلامية»في إيران التي ينظمها دستور أعلنه الخميني قائد الثورة التي أقامت هذه الجمهورية.و مارس فيها الخميني و من بعده خليفته-مرشد الجمهورية-السلطة العليا نيابة عن الإمام الغائب حتى يظهر بناءً على ما للفقيه من سلطة و ولاية حال غياب الإمام،برغم أنّ الثورة قبل قيام الجمهورية كانت تبدي وجهاً إسلامياً متسامحاً،و لا تتورط في مثل هذه الأمور الطائفية،و لكن بعض الشيعة من المجتهدين و غيرهم في بعض أنحاء العالم الإسلامي يرون أنّ ولاية الفقيه بهذا المفهوم السياسي ليست من مسلمات المذهب،و أنّ الأقرب إلى موقف الأئمة و خاصة«علي»-رضي اللّه عنه-تقديم وحدة الأمة على مسائل الإمامة،و جمع كل المسلمين على ما يحفظ مصالحهم في ظل الشريعة الخاتمة أياً كان شخص الحاكم القائم بذلك فيهم،فعسى أن يحقق اللّه ذلك و هو الغالب على أمره،و لكن أكثر الناس لا يعلمون.

***

ص:116

كان هذا نص المقال المنشور في دائرة المعارف الموسومة ب«السفير»،و قد بلغنا أنّ بعض المهتمين بهذه الموسوعة قد وقف على أنّ فيه بخساً لبعض حقوق الاثني عشرية فاستعدوا لتصحيحها بإرشادهم إلى مواقف الخطأ و الاشتباه حتى يستدركوا في الطبعة الثانية فقمنا بعملين:

1- التنويه بمواضع الخطأ و الاشتباه في المقال المطبوع و ناقشناها بأرقام متسلسلة.و هذا هو الذي نقدمه في هذه الكراسة.

2- تأليف مقالٍ (1)يتضمن تاريخ الفرقة الاثني عشرية و جذورهم و أُصولهم و عقائدهم و دورهم في بناء الحضارة الإسلامية.

سوف يرسل إلى اللجنة التي ترأس دائرة المعارف إذا طلبت منا.راجين أن ينشر بدلاً عن المقال المنشور سابقاً.

و نقتصر في النقد و التحليل بما يمت إلى المذهب الاثني عشري بصلة و أما ما طرحه في ثنايا المقال من مسائل سياسية و اشتباهات من تحالف الصفوية مع انكلترا،فنمر عليها مر الكرام.

ص:117


1- 1) .المراد الرسالة الاُولى في هذه المجموعة و قد ألف بعد هذا المقال و نشر في صحيفة اللواء.

تحليل المقال و نقده

اشارة

1.يقول:«من أسمائهم الرافضة لأنّهم رفضوا نصرة الإمام زيد بن علي زين العابدين (79-122 ه) حين طلبوا منه سبّ أبي بكرٍ و عمر (رضي اللّه عنهما) فأبى».

مناقشتنا:

إنّ الرافضة مصطلح سياسي قد كان رائجاً قبل ولادة زيد بن علي بأعوام،و كان يطلق على من لم يعترف بشرعية النظام السياسي الحاكم،و لأجل ذلك نرى أنّ معاوية يصف مخالفي علي عليه السلام بالرفض و يُسمِّيهم بالرافضة.

ينقل نصر بن مزاحم المنقري (212 ه) في كتابه«وقعة صفين»عن معاوية،أنّه كتب إلى عمرو بن العاص و هو في البِيع في فلسطين،أمّا بعد:فانّه كان من أمر عليّ و طلحة و الزبير ما قد بلغك و قد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة و قدِمَ علينا جريرُ بن عبد اللّه...» (1).

ترى أنّه يصف مروان بن الحكم و من كان معه بالرفض و ما ذلك إلّا لأنّهم

ص:118


1- 1) .نصر بن مزاحم المنقري،وقعة صفين:29، [1]ط:مصر.

لم يعترفوا بشرعية حكومة الإمام علي عليه السلام و هذا يعرب عن تقدم الاستعمال على ولادة زيد.

إنّ الشيعة عن بكرة أبيهم لم يعترفوا بشرعية خلافة غير الإمام فصاروا رافضة،كما أنّ الخوارج و الأمويين بما أنّهم لم يعترفوا بشرعية خلافة الإمام سُمّوا رافضة.

فلا يصح اسناد تسمية الشيعة بالرافضة إلى زيد بن علي عليه السلام،فما جاء في المقال مأخوذ من كتب المخالفين.

يقول البزدوي:«و إنّما سمّوا روافض،لأنّهم وقعوا في أبي بكر و عمر فزجرهم زيد فرفضوه فسُمُّوا روافض» (1).

و التاريخ يشهد بأنّ الشيعة كانت تسمى بالرافضة في أعوام متقدمة على ميلاد زيد (2).

2.يقول الكاتب في شأن الإمام الثاني عشر:

«محمد بن الحسن المتوفى سنة 265 878 الخ».

مناقشتنا:

الإمام الثاني عشر عند الاثني عشرية حيّ يُرزق فكيف يقول بأنّه المتوفى سنة 265 ؟!.و الظاهر انّه من هفوة القلم.كما انّ عدّ الإمام الكاظم عليه السلام الإمام الخامس ناشئ من قلة الإمعان في دراسة الموضوع.

ص:119


1- 1) .البزدوي،أُصول الدين:248. [1]
2- 2) .المرتضى،الأمالي:68/1،قسم التعليق،لاحظ:بحوث في الملل و النحل:122/1- 125.

3.يقول في عدد الشيعة:

«و يبلغ عدد الشيعة بعامة فرقها،قرابة 100 مليون شخص يمثلون حوالي 10%تقريباً من اجمالي عدد المسلمين».

مناقشتنا:

أنّ دوائر الاحصاء في العالم تحت نفوذ الصهاينة،و أعداء الإسلام و همّهم تقليل المسلمين و تكثير غيرهم.

و عدد الشيعة ما يقارب 250 مليون شخص و هم يمثلون 25%تقريباً من اجمالي عدد المسلمين لو صح أنّ عددهم في العالم يبلغ ميليارد مسلم.

4.يقول:«و في أواخر عهد الإمام السادس،جعفر الصادق أخذ بعض الغلاة يتجمعون حول ولده إسماعيل مما دفعه إلى جمع الناس و إشهادهم على وفاة إسماعيل الذي مات في حياة أبيه عام 143».

مناقشتنا:

أنّ إسماعيل أعلى شأناً و مقاماً من أن يجتمع حوله بعض الغلاة و يستغلوا مكانته الاجتماعية،و الدليل على ذلك«انّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام كان يحبه حباً كثيراً و عند ما توفي جزع أبو عبد اللّه عليه السلام جزعاً شديداً،و تقدم سريره بغير حذاء و لا رداء و أمر بوضع سريره على الأرض قبل دفنه،مراراً و استناب أجيراً ليحج عنه و كتب على كفنه:إسماعيل يشهد أن لا إله إلّا اللّه» (1).

فلو كان إسماعيل ممن تستغله الغلاة لما كال له الإمام الصادق بهذا الصاع الكبير.

ص:120


1- 1) .المفيد،الارشاد:284؛ [1]ابن شهرآشوب:المناقب:308/4،و [2]غيرهما.

و أمّا استشهاد الإمام على وفاته فلم يكن لأجل اجتماع الغلاة حوله،بل كان ردّاً لما اشتهر بين الشيعة في ذلك اليوم،أنّ الإمامة للولد الأكبر و كان إسماعيل أكبر ولده،فلأجل إبطال تلك الفكرة أشهد الإمام عليه السلام على وفاته،و مع ذلك ذهبت ثلة من الشيعة-بعد وفاة الإمام الصادق عليه السلام-إلى إمامة ولده محمد بن إسماعيل.

5.يقول في حق الإمام الكاظم عليه السلام:«و قد قام بأمر الطائفة في نطاق سياسة أبيه جعفر التي نزعت إلى السَّلم».

مناقشتنا:

انّ نسبة النزوع إلى السَّلم إلى الإمام الصادق و ولده الكاظم عليهما السلام نسبة خاطئة مستندة إلى النظر إلى ظواهر الأحوال من دون فحص عمّا كان يقوم به الإمام عليه السلام سرّاً،فقد كان الإمام الصادق عليه السلام يدعم ثورة زيد و ثورات الآخرين التي تلت ثورته.

و كان الإمام الكاظم عليه السلام مسانداً لثورة الحسين بن علي الخير (شهيد فخ).

نعم كانت المصالح يومذاك تستدعي كون الحركة ثقافية في الظاهر،و دعم الكفاح المسلّح ضد الطغاة سراً لا علانية.

و بذلك يعلم عدم صواب كلامه الآخر،حينما قال:«و كان الشيعة الاثنا عشرية قد اتجهوا وجهة ثقافية روحية بتأثير جعفر الصادق و أعرضوا عن النشاط السياسي إلى حد كبير».

و لا نعود إلى نقده.

ص:121

6.يقول:«و على الرغم ممّا يؤخذ عليهم في أثناء هذه الفترة فقد أسهموا في تحويل بعض قادة المغول إلى الإسلام و إلى التشيع بطبيعة الحال،و لكنّهم أحسوا ببعض القوة في العهد الجديد الذي أعقب سقوط الخلافة العباسية،ممّا كان له أثر في إشعال الجدل الطائفي الذي يتمثل في عدة مؤلفات من أبرزها كتاب الحسن بن المطهر«منهاج الكرامة»الذي ردّ عليه ابن تيمية بكتابه«منهاج السنّة».

مناقشتنا:

انّ السقيفة التي تم فيها الانتخاب المسرحي للخلافة كان مبدأً لانفتاح باب الجدل الطائفي و ربّما أعقب حروباً دامية و لأجل ذلك يقول الشهرستاني:«و أعظم خلاف بين الاُمة خلاف الإمامة إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان» (1)،و قد اشتد الجدال الكلامي في القرن الثاني في عصر الإمام الباقر عليه السلام و الصادق عليه السلام يعلم ذلك من المناظرات التي دارت بين تلاميذهما كهشام بن الحكم،و مؤمن الطاق،و هشام بن سالم،مع مخالفيهم.و في القرن الرابع و الخامس استفحل فيهما الجدال في الإمامة بين المعتزلة و الشيعة الإمامية و هذا هو عبد الجبار القاضي المتوفى عام 415 ه ألف كتابه المغني في عشرين جزء و خص الجزء الأخير بمسألة الإمامة في الردّ على الإمامية،و نقضه السيد المرتضى (355-436 ه) بكتاب أسماه«الشافي»و قد طبع في أربعة أجزاء و لخصه تلميذه الشيخ الطوسي (385-460 ه) إلى غير ذلك من المؤلفات الكلامية قبل حلول القرن السابع.و الذي يدل على سبق الجدال انّه ألف عشرات الكتب باسم الإمامة قبل حلول القرن الرابع.لاحظ الذريعة (2).

ص:122


1- 1) .الشهرستاني،الملل و النحل:24/1 [1] دار المعرفة،بيروت-1402 ه.
2- 2) .آقا بزرگ الطهراني،الذريعة إلى تصانيف الشيعة:ج2،مادة الإمامة.

7.يقول:«و في أواخر عهد الأئمّة كان من بين الاثني عشرية رجل بلغ النشاط و الحماسة للمذهب،مع نزوع إلى الغلو اسمه محمد بن نصير النميري...».

مناقشتنا:

كان اللازم لمن يريد أن يكتب عن الاثني عشرية أن لا يكتب عن الغلاة شيئاً لأنّ الغلاة عندهم و عند جمهور المسلمين ليسوا بمسلمين.

8.يقول:«انّ المرجعية الدينية بعد موت العسكري و غيبة ولده المهدي ترجع إلى لجنة من أربعة أشخاص،هم:عثمان بن سعيد العمري،و محمد ابن عثمان بن سعيد،و الحسين بن روح النوبختي،و علي بن محمد السمري».

مناقشتنا:

انّ ما ذكره من غرائب الهفوات فانّه لم تكن هناك أي لجنة بينهم لإدارة أُمور الشيعة بل كان كل واحد من الأربعة سفيراً عن الإمام في عصر يختلف عن عصور الآخرين.

و إليك تاريخ سفارتهم:

1-عثمان بن سعيد العمري و كانت سفارته ما بين 260-265 ه.

2-محمد بن عثمان العمري و كانت سفارته ما بين 265-305 ه.

3-الحسين بن روح النوبختي و كانت سفارته بين 305-326 ه.

4-علي بن محمد السمري و كانت سفارته بين 326-329 ه.

ص:123

9.يقول:«و لكن الاثني عشرية ينكرون مزاعم ابن نصير و يكفرون من اعتقد هذه الأقاويل بصرف النظر عن العلاقات العملية التي قد تقوم بين الطائفتين».

مناقشتنا:

انّ صدر هذا الكلام يناقض ذيله،فإذا كانت الاثنا عشرية يكفرون النصيرية فما معنى العلاقات العملية التي تقوم بين الطائفتين؟!

10.يقول:«إلى أن قامت للاثني عشرية دولة في إيران لأول مرة في التاريخ على يد الشاه إسماعيل (906-930) الخ».

مناقشتنا:

مضافاً إلى أنّ مبدأ الحكومة الصفوية كان عام 905 لا 906،انّه قد سبقت الدولة الصفوية في إيران،دولة البويهيين في العراق، و ما اتصل بها من بلاد فارس و غيرها،و دولة السربدارية في خراسان حوالي 780،و قد طلب رئيس الدولة السربدارية و هو علي بن مؤيد من الشهيد الأوّل محمد المكي العاملي (734-786) السفر إلى خراسان فامتنع الشهيد عن ذلك و أرسل إليهم رسالة اللمعة الدمشقية و هي دورة فقهية مختصرة على أساس الفقه الإمامي.

و كذلك دولة السلطان خدابنده المغولي الذي تشيّع على يد العلاّمة الحلي و أمر بذكر«حيَّ على خير العمل»في الاذان و ضرب السكة بأسماء أئمّة أهل البيت عليهم السلام.و كان حاكماً على البلاد بين سنة 703-716.

ص:124

11.يصف الشاه إسماعيل بقوله:«الذي نزع هو و خلفاؤه إلى التشيع على الرغم من أُصولهم السنية الصوفية».

مناقشتنا:

انّه لم يكن الشاه إسماعيل و لا أبوه وجده سنيّين و إنّما طرأ عليهم التشيع في القرن الثامن و أوّل من تشيع منهم جدهم الأعلى صفي الدين الأردبيلي المتوفى عام 735 أي قبل نشوء الدولة الصفوية بقرنين.

12.يصف حكم الصفويين بأنّهم كانوا خلال حكمهم في عداء شبه مستمرّ مع الخلافة العثمانية و نشبت بينهما الحروب التي أسهمت في انحسار المد الإسلامي عن أوروبا و تمزّق بلدان العالم الإسلامي و تفككها.الخ».

مناقشتنا:

لا شك أنّه قامت بين الدولتين حروب طاحنة إنّما المهم هو تعيين المعتدي،و الكاتب كتبَ و قد أغمض عينَه عن الواقع التاريخي فانّ اعتداء الخلافة العثمانية على الشيعة إلى عهد انقراضها،كالشمس في رائعة النهار و قد قتل السلطان سليم العثماني من الشيعة في يوم واحد حوالي أربعين ألفاً،مضافاً إلى اعتداءات و جرائم نكراء بأيدي عُمّاله في العراق و الشام و لبنان ضد المواطنين الشيعة،و قصة الجزار معروفة فمن أراد أن يقف على تلك الاعتداءات و يتعرف على البادئ فليراجع كتاب«الشيعة و الحاكمون»و بما أنّ التفصيل في المقام موجب لجرح العواطف نقتصر على هذا الموجز.

ثمّ إنّ الخلافة العثمانية كانت في عهد الصفويين في ذروة قدرتها و سلطانها،و لم يكن آنذاك أيّ انحسار للمد الإسلامي.

ص:125

و إنّما بدأ الانحسار في أواخر القرن الثالث عشر و أوائل القرن الرابع عشر الهجري لعللٍ داخلية و خيانات في البلاط العثماني، و الضباط الأتراك العملاء للأحزاب العلمانية.

و لا تنسَ يا كاتب ! أنّ فكرة العروبة و القومية العربيّة التي كان يتبنّاها سياسيو الاُمة العربية في القرنين الأخيرين،كانت هي الضربة القاضية على هيكل الخلافة العثمانية،و هذه الفكرة بعد لا تزال حيّة،و لما سقطت قلعة العثمانيين ارتفعت قلاع باسم الدول العربية تحمل الشعارات القومية بدل الإسلامية. لا تكشفن مغطّاً فلربّ -ما كشّفتَ جيفةً

تلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت.

13.يقول عن عهد الشاه عباس الصفوي بأنّه:«توقف الحج إلى مكة في عهده و وجبت زيارة مدينة مشهد و هي مدينة طوس القديمة الخ».

مناقشتنا:

انّه لو ثبت انّ الحج توقف يوم ذاك فانّما توقف لفقد شرط وجوبه و هو أمن السرب و الطريق و لم يكن المنع مختصاً بهذا العصر ففي عصر القرامطة مُنِع المسلمون من الحج لأجل فقد شرطه.

على أنّ عمل فرد من ملوك الشيعة لا يعتبر دليلاً على أنّه من عقائد الشيعة و الكاتب بصدد بيان مذهب الاثني عشرية بما له من الأُصول و الفروع.

14.يقول:«فبرغم أنّ عدد أهل السنّة في إيران يصل إلى حوالي 20%من اجمالي عدد السكان في ايران إلّا أنّهم محرومون من تولي الوظائف الرئيسية في الدولة،و من صلاة العيدين،و من بناء مسجد لهم بطهران العاصمة الخ».

ص:126

مناقشتنا:

انّ الكاتب كأنّه يكتب عن أُمّة بعيدة عن أعين المسلمين و وكالات الأنباء العالمية،و نحن ندعو الكاتب لزيارة إيران حتى يرى بأُم عينه أنّ إخواننا السنّة أحرار في عقائدهم و شعائرهم كما أنّ لهم مندوبين في مجلس الشورى الإسلامي،و انّ الجمهورية الإسلامية هي المتبنّية للتقريب بين المسلمين عن طريق مساهمتها في تأسيس دار المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية،و قد شارك في تأسيس تلك الدار رجال من الشيعة و السنّة من الداخل و الخارج،كما و تصدر عنها مجلة رسالة التقريب،و الكاتب إنّما كتب هذه السطور لإثارة الفتنة بين الإخوة.

لكن نعود فنسأله انّ القاهرة مكتظة بالشيعة،فهل لهم فيها مكتبة رسمية أو مسجد أو مدرسة؟ و هل تسمح الحكومة بإقامة شعائرهم علناً.

انّ الحرمين الشريفين لا يختصان بطائفة دون أُخرى و إنّما هما لجميع المسلمين «سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ...» . (1)

و لكن الشيعة محظور عليهم التظاهر بشعائر دينهم أو بناء مسجد أو مدرسة أو مكتبة لهم.

فدع عنك نهباً صيح في حجراته و لكن حديثاً ما حديث الرواحل

و أمّا ما ذكر من عدد أهل السنّة فلا أدري من أين جاء بتلك الاحصاءات فإنّ احصاء عدد النفوس في إيران لم يتم على أساس المذهب حِرصاً على وحدة الكلمة بين الطائفتين.

ص:127


1- 1) .الحج:25. [1]

15.يقول:«و قد تطور مذهب الاثني عشرية على مرّ الزمن و أسهم العداء السياسي و الغلو المذهبي في انفراد الطائفة بعقائد و مبادئ تتجافى عن روح الإسلام السمحة و مقتضيات المنطق السليم».

مناقشتنا:

انّ عقائد الإمامية مأخوذة من الكتاب و أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام و العقل الصريح و لم يكن هناك أي تطور فيها.نعم نضجت المسائل الكلامية عبر القرون كسائر العلوم الإسلامية،و لأجل الاشارة إلى ذلك نذكر فيما يلي ما كتب حول عقائد الشيعة في أواخر القرن الثاني و أوائل القرن الثالث:

الف-كتب الإمام الرضا عليه السلام للمأمون رسالة في محض الإسلام (1).

ب-و قد عرض السيد عبد العظيم الحسني عقائده على الإمام الهادي عليه السلام المتوفى عام 254 ه،و هو مكتوب (2).

ج-و بعده توالت الرسائل العقائدية للشيعة و معارفهم.يقف عليها من تتبع كتبهم الكلامية.

فهذا هو الصدوق (306-381 ه) له رسالة في عقائد الشيعة،و للشيخ المفيد (336-413 ه) رسالة أسماها«شرح عقائد الصدوق»،و للمرتضى (355-436 ه) رسالة«جمل العلم و العمل»و من تتبّعها يرى أنّ الرسائل كلّها على غرار واحد و لو كان هناك خلاف فانّما هو في البحوث الكلامية و التي لا تمت إلى ذات العقائد بصلة.

نحن لا نريد المقابلة بالمثل،و إلّا فانّ الإمام الأشعري كتب عقائد أهل

ص:128


1- 1) .الصدوق،عيون أخبار الرضا:121/2. [1]
2- 2) .الصدوق،التوحيد:81 رقم الحديث 37.

السنّة في عدّة بنود في كتابه«الابانة عن أُصول الديانة»و أفرد كل واحد منها،للردّ على الفرق الإسلامية فصارت عقائد أهل السنّة حصيلة الردود على عقائد الآخرين،و لو لا هذه الفرق،لم يكن هناك سبب لعقدها.

16.يتعرض الكاتب إلى حديث الغدير و يؤوّله بأنّه لدى أهل السنّة وصية عامّة لإكرام آل البيت و التنويه بمكانة علي رضي اللّه عنه.

مناقشتنا:

انّ من قرأ تاريخ حديث الغدير و تدبر في خطبة النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يدلي بقوله في حق علي عليه السلام:«من كنت مولاه فهذا علي مولاه»لا يشك في انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بصدد تعيين الوصي من بعده.و نحن نذكر مقتطفاً من خطبة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك الحشد العظيم حتى يعلم مدى صدق قول القائل بأنّها بصدد إيصاء عام بإكرام آل البيت عليهم السلام ؟

قال صلى الله عليه و آله و سلم:«أيها الناس انّه قد نبّأني اللطيف الخبير انّه لم يعمر نبي إلّا نصف عمر الذي يليه من قبله،و انّي لأظن أني يوشك أن أُدعى فأُجيب و أني مسئول و انّكم مسئولون فما ذا أنتم قائلون؟».

قالوا:نشهد إنّك قد بلغت و جهدت و نصحت فجزاك اللّه خيراً،فقال:«أ ليس تشهدون أنّ لا اله إلا اللّه و أنّ محمداً عبده و رسوله، و أنّ جنته حق،و أنّ ناره حق،و أنّ الموت حق،و أنّ البعث حق بعد الموت،و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها،و أنّ اللّه يبعث من في القبور؟ قالوا:بلى،نشهد بذلك،قال:«اللهم اشهد»ثمّ قال:«يا أيها الناس انّ اللّه مولاي و أنا مولى المؤمنين و أنا أولى بهم من أنفسهم،فمن كنت مولاه فهذا-يعني علياً-مولاه اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه»ثمّ قال:«يا أيها الناس إنّي فُرطكم و أنّكم واردون عليّ الحوض،حوض أعرض مما بين

ص:129

بُصرى،إلى صنعاء،فيه عدد النجوم قدحان من فضة و أنّي سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين،فانظروا كيف تخلفوني فيهما، الثقل الأكبر كتاب اللّه عزّ و جلّ سبب،طرفه بيد اللّه و طرفه بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلّوا و لا تبدلوا،و عترتي أهل بيتي،فانّه نبأني اللطيف الخبير انّهما لن ينقضيا حتى يردا عليَّ الحوض» (1).

و أخرجه غير واحد من أئمّة الحديث منهم الإمام أحمد من حديث زيد بن أرقم،قال:نزلنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بواد يقال له وادي خُم،فأمر بالصلاة فصلاها بهجير،قال:«فخطبنا و ظلل لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بثوب على شجرة سمرة من الشمس،فقال:«أ لستم تعلمون،أ و لستم تشهدون،أنّي أولى بكل مؤمن من نفسه؟»قالوا:بلى،قال:فمن كنت مولاه فعليّ مولاه،اللهم وال من والاه و عاد من عاداه» (2).

و أخرجه الحاكم في مناقب علي من مستدركه عن طريق زيد بن أرقم من طريقين صححهما على شرط الشيخين،قال:لما رجع رسول اللّه من حجة الوداع و نزل غدير خم،أمر بدوحات فقممن،فقال:«إنّي دُعِيتُ فأجبتُ،قد تركت فيكم الثقلين،أحدهما أكبر من الآخر،كتاب اللّه و عترتي،فانظروا كيف تخلفوني فيهما،فانّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض،ثمّ قال:إنّ اللّه عزّ و جلّ مولاي و أنا مولى كل مؤمن-ثمّ أخذ بيد عليٍّ فقال:-من كنت مولاه فهذا وليه،اللهم وال من والاه و عاد من عاداه...» (3).

و أخرجه النسائي في خصائصه عن زيد بن أرقم،قال:لما رجع النبي صلى الله عليه و آله و سلم من حجة الوداع و نزل غدير خم أمر بدوحات فقممن، ثمّ قال:«كأنّي دُعيت

ص:130


1- 1) .الصواعق:43-44 و [1]أخرجه عن طريق الطبراني و غيره،و حكم بصحته.
2- 2) .مسند الإمام أحمد:372/4،و [2]أخرجه الإمام أيضاً في مسنده من حديث البراء بن عازب من طريقين،لاحظ الجزء الرابع الصفحة 281.
3- 3) .المستدرك:109/3، [3]مع أنّ الذهبي في تعليقته على المستدرك يعلق على مواضع من تصحيحات الحاكم صرح في هذا المقام بصحة الحديث.

فأجبت،و أنّي تارك فيكم الثقلين:أحدهما أكبر من الآخر،كتاب اللّه و أهل بيتي،فانظروا كيف تخلفوني فيهما،فانّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض-ثمّ قال:-إنّ اللّه مولاي و أنا وليّ كل مؤمن-ثمّ أخذ بيد عليٍّ فقال:-من كنت وليه فهذا وليه،اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه»؛قال أبو الطفيل:فقلت لزيد:سمعتَه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ؟ فقال:و انّه ما كان في الدوحات أحد إلّا رآه بعينه و سمعه باذنه (1).

إنّ سؤال أبي الطفيل يعرب عن حقيقة مرّة،و هو انّه يرى التنافي بين مضمون الحديث و عمل أكثر الأمة،فانّ الحديث نص على ولايته و خلافته،و أكثر الأمة صرفتها عن علي،فلأجل ذاك عاد يتعجب و يسأل،و ليس التعجب مختصاً به،فهذا هو الكميت يصرح به في هاشمياته و يقول: و يوم الدوح دوح غدير خم

و لو أردنا استقصاء مصادر الحديث و أسانيده و رواته من الصحابة و التابعين و العلماء لأحوجنا ذلك إلى تأليف مفرد،و قد قام بحمد اللّه أعلام العصر و محققوه بذلك المجهود (2).

و المهم هو دلالة الحديث على الولاية العامة و الخلافة الكبرى لعليٍّ بعد الرسول،و قبل الخوض في ذلك نقدم الاُمور التالية:

ص:131


1- 1) .الخصائص العلوية:21.
2- 3) .العبقات للسيد مير حامد حسين (المتوفّى 1306 ه) و الغدير للعلاّمة الفذ عبد الحسين الأميني (المتوفّى 1390 ه) و كلاهما من حسنات الدهر.

1- انّه صلى الله عليه و آله و سلم قال في خطبته:«إنّ اللّه مولاي و أنا مولى المؤمنين و أنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فهذا-يعني علياً - مولاه»و هذا قرينة لفظية على أنّ المراد من«مولاه»الثانية عَيْن المراد من«مولاه»الأولى فالمعنى انّ اللّه أولى بي من نفسي،و أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم،و من كنت أولى به من نفسه،فعليّ أولى به من نفسه،و هذا هو معنى الولاية الكبرى للإمام.

2- ذيل الحديث و هو قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«اللهم وال من والاه و عاد من عاداه»و في بعض الطرق«و انصر من نصره و اخذل من خذله» فانّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا نصبه إماماً على الأُمّة بعده،كان يعلم أنّ تطبيق هذا الأمر رهن توفر الجنود و الأعوان،و طاعة أصحاب الولايات و العمّال، مع علمه بأنّ في الملأ من يَحسده و فيهم من يحقد عليه،و في زمرة المنافقين من يضمر له العداء،فعاد يدعو لمن والاه و نصرَه،و على من عاداه و خذله،ليتم أمر الخلافة و ليعلم الناس أنّ موالاته موالاة للّه و أنّ عداءه عداؤه،و الحاصل أنّ هذا الدعاء لا يناسب إلّا من نصب زعيماً للإمامة و الخلافة.

3- انّه صلى الله عليه و آله و سلم صدّر كلامه بأخذ الشهادة من الحاضرين بأنّ لا إله إلّا اللّه و أنّ محمداً رسول اللّه،ثمّ قال:انّ اللّه مولاي و أنا مولى المؤمنين و أنا أولى بهم من أنفسهم،فقال:«فمن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه»،و هذا يدلّ على أنّ التالي،من جنس المقدم و أنّه ركن من الدين كما هما ركنان.

4- انّه صلى الله عليه و آله و سلم ذكر قبل بيان الولاية قوله:«كأنّي دُعيت فأجبت»أو ما يقرب من ذلك،و هو يعرب عن أنّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يبق من عمره إلّا قليل و يُحاذر أن يدركه الأجل،فأراد سدّ الفراغ الحاصل بموته و رحلته بتنصيب علي إماماً و قائداً من بعده.

هذه القرائن و غيرها الموجودة في كلامه،توجبُ اليقين بأنّ الهدف من هذا النبأ في ذلك الحشد العظيم ليس إلّا إكمال الدين و اتمام النعمة من خلال ما أعلن

ص:132

عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ علياً قائد و إمام للأمة،و من أراد الحصول على المزيد من هذه القرائن فليرجع إلى كتاب الغدير القيم (1).

لا يشك من درس مضمون حديث الغدير و ما احتف به من القرائن يقف على أنّ المراد منه هو نصب علي للإمامة و الخلافة و هذا هو الذي فهمه الحضور من المهاجرين و الأنصار في ذلك المحفل كما فهمه من بلغه النبأ بعد حين،ممن يحتج بقوله في اللغة،و تتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء و رجال الأدب إلى العصر الحاضر،و هذا هو حسان بن ثابت الذي حضر مشهد الغدير قد استأذن رسول اللّه أن ينظم الحديث في أبيات منها قوله: و قال له قم يا علي فانني رضيتك من بعدي إماماً و هاديا (2)

17.يقول:«و هذه الآثار لا تدل عند علماء السلف و الخلف من أهل السنّة على ما ذهبوا إليه من وصية الرسول لعلي بالخلافة من بعده إذ الولاية ترد بمعنى النصرة و المودة و الولاء و الاخوة لا بمعنى الإمامة و الخلافة حتما».

مناقشتنا:

انّه ورد في الحديث لفظ المولى و ليس له إلّا معنى واحد و هو الأولى،قال سبحانه: «فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ» . (3)

و قد فسر المولى في الآية بمعنى الأولى،و إذا استعمل في مورد الجار و ابن العم و العبد و غيرهم فبنفس ذاك الملاك فالجار أولى بأن يحمي الجار،و ابن العم

ص:133


1- 1) .الغدير:370/1،و قد ذكر هناك ما يقرب من عشرين قرينة على ما هو المراد من الحديث.
2- 2) .رواه غير واحد من حفّاظ الفريقين لاحظ الغدير:35/2-37 [1]
3- 3) .الحديد:15. [2]

أولى بنصر ابن عمه،و العبد أولى بإطاعة أمر مولاه و هكذا.

و الدليل على أنّ المولى في حديث الغدير بمعنى الأولى هو كلام الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قبل هذه الجملة فقد قال:«أ لستم تشهدون أني أولى بكلِّ مؤمن من نفسه؟ قالوا:بلى.قال:فمن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه» (1).

على أنّ ذكر التوحيد و المعاد و الرسالة في خطبة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و التنويه برحيله عن قريب و ذكر الثقلين،كل ذلك يعرب عن أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بصدد بيان أمر خطير فيه اكمال الدين و اتمام النعمة لا بصدد الايصاء بإكرام أهل بيته الذي لم يكن أمراً مستوراً على الاُمّة.

أضف إلى ذلك أنّه لو كان الهدف من كلام النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو الايصاء بالمحبة و المودة فلما ذا أخره إلى أُخريات أيام حياته الشريفة؟ و لما ذا نوه به في حشدٍ عظيم في صحراء لا يخيم على الناس فيها إلّا حر الشمس؟ أ و ليس هذا بعيداً عن بلاغة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و رعاية مقتضى الحال؟

18.يقول:«و الشيعة يستشهدون أيضاً بآثار أُخرى بعضها ضعيف و الآخر موضوع».

مناقشتنا:

ما ذا يريد بالآثار الموضوعة؟ فالشيعة تستدلّ بحديث الثقلين الذي مرّ في كلام الرسول في خطبة الغدير،و أخرجه الترمذي و النسائي في سننهما،و أحمد في مسنده،و الحاكم في مستدركه فلاحظ المصادر التالية:

الف-كنز العمال 44/1.

ص:134


1- 1) .مسند الإمام أحمد:374/4 و 281 و [1]غير ذلك.

ب-مسند أحمد 182/5 و 189 و ج 17/3 و 26.

ج-المستدرك للحاكم 109/3.

إلى غيرها من المصادر المتوفرة التي يضيق المقام عن بيانها.

و قد ألف غير واحد من المحققين رسائل في أسانيد هذا الحديث.

و تستدل الشيعة بحديث السفينة و فيه يقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم:إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق».

يرويه الحاكم بسنده إلى أبي ذر،لاحظ ج151/3،و بسنده إلى ابن عباس ج149/3،و يرويه النبهاني في أربعينه ص 216،نقله عن الطبراني في الأوسط،و يرويه ابن حجر في صواعقه الباب الحادي عشر ص 91 و 149.

و الشيعة تستدل بحديث الأئمّة الاثني عشر،فقد أخرج البخاري عن جابر ابن سمرة،قال:سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:يكون اثنا عشر أميراً فقال كلمة لم أسمعها،فقال أبي:إنّه قال:كلهم من قريش» (1).

و أخرج مسلم عنه أيضاً،قال:دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه و آله و سلم فسمعته يقول:«انّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة»قال ثمّ تكلم بكلام خفي عليّ،قال:فقلت لأبي:ما قال؟ قال:«كلهم من قريش» (2)إلى غير ذلك من الأحاديث التي جاءت في المجاميع الحديثية.فما ظنك بحديث يرويه الشيخان؟ فهل ما يرويه الإمام البخاري موضوع فلو كان موضوعاً «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ» 3 ؟!!

إنّ الأحاديث التي تنص على عدد خلفاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم و تذكر سماتهم أكثر ممّا

ص:135


1- 1) .صحيح البخاري:101/9،كتاب الأحكام،الباب 51 (باب الاستخلاف).
2- 2) .صحيح مسلم:3/6.باب الناس تبع لقريش من كتاب الامارة.

نقلناه و نقتصر في المقام على نقل السمات الواردة فيها حتى نتعرّف من خلالها على أصحابها فقد ورد فيها:

1- لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة.

2- لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً.

3- لا يزال الدين قائماً.

4- لا يزال أمر أُمّتي صالحاً.

5- لا يزال أمر هذه الاُمّة ظاهراً.

6- حتى يمضي فيهم اثنا عشر.

7- ما وليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش.

8-عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل.

و هذه السمات و الخصوصيات لا توجد مجتمعة إلّا في الأئمّة الاثني عشر المعروفين عند الفريقين،و تلك الأحاديث من أنباء الغيب و معجزات النبي صلى الله عليه و آله و سلم خصوصاً إذا ضُمّت إليها أحاديث الثقلين و السفينة و كون أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم أماناً لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء.

فالأئمّة الاثنا عشر المعروفون بين المسلمين،أوّلهم علي أمير المؤمنين عليه السلام،و آخرهم المهدي عليه السلام تنطبق عليهم تلك العلائم، و من وقف على حياتهم العلمية و الاجتماعية و السياسية يجزم أو يقطع بأنّهم هم المثل العليا في سماء الأخلاق و العلم و الاحاطة بالقرآن و السنّة،و أنّه سبحانه بهم حفظ دينه عن التحريف و بهم اعتزّ الدين.

و أمّا ما ورد في بعض هذه الطرق:«كلّهم تجتمع عليهم الاُمّة»على فرض الصحّة،فالمراد تجتمع على الاقرار بإمامتهم جميعاً وقت ظهور آخرهم،و-على

ص:136

فرض الإبهام-لا تمنع عن الأخذ بمضامين الحديث.

هلمّ معي نقرأ ما ذا يقول غير الشيعة في حق هذه الأحاديث،و كيف يفسّرها بالخلفاء القائمين بالأمر بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ؟ و لننقل إليك شيئاً من كلامهم:

إنّ قوله اثنا عشر إشارة إلى عدد خلفاء بني أميّة و أوّل بني أميّة يزيد بن معاوية و آخرهم مروان الحمار وعدتهم اثنا عشر و لا يعد عثمان و معاوية و لا ابن الزبير لكونهم صحابة،و لا مروان بن الحكم لكونه صحابياً أو لأنّه كان متغلباً بعد أن اجتمع الناس على عبد اللّه بن الزبير،و ليس على المدح بل على استقامة السلطنة و هم يزيد بن معاوية و ابنه معاوية ثمّ عبد الملك ثمّ الوليد ثمّ سليمان ثمّ عمر بن عبد العزيز ثمّ يزيد بن عبد الملك ثمّ هشام بن عبد الملك ثمّ الوليد بن يزيد ثمّ يزيد بن الوليد،ثمّ إبراهيم بن الوليد ثمّ مروان بن محمّد (1).

يلاحظ عليه:إذا كان الرسول أراد هذا و لم يكن في مقام مدحهم فأي فائدة في الاخبار بذلك.ثمّ كيف يقول إنّها صدرت على غير سبيل المدح مع ما عرفت من السمات الواردة الصريحة في المدح فيقول:«لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً قائماً»،أو«أمر أُمّتي صالحاً» و العجب أنّه جعل أوّل الخلفاء يزيد بن معاوية بحجّة أنّه استقامت له السلطنة،إذ كيف استتبّت له السلطنة و قد ثار عليه أهل العراق في السنة الأولى و ثار عليه أهل المدينة في السنة الثانية و كان مجموع أيّامه مؤلف من حروب دامية و قتل و نهب و تدمير.

19.يقول:الإمامة عند الشيعة ركن و أصل من أُصول الدين و لكنها (أي الإمامة) أصل مذهبي في رأيهم فمن لم يعرف أمام زمانه و لم يبايعه عدّ

ص:137


1- 1) .فتح الباري في شرح صحيح البخاري:212/13 ط دار المعرفة.و في المصدر:عدتهم ثلاثة عشر.

خارجاً عن المذهب و لكنّه في عامة المسلمين و ربّما غلا بعضهم فكفره الخ».

مناقشتنا:

انّ الإمامة عند الشيعة من الأُصول و لكن انكارها لا يلازم الخروج عن الإسلام بل يوجب الخروج عن حظيرة التشيع ثمّ إنّ الكاتب يذكر في ذيل كلامه أنّ علياً لم يكفّر الخوارج الذين كفّروه و حاربوه»و ليس لكلامه هذا صلة بعقائد الشيعة.فانّ الشيعة عن بكرة أبيهم يعدون أهل السنّة إخواناً و إن كانوا خاطئين في مسألة الإمامة.

20.قال:«و يزعم الاثنا عشرية أنّ أئمّتهم معصومون من الخطأ و المعصية،و لهم صفة المعرفة اللّدُنِّية،دون حاجة إلى تلقين الرواة فيصح لهم أن يرووا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مباشرة دون سند من الرجال،كما أنّهم يعلمون الغيب،و لا يموتون إلّا باختيار منهم،و لذا يعتبرون عهد الوحي مستمراً إلى غيبة الإمام الثاني عشر،و لا يباح الاجتهاد في وجود الإمام،و إنّما يبدأ الاجتهاد الفقهي بعد تلك الغيبة».

مناقشتنا:

انّ هذه الفقرة تشتمل على أُمور صحيحة،و أُخرى خاطئة نشير إليها على وجه الاجمال لأنّ التفصيل يحوجنا إلى إفراد رسالة خاصة.

ألف-انّ الأئمّة الاثني عشر معصومون من الخطأ و المعصية بدليل انّهم عدل الكتاب و قرناؤه في قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم:إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي،إنّ اقتران العترة بالقرآن يدل:

ص:138

أوّلاً:على أنّ عندهم علم القرآن و فهمه فهماً لائقاً بشأنه.

و ثانياً:انّ التمسك بالكتاب و العترة يعصم من الضلالة.

و ثالثاً:يحرم التقدم على العترة كما يحرم الابتعاد عنهم.

و رابعاً:انّ العترة لا تفارق الكتاب إلى يوم القيامة.

و خامساً:انّ الكتاب مصون من الخطأ و هكذا عدله.

مضافاً إلى قوله سبحانه: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» . (1)

و المراد من الرِّجس هو العصيان و الارادة ارادة كونية و هي التي لا تنفك فيها الارادة عن المراد و المراد من أهل البيت هم الذين أدخلهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تحت الكساء،و قال:اللهم انّ لكل نبي أهل بيت و هؤلاء أهل بيتي.و لما أرادت أُم سلمة أن تدخل تحت الكساء منعها و قال:أنت على خير و لست من أهل البيت.

ب-انّ علوم أئمّة أهل البيت عليهم السلام مستندة إلى مصادر مختلفة فتارة يروون الحديث عن آبائهم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و ما أكثر هذا القسم من الأحاديث في رواياتهم.و أُخرى يعتمدون على كتاب عليٍّ الذي أملاه الرسول و كتبه الوصي و هو في سبعين ذراعاً.و ثالثة يعتمدون على تحديث الملك فهم محدَّثون و المحدَّث عبارة عمن يسمع كلام الملك و لا يرى عينه و قد عقد الإمام البخاري باباً للمحدَّث و عدّ منهم عمر بن الخطاب و المحدَّث غير الرسول و النبيَّ و من أراد الوقوف على واقع المحدَّث فعليه بشرح صحيح مسلم للإمام النووي فقد أسهب فيه الكلام.

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة،قال:قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:لقد كان فيمن كان قبلكم من بني اسرائيل رجال يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن

ص:139


1- 1) .الأحزاب:33. [1]

يكن من أُمتي منهم أحد،فعمر،قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:من نبي و لا محدث (1).

و بذلك يعلم مدى صحّة كلمة الكاتب:من أنّ للأئمّة أن يرووا عن رسول اللّه مباشرة من دون سند من الرجال.

و ذلك لما عرفت أنّ مصادر علومهم مختلفة فتارة يروون عن طريق آبائهم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أُخرى يروون عن كتاب عليّ و ثالثة يروون عن طريق التحديث.

ج-قال:انّ الأئمّة يعلمون الغيب.

مناقشتنا:

انّ علم الغيب مختص باللّه تبارك و تعالى،قال سبحانه: «قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ» . (2)

و أمّا تحديثهم عن الغيب فإنّما هو تعلم من ذي علم فلا مانع من أن يلهم اللّه سبحانه أولياءه أُموراً غيبية كما ألهم يوسف و هو شاب غير مبعوث ثمّ استمر الالهام إلى آخر عمره.

و ليست أئمّة أهل البيت عليهم السلام بأقل شأناً من أُم موسى فقد أخبرها سبحانه عن مصير ولدها،و قد علم مصاحب موسى بمصير الغلام الذي قتله،و قال: «وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً» 3 إلى غير ذلك من الاُمور الغيبية التي أوقف اللّه سبحانه عباده الصالحين عليها من دون أن يكونوا أنبياء كرامة لهم،و إعظاماً لمقامهم.

د-يقول:و لذا يعتبرون عهد الوحي مستمراً إلى غيبة الإمام الثاني عشر.

ص:140


1- 1) .صحيح البخاري:194/2 باب مناقب عمر بن الخطاب.
2- 2) .النمل:65. [1]
مناقشتنا:

انّه خلط في كلامه الوحيَ التشريعي المختص بالأنبياء و الرسل،بالتحديث الذي أطبقت الاُمّة على حصوله و على وجود محدَّثين في الاُمة الإسلامية،فالأئمّة ملهمون،محدَّثون و ليسوا أنبياء يوحى إليهم.

ه-يقول:و لا يباح الاجتهاد في وجود الإمام و إنّما يبدأ الاجتهاد الفقهي بعد تلك الغيبة.

مناقشتنا:

أنّ الاجتهاد كان موجوداً بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا و مفتوحاً بابه في وجه الاُمة و لم يغلق أبداً و يحرم تقليد المجتهد لغيره و أمّا عدم الاجتهاد عند وجود الإمام فالمراد منه أن يكون الانسان في حضرة الإمام،و أمّا البعيد عنه كمن يقطن خراسان و الإمام في المدينة فله أن يجتهد على ضوء الكتاب و السنّة و أحاديث أئمّة أهل البيت و قد كان بين أصحاب أبي جعفر الباقر عليه السلام و الإمام الصادق عليه السلام مجتهدون كبار يعلم من رجع إلى أحوالهم.

21.يقول:«و فكرة الإمامة على هذا النحو ترجع إلى آراء مغالية ظهرت في الفترات الاُولى من تاريخ المسلمين ثمّ ورثها الاثنا عشرية و اتخذوها أُصولاً لهم و كان من نتائجها ايقاع العداوة و الشقاق بين جمهور المسلمين».

مناقشتنا:

انّ فكرة الإمامة ترجع إلى الكتاب و السنّة بشرط الفحص عن أسباب النزول،و التاريخ الصحيح،و الروايات الواردة حول الآيات.

ص:141

انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو الذي بذر فكرة الإمامة في حديث الدار عند ما نزل قوله سبحانه:

«وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» . (1)

ففي هذا اليوم قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم في علي:«إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم،فاسمعوا له و أطيعوا» (2).

و لما نزل قوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام:«هو أنت و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين» (3).

و في رواية أُخرى،قال:«و الذي نفسي بيده أنّ هذا (مشير إلى علي) و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة» (4).

إنّ فكرة الإمامة تمخضت من حديث الثقلين و حديث السفينة و حديث الغدير إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و إذا كان ثمّة اعتراض فانّما يتوجه إلى المعرضين عن هذه الأحاديث لا إلى المتمسكين بها.

انّ الذي أوقع العداوة و الشقاق بين جمهور المسلمين هو معاوية و حزبه الأموي.فقد أصدر بياناً قاطعاً حاسماً بقتل الشيعة و قطع مِنَحهم و بذلك أغرى الحزب الأموي و من والاه على الخوض في دماء شيعة أهل البيت.

ص:142


1- 1) .الشعراء:214. [1]
2- 2) .مسند أحمد:111/1، [2]تاريخ الطبري:62/2-63، [3]تاريخ الكامل:40/2-41،إلى غير ذلك من المصادر المتوفرة يقف عليها من سبر كتب السيرة-عند سرد حوادث بدء الدعوة و كتب التفسير في تفسير الآية الآنفة في سورة الشعراء.
3- 3) .الدر المنثور:589/6.و الآية 7 [4] من سورة البيّنة.
4- 4) .نفس المصدر.

كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بدء عام الجماعة أن برئتُ الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب و أهل بيته.فقامت الخطباء في كل كورة و على كل منبر يلعنون علياً و يبرءون منه و يقعون فيه و في أهل بيته و كان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي عليه السلام فاستعمل عليها زياد بن سمية و ضمّ إليه البصرة،و كان تتبع الشيعة و هو بهم عارف لأنّه كان منهم أيام علي عليه السلام فقتلهم تحتَ كل حجر و مدر،و أخافهم و قطع الأيدي و الأرجل و سمَل العيونَ و صلَبهم على جذوع النخل،و طردهم و شرّدهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم و كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق أن لا يجيزوا لأحد من شيعة عليّ و أهل بيته شهادة (1).

نسأل الكاتب،فمن الذي أوقع العداوة و الشقاق بين جمهور المسلمين؟ و لو أردنا أن نسبر التاريخ لنرى قتلى الشيعة من صحابيهم إلى تابعيهم إلى تابعي التابعين لطال بنا المقام.

22.يقول:«و مما يدل على بطلان مبدأ الإمامة بصيغته تلك عند الاثني عشرية فعل الإمام علي رضي اللّه عنه إذ بايع أبا بكر الصديق و نصره بنفسه و ولده و كذلك بايع كلاً من عمر و عثمان بالخلافة الخ».

مناقشتنا:

العجب كل العجب أن نترك النصوص الواردة في الكتاب و السنّة و التاريخ الصحيح و نستدل بفعل عليّ و بيعته التي لم تثبت قط و إنّما يرويها رواة مدرسة الخلفاء و تكذبها رواة مدرسة أهل البيت.انّ الإمام لم يبايع قط،و إنّما تعاون مع

ص:143


1- 1) .ابن أبي الحديد،شرح النهج:44/11-46. [1]

الخلفاء لما رأى أنّ في ترك التعاون معهم ضرراً أعظم من ذهاب ولايته و هو سلام اللّه عليه يشرح لنا سبب مساهمته و سكوته و رفقه.

إذ يقول عليه السلام:«فو الله ما كان يُلقى في روعي،و لا يخطر ببالي،أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه و آله و سلم عن أهل بيته،و لا أنّهم مُنحُّوه عني من بعده.فما راعني إلّا إنثيال الناس على فلان يبايعونه،فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه و آله و سلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله،أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل،يزول منها ما كان،كما يزول السراب،أو كما يتقشع السحاب،فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل و زهق،و اطمأن الدين و تنهنه» (1).

فقد جاء في كتاب الإمامة و السياسة لابن قتيبة الدينوري:الذي ورد فيه ذكر حوادث حدثت في صدر الإسلام و الكتاب جدير بالمطالعة لطالبي الحقيقة و قد جاء فيه أنّ أبا بكر أرسل عمر و معه جماعة إلى بيت فاطمة الذي كان فيه عليّ و جماعة من بني هاشم متخلفين عن البيعة فأزعجوا فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أيّما ازعاج حيث نادت بأعلى صوتها:يا أبتا يا رسول اللّه ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب و ابن أبي قحافة،فلما سمع القوم صوتها و بكاءها انصرفوا باكين و كادت قلوبهم تتصدع و أكبادهم تتفطر و بقي عمر و معه قوم فأخرجوا علياً و مضوا به إلى أبي بكر فقالوا له بايع،قال:ان أنا لم أفعل فمه؟ قالوا:إذاً و اللّه الذي لا إله إلّا هو نضرب عنقك،قال:أ تقتلون عبد اللّه و أخا رسوله؟ قال عمر:أمّا عبد اللّه فنعم و أمّا أخا رسوله فلا.و أبو بكر ساكت لا يتكلم.فقال عمر:أ لا تأمر فيه بأمرك؟ فقال:لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه (2).

ص:144


1- 1) .نهج البلاغة، [1]الكتاب:62.
2- 2) .الإمامة و السياسة:13/1. [2]

و هذا شاعر النيل حافظ إبراهيم المصري (المتوفّى 1351 ه) يصف لنا كيف تم أخذ البيعة في قصيدته العمرية و يقول: و قولة لعلي قالها عمر

ما كان غير أبي حفص يفوه بها أمام فارسِ عدنان و حاميها (1)

أ فبعد هذا يمكن أن يحتج بهذا الشكل من البيعة؟ و النار مؤججة تكاد أن تأكل الرطب و اليابس و هذا هو الطبري (المتوفّى 310 ه) يصف لنا كيفية أخذ البيعة و يقول:أتى عمر بن الخطاب منزل علي فقال لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة (2).

و هذا ابن عبد ربه الأندلسي (المتوفّى 495 ه) يقول:بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة و قال له:إن أبوا فقاتلهم.فأقبل بقبس من النار على أن يضرم عليهم الدار.فقالت:يا ابن الخطاب أ جئت لتحرق دارنا؟ قال:نعم أو تدخلوا فيما دخلت فيه الاُمة (3).

23.قال:«و لو وجد هذا النص لأخذ به الصحابة رضوان اللّه عليهم الذين كانوا أشد حرصاً على طاعة اللّه و رسوله».

مناقشتنا:

قد أخذ لفيف من الصحابة بنصوص الخلافة في حق علي عليه السلام من مشاهير بني هاشم و غيرهم.

ص:145


1- 1) .ديوانه:84/1
2- 2) .تاريخ الطبري:202/3 [1] ط:دائرة المعارف.
3- 3) .العقد الفريد:260/4؛و [2]لاحظ تاريخ أبي الفداء:356/1؛و [3]أعلام النساء:1207/3.

و إليك فهرس أسماء خمسين صحابياً كانوا روّاد التشيع في عصر النبي و ما بعده:

1- عبد اللّه بن عباس 2- الفضل بن العباس 3- عبيد اللّه بن العباس 4- قثم بن العباس 5- عبد الرحمن بن العباس 6- تمام بن العباس 7- عقيل بن أبي طالب 8-أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب 9- نوفل بن الحرث 10- عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب 11- عون بن جعفر 12- محمد بن جعفر 13- ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب 14- الطفيل بن الحرث 15- المغيرة ابن نوفل بن الحارث 16- عبد اللّه بن الحرث ابن نوفل 17- عبد اللّه بن أبي سفيان ابن الحرث 18- العباس بن ربيعة بن الحرث 19- العباس بن عتبة بن أبي لهب 20- عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث 21- جعفر بن أبي سفيان بن الحرث.

هؤلاء من مشاهير بني هاشم،و أمّا غيرهم فإليك أسماء ثلة منهم:

22- سلمان المحمدي 23- المقداد بن الأسود الكندي 24- أبو ذر الغفاري 25- عمار بن ياسر 26- حذيفة بن اليمان 27- خزيمة بن ثابت 28- أبو أيوب الأنصاري مضيِّف النبي 29- أبو الهيثم مالك بن التيهان 30- أُبي بن كعب 31- سعد بن عبادة 32- قيس بن سعد بن عبادة 33- عديّ ابن حاتم 34- عبادة بن الصامت 35- بلال بن رباح الحبشي 36- أبو رافع مولى رسول اللّه 37- هاشم بن عتبة 38- عثمان بن حنيف 39- سهل بن حنيف 40- حكيم بن جبلة العبدي 41- خالد بن سعيد بن العاص 42- ابن الحصيب الأسلمي 43- هند بن أبي هالة التميمي 44- جعدة بن هبيرة 45- حجر بن عدي الكندي 46- عمرو بن الحمق الخزاعي 47- جابر بن عبد اللّه الأنصاري 48- محمد بن الخليفة أبي بكر 49- أبان بن سعيد بن العاص 50- زيد بن صوحان العبدي.

ص:146

هؤلاء خمسون صحابياً من الطبقة الاُولى للشيعة،فمن أراد التفصيل و الوقوف على حياتهم و تشيّعهم فليرجع إلى الكتب المؤلفة في الرجال و لكن ببصيرة نافذة.

و أمّا الذين لم يأخذوا به فهؤلاء هم الذين خالفوا الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في غير واحد من المواقف.فقد خالفوه في المواقف التالية:

1- في الأنفال و الأسرى في غزوة بدر.

2- في أُحد حيث أعرضوا عن امتثال أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الوقوف في المضيق.

3- في صلح الحديبية حيث نسبوا صلحه إلى الدنية في الدين.

4- في تجهيز جيش أُسامة حيث لم يخرجوا معه و قاموا في معسكر المدينة حتى أتى قبض النبي صلى الله عليه و آله و سلم فرجعوا إلى البلدة و فعلوا ما فعلوا.

5- في احضار القلم و الدواة في أُخريات عمره الشريف.

6- زيادتهم في الأذان التثويب (أي الصلاة خير من النوم) حسب ما يرويه الإمام مالك في موطئه.

7- حذف (حي على خير العمل) من فصول الأذان.

8- الحيلولة بين فاطمة و ميراثها.

9- النهي عن متعة الحج.

10- اسقاط أسهم ذوي القربى من الخمس بعد وفاة الرسول.

تلك عشرة كاملة خالف فيها بعض الصحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و كم لها من نظير.

و العجب أنّ الكاتب و من لفّ لفّه ألبسوا الصحابة ثوب العصمة فصار صمتهم و سكوتهم حجة إلهية فضلاً عن قولهم و كلامهم و فيهم المنافقون المندسون غير المعروفين حتى لدى النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:147

قال سبحانه: «وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ» 1.

انّه لا يرضى من الشيعة القول بعصمة اثني عشر إماماً،و لكنّه و من لف لفه يرون أنّ الصحابة معصومون و لا يذكرون لهم أي ذنب و لا خطأ.

انّهم ينسبون في تواريخهم و تفاسيرهم أموراً إلى الأنبياء من الخطأ و العصيان بارتياح و بلا تحرّج فلاحظ كتب التفسير و التاريخ فانّها مليئة بنسبة الخطايا و الذنوب إلى يوسف و داود و سليمان و غيرهم.و عند ما يذكر أحد شيئاً في حق الصحابة مما يعاب به عليهم، ثارت ثائرتهم و ما هذا إلّا لأنّ الصحابة بمنزلة الساتر الأوّل لهم و منهم أخذوا دينهم،فإذا دبّ الجرح إليهم انهار دينهم و فقههم،و لأجل صونهم عن أي ذنب و خطأ،حرّموا أي كلام حولهم و اتفقوا على عدالتهم المساوية لعصمتهم.

24.يقول:«لو كانت الإمامة حُدِّدت في عليٍّ و أولاده كما يزعمون لعيَّن الإمام علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه ابنه الحسن رضي اللّه عنه خليفة للمسلمين من بعده».

مناقشتنا:

انّ ما ذكره تجاهل للواقع أو غفلة عن حقيقة الحال أو ناشئ عن قلة التتبّع.فقد تضافر النص من علي عليه السلام على وصيه و إمام المسلمين من بعده.و هو الحسن بن علي عليه السلام فمن أراد الوقوف على النصّ فليرجع إلى مظانه (1).

ص:148


1- 2) .الكافي:297/1 باب النص على الحسن بن علي،و [1]اثبات الهداة:543/2. [2]

و أمّا ما نسب إلى علي من انّه سئل عمن يستخلفه من بعده،فقال:و لكن أتركُكم إلى ما ترككم إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:فهو موضوع على لسانه.فرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يترك الاُمة سُدى و هو الذي يأمر الاُمة أن لا يموت واحد منهم بلا وصية فكيف يموت هو صلى الله عليه و آله و سلم بلا وصية؟

و قد كانت سيرة الخلفاء على الايصاء فقد أوصى أبو بكر إلى عمر بن الخطاب كما أنّ عمر بن الخطاب لم يترك الناس على أن يختاروا لأنفسهم خليفة باختيارهم فقام بتشكيل شورى سداسية أشبه بلُعبة سياسية منتهية إلى خلافة من كان يهوى خلافته.

و هذه هي السيدة عائشة حينما ضرب عمر في بطنه و أشرف على الموت قالت لعبد اللّه بن عمر:«أبلغ أباك سلامي و قل له لا تدع أُمّة محمد بلا راعٍ استخلف عليهم و لا تدعهم بعدك هملا» (1).

و هذا هو معاوية بن أبي سفيان قد أخذ البيعة لابنه يزيد في حياته بترغيب و ارهاب.

فلو كانت السنّة الموروثة في الخلافة هي ترك الايصاء فلما ذا خالفها الخلفاء حيث لم يتركوا الاُمّة سدى و نصبوا قائداً لها بأشكال مختلفة؟ أ و ليس الرسول صلى الله عليه و آله و سلم هو الأسوة كما قال سبحانه: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً» 2 ؟

و كل ذلك يشهد على أنّ الرواية موضوعة على لسان عليّ عليه السلام الذي لم يكن يتخلف عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قيد شعرة.

ص:149


1- 1) .ابن قتيبة الدينوري المتوفى:276 ه،تاريخ الخلفاء الراشدين المعروف بالإمامة و السياسة:22/1.

25.يقول:«بعد ما بويع الحسن بالخلافة و تنازل لمعاوية عن الخلافة حِقْناً لدماء المسلمين مما يسقط دعاوى القوم في بطلان ولاية أي إمام غير الاثنى عشر».

مناقشتنا:

انّ الإمام الحسن عليه السلام لم يتنازل عن الخلافة إلّا بعد أن أتمّ الحجّة و أرسل كتائبه إلى ميادين الحرب فلما لم يجد في جيشه من يناصره و كادت الحرب تنتهي إلى إهراق دماء الصلحاء من شيعة علي عليه السلام بلا جدوى.اضافة إلى ما وصله من أخبار تهيُّؤ الروم للوثوب على بلاد الإسلام و عزمهم على سحق المسلمين بلا فرق بين أُموي و علوي فلم يكن أمامه عليه السلام مناص إلّا التنازل عن الخلافة لحفظ كيان الإسلام.كما تنازل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن كتابة«رسول اللّه»بعد اسمه الشريف في صلح الحديبية (1)فلم يكن التنازل حجة على أنّه ليس برسول اللّه.

26.يقول:«و يعتقدون برجعة الإمام المهدي المنتظر قبل القيامة».

مناقشتنا:

انّ مسألة المهدي (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف) مسألة إسلامية لا تختص بطائفة دون طائفة فقد أطبقت الاُمة على ظهور المهدي في آخر الزمان و ليس حديث الإمام المهدي (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف) حديثَ رواية واحدة أو اثنتين بل روايات متواترة ملأت الصحاح و المسانيد و من أراد فليرجع إلى الكتب المؤلفة في هذا الصدد و لكن الإمام المهدي (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف) عند الشيعة حيٌّ يُرزق و ليس له رجوع و إنّما له ظهور بعد الغيبة

ص:150


1- 1) .السيرة النبوية لابن هشام:317/2 ط الحلبي [1]مصر،السيرة الحلبية:19/3 ط مصر. [2]

الكبرى.

فليرجع الكاتب إلى الكتب التالية:

1-«البيان في أخبار صاحب الزمان»للكنجي الشافعي.

2-«البرهان في علامات المهدي آخر الزمان»،لملا علي المتقي صاحب كنز العمال.

3-«العرف الوردي في أخبار المهدي»للحافظ السيوطي.

4-«القول المختصر في علامات المهدي المنتظر»لابن حجر.

5-«عقد الدرر في أخبار الإمام المنتظر»للشيخ جمال الدين الدمشقي.

6- و أخيراً«بين يدي الساعة»للدكتور عبد الباقي إلى غير ذلك من المؤلفات.

27.و يقول:«و يقول بعض غلاتهم برجوع الأئمّة الاثني عشر إلى الدنيا بعد أن يكون المهدي قد سبقهم إليها».

مناقشتنا:

القول بالرجعة عقيدة معروفة عند الشيعة و يعنون برجوع الأئمّة عليهم السلام أحد الأمرين إمّا رجوع دولتهم لا أنفسهم كما عليه جماعة من أعلامهم كالسيد المرتضى و غيره،أو رجوع أعيانهم و ليس فيه أي بُعد و عجب فانّه سبحانه أحيا أُناساً من الاُمم السالفة.

يقول سبحانه: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ...» 1.

ص:151

و قد أحيا أصحاب الكهف بعد أن أنامهم نومة شبه الموت مئات السنين.

يقول سبحانه: «وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ...» 1.

إلى أن قال سبحانه: «وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً» 2.

و من أنكر امكان الرجعة فقد أنكر قدرة اللّه،و أمّا الوقوع فإن كانت الروايات متواترة نأخذ بها في مجال العقيدة و إلّا فروايات الآحاد لا تفيد في مجالها و لا يؤخذ بها.

28.يقول:«و أوّل من قال بفكرة الرجعة و دعا إليها عبد اللّه بن سبأ اليهودي فأخذ يقول برجعة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مثل عيسى و استشهد بقول اللّه تعالى: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» ». (1)

مناقشتنا:

انّ من المؤسف جداً أن ينسب فكرة الرجعة إلى شخصية اسطورية لم يثبت أي وجود لها بالوصف المذكور في التاريخ حيث إنّه يوصف فيه انّه بتجوّله في البلاد استطاع أن يقلب وضع المسلمين رأساً على عقب و يثيرهم ضد الخليفة عثمان بن عفان و...،انّ ذلك ممّا لا يقبله العقل السليم،و لا سيرة المسلمين أيام الخلفاء.

لم يكن ابن سبأ المزعوم بأعز من أبي ذر-ذلك الصحابي العظيم-عند عثمان فقد نفاه إلى الربذة فمات هناك وحيداً فلِمَ لم يقم به الخليفة في حق عدوه المزعوم حتى أفسد الجو و أثار الفتنة و انتهى الأمر إلى قتله في عقر داره كل ذلك

ص:152


1- 3) .القصص:85. [1]

يؤكد أنّ ما ذكر له من الصفات مما صنعته يد الوضع ضد الشيعة،و انّ للمقال صلة موكولة إلى محلها.

إنّ أوّل من قال بالرجعة هو الذكر الحكيم.

يقول سبحانه: «وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ» 1.

و الآية لا علاقة لها بيوم القيامة فانّ الحشر هناك يتعلق بالجميع لا بالبعض على خلاف ما ورد في هذه الآية.

قال سبحانه: «وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً» 2 .

ثمّ إنّ من أنكر موت الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و قال إنّه سيرجع و يقطع أيدي القائلين بموته هو عمر بن الخطاب.

فهذا ابن سعد يقول:«لما توفي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكى الناس فقام عمر بن الخطاب في المسجد خطيباً فقال:لا أسمعنّ أحداً يقول:إنّ محمداً مات و لكنه أُرسل إليه كما أُرسل إلى موسى بن عمران فلبث عن قومه أربعين ليلة.و اللّه انّي لأرجو أن يقطع أيدي رجال و أرجلهم يزعمون أنّه مات».

فقال العباس:ادفنوا صاحبكم،أ يُميت أحدكم ميتةً واحدةً و يُميته إماتتين؟ و قد كان عمر بن الخطاب مصراً على انّه سيرجع حتى خطب أبو بكر فأمره بالسكوت فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قرأ: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» 3 إلى آخر ما ذكر (1).

و قد ذكر ذلك ابن هشام في السيرة النبوية أيضاً.

ص:153


1- 4) .طبقات ابن سعد:266/2-267. [1]

29.يقول:«انّ البابية فرقة دينية نشأت في إيران منشعبة عن الاثني عشرية أبان القرن الثالث عشر و الميرزا حسن بهاء اللّه مؤسس البهائية و هي صورة متطوّرة من البابية اختلفت عنها في أهدافها و أساليبها».

مناقشتنا:

لم أزل أتعجب من الكاتب كيف ينسب البابية و البهائية إلى الشيعة الاثني عشرية!! و ليست البابية و البهائية إلّا حزبين سياسيين أُضفي عليهما طابعُ الدين أسسهما الاستعمار الغربي لإيجاد الفوضى الدينية في الأوساط الشيعية كالحركة القاديانية في الأوساط السنية.

البهائية-بدّد اللّه شملهم-ينكرون الخاتمية و يدّعون النبوة بل الالوهية لزعيمهم حسين علي البهائي و قد ألف علماء الشيعة ردوداً عليهم و اقصوهم عن مجامع المسلمين و مجالسهم أ فهل يصح لنا أن ننسب إلى السنّة،المذهب القادياني و هو في حركته كحركة البابية و البهائية،غير أنّهما حدثا في إيران بين الشيعة،و القاديانية حدثت في الهند بين السنة.

30.يقول:«و يستبيح الاثنا عشرية سب بعض الصحابة و أزواج الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و بخاصة السيدة حفصة و السيدة عائشة-رضي اللّه عنهما-...».

مناقشتنا:

انّه من المستحيل أن يحبّ الانسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم و في الوقت نفسه يبغض من ضحّى بنفسه و نفيسه في طريق رسالته،و الانسان العاقل لا يمكنه أن يجمع في قلبه حالتين متضادتين.

و الذي دعا أهل السنّة إلى اتهام الشيعة بالسبّ هو اعتقادهم بعدالة

ص:154

الصحابة كلّهم من أولهم إلى آخرهم،و الشيعة الاثنا عشرية لا تعترف بذلك،بل أنّ الصحابة و التابعين و غيرهم من تابعي التابعين عندهم في صف واحد و لا ترى أي ملازمة بين كون الرجل صحابياً رأى النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و بين كونه رجلاً مثالياً يكون القدوة و الاسوة للمسلمين إلى يوم القيامة.بل تعتقد أنّ مصير الصحابة كمصير الآخرين فيهم الصالح و التقي و المخلص،و فيهم الطالح و المنافق و يدل على ذلك أُمور كثيرة نذكر منها ما يلي:

1- انّ المنافقين كانوا مندسّين بين الصحابة و حتى النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن يعلم بهم.قال سبحانه: «وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ» 1 و مع ذلك كيف يصح أخذ الدين و الحكم الشرعي عن كل صحابي بمجرد أنّه رأى النبي صلى الله عليه و آله و سلم مع أنّه من المحتمل أن يكون منافقاً فلأجل ذلك يجب التمحيص و التفريق بين من ثبت إسلامه و إيمانه و من ثبت نفاقه كعبد اللّه بن أُبي، و الاجتناب عمن لم يعرف بأحد الأمرين:الايمان و النفاق.

2- انّه سبحانه يقول: «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» 2 فنسأل:من هذا الفاسق الذي جاء بخبر كاذب في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم فهل كان واحداً من الصحابة أم كان من غيرهم؟

إننا إذا راجعنا أسباب النزول نرى أنّ الروايات متفقة على أنّ المراد بالفاسق هو الوليد بن عقبة الصحابي الذي كان عاملاً للخليفة عثمان في الكوفة و قد ألقى إليه زمام المسلمين من قبل الخليفة هناك.

و من أراد أن يقف على رأي الشيعة في الصحابة فعليه بما يقوله إمام المسلمين علي عليه السلام في حقهم،يقول:«أين اخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على

ص:155

الحق.أين عمار و أين ابن التيهان و أين ذو الشهادتين و أين نظراؤهم من اخوانهم الذين تعاقدوا على المنية و أبردَ برءوسهم إلى الفجرة.أوه على اخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه،و تدبّروا الفرض و أقاموه،أحيوا السنّة و أماتوا البدعة،دُعوا للجهاد فأجابوا و وثقوا بالقائد فاتبعوه» (1).

و هذا هو علي بن الحسين عليهما السلام و هو الإمام الرابع للشيعة يذكر في بعض الأدعية صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و يقول:اللّهم و أصحاب محمد صلى الله عليه و آله و سلم خاصة الذين أحسنوا الصحبة و الذين أبلوا البلاءَ الحسَن في نصره و كانفوه،و أسرعوا إلى وفادته،و سابقوا إلى دعوته و استجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته و فارقوا الأزواج و الأولاد في اظهار كلمته و قاتلوا الآباء و الأبناء في تثبيت نبوته الخ» (2).

أ فهل يمكن بعد كل هذه التصريحات أن يُنسب سبّ بعض الصحابة إلى عقائد الشيعة؟

نعم إذا كان للشيعة كلام حول بعض الصحابة فإنّما يذكرون أعمالهم و يصفون أفعالهم حسب ما ورد في القرآن و السنّة مثلاً السيدة عائشة مع ما لها من المكانة بين المسلمين و لكنهم لا يمنعهم ذلك عن الحكم بخطئها في خروجها على عليّ عليه السلام لانّها كانت مأمورة بلزوم بيتها.

يقول سبحانه: «...وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى...» 3 فما للنساء و قيادة الجيش الجرار ضد من أصفقت الاُمّة على خلافته و إمامته و بايعه وجوه الصحابة من الأنصار و المهاجرين إلّا من شذ من الذين لا يعبأ بهم أمام غالبية المسلمين.

ص:156


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة 182. [1]
2- 2) .الصحيفة السجادية،الدعاء الرابع. [2]

فتحليل حياة السيدة عائشة على ضوء الكتاب و السنّة و التاريخ الصحيح لا يعد سباً بل يعد فهماً للتاريخ و تعرفاً على الصحابيات عن كثب.

إنّ الذكر الحكيم قد تعرض إلى بعض أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قال في حقهما: «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ» 1 .

فمن يُضفي على أُمهات المؤمنين ثوبَ العصمة فعليه دراسة هذه الآية بإمعانٍ بما لها من سببٍ للنزول.

إنّ أوّل من روّج سبّ الصحابة هو معاوية بن أبي سفيان.فقد أمر بسبّ أوّل المؤمنين إسلاماً و إيماناً و أخا رسول اللّه علياً حتى سُبّ على صهوات المنابر بأمره قرابة ستين سنة و مع ذلك كلّه هو صحابي يدعى له كلما ذكر ب-رضى اللّه عنه-.فما هذا التناقض في حياة الصحابة يا ترى؟!

و تبرير أفعال السابّين بالاجتهاد أشبه بالمهزلة،أ فيصح الاجتهاد مع وجود الدليل القاطع؟ ما هذا الاجتهاد الذي يُبيح إراقة دماء آلاف من المسلمين في حروب الناكثين و القاسطين فما قيمة صحابي أو صحابية أثار أو أثارت فتنة قُتِل فيها الأبرار من الصحابة و التابعين.

و النبي الأعظم أعرف من كل الناس بصحابته و مكانتهم من الأمانة و الديانة فها هو يحدثنا عن حالاتهم يوم القيامة:

روى أبو حازم عن سهل بن سعد قال:قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّي فُرَطُكم (1)على الحوض من ورد شرب،و من شرب لم يظمأ أبداً و ليردنّ علي أقوام أعرفهم و يعرفوني

ص:157


1- 2) .الفُرَط:المتقدم قومه إلى الماء و يستوي فيه الواحد و الجمع.

ثمّ يحال بيني و بينهم...»قال أبو حازم:فسمع النعمان بن أبي عياش و أنا أُحدثهم بهذا الحديث فقال:هكذا سمعت سهلاً يقول، فقلت:نعم قال:و أنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيقول:«إنّهم مني»فقال:إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول:«سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي».أخرجه البخاري و مسلم (1).

و ظاهر الحديث أنّ المراد بقرينة«بدّل بعدي»أصحابه الذين عاصروه و صحبوه و بقوا بعده مدة ثمّ مضوا.أخرج البخاري و مسلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي-أو قال من أُمّتي-فيحلئون عن الحوض فأقول:يا ربِّ أصحابي،فيقول:إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك انّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى (2).

ثمّ قال:و للبخاري:إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة،حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني و بينهم فقال:هلم.فقلت:أين؟ فقال:إلى النار و اللّه،فقلت:ما شأنهم؟ قال:إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى،ثمّ إذا زمرة أُخرى،حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني و بينهم فقال لهم:هلم.فقلت إلى أين؟ قال:إلى النار و اللّه،قلت:ما شأنهم؟ قال:إنّهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلّا همل النعم» (3).

و ظاهر الحديث بقرينة«حتى إذا عرفتهم»و قوله:«ارتدوا على أدبارهم القهقرى»أنّ الذين أدركوا عصره و كانوا معه هم الذين يرتدون بعده.

ص:158


1- 1) .جامع الاُصول لابن الأثير: 120/11،كتاب الحوض في ورود الناس عليه،رقم الحديث 7972.
2- 2) .جامع الاُصول:120/11 رقم الحديث 7973.
3- 3) .جامع الاُصول:121/11،و«همل النعم»كناية عن أنّ الناجي عدد قليل،و قد اكتفينا من الكثير بالقليل و من أراد الوقوف على ما لم نذكره فليرجع إلى«جامع الاُصول».

31.يقول:«يؤمن جمهور الاثني عشرية بالمصحف الذي بين يدي المسلمين و يعتقد بعض غلاتهم أنّ الإمام علياً كرم اللّه وجهه و السيدة فاطمة الزهراء-رضي اللّه عنها-كان لهما مصحف يخالف هذا المصحف المتواتر بين المسلمين...».

مناقشتنا:

انّ جمهور الشيعة الإمامية يعتقدون بصيانة القرآن عن التحريف كما اعترف به الكاتب و أمّا ما نَسب إلى بعضهم فقد أخطأ فيه من وجهين:

ألف-انّ القرآن الذي قام عليٌّ بجمعه هو نفس ذلك القرآن و لكن يختلف معه في ترتيب السور فقد جمع الإمام الذكر الحكيم حسبَ تاريخ النزول و هذا أمر مشهور بين المفسرين.

ب-و أمّا المصحف المنسوب إلى السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام فلا يراد به القرآن بل المصحف بمعنى الكتاب و هو ما حدّثتها به الملائكة من الحوادث المستقبلية و كتبه علي عن لسانها.فالمصحف بمعنى القرآن مصطلح متأخر و هو في عصر النزول بمعنى مطلق الكتاب،يقول سبحانه: «وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ» 1 و الإمام الصادق عليه السلام يصف مصحف فاطمة و يقول:«و اللّه ما فيه من قرآنكم حرف واحد» (1).

و نحن بدورنا نتقدم بالشكر إلى الكاتب لأنّه لم ينسب التحريف إلى جمهور الإمامية كما فعله بعض المغفلين من الكُتّاب الجدد، و لكن يجب اضافة هذه النكتة انّه ليس كل من قال بالتحريف فهو غال و إنّما هو مخطئ في تلك الفكرة التي

ص:159


1- 2) .الكافي:239/1 باب ذكر الصحف و مصحف فاطمة. [1]

تضاد الذكر الحكيم حيث تكفل اللّه تعالى بحفظ القرآن،و قال: «إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ» 1 .

فليس القول بالتحريف ملازماً للغلو هذا هو الإمام البخاري ينقل عن عمر بن الخطاب سقوط آية الرجم من القرآن الكريم (1).و قد روي انّ السيدة عائشة تقول:إنّ سورة الأحزاب كانت مائتي آية (2).

و لما كانت هذه الروايات تمس كرامة القائلين بالتحريف راحوا يؤوّلونها بأنّها من باب نسخ التلاوة.فإذا كان هذا التأويل صحيحاً فليكن صحيحاً في ما يقوله بعض الشواذ من الشيعة.

32.يقول:«و يقصدون بالتقية أن يظهر الانسان خلافَ ما يُبطن...فالشيعي يتصرف بين خصومه كما لو كان يدين بعقيدتهم.و قد بدءوا العمل بهذا المبدأ منذ القرن الرابع الهجري،و قد يصل العمل بهذه التقية إلى حد استباحة الكذب و النفاق...و مع هذا فانّهم ينسبونها إلى أئمّتهم بل يرفعونها إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فيما زعموا،مع أنّه صلى الله عليه و آله و سلم-و أبناءه من علماء أهل البيت-كانوا أبعد الناس عن التقية و كانوا من الشجاعة و الاقدام بحيث يتحملون المشاق الناجمة عن مواقفهم و آرائهم بلا خوف أو تردد».

مناقشتنا:

انّ الكاتب خلط بين النفاق و التقية،و النفاق اظهار الإيمان و ابطان الكفر،

ص:160


1- 2) .صحيح البخاري:208/8-211،باب رجم الحبلى؛و راجع صحيح مسلم:167/4 و 116/5،و مسند أحمد:23/1 و 132/5 و 183،و سنن أبي داود،الحدود:23و....
2- 3) .الجامع لأحكام القرآن،القرطبي في مقدمة تفسير سورة الأحزاب.

و التقيّة على خلافه فهي عبارة عن اظهار الكفر و ابطان الإيمان.و شتان ما بينهما.

إنّ التقية سلاح الضعيف في مقابل القويّ الغاشم.سلاحُ من يبتلى بمن لا يحترم دمه و عرضه و ماله،لا لشيء إلّا لأنّه لا يتفق معه في بعض المبادئ و الأفكار.انّما يمارس التقيّة من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول و العمل و الرأي و العقيدة فلا ينجو المخالف إلّا بالصمت و السكوت مرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة و أفكارها و ربّما يتظاهر بموافقة السلطة لأجل أن ينجي مؤمناً كما كان عليه مؤمن آل فرعون.

فإذا كان هذا مفهوم التقيّة و عللها فهو مما يبرّره و يمضيه الشرع في غير واحد من آياته.

قال سبحانه: «مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» 1 .

و قال سبحانه: «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» 2 .

و قد فسرت الآيتان بالتقية:

قال جمال الدين القاسمي:«استنبط الأئمة مشروعية التقية عند الخوف،و قد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه ايثار الحق على الخلق» (1).

و مورد الآيات و إن كان هو التقية في مقابل الكافر و لكن العلماء فهموا المعنى العام حتى في مقابل المسلم الظالم.

ص:161


1- 3) .جمال الدين القاسمي،محاسن التأويل:82/4. [1]

قال الرازي ناقلاً عن الإمام الشافعي:«إنّ الحالة بين المسلمين،إذا شاكلت الحالة بين المسلمين و الكافرين حلت التقية محاماة عن النفس» (1).

انّ الشيعة و السنّة يتقون الكفار لصيانة النفس و النفيس غير أنّ الشيعي ربّما يتقي أخاه المسلم لا لتقصير أو قصور في الشيعي بل لخوفه بطش أخيه الذي دفعه إلى ذلك لأنّه يدرك أنّ الفتك و القتل مصيره إذا ما صرح بمعتقده الذي هو موافق عنده للدليل و البرهان.

إنّ الشيعي يتحاشى أن يقول:إنّ اللّه ليس له جهة،و لا يُرى يوم القيامة و انّ المرجعية العلمية و السياسية لأهل البيت بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أنّ حكم المتعة غير منسوخ و ذلك لأنّه إذا صرح بمعتقده فقد عرّض نفسه و نفيسَه للمهالك و المخاطر.

قال جمال الدين القاسمي:«و زاد الحق غموضاً و خفاءً،خوف العارفين مع قلتهم من علماء السوء و سلاطين الجور،و شياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن و اجماع أهل الإسلام.و ما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق و ما برح المحقّ عدواً لأكثر الخلق و قد صح عن أبي هريرة،انّه قال:في ذلك العصر الأول:حفظتُ من رسول اللّه وعاءين أمّا أحدَهما فبثثته في الناس و أمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم» (2).

و من وقف على الظروف العصيبة التي مرّت بها الشيعة وجد المبرر الكافي لاعمالهم التقية صيانة لوجودهم و كيانهم فلو كان في التقية غضاضة فهي تتوجه على من حمَل الشيعة على التقية.

ص:162


1- 1) .الرازي،مفاتيح الغيب:13/8 [1] في تفسير الآية.
2- 2) .جمال الدين القاسمي،محاسن التأويل:82/4. [2]

33.يقول:«يقول بعض الغلاة بأنّ اللّه سبحانه يبدو له أحياناً غير الذي أراده فيرجع عن ارادته الاُولى إلى الذي بدا له...و لكن الاثني عشرية و إن قالوا بالبداء فهم يفسرونه بمثل ما قال به أهل السنّة من قضاء مبرم و قضاء معلق».

مناقشتنا:

انّ مسألة البداء من المسائل التي كان يُتَحامل بها على الشيعة،و ذلك لأنّ أهل السنّة يزعمون أنّ الشيعة يقولون بمقالة الغلاة (لو صحت النسبة إليهم) و لأجل ذلك ترى أنّ علماءهم يتحاملون على الشيعة في كتبهم الكلامية و التفسيرية بالبداء،و نحن نشكر الكاتب حيث خطا خطوة مباركة بتفسيره البداء تفسيراً صحيحاً.

و قد ورد البداء بهذا المعنى في كتب أهل السنّة حتى في صحيح البخاري في حديث الأبرص و الأقرع و الأعمى حيث ينقل عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم،انّه قال:«بدا للّه أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً الخ» (1).

و واقع البداء هو عبارة عن تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة.و هو من ضروريات الإسلام و الذكر الحكيم.

قال سبحانه: «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» 2 .

فالقول بالبداء على طرف النقيض مما يزعم به اليهود قائلين: «يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ» 3 كما انّ الكاتب أمعن النظر و وصل إلى الحق في قضية

ص:163


1- 1) .صحيح البخاري:171/4،باب ما ذكر عن بني اسرائيل من كتاب بدء الخلق.

البداء،فالمرجو أن يمعن النظر فيما نقدمه إليه في هذا الكراس لكي يرى أنّ و جهات نظرنا معه في أكثر مواضيع العقيدة و الأحكام متقاربة.

34.و يقول في حق زواج المتعة:«هو الزواج لمدة محدودة و كان الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قد أباحه في بدء البعثة ثمّ حرمه تحريماً مؤبداً بعد ذلك و ثبت ذلك عنه كما حرمه الإمام علي بن أبي طالب أيضاً و عمل الإمام حجة ملزِمة عند الشيعة».

مناقشتنا:

إنّ الكاتب لا يملك المعرفة التامة حول زواج المتعة و اكتفى بقوله«الزواج لمدة محدودة»و واقعه:عبارة عن تزويج المرأة الحرة الكاملة نفسها،إذا لم يكن بينها و بين الزوج مانع من نسب أو سبب أو رضاع أو احصان أو عدة أو غير ذلك من الموانع الشرعية بمهر مسمى إلى أجل مسمى بالموافقة و الاتفاق.فإذا انتهى الأجل تبين الزوجة عنه من غير طلاق و يجب عليها مع الدخول بها-إذا لم تكن يائسة-أن تعتد عدة الطلاق إذا كانت ممن تحيض و إلّا فبخمسة و أربعين يوماً،و ولد المتعة ذكراً كان أو انثى يلحق بهما و يرثهما كما يرثانه حسب ما أوصانا اللّه سبحانه به في كتابه العزيز و تشمله جميع العمومات الواردة في الآباء و الأبناء والاُمهات و الإخوة و الأخوات و الأعمام و العمات.

و قد اتفق المسلمون على أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم شرع زواج المتعة بعد الهجرة حتى أنّ مُعظم المفسرين قالوا بنزول قوله سبحانه: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» 1 في متعة النساء.

ص:164

و إنّما اختلفوا في نسخه و عدمه.فالشيعة الإمامية قالوا ببقائه على حكمه،و أهل السنّة ذهبوا إلى كونه منسوخاً و هذه مسألة فقهية لا تمس إلى العقائد بصلة،و إنّما أوردها الكاتب للازدراء بالشيعة،لكنه غفل عن النكات التالية:

الف-أنّ تشريع المتعة دليل على كمال الدين و تمام النعمة على الاُمة لأنّه حلٌّ شرعي لأزمةٍ جنسية تهدد دين الشباب و الفتيات بالخطر.فلنفترض أنّ طالباً يدرس في الغرب و له من الشبق الجنسي ما لا يتركه ليلاً و نهاراً و الذي يطلب غايته فأمامه طرق أربعة:

1- أن يتزوج نكاحاً دائماً و أنّى له ذلك إذ ليس له من المال و الامكانيات ما تفي بذلك مضافاً إلى أنّه ربّما لا يرغب الاقامة في ذلك البلد و إنّما يريد الرجوع إلى وطنه و التزوج هناك من بنات بلده.

2- أن يكبح جماح الشهوة و هو و إن كان أمراً حسناً و آية للتقوى لكنه لا يقوم به إلّا الأمثل فالأمثل و ليس كل طالب على تلك الدرجة من العفاف.

3- أن يتردد إلى بيوت الدعارة و هذا ما تمنعه منه كرامته و عزة نفسه و دينه.

4- أن يتزوج نكاحاً موقتاً على الشرائط المذكورة.

إذ ليس هناك طريق خامس حتى يكون حلاً للأزمة.

أو لسنا نقول إنّ التشريع الإسلامي أغنانا عن كل تشريع بشري،فعندئذ نسأل ما هو الحل الإسلامي لهذه المشكلة؟ و لا شك أنّ الحل منحصر بما قام به التشريع الإلهي في قرآنه و سنته.

ب-انّ أهل السنّة و إن كانوا ينكرون حلّية المتعة بقاءً و لكنهم يقولون بها بصورة أُخرى و قد أفتوا بصحة الزواج الدائم بنيّة الطلاق بعد مدّة و هذا نفس المتعة مادة و معنى،و إن كان يختلف عنها صورة بل المتعة أفضل من هذا النوع من

ص:165

الزواج.لأنّ فيه خداعاً و تزويراً لا يوجد في المتعة.

ج-و الذي لا ينقضي منه عجبي انّ الكاتب يقول«و كان الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قد أباحه في بدء البعثة»،مع أنّ أقوالهم تنفي ذلك.لأنّهم يقولون:

أُبيحت ثمّ نهي عنها عام خيبر.

ما أُحلّت إلّا في عمرة القضاء.

كانت مباحة و نهي عنها في عام الفتح.

أُبيحت عام أوطاس ثمّ نهي عنها.

ثمّ إنّ سورة النساء مدنية و حكم المتعة جاء في تلك السورة فكيف يصح القول بأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أحلها في بدء البعثة؟ على أنّ في بدء البعثة لم يكن هناك أي تشريع مدني حتى تصل النوبة إلى زواج المتعة.

د-و العجب أيضاً أنّه يقول إنّ الإمام علياً عليه السلام حرّمه مع أنّ المنقول عن الإمام عليه السلام انّه قال:«لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شقيّ»و قد أخرجه الطبري بأسانيده (1).

نعم،أوّل من نهى عنه هو عمر بن الخطاب.

روى مسلم في صحيحه عن ابن أبي نضرة،قال:كان ابن عباس يأمر بالمتعة.و كان ابن الزبير ينهى عنها.فذكر ذلك لجابر فقال:

على يدي دار الحديث،تمتعنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،فلما قام عمر،قال:إنّ اللّه كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء،فاتموا الحجَّ و العمرة و أبتوا نكاح هذه النساء فلأن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجلٍ إلّا رجمته بالحجارة» (2).

ص:166


1- 1) .تفسير الطبري:9/5. [1]
2- 2) .صحيح مسلم:130/4،باب نكاح المتعة،الحديث 8،ط:محمد علي صبيح؛و مسند أحمد:52/1. [2]

و هناك نصوص أُخرى طوينا الكلام عن نقلها و كفاك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين.قال:«نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و لم ينزل قرآن يحرمها و لم ينه عنها حتى مات.قال رجل برأيه ما شاء» (1).

و قد تضافر النقل عن عمر،انّه قال:متعتان كانتا في زمن النبي حلالاً و أنا أُحرمهما و أُعاقب عليهما.

35- يقول حول يوم عاشوراء:«يقوم عوام الشيعة بضرب ظهورهم بالسلاسل حتى يدموها،و ضرب أجسادهم بالسيوف حتى يقطعوها حزناً على استشهاد الحسين،و فقده،و تطهراً من مسئولية خذلانه».

مناقشتنا:

كان على الكاتب أن يشير إلى عظمة يوم عاشوراء و ما كان عليه سيد أهل الإباء الذي علّم الناسَ الحميّة،و الموتَ تحت ظلال السيوف اختياراً له على الدنية.و قد عُرِض عليه الأمان،فأبى الذل و اختار الموت على ذلك.

إنّ ثورة الحسين منذ تفجرها صارت أُسوة و قدوة للمضطهدين على وجه البسيطة و المعذبين تحت نير الطغاة،و للمعانين من حكومات الجور و العسف في الأوساط الإسلامية و انحراف الدول و الحكومات عن خط العدل و الاقتصاد.

لقد لمس الثائرون أنّ ثورة الحسين كانت ثورة مبدئية إلهية،لأجل صيانة الدين عن التحريف و المجتمع عن الانحراف و الاعتساف،فهذه الغاية دفعت

ص:167


1- 1) .صحيح البخاري:27/6،كتاب التفسير،تفسير قوله تعالى:«فمن تمتع بالعمرة إلى الحج...»من سورة البقرة.

الإمام إلى الثورة و التضحية بشيخه و كهله و شابّه و طفله الرضيع حتى يتبين عمقُ الثورة فلما كانت ثورة الحسين ثورة منهجية نابضة،فالشيعة بمواكبها و مظاهراتها يوم عاشوراء تريد أن يَبقى المنهج حيّاً غضّاً مثمِراً عبر القرون.

نعم يجب أن تكون المواكب و المظاهرات موافقة للاُصول و الموازين الشرعية.و هذا ما أهاب به غير واحد من علمائنا.

و لكن يا للأسف أنّ بعض الجهلة،أعداء أئمّة أهل البيت،حَمَلَة النزعة الأمويّة،شنوا هجوماً شنيعاً على المواكب الحسينية أسفر عنه قتل الأبرياء من محبي أئمة أهل البيت عليهم السلام و هؤلاء هم أعداء الرسول و آله و بما أنّهم لا يتجرّءون على إظهار العداوة و البغضاء لصاحب الرسالة و أهل بيته لذا يوجّهون سهام حقدهم إلى شيعتهم و محبيهم.و هناك من يجد في نفسه الجرأة فيضيف إلى سب الشيعة و قتلهم،سب و قتل أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم من غير اكتراث و قد قتل بنوا أُمية السبط الحسين عليه السلام تشفياً لغليل قلوبهم من قتل آبائهم الكافرين في بدر و أُحد و ها هو يزيد الكافر يتشدق بهذه الأبيات و يقول: ليت أشياخي ببدر شهدوا

36.يقول حول الخمس:«يرى الاثنا عشرية وجوب دفع الخمس من دخل كل اثني عشري في كل عام إلى مراجع المذهب...

و هم يرون ذلك بديلاً عن الزكاة،و في بعض المجتمعات التي فرضت فيها الزكاة الشرعية بحكم القانون-كباكستان-رفض الاثنا عشرية دفعها للدولة بسبب دفعهم هذا الخمس إلى مراجعهم الدينية الخاصة».

ص:168

مناقشتنا:

الشيعة تعتقد بأنّ الغنيمة الواردة في قوله سبحانه: «وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 1 .عامة لكل ما يفوز به الانسان سواء كان في ساحة الحرب أو غيرها.

قال الأزهري:«الغنم،الفوز بالشيء و الاغتنام،انتهاز الغنم» (1).

قال الراغب:الغنم معروف و الغُنم اصابته و الظفر به،ثمّ استعمل في كل مظفور به من جهة العدي و غيرهم.قال: «وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ» ، «فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً» 3 المغنم:ما يغنم و جمعه مغانم.قال: «فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ» 4.

إلى غير ذلك من النصوص لأهل اللغة المعربة عن كون المادة موضوعة لأوسع مما يفوز به الانسان في ساحات الحروب،حتى انّه سبحانه يستعمله في المغانم الاخروية قال تعالى: «فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ» و قد استعملت المادة في الحديث النبوي في المعنى الأعم.

روى ابن ماجة في سننه،انّه جاء عن رسول اللّه:«اللهم اجعلها (الزكاة) مغنماً و لا تجعلها مغرماً» (2).

و نزول الآية في الغنائم الحربية لا يكون مخصصاً،و لأجل ذلك لا يختص الخمس عند أهل السنّة بما يفوز به الانسان في الحروب.

ص:169


1- 2) .تهذيب اللغة،مادة غنم.
2- 5) .سنن ابن ماجة،كتاب الزكاة،باب ما يقال عند اخراج الزكاة،الحديث 1797.

ففي مسند أحمد و سنن ابن ماجة،و اللفظ للأوّل عن ابن عباس،قال:«قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الركاز الخمس» (1).

و قد تضافر هذا الحديث في غير واحد من المجاميع الحديثية.

و أمّا أرباح المكاسب فقد ذهبت الشيعة فيها إلى لزوم اخراج الخمس اقتداءً بأئمّة أهل البيت،و قد ورد اخراج الخمس فيها في روايات أهل السنّة،و إليك بعض ما ورد:

لما وفد عبد القيس إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قالوا:إنّ بيننا و بينك المشركين و إنّا لا نصل إليك إلّا في الأشهر الحرم فمرنا بجمل الأمر،ان عملنا به دخلنا الجنّة و ندعو إليه من ورائنا.فقال:«آمركم بأربع و أنهاكم عن أربع:

آمركم بالإيمان باللّه و هل تدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أقام الصلاة و ايتاء الزكاة و تؤتوا الخمس من المغنم» (2).

و من المعلوم أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يطلب من بني عبد القيس أن يدفعوا غنائم الحرب كيف و هم لا يستطيعون الخروج من أحيائهم في غير الأشهر الحرم خوفاً من المشركين فيكون المراد أن يدفعوا خمس ما يفوزون به و يربحونه.

و هناك روايات أُخرى تدلّ على لزوم دفع خمس كل ما يفوز به الانسان تركنا ذكرها للاختصار.

فمن أراد التوسع فليرجع إلى كتابنا«الاعتصام بالكتاب و السنّة»ص 100-105.

فما ذنب الشيعة إذا عملت بروايات رواها اخوانهم أهل السنّة،و تركهم

ص:170


1- 1) .مسند أحمد:304/1، [1]سنن ابن ماجة:839/2 ط:1373.
2- 2) .صحيح البخاري:160/9،باب«و اللّه خلقكم و ما تعملون»من كتاب التوحيد.

العمل بها لا يكون مبرراً لترك غيرهم الذين قامت الحجة عندهم على لزوم دفع الخمس.

فما ذكره من أنّ الشيعة يرون الخمس بديلاً عن الزكاة فهو كذب و افتراء و هذه مئات الكتب الفقهية التي جاء فيها الخمس تالياً للزكاة.

و ما نقله عن بعض المجتمعات-على فرض الصحّة-لا يكون دليلاً على أنّ منعهم يمت إلى المذهب بصلة،و ما علّلوا به من أنّهم يدفعون الخمس إلى مراجعهم الدينية غطاء و واجهة للمنع.و السبب الواقعي للمنع عبارة عن أنّ للزكاة مصارف معيّنة عند الشيعة و هم يعلمون أنّ الحكومات لا تصرفها في مصارفها الواقعية لعدم التزام أصحاب السلطة بالعمل بالواقع غالباً.

37.يقول:«و قد أحدثت الاثنا عشرية في الصلاة أُموراً منها«السجود على التربة الحسينية»ذلك لأنّهم يقدسون تراب مدينة كربلاء (النجف) التي استشهد فيها الإمام الحسين بن علي رضي اللّه عنهما فلا يكاد يخلو بيت من بيوت الشيعة من تلك التربة.و من مظاهر تقديسهم لها أنّهم يقومون بالسجود عليها و تقبيلها و التبرك بها،بل و أكل قليل منها للشفاء على الرغم من أنّ الفقه الشيعي يحرم أكل التراب كما يصنعون من هذه التربة أشكالاً مختلفة يحملونها في سفرهم و يسجدون عليها في صلواتهم التماساً للقبول و البركة».

مناقشتنا:

انّه سبحانه هو المسجود له و الأرض و ما ينبت منها عند الشيعة هو المسجود عليه،فيشترط في فقه الشيعة أن يكون المسجود عليه هو مطلق الأرض أو ما أنبتته مما لا يؤكل و لا يلبس،و لا تشترط في صحة الصلاة،السجود على التربة الحسينية

ص:171

أخذاً بالمتضافر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«جعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً» (1).

و ليس المراد من الأرض كل ما يداس حتى يعم الفرش و السجاد بل المراد هو التراب و الحصى و الحجر و ما أشبهها و ذلك لأجل قوله صلى الله عليه و آله و سلم«و طهوراً»،بمعنى مطهراً من الحدث و من المعلوم أنّه لا يجوز التيمم إلّا على الصعيد الطيب.كما قال سبحانه: «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» 2 و هو الأرض لا كل ما يُداس.

و هناك روايات تدل على أنّ السيرة في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم كانت جارية على السجود على التربة لا على الثياب و لا على الفرش.

روى جابر بن عبد اللّه الأنصاري،قال:كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم الظهر فآخذ قبضة من الحصى فأجعلها في كفي ثمّ أحولها إلى الكف الأُخرى حتى تبرد ثمّ أضعها لجبيني حتى أسجد عليها من شدّة الحر (2).

يقول البيهقي معلقاً على الحديث:قال الشيخ:و لو جاز السجود على ثوب متصل به لكان أسهل من تبريد الحصى بالكف و وضعها للسجود.

و نقول:لو جاز السجود على مطلق غير الأرض سواء أ كان متصلاً أم منفصلاً كالمناديل لما وصلت النوبة إلى تبريد الحصى.

روى الحسن،قال:كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في شدّة الحر فيأخذ أحدنا الحصباء في يده،فإذا برد،وضعه و سجد عليه (3).

و هناك روايات أُخرى تدل على هذا الأمر.

فعن خالد الجهني قال رأى النبي صُهيباً يسجد كأنّه يتقي التراب،فقال

ص:172


1- 1) .صحيح البخاري:191/1،كتاب التيمم،الحديث 2.
2- 3) .سنن البيهقي:439/1،مسند أحمد:327/3. [1]
3- 4) .سنن البيهقي:105/2،باب الكشف عن الجبهة.

له:ترّب وجهك يا صهيب (1).

روت أُم سلمة:رأى النبي غلاماً لنا يقال له أفلح ينفخ إذا سجد،فقال:يا أفلح،ترّب (2).

و هناك قسم ثالث من الروايات نرى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فيها يحسر العمامة عن جبهة المصلي لكي لا يسجد عليها.

روى صالح بن حيوان السباعي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رأى رجلاً يسجد بجنبه و قد اعتم على جبهته.فحسر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن جبهته (3).

و ما ذكرناه غيض من فيض.

إنّ الشيعة لا يلتزمون بكون التربة التي يسجد عليها لا بد أن تكون من تربة كربلاء،بل يسوغون السجود على التربة من أي مكان كانت.

نعم يستحب أن يكون المسجود عليه من تربة كربلاء و ذلك لأنّ تلك التربة عجنت بدم المجاهد الشهم أبي الشهداء الحسين بن علي عليه السلام الذي ضحى بنفسه و نفيسه من أجل كسر جبروت الطواغيت و احياء الإسلام.

و أمّا الالتزام باتخاذ تربة طاهرة طيبة في البيوت فسببه عدم تمكّن المصلي من السجود في جميع الأمكنة على الأرض الطيبة.

لأنّ البيوت و المساجد مفروشة غالباً فلا مناص من اتخاذ أقراص ترابية طاهرة يتمكن من السجود عليها.

و هذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح و إن غفل التاريخ عن نقلها فقد روي:أنّ التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع المتوفى عام 62 كان

ص:173


1- 1) .كنز العمال:465/7 و 459.
2- 2) .كنز العمال:465/7 و 459.
3- 3) .سنن البيهقي:105/2.

يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها.كما أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنّف،باب من كان حمل في السفينة شيئاً يسجد عليه.فأخرج باسنادين أنّ مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها (1).

38.ثمّ إنّ الكاتب ختم المقال بالنشاط السياسي الأخير للشيعة و انتهى كلامه إلى القول بولاية الفقيه بمفهومه السياسي و نقل عمن يزعم أنّ ولاية الفقيه ليست من مسلمات المذهب و أنّ الأقرب إلى موقف الأئمّة هو تقديم وحدة الاُمّة على مسائل الإمامة....

مناقشتنا:

انّ من مفاخر الشيعة الإمامية انّهم قاموا بتشكيل دولة إسلامية وسط أجواء سادها العداء السافر للدين و اعلان انتهاء عصر الحياة الدينية.

فأثبتوا بعملهم هذا أنّ الإسلام دين صالح للماضي كما هو صالح للحال و المستقبل و انّه لم ينته عصر الدين و انّ الجوهر الديني له جذور راسخة لا يقهر أمام تلك التيارات المادية.

و أمّا مسألة ولاية الفقيه فالبحث عنها لا يناسب هذا الكراس و اجمال القول فيها:أنّ الحكومة الإسلامية حكومية الهية منهجية لا يليق بادارتها إلّا الحاكم الإلهي العارف بالكتاب و السنّة و الواقف على حاجات الاُمّة و القادر على تطبيق الأحكام الشرعية على الساحة الاجتماعية و ليس هو إلّا المجتهد العارف بالإسلام،المعبر عنه بالفقيه و يعبر عن صلاحيته الشرعية لإدارة شئون المجتمع،بولاية الفقيه، و ليس ذلك بدعاً فانّ هناك جماعة من أهل السنّة يشترطون في الحاكم الاجتهاد و العرفان بالكتاب و السنّة.

ص:174


1- 1) .ابن أبي شيبة،المصنف:400/1. [1]

و العجب أنّ الكاتب زعم أنّ ولاية الفقيه تزاحم وحدة الاُمّة مع أنّ ولاية الفقيه سلطة في يد الفقيه يمكنه استخدامها في سبيل تأليف الاُمّة و جمع كلمتهم و لمّ شملهم،فها نحن نرى أنّ قائد الجمهورية الإسلامية في إيران قام بتأسيس المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.و الذي قام باصدار مجلة تحت عنوان:«رسالة التقريب».

فهل كانت ولاية الفقيه مضادّة لوحدة الاُمّة يا ترى؟!

هذا غيض من فيض و قليل من كثير ذكرناه لإيقاف الكاتب على الهفوات و الأخطاء الواضحة في كلامه و فيه عبرة لمن يأخذ بالقلم و يكتب عن الشيعة بلا مراجعة مصادرهم.

هذه التعاليق الموجزة ربما تثير حفائظ من لا يحب وحدة الكلمة و اتفاق الامة لكنّها تقع موقع القبول ممن يحبّ تقريب الخُطى و تقارب المسلمين في الوقت الذي يئن المسجد الأقصى أُولى القبلتين و مسرى سيد الثقلين من وطأة الصهاينة.

و في نهاية المطاف نحن على استعداد لإرسال مقال حول الفرقة الاثني عشرية يتضمّن تاريخ نشوئها و الاُصول التي تتبنّاها، و الفروع التي تدين بها،و الخدمات التي قدّمتها إلى الاُمّة و تُبيّن مساهماتها في بناء الحضارة الإسلامية.

و الحمد للّه على ما هدانا.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

10 صفر المظفّر عام 1417

ص:175

ص:176

الرسالة الثالثة:الدفاع عن الحقيقة

اشارة

الغاية من كتابة هذا المقال هو الدفاع عن حقيقة واضحة كتمها كاتب باسم جبرين في السعودية في جوابه على سؤال شخص سأله عن حلية ذبائح الشيعة و طعامهم،فأجاب بما تقرءونه في رسالته المختصرة.

و لما كانت الرسالة قاسية بمكان و بعيدة عن أدب الإسلام و روحه معربة عن جهله بأُصول الإسلام و فروعه و ما أطبق عليه أئمّته في مجال الإسلام و الإيمان،قمنا بتأليف هذه الرسالة،و بعثنا بها إلى السعودية،لتنشر هناك كي يقف المسلمون على الخطط التي يحيكها الاستعمار بغية زرع بذور التفرقة في أوساطهم.

***

لا يشك أيّ ذي مسكة إلى ضرورة توحيد الصفوف و رصّها للحفاظ على كيان الإسلام و المسلمين و مواجهة المؤامرات الخطيرة في الوقت الذي يتحالف فيه أعداء الإسلام،للقضاء على الصحوة الإسلامية الصاعدة...من خلال إثارة النعرات الطائفية التي تهدف إلى شق العصا و تفريق الصفوف،و الحيلولة دون تقارب طوائف المسلمين لتحقيق الوحدة المطلوبة التي يخشاها المستعمرون،و يرهبها أعداء الإسلام من الصهاينة و الصلبيّين الجدد.

ص:177

نرى أنّ رجلاً يعد نفسه فقيهاً مفتياً يقوم بتكفير طائفة كبيرة من المسلمين.لهم جذور في التاريخ،و خدمات جليلة في الحضارة الإسلامية.و يجيب على سؤال بعثه إليه رجلٌ مجهول الاسم و الهوية،و إليك السؤال و الجواب:

السؤال:

يوجد في بلدتنا شخص رافضي يعمل قصاب (1)،و يحضره أهل السنّة كي يذبح ذبائحهم.و كذلك هناك بعض المطاعم تتعامل مع هذا الشخص الرافضي و غيره من الرافضة الذين يعملون في نفس المهنة..فما حكم التعامل مع هذا الرافضي و أمثاله؟ و ما حكم ذبحه و هل ذبيحته حلال أم حرام؟ أفتونا مأجورين،و اللّه ولي التوفيق.

الجواب:

و عليكم السلام و رحمة اللّه و بركاته.

و بعد فلا يحل ذبح الرافضي،و لا أكل ذبيحته فإنّ الرافضة غالباً مشركون،حيث يدعون علي بن أبي طالب دائماً في الشدة و الرخاء،حتى في عرفات و الطواف و السعي،و يدعون أبناءه و أئمتهم كما سمعناهم مراراً.و هذا شرك أكبر،وردة عن الإسلام يستحقّون القتل عليها كما هم يغالون في وصف علي-رضي اللّه عنه-،و يصفونه بأوصاف لا تصلح إلّا للّه،كما سمعناهم في عرفات،و هم بذلك مرتدّون حيث جعلوه ربّاً و خالقاً و متصرّفاً في الكون و يعلم الغيب و يملك الضر و النفع،و نحو ذلك كما أنّهم يطعنون في القرآن الكريم، و يزعمون أنّ الصحابة حرّفوه،و حذفوا منه أشياء كثيرة متعلّق بأهل البيت و أعدائهم.فلا يقتدون به و لا يرونه دليلاً.

