مستند الشيعة في أحكام الشريعة الجزء 17

اشارة

سرشناسه : نراقي، احمدبن محمد مهدي، 1185-1245ق.

عنوان و نام پديدآور : مستند الشيعه في احكام الشريعه/ تاليف احمدبن محمدمهدي النراقي؛ تحقيق موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث.

مشخصات نشر : مشهد: موسسه آل البيت (عليهم السلام) لاحياء الثرات، 1415ق. = 1373-

مشخصات ظاهري : ج.

فروست : موسسه آل البيت لاحياء التراث؛ 156، 157، 158، 160، 165، 166، 167، 168، 171، 242.

شابك : 2500ريال: ج.1 964-5503-75-2 : ؛ : ج.3: 964-5503-78-7 ؛ 4000 ريال: ج.5: 964-5503-80-9 ؛ 4000 ريال (ج.6) ؛ 4000 ريال (ج.7) ؛ 5000 ريال: ج.8 964-5503-83-3 : ؛ 5000 ريال: ج.10 964-319-014-5 : ؛ 6000 ريال: ج.11 964-319-015-3 : ؛ 5500 ريال: ج.12: 964-319-038-2 ؛ 5500 ريال: ج.13: 964-319-073-0 ؛ 7500 ريال: ج.16: 964-319-125-7 ؛ 7500 ريال (ج.17) ؛ 35000 ريال: ج.20 978-964-319-502-1 :

وضعيت فهرست نويسي : برونسپاري

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1415ق. = 1373).

يادداشت : ج. 6 (چاپ اول: 1415ق. = [1373]).

يادداشت : ج. 7 (چاپ اول:1416ق. = [1374]).

يادداشت : ج. 8 (چاپ اول: 1416ق. = 1375).

يادداشت : ج.10و 11و 12(چاپ اول: 1417ق. = 1376).

يادداشت : ج. 13 (چاپ اول: 1417ق. = 1375).

يادداشت : ج. 16 و 17 (چاپ اول: 1419ق. = 1377).

يادداشت : ج.20 (چاپ اول: 1431ق. = 1389).

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : v. 5):)ISBN 964-5503-75-2 (set): ISBN 964-5503-75-2 (8 vols): ISBN 964-5503-82-5 (v.7): ISBN 964-5503-81-7 (v. 6): ISBN 964-5503-80-9

موضوع : فقه جعفري -- قرن 13ق.

شناسه افزوده : موسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث (قم)

رده بندي كنگره : BP183/3/ن4م5 1373

رده بندي ديويي : 297/342

شماره كتابشناسي ملي : م 74-1256

اشاره

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه، و الصلاة على رسول اللّه، ثمَّ على أهل بيت رسول اللّه.

كتاب القضاء و الشهادات

اشاره

و فيه مقصدان

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 7

المقصد الأول في القضاء

اشاره

و هو: ولاية حكم خاص- أو حكم خاص- في واقعة مخصوصة و على شخص مخصوص، بإثبات ما يوجب عقوبة دنيويّة شرعا، أو حقّ من حقوق الناس بعد التنازع فيه، أو بنفي واحد منهما.

و في هذا المقصد مقدّمة و أربعة مطالب.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 17    7     أما المقدمة ففي بيان فضله، و شرفه، و عظم خطره، و وجوبه ..... ص : 7

أمّا المقدّمة ففي بيان فضله، و شرفه، و عظم خطره، و وجوبه

اشاره

. و فيها ستّ مسائل:

المسألة الأولى: القضاء منصب عال عظيم، و شرفه جسيم.

و لعلوّ مرتبته و سموّ شأنه جعل اللّه سبحانه تولية ذلك إلى الأنبياء و الأوصياء من بعدهم صلوات اللّه عليهم، ثمَّ إلى من يحذو حذوهم، و يقتدي بهم، و يسير بسيرهم، من العلماء الآخذين علومهم منهم، المأذونين من قبلهم بالحكم بين الناس بقضائهم.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 8

و كفى بجلالة قدره تولية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إيّاه بنفسه الشريفة الزكيّة لأمّته، ثمَّ تفويضه إلى سيّد الأوصياء بعده، ثمَّ إلى أوصيائه القائمين مقامه، و خصّصهم بذلك دون سائر الناس، و كذلك من قبله من الأنبياء و خلفائهم.

و لعظم شأنه جعل اللّه يده فوق رأسه، و أهبط إليه الملك يسدّده. قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في خبر السكوني: «يد اللّه فوق رأس الحاكم ترفرف بالرحمة، فإذا حاف وكله اللّه تعالى إلى نفسه» «1».

و في خبر آخر: «إذا جلس القاضي أو اجلس في مجلسه هبط إليه ملكان يسدّدانه و يرشدانه و يوفّقانه، فإذا جار عرجا و تركاه» «2».

المسألة الثانية: خطر القضاء عظيم، و أجره جسيم

، فإنّ القاضي لفي شفا جرف هار، فإن جار في الحكم أو حكم بغير علم انهار به في نار جهنّم، و إن عدل و حكم بما أنزل اللّه عالما به متّبعا لسنّته فقد فاز فوزا عظيما، و نال نيلا جسيما.

و لذا قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من جعل قاضيا ذبح بغير سكّين» «3».

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية إسحاق بن عمّار: «يا شريح، قد جلست مجلسا لا يجلسه إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ» «4».

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام- كما في مرفوعة البرقي-: «القضاة أربعة، ثلاثة في النار و واحد في الجنة: رجل قضى بجور و هو يعلم

فهو في النار، و رجل

______________________________

(1) الكافي 7: 410- 1، الفقيه 3: 5- 13، التهذيب 6: 222- 528، الوسائل 27: 224 أبواب آداب القاضي ب 9 ح 1.

(2) كنز العمال 6: 99- 15015، غوالي اللئالي 3: 515- 1.

(3) المقنعة: 721، الوسائل 27: 19 أبواب صفات القاضي ب 3 ح 8.

(4) الكافي 7: 406- 2، الفقيه 3: 4- 8، المقنع: 2، التهذيب 6: 217- 509 الوسائل 27: 17 أبواب صفات القاضي ب 3 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 9

قضى بجور و هو لا يعلم أنّه قضى بجور فهو في النار، و رجل قضى بحقّ و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة» «1».

و في مرسلة الفقيه: «من حكم في درهمين بغير ما أنزل اللّه عزّ و جلّ فقد كفر باللّه».

و في أخرى: «من حكم في درهمين فأخطأ كفر».

و في ثالثة: «إذا كان الحاكم يقول لمن عن يمينه و لمن عن يساره: ما ترى؟ ما تقول؟ فعلى ذلك لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين» «2».

و في صحيحة أبي بصير: «من حكم في درهمين بغير ما أنزل اللّه فهو كافر باللّه العظيم» «3».

و في رواية أنس بن مالك، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «لسان القاضي بين جمرتين من نار حتى يقضي بين الناس، فإمّا في الجنّة، و إمّا إلى النار» «4».

و في رواية سعيد بن أبي الخضيب: أنّه قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لابن أبي ليلى القاضي: «ما تقول إذا جي ء بأرض من فضّة و سماء من فضّة، ثمَّ أخذ رسول اللّه بيدك فأوقفك بين يدي ربّك، فقال: يا ربّ إنّ هذا قضى

بغير ما قضيت؟» «5» الحديث، إلى غير ذلك.

______________________________

(1) الكافي 7: 407- 1، الفقيه 3: 3- 6، المقنعة: 722، التهذيب 6: 218- 513، الوسائل 27: 22 أبواب صفات القاضي ب 4 ح 6.

(2) الفقيه 3: 3- 6، و ص 5 ح 14، و ص 7 ح 20.

(3) الكافي 7: 408- 2، التهذيب 6: 221- 523، الوسائل 27: 31 أبواب صفات القاضي ب 5 ح 2.

(4) التهذيب 6: 292- 808، الوسائل 27: 214 أبواب آداب القاضي ب 2 ح 3.

(5) الكافي 7: 408- 5، التهذيب 6: 220- 521، الوسائل 27: 19 أبواب صفات القاضي ب 3 ح 9، بتفاوت يسير فيها.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 10

المسألة الثالثة: القضاء واجب على أهله، بحقّ النيابة للإمام في زمان الغيبة

في الجملة بإجماع الأمّة، بل الضرورة الدينيّة.

لتوقّف نظام نوع الإنسان عليه.

و لأنّ الظلم من طبائع هذه الأشخاص و اختلاف نفوسهم المجبولة على محبّة الترفّع و التغلّب و إرادة العلوّ و الفساد في الأرض وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ «1» وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ «2»، فلا بدّ من حاكم بينهم ينتصف من الظالم للمظلوم و يردعه عن ظلمه.

و لما يترتّب من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و للأمر به في الكتاب و السنّة، قال اللّه سبحانه يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ «3».

و قال تعالى شأنه إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ «4».

و في رواية معلّى بن خنيس: «و أمرت الأئمّة أن يحكموا بالعدل، و أمر الناس أن يتبعوهم» «5».

و في مرسلة ابن أبي عمير: «ما تقدّست امّة لم يؤخذ لضعيفها من

______________________________

(1) البقرة: 251.

(2) سورة ص: 24.

(3) سورة ص: 26.

(4)

النساء: 105.

(5) الفقيه 3: 2- 2، التهذيب 6: 223- 533، الوسائل 27: 14 أبواب صفات القاضي ب 1 ح 6.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 11

قويّها بحقّه غير متعتع» «1»، و غير ذلك من الأخبار.

المسألة الرابعة: إنّ القابل للحكومة و الأهل للقضاء

في البلد أو في مكان لم يتعسّر الوصول إليه إمّا واحد باعتقاد ذلك القابل و سائر أهل البلد بعد بذل جهدهم، أو متعدّد.

