مستند الشيعة في أحكام الشريعة الجزء 18

اشارة

سرشناسه : نراقي، احمدبن محمد مهدي، 1185-1245ق.

عنوان و نام پديدآور : مستند الشيعه في احكام الشريعه/ تاليف احمدبن محمدمهدي النراقي؛ تحقيق موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث.

مشخصات نشر : مشهد: موسسه آل البيت (عليهم السلام) لاحياء الثرات، 1415ق. = 1373-

مشخصات ظاهري : ج.

فروست : موسسه آل البيت لاحياء التراث؛ 156، 157، 158، 160، 165، 166، 167، 168، 171، 242.

شابك : 2500ريال: ج.1 964-5503-75-2 : ؛ : ج.3: 964-5503-78-7 ؛ 4000 ريال: ج.5: 964-5503-80-9 ؛ 4000 ريال (ج.6) ؛ 4000 ريال (ج.7) ؛ 5000 ريال: ج.8 964-5503-83-3 : ؛ 5000 ريال: ج.10 964-319-014-5 : ؛ 6000 ريال: ج.11 964-319-015-3 : ؛ 5500 ريال: ج.12: 964-319-038-2 ؛ 5500 ريال: ج.13: 964-319-073-0 ؛ 7500 ريال: ج.16: 964-319-125-7 ؛ 7500 ريال (ج.17) ؛ 35000 ريال: ج.20 978-964-319-502-1 :

وضعيت فهرست نويسي : برونسپاري

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1415ق. = 1373).

يادداشت : ج. 6 (چاپ اول: 1415ق. = [1373]).

يادداشت : ج. 7 (چاپ اول:1416ق. = [1374]).

يادداشت : ج. 8 (چاپ اول: 1416ق. = 1375).

يادداشت : ج.10و 11و 12(چاپ اول: 1417ق. = 1376).

يادداشت : ج. 13 (چاپ اول: 1417ق. = 1375).

يادداشت : ج. 16 و 17 (چاپ اول: 1419ق. = 1377).

يادداشت : ج.20 (چاپ اول: 1431ق. = 1389).

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : v. 5):)ISBN 964-5503-75-2 (set): ISBN 964-5503-75-2 (8 vols): ISBN 964-5503-82-5 (v.7): ISBN 964-5503-81-7 (v. 6): ISBN 964-5503-80-9

موضوع : فقه جعفري -- قرن 13ق.

شناسه افزوده : موسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث (قم)

رده بندي كنگره : BP183/3/ن4م5 1373

رده بندي ديويي : 297/342

شماره كتابشناسي ملي : م 74-1256

[تتمة كتاب القضاء و الشهادات ]

المقصد الثاني في الشهادات

اشاره

و فيه مقدّمةٌ و فصول.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 7

المقدّمة

الشهادة مأخوذةٌ من شهد، و فسّره في المحيط و النهاية الأثيريّة و الصحاح و القاموس و المجمع بمعنى حضر «1»، و منه: الشاهد يرى ما لا يراه الغائب، و قوله سبحانه وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» و قوله تعالى وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «3» و المشهد: المحضر و المجمع.

و نقل بعض المتأخّرين من فقهائنا أنّه في اللّغة يجي ء بمعنى: علم أيضاً «4»، و ذكره في القاموس أيضاً في تفسير: أشهد أن لا إله إلّا اللَّه، و في تفسير شَهِدَ اللَّهُ «5» و منه الشهيد من أسمائه سبحانه، و منه قوله سبحانه نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ «6».

و فسّر بمعنى عاين أيضاً، قال في المجمع: و شهدت على الشي ء: أي اطّلعت عليه و عاينته فأنا شاهد، و شهدت العيد: أدركته، و شاهدته مثل عاينته «7». و في القاموس: شاهده: عاينه «8». و ذكروا: أنّ المشاهدة: المعاينة.

و فسّره في المجمع بمعنى أخبر أيضاً، قال: و شهد بكذا يتعدّى بالباء؛

______________________________

(1) النهاية الأثيرية 2: 513، الصحاح 2: 494، القاموس المحيط 1: 316، المجمع 3: 80 81.

(2) النور: 2.

(3) الطلاق: 2.

(4) انظر التنقيح 4: 283، و الرياض 2: 423.

(5) القاموس 1: 317. و الآية: آل عمران: 18.

(6) المنافقون: 1.

(7) مجمع البحرين 3: 81.

(8) القاموس 1: 316.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 8

لأنّه بمعنى أخبر «1». و منه قوله سبحانه وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا «2».

و في الثاني: الشهادة في الأصل: الإخبار عمّا شاهده و عاينه «3». و يمكن أن يكون منه وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها «4».

و فسّر في المسالك الشهادة لغةً بأنّها الإخبار

عن اليقين «5». و يمكن أن يكون منه قوله سبحانه قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ .

و أمّا تفسيرها بالخبر القاطع كما في الثلاثة الأخيرة «6» فهو ليس بياناً للمعنى المصدري.

و يحصل من ذلك أنّ الشهادة المصدريّة تفسّر في اللغة بالحضور، و العلم، و المعاينة، و الإخبار عن اليقين، و الإخبار عمّا شاهده و عاينه.

و صرّح مولانا الرضا في صحيحة صفوان: إنّ الحضور شهادة، و فيها: سُئل عن رجلٍ طهرت امرأته من حيضها، فقال: فلانة طالق، و قومٌ يسمعون كلامه، و لم يقل لهم: اشهدوا، أ يقع الطلاق عليها؟ قال: «نعم، هذه شهادة» «7»، و به فسّر قوله تعالى وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا «8» في بعض الأخبار «9».

______________________________

(1) مجمع البحرين 3: 82.

(2) يوسف: 81.

(3) النهاية لابن الأثير 2: 514 و فيه: و أصل الشهادة الإخبار بما شاهده و شهده.

(4) يوسف: 26.

(5) المسالك 2: 400.

(6) الصحاح 2: 494، القاموس المحيط 1: 316، مجمع البحرين 3: 82.

(7) الكافي 6: 72/ 4، التهذيب 8: 49/ 155، الوسائل 22: 50 أبواب مقدّمات الطلاق و شرائطه ب 21 ح 2.

(8) البقرة: 282.

(9) الوسائل 27: 309 أبواب الشهادات ب 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 9

و يحتمل أن تكون جميع تلك المعاني حقائق لغويّة، و أن يكون بعضها مجازاً مأخوذاً من بعضٍ آخر. و أمّا تخصيص الحقيقة بواحدٍ منها فلا دليل عليه.

نعم، الظاهر أنّ المعنى الأول من المعاني الحقيقيّة، و كذا الإخبار عمّا شاهده و عاينه.

هذا بحسب اللغة.

و أمّا شرعاً، فعرّف في المسالك الشهادة بأنّها إخبارٌ جازم عن حقٍّ لازم لغيره، واقعٌ من غير حاكم «1». أي من حيث إنّه حاكم لا مطلقاً.

و لا يخلو التعريف عن نقض طرداً

و عكساً؛ لصدقه على الإخبار عن ثبوت حقّ الغير على نفسه للغير، و عدم صدقه على الشهادة بالجرح و التعديل، و رؤية الهلال، و الطلاق، و الموت، و غير ذلك.

و قد يختلف الأمر باعتبار الموارد في صدق الشهادة عليه و عدمه، كالإخبار عن مجي ء الحاج، فإنّه ليس شهادة، فلو نوزع فيه لحقٍّ مترتّب عليه يقال: إنّه شهادة.

هذا، مع أنّ الظاهر من قوله:" شرعاً" إرادة الحقيقة الشرعيّة، و إثباتها هنا مشكل؛ لعدم دليل على الوضع التعييني.

و أما التعيّني، فحصوله يتوقّف على كثرة استعمال في المعنى الشرعيّ خاصّة، بحيث يحصل التبادر فيه، و تحقّقه فيما نحن فيه غير معلوم، سيّما مع ملاحظة لفظ الشهود و الشهادة و ما يشتقّ منهما في غير هذا المعنى في كلمات الحجج كثيراً، و لو سلّم فتحقّقها في معنى خاصّ مضبوط يصلح

______________________________

(1) المسالك 2: 400.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 10

لإناطة الحكم عليه غير معلوم لنا.

فاللازم حملها في كلام الشارع على الحقيقة اللغويّة؛ و لعدم تعيينها من بين معاني معلومة و احتمال تعدّدها يجب الأخذ بالمتيقّن، و هو الحضور، فيما لم يعلم تضمّنه لمعنى الإخبار، نحو قوله سبحانه وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ «1» وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما «2» و نحو ذلك.

و الإخبار عمّا شاهده و عاينه، أو الإخبار عن اليقين بما شاهده و عاينه فيما تضمّنه، نحو قوله عزّ جاره شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها «3»، و قولهم (عليهم السّلام): «تقبل شهادة الأخ لأخيه، و تقبل شهادة الضيف، و تقبل شهادة المسلم» إلى غير ذلك «4»؛ لأنّه المترتّب عليه الحكم يقيناً و غيره مشكوكٌ فيه، و لذا ذكر الفقهاء أنّ مستند الشاهد المشاهدة، أو السماع، أو هما معاً.

فإن قيل: فليحمل على الحقيقة العرفيّة.

قلنا:

إن أُريد العرفيّة في زمان الشارع فتحقّقها غير معلوم، و إن أُريد في الزمان المتأخّر عنه فاللغويّة متقدمةٌ عليها؛ مع أنّ تحقّقها أيضاً غير واضح، و لو سلّم فالمتحقّق منها غير منضبط جدّاً.

______________________________

(1) الطلاق: 2.

(2) النور: 2.

(3) يوسف: 26.

(4) انظر الوسائل 27: أبواب الشهادات ب 26 و 29 و 38 و 41.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 11

الفصل الأول في بيان شرائط الشاهد و صفاته المعتبرة في قبول شهادته

اشاره

و هي أُمور:

الأول: البلوغ.
اشاره

فلا تقبل شهادة غير البالغ، بلا خلافٍ فيه في الجملة- كما قيل «1» بل عن الغنية مطلقاً «2»، و لكن يجب تقييده أيضاً؛ لتصريحه بعد ذلك في الشجاج و الجراح مدّعياً إجماع الطائفة عليه.

و تفصيل الكلام فيه في مسائل:

المسألة الأُولى : غير البالغ إمّا غير مميّز أو مميّز،

و الثاني إمّا لم يبلغ عشر سنين أو بلغ، و على التقديرين إمّا يشهد في غير الجراح و القتل أو يشهد فيهما.

و الأصل الأولي في الكلّ: عدم قبول شهادته، و عدم نفوذه، و عدم ترتّب الأثر عليه كما في سائر الشهادات.

و كذا الأصل الثانوي؛ لمفهوم الحصر في مرسلة يونس: «استخراج الحقوق بأربعة [وجوه ]: بشهادة رجلين عدلين» الحديث «3».

و مفهوم الشرط في رواية السكوني: «إنّ شهادة الصبيان إذا أشهدوهم

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 424.

(2) الغنية (الجوامع الفقهية): 624.

(3) الكافي 7: 416/ 3، التهذيب 6: 231/ 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 7 ح 4؛ ما بين المعقوفين من المصادر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 12

و هم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها» «1»، و قريبةٌ منها الأُخرى «2».

و صحيحة محمّد: في الصبي يشهد على الشهادة، فقال: «إن عقله حين يدرك أنّه حقٌّ جازت شهادته» «3».

و صحيحة جميل: تجوز شهادة الصبيان؟ قال: «نعم، في القتل يؤخذ بأول كلامه، و لا يؤخذ بالثاني منه» «4»، فإنّ الجواب المقيّد بعد السؤال عن المطلق بمنزلة التفصيل القاطع للشركة.

و رواية محمّد بن حمران: عن شهادة الصبي، فقال: «لا، إلّا في القتل يؤخذ بأول كلامه، و لا يؤخذ بالثاني» «5».

و يمكن أن يستدل له أيضاً بمفهوم مرسلة الفقيه: «و إن شهد رجلان عدلان على شهادة رجلٍ فقد ثبتت شهادة رجلٍ واحد» «6».

و بمثل رواية المثنّى «تجوز شهادة

النساء في الرجم إذا كان ثلاثة رجال و امرأتان» «7».

______________________________

(1) الكافي 7: 389/ 5، التهذيب 6: 251/ 648، الوسائل 27: 342 أبواب الشهادات ب 21 ح 2.

(2) الفقيه 3: 28/ 80، التهذيب 6: 250/ 643، الوسائل 27: 343 أبواب الشهادات ب 21 ح 4.

(3) الكافي 7: 389/ 4، التهذيب 6: 251/ 647، الوسائل 27: 342 أبواب الشهادات ب 21 ح 1.

(4) الكافي 7: 389/ 2، التهذيب 6: 251/ 645، الوسائل 27: 343 أبواب الشهادات ب 22 ح 1.

(5) الكافي 7: 389/ 3، التهذيب 6: 251/ 646، الوسائل 27: 343 أبواب الشهادات ب 22 ح 2.

(6) الفقيه 3: 41/ 135، الوسائل 27: 404 أبواب الشهادات ب 44 ح 5.

(7) الكافي 7: 391/ 9، التهذيب 6: 265/ 706، الإستبصار 3: 24/ 74، الوسائل 27: 354 أبواب الشهادات ب 24 ح 11؛ و في الجميع: عن مثنّى الحنّاط، عن زرارة.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 13

و رواية الهمداني: امرأةٌ شهدت على وصيّة، فكتب (عليه السّلام): «لا، إلّا أن يكون رجلٌ و امرأتان» «1».

بضميمة الإجماع المركّب في الثلاثة.

و بالتعليل الوارد في موثّقة محمّد، الواردة في ردّ شهادة السائل بكفّه، بقوله: «لأنّه لا يؤمن على الشهادة» «2».

و أمّا رواية إسماعيل بن جعفر: «إذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره و جازت شهادته» «3».

و رواية طلحة بن زيد: «شهادة الصبيان جائزةٌ بينهم ما لم يتفرّقوا و يرجعوا إلى أهلهم» «4».

فمع اختصاصهما ببعض الصور لا تصلحان لمعارضة ما مرّ؛ أمّا الأُولى فلكونها مقطوعة غير مسندة إلى إمام، و أمّا الثانية فلشذوذها المخرج لها عن الحجّية.

ثم إنّ بما ذكر تُخصَّص إطلاقات الكتاب و السنّة، الشاملة لغير البالغين أيضاً:

كقوله فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ

فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَ

______________________________

(1) التهذيب 6: 268/ 719، الإستبصار 3: 28/ 90، الوسائل 27: 360 أبواب الشهادات ب 24 ح 34؛ و في الجميع هكذا: امرأةٌ شهدت على وصيّة رجلٍ لم يشهدها غيرها، و في الورثة من يصدّقها، و فيهم من يتّهمها، فكتب عليه السلام ..

(2) الكافي 7: 396/ 13، التهذيب 6: 243/ 608، الوسائل 23: 382 أبواب الشهادات ب 35 ح 2.

(3) الكافي 3: 388/ 1، التهذيب 6: 251/ 644، الوسائل 23: 344 أبواب الشهادات ب 22 ح 3.

(4) الفقيه 3: 27/ 79، الوسائل 27: 345 أبواب الشهادات ب 22 ح 6.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 14

فِي الْبُيُوتِ «1».

و قوله عزّ شأنه ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ «2».

و قوله (عليه السّلام) في صحيحة الحلبي: «و تجوز شهادة الولد لوالده، و الوالد لولده، و الأخ لأخيه» «3».

و بمضمونها أخبارٌ كثيرة، كموثّقتي أبي بصير «4» و سماعة «5»، و رواية السكوني «6».

و قوله في صحيحة الحلبي أيضاً: «حدّ الرجم أن يشهد أربعةٌ أنّهم رأوه يدخل و يخرج» «7»، و بمضمونها أيضاً أخبارٌ متكثّرة «8».

مع أنّ في عموم الآيتين بل الأخبار الأخيرة، بعد التقييد المستفاد من روايتي المثنّى و الهمداني نظراً، سيّما مع تقييد الآية بقوله مِنْكُمْ ، فإنّ المراد من ضمير الجمع هو المراد من الضمير في نِسائِكُمْ و في أمسكوهن، و هو من الرجال قطعاً، و لو منع الظهور في الرجال يحصل لا أقلّ فيه الإجمال المسقط للاستدلال بالعامّ، و منه يسري الإجمال إلى الآية الثانية أيضاً.

______________________________

(1) النساء: 15.

(2) النور: 4.

(3) الكافي 7: 393/ 3، الوسائل 27: 367 أبواب الشهادات ب 26 ح 1.

(4) الكافي 7: 393/ 1، التهذيب 6: 248/ 632، الوسائل 27: 368

أبواب الشهادات ب 26 ح 3.

(5) التهذيب 6: 247/ 629، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26 ح 4.

(6) التهذيب 6: 286/ 790، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26 ح 5.

(7) الكافي 7: 183/ 1، التهذيب 10: 2/ 4، الإستبصار 4: 217/ 815، الوسائل 28: 94 أبواب حد الزنا ب 12 ح 1.

(8) انظر الوسائل 28: 94 أبواب حد الزنا ب 12.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 15

و قد تضعّف دلالة الإطلاقات باختصاصها بالبالغ من الرجال بحكم التبادر و غيره، و بمعارضتها بالنصوص الدالّة على اعتبار أُمور في الشاهد، مع القطع بعدم وجود شي ءٍ منها في الصبي.

و في الأول: منع الاختصاص في الجميع و إن اختصّ بعض الموارد بذكر الرجل، أو تحقّق الأمر المخصوص بالمكلّفين، و أمّا في الجميع فممنوع، و إن أُريد التبادر من نفس الشاهد و ما بمعناه فإنّ المنع فيه أظهر.

و في الثاني: أنّ ما وجدناه من النصوص متضمّنٌ لاعتبار كونه مرضيّاً، كرواية السكوني، و فيها: «شهادة الأخ لأخيه تجوز إذا كان مرضيّاً» «1».

أو كونه عفيفاً صائناً، كموثّقة أبي بصير: «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً» «2».

أو لكونه صالحاً، كصحيحة العلاء في شهادة المكاري و الجمّال و الملّاح: «تُقبَل شهادتهم إذا كانوا صلحاء» «3».

أو لكونه مسلماً غير معروفٍ بشهادة الزور و لا بالفسق، كصحيحة حريز: «إذا كانوا أربعةً من المسلمين ليس يُعرَفون بشهادة الزور أُجيزت شهادتهم جميعاً» إلى أن قال: «و على الوالي أن يجيز شهادتهم، إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق» «4».

______________________________

(1) التهذيب 6: 286/ 790، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26 ح 5.

(2) الفقيه 3: 27/ 77، التهذيب 6: 258/ 676، الإستبصار 3: 21/ 64، الوسائل

27: 372 أبواب الشهادات ب 29 ح 3.

(3) الكافي 7: 396/ 10، الفقيه 3: 28/ 82، التهذيب 6: 243/ 605، الوسائل 27: 381 أبواب الشهادات ب 34 ح 1.

(4) الكافي 7: 403/ 5، التهذيب 6: 277/ 759، الإستبصار 3: 14/ 36، الوسائل 27: 397 أبواب الشهادات ب 41 ح 18.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 16

أو لولادته على الفطرة و المعروفيّة بالصلاح، كرواية ابن المغيرة: «كلّ من ولد على الفطرة و عرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته» «1».

أو للولادة على الفطرة فقط، كالمرويّ في مجالس الصدوق: «كلّ من ولد على فطرة الإسلام تقبل شهادته» «2».

أو لكونه ممّن عُلِمَ منه خير، كما في صحيحة محمّد في العبد يشهد بعد عتقه «3».

و لا شكّ أنّ شيئاً من هذه الأُمور ليس ما يقطع بعدم وجوده في الصبيان، بل يوجد كلّ منها فيهم كثيراً، و يصدق عليهم لغةً و شرعاً و عرفاً، و على هذا فتكون هذه النصوص أيضاً من العمومات المثبتة لقبول شهادتهم، الواجب تخصيصها بما ذكر.

فإن قيل: تتعارض هذه مع أدلّة عدم القبول بالعموم من وجه، و إذ لا مرجّح يجب الرجوع إلى عمومات القبول، و يكون هو الأصل الثانوي.

قلنا أولًا: إنّ ذلك إنّما يتمّ لو خلت العمومات عن المعارض المخرج لها عن الحجّية في محل النزاع، و ليست كذلك؛ لأنّ مفهوم مرسلة يونس أعمّ من وجه من العمومات، لشموله لغير الشهادة أيضاً من اليمين و القرعة و غيرها، فالعمومات لا تكون حجّة في محلّ الاجتماع، و يجب الرجوع إلى الأصل الأولي، الذي هو عدم القبول.

و ثانياً: أنّ بقاء العمومات على عمومها الموجب لثبوت الأصل

______________________________

(1) الفقيه 3: 28/ 83، التهذيب 6: 283/ 778، الإستبصار 3: 14/

37، الوسائل 27: 393 أبواب الشهادات ب 41 ح 5.

(2) أمالي الصدوق: 91/ 3، الوسائل 27: 395 أبواب الشهادات ب 41 ح 13، بتفاوت.

(3) الفقيه 3: 41/ 139، الوسائل 27: 387 أبواب الشهادات ب 39 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 17

مخالفٌ للإجماع.

نعم، اعتُبرت العدالة في جملةٍ من الأخبار، كصحيحة البجلي: «لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلًا» «1».

و رواية محمّد: في شهادة المملوك: «إذا كان عدلًا فهو جائز الشهادة» «2».

و في مكاتبة الصفّار: «إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعى يمين» «3» إلى غير ذلك.

و العدالة ممّا يظنّ أنّها تختصّ بالمدركين، فإن ثبت ذلك فموجبات اشتراط العدالة أيضاً تكون من أدلّة عدم القبول، و لكونها أخصّ من العمومات يجب تخصيصها بمفهومها، و يثبت الأصل الثانوي في عدم القبول.

و إن لم يثبت كما هو المحتمل، بل الظاهر فيعارض منطوق هذه أيضاً مع أدلّة عدم القبول بالعموم من وجه، و لا يفيد الرجوع إلى العمومات كما مرّ، و يكون الأصل مع عدم القبول أيضاً؛ للرجوع إلى الأصل الأول.

و على هذا، فاللّازم في شهادة الصبي العمل بالأصل، إلّا فيما أخرجه الدليل.

المسألة الثانية: لا تُقبَل شهادة الصبي الغير المميّز

إجماعاً محقّقاً

______________________________

(1) الكافي 7: 389/ 1، التهذيب 6: 248/ 634، الإستبصار 3: 15/ 42، الوسائل 27: 345 أبواب الشهادات ب 23 ح 1.

(2) الكافي 7: 389/ 2، التهذيب 6: 248/ 633، الإستبصار 3: 15/ 41، الوسائل 27: 345 أبواب الشهادات ب 23 ح 3.

(3) الكافي 7: 394/ 3، الفقيه 3: 43/ 147، التهذيب 6: 247/ 626، الوسائل 27: 371 أبواب الشهادات ب 28 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 18

و منقولًا مستفيضاً «1»؛ للإجماع، و الأصل المتقدّم، و ما مرّ من الأخبار

المعتبرة للأوصاف المنتفية في غير المميّز قطعاً، و الخبر المتقدّم المعتبر لبلوغ عشر سنين «2».

المسألة الثالثة: الصبي المميّز و الغير البالغ عشراً لا تقبل شهادته في غير الجنايات

إجماعاً، كما عن الإيضاح و المهذّب و الصيمري «3»، بل محقّقاً؛ و يدلّ عليه الأصل المتقدّم، و روايتا محمّد بن حمران و جميل المتقدّمتان «4»، و رواية إسماعيل، بلا معارض لشي ءٍ منها، سوى العمومات المتقدّمة المخصّصة، و رواية طلحة «5» في بعض الصور الشاذّة.

و في الجنايات خلاف، فمعظم الأصحاب كما في المهذّب-: عدم القبول، و هو مذهب الشيخ في النهاية و الحلّي «6» و جمع آخر «7»؛ للأصل، و مفهوم رواية إسماعيل المتقدّمة، و بعض العمومات السابقة، و الشهرة المحكيّة.

و ظاهر المسالك: ادّعاء الإيضاح الإجماع على عدم قبول شهادة من له دون العشر مطلقاً «8». و ليس كذلك، بل صرّح في الإيضاح بالخلاف

______________________________

(1) كما في الإيضاح 4: 417، الدروس 2: 123، المسالك 2: 400، الرياض 2: 424.

(2) أي خبر إسماعيل بن جعفر المتقدّم في ص 11.

(3) حكاه عنهم في الرياض 2: 424، و هو في الإيضاح 4: 417، و في المهذّب البارع 4: 507.

(4) في ص 10.

(5) المتقدّمة في ص 11.

(6) النهاية: 331، الحلّي في السرائر 2: 136.

(7) كالمحقّق في الشرائع 3: 125، و ابن سعيد في الجامع: 540، و الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 369.

(8) المسالك 2: 400.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 19

فيمن له دون العشر في الجراح و القصاص، و نسب الخلاف إلى الإسكافي و الخلاف «1».

و كذا ما ذكره بعض مشايخنا المعاصرين من نسبة ظهور عدم الخلاف في المسألة من التنقيح «2»، فإنّه ليس كذلك، بل ظاهره ادّعاء عدم القول بقبول شهادة الصبي مطلقاً «3».

و عن الإسكافي و الخلاف: القبول «4»، و هو ظاهر

السيّد في الانتصار و ابن زهرة في الغنية، حيث حكما بقبول شهادة الصبيان في الشجاج و الجراح بالإطلاق، مدّعيين عليه إجماع الطائفة «5»؛ لصحيحة جميل و رواية ابن حمران المتقدّمتين، الخاصّتين بالنسبة إلى أدلّة المنع، المعتضدتين بنقل الإجماع من العدلين. و هو الحقّ؛ لما ذكر.

و حمل قبول الشهادة فيهما على ما إذا بلغت حدّ الاستفاضة أو إرادة حصول اللوث منها خلاف الظاهر و الحقيقة.

و قد يستدلّ أيضاً بما اشتهر عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) «6»، و حكى في الانتصار روايته عن الخاصّة و العامّة في حكم ستّة غلمان «7».

و فيه: أنّه قضيّة في واقعة؛ مع أنّ استعمال الغلام في البالغ شائع،

______________________________

(1) الإيضاح 4: 417.

(2) انظر الرياض 2: 424.

(3) التنقيح 4: 285.

(4) حكاه عن الإسكافي في الإيضاح 4: 417، الخلاف 2: 613.

(5) الانتصار: 250، الغنية (الجوامع الفقهية): 625.

(6) الكافي 7: 284/ 6، الفقيه 4: 86/ 277، التهذيب 10: 239/ 953، المقنعة: 750، الوسائل 29: 235 أبواب موجبات الضمان ب 2 ح 1.

(7) الانتصار: 251.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 20

و ضرب الدية في الواقعة المذكورة على الغلامين و الثلاثة على إرادته شاهد. ثم بما ذكر يدفع الأصل و يخصّ العام.

و أمّا رواية إسماعيل فغير حجّة؛ لكونها موقوفة، و الشهرة ليست بحجّة، سيّما مع معارضتها بدعوى الإجماع، و مظنّة الإجماع هنا باطلة، و لذا استبعده في المسالك «1»، و منعه في المهذّب، و على هذا فتردّد جماعة من متأخّري المتأخّرين في غير موقعه «2».

بقي هنا شي ء، و هو أنّ المذكور في الروايتين: القتل، و في كلمات القائلين بالقبول: الشجاج و الجراح، فالأخذ بالقتل خروجٌ عن قول الأصحاب و بقولهم عن الرواية.

قلنا: لا نسلّم أنّ الأخذ بالرواية

خروجٌ عن قول الأصحاب؛ لأنّ الظاهر منهم إرادة القتل أيضاً، أ لا ترى أنّ السيّد مع أنّه عنون المسألة بالشجاج و الجراح- استدلّ بقبول أمير المؤمنين (عليه السّلام) شهادة الغلمان في الغرق، و كذا ابن زهرة؟! و أ لا ترى كلام المهذّب؟! حيث قال: إذا ميّز الصبي و له دون العشر لا تقبل شهادته في غير الجراح و القصاص إجماعاً. و هل تقبل في ذلك؟ معظم الأصحاب على المنع، و قال في الخلاف: تقبل، و به قال أبو علي «3». انتهى .

و قال في المسالك: و لعلّه أي المقتصر على الجراح ما يشمل البالغة إلى القتل «4». فذكر القصاص أيضاً.

______________________________

(1) المسالك 2: 400.

(2) كالفيض الكاشاني في المفاتيح 3: 276.

(3) المهذب البارع 4: 507.

(4) المسالك 2: 400.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 21

و يمكن أن يكون تعبيرهم بالشجاج و الجراح أنّه هو العمل الصادر المشهود به و المحسوس غالباً، و أمّا زهوق الروح المتحقّق به القتل فهو مسبّبٌ به، لا يدركه الصبي غالباً.

و بالجملة: بعد ما ذكرنا تعلم وقوع الخلاف في القتل أيضاً، فلا مناص عن الأخذ بالرواية الدالّة عليه.

نعم، يشكل الأمر في الشجاج و الجراح اللذين لم يترتّب عليهما القتل. و الحقّ عدم القبول فيهما؛ اقتصاراً فيما يخالف الأصل على موضع النصّ، و عدم ثبوت الإجماع المركّب، و لا يفيد الاستدلال بإطلاق رواية طلحة المنجبر ضعفها لو كان في المقام بالإجماع المنقول، خرج غير الشجاج و الجراح بالدليل فيبقى الباقي؛ لخروجهما أيضاً بروايتي ابن حمران و جميل غاية الأمر تعارضهما بالعموم من وجه و الرجوع إلى الأصل.

المسألة الرابعة: الصبي البالغ عشراً إلى أن يبلغ كالمميّز

الذي له دون العشر على الأقوى ، فلا تقبل شهادته في غير الجنايات، و تقبل فيها.

أمّا الأول: فهو الأشهر،

بل عليه غير من شذّ و ندر، و يستفاد من جماعةٍ الإجماع عليه «1».

و يدلّ عليه الأصل، و الإجماع، و الأخبار المتقدّمة الخالية عن المعارض، سوى روايتي إسماعيل و طلحة «2»، المعارضتين لها بالعموم من وجه، المرجوحتين بالشذوذ و غيره، مضافاً إلى عدم حجّية أُوليهما كما مرّ، بل الثانية أيضاً؛ للشذوذ.

______________________________

(1) كما في الإيضاح 4: 417، الرياض 2: 424.

(2) المتقدمتين في ص: 11.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 22

خلافاً لشاذّ نَقَله جماعةٌ من الأصحاب قائلًا أكثرهم بشذوذه «1»، بل عن عميد الرؤساء أنّه قال: إلى الآن لم نظفر بهذا القول «2».

و أمّا الثاني: فهو في الجملة إجماعي، كما يظهر من الانتصار و المهذّب و الغنية و شرح الشرائع للصيمري و التنقيح و كلام التقي و المسالك و الروضة «3»، و غيرها «4».

و الخلاف إنّما هو فيما يقبل فيه منها، فمنهم من صرّح بقبوله في الجراح و القصاص، كالمفيد و الشيخ في النهاية و الحلّي «5» و جمعٍ آخر «6»، بل الأكثر كما في المسالك «7» و غيره «8».

و منهم من ذكر الجراح خاصّة، كالفاضلين و ابن زهرة و الخلاف و الشهيد «9»، و في الدروس خصّ الجراح بما لم يبلغ النفس «10».

فإن قلنا بإرادتهم من الجراح ما يشمل القتل أيضاً كما هو المستفاد

______________________________

(1) كما في المختصر: 286، الرياض 2: 424.

(2) حكاه عنه في الرياض 2: 426.

(3) الانتصار: 250، المهذب البارع 4: 508، الغنية (الجوامع الفقهية): 625، التنقيح 4: 285، نقله عن التقي في التنقيح 4: 286، المسالك 2: 400، الروضة 3: 125.

(4) كالخلاف 2: 613.

(5) المفيد في المقنعة: 727، النهاية: 331، الحلّي في السرائر 2: 136.

(6) كالسيّد في الانتصار: 250، و العلّامة في التحرير

2: 207.

(7) المسالك 2: 400.

(8) كالرياض 2: 424.

(9) المحقّق في الشرائع 4: 125، العلّامة في القواعد 2: 236، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 625، الخلاف 2: 613، الشهيد في اللمعة (الروضة البهية 3): 125.

(10) الدروس 2: 123.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 23

من سياق كلام السيّدين، حيث استندا بحديث الغلمان «1»، و هو ظاهر المهذّب، و احتمله في المسالك كما مرّ فيكون الاختلاف في مجرّد التعبير، كما يستفاد من كلام بعضهم، و جُعِلَ ذلك وجه نسبة المحقّق الاختلاف إلى عبارات الأصحاب «2»، و لكنه لا يتمّ في كلام الدروس.

و إن قلنا بإرادتهم ما يقابل القتل فيكون الاختلاف في ما تقبل به الشهادة.

و نقل في شرح المفاتيح التعبير بالقتل خاصّة أيضاً، و نسبه إلى المشهور بين الأصحاب، و إنّا لم نظفر به.

و كيف كان، فلا ينبغي الريب في قبول شهادته في القتل؛ للخبرين المتقدّمين «3»، المعتضدين بالخبرين الآخرين، و بفتوى جمعٍ من عظماء الطائفة.

و القول بضعف الروايتين ضعيف؛ لأنّ رواية جميل صحيحةٌ على المختار- و إن كان فيها إبراهيم بن هاشم، و حسنته حجّةٌ كالصحيحة عند جماعة «4»؛ مع أنّ القبول في القتل مذهب الأكثر كما ذكره في المسالك و جمعٌ ممّن تأخّر عنه «5».

و من القائلين بقبوله الحلّي «6» الذي لا يعمل بالآحاد، إلّا بعد احتفافها بالقرائن القطعيّة.

و أمّا الجراح الغير البالغ حدّا القتل فالقول فيه و إن لم يكن مستفاداً من

______________________________

(1) انظر الانتصار: 251، و الغنية (الجوامع الفقهية): 625.

(2) الشرائع 4: 125.

(3) و هما رواية جميل و رواية محمّد بن حمران، المتقدمتين في ص 10.

(4) منهم صاحب الرياض 2: 425.

(5) انظر الرياض 2: 424.

(6) السرائر 2: 136.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18،

ص: 24

النصوص، إلّا أنّ ظاهرهم الإجماع عليه، فالظاهر أنّه أيضاً كالقتل.

و خالف فيه فخر المحقّقين، فاختار عدم القبول فيه «1»، و نسبه المحقّق الأردبيلي إلى غيره أيضاً.

لقوله سبحانه وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ «2».

و لحديث رفع القلم «3» الدالّ على أنّه لا عبرة بأقواله و عدم الوثوق به؛ لعلمه بعدم المؤاخذة، و عدم قبول إقراره على نفسه.

و اشتراط العدالة الغير المتحقّقة في الصبي.

و الكلّ ضعيف؛ لاختصاص الأول بغير الجنايات، مع كون الأمر في الآية للإرشاد، فلا يثبت الاختصاص.

و عدم دلالة رفع القلم على عدم العبرة، و عدم توقّف حصول الاطمئنان بعلمه بالمؤاخذة، و كون الأخير قياساً.

و منع عدم تحقّق العدالة في الصبي كما ذكره المحقّق الأردبيلي و منع «عموم اشتراطها لو لم يتحقّق فيه.

و هل يشترط في القبول عدم تفرّقهم إذا كانوا مجتمعين حذراً أن يُلَقَّنوا؟ كما نقله في المهذّب عن الخلاف و في التنقيح عن التقي و المحقّق في الشرائع و حكي [عن «4»] الفاضل في جملة من كتبه و عن الدروس و اللّمعتين «5».

______________________________

(1) الإيضاح 4: 417.

(2) البقرة: 282.

(3) الخصال: 93/ 40، الوسائل 8: 249 أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 3 ح 2.

(4) ما بين المعقوفين ليس في «ح» و «ق»، أضفناه لاستقامة المعنى .

(5) الخلاف 2: 613، التنقيح 4: 286، الشرائع 4: 125، الفاضل في التحرير 2: 207، القواعد 2: 236، الدروس 2: 123، اللمعة و الروضة البهية 3: 125.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 25

الظاهر: نعم؛ لمفهوم رواية طلحة «1»، و هو و إن كان معارضاً لإطلاق الخبرين بالعموم من وجه، إلّا أنّه يوجب الرجوع إلى الأصل المانع عن القبول.

و أمّا اشتراط كونهم مجتمعين على أمرٍ مباح إذا كانوا مجتمعين

كما ذكره جماعةٌ أيضاً «2» فلا دليل له في القتل، و أمّا الجراح فلمّا كان دليله الإجماع المخصوص بما تحقّق فيه ذلك الشرط يكون الموافق للدليل فيه الاشتراط، إلّا أنّ ثبوت الإطلاق في القتل و عدم الفصل بينه و بين الجراح في ذلك يرجّح العدم.

و لو اختلف كلامهم في الشهادة يؤخذ بالأول دون الآخر كما صرّح به الأكثر، منهم: المفيد و السيّد و الشيخ و التقي و المحقّق «3»؛ لخبري جميل و محمّد بن حمران «4»، بلا معارضٍ لهما.

و هل يشترط في قبول شهادته تحقّق غير البلوغ من الشرائط الممكنة تحقّقها في غير البالغ، أم لا؟

صرّح في المهذّب بالاشتراط.

أقول: الوجه: الرجوع في كلّ شرطٍ إلى دليله، فيلاحظ أنّه هل يشمل الصبي أم لا، و يفتى بمقتضاه.

و لا تلحق الصبيّة بالصبي كما صرّح به جماعة، كالحلّي في السرائر

______________________________

(1) المتقدّمة في ص 11.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 18    25     المسألة الرابعة: الصبي البالغ عشرا إلى أن يبلغ كالمميز ..... ص : 21

(2) منهم المحقّق في الشرائع 4: 125، العلّامة في القواعد 2: 236، الشهيد في اللمعة (الروضة البهية 3): 125.

(3) المفيد في المقنعة: 727، السيد في الانتصار: 250، الشيخ في النهاية: 331، التقي في الكافي في الفقه: 436، المحقق في النافع: 286.

(4) المتقدمين في ص 10.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 26

و الفاضل في التحرير و شيخنا الشهيد الثاني في الروضة «1» اقتصاراً فيما يخالف الأصل على موضع الدليل.

الثاني من الشرائط: كمال العقل.

فلا تقبل شهادة المجنون بلا خلاف كما صرّح به كثير «2»، بل إجماعاً محقّقاً و منقولًا «3»؛ و هو الحجّة فيه.

مضافاً إلى ما يدلّ على اشتراط العدالة كتاباً و سنّة، و تحقّقها في غير

العاقل غير معقول، و تعارضه مع بعض العمومات لا يفيد؛ إذ يرجع حينئذٍ إلى الأصل، و إلى ما سيأتي في عدم قبول شهادة المغفّل و نحوه.

و قد يستدلّ «4» بقوله تعالى مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ «5»، و المجنون ليس منه.

مع أنّ في تفسير الإمام: عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السّلام) في قوله تعالى مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ قال: «ممّن ترضون دينه، و أمانته، و صلاحه، و عفّته، و تيقّظه فيما يشهد به، و تحصيله، و تمييزه، فما كلّ صالحٍ مميّزاً و لا محصّلًا، و لا كلّ محصّلٍ مميّزٍ صالح» «6».

و فيه: أنّه إنّما يفيد لو كانت في الآية دلالةٌ، على عدم قبول شهادة

______________________________

(1) السرائر 2: 136، التحرير 2: 207، الروضة 3: 125.

(2) منهم السبزواري في الكفاية: 279، الكاشاني في المفاتيح 3: 277.

(3) كما في الشرائع 4: 126، و كشف اللثام 2: 189، و الرياض 2: 425.

(4) كما في المسالك 2: 401، و الرياض 2: 425.

(5) البقرة: 282.

(6) تفسير الإمام العسكري (عليه السّلام): 672/ 375، الوسائل 27: 399 أبواب الشهادات ب 41 ح 23.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 27

غير من ترضون، و لا دلالة لها عليه؛ إذ قد عرفت أنّ قوله فَاسْتَشْهِدُوا مقدّماً عليه للإرشاد.

و قد يستدلّ «1» أيضاً بقوله في صحيحة محمّد المتقدّمة: «إن عَقَلَه حين يدرك أنّه حقّ» «2». و فيه تأمّل.

و مقتضى اشتراط العدالة في المجنون عدم القبول و لو وثق الحاكم بكونه معتاداً بالصدق و مطابقة الواقع في خبره كوثوقه بالعاقل.

و إن كان في بعض أفعاله كالمجانين دون بعض كالخائف بلا سبب، أو الضاحك بلا عجب، أو المتحرّك بلا داع فهو ليس مجنوناً، و لكنّه مريض.

و ذو الأدوار تقبل شهادته

حال إفاقته مع الوثوق باستكمال فطنة، بلا خلافٍ فيه أيضاً يوجد؛ لزوال المانع، و عموم الأدلّة.

و صرّح المتأخّرون من غير خلافٍ بينهم يعلم كما صرّح به بعضهم «3» أنّ في حكم المجنون: المُغَفَّل كالمُعَطَّل و هو الذي لا يحفظ و لا يضبط، و يدخل فيه التزوير و الغلط. و هو البله كما صرّح به جماعة «4» و كذا من يكثر غلطه و نسيانه، و من لم يتنبّه لمزايا الأُمور و تفاصيلها، إلّا أن يظهر إلى الحاكم عدم غفلته في خصوص ما يشهد به.

و تدلّ عليه العلّة المذكورة في موثّقة محمّد المتقدّمة «5».

______________________________

(1) كما في الرياض 2: 10.

(2) راجع ص 11.

(3) انظر الرياض 2: 425.

(4) منهم المحقّق في الشرائع 4: 126، الشهيد في الدروس 2: 124، الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 369.

(5) في ص 2235.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 28

و قوله (عليه السّلام) في مرسلة يونس: «فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه» «1»، فإنّ المراد بالمأمون إمّا المأمون من جميع الحيثيّات، أو من جهة الشهادة، و على التقديرين لا يشمل مثل المُغَفَّل.

و لو قيل باحتمال كونه مأموناً من الكذب، قلنا: لا شكّ أنّه لا يتعيّن ذلك المعنى ، فلو احتمل يدخل الإجمال، و يبطل بالعمومات الاستدلال، و يبقى أصل عدم القبول.

و موثّقة سماعة: عمّا يردّ من الشهود، فقال: «المريب، و الخصم، و الشريك» «2»، و لا شكّ أنّ المغفّل و نحوه مريب أي مُوقِع في الريب أو شكيك، أي مورث للشكّ.

و رواية السكوني: «إنّ شهادة الأخ لأخيه تجوز إذا كان مرضيّاً و معه شاهدٌ آخر» «3».

و المرويّ في تفسير الإمام (عليه السّلام) عند تفسير قوله تعالى مِمَّنْ تَرْضَوْنَ

مِنَ الشُّهَداءِ قال: «كان رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) يحكم بين الناس بالبيّنات و الايمان» إلى أن قال: «فإن أقام بيّنةً يرضاها و يعرفها أنفذ الحكم» الحديث «4».

فإنّ المراد بالمرضيّ أو يرضاها إمّا المختار في الشهادة، أو من جميع

______________________________

(1) الكافي 7: 431/ 15، الفقيه 3: 9/ 29، التهذيب 6: 283/ 781، الإستبصار 3: 13/ 35، الوسائل 27: 392 أبواب الشهادات ب 41 ح 3 و فيه بتفاوتٍ يسير.

(2) التهذيب 6: 242/ 599، الإستبصار 3: 14/ 38، الوسائل 27: 378 أبواب الشهادات ب 32 ح 3.

(3) التهذيب 6: 286/ 790، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26 ح 5.

(4) تفسير الإمام العسكري (عليه السّلام): 673/ 375 376، الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 6 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 29

الوجوه، أو ما فسّره الإمام في تفسيره في الخبر الأول، و على كلّ تقدير لا يشمل نحو المغفّل. و احتمال المعنى الآخر لو كان أيضاً يوجب الإجمال المسقط للاستدلال بالعمومات.

الثالث: الإسلام.
اشاره

فلا تقبل شهادة الكافر مطلقاً.

لا لصدق الفاسق و الظالم المنهيّ عن الركون إليه؛ لاحتمال المناقشة فيهما بمنع الصدق في الأول، و كونه ركوناً في الثاني.

و لا للإجماع؛ لأنّه لا يثبت إلّا في الجملة، فلا يفيد في المطلق.

بل للأصل المتقدّم، و الأخبار، كروايتي السكوني:

أُولاهما: «إنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) كان لا يقبل شهادة فحّاش، و لا ذي مخزيةٍ في الدين» «1».

و الأُخرى: «لا تُقبَلُ شهادة ذي شحناء، أو ذي مخزيةٍ في الدين» «2».

و المرويّ في مجالس الصدوق: أخبِرني عمّن تقبل شهادته و من لم تقبل، فقال: «يا علقمة، كلّ من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته» الحديث «3».

و الأخبار

الدالّة على أنّ مقبول الشهادة إنّما هو من ولد على الفطرة «4».

بضميمة صحيحة ابن سنان: عن قول اللَّه تعالى فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي

______________________________

(1) الكافي 7: 396/ 7، التهذيب 6: 243/ 603، الوسائل 27: 377 أبواب الشهادات ب 32 ح 1.

(2) الفقيه 3: 27/ 73، الوسائل 27: 378 أبواب الشهادات ب 32 ح 5.

(3) الأمالي: 91/ 3، الوسائل 27: 395 أبواب الشهادات ب 41 ح 13.

(4) الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 30

فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها «1» ما تلك الفطرة؟ قال: «هي الإسلام، فطرهم حين أخذ ميثاقهم على التوحيد، قال أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ «2» و فيهم المؤمن و الكافر» «3».

و مفهوم الشرط في رواية السكوني، و فيها: «و كذلك اليهود و النصارى إذا أسلموا جازت شهادتهم» «4».

و الأُخرى: «قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): اليهودي و النصراني إذا شهدوا ثم أسلموا جازت شهادتهم» «5».

و أخبار اشتراط العدالة و الصلاح «6» إن قلنا بعدم تحقّقهما في غير المسلم.

و لكن التحقيق: أنّ هذه الأخبار تعارض أخباراً أُخر مطلقة أو عامّة- مرّ شطرٌ منها، و منها ما يتضمّن قبول شهادة الضيف و الأجير و نحوها «7»، و منها ما يتضمّن قبول شهادة العدول «8» إن قلنا بتحقّق العدالة في غير المسلم بالعموم من وجه، الموجب للرجوع إلى الأصل أيضاً، فهو الدليل على عدم القبول مطلقاً دون غيره.

مضافاً في عدم قبول شهادة الكافر على المسلم إلى الإجماع المحقّق، و صحيحة الحذّاء: «تجوز شهادة المسلمين على جميع أهل

______________________________

(1) الروم: 30.

(2) الأعراف: 172.

(3) الكافي 2: 12/ 2.

(4) الفقيه 3: 28/ 80، التهذيب 6: 250/ 643، الوسائل 27: 389 أبواب الشهادات ب 39 ح 8.

(5) الكافي 7: 398/ 3،

التهذيب 6: 253/ 658، الوسائل 27: 388 أبواب الشهادات ب 39 ح 5.

(6) الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41.

(7) الوسائل 27: 371 أبواب الشهادات ب 29.

(8) الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 31

الملل، و لا تجوز شهادة أهل الملل على المسلمين» «1».

و موثّقة سماعة: عن شهادة أهل الملّة، قال: «لا تجوز إلّا على أهل ملّتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصيّة؛ لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد» «2».

و صحيحة ضريس: عن شهادة أهل ملّةٍ هل تجوز على رجلٍ من غير أهل ملّتهم؟ فقال: «لا، إلّا أن لا يوجد في تلك الحال غيرهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم في الوصيّة؛ لأنّه لا يصلح ذهاب حق امرئٍ مسلم، و لا تبطل وصيّته» «3».

و أمّا غير هذه الصورة فلا دليل عليه سوى الأصل المذكور، حتى في الشهادة للمسلمين؛ لاختصاص الأخبار المخصوصة بالشهادة عليهم، و كذا الإجماع؛ لأنّ المذكور في عبارات الأصحاب هو ذلك، و لا يعلم أنّ مرادهم المطلق؛ لاحتمال الاختصاص، بل يظهر من بعض كلماتهم ذلك، قال في السرائر: لا يجوز قبول شهادة من خالف الإسلام على المسلمين إلى أن قال-: و تجوز شهادة المسلمين عليهم و لهم «4». انتهى .

فإنّ ذكر القسمين في الأخير و أحدهما في الأول ظاهرٌ في الاختصاص، فالمناط فيه هو الأصل أيضاً.

______________________________

(1) الكافي 7: 398، 1، التهذيب 6: 252، 651، الوسائل 27: 386 أبواب الشهادات ب 38 ح 1.

(2) الكافي 7: 398، 2، التهذيب 6: 252، 652، الوسائل 27: 386 أبواب الشهادات ب 38 ح 2 و فيه صدر الحديث.

(3) الكافي 7: 399، 7، التهذيب 6: 253، 654، الوسائل 19: 309 أبواب

أحكام الوصايا ب 20 ح 1، بتفاوت.

(4) السرائر 2: 139.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 32

و على هذا، فيجب ترك الأصل فيما كان على خلافه دليل، كما في شهادة الكافر على أهل ملّته، كما اختاره الإسكافي و الشيخ في النهاية و الخلاف «1»، و نسبه في الأخير إلى بعض أصحابنا، و هو ظاهر الفاضل في المختلف بل صريحه «2»، و مال إليه في التنقيح و الكفاية «3».

و قد جعل بعض مشايخنا المعاصرين قول الخلاف و المختلف و التنقيح قولًا آخر غير ذلك، بل جعله رجوعاً من الشيخ عن ذلك «4»، حيث قال بعد اختياره ذلك القول-: و الوجه فيه إذا اختاروا الترافع إلينا، فأمّا إذا لم يختاروا فلا يلزمهم ذلك «5».

و الظاهر أنّه ليس قولًا آخر، بل هو بيانٌ لذلك القول، يعني: أنّ عدم القبول مع اختلاف الملّة إذا ترافعوا إلينا، فلا تقبل شهادة غير ملّتهم أو المسلم. و أمّا إذا لم يختاروا الترافع إلينا فلا يلزمهم إشهاد الموافق أو المسلم، و لا يشترط في إجراء أحكامهم عليه ذلك، بل يحكم بإجراء أحكامهم عليهم، كسائر الأحكام من الحلف و الطلاق و غيره.

و ليس هذا التفصيل مختصّاً بالخلاف، بل حكمه في النهاية أيضاً كذلك، و كذا كلّ من يجوّز شهادة بعضهم لبعضٍ من أهل ملّتهم، و لا يجوز مع الاختلاف.

و زاد في المختلف و التنقيح على قوله: إذا ترافعوا إلينا، قوله: و عدّلوا

______________________________

(1) حكاه عن الإسكافي في المختلف: 722، النهاية: 334، الخلاف 2: 614.

(2) المختلف: 722.

(3) التنقيح 4: 288، الكفاية: 279.

(4) الرياض 2: 427.

(5) الخلاف 2: 614.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 33

الشهود عندهم «1».

و غرضه بيان اشتراط العدالة في دينهم في قبول الشهادة

أي كونه عادلًا بحسب دينهم كما ذكره أصحابنا في الشهادة على الوصيّة أيضاً. و ليس قيداً زائداً في ذلك القول، كما توهّمه في التنقيح «2»، و حمله على أنّ المراد تعديل الشهود عليه أيضاً، كما يظهر من استدلاله له بموثّقة سماعة المتقدّمة، الخالية عن المعارض رأساً.

و استدلّ في التنقيح أيضاً: بأنّ بعد تعديل الشهود عندهم يكون قضاءً بالإقرار؛ لما تقدّم من أنّه إذا أقرّ الخصم بعدالة الشاهدين حكم عليه «3».

و فيه أولًا: أنّ المراد من تعديل الشهود عندهم: كونهم عدولًا في ملّتهم، لا عدولًا بإقرار الخصم.

و ثانياً: أنّ الحكم على المشهود عليه بإقراره بالعدالة لأجل تحقّق تمام السبب من الشاهد العادل، لا لأجل إقراره بالحقّ، و إلّا لزم الحكم لو أقرّ بعدالة الشاهد الواحد أيضاً، و تمام السبب هنا فرع قبوله شهادة الكافر لمثله.

و ثالثاً: أنّ حكم الحاكم بالشاهد العادل باعتراف الخصم إنّما هو إذا لم يعرف الحاكم فسقه، و المفروض هنا عنده أنّ الحاكم يعلم فسقه.

نعم، قيّد في الكفاية بقوله: و كونه مقبول الشهادة باعتقاد المدّعى عليه «4».

و يمكن أن يكون مراده أيضاً أن يكون كذلك بحسب دينه و ما يعتقده

______________________________

(1) المختلف: 722، التنقيح 4: 288.

(2) التنقيح 4: 288.

(3) التنقيح 4: 288.

(4) الكفاية: 279.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 34

من الدين.

و زاد الإسكافي جواز شهادته على أهل سائر الملل غير المسلمين «1»، و ظاهر الخلاف أنّه أيضاً مذهب جماعة «2».

و لعلّ دليله: صحيحة الحلبي و محمّد: و هل تجوز شهادة أهل ملّةٍ على غير أهل ملّتهم؟ قال: «نعم، إذا لم يجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غيرهم، إنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد» «3».

و جوابها: أنّها معارضةٌ مع صحيحة ضريس و موثّقة سماعة

«4»، فيرجع إلى الأصل؛ مع أنّهما أخصّ مطلقاً منها؛ لدلالتها على قبول الشهادة مع عدم الغير مطلقاً، و دلالتهما بمعونة قطع الشركة بالتفصيل على اختصاص ذلك بالوصيّة.

هذا، مع أنّه إن جعل مرجع ضمير: «ملّتهم» الثانية و ضمير: «غيرهم» أهل الذمّة يفسد المعنى إن أُريدت ملّةٌ خاصّة؛ إذ يصير المعنى : أنّه تجوز شهادة اليهودي- مثلًا على النصراني إن لم يوجد اليهودي.

و كذا إن ارجع ضمير «ملّتهم» إلى ما ذكر، و ضمير: «غيرهم» إلى غير أهل ملّتهم مع كونه خلاف الظاهر؛ إذ يصير المعنى : أنّه إن لم يوجد اليهودي تجوز شهادة النصراني على النصراني.

و إن أُريد مطلق الذمّي يكون المعنى : إن لم يوجد الذمّي تقبل شهادة غير الذمّي، أي الحربي أو المسلم.

و الأول خلاف الإجماع منطوقاً.

______________________________

(1) حكاه عنه في المختلف: 722.

(2) الخلاف 2: 614.

(3) الكافي 7: 4، 2، الفقيه 3: 29، 84 و فيه: عن عبيد اللَّه بن علي الحلبي، التهذيب 9: 180، 724، الوسائل 19: 310 أبواب أحكام الوصايا ب 20 ح 3، بتفاوت.

(4) المتقدّمتين في ص 29.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 35

و الثاني مفهوماً؛ إذ يدلّ على عدم قبول شهادة المسلم إن وجد اليهودي.

و إن جُعِلَ المرجعان: الغير، حتى يكون المعنى : تجوز شهادة اليهودي- مثلا على النصراني إذا لم يوجد نصراني، يصير مخالفاً للإجماع؛ إذ لم يقل أحدٌ بذلك.

و ظهر ممّا ذكرنا أنّه لم تخرج من الأصل إلا صورة واحدة، و هي شهادة أهل كلّ ملّةٍ على أهل ملّته خاصّة.

و هل تقبل له؟

الظاهر: لا؛ للأصل، إلّا إذا كانت عليه أيضاً فتسمع؛ لأنّ قبول الشهادة عليه بالدليل، و عدم قبولها له بالأصل، و الدليل مقدّمٌ على الأصل. و منه يعلم قبول شهادة الكافر للمسلم

و غيره على أهل ملّته أيضاً؛ لما ذكر.

فروع:

أ: لا يختصّ قبول شهادة الكافر على أهل ملّته بالذمّي، بل يعمّ جميع الكفّار، كما هو ظاهر كلام الإسكافي و القاضي و السرائر و المسالك «1» و غيرها «2»، حيث عبّر بعضهم بأهل الملّة، و بعضهم بالكافر، و بعضهم بمن خالف الإسلام.

نعم، عبّر بعضهم بأهل الذمّة، و صرّح أيضاً في الإيضاح بالإجماع على عدم قبول شهادة الحربي مطلقاً «3»، و لكنّه إجماعٌ منقول ليس بحجّة.

______________________________

(1) حكاه عن الإسكافي في المختلف: 722، القاضي في المهذّب 2: 557، و انظر السرائر 2: 139، المسالك 2: 401.

(2) كالنهاية: 334.

(3) الإيضاح 4: 418.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 36

نعم، لو قلنا باختصاص أهل الملّة الواردة في الأخبار المتقدّمة «1» بغير الحربي يختصّ بالذمّي، و لكن فيه تأمّل.

ب: الكافر المنتحل إلى الإسلام كالمنكر لضروريّ الدين و كالمجبّرة و المجسّمة على القول بكفرهم، لا تقبل شهادتهم؛ للأصل المذكور، و لكونهم ذوي مخزيةٍ في الدين. و لا تقبل لمثلهم أيضاً؛ لعدم صدق الملّة عرفاً على طريقتهم.

ج: قد خرج من الأصل المذكور أيضاً: شهادة الذمّي للمسلم و عليه في الوصيّة بشروطٍ خاصّة تذكر، بلا خلافٍ يظهر، بل بالإجماع المحقّق و المنقول، نقله ابن زهرة و فخر المحقّقين و الصيمري «2»؛ لذلك، و لقوله سبحانه أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ الآية «3»، على بعض تفاسيرها.

و قال في الخلاف مِنْكُمْ أي من أقاربكم، و مِنْ غَيْرِكُمْ من الأجانب إن وقع الموت في السفر و لم يكن معكم أحدٌ من عشيرتكم فاستشهدوا أجنبيين على الوصيّة «4».

و الأول: هو المدلول عليه بالأخبار.

و الثاني:

مخالف للأصل و الظاهر، مع أنّه يثبت المطلوب بالإطلاق.

و للنصوص المستفيضة التي مرّ بعضها، و يأتي بعضٌ آخر.

______________________________

(1) راجع ص: 29 و 32.

(2) ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 625، فخر المحققين في الإيضاح 2: 635.

(3) المائدة: 106.

(4) الخلاف 2: 614، و فيه .. ذوا عدلٍ منكم» يعني من المسلمين «أو آخران من غيركم» يعني من أهل الذمّة.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 37

لا يقال: ليست هذه الأخبار مخصوصة بالمسلم، بل هي عامّة، فتعارض ما يدلّ على عدم قبول شهادة الكافر على المسلم كصحيحة الحذّاء «1» بالعموم من وجه، فيرجع إلى الأصل.

و لا يتوهّم خصوصيّة صحيحة ضريس لقوله: «لا يصلح ذهاب حقّ امرئٍ مسلم» «2»؛ لأنّ هذا المسلم إمّا الموصي أو الموصى له، و المشهود عليه هو الوارث، و لم يصرّح بكونه مسلماً. و منه يظهر عدم خصوصيّة رواية حمزة الآتية المتضمّنة لقوله: «إذا مات الرجل المسلم».

لأنّا نقول: بعد كون الموصي مسلماً يكون وارثه أيضاً كذلك؛ لعدم إرث الكافر من المسلم، فتكون رواية حمزة أخصّ مطلقاً.

و لو سلّم العموم من وجه لكان الترجيح أيضاً لأخبار القبول؛ للموافقة لعموم الكتاب، بل خصوصه بالتقريب المذكور؛ حيث إنّ الموصي فيه مسلمٌ قطعاً، كما هو مقتضى الخطاب فيه.

و يشترط في قبولها أُمور:

منها: عدم وجود مسلم، و الظاهر كونه إجماعيّاً أيضاً؛ و تدلّ عليه صحيحة ضريس و موثّقة سماعة المتقدّمتين «3»، و صحيحة هشام: في قول اللَّه تعالى أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ قال: «إذا كان الرجل في أرض غربة لا يوجد فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصيّة» «4».

و لرواية يحيى بن محمّد: عن قول اللَّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ

______________________________

(1) المتقدّمة في ص 28.

(2) راجع ص 29.

(3)

في ص 29.

(4) الكافي 7: 398، 6، التهذيب 6: 252، 653، الوسائل 27: 390 أبواب الشهادات ب 40 ح 3.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 38

آمَنُوا الآية، قال: «اللذان منكم مسلمان، و اللذان من غيركم من أهل الكتاب، فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس» إلى أن قال: «و ذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمَين أشهدَ رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد العصر، فيقسمان باللَّه» إلى أن قال: «و ذلك إن ارتاب وليّ الميّت في شهادتهما» الحديث «1».

و رواية حمزة بن حمران: عن قول اللَّه عزّ و جلّ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال: فقال: «اللذان منكم مسلمان، و اللذان من غيركم من أهل الكتاب» فقال: «إنّما ذلك إذا مات الرجل المسلم في أرض غربة، و طلب رجلين مسلمين ليشهدهما على وصيّته، فلم يجد مسلمين، فليشهد على وصيّته رجلين ذمّيّين من أهل الكتاب، مرضيّين عند أصحابهما» «2».

و صحيحة أحمد بن عمر، و فيها: «اللذان منكم مسلمان و اللذان من غيركم من أهل الكتاب، فإن لم يجد من أهل الكتاب فمن المجوس» إلى أن قال: «و ذلك إذا مات الرجل بأرض غربة فلم يجد مسلمَين يشهدهما فرجلان من أهل الكتاب» «3».

و مرفوعة عليّ بن إبراهيم، و هي طويلة، و فيها: «فأطلق اللَّه تعالى شهادة أهل الكتاب على الوصيّة فقط إذا كان في سفرٍ و لم يجد المسلمَين» «4»، و بها يقيّد إطلاق الآية.

______________________________

(1) الكافي 7: 4، 6، الفقيه 4: 142، 487، التهذيب 9: 178، 715، الوسائل 19: 311 أبواب أحكام الوصايا ب 20 ح 6.

(2) الكافي 7: 399، 8، التهذيب 6: 253، 655، الوسائل 19: 312 أبواب أحكام الوصايا ب 20 ح

7.

(3) الفقيه 3: 29، 85، الوسائل 27: 390 أبواب الشهادات ب 40 ح 2.

(4) الكافي 7: 5، 7، تفسير القمي 1: 189، المحكم و المتشابه: 76، الوسائل 19: 314 أبواب أحكام الوصايا ب 21 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 39

و هل الشرط عدم وجود مسلم عدل مطلقاً و لو امرأة، أو عدم رجل مسلم كذلك، أو عدم رجلين مسلمين كذلك، أو عدم عدلين مسلمين؟

اختلفت في التعبير في هذا المقام كلمات الأصحاب، فبين مشترطٍ لعدم المسلم الشامل للواحد و المتعدّد الفاسق و العادل، كالنافع و المبسوط «1».

و أظهر منه كلام الشيخ في النهاية في باب الوصايا، قال: و لا تجوز شهادة من ليس على ظاهر الإسلام في الوصيّة، إلّا عند الضرورة و فقد المسلم، بأن يكون الموصي في موضعٍ لا يجد فيه أحداً من المسلمين ليشهده على وصيّته، فإنّه يجوز و الحال هذه أن يشهد نفسين من أهل الذمّة ممّن ظاهره الأمانة عند أهل ملّته، و لا تجوز شهادة غير أهل الذمّة على حال «2». انتهى .

و هو الظاهر ممّا نقل في المختلف عن المقنعة و العماني و الديلمي و الحلّي و القاضي «3».

و لعدم المسلمَين كالإسكافي «4».

و الحلبي يشملُ العدلَ المسلم «5» كالشرائع، قال: إذا لم يوجد من عدول المسلمين من يشهد بها «6».

و لعدم عدول المسلمين، كما في القواعد و الإيضاح و المسالك «7».

و لعدم المسلمَين العدلَين، كبعض شرّاح المفاتيح.

______________________________

(1) النافع: 287، المبسوط 8: 187.

(2) النهاية: 612.

(3) المختلف: 722.

(4) حكاه عن الإسكافي في المختلف: 722.

(5) الكافي في الفقه: 436.

(6) الشرائع 4: 126.

(7) القواعد 2: 236، الإيضاح 4: 418، المسالك 2: 401.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 40

و لا يخفى أن مقتضى

إطلاق الروايتين الأُوليين «1» أنّ الشرط فقد المسلم مطلقاً و لو كان واحداً أُنثى، إلّا أنّ مقتضى ما بعدهما من الأخبار المعبّرة بالمسلم الذي هو حقيقة في الذكر فتخرج الأُنثى .

و المستفاد من الأربعة الأخيرة اشتراط فقد رجلين مسلمين، و لكونها أخصّ مطلقاً من الطائفة الأُولى يجب تخصيصها بها، فتقبل مع وجود رجلٍ مسلمٍ و لو عدل.

و أمّا اشتراط فقد العدلين من المسلمين، فتقبل مع وجود المسلمين الفاسقين أيضاً، أم لا فلا تقبل مع وجودهما؟

ظاهر إطلاق أكثر الأخبار: عدم الاشتراط، و ليست في الآية دلالةٌ على الاشتراط، إلّا أنّ ظاهر قوله: «ليشهدهما» في رواية حمزة، و: «يشهدهما» في صحيحة أحمد بن عمر الاشتراط؛ لأنّ العدلَين هما اللذان يشهدان فتؤثّر شهادتهما.

و حمل الإشهاد على الإحضار و سماع الشهادة سواء قُبِلَت أم لا خلاف الظاهر المتبادر، و كذلك ظاهر التعليل في الروايتين الأُوليين؛ إذ لو لم تقبل شهادة الكافر مع وجود مسلمَين فاسقَين و المفروض عدم كفاية شهادة الفاسقين أيضاً يذهب الحقّ.

فإن قيل: فلتقبل حينئذٍ شهادة الفاسقَين دون الكافرَين.

قلنا: الظاهر أنّه خلاف الإجماع، و لكن المنقول عن التذكرة تقديم المسلمَين المجهولَين، بل الفاسقان المتحرّزان عن الكذب «2». و احتمله الأردبيلي «3».

______________________________

(1) أي موثقة سماعة و صحيحة ضريس المتقدّم نصّهما في ص 29.

(2) التذكرة 2: 522.

(3) زبدة البيان: 474.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 41

و على هذا يمكن منع الإجماع، و لكنّه خلاف الأصل. و دفعه بالتعليل عليل؛ لما يأتي من إجماله.

و من ذلك يظهر أنّه يتّجه اشتراط فقد العدلَين من المسلمين، اللذَين يعرف الوارث أو الحاكم عدالتهما، أو يمكن إثباتها، و كذا العدلَين اللذَين يمكنهما تحمّل الشهادة و الأداء، فلا يكفي في عدم القبول وجود الأصمّين اللذَين

لا يسمعان الشهادة، أو الأخرسَين الغير المتمكّنين من الأداء، و البعيدين اللذَين لا يمكنهما أداء الشهادة على الوارث.

و منه ظهر أيضاً أنّه لا يكفي في عدم القبول كون أحد المسلمَين العدلَين الموصى له، أو من لا تقبل شهادته في حقّه.

و هل يكفي المسلمان اللذان أحدهما عدل، على القول بقبول شاهدٍ واحدٍ مع اليمين في عدم قبول شهادة الذمّيين؟

مقتضى قوله: «يشهدهما» «1»: لا، و إن لم يجر التعليل هنا، بل يمكن إثبات الحكم بكلٍّ من الذمّيين و الشاهد و اليمين.

و لو كان هناك مسلمان عدلان و ذمّيّان كذلك، فسمع الجميع الشهادة، و مات المسلمان أو أحدهما قبل الأداء، أو فسق، أو جن، لم تقبل شهادة الذمّيين؛ للأصل، و عدم شمول الإطلاقات لمثل ذلك.

و لو كان حاكمٌ من المسلمين غير نافذ الحكم على الوارث تقبل شهادة الكافر؛ للتعليل، بل الإطلاق.

و لو كان نافذ الحكم متمكّناً منه، ففي قبول شهادة الكافر عند حاكمٍ آخر إشكال، و كذا في قبولها مع وجود أربع مسلمات، و الظاهر القبول و إن أمكن الإثبات بنوعٍ آخر.

______________________________

(1) في صحيحة أحمد بن عمر، المتقدّمة في ص 36.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 42

و منها: أن يكون فقد المسلم حال تحمّل الشهادة و الاستشهاد؛ للأصل، و للأخبار المتقدّمة، فلا تقبل مع وجوده حينئذٍ و إن فُقِدَ حال الأداء.

و منها: الضرورة، فإنّه قيّد الشيخ في النهاية القبول بالضرورة، و كذلك صاحب المفاتيح «1» و بعض المعاصرين من مشايخنا «2».

و قيّد في شرح المفاتيح بالضرورة و فقد العدلَين المسلمَين.

فإن كان المراد بالضرورة: عدم إمكان إشهاد الغير ممّن تقبل شهادته، فهو كذلك، و لكن قيد فقد المسلم يغني عنه.

و إن كان لزوم الوصيّة كأن يوصي بحقٍّ لازم

فلا دليل على اشتراطه.

و لا يتوهّم أنّ التعليل المتقدّم يثبته، فإنّ مقتضاه الاختصاص بالحقوق اللّازمة الأداء؛ لأنّ في التعليل إجمالًا لا يصلح بانفراده للاستناد- كما يأتي و إن ذكرناه مع غيره تأييداً؛ مع أنّ للموصي أيضاً حقّا في ماله، كما ورد في الأخبار: إنّ الإنسان أحقّ بماله ما دام حيّاً «3»، فيجري التعليل في غير الحقوق اللّازمة أيضاً.

و منها: أن يكون الكافران من أهل الكتاب أو شبهه؛ للإجماع، و لصحيحة أحمد، و روايتي يحيى و حمزة «4»، الدالّة كلّها على الحصر، و بها تقيّد إطلاقات الآية «5» و الأخبار «6».

______________________________

(1) النهاية: 612، المفاتيح 3: 230.

(2) كصاحب الرياض 2: 64.

(3) انظر الوسائل 19: 296 أبواب أحكام الوصايا ب 17.

(4) المتقدمة جميعاً في ص 35 و 36.

(5) المائدة: 106.

(6) انظر الوسائل 27: 389 أبواب الشهادات ب 40.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 43

و منها: أن يكونا اثنين فصاعداً؛ لصريح الآية، و الأخبار الثلاثة المذكورة «1»، و الظاهر أنّه أيضاً إجماعي.

و هل تقبل شهادة مسلمٍ عدل و ذمّي كذلك، أم يشترط الذمّيّان؟

الظاهر الأخير؛ اقتصاراً فيما خالف الأصل على مورد النصّ. و دعوى الأولويّة ممنوعة؛ لعدم معلوميّة العلّة.

فإن قيل: العلّة بالنصّ معلومة، و هي عدم صلاحيّة ذهاب حقّ أحد.

قلنا: هذا على فرض ثبوت حقّ لأحد، و الكلام بعدُ فيه، و أيضاً للوارث حقّ، فلعلّ في القبول ذهاب.

و منها: أن يكونا ذكرين؛ للآية، و الأخبار، و الأصل، فلا تقبل شهادة أربع ذمّيّات.

و منها: أن يكونا عدلَين في مذهبهما، ذكره أكثر الأصحاب «2»، بل قيل: لا خلاف فيه أجده «3».

و استدلّ له بالآية، حيث فسّرت بأنّ معنى أَوْ آخَرانِ أي اثنان ذوا عدلٍ من غيركم «4». و فيه نظر.

و يستدلّ

«5» أيضاً برواية حمزة المتقدّمة، و هي دالّةٌ على اشتراط كونهما مرضيّين. و الظاهر أنّ المرضيّ أعمّ من العادل.

______________________________

(1) في ص 36.

(2) منهم المفيد في المقنعة: 727، و الحلبي في الكافي في الفقه: 436، و الشهيد الثاني في المسالك 2: 401، و الكاشاني في المفاتيح 3: 277، و السبزواري في الكفاية: 279.

(3) انظر الرياض 2: 64.

(4) كما في المسالك 2: 401.

(5) كما في كشف اللثام 2: 370.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 44

و التحقيق: أنّه إن قلنا بتحقّق العدالة في غير المسلم- كما هو الظاهر فيثبت المطلوب بأخبار اشتراط العدالة في الشاهد «1»، و إلّا فالمراد ليس إلّا كونهما مرضيّين عند أصحابنا، فيثبت المطلوب بالرواية المذكورة.

و منها: أن يكون الموصي في السفر عرفاً أي في أرض غربة اعتبره جماعة، كصريح المحكيّ عن الإسكافي و الحلبي «2»، و ظاهر المبسوط و الغنية «3»، بل قيل: ربّما يفهم من الأخيرين كونه إجماعيّاً «4».

لمفهوم الشرط في الآية، و غير الأُوليين من الأخبار المتقدّمة، بل دلالة روايتي يحيى و حمزة و صحيحة أحمد على الحصر.

خلافاً للمحكيّ عن أكثر المتأخّرين «5»، بل عامّتهم كما قيل «6»، بل الأكثر مطلقاً، و ظاهر كثير من القدماء، كالشيخين في المقنعة و النهاية و العماني و الديلمي و القاضي و الحلّي «7»، بل قيل: و ربّما ظهر من الشرائع و التحرير انعقاد الإجماع عليه، حيث قالا: و باشتراط الغربة رواية مطرحة «8».

لظاهر التعليل المتقدّم، أي مراعاة الحقّ عن الذهاب، الموجودة في

______________________________

(1) الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41.

(2) حكاه عن الإسكافي في المختلف: 722، الحلبي في الكافي: 436.

(3) المبسوط 8: 187، الغنية (الجوامع الفقهية): 625.

(4) الرياض 2: 426.

(5) كالعلّامة في التحرير 2: 208،

و الشهيد في الدروس 2: 124، و الشهيد الثاني في الروضة 3: 128.

(6) في الرياض 2: 426.

(7) المقنعة: 727، النهاية: 334، حكاه عن العماني في المختلف: 722، الديلمي في المراسم: 202، القاضي في المهذّب 2: 120، الحلّي في السرائر 2: 139.

(8) انظر الرياض 2: 426.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 45

غير السفر أيضاً.

و إطلاق صحيحة ضريس و موثّقة سماعة، الخاليتين عن المخصّص و المقيّد، سوى مفهومي الحصر و الشرط المتقدّمين، و هما ضعيفان؛ لورودهما مورد الغالب.

و يردّ الأول بما مرّ من الإجمال؛ لأنّه إن أُريد من الحقّ الحقّ المعلوم فهو ليس بمعلوم؛ إذ ليس محلّ النزاع ما إذا حصل العلم من قول الشاهدين؛ لأنّ اعتباره حينئذٍ لا يشترط بشي ءٍ من العدد و العدالة و الذمّيّة و الوصيّة، بل هو في صورة عدمه، فمن أين يعلم الحقّ؟! و لو تمّ ذلك لجرى في كلّ دعوى لا شاهد عليها أصلًا أن يقال: يسمع قول المدّعى لئلّا يذهب حقّه.

و إن أُريد الحقّ المحتمل فيحتمل عدم تحقّق الوصيّة و ذهاب حقّ الوارث بالقبول أيضاً.

و الثاني بالتقييد بما استدلّ به الأولون، و ردّه بوروده مورد الغالب يَرِدُ على الإطلاق أيضاً، فلينصرف هو أيضاً إلى الغالب، و يرجع إلى الأصل.

مع أنّ الغلبة المدّعاة في زمان صدور نزول الآية بل صدور الأخبار ممنوعة؛ لجواز كون مسلمين كثيرين متوطّنين في مواضع يقلّ فيه المسلم.

مع أنّ هذا الحكم لا يختصّ بالمسلم حتى تُدّعى الغلبة، بل تقبل شهادة الذمّيين في الوصيّة على مثله و غيره من أصناف الكفّار.

و منها: أن يحلف الذمّيان الشاهدان بالصورة المذكورة في الآية، اعتبره الفاضل في التذكرة «1»، و جعله في المسالك أولى «2»؛ لدلالة الآية

______________________________

(1) التذكرة 2: 521.

(2) المسالك

2: 401.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 46

عليه، و عدم منافاة عمومات النصوص له.

و أُورد عليه بأنّ الآية مخصوصةٌ بصورة الارتياب، فلا تدلّ على الإطلاق كما ذكروه.

و يمكن أن يقال: إنّه ما لم يحصل العلم فالارتياب متحقّق، و حصول العلم من شهادتهما إمّا غير متحقّق أو نادر.

و منها: أن تكون في الوصيّة إجماعاً؛ و وجهه ظاهر، فلا تقبل في غيرها و لو استشهد به حال حضور موت المستشهد.

فلو أقرّ حينئذٍ بدينٍ أو حقٍّ لازمٍ و أوصى بأدائه لا يثبت الحقّ بشهادة الكافرين، بل تثبت وصيّته بالأداء، و يجب على من اوصي إليه بأدائه الأداء بعد ثبوت الحقّ بشهادة المسلم.

و لو قال: لفلان عليّ حقّ كذا فأدّوه، يتوقّف وجوب الأداء على الوصيّ بعد ثبوت الحقّ.

و منها: أن تكون في الوصيّة بالمال خاصّة، فلا تثبت بشهادتهما الولاية على الصغير المعبّر عنها بالوصاية، اعتبره جماعة «3»؛ وقوفاً فيما خالف الأصل على مورده، قال المحقّق الأردبيلي: و تشعر به بعض الروايات.

أقول: لم أظفر على تلك الرواية المشعرة بذلك، و يمكن أن يكون نظره إلى الروايات المتضمّنة للتعليل المتقدّم؛ حيث إنّ ذهاب الحقّ يكون في الوصيّة بالمال.

و فيه: أنّ الولاية أيضاً حقٌّ للوصي، بل تسليط الوصيّ على الصبيّ

______________________________

(3) كما في السرائر 2: 139، و التحرير 2: 208، و التنقيح 4: 287، و الرياض 2: 426.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 47

أيضاً حقٌّ للموصي.

و بالجملة: الوصيّة في النصوص مطلقة، و للقسمين شاملة، و تفرقة بعض المتشرّعة بينهما بتسمية أحدهما وصيّة و الآخر وصاية لا يوجب حصول حقيقة شرعيّة لها.

الرابع: الإيمان بالمعنى الأخص.

أي كونه من الفرقة الناجية الاثني عشرية، و اشتراطه هو المعروف من مذهب الأصحاب، بل عن جماعة منهم: صاحب المهذّب

و التنقيح و المسالك و الصيمري و الأردبيلي الإجماع عليه «1» و يدلّ عليه الأصل المتقدّم.

و لا تفيد عمومات قبول شهادة المسلم أو من ولد على الفطرة أو العادل «2» إن قلنا بتحقّق العدالة في المخالف أيضاً؛ لمعارضتها مع روايتي السكوني «3» المنجبرتين، المتضمّنتين لعدم قبول شهادة كلّ ذي مخزيةٍ في الدين، المعتضدتين بما في الأخبار من أنّهم شرٌّ من اليهود و النصارى و من الكلاب، و باشتراط كون الشاهد مرضيّاً كما مرّ في المغفّل بل هو بنفسه دليلٌ بالتقريب المتقدّم فيه.

و قد يقال أيضاً بعدم شمول الإطلاقات و العمومات لغير المؤمن بحكم التبادر و غيره «4».

______________________________

(1) التنقيح 4: 287، المسالك 2: 401، و حكاه عنهم في الرياض 2: 426.

(2) كما في الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41.

(3) المتقدّمتين في ص 27.

(4) كما في الرياض 2: 426.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 48

و فيه منعٌ ظاهر.

و بخروج غير المؤمن من نحو" رجالكم" و" ترضون" من الخطابات الشفاهيّة المختصّة بالموجودين في زمن الخطاب، و لم يكن المخالف موجوداً فيه.

و فيه ما فيه، فإن الموافق أيضاً كذلك، إلّا قليل من أرباب السرّ.

و قد تخصّص الإطلاقات أيضاً بقوله سبحانه مِمَّنْ تَرْضَوْنَ «1» بضميمة ما ورد في تفسير الإمام في تفسيره «2».

و قد عرفت ما فيه أيضاً.

و قد يستدلّ «3» لعدم قبول شهادة المخالفين بالأخبار المتكثّرة المصرّحة بكفرهم، فلا تشملهم عمومات قبول شهادة المسلم.

و بتعميمهم ما دلّ على ردّ شهادة الكافر؛ لأنّ بها يثبت إمّا كفرهم حقيقةً كما هو رأي كثير من قدماء الأصحاب فيخرجون عن عنوان المسلم، أو مشاركتهم للكفّار في الأحكام، التي منها عدم قبول الشهادة.

و فيه: منع ثبوت الكفر الحقيقي لهم، كما ثبت في

موضعه.

و منع دلالة إطلاق الكافر عليهم على مشاركتهم لهم في جميع الأحكام؛ لما بيّن في الأُصول من أنّ الشركة المبهمة لا تفيد العموم.

و قد يستدلّ «4» أيضاً بآية النبإ «5»، و سائر ما يدلّ على ردّ شهادة الفاسق؛ و لا شكّ في فسقهم؛ لحكمهم بالباطل و بغير ما أنزل اللَّه، وَ مَنْ

______________________________

(1) البقرة: 282.

(2) راجع ص 24 و 26.

(3) كما في الرياض 2: 426.

(4) كما في الشرائع 4: 126.

(5) الحجرات: 6.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 49

لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «1»، و قد ورد في أخبار العترة: أنّهم الفسّاق «2»، و أيّ فسقٍ أعظم من اعتقادهم الفاسد، الذي هو من أكبر الكبائر؟! و فيه ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني من أنّ الفسق إنّما يتحقّق بفعل المعصية مع عدم اعتقاد كونه طاعة «3».

و رُدّ تارةً: بأنّ مع ذلك الاعتقاد و إن لم يكن فاسقاً حقيقةً و لكنّه يصدق عليه عرفاً «4».

و أُخرى: بأنّ معه و إن لم يكن فاسقاً عرفاً حيث إنّ المتبادر منه مدخليّة الاعتقاد في مفهومه و لكنّه فاسقٌ لغةً و شرعاً؛ لعدم مدخليّة الاعتقاد فيه عليهما «5».

و يرد على الأول: بأنّ ألفاظ الكتاب و السنّة تحمل على المعاني الحقيقيّة دون عرفيّة ذلك الزمان، و إن أراد عرف زمان الشارع فممنوع جدّاً.

و على الثاني: أنّ الفسق في اللغة و الشرع ليس موضوعاً للأعمال المخصوصة مطلقاً و لذا لا يقال بفسق شارب الخمر دواءً أو جبراً، و كذا مفطر الصيام و نحوه بل للخروج عن طاعة اللَّه، و هو لا يتحقّق إلّا بالعلم بالنهي، فكيف مع اعتقاد الأمر؟! و لو لم يكن كذلك لزم فسق جميع المجتهدين و مقلّديهم، إلّا

واحداً غير معيّن؛ لأنّ حكم اللَّه الحقيقي ليس إلّا واحداً، و المخالفة في الفروع أيضاً تجاوزٌ عن الحدّ، و كون كلّ مجتهدٍ

______________________________

(1) المائدة: 47.

(2) انظر الوسائل 27: 373 أبواب الشهادات ب 30.

(3) المسالك 2: 401.

(4) انظر كفاية الأحكام: 279.

(5) انظر الرياض 2: 426.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 50

مكلّفاً بما أدّى إليه نظره يجري في الأُصول أيضاً؛ لمشاركة الدليل.

فالمناط في ردّ شهادة المخالف هو الإجماع و الأصل.

و لا تعارضهما صحيحة ابن المغيرة: رجل طلّق امرأة و أشهد شاهدين ناصبيّين، قال: «كلّ من ولد على الفطرة و عرف بالصلاح من نفسه جازت شهادته» «1».

إذ لم يصرّح فيها بقبول شهادة الناصبي، بل عدل عنه إلى ما عدل، و لا يعلم أنّ الناصبي مولودٌ على الفطرة؛ لأنّه كافرٌ بالإجماع بالكفر المقابل للإسلام، و ليس معروفاً بالصلاح؛ لأنّه ضدّ الفساد، و أيّ فسادٍ أكبر من عداوة من صرّح الكتاب العزيز بوجوب مودّته؟! و لو سلّم فغاية الجواب: العموم المعارض مع ما مرّ، اللّازم رفع اليد عنه و الرجوع إلى الأصل.

ثم إنّ في حكم المخالف كلّ ما خالف الشيعة في العقائد الحقّة الثابتة بالضرورة من أئمّتهم الأطياب، ممّا يوجب الخزي في الدين، و اللَّه الموفّق و المعين.

الخامس: العدالة.
اشاره

و الكلام فيها إمّا في اشتراطها في الشاهد، أو بيان حقيقتها و ما تتحقّق به و ما تعرف به، أو فيما يسقطها من خصوص المعاصي، أو في كيفيّة البحث عنها في الشاهد، فهاهنا أربعة أبحاث

______________________________

(1) الفقيه 3: 28، 83، التهذيب 6: 283، 778، الإستبصار 3: 14، 37، الوسائل 27: 393 أبواب الشهادات ب 41 ح 5.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 51

البحث الأول في بيان اشتراطها في الشاهد
اشاره

و هو ممّا لا خلاف فيه بين الأصحاب كما في الكفاية «1» بل هو مجمعٌ عليه، و صرّح بالإجماع أيضاً جماعة، منهم: المحقّق الأردبيلي و الشهيد الثاني و صاحب المفاتيح و شارحه «2»، بل ادّعى الأخيران و بعض مشايخنا المعاصرين الضرورة الدينيّة عليه «3»؛ و يدلّ على الإجماع تطابق كلمات القدماء و المتأخّرين على اعتبارها فيه من غير نقل خلاف.

و أمّا ما في كلام بعض القدماء من كفاية ظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق «4» فليس مراده نفي اشتراط العدالة، و لا أنّه هو العدالة كما قد يتوهّم، بل مراده أنّ الأصل فيه العدالة، لا بمعنى أنّ العدالة أصلٌ بالنسبة إلى الفسق، بل بمعنى أنّ القاعدة الثابتة من الشرع الحكم بثبوت العدالة فيه، نظير الذبائح في سوق المسلمين و الجلود في أيديهم، فإنّ التذكية فيها و إن كانت شرطاً ضرورة، و كانت على خلاف الأصل أيضاً، إلّا أنّ القاعدة الشرعيّة: الحكم فيما يؤخذ عن المسلم بالتذكية.

و يكشف عمّا ذكرنا من أنّ مرادهم ليس نفي اشتراط العدالة أنّ ممّن ينسب إليه كفاية ظاهر الإسلام: الإسكافي و المفيد و الشيخ في الخلاف، و صرّح كلٌّ منهم باشتراطها.

______________________________

(1) الكفاية: 279.

(2) الشهيد الثاني في المسالك 2: 401، المفاتيح 3: 278.

(3) كما في الرياض 2: 427.

(4) كما

في الاستبصار 3: 14، و المبسوط 8: 104، و حكاه في المختلف: 704 705.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 52

قال الأول: لو كانت بيّنة المدّعى من لا يعرف الحاكم عدالتها، فرّق بينهم، و يسمع من غير محضر المدّعى عليه، ثم سأله عنهما، فإن زكّاهما عليه أنفذ القاضي الشهادة عليه، و إن جرح المطلوب الشاهدين سأل القاضي في السرّ و العلانية، و قال لمدّعي الجرح: ثبّت جرحك، و أنفذ القاضي نفسين بالمسألة، فإن عدلت البيّنة و لم يثبت المدّعى عليه جرحه أنفذ الحاكم عليه، و إن رجع مَن وجّه الحاكم لا بجرحٍ و لا تعديل كانت الشهادة ساقطة «1». انتهى .

و قال الثاني: إذا شهد عند الحاكم من لا يخبر حاله و لم تتقدّم معرفته، و كان الشاهد على ظاهر العدالة، كتب شهادته ثم ختم عليها، و لم ينفذ الحكم بها حتى يثبت أمره و يتعرّف أحواله، فإن عرف له ما يوجب جرحه أو التوقّف في شهادته لم يمض الحكم بها، و إن لم يعرف شيئاً ينافي عدالته و إيجاب الحكم لم يتوقّف «2». انتهى.

و قال الثالث: إذا شهد عند الحاكم شاهدان يعرف إسلامهما و لا يُعرَف منهما جرحٌ حكم بشهادتهما، و لا يقف على البحث، إلّا أن يجرح المحكوم عليه، فحينئذٍ يجب عليه البحث، و به قال أبو حنيفة في الأموال و النكاح و الطلاق و النسب، و إن كانت في قصاصٍ أو حدٍّ لا يحكم حتى يبحث عن عدالتهما، و منع الشافعي و أبو يوسف و محمّد من الحكم حتى يبحث عنهما.

دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم، و أيضاً الأصل في المسلم العدالة، و الفسق طارٍ عليه، و أيضاً يعلم أنّه ما كان البحث في

أيّام النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله)،

______________________________

(1) حكاه عنه في المختلف: 705 و فيه: .. و إن رجع اللذان وجّه بهما الحاكم بجرحٍ و تعديل كانت الشهادة ساقطة.

(2) المقنعة: 730.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 53

و لا أيام الصحابة، و لا التابعين، و إنّما هو شي ء أحدثه شريك بن عبد اللَّه القاضي، فلو كان شرطاً ما أجمع أهل الأعصار على تركه «1». انتهى .

فإنّ كلام الأولَين صريحٌ في اشتراط العدالة، و يظهر من قول الثالث: و أيضاً الأصل في المسلم العدالة ذلك أيضاً، و إلّا لم يكن لذلك الاستدلال وجه.

و أمّا ما ذكرنا من أنّ مرادهم ليس أنّ العدالة هو ظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق فيأتي بيانه، و إن كان يستفاد من ظاهر كلام بعضهم أنّه حَمَلَ كلامهم أنّ مجرد ذلك هو العدالة «2».

و ربّما يشعر بما ذكرنا من الأمرين أنّ جماعة من الفقهاء عنونوا عنوانين:

أحدهما: مسألة وجوب البحث عن العدالة و عدمها.

و الثاني: اعتبار العدالة في الشاهد و بيان معناها.

و ذكروا الأول في كتاب القضاء، و جعلوه من آداب القاضي، و نسبوا الخلاف فيه إلى من يحكى عنه كفاية ظاهر الإسلام.

و ذكروا الثاني في كتاب الشهادات، و ادّعوا عليه الإجماع، و لم ينسبوا الخلاف فيه إلى أحد.

و يدلّ على الأمرين أيضاً ما ذكره الشيخ في الاستبصار، حيث إنّه- بعد نقل رواية ابن أبي يعفور نقل مرسلة يونس المتضمّنة للأمر بالأخذ بظاهر الحال في خمسة أشياء، ثم ذكر أنّه لا منافاة بينهما؛ لأنّ المراد من الثانية: عدم وجوب الفحص و التفتيش، و من الاولى : بيان ما تتحقّق به

______________________________

(1) الخلاف 2: 591.

(2) المسالك 2: 361.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 54

العدالة و ما يقدح

فيها واقعاً و إن لم يلزم التفتيش عنها «1».

نعم، ظاهر كلام الفاضل في المختلف يفيد أنّه فهم منهم عدم اشتراط العدالة، حيث إنّه بعد ما نقل عبارات الأصحاب ممّن يكتفي بظاهر الحال و من لا يكتفي به قال: و المعتمد اشتراط العدالة؛ لنا: إلى آخر ما قال «2».

و ظاهر ما استدلّ به أيضاً إثبات اشتراط العدالة، و الظاهر أنّ مراده أيضاً ما ذكرنا، و أراد من اشتراط العدالة اشتراط العلم بها بنفسها، و عدم كفاية ظاهر الإسلام في الحكم.

و كيف كان، فيظهر للمتتبّع اتّفاق الأصحاب كلّاً على اشتراطها و تحقّق الإجماع عليه، فهو الأصل فيه، مع الكتاب، و السنّة.

أمّا الأول: فقوله سبحانه اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ «3».

و قوله تعالى شأنه يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ «4».

و قوله عزّ جاره وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ «5».

و يتمّ المطلوب بالإجماع المركّب.

و أمّا الثانية: فكثيرةٌ جدّاً، بل متواترة، منها: صحيحة ابن أبي يعفور، و فيها: بِمَ تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم و عليهم «6»؟ دلّت بالمفهوم على عدم القبول بدون معرفة العدالة.

______________________________

(1) الاستبصار 3: 13 14.

(2) المختلف: 705.

(3) المائدة: 106.

(4) المائدة: 95.

(5) الطلاق: 2.

(6) الفقيه 3: 24، 65، التهذيب 6: 241، 596، الإستبصار 3: 12، 33، الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 55

و مرسلة يونس: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: شهادة رجلين عدلين» الحديث «1».

و رواية أبي حمزة: «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة» «2» الخبر.

و صحيحة البجلي: «لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلًا» «3».

و في صحيحته الأُخرى الطويلة الواردة في قضاء شريح في درع طلحة-: «و ما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلًا» «4».

و رواية محمّد

في شهادة المملوك: «إذا كان عدلًا فهو جائز الشهادة» «5».

و رواية جابر: «شهادة القابلة جائزة على أنّه استهلَّ أو برز ميّتاً إذا سُئِلَ عنها فعدلت» «6».

______________________________

(1) الكافي 7: 416، 3، التهذيب 6: 231، 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 7 ح 4.

(2) الكافي 7: 432، 20، التهذيب 6: 287، 796، و فيهما: عن الحسين بن ضمرة، عن أبيه، عن جدّه؛ و في الخصال: 155، 195، و الوسائل 27: 231 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 1 ح 6: عن ضمرة بن أبي ضمرة، عن أبيه، عن جدّه.

(3) الكافي 7: 389، 1، التهذيب 6: 248، 634، الإستبصار 3: 15، 42، الوسائل 27: 345 أبواب الشهادات ب 23 ح 1.

(4) الكافي 7: 385، 5، الفقيه 3: 63، 213 و فيه: و روى محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام ..، التهذيب 6: 273، 747، الإستبصار 3: 34، 117، الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14 ح 6.

(5) الكافي 7: 389، 2، التهذيب 6: 248، 633، الإستبصار 3: 15، 41، الوسائل 27: 345 أبواب الشهادات ب 23 ح 3.

(6) التهذيب 6: 271، 737، الوسائل 27: 362 أبواب الشهادات ب 24 ح 38.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 56

و في صحيحة حمّاد بن عثمان: «و لا يقبل في الهلال إلّا رجلان عدلان» «1».

و في صحيحة محمّد: «و لم يجز في الهلال إلّا شاهدَي عدل» «2».

و في رواية داود الطويلة: «لا تجوز شهادة النساء في الفطر إلّا شهادة رجلين عدلين» «3».

و مكاتبة الصفّار الصحيحة، و فيها: «إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعى يمين» «4».

و مرسلة الفقيه، و

فيها: «و إن شهد رجلان عدلان على شهادة رجل فقد ثبتت شهادة رجلٍ واحد» «5».

و في صحيحة الحلبي الواردة في جمّالٍ استكري لحمل زيت، فادّعى أنّه انخرق بعض الزقاق و أُهرق ما فيه-: «لا يصدّق إلّا ببيّنة عادلة» «6».

و رواية مسمع بن عبد الملك: «إنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) كان يحكم في

______________________________

(1) التهذيب 6: 269، 724، الإستبصار 3: 30، 96، الوسائل 27: 355 أبواب الشهادات ب 24 ح 17.

(2) الكافي 7: 386، 8، التهذيب 6: 272، 740، الإستبصار 3: 32، 108، الوسائل 27: 264 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14 ح 1.

(3) التهذيب 6: 269، 726، الإستبصار 3: 30، 98، الوسائل 27: 361 أبواب الشهادات ب 24 ح 36.

(4) الكافي 7: 394، 3، الفقيه 3: 43، 147، التهذيب 6: 247، 626، الوسائل 27: 371 أبواب الشهادات ب 28 ح 1.

(5) الفقيه 3: 41، 135، الوسائل 27: 404 أبواب الشهادات ب 44 ح 5.

(6) الكافي 5: 243، 1، الفقيه 3: 162، 710، التهذيب 7: 217، 950، الوسائل 19: 148 في أحكام الإجارة ب 30 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 57

زنديق إذا شهد عليه رجلان عدلان مرضيّان و شهد له ألف بالبراءة جازت شهادة الرجلين و أبطل شهادة الألف؛ لأنّه دين مكتوم» «1».

و رواية الشحّام الواردة في مثل الواقعة أيضاً و فيها: «فلا يقبل إلّا ببيّنة عادلة» «2».

إلى غير ذلك من الأخبار المتكثّرة الواردة في الموارد المتشتّتة. و اختصاص بعضها ببعض الشهود كالمملوك أو القابلة و بعض آخر ببعض الموارد- كالاستهلال أو الهلال أو الوصيّة أو نحوها غير ضائر؛ لعدم القول بالفصل قطعاً.

و قد يستدلّ أيضاً بالأخبار المتقدّمة المتضمّنة لاشتراط الصلاح، أو

المعروفيّة به، أو كونه عفيفاً صائناً، أو مأموناً، أو خيّراً، أو مرضيّاً، سيّما بضميمة ما مرّ في تفسيره نقلًا عن تفسير الإمام «3».

و بالأخبار المتضمّنة لاشتراط التوبة في القبول إذا صدر منه ذنب «4».

و بالأخبار المتقدّمة في كتاب القضاء، المتضمّنة لاعتبار الأعدليّة «5»، و الرجوع إلى القرعة مع التساوي.

و بالأخبار المتضمّنة لردّ شهادة الفاسق «6»، المثبتة لاشتراط عدمه، المستلزم لاشتراط العدالة، و عليه فتكون آية النبإ «7» أيضاً دليلًا.

______________________________

(1) الكافي 7: 404، 9، التهذيب 6: 278، 762، الوسائل 27: 410 أبواب الشهادات ب 51 ح 1، بتفاوتٍ يسير.

(2) التهذيب 7: 129، 564، الوسائل 19: 148 أبواب أحكام الإجارة ب 30 ذ ح 1.

(3) راجع ص 24 و 26.

(4) انظر الوسائل 27: 383 و 385 أبواب الشهادات ب 36 و 37.

(5) انظر الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41.

(6) انظر الوسائل 27: 373 أبواب الشهادات ب 30.

(7) الحجرات: 6.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 58

و يمكن المناقشة في الأولَين: بعدم معلوميّة اتّحاد الصلاح اللغوي و العدالة و استلزامه لها و إن أمكن القول باتّحاد العرفي و استلزامه لها، و إرادة العرفي غير معلومة.

و في الأربعة المتعقّبة لهما: باحتمال أعميّة الأوصاف المذكورة من العفّة و الصيانة و الائتمان و الخيريّة و كونه مرضيّاً من العدالة، و إن احتمل إرادة ما يساوق العدالة أيضاً، كالعفيف من محارم اللَّه، و الصائن نفسه معها، و المأمون في تديّنه، و المرضيّ كذلك.

و في أخبار قبول شهادة التائب: بمثل ذلك أيضاً؛ إذ ليس كلّ تائبٍ عن الذنب بعادل، سيّما إذا لم يسبق ذنبه بالعدالة.

و في أخبار الأعدليّة: بعدم الدلالة.

و في أخبار الفسق: بأنّها إنّما تتمّ على انتفاء الواسطة بين العلم بالفسق

و العدالة، و هو محلّ نظرٍ و مناقشة، كما بيّنا في المناهج.

فالأولى الاكتفاء في الاستدلال بما ذكرنا و أمثالها، و هي كافية في المطلوب، سيّما مع مطابقة الكتاب، و موافقة الإجماع، و المعاضدة بالعقل و الاعتبار.

و لا تعارض هذه الأخبار الأخبار المشار إليها المتضمّنة للصلاح و العفّة و الائتمان و الارتضاء، و كفاية تلك الأوصاف في قبول الشهادة لما عرفت من احتمال أن يكون المراد منها ما يساوق العدالة.

نعم، الظاهر أنّه تعارضها بعض الأخبار المتضمّنة للفظ" الخير" كصحيحة محمّد: عن الذمّي و العبد يشهدان على شهادة، ثم يسلم الذمّي و يعتق العبد، أ تجوز شهادتهما على ما كانا أشهدا عليه؟ قال: «نعم، إذا

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 59

عُلِمَ منهما بعد ذلك خيرٌ جازت شهادتهما» «1».

و في المرويّ في تفسير الإمام (عليه السّلام) في بيان كيفيّة حكم رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله): «أقبل على المدعى عليه و قال: ما تقول فيهما؟ فإن قال: ما عرفت إلّا خيراً، غير أنّهما قد غلطا فيما شهدا عليّ، أنفذ عليه شهادتهما» «2»، فإنّ معلوميّة خير منهما لا ينافي عدم عدالتهما.

و كذا تعارضها أخبار قبول شهادة التائب، كرواية السكوني: «ليس يصيب أحدٌ حدّا فيقام عليه ثم يتوب إلّا جازت شهادته» «3».

و صحيحة القاسم بن سليمان: عن الرجل يقذف الرجل، فيجلد حدّا، ثم يتوب، و لا يعلم منه إلّا خير، أ تجوز شهادته؟ قال: «نعم» إلى أن قال: «كان أبي يقول: إذا تاب و لا يعلم منه إلّا خيرٌ جازت شهادته» «4».

و صحيحة الكناني: عن القاذف إذا أكذب نفسه و تاب، أتقبل شهادته؟ قال: «نعم» «5».

و الأخبار المتضمّنة لقبول شهادة من لا يعرف بفسق، كرواية العلاء: عن شهادة

من يلعب بالحمام، قال: «لا بأس إذا لم يعرف بفسق» «6».

______________________________

(1) الفقيه 3: 41، 139، الوسائل 27: 387 أبواب الشهادات ب 39 ح 1.

(2) تفسير الإمام العسكري (ع): 674، الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 6 ح 1، بتفاوتٍ يسير.

(3) الكافي 7: 397، 4، التهذيب 6: 245، 619، الإستبصار 3: 37، 124، الوسائل 27: 384 أبواب الشهادات ب 36 ح 3.

(4) الكافي 7: 397، 2، التهذيب 6: 246، 620، الإستبصار 3: 37، 125، الوسائل 27: 383 أبواب الشهادات ب 36 ح 2.

(5) التهذيب 6: 246، 621، الإستبصار 3: 37، 126، الوسائل 27: 384 أبواب الشهادات ب 36 ح 5.

(6) الفقيه 3: 30، 88، التهذيب 6: 284، 784، الوسائل 27: 394 أبواب الشهادات ب 41 ح 6.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 60

و صحيحة حريز: في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا، فعدل منهم اثنان و لم يعدل الآخران، قال: فقال: «إذا كان أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أُجيزت شهاداتهم جميعاً» إلى أن قال: «و على الوالي أن يجيز شهادتهم، إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق» «1».