ص:178


1- 1) .هكذا وردت في نص سؤال السائل و الصحيح (قصاباً) لكونها حال.

كما أنّهم يطعنون في أكابر الصحابة كالخلفاء الثلاثة و بقية العشرة و أُمهات المؤمنين.فمشاهير الصحابة كأنس و جابر و أبي هريرة و نحوهم فلا يقبلون أحاديثهم لأنّهم كفّار في زعمهم،و لا يعملون بأحاديث الصحيحين إلّا ما كان عن أهل البيت و يتعلّقون بأحاديث مكذوبة و لا دليل فيها على ما يقولون،و لكنّهم مع ذلك يفتون فيقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.

و يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك.و يقولون من لا تقية له فلا دين له فلا تقبل دعواهم في الآخرة و...الخ.

فالنفاق عقيدة عندهم كفى اللّه شرهم و صلى اللّه على محمد و آله و صحبه و سلم.

جبرين

1412/2/22

هذا هو نص السؤال و الجواب و قبل أن نخوض في الإجابة على ما ساق من التهم على الشيعة.ننبه على أُمور:

1-السنّة الرائجة في الإجابة على الأسئلة الفقهية هو الاقتصار على نفس الفتوى.و كان على المفتي أن يقتصر على تحريم الأكل من دون حاجة إلى التفصيل.و ما جاء به يعرب عن أنّ هناك مؤامرة،و أنّ السؤال و الجواب دبِّرا بليل.فالمقصود إيجاد القلق و إشاعة التهم ضد الشيعة سواء أ صحَّ السؤال أو لا،و هل كان هناك سائل أم لا ؟.

2-إنّ الكلمة التي يستخدمها العوام في التعبير عن هذه الطائفة هو لفظ الشيعة،و أمّا الرافضي و هي كلمة يستخدمها أصحاب المقالات و كتّاب الملل

ص:179

و النحل.فاستخدام كلمة الرافضي بدل كلمة الشيعة يرشدنا إلى أنّ السؤال كان مصطنعاً ممّن لهم ممارسة في تكفير الفرق.

3-سواء أصحت تلك التهم أم لا فقد أسماهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم بشيعة علي بن أبي طالب و قال:إنّ هذا-علي عليه السلام-و شيعته لهم الفائزون،و هم اختاروا لأنفسهم تلك الكلمة.فاستخدام الرافضي في هذا المجال من قبيل التنابز بالألقاب،و هو أمر محرم على كل تقدير.

4-إنّ المجيب يقول:فإنّ الرافضة غالباً مشركون،و هذا يدل على أنّ فيهم موحدين،أو ليس من واجب المفتي أنّ يسأل السائل عن القصاب الذي يذبح ذبائحهم هل هو من الغالب أو من غيرهم،فلا يحكم على البريء بحكم المجرم.و من أدراه أنّ الذي يذبح هو من المشركين؟!

كل ذلك يسوقنا إلى أنّ الهدف لم يكن إرشاد العوام و لا الإجابة على السؤال و إنّما كان الهدف إيجاد البلوى و الشغب و ضرب المسلمين بعضهم ببعض لتصفو المياه للمستعمرين.

إذا وقفت على ذلك فنرجع إلى الإجابة عن التهم الباطلة التي أُجيب عنها عشرات المرات.و نحن نعلم أنّ خلافاً دام قروناً لا يرتفع بهذه الرسالة و أمثالها.غير أنّا نقوم بواجبنا الذي أدلى به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في كلامه المشرق:«اذا ظهرت البدع في أُمتي فليُظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه» (1).و أي بدعة أفظع من تكفير أُمة كبيرة تعد ربع المسلمين أو أكثر و ليس لهم جريمة سوى حب أهل البيت الذين أمر اللّه سبحانه بمودتهم و سوى المشايعة للثقلين الذين أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالتمسك بهما ؟!!

ص:180


1- 1) .الكافي:54/1،باب البدع و الرأي،الحديث 1. [1]

وحدة الأُمة أُمنية النبي صلى الله عليه و آله و سلم الكبرى:

إنّ وحدة الكلمة كانت أُمنية النبي صلى الله عليه و آله و سلم العليا،فقد كان رسول الإسلام محمّد ابن عبد اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يهدف دائماً إلى توحيد المسلمين و يحافظ أبداً على وحدة صفوفهم،و يسعى إلى إطفاء أية نائرة أو ثائرة تهدد هذه الوحدة.

فيوم دخل شاب يهودي مجتمع الأوس و الخزرج الذين جمعهم الإسلام بعد طول نزاع و تشاجر و تقاتل،و أخذ يذكّرهم بما وقع بينهم في عهد الجاهلية،من قتال،فأحيى فيهم الحميّة الجاهليّة حتى استعدّوا للنزاع و الجدال،و كادت نيران الفتنة تثور من جديد بينهم بعد أن أشعلها ذلك اليهودي المتآمر،و تواثب رجلان من القبيلتين و تقاولا،و بلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم،فقال:

«يا معشر المسلمين! اللّه اللّه أ بدعوى الجاهلية و أنا بين أظهركم بعد أن هداكم اللّه بالإسلام و أكرمكم به و قطع عنكم أمر الجاهلية، و استنقذكم من الكفر،و ألّف بين قلوبكم» (1).

فإذا كانت هذه هي أهمية الوحدة في الأُمة الإسلامية فما جزاء من يرفع عقيرته يريد تفريق صفوف المسلمين بفتوى ظالمة مخالفة لنصوص الكتاب العزيز و السنّة المحمدية الشريفة؟ و هو بذلك لا يخدم إلّا القوى الاستعمارية الكافرة المعادية للإسلام و المسلمين إذ لا ينتفع من هذه الفتوى المفرّقة،غيرهم.

ما جزاء هذا المتسمّى باسم أهل العلم المتصدّي لمقام الدعوة و الإفتاء؟ ينبري في وقت أشد ما يكون فيه المسلمون إلى التآخي و التقارب ينجّس و يكفر طائفة كبرى من طوائف المسلمين.فيقول:«لا يحل ذبح الرافضي-و يقصد به

ص:181


1- 1) .السيرة النبوية:250/2. [1]

شيعة الإمام علي عليه السلام من أتباع الإسلام-و لا أكل ذبيحته،فإنّ الرافضة غالباً مشركون حيث يدعون علي بن أبي طالب دائماً في الشدة و الرخاء حتى في عرفات و الطواف و السعي و يدعون أبناءه و أئمتهم كما سمعناهم مراراً و هذا شرك أكبر و ردّة عن الإسلام يستحقّون القتل عليها كما هم يغالون في وصف علي رضي اللّه عنه و يصفونه بأوصاف لا تصلح إلّا للّه كما سمعناهم في عرفات و هم بذلك مرتدّون حيث جعلوه ربّاً و خالقاً و متصرّفاً في الكون»!!

إنّ هذا الرجل يتطاول على شيعة أهل البيت عليهم السلام و يذلقهم بلسان حادّ و يتّهمهم بالشرك و الارتداد بينما هو يسكت و يخرس في قضية سلمان رشدي الذي تجرّأ على رسول اللّه و أُمّهات المؤمنين و أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم و تجاسر عليهم و مسّ كرامتهم،و نال من شرفهم،و لا يشير إلى ارتداد سلمان رشدي،و هو ينشر تلك الترّهات و الإساءات إلى المقدّسات الإسلامية.و ما هذا السكوت إلّا لأنّ أسيادهم يرفضون تكفير رشدي،بينما يتكلّفون خلق الشبهات الباطلة لإلصاقها بشيعة أهل البيت عليهم السلام و تكفيرهم و يغمضون عيونهم عن الحقائق الناصعة التي تحكي إيمانهم الصادق باللّه و رسوله و كتابه و أحكامه و إنّهم صفوة اللّه و رسوله و أهل بيته في رفع شأن هذا الدين و حمل هموم المسلمين و الدفاع عنهم و العمل على ترسيخ وحدتهم على مرّ العصور و الأزمان.

كما أنّ الغاية من هذا التكفير هو التغطية على جريمة السماح باستيطان اليهود و النصارى في أرض مكة و المدينة المقدسة،و بهذا أثبتوا صلتهم بالأجانب المستعمرين.

أجل للتغطية على هذا العار و تحريفاً لأذهان و مشاعر الشعوب الإسلامية الجريحة بسبب تدنيس الأمريكان و حلفاؤهم أرض المقدسات مكة و المدينة،عمد المدعو عبد اللّه بن عبد الرحمن الجبرين إلى تكفير الشيعة و رميهم بالشرك،ليخفي

ص:182

الحقيقة عن المسلمين غافلاً عن أنّ الشعوب الإسلامية قد أصبحت اليوم واعية تميّز بين الحق و الباطل و لم تعد تخفى عليها حقيقة المدعو«جبرين»و نظرائه من مفرّقي الصفوف الإسلامية،تحت غطاء الدفاع عن التوحيد.

و إلّا فما ذنب الشيعة إلّا كونهم موالين لأئمة أهل البيت الذين«أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً».كما فرض في الكتاب مودّتهم و جعلها أجراً للرسالة المحمدية؟!

ما ذنب الشيعة إلّا كونهم أُمة مقاومة للاستعمار البغيض رافضة لخططه الجهنمية،أُمة مجاهدة امتزجت حياتهم بالجهاد و الدفاع عن حياض الإسلام الحنيف...و النبي و آله الكرام.و هو رمز معاداة الكفر لهم.

ما هو ميزان التوحيد و الشرك ؟

لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يكتفي في قبول الإسلام من الذين يريدون الانضواء تحت رايته بمجرّد الشهادة بالوحدانية و استقبال القبلة و الصلاة.

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«من شهد أن لا إله إلّا اللّه و استقبل قبلتنا و صلى صلاتنا و أكل ذبيحتنا فذلك المسلم،له ما للمسلم و عليه ما على المسلم» (1).و قال صلى الله عليه و آله و سلم:«أُمِرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا اللّه و أنّ محمداً رسول اللّه،فإذا شهدوا أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمداً رسول اللّه و استقبلوا قبلتنا و أكلوا ذبيحتنا و صلّوا صلاتنا حرمت علينا دماؤهم و أموالهم إلّا بحقّها» (2).

بهذا كان يكتفي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لإطلاق وصف الإسلام على الأشخاص من

ص:183


1- 1) .جامع الأُصول:158/1.
2- 2) .جامع الأُصول:158/1-159.

دون أن ينبش في أعرافهم الاجتماعية و ممارساتهم التقليدية،عند احترام شخصياتهم و تكريمهم.فما بال المدعو«جبرين» و أضرابه يكفّرون بسهولة أُمة كبيرة من الموحدين المؤمنين بالرسالة المحمدية،التابعين للعترة الطاهرة المجاهدين للكفار و المستعمرين؟ مع أنّهم يشهدون بالوحدانية و الرسالة و المعاد و يصلّون و يصومون و يحجّون و يزكّون.

و هل يحق لهم التكفير و قد نهاهم رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم عن ذلك في أكثر من حديث صحيح تنقله مصادر السنّة و الشيعة:

«كفّوا عن أهل لا إله إلّا اللّه لا تكفّروهم بذنب،فمن كفّر أهل لا إله إلّا اللّه فهو إلى الكفر أقرب».

«من قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله،و من قتل نفساً بشيء عذّبه اللّه بما قتل».

«إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فهو كقتله،و لعن المؤمن كقتله» (1).

هل دعاء الصالحين عبادة لهم و شرك؟

يقول صاحب هذه الفتوى الظالمة الباطلة:إنّ الرافضة مشركون حيث يدعون علي بن أبي طالب دائماً في الشدة و الرخاء.

إنّه يتمسّك بهذه الحجة (أي دعاء الأولياء الصالحين في الشدة و الرخاء) لرمي الشيعة المسلمين المؤمنين بالكفر و الشرك.و هو أكبر حججهم لتكفير عامة المسلمين و ليس خصوص الشيعة و هو لا يدرك أن دعاء الأولياء يقع على وجهين:

الأوّل:دعاء الوليّ و نداؤه بما أنّه عبد صالح تستجاب دعوته عند اللّه إذا طلب منه تعالى شيئاً،و هو شيء أباحه القرآن بل أمر به إذ قال: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ

ص:184


1- 1) .راجع جامع الأُصول:1 و 10 و 11،و كنز العمال للمتقي الهندي1.

ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً» 1.

عن يعقوب عليه السلام أنّه لما طلب منه أبناؤه أن يدعو لهم و يستغفر لذنبهم قال:

«سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ» و هو أمر جائز وجار في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أهل بيته و حال مماته،إذ الموت لا يغيّر الموضوع كما أنّه ليس دخيلاً في مفهوم التوحيد و الشرك،ما دام الداعي يؤمن باللّه الواحد و يعتبره الرب الخالق و المدبر المستقل دون سواه.

روى الطبراني عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف:أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه و لا ينظر في حاجته،فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه،فقال له عثمان بن حنيف:ائت الميضاة فتوضأ ثمّ ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثمّ قل:اللّهم إني أسألك و أتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه و آله و سلم نبي الرحمة يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربي فتقضي لي حاجتي،فتذكر حاجتك و رح حتى أروح معك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال له،ثمّ أتى باب عثمان بن عفان (رض) فجاء البوّاب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان (رض) فأجلسه معه على الطنفسة،فقال:حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له ثمّ قال له:ما ذكرتُ حاجتك حتى كان الساعة،و قال:ما كانت لك من حاجة فاذكرها.ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له:جزاك اللّه خيراً ما كان ينظر في حاجتي و لا يلتفت إليّ حتى كلمته في.فقال عثمان بن حنيف:و اللّه ما كلّمتُه و لكنّي شهدت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و قد أتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي

ص:185

صلى الله عليه و آله و سلم:فتصبّر،فقال:يا رسول اللّه ليس لي قائد،فقد شق عليّ،فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«ائت الميضاة فتوضأ ثمّ صل ركعتين ثمّ ادع بهذه الدعوات».

قال ابن حنيف:فو الله ما تفرّقنا و طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ قط (1).

إنّ هذه الرواية و نظائرها تكشف عن أنّ الصحابة كانوا يدعون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و يتوسّلون به حتى بعد وفاته صلى الله عليه و آله و سلم من دون أن يعتبروا ذلك محرّماً بل و لا مكروهاً.

الثاني:لا شك أنّ دعاء النبي أو الصالح و نداءهما و التوسّل بهما باعتقاد أنّه إله أو ربّ أو خالق أو مستقلّ في التأثير أو ملك للشفاعة و المغفرة شرك و كفر،و لكنّه لا يقوم به أيّ مسلم في أقطار الأرض،بل و لا يخطر ببال أحد و هو يقرأ آيات الكتاب العزيز آناء الليل و أطراف النهار،و يتلو قوله سبحانه:

«هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ» 2 .

«أَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ تَعالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ» 3.

«قُلْ أَ غَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا...» 4.

«قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلاّ ما شاءَ اللّهُ» 5.

إنّ المسلمين لا يعتقدون في النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أهل بيته المطهرين:(فاطمة و علي و الحسن و الحسين عليهم السلام) إلّا كونهم عباداً صالحين مقرَّبين عند اللّه مستجابة

ص:186


1- 1) .الحافظ الطبراني:المعجم الكبير:16/9 و 17.

دعوتُهم.و لا يعتقدون بغير ذلك من ربوبية أو ألوهية أو مالكية للشفاعة و المغفرة أبداً.

و لكنّ القوم الذين عمدوا إلى تكفير الشيعة و غيرهم من المسلمين لم يفرّقوا بين الدعاءين و النداءين،فرموهما بسهم واحد.

ثمّ يقول المدعو جبرين:«حيث جعلوه-أي علياً عليه السلام-رباً و خالقاً و متصرفاً في الكون»و يا لها من كذبة و قحة،و فرية فاضحة، و تهمة للمسلمين الموحدين.فما الرب عند المسلمين شيعة و سنّة،و ما الخالق و ما المتصرف الحقيقي في الكون إلّا اللّه سبحانه دون سواه...و هذه كتبهم و مصنفاتهم في العقائد و الحديث و التفسير،فهي طافحة بالاعتراف و الإقرار بوحدانية اللّه تعالى في الذات و الصفات و الخالقية و التدبير و الحاكمية و التشريع و الطاعة،و العبودية و الشفاعة و المغفرة.

و كيف ترى يحق لجبرين و نظرائه أن يكفّروا المسلمين شيعة و سنّة الذين يوحّدون اللّه،بشيء لم يعتقدوا به و لم يقولوا به؟

و لو صحّ أنّ دعاء أحد يستلزم القول بألوهيته أو ربوبيته و يعدّ هذا الدعاء و النداء شركاً و كفراً فكيف نادى و دعا إخوة يوسف، أخاهم يوسف و قالوا: «يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ» 1 ؟ و لم يعتبر القرآن هذا شركاً.

فهل النبي الأكرم محمد صلى الله عليه و آله و سلم أقل شأناً و درجة من عزيز مصر يوسف الصديق عليه السلام ؟!

و أمّا كون النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم يختلف عن العزيز بأنّه ميت فهو عذر تافه و كلام

ص:187

باطل،إذ حياة النبي و أهل بيته الشهداء في سبيل اللّه في البرزخ أمر مسلّم،كيف و القرآن الكريم يقول: «وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» 1 و قال: «وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ» 2.

مع العلم أنّ الشهداء يأتون في المرتبة الثالثة في قوله تعالى: «فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ» 3.

لو كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ميتاً فما معنى قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«ما من أحد يسلّم عليَّ إلّا ردّ اللّه عزّ و جلّ عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» (1)؟ و قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«صلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» (2).

إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و الأئمة الطاهرين من أهل بيته الذين يشاركونه في الطهر و القداسة لآية التطهير و المباهلة و المودة،و الذين قُتِلوا في سبيل اللّه و دفاعاً عن حياض الشريعة المحمدية المقدسة،متماثلون في الحياة بعد الموت،فكيف يكون نداؤهم و دعاؤهم دعاء للميت الذي لا يسمع؟

العلم بالغيب على نوعين:

و يقول جبرين في فتواه:«و جعلوه-يعني علياً-يعلم الغيب».

إنّ صاحب هذه الفتوى الباطلة جاهل حتى باللغة العربية

ص:188


1- 4) .سنن أبي داود:218/2،و [1]كنز العمال:381/10،و غيرهما من كتب الحديث.
2- 5) .نفس المصدر. [2]

و المصطلح الديني،فإنّ العلم بالغيب في الكتاب العزيز هو العلم النابع من الذات (أي من ذات العالم) غير المكتسب من آخر و هذا يختص باللّه الواحد الأحد،و إليه يشير قوله سبحانه: «قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ» 1 ،و أمّا الإخبار بالغيب بتعليم من اللّه فالكتاب العزيز و السنّة الشريفة مليئان منه.

فهذه سورة يوسف تخبرنا بأنّ يعقوب و ابنه يوسف قد أخبرا عن حوادث مستقبلية كثيرة..أي أخبرا بالغيب:

1-لمّا أخبر يوسف والده بأنّه رأى أحد عشر كوكباً و الشمس و القمر ساجدين له،قال يعقوب عليه السلام: «يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً» 2 و بذلك أخبر ضمناً عن مستقبله المشرق الذي لو عرف به إخوته لثارت عليه حفائظهم.

2-لمّا أخبر صاحبا يوسف في السجن يوسفَ برؤياهما قال عليه السلام لمن أخبره بأنّه يعصر خمراً: «أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً» و قال للثاني-الذي قال إنّه رأى يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه -: «وَ أَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ» 3.

3-لما فصلت العير قال أبوهم«يعقوب»: «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ» 4.

4-قال النبي عيسى عليه السلام لقومه في معرض بيان معاجزه و بيّناته:

ص:189

«وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» 1.

أ ليست كل هذه إخبارات بالغيب،و مغيبات أنبأ بها الرسلُ؟

و إذا هي ثبتت لنبيّ جاز نسبتها إلى العترة الطاهرة لما لهم من المنزلة و المكانة العليا،و هل عليٌّ عليه السلام أقلّ شأناً من هارون عليه السلام و قد قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم في شأنه:«يا علي أمّا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي»؟ (1)الذي يعني أنّه له ما للرسول إلّا أنّه ليس نبياً،لختم النبوة برسول اللّه محمد صلى الله عليه و آله و سلم.

كيف لا،و علي عليه السلام وارث علم رسول اللّه بإجماع الأُمة الإسلامية،و هل عليٌّ عليه السلام أقل من كعب الأحبار الذي أخبر الخليفة الثاني بأنّه سيموت بعد ثلاثة أيام و تحقّقت هذه النبوءة فعلاً (2).

و هلاّ علم«جبرين»ما أخرجه قومه في أئمتهم من العلم بالغيب ففي مسند أحمد:أن عمر بن الخطاب أخبر بموته بسبب رؤيا رآها و كان بين رؤياه و بين يوم مصرعه اسبوع واحد (3)؟

الشيعة و صيانة القرآن عن التحريف:

و يقول جبرين في فتواه الجائرة على شيعة أهل البيت:«كما أنّهم يطعنون في القرآن الكريم..».

إنّ الشيعة أيّها الشيخ لا يطعنون في القرآن و لا يقولون بوقوع التحريف فيه.

ص:190


1- 2) .2.جامع الأُصول:650/8.
2- 3) .الرياض النضرة:75/2.
3- 4) .مسند أحمد:48/1 و 51.

و لكن غيرهم قال بهذا،راجع تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي:و كانت هذه السورة (أي سورة الأحزاب) تعدل سورة البقرة و كانت فيها آية الرجم (الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من اللّه و اللّه عزيز حكيم).ذكره أبو بكر الأنباري عن أُبي بن كعب.

ثمّ قال:و قد حدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد قال:حدثنا أبو عبيد القاسم ابن سلام قال:حدثنا ابن أبي مريم عن أبي لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة،قالت:كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مائتي آية،فلما كُتِبَ المصحف لم يقدر منها إلّا على ما هي الآن (1).

و روي أيضاً عن أُبي بن كعب قوله:«فو الذي يحلف به أُبي بن كعب إنّها كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول و لقد قرأنا منها آية الرجم:(و الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من اللّه و اللّه عزيز حكيم).

و في موطأ مالك قال عمر بن الخطاب:و الذي نفسي بيده،لو لا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب اللّه تعالى لكتبتُها:

«الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنّا قد قرأناها» (2).

إذن فأين ذهبت هذه الآية؟!

و جاء في صحيح البخاري و مسند أحمد:قال عمر بن الخطاب:...ثمّ إنّا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه:(أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم،أو إنَّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم) (3).

فهذا هو الخليفة يصرّح بسقوط آية من القرآن الحكيم!

ص:191


1- 1) .تفسير الجامع لأحكام القرآن:113/14. [1]
2- 2) .الموطأ،كتاب الحدود:714،الحديث 9. [2]
3- 3) .صحيح البخاري:169/8 باب رجم الحبلى من الزنا من كتاب الفرائض،مسند أحمد:55/1. [3]

أمّا ما يقوله الشيعة حول القرآن الكريم فإليك طائفة من أقوال أبرز شخصياتهم القدامى و المتأخّرين نذكرها على سبيل المثال لا الحصر:

1-قال الشيخ الصدوق (المتوفى 381ه) في رسالته التي وضعها لبيان معتقدات الشيعة الإمامية:اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله اللّه تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه و آله و سلم هو ما بين الدفتين و هو ما بأيدي الناس ليس بأكثر من ذلك.

ثمّ قال:و من نسب إلينا أنا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب (1).

2-قال الشريف المرتضى (المتوفى عام 436ه):إنّ العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان و الحوادث الكبار و الوقائع العظام و الكتب المشهورة و أشعار العرب المسطورة،فإنّ العناية اشتدّت و الدواعي توفّرت على نقله و حراسته،و بلغت إلى حدٍّ لم يبلغه فيما ذكرناه،لأنّ القرآن معجزة النبوة و مأخذ العلوم الشرعية و الأحكام الدينية،و علماء المسلمين قد بلغوا في حفظه و حمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه و قراءته و حروفه و آياته،فكيف يجوز أن يكون مغيّراً و منقوصاً مع العناية الصادقة و الضبط الشديد؟ (2)

3-و قال الشيخ الطوسي (المتوفى 460ه):و أمّا الكلام في زيادته و نقصانه فممّا لا يليق بهذا الكتاب المقصود منه العلم بمعاني القرآن،لأنّ الزيادة مجمع على بطلانها،و النقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه و هو الأليق بالصحيح من مذهبنا (3).

4-قال العلاّمة الحلّي (المتوفى 726ه) في أحد مؤلفاته:الحق أنّه لا تبديل و لا تأخير و لا تقديم فيه (أي القرآن) و أنّه لم يزد و لم ينقص و نعوذ باللّه تعالى من أن

ص:192


1- 1) .اعتقادات الإمامية المطبوعة مع شرح الباب الحادي عشر.
2- 2) .مجمع البيان:15/1.
3- 3) .مقدّمة تفسير التبيان. [1]

يعتقد مثل ذلك و أمثال ذلك،فإنّه يوجب التطرّق إلى معجزة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم المنقولة بالتواتر (1).

5-و قال السيد محسن الأمين العاملي (المتوفى عام 1371ه):لا يقول أحد من الإمامية لا قديماً و لا حديثاً أنّ القرآن مزيد فيه قليل أو كثير فضلاً عن كلّهم،بل كلّهم متفقون على عدم الزيادة و من يعتدّ بقوله من محقّقيهم متفقون على أنّه لم ينقص منه،و من نسب إليهم خلاف ذلك فهو كاذب مفتر مجترئ على اللّه و رسوله (2).

6-و قال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (المتوفى عام 1373ه):إنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله اللّه إليه صلى الله عليه و آله و سلم للإعجاز و التحدي و لتعليم الأحكام و لتمييز الحلال و الحرام،و انّه لا نقص فيه و لا تحريف و لا زيادة و على هذا إجماعهم (أي إجماع الشيعة الإمامية) (3).

7-و قال الإمام شرف الدين العاملي (المتوفى عام 1377ه):كل من نسب إليهم تحريف القرآن فإنّه مفتر ظالم لهم،لأنّ قداسة القرآن الحكيم من ضروريات الدين الإسلامي و مذهبهم الإمامي-إلى أن قال:-و تلك كتبهم في الحديث و الفقه و الأُصول صريحة بما نقول:و القرآن الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه إنّما هو ما بين الدفتين و هو ما في أيدي الناس لا يزيد حرفاً و لا ينقص حرفاً و لا تبديل لكلمة بكلمة و لا لحرف بحرف،و كل حرف من حروفه متواتر في كل جيل تواتراً قطعياً إلى عهد الوحي و النبوة (4).

ص:193


1- 1) .أجوبة المسائل المهنّائية:121،المسألة 13. [1]
2- 2) .أعيان الشيعة:41/1.
3- 3) .أصل الشيعة و أُصولها:133. [2]
4- 4) .الفصول المهمة:163. [3]

8-و قال السيد الإمام الخميني قدس سره:إنّ الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب و حفظه و ضبطه قراءة و كتابة يقف على بطلان تلك المزعمة.و ما ورد فيه من أخبار-حسبما تمسّكوا-إمّا ضعيف لا يصلح للاستدلال به أو مجعول تلوح عليه امارات الجعل،أو غريب يقضي بالعجب،أمّا الصحيح منها فيرمي إلى مسألة التأويل و التفسير و أنّ التحريف إنما حصل في ذلك لا في لفظه و عباراته.

و تفصيل ذلك يحتاج إلى تأليف كتاب حافل ببيان تاريخ القرآن و المراحل التي قضاها طيلة قرون و يتلخّص في أنّ الكتاب العزيز هو عين ما بين الدفتين لا زيادة فيه و لا نقصان،و أنّ الاختلاف في القراءات أمر حادث ناشئٌ عن اختلاف في الاجتهادات من غير أن يمس جانب الوحي الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين (1).

9-و قال السيد الإمام الگلبايگاني قدس سره:الصحيح من مذهبنا أنّ كتاب اللّه الكريم الذي بأيدينا بين الدفتين هو ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه من لدن عزيز حكيم،المجموع المرتّب في زمانه (أي النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عصره) بأمره بلا تحريف و تغيير و زيادة و نقصان و الدليل على ذلك تواتره بين المسلمين،كلاّ و بعضاً،ترتيباً و قراءة... (2)

10-و للسيد الإمام الخوئي قدس سره:بحث مفصل يؤكد فيه على خلو القرآن الكريم من أيّة زيادة أو نقيصة في مقدمة تفسيره البيان (3).

هذه هي نماذج صريحة تعكس عقيدة الشيعة الإمامية منذ القديم و إلى الآن حول القرآن الكريم،و كلّها تؤكد على صيانة الكتاب العزيز من أيّة زيادة أو

ص:194


1- 1) .تهذيب الأُصول:165/2. [1]
2- 2) .البرهان للبروجردي:156-158.
3- 3) .ارتحل الإمام الخوئي (قدّس سرّه) إلى بارئه في 8 صفر 1413 ه ق.لاحظ مقدمة تفسير البيان.

نقيصة و خلوّه من كل تغيير أو تبديل،فكيف يتّهم«جبرين»الشيعة الإمامية بأنهم يطعنون في القرآن؟!

و أمّا الروايات فهي مضافاً إلى كونها ضعيفة شاذة،أو مجعولة موضوعة لا يأبه بها الشيعة الإمامية-لا تشكل عقيدة الشيعة الإمامية،إذ ليس كل ما في الروايات يعكس عقيدتهم،حتى يؤاخذون عليها،حتى لو افترضت صحة بعضها سنداً-فكيف يؤاخذون عليها و الحال أنّها-كما قلناه-ليست بصحيحة.

إنّ القرآن الكريم حسب عقيدة المسلمين سنّة و شيعة الذي بأيدي الناس هو ما نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جميع خصوصياته الحاضرة.

و كما لا يعبأ أعلام السنّة بروايات التحريف الواردة في مصادرهم،كذلك لا يأبه علماء الشيعة أيضاً بما ورد في بعض مصادرهم لضعفها و شذوذها،و ظهور آثار الاختلاق عليها.

الصحابة من منظار القرآن و الحديث:

و أمّا قول«جبرين»:حول موقف الشيعة الإمامية من الصحابة ففيه مغالطة و تغطية للحق إذ لا تجد على أديم الأرض مسلماً يعتنق الإسلام و يحب النبي الأكرم،يبغض أصحاب النبي الأكرم بما أنّهم أصحابه و أنصاره،بل الكل ينظر إليهم في هذا المجال بنظر التكريم و التبجيل،و من أبغضهم أو سبَّهم بهذا المنظار،فهو كافر،أبعده اللّه.و لكن إذا صدر منهم فعل لا يوافق الكتاب و السنّة فقام أحد بذكر فعله و توصيف حاله حسب دلالة عمله و فعله عليه و قال:إنّه صدرت منه المعصية،أو قتل نفساً بغير نفس،إلى غير ذلك من المحرّمات و الموبقات،فقد تبع القرآن الكريم و السنّة و النبوية و السلف الصالح.

ص:195

فحب الصحابي بما هو صحابي أمر،و توصيف أعماله و أفعاله-إن خيراً فخير و إن شراً فشر-أمر آخر يهدف إلى الموضوعية في البحث،و القضاء و الابتعاد عن العشوائية في الاعتقاد،«و جبرين»لا يفرّق بين الأمرين و يضربهما بسهم واحد لغايات سياسية.

إنّ صحبة الصحابة لم تكن بأكثر و لا أقوى من صحبة امرأة نوح و امرأة لوط فما أغنتهما من اللّه شيئاً،قال سبحانه: «ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ» 1.

إنّ التشرّف بصحبة النبي لم يكن أكثر امتيازاً و تأثيراً من التشرّف بالزواج من النبي،و قد قال سبحانه في شأن أزواجه: «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً» 2.

و كما أنّهم كانوا مختلفين في السن عند الانقياد للإسلام،كذلك كانوا مختلفين أيضاً في مقدار الصحبة،فبعضهم صحب النبي صلى الله عليه و آله و سلم من بدء البعثة إلى لحظة الرحلة،و بعضهم أسلم بعد البعثة و قبل الهجرة،و كثير منهم أسلموا بعد الهجرة و ربما أدركوا من الصحبة سنة أو شهراً أو أياماً أو ساعات.

فهل يصح أن نقول:إنّ صحبةً ما قلعت ما في نفوسهم جميعاً من جذور غير صالحة و ملكات رديئة و كوّنت منهم شخصيات ممتازة أعلى و أجل من أن يقعوا في إطار التعديل و الجرح؟

إن تأثير الصحبة عند من يعتقد بعدالة الصحابة كلّهم أشبه شيء بمادة كيمياوية تستعمل في تحويل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب،فكأن

ص:196

الصحبة قلبت كل مصاحب إلى إنسان مثاليّ يتحلّى بالعدالة،و هذا ممّا يردّه المنطق و البرهان السليم،و ذلك لأنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم لم يقم بتربية الناس و تعليمهم عن طريق الإعجاز «فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» 1.

بل قام بإرشاد الناس و دعوتهم إلى الحق و صبهم في بوتقة الكمال مستعيناً بالأساليب الطبيعية و الإمكانات الموجودة كتلاوة القرآن الكريم،و النصيحة بكلماته النافذة،و سلوكه القويم و بعث رسله و دعاة دينه إلى الأقطار،و نحو ذلك.و الدعوة القائمة على هذا الأساس،يختلف أثرها في النفوس حسب اختلاف استعدادها و قابلياتها فلا يصح لنا أن نرمي الجميع بسهم واحد.

الصحابة في الذّكر الحكيم:

اشارة

نرى أنّ الذكر الحكيم يصنّف صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و يمدحهم ضمن أصناف نأتي ببعضها:

1- السابقون الأوّلون:

يصف الذكر الحكيم السابقين الأوّلين من المهاجرين و الأنصار و التابعين لهم بإحسان بأنّ اللّه رضي عنهم و هم رضوا عنه.

قال عزّ من قائل: «وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» 2.

2-المبايعون تحت الشجرة:

و يصف سبحانه الصحابة الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تحت الشجرة بنزول

ص:197

السكينة عليهم قائلاً في محكم كتابه: «لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» 1.

3-المهاجرون:

و هؤلاء هم الذين يصفهم تعالى ذكره بقوله: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ» 2.

4-أصحاب الفتح:

و هؤلاء هم الذين وصفهم اللّه سبحانه و تعالى في آخر سورة الفتح بقوله: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً» 3.

5-الأصناف الأُخرى للصحابة:
اشارة

فالناظر المخلص المتجرّد عن كل رأي مسبق يجد في نفسه تكريماً لهؤلاء الصحابة.

غير أنّ الرأي الحاسم في عامّة الصحابة يستوجب النظر إلى كل الآيات

ص:198

القرآنية الواردة في حقّهم،فعندئذ يتبيّن لنا أنّ هناك أصنافاً أُخرى من الصحابة غير ما سبق ذكرها،تمنعنا من أن نضرب الكلّ بسهم واحد،و نصف الكل بالرضا و الرضوان.و هذا الصنف من الآيات يدل بوضوح على وجود مجموعات من الصحابة تضاد الأصناف السابقة في الخلقيات و الملكات و السلوك و العمل،و هم:

أ-المنافقون المعروفون:

المنافقون المعروفون بالنفاق الذين نزلت في حقّهم سورة«المنافقون»قال سبحانه:

«إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَ اللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ...» إلى آخر السورة (1).

فهذه الآيات تعرب بوضوح عن وجود كتلة قويّة من المنافقين بين الصحابة آنذاك،و كان لهم شأنٌ و دورٌ في المجتمع الإسلامي فنزلت سورة قرآنية كاملة في حقهم.

ب-المنافقون المختفون:

تدل بعض الآيات على أنّه كانت بين الأعراب القاطنين خارج المدينة و من نفس أهل المدينة جماعة مردوا على النفاق و كان النبي الأعظم لا يعرف بعضهم و من تلك الآيات قوله سبحانه: «وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ 2لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ» 3.

ص:199


1- 1) .المنافقون:1. [1]

لقد بذل القرآن الكريم عناية خاصة بعصبة المنافقين و أعرب عن نواياهم و ندّد بهم في السور التالية:البقرة،آل عمران،المائدة، التوبة،العنكبوت،الأحزاب،محمد،الفتح،الحديد،المجادلة،الحشر،و المنافقون.

و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المنافقين كانوا جماعة هائلة في المجتمع الإسلامي بين معروف،عرف بسمة النفاق و وسمة الكذب،و غير معروف بذلك مقنَّع بقناع التظاهر بالإيمان و الحبّ للنبي صلى الله عليه و آله و سلم،فلو كان المنافقون جماعة قليلة غير مؤثرة لما رأيت هذه العناية البالغة في القرآن الكريم.و هناك ثلّة من المحقّقين كتبوا حول النفاق و المنافقين رسائل و كتابات و قد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليهم فبلغ مقداراً يقرب من عشر القرآن الكريم (1)،و هذا يدل على كثرة أصحاب النفاق و تأثيرهم يوم ذاك في المجتمع الإسلامي،و على ذلك لا يصح لنا الحكم بعدالة كل من صحب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مع غض النظر عن تلك العصابة،المتظاهرة بالنفاق و المختفية في أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ج-مرضى القلوب:

و هذه المجموعة من الصحابة لم يكونوا من زمرة المنافقين بل كانوا يتلونهم في الروحيات و الملكات مع ضعف في الإيمان و الثقة باللّه و رسوله صلى الله عليه و آله و سلم،قال سبحانه بحقّهم: «وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً» 2.

فأنّى لنا أن نصف مرضى القلوب الذين ينسبون خُلف الوعد إلى اللّه سبحانه و إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالتقوى و العدالة؟

ص:200


1- 1) .النفاق و المنافقون:تأليف الأستاذ:إبراهيم علي سالم المصري.
د-السمّاعون:

تلك المجموعة كانت قلوبهم كالريشة في مهبّ الريح تميل إلى هؤلاء تارة و إلى أُولئك أُخرى،و ذلك بسبب ضعف إيمانهم و قد حذّر الباري عزّ و جلّ المسلمين منهم حيث قال عزّ من قائل،واصفاً إيّاهم بالسمّاعين لأهل الريب: «إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ* وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ* لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّ خَبالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ» 1 و ذيل الآية دليل على كون السمّاعين من الظالمين لا من العدول.

ه-خالطوا العمل الصالح بالسيّئ:

و هؤلاء هم الذين يقومون بالصلاح و الفلاح تارة،و الفساد و العبث أُخرى،فلأجل ذلك خلطوا عملاً صالحاً بعمل سيّئ،قال سبحانه: «وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً» 2.

و-المشرفون على الارتداد:

إنّ بعض الآيات تدل على أن مجموعة من الصحابة كانت قد أشرفت على الارتداد يوم دارت عليهم الدوائر،و كانت الحرب بينهم و بين قريش طاحنة فأحسّوا بالضعف،و قد أشرفوا على الارتداد و قد عرّفهم الحق سبحانه بقوله: «وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا

ص:201

مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» 1.

ز-الفاسق:

إنّ القرآن الكريم يحثُّ المؤمنين و في مقدّمتهم الصحابة،على التحرّز من خبر الفاسق حتى يتحقّق التبيّن.فمَن هذا الفاسق الذي أمر القرآن بالتحرّز من خبره؟ اقرأ أنت ما ورد حول الآية من شأن النزول و احكم بما هو الحق،قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» 2.

فإن من المجمع عليه بين أهل العلم أنّه نزل في حق الوليد بن عقبة بن أبي معيط و ذكره المفسّرون في تفسير الآية فلا نحتاج إلى ذكر المصادر.

كما نزل في حقه قوله تعالى: «أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» 3.

نقل الطبري في تفسيره باسناده أنّه كان بين الوليد و عليّ،كلام فقال الوليد:أنا أسلط منك لساناً،و أحدُّ منك سناناً و أردُّ منك للكتيبة.فقال علي:اسكت فانّك فاسق،فأنزل اللّه فيهما: «أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» 4.

و قد نظم الحديث حسانُ بن ثابت (شاعر عصر الرسالة) و قال:

ص:202

أنزل اللّه و الكتاب عزيز

أ فهل يمكن لباحث حرّ،التصديقُ بما ذكره ابن عبد البر و ابن الأثير و ابن حجر،و في مقدّمتهم أبو زرعة الرازي الذي هاجم المتفحّصين المحقّقين في أحوال الصحابة و اتّهمهم بالزندقة؟

ح-المسلمون غير المؤمنين:

إنّ القرآن يعد جماعة من الأعراب الذين رأوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم و شاهدوه و تكلّموا معه،مسلمين غير مؤمنين و أنّهم بعدُ لم يدخل الإيمان في قلوبهم،قال سبحانه: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» 2.

أ فهل يصح عدُّ عصابة غير مؤمنة من العدول الأتقياء؟!

ط-المؤلّفة قلوبهم:

اتّفق الفقهاء على أنّ المؤلّفة قلوبهم ممّن تصرف عليهم الصدقات،قال سبحانه: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ

ص:203

حَكِيمٌ» 1.

و«المؤلّفة قلوبهم»:هم قوم كانوا في صدر الإسلام ممّن يظهر الإسلام،يتألَّفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم.

و هناك أقوال أُخر فيهم متقاربة،و القصد بجميعها الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامُه حقيقةً إلّا بالعطاء (1).

ي- المولُّون أمام الكفّار:

إنّ التولّي عن الجهاد و الفرار منه،من الكبائر الموبقة التي ندّد بها سبحانه بقوله:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ* وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ» 3.

إنّ التحذير من التولّي و الفرار من الزحف،و الحث على الصمود أمام العدو،لم يصدر من القرآن إلّا بعد فرار مجموعة كبيرة من صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة«أُحد»و«حنين».

0 أمّا الأوّل:فيكفيك قول ابن هشام في تفسير الآيات النازلة في أُحد،قال:«ثمّ أنّبهم بالفرار عن نبيهم و هم يُدعون،لا يعطفون عليه لدعائه إيّاهم فقال: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» 4.

و أمّا الثاني:فقد قال ابن هشام فيه أيضاً:فلمّا انهزم الناس و رأى من كان مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من جفاة أهل مكة الهزيمة،تكلّم رجالٌ منهم بما في أنفسهم من

ص:204


1- 2) .تفسير القرطبي:178/8، [1]المغني لابن قدامة:556/2.

الضغن فقال أبو سفيان بن حرب:لا تنتهي هزيمتهم دون البحر،و صرخ جبلة بن حنبل:ألا بَطَلَ السحرُ اليوم... (1).

أ فبعد هذا يصح أن يعدّ جميع الصحابة،بحجة أنّهم رأوا نور النبوة،عدولاً أتقياء؟

قال القرطبي في تفسيره:قد فرّ الناس يوم«أُحد»و عفا اللّه عنهم و قال اللّه فيهم يوم حنين: «ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» ثمّ ذكر فرار عدّة من أصحاب النبي من بعض السرايا (2).

هذه هي الأصناف العشرة من صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ممّن لا يمكن توصيفهم بالعدالة و التقوى،أتينا بها في هذه العجالة.

و لكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى الآيات الواردة في أوائل سورة البقرة و سورة النساء و غيرها من الآيات القرآنية فيرى فيها أنّ الإيمان بعدالة الصحابة بأجمعهم خطأ في القول،و زلّة في الرأي،يضاد نصوص الذكر الحكيم،و لم يكن الصحابة إلّا كسائر الناس فيهم صالح تقي بلغ القمة في التقى و النزاهة،و فيهم طالح شقي سقط إلى هوّة الشقاء و الدناءة.و لكن الذي يميّز الصحابة عن غيرهم أنّهم رأوا نور النبوّة و تشرّفوا بصحبة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و شاهدوا معجزاته في حلبة المباراة بأمّ أعينهم،و لأجل ذلك تحمّلوا مسئولية كبيرة أمام اللّه و أمام رسوله و أمام الأجيال المعاصرة لهم و اللاحقة بهم،فإنّهم ليسوا كسائر الناس،فزيغهم و ميلهم عن الحق أشد و لا يعادل زيغ أكثر الناس و انحرافهم.و قد قال سبحانه في حق أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ» 3 فإن انحرف هؤلاء فقد انحرفوا في حال شهدوا النور،و لمسوا الحقيقة،و شتان بينهم و بين غيرهم.

ص:205


1- 1) .سيرة ابن هشام:11/3 و 444/4،و [1]لاحظ التفاسير.
2- 2) .تفسير القرطبي:383/7. [2]

الصحابة في السنّة النبوية:

و نذكر في المقام بعض ما ورد في مصادر أهل السنّة أنفسهم حول بعض الصحابة.

ففي صحيح البخاري:في تفسير سورة المائدة بسنده عن ابن عباس قال:خطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم...-إلى أن قال:-و يجاء برجال من أُمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال،فأقول:يا رب أصيحابي،فيقال إنّك لا تدري ما أحدَثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح: «وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» 1 .فيقال إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم (1).

و رواه الترمذي في تفسير سورة الأنبياء أيضاً.

و جاء في موطأ مالك:عن أبي النضر أنّه بلغه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لشهداء أُحد:هؤلاء أشهد عليهم،فقال أبو بكر:ألسنا يا رسول اللّه إخوانهم،أسلمنا كما أسلموا،و جاهدنا كما جاهدوا؟

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:بلى و لكن لا أدري ما تحدثون بعدي.

فبكى أبو بكر ثمّ قال:أ إنّا لكائنون بعدك؟ (2).

و هل أتى الشيعة الإمامية بجديد إذا كانوا يفرّقون في الحب و المودة بين جماعة و أُخرى،و قد أمر القرآن بذلك في أكثر من آية؟

ثمّ إنّ«جبرين»و أمثاله لما ذا يغمضون عيونهم عن حقائق القرآن و لا يصارحون الناس بها فهم بدل اتّخاذ مواقف شريفة يمليها الحق و الإنصاف؟ يعمدون إلى تكفير طائفة كبرى من طوائف المسلمين و هم الشيعة الإمامية

ص:206


1- 2) .صحيح البخاري:55/6،تفسير سورة المائدة.
2- 3) .الموطأ:307/1،كتاب الجهاد، [1]الشهداء في سبيل اللّه.

و يرونهم مستحقّين للقتل و الإبادة،و لا يوجّه مثل هذه الفتوى ضد الصهاينة في فلسطين،و الأمريكان الذين يدنّسون أرض المقدّسات؟

لما ذا لا يحارب الفساد الأخلاقي و السياسي في مشرق الإسلام و مهجر الرسول،و لا يفكر في تسيّب الشباب هناك و تسرّب اللاّدينية،و الانحراف العقائدي إلى قلوبهم البريئة؟!

لما ذا تصدر هذه الفتوى في هذا الظرف الذي انهارت فيه الشيوعية،و اعترف«غورباتشوف»بأن السبب الرئيسي وراء هذا المصير الذي آل إليه الاتحاد السوفيتي هو نسيان اللّه و تجاهل الفطرة التي فطر الناس عليها كما قال في خطاب الاستقالة مؤخراً؟! و هو الأمر الذي ذكَّرَه به الإمامُ الراحلُ الخميني في رسالَتهِ التاريخية إليه.

لما ذا في مثل هذا الظرف الهامّ الذي يتوجّه العالم إلى الإسلام و يتطلَّع المستضعفون إلى المسلمين،و هو أمر يفرض العمل الجاد لتوحيد صفوف المسلمين و إظهارهم في مظهر الأُمة الواحدة القوية على اختلاف مذاهبها و مسالكها التي تتمحور حول أُصول الإيمان و تتّفق فيها و إن اختلفت في بعض الاجتهادات الفرعية العلمية؟!

أقول:لما ذا ينبري مجلسُ الإفتاء السعودي متمثّلاً بالمدعوّ«جبرين»و بعض زملائه إلى شق عصا المسلمين و إثارة النعرات الطائفية،و عزل أكبر قطعة من جسم الأُمّة الإسلامية التي هي الآن صخرة صمّاء أمام تلاطم أمواج الكفر و الاستكبار رافعة راية لا إله إلّا اللّه، كلمةً و عملاً و ظهرها و متكأها هو الباري صاحب الكلمة،فأين يا ترى موقفه أمام أعداء الإسلام اليوم و كيف سيواجه خالقه و قد أفرح بفعلته هذه قلوب المستكبرين و الظلمة و المنافقين؟!!

و هل أذنب الشيعةُ إذا هم اتّبعوا و أحبوا مَن أمرَ القرآن باتّباعهم و محبّتهم

ص:207

من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً و الذين فرض محبتهم و مودتهم بقوله: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» 1 ؟

المطلوب مؤتمر للحوار العلمي الديني:

نحن ندعو علماء الوهابية إلى حوار علمي صريح و بنّاءٍ يحضره علماء المسلمين لمناقشة ما يعتقدونه،أوّلاً،و ما يرمون به المسلمين و يكفّرونهم بسببه ثانياً،إنهاءً لهذه المواقف المضرّة بالمسلمين و قطعاً لدابر الفتنة و الاختلاف.

نحن نهيب بمفكري الأُمّة الإسلامية و بالشباب في البلاد الإسلامية أن يضغطوا على مجلس الإفتاء السعودي بغية الدخول في مناظرة مع علماء الشيعة الإمامية بصورة خاصة،و علماء الطوائف الإسلامية الأُخرى بصورة عامة في حوار علمي جادّ...لوضع حدٍّ لمُسلَسل التكفيرات و المذابح الناشئة عنها،و نحن نحمّل المسلمين كلّ الجرائم التي ستنشأ من هذه التكفيرات التي تعكس أهداف الاستعمار الحاقد،لو سكتوا و تركوا الأمر.

و إنّنا لنحذّر المسلمين بأنّ هذا الموقف الصادر من«الجبرين»و نظرائه الذين لا يهمّهم إلّا تكفير المسلمين و رميهم بالشرك تاركين الصهاينة و الصليبيّين يسرحون و يمرحون في بلاد الإسلام،لن يقتصر على الشيعة الإمامية بل سيشمل الطوائف الأُخرى،لأنّ الوهابيين الذين يرفعون شعار التوحيد يكفّرون عامة المسلمين إلّا أنفسهم،فهل من مدّكر؟!.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:208

الرسالة الرابعة:المسلمون و تكفير أهل القبلة

اشارة

الحمد للّه ربِّ العالمين و الصلاة و السلام على نبيه و آله و صحبه المنتجبين

إلى إخواننا المسلمين في اليابان وفقهم اللّه لمرضاته.

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.

وصلتنا بعض المنشورات التي تتبنى إيجاد الفرقة بين المسلمين مكان الدعوة إلى الاعتصام بحبل اللّه و التمسك بالكتاب و السنّة،و العيش تحت ظلال الإيمان باللّه تبارك و تعالى،و رسالة نبيه صلى الله عليه و آله و سلم،اللّذين يربطان عامّة المسلمين بعضهم ببعض.

في العصر الذي ترزح فيه أُولى القبلتين تحت وطأة الصهاينة،و أصبحت بلاد الوحي و الرسالة مركزاً لجيوش الغزو الغربي،و تجري في البوسنة و الهرسك مذابح عامة للمسلمين،نسائهم و أطفالهم.

و في هذا العصر الذي يهاجم فيه الغرب المسلمين و يقتل مفكريهم و شبابهم و يفسد أخلاقهم و يدمر كيانهم قامت عدة من العملاء بفصل طائفةٍ كبيرةٍ من المسلمين عن كيان الأُمّة الإسلامية و كأنّ الهجوم على أتباع أئمّة أهل البيت و تكفيرهم و رميهم بالابتداع هو الدواء الناجع.

إنّ المسلمين اليوم بحاجة ماسة إلى التماسك و الوحدة و رصِّ الصفوف أمام

ص:209

الهجوم الثقافي و الفكري،فمن دعا إلى الوحدة و الاعتصام فقد اقتفى الذكر الحكيم،قال سبحانه: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» 1 و من دعا إلى الفرقة فقد ابتعد عمّا دعا إليه الكتاب و اقتفى سنّة المشركين قال سبحانه: «...وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» 2 و لكنا نمرّ على كلماتهم و أعمالهم مرور الكرام و نركز على تحليل مسألتين في ضوء الكتاب و السنّة حتى يتبين المبتدع من المتمسك بهما و هما:

1- الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

2- تكفير أهل القبلة.

فقد استعرض الأُولى الشيخ صالح بن غانم السدلان و زميله الدكتور فهد السنيدي فتكريم النبي صلى الله عليه و آله و سلم يوم ميلاده و تعزيره عندهم بدعة و قد نَشرت مجلة الشرق الأوسط ما أدليا به،و ليس في كلاميهما شيء جديد سوى ما في كلام شيخهما ابن تيمية و مجدد مذهبه محمد بن عبد الوهاب و قد عاد المحاضران يجترّان نفس ما ورثاه من إماميهما.

و من العجب جداً انّ اقامة الاحتفال لميلاد الملوك و الرؤساء تكريماً لهم أمرٌ غير محظور و لكن تكريم ميلاد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أمر مبتَدع حرام و كأنّهم لم يسمعوا قوله سبحانه: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ» 3 .فتعزيره غير نصره،و غير الإيمان به فكما أنّ الإيمان به لا يختص بوقت دون وقت فكذلك تكريمه و تعظيمه،فهذه الآية الداعية إلى تكريم النبي صلى الله عليه و آله و سلم مطلقة غير محددة بزمان خاص من حيث الدعوة و تخصيصه بيوم الميلاد من جهة ملابسات تُسهِل للمسلمين تجسيد الآية في ذلك اليوم.

ص:210

إنّه سبحانه يصف النبي صلى الله عليه و آله و سلم و يقول: «وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» 1 فالمحتفلون يوم ميلاده يجسدون ذلك الترفيع..أ فيمكن أن يكون ترفيعه اتباعاً للذكر الحكيم حراماً؟!

و أمّا الثانية:فإنّ القائلين بتكفير بعض الطوائف الإسلامية هم الذين لا يرغبون في وحدة المسلمين،و هم لا يكفّرون الشيعة فحسب بل يكفّرون قاطبة المسلمين سوى أتباع محمد بن عبد الوهاب غير أنّهم كانوا يجهرون بتكفير جميع المسلمين في الأزمنة السابقة و يغزونهم و يقتلونهم و ينهبون أموالهم و لكنهم اليوم يتقون و لا يبدون كل ما يضمرون غير تكفير الشيعة فهذا«موسى بايكي»أحد العملاء للوهابية أخذ يكفر الشيعة و يحرم ذبائحهم،فهل درس القرآن الكريم و السنّة النبوية في تحديد الإيمان و الكفر أو أنّه أخذ مقياساً من عندِ نفسه دعماً لمبدئه فصار يكفر شيعة آل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً ؟ و ها نحن ندرس في هذه الرسالة المتواضعة حدود الكفر و الإيمان،حتى يقف القارئ على أنّ الطوائف الإسلامية المشهورة بين السنّة و الشيعة كلّهم مسلمون مؤمنون حسب الضابطة التي نص عليها النبي صلى الله عليه و آله و سلم و جرى عليها السلف الصالح طيلة القرون الماضية و إليك البيان:

ص:211

1

اشارة

الاحتفال بمولد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله و سلم،من مظاهر حب النبي الأكرم الذي حبّه و تكريمه و تعزيره أصل في الكتاب و السنّة.

إنّ لحب نبي الإسلام مظاهر و مجالي،إذ ليس الحب شيئاً يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الإنسان و تصرفاته،بل انّ من خصائص الحب أن يظهر أثره على جسم الإنسان و ملامحه،و على قوله و فعله،بصورة مشهورة و ملموسة.

فحب اللّه و رسوله الكريم لا ينفك عن اتّباع دينه،و الاستنان بسنّته،و الإتيان بأوامره و الانتهاء عن نواهيه،و لا يعقل أبداً أن يكون المرء محباً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أشدَّ الحب،و مع ذلك يخالفه فيما يبغضه و لا يرضيه،فمن ادّعى حباً في نفسه و خالفه في عمله فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادين.

و لنعم ما روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في هذا الصدد موجهاً كلامه إلى مدّعي الحب الإلهي كذباً: تعصي الإله و أنتَ تظهر حبَّه

ص:212

للحبِّ مظاهر وراء الاتباع:

نعم لا يقتصر أثر الحب على هذا،بل له آثار أُخرى في حياة المحب،فهو يزور محبوبه و يكرمه و يعظمه و يزيل حاجته،و يذبّ عنه،و يدفع عنه كل كارثة و يهيئ له ما يريحه و يسره إذا كان حيّاً.

و إذا كان المحبوب ميتاً أو مفقوداً حزن عليه أشد الحزن،و أجرى له الدموع كما فعل النبي يعقوب عليه السلام عند ما افتقد ولده الحبيب يوسف عليه السلام فبكاه حتى ابيضّت عيناه من الحزن،و بقي كظيماً حتى إذا هبّ عليه نسيم من جانب ولده الحبيب المفقود،هشَّ له و بشَّ، و هفا إليه شوقاً و حبّاً.

بل يتعدّى أثر الحب عند فقد الحبيب و موته هذا الحد،فنجد المحب يحفظ آثار محبوبه،و كل ما يتصل به،من لباسه و أشيائه كقلمه و دفتره و عصاه و نظارته.كما و يحترم أبناءه و أولاده،و يحترم جنازته و مثواه،و يحتفل كل عام بميلاده و ذكرى موته،و يكرمه و يعظمه حباً به و مودة له.

إلى هنا ثبت،أنّ حب النبي و تكريمه أصل من أُصول الإسلام لا يصح لأحد إنكاره،و من المعلوم أنّ المطلوب ليس الحب الكامن في القلب من دون أن يُرى أثره على الحياة الواقعية،و على هذا يجوز للمسلم القيام بكل ما يعد مظهراً لحب النبي شريطة أن يكون عملاً حلالاً بالذات و لا يكون منكراً في الشريعة،نظير:

1- تنظيم السنّة النبوية،و إعراب أحاديثها و طبعها و نشرها بالصور المختلفة،و الأساليب الحديثة،و فعل مثل هذا بالنسبة إلى أقوال أهل البيت و أحاديثهم.

2- نشر المقالات و الكلمات،و تأليف الكتب المختصرة و المطولة حول حياة

ص:213

النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عترته،و إنشاء القصائد بشتى اللغات و الألسن في حقّهم،كما كان يفعله المسلمون الأوائل.

فالأدب العربي بعد ظهور الإسلام يكشف عن أنّ إنشاء القصائد في مدح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان ممّا يعبّر به أصحابها عن حبهم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فهذا هو كعب بن زهير ينشئ قصيدة مطولة في مدح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منطلقاً من إعجابه و حبه له صلى الله عليه و آله و سلم فيقول في جملة ما يقول: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

و يقول: مهلاً هداك الذي أعطاك نا

و قد ألقى هذه القصيدة في مجلس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه،و لم ينكر عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

و هذا هو حسّان بن ثابت الأنصاري يرثي النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و يذكر فيه مدائحه،و يقول: بطيبة رسم للرسول و مَعْهَد مُنير و قد تعفو الرسومُ و تهمدُ

إلى أن قال: يدل على الرحمن من يقتدي به

ص:214

و هذا هو عبد اللّه بن رواحة ينشئ أبياتاً في هذا السياق فيقول فيها: خلّوا بني الكفار عن سبيله

هذه نماذج ممّا أنشأها الشعراء المعاصرون لعهد الرسالة في النبي صلى الله عليه و آله و سلم و نكتفي بها لدلالتها على ما ذكرنا.

و لو قام باحث بجمع ما قيل من الأشعار و القصائد في حق النبي صلى الله عليه و آله و سلم لاحتاج في تأليفه إلى عشرات المجلدات.

إنّ مدح النبي كان الشغلَ الشاغل للمخلصين و المؤمنين منذ أن لبّى الرسول دعوة ربّه،و لا أظن أنّ أحداً عاش في هذه البسيطة نال من المدح بمقدار ما ناله الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من المدح بمختلف الأساليب و النظم.

و هناك شعراء مخلصون أفرغوا فضائل النبي و مناقبه في قصائد رائعة و خالدة مستلهمين ما جاء في الذكر الحكيم و السنّة المطهرة في هذا المجال،فشكر اللّه مساعيهم الحميدة و جهودهم المخلصة.

3- تقبيل كل ما يمت إلى النبي بصلة كباب داره،و ضريحه و أستار قبره انطلاقاً من مبدأ الحب الذي عرفت أدلّته.

و هذا أمر طبيعي و فطري فبما أنّ الإنسان المؤمن لا يتمكّن بعد رحلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم من تقبيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم (1)فيقبّل ما يتصل به بنوع من الاتصال،و هو كما

ص:215


1- 2) .دخل أبو بكر حجرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد رحيله و هو مسجّى ببرد حبرة فكشف عن وجهه ثمّ أكبّ عليه فقبَّله ثمّ بكى فقال:بأبي أنت يا نبي اللّه لا يجمع اللّه عليك موتتين،أمّا الموتة التي كتبت عليك فقد مُتَّها.لاحظ صحيح البخاري:17/2 كتاب الجنائز.

أسلفنا،أمر طبيعي في حياة البشر حيث يلثمون ما يرتبط بحبيبهم و يقصدون بذلك نفسه.فهذا هو المجنون العامري كان يقبّل جدار بيت ليلى و يصرّح بأنّه لا يقبّل الجدار،بل يقصد تقبيل صاحب الجدار،يقول: أمرّ على الديار ديار ليلى

4- إقامة الاحتفالات في مواليدهم و إلقاء الخطب و القصائد في مدحهم و ذكر جهودهم و درجاتهم في الكتاب و السنّة،شريطة أن لا تقترن تلك الاحتفالات بالمنهيات و المحرمات.

و من دعا إلى الاحتفال بمولد النبي في أيّ قرن من القرون،فقد انطلق من هذا المبدأ أي حب النبي الذي أمر به القرآن و السنّة بهذا العمل.

هذا هو مؤلف تاريخ الخميس يقول في هذا الصدد:لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده،و يعملون الولائم،و يتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات،و يظهرون السرور،و يزيدون في المبرّات،و يعتنون بقراءة مولده الشريف،و يظهر عليهم من كراماته كل فضل عظيم (1).

و قال أبو شامة المقدسي في كتابه:و من أحسن ما يفعل في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه و آله و سلم من الصدقات و المعروف بإظهار الزينة و السرور،فإنّ في ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء شعاراً لمحبته (2).

و قال القسطلاني:و لا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السلام،و يعملون الولائم،و يتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، و يظهرون السرور،و يزيدون في

ص:216


1- 1) .الديار بكري:تاريخ الخميس:323/1. [1]
2- 2) .الحلبي:السيرة:83/1-84. [2]

المبرّات،و يعتنون بقراءة مولده الكريم،و يظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم...فرحم اللّه امرأً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً،ليكون أشد علّة على من في قلبه مرض و أعيا داء (1).

إذا عرفت ما ذكرناه فلا تظن أن يشك أحد في جواز الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله و سلم،احتفالاً دينياً فيه رضى اللّه و رسوله،و لا تصح تسميته بدعة،إذ البدعة هي التي ليس لها أصل في الكتاب و السنّة،و ليس المراد من الأصل؛الدليل الخاص،بل يكفي الدليل العام في ذلك.

و يرشدك إلى أنّ هذه الاحتفالات تجسيد لتكريم النبي؛وجدانك الحر،فانّه يقضي-بلا مرية-على أنّها إعلاء لمقام النبي و إشادة بكرامته و عظمته،بل يتلقاها كل من شاهدها عن كثب على أنّ المحتفلين يعزّرون نبيّهم و يكرمونه و يرفعون مقامه اقتداءً بقوله سبحانه:

«وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» 2.

السنّة النبوية و كرامة يوم مولده صلى الله عليه و آله و سلم:

1- أخرج مسلم في صحيحه،عن أبي قتادة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال:«فيه ولدت،و فيه أُنزل عليّ» (2).

يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي-عند الكلام في استحباب صيام الأيام التي تتجدّد فيها نعم اللّه على عباده-ما هذا لفظه:إنّ من أعظم نعم اللّه على هذه الأُمّة إظهار محمد صلى الله عليه و آله و سلم و بعثته و إرساله إليهم،كما قال اللّه تعالى: «لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ» 4 فصيام يوم تجدّدت فيه هذه النعمة

ص:217


1- 1) .المواهب اللدنية:148/1. [1]
2- 3) .مسلم:الصحيح:168/3 باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر من كتاب الصيام.

من اللّه سبحانه على عباده المؤمنين حسن جميل،و هو من باب مقابلة النعم في أوقات تجدّدها بالشكر (1).

2- روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس-رضي اللّه عنه-قال:لمّا قدم النبي صلى الله عليه و آله و سلم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء،فسُئلوا عن ذلك،فقالوا:هو اليوم الذي أظفر اللّه موسى و بني إسرائيل على فرعون،و نحن نصوم تعظيماً له،فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«نحن أولى بموسى»و أمر بصومه (2).

و قد استدل ابن حجر العسقلاني بهذا الحديث على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي على ما نقله الحافظ السيوطي،فقال:

فيستفاد منه فعل الشكر للّه تعالى على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة،أو دفع نقمة و يعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة.

و الشكر للّه يحصل بأنواع العبادة،كالسجود و الصيام و الصدقة و التلاوة،و أي نعمة أعظم من نعمة بروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم (3).

3- و للسيوطي أيضاً كلام آخر نأتي بنصه،يقول:و قد ظهر لي تخريج عمل المولد على أصل آخر،و هو ما أخرجه البيهقي عن أنس انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم عقّ عن نفسه بعد النبوة مع أنّه قد ورد أنّ جده عبد المطلب عقّ عنه في سابع ولادته،و العقيقة لا تعاد مرة ثانية،فيحمل ذلك على أنّ الذي فعله النبي صلى الله عليه و آله و سلم إظهار للشكر على إيجاد اللّه إيّاه رحمة للعالمين و تشريفاً لأُمته كما كان يصلّي على نفسه،لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع،و إطعام الطعام،و نحو ذلك من وجوه القربات و إظهار المسرّات (4).

ص:218


1- 1) .ابن رجب الحنبلي:لطائف المعارف:98.
2- 2) .مسلم:الصحيح:150/3 باب صوم يوم عاشوراء من كتاب الصيام.
3- 3) .السيوطي:الحاوي للفتاوي:196/1.
4- 4) .السيوطي:الحاوي للفتاوي:196/1.

4- أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أنّ رجلاً من اليهود،قال له:يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً.فقال:أيّ آية؟ قال: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» 1.

قال عمر:قد عرفنا ذلك اليوم و المكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو قائم بعرفة يوم جمعة (1).

و أخرج الترمذي عن ابن عباس نحوه و قال:فيه نزلت في يوم عيد من يوم جمعة و يوم عرفة،و قال الترمذي:و هو صحيح (2).

و في هذا الأثر موافقة عمر بن الخطاب على اتخاذ اليوم الذي حدثت فيه نعمة عظيمة،عيداً لأنّ الزمان ظرف للحدث العظيم، فعند عود اليوم الذي وقعت فيه الحادثة كان موسماً لشكر تلك النعمة،و فرصة لإظهار الفرح و السرور (3).

نرى أنّ المسيح عند ما دعا ربه أن ينزل مائدة عليه و على حوارييه قال: «اللّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ» 5.

فقد اتّخذ يوم نزول النعمة المادية التي تشبع البطون عيداً،و الرسول صلى الله عليه و آله و سلم نعمة عظيمة منّ بها اللّه على المسلمين بميلاده،فلم لا نتّخذه يوم فرح و سرور؟

ص:219


1- 2) .البخاري:الصحيح:14/1 باب زيادة الإيمان و نقصانه من كتاب الإيمان-50/6 تفسير سورة المائدة،و كما أخرجه الترمذي في 250/5،و في الروايات المتضافرة أنّها نزلت في الثامن عشر من ذي الحجة في حجة الوداع.
2- 3) .البخاري:الصحيح:14/1 باب زيادة الإيمان و نقصانه من كتاب الإيمان-50/6 تفسير سورة المائدة،و كما أخرجه الترمذي في 250/5،و في الروايات المتضافرة أنّها نزلت في الثامن عشر من ذي الحجة في حجة الوداع.
3- 4) .عيسى الحميري:بلوغ المأمول:29.
إجماع المسلمين على تكريم مولده صلى الله عليه و آله و سلم:

ذكروا أنّ أوّل من أقام المولد هو الملك المظفر صاحب اربل،و قد توفي عام 630 ه،و ربّما يقال:أوّل من أحدثه بالقاهرة الخلفاء الفاطميون؛أوّلهم المعز لدين اللّه،توجّه من المغرب إلى مصر في شوال 361 ه،و قيل في ذلك غيره،و على أيّ تقدير فقد احتفل المسلمون حقباً و أعواماً من دون أن يعترض عليهم أيّ ابن أُنثى،و على أيّ حال فقد تحقّق الإجماع على جوازه و تسويغه و استحبابه قبل أن يولد باذر هذه الشكوك،فلما ذا لم يكن هذا الإجماع حجة؟! مع أنّ اتفاق الأُمّة بنفسه أحد الأدلّة،و كانت السيرة قائمة على تبجيل مولد النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى أن جاء ابن تيمية،و عبد العزيز بن عبد السلام (1)،و الشاطبي فناقشوا فيه و وصفوه بالبدعة،مع أنّ الإجماع فيه انعقد قبل هؤلاء بقرنين أو قرون،أو ليس انعقاد الإجماع في عصر من العصور حجة بنفسه؟

إلى هنا وقفت على أنّ شرعية الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله و سلم يثبتها القرآن الكريم و السنّة النبوية و اتفاق المسلمين و من فارقهم فقد فارق الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه،قال سبحانه: «وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً» 2 .

و إليك الكلام في المسألة الثانية:

ص:220


1- 1) .هو عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي (577-660 ه):فقيه شافعي،له من الكتب«التفسير الكبير»و«مسائل الطريقة»و غيرها.انظر أعلام الزركلي:21/4. [1]

2

اشارة

تكفير أهل القبلة

لا يصح تكفير فرقة من الفرق الإسلامية ما دامت تعترف بالشهادتين و لا تنكر ما يعد من ضروريات الدين التي يعرفها كل من له أدنى إلمام بالشريعة و إن لم تكن له مخالطة كثيرة مع المسلمين.و على ذلك فالبلاء الذي حاق بالمسلمين في القرون الماضية و امتد إلى عصرنا الحاضر بلاء مبدِّد لشمل المسلمين أوّلاً،و محرّم في نفس الكتاب و السنّة و إجماع المسلمين ثانياً،و من المؤسف أنّ التعصّبات المذهبيّة الكلامية صارت أساساً لتكفير المعتزلة أصحاب الحديث و الأشاعرة و بالعكس،و ربما عمّ البلاء شيعة أئمة أهل البيت،فترى أنّ بعض المتعصبين أخذوا يكفّرون الشيعة بأُمور لو ثبتت لا تكون سبباً للتكفير،فضلاً عن كون أكثرها تهماً باطلة كالقول بتحريف القرآن و نظيره و أنّ الثابت منها،مدعم بالكتاب و السنّة،و لأجل أن يقف القارئ على مدى البلاء في العصور السابقة،نذكر ما يلي:

1-قال ابن حزم عند ما تكلم فيمن يُكفَّر و لا يكفَّر:و ذهبت طائفة إلى أنّه لا يُكفَّر و لا يُفسَّق مسلم بقول قال في اعتقاد،أو فتيا،و إنّ كلّ من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنّه الحق فإنّه مأجور على كل حال إن أصاب فأجران،و إن أخطأ فأجر واحد.

قال و هذا قول ابن أبي ليلى و أبي حنيفة و الشافعي و سفيان الثوري و داود بن

ص:221

علي،و هو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة (رضي اللّه عنهم) لا نعلم منهم خلافاً في ذلك أصلاً (1).

2-و قال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي:إنّ الإقدام على تكفير المؤمنين عسر جداً،و كل من كان في قلبه إيمان يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء و البدع مع قولهم لا إله إلّا اللّه،محمد رسول اللّه،فإنّ التكفير أمر هائل عظيم الخطر (إلى آخر كلامه و قد أطال في تعظيم التكفير و تعظيم خطره) (2).

3-و كان أحمد بن زاهر السرخسي الأشعري يقول:لمّا حضرت الشيخَ أبا الحسن الأشعريّ الوفاةُ بداري في بغداد أمرني بجمع أصحابه فجمعتهم له،فقال:اشهدوا على أنّني لا أُكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب،لأنّي رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد و الإسلام يشملهم و يعمّهم (3).

4-و قال القاضي الإيجي:جمهور المتكلّمين و الفقهاء على أنّه لا يكفَّر أحد من أهل القبلة و استدل على مختاره بقوله:إنّ المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة من كون اللّه تعالى عالماً بعلم زائد على ذاته أو موجداً لفعل العبد،أو غير متحيز و لا في جهة و نحوها لم يبحث النبي عن اعتقاد من حكم بإسلامه فيها و لا الصحابة و لا التابعون،فعلم أنّ الخطأ فيها ليس قادحاً في حقيقة الإسلام.

ثمّ إنّ الإيجي ذكر الأسباب الستة التي بها كفّرتِ الأشاعرةُ المعتزلةَ،ثمّ ناقش في جميع تلك الأسباب و أنّها لا تكون دليلاً للكفر.

ثمّ ذكر الأسباب الأربعة التي بها كفّرتِ المعتزلةُ الأشاعرةَ و ناقش فيها و أنّها لا تكون سبباً للتكفير.

ثمّ ذكر الأسباب الثلاثة التي بها تكفّر شيعة أهل البيت و ناقش فيها و أنّها

ص:222


1- 1) .ابن حزم:الفصل:247/3. [1]
2- 2) .الشعراني:اليواقيت و الجواهر:58. [2]
3- 3) .الشعراني:اليواقيت و الجواهر:58. [3]

لا تكون سبباً للكفر (1).

و الحقّ أنّ القاضي قد نظر إلى المسألة بعين التحقيق و أصاب الحقّ إلّا في بعض المسائل.فقد ناقش في أسباب تكفير المجسمة و هو في غير محلّه و التفصيل لا يناسب المقام.

5-و قال التفتازاني:إنّ مخالف الحق من أهل القبلة ليس بكافر ما لم يخالف ما هو من ضروريات الدين كحدوث العالم و حشر الأجساد،و استدلّ بقوله:إنّ النبي و من بعده لم يكونوا يفتشون عن العقائد و ينبّهون على ما هو الحق.

فإن قيل:فكذا في الأُصول المتفق عليها.

قلنا:لاشتهارها و ظهور أدلّتها على ما يليق بأصحاب الجمل.

ثمّ أجاب بجواب آخر و قال:

قد يقال ترك البيان إنّما كان اكتفاءً بالتصديق الإجمالي إذ التفصيل إنّما يجب عند ملاحظة التفاصيل،و إلّا فكم مؤمن لا يعرف معنى القديم و الحادث.

فقد ذهب الشيخ الأشعري إلى أنّ المخالف في غير ما ثبت كونه من ضروريات الدين ليس بكافر،و به يُشعر ما قاله الشافعي - رحمه اللّه -:لا أرد شهادة أهل الأهواء إلّا الخطابية لاستحلالهم الكذب.

و في المنتقى عن أبي حنيفة أنّه لم يكفِّر واحداً من أهل القبلة و عليه أكثر الفقهاء،ثمّ ذكر بعض الأقوال من الأشاعرة و المعتزلة الذين كانوا يكفّرون مخالفيهم في المسألة (2).

قال ابن عابدين:نعم يقع في كلام أهل المذهب تكفير كثير،لكن ليس من

ص:223


1- 1) .الإيجي:المواقف:392-394. [1]
2- 2) .التفتازاني،شرح المقاصد:227/5-228. [2]

كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون،بل من غيرهم و لا عبرة بغير الفقهاء،و المنقول عن المجتهدين ما ذكرنا (1).

و لعل بعض البسطاء يتصوّر أنّ العاطفة و المرونة الخارجة عن إطار الإسلام هي التي صارت مصدراً لهذه الفتيا،و لكنّه سرعان ما يرجع عن قضائه إذا وقف على الأحاديث المتوفرة الواردة في المقام الناهية عن تكفير أهل القبلة،و إليك سردها:

السنّة النبوية و تكفير المسلم:

قد وردت أحاديث كثيرة تنهى عن تكفير المسلم الذي أقرّ بالشهادتين فضلاً عمّن يمارس الفرائض الدينية،و إليك طائفة من هذه الأحاديث:

1-«بُني الإسلام على خصال:شهادة أن لا إله إلّا اللّه،و أنّ محمداً رسول اللّه،و الإقرار بما جاء من عند اللّه،و الجهاد ماض منذ بعث رسله إلى آخر عصابة تكون من المسلمين...فلا تكفّروهم بذنب و لا تشهدوا عليهم بشرك».

2-«لا تكفّروا أهل ملّتكم و إن عملوا الكبائر» (2).

3-«لا تكفّروا أحداً من أهل القبلة بذنب و إن عملوا الكبائر».

4-«بُني الإسلام على ثلاث:...أهل لا إله إلّا اللّه لا تكفّروهم بذنب و لا تشهدوا لهم بشرك».

5- عن أبي ذر:أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:«لا يرمي رجل رجلاً بالفسق أو بالكفر إلّا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك».

ص:224


1- 1) .ابن عابدين:رد المختار:237/4.
2- 2) .نعم الكبائر توجب العقاب لا الكفر.

6- عن ابن عمر:إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما».

7-«من قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله،و من قتل نفساً بشيء عذّبه اللّه بما قتل».

8-«من كفّر أخاه فقد باء بها أحدهما».

9-«إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فهو كقتله،و لعن المؤمن كقتله».

10-«أيّما رجل مسلم كفّر رجلاً مسلماً فإن كان كافراً و إلّا كان هو الكافر».

11-«كفّوا عن أهل لا إله إلّا اللّه لا تكفّروهم بذنب،فمن كفّر أهل لا إله إلّا اللّه فهو إلى الكفر أقرب».

12-«أيّما امرئ قال لأخيه يا كافر،فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال و إلّا رجعت عليه».

13-«ما أكفر رجل رجلاً قط إلّا باء بها أحدهما».

14-«إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما إن كان الذي قيل له كافراً فهو كافر،و إلّا رجع إلى من قال».

15-«ما شهد رجل على رجل بكفر إلّا باء بها أحدهما،إن كان كافراً فهو كما قال،و إن لم يكن كافراً فقد كفر بتكفيره إيّاه».

16- عن علي عليه السلام:في الرجل يقول للرجل:يا كافر يا خبيث يا فاسق يا حمار؟ قال:«ليس عليه حد معلوم،يعزر الوالي بما رأى» (1).

ص:225


1- 1) .هذه الأحاديث مبثوثة في جامع الأُصول:1،و 10،11 كما أنّها مجموعة بأسرها في كنز العمال للمتقي الهندي:ج1.

17- حدثنا أُسامة بن زيد قال:بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سرية إلى الحرقات،فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلاً فلما غشيناه قال:لا إله إلّا اللّه،فضربناه حتى قتلناه فعرض في نفسي من ذلك شيء فذكرته لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال:«مَنْ لَكَ بِلا إله إلّا اللّه يوم القيامة؟»قال:

قلت:يا رسول اللّه،إنّما قالها مخافة السلاح و القتل،فقال:«أ لا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك أم لا ؟ مَنْ لَكَ بِلا إله إلّا اللّه يوم القيامة؟»قال:فما زال يقول ذلك حتى وددت أنّي لم أُسلم إلّا يومئذ (1).

18- لما خاطب ذو الخويصرة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم بقوله اعدل،ثارت ثائرة من كان في المجلس و منهم خالد بن الوليد قال:

يا رسول اللّه! أ لا أضرب عنقه؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«فلعله يكون يصلّي»،فقال:إنّه ربّ مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه،فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّي لم أُومر أن أُنقب عن قلوب الناس و لا أشق بطونهم» (2).

ما هو المقوّم للإسلام:

إنّ دخول الإنسان في حظيرة الإسلام رهن الإقرار بالشهادتين و التصديق بالتوحيد و الرسالة و في بعض الروايات يضاف إليهما إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الحج وصوم رمضان،و إليك الصنفين:

ص:226


1- 1) .صحيح مسلم:67/1،باب تحريم قتل الكافر من كتاب الإيمان؛سنن أبي داود:45/3 برقم 2643؛ [1]مسند أحمد:207/5؛ [2]سنن ابن ماجة:1296/2 برقم 3930.
2- 2) .صحيح مسلم:111/3 باب ذكر الخوارج و صفاتهم من كتاب الزكاة مسند أحمد:4/3.
الصنف الأوّل،و هو ما اقتصر على إظهار الشهادتين:

1-أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أنّ علياً صرخ:«يا رسول اللّه على ما ذا أُقاتل الناس؟»قال صلى الله عليه و آله و سلم:«قاتلهم حتى يشهدوا أنّ لا إله إلّا اللّه و أنّ محمداً رسول اللّه،فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم و أموالهم إلّا بحقها و حسابهم على اللّه» (1).

2-ما أخرجه الإمام الشافعي عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه قال:«لا أزال أُقاتل النّاسَ حتى يقولُوا:لا إله إلّا اللّه،فإذا قالوها فقد عصموا منّي دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على اللّه» (2).

3-روى التميمي عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عن عليّ،قال:«قال النبي:أُمرت أن أُقاتل النّاس حتى يقولوا لا إله إلّا اللّه،فإذا قالوا حرمت عليّ دماؤهم و أموالهم» (3).

4-روى البرقي مسنداً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:«الإسلام يحقن به الدم،و تؤدّى به الأمانة،و يستحلّ به الفرج،و الثواب على الإيمان» (4).

5-و قال الإمام الصادق عليه السلام:«الإسلام شهادة أن لا إله إلّا اللّه و التصديق برسول اللّه،به حقنت الدماء،و عليه جرت المناكح و المواريث» (5).

6-قال الإمام الشافعي:فأعْلَمَ رسولُ اللّه أنّه سبحانه فرض أن يقاتلهم

ص:227


1- 1) .البخاري:الصحيح:10/1،باب«فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة»من كتاب الإيمان؛و صحيح مسلم:121/7،باب فضائل علي بن أبي طالب عليه السّلام.
2- 2) .الشافعي:الأُم:157/6،158.
3- 3) .المجلسي:البحار:242/68. [1]
4- 4) .المجلسي:البحار:243/68 ح3 و 248 ح8. [2]
5- 5) .المجلسي:البحار:243/68 ح3 و 248 ح8. [3]

حتى يُظهِرُوا أنّ لا إله إلّا اللّه،فإذا فعلوا منعوا دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها (1).

7-قال القاضي عياض:اختصاص عصم النفس و المال بمن قال:لا إله إلّا اللّه،تعبير عن الإجابة إلى الإيمان،أو أنّ المراد بهذا مشركو العرب و أهل الأوثان و من لا يوحّد،و هم كانوا أوّل من دُعي إلى الإسلام و قوتل عليه،فأمّا غيرهم ممّن يقرّ بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقوله لا إله إلاّ اللّه إذا كان يقولها في كفره و هي من اعتقاده،و لذلك جاء في الحديث الآخر:و أنّي رسول اللّه،و يقيم الصلاة و يؤتي الزكاة (2).

و أمّا الصنف الثاني فنأتي ببعض نصوصه:

8-ما أخرجه البخاري عن عبد اللّه بن عمر قال:قال رسول اللّه:«بُني الإسلام على خمس:شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمداً رسول اللّه،و إقامة الصلاة،و إيتاء الزكاة،و الحج،وصوم شهر رمضان» (3).

9-ما تضافر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«من شهد أن لا إله إلّا اللّه،و استقبل قبلتنا و صلّى صلاتنا،و أكل ذبيحتنا،فذلك المسلم،له ما للمسلم و عليه ما على المسلم» (4).

10-روى أنس بن مالك عن رسول اللّه قال:«أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا اللّه و أنّ محمداً رسول اللّه،فإذا شهدوا ألّا إله إلّا اللّه و أنّ محمّداً رسول اللّه و استقبلوا قبلتنا،و أكلوا ذبيحتنا،و صلّوا صلاتنا،حرمت علينا دماؤهم و أموالهم إلّا بحقّها» (5).

ص:228


1- 1) .الشافعي:الأُم:296/7-297.
2- 2) .المجلسي:البحار:243/68. [1]
3- 3) .البخاري:الصحيح:16/1،باب أداء الخمس،من كتاب الإيمان.
4- 4) .ابن الأثير:جامع الأُصول:158/1-159.
5- 5) .ابن الأثير:جامع الأُصول:158/1-159.

و هذه النصوص-و ما أكثرها-تُصرِّح بأنّ ما تُحقَن به الدماء و تُصان به الأعراض و يدخل به الإنسان في عداد المسلمين و يتخيّم بخيمة الإسلام،هو الاعتقاد بتوحيده سبحانه و رسالة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،و هذا ما نعبر عنه ببساطة العقيدة و سهولة التكاليف الإسلامية.

إذا عرفت هذين الصنفين من الروايات فاعلم أنّ الجميع يهدف إلى أمر واحد و هو أنّ الدخول في الإسلام و الدخول تحت مظلّته ليس بأمر عسير بل سهل جداً،و ليس في الإسلام ما هو معقّد في المعارف،و لا معسور في الأحكام،و شتان بين بساطة العقيدة فيه، و التعقيد الموجود في المسيحية من القول بالتثليث و في الوقت نفسه الاعتقاد بكونه سبحانه إلهاً واحداً.

و على ضوء هذا البحث فالمسلمون في أقطار العالم إخوة بكل طوائفهم تربطهم شهادة التوحيد و الرسالة فتحرم دماؤهم و نواميسهم و أموالهم و تحل ذبائحهم،و بالجملة فالكل مسلمون مؤمنون لهم من الأحكام ما للمسلم و المؤمن.

فهذه المنشورات التي تهدف إلى فصل طائفة من المسلمين باتهامهم بالشرك،أوراق ضالة مضلة يُضرب بها عرض الجدار و لا يقام لها في سوق الدين قيمة.

اللّهمّ إنّا نرغب إليك في دولةٍ كريمة تعزّ بها الإسلام و أهله و تذلّ بها النفاق و أهله.

جعفر السبحاني

قم المشرفة

تحريراً في 4 جمادى الأُولى

عام 1416 ه

ص:229

ص:230

الرسالة الخامسة:موقف الشيعة الإمامية من حديث الإفك

إنّ السيدة عائشة من زوجات النبي و أُمّهات المؤمنين لها من الشرف و الكرامة ما لسائر نسائه صلى الله عليه و آله و سلم غير خديجة-رضي اللّه عنها-فقد رأت النور في بيتها،و عاشت معه فترة طويلة،و لم يشك أحد من المسلمين القدامى و الجُدد في براءتها من الافك الذي صنعته يد النفاق،و نشره عميد المنافقين و أذنابه«عبد اللّه بن أبي سلول»في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و حدّث عنه القرآن في آيات،يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ» 1.

«وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» 2.

و كفى في براءتها أنّه سبحانه سمّى النسبة إفكاً و بهتاناً عظيماً و أوعد من

ص:231

تولّى كبره بعذاب أليم.

و لأجل إيقاف إخواننا أهل السنّة على موقف الشيعة من هذه المسألة نأتي بنص أحد أقطاب التفسير من علماء الإمامية في القرن السادس،أعني:الشيخ الطبرسي (471-548ه) مؤلف«مجمع البيان في علوم القرآن»،الذي طبق اسمه و كتابه أقطار العالم الإسلامي، يعرفه كل من له صلة بالتفسير و علومه.

يقول رحمه الله بعد نقل آيات من سورة النور فيما لها صلة بالموضوع:

«روى الزهري،عن عروة بن الزبير و سعيد بن المسيب و غيرهما،عن عائشة أنّها قالت:كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها،فأقرع بيننا في غزوة غزاها،فخرج فيها سهمي،و ذلك بعد ما أنزل الحجاب،فخرجت مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتى فرغ من غزوه و قفل.

و روي أنّها كانت غزوة بني المصطلق من خزاعة قالت:و دنونا من المدينة،فقمت حين أذنوا بالرحيل،فمشيت حتى جاوزت الجيش،فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل،فلمست صدرتي فإذا عِقد من جِزْع ظفار قد انقطع،فرجعت فالتمست عقدي،فحبسني ابتغاؤه،و أقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني فحملوا هودجي على بعيري الذي كنت أركب و هم يحسبون أنّي فيه،و كانت النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلهنّ اللحم و لم يغشهن اللحم إنّما يأكلن العُلقة من الطعام،فبعثوا الجمل و ساروا،و وجدت عِقدي،و جئت منازلهم و ليس بها داع و لا مجيب،فسموت منزلي الذي كنت فيه،و ظننت أنّ القوم سيفقدوني فيرجعون إليّ،فبينا أنا جالسة إذ غلبتني عيناي فنمت،و كان صفوان،المعطل السلمي قد عرّس من وراء الجيش فأصبح عند منزلي،فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني،فخمرت وجهي بجلبابي و و اللّه ما كلّمني بكلمة حتى أناخ راحلته،فركبتها،فانطلق يقود الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في حر الظهيرة فهلك من هلك فيَّ.

ص:232

و كان الذي تولّى كبره منهم عبد اللّه بن أبي سلول،فقدمنا المدينة،فاشتكيت حين قدمتها شهراً و الناس يفيضون في قول أهل الإفك و لا أشعر بشيء من ذلك و هو يرثيني في وجعي،غير أنّي لا أعرف من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اللطف الذي كنت أرى من حين اشتكي إنّما يدخل فيسلم ثمّ يقول:كيف تيكم؟ فذلك يحزنني و لا أشعر بالسرّ-إلى أن قالت:-استأذنت رسول اللّه إلى بيت أبي فأذن لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فجئت أبوي و قلت لاُمي:يا أُمّاه ما ذا يتحدث الناس؟ فقالت:أي بنية هوني عليك،فو الله لقلّ ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها و لها ضرائر إلّا أكثرن عليها،قلت:سبحان اللّه أوقد يحدث الناس بهذا؟ قالت:نعم،فمكثت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع و لا اكتحل بنوم.

ثمّ أصبحت أبكي،و دعا رسول اللّه أُسامة بن زيد و علي بن أبي طالب عليه السلام حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله،فأمّا أُسامة فأشار على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالذي علم من براءة أهله و بالذي يعلم في نفسه لهم من الود فقال:يا رسول اللّه هم أهلك و لا نعلم إلّا خيراً،فأمّا علي بن أبي طالب-عليه أفضل الصلوات-فقال:لم يضيق اللّه عليك و النساء سواها كثيرة،و إن تسأل الجارية تصدقك،فدعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بريرة،فقال:يا بريرة! هل رأيت شيئاً يريبك من عائشة ؟ قالت بريرة:و الذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً قطّ أغمضه عليها أكثر من أنّها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها.

قالت:و أنا و اللّه أعلم أنّي بريئة،و ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى،و لكنّي كنت أرجو أن يرى رسول اللّه رؤيا يبرئني اللّه بها،فأنزل اللّه تعالى على نبيه و أخذه ما كان يأخذه من برحاء الوحي حتّى أنّه لينحدر عنه مثل الجمان من العرق في اليوم الثاني من ثقل القول الذي أنزل عليه،فلما سري عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:أبشري يا عائشة أما اللّه فقد برّأك،فقالت لي أُمي:قومي إليه،فقلت:و اللّه لا أقوم

ص:233

إليه و لا أحمد إلّا اللّه،فهو الذي أنزل براءتي فأنزل اللّه تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ» الآيات العشر (1).

هذه مقالة الشيعة و لو كان لهم و لغيرهم من سائر الطوائف الإسلامية كلام في حقّ السيدة فإنّما يرجع إلى وقعة الجمل و هي ذي شجون و لأعلام المسلمين و محققي التاريخ كلمات حولها و من أراد فليرجع إليها.

اللّهم ارزق المسلمين توحيد الكلمة،كما رزقتهم كلمة التوحيد

جعفر السبحاني

قم المقدسة

8 جمادى الآخرة عام 1415ه

ص:234


1- 1) .الطبرسي:مجمع البيان:130/4،ط صيدا،لبنان.

الرسالة السادسة:مبدأ حي و تعاليم قيّمة

اشارة

كانت مجلة«مكتب إسلام» (1)قد نشرت في عددها الخاص (2)مقالاً ضافياً حول مذهب الشيعة باللغات العالمية الحية:العربية و الانكليزية و الفارسية.

و لما كان المقال على منهج جديد،تجاوب مع شعور كثير من القراء و المفكّرين في العالم الإسلامي و قد ألحّوا علينا أن نفرد المقال بالطبع و النشر.

و ممّا لا يشكّ أي ذي مسكة فيه،أنّ السلطات الجائرة في غابر الزمان و الدعايات المسمومة من جانب أعداء الإسلام أوجدت ستاراً و ألقت أسدالاً على وجه الحقيقة،حالت دون وقوف المسلمين على مذهب الشيعة.

فلأجل هذا و ذاك قامت الهيئة التحريرية للمجلة بتلبية نداء هذا الصنف من القرّاء بإفراد المقال بالطبع و توزيعه في مختلف الأقطار على نطاق واسع بعد إعادة النظر فيه.

فها نحن نقدم للأُمّة الإسلامية و سائر الأُمم أُمّهات عقائد الشيعة و لباب أُصولها بغية تقريب الخطى،و حفظاً للوحدة و الوئام بين الأُمّة جمعاء.

قم:ايران-مجلة«مكتب اسلام»

ص:235


1- 1) .مجلة شهرية،علمية،دينية،ثقافية،تصدر عن الجامعة الإسلامية بقم المقدسة تهدف إلى بث روح الإيمان و العمل و معالجة المعضلات الخلقية و الاجتماعية،أُسّست عام 1378ه.ق و ما زال عطاؤها العلمي مستمرّاً إلى سنتنا هذه 1419ه.ق.
2- 2) .العدد السابع سنة 1386ه.ق.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

ليس الغرض من وضع هذا المقال سرد عقائد الشيعة و ما لها من أُصول و مبادئ و أفكار،لأنّ ذلك يدفعنا إلى تأليف كتاب مفرد، و إنّما الهدف إيقاف القارئ على مبادئ التشيّع و أُسسه على وجه الإجمال بأوضح العبارات و أخصرها كي يرجع إليه من ليس له إلمام صحيح و معرفة وافية بأُصول تلك الطائفة و لا يكون من الذين أخذوا مبادئ التشيّع عن كُتّاب مغرضين.

و لمّا كان هذا المقال يصدر عن معهد علميّ له تاريخه الحافل بين معاهد الشّيعة الكبيرة،فسيجده القارئ كافياً في ازاحة الستار عن كثير من المختلقات و المبهمات التي حامت حول مذهب الشيعة و فيه أجوبة لكثير من الأسئلة الّتي قد تتبادر إلى الأذهان.

و إليك الإشارة إلى العناوين المطروحة في المقال:

*الشيعة في الوقت الحاضر*الجامعات العلمية للشيعة

*نشوء مذهب الشيعة*مكانة القرآن الكريم عند الشيعة

*الشيعة و سائر الفرق الإسلامية*عقائد الشيعة

*مميزات الشيعة*المصادر الدينية للشيعة

*نماذج من الوظائف الأخلاقية و الاجتماعية عند الشيعة

و ذلك ضمن فصول:

ص:236

1

اشارة

الشيعة في الماضي و الحاضر

تدلّنا الإحصاءات الدقيقة على أنّ التشيّع في الوقت الحاضر يدين به أكثر من مائتين و خمسين مليون نسمة و هم متفرِّقون في أقطار العالم و أرجاء الدُّنيا يقطنون غالباً في إيران و العراق و باكستان و الهند و اندونسيا و سوريا و لبنان و المملكة السعوديّة و أفغانستان و تركيا و القفقاس و مصر و أمارات الخليج و إفريقية الشرقية و المركزية و الأمريكتين و الصين،إلى غيرها من البلاد،و تشكّل الشيعة رُبع فرق المسلمين.

و لهذه الطائفة مساهمة فعالة في تأسيس الحضارة الإسلامية،فانّهم حازوا قصب السبق على غيرهم في حفظ التراث الإسلامي.

و مع الأسف الشديد لم تُعْرف الشيعة حقّ المعرفة حتّى أنّ إخواننا أهل السنّة على الرغم من تعايشهم مع الشيعة لا يعرفون عن مذهب الشيعة إلّا النزر اليسير.

و ليس ذلك جديداً فانّ المستعمرين و أذنابهم وجدوا أهدافهم و تحقّق مآربهم في فصل السنّة عن الشيعة و تأجيج نار الشحناء و البغضاء بينهما،و لم يقتصروا على ذلك فحسب بل استعانوا بتشويه الحقائق و تحويرها بغية ترسيخ ذلك التعصّب البغيض.

ص:237

و قد خلّفت تلك العوامل مضاعفات سيّئة،أعقبها حروب طاحنة بين الفئتين غير أنّ تلك القلاقل و الفتن لم تُنتج سوى وهن الإسلام و ضرب المسلم أخاه المسلم.

لكن اللّه أبطل سعيهم و أفسد كيدهم بيقظة المسلمين بعد طول سبات،و تقدُّمهم في معترك الحياة فتعارفوا بعد ما تناكروا و تآلفوا بعد ما تباغضوا.

و قد قام عدد كبير من أساتذة جامعة الأزهر بمعاضدة بعض مفكّري الشيعة بتأسيس دار للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة و الهدف الاسمى لتلك الجمعيّة الثقافيّة كما ينبئ عنه عنوان«دار التقريب بين المذاهب الإسلامية»هو التقريب بين فرق المسلمين و القيام على جمع كلمة الطوائف الإسلاميّة الّذين فرّقتهم آراء لا تتّصل بالعقائد الّتي يجب الإيمان بها و قد تألّفت الجمعيّة من أعلام السنّة و الشيعة، و السكرتير العامّ للجماعة هو شيعيّ إيرانيّ.

كما قامت الجمعيّة بإصدار مجلّة علميّة سمتها«رسالة الإسلام»لنشر دعوتها و رسالتها،و هي صحيفة حافلة بالمواضيع العلميّة الحيّة الّتي تلائم روح دعوتها و يساهم في كتابتها عدّة من كتاب علماء السنّة و الشيعة و قد قطعت في ذلك المضمار شوطاً كبيراً.

و من نتائج دعوتها الفتوى التاريخية الّتي أصدرها فضيلة الأُستاذ الأكبر الفقيد الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر فقال:

إنّ مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك و أن يتخلّصوا من العصبية بغير الحقّ. (1)

ص:238


1- 1) .راجع العدد الثالث من رسالة الإسلام السنة الحادية عشرة.

و لم يكن شيخ الأزهر الفقيد وحيداً في فتواه فقد سبقه إلى هذا الأُستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم،شيخ الأزهر في وقته و إن لم يكن مجاهراً مثله.

و قد كان لتلك الفتوى التاريخيّة صدى واسع في المجتمع الإسلاميّ حيث أحكمت أواصر الأُخوّة و كرست روح التفاهم بين الطائفتين و تلقاها أعلام السنّة و الشيعة بصدور رحبة.

الجامعات العلمية للشيعة

للشيعة الإماميّة جامعات علميّة مكتظّة بالأساتذة و روّاد العلم و التحقيق و أخصُّ بالذكر جامعتين كبيرتين لهما منزلة و مكانة عظيمة:

1.جامعة النجف الأشرف ذلك المركز العلميّ العريق الّذي أُسّس منذ قرابة ألف عام عند مرقد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

2.جامعة قم و هي جامعة كبيرة لها الأثر الكبير في نشر المذهب الشيعي إضافة إلى جامعة مشهد الّتي تأسّست عند مرقد الإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام و تضمُّ الجامعات المذكورة أكابر مراجع الشيعة و أعاظم زعمائها الدينيّين و قادتها الروحيّين و مهمّتهم تحمّل أعباء الزعامة و المرجعيّة الروحيّة العامّة مع بذل جهدهم في صيانة الجامعة و تربية طلاّبها بإلقاء الدروس في أندية البحث و التدريس وراء ما يقومون به من مهمّة الإفتاء.

و قد اكتظت الجامعات منذ تأسيسها بآلاف من روّاد العلم و المعرفة في كافة الاختصاصات،كلّ حسب استعداده و كفايته إلى أن يقضي وطره و ينال من التحصيل بغيته فتخوّله المرجعيّة الدينية مهمّة من المهمّات إمّا بالتخصّص في الوعظ و الارشاد،و إمّا بتمثيل الزعيم الدينيّ في بلد أو قطر،و إمّا بإقامة الجماعة في مسجد،أو بالتدريس في نفس الجامعة إلى غير ذلك من الصلاحيات.

ص:239

و من مفاخر الشيعة أنّهم حازوا قصب السبق في تأسيس فنون الإسلام و تدوينها يقف على ذلك كلُّ من سبر تاريخ العلوم الإسلاميّة و أمعن النظر في نشوئها و تكاملها ففي طيات التاريخ و المعاجم دلائل واضحة على أنّ جُلّ العلوم الإسلاميّة أُسّست بيد الفطاحل من الشيعة و الأعلام من أقدميهم. (1)

و للشيعة منهج خاصٌّ في تربية الخطيب و المبلّغ فترى الخطيب واقفاً أمام حشد عظيم يلقي خطابة حماسية أو كلمة اجتماعيّة ارتجالاً بأحسن العبارات و أفصحها.

كان الزعيم الديني الأكبر الإمام البروجردي قدّس اللّه سرّه (1292- 1380ه.ق) باذلاً تمام جهده في تعريف الشيعة على وجهها الصحيح ساعياً في هذا الطريق بكلّ ما أُوتي من حول و قوّة،لإيمانه بأنّ التشيّع قائم على أُسس منطقية و أنّه الملجأ الوحيد لحلّ المشاكل الاجتماعيّة و الأخلاقيّة الّتي حاقت بالغرب.

كان الإمام المغفور له على إيمان بأنّه لو وقف العالم الغربيّ و الشبيبة المتربّية في أحضانه على مبادئ التشيّع و أُصوله و معتقداته للجئوا إليه بخاطر رحب و صدر منشرح.

و قد نجح رحمه الله بعض النجاح في أهدافه فقام بإزاحة العقبات و العراقيل الّتي وضعت امامه ببعث رجال العلم إلى البلاد النائية مثل «واشنطن»و«هامبورغ»في أمريكا و ألمانيا،فقاموا بأعباء التبليغ و الإشادة بمذهب الشيعة و تشكيل أندية الوعظ و الإرشاد،و إقامة المؤتمرات حتّى وفّق لبناء مسجد عامر في ساحل بحيرة«الستر»في هامبورغ،و قد قام البناء على مزيج من الفنون المعمارية الشرقيّة

ص:240


1- 1) .تجد تلك الدلائل و الشواهد في كتاب«تأسيس الشيعة لفنون الإسلام»تأليف المرجع الديني الأكبر السيد حسن الصدر.

الإسلاميّة و الغربيّة على أرض تربو مساحتها على أربعة آلاف متر تقام فيه الصلاة و تعقد فيه المؤتمرات و الندوات يحضرها العديد من الجامعيين و التجّار و من أسلم من الغربيّين من غير فرق بين الشيعيّ و السنّي و الأبيض و الأسود بل الجميع يقفون في صفّ واحد.

و للشيعة مكتبات عامرة ذات عظمة و شأن و في طليعتها مكتبات النجف الأشرف و قم و مشهد و طهران تحفظ فيها النفائس و المخطوطات و الآثار الإسلاميّة.

و ممّا هو جدير بالذكر أنّ جامعتي الأزهر و القرويين في القاهرة و المغرب من أقدم الجامعات الّتي أُسّست بيد الشيعة،فقد قام المعزُّ لدين اللّه أحد الخلفاء الفاطميّين المجاهرين بالتشيّع بتأسيس الأزهر الشريف في أواسط القرن الرابع كما أنّ جامعة القرويّين من آثار «الأدارسة»الحسنيّين ملوك مراكش.

نشوء مذهب الشيعة

لقد فسح المجال لذوي الأقلام المستأجرة لتشويه سمعة الشيعة و رمي التشيّع بأنّه فكرة خاصّة لطائفة انطوت على نفسها لا تمتُّ إلى المسلمين و الإسلام بصلة،و إن اتّسمَت بطابع الإسلام مع أنّها هي الإسلام نفسه.

إذ ليس التشيّع مبدأ خاصاً وراء الإسلام،و لا الإسلام مبدأ يغاير التشيع،إنّما التشيّع هو نفس الإسلام الذي جاء به نبيّنا الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم،و الشيعة تدّعي أنّ أحسن الطرق و أبعدها عن الريب إلى معرفة الإسلام و ما فيه من تعاليم إنّما هو أوصياؤه و أهل بيته الّذين تربّوا في مهبط الوحي فصاروا أقرب الناس إلى رسول اللّه من غيرهم،فالإسلام و التشيع حقيقة واحدة حدثا و تكوّنا في آن واحد.

ص:241

مكانة القرآن الكريم عند الشيعة

إنّ القرآن الكريم هو المصدر الأوّل لدى الشيعة كما هو عند المسلمين كافّة و لم يتطرّق إليه تحريف أو تشويه،و هو عندهم المقياس الوحيد لتمييز الموضوع من الصحيح في الأحاديث الإسلاميّة،و أنّ كلّ حديث خالف كتاب اللّه فهو زخرف يضرب به عرض الحائط.

الشيعة و سائر الفرق الإسلامية

لعلّك تقول:لما ذا افترقت السنّة عن الشيعة؟ و ما هي أسباب ذلك ؟ فنقول:إنّ الفارق الأساسيّ إنّما هو موضوع الإمامة،فانّ الخلافة الإسلاميّة عند الشيعة منصب إلهيٌّ خطير لا يقوم به إلّا الأمثل فالأمثل من الأُمّة،و ليس تشخيص ذلك إلّا للّه و لرسوله من بعده، فلأجله ذهبت الشيعة إلى أنّ الإمامة كالنبوّة لا تنعقد إلّا بتنصيص و تعيين من اللّه.

اتّفقت الشيعة على أنّ الأئمّة الاثني عشر خلفاء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و أنّهم منصوبون من اللّه لقيادة الأُمّة و زعامتها و قد نصَّ الرسول على عددهم و أسمائهم و نصَّ كلُّ خليفة سابق منهم على الخليفة من بعده،و دونك أسماءهم:

الإمام عليُّ بن أبي طالب عليه السلام ابن عمِّ الرسول و صهره تربّى في حجره و لم يزل يقفو أثره طول حياته،و هو أوّل النّاس إسلاماً، و أشدّهم استقامة في مصالح الدين الإسلامي و تفانياً في تثبيته و تركيزه،بلغ في علمه و تقواه رتبة تقاصر عنها الأقران و تراجع عنها الأكفاء.

نصَّ النبيُّ الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم في حشد عظيم على خلافته و ولايته،عند منصرفه من مكّة عام حجّة الوداع في موضع يقال له«غدير خم»و لم تكن أوّل مرَّة شاد

ص:242

فيها الرسول بمقام وصيّه فقد كان طول حياته ينوِّه بوصايته و خلافته،من بدء إظهار الدعوة إلى مرضه الّذي توفّي فيه.

كان الإمام أفضل الناس و أمثلهم بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يبلغ شأوه أحد من الصحابة،و لم يكن يوم ذاك رجل أليق بزعامة الأُمّة و قيادتها منه.

غير أنّ قريشاً قد تمالأت على تداول الخلافة في قبائلها،و اشرأبّت إلى ذلك أطماعها فتصافق الأغلب منهم على تناسي النصّ، و أجمعوا على صرف الخلافة من أوّل أيّامها عن وليّها المنصوص عليه.

نعم تصافقت مع عليّ عليه السلام ثلة جليلة من الشخصيّات البارزة من المهاجرين و الأنصار و التابعين لهم بإحسان فبقوا على منهاج نبيّهم و لم يرضوا إلّا بولايته و خلافته الّتي صدع بها نبيّهم صلى الله عليه و آله و سلم في حياته،و لم يبايعوا غيره و نصروا إمامهم بتضحية نفوسهم و بذل أموالهم و قد حفظ التاريخ أسماءهم و ما لهم من مواقف،غير أنّ شيعة عليّ تحفّظاً للوحدة و الوئام خطوا خطوة إمامهم من ترك التعرُّض لمتقمصي الخلافة،و المماشاة معهم في مهامِّ الأُمور و مصالح الدين و المسلمين.

و لم ير الإمام بدّاً لحفظ مصالح الدين من تسليم الأمر إلى المجلبين على الخلافة فلزم عقر داره مدَّة تربو على خمسة و عشرين عاماً إلى أن رجعت إليه الخلافة،فتصافقت على قيادته و زعامته جبهة الأنصار و المهاجرين و ألقوا إليه مقاليد الخلافة،فأحيا الإمام عليه السلام سنّة النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم في عدله و إنصافه و مساواته بين الناس و لم يكن لأحد فيه مطمع،و لا عنده هوادة،و لم يكن يُقيم وزناً لغير الحق،و لم يحكم بين الأُمّة إلّا بالحقّ و العدالة،و هذه الحكومة الإلهيّة و إن لم تطل أيّامها و لم تتجاوز خمسة أعوام،و انتهت باغتياله عليه السلام إلّا أنّها كانت مثالاً نموذجياًً لحكومة الحقّ و العدالة و المثل الراقية،و هذه خطبه و رسائله توقفنا على أصالة رأيه و سداد منطقه و عدله.