فعلى الأول: يكون القضاء واجبا عينيّا على ذلك القابل، و الوجه ظاهر.

و على الثاني: فإمّا يكون القابل متعدّدا باعتقاد الجميع، أو لا يكون كذلك.

فعلى الأول: يكون القضاء على كلّ من المتعدّدين واجبا كفائيّا، و وجهه أيضا ظاهر.

و على الثاني: فإمّا يكون الأهل- باعتقاد واحد ممّن له الأهليّة- متعدّدا، دون اعتقاد الرعيّة، بل هم لا يعتقدون الأهليّة إلّا لهذا الشخص.

أو يكون بالعكس، أي لا يعتقد ذلك الأهل أهليّة غير نفسه، و الرعيّة يعتقدون أهليّة غيره أيضا.

فعلى الأول: فإنّ علم ذلك الأهل أنّ عدم اعتقاد المعتقدين للغير ليس مستندا إلى تقصيرهم في الفحص، بل هو إمّا منبعث عن الفحص، أو هم قاصرون عن الفحص- أي غير متمكّنين من المعرفة، لعدم شياع و استفاضة مفيدين للعلم لكلّ أحد، و عدم دليل آخر لهم- فيكون القضاء

______________________________

(1) الكافي 5: 56- 2، التهذيب 6: 180- 371، الوسائل 16: 120 أبواب الأمر و النهي ب 1 ح 9، غير متعتع: أي من غير أن يصيبه أذى يقلقه أو يزعجه (مجمع البحرين 3: 309) و في التهذيب و نسخة من الوسائل: متضع، و في أخرى منها:

متصنّع.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 12

عليه واجبا عينيّا، للانحصار فيه حقيقة، لأنّه لا يكفي في الأهل وجوده الواقعي، بل اللّازم وجوده بحسب علم المكلّف.

و إن علم أنّ عدم

اعتقادهم في الغير ناشئ عن التقصير في الفحص مع تمكّنهم منه، لا يجب عليه عينا، بل يكون واجبا كفائيّا عليه.

و على الثاني: فإن لم يعلم انبعاث اعتقادهم عن تقصير أو قصور، لا يجب عليه أيضا عينا، بل يكون كفائيا، و إن علم ذلك يجب عليه عينا.

و منه يظهر الحكم في الصورتين الأخيرتين إذا اختلفت الرعيّة في اعتقاد الغير و عدمه، فتكون العينيّة و الكفائيّة لذلك الأهل بالنسبة إلى القضاء لكلّ بعض كما ذكر.

و إن كان هناك أهل للقضاء باعتقاد نفسه دون اعتقاد الرعيّة كلّا أو بعضا، فيعتقدون عدم أهليّته إمّا علما أو عدالة، أو لا يعتقدون أهليّته:

فإنّ علم ذلك الأهل أنّ اعتقادهم العدم أو عدم اعتقادهم منبعث عن الفحص و السعي، لا يجب عليه قضاؤهم أصلا، لأنّ حكمه ليس نافذا عليهم شرعا، فلا يترتّب عليه أثر، بل ربّما يحرم عليه لو علم عملهم بحكمه لعدم المبالاة في الدين، لكونه إعانة عليهم في تأثيمهم، بل هو ليس أهلا شرعا، إذ عرفت أنّه من كان كذلك باعتقاد المكلّف.

بل و كذلك الحكم إذا لم يعلم ذلك، أو علم انبعاثه عن التقصير أو القصور، لأنّهم ما داموا كذلك لا يجب عليهم قبول حكمه، بل لا يجوز لهم، فتأمّل.

المسألة الخامسة: وجوب القضاء على من له الأهليّة

- عينا أو كفاية على التفصيل المتقدّم- إنّما هو بعد الترافع إليه، فلا يجب بدونه، للأصل، و عدم الدليل. فليس عليه الفحص عن وجود التخالف و التنازع بين

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 13

الناس، و لا عليه المحاكمة لو علمه و لم يترافع إليه.

نعم، لو علم وجود النزاع و التشاجر، و علم ظلم أحدهما على الآخر عدوانا أو جهلا بالمسألة، يجب عليه رفع النزاع بأيّ نحو كان من باب النهي

عن المنكر، و كذا لو علم ترتب منكر آخر على تنازعهم.

و إذا ترافعا إليه، أو طلبه المدّعي- مع اجتماع شرائط الوجوب كما تقدّم- يجب عليه عينا مع الانحصار، و كفاية مع التعدّد.

و لا يجب عينا عليه مع التعدّد باختيار المتداعيين أو المدعي إيّاه، للأصل، و عدم الدّليل.

نعم، لو لم يعلما أو أحدهما التعدّد، يجب عليه أحد الأمرين: إمّا القضاء، أو الإرشاد إلى التعدّد.

و لو لم يرضيا أو المدّعي منهما بالترافع إلى غيره:

فإن كان لادّعائه العلم بعدم أهليّة الغير، يجب عينا عليه إن لم يمكن ردعه عن اعتقاده، و إن جوّزه يجب عليه إمّا إثبات أهليّته له أو الحكم.

و إن كان لعدم علمه بالأهليّة، يجب عليه إمّا الحكم أو أمرهما بالفحص عن حاله مع إمكانه. بل يمكن أن يقال بعدم وجوب شي ء عليه إذا علم استناد عدم علمهما إلى تقصير.

و لو لم يرضيا بالفحص أو بالترافع إلى الغير مع العلم بالأهليّة ففيه إشكال، سواء لم يعلم ذلك الغير بالتنازع بينهما و مطالبة الحقّ و لم يمكن له إعلامه، أو علم به الغير أيضا، أو أمكن إعلامه و لكن لم يترافع إليه المدّعي، و الأصل يقتضي عدم العينيّة، و لا إثم على أحد، لتقصير المتداعيين.

المسألة السادسة: على العينيّة أو الكفائيّة، هل هو على الفور،

أم

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 14

يجوز التراخي؟

الظاهر: عدم الفوريّة، للأصل، و الإجماع، و ما ورد من بعض قضايا أمير المؤمنين عليه السّلام من تأخير الحكم و الدخول في الصلاة أو إلى الغد.

نعم، الظاهر عدم جواز التأخير بقدر يوجب تضييع حقّ لو كان.

و الأولى أنّه لو أراد التأخير بدون عذر يستمهل من المدّعي.

ثمَّ الوجوب عينا أو كفاية إنّما هو مع احتمال نفوذ حكمه و عدم مظنّة الضرر فيه، و إلّا لم

يجب، و الوجه ظاهر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 15

المطلب الأول في تعيين القاضي و ما يتعلّق به من الشرائط، و الآداب، و الأحكام

اشاره

و فيه ثلاثة أبحاث:

البحث الأول في تعيين القاضي و شرائطه
اشاره

و فيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنّ القاضي يغاير المفتي و المجتهد و الفقيه بالاعتبار.

فيسمّى الشخص قاضيا و حاكما: باعتبار إلزامه و حكمه على الأفراد الشخصيّة بالأحكام الشخصيّة.

و مفتيا: باعتبار مجرّد الإخبار عن حكم اللّه و لو كليّا.

و مجتهدا: باعتبار مجرّد الاستدلال، و ردّ الفروع إلى الأصول، و استخراج الأحكام من مئاخذها، و استفراغ وسعه فيه.

و فقيها: باعتبار علمه الحاصل بالأحكام من ذلك الاستخراج و الاستفراغ.

فهذه الألفاظ الأربعة متّحدة مصداقا، متغايرة حيثيّة و مفهوما.

المسألة الثانية [لما كان وجوب الحكم و القضاء و وجوب قبول حكمه أمر مخالف للأصل فلا بد من دليل مخرج له من الأصل و مثبت لمنصب القضاء له ]

لمّا كان وجوب الحكم و القضاء على شخص من الرعيّة، بل جوازه، و وجوب قبول حكمه و التزام إلزامه، أمرا مخالفا للأصل. أمّا وجوب الحكم و القبول فظاهر، و أمّا الجواز فللإجماع،

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 16

و المستفيضة، كرواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة «1».

و صحيحة سليمان بن خالد: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين، لنبيّ أو وصيّ نبيّ» «2».

و المرويّ في مصباح الشريعة المنجبر بعمل الكلّ: «الحكم لا يصح إلّا بإذن اللّه» «3»، إلى غير ذلك.

فلا بدّ- في كون شخص قاضيا و جواز القضاء له و وجوب القبول منه- من دليل مخرج له من الأصل، و مثبت لمنصب القضاء له، و لهذا اجتمعت كلمتهم قاطبة على أنّ من شرائطه إذن الإمام.

و مرادنا من الدليل المخرج: هو الدالّ على ذلك الإذن.

ثمَّ الدليل إمّا يختصّ بواحد معيّن شخصا، فيسمّى ذلك الشخص بالنائب الخاص، أو وصفا، فيسمّى بالنائب العام.

و لمّا لم يكن تحقّق الأول إلّا في زمان الحضور، فلا فائدة في التعرّض لبيان شرائطه، و إن تكلّم الأكثر في أحواله أيضا. بل المهمّ لنا التكلّم في الثاني، و تحقيق أنّه من هو؟ و ما شرائطه و آدابه؟

و لمّا عرفت أنّه لا يكون واحد من الرعيّة قاضيا إلّا بعد إقامة الدليل

على ثبوت هذا المنصب و تحقّق الإذن له، فاللّازم أولا ذكر الأدلّة المرخّصة في القضاء لطائفة من الرعيّة، الآمرة بالتزام أحكامهم.

و إذ لا يمكن الإذن للموجودين في زمن الغيبة لشخص معيّن، بل

______________________________

(1) في ص: 8.