و الجواب عنها مضافاً إلى أنّ القسم الأول أعمّ مطلقاً من روايات اشتراط العدالة؛ لاختصاصها أيضاً بالمسلم بالإجماع و الأخبار، و كون الخير في القسم الأول أعمّ من العدالة، بل و كذا القسم الثاني؛ لأنّ موضوعه الذي هو التائب لا مدخليّة في الحكم إجماعاً، بمعنى: أنّه لا يشترط أن يكون تائباً بالإجماع، بل اللّازم عدم ظهور ذنب منه؛ إذ رفع الذنب الظاهر منه بالتوبة، فكونه تائباً من حيث هو هو ليس موضوعاً للحكم قطعاً، فيكون الموضوع بضميمة الإجماع المركّب من لم يُعلَم كونه مذنباً؛

إمّا لعدم العلم بالذنب، أو لرفعه بالتوبة-: أنّ معارضة هذه الأخبار لأخبار العدالة إنّما هي إذا لم يكن الموضوع فيها معرِّفاً شرعيّاً للعدالة كاشفاً عنها، و إلّا لم تكن معارضة لها:

و لذا لا تعدّ أخبار الاستصحاب «2» معارضة لأخبار اشتراط طهارة الثوب في الصلاة «3»، و لا اخبار جواز أخذ اللحم و الجلد من المسلمين «4» معارضة لأخبار اشتراط التذكية «5»؛ لأنّ مدلول أخبار الاستصحاب ليس أنّ

______________________________

(1) الكافي 7: 403، 5، التهذيب 6: 277، 759 و 286، 793، الاستبصار 3: 14، 36، الوسائل 27: 397 أبواب الشهادات ب 41 ح 18، بتفاوتٍ يسير.

(2) الوسائل 3: 466 أبواب النجاسات ب 37.

(3) الوسائل 3: 428 أبواب النجاسات ب 19.

(4) الوسائل 3: 490 أبواب النجاسات ب 50.

(5) الوسائل 3: 489 أبواب النجاسات ب 49.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 61

الطهارة السابقة كافية عن الطهارة الحاليّة و قسيم لها، و لا مدلول أخبار سوق المسلم و يده أنّهما قسيمان يدلّان على التذكية و كافيان عنها، حتى لو علم انتفاء الطهارة الحاليّة و التذكية يكفيان عنهما. بل مدلولهما: أنّ ما لم يعلم رفع طهارته السابقة فهو محكوم بالطهارة الحاليّة شرعاً، و المأخوذ عن يد المسلم محكوم بكونه مذكّى. فلا تنافي بين هذه الأخبار و أخبار شرطيّة طهارة الثوب و تذكية الجلد.

و الموضوعات في تلك الأخبار ليست أُموراً قسيمة للعدالة بدلًا عنها في ترتّب قبول الشهادة، بل هي معرِّفات لها و كاشفات عنها، فإنّ الأصل في مثل ذلك و إن كانت البدليّة و القسيميّة كما بيّناه في عوائد الأيّام إلّا أنّا بيّنا أيضاً أنّه قد يحكم بالمعرفة الشرعيّة بالدليل أيضاً؛ و الدليل عليه إمّا نصّ، أو إجماع، أو قرينة.

و من

القرائن الدالّة عليها: اشتراط عدم ظهور خلاف الأمر الأول مع الثاني أيضاً، فإنّ العرف يفهم حينئذٍ أنّ الأمر الثاني بدل عن العلم بالأول لا عنه نفسه، و أنّ مع الأمر الثاني يحكم شرعاً بتحقّق الأول أيضاً.

و من القرائن أيضاً: أن يستند ترتّب الحكم على الثاني إلى الأخذ بظاهر الحال، فإنّه يدلّ على أنّ العلّة للحكم ليس الأمر الثاني فقط، و إلّا لكان الاستناد إلى ظاهر الحال لغواً، بل هي أمر يظهر من الأمر الثاني بشهادة الحال.

و قد دلّ النصّ و الإجماع و القرائن فيما نحن فيه على أنّ كفاية موضوعات تلك الأخبار إنّما هي لأجل أنّها معرِّفة للعدالة شرعاً.

أمّا النصّ، فهو رواية سلمة بن كهيل، الواردة في مخاطبة شريح في آداب القضاء: «و اعلم أنّ المسلمين عدولٌ بعضهم على بعض، إلّا مجلوداً

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 62

في حدٍّ لم يتب منه، أو معروفاً بشهادة زور، أو ظنيناً» «1» الحديث.

و المرويّ في عرض المجالس للصدوق، عن الصادق (عليه السّلام): يا بن رسول اللَّه، أخبرني، عمّن تقبل شهادته و من لم تقبل، فقال: «يا علقمة، كلّ من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته» إلى أن قال: «فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان، فهو من أهل العدالة و السرّ، و شهادته مقبولة و إن كان في نفسه مذنباً» «2».

فإنّ هذين الخبرين ظاهران في أنّ ظاهر الإسلام و التوبة مع عدم معروفية الفسق معرِّف للعدالة، و أنّ كفايته لأجل كشفه عن العدالة الشرعيّة، و كون المتّصف به عدلًا شرعاً.

و أمّا الإجماع، فلأنّ كلّ من اكتفى في الشهادة بظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق صرّح باشتراط العدالة، و بأنّ الأصل في المسلم

العدالة كما مرّ.

و أمّا القرائن، فللتصريح في صحيحة حريز و رواية العلاء «3» بانضمام عدم معرفة الفسق منه. و قد عرفت أنّه قرينة على المعرّفيّة.

و لمرسلة يونس: عن البيّنة إذا أُقيمت على الحقّ، أ يحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ فقال: «خمسة أشياء يجب أن يأخذوا فيها بظاهر الحال: الولايات، و المناكح، و المواريث، و الذبائح، و الشهادات، فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً جازت شهادته، و لا يُسأل عن باطنه» «4».

______________________________

(1) الكافي 7: 412، 1، الفقيه 3: 8، 10، التهذيب 6: 225، 541، الوسائل 27: 211 أبواب آداب القضاء ب 1 ح 1.

(2) أمالي الصدوق: 91، 3، الوسائل 27: 395 أبواب الشهادات ب 41 ح 13؛ و فيهما: و الستر، بدل: و السرّ.

(3) المتقدّمتين في ص 57.

(4) الفقيه 3: 9، 29، الوسائل 27: 392 أبواب الشهادات ب 41 ح 3، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 63

و قد عرفت أنّ ذكر ظاهر الحال قرينة على إرادة المعرّفيّة، سيّما مع ذكر الذبائح أيضاً، فإنّ الأمر فيها على المعرّفيّة قطعاً.

هذا، مع أنّه على فرض التعارض أيضاً يكون الترجيح لأخبار العدالة؛ لموافقة الكتاب، و مطابقة عمل الأصحاب.

فرع: اشتراط العدالة في قبول الشهادة يشمل النساء أيضاً

فيما تقبل فيه شهادتهن؛ لرواية جابر المتقدّمة «1»، مع عدم القول بالفصل.

و لا ينافيه ما يأتي من رواية عبد الكريم بن أبي يعفور «2» المعلّقة قبول شهادتهن على أوصافٍ مخصوصة؛ لاحتمال كون هذه الأوصاف عدالة النساء كما ذكره جماعة «3»، و لولاه لكانت الرواية أعمّ مطلقاً من حديث العدالة، فلتخصّص به.

و هل يشمل الصبيان فيما تقبل فيه شهادتهم إن قلنا بتحقّق العدالة؟.

قيل: لا دليل على الاشتراط، و إطلاق روايات قبول شهادة المملوك إذا كان

عدلًا «4» ممنوع؛ لكونه في مقام بيان حكم آخر.

و قد يقال بالاشتراط؛ لإطلاق بعض الروايات، و حيث نقول بعدم تحقّق العدالة المعتبرة في الشهادة في الصبي كما يأتي يسقط هذا البحث عنّا.

نعم، يمكن اشتراط الائتمان من الكذب فيهم؛ للتعليل الوارد في موثّقة محمّد، المتقدّمة في مسألة اشتراط البلوغ «5».

______________________________

(1) في ص 53.

(2) التهذيب 6: 242، 597، الإستبصار 3: 13، 34، الوسائل 27: 398 أبواب الشهادات ب 41 ح 20.

(3) منهم الشيخ في النهاية: 325، العلّامة في المختلف: 704، الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 379.

(4) انظر الوسائل 27: 345 أبواب الشهادات ب 23.

(5) راجع ص 11.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 64

البحث الثاني في بيان حقيقتها و كيفيّة معرفتها
اشاره

و فيه مسائل:

المسألة الأُولى : قيل: اختلفوا في معنى العدالة،
اشاره

هل هي ظاهر الإسلام مع عدم ظهور فسق، أو حسن الظاهر، أو الملكة، أي الهيئة الراسخة في النفس الباعثة لها على ملازمة التقوى و المرّوة «1»؟ انتهى .

و قد يقال: إنّ ذلك خطأ من قائله، فإنّ من قال بحسن الظاهر أو ظاهر الإسلام قال: إنّه طريق معرفتها لا أنّه نفسها، و هو الظاهر من البيان و الدروس و الذكرى .

حيث قال في الأول في بحث صلاة الجماعة-: و جوّز بعض الأصحاب التعويل في العدالة على حسن الظاهر، و قال ابن الجنيد: كلّ المسلمين على العدالة حتى يظهر خلافها، و لو قيل باشتراط المعرفة الباطنة أو شهادة عدلين كان قوّياً «2».

و قال في الثاني في بحث الجماعة أيضاً: و تُعلَم العدالة بالشياع، و المعاشرة الباطنة، و صلاة عدلين خلفه، و لا يكفي الإسلام في معرفة العدالة خلافاً لابن الجنيد، و لا التعويل على حسن الظاهر على الأقوى «3».

و قريبٌ ممّا ذكر في الذكرى، و فيها علّل اكتفاء من يكتفي بحسن

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 390.

(2) البيان: 131.

(3) الدروس 1: 218.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 65

الظاهر بعسر الاطّلاع على البواطن «1».

و كذا هو الظاهر من صاحب الكفاية، حيث قال: الحكم بالعدالة هل يحتاج إلى التفتيش و الخبرة و البحث عن البواطن، أم يكفي الإسلام و حسن الظاهر ما لم يثبت خلافه؟

الأقوى : الثاني «2».

و أصرح منها كلام الكركي في الجعفريّة، حيث قال: و طريق معرفة العدالة ما مرّ، و صلاة عدلين خلفه، و لا يكفي الإسلام، و لا التعويل على حسن الظاهر على الأصحّ «3».

و قال والدي العلّامة قدّس سرّه في المعتمد: لم نعثر على مصرّحٍ من المشاهير بكون العدالة في عرف الشرع أحدهما. انتهى.

و كلام

العاملي في بحث [شهادات «4»] المسالك كالصريح في ذلك أيضاً، حيث قال: و الكلام في العدالة يتوقّف على أمرين، أحدهما: ما به تثبت، و الثاني: ما به تزول، فالأول قد تقدّم البحث فيه في القضاء، و أنّه هل يحكم بها للمسلم من دون أن يعلم منه الاتّصاف بملكتها، أم لا بدّ من اختباره أو تزكيته «5»؟

أقول: قد نسبوا القول بكون العدالة ظاهر الإسلام إلى الشيخ في المبسوط و الخلاف و الإسكافي و المفيد «6».

______________________________

(1) الذكرى: 267.

(2) كفاية الأحكام: 279.

(3) الرسالة الجعفريّة (رسائل المحقق الكركي 1): 126.

(4) في «ح» و «ق»: قضاء و الصحيح ما أثبتناه.

(5) المسالك 2: 401.

(6) نسبه إليهم في الحدائق 10: 18، و الرياض 2: 390.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 66

أمّا كلام المبسوط فهو أنّه قال: العدالة في اللغة: أن يكون الإنسان متعادل الأحوال متساوياً.

و في الشريعة: هو من كان عدلًا في دينه، عدلًا في مروّته، عدلًا في أحكامه.

و العدل في الدين: أن يكون مسلماً، لا يُعرَف منه شي ءٌ من أسباب الفسق.

و في المروّة: أن يكون مجتنباً للأُمور التي تسقط المروّة، مثل: الأكل في الطرقات، و مدّ الرجلين بين الناس، و لبس الثياب المصبّغة.

و في الأحكام: أن يكون بالغاً عاقلًا.

فمن كان عدلًا في جميع ذلك قبلت شهادته.

ثم قال ما ملخّصه: فإن ارتكب شيئاً من الكبائر سقطت شهادته، فأمّا إن كان مجتنباً للكبائر و مواقعاً للصغائر فإنّه يعتبر الأغلب من حاله «1». انتهى.

و قال فيه أيضاً: إن عرف عدالتهما حكم بشهادتهما، و إن عرفهما فاسقين ظاهراً أو باطناً لم يحكم، و إن لم يعرفهما، بل جهل حالهما- فالجهل على ضربين، أحدهما: لا يعرفهما أصلًا، و الثاني: أن يعرف إسلامهما دون عدالتهما لم

يحكم بشهادتهما حتى يبحث عن عدالتهما.

إلى أن قال ما ملخّصه: و به قال قومٌ إن كان في قصاصٍ أو حدّ، و إن كان غير ذلك حكم بشهادتهما بظاهر الحال، و لم يبحث عن عدالتهما بعد أن يعرف إسلامهما، إلّا أن يقول المحكوم عليه: هما فاسقان، فحينئذٍ

______________________________

(1) المبسوط 8: 217.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 67

لا يحكم حتى يبحث، فإذا عرف العدالة حكم، و إذا حكم بشهادتهما بظاهر العدالة عنده بعد حكمه فلو ثبت أنّهما كانا فاسقين حين الحكم بشهادتهما لم ينقض الحكم، و الأول أحوط عندنا «1». انتهى .

قال في المختلف بعد حكايته: و هو يعطي ترجيح ما قاله المفيد «2». أي وجوب الاستزكاء، كما مرّ في البحث الأول.

و أمّا كلامه في الخلاف فقد مرّ في صدر البحث الأول «3».

و أمّا المفيد فقال: العدل من كان معروفاً بالدين، و الورع عن محارم اللَّه تعالى «4».

و قال أيضاً ما سبق كما حكاه عنه في المختلف ما ملخّصه: إنّه إذا شهد عند الحاكم من لا يخبر حاله، و كان على ظاهر العدالة، يكتب شهادته، و لم ينفذ الحكم بها حتى يثبت أمره، فإن عرف له ما يوجب جرحه أو التوقّف في شهادته لم يمض الحكم بها، و إن لم يعرف شيئاً ينافي عدالته و إيجاب الحكم لم يتوقّف «5». انتهى .

قال في المختلف بعد نقله: و هو يعطي وجوب الاستزكاء في جميع الأحكام «6».

و أمّا الإسكافي فقد سبق كلامه في البحث الأول، و قال أيضاً: إذا كان الشاهد حرّاً، بالغاً، مؤمناً، بصيراً، معروف النسب، مرضيّاً، غير مشهور

______________________________

(1) المبسوط 8: 104.

(2) المختلف: 704.

(3) الخلاف 2: 591.

(4) المقنعة: 725.

(5) المقنعة: 730.

(6) المختلف: 704.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 68

بكذب

في شهادة، و لا بارتكاب كبيرة، و لا مقام على صغيرة، حسن التيقّظ، عالماً بمعاني الأقوال، عارفاً بأحكام الشهادة، غير معروف بحيف على معامل، و لا متهاون بواجب من علم أو عمل، و لا معروف بمعاشرة أهل الباطل، و لا الدخول في جملتهم، و لا بالحرص على الدنيا، و لا بساقط المروّة، بريئاً من أهواء أهل البدع التي توجب على المؤمنين البراءة من أهلها، فهو من أهل العدالة المقبول شهادتهم «1». انتهى .

قال في المختلف بعد حكايته: و ظاهر كلامه موافقة الشيخ في المبسوط «2».

ثم أقول: أمّا كلام المبسوط فما حكي عنه أولًا و إن أفاد أنّ العدل في الدين هو أن يكون مسلماً لا يُعرَف منه فسق، و لكن صرّح بأنّ العدالة المعتبرة في الشاهد ليست ذلك فقط، بل أن يكون مع ذلك بالغاً عاقلًا، مجتنباً عن منافيات المروّة.

و ظاهر ذلك و إن أفاد أنّ نفس العدالة ذلك إلّا أنّ ما نقل عنه بعد ذلك صريح في أنّ العدالة غير ذلك، و إن كان يكتفى في الحكم بها بذلك.

فإنّ قوله: و الثاني: أن يعرف إسلامهما دون عدالتهما لم يحكم بشهادتهما حتى يبحث عن عدالتهما.

و قوله: و إن كان غير ذلك حكم بشهادتهما بظاهر الحال و لم يبحث عن عدالتهما بعد أن يعرف إسلامهما.

و قوله: إلّا أن يقول المحكوم عليه هما فاسقان.

و قوله: فلو ثبت أنّهما كانا فاسقين حين الحكم.

______________________________

(1) نقله عنه في المختلف: 717.

(2) المختلف: 718.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 69

صريحةٌ في مغايرة العدالة مع ظاهر الإسلام و عدم ظهور الفسق.

و لذا صرّح الفاضل بعد نقله عنه: أنّه يعطي ترجيح ما قاله المفيد، أي ما نقله عنه قبل ذلك، و قال: إنّه يعطي

وجوب الاستزكاء.

و ممّا ذكرنا يظهر ظهور المحكيّ عن الخلاف أيضاً في المغايرة «1»، و يدلّ عليه أيضاً قوله: و أيضاً الأصل في المسلم العدالة «2». فإنّها لو كانت نفس ظاهر الإسلام لم يصحّ جعل العدالة أصلًا فيه، بل يكون نفسه.

و أمّا كلام المفيد، فأول ما نقلنا عنه صريح في المغايرة و إن العدالة هي المعروفيّة بالدين و الورع عن محارم اللَّه.

و كلامه الثاني و إن تضمّن قوله: و إن لم يعرف شيئاً ينافي عدالته لم يتوقّف، و لكن مع ذلك متضمّن لما يصرّح بالمغايرة، حيث حكم بوجوب البحث مع كونه على ظاهر العدالة، و لذا قال الفاضل بعد نقله: إنّه يعطي وجوب الاستزكاء.

و أمّا كلام الإسكافي، فكلامه الأول المتقدّم في المسألة الاولى لا يدلّ على كون العدالة ظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق أصلًا، بل هو إلى الدلالة إلى المغايرة أظهر.

و كلامه الثاني: على أنّ من كان حرّا، بالغاً، مؤمناً، بصيراً مرضيّاً، غير معروف بفسق، بريئاً من أهواء أهل البدع، فهو من أهل العدالة. و أين ذلك من ظاهر الإسلام؟! فإنّه يتضمّن اشتراط الإيمان و كونه مرضيّاً و بريئاً من أهواء أهل البدع.

______________________________

(1) الخلاف 2: 591.

(2) الخلاف 2: 592.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 70

و قد عرفت ما ذكره الإمام في تفسيره في معنى الرضاء «1».

و ظهر ممّا ذكرنا أنّ القول بكون العدالة هي ظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق ممّا لم يظهر قائل به، و نسبته إلى من نسب إليه غير جيّدة.

و أمّا حسن الظاهر، فالظاهر أنّه هنا في قبال حسن الباطن، و المراد من حسن الباطن: هو ملكة الإتيان بالأفعال الحسنة و الاجتناب عن القبيحة حتى تكون سريرته حسنة، فحسن الظاهر: كون

ظاهره ظاهراً حسناً، فتظهر منه الأفعال الحسنة، و يجتنب القبائح ظاهراً من غير معرفة بباطنه و سريرته. فيتّحد حسن الظاهر مع العدالة، بمعنى الملكة في الآثار الظاهرة، و يختلفان بالحقيقة، فيكون ظهور هذه الآثار أو نفسها عدالةً على القول بحسن الظاهر، و مبدؤها و منشأها يكون هي العدالة على القول بالملكة.

ثم إنّا لم نعثر من المتقدّمين على الفاضلين من ذكر ذلك بهذا العنوان، أي عنوان حسن الظاهر.

نعم، ذكره المحقّق في الشرائع «2» و الفاضل في بعض كتبه كالإرشاد و غيره «3» من غير ارتضائهما به، و ذكره جمع ممّن تأخّر [عنهما «4»] أيضاً «5».

إلّا أنّه يوجد في كلمات جمع من الأوائل ما لا يأبى عن حمله عليه ظاهراً، كما سبق في كلام المفيد، و قول الشيخ في النهاية، قال: العدل

______________________________

(1) راجع ص 24 و 26.

(2) الشرائع 4: 76.

(3) الإرشاد 2: 141، القواعد 2: 205.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 18    70     المسألة الأولى: قيل: اختلفوا في معنى العدالة، ..... ص : 64

(4) في «ح» و «ق»: عنده، و الأنسب ما أثبتناه.

(5) كصاحب المدارك 4: 66، و الذخيرة: 305، و الحدائق 10: 23.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 71

الذي يجوز قبول شهادته للمسلمين و عليهم هو أن يكون ظاهره ظاهر الإيمان، ثم يعرف بالستر و الصلاح و العفاف و الكفّ عن البطن و الفرج و اليد و اللسان، و يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللَّه عليها النار.

إلى أن قال: الساتر لجميع عيوبه، و يكون متعاهداً للصلوات الخمس، مواظباً عليهن، حافظاً لمواقيتهن، متوافراً على حضور جماعة المسلمين، غير متخلّف عنهم إلّا لمرض أو علّة أو عذر «1».

و الحلبي قال: يثبت حكم العدالة بالبلوغ و

كمال العقل، و الإيمان، و اجتناب القبائح أجمع و الظنّة و العداوة و الحسد و المناقشة «2».

و القاضي قال: العدالة معتبرة في صحّة الشهادة على المسلم، و تثبت في الإنسان بشروط، و هي: البلوغ، و كمال العقل، و الحصول على ظاهر الإيمان، و الستر، و العفاف، و اجتناب القبائح، و نفي التهمة و الظنّة و الحسد و العداوة «3».

و ابن حمزة قال: فالعدالة في الدين: الاجتناب عن الكبائر، و عن الإصرار على الصغائر «4».

و الحلّي قال: فالعدل في الدين أن لا يخلّ بواجب، و لا يرتكب قبيحاً، و قيل: لا يعرف بشي ء من أسباب الفسق، و هذا قريب أيضاً «5». انتهى .

______________________________

(1) النهاية: 325.

(2) الكافي في الفقه: 435، و في «ق» و ما نقله عنه في المختلف: 717: المنافسة، بدل: المناقشة.

(3) المهذّب 2: 556.

(4) الوسيلة: 230.

(5) السرائر 2: 117.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 72

فإنّه يمكن أن يراد من هذه الكلمات أنّه إذا كان كذلك ظاهراً يكون عادلًا، و تكون هذه الأفعال الظاهرة هي العدالة.

و لكن الظاهر من المعروفيّة بذلك كما في كلام المفيد [و من ] «1» قوله: و يعرف بذلك كما في كلام النهاية أن يُعلَمَ ذلك منه، و حسن الظاهر لا يكفي في العلم و المعرفة، و كذا الورع عن المحارم، أو اجتناب القبائح أو الكبائر. و نحوها ممّا وقع في كلمات الباقين حقائق في تحقّق هذه الأُمور واقعاً، و مجرّد الحصول في الظاهر لا يكفي فيه، فالمستفاد من هذه الكلمات أيضاً أمر زائد على حسن الظاهر، فهو أيضاً كظاهر الإسلام ممّا لم يُعلَمْ قائل بكفايته بخصوصه من القدماء، بل المتوسّطين، فكيف عن كونه نفس العدالة؟! و يمكن أن يكون المراد من الظاهر:

المحسوس مقابل غير المحسوس الذي هو الملكة، فيكون المراد: أنّ العدالة هي هذه الأفعال المحسوسة و إن لم يكن منشؤها الملكة. و لا ينافي اشتراط العلم و المعرفة بها؛ لعدّها عدالة، فيكون المراد: أنّه يجب أن تعرف منه هذه الأعمال حتى يحكم بعدالته؛ لأنّها هي العدالة.

نعم، ورد هذا العنوان في عبارات جمع من المتأخّرين «2» مضطرباً بين عدّه دليل العدالة و طريق معرفته كما هو ظاهر الأكثر أو نفسها.

و يمكن أن يكون المراد منه أيضاً: الظاهر المقابل للواقع و نفس الأمر، و أن يراد منه المحسوس؛ و كيف كان لم يظهر من أحد القول بأنّه هو العدالة.

______________________________

(1) في «ح» و «ق»: من، و الأنسب ما أثبتناه.

(2) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 361.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 73

و قال والدي العلّامة (قدّس سرّه) في المعتمد بعد ما قال أولًا: إنّ حسن الظاهر أو ظاهر الإسلام لا يكفي لطريق معرفة العدالة؛ لعدم استلزامهما لدليل العدالة حتى يعلم ثبوته بثبوتهما و نعْمَ ما قال-: إنّ هذا الاكتفاء إما لكونهما دليل العدالة كما يومئ إليه بعض الظواهر فقد ظهر فساده.

أو نفسهما، فهو خلاف ما ثبت في عرف الشريعة و الحكمة، بل الظاهر مخالفته للإجماع؛ إذ لم نعثر على مصرّح من المشاهير بكون العدالة في عرف الشرع أحدهما.

أو لعدم اشتراطهما في الشاهد و مثله، و كفاية أحدهما في قبول الشهادة و إن لم يكن عدالة و لا دليلًا لها، فهو خلاف النصّ القرآن و الإجماع القطعي، بل الضرورة. انتهى ملخّصاً.

و أمّا الملكة التي تبعث على ملازمة التقوى و المروّة، و اجتناب الكبائر و الأفعال الرذيلة فهي الراجعة إلى العدالة في عرف علماء الأخلاق، حيث عرّفوها: بأنّها هيئة

نفسانيّة يقتدر بها على تعديل جميع الصفات و الأفعال، و ردّ الزائد و الناقص إلى الوسط، و انكسار سورة التخالف بين القوى المتخالفة.

و بتقرير آخر: ملكة يقتدر بها العقل العملي على ضبط جميع القوى تحت إشارة العقل النظري.

و وجه الرجوع: أنّ ارتكاب المعاصي أو مخالفة المروّة إنّما ينشأ عن مخالفة القوّة العمليّة أوامر العقل النظري، و إلّا لما ارتكب إلّا ما يشير إليه، و هو لا يشير إلّا إلى ملازمة التقوى و المروّة، فجميع الفضائل النفسانيّة و الأعمال الظاهريّة مرتّبة على العدالة.

و لذا قال أفلاطون: العدالة إذا حصلت للإنسان أشرق بها كلّ واحد

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 74

من أجزاء نفسه، و يستضي ء بعضها من بعض، فينتهض حينئذٍ لفعلها الخاصّ على أفضل ما يكون، فيحصل لها غاية القرب إلى مبدئها سبحانه. انتهى .

ثم كلام القدماء من فقهاء أصحابنا في تفسير العدالة الشرعيّة خالٍ عن ذكر الملكة، كما سمعت شطراً منها.

نعم، هو المشهور بين المتأخّرين من زمان المحقّق إلى زماننا هذا، و بها فسّرت في أكثر كتبهم، كما في المختلف و القواعد و الإرشاد و التحرير و تهذيب الاصول و نهاية الأُصول و الإيضاح و منية المريد و الدروس و الذكرى و التنقيح و الروضة و روض الجنان و جامع المقاصد و المعالم و تجريد الأُصول و أنيس المجتهدين و المعتمد و رياض المسائل «1»، و غيرها.

و في مجمع الفائدة: إنّه هو المشهور في الفروع و الأُصول «2».

و في كشف الرموز: إنّ تعريفها بذلك مشهور بين العامّة و الخاصّة في الفروع و الأُصول.

و عزاه في التنقيح إلى الفقهاء «3». و به عرّفها الغزالي و العضدي و الآمدي «4». بل الظاهر أنّ القدماء أيضاً و إن لم

يصرّحوا بلفظ الملكة و لكنّهم أرادوها من نحو قولهم: الورع عن محارم اللَّه، و الستر و العفاف،

______________________________

(1) المختلف: 718، القواعد 2: 236، الإرشاد 2: 156، التحرير 2: 208، الإيضاح 4: 420، الدروس 2: 125، الذكرى: 230، التنقيح 4: 289، الروضة 1: 378، روض الجنان: 289، جامع المقاصد 2: 372، معالم الأُصول: 201، الرياض 2: 391.

(2) مجمع الفائدة 2: 351.

(3) لم نعثر عليه في التنقيح، و لكنه موجود في كنز العرفان 2: 384.

(4) الغزالي في المستصفى 1: 157، العضدي في شرح المختصر: 167، الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1: 308.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 75

و الكفّ و الاجتناب عن الكبائر و القبائح، و عدم الإخلال بالواجب، فإنّ المتفاهم عرفاً من هذه العبارات إرادة ملكة هذه الأُمور.

فإنّ من قال: اشتر عبداً كاتباً قارئاً بشّاشاً، لا يفهم منه إلّا صاحب ملكات هذه الصفات لا نفس الفعل.

بل و كذا لو قال: اشتر عبداً ورعاً عفيفاً مجتنباً عن مخالطة الأراذل، أو قال: لا تجالس إلّا غير مخلّ بالواجب، و نحو ذلك، لا يفهم منه عرفاً غير ذي الملكات، بل لولاه لكان المراد إمّا المتلبّس بهذه الآثار دائماً، أو أغلبيّاً؛ ضرورة عدم إرادة مجرّد التلبّس حال الشهادة.

و المتلبّس بها دائماً أو غالباً لا ينفكّ عن الملكة؛ لأنّها مسبّبة عن تكرّر الآثار، مع أنّا نعلم قطعاً أنّهم لا يعدّون مطلق الملبس بها و لو دائماً، حتى الذي كان تلبّسه لأجل مانع من الترك، كعدم التمكّن من شرب الخمر أو الزنا؛ لعدم الانفكاك عمّن يراقبه، أو عدم تركه الصلاة لأجل مخالطة الناس، و لولاه لترك عادلًا قطعاً، ما لم يكن ذلك من جهة نفسانيّة، فيكون مرادهم ملكة هذه الآثار قطعاً.

نعم،

تختلف كلماتهم فيما تضاف إليه الملكة، فمنهم من عبّر بملكة الورع «1»، و منهم من عبّر بملكة الاجتناب عن الكبائر و الإصرار على الصغائر «2»، و منهم من عبّر بملكة عدم الإخلال بالواجب و عدم ارتكاب القبائح «3»، و منهم من عبّر بملكة التقوى «4»، إلى غير ذلك. و مرجع الكلّ إلى أمر واحد.

______________________________

(1) قال المفيد في المقنعة: 725، و العدل من كان معروفاً بالدين و الورع عن محارم اللَّه عزّ و جلّ.

(2) كالشيخ حسن في معالم الأُصول: 201.

(3) كالقاضي في المهذّب 2: 556، و ابن إدريس في السرائر 2: 117.

(4) كالعلّامة في القواعد 2: 236، و المقداد في التنقيح 4: 289 و الأردبيلي في مجمع الفائدة 2: 351.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 76

و على هذا، فيكون تفسير العدالة بالملكة هو المشهور بين القدماء و المتأخّرين، بل هو المجمع عليه بين الأُصوليين و الفروعيين كافّة، حتى من جعل ظاهر الإسلام دليلًا عليها.

و لو أبيت عن اتّفاقه أيضاً فلا شكّ أنّه لا يقدح في الإجماع؛ لندرة القائل به، فيكون كون العدالة الشرعيّة هي ملكة الآثار المذكورة ممّا انعقد عليه الإجماع أي أنّها هي إجماعاً و إن اختلفت كلماتهم في الجملة فيما تضاف إليه الملكة كما عرفت.

و لو أبيت عن ذلك أيضاً فنقول: لا شكّ و لا ريب في الإجماع على كونها عدالة، بمعنى: أنّ ذا الملكة عادل إجماعاً أي تتحقّق له العدالة بأيّ معنى فُسّرت- فتكون هي القدر المشترك المجمع عليه قطعاً، و يكون الكلام في غيرها أنّه هل تتحقّق العدالة الشرعيّة بدونها أيضاً أم لا؟

و لتحقيق المقام في ذلك المرام نقول: إنّ العدالة في اللغة: الاستواء و الاستقامة، و التوسّط بين طرفي الإفراط

و التفريط. و قد تُطلَق على مقابل الجور.

و ظاهرٌ أنّ معناها اللغوي لا يمكن أن يراد منها في المواضع التي جعلها الشارع شرطاً، و لا خلاف في ذلك أيضاً، فاللّازم أن يمعن النظر في أنّه هل تثبت لها حقيقة شرعيّة أم لا؟

فإن ثبتت فهي المراد في كلام الشارع، و لا حاجة إلى البحث عن المعنى الآخر، إلّا أن تقام قرينة في موضع أنّ المراد هنا غير الشرعي.

و إن لم تثبت فيجب البحث و الفحص ثانياً في أنّه هل نصَّ الشارع أو أقام قرينة على أنّ المراد من العدالة فيما جعلها شرطاً أيّ شي ء هو، أم لا؟

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 77

فإن ظهر نصّ أو قرينة منه على مراده يجب الحمل عليه أيضاً.

و إن لم يظهر فيجب الحمل على المعنى المجازي إن اتّحد، و على الأقرب الثابت وجوب الحمل عليه إن تعدّد، سواء ثبتت لها حقيقة عرفيّة عامّة أو خاصّة أم لا؛ لأنّ العرفيّة العامّة إنّما يحمل اللفظ عليها إذا علم تحقّقها في زمان الشارع أيضاً، و إلّا فتُدفَع بأصالة تأخّر الحادث.

و إن لم يكن له أقرب كذلك، فإن كان في تلك المعاني المتعدّدة قدر مشترك فيحكم بإرادته قطعاً، و يُنفى الباقي بالأصل إن أمكن، و إلّا فيدخل الإجمال في اللفظ.

و بعد ذلك نقول: إن إثبات الحقيقة الشرعيّة في لفظ العدالة مشكل، سيّما في زمان نزول الآية و ما يقرب منه.

و تعريف الفقهاء لا يفيد النقل في زمن الخطاب.

و طريق معرفة الحقيقة الشرعيّة إمّا النصّ، أو الإجماع، أو إثبات علامات الحقيقة في زمان الشارع.

و الأخير غير متحقّق فيه و إن تحقّق في كثير من الألفاظ المتداولة.

و الإجماع على الحقيقة الشرعيّة غير ثابت.

و النصوص خالية

عن بيان الحقيقة فيها.

و على هذا، فاللازم أولًا: الرجوع إلى الأخبار، حتى ينظر أنّه هل بيّن الشارع مراده من العدالة، أو أقام قرينة عليه، أم لا؟ فإن وجد فيعمل بمقتضاه، و إلّا- فلتعدّد المجاز، و عدم وجود ما يعيّن أحد المجازات يؤخذ بالقدر المشترك، أو يعمل فيه بمقتضى الأُصول المقرّرة.

و الأخبار التي ذكروها في هذا المقام كثيرة، و لكن أكثرها ممّا يدلّ على اشتراط صفات في قبول الشهادة، و لا دلالة لها على تعيين معنى

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 78

العدالة أو المراد منها.

و تعليق قبول الشهادة عليها لا دلالة له على كونها عدالة، [كأخبار «1» قبول شهادة التائب المشار إليها في البحث الأول.

أو قبول شهادة من لا يعرف بفسق، كصحيحة حريز و رواية العلاء المتقدّمتين فيه أيضاً.

أو شهادة من عُلِمَ منه خير، كبعض الروايات المتقدّمة فيه أيضاً.

أو شهادة المرضيّ أو العفيف أو الصائن أو الصالح أو المأمون، [كبعض «2»] الأخبار المتقدّمة في صدر مسألة اشتراط البلوغ.

مع أنّ في المراد من أكثرها إجمالًا لا يتعيّن فيه معنى خاصّ، و لو تعيّن أيضاً فليس إلّا بعض ما اشتمل عليه الصحيح الآتي، فيجب اعتبار الباقي أيضاً حملًا للمطلق على المقيّد.

و الأخبار التي تتضمّن بيان معنى العدالة منحصرة في أربعة: روايتا سلمة بن كهيل و عرض المجالس المتقدّمتين «3».

و موثّقة سماعة: «من عامل الناس فلم يظلمهم، و حدّثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم، كان ممّن حرمت غيبته، و ظهر عدله، و وجبت اخوّته» «4».

و صحيحة ابن أبي يعفور: بِمَ تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: «أن تعرفوه بالستر و العفاف و كفّ البطن

______________________________

(1)] في «ح»: فأخبار، و هي ساقطة عن

«ق»، و الأنسب ما أثبتناه.

(2) في «ح» و «ق»: لبعض، و الأنسب ما أثبتناه.

(3) في ص 59.

(4) الكافي 2: 239، 28، الوسائل 8: 315 أبواب صلاة الجماعة ب 11 ح 9.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 79

و الفرج و اليد و اللسان، و يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللَّه عليها النار، من شرب الخمر، و الزنا، و عقوق الوالدين، و الفرار من الزحف، و غير ذلك، و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه، حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه، و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته في الناس، و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ و حفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين، و أن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم إلّا من علّة، فإذا كان كذلك لازماً لمصلّاه عند حضور الصلوات الخمس، فإذا سُئل عنه في قبيلته و محلّته قالوا: ما رأينا منه إلّا خيراً، مواظباً على الصلوات، متعاهداً لأوقاتها في مصلّاه، فإنّ ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين، و ذلك أنّ الصلاة ستر و كفّارة للذنوب، و ليس يمكن الشهادة على رجل بأنّه يصلي إذا كان لا يحضر مصلّاه و يتعاهد جماعة المسلمين، و إنّما جعل الجماعة و الاجتماع إلى الصلاة لكي يُعرَفَ من يصلّي ممّن لا يصلّي، و من يحفظ مواقيت الصلاة ممّن يضيع، و لو لا ذلك لم يمكن أحد أن يشهد على آخر بصلاح؛ لأنّ من لا يصلّي لإصلاح له بين المسلمين، فإنّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) همّ بأن يحرق قوماً في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين، و قد كان فيهم من يصلّي في بيته

فلم يقبل منه ذلك، و كيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممّن جرى الحكم من اللَّه عزّ و جلّ و من رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) فيه الحرق في جوف بيته بالنار؟!» إلى أن قال: «و من رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته، و سقطت بينهم عدالته» إلى أن قال

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 80

«و من لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته، و ثبتت عدالته بينهم» «1».

و بيان معنى الحديث: أنّه لمّا سُئل عمّا تعرف به عدالة الرجل، فأجاب (عليه السّلام) بمعرفة كونه أهل الستر و العفاف، و كفّ الجوارح الأربع، و مجتنباً عن الكبائر. و لمّا كان في معرفة ذلك خفاء لكونها في غاية الصعوبة فبيّن ثانياً أنّ الدليل على ذلك و السبيل إلى معرفته كونه ساتراً لجميع عيوبه، متعاهداً للصلوات الخمس و حفظ مواقيتهن، و حضور جماعة المسلمين، غير متخلّف عن جماعتهم.

ثم بقي شيئان:

أحدهما: أنّ ستر العيوب و الاجتناب المشترط في العدالة إلى أيّ حدّ يلزم؟ فإنّه هل يلزم أن يكون ساتراً لمن له معاشرة و مصاحبة و خلطة، أو كلّ من لم يكن عالماً بعيوبه لأجل ستره و لو في مدّة قليلة؟ و كذا مواظبته و تعاهده للصلاة، فإنّه هل يكفي مجرّد رؤيته لازماً لمصلّاه في مدّة قليلة و زمان يسير، أو يستدعي الحكم بالعدالة أكثر من ذلك؟ فبيّن (عليه السّلام): بأنّ مجرّد الرؤية لا يكفي في ذلك، بل ينبغي أن يكون لازماً للمصلّي، و مع ذلك إذا سُئل في قبيلته و أهل محلّته- الذين عاشروه في مدّة طويلة و اطّلعوا على بعض من خفايا أمره يشهدوا بهذين الأمرين.

و ثانيهما: أنّه (عليه السّلام) حكم أولًا بأنّ

العدالة تعرف بالستر و الكفّ و اجتناب الذنوب، ثم جعل دليل ذلك التعاهد للصلوات، و كان وجه ذلك خفيّاً، فبيّنه (عليه السّلام) بقوله: «و ذلك أنّ الصلاة ستر» أي دافع و حاجز و كفّارة

______________________________

(1) الفقيه 3: 24، 65، التهذيب 6: 241، 596، الإستبصار 3: 12، 33، الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41 ح 1 و 2، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 81

للذنوب، كما قال سبحانه إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ «1».

ثم بقي شي ء آخر، هو أنّ الصلاة إذا كانت كفّارة للذنوب فهي تكفي في الحكم بالعدالة، و لم تكن حاجة لحضور جماعة المسلمين، و كيف جعل ترك ذلك المستحبّ قادحاً في العدالة؟ فأوضَحَه بأنّ اشتراط حضور جماعتهم ليس لكونه في نفسه دليلًا على الاجتناب من الذنوب و كفّارة لها، بل لأنّه لمّا لم تكن معرفة كون أحد ساعياً في صلاته و حافظاً لمواقيتهن، و لم يمكن الشهادة بأنّه يصلّي إلّا مع التعاهد للجماعة و حضور المصلّى، فلذلك جعل التعاهد لها من متمّمات الحكم بالعدالة.

ثم لمّا كان لأحد أن يقول: إذا كان اشتراط التعاهد لذلك، فلو علمنا أنّ أحداً يصلّي في بيته لكان كافياً، و لا يحتاج إلى تعاهد للجماعة. استأنف كلاماً آخر و قال: «إنّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) همّ» إلى آخره، يعني: أنّ ما ذكر كان سبباً لشرع الجماعة، و لمّا كان تركها في أوائل الإسلام مؤدّياً إلى ترك الصلاة همَّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) بأن يحرق قوماً في منازلهم و إن كان فيهم من يصلّي في بيته؛ لاستقرار ذلك الأمر المستحبّ الموجب لاستقرار الواجب، فلأجل ذلك لا يحكم بالعدالة و إن علمنا

بكون الرجل مصلّياً في بيته.

ثم المفيد فيما نحن فيه هو ما ذكره أولًا من قوله: «أن تعرفوه» إلى قوله «و غير ذلك» و أمّا ما بعده فلا يفيد ها هنا، و إن أفاد في طريق معرفة العدالة.

نعم، يستفاد من جملة ما ذكره اشتراط التعاهد للصلاة و حفظ

______________________________

(1) العنكبوت: 45.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 82

مواقيتهنّ و حضور جماعة المسلمين في ثبوت أصل العدالة.

ثم إنّ حاصل ما يدلّ عليه «1» الستر و العفاف و كفّ الجوارح الأربع و اجتناب الكبائر، و إذا ضمّ إليه ما يستفاد من بعده أيضاً [يزيد «2»]: حفظُ مواقيت الصلاة و حضور جماعة المسلمين.

هذا على جعل قوله: «أن تعرفوه» إعادةً لقوله: بِمَ تُعرَف، و يكون قوله: «و يعرف باجتناب الكبائر» عطفاً على قوله: «تعرفوه» و يكون الفعل منصوباً بلفظ أن، يعني: أنّه لمّا سُئل أنّه بِمَ تعرف بين المسلمين عدالة الرجل؟ أجاب: بأن تعرفوه بالستر و العفاف و اجتناب الكبائر، أي يعرف بهذه الصفات.

و يمكن أن يكون: «يعرف» مضموماً، و يكون عطفاً على مجموع: «أن تعرفوه»، يعني: أنّ العدالة تعرف بالستر و العفاف و الكفّ، و تعرف باجتناب الكبائر أيضاً.

فعلى الأوّل يكون المجموع معرِّفاً واحداً، و على الثاني يكون كلّ منهما معرِّفاً برأسه.

و يمكن أن لا يكون قوله: «أن تعرفوه» إعادةً لقوله: «تعرف» بل يكون: «يعرف» مقدّراً، و يكون المعنى : و يعرف بأن تعرفوه بالستر، أي يعرف بالمعروفية بهذه الصفات، و يكون لقوله: «و يعرف» حينئذٍ الاحتمالان المذكوران ان أيضاً، و لكن لا يختلف المطلوب بذانك الاحتمالان كما لا يخفى .

و هاهنا احتمال آخر، و هو أن يكون قوله: «و يعرف» ابتداءً للكلام،

______________________________

(1) في «ح» و «ق»: زيادة: أنّ.

(2) في «ح» و

«ق»: بزيد، و الأنسب ما أثبتناه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 83

و يكون المستتر فيه راجعاً إلى الستر و العفاف و الكفّ، يعني: العدالة: الستر و العفاف و الكفّ، و يعرف الستر و العفاف و الكفّ الذي هو العدالة باجتناب الكبائر، و لا يحتاج إلى معرفة الكفّ عن جميع المعاصي.

و هذا هو ظاهر الأكثر، حيث اقتصروا بالأخذ في تعريف العدالة باجتناب الكبائر، فيكون هو معرّفاً للستر و العفاف و الكفّ، و يكون ما بعده معرّفاً إمّا للمجموع أو للحكم باجتناب الكبائر.

ثم إنّ ما ذكر في الصحيحة على جميع احتمالاتها من الأوصاف هي الأوصاف الظاهرة التي ذكرها القدماء، و جعلوها أو ملكتها هي العدالة.

فإن قلنا: إنّ المتبادر من ذلك الكلام إرادة ملكة هذه الأوصاف كما أشرنا إليه سابقاً فيكون مدلول الصحيحة هو كون العدالة ملكة، و إلّا فيتردّد الأمر بينها و بين هذه الأوصاف؛ لأنّ ما علم منها هو أنّ العدالة تعرف بكذا و كذا، و لا شكّ أنّ معرفتها بها يحتمل أن تكون لأجل كونها هي هي، و كلّ وصفٍ جزءٌ لها كما يقال: يعرف الكتاب الفلاني بالمسائل الفلانيّة و أن تكون لأجل كونها علائم لها أو لوازم، كما يقال: يعرف وجود النار بوجود الدخان.

و على هذا، فمدلول الصحيحة: أنّ هذه الأوصاف ممّا يعلم بحصولها العدالة. و أمّا أنّ العدالة هل هي هي، أو الملكة؟ فلا يعلم منه حينئذٍ.

هذا معنى الصحيحة.

و أما مدلول رواية سلمة «1» فهو: أنّ المسلم الذي لم يكن مجلوداً في حدّ، أو معروفاً بشهادة: زور، أو ظنيناً و المراد ما يشمل الفاسق كما صرّح في الأحاديث المعتبرة [فهو «2»] عدل.

______________________________

(1) المتقدّمة في ص 59.

(2) ما بين المعقوفين ليس في «ح»

و «ق»، أضفناه لاستقامة العبارة.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 84

و مفاد رواية المجالس «1»: أنّ من ولد على فطرة الإسلام و لم تر بعينك أنّه يذنب و لم يشهد به عدلان فهو من أهل العدالة.

و معنى رواية سماعة «2»: أنّ من اجتمعت خصالٌ ثلاث فيه و هي: عدم الظلم عند المعاملة، و عدم الكذب عند المحادثة، و عدم الخلف عند المواعدة فهو ممّن ظهرت عدالته.

و قد يقال: إنّه إن كان المراد من هذه المفاداة أنّ بتوسّط تلك الأُمور تعرف العدالة إمّا لكونها هي هي أو لوازمها و خواصّها، فيحصل التعارض بين تلك الأخبار الثلاثة و بين الصحيحة بالعموم و الخصوص المطلق؛ إذ مفاد الصحيحة: أنّ العدالة ملكة الستر و العفاف و الكفّ و اجتناب الكبائر و مواظبة الصلوات الحاصلة للمسلم.

أو تعرف بهذه الأُمور، إمّا من جهة أنّها هي، أو أنّها من لوازمها الغير المتخلّفة عنه.

و مفاد الثلاثة: أنّها الإسلام و عدم العلم بارتكاب الفسق؛ أو: الإسلام و العلم بعدم الظلم و الكذب و الخلف بشي ء.

و لا شكّ أنّ الأخيرين أعمّ مطلقاً من الأول، فيجب تخصيصهما به، سيّما مع ضعف أسناد الثلاثة و صحّة هذه، و معاضدة الصحيحة بالشهرة القويمة القديمة و الجديدة، بل بالإجماع، و مخالفة الثلاثة لعمل المتقدّمين و المتأخّرين بحيث صارت شاذّة، كما صرّح به في الشرائع «3» و موافقة الصحيحة لأصالة عدم ثبوت العدالة لغير من اتّصف بهذه الأوصاف.

______________________________

(1) المتقدّمة في ص 59.

(2) المتقدّمة في ص 76.

(3) الشرائع 4: 76.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 85

أقول: إن كان المراد في هذه الأخبار: أنّ هذه الأُمور نفس العدالة، لأمكن القول بتعارضها، و يكون بالتباين لا بالعموم و الخصوص المطلقين.

أمّا لو

كان المراد التعريف باللوازم و الآثار فلا تعارض أصلًا، كما لا تعارض بين قولك: يعرف الإنسان بالنطق و الضحك، و قولك بالكتابة و استقامة القامة؛ و لا بين قولك: تعرف النار بالإحراق، و قولك: تعرف بالإحراق و الدخان.

نعم، يعارض مفهوم الشرط في الصحيحة في قوله: «فإذا كان كذلك لازماً» إلى آخره، و قوله: «و من رغب عن جماعة المسلمين» و قوله: «من لزم جماعتهم» إلى آخره الأخبار الثلاثة بالعموم من وجه، و كذا قوله فيها: «و كيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين».

و على هذا، فإن رجّحنا الصحيحة بالمرجّحات المتقدّمة، و إلّا فيرجع إلى الأصل، و هو أيضاً مع الصحيحة، بل لنا أن نقول: إنّه قد عرفت أنّ ما يستفاد من الأخبار الثلاثة من كون العدالة هي ما ذكر فيها أو ملزوماً له إمّا لا قائل به منّا أصلًا، أو شاذٌّ نادرٌ لا يُعبأ به، و ثبت على خلافه الإجماع، و مثل ذلك الخبر لا يكون حجّة البتّة، فلا يكون للصحيحة معارض صالح للمعارضة، فتكون هي المرجع في معرفة العدالة.

و لكن لو لم نقل أنّها ظاهرة في إرادة الملكة يكون مدلول الصحيحة في معنى العدالة مردّداً بين معنيين:

أحدهما: الهيئة النفسانيّة التي ذكرها المتأخّرون.

و ثانيهما: الأوصاف الظاهرية، كما هو أحد احتمالي كلمات القدماء. و تلك الأوصاف و إن كانت مختلفة في عباراتهم إلّا أنّ مرجع الجميع الى أُمور متقاربة، بل أمر واحد.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 86

و لكن ذلك التردّد غير ضائر في ترتّب الثمرة في هذا المقام؛ لأنّه لو جعل الشارع أو غيره وجود شي ء مناطاً لحكم من الأحكام و لذلك احتجنا إلى معرفة ذلك الشي ء و العلم بحقيقته لنحكم عند وجوده بترتّب

الحكم و عند عدمه بعدمه فكما يفيدنا العلم بحقيقة ذلك الشي ء كذلك تفيدنا معرفة علائمه و لوازمه المساوية، و كلّ واحد من هاتين المعرفتين يغنينا عن الأُخرى ؛ لأنّ مفاد الحكم هو العلم بوجود هذا الشي ء، و هو كما يحصل بمعرفة ذلك الشي ء نفسه، كذلك يحصل بالعلم بوجود ما لا ينفكّ ذلك الشي ء عنه.

فمراد الشارع من العدالة على هذا و إن لم يكن متعيّناً عندنا و لكن بيّن لنا أُموراً، أو حكم بعدم انفكاك العدالة عنها، سواء كان عدم الانفكاك لأجل أنّ تلك الامور أجزاء لها أو لجهة أُخرى، و هذا القدر يكفينا في الأحكام.

فإن قيل: ربّما يتخلّف العلم بوجود هذه الآثار عن العلم بوجود الملكة، كما إذا رأينا شخصاً في مدّة قليلة كشهر أو شهرين أو ثلاثة كانت جوارحه مجتنبة عن الكبائر، فإنّه يعلم وجود الآثار دون الملكة، سيّما إذا كان اجتنابه عن البعض لعدم المقتضي أو وجود المانع، كالعنّين الذي يجتنب عن الزنا و اللواط، و الأخرس أو الأصمّ أو الأعمى بالنسبة إلى معاصي هذه الجوارح، أو عدم حياة والديه بالنسبة إلى العقوق و عدمه، و كمن كان في موضع لم يتمكّن فيه من آلات بعض المعاصي.

بل ربّما يتخلّف عن الملكة أيضاً، كالصبي المعترف فيما يحرم على الرجال إذا بلغ و اجتنب المعاصي بعده، و رأيناه كذلك في شهر أو شهرين، و ربّما يعلم أنّه يحمّل نفسه على ترك المعاصي بالمشقّة الشديدة، و ربّما

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 87

يكون تركه لخوف الناس، و يعلم أنّه يطلب خلوة عن الناس لارتكاب المعاصي.

و على هذا، فتترتّب الثمرة على تعيين المراد ممّا في الصحيحة أيضاً، فإنّه إن كانت هذه الأُمور نفس العدالة يكون الأشخاص المذكورون

عدولًا، و إن كانت من آثار الملكة فلا يمكن الحكم بعدالة هذه الأشخاص، بل قد يمكن أن يستدلّ بما ذكر الى أنّ العدالة نفس هذه الأوصاف دون الملكة؛ لعدم استلزامها لها، للتخلّف في الأشخاص المذكورين.

و على هذا، فيلزم تعيين ما هو المراد في الصحيحة، و بيان الحكم في حقّ هذه الأشخاص في الحكم بالعدالة.

قلنا أولًا: إنّ هذا السؤال لا يختصّ وروده بجعل العدالة ملكة، بل يرد عليه و على من يفسّرها بالأوصاف الظاهريّة و حسن الظاهر أيضاً.

أمّا الأول فيقال له: إنّ من علمنا أنّه ليست له ملكة العدالة، و لكن يحمّل نفسه على ترك محارم اللَّه بالجهد و المشقّة طول الشهر و السنة، هل تقبل شهادته مع أنّه ليس بعادل بمعنى ذي الملكة أم لا؟ مع أنّه قد يعدّ أعلى مرتبة من العادل، و أكثر ثواباً منه، و أفضل درجة منه.

و أمّا الثاني فيقال له: من ترك المعاصي لأجل عدم الآلة، أو عدم المقتضي، أو وجود المانع الخارجي، سيّما إذا علم منه أنّ تركه إنّما هو لعدم التمكّن، و لو تمكّن أو ارتفع المانع لم يترك المعاصي.

و ثانياً: إنّ الملكة الباعثة على التقوى و تعديل القوى على قسمين:

أحدهما: نفس ملكة العدالة، و هي ملكة يقتدر بها على ترك المعاصي و اجتنابها عن الإفراط و التفريط بسهولة، و هي العدالة في عرف

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 88

علماء الأخلاق، و هي التي عدّها في رواية سماعة «1» المشتملة على تعداد خمسة و سبعين من جنود العلم و الجهل من جند العلم، و هي التي عرّفوها في بيان الحديث بأنّها ملكة لزوم الاقتصاد في كلّ شي ء من الأخلاق و الأعمال و معاملات الناس، من غير ميل

إلى طرفي الإفراط و التفريط. و هذه الملكة لا تحصل إلّا بمجاهدة، و تكرار أعمال، و مزاولة الأُمور، و لا تزول بفعل خلافها مرّة أو مرّات.

و ثانيهما: صفة نفسانيّة أُخرى غير ملكة العدالة، بحمل النفس على ترك محارم اللَّه و التقوى ، كخوف من اللَّه ديناً أو دنيا، أو طمع في ثوابه، أو إجلال له جلّ جلاله، أو نحو ذلك.

و ذلك مثل الشجاعة و السخاوة، فإنّ الشجاعة بنفسها ملكة يقتدر بها على خوض الأهوال، و معاركة الأبطال، و تلزمها جرأة و قوّة قلب، و قد لا تكون لأحد هذه الملكة، فلا جرأة له و لا قوّة قلب، و لكن يخوض المعارك لصفة نفسانيّة اخرى ، كغيرة، أو حميّة، أو حبّ شخص، أو بغضه، أو حفظ مال، و نحو ذلك؛ و كذا السخاوة.

و الملكة بهذا المعنى لا يحتاج حصولها إلى مزاولة (و تكرار فاعل) «2»، بل قد تحصل دفعة، كما إذا حصل خوف من اللَّه يوجب ترك جميع المحرّمات.

نعم، لا يكون إلّا من صفة أُخرى كامنة في النفس، كالغيرة بالنسبة إلى الشجاعة، فإنّه قد يشّجّع الجبان بملاحظة أمر ينافي الغيرة، فيخاصم الشجعان، و هذا هو الذي يزول بفعل خلافه و لو مرّة.

و لكن العدالة حينئذٍ ليست مجرّد الصفة المذكورة، بل هي إمّا هذه

______________________________

(1) الكافي 1: 20، 14.

(2) في «ق»: و تكرّر أفاعيل.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 89

الصفة من جهة بعثها على التورّع عن المحارم و اجتناب الكبائر أو هي التورّع و الاجتناب المسبّبان عن تلك الصفة، و يكون تعريفها بالملكة حينئذٍ إمّا لجزئيّتها لها أو سببيّتها.

و ما ذكر إنّما يرد على القائلين بالملكة لو أرادوا بها المعنى الأول، أمّا لو أرادوا الثاني فيكون من ذكر نقضاً

داخلًا في العدول؛ لأنّ تركه لا محالة مسبّبه عن هيئة و صفة نفسانيّة.

نعم، يشترط أن تكون هذه الصفة حسنة، كما يشعر به قولهم: «عن محارم اللَّه أو الكبائر» يعني: أن تكون لأجل كونه محارم اللَّه أو معصية كبيرة، لا أن تكون هذه الصفة رياءً أو خوفاً من الناس مثلًا فإنّه بنفسه معصية، و ليس تركاً لمحارم اللَّه، بل ترك للزنا مثلًا.

و كذا نقول: إنّ من (يفسّر) «1» العدالة بالأوصاف المذكورة لا يريد منها نفس عدم وجود المعاصي، فإنّه لا يقال في العرف لمن ليس له الآلة أو لم يتمكّن أو وجد له المانع: إنّه كافّ، أو مجتنب، أو متورّع، أو تارك، بل لا تصدق عليه هذه العنوانات إلّا مع كونه كذلك مع وجود الآلة و التمكّن، أو فرضهما؛ و أن يكون بنفسه تاركاً مجتنباً في مدّة يحكم فيه العرف بحصول صفة الكفّ و الترك و الاجتناب، كما يشعر به عنوان حسن الظاهر، و لا يتحقّق ذلك إلّا إذا استند الاجتناب إلى جهة في النفس.

و على هذا، فيحصل التلازم بين الهيئة النفسانيّة و بين الاجتناب و الترك بالمعنى الذي ذكرنا لهما، بل يمكن أن يقال: إنّهما يتّحدان.

ثم لو اختلج لك إباء في بعض ما ذكرنا، فنقول: لا شكّ في أنّ

______________________________

(1) في «ق»: يعتبر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 90

الصحيحة تحتمل الأمرين اللذين ذكرنا، و حيث لا يتعيّن أحدهما فيجب الأخذ في معنى العدالة بالمجمع عليه، و هو الملكة المتكرّر ذكرها، و الحكم باشتراطها فيما علّق عليها.

و حاصلها: صفة نفسانيّة باعثة على الستر و العفاف، و كفّ الجوارح و اجتناب الكبائر.

أو هي الستر و العفاف، و الكفّ، و الاجتناب المذكور، المنبعثة عن صفة نفسانيّة.

و لك الاقتصار

على الاجتناب عن الكبائر و عن الإصرار على الصغائر، المنبعثة عنها؛ لاستلزامه البواقي، بل على الاجتناب المذكور أيضاً؛ إذ لا صغيرة مع الإصرار.

فروع:

أ: يشترط في الأُمور التي تتحقّق العدالة باجتنابها و الكفّ عنها أن تكون معصية في حقّ الفاعل، فلو ارتكب بعضها سهواً، أو جهلًا من غير تقصير، أو مع عذر مجوّز و لو مكرّراً، لم يقدح في العدالة إجماعاً.

و يلزمه أنّه لو ارتكب أحد أمراً بتقليد من لا يحرّمه كالنظر إلى وجه الأجنبيّة من غير ريبة، أو سماع الغناء فيما يستثنيه جماعة «1»، و نحو ذلك لم يقدح في عدالته، و لو عند مجتهد يقول بحرمته.

و لو ارتكب أحد ما يحرّمه باعتقاده يخرج عن العدالة حتى عند من لا يقول بحرمته.

______________________________

(1) كالمحقّق في الشرائع 4: 128، العلّامة في القواعد 2: 236، الشهيد في الدروس 2: 126، صاحب الرياض 2: 430.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 91

و كذا يشترط أن يكون تركها و اجتنابها من حيث إنّها معصية، فلو تركها لا من هذه الجهة بل لعدم القدرة، أو وجود المانع أو نحو ذلك لم تكن عدالة إجماعاً.

و لو لم يعلم أنّ الكفّ و الترك هل هو من جهة أنّه معصية أو لغيرها و لم تكن قرينة و لو مفيدة للظنّ أيضاً، فالظاهر عدم الحكم بالعدالة.

ب: اعلم أنّ المستفاد من تتبّع كلمات الأصحاب: أنّ مقابل العدالة و ضدّها الفسق، بل الظاهر أنّه إجماعي.

و منه يظهر أيضاً أنّ ملكة العدالة التي يقولون بها هنا غير الملكة التي هي العدالة عند أهل الحكمة النظريّة و علماء الأخلاق، و هي أحد جنود العلم؛ لأنّ ضدّها الجور، كما صرّح به في رواية سماعة المتقدّمة «1».

و المراد به الميل

إلى أحد طرفي الإفراط و التفريط، و لذا يعدّ المُفرِط في بعض الصفات كالتواضع و التحمّل و نحوهما غير عادل بهذا المعنى ، و لا يعدّ فاسقاً شرعاً.

ثم الفسق الذي هو ضدّ العدالة الشرعيّة إمّا يكون هو ارتكاب بعض ما يكون اجتنابه و الكفّ عنه عدالةً فعلًا، أو يكون ملكة الارتكاب بالمعنى المذكور في العدالة الشرعيّة، أي صفة نفسانيّة باعثة على الارتكاب.

و بعبارة اخرى : كون الشخص بحيث لم يستنكف نفسه عن ارتكاب المعاصي، و لا متوطّناً نفسه عن الاجتناب و إن لم يرتكب بالاختيار بعد.

فإن كان المراد منه الأول كما هو ظاهر بعض كلماتهم، سيّما في

______________________________

(1) في ص 86.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 92

مقام بيان أصالة الفسق تحصل الواسطة بين العدالة و الفسق في الواقع و نفس الأمر قطعاً؛ لأنّ من كان في قرية لا تحصل فيها الخمر، و كان تاركاً لشربها، و علمنا أو ظننا أنّه إن وجدها يشربها، ليس عادلًا إجماعاً، و لا فاسقاً على هذا؛ لعدم ارتكابه للشرب بالفعل.

و الحاصل: أنّ الاجتناب الغير المسبّب عن الصفة النفسانيّة لا يكون عدالةً و لا فسقاً.

و إن كان المراد الثاني، كما هو ظاهر كلّ من عرّف العدالة بالملكة؛ إذ لا يصحّ جعل مقابل الملكة و ضدّها الفعل، و إن لم تكن واسطة بين الصفتين واقعاً و لكن تتحقّق الواسطة بينهما بحيث عُلِمَتا قطعاً؛ إذ تكون حينئذٍ نسبتهما إلى الأصل على السواء، فليس كلّ من لم يعلم اتّصافه بأحدهما متّصفاً بالأُخرى شرعاً حتى تنتفي الواسطة، بل يمكن أن يعلم أنّ فلاناً عادل أو فاسق شرعاً، فتتحقّق الواسطة في العلم.

فإن قيل: العدالة على ما ذكرت هي الصفة الباعثة على اجتناب المحارم من حيث بعثها عليه، أو

الاجتناب المنبعث عن الصفة النفسانيّة، و مآلهما واحد، فضدّها عدم ذلك أي ما لم يكن كذلك بأن لا يكون مجتنباً، أو كان و لم يكن اجتناباً منبعثاً عن صفة النفس، فأيّهما يكون يحصل الفسق و تنتفي الواسطة.

قلنا: الاجتناب الغير المنبعث عن الصفة النفسيّة على قسمين:

لأنّه إمّا تكون معه صفة باعثة على الارتكاب، و لكن تمنعه الموانع الخارجيّة.

أو لا يكون كذلك، بل تكون النفس خالية عن الصفتين، الباعثة على الاجتناب عنه من حيث إنّه من محارم اللَّه، و الباعثة على الارتكاب، و كثيراً

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 93

ما يتحقّق ذلك في حقّ من لم يتصوّر نوعاً من المعصية و لم يلتفت إليه، كمن نشأ في موضع لم تذكر فيه الخمر و شربها، و الشطرنج و النرد و اللعب بهما، و الغناء و سماعه، و نحو ذلك.

و لا نسلّم انّ المجتنب الذي كان من القسم الأخير يكون فاسقاً، بل لعلّه ليس كذلك إجماعاً، و لا يكون عادلًا أيضاً؛ لانتفاء الملكة الباعثة.

نعم، لو جعلت العدالة مجرّد الاجتناب و الآثار الظاهرية سواء كانت مستندة إلى صفة حسنة أو لا، و الفسق مجرّد الارتكاب تنتفي الواسطة بينهما، و لكنّه غير صحيح البتّة؛ و كذا لا واسطة بين ملكة العدالة بالمعنى المعروف عند أهل الحكمة النظريّة و علماء الأخلاق و بين ضدّها، الذي هو الجور و الميل.

ج: اعلم أنّ الناظر في كلام الأُصوليين و الفقهاء يرى وقوع الخلاف بينهم في أصالة العدالة أو الفسق، فمنهم من يقول بأصالة العدالة، كما سمعت من كلام شيخ الطائفة في الخلاف «1»، و مراد القائل أنّها الأصل في المسلم بمقتضى الأدلّة الشرعيّة.

و منهم من يقول بأصالة الفسق؛ نظراً إلى توقّف العدالة على أُمور

وجوديّة حادثة علماً و عملًا، و عليه جريتُ في كتاب أساس الأحكام.

و منهم من يقول: بتساويهما بالنسبة إلى الأصل، إمّا لكون كلّ منهما ملكة حادثة، أو لتوقّف كلّ منهما على أُمور حادثة، و عليه جريتُ في كتاب مناهج الأحكام، و بيّنتُ الوجه فيه.

و التحقيق: أنّ الكلام إمّا فيمن يجتنب عمّا يشترط في انتفاء الفسق

______________________________

(1) الخلاف 2: 592.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 94

اجتنابه من المحرّمات و ترك الواجبات، و لا يعلم أنّ اجتنابه عن الجميع هل هو منبعث عن صفة نفسيّة مقتضية له حتى يكون عادلًا، أو منضمّة مع صفة مقتضية لخلافه و إن اتّفق الاجتناب بسبب خارجي حتى يكون فاسقاً، أو لا يقارن شيئاً من الصفتين حتى لا يكون عادلًا و لا فاسقاً، فنسبة الأصل إليهما على السواء، و كلاهما خلاف الأصل.

أو فيمن لا يعلم أنّه هل هو مجتنب عمّا يشترط اجتنابه في تحقّق العدالة، أم لا؟

و ظاهر كلام أكثر من تعرّض للمقام أنّ الأصل فيه الفسق «1»؛ لأنّ الأصل و إن كان عدم ارتكاب الأفعال المحرّمة، و لكنّ الأصل عدم الإتيان بالواجبات العلميّة و العمليّة، و هو كافٍ في تحقّق الفسق.

و منهم من قال بتساوي نسبتهما إلى الأصل؛ لأنّ الأصل و إن كان عدم الإتيان بالواجبات إلّا أنّ الأصل عدم وجوبها أولًا «2».

أمّا المشروطات الغير المتيقنة حصول شرطها كغسل الجنابة، و المسّ، و حجّ البيت، و الزكاة، و الخمس، و الكفّارات، و النذورات، و نحوها، و هي أكثر الواجبات فظاهر.

و أمّا المطلقات، فلأنّ وجوبها إنّما هو مع انتفاء الجهل الساذج، أو السهو، أو النسيان، أو الخطأ، أو العذر، و مع ثبوت وجوبها فالأصل و إن كان عدم الإتيان بها و لكن يعلم

كلّ أحد أنّ المكلّف ليس باقياً على حالٍ كانت عليه قبل التكليف و قبل تعلّق وجوب الفعل عليه، بل تبدّلت حالاته و انتقل من حال إلى حال، و من فعل إلى فعل، بل يعلم قطعاً أنّه في كلّ

______________________________

(1) انظر التنقيح 4: 289، المسالك 2: 361، كشف اللثام 2: 370.

(2) انظر الحدائق 10: 24.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 95

يوم ليس باقياً على فعل يومه السابق، بل تركه و نام، ثم استيقظ و تجدّدت أفعاله، فكما أنّ الأصل عدم تلبّسه بالفعل الواجب عليه «1»، الأصل عدم تلبّسه بأحد أضداده الخاصّة الوجوديّة أيضاً؛ و مع ذلك ففي كثير من الواجبات يجب البناء على الفعل و التحقّق، كالتطهّر من الأخباث، و التذكية، و أداء الزكاة و الخمس، بل أكثر الاعتقادات.

و على هذا، فنسبة الأصل إليهما على السواء.

و فيه: أنّ هذا كان حسناً لو كان أحد أفراد الفسق هو الإتيان بأحد الأضداد الوجوديّة للواجب، كما أنّ العدالة موقوفة على الإتيان بالواجب، فيصحّ أن يقال: إنّ الأصل بالنسبة إليهما على السواء، و لكنّ الفسق يتحقّق بعدم الإتيان بالواجب، و العدالة موقوفة على الإتيان به، و الأصل عدم الإتيان، و لا دخل لأصالة عدم الإتيان بالأضداد بالمقام، و إن كان هو من مقارنات عدم الإتيان بالواجب في الخارج؛ لعدم خلوّ الإنسان عن الأكوان.

و لكن ها هنا كلاماً آخر أتقن، و هو أنّ الثابت بالاستصحاب و الأصل هو إبقاء الأحكام التوقيفيّة من الشارع من الشرعيّات و الوضعيّات للمستصحب بعد حصول الشكّ في بقائه.

و أمّا الأحكام العقليّة و العرفيّة و الآثار و الخواصّ المترتبة عليه بالتجربة و أمثالها فلا تترتّب عليه قطعاً، و لا يجب إبقاؤها أبداً.

فإنّا نحكم بعدم جواز تقسيم إرث

الغائب في موضع لا يوجد فيه مأكول إلّا أمداد معيّنة من خبز، و عدم جواز نكاح زوجته، و وجوب نفقتها على ماله، و نحو ذلك من الأحكام الشرعيّة. و لكن لا نحكم بنقص شي ء

______________________________

(1) في «ق»: علمه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 96

من ذلك الخبز لأجل أكله إيّاه البتّة.

و نحكم في جُنُب شكّ في غسله بعدم جواز الصلاة و المكث في المساجد و قراءة العزائم و نحوها، و لكن لو كان زرع تفسد ثمرته بعبور الجنب عليه لا نحكم بفساد ثمرته، بل نقول: لا نعلم أنّه هل يُفسِدُ أم لا، و لو قال الشارع بفساد بيع ثمرته لا يحكم بفساد بيعه.

و لا شكّ [في سببيّة ترك الواجب للفسق، و أنّ «1»] تركه خروج عن طاعة اللَّه عقلًا و عرفاً؛ لأنّ الحاكم بالإطاعة و المخالفة بعد تحقّق الأمر و النهي هو العقل و العرف، و الخروج عن طاعة اللَّه هو معنى الفسق لغةً.

نعم، رتّب الشارع على هذا اللفظ بحسب معناه أحكاماً، و أمّا تحقّق معناه و عدمه ليس من الأحكام الشرعيّة، فلا يترتّب هو على استصحاب شي ء.

و الحاصل: أنّ الفسق هو الخروج عن طاعة اللَّه لغةً، و الخروج عنها إنّما يترتّب على عدم الإتيان بالواجب واقعاً عقلًا و عرفاً، و لا يترتّب على استصحاب عدم إتيانه؛ لأنّه ليس حكماً شرعيّاً أو وضعيّاً من الشارع يتبع الاستصحاب، فكما لا يمكن أن يحكم على من يستصحب عدم إتيانه لواجب أنّه مخالف لأمر اللَّه خارج عن طاعة اللَّه، كذلك لا يحكم أنّه فاسق، و اللَّه هو الموفّق.

د: لا فرق في صفة العدالة الشرعيّة بين الرجال و النسوان؛ لظاهر الإجماع المركّب.

و أمّا رواية عبد الكريم: «تقبل شهادة المرأة و

النسوة إذا كنّ مستورات

______________________________

(1) بدل ما بين المعقوفين في «ق»: أنّ ترك الواجب للفسق ..، و في «ح»: أنّ سببية ترك الواجب للفسق أنّ ..؛ و الظاهر ما أثبتناه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 97

من أهل البيوتات، معروفات بالستر و العفاف، مطيعات للأزواج، تاركات للبذاء و التبرّج إلى الرجال في أنديتهم» «1».

فلا تدل على أنّ هذه الأوصاف هي العدالة فيهن، فلعلّ المراد بمعرفة هذه الصفات فيهنّ يحصل الظنّ بحصول صفة العدالة الشرعيّة، كما أنّ بمعرفة ما ذكر في الصحيحة من ستر العيوب، و ملازمة الصلاة، و قول أهل القبيلة: إنّا لا نعلم منه إلّا خيراً يحصل الظنّ بعدالة الرجل، و هذا القدر كافٍ في قبول الشهادة.

و على هذا يحمل أيضاً كلام الشيخ في النهاية، حيث إنّه بعد ما فسّر العدل بما في صحيحة ابن أبي يعفور «2» قال: و يعتبر في قبول شهادة النساء: الإيمان، و الستر، و العفاف، إلى آخر ما في هذه الرواية «3».

ه: قال الفاضل في المختلف في بحث الإمامة في الصلاة: العدالة غير متحقّقة في الصبي؛ لأنّها هيئة قائمة بالنفس تقتضي البعث على ملازمة الطاعات و الانتهاء عن المحرّمات، و كلّ ذلك فرع التكليف «4».

و قال مثل ذلك فخر المحقّقين في الإيضاح «5».

و صريحهما عدم تحقّق العدالة في الصبي، و هو مقتضى الأصل؛ لأنّ الأصل عدم تحقّق العدالة الشرعيّة فيه، حيث إنّ الأخبار المثبتة لها ظاهرة في المكلّفين، بل الصحيحة صريحة فيهم؛ لقوله: بِمَ تعرف عدالة الرجل؟

______________________________

(1) التهذيب 6: 242، 597، الإستبصار 3: 13، 34، الوسائل 27: 394 أبواب الشهادات ب 41 ح 20.

(2) المتقدمة في ص 76 78.

(3) النهاية: 325.

(4) المختلف: 153.

(5) الإيضاح 4: 149.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة،

ج 18، ص: 98

إلى آخره، مع أنّها مع قطع النظر عن الاختصاص لا يتحقّق ما تضمّنته في غير المكلّف؛ لأنّ العدالة المذكورة فيه إمّا هي الأفعال المذكورة في الصحيحة، أو صفة باعثة عليها.

و المراد من البعث و المتبادر منه هو البعث فعلًا، و هو في حقّ الصبي غير ممكن؛ إذ لا كبيرة عليه و لا صغيرة، و لا كفّ عليه و لا ستر.

و إرادة ما هو كبيرة في حقّ المكلّفين باطلة قطعاً، فلا يمكن البعث الفعلي.

و كفاية الفرضي منه في تحقّق العدالة بمعنى: أنّه كان بحيث لو تعلّق به الأمر و النهي ائتمر و انتهى غير معلومة، و إن كان مثله في حقّ الصبي ممكناً، و لأجله يمكن اتّصاف من كان أول عهده بالبلوغ و لو بنحو يوم بالعدالة.

هذا في العدالة الشرعيّة المعتبرة في الشهادة و نحوها.

أمّا صفة العدالة عند علماء الأخلاق فالظاهر أنّ تحقّقها في الصبي ممكن، كصفة الشجاعة، و الحلم، و الصبر، و نحوها، فتأمّل.

و: هل يشترط في تحقّق العدالة الإسلام، فلا يتحقّق العادل في غير المسلمين، أم لا، فيتحقّق؟

صريح الشهيد الثاني و ظاهر بعض آخر عدم اشتراط العدالة بالإسلام، كما يأتي في الفروع اللّاحقة «1»، و صريح الفاضل و الشيخ حسن و جمع آخر الاشتراط، كما يأتي أيضاً «2».

و التحقيق: أنّه إن أُريد بالعدالة العدالة في عرف علماء الأخلاق

______________________________

(1) انظر ص 99.

(2) انظر ص 99.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 99

- و هي المعبّر عنها بملكة العدالة، التي هي تعديل القوى النفسانيّة و إقامتها بين طرفي الإفراط و التفريط فلا منع في تحقّقها في غير المسلم، كسائر الصفات النفسانيّة.

و إن أُريد العدالة الشرعيّة أي ما اعتبرها الشارع و جعلها شرطاً لأُمور فلا

دليل على ثبوتها لغير المسلم و كونها صفة ممكنة التحقّق فيه، بل الظاهر من الصحيحة كونها أفعالًا أو ملزومة لأفعال لا تكون في غير المسلم، من كفّ الجوارح الأربع أي ممّا حرّمه اللَّه تعالى في دين الإسلام و الاجتناب عن الكبائر التي أوعد اللَّه عليها النار في القرآن، و ملازمة الصلوات الخمس، و حفظ مواقيتهن، و لزوم جماعتهنّ و جماعة المسلمين.

فإن قيل: الكفّ عن المعاصي و الاجتناب عن الكبائر كم يكون للمسلمين يكون لغيرهم أيضاً بعد بذل جهده و إتعاب نفسه في تحقيق الحقّ.

قلنا: الظاهر المتبادر أنّ المراد بما يكفّ عنه و الكبائر التي يلزم الاجتناب عنها هي المحرّمات في دين الإسلام و ما هي كبيرة فيه مطلقاً، و عدم كون بعضها محرّماً أو كبيرة في غير دين الإسلام أو حرمة غيرها فيه إنّما يوجب عدم ترتّب المعصية على ارتكابه و ترتّبها على ارتكاب غيره لو كان ممّن بذل جهده على تحقّق العدالة بمحض اجتناب ما هو محرّم في دينه.

و إن توهّم عموم الرجل في الصحيحة «1»، فيحمل ما يكفّ عنه و يجتنب على ما هو محرّم عنده.

______________________________

(1) أي صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة في ص 76 77.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 100

يدفع بأنّ قوله فيها: حتى تقبل شهادته لهم و عليهم، يخصّصه بالمسلم؛ لعدم قبول شهادة غير المسلم على المسلم، و كذا شرط التعاهد للصلوات الخمس، و لزوم مواقيتها، و حضور جماعة المسلمين.

فإن قيل: قوله في موثّقة سماعة المتقدّمة «1»: «من عامل الناس» و قوله في رواية علقمة: «فمن لم تره بعينك» «2» عامّ.

قلنا: «وجبت أُخوّته» في الاولى ، و: «شهادته مقبولة» في الثانية، يخصّصه، سيّما مع مسبوقيّة قوله في الثانية بقوله: «من

ولد على الفطرة» أولًا، و تعقّبه بقوله: «من اغتاب مؤمناً» آخراً.

و المحصّل: أنّ العدالة التي هي مصطلح أهل الأخلاق في غير المسلم ممكنة التحقّق؛ و كذا عدالة أهل كلّ دين عند أهله، إذا أرادوا من العدالة: اجتناب المحرّمات و الإتيان بالواجب بحسب دينهم، و نحن لا نعلم أنّ لهم أيضاً عدالة أو اصطلاحاً فيها أم لا؛ و كذا إن أُريد إثبات العدالة بهذا المعنى لهم عندنا.

أمّا كون العدالة التي اعتبرها شارعنا المقدّس و هي كون اجتناب أهل كلّ دين عمّا هو محرّم عندهم فلم تثبت عندنا، فلا يمكن الحكم بعد التهم بهذا المعنى ، و إن لم يمكن الحكم بالفسق أيضاً إذا كان مطيعاً للَّه بحسب دينه، باذلًا جهده في تحقيق الدين.

فإن قيل: قال اللَّه سبحانه وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «3»، فيكون كلّ كافر فاسقاً.

______________________________

(1) في ص 76.

(2) أمالي الصدوق: 91، 3، الوسائل 27: 395 أبواب الشهادات ب 41 ح 13.

(3) المائدة: 47.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 101

قلنا: من لم يحكم بما أنزل اللَّه في حقّه و بحسب علمه، و أيضاً الفسق هو الخروج عن طاعة اللَّه، و مثل ذلك الشخص ليس خارجاً عن طاعة اللَّه.

ز: اختلفوا في اشتراط الإيمان في العدالة و عدمه، فصرّح بعضهم بالأول، منهم الفاضل، قال: و أيّ فسق أعظم من عدم الإيمان «1»؟! و منهم الشيخ حسن، قال في منتقى الجمان: قيد العدالة مغنٍ عن التقييد بالإيمان؛ لأنّ فاسد المذهب لا يتّصف بالعدالة حقيقةً، كيف؟! و العدالة حقيقة عرفيّة في معنى معروف لا يجامع فساد العقيدة قطعاً. قال: و ادّعاء والدي (رحمه اللَّه) في بعض كتبه توقّف صدق وصف الفسق بفعل المعاصي المخصوصة

على اعتقاد الفاعل كونها معصية، عجيب «2». انتهى .

و صرّح جماعة بالثاني، قال في المسالك: و الحق أنّ العدالة تتحقّق في جميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها بحسب اعتقادهم «3».

و قال شيخنا البهائي في الزبدة: و ليس في آية التثبّت «4» حجّة عليه؛ لمنع صدق الفاسق على المخطئ في بعض الأُصول بعد بذل مجهوده «5».

و قال المحدّث الكاشاني في نقد الأُصول في بيان العمل بأخبار غير أهل الإيمان: لكنّ العمل بأخبارهم غير بعيد؛ لحصول الظنّ بها بعد توثيق الأصحاب لهم، فإنّ المانع من الكذب في الرواية إنّما هو العدالة، و هي حاصلة فيهم، و لا يقدح فيه عدم إيمانهم كما لا يخفى . انتهى .

______________________________

(1) حكاه عنه في مجمع الفائدة و البرهان 2: 350.

(2) منتقى الجمان 1: 5.

(3) المسالك 2: 401.

(4) الحجرات: 6.

(5) زبدة الأُصول: 59.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 102

بل هو ظاهر كلّ من قال: إنّ العدالة هي ظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق.

أقول: لا ينبغي الريب في تحقّق ملكة العدالة في غير المؤمن أيضاً، و لكن هي غير ما نحن نتكلّم فيه.

و أمّا العدالة الشرعيّة التي كلامنا فيها فالأصل عدم تحقّقها فيه، و الأخبار المتقدّمة و إن كان ظاهرها الإطلاق، إلّا أنّ وجوب الاخوّة و قبول الشهادة يوجب الاختصاص بالمؤمن، و لو لا ذلك لأمكن القول بثبوتها له إذا كان مصداقاً لما في الصحيحة.

فإن قيل: كيف يمكن كونه مصداقاً له مع كونه مرتكباً لأكبر الكبائر؟! و هو متابعة الإمام الجائر، و الردّ على المنصوب من قبل اللَّه سبحانه و عدم قبوله، كما في رواية أبي الصامت المرويّة في التهذيب: «أكبر الكبائر سبع» فعدّها و عدّ السابع: «إنكار ما أنزل اللَّه عزّ و جلّ» إلى

أن قال: «و أمّا إنكار ما أنزل اللَّه عزّ و جلّ فقد أنكروا حقّنا و جحدوا له» الحديث «1».

و في رواية عبد الرحمن بن كثير الهاشمي المرويّة في الفقيه: «الكبائر سبع فينا أُنزلت» فعدّها إلى أن قال: «و إنكار حقّنا» الحديث «2».

قلنا: كون ذلك معصية كبيرة إنّما هو على فرض التقصير في التحقيق و عدم حصول العلم، و إلّا فلا يكلّف اللَّه نفساً فوق معلومها.

كذا ذكره جماعة من المتأخّرين «3»، و لكنّ التحقيق خلاف ذلك، بل

______________________________

(1) التهذيب 4: 149، 417، الوسائل 15: 325 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 20 و فيه صدر الحديث.

(2) الفقيه 3: 366، 1745، الوسائل 15: 326 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 22.

(3) كالشهيد الثاني في المسالك 2: 401، و الفيض الكاشاني في المفاتيح 3: 278.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 103

هو أنّ الإمام (عليه السّلام) حكم بثبوت العدالة بوجود أُمور خاصّة، من الستر و العفاف عن أشياء معيّنة، و كفّ الجوارح عنها، و اجتناب أُمور خاصّة متعيّنة عنده (عليه السّلام)، و الإتيان بأُمور وجوديّة علماً و عملًا قلباً و جارحة، فلازمه الحكم بثبوتها عند تحقّق هذه الأُمور و نفيها عند انتفائها كلّاً أو بعضاً و لو واحداً، سواء كان الانتفاء لأجل عدم ثبوت وجوب ذلك الأمر عند المكلّف، بل و ثبوت عدم وجوبه عنده، أو كان عمداً و عصياناً و إن اختصّ ترتّب الإثم و العقاب بحكم العقل بصورة العمد و العصيان.

نعم، تلك الأُمور على قسمين:

أحدهما: ما يعلم الواقع منه و كونه داخلًا في مراد الإمام بإجماع، أو ضرورة دينيّة أو مذهبيّة، أو كتاب محكم، أو سنّة مقطوعة، كالكفّ عن شرب الخمر، و الزنا، و الربا، و الشرك،

و التجسّم، و إنكار النبوّة، و جحد إمامة الأئمّة، و نحو ذلك، بل جميع ما يتعلّق بأُصول العقائد.

و ثانيهما: ما لا يعلم الواقع منه و خصوص مراد الإمام، بل قد يظنّ ظنّاً، و إن كان ذلك الظن حجّة للظانّ، كبعض أقسام الغناء، و بعض أفراد الغيبة، و النظر إلى الأجنبيّة بلا ريبة، و ترك غسل الجنابة بالوطء في الدبر من غير إنزال، و ترك الصلاة في أوقاتٍ اختُلف في تضيّقها فيها، و نحو ذلك من مسائل الفروع المختلف فيها.

فما كان من الأول يحكم بانتفاء العدالة بانتفاء تلك الأُمور اجتناباً أو ارتكاباً قطعاً.

و ما كان من الثاني فلمّا لم يعلم الواقع فلا يعلم أنّ المكلّف ترك واجباً واقعياً أو اجتنب محرّماً كذلك، و الوجوب و الحرمة بحسب ظنّ مجتهد لا يجعله كذلك واقعاً، و إن كان كذلك في حقّ من ظنّه كذلك

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 104

بالإجماع.

و احتمال كونه كذلك أو ظنّه لا يجعله كذلك في حقّ غير الظان، سيّما مع انعقاد الإجماع على عدم كون ما ظنّ حكماً في حقّه. فتأمّل.

و لعمري أنّ هذا الخلاف و الخلاف السابق عليه قليل الجدوى جدّاً؛ لأنّه لا يقول أحدٌ بعدالة غير المؤمن أو الكافر، الذي لم يعلم في حقّه بذل الجهد في تحقيق الدين، بحيث لم يمكن له فوق ذلك.

و حصول العلم لنا في حقّ المخالف أو الكافر أنّه باذلٌ جهده و سعيه، و حصل له العلم بحقّية دينه إمّا غير ممكن أو نادر جدّاً، و أندر منه ما لو كان مع عدم التقصير جامعاً لغير ذلك من شرائط العدالة.

المسألة الثانية: إذا عرفت معنى العدالة،
اشاره

و أنّها الستر و العفاف، و الكفّ عن المحارم، و الاجتناب عن الكبائر المنبعثة عن صفة

راسخة نفسانيّة.

فلكونها أُموراً خفيّة تصعب معرفتها؛ لعدم محصوريّة المحارم؛ لكونها مبثوثة على القلب و الجوارح من جهة الاعتقادات و الأفعال، و لها كبائر و صغائر، و الصغائر أيضاً تصير كبيرةً بالإصرار، و العلم بالاجتناب عن الجميع في جميع الأحوال صعب مستصعب، سيّما مع اشتراط كونها منبعثة عن صفة نفسانيّة.

فلذلك وقع الخلاف في طريق معرفتها بعد اتّفاقهم على حصولها بالمعاشرة الباطنيّة، و الصحبة المتأكّدة التامّة، الموجبة للاختبار «1»، المميّز بين الخلق و التخلّق، و الطبع و التكلّف، و بالشياع الموجب للعلم، و بشهادة

______________________________

(1) في «ق»: للاجتناب.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 105

العدلين في أنّه هل ينحصر الطريق بذلك؟ كما هو مختار أكثر المتأخّرين، منهم: الشرائع و الذكرى و الدروس و البيان و المسالك و الروضة الجعفريّة و حاشية الشرائع للكركي و والدي (رحمه اللَّه) في كتبه الأُصولية «1»، و غيرهم «2»، و نسبه في المسالك إلى المشهور «3»، و قيل: إنّه القريب من الإجماع «4».

[أو «5»] يعرف بأقلّ من ذلك أيضاً، كما قال به جماعة.

و هم بين قائلٍ بأنّه يعرف بظاهر الإسلام مع عدم ظهور ما يوجب الفسق، كما حكي عن الإسكافي و الإشراف و الخلاف و المبسوط و الاستبصار «6»، و اختاره بعض المتأخّرين، و جعله في المسالك أمتن دليلًا و أكثر روايةً، و جعل حال السلف شاهداً عليه، و إن جعل المشهور الآن بل المذهب خلافه «7».

و قائلٍ بأنّه يعرف بحسن الظاهر، نسبه في الذكرى إلى بعض الأصحاب «8»، و نسب إلى الشيخ أيضاً «9»، و عليه جماعة من متأخّري المتأخّرين «10».

______________________________

(1) الشرائع 4: 126، الذكرى: 267، الدروس 1: 218، البيان: 131. المسالك 2: 362، الروضة 1: 379، الجعفرية (رسائل المحقق الكركي 1):

80.

(2) كالفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 370.

(3) المسالك 2: 362.

(4) كما في الرياض 2: 391.

(5) في «ح» و «ق»: و، و الصحيح ما أثبتناه.

(6) حكاه عن الإسكافي و الإشراف في المختلف: 717، الخلاف 1: 550، المبسوط 8: 217، الاستبصار 3: 14.

(7) المسالك 2: 362.

(8) الذكرى: 267.

(9) النهاية: 327.

(10) منهم صاحب المدارك 4: 69، صاحب الحدائق 10: 23.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 106

و الفرق بين ذلك و بين القول الأول: أنّه يحتاج على الأول إلى المعاشرة الباطنيّة مدّة مديدة، يحصل فيها الاطّلاع على السريرة و لو في الجملة. و على هذا القول يكتفي في المعاشرة الظاهرة، مثل: رؤيته مواظباً على الصلوات الخمس، أو معاملته مع الناس من غير ظلم، و إخبارهم من غير كذب، و وعدهم من غير خلف.

و قد ينسب هذا القول إلى جمع من القدماء «1» المعبّرين في تعريف العدالة بالورع عن محارم اللَّه، أو بالصلاح، أو بالاجتناب عن المحرّمات، و نحو ذلك- و هو غير سديد؛ لأنّ التعبير بهذه الأُمور يستدعي العلم بكونه كذلك كما مرّ، و هو لا يحصل بمجرّد حسن الظاهر.

و هنا قول رابع، اختاره والدي العلّامة (رحمه اللَّه) في كتاب القضاء من المعتمد، و هو أنّ حسن الظاهر إن بلغ حدّا يفيد غلبة الظنّ بثبوت علائم الملكة جاز الاكتفاء، و إلّا فلا اعتماد عليه.

دليل الأولين: الأصل، فيؤخذ بالمجمع عليه، و اشتراط العدالة و نحوها من الصلاح أو اجتناب الكبائر و الكفّ واقعاً، غاية الأمر التقييد في مقام التكاليف بالمعلوم، فيشترط العلم بها، و هو لا يحصل إلّا بالمعاشرة الباطنية، أو الشياع، أو ما يقوم مقام العلم شرعاً، و هو شهادة عدلين.

و لو منعت من حصول العلم بالمعاشرة

الباطنيّة أيضاً، كما هو ظاهر الكركي في حاشية الشرائع، حيث قال: إذا غلبت على ظنّه عدالته بالطريق المعتبر في معرفة العدالة، و هي المعاشرة الباطنيّة، أو شهادة عدلين، أو الشياع. خلافاً للشهيد في الذكرى، حيث قال: الأقرب اشتراط العلم

______________________________

(1) نسبه إليهم في المسالك 2: 361.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 107

بالعدالة بالمعاشرة الباطنيّة «1».

نقول: إنّ الإجماع واقع على كفاية المعرفة بها و قيامها مقام العلم، فهي كافية قطعاً.

و تدلّ على ذلك القول أيضاً رواية محمّد بن هارون الجلّاب: «إذا كان الجور أغلب من الحقّ لا يحلّ لأحد أن يظنّ بأحد خيراً حتى يعرف ذلك منه» «2».

و حجّة من يكتفي في معرفتها بظاهر الإسلام: الإجماع المحكيّ في الخلاف «3»، و الروايات المتكثّرة، كروايتي سلمة و المجالس المتقدّمتين «4».

و صحيحة حريز: «إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يُعرَفون بشهادة الزور اجيزت شهادتهم جميعاً، و أُقيم الحدُّ على الذي شهدوا عليه، إنّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا و علموا، و على الوالي أن يجيز شهادتهم، إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق» «5».

و حسنة العلاء: عن شهادة من يلعب بالحمام، قال: «لا بأس إذا كان لا يُعرَف بفسق» «6».

______________________________

(1) الذكرى: 267.

(2) الكافي 5: 298، 2.

(3) الخلاف 2: 592.

(4) في ص 59.

(5) الكافي 7: 403، 5، التهذيب 6: 277، 759، الإستبصار 3: 14، 36، الوسائل 27: 397 أبواب الشهادات ب 41 ح 18.

(6) الفقيه 3: 30، 88، التهذيب 6: 284، 784، الوسائل 27: 394 أبواب الشهادات ب 41 ح 6.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 108

و قد يستدلّ أيضاً بمرسلة ابن أبي عمير: في قوم خرجوا من خراسان أو بعض الجبال، و كان يؤمّهم رجل، فلمّا صاروا إلى الكوفة

علموا أنّه يهودي، قال: «لا يعيدون» «1».

و بمرسلة يونس: «خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا فيها بظاهر الحال: الولايات، و المناكح، و المواريث، و الذبائح، و الشهادات، فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً جازت شهادته، و لا يُسأل عن باطنه» «2».

و صحيحة ابن المغيرة: «كلّ من ولد على الفطرة و عرف بصلاح في نفسه جازت شهادته» «3».

و بالأخبار المتضمّنة لوضع أمر أخيك على أحسنه، و عدم اتّهام أخيك، و هي كثيرة.

و يرد على المرسلة الاولى : أنّه يحتمل أن يكون مَن أمّ القوم حسن الظاهر، أو كان شهد عدلان بعدالته.

و على المرسلة الأُخرى و الصحيحة: بأنّهما متضمّنتان لقيدٍ آخر غير ظاهر الإسلام أيضاً، و هو مأمونيّة الظاهر، أو المعروفيّة بالصلاح في نفسه، فهما يصلحان دليلًا للقول بحسن الظاهر.

و على الأخبار الأخيرة: أنّه مع ضعف دلالتها على المطلوب و معارضتها مع ما يدلّ على خلافها، أنّ الظاهر من الأخبار اختصاص الأخ

______________________________

(1) الكافي 3: 378، 4، التهذيب 3: 40، 141، الوسائل 8: 374 أبواب صلاة الجماعة ب 37 ح 1.

(2) الكافي 7: 431، 15، الفقيه 3: 9، 29، التهذيب 6: 283، 781، الإستبصار 3: 13، 35، الوسائل 27: 392 أبواب الشهادات ب 41 ح 3، بتفاوت.

(3) الفقيه 3: 28، 83، التهذيب 6: 284، 783، قرب الاسناد: 365، 1309، الوسائل 27: 398 أبواب الشهادات ب 41 ح 21.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 109

المستحقّ لذلك بأشخاص لا يخلون عن حسن الظاهر.

و دليل من يكتفي بحسن الظاهر: مرسلة يونس و صحيحة ابن المغيرة المذكورتين «1»، و موثّقة سماعة و رواية عبد الكريم المتقدّمتين «2»، و صحيحة ابن أبي يعفور السابقة «3».

و صحيحة محمّد: «لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة

الرجل الواحد إذا عُلِمَ منه خيرٌ مع يمين الخصم في حقوق الناس» «4».

و الأُخرى: يسلم الذمّي و يعتق العبد، أ تجوز شهادتهما على ما كانا أشهدا عليه؟ قال: «نعم، إذا عُلمَ منهما بعد ذلك خيرٌ جازت شهادتهما» «5».

و صحيحة عمّار بن مروان: عن الرجل يشهد لامرأته، قال: «إذا كان خيراً جازت شهادته» «6».

و عن الرجل يشهد لأبيه، أو الأب لابنه، أو الأخ لأخيه، قال: «لا بأس بذلك، إذا كان خيراً جازت شهادته» «7».

______________________________

(1) في ص: 106.

(2) في ص 76 و 94.

(3) راجع ص 76.

(4) الفقيه 3: 33، 104، التهذيب 6: 273، 746، الإستبصار 3: 33، 104، الوسائل 27: 394 أبواب الشهادات ب 41 ح 8.

(5) الفقيه 3: 41، 139، الوسائل 27: 387 أبواب الشهادات ب 39 ح 1.

(6) الكافي 7: 393، 2، الفقيه 3: 26، 70، التهذيب 6: 247، 628، الوسائل 27: 366 أبواب الشهادات ب 25 ح 2.

(7) الكافي 7: 393، 4، الفقيه 3: 26، 70، التهذيب 6: 248، 631، الوسائل 27: 367 أبواب الشهادات ب 26 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 110

و موثّقة أبي بصير: «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً» «1».

و رواية العلاء بن سيّابة: قلت: فالمكاري و الجمّال و الملّاح؟ قال: «و ما بأس بهم، تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء» «2».

و رواية القاسم بن سليمان في القاذف و التائب: «إذا تاب و لم يعلم منه إلّا خيرٌ جازت شهادته» «3».

و المرويّ في تفسير الإمام و هو بعد حذف بعض الزوائد-: «أنّه كان رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) إذا تخاصم إليه رجلان في حقّ، قال للمدّعي: أ لَكَ بيّنة؟ فإن أقام بيّنة يرضاها و يعرفها

أنفذ الحكم على المدّعى عليه، فإذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير و لا شرّ قال للشهود: أين قبائلكما؟ ثم يقيم الخصوم و الشهود بين يديه، ثم يأمر فيكتب أسامي المدّعى و المدّعى عليه و الشهود، ثم يدفع ذلك إلى رجل من أصحابه الخيار، ثم مثل ذلك إلى رجل آخر من خيار أصحابه، و يقول: ليذهب كلّ واحد منكما فليسأل عنهما، فيذهبان و يسألان، فإن أتوا خيراً و ذكروا فضلًا رجعا الى رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) فأخبراه به، فأحضر القوم الذين أثنوا عليهما، فيقول: إنّ فلاناً و فلاناً جاءني عنكم بنبإ جميل و ذكر صالح، أ فكما قالا؟ فإذا قالوا: نعم، قضى حينئذٍ بشهادتهما على المدّعى عليه، و إن رجعا بخبر سيّئ و نبأ قبيح، لم يهتك ستر الشاهدين، و لا عابهما و لا وبّخهما، و لكن يدعو الخصوم إلى

______________________________

(1) الفقيه 3: 27، 77، التهذيب 6: 258، 676، الإستبصار 3: 21، 64، الوسائل 27: 372 أبواب الشهادات ب 29 ح 3.

(2) الكافي 7: 396، 10، الفقيه 3: 28، 82، التهذيب 6: 243، 605، الوسائل 27: 381 أبواب الشهادات ب 34 ح 1.

(3) الكافي 7: 397، 2، التهذيب 6: 246، 620، الإستبصار 3: 37، 125، الوسائل 27: 383 أبواب الشهادات ب 36 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 111

الصلح، لئلّا يفتضح الشهود، و يستر عليهم، و كان رؤوفاً رحيماً عطوفاً متحنّناً على أُمّته (صلّى اللَّه عليه و آله)، فإذا كان الشهود من أخلاط الناس غرباء لا يُعرَفون، و لا قبيلة لهما و لا سوق و لا دار، أقبل على المدّعى عليه و قال: ما تقول فيهما؟ فإن قال: ما عرفت إلّا خيراً،

غير أنّهما قد غلطا فيما شهدا عليّ، أنفذ عليه شهادتهما، و إن جرحهما و طعن عليهما أصلح بين الخصم و خصمه، أو أحلف المدّعى عليه، و قطع الخصومة بينهما» «1».

احتجّ الوالد العلّامة (رحمه اللَّه) لما اختاره: بأنّ غلبة الظنّ كافية في معرفة العدالة لنفي الجرح؛ إذ اشتراط القطع بها يؤدّي إليه غالباً، فحسن الظاهر إن بلغ حدّاً يفيد غلبة الظنّ يجوز الاكتفاء به.

أقول: حقّ المحاكمة بين هؤلاء الفرق أن يقال: أمّا أخبار ظاهر الإسلام التي هي مستند القول الثاني فقد عرفت أنّ ما يمكن القول بدلالته منحصر في أربعة.

فلو أغمضنا عن البحث في دلالة الأول منها حيث إنّها تتضمّن استثناء الظنين الذي يشمل الفاسق كما دلّت عليه الأخبار، فيكون المعنى : المسلم الغير الفاسق عدل، يعني: أنّ من عُلِمَ أنّه مسلم غير فاسق، و هذا غير مفيد للتمسّك به- نقول: إنّها معارضة مع رواية محمّد بن هارون المتقدّمة و هو ظاهر و المروي في تفسير الإمام؛ حيث إنّه ظاهرٌ في كون الشهود مسلمين كما قيل «2» بحكم التبادر، و غلبة الإسلام في المتخاصمين عنده، و شهودهم في زمانه (صلّى اللَّه عليه و آله)، بل صريح في ذلك؛ لقوله

______________________________

(1) تفسير العسكري (عليه السّلام): 673، 376، الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 6 ح 1.