ص:243

و الإمام مفخرة من مفاخر المسلمين على الإطلاق،لا بل الإنسانيّة جمعاء،و ليست الشيعة إلّا من تابع الإمام و شايعه في أقواله و أفعاله،و ما أُطلق لفظ الشيعة على هذه الفئة إلّا لمشايعتهم الإمام فيما كان يأخذ و يذر.

فالإمام عليٌّ أوّل الأئمّة الاثني عشر،و يليه الحسن بن عليّ،فالحسين بن عليّ،فعلي بن الحسين،فمحمد بن عليّ،فجعفر بن محمد،فموسى بن جعفر،فعليُّ بن موسى،فمحمد بن عليّ،فعلي بن محمّد،فالحسن بن عليّ،فمحمد بن الحسن عليهم السلام هؤلاء أئمّة الشيعة و قادتهم،نقتبس من أنوارهم،و نهتدي بهداهم،و قد حُفظت تواريخهم و آثارهم و دوِّنت أحاديثهم و ما روي عنهم.

اتّفقت الشيعة على أنّ الأرض لا تخلو من قائم للّه بحجة،إمّا ظاهراً مشهوراً أو غائباً مستوراً يسلك بالمجتمع طريق المكارم، و يرفع لهم أعلام الهداية،و يربّيهم و يرشدهم إلى صراط الحقّ،و تلكم الحجج في عامّة الأدوار تمثّل إمّا في نبيِّ أو وصيّ نبيّ،هذا منهج الشيعة تسير عليه في أبحاثها الكلامية،و تبرهن عليه بالوجوه العقليّة و النصوص المتضافرة،كما و تعتقد أنّ الإمام الثاني عشر عليه السلام آخر الأئمّة حيٌّ يرزق،منحه اللّه من العمر أطوله،و ليس ذلك في عقيدة الشيعة بجديد،فقد قالت جمهرة المسلمين بأنّ المسيح حيّ يُرزق بعد مرور عشرين قرناً على ميلاده لحدِّ الساعة هذه،و ليس على اللّه بعسير فهو القادر على كلِّ شيء فله أن يمنح عبداً من عباده أيَّ قدر شاء من العمر،فلا قُدرة اللّه متناهية و لا طول العمر محال في نفسه،و لا الأُصول المحرَّرة في علم الحياة تعانده و ما جاء العلم لحياة البشر بحدِّ لا يتجاوزه.

و قد ادَّخره اللّه ليوم يتظاهر فيه الزمان بالجور و العدوان،و يشاع فيه القتل و سفك الدماء و الفساد و يحيق بالمجتمع ألوان العذاب و البلاء حتّى تضيق بهم الحياة.

ص:244

غير أنّ هذه المصائب و المكاره تهيّئ المجتمع و تدفعه إلى ثورة عارمة ضدّ الظلم و العدوان تقلع و تقطع جذور الجبابرة عن أديم الأرض إلى أن ترفرف أعلام العدل و السلام في شرق الأرض و غربها و هذه الثورة الإلهيّة الموعودة الّتي تغير الزمان و أهله ستتحقّق بإذن اللّه بقيادة آخر الخلفاء من أئمّة الشيعة فيملأ اللّه به الأرض قسطاً و عدلاً بعد ما ملئت ظلماً و جوراً.

و عقيدة الشيعة في الإسلام أنّه ليس دين رهبانيّة و تزمّت و لا ديناً يصب اهتمامه على النفعيّة و الانتهازيّة و العمل غير المشروع و إنّما هو دين انطلاق مع المثل الراقية و أُصول الحياة.و دونك بيان عصارة عقائد الشيعة تحت أُصول ثلاثة:

ص:245

2

اشارة

عقائد الشيعة:

الأصل الأوّل:التوحيد
اشارة

أقامت الشيعة براهين قيّمة على أنّه تعالى واحد لا شريك له و لا نظير و لا شبيه له لم يلد و لم يولد و هي تكافح كلَّ لون من ألوان الشرك و أيَّ انحراف عن صراط التوحيد.

أجمعت الشيعة على أنّ العالم مخلوق للّه و مصنوع له لم يشاركه فيه أحد من خلقه،و لم ينازعه أحد في ملكه و لا خالق إلّا اللّه.

و هذا الأصل هو الّذي أرشدهم إلى القول بأنّ كلَّ ما في الكون من حقير و خطير ليس فيه إلّا الخير و الصلاح و أنّ كلَّ انحراف و فساد فهو من فعل الإنسان.

اتّفقت الشيعة على تنزيه اللّه تبارك و تعالى عن الجسم و لوازم الجسمانيّات و أنّه تعالى فوق المادّة و المادّيّات،فليس هو في حيّز و لا يحيط به شيء،و علمه قد أحاط بكلّ شيء،و هو أقرب إلى عبده من حبل الوريد،بصير سميع لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء.

و هو محيط بكلّ الأزمنة و الأمكنة،فالماضي و المستقبل و العالي و الداني عنده سواء،و الموجودات بهويّاتها و حقائقها الخارجيّة حاضرة لديه منكشفة له أتمَّ الانكشاف،يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور.

الشيعة توحّد اللّه أتمَّ التوحيد،فاللّه جلّ و علا عندهم بسيط لا جزء له؛

ص:246

حتّى أنّ صفاته الجماليّة كعلمه و قدرته عين ذاته لا زائدة عليها،فليست هاهنا ذات وراء الصفات حتّى تكون معروضة لها كما في غيره من الممكنات،و هذا لا يعني خلوّ ذاته سبحانه عن العلم و القدرة كما عليه بعض الفرق الإسلامية،بل يعني انّ الذات بلغ في الكمال بمكان صار نفس العلم و القدرة.كما انّه لا حدّ لوجوده فهو أزليٌّ أبديٌّ غير متناه من جميع الجهات.

و هو جلَّ و علا لا يجانس أحداً من مخلوقاته في صفاته و أوصافه،إذ لا سنخيّة بينه و بين مصنوعاته و لا تشابه بين المتناهي و غير المتناهي.

اتّفقت الشيعة على أنّ اللّه هو الغافر لذنوب عباده و زلّات خلائقه دون غيره،و لا يشاركه في ذلك أحد،و لا يشفع أحد من أنبيائه و أوليائه إلّا بإذنه.

الأصل الثاني:النبوة و بعثة الرسل

اتّفقت الشيعة على أنّ اللّه تعالى بعث رسله و أنبياءه إلى عباده و هم خيار خلائقه ليهدوهم إلى صراطه و يخرجوهم من ظلام الجهل إلى نور العلم و الإيمان،لأنّه لم يخلقهم إلّا للفوز بالسعادة،و قد جبلهم على مؤهّلات في أنفسهم تحبّب إليهم الخير و السعادة و تبعثهم إلى الابتعاد عن الظلم و الانحراف و ما شابه ذلك من مساوي الأخلاق.

ثمّ إنّه تعالى عزّز الفطرة و كمّلها ببعث رسله وقادة هداه،و أمرهم بإبلاغ أحكامه و نصح خلائقه حتّى يتسنّى لهم الارتقاء إلى قمة الكمال الممكن،و هذا يعني انّ الشرائع السماويّة لا تفارق الفطرة قط بل تماشيها،و كلُّ ما يطرق سمعك ممّا هو منسوب للدين و تتجافى عنه الفطرة فاعلم أنّه ليس من الدين و أنّه مختلق مصنوع.

أجمعت الشيعة على أنّ ما تحمّلته الرسل من المحن و المكاره و ما أصابهم في

ص:247

جنب اللّه من الأذى لم يكن لفداء أُمتهم و تأمين أتباعهم ممّا اقترفوا من ذنب و ارتكبوا من خطيئة،بل كان لمرضاة اللّه و خدمة المجتمع،و قد نوّه القرآن على ذلك غير مرَّة.

تعتقد الشيعة أنّ الأنبياء و الرسل صفوة الناس و خيرتهم و أفضلهم و أنّه يجب على كلِّ إنسان تكريمهم،غير أنّ أيدي السوء عبثت بالكتب السماوية ما سوى القرآن،فحرَّفت منها ما كان حقّاً لا شائبة فيه،و ثبّتت فيها خرافات هي أشبه بقصص القصاصين لا تنسجم مع المنطق السليم.

و العصمة عند الشيعة أصل مبرهن عليه،و الأنبياء عندهم معصومون من الذنوب نزيهون عن الخطأ و النسيان.

أجمعت الأُمّة الإسلاميّة على أنّ نبيَّ الإسلام أعظم الأنبياء منزلة،و هو خاتمهم،و دينه خاتمة الشرائع.

الأصل الثالث:المعاد

و هو أصل إسلاميّ خطير،و قد اتّفقت السنّة و الشيعة على أنّ اللّه يحيي الناس يوم القيامة و يضع الموازين القسط فلا يُظلم أحد مثقال ذرة،و وفيت كلّ نفس ما عملت،فإمّا إلى النعيم الدائم و إمّا إلى العذاب المقيم.

ميزات الشيعة

هذه الأُصول الثلاثة تشترك فيها عامّة فرق المسلمين غير أنّ للشيعة أُصولاً اختصّت و انفردت بها عن سائر الفرق و هي:

1.الإمامة و الخلافة:الإمامة كما قلنا منصب إلهيّ يمنحه اللّه لخاصّة عباده و هم الأئمّة الاثنا عشر خلفاء اللّه و خلفاء نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:248

2.العدل:اتّفقت الشيعة على عدله تعالى فلا يظلم عباده مثقال ذرَّة لأنّ الظلم ينشأ إمّا عن الجهل بقبحه و إمّا عن الحاجة إليه و كلاهما آية النقص و هو تعالى منزَّه عن كلِّ ذلك لكماله المطلق و على هذا الأساس قالت الشيعة ببطلان الجبر في أفعال العباد و أنّ المكلّفين غير مجبورين في أفعالهم و أقوالهم،خلقهم اللّه مختارين في ما يفعلون و يتركون غير مضطرّين في طاعة أو معصية،و جعل الإنسان تامّ التصرُّف في ما يسعد به و يشقى،و أنّه «لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» 1 و «أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى» 2 و «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» 3 .

لكن إخواننا أبناء السنّة لمّا لم يعترفوا بالحسن و القبح العقليّين و لم يعتقدوا بأنّ النفس تدرك حسن العدل و قبح الظلم،قالوا بأنّ ما حسّنه الشرع فهو حسن،حتّى لو أمر بالظلم و العدوان،و كلّ ما قبّحه الشرع فهو قبيح حتّى لو نهى عن العدل و الإحسان،و آلت النتيجة أنّه لا مفهوم للحسن و القبح و لا للعدل و الظلم بالنسبة إليه تعالى.

المصادر الدينية للشيعة

الشيعة كسائر الفرق الإسلاميّة تعتمد على كتاب اللّه العزيز،الذي هو مقياس يوزن به الحقُّ و الباطل،و تعتمد على السنّة المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق الثقات و على ما اتّفق عليه المسلمون في الأجيال السالفة و الحاضرة،و على الأحاديث المأثورة عن الأئمّة الاثني عشر الّذين هم أقرب الناس إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و عنه أخذوا علومهم و معارفهم بلا واسطة أو بواسطة آبائهم.

و المصدر الأخير عند الشيعة من أهمِّ مصادر التشريع تعتمد عليه في غالب شئونها،و هم يتمسّكون في حجّيّة هذا المصدر بقول الرسول الأعظم-:«إنّي تارك فيكم الثقلين:كتاب اللّه،و عترتي أهل بيتي،و لن يفترقا حتى يردا عليَّ

ص:249

الحوض»فجعل أئمّة الشيعة أعدال الكتاب و قرناءه،و الشيعة تتمسّك بأهداب ولائهم و يروون أقوالهم و أفعالهم كقول نبيّهم صلى الله عليه و آله و سلم و فعله و تقريره.

و الشيعة تعتمد على ما يحكم به العقل حكماً باتّاً و هذه المصادر الأربعة:(كتاب اللّه،و سنة رسوله،و ما أجمع عليه المسلمون و ما حكم به العقل) هي مدارك الشيعة و مصادر أحكامها و لا تعتمد على الأقيسة و الاستحسانات و غيرها من الوجوه الظنية.

كما يجب على من تصدّى للإفتاء و القضاء استنفاد وسعه في استنباط الحكم الشرعيّ من الأدلّة المذكورة،و لا يجوز له أن يرتجل الأحكام ارتجالاً خارجاً عن المصادر المذكورة.

إنّ باب الاجتهاد عند الشيعة مفتوح على مصراعيه إلى يوم القيامة،و لا يختصُّ بفرد دون فرد أو جمع دون جمع،و الشيعة لا تسلب العقول المستنيرة حرِّيّتها و لا تلزمها بالرجوع إلى مجتهد خاصّ،و من بلغ رتبة الاجتهاد عندهم حرُم عليه العمل بالتقليد و لزمه العمل وفق رأيه سواء وافق سائر المذاهب أم خالفها،و الشيعة في هذا الجانب تخالف السنّة في انسداد باب الاجتهاد بعد الأئمّة الأربعة.

بيد أنّ السنّة و الشيعة و إن اختلفوا فيما تقدّم من الأُمور فانّهم لا يختلفون في أُصول الأحكام الإسلاميّة و أُمّهاتها و هذه الفوارق لا تخرجهما عن كونهما أُمّة واحدة و ذات دين واحد.

الإسلام عند الشيعة شريعة سهلة سمحة تحقّق سعادة الإنسان في جميع نواحيه و في كافّة أدوار حياته و فيه مرونة تماشي جميع الأزمنة و الأجيال.

دوَّنت الشيعة أُصول الإسلام و فروعه و ما يرجع إلى المسئوليات الفرديّة و الاجتماعيّة و تحمّلوا في سبيل ذلك جهوداً مضنية و قد اضطرُّوا في هذا المضمار (الاجتهاد في الأحكام الفرعيّة) إلى تأسيس علوم تعدُّ مبادئ له حيث لا يتمُّ

ص:250

الاجتهاد إلّا بها.

و ها نحن نشير إلى قليل من كثير من الفروع الّتي تعدُّ أُسساً و أركاناً للإسلام:

1.الصّلاة:و هو ركن عظيم إسلاميٌّ،فيجب على كلِّ مسلم أن يقيم الصلوات اليوميّة في أوقاتها الخاصّة إلى الجهة (القبلة) الّتي نصّ عليها القرآن و أطبق المسلمون عليها.

2.الصوم:يجب على كلِّ مسلم أن يصوم شهر رمضان كلّه بادئاً برؤية الهلال و خاتماً بهلال شوّال.

3.الحجّ:يجب على كلِّ مسلم مستطيع أن يحجَّ بيت اللّه الحرام و يجتمع مع سائر إخوانه في ذلك المشهد العظيم الّذي ينعقد كلَّ سنة مرَّة واحدة.

4.الزكاة:و هي عند الشيعة ركن اجتماعيٌّ بارز،لها صلة وثيقة بسياسة المال في الإسلام،و هي حقُّ الجماعة في عنق الفرد و ضريبة إسلامية على عاتق المكلّفين-و قد حدَّد لها الإسلام نصاباً و جعل لها شرائط،و أوضح مواضع صرفها،التي منها الفقراء و المساكين و في«سبيل اللّه»و هو مصرف عامٌّ تحدِّده الظروف،و منها تجهيز المجاهدين و علاج المرضى و كلّ ما يمت لصالح الإسلام و المسلمين بصلة.

5.الخمس:و هو ضريبة إسلاميّة أُخرى تتعلّق بأموال المسلمين و له شرائط و حدود محرَّرة في مواضعها.

6.الجهاد:و هو ركن من أركان الإسلام،فيجب على كلّ مسلم جهاد العدوّ و طرده إذا حاول القضاء على الإسلام بتضحية النفوس و الأموال.

7 و 8.الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر:هما لدى الشيعة من أفضل القربات أساسهما الدعوة إلى الحقّ و نبذ الباطل و مكافحة الفساد بألوانه المختلفة الفرديّة و الاجتماعيّة على ضوء العلم و المنطق الصحيح و هو وظيفة الشعب المسلم كلّه و لا يختصّ بطائفة دون أُخرى.

ص:251

3

نماذج من الوظائف الأخلاقية و الاجتماعية عند الشيعة

المسلم من يكون متذكّراً لخالقه،صادقاً في أقواله،أميناً في أفعاله،محبّاً لإخوانه،مستطلعاً عن أحوالهم،معيناً لهم بما في وسعه بنفسه و ماله،معتقداً بأنّ المسلم أخو المسلم و أنّ لكلّ أخ على أخيه حقوقاً متقابلة متساوية و الأُخوّة من أوثق الوشائج بين أفراد الإنسان، و لذلك أسماهم كتاب اللّه إخوة،كما قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» 1.

الإنسان عند الشيعة يرجع بجميع ألوانه و أنسابه إلى أصل واحد لا فضل لفرد على آخر بلون أو نسب أو جنس إلّا بالتقوى و الإيمان،و أنّ الناس جميعاً كأسنان المشط سواسية في ما لهم و ما عليهم.

و قد أفرد غير واحد من علماء الشيعة كتباً فيما يرجع إلى الوظائف الفرديّة و الاجتماعيّة و بحثوا في دقائق الحقوق صغيرها و كبيرها،و قد توسّعوا في التحقيق،فلم يدعوا في القوس منزعاً حتّى حرّروا حقوق الحيوان على مقتنيه،حين لم يكن لهذه البحوث في الجوامع الغربيّة وزن و لا قيمة،و قد احتذوا في ذلك حذو صاحب الرسالة صلى الله عليه و آله و سلم و أهل بيته عليهم السلام.

ص:252

يجب على كلِّ مسلم عند الشيعة أن يعوِّل نفسه و عياله،و يسعى لتأمين قوته و لا يجوز له ترك السعي،نعم يجب عليه في سعيه مراعاة أُصول الفضيلة و الأخلاق و لا يجوز له الاسعاف و الركض إلى كلّ مظنّة و لو كانت ساقطة،فانّ شرف النفس فوق شرف الترفّه في المعاش.

اتّفقت الشيعة على أنّ المسكرات و لحم الخنزير و الميسر و الربا و كلَّ ما يمسُّ بكرامة الإنسان حرام إلّا أنّ المحرَّمات غير منحصرة فيما مرّ.

***

المواساة و التعاون من أهمّ الأُصول الاجتماعيّة لدى الشيعة،إذ بالتعاون يقوم صرح الاجتماع،و قد ندب إليه الإسلام لما قال صلى الله عليه و آله و سلم:«من أصبح و لم يهتمّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم».

إنّ الشيعة كسائر الفرق الإسلاميّة يجعلون للإنسان و كلّ ما يمت إليه وزناً و قيمة و بالأخص لدمه،فمن قتل نفساً أو سفك دماً أو جرح إنساناً،فقد جعل اللّه لوليّه سلطاناً إمّا أن يقتصَّ منه أو يأخذ الدية المقرَّرة.

و يهتم المذهب الشيعيّ بفرض نظم خاصّة بالنسبة إلى الأدب البيتي و العائليّ فقد فرض على الرجل المسلم القيام بتربية أولاده و تهذيبهم و أوصى المسلمين بمواصلة الأقارب و الأرحام سواء القريب منهم أو البعيد،و عدَّ تجافي القريب عن قريبه من قطع الرحم و الانحراف عن الجادّة المنشودة للإسلام،كما ركّز على حقوق الجار و آداب الجوار و توثيق الصلة بين أفراد المجتمع بالدعوة للأُلفة و الوئام.

اتّفقت الشيعة و السنّة على أنّ الإسلام نهى عن الاسترسال في الشهوات،غير أنّه أباح لكلِّ مسلم أن يتزوَّج بأكثر من واحدة «مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» لكن

ص:253

مشروطاً بشروط كثيرة لا يتسنّى لكلِّ إنسان تحمّلها.

و تتصوّر الدواعي الدّافعة للإنسان إلى تعدُّد الزوجات في عدّة أُمور،فربّما يكون الرجل شبقاً فلا تقوم الزوجة الواحدة بحاجته،أو تكون الزوجة خامدة الشهوة،أو تكون ناحلة الجسم،أو تكون عقيماً،إلى غير ذلك من العوامل الدافعة إلى تعدُّد الزوجات.

و لا نزال نلمس من الغربيّين روح استنكار للشرقيّين في تزوُّجهم لأكثر من زوجة واحدة ظناً منهم أنّ ذلك إرخاص لحقوق المرأة في حين أنّ الواقع خلافه.

فالمسلم لثقته بنفسه في إقامة العدل و المساواة يقدم على التزوُّج بأكثر من واحدة،على أنّ الروابط المشروعة لا تقاس بالسفاح و مطاردة النساء كما تلوح على الجيل المائع في عصرنا الحاضر.

اتّفقت الشيعة على أنّه يلزم على كلّ مسلم أن يساهم مع سائر الأُمّة في المسائل الاجتماعية و السياسية فانّ الإسلام ليس دين رهبانية.

ص:254

الرسالة السابعة:الشيعة و علم الكلام عبر القرون السبعة

اشارة

إنّ الذي أكّد عزمي على الكتابة في هذا الموضوع،ما وقفتُ عليه في كلام المستشرق«آدم متز»مؤلف كتاب«الحضارة الإسلامية في القرن الرابع» (1)،و قد خصّ الفصل الخامس من كتابه بالشيعة،و لم يكن عنده من كتبهم إلّا مخطوط علل الشرائع للصدوق (306- 381ه) و قد عثر عليه في مكتبة برلين،و لم يذكر في هذا الفصل شيئاً مهماً عن هذه الطائفة سوى المعارضاتِ و الفتنِ التي دارت بين السنّة و الشيعة في القرن الثالث و الرابع في عاصمة الخلافة«بغداد»و غيرها،و قد جمع تلك المعارضات بجد و حماس،و كأنّه يريد أن يلخِّص الشيعة في إثارة الفتنة و الفساد،كأنّهم لم يلعبوا دوراً كبيراً في الدين و الأدب،و لم يشاركوا المسلمين في بناء الحضارة الإسلامية، و إن أشار في ثنايا كتابه إلى بعض الشخصيات اللامعة منهم كنصير الدين الطوسي،وليته يقتنع في ترسيم تلك الطائفة بما ذكر،و لم يتّهمهم بكونهم تبعاً للمعتزلة في الأُصول و الآراء،و أنّه لم يكن لهم في القرن الرابع مذهب كلاميّ مدوّن،و إليك نصّ كلامه:

ص:255


1- 1) .نقله إلى العربية محمد عبد الهادي أبو ريدة،و له طبعات،منها الطبعة الثالثة التي ننقل منها،و حاول المؤلف أن يسجّل حضارة الإسلام في القرنين الثالث و الرابع مع العناية الخاصة بالقرن الرابع ليكون كتابه مقابلاً و مشابهاً لما كتب عن حضارة عصر النهضة في اوربا،(لاحظ مقدمة المترجم،ص 1).

«إنّ الشيعة هم ورثة المعتزلة،و لا بدّ أن تكون قلّة اعتداد المعتزلة بالأخبار المأثورة ممّا لائم أغراض الشيعة،و لم يكن للشيعة في القرن الرابع(300- 400) مذهب كلاميّ خاصّ بهم،فتجد مثلاً أنّ عضد الدولة(المتوفّى372ه) و هو من الأُمراء المتشيّعين يعمل على حسب مذهب المعتزلة،و لم يكن هناك مذهب شيعي للفاطميين،و يصرّح المقدسيّ بأنّهم يوافقون المعتزلة في أكثر الأُصول،و على العكس من هذا نجد الشيعة الزيديّة يرتقون بسند مذهب المعتزلة حتى ينتهي إلى علي بن أبي طالب«رضي اللّه عنه»،و يقولون:إنّ واصلاً أخذ عن محمّد بن علي ابن أبي طالب،و أنّ محمّداً أخذ عن أبيه،و الزيديّة،يوافقون المعتزلة في أُصولهم إلّا في مسألة الإمامة، و يدلّ على العلاقة الوثيقة بين المعتزلة و الشيعة أنّ الخليفة القادر جمع بينهما حينما نهى في عام (408) عن الكلام و المناظرة في الاعتزال و الرفض (مذهب الشيعة)،و المقالات المخالفة للإسلام.ثمّ إنّ الطريقة التي سار عليها ابن بابويه القمّي أكبر علماء الشيعة في القرن الرابع الهجري في كتابه المسمّى بكتاب«العلل»تذكّرنا بطريقة علماء المعتزلة الذين يبحثون عن علل كلّ شيء. (1)

إنّ في كلام الأُستاذ موارد للتأمل و النقاش:

1.اتّهام الشيعة بقلّة الاعتداد بالأخبار المأثورة كقلّة اعتداد المعتزلة بها.

يلاحظ عليه:أنّ الشيعة أوّل من اهتمّ بتدوين الحديث و دراسته و نقله حينما كانت كتابة الحديث ممنوعة و نقلها أمراً مكروهاً يعرف ذلك من درس تاريخ الحديث عند الشيعة،و لهم في كلّ قرن من القرون الأربعة-التي يكتب هو عن القرن الأخير منها-محدّثون كبار،منهم:الشيخ الصدوق الذي وقف على كتابه

ص:256


1- 1) .آدم متز:الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري:106/1،107.

«علل الشرائع»،فقد ألّف عشرات الكتب و الرسائل في الحديث (1)،و قد ألّفت الشيعة في عصر الإمام علي عليه السلام إلى عصر الإمام العسكري عليه السلام (المتوفّى260ه) في حقل الحديث ما يتجاوز الأُلُوف يقف عليها من سبر الكتب الرجالية (2)،و بما أنّ الموضوع واضح جداً لا نطيل الكلام فيه.

2.إنّ عضد الدولة و هو من الأُمراء المتشيعين يعمل على حسب مذهب المعتزلة.

يلاحظ عليه:أنّه لم يكن للمعتزلة آنذاك مذهب فقهي حتى يعمل على وفقه أمير الشيعة في عصره،و الاعتزال مذهب كلاميّ لا مذهب فقهي.فلا صلة له بالعمل،و تفسيره بالاعتقاد بمذهب المعتزلة يناقض كونه من المتشيّعين،لأنّ الطائفتين تفترقان في مسألة الإمامة افتراقاً واضحاً،و تخصيصه بالاعتقاد بسائر الأُصول غير الإمامة كما ترى.

3.إنّ الزيدية يرتقون بسند مذهب المعتزلة إلى علي بن أبي طالب،و يقولون:إنّ واصلاً أخذ عن محمّد بن الحنفيّة.

يلاحظ عليه:أنّ واصلاً ولد عام 80ه،-أو بعده بقليل-و تُوفّيَ محمّد بن الحنفيّة ذلك العام أو بعده بسنة،فكيف يصحّ له أن يأخذ عنه واصل بن عطاء؟! و الصحيح أن يقول:إنّ واصلاً أخذ عن أبي هاشم:عبد اللّه بن محمّد ابن الحنفيّة و هو عن أبيه محمّد،عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام. (3)

ص:257


1- 1) .رجال النجاشي:325/2 برقم 1066.
2- 2) .راجع الوسائل:49/2،الفائدة الرابعة.
3- 3) .لاحظ ذكر المعتزلة للبلخي68،طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار:234،و [1]طبقات المعتزلة [2]لابن المرتضى في ما نقله عن الحاكم،و أمّا ما ذكره هو نفسه أوّلاً فقد تخبّط فيه كتخبّط ذلك المستشرق،قال الحاكم:إنّ واصلاً و عمرو بن عبيد أخذا عن عبد اللّه بن محمد،و عبد اللّه أخذه عن أبيه محمد ابن علي ابن الحنفية،و محمد أخذه عن أبيه علي عليه السّلام و علي أخذ عنه صلى الله عليه و آله و سلم.

4.إنّ الخليفة القادر منع الطائفتين عن الكلام عام 408ه.

يلاحظ عليه:أنّ الشيعة و المعتزلة يتوافقان في التمسك بالعقل و تحليل العقائد عن طريق الدليل العلمي،و يخالفون الحنابلة و الأشاعرة بالجمود على ظواهر النصوص،و كانوا يناظرون القشريّين،و لأجل ذلك منعهما الخليفة عن الكلام و الجدل،و هذا لا يكون دليلاً على اتّفاقهما في جميع الأُصول سوى الإمامة،بل الجامع بينهما هو التعويل على العقل في مجال العقيدة.

5.إنّ الطريقة التي سار عليها ابن بابويه القمّي في كتابه«العلل»تذكّرنا بطريقة علماء المعتزلة.

يلاحظ عليه:أنّ المؤلّف وقف على كتاب الصدوق وقوفاً عابراً.فإنّ الصدوق جمع فيه الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و آله حول علل الأحكام و مصالحها الواردة عن طريق الشرع،و أين ذلك من صُنع المعتزلة الذين قاموا بتحليل الأُصول الاعتقادية عن طريق العقل و حكّموه فيما لا مجال فيه؟ و لأجل ذلك عادوا إلى تأويل كثير من ظواهر الكتاب و السنّة التي لا تلائم عقائدهم و أُصولهم.

و على أية حال،فلنعد إلى كلامه الذي لأجله عقدنا هذا المقال و هو:«إنّ الشيعة ورثة المعتزلة و إنّه لم يكن للشيعة في القرن الرابع مذهب كلاميّ خاص بهم».

و قد اغترّ بكلامه هذا بعض من تأخّر عنه من الكتّاب،كأحمد أمين المصري في«فجر الإسلام»و غيره و هو الذي وقف على كتاب «الحضارة الإسلامية»باللغة الألمانية،و اختار هذا الكتاب للترجمة و شجّع محمّد عبد الهادي أبو ريدة على ترجمته. (1)

ص:258


1- 1) .لاحظ مقدّمة المترجم.

ففي هذا المقال نعالج المواضيع التالية:

1.المنهج الصحيح في تفسير المعارف القرآنية.

2.علم الكلام و عوامل نشأته الداخلية و الخارجية.

3.بدايات المسائل الكلاميّة في القرنين الأوّل و الثاني.

4.الدفاع عن العقيدة و الشريعة،و فهرس أسماء متكلّمي الشيعة في القرون الأربعة.

5.الجدل المستمر بين الشيعة و المعتزلة.

6.الفوارق الفكرية بين الشيعة و المعتزلة.

فيقع الكلام في فصول ستة:

ص:259

الفصل الأوّل::المنهج الصحيح في تفسير المعارف القرآنية

اشارة

يتميّز الإنسان عن كلّ ذي روح و شعور،بقوّة التفكير و التعقّل،و الجوهرة الفريدة التي بها يهتدي في ظلمات الحياة.فتنظيم المقدمات البديهيّة لغاية الاهتداء إلى حلِّ المجاهيل من خصائصه و ميزاته،فلو كرّمه ربّه،و حمله في البر و البحر و فضّله على كثير ممّن خلق (1)،فإنّما هو بفضل تلك القوّة التي لها الرئاسة التامة على سائر القوى الجزئية الكامنة فيه.

إنّ الإنسان مهما أسَفَّ إلى الأُمور الدنيّة،فلا يستطيع إخلاء نفسه عن التعقّل و الاستدلال حتى أنّ الطغمة المنكرة للبرهنة، و الداعية إلى الاقتصار على الحسّ و التجربة،تراهم يبرهنون على ذلك بالدليل و بالتالي يبطلون الاستدلال بالاستدلال.و هذا يعرب عن انّ التفكير و حلّ المجهولات في ظلّ المعلومات من الأُمور الفطرية التي لا تنفكّ عن الإنسان في حياته أبداً و إن تظاهر برفض القيم العقلية،و الاقتصار في الحياة العلمية على مجال الحواس.

ص:260


1- 1) .اقتباس من قوله سبحانه:«وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَني آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي البَرِّ وَ البَحْر وَ [1]رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّبات وَ فَضّلناهُمْ عَلى كَثيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً»(الإسراء70/). [2]

جاء القرآن يدعو الإنسان إلى التفكير و الاستدلال المنطقي،و يصدّه عن تقليد الآباء و يحرّر عقله عن الأغلال التي خلّفتها له الأجيال الغابرة حتى يكون على بصيرة في حياته و أمر دينه و أُخراه،و نسمع هتافه و صراخه و دويّه في آيات كثيرة نقتصر منها على ما يلي:

قال سبحانه: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» 1 .

و قال عزّ و جلّ: «وَ اللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 2 ، فإذا كان الشكر هو صرف النعمة في موضعها،فشكر السمع و البصر هو إدراك المسموعات و المبصرات بهما.و شكر الفؤاد،درك المعقولات غير المشهودة الخارجة عن إطار الحسّ به،فمن فتح عينه على الكون الفسيح و تدبّر أسراره و دقائقه فقد شكره،و من أقفل عقله و فؤاده،فقد كفر بنعمته.فلوح نفس كلّ إنسان يوم خلقت،خالٍ عن كلّ علم و إدراك،ثمّ تنتقش فيها الأشياء و المعلومات شيئاً فشيئاً عن طريق الحسّ و العقل.

و قال سبحانه حاكياً عن المشركين: «إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ* قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» . (1)

و هذا ديدنه في غير واحد من الآيات،اكتفينا بما ذكر،روماً للاختصار.

ص:261


1- 3) .الزخرف:23- 24. [1]

إنّ القرآن يخاطب العقل و يدعوه إلى التأمّل و التفكّر،و يخاطب القلب و الضمير و يدعوه إلى التدبّر في ما حوله من الأدلة الناطقة، و لأجل ذلك ترى أنّ يستعمل مادة العقل بصور مختلفة«47»مرّة،و التفكّر كذلك«18»مرّة،و اللبّ«16»مرّة،و التدبّر«8»مرات،و النهى مرتين،و بذلك يرفع الإنسان من حضيض الجهل إلى أوج العلم و المعرفة.

إنّ القرآن لم يقتصر على الدعوة إلى التفكّر و البرهنة بل طبّقها في غير واحد من مجالات العقيدة و التشريع،فأثبت مقاصده بناصع بيانه،و ساطع برهانه نأتي بنموذجين منها.

الأوّل:قال سبحانه: «أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ* نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ* وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ* أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ* أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ* لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ* إِنّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ* أَ فَرَأَيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ» . (1)

فاللّه سبحانه يذكر في هذه الآيات شواهد ربوبيّته،و أنّه هو الخالق و المدبّر،و لا خالق و لا مدبّر سواه،و أنّ من يزعم أنّ هناك خالقاً أو مدبّراً غيره،فقد قصر فهمه أو قصّر في تفكيره.

فما أروع بيانَه و أتقن برهانه،يذكر فيها أمر الخلق و الزرع و الماء و النار و يذكر دور الإنسان فيها،فأمره في الأوّل،لا يزيد على أن يودع الرجل ما يمني،رحمَ امرأة ثمّ ينقطع عمله و عملها،فالعقل يحكم بأنّ هناك قدرة غيبية تأخذ في

ص:262


1- 1) .الواقعة:58- 72. [1]

العمل،تعمل في هذا الماء المهين،في تنميته و بناء هيكله و نفخ الروح فيه.

و أمره في الثاني لا يزيد على الحرث و إلقاء الحبّ و البذر الذي هو من صنعه سبحانه ثمّ ينتهي دوره فلا محيص عن وجود قدرة تحميه تحت التراب و الطين و تجعله سنبلاً أو سنابل فيها حبّات كثيرة.

و أمّا الماء فليس للإنسان فيه أيّ دور لكنّه أصل الحياة و عنصرها،لا تقوم إلّا به،فمن الذي خلقه و أنزله من المزن و أسكنه في الأرض،و مثله النار فليس له فيها شأن سوى أنّه يوقدها،و لكن من الذي خلق وقودها و انشأ شجرها الذي توقد.

فقد عرض الذكر الحكيم هذه الأُمور لغاية الاهتداء بها إلى الحقيقة التي تنتهي إليها كافة الحقائق و التي ينحصر بها التأثير في هذه الظواهر الكونية و لأجل ذلك ختم الآيات بقوله:

«فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» .

فكأنّ عالم الكون عُمْلَة لها وجهان:صورة حسيّة لامعة تخدع البسطاء الذين يقفون عليها و لا يتجاوزون عنها إلى غيرها،و صورة غيبية التي هي روحها و بها قوامها،و هي التي خلقها و اتقنها، «صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ» . (1)

الثاني:قال سبحانه: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ» . (2)فلو فسّرنا «الشيء»في الآية بالسبب و العلة فالجزء الأوّل من الآية يشير إلى برهان الإمكان الذي يقوم على لزوم سبب موجب

ص:263


1- 1) .النمل:88. [1]
2- 2) .الطور:35- 36. [2]

لخروج الشيء من العدم إلى الوجود،و الجزء الثاني منها يشير إلى بطلان كونهم خالقين أنفسهم،الذي يستقلّ العقل ببطلانه قبل أن يستقلّ ببطلان الدور اللازم عليه.

و من سبر هذه الآيات و تدبّر فيها يقف على مدى صحّة قوله سبحانه: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» . (1)

فيتخلّص لنا من عرض هذه الآيات،أنّ القرآن،يحثّ على المعرفة من طريق الحسّ و العقل،و يدعو إلى استغلالهما في مجاليهما، فالاقتصار على الحسّ،بخس و خسران،كما أنّ الاكتفاء بالعقل و إلغاء الحسّ،مغالاة في حقّ العقل.فاليمين و الشمال مضلّة،و الطريق الوسطى هي الجادة (2).فيُستهدى إلى ما في القرآن من العلوم و المعارف القرآنية الباحثة عن ذاته سبحانه و أسمائه و صفاته و أفعاله، بالحسّ و العقل،فهما جناحا الإنسان في سماء العلم و المعرفة و مجال التدبّر و التفكّر قال سبحانه: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» . (3)

المعارف القرآنية بين التعطيل و التشبيه

إنّ هناك من حبسوا أنفسهم في اطار المادة و الماديات و جدران الزمان و المكان فتجدهم لا يأنسون بالمعارف العقلية إلّا عن طريق التشبيه و المحاكات،فصعب عليهم فهم المعارف القرآنية،و عسر عليهم تصوّر أنّ في صحيفة الوجود

ص:264


1- 1) .فصّلت:53. [1]
2- 2) .لاحظ نهج البلاغة:الخطبة 16. [2]
3- 3) .ص:29.

موجوداً ليس له جسم و لا جهة و لا مكان،و لا يحويه زمان و لا مكان،و لا يوصف بالكيف و الكم،و ما هذا إلّا لأنّهم أُسراء المادة و الجسمانية،فوقعوا فريسة لمخالب التجسيم،و تورّطوا في مخاطر التشبيه،فصاروا من المشبّهة و المجسّمة لا يتورّعون عن وصفه سبحانه بكلّ ما توحي إليهم القوّة الخيالية الأسيرة لعالم الحسّ و المادة،فأثبتوا للّه سبحانه يداً و رجلاً و عيناً و غير ذلك ممّا جاء في الذكر الحكيم،و فسّروها بالمعاني الافرادية الملازمة للتجسيم،و كأنّهم لم يسمعوا قول اللّه سبحانه: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» 1 ،أو لم يسمعوا قول اللّه سبحانه: «ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» . (1)

و في مقابل هؤلاء،المعطّلة (2)،و هم و إن تورّعوا عن التجسيم و التشبيه و لكنّهم عطّلوا العقول عن المعارف بحجّة أنّ البشر أعطي العقل لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية،فمن شغل ما أعطي لإقامة العبودية بإدراك الربوبية فاتته العبودية و لم يدرك الربوبية. (3)

و كأنّ القائل يفسّر العبودية بالقيام و القعود،و الإمساك و الصيام التي هي من واجبات الأعضاء،و غفل عن أنّ لها ركناً آخر يرجع إلى العقل و اللبّ،فتعطيل العقول عن معرفة المعبود،بالمقدار المستطاع تعطيل لإقامة العبودية أو لجزئها،فلو اقتصر الإنسان في إقامة العبودية على الجزء الأوّل من دون إدراك ما للمعبود من صفات الجمال و الجلال،لكانت عبوديّته كعبودية الحيوان و النبات و الجماد،بل تكون أنزل منها.قال سبحانه: «وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها

ص:265


1- 2) .الحج:74. [1]
2- 3) .المعطّلة في مصطلح الأشاعرة هم المعتزلة لتعطيلهم الذات عن التوصيف بالصفات.و المقصود في المقام غير هؤلاء بل الذين عطّلوا العقول عن المعرفة على النحو الذي جاء في المتن.
3- 4) .رضا نعسان:علاقة الإثبات و التفويض:33،نقلاً عن الحجّة في بيان المحجّة.

لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ» . (1)

فالحجر يستشعر بعظمته سبحانه حسب قابليّته،و لكن الإنسان تُفْرض عليه تلاوة كتاب اللّه سبحانه ثمّ السكوت عليه.

قد ورد في الذكر الحكيم مسائل،لا يحيط بها الحسّ،و لا تقع في إطار الطبيعة،و ليست الغاية من طرحها،هو التلاوة و السكوت حتى تصبح تلاوة الآيات لقلقة لسان،لا تخرج عن تراقي القارئ بدل أن تتسرّب إلى صميم الذهن و أعماق الروح.

و إن كنت في ريب من وجودها،فلاحظ الآيات التالية:

1. «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ» . (2)

2. «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» . (3)

3. «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» . (4)

4. «هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ» . (5)

5. «مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ» . (6)

ص:266


1- 1) .البقرة:74. [1]
2- 2) .البقرة:115. [2]
3- 3) .الحديد:3. [3]
4- 4) .الحديد:4. [4]
5- 5) .الحشر:23. [5]
6- 6) .المؤمنون:91. [6]

6. «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ» . (1)

إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول ذاته و صفاته و أفعاله،التي هي من أُمّهات المعارف القرآنية.

فلرواد العلم و المعرفة التدبّر و التفكّر فيها من خلال الاستعانة بالقضايا البديهيّة و النظريّة المعتبرة و التدبّر في الآيات الواردة في هذا الشأن،و بما أنّ المقدمات بديهية الصدق أو قطعية لدى العقل،و الآيات الواردة حول موضوع واحد خالية عن التناقض و الاختلاف، تكون النتيجة أمراً قطعياً و حجّة بين الإنسان و ربّه.

إنّ تعطيل العقول عن التدبّر فيها إسدال الستار على المعارف القرآنية،و خسارة عظمى للعلم و أهله،و عدم خوض السلف من الصحابة و التابعين،لا يكون دليلاً على حرمة الخوض،و ليس السلف قدوة في التروك لو سلّمنا كونهم قدوة في الأفعال،كما ليس الخلف بأقل منهم في صحّة الاقتداء.

القول الحاسم في المقام

إنّ هؤلاء أي الذين يحرّمون الخوض في المعارف العقلية،و يقولون:إنّ واجبنا هو الإيمان و الإقرار أو التلاوة و السكوت،خلطوا مرحلة الإيمان القلبي المطلوب من جميع الناس،بمرحلة الفهم و النظر العقلي الذي لا يقوم به إلّا الأماثل من الناس،و صاحب المواهب و المؤهلات الفكرية الخاصة،و ما ذكروه راجع إلى المرحلة الأُولى فإنّ الإيمان المنقذ من الضلال و العذاب،هو الاعتقاد بصحّة ما جاء في الكتاب العزيز حول أسمائه و صفاته و أفعاله،حتى في مجالات

ص:267


1- 1) .الأنبياء:22. [1]

الصفات الخبرية من اليد و الوجه و العين و الاستواء على العرش،و بما أنّ الأكثرية الساحقة لا يستطيعون فهم ما فيها من الدقائق و المعارف و ربما يكون الخوض منتهياً إلى ما لا يحمد،كفى لهم الإيمان و الإقرار و الإمرار و السكوت،و ما نقل عن الإمام مالك (المتوفّى179ه):إيّاكم و البدع،قيل:يا أبا عبد اللّه ما البدع؟ قال:أصحاب البدع هم الذين يتكلّمون في أسمائه و صفاته و كلامه و علمه و قدرته،و لا يسكتون عمّا سكت عنه الصحابة و التابعون لهم بإحسان (1).لعلّه ناظر إلى هذه الطائفة الذين لو خاضوا فيها،فسدوا و أفسدوا،و لم يأتوا بشيء.

و أمّا إذا انتُقل إلى المرحلة الثانية أي مرحلة الفهم و الدراية و البحث و النظر و صياغة العقائد في ضوء الكتاب و السنّة و العقل،فلا يصحّ له الاكتفاء بالإقرار و الإمرار،فإنّ الاستطلاع أمر طبيعيّ للبشر،و هو أحد الأبعاد الأربعة الروحية له،فلا يمكن كبح جماح فهمه و نظره بحجّة أنّ الصحابة و التابعين سكتوا عنه،و كأنّ السلف هم القدوة دون الذكر الحكيم،و دون النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عترته الذين تكلّموا فيها، و أضاءوا الطريق لسالكيه،و كأنّ قوّة التفكير و النظر و المواهب العقلية المودعة في الإنسان خلقت سدىً و بلا غاية.

و هل يمكن أن يفرض على عمالقة الفكر و أصحاب المواهب العقلية أن يقفوا دون هذه المعارف و يُطفئوا نور عقلهم و في التالي يكونوا كأجلاف البيداء لا همّ لهم سوى الأكل و الشرب و السير طلباً للماء و العشب؟!

و على هذا فيجب تصنيف الناس على صنفين؛قابل و غير قابل،مستعدٌ و غير مستعد،فلو صحّ الحرمان فإنّما للسوقة من الناس دون من أُوتي تفكيراً قوياً و استعداداً وقّاداً.

ص:268


1- 1) .الدكتور أحمد محمود صبحي،في علم الكلام:21/1 نقلاً عن تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية،لمصطفى عبد الرزاق:155،طبعة 1944م.

ثمّ إنّه كما يجب تصنيف الناس يجب تصنيف المسائل بين ما يمكن للإنسان الخوض فيه و الرجوع بفكر صحيح،و ما لا يمكن للإنسان دركه و فهمه،فإنّ البحث عن ذاته سبحانه أمر غير ممكن إذ ليس كمثله شيء حتى يعرف الذات به،و لأجل ذلك ورد النهي الأكيد عن البحث و الجدال في ذاته،و مثله البحث عن حقيقة الوحي و النبوة،أو عن حقيقة الجنة و النار،إلى غير ذلك من الأُمور الغيبية التي لا يلمسها و لا يدركها إلّا نبي يوحى إليه أو إنسان خرج من الدنيا و دخل الآخرة و الواجب فيها الإيمان فقط،قال سبحانه: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» 1 .فإنّ الإنسان المحبوس في سجن المادة،لا يمكن له درك حقيقتها،و إن كان له البحث عن آثار الوحي و النبوة و خصائصهما.

ثمّ إنّه لا محيص للمانعين عن الخوض في المعارف القرآنية بل العقلية على الإطلاق،عن سلوك أحد طريقين:

1.التلاوة و السكوت و الإمرار و الإقرار و تفويض معانيها إلى مُنزِّلها.

2.الأخذ بظواهر الآيات الحرفية و تفسيرها بظواهرها الحرفية.

أمّا الأوّل فينتهي إلى تعطيل العقول عن المعارف و بالتالي يتنزّل الإنسان إلى حدّ الحيوان و يكون وظيفة الحكيم العارف المقتدر على درك دقائق التوحيد و رقائقها نفس وظيفة الجاهل البائل على عقبه،في مجال العقيدة و التفكير،و هو كما ترى.

و أمّا الثاني فهو ينتهي إلى التشبيه و التجسيم،و أقصى ما عند هؤلاء الذين يأخذون بالظواهر الحرفية هو ضمّ كلمة«بلا كيف و لا تمثيل»إلى مفاد هذه الآيات،فيقولون:إنّ للّه يداً و رجلاً و عيناً و استواءً على العرش بنفس المعنى اللغوي،و لكن بلا كيف و لا تمثيل.

ص:269

يلاحظ عليه أوّلاً:أنّه لم ترد تلك الجملة في نصّ قرآني و لا سنّة نبوية،فمن أين لهم هذه الجملة و تفسير الآيات على ضوئها،أ ليس الواجب هو تعطيل الفهم،و الجمود على ما ورد في النصوص؟ و المفروض أنّه لم يرد فيها هذه الجملة.

و ثانياً:أنّ اليد و أضرابها موضوعة حسب اللغة للأعضاء المحسوسة،التي لها هيئات و مواصفات و هي مقوّماتها،فإجراؤها على اللّه سبحانه مع حفظ المقوّمات،يستلزم التشبيه و التمثيل،و مع عدمها،يستلزم التأويل،فاليد في «يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» 1 إمّا مستعملة في اليد المحسوسة فهو مثار التشبيه،و إمّا في غيرها فهو مثار التأويل الذي يفرّون منه فرار المزكوم من المسك.

و هذه المضاعفات ناشئةٍ عن الجمود على الظواهر الحرفية و الأخذ بالظهور التصوّري،دون الظهور التصديقي الذي لا يخالف العقل قيد شعرة في آية من الآيات.

إنّ الدعوة السلفية التي أحدثت ضجة هذه الأيام قد طرحت الصفات الخبرية على صعيد البحث في الآونة الأخيرة،و تصرّ على الأخذ بمعانيها الحرفية،و قد عرفت أنّها تنتهي إلى التجسيم أو التأويل.

و من المؤسف جدّاً إنّ أكثر السلفيين كانوا يصرّون على الأخذ بحرفية الصفات،و إليك بعض نصوصهم:

1.قيل لعبد اللّه بن مبارك:كيف يعرف ربّنا؟ قال:بأنّه فوق السماء السابعة و على العرش بائن من خلقه.

2.و قال الأوزاعي:إنّ اللّه على عرشه،و نؤمن بما وردت به السنّة من صفاته.

ص:270

3.و قال الدارمي في مقدمة كتابه«الردّ على الجهمية»استوى على عرشه فبان من خلقه.

4.و قال القرطبي في تفسير قوله سبحانه: «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» 1 و قد كان السلف لا يقولون بنفي الجهة و لا ينطقون بذلك بل نطقوا هم،و الكافة بإثباتها للّه تعالى كما نطق كتابه و أخبرت رسله و لم ينكر أحد من السلف الصالح أنّه استوى على عرشه حقيقة. (1)

«ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى» . (2)

شبهات عقيمة

إنّ للمانعين عن الخوض في المسائل العقلية شبهات طرحوها أمام السالكين،نذكرها مع التحليل:

1.إذا كان الإنسان قادراً على فهم المسائل،فما معنى قوله سبحانه: «وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً» 4 .و قوله سبحانه: «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ» . (3)

2.إنّ البحث و الحوار في المسائل الغيبية يورث الشقاق و التخاصم بين

ص:271


1- 2) .لاحظ في الوقوف على مصادر هذه الأقوال كتاب«علاقة الإثبات و التفويض»:48،41،68،115.
2- 3) .النجم:30. [1]
3- 5) .آل عمران:7. [2]

المسلمين،قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» . (1)

و الإجابة عن هذه الشبه واضحة،أمّا الآية الأُولى فإنّ الإنسان مهما بلغ من العلم فعلمه بالنسبة إلى الأسرار الكامنة في صحيفة الكون و الوجود،ضئيل جداً،فأين عقله المحدود من العالم اللامحدود ؟ فإنّ نسبة ما يعلمه إلى ما لا يعلمه كنسبة الذرة إلى المجرّة،فهو لم يعرج من سلّم العلم و المعرفة إلّا درجات معدودة لا يعتدّ بها.

و أمّا الآية الناهية عن اتّباع المتشابه:فهي على عكس المقصود أدلّ،فإنّ الأخذ بحرفية الظواهر فيما يرجع إلى اللّه سبحانه و صفاته و أفعاله اتّباع للمتشابه و إن لم يكن ابتغاءً للفتنة،بخلاف ما إذا قلنا بجواز الخوض فإنّ الواجب عندئذٍ هو إرجاع المتشابهات إلى المحكمات و تفسيرها بها،لأنّها أُمّ الكتاب كما قال سبحانه: «هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ» .

و أمّا الدليل الثاني؛أعني كون البحث عن المعارف القرآنية مورثاً للشقاق فهو تجاهل بقيمة ذلك العلم،فإنّ الذي يورث الشقاق هي العوامل النفسية الكامنة في ذات المجادل التي تصدّه عن اتّباع الحقّ فيلقي أشواكاً في طريق الحقيقة.و لو سَلمَتْ نفسه عن الأهواء لحسم الخلاف و انعدم الشقاق.

إنّ الجدال إذا انتهى إلى المراء في الدين،يحرم بلا إشكال،و لكن إذا كانت المجادلة على أساس علمي،و دافع موضوعيّ،و قصد منها كشف المجاهيل في ظلّ تلاقي الأفكار،فليس بحرام قطعاً،و عليها بنيت الحضارة العلميّة فإنّه من قبيل دراسة العلم و مذاكرته التي أمر بها الإسلام.

إنّ اللّه سبحانه،أمر نبيّه بالمجادلة بالتي هي أحسن،و قال: «وَ جادِلْهُمْ

ص:272


1- 1) .الأنعام:159. [1]

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» . (1)

و قال عزّ و جلّ: «وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» . (2)

و قال تعالى: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ» . (3)

و قد نقل سبحانه احتجاج إبراهيم على عبدة الأجرام السماوية و الأصنام الأرضية و قال: «وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ* فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً» -إلى أن قال:- «وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» . (4)و قد تضمّنت تلك الآيات أروع البراهين و أتقن الأدلّة في إبطال ربوبية الأجرام و الأصنام و حصرها في اللّه سبحانه.إلى غير ذلك من الحجاج و الحوار الوارد في الذكر الحكيم.

إنّ«أهل السنّة»نسبوا إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم،النهي عن الخوض في موضوعات عالم الغيب،و لكنّه يعارض سيرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و جداله مع الوثنيين و الأحبار و الرهبان بوحي من اللّه سبحانه،و يكفي في ذلك دراسة الآيات الواردة في ذلك المجال،و قد جمعنا احتجاجات النبي صلى الله عليه و آله و سلم و حواره مع المشركين و أهل الكتاب في موسوعتنا«مفاهيم القرآن» (5)و هي مبثوثة في السور القرآنية.

ص:273


1- 1) .النحل:125. [1]
2- 2) .العنكبوت:46. [2]
3- 3) .البقرة:258. [3]
4- 4) .الأنعام75/- 83. [4]
5- 5) .جعفر السبحاني،مفاهيم القرآن:الجزء السابع.

و حصيلة البحث؛انّ النهي عن الخوض في المعارف الإلهية التي للعقل فيها مجال النظر،تجميد للعلم و المعرفة،و إيقاف للركب الحضاري عن المسير في طريق التكامل الفكري،و إنّ الصراع العلمي إذا كان بدافع كشف الحقيقة فهو من أدوات المعرفة،و عليه جرت سيرة العلماء المحقّقين.

و إذا أردت أن تلمس ذلك بوضوح قارن بين ما يدرسه السلفيون في مجال العقائد في عصرنا هذا،مع ما كتبه الشيخ الرئيس في الشفاء،أو المحقّق الطوسي في التجريد ترى البساطة و السذاجة في الأوّل،و العمق و التحقيق في الآخرين.

إنّ كتب العقائد عند السلفية لا تتجاوز عن نقول عن ذلك الصحابي،و هذا التابعي،بلا تحليل و مثل هذه لا تفيد إلّا للطبقة الساذجة المثقّفون الجامعيّون الذين يريدون تحليل العقائد و تبيينها على أسس منطقية فلا تفيدهم تلك الكتب أصلاً لو لم نقل أنّها تنفّرهم عن الإسلام.

و لو كان ما ذكره صحيحاً،لعمّ البلاء جميع الشرائع السماوية،فانّ نزول شريعة تلو الأُخرى،أورث ذلك الخلاف و الجدل.

زلّة لا تستقال

إلى هنا تبيّن أنّ الخوض في المسائل العقلية لمن له أهلية أمر معقول و كمال للنفس و عمل بالقرآن.

ثمّ إنّ بعض رواد التفكير الحنبلي و السلفي زعم صحّة نهي الرسول و الصحابة عن الخوض في موضوعات عالم الغيب و قال:و كان أحرى بالمتكلّمين أن ينتهجوا نفس النهج إلّا أنّ الحقّ أن يقال:ما كان ذلك منهم عن زيغ في القلوب أو ابتغاء فتنة و إنّما أُكرهوا على ذلك إكراهاً و اضطرّوا إلى ذلك اضطراراً

ص:274

أحلّ المحظور. (1)

يلاحظ عليه:أنّ الكتاب العزيز هو الذي فتح باب التفكير في المعارف الإلهية،فكيف يمكن للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم النهي عنه،و أين هذا النهي،و من نقله و أين يوجد؟ و أمّا الصحابة و التابعون لهم بإحسان كانوا على صنفين:فعليٌّ عليه السلام و عترته و شيعته،فقد فتحوا أبواب المعارف في وجوه المسلمين،و من سبر خطب الإمام عليّ عليه السلام و رسائله و كلمه القصار،أو رجع إلى أدعية الإمام زين العابدين و الأحاديث المرويّة عن الصادقين يجد فيها كميّة هائلة من البحوث القيّمة حول المبدأ و المعاد،و أفعال العباد،و أمّا غيرهم فكانوا يمرون على المعارف و يرون انّ الفريضة تلاوتها و قراءتها لا الخوض في معانيها و حقائقها،و عند ذلك فالاستدلال بسكوت قسم من السلف و إسدال الستار على تكلّم الآخرين خروج عن طور الانصاف.

ثمّ إذا كان خوض السابقين في هاتيك المسائل من باب الاضطرار و الضرورة المبيحة للمحظور،فقد ارتفع المسوّغ في هذه الأيّام بعد تأليف مئات الكتب في الكلام و العقائد،فما هو المسوّغ لارتكاب المؤلف للمحظور،و مخالفة النهي الصريح عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ؟!!! و التمرّد على سيرة السلف الصالح،بوضع كتاب في علم الكلام في عدّة أجزاء.

ص:275


1- 1) .الدكتور أحمد محمود صبحي:في علم الكلام:298.

الفصل الثاني:علم الكلام و عوامل نشأته

اشارة

إنّ علم الكلام كسائر العلوم الإنسانية،ظاهرة علمية نشأت بين المسلمين في ظلّ أسباب سيوافيك بيانها،و لا يقتصر هذا العلم على المسلمين فحسب بل كانت للاُمم السابقة مذاهب كلامية و مدارس دينية يُبحث فيها عن اللاهوت و الناسوت،و قد ألّف غير واحد من علماء اليهود و النصارى كتباً كلامية يرجع تاريخها إلى القرنين الخامس و السادس.و أمّا عوامل نشأته بين المسلمين فتتلخّص في عامل داخلي و آخر خارجي،و إليك البيان:

1.القرآن هو المنطلق الأوّل لنشوء علم الكلام:

إنّ القرآن المجيد هو المنطلق الأوّل لنشوء علم الكلام و نضجه و ارتقائه عند المسلمين،و إليه يرجع كل متكلّم إسلاميّ باحث عن المبدأ و أسمائه و صفاته و أفعاله،و قد تضمّن القرآن إشارات فلسفية و عقلية قامت على أُسسٍ منطقيةٍ مذكورة في نفس الآيات أو معلومة من القرائن.فمن سبر القرآن الكريم فيما يرجع إلى التوحيد بأنواعه يجد الحجج الملزمة،و البيّنات المسلّمة التي لا تدع لباحث الشك فيها.كما أنّه أرفق الدعوة إلى المعاد و الحياة الاُخروية بالبراهين المشرقة،و الدلائل الواضحة التي لا تقبل الخدش.

ص:276

إنّ القصص الواردة في القرآن الكريم تتضمّن احتجاجات الأنبياء و صراعهم الفكري مع الوثنيين و المعاندين من أهل اللجاج،فهي ممّا يستند إليها المتكلّم في آرائه الكلامية.كما تتضمن بحوثاً في الإنسان و أفعاله و مسيره و مصيره،و غير ذلك ممّا جعل القرآن الكريم المنطلق الأوّل لنشأة علم الكلام في الإسلام.

2.السنّة هي المنطلق الثاني:

إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ناظر المشركين و أهل الكتاب بمرأى و مسمع من المسلمين،و هذه احتجاجاته مع نصارى نجران في العام العاشر من الهجرة،حتى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد ما أفحمهم دعاهم إلى المباهلة،و قد حفل التاريخ و كتب السير و التفسير بما دار بين الرسول و بطارقة نجران و قساوستهم،و قد استدلّوا على أُلوهيّة المسيح بقولهم:هل رأيت ولداً من غير ذكر؟ فأفحمهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإيحاء من اللّه:إنّ مثل عيسى في عالم الخلقة كمثل آدم،و قد خُلِق من غير أبٍ و لا أُمّ،فليس هو أبدع و لا أعجب منه (1).

إنّ النهي عن كتابة الحديث نجم عنه خسارة فادحة أدت إلى ضياع الكثير من احتجاجات النبي صلى الله عليه و آله و سلم و مناظراته مع المشركين و أهل الكتاب،فقد ذهبت كذهاب سائر خطبه،و لكن الشيعة اقتداءً بالعترة احتفظت بكثير من هذه المناظرات في كتبهم الحديثية،فمن سبرها يرى فيها بحوثاً و مناظرات تصلح لأن تكون هي المنطلق في الصدر الأوّل لأهل الكلام من الشيعة و غيرهم (2).

ص:277


1- 1) .لاحظ تفسير قوله سبحانه:«إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون»(آل عمران59/). [1]
2- 2) .لاحظ احتجاجات النبي في كتاب الاحتجاج للشيخ أحمد بن علي بن أبي طالب المعروف بالطبرسي المتوفّى حدود عام (550 ه).
3.خطب الإمام علي عليه السلام هي المنطلق الثالث:

إنّ خطب الإمام و رسائله و كلمه القصار،التي حفظها التاريخ عن العصف و الضياع لأوضح دليل على أنّ الإمام كان هو المؤسس للا صول الكلامية خصوصاً فيما يرجع إلى التوحيد و العدل،و بين يديك نهج البلاغة الذي جمعه الشريف الرضي ممّا وصل إليه من خطبه، تجد فيه من الاُصول الكلامية ما لا تجده في غيره،و إلى ذلك يشير السيد المرتضى في أماليه فيقول:«اعلم أنّ أُصول التوحيد و العدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين-صلوات اللّه عليه-و خطبه،فإنّها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه و لا غاية وراءه.و من تأمّل المأثور في ذلك من كلامه،علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعدُ في تصنيفه و جمعه إنّما هو تفصيل لتلك الجمل و شرح لتلك الاُصول، و روي عن الأئمّة من أبنائه عليهم السلام في ذلك ما لا يكاد يحاط به كثرة،و من أحبّ الوقوف عليه فطلبه من مظانّه أصاب منه الكثير الغزير الذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة و لقاح للعقول العقيمة» (1).

و قال ابن أبي الحديد:«إنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي،لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم،و معلومه أشرف الموجودات،فكان هو أشرف،و من كلامه عليه السلام اقتبس،و عنه نقل،و منه ابتدئ و إليه انتهى،فإنّ المعتزلة-الذين هم أصل التوحيد و العدل و أرباب النظر و منهم من تعلّم الناس هذا الفن-تلامذته و أصحابه،لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد اللّه بن محمّد بن الحنفية و أبو هاشم تلميذ أبيه و أبوه تلميذه،و أمّا الأشعرية فإنّهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري و هو تلميذ أبي علي الجبائي،و أبو

ص:278


1- 1) .الشريف المرتضى:الأمالي:148/1.

علي أحد مشايخ المعتزلة فالأشعرية ينتهون بالآخرة (1)إلى أُستاذ المعتزلة و معلّمهم،و هو علي بن أبي طالب» (2).

4.العترة الطاهرة و دورهم في نشوء هذا العلم:
اشارة

إنّ العترة الطاهرة و إن أُقصيت عن القيادة الإسلامية،إلّا أنّه أُتيحت لهم الفرصة في آخر عهد الأمويين و أوائل حكومة العباسيين، في شرح المعارف و توضيح الحقائق و تربية رواد الفكر،و ارشاد الحكيم إلى دلائل و براهين لا يقف عليها إلّا الأوحدي من الناس و التلميح إلى نكات عرفانية،لا يدركها إلّا العارف المتألّه.ففي أدعية الإمام زين العابدين إشارات كلامية و تلميحات عرفانية،كما أنّ في الأحاديث المرويّة عن الصادقين و الكاظمين كميّة هائلة من البحوث الكلامية،و المناظرات العلمية التي أدّت إلى نضوج علم الكلام الإسلامي بوجه واضح،و ها نحن نذكر احتجاجين قصيرين للإمامين الصادق و الرضا عليهما السلام ليكونا نموذجين لما لم نذكره:

مناظرة الإمام الصادق عليه السلام مع أحد القدرية:

روى العياشي:أنّه طلب عبد الملك بن مروان من عامله بالمدينة أن يوجه إليه محمّد بن علي بن الحسين (الباقر) عليه السلام حتى يناظر رجلاً من القدرية و قد أعيا الجميع،فبعث أبو جعفر ولده مكانه،فقدم الشام و تسامع الناس بقدومه لمخاصمة القدرية،فقال عبد الملك لأبي عبد اللّه:إنّه قد أعيانا أمر هذا القدري،

ص:279


1- 1) .و الصحيح أن يقول:أخيراً،و قد تسرّب هذا اللحن إلى الكتب العربية حتى استعمله سعد الدين التفتازاني في مطوّله.
2- 2) .شرح ابن أبي الحديد:17/1. [1]

فقال الإمام:«إنّ اللّه يكفيناه»فلما اجتمعوا،قال القدري لأبي عبد اللّه عليه السلام:سل عمّا شئت؟ فقال له:«اقرأ سورة الحمد».قال:

فقرأها،فلمّا بلغ قول اللّه تبارك و تعالى: «إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ» فقال جعفر:«قف! من تستعين؟ و ما حاجتك إلى المئونة أنّ الأمر إليك»،فبهت الرجل (1).

إنّ القدرية هم أسلاف المعتزلة،و قد تبنّت فكرة استغناء الممكن في فعله (لا في ذاته) في عصر خلافة عبد الملك (65-86 ه) و كان لها دويّ في عصره،و قد أخذتها المعتزلة عنهم و صقلتها و جعلتها من توابع القول بالعدل و غفلت عن أنّ القول بالحرية إلى حدّ الاستغناء عن الواجب ينسجم مع التنزيه لكنه يهدم التوحيد الذاتي،فيكون الممكن مثل الواجب في الاستغناء عن غيره في مقام الإيجاد، و لأجل ذلك تضافرت عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام:

«لا جبر و لا تفويض و لكن أمرٌ بين أمرين» (2).

احتجاج الإمام الرضا عليه السلام مع أبي قرّة:

قال أبو قرّة للإمام الرضا عليه السلام:إنّا روينا أنّ اللّه عزّ و جلّ قسّم الرؤية و الكلام بين اثنين،فقسّم لموسى عليه السلام الكلام،و لمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم الرؤية.فقال أبو الحسن عليه السلام:«فمن المبلّغ عن اللّه عزّ و جلّ إلى الثقلين:الجن و الإنس «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» 3 و «وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» 4 و «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» 5 أ ليس محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم ؟ !»قال:بلى.قال:«فكيف يجيء رجل إلى الخلق

ص:280


1- 1) .المجلسي:البحار:55/5-56. [1]
2- 2) .الصدوق:التوحيد:362.

جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللّه،و أنّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه،و يقول: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» و «وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» و «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» ثمّ يقول:أنا رأيته بعيني و أحطت به علماً،و هو على صورة البشر ! أمّا تستحيون،ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا:أن يكون يأتي عن اللّه بشيء،ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر» (1).

و من وقف على كتب أهل الحديث و الأشاعرة،يقف على أنّ لهم في إثبات الرؤية،إصراراً عجيباً،و ترى أنّ الإمام كيف قطع الطريق على أبي قرّة الذي اغترّ بأحاديث مدسوسة اختلقتها اليهود و أنصارهم و بثّوها بين المسلمين،و لو لا ضيق المجال لنقلت قسماً وافراً من خطبهم و مناظراتهم عليهم السلام في مجال العقائد حتى تقف على أنّ حديثهم هو المنطلق الرابع لنشوء علم الكلام و نضوجه و تكامله.

فمن المؤسف جداً أن يتّهم شيعة العترة الطاهرة بما في كلام المستشرق (آدم متز) فقد وصفهم بأنّه لم يكن للشيعة مذهب كلامي إلى القرن الرابع،مع أنّ فيهم أئمّة المسلمين وقادة الاُمّة الذين يصدق فيهم قول الشاعر: من تلق منهم،تلق كهلاً أو فتىً علم الهدى بحر الندى المورودا

إلى هنا،تبيّن أنّ أحد الأسباب لنشوء علم الكلام هو العامل الداخلي الذي لا يتجاوز عن إطار القرآن و السنّة النبوية و كلمات العترة الطاهرة،و هناك عامل خارجي صار سبباً لنموّ الأفكار الكلامية المأخوذة عن الاُصول الموجودة في الكتاب و السنّة و هو وجود الصراع الفكري بين المسلمين و غيرهم،و إليك بيانه:

ص:281


1- 1) .الصدوق:التوحيد:110-111 ح9.
الاحتكاك الثقافي و اللقاء الحضاري:

إذا كان الكتاب و السنّة و حديث العترة الطاهرة هو المنطلق لنشوء علم الكلام و ظهوره بين المسلمين،فقد كان للاحتكاك الثقافي و اللقاء الحضاري دور خاص في ذلك المجال،و هو أنّه دفع عجلة علم الكلام إلى الامام،و صار سبباً لنموه و نضوجه بين المسلمين،و لو لا هذا الصراع الفكري لما نمت تلك البذور الطيبة الكامنة في الكتاب و السنّة،و ما استوت على سوقها،و هذان العاملان (الداخلي و الخارجي) و إن صارا سبباً لنشوء هذا العلم و تكامله إلّا أنّ دور الأوّل،يخالف دور الثاني،فالأوّل يعد مصادر علم الكلام و منابعه و مناشئه،و أمّا الثاني،فهو الذي أيقظ المفكرين من المسلمين حتّى ينمّوا ما تعلموه في مدرسة الدين من الاُصول و العقائد،و إليك بيان ذلك العامل الخارجي.

بُعِثَ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بدين عالمي،و نبوة خاتمة،و كتاب خاتم للكتب،و المهيمن عليها،و بثّ شريعته الغراء في ربوع الجزيرة العربية في بضع سنين،إلى أن مضى إلى جوار ربّه،و راية الإسلام خفّاقة عالية،تدين أهلها بالتوحيد،و تكافح الثنوية،و تُؤمن بالحياة الاُخروية و تعمل بسنن الإسلام و طقوسه.

و قد أحسّ المسلمون بواجبهم-بعد رحلته-و هو نشر الإسلام و بسطه في العالم كلِّهِ و دعوة جميع البشر على مختلف قومياتهم إلى الانضواء تحت راية الإسلام،بالحكمة و الموعظة الحسنة،ثمّ كسر الأصنام و الأوثان بالجهاد المتواصل،و بذل النفس و النفيس في سبيله،حتى تُصْبِح الأجواء صافية،و الظروف حرّة،و ترتفع العوائق و الموانع بغية دخول الناس في دين اللّه زرافات و وحداناً عن طوع و رغبة،بلا خوف و لا رهبة من طواغيت العصر.

قام المسلمون بواجبهم ففتحوا البلاد،و نشروا الثقافة الإسلامية بين الاُمم المتحضرة و التي كانت تتمتّع-وراء الآداب و الفنون و العلوم و الصناعات-

ص:282

بمناهج فلسفية،و آراء كلامية لا يذعن بها الإسلام.

و قد كان في ذلك الاحتكاك الثقافي و اللقاء الحضاري تأثير بالغ عاد على الإسلام و المسلمين بالخير الكثير إلّا أنّ هذا الاحتكاك لا يخلو عن مضاعفات،و هي انتقال تلك الآراء و الأفكار إلى الأوساط الإسلامية و هم غير متدرّعين تجاه تلك الشبهات و المشاكل.

و أعان على ذلك أمر ثان و هو انتقال عدة من الأسرى إلى العواصم الإسلامية فانتقلوا إليها بآرائهم و أفكارهم و عقائدهم المضادّة للإسلام و أُسسِه،و كان بين المسلمين من لم يتورّع في أخذ هاتيك العقائد الفاسدة،نظراء:عبد الكريم ابن أبي العوجاء،و حماد بن عجرد، و يحيى بن زياد،و مطيع بن اياس،و عبد اللّه بن المقفّع إلى غير ذلك بين غير متدرّع أو غير متورّع،فأوجد ذلك بلبلة في الأفكار و العقائد بين المسلمين.

أضف إلى ذلك أمراً ثالثاً كان له التأثير الحاسم في بسط الإلحاد و الزندقة و هو نقل الكتب الرومانية و اليونانية و الفارسية إلى اللغة العربية من دون نظارة و رقابة و جعلها في متناول أيدي الناس،و قد ذكر ابن النديم تاريخ ترجمة تلك الكتب فقال:

«كان خالد بن يزيد بن معاوية محِبّاً للعلوم،فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان ممّن كان ينزل مدينة مصر،و أمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني و القبطي إلى العربي،و هذا أوّل نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة،ثمّ نقل الديوان و كان باللغة الفارسية إلى العربية في أيام الحجاج،و كان أمر الترجمة يتقدم ببطء،إلى أن ظهر المأمون في ساحة الخلافة،فراسل ملك الروم يسأله الاذن في انفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة،المدّخرة في بلد الروم،فأجاب إلى ذلك بعد امتناع،فبعث المأمون جماعة،منهم:

الحجاج بن مطر،و ابن

ص:283

بطريق،و محمد بن أحمد و الحسين بنو شاكر المنجّم،فجاءوا بطرائف الكتب،و غرائب المصنّفات في الفلسفة و الهندسة و غيرهما»،ثمّ ذكر ابن النديم أسماء النقلة من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية،و جاء بأسماء كميّة هائلة (1)فأخذوا يصبون ما وجدوه من غث و سمين في كتب الوثنيين و المسيحيين على رءوس المسلمين،و هم غير متدرّعين و غير واقفين على جذور هذه الشبه،مع أنّها كانت تزعزع أركان الإسلام.

فقد أثار انتقال هذه الشبه و العقائد و الآراء إلى أوساط المسلمين ضجّة كبرى بينهم،فافترقوا إلى فرقتين:

فرقة اقتصرت في الذب عن حياض الإسلام بتضليلهم و تكفيرهم و توصيفهم بالزندقة و تحذير المسلمين من الالتقاء بهم و قراءة كتبهم و الاستماع إلى كلامهم،إلى غير ذلك مما كان يعدّ مكافحة سلبية و التي لا تصمد أمام ذلك السيل الجارف.

و فرقة قد أحسّوا بخطورة الموقف و أنّ المكافحة السلبية لها أثرها المؤقت،و إنّ ذلك الداء لو لم يعالج بالدواء الناجع سوف يعمّ المجتمع كلّه أو أكثره،فقاموا بمكافحة إيجابية أي الدعوة بالحكمة و الموعظة الحسنة و الجدال الذي يستحسنه الإسلام،فأزالوا شبهاتهم، و نقدوا أفكارهم في ضوء العقل و البرهان،و قد نجحوا في ذلك نجاحاً باهراً،و هؤلاء هم الشيعة خرّيجو مدرسة أهل البيت أوّلاً،و المعتزلة أتباع واصل بن عطاء ثانياً الذين أخذوا أُصول مذهبهم عن علي عليه السلام بواسطتين:

1.أبي هاشم ابن محمد بن الحنفية.

2.محمّد ابن الحنفية ابن علي بن أبي طالب.

ص:284


1- 1) .ابن النديم:الفهرست:352،356. [1]

ففي تلك الأجواء المشحونة بالبحث و الجدل استفحل أمر الكلام،أي العلم الباحث عن المبدأ و أسمائه و صفاته و أفعاله لغاية الذب عن الإسلام،فكان علم الكلام وليد الحاجة،و رهن الصراع الفكري مع التيارات الإلحادية المتحدية للإسلام و المسلمين،و في هذه الظروف العصيبة قام أهل البيت عليهم السلام بتربية جموع غفيرة من أصحاب المواهب للذب عن الإسلام و أُصوله أوّلاً،و حريم الولاية ثانياً،في ضوء العقل و البرهان،فصاروا يناظرون كل فرقة و نحلة بأمتن البراهين و أسلمها،و قد حفظ التاريخ أسماء لفيف من الرافلين في حلل الفضائل و المعارف،و سوف يوافيك أسماؤهم لاحقاً.

ص:285

الفصل الثالث:بدايات المسائل الكلامية في القرنين الأوّلين

اشارة

قد عرفت أنّ القرآن و السنّة،و أحاديث العترة الطاهرة هي المنطلق الحقيقي لنشوء علم الكلام و أنّ المسلمين بطوائفهم المختلفة كانوا يصدرون عنها،نعم كان للّقاء الحضاري و الاحتكاك الثقافي دور هام في تكامل علم الكلام و كثرة مسائله،فالكتاب و السنّة كانا مرجعين للاهتداء إلى موقف الإسلام فيها،و اللّقاء الحضاري كان سبباً لطرح المسائل في الأوساط،و انتقال الأذهان إليها،و على كل حال أصبح الأمران سبباً لنشوء علم الكلام و نضوجه بين المسلمين على نزعاتهم المختلفة.

إنّ كتّاب الملل و النحل يصرّون على أنّ الاختلاف في الإمامة كان أوّل اختلاف ديني و أعظم خلاف بين الاُمّة.

يقول الإمام أبو الحسن الأشعري:أوّل ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد وفاة نبيّهم اختلافهم في الإمامة (1).

و يقول الشهرستاني:إنّ الاختلاف في الإمامة أعظم خلاف بين الاُمّة،إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان (2).

ص:286


1- 1) .مقالات الاسلاميين و اختلاف المصلّين:34/1،نشر محيي [1]الدين عبد الحميد.
2- 2) .الملل و النحل:24/1. [2]

يلاحظ عليه:أنّ الاختلاف في الإمامة بعد أيام الخلفاء و إن أصبح اختلافاً كلامياً،فذهبت الشيعة إلى أنّها تنصيصية و السنّة إلى غيرها،لكن الاختلاف يوم ارتحل الرسول لم يكن اختلافاً في قاعدة دينية،و جدالاً في مسألة كلامية بل كان جدالاً سياسياً محضاً،لم يكن مبنياً على قاعدة دينية،إذ كان علي عليه السلام و أهل بيت النبي و لفيف من شيعة الإمام بعيدين عن السقيفة و ما جرى فيها،مشغولين بتجهيز النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و أمّا الأنصار فكانوا يرون أنفسهم أولى بإدارة الاُمور لأنّهم آووا النبي و نصروه،و كان المهاجرون يرون أنفسهم أولى بها لأنّهم أصل النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عشيرته،من دون أن يبحث أحد من الفئتين عن القاعدة الدينية في مجال الإمامة،و أنّها هل هي التنصيص،أو الشورى أو غيرهما،و ما هو الملاك فيها؟ بل كانت هذه الاُمور مغفولاً عنها يوم ذاك،و كان الهدف هو تسنّم منصّة الخلافة و تداول كرتها بين أبنائهم و عشيرتهم،حتى لو لم تكن حكومة الرسول حكومة دينية و كان الرسول قائداً بشرياً مات عنها،لقام المهاجرون و الأنصار بنفس ذلك الجدال،و كلٌّ سعى إلى جرّ النار إلى قرصه.

فما في أكثر الكتب الكلامية من تصوير الاختلاف في مسألة الإمامة،اختلافاً كلامياً ناشئ عن النظر إليها فيما بعد السقيفة،و أمّا إذا نظرنا إليها من منظار المهاجرين و الأنصار،فالاختلاف بينهم لم يكن نزاعاً كلامياً و دينياً بل سياسياً بحتاً،مبنياً على تناسي النص،و تصوير الخلافة الإسلامية كخلافة موروثة من القائد لاُمّته،و إلّا فلو كان النزاع على أساس دينيّ،لما كان للاختلاف مجال،و كفتهم هتافات الرسول في بدء الدعوة،و يوم ترك المدينة لغزوة تبوك،و يوم الغدير و غيرها.

و إليك نماذج من بدايات المسائل الكلامية في القرنين الأوّلين:

ص:287

1.مسألة التحكيم:

إنّ أوّل خلاف ظهر بين المسلمين،و صيّرهم فرقتين،هو مسألة التحكيم في وقعة صفين،و المسألة يوم ذاك و إن اصطبغت بصبغة سياسية لكن كان لها أساس دينيّ،و هو أنّ الخوارج خالفوا علياً عليه السلام و انعزلوا عن جنده بحجّة أنّ حكم اللّه في الباغي،هو مواصلة الحرب و الجهاد حتى يفي إلى حكم اللّه لا التصالح و إيقاف الحرب،و حجّتهم و إن كانت مردودة لأجل أنّ التحكيم إنّما فُرِض على الإمام،لا أنّه قبله عن اختيار و حرية،و الخوارج هم الذين فرضوه عليه،و لم يكتفوا بذلك حتى فرضوا عليه صيغة التحكيم و وثيقته،و حتى المُحكِّم الذي يشارك فيه مع مندوب معاوية،إلّا أنّ هذا الاعوجاج الفكري صار سبباً لتشكّل فرقتين متخاصمتين إلى عهود و قرون.

و بذلك يفترق اختلافهم مع اختلاف أمثال طلحة و الزبير و معاوية إذ لم يكن اختلافهم حول المبادئ و إنّما طمعوا أن يكونوا خلفاء و...و لذلك لم يثيروا إلّا مشاكل سياسية دموية،بخلاف اختلاف الخوارج فإنّ اختلافهم كان حول المبادئ و كانوا يردّدون كلمة«لا حكم إلّا للّه»و كان علي عليه السلام و حواريّه ابن عباس يحتجّان عليهم بالقرآن و السنّة.

و بظهور الخوارج على الصعيد الإسلامي،و رفضهم التحكيم،طرحت مسائل أُخرى بين المسلمين شكّلت مسائل كلامية عبر القرون،و هي:

2.حكم مرتكب الكبيرة:

إنّ الخوارج كانوا يحبّون الشيخين و يبغضون الصهرين،بمعنى أنّهم كانوا يوافقون عثمان في سني خلافته إلى ستّ سنين،و لمّا ظهر منه التطرّف و الجنوح إلى

ص:288

النزعة الأموية،و استئثار الأموال أبغضوه،و أمّا علي عليه السلام فقد كانوا مصدّقيه إلى قضية التحكيم،فلما فُرض عليه التحكيم و قبل هو ذلك المخطّط عن ضرورة و اضطرار،خالفوه و وصفوه باقتراف الكبيرة،-فعند ذاك-نجمت مسألة كلامية و هي ما هو حكم مرتكب الكبيرة؟ و قد استفحل أمرها أيام محاربة الخوارج مع الأمويين الذين كانوا معروفين بالفسق و الفجور،و سفك الدماء و غصب الأموال، فكان الخوارج يحاربونهم بحجّة أنّهم كفرة لا حرمة لدمائهم و لا أعراضهم و لا نفوسهم لاقترافهم الكبائر.

و على أي تقدير ففي المسألة أقوال:

ألف.مرتكب الكبيرة كافر.

ب.مرتكب الكبيرة فاسق منافق.

ج.مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق.

د.مرتكب الكبيرة لا مؤمن و لا فاسق بل منزلة بين المنزلتين.

فالأوّل خيرة الخوارج،و الثاني مختار الحسن البصري،و الثالث مختار الإمامية و الأشاعرة،و الرابع نظرية المعتزلة.

3.تحديد مفهوم الإيمان:

و قد انبثق من هذا النزاع،نزاع كلامي آخر و هو:تحديد مفهوم الإيمان،و إنّ العمل داخل في حقيقة الإيمان أو لا ؟ فعلى قول الخوارج و المعتزلة،فالعمل مقوّم للإيمان،بخلافه على القول الآخر،و قد صارت تلك المسألة ذات أهميّة في الأوساط الإسلامية و انتهت إلى مسألة أُخرى،و هي زيادة الإيمان و نقصه بصالح الأعمال و عدمها.

ص:289

4.الإرجاء و المرجئة:

انّ فكرة إرجاء حكم مرتكب الكبيرة إلى اللّه سبحانه تعالى،أو إرجاء حكم الصهرين إلى اللّه سبحانه،حتى لا ينبس فيهما المسلم ببنت شفة،أخذت تنمو حتى تحوّلت إلى الإباحية التي تنزع التقوى من المسلم و تفتح أمامه أبواب المعاصي،و هو تقديم الإيمان و تأخير العمل،و إنّ المهم هو الاعتقاد القلبي و العمل ليس شيئاً يعتدّ به،و إنّ التعذيب إنّما يكون على الكفر،و إمّا التعذيب على اقتراف المعاصي فغير معلوم،و قد اشتهر عنهم قولهم:لا تضرّ مع الإيمان معصية،كما لا تنفع مع الكفر طاعة.

5.مسألة القضاء و القدر:
اشارة

إنّ مسألة القضاء و القدر و إن كان لها جذور قبل بزوغ نجم الإسلام و بعده،لكنّها أخذت لنفسها أهميّة خاصة في عصر الأمويين حيث كانوا يبرّرون استئثارهم و أعمالهم الإجرامية بالقضاء و القدر،فصار ذلك سبباً،لوقوع المسألة مثاراً للبحث و النقاش بين المفكرين المسلمين.

فالمسألة و إن كانت مطروحة بين المسلمين قبل الأمويين لكنها لم تشكّل تيّاراً فكرياً و لا مذهباً كلاميّاً.

روى الواقدي في مغازيه عن أُمّ الحارث الأنصارية و هي تحدّث عن فرار المسلمين يوم حنين قالت:مرّ بي عمر بن الخطاب (منهزماً) فقلت:ما هذا؟ فقال عمر:أمر اللّه (1).

ص:290


1- 1) .الواقدي:المغازي:904/3. [1]

و قد كانت تلك الفكرة سائدة حتى بعد رحلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم روى عبد اللّه بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر فقال:أ رأيت الزنا بقدر؟ قال:نعم.قال:اللّه قدّره عليّ ثمّ يعذّبني؟ قال:نعم يا ابن اللخناء،أما و اللّه لو كان عندي انسان أمرته أن يجأ أنفك (1).

استغلال الأمويين للقدر:

لقد اتخذ الأمويّون مسألة القدر أداة تبريرية لأعمالهم السيّئة و كانوا ينسبون وضعهم الراهن بما فيه من شتى ضروب العيث و الفساد إلى القدر.قال أبو هلال العسكري:إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ اللّه يريد أفعال العباد كلّها (2).

و لأجل ذلك لما سألت أُمّ المؤمنين عائشة،معاوية عن سبب تنصيب ولده يزيد للخلافة و الإمامة أجابها:أنّ أمر يزيد قضاء من القضاء و ليس للعباد الخيرة من أمرهم (3).

و بهذا أيضاً أجاب معاوية عبد اللّه بن عمر عند ما استفسر معاوية عن تنصيبه يزيد فقال:إنّي أُحذّرك أن تشقّ عصا المسلمين و تسعى في تفريق ملئهم و أن تسفك دماءهم و أنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء و ليس للعباد خيرة من أمرهم (4).

و قد كانت الحكومة الأموية الجائرة متحمّسة إلى تثبيت هذه الفكرة في المجتمع الإسلامي و كانت تواجه المخالف بالشتم و الضرب و الإبعاد.

ص:291


1- 1) .السيوطي:تاريخ الخلفاء:95. [1]
2- 2) .الأوائل:125/22. [2]
3- 3) .الإمامة و السياسة لابن قتيبة:167/1. [3]
4- 4) .الإمامة و السياسة لابن قتيبة:171/1،طبعة مصر. [4]

قال الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه«نظرية الإمامة»:إنّ معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوّة فحسب،و لكن بايديولوجية تمسّ العقيدة في الصميم،فلقد كان يعلن في الناس أنّ الخلافة بينه و بين علي عليه السلام قد احتكما فيها إلى اللّه،و قضى اللّه له على علىٍّ، و كذلك حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز أعلن أنّ اختيار يزيد للخلافة كان قضاء من القضاء و ليس للعباد خيرة في أمرهم،و هكذا كاد يستقرّ في أذهان المسلمين،أنّ كل ما يأمر به الخليفة حتى لو كانت طاعة اللّه في خلافه (فهو) قضاء من اللّه قد قدر على العباد (1).

و قد سرت هذه الفكرة إلى غير الأمويين من الذين كانوا في خدمة خلفائهم و أُمرائهم فهذا عمر بن سعد بن أبي وقاص قاتل الإمام الشهيد الحسين عليه السلام لما اعترض عليه عبد اللّه بن مطيع العدوي،بقوله:اخترت همدان و الري على قتل ابن عمك،فقال عمر:كانت أُمور قضيت من السماء،و قد اعذرت إلى ابن عمّي قبل الوقعة فأبى إلّا ما أبى (2).

و يظهر أيضاً ممّا رواه الخطيب عن أبي قتادة عند ما ذكر قصة الخوارج في النهروان لعائشة،فقالت عائشة:ما يمنعني ما بيني و بين علي أن أقول الحق سمعت النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقول:«تفترق أُمّتي على فرقتين تمرق بينهما فرقة محلّقون رءوسهم،يحفّون شواربهم،أُزُرهم إلى أَنصاف سوقهم يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم،يقتلهم أحبّهم إليّ،و أحبّهم إلى اللّه».قال فقلت:يا أُمّ المؤمنين فأنت تعلمين هذا،فلم كان الذي منك؟! قالت:يا أبا قتادة و كان أمر اللّه قدراً مقدوراً و للقدر أسباب (3).

ص:292


1- 1) .نظرية الإمامة:334.
2- 2) .طبقات ابن سعد:148/5،طبع بيروت. [1]
3- 3) .تاريخ بغداد:160/1. [2]

و قد كان حماس الأمويين في هذه المسألة إلى حدّ قد كبح ألسن الخطباء عن الإصحار بالحقيقة،فهذا الحسن البصري الذي كان من مشاهير الخطباء و وجوه التابعين و كان يسكت أمام أعمالهم الإجرامية،و لكن كان يخالفهم في القول بالقدر بالمعنى الذي كانت تعتمد عليه السلطة آنذاك.فلما خوّفه بعض أصدقائه من السلطان،فوعد أن لا يعود،روى ابن سعد في طبقاته عن أيوب قال:نازلت الحسن في القدر غير مرّة حتى خوّفته من السلطان،فقال:لا أعود بعد اليوم (1).

كيف و قد جُلد محمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية المعروفة في مخالفته في القدر قال ابن حجر في تهذيب التهذيب:إنّ محمد بن إسحاق اتّهم بالقدر،و قال الزبير عن الدراوردي:و جلد ابن إسحاق يعني في القدر (2).

إذا كانت العوامل الداخلية سبباً لإثارة المسائل السابقة،فقد أثار العامل الخارجي أي الاحتكاك و الصراع الفكري بين المسلمين و أهل الكتاب مسائل أُخرى نشير إلى أهمّها:

6.مسألة التشبيه و التنزيه:

تلتقي اليهودية مع الإسلام في التوحيد و النبوة،لكنها تفارقها في أوصاف الربّ،فالتوراة تصف الإله بصورة بشر و له صورة، و يقول:خلق اللّه آدم على صورته (3)،و إذا عمل يتعب فيحتاج إلى الاستراحة،يقول:و فرغ اللّه في اليوم السادس في عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع (4)و أنّه يمشي بين رياض الجنة و له نداء (5)إلى غير ذلك ممّا ورد في العهد القديم من التشبيه و التجسيم

ص:293


1- 1) .طبقات ابن سعد:167/7،طبع بيروت. [1]
2- 2) .تهذيب التهذيب:38/9-46. [2]
3- 3) .العهد القديم،سفر التكوين،الاصحاح الأوّل.
4- 4) .العهد القديم،سفر التكوين،الاصحاح الأوّل.
5- 5) .العهد القديم،سفر التكوين،الاصحاح الأوّل.

و التمثيل،و قد دسّت الأحبار كثيراً من البدع بين الأحاديث لاعتماد الرواة على أُناس نظراء:كعب الأحبار،و وهب بن منبه،و تميم الداري و غيرهم.

فأصبحت مسألة التشبيه و حديث الصفات الخبرية الواردة ذات أهميّة كبرى فرّقت المسلمين إلى طوائف و استفحل أمرها بوجود روايات التشبيه و التجسيم في الصحاح و المسانيد التي عكف على روايتها المحدّثون السذّج،غير العارفين بدسائس اليهود و مكرهم.

فحسبوها حقائق راهنة،و الخلاف في تفسير الصفات الخبرية بعدُ باق إلى يومنا هذا.

7.النسخ في الشريعة:

إنّ مسألة إمكان النسخ في مجال التشريع اكتسبت لنفسها مكانة بين المسائل الكلامية،و بما أنّ طائفة اليهود كانت منكرة لنبوة المسيح و النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم،عادت إلى انكار إمكان النسخ متمسّكة بما جاء في التوراة:«إنّ هذه الشريعة مؤبدة عليكم و لازمة لكم ما دامت السموات لا نسخ لها و لا تبديل»و مستدلة بأنّ النسخ مستلزم للبداء أي الظهور بعد الخفاء.

فصارت تلك الفكرة سبباً لطرحها في المحافل الإسلامية،فأخذ المتكلّمون بالبحث و النقد و أنّ النص في التوراة إمّا منحول أو مؤوّل،و إنّ النسخ لا يستلزم البداء المستحيل و إنّما هو إظهار بعد إخفاء،و إنّه من قبيل الدفع لا الرفع.

8.عصمة الأنبياء:

إنّ أبرز ما يفترق فيه القرآن عن العهدين هو مسألة حياة رجال الوحي و الهداية الذين وصفهم اللّه سبحانه بقوله: «وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ

ص:294

اَلْأَخْيارِ» 1 و قد ذكر من قصصهم الشيء الكثير فلا تجد فيه شيئاً يمسّ كرامتهم أو يحطّ من مقامهم و أمّا التوراة و الإنجيل (المحرّفتان) فقد جاءا بأساطير خيالية تمسّ كرامة اللّه أوّلاً،و كرامة أنبيائه ثانياً،فالأنبياء فيها يشربون الخمر (1)يمكرون (2)و يقترفون الزنا (3)إلى غير ذلك ممّا يخجل القلم عن بيانه.

فصار ذلك سبباً لطرح مسألة العصمة بين المسلمين،فهم بين مثبت و ناف و مفصّل،و إن كان النافي بينهم أقل.

9.حدوث القرآن و قدمه:

كان أهل الحديث ملتزمين بعدم اتخاذ موقف خاص فيما لم يرد فيه نص عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أو عهد من الصحابة إلّا أنّهم خالفوا منهجهم في هذه المسألة و قد كانت تلعب وراءها يد الأجانب،فقد طرحها يوحنّا الدمشقي في كتابه فعلّم أتباعه المسيحيّين أن يسألوا المسلمين عن السيد المسيح فإذا أجابوهم بنصّ قرآنهم: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ» 5 فيقولوا هل كلمة اللّه و روحه مخلوقة أم غير مخلوقة؟ فإن قالوا مخلوقة،فألزموهم بأنّ معناه أنّ اللّه كان و لم تكن له كلمة و لا روح و إن قالوا قديمة يثبت قدم المسيح،و كونه ابن اللّه و أحد الثلاثة (4).

و قد كان للتخطيط المسيحي أثره الخاص فأوجدت تلك المسألة ضجّة

ص:295


1- 2) .العهد القديم،سفر التكوين،الاصحاح التاسع،الجملات 20- 25.
2- 3) .3.العهد القديم،سفر التكوين،الاصحاح التاسع و العشرون 18-38.
3- 4) .العهد القديم،صموئيل الثاني،الاصحاح الحادي عشر 497.
4- 6) .تاريخ المذاهب الإسلامية:394/2.

كبرى بين المسلمين،فالمحدثون على عدم كونه مخلوقاً و المتفكّرون كالشيعة و المعتزلة على الحدوث.

فهذه المسائل الأربع،دخلت أوساط المسلمين و تناولها المفكّرون بالبحث و النقاش،لدافع خارجي،كما عرفت.

هذه نماذج من المسائل الكلامية التي طرحت في القرن الأوّل و الثاني،و لم تزل المسائل تطرح واحدة بعد الاُخرى حسب امتداد الصراع الفكري بين المسلمين و سائر الشعوب من مسيحية و يهودية و مجوسية و بوذية،فقد دفع هذا الاحتكاك الثقافي عجلة علم الكلام إلى الامام،فأصبح المتكلّمون يبحثون عن مسائل أُخرى ربّما تقع ذريعة للردّ على الإسلام،إلى أن صار علم الكلام،علماً متكامل الأركان متشعّب الفنون ناضج الثمار داني القطوف.

ص:296

الفصل الرابع:متكلّمو الشيعة عبر القرون

اشارة

قد تعرفت على رءوس المسائل الكلامية التي شغلت بال المفكّرين المسلمين عبر القرنين:الأوّل و الثاني،و من حسن الحظّ أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام،أخذوها بالبحث و التحليل في خطبهم و رسائلهم و قصار كلمهم،و إنّهم و إن أُقْصوا عن سدة الحكم و الخلافة لكن الاُمّة عكفت على بابهم فيما يتعلق بالعقيدة و الشريعة،و اعترفت بمرجعيتهم فيهما حتى المتقمّصين للخلافة.

و لو أنّك سبرت ما أُثر عن أمير المؤمنين عليه السلام و ولديه السبطين،و ما ورد في أدعية السجاد عليهم السلام لوجدت في كلامهم إشارات لتلك المسائل،نذكر بعض النماذج منها.

كان لمسألة القضاء و القدر دويٌّ في العقد الثالث و الرابع من الهجرة و كان القدر بمعنى السالب عن الاختيار متفشّياً بين المسلمين، و قد سأل الإمام علياً عليه السلام أحد أصحابه عند منصرفه من صفين-و كان انطباعه عن التقدير أنّه لا دور للإنسان في محاسن أفعاله و مساويها - و قال:

أخبرنا عن خروجنا إلى أهل الشام أ بقضاء من اللّه و قدر؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام:«أجل يا شيخ،فو الله ما علوتم تلعة و لا هبطتم بطن وادٍ إلّا بقضاء

ص:297

من اللّه و قدر».فقال الشيخ:عند اللّه أحتسب عنائي (1)يا أمير المؤمنين،فقال:«مهلاً يا شيخ:لعلّك تظنّ قضاءً حتماً و قدراً لازماً، لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب،و الأمر و النهي و الزجر،و لسقط معنى الوعيد و الوعد،و لم يكن على مسيء لائمة و لا لمحسنٍ مَحْمَدة،و لكان المحسن أولى باللائمة من المذنب،و المذنب أولى بالإحسان من المحسن،تلك مقالة عبدة الأوثان،و خصماء الرحمن و قدرية هذه الاُمّة و مجوسها،يا شيخ إنّ اللّه عزّ و جلّ كلّف تخييراً،و نهى تحذيراً،و أعطى على القليل كثيراً،و لم يعص مغلوباً،و لم يطع مكرهاً،و لم يخلق السموات و الأرض و ما بينهما باطلاً «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ» 2 ».

قال:فنهض الشيخ و هو يقول: أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

و في كلام آخر له ينهى فيه البسطاء عن الخوض في القدر فقال عليه السلام:«طريق مظلم فلا تسلكوه،و بحر عميق فلا تلجوه،و سرّ اللّه فلا تتكلّفوه» (2).

إنّ خطب الإمام أو رسائله و قصار كلمه،مملوءة بالمعارف الالهية،و الأجوبة

ص:298


1- 1) .أي إن كان خروجنا و جهادنا بقضائه تعالى و قدره لم نستحق أجراً،فرجائي أن يكون عنائي عند اللّه محسوباً في عداد أعمال من يتفضّل عليهم بفضله يوم القيامة.
2- 4) .الرضي:نهج البلاغة: [1]قسم الحكم برقم 287.

على هذه المسائل و أشباهها،و قد عرفت كلام الشارح الحديدي أنّ المتكلّمين أخذوا أُصولهم عن خطبه.

استشهد الإمام بسيف الجور و الظلم،و جاء دور السبط الأكبر،فقد قام بنفس الدور،و كان مرجعاً للمسائل و الأحكام،نذكر نموذجاً ممّا أثر عنه.

رسالة الحسن البصري إلى السبط الأكبر:

كان الحسن البصري خطيب القوم و متكلّمهم،و كان يشار إليه بالبنان خصوصاً في أواخر القرن الأوّل،و وقع كثير من أهل الحديث في ورطة الجبر زعماً منهم أنّ القول بالقضاء و القدر،يسلب الحرية عن الإنسان،و يجعله مكتوف الأيدي في الحياة؛هذا،و من جانب آخر، فانّ تلك الفكرة تضادّ الفطرة الإنسانية و تجعل جهود الأنبياء و الأولياء و علماء التربية تذهب سدى.

فكتب الحسن البصري إلى السبط يسأله عن تلك المعضلة،و إليك السؤال و الجواب:

أمّا بعد:فانّكم معشر بني هاشم،الفلك الجارية في اللّجج الغامرة،و الأعلام النيّرة الشاهرة،أو كسفينة نوح عليه السلام التي نزلها المؤمنون،و نجا فيها المسلمون،كتبت إليك يا ابن رسول اللّه عند اختلافنا في القدر و حيرتنا في الاستطاعة،فأخبرنا بالذي عليه رأيك و رأي آبائك عليهم السلام،فإنّ من عِلْم اللّه علمكم،و أنتم شهداء على الناس و اللّه الشاهد عليكم «ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» 1.

فأجابه الحسن عليه السلام:«بسم اللّه الرحمن الرحيم،وصل إليّ كتابك،و لو لا ما

ص:299

ذكرته من حيرتك و حيرة من مضى قبلك إذاً ما أخبرتك،أما بعد:فمن لم يؤمن بالقدر خيره و شرّه و إنّ اللّه يعلمه فقد كفر،و من أحال المعاصي على اللّه فقد فجر،إنّ اللّه لم يُطَعْ مكرهاً،و لم يُعْصَ مغلوباً،و لم يهمل العباد سدى من المملكة،بل هو المالك لما ملّكهم و القادر على ما عليه أقدرهم،بل أمرهم تخييراً،و نهاهم تحذيراً،فإن ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صادّاً،و إن انتهوا إلى معصية فشاء أن يمنّ عليهم بأن يحول بينهم و بينها،فعل،و إن لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبراً،و لا أُلزموها كرهاً،بل منَّ عليهم بأن بصَّرهم و عرّفهم و حذّرهم و أمرهم و نهاهم،لا جَبْلاً لهم على ما أمرهم به فيكونوا كالملائكة،و لا جبراً لهم على ما نهاهم عنه،و للّه الحجة البالغة،فلو شاء لهداكم أجمعين،و السلام على من اتّبع الهدى» (1).

مكافحة السبطين للتشبيه:

قد كان للأحبار و الرهبان دور مهم في بثّ أحاديث التجسيم بين المسلمين،فكان القول به متفشياً بين أهل الحديث و لكن السبطين كافحاه بخطبهم و كلامهم.

و قد خطب الحسن بن علي عليه السلام و قال:«الحمد للّه الذي لم يكن فيه أوّل معلوم،و لا آخر متناه،و لا قبل مدرك،و لا بعد محدود، فلا تدرك العقول أوهامها،و لا الفكر و خطراتها،و لا الألباب و أذهانها صفته فتقول:متى و لا بدئ ممّا،و لا ظاهر على ما،و لا باطن فيما» (2).

ص:300


1- 1) .ابن شعبة الحرّاني:تحف العقول:232؛ [1]المجلسي:بحار الأنوار:40/5 ح 63؛ [2]الكراجكي:كنز الفوائد:117، [3]ط 1.
2- 2) .نور الثقلين:236/5. [4]
سؤال نافع بن الأزرق عن الإله الذي يُعبد:

كان نافع بن الأزرق من رءوس الخوارج و متطرفيهم،و كان يتعلّم من ابن عباس ما يجهله من مفاهيم القرآن،نقل عكرمة عن ابن عباس أنّه بينما كان يحدّث الناس إذ قام إليه نافع بن الأزرق،فقال له:يا ابن عباس تفتي الناس في النملة و القمّلة،صف لي إلهك الذي تعبد؟! فأطرق ابن عباس إعظاماً لقوله،و كان الحسين بن علي جالساً ناحية فقال:«إليّ يا ابن الأزرق»،قال ابن الأزرق:لست إيّاك أسأل.قال ابن عباس:يا ابن الأزرق،إنّه من أهل بيت النبوة و هم ورثة العلم،فأقبل نافع نحو الحسين عليه السلام،فقال له الحسين عليه السلام:«يا نافع إنّ من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في الالتباس،سائلاً ناكباً عن المنهاج،ظاعناً بالاعوجاج،ضالاً عن السبيل،قائلاً غير الجميل.

يا ابن الأزرق أصف إلهي بما وصف به نفسه،و أُعرِّفه بما عرّف به نفسه:لا يُدرك بالحواس،و لا يقاس بالناس،قريب غير ملتصق، و بعيد غير منقص،يوحّد و لا يتبعّض،معروف بالآيات،موصوف بالعلامات،لا إله إلّا هو الكبير المتعال».

فبكى ابن الأزرق،و قال:يا حسين ما أحسن كلامك! قال له الحسين عليه السلام:«بلغني أنك تشهد على أبي و على أخي بالكفر و عليّ؟» قال ابن الأزرق:أما و اللّه يا حسين لئن كان ذلك لقد كنتم منار الإسلام و نجوم الأحكام،فقال له الحسين عليه السلام:«إني سائلك عن مسألة»، قال:اسأل،فسأله عن هذه الآية: «وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ» 1.

يا ابن الأزرق من حفظ في الغلامين؟»قال ابن الأزرق:أبوهما.قال

ص:301

الحسين:«فأبوهما خيرٌ أم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ؟»قال ابن الأزرق:قد أنبأنا اللّه تعالى أنّكم قوم خصمون (1).

دور الإمام السجاد في الدفاع عن العقيدة:
اشارة

قام الإمام السجاد بنفس الأمر الذي قام به جدّه و أبوه و عمّه،فقال لما سئل عن التوحيد:إنّ اللّه عزّ و جلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل اللّه تعالى: «قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ» و الآيات الست من أوّل سورة الحديد و هي:

بسم اللّه الرحمن الرحيم «سَبَّحَ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ* يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» 2.

روى الشيخ المفيد أنّ عليّ بن الحسين عليه السلام كان في مسجد رسول اللّه ذات يوم إذ سمع قوماً يشبّهون اللّه بخلقه،ففزع لذلك و ارتاع له،و نهض حتى أتى قبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فوقف عنده،و رفع صوته يناجي ربّه،فقال في مناجاته له:

«إلهي بدت قدرتك،و لم تبدُ هيئة جلالك،فجهلوك،و قدّروك بالتقدير على غير ما أنت به،شبّهوك و أنا بريءٌ يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك،ليس كمثلك

ص:302


1- 1) .ابن عساكر:تاريخ مدينة دمشق، [1]قسم حياة الإمام الحسين:158،تحقيق محمد باقر المحمودي؛و المجلسي:بحار الأنوار:297/4 (و [2]ذيل الحديث يحتاج إلى توضيح).

شيء إلهي و لم يُدركوك،و ظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك لو عرفوك،و في خلقك يا إلهي مندوحة عن أن يناولوك،بل سوّوك بخلقك،فمن ثَمّ لم يعرفوك و اتخذوا بعض آياتك ربّاً،فبذلك وصفوك،فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبّهون نعتوك» (1).

و قد ضاق المجال على الإمام،و كانت السلطة لا تسمح له بالكلام و الخطابة،فتفرّغ إلى العبادة و مناجاة ربّه،و خلّف أدعية ضمّت في طيّاتها،بحراً من المعرفة و دقائق العرفان.

هذا دور أئمّة الشيعة الأربعة في القرن الأوّل و قد تربّى في مدرستهم رجال ذبّوا عن حياض العقيدة،بكلّ ما يملكون من حول و قوة،و إليك أسماء بعضهم:

1.سلمان الفارسي:

و له مشاهد و مواقف جليلة لا سيما بعد انتزاع الخلافة من أهل بيت النبي الأكرم،و قد خطب بعد رحلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم خطبة مطوّلة قال فيها:

ألا إنّ لكم منايا تتبعها بلايا،فإنّ عند عليّ علم المنايا و علم الوصايا و فصل الخطاب على منهاج هارون بن عمران،قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«أنت وصيّي و خليفتي في أهلي بمنزلة هارون من موسى»،و لكنّكم أصبتم سنّة الأوّلين،و أخطأتم سبيلكم،و الذي نفس سلمان بيده لتركبنّ طبقاً عن طبق سنّة بني إسرائيل،القذة بالقذة،أما و اللّه لو ولّيتموهما عليّاً لأكلتم من فوقكم و من تحت أرجلكم فابشروا بالبلاء،و اقنطوا من الرخاء،و نابذتكم على سواء و انقطعت العصمة فيما بيني و بينكم من الولاء... (2).