(2) الكافي 7: 406- 1، الفقيه 3: 4- 7، التهذيب 6: 217- 511، الوسائل 27:

17 أبواب صفات القاضي ب 3 ح 3.

(3) مصباح الشريعة: 352.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 17

يكون التعيين بالوصف، فلا محالة يكون في أدلّة الإذن إطلاق أو عموم.

و تلك العمومات أيضا ليست باقية على حالها من العموم أو الإطلاق، بل لاشتراط بعض الشرائط خرج منها بعض أفرادها بالأدلّة المقيّدة أو المخصّصة لها، فلذا يلزم علينا الفحص ثانيا عن المقيّد و المخصّص، و تخصيص المنصب بمن لم يخرج عن تحت العموم.

و بذلك يظهر أنّه يشترط في القاضي دخوله تحت أدلّة الإذن أولا، و عدم خروجه بسبب المخصّصات ثانيا.

المسألة الثالثة [الروايات الواردة في إذن القاضي للحكم ]

إذا عرفت أنّه لا بدّ في القاضي من ورود الإذن في شأنه، فنقول: إنّه قد ورد ذلك من سلاطين الأنام، و ولاة الأمر من جانب الملك العلّام، للعلماء بأحكام أهل البيت عليهم السّلام، بالإجماع القطعي، بل الضرورة، و المعتبرة المستفيضة:

كمرفوعة البرقي المصرّحة بأنّ: «من قضى بحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة» «1».

و كصحيحة أبي خديجة: «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا، فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضيا، فتحاكموا إليه» «2».

و الأخرى: «اجعلوا بينكم رجلا ممّن عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته قاضيا» «3».

و وصف الروايتين بعدم الصحة- مع أنّه غير ضائر عندنا مع

______________________________

(1) المتقدمة في ص 8 و 9.

(2) الكافي 7: 412- 4، الفقيه 3: 2- 1 و فيهما قضائنا بدل قضايانا، التهذيب 6:

219- 516،

الوسائل 27: 13 أبواب صفات القاضي ب 1 ح 5.

(3) التهذيب 6: 303- 846، الوسائل 27: 139 أبواب صفات القاضي ب 11 ح 6.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 18

وجودهما في الأصول المعتبرة، و انجبارهما بالإجماع المحقّق و المحكيّ مستفيضا، و في المسالك: أنّهما و المقبولة الآتية مشتهران بين الأصحاب، متّفق على العمل بمضمونهما «1»- غير جيّد، لأنّ أولاهما رواها في الفقيه، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة، و طريق الفقيه إلى أحمد صحيح، كما صرّح به في الروضة «2»، و أحمد نفسه موثّق إماميّ «3».

و أمّا أبو خديجة- و هو سالم بن مكرم- و إن ضعّفه الشيخ في موضع «4» و لكن وثّقه في موضع آخر «5»، و وثّقه النجاشي «6»، و قال أبو الحسن عليّ بن الحسن: كان صالحا «7»، و عدّ في المختلف في باب الخمس روايته من الصحاح «8»، و قال الأسترابادي في رجاله الكبير في حقّه: فالتوثيق أقوى.

و مقبولة بن حنظلة: «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا، فارضوا به حكما، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما بحكم اللّه استخف، و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ على اللّه تعالى، و هو على حدّ الشرك باللّه» «9».

______________________________

(1) المسالك 2: 352.

(2) روضة المتقين 14: 45.

(3) راجع رجال النجاشي: 98- 246، و رجال الكشي 2: 653.

(4) الفهرست: 79.

(5) نقله عن العلامة في الخلاصة: 227.

(6) راجع رجال النجاشي: 188- 501.

(7) رجال الكشي 2: 641.

(8) المختلف: 207.

(9) الكافي 7: 412- 5، التهذيب 6: 218- 514، الوسائل 27: 136 أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1.

مستند الشيعة

في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 19

و تضعيف هذه الرواية «1»- مع انجبارها بما مرّ حتّى اشتهرت بالمقبولة- غير جيّد أيضا، إذ ليس في سندها من يتوقّف في شأنه، سوى داود بن الحصين، و وثّقه النجاشي «2»، فلو ثبت ما ذكره الشيخ «3» و ابن عقدة «4» من وقفه فالرواية موثّقة لا ضعيفة، و عمر بن حنظلة، و قد حكي عنه توثيقه «5».

هذا، مع أنّ في السند قبلهما صفوان بن يحيى، و هو ممّن نقل إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه.

و التوقيع الرفيع المرويّ في إكمال الدين للصدوق، و كتاب الغيبة للشيخ، و الاحتجاج للطبرسي: «و أمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواه حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، و أنا حجّة اللّه عليهم» «6».

و مرسلة الفقيه المرويّة في معاني الأخبار و غيره أيضا: «اللّهمّ ارحم

______________________________

(1) كما في المسالك 2: 352.

(2) رجال النجاشي: 159- 421.

(3) رجال الشيخ: 348.

(4) نقله عنه العلّامة في الخلاصة: 221.

(5) يعود ضمير «عنه» إلى المضعّف و هو صاحب المسالك و قد وثّقه في شرح الدراية، و إن كان مقتضى السياق عوده إلى النجاشي أو الشيخ أو ابن عقدة إلّا أنه لم يرد عنهم التوثيق و لم ينسبه إليهم أحد. قال الشهيد الثاني في شرح الدراية: 44:

«و عمر بن حنظلة لم ينص الأصحاب بجرح و لا تعديل لكن امره عندي سهل لأني قد حقّقت توثيقه من محلّ آخر». قال صاحب الرياض 2: 388- بعد نقل كلام المسالك في تضعيف الرواية- «و عمر بن حنظلة و هو ممن حكى عنه بأنه وثقه.» أي الشهيد الثاني، و المظنون أن المصنّف أخذ العبارة من الرياض كما هو الملاحظ كثيرا في الكتاب.

(6) إكمال الدين: 484، كتاب الغيبة للشيخ:

177، الاحتجاج: 470، الوسائل 27: 140 أبواب صفات القاضي ب 11 ح 9.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 20

خلفائي، قيل: يا رسول اللّه، من خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون بعدي، و يروون حديثي و سنّتي» «1».

و المرويّ في الفقه الرضوي: «منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل» «2».

و في كنز الكراجكي عن مولانا الصادق عليه السّلام: «الملوك حكّام على الناس، و العلماء حكّام على الملوك» «3».

و المرويّ في تحف العقول للشيخ الجليل محمّد بن الحسن بن عليّ بن شعبة، و فيه: «مجاري الأمور و الأحكام على أيدي العلماء باللّه، الامناء على حلاله و حرامه» «4».

و المرويّ في غوالي اللئالي: «الناس أربعة: رجل يعلم، و هو يعلم أنّه يعلم، فذاك مرشد حاكم فاتّبعوه» «5».

و تدلّ عليه أيضا الأخبار الآتي بعضها، الآمرة بالرجوع إلى الأعدل، أو الأعلم، أو الأفقه، عند الاختلاف.

و تدلّ عليه أيضا قاعدتان متّفقتان ذكرناهما في كتاب عوائد الأيّام «6».

و تؤيّده الأخبار المتواترة المتضمّنة ل: أنّ العلماء ورثة الأنبياء، و أنّهم

______________________________

(1) معاني الأخبار 1: 374- 1، الوسائل 27: 139 أبواب صفات القاضي ب 11 ح 7.

(2) فقه الرضا «ع»: 338.

(3) كنز الفوائد: 195، مستدرك الوسائل 17: 316 أبواب صفات القاضي ب 11 ح 17.

(4) تحف العقول: 238، مستدرك الوسائل 17: 315 أبواب صفات القاضي ب 11 ح 16.

(5) غوالي اللئالي 4: 79- 74.

(6) عوائد الأيّام: 187.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 21

مثلهم، و أنّهم أمناء الإسلام، و أمناء الرسل، و المتكفّلون لرعيّتهم و لأيتامهم، و أمثال ذلك من الأوصاف «1».

و لا يعارض تلك الأخبار ما مرّ من الأخبار الحاصرة للحكومة في النبيّ و وصيّه، لأنّ الإذن الوارد في تلك الأخبار أيضا

توصية لغة.

و مع فرض التعارض فتلك الأخبار كلّها أو أكثرها أخصّ مطلقا ممّا مرّ فيجب تخصيصه بها.

ثمَّ إنّه قد ظهر من تلك الأخبار ثبوت الإذن للعلماء العارفين بأحكام اللّه في القضاء، و كونهم منصوبين من قبل الإمام نوّابا له في هذا الزمان.

لا يقال:

إنّ المذكور في الأخبار هو العالم، و العارف و الفقيه، اللذان هما أيضا يتضمّنان العلم، و حصوله في هذه الأزمنة غالبا غير ممكن، لأنّ طرق الأحكام ظنّية غالبا.

لأنّا نقول:

إنّ الظنّ لا يعمل به ما لم ينته دليل وجوب العمل به أو جوازه إلى قطعيّ، فإنّ إثبات الظنّي بالظنّي- مع اطباق العلماء على بطلانه- دور أو تسلسل. و إذا انتهى إلى القطع و العلم يكون الحكم الحاصل منه معلوما، فإنّا لو علمنا أنّه يجب علينا العمل بالمظنون يكون المظنون حكمنا قطعا، فنكون عالمين بحكمنا قطعا.

و هذا هو المراد من قولهم: ظنّية الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم.

و ليس فيه ابتناء على التصويب كما ظنّ، فالمجتهد إذا علم حجّية الخبر أو الظنّ الحاصل منه بدليل علميّ و دلّ خبر أو ظنّ منه أنّ حكم اللّه في الواقعة الفلانية كذا، يعلم قطعا أنّ حكمه في حقّه كذا، فيصدق عليه أنّه

______________________________

(1) الوسائل 27: 77 أبواب صفات القاضي ب 8.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 22

عالم أو عارف بقضيّتهم و حلالهم و حرامهم.