(2) انظر الرياض 2: 390.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 112

«متحنّناً على أُمّته»، و مع ذلك بعث للفحص عن أحوال الشهود، و أخّر القضاء الذي هو واجب فوراً، و كان ديدنه ذلك، و قصر في الحكم على صورة الإتيان بالنبإ و ذكر الفضل عنهم، و لم يحكم في صورة الإتيان بالنبإ القبيح، و لا في صورة عدم المعرفة، بل

رغب في الصلح و أحلف؛ مع أنّه لو كان عدم المعرفة في الصورة الأخيرة لعدم معرفة الإسلام لم يتوقّف على معرفة القبيلة و المحلّة، بل يكفي إقرار الشاهد بأحد الطرفين، و لا يفيد جرح المدّعى، فكان عليه التفتيش.

و مع مفهوم قوله: «فإذا كان كذلك» إلى قوله: «فإنّ ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين» في صحيحة ابن أبي يعفور «1».

و كذا سائر الأخبار المشترطة للصلاح أو المعروفيّة به، و للخيريّة و المعروفيّة بها، و غير ذلك ممّا مرّ.

و التعارض بالعموم من وجه.

فلو لم نقل بعدم حجّية أخبار ظاهر الإسلام لمخالفتها الشهرة العظيمة الجديدة و القديمة، حتى جعلها المحقّق في الشرائع شاذّة نادرة «2» تكون مرجوحة البتّة؛ لندرة القائل، و قلّة العدد، و ضعف السند في الأكثر، و قصور الدلالة، و موافقة العامّة، و كون كثير من معارضاتها أحدث، فهي راجحة قطعاً.

و لو سلّمنا عدم الترجيح فليرجع إلى الأصل، و هو مع المعارضات.

و منه يظهر ضعف القول الثاني جدّاً، و وجوب رفع اليد عنه.

و أمّا القول الثالث و هو حسن الظاهر فلا شكّ أنّ لحسن الظاهر عرضاً عريضاً، و مراتب شتّى ، فيتّصل في أحد جانبيه بمجهول الحال،

______________________________

(1) المذكورة في ص 76.

(2) الشرائع 4: 76.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 113

و بمجرّد الترقّي عنه يدخل في حسن الظاهر، و يتّصل في جانبه الآخر بمرتبة العصمة و منزلة النبوّة و الولاية، و بمحض التنزّل عنها يدخل فيه، و أدنى ما ثبتت كفايته من الأخبار ما دلّت عليه صحيحتا محمّد المتقدّمتين «1»، من قبول الشهادة إذا عُلِمَ منه خير.

و لا يتوهّم أنّ العلم بالخيريّة لا يحصل إلّا بالمعاشرة أو الشياع؛ لأنّه إذا شاهده متردّداً إلى المسجد في مواقيت

الصلاة و يصلّي فقد علم منه خيراً.

و منها ما يدلّ على اشتراط كونه خيراً، و هو أعلى من السابق.

و منها ما يدلّ على اشتراط العفّة و الصيانة، أو مأمونيّة الظاهر.

و منها ما يدلّ على اشتراط عدم الخلف في الوعد، و عدم الكذب في الحديث، و عدم الظلم في المعاملة. و لكنّها لا تدلّ على اشتراط جميع ذلك في ثبوت العدالة، فلعلّها لثبوت مجموع كمال المروّة، و وجوب الاخوّة، و ثبوت العدالة.

و منها ما يتضمّن الثناء الجميل و الفضل.

و المتضمّن للجميع صحيحة ابن أبي يعفور «2»، المتضمّنة ل: أنّ الدليل على العدالة كونه ساتراً لجميع عيوبه، معاهداً لصلواته، حافظاً لمواقيتها، غير متخلّف بدون علّة من جماعتها، مشهوداً له في قبيلته و محلّته إنّا ما رأينا منه إلّا خيراً، مواظباً على الصلوات، متعاهداً لأوقاتها؛ لأنّ بكونه ساتراً للعيوب عُلِمَ الخير- لأنّه خيرٌ و العفّة، و الصيانة، و مأمونيّة الظاهر، و بشهادة القبيلة يحصل الثناء الجميل، و بهما و بالتعاهد للصلوات و حفظ مواقيتها يعلم الصلاح عرفاً و الخيريّة.

______________________________

(1) في ص 107.

(2) المتقدّمة في ص 76.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 114

بل يمكن أن يقال: إنّه لا يعلم صدق الصلاح و الخيريّة بأدنى من ذلك، فيتحقّق ما تتضمّنه الصحيحة بتحقّق معرفة العدالة بمقتضى جميع تلك الأخبار و لا عكس، و يحصل التعارض بالعموم من وجه، و لو لم يكن مرجّح لزم الاقتصار على ما يجمع جميع ما تضمّنته الأخبار، و هو مدلول الصحيحة؛ لأصالة عدم تحقّق العدالة و عدم ثبوت المشروط بها إلّا مع تيقّنها، أو ما علم معرفته به.

و لا تتعارض رواية الجلّاب «1» مع هذه الصحيحة؛ لأنّ مقتضى الاولى : عدم ظنّ الخير إلّا بعد أن

يُعرَف منه ذلك، و مدلول الثانية: أنّ بهذه العلامات تُعرَف العدالة.

و على هذا فنقول: إن كان مراد القائلين بهذا القول أنّ بمطلق حسن الظاهر تُعرَف العدالة و يُحكم بها، فلا دليل تامّاً عليه بحيث يمكن الركون إليه.

و إن كان مرادهم أنّها تُعرَف به في الجملة كما هو الظاهر منهم فهو صحيح، و مدلول للخبر الصحيح، و به ترفع اليد عن الأصل المتقدّم، المقتضي لإيجاب المعاشرة الباطنيّة.

و الظاهر أنّ بهذا القدر من حسن الظاهر يحصل الظنّ بوجود الصفة الباعثة على اجتناب الكبائر أيضاً، كيف؟! و معرفة كونه ساتراً لجميع عيوبه أي متّصفاً بصفة الستر و الصيانة لا تحصل بدون نوع اختيار و معاشرة.

و على هذا، فيتّحد ذلك القول على ما ذكرنا مع ما اختاره الوالد العلّامة أيضاً، و يكون الفرق في المستند؛ فنحن نقول به لدلالة الأخبار، و هو لإيجابه الظنّ بالملكة، و كون الظنّ فيه مناط الاعتبار.

______________________________

(1) المتقدّمة في ص 105.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 115

بل يظهر من بعض مشايخنا عدم المنافاة بين القول بالمعرفة بحسن الظاهر و بين القول بالمعرفة بالمعاشرة «1»؛ إذ لا يُعرَف كونه ساتراً مواظباً إلّا بعد نوع معاشرة.

بل نقول: إنّا لو قلنا: إنّ مراد القائل بحسن الظاهر أنّه نفس العدالة أيضاً، لا تكون منافاة بينه و بين القول بالملكة؛ إذ المراد بحسن الظاهر حينئذٍ كونه مجتنباً ورعاً كافّاً نفسه عن المحارم، و لا يراد مجرّد رؤيته كذلك، بل يراد معرفته بهذه الأوصاف، و هي لا تنفكّ عن الملكة، كما مرّ بيان ذلك أيضاً.

و ظهر من ذلك أنّ الحقّ بين الأقوال هو القول بالحسن الظاهر بالمعنى الذي ذكرنا، و الظاهر أنّه أيضاً مراد القائلين به، و إليه يرجع مختار

الوالد أيضاً، بل يتّحد مع القول بالمعرفة بالمعاشرة الباطنيّة في الجملة أيضاً، فإنّه على ما ذكرنا و إن احتاج إلى نوع اختبار و معاشرة لكن لا يحتاج إلى المعاشرة الباطنيّة التامّة المتأكّدة المخبرة عن السريرة.

و أمّا حمل حسن الظاهر على مجرّد عدم رؤية خلل منه و لو مع عدم العلم بتمكّنه من الخلل و عدمه، و لا معرفة أوصاف حسنة منه فهو ليس حسناً ظاهريّا، بل مثله غير سيّ ء الظاهر، و لا يكون فرق بينه و بين ظاهر الإسلام.

فروع:

أ: المراد بكونه ساتراً لجميع عيوبه أن لا يكون معلناً بمعصية لا يبالي من ظهورها، بل كان بحيث لا يرضى بظهور معصية منه، و كان متّصفاً بصفة الحياء، و الساتريّة للعيوب، و الاستنكاف عن نسبة المعصية إليه.

______________________________

(1) كما في الرياض 2: 392.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 116

و هل تشمل العيوب الكبائر و الصغائر، أم تختصّ بما ينافي العدالة من الكبائر و الإصرار على الصغائر؟

الظاهر: العموم، و لا يستلزم عدم نقض فعل الصغيرة للعدالة عدم نقض الإعلان بها و عدم المبالاة عن ظهورها لصفة الساتريّة، التي هي معرّفة العدالة، ففعلها إن كان مع المبالاة عن ظهورها لا ينقض العدالة، و كذا مع عدم المبالاة عنه إن علمت العدالة بالمعاشرة أو الشياع أو شهادة العدلين، و أمّا إذا لم تعلم العدالة و توقّفت معرفته على صفة الساتريّة فيكون عدم المبالاة لذلك منافياً لوجود المعرّف.

ب: الظاهر من سياق الصحيحة «1» أنّ المراد من التعاهد للصلوات بحضور الجماعة و عدم التخلّف عن جماعتهم ليس مجرّد صلاة الجماعة و درك هذه الفضيلة حتى يتحقّق بصلاة شخص مع أهل بيته في بيته جماعةً أو مع واحد في منزله، حيث قال:

«و أن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم» و قال: «لتركهم الحضور لجماعة المسلمين» و قال: «و قد كان فيهم من يصلّي في بيته» و هو أعمّ من الصلاة فيه منفرداً و جماعة، و قال: «لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين» و قال: «و من رغب عن جماعة المسلمين».

بل المراد: الصلاة مع المسلمين في المواضع المعدّة للصلاة جماعةً، بمحضر أهل الإسلام.

بل يمكن أن يقال: لا صراحة فيها في كون الصلاة بالجماعة و الاقتداء أيضاً، فيمكن أن يكون المراد: الصلاة في مصلّاه في محضر المسلمين

______________________________

(1) أي صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة في ص 76.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 117

بجماعة أو فرادى، و إن كان الظاهر إرادة الجماعة.

و كيف كان، فالظاهر من سياقها أيضاً أنّ ذلك إنّما هو لمعرفة كونه مصلّياً، كما يدلّ عليه قوله: «و ليس يمكن الشهادة على الرجل بأنّه يصلّي» و قوله: «و إنّما جعل الجماعة و الاجتماع» و قوله: «و لو لا ذلك لم يمكن أحد» إلى آخره.

و أنّ ذلك إنّما هو كان في تلك الأعصار التي كانت مبادئ الإسلام، و كانت الصلاة مع النبيّ أو خلفائه، و كان الظاهر ممّن تخلّف عن جماعتهم أي كان بحيث صدق عليه التخلّف، أي القعود عن الجماعة متكرّراً أنّه راغب عن الجماعة و من الصلاة، و كان عدم الاهتمام بذلك موجباً لترك آثار الشريعة، و لذلك لم تقبل عن بعض من يصلّي في بيته أيضاً.

و على هذا، فيكون المراد: العلم بتعاهد الصلوات في مواقيتهنّ و إن لم يحضر الجماعة؛ و ذلك لأنّ ذلك لا يمكن أن يكون لأجل درك فضيلة الجماعة؛ لأنّه- كما عرفت يتحقّق بدون حضور المسجد و جماعة المسلمين

في مصلّاهم، فليس إلّا معرفة كونه مصلّياً، كما يظهر من سياق الصحيحة أيضاً.

فإذا عُلِمَ من حال شخص أنّه يصلّي في بيته و يحفظ مواقيتهنّ يكون ذلك كافياً في المعرّفيّة، و لو اعتبر مع ذلك عدم ترك الجماعة و لو مع أهله أو بعض آخر إلا من علّة كان أحوط.

و العلّة هل تختصّ بالمرض، أو تشمل سائر الأعذار أيضاً، كشغل مهم، أو مطر، أو حرارة، أو نحوها؟ الظاهر: التعميم.

و لا تشترط المداومة على ذلك، بل يكفي قدر يصدق عليه عدم التخلّف، و هو يتحقّق بكونه كذلك في الأغلب أو كثير من الأوقات،

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 118

فتأمّل.

ج: هل اللّازم في المعرفة السؤال عن قبيلته و محلّته معاً إذا اختلف الفريقان في المحل، أو يكفي السؤال عن إحدى الطائفتين؟

الأظهر: السؤال عن الفريقين.

و هل يشترط السؤال عن جميع القبيلة أو المحلّة، أو يشترط السؤال عن جمع، أو يكفي مطلق السؤال؟

ظاهر قوله: «في قبيلته و محلّته» كفاية مطلق السؤال، و لكنّ الظاهر من قوله: «قالوا: ما رأينا منه إلّا خيراً» اشتراط كون المسئولين جماعة، بل الظاهر أنّ السؤال في القبيلة و المحلّة لا يتحقّق عرفاً إلّا بالسؤال عن جماعة منهم.

و هل تشترط عدالتهم أم لا؟

الظاهر: الثاني، و إلّا لما اشترطت الجمعيّة، و للإطلاق.

المسألة الثالثة: هل يشترط في العدالة اجتناب ما يسقط المروّة أيضاً، أم لا؟ صرّح جماعة و لعلّهم الأكثر بالاشتراط،

و منهم: المبسوط و السرائر و الوسيلة و المختلف و التحرير و القواعد و الإرشاد و تهذيب الأُصول و النهاية و المنية و الدروس و الذكرى و المفاتيح و جامع المقاصد و اللّمعة و الروضة و كشف الرموز «1»، و حكاه في الكنز عن الفقهاء «2»، و في المفاتيح و البحار

______________________________

(1) المبسوط 8: 217، السرائر 2: 117، الوسيلة: 230، المختلف: 718، التحرير 2: 208،

القواعد 2: 237، الدروس 2: 125، الذكرى: 267، المفاتيح 1: 20، جامع المقاصد 2: 372، اللمعة و الروضة 3: 130.

(2) كنز العرفان 2: 384.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 119

أنّه المشهور «1»، و في الكشف: أنّه المشهور بين الخاصّة و العامة، و نقله في المدارك و الذخيرة عن المتأخّرين «2»، و اعتبره والدي العلّامة (رحمه اللَّه).

و المحكيّ عن المفيد و العدّة و نهاية الشيخ و الحلبي و القاضي و موضع من الشرائع و روض الجنان و الأردبيلي و المدارك و الذخيرة و البحار: عدم الاشتراط «3»، و اختاره بعض مشايخنا المعاصرين «4».

ثم المروّة، فقيل: إنّها في اللغة: الإنسانيّة كما في الصحاح، أو الرجوليّة و الكمال فيها كما عن العين و محيط اللغة، و أنّها اصطلاحاً: هيئة نفسانيّة تحمل الإنسان على الوقوف على محاسن الأخلاق و جميل العادات «5».

و أمّا عبارات فقهائنا فقد اختلفت في التعبير عن المراد منها، و عمّا يسقطها بكلمات متقاربة مدلولًا، كالتجنّب عن الأُمور الدَّنيّة، أو عمّا لا يليق بأمثاله من المباحات، أو عمّا يسقط العزّة عن القلوب و يدلّ على عدم الحياء و عدم المبالاة بالانتقاص، أو عمّا يؤذن بخباثة النفس و دناءة الهمّة من المباحات و الصغائر و المكروهات، أو عمّا يُستسخَر و يُستهزَأ به لأجله، أو هي التخلّق بخلق أمثاله في زمانه و مكانه، و نحو ذلك.

و قد يعدّ من مخالفات المروّة: الأكل و الشرب في السوق لغير سوقي إلّا مع غلبة العطش و في الطرقات، و المشي مكشوف الرأس بين الناس،

______________________________

(1) المفاتيح 1: 20، البحار 85: 30.

(2) المدارك 4: 67، الذخيرة: 303.

(3) المفيد في المقنعة: 725، النهاية: 325، الحلبي في الكافي: 435، القاضي في المهذّب 2: 556،

الشرائع 4: 127، الأردبيلي في مجمع الفائدة 2: 352، المدارك 4: 68، الذخيرة: 305، البحار 85: 30.

(4) كما في الرياض 2: 429.

(5) كشف اللثام 2: 374.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 120

و مدّ الرجلين في المجالس، و البول في الشوارع عند سلوك الخلائق، و كثرة السخريّة، و الحكايات المضحكة، و لبس الفقيه لباس الجندي، و بالعكس.

و استدلّ من قال باعتبارها بالأصل.

و الشهرة.

و دلالة انتفائها على نوع جنون و خبل في العقل.

أو قلّة مبالاة في الدين.

و عدم الوثوق بمن لا مروّة له؛ لأنّه كاشف عن قلّة حيائه، و من لإحياء له يصنع ما شاء كما ورد في الخبر.

و عدم إطلاق العرف العادل على من لا مروّة له.

و المرويّ عن مولانا الكاظم (عليه السّلام): «لا دين لمن لا مروّة له، و لا مروّة لمن لا عقل له» «1».

و يردّ الأول: بإطلاق الأخبار المتقدّمة.

و الثاني: بعدم الحجيّة.

و الثالث: بمنع الكلّية، و لو سلّمت الدلالة في موضعٍ فالشرط هو عدم الجنون أو الخبل، و هو مسلّم، و اشتراط التكليف و العقل يغني عنه. و إن أُريد النقصان الغير المخرج عن دائرة التكليف فلا نسلّم منافاته للعدالة.

و الرابع: بأنّ المراد إن كان: أنّ كونه كذلك منافٍ لفهم كونه ساتراً للعيوب و مناقض له و يسقط مرتبة الساتريّة، فإن كان كذلك و بلغ إلى هذا الحدّ فنسلّم منافاته للعدالة، و لكن لا نسلّم ذلك في كلّ من لا مروّة له بالمعنى المذكور.

______________________________

(1) الكافي 1: 13، 12، تحف العقول: 290.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 121

و إن كان المراد: أنّ نفس انتفاء المروّة مطلقاً يدلّ على عدم المبالاة في الدين، فلا نسلّمه.

و الخامس: بمنع انتفاء الوثوق بانتفاء المروّة مطلقاً، و

لو سلّم فغايته عدم قبول الشهادة، و هو غير انتفاء العدالة.

و السادس: بالمنع على الإطلاق أولًا، و عدم اعتبار هذا العرف بعد ما عرفت من خفاء المعنى المراد من العدالة شرعاً من غير جهة الاختبار ثانياً.

و السابع: بالضعف أولًا، و عدم الدلالة ثانياً؛ إذ لا نعلم أنّ المراد من المروّة في الحديث هو المعنى المذكور، بل ورد في الأخبار تفسيرها بغير هذا المعنى .

ففي مرسلة الفقيه: «عن رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله): إنّ المروّة استصلاح المال» «1».

و في خبر آخر: أنّها إصلاح المعيشة «2».

و في ثالث: أنّها ستّة، ثلاثة في الحضر: تلاوة القرآن، و عمارة المسجد، و اتّخاذ الإخوان، و مثلها في السفر، هي: بذل الزاد، و حسن الخلق، و المزاح في غير معاصي اللَّه سبحانه «3».

و في رابعٍ أنّها: «أن يضع الرجل خوانه بفناء داره» «4» إلى غير ذلك «5».

______________________________

(1) الفقيه 3: 102، 403، الوسائل 17: 64 أبواب مقدمات التجارة ب 21 ح 4، بتفاوتٍ يسير.

(2) الكافي 8: 241، 331.

(3) الخصال: 324، 11، عيون اخبار الرضا (عليه السّلام) 2: 26، 13، الوسائل 11: 436 أبواب آداب السفر ب 49 ح 14.

(4) معاني الأخبار: 258، 9، الوسائل 11: 436 أبواب آداب السفر ب 49 ح 13؛ و الخوان: الذي يؤكل عليه مجمع البحرين 6: 245.

(5) انظر الوسائل 11: 432 أبواب آداب السفر ب 49.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 122

و ليس في شي ء من هذه المعاني المرويّة ما يوافق ما ذكره الأصحاب في معنى المروّة، و لا على كونها معتبرة في العدالة، و لا إشعار لموثّقة سماعة المتقدّمة «1»؛ لدلالتها بالمفهوم على أنّ من لم يجمع الثلاثة فلا يجمع الأربعة، و منها: كمال

المروّة، و أين ذلك من اشتراطها في العدالة، أو قبول الشهادة؟! و إذ ظهر ضعف تلك الأدلّة تعلم أنّ القول الثاني في غاية المتانة و القوّة، و عدم اعتبار المروّة في العدالة ما لم يبلغ انتفاؤها حدّا يوجب ارتكاب ما هو مخالف للشريعة، أو ينبئ عن جنون، أو يقدح في معرفة صفة الستر و العفّة.

و كما أنّ اجتناب ما يخالف المروّة ليس شطراً للعدالة فكذلك ليس شرطاً لقبول الشهادة؛ للأصل، و عدم ذكره في الأدلّة.

و نقل الأردبيلي عن بعضهم: أنّه اعتبره شرطاً لقبول الشهادة و إن لم يكن شطراً للعدالة.

و ظاهر القواعد: أنّه جعله شرطاً له و شطراً لها معاً «2».

و لا دليل تامّاً على شي ء منهما.

المسألة الرابعة: قد عرفت أنّ اجتناب الكبائر إمّا جزء العدالة أو جزء لازمها،

فارتكاب واحد منها يقدح في العدالة كما يأتي.

و قد اختلفوا أولًا في تقسيم الذنوب إلى الكبائر و الصغائر، فحكي عن جماعة- منهم: المفيد و الطبرسي و الشيخ في العدّة و القاضي و الحلبي إلى عدم التقسيم، بل الذنوب كلّها كبائر «3».

______________________________

(1) في ص 76.

(2) القواعد 2: 236.

(3) حكاه عن المفيد و الطبرسي و القاضي و الحلبي في المسالك 2: 402، الشيخ في العدّة 1: 359.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 123

و نسبه الثاني في تفسيره إلى أصحابنا «1»، مؤذناً بدعوى الاتّفاق، و كذلك الحلّي، حيث قال بعد نقل القول بالتقسيم إلى الكبائر و الصغائر و عدم قدح الثاني نادراً في قبول الشهادة عن المبسوط-: و لا ذهب إليه أحد من أصحابنا؛ لأنّه لا صغائر عندنا في المعاصي إلّا بالإضافة إلى غيرها «2». انتهى .

و الحاصل: أنّ الوصف بالكبر و الصغر إضافي.

و منهم «3» من جعل الإضافة على ثلاثة أقسام:

أحدهما: بالإضافة إلى الطاعة، و هو أنّ المعصية إن زاد

عقابها على ثواب تلك الطاعة فهي كبيرة بالنسبة إليها، و إن نقص فهي صغيرة.

و ثانيها: بالإضافة إلى معصية أُخرى، و هو أنّ عقابها إن زاد على عقاب تلك المعصية فهي كبيرة بالنسبة إليها، و إن نقص فهي صغيرة.

و ثالثها: بالإضافة إلى فاعلها، و هو أنّها إن صدرت من شريفٍ له مزيدُ علمٍ و زهدٍ فهي كبيرة، و إن صدرت ممّن هو دون ذلك فهي صغيرة.

ثم إنّه استدلّ على كون الجميع كبائر باشتراك الجميع في مخالفة أمره تعالى و نهيه «4»، و لذلك جاء في الحديث: «لا تنظر إلى ما فعلت و لكن انظر إلى ما عصيت» «5».

______________________________

(1) مجمع البيان 2: 38.

(2) السرائر 2: 118.

(3) كالسيوري في التنقيح 4: 290.

(4) انظر الذخيرة: 303.

(5) أمالي الطوسي: 538، مستدرك الوسائل 11: 349 أبواب جهاد النفس ب 43 ح 8 و فيه: «لا تنظر إلى صغر الخطيئة، و لكن انظر إلى من عصيت» و عن دعوات الراوندي في البحار 14: 379، 25، مستدرك الوسائل 11: 351 أبواب جهاد النفس ب 43 ح 14: «إذا وقعت في معصيةٍ فلا تنظر إلى صغرها، و لكن انظر إلى من عصيت».

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 124

و لما ورد في بعض الأخبار من أنّ كلّ معصية شديدة، و أنّها قد توجب لصاحبها النار «1».

و ما ورد من التحذير على استحقار الذنب و استصغاره «2».

و في الأول: أنّ كون الجميع مخالفة له لا يمنع من كون بعضها كبيرة و بعضها صغيرة، فإنّ الذنوب المتحقّقة بين العباد من بعضهم بالنسبة إلى بعض توصف بالكبر و الصغر، فيقال: فلان عصى السلطان عصياناً عظيماً و أذنب ذنباً كبيراً، و يقال: الذنب الفلاني كبير، و الفلاني سهل

صغير. فاشتراك الجميع في مخالفة اللَّه سبحانه لا ينافي وصف بعضها بالكبر و بعضها بالصغر.

بل و كذلك عرفاً في معاصي اللَّه سبحانه، فيصدق على قتل النبيّ أو هدم الكعبة أنّه ذنب عظيم و إثم كبير، و على ترك ردّ السلام مثلًا أنّه ذنب صغير.

و في الثاني: أنّه لا تلازم بين كون كلّ معصية شديدة و بين كونها كبائر، بمعنى ما يوعد عليه بالنار، أو غير مكفّر بالأعمال الصالحة، أو قادحاً في العدالة.

و منه يظهر ما في الثالث أيضاً.

و ذهب طائفة منهم: الشيخ في النهاية و المبسوط و ابن حمزة و الفاضلان و الشهيدان «3»، بل أكثر المتأخّرين كما في المسالك «4»، بل

______________________________

(1) الكافي 2: 269، 7، الوسائل 15: 299 أبواب جهاد النفس ب 40 ح 3.

(2) الوسائل 15: 310 أبواب جهاد النفس ب 43.

(3) النهاية: 325، المبسوط 8: 217، ابن حمزة في الوسيلة: 230، المحقق في الشرائع 4: 127، و النافع: 287، العلّامة في القواعد 2: 236، الشهيدان في اللمعة و الروضة 3: 129، 130.

(4) المسالك 2: 402.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 125

عامّتهم كما قيل «1»، و نسب إلى الإسكافي و الديلمي أيضاً «2» إلى انقسام المعاصي إلى الكبائر و الصغائر، بل يستفاد من كلام الصيمري و شيخنا البهائي في الحبل المتين على ما حكي عنهما «3» الإجماع عليه.

و هو الحقّ؛ لظاهر قوله سبحانه إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ «4».

و قوله الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ «5».

و لقول عليّ (عليه السّلام): «من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه» «6».

و رواية ابن سنان: «لا صغيرة مع الإصرار و لا كبيرة مع الاستغفار» «7».

و مرسلة الفقيه: «من

اجتنب الكبائر كفّر اللَّه عنه جميع ذنوبه» «8».

و في خبر آخر: «إنّ الأعمال الصالحة تكفّر الصغائر».

و في آخر: هل تدخل الكبائر في مشيئة اللَّه؟ قال: «نعم» «9».

و تشهد له الأخبار الواردة في ثواب بعض الأعمال: أنّه يكفّر الذنوب إلّا الكبائر.

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 428.

(2) حكاه عن الإسكافي في المختلف: 717.

(3) حكاه عنهما في الرياض 2: 427 و 429.

(4) النساء: 31.

(5) الشورى: 37.

(6) نهج البلاغة (محمد عبده) 1: 20.

(7) الكافي 2: 288، 1، الوسائل 15: 337 أبواب جهاد النفس ب 48 ح 3.

(8) الفقيه 3: 376، 1781، الوسائل 15: 316 أبواب جهاد النفس ب 45 ح 4 و فيه بتفاوتٍ يسير.

(9) الفقيه 3: 376، 1780، الوسائل 15: 334 أبواب جهاد النفس ب 47 ح 7.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 126

و للمستفيضة من النصوص الآتية، المتضمّنة للكبائر و الصغائر، و بيان الكبائر. و تخصيصها بطائفة خاصّة من الذنوب و إبطال الانقسام يوجب طرح تلك الأخبار.

ثم اختلف القائلون بالتقسيم في تفسير الكبائر و تحديدها.

فمنهم من قال: إنّ كلّ ما وجب فيه حدّ فهو كبيرة، و ما لم يقرّر فيه حدّ فهو الصغيرة «1».

و منهم من قال: ما ثبت تحريمه بقاطع فهو كبيرة «2».

و منهم من قال: كلّما آذن بقلّة الاكتراث في الدين فهو كبيرة «3».

و منهم من قال: ما يلحق صاحبه العقاب الشديد من كتاب أو سنّة «4».

و قيل: إنّها ما نهى اللَّه عنه في سورة النساء من أولها إلى قوله سبحانه إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية «5».

و قيل: إنّها سبع «6». و قيل: إنّها تسع «7». و قيل: عشرون. و قيل: أزيد.

و عن ابن عبّاس: أنّها إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبعة «8»،

و به صرّح في الروضة «9».

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 18    126     المسألة الرابعة: قد عرفت أن اجتناب الكبائر إما جزء العدالة أو جزء لازمها، ..... ص : 122

في الدروس: أنّها إلى السبعين أقرب منها إلى السبعة «10».

و المشهور بين أصحابنا: أنّها ما توعّد عليها إيعاداً خاصّاً، و لكن اختلفت

______________________________

(1) انظر القواعد و الفوائد 1: 225 مع هوامشه، و بدائع الصنائع 6: 268.

(2) انظر القواعد و الفوائد 1: 225 مع هوامشه، و بدائع الصنائع 6: 268.

(3) انظر القواعد و الفوائد 1: 225 مع هوامشه، و بدائع الصنائع 6: 268.

(4) انظر القواعد و الفوائد 1: 225 مع هوامشه، و بدائع الصنائع 6: 268.

(5) حكاه عن ابن مسعود في مجمع البيان 2: 38، و التفسير الكبير 10: 74.

(6) انظر الخصال: 610.

(7) انظر الجامع لأحكام القرآن 5: 160.

(8) حكاه عنه في مجمع البيان 2: 39، و الجامع لأحكام القرآن 5: 159.

(9) الروضة 3: 129.

(10) الدروس 2: 125.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 127

كلماتهم في بيان الإيعاد الخاصّ.

ففي نهاية الشيخ و القواعد و الإرشاد و المنقول في المسالك: أنّها ما أوعد اللَّه سبحانه عليها بالنار «1».

و في التنقيح نقلًا عن الأكثر-: أنّها ما توعّد عليه بعينه و خصوصه «2».

و في الدروس: كلّ ذنب توعّد عليه بخصوصه بالعقاب «3».

و في قواعد الشهيد: كلّما توعّد الشرع عليه بخصوصه «4».

و مثله في الروضة، فإنّ فيها: أنّها ما توعّد عليها بخصوصها في كتاب أو سنّة «5».

و عن الذخيرة و في الكفاية: أنّها كلّ ذنب توعّد اللَّه عليه عزّ و جلّ بالعقاب في الكتاب العزيز «6» و قال في الأخير: إنّه المعروف بين أصحابنا، قال: و لم أجد في كلامهم

اختيار قول آخر.

و ربّما يستفاد من كلام بعض مشايخنا المعاصرين اتّحاد المراد من كلماتهم المختلفة في الإيعاد، حيث ذكر ما ذكره في الكفاية، و حكى عن التنقيح نسبته إلى الأكثر، و جعل صحيحة ابن أبي يعفور «7» مشعراً به «8».

و هذا التفسير أي ما توعّد عليه للكبائر يحتمل وجوهاً؛ لأنّه إمّا

______________________________

(1) النهاية: 325، القواعد 2: 236، الإرشاد 2: 156، المسالك 2: 402.

(2) التنقيح 4: 291.

(3) الدروس 2: 125.

(4) القواعد و الفوائد 1: 224.

(5) الروضة 3: 129.

(6) الذخيرة: 304، الكفاية: 279.

(7) المتقدّمة في ص 76.

(8) انظر الرياض 2: 427.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 128

توعّد عليه بخصوصه النار، أو بالعقاب مطلقاً.

و على التقديرين، إمّا توعّد عليه بعينه و خصوصه، نحو: أنّ الذنب الفلاني يترتّب عليه ذلك.

أو بالعموم، نحو وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «1».

و على التقادير الأربع، إمّا يكون ما توعّد اللَّه سبحانه عليه، أو يكون أعمّ ممّا يوعد اللَّه أو حججه.

و على التخصيص بإيعاد اللَّه، إمّا يختصّ بإيعاده في الكتاب العزيز، أو يكون أعمّ منه و من الإيعاد الحاصل في الحديث القدسي و في أخبار الحجج بأنّ اللَّه سبحانه أوعد كذا و كذا.

و على تقدير تخصيص الإيعاد بالنار، إمّا يختصّ بالإيعاد بلا واسطة، كأن يقول: من فعل كذا فهو يدخل النار. أو أعمّ منه و ممّا يكون بواسطة، كأن يقول: من فعل كذا فهو كافر أو شقي، و أوعد الكافر أو الشقي بالنار.

و كذا على التخصيص بالكتاب، يحتمل التخصيص و التعميم باعتبار حصول الواسطة و عدمه، فإنّه قد يوعد في الكتاب بوصفٍ رتّب في السنّة النار على المتّصف به، و قد يعكس.

و اللّازم في المقام الرجوع إلى دليل تعريف الكبائر، و هو

موقوف على ذكر الأخبار الواردة في المقام، فمنها: صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة «2».

و رواية الحلبي: في قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ

______________________________

(1) الزلزلة: 8.

(2) في ص 76.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 129

الآية «1»، قال: «الكبائر التي أوجب اللَّه عليها النار» «2».

و صحيحة أبي بصير في بيان وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «3» قال: «معرفة الإمام، و اجتناب الكبائر التي أوعد اللَّه عليها النار» «4».

و صحيحة السرّاد: عن الكبائر كم هي و ما هي؟ فكتب: «الكبائر من اجتنب ما وعد اللَّه عليه النار كفّر عنه سيّئاته إذا كان مؤمناً، و السبع الموجبات: قتل النفس الحرام، و عقوق الوالدين، و أكل الربا، و التعرّب بعد الهجرة، و قذف المحصنة، و أكل مال اليتيم، و الفرار من الزحف» «5».

و صحيحة محمّد: «الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمّداً، و قذف المحصنة، و الفرار من الزحف، و التعرّب بعد الهجرة، و أكل مال اليتيم ظلماً، و أكل الربا بعد البيّنة، و كلّ ما أوجب اللَّه عليه النار» «6».

و رواية عبّاد بن كثير: عن الكبائر، قال: «كلّ ما أوعد اللَّه عليه النار» «7».

و المدلول من تلك الأخبار أنّ الكبائر ما أوعد اللَّه عليه النار، و الثلاثة الاولى و إن لم تكن صريحة لاحتمال كون الوصف فيها احترازيّاً و لكن

______________________________

(1) النساء: 31.

(2) الكافي 2: 276، 1، الوسائل 15: 315 أبواب جهاد النفس ب 45 ح 2.

(3) البقرة: 269.

(4) الكافي 2: 284، 20، الوسائل 15: 315 أبواب جهاد النفس ب 45 ح 1؛ و فيهما: أوجب، بدل: أوعد.

(5) الكافي 2: 276، 2، الوسائل 15: 318 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 1.

(6) الكافي 2: 277، 3،

الوسائل 15: 322 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 6.

(7) الفقيه 3: 373، 1758، عقاب الأعمال: 233، 2، الوسائل 15: 327 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 24.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 130

البواقي صريحة في أنّ الكبائر هي ذلك العنوان.

و لا تضرّ معارضة مفهوم الحصر فيما يختصّ بما أوعد اللَّه بها مع ما يشتمل على السبع أيضاً؛ لأنّ الأخير أخصّ مطلقاً من الأول، فيجب تخصيصه به، و يحكم بكون المجموع كبيرة.

و منها صحيحة عبيد: عن الكبائر، فقال: «هنّ في كتاب علي (عليه السّلام) سبع: الكفر باللَّه، و قتل النفس، و عقوق الوالدين، و أكل الربا بعد البيّنة، و أكل مال اليتيم ظلماً، و الفرار من الزحف، و التعرّب بعد الهجرة» قال: قلت: فهذا أكبر المعاصي؟ قال: «نعم» قلت: فأكل درهم من مال اليتيم ظلماً أكبر، أم ترك الصلاة؟ قال: «ترك الصلاة» قلت: فما عددتَ ترك الصلاة في الكبائر؟ قال: «أيّ شي ءٍ أول ما قلت لك؟» قال: قلت: الكفر، قال: «فإنّ تارك الصلاة كافر، يعني من غير علّة» «1».

و رواية عبد الرحمن بن كثير: «الكبائر سبعٌ فينا أُنزلت و منّا استُحلّت، فأولها الشرك باللَّه العظيم، و قتل النفس التي حرّم اللَّه، و أكل مال اليتيم، و عقوق الوالدين، و قذف المحصنة، و الفرار من الزحف، و إنكار حقّنا» الحديث «2».

و موثّقة أبي بصير: «الكبائر سبعة: منها قتل النفس متعمّداً، و الشرك باللَّه العظيم، و قذف المحصنة، و أكل الربا بعد البيّنة، و الفرار من الزحف، و التعرّب بعد الهجرة، و عقوق الوالدين، و أكل مال اليتيم [ظلماً]» قال

______________________________

(1) الكافي 2: 278، 8، الوسائل 15: 321 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 4.

(2) الفقيه 3:

366، 1745، الخصال: 363، 56، العلل: 474، 1، الوسائل 15: 326 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 22.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 131

«و التعرّب و الشرك واحد» «1».

و رواية مسعدة، قال: «الكبائر: القنوط من رحمة اللَّه، و اليأس من رَوح اللَّه، و الأمن من مكر اللَّه، و قتل النفس التي حرّم اللَّه، و عقوق الوالدين، و أكل مال اليتيم ظلماً، و أكل الربا بعد البيّنة، و التعرّب بعد الهجرة، و قذف المحصنة، و الفرار من الزحف» «2».

و هذه الأخبار الأربعة و إن اختلف بعضها مع بعض في العدد أو في المعدود إلّا أنّه لا تعارض بينها منطوقاً.

نعم، يعارض بعضها بحسب المفهوم مع بعض، و لكن يقدّم المثبت من المتعارضين؛ لكون التعارض بالعموم و الخصوص المطلقين، فيحكم بتخصيص عموم مفهوم الحصر بخصوص المنطوق، و يكون كلّ ما في هذه الأحاديث كبيرة.

و أمّا مع الأخبار المتقدّمة فلا تعارض أيضاً بحسب المنطوق، و أمّا مفهوم الحصر في تلك الأخبار فهو و إن تعارض مع ما يختصّ بما أوعد اللَّه من الأخبار الاولى بالعموم من وجه، و لكن يعارض مع ما يشتمل على السبع أيضاً بالعموم المطلق، فيخصّص به، و يثبت الحكم للمجموع.

هذا، مع أنّه يمكن اختلاف مراتب الكبائر و حمل ما يتضمّن الحصر في عدد مخصوص على إرادة أكبرها، و يعضده ما في بعض الصحاح المتقدّمة من الحكم بأنّها ما أوعد اللَّه عليه النار، بعد ذكر السبع كما في بعض، أو قبله كما في بعض آخر.

______________________________

(1) الكافي 2: 281، 14، الوسائل 15: 324 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 16؛ و ما بين المعقوفين من المصدر.

(2) الكافي 2: 280، 10، الوسائل 15: 324 أبواب جهاد النفس

ب 46 ح 13.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 132

بل تدلّ عليه رواية أبي الصامت: «أكبر الكبائر سبع: الشرك باللَّه العظيم، و قتل النفس التي حرّم اللَّه عزّ و جلّ إلّا بالحقّ، و أكل مال اليتيم، و عقوق الوالدين، و قذف المحصنات، و الفرار من الزحف، و إنكار ما أنزل اللَّه عزّ و جلّ» «1».

ثم بما ذكر يظهر حال رواية الصدوق عن الفضل بن شاذان، فيما كتب به مولانا الرضا (عليه السّلام) للمأمون، المرويّة في عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) بأسانيد متعددة كما في الذخيرة «2»: «إنّ الكبائر هي: قتل النفس التي حرّم اللَّه تعالى ، و الزنا، و السرقة، و شرب الخمر، و عقوق الوالدين، و الفرار من الزحف، و أكل مال اليتيم ظلماً، و أكل الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أُهلّ لغير اللَّه به من غير ضرورة، و أكل الربا بعد البيّنة، و السحت، و الميسر و هو القمار، و البخس في المكيال و الميزان، و قذف المحصنات، و اللواط، و شهادة الزور، و اليأس من رَوح اللَّه، و الأمن من مكر اللَّه، و القنوط من رحمة اللَّه، و معونة الظالمين، و الركون إليهم، و اليمين الغموس، و حبس الحقوق من غير عسر، و الكذب، و الكبر، و الإسراف، و التبذير، و الخيانة، و الاستخفاف بالحجّ، و المحاربة لأولياء اللَّه، و الاشتغال بالملاهي، و الإصرار على الذنوب» «3» و في بعض النسخ: «و الإصرار على الصغائر من الذنوب».

فإنّها تعارض مفاهيم الحصر المتقدّمة بالخصوص المطلق، يعني: أنّ هذه أخصّ منها فيجب تقديمها و الحكم بكون الجميع كبيرة؛ مع أنّه

______________________________

(1) التهذيب 4: 149، 417، الوسائل 15: 325 أبواب جهاد النفس ب 46

ح 20.

(2) الذخيرة: 304.

(3) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 2: 121، تحف العقول: 422، بتفاوت، الوسائل 15: 329 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 33.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 133

لا نعلم تعارضها مع ما يتضمّن أنّ الكبائر ما أوعد اللَّه عليه النار؛ لجواز الإيعاد بها في جميع ما تضمّنته الرواية، سيّما مع بعض احتمالات ذلك العنوان كما مرّ.

و كذا يعلم ممّا ذكر حال سائر ما تضمّن ذكر كبيرة أو كبائر من الأخبار، و يحكم بكون الجميع كبيرة، كمرسلة الفقيه: «إنّ الحيف في الوصيّة من الكبائر» «1».

و رواية أبي خديجة: «الكذب على اللَّه و على رسوله و على الأوصياء (عليهم السّلام) من الكبائر» «2».

و قال رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله): «من قال عَليَّ ما لم أقل فليتبوّأ مقعده من النار» «3».

و رواية عبد العظيم: «أُحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب اللَّه تعالى ، فقال: نعم يا عمرو، أكبر الكبائر: الإشراك باللَّه، يقول اللَّه تعالى مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ «4» و بعده اليأس من رَوح اللَّه؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «5» ثم الأمن من مكر اللَّه؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ «6» و منها عقوق الوالدين؛ لأنّ اللَّه تعالى

______________________________

(1) الفقيه 3: 369، 1747، الوسائل 15: 327 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 23.

(2) الفقيه 3: 373، 1755، المحاسن 1: 118، 127، عقاب الأعمال: 268، 1، الوسائل 15: 327 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 25.

(3) الفقيه 3: 373، 1756، المحاسن 1: 118، 127، عقاب الأعمال: 268، 1، الوسائل 15: 327 أبواب جهاد النفس ب 46

ح 26.

(4) المائدة: 72 و هي هكذا: «إنَّه مَن يُشرك باللَّه ..».

(5) يوسف: 87.

(6) الأعراف: 99.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 134

جعل العاقّ جبّاراً شقيّاً «1»؛ و قتل النفس التي حرّم اللَّه إلّا بالحقّ؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها «2» الآية، و قذف المحصنة؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «3» و أكل مال اليتيم؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً «4» و الفرار من الزحف؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلى قوله وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ «5» و أكل الربا؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ «6» و السحر؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ «7» و الزنا؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً «8» و اليمين الغموس الفاجرة؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ «9» و الغلول؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ «10» و منع الزكاة المفروضة؛ لأنّ اللَّه

______________________________

(1) إشارة إلى قوله سبحانه في سورة مريم «وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا».

(2) النّساء: 93.

(3) النّور: 23.

(4) النّساء: 10.

(5) الأنفال: 16.

(6) البقرة: 275.

(7) البقرة: 102.

(8) الفرقان: 68.

(9) آل عمران: 77.

(10) آل عمران: 161.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 135

تعالى يقول فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ

ظُهُورُهُمْ «1» و شهادة الزور و كتمان الشهادة؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ «2» و شرب الخمر؛ لأن اللَّه تعالى نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان «3»، و ترك الصلاة متعمّداً أو شيئاً ممّا فرض اللَّه؛ لأنّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) قال: من ترك الصلاة متعمّداً فقد برئ من ذمّة اللَّه و ذمّة رسوله (صلّى اللَّه عليه و آله). و نقض العهد و قطيعة الرحم؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ «4»» الحديث «5».

و ظهر من جميع ما ذكر أنّ الكبائر: كلّ ما أوعد اللَّه تعالى عليه النار، و أنّ جميع ما في تلك الأخبار بخصوصه من الكبائر أيضاً.

بقي الكلام في بيان المراد ممّا أوعد اللَّه عليه من الاحتمالات المتقدّمة.

فنقول: إنّه بعد ما عرفت أنّ الثابت من الأخبار في القسم الأول من الكبائر هو عنوان ما أوعد اللَّه عليه النار، فيلزم متابعة ما يدلّ عليه ذلك العنوان، و هو صريحٌ في أنّه يلزم أن يكون الإيعاد بالنار، فلا يصحّ تعميم العنوان بالعقاب، أو مطلق الوعيد، إلّا أن يثبت أنّ عقابه و وعيده منحصرٌ بذلك.

و هو غير ثابت، بل الظاهر خلافه، و ظاهرٌ في كون الإيعاد على الذنب

______________________________

(1) التوبة: 35.

(2) البقرة: 283.

(3) إشارة إلى قوله تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ المائدة: 90.

(4) الرعد: 25.

(5) الكافي 2: 285، 24، الوسائل 15: 318 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 136

المخصوص بعينه؛ لأنّه الظاهر المتبادر من قوله: «أوعد اللَّه عليه» فلا يشمل ما أوعد عليه عموماً، نحو قوله فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ

«1» و قوله وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها «2».

مع أنّ الأول إيعادٌ بالأعمّ من النار؛ للتصريح بالفتنة أيضاً.

و الثاني مخصوصٌ بعصيان الكفر بقرينة الخلود، و كذا الظاهر المتبادر منه الإيعاد الصريحي، فلا يشمل الضمني الحاصل في ضمن مجرّد النهي.

و مطلقٌ بالنسبة إلى كونه في الكتاب العزيز أم لا، فيشمل ما أوعد بالنار في الحديث القدسي، أو بلسان الرسول، أو الإمام حاكياً عن اللَّه، بمثل: قال اللَّه كذا، أو: أوجب كذا؛ لصدق إيعاده سبحانه عرفاً، و لا يشمل إيعاد الرسول و الإمام من غير نسبته إلى اللَّه تعالى و إن احتمل في الأول؛ لقوله تعالى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «3».

و نقل المحدّث المجلسي في حقّ اليقين عن بعضهم: الإيعاد في السنّة المتواترة أيضاً موجبٌ للكون كبيرة مطلقاً، و عن بعض آخر: أنّ الإيعاد بالأحاديث الصحيحة أيضاً كذلك.

و الظاهر عدم اشتراط كونه بلا واسطة، بل يشمل ما كان بالواسطة، مثل أن يقول: تارك الصلاة منافق، و قال: المنافق في النار؛ لصدق الإيعاد بالنار، و مثل أن يقول: المضيع ماله مسرف، و قال: إنّ الإسراف يوجب دخول النار.

______________________________

(1) النور: 63.

(2) الجن: 23.

(3) النجم: 4.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 137

و من ذلك يظهر سرّ ما سبق من أنّ الكبائر إلى سبعمائة أقرب، بل على هذا يصعب حصر الكبائر، و اللَّه هو العالم بالسرائر.

فرع: قد مرّ رواية الفضل: أنّ من الكبائر الإصرار على الصغائر «1»، و تدلّ عليه أيضاً رواية الحسين بن زيد الطويلة، المرويّة في الفقيه في ذكر المناهي، و في آخرها: «لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار» «2»، و رواية ابن سنان المتقدّمة «3»، و

نفى بعض مشايخنا المعاصرين عنه الريب بل الخلاف «4»، و هو كذلك، بل هو إجماعي.

و بما ذكر يجبر ما لو كان في الأخبار من الضعف، و بهما تخصّص الأخبار الظاهرة في الحصر فيما لا يدخل فيه ذلك؛ مع أنّ عدم كونه ممّا أوعد اللَّه عليه النار و لو بالواسطة غير معلوم.

ثم إنّهم اختلفوا في حدّ الإصرار الموجب لدخول الصغيرة في الكبائر.

فقيل: هو المداومة على نوع واحد منها، و المواظبة و الملازمة له «5».

و قيل: هو الإكثار منها، سواء كان من نوع واحد أو من أنواع مختلفة، ذكره في المسالك و الروضة و كشف الرموز «6» و غيرها «7».

و قيل: يحصل بكلّ واحد منها «8».

______________________________

(1) راجع ص 130.

(2) الفقيه 4: 2، 1، الوسائل 15: 312 أبواب جهاد النفس ب 43 ح 8.

(3) في ص 123.

(4) كما في الرياض 2: 428.

(5) كما في الرياض 2: 428.

(6) المسالك 2: 402، الروضة 3: 130.

(7) كما في كنز العرفان 2: 385، الذخيرة: 305.

(8) انظر كفاية الأحكام: 279.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 138

و قيل: هو فعل الصغيرة مع العزم على معاودتها «1».

و نقل عن بعضهم قولٌ بأنّ المراد فعل الصغيرة مع عدم التوبة «2».

و استدلّ للأخير برواية جابر: في قول اللَّه عزّ و جلّ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ «3» قال: «الإصرار: أن يذنب الذنب فلا يستغفر [اللَّه ] و لا يحدّث نفسه بتوبة» «4».

و دليل الأول: كلام أهل اللغة، قال الجوهري: أصررت على الشي ء: أي أقمت و دمت عليه «5». و قال ابن الأثير: أصرّ على الشي ء يصرّ إصراراً: إذا لزمه و داومه و ثبت عليه «6». و في القاموس: أصرّ على الأمر: لزم «7».

و قريب منه كلام ابن فارس في المجمل «8».

و دليل الثاني و الثالث: إمّا صدق المداومة و اللزوم مع الإكثار، أو صدق الإصرار عرفاً معه.

و حجّة الرابع: فحوى رواية جابر، و هو الإصرار عرفاً.

قال في البحار: و في العرف يقال: فلان مصرّ على هذا الأمر إذا كان عازماً على العود إليه «9».

______________________________

(1) انظر البحار 85: 29.

(2) انظر البحار 85: 29.

(3) آل عمران: 135.

(4) الكافي 2: 288، 2، الوسائل 15: 338 أبواب جهاد النفس ب 48 ح 4؛ و ما بين المعقوفين من المصدرين.

(5) الصحاح 2: 711.

(6) النهاية 3: 22.

(7) القاموس المحيط 2: 71 و فيه: و أصرّ يعدو: أسرع، و على الأمر: عزم.

(8) مجمل اللغة 3: 223.

(9) البحار 85: 30.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 139

و لا ينبغي الريب في ضعف الأخير كما عن الذخيرة و البحار أيضاً «1»؛ لعدم مساعدة اللغة و لا العرف، و عدم دلالة الخبر على أنّه المراد من الإصرار مطلقاً، فلعلّه في تفسير الآية بخصوصه و لا في صدق الإصرار بالأول لغةً و عرفاً.

و إنّما الكلام في البواقي، و الظاهر لزوم اعتبار صدق الملازمة و المداومة في الإكثار أيضاً، فلا يُكتفى بمجرّد ارتكابها مرّات عديدة في يوم أو يومين أو ثلاثة مثلًا، و إن صدق الإكثار، فلو تركها بعد الثلاث لا يحكم بكونه إصراراً و لو لم تُعلَم التوبة، و هو الظاهر من التحرير، حيث قال: و عن الإصرار على الصغائر أو الإكثار منها «2». بل من الإرشاد و القواعد أيضاً «3»، كما صرّح بالظهور منهما في الذخيرة «4».

نعم، يظهر منهم كون الإكثار أيضاً قادحاً في العدالة أو في قبول الشهادة، و لكنّ الظاهر أنّ مرادهم من الإكثار: أغلبيّة

ارتكابه عن الاجتناب إذا عنّ له من غير توبة.

و أمّا مع العزم على العود بدون الإكثار كما هو القول الرابع فصدق الإصرار غير معلوم عرفاً، و لو علم في هذا الزمان فلا يفيد للأخبار.

فالمناط في صدق المداومة، ثم المناط صدق المداومة و الملازمة العرفيّتين.

و هل يشترط كون الإصرار على نوع واحد، أو لا؟

______________________________

(1) الذخيرة: 305، البحار 85: 29.

(2) التحرير 2: 208.

(3) القواعد 2: 236.

(4) الذخيرة: 305.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 140

الظاهر: الثاني؛ لصدق الإصرار على الصغائر بالمداومة على جنسها، كالإصرار على قتل الحيوانات بالمداومة على الجنس، و من الإصرار على الجنس: الإكثار من الذنوب بحسب ارتكابه أغلب عن اجتنابه إذا عنّ له من غير توبة؛ لصدق المداومة عرفاً.

ثم إنّ الشهيد قسّم الإصرار إلى فعلي و حكمي، فالفعلي هو الدوام على نوع واحد بلا توبة، أو الإكثار من جنس الصغائر كذلك؛ و الحكمي هو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها «1». و ارتضاه جماعة من المتأخّرين «2».

و لعلّ مستنده اللغة و العرف و حديث جابر، فبالأولين يثبت الأولان- و هما الإصرار و بالثالث يثبت حكم الإصرار للثالث، و فيه تأمّل.

فرع: كما يتحقّق الإصرار على الصغيرة بالإتيان بأفراد نوع واحد منها بقدر تصدق معه الملازمة عرفاً، كذلك يتحقّق باستمرار فرد واحد من نوعٍ بقدر تصدق الملازمة. و لا يتوقّف على تكرّر الفعل، فلو لبس ثوباً حريراً مدّة مديدة، أو اقتنى آنية ذهب على القول بحرمة اقتنائها أيضاً أو تختّم بخاتم ذهب كذلك، يخرج عن العدالة؛ لصدق الإصرار على الصغيرة.

و على هذا يقدح في العدالة فعل صغيرة مع العزم بالمعاودة لو علم منه ذلك، أو ترك التوبة مع التذكّر في مدّة مديدة، لا لأجل

كون ذلك إصراراً على الصغيرة المذكورة، بل لأجل الإصرار على ترك التوبة، و هو أيضاً من الصغائر؛ لوجوب التوبة، فإذا استمرّ تركها يكون مصرّاً على هذه

______________________________

(1) القواعد و الفوائد 1: 277.

(2) كالسيوري في كنز العرفان 2: 385، الشهيد الثاني في الروضة 3: 130.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 141

الصغيرة، و لأجله يخرج عن العدالة.

المسألة الخامسة: اعلم أنّه لا خلاف في زوال العدالة بارتكاب كبيرة

من الكبائر و لو كان إصراراً على الصغيرة، بل هو إجماعي؛ و يدلّ عليه الإجماع، و رواية علقمة «1»، و صحيحة ابن أبي يعفور «2»، و بعض الروايات الأُخر «3».

و هل يقدح فيها فعل صغيرة من دون إصرار، أم لا؟

المشهور سيّما بين المتأخّرين «4»: الثاني إن لم يبلغ حدّ الإكثار، على القول بعدم كونه إصراراً، بل قيل: إنّه اتّفاقيّ بين القائلين بتقسيم المعاصي إلى الكبائر و الصغائر، و ادّعي عليه الشهرة العظيمة «5».

و هو الأقوى؛ لتعريف العدالة في الصحيحة باجتناب الكبائر، فمن اجتنبها يكون عادلًا و لا ارتكب الصغيرة، بل مقتضاها اختصاص القدح بالكبيرة التي أوعد اللَّه عليها النار دون غيرها لو قلنا بأعميّة الكبيرة عنه و عمّا في الأخبار، و لو لا الإجماع على قدح الكبيرة مطلقاً لأمكن القول بالاختصاص.

و يؤيّده أيضاً استلزام قدح مطلق الصغيرة في العدالة الحرج العظيم، كما ذكره الشيخ في المبسوط «6»، و تشعر به رواية علقمة. و إمكان الرفع بالتوبة كما ذكره الحلّي «7» غير مفيد غالباً؛ لأنّ العلم بالتوبة مشكل.

______________________________

(1) أمالي الصدوق: 91، 3، الوسائل 27: 395 أبواب الشهادات ب 41 ح 13.

(2) الفقيه 3: 24، 65، الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41 ح 1.

(3) الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41.

(4) كالشهيد الثاني في المسالك 2: 402، السبزواري في الكفاية: 279،

الكاشاني في المفاتيح 1: 19.

(5) كما في الرياض 2: 428.

(6) المبسوط 8: 217.

(7) السرائر 2: 118.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 142

و كذا يؤيّده قوله سبحانه وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا «1» و قوله إِلَّا اللَّمَمَ «2» و قد فسّره الجوهري بصغار الذنوب «3»، و كذا ابن الأثير في حديث أبي العالية، و نقله عن بعضهم أيضاً «4»، و فسّره أيضاً في الصافي بما صغر «5».

و حكي عن جماعة من القدماء الأُول «6»، و هم بين من أطلق في اشتراط العدالة أو قبول الشهادة بالاجتناب عن المحارم أو القبائح أو نحوهما ممّا يشمل الصغيرة أيضاً، و هو أكثرهم، و من صرّح بقدح جميع الذنوب و نفى الصغيرة من الذنوب، و هو الحلّي «7».

و استدلّ لهم بوجوه كثيرة بيّنة الضعف.

و يمكن أن يستدلّ لذلك القول بوجوه ثلاثة أُخرى.

أحدها: التصريح في صحيحة ابن أبي يعفور باشتراط كفّ الجوارح الأربع، الشامل للكفّ عن الصغائر أيضاً.

و ثانيهما: تصريح الأخبار بعدم قبول شهادة الفاسق، و كونه مناقضاً للعادل، و الفسق هو الخروج عن طاعة اللَّه، و هو يصدق مع فعل الصغيرة أيضاً.

______________________________

(1) آل عمران: 135.

(2) النجم: 32.

(3) الصحاح 5: 2032.

(4) النهاية الأثيرية 4: 273.

(5) الصافي 5: 94.

(6) حكاه عن ابن الجنيد في المختلف: 717، و القاضي في المهذّب 2: 556، و الحلبي في الكافي في الفقه: 435.

(7) السرائر 2: 118.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 143

و ثالثها: مفهوم الشرط في قوله: «فمن لم تره بعينك» إلى آخره، في رواية علقمة المتقدّمة.

و يمكن الجواب عن الأول: بأنّ ما يكفّ عنه غير مذكور، و للكلام مقتضى، و المقتضى غير معلوم، و عمومه كما قيل ممنوع، فلعلّه الكبائر، بل هو

القدر المتيقّن، و يؤكد إرادتها تخصيص المجتنَب عنه بها، و لو كان الأول عامّاً لما كان وجه لتخصيص الثاني، سيّما إذا جعل قوله في الصحيحة: «و يعرف» بياناً للستر و الكفّ، كما مرّ؛ مع أنّ منافاة فعل شي ء يسير نادراً للكفّ غير معلوم، فإنّ من يجتنب عن الأغذية المضرّة له دائماً يصدق عليه المحتمي و لو تناول شيئاً يسيراً منها نادراً- كتفّاحة مثلًا بعد الكفّ عن غيرها.

و عن الثاني: بمنع صدق الخروج عن طاعة اللَّه عرفاً بفعل صغيرة نادراً بعد تركه جميع الكبائر و الصغائر، و هذا ظاهر جدّاً.

و عن الثالث: بأنّه لو سلّم كونه مفهوم شرط، و كون: «مَن» فيه مفيدة للعموم، يكون مفهومه: أنّ كلّ من تراه بعينك أنّه يرتكب ذنباً فهو ليس بأهل العدالة، و هذا لا ينافي كون بعض المرتكبين من أهل العدالة؛ لتحقّق المفهوم بانتفاء العدالة عن المرتكبين للكبائر.

ثم إنّ هذا إذا لم يكن مصرّاً على الصغائر لإيجابه الكبر، و لا مكثراً فيها.

ثم لو كان مكثراً في فعل الصغائر بحيث يصدق الإكثار عرفاً، أو يكون ارتكابه للذنب أغلب من اجتنابه عنه إذا عنّ له من غير توبة، و قلنا بعدم دخوله في الإصرار فهل يقدح في العدالة، أم لا؟

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 144

و قد نفى غير واحد الخلاف في قدح الثاني «1»، و عن التحرير الإجماع عليه أيضاً «2».

و لا ينبغي الريب في قدحه بالمعنيين في معرفة العدالة بكونه ساتراً لعيوبه، إلى آخر المعرّف كما مرّ.

و إنّما الإشكال فيمن عرف اجتنابه للكبائر بالخبرة الباطنيّة و المعاشرة التامّة ثم ظهر منه الإكثار بأحد المعنيين، و لا شكّ أنّ القول بالقدح أحوط؛ لنفي الخلاف و الإجماع المنقول المتقدّمين، و

دلالة رواية جابر «3» على كون ذلك إصراراً في الجملة، بل شهادة العرف المتأخّر به أيضاً، و عدم صدق الكفّ معه، و احتمال إرادة العموم من الكفّ، فالمجتنب عن ذلك عادل قطعاً دون غيره، و صدق الخروج عن طاعة اللَّه معه، بل مقتضى الأخيرين كون ذلك أظهر أيضاً.

المسألة السادسة: صرّحوا بأنّ المرتكب للذنب القادح في العدالة إذا تاب عمّا فعل و عُلِمت توبته تُقبَل شهادته «4»، بل صرّح جماعة منهم والدي العلّامة قدّس سرّه بأنّه تعود عدالته.

فإن كان مرادهم العود الحكمي فلا إشكال، و كذا إن أُريد العود الحقيقي و قلنا بكون العدالة حسن الظاهر، أو الاجتناب المنبعث عن صفة نفسانيّة، أو صفة باعثة على الاجتناب الفعلي؛ إذ ليس المراد من حسن الظاهر أو الاجتناب المذكور كونه كذلك دائماً، بل المراد أنّه حين

______________________________

(1) كما في الكفاية: 279، و الذخيرة: 305، و الرياض 2: 428.

(2) التحرير 2: 208.

(3) المتقدّمة في ص 136.

(4) انظر البحار 85: 30، و الكفاية: 279.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 145

يتّصف بذلك فهو عادل و إن لم يكن قبله عادلًا. و لا شكّ أنّ بعد العلم بالتوبة يُعلَم لأجلها حسن ظاهره، و يكون حينئذٍ مجتنباً اجتناباً منبعثاً عن صفة نفسانيّة بعثته على التوبة.

نعم، يشكل على القول بكون العدالة ملكة راسخة كالشجاعة و السخاوة كما هو ظاهر أكثر المتأخّرين «1»، فإنّ في زوالها بفعل كبيرة إشكالًا؛ لأنّ فعل كبيرة لا ينافي تلك الملكة، كما اشتهر أنّ الصدوق قد يكذب، ثم في عودها بمجرّد التوبة أيضاً إشكالًا.

و يمكن التفصّي عن الأول: بأنّهم لا يقولون إنّ العدالة المعتبرة شرعاً هي تلك الملكة فقط، بل هي مقارنة مع عدم فعل الكبيرة أي مع الاجتناب عنها

فبمجرّد الارتكاب تزول العدالة الشرعيّة عنه؛ ضرورة انتفاء الكلّ بانتفاء جزئه.

و بذلك يحصل التفصّي عن الثاني أيضاً؛ فإنّ التوبة لمّا كانت مزيلة لأثر الارتكاب، أو كانت التوبة محصّلة للاجتناب المطلوب كما أُشير إليه أو كانت قائمة شرعاً مقام الاجتناب، تعود العدالة الشرعيّة.

فالمراد: زوال العدالة الشرعيّة و عودها دون نفس الملكة، أو المراد بالزوال و العود المذكورين: أنّ غاية ما يحصل من معرفة الملكة و لو بالمعاشرة التامّة الباطنيّة هي المعرفة الظنيّة، و هي ترتفع مع ارتكاب كبيرة، فإنّه كما يمكن أن يكون ذلك الارتكاب مع بقاء الملكة و بعث الأُمور الخارجيّة على الارتكاب يمكن أن يكون لانتفاء الملكة أولًا.

فالمراد زوال معرفة العدالة، ثم بعد ندامته و توبته يحصل الظنّ بكون

______________________________

(1) منهم السيوري في كنز العرفان 2: 384، الشهيد الثاني في الروضة 1: 378، الأردبيلي في مجمع الفائدة 2: 351.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 146

الاجتناب لأجل الملكة، و أنّ الارتكاب إنما هو لأجل غلبة الأُمور الخارجيّة.

ثم إنّ عود العدالة بالتوبة في الجملة ممّا لا خلاف فيه أجده، و في شرح الإرشاد للأردبيلي: لا يبعد كونه إجماعيّاً، قال: و ما يدلّ عليه من الآيات و الأخبار كثير «1».

أقول: لا يحضرني من الآيات و الأخبار الدالّة على عود العدالة بالتوبة شي ء.

و يحتمل أن يكون مراده ما يدلّ على قبول شهادة التائب.

و لكن الأخبار الدالّة على ذلك يختصّ أكثرها بخصوص القاذف، و الآيات أيضاً منحصرة بآية واحدة.

و أن يكون مراده آيات قبول التوبة، كما يظهر من كلامه بعد ذلك، حيث قال: بل لا يبعد العود بمحض التوبة إلى أن قال: لعموم قبول التوبة في الآيات و الأخبار الكثيرة.

و لكن يرد عليه: أنّها و إن كانت كثيرة إلّا

أنّها لا تدلّ على عود العدالة.

و يمكن أن يكون مراده الآيات المادحة للتائب بمدائح يبعد مدح اللَّه سبحانه الفسّاق بها، نحو إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ «2».

و قوله سبحانه وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ «3» الآية.

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 12: 321.

(2) البقرة: 222.

(3) آل عمران: 133 134.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 147

وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ إلى أن قال أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ «1».

و أمّا الأخبار المصرّحة بقبول شهادة التائب فكثيرة جدّاً، و لكنّ أكثرها واردة في القاذف كما يأتي.

و منها ما ورد في السارق، كرواية السكوني: «أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) شهد عنده رجل و قد قطعت يده و رجله شهادة، فأجاز شهادته، و قد كان تاب و عرفت توبته» «2» و قريبة منها الأُخرى «3».

و منها ما ورد في مطلق المحدود، كرواية اخرى للسكوني: «ليس يصيب أحد حدّا فيقام عليه ثم يتوب إلّا جازت شهادته» «4»، و قريبة منها الأُخرى «5».

و يؤكّد المطلوب رواية جابر: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» «6».

و لا يضرّ اختصاصها بالقاذف أو السارق أو المحدود؛ لعدم القول بالفصل، بل يظهر من المحقّق الأردبيلي إمكان التعميم بتنقيح المناط،

______________________________

(1) آل عمران: 135 136.

(2) الكافي 7: 397، 3، التهذيب 6: 245، 618، الإستبصار 3: 37، 123، الوسائل 27: 385 أبواب الشهادات ب 37 ح 2.

(3) الفقيه 3: 31، 93، الوسائل 27: 385 أبواب الشهادات ب 37 ح 2.

(4) الكافي 7: 397، 4، التهذيب

6: 245، 619، الإستبصار 3: 37، 124، الوسائل 27: 384 أبواب الشهادات ب 36 ح 3.

(5) التهذيب 6: 284، 786، الإستبصار 3: 37، 127، الوسائل 27: 384 أبواب الشهادات ب 36 ح 6.

(6) الكافي 2: 435، 10، الوسائل 16: 74 أبواب جهاد النفس ب 86 ح 8.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 148

حيث قال: إنّ التخصيص بالقاذف بعيد من غير علّة موجبة لذلك، بل ظهور العلّة «1». انتهى .

و لكن يخدش الاستدلال بها أنّها مخصوصة ببَعد قيام الحدّ، و التعدّي إلى التائب الذي يجب عليه الحدّ قبل حدّه يحتاج إلى دليل، و مع ذلك فالتعدّي إلى ما لا حدّ فيه أو حدّه القتل أو لا تقبل توبته ظاهراً أشكل.

و دعوى الإجماع المركّب أو البسيط بحيث يطمئنّ القلب أيضاً مشكل.

فالأولى الاستدلال للعموم بأنّ بعد العلم بالتوبة يصدق عليه أنّه مجتنب عن الكبائر اجتناباً منبعثاً عن صفة نفسانيّة، فيصدق عليه أنّه العادل المستفاد من الصحيحة.

و بذلك صرّح المحقّق الأردبيلي أيضاً، قال: و الدليل على القبول و العود بمطلق التوبة أنّ المفهوم من العدالة عدم ارتكاب الكبيرة على الوجه الذي فُهمَ من رواية ابن أبي يعفور، و ذلك يحصل بعدم ذلك ابتداءً، و تنعدم بفعلها، فتعود بالترك مع الندامة و العزم على عدم العود و إن لم يتحقّق [بالترك ] فقط، و لأنّه حينئذٍ يتحقّق ما يفهم اعتباره في قبول الشهادة «2». انتهى .

بل يظهر من المحقّق المذكور عدم احتياج حصول العدالة بالتوبة لسبق العدالة على المعصية التي تاب عنها، حيث قال ما ملخّصه:

إنّه إذا ثبت قبول شهادة الفاسق بعد التوبة كما هو مقتضى الأدلّة السابقة يفهم عدم اعتبار الملكة في تعريف العدالة، بل في اشتراط قبول

______________________________

(1) مجمع الفائدة و

البرهان 12: 325.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 12: 322، و ما بين المعقوفين من المصدر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 149

الشهادة؛ إذ لم توجد الملكة في ساعة واحدة، بل الساعات المتعدّدة.

و أنّه لا يحتاج في إثبات العدالة إلى المعاشرة الباطنيّة أو الاستفاضة.

بل لا يشترط العدالة قبل الشهادة؛ إذ يتوب الشاهد فيأتي بها، بل يأتي بها بعد ردّه بالفسق أيضاً كما هو رأي الأكثر و الأصحّ فإنّ الفسق في وقتٍ ما ليس بمانع عن الشهادة مطلقاً، فإنّه يقبل مع حصول العدالة.

بل و إنّه لا يحتاج إلى الجرح و التعديل.

فاعتبار ذلك كلّه عبث و لغو بلا فائدة؛ مع أنّه معركة للآراء، و محلّ البحث بين الفحول من العلماء، فيصير معظم هذه المباحث قليل الجدوى.

و احتمال أن لا يتوب قليلٌ في الناس ممّن يستشهد به، فيُقبَل مجهول الحال بعد التوبة أيضاً و إن لم يقبل قبلها بالطريق الأولى؛ لأنّ الفاسق إذا تاب قُبِل، فهو بالطريق الأولى، و هو ظاهر «1». انتهى .

و بالجملة: نقول بحصول العلم بالعدالة الشرعيّة بعد العلم بالتوبة، من غير حاجة إلى إثبات عود العدالة بالتوبة.

نعم، يشترط هنا تحصيل العلم بالتوبة، بل مع استمرارٍ ما لها و لو كان في ساعة كما اعتبره المحقّق في الشرائع «2» كما كان يشترط أولًا تحصيل العلم بالعدالة.

و لا يكفي في العلم بالتوبة مجرّد قول الشاهد: تبت و ندمت و استغفر اللَّه؛ لأنّ مجرّد ذلك القول ليس توبة، و قبول إخباره لا دليل عليه، كما لا يقبل خبره عن عدالة نفسه أو اجتنابه الكبائر.

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 12: 325 326.

(2) الشرائع 4: 128.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 150

بل تحتاج معرفة ذلك إلى معاشرة باطنيّة أو استفاضة،

بحيث يحصل العلم بكونها توبة و ندامة، و بمضيّ زمان يمكن العود، و لم يكن له مانع من الذنوب، و ما ينقض التوبة و ما فعل.

و من ذلك يظهر عدم كون معارك الآراء و بحث فحول العلماء بلا فائدة.

فرع: عود العدالة أو العلم بتحققها بالتوبة إنّما يكون مع السعي في تلافي و تدارك ما يمكن تداركه، مثل: قضاء حقوق الناس، أو الخلاص من ذلك بإبراء أو إسقاط، و قضاء العبادات التي يجب قضاؤها، كذا ذكره المحقّق المذكور «1».

و وجهه: أنّ هذه الأُمور واجبة، فتركها معصية محرّمة كبيرة أو صغيرة، تصير كبيرة بالاستمرار عليه، إلّا أنّه يجب التقييد بما كان تلافيه واجباً فوريّاً، كأداء حقوق الناس.

و أمّا الموسّعات كقضاء الصلوات على الحقّ المشهور فاللّازم العلم بعزمه على القضاء، و لا يكفي عدم العلم بعدم العزم على القضاء؛ لأنّ مرجعه إلى عدم العلم بكونه تاركاً للمعصية، و المعتبر في العدالة العلم بالتاركيّة.

نعم، يكفي الظنّ المعتبر شرعاً هنا، الحاصل من المعاشرة و الأمارات، و اللَّه الموفّق للصواب.

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 2: 322.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 151

البحث الثالث في ذكر خصوص بعض المعاصي التي ذكروا منافاتها للعدالة أو عدمها
اشاره

و قد مرّ شطر من المعاصي في بحث المكاسب، و هاهنا مسائل:

المسألة الاولى : لا يقدح في العدالة و لا يحرم اتّخاذ الحمام

للاستئناس بها و إنفاذ الكتب بلا خلاف ظاهر؛ للأصل، و العمومات، و خصوص المستفيضة المعتبرة:

كصحيحة ابن وهب: «الحمام من طيور الأنبياء» «1».

و صحيحة حفص: «أصل حمام الحرم كانت لإسماعيل بن إبراهيم (عليهما السّلام) اتخذها كان يأنس بها» فقال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «يستحبّ أن يتّخذ طيراً مقصوصاً يأنس بها مخافة الهوام» «2».

و رواية ابن سنان: «شكى رجل إلى النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله) الوحشة، فأمره أن يتّخذ في بيته زوج حمام» «3».

و رواية الشحّام: ذكرت الحمام عند أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، فقال: «اتّخذوها في منازلكم، فإنّها محبوبة، لحقتها دعوة نوح (عليه السّلام)، و هي آنس شي ء في البيوت» «4».

______________________________

(1) الكافي 6: 546، 1، الوسائل 11: 514 أبواب أحكام الدواب ب 31 ح 1.

(2) الكافي 6: 546، 3، الوسائل 11: 514 أبواب أحكام الدواب ب 31 ح 2 و 3 بتفاوتٍ يسير.

(3) الكافي 6: 546، 6، الوسائل 11: 516 أبواب أحكام الدواب ب 31 ح 10 و فيه بتفاوت.

(4) الكافي 6: 546، 7، الوسائل 11: 517 أبواب أحكام الدواب ب 31 ح 11.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 152

و رواية أبي سلمة: «الحمام طير من طيور الأنبياء (عليهم السّلام) التي كانوا يمسكون في بيوتهم، و ليس من بيت فيه حمام إلّا لم تصب أهل ذلك البيت آفة من الجنّ» إلى أنّ قال: «فرأيت في بيت أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) حماماً لابنه إسماعيل» «1».

و رواية داود بن فرقد: كنت جالساً في بيت أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) فبصرت إلى حمام راعبيّ «2» يقرقر طويلًا، فنظر إليّ أبو عبد اللَّه، فقال:

«يا داود، تدري ما يقول هذا الطير؟» قلت: لا و اللَّه جعلت فداك، قال: «يدعو على قتلة الحسين (عليه السّلام)، فاتّخذوا في منازلكم» «3».

و رواية السكوني: «اتّخذوا الحمام الراعبيّة في بيوتكم، فإنّها تلعن قتلة الحسين بن عليّ صلوات اللَّه عليهما» «4».

و رواية عثمان الأصبهاني، و فيها: فقال يعني أبا عبد اللَّه-: «اجعلوا هذا الطير الراعبي معي في البيت يؤنسني» «5».

و رواية عبد الكريم بن صالح، و فيها: هؤلاء الحمام تقذر الفراش، فقال: «لا، إنّه يستحبّ أن يمسكن في البيت» «6».

و مرسلة أبان: «كان في منزل رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) زوج حمام أحمر» «7».

______________________________

(1) الكافي 6: 547، 8، الوسائل 11: 515 أبواب أحكام الدواب ب 31 ح 7، بتفاوتٍ يسير.

(2) حمامةٌ راعِبيَّة: تُرَعّبُ في صوتها ترعيباً، و هو شدّة الصوت، و قيل: هو نَسَبٌ إلى موضعٍ لسان العرب 1: 421.

(3) الكافي 6: 547، 10، الوسائل 11: 518 أبواب أحكام الدواب ب 33 ح 1.

(4) الكافي 6: 547، 13، الوسائل 11: 519 أبواب أحكام الدواب ب 33 ح 3.

(5) الكافي 6: 548، 14، الوسائل 11: 519 أبواب أحكام الدواب ب 33 ح 2.

(6) الكافي 6: 548، 15، الوسائل 11: 520 أبواب أحكام الدواب ب 34 ح 1.

(7) الكافي 6: 548، 16، الوسائل 11: 520 أبواب أحكام الدواب ب 34 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 153

إلى غير ذلك من الأخبار المتكثّرة، و صريح كثير منها: استحباب الاتّخاذ للأُنس، كما صرّح به جماعة أيضاً «1».

و كذا لا يحرم اقتناؤها للّعب بها، بإطارتها و التفرّج بطيرانها، وفاقاً للمحكيّ عن النهاية و المبسوط و القاضي «2».

و كافّة متأخّري أصحابنا مع الكراهة، و ظاهر المبسوط كونه

إجماعيّاً عندنا، حيث قال: فإنّ اقتناءها للّعب بها و هو أنّ يطيّرها و تنقلب في السماء و نحو هذا فإنّه مكروه عندنا.

و يدلّ عليه الأصل، و رواية العلاء بن سيّابة: عن شهادة من يلعب بالحمام، قال: «لا بأس إذا لم يُعرَف بفسق» قلت: فإنّ مَن قبلنا يقولون: قال عمر: هو شيطان، فقال: «سبحان اللَّه، أما علمت أنّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) قال: إنّ الملائكة لتنفر عند الرهان و تلعن صاحبه، ما خلا الحافر و الخفّ و الريش و النصل، فإنّها تحضره الملائكة، و قد سابق رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) أُسامة بن زيد و أجرى الخيل؟!» «3».

و الأُخرى: «لا بأس بشهادة الذي يلعب بالحمام، و لا بأس بشهادة صاحب السباق المراهن عليه، فإنّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) قد أجرى الخيل و سابق، و كان يقول: إنّ الملائكة تحضر الرهان في الخفّ و الحافر و الريش، و ما عدا ذلك قمارٌ حرام» «4».

و ضعف سند الروايتين عندنا غير ضائر، مع أنّ الاولى مرويّة في الفقيه

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 429.

(2) النهاية: 327، المبسوط 8: 221، القاضي في المهذب 2: 557.

(3) الفقيه 3: 30، 88، الوسائل 27: 413 أبواب الشهادات ب 54 ح 3.

(4) التهذيب 6: 284، 785، الوسائل 27: 413 أبواب الشهادات ب 54 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 154

بطريق معتبر، مع أنّ العمل بهما جائز.

و التأمّل في دلالتهما لأجل ما ذكره بعض متأخّري المتأخّرين من أنّ لعب الحمام عند أهل مكّة هو لعب الخيل، فيحتمل ورود الخبر على مصطلحهم؛ و يشعر به ردّ الإمام في الأول على عمر بقول النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله)

الوارد في الرهان، و ذكر سباقه مع أُسامة في الخيل «1» مردودٌ بأنّه خلاف الظاهر المتبادر؛ مع أنّ ما نقله غير ثابت.

و على التسليم، فلا داعي على الحمل على مصطلح أهل مكّة، و لم يكن المتكلّم منهم و لا المخاطب.

و لا إشعار في ردّ الإمام بقول النبيّ؛ لتضمّنه الريش الظاهر في الطير أيضاً.

و لا ينافي ذكر سباقه؛ لأنّه لعلّه لأجل بيان جواز أصل السباق.

بل في مرسلة إبراهيم بن هاشم ما يشعر بخلافه، قال: ذكر الحمام عند أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، فقال له رجل: بلغني أنّ عمر رأى حماماً يطير و رجل تحته يعدو، فقال عمر: شيطان يعدو تحته شيطان، فقال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «ما كان إسماعيل عندكم؟» فقيل: صدّيق، فقال: «بقيّة حمام الحرم من حمام إسماعيل» «2».

و الاستشكال في الروايتين بتضمّنهما جواز المسابقة بالريش، المتبادر منه الطيور، و لم يقولوا به مدفوعٌ بأنّ الذي لا يقولون به هو المسابقة مع العوض، وأمّا بدونه ففيه خلاف، بل قيل: إنّ المشهور فيه

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 429.

(2) الكافي 6: 548، 18، الوسائل 11: 515 أبواب أحكام الدواب ب 31 ح 5 و فيه بتفاوتٍ يسير.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 155

الجواز «1»، كما يأتي.

خلافاً للمحكيّ عن الحلّي، فحكم بقدح اللعب بها في العدالة؛ لقبح اللعب «2».

و فيه المنع «3» بحيث يثبت منه النهي، مع أنّ الروايتين تدفعانه.

ثم إنّ ما ذكر إنّما هو في اللعب الخالي عن المسابقة و المغالبة، و أمّا معها فإن كان بدون عوض للسابق ففيه خلاف، فظاهر التذكرة و القواعد و المسالك و الكفاية و المفاتيح و شرحه الجواز «4»، بل ربّما يستفاد من بعضهم أنّه الأشهر «5»؛ و يدلّ عليه

الأصل، و روايتا العلاء المتقدّمتين.

و حكي عن جماعة المنع، منهم: ظاهر المهذّب و المحقّق الثاني «6»، و نسب إلى التذكرة أيضاً «7» و هو في غير الطيور من أنواع المسابقات، بل ربّما نسب إلى الشهرة أيضاً «8»، بل حكى بعض مشايخنا المعاصرين- في بحث السبق و الرماية- عن ظاهر الأولين و صرح الثالث الإجماع عليه «9».

و لا تصريح و لا ظهور في الثالث أصلًا. نعم، قال في الأول بعد ذكر مسائل، منها المسابقة بالطيور بغير عوض-: إنّ الكلّ عندنا حرام.

______________________________

(1) التذكرة 2: 354.

(2) السرائر 2: 124.

(3) يعني: منع القبح.

(4) التذكرة 2: 354، القواعد 2: 236، المسالك 2: 404، الكفاية: 281، المفاتيح 3: 9.

(5) كما في الكفاية: 281.

(6) المهذّب 1: 331، المحقّق الثاني في جامع المقاصد 8: 326.

(7) التذكرة 2: 354.

(8) كما في الرياض 2: 41.

(9) انظر الرياض 2: 41.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 156

و كون ذلك دعوى الإجماع غير ظاهر.

و استدلّ على المنع بهذا الإجماع المنقول.

و بما دلّ على حرمة اللهو و اللعب.

و على تنفّر الملائكة عند الرهان و لعنهم صاحبها، خلا الثلاثة: الخفّ و الحافر و النصل.

و على أنّ ما عداها قمارٌ حرام.

و بسائر ما دلّ على حرمة القمار بقول مطلق.

و بالصحيح المصرّح بأنّه: «لا سبق إلّا في نصل، أو خفّ، أو حافر» «1» على أن تكون الباء في السبق ساكنة.

و أجاب هؤلاء عن دليل الأولين، أمّا عن الأصل فباندفاعه بما ذكر.

و أمّا عن الروايتين فبمنع إرادة الطير من الريش، أو لاحتمال أن يراد به السهام المثبت ذلك فيها، و بالحمل على التقيّة ثانياً.

كما يؤيّده ما ذكره في المسالك أنّه قيل: إنّ حفص بن غياث وضع للمهديّ العبّاسي في حديث: «لا سبق

إلّا في نصل، أو خفّ، أو حافر» قوله: أو ريش؛ ليدخل فيه الحمام تقرّباً إلى الخليفة، حيث رآه يحبّ الحمام، فلمّا خرج من عنده قال: أشهد أنّ قفاه قفاءٌ كذّاب، ما قال رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله): أو ريش، و لكنّه أراد التقرّب إلينا بذلك، ثم أمر بذبح الحمام «2».

أقول: أمّا اندفاع الأصل بما ذكر فيتوقّف على تماميّته، و فيه نظر.

أمّا الإجماع المنقول فلعدم حجّيته أولًا، و لعدم صراحة ما حكي، بل

______________________________

(1) سنن أبي داود 3: 29، 2574، غوالي اللئلئ 3: 265، 1.

(2) المسالك 2: 404.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 157

و لا ظهور في دعوى الإجماع ثانياً.

و أمّا حرمة اللهو و اللعب فلعدم دليل على حرمة مطلقهما.

و أمّا تنفّر الملائكة عند الرهان فلعدم معلوميّة صدق الرهان على ما لا عوض له فيه.

قال في الصحاح: راهنتُ على كذا مراهنةً: خاطرته «1».

و في القاموس: و المراهنة و الرهان: المخاطرة و المسابقة على الخيل «2».

و في مجمع البحرين: و أكثرهم على أنّ الرهان ما يوضع في الأخطار، و يراهن القوم: أخرج كلّ واحد منهم رهناً ليفوز بالجميع إذا غلب «3».

و ظاهر هذه الكلمات أنّ الرهان يكون في موضع يكون فيه عوض في معرض الخطر.

و لو سلّمنا، فقد تضمّنت الرواية استثناء الريش المتبادر منه الطير أيضاً كما صرّحوا به؛ و تدلّ عليه حكاية حفص مع الخليفة، و يؤكّده عطف النصل على الريش. و جعله من باب عطف المرادف أو الخاصّ على العامّ خلاف الظاهر.

و منه يظهر وجه النظر في الاستدلال بقوله: «و ما عدا ذلك قمارٌ حرام»؛ لأنّ الريش مذكور في الرواية، و صدق السباق المراهن عليه بدون العوض غير معلوم؛ مع أنّ في صدق

القمار على ما لا عوض فيه نظر، بل خصّصه بعضهم بالقمار بالآلات المعدّة له من أشياء مخصوصة، كما صرّح به في مجمع البحرين «4».

______________________________

(1) الصحاح 5: 2129.

(2) القاموس 4: 232.

(3) مجمع البحرين 6: 258.

(4) مجمع البحرين 3: 463.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 158

و منه يظهر أيضاً وجه النظر في عمومات حرمة القمار.

و أمّا الصحيح المذكور أخيراً فلعدم تعيّن كون الباء فيه ساكنة؛ لاحتمال الفتح فيها، فيراد منه العوض.

و عدم دلالته على الحرمة أصلًا على السكون أيضاً، كما صرّح به الأردبيلي و صاحب الكفاية «1»؛ لجواز إرادة نفي شرعيّة السبق دون جوازه. و الحمل على العموم لا دليل عليه.

و منه يظهر عدم وجود دافع للأصل أصلًا.

و أمّا ما أجابوا به عن الروايتين من احتمال إرادة النصل من الريش كما ذكره في السرائر «2»، و بالحمل على التقيّة ففي الأول: أنّه خلاف الظاهر المتبادر كما مرّ.

و الثاني: خلاف الأصل، و لا داعي عليه؛ مع أنّ الرواية متضمّنة للردّ على عُمَرهم، فكيف تحتمل التقيّة؟! بل في حكاية حفص مع الخليفة- و قول الخليفة:" أنّه كذب" و أمره بذبح الحمام دلالة على أنّهم لا يقولون بالجواز في الريش، و أنّ التقيّة تقتضي خلاف ذلك؛ مع أنّه على فرض عدم دلالة الروايتين يكفي الأصل الخالي عن الدافع للحكم بالجواز، فهو الحقّ.

و إن كان مع عوض، فالمذكور في كلام الأصحاب حرمته، بل عن المهذّب و التنقيح و المسالك و التذكرة الإجماع عليها «3»، و جعل بعض مشايخنا قدحه في العدالة قولًا واحداً «4»، و صرّح بعدم الخلاف بعضٌ

______________________________

(1) الكفاية: 281.

(2) السرائر 2: 124.

(3) المهذّب 1: 331، التنقيح 2: 350، المسالك 1: 381، التذكرة 2: 354.

(4) كما في الرياض 2:

430.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 159

آخر أيضاً «1»، و لم أجد تصريحاً بل و لا إشعاراً بالخلاف، فالظاهر أنّه إجماعيّ محقّق؛ فهو الدليل على حرمته.

مضافاً إلى قوّة احتمال صدق القمار عليه، بل ظهوره من الأخبار، حيث لم تخصّصه بآلة مخصوصة معدّة له.

و قال: «حتى الكعاب و الجوز» «2».

و في الصحيح: «كانت قريش تقامر الرجل بأهله و ماله» «3».

و بذلك يوهن الاستدلال بالروايتين المتضمّنتين لاستثناء الريش في صورة العوض؛ لإمكان القول بعدم حجّيتهما في هذه الصورة؛ لمخالفتهما لظاهر الإجماع، أو الشهرة العظيمة المخرجة للخبر عن الحجّية.

فالقول بالحرمة في هذه الصورة في غاية القوّة، و اللَّه العالم.

المسألة الثانية: يحرم الاشتغال بالملاهي و استعمال آلات اللهو،
اشاره

و حرمته مصرّح بها في أكثر كتب الأصحاب، ذكره في النهاية و السرائر و الشرائع و النافع و القواعد و الإرشاد و التحرير و التذكرة و الدروس و المسالك و الكفاية «4» و غيرها «5»، و في الأخير: لا أعرف في حرمته خلافاً بين الأصحاب.

و نفى المحدّث المجلسي في حقّ اليقين الخلاف فيها بين الشيعة، و في

______________________________

(1) كما في التنقيح 2: 350.

(2) في الكافي 5: 122، 2، الوسائل 17: 165 أبواب ما يكتسب به ب 35 ح 4.

(3) الكافي 5: 122، 1، الوسائل 17: 164 أبواب ما يكتسب به ب 35 ح 1.

(4) النهاية: 325، السرائر 2: 215، الشرائع 4: 128، النافع: 287، القواعد 2: 236، التحرير 2: 209، التذكرة 2: 354، الدروس 2: 126، المسالك 2: 404، الكفاية: 281.

(5) انظر الرياض 2: 430.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 160

شرح الإرشاد للأردبيلي: أنّه إجماع عندنا. و حكى بعض مشايخنا المعاصرين الإجماع على ظاهر عبارات جمع «1»، بل الظاهر أنّه إجماع محقّق.

و تدلّ عليه المستفيضة من الأخبار، كرواية

الفضل المتقدّمة، المصرّحة بكون الاشتغال بالملاهي من الكبائر «2».

و مرسلة الفقيه الطويلة، المشتملة على المناهي: «و نهى عن اللّعب بالشطرنج و النرد «3» و الكوبة و العرطبة و هي الطنبور و العود» «4».

و رواية السكوني: «قال رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله): أنهاكم عن الزفن و المزمار و الكوبات و الكبرات» «5».

و رواية عمران الزعفراني: «من أنعم اللَّه عليه بنعمة فجاء عند تلك النعمة بمزمار فقد كفرها» «6».

و رواية أبي الربيع الشامي، و فيها: «إنّ اللَّه بعثني رحمة للعالمين، لأمحق المعازف و المزامير» «7».

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 430.

(2) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 2: 125، 1، تحف العقول: 423، الوسائل 15: 329 أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ب 46 ح 33.

(3) النَّرْدُ: هو النردشير، الذي هو من موضوعات سابور بن أردشير بن بابك، أردشير أول ملوك الساسانية، شبّه رقعته بوجه الأرض، و التقسيم الرباعي بالكعاب الأربعة، و الرقوم المجعولة ثلاثين بثلاثين يوماً، و السواد و البياض بالليل و النهار، و البيوت الاثني عشرية بالشهور، و الكعاب بالأقضية السماوية، للّعب بها و الكسب. و" نَرْدشير": معرّب، و شير معناه حلو مجمع البحرين 3: 150.

(4) الفقيه 4: 2، 1، الوسائل 17: 325 أبواب ما يكتسب به ب 104 ح 6.

(5) الكافي 6: 432، 7، الوسائل 17: 313 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 6.

(6) الكافي 6: 432، 11، الوسائل 17: 314 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 7.

(7) مسند أحمد 5: 275، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 161

و الرضوي: «من بقي في بيته طنبور أو عود أو شي ء من الملاهي من المِعْزَفَة و الشطرنج و أشباهه أربعين يوماً فقد باء بغضب

من اللَّه، فإن مات في أربعين مات فاجراً فاسقاً، مأواه جهنّم و بئس المصير» «1».

و فيه أيضاً: «و إيّاك و الضربة بالصوالج «2»، فإنّ الشيطان يركض معك، و الملائكة تنفر عنك» «3».

و ما رواه الشيخ الحرّ في الفصول المهمّة: «إنّما حرّم اللَّه الصناعة التي هي حرام كلّها، التي يجي ء منها أنواع الفساد محضاً، نظير البرابط و المزامير و الشطرنج، و كلّ ملهوٍّ به، و الصلبان، و الأصنام، و ما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام، و ما يكون منه و فيه الفساد محضاً و لا يكون منه و لا فيه شي ء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه، و تعلّمه، و العمل به، و أخذ الأُجرة عليه، و جميع التقليب فيه من جميع الحركات كلّها، إلّا أن تكون صناعة قد تنصرف إلى بعض وجوه المنافع» «4».

و ما رواه فيه أيضاً: «كلّ ما ألهى عن ذكر اللَّه فهو ميسر» «5».

و رواية: «إنّ اللَّه يغفر لكلّ مذنب إلّا لصاحب عرطبة أو كوبة» «6».

______________________________

(1) فقه الرضا (عليه السّلام): 282، مستدرك الوسائل 13: 218 أبواب ما يكتسب به ب 79 ح 10، بتفاوتٍ يسير.

(2) الصَّوْلَج و الصولجان و الصولجانة: العود المعوج .. عصا يعطف طرفها يضرب بها الكرة على الدواب لسان العرب 2: 310.

(3) فقه الرضا (عليه السّلام): 284، الفقيه 4: 41، 135 و فيه: الصوانَج.

(4) وجدناه في تحف العقول: 335، الوسائل 17: 83 أبواب ما يكتسب به ب 2 ح 1، و فيهما: الصنائع، بدل: المنافع.

(5) وجدناه في مجالس ابن الشيخ: 345، الوسائل 17: 315 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 15.

(6) انظر الفائق للزمخشري 2: 412، غريب الحديث (لابن الجوزي) 2: 87، النهاية الأثيرية 3: 216.

مستند الشيعة في

أحكام الشريعة، ج 18، ص: 162

و الرواية الواردة في بيان آخر الزمان: «و رأيت الملاهي قد ظهرت لا يمنعها أحدٌ أحداً، و لا يجترئ أحد على منعها، و رأيت المعازف ظاهرة في الحرمين» «1».

و المرويّ في جامع الأخبار: «يحشر صاحب الطنبور يوم القيامة أسود الوجه، و بيده طنبور من نار، و فوق رأسه سبعون ألف ملك، و بيد كلٍّ مقمعة من نار يضربون وجهه و رأسه» إلى أن قال: «و صاحب المزمار مثل ذلك، و صاحب الدفّ مثل ذلك» «2».

و النبويّ: «إنّ اللَّه حرّم على أُمّتي الخمر و الميسر و المزمر و الكوبة» «3».

و في رواية محمّد بن الحنفيّة في تهديد أقوام، و فيها: «و اشتروا المغنّيات و المعازف».

و ضعف هذه الأخبار كلّاً أو بعضاً غير ضائر؛ لانجبارها بما مرّ من فتاوى الأصحاب، و حكايات نفي الخلاف، و الإجماع.

و تعضده أيضاً روايات كثيرة أُخرى، كرواية سماعة: «لمّا مات آدم شَمَتَ به إبليس و قابيل، و اجتمعا في الأرض، فجعل إبليس و قابيل المعازف و الملاهي شماتةً بآدم، فكلّ ما كان في الأرض من هذا الضرب الذي يتلذّذ به الناس فإنّما هو من ذلك» «4».

و رواية عنبسة: «الغناء و اللهو ينبت النفاق في القلب» «5».

______________________________

(1) الكافي 8: 36، 7، الوسائل 16: 275 أبواب الأمر و النهي ب 41 ح 6، بتفاوت.

(2) جامع الأخبار: 433، 1211، مستدرك الوسائل 13: 219 أبواب ما يكتسب به ب 79 ح 17.

(3) مسند أحمد 1: 274 و 289 و ج 2: 165 و 171.

(4) الكافي 6: 431، 3، الوسائل 17: 313 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 5.

(5) الكافي 6: 434، 23، الوسائل 17: 316 أبواب ما يكتسب به ب 101

ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 163

و رواية إسحاق بن جرير: «إنّ شيطاناً يقال له: القفندر، إذا ضُرِبَ في منزل رجل أربعين يوماً بالبَرْبَط، و دخل عليه الرجال، وضع ذلك الشيطان كلّ عضو منه على مثله من صاحب البيت، ثم ينفخ فيه نفخة فلا يغار بعدها، حتى يؤتى بنسائه فلا يغار» «1»، و قريبة منها رواية أبي داود المسترقّ «2».

و رواية كليب الصيداوي: «ضرب العيدان ينبت النفاق في القلب» «3».

و رواية موسى بن حبيب: «لا يقدّس اللَّه امّة فيها بَرْبَط. [يقعقع ]» «4» إلى غير ذلك.

و جعل هذه الأخبار الأخيرة معاضدة لعدم صراحتها في التحريم.

و الملاهي: جمع الملهاة، و هي آلة اللهو.

و الكوبة فُسّرت بالنرد و الشطرنج، و بالطنبور و بمطلق الطبل، و بالطبل الصغير المختصر، و بالبربط «5».

و العرطبة فُسّرت في المرسلة بالطنبور، و قيل: هي الطبل «6».

و العود: آلة لهو يضرب به.

______________________________

(1) الكافي 6: 433، 14، الوسائل 17: 312 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 1، بتفاوتٍ يسير.

(2) الكافي 6: 434، 17، الوسائل 17: 313 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 2.

(3) الكافي 6: 434، 20، الوسائل 17: 313 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 3.

(4) الكافي 6: 434، 21، الوسائل 17: 313 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 4؛ بدل ما بين المعقوفين في «ح» و «ق»: يفقع، و ما أثبتناه من المصدرين؛ و القَعْقَعَة: حكاية صوت السلاح و نحوه مجمع البحرين 4: 382.

(5) انظر الصحاح 1: 215، و القاموس 1: 131، و النهاية الأثيرية 4: 207، و لسان العرب 1: 729، و أقرب الموارد 1: 473.

(6) انظر القاموس 1: 107.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص:

164

و الزفن فُسّر باللعب، [و بالدفع «1»]، و بالرقص «2».

و المزمار: ما يزمر به. و الزمر: التغنّي في القصب و نحوه، و مزامير داود: ما كان يتغنّى به من الزبور. و قيل: المزمار: قصبة يُزمَّر بها «3».

و الكَبَر بالفتحتين الطبل، و في الصحاح: طبل له وجه واحد «4».

و المعازف: هي آلات اللهو يضرب بها، و قيل: المعزف: نوع من الطنبور يتّخذه أهل اليمن، حكي عن المغرب «5»، و في النهاية الأثيريّة: المعازف: هي الدفوف و غيرها ممّا يضرب بها «6».

و البَرْبَط كجعفر ملهاة يشبه العود، و يشبه صدر الإوز أي البطّ فهو فارسيّ معرّب، أي صدر بطّ.

ثم المستفاد حرمته من هذه الأخبار على قسمين:

أحدهما: ما صرّح بحرمته خصوصاً، و هو الطنبور و العود و المزمار و الطبل و البربط و الدفّ، و لا خفاء في تحريمه.

و ثانيهما: ما يدخل في عموم الملاهي المذكورة في بعض تلك الأخبار- أي آلات اللهو أو عموم المعازف على تفسيرها بآلات اللهو، أو عموم قوله «كلّ ملهوٍّ به».

______________________________

(1) بدل ما بين المعقوفين في «ح»: و بالدفاف، و في «ق»: و بالدف؛ و الصحيح ما أثبتناه انظر المصادر أدناه.

(2) كما في مجمع البحرين 6: 260، نهاية ابن الأثير 2: 305، لسان العرب 13: 197.

(3) انظر نهاية ابن الأثير 2: 312، أقرب الموارد 1: 473.

(4) لم نعثر عليه في الصحاح، و لعلّه تصحيف المصباح انظر المصباح المنير: 524.

(5) المغرب 2: 42.

(6) النهاية 3: 230.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 165

و المراد بها: ما يتّخذ للّهو و يعدّ له و يصدق عليه عرفاً أنّه آلة اللّهو، لا كل ما يلهى به و إن لم يكن معدّاً له و لم يصدق عليه آلته

عرفاً، بل كان متّخذاً لأمر آخر- كالطشت و الجوز كما يستفاد من قوله في رواية الفصول المهمّة، المشتملة على قوله: «كلّ ملهوٍّ به» «التي يجي ء منها أنواع الفساد محضاً» و قوله في آخرها: «و لا فيه شي ء من وجوه الصلاح».

و لعلّه لذلك قيّد جماعة كما في المسالك و شرح الإرشاد و الكفاية «1» الدفّ بالمشتمل على الجلاجل «2»؛ ليمتاز المتّخذ للّهو منه عن غيره، و إن اشتهر في هذه الأزمان كون جميع أفراده آلة اللّهو.

ثم في المراد باللّهو الذي تتّخذ له الآلة أيضاً إجمال؛ إذ اللّهو في اللغة: الاشتغال و التشاغل و السهو. و قد يستعمل بمعنى اللعب؛ و لا يُعلَم أيّهما المراد، و لو أُريد الأول فلا بدّ من التخصيص بالشغل عن ذكر اللَّه، و واضح أنّ كلّ ما يشغل عن ذكر اللَّه ليس بمحرّم إجماعاً، و لا يُتَّخذ آلة للشغل عن ذكر اللَّه، بل كلّ ما يُتَّخذ من أموال الدنيا ملهاة عن ذكر اللَّه.

و أيضاً ظاهر رواية سماعة الاختصاص بما يضرب ضرباً يتلذّذ به الإنسان.

و ظاهر الرضوي اختصاص الملاهي بالمعزفة و الشطرنج و أشباهه.