ص:303


1- 1) .المفيد:الإرشاد:260،طبعة النجف. [1]
2- 2) .المامقاني:تنقيح المقال:47/2 رقم 5059. [2]
2.أبو ذر الغفاري جندب بن جنادة:

جندب بن جنادة ذلك الصحابيّ الجليل الذي كانت له مواقف مشهودة بعد رحلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أيّام خلافة عثمان،حتى لفظ نفسه في صحراء لا ماء فيها و لا كلاء لأجل تلك المواقف،و قد قال في حقّه النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«ما أضلّت الخضراء و لا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر»،و هو الذي أخذ بحلقة باب الكعبة و نادى بأعلى صوته:«أنا جندب بن جنادة لمن عرفني،و أبو ذر لمن لم يعرفني،إنّي سمعت رسول اللّه يقول:«إنّ مثل أهل بيتي في هذه الاُمّة مثل سفينة نوح من ركبها نجا،و من تخلّف عنها غرق»،ألا هل بلّغت؟» (1).

و له مواقف حاسمة مع كعب الأحبار في مجلس الخليفة في تفسير آية الكنز و غيرها،و قد حفظتها كتب التاريخ و التفسير.

3.عبد اللّه بن عباس:

حبر الاُمّة و عالم الشريعة،تلميذ الوصي المعروف بحجاجه و مناظراته مع الخوارج و غيرهم،و قد حفلت كتب التفسير بآرائه و أفكاره في العقائد و التفسير،و قد ذكر السيوطي في إتقانه مناظرة الخوارج معه في لغات قرآنية (2).

4.حجر بن عديّ الكندي:

من أصحاب عليّ عليه السلام و يصفه الإمام أبو عبد اللّه الحسين بن علي عليه السلام بقوله مندّداً بعمل معاوية حيث قتله بشهادة مزوّرة حاكها زياد بن أبيه،«أ لست القاتل

ص:304


1- 1) .المامقاني:تنقيح المقال:235/1 رقم 1900. [1]
2- 2) .السيوطي:الاتقان:383/1-416،تحقيق الدكتور مصطفى ديب البُغا،و لو صحّ النقل يدل على سعة اطّلاع ابن عباس على ديوان العرب.

حجراً أخا كندة،و المصلّين الذين كانوا ينكرون الظلم و يستعظمون البدع،و لا يخافون في اللّه لومة لائم،قتلتهم ظلماً و عدواناً من بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلّظة و المواثيق المؤكّدة» (1)و قد استشهد في مرج عذراء عام 51 ه.

قال ابن الأثير في أُسد الغابة بعد عدّه من الصحابة:هو المعروف بحجر الخير،شهد القادسية و كان من فضلاء الصحابة،و كان على كندة بصفين،و على الميسرة يوم النهروان،و شهد الجمل أيضاً مع عليّ عليه السلام و كان من أعيان صحابته (2).

5.كُميل بن زياد النخعي:

الذي يعرّفه ابن حجر و غيره بقوله:كميل بن زياد بن نهيك بن الهيثم النخعي،حدّث عن عليّ و غيره،شهد صفين مع عليّ،و كان شريفاً مطاعاً،ثقة عابداً على تشيّعه،قليل الحديث قتله الحجاج و وثّقه ابن سعد و ابن معن (3).

أقول:كان كميل من خيار الشيعة و خاصّة أمير المؤمنين،طلبه الحجاج فهرب منه،فحرم قومه عطاءهم،فلمّا رأى كميل ذلك قال:

أنا شيخ كبير و قد نفذ عمري،و لا ينبغي أن أكون سبباً في حرمان قومي،فاستسلم للحجاج،فلما رآه قال له:كنت أحبّ أن أجد عليك سبيلاً،فقال له كميل:لا تبرق و لا ترعد!،فو الله ما بقي من عمري إلّا مثل الغبار،فاقض فإنّ الموعد اللّه عزّ و جلّ،و بعد القتل الحساب، و لقد أخبرني أمير المؤمنين أنّك قاتلي،فقال الحجاج:الحجّة عليك إذاً!،فقال:ذلك إن كان القضاء لك،قال:اضربوا عنقه (4).

ص:305


1- 1) .ابن قتيبة:الإمامة و السياسة:164/1-165،ط مصر. [1]
2- 2) .ابن الأثير:أُسد الغابة:385/1. [2]
3- 3) .الذهبي:ميزان الاعتدال:415/3؛ابن حجر:تهذيب التهذيب:447/8 برقم 811. [3]
4- 4) .الخوئي:معجم رجال الحديث:128/14 برقم 9753. [4]

كفى في وعيه و معرفته و عرفانه أنّ الإمام علّمه دعاءه المعروف باسمه،و فيه من النكات البديعة و الإشارات اللطيفة التي لا يتحمّلها إلّا الأوحديّ.

6.الأصبغ بن نباتة:

التميميّ الحنظلي المجاشعيّ الكوفيّ من خاصّة أمير المؤمنين و عمّر بعده.روى عنه عليه السلام عهد الأشتر و وصيّته إلى ابنه،قال المفيد:كان رحمه اللّه من خواصّ أصحابه عليه السلام،و كثير الحبّ له،و كان رجلاً فاضلاً،كثير الرواية،متّفقاً في حديثه من كبار التابعين،و كان أكثر رواياته عن أمير المؤمنين عليه السلام و له روايات كثيرة في فنون العلم،و أبواب الفقه و التفسير و الحكم و غيرها (1).

7.زيد بن صوحان العبدي:

عدّه الشيخ الطوسي من أصحاب أمير المؤمنين قائلاً:كان من الأبدال،قتل يوم الجمل،و قيل استرجعت عائشة حين سمعت أنّه قتل (2)و لما صرع يوم الجمل جلس عليّ عند رأسه فقال:«رحمك اللّه يا زيد،لقد كنت خفيف المؤنة،عظيم المعونة»،فرفع زيد رأسه ثمّ قال:و أنت فجزاك اللّه خيراً يا أمير المؤمنين...و اللّه ما قاتلت معك على جهالة،و لكن سمعت أُمّ سلمة زوج رسول اللّه تقول:سمعت رسول اللّه يقول:«من كنت مولاه فعليّ مولاه،اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله»،فكرهت أن أخذلك فيخذلني اللّه.

ص:306


1- 1) .النجاشي:الرجال:60/1 برقم 5،و ابن سعد في الطبقات الكبرى:255/6،و [1]المفيد في الاختصاص:65،و الكشي في الرجال برقم 42.
2- 2) .الطوسي:الرجال:64 برقم 566،أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام.

و كتبت عائشة من البصرة إلى زيد بن صوحان:من عائشة زوج النبي إلى ابنها زيد بن صوحان أما بعد:فإذا أتاك كتابي هذا فاجلس في بيتك و خذِّل الناس عن علي بن أبي طالب،حتى يأتيك أمري،فلما قرأ كتابها قال:أُمرت بأمر و أُمرْنا بغيره،فركبتِ ما أُمرْنا به،و أمرتِنا أنْ نركب ما أُمرت به،أُمرت أن تقرّ في بيتكِ و أمرْنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة (1).

8.صعصعة بن صوحان:

صعصعة بن صوحان العبدي روى عهد مالك بن الحارث الأشتر (2).و قال ابن عبد البرّ:أسلم في عهد رسول اللّه و لم يره (3).

و قال ابن الأثير:إنّ صعصعة كان من سادات قومه«عبد القيس»و كان فصيحاً خطيباً ديّناً فاضلاً يعدّ في أصحاب عليّ و شهد معه حروبه،و هو القائل لعمر بن الخطاب حتى قسّم المال الذي بعث إليه أبو موسى و كان ألف ألف درهم و فضلت فضلة فاختلفوا أين يضعها، فخطب عمر الناس و قال:أيّها الناس قد بقيت لكم فضلة بعد حقوق الناس،فقام صعصعة و هو غلام شاب و قال:إنّما نشاور الناس فيما لم ينزل فيه قرآن،فأما ما نزل به القرآن فضعه في مواضعه التي وضعها اللّه عزّ و جلّ فيها،فقال:صدقتَ أنت منيّ و أنا منك،فقسّمه بين المسلمين،و هو من سيّره عثمان إلى الشام و توفى أيّام معاوية و كان ثقة،جليل الحديث،أخرجه الثلاثة (4).

ص:307


1- 1) .الكشي:الرجال:63-64.
2- 2) .النجاشي:448/1 برقم 540.
3- 3) .الاستيعاب:185/2. [1]
4- 4) .ابن الأثير:أُسد الغابة:20/3. [2]
9.سعيد بن جبير:

التابعيّ المعروف بالعفّة و الزهد و العبادة،و كان يصلّي خلف الإمام زين العابدين.و ذكر أنّه لمّا دخل على الحجاج قال له:أنت شقيّ بن كسير،فقال:أُمّي أعرف باسمي منك،ثمّ بعد ردّ و بدل أمر الحجاج بقتله،فقال سعيد: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» 1 ،فقال الحجاج:شدّوه إلى غير القبلة،فقال: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ» 2 فقال:كبّوه على وجهه،قال: «مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» 3 ،ثمّ ضربت عنقه (1).

10.قنبر مولى أمير المؤمنين:

صاحب سرّه و مستودع علمه.قال الحجاج لبعض جلاوزته:أحبّ أن أُصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب،فقال:ما نعلم أحداً كان أطول صحبة له من مولاه قنبر،فبعث في طلبه فقال:أنت قنبر؟ قال:نعم.قال له:ابرأ من دين عليّ.فقال له:هل تدلّني على دين أفضل من دينه؟ قال:إنّي قاتلك فاختر أيّ قتلة أحبّ إليك؟ قال:أخبرني أمير المؤمنين:أنّ ميتتي تكون ذبحاً بغير حق،فأُمر به فذبح كما تذبح الشاة (2).

ص:308


1- 4) .الكشي:الرجال:110،برقم 55؛ابن حجر،تهذيب التهذيب:12/4.
2- 5) .الكشي:الرجال:67-70 برقم 21.
11.ميثم التمّار:

هو صاحب أمير المؤمنين و أمره في الجلالة،و رفعة المنزلة و علوّ الشأن مستغن عن البيان،كان عبداً لامرأة فاشتراه عليّ فأعتقه، قال:«ما اسمك؟»قال:له سالم.قال:«حدّثني رسول اللّه أنّ اسمك الذي سمّاك أبوك في العجم:ميثم؟»قال:صدق اللّه و رسوله فرجع إلى ميثم و اكتنّ بأبي سالم،و قد أخبره عليّ بأنّه يصلب على باب عمرو بن حريث عاشر عشرة هو أقصرهم خشبة،و أراه النخلة التي يصلب على جذعها،و كان ميثم يأتي و يصلّي عندها.

و قال لابن عباس:سلني عمّا شئت من تفسير القرآن فإنّي قرأت تنزيله عند أمير المؤمنين و علّمني تأويله،فقال:يا جارية هات الدواة و القلم،فأقبل يكتب (1).

12.مالك بن الحارث الأشتر النخعي:

عدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الإمام أمير المؤمنين و قائد قوّاته في حرب الجمل و صفين،أمره في الجلالة و الوثاقة و الشجاعة و المناظرة أظهر من أن يبيّن،و لمّا بلغ عليّاً عليه السلام موته،قال:«رحم اللّه مالكاً،لو كان صخراً لكان صلداً،و لو كان جبلاً لكان فنداً».

لم يزل يكافح النزعات الأموية،من عصر الخليفة عثمان إلى أن استشهد في مصر بيد أحد عملاء معاوية (2).

و من نماذج كلامه ما ذكره عند تجهيز أبي ذر،حيث خرج مع رهط إلى الحج

ص:309


1- 1) .الكشي:الرجال:47،برقم 24.
2- 2) .المامقاني:تنقيح المقال:262/3 برقم 12344. [1]

فإذا امرأة على قارعة الطريق تقول:يا عباد اللّه،هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد هلك غريباً ليس لي أحد يعينني عليه، فنزل و نزل الرهط،فلما جهّزوه،و صلّى عليه الأشتر قام على قبره و قال:اللّهم هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه عبدك في العابدين،و جاهد فيك المشركين،لم يغيّر و لم يبدّل،لكنه رأى منكراً فغيّره بلسانه و قلبه،حتى جُفِيَ و نُفِيَ و جُرّم و احتُقِر ثمّ مات وحيداً،اللهم فاقصم من حرّمه و نفاه من حرم رسولك.فقال الناس:آمين (1).

***

هؤلاء اثنا عشر رجلاً من رجال الدعوة و الإصلاح و الذبّ و الدفاع عن حريم العقيدة،المعروفون بنفسيّاتهم الكريمة،و ملكاتهم الفاضلة،و سعيهم وراء الدعوة إلى الحق،و مع ذلك نراهم ما بين قتيل و شريد و سجين،إلى غير ذلك من ألوان العذاب التي عمّت هؤلاء الذابّين عن حريم العقيدة.

و ما نقموا منهم،سوى الاصحار بالحقيقة،و الإجهار بالولاية،و السعي وراء العقيدة الحقّة.

فبعض هؤلاء إن لم يكونوا متكلّمين بالمعنى المصطلح،لكن كانوا ذابّين عن حريم العقيدة بالكتاب و السنّة،و البعض الآخر كان من أكبر متكلّمي عصرهم لا يشقّ غبارهم و لا يدرك شأوهم.

ص:310


1- 1) .الكشي:الرجال:61-62 برقم 17.
متكلّمو الشيعة في القرن الثاني:
1.زرارة بن أعين بن سنسن:

مولى (بني عبد اللّه بن عمرو السمين بن أسعد بن همام بن مرّة بن ذهل بن شيبان)،أبو الحسن،شيخ أصحابنا في زمانه، و متقدّمهم،و كان قارئاً فقيهاً متكلّماً شاعراً،أديباً،قد اجتمعت فيه خلال الفضل و الدين،صادقاً في ما يرويه.

قال أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه:رأيت له كتاباً في الاستطاعة و الجبر (1).و قال ابن النديم:و زرارة أكبر رجال الشيعة فقهاً و حديثاً و معرفةً بالكلام و التشيع. (2)و هو من الشخصيّات البارزة للشيعة التي اجتمعت العصابة على تصديقهم،هو غنيّ عن التعريف و التوصيف.

2.محمد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي:

يُعرِّفه النجاشي بقوله:مولى،الأحول«أبو جعفر»كوفيّ،صيرفيّ،يلقب مؤمن الطاق و«صاحب الطاق»و يلقبه المخالفون «شيطان الطاق»...و كان دكّانه في طاق المحامل بالكوفة،فيرجع إليه في النقد فيردّ ردّاً فيخرج كما يقول فيقال«شيطان الطاق»،فأمّا منزلته في العلم و حسن الخاطر،فأشهر،و قد نسب إليه أشياء لم تثبت عندنا و له كتاب«افعل لا تفعل»رأيته عند أحمد بن الحسين بن عبيد اللّه رحمه اللّه،كتاب حسن كبير و قد أدخل فيه بعض المتأخرين أحاديث تدلّ على فساد،و يذكر تباين أقاويل الصحابة،و له كتاب«الاحتجاج في إمامة أمير

ص:311


1- 1) .النجاشي:الرجال 397/1 برقم 461؛الطوسي:الفهرست:برقم 314؛ [1]الكشي:الرجال:برقم 62؛الذهبي:ميزان الاعتدال:/2برقم 2853.
2- 2) .ابن النديم:الفهرست:323. [2]

المؤمنين عليه السلام»،و كتاب كلامه على الخوارج،و كتاب مجالسه مع أبي حنيفة و المرجئة... (1)،و قد توفي الإمام الصادق عليه السلام عام 148،و أبو حنيفة عام 150،فالرجل من متكلّمي القرن الثاني.

و قال ابن النديم:و كان متكلّماً حاذقاً،و له من الكتب كتاب الإمامة،كتاب المعرفة،كتاب الردّ على المعتزلة في إمامة المفضول، كتاب في أمر طلحة و الزبير و عائشة (2).

3.هشام بن الحكم:

قال ابن النديم:هو من متكلّمي الشيعة الإمامية و بطانتهم،و ممّن دعا له الصادق عليه السلام،فقال:«أقول لك ما قال رسول اللّه لحسّان:

لا تزال مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك»،و هو الذي فتق الكلام في الإمامة،و هذّب المذهب،و سهّل طريق الحجاج فيه،و كان حاذقاً بصناعة الكلام،حاضر الجواب (3).

يقول الشهرستاني:و هذا هشام بن الحكم،صاحب غور في الاُصول لا ينبغي أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة،فإنّ الرجل وراء ما يلزم به على الخصم،و دون ما يظهره من التشبيه و ذلك أنّه ألزم العلاّف... (4).

و قال النجاشي:هشام بن الحكم،أبو محمد مولى كندة،و كان ينزل بني شيبان بالكوفة،انتقل إلى بغداد سنة 199،و يقال أنّ في هذه السنة مات،له كتاب يرويه جماعة.ثمّ ذكر أسماء كتبه على النحو التالي:

ص:312


1- 1) .النجاشي:الرجال:203/2 برقم 878؛الطوسي:الرجال:أصحاب الكاظم برقم 18؛الفهرست للطوسي:برقم 594؛الكشي:الرجال:برقم 77.
2- 2) .ابن النديم:الفهرست:264،و أيضاً [1]ص 258.
3- 3) .ابن النديم:الفهرست:257. [2]
4- 4) .الشهرستاني:الملل و النحل:185/1. [3]

1.علل التحريم 2.الإمامة 3.الدلالة على حدوث الأجسام 4.الردّ على الزنادقة 5.الردّ على أصحاب الاثنين 6.الردّ على هشام الجواليقي 7.الردّ على أصحاب الطبائع 8.الشيخ و الغلام في التوحيد 9.التدبير في الإمامة 10.الميزان 11.إمامة المفضول 12.الوصيّة و الردّ على منكريها 13.الميدان 14.اختلاف الناس في الإمامة 15.الجبر و القدر 16.الحكمين 17.الردّ على المعتزلة و طلحة و الزبير 18.

القدر 19.الألفاظ 20.الاستطاعة 21.المعرفة 22.الثمانية أبواب 23.الأخبار 24.الردّ على المعتزلة 25.الردّ على ارسطاطاليس في التوحيد 26.المجالس في التوحيد 27.المجالس في الإمامة (1).

يقول أحمد أمين:أكبر شخصية شيعية في الكلام،و كان جدلاً قويّ الحجّة،ناظر المعتزلة و ناظروه،و نقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرّقة تدلّ على حضور بديهته و قوّة حجته (2).

ثمّ إنّه كان في بداية أمره من تلاميذ أبي شاكر الديصاني،صاحب النزعة الإلحادية في الإسلام،ثمّ تبع الجهم بن صفوان،الجبري المتطرّف المقتول بترمذ،عام 128 ه،ثمّ لحق بالإمام الصادق عليه السلام ودان بمذهب الإمامية،و ما تنقل منه من الآراء التي لا توافق أُصول الإمامية،فإنّما هي راجعة إلى العصرين اللّذين كان فيهما على النزعة الإلحادية أو الجهمية،و أمّا بعد ما لحق بالإمام الصادق عليه السلام،فقد انطبعت عقليّته بمعارف أهل البيت إلى حدّ كبير،حتى صار أحد المدافعين عن عقائد الشيعة الإمامية (3).

ص:313


1- 1) .النجاشي:الرجال:397/2 برقم 1165.
2- 2) .عبد اللّه نعمة:هشام بن الحكم:75.
3- 3) .إنّ للعلامة الحجة الشيخ عبد اللّه نعمة كتاباً في حياة هشام بن الحكم،فقد أغرق نزعاً في التحقيق و أغنانا عن كل بحث و تنقيب.
4.قيس بن الماصر:

أحد أعلام المتكلّمين،تعلّم الكلام من عليّ بن الحسين عليه السلام،روى الكليني أنّه أتى شامي إلى أبي عبد اللّه الصادق ليناظر أصحابه،فقال عليه السلام ليونس بن يعقوب:انظر من ترى بالباب من المتكلّمين...إلى أن قال يونس:فأدخلت زرارة بن أعين و كان يحسن الكلام،و أدخلت الأحول و كان يحسن الكلام،و أدخلت هشام بن الحكم و هو يحسن الكلام،و أدخلت قيس بن الماصر،و كان عندي أحسنهم كلاماً و قد تعلّم الكلام من عليّ بن الحسين عليهما السلام (1).

5.عيسى بن روضة حاجب المنصور:

كان متكلّماً،جيّد الكلام،و له كتاب في الإمامة و قد وصفه أحمد بن أبي طاهر في كتاب بغداد،و ذكر أنّه رأى الكتاب و قال بعض أصحابنا رحمهم اللّه:إنّه رأى هذا الكتاب،و قرأت في بعض الكتب:أنّ المنصور لما كان بالحيرة،تسمّع على عيسى بن روضة،و كان مولاه و هو يتكلّم في الإمامة،فأعجب به و استجاد كلامه (2)و بما أنّ المنصور توفي عام 158،فالرجل من متكلّمي القرن الثاني.

6.الضحّاك،أبو مالك الحضرمي:

كوفيّ،عربيّ،أدرك أبا عبد اللّه عليه السلام،و قال قوم من أصحابنا:روى عنه،و قال آخرون:لم يرو عنه،روى عن أبي الحسن،و كان متكلّماً،ثقة ثقة في الحديث،و له كتاب في التوحيد رواه عنه علي بن الحسين الطاطري (3)،فالرجل من متكلّمي

ص:314


1- 1) .الكليني:الكافي:171/1. [1]
2- 2) .النجاشي:الرجال:145/2 برقم 794.
3- 3) .النجاشي:الرجال:451/1 برقم 544.

القرن الثاني،و قال ابن النديم:من متكلّمي الشيعة،و له مع أبي عليّ الجبائي مجلس في الإمامة و تثبيتها بحضرة أبي محمّد القاسم بن محمّد الكرخي،و له من الكتب:كتاب الإمامة،نقض الإمامة على أبي عليّ و لم يتمّه (1).

7.علي بن الحسن بن محمّد الطائي:

المعروف ب«الطاطري»كان فقيهاً،ثقة في حديثه،له كتب،منها:التوحيد،الإمامة،الفطرة،المعرفة،الولاية (2)و غيرها.و عدّه ابن النديم من متكلّمي الإمامية و قال:«و من القدماء:الطاطري و كان شيعيّاً و اسمه...و تنقّل في التشيّع و له من الكتب كتاب الإمامة حسن. (3)

و بما أنّه من أصحاب الإمام الكاظم فهو من متكلّمي القرن الثاني.

8.الحسن بن عليّ بن يقطين بن موسى:

مولى بني هاشم،و قيل مولى بني أسد،كان فقيهاً متكلّماً روى عن أبي الحسن و الرضا عليهما السلام،و له كتاب مسائل أبي الحسن موسى عليه السلام (4)و بما أنّ أبا الحسن الأوّل توفي عام 183،و الثاني توفي عام 203،فالرجل من متكلّمي القرن الثاني و أوائل القرن الثالث؛و ذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الرضا (5)و هو الذي سأل الإمام الرضا عليه السلام بأنّه لا يقدر على لقائه في كل وقت فعمّن يأخذ معالم دينه؟ فأجاب الإمام عليه السلام:«خذ عن يونس بن عبد الرحمن» (6).

ص:315


1- 1) .ابن النديم:الفهرست:266. [1]
2- 2) .النجاشي:الرجال:77/2 برقم 665.
3- 3) .ابن النديم:الفهرست:266. [2]
4- 4) .النجاشي:الرجال:148/1 برقم 9.
5- 5) .الشيخ الطوسي:الرجال:برقم 7.
6- 6) .النجاشي:421/2 برقم 1209.
9.حديد بن حكيم:

أبو علي الأزدي المدائني،ثقة،وجه،متكلّم،روى عن أبي عبد اللّه،و أبي الحسن عليهما السلام،له كتاب يرويه محمد بن خالد (1).

و بما أنّه من تلاميذ الصادق و الكاظم عليهما السلام فالرجل من متكلّمي الشيعة في القرن الثاني.

10.فضال بن الحسن بن فضال:

و هو من متكلّمي عصر الصادق عليه السلام،و ذكر الطبرسي في احتجاجه مناظرته مع أبي حنيفة،فلاحظ (2).

و ما ذكرناه نماذج من مشاهير المتكلّمين في عصر الصادقين و الكاظم عليهم السلام،و هناك من لم نذكرهم و لهم مناظرات و احتجاجات احتفلت بها الكتب التاريخية و الكلامية،كحمران بن أعين الشيباني،و هشام بن سالم الجواليقي،و السيّد الحميري،و الكميت الأسدي (3).

متكلّمو الشيعة في القرن الثالث:
1.الفضل بن شاذان بن الخليل أبو محمد الأزدي النيشابوري:

كان أبوه من أصحاب يونس،و روى عن أبي جعفر الثاني و قيل الرضا عليهما السلام،و كان ثقة،أحد أصحابنا الفقهاء،و المتكلّمين،و له جلالة في هذه الطائفة،و هو في

ص:316


1- 1) .النجاشي:الرجال:377/1 برقم 383،و ذكره الخطيب في تاريخه:ج8 برقم 4377.
2- 2) .التستري:قاموس الرجال:313/4.
3- 3) .لاحظ أعيان الشيعة:134/1-135. [1]

قدره أشهر من أن نصفه،و ذكر الكنجي أنّه صنّف مائة و ثمانين كتاباً.

و ذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الإمام الهادي و العسكري عليهما السلام،و قد توفي عام 260 ه،فهو من متكلّمي القرن الثالث،و قد ذكر النجاشي فهرس كتبه نقتبس منه ما يلي:

النقض على الاسكافي في تقوية الجسم،الوعيد،الردّ على أهل التعطيل،الاستطاعة،مسائل في العلم،الاعراض و الجواهر،العلل، الإيمان،الردّ على الثنوية،إثبات الرجعة،الردّ على الغالية المحمدية،تبيان أصل الضلالة،الردّ على محمد بن كرام،التوحيد في كتب اللّه، الردّ على أحمد بن الحسين،الردّ على الأصم،كتاب في الوعد و الوعيد آخر،الردّ على بيان (يمان) بن رباب (الخارجي)،الردّ على الفلاسفة،محنة الإسلام،أربع مسائل في الإمامة،الردّ على المنّانية،الردّ على المرجئة،الردّ على القرامطة،الردّ على البائسة،اللطيف، القائم عليه السلام،كتاب الإمامة الكبير،كتاب حذو النعل بالنعل،فضل أمير المؤمنين عليه السلام،معرفة الهدى و الضلالة،التعرّي و الحاصل، الخصال في الإمامة،المعيار و الموازنة،الردّ على الحشوية،الردّ على الحسن البصري في التفضيل،النسبة بين الجبرية و البترية (1).

2.حكم بن هشام بن الحكم:

أبو محمّد،مولى كندة،سكن البصرة،و كان مشهوراً بالكلام،كلّم الناس،و حكي عنه مجالس كثيرة،ذكر بعض أصحابنا أنّه رأى له كتاباً في الإمامة (2)،و قد توفّي والده 200 أو 199،فهو من متكلّمي أواخر القرن الثاني،و أوائل القرن الثالث.

ص:317


1- 1) .النجاشي:الرجال:168/2 برقم 838،و الطوسي:الرجال:برقم 1 و 2 في أصحاب الهادي و العسكري،و الكشي:الرجال:برقم 416.
2- 2) .النجاشي:الرجال:328/2 برقم 349.
3.داود بن أسد بن أعفر:

أبو الأحوص البصري (رحمه اللّه) شيخ جليل،فقيه متكلّم،من أصحاب الحديث،ثقة ثقة،و أبوه من شيوخ أصحاب الحديث الثقات،له كتب،منها:كتاب في الإمامة على سائر من خالفه من الاُمم،و الآخر مجرّد الدلائل و البراهين،و ذكره الشيخ الطوسي في الفهرست في باب الكنى،و قال:إنّه من جملة متكلّمي الإمامية،لقيه الحسن بن موسى النوبختي،و أخذ عنه،و اجتمع معه في الحائر على ساكنه السلام،و كان ورد للزيارة فبما أنّه من مشايخ الحسن بن موسى النوبختي المعاصر للجبائي (المتوفّى 303 ه) فهو من متكلّمي القرن الثالث (1).

4.محمّد بن عبد اللّه بن مملك الاصبهاني:

أصله من جرجان،و سكن اصبهان،جليل في أصحابنا،عظيم القدر و المنزلة كان معتزلياً و رجع على يد عبد الرحمن بن أحمد بن جبرويه (رحمه اللّه)،له كتب منها:كتاب الجامع في سائر أبواب الكلام كبير،و كتاب المسائل و الجوابات في الإمامة،كتاب مواليد الأئمّة عليهم السلام،كتاب مجالسه مع أبي علي الجبائي (235-303 ه) (2).

5.ثبيت بن محمّد،أبو محمّد العسكري:

صاحب أبي عيسى الوراق (محمّد بن هارون) متكلّم حاذق،من أصحابنا العسكريين،و كان أيضاً له اطّلاع بالحديث و الرواية، و الفقه،له كتب:

ص:318


1- 1) .النجاشي:الرجال:364/1،و فهرست الشيخ:221. [1]
2- 2) .النجاشي:الرجال:297/2 برقم 1034.

1.كتاب توليدات بني أُميّة في الحديث،و ذكر الأحاديث الموضوعة.

2.الكتاب الذي يعزى إلى أبي عيسى الوراق في نقض العثمانية له.

3.كتاب الأسفار.

4.دلائل الأئمّة عليهم السلام (1).

و بما أنّه من أصحاب أبي عيسى الوراق،و قد توفّي هو في 247،فالرجل من متكلّمي القرن الثالث.

6.إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل بن هلال المخزومي:

أبو محمّد،أحد أصحابنا،ثقة فيما يرويه،قدم العراق،و سمع أصحابنا منه،مثل أيوب بن نوح،و الحسن بن معاوية،و محمّد بن الحسين،و علي بن حسن بن فضال،له كتاب التوحيد،كتاب المعرفة،كتاب الإمامة.

و بما أنّ الراوي عنه كعليّ بن حسن بن فضال من أصحاب الهادي و العسكري عليهما السلام،و قد توفي الإمام العسكري عام 260،فهو في رتبة حسن بن علي ابن فضال،الذي هو من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام فيكون من متكلّمي القرن الثالث (2).

7.محمّد بن هارون:

أبو عيسى الورّاق:له كتاب الإمامة،و كتاب السقيفة،و كتاب الحكم على سورة لم يكن،و كتاب اختلاف الشيعة و المقالات.و قال ابن حجر:له تصانيف

ص:319


1- 1) .النجاشي:الرجال:293/1 برقم 298،و ثبيت على وزان زبير.
2- 2) .النجاشي:الرجال:120/1 برقم 66.

على مذهب المعتزلة.و قال المسعودي:له مصنّفات حسان في الإمامة و غيرها و كانت وفاته سنة 247 (1).

8.إبراهيم بن سليمان بن أبي داحة المزني،مولى آل طلحة بن عبيد اللّه:

أبو إسحاق،و كان وجه أصحابنا البصريّين في الفقه و الكلام و الأدب و الشعر،و الجاحظ يحكي عنه،و قال الجاحظ (في البيان و التبيين):حدّثني إبراهيم ابن داحة عن محمد بن أبي عمير (2).

و بما أنّ استاذه ابن أبي عمير توفي عام 217،و الجاحظ،الراوي عنه توفّي عام 255،فهو من متكلّمي القرن الثالث.

9.الشّكّال:

قال ابن النديم:صاحب هشام بن الحكم و خالفه في أشياء إلّا في أصل الإمامة،و له من الكتب:كتاب المعرفة،كتاب في الاستطاعة،كتاب الإمامة،كتاب على من أبى وجوبَ الإمامة بالنص (3)،و بما أنّ هشاماً توفّي عام 199،فالرجل من متكلّمي أوائل القرن الثالث.

10.الحسين بن اشكيب:

شيخ لنا،خراساني ثقة مقدّم،ذكره أبو عمرو في كتاب الرجال في أصحاب

ص:320


1- 1) .النجاشي:الرجال:280/2 برقم 1017،ابن حجر:لسان الميزان:ج5 برقم 1360،المحقق الداماد:الرواشح السماوية:55 و [1]مرّ ذكره في ترجمة ثبيت،و ما في كلام ابن حجر من عدّه من المعتزلة،ناش عن الخلط بين المعتزلة و الإمامية.
2- 2) .النجاشي:الرجال:87/1 برقم 13؛و205/2 برقم 888؛البيان و التبيين:61/1. [2]
3- 3) .ابن النديم:الفهرست:264. [3]

أبي الحسن،صاحب العسكر عليه السلام،وصفه بأنّه عالم متكلّم مؤلف للكتب،المقيم بسمرقند و كش،و له من الكتب:كتاب الردّ على من زعم أنّ النبي كان على دين قومه،و الردّ على الزيدية،و بما أنّه من أصحاب أبي الحسن المتوفّى عام 260،فهو من متكلّمي القرن الثالث (1).

و عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام الهادي عليه السلام (2).

11.عبد الرحمن بن أحمد بن جبرويه،أبو محمّد العسكري:7

متكلّم من أصحابنا،حسن التصنيف،جيّد الكلام،و على يده رجع محمد ابن عبد اللّه بن مملك الاصبهاني عن مذهب المعتزلة، و قد كلّم عباد بن سليمان و من كان في طبقته،وقع إلينا من كتبه:كتاب الكامل في الإمامة،كتاب حسن (3).

و بما أنّ محمد بن عبد اللّه معاصر للجبائي (235-303 ه) و له مجالس معه (4)،فالرجل من متكلّمي القرن الثالث،و لعله أدرك أوائل القرن الرابع.

12.علي بن منصور:

أبو الحسن،كوفي سكن بغداد،متكلّم من أصحاب هشام،له كتب،منها:كتاب التدبير في التوحيد و الإمامة (5)،و قال النجاشي في ترجمة هشام بن الحكم،كتاب التدبير في الإمامة،و هو جمع علي بن منصور من كلامه (6)،و بما أنّ هشام توفّي عام 199،فالرجل من متكلّمي القرن الثاني،و أوائل القرن الثالث.

ص:321


1- 1) .النجاشي:الرجال:146/1 برقم 87.
2- 2) .الشيخ الطوسي:الرجال:برقم 18. [1]
3- 3) .النجاشي:الرجال:47/2 برقم 623.
4- 4) .النجاشي:الرجال:297/2 برقم 1034. [2]
5- 5) .النجاشي:الرجال:71/2 برقم 656.
6- 6) .النجاشي:الرجال:397/2 برقم 1165.
13.علي بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم بن يحيى التمّار:

أبو الحسن،مولى بني أسد،كوفي،سكن البصرة،و كان من وجوه المتكلّمين من أصحابنا،كلّم أبا الهذيل (135-235 ه) و النظام (160-231ه) له مجالس و كتب،منها:كتاب الإمامة،كتاب مجالس هشام بن الحكم،و كتاب المتعة. (1)و عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الرضا برقم 52،فهو من متكلّمي القرن الثالث.

و قال ابن النديم:أوّل من تكلّم في مذهب الإمامة علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار،و ميثم (جدّه) من جلّة أصحاب علي رضي اللّه عنه،و لعليّ من الكتب:كتاب الإمامة،كتاب الاستحقاق (2).

متكلّمو الشيعة في القرن الرابع:
1.الحسن بن عليّ بن أبي عقيل:

أبو محمد العماني،الحذاء،فقيه متكلّم ثقة،له كتب في الفقه و الكلام منها:كتاب«المتمسّك بحبل آل الرسول»،قال النجاشي:

و قرأت كتابه المسمّى:الكرّ و الفرّ،على شيخنا أبي عبد اللّه المفيد (رحمه اللّه)،و هو كتاب في الإمامة،مليح الوضع.

و ذكره الشيخ في الفهرست و الرجال (3)،و بما أنّه من مشايخ أبي القاسم جعفر بن محمد المتوفّى عام 368 ه،فالرجل من أعيان القرن الرابع،المعاصر للكليني،المتوفّى عام 329 ه.

ص:322


1- 1) .النجاشي:الرجال:72/2 برقم 659.
2- 2) .الفهرست لابن النديم:263. [1]
3- 3) .النجاشي:الرجال:153/1 برقم 99،و لاحظ فهرست الشيخ:رقم 204،و رجاله في باب من لم يرو عنهم عليهم السلام برقم 53.
2.إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت:

كان شيخ المتكلّمين من أصحابنا و غيرهم،له جلالة في الدنيا و الدين،يجري مجرى الوزراء في جلالة الكتاب،صنّف كتباً كثيرة، منها:كتاب الاستيفاء في الإمامة،التنبيه في الإمامة-قال النجاشي:قرأته على شيخنا أبي عبد اللّه المفيد (رحمه اللّه)-كتاب الجمل في الإمامة،كتاب الردّ على محمد بن الأزهر في الإمامة،كتاب الردّ على اليهود،كتاب في الصفات للردّ على أبي العتاهية (130-211ه) في التوحيد في شعره،كتاب الخصوص و العموم و الأسماء و الأحكام،كتاب الإنسان و الردّ على ابن الراوندي،كتاب التوحيد،كتاب الارجاء، كتاب النفي و الإثبات،مجالسه مع أبي علي الجبائي (235-303ه) بالأهواز،كتاب في استحالة رؤية القديم،كتاب الردّ على المجبرة في المخلوق،مجالس ثابت بن أبي قرّة (221-288ه)،كتاب النقض على عيسى بن أبان في الاجتهاد،نقض مسألة أبي عيسى الوراق في قدم الأجسام،كتاب الاحتجاج لنبوة النبي صلى الله عليه و آله و سلم،كتاب حدوث العالم (1).

و قال ابن النديم:أبو سهل إسماعيل بن علي بن نوبخت من كبار الشيعة و كان أبو الحسن الناشئ يقول:إنّه أُستاذه و كان فاضلاً، عالماً،متكلّماً،و له مجالس بحضرة جماعة من المتكلّمين...و ذكر فهرس كتبه (2).

3.الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه:

أخو الصدوق القمي أبو عبد اللّه،ثقة روى عن أبيه إجازة،و له كتب،منها:كتاب التوحيد و نفي التشبيه،و كتاب عمله للصاحب أبي القاسم بن عبّاد (326

ص:323


1- 1) .النجاشي:الرجال:121/1 برقم 67 (و هو خال الحسن بن موسى مؤلف فرق الشيعة).
2- 2) .ابن النديم:الفهرست:265. [1]

385ه) و قد توفّي أخوه عام 381 ه،فهو من أعيان القرن الرابع،و هو و أخوه ولدا بدعوة صاحب الأمر،ترجمه ابن حجر في لسان الميزان (1).

4.محمّد بن بشر الحمدوني«أبو الحسن السوسنجردي»:

متكلّم جيّد الكلام،صحيح الاعتقاد،كان يقول بالوعيد،له كتب منها:كتاب المقنع في الإمامة،كتاب المنقذ في الإمامة (2).

و قال ابن النديم:السوسنجردي من غلمان أبي سهل النوبختي،يكنّى أبا الحسن،و يعرف بالحمدوني منسوباً إلى آل حمدون،و له من الكتب:كتاب الإنقاذ في الإمامة (3).

و قال ابن حجر:كان زاهداً ورعاً متكلّماً،على مذهب الإمامية،و له مصنّفات في نصرة مذهبه (4).

5.يحيى أبو محمّد العلويّ من بني زيارة:

علويّ،سيّد،متكلّم،فقيه،من أهل نيشابور،قال الشيخ الطوسي:جليل القدر،عظيم الرئاسة،متكلّم،حاذق،زاهد،ورع،لقيت جماعة ممّن لقوه و قرءوا عليه،له كتاب إبطال القياس،و كتاب في التوحيد (5)،و على هذا فالرجل في درجة شيخ مشايخ الطوسي،فهو من متكلّمي القرن الرابع.

ص:324


1- 1) .النجاشي:الرجال:189/1 برقم 161،ابن حجر:لسان الميزان:306/2 برقم 1260.
2- 2) .النجاشي:الرجال:297/2 برقم 1037.
3- 3) .ابن النديم:الفهرست:266. [1]
4- 4) .ابن حجر:لسان الميزان:93/5 برقم 304.
5- 5) .النجاشي:الرجال:413/2 برقم 1192،و قد جاءت ترجمته أيضاً برقم 1195؛الشيخ الطوسي:الفهرست:برقم 803. [2]
6.محمّد بن القاسم،أبو بكر:

بغداديّ،متكلّم،عاصر ابن همام،له كتاب في الغيبة،كلام (1)و ابن همام هو محمّد بن أبي بكر بن سهيل الكاتب الاسكافي الذي ترجم له النجاشي في رجاله برقم 1033.

و ذكره الخطيب في تاريخه (365/3)،و قال:أحد شيوخ الشيعة،ولد عام 258 ه،و توفّي عام 338.و على هذا فالمترجم من متكلّمي أوائل القرن الرابع.

7.محمّد بن عبد الملك بن محمّد التبّان:

يكنّى أبا عبد اللّه،كان معتزلياً،ثمّ أظهر الانتقال،و لم يكن ساكناً له كتاب في تكليف من علم اللّه أنّه يكفر،و له كتاب في المعدوم، و مات لثلاث بقين من ذي القعدة سنة 419 ه (2).و على هذا فهو من متكلّمي القرن الرابع و أوائل الخامس.

8.محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي أبو جعفر:

متكلّم،عظم القدرة،حسن العقيدة،قويّ في الكلام،كان قديماً من المعتزلة،و تبصّر و انتقل،له كتب في الكلام،و قد سمع الحديث،و أخذ عنه ابن بطّة و ذكره في فهرسته الذي يذكر فيه من سمع منه فقال:و سمعت من محمّد بن عبد الرحمن بن قبة.

له كتاب الانصاف في الإمامة،و كتاب المستثبت نقض كتاب أبي القاسم البلخي (المتوفّى 319ه)،و كتاب الرد على الزيدية، و كتاب الردّ على أبي علي الجبائي،المسألة المفردة في الإمامة.

ص:325


1- 1) .النجاشي:الرجال:298/2 برقم 1036.
2- 2) .النجاشي:الرجال:333/2 برقم 1070.

قال النجاشي:سمعت أبا الحسين السوسنجردي (رحمه اللّه) و كان من عيون أصحابنا و صالحيهم المتكلّمين،و له كتاب في الإمامة معروف به،و قد كان حجّ على قدميه خمسين حجّة،يقول:مضيت إلى أبي القاسم البلخي إلى بلخ بعد زيارتي الرضا عليه السلام بطوس فسلّمت عليه و كان عارفاً بي و معي كتاب أبي جعفر بن قبة في الإمامة المعروف بالانصاف،فوقف و نقضه بالمسترشد في الإمامة فعدت إلى الريّ،فدفعت الكتاب إلى ابن قبة فنقضه بالمستثبت في الإمامة،فحملته إلى أبي القاسم فنقضه بنقض المستثبت،فعدت إلى الريّ فوجدت أبا جعفر قد مات رحمه اللّه (1).

و قال ابن النديم:أبو جعفر بن محمد بن قبة من متكلّمي الشيعة و حذاقهم،و له من الكتب:كتاب الانصاف في الإمامة،كتاب الإمامة (2).

و قال العلامة:و كان حاذقاً شيخ الإمامية في عصره (3).

9.عليّ بن وصيف،أبو الحسن الناشئ (271-365 ه):

الشاعر المتكلّم،ذكر شيخنا (رضي اللّه عنه) أنّ له كتاباً في الإمامة (4).

قال الطوسي:و كان متكلّماً شاعراً مجوّداً،و له كتب... (5).

قال ابن خلّكان:من الشعراء المحبّين،و له في أهل البيت قصائد كثيرة،و كان متكلّماً بارعاً،أخذ علم الكلام عن أبي سهل إسماعيل بن عليّ بن نوبخت

ص:326


1- 1) .النجاشي:الرجال:288/2 برقم 1024.
2- 2) .ابن النديم:الفهرست:262. [1]
3- 3) .العلامة:الخلاصة:163،القسم الأوّل.
4- 4) .النجاشي:الرجال:105/2 برقم 707.
5- 5) .الطوسي:الفهرست:115،ط النجف. [2]

المتكلّم،و كان من كبار الشيعة،و له تصانيف كثيرة،و قال ابن كثير:إنّه كان متكلّماً،بارعاً،من كبار الشيعة،فهو من متكلّمي القرن الرابع (1).

10.الحسن بن موسى،أبو محمد النوبختي:

شيخنا المبرّز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة و بعدها،له على الأوائل كتب كثيرة،منها:1.كتاب الآراء و الديانات،يقول النجاشي:كتاب كبير حسن يحتوي على علوم كثيرة قرأت هذا الكتاب على شيخنا أبي عبد اللّه المفيد-رحمه اللّه-2.كتاب فرق الشيعة 3.كتاب الردّ على فرق الشيعة ما خلا الإمامية 4.كتاب الجامع في الإمامة 5.كتاب الموضح في حروب أمير المؤمنين 6.كتاب التوحيد الكبير 7.كتاب التوحيد الصغير 8.كتاب الخصوص و العموم 9.كتاب الأرزاق و الآجال و الأسعار 10.كتاب كبير في الجبر 11.مختصر الكلام في الجبر 12.كتاب الردّ على المنجمين 13.كتاب الردّ على أبي علي الجبائي في ردّه على المنجّمين 14.كتاب النكت على ابن الراوندي 15.كتاب الردّ على من أكثر المنازلة 16.كتاب الردّ على أبي الهذيل العلاّف في أنّ نعيم أهل الجنّة منقطع 17.كتاب الانسان غير هذه الجملة 18.كتاب الردّ على الواقفة 19.كتاب الردّ على أهل المنطق 20.كتاب الردّ على ثابت بن قرّة 21. الردّ على يحيى بن أصفح في الإمامة 22.جواباته لأبي جعفر بن قبة 23.جوابات أُخر لأبي جعفر 24.شرح مجالسه مع أبي عبد اللّه بن مملك 25.حجج طبيعية مستخرجة من كتب ارسطاطاليس في الردّ على من زعم أنّ الفلك حيّ ناطق 26.كتاب في المرايا وجهة الرؤية فيها 27.كتاب في خبر الواحد و العمل به 28.كتاب في الاستطاعة على مذهب هشام و كان يقول به

ص:327


1- 1) .المامقاني:تنقيح المقال:313/2 برقم 8549. [1]

29.كتاب في الردّ على من قال بالرؤية للباري عزّ و جلّ 30.كتاب الاعتبار و التمييز و الانتصار 31.كتاب النقض على أبي الهذيل في المعرفة 32.كتاب الردّ على أهل التعجيز،و هو نقض كتاب أبي عيسى الوراق 33.كتاب الحجج في الإمامة 34.كتاب النقض على جعفر بن حرب (177- 236 ه) في الإمامة 35.مجالسه مع أبي القاسم البلخي (المتوفّى 319 ه) 36.كتاب التنزيه و ذكر متشابه القرآن 37.الردّ على أصحاب المنزلة بين المنزلتين في الوعيد 38.الردّ على أصحاب التناسخ 39.الردّ على المجسّمة 40.الردّ على الغلاة 41.مسائله للجبائي في مسائل شتّى (1).

و الرجل من أكابر متكلّمي الشيعة،عاصر الجبائي (المتوفّى 303)،و البلخي (المتوفّى 319)،و أبا جعفر بن قبة المتوفّى قبل البلخي،فهو من أعيان متكلّمي الشيعة في أواخر القرن الثالث،و أوائل القرن الرابع.

و قال ابن النديم:أبو محمد الحسن بن موسى ابن أُخت بن سهل بن نوبخت،متكلّم،فيلسوف كان يجتمع إليه جماعة من النقلة لكتب الفلسفة،مثل:أبي عثمان الدمشقي،و إسحاق،و ثابت و غيرهم و كانت المعتزلة تدعيه،و الشيعة تدعيه،و لكنه إلى حيّز الشيعة ما هو (كذا) لأنّ آل نوبخت معروفون بولاية عليّ و ولده عليهم السلام في الظاهر،فلذلك ذكرناه في هذا الموضع...و له مصنّفات و تأليفات في الكلام و الفلسفة و غيرها،ثمّ ذكر فهرس كتبه و لم يذكر إلّا القليل من الكثير (2).

إنّ بيت«نوبخت»من أرفع البيوتات الشيعية خرج منه فلاسفة كبار،و متكلّمون عظام،و من أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب المؤلفة في هذا الصدد.

ص:328


1- 1) .النجاشي:الرجال:179/1 برقم 146،ترجمه ابن حجر في لسان الميزان:258/2 برقم 1075،و ترجمه هبة الدين الشهرستاني في مقدمة فرق الشيعة. [1]
2- 2) .ابن النديم:الفهرست:265-266: [2]الفن الثاني من المقالة الخامسة.
متكلّمو الشيعة في القرن الخامس:
اشارة

بلغ علم الكلام في أوائل القرن الخامس إلى ذروة الكمال،و ظهر في الأوساط الشيعية روّاد كبار،نشير إلى ثلة منهم:

1.الشيخ المفيد (336- 413ه)

الشيخ المفيد من الشخصيات البارزة في العالم الإسلامي،الذي احتفلت بذكره و ذكر آثاره كتب التاريخ و التراجم و الذي لا يضن بمثله الدهر إلّا في فترات يسيرة،فهو في حقل الكلام متكلم بارع له آراء و نظريات جعلته صاحب منهج فيه،و في حَقْل الفقه سيد الفقهاء و أُستاذهم و الذي هذّبه و أشاد بنيانه و رفع قواعده بكتبه و رسائله الفقهيّة التي من أبرزها كتاب المقنعة،و في مجال الحديث و التاريخ أُستاذ بلا منازع،إلى غير ذلك من صلاحيات ممّا تعرب أنّه من أصحاب المواهب الكبيرة و المؤهّلات العظيمة التي منحها اللّه له في مجال العلم و الكمال.

و قد سارت بذكره الركبان في حياته من قبل معاصريه فعطروا كتبهم بذكره الجميل و سطرت أقلامهم له أنصع الصفحات.

1.هذا هو ابن النديم معاصره يعرفه في الفهرست بقوله:«ابن المعلّم،أبو عبد اللّه،في عصرنا انتهت رئاسة متكلّمي الشيعة إليه، مقدّم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه،دقيق الفطنة،ماضي الخاطرة شاهدته،فرأيته بارعاً...» (1).

و المعروف أنّ ابن النديم ألّف الفهرست عام 377 ه،و على ضوء هذا فالمفيد انتهت إليه رئاسة متكلّمي الشيعة و له من العمر ما لا يجاوز الخمسين.

2.و قال الحافظ أحمد بن علي الخطيب البغدادي (المتوفّى 463 ه):

«أبو عبد اللّه المعروف بابن المعلّم،شيخ الرافضة،و المتعلّم على مذهبهم،

ص:329


1- 1) .ابن النديم:الفهرست:266، [1]في فصل أخبار متكلمي الشيعة.

صنّف كتباً كثيرة» (1).

3.و قال عبد الرحمن ابن الجوزي (المتوفّى 597 ه):

«شيخ الإمامية و عالمها،صنّف على مذهبه،و من أصحابه المرتضى،كان لابن المعلّم مجلس نظر بداره،بدرب رياح،يحضره كافة العلماء،له منزلة عند أُمراء الأطراف،لميلهم إلى مذهبهم» (2).

4.و قال أبو السعادات عبد اللّه بن أسعد اليافعي (المتوفّى 768 ه):

«و في سنة ثلاث عشرة و أربعمائة توفي عالم الشيعة،و إمام الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة،شيخهم المعروف بالمفيد،و ابن المعلّم أيضاً،البارع في الكلام و الجدل و الفقه،و كان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة و العظمة في الدولة البويهية،قال ابن أبي طيّ:و كان كثير الصدقات،عظيم الخشوع،كثير الصلاة و الصوم،خشن اللباس،و قال غيره:كان عضد الدولة ربّما زار الشيخ المفيد،و كان شيخاً ربعة نحيفاً أسمر،عاش ستاً و سبعين سنة و له أكثر من مائتي مصنّف و كانت جنازته مشهودة و شيّعه ثمانون ألفاً من الرافضة و الشيعة» (3).

5.و وصفه أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي (المتوفّى 774 ه) بقوله:

«شيخ الإمامية الروافض،و المصنّف لهم،و المحامي عن حوزتهم،و كان يحضر مجلسه خلق كثير من العلماء و سائر الطوائف» (4).

6.و قال الذهبي (المتوفّى 748 ه):

«محمد بن محمد بن النعمان،الشيخ المفيد،عالم الرافضة،أبو عبد اللّه ابن

ص:330


1- 1) .الخطيب البغدادي:تاريخ بغداد:331/3 برقم 1799. [1]
2- 2) .ابن الجوزي:المنتظم:157/15. [2]
3- 3) .اليافعي:مرآة الجنان:28/3،طبع الهند. [3]
4- 4) .ابن كثير:البداية و النهاية:15/11. [4]

المعلّم،صاحب التصانيف،و هي مائتا مصنّف» (1).و يعرّفه في كتاب آخر بقوله:

عالم الشيعة،و إمام الرافضة و صاحب التصانيف الكثيرة،قال ابن أبي طيّ في تاريخه (تاريخ الإمامية):هو شيخ مشايخ الطائفة، و لسان الإمامية،و رئيس الكلام و الفقه و الجدل،و كان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة و العظمة في الدولة البويهية (2).

7.و قال ابن حجر (المتوفّى 852 ه)-بعد نقل ما ذكره الذهبي:

«كان كثير التعقيب و التخشّع و الاكباب على العلم،تخرّج به جماعة،و برع في المقالة الإمامية حتى يقال:له على كل إمام منّة، و كان أبوه معلّماً بواسط،و ما كان المفيد ينام من الليل إلّا هجعة،ثمّ يقوم يصلّي أو يطالع أو يدرس أو يتلو القرآن» (3).

8.و قال ابن العماد الحنبلي (المتوفّى 1089ه) في حوادث سنة413ه:

«و فيها (توفّي) المفيد،ابن المعلّم،عالم الشيعة،إمام الرافضة،و صاحب التصانيف الكثيرة،قال ابن أبي طيّ في تاريخ الإمامية:

هو شيخ مشايخ الطائفة و لسان الإمامية،رئيس في الكلام،و الفقه و الجدل،و كان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة و العظمة في الدولة البويهية» (4).

هذا ما قاله علماء السنّة،و أمّا الشيعة فنقتصر على كلام تلميذيه:الطوسي و النجاشي،و نترك الباقي لمترجمي حياته:

1.يقول الشيخ الطوسي (385-460 ه) في الفهرست:

«المفيد يكنّى أبا عبد اللّه،المعروف بابن المعلّم،من أجلّة متكلّمي الإمامية،

ص:331


1- 1) .الذهبي:ميزان الاعتدال:30/4 برقم 8143.
2- 2) .الذهبي:العبر:225/2. [1]
3- 3) .ابن حجر:لسان الميزان:368/5 برقم 1196.
4- 4) .عماد الدين الحنبلي:شذرات الذهب:199/3،و [2]في مكان الطائفة الصوفية و هو لحن.و قد نقل ما ذكره في كتابه مما ذكره الذهبي حرفياً.

انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته في العلم،و كان مقدّماً في صناعة الكلام،و كان فقيهاً متقدماً فيه،حسن الخاطر،دقيق الفطنة، حاضر الجواب،و له قريب من مائتي مصنّف كبار و صغار،و فهرست كتبه معروف ولد سنة 338،و توفي لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة 413،و كان يوم وفاته يوماً لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه و كثرة البكاء من المخالف و المؤالف» (1).

2.و يقول تلميذه الآخر النجاشي (372-450 ه):

«شيخنا و استاذنا (رضي اللّه عنه) فضله أشهر من أن يوصف في الفقه و الكلام و الرواية و الوثاقة و العلم»ثمّ ذكر تصانيفه (2).

و هذه الكلمات توقفنا على حقيقة الحال،و أنّه لم يكن يومذاك للشيعة متكلّم أكبر منه،و كفى في ذلك أنّه تخرج على يديه لفيف من متكلّمي الشيعة نظير السيد المرتضى (355-436 ه)،و الشيخ الطوسي،و هما كوكبان في سماء الكلام،و حاميان عظيمان عن حياض التشيّع،بالبيان و البنان.

2.علي بن الحسين الشريف المرتضى (355- 436ه)

تلميذ الشيخ المفيد،عرّفه تلميذه النجاشي بقوله:حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه،و سمع من الحديث فأكثر،و كان متكلماً شاعراً،أديباً،عظيم المنزلة في العلم و الدين و الدنيا،و من كتبه الكلامية:«الشافي»في نقض المغني للقاضي عبد الجبار في قسم الإمامة،و كتاب«تنزيه الأنبياء و الأئمّة»و«الذخيرة»في علم الكلام،و غيرها من الرسائل (3)و شرح جمل العلم و العمل.

ص:332


1- 1) .الشيخ الطوسي:الفهرست:برقم 710. [1]
2- 2) .النجاشي:الرجال:327/2 برقم 1068.
3- 3) .النجاشي:الرجال،برقم 706.
3.أبو الصلاح التقي بن الحلبي (374- 447ه)

مؤلف«تقريب المعارف»في الكلام مطبوع.

4.و أخيرهم لا آخرهم محمد بن الحسن الطوسي (385- 460ه)

يعرّفه زميله النجاشي بقوله:جليل من أصحابنا،ثقة،عين،من تلاميذ شيخنا أبي عبد اللّه.

و يعرفه العلاّمة بقوله:شيخ الإمامية و رئيس الطائفة،جليل القدر،عظيم المنزلة،ثقة،عين،صدوق،عارف بالأخبار و الرجال و الفقه و الأُصول،و الكلام و الأدب،و جميع الفضائل تنتسب إليه،و له في الكلام كتب كثيرة منها:

الجمل و العقود،تلخيص الشافي في الإمامة،و مقدمة في المدخل إلى علم الكلام (1)،و الاقتصاد،و الرسائل العشر.

متكلّمو الشيعة في القرن السادس
اشارة

ما إنْ أطلّ القرن السادس إلّا و قد أفل نجم المعتزلة حيث وُضِع فيهم السيف من قبل الخلافة العباسية،و كان غيابهم عن المسرح الفكري خسارة جسيمة للمنهج العقلي،و قد بلغ التعصب بمكان انّه أحرقت كتبهم،و قتل اعلامهم،و شُرِّد لفيف منهم،و الحديث ذو شجون. (2)

و مع إطلالة هذا القرن بدأت تلوح علامات الضغط و الكبت على الشيعة،و قد وضع صلاح الدين الأيوبي السيف على عنق الشيعة في حلب و غيرها،و على الرغم من ذلك فقد ظهر في هذا القرن أفذاذ في علم الكلام،نذكر منهم على سبيل المثال:

ص:333


1- 1) .النجاشي:الرجال،برقم 1069،و الخلاصة:148.
2- 2) .لاحظ الجزء الثالث من كتابنا بحوث في الملل و النحل.
1.محمد بن أحمد بن علي الفتال النيسابوري (المتوفّى513ه)

المعروف بابن الفارسي،عرّفه ابن داود في رجاله بقوله:متكلم جليل القدر،فقيه،عالم،زاهد،ورع،قتله أبو المحاسن عبد الرزاق رئيس نيشابور الملقب بشهاب الإسلام. (1)

اشتهر في أيام شبابه و ارتفع شأنه فاستفتي،و سئل عن مسائل في الكلام،و صنّف كتاب«التنوير في معاني التفسير»و كتاب «روضة الواعظين و بصيرة المتعظين»في علم الكلام و الأخلاق و الآداب،و هو كتاب قيّم،طبع أكثر من مرّة.

استشهد في أيام وزارة أبي المحاسن عبد الرزاق بن عبد اللّه بن أخي نظام الملك سنة 513 أو 515ه.

2.قطب الدين المقري النيسابوري

من مشايخ السيد ضياء الدين أبي الرضا فضل اللّه الراوندي (المتوفّى حدود 547ه) مؤلف كتاب الحدود (المعجم الموضوعي للمصطلحات الكلامية) و قد طبع،و له كتاب كلامي قيم مخطوط عسى أن نقوم بنشره بإذن اللّه سبحانه.

3.الفضل بن الحسن الطبرسي

مؤلف مجمع البيان (المتوفّى 548ه) و له في تفسيره بحوث كلامية مهمة.

ص:334


1- 1) .رجال أبي داود،ص 295 برقم 1274.
4.الحسين بن علي بن محمد بن أحمد (المتوفّى 552ه)

المعروف ب«أبي الفتوح الرازي»و كتابه المعروف ب«روض الجنان»مشحون بالبحوث الكلامية.

5.قطب الدين سعيد بن هبة اللّه الراوندي (المتوفّى 573ه)

مؤلف كتاب«تهافت الفلاسفة»و جواهر الكلام في شرح مقدمة الكلام.

6.سديد الدين الشيخ محمود الحمصي (المتوفّى في أواخر القرن السادس)

مؤلف«المنقذ من التقليد»مطبوع.

7.أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي

صاحب«الاحتجاج»توفي في أواسط القرن السادس.

8.السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي (511- 585ه)

له كتاب«غنية النزوع في علمي الأُصول و الفروع»يقع في جزءين،و الكتاب يشتمل على علوم ثلاثة:الكلام و الفقه و أُصوله،و قد طبع الكتاب أخيراً بتحقيق الشيخ إبراهيم البهادري شكر اللّه مساعيه،و ترجمنا المؤلف في الجزء الأوّل ترجمة وافية.

9.محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني (المتوفّى 588ه)

أخذ عن المتكلم أبي سعيد عبد الجليل بن أبي الفتح الرازي.

قال الصفدي:أحد شيوخ الشيعة،حفظ القرآن و له ثمان سنين،و بلغ النهاية في أُصول الشيعة،كان يرحل إليه في البلاد،توفي عام 588ه. (1)

ص:335


1- 1) .الوافي بالوفيات:164/4 برقم 1703. [1]
متكلّمو الشيعة في القرن السابع:
اشارة

لقد تزامن طلوع القرن السابع مع اضطراب الأوضاع السياسيّة الحاكمة على معظم الأمصار الإسلامية لا سيما الحروب الصليبية التي تركت مضاعفات خطيرة في الحواضر الإسلامية،و قد تزامن هذا الوضع مع هجوم شرس من قبل الوثنيين من المشرق الذين جرّوا الويل و الدمار على المسلمين في المشرق الإسلامي،و امتدَّ سلطانهم إلى بغداد و أعقبها انقراض الدولة العباسية.

و على الرغم من تلك الأوضاع العصيبة،كان للعلوم العقلية نشاط ملموس في الأوساط الشيعيّة،نذكر من متكلميهم ما يلي:

1.سديد الدين بن عزيزة الحلي (المتوفّى حوالي 630ه)

سالم بن محفوظ بن عزيزة بن وشاح،شيخ المتكلمين،سديد الدين السوراوي الحلي،و يقال له:سالم بن عزيزة.

كان من كبار متكلمي الشيعة،صنف كتاب«التبصرة»و كتاب«المنهاج»في علم الكلام،و أخذ عنه المحقّق جعفر بن الحسن الحلي(المتوفّى 676ه) علم الكلام و شيئاً من الفلسفة و قرأ عليه المنهاج.

2.الشيخ كمال الدين علي بن سليمان البحراني (المتوفى حوالي 656ه)

أُستاذ الشيخ ميثم البحراني،له كتاب الإشارات في الكلام و الحكمة.

وصفه السيد الصدر بقوله:كان وحيد عصره،و فريد دهره في العلوم العقلية و النقلية،صنّف الإشارات في الكلام،و شرحها تلميذه المحقّق ميثم البحراني،و له رسالة العلم التي شرحها المحقّق نصير الدين الطوسي (1)(المتوفّى عام 672ه).

ص:336


1- 1) .الذريعة:96/2 و [1]تأسيس الشيعة،ص 395.
3.نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي (597- 672ه)

و هو شخصية فذة يعجز القلم عن وصفه،فقد كان علامة عصره في الكلام و الحكمة و العلوم الرياضية و الفلكية.

له«شرح الإشارات»الذي فرغ منه عام 644ه،و هو شرح لإشارات الشيخ الرئيس ابن سينا،و قد فنّد فيها أكثر ما أورده الرازي من الشكوك التي أُثيرت حول آراء الشيخ.

و يعد كتاب شرح الإشارات من أفضل الكتب الدراسية في الحكمة إلى يومنا هذا،و يكفي في حقّ مترجمنا ما قاله العلاّمة في هذا المضمار.

قال:كان هذا الشيخ أفضل أهل عصره في العلوم العقلية و النقلية،و له مصنفات كثيرة في العلوم الحكمية و الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية،و كان أشرف من شاهدناه في الأخلاق-نضر اللّه مضجعه-قرأت عليه إلهيات الشفاء لأبي علي بن سينا،و بعض التذكرة في الهيئة.

4.كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني

المعروف بالعالم الرباني المبرز في جميع الفنون الإسلامية لا سيما في الحكمة و الكلام و الأسرار العرفانية،اتفقت كلمة الجميع على إمامته ولد عام 636ه و توفي عام 696ه،له كتاب«قواعد المرام في علم الكلام»المطبوع و له«شرح نهج البلاغة»الذي صنّفه للصاحب خواجة عطاء الملك الجويني،و هو شرح مشحون بالمباحث الكلامية و الحكمية و العرفانية،فرغ منه عام 676ه.

5.الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الأسدي (648- 726ه)

شيخ الإسلام،المجتهد الأكبر،المتكلم الفذ،الباحث الكبير،جمال الدين

ص:337

أبو منصور المعروف بالعلاّمة الحلي،و بآية اللّه على الإطلاق،و بابن المطهّر،ولد في شهر رمضان سنة 648 ه و أخذ عن والده الفقيه المتكلم البارع سديد الدين يوسف،و عن خاله شيخ الإمامية المحقّق الحلي الذي كان له بمنزلة الأب الشفيق،فحظي باهتمامه و رعايته،و لازم الفيلسوف الكبير نصير الدين الطوسي مدة و اشتغل عليه في العلوم العقلية و برع فيها و هو لا يزال في مقتبل عمره.

يعرفه معاصره أبو داود الحلي،بقوله:شيخ الطائفة،و علاّمة وقته،و صاحب التحقيق و التدقيق،كثير التصانيف،انتهت رئاسة الإمامية إليه في المعقول و المنقول. (1)

و قال الصفدي:الإمام العلاّمة ذو الفنون،عالم الشيعة و فقيههم،صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته...و كان يصنف و هو راكب...و كان ريّض الأخلاق،مشتهر الذكر...و كان إماماً في الكلام و المعقولات. (2)

و قال ابن حجر في لسان الميزان:عالم الشيعة و إمامهم و مصنفهم،و كان آية في الذكاء...و كان مشتهر الذكر،حسن الأخلاق. (3)

إنّ شخصية كلّ إنسان رهن الآثار التي خلفها على الصعيد التربوي و العلمي.

أمّا الجانب الأوّل فكفى انّه ربّى جيلاً كبيراً من روّاد العلم في المنقول و المعقول،و يشهد على ذلك كثرة المتخرّجين على يديه في كلا الحقلين.

ففي حقل الفقه و الأُصول تخرّج عليه:ولده فخر المحقّقين،و زوج أُخته مجد الدين أبو الفوارس محمد بن علي بن الأعرج الحسيني،و ولدا أبي الفوارس:

ص:338


1- 1) .رجال أبي داود:119 برقم 461.
2- 2) .الوافي بالوفيات:85/13 برقم 79. [1]
3- 3) .لسان الميزان:317/2.

عميد الدين عبد المطلب و أخوه ضياء الدين،و مهنّا بن سنان بن عبد الوهاب الحسيني المدني،و قد ألّف كتاب باسمه أسماه «المسائل المهنائية»،و تاج الدين محمد بن القاسم بن معية الحسني،و ركن الدين محمد بن علي بن محمد الجرجاني،و الحسين بن إبراهيم بن يحيى الاسترابادي،و الحسين بن علي بن إبراهيم بن زهرة الحسيني الحلبي،و أبو المحاسن يونس بن ناصر الحسيني الغروي المشهدي،و علي ابن محمد بن رشيد الآوي.

و في حقل المعقول ربّى جيلاً كثيراً في طليعتهم:محمد بن محمد قطب الدين أبو عبد اللّه الرازي (694- 766ه) مصنف كتاب «تحرير القواعد المنطقية في شرح الشمسية»و«لوامع الأسرار في شرح مطالع الأنوار»،«تحقيق معنى التصور و التصديق»و«المحاكمات بين الإمام و النصير»،كلّها مطبوعة.

هذا كلّه في الجانب التربوي،و أمّا الجانب العلمي فالآثار و المصنّفات التي خلفها و بقيت خالدة على جبين الدهر كثيرة يضيق المجال عن ذكر جميعها.

و لا نبالغ لو قلنا بأنّ آثاره تعد موسوعة كبيرة في جل العلوم الإسلامية،فقد ألّف في الفقه عدة دورات ك«تبصرة المتعلمين»و «إرشاد الأذهان»،و«تحرير الأحكام الشرعية»و«قواعد الأحكام»،و«تذكرة الفقهاء»،و«منتهى المطلب»فالكتب الأربعة الأُولى تعد دورة فقهية كاملة،و لكنّه قدس سره لم يُتم الكتابين الأخيرين.

و أمّا في حقل المعقول و الكلام فكفى في حقّه انّه ألف قرابة عشرين كتاباً و رسالة في ذلك المضمار،و بما انّا بصدد التقديم لموسوعته الكلامية المسماة«نهاية المرام»نشير إلى أسماء كتبه التي ألّفها في حقل الكلام و العقائد و إليك بيانها.

ص:339

الثروة العلمية الكلامية للعلاّمة الحلّي
اشارة

قد وقفت على مكانة العلاّمة الحلّي في علم الكلام،و انّه أحد الروّاد الأفذاذ في ذلك المضمار فقد خلّف تراثاً كلامياً ضخماً أثرى المكتبة الإسلامية حيث ألّف كتباً كلامية على مستويات مختلفة،بين موجز اقتصر فيه على بيان رءوس المسائل،و متوسط أردف المسائل الكلامية بنوع من البرهان،و مسهب بسط الكلام في نقل الآراء و نقدها و البرهنة على مذهبه و مختاره.

و ها نحن نستعرض أسماء كتبه الكلامية:

1.الأبحاث المفيدة في تحصيل العقيدة

رسالة موجزة أورد فيها المباحث الكلامية في ثمانية فصول،و قد عبّر عنها بنفس ذلك الاسم في رجاله (1)و في الوقت نفسه عبّر عنها في أجوبة المسائل المهنائية ب«الأبحاث المفيدة في تحقيق العقيدة»و شرحها الشيخ ناصر بن إبراهيم البويهي الأحسائي (المتوفّى853ه) و الحكيم السبزواري (المتوفّى1289ه) و توجد النسختان مع الشرح في المكتبة الرضوية (2)و قمنا بنشر هذه الرسالة بتحقيق العلاّمة الشيخ يعقوب الجعفري على صفحات مجلة علم الكلام. (3)

2.استقصاء النظر في البحث عن القضاء و القدر

رسالة موجزة أورد فيها مباحث القضاء و القدر،و طرح فيها المذاهب

ص:340


1- 1) .الخلاصة للعلاّمة الحلّي:45.
2- 2) .لاحظ فهرس المكتبة الرضوية في مشهد:320.
3- 3) .مجلة علم الكلام،السنة الأُولى،العدد الثالث،مجلّة فصلية تصدرها مؤسسة الإمام الصادق عليه السّلام للبحوث و الدراسات العليا و هي في سنتها السابعة.

المختلفة في أفعال العباد،ثمّ أقام البراهين العقلية على مذهب العدلية،كما أردف براهينه بما ورد في الكتاب العزيز.

و قد طبعت الرسالة عام 1354ه بتحقيق الشيخ علي الخاقاني في النجف الأشرف،و وقفنا على نسخة خطية في مكتبة مدرسة الطالبية بتبريز،فقوبلت النسختان المطبوعة و المخطوطة،و طبعت بتحقيق شيخنا يعقوب الجعفري على صفحات مجلة الكلام الإسلامي السنة الثانية،العدد الثاني.

3.الألفين الفارق بين الصدق و المين

و قد ألّفه لولده محمد المعروف بفخر المحقّقين (المتوفّى772ه)،ذكر في مقدمته انّ الكتاب يشتمل على ألف دليل على إمامة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام،و ألف دليل على إبطال شبهات الطاعنين.

و قد طبع غير مرّة و طبع أخيراً ببيروت بطبعة منقحة رشيقة و النسخة الخطية متوفرة،بيد انّ المطبوع منه طبع تحت عنوان الألفين في إمامة أمير المؤمنين،و لكن العلاّمة الحلّي عبّر عنه في فهرس مصنفاته و مقدمة الكتاب بما ذكرنا.

4.أنوار الملكوت في شرح الياقوت

أمّا الياقوت فهو تأليف أبي إسحاق إبراهيم بن نوبخت(المتوفّى310ه) كما ذكره العلاّمة في مقدمة الكتاب (1)و الشرح للعلاّمة الحلّي،و قد طبع بتحقيق محمد النجمي الزنجاني عام 1378ه،و لا يخلو المطبوع من هن و هنات،لا سيما و انّه حذف الفصل الأخير من الكتاب ممّا يرجع إلى أحكام المخالفين

ص:341


1- 1) .و قيل انّه تأليف إسماعيل بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت كما عليه التبريزي في رياض العلماء:38/6. [1]

و البغاة.

و لما كان الكتاب المطبوع مبتوراً حاول الشيخ يعقوب الجعفري نشر الفصل الأخير منه في مجلة الكلام الإسلامي (1)في ضمن عددين.

و قد أوعز العلاّمة في كتابه هذا،إلى كتاب«مناهج اليقين»و كتاب«معارج الفهم»و«نهاية المرام»و الجميع من تآليفه.

5.الباب الحادي عشر

و هو رسالة مختصرة في العقائد الإمامية كتبه حينما اختصر«مصباح المتهجد»للشيخ الطوسي التي ألّفها في الأدعية و العبادات، اختصره العلامة في أبواب عشرة و أضاف إليها«الباب الحادي عشر»في العقائد.و أسمى الجميع«منهاج الصلاح في مختصر المصباح»، و هذه الرسالة لم تزل مطمحاً للأنظار فكتب عليها شروح و تعليقات،أشهرها ما كتبه الفاضل المقداد الذي أسماه ب«النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر»و هي رسالة دراسية في الحوزات الشيعية إلى يومنا هذا.

و قد قام الفاضل المقداد (المتوفّى828ه) بشرحها في سبعة فصول.

6.تسليك النفس إلى حظيرة القدس

و هذا الكتاب كما حكاه المحقّق الطهراني (المتوفّى1389ه) يحتوى على نكات في علم الكلام،و هي في مراصد،و المرصد الأوّل في الأُمور العامة،و توجد نسخة منه في الخزانة الغروية بخط تلميذ العلاّمة الشيخ حسن بن علي المزيدي استنسخه عام (707ه) و على النسخة خط العلاّمة الحلي،كما شرحها نظام الدين

ص:342


1- 1) .مجلة الكلام الإسلامي،السنة الثانية،العدد الثاني و الثالث.

الأعرجي ابن أُخت العلاّمة (المتوفّى745ه) أسماه«إيضاح اللبس في شرح تسليك النفس». (1)

7.الرسالة السعدية

و هي رسالة بين الإيجاز و الإطناب،ألّفها العلاّمة الحلّي لسعد الحقّ و الملّة و الدين المعروف ب«المستوفي الساوجي»الذي كان وزيراً ل«غازان خان»و قد ساهم في عهد«الجايتو»مع رشيد الدين فضل اللّه في إدارة أُمور البلد إلى أن قتل عام 711ه. (2)

و الرسالة تحتوي على مقدمة و فصول،و قد استوفى فيها حقّ مسائل ثلاث:

أ.استحالة رؤية اللّه سبحانه.

ب.كلامه سبحانه حادث.

ج.صفاته عين ذاته.

و قد طبعت الرسالة عام 1315ه ضمن مجموعة باسم«كلمات المحقّقين»،و«الرسالة السعدية»هي الرسالة العاشرة.

8.كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد

الكتاب شرح لكتاب قواعد العقائد للمحقّق الطوسي،شرحه نزولاً عند رغبة ولده فخر المحقّقين و قد طبع عام 1305ه،كما طبع أخيراً بتحقيق المحقّق الشيخ حسن مكي العاملي عام 1413ه،نشرته دار الصفوة في بيروت،و الكتاب مع اختصاره مشتمل على مجموع المسائل الكلامية،نظير الكتاب الآتي.

ص:343


1- 1) .الذريعة:180/4. [1]
2- 2) .انظر تاريخ أدبيات إيران:150/3،للدكتور ذبيح اللّه صفاء.
9.كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد

و هذا الكتاب شرح لكتاب تجريد الاعتقاد للمحقّق نصير الدين محمد بن الحسن الطوسي (597-672ه) و هو من أوجز المتون الكلامية وفق العقائد الإمامية و يكفي في رفعة منزلته،قول شارحه علاء الدين القوشجي الأشعري حيث وصفه،بقوله:

«تصنيف مخزون بالعجائب،و تأليف مشحون بالغرائب،فهو و إن كان صغير الحجم،وجيز النظم،لكنه كثير العلم،عظيم الاسم،جليل البيان،رفيع المكان،حسن النظام،مقبول الأئمّة العظام،لم يظفر بمثله علماء الأعصار،و لم يأت بمثله الفضلاء في القرون و الأدوار، مشتمل على إشارات إلى مطالب هي الأُمّهات،مشحون بتنبيهات على مباحث هي المهمات،مملوء بجواهر كلها كالفصوص،و محتو على كلمات يجري أكثرها مجرى النصوص،متضمن لبيانات معجزة،في عبارات موجزة»إلى آخر ما ذكره. (1)

و قد شرحه جمع غفير من المحقّقين منذ تأليفه إلى يومنا هذا،و أوّل من شرحه:تلميذه المشهور بالعلاّمة الحلّي (648- 726ه) الذي أسماه«كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد»،ثمّ توالت الشروح بعده،فشرحه ثانياً:شمس الدين محمد الاسفرائيني البيهقي و أسماه«تعريد الاعتماد في شرح تجريد الاعتقاد»و ثالثاً:الشيخ شمس الدين محمود بن عبد الرحمن بن أحمد الأصفهاني (المتوفّى746ه) و أسماه«تسديد القواعد في شرح تجريد العقائد»و رابعاً:علاء الدين علي بن محمد المعروف بالفاضل القوشجي (المتوفّى 879ه) ألّفه للسلطان أبي سعيد گوركان.

و يسمّى الشرح الثالث بالشرح القديم،و الرابع بالشرح الجديد،و قد كتب على الشرحين تعاليق و حواشٍ كثيرة،يقف عليها من تتبع المعاجم.

ص:344


1- 1) .علاء الدين القوشجي،شرح التجريد:1.

ثمّ توالت الشروح بعد هذه الشروح الأربعة إلى عصرنا هذا.

إنّ كتاب كشف المراد تبعاً لمتنه يدور على محاور ثلاثة:

الأوّل:في الأُمور العامة التي تطلق عليها الإلهيات بالمعنى الأعم،و يبحث فيه عن الوجود و العدم و أحكام الماهيات،و المواد الثلاث:الوجود و الإمكان و الامتناع،و القدم و الحدوث،و العلّة و المعلول،و غيرها من المسائل التي تبحث عن أحكام الوجود بما هو هو.

الثاني:في الجواهر و الأعراض التي يطلق عليها الطبيعيات،و يبحث فيه عن الأجسام الفلكية و العنصرية و الأعراض التسعة،على وجه التفصيل.

الثالث:في الإلهيات بالمعنى الأخص،و يبحث فيه عن الأُصول الخمسة.

و بما أنّ المحور الأوّل هو المقصد الأهم للحكماء من المشائين و الإشراقيين،و قد بحثوا عنه في الأُمور العامة على وجه التفصيل و الاستيعاب،حتى خصّص صدر المتألهين ثلاثة أجزاء من كتابه«الأسفار»بمباحث هذا المحور-لأجل ذلك-استغنى الطلاب عن دراسة هذا المقصد من كتاب كشف المراد.

و بما أنّ العلوم الجديدة الباحثة عن الطبيعة و أحكامها قد قطعت أشواطاً كبيرة،و أبطلت كثيراً من الفروض العلمية في الفلكيات و الأكوان،فأصبح ما يبحث في الكتب الكلامية و الفلسفية في هذا القسم تاريخاً للعلم الطبيعي لا نفسه،و لأجل ذلك تركت دراسة المحور الثاني في الكتب الكلامية و الفلسفية في أعصارنا.

فلم يبق إلّا المحور الثالث الموسوم بالإلهيات بالمعنى الأخص الذي يبحث فيه عن ذاته سبحانه و صفاته و أفعاله،و لأجل ذلك عكف المحصلون على دراسة هذا المحور الذي يتضمن البحث عن إثبات الصانع و صفاته و أفعاله،و يدخل في

ص:345

البحث عن صفاته:البحث عن عدله،كما يدخل في البحث عن أفعاله:البحث عن النبوة و الإمامة و المعاد.

و قد طبع الكتاب غير مرّة أحسنها طبعة مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم المقدسة،و لنا تعليقات على قسم الإلهيات أفرزناها من سائر المباحث،و طبع الكتاب على حدة،و صار مادة دراسية في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام للبحوث و الدراسات العليا.

10.معارج الفهم في شرح النظم

و هي رسالة معدة لبيان أُصول الدين و قد صرح به في كتابه«خلاصة الأقوال»و في أجوبة المسائل المهنائية و نسخته الخطية متوفرة في المكتبة الرضوية و مكتبة السيد المرعشي و غيرهما.

11.مقصد الواصلين في أُصول الدين

و اسمه حاك عن معناه،و لكن لم نقف على نسخة منه،و جاء اسمه في«خلاصة الأقوال»و أجوبة المسائل المهنائية و عبّر عنه في إجازات البحار بمعتقد الواصلين.

12.منهاج الكرامة في معرفة الإمامة

هذا الكتاب كتاب كلامي يشير إلى جميع المسائل الكلامية لا سيما مسائل الإمامة التي استأثرت باهتمام واسع،و يثبت فيه بأدلة رصينة إمامة الأئمّة الاثني عشر ألّفه للسلطان«محمد خدابنده الجايتو»الذي تشيع على يد العلاّمة،و قد آثار الكتاب حفيظة أهل السنة كابن تيمية،فكتب عليه رداً أسماه«منهاج السنة

ص:346

في ردّ منهاج الكرامة».

و أيمن اللّه! الاسم لا يوافق مسماه،فلو قام أحد بجمع شتائمه و سبابه لعاد برسالة في ذلك المجال.

و أمّا أكاذيبه و إنكاره المسائل المسلّمة،فحدث عنه و لا حرج،و لذلك ردّ عليه غير واحد من علماء الشيعة،كسراج الدين بن عيسى الحلي ألف كتاباً باسم«إكمال الملة»و السيد مهدي الكاظمي حيث رد على ابن تيمية بكتاب أسماه«منهاج الشريعة»و لشيخنا المحقّق الأميني بحث مسهب حول الكتاب و أكاذيبه،فمن أراد التفصيل فليرجع إلى الغدير الجزء الثالث.

13.مناهج اليقين

و هو أبسط كتاب في علم الكلام بعد نهاية المرام،و قد أوعز إليه في كتاب كشف المراد،و الكتاب إلى الآن لم ير النور عسى اللّه أن يشحذ همم بعض الباحثين لنشره،و توجد منه نسخة في المكتبة الرضوية و مكتبة المسجد الأعظم في قم المقدسة.

14.نظم البراهين في أُصول الدين

رسالة موجزة في أُصول الدين،و قد شرحها العلاّمة بنفسه و أسماها«معارج الفهم»،و قد جاء اسمها في كتاب خلاصة الأقوال و أجوبة المسائل المهنائية.

15.نهج الحقّ و كشف الصدق

رسالة كلامية و في الوقت نفسه تشتمل على رءوس المسائل الأُصولية

ص:347

و الفقهية ألّفها للسلطان«محمد خدابنده».

و الرسالة تركز على المسائل الكلامية،لا سيما المسائل الخلافية و قد أثار الكتاب حفيظة الآخرين و قد ردّ عليه الفضل بن روزبهان و أسماه«إبطال الباطل و إهمال كشف العاطل».

و قد ردّ على ردّه ثلة من علماء الشيعة منهم:

1.القاضي نور اللّه التستري (المتوفّى 1019ه) في كتاب أسماه«إحقاق الحقّ و إزهاق الباطل»فقد ذكر أوّلاً كلام العلاّمة في نهج الحقّ،ثمّ أردفه بما ذكره ابن روزبهان في ردّه،ثمّ ذكر ما جاد به ذهنه في إحقاق الحقّ و المحاكمة بين الطرفين.

و هذا الكتاب يضم في الحقيقة ثلاثة كتب و طبع مرّات عديدة.

2.الشيخ محمد حسن المظفر (1301- 1375ه) في كتاب أسماه«دلائل الصدق»و هو يذكر كلام العلاّمة أوّلاً ثمّ يتبعه بنقل كلام ابن روزبهان بعينه،ثمّ يتحاكم بينهما.و قد استفاد في رده هذا من كتاب«إحقاق الحقّ»المتقدم ذكره،و قد ألمع إليه في مقدمة الكتاب.

و طبع الكتاب في طهران و النجف و القاهرة و بما انّ كتاب«نهج الحقّ و كشف الصدق»من الكتب المفيدة،فقد قام بتحقيقه الشيخ عين اللّه الحسني الأرموي فطبعه مستقلاً بتقديم الأُستاذ آية اللّه السيد رضا الصدر قدس سره في بيروت.

16.نهج المسترشدين في أُصول الدين

ألّفه العلاّمة باستدعاء ولده فخر المحقّقين،و حرر فيه القواعد الكلامية و قد شرحه الفاضل المقداد (المتوفّى 828ه) و قد طبع الكتاب أيضاً بتحقيق السيد أحمد الحسيني و الشيخ هادي اليوسفي،و عرّفه الفاضل المقداد بقوله:

ص:348

إنّ الكتاب الموسوم ب«نهج المسترشدين في أُصول الدين»من تصانيف شيخنا و إمامنا الإمام الأعظم علاّمة العلماء في العالم، وارث الأنبياء و خليفة الأوصياء،بل آية اللّه في العالمين،جمال الملّة و الحقّ و الدين،أبي منصور الحسن ابن المطهر (طهر اللّه رمسه و قدس و كرم،و شرف نفسه و بجل و عظم) قد احتوى من المباحث الكلامية على أشرفها و أبهاها،و جمع من الفوائد الحكمية أحسنها و أسناها،حتى شغف بالاشتغال به معظم الطلاب وعول على تقرير مباحثه جماعة الأصحاب.

و كنت ممن جدّ في تحرير مباحثه بالتحصيل،و إن لم أحصل منه إلّا على القليل،حتى جمعت من مباحث المشايخ و فوائدهم ممّا يتعلق به نبذة،بحيث صار منها بين الطلبة ممّا يعد على نعمة. (1)

17.واجب الاعتقاد على جميع العباد

و قد بيّن العلاّمة فيه ما يجب معرفته على العباد من العقائد الدينية،و المسائل الفرعية ما عدا المعاد فلم يذكره و انتهى في الفروع إلى آخر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

يقول في أوّله:بيّنت في هذه المقالة واجب الاعتقاد على جميع العباد و لخّصت فيه ما يجب معرفته من المسائل الأُصولية على جميع الأعيان و ألحقت به بيان الواجب في أُصول العبادات.

و الرسالة لم تر النور و لكن توجد منها نسخة خطية في المكتبة الرضوية و في مكتبة جامعة طهران.

و شرحه الفاضل المقداد و أسماه«الاعتماد في شرح واجب الاعتقاد»طبع

ص:349


1- 1) .إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين،ص 4. [1]

ضمن كلمات المحقّقين.

و على ذلك فقد طبع الكتاب في ضمن شرح الفاضل المقداد.

و ما ذكرناه من الكتب هي التي ثبتت نسبتها إلى العلاّمة الحلّي،و قد عزي إليه كتب أُخرى لم تثبت نسبتها و لذا ضربنا عنها صفحاً، و نأتي بذكر كتاب آخر له ينبغي أن يحتفل به تاريخ علم الكلام و متكلّميه و هو بيت القصيد لكتب العلاّمة الكلامية المتوفرة.

18.نهاية المرام في علم الكلام

و هذا الكتاب هو الذي يزفّه الطبع إلى القرّاء الكرام بعد تحقيقه و تقويم نصه و تبيين إشاراته ضمن جهد متواصل.

و هو أبسط و أعمق كتاب ظهر للكلام الشيعي في القرن الثامن إلى يومنا هذا،و هو قدس سره يعرّف الكتاب في مقدمته بقوله:

و قد أجمع رأينا في هذا الكتاب الموسوم ب«نهاية المرام في علم الكلام»على جمع تلك الفوائد التي استنبطناها،و النكت التي استخرجناها،مع زيادات نستخرجها في هذا الكتاب لطيفة،و معان حسنة شريفة لم يسبقنا إليها المتقدمون و لا سطّرها المصنفون.

ثمّ نذكر على الاستقصاء ما بلغنا من كلام القدماء،و نحكم بالانصاف بين المتكلمين و الحكماء،و جمعت فيه بين القوانين الكلامية و القواعد الحكمية المشتملة عليهما المباحث و النهاية.فكان في هذا الفن قد بلغ الغاية،لأجل أعزّ الناس عليَّ و أحبّهم إليّ و هو الولد العزيز محمد،رزقه اللّه تعالى الوصول إلى أقصى نهايات الكمال،و الارتقاء إلى أعلى ذُرى الجلال،و أيّده بالعنايات الأزلية،و أمدّه بالسعادات الأبدية،و أحياه اللّه تعالى في عيش رغيد و عمر مديد بمحمد و آله

ص:350

الطاهرين.

و قد رتبت هذا الكتاب على مقدمة و قواعد مستعيناً باللّه لا غير،فانّه الموفق لكلّ خير و دافع كلّ شر. (1)

و يظهر من إرجاعات المؤلف إلى هذا الكتاب في غير واحد من تآليفه انّه أكمل الكتاب حيث نرى إرجاعات كثيرة في كشف المراد إلى ذلك الكتاب نذكر منها ما يلي:

1.قال في مبحث الألم و وجه حسنه:«و يمكن الجواب هنا لأبي علي بما ذكرناه في كتاب نهاية المرام». (2)

2.قال عند البحث في الأصلح:«ذكرناها في كتاب نهاية المرام على الاستقصاء». (3)

3.و قال في مبحث النبوة الخاصة:«و قد أوردنا معجزات أُخرى منقولة في كتاب نهاية المرام». (4)

4.كما يقول في مبحث تفضيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم على الملائكة:«و هاهنا وجوه أُخرى من الطرفين ذكرناها في كتاب نهاية المرام».

كما انّه أحال إلى ذلك الكتاب في كشف الفوائد،و قال عند البحث في كونه تعالى عالماً:«و لنا على هذا البرهان إيرادات ذكرناها في كتاب النهاية. (5)كما ألمح إليه أيضاً عند البحث في صفات الإمام علي عليه السلام،قال:و الأدلة كثيرة ذكرناها في

ص:351


1- 1) .نهاية المرام في علم الكلام:5/1-6. [1]
2- 2) .كشف المراد،المسألة الثالثة [2]عشرة في الألم و وجه حسنه،ص 330.
3- 3) .كشف المراد،المسألة الثامنة عشرة في الأصلح،ص 344.
4- 4) .كشف المراد،المسألة السابعة في نبوة نبينا،ص 357.
5- 5) .كشف الفوائد،ص 168،طبعة بيروت،تحقيق حسن مكي العاملي.

كتاب النهاية. (1)

كما انّه يشير إليه في كتابه نهج المسترشدين في غير مورد:

1.قال في مبحث الإدراك:«و الحقّ ما اخترناه نحن في " نهاية المرام " ». (2)

2.و قال في البحث الثاني،في أنّه قادر خلافاً للفلاسفة:«و قد أوضحنا هذا الكلام في كتاب النهاية». (3)

3.و قال في البحث الرابع،في انّه تعالى حيّ:«و قد بيّنا ضعف هذا القول في كتاب نهاية المرام». (4)

4.و قال في البحث الخامس،في أنّه تعالى مريد:«و قد بيّنا توجيه الكلامين و الاعتراض عليها في كتاب النهاية. (5)

5.قال في البحث الثاني،في نفي المعاني و الأحوال:«و قد أشبعنا القول في هذه المسألة في كتاب نهاية المرام في علم الكلام و كتاب المناهج». (6)

6.قال في الفصل الحادي عشر في الإمامة:«...و هو كثير لا يعد و لا يحصى،و قد ذكرنا طرفاً من ذلك في كتاب نهاية المرام». (7)

7.و قال في الفصل الثالث عشر في المعاد (البحث الأوّل في حقيقة الإنسان):«...و قد بيّنا أكثر حججهم في كتاب المناهج، و استقصينا ما بلغ من أقاويل العلماء في ذلك في كتاب النهاية». (8)

ص:352


1- 1) .كشف الفوائد،ص 308.
2- 2) .نهج المسترشدين في أُصول الدين،ص 30.
3- 3) .المصدر السابق،ص 38. [1]
4- 4) .المصدر السابق،ص 40. [2]
5- 5) .المصدر السابق،ص 41. [3]
6- 6) .المصدر السابق،ص 43. [4]
7- 7) .المصدر السابق،ص 70. [5]
8- 8) .المصدر السابق،ص 74. [6]

8.و قد ذكر في آخر الكتاب الذي انتهى فيه إلى البحث في الإيمان و الكفر،ما هذا لفظه:«و من أراد التطويل فعليه بكتابنا الكبير المسمى ب«نهاية المرام في علم الكلام»و من أراد التوسط فعليه بكتابنا«منتهى الوصول»و«المناهج»و غيرهما من كتبنا. (1)

كلّ ذلك يعرب عن انّ المصنف أتمّ الكتاب إلى نهايته.

و لكن الموجود فيما بأيدينا أقلّ من ذلك،فقد انتهى الجزء الثالث و هو بعد في الطبيعيات و آخر مسألة جاءت فيه قوله«المسألة السابعة في الآن أي الزمان و ختمها بقوله:«قال الشيخ:»،فأين الباقي؟ فاللّه سبحانه وحده أعلم،و يظهر من هذه العبارة انّه رحمه الله كتب مقالة الشيخ و ما بعدها و لكنّها ما وصلت إلى النُّسّاخ.

و الذي يدل على أنّه أكمل الكتاب و لو إكمالاً نسبياً أزيد ممّا بأيدينا الأمران التاليان:

أ.انّه فرغ من الجزء الأوّل كتابة و تصنيفاً في الرابع عشر من شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتي عشرة و سبعمائة بالسلطانية. (2)

كما فرغ من الجزء الثاني في سلخ شهر ربيع الآخر من سنة اثنتي عشرة و سبعمائة بالسلطانية. (3)

و هذا يعرب انّه ألف الجزء الثاني في مدة شهر و نصف،و ليس هو ببعيد عن العلاّمة الحلّي لإحاطته بالمسائل الكلامية و اجتماع ثلة من الأفاضل حوله في السلطانية ربما يستعين ببعضهم في نقل المطالب.

و قد عاش بعد الفراغ من الجزء الثاني 14 سنة و من البعيد أن يترك هذا

ص:353


1- 1) .المصدر السابق،ص 85. [1]
2- 2) .لاحظ الجزء الأوّل من كتاب نهاية المرام في علم الكلام، [2]ص 229.
3- 3) .لاحظ الجزء الثاني من كتاب نهاية المرام، [3]ص 607.

الكتاب في بوتقة الإهمال.

ب.انّ الجزء الثالث الذي بأيدينا مبتور غير مؤرخ،و لكنّه قدس سره صرح في إجازته للسيد مهنا بن سنان المدني:خرج منه أربع مجلدات. (1)

و قد كتب الاجازة عام 721،و من البعيد أن لا يهتم باكمال الموسوعة،و أبعد منه أن يسمّي الأجزاء الثلاثة الموجودة أربعة أجزاء.

إلى هنا تبين انّ ما خرج من قلمه أزيد ممّا بأيدينا قطعاً،و لا يبعد انّه أتم الكتاب و فرغ من تأليفه.

و لعلّه سبحانه يوفق روّاد العلم للعثور على الأجزاء الباقية.

مشكلة الارجاعات

ثمّ إنّ هنا مشكلة أُخرى و هي انّ العلاّمة الحلّي فرغ من الجزء الأوّل من نهاية المرام في سلطانية زنجان عام 712 ه،و لكنّه أحال إلى ذلك الكتاب في كشف المراد الذي فرغ من تأليفه في الخامس عشر من ربيع الأوّل عام 696ه. (2)

فكيف أحال في كتاب ألّفه قبل نهاية المرام ب 16 عاماً،كما انّه أحال في«كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد»إلى هذا الكتاب في مواضع و قد فرغ منه نهار الأربعاء في ثالث ذي الحجة عام 703ه،فكيف أحال إلى ذلك الكتاب في كتاب ألفه قبل ذلك بتسع سنين؟!

هناك فروض لحلّ هذه المشكلة أوضحها،انّه أدخل هذه الإرجاعات في هذه الكتب،بعد الفراغ عن تأليفها،و ليس ببعيد عن دأب المؤلفين الذين كانت

ص:354


1- 1) .أجوبة المسائل المهنائيّة:156. [1]
2- 2) .الذريعة:60/18 برقم 668. [2]

كتبهم تستنسخ عاماً بعد عام،في الأزمنة السابقة،أو تطبع،طبعة بعد طبعة،على ما عليه الحال فيقوم المؤلف بإكمال الكتاب، بإضافة أُمور لم يخطر بباله حين التأليف.

و على ذلك يحمل ذكر«النهاية في خلاصة الرجال»الذي ألّفه سنة 693ه. (1)

مواصفات هذا الكتاب

يتميز هذا الكتاب عن سائر الكتب بميزات مهمة:

1.تفصيل المباحث و الاستقصاء لآراء المذاهب و الفِرَق المختلفة مروراً بآراء الثنوية،و المجوس،و الصابئة،و اليهود،و النصارى، و انتهاءً بآراء كبار متكلّمي الإسلام من الأشاعرة،و المعتزلة،و الشيعة (العدلية)،و كبار فلاسفة الإسلام كالفارابي،و ابن سينا و غيرهم.

فيقوم باستعراض الآراء بأفضل صورة ممكنة،ثمّ يبدأ بطرح رأيه و نقض تلك الآراء و تفنيدها بمجموعة كبيرة من الأدلة،تربو في بعض الأحيان على عشرين دليلاً.

و لا نبالغ إن قلنا:إنّ هذا الكتاب يعد أوسع كتاب كلامي للشيعة في هذا المضمار،فلا يضاهيه في السعة و الشمول أيّ كتاب كلامي آخر.

2.بذل العلاّمة في كتبه لا سيما في هذا الكتاب جهده لنقل آراء الآخرين،حيث يعرض الآراء بأمانة و صدق دون أي تصرف،بل يحاول أحياناً كثيرة أن يجد وسيلة لتبرير رأي باطل يخرجه من مدحرة البطلان.

3.يتّسم الكتاب بطابع المقارنة،و هو نوع من النشاط العلمي الذي خبرته

ص:355


1- 1) .خلاصة الرجال:47 برقم 52.

ضروب المعرفة الإنسانية في حقول التربية،و النفس،و الاجتماع،و الاقتصاد.

و هذه المقارنة تُسهم مساهمة فعّالة في بلورة المفهوم الذي يستهدفه الباحث و تعميقه،يقول العلاّمة في معرض الإشارة إلى تلك الحقيقة:«ثمّ نذكر على الاستقصاء ما بلغنا من كلام القدماء،و نحكم بالانصاف بين المتكلمين و الحكماء و جمعت فيه بين القوانين الكلامية و القواعد الحكمية».

4.انّ منهجه المقارن يتسم بسمة أُخرى،و هي انّه يفترض إشكالاً و نقضاً من قبل مخالفيه،حيث يتكهّن المؤلف أن يردّ مخالفوه على ردوده بذلك،و من الواضح انّ هذه الخطوة لها أثر ملموس في تطور الكلام الإسلامي الإمامي من حيث السعة و الإحاطة و الشمول و المقارنة و تطور مناهج البحث العلمي.كما انّها تعد من الخطوات المهمة بالنسبة إلى متطلبات المنهج المقارن،نظراً لإمكانية إيراد إشكالات أُخرى على ردوده.

و يعبّر عن هذه الخطوة بعبارة«لا يقال»و عبارة«لو قيل»و ما شاكل ذلك و يجيب على هذه الردود و الإشكالات الافتراضية تارة، و يقرّبها أُخرى على أنّها أُمور افتراضية فحسب،و هذا في الحقيقة أُسلوب آخر في الردّ على الفرضية،نلاحظ هذا من خلال استخدامه عبارة«سلمنا»حيث تناسب هذه العبارة طبيعة«الفرضية»التي لم يقتنع بها.

و أهمية هذا الأُسلوب (فرضية الإشكال و النقض) تتمثل في شمولية الممارسة لكلّ الاحتمالات التي يمكن أن يتقدم بها المخالف،حتى تصبح«المقارنة»مستكملة لجميع شروطها.

و لقد امتاز الكتاب بهذا الأُسلوب الرائع و هذا ما يمكن ملاحظته من بداية الكتاب إلى نهايته.

5.نقل العلاّمة في هذا الكتاب أسئلة فلسفية و كلامية،سألها العلاّمة

ص:356

أُستاذه المحقّق الطوسي و أجاب عليها الأُستاذ شفهياً،و قد جرى طرح كثير من تلك الأسئلة في الطريق،و في سفر العلاّمة من الحلة إلى بغداد و هو في ركاب الأُستاذ. (1)

6.يحتوى الكتاب على نظريات الإمامية و آرائهم النهائية حول المسائل الكلامية و الحكمية تفصيلاً و التي قلما توجد في كتبه الأُخرى،إمّا لأنّها شروح لم يتعرض فيها لرأيه الخاص إلّا ما قلّ و ندر،و إمّا لأنّها مختصرة و لا مجال فيها لطرح آرائه التي لها شجون و تفصيل.

7.يتسم الكتاب بالموضوعية و الابتعاد عن العصبية و رعاية الأُصول الدقيقة للبحث العلمي و الانفراج على سائر الآراء و الفرق.

فتارة يوافق رأي المتكلّمين و أُخرى يخالفهم و يختار رأي الفلاسفة و لا يلتزم بمنهج واحد كما يستعرض ردود المحقق الطوسي على الرازي و ربما يدافع عن الثاني.

فالحقّ هو بغيته سواء أ كان في جانب أُستاذه أو في جانب خصومه.

8.الكتاب مشحون بالاستنتاجات العقلية و الاستدلال بالقضايا البرهانية،كما انّه ربما يستدل بالقضايا المشهورة (الجدل) إلى غير ذلك من أنواع الاستدلال كالاستدلال بالتمثيل و الاستقراء و التجربة.

و قد استفاد من الأخير في قسم الطبيعيات بشكل واضح.

ص:357


1- 1) .راجع أعيان الشيعة:396/5. [1]

الفصل الخامس::المنازلة المستمرّة بين الشيعة و المعتزلة

اشارة

لا شكّ أنّ الشيعة و المعتزلة يلتقون في كثير من الأُصول،كما يفترقون في كثير منها أيضاً؛نظير الأشاعرة و أهل الحديث من الحنابلة،فهم يلتقون في كثير من الأُصول كما يفترقون في قسم منها.

و وجه ذلك أنّ الطائفتين الأُوليين يقولون:بأمرين تتفرّع عليهما مسائل كثيرة:

الف.التحسين و التقبيح العقليان.

ب.حجّية العقل في مجال العقائد.

و يترتّب على الأصل الأوّل ثمرات نشير إليها:

1.وجوب معرفة اللّه عقلاً قبل وجوبها شرعاً.

2.وجوب تنزيه فعله سبحانه عن العبث.

3.لزوم تكليف العباد و إيصالهم إلى الغاية التي خُلقوا لها.

4.لزوم بعث الأنبياء لهداية الإنسان.

5.لزوم النظر في برهان مدّعي النبوة.

6.الإعجاز دليل قطعي على صدق صاحبه لقبح إعطاء البيّنة للكاذب.

ص:358

7.لزوم استمرار أُصول أحكام الإسلام إلى يوم القيامة.

8.ثبات الأُصول الأخلاقية و عدم تغيّرها.

9.كون البلايا و المصائب غير خالية من الحكمة و الغاية.

10.سيادة عدله سبحانه في التشريع و التكوين،فلا يجوز التكليف بغير المقدور.إلى غير ذلك من الأُصول المستنتجة من القول بالتحسين و التقبيح العقليين.

كما أنّه تترتب على القول بحجّية العقل في مجال العقائد المسائل التالية:

1.صفاته سبحانه عين ذاته،لاستلزام الزيادة التركيب الملازم للإمكان.

2.أنّ القرآن حادث غير قديم،لامتناع تعدّد القديم المستلزم لتعدّد الواجب.

3.امتناع رؤيته سبحانه بالبصر في الدنيا و الآخرة،لأنّ الرؤية إمّا تقع على كلّه أو على جزئه،فعلى الأوّل يلزم أن يكون محاطاً، و على الثاني يلزم أن يكون مركّباً.

4.امتناع الواسطة بين الوجود و العدم،فالحال الذي تعتقد به المعتزلة غير معقول.

إلى غير ذلك من الأُصول التي يستثمرها العقل من المقدمات الواضحة.

كما أنّ رفض الحنابلة و الأشاعرة،استطاعة العقل على التحسين و التقبيح،أو عدم حجّيته في مجال العقائد بحجّة أنّها موضوعات غيبية لا سبيل للعقل إليها،جعلهما في صفّ مخالف للمعتزلة و الشيعة فيما مضى من المسائل.

فعلى ضوء ذلك فلا يصحّ لنا أن نعتبر طائفة فرعاً لطائفة أُخرى أو مشتقّة منها،إلّا إذا دلّ الدليل على ذلك.نعم إنّ بعض المتكلّمين و بعض أصحاب

ص:359

المقالات يبخسون الشيعة و يصوّرونهم فرعاً للمعتزلة،بحجّة التقائهم معهم في الأُصول المتقدّمة،حتى أنّ أحمد أمين يقول:و قد قرأت كتاب الياقوت لأبي إسحاق إبراهيم من قدماء متكلّمي الشيعة الإمامية،فكنت كأنّي أقرأ كتاباً من كتب أُصول المعتزلة،إلّا في مسائل معدودة كالفصل الأخير من الإمامة،و إمامة عليّ و إمامة الأحد عشر بعده،و لكن أيّهما أخذ من الآخر؟

أمّا بعض الشيعة فيزعم أنّ المعتزلة أخذوا عنهم،و أنّ واصل بن عطاء تتلمذ لجعفر الصادق،و أنا أُرجّح أنّ الشيعة هم الذين أخذوا من المعتزلة تعاليمهم،و نشوء مذهب الاعتزال يدلّ على ذلك،و زيد بن عليّ زعيم الفرقة الشيعية الزيدية تتلمذ لواصل،و كان جعفر الصادق يتّصل بعمّه زيد،و يقول أبو الفرج في مقاتل الطالبيين:كان جعفر بن محمد يمسك لزيد بن علي بالركاب و يسوّي ثيابه على السرج،فإذا صحّ ما ذكره الشهرستاني و غيره من تتلمذ زيد لواصل فلا يعقل كثيراً أن يتتلمذ واصل لجعفر،و كثير من المعتزلة يتشيّع، فالظاهر أنّه عن طريق هؤلاء تسرّبت أُصول المعتزلة إلى الشيعة. (1)

يلاحظ عليه:بأنّ في هذا الكلام ما لا يدعمه العقل و لا النقل:

1.نفترض صحّة ما ذكره أبو الفرج من أنّ الإمام الصادق كان يمسك لزيد ابن علي بالركاب،لكنّه لا يصحّ أن يكون دليلاً على أنّ الإمام تتلمذ لعمّه زيد،و بما أنّ زيداً ولد عام (79ه) و على الأصح عام (67ه)و ولد الإمام الصادق عليه السلام (83) و كان عمّاً له أكبر منه بأربع سنين أو أكثر كان الإمام يكرمه عملاً بما نقل:«و قرّوا كباركم».

2.إنّ ما ذكره أنّ زيد بن علي تتلمذ لواصل من غرائب الأُمور،فإنّ واصل ولد بالمدينة عام (80) و قد عرفت أنّ زيد بن علي ولد بسنة أو سنين قبله،و قد

ص:360


1- 1) .أحمد أمين:ضحى الإسلام:267- 268.

تتلمذ واصل لأبي هاشم:عبد اللّه بن محمد بن علي بن الحنفية و غادر المدينة متوجهاً إلى البصرة أوائل القرن الثاني،فكيف يصحّ أن يتتلمذ زيد لواصل و هو أكبر منه سناً و قد تربّى في نفس البيت الذي تتلمذ واصل فيه لأبي هاشم عبد اللّه ابن محمد بن الحنفية، و لو صحّ لنا الرجم بالغيب يجب أن نقول إنّ كليهما تتلمذا لأبي هاشم،لا أنّ زيداً تتلمذ لواصل،و من هو واصل؟! و هو في العقد الثاني من عمره،و ما علمه بالعقائد و المعارف و هو في ذلك السنّ المبكّر؟! حتى يتتلمذ عليه زيد بن علي و لأجله لم يذكره مشاهير الزيدية.