لا يقال:

إنّ مرادهم عليهم السّلام من أحكامهم و قضاياهم هي الواقعيّة، لأنّها أحكامهم، و أمّا الحكم الظاهري فهو حكم المضطرّ.

لأنا نقول:

إنّ الأحكام الظاهريّة للمضطرّين حال اضطرارهم أيضا من الأحكام الواقعيّة لهم، إذ ليس المراد بحكمهم إلّا ما حكموا به، و هل حكموا للمضطرّ بغير ذلك الحكم، أو ليس هذا حكمهم في حقّه؟! و هل ليس ما

ظنّوا حلّيته مثلا بالدليل الشرعيّ حلالا من جانبهم له؟! و الحاصل: أنّ المظنون هو أنّ هذا مطابق لما حكموا به لغير المضطرّين، و أمّا أنّه حكمهم في حق المضطرّين فهو مقطوع به.

و على هذا، فيكون هذا الذي عرف الحكم بالدليل الشرعيّ و لو كان ظنّيا عالما بالحكم، فيكون قاضيا متولّيا لمنصب القضاء، و يكون من شأنه الحكم، و من شأن الرعيّة القبول منه، إلّا أن يكون فاقدا لأحد الشروط المعتبرة فيه الآتية.

ثمَّ إنه هل يختصّ هذا الإذن العامّ لذلك العالم بحال الغيبة، أو يشمل حال الحضور أيضا، إمّا مطلقا أو مع عدم التمكّن للإمام؟

فيه وجهان، و لا فائدة لنا في التعرّض لتحقيقه.

المسألة الرابعة: المصرّح به في كلام أكثر الأصحاب أنّه يشترط في هذا العالم المأذون فيه أن يكون مستقلّا بأهليّة الفتوى
اشاره

- أي يكون علمه حاصلا بالاجتهاد- فلا ينفذ قضاء غيره و لو كان مطّلعا على فتوى المجتهدين الأحياء و مقلّدا لهم.

و نفى عنه الشكّ المحقّق الأردبيلي مع وجود المجتهد، و في الكفاية

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 23

أنّه لا أعرف فيه خلافا «1»، بل في المسالك و المعتمد لوالدي- قدّس سرّه-:

الإجماع عليه «2»، و يشعر به كلام بعض الأجلّة في شرح القواعد، حيث قال: و لا يكتفى عندنا بفتوى العلماء و تقليدهم فيها، بل لا بدّ من اجتهاده فيما يقتضي به، خلافا لبعض العامّة «3»، انتهى.

و حكى في التنقيح عن المبسوط أنّه نقل قولا بجواز قضاء المقلّد، قال في المبسوط في هذه المسألة ثلاثة مذاهب: الأول: جواز كونه عاميّا و يستفتي العلماء و يقضي بقولهم، إلى آخر ما قال. ثمَّ قال في التنقيح: و لم يصرّح- أي الشيخ- باختيار شي ء من المذاهب «4».

و استدلّ للمشهور، بالإجماع المنقول، و الأصل، و اشتراط الإذن و لم يثبت لغيره، لظهور اختصاص الإجماع به، و تضمّن

أخبار الإذن المتقدّمة للعلم و المعرفة المجازين في الظنّ.

مضافا إلى المتواترة الناهية عن العمل أو القول به أو بغير العلم، و المعتبرة للعلم في الفتوى، و لا يحصل لغير المجتهد سوى الظنّ غالبا، قيل:

بل و كذلك المجتهد، إلّا أنّ حجّية ظنّه مقطوع بها، فهو ظنّ مخصوص في حكم القطع، كسائر الظنون المخصوصة، و لا كذلك غيره.

أقول:

إن كان مرادهم نفي قضاء غير المجتهد الذي لم يقلّد حيّا أو ميّتا بتقليد حيّ يجوّز تقليد الميّت، بل يرجع إلى ظواهر الأخبار و كتب الفقهاء من غير قوّة الاجتهاد- كما هو ظاهر كلام بعض متأخّري

______________________________

(1) الكفاية: 262.

(2) المسالك 2: 351.

(3) كشف اللثام 2: 142.

(4) التنقيح 4: 234.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 24

المتأخّرين، حيث قال: و غير المجتهد لا دليل على حجّية ظنّه، قاطعا و لا ظنيّا، و لو سلّم الأخير فغايته، إثبات الظنّ بمثله، و هو غير جائز بإطباق العلماء «1». انتهى- فهو كذلك، و لا ينبغي الريب فيه.

و إن كان مرادهم نفي قضاء غير المجتهد مطلقا، حتى العادل المقلّد للحيّ في جميع جزئيّات الواقعة، أو للميّت بتقليد الحيّ، فبعد ما علمت من عدم حجّية الإجماع المنقول، و أنّ الظنّ المنتهي إلى العلم علم، يعلم ضعف تلك الأدلّة، لأنّ المقلّد إذا علم فتوى مجتهد في جميع تفاصيل واقعة حادثة بين متنازعين من مقلّديه و جزئياتها، يعلم حكم اللّه في حقّهما، لأنّ حكمه و لو كان مظنونا، و لكنّه معلوم الاعتبار و الحجّية بالنسبة إليهما، فذلك المقلّد عالم عارف بحكم الشارع «2» في حقّهما، فيكون مأذونا بالأخبار المتقدّمة، عالما بالحكم خارجا من تحت الأصل.

إلّا أن يتحقّق الإجماع على خلافه، و هو غير متحقّق، كيف؟! و كلمات أكثر القدماء

خالية عن ذكر المجتهد أو ما يرادفه.

و عبّر كثير منهم بالفقيه المحتمل صدقه- سيّما في الصدر الأول- على من أخذ برهة من المسائل و لو تقليدا، كما صرّح به والدي العلّامة- قدس سرّه- في تجريد الأصول و أنيس المجتهدين، و لذا قوّى بعض علمائنا المعاصرين في أجوبة سؤالاته جواز المرافعة إلى العالم العادل المطّلع بجميع المسائل الدقيقة المتعلّقة بواقعة تقليدا، و نسب عدم الجواز إلى المشهور «3».

______________________________

(1) الرياض 2: 386.

(2) في «ق»، «س»: المتنازع.

(3) جامع الشتات: 676.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 25

و قد يوجّه جواز تقليد القاضي أيضا بحسنة هشام: «لمّا ولّى أمير المؤمنين عليه السّلام شريحا القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرض عليه» «1».

و هو إنما يحسن لو لم تكن توليته إيّاه تقيّة كما هو الظاهر.

و بذلك و إن ظهر ضعف الأدلّة المذكورة لهم، إلّا أنّه يمكن أن يقال:

إنّ أكثر تلك الأخبار و إن كان مطلقا شاملا للمقلّد المذكور أيضا، إلّا أن قوله عليه السّلام في المقبولة: «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا» إلى آخره، و في التوقيع: «فارجعوا إلى رواه أحاديثنا» مقيّد بالمجتهد، إذ الظاهر المتبادر منه: الراوي للحديث، المستنبط المستخرج منه الأحكام على الطريق الذي ارتضاه الشارع و أمر به، لا مطلقا.

و يعلم من ذلك احتمال اختصاص مرسلة الفقيه المتقدّمة بالمجتهدين في الأحكام أيضا، بل و كذا الرضوي، لعدم معلوميّة صدق الفقيه على مطلق العالم و لو تقليدا.

و يدلّ على التخصيص أيضا المرويّ في مصباح الشريعة، المنجبر ضعفه بما ذكر: أنّه قال أمير المؤمنين عليه السّلام لقاض: «هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟» قال: لا، قال: «فهل أشرفت على مراد اللّه عزّ و جلّ في أمثال

القران؟» قال: لا، قال: «إذن هلكت و أهلكت. و المفتي محتاج إلى معرفة القرآن، و حقائق السنن، و بواطن الإشارات، و الآداب، و الإجماع، و الاختلاف، و الاطّلاع على أصول ما أجمعوا عليه و ما اختلفوا فيه، ثمَّ حسن الاختيار، ثمَّ العمل الصالح، ثمَّ الحكمة، ثمَّ التقوى، ثمَّ حينئذ إن

______________________________

(1) الكافي 7: 407- 3، التهذيب 6: 217- 510، الوسائل 27: 16 أبواب صفات القاضي ب 3 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 26

قدر» «1».

قال عليه السّلام: «لا تحلّ الفتيا لمن لا يستفتي من اللّه عزّ و جلّ بصفاء سرّه، و إخلاص عمله و علانيته، و برهان من ربّه في كلّ حال، لأنّ من أفتى فقد حكم، و الحكم لا يصحّ إلّا بإذن من اللّه» «2».

و بتلك الأخبار يجب تقييد إطلاق بعض آخر.

و علم من ذلك صحّة ما هو المشهور من عدم جواز تولّي القضاء لغير المجتهد.

و هل يجوز له التولّي من جانب المجتهد و بإذنه الخاص؟

ربّما يحكى عن بعض الفضلاء المعاصرين «3» جوازه، و لم أتحقّقه و لم أره في كتابه «4»، و لا أرى له وجها أصلا. و يمكن أن يكون ذلك لفتواه المتقدّمة بجواز المرافعة إلى المقلّد العادل العالم بمسائل الواقعة «5».

و توقيفه على الإذن لمعرفة العادل المطّلع.

و توهّم أنّ عموم الولاية فيما للإمام فيه الولاية ثابت للمجتهد، و منها:

الإذن الخاص في القضاء.

مدفوع بأنّ للإمام الإذن للأهل و القابل، فالجواز للمجتهد أيضا يكون مقصورا على من له الأهليّة، و هي لغير المجتهد غير ثابتة، و من ثبتت له لا يحتاج إلى النائب، لثبوت الإذن له عن المنوب عنه.