و ظاهر رواية الفصول المهمّة اختصاصها بما يجي ء منه أنواع الفساد محضاً، و أيضاً إرادة العموم غير ممكنة، و الاقتصار بما ثبت تخصيصه يوجب خروج غير نادر؛ مع أنّ الجابر في جميع ما يشغل عن ذكر اللَّه غير معلوم.

______________________________

(1) المسالك 2: 404، الكفاية: 281.

(2) الجُلْجُل: الجرس الصغير يعلّق في أعناق الدواب و غيرها مجمع البحرين 5: 341.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 166

و على هذا، فلا محيص عن الأخذ بما يتيقّن إرادته من الملاهي، و ليس هو إلّا صنف مخصوص يعبّر عنه بالفارسيّة ب: «أنواع سازها» فيجب الاقتصار في

الحكم بالتحريم بذلك، سواء كان من الآلات المسمّاة في الأخبار المتعارفة في أزمنة الشارع، أو المستحدثة في هذه الأزمان، بشرط صدق العنوان، و هو بالفارسيّة: «ساز» و يكون آلة له و متّخذة لأجله، و يحكم في غيره بمقتضى الأصل.

و منه ما يشكّ في دخوله فيه، كالصور، و ما يتّخذه السلاطين لإعلام العساكر و علامة الجلال، و يقال له بالفارسيّة: كُرْنا.

و كذا الصنج بالمعنى الذي فسّره به في القاموس «1»، و هو: دفّتان من رصاص و نحوه، يضرب بأحدهما على الآخر لاجتماع الناس.

و أمّا ما روي من قولهم: «إيّاك و الصوانج، فإنّ الشيطان يركض معك، و الملائكة تنفر عنك» «2» فلا يصلح لإثبات الحرمة؛ لاختلاف النسخة، فإنّ في الأكثر: «الصوالج» فتأمّل.

و كذا الصولجان و الكرة و نحو ذلك.

فروع:

أ: هل تختصّ حرمة استعمال آلات الملاهي باستعمالٍ خاصّ؟ كالإلهاء بها بما أُعدّت له مع قصد الإلهاء، فلا يحرم استعمالها بهذا النحو لا بقصد اللهو، كضرب الطبل أو الدفّ، أو الطنبور للإعلام بدخول وقت أو خروجه، أو طرد الحيوانات المؤذية من الزرع و نحو ذلك، و كذا لا يحرم

______________________________

(1) القاموس 1: 204.

(2) فقه الرضا (عليه السّلام): 284، الفقيه 4: 41، 135.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 167

استعمالها بغير النحو الخاص، كجعل الدفّ مكيالًا، و المزمار عصا، و نحو ذلك.

أو تعمّ الحرمة جميع أنواع الاستعمالات؟

الظاهر: الثاني، بل كأنّه لا خلاف فيه أيضاً، و في المنتهى : و كما يحرم بيع هذه الأشياء يحرم عملها مطلقاً، بلا خلاف بين علمائنا في ذلك «1».

و تدلّ عليه روايتا الفصول المهمّة و أبي الربيع الشامي المتقدّمتين «2».

و المرويّ في تحف العقول، و رسالة المحكم و المتشابه للسيّد، و الفصول المهمّة أيضاً، عن الصادق

(عليه السّلام): «كلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله و شربه، أو كسبه، أو نكاحه، أو ملكه، أو هبته، أو عاريته، أو إمساكه، أو يكون فيه شي ء من وجوه الفساد، نظير: البيع بالربا، و البيع للميتة و الدم و لحم الخنزير، أو لحوم السباع من جميع صنوف سباع الوحش، أو الطير، أو جلودها، أو الخمر، أو شي ء من وجوه النجس، فهذا كلّه حرام محرّم؛ لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله، و شربه، و لبسه، و ملكه، و إمساكه، و التقلّب فيه، فجميع تقلّبه في ذلك حرام» الحديث «3».

و فيه أيضاً: «و كذا كلّ ملهوٍّ به، و كلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير اللَّه، و يقوى به الكفر و الشرك من جميع وجوه المعاصي، أو باب يوهن به

______________________________

(1) المنتهى 2: 1011.

(2) في ص 158 159.

(3) تحف العقول: 333، المحكم و المتشابه: 46، الوسائل 17: 83 أبواب ما يكتسب به ب 2 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 168

الحقّ فهو حرام بيعه، و شراؤه، و إمساكه، و ملكه، وهبته، و عاريته، و جميع التقلّب فيه، إلّا في حال تدعو الضرورة إلى ذلك».

و تؤيّده أيضاً الروايات المتقدّمة، المتضمّنة لصاحب العرطبة و الكوبة و الطنبور و المزمار و الدفّ، و الرضوي المتقدّم «1».

و المرويّ في تفسير القمي: «فأمّا الميسر فالنرد و الشطرنج، و كلّ قمار ميسر، و أمّا الأنصاب فالأوثان التي كان يعبدها المشركون؛ و أمّا الأزلام فالأقداح التي كانت تستقسم بها مشركو العرب في الأُمور في الجاهليّة؛ كلّ هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشي ء من هذا حرام من اللَّه محرّم» «2».

بل يمكن جعل ذلك دليلًا بضميمة الإجماع المركّب.

و ظهر

ممّا ذكر حرمة جميع التصرّفات في آلات اللهو و إمساكها و اقتنائها، و وجوب كسرها على المتمكّن منه؛ دفعاً لمنكر الإمساك.

نعم، لو كان ممّا يتّخذ للمنافع المحلّلة أيضاً أي لم ينحصر اتّخاذها للّهو خاصّة، بل قد ينصرف إلى وجوه المنافع المحلّلة، بحيث كان ذلك متعارفاً فيه- يمكن الحكم بجواز الانتفاع منه بهذا الوجه، كما ذكر في رواية الفصول المهمّة.

و لكن مثل ذلك نادر في آلات اللهو؛ مع أنّ الرواية ضعيفة، و الجابر لها في ذلك غير معلوم.

إلّا أن يقال: إنّ دليل حرمة جميع الانتفاعات أيضاً ضعيف، و الجابر له غير معلوم.

______________________________

(1) في ص 159.

(2) تفسير القمّي 1: 181، الوسائل 17: 321 أبواب ما يكتسب به ب 102 ح 12، بتفاوتٍ يسير.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 169

و لكن يمكن أن يمنع ضعف الجميع، فإنّ رواية أبي الربيع حجّة، و محق النبيّ للمعازف إنّما هو على الوجوب؛ لأنّه جعله غاية البعث، و التأسّي به فيما لم يعلم كونه من خواصّه واجب، و وجوب المحق ينافي جواز شي ء من الاستعمالات.

ب: هل يحرم اللّهو بغير آلات اللّهو الثابتة حرمتها المتقدّمة، كالطشت يضرب به كالدفّ، و الصور ينفخ فيه لعباً و لهواً، و نحو ذلك؟

الظاهر: لا؛ للأصل، و اختصاص ثبوت الحرمة باستعمالات اللّهو.

نعم، لو ثبتت حرمة مطلق اللّهو أيضاً لأمكن القول بالحرمة لذلك، و لكنّها غير ثابتة، فإنّ اللّهو ما يتشاغل به، و المراد به هنا عن ذكر اللَّه، أو خصوص اللعب، و هو أيضاً فسّر بعمل لا يجدي نفعاً، و حرمة مطلق الأمرين غير ثابتة.

و ظاهر التذكرة حرمة مطلق اللّهو؛ احتجاجاً بذمّ اللَّه سبحانه اللّهو و اللعب «1». و في ثبوت ذلك الذمّ المثبت للتحريم نظر.

و قد

يستدلّ للتحريم برواية عنبسة المتقدّمة «2».

و قوله: «كلّ ملهوٍّ به» في رواية الفصول المهمة السابقة.

و رواية اخرى : «كل ما ألهى عن ذكر اللَّه فهو ميسر» «3».

و رواية الوشّاء: عن شراء المغنّية، قال: «قد تكون للرجل الجارية تلهيه، و ما ثمنها إلّا ثمن كلب، و ثمن الكلب سحت، و السحت في

______________________________

(1) التذكرة 2: 581.

(2) في ص 161.

(3) مجالس الحسن بن محمد الطوسي 1: 345، الوسائل 17: 315 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 15.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 170

النار» «1».

و رواية اخرى ذكرها في مجمع البحرين: عن قول اللَّه تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «2» قال: «هو الغناء و سائر الأقوال الملهية» «3».

و رواية أبي عمرو الزبيري، و هي طويلة، و فيها «و فرض على السمع أن يتنزّه عن الاستماع إلى ما حرّمه اللَّه، و أن يعرض عمّا لا يحلّ له ممّا نهى اللَّه تعالى عنه، و الإصغاء إلى ما أسخط اللَّه تعالى ، فقال في ذلك وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ «4»» إلى أن قال: «و قال فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ «5» و قال تعالى قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ «6» و قال وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ «7» و قال وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً «8» فهذا ما فرض اللَّه على السمع من الإيمان أن لا يصغي إلى ما لا يحلّ له» الحديث «9». و لا شكّ أنّ كلّ لهوٍ لغو.

______________________________

(1)

الكافي 5: 120، 4، التهذيب 6: 357، 1019، الإستبصار 3: 61، 202، الوسائل 17: 124 أبواب ما يكتسب به ب 16 ح 6.

(2) الحج: 30.

(3) مجمع البحرين 3: 319، بتفاوت.

(4) النساء: 139.

(5) الزمر: 17 18.

(6) المؤمنون: 1 3.

(7) القصص: 55.

(8) الفرقان: 72.

(9) الكافي 2: 33، 1، الوسائل 15: 164 أبواب جهاد النفس ب 2 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 171

و يمكن أن يجاب عن الأول: بمنع دلالته على التحريم، بل مثل ذلك يستعمل في أكثر المكروهات.

و عن الثاني: أنّه ذكره في بيان ما فيه الفساد محضاً و ليس فيه شي ء من وجوه الصلاح، و ليس غير آلات اللهو كذلك، فالمراد به هي الملاهي؛ مع أنّ الرواية ضعيفة، و انجبارها في غير الملاهي و آلات القمار غير معلوم.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 18    171     فروع: ..... ص : 166

عن الثالث: بمعارضته مع رواية الوشّاء: «الميسر هو القمار» «1»، و رواية جابر، و فيها: ما الميسر؟ قال: «ما تقومر به حتى الكعاب و الجوز» «2».

و عن الرابع: أنّ مطلق الإلهاء ليس بمحرّم إجماعاً، و الحمل على الإلهاء عن ذكر اللَّه ليس بأولى من حمله على الإلهاء عن الواجبات كالصلاة و نحوها، فلا يدلّ على حرمة مطلق اللهو؛ مع أنّ الظاهر أنّ المراد الجارية المغنّية الملهية بغنائها، بأن تكون اللّام في: «الجارية» للعهد الذكري، و لا شكّ في تحريم ذلك الإلهاء.

و عن الخامس: بالمعارضة مع ما فسّر قول الزور بالغناء خاصّة، كرواية أبي بصير، ففيها: «إنّه هو الغناء» «3».

و عن السادس: أنّه لا يدلّ إلّا على حرمة الإصغاء إلى ما لا يحلّ له، و لا يدلّ على أنّ اللّغو منه و ذكر

الآيات إنّما هو لبيان كون السمع أيضاً

______________________________

(1) الكافي 5: 124، 9، الوسائل 17: 165 أبواب ما يكتسب به ب 35 ح 3.

(2) الكافي 5: 122، 2، الفقيه 3: 97، 374، التهذيب 6: 371، 1075، الوسائل 17: 165 أبواب ما يكتسب به ب 35 ح 4.

(3) الكافي 6: 431، 1، الوسائل 17: 305 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 9، بتفاوتٍ يسير.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 172

مكلّفاً، بقرينة أنّه لا دلالة في الآيات المذكورة على الفرضيّة، و أيضاً ذكر اتّباع الأحسن، و هو غير مفروض قطعاً إذ المراد باللّغو: ما ثبت عدم حلّية إصغائه، كالغناء و الهجاء و الغيبة.

ج: قُيّد الدفّ المحرّم في طائفة من كلمات الأصحاب كالمسالك و شرح الإرشاد للأردبيلي و الكفاية «1» بالمشتمل على الجلاجل؛ و أطلقه جماعة «2»، و هو المستفاد من رواية جامع الأخبار «3» و الأخبار المتضمّنة للملاهي و آلات اللهو «4»، فهو الأظهر.

د: صرّح في القواعد و الشرائع و التحرير و الإرشاد و الدروس بحرمة استماع أصوات آلات اللهو «5»؛ و كأنّه لصدق الاشتغال المصرّح به في رواية الفضل «6»، و لعلّه لا خلاف فيه أيضاً، و هو كذلك.

و منع صدق الاشتغال بمجرّد مطلق الاستماع، و توقّفه على نوع مواظبة غير جيّد، و لو سلّم يمكن أن يقال: إنّ تحريم المواظبة على الاستماع بحيث يصدق الاشتغال قطعاً يثبت تحريم مطلقه؛ للإجماع المركّب، و أمّا سماعها فلا؛ للأصل، و عدم صدق الاشتغال و إن وجب المنع نهياً عن المنكر.

______________________________

(1) المسالك 2: 404، الكفاية: 281.

(2) منهم ابن إدريس في السرائر 2: 215 و العلّامة في التذكرة 2: 581، و صاحب الحدائق 18: 200.

(3) المتقدّمة في ص 160.

(4) الوسائل

17: 312 أبواب ما يكتسب به ب 100.

(5) القواعد 2: 236، الشرائع 4: 128، التحرير 2: 209، الدروس: 190.

(6) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 2: 121، الوسائل 15: 329 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 33.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 173

و تظهر الثمرة فيما إذا لم يمكن المنع و أمكن التباعد بحيث لا يسمع أو سدّ السمع بخرقة فلا يجب ذلك، و فيما إذا مرّ على طريق يوجب السماع مع إمكان العبور عن غيره فيجوز المرور.

نعم، لا يجوز الجلوس في مجلس الاشتغال بالملاهي مع عدم إمكان المنع و إمكان الخروج؛ لحرمة الجلوس في مجلس المعصية.

ه: يجب على كلّ متمكّن كسر آلات اللهو أو إتلافها؛ نهياً عن المنكر، الذي هو إمساكه و اقتناؤه، و لا يضمن به لصاحبه.

نعم، يجب عليه في صورة الكسر ردّ المكسور إلى المالك إن تصوّر فيه نفع.

و: قد استثنى جماعة من أصحابنا منهم: الشيخ في المبسوط و الخلاف كما حكي، و المحقّق في الشرائع و النافع، و الفاضل في القواعد و الإرشاد و التحرير، و الشهيد في الدروس، و حكي عن المحقّق الثاني أيضاً «1» الدفّ في العرائس، و ادّعى بعض مشايخنا المعاصرين الإجماع عليه بفتوى و عملًا «2»، بل عن الخلاف دعوى الوفاق عليه «3».

للنبويّين، أحدهما: «أعلنوا بالنكاح، و أضربوا عليه بالغربال» يعني الدفّ «4».

و في الثاني: «فَصلُ ما بين الحلال و الحرام الضرب بالدفّ عند

______________________________

(1) المبسوط 8: 214، الخلاف 2: 626، الشرائع 4: 128، النافع: 287، القواعد 2: 236، التحرير 2: 209، الدروس 2: 126، المحقق الثاني في جامع المقاصد 4: 24.

(2) انظر الرياض 2: 430.

(3) الخلاف 2: 627.

(4) سنن ابن ماجة 1: 611، 1895.

مستند الشيعة في أحكام

الشريعة، ج 18، ص: 174

النكاح» «1».

و المرسل المرويّ في التذكرة، حيث قال: و روى جواز ذلك في الختان و العرس «2».

خلافاً للمحكيّ عن الحلّي و في التذكرة «3»، فمنعا عنه فيه و فيما يأتي من الختان أيضاً، و نفى عنه البعد في الكفاية «4»، و استبعد الاستثناء في شرح الإرشاد؛ عملًا بالعمومات المتقدّمة.

و لا ريب أنّه أحوط و إن كان في الفتوى بالمنع نظر؛ لإمكان تخصيص العمومات بالروايات الثلاث المتقدّمة، المنجبر ضعفها بما مرّ من حكاية الشهرة و الإجماع، مع اعتضادها كما قيل «5» بفحوى المعتبرة، المبيحة لأجر المغنّية في العرائس.

و يظهر من الرواية الثالثة وجه ما ألحقوه بالنكاح أعني الختان مضافاً إلى ما قيل من عدم القائل بالفرق بينهما «6»؛ مع ما في مجمع البحرين من قوله: و فيه أي في الحديث يقولون: إنّ إبراهيم (عليه السّلام) ختن نفسه بقَدُوم على دفّ؛ لكنّه فسّره: ب: على جنب «7».

قيل: و هو أنسب بعصمته (عليه السّلام)، المانعة عن ارتكاب نحو هذا المكروه الشديد الكراهة «8».

______________________________

(1) سنن النسائي 6: 127، بتفاوت.

(2) التذكرة 2: 581، و ليس فيه: الختان.

(3) السرائر 2: 215، التذكرة 2: 581؛ و حكاه عنهما في الرياض 2: 430.

(4) الكفاية: 281.

(5) انظر الرياض 2: 431.

(6) انظر الرياض 2: 431.

(7) مجمع البحرين 5: 59.

(8) انظر الرياض 2: 431.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 175

و فيه نظر؛ لعدم وضوح مأخذ الكراهة في تلك الأزمنة.

و إطلاق الأخبار كأكثر عبارات الأصحاب، ككتب الفاضلين عدم الفرق في المستثنى بين ذات الصنج و غيره، و قيّده الشهيد و المحقّق الثاني بالثاني «1»، و لا وجه له.

و المراد بالصنج هنا كما عن المطرزي-: ما يجعل في أطراف الدفّ من النحاس، أو الصفر

المدوّرة صغاراً شبيه الفلوس «2». و أمّا أصله فهو ما سبق تفسيره.

ثم إنّ المذكور في الروايتين الأُوليين الاستثناء على النكاح و عنده، و الخلاف في معناه مشهور و إن كان الأقرب أنّه العقد، و هو الأنسب بقوله: «أعلنوا بالنكاح»، فإنّه الذي ورد في الأخبار استحباب الإشهاد عليه و الإعلان به «3».

و في الأخيرة «4» في العرس، و هو قد يفسّر بالزفاف.

و أمّا الأصحاب، فذكر جمع منهم بلفظ النكاح كما في المسالك و الكفاية و شرح الإرشاد «5» و بعضهم بلفظ العرس كما في القواعد و التذكرة «6» و ذكر الأكثر كالشرائع و النافع و التحرير و الإرشاد و الدروس «7» بلفظ الإملاك، المفسّر في كلام الأكثر بالنكاح، و قد يفسّر بالتزويج.

______________________________

(1) الشهيد في الدروس 2: 126، المحقق الثاني في جامع المقاصد 4: 24.

(2) المغرب 1: 309 و فيه بتفاوت.

(3) كما في الوسائل 20: 97 أبواب مقدّمات النكاح و آدابه ب 43.

(4) أي المرسل المروي في التذكرة 2: 581.

(5) المسالك 2: 404، الكفاية: 281، مجمع الفائدة 12: 341.

(6) القواعد 2: 236، التذكرة 2: 582.

(7) الشرائع 4: 128، النافع: 287، التحرير 2: 209، الإرشاد 2: 157، الدروس 2: 126.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 176

و على هذا فيشكل مورد الاستثناء عند الفصل بين العقد و الزفاف، أي زمان دخول أحد الزوجين على الآخر للوطء و إن لم يتّفق الوطء. و كذا يشكل تعيين قدر زمان الاستثناء.

و اللّازم الاقتصار على صورة مقارنة العقد و الزفاف أي وقوعهما في يوم واحد، أو ليلة واحدة لأنّ الظاهر أنّ النكاح في عرف الشرع هو العقد.

و أمّا إرادته في كلمات الأصحاب التي هي الجابرة للأخبار فغير معلومة، فالعقد المجرّد عن الزفاف

لا يُعلَم له جابر، و الزفاف المنفصل عن العقد لا تُعلَم به رواية.

و لا يبعد الحكم بالجواز إذا وقعا في يوم و ليلة، و جواز الدفّ في ذلك اليوم و الليلة خلاف الاحتياط جدّاً، فالأحوط الاقتصار على وقوعهما في يوم واحد، أو ليلة واحدة، و على ذلك اليوم أو الليلة، بل على بعض منه، الذي يقع فيه الأمران عرفاً، و الأحوط من الجميع تركه بالمرّة.

ز: هل الاشتغال بالملاهي من الكبائر فتزول به العدالة و لو بمرّة أو لا، فلا تزول إلّا بالإصرار؟

ظاهر كلمات أكثر من حكي عنه التحريم: الأول «1»، حيث أطلقوا ردّ الشهادة له و حصول الفسق به.

و استشكل فيه بعض مشايخنا «2»، بل صرّح في المسالك بعدم كونه من الكبائر «3»، و استحسنه في الكفاية «4»؛ لأنّ المستفاد من النصوص مجرّد

______________________________

(1) راجع ص 157 158.

(2) انظر الرياض 2: 430.

(3) المسالك 2: 402.

(4) الكفاية: 281.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 177

النهي عنه، و تحريمه من دون توعيد النار عليه.

أقول: كان ذلك حسناً لو خُصّت الكبائر بما عُلِمَ أنّه ممّا أوعد اللَّه عليه النار، و أمّا على ما ذكرنا من جعلها قسمين أحدهما: ما ذكر، و الثاني ما صرّح بكونه كبيرة في الأخبار فيدخل ذلك فيها؛ للتصريح به في رواية الفضل «1»، التي هي في نفسها حجّة؛ مع كونها بالإطلاق المذكور في كلام الأكثر منجبرة.

المسألة الثالثة: لا تقبل شهادة القاذف

مع عدم اللعان أو البيّنة قبل التوبة بلا خلاف، بل بالإجماع المحقّق و المحكيّ «2»؛ له، و للآية الكريمة وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً «3».

و تقبل شهادته بعد التوبة بلا خلاف أيضاً، بل عليه الإجماع عن التحرير و التنقيح «4».

لقوله سبحانه إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ

أَصْلَحُوا «5».

و للنصوص المستفيضة، كصحيحة ابن سنان: عن المحدود إذا تاب، تقبل شهادته؟ فقال: «إذا تاب، و توبته أن يرجع ممّا قال، و يكذّب نفسه عند الإمام و عند المسلمين، فإذا فعل فإنّ على الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك» «6».

و مرسلة يونس: عن الذي يقذف المحصنات، تقبل شهادته بعد الحدّ إذا تاب؟ قال: «نعم» قلت: و ما توبته؟ قال: «يجي ء فيكذّب نفسه عند

______________________________

(1) المتقدّمة في ص 130.

(2) كما في الرياض 2: 431.

(3) النور: 4.

(4) التحرير 2: 208، التنقيح 4: 293.

(5) النور: 5.

(6) الكافي 7: 397، 6، التهذيب 6: 245، 616، الإستبصار 3: 36، 121، الوسائل 27: 385 أبواب الشهادات ب 37 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 178

الإمام، و يقول: قد افتريت على فلانة، و يتوب ممّا قال» «1».

و رواية الكناني: عن القاذف إذا أكذب نفسه و تاب، أتقبل شهادته؟ قال: «نعم» «2».

و الأُخرى: عن القاذف بعد ما يقام عليه الحدّ ما توبته؟ قال: «يكذّب نفسه» قلت: أ رأيت إن أكذب نفسه و تاب أتقبل شهادته؟ قال: «نعم» «3».

و رواية القاسم بن سليمان، الصحيحة عمّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه: عن الرجل يقذف الرجل فيُجلَد حدّا، ثم يتوب و لا يعلم منه إلّا خيراً، أ تجوز شهادته؟ قال: «نعم، ما يقال عندكم؟» قلت: يقولون: توبته فيما بينه و بين اللَّه، و لا تقبل شهادته أبداً، فقال: «بئس ما قالوا، كان أبي يقول: إذا تاب و لم يعلم منه إلّا خيراً جازت شهادته» «4» إلى غير ذلك.

و أمّا رواية السكوني: «ليس يصيب أحداً حدٌّ فيقام عليه ثم يتوب إلّا جازت شهادته، إلّا القاذف، فإنّه لا تقبل شهادته، إنّ توبته فيما بينه

و بين اللَّه» «5».

______________________________

(1) الكافي 7: 397، 5، التهذيب 6: 245، 617، الإستبصار 3: 36، 122، الوسائل 27: 384 أبواب الشهادات ب 36 ح 4.

(2) التهذيب 6: 246، 621، الإستبصار 3: 37، 126، الوسائل 27: 384 أبواب الشهادات ب 36 ح 5.

(3) الكافي 7: 397، 1، التهذيب 6: 245، 615، الإستبصار 3: 36، 120، الوسائل 27: 382 أبواب الشهادات ب 36 ح 1.

(4) الكافي 7: 397، 2، التهذيب 6: 246، 620، الإستبصار 3: 37، 125، الوسائل 27: 382 أبواب الشهادات ب 36 ح 2.

(5) التهذيب 6: 284، 786، الإستبصار 3: 37، 127، الوسائل 27: 384 أبواب الشهادات ب 36 ح 6، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 179

فمع مخالفتها لعمل الأصحاب و موافقتها للعامّة كما يستفاد من رواية القاسم، مع كون راويها من قضاة العامّة لا حجّية فيها، سيّما مع خلو الرواية عن الاستثناء على نسخة الكافي، بل على بعض نسخ التهذيب أيضاً كما قيل «1».

ثم إنّه يشترط في توبته إكذاب نفسه، بلا خلاف بين الفرقة كما في الخلاف «2»، بل بالاتّفاق عن الغنية «3»؛ للأخبار المتقدّمة المصرّحة بذلك.

و يشترط أن يكون الإكذاب بما هو حقيقة فيه عرفاً، نحو: كذبت على فلانة، أو افتريت، سواء كان كاذباً في القذف واقعاً أو صادقاً، وفاقاً للمحكيّ عن الصدوقين و العماني و الشيخ في النهاية و الشرائع و النافع و الدروس و المسالك و التنقيح «4» و غيرها «5»، بل قيل: إنّ الظاهر أنّه المشهور بين المتأخّرين، بل المتقدّمين أيضاً «6».

لظاهر النصوص؛ حيث إنّ المتبادر من الإكذاب هو معناه الحقيقي، بل هو صريح مرسلة يونس، بل صحيحة ابن سنان؛ حيث إنّ الرجوع لا يتحقّق بدون الإكذاب الحقيقي.

و

خلافاً لظاهر المبسوط، فقال: إنّ كيفيّة إكذابه أن يقول: القذف

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 431.

(2) الخلاف 2: 610.

(3) الغنية (الجوامع الفقهية): 625.

(4) الصدوق في المقنع: 133، حكاه عن والده و عن العماني في المختلف: 717، النهاية: 326، الشرائع 4: 128، النافع: 287، الدروس 2: 126، المسالك 2: 403، التنقيح 4: 294.

(5) كالجامع للشرائع: 540.

(6) انظر الرياض 2: 432.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 180

باطل حرام، و لا أعود إلى ما قلت «1».

و للمحكيّ عن ابن حمزة و عن السرائر و الإرشاد و القواعد و التحرير و المختلف و الإيضاح «2»، فقالوا: إن كان في قذفه كاذباً فتوبته إكذاب نفسه حقيقة، و إن كان صادقاً فحدّها أن يقول: الكذب حرام و لا أعود إلى مثل ما قلت، كما قال ابن حمزة، أو يقول: أخطأت، كما قاله الآخرون؛ معلّلين بحرمة الكذب.

و فيه: أنّها لولا النصوص المجوّزة له، مع أنّ التورية عنه ممكنة، بل وجه التورية ظاهر بإرادة كونه كاذباً بحكم اللَّه؛ حيث قال فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ «3».

و هل تعرف التوبة بمجرّد الإكذاب، أم تحتاج بعده إلى معرفة الندامة أيضاً؟

الظاهر كما حكي عن بعض المحقّقين «4»: الثاني؛ لقوله في مرسلة يونس: «و يتوب ممّا قال» بعد الإكذاب.

و موثّقة سماعة، و فيها: و أمّا قول اللَّه وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً .. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا قال: قلت: كيف تُعرَف توبته؟ قال: «يكذّب نفسه على رؤوس الناس حين يُضرَب، و يستغفر ربّه، فإذا فعل ذلك فقد ظهرت توبته» «5».

______________________________

(1) المبسوط 8: 179.

(2) ابن حمزة في الوسيلة: 231، السرائر 2: 116، القواعد 2: 236، التحرير 2: 208، المختلف: 717، الإيضاح 4: 423.

(3) النور: 13.

(4)

الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 372.

(5) الفقيه 3: 36، 121، التهذيب 6: 263، 699، الوسائل 27: 334 أبواب الشهادات ب 15 ح 2، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 181

و بهما تقيّد المطلقات، بل يمكن حملها عليه «1» أيضاً بدعوى ورودها مورد الغالب، من أنّ المكذب نفسه يكون تائباً غالباً.

ثم ظاهر الصحيح و المرسل المتقدّمين اعتبار كون الإكذاب عند الحاكم، كما عن العماني «2» و جماعة «3»، بل يظهر من الإيضاح و التنقيح و الصيمري عدم الخلاف في اعتبار ذلك «4»، و هو الصحيح؛ لما ذكر.

بل يعتبر كونه عند جماعة من المسلمين أيضاً كما صرّح به العماني؛ للصحيح المذكور، و موثّقة سماعة المتقدّمة.

و هل يُشتَرط في القبول بعد الإكذاب و التوبة أمر آخر، أم لا؟

ظاهر الإيضاح: الاتّفاق على اشتراط الاستمرار على التوبة و لو ساعة، قال: و إنّما الخلاف في الزائد عليه، و هو إصلاح العمل «5».

و يظهر من بعضهم: أنّ الأكثر اكتفوا بالاستمرار؛ لتفسيرهم إصلاح العمل به «6».

و منهم من اعتبر إصلاح العمل في الكاذب دون الصادق «7».

و الظاهر اعتباره مطلقاً؛ للآية المقيّدة للإطلاقات، و قوله في رواية القاسم: «و لا يعلم منه إلّا خيراً». و اللَّه العالم.

المسألة الرابعة: يحرم الغناء، و تزول به العدالة.

______________________________

(1) أي: على الإكذاب.

(2) حكاه عنه في المختلف: 717.

(3) انظر الرياض 2: 432.

(4) الإيضاح 4: 424، التنقيح 4: 294.

(5) الإيضاح 4: 424.

(6) انظر الرياض 2: 432.

(7) انظر المبسوط 8: 179.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 182

و الكلام فيه تارةً في بيان ماهيّته، و أُخرى في إثبات حرمته و مواردها.

أمّا الأول: فبيانه أنّ كلمات العلماء من اللغويين و الأُدباء و الفقهاء مختلفة في تفسير الغناء.

ففسّره بعضهم بالصوت المطرب.

و آخر بالصوت المشتمل على الترجيع.

و ثالث

بالصوت المشتمل على الترجيع و الإطراب معاً «1».

و رابع بالترجيع.

و خامس بالتطريب.

و سادس بالترجيع مع التطريب.

و سابع برفع الصوت مع الترجيع.

و ثامن بمدّ الصوت.

و تاسع بمدّه مع أحد الوصفين أو كليهما «2».

و عاشر بتحسين الصوت.

و حادي عشر بمدّ الصوت و موالاته.

و ثاني عشر و هو الغزالي بالصوت الموزون المفهم المحرّك للقلب «3».

و لا دليل تامّاً على تعيين أحد هذه المعاني أصلًا.

نعم، يكون القدر المتيقّن من الجميع المتّفق عليه في الصدق و هو مدّ الصوت، المشتمل على الترجيع المطرب، الأعمّ من السارّ و المحزن،

______________________________

(1) كما في الحدائق 18: 101.

(2) انظر الشرائع 4: 128، و التحرير 2: 209.

(3) احياء علوم الدين 2: 270.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 183

المفهم لمعنى غناءً قطعاً عند جميع أرباب هذه الأقوال، فلو لم يكن هناك قول آخر يكون هذا القدر المتّفق عليه غناءً قطعاً.

إلّا أنّ بعض أهل اللغة فسّره بما يقال له بالفارسيّة: سرود أيضاً.

و حكي عن صاحب الصحاح: أنّه قال: الغناء ما يسمّيه العجم" دو بيتى".

و قال بعض الفقهاء: إنّه يجب الرجوع في تعيين معناه إلى العرف «1».

و لا يخفى ما في المعنيين الأولين من الخفاء، فإنّ" سرود" و" دو بيتى" ليسا بذلك الاشتهار في هذه الأعصار بحيث يتّضح المراد منهما، و يمكن أن يكونا متّحدين مع أحد المعاني المتقدّمة.

و يحتمل قريباً أن يكون للّحن و كيفيّة الترجيع مدخليّة في صدقهما، و يشعر به ما في رواية ابن سنان الآتية، الفارقة بين لحن العرب و لحن أرباب الفسوق و الكبائر.

و يؤيّده أيضاً ما قد يفسّر به" سرود" من أنّه ما يقال له بالفارسيّة:" خوانندگى" و قد يفسّر الغناء بذلك أيضاً، فإنّ التعبير ب:" خوانندگى" في الأغلب إنّما يكون بواسطة

الألحان و النغمات.

و كذا الثالث، فإنّ فيه خفاءً أيضاً، فإنّه لا عرف لأهل العجم في لفظ الغناء، و مرادفه من لغة الفرس غير معلوم، و عرف العرب فيه غير منضبط.

و قد يعبّر عنه أيضاً ب:" خوانندگى"، و هو غير ثابت أيضاً.

و لأجل هذه الاختلافات يحصل الإجمال، غايته في معنى الغناء، و لكن الظاهر أنّ القدر المتيقّن المذكور من المعاني الاثني عشريّة سيّما إذا

______________________________

(1) كما في التنقيح 2: 11، و المسالك 2: 403، الحدائق 18: 101.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 184

ضمّ معه: أن يكون معه اللحن الخاصّ المعهود، الذي يستعمله أرباب الملاهي و يتداول عندهم، و يعبّر عنه الآن عند العوامّ ب" خوانندگى" يكون غناء قطعاً، سواء كان في القرآن و الدعاء و المراثي و غيرها.

و لعلّ لاعتبار هذا اللحن في مفهومه قال صاحب الوافي: لا وجه لتخصيص الجواز بزفّ العرائس، و لا سيّما و قد وردت الرخصة في غيره، إلّا أن يقال: إنّ هذه الأفعال لا تليق بذوي المروّات و إن كانت مباحة «1». انتهى .

فإنّ غير اللّائق للمروّة هو هذه الألحان المعهودة.

و أمّا الثاني: فلا خلاف في حرمة ما ذكرنا أنّه غناء قطعاً في الجملة- و هو مدّ الصوت المفهم، المشتمل على الترجيع و الإطراب، سيّما مع الضميمة المذكورة- و نقل عدم الخلاف بل الإجماع عليه مستفيض «2»، بل هو إجماع محقّق قطعاً، بل ضرورة دينيّة.

و إنّما الكلام في أنّه هل هو حرام مطلقاً من غير استثناء فرد منه، أو يحرم في الجملة؟ يعني: أنّه يحرم بعض أفراده، إمّا لاستثناء بعض آخر بدليل، أو لاختصاص تحريم الغناء ببعض أفراده.

و المستفاد من كلام الشيخ في الاستبصار: الثاني، حيث قال بعد نقل أخبار حرمة الغناء

و كسب المغنيّة-: الوجه في هذه الأخبار الرخصة فيمن لا تتكلّم بالأباطيل، و لا تلعب بالملاهي و العيدان و أشباهها، و لا بالقصب و غيره، بل كانت ممّن تزفّ العروس و تتكلّم عندها بإنشاء الشعر و القول البعيد عن الفحش و الأباطيل، و أمّا ما عدا هؤلاء ممّن يتغنين

______________________________

(1) الوافي 17: 220.

(2) انظر الخلاف 2: 626، و الكفاية: 280.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 185

بسائر أنواع الملاهي فلا يجوز على حال، سواء كان في العرائس أو غيرها «1». انتهى .

و هو ظاهر الكليني، حيث ذكر كثيراً من أخبار الغناء في أبواب الأشربة؛ لاشتماله على الملاهي و شرب المسكر «2».

و يظهر من كلام صاحب الكفاية أيضاً أنّ صاحب الكافي لا يحرّم الغناء في القرآن «3».

و هو أيضاً محتمل الصدوق كما يظهر من تفسيره للمرسلة الآتية «4» بل والده في الرسالة، حيث عبّر فيها بما عبّر في الرضوي الآتي «5».

بل ذكر صاحب الكفاية في كتاب التجارة بعد نقل كلام عن الشيخ أبي علي الطبرسي في مجمع البيان-: أنّ هذا يدلّ على أنّ تحسين الصوت بالقرآن و التغنّي به مستحبّ عنده، و أنّ خلاف ذلك لم يكن معروفاً عند القدماء «6».

أقول: و توهّم أنّ الطبرسي لم يذكر إلّا تحسين اللفظ و تزيين الصوت و تحزينه و هو غير الغناء، مردودٌ بأنّه بعد ذكر الرواية الآمرة بالتغنّي بالقرآن «7» ذكر تأويل بعضهم بأنّ المراد منه الاستغناء بالقرآن، ثم قال

______________________________

(1) الاستبصار 3: 62.

(2) الكافي 6: 431.

(3) الكفاية: 86.

(4) في ص 189.

(5) في ص 187.

(6) الكفاية: 86.

(7) سنن ابن ماجه 1: 424 ح 1337، جامع الأخبار: 131، 265، 16، مستدرك الوسائل 4: 273 أبواب قراءة القرآن ب 20 ح 7.

مستند الشيعة

في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 186

و أكثر العلماء على أنّه تزيين الصوت و تحسينه «1». يعني: أنّ المراد بالغناء هو ما يحصل به تزيين الصوت و تحزينه، فهو في بيان معنى التغنّي، و أنّه ليس المراد منه إلّا ما يحصل به الغناء في الصوت.

ثم قال صاحب الكفاية: و كلام السيّد المرتضى في الغرر و الدرر لا يخلو عن إشعار «2» واضح بذلك.

أقول: و يشعر به كلام الفاضل في المنتهى أيضاً، حيث يذكر في أثناء ذكر المسألة عبارة الإستبصار المتقدّمة الظاهرة في التخصيص شاهداً لحكمه بحرمة الغناء «3».

و كذا هو المستفاد من كلام طائفة من متأخّري أصحابنا، منهم: المحقّق الأردبيلي (رحمه اللَّه) حيث جعل في باب الشهادات من شرح الإرشاد الاجتناب عن الغناء في مراثي الحسين أحوط «4».

و منهم: صاحب الكفاية، حيث قال في كتاب التجارة: و في عدّة من الأخبار الدالّة على حرمة الغناء إشعار بكونه لهواً باطلًا، و صدق ذلك في القرآن و الدعوات و الأذكار المقروءة بالأصوات الطيّبة المذكّرة للآخرة المهيّجة للأشواق إلى العالم الأعلى محلّ تأمّل.

إلى أن قال: فإذن لا ريب في تحريم الغناء على سبيل اللهو و الاقتران بالملاهي و نحوها، ثم إن ثبت إجماع في غيره كان متّبعاً، و إلّا بقي حكمه على أصل الإباحة «5».

______________________________

(1) مجمع البيان 1: 16، و فيه: و تحزينه، بدل: و تحسينه.

(2) في المصدر: إشكال ..

(3) المنتهى 2: 1012.

(4) مجمع الفائدة 12: 338.

(5) الكفاية: 86.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 187

و قال في كتاب الشهادات: و استثنى بعضهم مراثي الحسين إلى أن قال: و هو غير بعيد «1».

و منهم: صاحب الوافي، قال في باب ترتيل القرآن: و لعلّه كان نحواً من التغنّي مذموماً في

شرعنا «2».

و قال في باب كسب المغنّية و شرائها: لا بأس بسماع التغنّي بالأشعار المتضمّنة ذكر الجنّة و النار، و التشويق إلى دار القرار، و وصف نِعم اللَّه الملك الجبّار، و ذكر العبادات، و الترغيب في الخيرات و الزهد في الفانيات، و نحو ذلك «3».

و قال في المفاتيح ما ملخّصه: و الذي يظهر لي من مجموع الأخبار الواردة في الغناء و يقتضيه التوفيق بينها اختصاص حرمته و حرمة ما يتعلّق به بما كان على النحو المتعارف في زمن بني أُميّة، من دخول الرجال عليهنّ و استماعهم لقولهن، و تكلّمهنّ بالأباطيل و لعبهنّ بالملاهي؛ و بالجملة: ما اشتمل على فعل محرّم، دون ما سوى ذلك «4». انتهى .

و المشهور بين المتأخّرين كما في الكفاية الأول «5».

و لا بدّ أولًا من بيان أدلّة حرمة الغناء، ثم بيان ما يستفاد من المجموع، ثم ملاحظة أنّه هل استثني من ذلك شي ء ثبتت من أدلّة الغناء حرمته؟

فنقول: الدليل عليها هو الإجماع القطعي، بل هي ضرورة دينيّة،

______________________________

(1) الكفاية: 281.

(2) الوافي 9: 1743.

(3) الوافي 17: 221.

(4) المفاتيح 2: 21.

(5) الكفاية: 281.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 188

و يدلّ عليها الكتاب و السنّة.

أمّا الإجماع فظاهر.

و أمّا الكتاب: فأربع آيات، بضميمة الأخبار المفسّرة لها.

الاولى : قوله سبحانه فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «1».

بضميمة رواية أبي بصير: عن قول اللَّه سبحانه و تعالى وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: «هو الغناء» «2».

و رواية الشحّام «3»، و مرسلة ابن ابي عمير «4»، و فيهما بعد السؤال عن الآية: «و قول الزور: الغناء».

و الثانية: قوله عزّ شأنه وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ

مُهِينٌ «5».

بضميمة ما في تفسير القمّي عن الباقر (عليه السّلام) أنّه: «الغناء و شرب الخمر و جميع الملاهي» «6».

و المرويّ في معاني الأخبار عن جعفر بن محمّد (عليهما السّلام): عن قول اللَّه عزّ و جلّ وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: «الغناء» «7».

______________________________

(1) الحج: 30.

(2) الكافي 6: 431، 1، الوسائل 17: 305 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 9.

(3) الكافي 6: 435، 2، الوسائل 17: 303 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 2.

(4) الكافي 6: 436، 7، الوسائل 17: 305 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 8.

(5) لقمان: 6.

(6) تفسير القمّي 2: 161.

(7) معاني الأخبار: 349، 1، الوسائل 17: 308 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 20، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 189

و في صحيحة محمّد: «الغناء ممّا قال اللَّه تعالى وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي » الحديث «1»، و قريبة منها رواية مهران بن محمّد «2».

و رواية الوشّاء: عن الغناء، قال: «هو قول اللَّه عزّ و جلّ وَ مِنَ النَّاسِ » الآية «3».

و رواية الحسن بن هارون: «الغناء مجلسٌ لا ينظر اللَّه إلى أهله، و هو ممّا قال اللَّه عزّ و جلّ وَ مِنَ النَّاسِ » الآية «4».

و في الصافي عن الكافي، عن الباقر (عليه السّلام): «الغناء ممّا أوعد اللَّه عليه النار» و تلا هذه الآية «5».

و في الرضوي: «الغناء ممّا أوعد اللَّه عليه النار في قوله وَ مِنَ النَّاسِ » الآية «6».

الثالثة: قوله سبحانه وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ «7».

بضميمة ما في تفسير القمّي عن الصادق (عليه السّلام): «وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ : الغناء و الملاهي» «8».

و الرابعة: قوله عزّ جاره وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ «9».

______________________________

(1)

الكافي 6: 431، 4، الوسائل 17: 304 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 6، بتفاوت.

(2) الكافي 6: 431، 5، الوسائل 17: 305 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 7.

(3) الكافي 6: 432، 8، الوسائل 17: 306 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 11.

(4) الكافي 6: 433، 16، الوسائل 17: 307 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 16.

(5) تفسير الصافي 4: 140.

(6) فقه الرضا (عليه السّلام): 281، مستدرك الوسائل 13: 213 أبواب ما يكتسب به ب 78 ح 9.

(7) المؤمنون: 3.

(8) تفسير القمّي 2: 88.

(9) الفرقان: 72.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 190

بضميمة صحيحة محمّد و الكناني: في قول اللَّه عزّ و جلّ وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ قال: «هو الغناء» «1».

و أمّا السنّة فكثيرة جدّاً، كصحيحة الشحّام: «بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة، و لا تجاب فيه الدعوة، و لا يدخله الملك» «2».

و روايته: «الغناء عشّ النفاق» «3».

و رواية يونس: إنّ العباسي ذكر أنّك ترخّص في الغناء، فقال: «كذب الزنديق، ما هكذا قلت له، سألني عن الغناء، فقلت له: إنّ رجلًا أتى أبا جعفر (عليه السّلام)، فسأله عن الغناء، فقال: يا فلان، إذا ميّز اللَّه بين الحقّ و الباطل فأين يكون الغناء؟ فقال: مع الباطل، فقال: قد حكمت» «4».

و في جامع الأخبار عن رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله): «يحشر صاحب الغناء من قبره أعمى و أخرس و أبكم» و فيه عنه (عليه السّلام): «ما رفع أحد صوته بغناء إلّا بعث اللَّه شيطانين على منكبه، يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك» «5».

و في الخصال عن الصادق (عليه السّلام): «الغناء يورث النفاق، و يعقّب الفقر» «6».

______________________________

(1) الكافي 6: 431، 6،

الوسائل 17: 304 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 5.

(2) الكافي 6: 433، 15، الوسائل 17: 303 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 1.

(3) الكافي 6: 431، 2، الوسائل 17: 305 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 10.

(4) الكافي 6: 435، 25، عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 2: 14، 32، الوسائل 17: 306 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 13.

(5) جامع الأخبار: 433، 1211 و 1213، مستدرك الوسائل 13: 219 أبواب ما يكتسب به ب 79 ح 17 وص: 214 ب 78 ح 15.

(6) الخصال 1: 24، 84، الوسائل 17: 309 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 23.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 191

و مرسلة الفقيه: سأل رجلٌ عليَّ بن الحسين (عليهما السّلام) عن شراء جارية لها صوت؟ فقال: «ما عليك لو اشتريتها فذكّرَتك الجنّة يعني بقراءة القرآن و الزهد و الفضائل التي ليست بغناء، و أمّا الغناء فمحظور» «1».

و تدلّ عليه المستفيضة، المانعة عن بيع المغنّيات و شرائهنّ و تعليمهن، كرواية الطاطري: عن بيع الجواري المغنّيات، فقال: «بيعُهنّ و شراؤهنّ حرام، و تعليمهنّ كفر، و استماعهنّ نفاق» «2»، و قريبة منها رواية ابن أبي البلاد «3».

و يستفاد من الأخيرتين حرمة استماع الغناء أيضاً، كما هو مجمع عليه قطعاً.

و إطلاق المنع عن الاستماع منهنّ حتى من المحارم يأبى عن كون المنع لحرمة استماع صوت الأجانب، مضافاً إلى ظهور العطف على «تعليمهن» و التعليق على الوصف في إرادة استماع الغناء؛ و تدلّ على حرمة استماعه الآية الأُولى أيضاً.

و يدلّ على حرمة الغناء و استماعه أيضاً المرويّ في المجمع عن طريق العامّة، عن النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله): «من مَلأ

مسامعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيّين يوم القيامة» قيل: و ما الروحانيّون يا رسول اللَّه؟ قال: «قرّاء أهل الجنّة» «4».

______________________________

(1) الفقيه 4: 42، 139، الوسائل 17: 122 أبواب ما يكتسب به ب 16 ح 2.

(2) الكافي 5: 120، 5، التهذيب 6: 356، 1018، الإستبصار 3: 61، 201، الوسائل 17: 124 أبواب ما يكتسب به ب 16 ح 7.

(3) الكافي 5: 120، 7، التهذيب 6: 357، 1021، الإستبصار 3: 61، 204، الوسائل 17: 123 أبواب ما يكتسب به ب 16 ح 5.

(4) مجمع البيان 4: 314.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 192

و رواية عنبسة: «استماع الغناء و اللهو ينبت النفاق في القلب» «1».

و مرسلة المدني: سُئل عن الغناء و أنا حاضر، فقال: «لا تدخلوا بيوتاً اللَّه معرض عن أهلها» «2».

و قد يستدلّ عليهما برواية مسعدة بن زياد: إنّني أدخل كنيفاً لي، و لي جيران عندهم جوارٍ يتغنين و يضربن بالعود، فربّما أطلت الجلوس استماعاً منّي لهن؟ فقال: «لا تفعل» فقال الرجل: و اللَّه ما أتيتهن، و إنّما هو سماع أسمعه بأُذني، فقال (عليه السّلام): «للَّه أنت، أما سمعت اللَّه يقول إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «3»»؟.

فقال: بلى و اللَّه، كأنّي لم أسمع بهذه الآية إلى أن قال: «قم فاغتسل و صلّ ما بدا لك، فإنّك كنت مقيماً على أمر عظيم، ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك؟!» الحديث «4».

أقول: هذه أدلّة حرمة الغناء، و ظاهر أنّ الإجماع منها لا يثبت منه إلّا حرمة الغناء في الجملة، و لا يفيد شيئاً في موضع الخلاف.

و أمّا الكتاب، فظاهر أنّه لا دلالة للآيتين الأخيرتين على الحرمة أصلًا،

مضافاً إلى ما يظهر من بعض الأخبار المعتبرة من تفسير اللغو بغير الغناء ممّا يباينه أو يعمّه.

و أمّا الآية الثانية، فلا شكّ أنّه لا دلالة للأخبار المفسّرة لها بنفسها

______________________________

(1) الكافي 6: 434، 23، الوسائل 17: 316 أبواب ما يكتسب به ب 101 ح 1، بتفاوت.

(2) الكافي 6: 434، 18، الوسائل 17: 306 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 12.

(3) الإسراء: 36.

(4) الفقيه 1: 45، 177، التهذيب 1: 116، 304، الوسائل 3: 331 أبواب الأغسال المندوبة ب 18 ح 1، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 193

على الحرمة، بل الدالّ عليها إنّما هو الآية بضميمة التفسير، فيكون معنى الآية: و من الناس من يشتري الغناء ليضلّ عن سبيل اللَّه و يتّخذها هُزُواً أُولئك لهم عذابٌ مهين، فيدلّ على حرمة الغناء الذي يُشترى ؛ لما في الآية، و هو ممّا لا شكّ فيه، و لا يدلّ على حرمة غير ذلك ممّا يتّخذ لترقيق القلب لتذكّر الجنّة، و تهييج الشوق إلى العالم الأعلى، و لتأثير القرآن و الدعاء في القلوب، بل في قوله لَهْوَ الْحَدِيثِ إشعار بذلك أيضاً.

مع أنّ رواية الوشّاء محتملة لأن يكون تفسيراً للغناء بلهو الحديث لا بياناً لحكمه، فلا يكون شاملًا لما لا يصدق عليه لهو الحديث لغةً و عرفاً.

مضافاً إلى معارضة هذه الأخبار مع ما روي في مجمع البيان عن الصادق (عليه السّلام): «إنّ لهو الحديث في هذه الآية الطعن في الحقّ و الاستهزاء به» «1».

و رواية أبي بصير: عن كسب المغنّيات، فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تُدعى إلى الأعراس ليس به بأس، و هو قول اللَّه عزّ و جلّ وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي الآية «2»، فإنّها تدلّ على

أنّ لهو الحديث هو غناء المغنّيات اللّاتي يدخل عليهنّ الرجال لا مطلقاً.

و إلى أنّ الظاهر من رواية الحسن بن هارون «3»: أنّ الغناء الذي أُريد من لهو الحديث مجلس، و هو ظاهر في محافل المغنّيات.

و إلى أنّ مدلول سائر الأخبار المعتبرة أنّ الغناء هو فرد من لهو

______________________________

(1) مجمع البيان 4: 313.

(2) الكافي 5: 119، 1، التهذيب 6: 358، 1024، الإستبصار 3: 62، 207، الوسائل 17: 120 أبواب ما يكتسب به ب 15 ح 1.

(3) الكافي 6: 433، 16، الوسائل 17: 307 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 16.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 194

الحديث، و أنّه بعض ما قال اللَّه سبحانه، فيشعر بأنّ المراد من لهو الحديث معناه اللغوي و العرفي الذي فرد منه الغناء، و هو لا يصدق إلّا على الأقوال الباطلة و الملهية لا مطلقاً.

فلم يبق من الآيات الكريمة إلّا الأُولى ، و سيجي ء الكلام فيها.

و أمّا الأخبار، فظاهر أنّ الروايات المانعة عن بيع المغنّيات و شرائهنّ و الاستماع منهنّ «1» لا دلالة لها على حرمة المطلق؛ إذ لا شكّ أنّ المراد منهنّ ليس مَن من شأنها أنّ تتغنّى و تقدر على الغناء؛ لعدم حرمة بيعها و شرائها قطعاً، بل المراد الجواري اللّاتي أخذن ذلك كسباً و حرفة، كما هو ظاهر الاخبار المانعة عن كسبهنّ و أجرهن «2».

و على هذا، فتكون إرادتهنّ من المغنّيات الموضوعة لغةً لمن تغنّي مطلقاً، إمّا مع بقاء المبدأ أو مطلقاً مجازاً، فيمكن أن يكون المراد بهنّ اللّاتي كنّ في تلك الأزمنة و هنّ اللّاتي أخذنه كسباً و حرفة في محافل الرجال و الأعراس بل الظاهر أنّه لم تكن تكسب بغيرهما؛ و في رواية أبي بصير المتقدّمة المقسّمة

لهنّ إلى اللّاتي يدخل عليهنّ الرجال، و اللّاتي تزفّ العرائس دلالة على ذلك.

و أمّا سائر الروايات، فبكثرتها و تعدّدها خالية عن الدلالة على الحرمة جدّاً؛ إذ لا دلالة لعدم الأمن من الفجيعة، و عدم إجابة الدعوة، و عدم دخول الملك، و كونه عشّ النفاق، أو مورثه، أو منبته، أو كونه من الباطل، أو الحشر أعمى و أصمّ و أبكم، أو بعث الشيطان للضرب على الصدر، أو تعقيب الفقر، أو عدم سماع صوت الروحانيّين، أو أعراض اللَّه عن أهله

______________________________

(1) كما في الوسائل 17: 122 أبواب ما يكتسب به ب 16.

(2) انظر الوسائل 17: 120 أبواب ما يكتسب به ب 15.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 195

على إثبات الحرمة؛ لورود أمثال ذلك في المكروهات كثيراً. مع أنّه لا حجّية في روايتي المجمع و الجامع «1» عن طريق العامّة أصلًا.

و أمّا مرسلة الفقيه «2»، فإنّما تفيد الحرمة لو كان التفسير عن الإمام، و هو غير معلوم، بل خلاف الظاهر؛ لأنّ الظاهر أنّه من الصدوق. مع أنّه لو كان من الإمام أيضاً إنّما يفيد حرمة المطلق لو كان قوله: «التي ليست بغناء» وصفاً احترازيّاً للقراءة، و هو أيضاً غير معلوم.

و أمّا رواية مسعدة «3»، فمع اختصاصها بغناء الجواري المغنّية، مشتملة على ضرب العود أيضاً، فلعلّ المعصية كانت لأجله.

فإن قيل: إنّ تكذيبه (عليه السّلام) لمن نسب إليه الرخصة في الغناء «4» يدلّ على انتفاء الرخصة، فيكون حراماً.

قلنا: التكذيب في نسبة الرخصة لا يستلزم المنع، فإنّ عدم ترخيص الإمام أعمّ من المنع، بل كلامه (عليه السّلام): ما هكذا قلت بل قلت كذا، صريح في أنّ التكذيب ليس للمنع، بل لذكره خلاف الواقع؛ مع أنّه يمكن أن يكون التكذيب لأجل أنّه

نسب الرخصة في المطلق.

و لا يتوهّم دلالة كونه مع الباطل على الحرمة؛ لعدم معلوميّة أنّ المراد بالباطل ما يختصّ بالحرام، و لذا يصحّ أن يقال: التكلّم بما لا يعني يكون من الباطل.

______________________________

(1) المتقدّمتين في ص 188 و 189.

(2) المتقدّمة في ص 189.

(3) المتقدّمة في ص 190.

(4) انظر رواية يونس المتقدّمة في ص 188.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 196

مضافاً إلى أنّ في تصريح السائل ب:" كونه مع الباطل" بحيث يدلّ على شدّة ظهور كونه معه عنده إشعاراً ظاهراً بأنّ المراد منه ما كان مع التكلّم بالأباطيل.

فإن قيل: هذه الأخبار و إن لم تثبت التحريم إلّا أنّ الروايتين المذكورتين في تفسير الآية الثانية المتضمّنتين لقوله: «إنّ الغناء ممّا أوعد اللَّه عليه النار» «1» تدلّان على حرمته، بل كونه من الكبائر.

قلنا: لا دلالة لهما إلّا على حرمة بعض أفراد الغناء، و هو الذي يُشترى به ليضلّ به عن سبيل اللَّه و يتّخذها هُزُواً، أ لا ترى أنّه لو قال أحد: أمَرَ الأمير بضرب البصري، قال: اضرب زيداً البصري. أو في قوله: اضرب زيداً البصري، يفهم أنّه مراده من البصري دون المطلق.

و لو أبيت الفهم فلا شكّ أنّه ممّا يصلح قرينة لإرادة هذا الفرد من المطلق، و معه لا تجري فيه أصالة إرادة الحقيقة، التي هي الإطلاق.

فلم يبق دليل على حرمة مطلق الغناء، سوى قوله سبحانه وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «2» بضميمة تفسيره في الأخبار المتقدّمة بالغناء.

إلّا أنّه يخدشه أنّه يعارض تلك الأخبار المفسّرة ما رواه الصدوق في معاني الأخبار عن الصادق (عليه السّلام): قال: سألته عن قول الزور، قال: «منه قول الرجل للّذي يغنّي: أحسنت» «3».

فإنّ الأخبار المتقدّمة باعتبار الحمل تدلّ على أنّ معناه الغناء، و

ذلك يدلّ على أنّه غيره، أو ما هو أعمّ منه، بل فيه إشعار بأنّ المراد من

______________________________

(1) راجع ص 187.

(2) الحج: 30.

(3) معاني الأخبار: 349، 2، الوسائل 17: 309 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 21.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 197

الزور هو معناه اللغوي و العرفي، أي الباطل و الكذب و التهمة، كما في النهاية الأثيريّة «1». و عدم صدق شي ء من ذلك على مثل القرآن و الأدعية و المواعظ و المراثي واضحٌ و إن ضمّ معه نوع ترجيع.

بل يعارضها ما رواه في الصافي عن المجمع، قال: و عن النبي (صلّى اللَّه عليه و آله) أنّه عدلت شهادة الزور بالشرك باللَّه، ثم قرأ هذه الآية «2»، فإنّه يدلّ على أنّ المراد بقول الزور شهادة الزور.

و بملاحظة هذين المعارضين المعتبرين المعتضدين بظاهر اللفظ، و باشتهار تفسيره بين المفسّرين بشهادة الزور، أو مطلق القول الباطل توهن دلالة تلك الآية أيضاً جدّاً على حرمة المطلق.

مضافاً إلى معارضتها مع ما يدلّ على أنّ الغناء على قسمين: حرام و حلال، كالمرويّ في قرب الإسناد للحميري بإسناد لا يبعد إلحاقه بالصحاح كما في الكفاية عن عليّ بن جعفر، عن أخيه (عليه السّلام): قال: سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر و الأضحى و الفرح؟ قال: «لا بأس، ما لم يعص به» «3».

و المرويّ في تفسير الإمام عن النبي (صلّى اللَّه عليه و آله) في حديث طويل، فيه ذكر شجرة طوبى و شجرة الزقّوم، و المتعلّقين بأغصان كلّ واحدة منهما-: «و من تغنّى بغناء حرام يبعث فيه على المعاصي فقد تعلّق بغصن منه» أي من الزقّوم.

______________________________

(1) النهاية الأثيرية 2: 318.

(2) مجمع البيان 4: 82.

(3) قرب الاسناد: 294، 1158، الوسائل 17:

122 أبواب ما يكتسب به ب 15 ح 5.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 198

فإنّ الأول صريح في أنّ من الغناء ما لا يعصى به.

و الثاني ظاهر في أنّ الغناء على قسمين: حلال و حرام.

و صحيحة أبي بصير: «أجر المغنّية التي تزف العرائس ليس به بأس، ليست بالتي يدخل عليها الرجال» «1».

فإنّها ظاهرة في أنّه لا حرمة في غناء المغنيّة التي لا يدخل عليها الرجال، المؤيّدة بروايته الأُخرى المتقدّمة «2»، المقسّمة للمغنّيات على قسمين: ما يدخل عليهنّ الرجال، و ما تزفّ العرائس. و الحكم بحرمة الاولى، و نفي البأس عن الثانية.

و يتعدّى الحكم إلى المغنّي بالإجماع المركّب، و بأنّ الظاهر اشتهار هذا التقسيم عند أهل الصدر الأول، كما يظهر من كلام الطبرسي «3».

و على هذا، فنقول: إنّ المراد بالغناء المحرّم أو الذي يعصى به إمّا هو ما يُتكلّم بالباطل و يقترن بالملاهي و نحوهما، و حينئذٍ فعدم حرمة المطلق واضح.

أو يكون غيره، و يكون المراد غناءٌ نهى عنه الشارع، و لعدم كونه معلوماً يحصل فيه الإجمال، و تكون الآية مخصَّصة بالمجمل، و المخصَّص بالمجمل ليس بحجّة.

و يؤكّد اختصاص الغناء المحرّم بنوع خاصّ ما يتضمّنه كثير من الأخبار المذكورة من نحو قوله: «الغناء مجلس» أو: «بيت الغناء» أو

______________________________

(1) الكافي 5: 120، 3، الفقيه 3: 98، 376، التهذيب 6: 357، 1022، الإستبصار 3: 62، 205، الوسائل 17: 121 أبواب ما يكتسب به ب 15 ح 3، بتفاوتٍ يسير.

(2) في ص 191.

(3) راجع ص 183 و 184، و هو في مجمع البيان 1: 16.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 199

«صاحب الغناء» أو: «لا تدخلوا بيوتاً» بعد السؤال عن مطلق الغناء «1».

و من جميع ذلك يظهر الحال

في رواية نصر بن قابوس و مرسلة الفقيه، الآتيتين في آخر المسألة «2»، المتضمّنتين للعن المغنّية و كسبها مطلقاً، و كون أجر المغنّي و المغنّية سحتاً كذلك.

و قد ظهر من جميع ذلك أنّ القدر الثابت من الأدلّة هو حرمة الغناء بالمعنى المتيقّن كونه غناءً لغويّاً، و هو ترجيع الصوت المفهم مع الإطراب في الجملة، و لا دليل على حرمته كلّية، فاللّازم فيه هو الاقتصار على القدر المعلوم حرمته بالإجماع.

و منه يظهر عدم حرمة ما استثنوه، و هو أُمور:

منها: غناء المغنّية في زفّ العرائس، استثناه في النهاية و النافع و المختلف و التحرير و القاضي «3» و جمع آخر «4».

و لكنّه ليس لما ذكر من عدم الدليل؛ لوجوده في غناء المغنّيات كما مرّ.

بل للأخبار المقيّدة لهذه المطلقات المتقدّمة، كصحيحة أبي بصير و روايته، و روايته الأُخرى : «المغنيّة التي تزفّ العرائس لا بأس بكسبها» «5».

خلافاً للمفيد و الحلبي و الحلّي و الديلمي و التذكرة و الإرشاد، فلم يستثنوه «6».

______________________________

(1) راجع ص: 187 190.

(2) انظر ص 204.

(3) النهاية: 367، النافع: 116، المختلف: 342، التحرير 1: 160، القاضي في المهذّب 1: 346.

(4) كالسبزواري في الكفاية: 86، و صاحب الحدائق 18: 116.

(5) الكافي 5: 120، 2، التهذيب 6: 357، 1023، الإستبصار 3: 62، 206، الوسائل 17: 121 أبواب ما يكتسب به ب 15 ح 2.

(6) المفيد في المقنعة: 588، الحلبي في الكافي: 435، الحلي في السرائر 2: 120، الديلمي في المراسم: 170، التذكرة 2: 581 إرشاد الأذهان 1: 357.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 200

إمّا لمعارضة هذه الأخبار مع الروايات المحرّمة للغناء و كسبه، أو لشراء المغنيّات و بيعهن؛ حيث إنّه لو كانت له جهة إباحة لم يحرم البيع

و الشراء.

أو لضعف سندها.

أو دلالتها؛ إذ غايتها نفي البأس عن الأُجرة، و هو غير ملازم لنفي الحرمة.

و يمكن الجواب: بأنّ المعارض بقسميه مطلق، فيحمل على المقيّد.

و ضعف السند غير ضائر، مع أنّ فيها الصحيح.

و الملازمة ثابتة؛ لعدم القول بالفرق، مع أنّ المنفيّ عنه البأس في روايتي أبي بصير هو نفس الكسب، و حمله على المكتسب يجوز.

هذا، ثم إنّه يشترط في الحلّيّة عدم دخول الرجال عليهن، و إلّا يحرم و إن كانوا محارم، كما احتمله المحقّق الثاني «1»؛ للإطلاق.

و قد يقال باشتراط عدم التكلّم بالأباطيل، و عدم استماع الرجال الأجانب، و عدم العمل بالملاهي.

و فيه: أنّ هذه الأُمور و إن كانت محرّمة و لكن تحريمها من حيث هي هي غير ما نحن فيه من تحريم الغناء، فيؤاخذ بهذه الأُمور دون الغناء.

و هل يتعدّى إلى غير المغنّي و إلى غير الزفاف؟

الظاهر: نعم؛ لعموم العلّة المنصوصة بقوله: «ليست بالتي يدخل عليها الرجال».

و لا يضرّ في العلّية عدم الجواز في بعض صور عدم الدخول أيضاً؛

______________________________

(1) جامع المقاصد 4: 24.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 201

لأنّ غايته تخصيص عموم العلّة، و هو لا يخرجه عن الحجّية في غير موضع التخصيص.

و منها: الحداء و هو سَوق الإبل بالغناء و اشتهر فيه الاستثناء، و توقّف فيه جماعة «2»، بل صرّح جمع بعدم الحلّية «3»؛ لعدم العثور على دليل عليها، سوى نبوي عامّي «4» لا يصلح للحجّية، و هو كذلك، إلّا أنّ الأصل و عدم ثبوت الحرمة كلّيةً يكفي للحلّية.

و منها: الغناء في مراثي الحسين (عليه السّلام) و غيره من الحجج و أصحابهم؛ للأصل المذكور المعتمد، و لأنّه معين على البكاء، فهو إعانة على البرّ.

فإن قيل: كون الغناء معيناً على البكاء ممنوع،

و إن سلّم إعانة الصوت عليه و لكنّه غير الغناء.

و لو سلّم فكونه معيناً على البكاء على شخص معيّن غير مسلّم، فإنّه إنّما يكون باعتبار تذكّر أحواله، و لا دخل للغناء فيه.

و لو سلّم فعموم رجحان الإعانة على البرّ و لو بالحرام غير ثابت.

و لو سلّم فتعارض أدلّته أدلّة حرمة الغناء، و الترجيح للثانية؛ لأظهريّة العموم أو الأكثريّة، أو لأجل ترجيح الحرمة على الجواز مع التعارض.

قلنا: أمّا منع كون الغناء معيناً فيخالف الوجد ان؛ لأنّ من البيّن أنّ لنفس الترجيع أيضاً أثراً في القلب، كما يدلّ عليه ما في كلماتهم من توصيف الترجيع بالطرب؛ مع تفسيرهم للإطراب بما يشمل الأحزان أيضاً، فإنّ حزن القلب من معدّات البكاء؛ مع أنّه لو قيل: إنّ الغناء هو الصوت

______________________________

(2) منهم صاحب الحدائق 18: 116.

(3) منهم صاحب الرياض 1: 502.

(4) صحيح مسلم 3: 1427، 123، صحيح البخاري 5: 166.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 202

المشتمل على الترجيع دون نفس الترجيع، فيكون هو أيضاً من أفراد الصوت.

و أمّا منع كونه معيناً على البكاء على شخص و إنّما هو يحصل بتذكّر أحواله، فهو أيضاً ممّا يخالف الوجدان، فإنّا نشاهد من أنفسنا تأثير الألفاظ و الأصوات و الألحان، فنرى أنّه يعبَّر عن واقعة واحدة بألفاظ مختلفة، يحصل من بعضها البكاء الشديد، و لا يؤثّر بعضها أصلًا؛ و نرى أنّه يذكر بعضهم واقعة و لا يؤثّر في قلب، و يذكر غيره بل هذا الشخص بلحن آخر هذه الواقعة بعينها و تحصل منه غاية الرقّة و البكاء، بل ربّما يبقى التأثير بعد تمام تعزيته، بحيث تسيل الدموع بتذكّر ما ذكره في مدّة طويلة.

و التحقيق: أنّ الصوت و اللفظ و اللحن من الأُمور المرقّقة للقلب

المعدّة للتأثير، و بترقيقها و إعدادها يحصل البكاء بتذكّر الأحوال.

و أمّا منع رجحان هذه الإعانة لكونها بالحرام، ففيه: أنّ المستدِلّ لا يجوّز إعانة البرّ بالحرام، بل يمنع الحرمة حين كون الغناء معيناً على البكاء؛ استناداً إلى تعارض عمومات الحرمة مع عمومات الإعانة.

و أمّا ترجيح عمومات الحرمة، فبعد ما ذكرنا من حال أدلّتها، فيظهر لك فساده، كيف؟! مع أنّ عموم رجحان الإعانة بالبرّ مطلقاً أمر ثابت كتاباً و سنّة، و رجحانها مجمع عليه.

و مع ذلك، فالأحاديث الواردة في أنّ من أبكى أحداً على الحسين (عليه السّلام) كان له كذا و كذا بلغت حدّ الاستفاضة، بل التواتر، و كثيرة منها مذكورة في ثواب الأعمال «1».

و أمّا ترجيح جانب الحرمة على الجواز بعد التعارض فهو عندنا غير

______________________________

(1) ثواب الأعمال: 83، الوسائل 14: 500 أبواب المزار و ما يناسبه ب 66.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 203

ثابت إلّا على وجه الأولويّة، و هو أمر آخر.

و منها: في قراءة القرآن؛ و يدلّ على جواز الغناء (بعد التعارض) «1» فيها ما مرّ من الأصل، المعتضد بالمعتبرة الآمرة بقراءة القرآن بالحزن و بالصوت الحسن، منها مرسلة ابن أبي عمير، و فيها: «إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرءوه بالحزن» «2».

و المستفيضة الدالّة على حُسن الصوت الحَسن مطلقاً، كالروايات الأربع لابن سنان «3»، و السبع: لأبي بصير «4» و حفص «5» و عبد اللَّه التميمي «6» و دارم بن قبيصة «7» و سماعة و النميري و صحيحة ابن عمّار «8»، و غيرها «9».

بل لو قلنا بتماميّة روايات حرمة الغناء دلالةً تُعارَضُ مع هذه الروايات بالعموم من وجه، فيرجع إلى الأصل أيضاً.

و مَنعُ التعارض؛ لأنّ الغناء هو الترجيع، و هو وصف عارض للصوت الحسن، يوجد

بإيجادٍ آخر مغاير للصوت.

يردّه منع كون الغناء هو الترجيع، بل هو الصوت المشتمل على

______________________________

(1) ما بين القوسين ليس في «ق».

(2) الكافي 2: 614، 2، الوسائل 6: 208 أبواب قراءة القرآن ب 22 ح 1.

(3) الاولى : الكافي 2: 615، 9، الوسائل 6: 211 أبواب قراءة القرآن ب 24 ح 3.

الثانية: الكافي 2: 615، 6، الوسائل 6: 208 أبواب قراءة القرآن ب 22 ح 2.

الثالثة: الكافي 2: 615، 7.

الرابعة: الكافي 2: 614، 3، الوسائل 6: 210 أبواب قراءة القرآن ب 24 ح 1.

(4) الكافي 2: 616، 13، الوسائل 6: 211 أبواب قراءة القرآن ب 24 ح 5.

(5) الكافي 2: 606، 10، الوسائل 6: 208 أبواب قراءة القرآن ب 22 ح 3.

(6) الوسائل 6: 212 أبواب قراءة القرآن ب 24 ح 6.

(7) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 2: 69، 322، الوسائل 6: 212 أبواب قراءة القرآن ب 24 ح 7.

(8) مستطرفات السرائر: 97، 17، الوسائل 6: 209 أبواب قراءة القرآن ب 23 ح 2.

(9) انظر الوسائل 17: 303 أبواب ما يكتسب به ب 99.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 204

الترجيع؛ مع أنّ الوارد في بعض الأخبار المذكورة الأمر بالقراءة بالحزن أو بصوت حزين، و في بعضها تحسين الصوت، و لا شكّ أنّ الترجيع أحد أفراد القراءة بالحزن، و التحسين أيضاً.

و تدلّ على الجواز أيضاً رواية أبي بصير الصحيحة عن السرّاد- المجمع على تصحيح ما يصحّ عنه و فيها: «و رجّع بالقرآن صوتك؛ فإنّ اللَّه يحبّ الصوت الحسن يرجَّع به ترجيعاً» «1».

و العامّي المرويّ في المجمع: «فإذا قرأتموه» أي القرآن «فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا و تغنّوا به، فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا» «2».

و رُدّا بمعارضتهما مع

رواية ابن سنان: «اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسق و الكبائر، فإنّه سيجي ء بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانيّة، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، و قلوب من يعجبه شأنهم» «3».

مضافاً إلى ما في الاولى من منع كون مطلق الترجيع غناء، و لا يفيد انضمام الحزن المأمور به معه أيضاً في حصول الغناء؛ لأنّ المأمور به هو حزن القارئ، و المعتبر في الغناء هو حزن السامع.

و ما في الثانية من احتمال كون المراد طلب الغناء و دفع الفقر.

و فيه: أنّ الرواية ليست معارضة لما ذكر، بل معاضدة له؛ للأمر بالقراءة بألحان العرب، و اللحن هو التطريب و الترجيع.

______________________________

(1) الكافي 2: 616، 13، الوسائل 6: 211 أبواب قراءة القرآن ب 24 ح 5.

(2) مجمع البيان 1: 16، مستدرك الوسائل 4: 273 أبواب القراءة في غير الصلاة ب 20 ح 7، إلّا أنّه نقله عن جامع الأخبار.

(3) الكافي 2: 614، 3، مجمع البيان 1: 16، الوسائل 6: 210 أبواب قراءة القرآن ب 24 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 205

قال في النهاية الأثيريّة: اللحون و الألحان: جمع اللحن، و هو التطريب و ترجيع الصوت و تحسين القراءة و الشعر و الغناء «1».

و قال في الصحاح: و منه الحديث: «اقرءوا القرآن بلحون العرب»، و قد لحن في القراءة: إذا طرّب و غرّد؛ و هو ألحن الناس إذا كان أحسنهم قراءةً و غناءً «2».

و قال أيضاً: الغرد بالتحريك: التطريب في الصوت و الغناء «3».

و أمّا ما في الرواية من النهي عن لحون أهل الفسق و الكبائر و ذمّ أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانيّة فلا

يدلّ إلّا على ذمّ نوع خاصّ من الترجيع؛ و لعدم معلوميّته يجب العمل في كلّ ما لم يعلم بالأصل.

و ليس فيها تخصيص بالمجمل، بل دلّت على أنّ المجوّز هو ترجيع العرب، و المنهيّ عنه هو ترجيع أهل الفسوق و الكبائر، و لا يعلم تعيين أحدهما، و ليس ذلك تخصيصاً بالمجمل، فتأمّل.

و أمّا منع كون مطلق الترجيع غناءً، ففيه: أنّ بعد ضمّ تحسين الصوت المرغّب فيه و تحزينه لا يمكن الخلوّ عن نوع من الإطراب، فيكون غناءً، و تحزين القارئ سيّما مع تحسين الصوت و الترجيع يستلزم تحزين السامع غالباً.

و أمّا تأويل قوله: «تغنّوا» بطلب الغناء فهو ممّا يستبعد عن سياق الكلام غاية الاستبعاد.

______________________________

(1) النهاية الأثيرية 4: 242.

(2) الصحاح 6: 2193.

(3) الصحاح 2: 516.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 206

و منها: الغناء في الأدعية، و ذكر الفضائل، و الثناء، و المناجاة، و أمثالها؛ و يدلّ على جواز الغناء فيها ما ذكر من الأصل السالم عن المعارض بالمرّة، مضافاً إلى مرسلة الفقيه المتقدّمة «1»، المتضمّنة لتجويز شراء المغنّية لأن يتذكّر بصوتها الجنّة، فإنّ إطلاقها يشمل الغناء أيضاً؛ مع أنّ الظاهر أنّ السؤال كان عن غنائها، إذ كان عدم حرمة غيره ظاهراً.

هذا، ثم إنّه كلّما يحرم الغناء يحرم استماعه أيضاً؛ بالإجماع و الروايات المتقدّمة كما مرّ.

و كذا يحرم التكسّب بالمحرّم منه و الأُجرة عليه، بلا خلاف أجده، و ظاهر المفيد أنّه إجماع المسلمين «2»، و في المنتهى : تعلّم الغناء و الأجر عليه حرام عندنا بلا خلاف «3».

و تدلّ عليه روايات أبي بصير و الطاطري و ابن أبي البلاد، المتقدّمة جميعاً «4».

و رواية نصر بن قابوس: «المغنيّة ملعونة، ملعون من أكل كسبها» «5».

و مرسلة الفقيه: «أجر المغنّي و

المغنّية سحت» «6».

و قد يستدلّ عليه أيضاً بالأصل؛ إذ الأصل عدم صحّة المعاملة، و هو ضعيفٌ غايته؛ لأنّ غايته عدم اللزوم دون الحرمة إن رضي به المالك، و اللَّه الموفّق.

______________________________

(1) في ص 189.

(2) المقنعة: 588.

(3) المنتهى 2: 1012.

(4) في ص 189 و 191.

(5) الكافي 5: 120، 6، التهذيب 6: 357، 1020، الإستبصار 3: 61، 203، الوسائل 17: 121 أبواب ما يكتسب به ب 15 ح 4.

(6) الفقيه 3: 105، 436، الوسائل 17: 307 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 17.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 207

البحث الرابع في بعض ما يتعلّق بالبحث عن عدالة الشاهد
اشاره

و قد ثبت فيما تقدّم اشتراط عدالة الشاهد في الحكم بشهادته، و اشتراط معرفتها.

و أنّه لا يكتفى في ثبوتها بظاهر الإسلام، و لا بجميع مراتب حسن الظاهر.

و أنّه إذا عرف الحاكم عدالتهما يحكم بشهادتهما، و إن عرف فسقهما يسقط شهادتهما، إلّا أن يثبت الخصم الفسق في الأول و العدالة في الثاني.

و أنّه إذا جهل حالهما يبحث عنها.

فالمقصود هنا بيان حال البحث و كيفيّته، و فيه مسائل:

المسألة الأُولى : بحث الحاكم و فحصه عن حال الشاهد المجهول حاله واجبٌ عليه؛

للإجماع المركّب، فإنّ كلّ من يقول بعدم كفاية ظاهر الإسلام في الشاهد يقول بوجوب الفحص؛ و لأنّه لولا الفحص فإمّا يترك الحكم، أو يحكم للمشهود له بدون ثبوت عدالة الشاهد أو عليه بدون الفحص، و الكلّ باطل.

و يدلّ عليه عمل النبيّ المرويّ في تفسير الإمام أيضاً «1»؛ حيث إنّه كان يبحث عن حال الشهود، و مع عدم الظهور يصلح أو يحلف.

المسألة الثانية: تثبت عدالة الشاهدين الغير المعروفين للحاكم

______________________________

(1) تفسير العسكري ( (عليه السّلام)): 673، 376، الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 6 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 208

بالشياع المفيد للعلم، و بشهادة العدلين إجماعاً.

و يدلّ على الأخير أيضاً ما أشرنا إليه و أثبتناه في موضعه من أصالة حجّية شهادة العدلين، و الرواية الطويلة المروية في تفسير الإمام، المتضمّنة لمحاكمة رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله)، و أنّه إذا كان لا يعرف الشهود بخير و لا شرّ أرسل رجلين من خيار أصحابه إلى قبائل الشهود لتفتيش أحوالهم من قومهم، فإذا أتيا بخير أنفذ شهادتهم، و إذا أتيا بخبر سيّ ء لم ينفذ.

و لا ينافيه ما في الرواية من أنّ بعد رجوع الرجلين و إخبارهما كان يحضر قوم الشهود و يسأل عنهم.

لأنّ السؤال إنّما هو عن معرفة أشخاص الشهود، هل أنّهم هذه الأشخاص أم لا؟ المعرفة عدالة الشهود، و إلّا لم يحتج إلى إنفاذ رجلين و لا من الخيار، و لذا اكتفى في صورة رجوعهما بخبر سيّئ بقوله (صلّى اللَّه عليه و آله): «أ هما هما»؟

و مرسلة يونس المصرّحة بأنّ استخراج الحقوق بأربعة وجوه، و عدّ منها شهادة رجلين عدلين «1». فإنّ الاستخراج أعمّ ممّا كان بواسطة أو بلا واسطة.

و عمومات: «البيّنة على المدّعى» «2» إذا

ادّعى المشهود له عدالة الشاهدين.

و هل تثبت بشهادة العدل الواحد، أم لا؟

الأكثر على الثاني، بل عن الإيضاح الإجماع عليه «3»، و هو الحقّ؛

______________________________

(1) الكافي 7: 416، 3، التهذيب 6: 231، 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 7 ح 4.

(2) الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 3.

(3) الإيضاح 4: 431.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 209

للأصل.

و صرّح بعض مشايخنا المعاصرين بوجود القول بثبوتها بشهادة الواحد أيضاً، و ربّما يشعر بالثبوت بها كلام المحقّق الأردبيلي «1». و لا أرى عليه دليلًا، إلّا بعض ما يذكرونه دليلًا على حجّية مطلق خبر العدل، و قد ذكرناه في العوائد مع ضعفه «2».

و قد يستدلّ له أيضاً بأنّ حصول العلم بالعدالة إمّا متعذّر أو متعسّر- و لو بالمعاشرة و الشياع فلا مناص فيه عن العمل بالظنّ، و شهادة العدل الواحد مفيدة له أيضاً.

و فيه: أنّ الثابت منه لو سلّم كفاية الظنّ في الجملة لا مطلق الظنّ، فيجب الاقتصار فيه على القدر المجمع عليه، فإنّ الضرورة تقدّر بقدرها.

و منه يظهر عدم كفاية الشياع المفيد للظنّ، و لا المعاشرة المفيدة له، بل لا بدّ من إفادتهما العلم.

و بعد ما ذكرنا في بيان العدالة و تحقيقها و وصولك إلى حقيقته، لا يختلج ببالك أنّ حصول العلم بوجود العدالة لشخص بالمعاشرة أو الشياع متعذّر، فلا بدّ من الاكتفاء بالظنّ؛ إذ قد عرفت أنّ المناط في الحكم بعدالة شخص شرعاً هو كونه حسن الظاهر، و متّصفاً بأوصاف يسهل تحصيل العلم بها بالمعاشرة أو الشياع، بل قد يحصل العلم بها بإخبار العدل الواحد المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم، فتثبت به حينئذٍ أيضاً.

و الحاصل: أنّ العدالة و إن كانت

ملكة نفسانيّة أو صفات و حالات منبعثة عن الملكة النفسانيّة، و العلم بها في غاية الصعوبة إلّا أنّه قد عرفت

______________________________

(1) مجمع الفائدة 12: 325.

(2) عوائد الأيام: 277.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 210

أنّ الشارع قد جعل حسن الظاهر على الوجه المتقدّم ذكره معرِّفاً لها، قائماً مقام العلم، فالمناط: العلم بحسن الظاهر المذكور، و هو ليس متعذّراً، بل سهل غالباً، فالمراد المعاشرة المخبرة عن ذلك الحسن، أو الشياع المخبر عنه.

نعم، لو لم تثبت دلالة حسن الظاهر عليها و معرّفيّته لها، فمعرفتها بالمعاشرة و الشياع علماً كان صعباً، و للإجماع على المعرفة بهما يتمّ أن يقال: تكفي المعرفة الظنيّة، و لكن يشكل معرّفية المناط حينئذٍ؛ لسعة دائرة المعاشرة و الشياع، و كثرة مراتب الظنّ، و عدم تعيين المجمع عليه منها.

المسألة الثالثة: لو صرّح المشهود عليه بعدالة الشاهدين تقبل شهادتهما عليه و يحكم بها،

وفاقاً للتحرير و الدروس و القواعد «1» مع الاستشكال في الأخير- و للمحكيّ عن الإسكافي و التنقيح و الإرشاد و الإيضاح «2»، و قوّاه بعض مشايخنا المعاصرين «3».

لا لما ذكره في الإيضاح من أنّه أقرّ بوجود شرط الحكم، و كل من أقرّ على نفسه بشي ء نفذ عليه.

لمنع كون الإقرار بوجود الشرط إقراراً على نفسه؛ لأنّه لا يلزم من وجوده الوجود؛ و لأنّ كونه إقراراً على نفسه موقوف على كونه مقبولًا عند الحاكم، و قبوله موقوف على كونه إقراراً على نفسه، و هو دور.

بل للمرويّ في تفسير الإمام المشار إليه متكرّراً، و فيه: «فإذا كان

______________________________

(1) التحرير 2: 184، الدروس 2: 79، القواعد 2: 206.

(2) حكاه عن الإسكافي في الرياض 2: 390، التنقيح 4: 243، الإرشاد 2: 165، الإيضاح 4: 315.

(3) انظر الرياض 2: 390.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 211

الشهود من أخلاط الناس لا يُعرَفون، و

لا قبيلة لهما و لا سوق و لا دار، أقبل على المدّعى عليه و قال: ما تقول فيهما؟ فإن قال: ما عرفت إلّا خيراً غير أنّهما قد غلطا فيما شهدا عليّ، أنفذ عليه شهادتهما، و إن جرح عليهما و طعن في شهادتهما أصلح بين الخصم و خصمه، أو حلّف المدّعى عليه، و قطع الخصومة بينهما (صلّى اللَّه عليه و آله)» «1».

و كون قوله: «ما عرفت إلّا خيراً» أعمّ من التعديل لشموله لصورة عدم معاشرة معهما إلّا في أيّام قلائل جدّاً، و مثله لا يفيد إجماعاً غير ضائر؛ لأنّ خروج بعض صور المطلق بدليل لا يضرّ في الباقي، و يختصّ القبول حينئذٍ بحقّ ذلك الشخص المعدِّل، فلا يثبت تعديله في حقّ غيره.

و هل يختصّ في حقّ ذلك الشخص بهذه الواقعة المخصوصة، أو يتعدّى إلى غيرها أيضاً؟

الظاهر: الثاني «2»؛ اقتصاراً فيما يخالف الأصل على مورد النصّ.

و لا يشترط في بيان المدّعى عليه لفظ الرواية أي «ما عرفت إلّا خيراً» بل يكفي: ما عرفته إلّا عدلًا، أو هو عادل بعد كونه عارفاً بمعنى العدالة أو ذكر ما يفيد معنى العدالة؛ للإجماع المركّب.

و كذا لو ضمّ معه ذنباً لا ينافي العدالة، كأن يقول: ما عرفت إلّا خيراً إلّا أنّه قد لا يردّ السلام، أو: لم يردّ سلامي، أو: رأيته يسمع الغيبة نادراً؛ لما ذكر من الإجماع المركّب.

______________________________

(1) تفسير العسكري ( (عليه السّلام)): 673، 376، الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 6 ح 1، بتفاوت يسير.

(2) كذا، و لعلّ الصحيح: الأول. أو أنّ في الكلام سقطاً من قبيل: و الأحوط الأول اقتصاراً ..

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 212

و لو قال: ما عرفته إلّا صدوقاً،

أو: هو صادق، أو: ثقة، أو: خير، إلّا أنّه قد غلط هنا أو نحوه ممّا لا يفيد العدالة و لا يطابق الرواية لا يفيد؛ لعدم ثبوت الإجماع المركّب فيه.

و لا يقبل اعتراف وكيل المدّعى عليه أو وليّه بالعدالة؛ للأصل، و ظهور المدّعى عليه في الرواية في الخصم نفسه. و لا يوجب عدم سماع الدعوى منهما أيضاً؛ لما ذكر.

نعم، يكون كلّ منهما شاهداً واحداً على التعديل إن كان مقبول الشهادة.

ثم إنّ قبول تعديل المدّعى عليه إنّما هو إذا لم يعرفهما الحاكم بالفسق كما هو مورد الرواية و إلّا فيردّ شهادتهما البتّة؛ للأصل.

و لو جرحهما المدّعى عليه بما هو فسق عنده لا عند الحاكم؛ لاختلاف مذهبهما فيه فلا يضرّ أيضاً؛ لما ذكر، و لخروجه عن مورد الرواية.

و لو جرح المدّعى شاهدي نفسه إمّا للجهل بأنّه جرح، أو بأنّ الجرح يردّ الشهادة، أو لبيان الواقع، كأن يقول: لي شاهدان ان فلان و فلان و إن كانا فاسقين، أو غير مقبولي الشهادة فعلى تماميّة الاستدلال بكونه إقراراً على نفسه تردّ شهادتهما، و على عدم تماميّته كما هو الوجه فلا؛ لخروجه عن مورد الرواية، و عدم ثبوت الجرح بقوله فقط، فلو عرف الحاكم عدالتهما له الحكمُ بها.

المسألة الرابعة: يعتبر في كلّ من المعدِّل و الجارح مع ما يعتبر في الشاهدين من العدالة و التعدّد و عدم التهمة-

أن يعرف شرائط الجرح و التعديل و أسبابهما، و وجهه ظاهر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 213

و قالوا: يعتبر في المزكّي المعاشرة الباطنيّة المتقادمة «1»، المخبرة عن باطن حاله، بحيث يعلم وجود العدالة «2».

قيل: و الظاهر كفاية الظنّ.

و قد عرفت جليّة الحال في ذلك، و أنّ المناط: علم المزكّي بحسن الظاهر الذي جعله الشارع مناطاً، و هو يحصل بالمعاشرة و الاستفاضة من غير صعوبة، و لا دليل على الاكتفاء بالظنّ، و لا

على اشتراط المعاشرة المخبرة عن الباطن، و لا العلم الواقعي بوجود صفة العدالة.

نعم، لو أردنا معرفة نفس العدالة من غير توسيط حسن الظاهر ينبغي اعتبار المعاشرة المخبرة عن الباطن، و الاكتفاء فيها بمرتبة من الظنّ لصعوبة العلم بالباطن.

و على أيّ حال، فلا تعتبر المعاشرة في الجارح، إذ الجارح يكفيه الاطّلاع على موجب للفسق بالرؤية أو السماع على وجه يوجب العلم بالفسق.

المسألة الخامسة: المشهور بين الأصحاب كما صرّح به جماعة «3» كفاية الإطلاق في شهادة التعديل،

دون الجرح، فيشترط في سماعه التفصيل.

استناداً إلى أنّ التعديل بذكر السبب يتوقّف على ذكر جميع أسبابه، و هي كثيرة يعسر ضبطها و عدّها، فلو توقّف على التفصيل لانسدّ باب

______________________________

(1) في «ق»: المتقاربة ..

(2) انظر القواعد 2: 205، و التحرير 2: 184، و الدروس 2: 80.

(3) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 363، و السبزواري في الكفاية: 264، و صاحب الرياض 2: 392.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 214

التعديل إلّا نادراً، و هو خلاف المعلوم من سيرة الأصحاب؛ لكثرة وقوع التعديل منهم و عندهم، بل أصل التفصيل فيه خلاف المعلوم من سيرتهم.

بخلاف الجرح، فإنّه يثبت بسبب واحد.

و الحاصل: أنّ مقتضى الأصل التوقّف على التفصيل فيهما؛ لما في أسبابهما من الاختلاف، خرج عنه في التعديل بالدليل، و بقي في الجرح. و هذا مراد من استدلّ في الأول بالتعسّر، و في الثاني بأنّ الخطأ في مبنى الجرح لوقوع الاختلاف في أسبابه محتمل.

و ممّا ذكرنا ظهر ضعف ما يردّ به الثاني من اشتراك سبب الاختلاف؛ لوجوب التفصيل.

و أمّا جعل احتمال الخطأ سنداً ثانياً للتفصيل كبعضهم «1» فظاهر الوهن جدّاً؛ لظهور الاشتراك.

ثم إنّه يرد عليهم: أنّه إن أُريد أنّ نفس التعسّر يوجب رفع اليد عن التفصيل.

ففساده ظاهر؛ إذ بتعسّر وجود الشرط لا يجوز الحكم بوجود المشروط بدونه.

و إن

أُريد أنّ سيرة الأصحاب و إجماعهم دلّا على كفاية الإطلاق على النحو الذي أشرنا إليه.

ففيه: أنّه إن أُريد أنّ الثابت من تعسّر التفصيل في التعديل و ندرته جريان سيرتهم على قبول الإطلاق فيه مطلقاً يعني حتى من الجاهل بالأسباب، أو من لم يعلم حاله، و حتى من غير من يعلم موافقته مع

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 392.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 215

المعدّل له فممنوع.

و إن أُريد في الجملة فغير مفيد.

و أيضاً إن أُريد جريانها على الاكتفاء بمطلق التعديل من غير تفصيل أصلًا- فممنوع.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 18    215     المسألة الخامسة: المشهور بين الأصحاب كما صرح به جماعة كفاية الإطلاق في شهادة التعديل، ..... ص : 213

إن أُريد جريانها على عدم التوقّف على ذكر جميع تفاصيل الأسباب، فغير مفيد لهم، فلعلّهم يكتفون بالميسور من التفصيل، كقول المعدِّل: فلان مجتنب عن الكبائر غير مصرّ على الصغائر، أو أزيد من ذلك ممّا يخبر عن حسن الظاهر، و إن لم يفصّلوا في تعداد الكبائر و الصغائر و معنى الإصرار و نحو ذلك.

و عن الفاضل القول بعكس المشهور «1»، فيوجب التفصيل في التعديل دون الجرح؛ و لعلّه لكون العلم بالفسق سهلًا لكلّ أحد؛ لحصوله بفعل واحد، فالخطأ فيه نادر لا يلتفت إليه، بخلاف التعديل.

و فيه: أنّ العلم بالفسق و إن كان أسهل من التعديل و لكنّه أيضاً محلّ اختلاف كثير؛ للاختلاف في عدد الكبائر و في معنى الإصرار، و لإمكان الخطأ في سبب ارتكاب ما يزعمه فسقاً؛ لجواز وجود عذر فيه.

و عن بعضهم: كفاية الإطلاق فيهما «2»؛ لأجل أنّ العادل لا يخبر عن وجود أمر منوط بأسباب مختلف فيها إلّا مع العلم بوجود المتّفق عليه،

أو ما هو مناط عند المخبر له.

و فيه: أنّه يصحّ بالنسبة إلى العالم بالاختلاف في جميع الأسباب، و البعيد عن الخطأ و الاشتباه في درك المناط.

______________________________

(1) انظر المختلف: 706.

(2) حكاه عن الخلاف في الشرائع 4: 77.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 216

و عن آخر التفصيل بكفاية الإطلاق عن العالم بالأسباب دون غيره «1»؛ و وجهه ظاهر.

و فيه: أنّ مجرّد العلم بالأسباب دون العلم بالاختلاف فيها غير كاف؛ لجواز بنائه على ما علمه أسباباً من غير اطّلاع على الخلاف فيه.

و ذهب جماعة منهم: والدي العلّامة طاب ثراه في المعتمد، و بعض مشايخنا المعاصرين «2» إلى كفاية الإطلاق إن علم المزكّي و الجارح بالأسباب و موافقة مذهبه للحاكم في أسبابهما تقليداً له أو اجتهاداً و عدم الكفاية في غيره؛ لأنّ مثله لا يشهد على الإطلاق إلّا مع ثبوت الموجب عند الحاكم، و إلّا لم يكن عادلًا.

و فيه: أنّ العدالة إن كانت مانعة عن الشهادة على الإطلاق إلّا مع ثبوت الموجب لكانت كذلك مع العلم بالأسباب و الخلاف فيها أيضاً، و إن لم يكن مذهبه موافقاً لمذهب الحاكم، و إلّا لم يفد مع الموافقة أيضاً.

و بالجملة: لا يظهر لاشتراط الموافقة وجه.

نعم، لو قيل: يشترط في كفاية الإطلاق علمه بالأسباب و الاختلاف، أو موافقته للحاكم في العدالة و الجرح، لكان صحيحاً.

و منه يظهر ضعف قول آخر محكيّ عن الإسكافي من اعتبار التفصيل فيهما «3»؛ للاختلاف المذكور، فإنّ الكلام فيمن يعرف طريقتهما، فإن لم يقبل قوله بعدالته كيف يقبل قوله في التفصيل؟! فالأقوى كفاية الإطلاق من العالم بالأسباب و بالاختلاف فيها، أو من

______________________________

(1) حكاه عن العلّامة في كشف اللثام 2: 332.

(2) انظر الرياض 2: 392.

(3) حكاه عنه في المختلف:

706.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 217

الموافق للحاكم و لو بالتقليد، و عدم كفايته من غيرهما.

ثم في الأخير أيضاً يختلف القدر المحتاج إليه من التفصيل بالنسبة إلى الأشخاص، فمنهم من يعلم أنّه يعرف الواجبات و المحرمات، و إن لم يعلم أنّه يعرف الكبائر من الصغائر، و الإصرار من عدمه، فلو قال: عاشرت معه مدّة طويلة و اطّلعت على بواطنه، و رأيته مواظباً على جميع الواجبات تاركاً للمحرّمات، لكفى.

و مثل ذلك لو قال: رأيته مجتنباً عن الكبائر غير مصرّ على الصغائر، لم يكف.

و من علم معرفته الكبائر و الإصرار، و الاختلاف فيها، أو علم موافقته للحاكم فيها، يكفي ذلك عنه، و هكذا في غير ذلك.

هذا، و اعلم أنّه لا فرق فيما ذكر بين القول بكفاية الشهادة العلميّة أو اشتراط كونها مستندة إلى الحسّ، إلّا أنّه على الأخير يزاد الاستناد إلى الحسّ، فعلى كفاية الإطلاق يقول: عاشرت معه مدّة كذا فرأيته عدلًا، أو حسن الظاهر. و على كفاية العلميّة يقول: هو عدل، أو حسن الظاهر.

ثم إنّه حيث يكتفى في التعديل بالإطلاق إمّا مطلقاً كما هو المشهور، أو على أحد التفاصيل المتقدّمة فهو يحصل بكلّ ما يفيد التعديل، كقوله: هو عدل، أو: مقبول الشهادة، أو نحوهما، و لا يحتاج إلى ضمّ غيره، وفاقاً لوالدي العلّامة (رحمه اللَّه) و المحقّق الأردبيلي؛ للأصل.

و ظاهر بعضهم كالشيخ في المبسوط «1» اعتبار لفظ" عدل".

و يحتمل أن يكون المراد ما يفيد معناه، فيتّحد مع الأول.

______________________________

(1) المبسوط 8: 110.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 218

و في التحرير: اعتبار ضمّ أحد الأمرين من قوله: لي و عليّ، أو: مقبول الشهادة، إلى قوله: هو عدل «1».

و حكاه في المسالك عن أكثر المتأخّرين؛ و احتجّ

له بأنّ العدل قد لا تقبل شهادته لغفلته «2».

و فيه: أنّ المقام مقام التعديل دون قبول الشهادة، فقد يكون شريكاً للمدّعي أو عدوّاً له، و على هذا فقد يكون ضمّ" لي و عليّ" مخلّاً؛ إذ قد يكون عدلًا و لا تقبل شهادته للمزكّي لشركة أو عداوة.

و من ذلك تظهر سائر الأقوال في المقام أيضاً من غير اعتبار ضمّ" لي و عليّ" خاصّة أو «مقبول الشهادة» كذلك.

ثم إنّه لو بيّن سبب الجرح بما يكون قذفاً في غير محلّ التزكية لا يكون قاذفاً هنا، كما صرّح به في التحرير و القواعد و الدروس «3»؛ لمحلّ الحاجة و إذن الشريعة.

المسألة السادسة: إذا تعارض الجرح و التعديل،

فإن لم يتكاذبا- كأن شهد المزكّي بالعدالة مطلقاً أو مفصّلًا، لكن من غير ضبط وقت معيّن، و شهد الجارح بأنّة فعل ما يوجب الجرح في وقت معيّن قدّم الجرح؛ لحصول الشهادتين من غير تعارض بينهما أصلًا.

و منه ما إذا كانا مطلقين.

و إن تكاذبا بأن شهد المعدِّل: بأنّه كان في ذلك الوقت الذي شهد الجارح بفعل المعصية فيه في غير المكان الذي عيّنه للمعصية فالوجه التوقّف،

______________________________

(1) التحرير 2: 184.

(2) المسالك 2: 363.

(3) التحرير 2: 184، القواعد 2: 206، الدروس 2: 80.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 219

كما ذهب إليه الشيخ في الخلاف «1»، و مرجعه إلى التساقط. و رجوع الدعوى إلى الخلوّ عن البيّنة فدليله ظاهر.

و قد يصار إلى الترجيح بالأكثريّة و الأعدليّة و الأضبطيّة. و لا أرى عليه دليلًا.

و القول بالقرعة كان ممكناً لو كان بها قائل؛ لكونها لكلّ أمر مشكل، و لبعض أخبار تعارض الشهود المتضمّن للقرعة، إلّا أنّه متضمّن لليمين المنتفية هنا إجماعاً.

و قد يرجّح التعديل فيما إذا شهد المعدِّل بالتوبة عن الجرح الذي شهد

به الجارح.

و في المسألة أقوال أُخر موهونة، ذكرناها في مناهج الأحكام.

المسألة السابعة: لا تجوز شهادة المزكّي و الجارح بهما على سبيل الإطلاق بشهادة العدلين عندهما

و إن كانت حجّة؛ لأنّها ظاهرة في العلم الواقعي، و هو لا يحصل بقول العدلين.

و على اشتراط كون الشهادة حسّية يكون الوجه أظهر.

و عليه يظهر عدم جواز الإطلاق باستصحاب العدالة، بل يشترط بيان حقيقة الحال.

المسألة الثامنة: قالوا: ينبغي أن يكون السؤال عن التزكية سرّاً؛

لأنّه أقرب إلى صدق المعدِّل و الجارح، و أبعد من التهمة.

قال في التحرير: لجواز أن يتوسّل الشاهد إلى الاستمالة و التعرّف إلى المزكّي بحسن الحال «2».

______________________________

(1) الخلاف 2: 592.

(2) التحرير 2: 184.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 220

مضافاً إلى إمكان حياء المزكّي عن بيان ما عنده من الجرح.