إنّ زيد بن علي ولد في بيت رفيع،و أبوه زين العابدين إمام الأُمّة و عالمها الذي عكف على أخذ العلم منه الموافق و المخالف، فهل يصحّ له ترك أبيه و العكوف على شابّ لم يرتقِ في سُلَّم العلم شيئاً؟!

3.إنّ اشتراك المعتزلة و الشيعة في مسائل كثيرة،لا يدل على أنّ إحدى الطائفتين عيال على الأُخرى،بل هناك احتمال ثالث و هو أنّ كلتا الطائفتين أخذتا عن مصدر واحد،و صدرتا عن منبع فارد،و قد تقدم أنّ المعتزلة أخذت أُصول مذهبهم في التوحيد و العدل عن الإمام أمير المؤمنين،و الشيعة عن بكرة أبيهم أخذوا أُصولهم و فروعهم عن أئمّة أهل البيت و في طليعتهم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

و إنّما ذهب أحمد أمين إلى ما ذهب بدافع من هواه المعروف عنه،فإنّه يريد أن يسلب كلّ فضل و فضيلة عن أئمّة أهل البيت و شيعتهم،لكن بصورة دراسة علمية حتى لا يُتّهم بالتعصب.و آية تعصّبه أنّه في نفس الوقت ينكر انتساب علم النحو إلى علي بن أبي طالب مع أنّ انتسابه إليه كالنار على المنار. (1)

ص:361


1- 1) .لاحظ ابن النديم:الفهرست و غيره.

و قد تأثر المصريون الجدد بأفكار أحمد أمين،فنرى أنّ الأُستاذ عبد الرحمن الشرقاوي يقول:«إنّ الشيعة التقطوا كثيراً من أفكار المعتزلة». (1)

الجدل المستمر بين الشيعة و المعتزلة

إنّ من تتبّع تاريخ علم الكلام و تاريخ كلام الشيعة يقف على أنّ المناظرة بين الطائفتين كانت مستمرة و محتدمة من عصر الإمام الصادق عليه السلام إلى عصر المفيد و تلامذته،كالسيد المرتضى (355- 436ه) و الشيخ الكراجكي (449ه) مؤلّف كنز الفوائد،و الشيخ الطوسي(385- 460ه) إلى غير ذلك من أكابر الشيعة فكيف يمكن عدّ إحدى الطائفتين تبعاً للأُخرى؟

إنّ الشيعة و المعتزلة كانا يتصاولان تصاول الفحلين في غير موضع من المجالس و قد حفظ التاريخ قسماً من تلك المناظرات بنصّها،نذكر منها ما يلي:

مناظرات الشيعة مع المعتزلة:

1.إنّ علي بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم من وجوه متكلّمي الشيعة،و كان معاصراً لأبي الهذيل (135- 235ه)،و النظام (160- 231ه) و عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الرضا و قد مضت ترجمته،فقد ناظر أبا الهذيل العلاّف مرّات عديدة،و ضراراً غير مرّة. (2)

2.إنّ هشام بن الحكم من شيوخ الشيعة في الكلام ناظر ضراراً و غيره. (3)

ص:362


1- 1) .مجلة الغد:العدد الثاني سنة 1953م.
2- 2) .المرتضى،العيون و المحاسن:5- 9.
3- 3) .المصدر نفسه:9.

3.إنّ الشيخ المفيد و هو من أعاظم متكلّمي الشيعة ناظر مشايخ المعتزلة،فقد ذكر تلميذه الشريف المرتضى مناظراته مع الشيخ عرزالة (1)و أبي عمر الشطوي (2)و أبي الحسن الخيّاط (3)في تفسير الشفاعة،كما أنّه نقد مقالة أبي القاسم الكعبي في مسألة الاجتهاد، و نقل الشريف قسماً من مناظراته مع بعض المعتزلة و لم يسمّ أسماء المناظرين. (4)

و هذا تلميذه محمد الكراجكي،فقد أورد في كتابه كنز الفوائد مناظرته مع بعض المعتزلة في مسألة البداء (5)و اتّهامهم للشيعة بالقول بالإرجاء (6)،و أدرج رسالته الخاصة في أغلاط المعتزلة في نفس الكتاب و هي رسالة ممتعة (7)،و قال في تلك الرسالة:و اعلم أنّ المعتزلة لها من الأغلاط القبيحة و الزلّات الفضيحة ما يكثر تعداده.و قد صنّف ابن الراوندي كتاباً في فضائحهم،فأورد فيه جملاً من اعتقاداتهم و آراء شيوخهم مما ينافر العقول و يضادّ شريعة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،و قد وردت الأخبار بذمّهم من أهل البيت،و لعنهم جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام بقوله:«لعن اللّه المعتزلة أرادت أن توحّد فألحدت،و رامت أن ترفع التشبيه فأثبتت»فمن أقبح ما تعتقده المعتزلة، و تضاهي فيه قول الملاحدة،قولهم:إنّ الأشياء كلّها كانت قبل حدوثها أشياء ثمّ لم يقنعهم ذلك حتى قالوا:إنّ الجواهر في حال عدمها جواهر،و أنّ الأعراض قبل أن توجد كانت أعراضاً،حتى أنّ السواد عندهم قد كان في عدمه سواداً.و كذلك الحركة قد كانت قبل وجودها حركة،و سائر الأعراض يقولون فيها هذا المقال...الخ. (8)

ص:363


1- 1) .المصدر نفسه:7و 8 و 45.
2- 2) .2.المصدر نفسه:7و 8 و 45.
3- 3) .المصدر نفسه:7و 8 و 45. [1]
4- 4) .لاحظ الصفحات 49،70،78،88،94،103،من المصدر نفسه ط.النجف.
5- 5) .الكراجكي:كنز الفوائد:227،124،132. [2]
6- 6) .الكراجكي:كنز الفوائد:227،124،132. [3]
7- 7) .الكراجكي:كنز الفوائد:227،124،132. [4]
8- 8) .الكراجكي،كنز الفوائد:125/1- 127. [5]
الردود و النقوض المتبادلة

إذا كان الشيعي في كلامه تبعاً للمعتزلة فيما سوى الإمامة،فما معنى هذه الردود و النقوض التي لم تزل تتبادل بين الطائفتين في الإمامة و غيرها و ربما وضع عالم واحد،سبعة كتب في ردّ مقالات المعتزلة،و إليك نماذج منها.و من أراد التفصيل فليرجع إلى الفهارس.

1.محمد بن علي بن النعمان مؤمن الطاق من متكلّمي القرن الثاني،يقول ابن النديم:«و كان متكلّماً حاذقاً،و له من الكتب:كتاب الردّ على المعتزلة،في إمامة المفضول،كتاب في أمر طلحة و الزبير و عائشة (1)و لعلّ الثاني أيضاً ردّ عليهم.

2.هشام بن الحكم ألّف كتباً منها الردّ على المعتزلة. (2)

3.الضحّاك أبو مالك من متكلّمي القرن الثاني ناظر أبا علي الجبائي و نقض كتاب الإمامة له. (3)

4.الفضل بن شاذان(المتوفّى260ه) له كتاب النقض على الاسكافي في تقوية الجسم،له كتاب الردّ على الأصم،كتاب في الوعد و الوعيد. (4)

5.محمد بن عبد اللّه بن مملك الاصفهاني من متكلّمي القرن الثالث،له كتاب مجالسه مع أبي علي الجبائي،و النقض على ابن عبّاد في الإمامة. (5)

6.ثبيت بن محمد،أبو محمد العسكري (نقض العثمانية لأبي عيسى الوراق

ص:364


1- 1) .ابن النديم:الفهرست:26،و أيضاً [1]ص 258.
2- 2) .النجاشي:الرجال:397/2 برقم 1165.
3- 3) .ابن النديم:الفهرست:266. [2]
4- 4) .النجاشي:الرجال:168/2 برقم 838.
5- 5) .النجاشي:الرجال:297/2 برقم 1034. [3]

محمد بن هارون)«المتوفّى 247ه»الذي كان معتزلياً في برهة من عمره. (1)

7.عبد الرحمن بن أحمد بن جبرويه كلّم عباد بن سليمان و غيره. (2)

8.إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت من متكلّمي الشيعة في القرن الرابع له كتاب:مجالسه مع أبي علي الجبائي بالأهواز. (3)

9.محمد بن عبد الرحمن بن قبة،له كتاب«المستثبت نقض كتاب أبي القاسم البلخي»،و الردّ على أبي علي الجبائي. (4)

10.الحسن بن موسى أبو محمد النوبختي ألّف ردوداً سبعة على المعتزلة،منها:1.كتاب الردّ على أبي علي الجبائي؛2.كتاب الردّ على أبي الهذيل العلاّف القائل بأنّ نعيم الجنة منقطع؛3.كتاب النقض على أبي الهذيل العلاّف في المعرفة؛4.مجالسه مع أبي جعفر البلخي؛5.كتاب الردّ على أصحاب المنزلة بين المنزلتين،في الوعيد؛6.مسائله للجبائي في مسائل شتّى؛7.النقض على كتاب جعفر بن حرب (177- 236ه) من شيوخ المعتزلة و من تلاميذ أبي الهذيل العلاّف. (5)

11.أبو الجيش المظفر البلخي المتكلّم (المتوفّى 367ه) ردّ على الجاحظ في كتابه العثمانية و أسماه نقض العثمانية. (6)

12.وضع الشيخ المفيد كتباً رديّة،نقض بها كتب المعتزلة،نذكر منها ما

ص:365


1- 1) .النجاشي:الرجال:293/1برقم 298؛الذريعة:288/10. [1]
2- 2) .النجاشي:الرجال:47/2 برقم 623.
3- 3) .النجاشي:الرجال:121/1 برقم 67.
4- 4) .النجاشي:الرجال:288/2 برقم 1024.
5- 5) .النجاشي:الرجال:179/1 برقم146.
6- 6) .الطهراني:الذريعة:ج24 برقم 1489. [2]

يلي:1.الردّ على الجاحظ العثمانية؛2.نقض فضيلة المعتزلة؛3.النقض على علي ابن عيسى الرماني (المتوفّى 385ه)؛4.

النقض على أبي عبد اللّه البصري؛5.نقض الخمس عشرة مسألة على البلخي؛6.نقض الإمامة على جعفر بن حرب؛7.الكلام على الجبائي في المعدوم؛8.جوابات مقاتل بن عبد الرحمن عمّا استخرجه من كتب الجاحظ؛9.نقض كتاب الأصم في الإمامة؛10.

الردّ على أبي علي الجبائي في التفسير؛11.عمد مختصرة على المعتزلة في الوعيد.إلى غير ذلك من الردود و النقوض الوافرة في تآليفه. (1)

و الشيخ المفيد هو النجم اللامع في سماء علم الكلام في القرن الرابع،و هو و من سبقه من أعلام الإمامية ردّوا على المعتزلة بجدّ و حماس،و معه كيف يصحّ عدّهم تبعاً لهم؟!

و نقض المرتضى (355- 436ه) الجزء العشرين لكتاب المغني تأليف القاضي عبد الجبار،و أسماه«الشافي»و هو مطبوع ببيروت في أربعة أجزاء.

كما ردّ الشيخ الطوسي (385-460ه) على المعتزلة في تفسيره الكبير«التبيان»،في مواضع كثيرة،و مثله تلميذه الآخر الكراجكي (المتوفّى 449ه) و أدرج الردود في كتاب«كنز الفوائد».

و لما نقض أبو الحسن البصري كتاب الشافي للسيد المرتضى كتب سلاّر بن عبد العزيز الديلمي صاحب المراسم،ردّاً عليه بأمر السيد الشريف. (2)

ص:366


1- 1) .النجاشي،الرجال:329/2 برقم 1068.
2- 2) .الطهراني،الذريعة:179/10. [1]

الفصل السادس:الفوارق الفكرية بين الشيعة و المعتزلة

اشارة

إنّ بين المنهجين الكلاميين مشتركات و مفترقات،و قد تعرّفت على قسم من المشتركات،فها نحن نلمّح إلى الفوارق بينهما،التي جعلتهما منهجين كلاميّين مختلفين لكلّ ميزة و خصوصيّة،و إليك رءوسها على وجه الإجمال:

1.عينيّة الصفات مع الذات

اتّفقت الطائفتان على أنّ صفاته الذاتية ليست زائدة على الذات،بمعنى أن يكون هناك ذات و صفة وراءها،كما في الممكنات فإنّ الإنسان له ذات و له علم و قدرة،هذا ممّا اتّفقا عليه،و لكنّهما اختلفا في تفسير ذلك،فالشيعة الإمامية ذهبت إلى أنّ الوجود في مقام الواجب بالغ من الكمال على حدّ يعدّ نفس العلم و القدرة،و كون الصفة في الموجودات الإمكانية زائداً على الذات لا يكون دليلاً على الضابطة الكليّة حتى في مقام الواجب بل الوجود هناك لأجل الكمال المفرط نفس الصفة،و لا مانع في كون العلم في درجة قائماً بالذات، و في أُخرى نفس الذات،و ما هذا إلّا لأنّ زيادة الوصف على الذات توجب حاجتها إلى شيء وراءها،و هو ينافي وجوب الوجود و الغنى المطلق.هذه هي نظرية الشيعة مقرونة بالدليل الإجمالي،و قد اقتفوا في ذلك ما رسمه عليّ عليه السلام فقال:«و كمال الاخلاص

ص:367

له نفي الصفات (الزائدة) عنه،لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف،و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة،فمن وصف اللّه (بوصف زائد على ذاته) فقد قرنه (قرن ذاته بشيء غيرها) و من قرنه فقد ثنّاه،و من ثنّاه فقد جزّأه،و من جزّأه فقد جهله». (1)

و قال الإمام الصادق عليه السلام:«لم يزل اللّه جلّ و عزّ،ربّنا و العلم ذاته و لا معلوم،و السمع ذاته و لا مسموع،و البصر ذاته و لا مبصر، القدرة ذاته و لا مقدور». (2)

هذا ما لدى الشيعة،و أمّا المعتزلة فقد اضطرب كلامهم في المقام،فالقول المشهور عندهم هي نظرية نيابة الذات عن الصفات، من دون أن تكون هناك صفة،و ذلك لأنّهم رأوا أنّ الأمر في أوصافه سبحانه يدور بين محذورين:

1.انّ القول بأنّ له سبحانه صفات كالعلم،يوجب الاعتراف بالتعدّد و الاثنينية،لأنّ واقع الصفات هو مغايرة للموصوف.

2.إنّ نفي العلم و القدرة و سائر الصفات الكمالية يستلزم النقص في ذاته أوّلاً و يكذبه إتقان آثاره و أفعاله ثانياً.

فالمخلَص و المفر من هذين المحذورين يتلخّص في انتخاب نظرية النيابة،و هي القول بأنّ الذات نائبة مناب الصفات،و إن لم تكن هناك واقعية للصفات وراء الذات،فما يترتّب من الذات المقرونة بالصفة،يترتّب على تلك الذات النائبة مقامها،هذا هو المشهور عن المعتزلة،و إليك نصّ كلام عبّاد بن سليمان في ذلك المجال قال:هو عالمٌ قادرٌ حيٌّ،و لا أثبت له علماً،و لا قدرة،و لا حياة،و لا أثبت سمعاً،و لا أثبت بصراً،و أقول هو عالم لا بعلم،قادر لا بقدرة،حيّ لا بحياة،

ص:368


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 1. [1]
2- 2) .الصدوق:التوحيد:139.

و سميع لا بسمع،و كذلك سائر ما يسمّى من الأسماء التي يسمّى بها. (1)

يلاحظ عليه:أنّ نظرية النيابة المشهورة عن المعتزلة،مبنيّة على تخيّل كون الشيء وصفاً،ملازم للزيادة دائماً،فوقعوا بين المحذورين و تخلّصوا بالنيابة،و من المعلوم أنّ مرجع النيابة إلى خلوّ الذات عن الكمال أوّلاً،و كون الذات الفاقدة للعلم،نائبة عن الذات المقرونة بها،أشبه باللغز.

نعم بعض المعتزلة كأبي هذيل العلاّف (135- 235ه) ذهب إلى نفس ما ذهبت الشيعة إليه،و قد ذكرنا كلامهم في موسوعتنا بحوث في الملل و النحل. (2)

2.إحباط الأعمال الصالحة بالطالحة

الإحباط في عرف المتكلّمين عبارة عن بطلان الحسنة،و عدم ترتّب ما يتوقع منها عليها،و يقابله التكفير و هو إسقاط السيّئة بعدم جريان مقتضاها عليها فهو في المعصية نقيض الإحباط في الطاعة،و المعروف عن الإمامية و الأشاعرة هو أنّه لا تحابط بين المعاصي و الطاعات و الثواب و العقاب،و المعروف من المعتزلة هو التحابط (3)،ثمّ إنّهم اختلفوا في كيفيّته،فمنهم من قال:إنّ الإساءة الكثيرة تُسْقِط الحسنات القليلة و تمحوها بالكلية من دون أن يكون لها تأثير في تقليل الإساءة و هو المحكيّ عن أبي علي الجبائيّ.

و منهم من قال:إنّ الإحسان القليل يسقط بالإساءة الكثيرة و لكنّه يقلّل في تأثير الإساءة فينقص الإحسان من الإساءة فيُجزي العبد بالمقدار الباقي بعد

ص:369


1- 1) .الأشعري:مقالات الإسلاميين:225/1. [1]
2- 2) .لاحظ بحوث في الملل و النحل:84/2، [2]نقلاً عن شرح الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار:183،و مقالات الإسلاميين:225.
3- 3) .المفيد:أوائل المقالات:57. [3]

التنقيص،و هو المنسوب إلى أبي هاشم.

و منهم من قال:إنّ الإساءة المتأخرة تحبط جميع الطاعات و إن كانت الإساءة أقلّ منها،حتى قيل:إنّ الجمهور من المعتزلة ذهبوا إلى أنّ الكبيرة الواحدة،تحبط ثواب جميع العبادات. (1)

هذا على قول المعتزلة و أمّا على قول نفاة الإحباط فالمطيع و العاصي يستحقّ الثواب و العقاب معاً فيعاقب مدّة ثمّ يخرج من النار فيثاب بالجنة.

نعم ثبت الإحباط في موارد نادرة،كالارتداد بعد الإسلام،و الشرك المقارن للعمل،و الصدّ عن سبيل اللّه،و مجادلة الرسول و مشاقّته،و قتل الأنبياء،و قتل الآمرين بالقسط،و إساءة الأدب مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم،و النفاق و غير ذلك ممّا شرحناه في الإلهيّات. (2)

3.خلود مرتكب الكبيرة في النار

اتّفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في النار متوجّه إلى الكفّار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة باللّه تعالى و الإقرار بفرائضه من أهل الصلاة و وافقهم على هذا القول كافة المرجئة سوى محمّد بن شبيب و أصحاب الحديث قاطبة،و أجمعت المعتزلة على خلاف ذلك،و زعموا أنّ الوعيد بالخلود في النار عامٌّ في الكفّار و جميع فسّاق أهل الصلاة.

و يظهر من العلاّمة الحلّي أنّ الخلود ليس هو مذهب جميع المعتزلة حيث قال:أجمع المسلمون كافة على أنّ عذاب الكافر مؤبّد لا ينقطع،و أمّا أصحاب الكبائر من المسلمين،فالوعيدية على أنّه كذلك.و ذهبت الإمامية و طائفة كثيرة

ص:370


1- 1) .التفتازاني:شرح المقاصد:232/2،و [1]القاضي عبد الجبار:شرح الأُصول الخمسة:625.
2- 2) .حسن مكي العاملي،الإلهيات:870/1-874. [2]

من المعتزلة و الأشاعرة إلى أنّ عذابه منقطع. (1)

و الظاهر من القاضي عبد الجبار هو الخلود،و استدل بقوله سبحانه: «وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها» . (2)فاللّه تعالى أخبر أنّ العصاة يعذّبون بالنار و يخلّدون فيها،و العاصي اسم يتناول الفاسق و الكافر جميعاً،فيجب حمله عليهما، لأنّه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبيّنه،فلمّا لم يبيّنه دلّ على ما ذكرناه.

فإن قيل:إنّما أراد اللّه تعالى بالآية الكافر دون الفاسق،أ لا ترى إلى قوله تعالى: «وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ» و ذلك لا يتصوّر إلّا في الكفرة و إلّا فالفاسق لا يتعدّ حدود اللّه تعالى أجمع،ثمّ أجاب عنه فلاحظ كلامه. (3)

4.لزوم العمل بالوعيد و عدمه

المشهور عن المعتزلة أنّهم لا يجوّزون العفو عن المسيء لاستلزامه الخلف،و أنّه يجب العمل بالوعيد كالعمل بالوعد،و الظاهر من القاضي أنّها نظرية البغداديين من المعتزلة،قال:اعلم أنّ البغدادية من أصحابنا أوجبت على اللّه أن يفعل بالعصاة ما يستحقّونه لا محالة،و قالت:لا يجوز أن يعفو عنهم،فصار العقاب عندهم أعلى حالاً في الوجوب من الثواب،فإنّ الثواب عندهم لا يجب إلّا من حيث الجود،و ليس هذا قولهم في العقاب فإنّه يجب فعله بكلّ حال. (4)

و ذهبت الإمامية إلى جواز العفو عن المسيء إذا مات بلا توبة،و استدل

ص:371


1- 1) .كشف المراد:261. [1]
2- 2) .النساء:14. [2]
3- 3) .القاضي عبد الجبار:شرح الأُصول الخمسة:657. [3]
4- 4) .القاضي عبد الجبار:شرح الأُصول الخمسة:644. [4]

الشريف المرتضى بقوله سبحانه: «وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ». 1 و قال:في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة،لأنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين،لأنّ قوله: «عَلى ظُلْمِهِمْ» جملة حالية إشارة إلى الحال التي يكونون عليها ظالمين،و يجري ذلك مجرى قول القائل:«أنا أودّ فلاناً على غدره»و«و أصلُهُ على هجره». (1)

و قد أوضحنا الحال في دلالة الآية و أجبنا عن إشكال القاضي على دلالتها في الإلهيّات. (2)

5.الشفاعة حطّ الذنوب أو ترفيع الدرجة

لمّا ذهبت المعتزلة إلى خلود مرتكب الكبيرة في النار،و إلى لزوم العمل بالوعيد،و رأت أنّ آيات الشفاعة،تضادّ تلك الفكرة، التجأت إلى تفسيرها بغير ما هو المعروف و المتبادر منها،فقالوا:إنّ شفاعة الفسّاق الذين ماتوا على الفسوق و لم يتوبوا تتنزّل منزلة الشفاعة لمن قتل ولد الغير و ترصّد للآخر حتى يقتله،فكما أنّ ذلك يقبح فكذلك هاهنا. (3)

فالشفاعة عندهم عبارة عن ترفيع الدرجة،فخصّوها بالتائبين من المؤمنين و صار أثرها عندهم ترفيع المقام لا الانقاذ من العذاب أو الخروج منه،قال القاضي:إنّ فائدة الشفاعة رفع مرتبة الشفيع و الدلالة على منزلة من المشفوع. (4)

ص:372


1- 2) .الطبرسي:مجمع البيان:278/3.
2- 3) .حسن مكي العاملي:الإلهيات:910/1.
3- 4) .القاضي عبد الجبار،:شرح الأُصول الخمسة:688. [1]
4- 5) .القاضي عبد الجبار،:شرح الأُصول الخمسة:689. [2]

و أمّا عند الشيعة الإمامية فهو عبارة عن إسقاط العذاب،قال الشيخ المفيد:اتّفقت الإمامية على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته،و أنّ أمير المؤمنين عليه السلام يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته و أنّ أئمّة آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم يشفعون كذلك و ينجّي اللّه بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين،و وافقهم على شفاعة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم المرجئة سوى ابن شبيب و جماعة من أصحاب الحديث،و أجمعت المعتزلة على خلاف ذلك و زعمت أنّ شفاعة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للمطيعين دون العاصين،و أنّه لا يشفع في مستحقّي العقاب من الخلق أجمعين. (1)

6.مرتكب الكبيرة لا مؤمن و لا كافر

إنّ مقترف الكبيرة عند الشيعة و الأشاعرة مؤمن فاسق خرج عن طاعة اللّه.و هو عند الخوارج،كافر كفر الملّة عند جميع فرقهم إلّا الإباضية فهو عندهم كافر كفر النعمة،و أمّا المعتزلة فهو عندهم في منزلة بين المنزلتين قال القاضي:إنّ صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين،و حكم بين الحكمين لا يكون اسمه اسم الكافر،و لا اسمه اسم المؤمن فلا يكون حكمه،حكم الكافر و لا حكم المؤمن بل يفرد له حكم ثالث،و هذا الحكم الذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين،قال:صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان. (2)

و هذا أحد الأُصول الخمسة التي عليها يدور رَحى الاعتزال و من أنكر واحداً منها فليس بمعتزليّ. (3)

ص:373


1- 1) .المفيد:أوائل المقالات:14-15. [1]
2- 2) .القاضي عبد الجبار:شرح الأُصول الخمسة:697. [2]
3- 3) .الخياط:الانتصار:126،و [3]مروج الذهب:222/3.
7.النسخ جائز،و البداء ممتنع أو لا ؟

اتّفق المسلمون على جواز النسخ خلافاً لليهود،و اختلفوا في البداء،ذهبت الشيعة إلى إمكانه و وقوعه،خلافاً لغيرهم فقالوا بالامتناع.

ثمّ إنّ الذي صار سبباً للتفريق بين الأمرين عند القاضي هو أنّه اشترط في النسخ أُموراً أهمّها:أنّ النسخ لا يتعلّق بعين ما كان ثابتاً، بل يتعلّق بمثل ما كان ثابتاً أشار إليها بقوله:«النسخ إزالة مثل الحكم الثابت بدلالة شرعية بدليل آخر شرعيّ على وجه لولاه لثبت،و لم يزل مع تراخيه عنه».

قال:فاعتبرنا أن يكون إزالة مثل الحكم الثابت لأنّه لو زال عين ما كان ثابتاً من قبل لم يكن نسخاً بل كان نقضاً،و هذا بخلاف البداء فإنّه يتعلّق بعين ما كان ثابتاً،و مثاله أن يقول أحدنا لغلامه:إذا زالت الشمس و دخلت السوق فاشتر اللحم.ثمّ يقول له:إذا زالت الشمس و دخلت السوق فلا تشتر اللحم،و هذا هو البداء،و إنّما سمّي به لأنّه يقتضي أنّه قد ظهر له من حال اشتراء اللحم ما كان خافياً عليه من قبل. (1)

و قال أيضاً:الذي يدل على البداء،أن يأمر اللّه جلّ و عزّ بنفس ما نهى عنه في وقت واحد على وجه واحد و هذا محال لا نجيزه البتة. (2)

نحن لا نحوم حول البداء و ما هو الفرق بينه و بين النسخ،فقد أشبعنا الكلام فيه في بحوثنا الكلامية (3)غير أنّ الذي يتوجّه على كلام القاضي أنّ ما أحاله هو أيضاً من أقسام النسخ لا من أقسام البداء المصطلح فإنّه على قسمين:

ص:374


1- 1) .القاضي عبد الجبار:شرح الأُصول الخمسة:584- 585. [1]
2- 2) .رسائل العدل و التوحيد:1،رسالة القاضي عبد الجبار:241.
3- 3) .لاحظ الإلهيات:565/1.

1.النسخ بعد حضور وقت العمل.

2.النسخ قبل حضور وقت العمل.

و الذي أحاله هو القسم الثاني،و أمّا الوجه الذي اعتمد عليه فموهون بأنّه ربّما تترتّب المصلحة على نفس انشاء الحكم و إن لم يكن العمل به مراداً جديّاً كما هو الحال في أمر إبراهيم بذبح ولده،و الأوامر الامتحانية كلّها من هذا القبيل،فإذا شوهد من المكلّف القيام بمقدمات الواجب،ينسخ الحكم و على كلّ تقدير فما سمّاه بداءً،ليس هو محلّ النزاع بين الإمامية و غيرهم.

و البداء عندهم عبارة عن تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة و هو شيء اتّفق عليه المسلمون،و ورد به النصّ في القرآن و السنّة.

هذا هو حقيقة البداء في عالم الثبوت،و له أثر في عالم الإثبات،و هو أنّه ربما يقف النبي على مقتضى المصير و لا يقف على ما يغيّره،فيخبر به على حسب العلم بالمقتضي و لكن لا يتحقّق لأجل تحقّق ما يغيّره،فيقال هنا:بدا للّه و المقصود بداء من اللّه للعباد كما هو الحال في إخبار يونس عن تعذيب القوم و غير ذلك،و قد وردت جملة«بدا للّه»في صحيح البخاري. (1)

قال الشيخ المفيد:أقول في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ و أمثاله من الإفقار بعد الإغناء،و الإمراض بعد الإعفاء،و ما يذهب إليه أهل العدل خاصة من الزيادة في الآجال و الأرزاق و النقصان منها بالأعمال،و أمّا إطلاق لفظ البداء فإنّما صرت إليه لأجل السمع الوارد عن الوسائط بين العباد و بين اللّه عزّ و جلّ و ليس بيني و بين كافة المسلمين في هذا الباب خلاف،و إنّما خالف من خالفهم في اللفظ دون ما سواه. (2)

ص:375


1- 1) .البخاري،الصحيح:172/4،باب حديث«أبرص و أعمى و أقرع في بني إسرائيل».
2- 2) .المفيد:أوائل المقالات:53. [1]

و هذا يعرب عن أنّ القوم لم يقفوا على مصطلح الإمامية في البداء و إلّا صفقوا على جوازه.

8.الواسطة بين الوجود و العدم

اتّفق المفكّرون من الفلاسفة و المتكلّمين على أنّه لا واسطة بين الوجود و العدم كما لا واسطة بين الموجود و العدم،و أنّ الماهيّات قبل وصفها بالوجود معدومات حقيقة غير أنّ المعتزلة ذهبت إلى أنّها في حال العدم غير موجودة و لا معدومة،بل متوسطة بينهما و هذا هو المعروف منهم بالقول بالأحوال.

قال الشيخ المفيد:المعدوم هو المنفيّ العين،الخارج عن صفة الموجود،و لا أقول:إنّه جسم و لا جوهر و لا عرض،و لا شيء على الحقيقة و إن سمّيته بشيء من هذه الأسماء فإنّما تسمّيه به مجازاً،و هذا مذهب جماعة من بغداديّة المعتزلة و أصحاب المخلوق [كذا] و البلخي يزعم أنّه شيء و لا يسمّيه بجسم و لا جوهر و لا عرض و الجبائي و ابنه يزعمان أنّ المعدوم شيء و جوهر و عرض،و الخيّاط يزعم أنّه شيء و عرض و جسم. (1)

و بما أنّ المسألة واضحة جداً لا نحوم حولها.

9.التفويض في الأفعال

ذهبت المعتزلة إلّا من شذّ كالنجّار و أبي الحسن البصري (2)إلى أنّ أفعال العباد واقعة بقدرتهم وحدها على سبيل الاستقلال بلا ايجاب (3)بل باختيار.

ص:376


1- 1) .المفيد:أوائل المقالات:79. [1]
2- 2) .لاحظ حاشية شرح المواقف لعبد الحليم السيالكوتي:146/2.
3- 3) .و لعلّ قولهم:«بلا إيجاب»إشارة إلى أنّ الفعل حال الصدور لا يتّصف بالوجوب أيضاً،و القاعدة الفلسفية:الشيء ما لم يجب لم يوجد،غير مقبولة عندهم.

قال القاضي:أفعال العباد لا يجوز أن توصف بأنّها من اللّه تعالى و مِنْ عِنْده و مِنْ قبله.... (1)

قال السيد الشريف الجرجاني(المتوفّى886ه):إنّ المعتزلة استدلّوا بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد و هو أنّه لو لا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار لبطل التكليف و بطل التأديب الذي ورد به الشرع و ارتفع المدح و الذم إذ ليس للفعل استناد إلى العبد أصلاً،و لم يبق للبعثة فائدة لأنّ العباد ليسوا موجدين أفعالهم،فمن أين لهم استحقاق الثواب و العقاب؟ (2)

ثمّ إنّ نظريّتهم في استقلال العبد في الفعل مبنيّة على مسألة فلسفية،و هو أنّ حاجة الممكن إلى العلّة تنحصر في حدوثه،لا فيه و في بقائه،و على ضوء ذلك قالوا باستقلال العبد في مقام الايجاد.

و المبنى و البناء كلاهما باطلان.أمّا الافتقار حدوثاً فقط فهو لا يجتمع مع كون الإمكان من لوازم الماهيّة و هي محفوظة حدوثاً و بقاءً،فكيف يجوز الغناء عن الفاعل بقاء؟

قال الحكيم الشيخ محمد حسين الاصفهاني: و الافتقار لازم الإمكان

هذا كلّه حول المبني،و أمّا البناء فالتخلّص عن الجبر يكفي في استناد الفعل إلى الفاعل و الخالق معاً،لكن يكون قدرة المخلوق في طول قدرة الخالق،و منشعبة عنها،و هذا يكفي في الاستناد و صحّة الأمر و النهي و التأديب و التثويب،

ص:377


1- 1) .القاضي عبد الجبار:شرح الأُصول الخمسة:778،و في ذيله ما ربما يوهم خلاف ما هو المشهور عنهم.
2- 2) .شرح المواقف:156/8.

فالجبر و التفويض باطلان،و الأمر بين الأمرين هو الحقّ الصراح،و قد تواتر عن أئمّة أهل البيت قولهم:لا جبر و تفويض لكن أمر بين الأمرين. (1)

ثمّ إنّ الدافع إلى القول بالتفويض هو صيانة عدله سبحانه فزعموا أنّ الصيانة لها رهن القول بالتفويض و استقلال العبد بالفعل، و غفلوا عن أنّ هناك طريقاً آخر و هو ما ذهبت إليه الإمامية،ثمّ إنّهم و إن نزّهوا اللّه سبحانه عن الظلم و لكن صوّروا له شريكاً في الايجاد، و لأجل ذلك قال الإمام الرضا عليه السلام:«مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا اللّه عزّ و جلّ بعدله فأخرجوه من قدرته و سلطانه». (2)

10.قبول التوبة واجب على اللّه أو تفضّل منه؟

اتّفق المسلمون على أنّ التوبة تسقط العقاب،و إنّما الخلاف في أنّه هل يجب على اللّه قبولها فلو عاقب بعد التوبة كان ظالماً،أو هو تفضّل منه سبحانه؟ فالمعتزلة على الأوّل،و الأشاعرة و الإمامية على الثاني. (3)

قال المفيد:

«اتّفقت الإمامية على أنّ قبول التوبة بفضل من اللّه عزّ و جلّ،و ليس بواجب في العقول إسقاطها لما سلف من استحقاق العقاب، و لو لا أنّ السمع ورد بإسقاطها لجاز في العقول بقاء التائبين على شرط الاستحقاق،و وافقهم على ذلك أصحاب الحديث،و أجمعت المعتزلة على خلافهم و زعموا أنّ التوبة مسقطة لما سلف من العقاب على الوجوب. (4)

ص:378


1- 1) .الصدوق:التوحيد:362،الحديث 8،و لاحظ الأحاديث الأُخرى.
2- 2) .نفس المصدر:ص 54،الحديث 93. [1]
3- 3) .لاحظ:التفتازاني:شرح المقاصد:242/2؛ [2]العلاّمة الحلّي،:كشف المراد:268؛ [3]القاضي عبد الجبار:شرح الأُصول الخمسة:798.
4- 4) .المفيد:أوائل المقالات:15. [4]

و لقد أحسن قدّس اللّه سرّه حيث جعل محور المسألة قبول التوبة و عدمه بما هو هو لا بلحاظ آخر كما إذا أخبر سبحانه أنّه: «يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» 1 فعندئذٍ يجب قبول التوبة عقلاً و إلّا لزم الخلف في الوعد.قال الطبرسي في تفسير قوله سبحانه: «إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ» 2 :«و وصفه بالرحيم عقيب التوّاب يدلّ على أنّ إسقاط العقاب بعد التوبة تفضّل منه سبحانه و رحمة من جهته،على ما قاله أصحابنا،و أنّه غير واجب عقلاً على خلاف ما ذهب إليه المعتزلة». (1)

و من أراد أن يقف على دلائل المعتزلة في المقام فليرجع إلى كشف المراد و شرح المقاصد.

11.عصمة الأنبياء قبل البعثة و بعدها

اتّفقت الإمامية على أنّ جميع أنبياء اللّه عليهم السلام معصومون من الكبائر قبل النبوة و بعدها،و ممّا يستخف فاعله من الصغائر و أمّا ما كان من صغير لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوة و على غير تعمّد و ممتنع منهم بعدها على كلّ حال هذا مذهب جمهور الإمامية،و المعتزلة بأسرها تخالف فيه. (2)

و المنقول عن أبي علي الجبائي التفصيل في الكبائر بين ما قبل البعثة و بعدها فيجوز في الأوّل دون الثاني،و المختار عند القاضي في الكبائر عدم الجواز مطلقاً و أمّا المنفرات فاتّفقوا على عدم جوازه. (3)

ص:379


1- 3) .الطبرسي:مجمع البيان:242/1.
2- 4) .المفيد:أوائل المقالات:30. [1]
3- 5) .القاضي عبد الجبار:شرح الأُصول الخمسة:573.
12.وجوب الأمر بالمعروف عقلاً و عدمه

اتّفقت الأُمّة على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بلا استثناء،غير أنّهم اختلفوا في وجوبه عقلاً و سمعاً،أو سمعاً فقط، فالمعتزلة على الأوّل،و الإمامية على الثاني.

قال المفيد:إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر باللسان فرض على الكفاية لشرط الحاجة إليه لقيام الحجّة على من لا علم لديه إلّا بذكره أو حصول العلم بالمصلحة به أو غلبة الظنّ بذلك. (1)

ثمّ إنّ المحقّق الطوسي ذكر في متن التجريد دلائل المعتزلة على وجوبهما عقلاً،ثمّ عقّب عليها بنقد و تحليل. (2)

13.آباء رسول اللّه كلّهم موحّدون

اتّفقت الإمامية على أنّ آباء رسول اللّه من لدن آدم إلى عبد اللّه بن عبد المطلب مؤمنون باللّه عزّ و جلّ موحّدون له،و خالفهم على هذا القول جميع الفرق. (3)

14.تفضيل الأنبياء على الملائكة

اتّفقت الإمامية على أنّ أنبياء اللّه عزّ و جلّ و رسله من البشر أفضل من الملائكة،و وافقهم على ذلك أصحاب الحديث،و أجمعت المعتزلة على خلاف ذلك و زعم الجمهور منهم أنّ الملائكة أفضل من الأنبياء و الرسل. (4)

ص:380


1- 1) .المفيد:أوائل المقالات:98.و [1]بذلك يظهر وهن ما ذكره القاضي في شرح الأُصول الخمسة من نسبة عدم الوجوب على الإطلاق إلى الإمامية،لاحظ ص 741.
2- 2) .العلاّمة:كشف المراد:271،ط صيدا.
3- 3) .المفيد،أوائل المقالات:12. [2]
4- 4) .المفيد:أوائل المقالات:16. [3]
15.الرجعة:إمكانها و وقوعها

قضية الرجعة التي تحدّثت عنها بعض الآيات القرآنية و الأحاديث المرويّة عن أهل بيت الرسالة ممّا تعتقد به الشيعة من بين الأُمّة الإسلامية.

قال الشيخ المفيد:إنّ اللّه يخيّر قوماً من أُمّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم بعد موتهم قبل يوم القيامة و هذا مذهب يختص به آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم و القرآن شاهد به. (1)

و خالفت المعتزلة و الأشاعرة و أهل الحديث في ذلك.

16.الجنّة و النار مخلوقتان أو لا ؟

إنّ اللّه سبحانه وعد المتقين بالجنة و أوعد العصاة بالنار فهل هما مخلوقتان أو لا ؟ و المسألة نقلية محضة فالإمامية إلّا من شذّ ذهبت إلى أنّ الجنّة و النار في هذا الوقت مخلوقتان.

قال الشيخ المفيد:و بذلك جاءت الأخبار و عليه إجماع أهل الشرع و الآثار. (2)

و قال التفتازاني:جمهور المسلمين على أنّ الجنّة و النار مخلوقتان الآن خلافاً لأبي هاشم و القاضي عبد الجبار،و من يجري مجراهما من المعتزلة حيث زعموا أنّهما إنّما يخلقان يوم الجزاء. (3)

و الظاهر من السيد الرضي من الشيعة (359- 406ه) أنّهما غير مخلوقتين الآن حيث قال:الصحيح أنّهما إنّما تخلقان بعدُ. (4)

ص:381


1- 1) .المجلسي:البحار:36/53، [1]نقلاً عن المسائل المروية للشيخ المفيد.
2- 2) .المفيد:أوائل المقالات:102. [2]
3- 3) .التفتازاني:شرح المقاصد:318/2؛و [3]لاحظ شرح التجريد للقوشجي:507،و عبارة الأخيرين واحدة.
4- 4) .الرضي:حقائق التأويل:245/5. [4]
17.تأويل النصوص اعتماداً على القواعد العقلية

إنّ الأُصول الخمسة عند المعتزلة توصف بالصحة و الإتقان على درجة تقدم على النصوص الشرعية الواردة في القرآن و السنّة،فقد أعطوا للعقل أكثر ممّا يستحقه،و لذلك نرى أنّهم لما بنوا على أنّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النار أوّلوا النصوص القرآنية،فقالوا:إنّ المراد من الشفاعة هو ترفيع الدرجة لا رفع العقاب،و قس على ذلك سائر تأويلاتهم في الكتاب و السنّة.

إنّ النصّ الوارد في القرآن الكريم دليل قطعيّ لا يعادله شيء،فعند ذلك تجب تخطئة العقل لا تأويل القرآن،و التعارض بين القطعيين غير معقول،و تأويل النصّ القطعي كرفضه،نعم لو كان النصّ ظنّي السند أو كان الدليل الشرعيّ ظنّي الدلالة فللتأويل مجال،هذا و للبحث صلة تطلب في محاله.

18.الإمامة بالتنصيص أو بالشورى

اتّفقت الإمامية على أنّ الإمامة بالتنصيص خلافاً للأشاعرة و المعتزلة و قالوا بالشورى و غيرها،و يتفرّع على ذلك أمر آخر،و هو أنّ النبي نصّ على علي عليه السلام خليفته بالذات عند الإمامية،و قال الآخرون سكت و ترك الأمر شورى بين المسلمين.

قال القاضي عند البحث عن طرق الإمامة (عند المعتزلة):إنّها العقد و الاختيار. (1)

19.هل يشترط في الإمام كونه معصوماً ؟

اتّفقت الإمامية على أنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً عن الخطأ و المعصية

ص:382


1- 1) .القاضي عبد الجبار:شرح الأُصول الخمسة:753.

خلافاً للمعتزلة حيث اكتفت أنّه يجب أن يكون مبرّزاً في العلم مجتهداً،ذا ورع شديد،يوثق بقوله و يؤمن منه و يعتمد عليه. (1)

قال المفيد:إنّ الأئمّة القائمين مقام الأنبياء في تنفيذ الأحكام،و إقامة الحدود،و حفظ الشرائع،و تأديب الأنام،معصومون كعصمة الأنبياء و أنّهم لا يجوز منهم صغيرة إلّا ما قدّمتُ ذكر جوازه على الأنبياء و أنّه لا يجوز منهم سهو في شيء في الدين و لا ينسون شيئاً من الأحكام،و على هذا مذهب سائر الإمامية،إلّا من شذّ منهم و تعلّق بظاهر روايات،لها تأويلات على خلاف ظنّه الفاسد من هذا الباب، و المعتزلة بأسرها تخالف في ذلك و يجوّزون من الأئمّة وقوع الكبائر و الردّة عن الإسلام. (2)

20.حكم محارب الإمام عليّ أمير المؤمنين

اتّفقت الإمامية على أنّ الناكثين و القاسطين من أهل البصرة و الشام أجمعين كفّار ضُلاّل ملعونون بحربهم أمير المؤمنين عليه السلام، و أنّهم بذلك في النار مخلّدون،و أجمعت المعتزلة سوى الغزّال منهم و ابن باب،و المرجئة و الحشوية من أصحاب الحديث على خلاف ذلك،فزعمت المعتزلة كافة إلّا من سمّيناه و جماعة من المرجئة و طائفة من أصحاب الحديث،أنّهم فُسّاق ليسوا بكفّار،و قطعت المعتزلة من بينهم على أنّهم لفسقهم في النار خالدون. (3)

هذه جملة من الأُصول التي يختلف فيها المنهجان و بقيت هناك أُصول أُخرى تضاربت فيها آراء الفريقين،لم نذكرها روماً للاختصار.

ص:383


1- 1) .شرح الأُصول الخمسة:754. [1]
2- 2) .الشيخ المفيد:أوائل المقالات:35. [2]
3- 3) .نفس المصدر:10. [3]
الآن حصحص الحقّ

إنّ القارئ الكريم إذا أمعن فيما أوردناه في هذه الفصول الستّة يقف على ضالّتنا المنشودة و هي:

1.إنّ الشيعة عن بكرة أبيهم كانوا مستقلّين في التفكير،و قد اقتفوا في الأُصول و الفروع أئمّة أهل البيت،و لم يكونوا في عصر من الأعصار تبعاً للمعتزلة،و أنّهم لو اتّفقوا معهم في أُصول،اختلفوا في أُخرى،و لو كان الاتّفاق فيها دليلاً على التبعية فلما ذا لا يكون دليلاً على العكس؟ و الحقّ أنّ الطائفتين يصدران عن معين عذب و هي خطب الإمام أمير المؤمنين في التوحيد و العدل،و الرجوع إلى العقل في مجال العقائد،و أنّ من زعم أنّ الشيعة كانت تبعاً للمعتزلة فقد ظنّ ظنّاً خاطئاً بلا تحقيق و لا إمعان.

هذا و إنّ شيخ الأُمّة المفيد عقد باباً خاصاً في كتابه أوائل المقالات بيّن فيه الفوارق الفكرية بين الشيعة و المعتزلة. (1)

2.إنّ الشيعة كانت تتمتّع في القرون السبعة بمنهج كلاميّ تام متشعّب الفنون،و قد نضج المنهج في ظلّ الأُصول السمعية و الدراسات العقلية،و ها هم علماؤهم،و متكلّموهم فيها،و هذه كتبهم و رسائلهم،و هذه أُصولهم و عقائدهم،و هذه مناظراتهم مع المخالفين.

و مهما يكن من أمر فإنّ الشيعة قد خلفت تراثاً كلامياً ضخماً إلّا أنّ ثمة من يلمح إلى معنى فيه ظلم كثير للكلام الشيعي فها هو آدم متز يقول:لم يكن للشيعة في القرن الرابع منهج كلامي مع أنّ ابن النديم يصف المفيد بأنّه:«في عصرنا انتهت رئاسة متكلّمي الشيعة إليه، مقدّم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه،دقيق الفطنة،بادئ الخاطر،شاهدته فرأيته بارعاً» (2)؟!

ص:384


1- 1) .أوائل المقالات:7- 16. [1]
2- 2) .ابن النديم،الفهرست:266. [2]

نحمده سبحانه على انعامه و افضاله،و نشكره على آلائه،و نصلّي على محمّد أفضل سفرائه،و على آله الأطهار أفضل بريّته،صلاة دائمة ما دامت السماء ذات أبراج،و الأرض ذات فجاج.

جعفر السبحاني

قم،مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

صفر المظفر1413/ ه

ص:385

الرسالة الثامنة:دراسة إيمان أبي طالب في ضوء الكتاب و السنّة

كُتبت هذه الرسالة جواباً لمحاضرة الشيخ يوسف القرضاوي في قطر

بسم الله الرحمن الرحيم

فضيلة الأُستاذ الجليل الشيخ يوسف القرضاوي حفظه اللّه و رعاه.

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

نسأل اللّه لكم دوام الصحّة و التوفيق لخدمة الإسلام و المسلمين.

أما بعد؛فقد وقفنا في إحدى المجلات الإسلامية على مقالة رثائية قيّمة لكم بمناسبة رحيل المفكِّر الإسلامي القدير الشيخ الغزالي-رحمه اللّه-تحت عنوان:«النجم الساطع».

و لقد كان الشيخ الغزالي حقاً-كما وصفتموه-العقل الذكي،و القلب النقي،و صاحب الرشد في الفكر و الشجاعة في الحق،و الغيرة على الدين فقد صدع بما يرى انّه الحق غير آبهٍ بما يُثيره رأيه الصريح،من انتقادات و اعتراضات،

ص:386

لأنّه كان-كما قلتم-حرَّ الفكر و الضمير،حرَّ اللسان و القلم،و لأنّه رفض الخضوع لأهواء العوام كما فعل أدعياء العلم الذين يحسبهم الناس دعاةً !!

و لقد طالعنا في نفس الوقت رسالتكم القيمة إلى الندوة الثانية للتقريب بين المذاهب الإسلامية بالرباط (12-14 ربيع الثاني 1417ه) التي انطلقت من روح متوقّدة متطلّعة إلى عزّة المسلمين و فهم عميق و منطقي للقرآن و السنّة.

و قد أعجبتنا فيها رؤيتكم الصائبة حولَ ما يحول دون تحقيق الوحدة الإسلامية الكبرى و التقريب بين فصائل المسلمين و طوائفهم،و أبرز ذلك فراغ نفوس المسلمين من الهموم الكبيرة و الآمال العظيمة،و اعتراكهم على المسائل الصغيرة و الهامشية من فروع العقيدة أو الفقه،و قد كان من الواجب-كما قلتم فيها-على الدعاة و المفكرين الإسلاميين أن يشغلوا جماهير المسلمين بهموم أُمتهم الكبرى و ليلفتوا أنظارهم و قلوبهم و عقولهم إلى ضرورة التركيز عليها و التنبيه لها.

و الحق كما تفضلتم:مشكلة المسلمين اليوم ليست في الذي يؤوِّل آيات الصفات و أحاديثها بل في من ينكر الذات و الصفات الإلهية جميعاً و يدعو إلى العلمانية و الإلحاد،و مشكلة المسلمين ليست في من يجهر بالبسملة أو يخفضها أو لا يقرؤُها في الصلاة،و لا في من يرسل يديه في الصلاة أو يقبضهما،انّما مشكلة المسلمين في من لا ينحني يوماً للّه راكعاً و لا يخفض جبهته للّه ساجداً و لا يعرف المسجد و لا يعرفه...

و لا...و لا...انّما انّما.....

و بالتالي انّ المشكلة حقاً هي:وهن العقيدة في النفوس،و تعطيل الشريعة في الحياة،و انهيار الأخلاق في المجتمع،و إضاعة الصلوات،و منع الزكوات و اتّباع الشهوات،و شيوع الفاحشة،و انتشار الرشوة،و خراب الذمم،و سوء الإدارة،و ترك

ص:387

الفرائض الأصلية،و ارتكاب المحرمات القطعية،و موالاة أعداء اللّه و رسوله و المؤمنين.

إنّ مشكلة المسلمين-كما تفضّلتم فيها-تتمثل في إلغاء العقل و تجميد الفكر و تخدير الإرادة،و قتل الحرية،و إماتة الحقوق، و نسيان الواجبات،و فشوّ الأنانية،و إهمال سنن اللّه في الكون و المجتمع.

و هي بالضبط و على التحديد كل هذا،و بخاصة ما ذكرتموه في أرقام سبعة تحت عنوان هموم سبعة أساسية.

و لقد أعجبتنا كل هذه الرؤى جملةً و تفصيلاً،و تمنينا لو كان مثل هذه الرؤية و البصيرة شائعة بين مفكري الإسلام و علمائه اليوم سنةً و شيعةً و من جميع الفرق و المذاهب،و كان هناك تعاون صادق و عميق و متواصل لحلّ هذه المشكلات ما دامت كل هذه الفرق و المذاهب متفقة على وحدانية اللّه،و رسالة النبي الخاتم محمّد بن عبد اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،و أركان الإسلام العملية،و مكارم الأخلاق،و أُمور كثيرة أُخرى تفوق الحصر،و تستعصى على العدّ و الإحصاء.

و تمنّينا لو كان المسلمون يكفون-إلى جانب ذلك-عن التراشق بسهام الاتهام فيما بينهم،و يتحرّرون من عقدة الطائفية و أساليبها الجاهلية،و يقوموا-بدل ذلك-بدراسة نقاط الخلاف و الاختلاف بروحٍ أخوية و نهجٍ علميٍ،و اسلوب رصين،و يفسحون للجميع فرصة التعبير عن مذهبه،و الإدلاء بأدلّته،و براهينه في جوٍّ ملؤُه رحابة الصدر و اتساع الفكر و السماحة،و يتركون إثارة ما يبعد القلوب بعضها عن بعضها،و يكدر الصفو،و يفسد المودة.

***

ص:388

غير أنّه بلغنا أنّكم في محاضرة لكم في«قطر»تعرضتم بسوء لشيخ الأباطح ناصر الإسلام و حامي نبيه الأكبر أبي طالب-رضوان اللّه تعالى عليه-الذي تكفّل رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و آواه،و حامى عنه بعد ابتعاثه بالرسالة،و ضحى في سبيل دعوته براحته،و نفسه، و بأولاده و أفلاذ كبده،كاتماً إيمانه،و متّقياً قومه العتاة ليبقى على منصبه،من أجل أن يخدم في ظلِّه الرسولَ و الرسالة،و يدفع به عنهما أذى معارضيهما،و كيدهم كما فعل مؤمن آل فرعون طوال أربعين سنة،بلا انقطاع.

فهل ترى كان حقيقاً بأن يُنكر فضله،و تُتجاهل خدمته؟ و هو الذي صرّح بصحة الرسالة المحمدية و صدق الدعوة النبوية الخاتمة في قصائده،و أشعاره و ترجم إيمانه،بالوقوف الصريح-هو و أبناؤه الغرّ-إلى جانب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حيث يقول: كَذَبتُم و بيتِ اللّه نبزي محمّداً

لَعمري لقد كلِّفتُ و جداً بأَحمد و إخوته دأبَ المحبِّ المواصل

فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها و زَيناً لمن والاه ربُّ المشاكل (1)

فَمنْ مثلُه في الناس أيُّ مؤمَّل إذا قاسَهُ الحُكّام عند التفاضل

حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غير طائش يُوالي إلاهاً ليس عنه بغافِل

لقد علِمُوا أنَّ ابْننا لا مكذَّبٌ لدينا و لا يُعنى بقولِ الأَباطِل

ص:389


1- 2) .المشاكل:العظيمات من الاُمور.

فأصبَحَ فينا أحمدٌ في أُرومة تقصّر عنه سَورةُ المتطاول (1)

حَدِبْتُ بنفسي دونَه و حميته و دافعتُ عنه بالذُّرا و الكلاكل (2)

فَأيّدَهُ ربُّ العباد بنصره و أظهرَ ديناً حقُّه غير باطل (3)

نقل ابن هشام في سيرته أربعة و تسعين بيتاً من هذه القصيدة،فيما أورد ابن كثير الشامي في تاريخه«اثنين و تسعين بيتاً»و أورد أبو هفان العبدي الجامع لديوان«أبي طالب»مائة و واحد و عشرين بيتاً منها في ذلك الديوان و لعلّها تمام القصيدة و هي في غاية العذوبة و الروعة،و في منتهى القوة و الجمال،و تفوقُ في هذه الجهات كلَّ المعلّقات السبع التي كان عرب الجاهلية يفتخرون بها و يعدّونها من أرقى ما قيل في مجال الشعر.

و له وراء هذه اللامية،قصيدة أُخرى ميمية»فهو-سلام اللّه عليه-يصرح فيها بنبوة ابن أخيه و أنّه نبي كموسى و عيسى عليهما السلام إذ يقول: لِيعلم خيارُ الناس أنَّ محمّداً

و نظيرها قصيدته البائيّة و فيها: أ لم تعلموا أنّا وجدنا محمداً نبياً كموسى خط في أوّل الكتب (4)

ص:390


1- 1) .السّورة:الشدة و البطش.
2- 2) .الذرى:جمع ذروة و هي أعلى ظهر البعير.
3- 3) .راجع السيرة النبوية:272/1-280. [1]
4- 5) .مجمع البيان:36/7،و قد نقل ابن هشام في سيرته:352/1 خمسة عشر بيتاً من هذه القصيدة

أ فبعد هذه البلاغات و التصريحات يصحّ لإنسان واع أن يكفّر سيد الأباطح أو يشك في إيمانه؟

و على فرض التسليم،فهل هذه هي واقعاً مشكلة الأُمّة الإسلامية اليوم و أنتم الأدرى بمشاكل الأُمّة،و هل التنكيل بحامي الرسول، و الإيقاع فيه من ما يخدم الأُمّة؟!

هل يكون أبو طالب مع كل تلكم المواقف المشرفة و مع كل تلك الإثارة الصريحة الكاشفة عن عمق إيمانه بالرسالة المحمديّة مشركاً،و أبو سفيان الذي أشعل حروباً و قام بمؤامرات مدة عشرين سنة و أبناؤه الذين كانوا أساس المشكلة و مبدأ الانحراف في المسار الإسلامي،مسلمين موحدين يستحقون كل تقدير و كل احترام منا ؟!

و هل ترى لو كان أبو طالب والداً لغير علي عليه السلام كان يرى هذا الحيف من قِبَل أبناء الإسلام؟!

هلاّ كنتم يا فضلية الأُستاذ-و أنتم على ما أنتم عليه من مستوى رفيع و مرموق في الرؤية و البصيرة-على نهج زميلكم الراحل الفقيد الشيخ الغزالي-رحمه اللّه-من الصدع بالحق،و عدم الخضوع للمرويّات الباطلة.

نحن-و قد وقفنا على قسم من مؤلفاتكم القيمة الزاخرة بالفكر المشرق-كنا و لا نزال نأمل أن تنصفوا الحقيقة و لا تقعوا فيما وقع فيه الأوّلون من غمطها و تجاهلها و الجناية عليها،و أن تكونوا المرجعَ الأمينَ لشباب هذا العصر في تصحيح التاريخ،و تنقيته من الأباطيل، و رفع الضيم و الظلم عن المظلومين.

و رحم اللّه ابن أبي الحديد القائل:

و لو لا أبو طالب و ابنه

كل ذلك لو كان النبأ الواصل إلينا عن محاضرتكم صادقاً،و أرجو أن لا يكون كذلك.

***

هذا و نرسل إليكم ما قمنا به من دراسة لإيمان أبي طالب في ضوء الكتاب و السنّة و التاريخ،و قد طبع ضمن دراستنا لحياة و تاريخ سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم.

ثمّ إنّنا انطلاقاً من ضرورة السعي لإيجاد المزيد من التفاهم و التقارب نرسل إليكم كتاب:الاعتصام بالكتاب و السنّة،و حكم الأرجل في الوضوء،و الأسماء الثلاثة،و أملنا أن تكون هذه الكتب خطوات على سبيل تحصيل التقارب بين الفقهين.

و ختاماً نقول:إنّكم في رسالتكم للمؤتمر رجحتم قول الإمام أحمد في مسألة خلق القرآن،و ما قوله إلّا«قدم القرآن»،و كيف يكون هذا القول،القول الأرجح و ليس القديم إلّا اللّه سبحانه،فيكون القرآن عندئذٍ إلهاً ثانياً،و هو يضاد أصل التوحيد ؟!

و لو أُريد من قِدم القرآن قدمُ علمه سبحانه فهذا أمر لا سترة عليه و لا نزاع فيه.

و الجدير بالإمام أحمد الذي يأخذ العقائد من الكتاب و السنّة أن لا يخوض في هذا الموضوع بحجة أنّ الكتاب و السنّة لم يذكرا شيئاً حول قدم القرآن و حدوثه

ص:391

ص:392

لو لم نقل انّه تبنّى حدوثه.

و تقبلوا في الختام أسمى تحياتنا،و أفضل تمنياتنا،وفقكم اللّه لصالح العلم و العمل و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.

جعفر السبحاني

قم-الجامعة الإسلامية

تحريراً في 1417/11/15 ه ق

ص:393

الرسالة التاسعة:جواب رسالة حول الشيعة أُصولها و عقائدها

اشارة

1

قد وجهت إليّ دعوة من الاُردن عام 1419ه لإلقاء المحاضرات في جامعاتها،و كان لها صدى واسع النطاق لا سيما في التعريف بالشيعة و أُصولها و فروعها و تاريخها.

و دارت المحاضرات حول الوحدة الإسلامية و الأُصول المشتركة بين الفريقين،و نالت اهتمام الصحف و المجلات الأُردنية،كما نالت إعجاب الحاضرين.

و لما أقفلت راجعاً إلى إيران انهالت عليَّ رسائل عديدة من الأُردن تستفسر فيها عن الشيعة و أُصولها و عقائدها.

و ممن كتب إليَّ في ذلك أُخت جامعية فاضلة تدعى ابتسام سالم زبن العطيات.

فقد كتبت رسالة مسهبة سألتني فيها عن مسائل تتعلق بالشيعة و عقائدها،و قد بعثت إليها بالرسالة التالية جواباً لاستفساراتها.

و بالإمعان فيها تعلم الأسئلة التي وجهتها إليَّ،و هي رسالتان ننشرهما تباعاً.

ص:394

بسم اللّه الرحمن الرحيم

أُختي في اللّه:ابتسام سالم زبن العطيات

اشارة

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد:

فقد وافتني رسالتكم الكريمة معربة عن أخلاقكم السامية و أعراقكم الزاكية،و وقفت على ما تنطوون عليه من حبّ للوحدة الإسلامية و رصّ الصفوف،و قد كتبتم في صدر رسالتكم أُموراً أوافقكم في جميع ما حررتموه،غير انّي أقوم برفع بعض الشبهات العالقة بأذهانكم بالنسبة إلى الشيعة.

1.انّ الشيعة ليست فرقة حادثة بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم بل ترجع جذورها إلى أماثل من المهاجرين و الأنصار الذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسالة من الاعتقاد بمبدإ التنصيص على الإمام بعد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،فبقوا على تلك العقيدة بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم فتلك الثلّة من المهاجرين و الأنصار هم روّاد التشيّع،و قد ذكرنا أسماء كثير منهم في الجزء السادس من كتابنا«بحوث في الملل و النحل»،و في طليعتهم:أبو ذر الغفاري و عمار بن ياسر و حذيفة بن اليمان،و المقداد بن الأسود الكندي،و قيس بن سعد بن عبادة،و سلمان الفارسي، و العباس عمّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم،

ص:395

و أبو أيّوب الأنصاري،و ذو الشهادتين خزيمة بن ثابت الأنصارى،و قد انتشر التشيع عن طريق هؤلاء في الحجاز أوّلاً و منها إلى سائر الأمصار عبر القرون.

إنّ اختلاف الشيعة مع السنة ليس اختلافاً فيما أوحي إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بل هو اختلاف في بعض ما روي عنه،و الشيعة على أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم نصّ على الخليفة بعده في مواقف عديدة،مثل:

أ.حديث الدار

بعد أن مضت ثلاثُ سنوات على بعثة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كلّفه اللّه تعالى بأن يبلّغ لأبناء عشيرته و قبيلته،و ذلك عند ما نزل قوله عزّ و جلّ: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» 1.

فجمع النبي صلى الله عليه و آله و سلم رءوس بني هاشم و قال:«يا بني عبد المطّلب إنّي و اللّه ما أعلمُ شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به،إنّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة،و قد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه فأيُّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيي و وزيري و خليفتي فيكم».

و لقد كرّر النبي صلى الله عليه و آله و سلم العبارة الأخيرة ثلاث مرّات،و لم يقم في كلّ مرّة إلّا الإمام علي عليه السلام،الّذي أعلن عن استعداده لمؤازرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و نصرته،و في المرّة الثالثة قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّ هذا أخي و وصيِّي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا». (1)

ص:396


1- 2) .مسند أحمد:159/1؛تاريخ الطبري:406/2؛ [1]تفسير الطبري ( [2]جامع البيان:74/19-75). [3]
ب.حديث الغدير

و من جملة التنصيص على الخليفة نصّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على عليّ عليه السلام في محتشد عظيم في منصرفه من حجّة الوداع في أرض تعرف بغدير خم،حيث قال:«أ لستم تشهدون أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّداً عبده و رسوله و انّ الساعة آتية لا ريب فيها؟».

قالوا:بلى نشهد بذلك.

قال صلى الله عليه و آله و سلم:«فإنّي فرطٌ (أي أسبقكم) على الحوض (أي الكوثر)،فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين؟».

فنادى منادٍ:و ما الثقلان يا رسول اللّه؟

قال صلى الله عليه و آله و سلم:«الثّقَلُ الأكبر كتابُ اللّه طرف بيد اللّه عزّ و جلّ و طرف بأيديكم فتمسَّكوا به لا تضلُّوا،و الآخر الأصغر عترتي،و إنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض،فلا تقدموهما فتهلكوا،و لا تقصّروا عنهم فتهلكوا».

ثمّ أخذ بيد«عليّ»فرفعها حتى رؤي بياضُ آباطهما فعرفه القوم أجمعون فقال صلى الله عليه و آله و سلم:«أيُّها الناس من أولى النّاس بالمؤمنين من أنفسهم؟».

قالوا:اللّه و رسوله أعلم.

قال صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّ اللّه مولاي،و أنا مولى المؤمنين،و أنا أولى بهم من أنفسهم،فمن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه».

ثمّ قال صلى الله عليه و آله و سلم:«اللّهمّ والِ من والاه،و عاد من عاداهُ،و أحِب من أحبَّهُ و أبغضْ من أبْغَضَهُ،و انصر مَنْ نَصَرَهُ،و اخْذُل مَنْ خَذَلَه،و أدر الحقَّ معه حيث ما دار،ألا فليُبَلِّغ الشّاهد الغائبَ».

ص:397

حديث الغدير من الأحاديث المتواترة

اشارة

إنّ حديث الغدير من الأحاديث المتواترة،و قد رواه العديد من الصحابة و التابعين و المحدثين في كلّ قرنٍ بصور متواترة.

فقد نقل حديثَ الغدير و رواه (110) من الصحابة،و(89) من التابعين،و(350) من العلماء و المحدّثين،و في ضوء هذا التواتر لا يبقى أيُّ مجالٍ للشكّ في أصالة و صحّة هذا الحديث.

كما أنّ فريقاً من العلماء ألَّفوا كتباً مستقلّة حولَ حديث«الغدير»أشملُها و أكثرُها استيعاباً لطرق و أسناد هذا الحديث كتابُ«الغدير» للعلاّمة الشيخ عبد الحسين الأميني (1320- 1390ه).

***

2.تسمية هؤلاء بالشيعة ترجع إلى نفس النبي صلى الله عليه و آله و سلم فلاحظوا تفسير الدر المنثور في سورة البيّنة في تفسير قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» ،حيث قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:هم علي و شيعته.

هؤلاء نواة التشيّع و قد نمت بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بفضل الصحابة و التابعين و تابعي التابعين إلى يومنا هذا.و لهم دول و حكومات و جامعات علميّة و مساهمات كثيرة في الحضارة الإسلامية و كتب و آثار عظيمة و مكتبات ضخمة و قد خدموا الإسلام و المسلمين في كافة الحقول.

هذه لمحة إجمالية للشيعة و لنجب الآن عن ما طلبتموه من إعطاء المعلومات حول الأُمور التالية:

1.كتبتم:«لديّ بعض المعلومات و النصوص التي قرأتها من خلال كتب الشيعة».

ص:398

كنت أود أن أ تعرف على تلك الكتب التي قرأتموها لأقف على مدى معلوماتكم الصحيحة بالنسبة إلى الشيعة الإمامية.

2.كتبتم:«أن تكون الاجابة لكم صريحة بدون اللجوء إلى مبدأ التقية».

نوضح لكم انّ مبدأ التقية عند الشيعة هو في حالة الخوف على النفس و النفيس،و هو أمر يتحقق عند الضعف،و أمّا في الحالات الطبيعية و استتباب الأمن فلا معنى للتقية،و أنا اقسم باللّه تبارك و تعالى «وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» انّه لم يكتب كتاب عبر القرون على نمط التقية بل كلّ من كتب من علمائنا الشيعة سواء أصاب أم أخطأ فإنّما كتب فيما يراه و اعتقده.

3.ذكرتم و قرأتم في إحدى الكتب:«انّ الإمام آية اللّه الخميني رحمه الله كفّر صاحبي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و هذا واضح في

كتابه كشف الأسرار،ص111 و 114 و 117 و يسميهما صنمي قريش...الخ».

إنّ التعتيم الاعلامي لم يزل سائداً على الشيعة إلى يومنا هذا،و قد نسبوا إليهم أُموراً لا حقيقة لها،و من هذه الأُمور ما نقلتموه عن أحد الكتب.

إنّ الإمام الخميني قدس سره كتب كتابه كشف الأسرار (عام 1363ه.ق1944/م) و هو كان ممن يحمل هموم المسلمين منذ شبابه حتى لقاء ربه،و قد قام بعض أصحاب الأقلام المشبوهة بترجمة كتابه (كشف الأسرار) ترجمة مزوّرة و محرفة و لم يراع الأمانة العلمية، فأدخل فيه أشياء لتشويه سمعة الثورة الإسلامية التي فجّرها الإمام الخميني و لم تزل تشع و تدعو الأُمة إلى الوحدة و رصّ الصفوف، فالترجمة التي اعتمدتم عليها،ترجمة مزوّرة و محرفة،فلأجل أن تثقوا بما ذكرت أودّ أن ترسلوا إلي تلك الصفحات حتى أرسل إليكم ما كتبه السيد في تلك المواضيع باللغة الفارسية المطبوعة،و بإمكانكم التطابق بين النسختين عن طريق من يجيد،اللغتين العربية و الفارسية في جامعة أهل البيت في الأُردن الهاشمي و غيرها كي

ص:399

تصدقوا بأنّ التعتيم الإعلامي لم يزل قائماً بين المسلمين للحيلولة دون الوقوف على عقائد هذه الطائفة الكبيرة و المظلومة.

4.قلتم:«تعتقد الشيعة الإمامية انّ حكام أهل السنة و قضاتهم طواغيت...».

تعتقد الشيعة بأنّ القضاة المنصوبين من قبل السلطة الظالمة لا يجوز التحاكم إليهم من غير فرق بين كون القاضي شيعياً أو سنياً أو غير ذلك،و المنصوب من قبل الحكومات الغاشمة كالأمويين و العباسيين،لا يصحّ التحاكم إليهم لأنّهم ليسوا بعدول.

5.ذكرتم:«تكفير الشيعة للسنّة...».

هذه النسبة غير صحيحة،و هذه كتب الشيعة في تفسير معنى الإسلام و الإيمان،و قد اتّفقوا على أنّ أركانهما عبارة عن الإيمان باللّه تبارك و تعالى و رسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و الإيمان بيوم المعاد،و على ذلك جروا في كتبهم العقائدية و الفقهية.و المسلمون-بحمد اللّه-كلّهم شيعيّهم و سنّيهم متظلّلون تحت ظلال الإسلام و الإيمان.

هذا هو الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام يروى عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم،قال:أمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا اللّه فإذا قالوا حرمت عليّ دماؤهم و أموالهم. (1)

و قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام:«الإسلام شهادة أن لا إله إلّا اللّه و التصديق برسول اللّه،به حقنت الدماء...». (2)و قد كتبنا كتاباً مستقلاً حول الإيمان و الكفر في الكتاب و السنة و بيّنا حدودهما.

ص:400


1- 1) .بحار الأنوار:242/68. [1]
2- 2) .بحار الأنوار:243/68. [2]
6.كتبتم:«حول سبّ صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على منابر المساجد...».

إنّ الصحابة تطلق على كلّ من رأى النبي صلى الله عليه و آله و سلم مرة أو مرات،أو عاشره و لو لفترة قليلة،و هم على طوائف.

منهم:من قضى نحبه في العهد المكّي مثل ياسر و سميّة.

و منهم:من استشهد بعد الهجرة في بدر و أُحد و الأحزاب و موتة،مثل:عبيدة بن الحارث في بدر،و حمزة بن عبد المطلب أسد اللّه و أسد رسوله في أُحد،و سعد بن معاذ في الأحزاب،و جعفر الطيار و عبد اللّه بن رواحة و زيد بن حارثة في مؤتة.

و منهم:من بقي بعد رحيل الرسول شاركوا في نشر الإسلام و الجهاد في سبيل اللّه.

فهل يتصور انّ أحداً يمتلك شيئاً من العقل يسبّ هؤلاء الأماثل و قد انتشر الإسلام بفضلهم و جهودهم،و فيهم روّاد التشيع الحاملون رسالة التنصيص.

إنّ مسألة سبّ الصحابة تحوير لمسألة كلامية أُخرى،و هي كون كلّ صحابي عادلاً،و الشيعة تعتقد بأنّ حكم الصحابة كحكم التابعين من غير فرق بينهما،إلّا من جهة التشرف برؤية النور النبوي و الانتهال من نمير علوم المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم،و ليس هنا أيّ دليل على أنّ صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم الذين يتجاوز عددهم مائة ألف،كلّهم عدول،مع انّا لا نعرف أسماء أكثرهم فضلاً عن أعيانهم،و المسجّل من أسمائهم لا يتجاوز عن خمسة عشر ألف صحابي،و الإمعان في القرآن يثبت نظرية الشيعة،فلاحظوا سورة الحجرات الآية 6 و غيرها.

7.كتبتم:«انّ الشيعة تعتقد بتحريف القرآن المجيد».

أقول:إنّ أعيان الشيعة الإمامية الذين يؤخذ بقولهم و رأيهم في مجال العقيدة الإسلامية قالوا بصيانة القرآن عن التحريف و على سبيل المثال:الفضل بن

ص:401

شاذان (260ه)،و الشيخ محمد الصدوق (381ه) في كتابه«عقائد الإمامية»،و الشيخ المفيد (413ه) في أجوبة المسائل السروية،و السيد المرتضى (436ه) في كتبه،و الشيخ أبو جعفر الطوسي (460ه) في كتابه التبيان في تفسير القرآن،و الشيخ أبو علي الطبرسي (548ه) في تفسيره مجمع البيان،إلى غير ذلك....

نعم وردت روايات في كتب الحديث عند الشيعة و السنة على حدّ سواء تتحدث عن طروء التحريف على القرآن الكريم.و هي أخبار آحاد ليست حجّة في مجال العقائد،و ما أشرتم إليه من كتاب للشيخ الحسين الطبرسي تنتهي رواياته إلى أشخاص ضعفاء في الرواية لا يعتمد على رواياتهم كالسيّاري و علي بن أحمد الكوفي...و قد كتبت الشيعة ردوداً على هذا الكتاب منذ طبعه إلى الآن،أخص بالذكر كتاب«صيانة القرآن الكريم من التحريف»للعلاّمة الحجّة محمد هادي معرفة-مدّ ظله-و لنا أيضاً رسالة في نقد هذا الكتاب طبعت في مقدمة طبقات الفقهاء.

إنّ وجود الرواية في كتاب الكافي للكليني ليس دليلاً على العقيدة،و إلّا فانّ روايات التحريف موجودة حتى في صحيح البخاري كحديث عمر عن الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالاً من اللّه.... (1)

قد نقل القرطبي في تفسير سورة الأحزاب عن السيدة عائشة أُمّ المؤمنين انّ سورة الأحزاب كانت أكبر من سورة البقرة،لاحظوا ذلك التفسير.

و قد ألّف أحد علماء الأزهر كتاباً باسم«الفرقان في تحريف القرآن»و قد طبع و انتشر ولدي نسخة منه.

و المحقّقون من علماء السنة و الشيعة لا يقيمون لهذه الكتب وزناً و لا قيمة.

ص:402


1- 1) .راجع:صحيح البخاري:208/8- 211،باب رجم الحبلى؛صحيح مسلم:167/4 و ج116/5،طبعة محمد علي صبيح؛مسند أحمد:23/1 و ج132/5 و182،طبعة دار [1]الفكر.

و فرض القول بالتحريف على السنة و الشيعة ليس لصلاح الأُمة،و إنّما هو لصالح الأعداء الذين يتربصون الدوائر بالإسلام و المسلمين.

اعتذر إليكم من عدم التفصيل في بعض المجالات،لأنّ بعض هذه المواضيع رهن كتاب مستقل.و أرجو أن تكون رسالتي لكم مزيلة لبعض الابهامات و الشبهات و نحن أيضاً على استعداد على أن نجيب مرّة ثانية لو كانت عندكم استفسارات.

8.ذكرتم:«انّ لكم اهتماماً بالشعر...».

إنّ الشعر الهادف أمنية كلّ مفكر إسلامي،يوقظ به الأُمّة،و يدعم الصحوة الإسلامية،و يندد بالظالمين،و يصوّر الوقائع على ما كان،لا على ما يريد،و لهذه الغاية أبعث إليكم قصيدة حول حديث الطفّ لشاعر إيراني أرجو قراءتها بالدقة و الإمعان،و توضيح لغاتها، و شقِّ مفاهيمها و قد جرى في قريضه على نهج الشعر الجاهلي.

و قياماً و عملاً بما قاله الإمام الصادق عليه السلام«أحبّ إخواني إلي من أهدى إليَّ عيوبي».انبِّه على بعض ما جاء في رسالتكم من بعض الكلمات و ليس ذلك إلّا من هفوات القلم.

ص 1،س8«ولدي اهتماماً شديداً»و الصحيح:اهتمام شديد.

ص 2،س 16«عن أبوه محمد الباقر»و الصحيح:عن أبيه.

و في الختام أتمنى لكم التوفيق و السعادة،و للمسلمين وحدة الكلمة و قد بني الإسلام على كلمتين:كلمة التوحيد،و توحيد الكلمة.

و السّلام عليكم و رحمة اللّه

جعفر السبحاني

إيران-قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:403

الرسالة العاشرة:جواب رسالة حول الشيعة أُصولها و عقائدها

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

أُختي في اللّه ابتسام سالم زبن العطيات

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

لقد وافتني رسالتك المؤرخة 15 جمادى الأُولى 1419ه،و هي تكشف عن عنايتك بالبحث عن الحقيقة،و تجردك عن التعصب،و لا شكّ انّ الموضوعية هي مفتاح كشف الحقيقة،و قد طرحتِ فيها عدة أسئلة أقوم بالإجابة عليها بنحو موجز و أُحيل التفصيل إلى الكتب التي سأُشير إليها في آخر الرسالة أو أرسلها إليك مرفقة بها.

ص:404

1.جاء في رسالتك انّ الدكتور موسى الموسوي نقل انّ الإمام الخميني أدخل اسمه في الأذان....

الجواب:انّ الدكتور المذكور قد انتقل إلى الدار الآخرة و لا أقول في حقّه شيئاً عملاً بالحديث المعروف:«اذكروا موتاكم بخير» و لكنّه-سامحه اللّه-قد افتعل و افترى و بإمكانكم الاستماع إلى أذان إذاعة الجمهورية الإسلامية ليلاً و نهاراً.

نعم الشعار الثوري للأُمّة المسلمة الإيرانية في غير الأذان و الإقامة هو«اللّه أكبر،خميني رهبر»و لا صلة لهذا الشعار بهما و إنّما يهتفون بها في ساحات الوغى و في التظاهرات الشعبية،و العجب انّ الملك خالد عاهل المملكة السعودية آنذاك طرح هذا السؤال على الإمام الخميني رحمه الله فأجاب بقوله:معاذ اللّه أن يدخل مسلم في الشريعة ما ليس منها فانّها بدعة محرمة لا يخضع لها الشعب المسلم.

2.صلاة الجمعة تقام في حضور الإمام و في غيبته،و هي صلاة عبادية سياسية مقرونة و لا يقام إلّا بإذن الإمام المعصوم أو الفقيه العادل الجامع للشرائط،و لذلك فالشيعة في عصر الغيبة تقيم صلاة الجمعة في جميع المدن و القرى،و من قال بأنّ الشيعة عطلت صلاة الجمعة فهو مفتر لا يقام لكلامه وزن و لا قيمة.

و بإمكانكِ الرجوع إلى مبحث الأذان و صلاة الجمعة من كتاب«تحرير الوسيلة»،و هو كتاب فقهي للإمام الخميني في جزءين كبيرين يوجدان في الملحق الثقافي للسفارة الإيرانية في الأُردن.

أُختي في اللّه لقد وظّف الجهاز الحاكم في عصر الأمويين و العباسيين و من والاهم إلى يومنا هذا وسائل الأعلام بغية الافتراء على الشيعة و تشويه سمعتها بما لا يسع المجال لذكر معشار ما ارتكبوه من الأعمال في حقّ الشيعة،و نعم الحكم اللّه.

ص:405

3.مسألة الإمام المهدي عليه السلام أصل اعتقادي اتّفق عليها المسلمون،و انّه يظهر في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً و عدلاً بعد ما مُلئت جوراً و ظلماً،و إنّما الاختلاف بين الشيعة و السنة في أمر آخر،و هو انّ الشيعة تعتقد بولادته عام 255ه في سامراء و عاش في أحضان والده و والدته خمس سنين و غاب عن الأبصار بعد وفاة أبيه عام 260 بأمر من اللّه سبحانه و هو حيّ يرزق في هذا العالم،و ليس هذا ببعيد عن قدرته تبارك و تعالى.

و قد أرشدنا القرآن الكريم إلى أنّ للّه سبحانه حجّتين ظاهرة و غائبة في عصر واحد،أمّا الظاهرة فكموسى عليه السلام،و أمّا الغائبة فكمصاحبه الخضر عليه السلام الذي لم يكن موسى يعرفه و إنّما تعرّف عليه بتعريف من اللّه سبحانه،و قد نهل من معين علمه على ما ورد في سورة الكهف الآية (60- 82) فقد كان مصاحب موسى وليّاً من أوليائه سبحانه متصرفاً في أُمور الناس و لم يكن الناس يعرفونه.

فالإمام المهدي عليه السلام من تلك الفئة إمام غائب عن الأبصار متصرف في أُمور الناس قائم بوظائف الإمامة و إن كان الناس لا يعرفونه و سيظهر بأمر من اللّه سبحانه،و هو مصلح كبير وعد اللّه به الأُمم و أخباره متفشية في العهدين و غيرهما،مضافاً إلى الأحاديث النبوية المتواترة التي نقلها علماء الفريقين.

4.مدينة قم مدينة مقدسة فيها مدفن كريمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر بن محمد الباقر بن الإمام زين العابدين بن الحسين بن علي ابن أبي طالب عليهم السلام و في تلك البلدة الطيّبة ضريحها و ضريح العديد من أعلام الشيعة من القرن الثاني إلى يومنا هذا من المحدّثين الكبار و الفقهاء العظام،و قامت فيها جامعة إسلامية كبيرة زهت بالعديد من طلاّب العلم و المعرفة يربو عددهم إلى ثلاثين ألف طالب.

و تُدرس في هذه الجامعة مختلف العلوم الإسلامية و فيها أيضاً جامعة أُخرى

ص:406

للبنات تدعى جامعة الزهراء عليها السلام تتقاطر إليها الطالبات من مختلف الأمصار الإسلامية.

و مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام فرع من تلك الجامعة الكبيرة الاُولى التي تختص بالدراسات الكلامية حيث تزوّد خريجيها بشهادات عليا مضافاً إلى ما تقوم به من نشر التراث الإسلامي و سدّ الفراغ بتأليف الكتب الدراسية،و التبليغية.

5.الزواج بين المذاهب الإسلامية جائز و المسلم كفء المسلم بلا فرق بين فرقة و أُخرى فما دام الجميع يتمسكون بأهداب الإسلام و يشهدون بتوحيده سبحانه و رسالة نبيّه الخاتم و يوم جزائه فالجميع على حد سواء.

6.ذكرتم شيئاً من الاحتفالات التي تُقام في الأُردن حول ضريح سيدنا جعفر بن أبي طالب عليهما السلام في مدينة الكرك الأُردنية،و لكنّها نموذج صغير بالنسبة إلى ما يقام في العراق و إيران من الاحتفالات،فهو فوق أن يذكر،و الهدف من ورائها إحياء المنهج الذي رسمه السبط الأطهر حسين العظمة،حسين الإباء و الشهادة،حسين التضحية،فهو منهج حي و مبدأ قيّم يجب الحفاظ عليه ليشبّ عليه الصغير و يهرم عليه الكبير،و ليترنّم الجميع بكلامه عليه السلام الخالد«انّ الحياة عقيدة و جهاد»فالاستسلام أمام العدو الغاشم على النقيض من منهج الحسين الثوري.

و لو كان منهج الحسين سائداً بين أوساط المسلمين لما عمّهم الذل و الهوان و لما اغتُصِبت أراضيهم من قِبَل شُذّاذ الآفاق.

و قد بعثنا إليكم مع الرسالة السابقة قصيدة حول ثورة الحسين عليه السلام و طلبنا منك تفسيرها و تشقيق معانيها و التي كانت مطلعها. أناخت على قلبي الكآبة و الكرب عشية زمّ العيسَ للظَّعنِ الركبُ

ص:407

إلى أن قال: رزيّة قوم يمموا أرض كربلا فعاد عبيراً منهم ذلك التُّربُ

7.غسل الرجلين أو مسحهما في الوضوء مسألة فقهية اختلفت فيها آراء السنة و الشيعة،فأغلب السنّة على الغسل و الشيعة على المسح و كتاب اللّه معهم و المستفاد من ظاهره انّ الوضوء«غسلتان»و«مسحتان»كما قاله ابن عباس،و صبّه بحر العلوم في قالبٍ شعري في منظومته المسماة بالدرة النجفية حيث قال: انّ الوضوء غسلتان عندنا و مسحتان و الكتاب معنا

قال سبحانه:

«فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ» 1.

و قال:

«وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» 2.

فالشيعة تقول بانّ لفظ الأرجل معطوف على الرءوس سواء قُرئ بالجر فيكون معطوفاً على اللفظ،أو بالنصب فيكون معطوفاً على المحل،لأنّ الرءوس مفعول و محلّه النصب،فكلتا القراءتين مطابقتان للقواعد العربية،و على ذلك فيجب المسح على كلتا القراءتين.

و أمّا السنة القائلون بالغسل فقد وقعوا في ورطة عجيبة في تفسير القراءتين حتى اعترف قسم كبير منهم بأنّ ظاهر الآية هو المسح و ذلك:

بما انّهم يقولون بغسل الأرجل فقد مالوا يميناً و شمالاً في تفسير قراءتي الجرّ و النصب فقالوا:

على قراءة الجرّ-فهو مجرور بالجوار-مكان القول بأنّه معطوف على لفظ

ص:408

الرءوس-نظير قول الشاعر:«جحر ضبّ خرب»فلفظ«خرب»خبر يجب أن يرفع لكنّه صار مجروراً لوقوعه في جوار«ضب» المجرور،و على قراءة النصب فهو منصوب لانّه معطوف على«أيديكم»في الجملة المتقدّمة.

و التأمل في التفسير يثبت بطلان النظرين.

أمّا الجرّ:فالتفسير الصحيح انّه معطوف على الرءوس،لا الجرّ بالجوار و ذلك انّ الجر بالجوار أمر شاذ في لغة العرب و ربما تدعوا الضرورة إلى هذا النوع من الجرّ،و لا يصحّ لنا تفسير كلام اللّه على ضوء تلك القاعدة الشاذة،مضافاً إلى انّ الجرّ بالجوار إنّما يصحّ إذا لم يكن هناك التباس كما في البيت إذ من المعلوم انّ الخرب وصف لجحر لا لضبّ.بخلاف الآية فانّ الجر بالجوار يوجب الالتباس إذ القارئ يتصور انّه معطوف واقعاً على الرءوس فتكون النتيجة هو المسح عليها مع أنّ الفرض أنّها معطوفة على الأيدي.

و أمّا قراءة النصب فالإشكال أوضح،فأهل السنة تذهب إلى أنّها معطوفة على الأيدي الواردة من الجملة المتقدمة مكان العطف على الرءوس التي هي بجنب«أرجلكم»و هذا شيء لا يرضى به الخبير بأساليب اللغة العربية فمثلاً إذا قال:

أكرمت زيداً و عمراً.

ثمّ قال:

ضربت بكراً و خالداً.

فهل يخطر ببال أحد انّ«خالداً»عطف على«عمراً»بل الجميع يقولون إنّه عطف على«بكراً».

و في الآية فعلان:أحدهما: «فَاغْسِلُوا» و له مفعولان:الوجوه و الأيدي.

ص:409

و الثاني: «فَامْسَحُوا» و قد جاء بعده أمران:الرءوس و الأرجل.

أ فيصح أن نقول بأنّ الأرجل ليست معطوفة على الرءوس بل معطوفة على الأيدي مع أنّه وقع بين المعطوف و المعطوف عليه جملة معترضة يغاير فعلها «فَامْسَحُوا» مع فعل الجملة الأُولى «فَاغْسِلُوا» .

و العجب انّكِ طرقتِ كلّ باب إلّا باب القرآن فما رجعتِ إليه حتى تأخذ حكم اللّه من الآية المباركة.

و أمّا حديث عبد اللّه بن عمر فهو على خلاف الغَسْل أدل إذ جاء فيه قول ابن عمر«نتوضأ و نمسح على أرجلنا»أ فيمكن أن يتوضأ ابن عمر و يمسح رجليه-و هو في أحضان النبي صلى الله عليه و آله و سلم و بمرأى و مسمع منه صلى الله عليه و آله و سلم-من جانب نفسه،و هذا يدل على انّ عمل الصحابة كان على المسح.

و أمّا الجملة الأخيرة«ويل للأعقاب من النار»فليس فيها دلالة على وجوب الغسل عند الوضوء،بل الويل،لأجل انّ الأعراب كانوا عراة حفاة بوالين على أعقابهم من دون مبالاة بإصابة البول لها،فكانوا يمسحون على الأرجل النجسة،فناداهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله:«ويل للأعقاب من النار».إذ كان عليهم أن يغسلوا أعقابهم أوّلاً ثمّ يمسحوا عليها.

و لعمر الحق لو كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم بصدد بيان الحكم الشرعي و هو انّ الواجب في الأرجل هو الغسل لا المسح كان عليه أن يعبّر عن تلك الحقيقة بعبارة واضحة و ينادي بقوله:أيّها المسلمون اغسلوا أرجلكم و لا تمسحوا بها،من دون أن يتفوّه بكلمة لا يفهم منها الغسل إلّا بتفسير النووي و غيره.

كلّ ذلك يدل على أنّ الحديث على فرض صحته يعني أمراً آخر كما ذكرنا،و على تقدير دلالته على الغسل فما قيمة حديث يعارض الذكر الحكيم و لا يصحّ

ص:410

نسخ الكتاب بخبر الواحد لا سيما انّ الآية في سورة المائدة و هي آخر سورة نزلت في المدينة.

8.مسألة الخلافة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مسألة عصيبة إذ ما سُلّ سيف بين المسلمين مثلما سُلّ في أمر الإمامة،فلنترك هذا البحث إلى ذمّة التاريخ و الحديث و علم الكلام.

و يكفيك في ذلك مراجعة كتاب«العقيدة الإسلامية»ففيه من الدلائل المشرقة على انّ الخلافة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منصب تنصيبي لا اختياري و لا انتخابي،و قد قام النبي صلى الله عليه و آله و سلم بنصب خليفته تارة في بدء الدعوة،و أُخرى في غزوة خيبر حيث شبه عليّاً بهارون و أثبت له جميع المناصب إلّا النبوة،و ثالثة عند منصرفه عن حجّة الوداع حيث قام في غدير خم بتنصيب علي عليه السلام للخلافة و القيادة بأمر من اللّه سبحانه الواردة في الآية التالية:

«يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ» 1 و قد نقل غير واحد من أعلام السنة نزولها في غدير خمّ.

أنشدك باللّه ما هذا الموضوع الذي كان عدم تبليغه بمنزلة عدم تبليغ الرسالة بأجمعها؟! و هل يصح تفسير الآية بابلاغ الأحكام الشرعية؟ كلاّ،لا،بل لا بدّ من تفسيرها بأمر خطير يعد دعامة للإسلام،و رمزاً لبقائه و ليس هو إلّا تعيين الخليفة و الوصيّ من بعده و ان أثار حفيظة الآخرين و قد قال سبحانه: «وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ» .

و بما انّ الموضوع ذو شجون أكتفي بهذا المقدار و ألفت نظرك إلى موضوع التقريب و نقول:

ص:411

لقد قرأت مقالك في صحيفة الدستور و أعجبني اهتمامك بمسألة التقريب التي هي أهمّ الأُمور في هذه الأعصار.

كيف و المسلمون يد واحدة و ما يجمعهم أكثر مما يفرّقهم،و نحن كما يقول شاعر الأهرام: انا لتجمعنا العقيدة أُمّة

كما و كتبت في رسالتك الاُولى بأنّ الإمام الخميني سمّى الخليفتين بصنمي قريش في كتابه كشف الأسرار،ص 111،114،117 و لم أجد في الصفحات المستنسخة التي أرسلتِها إليّ شيئاً من تلك الكلمات.

نعم جاء في التعليقة للمترجم،ص 126«انّ الخميني و شيعته ينعتان الخليفتين بصنمي قريش»و التعليقة لا يحتج بها لا سيما و انّ كاتبها قد ملأ كتابه بالسب و الشتم على المجاهد الذي أفنى عمره في الذبّ عن حياض الإسلام،و مكافحة الاستعمار و الصهيونية و تأسيس دولة إسلامية متكاملة الجوانب.

و انّي بما أنا شيعي و قد ناهزت من العمر 73 عاماً و ألّفت ما يفوق المائة كتاب لم أجد تلك الكلمة في كتاب و إنّما سمعته من شيخ سعودي كان ينسبه إلى الشيعة.

و أمّا الأمر الثاني الذي طلبتِ منّا و هو مصدر قول الخليفة-حينما طلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم القلم و الدواة-قال الخليفة:لقد هجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و قد ذكرت في ظهر الصفحة المستنسخة ما رواه البخاري في باب مرض النبي صلى الله عليه و آله و سلم و فيها قوله،فقال بعضهم:انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد غلبه الوجع و عندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه. (1).

ص:412


1- 1) .البخاري:138/5. [1]

ثمّ كتبت:لا نرى إشارة إلى انّ سيدنا عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) قال ما ورد في كتاب كشف الأسرار.

أقول:انّ البخاري نقل الحديث في غير موضع من كتابه و إليك الصور الأُخرى.

2.روى البخاري في الجزء الأوّل،باب كتابة العلم من كتاب العلم،ص30،مطبعة عبد الحميد أحمد حنفي،مصر،الحديث التالي:

عن ابن عباس،قال:لما اشتدّ بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وجَعُه،قال:ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده،قال عمر:انّ النبي غلبه الوجع و عندنا كتاب اللّه حسبنا،فاختلفوا و كثر اللغط.

قال صلى الله عليه و آله و سلم:قوموا عني.

تجد انّ الحديث ينص على انّ القائل بانّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم غلبه الوجع هو عمر بن الخطاب.

و بذلك يعلم انّ المراد من البعض فيما رواه البخاري في باب مرض النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو نفس عمر بن الخطاب غير انّه صرح باسم القائل في باب كتابة العلم و كنى عنه ب«البعض»في باب مرض النبي صلى الله عليه و آله و سلم كما نقلت.

3.روى البخاري في الجزء الرابع،باب جوائز الوفد من كتاب باب فضل الجهاد و السير،ص 69 و70،الحديث بالنحو التالي.

عن ابن عباس انّه قال:اشتدّ برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجعه يوم الخميس فقال:ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.

فتنازعوا،و لا ينبغي عند نبي صلى الله عليه و آله و سلم تنازع،فقالوا:هجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

و على ذلك فالبخاري نقل الحديث بهذه الصور الثلاثة التي يفسر بعضها بعضاً.

ففي باب كتابة العلم قال عمر:انّ النبي غلبه الوجع

ص:413

و في باب مرض النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال بعضهم:انّ رسول اللّه قد غلبه الوجع.

و في باب جوائز الوفد،فقالوا:هجر رسول اللّه.

فقد صرح البخاري باسم القائل في الأوّل دون الثاني و الثالث،و منه يعلم انّ القائل واحد.

و الظاهر انّ اللفظ الصادر هو:«هجر رسول اللّه»و لكن البخاري غيّره إلى قوله:«قد غلبه الوجع»تهذيباً للعبارة و تقليلاً للاستهجان.

و لأجل ذلك لما رواه أبو بكر الجوهري في كتاب السقيفة أشار إلى تلك النكتة في نقله،و قال:لما حضرت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الوفاة و في البيت رجال فيهم عمر ابن الخطاب،قال رسول اللّه:ائتوني بدواة و صحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده،قال:فقال عمر كلمة معناها«انّ الوجع قد غلب على رسول اللّه ثمّ قال:عندنا القرآن حسبنا كتاب اللّه».

هذا ما في البخاري.

و أمّا مسلم فقد رواه في صحيحه بصور ثلاث:

الصورة الأُولى:...اشتد برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وجعه فقال:ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي فتنازعوا و ما ينبغي عند نبي التنازع.

و قالوا:ما شأنه؟ أهجر؟ استفهموه؟،قال:دعوني.

الصورة الثانية:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:ائتوني بالكتف و الدواة أو اللوح و الدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً.

فقالوا:انّ رسول اللّه يهجر.

الصورة الثالثة:فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلون بعده.

فقال عمر:إنّ رسول اللّه قد غلب عليه الوجع و عندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه.

(صحيح مسلم،الجزء الرابع،كتاب الوصية،باب ترك الوصية لمن ليس له

ص:414

شيء يوصي فيه،ص 75- 76،طبعة مصر،مطبعة محمد علي صبيح و أولاده).

فبمقارنة هذه الأحاديث بعضها ببعض يعلم انّ القائل في الحديث الأوّل (ما شأنه أهجر،استفهموه) و الحديث الثاني (انّ رسول اللّه يهجر) هو القائل في الحديث الثالث الذي صرح مسلم باسمه(انّ رسول اللّه قد غلب عليه الوجع،و عندكم القرآن).

و يعلم أيضاً انّه عند ما كان التعبير مستهجناً كنوا بالقائل،و عند ما كان خفيف الوطأة صرحوا باسمه،و إن كان التعبير الثاني (قد غلبه الوجع) نفس التعبير بانّه (هجر) نظير قول القائل:(أنت أو ابن أُخت خالتك).

ثمّ إنّ هنا سؤالاً يطرح نفسه و هو،لما ذا حال الصحابة العدول بين النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أُمنيّته،و لما ذا منعوه من كتابة،كتابه،و ما هو السر وراء ذلك؟!

و الجواب يفهمه كلّ من له إلمام بالحوادث الواقعة قبل وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و بعده. فدع عنك نهباً صيح في حجراته و لكن حديثاً ما حديث الرواحل

ثمّ هل يصحّ لمسلم واع أن يقول:حسبنا كتاب اللّه،و هل كتاب اللّه الأعظم واف بتفاصيل التشريع؟!

هذا قليل من كثير قدمته إليكِ نزولاً عن رغبتكِ،و إن كان إثارة هذه المسائل توجب الخدشة في العواطف و تشتت الصفوف، و لكن إصرارك الأكيد دفعني إلى كتابة هذه السطور.

رزقنا اللّه توحيد الكلمة كما رزقنا كلمة التوحيد

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:415

ص:416

مقالات في التقريب

ص:417

ص:418

المقالات

المقالة الأولى:التقريب ضرورة دينية و خطوة مباركة

اشارة

(1)

التقريب بين الطوائف الإسلامية من الأماني العزيزة،التي يتمنّاها كلّ مسلم واع بصير،خصوصاً في الأوضاع الراهنة،و الأجواء السائدة على المسلمين،و الظروف المحيطة بهم في شتى النواحي و الأقطار،و لا يشك في ضرورته إلّا اثنان:جاهل مغفّل،و جاحد معاند ماكر.إذ لا يمرّ على المسلمين يوم إلّا و فيه مجازر رهيبة،و حروب دامية طاحنة،فرضتها عليهم القوى الكافرة،التي تخاف من سيادة الإسلام في ربوع العالم،و انتشاره فيها،فعادتْ تؤجّج نار الحرب بين آونة و أُخرى،فتضرب المسلم بالمسلم تارة،و بالكافر أُخرى فَتحقّق امنيتها الكبرى.

و ليس ببعيد عنّا المجازر التي يرتكبها اليوم،الكفار«الأرمن»ضد المسلمين الآذريين في القفقاس،و التي أبرزت ما تكنّه صدورهم من العداء و البغض لهم طوال القرون،فمن أجل السيطرة و التسلّط يقتل الأرمنُ الرجالَ و النساءَ و الأطفالَ،و يمثلون بهم،و يجهزون على الجريح،و ليس هناك دولة تحمي المسلمين،و لا مغيث

ص:419


1- 1) .اُلقيت في المؤتمر الدولي الرابع للتقريب بين المذاهب الإسلامية المنعقد في مكة المكرمة رابع شهر ذي الحجة الحرام،عام 1412 ه.

يغيثهم،و لا قوة تدفع عنهم كارثة الحرب،و تجزي المسيء بالجزاء الذي يستحقّه،و غاية ما نسمعه من وسائل الأعلام هو الاستنكار و المفاوضات و المذاكرات (إلى غير ذلك من الأساليب الدبلوماسية غير الناجعة) التي لا تفيد شيئاً سوى إعطاء الفرص للعدو و زيادة جرأته.

و أعطف النظر على المجازر التي ترتكبها القوى الكافرة في«يوغسلافيا»ضد المسلمين في«البوسنة»و«الهرسك»فقد أجّجت ناراً ضد المواطنين بحجّة انّهم مسلمون،و راحت تقتلهم و تبعدهم عن أوطانهم،و تَذبحهم في عقر دارهم،و تدمّر مدنهم،إلى غير ذلك من الأعمال الإجرامية التي كانت ترتكبها القوى الشريرة في القرون الوسطى،و ليس هناك من يداوى جروحهم،و لا من يسعفهم بشيء سوى الاستنكارات و الخطب الرنّانة في وسائل الإعلام و فوق المنابر.

ناهيك عن المجازر الدامية في فلسطين المحتلة التي يرتكبها الصهاينة،لأنّها بمرأى و مسمع من عامة المسلمين.

إنّ هذه الحوادث و الوقائع الأليمة و عشرات من أمثالها،تدفع المسلمَ الحرّ الذي يجري في عروقه دمُ الغيرة و الحمية،إلى التفكير في داء مجتمعه و دوائه،و في إعادة مجده التالد،و كيانه السابق،فلا يجدْ دواءً ناجعاً سوى التمسك بالإسلام في مجالي العقيدة و الشريعة و من أبرز أُصوله ما دعا إليه الذكر الحكيم في قوله سبحانه: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» 1 و قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» 2 إلى غير ذلك من الآيات إلى تَحُثّ على الوحدة و الوئام،و الابتعاد عن التمزّق و التفرّق،و قد أكد الرسولُ الكريم ما دعا إليه القرآن بقوله:

ص:420

«مثل المؤمنين في و توادّهم و تعاطفهم و تراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء،تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى». (1)

و قال الإمام علي عليه السلام:

«و ألزموا السواد الأعظم،فانّ يد اللّه مع الجماعة و إيّاكم و الفرقة،فانّ الشاذّ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب،ألا مَنْ دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه و لو كان تحت عمامتي هذه». (2)

و في ضوء الوضع الراهن نخاطب المسلمين و في مقدمتهم الرؤساء و المشايخ وقادة الفكر و أرباب القلم بقولنا:قاربوا الخطى أيّها المسلمون،و قلِّلوا الخلافَ،و أكثروا الوئام،و تمسّكوا بالأُصول المشتركة المتوفرة في مجالي العقيدة و الشريعة،ابتعدوا عن التنافر و التناكر،حتى تكونوا صفاً واحداً في وجه الأعداء لا يزعزعكم مكرُ الشياطين و حيلة أعدائهم في المناطق كلّها.

و يطيب لي في المقام أن أُركز على أُمور،ربما يكون لها أثر بارز في حصول التقريب و هي:

1.ما هو المراد من التقريب؟

ليس المراد من التقريب بين المذاهب و الطوائف الإسلامية،هو ذوب طائفة في أُخرى،أو جعل جميع المذاهب مذهباً واحداً حتى لا يبقى من المذاهب المختلفة عين و لا أثر و يُصبح المسلمون على مذهب واحد،فانّ ذلك أمر عسير جداً إن لم يكن محالاً عادة، و لا يتفوّه به ذو مسكة،و لا يدعو إليه أحد من القادة،أعني:الذين يحملون لواءَ التقريب،فإنّ معنى ذلك أن يصير الأشعري معتزليّاً أو

ص:421


1- 1) .مسند أحمد:270/4. [1]
2- 2) .نهج البلاغة:261،طبعة عبده. [2]

بالعكس و يصبح السني شيعيّاً أو بالعكس،و مثله المذاهب الفقهية المتوفرة السائدة في العالم الإسلامي.

و إنّما المراد هو التقريب بين القادة للمذاهب و بالتالي بين القادة و أتباعهم،و ذلك من خلال رسم الخطوط العريضة المشتركة التي تجمع المذاهب الإسلامية في مجالي العقيدة و الشريعة،و انّه لو كان هناك خلاف فيهما فهو بالنسبة إلى الأُمور المتفق عليها قليل جداً.

فاللّه سبحانه ربّنا،و القرآن كتابنا،و محمد نبيّنا،و الكعبة قبلتنا،و سنّة الرسول قدوتنا،و أئمّة أهل البيت خيارنا،إلى غير ذلك من الخطوط التي لا يحيد عنها أيّ مسلم قيدَ شعرة،و مَن أنكر أحدها خرج عن ربقة الإسلام و هذا هو الذي يوحّد المسلمين و يجمعهم تحت راية واحدة،و يجعل شعار الجميع قول الشاعر المخلص (محمد حسن عبد الغني المصري) الداعي إلى تقريب الخطى:الذي يقول: انا لتجمعنا العقيدة أُمة

فإذا كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقبل إسلامَ من نطق بالشهادتين،و أقام الصلاة،و آتى الزكاة،و صامَ شهر رمضان و حجّ البيت (1)و يتلقّاه أخاً لعامة المسلمين،و يجعلهم صفاً واحداً في مقابل المشركين و الطغاة من اليهود و النصارى،فلما ذا لا نقبل إيمانَ من آمن بأزيد ممّا جاء في تلك الرواية؟ و لو كان هناك اختلافات فإنّما هي اختلافات كلامية أوجدها الجدلُ و صقلها البحث طوال القرون،مثلاً الاختلاف في كون التكلم و الإرادة من صفات الذات أو من صفات الفعل و إن كان اختلافاً حقيقياً و جدّياً لكنّه اختلاف كلاميّ لا يتوقف عليه الإسلام و الإيمان

ص:422


1- 1) .لاحظ جامع الأُصول لابن الأثير:158/1- 159 فقد جمع ما رواه البخاري و مسلم في ذلك المجال.

و مثله سائر البحوث الكلامية التي أوجدت الانشقاق بين علماء المسلمين من حدوث كلامه و قدمه،و خلود مرتكب الكبيرة و عدمه.

و مثل ذلك الاختلاف في الفروع الفقهية من الطهارة إلى الديات،فانّها اختلافات أوجدها البحث و الاجتهاد من خلال الاستنباط من الكتاب و السنّة،و الغاية هي الوصول إلى واقع الكتاب و السنّة و إن كان المصيب واحداً و المخطئ متعدداً.

فاللازم على المسلمين في هذه اللحظات الحاسمة،التمسكُ بالعروة الوثقى و بحبل اللّه المتين و الانظواء تحت المشتركات و إرجاع الاختلافات إلى المدارس و المحافل العلمية التي يكثر فيها البحث و الجدال،و في النهاية يخرجون منها إخوة متحابّين.

هذا هو الذي يدعو إليه دعاة التقريب،و هو عدم إفناء مذهب في مذهب،بل إلفات أنظار القادة إلى المشتركات المتوفرة بين المذاهب،و ترك الاختلافات إلى المدارس و مراكز البحث التي لا يضر الخلاف فيها بالوحدة و جمع الشمل.

2.التعرّف الصحيح على المذاهب

إنّ من عوامل التقريب هو التعرف الصحيح على المذاهب الإسلامية عقيدة و شريعة حيث إنّ التعرف الموضوعي على عقائد كلّ طائفة من الطوائف،يُصيِّر البعيد قريباً،و العدوَّ صديقاً،و يزيل الافتراءات و الدعايات الباطلة التي الْصقت بطائفة و أُخرى،فعندئذٍ يُصبح المخالف موافقاً و يحلّ الوئام محل الشقاق.

و مثل هذا،مثل من يرى شبحاً بعيداً فيظن أنّه حيوان ضار،لو اقترب إليه لفتك به،كلّما اقترب منه ظهر له بصورة أفضل حتى تبين انّه انسان،فمواطن،فأخ حميم.

ص:423

و كلما ازداد التعرّف على المذاهب في مجالي العقيدة و الشريعة ازداد التعارف و اضمحل التنافر و اشتد الصفاء بينهم.

و لأجل ذلك يجب على دعاة التقريب عقد المؤتمرات المتوالية للتعرف على ما تملكه الطوائف من ثقافة فكرية و عقيدة راسخة و ثروة فقهية و أدبية فانّ التقريب رهن ذلك التعرف.