نعم، لا يبعد جواز حكم مقلّد عادل عالم بجميع أحكام الواقعة

______________________________

(1) مصباح الشريعة: 355،

بتفاوت يسير.

(2) مصباح الشريعة: 351.

(3) أراد به المحقّق القمي.

(4) كتاب القضاء المطبوع في ضمن غنائم الأيّام و جامع الشتات.

(5) تقدمت في ص: 24.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 27

الخاصّة فعلا، أو بعد السؤال في تلك الواقعة الخاصّة، بعد إذن المجتهد له في خصوص تلك الواقعة، بعد رجوع المدّعي أو المتخاصمين فيها إلى المجتهد، لأنّ التحاكم و الترافع و الرجوع في الواقعة إنّما وقع عند المجتهد- كما هو المأمور به في المقبولة و التوقيع- و المجتهد أمر بأن يفتش مقلّده عن حقيقة الواقعة و يحكم.

و التحذير الوارد في رواية مصباح الشريعة إنّما هو لقاض خاص، فلعلّه لم يكن مأذونا من أهل في خصوص الواقعة، كما هو الظاهر.

و كذا لا يشمله التحذير الوارد في رواية إسحاق بن عمّار و صحيحة سليمان بن خالد المتقدّمتين، لأنّ الظاهر ورودهما في حقّ من اتّخذ ذلك منصبا، لا من يحكم في خصوص واقعة، بل يمكن أن نقول: الحكم حقيقة من المجتهد، و الواسطة كالآلة.

و الحاصل: أنّ هنا أمورا أربعة مخالفة للأصل:

الأول: التحاكم و الترافع و الرجوع من المتخاصمين بنفسهما.

الثاني: جواز حكم هذا المقلّد بما يعلم.

الثالث: نفوذ حكمه و وجوب اتّباعه.

الرابع: جواز أمر المجتهد هذا المقلّد بالحكم و بترافع المترافعين إليه.

و الأول: لم يقع بالنسبة إلى المقلّد، لأنّهما بنفسهما لم يرجعا إليه، و إنّما ترافعا عند المجتهد كما هو المأمور به لهما.

و الثاني: لا نهي فيه، بل صرّح بجوازه- بل ترتّب الأجر عليه- في مرفوعة البرقي المتقدّمة و رواية الغوالي.

و الثالث: يثبت بثبوت وجوب اتّباع كلّ ما حكم به المجتهد بعد الترافع إليه، فإنّه قد حكم بقبول حكم هذا المقلّد، فهو حقيقة نفوذ لحكم

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 28

المجتهد

و اتّباع له.

و تدلّ عليه أيضا رواية الغوالي، بل هي تدلّ على نفوذ الحكم و جواز المحاكمة عنده بدون إذن المجتهد أيضا، إلّا أنّها لضعفها الخالي عن الجابر المعلوم- مضافا إلى أعمّيتها من المقبولة و التوقيع- يمنع من العمل بمضمونها وحدها.

و الرابع: ظاهر بعد ثبوت جواز حكمه و عدم وجود نهي فيه.

و يمكن أن يكون بناء الأصحاب- في مسألة إحضار «1» الخصم، و قولهم كما يأتي في بعض الصور: يبعث الحاكم من يحكم بين الخصمين- على ذلك.

و يمكن أن يكون مرادهم: بعث مجتهد آخر، حيث إنّه لمّا ترافع الخصمان إليه يكون هو الأصل.

و يمكن ان يكون مرادهم: القاضي الخاصّ، المنصوب من الإمام، المأذون في الاستنابة، فتأمّل.

فرع:

قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ المحرّم لغير المجتهد هو الحكم بغير ما أنزل اللّه أو بما أنزل اللّه- أي بفتوى مجتهده- بدون إذن المجتهد مع إلزامه المترافعين بما حكم، لكونه إلزاما من غير لزوم، و لكونه إعانة على معصية المترافعين.

و أمّا قوله لهما- بدون إذن المجتهد بعد سماع حكايتهما، من غير قصدهما الترافع إليه، أو قصده جريان الحكم عليه «2»-: على فلان المدّعي البيّنة مثلا، أو على هذا المنكر اليمين- يعني: أنّ القاضي يحكم بذلك إذا ترافعتما إليه، من غير حكم لهما بذلك- فلا بأس به.

______________________________

(1) في «ق»، «س»: إجبار.

(2) يعني: أو من غير قصد المقلد جريان الحكم على المدعي أو المنكر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 29

بل و كذا لو قال: عليك البيّنة و عليك الحلف، من غير أن يقصد إلزامهما و إجراء حكمه، أو رفع تخاصمهما بذلك الحكم، أو سماع البيّنة، أو الإحلاف.

بل لو قيل له: أحلف أو استمع البيّنة، يقول: ليس هذا من شأني و

لا بدّ من الرّجوع إلى الحاكم، بل لو سمع البيّنة أيضا لا يقصد الحكم بل الاطلاع بالحال.

فإنّه لا دليل على حرمة شي ء من ذلك، و الأصل عدمها، فإنّ هذا ليس حكومة و جلوسا مجلس القضاء، و لا قضاء، و لا ترافعا إليه.

المسألة الخامسة: هل يشترط في المجتهد الذي ينفذ قضاؤه

أو قضاء مقلّده المأذون منه- لو قيل بجوازه- كونه مجتهدا مطلقا، أم يكفي المتجزّي؟

و هذا البحث ساقط على ما اخترناه من عدم إمكان التجزّي في الملكة، لأنّهم إن أرادوا التجزّي بذلك المعنى فهو غير ممكن، و إن أرادوا التجزّي الفعلي فبطلان اشتراط عدمه بديهيّ واضح، لعدم إمكان الاجتهاد الفعليّ المطلق، و عدم تحقّقه.

نعم، يتأتّى هذا الخلاف على القول بتجزّي الاجتهاد بمعنى الملكة، و قد وقع الخلاف فيه عليه. و صرّح بعضهم بكفاية التجزّي، و هو الظاهر من الفاضل في التحرير، حيث شرط في القاضي الاجتهاد، و ذكر شرائطه ثمَّ قال: و هل يتجزّى الاجتهاد أم لا؟ الأقرب: نعم، و احتجّ له برواية أبي خديجة «1» «2».

______________________________

(1) الكافي 7: 412- 4، الفقيه 3: 1- 1، الوسائل 27: 13 أبواب صفات القاضي ب 1 ح 5.

(2) التحرير 2: 180.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 30

و الحمل- على إرادة جواز التجزّي في الاجتهاد دون كفايته في القضاء- بعيد، بل يمنعه احتجاجه، و قوله بعد ذكر الرواية: نعم، يشترط أن يكون عارفا بجميع ما وليه.

و هذا هو الظاهر من القواعد و الدروس أيضا، بل هو ظاهر النافع و الشرائع أيضا «1».

و حمل قوله في الأخير: و لا بدّ أن يكون عالما بجميع ما وليه، على الاجتهاد المطلق، كما في المسالك «2»، لا وجه له.

و نسب في الكفاية إلى المشهور «3» و والدي إلى الأشهر: اشتراط المطلق،

و عدم كفاية التجزّي، و جزم الأول به مع تيسّر المطلق، و نفي البعد عن الاكتفاء بالمتجزّي مع فقده، و صرّح الثاني بالتفصيل، فجوّز مع فقد المطلق، و منع مع تيسّره.

و الحقّ هو: الأول، لأنّ المراد المتجزّي، من قدر على استنباط برهة من الأحكام، جامعا لجميع شرائط الاجتهاد فيها، من ردّها إلى مئاخذها المعلوم اعتبارها و حجّيتها عنده بالدليل القطعي، العالم بعدم توقّفها على غيرها، أو ظانّا له ظنّا ثبت عنده اعتباره، إذ لو لم يعلم اعتبار المأخذ و اكتفى فيه بالظنّ، أو ظنّ عدم التوقّف و لم تثبت عنده حجّية هذا الظنّ، لا يجوز عمله اتّفاقا، لامتناع إثبات الظنّ بالظنّ، فلا بدّ من كون ظنّه منتهيا إلى العلم الموجب لقطعه بالحكم كما مرّ، فيكون الحكم معلوما له، فتشمله صحيحتا أبي خديجة، و كذا يشمله التوقيع، و لا مخصّص لهما سوى بعض

______________________________

(1) القواعد 2: 201، الدروس 2: 66، النافع 2: 279، الشرائع 4: 67.

(2) المسالك 2: 351.

(3) الكفاية: 262.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 31

ما استدلّ به للقول الآخر، كما يأتي مع جوابه.

و جعله من باب إثبات الظنّ بالظنّ من الغرائب، لأنّ المتجزّي لا يثبت حجّية ظنّه به، بل يجعل ظنّه علما بما دلّ على حجّية الظنّ الفلاني- كالظنّ الخبريّ مثلا- له، ثمَّ بعد ذلك و بعد إثبات حجّية الأخبار- التي منها هذا الخبر- له بالدليل العلمي يستدلّ بهاتين الصحيحتين على حصول الإذن له في القضاء.

و لو فرض عدم ثبوت حجيّة ظنّ له علما فلا يقول أحد بحجّية ظنّه له، و كذا لو ثبت ذلك و لكن لم تثبت عنده حجّية هاتين الصحيحتين.

احتجّ لاشتراط المطلق مطلقا بوجوه:

منها:

ما ذكره في الكفاية من أنّ معرفة الأحكام

من الأحاديث يتوقّف في بعض الأحيان على العرض على القرآن، و على مذاهب العامّة و الخاصّة، و العلوم المعتبرة في الاجتهاد، فيقتضي الاجتهاد المطلق «1».