أقول: هذا إنّما يفيد إذا كان المراد من السرّ خفاء الشاهدين، و قال والدي العلّامة (رحمه اللَّه): لا بمحضر من الناس. و مقتضاه الخفاء عن الناس؛ و يدلّ عليه أنّه ربّما كان عند المزكّي الجرح، و لا دليل على جواز إظهاره عند غير الحاكم؛ لأنّه من الغيبة المحرّمة.

و أمّا الاستخفاء عن المتداعيين فلم أقف على مصرّح به، و لا دليل على رجحانه، بل قد يرجّح خلافه؛ لأنّه أبعد من اتّهام الحاكم.

و قد يحمل على ذلك ما قال في التحرير من قوله: و إذا عدّله المزّكون فللقاضي التوقف إذا انفرد بتسامع الفسق، لانه محل الريبة «1» بحمل التعديل على بيان الحال و لو كان فسقاً، و حمل التوقف على التوقف حين «2» يسمعه المتداعيان.

و هو خلاف الظاهر جدّاً، بل الظاهر أن مراده: أنّه إذا شهد المزكّون بعدالته، و علم الحاكم بالفسق، فله ان يتوقف عن الحكم احترازا عن الريبة.

و فيه: انّ التوقّف حينئذٍ أيضاً محلّ الريبة، فلا يفيد، بل له الحكم بمقتضى علمه كما في سائر معلوماته إذا لم تكن مفسدة في الريبة.

المسألة التاسعة: قيل: ينبغي للقاضي أن يعرّف المزكّي الخصمين

لتجويز معرفته بعداوة بينهما أو شركة «3».

و فيه: أنّ الكلام في الجرح و التعديل دون غيرهما.

______________________________

(1) التحرير 2: 184.

(2) في «ح»: حتى ..

(3) انظر التحرير 2: 184.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 221

و منه يعلم عدم الحاجة الى تعريفه نسب الشاهدين أيضاً، كما ذكره

في الدروس «1» و غيره «2».

المسألة العاشرة: إذا ثبتت عدالة الشاهد عند الحاكم يحكم بالاستمرار عليها إلى أن يظهر المنافي؛

للاستصحاب الذي هو كالشاهدين حجة شرعية.

و منه يظهر أنه لو علم العدالة السابقة و لم يظهر لها مزيل يستصحبها من غير حاجة إلى المزكي، و كذا الجرح، إلّا إذا ادعى الخصم خلافه، و حينئذٍ فإن أثبته فهو، و إلّا فيعمل بمقتضى الاستصحاب، و لو ادّعى حينئذٍ على خصمه العلم بالخلاف فله إحلافه كما مرّ.

و قيل: إنّما يعمل بالاستصحاب إذا لم تمض مدّة يمكن تغيّر حاله فيها، و إلّا جدّد البحث، و لا تقدير لتلك المدّة، بل بحسب ما يراه الحاكم «3». و ليس بجيّد.

المسألة الحادية عشرة:

قال في التحرير و القواعد: لو أقام المدّعى عليه بيّنة أنّ هذين الشاهدين شهدا بهذا الحقّ عند حاكم فردّ شهادتهما بفسقهما، بطلت شهادتهما «4».

أقول: إنّ ردّ الشهادة إمّا يكون مع الحكم للمشهود عليه أو بدونه، بل تردّ الشهادة و يكتفى به، و لا يحكم في الواقعة.

و على الأخير: إمّا يكون الردّ للفسق بعد دعوى المشهود عليه فسقهما

______________________________

(1) الدروس 2: 79.

(2) انظر كشف اللثام 2: 332.

(3) حكاه عن بعضٍ في المبسوط 8: 112.

(4) التحرير 2: 184، القواعد 2: 206.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 222

و حكم الحاكم به لعلمه أو شهادة العدلين أو الاستفاضة العلميّة، أو بدون سبق دعوى.

فعلى الأول: فلا شكّ في بطلان الشهادة، بل عدم جواز سماع الشهادة للترافع؛ إذ لا يجوز سماع دعوى حَكَمَ فيها حاكم آخر.

و على الثاني: فكذلك أيضاً؛ لأنّ دعوى المشهود عليه فسق الشاهدين لهذه الواقعة دعوى شرعيّة رفعها إلى الحاكم و إن كانت لأجل أمر آخر و حكم الحاكم بثبوت دعواه؛ لأنّ ردّ الشهادة هو الحكم بالثبوت، فيجب إمضاؤه.

و على الثالث: فلا وجه لبطلان الشهادة.

و جعل إنكار المدّعى عليه دعوى لفسق الشهود ممنوع؛ إذ

قد يصرّح بعدالتهما و لا يقبله الحاكم؛ لعلمه بالفسق، أو عدم قبوله تعديل المدّعى عليه، و قد يصرّح بعدم العلم بحالهما.

و لا يحضرني حينئذٍ وجه آخر لبطلان الشهادة؛ لأنّ الثابت عند مجتهد إن كان من قبيل الفتاوى ليس حجّة على غيره و غير مقلّديه، و إن كان من غيرها فليس حجّة على أحد إلّا ما كان حكماً بعد التنازع و الترافع، فيكون حجّة في تلك الواقعة خاصّة.

و على هذا، فلو حكم بالفسق في الصورتين الأُوليين أيضاً يكون مخصوصاً بهذا الحقّ من هذا المدّعى على ذلك المدّعى عليه خاصّة، و لا يتعدّى إلى غير ذلك المورد.

و كذا التعديل عند حاكم آخر.

المسألة الثانية عشرة: لو رضي الخصم بأن يحكم عليه بشهادة فاسق أو فاسقين لم يصحّ؛

و الوجه ظاهر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 223

و كذا إن رضي بالحكم بالتعديل بخطّ المزكّي؛ لأنّه ليس بمقبول و لو شهد عدلان بأنّه خطّه أو عرفه الحاكم.

السادس من شروط الشاهد: أن لا يكون متّهماً
اشاره

«1».

بلا خلاف يوجد كما قيل «2» بل بالإجماع كما في المسالك و المفاتيح و شرحه «3» و غيرها «4»؛ للنصوص المستفيضة المعتضدة بالاعتبار، كالصحاح الأربع.

أحدها لابن سنان: ما يردّ من الشهود؟ قال: فقال: «الظنين و المتّهم» قال: قلت: فالفاسق و الخائن؟ قال: «ذلك يدخل في الظنين» «5».

و ثانيهما لسليمان بن خالد «6»، و هي كالأُولى ، إلّا أنّ فيها: «و الخصم» مكان: «و المتّهم».

و ثالثها و رابعها لأبي بصير «7» و عبيد اللَّه الحلبي «8»، و هما أيضاً كالأُولى ، إلّا أن زاد فيهما: «و الخصم» بعد: «المتّهم».

و موثّقة سماعة: عمّا يردّ من الشهود، فقال: «المريب، و الخصم،

______________________________

(1) و قد تقدّمت خمسةٌ منها، و هي: البلوغ، كمال العقل، الإسلام، الإيمان، العدالة.

(2) انظر الرياض 2: 432.

(3) المسالك 2: 405، المفاتيح 3: 278.

(4) انظر الكفاية: 281.

(5) الكافي 7: 395، 1، التهذيب 6: 242، 601، الوسائل 27: 373 أبواب الشهادات ب 30 ح 1.

(6) الكافي 7: 395، 2، التهذيب 6: 242، 602، الوسائل 27: 373 أبواب الشهادات ب 30 ح 2.

(7) الكافي 7: 395، 3، التهذيب 6: 242، 598، الوسائل 27: 373 أبواب الشهادات ب 30 ح 3.

(8) الفقيه 3: 25، 66، الوسائل 27: 374 أبواب الشهادات ب 30 ح 5.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 224

و الشريك، و دافع مغرم، و الأجير، و العبد، و التابع و المتّهم، كلّ هؤلاء تردّ شهادتهم» «1»، و قريبة منها مرسلة الفقيه «2».

و رواية يحيى بن خالد الصيرفي: في رجل مات و له

أُمّ ولد قد جعل لها سيّدها شيئاً في حياته، ثم مات، فكتب (عليه السّلام): «لها ما أثابها به سيّدها في حياته معروف ذلك لها، تقبل على ذلك شهادة الرجل و المرأة و الخدم غير المتّهمين» «3».

و رواية سلمة، و فيها: «إنّ المسلمين عدول بعضهم على بعض، إلّا مجلوداً في حدّ لم يتب منه، أو معروفاً بشهادة زور، أو ظنيناً» «4».

و المرويّ في معاني الأخبار: «لا تجوز شهادة خائن و لا خائنة، و لا ذي غمز على أخيه، و لا ظنين في ولاء، و لا قرابة، و لا القانع مع أهل البيت» «5».

و الرضويّ: «و اعلم أنّه لا تجوز شهادة شارب الخمر، و لا اللّاعب بالشطرنج و النرد، و لا مقامر، و لا تابع لمتبوع، و لا أجير لصاحبه، و لا مرأة لزوجها» «6».

و موثّقة محمّد: «ردّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) شهادة السائل الذي يسأل في

______________________________

(1) التهذيب 6: 242، 599، الإستبصار 3: 14، 38، الوسائل 27: 378 أبواب الشهادات ب 32 ح 3.

(2) الفقيه 3: 25، 67، الوسائل 27: 379 أبواب الشهادات ب 32 ح 7.

(3) الفقيه 3: 32، 99، الوسائل 27: 364 أبواب الشهادات ب 24 ح 47.

(4) الكافي 7: 412، 1، التهذيب 6: 225، 541، الوسائل 27: 211 أبواب آداب القاضي ب 1 ح 1.

(5) معاني الأخبار: 208، 3، الوسائل 27: 379 أبواب الشهادات ب 32 ح 8.

(6) فقه الرضا «ع»: 260، مستدرك الوسائل 17: 435 أبواب الشهادات ب 27 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 225

كفّه»؛ قال أبو جعفر (عليه السّلام): «لأنّه لا يؤمن على الشهادة، و ذلك لأنّه إن اعطي رضي، و إن مُنعَ سخط» «1».

دلّت بعموم

العلّة على عدم قبول شهادة المتّهم مطلقاً.

ثم معنى الظنين: هو المتّهم، من الظنّة، بمعنى التهمة. قال في الصحاح: الظنين: الرجل المتّهم «2». فيكون عطف المتّهم عليه في بعض ما مرّ من الروايات عطفاً تفسيريّاً.

و لا ينافيه تصريح الإمام بدخول الفاسق و الخائن في الظنين؛ لدخولهما في المتّهم أيضاً.

و قد يقال: إنّ المراد بالظنين المتّهم في دينه، ذكره في الوافي «3».

و على هذا، فإن أُريد بالمتّهم الإطلاق يكون من باب عطف العامّ على الخاصّ.

و إن كان المراد منه المتّهم في هذه الشهادة بخصوصها يكون عطفاً متعارفيّاً.

و يمكن أن يكون المراد بالظنين: المتّهم مطلقاً، و بالمتّهم: المتّهم في هذه الشهادة، فيكون من باب عطف الخاصّ على العام.

و كيف كان، فلا ريب في دلالة هذه الأخبار على ردّ شهادة المتّهم في هذه الشهادة، كما هو المقصود عن المسألة.

و المراد في المسألة بالمتّهم: من تكون معه حالة موهمة لكذبه أي

______________________________

(1) الكافي 7: 396، 13، التهذيب 6: 243، 608، الوسائل 27: 382 أبواب الشهادات ب 35 ح 2.

(2) الصحاح 6: 2160.

(3) الوافي 16: 995.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 226

توجب ظنّ ميله في الشهادة و كذبه فيها سواء كانت هذه الحالة موجبة لظنّ الكذب مطلقاً ككونه معروفاً بالكذب، أو بشهادة الزور، أو بالارتشاء للشهادة، أو بالرضا بالعطاء و السخط بالمنع، كما ذكره في السائل بالكفّ أو لظنّ كذبه لشخص خاصّ، أو على شخص خاصّ؛ لصداقة أو عداوة، أو في واقعة خاصّة؛ لرجوع النفع أو الضرر فيها عليه.

و ليس المراد كون الحالة صالحة لإيجاب ظنّ الميل و لو لم توجبه بالفعل لمعارضة حالة اخرى ، كصديق له المرتبة العليا من التديّن و العدالة، فإنّ الصداقة و إن كانت معرضاً لذلك الظنّ

و لكنّ عدالته و ديانته مانعة عن هذا التوهّم و الظنّ؛ إذ مع ذلك ليس متّهماً لغةً و لا عرفاً. بل المراد كونها موجبة لذلك الظنّ بالفعل.

ثم لا يتوهّم أنّ كون الشخص كذلك ينافي كونه عادلًا؛ لأنّ شهادة الزور و الميل في الشهادة من المعاصي الكبيرة، فلا يجتمع ظنّها في حقّ شخص مع معرفة عدالته، التي هي العلم باجتناب الكبائر، أو الظنّ به لا أقلّ.

إذ لو كان ذلك منافياً له لزم ردّ شهادة عادل جَرَحه فاسق، أو عادل واحد لو حصل الظنّ بقوله، أو عدلان بالمظنّة أي أخبرا بظنّ جرح فيه إذا أوجب ذلك ظنّ الجرح، أو مضت مدّة و حصلت أُمور لم يعلم انتفاء العدالة أم لا؛ مع أنّ كلّ ذلك مخالف للإجماع المقطوع به.

و الحلّ: أنّ ذلك الظنّ و إن كان منافياً لمعرفة العدالة الواقعيّة و لكنّه غير منافٍ لمعرفة العدالة الشرعيّة، التي هي مناط قبول الشهادة؛ لأنّ الشارع أقام استصحاب العدالة مقام العلم بها واقعاً، و أمر بعدم نقض العلم بها بالشكّ و لا بالظنّ، فمثل ذلك الشخص عادل شرعاً.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 227

فإن قيل: لو عرف أولًا أنّه بحيث لو كان في مقام جرّ نفع أو دفع ضرّ أو عداوة أو صداقة أو نحو ذلك لا يميل في الشهادة فكيف اتّهَمَه بذلك حينئذٍ و ظنّ الميل؟! و إن لم يعرفه كذلك، أو عرفه أنّه لو كان كذلك يظنّ به الميل فلم يعرفه بالعدالة أولًا، فكيف يستصحب؟! كما إذا لم يعرفه أولًا بأنّه إذا خلى مع أجنبيّة حسناء لا يزني بها، أو عرفه أنّه لو حصلت له تلك الخلوة يظنّ به الزنا.

قلنا: نقول: إنّه عرفه أنّه لو كان في

مقام النفع أو دفع الضرّ أو نحوهما لا يشهد لو كان مخالفاً للواقع، و اتّفق أنّه شهد و ظنّ به مخالفة الواقع، كما أنّ من عرفناه بالعدالة نعرفه أنّه لا يزني و لا يرتكبه البتّة، فاتّفق إنا رأيناه في خلوة مع أجنبيّة ذات جمال و بهاء، معروفة بعدم العفّة، محلول الإزار، فنحن نظنّ به الزنا، و لا ينافي ذلك علمنا بعدالته أولًا. فكذا هنا، قد نعرفه أولًا أنّه لا يشهد بخلاف الواقع، فاتّفق أنّه شهد و ظننّا به خلاف الواقع، و ذلك لا ينافي معرفة العدالة أولًا، كما لا ينافيها في المثال المذكور.

و لا يقال: إنّه إن عرفته أنّه لو خلا مع المرأة الكذائيّة و حلّا إزارهما يظنّ أنّه يزني فلم تَعرِف عدالته، و إن لم يُظَنّ فكيف ظننته بعد المشاهدة؟! و ظهر من ذلك معارضة تلك الأخبار الواردة لشهادة المتّهم مع أخبار قبول شهادة العادل بالعموم و الخصوص من وجه، و حيث لا مرجّح لأحدهما على الآخر فيجب الرجوع إلى حكم الأُصول، و هو هنا مع عدم القبول مطلقاً.

لا يقال: بعد تعارض الفريقين تبقى عمومات قبول شهادة المسلم،

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 228

و من ولد على الفطرة، و الرجل الواحد مع اليمين، و نحوها، بلا معارض، فيكون الأصل مع القبول.

قلنا: تعارض أخبار ردّ شهادة المتّهم مع هذه الأخبار أيضاً، و تعارضهما مع التعارض الأول في مرتبة واحدة، فيرجع إلى الأصل الأولي، كما بيّناه مفصّلًا في العوائد.

إلّا أنّه يمكن منع عدم المرجّح، بل الترجيح لعمومات قبول شهادة العدل؛ لموافقة الكتاب، نحو قوله سبحانه وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ «1».

بل شهادة مطلق المسلم؛ لقوله سبحانه وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ «2».

و قوله عزّ شأنه فَاسْتَشْهِدُوا

عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ «3»، و غير ذلك.

و هي من أعظم المرجّحات المنصوصة.

بل بالأحدثيّة، التي هي أيضاً من المرجّحات المنصوصة المعتنى بها عند القدماء أيضاً، فإنّ من أخبار القبول ما روي عن العسكري (عليه السّلام) «4».

و بالأكثريّة عدداً، التي مرجعها إلى الأشهريّة روايةً، و هي أيضاً من المرجّحات المنصوصة، فإنّ روايات قبول خبر العدل و الخير و الصالح و المرضيّ و المسلم و نحوها ممّا تجاوز حدّ الحصر، و ليست روايات ردّ شهادة المتّهم بالنسبة إليها إلّا أقلّ من نصف عشر، بل أقلّ.

______________________________

(1) الطلاق: 2.

(2) البقرة: 282.

(3) النساء: 15.

(4) انظر تفسير العسكري ( (عليه السّلام)): 656، 374.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 229

و بالأصرحيّة دلالةً، فإنّ صراحة روايات القبول واضحة غاية الوضوح، و ليست روايات الردّ بتلك المثابة، فإنّ منها ما اقتصر فيه على الظنين، و فسّره الصدوق في معاني الأخبار بالمتّهم في دينه «1»، و كذا صاحب الوافي «2»، و هذا المعنى غير مراد في هذه المسألة، و خصّه في رواية معاني الأخبار بالظنين في الولاء و القرابة «3»، و فسّره الصدوق بالمتّهم بالدعاء إلى غير أبيه و المتولّي لغير مواليه «4»، و هو أيضاً غير المطلوب هنا.

و منها ما صرّح فيه بالمتّهم، و فيه إجمال من وجوه:

الأول: من جهة المعنى ، فإنّ المراد منه يمكن أن يكون من أُوهِم في حقّه بشي ء قبيح و إن لم يظنّ، كما هو مقتضى مبدأ الاشتقاق.

و أن يكون من نسب إليه بشي ء قبيح و هو محلّ استعماله في الأكثر عرفاً و إن لم يقطع، بل و لم يظنّ في حقّه.

و أن يكون ما ذكرنا سابقاً من أنّه من كانت له حالة يظنّ لأجلها

قبيح.

و الثاني: من جهة ما اتُّهِمَ به و فيه، فإنّه يمكن أن يكون الدين و الفسق و المعاصي الخاصّة و الكذب و الشهادة و خصوص هذه الشهادة.

و قيل: المراد هنا من اتُّهم لجرّ نفع لنفسه أو دفع ضرر منه.

و الثالث: من جهة من اتُّهم عنده، فإنّ شخصاً قد يكون متّهماً عند شخص دون غيره، و يصدق عليه المتّهم، و ليس المراد هنا إلّا المتّهم عند الحاكم بشهادة الزور، أي المظنون كونه مائلًا عن الحقّ في الشهادة.

______________________________

(1) معاني الأخبار: 209.

(2) راجع ص 223.

(3) الوافي 16: 995.

(4) معاني الأخبار: 209.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 230

و الحمل على ذلك المعنى لا دليل عليه، بل قد يوجب إخراج الأكثر.

و كذا الحمل على جميع معانيه بجميع احتمالاته يوجب خروج الأكثر.

و مع ذلك جُعِلَ في الموثّقة «1» معطوفاً على المريب الذي هو ظاهر فيما يريدونه هنا و ظاهر العطف التغاير.

هذا، مضافاً إلى ما يوهن دلالتها و يوجب إجمالها من جهة عمل الأصحاب أيضاً؛ حيث إنّهم ذكروا أشياء كثيرة في موجبات التهمة، و لم يردّوا بها الشهادة، كشهادة الرجل لزوجته و المرأة لزوجها، و الوالد لولده و الولد لوالده، و شهادة الأخ و الصديق و الأجير و الضيف و الوارث، و شهادة رجلين شهدا هما أيضاً لهما، مع تصريحهم بأنّ هذه الأُمور موارد للتهمة.

و اختلفوا في أشياء كثيرة أيضاً كشهادة الوصيّ و الوكيل و رفقاء القافلة و غرماء المديون و نحوهما حتى قال المحقّق الأردبيلي: و الظاهر أنّه ليس كلّ متّهم مردوداً، بل أفراد من المتّهم، و ليس لهم في ردّ شهادة المتّهم ضابطة.

و عدّ مواضع كثيرة تقبل فيها الشهادة، فقال: و لا شكّ أنّ التهمة هنا أيضاً موجودة، فقال:

و بالجملة: العدالة مانعة من ردّ الشهادة و سبب لقبولها، و مجرّد التهمة و أيّة تهمة كانت ليست سبباً للردّ؛ فإنّ العدالة تمنع الخيانة و إن كان له فيها نفع «2». انتهى .

و قال بعض مشايخنا المعاصرين في بيان وجه الاستشكال في غير محلّ الإجماع: ينشأ من الاتّفاق على كلّ من ردّها بها يعني ردّ الشهادة

______________________________

(1) أي موثقة سماعة المتقدّمة في ص 221 و 222.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 12: 382، 383.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 231

بالتهمة و قبولها معها مع عدم وضوح الفرق بين المقامين مع اشتراكهما في أصل التهمة، و لم يذكروا لها ضابطة يرجع إليها في تمييز المانع منها عن قبول الشهادة و المجامع منها معه «1». انتهى .

و قال شيخنا الشهيد الثاني في الروضة: و لا يقدح مطلق التهمة «2».

و نحوه قال الشهيد في الدروس بزيادة دعوى الإجماع عليه، قال: و ليس كلّ تهمة تُدفَع بها الشهادة بالإجماع «3». انتهى .

و يظهر من جميع ذلك أنّه لا يثبت إجماع بل و لا شهرة على جعلهم التهمة من حيث هي هي مانعة من قبول الشهادة، و أنّ بناءهم في الردّ و القبول على أمر آخر وراءها.

و يؤكّد ذلك ما نرى من أنّ في كثير من المواقع التي يقولون بالردّ للتهمة في جميع أفرادها لا تتحقّق التهمة في الجميع، فإنّ من مواقعها جارّ النفع و الشريك.

فإنّا لو رأينا عادلًا متديّناً دخلنا معه في حسابها أنّه يقرّ بالمئات و الأُلوف لمحاسبها مع ذهول المحاسب عنها و شاهدناه مراراً كثيرة أنّه يشهد على نفسه بالألف، فشهد لشريك له بدينار أو مَنّ من الحنطة فيما له أيضاً فيه الشركة، لا يتّهم عندنا بجرّ النفع أصلًا، مع أنّهم

لا يقبلون شهادته، و يذكرونه في أفراد الجارّ للنفع و الشريك المردود شهادتهما؛ للتهمة.

و كذا الوصيّ العادل الذي شاهدناه مراراً عديدة أنّه ردّ الوصيّة إذا اطّلع

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 433.

(2) الروضة 3: 132.

(3) الدروس 2: 127.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 232

عليها في حياة الموصي و لم يتعرّض لها مهما جاز له، و ابتلي في موضع بوصية استئجار صلاة و صيام لميّت مع إذنه في التوكيل، فقال الورثة: أنّه عشرون سنة مثلًا، و أعطوا ما بإزائها، فوكّل الوصيّ غيره في استئجارها و أعطى اجرة له من مالها، ثم شهد الوصيّ بأنّ الموصى به اثنا و عشرون سنة مثلًا، كيف يكون محلّاً للتهمة؟! و كذا فيما لو شهد شريك ببيع شريكه الآخر الشِّقص «1»، فيقال بردّه مطلقاً؛ لأنّه لأجل استحقاقه الشفعة محلُّ للتهمة، مع أنّه يمكن أن نعلم أنّه كان يباع هذا الشقص لهذا الشريك أمس بأقلّ من ذلك الثمن و لم يرغب فيه، و نعلم أنّه ليس له ثمنه بحيث لا يحتمل في حقّه إرادة الأخذ بالشفعة.

و عدّوا من مواضع التهمة: التبرّع بالأداء، و الحرص على الشهادة.

مع أنّا شاهدنا غير مرّة أنّ الأول كان لشغل له يستعجل فيه، أو جهل بالتوقّف على السؤال، أو تعجّب في إنكار الخصم.

و كذا الثاني كان لمحض التديّن، و إرادة دفع الظلم، و نحو ذلك.

و يظهر من ذلك أيضاً أنّ التهمة ليست أمراً مضبوطاً من حيث المورد، فإنّها تختلف باختلاف مراتب عدالة الشاهد و شرفه، و ملاحظة أحواله، و قدر النفع، و بالأُمور الخارجيّة، و باطّلاع الحاكم عن حال الشاهد و عدمه، فربّ مورد يُوهِم الناس و لا يتوهّمه الحاكم لمعرفته ببواطن الشاهد و أحواله، و يستبعد جعل الشارع

مثل ذلك مناطاً للحكم.

و أيضاً من أسباب التهمة: إخبار عادل أو فاسقين بكذب الشاهد في الواقعة، أو بأخذه الجُعل للشهادة، فإنّه يتّهم حينئذٍ غالباً و لا تردّ شهادته لذلك.

______________________________

(1) الشِّقْص: النصيب، و في العين المشتركة من كلّ شي ء، و الجمع أشقاص مجمع البحرين 4: 173.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 233

و يظهر من جميع ذلك أنّ مبنى عمل الأصحاب في ردّ الشهادة بالتهمة و عدمها غير معلوم و لا مضبوط، و الظاهر أنّهم يردّونها غالباً في مواضع يكون فيها دليل آخر أيضاً، بل شذّ ما لم يوجد فيه دليل آخر و ردّوا بها الشهادة، و هذا يوهن أخبار الردّ بها و دلالتها.

و يظهر من الجميع مرجوحيّة أخبار الردّ عن أخبار قبول خبر العدل بمراتب كثيرة، بل لنا أن نقول: إنّه يمكن أن يكون المراد بالمتّهم في تلك الأخبار: مجهول الحال، حيث إنّ الغالب أنّ مع ثبوت العدالة لا تحصل التهمة.

و يمكن أن يكون المراد و لعلّه الظاهر أن المتّهم أولًا بفعل المعاصي أو بمعصية مخصوصة أو بالكذب أو بشهادة الزور غير مقبول الشهادة؛ لأنّه ليس بعادل معروف؛ لأنّه لا يعرف مع ذلك الوصف أولًا بالعدالة، فيكون المراد بيان عدم عدالة المتّهم أولًا، لا أن يكون يُعرف أولًا بالعدالة ثم يتّهم حتى تستصحب عدالته.

و الحاصل: أنّ المراد بيان أنّ من كان متّهماً ابتداءً ليس مقبول الشهادة أي ليس عادلًا كما أنّ المظنون فسقه أو المشكوك أولًا ليس بعادل و إن حكم بعدالته لو حصل الشكّ بعدُ بالمعرفة.

فإن قيل: في صحيحة العجلي: «إنّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) بينما هو بخيبر إذ فقدت الأنصار رجلًا منهم، فوجدوه قتيلًا، فقالت الأنصار: إنّ فلان اليهودي قتل

صاحبنا، فقال رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) للطالبين: أقيموا رجلين عدلين من غيركم أقده برمّته» الحديث «1».

______________________________

(1) الكافي 7: 361، 4، التهذيب 10: 166، 661، علل الشرائع: 541، 1، الوسائل 29: 152 أبواب دعوى القتل و ما يثبت به ب 9 ح 3.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 234

و في صحيحة زرارة: «إنّ رجلًا من الأنصار وُجِدَ قتيلًا في قَلِيب «1» من قُلُب اليهود، فأتوا رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله)، فقالوا: يا رسول اللَّه، إنّا وجدنا رجلًا منّا قتيلًا في قَلِيب من قُلُب اليهود، فقال: ائتوني بشاهدين من غيركم» الحديث «2».

فإنّ المراد بالشاهدين في الثانية أيضاً العدلان، فدلّتا على عدم قبول العدلين منهم. و ظاهر أنّ جميعهم لم يكونوا أولياء الدم، و مع ذلك طلب العدلين من الغير، و ما هو إلّا لأجل التهمة، فلم تقبل شهادة العدلين في مواضع التهمة. و الصحيحان لاختصاصهما بالعدلين يكونان أخصّين مطلقاً من جميع عمومات القبول و إطلاقاتها، فيجب تخصيصها بهما كما هي القاعدة.

قلنا أولًا: إنّهما لم يدلّا على عدم قبول العدلين منهم، و طلب العدلين من غيرهم لا يستلزم ردّ عدليهم.

و ثانياً: أنّه لو كان الردّ هنا للتهمة لكانت لأجل الصداقة أو العداوة الدينيّة أو القرابة أو اتّحاد القبيلة، و ليس شي ء منها تُرَدّ به الشهادة إجماعاً و نصّاً، كما يأتي.

و ثالثاً: أنّه يمكن أن يكون ذلك لأجل كون كلّهم أولياء الدم أو كلّهم مدّعين، كما يصرّح به قوله: «فقال رسول اللَّه للطالبين» غاية الأمر يكون ادّعاء بعضهم ولايةً، و بعض آخر وكالةً أو تبرّعاً.

______________________________

(1) القَلِيب: بئر تحفر فينقلب ترابها قبل أن تُطوى ؛ أو: البئر العاديّة القديمة مطويّة كانت أو غير مطويّة مجمع

البحرين 2: 149.

(2) الكافي 7: 361، 5، التهذيب 10: 166، 662، الوسائل 29: 155 أبواب دعوى القتل و ما يثبت به ب 10 ح 3.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 235

و تلخّص ممّا ذكرنا: أنّه لا دليل تامّاً على اشتراط ذلك الشرط، و الإجماعات المنقولة غير ثابتة، و إرادته في الجملة منها ممكنة، بل كما عرفت متعيّنة، و لو سلّم الإطلاق فهو غير حجّة، فالصواب رفع اليد عنه، و الرجوع في الموارد التي ذكروها إلى دليل آخر، فإن وُجِدَ سبب موجب للردّ غير التهمة من إجماع أو دليل غيره فيجعل عنوان الشرط هو ذلك المورد بخصوصه، و تردّ به، و ما ليس له سبب آخر و المورد هو سبب التهمة خاصّة قبلت الشهادة، و نُفي الاشتراط.

و صرّح بذلك المحقّق الأردبيلي، قال في مسألة اختفاء الشاهد للتحمّل: ليس مطلق التهمة رادّاً، و إنّما يردّ بالتهمة إذا ثبت كونها رادّة بالنصّ أو الإجماع «1».

إلّا أنّ المتأخّرين لمّا ذكروا جميع تلك الموارد في مطاوي ذلك العنوان فنحن أيضاً نذكرها فيه، و نتكلّم فيها في مسائل:

المسألة الاولى : لا تُقبَل شهادة يُجَرّ بها نفع إلى الشاهد

بالإجماع «2»؛ للأصل الخالي عن المعارض بالمرّة؛ لاختصاص إطلاقات قبول الشاهد و عموماته- بحكم الإجماع القطعي و التبادر و الظهور، بل النصّيّة في كثير من الأخبار بالشاهد للغير، حتى في صحيحة ابن أبي يعفور، حيث قال: حتى تقبل شهادته لهم و عليهم «3»، فتبقى الشهادة للنفس تحت الأصل.

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 12: 402.

(2) في نسخة «ق» زيادة: في الجملة.

(3) الفقيه 3: 24، 65، الإستبصار 3: 12، 33، الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 236

و يدلّ عليه أيضاً نحو قوله في الروايات الكثيرة:

عن الرجل يدّعي قِبَلَ الرجل الحقّ فلا تكون له بيّنة بماله، قال: «فيمين المدّعى عليه، فإن حلف فلا حقّ له» «1».

و لو كانت شهادته لحقّه مقبولة لما توجّه الحلف إلى المدّعى عليه و لم يسقط حقّه بحلفه، بل يحلف نفسه.

و أصرح من الجميع مرسلة يونس المصرّحة بأنّ: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه» إلى أن قال: «فإن لم تكن امرأتان فرجل و يمين المدّعى، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه» «2» حيث نفى كون نفسه شاهداً.

و على هذا، فتدلّ على عدم قبولها في كلّ موضع من موارد الشركة حصلت فيه التهمة أو الريبة أيضاً الروايات المتقدّمة؛ لفراغها عن معارضة عمومات قبول الشهادة.

بل تدلّ عليه أيضاً الروايات المتقدّمة، المصرّحة بعدم قبول رواية الخصم؛ لأنّه حينئذٍ يكون خصماً إذا كان طالباً لنفعه.

بل تدلّ عليه أيضاً في خصوص العادل مرسلة أبان: عن شريكين شهد أحدهما لصاحبه، قال: «تجوز شهادته إلّا في شي ء له فيه نصيب» «3».

فإنّ قوله: «تجوز شهادته» يخصّصه بالعادل، فهي تعارض جميع عمومات القبول لو سلّم بالعموم و الخصوص المطلقين، فتخصّصها «4»؛

______________________________

(1) الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 7.

(2) الكافي 7: 416، 3، التهذيب 6: 231، 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 7 ح 4.

(3) الفقيه 3: 27، 78، التهذيب 6: 246، 623، الإستبصار 3: 15، 40، الوسائل 27: 370 أبواب الشهادات ب 27 ح 3.

(4) في «ح»: فيخصّصهما.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 237

و هو يمنع عن كون قبول الشهادة المشتركة بين النفس و الغير مطلقاً أيضاً، بمعنى أنّ أصل شهادته و لو في حصّة الغير أيضاً مردودة.

و آخرها يدلّ على ردّ كلّ شهادة فيما

للشاهد فيه نصيب.

و لا يضرّ اختصاص السؤال بالشريك؛ إذ بعد ردّ شهادة شريك شخص في كلّ ماله فيه نصيب تردّ شهادة غير الشريك أيضاً بالإجماع المركّب، بل يمكن دعوى ظهور العمومات أيضاً فيما كان مخصوصاً بالغير، فلا يشمل الشهادة المشتركة.

و الرضوي: «و لا تجوز شهادة الرجل لشريكه إلّا فيما لا يعود نفعه إليه» «1».

و أمّا موثّقة البصري: عن ثلاثة شركاء ادّعى واحد و شهد الاثنان، قال: «تجوز» «2».

فمعارضةٌ مع موثّقته الأُخرى : عن ثلاثة شركاء شهد اثنان على واحد، قال: «لا تجوز شهادتهما» «3».

مع أنّه يجب الجمع بينهما، بحمل الاولى على ما لم يكن له فيه نصيب، بشهادة المرسلة المذكورة.

و قد ظهر ممّا ذكر أنّ المانع عن القبول هو كونها شهادة لنفسه أيضاً، و وجود نصيب له فيه، و يحصل حقّ له، دون مجرّد الاتّهام، فلا تقبل و لو لم تكن ريبة و لا تهمة و لا خصومة للشاهد في حقّه أيضاً.

______________________________

(1) فقه الرضا « (عليه السّلام)»: 261، مستدرك الوسائل 17: 430 أبواب الشهادات ب 22 ح 5 ذ ح.

(2) التهذيب 6: 246، 622، الإستبصار 3: 15، 39، الوسائل 27: 370 أبواب الشهادات ب 27 ح 4.

(3) الكافي 7: 394، 1، الوسائل 27: 369 أبواب الشهادات ب 27 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 238

ثم الشهادة الجارّة للنفع المردودة أعمّ من أن يكون النفع ثبوت عين له، أو منفعة، أو حقّ، أو سلطنة بولاية، أو وكالة، أو نحو ذلك؛ لصدق الشهادة للنفس في الجميع، و صدق المدّعى و الخصم لو كان في مقام مطالبة حقّه، و صدق أنّه شي ء له فيه نصيب، و أنّه يعود إليه نفعه مطلقاً و لو لم يدّعه و لم

يطلبه.

و كذا يعمّ ما كان دلالة الشهادة على نصيبه بالمطابقة، بأن يشهد على حقّه فقط.

أو بالتضمّن، بأن يشهد على ما هو شريك فيه: أنّه مغصوب في يد فلان.

أو بالالتزام، بأن يشهد على شي ء لشخص آخر يستلزم ذلك ثبوت حقّ له أيضاً، كأن يشهد الوصيّ على دين للموصي، أو أحد الشريكين على بيع أحدهما شقصه المستلزم لثبوت حقّ الشفعة له؛ لصدق العنوان في الكلّ، أو يشهد أحد الشريكين للآخر بثبوت ما يدّعيه من المال المشترك، فإنّه و إن كان يشهد للغير و لكنّه يستلزم ثبوت حق له أيضاً.

لا يقال: إنّه ثبت حينئذٍ ما شهد به لغيره دون ما يتعلّق بنفسه.

قلنا: يلزم وجود الملزوم بدون اللّازم من غير دليل رافع للملازمة.

و الحاصل: أنّه لو قبلت شهادته فإمّا تقبل في اللّازم و الملزوم معاً، أو في الملزوم أي حقّ الغير خاصّة، أو لا تقبل في شي ء منهما. و الأول باطل؛ لما مرّ، و الثاني كذلك؛ لعدم تخلّف اللّازم عن الملزوم، فتعيّن الثالث.

فإن قيل: لِمَ لا يحكم بانتفاء الملازمة هنا؛ لعمومات قبول الشهادة للغير، كما قبلت في حكم الحاكم لشريكه؟

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 239

قلنا: لأنّ دليل نفوذ حكم الحاكم على الغير كان يوجب ثبوت الحقّ للشريك، و الإجماع كان [على «1»] انتفاء ثبوت حقّه، و بالأول ثبت الحقّ للشريك، و بالثاني تخصّص عمومات الملازمة.

و لا دليل هنا على قبول الشهادة للشريك؛ إذ عرفت ظهور العمومات في الشهادة المخصوصة بالغير، بل تصريح المرسلة و الرضويّ بعدم قبول شهادة العادل فيما له نصيب فيه أو له نفع.

فإن قلت: لِمَ (ما) «2» قلتَ: إنّ عمومات الحكم ظاهرة في الحكم للغير أيضاً خاصّة؟

قلنا: هي كذلك، و الحكم في المورد أيضاً

مخصوص بالغير؛ إذ لا يتحقّق حكم إلّا مع سبق الدعوى ، و المفروض اختصاص الغير بالدعوى و الحكم به. بخلاف الشهادة، فإنّها لا تتوقّف على سبق الدعوى ، بل هي مشتركة إذا كان المشهود به مشتركاً؛ مع أنّ النصّ على عدم قبول شهادة العادل فيما له نصيب موجود، و ليس كذلك الحكم.

ثم إنّه تتفرّع على تلك المسألة فروع:

منها: ردّ شهادة الشريك لشريكه فيما هو شريك فيه إذا لم يكن مقسوماً؛ و تدلّ عليه مضافاً إلى ما ذكرنا المرسلة و الموثّقة المتقدّمتان «3»، و كذا موثّقة سماعة المتقدّمة «4»، الخالية جميعاً عن معارضة عمومات قبول الشهادة و الإطلاقات بالتقريب المتقدّم.

______________________________

(1) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة السياق.

(2) ليست في «ح».

(3) في ص 234 و 235.

(4) في ص 221.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 240

و منها: ردّ شهادة صاحب الدين للمعسر المحجور عليه بفلس؛ إذ لو قلنا بانتقال المال إلى الغرماء فهو يكون شريكاً، و إلّا فيكون له حقّ التسلّط على استيفاء نصيبه منه.

و قال المحقّق الأردبيلي فيه و في سابقه: لعلّه لا خلاف فيهما «1».

و منها: شهادة الشريك لبيع الشقص الذي فيه الشفعة؛ إذ فيه نصيب حقّ الشفعة للشاهد و يعود نفعها إليه، و يستلزم ثبوت البيع لثبوت الحقّ له، و هو شهادة للنفس و الغير؛ إذ صدق الشهادة لا يتوقّف على قصد ذلك بخصوصه، بل يكفي في صدقها قصد ما يتضمّنه أو يستلزمه.

و منها: شهادة المولى لمملوكه المأذون؛ لأنّ ماله للمولى .

و منها: شهادة الغريم للميّت المستوعب دينه تركته؛ لانتقالها إلى الغرماء، و أمّا في غير المستوعب فلا تردّ؛ لعدم نصيب و لا تسلّط له فيه.

و منها: شهادة الوصيّ في محلّ تصرّفه و ولايته، و الوكيل لموكِّله فيما

هو وكيل فيه؛ لاستلزامها ثبوت حقّ التسلّط بالوصاية و الوكالة له، و ادّعى في الكفاية شهرة الردّ فيهما «2»، بل قيل في الأول: كادت أن تكون إجماعاً «3».

و يدلّ عليه صدر مكاتبة الصفّار الصحيحة: هل تقبل شهادة الوصيّ للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع (عليه السّلام): «إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعى يمين» «4».

فإنّه لو كانت شهادة الوصيّ مقبولة ما احتاج إلى يمين؛ و الحكم في

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 12: 384.

(2) كفاية الأحكام: 281.

(3) انظر الرياض 2: 433.

(4) الكافي 7: 394، 3، الفقيه 3: 43، 147، التهذيب 6: 247، 626، الوسائل 27: 371 أبواب الشهادات ب 28 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 241

صورة الردّ أيضاً كذلك.

و جعلها المحقّق الأردبيلي مؤيّدة للقبول «1». و لا وجه له.

و أمّا ما فيها بعد ما ذكر-: أ يجوز للوصيّ أن يشهد لوارث الميّت صغير أو كبير بحقّ له على الميّت أو غيره، و هو القابض للوارث الصغير، و ليس للكبير بقابض؟ فوقّع (عليه السّلام): «نعم، ينبغي للوصي أن يشهد بالحقّ و لا يكتم الشهادة» «2».

فلا يدلّ إلّا على جواز شهادته و لا شكّ فيه لا على قبولها، و لذا قال: «ينبغي أن يشهد و لا يكتم».

فإن قلت: لِمَ قلت بالقبول في الحكومة و لا تقول به في الشهادة؟

قلنا: لأنّ دليل نفوذ الحكم على الغير مطلقاً يثبت حقّ المولّى عليه، و الملازمة تثبت تسلّط الولي، حيث لا إجماع على عدم سريان الحكم إليه و عدم حصول التسلّط له.

و أمّا في الشهادة و إن لم يثبت إجماع على عدم السراية و لكن لا دليل على قبول الشهادة المتضمّنة لحقّ لشاهد أيضاً، بل

قد عرفت الدليل على عدمه، فلا يثبت الملزوم حتى تنفع الملازمة.

و حكي عن الإسكافي القبول فيهما «3» و يظهر من التحرير قول الشيخ به أيضاً «4».

و تنظّر فيهما في اللمعة و الدروس «5» و إن كان ظاهره بعد النظر-

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 12: 385.

(2) بتفاوت بين المصادر المذكورة أعلاه.

(3) حكاه عنه في الكفاية: 281، و الرياض 2: 433.

(4) التحرير 2: 211.

(5) اللمعة (الروضة البهية 3): 131، الدروس 2: 128.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 242

الفتوى بالردّ.

و مال إلى القبول فيهما المحقّق الأردبيلي؛ استناداً إلى عمومات قبول شهادة العدل و منع التهمة، و أيّده بالمكاتبة المتقدّمة «1».

و ظهر حال الجميع ممّا ذكرنا.

و منها: شهادة الوارث لجرح مورّثه عند الجرح و إمكان السراية، فإنّ الدية تجب له عند الموت، ذكره في التحرير و القواعد و شرح الإرشاد و الدروس و المسالك و الكفاية «2»؛ و دليلهم في ردّها هو وجود التهمة، و قد عرفت حالها، و لا نصيب للشاهد حين الشهادة، فلا تشمله سائر أدلّة المنع.

و العجب أنّ أكثرهم صرّحوا بقبول شهادة شخص لثبوت مال لمورّثه لو كان ميّتاً، و كان وقت الشهادة مجروحاً أو مريضاً قبل شهادته، بل زاد في شرح الإرشاد للأردبيلي: و إن كان تيقّن بموته بعد شهادته «3».

و استندوا في القبول إلى أنّه إثبات مال لمورّثه لا لنفسه، و جرّ النفع إليه غير معلوم؛ لاحتمال أن يموت قبله.

و لا يخفى أنّه إن كان المناط التهمة فإن وجدت فيوجد فيهما، و إن كان غيرها فلا يوجد فيهما، و احتمال تقدّم موت الوارث فيهما متحقّق.

و ما ذكره في شرح الإرشاد في وجه الفرق بأنّ الموجب لانتقال المال إلى الوارث في الأول الجراحة، و

هي تثبت بالشهادة فلا تقبل، و في

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 12: 385.

(2) التحرير 2: 209، القواعد 2: 237، مجمع الفائدة 12: 386، الدروس 2: 128، المسالك 2: 405، كفاية الأحكام: 281.

(3) مجمع الفائدة و البرهان 12: 387.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 243

الثاني الموت، و هو غير ثابت بالشهادة فتقبل «1».

فهو غريب؛ لأنّ سبب الانتقال في الأول أيضاً هو الموت دون الجرح، و إن كان هو سبباً للموت، فالأقوى فيهما القبول.

ثم بما ذكرنا تظهر جليّة الحال في سائر الفروع التي ترد عليك.

المسألة الثانية: لا تقبل شهادة يُدفَع بها ضرر عن الشاهد

كشهادة العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ، و شهادة الوصيّ و الوكيل بجرح شهود ردّ المال الذي للوكيل و الوصيّ أخذه بلا خلاف فيه، و إن وقع الخلاف في الأخيرين أنّه هل هو دفع ضرر أم لا؟ و الظاهر أنّ فيهما أيضاً دفع ضرر، فتُرَدّ شهادة الجميع، لأنّها أيضاً شهادة للنفس عرفاً، و يجرّ بها نفعاً لنفسه، فلا تشملها عمومات القبول، فتبقى تحت الأصل.

و تدلّ على ردّها مرسلة أبان «2»؛ من حيث إنّ فيه نصيباً للشاهد أيضاً، و موثّقة سماعة «3»؛ من حيث إنّ في الشهادة دفع مغرم عن نفسه. و لا تعارضهما العمومات؛ لعدم شمولها و لا أقلّ من عدم العلم بشمولها لها.

المسألة الثالثة: قالوا: لا تقبل شهادة ذي العداوة الدنيويّة على عدوّه،

و تقبل له و لغيره و عليه إذا كانت لا تتضمّن فسقاً، بلا خلاف فيهما كما قيل «4»، بل عليهما الإجماع في شرح الإرشاد للمحقّق الأردبيلي «5»، و ظاهر الكفاية الإجماع في الأول «6»، و المسالك في الثاني «7».

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 12: 388.

(2) المتقدّمة في ص 234.

(3) المتقدّمة في ص 221.

(4) انظر الرياض 2: 433.

(5) مجمع الفائدة و البرهان 12: 389، 390.

(6) كفاية الأحكام: 282.

(7) المسالك 2: 405.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 244

دليل الثاني واضح.

و أمّا الأول: فيستدلّ له بأنّها من أسباب التهمة.

و بالروايات المتقدّمة الرادّة لشهادة الخصم الصادق على العدو حقيقةً، بل هو معناه المطابقي.

و برواية معاني الأخبار المتقدّمة، حيث قال: «و لا ذي غمز على أخيه» «1»، قال الصدوق: الغمز: الشحناء و العداوة «2». و رواية السكوني: «لا تقبل شهادة ذي شحناء، أو ذي مخزية في الدين» «3» و الشحناء: العداوة.

و يرد على الأول ما مرّ، مضافاً إلى منع كونها من أسباب التهمة مطلقاً، فإنّ العداوة

إذا كانت ناشئة عن سبب مقتضٍ لها كفِرْيَة عظيمة، أو قتل ولد أو والد و نحوه، و كان العدو في غاية العدالة، بل قد يعفو عن قوده، و يحوّل أمره إلى اللَّه، و لا يرتضي بغيبته و إن فرح قلباً بمساءته فلا نسلّم حصول التهمة، سيّما إذا كانت الدعوى عليه شيئاً قليلًا في غاية القلّة.

و على الثاني أيضاً: ما سبق في روايات التهمة، و مرجوحيّتها عن معارضاتها، فإنّ الخصم أيضاً كالمتّهم أعمّ من وجه من العدل و نحوه.

مضافاً إلى عدم معلوميّة صدق الخصم على من لم يظهر العداوة و لم يرد المكافأة و المخاصمة.

و على الثالث أيضاً: المعارضة المذكورة مع المرجوحيّة.

______________________________

(1) معاني الأخبار: 208، 3، الوسائل 27: 379 أبواب الشهادات ب 32 ح 8.

(2) معاني الأخبار: 209.

(3) الفقيه 3: 27، 73، الوسائل 27: 378 أبواب الشهادات ب 32 ح 5.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 245

فإن ثبت إجماع على الردّ فهو و إلّا فالقبول أظهر، إلّا أن تخرجه العداوة عن العدالة بإفضائها إلى ارتكاب كبيرة من قذف و نحوه أو إلى إصرار على صغيرة، من غيبة أو إهانة أو نحوهما.

و قد يقال: بأنّ مع العداوة الدنيويّة يشكل فرض حصول العدالة؛ لأنّ عداوة المؤمن و بغضه لا لأمر ديني معصية، مع أنّهم ذكروا في تفسير العداوة: أن يسرّ بمساءته و يغتمّ بمسرّته «1». و زاد بعضهم: أن يتمنّى زوال نعمته «2». و الكلّ معاصي عظيمة، و الإصرار عليها كبيرة لو لم نقل بكون كلّ منها بنفسه من الكبائر.

و على هذا، فكيف تجتمع تلك العداوة مع قبول الشهادة حتى يحتاج إلى اشتراط انتفائها فيه؟! و التحقيق: أنّ العداوة القلبيّة ليست أمراً اختياريّاً تترتّب عليها معصية، و

كذا السرور بالمساءة و المساءة بالسرور، فإنّ من قتل ولد شخص، أو هتك عرضه بفرية عظيمة، أو زنى بامرأته، أو لاط بولده، يسرّ بمساءته و يغتمّ بسروره و لو لا من جهة كون تلك الأُمور معصية، و ليس ذلك السرور و المساءة أمراً يكون تحت اختياره حتى يكلّف بعدمه، بل ربّما لا يرضى بتلك المسرّة و المساءة لنفسه و يجاهد في دفعهما، و لكنّه يحتاج إلى زمان طويل و مجاهدة عظيمة.

و ما ورد في ذمّ العداوة و البغض فالمراد: أنّهما صفتان ذميمتان- كالجبن و حبّ الدنيا تجب المجاهدة في دفعهما. و جعلهما من المعاصي إنّما هو إذا أظهر آثارهما و فعل ما يوجب ضرر العدو لا مطلقاً،

______________________________

(1) المسالك 2: 405.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 12: 389.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 246

و حينئذٍ فلا شكّ في الخروج عن العدالة إن أظهرها بكبيرة أو فعل صغيرة، فلا يلزم إشكال أصلًا، و لا يحتاج إلى الوجوه التي ذكروها لدفع الإشكال، من الحمل على عداوة غير المؤمن، أو العداوة بغير موجب، و عدم حرمة ما كانت لموجب، أو عدّها من الصغائر، مع تفسير الإصرار بالإكثار دون الاستمرار، و فرض الشهادة في بدو الأمر من غير حصول استمرار، أو نحو ذلك.

المسألة الرابعة: النسب و القرابة لا يمنعان من قبول الشهادة-
اشاره

إلّا ما يجي ء استثناؤه بإجماع الطائفة المحقّق، و المحكي عن الانتصار و الغنية «1» و غيرهما «2»، فتقبل من الوالد لولده و عليه، و من الولد لوالده، و الأخ لأخيه و عليه؛ للعمومات، و خصوص المستفيضة، كالصحاح الثلاث للحلبي «3» و ابن أبي عمير «4» و عمّار بن مروان «5»، و الموثّقين لسماعة «6»، و رواية السكوني «7».

و لا يشترط في قبول شهادة القريب ضمّ شاهد آخر

عدل أجنبيّ

______________________________

(1) الانتصار: 245، الغنية (الجوامع الفقهية): 624.

(2) كفاية الأحكام: 281.

(3) الكافي 7: 393، 3، الوسائل 27: 367 أبواب الشهادات ب 26 ح 1.

(4) الكافي 7: 393، 2، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26 ح 3.

(5) الكافي 7: 393، 4، التهذيب 6: 248، 631، الوسائل 27: 367 أبواب الشهادات ب 26 ح 2.

(6) الأُولى : التهذيب 6: 247، 629، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26 ح 4.

الثانية: التهذيب 6: 247، 629، الوسائل 27: 367 أبواب الشهادات ب 25 ح 3.

(7) التهذيب 6: 286، 790، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26 ح 5.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 247

لكمال العدد، فيكفي ضمّ قريب آخر مماثله أو غير مماثله للكمال، و يكتفى به لضمّ اليمين؛ للعمومات.

خلافاً للمحكّي عن نهاية الشيخ «1»؛ للرواية الأخيرة: «إنّ شهادة الأخ لأخيه تجوز إذا كان مرضيّاً و معه شاهد آخر».

و هي مع ضعفها بالشذوذ، و أخصّيتها عن المدّعى غير دالّة على المطلوب؛ إذ ليس فيها تصريح بالأجنبي، فيمكن أن يكون المطلوب إكمال العدد، بل يمكن ذلك التوجيه في كلام المخالف أيضاً.

و استثني من الأنسباء: الولد إذا شهد على أبيه، فلا يقبل على الأصحّ، وفاقاً لأكثر القدماء و المتأخّرين، كالصدوقين و الشيخين و القاضي و الديلمي و ابن حمزة و الحلّي و المحقّق و الفاضل في أكثر كتبه و ولده في الإيضاح و الشهيد في النكت «2» و غيرهم «3»، و عليه دعوى الشهرة في المختلف و التحرير و الدروس و المسالك و الكفاية «4» و غيرها «5»، بل دعوى الإجماع عن الخلاف و الموصليّات للسيّد و السرائر و الغنية «6»، و لكن خصّ في

______________________________

(1) النهاية: 330.

(2) الصدوقان في المقنع:

133، المفيد في المقنعة: 726، الطوسي في النهاية: 330، الديلمي في المراسم: 232، ابن حمزة في الوسيلة: 231، الحلي في السرائر 2: 134، المحقّق في الشرائع 4: 130، الفاضل في التحرير 2: 209، و القواعد 2: 237 و التبصرة: 190، و المختلف: 720، و ولده في الإيضاح 4: 427.

(3) انظر الرياض 2: 434.

(4) المختلف: 720، التحرير 2: 209، الدروس 2: 132، المسالك 2: 405، الكفاية: 282.

(5) انظر الرياض 2: 434.

(6) الخلاف 2: 623، السرائر 2: 134، الغنية (الجوامع الفقهية): 624.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 248

الأخير الإجماع بصورة حياة الأب.

لمرسلة الفقيه المنجبر إرسالها بما مرّ: «لا تقبل شهادة الولد على والده» «1».

و في الانتصار: و ممّا انفردت به الإماميّة القول بجواز شهادة ذوي الأرحام و القرابات بعضهم لبعض إذا كانوا عدولًا من غير استثناء لأحد، إلّا ما يذهب إليه بعض أصحابنا معتمداً على خبر يروونه من أنّه: «لا تجوز شهادة الولد على الوالد و إن جازت شهادته له» «2». انتهى .

و هذا أيضاً خبر آخر مرسل، معاضد للأول، منجبر بما هو به انجبر.

و لا يرد عليهما بما أوردناه على أخبار المتّهم من المعارضة لما ذكرنا بالعموم من وجه.

لأنّ تخصيص عدم القبول فيهما بما إذا كان على الوالد مشعر بإرادة العدل؛ لأنّ غيره لا تقبل شهادته لا له و لا عليه و لا لغيره و عليه، بل في الرواية الأخيرة تصريح بالاختصاص، حيث قال: «و إن جازت شهادته له» فإنّه لا تجوز له إلّا في صورة كونه عادلًا.

و قد يستدلّ أيضاً بقوله سبحانه وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً «3».

و قوله عزّ جاره وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً «4».

و في دلالتهما نظر.

خلافاً للمحكيّ عن السيّد، فقبله عليه

كما يقبله له «5»، و قوّاه في

______________________________

(1) الفقيه 3: 26، 71، الوسائل 27: 369 أبواب الشهادات ب 26 ح 6.

(2) الانتصار: 244.

(3) الإسراء: 23.

(4) لقمان: 15.

(5) الانتصار: 244.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 249

الدروس «1»، و استقربه في الكفاية «2»، و جعله في المفاتيح و شرحه الأصحّ «3»، و ظاهر التحرير و المسالك و شرح الإرشاد للأردبيلي التردّد «4»، بل حكي التردّد عن المقتصر و التنقيح و الصيمري أيضاً «5».

لعمومات قبول شهادة العدل.

و خصوص قوله سبحانه كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ «6».

و الجواب عن العمومات بلزوم التخصيص بما مرّ، و ضعف سند الرواية غير ضائر، و لو سلّم فبما مرّ منجبر.

و الآية غير صريحة في القبول و لا ظاهرة.

قيل: لولا وجوب القبول لزم العبث في إقامتها المأمور بها «7».

قلنا: ليست الآية صريحة و لا ظاهرة في الأمر بالإقامة، فلعلّ المراد التحمّل، و فائدة التحمّل لا تنحصر في الإقامة، بل قد يتحمّل لتذكير المشهود عليه و تنبيهه لو نسي أو غفل، أو لمنعه عن الإنكار و حيائه عنه «8».

مع أنّه لو سلّم الأمر بالإقامة فهو كما صرّح به في المختلف و السرائر و المبسوط «9» لا يستلزم وجوب القبول.

______________________________

(1) الدروس 2: 132.

(2) الكفاية: 282.

(3) مفاتيح الشرائع 3: 279.

(4) التحرير 2: 209، المسالك 2: 406.

(5) التنقيح 4: 295.

(6) النساء: 135.

(7) انظر الرياض 2: 435.

(8) في «ق»: .. أو لمنعه عن الإنكار، أو إرادة الشروط، أو لعدم اجترائه على الإنكار و حيائه عنه.

(9) المختلف: 720، السرائر 2: 130، 135، المبسوط 8: 219.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 250

بل نفى عنه الخلاف في السرائر، قال: فإن تحمّلها فالواجب عليه

أداؤها و إقامتها إذا دعي إلى ذلك عند من دعا إقامتها عنده، سواء ردّها أو لم يردّها، قبلها أو لم يقبلها، بغير خلاف؛ لقوله تعالى وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ «1». انتهى «2».

و قال أيضاً: يجب على الولد أن يقيم الشهادة على والده، و لا يجوز للحاكم أن يعمل بها. كما أنّ الفاسق إذا دعي إلى شهادة يشهد بها فإنّه يجب عليه أن يقيمها، و يجب على الحاكم أن لا يعمل بها «3». انتهى .

قوله: لزم العبث.

قلنا: ممنوع؛ لأنّه يمكن أن يصير جزءاً لعدد الاستفاضة العلميّة، أو قرينة لإفادة العلم فيما إذا حصلت أُمور أُخر؛ بل نقول: إنّ الفائدة غير منحصرة في القبول، فإنّ الوصول إلى ثواب اللَّه سبحانه و إظهار الحقّ فائدة جليلة من أعظم الفوائد.

روى أبو بصير في الموثّق: في قول اللَّه عزّ و جلّ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً «4» قلت: كيف أقيهم؟ قال: «تأمرهم بما أمر اللَّه عزّ و جلّ، و تنهاهم بما نهاهم اللَّه عزّ و جلّ، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، و إن عصوك كنت قضيت ما عليك» «5».

فهكذا حال إقامة الشهادة الغير المقبولة أيضاً.

______________________________

(1) البقرة: 283.

(2) السرائر 2: 130.

(3) السرائر 2: 135.

(4) التحريم: 6.

(5) الكافي 5: 62، 2، التهذيب 6: 179، 365، تفسير القمي 2: 377، الوسائل 16: 148 أبواب الأمر و النّهي و ما يناسبهما ب 9 ح 2، بتفاوتٍ يسير.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 251

و في رواية يحيى الطويل: «حسب المؤمن عزّاً إذا رأى منكراً أن يعلم اللَّه عزّ و جلّ من قلبه إنكاره» «1».

فالفائدة التي تترتّب على الإنكار القلبي فقط هي المترتّبة على إقامة شهادة الحقّ التي لا تقبل.

لا يقال: سُئل أبو عبد

اللَّه (عليه السّلام) عن الحديث الذي جاء عن النبي (صلّى اللَّه عليه و آله): «إنّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر» ما معناه؟ قال: «هذا على أن يأمره بعد معرفته، و هو مع ذلك يقبل منه و إلّا فلا» «2».

لأنّا نقول: إنّ النهي عن ذلك حينئذٍ لما فيه من مظنّة الضرر، حيث كان الكلام مع الإمام الجائر، كما صرّح به في رواية مفضّل: «من تعرّض لسلطان جائر فأصابته بليّة لم يؤجر عليها، و لم يرزق الصبر عليها» «3».

و في رواية اخرى : «إنّما يُؤمَر بالمعروف و يُنهى عن المنكر مؤمن فيتّعظ، أو جاهل فيتعلّم، و أمّا صاحب سوط أو سيف فلا» «4».

هذا، مع أنّه لو كان الأمر في الآية و نحوها للقبول لزم وجوب تخصيص الأمر فيها و كذا في كلّ آية و حديث حثّ بأداء شهادة الحقّ، و كذا النهي عن كتمان الشهادة و التحذير عليه بالمؤمنين المعروفين عند

______________________________

(1) الكافي 5: 60، 1، التهذيب 6: 178، 361، الوسائل 16: 137 أبواب الأمر و النّهي و ما يناسبهما ب 5 ح 1، بتفاوت.

(2) الكافي 5: 59، 16، التهذيب 6: 177، 360، الخصال: 6، 16، الوسائل 16: 126 أبواب الأمر و النّهي و ما يناسبهما ب 2 ح 1.

(3) الكافي 5: 60، 3، التهذيب 6: 178، 363، الوسائل 16: 127 أبواب الأمر و النّهي و ما يناسبهما ب 2 ح 3.

(4) الكافي 5: 60، 2، التهذيب 6: 178، 362، الخصال: 35، 9، الوسائل 16: 127 أبواب الأمر و النّهي و ما يناسبهما ب 2 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 252

الحاكم بالعدالة دون غيرهم من الفسّاق و المجهول حالهم و منهم بالذين يعلمون أنّ

معهم عادلًا آخر مثلهم دون الآحاد و منهم بمن اجتمع فيه سائر شروط القبول و انتفاء المعارض له.

و لا دليل على ذلك التخصيص؛ مع أنّه إخراج للأكثر، و هو غير مجوّز عند المحقّقين.

فإن قيل: يمكن أن يكون أمر كلّ أحد بذلك من قبيل خطاب الكفّار بالفروع، فأُمروا بها بأن يسلموا و يمتثلوا، فكذا هنا، أُمروا بأن يتّصفوا بالعدالة ثم يشهدوا.

قلنا: ليس شرط القبول العدالة فقط، بل معرفة الحاكم عدالته.

فلو سلّمنا أنّهم أُمروا بالاتّصاف بالعدالة، فهل أُمروا بتعريف عدالتهم عدالتهم عند كلّ حاكم و ضمّ عادل آخر مع نفسه و نفى المعارض و جميع سائر الشروط؟! قيل: قال الصادق (عليه السّلام) لمن قال له: إنّ شريكاً يردّ شهادتنا، قال: فقال: «لا تذلّوا أنفسكم» «1».

قلنا: الذلّة إنّما هي إذا كانت عند المخالفين أو للفسق لا مطلقا؛ مع أنّهم حملوها على التحمّل دون الإقامة.

و قيل أيضاً كما نقله في المسالك إنّ الشهادة على الوالدين معطوفة على الشهادة على الأنفس، و عطفت عليها الشهادة على الأقربين، و هما مقبولتان، فلو لم يقبل ذلك لزم عدم انتظام الكلام «2».

قلنا: لا يلزم تطابق المعطوف و المعطوف عليه في جميع الأحوال و الأوصاف، أ لا ترى أنّه تقبل الشهادة على النفس مطلقاً، و لا كذلك الشهادة

______________________________

(1) الفقيه 3: 44، 151، الوسائل 27: 412 أبواب الشهادات ب 53 ح 2.

(2) المسالك 2: 406.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 253

على الوالدين و الأقربين، فتشترط فيها العدالة و ضمّ عدل آخر أو اليمين.

قيل: الأمر في الآية يستلزم القبول بالإضافة إلى الوالدة، فكذا بالنسبة إلى الوالد أيضاً؛ لأنّهما ذُكِرا في كلمة واحدة «1».

قلنا: القبول في الوالدة ليس ملزوماً للأمر في الآية، بل إنّما هو أمر

عُلِمَ من الخارج.

و ممّا ذكرنا ظهر حال الاستدلال بروايتي علي بن سويد السائي «2» و داود بن الحصين «3»، الآمرتين بإقامة الشهادة على النفس أو الوالدين أو الأقربين كما في الاولى ، أو على الوالدين و الولد كما في الثانية. و العجب أنّ بعضهم جعلهما من النصوص على القبول «4».

هذا، مع ما في ذلك القول من المخالفة للشهرة العظيمة؛ إذ لم يثبت الخلاف فيها من القدماء إلّا السيّد «5»، و كلامه غير صريح، بل و لا ظاهر في المخالفة كمااعترف به جماعة، منهم: الفاضل في المختلف و المحقّق الأردبيلي «6».

و أمّا المتأخّرون فأكثرهم وافقوا المشهور، و مَن ظاهره المخالفة فغير النادر منهم لم يجترئوا عليها صريحاً بل و لا ظاهراً، و إنما تكلّموا في أدلّة الطرفين، و شيّدوا دليل القبول، و اقتصروا عليه.

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 435.

(2) الفقيه 3: 42، 144، الوسائل 27: 340 أبواب الشهادة ب 19 ح 2.

(3) الفقيه 3: 30، 89، التهذيب 6: 257، 675، الوسائل 27: 340 أبواب الشهادات ب 19 ح 3.

(4) كما في المسالك 2: 405.

(5) الانتصار: 245.

(6) المختلف: 720.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 254

فروع:

أ: لا ينسحب الحكم إلى الوالد من الرضاع؛ لعدم صدق الوالد حقيقةً. و يحتمل الانسحاب؛ لقولهم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «1».

ب: في انسحاب الحكم إلى الجدّ و عدمه قولان، الأول للدروس «2»، و الثاني للإيضاح و الكفاية «3»، و القولان كما صرّح به في الإيضاح مبنيّان على صدق الوالد على الجدّ و عدمه، و قد مرّ تحقيقه في كتاب المواريث «4».

ج: لو شهد الولد على الوالد و غيره معاً، قال في القواعد: قبلت على الغير دون الوالد على إشكال «5».

و قال في الإيضاح ببطلانهما معاً «6».

و التحقيق: أنّه إن لم تكن بين الحقّين ملازمة شرعيّة و لا عقليّة فتقبل في حقّ الغير، و تردّ في حقّ الوالد. و إن كانت بينهما ملازمة فيشكل؛ لأنّه يجب إمّا ردّهما معاً أو قبولهما كذلك، و الأصل الذي هو المرجع بعد تكافؤ الاحتمالين- يقتضي الأول.

د: مقتضى إطلاق الروايتين عدم الفرق في ردّ شهادة الولد بين حياة الأب و موته حين الشهادة، كما هو ظاهر إطلاق أكثر الأصحاب هنا، و إن صرّح بعضهم بالاختصاص بصورة الحياة في موضع آخر «7»، و هو حسن لو

______________________________

(1) الوسائل 20: 371 أبواب ما يحرم بالرضاع ب 1.

(2) الدروس 2: 132.

(3) الإيضاح 4: 428، كفاية الأحكام: 282.

(4) سيأتي كتاب المواريث بعد كتاب الشهادات.

(5) القواعد 2: 237.

(6) الإيضاح 4: 428.

(7) انظر الرياض 2: 434.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 255

استدلّ بالآيتين.

ه: لا فرق في الولد بين الابن و البنت؛ للإطلاق.

المسألة الخامسة: الزوجيّة لا تمنع من قبول الشهادة

إجماعاً؛ له، و للعمومات، و خصوص صحيحتي عمّار بن مروان و الحلبي المشار إليهما في المسألة السابقة.

في أُوليهما: عن الرجل يشهد لامرأته؟ قال: «إذا كان خيراً جازت شهادته» «1».

و في الثانية: «تجوز شهادة الرجل لامرأته، و المرأة لزوجها إذا كان معها غيرها» «2».

و مقتضى الأخيرة اشتراط القبول في الزوجة بانضمام غيرها من أهل الشهادة معها، كما هو مختار جماعة من أصحابنا «3».

بل نسبه في التحرير إلى الأصحاب، قال: و لكن شرط أصحابنا في قبول شهادة الزوجة لزوجها انضمام غيرها معها من أهل العدالة، و شرط آخرون في الزوج أيضاً، و ليس بجيّد «4». انتهى .

و تدلّ عليه أيضاً موثّقة سماعة المتقدّمة إليها الإشارة و فيها: و عن شهادة الرجل لامرأته، قال: «نعم»، و المرأة لزوجها،

قال: «لا، إلّا أن يكون معها غيرها» «5».

______________________________

(1) الكافي 7: 393، 2، التهذيب 6: 247، 628، الوسائل 27: 366 أبواب الشهادات ب 25 ح 2.

(2) الكافي 7: 392، 1، التهذيب 6: 247، 627، الوسائل 27: 366 أبواب الشهادات ب 25 ح 1.

(3) كالشيخ في النهاية: 330، و المحقّق في النافع: 287.

(4) التحرير 2: 209 210.

(5) التهذيب 6: 247، 629، الوسائل 27: 367 أبواب الشهادات ب 25 ح 3.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 256

خلافاً للمحكيّ عن المتأخّرين كافّة، فقالوا بعدم الاشتراط فيها «1»، بل عن ظاهر كثير من القدماء، كالمفيد و الشيخ في المبسوط و الخلاف و العماني و الحلّي و الحلبي «2»، بل المشهور كما عن الصيمري.

لقصور الروايتين عن اشتراط الضميمة بالمعنى المتنازع فيها من جهة الدلالة؛ لاحتمال ورود الشرط فيهما مورد الغالب، كما صرّح به جماعة من أصحابنا، منهم: الشهيد الثاني، قال:

و وجه التقييد في الرواية: أنّ المرأة لا يثبت بها الحقّ منفردة و لا منضمّة إلى اليمين، بل يشترط أن يكون معها غيرها، إلّا ما استثني نادراً- و هو الوصيّة بخلاف الزوج، فإنّه يثبت بشهادته الحقّ مع اليمين، و الرواية باشتراط الضميمة معها مبنيّة على الغالب في الحقوق، و هي ما عدا الوصيّة «3». انتهى .

و هو حسن، بل يمكن منع الثبوت في النادر؛ إذ لا يثبت فيه المشهود به، بل ربعه.

و ما ذكره أمتن ممّا أجاب به الفاضل في المختلف من أن المراد بذلك كمال البيّنة من غير يمين «4»؛ إذ لو كان المراد ذلك لما كان مختصّاً بالزوجة، بل ينبغي طرد الشرط في الزوج أيضاً؛ مع أنّ الروايتين خصّتاه بالزوجة، بل ظاهر الأخيرة تخصيصه بها دونه.

______________________________

(1) حكاه في الرياض 2:

435.

(2) حكاه عنهم في الرياض 2: 435، و انظر المقنعة: 726، و المبسوط 8: 220، و الخلاف 2: 624، حكاه عن العماني في المختلف 2: 720، الحلي في السرائر 2: 134، الحلبي في الكافي في الفقه: 436.

(3) المسالك 2: 406.

(4) المختلف: 720.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 257

و لا يخفى أنّه يمكن إجراء الجوابين في كلام القائلين بالاشتراط أيضاً، كالشيخ في النهاية و من يحذو حذوه «1»، و حينئذٍ يرتفع الخلاف في المسألة.

ثم على تقدير المخالفة تظهر الثمرة فيما لو شهدت لذي الوصيّة، فتقبل على القول بعدم الاشتراط، و لا تقبل على القول بالاشتراط.

و الأقوى هو الأول؛ لما عرفت من ضعف دليل الثاني، و أضعف منه القول بالاشتراط في الزوج أيضاً كما نقله في التحرير، و حكي عن النهاية و القاضي و ابن حمزة «2» لعدم دليل عليه أصلًا، بل الأخير يدل على العدم؛ لقطعها الشركة بالتفصيل.

ثم على تقدير الاشتراط في الزوجة، قيل: يكفي انضمام امرأة أُخرى و لو كانت زوجة اخرى للزوج أيضاً فيما يكتفي فيه بشهادة الامرأتين، كنصف الوصيّة «3».

و هو حسن؛ لإطلاق الغير المشترط انضمامه، و اللَّه العالم.

المسألة السادسة: الصحبة و لو كانت مؤكّدة و الصداقة و إن كانت مؤكّدة و الضيافة لا تمنع من قبول الشهادة

بلا خلاف، بل بالإجماع؛ له، و للأصل، و ورود النصّ في الأخير أيضاً «4».

المسألة السابعة: تقبل شهادة الأجير لمن استأجره،

وفاقاً للحلّي

______________________________

(1) النهاية: 330.

(2) التحرير 2: 210، النهاية: 330، القاضي في المهذّب 2: 557، ابن حمزة في الوسيلة: 231.

(3) انظر المسالك 2: 406.

(4) الوسائل 27: 371 أبواب الشهادات ب 29.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 258

و المحقّق و الفاضل «1»، و أكثر المتأخرين كما صرّح به جماعة «2» بل ظاهر بعضهم إطباقهم عليه «3»؛ للعمومات كتاباً و سنّة.

خلافاً للمحكيّ عن أكثر المتقدّمين كالشيخ في النهاية و الصدوقين و الحلبي و القاضي و ابني حمزة و زهرة «4» بل قيل: ربّما يشعر سياق عباراته بكون المنع مجمعاً عليه بين الخاصّة «5».

لموثّقة سماعة و مرسلة الفقيه المتقدّمتين في صدر الشرط السادس، و رواية معاني الأخبار المتقدّمة فيه أيضاً.

بضميمة تفسير الصدوق القانع من أهل البيت بالرجل يكون مع قوم في حاشيتهم كالخادم لهم و التابع و الأجير «6».

و رواية العلاء: «كان أمير المؤمنين (عليه السّلام) لا يجيز شهادة الأجير» «7».

و ظاهر صحيحة صفوان: عن رجل أشهد أجيره على شهادة ثم فارقه، أ تجوز شهادته له بعد أن يفارقه؟ قال: «نعم، و كذلك إذا أُعتق العبد

______________________________

(1) الحلي في السرائر 2: 121، المحقق في الشرائع 4: 130، الفاضل في التحرير 2: 210.

(2) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 406، و السبزواري في الكفاية: 283، و صاحب الرياض 2: 435.

(3) كما في الرياض 2: 436.

(4) النهاية: 325، الصدوقان في المقنع: 133، الحلبي في الكافي: 436، القاضي في المهذّب 2: 558، ابن حمزة في الوسيلة: 230، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 625.

(5) انظر الرياض 2: 436.

(6) معاني الأخبار: 209.

(7) الكافي 7: 394، 4، التهذيب 6: 246،

624، الإستبصار 3: 21، 62، الوسائل 27: 372 أبواب الشهادات ب 29 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 259

جازت شهادته» «1».

و موثّقة أبي بصير: «و تكره شهادة الأجير لصاحبه، و لا بأس بشهادته لغيره، و لا بأس به له بعد مفارقته» «2».

و الرضويّ: «لا تجوز شهادة شارب الخمر» إلى أن قال: «و لا أجير لصاحبه، و لامرأة لزوجها» «3».

و وجه ظهور الصحيحة كما قيل «4» التقرير و التشبيه.

و وجه ظهور الثاني أنّ الظاهر أنّ المراد من الكراهة الحرمة؛ إذ لو قبلت الشهادة لزم أداؤها، فلا معنى للكراهة، و الحمل على الإشهاد لا يلائمه ما بعده.

و الجواب عن الجميع: بالمعارضة مع عمومات قبول الشهادة بالعموم و الخصوص من وجه، و ترجيح العمومات كما مرّ في المتّهم.

نعم، لو تمّت دلالة الصحيحة لأمكن أن يقال باختصاصها بالعادل، حيث صرّح فيها بالقبول بعد المفارقة.

و لكن في تماميّتها نظر؛ لوقوع التقييد في السؤال، و عدم حجّية ذلك التقرير كما بيّن في محلّه، و عدم ظهور للتشبيه في تقييد المشبّه أيضاً.

فإن قيل: الموثّقة أيضاً بالعادل مخصوصة؛ لنفي البأس عن شهادته لغيره و بعد المفارقة، و مفهومها أيضاً يدلّ على ثبوت البأس الذي هو

______________________________

(1) التهذيب 6: 257، 674، الإستبصار 3: 21، 63، الوسائل 27: 371 أبواب الشهادات ب 19 ح 1.

(2) التهذيب 6: 258، 676، الإستبصار 3: 21، 64، الوسائل 27: 372 أبواب الشهادات ب 29 ح 3.

(3) فقه الرضا «ع»: 260، مستدرك الوسائل 17: 434 أبواب الشهادات ب 27 ح 1.

(4) انظر الرياض 2: 436.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 260

العذاب في الشهادة لمن هو أجيره قبل المفارقة، و هذا أيضاً يدلّ على أنّ المراد بالكراهة الحرمة.

قلنا: لا

معنى للحرمة أيضاً؛ إذ لا إثم على أداء الشهادة الغير المقبولة قطعاً، فالحمل على المجاز متعيّن، و لعلّه الكراهة في صورة احتمال التهمة و عدم وجوب الشهادة عيناً لوجود الغير.

ثم على القول بالردّ يختصّ ذلك بما إذا شهد حال كونه أجيراً، و أمّا إذا خلص عنه تقبل و إن تحمّلها حال الإجارة؛ للصحيحة و الموثّقة، و لأنّه لا يصدق عليه الأجير حينئذ.

المسألة الثامنة: لا تقبل شهادة السائل بكفّه،

على الحقّ المشهور بين أكثر الأصحاب، كما صرّح به جماعة «1».

و المراد به: الذي يسأل في نحو أبواب الدور و الأسواق و الدكاكين و الحجرات، و اتّخذ ذلك ديدناً له؛ لأنّه المتبادر من هذا التركيب؛ لا من يسأل أحياناً لحاجة دعته إليه.

و على هذا، فهو مراد من أطلق المنع كما في النافع، و حكي عن الشيخ و القاضي «2» كما هو صريح من قيّد كما عن الحلّي و التحرير و الشرائع و الإرشاد و التنقيح و الدروس و المسالك «3»، و غيرها «4» بل هو المشهور كما قيل «5».

______________________________

(1) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 406، و صاحب الرياض 2: 436.

(2) النافع: 287، الشيخ في النهاية: 326، القاضي في المهذّب 2: 558.

(3) الحلّي في السرائر 2: 122، التحرير 2: 210، الشرائع 4: 130، الإرشاد 2: 158، التنقيح 4: 299، الدروس 2: 131، المسالك 2: 406.

(4) كالرياض 2: 436.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 18    261     المسألة الثامنة: لا تقبل شهادة السائل بكفه، ..... ص : 260

(5) انظر الرياض 2: 436.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 261

و الدليل عليه: صحيحة عليّ: عن السائل الذي يسأل في كفّه، هل تقبل شهادته؟ فقال: «كان أبي (عليه السّلام) لا يقبل شهادته إذا سأل في

كفّه» «1».

و موثّقة محمّد: «ردّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) شهادة السائل الذي يسأل في كفّه»؛ قال أبو جعفر (عليه السّلام): «لأنّه لا يؤمن على الشهادة، و ذلك لأنّه إن اعطي رضي، و إن مُنِعَ سخط» «2».

دلّ التعليل على أنّ صاحب ذلك الوصف ليس مأموناً عن شهادة الزور و الكذب ما دام كذلك، فلا تعرف عدالته؛ لأنّ من لا يظنّ عدم ارتكابه الكذب و شهادة الزور كيف يُعرَف بالعدالة؟! فلا يكون ذلك عادلًا، و يكون هذا الوصف مانعاً عن الحكم بالعدالة بمعرّفاته أولًا، فلا تعارض بين الروايتين و عمومات قبول شهادة العدل.

نعم، لو عرف أولًا بالعدالة ثم صار سائلًا بالكفّ يلزم استصحاب عدالته و قبول شهادته؛ إذ غايته عدم الأمن من كذبه، الذي مرجعه إلى الشكّ أو الظنّ، و لا عجب فيه إن لم يثبت الإجماع المركّب، فتأمّل جدّاً «3».

______________________________

(1) الكافي 7: 397، 14، التهذيب 6: 244، 609، الوسائل 27: 382، أبواب الشهادات ب 35 ح 1.

(2) الكافي 7: 397، 13، التهذيب 6: 243، 608، الوسائل 27: 382 أبواب الشهادات ب 35 ح 2.

(3) في «ح»: لا يقال: حكم الشارع بعدم كونه مأموناً حكمٌ بوجود الشكّ أو الظنّ بالخلاف، و هو منافٍ للاستصحاب الذي هو عدم نقض اليقين السابق فيجب رفع اليد عن الاستصحاب هنا؛ لأعمّيته.

قلنا: هذا إذا كان معناه أنّه ليس مأموناً شرعاً.

و يمكن أن يكون المراد أنّه غير مأمون واقعاً و إن كان مأموماً ظاهراً؛ للاستصحاب.

و فيه: أن لا بدّ في صحّة الحكم من كلّيّة الكبرى، فلو كان المراد أنّه غير مأمون واقعاً لم تصحّ كلّية الكبرى، و هي: أنّ كل غير مأمون واقعاً لا تقبل شهادته؛ إذ ليس كذلك، فإنّ

المأمون الاستصحابي تقبل شهادته، فيجب أن يكون المراد أنّه غير مأمون شرعاً، فيكون هذا منافياً لاستصحابه، فلا يكون عادلًا بالاستصحاب أيضاً، فلا تقبل العدالة الأولية أيضاً؛ لعدم صحّة استصحابهما هنا. و هذا هو وجه التأمّل منه رحمه اللَّه تعالى .

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 262

المسألة التاسعة: قالوا: التبرّع بأداء الشهادة قبل الاستنطاق بها يمنع القبول،
اشاره

سواء كان قبل دعوى المدّعى أم بعدها، بلا خلاف فيه كما في الكفاية، بل قال: إنّه المعروف من مذهب الأصحاب «1». قيل: و يظهر من المسالك «2». و قيل: و لم يظهر لي ذلك من المسالك.

قال في الكفاية: و مستنده بعض الروايات، و كون ذلك موضع تهمة.

و مراده من الرواية ما روي عن النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله)، أنّه قال في معرض الذمّ: «ثم يجي ء قوم يعطون الشهادة قبل أن يُسألوها» «3».

و في آخر: «ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يُستشهَد» «4».

قال: في الكلّ نظر.

أقول: أمّا وجه النظر في الرواية فواضح.

أمّا أولًا: فلضعف الرواية؛ لأنّها غير مذكورة في أصل معتبر، بل الظاهر كما صرّح به الأردبيلي أنّها عامّية، و دعوى انجبارها فاسدة؛ لأنّها إنّما تدلّ على الذمّ و الجرح، و الفتوى به غير مشهورة، بل في المسالك: أنّه ليس جرحاً عندنا «5».

______________________________

(1) كفاية الأحكام: 282.

(2) انظر الرياض 2: 440.

(3) مسند أحمد 4: 426.

(4) سنن ابن ماجة 2: 791.

(5) المسالك 2: 408.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 263

نعم، ذهب إليه بعض أصحابنا كما يأتي.

و أمّا ثانياً: فلأنّها لو صحّت لدلّت على عدم الجواز دون الردّ، كما ذهب إليه في السرائر «1».

و أمّا ثالثاً: فلمعارضتها مع مثلها، حيث روي عن النبي (صلّى اللَّه عليه و آله) أنّه قال «خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألَها» «2».

و

أمّا وجه النظر في كونه موضع التهمة فيظهر ممّا ذكره الأردبيلي، قال: و أنت خبير أنّ التهمة غير ظاهرة، خصوصاً إذا كان جاهلًا، فإنّا نجد كثيراً مَن يشهد قبل الاستشهاد من غير ميل إلى إثبات المشهود، بل قد يكون إلى عدمه أميل؛ لغرض مثل: فقر المشهود عليه، أو مصاحبته، أو عداوة المشهود له؛ اعتقاداً لوجوب الشهادة و تحريم كتمانها، كيف؟! و العدالة تمنع من الشهادة على الكذب مع العلم بقبحه و الوعيد في الكتاب و السنّة و تحريمه بإجماع المسلمين «3». انتهى .

بل نحن شاهدنا شهادات تبرّعية غير محصورة كثرةً لم يكن لشاهدها ميل أصلًا، سيّما مع تخصيص التبرّع بما كان قبل استنطاق الحاكم كما في كلام بعضهم «4» و لو كان أحضره المدّعى للشهادة، أو طلبه الحاكم لذلك.

بل كان تبرّعه لأحد الوجوه التي ذكرها الأردبيلي، أو لزعمه كفاية الإحضار لأجل الشهادة في ذلك، أو لأجل شغل له يريد أداء الشهادة و الذهاب، أو لأجل أنّه مائل إلى إحقاق الحقّ و يزعم أنّ المدّعى أو الحاكم

______________________________

(1) السرائر 2: 133.

(2) صحيح مسلم 3: 1344، 1719.

(3) مجمع الفائدة و البرهان 12: 399 400.

(4) انظر الرياض 2: 440.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 264

لا يعلم بكونه شاهداً، أو لتعجّبه في الإنكار، أو نحو ذلك.

بل من احتمل في حقّه التهمة لم نشاهده إلّا نادراً، و التهمة فيه أيضاً حصلت من امور أُخر زائدة على التبرّع.

و من هذا يظهر ما في كلام بعض مشايخنا المعاصرين من عدّ صورة عدم التهمة من الأفراد النادرة «1».

و من أقوى الشواهد على عدم إيجابه للتهمة و أنّ مَن منعها من القدماء ليس لأجلها تفرقتهم فيه بين حقوق الآدميّين و غيرها؛ إذ لو كان التبرّع

موجباً لها لما كان فيه فرق بين الحقّين، و كان الردّ في حقّ اللَّه أظهر؛ لوجوب درء الحدود بالشبهات، و لذا تردّ شهادة سائر المتّهمين في حقّ اللَّه عند من يعتبر عدم التهمة.

و عمدة ما جعلوه دليلًا للتفرقة جارٍ في الموضعين كما يأتي.

و على هذا، فالحقّ هو القبول كما هو ظاهر المحقّق الأردبيلي «2»، و يظهر من الكفاية الميل إليه «3»، و هو صريح الحلّي في السرائر، و إن قال بعدم جواز التبرّع و كونه مذموماً كما هو مذهب العامّة، قال:

لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يُسأل عن الشهادة، كما لا يجوز له كتمانها و قد دعي إلى إقامتها، إلّا أن تكون إقامتها تؤدّي إلى ضرر على المشهود عليه لا يستحقّه على ما قدّمناه، فإنّه لا يجوز حينئذٍ إقامة الشهادة و إن دعي إليها.

أو يكون فيما قلنا إنّه لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يُسأل

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 440.

(2) مجمع الفائدة 12: 400.

(3) كفاية الأحكام: 282.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 265

الشهادة ترك شهادته يبطل حقّا قد علمه فيما بينه و بين اللَّه تعالى، فيجوز له- بل يجب عليه أن يشهد به قبل أن يُسأل عن الشهادة «1». انتهى .

و نسب فيه هذا القول إلى الشيخ في النهاية، و قال: إنّ في كلامه التباساً و إيهاماً.

أقول: قال في النهاية: و لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يُسأل عن الشهادة، كما لا يجوز كتمانها و قد دعي إلى إقامتها، إلّا أن تكون شهادته تبطل حقّا قد علمه فيما بينه و بين اللَّه تعالى ، أو تؤدّي إلى ضرر على المشهود عليه لا يستحقّه، فإنّه لا يجوز له حينئذٍ إقامة الشهادة و إن دعي إليها

«2». انتهى.

قال في السرائر: و شيخنا في نهايته قد أورد المسألتين، و استثنى استثناءين عقيبهما، فيهما التباس و إيهام؛ لأنّ استثناء المسألة الأولة عقيب المسألة الثانية، و استثناء المسألة الثانية عقيب المسألة الأولة، فلا يفهم بأول خاطر، بل يحتاج إلى تأمّل، و ردّ الاستثناء الأول إلى المسألة الأولة، و ردّ الاستثناء الأخير إلى المسألة الثانية، و قد زال الالتباس و الإيهام، فكم من معنى ضاع لقصور العبارة و لسوء الإشارة «3». انتهى .

أقول: مراده من المسألة الأولة ما ذكره بقوله: و لا يجوز للشاهد، إلى آخره.

و من المسألة الثانية ما ذكره بقوله: كما لا يجوز كتمانها و قد دعي إلى إقامتها.

______________________________

(1) السرائر 2: 133.

(2) النهاية: 330.

(3) السرائر 2: 133.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 266

و من استثناء المسألة الأولة ما ذكره بقوله: إلّا أن تكون شهادته.

و من استثناء المسألة الثانية ما ذكره بقوله: أو تؤدّي الى ضرر، إلى آخره، (على ما هو ظاهره أيضاً) «1».

ثم إنّ ما ذكرنا من قبول شهادة المتبرّع إنّما هو من جهة كونه شهادة التبرّع.

و للتبرّع صورة توجب ردّها لأجل أنّه ادّعاء.

بيان ذلك: أنّ للمتبرع بالشهادة صوراً كثيرة:

منها: ما إذا ادّعى زيد على عمرو عند الحاكم، يطلب الحاكم منه البينة، و أحضر هو خالداً للشهادة، أو أحضره الحاكم و هو يحضر، و يشهد قبل استنطاق الحاكم، أو قبل استنطاق المدّعى، أو غيرهما، بعد تكرار المدّعى الدعوى بحضوره.

و منها: ما ذكر أيضاً، إلّا أنّه يشهد قبل التكرار.

و منها: ما يكون حاضراً بنفسه من غير إحضار لذلك في مجلس المرافعة، و يشهد بعد الدعوى من غير سؤال عنه.

و منها: ما إذا أشهده زيد على حقّه ليشهد لو وقع التنازع، و لم يحضر وقت

الأداء، أو سافر زيد، و يريد خالد المسافرة، و يجي ء عند الحاكم و يقول: عندي هذه الشهادة، فإن ادّعى زيد و أنكر عمرو فأنا شاهد بالحقّ، ربّما لم أرجع من السفر حين الحاجة.

و منها: ما إذا جاء خالد عند الحاكم بعد دعوى زيد، و يقول: عندي شهادة لزيد و هو لا يعلمها، أو يقول ذلك لزيد.

______________________________

(1) ما بين القوسين ليس في «ح».

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 267

و منها: ما إذا لم تسبق دعوى عن زيد و لا إنكار عن عمرو، فيجي ء عند الحاكم و يقول: لزيد كذا و كذا على عمرو، أو يجي ء مع زيد و يشترك معه في ذكر استحقاق زيد، و نحو ذلك.

و هذه الصورة الأخيرة هي التي يجب أن لا تسمع فيها الشهادة؛ لأنّها ليست شهادة عرفاً، بل هي دعوى فضوليّة أو تبرّعية.

و لعلّ لذلك طلب رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) شاهدَين من غير الأنصار في القتل المتقدّم ذكره «1»؛ حيث إنّ جميع الحاضرين من الأنصار كانوا من ذلك القبيل.

و لا يبعد أن تكون هذه الصورة أيضاً مراد كثير من القوم، و هو المناسب لاستثناء حقّ اللَّه، و استدلالهم بأنّه لا مدّعي بخصوصه، و أنّه واجب و نهي عن المنكر، و نحو ذلك.

ثم إنّ الأكثر كما أُشير إليه خصّوا الردّ بما إذا كان من حقوق الآدميين «2»، و اختلفوا في حقوق اللَّه المحضة و المشتركة «3»، و استدلّوا بالسماع فيها و استثنائها بوجوه بين موهونة أو مشتركة بينها و بين حقوق الآدميين. و بعد ما عرفت من عدم دليل على الردّ في حقّ الآدمي أيضاً فيكون السماع هنا أظهر، و لا حاجة إلى ذكر أدلّتهم الموهونة.

نعم، يصحّ الاستثناء

في الصورة الأخيرة التي ذكرنا عدم القبول فيها في حقّ الآدمي من جهة أنّه يكون حينئذٍ مدّعياً، و لا تقبل شهادة المدّعى؛ حيث إنّ عدم قبول شهادة المدّعى مخصوص بحقّ الآدمي؛ إذ نسبة حقّ اللَّه سبحانه إلى الجميع واحد، فليس له مدّع بل الكلّ شاهد؛ و لعلّ إلى ذلك يشير استدلالهم للاستثناء بأنّه لا مدّعي لها.

______________________________

(1) راجع صحيحتي العجلي و زرارة المتقدّمتين في ص 231 و 232.

(2) كما في الروضة 3: 134، و الرياض 2: 440.

(3) انظر المفاتيح 3: 281.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 268

أو يقال: إنّها لو لم تقبل في حق اللَّه لزم سقوطه؛ إذ كلّ شاهد مدّع و متبرّع، و السقوط باطل. و فيه تأمّل.

فروع:

أ: يظهر من بعضهم: أنّ الحرص على الشهادة مانع عن قبولها و لو كان من جهة اخرى غير الشهادة قبل الاستنطاق أيضاً؛ لإيجابه التهمة «1».

و بعد ما ذكرنا من عدم دليل تامّ على الردّ بالتهمة مطلقاً تعلم ضعف ذلك القول.

مع أنّ كون مطلق الحرص موجباً للتهمة ممنوع؛ بل قد يعلم أنّه من غاية التديّن و عدم تحمّله لخلاف الواقع، أو لكونه غضوباً في دفع المنكر، أو لجهات اخرى غير الميل، كما شاهدناه مراراً.

ب: قالوا: الردّ بالتبرّع ليس لكونه جرحاً، بل لأنّه تهمة، فلو شهد في غير ذلك أو بعد ذلك إذا سُئل عنه تقبل. و ظاهر المسالك الإجماع على عدم كونه جرحاً «2».

أقول: قد عرفت تصريح الشيخ و الحلّي بعدم جوازه، و أنّه كالكتمان «3».

ثم لو كان موجباً للتهمة فلا يوجب السؤال بعده لانتفائها، بل هي باقية، فيجب عدم قبولها أيضاً.

نعم، على ما ذكرنا في الصورة الأخيرة: أنّه لأجل كونه مدّعياً، فيصحّ

______________________________

(1) قال به في القواعد

2: 238.

(2) المسالك 2: 408.

(3) راجع ص 263.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 269

ذلك؛ لأنّ بعد السؤال يخرج عن كونه كذلك.

ج: قد عرفت أنّ شهادة المتبرّع تقبل في حقّ اللَّه مطلقاً، و قد وقع الخلاف في الحقوق المشتركة، و مقتضى الدليل قبولها في حقّ اللَّه؛ إذ لا مدّعي له، دون حقّ الآدمي في الصورة التي لا تقبل فيه.

و من حقوق اللَّه: الوقف للمصالح العامّة، و الوصيّة لها، و ليس المتولّي الخاصّ أو العامّ فيها مدّعياً في الوقفيّة؛ إذ لا حقّ له مخصوصاً به.

نعم، له ادّعاء التولية، و لا تسمع شهادته فيها، فتأمّل.

المسألة العاشرة: إذا شهد اثنان لشخصين بوصيّة مثلًا، أو حقّ على شخص، و شهد الشخصان للشاهدين بمثله، تقبل شهادتهم جميعاً؛

للعمومات.

قال المحقّق الأردبيلي: لحصول الشهادة، و عدم المانع من التهمة المتوهّمة، فإنّه قد يتوهّم إنّما شهد الأولان لتواطئهما مع الآخرَين أنّهما إن شهدا لهما يشهدان لهما أيضاً، و ذلك توهّم باطل؛ لبعد العدل بل المسلم عن مثل هذه الخديعة «1». انتهى .

و نفيه التهمة هنا و إثباته في بعض موارد أُخر كالعداوة، أو التبرّع، أو نحوهما- عجيب.

و كذا لا تردّ باختفاء الشاهد عن المشهود عليه؛ للتحمّل كما صرّحوا به، بل ظاهر الشهيد الإجماع عليه «2»؛ لما مرّ من العمومات، و دعاء الحاجة إليه.

المسألة الحادية عشرة: اختلفوا في شهادة بعض الرفقة

في الطريق

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 12: 388.

(2) نقله عن غاية المراد في الجواهر 41: 100.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 270

لبعض على قاطع الطريق.

فردّها بعضهم مطلقاً «1».

و فرّق بعضهم بين ما إذا أُخذ منه شي ء و تعرّض لذكر المأخوذ منه، و ما لم يؤخذ منه، أو لم يتعرّض؛ و بين ما إذا ظهرت العداوة بينه و بين اللصوص، و ما لم تظهر «2».

و منهم من قبلها مطلقاً «3».

و مستند الردّ: ظهور التهمة إمّا مطلقاً أو في بعض الصور، و إطلاق رواية محمَّد بن الصلت «4».

و مستند الثاني: العمومات، و منع التهمة أو عدم إيجابها للردّ مطلقاً، و ضعف الرواية، أو معارضتها مع العمومات بالعموم من وجه، و ترجيح العموم.

و بعد ما عرفت ما تقدّم هنا تعلم قوّة الثاني.

السابع من شروط الشاهد: طهارة المولد.

أي عدم كونه ولد الزنا المعلوم كونه كذلك.

فلا تقبل شهادته على الحقّ المشهور بين المتقدّمين و المتأخّرين، و عن السيّد و الشيخ و ابن زهرة الإجماع عليه «5»؛ للنصوص المستفيضة،

______________________________

(1) كالعلّامة في القواعد 2: 237.

(2) كالسبزواري في الكفاية: 282.

(3) كالشهيد في الدروس 2: 127.

(4) الكافي 7: 394، 2، التهذيب 6: 246، 625، الوسائل 27: 369 أبواب الشهادات ب 27 ح 2.

(5) السيد في الانتصار: 247، الشيخ في الخلاف 2: 627، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 625.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 271

كصحيحة الحلبي «1»، و محمّد «2»، و موثّقة زرارة «3»، و رواية أبي بصير «4»، و صحيحة عليّ المرويّة في كتابه «5»، المؤيّدة جميعاً بروايات أُخر مصرّحة بأنّ ولد الزنا شرّ الثلاثة، و أنّه لا ينجب «6».

و قيل: تقبل إذا كان عدلًا مطلقاً، حكاه في الكفاية «7». و لعلّه لعمومات قبول شهادة

العدل الراجحة بما ذكرنا سابقاً على الروايات المانعة.

و عن الشيخ و ابن حمزة أنّها تقبل في الشي ء اليسير دون الكثير «8»؛ لموثّقة عيسى بن عبد اللَّه: عن شهادة ولد الزنا، فقال: «لا تجوز إلّا في الشي ء اليسير إذا رأيت منه صلاحاً» «9».

و يجاب عن دليل المخالف الأول: بمنع رجحان العمومات هنا؛ لمخالفة روايات المنع لمذهب أكثر العامّة كما في المسالك «10»، و تشعر بها رواية أبي بصير.

______________________________

(1) التهذيب 6: 244، 612، الوسائل 27: 376 أبواب الشهادات ب 31 ح 6.

(2) الكافي 7: 395، 6، التهذيب 6: 244، 613، الوسائل 27: 375 أبواب الشهادات ب 31 ح 3.

(3) الكافي 7: 396، 8، التهذيب 6: 244، 614، الوسائل 27: 376 أبواب الشهادات ب 31 ح 4.

(4) الكافي 7: 395، 4، بصائر الدرجات: 9، 3، الوسائل 27: 374 أبواب الشهادات ب 31 ح 1.

(5) الوسائل 27: 377 أبواب الشهادة ب 31 ح 8، البحار 10: 287.

(6) غوالي اللئلئ 3: 533، 22، مسند أحمد 2: 311.

(7) الكفاية: 283.

(8) الشيخ في النهاية: 326، ابن حمزة في الوسيلة: 230.

(9) التهذيب 6: 244، 611، الوسائل 27: 376 أبواب الشهادات ب 31 ح 5.

(10) المسالك 2: 409.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 272

مع إشعار رواية عدم نجابته و كونه شرّ الثلاثة «1»، و عدم جواز إمامته «2»، و النهي عن الاغتسال بغسالته، و أنّه لا يطهر إلى سبعة آباء، كما في رواية ابن أبي يعفور «3» بعدم عدالته، بل يمكن إثباته بذلك، فلا تدخل في العمومات.

و عن دليل الثاني: بضعفه؛ لشذوذه و ندرته، كما صرّح به جماعة «4».

و المسألة قليلة الجدوى جدّاً؛ لندرة من علم كونه ولد الزنا، ثم كونه عادلًا ظاهراً.

الثامن من شرائط الشاهد: الذكورة
اشاره

في الجملة، بمعنى أنّها تشترط في بعض الحقوق دون بعض.

و الأول أيضاً على قسمين؛ لأنّه إمّا تشترط فيه الذكورة المحضة، فلا تقبل فيه شهادة النساء أصلًا، لا منضمّة مع الذكور و لا منفردة؛ أو يشترط فيه وجود الذكر و إن كان مع النساء، فلا تقبل فيه شهادتهنّ منفردات و إن قبلت منضمّة مع الذكور. فهذه ثلاثة أقسام.

القسم الأول: ما تشترط فيه الذكورة المحضة،
اشاره

فلا تقبل فيه شهادة النساء أصلًا، و فيه مسائل:

المسألة الأُولى : يشترط في ثبوت الهلال الذكورة المحضة،

فلا تقبل فيه شهادة النساء منفردات، و لا منضمّات مع الرجال، بلا خلاف

______________________________

(1) المتقدّمة جميعاً في ص 269.

(2) الوسائل 8: 322 أبواب صلاة الجماعة ب 14 ح 4.

(3) الكافي 3: 14، 1، الوسائل 1: 219 أبواب الطهارة ب 11 ح 4.

(4) منهم المحقق في الشرائع 4: 132، و صاحب الرياض 2: 439.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 273

يوجد في الأول.

و كذا إلّا عن العماني في الثاني، حيث قال: شهادة النساء مع الرجال جائزة في كلّ شي ء إذا كنّ ثقات «1».

و هو شاذ، بل عن الغنية الإجماع على خلافه «2»، بل هو إجماع محقّق حقيقةً؛ فهو الدليل عليه، مضافاً إلى الصحاح الثمان:

لابن سنان: «لا تجوز شهادة النساء في رؤية الهلال» الحديث «3».