فإذا كان البحث على ضوء الكتاب و السنة و تحلّى الباحثون بالإخلاص و الوفاء للدين و كان الجو السائد على المؤتمرات هو الوقوف على الحقيقة،فعند ذلك تقف كلّ طائفة على ما لدى الأُخرى من أفكار و آراء،و إلّا فالتقريب يُصبح شيئاً صوريّاً و لا تُحقق الفائدة المرجوّة منه.

3.الرجوع إلى أحاديث أئمّة أهل البيت

الرجوع إلى أئمّة أهل البيت في مجالي العقيدة و الشريعة يؤدي إلى جمع شمل المسلمين و تقليل الخلاف،و هذا ليس بمعنى ترك ما رواه أهل السنة من الصحابة و التابعين عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم بل بمعنى عدم إقصاء أئمّة أهل البيت عن ساحة العقيدة و الشريعة، و الأخذ بأحاديثهم كالأخذ بمرويات الصحابة،فإنّ كلّ ما يرويه أئمّة أهل البيت فإنّما يسندونه إلى جدهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم و بالتالي تصل أقوالهم إليه بسند عالٍ و المسلمون و إن اختلفوا في مسألة الخلافة و القيادة إلى طائفتين معروفتين،و لكنّهم لم يختلفوا في أنّ أئمّة أهل البيت هم ممن يُرجع إليهم في أخذ العلم و الفتوى،لحديث الثقلين الذي لا يشك في صحّته و تواتره كلّ من له أدنى إلمام بالحديث و الدراية.

فقد قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:إنّي تارك فيكم الثقلين كتابَ اللّه و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا من بعدي». (1)

ص:424


1- 1) .حديث متواتر له مصادر متوفرة.

إنّ القرآن الكريم يُلْفتُ أنظار المسلمين إلى أئمة أهل البيت بأساليب مختلفة فتارة يقول: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ» 1 .

فقد سأل أبو بكر النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن هذه البيوت،و أنّ بيت علي و فاطمة هل هو من تلك البيوت؟ فقال النبي:نعم،هو من أفاضلها (1).

و أُخرى يعرفهم مطهرين عن الرجس،قال سبحانه: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» 3.

و ثالثة:يجعل ودّهم أجراً للرسالة،قال سبحانه: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» 4.

و رابعة:يأمر النبي الأعظم المسلمين أن يصلوا على آل محمّد في صلواتهم في فرائضهم و نوافلهم،كلّ ذلك يعرب عن أنّ لآل محمّد مكانة خاصة في الشريعة الإسلامية ليس لغيرهم،و إلّا لم يكن لهذا الاهتمام مبرّر و لا مسوغ،و لم تكن الغاية من هذه الهتافات هو الحب المجرّد عن كلّ شيء،و إنّما الحبّ الحقيقي هو الاتباع في الحياة الدنيوية،فإذا كانت الواقعية تتجلّى في الاتباع فهو فرع كون أئمّة أهل البيت علماء بمواقف الشريعة و أُصولها و فروعها.

و على هذا فلو صار المسلمون متمسكين بهذا الحبل الممدود من السماء إلى الأرض لقلَّ الخلاف و حصل الوئام،وسد الفراغ.هذا،مع أنّ المسلمين بجميع طوائفهم-إلّا النواصب-يحملون حب النبي و الآل،و يضحّون في سبيلهم بكلّ غال و نفيس،حتى أنّ الإمام الشافعي-رضي اللّه عنه-يفتخر بحبّهم و يرد عن نفسه عادية المعترضين،و يقول:

ص:425


1- 2) .الدر المنثور:203/6. [1]

إن كان رفضاً حبّ آل محمّد فليشهد الثقلان انّي رافضيّ (1)

فإذا كانت الظروف حملت قادة الفقه إلى رفض حصر المذاهب في أربعة،و عاد المحقّقون يفكّرون بالاجتهاد الحرّ،سواء أوافق مذهباً من المذاهب السالفة أم خالف،كان من المتحتم الرجوع إلى أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام و فتحِ باب الاجتهاد المطلَق في ضوء الكتاب و السنة بمصراعيه على وجه الأُمّة،فالإعراض عن أحاديثهم يزعزع أركانَ الاجتهاد المطلق،و يتسم الاجتهاد عندئذٍ بالاجتهاد النسبي.

إنّ الاجتهاد المطلق لا يتمّ إلّا بالرجوع إلى كلّ ما ورد عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و لا تحتوى الصحاح و المسانيد على كلّ ما ورد عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و حدّث عنه،بل هناك أحاديث تحمّلها أهلُ بيته عليهم السلام عن جدهم في مختلف المجالات،و من الظلم على العلم و أهله الاعراض عنهم،و إسدال الستار على تلك الثروة الهائلة.

و لعلّ من يسمع هذه الكلمة من إخواننا أهل السنة يقترح علينا أيضاً الرجوع إلى أحاديث الصحابة و التابعين المجتمعة في الصحاح و المسانيد،و انّ الاجتهاد المطلق لا يتم إلّا بالرجوع إليها مثل الرجوع إلى أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

غير انّي ألفت نظر المقترح إلى أنّه أمر محقّق في فقه الشيعة،فالآثار النبوية الواردة عن الطرق الموثوقة يعمل بها علماء الشيعة من غير فرق بين ما يرويه الشيعي عن أئمّة أهل البيت أو السني عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

أضف إليه انّ هناك مجموعة كبيرة من الأحاديث النبوية رواها علماء الشيعة عن الصادع بالحق عن طرق الصحابة من دون أن يتوسط فيها أئمّة أهل البيت،فليس الأمر دائراً بين الرجوع إلى أئمّة أهل البيت أو الصحابة،فإنّ الكل طرق

ص:426


1- 1) .ابن الصباغ المالكي:الفصول المهمة:22،ط النجف [1]

و وسائل إلى الوصول إلى الحقّ و ما جاء به نبي الإسلام في حقّ المكلّفين في العقيدة و الشريعة،فالواجب هو العمل بالسنة الصحيحة من أيّ طريق وصلت إلينا.

إنّ الاختلاف بين الشيعة و السنّة ليس في مسألة الرجوع إلى الصحابة فيما يروونه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم،فانّه قضية متفقة بين الفريقين كالرجوع إلى أئمّة أهل البيت،بل الاختلاف بينهم في أمر آخر،و هو تعديل الصحابة كلّهم،و الحكم بعدالة كلّ من رأى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و لو مرّة أو مرّتين أو يوماً أو يومين،و هذا ما يتبنّاه أهل السنّة حيث يحكمون بعدالة كلّ صحابي،بينما لا تعتقد الشيعة عمومية القضية،و انّ مجرد الرؤية لا تعطي لكلّ راء وصف الوثاقة و العدالة،و هاتان النظريتان لا تمنعان من الرجوع إلى الأحاديث الصحيحة المروية عن النبي عن طرق الصحابة و التابعين إذا كانوا ثقات.

و هناك كلمة قيمة للإمام الطاهر علي بن الحسين عليهما السلام تعرب عن موقف الشيعة بالنسبة إلى الصحابة نذكرها بنصها،و فيها كفاية.

«اللّهم و أصحاب محمد صلى الله عليه و آله و سلم خاصة الذين أحسنوا الصحبة،و الذين أبلوا البلاء الحسن في نصره،و كانفوه و أسرعوا إلى وفادته، و سابقوا إلى دعوته،و استجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته و فارقوا الأزواج و الأولاد في إظهار كلمته،و قاتلوا الآباء و الأبناء في تثبيت نبوته،و انتصروا به،و من كانوا منطوين على محبته،يرجون تجارة لن تبور في مودته و الذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته،و انتفت منهم القرابات،إذ سكنوا في ظل قرابته،فلا تنس لهم اللّهم ما تركوا لك و فيك،و أرضهم من رضوانك و بما حاشوا الخلق عليك،و كانوا مع رسولك،دعاة لك إليك و اشكرهم على هجرهم فيك،ديار قومهم و خروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه،و من كثرت في اعزاز دينك من مظلومهم،اللّهمّ و أوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا و لإخواننا...». (1)

ص:427


1- 1) .الصحيفة السجادية،الدعاء الرابع مع شرحه: [1]في ظلال الصحيفة السجادية،ص 55-56. [2]

و إذا كان هذا موقف الإمام بالنسبة إلى الصحابة،فكيف يمكن اتهام الشيعة بأنّهم لا يقيمون للصحابة وزناً و لا قيمة؟ و لا يعملون بأحاديثهم.

فقد حان موعد اللقاء بين اعلام السنة و الشيعة و الاجتماع لدراسة الأوضاع المؤسفة السائدة على المسلمين في أقطار العالم.

و في ختام المقال نرجع إلى ما بدأنا به و هو ضرورة توحيد الكلمة و رص الصفوف و نقول:إنّ أحمد أمين المصري-الكاتب الشهير-قد أقام الدنيا في كتبه:فجر الإسلام و ضحاه و ظهره على الشيعة الإمامية،و أحلّ الخيال محلّ الواقع،و أجّج نار الخلاف بين الطائفتين بما أُوتي من قوة و قدرة،و لكنّه ندم في أُخريات حياته،فقال في آخر كتاب ألفه و أسماه«يوم الإسلام»:

هل للمسلمين أن يشتد وعيهم الديني،و يفهموا بعد طول هذه التجارب انّه لم يعد هناك وجه للخلاف بين سني و شيعي و زيدي، و غير ذلك من المذاهب،لأنّهم لو رجعوا إلى أصل دينهم ما وجدوا لهذا الخلاف محلاً،و لوجدوا انّه خلاف مصطنع لا خلاف أصيل، و انّ الأُمم الإسلامية في موقفها الحاضر أحوج ما تكون إلى لَمّ شعثها،و إصلاح ذات بينها،و توحيد كلمتها،و هي ترى كيف تهاجم من كلّ جانب،و كيف يتخذ إسلامها وسيلة من وسائل الكيد لها،و إذا اتحد أهل الباطل على باطلهم فأولى أن يتحد أهل الحقّ على حقّهم. (1)

و فيما ذكره«عبرة لأُولى الأَلباب».

أسأل اللّه سبحانه أن يلم شعثنا،و يجمع شملنا و يرفع كلمة التوحيد في العالم في ظل توحيد الكلمة انّه على ذلك قدير.

جعفر السبحاني-مكة المكرمة

سادس ذي الحجة الحرام1412ه

ص:428


1- 1) .أحمد أمين:يوم الإسلام:187،طبعة 1958 م.

المقالة الثانية:الوحدة الإسلامية في الكتاب و السنّة

اشارة

(1)

إنّ التشريع الإسلامي ينظر إلى المسلمين على أنّهم أُمّة واحدة يجب أن يسود فيهم الوئام و التآلف بدل الفرقة و الاختلاف،و يؤكِّد على وحدة المسلمين و نبذ كلّ ما يهدم هذه الوحدة من النميمة و الغيبة و التهمة و غير ذلك،و هذا أمر ملموس لمن راجع الكتاب العزيز و السنة النبوية،و إليك بعض ما ورد في ذلك المجال:

أ. «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» 2.

ب. «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» 3.

ج. «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» 4.

د. «وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» 5.

ه. «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» 6.

و. «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» 7.

ص:429


1- 1) .المؤتمر الدولي الخامس للوحدة الإسلامية.

ز. «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» 1 و في سورة المؤمنين الآية 22:«فاتقون»مكان «فَاعْبُدُونِ» .

إلى غير ذلك من الآيات الحاثّة على التمسك بحبل اللّه و الناهية عن التفرّق.

و في السنة النبوية تصريحات على حفظ الوئام و الوداد نأتي ببعضها:

1.مثل المؤمنين في توادّهم و تعاطفهم و تراحمهم بمنزلة الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى. (1)

2.المسلمون تتكافأ دماؤهم،و يسعى بذمتهم أدناهم،و هم يدٌ على من سواهم. (2)

3.إنّ دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا،و بلدكم هذا،و شهركم هذا. (3)

إلى غير ذلك من الكلمات المضيئة الواردة حول الأُخوة و الوحدة الإسلامية التي تزخر بها الصحاح و المسانيد.

و لقد كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يراقب أمر الأُمّة كي لا يشق عصاها منازعٌ جاهل أو عدو غاشم،و كان يقودها إلى الامام برعايته الحكيمة، و كلّما واجه خلافاً أو شقاقاً و نزاعاً،بادر إلى ترميم صدعِها بحزم عظيم و تدبير وثيق،و لقد شهد التاريخ له بمواقف في هذا المجال ننتخب منها ما يلي:

1.انتصر المسلمون على قبيلة بني المصطلق،و قتل من قتل من العدو،

ص:430


1- 2) .مسند أحمد:270/4. [1]
2- 3) .الواقدي:المغازي:836/2؛و [2]الحرّ العاملي،وسائل الشيعة:19،الباب 31 من أبواب القصاص برقم 1و2و3. [3]
3- 4) .السيرة النبوية لابن هشام:605/2. [4]

و أُسر من أُسِر منهم،فبينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على مائِهِمْ،نشب النزاعُ بين رجل من الأنصار و رجل من المهاجرين،فصرخ الأنصاري فقال:يا معشر الأنصار،و صرخ الآخر و قال:يا معشر المهاجرين،فلما سمعها النبي،قال:دعوها فانّها منتنة...يعني انّها كلمة خبيثة،لأنّها من دعوى الجاهلية و اللّه سبحانه جعل المؤمنين إخوة و صيرهم حزباً واحداً،فينبغي أن تكون الدعوة في كلّ مكان و زمان لصالح الإسلام و المسلمين عامة لا لصالح قوم ضدّ الآخرين،فمن دعا في الإسلام بدعوى الجاهلية يعزر. (1)

فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم يصف كلّ دعوة تشقّ عصا المسلمين و تمزِّق وحدتهم بأنّها دعوة منتنة،فكيف لا تكون كذلك و هي توجب انهدام دعامة الكيان الإسلامي و بالتالي انقضاض صرح الإسلام.

2.نزل النبي صلى الله عليه و آله و سلم دار هجرته و التفَّ حوله قبيلتا:الأوس و الخزرج،فمر شاس بن قيس اليهودي،و كان شيخاً قد عسا،عظيم الكفر،شديد الضغن على المسلمين،شديد الحسد لهم-على نفر من أصحاب رسول اللّه من الأوس و الخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه،فغاظه ما رأى من أُلْفَتهم،و جماعتهم،و صلاح ذات بينهم على الإسلام،بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية.فقال:

قد اجتمع ملأ بني قَيْلة بهذه البلاد،لا و اللّه ما لنا معهم إذا اجتمع مَلَؤهم من قرار،فأمر فتى شاباً من يهود كان معهم فقال:اعمد إليهم، فاجلس معهم،ثمّ اذكر يوم«بعاث»...و كان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس و الخزرج،و كان الظفر فيه يومئذٍ للأوس على الخزرج،و كان على الأوس يومئذٍ حضير بن سماك الأشهري و على الخزرج عمرو بن النعمان البياضي فقتلا جميعاً.

ص:431


1- 1) .السيرة النبوية:303/3، [1]غزوة بني المصطلق و لاحظ التعليقة للسهيلي و راجع مجمع البيان:293/5 و غيره من التفاسير.

دخل الشاب اليهودي مجتمع القوم فأخذ يذكر مقاتلتهم و مضاربتهم في عصر الجاهلية،فأحيا فيهم حميتها حتى استعدوا للنزاع و الجدال بحجّة أنّهم قتل بعضهم بعضاً في العصر الجاهلي يوم بعاث،و أخذ الشابُ يؤجج نار الفتنة و يصب الزيت على النار حتى تواثب رجلان من الحيين فتقاولا.

فبلغ ذلك رسول اللّه فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال:يا معشر المسلمين! اللّه،اللّه،أ بدعوى الجاهلية و أنا بين أظهركم بعد أن هداكم اللّه بالإسلام و أكرمكم به و قطع به عنكم أمر الجاهلية،و استنقذكم من الكفر و ألّف به بين قلوبكم؟!

لقد كانت كلمة النبي صلى الله عليه و آله و سلم كالماء المصبوب على النار بشدة و قوة،حيث عرف القوم انّها نزعة من الشيطان و كيد من عدوهم، فبكوا و عانق الرجال من الأوس و الخزرج بعضهم بعضاً،ثمّ انصرفوا مع رسول اللّه عليه السلام مذعنين،متسالمين،مطيعين قد دفع اللّه عنهم كيد عدو اللّه:شاس بن قيس،فأنزل اللّه تعالى في شاس و ما صنع.... (1)

3.كان لقضية الإفك في عصر الرسالة دويٌّ بين أعدائه،فكان عدو اللّه«عبد اللّه بن أبي»يشيع الفاحشة و يؤذي النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فقام رسول اللّه في الناس يخطبهم،فحمد اللّه و أثنى عليه-ثمّ قال:-«أيّها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي،و يقولون عليهم غير الحقّ؟ و اللّه ما علمت منهم إلّا خيراً،و يقولون ذلك الرجل و اللّه ما علمت منه إلّا خيراً،و ما يدخل بيتاً من بيوتي إلّا و هو معي-و كان كبر ذلك الإفك على عبد اللّه بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج.

فلما قال رسول اللّه تلك المقالة،قال«أسيد بن حضير»و كان أوسياً:يا رسول اللّه! إنْ يكونوا من الأوس نكفكهم،و إن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا

ص:432


1- 1) .السيرة النبوية:555/1-556. [1]

بأمرك،فو الله انّهم لأهل أن تضرب أعناقهم،فقال سعد بن عبادة و كان خزرجياً:كذبت لعمر اللّه لا تضرب أعناقهم،أما و اللّه ما قلتَ هذه المقالة إلّا انّك قد عرفت أنّهم من الخزرج،و لو كانوا من قومك ما قلتَ هذا.فقال أُسيد:و لكنّك منافقٌ تجادل عن المنافقين، و عندئذٍ تساور الناس حتى كاد أن يكون بين هذين الحيين من الأوس و الخزرج شر.و في لفظ البخاري:فصار الحيان الأوس و الخزرج حتى هموا أن يقتتلوا،و رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائم على المنبر فلم يزل يُخَفِّضُهم حتى سكتوا و سكت. (1)

هذه نماذج من مواقف النبي الأعظم حيال الخلافات التي كانت تنشب أحياناً بين أُمّته،و هو صلى الله عليه و آله و سلم كان يصنع من الخلاف وئاماً و من النزاع وفاقاً،و يدفع الشر بقيادته الحكيمة،و ما هذا إلّا لأنّ صرح الإسلام قائم على كلمتين:كلمة التوحيد و توحيد الكلمة.

و هذا صنو النبي صلى الله عليه و آله و سلم و وصيّه و خليفته إذ حُرِم من حقّه المشروع،و بدلت الخلافة التنصيصية إلى تداول الخلافة بين تيم و عديّ ثمّ إلى أُمية،قد بقي حليف بيته و أليف كتاب اللّه و هو يرى المفضول يمارس الخلافة مع وجود الفاضل،بل يرى تراثه نهباً و مع ذلك كلّه لم ينبس ببنت شفة إلّا في موارد خاصة،حفاظاً على الوفاق و الوئام و هو عليه السلام يشرح لنا تلك الواقعة بقوله:«فو الله ما كان يُلقى في روعي،و لا يخطر ببالي،أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه و آله و سلم عن أهل بيته،و لا انّهم مُنحّوه عني من بعده،فما راعني إلّا إنثيال الناس على فلان يبايعونه فامسكت يديَ حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد،فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل...». (2)

ص:433


1- 1) .السيرة النبوية:312/3- 313؛و [1]صحيح البخاري:119/5،باب غزوة بني المصطلق.
2- 2) .نهج البلاغة،الرسالة 62،طبعة محمد [2]عبده.

و عند ما تسنم منصة الخلافة و رجع الحقّ إلى مداره قام خطيباً فقال:«و الزموا السواد الأعظم،فانّ يد اللّه مع الجماعة،و إيّاكم و الفرقة،فانّ الشاذّ من الناس للشيطان كما انّ الشاذ من الغنم للذئب،ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه و لو كان تحت عمامتي هذه». (1)

هذه هي سيرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و سيرة وصيه و تلميذه و هما تعربان عن أنّ حفظ الوحدة من أهم الواجبات و أوجب الفرائض،و قد اتبع السنة النبوية المحنكون من الأُمة فجاءوا يوصون بحفظ الوئام و نبذ الخلاف في الظروف العصيبة.

و هذا هو الشيخ الإمام أبو الحسن الأشعري لما حضرته الوفاة،قال:اشهدوا عليّ أنّني لا أكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب،لأنّي رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد و الإسلام يشملهم و يعمهم. (2)

و قال الشيخ تقي الدين السبكي:إنّ الاقدام على تكفير المسلمين عسر جداً و كلّ من كان في قلبه إيمان يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء و البدع مع قولهم:لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه،فانّ التكفير أمر هائل عظيم الخطر. (3)

و قال ابن حزم:و ذهبت طائفة إلى أنّه لا يكفَّر و لا يفسَّق مسلم بقولٍ فاسدٍ في اعتقاد أو فتيا و انّ كلّ من اجتهد في شيء من ذلك فدان لما رأى أنّه الحق فانّه مأجور على كلّ حال إن أصاب فأجران،و إن أخطأ فأجر واحد.

قال:و هذا قول ابن أبي ليلى و أبي حنيفة و الشافعي و سفيان الثوري و داود بن علي و هو قول كلّ من عَرَفنا له قولاً في هذه المسألة من أصحابه رضي اللّه عنهم،لا

ص:434


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة 127. [1]
2- 2) .الشعراني:اليواقيت و الجواهر:58. [2]
3- 3) .نفس المصدر.

نعلم منهم خلافاً في ذلك أصلاً. (1)

و قال السيد محمد رشيد رضا:إنّ من أعظم ما بليت به الفرق الإسلامية رمي بعضهم بعضاً بالفسق و الكفر مع أنّ قصد الكل الوصولُ للحق بما بذلوا جدهم لتأييده و اعتقاده و الدعوة إليه و المجتهد و إن أخطأ معذور. (2)

و لو أضفنا إليه كلمات المفكّرين الشيعة لجئنا برسالة خاصة،و يكفي في ذلك قول المصلح الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء:بني الإسلام على دعامتين:كلمة التوحيد و توحيد الكلمة.

و قد قام العلاّمة السيد شرف الدين العاملي بتأليف رسالة في هذا المجال أسماها:الفصول المهمة في تأليف الأُمّة.

إلى غير ذلك من الكلم المنثورة و المنظومة من الأعلام.

و قال بعض الأعاظم و المصلحين:لنتحد على الرغم من أخطائنا،فانّ الوحدة لا تعني في يوم ما،عصمة المنتسبين إليها. (3)

و هؤلاء يؤكدون على ذلك،لأنّهم لمسوا و رأوا بأُم اعينهم ما يحكيه الشهرستاني في ملله حيث يقول:ما سُلّ سيف على قاعدة من قواعد الدين مثل ما سل على الإمامة في كل زمان (4).

و هذا هو السبكي يحكي لنا عن الفتن الكبيرة التي وقعت بين الأحناف و الشوافع و هما غصنان من شجرة واحدة حيث يقول:و قد وقعت فتنة بين الحنفية و الشافعية في نيسابور ذهب تحت هياجها خلق كثير،و أُحرقت الأسواق و المدارس

ص:435


1- 1) .ابن حزم الظاهري الفصل في الملل و الأهواء و النحل:247/3. [1]
2- 2) .السيد محمد رشيد رضا،المنار:44/7.
3- 3) .و هو السيد محمود البغدادي.
4- 4) .الشهرستاني:الملل و النحل:24/1، [2]دار المعرفة،بيروت-1402 ه.

و كثر القتل في الشافعية،فانتصروا بعد ذلك على الحنفية و أسرفوا في أخذ الثار منهم في سنة 554 ه،و وقعت حوادث و فتن مشابهة بين الشافعية و الحنابلة،و اضطرت السلطات إلى التدخل بالقوة لحسم النزاع في سنة 716،و كثر القتل و أُحرقت المساكن و الأسواق في أصبهان،و وقعت حوادث مشابهة بين أصحاب هذه المذاهب و أشياعها في بغداد و دمشق،و ذهب كلّ واحد منها إلى تكفير الآخر،فهذا يقول من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم،و ذاك يضرب الجهلة بالطرف الآخر،فتقع منهم الساءة على العلماء و الفضلاء منهم و تقع الجرائم الفضيعة. (1)

هذا حال سلفنا و ليست حال الخلف في هذه الأيام بأحسن من حالهم،فقد رأى أنّ أُناساً تحالفوا على إيجاد البغضاء و تأجيج نار الشحناء و طار شررها في الآفاق حتى احترق الحرث و النسل كلّ ذلك جهلاً أو تجاهلاً لواجبهم في تلك الظروف العصيبة.

و هنا كلمة أُخاطب بها أعضاء المؤتمر و هي:

إنّ الوحدة الإسلامية لا تتحقق و لا تتجسّد بهذه المؤتمرات،و لا بالخطب الرنّانة الملقاة فيها،و لا بالشعارات الموجهة إلى الأُمّة الإسلامية.

فإنّ هذه الكلمات لا تتجاوز عن أثر الوخزة في البدن،فما لم تكن هناك اجراءات و قرارات عملية لتحقيق الوحدة لا تؤثر هذه المؤتمرات تأثيراً بالغاً،و لأجل أن نخرج عن هذه الدوامة و لا نكتفي بالشعار مكان الشعور،نشير إلى بعض السبل العملية:

ص:436


1- 1) .السبكي طبقات الشافعية:109/3؛ابن كثير:البداية و النهاية:76/14 و اليافعي:مرآة الجنان:343/3،إلى غير ذلك من المصادر.

السبل العملية للتقريب

اشارة

لا شكّ انّ للتقريب مقومات و عناصر يقوم بها،و انّ له سبلاً و طرقاً يتوسّل بها للوصول إليه،و لسنا في مقام تبيين مقوّماته و عناصره و إن كان أقوم عناصره هو«وجود الإخلاص و الإيمان في دعاته،و التضحية بالنفس و النفيس في طريقه»و لكن نشير إلى إحدى الطرق التي لها أثرها الخاص في تقارب الخطى و هي ما يأتي.

إنّ الإنسان مهما جهل أو تجاهل لا يصحّ له التجاهل بأنّ هناك فرقاً بين الطائفتين السنة و الشيعة،و مهما صفا الجو و تم الإخلاص في دعاة الوحدة و حملة مشعل التوحيد،ففي النفوس لدى كلتا الطائفتين شيء بالنسبة إلى بعض الأُصول و الأحكام التي تتبنّاها الطائفتان في مجالي العقيدة و التشريع،و ربما نشير إلى رءوس بعض هذه الأُمور من كلّ مذهب.

و من السبل العملية تسليط الضوء على هذه الفوارق التي مزّقت الأُمة و جعلتها متشتتة.و ذلك لا لغاية جمع العقول و القلوب على نقطة واحدة و إزالة الاختلاف من رأس و إذابة الطوائف الإسلامية في طائفة خاصة،فانّ ذلك من المستحيلات العادية و المنازع فيها مكابر بلا شبهة.

أقول:لا لهذه الغاية بل لغاية أُخرى،و هي إيجاد التعارف بين الطائفتين و تقليل التناكر،و بالتالي تتعرف كلّ طائفة على ما عند الطائفة الأُخرى من العقائد و الأسس التي تبتني عليها تلك الآراء حتى تكون كلّ طائفة على ثقة من الأُخرى،و انّهم لم يتبنوها اعتباطاً و إنّما ساقتهم إليها الحجج الشرعية سواء كانوا مصيبين أم مخطئين و أقلّ ما يترتب على هذا النوع من الدراسات-وراء التعرف على العقائد و المباني-إعذار أصحاب العقيدة و عدم التشدد عليهم و عندئذٍ تذوب العصبيات،إلى حدّ كثير و يرتفع سوء الظنّ،و تحترم كلّ طائفة عقيدة الطائفة الأُخرى و منهجها إذا لمست منها الجهد و السعي وراء الكتاب و السنة،و إن كانت

ص:437

الطائفة الساعية في نظر الأُخرى ربما تصرفها و لم تدرك بغيتها.و نحن إنّما نؤكد على ذلك،لأنّ أكثر أصحاب المقالات و كتاب تاريخ العقائد استقوا معلوماتهم عن الطوائف الأُخرى من الأفواه دون تحقيق و لا تثبُّت إلى أن مضى جيل و أجيال على هذه الكتابات فأصبحت حقائق راهنة،و بالتالي اتسع الشقاق و صارت مثاراً للمطاعن.

و ها نحن نشير إلى بعض هذه المسائل التي نود أن يبحث عنها المؤتمر في المناسبات الآتية بشرط أن تسود الموضوعية عليه،فعندئذٍ يتخطى المؤتمر كثيراً من العقبات الواقعة في طريق التقريب و هذه المسائل تتراوح بين ما صحت نسبتها إلى الطائفة و بينما افتريت عليهم و هم براء منها براءة يوسف و أخيه من السرقة،و إليك البيان:

1.البداء

القول بالبداء من عقائد الشيعة،و قد رووا عن أئمتهم:ما عُبِدَ اللّه بشيء مثل البداء. (1)

و غير خفيّ على العارف باللغة العربية انّ البداء هو الظهور بعد الخفاء،و العلم بعد الجهل،و عند ذاك كيف تصح نسبة البداء إليه سبحانه مع سعة علمه؟ و انّه لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء،و من المعلوم انّ البداء بهذا المعنى باطل بالضرورة-و مع ذلك-فكيف يعد البداء من صميم عقائد تلك الفرقة التي بذلت جهودها في تنزيه الحقّ عن كلّ ما لا يليق به؟ و يزيد العطش لدراسة هذه المسألة إذا وقفنا على وجود توصيف اللّه سبحانه بالبداء في الصحاح.

و قد روى البخاري:عن أبي هريرة انّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:إنّ ثلاثة في بني إسرائيل أبرص و أقرع و أعمى بدا للّه أن يبتليهم،فبعث إليهم ملكاً،فأتى

ص:438


1- 1) .الكليني:الكافي:146/1،باب البداء،الحديث 10. [1]

الأبرص فقال:أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال:لون حسن و جلد حسن قد قذّرني الناس قال:فمسحه فذهب عنه،فأُعطي لوناً حسناً و جلداً حسناً،فقال:أي المال أحب إليك؟ قال:الإبل أو قال:البقر،هو شك في ذلك الأبرص و الأقرع قال أحدهما:الإبل،و قال الآخر:

البقر،فأُعطي ناقة عشراء فقال:يبارك اللّه لك فيها.و أتى الأقرع فقال:أي شيء أحبّ إليك؟ قال:شعر حسن،و يذهب عني هذا،قد قذرني الناس قال:فمسحه فذهب و أُعطي شعراً حسناً،قال:فأي المال أحبّ إليك؟ قال:البقر،قال:فأعطاه بقرة حاملاً،و قال:يبارك لك فيها.و أتى الأعمى،فقال:أي شيء أحبّ إليك؟ قال:يرد اللّه إليّ بصري،فأبصر به الناس قال:فمسحه،فرد اللّه إليه بصره قال:فأي المال أحبّ إليك ؟ قال:الغنم فأعطاه شاة والداً،فانتج هذان و ولد هذا،فكان لهذا واد من إبل و لهذا واد من بقر و لهذا واد من الغنم.ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته و هيئته فقال رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلّا باللّه ثمّ بك،أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن و الجلد الحسن و المال بعيراً أتبلّغ عليه في سفري،فقال له:إنّ الحقوق كثيرة،فقال له:كانّي أعرفك،أ لم تكن أبرص يقذّرك الناس فقيراً فأعطاك اللّه؟ فقال:لقد ورثت لكابر عن كابر،فقال:إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.و أتى الأقرع في صورته و هيئته فقال له مثلما قال لهذا،فردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا،فقال:إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.و أتى الأعمى في صورته فقال:رجل مسكين و ابن سبيل،و تقطعت بي الحبال في سفري،فلا بلاغ اليوم إلّا باللّه ثمّ بك،أسألك بالذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلّغ بها في سفري،فقال:

قد كنت أعمى فرد اللّه بصري،و فقيراً فقد أغناني،فخذ ما شئت،فو الله لا أجحدك اليوم بشيء أخذته للّه،فقال:امسك مالك،فإنّما ابتليتم،فقد رضي اللّه عنك و سخط على صاحبيك. (1)

ص:439


1- 1) .البخاري:171/4،كتاب الأنبياء،حديث أبرص و أعمى و أقرع،ط 1314 ه.

فما هو المقصود من«بدا للّه»في هذا الحديث هو المقصود،من روايات البداء في روايات أهل البيت.

2.عصمة الأئمة

القول بعصمة الأئمّة الاثني عشر من أُسس مذهب الشيعة،و قد دانت بها منذ تمسكت بعرى ولائهم و مودتهم و ذهبت إلى أنّهم معصومون من المخالفة و العصيان بل السهو و الخطأ في القول و العمل بينما نرى انّه ثقيل على الطائفة الأُخرى،و قد حلّ القول بها-في زعم بعضهم-محل اضفاء وصف النبوة عليهم.فدراسة الموضوع و تبيين أُسسه و مبانيه تقلع ما في بعض النفوس من سيئ الظن،و يتبين انّها عقيدة دينية تبنّاها أصحابها متخذين من الكتاب و السنة سواء أ كانوا مصيبين أم مخطئين.

3.الرجعة

الرجعة بمفهومها الواضح من المشهورات لدى الشيعة و إن كان التشيع لا يناط بها،و قد وردت فيها روايات متضافرة أدت إلى القول بأنّه سبحانه سوف يحشر فوجاً من المؤمنين و الكافرين قبيل الساعة «وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً» 1 فيما تعد الرجعة من المشهورات لديهم،تلقتها الطائفة الأُخرى بأنّه أمر محال و جعلتها مرادفة للتناسخ الباطل الذي أجمعت الأُمّة الإسلامية على بطلانه،فعند ذلك يتحير الإنسان الواعي ما بين هذين؛فدراسة الموضوع لا لإحقاق الحقّ بل لتبيين دلائله،تقرِّب الخطى و تجلب الوئام.

4.تحريف الكتاب

إنّ الشيعة الإمامية مرميّة بالقول بالتحريف في غير واحد من الكتب

ص:440

أ كانت كتباً موضوعية أم كانت من الكتب المهرجة،غير أنّا نرى انّ المحققين من الشيعة كالفضل بن شاذان (260ه) و الشيخ الصدوق (306- 381ه) و الشيخ المفيد (336- 413) في الرسالة الصاغانية و السيد المرتضى (355- 436ه) و الشيخ الطوسي (385- 460ه) و الشيخ الطبرسي (470- 548ه) إلى غير ذلك من الأعلام في الأجيال المتأخرة،و هكذا المحدّثون الواعون من الشيعة يتبرّءُون من هذه النسبة،و يصرّحون بأنّ ما بين الدفتين هو كتاب اللّه العزيز لم ينقص منه شيءٌ و ما زاد عليه شيء،و في الوقت نفسه هناك قسمٌ من المحدّثين غير الواعين المعروفين بالاخبارية يرجّحون التحريف.

فما هو حقّ المقال في هذه النسبة؟ هل الشيعة بعامة طبقاتها ذهبوا إلى التحريف أو قسم خاص منهم؟ و إذا أمعنا النظر،رأينا نفس تلك الفكرة في السنة فالمحقّقون منهم و هم الأكثرية يذهبون إلى نفي التحريف و لكن الحشوية منهم يروّجون التحريف يظهر ذلك بالرجوع إلى الصحاح و المسانيد.

فالسنة تطعن على إخوانهم الشيعة بكتاب«فصل الخطاب»للمحدّث النوري،و هو يطعنون على إخوانهم السنة بكتاب«الفرقان» الذي كتبه أحد المصريين و صادره الأزهر،و مع ذلك نشرته يد العدوان بين المسلمين.

فما هو الموقف الحقّ في تلك المسألة للطائفتين؟

5.رؤية اللّه سبحانه

إنّ رؤية اللّه سبحانه من صميم عقائد الأشاعرة و أهل الحديث جميعاً حتى أنّ إنكار جواز الرؤية يلازم الكفر عند بعضهم،و هم يفسرون الرؤية بالرؤية الحسية لا الرؤية بالقلب،و عندئذٍ يقع السؤال كيف تصح تلك العقيدة مع أنّها تستلزم ثبوت الجهة و المقابلة و الجسمية له تعالى؟ و القول إنّه يرى لا في مكان و لا

ص:441

على جهة من مقابله و اتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرائي و بين اللّه تعالى،إنكار للرؤية و التجاء إلى الرؤية بالقلب،فدراسة الموضوع يوجب تقارب الخطى،و إن كان صاحب جوهرة التوحيد التي تدرس في الأزهر يقول: و كلّ نص أوهم التشبيها أوّله أو فوض ورم تنزيها

6.الصفات الخبرية

إنّ الأشاعرة و أهل الحديث يتفقون على تفسير الصفات الخبرية و حملها على اللّه سبحانه و تعالى بمعانيها الحرفية كاليد و الوجه و غير ذلك،و ينكرون التأويل و يصفونه بعمل الجهمية كما ينكرون التفويض إلّا قليل منهم.و من طرف آخر يدعون انّه سبحانه ليس بجسم و لا جسماني و انّه منزه عن كلّ ذلك.و دراسة الموضوع ربما تجمع الشمل أو ربما تقرب النظرتين.

و هناك فروع و أحكام شرعية لا تقصر عن إثارة الطعن من الأُصول العقائدية الماضية.

7.المتعة

المتعة من المسائل المسلمة لدى الشيعة،و هم يدّعون أنّ الكتاب و السنّة أباحها و هي باقية عليها إلى يومنا هذا،و لكن السنّة مع ذهابهم إلى ثبوت تشريعها في زمن النبي الأكرم قائلة بالتحريم إمّا من جهة النسخ أو من جهة النهي الحكومي عنها،و مع ذلك فانّ كثيراً منهم يفقدون التصور الصحيح عن المتعة و ربما يجعلونها في عداد السفاح،و هذا هو أحمد زكي باشا القاضي الشرعي بمصر كتب إلى الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء بعد ما قرأ كتابه«أصل الشيعة»و فيه بحث عن المتعة و حدودها،و قال:مع دفاعه المتين المؤيد بالحجج الوافية الكافية

ص:442

فانّه لم يقتلع من نفسي ما يخالجها من حيث النظام الشرعي و العمراني،فما ذا نصنع بالولد إن جاء من طريق المتعة و كان أبوه قد سافر بعد انتهاء العقد و جاء الولد بعد هذا السفر. (1)

و هذا يعرب عن أنّ السائل لم يتصور المتعة إلّا تمتعاً جنسياً بالنساء المطروحات في الطريق مع أنّ النقض لو صحّ فهو متوجه إلى الدائم أيضاً،فإذا تزوج الرجل بالعقد الدائم ثمّ طلق و سافر و هي حامل فما تصنع بالولد؟ ثمّ إنّ زواج المتعة لا ينتهي بمجرد انتهاء الوقت إلّا من جهة الاتصال الجنسي بين الرجل و المرأة،و أمّا من حيث الولد فانّه يلحق بالأب الذي تزوج أُمّه موقتاً كلحوقه بها،و على هذا اتفاق الشيعة جميعاً مضافاً إلى الشئون الأُخرى كالنفقة عليه للولد إلى الحدّ المعين و كلّ ذلك يستلزم وجود الصلة بين الولد و الوالد.

8.غسل الرجلين و مسحها

هذه المسألة أوجدت هوّة سحيقة بين العلماء و حتى العوام من الطائفتين،و كلّ يطعن في الآخر،و كأنّ لأحد الأمرين أساساً اجتهادياً دون الآخر،مع أنّ لكلّ طائفتين دليله و اجتهاده،و كان ابن عباس يقول:«الوضوء غسلتان و مسحتان إلّا أنّ الناس أبوا إلّا الغسل». (2)

9.السجود على التربة

إنّ الشيعة تسجد على الأرض أو ما أنبتت إلّا ما يؤكل أو يلبس،و على ذلك عملهم من عصر الأئمّة إلى يومنا هذا،و بما انّ من شرائط المسجود عليه الطهارة

ص:443


1- 1) .أصل الشيعة و أُصولها:34،الطبعة العاشرة،القاهرة 1377 ه1958/ م.
2- 2) .الطبري:التفسير:82/6-83. [1]

و هي غير متوفرة بسهولة في كلّ مكان اتخذوا لأنفسهم قطعاً من التراب يسجدون عليها،فالتراب و الأحجار الطبيعة عندهم مما يسجد عليه،و كذا الحصى و الحصير و نحو ذلك لا تكون مسجوداً لها بل المسجود له هو اللّه سبحانه و تعالى،و مع ذلك نرى انّ بعض المرجفين يتّهمون الشيعة بأنّهم يعبدون الصنم و الحجر و الحصى،فدراسة الموضوع تزيل أغشية الجهل عن محيّا الواقع،و يتبيّن انّ الحجر مسجودٌ عليه،لا مسجود له،كما انّ الرخام و الفرش المنسوجة يسجد عليهما لا لهما.

10.الطلاق في المحيض

إنّ جمهور الفقهاء من أهل السنة قالوا بمضيّ طلاق الحائض،و قالت عدّة قليلة لا ينفذ و لا يقع،و من القائلين بالمضيّ:أبو حنيفة و أصحابه و مالك و الأوزاعي و الثوري و الشافعي و إن كانوا يعدّونه أمراً محظوراً و لكنّهم يفتون بصحته،و الشيعة الإمامية قائلة بفساد الطلاق،و انّه لا يصحّ الطلاق إلّا في الطهر،فأيّ القولين هو الأوفق بالكتاب و السنّة قال سبحانه: «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» 1 .

فالغاية من الطلاق هو الاعتداد و هو لا يحصل إلّا إذا وقع الطلاق في الطهر،و أمّا إذا وقع في الحيضة فبما انّ تلك الحيضة لا تحسب من الأقراء عند أهل السنة جميعاً،فيلزم الفصل بين الطلاق و الاعتداد و هو خلاف ظاهر النص.

نعم هناك رواية عبد اللّه بن عمر المرويّة في السنن و المسانيد،و قد نقلها البيهقي بصورها المختلفة المتشتتة المضطربة. (1)

ص:444


1- 2) .البيهقي،السنن الكبرى:ج 7،كتاب الخلع و الطلاق.
11.الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد

من المسائل التي أوجبت انغلاقاً في الحياة بين أهل السنة إمضاء الطلاق الثلاث في مجلس واحد،و انّه تحسب ثلاث طلقات فتحرم الزوجة حتى تنكح زوجاً آخر،مع أنّ الكتاب يقول: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» 1 و صريح الآية وقوع الطلاق مرّة بعد أُخرى،فكيف تقع المرّتان واحدة ؟!

12.الإشهاد على الطلاق و الرجعة

إنّ الاشهاد على الطلاق غير معتبر عند أهل السنة إلّا القليل من بعض المعاصرين (1)مع أنّ صريح الكتاب وجوب الإشهاد.يقول سبحانه: «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ» 3 .سواء قلنا برجوع الاشهاد إلى الطلاق و الرجعة أو بخصوص الأوّل فالطلاق بلا اشهاد على خلاف الكتاب فكيف يمضى بلا إشهاد؟

هذه اثنتا عشرة مسألة خلافية أوجدت شقة فكرية بين المسلمين في مجالي العقائد و الأحكام،فعلى رواد التقريب و دعاة التوحيد،التأكيد على عناصر الوحدة في منشوراتهم و مجلاتهم العلمية لتقريب الخطى و سحق العصبية.

ص:445


1- 2) .أحمد محمد شاكر في كتابه نظام الطلاق [1]في الإسلام،ط 1389،الطبعة الثانية.

ختامه مسك

الدارج بين الشيعة هو ضمّ الآل إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم عند الصلاة عليه،عملاً بما رواه أصحاب الصحاح و هو انّ الصحابة سألوا النبي كيف يصلّون عليه؟ فقال:قولوا:اللّهمّ صلّ على محمدٍ وَ على آل محمّد كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم إنّك حميد مجيد. (1)

و قد أكد ابن تيمية على تلك الكيفية في كتابه«حقوق آل البيت» (2)و لكن الرائج عند أهل السنّة هو ذكر النبي وحدة و رفض الآخرين.

أو ما آن لدعاة الوحدة دراسة المسألة حتى يصلوا في هذا الموضوع البسيط إلى وحدة الكلمة و النظر،و يضيقوا الخلاف؟! و اللّه من وراء القصد.

جعفر السبحاني

مكة المكرمة

سادس شهر ذي الحجة الحرام

من شهور عام 1412ه

ص:446


1- 1) .أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء،الباب 10،و في الدعوات الباب 31 و32؛مسلم في كتاب الصلاة،الحديث 66،65. [1]
2- 2) .حقوق آل البيت:28.

المقالة الثالثة:عناصر الوحدة الإسلامية و موانعها

اشارة

(1)

الوحدة الإسلامية أمنية يتمنّاها كلّ مخلص له أدنى إلمام بالأوضاع المحدقة بالإسلام و المسلمين و لا يشكّ في أنّ المسلمين في أمسّ الحاجة إلى الوحدة و تقريب الخطى،لأنّ فيه عزّ الإسلام و رفع شوكة المسلمين و تقوية أواصر الاخوّة بينهم،و انّ في التفرقة اضمحلال الإسلام و تشتت شمل المسلمين و تكتلهم إلى فرق و طوائف متناحرة.

و قد حثّ سبحانه على الوحدة بقوله: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» 2.

و يقول أيضاً: «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» 3.

و في الوقت نفسه يذم التفرقة و يشجبها و يقول: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» 4.

ص:447


1- 1) .أُلقيت في جامعة الاُردن شهر محرم الحرام عام 1419 ه،عند رحلة المحاضر إليها في ذلك العام.

و يقول سبحانه: «وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً» 1.

انّه سبحانه يعدُّ التفرقة و التشتت من أنواع البلايا و المحن التي تجابه الأُمم و يقول: «قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ» 2.

فانطلاقاً من وحي تلك الآيات تجب على كلّ مسلم واع،الدعوةُ إلى توحيد الكلمة للحيلولة دون التشتّت و التفرّق.

إنّ الوضع الراهن للأُمّة الإسلامية يبعث على القلق،و استمرار هذا الوضع يجعلهم ضحيّة للخطط الاستعمارية التي تستهدف الإجهاز على المسلمين و استئصال شأفتهم.

إلّا أنّ الذي يبعث النشاط في قلوبنا و يزيدنا أملاً بالغد المشرق هي الآيات الدالة على أنّ المستقبل للصالحين من عباده،قال سبحانه: «أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ» 3 .و قال سبحانه: «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ» 4.

هذه سنّة اللّه تبارك و تعالى لكنّها رهن شروط و خصوصيات كفيلة بتحقيق ذلك الوعد.

انّه سبحانه يصف المسلمين بأنّهم أُمّة واحدة و يقول: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» 5.

ص:448

و الأُمّة مشتق من أمَم و المادة تحكي عن القصد و الهدف و القيادة و الزعامة،و على ضوء ذلك فلا يكون المسلمون أُمّة حتى يكون لهم هدف و مقصد أسنى و قيادة و زعامة حكيمة،فالأُمّة الواحدة لها ربّ واحد و كتاب واحد و شريعة واحدة و قيادة و هدف واحد.و هو نيل السعادة الدنيوية و الأُخروية.

و ثمة سؤال يطرح نفسه،ما هي العناصر الكفيلة لتحقيق الوحدة إذ تحققها مع وجود التفرقة و الاختلاف أمر متعذر.

هذه العناصر تكمن في التوحيد في العقيدة و الشريعة لا في الوطن و لا في الجنس و لا في اللون و لا في اللغة و لا في الطائفية و لا في القومية،و الإسلام قد شطب بخط عريض على تلك الأفكار،و لم يعر لها أهمية تذكر بل حذّر المسلمين من الانخراط تحت لوائها و الانجراف معها،قال سبحانه: «يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» 1.

و قال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّ العربية ليست بأبٍ والد و لكنّها لسان ناطق،فمن قصر به عمله لم يبلغه حسبه» (1)فعلى ذلك يجب الإلماع إلى العناصر التي تكمن فيها الوحدة و تبتني عليها أواصر الاخوة.

فالعناصر العقائدية هي:

1.التوحيد و مراتبه

التوحيد-بمعنى الاعتقاد بوجود إله واحد لا شريك له،له الأسماء الحسنى و الصفات العليا،عالم قادر،حي لا يموت،إلى غير ذلك من صفات الجمال و الجلال،و ليس في صحيفة الوجود خالق،مدبّر و معبود،سواه-من العناصر

ص:449


1- 2) .الكافي:246/8 برقم 342. [1]

البنّاءة للوحدة.

و قد تثار بحوث كلامية حول صفاته تبارك و تعالى،لكنّها بحوث لا تمت إلى صميم الإسلام بصلة.

فهل صفاته سبحانه عين ذاته أو زائدة عليها،فلكلّ من الرأيين دليله و منطقه إلّا أنّ هذه البحوث-مع تثمين جهود باحثيها-يجب أن لا تثير الريبة في غرضنا الذي نرمي إليه ألا و هو الوحدة الإسلامية الكبرى.

لا أنسى و أنتم أيضاً لا تنسون انّ مسألة خلق القرآن و حدوثه أو قدمه قد شغلت بال المسلمين أيّام الخلافة العباسيّة سنين طوال، و قد شقّ عصا الوحدة و شتّتهم إلى طوائف و أُريقت دماء و نهبت أموال و ما ذلك إلّا لأنّ طائفة منهم كانوا يقولون بقدم القرآن و الطائفة الأُخرى بحدوثه مع أنّها بحوث كلامية لا تمت إلى صميم الإسلام بصلة،فالبحث و الحوار العلمي و الانصياع للدليل شيء،و كون هذا الاختلاف يثير كامن العداء و الشقاق و يصبح-لا سمح اللّه-هدفاً لسهام اللوم و التكفير شيء آخر،فلنفسح المجال للبحث العلمي دون أن يمسّ بالوحدة الإسلامية الكبرى.

2.النبوة العامة و الخاصة

إنّ من عناصر الوحدة الإيمان بأنّه سبحانه تبارك و تعالى بعث أنبياءً و رسلاً لترسيخ التوحيد بين الناس و شجب أيّ عبادة سواه.

قال سبحانه: «وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ» 1.

ص:450

و هذه هي العقيدة المشتركة بين الأُمّة الإسلامية جميعاً،كما انّ الإيمان بخاتمية الرسول و انّه لا نبي و لا رسول بعده من صميم العقيدة الإسلامية،و من أنكر الخاتمية و ادعى استمرار الوحي بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو إمكان ظهور نبي جديد مع شريعة جديدة،فقد خرج عن ربقة الإسلام،لأنّ ذلك متعارض مع العقيدة الإسلامية قال سبحانه: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» 1.

3.الإيمان بالمعاد

اشارة

الإيمان بالمعاد و انّ الدنيا قنطرة الآخرة،و ليس الموت بمعنى فناء الإنسان من العقائد المشتركة بين المسلمين و يعدُّ أصلاً من الأُصول التي جاء بها الأنبياء قاطبة،و لولاه لما قام للدين عمود،و لذلك نجد انّ القرآن يعطف الإيمان بالمعاد،على الإيمان بالتوحيد، و يقول: «مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ» 2 و في آية أُخرى: «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ» 3 .

فهذه الأُصول الثلاثة،تشكِّل حجر الزاوية للعقيدة الإسلامية،و يدور عليها رحى الإيمان و الكفر،و قد صبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم اهتمامه على هذه الأُصول و جعلها حداً فاصلاً بين الإيمان و الكفر،فمن آمن بها فقد دخل في زمرة المسلمين و من أنكر واحداً منها فقد خرج عن ربقة الإسلام،و ها نحن نذكر بعض ما روى عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في هذا المضمار لتُعلم من خلالها العناصر الكفيلة بتحقيق الأُخوة الإسلامية.

ص:451

روى البخاري عن عمر بن الخطاب:انّ عليّاً صرخ،يا رسول اللّه:على ما ذا أُقاتل،فقال صلى الله عليه و آله و سلم:قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّداً رسول اللّه،فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم و أموالهم إلّا بحقها و حسابهم على اللّه. (1)

روى الإمام الشافعي عن أبي هريرة،انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:لا أزال أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا اللّه فإذا قالوا،فقد عصموا مني دماءهم و أموالهم إلّا بحقها و حسابهم عليهم. (2)

و روى الإمام الرضا عليه السلام و هو أحد أئمّة أهل البيت عن آبائه عن علي عليه السلام،قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا اللّه فإذا قالوا حرمت عليّ دماؤهم و أموالهم. (3)

وحدة الشريعة

إذا كانت العقيدة بعناصرها الثلاثة هي الركيزة الأُولى للوحدة،فوحدة الشريعة عامل آخر لجمع شمل المسلمين و توحيد كلمتهم و صفوفهم.

فالمسلمون عامة في مجال العبادة يقيمون شعائرهم الدينية من صلاة وصوم و زكاة و حج و جهاد،فلا تجد مسلماً ينكر واحداً من تلك الأُمور.

نعم بين المذاهب الفقهية اختلاف في جزئيات المسائل و لكنّها شروط و آداب لا تمسُّ بجوهر الإسلام،فالمسلم من يؤمن بالشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه و آله و سلم و يقيمها حسب الفقه الذي يقلده،و اختلاف العلماء لا يمس جوهر الشريعة لانّه اختلاف سطحي في جزئياتها و خصوصياتها.

ص:452


1- 1) .رواه البخاري في صحيحه:10/1،كتاب الإيمان.
2- 2) .الشافعي،الأُمّ:157/6.
3- 3) .المجلسي،البحار:242/68. [1]

فكما انّ العبادات جزء من الشريعة فالمعاملات بمعناها الأخص أو الأعم جزء من الشريعة أيضاً فالبيع و الاجارة و الوكالة، و المضاربة و المساقاة و المزارعة معاملات بالمعنى الأخص،كما انّ النكاح و الطلاق و الوصايا و نظائرها معاملات بالمعنى الأعم، فالمسلمون متحدون في هذا المجال من الشريعة يبيحون ما أباحت الشريعة و يحرمون ما حرّمت الشريعة.

و على ضوء ذلك فالشريعة هي الركيزة الثانية للوحدة،و اختلاف الفقهاء فيها لا يخل بها.

وحدة القيادة

إنّ التوحيد في القيادة هي الركيزة الثالثة لوحدة الأُمم،فالجميع يؤمن بأنّ القيادة للّه سبحانه و لرسوله و لأُولي الأمر مستلهمين من قوله سبحانه: «أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» 1.

فالقيادة الإسلامية ليست قيادة سياسية بحتة،بل قيادة دينية تقود المجتمع إلى السعادة و الرفاه تحت ظل تعاليم الإسلام،و حيث إنّ إطاعة أُولي الأمر جاءت مباشرة بعد إطاعة الرسول في الآية فيلزم أن تكون طاعتهم شبه إطاعة الرسول في علمهم و سياستهم و تقواهم، و لأجل ذلك يجب أن يتوفر فيهم شروط كثيرة تخوّل لهم صلاحية الزعامة.

وحدة الهدف

تقع على عاتق الأُمّة الإسلامية مسئولية خاصة و هي سوق المجتمع نحو المثُل الأخلاقية و المكارم الإنسانية،قال سبحانه:

«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ

ص:453

تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ» 1.

فالطوائف الإسلامية برمتها لها رؤية مشتركة في الهدف الذي جاء به الإسلام و دعا إليه.

و الهدف هو سيادة الدين في الأرض لتكون السيادة للّه وحده و يكون الدين ظاهراً على سائر الأديان،قال سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» 2.

هذه الوحدات الأربع،أي:وحدة العقيدة،وحدة الشريعة،وحدة القيادة،و وحدة الهدف إذا تمسك المسلمون بأهدابها تعود إليهم السعادة المسلوبة و الكرامة المنشودة.قال رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّما مثل المسلمين كالرجل الواحد إذا وجع منه شيء تداعى له سائر جسده». (1)

تكفير أهل القبلة

إنّ تكفير أهل القبلة ما لم يُنكر أحد منهم شيئاً من تلك الأُصول الثلاثة ممّا لم يجوزه أحد من أئمة المسلمين.

قال ابن حزم نقلاً عن أبي حنيفة و الشافعي و سفيان الثوري:إنّه لا يُكفَّر و لا يُفسَّق مسلم. (2)

و قال السرخسي:لما حضرت الشيخ أبا الحسن الأشعري الوفاة بداري ببغداد أمرني بجمع أصحابه فجمعتهم له،فقال:اشهدوا عليّ إنّي لا أكفر أحداً

ص:454


1- 3) .مسند أحمد بن حنبل:278/4. [1]
2- 4) .ابن حزم:الفصل:247/3. [2]

من أهل القبلة بذنب لأنّي رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد و الإسلام يشملهم و يعمّهم. (1)

و لقد أحسن الإمام الأشعري حيث أسمى كتابه بمقالات الإسلاميين و اختلاف المصلين فأضفى على جميع الطوائف لفظ الإسلاميين و جعل اختلافهم اختلافَ أهل القبلة كما يشعر بذلك قوله اختلاف المصلين.

و قال القاضي الإيجي:جمهور المتكلمين و الفقهاء على انّه لا يكفَّر أحد من أهل القبلة،و استدل على مختاره بقوله:إنّ المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة من كون اللّه تعالى عالماً يعلم أو موجداً لفعل العبد أو غير متحيّز و لا في جهة و نحوها لم يبحث النبي عن اعتقاد من حكم باسلامه فيها و لا الصحابة و لا التابعون،فعلم أنّ الخطأ فيها ليس قادحاً في حقيقة الإسلام. (2)

إلى غير ذلك من كلمات لعلمائنا الأبرار تبعاً للسنة النبوية المنكرة لتكفير المسلم.

***

موانع الوحدة
اشارة

قد عرفت عناصر الوحدة و ما يمكن أن يجمع به شمل المسلمين،و لكن مع ذلك ثمة عوامل أُخرى تُعرقل خطا الوحدة،فعلى المعنيّين بوحدة المسلمين دراسة عوامل التفرقة ليعالجوها كي لا تكون سداً أمام تلك الأمنية،و إليك دراسة هذه العوامل.

ص:455


1- 1) .الشعراني:اليواقيت و الجواهر:58. [1]
2- 2) .الإيجي:المواقف:392. [2]
1.المذاهب الكلامية و الفقهية

إنّ المسلمين ينقسمون في المذاهب الكلامية إلى طوائف كالأشاعرة و المعتزلة و الماتريدية و الشيعة.

و الشيعة تنقسم بدورها إلى زيدية و إسماعيلية و اثني عشرية،فكيف يمكن توحيد الكلمة مع سيادة هذه المناهج الكلامية عليهم؟!

و الحقّ انّ هذه المذاهب تتراءى في النظر البدئي سداً منيعاً بوجه الوحدة،و لكن بالنظر إلى أواصر الوحدة تبدو و كأنّها موانع وهنة لا تصد المسلمين عن التمسك بأهداب الوحدة على كافة الأصعدة.

أمّا المناهج الكلامية فجوهر الاختلاف فيها يرجع إلى مسائل كلامية لا عقائدية مثلاً انّ الأشاعرة و المعتزلة يختلفون في المسائل التالية:

1.هل صفاته عين ذاته أو زائدة عليها؟

2.هل القرآن الكريم قديم أو حادث؟

3.هل أفعال العباد مخلوقة للّه أو للعباد؟

4.هل يمكن رؤية اللّه في الآخرة أو هي ممتنعة؟

إلى غير ذلك من أمثال هذه المسائل،و مع تثمين جهود الطائفتين فالاختلاف فيها اختلاف في مسائل عقلية لا يناط بها الإسلام و لا الكفر فالمطلوب من المسلم اعتقاده بكونه سبحانه عالماً و قادراً،و أمّا كيفية العلم و القدرة بالزيادة أو العينية فليس من صميم الإسلام، فلكلّ مجتهد دليله و مذهبه،كذلك القرآن هو معجزة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و كتابه سبحانه،فليس الحدوث و القدم من صميم العقيدة و قس على ذلك ما تلوناه عليك من المسائل،حتى أنّ مسألة رؤية اللّه في الآخرة و إن أصبحت عقيدة ضرورية لأجل روايات وردت في صحيح

ص:456

البخاري و لكنها من ضروريات المذهب الكلامي الخاص لا من ضروريات الإسلام،فهناك فرق بين ضروريات المذهب الأشعري و ضروريات الإسلام،فكلّ أشعري يقول بالرؤية تبعاً لإمامه و هو تبعاً للدليل الذي قام عنده و لا يقول به كلّ مسلم.

و قس على ذلك سائر الوجوه المفرقة التي ترجع كلّها إلى فروق كلامية.

و أمّا المناهج الفقهية فالمشهور هي المذاهب الأربعة مضافاً إلى الزيدية و الجعفرية فهذه المذاهب الستة مذاهب فقهية و الاختلاف يرجع إلى الاختلاف في فهم الآية و الرواية فلو اختلفوا فإنّما يختلفون في فهم الكتاب و السنّة و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على اهتمامهم بهما و إمعانهم في فهمهما و الاختلاف أمر طبيعي خصوصاً بعد مضي 14 قرناً من عصر الإسلام.

و لكن اختلافهم في المناهج الفقهية لا يمس بصميم الفقه الإسلامي فهل هناك من يرى صلاة الفجر ثلاث ركعات أو يرى صلاة الظهر و العصر غير أربع ركعات؟

و ليس الاختلاف وليد اليوم،بل بدأ الاختلاف بعد رحيل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أبسط المسائل الفقهية كعدد التكبيرات على الميت إلى أعمقها،فالاختلاف الموروث إنّما هو اختلاف في فهم النصوص لا في رفض النصوص وردها.

و لا شكّ انّ الشيعة ترى جواز الجمع بين الصلاتين مع القول بأنّ التفريق هو الأفضل،و السنّة تخص جواز الجمع بالسفر و مواقف خاصة،و لكلّ دليله،و قد ورد في الصحاح و المسانيد قرابة عشرين رواية بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جمع بين الصلاتين من غير سفر و لا مطر و لا مرض ليوسّع بذلك الأمر على الأُمّة.

و قس على ذلك سائر الاختلافات الفقهية حتى الاختلاف في متعة النكاح،فذهب جمهور السنة إلى النسخ و الشيعة إلى بقاء الجواز،فالاختلاف فيها كالاختلاف في سائر المسائل الناشئة من الاختلاف في النسخ و عدمه.

ص:457

2.الاختلافات القومية

يتشكل المسلمون من قوميات متعددة من عرب و عجم و ترك و بربر إلى غير ذلك من الشعوب و القبائل و لكن هذا الاختلاف، اختلاف تكويني لا يصلح لأن يكون مانعاً عن وحدة الكلمة و قد عالج سبحانه هذا النوع من الاختلاف و قال: «يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ» 1.

فالاختلاف في اللون و اللسان و الدم و الوطن و إن كانت عوامل توحد طائفة كبيرة لكنّها عوامل عرضيّة لا تمت إلى جوهر الإنسان بصلة،و أمّا الإيمان بالأُصول الثلاثة فهو عامل باطني ذاتي أقوى من جميع العناصر المتقدمة.

فالمسلم الشرقي إذا تعارف مع المسلم الغربي مع ما بينهما من الهوة السحيقة يتآخيان،لما بينهما من وحدة المبدأ و المعاد و القيادة و الهدف و أمّا الاخوان من أُمّ و أب واحد إذا كان أحدهما إلهياً و الآخر ماديّاً يتناكران.

أظن انّ هذين المانعين ليسا من موانع الوحدة و قد عالجها الإسلام بشكل واضح،و إنّما هناك عوامل واقعية تعرقل مسير الوحدة و هي بحاجة إلى الدراسة و الوقوف عليها بنحو مسهب.

3.الجهل بمعتقدات الطوائف:

الحقيقة انّ جهل كلّ طائفة بمعتقدات الطائفة الأُخرى يعد من أهمّ الموانع التي تشكل حاجزاً منيعاً عن الوحدة و هذا ليس بالأمر المستسهل،و إليك هذا المثال:

ص:458

كان لي صديق في مكة المكرمة كنت أزوره عند تشرفي إلى زيارة بيت اللّه الحرام و كان يزاول حرفة بيع الأقمشة،سألني يوماً ما تقولون أنتم معاشر الشيعة في آخر الصلاة بعد رفع الأيدي إلى الأُذن؟ قلت:يقولون:اللّه أكبر،اللّه أكبر،اللّه أكبر،فعاد يعتذر و يقول:كنت أعتقد انّكم تقولون:خان الأمين،خان الأمين،خان الأمين!!

فإذا كان هذا مبلغ علم المسلم بعقيدة أخيه الشيعي في قبة الإسلام،فما ظنك بمسلم يسود بينهما آلاف الفراسخ؟! و قد سألني عالم مكي من قضاة مكة المكرمة و مدرسي الحرم عند ما نزلت بيته ضيفاً مع أصدقائي،فقال:شيخنا السبحاني!! هل للشيعة تأليف؟ قلت:

سبحان اللّه ليست الشيعة طائفة لا تاريخ لها و لا جذور،و إنّما هي طائفة إسلامية منذ عصر النبي إلى يومنا هذا قد شاركوا المسلمين في تأسيس الحضارة الإسلامية العريقة.

و نأتي بمثال ثالث:انّ الشيعة الإمامية اقتداءً بالنبي و أئمّة أهل البيت لا يسجدون في الصلاة إلّا على الأرض أو ما ينبت منها، بشرط أن لا يكون مأكولاً و لا ملبوساً،فبما انّ السجود على الأرض في المنازل و حتى المساجد المفروشة غير ميسّرة يتخذون أقراصاً من التربة يسجدون عليها،فعند ذلك نرى أنّ بعض إخواننا من السنّة يرمون الشيعة بالسجود للحجر و التراب كسجود عُبّاد الوثن له مع أنّهم لا يفرّقون بين المسجود عليه و المسجود له،فالتراب هو المسجود عليه و أمّا المسجود له هو اللّه سبحانه.

و على ذلك فلو وقف فقهاء المذاهب على ما لدى الطوائف الأُخرى من الفقه و الأُصول و الاستدلال و الاجتهاد لما عاب أحدهم الآخر،و إنّما الخلاف في كيفية الاستدلال و حقيقة البرهان لا في الأخذ بالبرهان و لو أردنا أن نمثل في المقام لطال بنا الكلام و طال مقامنا مع الحضار.

ص:459

و هناك نكتة أود أن أذكرها هي انّ أكثر من كتب عن الشيعة فإنّما أخذ عن كتّاب ليسوا شيعة كابن خلدون أو من المستشرقين الحاقدين على الإسلام عامة و على التشيع خاصة،أمثال جولد زيهر.

فعلى من يريد نسبة شيء إلى أي طائفة من الطوائف الرجوع إلى مصادرهم الأصلية المؤلفة من قبل علمائهم.

4.الجهل بالمصطلحات

انّ لكلّ طائفة مصطلحات خاصة في العقيدة و الشريعة يجب أن تؤخذ مفاهيمها من كتبهم و ليس لنا تفسيره من جانبنا،و لنذكر هنا مثالين.

أ.البداء

البداء عقيدة إسلامية دلّ الكتاب و السنّة عليها،و هي لا تعني إلّا تغيّر مصير الإنسان بالأعمال الصالحة و الطالحة،فالإنسان بما انّه مسئول عن أعماله بيده تغيير مصيره،فيجعل نفسه من السعداء أو من الأشقياء،و هذا أمر دلّ عليه الكتاب و السنّة.و هذا هو البداء عند الشيعة فقوم يونس بدّلوا مصيرهم السّيئ إلى الحسن بالأعمال الصالحة و الإنابة.قال سبحانه: «فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» 1 .فيقال عندئذ«بدا للّه في قوم يونس»أي ظهر لهم ما خفي عليهم،لا ظهر له-نعوذ باللّه-بعد ما خفي عليه،و هذا النوع من الاستعمال المجازي شايع على لسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم حتى في صحيح البخاري في قضية الأبرص و الأعمى و الأقرع. (1)

ص:460


1- 2) .صحيح البخاري:171/4،حيث جاء فيه:بدا للّه أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً...الخ.

و لكن يُفسر عند من لا يعرف عقائد الشيعة بتغير إرادة اللّه سبحانه و تعالى و ظهور الشيء له بعد خفائه و من المعلوم انّ الأُولى عقيدة إسلامية و الثانية عقيدة إلحادية لا يتفوه بها أحد من المسلمين.

ب.التقية

التقية من المفاهيم الإسلامية،و هي سلاح الضعيف أمام القوي،فإذا خاف المسلم على ماله و عرضه و دمه من أيّ إنسان سواء أ كان كافراً أو مسلماً و أراد شخص قوي سلب حرياته فلا محيص له إلّا كتمان عقيدته و قد أمر به سبحانه و قال: «إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» 1 و قد نزلت في حقّ عمّار بن ياسر حيث أظهر الكفر و أخفى الإيمان و جاء إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم باكياً فقال صلى الله عليه و آله و سلم:لا شيء عليك،فنزلت الآية،و لكنّ التقية يُفسر عند بعض المخالفين بالنفاق،مع أنّ بين التقية و النفاق بوناً شاسعاً،فالتقية إظهار الكفر و إبطان الإيمان،و النفاق على العكس هو إظهار الإسلام و إبطان الكفر.

هذه بعض الموانع الماثلة أمام وحدة المسلمين و هناك عوامل أُخرى لا مجال للبحث فيها على هذه العجالة.

نسأله سبحانه أن يرزق المسلمين توحيد الكلمة

كما رزقهم كلمة التوحيد

ص:461

المقالة الرابعة:الحج عمل عبادي،و ملتقى سياسي

الإمعان و الدقة في الآيات الواردة حول الحجّ و مناسكه و ما رويت حوله من النبي الأكرم و العترة الطاهرة من الروايات و ما استقرت عليه سيرة المسلمين في القرون الأُولى الإسلامية يعرب عن أمرين مهمين،يعرفان ماهية الحجّ و حقيقته و أهدافه و هما:انّ الحجّ عمل عبادي و في الوقت نفسه ملتقى سياسي للمسلمين،و يطيب لي أن أذكر كلا الأمرين بعبارات موجزة مستشهداً بآيات الذكر الحكيم، و ما أثر في ذلك المجال،و الذي يدل على أنّ الحجّ عمل عبادي هو:

1.انّ الحجّ عمل يقصد به الإنسان كسب رضاه سبحانه تلبية لنداء الخليل عليه السلام حيث قام بدعوة الناس إلى الحجّ الذي أقامه بعد انهيار،و عمّره بعد خراب،كما قال سبحانه: «وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ...» 1 .

2.الحجّ تذكار و ذكر للّه سبحانه في كافة مراحله و مواقفه و مراسمه و مشاهده و قد أمر سبحانه في غير واحد من الآيات حجّاج بيته أن يذكروه في جميع المواقف،قال سبحانه: «فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ* ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ

ص:462

اَلنّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» 1 و يقول سبحانه:

«وَ اذْكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» 2 .

3.الحجّ تطهير للنفس عن دنس الأقذار الخلقية و توجيهها إلى المثل العليا و كبح للنفس عن اللذائذ الدانية النفسانية.قال سبحانه:

«الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ...» 3 .

و لأجل انّ الحجّ تطهير للنفوس سميت أعماله مناسكاً و هو من نسك ثوبه أو غسله،فكأنّ تلك الأعمال تغسل ما عليها من صدأ الذنوب و درن الآثام،قال سبحانه: «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ» 4 .

4.الحجّ تدريب و تربية للنفس للغلبة على الهوى و تحصيل التقوى الذي هو خير الزاد للإنسان،قال سبحانه في ثنايا آيات الحجّ: «فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ» 5 .

5.قد كان الهدف الأسمى من تجديد بناء البيت بيد بطل التوحيد،دعوة الناس إلى عبادة اللّه وحده و رفض عبادة الأنداد و الشرك بألوانه،قال سبحانه: «وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ» 6 ،و قال سبحانه: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ» 7 و لأجل ذلك كان شعار الخليل عليه السلام عند بناء البيت و رفع قواعده

ص:463

هو الطلب من اللّه سبحانه أن يجعل ذرّيته أُمّة مسلمة و يريهم مناسكهم و يتوب عليهم بالرحمة.قال سبحانه حاكياً عنه عليه السلام «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» 1 .

6.انّ الخليل أنزل أُسرته بأرض قاحلة عند البيت المحرم لغاية إقامة الصلاة،و في الوقت نفسه طلب من اللّه سبحانه أن يوجه أفئدة الناس إلى هذا البيت لتلك الغاية السامية،قال سبحانه حاكياً عن الخليل: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» 2 .

7.الحجّ تزهيد عن الدنيا و اكتفاء من زخرفها و زبرجها بثوبين يرتدي بأحدهما و يتزر بالآخر و يردد في جميع الحالات الشكر و الثناء امتثالاً لأمره سبحانه: «لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» 3 .

8.الحجّ عمل رمزي لكثير من العبادات و الطقوس الواردة في الشريعة المفروضة في ظروف خاصة،فصار الحجّ بمفرده مظهراً لها و مجسداً لكثير منها حيث نجد فيه الأعمال التالية المعربة عن جانبه العبادي،أعني:النية،الطهارة من الحدث و الخبث،الصلاة،الصوم، الطواف بالبيت،الذبح للّه،إطعام القانع و المعتر من اللحوم،الاعتكاف الذي يجسده الوقوف في المشاعر،و رجم الشيطان العدو الوحيد للإنسان الذي يوسوس في صدور الناس.

كلّ ذلك يعرب عن أنّ الحجّ عبادة للّه و تقرب إليه يصل به الإنسان إلى مدارج الكمال.

غير انّ كون الحجّ أمراً عبادياً أو مجسداً لأكثر العبادات لا ينافي أن يشتمل على بعد آخر فيه حياة للمسلمين و قوام لعيشهم و إقامة لشئونهم الاقتصادية

ص:464

و الاجتماعية و السياسية و العسكرية و الحكومية،و هذا ما نعبر عنه بكون الحجّ ملتقى سياسياً تجتمع فيه هذه الآثار الحيوية،و هذا ما يدعمه أيضاً الذكر الحكيم و تؤيده السنة النبوية و عمل المسلمين في القرون الإسلامية الأُولى.

أمّا الآيات التي ترمز إلى تلك الأبعاد فنكتفي منها بما يلي:

الف.قال سبحانه: «وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً» 1 و المراد من كونه مثابة كونه مرجعاً للناس و المسلمين عامة،و لأجل انّ الحجّ عمل اجتماعي يجب أن يخيم عليه الأمن و يسيطر عليه السلام،حتى يقوم الناس بعمل اجتماعي لأهداف اجتماعية،قال سبحانه:

«وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» 2 ،و قال تعالى حاكياً عن خليله: «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً» 3 .

فالحجّ بما انّه أمر اجتماعي و ملتقى للشعوب المختلفة،بحاجة إلى استتباب الأمن و الهدوء حتى يقوم كلّ إنسان و شعب ببيان فكرته و نظريته و لا يخاف من إنسان و لا دولة،و يتجلّى الحجّ كمنبر حرّ للمسلمين كلّهم،و هذا ما نعبر عنه بكونه عملاً اجتماعياً.

و في جانب ذلك فالحجّ ملتقى ثقافي يلتقي فيه المفكرون الكبار و العلماء في شتى الحقول،فيقومون بعرض الاطروحات و التجارب على الصعيد الثقافي و العلمي و الاقتصادي كي تتعرف كلّ طائفة على ما عند الأُخرى من الأفكار القيمة و النظريات المفيدة فيؤدي ذلك إلى التقاء الأفكار و الاحتكاك بينها.

إذاً الحجّ عمل اجتماعي و ملتقى ثقافي و في الوقت نفسه مؤتمر سياسي سنوي يجتمع فيه قادة المسلمين فيتشاورون في مهام الأُمور بغية التنسيق و التعاون فيما بينهم و لعلّ إلى تلك الجوانب الثلاثة يشير قوله تعالى: «جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ» 4 .

ص:465

فسواء كان القيام بمعنى القوام و ما به حياة المسلمين،أو كان بمعنى ضدّ القعود،فالآية تتضمن نكتة مهمة و هي انّ كيان المسلمين معقود بناصية الحجّ فبه يقومون و في ظلّه قوام حياتهم،فالآية نظير قوله سبحانه: «وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً» 1 .

فوصف سبحانه أموال الناس بكونها قياماً لهم أي بها يقومون في الحياة،أو بها قوام حياتهم الاجتماعية،فاقتران الآيتين يعرب عن كون الحجّ ركناً في حياة المسلمين و بقاء كيانهم.و يشير أيضاً إلى تلك الجوانب قوله سبحانه: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» 2 فكانت الغاية من دعوة كلّ راجل و راكب إلى الاجتماع في أيّام الحجّ خصوصاً في المواقف و المشاهد،حيازة المنافع الكبيرة التي يحتوى عليها الحجّ.فما جاء في الآية تعبير جامع يتضمن كلّ نفع يرجع إلى المسلمين في ذلك الملتقى،و لا يصحّ لنا تخصيصه بالنفع المعنوي بإخراج النفع المادي،أو تخصيصه بنفع دون نفع،ففي ذلك الوفود إلى اللّه سبحانه منافع كثيرة يصطادها المسلمون حسب قابلياتهم و صلاحياتهم.

هذا ما لخصناه للقارئ الكريم من الذكر الحكيم،و أمّا السنّة الشريفة فيكفي في ذلك انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر الإمام عليّاً عليه السلام بأن يتلو آيات البراءة في يوم الحجّ الأكبر.قال سبحانه: «وَ أَذانٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ...» 3 و هل يشك ذو مسكة في أنّ البراءة و رفع الأمان عن المشركين و إمهالهم أربعة أشهر عمل سياسي قام به قائد الإسلام أيّام رسالته و ازدهار دعوته،حتى يكون ذلك قوّة للمسلمين في الأجيال اللاحقة؟

هذا هو الإمام الطاهر الحسين بن علي عليهما السلام أطاح بطاغية عصره ففضحه

ص:466

بعرض جناياته و أعماله المخزية على الصحابة الكرام و التابعين لهم بإحسان في موسم الحجّ في أرض منى،و قد اجتمع تحت منبره قرابة ثمانمائة منهم،و أبان في خطابه موقف أهل البيت من الإسلام،ثمّ ذكر مظالم الجهاز الأموي الحاكم،و طلب من الجميع أن يحملوا خطابه و هتافه إلى إخوانهم و أوطانهم حتى يقفوا على فداحة الكارثة التي ألمّت بهم من جراء تسلم بني أُمية لمنصة الحكم،و قد جاءت خطبته في كتب السير و التاريخ،فمن أراد فليرجع إليها.

و بعد ذلك انّ في سيرة المسلمين لدليلاً واضحاً على أنّ الحجّ ملتقى سياسي وراء كونه عملاً عبادياً،فانّ الاصلاحات الجذرية التي قام بها المفكرون المسلمون قد انعقدت نطفها في الأراضي المقدسة و في موسم الحجّ،فحملوا الفكرة التي تبنّوها في جوار بيت اللّه الحرام و في ذلك المحتشد العظيم،ثمّ غذّوها بفكرتهم و تجاربهم إلى أن أُتيحت لهم الفرص لبناء مجتمع طاهر أو حكومة عادلة أو ثورة عارمة في وجه الطغاة و الظالمين،و بذلك يتضح انّ الحجّ الإبراهيمي ليس مجرد طقوس و سنن يقوم بها الفرد أو الجمع في أيّام معلومات،بل فيه آية العبادة و شارة السياسة و فيه منافع للمسلمين في عاجلهم و آجلهم،فيجب على المسلمين احياء هذه السنة الكريمة الحجّ الحقيقي الذي وضع حجره الأساس إبراهيم الخليل عليه السلام.كلّ ذلك بفضل الحجّ و ببركة ذلك المحتشد العظيم.هذا ما سمح به الوقت،غير انّ للبحث صلة ربما نستوفيه في فرصة أُخرى.

جعفر السبحاني

مكة المكرمة-الخامس من شهر ذي الحجة

من شهور عام 1411 ه

ص:467

المقالة الخامسة:بين الحقائق و الأوهام

اشارة

اتّفق المسلمون قاطبة-إلّا من شذّ منهم-على أنّه يظهر في برهة من الزمن قائد يقوم باصلاح المجتمع الإنساني قاطبة،و ينشر راية العدل في رُبوع الأرض بعد ما مُلئتْ بالجور و الطغيان.

و هذا القائد المثالي العظيم من سلالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قد جاء نبؤه و ثورته العارمة على الفساد في الكتب السماوية،قال سبحانه:

«وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ» 1 .

و من حسنِ الحظِّ أنّ زبور داود عليه السلام الموجود في العهد العتيق يحتوي على مضمون هذه الآية بصراحة. (1)

هذا ما اتّفق عليه المسلمون و أهل الكتاب جميعاً،غير انّ هنا نكتة لا محيص من إلفات نظر القارئ إليها.

إنّ الإمام و إن كان يظهر و يجابه الفسادَ بمنطق الشدة و العنف،و لكن هذا المنطق ليس العماد الوحيد لثورته و سلطته،بل هناك عماد آخر و هو بلوغ الإنسان

ص:468


1- 2) .مزامير:المزمور السابع و الثلاثون،الاصحاح 22:«لأنّ المباركين منه يرثون الأرض،و الملعونين منه يقطعون».

عبر القرون إلى ذروة الكمال من حيث الصناعات و العلوم و تقدمه في معترك العلوم و الفنون و الثقافة على حدّ يُؤمن إيماناً كاملاً بأنّ الظروف الحاضرة لا تستطيع أن تلبِّي حاجاته،و تُعْطي له حياة طيّبة و إنّ المنظمات البشرية مع دويّها و عناوينها الفخمة،لا تُسْعِده أو تُنقذه من محنته و مشكلته.و لأجل ذلك ظلّ يتربص بصيصاً من الأمل حتى تُمدّه عناية غيبيّة في اصلاح المجتمع و إسعاده.

و لأجل هذا الأمل و التفتح العقلي لقبول الدعوة الغيبية،إذا ظهر القائد،الذي وعد اللّه به الأُمم لبّاه كثير من الناس بالإيمان و البيعة،و التضحية و الفداء بلا شك و تردد و يستقبلونه بصدور رحيبة.

إنّ هذا التهيّؤ النابع من صميم الإنسان،هو الذي يُسهِّل لقائد الإصلاح أن يصل إلى الغاية التي أُمر بتحقيقها بسرعة،و إلى ذلك العامل المؤثر يشير الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام:إذا قام قائمنا وضع اللّه يَده على رءوس العباد،فجمع به عقولَهم و كملت به أحلامهم. (1)

إنّ الشيعة قاطبة و كثيراً من أهل السنّة يرون انّ ذلك القائد هو الإمام الثاني عشر و من ذريّة الحسين عليه الصلاة و السلام و نجل الإمام الحسن بن علي العسكري عليهما السلام و قد ولد عام 255 ه،و ظلّ في أحضان والده خمسَ سنين حتى تُوفي الإمام العسكري عليه السلام فتعلقت مشيئة اللّه تعالى بغيبته عن أعين الناس لا عن بيئاتهم،بل يحيى حياة إنسانية كاملة من غير أن يعرفونه إلى أن يأذن له اللّه تبارك و تعالى بالظهور.

و الناظر في حياة الأُمم يقف على أنّ ليس ذلك بأمر بديع،فقد كانت بين الأُمم غيبة للأنبياء و الأولياء حتى انّه سبحانه يأتي بأُنموذج واضح في سورة الكهف،و يُعرِّف إنساناً كان وليّاً راشداً من أوليائه يحيى بين الناس،لم يكن الناس

ص:469


1- 1) .الكليني:الكافي،الجزء 1،كتاب العقل و الجهل،الحديث 21. [1]

يعرفونه حتى النبي موسى عليه السلام.قال سبحانه: «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً» . (1)

غاب الإمام الثاني عشر على إثر وفاة أبيه و قد شاع بين الناس على انّ المهدي المصلح نجل الإمام العسكري عليه السلام و هو الذي يقوّض عروش الجبابرة و الطواغيت،فلأجل ذلك لما انتشر نبأ وفاة أبيه تقاطرت لجانُ التفتيش على بيت الإمام العسكري حتى يعثروا على الوارث الوحيد لإمامته،و لكنّهم رجعوا خائبين،فقد حالت مشيئة اللّه تعالى بينهم و بين ما وعد اللّه به الأُمم في كتب السابقين و اللاحقين.

ما عشت أراك الدهر عجباً

إنّ هناك من ينقض و يبرم في أحاديث الإمام المهدي عليه السلام و بالأخص ما يرجع إلى ميلاده و حياته و سفرائه و هو ليس في حلّ و لا مُرْتَحلٍ،ممّا يرجع إلى علم الحديث و أُصوله و أحكامه و أقسامه.فيا ليت شعري ما ذا جرى على عالم الحديث حتى أخذ الصبيان في الكتاتيب يحلون و يعقدون من دون أن يتلمذوا عند عالم أو يتفقهوا عند محقق. إذا ما فصلت عليا قريش فلا في العير أنت و لا النفير

إلى اللّه المشتكى من أقلام مأجورة أو أوراق،لا تهدف إلّا تكدير الصفو،و تغطية الوقائع المسلّمة،و إنكار الأحداث الواضحة و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم،فستعلمون من أصحاب الصراط السوي و من اهتدى.

نعم إنّ هذا النوع من الخصوم،يقدّم لنا أكبر خدمة و هي استقطاب نظر المحققين إلى الفحص عن الروايات الواردة حول المهدي بشتّى عناوينه فيخرجوا

ص:470


1- 1) .الكهف:65. [1]

عن الدراسة أكثر صلابة،و أكبر رصيداً،مرفوعي الرأس عند أصحاب التحقيق،و حماة الحقائق.

غاب الإمام الثاني عشر عن أعين الناس،و لكن لم تنقطع صلته بهم،و كان بينه و بين شيعته صلة وثيقة عن طريق سفرائه طيلة سبعين سنة (260- 329ه)،و كان سفراؤه هم الذين يتصلون بالإمام،و يبلغونه رسائل شيعته و حوائجهم،فيجيبهم الإمام عن طريقهم و يُرْشدهم،و هؤلاء السفراء هم أكارم جيله،و أصفياء عصره،قد حَمل كل واحد منهم على عاتقه رسالة هداية الناس و رفع حوائجهم، و مجابهة الدعايات الضالة.و هؤلاء عبارة عن:

1.عثمان بن سعيد العمري،و كانت سفارته ما بين 260- 265ه.

2.محمد بن عثمان العمري،و كانت سفارته ما بين 265- 305ه.

3.الحسين بن روح النوبختي،و كانت سفارته ما بين 305- 326ه.

4.علي بن محمد السمري،و كانت ما سفارته بين 326- 329 ه.

لقد مهدت الغيبة الصغرى الناس إلى الإيمان بالغيبة الكبرى التي انقطعت فيها الصلة بين الإمام و الناس،و لو لا الغيبة الأُولى لكان تحمل الغيبة الثانية أمراً شديداً على المجتمع،إلّا أنّ اللّه تعالى بلطفه،جعل الغيبة الصغرى طريقاً للغيبة الكبرى،و سبباً لمزيد الإيمان بها.

الإمام المهدي هو شمس الحياة الطالعة التي لا يُمكن أن تستر بالأوهام و الافتراءات و لا بالدعايات الفارغة و لا بالتحليلات الخاطئة.و لا تجد موضوعاً كهذا الموضوع-موضوع المهدي-تواترت فيه الروايات،و ألّفت فيه كتب و موسوعات منذ بدء حياته إلى يومنا هذا.

نعم تغمرني من الأحاسيس ما تراها متجلية في الأبيات التالية و هي باقة زهور عطرة نقدمها إلى القرّاء جادت بها قريحة بعض المخلصين المجاهرين بولاء

ص:471

أئمّة أهل البيت عليهم. (1)لئن غبت عنا هيكلاً متجسداً فما غاب منك الروح يشرق و الفكر

إلى أن قال: أ ألتاع بالأشواق جهراً و خفيةً

جعفر السبحاني

قم.مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

غرة ذي الحجة الحرام من شهور عام 1416ه

ص:472


1- 1) .للعلاّمة المحقق و الشاعر المفلق:السيد محمود البغدادي.

المقالة السادسة:دراسة علم الكلام حاجة ملحّة

اشارة

الحمد للّه الأوّل فلا شيء قبله،و الآخر فلا شيء بعده،و الظاهر فلا شيء فوقه،و الباطن فلا شيء دونه.و الصلاة و السلام على ذي المقام الأجلّ،الحائز لقصبات السبق في مضمار كلّ فضل،سيدنا و نبينا محمّد مصباح الهدى و ملاذ أهل التقى،و آله الطاهرين الذين مستقرهم خير مستقر و منبتهم أشرف منبت،سلاماً لا بداية له و لا نهاية.

أمّا بعد:

فإنّ التفكير هو العامل المميّز للإنسان عن سائر الحيوانات،فهو يشاركهم في الغرائز و الميول،و لكن يفارقهم بأنّه موجود مفكّر، و في ظل التفكير بسط نفوذه،و بلغ حدّاً حيّر فيها العقول،و أدهش فيه الألباب،و لم يزل دءوباً في تسخير ما خُلِق له.

و قد حاز الفكر على عناية كبيرة في القرآن الكريم حتى نوّه عليه ثماني عشرة مرة بصور مختلفة،إلى أن عاد و جعله من سمات أولي الألباب،و قال: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ* اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ

ص:473

اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ» 1.

كما أنّه سبحانه قد أمر بالتعقّل في غير واحد من الآيات الكونية و قال: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 2.

و الدعوة إلى التفكير و التعقّل في آياته سبحانه ليست لهدف الوقوف على النظام السائد في الكون الذي تتكفّل ببيانه العلوم الطبيعية و الفلكية،بل ثمّة غاية قصوى هي أشرف من الأُولى و هي الوقوف على باطن الكون الذي يعبّر عنه سبحانه بملكوت السماوات و الأرض،و هو عبارة عن جهة تعلقه بخالقه،و قيامه به قيام المعلول بالعلّة،و المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي،و هذا النمط من التفكير يصنع من الإنسان عارفاً موحداً لا يرى شيئاً إلّا و يرى اللّه معه و قبله و بعده،قال سبحانه: «وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» 3 .و قال سبحانه: «أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللّهُ مِنْ شَيْءٍ» 4.

إنّه سبحانه جهز الإنسان بالتفكير و التعقّل،و أعطى له الأدوات المطلوبة،و من أفضلها السمع و البصر،كما أشار إليه في قوله سبحانه: «وَ اللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ

ص:474

بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 1.

و المراد من الشكر في ذيل الآية هو صرف النعمة في مواضعها،فشكر السمع و البصر هو إدراك المسموعات و المبصرات بهما، و شكر الفؤاد هو إدراك المعقولات و غير المشهودات به،فالآية كما تحرّض على إعمال السمع و البصر في درك ظواهر الكون،تحرّض أيضاً على استعمال الفؤاد و القلب و العقل فيما هو خارج عن إطار الحس و غير واقع تحت متناول أدواته،فمَن أراد قصر التعليم و التفكير على ظواهر الكون و حرمان الإنسان عن التفكّر خارج نطاق الحس فقد خالف القرآن الكريم.

كما و انّ من اقتصر على المعرفة الحسية هو أشبه بالطفل الذي لا يتمكن من التحليق في سماء المعرفة،بل يقتصر بما حوله من الأشباه و الصور،كما أنّ من اقتصر على المعرفة العقلية فقد أفرط،و ربّما حُرِم من بعض المعارف التي يكون الحس وسيلة إليها فالإنسان يستخدم الحس و العقل و يُحلِّق بكلا جناحيه في سماء العلم و العرفان،فالقرآن الكريم يُعطي للحس منزلة و مكانة،كما ينمي القابليات الفكرية في الإنسان عن طريق طرح قضايا حسّية ملموسة و عقلية.

قال سبحانه: «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ* أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ* ... أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ* أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ* لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ* إِنّا لَمُغْرَمُونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ* أَ فَرَأَيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ*

ص:475

أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ» 1.

انظر إلى هذا البيان الرفيع و الكلام الرصين كيف يطرح أُسلوب التفكير الصحيح؟ و في نفس الدعوة إلى ظواهر الكون و النظام السائد فيه،دعوة أُخرى للارتقاء إلى معرفة عقلية بحتة،و هو أنّ للنظام صلة بخالق عالم قادر في وضع الكون على أحسن نظام.

يذكر فيها أمر الخلق،و الزرع،و الماء،و النار،و يذكر دور الإنسان فيها،فأمره في الأوّل لا يزيد على أن يُودع الرجل ما يمني في رحم امرأته،ثمّ ينقطع عمله و عملها،فالعقل يحكم بأنّ هناك قدرة غيبية تأخذ بزمام الأُمور،تعمل في هذا الماء المهين،في تنميته و بناء هيكله،و نفخ الروح فيه.

و أمره في الثاني لا يزيد على الحرث و إلقاء الحب و البذر،الذي هو صنعه سبحانه،ثمّ ينتهي دوره،فلا محيص عن وجود قدرة تنميه تحت التراب،و تجعله سنبلاً أو سنابل فيها حبٌّ كثير.

و أمّا الماء فليس للإنسان فيه أيّ دور،لكنّه أصل الحياة و عنصرها،لا تقوم إلّا به،فمَنْ الذي خلقه و أنزله من المزن،و أسكنه في الأرض؟ و مثله النار فليس له فيها شأن سوى أنّه يوقدها،و لكن مَن الذي خلق وقودها،و أنشأ شجرتها التي توقد؟

إنّ الذكر الحكيم عرض هذه الأُمور لغاية الاهتداء بها إلى الحقيقة التي تنتهي إليها هذه الحقائق،و التي تمسك بزمام هذه الظواهر الكونية،و لأجل ذلك ختم الآيات بقوله: «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» .

ص:476

القرآن هو المنطلق لتنمية الفكر الإنساني

ما مرّ من الآيات يُعرب عن أنّ القرآن هو المنطلق الأوّل لتنمية الفكر الإنساني،و حثِّ الإنسان إلى التعقل و التفكير،فمن أراد أن يخلص للّه في العبودية بلا تحليق العقل في سماء المعرفة فقد تغافل عن هذه الآيات و نظائرها التي تأخذ بيد العقل من حضيضه و تقوده إلى أوج المعرفة،قال سبحانه: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ» 1 .فلو فسرنا (الشيء) في الآية بالسبب و العلّة فالجزء الأوّل من الآية يشير إلى برهان الإمكان الذي يقوم على لزوم سبب موجب لخروج الشيء من العدم إلى الوجود،و الجزء الثاني منها يشير إلى بطلان كونهم خالقي أنفسهم،الذي يستقل العقل ببطلانه قبل أن يستقل ببطلان الدور اللازم عليه.

و مَن سبر هذه الآيات و تدبّر فيها يقف على عظمة قوله سبحانه: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» 2.

أئمّة أهل البيت روّاد الفكر

إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام-تبعاً للذكر الحكيم-فتحوا أمام الأُمّة باب التفكير الصحيح في المعارف الإلهية و المسائل العقلية،و أوّل من ولج ذلك النهج هو الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام رائد الفكر،فانّه صلوات اللّه عليه يذكر في خطبه و رسائله و كلماته القصار كثيراً ممّا يرجع إلى أسمائه و صفاته،و العوالم الغيبية مقروناً بالبرهان و الدليل،و كفاك في هذا الباب ما ذكره في كيفيّة وصفه سبحانه التي شغلت بال التابعين و المتكلّمين على مر العصور،يقول سلام اللّه عليه:

ص:477

«أوّل الدين معرفته،و كمال معرفته التصديق به،و كمال التصديق به توحيده،و كمال توحيده الإخلاص له،و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلِّ صفة انّها غير الموصوف،و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة،فمَن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه،و من قرنه فقد ثنّاه،و مَن ثنّاه فقد جزّأه،و من جزّأه فقد جهله،و من جهله فقد أشار إليه،و من أشار إليه فقد حدّه،و من حدّه فقد عدّه،و من قال:فِيمَ، فقد ضمنه،و من قال:عَلام،فقد أخلى منه،كائن لا عن حدث،موجود لا عن عدم،مع كل شيء لا بمقارنة،و غير كلّ شيء لا بمزايلة فاعل لا بمعنى الحركات و الآلة،بصير إذ لا منظور إليه من خلقه،متوحِّد إذ لا سكن يستأنس به،و لا يستوحش لفقده...». (1)

فهو عليه السلام في كلامه هذا يبيّن لنا كيفيّة وصفه سبحانه و تعالى بالعلم و القدرة أوّلاً،كما يبيّن لنا مكانة الممكنات بالنسبة إليه سبحانه ثانياً،ثمّ يبيّن معنى كونه فاعلاً و خالقاً إلى غير ذلك من النكات البديعة في كلامه.

و قد تبعه الأئمّة المعصومون فسلكوا سبيله في تبيين المعارف و العقائد،و إقامة البراهين الصحيحة المأخوذة من الكتاب و السنة أو العقل السليم،و كفى في ذلك ما ألّفه شيخنا الصدوق في كتابه«التوحيد»فإنّه نسخة عقليّة،أو رشح من فيض،جمعه ذلك المحدّث في القرن الرابع.

و يكفيك في الوقوف على بُعد المنهجين (منهج الإمام علي عليه السلام و الأئمّة المعصومين،و منهج أهل الحديث) مقارنة هذا الكتاب بكتاب التوحيد لابن خزيمة (المتوفّى 311ه) (2)الذي ألّفه قريباً من عصر الصدوق في توحيد

ص:478


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة الأُولى. [1]
2- 2) .هو محمد بن إسحاق بن خزيمة بن مغيرة بن صالح النيسابوري مؤلّف كتاب التوحيد و الصفات وفقه الحديث،توفّي عام 311ه عن عمر ناهز 88عاماً.

الصحابة و التابعين،و أسماه«التوحيد و الصفات»فتجد أنّ الكاتبين سلكا مسلكين مختلفين أحدهما يعتمد على الكتاب و السنّة الصحيحة،و العقل الصريح،و تحليل العقائد و المعارف تحليلاً عقلياً رائعاً،معتمداً على الفكر،و أمّا الآخر فهو يعجّ بروايات أكثرها ترجع إلى مستسلمة أهل الكتاب في العصور الأُولى ككعب الأحبار،و وهب بن منبه اليماني،و تميم بن أوس الداري،إلى غير هؤلاء ممّن تلقوا القصص و الحكايات الخرافية من أساتذتهم و بثوها بين المسلمين.

و أنت إذا تفحّصت ما انطوى عليه تفسير الطبري،و الدر المنثور للشيخ السيوطي،تراها عاجّة بروايات منتهية إلى الصحابة و التابعين،و ليس فيها شيء يرجع إلى تحليل العقائد و المعارف،و على ذلك درج الخلف،فصار التعطيل شعاراً لأهل الحديث و من تبعهم.

تدوين علم الكلام حاجة ملحّة

فتح المسلمون البلاد المعمورة بإيمانهم و عزيمتهم الراسخة،فاعتنق الإسلام أُمم كثيرة كانت لهم حضارات عريقة و ديانات مختلفة،فأدّى ذلك إلى احتكاك المسلمين بهم،و كانت نتيجته انتقال الفلسفة اليونانية و الفارسية إلى العواصم الإسلامية،و نشطت من خلالها حركة الترجمة و التعريب،فتُرجمت كتب فلسفية كثيرة تحمل طابع الفلسفة اليونانية و الرومانية و الفارسية في طياتها،و هذه الحركة قد تركت خيراً كثيراً،حيث اطّلع المسلمون من خلالها على العلوم الطبيعية و الرياضية،و الفلكية،و ما وراء الطبيعة،و شكّل ما ورثوه عن طريق الترجمة فيما بعد النواة الأُولى لإرساء قواعد هذه العلوم و إكمالها،حتى تألق نجم العلم في المشرق الإسلامي،و صار مركزاً و محطاً يقصده روّاد العلم و المعرفة من كلّ حدب و صوب.

إلّا أنّ تلك الحركة قد تركت آثاراً سلبية حيث بذرت شبهاً كثيرة في حقل

ص:479

العقائد و الأحكام بين المسلمين،خصوصاً غير المتدرّعين منهم بسلاح العلم و البرهان،فاشتدّ حمى الجدال بين المسلمين و روّاد الأفكار الدخيلة.

كما أنّه كان لوجود الأسرى أثرٌ فعالٌ في طلي الشبه و سوقها في بوتقة البرهان ردّاً على العقائد الإسلامية،نظراء ابن أبي العوجاء و حماد بن عجرد،و يحيى بن زياد،و مطيع بن أياس،و عبد اللّه بن المقفع،الذين كان لهم نشاطٌ ملموس في زعزعة عقائد العامة.

و كان لظاهرة الترجمة،و انتشار الشُّبه بين المسلمين،تأثيرٌ مهم في شحذ همم المفكرين من المسلمين بغية الوقوف أمامها، و بذلك نشأ علم الكلام و دونت رسائل في الذّب عن العقيدة و التدرّع بنفس السلاح الذي تدرّع به المخالف،فلم يمض القرن الأوّل إلّا و تجد حلقات شكلت لهذا العلم طرحت فيها المسائل الكلامية على طاولة البحث لتفنيد حجج المخالفين و إبطالها.

نعم قام بعض السذّج من أهل الحديث بتحريم علم الكلام،و الوقوف أمامه،ودعوا إلى نبذه،بزعم أنّهم بذلك يقدمون أفضل خدمة للإسلام و عقيدته،غافلين عن أنّ سلب هذا السلاح من يد المفكرين من المسلمين يوجب استيلاء الإلحاد على الربوع الإسلامية.

كلّ هذا و ذاك دعا المفكرين إلى تأسيس علم الكلام،و قد استلهموا في ذلك من الكتاب العزيز،و خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام و مدرسة الأئمّة من بعده التي تركت بصمات واضحة على زعزعة الحركة الإلحادية،و جعل الشبه و الردود في مدحرة البطلان،و لذلك كان تدوين علم الكلام حاجة ملحّة لا ترفيهية،و قد أخذ علم الكلام على عاتقه الذب عن حياض العقيدة الإسلامية،باستعراض البراهين العقلية تارة،و بإعمال أساليب الجدل و المناظرة تارة أُخرى،و قد بلغ هذا العلم ذروته و ظهرت مناهج كلامية مختلفة تنتهي جذورها إلى ما ورثوه من الكتاب،و خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

ص:480

دعاة التفكير في المعارف

كان لأهل الحديث صيت واسعٌ في أرجاء العالم الإسلامي،و كانت الأكثرية تبعاً لهم،و قد وُجِد في صفوف المسلمين من نادى بالتفكير و إقامة البرهنة على المعارف و تحليلها على ضوء الدليل العقلي،كلّ ذلك استلهاماً من الذكر الحكيم و خطب الإمام أمير المؤمنين و ما آثر من أهل بيته المعصومين.

قال ابن أبي الحديد (1):إنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي،لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم،و معلومه أشرف المعلومات،و من كلامه عليه السلام اقتُبِس و عنه نُقِل،و إليه انتهى. (2)

و ما ذكره ابن أبي الحديد هو الذي يدعمه تاريخ علم الكلام،فإنّ المناهج المعروفة في علم الكلام لا تتجاوز عن أربعة و هي:

الأوّل:الإمامية.

الثاني:المعتزلة.

الثالث:الأشاعرة.

الرابع:الماتريدية.

و هذه المدارس الكلامية على الاختلاف السائد بينها تنتهي جذورها إلى الإمام علي عليه السلام.

أمّا الإمامية فهم شيعة علي عليه السلام في عامّة المجالات،و أمّا المعتزلة فمؤسّسها واصل بن عطاء (80-131ه) و عمرو بن عبيد (80 -143ه) و قد أخذ واصل

ص:481


1- 1) .هو عز الدين أبو حامد بن هبة اللّه بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني،توفي عام 655ه.
2- 2) .شرح نهج البلاغة:17/1.

و عمرو عن أبي هاشم بن محمد بن الحنفية،و أخذ أبو هاشم عن أبيه محمد بن الحنفية،و أخذ محمد عن أبيه علي بن أبي طالب. (1)

و أمّا المنهج الأشعري فمؤسسه هو الإمام أبو الحسن الأشعري (260-330ه) فقد اتّفقت كلمتهم على أنّه خريج مدرسة أبي علي الجبّائي(235-330ه) و إمام المعتزلة،و إن عدل عن ذلك المنهج و أسّس منهجاً معتدلاً بين أهل الحديث و الاعتزال،و لكنّه تبحّر في إقامة البرهان و الاستدلال على المعارف في منهج الاعتزال،فهو عيال على المعتزلة.

و أمّا الماتريدية فمشيّد أركانها هو الإمام محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي (260-333ه) و قد عاصر الماتريدي الإمام الأشعري و كانا يعملان على صعيد واحد،و كلٌّ يكافح الاعتزال،و يدعو إلى منهج متوسط بين المنهجين،و لكن المنهج الماتريدي أقرب إلى الاعتزال من المنهج الأشعري،و المنهج الذي اختاره الماتريدي و أوضح براهينه،هو المنهج الموروث عن أبي حنيفة (80-150ه) في العقائد و الكلام و الفقه و مبادئه،و التاريخ يحدثنا أنّ أبا حنيفة كان صاحب حلقة في الكلام قبل تفرغه لعلم الفقه،و قبل اتصاله بحمّاد بن أبي سليمان،الذي أخذ عنه الفقه.

هؤلاء هم دعاة التفكير في المعارف على اختلاف و جهات نظرهم.

المعطّلة خصوم العقل

ارتحل النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى دار البقاء،و ترك شريعة بيضاء،و كتاباً هو خزانة المعارف،و أمر الأُمّة بالتدبّر و التفكّر فيه دون فرق بين ما يرجع إلى آيات الأحكام،أو قصص الأقوام،و الأنبياء،أو المعارف و العقليات،فقال سبحانه: «كِتابٌ

ص:482


1- 1) .طبقات المعتزلة:164. [1]

أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» 1.

و مع هذه الدعوة المؤكدة التي نادى بها القرآن ظهرت فرقة في العصور الأُولى صارت سمتهم و شعارهم إعدام العقل و تعطيله عن التفكّر فيما وراء الحس،ممّا يرجع إلى أسمائه سبحانه و صفاته و غير ذلك،و قالوا معتذرين في تعطيل العقل«إنّ ما أُعطينا من العقل لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية،فمن شغل ما أُعطي لإقامة العبودية بإدراك الربوبية فاتته العبودية و لم يدرك الربوبية». (1)

و كأنّ العبودية عند القائل هي القيام و القعود و الإمساك،التي هي من واجبات الأعضاء،و غاب عنه أنّ العبودية تقوم على ركنين، ركن منه يرجع إلى الأعضاء و الجوارح،و ركن آخر إلى العقل و اللّب،فتعطيل العقل عن معرفة المعبود بالمقدار الميسور تعطيل للعبودية.

فالاقتصار في معرفة الربّ بالعبودية الظاهرية من القيام و القعود من دون التعرّف على ما للمعبود من جمال و جلال،يؤدي إلى كون عبودية الإنسان أدون من عبودية الجماد،إذ الجماد ربّما يستشعر عظمة الخالق،حسب مقدرته،قال سبحانه: «وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ» 3.

و العجب انّ هذا النمط من الجمود قد عاد إلى الساحة الفكرية باسم السلفية،و أخذ لنفسه طابعاً جديداً،و صار الجهل بالمعارف و إعدام العقل عن التفكير مفخرة نادى بها أصحابها،و بذلك انقادوا لما في الصحاح و المسانيد،من

ص:483


1- 2) .علاقة الإثبات و التفويض:33.

التشبيه،و التجسيم،و إثبات الجهة بلا اكتراث.

قال ابن تيمية-مثير الدعوة السلفية بعد اندراسها-:إنّ للّه يدين مختصتين به ذاتيتين له كما يليق بجماله،و انّه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة،و إبليس،و انّه سبحانه يقبض الأرض و يطوي السماء بيده اليمنى. (1)

و هذه العبارة و نظائرها التي طفحت بها كتب السلفية ترمي إلى أحد أمرين إمّا التجسيم و التشبيه،أو تعطيل العقول عن معرفة الكتاب العزيز.

فإنّ اليد و الوجه و الرجل موضوعات في اللّغة العربية للأعضاء خاصة،فلو أُريد المعنى الحقيقي يلزم منه التشبيه،و إن أُريد المعنى الكنائي فهذا هو التأويل عندهم،و هم يفرّون منه فلم يبق هناك معنى ثالث حتى يتبعه السلفية.

و قد بلغ بهم التزمّت بمكان حدا بهم أن لا يقيموا للبحوث العقلية وزناً.

يقول ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة،عن طريق الأهوازي:قرأت عن علي القومسي،عن الحسن الأهوازي،قال:سمعت أبا عبد اللّه الحمراني يقول:لما دخل الأشعري بغداد جاء إلى البربهاري فجعل يقول:رددت على الجبائي و على أبي هاشم و نقضت عليهم و على اليهود و النصارى و المجوس و قلت و قالوا،و أكثر الكلام،فلمّا سكت،قال البربهاري:و ما أدري ممّا قلت لا قليلاً و لا كثيراً،و لا نعرف إلّا ما قاله أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل،فخرج من عنده و صنّف كتاب«الإبانة»فلم يقبله منه. (2)

ص:484


1- 1) .مجموعة الفتاوى:362/6.
2- 2) .ابن عساكر الدمشقي:تبيين كذب المفتري:391،قسم التعليقة.