و فيه: أنّ كون هذا اجتهادا مطلقا ممنوع، مع أنّ المفروض إنّما هو إذا علم ما يتوقّف عليه الحكم جميعا، و علم عدم توقّفه على غير ذلك.

و منها:

المقبولة المتضمّنة للجمع المضاف، المفيد للعموم، و به تخصّص الصحيحتان أيضا، لكونها أخصّ مطلقا منهما.

و فيه: أنّ العلم حقيقة في المعرفة الفعليّة، و تحقّقها بالنسبة إلى جميع الأحكام غير ميسّر، و اشتراطها خلاف الإجماع. و الحمل على قوّة المعرفة مجاز، كما أنّ إرادة البعض من الجمع المضاف أيضا مجاز، و لا مرجّح لأحدهما، فلا يعلم المخصّص.

______________________________

(1) كفاية الأحكام: 261.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 32

و منها:

ما قيل من أنّ الدليل على حجّية ظنّ المجتهد هو الإجماع، و الدليل العقليّ المركّب من بقاء التكليف، و انسداد باب العلم، و انتفاء التكليف بما لا يطاق، المنتج لوجوب العمل بالظنّ.

و شي ء منهما لا يجري في المتجزّي، أمّا الإجماع فلاختصاصه بالمجتهد المطلق.

و أمّا الدليل العقلي، فلعدم صحّة دعواه انسداد باب العلم بالنسبة إليه، لاحتمال ظهور خلاف ظنّه، و كذا دعواه التكليف بما لا يطاق في حقّه، إذ في وسعه تحصيل المعرفة بكلّ المدارك «1».

أقول:

دعوى انحصار الدليل فيهما واهية، فإنّ لحجّية كلّ من الأدلة الظنّية- كالخبر و الاستصحاب و الكتاب و غيرها- أدلّة منتهية إلى القطع، بالواسطة أو بدونها، و لا ينحصر دليلها في أنّها تفيد الظنّ و الظنّ حجّة بالإجماع.

على أنّ الإجماع لو كان دليلا لم يثبت حجّية ظنّ المجتهد المطلق بما يفيد شيئا في هذا الباب، لأنّ القدر الثابت من الإجماع هو حجّية ظنّه في الجملة،

و أمّا أنّه أي قدر و على أيّ حال فلا، بل لا يوجد لظنّه المجمع على اعتباره مصداق، فإنّ من ظنونه ما يحصل من القياس أو الشهرة أو الإجماع المنقول أو الخبر أو غيرهما، و في كلّ منها خلاف.

و عدم تخطئتهم للعامل بها إذا قال بحجّيتها لا يجعله إجماعيّا، كما في سائر المسائل الخلافيّة.

و أمّا ما ذكره في عدم جريان الدليل العقليّ في ظنّ المتجزّي لما مرّ،

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 386.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 33

ففيه: أنّ درك انسداد باب العلم في مسألة لا يتوقّف على القدرة على استنباط جميع الأحكام من مئاخذها لو سلّمنا توقّفه على الإحاطة الإجماليّة بجميع المدارك.

و كذا لا مدخليّة لتلك القدرة في درك حكم كلّ مسألة حتى يمنع إمكان تحصيلها عن التكليف بما لا يطاق.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ المقدّمات الثلاث لا تنتج للمتجزّي وجوب العمل بالظنّ، لإمكان أن يكون حكمه تقليد المجتهد المطلق. و لكن مثل هذا وارد في المطلق أيضا، لإمكان أن يكون حكمه الاحتياط على أنّ الثابت منه- لو سلّم- حجّية الظنّ في الجملة، و هو لا يفيد له شيئا.

ثمَّ بما ذكرنا يظهر وجه التفصّي عن الإيراد بجواز قضاء المقلّد المأذون لو قيل بمثل ذلك. على أنّ الإجماع على حجّية ظنّ المقلّد الحاصل من فتوى مجتهده منعقد.

احتجّ من فصّل بين وجود المطلق و عدمه بما دلّ على تقديم الأعلم.

و فيه منع كلّ من الصغرى و الكبرى، كما يظهر وجهه ممّا يأتي في مسألة وجوب تقديم الأعلم.

ثمَّ لا يخفى أنّ مرادنا من المتجزّي الجائز قضاؤه ليس مطلق من يعلم قضيّة في واقعة و لو بإجماع أو ضرورة، بل من أخذ برهة جمّة من الأحكام من مأخذها،

لما يدلّ على التخصيص برواة أحاديثنا، و بمن نظر في حلالنا و حرامنا، بل قوله في إحدى الصحيحتين: «حلالنا و حرامنا» دالّ على ذلك، و بذلك يخصّص إطلاق الصحيحة الأخرى.

المسألة السادسة: تشترط فيه أيضا- مضافا إلى ما ذكر- أمور:
منها: التكليف، بالبلوغ و العقل

، بالإجماع و الاعتبار فيهما، مضافا في

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 34

الأول إلى التصريح بالرجل في الصحيحتين، المخصّص لغيرهما ممّا ظاهره العموم، مع أنّ المتبادر من الجميع البالغ العاقل.

و منها: الإيمان

، للإجماع أيضا، و قوله عليه السّلام «منكم» في إحدى الصحيحتين و في المقبولة، و ما ورد في بعض الأخبار من أخذ معالم الدين من الشيعة «1».

و قد يستدلّ أيضا له بوجوه مدخولة، و إن كانت للتأييد صالحة.

و منها: العدالة

، لما مرّ من الإجماع، و لآية النبإ، و للمرويّ في الخصال: «فاتّقوا الفاسق من العلماء» «2».

و المرويّين في مصباح الشريعة المتقدّمين في المسألة الرابعة «3».

و في تفسير الإمام عليه السّلام في حديث طويل: «و كذلك عوام أمّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، و العصبيّة الشديدة، و التكالب على حطام الدنيا و حرامها، و إهلاك من يتعصّبون عليه و إن كان لإصلاح أمره مستحقّا، و بالترفرف بالبرّ و الإحسان على من تعصّبوا له و إن كان للإذلال و الإهانة مستحقّا، فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء، فهم مثل اليهود الذين ذمّهم اللّه تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم. فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه، و ذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم. فأمّا من ركب من القبائح و الفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا و لا كرامة» الحديث «4».

و المرويّ في التحرير عن عليّ عليه السّلام أنه قال: «لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيا حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان

______________________________

(1) رجال الكشي 1: 7- 4، الوسائل 27: 150 أبواب صفات القاضي ب 11 ح 42.

(2) الخصال 1: 69- 103.

(3) في ص: 25.

(4) تفسير الحسن العسكري عليه السّلام: 299- 143، الوسائل 27: 131 أبواب صفات القاضي ب 10 ح 20.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص:

35

قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في اللّه لومة لائم» «1»، و الضعف فيها غير ضائر، لما مرّ غير مرّة.

و تؤيّده آية الركون «2»، و صحيحة سليمان المتقدّمة في المسألة الثانية «3»، و عدم حصول الأمن بدونها في بذل الجهد و عدم الكذب، و اشتراطها في الشهادة التي هي من فروع القضاء، سيّما مع وجود العلّة الموجبة لاشتراطها فيه بطريق أولى.

و منها: العلم الفعلي بجميع أحكام الواقعة

، و الوجه فيه ظاهر.

و منها: الذكورة

، بالإجماع كما في المسالك و نهج الحقّ و معتمد الشيعة «4» و غيرها «5».

و استشكل بعضهم في اشتراطه، و هو ضعيف، لاختصاص الصحيحتين بالرجل، فيخصّص بهما غيرهما ممّا يعمّ.

و تدلّ عليه مرسلة الفقيه: «يا معاشر الناس، لا تطيعوا النساء على حال، و لا تأمنوهنّ على مال» «6».

و روايات أبناء نباتة «7» و أبي المقدام «8» و كثير «9»: «لا تملك المرأة من

______________________________

(1) التحرير 2: 180.

(2) هود: 113.

(3) في ص: 16.

(4) المسالك 2: 351، نهج الحق: 562.

(5) انظر المفاتيح 3: 246، و كشف اللثام 2: 322، و الرياض 2: 385.

(6) الفقيه 3: 361- 1713، الوسائل 20: 180 أبواب مقدمات النكاح ب 94 ح 7.

(7) الكافي 5: 510- 3، الوسائل 20: 169 أبواب مقدمات النكاح ب 87 ح 2.

(8) الكافي 5: 510- 3، نهج البلاغة (محمد عبده) 3: 63، الوسائل 20: 168 أبواب مقدمات النكاح ب 87 ح 1.

(9) الكافي 5: 510- 3، الوسائل 20: 168 أبواب مقدمات النكاح ب 87 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 36

الأمر ما يجاوز نفسها».

و رواية الحسين بن المختار: «اتّقوا شرار النساء، و كونوا من خيارهنّ على حذر، و إن أمرنكم فخالفوهنّ، كيلا يطمعن منكم في المنكر» «1»، و تقربها مرسلتا المطّلب بن زياد «2» و عمرو بن عثمان «3».

و رواية حمّاد بن عمرو الطويلة، و فيها: «يا عليّ، ليس على النساء جمعة و لا جماعة» إلى أن قال: «و لا تولّى القضاء» «4».

و رواية جابر عن الباقر عليه السّلام: «و لا تولى المرأة القضاء و لا تولّى الإمارة» «5».

و في خبر آخر: «لا يصلح قوم ولتهم امرأة» «6».

و منها: العلم بالكتابة قراءة و كتبة

، شرطه الشيخ و الحلّي «7»، و نسبه في

المسالك و الروضة «8» و غيرهما «9» إلى الأكثر، و جعله في السرائر من مقتضيات المذهب، و قيل: إنّه مذهب عامّة المتأخّرين «10».