و صحيحة الحلبي: «كان عليّ (عليه السّلام) يقول: لا أُجيز في رؤية الهلال إلّا شهادة رجلين عدلين» «4».

و الأُخرى له أيضاً: «قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): لا تجوز شهادة النساء في رؤية الهلال، و لا تجوز إلّا شهادة رجلين عدلين» «5».

و صحيحة حمّاد «6» و هي كسابقتها و الأُخرى «7» و هي قريبة منها.

و صحيحة محمّد: «لا تجوز شهادة النساء في الهلال» «8».

______________________________

(1) نقله عنه في المختلف 2: 712.

(2) الغنية (الجوامع الفقهية): 624.

(3) الكافي 7: 391، 8، التهذيب 6: 264، 702، الإستبصار 3: 23، 70، الوسائل 27: 353 أبواب الشهادات ب 24 ح 10.

(4) الكافي 4: 76، 2، الفقيه 2: 77، 338، الوسائل 10: 288 أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 8.

(5) التهذيب 4: 180، 498، الوسائل 10: 288 أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 7، بتفاوتٍ يسير.

(6) الكافي 4: 77، 4، الفقيه

2: 77، 340، الوسائل 10: 287 أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 3.

(7) التهذيب 6: 269، 724، الإستبصار 3: 30، 96، الوسائل 27: 355 أبواب الشهادات ب 24 ح 17.

(8) الكافي 4: 77، 3، الوسائل 10: 286 أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 274

و الأُخرى: «لا تجوز شهادة النساء في الهلال و لا في الطلاق» «1».

و العلاء: «لا تجوز شهادة النساء في الهلال» «2».

و رواية شعيب: «لا أُجيز في الطلاق و لا في الهلال إلّا رجلين» «3».

و بهذه الأخبار المعاضدة بعمل الأصحاب بل بظواهر الكتاب و الأصل- يخصّص إن كان هناك عموم يشمل النساء ثم الهلال.

و أمّا رواية داود بن الحصين: «لا تجوز شهادة النساء في الفطر إلّا شهادة رجلين عدلين، و لا بأس بالصوم بشهادة النساء و لو امرأة واحدة» «4».

فلا تنافي ما مرّ؛ لجواز الصوم احتياطاً من دون شهادة أيضاً، و مع التنافي لا تعارضه، سيّما مع مخالفتها الإجماع القطعي من الاكتفاء بالمرأة الواحدة.

المسألة الثانية: تشترط في ثبوت الطلاق الذكورة المحضة

أيضاً، و لا تقبل فيه شهادة النساء مطلقاً، على الأظهر الأشهر بين من تقدّم و تأخّر.

للصحاح الثلاث: لمحمّد و قد تقدّمت و الحلبي، و فيها: عن شهادة النساء في النكاح، قال: «تجوز إذا كان معهنّ رجل، و كان علي (عليه السّلام) يقول: لا أُجيزها في الطلاق» قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجل في الدين؟ قال: «نعم» الحديث «5».

______________________________

(1) الكافي 7: 391، 6، الوسائل 27: 353 أبواب الشهادات ب 24 ح 8.

(2) التهذيب 6: 269، 725، الإستبصار 3: 30، 97، الوسائل 27: 356 أبواب الشهادات ب 24 ح 18.

(3) التهذيب 4: 316، 962، الوسائل 10: 289 أبواب أحكام شهر رمضان ب

11 ح 9.

(4) التهذيب 6: 269، 726، الإستبصار 3: 30، 98، الوسائل 10: 291 أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 15.

(5) الكافي 7: 390، 2، التهذيب 6: 269، 723، الإستبصار 3: 29، 95، الوسائل 27: 351 أبواب الشهادات ب 24 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 275

و بكير و غيره، و في آخرها: «و لا تجوز فيه» أي في الطلاق «شهادة النساء» «1».

و الروايات التسع: لشعيب، و قد تقدّمت، و محمّد بن الفضيل «2»، و الأُخرى له «3»، و أبي بصير «4».

و إبراهيم الخارقي، و فيها: «تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه و يشهدوا عليه، و تجوز شهادتهنّ في النكاح إذا كان معهنّ رجل» إلى أن قال: «و لا تجوز شهادتهنّ في الطلاق، و لا في الدم» «5».

و داود بن الحصين: «و كان أمير المؤمنين (عليه السّلام) يجيز شهادة امرأتين في النكاح عند الإنكار، و لا يجيز في الطلاق إلّا شاهدين عدلين» قلت: فأنّى ذكر اللَّه تعالى فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ «6»؟ قال: «ذلك في الدين إذا لم يكن رجلان» الحديث «7».

______________________________

(1) الكافي 6: 61، 17، التهذيب 8: 48، 148، الوسائل 22: 26 أبواب الطلاق مقدماته و شرائطه ب 10 ح 2.

(2) الكافي 7: 391، 5، التهذيب 6: 264، 705، الإستبصار 3: 23، 73، الوسائل 27: 352 أبواب الشهادات ب 24 ح 7.

(3) الفقيه 3: 31، 94، الوسائل 27: 353 أبواب الشهادات ب 24 ح 7.

(4) الكافي 7: 391، 4، التهذيب 6: 264، 704، الإستبصار 3: 23، 72، الوسائل 27: 351 أبواب الشهادات ب 24 ح 4.

(5) الكافي 7: 392، 11 و فيه: عن إبراهيم الحارثي، التهذيب 6: 265،

707، الإستبصار 3: 24، 75، الوسائل 27: 352 أبواب الشهادات ب 24 ح 5؛ و في الجميع لا يوجد: إذا كان معهنّ رجل.

(6) البقرة: 282.

(7) التهذيب 6: 281، 774، الإستبصار 3: 26، 81، الوسائل 27: 360 أبواب الشهادات ب 24 ح 35.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 276

و زرارة: عن شهادة النساء تجوز في النكاح؟ قال: «نعم، و لا تجوز في الطلاق» الحديث «1».

و السكوني: «شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا في حدود اللَّه، إلّا في الديون، و ما لا يستطيع الرجل النظر إليه» «2».

و الكناني: «شهادة النساء تجوز في النكاح، و لا تجوز في الطلاق» «3».

الى غير ذلك من النصوص المتكثّرة التي لا معارض لها.

خلافاً للمحكيّ عن العماني كما مرّ و عن المبسوط و الإسكافي، فقبلاها «4».

و لم أعثر على دليل لهم سوى عامّ واحد «5»، يعارض ما مرّ بالعموم من وجه؛ لظهور سائر العمومات من الكتاب و السنّة في غير النساء أو الطلاق، و لو لا ترجيح ما مرّ بالكثرة و الأشهريّة، و شذوذ المخالف، بل موافقة الكتاب لوجب الرجوع إلى الأصل، و هو مع ما مرّ.

و سوى ما حكي عن المبسوط من قوله: و روى قبول شهادتهنّ في الطلاق مع الرجال «6».

______________________________

(1) الكافي 7: 391، 9، التهذيب 6: 265، 706، الإستبصار 3: 24، 74، الوسائل 27: 354 أبواب الشهادات ب 24 ح 11.

(2) التهذيب 6: 281، 773، الإستبصار 3: 25، 80، الوسائل 27: 362 أبواب الشهادات ب 24 ح 42.

(3) التهذيب 6: 667، 713، الإستبصار 3: 27، 84، الوسائل 27: 357 أبواب الشهادات ب 24 ح 25.

(4) حكاه عن العماني و الإسكافي في المختلف: 712، المبسوط

8: 172.

(5) التهذيب 6: 242، 597، الإستبصار 3: 13، 34، الوسائل 27: 398 أبواب الشهادات ب 41 ح 20.

(6) حكاه عنه في الرياض 2: 441.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 277

و هو أيضاً بالشذوذ مردود، و بالنسبة إلى ما مرّ مرجوح.

و لا يتوهّم أخصّيته من جميع ما مرّ لاختصاصه بما كان معه رجل؛ لخصوصيّة رواية داود بذلك أيضاً.

و الظاهر عدم الإشكال في تعدّي الحكم إلى الطلاق بالعوض إن قلنا بجوازه- أيضاً؛ لكونه طلاقاً قطعاً.

و هل يتعدّى إلى الخلع و المباراة أيضاً، أم لا؟

المشهور كما في كلام جماعة «1»: التعدّي، بل عن الغنية عليه الإجماع البسيط «2»، و عن المختلف المركّب «3».

و استدلّ له بهما، و في ثبوتهما إشكال، و منقولهما غير حجة.

و بالأصل، و هو بما أُشير إليه من بعض العمومات مندفع.

و بكونهما من أفراد الطلاق و بمعناه، و قبوله مشكل.

إلّا أنّه يمكن إثباته بقولهم (عليهم السّلام) في الروايات المتكثّرة من الصحاح و غيرها: «و كان الخلع تطليقة» و: «خلعها طلاقها» «4».

و كذا في المبارأة أيضاً.

و لكن في بعض الروايات الجاعلة لهما قسمين للطلاق إشعارٌ بالتباين، مضافاً إلى أنّ عدّهما تطليقة ليس صريحاً في كونهما طلاقاً، إلّا أنّه يمكن التعدّي بالأصل، و ردّ العامّ المذكور بالشذوذ في المورد.

و حكي هنا قول آخر بالتفصيل، فتردّ لو كان المدّعى المرأة، و تقبل

______________________________

(1) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 413، و صاحب الرياض 2: 441.

(2) الغنية (الجوامع الفقهية): 624.

(3) المختلف: 714.

(4) الوسائل 15: 490 أبواب الخلع و المباراة ب 3.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 278

لو كان الرجل؛ لتضمّنه دعوى المال و الدين المستلزمة للبينونة، و تقبل شهادتهنّ على المال و الدين مطلقاً «1».

و هو حسن

لو ثبتت الكلّية الأخيرة بحيث تشمل المورد، و أمّا قبولها و تخصيصها بغير المورد فيتوقّف على ثبوت مخصّصٍ غير الأصل، فتأمّل.

و المسألة لا تخلو عن الإشكال.

المسألة الثالثة: تشترط في الحدود الذكورة المحضة-

إلّا ما استثني، و ما تجي ء الإشارة إلى الخلاف فيه بلا خلاف فيه يوجد كما عن الغنيّة «2» و في غيره «3»، و صرّح بعض متأخّري المتأخّرين بالاتّفاق عليه.

لرواية السكوني المتقدّمة «4»، و رواية غياث بن إبراهيم: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود، و لا في القود» «5»، و نحوها رواية إسماعيل «6».

و صحيحة جميل و ابن حمران: تجوز شهادة النساء في الحدود؟ قال: «في القتل وحده» «7».

و أمّا رواية البصري: «تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجل» «8».

______________________________

(1) انظر المسالك 2: 413.

(2) الغنية (الجوامع الفقهية): 624.

(3) كالرياض 2: 443.

(4) التهذيب 6: 281، 773، الإستبصار 3: 25، 80، الوسائل 27: 362 أبواب الشهادات ب 24 ح 42.

(5) التهذيب 6: 265، 709، الإستبصار 3: 24، 77، الوسائل 27: 358 أبواب الشهادات ب 24 ح 29.

(6) التهذيب 6: 265، 710، الإستبصار 3: 24، 78، الوسائل 29: 140 أبواب دعوى القتل و ما يثبت به ب 2 ح 8.

(7) الكافي 7: 390، 1، التهذيب 6: 226، 711، الإستبصار 3: 26، 82، الوسائل 27: 350 أبواب الشهادات ب 24 ح 1.

(8) التهذيب 6: 270، 728، الإستبصار 3: 30، 100، الوسائل 27: 356 أبواب الشهادات ب 24 ح 21.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 279

و الرضوي: «و تقبل» أي شهادة النساء «في الحدود» «1».

فبالشذوذ خارجان عن الحجّية، فلا يصلحان لمعارضة ما مرّ.

ثم هذه الأخبار كما ترى مختصّة بالحدود، و قد ألحقوا بها جميع حقوق اللَّه حتى الماليّة أيضاً، كالزكاة و الخمس و النذر

الكفّارة، و صرّح بعضهم بعدم الخلاف فيه «2»، و ادّعى بعضهم الاتّفاق على انحصار قبول شهادة النساء في الحقوق الماليّة الإنسانيّة.

و لكن الظاهر من الروضة عدم كونه اتّفاقياً، حيث نسب الإلحاق إلى المصنّف، فقال: و هذه الأربعة ألحقها المصنّف بحقوق اللَّه سبحانه و إن كان للآدمي فيها حظّ، بل هو المقصود منها لعدم تعيّن المستحقّ على الخصوص «3». انتهى.

و منه يظهر إمكان القدح في شمول دعوى الاتّفاق المتقدّمة على الحصر للمنع في الأربعة أيضاً.

بل يظهر إمكان إرادة الشهيد في الدروس عدم الإلحاق؛ حيث صرّح بالقبول في الحقوق الماليّة مطلقاً، و لم يتعرّض لذكر الأربعة «4».

بل يمكن مثل ذلك في كلام جمع من القدماء كالنهاية و السرائر حيث لا تعرّض فيهما للإلحاق «5».

و على هذا، فلا يمكن إثبات الإلحاق بالإجماع.

______________________________

(1) فقه الرضا «ع»: 262، مستدرك الوسائل 17: 426 أبواب الشهادات ب 19 ح 8.

(2) كما في الرياض 2: 443.

(3) الروضة 3: 141.

(4) الدروس 2: 137.

(5) النهاية: 333، السرائر 2: 137 139.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 280

و لذا اقتصر في المسالك في الاستدلال للإلحاق بالأصل «1».

و هو أيضاً مخدوش، لأنّه إنّما كان صحيحاً لولا عموم أو إطلاق دالّ على قبول شهادة النساء.

مع أنّ رواية عبد الكريم بن أبي يعفور دالّة على قبولها مطلقاً: «تقبل شهادة المرأة و النسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات، معروفات بالستر و العفاف، مطيعات للأزواج، تاركات للبذاء و التبرّج إلى الرجال في أنديتهم» «2».

بل يمكن دفع الأصل بالروايات المصرّحة بقبول شهادة النساء في الدين «3» كما يأتي، و هذه أيضاً من الديون حقيقةً كما صرح به (بعضهم «4»، و صرّحوا به) «5» في بيان إخراج هذه الأُمور من أصل التركة

قبل الوصيّة.

و استدلّوا له بقوله سبحانه مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ «6». و دعوى تبادر غير ذلك من الديون ممنوعة.

و بما دلّ على قبول شهادة المرأة لزوجها إذا كان زوجها هو المنذور له «7».

و قد يستأنس للإلحاق بالأخبار المتضمّنة لقبول شهادتهنّ في أُمور

______________________________

(1) المسالك 2: 413.

(2) التهذيب 6: 242، 597، الإستبصار 3: 13، 34، الوسائل 27: 398 أبواب الشهادات ب 41 ح 20.

(3) الوسائل 27: 350 أبواب الشهادات ب 24.

(4) كصاحب الرياض 2: 443.

(5) ما بين القوسين ليس في «ح».

(6) النساء: 11.

(7) الوسائل 27: 366 أبواب الشهادات ب 25.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 281

خاصّة «1»، من جهة ظهورها في الاختصاص.

و فيه مع أنّ منها الدين الشامل للمورد؛ و أنّ أكثرها مقيّدة بالنساء وحدهن، فلا يشمل شهادة النساء و الرجال-: أنّ هذا ليس في الأكثر إلّا اعتباراً لمفهوم اللقب، و هو باطل.

و على هذا، فالأظهر عدم الإلحاق.

ثم الحدود المشترطة فيها الذكورة المحضة تشمل الرجم و الجلد، و حدّ اللواط و السحق، و إتيان البهيمة، و شرب الخمر، و السرقة، و الردّة، و القذف، و قصاص النفس و الطرف، و غيرها من أنواع الحدود.

و هل تشمل التعزيرات؟

ظاهر الأخبار: العدم؛ للتصريح فيها بعدم كونها حدّا، فورد فيها: أنّ ليس في ذلك حدّ، و لكن فيه تعزير «2».

و عبّر جمع من الأصحاب بحقوق اللَّه الشاملة لها أيضاً «3».

و لكن لم أعثر بذلك على نصّ، فإن ثبت الإجماع كما هو المظنون و إلّا فالإطلاق المتقدّم يقتضي القبول «4»، إلّا أنّه يمكن الاستدلال بالحصر المذكور في رواية السكوني المتقدّمة «5»، و به يقيّد الإطلاق المذكور، فالأظهر فيها عدم القبول.

ثم إنّه استثني من الحدود: الرجم، فقبلت فيه شهادة

النساء مع الرجال، على التفصيل الآتي في كتاب الحدود إن شاء اللَّه.

______________________________

(1) الوسائل 27: 350 أبواب الشهادات ب 24.

(2) الوسائل 18: 571 أبواب نكاح البهائم و وطء الأموات و الاستمناء ب 1 ح 3 و 5.

(3) انظر المبسوط 8: 215.

(4) أي رواية عبد الكريم بن أبي يعفور المتقدّمة في ص 278.

(5) في ص 274.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 282

و عن الإسكافي: إلحاق اللواط و السحق به أيضاً «1».

و هو ضعيف غايته كما يأتي.

و ممّا وقع الخلاف فيه: القتل و الجرح الموجبين للقود دون ما تجب فيه الدّية- فإنّه خلافٌ في ثبوته بها.

فمنع الحلّي عن الثبوت بها مطلقاً «2»، و هو مذهب الشيخ في الخلاف و الفاضل في التحرير و القواعد «3».

و عن العماني: القبول كذلك، فيقتصّ من الجاني بشهادتهنّ مع الرجال «4». و نسب إلى موضع من الشرائع و الإرشاد و القواعد «5»، و احتمله في التحرير «6».

و ذهب الشيخ في المبسوط و النهاية و الإسكافي و الحلبي و القاضي و الشرائع و النافع و المختلف و الإيضاح إلى القبول في الدية دون القصاص «7»، بمعنى أنّه تثبت من شهادتهنّ في الجناية الموجبة للقود أيضاً الدية، و لا يقتصّ بشهادتهن. و حاصله: قبول شهادتهن، إلّا أنّه لا يحكم بواسطتها بالقصاص.

و هذا أو القبول في الجملة، و لو بالنسبة إلى الدية هو الذي نسبه

______________________________

(1) حكاه عنه في المختلف: 715.

(2) السرائر 2: 138.

(3) الخلاف 2: 606، التحرير 2: 212، القواعد 2: 238.

(4) حكاه عنه في المختلف: 714.

(5) الشرائع 4: 137، القواعد 2: 239.

(6) التحرير 2: 212.

(7) المبسوط 8: 172، النهاية: 333، و حكاه عن الإسكافي في المختلف: 714، الحلبي في الكافي في الفقه: 436، حكاه

عن القاضي في المختلف: 714، الشرائع 4: 137، المختصر النافع: 288، المختلف: 714، الإيضاح 4: 434.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 283

في المسالك إلى أكثر الأصحاب «1».

و هذا هو تحرير الخلاف في المسألة.

و قال صاحب الكفاية: أمّا القصاص يعني الجناية الموجبة له فاختلف الأصحاب فيه، أولها: القبول مطلقاً، و ثانيها: عدم القبول مطلقاً، و ثالثها: القبول فيما يوجب الدية حسب «2». انتهى .

و لا يخفى ما في كلامه؛ حيث جعل محلّ الخلاف الجناية الموجبة للقصاص، ثم جعل أحد الأقوال القبول فيما يوجب الدية.

ثم إنّ دليل الأولين: الروايات الأربع من التسع المتقدّمة في المسألة الثانية «3»، و روايتا غياث و إسماعيل المتقدّمتان في صدر المسألة «4».

و رواية زرارة: قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجال في الدم؟ قال: «لا» «5».

و صحيحة محمّد، و في آخرها: «و لا تجوز شهادة النساء في القتل» «6».

و صحيحة ربعي: «لا تجوز شهادة النساء في القتل» «7».

______________________________

(1) المسالك 2: 414.

(2) الكفاية: 285.

(3) راجع ص 273.

(4) راجع ص 276.

(5) الكافي 7: 391، 9، التهذيب 6: 265، 706، الإستبصار 3: 24، 74، الوسائل 27: 354 أبواب الشهادات ب 24 ح 11.

(6) التهذيب 6: 265، 708، الإستبصار 3: 24، 76، الوسائل 27: 358 أبواب الشهادات ب 24 ح 28.

(7) التهذيب 6: 267، 716، الإستبصار 3: 27، 87، الوسائل 27: 358 أبواب الشهادات ب 24 ح 27.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 284

مضافة إلى الحصر المصرّح به في رواية السكوني المتقدّمة «1»، و الروايات المانعة عن شهادتهنّ في الحدود «2».

و دليل الثاني: صحيحة جميل و حمران المتقدّمة «3»، و روايتا الكناني و الشحّام:

في الأُولى : و قال: «تجوز شهادة النساء في الدم مع الرجال» «4».

و في

الثانية: فقلت: أ تجوز شهادة النساء مع الرجال في الدم؟ فقال: «نعم» «5».

و حجّة الثالث: الجمع بين أخبار القولين الأولين، بحمل أخبار الأول على المنع في القود، و أخبار الثاني على القبول في الدية.

مستأنساً لهذا الجمع بقوله في روايتي غياث و إسماعيل: «و لا في القود».

و بما يشعر به كلام الإسكافي من الإجماع، حيث قال: و إن لم تتمّ الشهادة على القتل بالرجال و شاركتهم النساء أوجبنا بها الدية «6».

أقول: أُجيب عن الحجّة الأخيرة تارةً: بأنّ الجمع فرع التكافؤ، و لا تكافئ أخبار القبول روايات المنع.

______________________________

(1) في ص 274.

(2) انظر الوسائل 27: 350 أبواب الشهادات ب 24.

(3) في ص 276.

(4) التهذيب 6: 267، 713، الإستبصار 3: 27، 84، الوسائل 27: 357 أبواب الشهادات ب 24 ح 25.

(5) التهذيب 6: 266، 712، الإستبصار 3: 27، 83، الوسائل 27: 359 أبواب الشهادات ب 24 ح 32.

(6) حكاه عنه في المختلف: 712.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 285

و فيه منع ظاهر؛ إذ لا ترجيح لروايات المنع إلّا الأكثريّة، و مجرّد ذلك لا يدفع التكافؤ.

و أمّا عمل الأصحاب، فليس العامل بالأول أكثر من الثاني كثرة موجبة للترجيح.

و يعارض اعتضاد الأول بروايات منع القبول في الحدود، و الحصر المذكور- باعتضاد الثاني أيضاً بعموم رواية عبد الكريم «1»، و تصريح رواية البصري «2» و الرضوي «3» بالقبول في الحدود.

و قد يُدفَع التكافؤ ببعض التقريبات الموهونة جدّاً أيضاً.

و أُخرى: بإمكان الجمع بحمل المانعة على صورة انفرادهن، و مخالفها على صورة اجتماعهنّ مع الرجال.

و فيه: تصريح بعض أخبار المنع به في صورة الاجتماع أيضاً، فلا جمع.

و الصواب أن يجاب: بأنّ هذا هو جمع بلا شاهد، و مثله فاسد. و ليس في قوله:

«و لا في القود» شهادة على ذلك أصلًا، فهذا القول ضعيف جدّاً.

و الأخبار من الطرفين و إن كانت معارضة إلّا أنّ بعد تعارضهما حتى أخبار المنع و الجواز في الحدود لا يُعلَم مخصِّص للحصر المتقدّم، و به

______________________________

(1) التهذيب 6: 242، 597، الإستبصار 3: 13، 34، الوسائل 27: 398 أبواب الشهادات ب 41 ح 20.

(2) التهذيب 6: 270، 728، الإستبصار 3: 30، 100، الوسائل 27: 356 أبواب الشهادات ب 24 ح 21.

(3) فقه الامام الرضا «ع»: 262، مستدرك الوسائل 17: 426 أبواب الشهادات ب 19 ح 8.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 286

يخصَّص عموم رواية عبد الكريم.

و تظهر قوّة القول الأول، فعليه الفتوى و العمل.

و ممّا ذكر ظهر وجه القبول في موجبات الدية من القتل و الجرح أيضاً؛ لموافقة الحصر و العموم له، مع أنّ الظاهر عدم الخلاف فيه.

ثم إنّ ما ذكرنا من الخلاف إنّما هو في شهادتهنّ مع الرجال، بأن يشهد رجل و امرأتان أو أكثر.

و أمّا المنفردات، فلا خلاف في عدم قبول شهادتهنّ في القتل و الجراح الموجبين للقود مطلقاً، إلّا ما حكي عن الحلبي، حيث قال بقبول شهادة امرأتين في نصف الدية، و الواحدة في الربع «1»؛ مستدلّاً بصحيحة «2» و ضعيفة «3» شاذّتين خارجتين عن حيّز الحجّية بشذوذهما.

مع إمكان الخدش في دلالة الصحيحة بحملها على الدفع خطأ، و إرادة قبول شهادة المرأة بحسبها أي بنصف شهادة الرجل و طلب امرأة أُخرى مع رجل آخر، فتأمّل.

المسألة الرابعة: اختلفوا في قبول شهادتهنّ في الرضاع المحرّم،

فعن الخلاف و موضع من المبسوط و السرائر و الجامع: المنع «4»، و عن السرائر و التحرير و المسالك أنّه مذهب الأكثر «5»، و عن ظاهر المبسوط دعوى

______________________________

(1) الكافي في الفقه: 349، و حكاه عنه في

المختلف: 714.

(2) الفقيه 3: 31، 96، التهذيب 6: 267، 714، الإستبصار 3: 27، 85، الوسائل 27: 357 أبواب الشهادات ب 24 ح 26.

(3) الفقيه 3: 32، 98، التهذيب 6: 267، 715، الإستبصار 3: 27، 86، الوسائل 27: 359 أبواب الشهادات ب 24 ح 33.

(4) الخلاف 2: 608، المبسوط 8: 175، السرائر 2: 137، الجامع للشرائع: 543.

(5) السرائر 2: 115، التحرير 2: 212، المسالك 2: 414.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 287

الإجماع عليه، حيث قال: و شهادة النساء لا تقبل في الرضاع عندنا «1». و نسبه فيه إلى روايات الأصحاب، بل عن الخلاف دعوى الإجماع عليه صريحاً «2».

و عن العماني و الإسكافي و المفيد و الديلمي و ابن حمزة و موضع من المبسوط و الفاضلين و الشهيدين و الفخري و الصيمري و سائر المتأخّرين: القبول «3»، و عن السيّد الإجماع عليه «4».

دليل الأول: الحصران المتقدّمان.

و حجّة الثاني: عموم رواية عبد الكريم.

و خصوص النصوص المصرّحة بجواز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه كما في بعضها «5» أو لا يجوز للرجل أن ينظر إليه، أو لا ينظر إليه الرجل «6».

و لأنّه أمر لا يطّلع عليه الرجل غالباً، فمسّت الحاجة إلى قبول شهادتهنّ فيه.

______________________________

(1) المبسوط 5: 411، و ج 8: 175.

(2) الخلاف 2: 609.

(3) حكاه عن العماني و الإسكافي في المختلف 2: 716، المفيد في المقنعة: 727، الديلمي في المراسم (الجوامع الفقهية): 657، ابن حمزة في الوسيلة: 222. المبسوط 8: 175، المحقّق في النافع: 288، العلّامة في التحرير 2: 212، الشهيدان في الدروس 2: 138، و اللمعة و الروضة 3: 144، الفخري في الإيضاح 4: 435.

(4) السيد في الناصريات (الجوامع الفقهية): 212.

(5) الكافي 7: 392،

11، التهذيب 6: 365، 707، الوسائل 27: 352 أبواب الشهادات ب 24 ح 5.

(6) التهذيب 6: 281، 773، الإستبصار 3: 25، 80، الوسائل 27: 362 أبواب الشهادات ب 24 ح 42.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 288

و لمرسلة ابن بكير: امرأة أرضعت غلاماً و جارية، قال: «يعلم ذلك غيرها؟» قلت: لا، قال: «لا تصدّق إن لم يكن غيرها» «1». و تدلّ بمفهوم الشرط على تصديقها إذا كان معها غيرها و لو كان ذكراً واحداً و أُنثى واحدة. و خروج بعض الأفراد بالدليل غير ضائر.

أقول: أمّا المرسلة ففيها: أنّ المرضعة فيها إمّا مدّعية أو متبرعة، و مع ذلك لها نصيب في الشهادة و هو محرميّة الغلام لها، و الولديّة الرضاعيّة و مثل تلك الشهادة غير مقبولة؛ لأحد الوجوه الثلاثة، بل ظاهر قوله: «لا تصدّق» أنّ عدم القبول لأجل كونها مدّعية.

و أمّا ما تقدّمها ففيه: أنّه أمر لا يطّلع عليه الرجال الأجانب غالباً، و أما غيرهم- كزوج المرضعة و أبيها، و آبائهما، و أب الام، و أولادها، و إخوانها، و أولادهم، و أولاد الأُخت، و أعمامها و أخوالها فلِمَ لا يطّلع عليه؟! و أيّ فرق بينهم و بين النساء؟! و لو كان فرق بشي ء يسير لا اعتناء به، مع أنّه أيّ حاجة إلى ثبوت الرضاع و حصول التحريم؟!.

و ممّا ذكر يظهر ما في سابقه أيضاً، من أنّ الثدي ليس شي ء لا يستطيع أن ينظر إليه الرجال، أو لا يجوز، أو لا ينظر:

نعم، لا يجوز للرجال الأجانب، و لم تقيّد الأخبار بالأجانب، و لو خُصّ بذلك لكانت الشهادة على ما يتعلّق بالمرأة مطلقاً كذلك، سيّما على القول بحرمة استماع الأجانب أصواتهن.

فلم يبق إلّا العموم المذكور، و تخصيصه

بالحصر المتقدّم لازم.

فالحقّ هو القول الأول.

______________________________

(1) التهذيب 7: 323، 1330، الوسائل 20: 4012 أبواب عقد النكاح ب 12 ح 3.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 289

المسألة الخامسة: اختلفوا في قبول شهادتهنّ مع الرجال في النكاح:

فعن المفيد و الخلاف و الديلمي و ابن حمزة و الحلّي و ظاهر التحرير: المنع «1»، و عن الصيمري نسبته إلى المشهور؛ لرواية السكوني المتقدّمة «2».

و عن العماني و الإسكافي و الصدوقين و الحلبي و التهذيبين و المبسوط و ابن زهرة و الشرائع و الإرشاد و القواعد و الإيضاح و الدروس و غيرهم من المتأخّرين «3» بل الأكثر كما عن المسالك «4»: القبول، و عليه الإجماع عن الغنية «5».

لصحيحة الحلبي «6»، و الروايات السبع لمحمّد بن الفضيل، و أبي بصير، و الخارقي، و ابن الحصين، و زرارة، و الكناني، المتقدّمة كلّاً في المسألة الثانية «7».

و الرضوي: «و تقبل شهادة النساء في النكاح و الدين، و كلّ ما لا يتهيّأ للرجال أن ينظروا إليه، و لا تقبل في الطلاق، و لا في رؤية الهلال» «8».

______________________________

(1) المفيد في المقنعة: 727، الخلاف 2: 606، الديلمي في المراسم (الجوامع الفقهية): 656، ابن حمزة في الوسيلة: 222، الحلّي في السرائر 2: 139، التحرير 2: 212.

(2) في ص 274.

(3) حكاه عن العماني و الإسكافي في المختلف: 712 و 713، الصدوق في المقنع: 135، و حكاه عنه و عن والده في المختلف: 713، الحلبي في الكافي في الفقه: 439، التهذيب 6: 280، الاستبصار 3: 25، المبسوط 8: 172، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 624، الشرائع 4: 136، القواعد 2: 239، الإيضاح 4: 432، الدروس 2: 137.

(4) المسالك 2: 413.

(5) الغنية (الجوامع الفقهية): 624.

(6) المتقدّمة في 272.

(7) راجع ص 273 و 274.

(8) فقه الرضا «

(عليه السّلام)»: 262، مستدرك الوسائل 17: 426 أبواب الشهادات ب 19 ح 8.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 290

أقول: بعض تلك الأخبار الثمانية و إن كانت مطلقة، و لكنّ أكثرها مقيّدة بما إذا كان معهنّ رجل، و بعد حمل مطلقها على المقيّد يختصّ الجميع بذلك، و يلزم تخصيص رواية السكوني التي هي دليل المنع بذلك؛ لكونها أعمّ مطلقاً.

و لا ينافيه استثناء الديون المثبت لقبول شهادتهنّ فيها مع أنّه أيضاً لا يكون مع انفرادهنّ عن الرجال لمنع عدم قبول شهادتهنّ فيها على الانفراد مطلقاً؛ لقبولها مع اليمين كما يأتي فلعلّه المراد من القبول في صورة الاستثناء.

مع أنّه لو قطع النظر عن ذلك لكان الترجيح لهذه الروايات البتّة؛ للأشهريّة روايةً، و مخالفة العامّة، كما صرّح به شيخ الطائفة «1»، و دلّت عليها تتمّة رواية داود بن الحصين السالف بعضها «2».

و أمّا الجمع بينهما بحمل المنع على ما إذا كان المدّعى الزوج؛ لأنّه لا يدّعي مالًا، و حمل القبول على ما إذا كانت المدّعية الزوجة؛ لأنّ دعواها متضمّنة للمهر و النفقة، كما استوجهه في المسالك «3» فضعيف غايته؛ لفقد التكافؤ، و انتفاء الشاهد عليه.

و ظهر من ذلك أنّ الحقّ هو القول بالقبول، لكن مقيّداً بما إذا كان معهنّ رجل، كما هو مذهب الأصحاب، و قيّده به في الصحيحة، و الروايات الأربع الأُولى «4».

______________________________

(1) الاستبصار 3: 25.

(2) في ص 273.

(3) المسالك 2: 413.

(4) المتقدّمة جميعاً في ص 273.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 291

و صرّح به في رواية إسماعيل بن عيسى : هل تجوز شهادة النساء في التزويج من غير أن يكون معهنّ رجل؟ قال: «لا، هذا لا يستقيم» «1»، و بها تقيّد المطلقات.

المسألة السادسة: صرّح جماعة بعدم قبول شهادة النساء لا منفردات و لا منضمّات في أُمور،

كالرجعة، و العدّة، و

الوكالة، و الوصاية، و الجناية الموجبة للقود، و العتق، و الولاء، و التدبير، و الكتابة، و البلوغ، و الجرح، و التعديل، و العفو عن القصاص، و الإسلام.

و ضبطها في الدروس و المسالك «2» و غيرهما «3» بما كان من حقوق الآدمي غير الماليّة و لا المقصود منه المال.

و نسب ذلك الضبط في الأول إلى الأصحاب، مؤذناً بدعوى الإجماع.

و لكن خدش في الإجماع فيه الأردبيلي في شرح الإرشاد، و قال: لا أعرفه، و لا دليلًا لثبوت القاعدة، و الأصل قبول الشهادة «4».

أقول: الخدش في الإجماع في خصوص تلك الأُمور و في تأسيس القاعدة- في محلّه؛ مع أنّ ما مثّلوا به للقاعدة و ما لخلافها قد لا ينطبق على ما مثّلوا به له.

و قد يراد ببعض أمثلة القاعدة: المال، و قد يقصد ببعض أمثلة خلافها: غير المال، و لذا وقع الخلاف في بعض أمثلة كلّ منهما.

إلّا أنّه يمكن إثبات الحكم و هو عدم القبول في جميع ما مثّلوا به

______________________________

(1) التهذيب 6: 280، 769، الإستبصار 3: 25، 79، الوسائل 27: 362 أبواب الشهادات ب 24 ح 39.

(2) الدروس 2: 137، المسالك 2: 413.

(3) كالخلاف 2: 606، الروضة 3: 141.

(4) انظر مجمع الفائدة و البرهان 12: 422 و ما يليها.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 292

للقاعدة، و ما يشابهه من أمثلة خلافها، و اختلفوا فيها، مع عدم نصّ مخصوص على القبول فيه بما ذكرنا من الحصر المذكور في رواية السكوني «1»، المخصّص به عموم رواية عبد الكريم «2» و نحوه لو وجد.

بل يمكن إثبات أصل القاعدة به أيضاً؛ لعدم كون كلّ ما كان مصداقاً لها ديناً لغةً و لا عرفاً، فعدم القبول فيما يندرج تحتها هو الصحيح.

لا يقال:

تعارض الحصر المذكور مرسلة يونس، المصرّحة بأنّ استخراج الحقوق بأربعة، و عدّ منها الرجل و امرأتين «3»، و الحقوق أعمّ من الماليّة و غيرها.

قلنا: إنّه عدّ منها الرجل الواحد و اليمين، و قد عرفت اختصاصه بالديون بالنصوص، و لازمه تخصيص الحقوق بها أيضاً، أو التوقّف، فلا يثبت في مطلق الحقوق، و اللَّه العالم.

المسألة السابعة: و من ذلك القسم: كلّ أمر غير الديون-

لم يثبت فيه قبول شهادة النساء منفردات أو منضمّات فيه بدليل خاصّ به؛ للحصر المتقدّم، و ستأتي الإشارة إلى بعض أمثلتها في ذيل الأقسام الثلاثة.

القسم الثاني: ما تشترط فيه الذكورة في الجملة

لا المحضة، فتقبل فيه شهادة النساء و لكن مع الرجل، و من ذلك القسم: النكاح على الأشهر الأظهر، كما مرّ.

و قد عرفت الاختلاف في بعض آخر أيضاً، كالجناية الموجبة للقود

______________________________

(1) المتقدّمة في ص 274.

(2) المتقدّمة في ص 278.

(3) الكافي 7: 416، 3، التهذيب 6: 231، 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 7 ح 4.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 293

و الطلاق و غيرهما، و علمت الحقّ فيها.

و منه: الديون عند جماعة «1»، و الأظهر خلافه، كما يأتي.

و ظهر من ذلك أنّ هذا القسم منحصر على المختار في النكاح.

القسم الثالث: ما لا تشترط فيه الذكورة،
اشاره

بل تقبل فيه شهادة النساء منضمّات مع الرجال و منفردات، مع اليمين أو بدونها. و هاهنا مسائل:

المسألة الأُولى : تقبل شهادة النساء في الديون في الجملة،
اشاره

بلا خلاف كما صرّح به جماعة «2»، بل بالإجماع كما عن السرائر و الغنية و المختلف «3» و غيرها «4»، بل بالإجماع المحقّق، فهو الحجّة فيه.

مع الآية الكريمة فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ «5».

و النصوص المستفيضة، كمرسلة يونس المتكرّر ذكرها، و صحيحة الحلبي، و روايتي داود بن الحصين و السكوني، المتقدّمة جميعاً في المسألة الثانية من القسم الأول «6»، و الرضوي المتقدّم في الخامسة منه «7».

و صحيحة أُخرى للحلبي: «إنّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدين، يحلف باللَّه أنّ حقّه لحقّ» «8».

______________________________

(1) منهم ابن سعيد في الجامع للشرائع: 542، صاحب الرياض 2: 444.

(2) منهم ابن إدريس في السرائر 2: 138، السبزواري في الكفاية: 285، صاحب الرياض 2: 444.

(3) السرائر 2: 138، الغنية (الجوامع الفقهية): 624، المختلف: 713.

(4) كالمسالك 2: 414.

(5) البقرة: 282.

(6) راجع ص 272 274.

(7) راجع ص 287.

(8) الكافي 7: 386، 7، الفقيه 3: 33، 106، التهذيب 6: 272، 739، الإستبصار 3: 32، 107، الوسائل 27: 271 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 15 ح 3.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 294

و ثالثة: «إنّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) أجاز شهادة النساء في الدين و ليس معهنّ رجل» «1».

و مرسلة الحلبي: «إنّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) أجاز شهادة النساء في الدين مع يمين الطالب، يحلف باللَّه أنّ حقّه لحقّ» «2».

و موثّقة منصور بن حازم المرويّة في الفقيه: «إذا شهد لطالب الحقّ امرأتان و يمينه فهو جائز» «3»، و رواها

في التهذيب بواسطة واحد ثقة «4».

ثم مقتضى إطلاق غير الاولى من الروايات المذكورة بل صريح الثلاثة الأخيرة سيّما الصحيحة الثالثة قبول شهادتهنّ و لو انفردن عن الرجل، كما هو الحقّ المحكيّ عن الخلاف و المبسوط و النهاية و الإسكافي و القاضي و ابن حمزة و الشرائع و الإرشاد و القواعد و المختلف و شهادات التحرير و الشهيدين «5»، بل كما قيل: الكليني و الصدوق أيضاً «6»، و عن الخلاف: الإجماع عليه «7».

______________________________

(1) الفقيه 3: 32، 100، التهذيب 6: 263، 701، الإستبصار 3: 22، 69، الوسائل 27: 356 أبواب الشهادات ب 24 ح 20.

(2) الكافي 7: 390، 2، التهذيب 6: 269، 723، الإستبصار 3: 29، 95، الوسائل 27: 351 أبواب الشهادات ب 24 ح 2.

(3) الفقيه 3: 33، 105، الوسائل 27: 271 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 15 ح 1.

(4) التهذيب 6: 272، 738، الوسائل 27: 359 أبواب الشهادات ب 24 ح 31.

(5) الخلاف 2: 607، المبسوط 8: 174، النهاية: 333، حكاه عن الإسكافي في المختلف: 712، القاضي في المهذّب 2: 558، ابن حمزة في الوسيلة: 222، الشرائع 4: 137، القواعد 2: 239، المختلف: 713، التحرير 2: 212، الشهيد في الدروس 2: 137، 138، الشهيد الثاني في الروضة 3: 147.

(6) انظر الرياض 2: 444.

(7) الخلاف 2: 607.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 295

لما ذكر من الإطلاقات و العمومات الخالية عن المعارض بالمرّة.

خلافاً للسرائر و النافع و عن قضاء التحرير و التنقيح «1».

للاقتصار على موضع الإجماع و منصوص الكتاب.

و مفهوم الصحيحة الأُولى .

و ظاهر مرسلة يونس: «استخراج الحقوق بأربعة [وجوه ]: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل

و يمين المدّعى، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه» «2».

حيث حصر الاستحقاق بالأربعة، و ليس منها النساء المنفردة؛ مضافاً إلى تصريحها بأنّه إن لم يكن رجل فيرجع إلى يمين المدّعى عليه.

و صحيحة إبراهيم بن محمّد الهمداني: امرأة شهدت على وصيّة رجل لم يشهدها غيرها، و في الورثة من يصدّقها، و منهم من يتّهمها، فكتب (عليه السّلام): «لا، إلّا أن يكون رجل و امرأتان، و ليس بواجب أن تنفذ شهادتها» «3».

و يرد على الأول: أنّ الاقتصار على المجمع عليه و المنصوص إذا لم يكن دليل على غيرهما.

و على الثاني: أنّ التقييد في كلام الراوي، و لا اعتبار بمفهومه؛ مع أنّ مفهومه أيضاً ليس من المفاهيم المعتبرة.

و على الثالث: أنّ مفهوم الحصر عامّ يجب تخصيصه بالدليل، كما

______________________________

(1) السرائر 2: 116، 138، النافع: 288، التحرير 2: 193، التنقيح 4: 307.

(2) الكافي 7: 416، 3، التهذيب 6: 231، 562، الوسائل 27: 271 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 15 ح 2؛ و ما بين المعقوفين من المصادر.

(3) التهذيب 6: 268، 719، الإستبصار 3: 28، 90، الوسائل 27: 360 أبواب الشهادات ب 24 ح 34.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 296

خصّصه في نفس المرسلة أيضاً، حيث صرّحت بالثبوت باليمين المردودة أيضاً.

و كذا مفهوم: إن لم يكن رجل؛ مع أنّ المذكور فيها: «فإن لم يكن شاهد»، و إطلاق الشاهد على المؤنّث شائع.

و على الرابع: أنّه مخالف لعمل الأصحاب، و معارض بالأخبار الكثيرة من ثبوت الوصيّة بالمال، كما يأتي.

فروع:

أ: يشترط في الحكم بشهادتهنّ هنا منفردات عن الرجال ضمّ اليمين و إن كنّ أربع نسوة، بلا خلاف فيه يوجد، بل جعله بعض مشايخنا المعاصرين قطعيّاً «1».

و يدلّ عليه

مفهوم الحصر في المرسلة، حيث جعلت استخراج الحقوق الذي هو الحكم بالأربعة، خرج منها: النساء مع الرجل بالإجماع و الكتاب و السنّة، و مع اليمين بصحيحة الحلبي الثانية و مرسلته و الموثّقة، حيث إنّه لا يمين مع الرجال إجماعاً، فبقي الباقي.

و لا تخرجه رواية السكوني، و لا الرضوي، و لا الصحيحة الثالثة، من جهة عدم اشتمالها على ذكر اليمين، لان قبول الشهادة و إجازتها غير الحكم، و استخراج الحق بها غير مستلزم له، و لذا ورد قبول شهادة الزوج و الولد و الأخ و غيرهم؛ مع أنّه لا يحكم بها الا مع شاهد أو يمين.

مع ان الرضوي ضعيف غير منجبر في المقام، و الصحيحة قضيّة في

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 444.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 297

واقعة أو وقائع.

ب: قد سبق في بحث الحكم بالشاهد و اليمين من بحث القضاء المراد من الدين، و انه مال متعلق بالذمة لغةً و عرفاً، بأي سبب كان، و هو الدين بالمعنى العام، الشامل للدين بالمعنى الأخص الذي هو القرض.

و كذا المراد من كون الدعوى في الدين ان يكون هو المقصود من المخاصمة و لو تعلّقت بسببه، و أنّه يثبت السبب لو كان المقصود من الدعوى هو الدين، كما لو ادّعى الاشتراء منه بمائة لمطالبة المائة، فلو ادّعى المؤجر إجارة البيت لأخذ مال الإجارة يكون دعوى الدين، و لو ادّعى المستأجر الإجارة لم يكن كذلك.

و على هذا، فيشمل الدين للقرض، و النسية، و السلف، و ثمن المبيع، و الضمان، و غرامة التالف، و دية الجنايات، و غير ذلك ممّا يتعلّق فيه المال بالذمّة، و يكون هو المقصود بالدعوى ، سواء تعلّقت به ذاتاً أو بسببه تبعاً.

ج: قد ألحقوا بالدين جميع

الدعاوي الماليّة، أو ما يكون المقصود منه المال؛ و لأجله حكموا بالقبول في دعوى الرهن و الإجارة مطلقاً، و القراض، و الشفعة، و المزارعة، و المساقاة، و الهبة، و الإبراء، و الوصيّة بالمال، و الصداق، و الإقالة، و الردّ بالعيب، و الغصب، و السرقة من جهة المال، و الخيار، و غير ذلك.

و إلحاقهم يشمل ما لو لم يكن هناك دين أيضاً، كما إذا توافقا في أصل الدين و اختلفا في الرهن أو في تعيّنه، و كما إذا أدّى المستأجر الإجارة، و كما إذا كانت الوصيّة بالعين، أو الصداق، و الغصب بها.

و لا أرى لذلك الإلحاق دليلًا، و لم يثبت لي فيه إجماع، و إن نقله في

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 298

المختلف على الدين و العين «1»، و الحصر في رواية السكوني و المرسلة ينفيه، و قد أشار بذلك المحقّق الأردبيلي، حيث قال بعد حكاية القاعدة و احتمال الإجماع عليها-: إنّي لا أعرفهما «2».

و بالجملة: الدليل خير متّبع، و هو مع عدم الإلحاق، و الاقتصار على موضع الدليل و محلّ الوفاق، كما فعله الشيخ في النهاية و الحلّي في السرائر و المحقّق في النافع «3».

نعم، تقبل شهادتهنّ في الوصيّة بالمال كما يأتي.

المسألة الثانية: يثبت بشهادة النساء

منضمّات و منفردات كلّ ما يعسر اطّلاع الرجال عليه غالباً كالولادة، و البكارة، و الثيبوبة، و الحيض، و عيوب النساء الباطنة، كالقَرْن «4» و الرَّتَق «5» و القرحة في الفرج بلا خلاف يوجد، كما صرّح به جماعة منهم ابن زهرة «6» لمسيس الحاجة، و المعتبرة المستفيضة.

منها: الروايات الأربع لمحمّد بن الفضيل، و أبي بصير، و الخارقي، و رواية السكوني، المتقدّمة في المسألة الثانية من القسم الأول «7».

و منها: صحيحة الحلبي: عن شهادة

القابلة في الولادة، قال: «تجوز

______________________________

(1) المختلف: 713.

(2) انظر مجمع الفائدة 12: 423.

(3) النهاية: 333، السرائر 2: 116، المختصر النافع: 288.

(4) القَرْن: العفلة، و هو لحم ينبت في الفرج، و في مدخل الذكر، كالغدّة الغليظة، و قد تكون عظماً مجمع البحرين 6: 299.

(5) الرَّتَق: هو أن يكون الفرج ملتحماً ليس فيه للذكر مدخل مجمع البحرين 5: 167.

(6) الغنية (الجوامع الفقهية): 624.

(7) راجع ص 273 274.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 299

شهادة الواحدة» و قال: «تجوز شهادة النساء في المنفوس و العذرة» «1»، و نحوها صحيحة عبيد اللَّه الحلبي «2».

و صحيحة ابن سنان: «تجوز شهادة النساء وحدهنّ بلا رجال في كلّ ما لا يجوز للرجال النظر إليه، و تجوز شهادة القابلة وحدها في المنفوس» «3».

أقول: المنفوس: الولد.

و موثّقة ابن بكير: «تجوز شهادة النساء في العذرة، و كلّ عيب لا يراه الرجال» «4».

و رواية داود بن سرحان: «أُجيز شهادة النساء في الصبي صاح أو لم يصح، و في كلّ شي ء لا ينظر إليه الرجل تجوز شهادة النساء فيه» «5».

و رواية السكوني الواردة في امرأة شهدت النساء المأمورات بالنظر إليها بالبكارة-: «و كان يجيز شهادة النساء في مثل ذلك» «6»، و بمضمونها رواية زرارة «7».

______________________________

(1) الكافي 7: 390، 2، التهذيب 6: 269، 723، الإستبصار 3: 29، 95، الوسائل 27: 351 أبواب الشهادات ب 24 ح 2.

(2) الفقيه 3: 31، 95، الوسائل 27: 364 أبواب الشهادات ب 24 ح 46.

(3) الكافي 7: 391، 8، التهذيب 6: 264، 702، الإستبصار 3: 23، 70، الوسائل 27: 353 أبواب الشهادات ب 24 ح 10.

(4) الكافي 7: 391، 7، التهذيب 6: 271، 732، الوسائل 27: 353 أبواب الشهادات ب 24 ح 9.

(5) الكافي

7: 392، 13، التهذيب 6: 268، 721، الإستبصار 3: 29، 93، الوسائل 27: 354 أبواب الشهادات ب 24 ح 12.

(6) الكافي 7: 404، 10، التهذيب 6: 278، 761، الوسائل 27: 354 أبواب الشهادات ب 24 ح 13.

(7) الفقيه 3: 32، 97، التهذيب 6: 271، 735، الوسائل 27: 363 أبواب الشهادات ب 24 ح 44.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 300

و الصحاح الثلاث لمحمّد «1»، و العلاء «2»: هل تجوز شهادتهنّ وحدهنّ؟ قال: «نعم في العذرة و النفساء»، إلّا أنّه ليس في إحدى صحيحتي محمّد لفظ: وحدهن.

و موثّقة البصري «3»، و روايته: «تجوز شهادة النساء في المنفوس و العذرة» «4».

و يشترط حيث كنّ منفردات كونهنّ أربعاً على الأصحّ الأشهر، بل عليه- كما قيل «5» عامّة من تأخّر؛ لأنّ قبول شهادتهنّ مخالف للأصل بالحصرين المتقدّمين، فيقتصر فيه على موضع اليقين، و ليس إلّا الأربع؛ لورود المجوّزات كلّا بلفظ: النساء، الذي هو صيغة الجمع، الغير الصادق حقيقةً إلّا على ما زاد على الاثنين، و بضميمة الإجماع المركّب يتعيّن الأربع فما زاد.

و احتمال كون الجمعيّة باعتبار القضايا فلا ينافي اعتبار الوحدة في بعضها- غير مفيد؛ إذ لا يصار إلى خلاف الأصل بمجرّد الاحتمال.

______________________________

(1) صحيحة محمد الأُولى : الكافي 7: 391، 6، الوسائل 27: 353 أبواب الشهادات ب 24 ح 8.

الثانية: التهذيب 6: 270، 727، الإستبصار 3: 30، 99، الوسائل 27: 356 أبواب الشهادات ب 24 ح 19.

(2) التهذيب 6: 269، 725، الإستبصار 3: 30، 97، الوسائل 27: 356 أبواب الشهادات ب 24 ح 18.

(3) الكافي 7: 392، 10، التهذيب 6: 269، 722، الإستبصار 3: 29، 94، الوسائل 27: 355 أبواب الشهادات ب 24 ح 14.

(4) التهذيب 6: 270، 728،

الإستبصار 3: 30، 100، الوسائل 27: 356 أبواب الشهادات ب 24 ح 21.

(5) انظر الرياض 2: 445.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 301

مع أنّ الاكتفاء بالواحدة للولادة و الإتيان بالجمع لغيرها في صحيحتي الحلبي و ابن سنان مشعر بالفرق.

و الأمر بنظر النساء في رواية السكوني يدلّ على عدم الاكتفاء بالواحدة و الاثنتين؛ إذ مع الاكتفاء لم يجز الأمر بنظر الزائدة على القدر المحتاج إليه إلى العورة.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 18    301     المسألة الثانية: يثبت بشهادة النساء ..... ص : 298

قد يؤيَّد ذلك أيضاً ببعض الروايات الدالّة على أنّ شهادة امرأتين عند اللَّه تعالى شهادة رجل «1»، و فيه تأمّل.

نعم، يمكن تأييد ذلك بل الاستدلال بما يأتي من قوله (عليه السّلام) بعد حكمه بنفوذ شهادة المرأة في ربع الوصيّة أنّه: «بحساب شهادتها» «2»؛ حيث يدلّ على أنّ شهادتها المعتبرة تامّة مطلقاً هي الأربع.

و في موثّقة سماعة: «القابلة تجوز شهادتها في الولد على قدر شهادة امرأة واحدة» «3»، و في صحيحة ابن سنان الآتية «4» أيضاً مثله.

خلافاً للمحكيّ عن المفيد و الديلمي، فقالا بقبول شهادة امرأتين في عيوب النساء، و الولادة، و الاستهلال، و الحيض، و النفاس «5»؛ للصحيحتين المصرّحتين بالاكتفاء بالقابلة في الولادة.

و هما غير دالّتين على التعميم الذي ذكراه أولًا، و لا على الترتيب الذي ذكراه ثانياً مطلقاً.

______________________________

(1) الوسائل 27: 271 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 15.

(2) انظر ص 303.

(3) التهذيب 6: 270، 730، الإستبصار 3: 31، 103، الوسائل 27: 357 أبواب الشهادات ب 24 ح 23.

(4) انظر ص 301.

(5) المفيد في المقنعة: 727، الديلمي في المراسم: 233.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 302

و التمسّك فيه بالجمع

بينهما و بين ما يدلّ على جواز شهادة الامرأتين في الاستهلال غير جيّد؛ لأنّ جوازها لا يدلّ على عدم جواز الأقلّ مع أنّ هذا جمع بلا شاهد و لا على ثبوت تمام المشهود به؛ لعدم إطلاقهما، و وجود المقيّد بالربع كما يأتي ثالثاً.

و للمحكيّ عن الإسكافي، فقبل شهادة الواحدة في الأُمور المذكورة بحسابها «1»؛ و لعلّ مستنده القياس على الاستهلال و الوصيّة، و فساده عندنا ظاهر.

و هل تثبت الأُمور المذكورة بشهادة الرجلين و رجل و امرأتين حيث جاز نظر الرجل، أو نظر و تاب أم لا؟

ظاهر كلام الأصحاب: نعم، و هو كذلك؛ لعمومات قبول شهادة العدلين و العدل و الامرأتين، كمرسلة يونس و غيرها «2»، بل لولا الدليل على اختصاص الثبوت بالرجل و اليمين بالدين لقلنا به أيضاً.

خلافاً للمحكيّ عن القاضي «3»؛ معلّلًا بحرمة نظر الرجال إليه.

و جوابه يظهر ممّا ذكرنا، مع أنّ المرأة أيضاً كذلك؛ لحرمة نظرها إلى عورة المرأة، و الضرورة المجوّزة قد تحصل في الرجال أيضاً.

المسألة الثالثة: قد عرفت أنّ ممّا يثبت بشهادة النساء منفردات و منضمّات ولادة الطفل حيّاً؛
اشاره

و دلّت عليه المستفيضة المتقدّمة.

و تمتاز هذه عن غيرها بأنّها تقبل فيها شهادة امرأة واحدة أيضاً، و لكن في ربع ميراثه، و شهادة امرأتين في نصفه، و شهادة ثلاث في ثلاثة

______________________________

(1) نقله عنه في المختلف: 716.

(2) المتقدّمة في ص 291 293.

(3) المهذّب 2: 559.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 303

أرباعه، و إذا كملن الأربع يثبت تمام الميراث؛ بالإجماع كما صرّح به في السرائر «1» و بعض المتأخّرين أيضاً «2».

و تدلّ على أصل الثبوت بالواحدة صحيحتا الحلبي و صحيحة ابن سنان المتقدّمة «3»، و رواية جابر: «شهادة القابلة جائزة على أنّه استهلّ أو برز ميّتاً إذا سُئل عنها فعدلت» «4».

و على ثبوت الربع بالواحدة موثّقة سماعة

المتقدّمة، و صحيحة عمر بن يزيد: عن رجل مات و ترك امرأته و هي حامل، فوضعت بعد موته غلاماً، ثم مات الغلام بعد ما وقع على الأرض، فشهدت المرأة التي قبلتها به أنّه استهلّ، و صاح حين وقع على الأرض، ثم مات، قال: «على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام» «5».

و على ثبوت الربع بها و النصف بالاثنتين: صحيحة ابن سنان: «تجوز شهادة القابلة في المولود إذا استهلّ و صاح في الميراث، و يورث الربع من الميراث بقدر شهادة امرأة»، قلت: فإن كانتا امرأتين؟ قال: «تجوز شهادتهما في النصف من الميراث» «6».

و على ثبوت ثلاثة أرباع بالثلاث و الكلّ بالأربع: مرسلة الفقيه، قال بعد

______________________________

(1) السرائر 2: 138.

(2) كالفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 380.

(3) في ص 297.

(4) التهذيب 6: 271، 737، الوسائل 27: 362 أبواب الشهادات ب 24 ح 38.

(5) الكافي 7: 392، 12، الفقيه 3: 32، 101، التهذيب 6: 268، 720، الإستبصار 3: 29، 92، الوسائل 27: 352 أبواب الشهادات ب 24 ح 6، بتفاوت يسير.

(6) الكافي 7: 156، 4، التهذيب 6: 271، 736، الإستبصار 3: 31، 104، الوسائل 27: 364 أبواب الشهادات ب 24 ح 45، بتفاوت يسير.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 304

نقل صحيحة عمر بن يزيد-: و في رواية اخرى : «إن كانت امرأتين تجوز شهادتهما في نصف الميراث، و إن كنّ ثلاث نسوة جازت شهادتهنّ في ثلاثة أرباع الميراث، و إن كنّ أربعاً جازت شهادتهنّ في الميراث كلّه» «5».

و يمكن إثبات الربعين و الثلاث و الأربع مضافاً إلى الإجماع المركّب بقوله (عليه السّلام) في الصحيحة الثانية: «بقدر شهادة امرأة» فإنّها تدلّ على أنّ شهادة كلّ امرأة تثبت الربع.

و

أمّا ما قيل من أنّ رواية الواحدة تكفي الأربع؛ إذ يصدق على كلّ واحدة منها أنّها شهدت للربع «1».

فكان حسناً لو تضمّنت لثبوت الربع بشهادة كلّ مرأة، و ليست كذلك، بل حكمت بثبوت الربع بعد السؤال عن شهادة القابلة، فيمكن أن يكون السبب للثبوت هو شهادة المرأة، واحدة كانت أو أكثر.

ثم هذه الأخبار كما ترى مخصوصة بالقابلة، أمّا الأُوليان فظاهرتان، و أمّا الأُخريان فلرجوع الضمائر في قوله: «فإن كانتا» و «إن كانت» و: «إن كنّ» إلى المرأة التي قبلتها و إلى القابلة، و لا أقلّ من احتمال ذلك.

و لا يمكن التمسّك بعدم القول بالفصل؛ لتخصيص الشيخ في النهاية و الحلّي في السرائر و المحقّق في النافع القابلة بالذكر «2».

إلّا أنّه يمكن إثبات الحكم في غيرها بقوله: «على قدر شهادة امرأة واحدة» و قوله: «بقدر شهادة امرأة» في الموثّقة و الصحيحة، فتأمّل.

______________________________

(5) الفقيه 3: 32، 102، الوسائل 27: 365 أبواب الشهادات ب 24 ح 48.

(1) انظر الرياض 2: 446.

(2) النهاية: 333، السرائر 2: 138، النافع: 288.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 305

فرعان:

أ: لو وضعت الحامل توأمين تقبل شهادة المرأة الواحدة في ثبوت الربع لكلّ منهما؛ لصدق الغلام على كلّ منهما.

ب: فإن قيل: يثبت بشهادة المرأة الواحدة التولّد حيّاً و ميّتاً كما صُرّح به في رواية جابر و إذا ثبتت الحياة يثبت تمام الميراث.

قلنا: لم يصرّح في رواية جابر بثبوت الحياة بشهادة الواحدة، بل قال بنفوذ شهادتها، و لازمه ترتّب تمام الأثر عليها. و على هذا، فيختصّ الحكم بالميراث، و لا يتعدّى إلى غيره إن كان.

المسألة الرابعة: و ممّا يثبت بشهادة المرأة: الوصيّة بالمال،
اشاره

و هي أيضاً كسابقتها، يثبت الربع بالواحدة، و النصف بالاثنتين، و ثلاثة أرباع بالثلاث، و الكلّ بالأربع؛ بالإجماع، كما في السرائر «1» و غيره «2».

أمّا أصل ثبوت الوصيّة بالمرأة فتدلّ عليه رواية يحيى بن خالد: رجل مات و له امّ ولد، و قد جعل لها سيّدها شيئاً في حياته، ثم مات، قال: فكتب (عليه السّلام): «لها ما أثابها به سيّدها في حياته معروف ذلك لها، تُقبَل على ذلك شهادة الرجل و المرأة و الخدم غير المتّهمين» «3».

و أمّا التفصيل المذكور فلصحيحة ربعي: في شهادة امرأة حضرت رجلًا يوصي ليس معها رجل؟ فقال: «يجاز ربع ما أوصى بحساب شهادتها» «4».

______________________________

(1) السرائر 2: 138.

(2) كالخلاف 2: 609، كشف اللثام 2: 380.

(3) الفقيه 3: 32، 99، الوسائل 27: 364 أبواب الشهادات ب 24 ح 47.

(4) الكافي 7: 4، 4، الفقيه 4: 142، 486، التهذيب 6: 268، 718، الإستبصار 3: 28، 89، الوسائل 27: 355 أبواب الشهادات ب 24 ح 16، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 306

و صحيحة محمّد بن قيس: «قضى أمير المؤمنين (عليه السّلام) في وصيّة لم يشهدها إلّا امرأة، فقضى أن تجاز شهادة المرأة في ربع الوصيّة» «1».

و موثّقة أبان:

في وصيّة لم يشهدها إلّا امرأة، فأجاز شهادة المرأة في الربع من الوصيّة بحساب شهادتها «2».

و التعدّي إلى الربعين فما زاد بالإجماع المركّب، و قوله: بحساب شهادتها.

و أمّا بعض الأخبار الدالّة على عدم قبول شهادتهنّ منفردات في الوصيّة مطلقاً- كصحيحة إبراهيم بن محمّد «3» و ابن بزيع «4» فلا تصلح لمعارضة ما مرّ؛ لشذوذها المخرج لها عن الحجّية، مضافاً إلى موافقتها للعامّة كما صرّح به شيخ الطائفة «5»، و يشعر به بعض المعتبرة.

فروع:

أ: هل يشترط قبول شهادة المرأة في هذه المسألة و السابقة عليها بتعذّر الرجال كما في نهاية الشيخ و السرائر و عن القاضي و ابن حمزة «6»

______________________________

(1) التهذيب 6: 267، 717 و ج 9: 180، 720، الإستبصار 3: 28، 88، الوسائل 27: 355 أبواب الشهادات ب 24 ح 15.

(2) الكافي 7: 4، 5، التهذيب 9: 180، 722، الوسائل 19: 317 أبواب أحكام الوصايا ب 22 ح 2، بتفاوت يسير.

(3) المتقدّمة في ص 293.

(4) التهذيب 6: 280، 771، الإستبصار 3: 28، 91، الوسائل 27: 362 أبواب الشهادات ب 24 ح 40.

(5) الاستبصار 3: 29.

(6) النهاية: 333، السرائر 2: 138، القاضي في المهذّب 2: 559، ابن حمزة في الوسيلة: 222.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 307

أو لا، كما هو مقتضى إطلاق كلام الأكثر؟

قيل: مقتضى إطلاق النصوص: الثاني «1».

أقول: أين إطلاق النصوص؟! أمّا أخبار المسألة الأُولى فالشائع الغالب المتبادر فيها يوجب انصرافها إلى صورة التعذّر، و أمّا الثانية فغير واحدة من أخبارها مخصوصة بصورة التعذّر.

نعم، ظاهر إطلاق رواية يحيى القبول مطلقاً، و لعلّه يكفي في إثباته، و اللَّه العالم.

ب: في ثبوت النصف بالرجل في المسألتين؛ لمساواته الامرأتين في المعنى ، أو الربع؛ للفحوى ، أو سقوط

شهادته رأساً؛ لخروجه عن مورد النصوص. أوجه، أوجهها الأخير، وفاقاً للإيضاح «2» و غيره؛ للأصل.

و اختار في القواعد و الروضة و المسالك الوسط «3»؛ لما مرّ.

و يضعّف بعدم معلوميّة العلّة في الأصل، فمن أين الأولويّة؟! ج: لا يختصّ قبول الوصيّة على التفصيل المذكور بالوصيّة لشخص معيّن، بل يجري في الوصيّة للفقراء، و وجوه البرّ، و سائر المصارف العامّة، و العبادات العالميّة و البدنيّة، و العتق، و الوقف، و غيرها؛ لإطلاق النصوص.

د: لو أقرّ الميّت حال حياته بشي ء لشخص من دين أو عين، و اكتفى بالإقرار، فهو ليس وصيّة، فلا يثبت بما تثبت به الوصيّة. و لو ضمّ معه قوله: أعطوه بعد مماتي، كان وصيّة.

______________________________

(1) كما في الرياض 2: 446.

(2) الإيضاح 4: 435.

(3) القواعد 2: 239، الروضة 3: 146، المسالك 2: 414.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 308

ه: لو أوصى بالزائد عن الثلث اعتبر الربع و الربعان و الثلاثة أرباع ممّا أوصى به، لا من الثلث، فيحكم بثبوت ربع ما أوصى به مثلًا، و يعمل فيه ما يعمل في الوصيّة، من الرجوع إلى الثلث، و طرح ما زاد.

و: لو أوصى بعين لا يمكن تقسيمه إلّا بضرر كزوج خفّ، أو فرد صندوق- يشترك فيه الموصى له بقدر ما ثبت له من الربع و غيره.

ز: لو أوصى بما لا ربع له كنقل نعشه إلى أحد المشاهد لم يثبت فيه شي ء؛ إذ لا ربع له.

و لا يرجع إلى الأُجرة؛ لعدم كونها موصى بها، و يحتمل الرجوع إليها؛ لأنّ الوصيّة بالنقل تستلزم الوصيّة بها، فيعمل في الربع و نحوه بما يعمل به في الوصيّة بما لا يفي بعمل أوصى به، فيرجع إلى الورثة على الأظهر.

و نحوه لو أوصى ببناء

قنطرة أو رباط أو مسجد على نحو معيّن، و احتمال الرجوع إلى الأُجرة هنا أظهر.

ج: هل يجوز للمرأة الواحدة و نحوها تضعيف ما أوصى به في الشهادة حتى يثبت تمام الوصيّة فتشهد فيما أوصى بواحد بأربعة، و لو كانتا اثنتين فباثنين حتى يثبت الواحد أم لا؟

الظاهر: العدم؛ لكونه كذباً، و لا دليل على تجويزه هنا.

نعم، لو كذبت لم تضمن قدر الوصيّة؛ للأصل.

و لو كذبت، فإن علم به الحاكم ردّ شهادتها في الزائد على الوصيّة، و حكم بربع ما أوصى ؛ و إن لم يعلم يحكم بالربع.

ط: كلّ ما ذكر فيه ردّ شهادة المرأة و عدم قبولها إنّما هو إذا لم يبلغ حدّ الشياع المفيد للعلم للحاكم، و إن بلغ فيعمل بمقتضاها؛ لوجوب عمل

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 309

الحاكم بعلمه. و كذا لو ضمّت مع شهادتها القرائن المفيدة للعلم.

و لنختم ذلك الفصل بمسائل أربع:
المسألة الأُولى : اختلف الأصحاب في اشتراط الحرّية في قبول الشهادة و عدمه على سبعة أقوال:

الأول: عدمه، فتقبل شهادة المملوك مطلقاً، حكي عن الجامع و الشهيد الثاني «1» (رحمه اللَّه) و تبعهما جمع من متأخّري المتأخّرين، منهم: صاحب الكفاية و المفاتيح و شارحه «2» و غيرها «3»، و يظهر من المحقّق الأردبيلي الميل إليه «4».

لعمومات قبول شهادة العدل كتاباً و سنّة، و خصوص المعتبرة المستفيضة:

كصحيحة البجلي المتضمّنة لحكاية درع طلحة، و فيها حكاية عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) في ردّ شريح: «فقلتَ: هذا مملوك، و لا أقضي بشهادة المملوك، و ما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلًا» «5».

و صحيحة اخرى له: «لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلًا» «6».

______________________________

(1) الجامع للشرائع: 540، الشهيد الثاني في المسالك 2: 407.

(2) الكفاية: 283، المفاتيح 3: 281.

(3) كالرياض 2: 436.

(4) زبدة البيان: 692، مجمع الفائدة 12: 410 412.

(5) الكافي 7: 385، 5، الفقيه 3: 63،

213، التهذيب 6: 273، 747، الإستبصار 3: 34، 117، الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14 ح 6، بتفاوت.

(6) الكافي 7: 389، 1، التهذيب 6: 248، 634، الإستبصار 3: 15، 42، الوسائل 27: 345 أبواب الشهادات ب 23 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 310

و حسنة العجلي: عن المملوك تجوز شهادته؟ قال: «نعم، و إنّ أول من ردّ شهادة المملوك لَفلان» «1».

و حسنة محمّد: في شهادة المملوك، قال: «إذا كان عدلًا فهو جائز الشهادة، إنّ أول من ردّ شهادة المملوك عمر بن الخطّاب» «2».

و صحيحة محمّد: «تجوز شهادة العبد المسلم على الحرّ المسلم» «3».

و هي تدلّ على جواز شهادته على غير الحرّ و غير المسلم بالطريق الأولى ، و عدم القول بالفصل.

الثاني: عدم القبول مطلقاً، و هو مذهب العماني «4»، و نسبه في المسالك إلى أكثر العامّة «5»، و يظهر من الشيخ أنّه مذهب عامّتهم «6»، و نسبه في كنز العرفان إلى فقهائهم الأربعة «7».

لصحيحة الحلبي: عن شهادة ولد الزنا، فقال: «لا، و لا عبد» «8».

و صحيحة محمّد: تجوز شهادة المملوك من أهل القبلة على أهل الكتاب»، و قال: «العبد المملوك لا تجوز شهادته» «9».

______________________________

(1) الكافي 7: 390، 3، التهذيب 6: 248، 635، الإستبصار 3: 16، 43، الوسائل 27: 345 أبواب الشهادات ب 23 ح 2.

(2) الكافي 7: 389، 2، التهذيب 6: 248، 633، الإستبصار 3: 15، 41، الوسائل 27: 345 أبواب الشهادات ب 23 ح 3، بتفاوت يسير.

(3) الفقيه 3: 26، 69، التهذيب 6: 249، 636، الإستبصار 3: 16، 44، الوسائل 27: 346 أبواب الشهادات ب 23 ح 5.

(4) حكاه عنه في المختلف: 720.

(5) المسالك 2: 407.

(6) الخلاف 2:

613.

(7) كنز العرفان 2: 53.

(8) التهذيب 6: 244، 612، الوسائل 27: 376 أبواب الشهادات ب 31 ح 6.

(9) التهذيب 6: 249، 638، الإستبصار 3: 16، 46، الوسائل 27: 348 أبواب الشهادات ب 23 ح 10.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 311

و موثّقة سماعة: عمّا يردّ من الشهود؟ فقال: «المريب، و الخصم، و الشريك، و دافع مغرم، و الأجير، و العبد، و التابع، و المتّهم؛ كلّ هؤلاء تُردّ شهادتهم» «1».

و رواية السكوني، و فيها: «و العبد إذا شهد شهادة ثم أُعتق جازت شهادته إذا لم يردّها الحاكم قبل أن يُعتَق» «2».

دلّت بالمفهوم على عدم الجواز قبل العتق.

الثالث: عدم القبول على الحرّ المسلم، و القبول على غيره، و هو مذهب الإسكافي، و المحكيّ عنه في المختلف و الإيضاح و المسالك «3» و غيرها «4» في جانبي الردّ و القبول هو ما كان عليه، و لم يتعرّضوا لما كان له، و الظاهر أنّ المعنى على أمره، سواء كان له أو عليه.

و كيف كان، فدليله في جانب القبول العمومات، و منطوق صدر صحيحة محمّد الثانية المتقدّمة، و مفهوم صحيحته الأُخرى الآتية.

و في جانب الردّ فصحيحته الأُخرى : «لا تجوز شهادة العبد المسلم على الحرّ المسلم» «5»، و مفهوم صدر صحيحته الثانية.

و في الجانبين الجمع بين الأخبار، و المرويّ في الخلاف عن

______________________________

(1) التهذيب 6: 242، 599، الإستبصار 3: 14، 38، الوسائل 27: 378 أبواب الشهادات ب 32 ح 3.

(2) الفقيه 3: 28، 80، التهذيب 6: 250، 643، الإستبصار 3: 18، 51، الوسائل 27: 349 أبواب الشهادات ب 23 ح 13.

(3) المختلف: 720، الإيضاح 4: 429، المسالك 2: 407.

(4) كالكفاية: 283.

(5) التهذيب 6: 249، 637، الإستبصار 3: 16، 45، الوسائل 27:

348 أبواب الشهادات ب 23 ح 12.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 312

أمير المؤمنين (عليه السّلام): «أنّه كان يقبل شهادة بعضهم على بعض، و لا يقبل شهادتهم على الأحرار» «1».

الرابع: القبول في الشهادة مطلقاً، إلّا على مولاه خاصّة، فلا تُقبَل و تُقبَل له أيضاً، ذهب إليه الشيخان و السيّدان و الديلمي و القاضي و ابن حمزة و الحلّي و الفاضلان و الفخري و الصيمري «2»، بل الأكثر كما في الشرائع و الدروس و المسالك و الكفاية و شرح الإرشاد للأردبيلي «3»، بل عليه الإجماع في السرائر و عن الانتصار و الغنية «4».

أمّا في الجزء الأول: فلما مرّ في دليل الأول.

و أمّا الثاني: فللجمع بينه و بين ما مرّ دليلًا للقول الثاني، و للإجماع المنقول، و الشهرة المحقّقة، و قياسه على الولد في شهادته على الوالد؛ لاشتراكهما في تحريم العقوق.

و لصحيحة الحلبي: في رجل مات و ترك جارية و مملوكين، فورثهما أخ له، فأعتق العيدين، و ولدت الجارية غلاماً، فشهدا بعد العتق أنّ مولاهما كان أشهدهما أنّه كان يقع على الجارية، و أنّ الحمل منه، قال: «تجوز شهادتهما، و يردّان عبدين كما كانا» «5»، و لو لم تكن شهادتهما

______________________________

(1) الخلاف 2: 613.

(2) المفيد في المقنعة: 726، الطوسي في الخلاف 2: 613، المرتضى في الانتصار: 246، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 624، الديلمي في المراسم: 232، القاضي في المهذب 2: 557، ابن حمزة في الوسيلة: 230، الحلّي في السرائر 2: 135، المحقّق في الشرائع 4: 131، العلامة في المختلف: 721، الفخري في الإيضاح 4: 430.

(3) الشرائع 4: 131، الدروس 2: 132، المسالك 2: 407، الكفاية: 283.

(4) السرائر 2: 135، الانتصار: 246، الغنية (الجوامع الفقهية): 624.

(5)

التهذيب 6: 250، 642، الإستبصار 3: 17، 50، الوسائل 27: 347 أبواب الشهادات ب 23 ح 7.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 313

مردودة على السيّد لم يكن لعتقهما فائدة.

و ما في كنز العرفان، حيث قال: و اختُلِفَ في شهادة العبد إلى أن قال و عن أهل البيت روايات أشهرها و أقواها القبول إلّا على سيّده خاصّة «1».

الخامس: عدم القبول للمولى، و القبول عليه و على غيره و له، نقله في المختلف و الإيضاح عن الصدوقين «2»؛ لمكان التهمة، و صحيحة ابن أبي يعفور: عن الرجل المملوك المسلم تجوز شهادته لغير مواليه؟ فقال: «تجوز في الدَّين و الشي ء اليسير» «3»، دلّت بالمفهوم على عدم القبول للموالي.

السادس: القبول في غير المولى، و عدمه فيه لا له و لا عليه، نقله في السرائر و المختلف و الإيضاح عن الإستبصار «4»، و في الثاني عنه و عن التهذيب، و في الجميع عن الحلبي؛ لمكان التهمة في المولى طمعاً و خوفاً، و للجمع بين الأخبار.

السابع: القبول على المولى، و عدم القبول له و لا لغيره أو عليه، نقله في الشرائع و القواعد «5»، و قال في المسالك و الكفاية: إنّ قائله غير معلوم «6». و لعلّ مستنده التوفيق بين الأخبار.

______________________________

(1) كنز العرفان 2: 53.

(2) المختلف: 720، الإيضاح 4: 430.

(3) التهذيب 6: 250، 640، الإستبصار 3: 17، 48، الوسائل 27: 347 أبواب الشهادات ب 23 ح 8.

(4) السرائر 2: 135، المختلف: 720، الإيضاح 4: 430.

(5) الشرائع 4: 131، القواعد 2: 238.

(6) المسالك 2: 407، الكفاية: 283.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 314

أقول: أمّا دليل القول الأول فلا شي ء فيه، إلّا معارضة بعض الأخبار المذكورة دليلًا لبعض الأقوال المخالفة، و

يأتي حالها.

و أمّا دليل الثاني فيضعف بمعارضة أخباره مع خصوصات أخبار دليل الأول، و أعمّيتها مطلقاً من بعض تلك الأخبار؛ لاختصاصه بالمملوك العدل، فتخصيصها به لازم.

ثم بمعارضتها مع بعضٍ آخر من خصوصاتها بالمساواة، فيجب الرجوع إلى المرجّحات، و هي مع ذلك البعض؛ لموافقته الكتاب، و مخالفته العامّة، و موافقة هذه الأخبار لهم، و هما من المرجّحات القويّة.

ثم بمعارضتها لصدر صحيحة محمّد الثانية، و المرويّ في الخلاف، و صحيحتي الحلبي و ابن أبي يعفور، المتقدّمة جميعاً؛ مع كونها أخصّ مطلقاً من تلك الأخبار المانعة.

هذا، مع ما في تلك الأخبار من الشذوذ، و المخالفة لفتوى القدماء- إلّا نادراً- الموجبين لخروجها عن الحجّية، بل كونها مخالفة للإجماع في الجملة؛ حيث إنّ مخالفة العماني في انعقاده غير ضائرة.

و من ذلك يظهر سقوط ذلك القول عن درجة الاعتبار.

و يظهر أيضاً ضعف دليل الثالث؛ لأنّه ما كان من جانب القبول و إن كان مطابقاً لأدلّة القول الأول و لكن ما في جانب الردّ يعارض هذه الأدلّة.

فمع بعضها بالعموم المطلق، و هو صحيحة البجلي الأُولى ، المتضمّنة لشهادة قنبر على من هو مسلم ظاهراً و حرّ.

و مع الباقي بالعموم و الخصوص المطلقين، الراجح معارضه بموافقة الكتاب، و مخالفة العامّة، و الأشهريّة رواية، و الأحدثيّة، التي كلّها من المرجّحات المنصوصة المقبولة.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 315

مضافاً إلى ما قيل من عدم صراحة الصحيحة الأُولى «1»، لاحتمال إرادة عدم الجواز على معناه و هو النهي؛ لكونه بدون إذن مولاه. و إن كان ذلك خلاف الظاهر؛ لأنّه لو كان ذلك لما كان وجه للتخصيص بالعبد المسلم و لا بالحرّ المسلم؛ مع أنّها تشمل صورة الإذن أيضاً.

و إلى كون دلالة الصحيحة الثانية بمفهوم اللقب، الذي

هو ليس بحجّة.

و كون رواية الخلاف ضعيفة غير منجبرة.

هذا كلّه، مع ما في الجميع من الشذوذ المخرج عن الحجّية.

و أمّا حديث الجمع بين الأخبار ففيه: أنّ الجمع إنّما هو فرع التكافؤ و حجّية الطرفين، و هو هنا مفقود؛ مع أنّ الجمع غير منحصر بذلك.

فهذا القول أيضاً كسابقه ضعيف غايته.

و كذا القول الرابع؛ لضعف ما استدلّ به لجانب الردّ غاية الضعف.

أمّا الجمع بين الأخبار فلما عرفت في سابقه.

و أمّا الإجماع المنقول و الشهرة فلعدم حجّيتهما أصلًا، سيّما في مقابلة الكتاب و السنّة المتواترة معنى .

و توهّم تحقّق الإجماع مع مخالفة القديمين و الصدوقين و الشيخ في التهذيبين و الحلبي و صاحب الجامع «2»، و هم من أركان القدماء، و جماعة

______________________________

(1) أي صحيحة محمّد المتقدّمة في ص 308.

(2) حكاه عن القديمين و هما الإسكافي و العماني في المختلف: 720، و عن الصدوقين في المختلف: 720، و الإيضاح 4: 430، التهذيب 6: 249 251، الإستبصار 3: 17، الحلبي في الكافي في الفقه: 435، يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع: 540.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 316

من المتأخّرين «1» و تردّد الفاضل في القواعد «2» توهّم فاسد جدّاً.

و أمّا قياسه على الوالد و الولد فهو أفسد.

و أمّا صحيحة الحلبي فهي عن الدلالة خالية بالمرّة؛ إذ ليس العتق إلّا في كلام السائل، و مع ذلك هو عتق فاسد، فدلالتها على الجواز أشبه، و لو دلّت فبمفهوم الوصف، و هو ضعيف.

و أمّا عبارة الكنز فكونها رواية غير معلومة، كما اعترف به المستدلّ به، قال- بعد ذكر شواهد على عدم رواية فيه-: و كلّ هذا ظاهر في عدم رواية عليه بالخصوص، و أمّا ما ذكره في الكنز من الرواية لعلّه اشتباه، و

يشبه أن يكون مراده بها إمّا الروايات المانعة مطلقاً بعد الحمل على المنع هنا خاصّة جمعاً، أو خصوص الصحيحة الآتية «3». انتهى .

و مراده من الصحيحة صحيحة الحلبي التي قدّمناها.

و أمّا أدلّة سائر الأقوال فضعفها ممّا مرّ في اشتراط انتفاء التهمة، و ما مرّ في عدم انحصار وجه الجمع، بل دلالة الأخبار بانحصاره في الحمل على التقيّة ظاهر، سيّما الاستدلال بصحيحة ابن أبي يعفور، فإنّ التقييد فيها إنّما هو في السؤال، و لو دلّ فبمفهوم الوصف، و ينافي ذيلها مذهب المستدلّ.

و من جميع ما ذكر ظهر أنّ الأول هو أصحّ الأقوال، و من اللَّه التوفيق

______________________________

(1) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 407، السبزواري في الكفاية: 283، الكاشاني في المفاتيح 3: 281.

(2) القواعد 2: 238.

(3) انظر الرياض 2: 437.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 317

في كلّ حال.

المسألة الثانية: ليس شي ء من البصر و السمع شرطاً في القبول،

فتقبل شهادة الأعمى و الأصمّ إذا جمعا سائر الشرائط، و تحمّلاها حال الصحّة، أو لم يفتقر المشهود به في الأول إلى الرؤية، و في الثاني إلى السماع.

بلا خلاف في الأول مطلقاً، بل عن الانتصار و الخلاف و الغنية الإجماع عليه «1»؛ و تدلّ عليه العمومات، و خصوص روايتي محمّد بن قيس و ثعلبة بن ميمون «2»، و المرويّ في الاحتجاج عن محمّد بن عبد اللَّه الحميري، عن صاحب الزمان (عليه السّلام) «3».

و كذا في الثاني في الجملة؛ للعمومات المذكورة، بلا معارض لها، سوى رواية جميل: عن شهادة الأصمّ في القتل؟ قال: «يؤخذ بأول قوله، و لا يؤخذ بالثاني» «4».

و حكي عن النهاية و القاضي و ابن حمزة الفتوى بمضمونها «5».

و ردّها الأكثر بضعف السند، و المخالفة للأُصول، لأنّ القول الثاني إن كان منافياً للأول كان رجوعاً عنه، فيجب ردّ

الأول، كما هي القاعدة في رجوع الشاهد. و إن كان موافقاً له يكون مؤكّداً له، فلا ردّ. و إن كان غير مرتبط به فهو كلام مستقلّ لا دخل له بالأول.

______________________________

(1) الانتصار: 249، الخلاف 2: 612، الغنية (الجوامع الفقهية): 624.

(2) الكافي 7: 400، 1 و 2، التهذيب 6: 254، 662 و 663، الوسائل 27: 400 أبواب الشهادات ب 42 ح 1، 2.

(3) الاحتجاج: 490، الوسائل 27: 400 أبواب الشهادات ب 42 ح 4.

(4) الكافي 7: 400، 3، التهذيب 6: 255، 664، الوسائل 27: 400 أبواب الشهادات ب 42 ح 3.

(5) النهاية: 327، القاضي في المهذّب 2: 556، ابن حمزة في الوسيلة: 230.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 318

و يمكن أن يختار الأول، و يخصّ ردّ الشهادة الأُولى بغير مورد الرواية؛ لأنّ ما دلّ على طرح الشهادة الأُولى بالرجوع و هو أيضاً مرسلة جميل «1» عامّ، و تخصيصه بالخاصّ ليس بعزيز،، سيّما إذا كان الخاصّ معمولًا به عند جماعة من الأعيان.

فإذن المختار هو قول الشيخ، و لكن يلزم تخصيصه بالقتل؛ لأنّه مورد الرواية، و عدم ثبوت الإجماع المركّب.

المسألة الثالثة: المعتبر في الشرائط وجودها في الشاهد عند أداء الشهادة،

فلو تحمّلها فاقداً لبعضها و أدّاها حال الاستجماع قبلت؛ للعمومات، و أصالة عدم الاشتراط حين التحمّل؛ و تدلّ عليه الروايات الواردة في موارد مخصوصة، كالصبي إذا بلغ، و الكافر إذا أسلم، و الأجير إذا فارق، و العبد إذا أُعتق، و الفاسق إذا تاب، و قد مرّ شطر منها في طيّ بيان تلك الشرائط.

المسألة الرابعة: لا تُردّ شهادة أرباب الصنائع المكروهة-

كالصياغة و بيع الرقيق و لا الدنيئة عادةً كالحياكة و الحجامة و لو بلغت غايتها- كالزبّال و الوقّاد- و لا ذوي العاهات و الأمراض الخبيثة كالأجذم و الأبرص بعد استجماع الجميع شرائط قبول الشهادة، بلا خلاف يوجد كما قيل «2»، بل مطلقاً كما في الكفاية «3»، بل عن ظاهر السرائر و المسالك الإجماع عليه «4».

______________________________

(1) الكافي 7: 383، 1، الفقيه 3: 37، 124، التهذيب 6: 259، 685، الوسائل 27: 326 أبواب الشهادات ب 10 ح 1.

(2) انظر الرياض 2: 446.

(3) الكفاية: 281.

(4) السرائر 2: 118، المسالك 2: 404.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 319

و تدلّ عليه عمومات قبول الشهادة من الكتاب و السنّة، مع خلوّها عن المعارض بالمرّة، عدا ما توهّمه بعض العامّة من أنّ اشتغالهم بهذه الحرف و رضاهم يشعر بالخسّة و قلّة المروّة «1».

و هو ضعيف غايته، سيّما على القول بعدم اعتبار المروّة في قبول الشهادة، و كذا على اعتبارها، إذا لم تكن في ارتكاب هذه الصناعات منافاة للمروّة من غير جهة نفس الصنعة من حيث هي، كما إذا كان من أهلها، أو لم يُلَم مثله في مثلها بحسب العادة.

و أمّا مع الملامة له فيها بأن كان من أهل بيت العزّ و الشرف، الذي لا تناسب حاله تلك الصنعة، فارتكبها بحيث يلام فيتأتّى عدم قبول شهادته حينئذ، على القول

باعتبار المروّة، و عدم القبول من هذه الجهة غير عدم القبول من حيث ارتكاب الصنعة من حيث إنّها هي، فإنّ الحيثيّات في جميع الأُمور معتبرة.

______________________________

(1) انظر المغني و الشرح الكبير 12: 35 و 48.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 320

الفصل الثاني في بيان مستند الشاهد و ما يتعلّق به

اشاره

و فيه مقدّمة و مسائل:

أمّا المقدّمة: ففيها ثلاث فوائد:
الفائدة الأُولى

اعلم أنّ من يخبر عن شي ء إمّا يخبر به عن علم، أو ظنّ؛ و كلّ منهما إمّا شرعي، أو عقلي، أو عادي؛ و من الأخير: المعلوم أو المظنون بأحد الحواسّ الخمس الظاهريّة؛ و قد يحصلان من الحدس أو التجارب أيضاً، و منه: إخبار الطبيب، و الرمّال، و المنجّم، و القيّاف، و نحوهم.

الفائدة الثانية: اعلم انّ المخبر عن واقعة على ثلاثة أقسام:

الأول: أن يخبر بتفاصيل أسباب علمه أو ظنّه بالمخبَر به جزءاً جزءاً، حتى ينتهي إلى آخر الواقعة، فيقول: رأيت المُلك الفلاني في يد زيد منذ مدّة كذا، يتصرّف فيه كيف شاء، مدّعياً ملكيّته من غير معارض له إلى الآن.

أو يقول: سمعت ذلك من جمع يمتنع عادةً تواطؤهم على الكذب، أو من عدلين.

أو: شاهدت زيداً استقرض من عمرو المبلغ الفلاني، و هو أقرضه و أقبضه إيّاه بحضوري.

أو يقول: شاهدت المُلك في يده في السنة السابقة و يده عليه مستصحبة عندي إلى اليوم.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 321

أو: يشبه بالقيافة هذا الابن فلاناً، و نحو ذلك.

الثاني: أن يخبر بالعلم أو الظنّ بالمخبَر به من غير تفصيل أسباب العلم أو الظنّ و موجباته، فيقول: إنّي أعلم أنّ هذا الملك ملك زيد، أو أظنّه.

أو: أعلم أنّ زيداً تشتغل ذمّته لعمرو بالمبلغ الفلاني، أو أظنّه.

أو: أعلم أنّ زيداً ابن عمرو، أو أظنّه، و غير ذلك.

الثالث: أن يخبر بالمخبَر به مطلقاً، مجرّداً عن العلم أو الظنّ، و عن تفصيل موجباتهما، كأن يقول: هذا ملك زيد، أو: زيد مشغول الذمّة لعمرو بمبلغ كذا، أو: زيد ابن عمرو، و أمثال ذلك.

الفائدة الثالثة: اعلم أنّ كلام الفقهاء في هذا المقام إمّا يكون في بيان وظيفة الشاهد و تكليفه، أو في وظيفة الحاكم و شأنه.

أمّا على الأول: فيكون المراد أنّه في مقام الشهادة بأي مستند تجوز له الشهادة بالمشهود به، من العلم أو الظنّ، ثم العلم بمطلقه، أو الحاصل بأحد الحواسّ الظاهرة، أو الشرع، أو العقل، أو التجارب، أو الحدس، و كذا الظنّ بمطلقه، أو بالمتاخم للعلم.

و على هذا لا يكون لهم كلام في القسم الأول؛ لأنّ المشهود به فيه نفس المستند و الدليل و الأسباب، دون المدلول و المسبّب، و هي لا تحتاج إلى مستند و دليل، و جواز الشهادة على ذلك النحو

بديهي، و على الحاكم الحكم بمقتضاه من النتائج و المدلولات.

إلّا أن يقال: إنّه يجب أن يكون عالماً بذلك المستند، فإذا قال: رأيت، أو سمعت، كان عالماً برؤية فلان، أو سماع الكلام الفلاني، أو نحوهما.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 322

بل و كذا الظاهر أنّه ليس كلامهم في القسم الثاني؛ لأنّهم يقولون: ضابط مستند الشهادة العلم، و لا معنى لكون العلم مستند العلم.

إلّا أن يتكلّم فيه في أنواع العلوم، أي في أنّ أيّ علم يعتبر شرعاً، حتى يجوز للشاهد أن يجعله مبنى الشهادة، و يشهد شهادة علميّة بسببه؟ فيقولون: إنّه يجب أن يكون المستند في المبصرات حسن البصر مثلًا، و لا تجوز الشهادة العلميّة فيها بالعلم الحاصل من السماع.

أو يتكلّم فيه فيما يفيد العلم و لا يفيده، حتى يجوز بواسطته الإخبار بالعلم بالمشهود به، أو لا يجوز.

و لكنّهما خلاف الظاهر من مرادهم.

فكلامهم على هذا إنّما هو في القسم الثالث، يعني: أنّ مستند الشهادة بالملك المطلق مثلًا، أو اشتغال الذمّة المطلق، أو غيرهما ما هو، و في أيّ مقام تصحّ و تجوز له الشهادة بالمطلق، و في أيّة لا تصحّ؟

و أمّا على الثاني، فيكون المراد: أنّ الحاكم بأيّ شهادة يجوز له الحكم أو يجب؟ أ بالمستند إلى العلم، أو يجوز العمل بالمستند إلى الظنّ أيضاً؟

و على الأول: فبالمستند بأيّ علم؟ فهل يختصّ بالعلم الحاصل من حسن البصر في المبصرات، و حسن السمع في المسموعات، و هكذا؛ أو يحكم بالمستند إلى العلم مطلقاً و لو بالحاصل من السماع في المبصرات؟

و على هذا، لا يكون كلامهم إلّا في القسم الأول؛ إذ في القسمين الأخيرين لم يُذكَر مستند و لا سبب حتى يقال: إنّه هل يجوز للحاكم الحكم به

أم لا؟

نعم، يمكن أن يكون هناك كلام آخر، و هو: أنّه هل يجوز للحاكم

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 323

الحكم بالشهادة المطلقة من غير بيان العلم أو الظنّ، أو بالشهادة العلميّة من غير ذكر مستند العلم، أنّه هل هو الحسّ، أو السماع، أو التجربة، أو الشرع، أو غير ذلك؟

المسألة الأُولى : قالوا: إنّ ضابط المستند و ما يصير به الشاهد شاهداً: العلم القطعي

العادي بلا خلاف فيه، في غير ما يجي ء الخلاف فيه.

لمرسلة الفقيه: «لا تكون الشهادة إلّا بعلم، من شاء كتب كتاباً و نقش خاتماً» «1».

و روايتي عليّ بن غياث «2» و عليّ بن غراب «3»: «لا تشهدنَّ بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفّك».

و في النبويّ: و قد سُئل عن الشهادة، [قال ]: «هل ترى الشمس؟» فقال: نعم، فقال: «على مثلها فاشهد، أو دع» «4».

قال في السرائر: و ما روي عن الأئمّة الأطهار في مثل هذا المعنى أكثر من أن يحصى «5».

و يدلّ عليه أيضاً: أنّه لولاه للزم الكذب؛ لأنّ من يخبر عن شي ءٍ ظاهرٌ في أنّه يخبر عن الواقع عالماً به، و لو قيّده بالعلم أيضاً يصير صريحاً فيه، فلو لم يكن عالماً كان كاذباً.

______________________________

(1) الفقيه 3: 43، 146، الوسائل 27: 341 أبواب الشهادات ب 20 ح 2.

(2) الكافي 7: 383، 3، التهذيب 6: 259، 682، الوسائل 27: 341 أبواب الشهادات ب 20 ح 1.

(3) الفقيه 3: 42، 143، الوسائل 27: 341 أبواب الشهادات ب 20 ح 1.

(4) الشرائع 4: 132، الوسائل 27: 342 أبواب الشهادات ب 20 ح 3؛ و ما بين المعقوفين من المصدرين.

(5) السرائر 2: 131.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 324

نعم، لو كان ظانّاً و أخبر عن ظنّه به، و قال أظنّ كذا، لم يكن كذباً و جاز أيضاً، كما صرّح به

في الكفاية «1»؛ للأصل، فإنّه ليس بشهادة حتى يدخل تحت النهي، و لو سلّم فالمشهود به هو ظنّه و ليس كاذباً فيه، إلّا أنّه غير معتبر إجماعاً.

المسألة الثانية: ثم إنّهم زادوا على ذلك و قالوا: يعتبر أن يكون ذلك العلم حاصلًا إمّا بالرؤية أو بالسماع.

فالأول في الأفعال.

و الثاني في الأقوال، كالأقارير و العقود و نحوها.

و قد يقال: أو بالسماع و الرؤية؛ إذ تفتقر الشهادة على القول لرؤية القائل.

و هو أيضاً مراد من لم يضمّ معه الرؤية، قالوا: إلّا فيما تتعذّر أو تتعسّر فيه الرؤية أو السماع كالنسب و الوقف و نحوهما ممّا يأتي فإنّه يكفي فيه التسامع و الاشتهار.

و السماع المأخوذ في ذلك غير السماع المتقدّم، فإنّ المراد فيما تقدّم هو أن يكون المسموع هو عين المشهود به، و هنا أن يكون إخباراً عنه.

فالعلم في الأول حسّيّ حاصل عن الحسّ، و في الثاني مستفاد من قرينة امتناع تواطئهم على الكذب.

و أيضاً الحاصل من الأول هو العلم البتّة إذا كانت الحاسّة صحيحة و القول واضحاً، و أمّا الثاني فقد لا يحصل منه إلّا الظنّ.

و لا يخفى أنّه تخرج من ذلك الشهادة على اللمس أو الذوق أو الشمّ

______________________________

(1) الكفاية: 283.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 325

فيما يحتاج إليه.

و منهم من قال: بالرؤية كالأفعال أو السماع كالوقف و النسب أو بهما، كالعقود و الأقارير «1».

و لا يخفى ما فيه، فإنّ السماع الأول أيضاً يحتاج إلى رؤية المسموع منه.

و القول: بأنّ المرئيّ هنا غير المشهود له أو عليه.

قلنا: المسموع أيضاً كذلك كما مرّ؛ مع أنّ ذكر السماعين يدلّ على اتّحاد المراد منهما، و ليس كذلك.

و منهم من بدّل الرؤية بالمشاهدة كما في الشرائع فقال بالمشاهدة أو السماع «2»، و أراد من السماع هو المعنى الثاني، أي التسامع.

و فسّر بعضهم المشاهدة في كلامه بالمعنى الشامل للذوق

و الشمّ و اللمس أيضاً «3».

و فيه أيضاً: أنّه كان حسناً لولا حصره المشاهدة في الأفعال. و أيضاً المشاهدة بهذا المعنى تشمل السماع بالمعنى الأول أيضاً.

و بالجملة: لم أعثر على كلام منقّح في التعبير في ذلك المقام.

و الصواب أن يقال: إنّه يجب أن يكون مستنده: المشاهدة الشاملة للشهود بكلّ من الحواسّ الخمس الظاهريّة، التي هي مبادئ اقتناص العلوم في المحسوسات.

ثم نتكلّم في السماع بالمعنى الثاني، في أنّه هل يكفي ذلك في شي ء

______________________________

(1) انظر الروضة 3: 135.

(2) الشرائع 4: 132.

(3) انظر الرياض 2: 446.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 326

أم لا؟ و على الأول ففي أيّ موضع يكفي، و أي قدر يُكتفى فيه؟ فهل يشترط أن يفيد العلم أو الظنّ المتاخم له، أو يكفي مطلق الظنّ؟

فنحن نتكلّم في هذه المسألة في الأول، و نتبعها في الثالثة بالثاني.

فنقول: قد صرّحوا بأنّه يجب أن يكون مستند الشهادة هو أحد الحواسّ الظاهرة.

بل قال بعضهم: الأصل في الشهادة عندهم القطع المستند إلى الحسّ الظاهر؛ اعتباراً منهم للمعنى اللغوي مهما أمكنهم «1». انتهى .

و قوله: مهما أمكنهم، إشارة إلى الاعتذار للشهادة بالتسامع و الاشتهار في بعض الامور، كما يظهر ممّا ذكره قبل الكلام المذكور.

و لا يتوهّم أنّ العلم الحاصل بالتسامع أيضاً مستند إلى حاسّة السمع.

فإنّه علم حاصل بواسطة مقدّمات أُخر من بُعد تواطئهم على الكذب، و لذا يختلف باختلاف السامع في سبق الشبهة و عدمه، و سهولة القبول و عدمها، و اختلاف المخبَر عنه جلاءً و خفاءً، و اختلاف المخبرين وثوقاً و عدمه، و لو كان مجرّد التوقّف على مبدئيّة الحسّ لم يكن علم غير حسّي، فإنّ العلم بالصانع من المصنوعات يتوقّف على مشاهدتها، و العلم بحدوث العالم بالتغيّر يحتاج إلى

إحساس التغيّر.

ثم الدليل على اعتبار العلم المستند إلى المشاهدة الحسّية هو ما ذكره بعضهم من أنّ المفروض أنّ الشاهد في مقام الشهادة، و الشهادة كما مرّ في صدر المقصد هي الحضور أو الإخبار عمّا شاهده و عاينه، و هما- بالنسبة إلى العالم الغير المستند علمه إلى الحسّ مفقودان؛ إذ يقال له

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 447.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 327

عرفاً و لغةً: أنّه غير حاضر و غير مخبر عمّا شاهده.

و إلى هذا يشير كلام الشهيد في الدروس حاكياً عن بعض الأصحاب، حيث قال: و لا بدّ عند الإقامة من إتيان الشاهد بلفظ الشهادة، فيقول: أشهد بكذا، و أنا شاهد عليه الآن بكذا، أو: شهدت عليه، و لو قال: أعلم، أو أتيقّن، أو أُخبر عن علم أو حقّ، لم يُسمَع، قاله بعض الأصحاب «1». انتهى .