علم الكلام في القرن الخامس

بلغ علم الكلام ذروته في الكمال،و ظهر في المنهج الأشعري لفيف من الأعلام منهم:

1.القاضي أبو بكر الباقلاني (المتوفّى 403ه) مؤلّف كتاب«التمهيد»في الرّد على الملاحدة،و هو كتاب كلامي يعرف منه آراؤه الكلامية في مختلف الأبواب.

2.أبو منصور عبد القاهر البغدادي (المتوفّى 429ه) مؤلّف كتاب«الفرق بين الفرق»في الملل و النحل و«أُصول الدين»طبع غير مرّة.

3.إمام الحرمين الجويني (المتوفّى 478ه) مؤلّف كتاب«الإرشاد»في أُصول الدين،و قد طبع غير مرّة.

كما ظهر في المنهج المعتزلي روّاد فطاحل منهم:

1.قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى 415ه)مؤلف كتاب«المغني»في عشرين جزءاً،و هو أبسط كتاب كلامي أُلّف في هذا المضمار.

2.أبو الحسين البصري (المتوفّى 436ه) مؤلّف كتاب«شرح الأُصول الخمسة»التي بني الإسلام عليها.

كما برع في المنهج الإمامي نوابغ الكلام،منهم:

1.شيخ الأُمّة شيخنا المفيد (336-413ه) يعرّفه ابن النديم:أبو عبد اللّه،في عصرنا انتهت رئاسة متكلّمي الشيعة إليه،مقدّم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه،دقيق الفطنة،ماضي الخاطرة،شاهدته فرأيته بارعاً. (1)و له كتب كثيرة في علم الكلام مذكورة في فهرس كتبه. (2)

ص:485


1- 1) .فهرست ابن النديم:266. [1]
2- 2) .النجاشي،الرجال:104/2 برقم 706.

2.علي بن الحسين الشريف المرتضى (355-436ه) تلميذ الشيخ المفيد.

عرّفه تلميذه النجاشي بقوله:حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه،و سمع من الحديث فأكثر،و كان متكلماً شاعراً أديباً، عظيم المنزلة في العلم و الدين و الدنيا،و من كتبه الكلامية:«الشافي»في نقض المغني للقاضي عبد الجبار في قسم الإمامة،و كتاب«تنزيه الأنبياء و الأئمّة»و«الذخيرة»في علم الكلام،و غيرها من الرسائل (1)و شرح جمل العلم و العمل.

3.أبو الصلاح التقي بن الحلبي (374-447ه)مؤلف«تقريب المعارف»في الكلام،مطبوع.

4.و أخيرهم لا آخرهم محمد بن الحسن الطوسي (385-460ه).

يعرّفه زميله النجاشي بقوله:جليل من أصحابنا،ثقة،عين،من تلاميذ شيخنا أبي عبد اللّه.

و يعرّفه العلاّمة بقوله:شيخ الإمامية و رئيس الطائفة،جليل القدر،عظيم المنزلة،ثقة،عين،صدوق،عارف بالأخبار و الرجال و الفقه و الأُصول و الكلام و الأدب،و جميع الفضائل تنتسب إليه،و له في الكلام كتب كثيرة منها:الجمل و العقود،تلخيص الشافي في الإمامة،و مقدّمة في المدخل إلى علم الكلام (2)،و الاقتصاد،و الرسائل العشر.

ص:486


1- 1) .النجاشي:الرجال،برقم 706.
2- 2) .النجاشي:الرجال،برقم 1069،و الخلاصة:148.

علم الكلام في القرن السادس

ما أن أطل القرن السادس إلّا و قد أفل نجم المعتزلة،حيث وضع فيهم السيف،من قبل الخلافة العباسية فلا نجد لهم أثراً و ذكراً إلّا أنّ الزمخشري مؤلّف الكشاف قد أورد آراءهم في تفسيره،و كان غياب المعتزلة عن المسرح الفكري خسارة جسيمة للمنهج العقلي،و قد بلغ التعصّب بمكان حتى أن أُحرقت كتبهم،و قتل أعلامهم و شرّدوا،و الحديث ذو شجون. (1)

و أمّا المنهج الأشعري فقد نبغ فيه أعلام في الكلام،منهم:

1.حجّة الإسلام الغزالي(450-505ه)و من كتبه«قواعد العقائد»فقد اقتفى أثر إمامه الأشعري،و يلتقي معه في كثير من الآراء و المباني،و قد أوضحنا حال الكتاب و المؤلّف في كتابنا«بحوث في الملل و النحل». (2)

2.أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (437- 548ه) مؤلّف كتاب«الملل و النحل»و«نهاية الإقدام»في علم الكلام،إلى غير ذلك من الكتب.

كما و احتفل المنهج الإمامي في القرن السادس في حقل الكلام بمتكلّمين بارعين،بلغوا القمّة في تحقيق الأُصول الكلامية،و قد عجنوا ما ورثوه عن مشايخهم و أسلافهم في القرون السالفة،و ما جادت به قريحتهم العلمية،و نذكر المشاهير منهم:

1.قطب الدين المقري النيسابوري من مشايخ السيد ضياء الدين أبي الرضا فضل اللّه الراوندي (المتوفّى حدود 547) مؤلف كتاب الحدود (المعجم الموضوعي للمصطلحات الكلامية و غيره) و قد طبع.

2.الفضل بن الحسن الطبرسي،مؤلّف مجمع البيان (المتوفّى 548ه) و له في تفسيره بحوث كلاميّة مهمة.

ص:487


1- 1) .لاحظ الجزء الثاني من كتابنا«بحوث في الملل و النحل».
2- 2) .بحوث في الملل و النحل:325/2- 339.

3.الحسين بن علي بن محمد بن أحمد المعروف ب«أبي الفتوح الرازي»(المتوفّى 552ه) و كتابه مشحون بالبحوث الكلامية.

4.محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني (المتوفّى 558ه)و قد ذكر فهرس كتبه المختلفة في معالم العلماء.

5.قطب الدين سعيد بن هبة اللّه الراوندي (المتوفّى 573ه) مؤلف كتاب تهافت الفلاسفة،و جواهر الكلام في شرح مقدمة الكلام.

6.سديد الدين الشيخ محمود الحمصي المتوفّى في أواخر القرن السادس،مؤلّف«المنقذ من التقليد»مطبوع.

7.أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي صاحب«الاحتجاج»توفي في أواسط القرن السادس.

8.مؤلّفنا الجليل السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي (511-585ه).

و من أشهر كتبه غنية النزوع إلى علمي الأُصول و الفروع.

يقع المؤلَّف في جزءين أحدهما في علم الكلام،و الآخر في علم الأُصول،فكان مشتملاً على علوم ثلاثة،و الناظر في الكتاب يلمس انّ المؤلف يتمتع بموهبة كبيرة في التفكير الكلامي،و الأُصولي،فله هناك آراء و أفكار و على صعيد آخر فقد استفاد من كتب«شرح جمل العلم و العمل»للسيد المرتضى و«تقريب المعارف»لأبي الصلاح الحلبي و«الاقتصاد»و«الرسائل العشر»لشيخ الطائفة الطوسي، و من كتب المعتزلة«شرح الأُصول الخمسة»للقاضي عبد الجبار،و أضاف إليها ما جادت به قريحته،و ذهنه الوقّاد،فرحم اللّه مؤلّفنا الجليل حيث استوعب البحث في العلوم الثلاثة،و أتى بكتاب بديع قلّ نظيره.

جعفر السبحاني

قم المقدسة

ص:488

المقالة السابعة:واقع التشريع الإسلامي معالمه و ملامحه

اشارة

(1)

التشريع أحد أركان الحضارة فلا تجد مجتمعاً حضارياً إلّا و عنده قوة التشريع و التقنين و هذا ممّا لا كلام فيه.

و إنّما الكلام في الأصل الذي يعتمد عليه التشريع و يستمد منه.فهناك منهجان:

منهج يعتمد في التحليل و التحريم على رأي الأكثرية فما صوبته الأكثرية يُصبح قانوناً محترماً لدى الكل و ما لم تصوّبه الأكثرية يكون مرفوضاً.

و منهج يعتمد في التشريع على الواقعيات و المصالح و المفاسد فما كان واقعياً و صالحاً للبشرية فهو القانون السائد،و ما لم يكن كذلك لا يعتبر أبداً.

و الإسلام في تشريعه يتبع المنهج الثاني،لأنّ التشريع بيد اللّه سبحانه و تعالى وحده،فلا حاجة إذاً إلى رعاية التصويت و التصويب،و تتجلى واقعية التشريع الإسلامي في ملامحه و معالمه.

فالتشريع الإسلامي يتميز بملامح بينما هي ملامح ثبوتية ترجع إلى مادة التشريع و روحه،و بينما هي ملامح إثباتية ترجع إلى دلالة التشريع.

ص:489


1- 1) .أُلقيت في المؤتمر العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية المنعقد في طهران عام 1419ه.

فما يرجع إلى القسم الأوّل يتلخص في أُمور ستة:

1.الفطرة الإنسانية هي المقياس في التقنين.

2.التشريع حسب المصالح و المفاسد الواقعية.

3.النظر إلى المادة و الروح على حدّ سواء.

4.النظر إلى الحقائق دون الظواهر.

5.المرونة في التشريع.

6.العدالة في التقنين.

فلنأخذ كلّ منها بالبحث واحداً تلو الآخر ثمّ نرجع إلى بيان ملامح التشريع الإسلامي في مقام الدلالة و الإثبات.

أمّا الملامح الثبوتيّة فهي عبارة:

1.الفطرة هي المقياس

إنّ للإنسان مع قطع النظر عن الظروف الموضوعية المحيطة به شخصية تكوينية ثابتة لا تنفك عنه عبر الزمان،فالغرائز السِّفْلية و العلويّة هي التي تكوّن شخصيته و لا تنفك عنه ما دام الإنسان إنساناً،فجعل الإسلام الفطرة معياراً للتشريع،فكلّ عمل يتجاوب و ينساق مع الفطرة فقد أحلّه،و ما هو على موضع الضدّ منها فقد حرّمه.

فقد ندب إلى الروابط العائلية و تنسيق الروابط الاجتماعية،كرابطة الولد بوالديه،و الأخ بأخيه،و الإنسان المؤمن بمثله،كما قد حذّر عمّا ينافي خلقه و إدراكه العقلي،كتحريمه الخمر و الميسر و السفاح،لما فيها من إفساد للعقل الفطري و النسل و الحرث.

فالأحكام الثابتة في التشريع القرآني تشريع وفق الفطرة.

ص:490

2.التشريع حسب المصالح

نعم ثمة ميزة أُخرى للتشريع القرآني،و هو أنّه مبني على المصالح و المفاسد الواقعية.فلا واجب إلّا لمصلحة في فعله،و لا حرام إلّا لمصلحة في تركه،قال سبحانه: «إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» . (1)و قال سبحانه: «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ» . (2)

و على هذا الأساس فقد عقد فقهاء الشيعة باباً خاصاً باسم تزاحم الأحكام في ملاكاتها حيث يقدّم الأهم على المهم،و يتوصل في تمييزهما بالقرائن المفيدة للاطمئنان.

3.النظر إلى المادة و الروح على حد سواء

آلف القرآن بتعاليمه القيّمة بينهما مؤالفة تفي بحقّ كلّ منهما حيث يفسح للإنسان أن يأخذ قسطه من كلّ منهما بقدر ما يصلحه.

لقد غالت المسيحية (الغابرة) بالاهتمام بالجانب الروحي من الإنسان حتى كادت أن تجعل كلّ مظهر من مظاهر الحياة المادية خطيئة كبرى،فدعت إلى الرهبانية و التعزب،و ترك ملاذّ الحياة،و الانعزال عن المجتمع،و العيش في الأديرة و قلل الجبال و التسامح مع المعتدين.

كما غالت اليهودية في الانكباب على المادة حتى نسيت كلّ قيمة روحية،و جعلت الحصول على المادة بأي وسيلة كانت، المقصد الأسنى،ودعت إلى القومية الغاشمة.

ص:491


1- 1) .المائدة:91. [1]
2- 2) .العنكبوت:45. [2]

لكن الإسلام أخذ ينظر إلى واقع الإنسان بما هو كائن ذو بعدين،فبالبعد المادي لا يستغني عن المادة،و بالبعد الروحي لا يستغني عن الحياة الروحية،فأولاهما عنايته،فدعا إلى المادة و الالتذاذ بها بشكل لا يُؤثرها على حياته الروحية،كما دعا إلى الحياة الروحية بشكل لا يصادم فطرته و طبيعته؛و هكذا فقد قرن بين عبادة اللّه و طلب الرزق و ترفيه النفس،فندب إلى القيام بالليل و إقامة النوافل،و في الوقت نفسه ندب إلى طلب المعاش و توخّي اللّذة،قال سبحانه:

«وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً» (1)و قال أيضاً: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» . (2)

و قال علي أمير المؤمنين عليه السلام:«للمؤمن ثلاث ساعات:فساعة يناجي فيها ربه،وساعة يرمُّ معاشه،وساعة يُخلّي بين نفسه و بين لذّتها». (3)

4.النظر إلى المعاني لا الظواهر

إنّ التشريع القرآني ينظر إلى الحقائق لا إلى القشور،فلا تجد في الإسلام مظهراً خاصاً من مظاهر الحياة يكون له من القداسة ما يمنع من تغييره و يوجب حفظه إلى الأبد بشكله الخاص،فليس هناك تناقض بين تعاليمه و التقدّم العلمي.

فلو كان التشريع الإسلامي مصرّاً على صورة خاصة من متطلبات الحياة لما انسجم مع الحياة،فمثلاً ينهى الإسلام عن أكل الأموال بالباطل،و على هذا فرّع الفقهاء حرمة بيع الدم لعدم وجود منفعة محلّلة له في تلك الأعصار الغابرة بيد انّ

ص:492


1- 1) .الفرقان:64. [1]
2- 2) .الأعراف:32. [2]
3- 3) .نهج البلاغة:باب الحكم،الحكمة 390،طبعة صبحي [3]الصالح.

تقدّم العلوم و الحضارة أتاح للبشر أن يستخدم الدم في منافع محلّلة لم يكن لها نظير من قبل،فعادت المعاملة بالدم في هذه الأعصار معاملة صحيحة لا بأس بها،و ليس هذا من قبيل نسخ الحكم،بل من باب تبدّل الحكم بتبدّل موضوعه كانقلاب الخمر خلاً.

فالإسلام حرّم أكل المال بالباطل،فما دام بيع الدم مصداقاً لتلك الآية كان محكوماً بالحرمة،فلمّا أُتيح للبشر أن يستفيد منه في علاج المرضى خرج عن كونه مصداقاً للآية،و هذا هو الذي عبّرنا عنه في عنوان البحث بأنّ الإسلام ينظر إلى المعاني لا إلى القشور.

5.المرونة في التشريع

إنّ من ملامح التشريع القرآني مرونته و قابليته للانطباق على جميع الحضارات الإنسانية،و ما ذلك إلّا لأنّه جاء بتشريعات خاصة لها دور التحديد و الرقابة على سائر تشريعاته،و هذا التشريع أعطى للدين مرونة و منعطفاً جديداً قال سبحانه: «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» . (1)و قال: «ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» . (2)

و قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«لا ضرر و لا ضرار». (3)

فحدّد كلَّ تشريع بعدم استلزامه الضرر و الضرار،فأوجب التيمم مكان الوضوء إذا كان استعمال الماء مضرّاً،كما أوجب الإفطار على المريض و المسافر

ص:493


1- 1) .الحج:78. [1]
2- 2) .المائدة:6. [2]
3- 3) .الوسائل:364/12 ح 3 و 4،الباب 17 من أبواب الخيار.

لغاية اليسر،قال سبحانه: «وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» . (1)إلى غير ذلك من الآيات و الروايات التي لها دور التحديد و الرقابة.

و جاء في الحديث عن الصادع بالحقّ أنّه قال:«بعثت بالحنيفية السمحة». (2)

و قال الإمام الصادق عليه السلام:«إنّ هذا الدين لمتين،فأوغلوا فيه برفق،لا تكرهوا عبادة اللّه لعباد اللّه». (3)

6.العدالة في التقنين

و من ملامح التشريع القرآني،العدالة حيث تراها متجلّية في كافة تشريعاته،خاصة فيما يرجع إلى القانون و الحقوق،قال سبحانه:

«وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» . (4)

و قال تعالى: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ». 5

و قال تعالى: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ» . (5)

و قال سبحانه: «وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» . (6)

و قال سبحانه: «وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ» . (7)

ص:494


1- 1) .البقرة:185. [1]
2- 2) .أحمد بن حنبل:المسند:266/5.
3- 3) .الكافي:70/2 ح1. [2]
4- 4) .البقرة:190. [3]
5- 6) .الشورى:40. [4]
6- 7) .الأنعام:164. [5]
7- 8) .البقرة:228. [6]

إلى غير ذلك من الآيات التي تدلّ على أنّ هيكل التشريع الإسلامي بُني على أساس العدل و القسط.

هذه الملامح ترجع إلى سمات القانون الإسلامي ثبوتاً.

ملامح التشريع الإسلامي في مقام الإثبات

اشارة

أمّا سماته في عالم الإثبات و الدلالة فهي عبارة عن الأُمور التالية:

أ.شموليته لعامة الطبقات.

ب.سعة آفاق دلالة القرآن و الحديث.

ج.التدرّج في التشريع.

أ.شمولية التشريع

أخذ القرآن الإنسان محوراً لتشريعه،مجرّداً عن النزعات القومية و الوطنية و الطائفية و اللونية و اللسانية،فنظر إلى الموضوع بنظرة شمولية و قال: «يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » . (1)

التشريع القرآني تشريع من جانب رب العالمين إلى نوع البشر،فالوطن و القوم و القبيلة لم تؤخذ بنظر الاعتبار،و الكرامة للإنسان وحده،و لا فضل لإنسان على آخر إلّا بالمُثُل و الأخلاق.

فترى أنّه يخاطب المجتمع الإنساني بقوله: «يا أَيُّهَا النّاسُ» أو «يا بَنِي آدَمَ» أو«يا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ» و ما ضاهاها،فكسر جميع الحواجز و القيود التي

ص:495


1- 1) .الحجرات:13. [1]

يعتمد عليها المفكّر المادي في التقنين الوضعي،و الذي يقتفي إثر اليهود في مزعمة الشعب المختار.

إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو القائل:انّ العربية ليست بأبٍ والد،و لكنها لسان ناطق فمن قصر به عمله لم يبلغه حسبه (1)،و في الوقت نفسه لا يعني بكلامه هذا انّ العلائق الطبيعية،كالانتماء الوطني أو القومي بغيضة لا قيمة لها،و إنّما يندّد باتّخاذها محاور للتقنين،و سبباً للكرامة و المفخرة،أو سبيلاً لتحقير الآخرين،و إيثارها على الدين و العقيدة،يقول سبحانه: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» . (2)

و العجب انّه قد صدر هذا من لدن إنسان أُمّي نشأ في بيئة تسودها خصلتان على جانب الضد من هذا النمط من التشريع،و هما:

الأُمّية و التعصّب.

و هذا الإنسان المثالي صان بأنظمته كرامة الإنسان،و رفعه إلى الغاية القصوى من الكمال،و أخذ يخاطب ضميره الدفين،و مشاعره النبيلة،و يكلّفه بما فيه صلاحه،و يقول:

«هذا بَيانٌ لِلنّاسِ» . (3)

«هذا بَلاغٌ لِلنّاسِ» . (4)

«بَصائِرَ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً» . (5)

ص:496


1- 1) .الكافي:246/8 برقم 342. [1]
2- 2) .المجادلة:22. [2]
3- 3) .آل عمران:138. [3]
4- 4) .إبراهيم:52. [4]
5- 5) .القصص:43. [5]

«يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ» . (1)

و إذا قورن هذا النوع من التشريع الذي ينظر إلى الإنسان بنظرة شمولية و برأفة و رحمة،دون فرق بين عنصر و آخر،بالتقنين الوضعي السائد في أعصارنا في الشرق و الغرب،الناظر إلى الإنسان من منظار القومية أو الطائفية و غيرهما من النزعات المقيتة،لبان انّ التشريع الأوّل تشريع سماوي لا صلة له بتلك النزعات،و الآخر تشريع بشري متأثر بنظرات ضيّقة تجود لإنسان و تبخل لآخر،و كفى في ذلك فرقاً بين التشريعين.

ب.سعة آفاق دلالة القرآن و الحديث

إنّ من تمعّن في القرآن الكريم و تدبّر في معانيه و مفاهيمه،وقف على سعة آفاق دلالته على مقاصده،غير انّ ثلّة من الفقهاء مرّوا على القرآن مروراً عابراً مع أنّه سبحانه يعرّف القرآن بقوله: «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» . (2)

و على ضوء ذلك لا غنى للفقيه عن دراسة آيات الأحكام دراسة معمّقة ثاقبة،ليجد فيها الجواب على أكثر المسائل المطروحة، و لا ينظر إليها بنظرة عابرة.

و قد استدل أئمة أهل البيت عليهم السلام بالقرآن على كثير من الأحكام التي غفل عنها فقهاء عصرهم،و نذكر هنا نموذجاً على ذلك:

قُدّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة،فأراد أن يقيم عليه الحد،فأسلم،فقال يحيى بن أكثم:الإيمان يمحو ما قبله، و قال بعضهم:يضرب ثلاثة حدود.فكتب المتوكل إلى الإمام الهادي عليه السلام يسأله،فلمّا قرأ الكتاب،كتب:«يضرب حتى يموت».فأنكر الفقهاء ذلك،فكتب إليه يسأله عن العلّة،

ص:497


1- 1) .يونس:57. [1]
2- 2) .النحل:89. [2]

فكتب: بسم اللّه الرّحمنِ الرَّحيم: «فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ» 1 .فأمر به المتوكل،فضرب حتى مات. (1)

تجد انّ الإمام الهادي عليه السلام استنبط حكم الموضوع من آية مباركة،لا يذكرها الفقهاء في عداد آيات الأحكام،غير انّ الإمام لوقوفه على سعة دلالة القرآن،استنبط حكم الموضوع من تلك الآية،و كم لها من نظير.و لو انّ القارئ الكريم جمع الروايات التي استشهد بها أئمّة أهل البيت على مقاصدهم استشهاداً تعليمياً لا تعبدياً لوقف على سعة آفاق القرآن.

و ها نحن نذكر مثالين على سعة آفاق دلالته:

1.إنّ الأُصوليين تحمّلوا عبئاً ثقيلاً لإثبات كون الأمر موضوعاً للوجوب و مجازاً في الندب،فإذا ورد الأمر في الكتاب احتاجوا في استفادة الوجوب منه إلى نفي المدلول المجازي،بإجراء أصالة الحقيقة.

و لكن هذا النمط جار في المحاورات العرفية،و القرآن في غنى عنها في أغلب الموارد أو أجمعها،فإنّ لاستفادة الوجوب أو الندب في الأوامر الواردة في القرآن طريقاً آخر،و هو الإيعاز بالعذاب أو النار كما نجده في كثير من الواجبات مثل الصلاة و الزكاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،قال سبحانه: «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ» . (2)و قال سبحانه: «وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* اَلَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّى» (3)بل كل ما أوعد على فعله أو تركه يستفاد منه الوجوب أو الحرمة.

ص:498


1- 2) .ابن شهرآشوب:مناقب آل أبي طالب:403/4-405. [1]
2- 3) .المدثر:42-43. [2]
3- 4) .الليل:17-18. [3]

2.اختلف الفقهاء في وجوب الكتابة في التداين بدين و الاستشهاد بشاهدين الواردين في قوله سبحانه: «وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ... وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ» . (1)

فمن قائل بالوجوب أخذاً بأصالة الحقيقة،و قائل باستحبابه مستدلاً بالإجماع،و معتذراً عن الأصل المذكور بكثرة استعمال صيغة الأمر في الندب،مع أنّ الرجوع إلى نفس الآية و ما ورد حولها من الحكمة يعطي بوضوح انّ الأمرين لا للوجوب و لا للندب،بل الأمران إرشاديان لئلاّ يقع الاختلاف بين المتداينين فيسد باب النزاع و الجدال.قال سبحانه: «ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ» . (2)

و يدلّ على سعة دلالته أيضاً ما رواه المعلّى بن خنيس،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السلام:«ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا و له أصل في كتاب اللّه عزّ و جلّ،و لكن لا تبلغه عقول الرجال». (3)

و قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:«ذلك القرآن فاستنطقوه و لن ينطق لكم،أُخبركم عنه انّ فيه علم ما مضى،و علم ما يأتي إلى يوم القيامة،و حكم ما بينكم،و بيان ما أصبحتم فيه تختلفون،فلو سألتموني عنه لعلّمتكم». (4)

و قال الصادق عليه السلام:«كتاب اللّه فيه نبأ ما قبلكم،و خبر ما بعدكم،و فصل ما بينكم،و نحن نعلمه». (5)

و السابر في روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام يقف على أنّهم كانوا يستنبطون من الآيات نكاتاً بديعة و معاني رفيعة عن مستوى الأفهام.

و ربّما يتصوّر الساذج انّ هذا النوع من التفسير تفسير بالرأي و فرض على الآية،و لكن بعد الإمعان في الرواية و الوقوف على كيفية استدلالهم عليهم السلام يذعن بأنّ لها

ص:499


1- 1) .البقرة:282. [1]
2- 2) .البقرة:282. [2]
3- 3) .الكافي:60/1- 61،باب الرد إلى الكتاب و السنّة،الحديث 6و7و [3]9.
4- 4) .الكافي:60/1- 61،باب الرد إلى الكتاب و السنّة،الحديث 6و7و [4]9.
5- 5) .الكافي:60/1- 61،باب الرد إلى الكتاب و السنّة،الحديث 6و7و [5]9.

دلالة خفيّة على ذلك المعنى الرفيع الشامخ و قد غفل عنه.

مثال ذلك ما رواه العياشي في تفسيره،عن زرقان صاحب ابن أبي دؤاد:أنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة و سأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه،فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه و قد أحضر محمد بن علي عليهما السلام فسألنا عن القطع في أيّ موضع يجب أن يقطع،فقال الفقهاء:من الكرسوع،لقول اللّه في التيمم: «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ» . (1)

فالتفت الخليفة إلى محمد بن علي فقال:ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فأجاب:«إنّهم أخطئوا فيه السنّة،فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أُصول الأصابع،و يترك الكف»قال:لِمَ ؟

قال:«لقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:السجود على سبعة أعضاء:الوجه،و اليدين،و الركبتين،و الرجلين؛فإذا قطعت يده من الكرسوع لم يبق له يد يسجد عليها،و قال اللّه تبارك و تعالى: «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ» يعني به الأعضاء السبعة التي يسجد عليها: «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً» و ما كان للّه لم يقطع».

فأعجب المعتصم ذلك،فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف. (2)

و روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان إذا قطع السارق ترك الإبهام و الراحة،فقيل له:يا أمير المؤمنين تركت عليه يده؟ قال:

فقال لهم:«فإن تاب فبأيِّ شيء يتوضأ؟ لأنّ اللّه يقول: «وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» -إلى قوله:- «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» 3 ». (3)

ص:500


1- 1) .النساء:43. [1]
2- 2) .الوسائل:18،الباب 4 من أبواب حدّ السرقة،الحديث 5و6. [2]
3- 4) .الوسائل:18،الباب 4 من أبواب حدّ السرقة،الحديث 5و6. [3]

فهذا النمط من الاستدلال يوقف القارئ على سعة دلالة الآيات القرآنية،و انّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام هم السابقون في هذا المضمار، يستنبطون من القرآن ما لا تصل إليه الأفهام.

و أمّا عدد آيات الأحكام فقد ذكر الفاضل المقداد في تفسيره«كنز العرفان»ما هذا نصّه:

اشتهر بين القوم أنّ الآيات المبحوث عنها نحو خمسمائة آية،و ذلك إنّما هو بالمتكرر و المتداخل،و إلّا فهي لا تبلغ ذلك،فلا يظن من يقف على كتابنا هذا و يضبط عدد ما فيه،انّا تركنا شيئاً من الآيات فيسيء الظن به و لم يعلم انّ المعيار عند ذوي البصائر و الأبصار،إنّما هو التحقيق و الاعتبار لا الكثرة و الاشتهار. (1)

و يظهر من البعض أنّ عدد آيات الأحكام ربما تبلغ 330 آية،قال عبد الوهاب خلاف:

ففي العبادات بأنواعها نحو 140 آية.

و في الأحوال الشخصية من زواج و طلاق و إرث و وصية و حجر و غيرها نحو سبعين آية.

و في المجموعة المدنية من بيع و إجارة و رهن و شركة و تجارة و مداينة و غيرها نحو سبعين آية.

و في المجموعة الجنائية من عقوبات و تحقيق جنايات نحو ثلاثين آية.

و في القضاء و الشهادة و ما يتعلق بها نحو عشرين آية. (2)

ص:501


1- 1) .جمال الدين المقداد السيوري:كنز العرفان في فقه القرآن:5/1.
2- 2) .عبد الوهاب خلاف:خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي:28- 29.

و لكن بالنظر إلى ما ذكرنا من سعة آفاق دلالته يتبيّن انّ عددها ربّما يتجاوز عن الخمسمائة،إذ ربّ آية لا تمت إلى الأحكام بصلة، و لكن بالدقة و الإمعان يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي.

فمثلاً سورة المسد،أعني قوله سبحانه: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ* ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ...» 1 ،بظاهرها ليست من آيات الأحكام،و لكن للفقيه أن يستند إليها في استنباط بعض الأحكام الشرعية،و قد حكي عن بعض الفقهاء انّه استنبط من سورة«المسد» قرابة عشرين حكماً فقهياً،كما استنبطوا من قوله سبحانه: «قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ...» 2 أحكاماً شرعية.

و هذا بالنسبة إلى ما ذكرناه من سعة آفاق دلالة القرآن ليس بغريب.

ج.التدرّج في التشريع

نزل القرآن تدريجيّاً قرابة ثلاث و عشرين سنة لأسباب و دواع مختلفة اقتضت ذلك،و أشار إليها الذكر الحكيم في غير واحد من الآيات:

قال سبحانه: «وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً» 3 أي فرقنا نزوله كي تقرأه على الناس على مهل و تريث.

كما أشار في آية أُخرى إلى داع آخر،قال سبحانه: «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً» (1)فتثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم أحد الأسباب التي دعت إلى نزول القرآن بين الحين و الآخر و في

ص:502


1- 4) .الفرقان:32. [1]

غضون السنين،شاحذاً عزمه صلى الله عليه و آله و سلم للمضيّ في طريق الدعوة بلا مبالاة لما يتّهمونه به.

و الآية تعرب عن أنّ الكتب السماوية الأُخرى كالتوراة و الإنجيل و الزبور نزلت جملة واحدة،فرغب الكفار في أن ينزل القرآن مثلها دفعة واحدة.

و ليست الدواعي للنزول التدريجي منحصرة فيما سبق،بل أنّ هناك أسباباً و دواعي أُخر دعت إلى نزوله نجوماً،و هي مسايرة الكتاب للحوادث التي تستدعي لنفسها حكماً شرعياً،فإنّ المسلمين كانوا يواجهون الأحداث المستجدَّة في حياتهم الفردية و الاجتماعية و لم يكن لهم محيص من طرحها على النبي صلى الله عليه و آله و سلم بغية الظفر بأجوبتها،و قد تكرر في الذكر الحكيم قوله سبحانه: «يَسْئَلُونَكَ» قرابة خمس عشرة مرّة و تصدى النبي صلى الله عليه و آله و سلم للإجابة عنها،و تختلف تلك المواضيع بين الاستفسار عن حكم شرعي،كحكم القتال في الشهر الحرام،و الخمر،و الميسر،و التصرف في أموال اليتامى،و الأهلّة،و المحيض،و الأنفال،و غير ذلك؛أو الاستفسار عن أُمور كونية كالروح و الجبال و الساعة.

و هناك شيء آخر ربما يؤكد لزوم كون التشريع أمراً تدريجياً،و هو أنّ موقف النبي صلى الله عليه و آله و سلم تجاه أُمته كموقف الطبيب من مريضه، فكما أنّ الطبيب يعالج المريض شيئاً فشيئاً حسب استعداده،فكذلك الطبيب الروحي يمارس نشاطه التربوي طبقاً لقابليات الأُمة الكامنة بغية الاستجابة،لئلاّ تُثبط عزائمُهم و يُطفأ نشاطهم و يُثقل كاهلهم.

و مع ذلك فإن كانت الظروف مهيّئة لنزول تشريع أكثر تفصيلاً و أوسع تعقيداً وافاهم الوحي به،كما في قوله سبحانه: «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي

ص:503

حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» . (1)

و قال سبحانه: «وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» . (2)

حيث تجد أنّ الآيتين تتكفّلان تشريع عشرة أحكام تُعَدُّ من جوامع الكلم،و قد روى أمين الإسلام الطبرسي،قال:روى علي بن إبراهيم،قال:خرج أسعد بن زرارة و ذكوان إلى مكة في عمرةِ رجب يسألون الحلف على الأوس،و كان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة،فنزل عليه،فقال له:إنّه كان بيننا و بين قومنا حرب و قد جئناكم نطلب الحلف عليهم،فقال عتبة:بعُدت دارنا عن داركم و لنا شغل لا نتفرغ لشيء،قال:و ما شغلكم و أنتم في حرمكم و أمنكم؟! قال له عتبة:خرج فينا رجل يدّعي انّه رسول اللّه،سفّه أحلامنا،و سبّ آلهتنا، و أفسد شبابنا،و فرّق جماعتنا،فقال له أسعد:من هو منكم؟ قال:ابن عبد اللّه بن عبد المطلب،من أوسطنا شرفاً،و أعظمنا بيتاً؛و كان أسعد و ذكوان و جميع الأوس و الخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم أبناء«النضير»و«قريظة»و«قين قاع»انّ هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنَّكم به يا معشر العرب،فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود،قال:فأين هو؟ قال:

جالس في الحجر،و انّهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم،فلا تسمع منه و لا تُكلّمه،فإنّه ساحر يسحرك بكلامه،و كان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب،فقال له أسعد:فكيف أصنع و أنا معتمر لا بدّ لي أن أطوف بالبيت؟ فقال:ضع في أُذنيك القطن،فدخل أسعد المسجد و قد حشا أُذنيه من القطن،فطاف بالبيت

ص:504


1- 1) .الأنعام:151. [1]
2- 2) .الأنعام:152. [2]

و رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم،فنظر إليه نظرة،فجازه.

فلمّا كان في الشوط الثاني قال في نفسه:ما أجد أجهل منّي أ يكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم،ثمّ أخذ القطن من أُذنيه و رمى به،و قال لرسول اللّه:أنعم صباحاً،فرفع رسول اللّه رأسه إليه و قال:«قد أبدلنا اللّه به ما هو أحسن من هذا تحية أهل الجنة:السّلام عليكم»فقال له أسعد:إنّ عهدك بهذا لقريب إلام تدعو يا محمد؟ قال:«إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه و انّي رسول اللّه،و أدعوكم:

«أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» . (1)

فلما سمع أسعد هذا قال:أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له،و انّك رسول اللّه.يا رسول اللّه بأبي أنت و أُمّي أنا من أهل يثرب من الخزرج،و بيننا و بين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة،فإن وصلها اللّه بك فلا أجد أعزّ منك،و معي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم اللّه لنا أمرنا فيك،و اللّه يا رسول اللّه لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك،و كانوا يبشّروننا بمخرجك،و يخبروننا بصفتك،و أرجو أن تكون دارنا دار هجرتك،و عندنا مقامك،فقد أعلمنا اليهود ذلك،فالحمد للّه الذي ساقني إليك،و اللّه ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا،

ص:505


1- 1) .الأنعام:151-152. [1]

و قد أتانا اللّه بأفضل ممّا أتيت له. (1)

و مع ذلك كلّه فالتدرّج هو المخيِّم على التشريع،خاصة فيما إذا كان الحكم الشرعي مخالفاً للحالة السائدة في المجتمع،كما في شرب الخمر الذي ولع به المجتمع الجاهلي آنذاك،فمعالجة هذه الرذيلة المتجذّرة في المجتمع رهن طيّ خطوات تهيّئ الأرضية اللازمة لقبولها في المجتمع.

و قد سلك القرآن في سبيل قلع جذور تلك الرذائل مسلك التدرّج.

فتارة جعل السكر مقابلاً للرزق الحسن،و قال: «وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً». 2

فاعتبر اتّخاذ الخمر من التمور و الأعناب-في مجتمع كان تعاطي الخمر فيه جزءاً أساسياً من حياته-مخالفاً للرزق الحسن، و بذلك أيقظ العقول.

و هذه الآية مهّدت و هيّئت العقول و الطبائع المنحرفة لخطوة أُخرى في سيرها نحو تحريم الخمر،فتلتها الآية الثانية معلنة بأنّ في الخمر و الميسر اثماً و نفعاً،و لكن إثمهما أكبر من نفعهما،قال سبحانه: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» . (2)

إنّ هذا البيان و إن كان كافياً إلّا أنّ جماهير الناس لا يقلعون عن عادتهم المتجذّرة ما لم يرد نهي صريح حتى وافتهم الآية الثالثة،قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» 4 فالآية الكريمة جاءت بالنهي الصريح عن شرب الخمر في وقت محدّد،أي عند إرادة الصلاة بغية الوقوف على ما يتلون من القرآن و الأذكار.

ص:506


1- 1) .الطبرسي:إعلام الورى:55-57. [1]
2- 3) .البقرة:219. [2]

فهذه الخطوات الثلاث هيّئت أرضية صالحة للتحريم القاطع الذي بيّنه سبحانه في قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». 1

و أدلّ دليل على أنّ التشريع القرآني كان يتمتع بالتدرّج،تتابع الأسئلة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في فترات مختلفة بغية إجابة الوحي عنها، قال سبحانه:

1. «يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ» . (1)

2. «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ». 3

3. «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ». 4

4. «وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ». 5

5. «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ». 6

6. «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً». 7

7. «يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ». 8

8. «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ». 9

و قد جاء في بعض الآيات لفظ الاستفتاء بدل السؤال:قال سبحانه:

9. «وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ». 10

ص:507


1- 2) .البقرة:215. [1]

10. «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ». 1

و ممّا يدل أيضاً على أنّ التشريع القرآني أخذ لنفسه صورة التدرّج هو انّ الآيات المتضمّنة للأحكام الشرعية منبثة في سور شتى غير مجتمعة في محل واحد،و هذا يوضح انّ التشريع لم يكن على غرار التشريع في التوراة الذي نزل دفعة واحدة يقول سبحانه: «وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ». 2

و قال: «وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» . (1)

هذا بعض الكلام في ملامح التشريع الإسلامي ثبوتاً و إثباتاً قدمتها للمؤتمر العالمي الحادي عشر (ربيع الأول 1419 ه) للوحدة الإسلامية،عسى أن يوفق أصحابنا لجمع شمل المسلمين و تقريب خطاهم.

جعفر السبحاني

قم-الجامعة الإسلامية

ص:508


1- 3) .الأعراف:154. [1]

المقالة الثامنة:مكانة المرأة في القرآن

اشارة

(1)

احتلّت المرأة مكانة مرموقة في الإسلام و استأثرت باهتمام خاص في الذكر الحكيم،و حيث إنّ الموضوع مترامي الأطراف، فلنسلط البحث في هذا المقام على الموضوعات التالية:

الأوّل:النظر إلى طبيعتها و تكوينها و نفسيتها.

الثاني:النظر إلى حقوقها.

الثالث:الواجبات التي تقع على عاتقها.

كلّ ذلك على ضوء القرآن الكريم.

هذه هي العناوين الرئيسية في بحثنا هذا و ربما تطرح في ثنايا الكلام أُمور أُخرى لمناسبة تقتضيها.

الأوّل:النظر إلى طبيعتها و تكوينها و نفسيتها

بزغ نور الإسلام في عصر لم يكن لجنس الأُنثى يومذاك أيّ قيمة تذكر في الجزيرة العربية و لا في سائر الحضارات السائدة آنذاك، و كانت البحوث الفلسفية

ص:509


1- 1) .أُلقي المقال في جامعة«جرش»الاردن الهاشمي شهر محرم الحرام عام 1419 ه،عند رحلة المحاضر إليها في ذلك العام.

عند الروم و اليونان تدور على أنّ الأُنثى من جنس الحيوان أو من جنس برزخي يتوسط بين الحيوان و الإنسان، و كان الرجل يتشاءم إذا أنجبت امرأته أُنثى و يظلّ وجهه مسوداً متوارياً عن أنظار قومه و كأنّها وصمة عارٍ على جبينه قال سبحانه: «وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ* يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» 1.

فلم يكن للرجل بد إلّا وأدُ بناته و قتلهنّ إثر الجهل بكرامة المرأة و فضيلتها ظناً منه انّه يحسن صنعاً،و هذا هو القرآن الكريم يندّد بذلك العمل و يشجبه و يقول: «وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» 2.

و في خضَمِّ تلك الأفكار الطائشة نجد القرآن الكريم يصف المرأة بأنّها أحد شطري البنية الإنسانية و يقول: «يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ» 3 فالأُنثى مثل الذكر يشكلان أساس المجتمع دون فرق بينهما.

و من جانب آخر يرى للأُنثى خلقة مستقلة مماثلة لخلقة الذكر دون أن تُشتقّ الأُنثى من الذكر،على خلاف ما عليه سفر التكوين في التوراة من أنّ الأُنثى خلقت من ضلع من أضلاع آدم،يقول سبحانه شاطباً على تلك الفكرة التي تسرّبت إلى الكتاب الإلهي (التوراة): «يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً» 4.

فالنفس الواحدة،هي آدم و زوجها حواء و إليهما ينتهي نسل المجتمع

ص:510

الإنساني،و معنى قوله: «خَلَقَ مِنْها» أي خلق من جنسها،مثل قولك:الخاتم من فضة أي من جنس الفضة فالزوجان متماثلان و لو لا التماثل لما استقامت الحياة الإنسانية.

و يستنتج من هذه الآيات انّ كلاًّ من الذكر و الأُنثى إنسان كامل و ليس هناك أي نقص في إنسانية الأُنثى و على ضوء ذلك فالتفريق بينهما من تلك الناحية لا يبتني على أساس صحيح.

لقد شملت العناية الإلهية الإنسان لما جعلته أفضل الخلائق،و سخرت له الشمس و القمر و لا تختص هذه الكرامة بالذكر فحسب بل شملت أولاد آدم قاطبة قائلاً: «وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً» 1.

و لأجل هذه الكرامة العامة جعل الذكر و الأُنثى في كفة واحدة فمن آمن منهما و عمل صالحاً فهما سيّان أمام اللّه تبارك و تعالى يجزيهما على حدّ سواء قال سبحانه: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» 2.

و ممّا يعرب عن موقف القرآن الكريم في خلقة المرأة:هو انّه جعل حرمة نفس الأُنثى كحرمة نفس الذكر و إن قتل واحد منهما يعادل قتل جميع الناس قال سبحانه: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً» 3.

فقتل المرأة كقتل الرجل عند اللّه سواء فمن قتل واحداً منهما فكأنّما قتل

ص:511

الناس جميعاً،أ فيتصور تكريم فوق ذلك.

و ممّا يعرب عن انّ نظر الإسلام إلى الشطرين نظرة واحدة هو انّه يتخذ النفس موضوعاً لبعض أحكامه في مجال القصاص دون أن يركز على الذكر،قال سبحانه: «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ» 1 حتى انّه سبحانه يصف من لم يحكم على وفق الآية بانّه ظالم و يقول: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ» .

إنّ الرسول يجعل دماء المسلمين في ميزان واحد و يصف ذمة الجميع بأنّها ذمة واحدة و يقول:«المسلمون تتكافأ دماؤهم و يسعى بذمتهم أدناهم،و هم يد على من سواهم» (1)فالمرأة و الرجل يتشاركان في لزوم احترام ايجار كلّ واحد منهما فرداً من المشركين.

نعم مشاركة المرأة و الرجل في القصاص لا يلازم مشاركتهما في الدية،لأنّ المعيار في القصاص غير المعيار في الدية،فكلّ من جنى على إنسان يُقتصُّ منه باعتبار انّ الجاني أعدم إنساناً فيعادل بإعدامه.

و أمّا الدية فالمعيار في تعيينها هو تحديد الخسارة و الضرر المادي التي مُنيت بها الأُسرة،و لا شكّ انّ خسارة الأسرة بفقد معيلها الرجل هي أكبر من خسارتها بفقد الأُنثى،فلذلك صارت دية المرأة نصف دية الرجل على الرغم من أنّ المصيبة على حد سواء،و هذا لا يعني اختلافهما في الإنسانية.

إلى هنا تبين واقع خلقة كلّ من الرجل و المرأة و انّهما متماثلان لا يتميز أحدهما عن الآخر في ذلك المجال.

و أمّا ما يرجع إلى الأُمور النفسية و الروحية عند المرأة و الرجل فنقول:لا شكّ

ص:512


1- 2) .مسند أحمد:192/2. [1]

ثمة فارق واضح وجلي بين الرجل و المرأة من هذه الزاوية و هي انّ المرأة جيّاشة العاطفة ملؤها الحنان و العطف و اللطافة و لها روح ظريفة حساسة.

أودعت يد الخلقة ذلك فيها لتنسجم مع المسئولية الملقاة على عاتقها،كتربية الأطفال التي ترافقها مشاق و مصاعب جمة لا يتحمّلها الرجل عادة في حين انّ الرجل يفقد تلك العواطف الجيّاشة،لأنّه خلق لوظائف أُخرى تتطلب لنفسها الغلظة و الخشونة لتنسجم مع المسئوليات التي تقع على عاتقه.

فالعواطف الجياشة من جانب إذا تقارنت مع الغلظة و الخشونة تصبح الحياة عندها نغمة متوازنة فتكون طرية و مبتسمة.

إلى هنا تمّ ما نروم إليه من العنوان الأوّل.

الثاني:النظر إلى حقوقها في القرآن الكريم

حظيت المرأة في الإسلام بحقوق واسعة،قد بحث عنها الفقهاء في كتبهم في أبواب خاصة لا يمكن لنا الإشارة إلى قليل منها فضلاً عن كثيرها،و إنّما نقتبس بعضها.

نزل القرآن الكريم و كانت المرأة محرومة من أبسط حقوقها حتّى ميراثها،بل كانت كالمال تورث للآخرين،و في هذا الجو المفعم بإهدار حقوقها قال: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» 1.

و بذلك كسر الطوق الذي أحاط بالمرأة و حال بينها و بين ميراثها في سورة خاصة باسمها-أعني سورة النساء-و هي في ميراثها تارة تعادل الذكر و أُخرى تنقص عنه و ثالثة تزيد عليه،حسب المصالح المذكورة في محلها.

ص:513

و ما اشتهر بأنّ ميراث المرأة ينقص عن ميراث الرجل دائماً فليس له مسحة من الحقّ بل تتراوح فريضتها بين التساوي و النقصان و الزيادة كما هو واضح لمن لاحظ الفرائض الإسلامية،ففيما إذا كان المورّث هو الأب و الأُمّ فللذكر مثل حظّ الأُنثيين،و فيما إذا كان المورث هو الولد فالأُمّ و الأب متساويان يقول سبحانه: «لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ» 1.

و إذا تركت المرأة المتوفاة زوجها و ابنتها،فالابنة ترث النصف و الزوج الربع،فترث الأُنثى ضعف ما يرثه الذكر،قال سبحانه:

«فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ» 2 .

إلى غير ذلك من صور الفرائض التي شرحها الفقهاء.

نعم الاختلاف في الميراث تابع لملاكات خاصة يجمعها عنوان الأقربية،و مسئولية الانفاق،فالأقرب يمنع الأبعد،كما أنّ من يقع على عاتقه الإنفاق يرث أكثر من غيره.

و من حقوقها حريتها المالية التي ما بلغ إليها الغرب إلى الأمس الدابر،قال سبحانه: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» 3 فأي كلمة أظهر و أرفع من هذه الكلمة حيث أعلن عن استقلالية كلّ من الرجل و المرأة في حقوقهما و أموالهما و الاستمتاع بهما.

المهر عطية من الزوج إلى الزوجة و له تأثير في إحياء شخصية المرأة و بقاء علقة الزوجية،فإذا تزوج الرجل على مهر ليس له التنصل عن تعهده فيجب عليه

ص:514

إعطاء ما نحل،قال سبحانه: «وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً» 1.

نعم لو وهبت بطيب نفسها جاز للرجل أخذه شأن كلّ هبة كان للواهب فيه رضا قال سبحانه: «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» 2.

إنّ القرآن يندد بزوج يضيق الخناق على زوجته و يسيء معاملتها كي تتنازل بذلك عن مهرها يقول سبحانه: «وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» 3.

ثمّ يؤكد مرّة أُخرى بانّه لو دفع الزوج لها مالاً كثيراً فليس له أخذه منها،يقول سبحانه: «وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً» 4.

الثالث:الواجبات التي تقع على عاتقها

إنّ التعاون بين أفراد المجتمع الإنساني شرط بقائه،فلو حذفنا التعاون من قاموس المجتمع لانهار،و الأسرة مجتمع صغير و لبنة أُولى للمجتمع الكبير فلا تقوم حياة الأسرة إلّا بالتعاون،و حقيقة التعاون عبارة عن أن يكون كلّ واحد له حقّ و عليه حقّ و هذا ما يعبر عنه الذكر الحكيم بكلمة بليغة جامعة لا يمكن أن يباريه فيها أحد قال سبحانه: «وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ» 5.

فيظهر معنى الآية من خلال النظر إلى الأُسرة الإسلامية،فمسئولية المرأة القيام بالحضانة و تربية الأطفال و ليس هذا أمراً سهلاً،لا تقوم به إلّا الأُمّ التي ينبض قلبها بالعطوفة و الحنان.

ص:515

و من زعم انّ دور الحضانة تحل محلّ الأُمّ في القيام بتلك الوظائف فقد أخطأ و لم يقف على المضاعفات السلبية التي تتركها تلك الدور على حالات الأطفال النفسية.

و في مقابل تلك الحقوق ثمة حقوق للرجل لا بدّ له من القيام بما تحتاج إليه المرأة في حياتها الضرورية و الكمالية فيشير القرآن إلى تلك المسئولية الكبيرة على عاتق المرأة بقوله: «وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ».

كما يشير إلى المسئولية التي تقع على عاتق الرجل بقوله: «وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها» (1).

فكلّ من الزوجين يسعى في إقامة دعامة الأسرة،و بذلك تكون الزوجة عوناً للزوج،و الزوج عوناً للزوجة،و يكون العيش بينهما رغيداً طيباً.

هذه نظرة إجمالية إلى ملامح المرأة في القرآن،و ثمة بحوث ضافية لا سيما حول حرّيتها الثقافية و الاجتماعية و السياسية التي طرحت في العصور المتأخرة و موقف القرآن منها نتركها إلى مجال آخر.

و لكن ثمة نكتة هامة و هي:

المساواة أو العدالة

اشارة

إنّ الغرب يتبنّى موقف المساواة بين الرجل و المرأة،و يريد منهما أن ينزلا إلى معترك الحياة بلا استثناء لكي يقوما بعامة الوظائف جنباً إلى جنب سواء أ كانت منسجمة مع طبيعة كلّ منهما أو لا.

ص:516


1- 1) .البقرة:233. [1]

هذا هو الذي يتبناه الغرب،فالمرأة لا بدّ لها أن تشارك الرجل في ميادين الحرب و القتال و السياسية و الزعامة و ميادين العمل و الاستثمار و لا يترك ميداناً خاصاً للمرأة أو الرجل إلّا يسوقهما إليه بدعوى المساواة.

و لكن القرآن يتبنّى العدالة بين الرجل و المرأة و يخالف المساواة،إذ ربما تكون المساواة ضدّ العدالة،و ربما لا تنسجم مع طبيعتها،و من يدّعي المساواة،فكأنّه ينكر الفوارق الموجودة في نفسياتهما و غرائزهما،و يتعامل معهما معاملة إنسان استلبت عنه الغرائز الفطرية و لم يبق فيه رمق إلّا القيام بالأعمال المخوّلة له.

و هذا موضوع هام يحتاج إلى التشريح و التبيين حتى يتضح من خلاله موقف القرآن.

إنّ التساوي في الإنسانية لا تعني التساوي في جميع الجهات،و في القدرات و الغرائز و النفسيات،حتى يتجلّى الجنسان،جنساً واحداً لا يختلفان إلّا شكليّاً،و من يقول ذلك فإنّما يقول في لسانه و ينكره عقله و لبّه.

لا شكّ انّ بين الجنسين فوارق ذاتيّة و عرضية،فالاُولى نابعة من خلقتها،و الثانية تلازم وجودها حسب ظروفها و بيئتها،و بالتالي صارت تلك الفوارق مبدأً للاختلاف في المسئوليات و الأحكام.

جعل الإسلام فطرة المرأة و خلقتها،المقياس الوحيد في تشريعه و تقنينه و التشريع المبني على الفطرة يتماشى معها عبر القرون، و هذا هو سرّ خلود تشريعه،و أمّا التشريع الذي لا يأخذ الفطرة بنظر الاعتبار،و يقنِّن لكلّ من الأُنثى و الذكر على حدّ سواء فربما لا ينسجم مع الفطرة و الخلقة و يخلق تعارضاً بين القانون و مورده و يورث مضاعفات كثيرة كما نشاهده اليوم في الحضارة الغربيّة.

ص:517

شبهات و حلول:
1.الرجال قوّامون على النساء

أعطى سبحانه إدارة شئون الأُسرة للرجال دون النساء،و معنى ذلك انّ الرجل هو الذي يترأس الجهات التي بها قوام العائلة،لأنّ الإدارة تتقوّم بأمرين متحققين في الرجل دون المرأة و هما:

1.القوة و تحمل الشدائد.

2.الإنفاق و رفع الحاجات المالية.

و الرجل يتوفر فيه الأمر الأوّل أكثر من غيره.

و أمّا الإنفاق فقد فرض الإسلام إدارة أُمور الأُسرة المالية على الزوج،فهو الذي يتحمل المشاق ليدير دفة العائلة.

و قد أشار سبحانه إلى تلك الإدارة و انّها تدخل تحت صلاحيات الرجل بقوله: «الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ» كما أشار إلى الشرطين بقوله:1. «بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» 2. «وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» 1.

و ليس المراد الأفضلية عند اللّه و في ميزان القرب منه سبحانه،بل المراد هو التفوّق على الجنس الآخر في تحمل الصبر و الاستقامة على الشدائد.و هو أمر تكويني لا يمكن إنكاره،و من أنكر فانّما أنكره بلسانه دون قلبه،و هذا هو المراد من الأفضلية.

و أمّا الشطر الثاني فهو حكم تكليفي وضعه سبحانه على عاتق الرجل،و بذلك صار أولى بإدارة شئون الأُسرة من المرأة،و على ذلك سارت الحياة

ص:518

الاجتماعية.

فلو كان هناك انتخاب طبيعي فقد اختير الرجل لإدارة الأُسرة اختياراً طبيعياً أمضاه الشارع.

هذا هو معنى القوّامية و ليس فيه أيّ هدر لكرامتها،نعم تفسير القوامية بالسلطة على المرأة و إجحاف حقّها و التدخل في شئونها بما هو خارج عن إطار العلقة الزوجية أمر مرفوض و من فسر الآية به فقد افترى على اللّه سبحانه.

فإدارة الأُسرة و التخطيط لها نحو مستقبل أفضل حسب الاستطاعة شيء،و إنكار حقّ الزوجة و التسلّط عليها و إجحاف حقوقها شيء آخر،و من خلط بين الأمرين فقد انحرف عن جادة الصواب.

2.تعدّد الزوجات

من المسائل التي يثيرها الغرب و المؤسسات التي تدافع عن حقوق النساء هي مسألة تجويز تعدّد الزوجات التي شرعها الإسلام، و منطقهم انّ تجويز تعدّد الزوجات تشكل معاناة للزوجة أوّلاً و تخالف المساواة بين الزوج و الزوجة ثانياً،و سنقوم بتسليط الضوء على كلا الأمرين،فنقول:

لا شكّ انّ الأصل في تشكيل الأُسرة هو أن يحبس الزوج نفسه و لا يتزوج بزوجة ثانية رعاية لحال الزوجة الأُولى،و ممّا لا شكّ فيه انّ حبس كلّ من الزوجين نفسه على الآخر يشكل رصيداً لبقاء أواصر الأُسرة و يُسفر عنه سيادة الثقة المتبادلة بين الزوجين.

و مع الاعتراف بذلك لكن ربّما يواجه الزوج بعض الظروف و الحالات التي تلجئه إلى عدم الاكتفاء بزوجة واحدة و هذا أمر لا يمكن لأحد إنكاره نظير:

إذا كانت الزوجة مريضة مدّة مديدة،أو كانت عقيمة لا تنجب،أو كانت

ص:519

غريزتها الجنسية ضعيفة لا تلبي حاجات الزوج،أو كان الزوج يقطن في مناطق نائية بعيداً عن زوجته مدّة لا يستهان بها،ففي تلك الظروف لا يتمكن الزوج من الاقتصار على زوجة واحدة،فأمامه-مع قطع النظر عن تجويز تعدّد الزوجات-طريقان:

الأوّل:أن يكبح جماح شهوته و يحد من نشاطها.

الثاني:أن ينزلق في مهاوي الفساد و الفحشاء.

أمّا الأوّل:فلا يقوم به إلّا الأمثل فالأمثل من الرجال.

و أمّا الثاني:فهو يخالف كرامته و شرفه و ينجم عنه أضرار بدنية و نفسية و غير ذلك.

فإذا سدَّ الطريقان أمامه فلا يبقى له سبيل سوى أن يختار زوجة بعقد رسمي مع مهر و نفقة و سكنى لتدخل في نطاق الأُسرة و يتحمل مسئولية الجميع على حدّ سواء مع تطبيق العدالة،و هذا هو الذي دعا الإسلام إلى تشريع تعدّد الزوجات،قال سبحانه:

«فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» 1.

و من الطبيعي معاناة الزوجة الأُولى مع قيام الرجل بانتخاب زوجة أُخرى له،و لكنّه أمام انجراف الرجل في الفحشاء و انحلال الأُسرة من رأس أخف وطأة و أقل معاناة.

إنّ الغرب و إن طبّل و زمّر ضد قانون تعدّد الزوجات،لكنّه في الواقع اتخذ سلوكاً موافقاً مع هذا القانون لكن بصورة شوهاء حيث إنّه يقتنع بزوجة قانونية في حين يقيم علاقات جنسية مع نساء كثيرات خارج إطار الأُسرة و لا يكتفي

ص:520

بواحدة.

إنّ نظام الأُسرة في الغرب أخذ يضمحل و ينحل،و ما ذلك إلّا لخيانة الرجل زوجته بإقامة علاقات جنسية مع نساء أُخر،و ما ينطوي عليه من فقدان الثقة و اضمحلال الروابط العاطفية بينهما،و ينتهي إلى انفصام أواصر الأُسرة،قانونياً و عملياً.

و أمّا مسألة المساواة حيث أُبيح للزوج إقامة علاقات جنسية مشروعة مع نساء أُخر دون الزوجة فهذا أمر نحن في غنى عن الإجابة عنه،فإنّ تجويز تعدّد الأزواج للزوجة يكسر عمود النسب و يعصف بالأُسرة و يترك ألواناً من الأمراض و تفسد العلاقات من رأس و حينها يكون المجتمع مرتعاً خصباً للزنا و الفحشاء.

و بذلك يعلم سرّ التشريع الإسلامي في تجويز تعدد الزوجات دون الأزواج.

3.الضرب عند النشوز

من الإشكالات المثارة على حقوق المرأة في الإسلام هو انّه يسوغ للزوج أن يضرب الزوجة عند نشوزها إذا لم ترجع الزوجة ببذل النصيحة و العظة،و هجران مضجعها،قال سبحانه: «وَ اللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً» 1.

و الحقّ انّ ذلك الإشكال المثار نجم عن عدم التدبر في مضمون الآية و مورد إباحة الضرب،فالآية تبحث في امرأة ناشزة أطاحت بحقوق زوجها و أساءت بإنسانيته دون أن يضيع منها حق،ففي ذلك الجو المفعم بتمرّد الزوجة على زوجها حتّى ظلت متشبثة به بعد معالجتها بالنصح و العظة أو هجرانها في الفراش لا

ص:521

محيص للزوج عن معالجتها بالضرب غير المبرح حتى تردع الزوجة عن شذوذها الذي طغى على إنسانيتها و كدر صفوة الجو العائلي.

و بذلك اتضح أوّلاً انّ البحث ليس في زوجة مقهورة على أمرها،و مظلومة في حقّها،فاندفعت إلى التمرد دفاعاً عن حقّها و كرامتها،بل الكلام في المرأة التي قام الزوج بجميع حقوقها و لكنّها طغت على حقوق الزوج و تمردت عليه.

و ثانياً:ليس المراد من الضرب هو الضرب المبرح و لا المدمي،بل المراد الضرب المخيف حتى تردع عن شذوذها،و قد فسر الإمام الباقر عليه السلام الضرب في الآية بالضرب بالسواك. (1)

و هذه الحالة فريدة من نوعها،و قلّما يتفق أن لا يُثمر العلاجان الأوّلان،و على فرض الوصول إلى هذه الدرجة،فليس الضرب ضرباً مبرحاً،و إنّما الغرض فيه هو ايجاد الرعب في قلبها كي تردع عن تمردها.

روى الإمام الباقر عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«أ يضرب أحدكم المرأة ثمّ يعانقها».

و في الختام نعطف أنظار الحضار إلى كلمة قيمة عن إمام حكيم خبير بداء المجتمع و دوائه ألا و هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حيث قال:«و لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها،فانّ المرأة ريحانة و ليست قهرمانة» (2)فلنتعامل معها،بما أنّها ريحانة لا قهرمانة، و لنطلب منها ما يطلب من موجود ظريف كوردة الربيع لا تتحمل البرد القارص و لا الحر الذي يذبلها.

ص:522


1- 1) .مجمع البيان:ج2،في تفسير الآية.
2- 2) .نهج البلاغة، [1]قسم الرسائل،الرسالة 31. [2]

المقالة التاسعة:زواج المتعة

اشارة

لم تزل مسألة المتعة-مع أنّها من المسائل الفرعية-مثاراً للاهتمام و النقاش،فأهل السنة على ردها و ادّعاء نسخها.

و الشيعة عن بكرة أبيهم على أنّها زواج مشروع نزل بها القرآن الكريم،و مارسها الصحابة عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و بعده.

و قد كتب أحد الكتّاب-المدعو محمد الآلوسي-مقالاً حول المتعة نشرتها صحيفة اللواء على صفحاتها،و قد قرأت المقال أثناء رحلتي الأُولى إلى الأُردن عام 1418ه،فكتبت مقالاً في ردّه،و تفضل رئيس تحرير الصحيفة مشكوراً بنشرها (1).

و إليك المقال مع تقديم بقلم رئيس تحريرها.

العلاّمة سبحاني:«ما اختلفنا في النبي...اختلفنا فيما روي عنه»

يطرح الأُستاذ آية اللّه جعفر سبحاني في هذا المقال رأي الشيعة في قضية«نكاح المتعة»،و يقدم من الأدلة و الحجج و البراهين حول جوازها و عدم نسخها بأُسلوبه المميز و فكره الموضوعي،و علمه الغزير ما يدفعنا إلى نشر مقاله إيماناً منّا بحرية الرأي الآخر و ضرورة فتح صفحات الحوار بين المسلمين مهما اختلفت الرؤى و الاجتهادات.

الشيخ سبحاني،واحد من أعلام الفقه و الفكر،صدر له أكثر من مائة

ص:523


1- 1) .راجع صحيفة اللواء،المؤرخة الأربعاء،1996/5/29م.

كتاب في الملل و النحل و التفسير و الفقه و عقائد الإسلام و الإلهيات،درس على يد الأعلام،السيد البروجردي،و السيد محمد حسين الطباطبائي،و هو تلميذ الإمام الخميني لأكثر من ثلاثة عشر عاماً،و يشغل الآن رئاسة مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام للبحوث و الدراسات العليا،و يدرّس علم الفقه و الأُصول.

و إذا كانت«اللواء»قد نشرت في عددها قبل السابق مقالاً حول«زواج المتعة»من وجهة نظر المذهب السني،و بقلم أحد الباحثين في الجامعة الأُردنية،فإنّها و هي تنشر في هذا العدد مقال الشيخ سبحاني،من وجهة نظر المذهب الشيعي،لترجو أن تفتح هذه الاجتهادات في وجه علمائنا و مفكرينا أبواب الحوار وفق أدب الاختلاف و منهجيته الإسلامية التي نحترمها جميعاً،و أن تكون مقدمة لإزاحة حالة الاحتقان التي طرأت بفعل عوامل شتى على بحوثنا و مفكرينا و أورثت أُمّتنا ما تعيشه من انقسامات و تناقضات لم تكن في أي حال متعلقة بأُصول ديننا بقدر ما كانت اجتهادات في فروعه و هوامشه لا غير.

و إذا كان الشيخ سبحاني قد أكد في أكثر من مناسبة بأنّ المشتركات بين المذهبين السني و الشيعي تفوق الاختلافات،و انّ الاختلاف في الفروع أمر طبيعي تحتاج إليه المجتمعات،فانّه يثير أيضاً و في كل مناسبة و حوار،انّ المسلمين يختلفون و لن يختلفوا على النبي عليه السلام و سنته المشرّفة و لكنّهم اختلفوا أو سيختلفون فيما روي عنه.فالاختلاف-إذن-ليس في النبي أو الكتاب و لكن فيما روي عنه عليه السلام و فيما فسره المفسّرون مما جاء في كتاب اللّه عزّ و جلّ.

و«اللواء»إذ تشكر سماحة الشيخ سبحاني على تعقيبه الذي أبداه في حوارها معه حول ما نشرته عن حكم زواج المتعة ليسعدها أن تنشر مقالته و رده،دون أن تكون مضطرة لتبنّي أي من وجهتي النظر السالفتين...فهي منبر للحوار وساحة للتقريب بين أتباع المذاهب، تلك رسالتها و ستظل تسعى من أجل ذلك الهدف الحلم الذي يتطلع إليه كلّ المخلصين و الغيورين على دين اللّه و رسالته.

المحرر

ص:524

ما هو زواج المتعة؟

زواج المتعة عبارة عن تزويج المرأة الحرة الكاملة نفسها إذا لم يكن بينها و بين الزوج مانع-من نسب أو سبب أو رضاع أو إحصان أو عدة أو غير ذلك من الموانع الشرعية-بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضاء و الاتفاق،فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق.

و يجب عليها مع الدخول بها-إذ لم تكن يائسة-أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممن تحيض و إلّا فبخمسة و أربعين يوماً.

و ولد المتعة-ذكراً كان أو أُنثى يلحق بالأب و لا يدعى إلّا به،و له من الإرث ما أوصانا اللّه سبحانه به في كتابه العزيز كما يرث من الأُمّ،و تشمله جميع العمومات الواردة في الآباء و الأبناء و الاُمّهات،و كذا العمومات الواردة في الاخوة و الأخوات و الأعمام و العمات.

و بالجملة:المتمتع بها زوجة حقيقة،و ولدها ولد حقيقة.و لا فرق بين الزواجين:الدائم و المنقطع إلّا انّه لا توارث هنا ما بين الزوجين،و لا قسمة و لا نفقة لها.كما انّ له العزل عنها،و هذه الفوارق الجزئية فوارق في الأحكام لا في الماهية،لأنّ الماهية واحدة غير انّ أحدهما زوج مؤقّت و الآخر دائم،و انّ الأوّل ينتهي بانتهاء الوقت و الآخر ينتهي بالطلاق أو الفسخ.

و قد أجمع أهل القبلة على أنّه سبحانه شرع هذا النكاح في صدر الإسلام،و لا يشك أحد في أصل مشروعيته،و إنّما وقع الكلام في نسخه أو بقاء مشروعيته.

ص:525

ما هو الأصل في مشروعيتها؟

اشارة

و الأصل في مشروعيته قوله سبحانه: «وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» 1.

و الآية ناظرة إلى نكاح المتعة و ذلك لوجوه:

1.الحمل على النكاح الدائم يستلزم التكرار بلا وجه:

إنّ هذه السورة،أي سورة النساء،تكفلت ببيان أكثر ما يرجع إلى النساء من الأحكام و الحقوق،فذكرت جميع أقسام النكاح في أوائل السورة على نظام خاص،أمّا الدائم فقد أشار إليه سبحانه بقوله: «وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً...» 2 .

و أمّا أحكام المهر فقد جاءت في الآية التالية: «وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» 3.

و أمّا نكاح الإماء فقد جاء في قوله سبحانه: «وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ

ص:526

وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ...» 1.

فقوله سبحانه: «فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ» إشارة إلى الزواج من أمة الغير.

فإلى هنا تم بيان جميع أقسام النكاح فلم يبق إلّا نكاح المتعة،و هو الذي جاء في الآية السابقة،و على ضوء هذا حمل قوله سبحانه:

«فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ» على الزواج الدائم،و حمل قوله: «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» على المهور و الصدقات يوجب التكرار بلا وجه،فالناظر في السورة يرى انّ آياتها تكفلت ببيان أقسام الزواج على نظام خاص و لا يتحقق ذلك إلّا بحمل الآية على موضوع جديد و ليس إلّا نكاح المتعة كما هو ظاهرها أيضاً.

2.تعليق دفع الأُجرة على عقد الاستمتاع

إنّ لفظ الاستمتاع و إن كان في الأصل واقعاً على الانتفاع و الالتذاذ،لكنّه صار بعرف الشرع مخصوصاً بهذا العقد المعين لا سيما إذا أُضيفت إلى النساء و المراد من قوله سبحانه: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ» هو«متى عقدتم عليهنّ هذا العقد المسمى متعة فآتوهنّ أُجورهنّ» و ذلك لأنّ المهر يجب بالعقد،لا بالجماع و الاستمتاع.

و لا يصحّ تفسير قوله: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ» بالعقد الدائم و حمله عليه و ذلك لأنّه حينئذٍ إمّا أن يراد منه المعنى اللغوي أي الانتفاع و الالتذاذ و معنى ذلك انّه لا يجب شيء على الزوج إذا لم ينتفع من المرأة بشيء مع أنّ الفقهاء اتّفقوا على لزوم دفع نصف المهر في العقد الدائم إذا طلقها قبل الانتفاع.

أو يراد منه العقد الدائم و لازمه وجوب دفع المهر بكماله بمجرّد العقد،لأنّه

ص:527

قال: «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» أي مهورهنّ و لا خلاف في أنّه غير واجب،و إنّما يجب دفع الكل إذا دخل و إلّا فذمة الزوج مشغولة بالكلّ على وجه التعليق.نعم للزوجة المنع من الدخول ما لم تأخذ المهر كلّه،و أين هو من وجوب دفع المهر كلّه،إليها مطلقاً،امتنعت أم لا،أراد الدخول أم لم يرد.

نعم هذا شأن المتعة التي لم يشرع فيها الطلاق فإذا عقد،عقد متعة،لزمه المهر كلّه،دخل أم لم يدخل.

3.تصريح جماعة من الصحابة على شأن نزولها

ذكرت أُمّة كبيرة من أهل الحديث نزولها فيها،و ينتهي نقل هؤلاء إلى أمثال ابن عباس،و أُبي بن كعب،و عبد اللّه بن مسعود،و جابر بن عبد اللّه الأنصاري،و حبيب بن أبي ثابت،و سعيد بن جبير،إلى غير ذلك من رجال الحديث الذين لا يمكن اتهامهم بالوضع و الجعل.

و قد ذكر نزولها من المفسرين و المحدثين:

إمام الحنابلة أحمد بن حنبل في مسنده:436/4.

و أبو جعفر الطبري في تفسيره:9/5.

و أبو بكر الجصاص الحنفي في أحكام القرآن:178/2.

و أبو بكر البيهقي في السنن الكبرى:205/7.

و محمود بن عمر الزمخشري في الكشاف:360/1.

و أبو بكر بن سعدون القرطبي في تفسير جامع أحكام القرآن:130/5.

و فخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب:200/3.

إلى غير ذلك من المحدثين و المفسرين الذين جاءوا بعد ذلك إلى عصرنا

ص:528

هذا،و لا نطيل الكلام بذكرهم.

و ليس لأحد أن يتهم هؤلاء الأعلام بذكر ما لا يؤمنون به.و بملاحظة هذه القرائن لا يكاد يشك في ورودها في نكاح المتعة.

و نزيد الوضوح بياناً بقوله سبحانه: «وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» .

إنّ قوله سبحانه «أَنْ تَبْتَغُوا» مفعول له لفعل مقدر،أي بيّن لكم ما يحل ممّا يحرم لأجل أن تبتغوا بأموالكم،و أمّا مفعول قوله:

«تَبْتَغُوا» فيعلم من القرينة و هو النساء أي طلبكم نكاح النساء،أي بين الحلال و الحرام لغاية ابتغائكم نكاح النساء من طريق الحلال لا الحرام.

و قوله سبحانه: «مُحْصِنِينَ» و هو من الإحصان بمعنى العفة و تحصين النفس من الوقوع في الحرام،و قوله سبحانه «غَيْرَ مُسافِحِينَ» هو جمع مسافح بمعنى الزاني مأخوذ من السفح بمعنى صبّ الماء،و المراد هنا هو الزاني بشهادة قوله سبحانه في الآية المتأخرة في نكاح الإماء: «وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ» أي عفائف غير زانيات.

و معنى الآية:انّ اللّه تبارك و تعالى شرع لكم نكاح ما وراء المحرمات لأجل أن تبتغوا بأموالكم ما يحصنكم و يصون عفتكم و يصدكم عن الزنا،و هذا المناط موجود في جميع الأقسام،النكاح الدائم،و المؤقت و الزواج بأمة الغير،المذكورة في هذه السورة من أوّلها إلى الآية 25.

هذا هو الذي يفهمه كلّ إنسان من ظواهر الآيات غير انّ من لا يروقه الأخذ بظاهر الآية «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» لرواسب نفسية أو بيئيّة حاول أن يطبق معنى الآية على العقد الدائم،و ذكر في المورد شبهات ضعيفة لا تصمد امام النقاش نجملها بما يلي:

ص:529

شبهات حول المتعة

الشبهة الأُولى:انّ الهدف من تشريع النكاح هو تكوين الأُسرة و إيجاد النسل،و هو يختص بالنكاح الدائم دون المنقطع الذي لا يترتب عليه إلّا إرضاء القوة الشهوية وصب الماء و سفحه.

و يجاب عنها:بأنّه خلط بين الموضوع و الفائدة المترتبة عليه،و ما ذكر إنّما هو من قبيل الحكمة،و ليس الحكم دائراً مدارها، لضرورة انّ النكاح صحيح و إن لم يكن هناك ذلك الغرض،كزواج العقيم و اليائسة و الصغيرة.بل أغلب المتزوجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلّا قضاء الوطر و استيفاء الشهوة من طريقها المشروع،و لا يخطر ببالهم طلب النسل أصلاً و إن حصل لهم قهراً،و لا يقدح ذلك في صحّة زواجهم.

و من العجب حصر فائدة المتعة في قضاء الوطر،مع أنّها كالدائم قد يقصد منها النسل و الخدمة و تدبير المنزل و تربية الأولاد و الإرضاع و الحضانة.

و نسأل المانعين الذين يتلقّون نكاح المتعة،مخالفاً للحكمة،التي من أجلها شرع النكاح،نسألهم عن الزوجين اللذين يتزوجان نكاح دوام،و لكن ينويان الفراق بالطلاق بعد شهرين،فهل هذا نكاح صحيح أو لا ؟ لا أظن انّ فقيهاً من فقهاء الإسلام يمنع ذلك إلّا إذا أفتى بغير دليل و لا برهان،و عندئذ يطرح السؤال الثاني:أي فرق حينئذٍ بين المتعة و هذا النكاح الدائم سوى انّ المدّة مذكورة في الأوّل دون الثاني ؟

يقول صاحب المنار:انّ تشديد علماء السلف و الخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنيّة الطلاق،و إن كان الفقهاء يقولون إنّ عقد النكاح يكون صحيحاً إذا نوى الزوج التوقيت،و لم يشترطه في صيغة العقد،و لكن كتمانه إياه يعد خداعاً

ص:530

و غشاً و هو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت.

أقول:نحن نفترض انّ الزوجين رضيا بالتوقيت لبّاً،حتى لا يكون هناك خداع و غش فهو صحيح بلا إشكال.

الشبهة الثانية:انّ تسويغ النكاح المؤقت ينافي ما تقرر في القرآن كقوله عزّ و جلّ في صفة المؤمنين: «وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» 1.

و المراد من الآية:انّ من ابتغى وراء ذلك،هم المتجاوزون ما أحله اللّه لهم إلى ما حرّمه عليهم.و المرأة المتمتع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف.

إلّا انّه يرد عليها:انّها دعوة بلا دليل.فانّها زوجة و لها أحكام،و عدم وجود النفقة و القسمة لا يخرجانها عن الزوجية،فانّ الناشزة زوجة ليست لها النفقة و حقّ القسمة،و مثلها الصغيرة.و العجب أن يستدل بعدم وجود الأحكام على نفي الماهية،فانّ الزوجية رابطة بين الزوجين تترتب عليها جملة من الأحكام و ربما تختص بعض الأحكام ببعض الأقسام.

الشبهة الثالثة:انّ المتمتع في النكاح المؤقت لا يقصد الإحصان دون المسافحة بل يكون قصده مسافحة،فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه و منعها من التنقل في دمن الزنا،فانّه لا يكون فيه شيء ما من إحصان المرأة التي تؤجر نفسها كلّ طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل: كرة حذفت بصوالجة فتلقفها رجل رجل

ص:531

و يرد على هذه الشبهة:انّه من أين وقف على أنّ الإحصان في النكاح المؤقت يختص بالرجل دون المرأة،فانّا إذا افترضنا كون العقد شرعياً،فكلّ واحد من الطرفين يحصن نفسه من هذا الطريق،و إلّا فلا محيص عن التنقل في دمن الزنا.و الذي يصون الفتاة عن البغي أحد الأُمور الثلاثة:

1.النكاح الدائم.

2.النكاح المؤقت بالشروط الماضية.

3.كبت الشهوة الجنسية.

فالأوّل ربما يكون غير ميسور خصوصاً للطالب و الطالبة اللّذين يعيشان بمنح و رواتب مختصرة يجريها عليهما الوالدان أو الحكومة،و الثالث أي كبت الشهوة الجنسية أمر شاق لا يتحمله إلّا الأمثل فالأمثل من الشباب و المثلى من النساء و هم قليلون،فلم يبق إلّا الطريق الثاني فيحصنان نفسهما عن التنقل في بيوت الدعارة.

إنّ الدين الإسلامي هو الدين الخاتم،و نبيه خاتم الأنبياء و كتابه خاتم الكتب،و شريعته خاتمة الشرائع،فلا بد أن يضع لكلّ مشكلة اجتماعية حلولاً شرعيةً،يصون بها كرامة المؤمن و المؤمنة،و ما المشكلة الجنسية عند الرجل و المرأة إلّا إحدى هذه النواحي التي لا يمكن للدين الإسلامي أن يهملها،و عندئذٍ يطرح هذا السؤال نفسه:

ما ذا يفعل هؤلاء الطلبة و الطالبات الذين لا يستطيعون القيام بالنكاح الدائم،و تمنعهم كرامتهم و دينهم عن التنقل في بيوت الدعارة و الفساد،و الحياة المادية بجمالها تؤجج نار الشهوة في نفوسهم؟ فمن المستحيل عادة أن يصون نفسه أحد إلّا من عصمه اللّه،فلم يبق طريق إلّا زواج المتعة الذي يشكل الحل الانجح لتلافي الوقوع في الزنا،و تبقى كلمة الإمام علي بن أبي طالب ترن في الأذان محذرة

ص:532

من تفاقم هذا الأمر عند إهمال العلاج الذي وصفه المشرع الحكيم له،حيث قال عليه السلام:«لو لا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلّا شقي أو شقية».

و أمّا تشبيه المتعة بما جاء في الشعر فهو يعرب عن جهل الرجل بحقيقة نكاح المتعة و حدودها فانّ ما جاء فيه هي المتعة الدورية التي ينسبها الرجل و غيره إلى الشيعة،و هم براء من هذا الإفك إذ يجب على المتمتع بها بعد إنهاء المدة الاعتداد على ما ذكرنا،فكيف يمكن أن تؤجر نفسها كلّ يوم لرجل؟ سبحان اللّه ما أجرأهم على الكذب على الشيعة و الفرية عليهم،و ما مضمون الشعر إلّا جسارة على الوحي و التشريع الإلهي،و قد اتفقت كلمة المحدثين و المفسرين على التشريع،و انّه لو كان هناك نهي أو نسخ فإنّما هو بعد التشريع و العمل.

الشبهة الرابعة:انّ الآية منسوخة بالسنّة،و اختلفوا في زمن نسخها على أقوال شتى:

1.أُبيحت ثمّ نهي عنها عام خيبر.

2.ما أحلت إلّا في عمرة القضاء.

3.كانت مباحة و نهي عنها في عام الفتح.

4.أُبيحت عام أوطاس ثمّ نهي عنها.

و هذه الأقوال تنفي الثقة بوقوع النسخ،كما انّ نسخ القرآن بأخبار الآحاد ممنوع جداً،و قد صحّ عن عمران بن الحصين انّه قال:إنّ اللّه أنزل المتعة و ما نسخها بآية أُخرى،و أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمتعة و ما نهانا عنها،ثمّ قال رجل برأيه يريد به عمر بن الخطاب.

إنّ الخليفة الثاني لم يدع النسخ و إنّما اسند التحريم إلى نفسه،و لو كان هناك ناسخ من اللّه عزّ و جلّ أو من رسوله،لأسند التحريم إليهما،و قد استفاض قول عمر و هو على المنبر:متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أنا أنهى عنهما و أُعاقب

ص:533

عليهما:متعة الحج و متعة النساء.

بل نقل متكلم الأشاعرة في شرحه على شرح التجريد انّه قال:أيّها الناس ثلاث كنّ على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أنا أنهى عنهنّ، و أُحرمهنّ،و أُعاقب عليهنّ،متعة النساء،و متعة الحج،وحي على خير العمل.

و قد روي عن ابن عباس-و هو من المصرّحين بحلية المتعة و إباحتها-في ردّه على من حاجه بنهي أبي بكر و عمر لها،حيث قال:

يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء،أقول:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،و تقولون:قال أبو بكر و عمر.

حتى أنّ ابن عمر لما سئل عنها أفتى بالإباحة فعارضوه بقول أبيه فقال لهم:أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أحقّ أن يتبع أم أمر عمر؟

كلّ ذلك يعرب عن أنّه لم يكن هناك نسخ و لا نهي نبوي و إنّما كان تحريماً من جانب الخليفة،و هو في حدّ ذاته يعتبر اجتهاداً قبالة النص الواضح،و لم يزل جملة من الصحابة يعلنون رفضهم له و عدم إذعانهم لأمره،و إذا كان الخليفة قد اجتهد لأسباب رآها و أفتى على أساسها فكان الأولى بمن لحقوه أن يتنبهوا لهذا الأمر لا أن يسرفوا في تحريمها دون حجة و لا دليل.

المنكرون للتحريم

ذكرنا انّ لفيفاً من وجوه الصحابة و التابعين أنكروا هذا التحريم و لم يقرّوا به،منهم:

1.علي أمير المؤمنين،في ما أخرجه الطبري بالاسناد إليه انّه قال:«لو لا انّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شقي» (1).

2.عبد اللّه بن عمر،أخرج الإمام أحمد من حديث عبد اللّه بن عمر،قال -

ص:534


1- 1) .الطبري:التفسير:9/5. [1]

و قد سئل عن متعة النساء-:و اللّه ما كنا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم زانين و لا مسافحين،ثمّ قال:و اللّه لقد سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:«ليكونن قبل يوم القيامة المسيح الدجال و كذابون ثلاثون و أكثر» (1).

3.عبد اللّه بن مسعود،أخرج البخاري عن عبد اللّه بن مسعود،قال:كنّا نغزو مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و ليس لنا شيء،فقلنا:أ لا نستخصي فنهانا عن ذلك،ثمّ رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل معين،ثمّ قرأ علينا: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» 2 . (2)

4.عمران بن حصين،أخرج البخاري في صحيحه عنه،قال:نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،و لم ينزل قرآن يحرمها و لم ينه عنها حتى مات.قال رجل برأيه ما شاء (3).

5.انّ الخليفة العباسي المأمون أوشك أن ينادي في أيّام حكمه،بتحليل المتعة إلّا أنّه توقف خوفاً من الفتنة و تفرق المسلمين.قال ابن خلكان،نقلاً عن محمد بن منصور:قال:كنّا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة،فقال يحيى بن أكثم لي و لأبي العيناء:بكّرا غدا إليه،فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا،و إلّا فاسكتا إلى أن أدخل،قال:فدخلنا عليه و هو يستاك و يقول و هو مغتاظ:متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و على عهد أبي بكر رضي اللّه عنه و أنا أنهى عنهما،و من أنت يا جُعَل حتى تنهى عما فعله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أبو بكر رضي اللّه عنه؟ فأومأ أبو العيناء إلى محمد بن منصور و قال:رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلمه نحن؟ فأمسكنا،فجاء يحيى بن أكثم فجلس و جلسنا،

ص:535


1- 1) .مسند أحمد:95/2. [1]
2- 3) .البخاري:الصحيح:4/7،باب ما يكره من التبتل و الخصاء من كتاب النكاح.
3- 4) .البخاري:الصحيح:27/6،تفسير قوله تعالى:«فمن تمتع بالعمرة إلى الحج».

فقال المأمون ليحيى:ما لي أراك متغيراً؟ فقال:هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام،قال:و ما حدث فيه؟ قال:النداء بتحليل الزنا،قال:الزنا؟ قال:نعم،المتعة زنا،قال:و من أين قلت هذا؟ قال:من كتاب اللّه عزّ و جلّ،و حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،قال اللّه تعالى «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» إلى قوله: «وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» 1 يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال:لا،قال:فهي الزوجة التي عند اللّه ترث و تورث و تلحق الولد و لها شرائطها؟ قال:لا،قال:فقد صار متجاوز هذين من العادين (1).

أقول:هل عزب عن ابن أكثم-و قد كان ممّن يكن العداء لآل البيت-انّ المتعة داخلة في قوله سبحانه: «إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ» و انّ عدم الوراثة تخصيص في الحكم،و هو لا ينافي ثبوتها،و كم لها من نظير،فالكافرة لا ترث الزوج المسلم،و بالعكس،كما انّ القاتلة لا ترث و هكذا العكس،و أمّا الولد فيلحق قطعاً،و نفي اللحوق ناشئ امّا من الجهل بحكمها أو التجاهل به.

و ما أقبح كلامه حيث فسر المتعة بالزنا و قد أصفقت الأُمة على تحليلها في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و الخليفة الأوّل،أ فحسب ابن أكثم انّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم حلل الزنا و لو مدة قصيرة؟!

كبرت كلمة تخرج من أفواههم.

و هناك روايات مأثورة عن الخليفة نفسه،تعرب عن أنّ التحريم كان صميم رأيه،من دون استناد إلى آية أو رواية.

فقد أخرج مسلم في صحيحه:عن أبي نضرة قال:كان ابن عباس يأمر بالمتعة،و كان ابن الزبير ينهى عنها،فذكر ذلك لجابر،فقال:

على يدي دار

ص:536


1- 2) .وفيات الأعيان:149/6-150. [1]

الحديث:تمتعنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلما قام عمر،قال:إنّ اللّه كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء،فأتموا الحج و العمرة و أبوا نكاح هذه النساء،فلئن أُوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلّا رجمته بالحجارة.

و أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي نضرة،قال:قلت لجابر:إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة،و انّ ابن عباس يأمر بها،فقال لي:

على يدي جرى الحديث:تمتعنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و مع أبي بكر،فلما ولي عمر خطب الناس فقال:إنّ القرآن هو القرآن،و انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو الرسول،و انّهما كانتا متعتان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم احداهما متعة الحج و الأُخرى متعة النساء.

و هذه المأثورات تعرب عن جملة من الملاحظات نجملها بملاحظتين اثنتين:

الاُولى:انّ المتعة كانت باقية على الحل إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب،و بقيت حلالاً في أيامه حتى نهى عنها و منع.

و الثانية:انّه باجتهاده قام بتحريم ما أحلّه الكتاب و السنة،و من المعلوم انّ اجتهاده-لو صحت تسميته بالاجتهاد-حجة على نفسه لا على غيره.

و في الختام نقول:

إنّ الجهل بفقه الشيعة أدى بكثير من الكتاب إلى التقوّل على الشيعة،و خصوصاً في مسألة المتعة التي نحن في صدد الحديث عنها،بجملة منكرة من الآراء و الأحكام تدل على جهل مطبق أو خبث سريرة،و من هذه الأقوال:إنّ من أحكام المتعة عند الشيعة انّه لا نصيب للولد من ميراث أبيه،و انّ المتمتع بها لا عدّة لها،و انّها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل إن شاءت،و من أجل هذا استقبحوا المتعة و استنكروها و شنعوا على من أباحها.

و قد خفي الواقع على هؤلاء و انّ المتعة عند الشيعة كالزواج الدائم لا تتم

ص:537

إلّا بالعقد الدال على قصد الزواج صراحة،و انّ المتمتع بها يجب أن تكون خالية من جميع الموانع،و انّ ولدها كولد الزوجة الدائمة من وجوب التوارث،و الإنفاق و سائر الحقوق المادية،و انّ عليها أن تعتد بعد إنهاء الأجل مع الدخول بها،و إذا مات زوجها و هي في عصمته اعتدت كالدائمة من غير تفاوت،إلى غير ذلك من الآثار.

على أنّ الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه و إدراكه بوضوح،انّ الشيعة و رغم إدراكهم و إيمانهم بحلية زواج المتعة و عدم تحريمه - و هو ما يعلنون عنه صراحة و دون تردّد-إلّا انّهم لا يلجئون إلى هذا الزواج إلّا في حدود ضيقة و خاصة،و ليس كما يصوّره و يتصوّره البعض من كونه ظاهرة متفشية في مجتمعهم و بشكل مستهجن ممجوج.

ص:538

المقالة العاشرة:الاختلاف في الفروع لا في الاُصول

اشارة

قرأنا في العدد 373 من مجلة الشريعة الأُردنية المؤرخة بكانون الثاني سنة 1997 م لقاءً صحفياً أجرته مجلة الشريعة مع الشيخ عبد اللّه المنيع من علماء السعودية،فكان في كلامه لدغ للشيعة فآثرت كتابة مقال في ردّه،و تفضلت مجلة الشريعة مشكورة بنشره.

***

و إليك نصّ الحوار الذي أجرته معه مجلة الشريعة:

سأله المحاور:مؤخراً عقدت عدّة مؤتمرات بهدف تقريب و جهات النظر بين المذاهب الإسلامية المتعدّدة و خاصة بين المذهبين السني و الشيعي،فما هو رأي فضيلتكم في هذه المؤتمرات؟

فأجاب الشيخ المنيع:لا يوجد هناك معايير يرجع إليها في سبيل التقريب بين المذاهب الإسلامية.فالخلاف بين المذاهب السنية هو خلاف بالفروع و ليس بالأُصول،و حتى أصحاب رسول اللّه وجد بينهم خلاف في فروع الشريعة فقط و لم يكن هذا سبباً في تباعدهم و تناحرهم و تباغضهم بل بقي بينهم التآخي و التوادد،و لكن الاختلاف بين أصحاب المذهب السني و المذهب الشيعي هو اختلاف في الأُصول حيث إنّ نظرتهم إلى أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نظرة سيئة تصل لدرجة أن يلعنوا بعض أصحاب رسول اللّه بينما ورد في سورة الحشر وصف المهاجرين و الأنصار بقوله تعالى: «يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ».

ص:539

بالإضافة إلى عدم إقرار إخواننا الشيعة بكتابي مسلم و البخاري،فلو أمكن إيجاد تقارب في هذه النقاط التي نعتبرها أُصولاً فإنّنا نرحب بهذا التقارب.

***

و قد كتبنا مقالاً حول تلك المقابلة و بعثنا به إلى هيئة تحرير المجلة،و إليك نصّ مقالنا المنتشر في مجلة الشريعة العدد 379 الموافق ربيع الأوّل 1418ه.

قرأنا في العدد 373 المؤرخ في كانون الثاني سنة 1997م من مجلتكم الموقرة [الشريعة] حواراً مع الشيخ عبد اللّه سليمان المنيع طرح فيه المحاور على الشيخ مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية طالباً رأيه فيها،فأجاب الشيخ على النحو الماضي.

و حاصل كلامه يرجع إلى أمرين:

الأوّل:انّ نظرة الشيعة إلى أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نظرة سيئة.

الثاني:انّ الشيعة لا تعترف بكتابي مسلم و البخاري.

فإليك تحليل ذينك الأمرين:

أمّا الأوّل:إنّ الشيعة هم من يشايعون علياً و الأئمّة من أهل البيت و لا يتخلّفون عن إرشاداتهم و تعاليمهم التي هي امتداد لإرشادات و تعاليم رسول الإسلام العظيم محمد صلى الله عليه و آله و سلم،و هذا هو الإمام علي عليه السلام يقول في أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحق؟ أين عمار،و أين ابن التيهان،و أين ذو الشهادتين،و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية» (1)و هذا هو الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام يدعو لأصحاب جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الذين أحسنوا الصحبة إذ قال:«اللهم و أصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة و الذين أبلوا البلاء الحسن في نصره،و استجابوا له حيث أسمعهم حجّة

ص:540


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 182. [1]

رسالاته و فارقوا الأزواج و الأولاد في إظهار كلمته و قاتلوا الآباء و الأبناء في تثبيت نبوته،و انتصروا به،و من كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته»إلى أن قال:«اللهمّ و صلّ على السابقين لهم بإحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان خير جزائك». (1)

لنفترض إنّ من الشيعة من لا يحب بعض الصحابة لا لكونهم صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم بل لما صدر منهم من المواقف و من الأعمال التي لا تنطبق على موازين الشريعة،فهو إمّا مصيب في اعتقاده و اجتهاده و إمّا مخطئ،و على الأوّل له أجران،و على الثاني له أجر واحد، كيف لا و قد حدث هذا التشاجر و التعارض بين صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنفسهم،فهذا هو الإمام البخاري ينقل لكم مشاجرة حامية بين سعد بن عبادة الذي قال لسعد بن معاذ في محضر النبي صلى الله عليه و آله و سلم«كذبت لعمر اللّه لا تقتله و لا تقدر على قتله،و لو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل،فقام أسيد بن حُضير-و هو ابن عم سعد بن معاذ-و قال لسعد بن عبادة:كذبت،و عمر اللّه لنقتلنّه،فإنّك منافق تجادل عن المنافقين» (2)و كم لهذه المشاجرات الساخنة و التراشق بالاتهامات بين الصحابة من نظير،و مع ذلك لم يعتبرها أحد موجباً للكفر أو الخروج عن ربقة الإيمان،ثمّ ما ذا يفعل الشيعة إذا وجدوا في أصح الكتب عند أهل السنة بعد كتاب اللّه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:«يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلئون عن الحوض،فأقول:يا ربّ أصحابي،فيقول إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك،إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى»،و غير ذلك من الروايات التي أخرجها الإمام البخاري في صحيحه في باب الحوض و غيره. (3)

فما ذنب الشيعي إذا وجد في أصح الكتب لدى إخوانه السنة انّ صحابياً

ص:541


1- 1) .الصحيفة السجادية:الدعاء 4. [1]
2- 2) .صحيح البخاري،ج5،ص 118- 119،في تفسير سورة النور.
3- 3) .لاحظ جامع الأُصول،ج11،ص 10.

جليلاً كأسيد بن حُضير يصف سعد بن عبادة ذلك الصحابي الجليل بالنفاق و يقول:إنّك منافق تجادل عن المنافقين.

فإذا صحّ ذلك العمل من الصحابي بحجة انّه وقف على نفاق أخيه الصحابي الآخر،فلما ذا لا يصح صدوره من الآخرين إذا وقفوا على أنّ بعض من كان حول النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد اقترف ما لا يرضى به اللّه و رسوله صلى الله عليه و آله و سلم فيبدي عدم رضائه من عمله كما أبداه أسيد بن حُضير.

كما أظهر سبحانه عدم رضائه من بعضهم و قال:

«إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» . (1)

فقد وصف بعضهم بالفسق،كما وصف الذكر الحكيم لفيفاً منهم بالإعراض عن الذكر و الصلاة و الاشتغال بالتجارة و كسب المال.

قال سبحانه: «وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ» 2.

و على ذلك فالشيعة تحب الصحابة الكرام بما انّهم صحابة للرسول صلى الله عليه و آله و سلم و ملبي دعوته و ناشري سنته،و لكن ذلك لا يمنع من مناقشة بعض مواقفهم إذا خالف الكتاب و السنة فانّ العصمة للّه تبارك و تعالى و لمن عصمه.

فليست الصحابة بمعصومين عن الخطأ و الزلل،و نقد بعض أعمالهم نابع عن تلك الحقيقة،و إلّا فمن أراد أن تُكبح الألسن للحيلولة دون وصف أعمالهم بالخير و الشر و الحسن و القبح فقد ألبس عليهم ثوب العصمة و هو بدعة ما فوقها بدعة.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل و إليك الكلام في الأمر الثاني:

ص:542


1- 1) .الحجرات:6. [1]

متى أصبح الصحيحان أصلين في الإسلام ؟

إنّ الواجب على كافة المسلمين هو الأخذ بسنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من غير أن يكون هناك خصوصية لكتاب دون كتاب.و الشيعة بفضله سبحانه أخذوا سنة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من زلال صاف و هو العترة الطاهرة أوّلاً و ثقات المسلمين ثانياً و بذلك وقفوا على أحاديث هائلة في سنته صلى الله عليه و آله و سلم،فقارنوا الكتاب و السنة و لم يفرقوا بينهما.

و لم يكن الأخذ بالصحيحين ملاكاً للإيمان،بشهادة أنّ المسلمين كانوا يعملون بسنة رسول اللّه و يروونها قبل أن يولد البخاري و مسلم و يكون لهما أثر في الوجود،فمتى أصبح البخاري و مسلم أصلاً و مناراً و محوراً للإيمان و الكفر،مع أنّ الأصل هو سنة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و عند الشيعة سنته صلى الله عليه و آله و سلم المروية عن طريق أهل بيته المطهرين بأسانيد عالية و نقية من كلّ شائبة.

فنرجو و نأمل من الأُستاذ الشيخ المنيع إعادة النظر في كلامه الذي مرّ ملخصه،و نرجو أن يطالع كتب الشيعة في هذا المجال ليقف على الحقيقة.

و في الختام إنّنا لا نبخس حقّ الشيخ المنيع لما لمسناه فيه من تفتح و مرونة و أدب مع إخوانه الشيعة.

جعلنا اللّه سبحانه و تعالى جميعاً من أنصار دينه و الأشداء على أعدائه الصهاينة الملحدين.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

قم-الجامعة الإسلامية

1417/12/28ه

ص:543

المقالة الحادية عشرة:آية التطهير و عصمة أهل البيت

اشارة

حضرة الأخ العزيز الأُستاذ حسن التلّ المدير العام و رئيس التحرير المسئول لصحيفة اللواء الأُردنية،الموقر.

السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أتقدّم إليكم بالتحية و السّلام،و أرجو من اللّه سبحانه مزيد التوفيق لكم و لمن حولكم من الأعزاء.

منذ مدّة و نحن نقرأ في صحيفتكم الغرّاء مقالات بقلم الأُستاذ الفاضل محمد الآلوسي حول عقائد الشيعة و تاريخها،و قد امتازت هذه المقالات بالبحث الموضوعي و الدراسة الهادئة بعيداً عن المهاترات،و الاتهامات و بمعزل عمّا لا يليق بالكاتب الإسلامي، فشكر اللّه مساعيه و كثّر في المجتمع الإسلامي أمثاله،إذ طالما نقرأ في الصحف و المجلات أو في الكتب المنشورة حول الشيعة مقالات بأقلام بذيئة،لا تنتج عند القارئ إلّا النفور من الكاتب و إساءة الظن به و بأهدافه،فإنّ البحث العلمي يرتفع عن إقرانه بالشتم و السب غير انّ كاتبنا-و للّه الحمد-مستثنى من تلك الزمرة،فهو كاتب مؤدب،ذو صدر رحب،و لهجة مهذبة.

لكن الذي بعثنا على أن نسجل شيئاً أو هامشاً على بعض مقالاته ما قرأناه

ص:544

في صحيفة اللواء المؤرّخة في 10 جمادى الآخرة 1417 هجري،الموافق ل22 تشرين الأول 1996م،العدد 1222 السنة الخامسة و العشرون.

ففي الصفحة 24 كتب الأخ تحت عنوان«الخلافة و الإمامة عند الشيعة»أُموراً لنا فيها تأمّلات و مناقشات يرجى نشرها على صفحات اللواء لتكون الصحيفة منبر الإسلام الحرّ،و معرضاً لمختلف الآراء،و فرصة لتلاقح الأفكار الذي منه ينبثق النور،و يضاء الطريق،و قد قيل:الحقيقة بنت البحث.

و إليك موجز كلامه:

قال الأُستاذ الآلوسي:

إنّ أهمّ نصّ استدل به الشيعة و توصلوا من خلاله إلى عصمة من قالوا بعصمتهم هو قوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» 1.

فقد قالوا:إنّها نزلت بشأن علي و زوجته فاطمة و ولديهما الحسن و الحسين و قد جمعهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم إثر نزول الآية و ألقى عليهم كساء و قال:«اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً...»و عليه يكون المقصود بأهل البيت هم هؤلاء الأربعة فقط و ذرّيتهم من بعدهم دون غيرهم،لأنّ كلمة إنّما تفيد الاختصاص الدالّ على الحصر...و هذا الحديث و الرواية بشأن نزول الآية هي إحدى الروايات المشهورة عند أهل السنّة أيضاً في مصادرهم المعتمدة كالسيوطي و الطبري و ابن كثير و الآلوسي في تفاسيرهم و كثيرون غيرهم،و قالوا أيضاً انّ قوله تعالى في الآية: «إِنَّما يُرِيدُ» يفيد الإرادة الإلهية القدرية النافذة و من ثمّ دلّت على حصول الشيء فعلاً و هو التطهير و ذهاب الرجس عن الأربعة«رضي اللّه عنهم»و هو ما يعرف عند المتكلّمين بالإرادة الكونية للّه الذي يقول

ص:545

للشيء إذا أراده «كُنْ فَيَكُونُ» .

ثمّ ناقش استدلال الشيعة الذي نقله بوجوه نأتي بها:

1.انّ أهل السنة قالوا:إنّ المقصود بأهل البيت هم نساء النبي و ليس الأربعة رضي اللّه عنهم،و انّ الّذي رجّح عندهم هذه الرواية هو سياق الآيات التي سبقتها،و السياق له اعتباره في استنباط الأحكام ثمّ نقل الآيات المتقدمة على آية التطهير و المتأخرة عنها و كلّها نازلة في نساء النبي.

2.انّ الخطاب في آية التطهير و إن جاء بصيغة المذكر: «عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ...» خلافاً للضمائر الواردة في سائر الآيات التي سبقتها و التي أعقبتها،فهي بصيغة المؤنث.لكنّه لا يصير دليلاً على التغاير،و انّ المقصودين من آية التطهير غير المقصودين من سائر الآيات،و ذلك لأنّه يجوز في لغة العرب مخاطبة جمع المؤنث بصيغة جمع المذكر تعبيراً لعلو المقام و المبالغة.

3.انّ حديث الرسول جاء بصيغة الطلب«اللّهمّ اذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً»و هي صيغة تفيد عدم شمول الأربعة وقت نزول النصّ،فدعا الرسول ربه أن يشملهم أيضاً بحكمه،و لو كانوا هم المقصودين لكان الرسول ناجى ربّه بصيغة الشكر لا بصيغة الطلب.

4.انّ الإرادة الواردة في الآية هي الإرادة التشريعية أي الأمر الذي لا يسلب المخاطب القدرة على الاختيار،و ليست إرادة كونية - التي تدّعيها الشيعة-و التي تتعلق بكلّ قضايا الخلق و الإيجاد فقد خُلِقتْ من دون اختيار،و ذلك لأنّه عندئذ تصبح طهارتهم-عصمتهم - أمراً خارجاً عن الاختيار و لا تكون خاضعة للثواب و العقاب.

هذه هي الأدلة التي استدل بها على نزول الآية في نساء النبيّ،و لكن الأُستاذ-أنار اللّه برهانه-لم يتجرّد عن عقيدته في تفسير الآية،و لو كان ناظراً إليها

ص:546

و ما حولها و ما فيها من القرائن المتصلة و المنفصلة الدالّة على نزولها في آل العباء و الكساء،لما عدل عن مقتضاها،و لما اختار ما اختار.

انّ

استدلال الشيعة بهذه الآية على عصمة آل الكساء مبني على أُمور

اشارة

تنتج مختارهم بوضوح:

الأوّل:ما هو المراد من الإرادة في الآية؟

إنّ الإرادة المتعلّقة بالإيجاد و التكوين إرادة تكوينية و هي لا تنفك عن المراد إذا كان المريد هو اللّه سبحانه كقوله سبحانه: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» 1 فخلق السماوات و الأرض مراد بإرادة كونية.

و أمّا الطلب الموجّه إلى البشر الحاكي عن تعلّق إرادته سبحانه بقيام الناس بالوظائف فهي إرادة تشريعية و لم يكتب عليها عدم التفكيك،فانّه سبحانه أراد الطاعة من الإنسان،و كم هناك إنسان كافر أو عاص للّه سبحانه.

و هذا التقسيم ممّا لا غبار عليه.

إنّما الكلام هو في الإرادة الواردة في آية التطهير و أنّها من أي القسمين،و الأُستاذ ذهب إلى أنّها تشريعية،و لكن الدليل يسوقنا إلى أنّها كونية،و ذلك لأنّها إذا كانت تشريعية كان من لوازمها انّها لا تختص بفئة دون فئة،بدليل أنّه سبحانه أراد التطهير و التطهّر من كلّ شين و رين و طلبه من جميع الناس،من دون تخصيص و حصر.قال سبحانه:

«وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ» 2.

«وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ» 3.

ص:547

«إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» 1.

«فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» 2.

و حبه سبحانه علامة بعثه و طلبه،و إرادته التشريعية المتعلّقة بتطهير كل المؤمنين عامة لا جماعة خاصة.

و سؤالنا هو:لو كانت الإرادة الواردة في الآية المبحوثة كالإرادة الواردة في هذه الآيات فما هو وجه التخصيص بأُمور خمسة:

ألف:بدأ قوله سبحانه بحرف «إِنَّما» المفيدة للحصر.

ب:قدم الظرف و قال: «لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ» و لم يقل ليذهب الرجسَ عنكم،و ذلك لأجل أنّ التقديم يفيد التخصيص.

ج:بيّن من تعلّقت الإرادة بتطهيرهم بصيغة الاختصاص و قال: «أَهْلَ الْبَيْتِ» أي أخصُّكم أهل البيت مثل قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«نحن معاشر الأنبياء...».

و قول قائلهم:نحن العرب أسخى من بَذَل.

د:أكد المطلوب بتكرير الفعل و قال: «وَ يُطَهِّرَكُمْ» الذي هو تأكيد لمعنى إذهاب الرجس المتقدّم عليه.

ه:أرفقه بالمفعول المطلق و قال: «تَطْهِيراً» .

فهذه الوجوه الخمسة آية أنّ هذه الإرادة إرادة خاصّة بأهل البيت لا يشاركهم فيها أحد من الأُمّة،و إلّا لكانت تلك العناية البالغة في مجال التخصيص و الاختصاص لغواً مضراً بالبلاغة،و غير لائقة بكلام ربّ العزة.

ثمّ إنّ تعلّق إرادته التكوينية بطهارة أهل البيت من الذنب ليس بأمر جديد،فقد جاء نظيره في مريم سلام اللّه عليها،قال اللّه سبحانه: «إِنَّ اللّهَ

ص:548

اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ» 1.

و ليس هذا الاصطفاء و التطهير بالإرادة التشريعيّة،فانّ مريم و غيرها أمام هذه الإرادة سواسية،بل هناك إرادة خاصّة تعلّقت بمريم دون غيرها فطهرتها من الذنوب و حصّنتها من اقتراف المعاصي.

و سيوافيك انّ تعلّق الإرادة التكوينية بالطهارة من الذنب لا ينافي الاختيار على الاستجابة و الرفض،و الثواب و العقاب،و الفعل و الترك.