______________________________

(1) الكافي 5: 517- 5، الوسائل 20: 179 أبواب مقدمات النكاح ب 94 ح 2، و فيها: و إن أمرنكم بالمعروف ..

(2) الكافي 5: 517- 7، نهج البلاغة 1: 125، الوسائل 20: 179 أبواب مقدمات النكاح ب 94 ح 3.

(3) الكافي 5: 518- 12، الوسائل 20: 179 أبواب مقدمات النكاح ب 94 ح 5.

(4) الفقيه 4: 263- 823، الوسائل 27: 16 أبواب صفات القاضي ب 2 ح 1.

(5) الخصال 2: 585- 12، الوسائل 20: 220 أبواب مقدمات النكاح ب 123 ح 1.

(6) مسند أحمد 5: 43، سنن البيهقي 10: 118.

(7) الشيخ في المبسوط 8: 120، و الحلي في السرائر 2: 166.

(8) المسالك 2: 351، الروضة 3: 68.

(9) كالرياض 2: 386.

(10) كما في الرياض 2: 386.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 37

و ظاهر النافع و القواعد الخلاف فيه «1»، بل نسبه في التنقيح إلى قوم «2».

و نقل في شرح المفاتيح عن الفاضل و جماعة احتمال العدم.

و صريح المحقّق الأردبيلي و الكفاية التردّد «3».

و نفى اشتراطه والدي العلّامة في معتمد الشيعة، و هو المعتمد، للأصل، و الإطلاق.

و دعوى اختصاص المرخّصات في القضاء بحكم التبادر بعارفي الكتابة ممنوعة.

و استدلّ المشترطون باعتبارات ضعيفة، عمدتها: توقّف الضبط عليها غالبا، و فيه المنع.

نعم، لا يبعد ادّعاء توقّف العلم بالأحكام في نحو هذه الأزمنة بالنسبة إلى قراءة الكتابة، فلو قيل باشتراطها فيه بالنسبة إلى غير المأذون بخصوصه من المجتهد- لو قلنا بجواز قضائه- لم يكن بعيدا.

و منها: البصر

، قال باشتراطه الشيخ و الإسكافي و ابن سعيد و القاضي و المحقّق

و الفاضل في القواعد و ولده «4»، و نسبه في الروضة و الكفاية إلى الأكثر و إن نفاه الثاني «5».

______________________________

(1) المختصر النافع: 279، القواعد 2: 201.

(2) التنقيح 4: 236.

(3) الكفاية: 262.

(4) الشيخ في المبسوط 8: 101، و ابن سعيد في الجامع للشرائع: 522، و القاضي في المهذب 2: 598، و المحقّق في الشرائع 4: 68، و الفاضل في القواعد 2:

201، و ولده في الإيضاح 4: 298.

(5) الروضة 3: 67، الكفاية: 262.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 38

و استشكل في التحرير «1». و نفاه في معتمد الشيعة، و هو الأصحّ، لما مرّ.

و منها: السمع و اللسان

، شرطهما جماعة «2»، و الحقّ: العدم، لما سبق.

و منها: الحرّية

، ذهب إلى الاشتراط الشيخ و القاضي و ابن سعيد و الكيدري و الفاضل و الشهيد «3»، و هو ظاهر ابن حمزة «4»، و نسبه في المسالك و الروضة إلى الأكثر «5».

و اختار المحقّق العدم «6»، و استقر به في الكفاية «7»، و هو الأظهر إذا أذن له المولى.

و منها: طهارة المولد و النطق و غلبة الذكر

، شرطها جماعة، بل في الروضة و معتمد الشيعة الإجماع على الأول، و نفى الخلاف في الثانيين «8»، و الأصل ينفي ما لم يثبت فيه إجماع.

المسألة السابعة: إذا فقد الجامع للشرائط
اشاره

، أو تعسّر الوصول إليه، أو لم ينفذ قضاؤه مطلقا، أو على خصوص المدّعى عليه، أو لم يمكن إثبات الحقّ عنده، فهل يجوز الترافع إلى غيره؟

______________________________

(1) التحرير 2: 179.

(2) كالعلّامة و ولده كما في الإيضاح 4: 299.

(3) الشيخ في المبسوط 8: 101، و القاضي في المهذب 2: 599، و الفاضل في القواعد 2: 201، و الشهيد في الدروس 2: 65.

(4) الوسيلة: 209.

(5) المسالك 2: 351، الروضة 3: 67.

(6) الشرائع 4: 68.

(7) الكفاية: 262.

(8) الروضة 3: 62.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 39

ظاهر الأكثر: العدم، و في الروضة الإجماع عليه «1».

و نقل الأردبيلي قولا منسوبا إلى ابن فهد بجوازه في الصورة الاولى، و قال: إنّه وجده في حاشية الدروس منقولا عن الشيخ حسين بن حسام.

و وجدت إنا أيضا في حاشية نسخة منه منسوبة إلى مسائل ابن طيّ نسبة هذا القول إلى ابن فهد، و إلى الشهيد في الحواشي، و اختاره نفسه.

و استقربه بعض المعاصرين «2»، و جوّزه الشهيد الثاني في المسالك «3»، و والدي في معتمد الشيعة لو توقّف حصول الحقّ عليه، و ظاهرهما الشمول للصور الأربع.

استدلّوا على الجواز بلزوم تعطيل الأحكام لولاه، و بنفي العسر و الحرج.

و في صورة توقّف وصول الحقّ مطلقا بمفهوم صحيحة أبي بصير:

«أيّما رجل كان بينه و بين أخ له مماراة في حقّ، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه و بينه، فأبى إلّا أن يرافعه إلى هؤلاء، كان بمنزلة الذين قال اللّه عزّ و جلّ أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا

.. «4»» «5».

و إطلاق نفي الضرر، سيّما مع إطلاق رواية البرقي المتقدّمة «6».

و استشكل فيه: بأنّه إعانة على الإثم، و هي محرّمة.

______________________________

(1) الروضة 3: 68.

(2) المحقّق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام: 674).

(3) المسالك 2: 352.

(4) النساء: 60.

(5) الكافي 7: 411- 2، الفقيه 3: 3- 5، التهذيب 6: 220- 519، الوسائل 27:

11 أبواب صفات القاضي ب 1 ح 2.

(6) في ص: 8.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 40

و ردّ بمعارضة أدلّة حرمة الإعانة مع أدلّة نفي الضرر، فتتساقطان، فيرجع إلى الأصل.

و قد يستدلّ للمنع أيضا بمنطوق الصحيحة المذكورة، و بالروايات الناهية عن الترافع إلى القضاة أو قضاة الجور و الظلم، كصحيحة ابن سنان:

«أيّما مؤمن قدّم مؤمنا في خصومة إلى قاض أو سلطان جائر فقضى عليه بغير حكم اللّه فقد شرّكه في الإثم» «1».

أقول:

لا يخفى ما في كتب الأصحاب في أصل المسألة و استدلالهم و جوابهم من الإجمال و المسامحة و القصور.

و بيان ذلك: أنّ الكلام إمّا في تكليف المترافعين و ما يجوز لهم أو لا يجوز.

أو تكليف من يترافعان أو أحدهما إليه من غير الأهل حينئذ.

أو تكليف سائر الناس- من الحكّام الذين يأتون بعدهم، أو أهل الاقتدار على إجراء الحكم و ردّه- في ردّ حكم غير الأهل و إجرائه حينئذ.

أو في حال الحقّ الذي حكم غير الأهل حينئذ لأحدهما إثباتا أو نفيا.

ثمَّ على التقادير الأربعة، إمّا يكون مفروض المسألة ما إذا لم يمكن الترافع إلى الأهل، لفقده، أو عسر الوصول إليه.

أو ما إذا لم يمكن التوصّل إلى الحقّ بالترافع إليه، إمّا لعدم نفوذ حكمه، أو لعدم إمكان إثبات الحقّ عنده.

و على التقادير، إمّا يكون نزاع المترافعين للجهل بحكم المسألة، كما إذا اجتمع جدّ و

أخ في الميراث، و طلب كلّ منهما الكلّ زعما منه أنّه

______________________________

(1) الكافي 7: 411- 1، الفقيه 3: 3- 4، التهذيب 6: 218- 515، الوسائل 27:

11 أبواب صفات القاضي ب 1 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 41

كذلك.

أو يكون لاختلاف العلماء في المسألة، كما إذا تنازع الولد الأكبر مع غيره في الحبوة مجّانا أو غير مجّان، أو الزوجة مع الولد في الإرث من الأراضي و عدمه، أو الأب مع البنت البالغة في ولاية العقد و نحوها.

أو يكون لأجل عدم علم المدّعى عليه بالحقّ المدّعى، كما إذا ادّعى أحد حقّا على مورّث الآخر و أجاب هو بعدم العلم، أو عليه بعينه و قال:

لا أدري، أو شيئا في يده بأنه مسروق منّي، و نحو ذلك، أو يكون لإنكار المدّعى عليه الحقّ.

و على جميع تلك التقادير: إمّا يكون عدم أهليّة غير الأهل الذي يترافعان إليه حينئذ لكونه جاهلا، أي لعدم اجتهاده و لا تقليده في المسألة.

أو يكون لعدم كونه مجتهدا مع علمه بحكم المسألة تقليدا لمجتهد حيّ يتعسّر الوصول إليه، أو لكونه فاسقا، أو لفقد شرط آخر من شرائط القضاء كالبلوغ أو الذكورة أو البصر- على القول باشتراطه- و نحو ذلك.

و على التقادير: إمّا يكون ذلك الذي لا يتأهّل للقضاء جالسا مجلس الحكم تغلّبا و جورا.

أو لا، بل يكون هناك شخص لا يتولّى القضاء فيريدون أن يترافعوا إليه.