و لا يعارضه ما قيل من إطلاق الفتاوى و النصوص المتقدّمة، المتضمّنة للفظ العلم و المعرفة «2»، المتقدّمة في المسألة الأُولى .

لأنّ الفتاوى و إن كانت في العنوان مطلقة، و لكن الأكثر قيّدوها بعده بالمشاهدة أو الرويّة، و ما أرادوا المطلق، و إلّا لم يجعلوا الشهادة في النسب و الوقف و أشباههما ممّا يكتفون فيها بالاستفاضة مستثناة، سيّما عند الأكثر المشترطين للاستفاضة العلميّة. و لو سلّم إطلاق البعض لم يصلح للمعارضة.

و أمّا النصوص فلا عموم فيها أصلًا؛ لتضمّنها لفظ الشهادة أيضاً، فمدلولها أنّه لا بدّ مع الحضور من العلم و المعرفة، و لا يكفي مطلق الحضور حتى الذي لم يفد غير الظنّ؛ مع أنّ العلم في المرسلة «3» ليس عامّاً، بل معناها: أنّه لا يكون الإخبار عمّا شاهده إلّا مع علم به، و الأخبار المتعقّبة لها مخصوصة بعلم خاصّ، هو العلم

بالكفّ و بالشمس المرئيّة، و اختصاصهما بالعلم الحاصل عن المشاهدة ظاهر، فهي أيضاً أدلّة على

______________________________

(1) الدروس 2: 135.

(2) انظر الرياض 2: 447.

(3) أي مرسلة الفقيه المتقدّمة في ص 321.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 328

المطلوب.

و تدلّ عليه أيضاً المستفيضة من الصحاح و غيرها، الواردة في شهود الزنا، المتضمّنة لمثل قولهم: «حتى تقوم البيّنة الأربعة أنّهم رأوه يجامعها» أو «أنّهم رأوه يدخل و يخرج» «1».

بل يمكن دعوى الإجماع عليه أيضاً؛ لتصريح الكلّ بذلك، و لم يذكروا علماً آخر سوى العلم الحاصل من التسامع في موارد خاصّة، و جعلوه مستثنى من القاعدة بالدليل.

و ممّا ذكرنا ظهر ما في كلام المحقّق الأردبيلي، حيث قال بعد ما نقل عنهم: إنّه لا يجوز كون مستند الشهادة في الأفعال السماع من الغير: و فيه تأمّل؛ إذ يجوز أن يعلم هذه الأُمور بالسماع من الجماعة الكثيرة بقرائن أو غيرها، بحيث يتيقّن و لم يبق عنده شبهة أصلًا، كسائر المتواترات و المحفوفات بالقرائن، فلا مانع من الشهادة حينئذٍ، لحصول العلم «2». انتهى .

فإنّه لا كلام في جواز حصول العلم بما ذكر، بل بغيره أيضاً من التجارب و القرائن، كما يعلم كون الليلة ثاني الشهر فصاعداً برؤية ظلّ الشاخص و نحوها.

و إنّما الكلام في أنّه هل يجوز جعل كلّ علم مناط الشهادة؟ مع أنّه خلاف مقتضاها اللغوي و العرفي، و خلاف مدلول النصّ المصرّح بأنّه على مثل رؤية الشمس و على معرفة كما يعرف الكفّ يشهد «3»، كيف؟! و لو

______________________________

(1) انظر الوسائل 28: 94 أبواب حد الزنا ب 12.

(2) مجمع الفائدة 12: 444.

(3) راجع ص 321.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 329

كان المناط العلم مطلقاً لم ينحصر بالعلم الحاصل من التسامع، بل يحصل

كثيراً ما من التجارب و الحدسيّات و الاستقراء، بل عن قول ثلاثة أو اثنين أو واحد، كما ذكروه في الأُصول. و اختلفوا في أنّه هل يحصل العلم من الخبر الواحد، أم لا؟ و على الأول هل يطرد، أم لا؟

فإن قيل: عدم اعتبار هذه العلوم لاختلافها شدّةً و ضعفاً و تخلّفها كثيراً.

قلنا: تحقّق هذا التخلّف و الاختلاف في العلم الحاصل من التسامع أكثر بكثير.

و لا تنافي ما ذكرنا رواية حفص بن غياث: أ رأيت إذا رأيتُ شيئاً في يدي رجل، أ يجوز لي ان اشهد أنّه له؟ قال: «نعم» قال الرجل: أشهد أنّه في يده و لا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره، فقال له أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «أ فيحلّ الشراء منه؟» قال: نعم، فقال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكاً لك ثم تقول بعد الملك: هو لي، و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟!» الحديث «1».

لأنّ ذلك أيضاً شهادة مستندة إلى حسّ البصر، و هو الرؤية في يد زيد، و اليد معرِّف شرعيّ للملكيّة الظاهريّة، أي كونه محكوماً له بالملكية ما لم يعلم خلافها.

بل اليد التي لم يعلم فيها عدم الملكيّة هي نفس الملكيّة الظاهريّة، فإنّ الملكيّة ارتباط جعليّ من الشارع، إمّا واقعاً و هي ما كان كذلك في نفس الأمر، و هي لا يظهر خلافها أو ظاهراً، و هي كونها كذلك على

______________________________

(1) الكافي 7: 387، 1، الفقيه 3: 31، 92، التهذيب 6: 261، 695، الوسائل 27: 292 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 25 ح 2، بتفاوتٍ يسير.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص:

330

الظاهر.

و للواقعيّة أسباب، و للظاهريّة معرِّفات، هي أيضاً أسبابها، و أحد معرِّفاتها اليد. كما أنّه تجوز الشهادة على الزوجيّة بمشاهدة الزوج و الزوجة و سماع عقد النكاح بينهما، و بتطهير الثوب برؤية غسله على ما هو المقرّر في الشرع، و بنجاسته برؤية وصول بول الإنسان إليه، و بالطلاق بالحضور في مجلسه، و هكذا. فإنّ نفس الزوجيّة و التطهير و التنجيس و زوال عقد النكاح ليست اموراً محسوسة، و لا ترتّبها على الأسباب المذكورة محسوساً، و لا ترتّباً عقليّاً و لا عاديّاً، بل ترتّب شرعيّ بجعل الشارع، فبمشاهدة الموجبات الشرعية يشهد بالموجَب، بالفتح.

و كذلك الغصب، و اشتغال الذمّة بالقرض، و الشهادة بالوقف بسماع الصيغة و رؤية الإقباض، و نحوها، بل كذلك في جميع الشهادات الحسّية.

فإنّه إذا سمع قول زيد: إنّ عليَّ ألفاً لعمرو، يشهد عليه بالإقرار، و هي شهادة حسّية؛ مع أنّ اللفظ المذكور محتمل للتجوّز و التخصيص و الحذف و نحوها، بدون قرينة، أو بقرينة مخفيّة عليه، و سببه أنّ اللفظ المذكور مفيد للاعتراف وضعاً ما لم تُعلَم القرينة.

و كذلك إذا قال: أعرف فلان بن فلان، فإنّ ابنيّته له أمر شرعيّ مترتّب على اشتهار نسبه، أو إقرار والده، أو تحقّق الفراش و نحوه، فالمحسوس شي ء، و المشهود به شي ء آخر مترتّب على المحسوس إمّا بحكم الشرع، أو الوضع، أو العقل، أو العرف؛ فكذلك الملكيّة بعينها بالنسبة إلى اليد.

و قد ثبت ممّا ذكر أنّ الأصل في الشهادة هو الاستناد إلى العلم الحضوري، و عدم كفاية الحصولي على سبيل الإطلاق.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 331

المسألة الثالثة: قد استثنوا من الأصل المذكور أُموراً

مخصوصة، فاكتفوا في جواز الشهادة فيها بالعلم الحصولي لا مطلقاً، بل بالتسامع و الاستفاضة.

ثم إنّهم اختلفوا في تعداد تلك الأُمور،

فمنهم من خصّها بالنسب وحده، و هو الإسكافي «1».

و عدّها في النافع أربعة، بزيادة: الملك المطلق، و الوقف، و الزوجيّة «2».

و في الخلاف جعلها ستّة، بزيادة: الولاء، و العتق «3». و كذلك في الكفاية، و لكنه نقص: الولاء و الزوجيّة، و زاد: الموت و الولاية «4».

و في القواعد سبعةً بزيادة: الموت، و الولاية للقاضي، و نقص: الولاء «5».

و في التحرير ثمانيةً بزيادة: الولاء «6».

و بعضهم تسعةً بزيادة: الرقّ، و العدالة، و نقص: الولاية «7».

و من متأخّري المتأخّرين من لم يحصرها في أُمور مخصوصة، بل جوّزها في كلّ ما تتعذّر فيه المشاهدة في الأغلب «8».

و عدّها في الشرائع في باب الشهادات ثلاثة: النسبة، و الموت،

______________________________

(1) نقله عنه في التنقيح الرائع 4: 310.

(2) النافع: 289.

(3) الخلاف 2: 611.

(4) الكفاية: 283.

(5) القواعد 2: 240.

(6) التحرير 2: 211.

(7) كما في الرياض 2: 447.

(8) كما في كشف اللثام 2: 381.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 332

و الملك المطلق «1»، و في باب القضاء سبعة، بزيادة: ولاية القاضي، و النكاح، و الوقف، و العتق «2».

و ظنّي أنّ المسألتين مختلفتان، فإنّ الكلام تارةً في مستند الشهادة و ما تجوز الشهادة بسببه.

و أُخرى فيما يثبت به الشي ء و إن لم تجز الشهادة بذلك الثبوت، بل يكون مناطاً لحكم من ثبت عنده و تكليفه، كشهادة العدلين، فإنّه يثبت بها المشهود به عند من شهدا عنده، و يثبت ما هو تكليفه بها، و لا تجوز الشهادة بها عند الأكثر. و كذا العدل الواحد لو قلنا بإفادته العلم في بعض الموارد و أفاده. و كذا الخبر الواحد المحفوف بالقرينة العلميّة، فإنّه يحكم به الحاكم؛ لوجوب قضائه بعلمه، و ليس للشاهد أن يشهد به. إلى غير

ذلك.

فمراد المحقّق في الأول بيان مستند الشاهد، و في الثاني بيان مستند كلّ شخص في حقّه، و على هذا يمكن أن يكون قول المحقّق بعد عدّ الثلاثة و ذكر مسائل اخرى -: و الوقف و النكاح يثبت بالاستفاضة «3»، زيادة الأمرين على الثلاثة؛ حيث إنّه ذكرهما في باب الشهادة و يمكن أن يكون المراد: الثبوت الذي ذكرناه، بل الظاهر أنّه ليس غير ذلك؛ حيث إنّه أدرج النكاح بعد ذلك في القسم الثالث من مستند الشاهد، قال: الثالث: ما يفتقر إلى السماع و المشاهدة، كالنكاح «4»، إلى آخره.

______________________________

(1) الشرائع 4: 133.

(2) الشرائع 4: 70.

(3) الشرائع 4: 134.

(4) الشرائع 4: 135.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 333

و نحوه في الكفاية، و لكنّه بعد عدّه الستّة المتقدّمة ممّا يشهد فيه بالاستفاضة، و ذكر مسائل أُخرى قال: و الوقف و النكاح يثبت بالاستفاضة عند جماعة «1». انتهى .

و هذا أظهر في تغاير المسألتين؛ لذكر الوقف في الموضعين.

ثم إنّهم استدلّوا على استثناء ما ذكروه بوجوه:

منها: ما قيل من عدم وجدانه الخلاف فيه بعد عدّ التسعة المذكورة إلّا عن الإسكافي «2».

و وهنه بعد ما ذكرنا من أقوالهم ظاهر؛ إذ لم يذكر التسعة إلّا الشاذّ النادر، و لعلّه رأى بعض ذلك مذكوراً في مقام الثبوت فأدرجه في مقام مستند الشاهد.

و مع ذلك صرّح الشهيد الثاني «3» و بعض من تبعه «4» بمنع الجواز في الموت، و ذكر أوجهاً بالمنع في النسبة إلى الأُمّ.

و نسب في التنقيح الجواز في الموت و الملك المطلق إلى الأكثر، و في الوقف و الولاء و العتق و النكاح إلى الخلاف و الفاضلين «5»، و ظهور ذلك في الخلاف ظاهر، و كذا عبارة الكفاية المتقدّمة.

هذا، مع أنّه لا حجّية

في عدم وجدان الخلاف أصلًا، سيّما محكيّة.

و أمّا دعوى الإجماع في مثل هذه المعركة فجزاف، منشؤه ضيق الفطن.

______________________________

(1) الكفاية: 284.

(2) انظر الرياض 2: 447.

(3) المسالك 2: 410.

(4) كالفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 381.

(5) التنقيح الرائع 4: 310.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 334

و منها: ما قيل في النسب من أنّه أمر لا مدخل فيه للرؤية، و غاية الممكن رؤية الولادة على فراش الإنسان، لكن النسب إلى الأجداد المتوفّين و القبائل القديمة لا تتحقّق فيه الرؤية و معرفة الفراش، فدعت الحاجة إلى اعتماد التسامع و الاستفاضة «1».

و فيه أولًا: أنّ الاستفاضة إن لم تكن مثبتة لشي ء و معتمداً عليها فكيف تصلح مستندة للشاهدين؟! و إن كانت مثبتة و معتمداً عليها فيثبت بها النسب عند الحاكم، الذي عليه أن يحكم بعلمه، و كذا كلّ من اطّلع على الاستفاضة، فإنّ كلّ أحد مكلّف بعلمه، فلا حاجة غالباً إلى شهادة الشاهدين، التي يجب أن تكون مستندة إلى الحسّ، فثبت النسب بالاستفاضة عند الحاكم و غيره.

و إن لم تجز الشهادة لأجلها و الحاجة أحياناً إلى إثباته عند حاكم بشاهدين كما لم يمكن الإثبات بالاستفاضة عند الحاكم و وقع تنازع لا تصير دليلًا لإثبات أمر مخالف للنصّ و الأصل، و إلّا لثبت بالاستفاضة كلّ شي ء؛ إذ ليس شي ء إلّا و قد يتعذّر إثباته بشاهدين مشاهدين للمشهود به، بل يمكن التعدّي إلى غير الاستفاضة أيضاً.

و ثانياً: إنّا نسلّم جواز الشهادة في النسب بالاستفاضة، و لكن لا لكونه مستثنى، و لا لدعاء الحاجة و عدم الاطّلاع على الفراش و الولادة.

بل لأنّا نقول: إنّ النسب الشرعي هو ما اشتهر و استفاض، فابن الشخص مَن شاع و ذاع بين الناس ببنوَّته له من

غير معارض.

فإنّا لا نقول: إنّ ابن شخص شرعاً مثلًا منحصر بمن انعقد من

______________________________

(1) انظر المسالك 2: 410، الرياض 2: 447.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 335

نطفته، بل هو بحكم العقل.

و من ولد على فراشه بحكم الشرع بقوله: «الولد للفراش» «1».

و من أخرجته القرعة في المشتبه، كما نطقت به الأخبار «2» و أطبقت عليه الفتاوى .

و من أقرّ به الأب و لم يعارضه الابن بالأخبار المستفيضة و الإجماع.

و من شاع و اشتهر و استفاض بين الناس أنّه ابنه من غير معارض بالإجماع القطعي، بل الضرورة الدينيّة، بل ضرورة كلّ دين.

فبناؤهم كلّاً من لدن آدم إلى ذلك الزمان أنّهم ينسبون الأولاد إلى الآباء بذلك، فكون من اشتهر في حقّه ذلك ابناً شرعيّاً مجمع عليه، بل بناء المواريث و غيرها من الأحكام الشرعيّة على مجرّد الاشتهار.

و كذا غير الابن من الأنسباء، بل لولا ذلك لم يثبت نسب غالباً، كما يأتي في المسألة الآتية.

فشهرة النسب من غير معارض كشهرة كونه زيداً.

فكما يشهد: أنّي رأيت زيداً، بمجرّد ثبوت كونه زيداً بالاشتهار من غير استثناء و عدم منافاة لاستناد الشهادة إلى الحسّ.

فكذا النسب، فالمشهود به هو الابنيّة مثلًا كالزيديّة في شخص زيد و مستنده إحساس الاشتهار الذي هو موجبها شرعاً بحاسّة السمع، يعني: أنّ المشهود به مسموع كسماع الاعتراف و صيغ العقود، فإنّك إذا سمعت: بعت، من البائع، تشهد بالبيع؛ لأنّ ذكر هذا القول في مقام الإنشاء بيعٌ لا أنّه إخبار عن البيع و مثبت له.

______________________________

(1) التهذيب 8: 183، 640، الوسائل 22: 430 أبواب اللعان ب 9 ح 3.

(2) الوسائل 27: 257 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 13.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 336

فكذا الاشتهار، فإنّ المشتهر بذلك

من غير معارضٍ ابنٌ شرعاً، لا أنّ الشهرة إخبار عن أمر آخر هو الابنيّة.

و كذلك في سائر النسب.

و منها: ما ذكروه في بعض سائر الأُمور المذكورة، فقيل: يثبت الموت بالاستفاضة؛ لتعذّر مشاهدة الميّت في أكثر الأوقات للشهود، و الملك المطلق لا يمكن الشهادة عليه بالقطع، و الوقف لو لم تسمع فيه الاستفاضة لبطلت الوقوف على تطاول الأزمنة؛ لتعذّر بقاء الشهود، و الشهادة الثالثة عندنا غير مسموعة، و الوقوف للتأبيد «1».

و كذا العتق و الزوجيّة و الرقّية و الولاية و غيرها، فقيل: لو لم يجز في الشهادة فيها الاكتفاء بالسماع للزم بطلان أكثر تلك الحقوق بتطاول الأزمان و الدهور «2».

و يظهر ما فيها ممّا ذكرنا أولًا في الوجه السابق.

مضافاً إلى أنّ تعذّر مشاهدة الميّت و سائر ما استندوا فيه إلى التعذّر أو التعسّر ليس بأكثر من تعذّر مشاهدة كثير ممّا صرّحوا فيه باشتراط المشاهدة، كالرضاع سيّما مع شرائط التحريم به و الغصب، و السرقة، و الاصطياد، و الإتلاف، و الولادة، و غيرها. و لا أرى فرقاً بين البيع أو الهبة أو الإجارة و بين العتق و النكاح و نحوهما.

و إلى أنّ إثبات تلك الحقوق في الأزمنة المتطاولة لا تنحصر جهته بشهادة الشاهدين بها بالاستفاضة، بل يمكن الإثبات بنفس الاستفاضة عند الحاكم و بيد الموقوف عليه أو المتولّي على الموقوف، و بالأخبار المحفوفة

______________________________

(1) انظر التحرير 2: 211.

(2) انظر المسالك 2: 410، كشف اللثام 2: 381.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 337

بالقرائن العلميّة، و بتصرف المولى أو ورثته في الرقيق.

و قد ظهر من ذلك أنّ الحقّ عدم جواز الشهادة بشي ء بمجرّد الاستفاضة سوى النسب، لا لأجل كونه مستثنى؛ بل لما ذكرنا.

و أمّا غير الشهادة، فيثبت كلّ شي ء

بالاستفاضة إذا أفاد العلم عند من حصلت له الاستفاضة.

المسألة الرابعة: اختلف الأصحاب في الاستفاضة-

التي هي مستند الشهادة عند من يجوّز استنادها إليها و دليل النسب الشرعي، أو مستند الحاكم و غيره لا لأجل الشهادة بل لأجل الثبوت عنده على ما ذكرنا هل يشترط إيراثها العلم القطعي، أو الظنّ المتاخم للعلم خاصّة، أو يكفي مطلق الظنّ؟ على أقوال ثلاثة:

الأول: لجماعة، منهم: المحقّق في الشرائع و النافع و الفاضل في جملة من كتبه و صاحب التنقيح «1» و غيرهم «2»، و هو ظاهر كلّ من جعل ضابط الشهادة العلم، من غير استثناء الاستفاضة الظنّية.

اقتصاراً فيما خالف الأصل على المتيقّن، و للأخبار المتقدّمة المعتبرة للعلم في الشهادة «3»، و الظواهر من الكتاب «4» و السنّة «5» الناهية عن اتّباع الظنّ و العمل به.

______________________________

(1) الشرائع 4: 132، النافع: 289، الفاضل في القواعد 2: 239، و التحرير 2: 211، التنقيح 4: 311.

(2) كالسبزواري في الكفاية: 284.

(3) الوسائل 27: 341 أبواب الشهادات ب 20.

(4) يونس: 36، النجم: 28.

(5) الوسائل 27: 40 أبواب صفات القاضي ب 6 ح 8، وص 58 ح 40، 42.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 338

و الثاني: محكيّ عن الإرشاد و اللمعتين و الدروس و المسالك «1».

و استدلّ له بأنّ الظنّ المتاخم للعلم أقوى من الحاصل من قول الشاهدين، فيستفاد من مفهوم الموافقة بالنسبة إلى الحاصل من الشاهدين الذي هو حجّة منصوصة حجّيته أيضاً.

و بأنّه لو لم يعتبر هذا القدر من الظنّ فقد يحصل الضرر العظيم في أمثال ما ذكر من اعتبار الاستفاضة فيه؛ لأنّ حصول العلم بها نادر جدّاً.

و الثالث: منقول عن المبسوط و الخلاف «2».

محتجّاً «3» بأنّه يجوز لنا الشهادة بأنّ خديجة زوجة رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و

آله)، كما نقضي بأنّها أُمّ فاطمة (سلام اللَّه عليها)، و يجوز لنا الشهادة لها بزوجيّته، مع أنّ العلم فيها غير حاصل؛ لأنّه لو كان حاصلًا لكان بالتواتر، و هو هنا مفقود؛ لأنّ شرطه الاستناد إلى الحسّ، و الظاهر أنّ المخبرين في الطبقة الأُولى لم يخبروا عن المشاهدة، بل عن السماع.

و بأنّه لو لم يعتبر الظنّ الحاصل من الاستفاضة لزم عدم الثبوت في أكثر ما ذكر، سيّما فيما يطلب فيه التأبيد؛ حيث إنّ شهادة الفرع الثالثة غير مسموعة عندنا.

أقول: أُورد «4» على الدليل الأول للقول الثالث: بمنع فقد شرط التواتر في تزويج خديجة؛ لأنّ الطبقة الأُولى بالغون حدّ التواتر؛ لأنّ النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله) كان أعلى قريش حينئذ، و كان أبو طالب المتولّي لتزويجه رئيس بني

______________________________

(1) الإرشاد 2: 160، اللمعة و الروضة 3: 136، الدروس 2: 134، المسالك 2: 410.

(2) المبسوط 8: 183، الخلاف 2: 611.

(3) نقل الاحتجاج في التحرير 2: 211.

(4) أورده في المسالك 2: 411 412.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 339

هاشم، و خديجة من أجلّاء بيوتات قريش، و خطب في المسجد الحرام بمجمع من قريش، فيمكن بلوغ المشاهدين حدّ التواتر، و كذا يمكن بلوغ المخبرين عن طبقتهم السابقة في كلّ طبقة، فبعد حصول العلم يحكم بحصول الشرط- كما قالوا في عدد التواتر.

و على الثاني «1»: بأنّ كما أنّ الشهادة الثالثة الفرعيّة غير مسموعة فكذلك الظنّية، فتخصيص الثاني ليس بأولى من الأول «2»، بل [الأول «3»] أولى ؛ لعدم استلزامه مخالفة الكتاب و العقل.

و القول بأنّ عدم قبول الثالثة إجماعيّ دون عدم قبول الظنّية.

مردودٌ بعدم معلوميّة الإجماع حتى في المورد في الأول، كيف؟! و جوّزه الفاضل في المختلف في ردّ ذلك الدليل

«4»، و هو و إن كان واحداً إلّا أنّ الشيخ أيضاً مثله.

ثم أقول: إنّه يرد على الأول أيضاً أولًا: أنّه لو سلّم عدم إمكان التواتر فحصول العلم بالخبر المحفوف بالقرينة ممكن، فلِمَ ليس كذلك هنا؟! كيف؟! و لو لم تكن زوجيّة خديجة معلومة لسرت الظنيّة إلى أعقاب خديجة أيضاً، و صار الكلّ ظنّياً. و فساده ظاهر.

و الظاهر أنّ الاستدلال بذلك الدليل لإثبات جواز الشهادة بالاستفاضة لا لأجل إثبات اعتبار الاستفاضة الظنّية، و حينئذٍ يرد عليه أيضاً ما مرّ من أنّ الثبوت بالاستفاضة و لو كانت علميّة لا يستلزم جواز الشهادة بها، غايته

______________________________

(1) أورده في المختلف: 729، و حكاه في المسالك 2: 411.

(2) أي أنّ تخصيص النهي عن الشهادة الظنّية بالوقف مثلًا تحصيلًا لمصلحة ثبوته ليس بأولى من تخصيص النهي عن الشهادة الثالثة بذلك.

(3) في «ح» و «ق»: الثاني، و الصحيح ما أثبتناه.

(4) المختلف: 729.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 340

أنّه لم يجز لنا الشهادة في مقام التنازع و المرافعة في تلك الواقعة، و أيّ محذور فيه؟! و لا نزاع و لا منازع.

و يرد على الثاني أيضاً ما مرّ من أنّه لا يستلزم عدم جواز الشهادة بالاستفاضة عدم إمكان الثبوت بها عند الحاكم و غيره، فإنّ الثبوت لا يستلزم جواز الشهادة، كما في شهادة العدلين، بل المرأة الواحدة في ربع الوصيّة.

و بذلك ظهر ضعف القول الأخير بالنسبة إلى الشهادة، و كذا بالنسبة إلى نفس الثبوت عند الحاكم و غيره، بأن يجعل الاستفاضة الظنّية موجبة للثبوت، فإنّ الأصل عدم الثبوت بها، و عمومات النهي عن العمل بالظنّ و عدم إعبائه عن الشي ء تمنع اعتباره.

ثم أضعف من ذلك بالنسبة إلى الشهادة ما حكي عن الشيخ أيضاً، من

كفاية السماع عن العدلين فصاعداً، فيصير بسماعه شاهد أصل و متحمّلًا للشهادة؛ لأنّ ثمرة الاستفاضة هي الظنّ، و هو حاصل بهما «1».

و فيه أولًا: منع اعتبار الاستفاضة المثمرة للمظنّة.

و ثانياً: أنّه لو سلّم ينبغي الاقتصار عليه؛ لعدم دليل على العموم.

و ثالثاً: أنّه لو كان سبباً لاعتبار مطلق الظنّ لزم اعتباره و لو حصل من واحد- و لو أُنثى أو فاسق.

و الجواب بالاختصاص بما ثبت اعتباره شرعاً، أو ما أفاد الظنّ القوي.

مردودٌ بأنّه إن أُريد اعتباره مطلقاً أو في مقام الشهادة فلم يثبت ها هنا أيضاً.

______________________________

(1) المبسوط 8: 181، و حكاه عنه في الرياض 2: 448.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 341

و إن أُريد اعتباره في الجملة فأيّ ملازمة بينه و بين اعتباره في مورد خاصّ غير ما ثبت اعتباره فيه؟! و أمّا الظنّ القوي، فقد يحصل من شهادة فاسقَين، أو عدل و فاسقَين، أو عدل واحد ظنّ أقوى من شهادة عدلَين آخرَين.

نعم، تعتبر شهادة العدلين في مقام الثبوت مطلقاً، إلّا ما أخرجه الدليل، كالزنا.

نعم، يمكن أن يستدلّ للشيخ بمكاتبة الصفّار الصحيحة، و فيها: هل يجوز للشاهد الذي أشهده بجميع هذه القرية أن يشهد بحدود قطاع الأرضين التي [له ] فيها إذا تُعرَف حدود هذه القطاع بقوم من أهل هذه القرية إذا كانوا عدولًا؟ فوقّع (عليه السّلام): «نعم، يشهدون على شي ء مفهوم معروف إن شاء اللَّه تعالى » «1».

و لكنّها مصرّحة بحصول التعرّف، الذي هو حقيقة في العلم للشاهد، و مع ذلك متضمّنة للقوم الذي ظاهره الأكثريّة من العدلين، و يشعر به الإتيان بضمير الجمع له، فيحتمل الشياع المفيد للعلم.

فهي تصلح دليلًا لمن يعتبر الاستفاضة العلميّة، و مع ذلك إرادة الإشهاد و تحمّل الشهادة منها محتملة، فيتحمّل

و يؤدّي بما تحمل من شهادة القوم، فيكون شاهد فرع، فلا تصلح دليلًا له أيضاً، فتأمّل.

و القول الثاني أيضاً كالأخير في فساد المستند.

أمّا أول مستندهم، فلأنّ الأولويّة إنّما تنهض حجّة لو كانت العلّة في حجّية شهادة العدلين إفادتها المظنّة، و ليست كذلك، بل هي من الأسباب

______________________________

(1) التهذيب 6: 276، 758، و في الكافي 7: 402، 4، و الوسائل 27: 407 أبواب الشهادات ب 48 ح 1؛ بتفاوت يسير. و ما بين المعقوفين من المصادر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 342

الشرعيّة كاليد حتى أنّها لو لم تفد مظنّة أصلًا لكانت حجّة أيضاً.

مع أنّه لو كان ذلك المناط في حجّيتها وجب أن يدار مدار الظنّ الأقوى ، حتى لو فرض حصوله من شهادة الفاسقين أو الصبي أو القرائن دون شهادة العدلين كان حجّة دون شهادتهما، و هو باطل.

مع أنّ الظنّ الأقوى أعمّ من المتاخم للعلم، و أيضاً الظنّ الحاصل من العدلين له مراتب مختلفة جدّاً، و لا يُعلَم أن أيّتها المراد هنا، و كذلك المتاخم للعلم.

هذا كلّه، مع أنّ الأصل أيضاً محلّ المنع حتى عندهم، فإنّهم لا يجوّزون الشهادة بشهادة العدلين فكيف يجعلونها أصلًا للإثبات؟! نعم، لو كان الكلام بالنسبة إلى أصل الثبوت لم يرد عليه ذلك، بل يردّ بما ذكر أولًا.

و أمّا ثانيهما، فلمنع ندرة حصول العلم من الاستفاضة، بل هو كثير غاية الكثرة، و ما لم يحصل فيه العلم بها لا تعتبر استفاضته، و لا حرج فيه و لا ضرر، بل قد يوجب الضرر في الطرف الآخر بمجرّد الظنّ الغير المعتبر.

فهذا القول أيضاً كالأخير في غاية الضعف، فلم يبق إلّا الأول، و هو الصحيح فيما اعتبرنا فيه الاستفاضة من الشهادة أو الثبوت.

و لكن لي ها

هنا كلاماً آخر، و هو أنّ من يقول باعتبار الاستفاضة العلميّة في النسب ما أراد من متعلّق العلم الذي هو المعلوم بالاستفاضة؟

فهل مراده التولّد من النطفة؟ فالعلم به محال غالباً.

أو التولّد على فراش الشخص؟ فلا يشاهده غالباً إلّا اثنتان من النسوان و ثلاثة أو نحوها، فكيف يحصل العلم؟! سيّما إذا لم نقل بكون

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 343

الأمة و المنقطعة فراشاً، و كذلك إقرار الوالد.

بل المشاهد المحسوس أنّ بتقاليب الدهر و تصاريف الزمان يجي ء هذا من خراسان إلى العراق و بالعكس، و من فارس إلى أحدهما و بالعكس، و من العرب إلى العجم و بالعكس، و من الترك إليهما و بالعكس، و هكذا، فيتوطّن في المقام الثاني، و ينسب فيه إلى أبيه أو قبيلته بقول أربعة أو ثلاثة، بل بقول نفسه، و يبقى في ذلك البلد، و يشتهر فيه بتلك النسبة بعد مدّة، سيّما إذا ماتت الطبقة الأُولى ، بحيث ينسبه بها جميع أهل البلد أو المملكة، و أكثر الأنسباء إلى الطبقات التي فوق الأُولى أو الثانية كذلك.

نعم، يحصل العلم من الاستفاضة في النسبة، و ذلك أيضاً من أقوى الشواهد على ما قلنا من أنّ نفس الاستفاضة هو سبب تحقّق النسبة، و نَسَبُ شخص مَن اشتهر بنسبته إليه من غير معارض.

و مرادنا من الاستفاضة العلميّة: أن يعلم أن كلّ أحد يعرف المنتسبين بنسبتهما إلى الآخر، و نقول: هذا نفس النسبة المخصوصة، كالأبنية مثلًا.

فلو نذر أحد لشخص لبني تميم يبرأ بالإعطاء إلى من ينسبه كلّ من يعرفه [في هذا البلد إليهم «1»] و إن لم يعلم سبب نسبتهم.

بل و كذا نقول في مثل الوقف، فإنّ المعلوم فيه بالاستفاضة لا بدّ و أن يكون هو صيغة

الوقف و الإقباض، و نحن نجد من أنفسنا أن ما استفاضت وقفيّته و لا نشكّ فيها كالمساجد العظيمة الجامعة في المدن الكبيرة و المدارس و الرباطات و القناطر و القباب و القنوات الوقفيّة لا نظنّ من أغلبها صدور صيغة الوقف، فكيف من العلم به؟! و هذا أيضاً من أقوى الشواهد على ما ذكرنا من أنّ مناط ثبوت الوقفيّة

______________________________

(1) في «ق» و «ح»: إلى هذا البلد إليه، و الظاهر ما أثبتناه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 344

في الأغلب يد الموقوف عليهم أو المتولّي الخاصّ أو العامّ، و الاستفاضة المفيدة استفاضة تلك اليد، و هذه اليد ممكنة الشهود غالباً؛ و كذا الكلام في أمثالهما.

المسألة الخامسة: المشهور بين الأصحاب كما صرّح به جماعة «1» جواز الشهادة بالملك المطلق لشخص بمشاهدة الشي ء في يده

مع تصرّفه فيه مكرّراً- بنحو البناء و الهدم و الإجارة و الصبغ و القصّ و الخياطة و غيرها بلا منازع له، و عن الخلاف الإجماع عليه «2»، و في الشرائع نفي الريب عنه «3»، و عن المبسوط نسبته إلى روايات الأصحاب «4»، و حكي القول به عن الصدوق و الكليني و الخلاف و الحلبي و القاضي و الحلّي و عامّة المتأخّرين «5» و نسب الخلاف فيه إلى النافع «6».

و فيه تأمّل؛ لأنّه جعل الأولى الشهادة بالتصرّف دون الملك، و هو على الجواز أدلّ منه على المنع، فلا يكون في المسألة مخالف معلوم و إن حكاه في المبسوط «7» و غيره «8» قولًا.

لا لما قيل من قضاء العادة بأنّ ذلك لا يكون إلّا بالملك، و جواز شرائه منه، و أنّه متى حصل عند المشتري جاز له دعوى الملكيّة، و لو ادّعى

______________________________

(1) منهم السيوري في التنقيح 4: 310، السبزواري في الكفاية: 284.

(2) الخلاف 2: 611.

(3) الشرائع 4: 134.

(4) المبسوط 8: 182.

(5) الصدوق في الفقيه

3: 31، الكليني في الكافي 7: 387، الخلاف 2: 611، الحلبي في الكافي في الفقه: 437، القاضي في المهذّب 2: 561، الحلّي في السرائر 2: 130؛ و حكاه عنهم و عن عامّة المتأخّرين في الرياض 2: 451.

(6) المختصر النافع: 289.

(7) المبسوط 8: 182.

(8) كما في إيضاح الفوائد 4: 440، الكفاية: 284.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 345

عليه فأنكر جاز له الحلف «1».

حتى يرد عليه بعض ما ذكره الأردبيلي و صاحب الكفاية «2».

و يحتمل إمكان منع قضاء العادة، و لو سلّم فلا يفيد إلّا المظنّة، و الشهادة بها غير جائزة، بل و كذلك العلم كما عرفته.

و منع استلزام جواز الشراء و دعوى الملكيّة و الحلف لجواز الشهادة.

بل لرواية حفص بن غياث المتقدّمة في المسألة الثانية «3»، المنجبر ضعفها لو كان برواية المشايخ الثلاثة لها، و موافقتها الشهرة العظيمة المحقّقة و المحكيّة و الإجماع المحكي، المعتضدة بأخبار أُخر مرّت في باب القضاء، الدالّة على كون الأصل في اليد الملكيّة، سيّما موثّقة يونس المصرّحة بأنّ: «من استولى على شي ء فهو له» «4».

و لا ينافيها ما مرّ من اشتراط العلم الحسّي في جواز الشهادة؛ لأنّ الملكيّة الظاهريّة الشرعيّة التي هي المشهود بها، بل لا ملكيّة إلّا الشرعيّة معلومة قطعاً؛ لحكم الشارع بها مع اليد المذكورة، كما مرّ بيانه في المسألة المذكورة.

احتجّ في النافع لما ذكره: بأنّ اليد و التصرّف دلالة الملك و ليس بملك «5».

و فيه: أنّه إن أراد بالدلالة أنّها مخبرة عن الملك كالاستفاضة و العدلين- فكونها دلالة ممنوع.

______________________________

(1) انظر المسالك 2: 411.

(2) مجمع الفائدة 12: 459 460، الكفاية: 284.

(3) راجع ص 327.

(4) التهذيب 9: 302، 1079، الوسائل 26: 216 أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 3.

(5)

النافع: 289.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 346

و إن أراد أنّها سبب للملك الظاهري و مولّد له كقوله: عليَّ كذا لزيد، فإنّه دلالة الاعتراف و سبب و مولّد له فكذلك، و هو نفس الملكيّة الظاهريّة.

و إلى هذا يشير قول من قال: إنّه يمكن دعوى الضرورة في إفادة اليد المتصرّفة بل مطلقاً الملكيّة، و عليه بناء الفقهاء، بل و المسلمين كافّة «1». انتهى .

فإنّ المراد من إفادتهما: سببيتهما لها.

و أمّا ما أُورد عليه أيضاً من أنّ بعد تسليم الدلالة على الملكيّة لا وجه للمنع عن الشهادة عليها، و إن هو حينئذٍ إلّا كالاستفاضة، فكما تجوز الشهادة على الملكيّة بها من غير لزوم إقامة الشهادة على الاستفاضة فكذا هنا «2».

فمردودٌ بأنّ كونه كالاستفاضة لا يوجب جواز الشهادة به؛ لأنّ الاستفاضة عنده مستثناة من قاعدة لزوم الاستناد إلى الحسّ بالإجماع أو الضرورة، و لا يلزم منه استثناء ما هو مثلها في الإفادة.

ثم بما ذكرنا تظهر الشهادة باليد خاصّة أيضاً، كما نقله في الكفاية عن أكثر المتأخّرين «3»، و ادّعى بعضهم إطباق جمهور المتأخّرين عليه «4».

و أمّا ما قيل من أنّ اليد أو هي مع التصرّف لو أوجبت الملك لم تسمع دعوى من يقول: الدار التي في يد زيد، أو في يده و يتصرّف فيها

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 452.

(2) انظر الرياض 2: 452.

(3) الكفاية: 284.

(4) كما في الرياض 2: 452.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 347

لي، كما لا تسمع لو قال: ملك زيد لي «1».

ففيه: أنّ هذا إنّما كان يصحّ لو قلنا إنّهما يفيدان الملكيّة الواقعيّة، و أمّا الظاهريّة فلا؛ إذ معناه: أنّ الدار التي ملك زيد ظاهراً لي واقعاً.

المسألة السادسة: لا تجوز الشهادة برؤية الشاهد خطّه و خاتمه

إذا لم يتذكّر الواقعة و إن أمن التزوير

بلا خلاف إذا لم يكن معه عدل آخر و لا المدّعى ثقة؛ للإجماع، و الأصل، و عمومات اشتراط العلم، و أدلّة اعتبار الحسّ كما مرّت- و خصوص المعتبرة، كمرسلة الفقيه المتقدّمة في المسألة الأُولى «2».

و حسنة الحسين بن سعيد: جاءني جيران لنا بكتاب زعموا أنّهم أشهدوني على ما فيه، و في الكتاب اسمي بخطّي قد عرفته، و لستُ أذكر الشهادة، و قد دعوني إليها، فأشهد لهم على معرفتي أنّ اسمي في الكتاب و لستُ أذكر الشهادة؟ أو لا تجب لهم الشهادة عليَّ حتى أذكرها، كان اسمي في الكتاب [بخطي ] أم لم يكن؟ فكتب: «لا تشهد» «3».

و رواية السكوني: «لا تشهد بشهادة لا تذكرها، فإنّه من شاء كتب كتاباً و نقش خاتماً» «4».

و إن عرف خطّه و خاتمه، و علم أنّه خطّه، و كان معه عدل آخر، و كان المدّعى ثقة، ففي جواز الشهادة مع عدم التذكّر خلاف.

______________________________

(1) انظر الشرائع 4: 134.

(2) راجع ص 321.

(3) الكافي 7: 382، 2، التهذيب 6: 259، 684، الإستبصار 3: 22، 67، الوسائل 27: 322 أبواب الشهادات ب 8 ح 2؛ و ما بين المعقوفين من المصادر.

(4) الكافي 7: 383، 4، التهذيب 6: 259، 683، الإستبصار 3: 22، 66، الوسائل 27: 323 أبواب الشهادات ب 8 ح 4.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 348

فعن الشيخ في النهاية و المفيد و الإسكافي و القاضي و الديلمي و والد الصدوق «1»، بل كما قيل «2» الصدوق و الكليني أيضاً: جواز الشهادة، و به أفتى بعض متأخّري المتأخّرين «3»، و يظهر من بعضهم دعوى شهرة القدماء عليه «4».

لصحيحة عمر بن يزيد: الرجل يشهدني على الشهادة، فأعرف خطّي و خاتمي، و لا أذكر من

الباقي قليلًا و لا كثيراً، قال: فقال لي: «إذا كان صاحبك ثقة و معك رجل ثقة فاشهد له» «5».

و الرضوي: «و إذا أتى الرجل بكتاب فيه خطّه و علامته و لم يذكر الشهادة فلا يشهد؛ لأنّ الخطّ يتشابه، إلّا أن يكون صاحبه ثقة و معه شاهد آخر ثقة، فيشهد حينئذ» «6».

و ذهب الشيخ في الاستبصار و الفاضل و والده و ولده و أكثر المتأخّرين إلى عدم الجواز «7»؛ للعمومات، و أدلّة اعتبار الحسّ، و المعتبرة المتقدّمة، و ترجيح هذه على الصحيحة و الرضويّ لأكثريّتها و أوفقيّتها للأُصول.

______________________________

(1) النهاية: 330، المفيد في المقنعة: 728، حكاه عن الإسكافي في المختلف: 724، القاضي في المهذّب 2: 561، الديلمي في المراسم (الجوامع الفقهية): 657، حكاه عن والد الصدوق في المختلف: 724.

(2) انظر الرياض 2: 453، و هو في الفقيه 3: 43، الكافي 7: 382.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 18    349     المسألة السادسة: لا تجوز الشهادة برؤية الشاهد خطه و خاتمه ..... ص : 347

(3) في «ح»: صاحب الوافي و شارح المفاتيح منه رحمه اللَّه تعالى . انظر الوافي 16: 1031 1033.

(4) كما في الرياض 2: 453.

(5) الكافي 7: 382، 1، الفقيه 3: 43، 145، التهذيب 6: 258، 681، الإستبصار 3: 22، 68، الوسائل 27: 321 أبواب الشهادات ب 8 ح 1؛ بتفاوت يسير.

(6) فقه الرضا «ع»: 261، مستدرك الوسائل 17: 413 أبواب الشهادات ب 5 ح 3.

(7) الاستبصار 3: 22، الفاضل في المختلف: 725، والده و ولده في الإيضاح 4: 443.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 349

و صريح المحقّق و ظاهر الدروس التردّد «1»؛ لمعارضة جهة الترجيح المذكورة مع جهة خصوصيّة الصحيحة.

و التحقيق: أنّ الصحيحة و

إن كانت أخصّ مطلقاً من المعتبرة و لكنّها أعمّ من وجه من عمومات اشتراط العلم؛ لأعمّيتها من مفروض الصحيحة، و اختصاصها بالعلم، و عموم الصحيحة بالنسبة إلى صورة حصول العلم و عدمه، فإنّ حصوله بمعرفة الخطّ و الخاتم و ضمّ الثقة و الوثوق بالمستشهد ليس بعزيز، بل هو الغالب، سيّما مع تذكّر أصل إشهاده له، كما يدلّ عليه قوله: يشهدني، فيكون التعارض بالعموم من وجه، فيعمل بهما في صورة العلم؛ لعدم الاختلاف، و في صورة عدم العلم يعمل بالعمومات؛ لرجحانها بما مرّ، و بموافقة الأصل، كما عن المختلف «2» و ظاهر بعض آخر «3».

و لا ينافي ذلك أدلّة اعتبار استناد الشهادة إلى الحسّ، لأنّ المعلوم هنا ليس مجرّد المشهود به كما في الاستفاضة العلميّة بل يعلم بما ذكر إحساس الشاهد و حضوره، فهو أيضاً مستند إلى الحسّ، غاية الأمر أنّه لا يتذكّر الإحساس، و علمه من الخارج.

مع أنّه لو لم يكن استناداً إليه لم يضرّ؛ لأنّ تخصيص العامّ بمخصّص صحيح صريح موافق لعمل أساطين القدماء ليس بعزيز، و لكنّه يجب التخصيص بمورد الصحيحة، من تذكر الإشهاد، و كون صاحبه رجلًا لا امرأة.

المسألة السابعة: لا شكّ في جواز شهادة الشاهد الاستصحابي

______________________________

(1) المحقّق في المختصر النافع: 290، الدروس 2: 134.

(2) المختلف: 725.

(3) كالتنقيح الرائع 4: 316.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 350

بما شهده في السابق مقيّداً به، من غير ضمّ الاستصحاب، كأن يشهد بأنّه: كان ملكه بالأمس، أو: كان في يده كذلك، أو: اعترف بالأمس بملكيّته، أو: أخذ منه المبلغ الفلاني بالأمس قرضاً، أو: غصب بالأمس، و نحو ذلك.

و كذا مع ضمّ الاستصحاب، كقوله: كان ملكه بالأمس، و هو إلى الآن مستصحب.

أو ضمّ ما يؤدّي مؤدّاه، نحو قوله: و لا أعلم له مزيلًا،

و: لا أدري أزال ملكه عنه أم لا؛ لأنّ جميع ذلك هو مشهوده و معلومه.

و هل تجوز له الشهادة بالملك المطلق أو الشغل المطلق أو نحوهما بالاستصحاب كما تجوز له الشهادة بالملك المطلق باليد أم لا؟

الظاهر: نعم، بل قال بعض فضلائنا المعاصرين: إنّ جواز اعتماد الشاهد على الظنّ الحاصل له من جهة الاستصحاب ممّا لا خلاف فيه، و لا إشكال يدانيه «1». انتهى .

و يدلّ عليه: أنّه لولا جواز ذلك لم تجز الشهادة بالملك المطلق أصلًا، إذ حصول العلم بالملك في آن الشهادة من المحالات العاديّة غالباً؛ إذ نقل الملك قد يحصل من نفس المالك بنفسه، بحيث لا يطّلع عليه أحد غيره بنذر أو وقف أو غيره من الأُمور أو مع عدم اطّلاع الشاهد، كأن يكون مالكاً لداره اليوم، و نقلها في الليلة إلى زوجته أو ولده.

و أيضاً الاستصحاب سبب شرعي، و مولّد للمستصحب كاليد، فكما تجوز له الشهادة فكذا به.

______________________________

(1) انظر رسالة في القضاء (غنائم الأيام): 710.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 351

فإن قيل: الاستصحاب سبب لولا المزيل واقعاً، فلعلّه تحقّق المزيل و لم يعلم به الشاهد.

قلنا: كذلك اليد، سببٌ لولا المعارض أو اعتراف ذي اليد بخلافه، فلعلّه تحقّق من دون اطّلاع الشاهد.

و الحلّ: أنّ كلّاً منهما دليل شرعيّ للشاهد، و هو يشهد عن معلومه و لو بواسطة الشرع، لا عن معلوم غيره.

و أيضاً يجوز للشاهد الاستصحابي شراء الملك ممّن كان يعلم أنّه له أمس، ثم ادّعاء ملكيّته و الحلف عليه، فله أن يشهد بملكيّة من كان ملكه سابقاً، بالعلّة المنصوصة في رواية حفص المتقدّمة «1».

هذا، مضافاً إلى خصوص المعتبرة المجوّزة للشهادة بالاستصحاب:

كصحيحة ابن وهب: إنّ ابن أبي ليلى يشهدني الشهادة على أنّ هذه

الدار مات فلان و تركها ميراثاً، و أنّه ليس له وارث غير الذي شهدنا له، فقال: «اشهد، فإنّما هو على علمك» قلت: إن ابن أبي ليلى يحلفني الغموس «2»، قال: «احلف، إنّما هو على علمك» «3».

فإنّ ترك الميّت للدار ميراثاً، و انتفاء وارث آخر له، ليس إلّا

______________________________

(1) في 327.

(2) في الحديث: «اليمين الغموس هي التي تذر الديار بلاقع» اليمين الغَمُوس: هي اليمين الكاذبة الفاجرة التي يقطع بها الحالف ما لغيره، مع علمه أنّ الأمر بخلافه، و ليس فيها كفّارة لشدّة الذنب فيها، سمّيت بذلك لأنّها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار. و في الحديث: «اليمين الغموس هي التي عقوبتها دخول النار» و هي أن يحلف الرجل على مال امرئ مسلم أو على حقه ظلماً مجمع البحرين 4: 90.

(3) الكافي 7: 387، 2، التهذيب 6: 262، 696، الوسائل 27: 336 أبواب الشهادات ب 17 ح 1، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 352

باستصحاب الوجود في الأول، و العدم في الثاني.

و موثّقته: الرجل يكون له العبد و الأمة، قد عرف ذلك، فيقول: أبَقَ غلامي أو أمتي، فيكلّفونه القضاة شاهدين بأن هذا غلامه أو أمته، لم يبع و لم يهب، فنشهد على هذا إذا كُلِّفناه؟ قال: «نعم» «1».

و الأُخرى: الرجل يكون في داره، ثم يغيب عنها ثلاثين سنة، و يدع فيها عياله، ثم يأتينا هلاكه، و نحن لا ندري ما أحدث في داره، و لا ندري ما حدث له من الولد، إلّا أنّا لا نعلم نحن أنّه أحدث في داره شيئاً و لا حدث له ولد، و لا تقسّم هذه الدار بين ورثته الذين ترك في الدار، حتى يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان

بن فلان، مات و تركها ميراثاً بين فلان و فلان، أ فنشهد على هذا؟ قال: «نعم»، و نحوها روايته «2».

و أمّا ما في ذيل تلك الرواية: الرجل يكون له العبد و الأمة، فيقول: أبَقَ غلامي و أبِقَت أمتي، فيؤخذ في البلد، فيكلّفه القاضي البيّنة أنّ هذا غلام فلان لم يبعه و لم يهبه، أ فنشهد على هذا إذا كُلِّفناه، و نحن لا نعلم أنّه أحدث شيئاً؟ قال: «فكلّما غاب عن يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد عليه».

فلا يثبت سوى مرجوحيّة الشهادة، و لا بأس بها.

فإن قيل: الشهادة إن كانت جائزة كانت واجبة، فلا معنى لمرجوحيّتها.

______________________________

(1) الوسائل 27: 337 أبواب الشهادات ب 17 ح 3، الوافي 16: 1034 أبواب القضاء و الشهادات ب 140 ح 10.

(2) الكافي 7: 387، 4، التهذيب 6: 262، 698، الوسائل 27: 336 أبواب الشهادات ب 17 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 353

قلنا: الواجب هو الشهادة بما هو عنده، لا بالملك المطلق و الشي ء المستصحب مطلقاً، فالمعنى : أنّه لم يشهد أنّه كذا و كذا، و إن وجبت الشهادة بأنّه كان كذا و كذا، و لم يعلم حدوث شي ء.

و بذلك جمع في الوافي بين تلك الرواية و بين الموثّقة الأُولى ، فقال في بيانها: و إنّما تجوز الشهادة على أنّه كان له، لا على أنّه الآن له، و بهذا يجمع بينه و بين الخبر الآتي، حيث حكم بعدم جواز الشهادة في مثله «1». انتهى .

هذا، ثم إنّه يظهر من بعض الفضلاء المعاصرين: أنّ جواز شهادة الشاهد بالاستصحاب إنّما هو إذا كان البقاء معلوماً له أو مظنوناً، و لم يكن اتّكاله على مجرّد الاستصحاب و إن كان شاكّاً

أو ظانّاً خلافه.

قال: فكما أنّ المجتهد قد يرجّح الظاهر على الأصل، و يقطع الاستصحاب بسبب ظهور خلافه و أظهريّته، و يسقط عنده عن درجة الحجّية، فكذلك الشاهد في إخباره، قد يكون على ظنٍّ بما علمه سابقاً، و بأنّه باقٍ لعدم سنوح سانحة، و وجود أمارات تفيد الظنّ بالبقاء، و قد تسنحه سوانح تزلزله عن ذلك الظنّ، و يصير شكّاً أو وهماً، فحينئذٍ لا يمكنه الإخبار، لا بالعلم و لا بالظنّ «2». انتهى .

و فيه: أنّه مبنيّ على ما تقرّر عنده، من أنّ حجّية الاستصحاب من جهة إفادته الظنّ، و أمّا على التحقيق المستفاد من أدلّته من أنّه حجّة بنفسه و لو لم يفد الظنّ فلا وقع لذلك الكلام.

المسألة الثامنة: كلّ ما ذكر إنّما هو في بيان تكليف الشاهد

و وظيفته

______________________________

(1) الوافي 16: 1034.

(2) انظر رسالة في القضاء (غنائم الأيام): 710.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 354

في أداء الشهادة و مستندها.

و أمّا الحاكم و تكليفه في القبول و استنتاج الحكم منها فهو أمر آخر، غير لازم لذلك، فإنّ جواز الشهادة للشاهد لا يستلزم جواز الحكم بكلّ ما تجوز له الشهادة، كما في شهادة الجرح و التعديل، فإنّه لا شكّ في جواز الشهادة بالتعديل المطلق، و الجرح كذلك للعالم به، و لكن لا يجب على الحاكم عند الأكثر، بل لا يجوز له الحكم به إلّا مع بيان السبب، أو اتّفاق الشاهد مع الحاكم في أسبابهما.

و على هذا، فالأهمّ هنا بيان تكليف الحاكم، و أنّه بأيّ شهادة يحكم. و المحصّل: أنّ فيما سبق كان الكلام في مستند الشهادة، و بقي الكلام في مستند الحكم أي الشهادة التي تصلح مستنداً للحكم أنّه هل يكفي الإطلاق في الشهادة، بأن يقول: هذا ملك زيد، أو: له على عمرو كذا، أو: باع

زيد داره لعمرو، أو: غصب، و نحو ذلك، أو: أعلم أنّه كذا؟

أو لا يكفي، بل يشترط فيه بيان المستند، و ذكر السبب من الحسّ، أو الاستفاضة، أو اليد، أو الاستصحاب، أو نحوها ممّا هو مستند الشاهد؟

و بعبارة اخرى : هل يشترط أن تكون الشهادة حسّية بأن تذكر محسوساته- أو تكفي العلميّة؟

الحقّ: هو الأول؛ لوجهين:

أحدهما: أنّه قد عرفت الاختلاف الشديد فيما يصلح أن يكون مستنداً للشهادة، فإنّ الأكثر قالوا بوجوب الاستناد إلى الحسّ و عدم كفاية مطلق العلم.

و منهم من استثنى العلم الحاصل بالاستفاضة في موارد خاصّة، و لهم اختلاف كثير في تلك الموارد.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 355

ثم اختلفوا في الاستفاضة المثمرة لجواز الشهادة، أنّها هل هي العلميّة أو الظنّية؟

ثم اختلف المكتفون بالظنيّة، هل هي الظنّ المتاخم للعلم، أو يكفي مطلق الظنّ؟

و منهم من اكتفى بالظنّ الحاصل من شهادة العدلين.

و منهم من اكتفى برؤية الخطّ و الخاتم مع ضمّ الثقة.

و زاد جمع شرط كون المدّعى أيضاً ثقة.

و منهم من اكتفى في الشهادة بالملك بالاستفاضة مع اليد و التصرّف.

ثم اختلفوا في التصرّف أنّه هل يكفي مطلقه أو تشترط تصرّفات خاصّة؟ و هل تشترط فيه المدّة الطويلة أم لا؟

و منهم من اكتفى باليد و التصرّف.

و منهم من اكتفى باليد.

ثم في تشخيص اليد الدالّة على الملكيّة اختلاف شديد مرّ في مقصد القضاء- من جهة فهم ما هو يد، و تعارض أسباب صدق اليد، و شرائطه، و موارد اكتفاء اليد.

ثم اختلفوا في الشهادة بالاستصحاب، و في أنّه هل يشترط معه الظنّ بالبقاء، أو يكفي عدم الشكّ في خلافه، أو عدم الظنّ به، أو لا يُشترَط شي ء من ذلك؟ إلى غير ذلك من وجوه الاختلافات.

و مع ذلك الاختلاف و

تشتّت الآراء و المذاهب كيف يعلم الحاكم بتحقّق ما هو الشهادة الصحيحة عنده بمجرّد الشهادة المطلقة؟ حتى يجوز له الحكم بها أو يجب، و الأصل عدمهما، و عدم تحقّق الشهادة المقبولة.

و إلى هذا ينظر كلام الحلّي في السرائر، بعد نفيه تحمّل شاهد الفرع

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 356

لشهادة شاهد الأصل، بدون الاسترعاء، و سماع الشهادة عند الحاكم، و بدون ذكر السبب.

قال: مثل أن سمعه يقول: أشهد أنّ لفلان بن فلان على فلان بن فلان درهماً، فإنّه لا يصير بهذا متحمّلًا للشهادة على شهادته؛ لأنّ قوله: أشهد بذلك، ينقسم إلى الشهادة بالحقّ، و يحتمل العلم به على وجه لا يشهد به، و هو أن يسمع الناس يقولون: على فلان كذا و كذا «1». انتهى .

و بمثل ذلك صرّح الشيخ في المبسوط «2»، على ما حكي عنه.

هذا كلّه، مع ما في اشتباه العلم و الظنّ على كثير كثيرا، و اختلاف الناس في سهولة القبول و صعوبته، و اختلاف الأسباب في إفادة العلم و عدمها بالنسبة إلى الأشخاص، و حصول العلم القطعيّ لبعضهم بما لا يفيده عند الأكثر، فإنّي شاهدت ذلك كثيراً.

فمن العدول من شهد بشهادة قطعيّة، فعلمت أنّه لم يشاهد المشهود عليه، فسألته عن ذلك، فقال: علمت بالتواتر و الشياع، فقلت: كم شهد عندك من الأشخاص؟ فانتهى إلى ثلاثة أو أربعة من أوساط الناس و مجاهيلهم.

و كثير منهم كانوا ممّن شهدوا قطعاً على شخص غير حاضر في البلد، فاستفسرت منهم، قالوا: علمنا ذلك بمكاتيب شركائنا من البلدة الفلانيّة، مع أنّ مكاتيبهم لم تكن مستندة إلى حسّ أيضاً.

و منهم من قال: كتب إليّ ولدي، و أعرف خطّه، و هو غير كاذب.

و منهم من قال بعد الشهادة العلميّة

و الاستفسار منه-: أنّه مكتوب

______________________________

(1) السرائر 2: 129.

(2) المبسوط 8: 232.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 357

بخطّي و خاتمي، و أقطع بأنّي لا أكتب إلّا عن علم.

و شهد في بعض الوقائع عندي نحو من أربعين نفراً، كان جمع منهم من العدول، و حصلت لي ريبة من جهة مضيّ مدّة طويلة من الواقعة، و قصور سنيّ الشهود عن درك هذه المدّة، فاستفسرت من جمع من عدولهم، فاستندوا إلى شهادة جمع كثير من هؤلاء الأربعين، فتفحّصت منهم، فاستند كثير منهم إلى طائفة اخرى منهم، إلى أن انتهت شهادة الباقين إلى حكم بعض المنصوبين لمنصب الحكم و المدّعي لمرتبته، من غير تعمّق في علمه أو عدالته.

فإن قيل: العدالة مانعة عن الشهادة بالمطلق مع الاختلاف في المستند، فمع الإطلاق يعلم أنّه أراد ما هو المجمع عليه، أو المقبول عند الحاكم.

و أيضاً تمنع العدالة عن الشهادة بالعلم بالأسباب الضعيفة الغير المفيدة للعلم غالباً.

قلنا في الجواب عن الأول بمثل ما أجابوا عمّن اكتفى بالإطلاق في التعديل لمثل ذلك، فإنّ العدالة لا تستلزم الاطّلاع على هذه الاختلافات، و لا تنافي البناء على مذهب مجتهده.

مع أنّه قد لا يفيد الموافقة لرأي الحاكم أيضاً، فإنّ الشاهدين قد يشهدان بالاستصحاب مع ظنّ البقاء، و علمهما بجوازها عند الحاكم، و يشهد آخران بخلافه؛ لأجل اليد الحاليّة، و علمهما باعتبارها عند الحاكم، فلو لم يستفسر الحاكم، و حكم بمقتضى التعارض، كان حاكماً بمقتضى الاستصحاب مع وجود المزيل، إذا كان الحاكم يقدّم اليد الحاليّة على الملكيّة السابقة.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 358

و عن الثاني: بأنّ حصول العلم و سهولة القبول ليس أمراً اختياريّاً تمنعه العدالة، و بعد حصوله لم يكذب الشاهد في شهادته بالعلم، أو

لا حرج عليه، سيّما إذا لم يسمع الاختلاف في وجوه الشهادات، أو لم يسمع إلّا اشتراط العلم فيها.

و ثانيهما: أنّه قد عرفت و صرّح به جماعة «1» أنّ الشهادة هي الأخبار عمّا شاهده و عاينه، و لم يعلم شمولها لغير ذلك، فلا تدلّ عمومات قبول الشهادة إلّا على وجوب قبول الخبر الكذائي في ترتيب الحكم عليها، و الأصل عدمه في غير ذلك.

و إلى هذا ينظر كلام الشهيد في الدروس كما تقدّم في المسألة الثانية ناقلًا عن بعض الأصحاب، حيث قال بلابدّيّة الإتيان بلفظ الشهادة، و عدم سماع قول الشاهد: إنّي أعلم أو أتيقّن أو أخبر عن علم أو حقّ «2».

و ذلك لأنّ هذه الأقوال لا تفيد الاستناد إلى الحسّ، بخلاف قوله: أشهد، فإنّ معناه الإخبار عن الحضور و المشاهدة.

و لكن هذا لا يفيد في الأكثر أيضاً؛ لأنّ غالب الشهود في هذه الأزمنة لا يعرفون معنى الشهادة، سيّما في البلاد العجميّة، فلا يفرّقون بين الشاهد و المخبِر.

و لعلّ هذا وجه عدم اكتفاء الحلّي و المبسوط كما مرّ بالإتيان بلفظ الشهادة أيضاً.

فإن قيل: قد ذكرت أنّ الشهادة بالملك المطلق و الاستصحاب أيضاً شهادة عن المحسوس؛ حيث إنّ اليد الحاضرة و السابقة كانتا محسوستين،

______________________________

(1) كصاحب الرياض 2: 446.

(2) الدروس 2: 135.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 359

و الشارع جعل اليد و الاستصحاب سبباً لحصول الملكيّة الظاهرة بذلك المحسوس، فهما أيضاً شهادتان حسّيّتان.

قلنا: الشهادة: الإخبار عن الحسّ و المشاهدة، لا عن المحسوس و المشاهَد.

المسألة التاسعة: إذا شهد الشاهد عند الحاكم لزيد باليد ثبت عنده اليد،

و مقتضاها الملكيّة، فيحكم له بها؛ لأنّ اليد مستلزمة لها، سواء علمت بالمشاهدة أو ثبتت بالبيّنة، فيكون حينئذٍ الثابت بالبيّنة: اليد، و بها و بالقاعدة الشرعيّة: الملكيّة، و إن شئت نسبت الثانية إلى الشهادة

أيضاً.

و إذا شهد بملكيّة الأمس، فإمّا يكتفي بها، أو يضمّ معها ما يفيد استصحابه أيضاً.

فعلى الأول: تثبت ملكيّة الأمس بالبيّنة، و ملكيّة اليوم باستصحاب الحاكم؛ لأنّه أمر شرعيّ يجب عليه اتّباعه.

و به صرّح في القواعد، قال-: أمّا أنّه لو شهد بأنّه أقرّ له بالأمس ثبت الإقرار، و استصحب موجبه، و إن لم يتعرّض الشاهد «1» للملك الحالي «2». انتهى .

و حكي عن بعض آخر أيضاً «3»، و جعله الشهيد الثاني مقتضى إطلاق كلام المحقّق «4»، بل الظاهر عندي أنّه مقتضى كلام القوم، و إن رجّحوا اليد عليه لكونها مزيلة للاستصحاب.

______________________________

(1) في المصدر: المالك.

(2) القواعد 2: 234.

(3) انظر كشف اللثام 2: 187.

(4) المسالك 2: 392.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 360

و أمّا ما ربّما يظهر من بعض معاصرينا، من الإشكال في جواز عمل الحاكم هنا بالاستصحاب؛ استناداً إلى أنّ الثابت جواز العمل بعلمه، أمّا عمله بظنّه فلا دليل عليه.

فممّا لا ينبغي الإصغاء إليه؛ فإنّه لا يعمل بظنّه من حيث هو ظنّ، بل هو يعمل بمقتضى الدليل الشرعيّ الذي هو الاستصحاب.

و أيّ فرق بين قاعدة الاستصحاب و قاعدة العمل بالبيّنة؟! فإنّ شيئاً منهما لا يفيد العلم.

و جعل الثاني تعبّديّاً و الأول عملًا بالظنّ شططٌ من الكلام.

مع أنّه تجوز شهادة الشاهد بالاستصحاب، و حكم الحاكم باستصحاب الشاهد لو صرّح به.

و ليت شعري كيف صار الاستصحاب حجّة للشاهد مع النهي عن الشهادة بدون العلم؟! و صار استصحابه حجّة للحاكم دون استصحاب نفسه؟! نعم، لو قال: بأنّ هذا ليس إثباتاً للحقّ بالبيّنة الآن كما صرّح به قبل ذلك في مسألة اخرى لا اعتراض لنا عليه.

و على الثاني: فإمّا تكون الضميمة صريح الاستصحاب، فيقول: كان ملكه بالأمس، و اعتقد أنّه ملكه

حينئذٍ بالاستصحاب.

أو ما يفيد مفاده، فيقول: و لا أعلم له مزيلًا.

أو تكون الضميمة ما يفيد شكّه، فيقول: و لا أدري أزال ملكه عنه أم لا؟

و ممّا ذكرنا ظهر الحكم في جميع تلك الصور أيضاً، لعدم منافاة شي ء من هذه الأقوال لاستصحاب الحاكم الملكيّة السابقة، فيستصحبها،

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 361

فيكون الحكم بالبيّنة و الاستصحاب معاً.

و أمّا الحكم بالبيّنة فقط فلا يتحقّق في شي ء من هذه الصور؛ لأنّ استصحاب الشاهد أو عدم علمه بالمزيل أو نحوهما ليس حجّة للحاكم، و لا يطلق عليه الشهادة.

و ذلك غرض الفاضل في القواعد، حيث قال في الصورة الاولى : إنّ في قبول الشهادة إشكالًا «1».

فإنّ غرضه الإشكال في إثبات الملكيّة الحاليّة بالبيّنة، لا بنفس استصحاب الحاكم، و هو في محلّه؛ لأن الحاكم مأمور بعلمه باستصحاب نفسه، و أمّا استصحاب الشاهد فهو وظيفته، و لا يفيد للحاكم شيئاً، و لكنّه لا يثمر ثمرة بعد جواز استصحاب الحاكم.

نعم، لو كان الحاكم ممّن لا يقول بحجّية الاستصحاب و الشاهد قائلًا بها تظهر الفائدة.

و التحقيق: عدم السماع حينئذ، لأنّ القدر الثابت جواز الشهادة له بالاستصحاب، و أمّا جواز العمل بالشهادة الاستصحابيّة فلا دليل عليه أصلًا.

و قد يفرّق بين الصورتين الأُوليين و بين الأخيرة، فتُسمَع في الأُوليين دون الأخيرة، بل يُنسَب إلى المشهور.

و استُدلّ عليه: بأنّ الأُوليين تفيدان أنّه يعلم البقاء أو يظنّه، و علم الشاهد و ظنّه المستند إلى دليل شرعيّ حجّة شرعيّة. و أمّا الثانية فإنّما تفيد الشكّ، و عدم بقاء الظنّ.

و فساده أظهر من أن يخفى .

______________________________

(1) القواعد 2: 234.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 362

أمّا أولًا: فلأنّه أيّ دلالة للأُوليين على بقاء العلم أو الظنّ؟! بل هما أعمّان منهما و

من الشكّ و من ظنّ الخلاف، فإنّه لا ينافي الاستصحاب.

و إن كان مراده الظنّ الاستصحابي فهو متحقّق في الأخيرة أيضاً.

و أمّا ثانياً: فلأنّ قوله: لا أدري، أعمّ من بقاء الظنّ ايضاً، فلا ينفيه.

و أمّا ثالثاً: فلأنّ أيّ دليل على حجّية ظنّ الشاهد من حيث هو ظنّه؟! و أمّا الاستصحاب فهو حجّة في صورة الشكّ أيضاً إجماعاً، بل هو حجّة مع ظنّ الخلاف أيضاً، إلّا إذا كان مستنداً إلى دليل شرعي، و هو في حكم العلم.

مع أنّ ظنّ الشاهد لو كان حجّة فإنّما هو حجّة لنفسه، دون غيره.

و اللَّه الموفّق و المعين.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 363

الفصل الثالث فيما يتعلّق بتحمّل الشهادة و أدائها

اشاره

و فيه مسائل:

المسألة الأُولى : يحصل التحمّل للشهادة بالمشاهدة

لما تكفي هي فيه، و بالسماع لما يكفي هو فيه، و لو لم يستدع أحد طرفي الشهادة أو كلاهما عليه، بل لو قالا له: لا تشهد و لا تتحمّل.

بلا خلاف يوجد، إلّا ما حكي عن الإسكافي في السماع «1».

و هو شاذّ لا يُعبأ به؛ لعدم دليل على اشتراط الاستدعاء في صيرورته شاهداً مع حصولها بأحد الأمرين عرفاً و لغةً، و فرض حصول العلم اللازم فيها المأمور بالشهادة معه كتاباً و سنّةً.

مضافاً إلى خصوص المعتبرة المصرّحة لخيار الشاهد بين إقامة الشهادة و عدمها في صورة عدم الاستدعاء «2»، و لو لا كونه متحمّلًا لما كان وجه لجواز الشهادة.

و منه يظهر حصول التحمّل بالخباء، و سماع كلام المشهود عليه.

و لا يصير متحمّلًا بشهادة العدلين عنده إلّا [لشهادتهما «3»].

و لا بقول المشهود له و سكوت المشهود عليه؛ لأنّه أعمّ من الرضا.

و لا بإشارة الأخرس إلّا [لطريق «4»] إشارته؛ لجواز خطائه في فهمها،

______________________________

(1) حكاه عنه في المختلف: 729.

(2) انظر الوسائل 27: 317 أبواب الشهادات ب 5.

(3) في «ح» و «ق»: بشهادتهما، و الظاهر ما أثبتناه.

(4) في «ح» و «ق»: بطريق، و الظاهر ما أثبتناه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 364

و لعدم كون الفهم مستنداً الى حسّ، و اللَّه العالم.

المسألة الثانية: المشهور كما في المسالك و الكفاية و شرح الإرشاد للأردبيلي «1» و غيرها «2» وجوب تحمّل الشهادة
اشاره

إذا دعي إليه، و هو مذهب الشيخ في النهاية و المفيد و الإسكافي و الحلبي و القاضي و الديلمي و ابن زهرة و الفاضلين و الفخري و الشهيدين و الصيمري «3»، و غيرهم من المتأخّرين «4».

لقوله سبحانه وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا «5».

فإنّ ظاهر سياق الآية أنّها للدعاء إلى التحمّل؛ لأنّها منساقة في معرض الإرشاد للأمر بالكتابة، و نهي الكاتب عن الإباء، ثم الأمر بالإشهاد، و نهي

الشاهد عن الإباء.

مع أنّ هذا المعنى للآية مستفاد من المستفيضة، كصحيحة هشام في قول اللَّه تعالى وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ قال: «قبل الشهادة» و في قول اللَّه تعالى وَ مَنْ يَكْتُمْها «6».

______________________________

(1) المسالك 2: 415، الكفاية: 286، مجمع الفائدة 12: 517.

(2) كالمفاتيح 3: 284.

(3) النهاية: 328، المفيد في المقنعة: 728، نقله عن الإسكافي في المختلف: 722، الحلبي في الكافي في الفقه: 436، القاضي في المهذب 2: 560، الديلمي في المراسم (الجوامع الفقهية): 657، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 625، المحقق في الشرائع 4: 137، العلّامة في القواعد 2: 240، الفخري في الإيضاح 4: 442، الشهيد الأوّل في اللمعة (الروضة البهية 3): 137، و الدروس 2: 123، الشهيد الثاني في المسالك 2: 415 و الروضة 3: 137.

(4) منهم ابن فهد الحلّي في المقتصر: 392، الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 382.

(5) البقرة: 282.

(6) البقرة: 283.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 365

قال: «بعد الشهادة» «1».

و صحيحة الحلبي: في قول اللَّه عزّ و جلّ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ فقال: «لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة يشهد عليها أن يقول: لا أشهد لكم» و قال: «ذلك قبل الكتاب» «2».

و مثلها موثّقة سماعة «3» و رواية الكناني «4» إلى قوله: «لا أشهد لكم».

و رواية محمّد بن الفضيل: في قول اللَّه عزّ و جلّ وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ فقال: «إذا دعاك الرجل لتشهد له على دَين أو حقّ لم ينبغ لك أن تقاعس عنه» «5».

و ما في تفسير الإمام (عليه السّلام) بعد ذكر التفسير الآتي-: و في خبر آخر: قال: «نزلت فيمن دعي لسماع الشهادة فأبى ، و نزلت فيمن امتنع عن أداء الشهادة إذا كانت عنده وَ لا تَكْتُمُوا

الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » «6».

و لرواية داود بن سرحان: «لا يأب الشاهد أن يجيب حين يدعى قبل الكتاب» «7».

______________________________

(1) الكافي 7: 380، 4، الفقيه 3: 34، 112، التهذيب 6: 275، 750، الوسائل 27: 309 أبواب الشهادات ب 1 ح 1.

(2) الكافي 7: 380، 2، الوسائل 27: 310 أبواب الشهادات ب 1 ح 4.

(3) الكافي 7: 379، 1، التهذيب 6: 275، 753، الوسائل 27: 310 أبواب الشهادات ب 1 ح 5.

(4) الكافي 7: 379، 2، التهذيب 6: 275، 751، الوسائل 27: 309 أبواب الشهادات ب 1 ح 2.

(5) الكافي 7: 380، 3، التهذيب 6: 276، 754، الوسائل 27: 310 أبواب الشهادات ب 1 ح 7.

(6) تفسير العسكري «ع»: 676، 379، الوسائل 27: 314 أبواب الشهادات ب 2 ح 8.

(7) الكافي 7: 380، 6، التهذيب 6: 276، 755، الوسائل 27: 310 أبواب الشهادات ب 1 ح 6.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 366

و المدائني: «إذا دُعيتَ إلى الشهادة فأجب» «1».

مضافاً إلى دعاء الضرورة إليه غالباً في المعاملات و المناكحات، فوجب بمقتضى الحكمة إيجابه رفعاً لحسم مادة النزاع.

خلافاً للحلّي حاكياً له عن المبسوط أيضاً قال: و الذي يقوى في نفسي أنّه لا يجب التحمّل، و للإنسان أن يمتنع من الشهادة إذا دعي إليها ليتحمّلها؛ إذ لا دليل على وجوب ذلك عليه، و ما ورد في ذلك فهو أخبار آحاد.

فأمّا الاستشهاد بالآية، و الاستدلال بها على وجوب التحمّل، فهو ضعيف جدّاً؛ لأنّه تعالى سمّاهم شهداء، و نهاهم عن الإباء إذا دعوا إليها، و إنّما يسمّى شاهداً بعد تحمّلها، فالآية بالأداء أشبه. و إلى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطه «2». انتهى .

و لكن

نسب في المختلف و الإيضاح إلى المبسوط القول الأول «3».

و يدلّ على ما ذكره الحلّي من كون الآية بالأداء أشبه المرويّ عن تفسير الإمام في تفسير هذه الآية: قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) في تفسيرها: «من كانت في عنقه شهادة فلا يأب إذا دعي لإقامتها، و ليقمها» «4».

أقول: في تماميّة الدليل الأخير للقول المشهور نظر؛ لرفع الضرورة بالأمر بعدم الإنكار، و الاستقامة على الحقّ، ثم بتوقّف اليمين.

و كذا في دلالة رواية المدائني؛ لاحتمال إرادة الأداء.

______________________________

(1) الكافي 7: 380، 5، التهذيب 6: 275، 752، الوسائل 27: 309 أبواب الشهادات ب 1 ح 3.

(2) السرائر 2: 126، و انظر المبسوط 8: 186.

(3) المختلف: 722، الإيضاح 4: 441.

(4) تفسير العسكري « (عليه السّلام)»: 676، 378، الوسائل 27: 314 أبواب الشهادات ب 2 ح 7.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 367

بل و كذا رواية داود، و ليس قوله: «قبل الكتاب» نصّاً و لا ظاهراً في التحمّل.

و منه يظهر ضعف دلالة غير صحيحة هشام، و خبر الإمام على تفسير الآية بالتحمّل أيضاً.

نعم، هما تدلّان عليه، و لكن يعارضهما الخبر الأخير عن التفسير، إلّا أنّه لا يصلح لمعارضتهما؛ لوجوه، أقواها: مخالفته لفهم معظم الأصحاب من المتقدّمين و المتأخّرين، مع ما يمكن من الكلام في ثبوت التفسير عن الإمام.

فلا ينبغي الريب في حمل الآية على التحمّل، و معه تثبت حرمة الإباء، و بها يثبت وجوب التحمّل عند الدعاء.

و يدلّ على هذا القول أيضاً أمر اللَّه سبحانه بالإشهاد في الآية «1»، و أُخبر عنه في الأخبار، كما في روايتي عمر و عمران ابني أبي عاصم: «إنّ أربعة لا تستجاب لهم دعوة، أحدهم: رجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة، فيقول اللَّه عزّ

و جلّ: أ لم آمرك بالشهادة؟!» «2».

و هو لا يستقيم بدون إيجاب التحمّل أيضاً، بل الأول مفهم للثاني، و الثاني قرينة عليه عرفاً، كما يظهر من أمر العبد بأخذ المال من عبد آخر، أو أخذ دراهم من شخص، أو نحو ذلك.

فالحقّ هو المشهور.

______________________________

(1) البقرة: 282.

(2) الكافي 5: 298، 2، 1 و فيه: عمّار و عمر [ان ]، و في التهذيب 7: 232، 1014 عن عمران، و أورده في الوسائل 18: 338 أبواب القرض و الدين ب 10 ح 1 عن الكافي و التهذيب. و الظاهر اختلاف نسخ الكافي انظر هامش الوافي 9: 1536.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 368

و أمّا صحيحة القدّاح: «جاء رجل من الأنصار إلى النبي (صلّى اللَّه عليه و آله)، فقال: يا رسول اللَّه، أُحبّ أن تشهد لي على نحل «1» نحلتها ابني، قال: ما لك ولد ساه؟ قال: نعم، فقال: نحلتهم كما نحلته؟ قال: لا، قال: فإنّا معاشر الأنبياء لا نشهد على حَيْف «2»» «3».

حيث إنّ المراد بالحيف ليس الحرام، و إلّا حكم رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) ببطلان نحلته، بل خلاف الاولى ، و لا يجوز ترك الواجب لذلك، و ليس ذلك ايضاً من الخصائص.

فلا تنافي المختار؛ لأنّه ما دعا الرسول (صلّى اللَّه عليه و آله)، بل قال: «أُحبّ».

مع أنّه يمكن أن يعلم رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله) تحمّل غيره، فإنّه قضيّة في واقعة.

و معنى قوله: «فإنّا معاشر الأنبياء» إلى آخره، يمكن أن يكون: إنّا لا نترك الحائف على حيفه، بل ننصحه حتى يتركه. فلم يشهد «4» عليه.

فروع:

أ: هل الوجوب على الكفاية؟ كما عن الشيخ في المبسوط و النهاية و الإسكافي و الفاضلين و الفخري و

الشهيدين و الصيمري «5» و غيرهم من

______________________________

(1) أي هبة مجمع البحرين 5: 478، و في روضة المتقين 6: 183: نخل ..

(2) يعني على الظلم و الجور مجمع البحرين 5: 42. و في الفقيه: الجَنَف، و هو الميل و العدول عن الحق مجمع البحرين 5: 33.

(3) الفقيه 3: 40، 134، الوسائل 27: 414 أبواب الشهادات ب 55 ح 1.

(4) في «ق»: نشهد ..

(5) المبسوط 8: 186، النهاية: 328، حكاه عن الإسكافي في المختلف: 725، المحقّق في الشرائع 4: 138، العلّامة في القواعد 2: 240، الفخري في الإيضاح 4: 442، الشهيد الأوّل في اللمعة (الروضة البهية 3): 137، و الدروس 2: 123، و الشهيد الثاني في الروضة 3: 137، و المسالك 2: 415.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 369

المتأخّرين «1».

أو على العينيّة؟ كما حكي في الإيضاح عن ظاهر المفيد و الحلبي و القاضي و الديلمي و ابن زهرة «2».

قيل: ظاهر الآية و الأخبار: الثاني، إلّا أنّ إطباق المتأخّرين على الأول يرجّحه، مضافاً إلى فحوى الخطاب المستفاد من الحكم بكفائيّة الأداء، و إلى إشعار جعل وجوبه مقابلًا لوجوب الأداء «3».

و لا يخفى ما في هذه الوجوه من الضعف البيّن، فإنّ بعد تسليم ظهور الآية و الأخبار في أمر، و فتوى كثير من أساطين القدماء عليه أيّ وقعٍ لإطباق المتأخرين؟! و أيّ أولويّة للتحمّل في الكفائيّة من الأداء؟! مع أنّه يحصل المطلوب الذي هو ثبوت الحقّ بأداء الشاهدين، و لا تبقى فائدة للشهادة بعده، بخلاف التحمّل، فإنّ موت بعض الشهداء حين الحاجة محتمل، و كذا نسيانه أو فسقه أو غيبته أو جهل حاله عند الحاكم، ففائدة غير الشاهدين كثيرة.

و لا إشعار للمقابلة المذكورة أصلًا.

فالصواب: الاستدلال بظاهر الآية على

الكفائية؛ لأنّ اللَّه سبحانه أمر أولًا باستشهاد الرجلين، و إن لم يكونا فرجل و امرأتان، ثم قال عزّ شأنه

______________________________

(1) كالسبزواري في الكفاية: 286.

(2) الإيضاح 4: 441، و هو في المقنعة: 728، الكافي في الفقه: 436، المهذب 2: 561، المراسم (الجوامع الفقهية): 657، الغنية (الجوامع الفقهية): 625.

(3) انظر الرياض 2: 450.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 370

وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ، اللام في ذلك للعهد الذكري، فالمعنى : و لا يأب الرجلان و الرجل و المرأتان من الإجابة، فالنهي للرجلين أو الرجل و الامرأتين المستشهد عنهما، لا كل أحد، فبعد إجابتهما لا أمر بالشهادة و لا نهي عن الإجابة، كما هو شأن الواجب على الكفاية. و الأصل عدم الوجوب على الغير.

و منه يظهر عدم ثبوت غير الكفائي ممّا ذكرنا دليلًا أيضاً من الأمر بالإشهاد، و أما سائر الأخبار فقد عرفت عدم ثبوت دلالتها على وجوب التحمّل.

ب: قيّد الشيخ في النهاية «1» و جماعة «2» الوجوب بأنّه إنّما هو على من له أهليّة الشهادة، و أطلق جمع آخر «3».

و التقييد بالنسبة إلى من لا تتصوّر في حقّه الأهليّة، كالولد على والده، و المرأة في الطلاق، و نحوه واضح.

و أمّا من تمكن في حقّه الأهليّة فالظاهر فيه أيضاً ذلك؛ لأنّ الشاهد المأمور باستشهاده في الكتاب الكريم إنّما هو ممّن ترضون من الشهداء، فالمنهيّ عن الإجابة أيضاً يكون هو ذلك، كما يظهر وجهه ممّا مرّ.

ج: هل يجب في التحمّل حفظ المشهود به عن النسيان بكتابة و نحوها؟

الظاهر: لا؛ للأصل، و أصالة عدم النسيان، و احتماله مع الكتابة

______________________________

(1) النهاية: 328.

(2) منهم المحقّق في الشرائع 4: 137، العلّامة في القواعد 2: 240، الشهيد الأول في اللمعة (الروضة البهية 3): 137، الفاضل الهندي

في كشف اللثام 2: 382.

(3) منهم المحقّق في النافع: 289، الشهيد الثاني في المسالك 2: 415، السبزواري في الكفاية: 286.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 371

أيضاً.

د: يجب في تحمّل الشهادة لشخص أو عليه أن يعرفه إمّا بعينه، بأن ينظر إليه، و يثبته في خاطره، بحيث يمتاز عن غيره عنده عند الأداء، أو يعيّن وصفه و حليته، بحيث لا يشاركه غيره فيهما عادةً، و يثبته إلى وقت الأداء.

أو يعرفه باسمه و نسبه، بحيث يمتاز عن غيره، بأن يكون معروفاً عنده ابتداءً.

أو يعرفه حين التحمّل معرفة علميّة حاصلة من الشياع، حيث عرفت أنّ الشياع معرِّف للأنساب «1» أو يعرفه بشهادة رجلين عدلين، بالإجماع كما قيل؛ و يدلّ عليه كلام الحلّي في السرائر أيضاً «2»، كما يشعر به كلام الكفاية «3».

لأصالة حجّية شهادة العدلين، كما بيّنا في موضعه.

و لرواية ابن يقطين: «لا بأس بالشهادة على إقرار المرأة و ليست بمسفرة إذا عُرِفت بعينها أو حضر من يعرفها، فأمّا إن لا تُعرَف بعينها و لا يحضر من يعرفها، فلا يجوز للشهود أن يشهدوا عليها و على إقرارها دون أن تسفر» «4».

و قوله: «أو حضر من يعرفها» و إن شمل الواحد أيضاً و المرأة، إلّا أنّ الأقلّ من العدلين خارج بالإجماع.

______________________________

(1) في «ق»: للإنسان.

(2) السرائر 2: 126.

(3) الكفاية: 284.

(4) الكافي 7: 400، 1، الفقيه 3: 40، 131، التهذيب 6: 255، 665، الإستبصار 3: 19، 57، الوسائل 27: 402 أبواب الشهادات ب 43 ح 3.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 372

و مكاتبة الصفّار الصحيحة: فهل يجوز للشاهد الذي أشهده بجميع هذه القرية أن يشهد بحدود قطاع الأرضين التي له فيها، إذا تُعرَف حدود هذه القطاع بقوم من أهل هذه

القرية إذا كانوا عدولًا؟ فوقّع (عليه السّلام): «نعم، يشهدون على شي ء مفهوم معروف إن شاء اللَّه تعالى » «1».

و هي و إن كانت في معرفة حدود القطاع، إلّا أنّه لا فرق بين معرفة الشخص و الحدّ.

و قريبة منها مكاتبته الأُخرى «2».

و أمّا مكاتبته الصحيحة الثالثة: في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم، هل يجوز له أن يشهد عليها و هي من وراء الستر و يسمع كلامها، إذا شهد رجلان عدلان أنّها فلانة بنت فلان التي تشهدك، و هذا كلامها، أو لا تجوز له الشهادة حتى تبرز و يثبتها بعينها؟ فوقّع (عليه السّلام): «تتنقّب و تظهر للشهود» «3».

فحملها بعضهم على التقيّة، و لأجلها جعلها مرجوحة بالنسبة إلى الرواية المتقدّمة؛ حيث إنّه لا تجوز عند العامّة الشهادة على إقرار المرأة دون أن تسفر فينظر إليها الشهود و لو عرفت بعينها، كما ورد في روايةٍ صحيحة «4».

و الظاهر أنّها لا تنافي الرواية؛ لأنّ الظاهر أنّ المراد بالشهود: الذين يعرفونها أنّها فلانة، دون الرجل الذي أراد أن يشهد عليها، كما حملها عليه

______________________________

(1) التهذيب 6: 276، 758، و في الكافي 7: 402، 4، و الوسائل 27: 407 أبواب الشهادات ب 48 ح 1.

(2) الفقيه 3: 153، 676، الوسائل 27: 407 أبواب الشهادات ب 48 ح 1.

(3) الفقيه 3: 40، 132، الاستبصار 3: 19، 58.

(4) انظر الرياض 2: 451.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 373

الشيخ في الاستبصار «1»؛ و يدلّ عليه جمع الشهود، و قوله: «تتنقّب»؛ لأنّ الظاهر أن التنقّب لهذا الرجل و الظهور للشهود؛ حيث إنّه يجب أن يكون الظهور لهم في حضوره، حتى يشهدوا على عينها.

و إن كان المراد بالشهود: الرجل، لم يحتج إلى التنقّب.

و لا

يتوهّم أنّ ذلك ينافي ما مرّ من لزوم استناد الشهادة إلى الحسّ، و إبطال قول الشيخ بجواز الشهادة الأصليّة بشهادة العدلين «2».

لأنّ المشهود به هنا أيضاً و هو إقرار المرأة مستند إلى الحسّ.

و المعلوم بالعدلين هو بعض متعلّقات المشهود به دون نفسه.

و ليس ذلك إلّا كالشهادة على حضور مشاهدة بيع وكيل زيد أو وصيّ الصغير- الثابتة وكالته و وصايته بالعدلين ملكاً لغيره، فإنّ المشهود به مستند إلى الحسّ.

و كذا إذا شهد بملكيّة عمرو الملك الفلاني الذي ابتاعه من أُمّ الغلام، التي ورثت هذا الملك منه بشهادة امرأة واحدة ليست شهادته مستندة إلى قول امرأة.

فإنّ المفروض عدم التنازع في كون المشهود لها أو عليها الامرأة الفلانيّة و عدمه، أو في وكالة الوكيل المذكور، أو في وصاية الوصي، أو حياة الغلام، بل في أمر آخر محسوس للشاهد.

نعم، لو أنكر حينئذٍ المشهود عليه كونها تلك الامرأة أو الوكالة أو الوصاية أو الحياة لم تجز الشهادة بالعدلين و الامرأة الواحدة بكونها امرأة فلانيّة و وكيلًا و وصيّاً و الغلام حيّاً.

______________________________

(1) الاستبصار 3: 19.

(2) المبسوط 8: 181.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 374

ثم إنّه على ما ذكرنا من جواز الشهادة على إقرارها بتعريف العدلين لها هل يجب استناد شهادته إلى شهادتهما بمعرفتها؟ كما عن الحلّي في السرائر و الفاضل في التحرير «1» و غيره، أم يجوز ذكر الشهادة مطلقة؟

الظاهر: الثاني، إن كان مذهب الحاكم كفاية معرفة العدلين في هذه الشهادة، و يعلمه الشاهدان، و إلّا فلا؛ و الوجه واضح.

ه: يجوز أن تسفر المرأة و تكشف عن وجهها ليعرفها الشاهدان لها أو عليها، إذا لم يمكنهما معرفتها بشهادة العدلين العارفين لها شخصاً أو نسباً، بلا خلاف يوجد، كذا قيل «2».

أقول:

إن قلنا بجواز نظر الأجنبي إلى وجه الأجنبيّة من غير ريبة فلا حاجة إلى قيد عدم إمكان المعرفة بالعدلين، و إن لم نقل به يجب التقييد به، و بضرورة الشهادة أيضاً، فتأمّل.

المسألة الثالثة: من تحمّل شهادةً فإمّا يكون بالاستدعاء أي التماس صاحب الحقّ للتحمّل أو بدونه.
اشاره

فإن كان بالاستدعاء يجب عليه الأداء حين طلبه، إجماعاً قطعيّاً، بل ضرورة، و حكاية الإجماع عليه مستفيضة «3»، و الآيات عليه دالّة، و الأخبار عليه متواترة.

و إن كان بدونه، فالمشهور بين المتأخّرين بل نُسب إلى جمهورهم «4» الوجوب أيضاً، و هو مختار الحلّي «5»؛ لما مرّ.

______________________________

(1) السرائر 2: 126، التحرير 2: 211.

(2) انظر الرياض 2: 451.

(3) القواعد 2: 240، المسالك 2: 415، الروضة 3: 138، الرياض 2: 449.

(4) كما في الرياض 2: 449.

(5) السرائر 2: 132.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 375

و ذهب جماعة من القدماء منهم: الإسكافي و الشيخ في النهاية و ظاهر الحلبي و القاضي و ابنا حمزة و زهرة، بل الكليني و الصدوق «1»، بل نسبه بعضهم إلى المشهور بين القدماء «2» إلى عدم الوجوب حينئذ، بل هو بالخيار، إن شاء شهد، و إن لم يشأ لم يشهد؛ للصحاح الأربع لمحمّد و هشام:

الأُولى : «إذا سمع الرجل الشهادة و لم يشهد عليها، إن شاء شهد، و إن شاء سكت» «3».

و الثانية: في الرجل يشهد حساب الرجلين، ثم يدعى إلى الشهادة، [قال:] «إنشاء شهد، و إن شاء لم يشهد» «4».

و الثالثة: «إذا سمع الرجل الشهادة و لم يشهد عليها، فهو بالخيار، إن شاء شهد، و إن شاء لم يشهد» «5».

و مثلها الرابعة، و زاد فيها: و قال: «إنّه إذا أُشهد لم يكن له إلّا أن يشهد» «6».

______________________________

(1) نقله عن الإسكافي في المختلف: 729، النهاية: 330، الحلبي في الكافي في الفقه: 436،

القاضي في المهذب 2: 561، ابن حمزة في الوسيلة: 233، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 625، الكليني في الكافي 7: 381، الصدوق في الفقيه 3: 33.

(2) كما في الرياض 2: 449.

(3) الكافي 7: 381، 2، التهذيب 6: 258، 678، الوسائل 27: 318 أبواب الشهادات ب 5 ح 3، بتفاوت.

(4) الفقيه 3: 33، 107، الوسائل 27: 319 أبواب الشهادات ب 5 ح 6؛ و ما بين المعقوفين من المصدرين.

(5) الكافي 7: 382، 5، الوسائل 27: 317 أبواب الشهادات ب 5 ح 1؛ و فيهما: و إن شاء سكت.

(6) الكافي 7: 381، 1، التهذيب 6: 258، 679، الوسائل 27: 318 أبواب الشهادات ب 5 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 376

و الروايتين، إحداهما لمحمّد: عن الرجل يحضر حساب الرجلين، فيطلبان منه الشهادة على ما سمع منهما، قال: «ذلك إليه، إن شاء شهد، و إن شاء لم يشهد، فإن شهد شهد بحقّ قد سمعه، و إن لم يشهد فلا شي ء عليه؛ لأنّهما لم يشهداه» «1».

و الثانية ليونس مرسلة: «إذا سمع الرجل الشهادة و لم يشهد عليها، فهو بالخيار، إن شاء شهد، و إن شاء أمسك، إلّا إذا علم مَن الظالم فيشهد، و لا يحلّ له إلّا أن يشهد» «2».

و أمّا رواية محمّد: في الرجل يشهد حساب الرجلين، ثم يدعى إلى الشهادة، قال: «يشهد» «3».

فغير منافية لما مرّ؛ لأنّ قوله: «يشهد» لا يفيد الوجوب، و لو سلّم فيخصّص عندهم بما إذا حضر بالاستدعاء.

و صريح النافع و الكفاية «4» و بعض مشايخنا المعاصرين «5» و ظاهر المسالك «6» و بعض آخر ممّن تأخّر عنه «7»: التردّد؛ لمعارضة تلك الأخبار مع إطلاقات الكتاب و السنّة بوجوب أداء الشهادة،

المعتضدة بالشهرة المتأخّرة.

______________________________

(1) الكافي 7: 382، 6، التهذيب 6: 258، 677، الوسائل 27: 318 أبواب الشهادات ب 5 ح 5.

(2) الكافي 7: 382، 4، التهذيب 6: 258، 680، الوسائل 27: 320 أبواب الشهادات ب 5 ح 10، بتفاوت.

(3) الفقيه 3: 33، 108، الوسائل 27: 319 أبواب الشهادات ب 5 ح 7.

(4) النافع: 290، الكفاية: 286.

(5) كصاحب الرياض 2: 449.

(6) المسالك 2: 415.

(7) كالكاشاني في المفاتيح 3: 285.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 377

و لا يخفى ما فيه، فإنّ الإطلاق لا يعارض التقييد الصريح المنصوص، الموافق لعمل أعيان القدماء، بل كما قيل «1» شهرتهم، فلا مناص عن ترجيح القول الثاني، و عليه الفتوى .

ثم عدم الوجوب عند عدم الاستدعاء على المختار إنّما هو إذا لم يعلم الشاهد ذهاب حقّ المحقّ بسكوته، و إن علم ذلك تجب عليه الشهادة، كما صرّح به الصدوق في الفقيه و الشيخ في النهاية «2»، كما نطقت به المرسلة المتقدّمة.

و تدلّ عليه رواية إبراهيم عن أبي الحسن (عليه السّلام): عن رجل طهرت امرأته من حيضها، فقال: فلانة طالق، و قوم يسمعون كلامه، و لم يقل لهم: اشهدوا، أ يقع الطلاق عليها؟ قال: «نعم، هذه شهادة، أ فيتركها معلّقة؟!» «3».

قال: و قال الصادق (عليه السّلام): «العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوماً» «4».

يعني: أنّ العلم شهادة و إن لم يشهد عليه مع الظلم. و ذلك يشعر بأنّه إذا لم يكن صاحبه مظلوماً ليس مطلق العلم بدون الإشهاد شهادة.

و منه يظهر جواب آخر عن العمومات و الإطلاقات للشيخ و تابعيه.

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 449.

(2) الفقيه 3: 34، النهاية: 330.

(3) الفقيه 3: 34، 109، الوسائل 27: 319 أبواب الشهادات ب 5 ح 8، و فيهما: عن

علي بن أحمد بن أشيَم، عن أبي الحسن (عليه السّلام)، و لم نعثر على رواية عن إبراهيم بهذا المتن. نعم، وردت بدون قوله: «أ فيتركها معلّقة» عن إبراهيم بن هاشم، عن صفوان، عن أبي الحسن (عليه السّلام) انظر: الكافي 6: 72، 4، التهذيب 8: 49، 155، الوسائل 22: 50 أبواب الطلاق ب 21 ح 2.

(4) الفقيه 3: 34، 110، الوسائل 27: 319 أبواب الشهادات ب 5 ح 9.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 378

و هل الوجوب مطلقاً على القول الأول، و مع الاستدعاء على الثاني عيني أو كفائي؟

الظاهر إطباق الأولين و اتّفاقهم على الثاني، بل حكايات إجماعهم عليه مستفيضة؛ لأنّ المطلوب من أداء الشهادة إحقاق الحقّ، فمع حصوله حصل المطلوب، و لا يتحصّل الحاصل.

و الحاصل: أنّ الفرق بين الكفائي و العيني أنّه:

إن عُلِمَ بتصريح الشارع أو بدليل آخر أنّ مطلوب الشارع نفس الفعل، دون الفاعل، و أمكن تحقّقه من بعض، فهو الكفائي.

و إن احتمل مدخليّة الفاعل أيضاً، و شمل دليل الحكم الفاعل، فهو العيني.

و يعلم هناك بضرورة العقل أنّ المطلوب ليس إلّا إحقاق الحقّ، فبعد تحقّقه لا يبقى طلب، و هو معنى الكفائي.

و ربّما يشعر بذلك ما في رواية جابر، من قوله: «من كتم شهادة أو شهد بها ليهدر دم امرئ مسلم، أو ليزوي بها مال امرئ مسلم، أتى يوم القيامة و لوجهه ظلمة مدّ البصر» «1».

حيث دلّت بالمفهوم على أنّه من كتم لا لغير ذلك و منه: عدم الحاجة إلى شهادته لم يكن كذلك.

و ممّا ذكرنا تظهر الكفائيّة على القول الثاني أيضاً، و الظاهر أنّه أيضاً مراد القائلين به.

و أمّا جعل الوجوب مع الاستدعاء عينيّاً؛ لأنّه المستفاد من الروايات

______________________________

(1) الكافي 7: 380، 1،

الفقيه 3: 35، 114، التهذيب 6: 276، 756، ثواب الأعمال: 225، 3، الوسائل 27: 312 أبواب الشهادات ب 2 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 379

المفصّلة، و جعله فارقاً بين النزاعين، و ردّ كلام المختلف الجاعل نزاعهم لفظيّاً بذلك «1»، كما في الكفاية تبعاً للمسالك «2».

فغير جيّد جدّاً؛ لأن عموم الروايات و إطلاقها إن أفاد العينيّة لاشترك بين القولين، و إن كان النظر إلى حصول إحقاق الحقّ فكذلك.

فإن قلت: فما الفرق بين القولين على هذا؟ حيث إنّ أرباب القول الثاني مع عدم الإشهاد أيضاً يقولون بالوجوب مع توقّف إحقاق الحقّ عليه.

قلت: الفرق ظاهر غاية الظهور، فإنّ شأن الكفائي الوجوب على كلّ أحد، إلّا مع العلم بأداء الواجب عن غيره، فمع عدم العلم يكون واجباً عليه، و لا يسقط باحتمال الأداء.

فأهل القول الأول يقولون بوجوب أداء الشهادة على كلّ أحد، إلّا إذا علم نهوض غيره لأدائه مطلقاً.

و أهل الثاني يقولون بذلك أيضاً مع الاستدعاء، و أمّا بدونه فيقولون بالوجوب مع العلم بعدم إحقاق الحقّ، و أمّا ما لم يعلم ذلك و احتمل الإحقاق بغيره فلا يجب.

يصرّح بذلك قول الصدوق: فمتى علم أنّ صاحب الحقّ المظلومُ وجبت عليه الشهادة «3».

و كذا الشيخ في النهاية، حيث قال: إلّا أن يعلم أنّه إن لم يقمها بطل حقّ مؤمن «4».

هكذا ينبغي أن يُحقَّق المقام.

______________________________

(1) المختلف: 725.

(2) الكفاية: 286، المسالك 2: 415.

(3) الفقيه 3: 34.