***

الثاني:ما هو المراد من الرجس؟

هذا هو الأمر الثاني الذي يجب الإمعان فيه حتّى يكون الدليل منتجاً لا عقيماً و قد غفل الأُستاذ عن تبيين تلك الناحية في كلامه فنقول:إنّ الرجس استعمل في الذِّكر الحكيم،في الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام (1)كما استعمل في الميتة و الدم و لحم الخنزير (2)و في الأوثان (3)و في المنافقين (4)و في المشركين (5)و في غير المؤمنين (6)إلى غير ذلك من موارد استعماله في الكتاب و السنّة النبوية و اللغة العربية،فينتقل الإنسان من مجموع هذه الموارد إلى أنّ الرجس عبارة عن كلّ قذارة ظاهرية كالدم و لحم الخنزير،أو باطنية و روحية كالشرك و النفاق و فقد الإيمان.و بالجملة مساوئ الأخلاق،و الصفات السيئة و الأفعال القبيحة التي يجمعها الكفر و النفاق و العصيان.

فالمنفي في الآية المبحوثة عنها هو هذا النوع من الرجس،فهو بتمام معنى

ص:549


1- 2) .المائدة:90. [1]
2- 3) .الأنعام:145. [2]
3- 4) .الحجّ:3. [3]
4- 5) .التوبة:95. [4]
5- 6) .يونس:100. [5]
6- 7) .الأنعام:125. [6]

الكلمة ممّا أذهبه اللّه عن أهل البيت.

فإذا كان أهل البيت منزهين عن النفاق و الشرك و الأعمال القبيحة و ما يراد منها،فهم معصومون من الذنب مطهّرون من الرجس، بإرادة منه سبحانه.

و قد رباهم اللّه سبحانه و جعلهم معلّمين للأُمّة هادين للبشر،كما ربّى أنبياءه و رسله لتلك الغاية.

فهل الأُستاذ-حفظه اللّه-يوافقنا على هذا التفسير أم انّ له في تفسير الرجس مذهباً آخر فليبينه لنا؟ و لا أظن أن يفسره بغير ما يفسره القرآن.

و على ضوء ذلك فأهل البيت-كانوا من كانوا-معصومون بنصّ هذه الآية،مطهّرون من الذنب و العثرة في القول و العمل بإذن من اللّه سبحانه و إرادة حاسمة.و قد اتّفقت الأُمّة على أنّ نساء النّبي لسنَ بمعصومات،فانّ الآيات الواردة في سورة الأحزاب،أوّلاً ثمّ في سورة التحريم ثانياً حيث يقول سبحانه: «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ» 1 تثبت ذلك.

و هذا لا يعني أن نبخس حقّهن،و نترك تكريمهن فانّهن أُمّهات المؤمنين لهنّ من الحقوق ما شرعها اللّه في كتابه و سنة نبيّه المطهّرة.

***

الثالث:ما هو المراد من«البيت»؟

لا شكّ انّ «الْبَيْتِ» في هذه الآية محلاّة باللام و هي تستعمل في تعريف

ص:550

الجنس،و الاستغراق،و العهد فيجب التدبّر في مفادها،فهل هي هنا لتعريف الجنس أو لبيان الاستغراق،أو انّها تشير إلى بيت معهود بين المتكلّم و المخاطَب؟

أمّا الأوّل و الثاني فلا سبيل إليهما،لأنّه سبحانه ليس بصدد بيان انّ إرادته الحكيمة تعلقت باذهاب الرجس عن أهل جنس البيت أو كلّ البيوت في العالم،و ذلك واضح لا يحتاج إلى الاستدلال إذ تكون حينئذٍ شاملة لبيوت عامة المؤمنين.

فتعيّن الثالث،و هو كون المراد (بيت واحد) معيّن معهود،بين المتكلّم و المخاطب (أي النبي صلى الله عليه و آله و سلم).

و عندئذٍ يجب علينا أن نحاول فهم ذلك البيت المعهود و انّه ما هو؟

و لا يمكن لنا أن نطبقه على بيوت نساء النبي بشهادة أنّه سبحانه عند ما يذكر بيوتهنّ فانّه يذكرها بصيغة الجمع إذ أنّ لهنّ بيوتاً لا بيت واحد.

و الآية تركز على البيت الواحد،و الدليل على تعدّد بيوتهنّ:

قوله سبحانه: «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى» 1.

و قوله سبحانه: «وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللّهِ وَ الْحِكْمَةِ» 2.

فإنّنا نرى هنا انّه لم يكن لنساء النبي بيت واحد بل بيوت عديدة.

و لم يكن للنبيّ أيضاً بيت واحد.

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ» 3.

فإنّنا نرى هنا انّه لم يكن للنبي صلى الله عليه و آله و سلم و لا لنسائه بيت واحد بل بيوت عديدة

ص:551

فما هو المراد-يا ترى-بالبيت الذي جاء بصيغة المفرد؟

فعندئذ يجب على المفسّر المحقّق المجرّد من كلّ عقيدة مسبقة تبيين هذا البيت و تعيينه،فهذا البيت ليس من بيوت نسائه،و لا بيوت نفس النبيّ بشهادة ما مضى من أنّ القرآن عند ما يتحدّث عن ازواج النبي و نفس النبي إنّما يتحدّث عن بيوت لهن لا عن البيت الواحد.فلا محيص عن تفسيره ببيت واحد معهود فأيّ بيت ذاك؟فعلى الأُستاذ تعيينه.

هذا إذا كان المراد من البيت هو البيت المحسوس،أي البيت المادي و هناك احتمال آخر و هو أن يكون المراد منه هو مركز الشرف و مجمع السيادة و العزّ،و إن شئت قلت إذا أُريد منه بيت النبوّة و بيت الوحي و مركز أنوارهما فلا يصحّ أن يراد منه إلّا المنتمون إلى النبوّة و الوحي بوشائج روحيّة خاصة على وجه يصحّ مع ملاحظتها،عدّهم أهلاً لذلك البيت،و تلك الوشائج عبارة عن النزاهة في الروح و الفكر.

و لا يشمل كل من يرتبط ببيت النبوّة عن طريق السبب أو النسب فحسب،و في الوقت نفسه يفتقد الأواصر الروحيّة الخاصة،و لقد تفطّن العلاّمة الزمخشري صاحب التفسير لهذه النكتة،فهو يقول في تفسير قوله تعالى: «أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» 1:

لأنّها كانت في بيت الآيات و مهبط المعجزات و الأُمور الخارقة للعادات فكان عليها أن تتوقّر و لا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوّة،و أن تسبّح اللّه و تمجّده مكان التعجّب،و إلى ذلك أشارت الملائكة في قولها: «رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ...» أرادوا أنّ هذه و أمثالها ممّا

ص:552

يكرمكم به ربّ العزّة و يخصّكم بالأنعام به يا أهل بيت النبوّة. (1)

و على ذلك لا يصح تفسير الآية بكل المنتمين عن طريق الأواصر العائلية إلى بيت خاص حتى بيت فاطمة إلّا أن تكون هناك الوشائج المشار إليها.

و لقد جرى بين«قتادة»ذلك المفسّر المعروف و بين أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام مناظرة لطيفة أرشده الإمام فيها إلى هذا المعنى الذي أشرنا إليه قال-عند ما جلس الإمام الباقر عليه السلام-:لقد جلست بين يدي الفقهاء و قدّام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك.قال له أبو جعفر الباقر عليه السلام:ويحك أ تدري أين أنت؟ أنت بين يدي «بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ» 2 فأنت ثمّ و نحن أُولئك.فقال قتادة:صدقت و اللّه جعلني اللّه فداك،و اللّه ما هي بيوت حجارة و لا طين. (2)

و ما جاء في كلام باقر الأُمّة عليه السلام يحضّ المفسّر فيها على البحث و التحقيق عن الذين يرتبطون بذلك البيت الرفيع بأواصر روحيّة معينة و بذلك يظهر وهن القول بأنّ المراد من البيت أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم،لأنّه لم تكن تلك الوشائج الخاصة-باتفاق المسلمين - بينهنّ،و أقصى ما عندهنّ أنّهنّ كنّ مسلمات مؤمنات.

***

ص:553


1- 1) .الذهبي،ميزان الاعتدال:93/3-97؛سير اعلام النبلاء:18/5-22.
2- 3) .الشرح الحديدي:102/4؛سير اعلام النبلاء:421/4-427.
الرابع:الضمائر

نرى أنّه سبحانه عند ما يتحدث عن أزواج النبي و نسائه يذكرهنّ بصيغة جمع المؤنث،و لا يذكرهنّ بصيغة الجمع المذكر،فانّه سبحانه يأتي في تلك السورة من الآية 28 إلى الآية 34 باثنين و عشرين ضميراً-مؤنثاً مخاطباً بها نساء النبي و إليك الإيعاز إليها:

1.كنتنّ؛2.تردن؛3.تعالين؛4.امتعكنّ؛5.أُسرّحكنّ (1).

6.كنتنّ؛7.تردن؛8.منكنّ (2).

9.منكنّ (3).

10.منكنّ (4).

11.لستنّ؛12.اتقيتنّ؛13.فلا تخضعنَ؛14.و قلنَ (5).

15.و قرنَ؛16.بيوتكن؛17.تبرّجنَ؛18.اقمنَ؛19.آتينَ؛20.اطعنَ (6).

21.و اذكرنَ؛22.في بيوتكنَّ (7).

نرى أنّه سبحانه عند ما يتحدّث عن نساء النبي يذكرهن بهذه الضمائر،مع انّا نرى انّه سبحانه عند ما يذكر أهل البيت يذكرهم بضمائر المذكر،و يقول: «لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ» ، «وَ يُطَهِّرَكُمْ» .

فما هو وجه العدول في هذه الآية عن السياق الوارد في الآيات المتقدمة

ص:554


1- 1) .الأحزاب:28. [1]
2- 2) .الأحزاب:29. [2]
3- 3) .الأحزاب:30. [3]
4- 4) .الأحزاب:31. [4]
5- 5) .الأحزاب:32. [5]
6- 6) .الأحزاب:33. [6]
7- 7) .الأحزاب:34. [7]

و المتأخرة عنها؟

و ما يقوله الأُستاذ من أنّ أهل السنة يجوّزون في لغة العرب مخاطبة الجمع المؤنث،بصيغة جمع المذكر تعبيراً لعلوّ المقام، و المبالغة،لو كانت صحيحة،فما هو وجه العدول في مورد واحد عمّا ورد في اثنين عشرين مورداً؟!

أ ليس هذا العدول لذلك التبرير المزعوم موجباً للالتباس و وقوع المخاطب في الاشتباه؟

إلى هنا ثبت انّ الآية لا تهدف إلى نساء النبي،و إنّما تهدف إلى بيت واحد و إلى أهله خاصّة.

فعند ذلك يجب علينا أن نميط الستر عن وجه الحقيقة عن طريق السنة النبوية.

السنّة النبوية تميط الستر عن وجه الحقيقة

إنّ للنبي صلى الله عليه و آله و سلم عناية وافرة بتعريف أهل البيت لم ير مثلها إلّا في أُمور نادرة حيث قام بتعريفهم بطرق مختلفة،و إليك بيانها على سبيل الإيجاز و الاختصار.

لقد قام النبيّ بتعريف أهل البيت بطرق ثلاثة:

أوّلاً:صرّح بأسماء من نزلت الآية في حقّهم،حتى يتعين المنزول فيه باسمه و رسمه.

ثانياً:قد أدخل جميع من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء و منع من دخول غيرهم.

ثالثاً:كان يمر ببيت فاطمة عدّة شهور كلّما خرج إلى الصلاة فيقول:الصلاة أهل البيت «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

ص:555

و نذكر من كلّ طائفة نماذج:

أما الأُولى:أخرج الطبري في تفسير الآية عن أبي سعيد الخدري قال،قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:نزلت الآية في خمسة:في و في علي رضي اللّه عنه و حسن رضي اللّه عنه،و حسين رضي اللّه عنه،و فاطمة رضي اللّه عنها، «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .

و قد رويت في هذا المجال روايات فمن أراد فليرجع إلى تفسير الطبري و الدر المنثور للسيوطي.

و أمّا الثانية:فقد روى السيوطي و أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و مسلم و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت:خرج رسول اللّه غداة و عليه مرط مرجّل من شعر أسود فجاء الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما فأدخلهما معه،ثمّ جاء علي فأدخله معه ثمّ قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .

و لو لم تذكر فاطمة في هذا الحديث فقد جاء في حديث آخر،حيث روى السيوطي قال:و أخرج ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه عن سعد قال:نزل على رسول اللّه الوحي فأدخل علياً و فاطمة و ابنيهما تحت ثوبه،قال:اللّهمّ انّ هؤلاء أهلي و أهل بيتي.

و في حديث آخر جاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى فاطمة و معه حسن و حسين،و علي حتى دخل فأدنى علياً و فاطمة فأجلسهما بين يديه و أجلس حسناً و حسيناً كل واحد منهما على فخذه ثمّ لف عليهم ثوبه و انا مستدبرهم ثمّ تلا هذه الآية: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .

و أمّا الطائفة الثالثة:فقد أخرج الطبري عن أنس أنّ النبي كان يمرّ ببيت فاطمة ستة أشهر كلّما خرج إلى الصلاة فيقول الصلاة أهل البيت «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ

ص:556

لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ..

و للوقوف على مصادر هذه الروايات لاحظ تفسير الطبري،ج22،ص 5-7،و الدر المنثور:ج5،ص 198- 199،و الروايات تربو على أربع و ثلاثين رواية،و رواها من عيون الصحابة:أبو سعيد الخدري،أنس بن مالك،ابن عباس،أبو هريرة الدوسي،سعد بن أبي وقاص،واثلة بن الاسقع،أبو الحمراء أعني هلال بن حارث،أُمّهات المؤمنين عائشة و أُمّ سلمة.

و رواه من أصحاب الصحاح:مسلم في صحيحه:ج7،ص 122-123 و الترمذي في سننه.

و لاحظ جامع الأُصول لابن الأثير ج 10،ص 103.

و بالإمعان في ما ذكرنا من النصوص تقف على ضعف قول الأُستاذ حيث يقول:إنّ حديث الرسول جاء بصيغة الطلب،اللّهمّ اذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً،و هي تفيد عدم شمول الآية للأربعة وقت نزول النص،فدعا الرسول ربّه بأن يشملهم أيضاً بحكمه.

فانّ ما ذكره الأُستاذ إنّما جاء في بعض صور هذا الحديث،و لكن الكثير على خلاف هذا فانّ صيغة (أذهِب) جاءت في قليل من النصوص و الصور،و أمّا الأكثر فمشتمل على أنّ النبي جللهم تحت الكساء و تلا الآية المذكورة.

فقد أخرج مسلم عن عائشة أنّها قالت:خرج النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عليه مرط مرجل أسود فجاءه الحسن فأدخله،ثمّ جاءه الحسين فأدخله، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها،ثمّ جاء علي فأدخله،ثمّ قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .

و لو افترضنا صحّة ما ورد من صيغة الطلب،فهذا لا يدل على عدم الشمول،و إنّما هو دعاء على استمرار الشمول كقوله سبحانه:

«اهْدِنَا الصِّراطَ

ص:557

اَلْمُسْتَقِيمَ» فانّه يتلوه النبي و الوصي و المؤمنون كلهم،و ليس معناه خروجنا عن الصراط المستقيم حتى يهدينا اللّه سبحانه إليه.

بقي هنا كلام و هو أنّ لفيفاً من التابعين ذكروا انّ الآية نزلت في حقّ نساء النبي و أزواجه،و لكن هذه الرواية تصل إلى عكرمة الخارجي الحروري (1)و عروة ابن الزبير المعروف بالانحراف عن علي عليه السلام (2)و مقاتل بن سليمان (3)الذي يعد من أركان المشبّهة.

عود إلى بدء

اشارة

قد تعرفت على منطق الشيعة في نزول الآية في آل العباء و الكساء و دلالتها على عصمتهم من الذنب و العصيان،غير انّ الكاتب القدير محمد الآلوسي قد استبعد نزولها في حقّهم بأُمور ربما مضى تحليلها في ثنايا البحث و لإيضاح المطلب نرجع إلى تحليل ما استند إليه ثانياً.

قد مضى انّه استند في تقريب مختاره إلى الأُمور التالية:

1.سياق الآيات يمنع عن نزولها في غير أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

2.انّ تذكير الضميرين في آية التطهير مع أنّ المقصود هو نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو لأجل الإشعار بعلو المقام و المبالغة.

3.حديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم جاء بصيغة الطلب،و هذا دليل على عدم شمول الآية لآل العباء و لو شملت الآية لهم لجاء بصيغة الشكر.

4.الإرادة التكوينية المتعلقة بالعصمة تسلب الاختيار عن المعصوم و لا يكون عمله خاضعاً للثواب و العقاب.

و إليك تحليل تلك الأُمور:

ص:558


1- 1) .ميزان الاعتدال:93/3.
2- 2) .شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:69/4.
3- 3) .ميزان الاعتدال:173/4.
الف:مشكلة السياق

إنّ القول بنزول الآية في آل الكساء لا توجد أيّ مشكلة في سياقها شريطة الوقوف على أُسلوب البلغاء في كلامهم و خطاباتهم.

فانّ من عادتهم الانتقال من خطاب إلى غيره ثمّ العود إليه مرّة أُخرى.

قال صاحب المنار:إنّ من عادة القرآن أن ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن ثمّ يعود إلى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة. (1)

و قد اعترف الكاتب بهذه الحقيقة أيضاً عند بحثه في آية الولاية التي سيوافيك البحث عنها بعد الفراغ من آية التطهير حيث قال ما هذا نصّه:

الأصل عند أهل السنّة انّ الآية تعتبر جزءاً من سياقها إلّا إذا وردت القرينة على أنّها جملة اعتراضية تتعلّق بموضوع آخر على سبيل الاستثناء و هو اسلوب من أساليب البلاغة عند العرب جاءت في القرآن الكريم على مستوى الإعجاز.

و قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام:«إنّ الآية من القرآن يكون أوّلها في شيء و آخرها في شيء». (2)

فعلى سبيل المثال،انّه سبحانه يقول في سورة يوسف حاكياً عن العزيز انّه بعد ما واجه الواقعة في منزله قال: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» 3.

ترى أنّ العزيز يخاطب زوجته بقوله: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» و قبل أن يفرغ من كلامه معها يخاطب يوسف بقوله: «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا» ثمّ يرجع إلى

ص:559


1- 1) .المنار:451/2.
2- 2) .الكاشف:217/6.

الموضوع الأوّل،و يخاطب زوجته بقوله: «وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ» فقوله: «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا» جملة معترضة،وقعت بين الخطابين،و المسوّغ لوقوعها بينهما كون المخاطَب الثاني أحدَ المتخاصمين و كانت له صلة تامّة بالواقعة التي رفعت إلى العزيز.

و الضابطة الكلية لهذا النوع من الخطاب هو وجود التناسب المقتضي للعدول من الأوّل إلى الثاني ثمّ منه إلى الأوّل و هي موجودة في الآية فانّه سبحانه يخاطب نساء النبي بالخطابات التالية:

1. «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» 1 .

2. «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ» 2 .

3. «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى» 3.

فعند ذلك صحّ أن ينتقل إلى الكلام عن أهل البيت الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً و ذلك لوجهين:

1- تعريفهن على جماعة بلغوا في التورع و التقى الذروة العلياء و في الطهارة عن الرذائل و المساوئ،القمةَ،و بذلك استحقوا أن يكونوا أُسوة في الحياة و قدوة في مجال العمل،فيلزم عليهنّ أن يقتدين بهم،و يستضئن بنورهم.

2- كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم محوراً للطائفتين المجتمعتين حوله صلى الله عليه و آله و سلم.

الأُولى:أزواجه و نساؤه.

الثانية:بنته و زوجها و أولادها.

فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم هو الرابط الذي تنتهي إليه تلك المجموعتان،فنحن ننظر إلى

ص:560

كلّ طائفة مجرّدةً عن الأُخرى و لأجل ذلك نرى انقطاع السياق،إذا فسرنا أهل البيت بفاطمة و زوجها و بنيها.

و لكن لما كان المحور للمجموعتين هو النبي صلى الله عليه و آله و سلم و اللّه سبحانه يتحدث فيما يرتبط بالنبي من بيوتٍ و أهلها،فعند ذلك تتراءى المجموعتان كمجموعة واحدة حول النبي و هو الرابط بينهما،فيعطى لكل جماعة حكمها فيتحدث عن نسائه بقوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ . يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ . يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ» الخ.

كما انّه يتحدث عن المجموعة الأُخرى الموجودة في تلك الجماعة بقوله: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ» .

فالباعث للجمع بين الطائفتين في تلك المجموعة من الآيات و في ثنايا آية واحدة إنّما هو انتساب الكلّ إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و حضورهما حوله،و ليس هناك أي مخالفة للسياق.

ب:تذكير الضمائر لأجل التعبير عن علو المقام

قد تعرفت في ثنايا الكلام ضعف هذا الاعتذار،و الواجب ان لا نعود إليه.

و قد عرفت انّ مجموعة الآيات الواردة في هذا المضمار تشتمل على اثنين و عشرين ضميراً بصيغة الجمع المؤنث كلّها ترجع إلى نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم فعند ذلك يطرح هذا السؤال فأي سبب دعا المتكلم إلى الايعاز لعلو مقامهم و المبالغة في تكريمهم في هذا المورد دون الموارد الأُخرى مع أنّ المورد لا يقتضي الإيعاز إلى علو مقامهم،فترى أنّ المتكلّم يتشدد في كلامه معهنّ حيث يقول:

«يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ

ص:561

ضِعْفَيْنِ...» 1.

و يقول: «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ...» 2.

و يقول: «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى...» 3 .أ في هذا المقام الذي أخذ المتكلم يندد بهنّ و يطلب منهنّ أن لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأُولى يستحق الإيعاز بتكريمهن و بيان علو مقامهن!

ترى أنّ لحن الكلام لحن التشدد و التنديد و مثل هذا المقام لا يناسب الإيعاز بعلو مقامهنّ و الإشارة إلى تكريمهنّ خصوصاً انّ العدول يوجب الالتباس و الذي دعا الكاتب إلى التمسك بهذا الحبل الموهن هو صيانة عقيدته التي نشأ عليها منذ نعومة أظفاره إلى يومه هذا و إلّا فالأُستاذ كاتب قدير يعلم مواقف التكريم و التقدير عن غيرها.

ج:حديث الرسول جاء بصيغة الطلب

يقول الأُستاذ الآلوسي:إنّ حديث الرسول جاء بصيغة الطلب،و قال:«اللهمّ اذهب»و لو كانت الآية شاملة لهم لكان المناسب هو صيغة الشكر لا صيغة الطلب.

يلاحظ عليه:انّ الأُستاذ انتقى من أحاديث الرسول ما جاء فيها صيغة الطلب و ترك غيرها و قد عرفت لفيفاً من الأحاديث و كيف أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تكلم فيها مخبراً عن ذهاب الرجس عنهم لا طالباً،و فيما مضى كفاية.

ص:562

د:الإرادة التكوينية تسلب الاختيار

هذا هو السبب المهم لما ذهب إليه الأُستاذ من أنّ الإرادة في الآية تشريعية لا تكوينية،و ذلك لأنّ الإرادة التكوينية تسلب الاختيار و بالتالي لا تصبح العصمة فخراً،لأنّ الإنسان مع هذه الإرادة يصبح بلا اختيار.

يلاحظ على هذا الكلام:انّ القول بالعصمة لو كان سالباً للاختيار فالإشكال يسري إلى جميع الأنبياء و المرسلين و على رأسهم سيد المرسلين فانّهم معصومون من الخطأ في إبلاغ الأحكام و من العصيان في تطبيق الشريعة على الساحة باتفاق الأُمة إلّا من شذ ممن لا يعبأ به فلو كانت العصمة سالبة للاختيار فما قيمة عصمتهم و ما قيمة اجتنابهم عن المعاصي.

و هذا الإشكال ليس جديداً و إنّما هو مطروح في الموسوعات الكلامية و الكتب التفسيرية و قد قام المحقّقون من علماء الإسلام بالإجابة عنه و قالوا:

إنّ العصمة لا تسلب الاختيار عن الانسان،فانّ المعصوم قادر على اقتراف المعاصي و ارتكاب الخطايا حسب ما أُعطي من القدرة و الحرية غير انّ وصوله إلى الدرجة العليا من التقوى و استشعاره بعظمة الخالق يصدّه عن اقترافها.

و إن شئت قلت:إنّ المعصوم قد بلغ في العلم بآثار المعاصي مرحلة يشاهد آثارها السيئة مشاهدة حضورية لا يتسرب إليها الشك و الترديد-يقول سبحانه:

«كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ» 1.

و مثل هذا العلم يصدّ الإنسان عن ارتكاب المعاصي،و لأجل تقريب الفكرة نأتي بالمثال التالي:

إنّ الوالد العطوف بالنسبة إلى قتل ولده معصوم لا يقدم عليه،و مع ذلك

ص:563

هو قادر عليه،أما انّه قادر فلا شكّ انّ بإمكانه أن يأخذ بالسكين و يذبحه كما يذبح الكبش،و امّا انّه لا يقدم عليه و لو اعطي له الكنوز المكنوزة و المناصب المرموقة،لأنّ عطفه و حنانه قد ملئ بهما قلبه فلا يبادله بشيء.

فالعلم بآثار الموبقات تعطي ملكة العصمة،و لكن لا تغير الطبيعة الإنسانية،المختارة في أفعالها الإرادية،و لا يخرجها إلى ساحة الإجبار و الاضطرار.

هذا إجمال ما أوضحناه في موسوعتنا التفسيرية. (1)

آية الولاية و زعامة الإمام علي عليه السلام

قال الأُستاذ الآلوسي:

لم تزل الشيعة عن بكرة أبيهم يستدلّون على إمامة الإمام علي و قيادته و زعامته بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بقوله سبحانه: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» (و قد سقط في نص المقال جملة«و يؤتون الزكاة)» «وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» 2 .

و إليك عرضاً موجزاً لاستدلالهم:

استدلت الشيعة بهذه الآية على أنّ عليّاً عليه السلام وليّ المسلمين بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،قائلين بأنّ الآية تعد الولي-بعد اللّه و رسوله - الّذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة في حال الركوع،و قد تضافرت الروايات بأنّ عليّاً عليه السلام تصدّق بخاتمه و هو راكع فنزلت الآية.

أخرج الحفاظ و أئمّة الحديث عن أنس بن مالك و غيره أنّ سائلاً أتى مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عليٌّ عليه السلام راكعٌ فأشار بيده للسائل أي اخلع الخاتم من يدي.

ص:564


1- 1) .مفاهيم القرآن:401/3-405. [1]

قال رسول اللّه:يا عمر وجبت.قال:بأبي أنت و أُمّي يا رسول اللّه ما وجبت؟!قال:وجبت له الجنّة و اللّه،و ما خلعه من يده حتّى خلعه اللّه من كلِّ ذنب و من كلِّ خطيئة.قال:فما خرج أحدٌ من المسجد حتّى نزل جبرئيل بقوله عزّ و جلّ: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» .فأنشأ حسّان بن ثابت يقول: أبا حسن تفديك نفسي و مهجتي

و قد أخرجه ابن جرير الطبري (1)و الحافظ أبو بكر الجصاص الرازي في أحكام القرآن (2)و الحاكم النيسابوري (المتوفّى 405) (3)و الحافظ أبو الحسن الواحدي النيسابوري (المتوفّى 468) (4)و جار اللّه الزمخشري (المتوفّى 538) إلى غير ذلك من أئمّة الحفاظ و كبار المحدثين ربما ناهز عددهم السبعين،و هم بين محدّث و مفسّر و مؤرخ و يطول بنا الكلام لو قمنا بذكر أسمائهم و نصوصهم،و كفانا في ذلك مؤلّفات مشايخنا في ذلك المضمار. (5)

ص:565


1- 2) .تفسير الطبري186/6.
2- 3) .أحكام القرآن:542/2 و [1]رواه من عدة طرق.
3- 4) .معرفة أُصول الحديث،ص 102.
4- 5) .أسباب النزول،ص 148. [2]
5- 6) .لاحظ المراجعات للسيد شرف الدين العاملي،المراجعة الأربعون،ص 162- 168 و الغدير لشيخنا الأميني:162/3 و قد رواه من مصادر كثيرة.

و لا يمكن لنا إنكار هذه الروايات المتضافرة لو لم تكن متواترة،فانّ اجتماعهم على الكذب أو على السهو و الاشتباه أمر مستحيل.

و المراد من الولي في الآية المباركة هو الأولى بالتصرف كما في قولنا:فلان وليّ القاصر،و قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم«أيّما امرأة نُكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل»و قد صرّح اللغويّون و منهم الجوهري في صحاحه بأنّ كلّ من ولي أمر أحد فهو وليّه،فيكون المراد:

انّ الّذي يلي أُموركم فيكون أولى بها منكم إنّما هو اللّه عزّ و جلّ و رسوله و من اجتمعت فيه هذه الصفات:الإيمان و إقامة الصلاة،و إيتاء الزكاة في حال الركوع.و لم يجتمع يوم ذاك إلّا في الإمام علي حسب النصوص المتضافرة.

و في حقّه نزلت هذه الآية.

و الدليل على أنّ المراد من الولي هو الأولى بالتصرف أنّه سبحانه أثبت في الآية الولاية لنفسه و لنبيه و لوليه على نسق واحد، و ولاية اللّه عزّ و جلّ عامة فولاية النبي و الولي مثلها و على غرارها.غير انّ ولاية اللّه،ولاية ذاتية و ولاية الرسول و الولي مكتسبة معطاة، فهما يليان أُمور الأُمّة بإذنه سبحانه.

و لو كانت الولاية المنسوبة إلى اللّه تعالى في الآية غير الولاية المنسوبة إلى الّذين آمنوا لكان الأنسب أن تفرد ولاية أُخرى للمؤمنين بالذِّكر،دفعاً للالتباس كما نرى نظيرها في الآيات التالية:

قال تعالى: «قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ» 1.

نرى انّه سبحانه كرر لفظ الإيمان،و عدّاه في أحدهما بالباء،و في الآخر باللاّم لاختلاف في حقيقة إيمانه باللّه،و للمؤمنين حيث إنّ إيمانه باللّه سبحانه إيمان جدّي و تصديق واقعي،بخلاف تصديقه للمؤمنين المخبرين بقضايا

ص:566

متضادة حيث لا يمكن تصديقهم جميعهم تصديقاً جدياً،و الذي يمكن هو تصديقهم بالسماع و عدم الرفض و الرد،ثمّ التحقيق في الأمر،و ترتيب الأثر على الواقع المحقّق.

و ممّا يكشف عن وحدة الولاية في الآية المبحوثة انّه سبحانه أتى بلفظ«وليكم»بالافراد،و نسبه إلى نفسه و إلى رسوله و إلى الّذين آمنوا،و لم يقل:«و إنّما أولياؤكم»و ما هذا إلّا لأنّ الولاية في الآية بمعنى واحد و هو:الأولى بالتصرف،غير أنّ الأولوية في جانبه سبحانه بالأصالة و في غيره بالتبعية.

و على ضوء ذلك يُعلم انّ القصر و الحصر المستفاد من قوله:«إنّما»لقصر الإفراد،و كأنّ المخاطبين يظنون انّ الولاية عامّة للمذكورين في الأُمة و غيرهم،فأُفرد المذكورون للقصر،و انّ الأولياء هؤلاء لا غيرهم.

ثمّ يقع الكلام في تبيين هؤلاء الّذين وصفهم اللّه سبحانه بالولاية و هم ثلاثة:

1.اللّه جلّ جلاله.

2.و رسوله الكريم صلى الله عليه و آله و سلم.

و هما غنيان عن البيان.

و أمّا الثالث فبما أنّه كان مبهماً بيّنه بذكر صفاته و خصوصياته الأربع:

1. «الَّذِينَ آمَنُوا».

2. «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ».

3. «وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ» .

و لا شكّ انّ هذه السمات،سمات عامة لا تميز الولي عن غيره.

فالمقام بحاجة إلى مزيد توضيح يجسّد الولي و يحصره في شخص خاص لا يشمل غيره،و لأجل ذلك قيّده بالسمة الرابعة أعني قوله: «وَ هُمْ راكِعُونَ» .

ص:567

و هي جملة حاليّة لفاعل يؤتون،و هو العامل فيها.و عند ذلك انحصر في شخص خاص على ما ورد في الروايات المتضافرة.

هذا هو منطق الشيعة في تفسير الآية لا تتجاوز في تفسيرها عن ظاهرها قيد أنملة.

نعم نقل الكاتب القدير نظرية أُخرى و هي لأهل السنة فقال:إنّ هذه الآية لم تنزل بهذا السبب رغم ورود هذه الرواية (نزولها في حقّ عليّ) عندهم،و في كتبهم و تفاسيرهم،مرجحين في ذلك روايات أُخرى تفيد نزولها بحقّ الّذين كانت بينهم و بين اليهود في المدينة تحالفات عُقِدت قبل الإسلام و قبل الهجرة فمنهم من رفض فكّ ارتباطه باليهود حرصاً منه على موالاتهم،و منهم من أنهى هذا التحالف قائلاً بولاية اللّه و رسوله و المؤمنين عليه معززين رأيهم الذي رجحوه على جملة اعتبارات:

منها انّ كلمة الولاية مشتركة في معانيها،فهي مثلما تعني الرئاسة و الزعامة تعني الولاء و النصرة و الحب و الود و التحالف و انّ هذا المعنى الأخير هو المرجح عند نزول الآية لوجود تحالف كان قائماً فعلاً،و عدم وجود ولاية لليهود في جنبه بمعنى الزعامة و القيادة.

و لذلك رأى أهل السنّة أنّ هذا الترجيح أقرب لواقع الحال في حينه.

اضافة إلى ذلك فانّ السياق و هو الآيات التي سبقت هاتين الآيتين و الآيات التي أعقبتها جاءت تحذر من كيد اليهود و تندد بمن أصر على استمرار التحالف معهم،أمثال عبد اللّه بن أُبي،زعيم المنافقين في حينه.و الأصل عند أهل السنة أنّ الآية تعتبر جزءاً من سياقها إلّا إذا وردت القرينة على أنّها جملة اعتراضية تتعلق بموضوع آخر على سبيل الاستثناء،و هو أُسلوب من أساليب البلاغة عند العرب جاءت في القرآن الكريم على مستوى الإعجاز.

ص:568

عرض و تحليل

هذا نصّ الأُستاذ و حاصله يرجع إلى أمرين:

1.انّ لفظ الولاية مشترك بين عدّة معان،فلا سبيل إلى حملها على القيادة و الزعامة إلّا بدليل.

2.انّ سياق الآيات يؤكد على حملها على ذلك المعنى أي النصرة و الود و الحب و التحالف.و الأخير هو المناسب.

هذا عرضاً موجزاً لمقاله و إليك تحليله:

يلاحظ على الوجه الأوّل:

نحن نفترض انّ الولاية مشتركة بين المعاني المختلفة،و لكن القرائن القاطعة تدل على أنّ المراد منها هو التصرف،لما عرفت.

أوّلاً:انّ الولاية بالمعنى الواحد نسب إلى اللّه و إلى رسوله و الّذين آمنوا.

أ فيصحّ لنا أن نحصر ولاية اللّه سبحانه بالنصر و الود و الحب و التحالف،فانّ ولايته سبحانه ولاية عامة تشمل جميع ما يعدّ مظاهر لها.

فإذا كانت الولاية منسوبةً بمعنى واحد إلى الثلاثة فيجب أن تفسر بمعنى واحد،لا أن تُفرز الولاية المنسوبة إلى اللّه عمّا نسبت إلى الآخرين.

و ثانياً:لو فسرنا الولاية بالنصر و الود و التحالف،فيلزم اتحاد الولي و المولّى عليه،إذ لو كان المؤمنون المصلون المزكون أولياء فمن المولّى عليه إذن؟

و بعبارة أُخرى انّه سبحانه يعدّ جميع المؤمنين أولياء فيجب أن يكون هناك مولّى عليه غيرهم و ليس هناك شيء...و«لا قرية وراء عبادان».

ثالثاً:لو فسرنا الولاية بالنصر و الود و التحالف،فالمؤمنون كلّهم في صفّ واحد،فلما ذا قيد الولاية بالزكاة في حالة الركوع ؟

ص:569

فلو افترضنا أنّ مؤمناً صلّى و زكّى في غير حال الصلاة-و ما أكثرهم-أو يصح لنا إخراجهم عن عداد الأولياء.

كلّ ذلك يدلنا بوضوح على أنّ الآية وردت في جمع أو فرد خاص عبّر عنه بصيغة الجمع،و ما أكثر نظيره في القرآن حيث عبر عن المفرد بالجمع.

قال سبحانه: «الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ» و القائل هو فتحاس اليهودي (1).

قال سبحانه: «وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ» 2 .نزل في رجل من المنافقين (2).

إلى غير ذلك من الآيات التي يطول المقام بنقلها.

فقد وردت صيغة الجمع في عشرين آية و أُريد منها شخص واحد.

فهذه الوجوه الثلاثة تصدنا عن تفسير الولاية بغير الزعامة و القيادة،فانّها المعنية بقوله سبحانه: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللّهُ هُوَ الْوَلِيُّ» 4.

و قال سبحانه: «ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ» 5.

و قال سبحانه: «أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ» 6.

و قال سبحانه: «فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ» 7.

و قال سبحانه: «وَ اللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» 8.

غير انّ ولاية اللّه سبحانه ولاية ذاتية،و ولاية غيره بالجعل و النصب

ص:570


1- 1) .راجع تفسير القرطبي:294/4. [1]
2- 3) .تفسير القرطبي:192/8.

و الافاضة.

و يشير إلى ولاية الرسول بقوله: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» 1.

و إلى ولاية الرسول و أُولي الأمر بقوله: «أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» 2.

و من يريد تفسير ولاية اللّه و الرسول بالحب و الحلف و قصرها في إطار ضيق بالنصر،فقد أخرج الآية عن ذروة البلاغة إلى حدّ نازل.

فكما انّ السياق جزء من التفسير،و سبب يستعان به على كشف المراد،فكذلك الخصوصيات الموجودة في نفس الآية أدلّ دليل يرشد القارئ إلى التعمق في مراده سبحانه.

فعلى من يفسر الآية بغير الأولوية في التصرف فعليه الإجابة عن الأُمور الثلاثة السالفة.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل و أمّا الكلام في السياق الذي تمسك به فنقول:

مشكلة السياق عند الكاتب

انّ الكاتب القدير إنّما ترك الروايات المتضافرة لأجل صيانة السياق،و إليك توضيح دليله و تحليله:

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ» 3.

ص:571

و قال سبحانه: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» 1.

و قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفّارَ أَوْلِياءَ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» 2.

ذكر المفسرون انّ نزول الآية الأُولى في حقّ عبادة بن صامت الخزرجي و عبد اللّه بن أُبي حيث إنّ الأوّل تبرّأ من أوليائه من اليهود،بخلاف الثاني فانّه لم يتبرّأ من ولاية اليهود،و قال:لأنّي أخاف الدوائر.

و ذكروا في سبب نزول الآية الثانية:انّه لما تصدّق عليّ عليه السلام بخاتمه في الصلاة و هو راكع نزلت الآية الكريمة.

و ذكروا في سبب نزول الآية الثالثة أنّها نزلت في رفاعة بن زيد و سويد بن الحرث اللّذين أظهرا إسلامهما ثمّ نافقا،و كان رجال من المسلمين يوادونهما فنزلت الآية.

فبما انّ الولايةَ في الآية الأُولى ليست بمعنى الزعامة بل بمعنى الود و النصر أو الحلف كما هو الحال في الآية الثالثة،فمقتضى السياق يقتضي تفسير الآية الثانية بهما لا بالزعامة.

هذا ما يتبناه الكاتب و قد سبقه الرازي في تفسيره. (1)غير انّا نركز على أمرين و بهما يتجلى انّ تفسير الولاية في الآية الثانية بالزعامة لا يستلزم مخالفة السياق.

الأوّل:انّ الغوص في غمار اللغة و مجاميع الأدب و جوامع العربية يدفعنا إلى

ص:572


1- 3) .التفسير الكبير:للفخر الرازي:26/12.

القول بأنّه ليس للولي في الآيات الثلاث إلّا معنى واحد و هو الأولى بالشيء و لو أُطلق على الناصر و المحب و الزعيم فانّما أُطلق بمعنى واحد،و لو كان هناك اختلاف فإنّما هو في جانب المتعلّق.

و بعبارة واضحة:ليس للولي معان مختلفة وضع لها اللفظ بأوضاع متعددة حتى يصبح اللفظ مشتركاً لفظياً بين المعاني المتباينة.

بل هو موضوع لمعنى واحد جامع بين مصاديق و موارد مختلفة،فلو كان هناك اختلاف فإنّما هو في المتعلق و المورد،لا في المفهوم و المعنى.

فالربّ ولي لأنّه أولى بخلقه من أي قاهر عليهم حيث خلق العالمين كما شاءت حكمته و يتصرف فيهم بمشيئته.

و كل من المحب و الناصر ولي،لأنّ كلاّ منهما أولى بالدفاع عمّن أحبه و نصره.

و الزعيم و القائد ولي،لأنّه أولى بأن يتصرف في مصالح من تولّى أمره.

فإذا كان للفظ معنى واحد فلا يكون هناك أي اختزال مهما ذهبنا إلى التفريق بين الآيات الثلاثة،فانّ المفروض انّ لكلّ شأناً و سبباً للنزول،و بينها جامع و هو الأولوية المطلقة كما في الآية الثانية و المقيدة كما في الآية الأُولى و الثالثة.

هذه حقيقة لغوية قد نصّ عليها المحقّقون.قال الإمام أبو الفتح المطرزي:الولي:كلّ من ولي أمر واحد فهو وليه،و منه ولي اليتيم أو القتيل:مالك أمرهما،و والي البلد:ناظر أُمور أهله و مصدرهما الولاية (بالكسر). (1)

و ألفت نظر الأُستاذ السامي إلى أنّ النهي عن تولى اليهود و النصارى و الكفّار في الآيات التي تقدّمت أو تأخّرت،لا يرجع إلى التولي المجسّد في مجرد

ص:573


1- 1) .المطرزي:المغرب:372/2 [1]

العطف القلبي و لا يتلخص في الحنان الروحي،فانّهما أمران قلبيان خارجان عن الاختيار،فانّ حب الأب أو الأُم و إن كانا كافرين أمر جبلي لا يصحّ النهي عنه بل يرجع إلى التولي المستعقب،للتصرف في أُمور المسلمين و التدخل في مصالحهم الذي ليس إلّا من شأنه سبحانه و رسوله و من عيّنه الرسول بأمر منه.

فالآيات بأجمعها سبيكة واحدة،تصد المؤمنين عن اتخاذ أيّ ولي-غير اللّه و رسوله-يتصرف في أُمورهم و إن كان سببه التحالف فلو صار الحلف بين المسلمين و الكافرين سبباً لولاية الكفّار على المسلمين و تدخلهم في أُمورهم فهو ممنوع لانّه لا ولي للمؤمنين إلّا اللّه و من نصبه سبحانه.

و الذي يرشدنا إلى أنّ الولاية في الآية: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ...» بمعنى الزعامة و القيادة،هو انّه سبحانه يقول بعدها: «وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» 1 فيطرح حزب اللّه أوّلاً،ثمّ غلبته على سائر الأحزاب،و الكلّ يناسب القيادة و الزعامة،لا مجرد الحب و الود،أو النصر و الحلف.

الثاني:انّ في نفس الآيات الثلاثة قرينة واضحة على الاختلاف في تفسير الولي (لو قلنا بانّه اختلاف في المفهوم)،و ذلك انّه سبحانه يجمع لفظ الولي في الآية الأُولى و الثالثة.

فقال في الأُولى: «لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ» .

و قال في الثالثة: «وَ الْكُفّارَ أَوْلِياءَ» .

و لكنّه نرى انّه سبحانه أتى بها بلفظ المفرد في ثانية الآيات.

و قال: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ...» فما هو الوجه في الإتيان بالجمع في الآيتين و الإفراد في الثانية؟

ص:574

و الإمعان فيه يدلنا على التغاير في تطبيق معنى الولي،و ذلك لأنّ الولاية في الآيتين ترجع إلى الحب و النصر و بما انّها متعددة حسب تعدد المحب و الناصر فهناك ولايات و أولياء،و لأجل ذلك أتى سبحانه بلفظ الجمع.

و أمّا الآية الثانية فهناك ولاية إلهية سماوية خصّها سبحانه بالذات لنفسه و أفاضها بالتشريع على رسوله و من جاء بعده و لذلك أتى بلفظ المفرد فيحمل على الولاية الملازمة للقيادة و الزعامة.

و آخر كلمة أقدمها إلى الأُستاذ،انّه لو كانت الولاية بمعنى الحب و النصر فما معنى تقييد الولي بايتاء الزكاة و هم راكعون فانّ كلّ مؤمن يقيم الصلاة و يؤتي الزكاة ولي لأبناء أُمّته،زكّى في حال الركوع أم لا،مع أنّنا نرى انّه سبحانه يشير إلى الولي بعلامة خاصة تميّزه عن غيره و هو إيتاء الزكاة في حال الركوع،و الركوع حقيقة في الصورة المعلومة منه في الصلاة لا في مطلق الخضوع إذ مع أنّه خلاف الظاهر،ينافيه قوله سبحانه: «يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» .

على أنّ الأُستاذ تفرد في تفسير الولاية بالتحالف،فإنّ أهل السنة يفسرونها بالودّ و الحب و النصر-لاحظ التفسير الكبير للرازي.

هذا غيض من فيض و قليل من كثير ممّا أفاضه علماؤنا و أصحابنا في تفسير الآية و إن كان ما ذكرناه مقتبساً من أنوار علومهم.غفر اللّه للماضين من علماء الإسلام و حفظ اللّه الباقين منهم و رزقنا اللّه توحيد الكلمة كما رزقنا كلمة التوحيد.

و السّلام عليكم و على من حولكم من الدعاة إلى الوحدة الإسلامية لترفرف في ظلّها راية الإسلام خفاقة في ربوع العالم و إرجاء الدنيا بإذن منه سبحانه.

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

/1شعبان المعظم 1417 ه

ص:575

المقالة الثانية عشرة:الأخوة الإسلامية و دورها في بناء الحضارة

اشارة

(1)

إنّ الحديث عن بلاد القفقاس أعاد إلى ذاكرتي الخواطر،و أثارت في قلبي شعوراً خاصاً حيالها ذلك انّها انجبت العديد من العباقرة في حقول الأدب و العلم و العرفان و الفلسفة أمثال الشاعر المفلق«الخاقاني»و«الفلكي»و«السيد عظيم»و«صابر»و«بهار»و الفيلسوف الكبير السيد حسين البادكوبي.

و لا يفوتني الإشارة إلى أُستاذي الكبير السيد محمد البادكوبي الذي كان له حقّ عظيم عليَّ و على العلم،فقد كان رحمه الله رجلاً عالماً و مناضلاً،هجّره الالحاد متوجهاً إلى بلاد الغربة بعيداً عن وطنه و مسقط رأسه،إلى غير ذلك من الشخصيات الطائرة الصيت في سماء العلم و الفلسفة و الأدب الذين كتبوا لوجودهم خلوداً في القلوب و بقاءً في التاريخ و أثراً في المجتمع.

لم أزل أمرّ على شريط الذاكرة استذكر فيه انّ هذه البلاد ربّت في أحضانها رجالاً و ابطالاً ضَحّوا بنفسهم و نفيسهم في سبيل عقيدتهم الإسلامية،أمثال الشيخ شامل ذلك البطل المجاهد،و الشيخ حنيف ذلك الثائر العظيم.

ص:576


1- 1) .القيت هذه المحاضرة في مؤتمر الحضارة الإسلامية في القفقاس المنعقد في باكو عاصمة أذربيجان عام 1419ه.

و ثمة حقيقة لا يمكن تجاهلها و هي انّ شعوب بلاد القفقاس-التي هي جزء من الكيان الإسلامي-لن تبلغ مجدها التليد العتيد إلّا باحياء مآثرها السابقة،و الرجوع إلى أصالتها الإسلامية،و تقوية أواصرها بالمسلمين عامة و بث الثقافة الدينية بين أوساط شبابها و افلاذ كبدها.

و قد شعرت بذلك-بحمد اللّه-حكوماتها و دولها،و ما إقامة هذا المؤتمر-الذي يهدف إلى البحث عن معطيات الحضارة الإسلامية في تلك البلاد-إلّا أثراً من آثار ذلك الشعور.

هذه مقدمة موجزة قدّمتها للحضار الكرام و لنبدأ بالمقال الذي كتبته تحت عنوان«الاخوة الإسلامية و دورها في بناء الحضارة».

نص المقال:

الإسلام عقيدة و شريعة جاء لإسعاد الإنسان في أقطار الأرض و معالجة مشاكله و معضلاته دون أن يختص خطابه بطائفة دون طائفة أو بعنصر دون عنصر أو بقوم دون قوم،و لا تجد في عقيدته و شريعته أثراً من آثار القوميّة و لا ملمحاً من ملامحها.

كما انّه بنى القيم الأخلاقية على اسس رصينة تستمد مقوماتها من الفضائل الروحية و الكمالات النفسية،لا من عنصر خاص أو طائفة خاصة،حتى العربية التي هي لسان كتابه و شريعته لم يتخذها ملاكاً للفخر و الاعتزاز.

لقد تفشّت ظاهرة القومية بين العرب في العصر الجاهلي و كأنّ رحى الفخر قد دار حولها و كأنّ جميع القيم و الخصائل الإنسانية قد حُصِرت فيها،و في تلك الأجواء المشحونة بالعنصرية و الطائفية و القومية ظهر الإسلام شاطباً

ص:577

بقلم عريض على تلك النزعات المقيتة،و قال: «يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ» 1.

و العجب انّ هذه الآية إلى جانب اعترافها بجميع القوميات حيث تقول: «وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ» .تعود و تفسر فلسفة هذه القوميات بقولها «لِتَعارَفُوا» أي خلقناكم أقواماً و طوائف مختلفة للتعارف لا للتفاخر،للأُلفة لا للتناحر،للتعاون لا للتفرق،للخير لا للشر، و حصرت ملاك الفخر في التقوى و قالت: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ» .

هذه الآية المباركة و إن تكلّم فيها المفسرون قديماً و حديثاً و لكنّهم لم يركِّزوا على تلك النكتة التي صرحت بها،و هي انّ الإسلام لا ينكر القومية بل يعترف بها و يراها من شئون الخلقة التي تعلقت بها يد الجعل و القدرة و قال: «وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ» و لكنّه يتخذ القومية المعترفة ذريعة للفضائل،و هي التعارف و التجاذب و التعاون،لا ذريعة للتفاخر و التنازع.

إنّ نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم لم يقتصر على هذه الآية بل أعقبها بكلمة الطيب و حدّد موقفه من القومية و انّها ليست ملاكاً للافتخار و قال في بعض خطبه التاريخية:أيّها النّاس،إنّ ربّكم واحدٌ،و إنّ أباكم واحدٌ،كلّكم لآدم و آدم من تراب «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ» و ليس لعربيّ على أعجميّ فضل إلّا بالتّقوى. (1)

و قال في خطبة حجة الوداع:أيّها الناسُ انّ ربكُم واحد،و أباكُم واحد،ليسَ لعربيّ على أعجمي،و لا لأعجمي على عربيّ،و لا لأحمر على أبيض،و لا لأبيض على أحمر،فضل إلّا بالتقوى. (2)

و قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:إنّ العربية ليست بأبٍ والد و لكنّها لسان ناطق،

ص:578


1- 2) .تحف العقول:34.
2- 3) .سيرة ابن هشام:412/2.

فمن قصر به عمله لم يبلغه حسبه». (1)

هذه نماذج من أقواله صلى الله عليه و آله و سلم استعرضناها على حضراتكم حول نبذ القومية و التركيز على القيم الأخلاقية.

و أمّا مواقفه العملية على هذا الصعيد فقد تلخصت في اهتمامه بالقيم الأخلاقية و الانسانية دون أن يعير أهمية للقومية المقيتة.

نرى انّه صلى الله عليه و آله و سلم طرد عمه أبا لهب مع صلته الوثيقة به من حيث الدم و اللسان و التراب،و في الوقت نفسه قرّب سلمان الفارسي على الرغم من اختلافه معه في اللسان و الدم و التراب.و ما هذا إلّا لأنّ أبا لهب كان على شفير جرف هار من المساوئ الأخلاقية و سلمان كان في أوج القيم و الفضائل الإنسانية.

هاجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة المنورة فآخى بين العبيد و السادة،فهذا هو«بلال الحبشي»كان عبداً أسود قد آخى رسول اللّه بينه و بين«خالد الخثعمي»من أكابر الصحابة،كما آخى بين«زيد»الرق مع عمّه«حمزة»،و بين«عمّار»و«حذيفة»،كلّ ذلك لأجل صهر الفوارق الطبقية الناشئة من القومية.

و قد أثّرت التعاليم الإسلامية أثرها في القلوب إلى حدّ ارتقى كثير من الموالي إلى مناصب عالية و ما كان لهم ذلك لو لا الإسلام، فصار الموالي العجم يسيرون جنباً إلى جنب مع العرب في نشر الإسلام و إسعاد البشرية و نجاتها من براثن الوثنية.

و في ضوء تلك التعاليم صارت المرأة المسلمة كفؤاً للرجل المسلم دون نظر إلى قوميته و طائفته و لسانه.

ص:579


1- 1) .الكافي:246/8 برقم 342. [1]

و قد جسد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تلك المساواة بفعله حيث زوّج بنت عمته زينب حفيدة عبد المطلب زعيم قريش،بعبد أسود يدعى زيد بن حارثة و كان لعمله هذا صدى واسع على نطاق الجزيرة العربية،و بذلك أزاح الجدار المزعوم بين العبيد و الأشراف،حتى انّ أخا زينب قدم إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم-مندفعاً من خلفيات عنصرية و طائفية-و اعترض قائلاً:أو ليس هذا عاراً حيث زوجتَ بنت بيت الشرف بعبد أسود؟!

فأجابه النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله:إنّ زوج زينب رجل مؤمن فهو كفؤ لزينب،و لما طلّق زيد زوجته زينب و انفصم عقدهما،قام النبي صلى الله عليه و آله و سلم بتدارك ما فات،فزوج زينب لنفسه ليثبت انّ زواجها بزيد لم ينقص منها شيئاً،فها هي اليوم زوجة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أفضل الخليقة على الأرض.

و ها نحن نذكر هنا حادثة طريفة وقعت في عصر الرسول،ينقلها الإمام محمد بن علي الباقر عليهما السلام و هي تعكس الفكرة الرائجة عند المسلمين.

قال:كان سلمان جالساً مع نفر من قريش في المسجد فأقبلوا ينتسبون و يرفعون في أنسابهم حتّى بلغوا سلمان،فقال له بعض الحاضرين:أخبرني من أنت و من أبوك و ما أصلك؟ فقال:أنا سلمان بن عبد اللّه كنت ضالاًّ فهداني اللّه عزّ و جلّ بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم،و كنت عائلاً فأغناني اللّه بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم و كنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم هذا نسبي و هذا حسبي،قال:فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و سلمان رضي اللّه عنه يكلّمهم،فقال له سلمان:يا رسول اللّه ما لقيت من هؤلاء جلست معهم فأخذوا ينتسبون و يرفعون في أنسابهم حتّى إذا بلغوا إليَّ قال بعضهم:من أنت و ما أصلك و ما حسبك؟ فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:فما قلتَ له يا سلمان؟ قال:قلت له:أنا سلمان بن عبد اللّه،كنت ضالاًّ فهداني اللّه عزّ ذكره بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم،و كنت عائلاً فأغناني اللّه عزّ ذكره بمحمّد

ص:580

صلى الله عليه و آله و سلم،و كنت مملوكاً فأعتقني اللّه عزّ ذكره بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم،هذا نسبي و هذا حسبي.فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:يا معشر قريش إنّ حسب الرَّجل دينه و مروءته خلقه،و أصله عقله،و قال اللّه عزّ و جلّ: «إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ» ثمّ قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لسلمان:ليس لأحد من هؤلاء عليك فضلٌ إلّا بتقوى اللّه عزّ و جلّ،و إن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل.

انّ الشريعة التي تحمل هموم الإنسانية و تحاول نجاتها عن مخالب الوثنية و المفاسد الأخلاقية لا محيص لها إلّا أن تنظر إلى العالم من منظار واسع و تنظر إلى الإنسان مجرداً عن كلّ لون و عنصر،فلذلك عاد الإسلام يخاطب جميع الناس بقوله: «يا أَيُّهَا النّاسُ» مكان «يا أيّها العرب»أو«يا أيّها العجم»و يؤسس«دار الإسلام»مكان«دار العروبة»،فصار هذا و ذاك سبباً في أن ترى جميع الشعوب في الإسلام ديناً لها لا ديناً لطائفة خاصة أعارته هذه.

و في ضوء ذلك اتحدت الشعوب غير المتجانسة تحت راية الإسلام و نشروا ثقافة إسلامية إنسانية في جميع الأقطار،و صارت تلك الوحدة نواة للحضارة الإسلامية التي لم ير تاريخ البشر مثيلاً لها.

فالحضارة الإسلامية هي حصيلة جهود الشعوب الإسلامية المختلفة،و لكلٍّ فيها سهم وافر.

الدعوة القومية و مضاعفاتها

الدعوة القومية فكرة مستوردة من الغرب،و الغرض من ورائها هو تشتيت صفوف المسلمين و تمزيق وحدتهم و جعلهم أُمماً متناحرة فيما بينها.

و من تصفّح التاريخ يجد انّ لهذه الدعوة جذوراً تمتد إلى زمن الأمويين،الذين شرعوا في الخطوات اللازمة لتوطيد القومية من خلال توزيع المناصب

ص:581

الحكومية على العرب خاصة،و تحقير غير العرب من سائر القوميات و قد انتهى الأمر إلى استياء عام و اندلاع حركات تمرّد و عصيان في كافة ارجاء الأمصار الإسلامية،فأخذ الجهاز الأموي الحاكم يتهاوى أمامها،إلى ان تمّ القضاء عليه.

و لما دالت دولة الأمويين و قامت دولة العباسيين اتخذوا سياسة مناقضة للأمويين حيث قدموا العنصر غير العربي على العنصر العربي و وزعوا المناصب عليهم.

انّ السياسة التي سلكتها كلتا الدولتين كانت على طرف النقيض من الإسلام و لم تُنتج إلّا إيقاف عجلة تقدم الحضارة الإسلامية.

فلو كانت الخلافة العباسية متجاوبة مع روح الإسلام لما آلت إلى الضعف و الزوال و لازداد الإسلام قوة و منعة.

الاستعمار و عناصر القومية

بثّ الإسلام روح التسامح و التصالح بين القوميات المختلفة،متخذاً الإنسانَ محوراً لدعوته و إرشاده،و جعل التفاخر بالتقوى و الأخلاق الفاضلة،مما حدا إلى اجتماع القوميات المختلفة تحت رايته و خيمته دون أن ينتابهم شعور بالعنصرية و القومية،لانّ الإيمان جعلهم كالاخوة فيما بينهم.

و لما استيقظ الغرب من سباته في القرن التاسع عشر،و رأى المسلمين كتلة وحدة يحكمون اصقاعاً شاسعة ذات ثروات عظيمة، و رأى انّ الإسلام سدّ منيع أمام تحقق أطماعه،حاول تمزيقهم إلى دويلات صغيرة بُغية القضاء على شوكتهم و عظمتهم من خلال احياء القوميات في كل صقع،فزرع القومية التركية في تركيا،و الفارسية في إيران،و العربية في البلاد العربية إلى غير ذلك من القوميات.كما سعى إلى بث روح القومية بين شعوب تلك المناطق.

ص:582

و العجب انّ دعاة القومية في البلاد الإسلامية لم يكونوا مسلمين،بل تربوا في أحضان الاستعمار (1)و أخذوا باثارة النعرات الطائفية.و في ظل هذه الدعوة البغيضة انفصمت عرى الخلافة الإسلامية و تمزقت اوصالها،و عادت بشكل دويلات صغيرة،و أضحت لقمة سائغة للاستعمار قابعة تحت نيره.

موقف الإسلام حيال القومية

انّ الإسلام يحترم كافة القوميات دون أن يرجّح قومية على أُخرى،بل ينظر إلى الجميع بعين الأخوة،و يقول: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» و يقول أيضاً: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» .

و يقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم:مثل المؤمنين في توادّهم و تعاطفهم و تراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى. (2)

فهذه هي الوصفة التي كتبها الإسلام لإسعاد البشرية كافة،و مع ذلك لم يلغ القومية و ايجابياتها بل احترمها.

روى المفسّرون انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لما هاجر عن مكّة المكرّمة و وصل في طريقه إلى«جحفة»تذكر موطنه و حنّ إليه فامتلأت عيناه بالدمع،فنزل عليه أمين الوحي يسليه بالآية المباركة: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» 3 .

و قد حقق سبحانه وعده،ففتح النبي صلى الله عليه و آله و سلم مكّة بعد ثمانية أعوام و دخلها من ناحية«أذاخر»و هي أعلى نقطة في مكة،و لما وقع نظره على الكعبة و بيوتات مكّة هاج به الحزن،و قال مخاطباً ربوعها بانّي أُحبك و لو لا أنّي هُجّرتُ لما تركتك.

ص:583


1- 1) .انظر المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام.
2- 2) .مسند أحمد:270/4. [1]

لا شكّ انّ الإنسان إذا نشأ في ربع من الربوع و ترعرع فيه منذ نعومة أظفاره و حتى بلوغه و هرمه،يجد في نفسه حبّاً و رغبة و وُدّاً حياله،فذلك أمر جبلي قد فطر عليه الإنسان و لم تكافحه الشريعة التي هي دين الفطرة بل احترمته،لذا تجد انّه يحاول بكافة السبل الحفاظ على لغته الأُمّ و ثقافته،و بذل كافة الجهود في سبيل ازدهار وطنه و رفاه قومه.

فالمترقب من كلّ مسلم إعمار بلده و استثمار ثرواته في سبيل خدمة قومه و ثقافته القومية إذا كانت متجاوبة مع القيم و المُثل الإسلامية و هذا أمر مرغوب إليه من قبل الإسلام،و لكن المحظور هو جعل القومية ملاكاً للتفاخر و التفوّق.

و في الختام؛أتقدم بالشكر الجزيل إلى المشرفين على هذا المؤتمر لاتاحتهم الفرصة لي.

و أختم كلمتي بهذين البيتين: انّا لتجمَعنا العقيدة أُمّة

اللّهمّ ارزق المسلمين توحيد الكلمة كما رزقتهم كلمة التوحيد

جعفر السبحاني

قم المقدسة-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

15شعبان المعظم من شهور عام 1419ه

ص:584

المقالة الثالثة عشرة:الطلاق المعلّق لا كفارة فيه و لا فراق

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

فضيلة الأُستاذ قيس تيسير ظبيان المدير العام لمجلة«الشريعة»المحترم

السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد،

أتقدم لكم بالشكر الجزيل لما قمتم به من نشر محاضرتي التي القيتها في جامعة«الاردن»على صفحات مجلّتكم الغراء«الشريعة» في عددها الصادر برقم 394من شهر تشرين الأوّل 1998م،و بذلك أكدتم أواصر الاخوَّة بين المسلمين و قد كانت المحاضرة حول عناصر الوحدة الإسلامية و موانعها.

قرأت العدد الانف الذكر بما فيه من مقالات متنوعة حسب ما سمح لي الوقت،و أخصُّ بالذكر من بينها،الأسئلة التي تصدّى للاجابة عنها فضيلة الشيخ عبد المنصف عبد الفتاح فكانت الأجوبة مقنعة في أغلب مواردها لكن استرعى انتباهي السؤالَ الذي طرحه أحد القراء بالشكل التالي،و قال:

ص:585

ضربتُ زوجتي ذات يوم فتركت المنزل و ذهبتْ إلى بيت أُسرتها فلم ألبث ان ذهبتُ إليها لكي أصالحها و لكي تطمئن إلى عدم ضربي لها مرّة ثانية،قلت لها:عليَّ الطلاق لن اضربك مرّة أُخرى،فهل إذا ضربتُها لأمر ما،تكون طالقاً أم ما ذا؟

و أجاب فضيلته عن هذا السؤال بما هذا ملخصه:

هذا النوع من الطلاق على قسمين:

تارة يريد القائل بهذا النوع من الكلام الحملَ على فعل شيء أو تركه أو التهديد أو التخويف،لا إيقاع الطلاق بالفعل.

و أُخرى يريد بذلك إنشاء الطلاق بالحلف إذا حصلت المخالفة.

ففي الأوّل نَقَل عن ابن تيمية و ابن قيم انّ الطلاق المعلّق الذي فيه معنى اليمين،غير واقع و تجب فيه كفارة اليمين.

و في الثاني تقع طلقة واحدة رجعية و للزوج أن يراجعها قبل انقضاء العدة.(انتهى).

***

الطلاق المعلّق لا كفارة فيه و لا فراق

أقول:انّ الاجتهاد الحرّ المستمد من الكتاب و السنة من دون التزام بمذهب إمام دون إمام يجرّنا إلى القول بخلاف ما أجاب به فضيلة الشيخ (مدّ اللّه في عمره) في كلا القسمين و انّه لا كفارة في الصورة الأُولى و لا فراق في الصورة الثانية.

و بكلمة موجزة:الطلاق المعلق لا يترتب عليه أيُّ أثر و إن كان المختار لدى أئمّة المذاهب الأربعة غير ذلك.و إليك توضيح كلا الأمرين.

ص:586

أمّا الأوّل(لا كفارة):فلأنّ الدليل على كفارة اليمين هي الآية المباركة التالية.

قال سبحانه: «لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» . (1)

و الآية توجب الكفارة المترتبة على من نكث يمينه و لكنّها ظاهرة في اليمين بلفظ الجلالة أو ما يعادله و يقاربه من الأسماء المقدسة و ليس الحلف بالطلاق داخلاً في الآية المباركة حتى يستلزم نقضُه،الكفارة بل هي قضية شرطية كعامة القضايا الشرطية المجرّدة عن معنى الحلف باللّه سبحانه كما لو قال لئن كشفت سرّي،فأنا أيضاً أفعل كذا.

و تصور انّ الطلاق المعلق يتضمن معنى الحلف باللّه تصور خاطئ إذ لا يتبادر منه الحلف باللّه أولا،و على فرض تضمنه فليس هو مما قصده المتكلم بكلامه ثانياً.و على فرض تسليمهما فالموضوع لوجوب الكفارة،هو الحلف الصريح بشهادة قوله سبحانه: «بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ» لا الحلف الضمني.

و لذلك يطلقون الفقهاء على هذا النوع من الحلف،اليمين بالطلاق،لا الحلف باللّه سبحانه و لو ضمنيا.

و أمّا الثاني:أي وقوع الطلاق إذا كان قاصداً إنشاء الطلاق المعلق فهو لا يصمد امام النقاشات التالية:

الأوّل:انّ عناية الإسلام بنظام الأُسرة الذي أُسُسُها النكاح و الطلاق،

ص:587


1- 1) .المائدة:89. [1]

يقتضي أن يكون الأمر فيها منجَّزاً لا معلقاً،فانّ التعليق ينتهي إلى ما لا تُحمد عاقبته من غير فرق بين النكاح و الطلاق،فالمرء إمّا أن يقدم على النكاح و الطلاق أو لا،فعلى الأوّل فينكح أو يطلِّق بتاتاً،و على الثاني يسكت حتى يحدث بعد ذلك أمراً،فالتعليق في النكاح و الطلاق لا يناسب ذلك الأمر الهام،قال سبحانه:

«وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» 1.

و اللّه سبحانه يُشبِّه المرأة التي يترك الزوجُ أداء واجبها ب«المعلّقة»التي هي لا ذات زوج و لا أيّم.و علقة الزوجية علقة مقدسة لا تخضع لأهواء الزوج فهو إمّا أن يطلقها و يسرّحها،أو يتركها و لا يمسُّ كرامتها،و الزوجة في الطلاق المعلّق أشبه شيء بالمعلقة الواردة في الآية،فهي لا ذات زوج و لا أيّم.

الثاني:انّ هذا النوع من الطلاق يقوم به الزوج في حالات خاصة دون أن يشهده عدلان،و الاشهاد على الطلاق شرط لصحة وقوعه و متى فقد لم يقع الطلاق من دون فرق بين المنجّز و المعلّق،و يدل عليه قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ... *فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ» 2.

فقوله سبحانه: «وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ» قيد للطلاق و الرجعة على قول أو لخصوص الأوّل على قول آخر و إليك دراسة كلا القولين.

ص:588

الاشهاد في الآية راجع إلى الطلاق و الرجوع

فهناك من ذهب إلى كونه قيداً لهما،و قد نقل هذا القول عن عدة من الصحابة و التابعين:نقل عن ابن عباس:انّه فسرها بالطلاق و الرجعة. (1)

و قال السيوطي:أخرج عبد الرزاق عن عطاء،قال:النكاح بالشهود و الطلاق بالشهود،و المراجعة بالشهود.

و سئل عمران بن حصين عن رجل طلق و لم يشهد،و راجع و لم يشهد؟ قال:بئس ما صنع طلق في بدعة و ارتجع في غير سنّة فليشهد على طلاقه و مراجعته و ليستغفر اللّه. (2)

قال القرطبي:قوله تعالى: «وَ أَشْهِدُوا» أمرنا بالاشهاد على الطلاق،و قيل:على الرجعة. (3)

و قال الآلوسي: «وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة إن اخترتموها تبرّياً عن الريبة. (4)

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في تفسير الآية.

و ممّن قال برجوع القيد إلى الطلاق و الرجعة الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي المصري.قال بعد ما نقل الآيتين من أوّل سورة الطلاق:و الظاهر من سياق الآيتين أنّ قوله: «وَ أَشْهِدُوا» راجع إلى الطلاق و إلى الرجعة معاً و الأمر للوجوب،لانّه مدلوله الحقيقي،و لا ينصرف إلى غير الوجوب-كالندب-إلّا بقرينة،و لا

ص:589


1- 1) .تفسير الطبري:88/28.
2- 2) .السيوطي:الدر المنثور:232/6. [1]
3- 3) .القرطبي:الجامع لأحكام القرآن:157/18. [2]
4- 4) .الآلوسي:روح المعاني:134/28. [3]

قرينة هنا تصرفه عن الوجوب،بل القرائن هنا تؤيّد حمله على الوجوب-إلى أن قال:-فمن أشهد على طلاقه،فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به،و من أشهد على الرجعة فكذلك،و من لم يفعل فقد تعدّى حدود اللّه الذي حدّه له فوقع عمله باطلاً،لا يترتّب عليه أي أثر من آثاره. (1)

الاشهاد في الآية راجع إلى الطلاق خاصة

و هناك من يذهب إلى انّ قوله: «وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» يرجع إلى خصوص الطلاق،فقط،قائلاً بانّ السورة بصدد بيان أحكام الطلاق،و قد افتتحت بقوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» ،فذكرت للسورة عدّة أحكام:

1.أن يكون الطلاق لعدتهن.

2.احصاء العدة.

3.عدم خروجهن من بيوتهن.

4.خيار الزوج بين الإمساك و المفارقة عند اقتراب عدّتهن من الانتهاء.

5.اشهاد ذوي عدل منكم.

6.عدّة المسترابة.

7.عدّة من لا تحيض و هي في سن من تحيض.

8.عدّة أولات الأحمال.

و إذا لاحظت مجموع آيات السورة من أوّلها إلى الآية السابقة تجد انّها بصدد بيان أحكام الطلاق لانّه المقصود الأصلي،لا الرجوع المستفاد من قوله: «فَأَمْسِكُوهُنَّ» و قد ذكر تبعاً.

ص:590


1- 1) .أحمد محمد شاكر:نظام الطلاق [1]في الإسلام:118- 119.

و قال أبو زهرة:قال فقهاء الشيعة الإمامية الاثني عشرية و الإسماعيلية:إنّ الطلاق لا يقع من غير اشهاد عدلين لقوله تعالى«في أحكام الطلاق و انشائه في سورة الطلاق»: «وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» فهذا الأمر بالشهادة جاء بعد ذكر انشاء الطلاق و جواز الرجعة،فكان المناسب أن يكون راجعاً إليه،و انّ تعليل الاشهاد بانّه يوعظ به من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر يرشّح ذلك و يقويه،لانّ حضور الشهود العدول لا يخلو من موعظة حسنة يزجونها إلى الزوجين،فيكون لها مخرج من الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى اللّه سبحانه و تعالى.

و أنّه لو كان لنا أن نختار للمعمول به في مصر لاخترنا هذا الرأي فيشترط لوقوع الطلاق حضور شاهدين عدلين. (1)

و يؤيد رجوع الأمر بالاشهاد إلى خصوص الطلاق لا الرجعة هو أنّ الطلاق حلال مبغوض عند اللّه سبحانه،و الشريعة الإسلامية شريعة اجتماعية لا ترغب في أي نوع من أنواع الفرقة لا سيما في العائلة و الأسرة،بعد ما أفضى كلّ من الزوجين إلى الآخر بما أفضى، فالشارع بحكمته يريد تقليل وقوع الطلاق و الفرقة،فكثّر قيوده و شروطه على القاعدة المعروفة من أنّ الشيء إذا كثرت قيوده،عزّ أو قلّ وجوده،فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أوّلاً و للتأخير و الأناة ثانياً،و عسى إلى أن يحضر الشاهدان أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحصل الندم و يعودان إلى الأُلفة كما أشير إليه بقوله تعالى: «لا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» ،و هذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين،لا شكّ انّها ملحوظة للشارع الحكيم مضافاً إلى الفوائد الآخر،و هذا كلّه بعكس قضية الرجوع فانّ الشارع يريد

ص:591


1- 1) . أبو زهرة:الأحوال الشخصية:365 [1]كما في الفقه على المذاهب الخمسة:131. [2]

التعجيل به و لعلّ في التأخير آفات فلم يوجب في الرجعة أي شرط من الشروط.

و حاصل الكلام بما انّه حلف بالطلاق مجرّداً عن الاشهاد،فلا يترتّب عليه الأثر بحكم الآية المباركة سواء أقلنا بانّ المراد بالاشهاد يرجع إلى الطلاق و الرجعة أو إلى الأوّل فقط.

***

الثالث:انّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام افتوا ببطلان الطلاق المعلق،فقد روى أبو أُسامة الشحام عن الإمام الصادق عليه السلام انّه قال له:انّ لي قريباً أو صهراً حلف إن خرجت امرأته من الباب فهي طالق،فخرجت و قد دخل صاحبها منها ما شاء من المشقة فأمرني أن أسألك.

فأجاب عليه السلام مرّة فليمسكها فليس بشيء ثمّ التفت إلى القوم فقال سبحان اللّه يأمرونها أن تتزوج و لها زوج. (1)

و قد اشتهر عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام انكار الأُمور الثلاثة التالية:

1.طلاق المرأة و هي حائض.

2.الطلاق دون اشهاد عدلين.

3.الحلف على الطلاق.

و ثمّة سؤال يتوجه إلى فضيلة الشيخ بانّه لما ذا اختار في الاجابة مذهب ابن تيمية و ابن قيم الجوزية مع انّ المذهب المشهور بين فقهاء السنة انّه يقع الطلاق إذا حنث في يمينه دون فرق بين الصورتين.

قال السبكي:و قد أجمعت الأُمّة على وقوع المعلق كوقوع المنجز فانّ الطلاق ممّا يقبل التعليق.فلو قال انّ كلّمتِ فلاناً فأنتِ طالق و هو الذي يقصد به الحثّ أو المنع فإذا علق الطلاق على هذا الوجه ثمّ وجد المعلَّق عليه،وقع الطلاق.

ص:592


1- 1) .وسائل الشيعة:15،الباب 18 من أبواب مقدمات الطلاق،الحديث 3. [1]

ثمّ قال:و قد لبّس ابن تيمية بوجود خلاف في هذه المسألة و قد نقل إجماع الأُمّة على ذلك أئمّة لا يرتاب في قولهم و لا يتوقف في صحّة نقلهم. (1)

و لذلك كان الأولى لفضيلة الشيخ الاجتهاد في المسألة ثمّ الافتاء وفق اجتهاده من دون أن يتبع فتوى إمام دون إمام و إلّا فما هو المرجح للافتاء بقول إمامين دون سائر الأئمّة من أهل السنة.

و في الختام نلفت نظركم السامي إلى الكلمة التالية لبعض علمائنا. (2)

انّ الإمامية يُضيّقون دائرة الطلاق إلى أقصى الحدود،و يفرضون القيود الصارمة على المطلِّق و المطلقة،و صيغة الطلاق و شهوده، كلّ ذلك لانّ الزواج عصمة مودة و رحمة و ميثاق من اللّه قال تعالى: «وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» 3 و قال سبحانه: «وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً» 4 إذن لا يجوز بحال أن ننقض هذه العصمة و المودة و الرحمة،و هذا العهد و الميثاق إلّا بعد أن نعلم علماً قاطعاً لا يداخله شك بانّ الشرع قد حلّ الزواج و نقضه بعد أن أثبته و أبرمه.و ليس اليمين بالطلاق-مع وجود الاختلاف الكثير بين الفقهاء-من هذه المقولة فعلى الزوج أن يمسك بعصمتها ما لم يدل دليل قاطع على الطلاق الشرعي.

جعفر السبحاني

الجمهورية الإسلامية في إيران

قم.الجامعة الإسلامية

ص:593


1- 1) .السبكي:الدرة المضيئة:55-56.
2- 2) .الفقه على المذاهب الخمسة:214 [1] للمغفور له الشيخ محمد جواد مغنية.

المقالة الرابعة عشرة:من كربلاء إلى قانا

لقد كان لرحلتي إلى المملكة الأُردنية الهاشمية تأثير بالغ في إلفات الأنظار إلى مذهب الشيعة،و انّ الشيعة هم أتباع أئمّة أهل البيت عليهم السلام و قد تركت انطباعات مهمة في النفوس و القلوب.

و مما أكدتُ عليه في بعض محاضراتي انّ العشرة الأُولى من شهر محرم الحرام أيّام حداد و حزن لشهادة السبط الأصغر الحسين بن علي عليهما السلام في كربلاء على يد الأمويين،و قد خُيّر السبط بين السلّة و الذلة،و بين القتل و البيعة ليزيد الخمور و الفجور،فأبى أن يهادن مع الظلم و الذل و استشهد مع أولاده و خيرة أصحابه في هذا السبيل. سل كربلا كم من حشى لمحمد

فإذاً بالمقال الذي كتبه الأُستاذ حسين الرواشدة في صحيفة اللواء حول شهادة الحسين عليه السلام و أهدافه و انّه يجب على الأُمة أخذ الدروس و العبر من ثورة الحسين عليه السلام،و بما انّ للمقالة قيمة تاريخية نشرت في بلد يقام فيها مجالس الأفراح في شهر محرم الحرام،قمنا بنشرها لتبقى خالدة في بلادنا عبر القرون.

و قد خاطبني في مقاله و قال:

***

ص:594

إلى سماحة الشيخ آية اللّه السبحاني:

من كربلاء إلى قانا...لم نتعلم من المحنة بعد

واقع الأُمّة بين السلة و الذلة...

عاشوراء:دروس في البيعة و الصلح و الثورة ضد القهر و الهوان.

الحسين:لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل و لا أقرّ إقرار العبيد

...أمّا الذين يتطوعون-اليوم-لتحريف الواقع و تسويغه وفق بوصلة مصالحهم و أهدافهم فمطالبون بقراءة تاريخ عنوانه«كربلاء» و أمّا الذين يبحثون عن لغة جديدة لتضليل الشعوب باسم الراحة و السمن و العسل و تكتيك المهادنة،و يحذرونهم من عبثية المواجهة و يدعونهم إلى شرعية الصلح المتصل بحبال المصلحة الوطنية التي غالباً ما تتحول في أيدي السحرة إلى حيات مخيفة...هؤلاء مدعوّون لزيارة الحسين بن علي كرم اللّه وجهيهما في مثل هذا الموسم من عاشوراء لا لمتابعة اللطم و شق الصدور و إقامة مآتم الندم و العزاء...و لكن لفهم معادلة الصراع بين الحقّ و الباطل و إدراك قضية العدالة المرتبطة بالعبودية الخالصة للّه،فعاشوراء ما زالت تتجدد في كيانات هذه الأُمة ثورة ضد الاضطهاد،يتمثلها الأجيال كفاحاً و تمرّداً ضد الواقع الحزين و تنطق بها الأرض دماً لا يهدأ،و روحاً تستأنس بالشهادة كما يستأنس الطفل بمحالب أُمّه لا مجرد حماس و انفعال و ثورة عاطفية تشتعل ثمّ تخمد...و إنّما فكر متعلق باللّه و عمل شعاره«هون ما نزل بنا،انّه بعين اللّه...»و إرادة مستمدة من الحسين بن علي شهيد كربلاء و هو يصعد إلى السماء و دمه في كفه مردداً«هكذا أكون حتى ألقى اللّه و جدي رسول اللّه عليه الصلاة و السلام...».

محنة الحسين بن علي التي تتردّد أصداؤها اليوم في ذاكرة الأُمة الضالة لتعيد إليها تاريخها المستباح و توقظ فيها مشاعر الكرامة و الثورة ضد الظلم

ص:595

و الطاغوت...تعلمنا كيف نمد أيدينا لنصافح أو نعاهد أو نعاقد،و كيف نسحب أيدينا حين تكون المسألة متعلقة بالعزة و الكبرياء و الانفة،و حين تحس النفس المؤمنة بأنّ عقد الصلح قيد لإذلالها و إذعانها لشرعية الطاغوت يعلمنا الحسين بن علي الفقير الذي تربّى في حضن جدّه المصطفى كما تربّى والده علي كرم اللّه وجهه منذ ولد في كنف ابن عمه عليه السلام كيف نحافظ على بساط التفاوض مع الأعداء نسحبه حين يكون الإقرار إقرار العبيد،و نرفضه حين يكون استجداء كإعطاء الذليل الذي يشعر بانسحاق إرادته أمام سيده...فالعزة ليست في المنصب و المال و لا في«السلة»التي يوهمنا بها أدعياء الرفاه و الاستقرار،و لكنّها بمقدار ما يملك الإنسان من إرادة و عزيمة و بمقدار ما يرتفع إليه من إيمان و شجاعة و التزام.

أين نحن اليوم من حكمة شهيد كربلاء و محنته المليئة بالدروس و المواقف؟ انّ الذين يقرءون هذه المحنة التي واجهها الهاشميون من آل عترة المصطفى عليه السلام سيدركون-لا ريب-حجم القوة الإيمانية التي تدفع اثنين و ثمانين رجلاً و امرأة للوقوف مع الحقّ في وجه أكثر من اثني عشر ألفاً من جيش يزيد بن معاوية...و تجعلهم مع محارمهم اللواتي ما هتك لهنّ ستر قط يواجهون عطشاً و حصاراً و ظلماً و جبروتاً يقع بعده الشهيد تلو الشهيد من أبناء الحسن و جعفر و آل أبي طالب أحفاد رسول اللّه عليه السلام دون أن يدفعهم ذلك إلى قبول«الذلة» و مبايعة يزيد«بالخلافة».

درس في البيعة-اذن-و درس في قبول الصلح و الانسياق خلف سلال الغنيمة...فما الذي دفع الحسين إلى رفض السلة مع الذلة معاً؟ السر في ذلك يلخصه رضي اللّه عنه في إحدى خطبه فيقول:«...لا و اللّه لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل و لا أقرّ إقرار العبيد،ألا و انّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين،بين

ص:596

السلة و الذلة و هيهات منّا الذلة،يأبى اللّه لنا ذلك و رسوله و المؤمنون و حجور طابت و طهرت و انوف حمية و جباه أبية...».

و السر في ذلك يعرضه مرة أُخرى«جون»مولى أبي ذر الغفاري حين أشار عليه الحسين بن علي أن يتنحى عن المشاركة في قتال «عاشوراء»فيجيبه جون:لا و اللّه...أنا في الرخاء ألحس قصاعكم و في الشدة أخذلكم؟! و اللّه لا أُفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم...فأذن له الحسين حتى استشهد بعد أن قتل خمسة و عشرين رجلاً.

هو-اذن-درس في امتحان الصحابة و فرزهم عن جموع الموظفين الذين يتزاحمون ساعة الطمع و يفرون ساعة الفزع...و القائد هنا لا يكذب على أتباعه بالشعارات و لا يصفهم في طوابير بالحديد و النار ليقاتلوا دونه،و لكنّه يصارحهم بالحرية في البيعة و الوضوح في القصد،فالبطولة ليست بهلواناً و المعركة ليست قتالاً مجرداً من العقيدة و الرسالة و الإرادة.

و هو درس للذين يتسابقون بدافع القوة من قوة الآخر و هيمنته و جبروته للسجود بين يديه،و الاضمحلال فيه لخدمة مصالحه، و استناد إلى الواقع بمنطقه المعكوس لتبرير هذا الانجرار،هؤلاء لم يسمعوا«حنظلة الشبامي»[كذا] و هو ينادي على الحسين:«صدقت يا ابن رسول اللّه أ فلا نروح إلى الآخرة...»،و لم يصغوا للشيخ الطاعن في السن«أنس الكاهلي»الذي رأى النبي و سمع حديثه و شهد معه بدراً و حنيناً و قد برز رافعاً حاجبيه بالعصابة و مقاتلاً دون الحسين حتى استشهد.

لم تكن قلة العدد-اذن-معياراً للهزيمة أو الانكسار،و لم يكن الانكسار مؤشراً لاندحار الحقّ و غلبة الباطل...و لم تكن الهزيمة و الغلبة مدعاة للرضوخ و الاستسلام،و ما كان الصادقون-آنذاك-قصراً عن تبرير الواقع و تسويغه

ص:597

ليناسب حجم المحاذير و الرغائب كان«الحسين بن علي»و قد أقفل عائداً من مكة إلى كربلاء بعد أن قطع الحج و ترك الذين ينتظرون خطبته على عرفة...كان يدرك و هو يصارح من انسحب خلفه من القوم انّ كثيراً منهم لا يريد سوى الدنيا و كان صادقاً معهم و هو يقول عشية السفر:«ألا و من كان فينا باذلاً مهجته موطناً على لقاء اللّه نفسه،فليرحل معنا فانّي لا أرى الموت إلّا سعادة و الحياة مع الظالمين إلّا برماً...»و قد انسحب عنه الكثيرون بعد أن أدركوا حقيقة ما قاله الفرزدق«قلوبهم معك و سيوفهم عليك»و بقي القلة من الذين كان حاديهم يقول:«لوددت انّي قتلت و أحرقت ثمّ أحييت يفعل بي ذلك سبعين مرّة ما توانيت عنك».

درس في ترسيم العلاقة مع اللّه...العلاقة الدائمة غير الرسمية أو الموسمية مع أوامر الخالق...العلاقة التي لا تقتصر على طقوس الصلاة و الصيام فحسب بل تتعداها إلى كلّ ما يدور في حياة المسلم و ما يتعلق بواقعه داخل المسجد و خارجه و هو درس غائب عن هذه الجماهير التي استهلكتها الحياة المادية بشهواتها و عوارضها...درس يندر اليوم أن يتجسد في«نموذج»يقارب و لو من بعيد نموذج الحسين و صحابته الذين ماتوا دفاعاً عن حقّهم في الكرامة و الشهادة.

ما أحوج الأُمة اليوم،و هي تضع رقبتها على حدّ المقصلة،و تدافع عن كرامتها بمزيد من التبعية و الاستسلام،و تتسرب من خلايا أعدائها و عيونهم لتخنق شعوبها...ما أحوجها إلى وقفة مع«عاشوراء»و ما تجسد من فكر في التضحية و الالتزام بالحقّ و مواجهة الباطل و جنوده...و الاستعلاء على وسخ الواقع و طين الوعود و الخوف على شهواته الزائلة...فمن قال إنّ مصلحة الأُمّة في الراحة و الذلة و من قال إنّ مصلحة الوطن في حسن التعامل مع الواقع المهين بمفرداته

ص:598

و آلياته و شروطه التي يمليها القوي على الضعيف...أ لم يمتحن رسول اللّه صحابته حين أرسل بعضاً منهم إلى قلعة ضخمة لبلوغها،و حين عادوا مقرين بضعفهم و جبنهم قال لهم محمد عليه السلام:«لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله كرّار غير فرّار لا يرجع حتى يفتح اللّه على يديه...».

فأوّل شروط نبذ الضعف و الجبن الذي يسوغه البعض تكتيكا و خروجاً من مأزق الواقع هو محبة اللّه و رسوله...و لكن أين الذين يحبّهم اللّه و أين الذين يحبّونه و رسوله في عالمنا هذا المهزوم؟ و أين الذين قال فيهم علي بن أبي طالب«من أحد سنان الغضب للّه قوي على قتل أشداء الباطل»....

إن الذين نخشاهم اليوم يحدون سيوفهم للقضاء على شعوبهم،و يغضبون إذا غضبت امريكا أو إذا زمجرت إسرائيل...الذين نخافهم ممن يعطون أنفسهم مراسيم القومية و الخوف على مستقبل الأُمة يحرسون ثغور و مصالح غيرهم،فأين منا الحسين و أين كربلاء التي تجسد في أعماقنا أكبر ثورة إنسانية ضد الخنوع و القهر لآلة الاستبداد و استيطان الإرادة و الانحناء لغير اللّه عزّ و جلّ....

كيف يمكن لهذه الأُمّة أن تعيد مرّة أُخرى«عاشورا»إلى منصتها الخالدة،لتنفض عنها غبار«الذلة»و تمسح دماء أطفال«قانا»التي لم تجف بعد...كيف يمكن أن يقف الشعب خلف قيادته و أن يعلن رجل يصارع الموت كما أعلن«مسلم بن عوسجة»في حضرة«الحسين بن علي»وصيته لصديقه...و ما هي وصيته؟ يقول حبيب بن مظاهر:

«لما صرع مسلم بن عوسجة مشى إليه الإمام الحسين و كنت معه،و جلسنا عنده و هو يحتضر قلت له:و اللّه لو لا ان أعلم انّي في الأثر لأحببت أن توصي فانّ الصديق يوصي صديقه لحظة الاحتضار،يوصيه بأهله و عياله و لكن مشكلتي انّي سأموت من بعدك و سأسير في نفس الطريق...فقال له مسلم:لي وصية تستطيع

ص:599

أن تنفذها الآن...؟ قلت:و ما هي وصيتك؟ قال:أوصك بهذا-و أشار بيده للإمام الحسين بن علي-جاهد دونه حتى تموت.

و ما دام هنالك قضية عادلة،و حق يقابل باطلاً ليدحضه،فالموت ليس مهماً و الدم أقرب اللحظات التي توصل الأرض بالسماء أ لم تسمع ما ذا قال«علي الأكبر»ابن الإمام الحسين و هو يرى أنفاس والده تعانق السماء و قد ظل يكرر «إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» :يا أبتاه لم تسترجع؟ فأجابه:يا بني عنَّ لي فارس و أنا في المنام يقول:القوم يسيرون و المنايا تسير خلفهم،فعلمت انّ نفوسنا نعيت إلينا،قال علي:يا أبتاه ألسنا مع الحقّ؟ قال الحسين:بلى و الذي نفسي بيده.قال علي:لا نبالي يا أبتاه-إذن-أن نموت محقين.

و لكن كيف يمكن لأطفالنا أن يتساءلوا عن قضيتنا؟ و كيف يمكن لنا-نحن التعساء-أن نجيبهم،لقد علّم الحسين ولده درس نعلم أبناءنا درس التضحية و نحن نسبل رموشنا لاستقبال خيرات العهد الشرق أوسطي الجديد؟

كيف يمكننا أن نقنع أجيالنا بأنّ الذي ندافع عنه هو الحق...الذي يجب أن يدافعوا عنه و يصونونه أي حق هذا الذي استعدناه و أي تضحية تلك التي قطفنا ثمارها بعد سيل الهزائم و الانكسارات....

يا اللّه...

ما ذا يحدث لهذه الأُمّة التي تحولت إلى قطيع تائه...ما ذا يحدث لهذه الأجيال التي مسخت تاريخها...ما ذا يحدث و قد غابت المرجعيات و تحول معظم العلماء إلى سدنة في بلاط السلطة،و عبيد في أقبية السلاطين و قد فقدت الحركات مبررات وجودها،و استمرأت اللعبة،فاشتغلت في شئون الحيض و تنظيف الفرج و اللسان بدعوى السماحة و النظافة و الاعتدال و انتظار فرج السماء.

ص:600

يا اللّه...

إذا كان القوم قد تركوا حفيد رسولك«الحسين بن علي»وحيداً أعزل إلّا من الإرادة و الإيمان و اثنين و ثمانين رجلاً و امرأة...و شهدوا على دمه الطيب-بعد أن منعوه و حصانه الماء-و هو يصعد في كفة السماء...فمن يستطيع في زماننا أن يحمل راية حملها الحسين...و من يتبقى معه من أُمّة نخر عصبها الفساد و التعب و الضلال.

أمّا نحن فلا نملك إلّا أن نقرأ«كربلاء»و أن نتوقف بقلوب أدمنت الحزن و مرارة«المحنة»على معنى المكابدة من أجل رضى اللّه، و معنى التضحية بكلّ شيء من أجل الحقّ...و معنى الإيمان الخالص بالقضية العادلة و الدفاع عنها مهما غلا الثمن.

نقرأ عاشوراء...مرة تلو مرة...لنحدد أهدافنا و نوضحها و نميز بين الصحابة و الموظفين،بين المؤمنين بدينهم و أوطانهم و المندسين طمعاً في الغانم،بين المرتبطين عقلاً و روحاً بالإسلام و بين المرتبطين عاطفياً و موسمياً به عبر الفاكسات و البيانات.

و نعيد إلى ذاكرتنا محنة«الحسين»و أصحابه،فالحسين ليس ملكاً لفرقة دون فرقة،و عاشوراء ليست مناسبة دينية لمذهب دون آخر....الحسين هو معلّمنا جميعاً و عاشوراء و كربلاء مناسبتان عابقتان بالدم و التضحية في تاريخنا السياسي الإسلامي و هما في قاموسنا ثورة ضد الطغاة،ضد الإذلال،ضد التطبيع و المصالحة و المصافحة ضد الاستهتار بحقّ الأُمّة،ضد تسويغ الواقع و تبرير السقوط في دهاليزه المظلمة...ضدّ كلّ خطط الاذلال التي تحاك هنا و هناك للقضاء على روح الجهاد في هذه الأُمّة...عاشوراء لنا جميعاً بلا استثناء لفقرائنا و ساستنا،لحركاتنا التائهة و لإنساننا الذي أدمن اليأس و الصمت و الانتظار،عاشوراء لغة

ص:601

الواقع التي تؤسس لصياغة المستقبل و هي لفتة الحرية في تاريخنا الملي بالقهر و الاستبداد...تظل تعيد في أذهاننا ما قاله الحسين رضي اللّه عنه«و اللّه لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل و لا أقرّ إقرار العبيد».

ترى...هل تستطيع هذه الأُمّة المسكينة التي تبيع برميل نفطها بما يعادل ثمن حبة برتقال-كما اعترف بذلك وزير النفط العماني - التي تشتغل اليوم بكلّ طواقمها في الانتخابات الصهيونية و تسير خلف أوهام السلام الذي يبشر به سفاح قانا...أن نقرأ دروس عاشوراء،و أن نتعلم من دروس الحسين في كربلاء...أم انّني أنفخ في قربة مخزوقة....

يا اللّه...ما ذا يملك المظلومون العاصون غير الدعاء إليك و اللوذ ببابك...فاعف عنّا يا أرحم الراحمين.

ص:602

المقالة الخامسة عشرة:التقية رخصة شرعية

اشارة

كانت لرحلتي إلى الأُردن عام 1418 نتائج بنّاءة في تقريب الخطى و تبيين عقائد الشيعة من خلال المحاضرات التي القيتُها في الجامعات الإسلامية،و ممّا عطفت النظر عليه هي مسألة التقيّة،و إنّها ليست أصلاً شيعيّاً محضاً بل هي أصل قرآني نطق بها الصادع بالحقّ و أوضحها المفسرون بكلماتهم.

ثمّ إنّي لما قفلت راجعاً إلى إيران وقفت على مقالة بقلم أحد أساتذة جامعة مؤتة نشرتها صحيفة اللواء الأُردنيّة في عددها الصادر 1211 المؤرخة 96/7/24 و قد استرعى انتباهي ما في آخر المقال من جملة ربما تتخذ ذريعة لتحريف الحقيقة فعزمت على كتابة رسالة إلى رئيس التحرير و بيّنت فيها موقف المسلمين بالنسبة إلى ما تحتويه تلك الجملة.

و لما كان المقال وثيقة علمية اصحر الحق بها ذلك الكاتب،آليتُ أن أنشره مع ما ذيلته به،و إليك المقال.

***

الضرورات تبيح المحذورات و المشقة تجلب التيسير

الحمد للّه رب العالمين ملء السّماوات و الأرض و ما بينهما و الصّلاة و

ص:603

السّلام على محمّد النبيّ الخاتم و على آله الطيّبين الطاهرين الّذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيراً...و بعد.

في بواكير ثقافتي و اطلاعي كنت أسمع الكثير من المفتريات و المبالغات التي كانت تدور حول الشيعة و حول التشيّع خاصّة ما يؤمنون من افكار و معتقدات كنت أصدق كلّ ما يقال و ذلك لقلّة اطلاعي.

فقد كنت أسمع عن مبدأ التقية عند الشيعة و كأنّ هذا المبدأ ليس له أصل في الشرع الإسلامي إلّا انّه مجرّد فكر اختلقه علماء الشيعة و لكن الحقائق بعد الاطلاع ظهرت جلية و «جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» .

و الآن ما هي التقية و ما هي أحكامها و أدلّتها الشرعية ؟

التقية:الاظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس و هي عكس مفهوم النفاق.

ففي التقية يتم اظهار الكفر و ابطان الإيمان.أمّا في النفاق فيتم إبطان الكفر و إظهار الإيمان.

و التقيّة رخصة شرعية كأكل الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أُهلّ لغير اللّه به لانّ اللّه عزّ و جلّ يقول: «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ» .

أمّا النفاق:«فهو أشدّ الكفر لانّه أشدّ خطورة و المنافقون في الدرك الأسفل من النار».

الأدلّة على جواز الأخذ بمبدإ التقيّة:

انّ الأصل في الإسلام هو:عدم موالاة الكافرين و اليهود و النصارى و الصدع بما أمر اللّه و عدم خشية أحد في الحقّ إلّا اللّه.

ص:604

فالمؤمنون هم الّذين «يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ» (المائدة54/).

و لكن الضرورات تبيح المحذورات و المشقة تجلب التيسير.

قال تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» .

أي من اضطر للوقوع في المحرّم على أن لا يطلبه لذّاته و لا يتعدى على أصل تحريمه فإنّ الإثم عنه مرفوع.

و نحن نعلم انّ اللّه قد نهانا عن موالاة الكافرين و مودّتهم في الأصل الحكمي و لكن هناك حالات يجوز لنا فيها موالاتهم فيها فما هي لنتعرف عليها من خلال الآية القرآنية الكريمة التالية:

قال تعالى: «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ» (آل عمران27/).

مفهوم الآية:نهي و تحذير من الواحد الأحد عزّ و جلّ من موالاة و مودة الكافرين ؟ و من يفعل ذلك فهو في غاية البعد عن اللّه.

و لكن في حالة خوفكم من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه فهنا الموالاة جائزة كرخصة لا كأصل.

و قال تعالى: «وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ» (غافر28/).

من خلال الآية السابقة نلاحظ ما يلي:

انّ الرجل من آل فرعون و قوم فرعون فاسقون و الرجل مؤمن و كان هذا

ص:605

الرجل يكتم إيمانه أي يخفيه يظهر الكفر و يبطن الإيمان و السبب في ذلك:خوفاً من فرعون و جنوده لانّ فرعون طغى و في الأرض علا.

و لكن ما هي المنفعة التي جلبها و حقّقها مؤمن آل فرعون بكتمه إيمانه:

صيانة نفسه و حمايتها و تقديم النصح بعدم قتل موسى بناء على انّه كافر ليس مؤمن و ليس له عند موسى أيّ منفعة.

فهنا تمّ تحقيق تكون في حال التمكّن في الأرض و في حال ضعف المسلمين و تكون في الحرب لانّ (الحرب خدعة) و هي جائزة لصون النفس من الضرر لانّ دفع الضرر عن النفس واجب قدر الإمكان حتى في ساحة القتال.قال تعالى: «تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» و قال تعالى: «وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً».

أحكام التقية

1.تكون بالجري على اللسان مع الاطمئنان في القلب بالإيمان.

2.لو انّه أفصح بالإيمان و الخوف حيث تجوز له التقيّة كان ذلك أفضل و ذلك بناء على قاعدة «وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ».

3.تكون التقية إذا كان الرجل في قوم كفّار و يخاف منهم على نفسه و ماله فيداريهم بلسانه و نحن نعرف انّ الدعوة السرية للإسلام استمرت ثلاث سنين قبل أن يصدع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالدعوة.

ص:606

و من ذلك الذي يعيش مثلاً في«اسرائيل»وسيط اليهود أو في روسيا وسط الشيوعيين أو في دولة أوروبية تعادي الإسلام.

4.إنّما تجوز فيما يتعلّق بإظهار الموالاة و الدين فأمّا ما يرجع ضرره على الغير كالقتل و الزنا و غصب الأموال و شهادة الزور و قذف المحصنات و اطلاع الكفّار على عورات المسلمين فذلك غير جائز البتة لأنّه«لا ضرر و لا ضرار».

5.و كما انّ التقيّة جائزة لصون النفس فكذلك هي جائزة لصون المال.قال صلى الله عليه و آله و سلم«حرمة مال المسلم كحرمة دمه»و لقوله:من قتل دون ماله فهو شهيد»و لانّ الحاجة إلى المال شديدة.

حيث إنّه من المعروف انّ الماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء و جاز الاقتصار على التيمم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال فكيف لا يجوز هاهنا.

6.انّ التقيّة يؤخذ بها في أيّ وقت إلى يوم القيامة فهي رخصة تطبق عند وجود السبب و الضرورة و لا تقتصر على حال و وقت معيّن.

7.انّ التقيّة واجبة كضرب من اللطف و الاستصلاح فمن خاف الكفّار فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه فقد روى البخاري عن أبي الدرداء انّه قال:إنّا لنكشر في وجوه قوم و قلوبنا تلعنهم.و قال ابن عباس:ليس التقية بالعمل إنّما التقيّة باللسان.و كذا قال أبو العالية و أبو الشقاء و الضحّاك و الربيع بن أنس و يؤيد ما قالوه قول اللّه تعالى: «مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ».

و كلّنا يعرف قصة آل ياسر و تعذيب قريش لهم فقد نطق ياسر بكلمة الكفر بلسانه من شدّة العذاب و لكن بقي قلبه مطمئناً بالإيمان .

روى الحسن انّ مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ص:607

فقال لاحدهما أتشهد انّ محمّداً رسول اللّه ؟ قال:نعم،قال:أ فتشهد انّي رسول اللّه ؟ قال:نعم فقال للآخر:أ فتشهد انّي رسول اللّه ؟ فقال:انّي أحم قالها ثلاثاً كلّ ذلك يجيبه مثل الأوّل فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول اللّه فقال:أمّا ذلك المقتول فمضى على صدقه و يقينه و أخذ بفضله فهنيئاً له.و أمّا الآخر فقبل رخصة اللّه فلا يتبعه عليه فعلى هذا تكون التقية رخصة و الافضاح بالحق عزيمة.

و إذاً انّ البعض قد أساء فهم مدلول التقية فانّ الخطأ لم يكمن في القاعدة أو الحكم إنّما نقول انّ اللّه يحبّ أن تؤتى رخصة كما يجبّ أن تؤتى عزائمه.و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

***

ص:608

بسم اللّه الرحمن الرحيم

«حضرة الأُستاذ حسن التل»رئيس تحرير صحيفة اللواء الأُردنية،الموقّر

أتقدّم لكم بالتحية الخاصة متمنياً دوام التوفيق.

أمّا بعد:فقد قرأنا في العدد 1211 و المؤرَّخ في 96/7/24 مقالاً قيّماً حول التقيّة بعنوان:التقية رخصة شرعية بقلم الأُستاذ الفاضل أُسامة عبد الكريم الكساسبة من قسم الدراسات الإسلامية بجامعة مؤتة.

و نحن إذ نقدّر منكم و من الأُستاذ الكاتب لذلك المقال،هذه الخطوة الهادفة إلى التقريب بين المذاهب نسأل اللّه سبحانه أن ينصر المسلمين و يعيد إليهم عزّتهم و كرامتهم على أيدي المخلصين من أبناء امتنا الإسلامية.

انّ المقال المذكور تضمّن-و للّه الحمد-أدلّة مشرقة أثبتت أنّ للتقية أُصولاً و جذوراً في القرآن الكريم و السنّة المطهّرة و التاريخ الإسلامي،فهو بحق مقال علمي كشف القناع عن وجه التقية و بيّن الفرق بينها و بين النفاق بوجه واضح.

بيد أنّه جاء في آخر المقالة عبارة مجلة هي:«و إذا كان البعض قد أساء فهم مدلول التقية فانّ الخطأ لم يكمن في القاعدة أو الحكم إنّما الخطأ يكمن في الخطأ في العمل و التطبيق».

فإذا كان مقصود الكاتب من هذه العبارة-كما فهمنا أو احتملنا-هو

ص:609

اختصاص أدلّة مشروعة التقيّة باتقاء المسلم من الكافر،فلا يشمل اتّقاء المسلم من المسلم فهو غير صحيح،لأنّ الغرض من تشريع التقيّة عند الابتلاء بالكفّار ليس إلّا صيانة النفس و المال من الشرّ و الضرر،فإذا ابتُلي المسلم بمسلم ظالم صادر حرّيته،و منعه من إظهار عقيدته من دون خوف بحيث لو أظهر عقيدته نكّل به و استباح دمه و ماله،حكم العقل و النقل هنا بصيانة النفس و المال بواسطة التقيّة،و عدم إظهار المعتقد،و مماشاة من يهدّد حياته أو ماله،و حينئذٍ لا يكون اللوم متوجّهاً إلى المسلم المقهور بل إلى الآخر الذي صادَرَ حرّيته،و قهره منعه من اظهار معتقده.

و قد صرح بهذا (أي مشروعيّة التقيّة حتّى عند المسلم) طائفة من أعلام المسلمين،نشير إلى عبارات بعضهم في هذا المجال:

1.يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه: «إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» ظاهر الآية يدل على أنّ التقية إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين إلّا أنّ مذهب الشافعي أنّ الحالة بين المسلمين،و قال:التقية جائزة لصون النفس،و هل هي جائزة لصون المال ؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى الله عليه و آله و سلم«حرمة مال المسلم كحرمة دمه»و قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«من قُتِل دون ماله فهو شهيد».(مفاتيح الغيب:13/8).

2.نقل جمالُ القاسمي عن الإمام المرتضى اليماني في كتابه«إيثار الحقّ على الحق»ما نصّه:«و زاد الحقّ غموضاً و خفاءً أمران:

أحدهما:خوف التقية عند ذلك بنصّ القرآن و إجماع أهل الإسلام،و ما زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ،و لا برح المحقّ عدوّاً لأكثر الخلق و قد صحّ عن أبي هريرة انّه قال في

ص:610

ذلك العصر الأوّل:حفظت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعاءين أمّا أحدهما فبثثته في الناس و أمّا الآخر فلو بثثته لقُطع هذا البلعوم.

(محاسن التأويل:82/4).

3.قال المراغي في تفسير قوله سبحانه: «مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» :و يدخل في التقية مداراة الكفر و الظلمة و الفسقة،و إلانة الكلام لهم،و التبسّم في وجوههم و بذل المال لهم لكفّ أذاهم و صيانة العِرض منهم،و لا يُعدّ هذا من الموالاة المنهي عنها،بل هو مشروع،فقد أخرج الطبراني قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«ما وقى المؤمن به عرضَه فهو صدقة».(تفسير المراغي:/3 136).

و هكذا يذهب اعلام من المسلمين إلى مشروعيّة اتقاء المسلم من المسلم إذا خاف على نفسه و حتى ماله من الهلاك و الضياع، و لا إثم على المسلم إذا اتقى أخاه المسلم و عامَلَه بالتقية و أخفى عنه معتقده إذا لم يسمح له أخوه المسلم بأن يظهر عقيدته بدافع العصبية و الطائفية.

فالذي ينبغي أن يسعى إليه المسلمون و بخاصة المهتمون بشئونهم هو فتح آفاق الحوار البنّاء،و السماح للجميع بإظهار عقائدهم ،بعيداً عن الإرهاب و الإرعاب،و التكفير و التفسيق لتعود الأُمّة الإسلامية قوّة متراصة الصفوف،متكاتفة حتى مع الاختلاف في الاجتهادات،و الآراء.

و على كلّ حال نعود لنثمن جهدكم و جهدَ الكاتب الفاضل هذا.

وفقكم اللّه و أخذ بأيديكم لما فيه صالح المسلمين.

جعفر السبحاني

قم-الجامعة الإسلامية

1417/4/20 ه

ص:611

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.