(4) النهاية: 330.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 380

فروع:

أ: ما ذُكر هنا من وجوب الأداء و فيما تقدّم من وجوب التحمّل إنّما هو إذا لم يخف الشاهد على ضرر عليه، أو على غيره من المؤمنين و لو كان المشهود عليه، كما إذا كان

المشهود عليه فقيراً غير متمكّن من الأداء، و لا من الإثبات، و يقع بالشهادة عليه في حبس أو نحوه، فإنّه لا تجب الشهادة حينئذٍ إجماعاً، بل تحرم.

لنفي الضرر و الضرار في الآيات و الأخبار عموماً.

و خصوص رواية عليّ بن سويد: «فأقم الشهادة للَّه» إلى أن قال: «فإن خفت على أخيك ضيماً فلا» «1». و الضيم: الظلم.

و رواية داود بن الحصين: «أقيموا الشهادة على الوالدين و الولد، و لا تقيموها على الأخ في الدين الضير» قلت: و ما الضير؟ قال: «إذا تعدّى فيه صاحب الحقّ الذي يدّعيه قبله خلاف ما أمر اللَّه به و رسوله، و مثل ذلك: أن يكون لرجل على آخر دين، و هو معسر، و قد أمر اللَّه بإنظاره حتى ييسر، قال فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ «2» و يسألك أن تقيم الشهادة، و أنت تعرفه بالعسر، فلا يحلّ لك أن تقيم الشهادة حال العسر» «3».

و في رواية محمّد بن القاسم الواردة في المعسر المديون: و إن كان عليه الشهود من مواليك قد عرفوا أنّه لا يقدر، هل يجوز أن يشهدوا عليه؟

______________________________

(1) الكافي 7: 381، 3، التهذيب 6: 276، 757، الوسائل 27: 315 أبواب الشهادات ب 3 ح 1.

(2) البقرة: 280.

(3) الفقيه 3: 30، 89، التهذيب 6: 257، 675، الوسائل 27: 340 أبواب الشهادات ب 19 ح 3، بتفاوتٍ يسير.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 381

قال: «لا يجوز أن يشهدوا عليه» «1».

و يشترط في السقوط بالضرر أن يكون الضرر غير مستحقّ، فلو كان للمشهود عليه حقٌّ على الشاهد لا يطالبه، و توجب شهادته المطالبة، فلا يكفي ذلك في سقوط الوجوب؛ لأنّه ضرر مستحقّ.

نعم، لو لم يقدر على الأداء، و لم يمكنه إثبات الإعسار، و

وقع بشهادته في المشقّة، كان عذراً.

و لا يسقط أيضاً بمنع نفع متوقّع عنه كما إذا كان عنده للمشهود عليه مالُ مضاربة ينتفع بربحه، فاستردّه بالشهادة لأنّه ليس ضرراً، إلّا إذا توقّفت معيشته عليه.

و من الحرج المسقط للوجوب: سفر البحر لمن يخافه، و السفر الطويل الموجب للتضرّر في الحضر، أو تحمّل البرد أو الحرّ الشديد، أو نحوها.

ب: لو احتاج الأداء أو التحمّل إلى مؤنة سفر يسقط الوجوب؛ لأنّه ضرر، إلّا أن يتحمّلها المشهود له فيجب.

ج: لو أنفذ الشاهد شاهدي فرع مقبولي الشهادة على شهادته فيما تسمع فيه شهادة الفرع لا يجب عليه أداؤها بنفسه؛ لصدق الأداء، و عدم الكتمان.

و لا يسقط بالكتابة و لو مع ضمّ قرينة موجبة للعلم بشهادته؛ لأنّها ليست أداء و لا مقبولة.

د: لو كان هناك شاهد واحد فقط، و كان الحقّ ممّا يثبت بالشاهد

______________________________

(1) الكافي 7: 388، 2، التهذيب 6: 261، 693، الوسائل 27: 339 أبواب الشهادات ب 19 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 382

و اليمين، و كانت اليمين ممكنة و لو بعد حين كما في الغائب و الصغير وجب الأداء؛ للعموم.

و لو لم يثبت بالشاهد و اليمين، أو لم يمكن اليمين، فالمصرّح به في كلام جماعة: عدم الوجوب «1»؛ لعدم الفائدة، إلّا مع احتمال تمام العدد.

و هل يجب لو احتمل حينئذٍ وصول بعض الحقّ بشهادته بصلح و نحوه؟

الظاهر: نعم، للعموم.

و لو شهد أحد العدلين لا يجوز للآخر ترك الشهادة من جهة إمكان إثبات الحقّ بضمّ اليمين؛ لأنّ في اليمين مشقّة، و للعموم.

ه: لو كان الشاهد فاسقاً، فإن جوّز تأثير شهادته في الحقّ و لو بصيرورته عدد الشياع، أو قرينة، أو سبباً لردع المشهود عليه عن الإنكار، أو موجباً

لوصول شي ء من الحقّ بصلح وجب عليه الأداء، و كذلك إن أمكن له جعل نفسه مقبول الشهادة حينئذٍ بالتوبة؛ للعمومات، و إلّا لم يجب؛ لعدم الفائدة.

و لو أمكن للفسّاق بأداء الشهادة عند حاكم الجور إيصال الحقّ إلى مستحقّه، فصرّح بعضهم بالوجوب «2».

و لعلّه لأجل أدلّة إعانة المظلوم، و النهي عن المنكر، أو لعموم وجوب أداء الشهادة.

و لكن هذا إذا لم يمكن التوصّل إلى الحقّ بنوع آخر، و لم يكن الحاكم من الطواغيت الذين يحرم أخذ الحقّ بحكمهم.

______________________________

(1) منهم الشهيد الثاني في الروضة 3: 139، صاحب الرياض 2: 450.

(2) انظر الرياض 2: 450.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 383

و: لو كان هناك شاهد أو شاهدان لم يعلمه المشهود له:

فإن علم ثبوت الحقّ بعدلين آخرين لم يجب عليه شي ء.

و لو لم يعلم ثبوته وجب عليه الإعلام و الأداء؛ للعمومات.

و كذا في الشاهد الواحد الممكن ثبوت الحقّ به مع اليمين.

و اللَّه الموفّق و المعين.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 384

الفصل الرابع في الشهادة على الشهادة

اشاره

و فيه مسائل:

المسألة الأُولى: تقبل الشهادة على الشهادة،

لا بمعنى أنّها تقبل في حقّ شاهد الأصل من حيث إنّه قال كذا و كذا؛ لأنّها ليست شهادة على الشهادة، بل هي شهادة، و ثبت حكمها، و دلّ على قبولها جميع العمومات المتقدّمة، و ليست عنواناً على حدة.

بل بمعنى أنّها تقبل في حقّ الأصل من حيث إنّه شاهد بكذا و كذا.

و الحاصل: أنّه ليس المراد أنّها تقبل في شهادة الأصل، بل تقبل فيما شهد به الأصل، أ لا ترى أنّهم يقولون: إنّها لا تقبل مع إمكان حضور شاهد الأصل و لا في الحدود، فإنّه لا شكّ في أنّه يثبت بها قول شاهد الأصل بما قال، و لو مع الإمكان، و لو في الحدود. بل لا يقبل حينئذٍ ما شهد به الأصل، و لا يترتّب عليه أثره فيه.

ثم الدليل على قبولها بالمعنى المراد: الإجماع القطعي في الجملة، بل الضرورة.

و تدلّ عليه مرسلة الفقيه: «إذا شهد رجل على شهادة رجل فإنّ شهادته تقبل، و هي نصف شهادة، و إن شهد رجلان عدلان على شهادة رجل فقد ثبتت شهادة رجل واحد» «1».

______________________________

(1) الفقيه 3: 41، 135، الوسائل 27: 404 أبواب الشهادات ب 44 ح 5.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 385

أي ثبتت شهادة واحد من حيث إنّها شهادة، و يترتّب عليها حكم شاهد واحد فيما شهد به الأصل، و بقي شاهد آخر في حقّه.

و أمّا أصل قول الأصل فهو قد ثبت تامّاً بشهادة الفرعين، و لم تكن فائدة للتقييد بالواحد، و ذلك تصريح من الإمام بما ذكرنا من المراد.

و أيضاً يصرّح به قوله (عليه السّلام): «و هي نصف شهادة»، أي لما شهد به الأصل، و نصفها الآخر شهادة الفرع الآخر، و هذه شهادة واحد

لما شهد به الأصل، و يحتاج إلى شهادة آخر ليتحقّق الشاهدان على ما شهد به الأصل، المحتاج ثبوته إلى أربعة أنصاف.

و تدلّ عليه أيضاً رواية غياث بن إبراهيم: «إن عليّاً (عليه السّلام) كان لا يجيز شهادة رجل على شهادة رجل واحد، إلّا شهادة رجلين على شهادة رجل» «1».

دلّت بمفهوم الاستثناء على إجازة شهادة رجلين على شهادة رجل، أي من حيث إنّها شهادة، فيتحقّق بها شاهد واحد على ما شهد به الأصل.

و أمّا مجرّد شهادة الأصل من حيث إنّها قوله فلا شكّ في إجازة شهادة رجل واحد فيها، بمعنى: أنّها تقبل بواحد من الشاهدين، كما هو المعهود من الشارع في القبول و الإجازة.

يدلّ عليه جميع ما مرّ من الأخبار المجيزة لشهادة الزوج و الوالد و الولد و الأخ «2».

و تدلّ عليه أيضاً صحيحة محمّد على ما في الفقيه-: في الشهادة

______________________________

(1) الفقيه 3: 41، 136، الوسائل 27: 403 أبواب الشهادات ب 44 ح 4.

(2) راجع ص 244 و 253. و أُنظر الوسائل 27: 366، 367 كتاب الشهادات ب 25، 26.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 386

على شهادة الرجل، و هو بالحضرة في البلد، قال: «نعم، و لو كان خلف سارية، يجوز ذلك إذا كان لا يمكنه أن يقيمها هو لعلّة تمنعه من أن يحضر و يقيمها، فلا بأس بإقامة الشهادة على الشهادة» «1».

و هذا أيضاً نصّ في أنّ المراد إثبات المشهود به الذي شهد به الأصل، دون مجرّد شهادة الأصل.

و الرضوي: «فإذا شهد رجل على شهادة رجل فإنّ شهادته تقبل، و هي نصف شهادة، و إذا شهد رجلان على شهادة رجل فقد ثبتت شهادة رجل واحد، و إن كان الذي شهد عليه في مصره» «2».

و ضعف

بعض هذه الأخبار لو كان مجبور بعمل الأصحاب.

و أمّا الاستدلال بعمومات قبول الشهادة كما وقع عن جمع من المتأخّرين «3» فغير جيّد؛ لأنّها إنّما تفيد لو كان المراد إثبات نفس ما شهد به الأصل، و أمّا إثبات ما شهد هو به فلا؛ إذ لا ملازمة بين ثبوت شهادة الأصل و ثبوت ما شهد به، كما في صورة إمكان الأصل، و في الحدود، و في الفرعيّة الثالثة.

ثم ها هنا أُمور ثلاثة: ما شهد به الأصل من الحقّ، و شاهد الأصل، و شاهد الفرع.

و مقتضى إطلاق الأخبار المذكورة بل عموم بعضها أصالة قبول الشهادة على الشهادة في الأول مطلقاً، سواء كان ما شهد به الأصل من

______________________________

(1) الفقيه 3: 42، 141، الوسائل 27: 402 أبواب الشهادات ب 44 ح 1.

(2) فقه الرضا « (عليه السّلام)»: 261، مستدرك الوسائل 17: 442 أبواب الشهادات ب 37 ح 1.

(3) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 415، السبزواري في الكفاية: 286، صاحب الرياض 2: 454.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 387

حقوق اللَّه عزّ جاره، أو من حقوق الآدميّين.

و سواء كانت الاولى من الحدود، أو رؤية الأهلّة، أو الماليّة من الأوقاف العامّة، و الزكوات، و الكفّارات، و النذور إن قلنا إنّها حقّ اللَّه.

و سواء كانت الثانية من الأموال كالقرض، و القراض، و الديون، و الغصب، و الإتلاف، و الوصيّة، و غيرها أو من غير الأموال كالعقود، و الإيقاعات، و الأنكحة، و الفسوخ، و العقوبات كالقصاص و غيره، و الطلاق، و النسب، و العتق، و عيوب النساء، و الولادة، و الوكالة، و الوصاية، و غير ذلك بل الحكم في غير الحدود ممّا لا خلاف فيه، كما صرّح به غير واحد «1»، بل إجماعيّ

كما ذكره جماعة «2».

و كذا الحكم في الثاني، فتقبل الشهادة على الشهادة، سواء كان شاهد الأصل رجلًا، أو امرأة، أو رجلًا و امرأة فيما تقبل فيه شهادة الامرأة، أو صبيّاً أو ذميّاً فيما تقبل فيه شهادتهما. و الظاهر أنّه إجماعيّ و إن قصرت الأخبار المذكورة عن إفادة الحكم في المرأة.

و أمّا الثالث أي شاهد الفرع فالأخبار مقصورة على الرجل، بل مقتضى رواية غياث اختصاص شاهد الفرع المقبول شهادته بالرجال أيضاً، و سيأتي الكلام فيه إنشاء اللَّه سبحانه.

المسألة الثانية: يشترط أن يشهد على شهادة كلّ من الأصلين فرعان

عدلان إجماعاً؛ له، و للنصوص المتقدّمة.

______________________________

(1) كالسبزواري في الكفاية: 286، صاحب الرياض 2: 454.

(2) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 415، الروضة 3: 149، الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 384.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 388

و لا يشترط تغاير فرعي كلّ أصل لفرعي الآخر؛ للإطلاق، فتجوز شهادة اثنين على كلّ واحد من الأصلين، و شهادة فرع مع أحد الأصلين على الآخر، و بالعكس، و نحو ذلك، بلا خلاف أيضاً كما قيل «1» للإطلاق.

المسألة الثالثة: قد استثني من الأصل المذكور: الحدود،

فلا تقبل فيها شهادة الفرع إذا كانت من حقوق اللَّه المحضة، إجماعاً محكيّاً مستفيضاً «2» و محقّقاً.

له، و لروايتي طلحة بن زيد و غياث بن إبراهيم:

الأُولى : عن عليّ (عليه السّلام) أنّه كان لا يجيز شهادة على شهادة في حدّ «3».

و الثانية: «لا تجوز شهادة على شهادة في حدّ، و لا كفالة في حدّ» «4».

و كذا في الحدود المشتركة بينه تعالى و بين الآدميّين كحدّ القذف و السرقة- عند الأكثر، كما في الإيضاح و المسالك و الكفاية «5»، و عن التنقيح و الروضة «6»، و هو مختار الفاضل في التحرير و القواعد و ولده في الإيضاح «7»، و هو الأظهر؛ لعموم الخبرين، و درء الحدود بالشبهة الحاصلة منهما.

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 455.

(2) كما في الإرشاد 2: 165، الإيضاح 4: 444، المسالك 2: 416، الرياض 2: 454.

(3) التهذيب 6: 255، 667، الوسائل 27: 404 أبواب الشهادات ب 45 ح 1.

(4) الفقيه 3: 41، 140، التهذيب 6: 256، 671، الوسائل 27: 404 أبواب الشهادات ب 45 ح 2.

(5) الإيضاح 4: 444، المسالك 2: 416، الكفاية: 286.

(6) التنقيح 4: 317، الروضة 3: 150.

(7) التحرير 2: 215، القواعد 2: 241، الإيضاح 4: 444.

مستند الشيعة في

أحكام الشريعة، ج 18، ص: 389

خلافاً للمحكيّ عن المبسوط و ابن حمزة و النكت و المسالك «1»، و نسب إلى الإيضاح أيضاً «2» و هو خطأ للأصل المذكور، و ضعف الخبرين، و قاعدة ترجيح حقّ الآدمي.

و الأصل مخصَّص بما مرّ، و الضعف بما ذكر منجبر، و القاعدة غير ثابتة؛ مع أنّها إنّما تفيد لو ثبت القبول في مطلق حقوق الآدميّين.

ثم المصرّح به في كلام الأكثر: القبول في القصاص مع كونه حدّا؛ لكونه حقّ الآدمي، و ظاهر المسالك إجماعنا عليه «3».

و لكن قال الشيخ في النهاية: و يجوز أن يشهد رجل على شهادة رجل إلى أن قال: و ذلك أيضاً لا يكون إلّا في الديون و الأملاك و العقود، فأمّا الحدود فلا يجوز أن تقبل شهادة على شهادة «4».

و قال الحلّي أيضاً في السرائر: فذلك لا يكون أيضاً إلّا في حقوق الآدميّين من الديون و الأملاك و العقود، فأمّا الحدود فلا يجوز أن تقبل فيها شهادة على شهادة «5».

و ظاهرهما كما ترى عدم القبول في القصاص أيضاً، كما هو مقتضى عموم الخبرين، فإن ثبت إجماع على القبول فيه، و إلّا فلا يمكن القول به، إلّا عند من ردّ الخبرين بالضعف، و عدم الجابر في المقام.

و لو اشتمل المشهود به على حدّ و غيره من الأحكام كاللواط

______________________________

(1) المبسوط 8: 231، ابن حمزة في الوسيلة: 233، حكاه عن نكت الشهيد في الرياض 2: 454، المسالك 2: 416.

(2) نسبه إليه صاحب الرياض 2: 454.

(3) المسالك 2: 416.

(4) النهاية: 328.

(5) السرائر 2: 127.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 390

المترتّب عليه نشر حرمة أُمّ المفعول و أُخته و بنته أيضاً، و الزنا بالعمّة و الخالة المستلزم لتحريم بنتهما، و وطء البهيمة

المثبت لتحريم لحمها، و نحو ذلك فلا شك في عدم ثبوت الحدّ.

و في عدم قبولها في سائر الأحكام أيضاً لتلازم الأمرين، و كونهما معلولي علّة واحدة و قبولها فيها للعموم المذكور، خرج منه الحدّ بالنصّ و الإجماع، فيبقى الباقي وجهان، أظهرهما: الثاني؛ لما ذكر، كما اختاره في الشرائع و التحرير و القواعد و الإرشاد و الدروس و المسالك و اللمعة و الروضة «1».

و التلازم المدّعى ليس بعقليّ لا يتخلّف، بل ملازمة شرعيّة بالعموم، فيقبل التخصيص، كعلّيّة المعلول للأمرين، أي جعَلَ الشارع المشهود به علّة للأمرين بالعموم، فيجوز التخصيص فيما وجد مخصِّص.

و هذا مرادهم من قولهم: علل الشرع معرِّفات يجوز انفكاك معلولاتها عنها بالدليل.

و المحصَّل: أنّه تقبل الشهادة في ثبوت الملزوم و العلّة، الذي هو سبب الأمرين، و لكن يتخلّف عنه اللزوم و العلّيّة لأحد الأمرين هنا بالدليل.

المسألة الرابعة: و قد استثني أيضاً من الأصل المذكور: ما إذا تمكّن الأصل من إقامة الشهادة حين طلبها بنفسه،
اشاره

بأن كان حاضراً في البلد، أو في موضع يمكنه الحضور من غير مشقّة لا تتحمّل غالباً، و لم يكن له عذر من حضور مجلس الأداء، من مرض أو زمانة «2» أو خوف عدوّ أو نحو ذلك.

______________________________

(1) الشرائع 4: 140، التحرير 2: 216، القواعد 2: 241، الدروس 2: 141، المسالك 2: 418، اللمعة و الروضة 3: 150.

(2) يقال: زَمِنَ الشخص زَمناً و زَمَانَةً فهو زَمِنٌ من باب تعب و هو مرض يدوم زماناً طويلًا مجمع البحرين 6: 260.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 391

فإنّه مع ذلك التمكّن لا تسمع شهادة الفرع، على الحقّ المشهور بين الأصحاب كما صرّح به جماعة «1» بل عن الخلاف الإجماع عليه «2»، لصحيحة محمَّد المتقدّمة «3».

خلافاً للمحكيّ عن بعض الأصحاب، كما ذكره في الخلاف «4»، و لم يعيّن القائل، و قال في الدروس:

إنّه جنح إليه في الخلاف «5». و لعلّه لنقله دليل عدم الاشتراط، و السكوت عنه. و في دلالته على الميل تأمّل.

و قال في الدروس بعد حكاية قول الإسكافي: إنّه لو أنكر شاهد الأصل بعد ما شهد عليه اثنان لم يلتفت إلى جحوده-: إنّ فيه إشارة إلى أنّ تعذّر الحضور غير معتبر «6».

و فيه نظر؛ لأنّ الجحود لا ينحصر بالحضور، بل يمكن حصول العلم به بالشياع، أو القرينة المفيدة للعلم.

مع أنّه يمكن أن يكون الشرط عندهم التعذّر أولًا، و يكون حكم مسألة جحود الأصل غير ما نحن فيه، كيف؟! و قد صرّح الإسكافي بالاشتراط، قال: و لا بأس بإقامتها و إن كان المشهود على شهادته حاضرَ البلد أو غائباً، إذا كانت له علّة تمنعه من الحضور للقيام بها «7».

______________________________

(1) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 417، الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 385، صاحب الرياض 2: 456.

(2) الخلاف 2: 629.

(3) في ص 383 و 384.

(4) الخلاف 2: 630.

(5) الدروس 2: 141.

(6) الدروس 2: 141.

(7) حكاه عنه في المختلف: 723.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 392

و من ذلك يظهر ما في كلام بعض آخر كالمحقّق الأردبيلي «1» حيث نسب الخلاف إلى والد الصدوق، فإنّه أيضاً لم يذكر إلّا قبول شهادة الثاني بعد إنكار الأول.

و كيف كان، فالمخالف شاذّ نادر، يمكن دعوى الإجماع على خلافه، و مع ذلك فالصحيحة تردّه.

ثم مقتضى الصحيحة اشتراط عدم إمكان حضور الأصل، و الأصحاب اكتفوا بالمشقّة التي لا تتحمّل غالباً كجماعة «2» أو مطلق المشقّة، كبعض آخر «3».

و يمكن الاستدلال لجواز القبول مع المشقّة الشديدة التي تسمّى حرجاً بأنّه لا يجب على الأصل حينئذٍ أداؤها بنفسه؛ لنفي الضرر و الحرج، فبقي إمّا

إبطال حقّ المشهود له، أو قبول شهادة الفرع، و الأول باطل إجماعاً، فلم يبق إلّا الثاني.

فرعان:

أ: هل يشترط في القبول تعذّر الأصل مطلقاً، أو يكفي تعذّر الأصلين اللذين يشهد على شهادتهما؟

الظاهر: الثاني؛ للأصل، و عدم دلالة الصحيحة على الأزيد من تعذّرهما، فلو تعذّر حضور عدلين أصلين، و لكن كان للمشهود له عدلان أصلان آخران أيضاً، فيجوز له إقامة الفرعين على الأصلين الأولين، و تقبل

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 12: 486.

(2) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 417، صاحب الرياض 2: 456.

(3) منهم الشيخ في النهاية: 329، الخلاف 2: 629، المبسوط 8: 233، العلّامة في التحرير 2: 215، القواعد 2: 242.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 393

شهادتهما، و يجوز للحاكم الاكتفاء بها.

ب: هل الشرط تعذّر الأصل عن الإقامة حال إشهاد للفرع أو حال طلب الأداء و المرافعة؟

الوجه هو: الثاني؛ لأنّه المستفاد من الصحيحة، فلو أشهده مع إمكان الإقامة تقبل، لو لم يمكن له الإقامة حين طلبها، و لو انعكس الأمر لم تقبل.

و لو تعذّر حال إقامة الفرع، ثم رفع العذر قبل الحكم، فظاهر الصحيحة عدم قبول الفرعيّة. و حملُها على عدم صحّة أداء الفرع دون سماع شهادته كما عن النكت- احتمالٌ بعيد، مع أنّه لا معنى لصحّتها إلّا قبولها.

المسألة الخامسة: قد عرفت أنّ مقتضى رواية غياث بن إبراهيم «1» عدم قبول شهادة النساء في الفرع،

و هو فيما إذا كان المشهود به في الأصل ممّا لا تقبل فيه شهادة النساء موضع وفاق.

و أمّا فيما كان ممّا تقبل فيه شهادتهنّ منفردات أو منضمّات ففيه خلاف، فذهب في السرائر و الشرائع و القواعد و التحرير و الإيضاح و النكت و المسالك و التنقيح «2» و غيرهم من المتأخّرين «3» بل قيل: لم أجد فيه مخالفاً «4» إلى المنع، بل نسب القول بالجواز إلى الندرة «5».

______________________________

(1) المتقدمة في ص 383.

(2) السرائر 2: 128، الشرائع 4: 140، القواعد 2: 242،

التحرير 2: 216، الإيضاح 4: 448، و نقله عن النكت في الرياض 2: 455، المسالك 2: 418، التنقيح 4: 319.

(3) انظر كفاية الأحكام: 287، و المفاتيح 3: 293.

(4) انظر الرياض 2: 455.

(5) انظر الرياض 2: 455.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 394

للرواية المذكورة، مضافة إلى الحصر المستفاد من رواية السكوني: «شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا حدود، إلّا الديون و ما لا يستطيع إليه النظر للرجال» «1».

و لا شكّ أنّ شهادتهنّ الفرعيّة إنّما هي على الشهادة، و هي ليست من الديون و لا مالا يستطيع إليه النظر للرجال.

فإن قيل: المراد من ذلك ليس أن يكون خصوص المشهود به الديون، بل تكون هي مقصود المستشهد من طلب الإقامة، و إلّا تثبت الحدود أيضاً بشهادة الفرع؛ لأنّ المشهود به فيها أيضاً الشهادة دون الحدّ.

قلنا: معنى قوله: «إلّا الديون» أنّه تسمع شهادتهنّ في الديون، و شهادة الفرع ليست منها حقيقة، و الخروج عن الحقيقة في الحدّ بالقرينة- حيث إنّه لا يمكن أن يكون المراد شهادة الفرع على نفس الحدّ لا يوجب الخروج عنها فيما لا قرينة فيه.

مع أنّ المذكور في روايتي الحدود: أنّه لا تقبل شهادة على شهادة في حدّ «2»، و قوله: «في حدّ» متعلّق بالشهادة الثانية.

خلافاً للمحكيّ عن الإسكافي و الخلاف و موضع من المبسوط «3»، و اختاره في المختلف «4»، و عن الخلاف: الإجماع عليه و وردت الأخبار به «5».

للإجماع المنقول.

______________________________

(1) التهذيب 6: 281، 773، الإستبصار 3: 25، 80، الوسائل 27: 362 أبواب الشهادات ب 24 ح 42.

(2) راجع ص 386.

(3) نقله عن الإسكافي في المختلف: 724، الخلاف 2: 630، المبسوط 8: 234.

(4) المختلف: 724.

(5) الخلاف 2: 630.

مستند الشيعة

في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 395

و الأخبار المشار إليها في الخلاف.

و للأصل.

و عموم قوله سبحانه فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ «1».

و خبر السكوني المذكور.

و فحوى ما دلّ على قبول شهادة الأصل فيما تقبل فيه.

و الكلّ مردود:

أمّا الأول: فبعدم الحجّية، سيّما فيما كان مخالفاً للشهرة المحقّقة.

و أمّا الثاني: فبعدم وجود خبر، فضلًا عن الأخبار إن أُريد منها ما يدلّ على خصوص المورد، و إن أُريد منها مثل رواية السكوني فقد عرفت أنّها على الخلاف دالّة.

و أمّا الثالث: فبأنّ الأصل بما مرّ مندفع، مع أنّه لا أصل له، بل الأصل خلافه.

و أمّا الرابع: فبأنّ الآية واردة في الدَّين، و المورد ليس منه، بل في رواية داود بن الحصين أنّها مخصوصة به، ففيها بعد قول القائل: فأنّى ذكر اللَّه تعالى قوله فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ ؟ قال: «ذلك في الدَّين، إذا لم يكن رجلان فرجل و امرأتان» «2».

و جعل ذلك أيضاً دَيناً لو كان هو المشهود به للأصل، فقد عرفت ما فيه.

و به ظهر ردّ الخامس أيضاً.

______________________________

(1) البقرة: 282.

(2) التهذيب 6: 281، 774، الإستبصار 3: 26، 81، الوسائل 27: 360 أبواب الشهادات ب 24 ح 35.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 396

و أمّا السادس: فبأنّ العلّة في الأصل غير معلومة، ثم الأولويّة ممنوعة.

فهذا القول ضعيف كتردّد النافع و الإرشاد و الدروس و الروضة «1»، كما حكي عنها.

المسألة السادسة: قال الشيخ في المبسوط و تبعه سائر الأصحاب-: إنّ شاهد الفرع يصير متحمّلًا لشهادة شاهد الأصل

بأحد أسباب ثلاثة:

أحدها: الاسترعاء، و هو أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: أشهدُ أنّ لفلان بن فلان على فلان بن فلان درهماً، فاشهد على شهادتي، أو نحو ذلك.

سمّي استرعاءً لالتماس شاهد الأصل رعاية شهادته. و ألحق به جماعة: أن يسمع أنّه يسترعي آخر «2».

و الثاني: أن يسمع شاهد الفرع شاهد

الأصل يشهد بالحقّ عند الحاكم، فإذا سمعه يشهد به عنده صار متحمّلًا لشهادته.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 18    397     المسألة السادسة: قال الشيخ في المبسوط و تبعه سائر الأصحاب -: إن شاهد الفرع يصير متحملا لشهادة شاهد الأصل ..... ص : 396

ثالث: أن يشهد الأصل بالحقّ، و يعزيه إلى سبب وجوبه، فيقول: أشهد أنّ لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم من ثمن ثوب أو عبد أو دار أو ضمان «3».

قالوا: و الأول هو أعلى المراتب، و حصول التحمّل به ممّا لا خلاف فيه، كما صرّح به في الكفاية «4» و غيره «5»، بل عن الإيضاح و التنقيح

______________________________

(1) النافع 2: 290، الإرشاد 2: 165، الدروس 2: 141، الروضة 3: 152.

(2) منهم العلّامة في المختلف: 729.

(3) المبسوط 8: 231.

(4) الكفاية: 287.

(5) كالرياض 2: 455.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 397

و المسالك الإجماع عليه «1».

و دونه الثاني، و دونه الثالث؛ لوقوع الخلاف فيهما عن الإسكافي، فإنّه قال بالتحمّل في صورة الاسترعاء خاصّة «2»، و ظاهره المنع فيما عداها. و في الأخيرة عن الفاضلين «3» و غيرهما «4»، فتردّدوا فيها.

و لكن قال الكلّ بعدم التحمّل في غير تلك الصور، و هو الصورة الرابعة، و هي أن يقول: أشهد أنّ عليه كذا، من دون استرعاء، و لا في مجلس الحكم، و لا ذكر سبب.

قال في السرائر: فأمّا إن لم يكن هناك استرعاء، و لا سمعه يشهد عند الحاكم، و لا عزاه إلى سبب وجوبه مثل أن سمعه يقول: أشهدُ أنّ لفلان ابن فلان على فلان بن فلان درهماً فإنّه لا يصير بهذا متحمّلًا للشهادة على شهادته. انتهى «5».

إلّا أنّ في الشرائع استشكل فيها

«6».

قيل: لاشتمالها على الجزم الذي لا يناسب العدل أن يتسامح به، فالواجب إمّا القبول فيها كما في الثالثة أو الردّ كذلك، لكن الأول بعيد، بل لم يقل به أحد، فيتعيّن الثاني «7».

قيل بعد ذكر هذه المراتب-: أنّها خالية عن النصّ، فينبغي الرجوع

______________________________

(1) الإيضاح 4: 445، التنقيح 4: 319، المسالك 2: 416.

(2) نقله عنه في المختلف 729.

(3) المحقّق في الشرائع 4: 139، الفاضل في القواعد 2: 241.

(4) كالشهيد في الدروس 2: 142.

(5) السرائر 2: 129.

(6) الشرائع 4: 139.

(7) انظر مفاتيح الشرائع 3: 294.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 398

إلى مقتضى الأُصول، و هو اعتبار علم الفرع بشهادة الأصل، من دون فرق بين الصور، فلو فرض أن لم يحصل العلم في صورة الاسترعاء لم يجز أداء الشهادة على شهادته، و لو فرض حصوله في الرابعة جاز، بل وجب «1».

و إلى هذا أشار في التنقيح، حيث قال: و الأجود أنّه إن حصلت قرينة دالّة على الجزم و عدم التسامح قبلت، و إن حصلت قرينة على خلافه- كمزاح و خصومة- لم تقبل «2».

و كذا المحقّق الأردبيلي، قال: و الأقوى أنّه إن تيقّن عدم التسامح صار متحمّلًا، و إلّا فلا «3».

أقول: لا يخفى أنّ نظر الشيخ و من تبعه إلى القاعدة المتقدّمة، المدلول عليها بالنصوص، و بمقتضى معنى الشهادة من أنّ مستند الشاهد يجب أن يكون العلم الحاصل من الحسّ، أو الاستفاضة في موارد مخصوصة، أو ظنّ خاصّ على بعض الأقوال كما مرّ، و لا يفيد في قبول الشهادة أو في تحقّقها كلّ علم و لا كلّ ظنّ- فإنّه على هذا لا يصير الفرع متحمّلًا لشهادة الأصل إلّا إذا علم أنّه شهادة، أي مستند إلى ما ذكر.

و يعلم ذلك

بكلّ من المراتب الثلاث:

أمّا الأُولى : فلأنّه يأمر الأصل برعاية شهادته، و الشهادة بها لا تكون إلّا للإقامة، و لمّا لم تجز الإقامة إلّا مع استناد شهادة الأصل إلى العلم المعتبر في الشهادة، و لا يكفي كلّ علم، يعلم أنّ ما شهد به شهادة شرعيّة، فيكون متحمّلًا للشهادة.

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 455.

(2) التنقيح 4: 320.

(3) مجمع الفائدة و البرهان 12: 478.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 399

و أمّا الثانية: فلأنّ على ما ذكر لا يجوز للأصل الشهادة عند الحاكم إلّا مع استنادها إلى ما ذكر، فبعد سماعها حينئذٍ يعلم الشهادة الشرعيّة، و يصير متحمّلًا.

و أمّا الثالثة: فلأنّ ذكر السبب قرينة على مشاهدة السبب؛ لأنّه ظاهر فيها، فيصدق تحمّل الشهادة.

بخلاف المرتبة الرابعة، فإنّ الفرع لمّا لم يكن في مقام الإشهاد، و لا في مقام الشهادة، و لم يذكر أيضاً قرينة ظاهرة في المشاهدة و كثيراً ما يطلق لفظ الشهادة في الأخبار على الجازم مطلقاً، بأيّ نوع حصل الجزم، حتى عرّفها به بعض الفقهاء «1»، و تداول استعمالها فيه عرفاً عند أهل العرف، بل المتشرّعة لا يعلم أن شهادته هل هي بالعلم الحاصل من المشاهدة، أو مطلق العلم، فلا تقبل.

و قد صرّح بذلك الحلّي في السرائر، حيث إنّه بعد ما نقلنا عنه، و ذكر عدم التحمّل بالمرتبة الرابعة قال: لأنّ قوله: أشهد بذلك، ينقسم إلى الشهادة بالحقّ، و يحتمل العلم به على وجه لا يشهد به، و هو أن يسمع الناس يقولون كذا و كذا، فلذا وقف التحمّل لهذا الاحتمال، فإذا حقّق ما قلنا زال الإشكال «2». انتهى .

و بما ذكرنا ظهر أنّ ما قيل كما نقلنا عنه: إنّه ينبغي الرجوع إلى مقتضى الأُصول- ناشئ عن الغفلة عن

فهم مراد الشيخ، بل مراده هو مقتضى الأُصول، و اعتبار مطلق العلم ليس بمقتضاه.

و كذا ظهر ما في كلام صاحب التنقيح و المحقّق الأردبيلي.

______________________________

(1) كالشهيد الثاني في المسالك 2: 400.

(2) السرائر 2: 129.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 400

و كذا ما في كلام الشرائع من الاستشكال في الفرق بين المرتبتين الأخيرتين، من جهة أنّ الأخيرة أيضاً مشتملة على الجزم، و لا يناسب العدل التسامح به فإنّ مراد الشيخ ليس التسامح بالجزم، بل التسامح في الجزم، أي في سبب الجزم، و ليس فيه عدم مناسبته للعدالة؛ إذ ليس في الأخيرة في مقام إشهاد و لا إقامة شهادة حتى يجب عليه البناء على الجزم بالسبب المعيّن.

هكذا ينبغي أن يحقّق المقام.

و مع ذلك ففي حصول التحمّل بالمرتبة الثالثة كلام؛ لاحتمال بنائه في ذكر السبب على مطلق العلم، دون المشاهدة؛ إذ ليس هو فيها في مقام الشهادة أو الإشهاد، فتردّد الفاضلين و من لحقهما فيها في موقعه.

و كذا ينبغي أن يخصّص التحمّل في الأولين أيضاً بما إذا كان الأصل عالماً بأحكام الشهادة، كما هو مفروضهم هنا و في مقام بيان مستند الشاهد.

المسألة السابعة: تسمع شهادة الفرع لو مات الأصل بعد إشهاده الفرع أو جنّ؛ إذ ليست شهادة الفرع إثباتاً للمشهود به، بل إثباتٌ لأنّ الأصل كان شاهداً، و لإطلاق الأخبار.

و كذا لا يضرّ عمى الأصل، و إن كان المشهود به ممّا يحتاج إلى البصر، بعد ما كان الأصل بصيراً حين التحمّل.

و لو طرأ فسق أو ردّة أو نحو ذلك ممّا يمنع عن قبول شهادته، فإن كان بعد الحكم فلا يضرّ إجماعاً، و وجهه ظاهر.

و إن كان قبله، فإن كان قبل الإشهاد فلا شكّ في منعه عن القبول.

و إن

كان بعده، فإن كان بعد شهادة الفرع عند الحاكم، فهو مثل طريان الفسق للشاهد بعد الشهادة و قبل الحكم، و يأتي أنّ الظاهر أنّه

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 401

لا يمنع من القبول.

و إن كان قبلها، فقال المحقّق الأردبيلي ما ملخّصه: إنّه قيل: تبطل و تطرح؛ لأنّ شهادة الفرع فرع الأصل، و هي ليست مقبولة حينئذ، و لأنّ قبولها يوجب الحكم بشهادة الفاسق و الكافر، و لأنّ شهادة الفرع شهادة ناشئة عن فاسق حين الشهادة.

و فيه تأمّل؛ إذ ما ذُكر وجوهٌ و مناسبات، فلو وُجِدَ دليل آخر من عقل أو نقل على ذلك، و إلّا فليس بتامّ؛ لأنّ الفرعيّة لا يستلزم بطلانها بفسق الأصل، فإنّا لا نجد مانعاً لسماع شهادة الفرع على أصل كان عند إشهاده عدلًا، فإنّ المدار في قبول الشهادة عند الأداء.

و لا نسلّم أنّ الحكم بشهادة الأصل، بالفرع، على التسليم فإنّه وقت الإشهاد كان عدلًا، فهو بمنزلة من شهد عند الحاكم ثم صار فاسقاً، و قد مرّ أنّ قبول شهادته قويّ، مع أنّ ذلك منقوض بما إذا جنّ الأصل، بل مات أو عمي.

و بالجملة: لو كان لهم دليل على ذلك من نصّ أو إجماع فهو متّبع، و إلّا فالحكم محلّ التأمّل «1». انتهى.

و هو جيّد جدّاً، بل الظاهر أنّه لا تأمّل في عدم المانعيّة.

المسألة الثامنة: لو شهد الفرع فأنكر الأصل ما شهد به فمقتضى القواعد أنّه إن كان بعد الحكم لم يلتفت إلى الأصل؛

لمضيّ الحكم، و استصحابه.

و إن كان قبله، فإن كان إنكاره بحضوره عند الحاكم و التلقّي بالإنكار

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 12: 482 483.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 402

لم يلتفت إلى شهادة الفرع؛ لما مرّ من أنّ سماعها مشروط بتعذّر حضور الأصل.

و إن كان مع تعذّر حضوره بإنفاذ خبر محفوف بالقرينة، أو إشهاد عدلين آخرين، أُجيزت

شهادة الفرع أيضاً؛ لثبوت الأصل بشهادتهما بمقتضى الأخبار المتقدّمة، و عدم دليل على قبول الإنكار.

إلّا أنّ ها هنا صحيحتين منافيتين لبعض ما ذكر:

إحداهما للبصري: في رجل شهد على شهادة رجل، فجاء الرجل فقال: لم أشهد، فقال: «تجوز شهادة أعدلهما، و إن كانت عدالتهما واحدة لم تجز شهادته» «1».

و الأُخرى لابن سنان «2»، و هي أيضاً كالأُولى .

و بمضمونهما أفتى الصدوقان و الشيخ في النهاية و القاضي ابن البرّاج «3»، و كذا ابن حمزة، و لكنّه فيما إذا أنكر بعد الحكم، و أمّا قبله فيطرح الفرع «4»، و قريب منه الفاضل في المختلف «5»، و إن كان صريح الإيضاح أنّه موافق للمتأخّرين «6».

أقول: أمّا الأولون فكلامهم مطلق، فإن أرادوا قبل الحكم كما هو

______________________________

(1) الفقيه 3: 41، 137، الوسائل 27: 405 أبواب الشهادات ب 46 ح 1.

(2) الكافي 7: 399، 1، التهذيب 6: 256، 670، الوسائل 27: 405 أبواب الشهادات ب 46 ح 3.

(3) حكاه عن والد الصدوق في المختلف: 723، الصدوق في المقنع: 133، النهاية: 329، القاضي في المهذّب 2: 561.

(4) الوسيلة: 234.

(5) المختلف: 723.

(6) الإيضاح 4: 449.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 403

الظاهر ففتواهم موافقة لقواعد الاستدلال؛ لأنّ الصحيحين واردان في حضور الأصل، فحكمهم بعدم سماع الفرع مع التساوي في العدالة و مع أعدليّة الأصل يوافق الصحيحين و صحيحة محمّد «1» المتضمّنة لاشتراط سماع الفرع بعدم حضور الأصل. و أمّا سماع الفرع مع أعدليّته، فلتعارض الصحيحين مع مفهوم الصحيحة، و كون الصحيحين أخصّين مطلقاً فيقدّمان على الصحيحة.

و كذا إن أرادوا قبل الحكم و بعده؛ لأنّ نفوذ حكمه إنّما هو بالاستصحاب المندفع بالصحيحين.

و أمّا الآخران فلا يوافق قولهما في صورة أعدليّة الفرع لقواعد الاستدلال؛ لإيجابه طرح

الصحيحين الخاصّين بلا موجب.

إلّا ما قيل من اشتمالهما على شهادة الفرع الواحد و سماعها، و هو مخالف للإجماع «2» أو من مخالفتهما للشهرة المتأخّرة، و أكثريّة أدلّة ردّ الفرع مع الحضور.

و يضعّف الأول: بوضوح أنّ المراد سماع الواحد بقدر الواحد، و هو هنا نصف شهادة، أو ذكر الرجل على سبيل التمثيل و المراد شاهد الفرع.

و الثاني: بعدم تأثير الشهرة المتأخّرة في حجّية الصحيحين، مع عمل جمع من القدماء الذين هو بنو عذرة الحديث بهما. و لا أكثريّة لأدلّة رد الفرع مع حضور الأصل و من ذلك يظهر أنّ الترجيح لقول الصدوقين و النهاية، و لا حاجة إلى

______________________________

(1) المتقدمة في ص 383 و 384.

(2) انظر الرياض 2: 456.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 404

ارتكاب بعض المحامل البعيدة، كما ارتكب كلّاً منها طائفة «1».

المسألة التاسعة: يشترط في سماع شهادة الفرع أن يسمّي الأصل،

و يعرّفه شخصه حين شهادته عند الحاكم.

و لا يكفي أن يقول: أشهدني شخص أو عدل؛ لأنّه قد يكون الذي أشهده معلوم الفسق عند الحاكم أو المدّعى عليه، أو كان فيه موجب لردّ الشهادة.

و لا يشترط فيه تعديل الفرع للأصل، و لا اعترافه بصدقه في الشهادة؛ للأصل.

المسألة العاشرة: لا تُقبَل شهادة على شهادة على شهادة-

و هي الشهادة الثالثة مطلقاً، بالإجماع المحقّق، و المحكيّ مستفيضاً «2»؛ له، و للأصل، و لرواية عمرو بن جميع، المنجبر ضعفها لو كان بما ذكر، و فيها: «و لا تجوز شهادة على شهادة على شهادة» «3».

______________________________

(1) انظر المختلف: 723، الإيضاح 4: 449، الرياض 2: 456.

(2) كما في المسالك 2: 415، مفاتيح الشرائع 3: 292، الرياض 2: 456.

(3) الفقيه 3: 42، 142، الوسائل 27: 404 أبواب الشهادات ب 44 ح 6.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 405

الفصل الخامس في توافق الدعوى و الشهادة و توارد الشهود

اشاره

و فيه مسائل:

المسألة الأُولى : يشترط في قبول الشهادة مطابقتها للدعوى ،

فإن خالفت الشهادة للدعوى كلّاً أو بعضاً طرحهما، كأن يدّعي عشرة ثمن المبيع، و شهدا بعشرة اجرة الدار.

و لا تضرّ الزيادة أو النقصان ما لم يخالف الدعوى ، فلو ادّعى عشرة ثمن المبيع، و شهدا بالعشرة أو بالعكس، لم يطرح.

المسألة الثانية: يشترط توارد الشاهدين على معنى واحد

و لو اختلف اللفظان، و لو اختلفا لم يضرّ ما لم يختلف المعنى . فلو شهد أحدهما: أنّه غصب، و الآخر: أنّه أخذ ظلماً، ثبت الغصب. و كذا لو شهد أحدهما بالعربيّة، و الآخر بالعجميّة.

المسألة الثالثة: لا يشترط في قبول الشهادة بيان جميع مشخّصاته-

من الزمان و المكان و الأوصاف إجماعاً، فلو شهدا بمشاهدتهما بيعه الدار الفلانيّة بالثمن الفلاني يكفي، و لو لم يعيّنا زماناً و لا مكاناً، و لا كيفيّة الصيغة، و لا النقد أو النسيئة، أو غير ذلك ما لم تتضمّن الدعوى قيداً يحتاج إلى بيان لثبوته للإجماع، و الأصل، و إطلاق الأخبار.

و كذا لو شهدا بإقراره بشي ء أو وصيّة أو وصايته أو توكيله أو نحو ذلك، فلا يشترط بيان وقته، و لا زمانه، و لا لغته، و لا لفظه.

و كذا لو شهدا بمشاهدة موت زيد، أو تزويجه امرأة.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 406

نعم، قد يحتاج إلى ذلك في تفريق الشهود.

و لو شهدا بطلاق امرأته بعد إنكار الزوج فهل يحتاج إلى ذكر العدلين و بيانهما، أم لا؟

الظاهر: نعم؛ إذ لا يتحقّق الطلاق ما لم يكن في محضر العدلين، و قد يكون من يعلمه الشاهد عدلًا فاسقاً عند الحاكم.

و يمكن أن يقال: إنّ الدعوى و الإنكار إن كانا على أصل الطلاق لا يحتاج في ثبوته إلى ضمّ العدلين، و إن كانا على صحّته و فساده احتاج، و على هذا فلو ادّعت الزوجة الطلاق، و أنكره الزوج، و شهدا بمجرّد الطلاق يثبت، و لكن لا يحكم الحاكم بالبينونة؛ لعدم ثبوت صحّته. و يحتمل الحكم بها أيضاً؛ إذ لم يدّع الزوج الفساد، و الظاهر الصحّة.

و الوجه: أنّه لا دليل تامّاً على الظهور، و لا على حجّيته لو سلّم، فلا يحكم إلّا بنفس الطلاق، و

لكن ليس على الحاكم تتبّع الصحّة و الفساد ما لم يكن مدّع له؛ للأصل، فيحكم بالطلاق فقط، و يخلّيهما و نفسهما، إلّا إذا ادّعى أحدهما الفساد.

المسألة الرابعة: يشترط في قبول الشهادتين عدم تكاذبهما-

أي لم يناقض أحدهما الآخر، و أمكن اجتماعهما فلو تكاذبا لم تقبل الشهادتان، فلو شهد أحدهما: أنّه قتل زيداً يوم الخميس أو في السوق، و الآخر: أنّه قتله يوم الجمعة أو في البيت، لم تقبل.

إلّا أن يدّعي المدّعى أحدهما معيّناً، و شهد آخر موافقاً لدعواه أيضاً، أو ضمّ اليمين مع أحد شاهديه، إذا كان ممّا يثبت بالشاهد و اليمين.

و يتحقّق التكاذب فيما لم يحتمل التكرّر، فلو احتمله لم يتكاذبا، و لكن يتوقّف ثبوت ما ادّعاه المدّعى على ضمّ شاهد آخر أو يمين مع

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 407

أحدهما، كأن يشهد أحدهما: أنّه سرق الشي ء الفلاني يوم الخميس، و الآخر: أنّه سرقه يوم الجمعة، مع إمكان السرقة أولًا و إعادته ثم السرقة ثانياً.

و كذا لو شهد أحدهما ببيعه بدينار، و الآخر بدينارين، مع إمكان إقالة الأول، ثم البيع ثانياً.

المسألة الخامسة: يشترط في قبولهما ورودهما على فعل واحد،

فلو ورد كلّ منهما على فعل غير الآخر لم يثبت شي ء، إلّا مع إحدى الضميمتين مع واحد من الشاهدين.

و فرّعوا عليه فروعاً كثيرة:

منها: أن يشهد أحدهما بالبيع، و الآخر بالإقرار بالبيع، فقالوا: لم تتمّ الشهادة.

و منها: أن يشهد على فعل، و اختلفا في زمانه أو مكانه أو وصفه الذي يدلّ على تغاير الفعلين، كأن يشهد أحدهما: أنّه غصبه ديناراً يوم السبت أو في الدار، و الآخر: أنّه غصبه يوم الجمعة أو في السوق، أو يشهد أحدهما: أنّه غصبه ديناراً مصريّاً، و الآخر: بغداديّاً، فلا تتمّ؛ لأنّ الفعلين متغايران، و لم يشهد بكلّ منهما إلّا شاهد واحد.

و منها: أن يشهد أحدهما: أنّه سرق ديناراً، و الآخر: أنّه سرق درهماً.

و منها: أن يشهد أحدهما: أنّه باع هذا الثوب منه أمس، و الآخر: أنّه باعه اليوم، أو أحدهما:

أنّه طلّقها أو تزوّجها أمس، و الآخر: أنّه طلّقها أو تزوّجها اليوم، فلا يثبت شي ء من البيع أو الطلاق و التزويج.

و قال في التحرير: و يحتمل القبول؛ لأنّ المشهود به شي ء واحد

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 408

يجوز أن يعاد مرّة بعد اخرى ، فيكون واحداً، و اختلافهما في الوقت ليس باختلاف فيه. قال: و الأول أقرب «1».

و منها: أن يشهد أحدهما: أنّه أقرّ أنّه غصب ثوباً، و الآخر: أنّه أقرّ أنّه غصب ديناراً.

و منها: أن يشهد أحدهما: أنّه قذف غدوة، و الآخر: أنّه قذف عشية أو قال أحدهما: إنّه قذفه بالعربيّة، و الآخر: إنّه قذفه بالعجميّة.

إلى غير ذلك من الفروع.

ثم قالوا: لو شهد أحدهما: أنّه أقرّ بقتل أو دين أو غصب ببغداد أو يوم الخميس أو بالعربيّة، و الآخر: أنّه أقرّ بذلك بعينه بالكوفة أو يوم السبت أو بالعجميّة، ثبت المقرّبة؛ لأنّه إخبار عن شي ء واحد، و المقرّ به واحد شهد اثنان بالإقرار به، فإنّ جمع الشهود لسماع الشهادة متعذّر.

و لو شهد أحدهما بالإقرار بألف، و الآخر بألفين، ثبت الألف بهما، و الآخر بانضمام اليمين.

و لو شهد أحدهما: أنّه سرق ثوباً قيمته دينار، و الآخر: أنّه سرق ثوباً قيمته ديناران، ثبت الدينار بشهادتهما.

أقول: لو شهد أحدهما: أنّه أوصى لزيد بمائة يوم الخميس أو في المرض الفلاني أو في مكان كذا و بوصايته على صغيره كذا، و الآخر: بأنّه أوصى به يوم الجمعة أو في المرض الآخر أو في مكان كذا، لم أعثر فيه على تصريح منهم على أنّه من قبيل الأول أو الثاني، إلّا أنّ ظاهرهم أنّهم بعده يقبلونه.

______________________________

(1) التحرير 2: 214.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 409

ثم أقول: إنّه قد يستشكل في

الفرق بين كثير من فروع الأول و فروع الثاني، فإنّ المعتبر عندهم إن كان اتّحاد نفس الفعل المدلول عليه بالشهادة مطابقةً المشهود به، فظاهرٌ أنّه لم يتحقّق فيما ذكروه للفروع الثانية؛ لظهور تغاير الإقرارين و المسروقين و الوصيّتين.

و إن كفى اتّحاد لوازمه و متضمّناته فهو أيضاً يتحقّق في كثير من فروع الأول، فإنّ لازم كلّ من البيع و الإقرار به كون المبيع ملكاً للمشهود له.

و يستلزم أو يتضمّن كلّ من غصب الأمس ديناراً و في الدار و اليوم و في البيت لغصب الدينار، و كذا البيع.

و يستلزم أو يتضمّن كلّ من قذف الغداة و العشي و بالعربيّة و العجميّة للقذف.

فيتحقّق في هذه الفروع أيضاً المشهود به الواحد.

و حلّه أن يقال: إنّه يكفي اتّحاد الأجزاء و اللوازم أيضاً، لأنّها أيضاً مشهود بها؛ لأنّ الإخبار عن الملزوم و الكلّ إخبار عن اللازم و الجزء، فتصدق شهادة العدلين على هذا الشي ء الواحد، و لكن لما يشترط في سماع الشهادة و الحكم بها كون المشهود به أمراً موجوداً واحداً في الشهادتين، فلا تسمع الشهادة على أمر غير ممكن الوجود كالجنس بلا فصل، أو النوع بلا تشخّص أو على أمر موجود في كلّ شهادة بوجود غير وجوده في الأُخرى ، كما إذا كان في إحداهما هو الحيوان الناطق، و في الأُخرى الصاهل.

و على هذا، فلو شهد أحدهما بالفرس و الآخر بالإبل، لا يحكم بالحيوان المطلق؛ لعدم إمكان وجوده الخارجي، و لا بأحدهما؛ لأنّه غير الآخر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 410

و على هذا، فإن كان التغاير المفروض في الملزوم أو الكلّ المشهود به مسرياً و متعدّياً إلى اللازم و الجزء، و بدونه لم يتحقّق أحدهما، لم تسمع الشهادة على أحدهما؛

لأنّه إمّا غير متحقّق الوجود أو غير متّحدين كمثال الغصب و القذف و البيع، المذكورات في فروع الأول لأنّه إن أُخذ المشهود به جنس هذه الامور بلا فصل لم يمكن وجوده خارجاً و إن اتّحد في الشهادتين. و إن أُخذ الجنس مع الفصل و إن أمكن وجوده و لكن فصله المشهود به ليس أمراً واحداً، و غير المشهود به لا وجه لإثباته.

و إن كان التغاير في الملزوم خاصّة من غير التعدّي إلى اللازم، و كان اللازم ممكن التحقّق في الخارج، تسمع الشهادة عليه و يثبت، كمثال الإقرار و الوصيّة في الفروع الثانية، فإنّ الملزوم الذي هو الإقرار و إن تغاير في الشهادتين وقتاً أو قدراً، و لكن لازمهما الذي هو تعلّق حقّ المقرّ له بالمقرّ به، أو القدر الناقص، أو استحقاق الموصى له للموصى به بعد موته أمر واحد ممكن الوجود في الخارج، و المشخّصان المذكوران في الشهادة ليسا مشخّصين للّازم أصلًا، فيكون اللازم مشهوداً به، غاية الأمر عدم بيان بعض مشخّصاته، و هو غير مضرّ- كما مرّ في المسألة الثالثة و ليس من قبيل الشهادة بالفرس و الإبل المتعدّي فيها تغاير المشخّصين إلى اللازم أيضاً.

نعم، يشترط في ثبوت المقرّ به في الشهادة على الإقرارين: العلم باتّحاد المقرّبة فيهما، فلو احتمل التغاير لم يثبت، كما إذا شهد أحدهما: أنّه أقرّ لزيد بدينار في العام الماضي، و الآخر: أنّه أقرّ له به أمس، و لم يعلم من الخارج اتّحاد المقرّ به.

و لا يفيد ضمّ الاستصحاب بالأُولى إلى الأمس حتى يتّحدا؛ لأنّ

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 411

الاستصحاب فرع الثبوت، و لذا لا تثبت بشهادة واحد بملكيّة زيد في شي ء في العام الماضي، و أُخرى بملكيّته

اليوم ملكيّة اليوميّة، بخلاف ما لو شهدا معاً بالملكيّة في الماضي، فإنّها تثبت على ما ذكرنا في موضعه من جواز استصحاب الحاكم.

فإن قيل: فعلى هذا يلزم ثبوت ملكيّة المشهود له للمشهود به في الفرع الأول من الفروع الاولى و هو ما إذا شهد أحدهما بالبيع و الآخر بالإقرار به لأنّ لازم كلّ منهما ملكيّة المشهود له للمبيع، و هو أمر واحد ممكن الوجود.

قلنا: نعم، يلزم ذلك، و لو قلنا به ما أتينا بمنكر من القول و زوراً؛ إذ لم يدلّ دليل عقليّ و لا نقليّ على خلافه، و لم يثبت إجماع على بطلانه و إن ذكره الفاضلان «1» و غيرهما «2»، و تبعهم جمع ممّن لحقهم «3».

______________________________

(1) المحقق في الشرائع 4: 141، العلّامة في التحرير 2: 213.

(2) كالشهيد الثاني في المسالك 2: 418.

(3) كالسبزواري في الكفاية: 287.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 412

الفصل السادس في الطوارئ

اشاره

من موت الشهود و فسقهم و رجوعهم عن الشهادة في العقوبات، أو البضع، أو الأموال، و حكم شهادة الزور.

و فيه مسائل:

المسألة الاولى : لو شهد عدلان على أمر عند الحاكم،

فطرأ فسقهما بعده، فإن كان بعد الحكم لم يضرّ، و لا ينقض إجماعاً؛ له، و للاستصحاب.

و إن كان قبله، فإن كان المشهود به من حقوق اللَّه فيطرح الشهادة إجماعاً محقّقاً و محكيّاً «1»؛ له، و لدرء الحدود بالشبهة، و لا شكّ أنّ مثل ذلك يسمّى شبهة.

و إن كان من حقوق الناس ففيه خلاف، فذهب الشيخ في الخلاف و موضع من المبسوط و الحلّي و المحقّق و الفاضل في التحرير و القواعد و موضع من الإرشاد إلى عدم القدح «2»؛ لأنّ المعتبر فيهما هو العدالة حال الأداء.

و في موضع آخر من المبسوط و الفاضل في المختلف و موضع من الإرشاد و الشهيد في الدروس إلى القدح «3».

لكونهما فاسقين حال الحكم، فيلزم الحكم بشهادة الفاسقين.

______________________________

(1) كما في الكفاية: 287، الرياض 2: 457.

(2) الخلاف 2: 632، المبسوط 8: 244، الحلّي في السرائر 2: 179، المحقق في الشرائع 4: 142، التحرير 2: 213، القواعد 2: 247، الإرشاد 2: 168.

(3) المبسوط 8: 233، المختلف: 728، الإرشاد 2: 165، الدروس 2: 132.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 413

و للقياس على رجوعهما قبل الحكم، و موت المشهود له قبله، و لأنّ طروّ الفسق يضعف ظنّ العدالة.

و أمّا جعل المدار على العدالة حال الأداء كما هو دليل القول الأول فهو عين النزاع، و مصادرة على المطلوب.

و يضعّف الأوّل: بأنّ المسلّم أنّ الممنوع هو الحكم بشهادة الفاسق إنّما هو مع الفسق وقت الأداء لا مطلقاً.

و الثاني: بأنّ القياس باطل، مع أنّه مع الفارق؛ لأنّ الرجوع دلّ على عدم جزمهم، و استناد الحكم

يكون إليه.

و موت المشهود له يوجب فقد طالب الحكم و صاحبه؛ مع أنّه ينازع فيه لو لم يكن مجمعاً عليه، و معه لا يقاس.

و حصول الضعف في ظنّ العدالة ممنوع جدّاً.

و أمّا جعل دليل الأولين مصادرة فدفعه: أنّ المراد أنّه لم يثبت تخصيص عمومات قبول الشهادة بأزيد من اشتراط عدالة الشاهد حال الأداء؛ لأنّه المجمع عليه، و الزائد ممنوع.

و من ذلك ظهر أنّ الحقّ هو القول الأول.

المسألة الثانية: لو مات الشاهدان قبل الحكم أو قبل تزكيتهما، أو جنّا، أو عميا، أو أُغمي عليهما، لم تبطل الشهادة،

فيحكم بها؛ لاستناده إلى الشهادة المستجمعة للشرائط حين الأداء، و لم يعلم توقّفه على شي ء آخر، و الأصل عدمه على ما مرّ في المسألة الأُولى .

المسألة الثالثة: لو شهدا لمن يرثانه، فمات قبل الحكم، فانتقل المشهود به إليهما، قالوا: لم يحكم بشهادتهما،

و عن الشهيد الثاني إسناده

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 414

إلى الجميع «1»، و نفى عنه الخلاف في المفاتيح «2» و شرحه؛ لاستلزامه اتّحاد المدّعى و الشاهد حال الحكم.

و استشكل فيه في الكفاية «3»، و خدش فيه المحقّق الأردبيلي «4»؛ لأنّ المال ينتقل إلى المورّث فهو المدّعى، و الشاهد إنّما هو شاهد حال الأداء دون الحكم.

و هما في محلّهما، إلّا أن يثبت الإجماع على القدح.

و لو كان لهما في الميراث المشهود به شريك، فهل تثبت حصّة الشريك بشهادتهما، أم لا؟

اختار في الدروس: الأول؛ لأنّ المانع المذكور في حقّهما مفقود.

و رجّح في القواعد: الثاني «5»؛ لأنّ الشهادة لا تتبعّض.

و التحقيق: أنّه إن كان شهادة في حقّ نفسه في حصّته لا تقبل في الجميع؛ لما سبق من عدم قبول شهادة من له في المشهود به نفع و نصيب، و إلّا فتقبل. و الحقّ هو الثاني؛ لما مرّ من عدم ثبوت كونه شهادة لنفسه، و كان سبب الإشكال في حصّته خوف الإجماع، و هو هنا مفقود.

و منه يظهر الحال فيما إذا كانت هناك وصية أو دين، سيّما المستوعب منه.

المسألة الرابعة:

لو شهد عدلان بأنّه أوصى خالد لزيد بمال، ثم عدلان وارثان بأنّه رجع عن تلك الوصيّة إلى الوصيّة لعمرو، فقال في

______________________________

(1) المسالك 2: 419.

(2) المفاتيح 3: 296.

(3) الكفاية: 287.

(4) مجمع الفائدة و البرهان 12: 524.

(5) القواعد 2: 247.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 415

الإرشاد بعدم قبول شهادة الوارثين «1»؛ لأنّ المال يؤخذ من يدهم، فهما بمنزلة المدّعى عليه. و تنظّر فيه في القواعد «2»، و استشكله في الشرائع «3».

و نقل عن المبسوط قبولها «4»، و رجّحه المحقّق الأردبيلي «5»، و هو الظاهر؛ لعموم أدلّة قبول الشهادة، و

منع كونهما بمنزلة المدعى عليه.

و منه يظهر قبول شهادة العدلين من الورثة بدَين أو وصيّة مطلقاً، و لا يختصّ بقدر حصّتهم من المشهود به.

المسألة الخامسة: لو رجع الشهود عن شهادتهم

على ما توجب عقوبة من قصاص نفس، أو طرف، أو قطع، أو حدّ للَّه، أو لآدمي فإمّا يكون الرجوع قبل الحكم أو بعده، قبل الاستيفاء أو بعده، و على التقادير: إمّا يكون الرجوع بالإقرار بالتعمّد، أو الخطأ، أو بالتشكيك.

فإن كان قبل الحكم فتلغو الشهادة، و يوقف الحكم مطلقاً بالإجماع.

له، و لمرسلة جميل الصحيحة عن ابن أبي عمير: في الشهود إذا شهدوا على رجل، ثم رجعوا عن شهادتهم، و قد قضي على الرجل «ضمنوا ما شهدوا به، و غرموا، و إن لم يكن قضي طرحت شهادتهم، و لم [يغرم ] الشهود شيئاً» «6».

______________________________

(1) الإرشاد 2: 168.

(2) القواعد 2: 230.

(3) الشرائع 4: 145.

(4) المبسوط 8: 253.

(5) مجمع الفائدة و البرهان 12: 526.

(6) الكافي 7: 383، 1، الفقيه 3: 37، 124، التهذيب 6: 259، 685، الوسائل 27: 326 أبواب الشهادات ب 10 ح 1؛ بدل ما بين المعقوفين في «ح» و «ق»: يغرموا، و ما أثبتناه من المصادر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 416

مضافاً إلى الأصل؛ لاختصاص ما دلّ على وجوب الحكم بالبيّنة- بحكم التبادر بصورة عدم الرجوع قطعاً.

و أمّا رواية السكوني: «من شهد عندنا، ثم غيّر، أخذنا بالأُولى ، و طرحنا الأُخرى » «1».

فهي غير ظاهرة في الرجوع، و لو سلّم فلا تقاوم المرسلة التي هي كالصحيحة، و لعمل كلّ الأصحاب مطابقة، و لو سلّم فيرجع إلى الأصل الذي هو مع المرسلة.

و حينئذ، فإن كان المشهود به الزنا جرى على الراجع حكم القذف، فيجب عليه الحدّ إن كان موجباً له، أو التعزير إن كان موجباً

له، إن اعترف بالتعمّد و إن قال: أخطأت أو تردّدت، ففي وجوب الحدّ وجهان.

و إن كان بعد الحكم قبل الاستيفاء، نقض الحكم، و تبطل الشهادة، سواء كان المشهود به حقّا للَّه تعالى مثل: الزنا و اللواط أو لآدمي كقطع السارق و حدّ القاذف بلا خلاف ظاهر، إلّا ما حكي عن المحقّق و الفاضل في بعض كتبه و ولده من التردّد «2». و ليس في موقعه؛ لوجوب درء الحدود بالشبهات، و هذا شبهة و أيّ شبهة؟! و به يدفع استصحاب مقتضى الحكم.

و إن كان بعد الاستيفاء، فعليهم مثل ما على المباشر للقتل أو الجرح أو الضرب بعينه، فإن قالوا: تعمّدنا، ثبت لأولياء المقتول أو المجروح أو المضروب المشهود عليه القصاص في موضع القصاص على المباشر،

______________________________

(1) الفقيه 3: 27، 74، التهذيب 6: 282، 775، الوسائل 27: 328 أبواب الشهادات ب 11 ح 4، بتفاوت يسير.

(2) المحقق في الشرائع 4: 143، و الفاضل في القواعد 2: 243، و ولده في الإيضاح 4: 451.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 417

و الدية في موضع الدية على المتعمّد، على التفصيل المبيّن في أحكام القصاص و الديات، على المقطوع في كلام الأصحاب، كما في الكفاية «1».

فإن شاء في الرجم قتل واحداً من الأربعة، و ادّى الثلاثة الأُخر ثلاثة أرباع الدية [إلى «2»] ورثة الشاهد المقتول، و إن شاء قتل الجميع و ادّى نفسه ثلاث ديات إلى ورثة الأربعة.

و في القتل إن شاء قتل الاثنين، و ادّى دية واحد إلى وارثهما، و إن شاء قتل واحداً، و ردّ الآخر نصف الدية إلى وارثه.

و كذا الحكم في الجراحات.

و يظهر الحكم أيضاً فيما إذا أراد وليّ المرجوم قتل اثنين أو ثلاثة منهم.

و إن قالوا:

قد أخطأنا في الشهادة، أو شككنا فيها، فعليهم الدية خاصّة، كما في القاتل و الجارح خطأً.

و إن قال بعض الشهود: تعمّدنا، و بعضهم: أخطأنا، فعلى العامد القود، و على الخاطئ الدية، بعد اعتبار التوزيع المفصّل في باب الاشتراك.

و بالجملة: يفعل بالشهود ما يفعل بالمباشر من غير فرق، بلا خلاف في شي ء من ذلك كما صرّح به جماعة «3» بل الظاهر أنّه إجماعي؛ و الأصل فيه معه و مع حديث: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» «4» الروايات المستفيضة:

______________________________

(1) الكفاية: 288.

(2) أضفناها لاقتضاء السياق.

(3) منهم صاحب الرياض 2: 457.

(4) الوسائل 23: 184 كتاب الإقرار ب 3 ح 2؛ و رواه ابن أبي جمهور في غوالي اللئالئ 3: 442، 5.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 418

كرواية الجرجاني: في أربعة شهدوا على رجل أنّه زنى فرجم، ثم رجعوا و قالوا: قد وهمنا، «يلزمون الدية، فإن قالوا: تعمّدنا، قتل أيّ الأربعة شاء وليُّ المقتول، و ردّ الثلاثة ثلاثة أرباع الدية إلى أولياء المقتول الثاني، و يجلد الثلاثة كلّ واحد منهم ثمانين جلدة، و إن شاء وليّ المقتول أن يقتلهم ردّ ثلاث ديات على أولياء الشهود الأربعة، و يجلدون ثمانين كلّ واحد منهم، ثم يقتلهم الإمام» و قال في رجلين شهدا على رجل أنّه سرق فقطع، ثم رجع واحد منهما، و قال: و همت في هذا و لكن كان غيره: «يلزمه نصف دية اليد، [و لا تقبل شهادته في الآخر، فإن رجعا جميعاً و قالا: وهمنا، بل كان السارق فلاناً، يلزمان دية اليد،] و لا تقبل شهادتهما في الآخر، و إن قالا: تعمّدنا، قطع يد أحدهما بيد المقطوع، و يردّ «1» الذي لم يقطع ربع دية الرِّجل على أولياء المقطوع

اليد، فإن قال المقطوع الأول: لا أرضى أو تقطع أيديهما معاً، ردّ دية يد، فتقسم بينهما، و تقطع أيديهما» «2».

و صحيحة الأزدي: عن أربعة شهدوا على رجل بالزنا، فلما قتل رجع أحدهم عن شهادته، قال: «يقتل الراجع، و يؤدّي الثلاثة إلى أهله ثلاثة أرباع الدية» «3».

و رواية مسمع: في أربعة شهدوا على رجل بالزنا، ثم رجم، فرجع أحدهم، فقال: شككت في شهادتي، قال: «عليه الدية» قال: قلت: فإنّه

______________________________

(1) في «ق» و الكافي: و يؤدّي ..

(2) الكافي 7: 366، 4، التهذيب 10: 311، 1161، و أورد ذيلها في الوسائل 29: 181 أبواب قصاص الطرف ب 18 ح 1؛ و ما بين المعقوفين أثبتناه من المصادر.

(3) الكافي 7: 384، 5، التهذيب 6: 260، 690، الوسائل 27: 329 أبواب الشهادات ب 12 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 419

قال: شهدت عليه متعمّداً، قال: «يقتل» «1».

و مرسلة السرّاد: في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا، ثم رجع أحدهم بعد ما قتل الرجل، قال: «إن قال الرابع: أوهمت، ضرب الحدّ و غرم الدية، و إن قال: تعمّدت، قتل» «2».

و رواية اخرى لمسمع: قضى في أربعة شهدوا على رجل أنّهم رأوه مع امرأة يجامعها، فرجم، ثم رجع واحد منهم، قال: «يغرم ربع الدية إذا قال: شبّه عليَّ، فإن رجع اثنان و قالا: شبّه علينا، غرما نصف الدية، و إن رجعوا جميعاً و قالوا: شبّه علينا، غرموا الدية، و إن قالوا: شهدنا بالزور، قتلوا جميعاً» «3».

و رواية السكوني: في رجلين شهدا على رجل أنّه سرق، فقطعت يده، ثم رجع أحدهما و قال: شبّه علينا: «غرما دية اليد من أموالهما خاصّة» «4».

و روايته الأُخرى : «أنّ رجلين شهدا على رجل عند عليّ

(عليه السّلام) أنّه سرق، فقطع يده، ثم جاءا برجل آخر فقالا: أخطأنا، هو هذا، فلم يقبل شهادتهما، و غرمهما دية الأول» «5» و قريبة منها رواية محمّد بن قيس «6».

______________________________

(1) الفقيه 3: 30، 90، الوسائل 27: 329 أبواب الشهادات ب 12 ح 3.

(2) الكافي 7: 384، 4، التهذيب 6: 260، 691، الوسائل 27: 328 أبواب الشهادات ب 12 ح 1.

(3) الكافي 7: 366، 1، التهذيب 10: 312، 1163، الوسائل 29: 129 أبواب القصاص في النفس ب 64 ح 1.

(4) التهذيب 6: 285، 788، الوسائل 27: 332 أبواب الشهادات ب 14 ح 2.

(5) التهذيب 10: 153، 613، الوسائل 27: 332 أبواب الشهادات ب 14 ح 3.

(6) الكافي 7: 384، 8، التهذيب 6: 261، 692، الوسائل 27: 332 أبواب الشهادات ب 14 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 420

و الرضوي: فإن شهد أربعة عدول على رجل بالزنا، أو شهد رجلان على رجل بقتل رجل أو سرقة، فرجم الذي شهدا عليه بالزنا، و قتل الذي شهدوا عليه بالقتل، و قطع الذي شهدوا عليه بالسرقة، ثم رجعا عن شهادتهما و قالا: غلطنا في هذا الذي شهدنا، و أتيا برجل و قالا: هذا الذي قتل، و هذا الذي سرق، و هذا الذي زنى، قال: «تجب عليهما دية المقتول الذي قتل، و دية يد الذي قطع بشهادتهما، و لم تقبل لشهادتهما على الثاني الذي شهدوا عليه، و إن قالوا: تعمّدنا، قُطعا في السرقة، و كلّ من شهد شهادة الزور في مال أو قتل لزمه دية المقتول بشهادتهما، و لم تقبل شهادتهما بعد ذلك» الحديث «1».

و لو رجع بعض الشهود خاصّة بعد القتل أو القطع أو الجرح لم يمض إقرار

من رجع إلّا على نفسه؛ لاختصاص حكم الإقرار بالمقِرّ، و عدم إلزام أحد بإقرار غيره، فإن كانت الشهادة على القتل فَلِوليّ المقتول قتل الراجع في موضع القصاص بعد أن يردّ عليه نصف ديته، و إن أخذ الدية في موضعها فليس له إلّا أخذ نصف الدية.

و إن كان القتل في الرجم يردّ الوليّ ثلاثة أرباع دية المقتول إن قتله، و أخذ منه ربع الدية إن أراد الدية. و على هذا لو رجع منهم اثنان أو ثلاثة.

و أمّا رواية السكوني الأُولى «2» الدالّة على تغريم الشاهدين دية اليد مع رجوع أحدهما فمع مخالفتها للأُصول و فتوى الأصحاب كلّاً، معارضة مع ذيل رواية الجرجاني «3» الموافقة لعلم الأصحاب، فطرحها لازم.

______________________________

(1) فقه الرضا « (عليه السّلام)»: 263 بتفاوت، مستدرك الوسائل 17: 420 أبواب الشهادات ب 11 ح 4.

(2) المتقدّمة في ص 417.

(3) المقدمة في ص 415.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 421

ثم إنّ الحكم المذكور لرجوع البعض في غير الرجم موضع وفاق، و أمّا فيه فهو المشهور بين الأصحاب، و خالف فيه الشيخ في النهاية، و الإسكافي و القاضي على ما حكي عنهما، فقالوا: لو شهد أربعة بالزنا، فرجم، ثم رجع أحدهم عمداً قتل و ادّى الثلاثة على ورثته ثلاثة أرباع الدية، و إن أخطأ الزم الراجع ربع الدية «1».

و تدلّ على قولهم صحيحة الأزدي المتقدّمة «2»، و هي في ذلك صريحة، و بالنسبة إلى ما يخالفها من الأُصول خاصّة، و شهرة خلافها بين المتأخّرين- مع عمل طائفة من فحول القدماء و احتمال عمل جمع آخر منهم لا تخرجها عن الحجّية.

و رواية مسمع الثانية «3» ليست لها معارضة كما توهّم؛ إذ تعلّق ربع الدية عليه مع الخطأ لا

ينافي ذلك الحكم، فالعمل بها ليس ببعيد.

ثم برواية مسمع هذه يجب تقييد روايته الأُخرى «4»، و مرسلة السرّاد «5»، بحمل الدية فيهما على قدر الحصّة، حملًا للمجمل على المبيّن.

المسألة السادسة: لو رجع الشهود فيما يتعلّق بالبضع كأن شهد شاهدان مقبولان بالطلاق فإن ثبت أنّهما شاهدا زور لم يحصل الفراق،
اشاره

و إن لم يثبت و لكن رجعا أو أحدهما، فقالوا: إن كان قبل حكم الحاكم

______________________________

(1) النهاية:: 335، نقله عن الإسكافي في المختلف: 726، القاضي في المهذب 2: 563.

(2) المتقدّمة في 416.

(3) المتقدّمة في 417.

(4) المتقدّمة في 416.

(5) المتقدّمة في 416.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 422

فكذلك و لا يلزمهما شي ء إلّا التعزير إن لم يكن لهما عذر مقبول، و إن رجعا بعد حكمه بالمفارقة فلا ينتقض الحكم، بل يثبت الطلاق؛ لأنّه ثبت بالبيّنة المقبولة، و قضى به الحاكم بالقضاء المبرم، فلا يبطل بمجرّد رجوع الشهود المحتمل للصحّة و الفساد، فإنّ الثابت بدليل شرعيّ لا ينتقض إلّا بدليل شرعيّ آخر.

و هل يغرمان الصداق برجوعهما؟

قال جماعة: ينظر، فإن كان ذلك قبل دخول الزوج الأول غرما نصف المهر المسمّى للزوج الأول، و إن كان بعده لم يغرما شيئاً، قاله الشيخ في الخلاف و الحلّي و الفاضل في القواعد و التحرير و الإرشاد «1» و أكثر المتأخّرين عنه «2».

أمّا الأول: فلإتلافهما عليه نصف المهر المسمّى اللازم بالطلاق فيضمنانه، و أمّا الثاني: فلأصالة البراءة و عدم تحقّق إتلاف؛ لاستقرار تمام المهر بالدخول، و البضع لا يضمن بالتفويت كما بيّن في موضعه.

و خالف في ذلك الشيخ في النهاية و الاستبصار و القاضي «3» و الحلبي على ما حكي عنه في المختلف «4»، بل الظاهر أنّه مذهب الصدوق و الكليني «5»، فقالوا: لو شهدا بطلاق امرأة، فتزوّجت، ثم رجعا، ردّت الزوجة إلى الزوج الأول بعد الاعتداد من الثاني، و غرم الشاهدان المهر

كلّاً

______________________________

(1) الخلاف 2: 633، الحلّي في السرائر 2: 145، القواعد 2: 245، التحرير 2: 216، الإرشاد 2: 166.

(2) منهم يحيى بن سعيد في الجامع: 546، الشهيد في الدروس 2: 144.

(3) النهاية: 336، الاستبصار 3: 38، القاضي في المهذّب 2: 563.

(4) المختلف: 726.

(5) الصدوق في الفقيه 3: 36، الكليني في الكافي 7: 384.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 423

أو بعضاً للثاني.

لصحيحة محمّد: عن رجلين شهدا على رجل غائب عن امرأته أنّه طلّقها، فاعتدّت المرأة و تزوّجت، ثم إنّ الزوج الغائب قدم فزعم أنّه لم يطلّقها و أكذب نفسه أحد الشاهدين، فقال: «لا سبيل للأخير عليها، و يؤخذ الصداق من الذي شهد و رجع، فيردّ على الأخير، و يفرّق بينهما، و تعتدّ من الأخير، و لا يقربها الأول حتى تنقضي عدّتها» «1».

و موثّقة إبراهيم بن عبد الحميد: في شاهدين شهدا على امرأة بأنّ زوجها طلّقها، فتزوّجت، ثم جاء زوجها فأنكر الطلاق، قال: «يضربان الحدّ و يضمنان الصداق للزوج، ثم تعتدّ، و ترجع إلى زوجها الأول» «2».

بحملها على صورة تكذيب الشاهدين نفسيهما، أو ثبوت كونهما شاهدي زور؛ للاتّفاق على أنّ مجرّد إنكار الزوج لا يوجب ذلك الحكم.

و كلام الشيخ في المبسوط لا يخلو عن إبهام في فتواه «3»، و نُقِل في المسألة أقوال أُخر شاذّة «4»؟ و صرّح في المختلف بالتوقّف في المسألة «5»، و هو ظاهر الشهيد في اللمعة و المحقّق الأردبيلي و صاحب الكفاية «6».

و ردّ الأولون قول الشيخ و تابعيه: بأنّه مخالف للقاعدة القطعيّة

______________________________

(1) التهذيب 6: 285، 789، الوسائل 27: 330 أبواب الشهادات ب 13 ح 3.

(2) الكافي 7: 384، 7، التهذيب 6: 260، 689، الإستبصار 3: 38، 128، الوسائل 27: 330 أبواب الشهادات

ب 13 ح 1.

(3) المبسوط 8: 247.

(4) انظر المسالك 2: 420، الكفاية: 288.

(5) المختلف: 726.

(6) اللمعة (الروضة البهيّة 3): 155 157، المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة 12: 498 502، الكفاية: 288.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 424

المجمع عليها، من عدم جواز نقض الحكم المبرم الثابت بالدليل الشرعيّ و رفع اليد عنه بمجرّد الاحتمال من غير استناد إلى دليل شرعيّ آخر.

و به أجابوا عن الصحيحة و الموثّقة، و لذلك أوجبوا طرحهما أو تأويلهما.

مضافاً إلى ما في الموثّقة من مخالفة أُخرى للقواعد المقطوع بها، و هي قبول مجرّد إنكار الزوج و إن لم يكن معه رجوع الشاهد، و إيجاب الحدّ عليه و ضمانه.

هذا، مع ما في الصحيحة و الموثّقة من الشذوذ.

أقول: كلّ ذلك مبنيّ على حملهم كلام الشيخ و تابعيه و الروايتين على ما عنونوا به مسألتهم من رجوع الشاهدين بعد حكم الحاكم بشهادتهما بثبوت الطلاق.

مع أنّه ليس في كلامهما من الحكم عين و لا أثر، و لا في الروايتين، بل عنوان كلامهما هو تزوّج المرأة بشهادة الشاهدين من غير ذكر حكم و لا حاكم، و كذلك الروايتان، و هو ظاهر في شهادتهما عندها، بل الصحيحة على بعض نسخها صريحة في ذلك؛ حيث إنّ صدرها فيه هكذا: عن رجلين شهدا على رجل غائب عند امرأته أنّه طلّقها «1».

و يؤيّده ما في موثّقة أُخرى لإبراهيم المذكور، حيث صدرها هكذا: في امرأة شهد عندها شاهدان بأنّ زوجها مات، فتزوّجت، ثم جاء زوجها، الحديث «2».

______________________________

(1) انظر الكافي 6: 149، 2، الفقيه 3: 36، 120، الاستبصار 3: 38، 129.

(2) الفقيه 3: 36، 119، التهذيب 6: 286، 791، الوسائل 27: 303 أبواب الشهادات ب 13 ح 2؛ و فيها: عن إبراهيم

بن عبد الحميد، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام).

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 425

و على هذا، فلا باعث لهم على ذلك الحمل و جعل فتواهم و روايتهم مخالفة للقاعدة المقطوع بها، فإنّه قد تقرّر عندهم أنّ شهادة الشاهدين حجّة لكلّ أحد شهدا عنده لنفسه و إن لم يكن ثبوته عنده مفيداً للغير، إلّا إذا كان حاكماً، و هو أيضاً حين الترافع إليه، و لذا تصوم المرأة و تفطر بشهادة الشاهدين عندها بالهلال، و كذا في التنجّس و التطهّر و غصبيّة الماء، من غير حكم حاكم.

و حينئذٍ إذا شهد الشاهدان ثم رجعا لا يكون ما شهدا به ثابتاً عنده؛ لأنّ القدر الثابت هو حجّيتها لكلّ أحد ما لم يرجعا، و ما دلّ على حجّيتها يدلّ على حجيّة رجوعهما أيضاً، فبعد الرجوع يكون وجود الشهادة كالعدم، فترجع المرأة إلى الزوج الأول، بل و كذا لو كان معها حكم حاكم بدون منازعة و اختلاف و ترافع إليه، فإنّ القدر المسلّم هو نفوذ حكمه و عدم جواز نقضه بعد الاختلاف و الترافع، و أمّا بدون ذلك فلا، كما بيّنا مفصّلًا في عوائد الأيّام «1»، و لذا ذهب الأكثر إلى عدم قبول حكمه بثبوت الهلال عنده، و كذا أمثاله.

نعم، يجب إنفاذ حكمه و لا يجوز نقضه مع النزاع و الترافع، و أين ذلك في كلام الشيخ و تابعيه و روايتهم؟! بل الظاهر خلاف ذلك كما ذكرنا.

فأقول: إن كان مراد الأولين ما هو ظاهر الشيخ و أتباعه و الروايتين، فأين القاعدة القطعية بل الظنيّة التي يخالفها؟! و أين القضاء المبرم أو غير المبرم؟! و إن أرادوا ما كان بعد الحكم الصادر بعد الترافع فأين ذلك في

كلام

______________________________

(1) عوائد الأيام: 280.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 426

الشيخ و أتباعه و أخبارهم؟! و ظهر من ذلك: أنّ عنوان المسألة إن كان مجرّد الشهادة كما هو محطّ كلام الشيخ فلا مستند للأولين فيما ذهبوا إليه من عدم جواز النقض، و الحقّ مع الشيخ و تابعيه.

و إن كانت الشهادة بعد الترافع فالحقّ معهم و لا يجوز النقض؛ بل ظنّي أنّه لا مخالف لهم في ذلك.

و إن كان الأعمّ فالحقّ التفصيل.

بل لو أغمضنا عمّا ذكرنا و جعلنا العنوان للفريقين هو ما كان بعد الحكم النافذ و القضاء المبرم، و قلنا بدلالة الروايتين عليه أيضاً كما هو ظاهر الأولين، و لذا عدّوهما مخالفتين للقاعدة فنقول: أيّ ضرر في ذلك الحكم؟! قولهم: يلزم نقض الحكم الثابت بالدليل الشرعيّ من غير دليل شرعيّ آخر.

قلنا: أيّ دليل شرعيّ أقوى من الصحيح «1» و الموثّق «2» الموافقين لفتوى جمع من أساطين القدماء و غير المخالفين لفتوى جمع من المتأخّرين حيث تردّدوا في المسألة «3»، مع نقل أقوال أُخر فيها أيضاً عن جماعة؟! و هل يطلق على مثل ذلك الحديث: الشاذّ النادر؟! و هل ذلك الدليل أضعف من حديث درء الحدود بالشبهات، الذي

______________________________

(1) المتقدّم في ص 420 و 421.

(2) المتقدّم في ص 421.

(3) كما في المختلف: 726، الروضة 3: 157.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 427

نقضوا به الحكم المبرم في الحدود كما مرّ؟! مع أنّه يمكن الكلام في تعيين الشبهة و صدقها في المورد. و لعلّه لذلك مال المحقّق الأردبيلي إلى جواز نقض الحكم في المسألة مطلقاً «1».

و لكن الصواب أنّ الروايتين غير ظاهرتين في ذلك المعنى .

و الحقّ في المسألة هو ما ذكرنا من متابعة الشيخ في صورة عدم صدور

حكم بعد التنازع و الترافع، و القول بعدم جواز النقض مع صدوره كذلك، كما حمل به كلام الشيخ و روايته جماعة من الأصحاب، إلّا أنّهم عدّوه حملًا و تأويلًا، و أنا أقول: إنّه ظاهر الكلام و الرواية.

و إذ عرفت أنّ الحقّ هو رجوع المرأة إلى الزوج الأول مع عدم الترافع، و بقاؤها على زوجيّة الثاني بدونه، فعلى الأول يكون على الشاهد الراجع ما على الزوج الثاني من الصداق كما صرّح به في الصحيح «2» و الموثّق «3»، و على الثاني لا يكون عليه شي ء مع دخول الأول؛ للإجماع، و الأصل، و عدم تفويته مالًا عليه.

و أمّا مع عدم الدخول فهل يكون نصف المهر أو لا؟

ظاهر الأكثر: الأول؛ لما مرّ، و ظاهر بعض المتأخّرين التردّد فيه «4»، و هو في موقعه جدّاً؛ للزوم النصف بمجرد العقد و تلفه به، سواء كانت باقية على التزويج أو حصل موت أو طلاق، فلم تتضمّن الشهادة إتلافاً، للزومه على أيّ تقدير، فلا وجه لغرمه له.

______________________________

(1) انظر مجمع الفائدة 12: 498.

(2) المتقدّم في ص 420 و 421.

(3) المتقدّم في ص 421.

(4) انظر التحرير 2: 217، المختلف 2: 726.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 428

و توجيه الإتلاف بأنّه كان معرض السقوط بالردّة و الفسخ من قبلها، فكأنّه لم يكن لازماً و لزم بإقرارهما نادرٌ جدّاً؛ لأنّ مجرّد ذلك الاحتمال العقلي الذي لا يلتفت إليه عقل سليم لا يصدق [عليه «1»] الإتلاف الموجب للضمان عرفاً، بل غايته احتمال إتلافٍ ضعيفٌ غايته. و هل يترك أصل البراءة الذي هو القاعدة المجمع عليها، المدلول عليها كتاباً و سنّة بمثل ذلك الاحتمال؟! فإن قلت: إلزام ما هو محتمل السقوط و لو بالاحتمال الضعيف أيضاً ضرر

عليه.

قلنا: لو سلّم ذلك فاللّازم ضمان ما يصلح أن يكون بإزاء ذلك الضرر عرفاً و قيمةً له لا نصف الصداق؛ مع أنّها قد تكون أبرأته عن النصف، أو تصالحه بشي ء قليل بعد الصداق، فالقول بضمان نصف الصداق مشكل.

و توهّم الإجماع المركّب فيه بعد وجود أقوال شتّى في المسألة، و لو كان بعضها ضعيف المأخذ فاسد، و الأصل يحتاج رفعه إلى دليل ثابت، و إلّا فهو أقوى دليل، و اللَّه الموفِّق.

فروع:

أ: لو شهدا بالطلاق، ففرّق، فرجعا، فقامت بيّنة أنّه كان بينهما رضاع محرّم مثلا فلا غرم على القول به؛ إذ لا تفويت أصلًا.

ب: لو شهدا بالرضاع المحرّم، و حكم به الحاكم بعد الترافع، ففرّق، ثم رجعا، لم ينقض الحكم، و لا غرم، كما صرّح به في القواعد «2»؛ لعدم

______________________________

(1) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة العبارة.

(2) قال في القواعد 2: 245 و لو شهدا برضاع محرّم ثم رجعا ضمنا على القول بضمان البضع و إلا فلا.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 429

تفويت أصلًا؛ إذ ليس على الزوج صداق.

و قيل بغرامة الصداق كلّه؛ إذ التنصيف إنّما هو في الطلاق. و لا أدري وجهه.

ج: لو شهدا للزوج بالنكاح و قد دخل، غرما لها ما زاد من مهر المثل عن المسمّى إن كان، و لو طلّق قبل الدخول فلا غرم. و لو كانت الشهادة للزوجة، غرما للزوج ما قبضته إن لم يدخل، و إلّا فالزائد من المسمّى إن كان. كذا قال في الدروس «1».

و ينبغي تقييد المسألتين بما إذا لم يكن الزوج مدّعياً للزوجيّة في الأُولى ، و الزوجة لها في الثانية، فتأمّل جدّاً.

المسألة السابعة: لو رجع الشهود فيما يتعلّق بالمال،

فإن كان قبل القضاء من الحاكم بعد الترافع إليه، لم يحكم بلا خلاف، بل بالإجماع؛ له، و للمرسلة المتقدّمة في صدر المسألة الخامسة «2».

و إن كان بعده، فإن كان بعد استيفاء المحكوم له و تلف العين عنده، لم ينقض الحكم، و غرم الشهود الراجعون ما غرم به المشهود عليه، بلا خلاف كما صرّح به جماعة «3»، بل بالإجماع كما في السرائر و القواعد «4»، بل محقّقاً؛ له، و للمرسلة المتقدّمة المذكورة، و رواية السكوني المتعقّبة لها «5».

و كذا إن كان قبل التلف و لو مع

الاستيفاء أيضاً، على الأشهر الأقوى ،

______________________________

(1) الدروس 2: 144.

(2) راجع ص 413.

(3) منهم السبزواري في الكفاية: 288.

(4) السرائر 2: 147، 148، القواعد 2: 245.

(5) راجع ص 413.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 430

بل عليه عامّة متأخّري أصحابنا، بل قدمائهم في صورة الاستيفاء، كما يظهر من المبسوط و السرائر «1»؛ للمرسلة، و الرواية التي لها متعقّبة، مضافة إلى استصحاب الحكم الواجب إنفاذه.

خلافاً للمحكيّ عن النهاية و القاضي و ابن حمزة، فقالوا: إن كانت العين قائمة و لو عند المحكوم له ارتجعت منه و لم يغرم الشاهد شيئاً «2».

و استدلّ لهم بأنّ الحقّ ثبت بشهادتهما، فإذا رجعا سقط، كما لو كان قصاصاً «3».

و لأنّ حكم دوامه يكون بدوام شهادتهما، كما أنّ حدوثه كان بحدوثها.

و الأول عين النزاع، و القياس على القصاص مع الفارق؛ لأنّ الشبهة في القصاص مؤثّرة.

و الأخير يصحّ لو قلنا بأنّ العلّة المبقية هي العلّة الموجدة، و هو غير لازم.

و استدلّ له في الكفاية «4» بصحيحة جميل: في شاهد الزور، قال: «إن كان الشي ء قائماً بعينه ردّ على صاحبه، و إن لم يكن قائماً ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل» «5».

و هو كما قاله بعض مشايخنا المعاصرين «6» غفلة واضحة؛ لوضوح

______________________________

(1) المبسوط 8: 246، السرائر 2: 148.

(2) النهاية: 336، القاضي في المهذب 2: 564، ابن حمزة في الوسيلة: 234.

(3) انظر المختلف: 727.

(4) الكفاية: 288.

(5) الكافي 7: 384، 3، الفقيه 3: 35، 116، التهذيب 6: 259، 686، الوسائل 27: 327 أبواب الشهادات ب 11 ح 2.

(6) و هو صاحب الرياض 2: 457.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 431

الفرق بين شهادة الزور و الرجوع عن الشهادة، فإنّه لا يثبت من الرجوع كون شهادتهما زوراً مخالفة

للواقع، بل يتردّد بين صدق الاولى و الثانية، و معه كيف يقطع بكون الاولى زوراً كما هو مورد الصحيحة؟! و نحن نقول بحكمها في موردها.

و حكي عن بعض من تأخّر من أصحابنا الفرق بين الرجوع قبل الاستيفاء و بعده، فجزم بنقض الحكم في الأول خاصّة دون الثاني «1»؛ و مستنده غير واضح.

المسألة الثامنة: إذا ثبت أنّ الشاهدين شهدا بالزور و الكذب، نقض الحكم
اشاره

و استعيدت العين مع بقائها، و مع تلفها أو تعذّر ارتجاعها يضمن الشهود، بغير خلاف ظاهر كما عن السرائر «2»؛ لمرسلة جميل و صحيحته المتقدّمتين «3».

و صحيحته الأُخرى في شهادة الزور: «إن كان الشي ء قائماً، و إلّا ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل» «4».

و صحيحة محمّد: في شاهد الزور ما توبته؟ قال: «يؤدّي من المال الذي شهد عليه بقدر ما ذهب من ماله إن كان النصف أو الثلث إن كان شهد هذا و آخر معه» «5».

______________________________

(1) حكاه عنه في الرياض 2: 457.

(2) حكاه عنه في الرياض 2: 457 و انظر السرائر 2: 149.

(3) تقدّمت المرسلة في 413، و الصحيحة عن قريب.

(4) الكافي 7: 384، 6، التهذيب 6: 260، 688، الوسائل 27: 328 أبواب الشهادات ب 11 ح 3.

(5) الكافي 7: 383، 2، التهذيب 6: 260، 687، الوسائل 27: 327 أبواب الشهادات ب 11 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 432

و بالصحيحين الأولين يقيّد إطلاق المرسلة و الصحيحة الأخيرة بضمان الشهود بالنسبة إلى بقاء العين و عدمه.

و هل يقيّد الضمان في صورة التلف بعدم إمكان الرجوع إلى المحكوم له، أم لا؟

الظاهر: لا؛ لعدم المقيّد، و لكن الظاهر أنّ المراد أنّه ضامن، كما أنّ المحكوم له أيضاً كذلك إذا علم أنّه يعلم أنّ لا حقّ له، فللمحكوم عليه الرجوع إلى أيّهما شاء.

و

إذا رجع إلى الشاهد فهل له الرجوع إلى المحكوم له؟

فيه إشكال، و الأصل يقتضي العدم.

ثم إنّه يجب تشهير شاهد الزور في بلده و ما حولها؛ ليجتنب شهادتهم و يرتدع غيرهم، و تعزيرهم بما يراه الحاكم؛ للموثّقات الثلاث لسماعة «1».

فروع للمسائل المتقدّمة:

أ: لو شهد في واقعة أكثر من العدد المعتبر في شهود تلك الواقعة- كالستّة في الزنا، و الثلاثة في القتل و المال فرجع الزائد المستغنى عنه خاصّة، فعن المحقّق: عدم توجّه غرم «2»؛ لثبوت الحقّ بالقدر المعتبر،

______________________________

(1) الاولى : الفقيه 3: 35، 117، ثواب الأعمال: 225، 4، الوسائل 27: 333 أبواب الشهادات ب 15 ح 1.

الثانية: التهذيب 6: 263، 699، الوسائل 27: 334 أبواب الشهادات ب 15 ح 2.

الثالثة: الكافي 7: 241، 7.

(2) قال في الشرائع 4: 144 و ربما خطر أنّه لا يضمن.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 433

و قيام الحجّة و عدم نقضها، و عدم ثبوت إتلاف، فوجود من رجع كعدمه.

و استوجه جماعة منهم: الشيخ و الفاضل و ولده «1» توجّه الغرم على الراجع بالنسبة؛ لثبوت الحقّ بالمجموع من غير ترجيح، و لأنّه لو رجع الجميع كان على كلّ واحد الغرم بحصّته.

و فيه: منع استلزام المقدّمتين للمطلوب أصلًا، و لو استدلّ هؤلاء بإطلاق الأخبار نمنع؛ لأنّ ما يتضمّن الرجوع بين ما يشتمل على حكم رجوع الجميع أو مخصوص بما لم يزد الشاهد عن العدد المعتبر.

و يظهر من بعض متأخّري المتأخّرين الفرق بين الشهادة دفعة و بالتعاقب، فعلى الأول يغرم، و كذا على الثاني إن كان الراجع هو السابق، و لا يغرم إن كان هو الشاهد بعد الثبوت.

و فيه: أنّه كان حسناً لو كان موجب الثبوت هو الشهادة، و ليس كذلك، بل هو الحكم الواقع

بعد شهادة الجميع.

و الحاصل: أنّ الغرم إنّما هو لثبوت الإتلاف و لو بإقرار الراجع بعد أن كان الإتلاف مستنداً إليه، و ليس هنا كذلك؛ إذ الإتلاف بعد رجوعه يمكن بالاثنين الآخرين.

و لو فرض أنّ الاثنين شهدا، فحكم، ثم رجعا، و شهد آخران، فما أتلف الراجع شيئاً؛ إذ بعد رجوعه أتلفه عليه غيره، فالمال متلف رجع أم لا.

فلو أخذ المحكوم عليه من الراجع ثلث ما شهدوا به يلزم بقاء الحقّ و عدم أخذه منه مع ثبوت الكلّ في ذمّته بشهادة العدلين و حكم الحاكم

______________________________

(1) الشيخ في الخلاف 2: 634، الفاضل في القواعد 2: 246، ولده في الإيضاح 4: 457.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 434

بشهادتهما، و الأصل أيضاً براءة ذمّة الراجع هنا.

نعم، لو رجع الكلّ يغرم الجميع بالنسبة؛ لعدم المرجّح، و لو رجع اثنان من الثالثة يغرمان النصف بالسويّة، و هكذا.

ب: إذا رجع مجموع الشهود المعتبرون يغرمون بالسويّة، و الواحد يغرم النصف.

و إذا رجع الرجل و الامرأتان فيما ثبت بهم فالنصف على الرجل و النصف على الامرأتين؛ لأنّ كلّ امرأة نصف الرجل، كما صرّح به في تفسير الإمام، راوياً عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه قال: «عند اللَّه تعالى شهادة امرأتين بشهادة رجل؛ لنقصان عقولهنّ و دينهن» «1».

و إذا رجع الواحد في الشاهد و اليمين فعلى الراجع النصف.

و قيل: الكل «2»؛ لأنّ اليمين شرط قبول الشهادة و تأثير السبب لا جزء السبب.

و فيه نظر، و الأصل ينفى الزائد عن النصف.

ج: قال في القواعد: لو رجع الشاهدان فأقام المشهود له غيرهما مقامهما، ففي الضمان إشكال «3».

و وجه الإشكال: إطلاق الأخبار الشامل للمورد، و لا تفيد إقامة الغير في تقييده، و كون المال متلفاً بشهادة الغير.

و لعلّ الأول أظهر؛ فإنّ كون شخص مستحقّاً للقتل لا يوجب رفع القصاص عمّن قتله من غير جهة

______________________________

(1) تفسير الإمام العسكري « (عليه السّلام)»: 675، 377 و فيه: عدل اللَّه ..، الوسائل 27: 335 أبواب الشهادات ب 16 ح 1.

(2) كما في التحرير 2: 218.

(3) القواعد 2: 247 248.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 18، ص: 435

الاستحقاق.

د: لو رجع شهد العتق ضمنوا القيمة؛ لإطلاق المرسلة «1».

ه: لو رجع شهود التزكية، قالوا: عليهم الضمان و الدية دون القصاص، و هو حسن.

و: لو رجع شاهد الفرع، فإن كذّبه الأصل في الرجوع فلا ضمان، و إلّا فالضمان على شاهد الفرع.

و لو رجع الأصل بعد الحكم بشهادة الفرع ضمنا.

و لو كذّبا شهود الفرع لم يلتفت إلى تكذيبهما، و لم يغرما شيئاً، و لا شهود الفرع لو لم يرجعا.

و الحمد للَّه و الصلاة على رسوله و آله.

تمّ كتاب القضاء و الشهادات في ليلة الأحد، الخامس عشر من شهر ربيع المولود، سنة 1245.

______________________________

(1) المتقدّمة في 413.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.