و هذه صور كثيرة تتجاوز عن المائة بل المائتين، و الأدلّة التي ذكروها للجواز على فرض تماميّتها لا تجري إلّا في أقلّ قليل من تلك الصور، فلا تفيد لحكم الكلّية.

و التحقيق:

أنّ ما يجوز الاستناد إليه في ذلك المقام ليس إلّا دليل نفي الضرر، و جواز التوصّل إلى الحقّ بكلّ ما

أمكن لانتفاء الضرر أيضا. و هو

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 42

لا يجري في تلك الصور، إلّا في جواز ترافع من يعلم يقينا حقّه ثابتا، و لا يمكنه التوصّل إلّا بذلك، فيجوز له الترافع إلى غير الأهل لنفي الضرر الخالي عن المعارض بالمرّة.

إذ ليس سوى مثل صحيحة ابن سنان المتقدّمة «1». و هي مخصوصة بما إذا حكم بغير حكم اللّه، و المفروض أنّ المدّعي يعلم ثبوت حقّه.

و مثل المقبولة الناهية عن التحاكم إلى السلطان و القضاة، و أنّ ما يحكم به له سحت و لو كان حقّا، فإنّ فيها: عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان، أو إلى القضاة، أ يحلّ ذلك؟ قال: «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، و ما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا و إن كان حقّا ثابتا له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، و قد أمر اللّه أن يكفر به، قال اللّه تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ » قلت: فكيف يصنعان؟ قال:

«ينظران من كان منكم» الحديث «2».

و هي- مع اختصاصها بمثل السلطان و المتولّين لمنصب القضاء بغير حقّ- ظاهرة في صورة إمكان الرجوع إلى الأهل و التوصّل به إلى الحقّ، فتبقى صورة العدم و الرجوع إلى غير السلطان و القضاة تحت إطلاق نفي الضرر بلا معارض، بل و كذلك الرجوع إلى السلطان و القضاة، كما يأتي.

و مثل الصحيحة و المقبولة الآمرة بالرجوع إلى الأهل. و اختصاصها أيضا بصورة الإمكان واضح.

فلا يكون لأدلّة نفي الضرر معارض، إلّا في صورة عدم علم المترافع

______________________________

(1) في ص: 40.

(2) الكافي 1: 67- 10، و ج 7: 412- 5، التهذيب

6: 218- 514 و 301- 845، الوسائل 27: 136 أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 43

إليه بالحقّ للمدّعي، و حكم بالظنون التي لم يثبت اعتبارها في حقّه، كالبيّنة الغير المفيدة للعلم أو الإحلاف، أو ردّ الحلف، أو الاستصحاب، أو نحوها، فإنّه تعارضها حينئذ أدلّة حرمة المعاونة على الإثم، و لكنّهما يتساقطان، فيبقى أصل الجواز خاليا عن المعارض، و لكنّ الثابت منه ليس إلّا الجواز للمدّعي العالم بالحقّ.

و أمّا المترافع إليه، فلا يجوز له قبول المحاكمة أصلا، إلّا إذا علم هو أيضا ثبوت الحقّ له علما واقعيّا، لا بمثل البيّنة و الإحلاف، لأنّه ما لم يعلم واقعا ثبوت الحقّ له لا يعلم ضررا عليه، و لا منكرا من المدّعى عليه، حتى تجري في حقّه أدلّة نفي الضرر، أو وجوب النهي عن المنكر، فلا يجوز له الحكم بالظنون التي تجوز للأهل كالبيّنة و الاستصحاب و اليمين و نحوها.

نعم، لو علم ذلك يجوز له من باب النهي عن المنكر أيضا، كجواز ترافع المدّعي.

و يحلّ للمدّعي العالم بالحقّ أخذ ما أخذ بحكمه، و لكن لا يثبت حينئذ قضاء شرعيّا يجب على سائر الحكّام بعده إنفاذه، و لا على المقتدرين على الإجراء إجراءه، لأنّهم أيضا لو علموا بالحقّ كعلمه لكان واجبا على أنفسهم من باب النهي عن المنكر، و إن لم يعلموا فمن أين يعلمون حقّية حكمه، و جريان أدلّة نفي الضرر و النهي عن المنكر في حقّه حتى يجب عليهم إنفاذه؟! بل يكون مثل ما إذا كان مال من مورّث عند شخص و سمع ذلك الشخص وحده إقرار المورّث بأنّه مال زيد، فإنّه يجوز له إعطاؤه إيّاه، و لكن لو ادّعى الوارث

عليه تسمع دعواه، و لا يجب على الحكّام قبول قوله.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 44

و ظهر من ذلك أنّ الجائز من تلك الصور المتكثّرة هذه الصورة فقط، فإنّها جائزة حتى بالرجوع إلى السلاطين الجبابرة و قضاة الجور.

و المقبولة المتقدّمة و إن كانت من جهة التعليل المذكور فيها عامّة لصورة إمكان الأهل و عدمه، و لكن تعارضها أدلّة نفي الضرر بالعموم من وجه، فيرجع إلى أصل الجواز.

و يمكن إخراج صورة أخرى أيضا بأدلّة وجوب النهي عن المنكر، و هو: ما إذا كان مجتهد حيّ واحد تعذّر أو تعسّر الوصول إليه، أو مجتهدان أو أكثر كذلك، متّفقان في المسألة المتنازع فيها، و كانت المسألة ممّا يجب بناء الأمر على التقليد فيها، فيجوز للمقلّد العادل العالم برأي المجتهد الحيّ الحكم بمقتضى فتواه من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

كما إذا تحقّق عشرة أرضعه بين صبيّ و صبيّة، ثمَّ تزوّج الصبيّ بالصبيّة بعد البلوغ، ثمَّ تنازعا، و كان المجتهد أو المجتهدون الأحياء المتعسّر الوصول إليهم متّفقين في نشر الحرمة بالعشر و عدمه. و كذلك إذا وقع نكاح البالغة الباكرة بإذن الوليّ «1» و تنازع الزوجان، و أمثال ذلك، فتأمّل.

فرع: لو ترافعا إلى غير الأهل

حيث يحرم، فحكم، فهل يجوز قبول حكمه، أم يجب الرّد إن أمكن؟ فيه تفصيل.

و هو: أنّه إذا حكم، فإن كان المحكوم به ممّا يباح برضى المحكوم عليه، فلا بأس له في العمل بمقتضى حكمه إن رضي، للأصل، إلّا أنّ العمل ليس حينئذ بالحكم.

______________________________

(1) يعني بإذن الولي من دون إذنها و رضاها.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 45

و إن لم يكن كذلك، بل كان منوطا بالشرع- كالحلف و النكاح و الطلاق و أمثالها- فلا يجوز.

نعم، إذا حكم

في مثله و علم المحكوم عليه مطابقته للواقع فيما هو من باب الفتوى، فيجب عليه العمل بمقتضاه، لأجل ذلك.

هذا بالنسبة إلى المحكوم عليه.

و أمّا المحكوم له، فإن كان المحكوم به من الثاني لم تجز متابعته أصلا.

و إن كان من الأول جاز عمله بمقتضاه إن رضي المحكوم عليه، و إلّا فلا، سواء كان حقّا أم لم يكن.

أمّا الثاني فظاهر. و أمّا الأول فللمقبولة، و قد ادّعى والدي العلّامة- طاب ثراه- في معتمد الشيعة الإجماع عليه.

و لا تنافيه موثّقة ابن فضّال- و فيها: ثمَّ كتب تحته: «هو أن يعلم الرجل أنّه ظالم فيحكم له القاضي، فهو غير معذور في أخذ ذلك الذي حكم له إذا كان قد علم أنّه ظالم» «1»، حيث دلّت بالمفهوم أنّه معذور إذا لم يعلم أنّه ظالم- لعموم القاضي فيها، فيجب حمله على أهله.

و لكنّ الحكم في المقبولة مختصّ بما إذا تحاكما إلى الطاغوت، و لدلالته على المبالغة يختصّ بغير الأهل الذي جعل الحكم منصبا له- كالسلاطين و القضاة و أمثالهم- فالتعدّي إلى من حكم نادرا و لم يجعل الحكم لنفسه منصبا غير معلوم، مع أنّ مقتضى الأصل حلّيّته لكونه حقّا له.

و التعدّي لاشتراك العلّة قياس باطل.

______________________________

(1) التهذيب 6: 219- 518، الوسائل 27: 15 أبواب صفات القاضي ب 1 ح 9.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 46

و لا فرق في ذلك بين طواغيت المخالفين و الموافقين، للإطلاقات.

المسألة الثامنة: إذا كان مجتهدان متساويان، فالرعيّة بالخيار فيهما

في الترافع إليهما، لبطلان الترجيح بلا مرجّح.

و لو تفاوتا في العلم، فهل يتعيّن الأعلم، أم لا؟

قال في المسالك و المفاتيح: فيه قولان، مبنيّان على وجوب تقليد الأعلم و عدمه «1».

قال في التحرير: يكون الخيار للمدّعي مع التعدّد مطلقا.

ثمَّ قال: و لو تراضيا بالفقيهين و اختلف

الفقيهان نفذ حكم الأعلم الأزهد «2».

و ذهب جماعة إلى الأول، بل هو الأشهر كما في المسالك «3»، و بعضهم نفي الخلاف عنه عندنا، و نقل المحقّق الأردبيلي أنّه قد ادّعي الإجماع عليه، و نقل منع الإجماع أيضا، و قال: و يشعر بعدم الإجماع كلام الفاضل في نهاية الأصول.

و في المسالك: إجماع الصحابة على جواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل، و اختاره المحقّق «4»، و ظاهر الأردبيلي الميل إليه، كما أنّ ظاهر المسالك التردّد «5».

و الحقّ هو:

الجواز و خيار الرعيّة مطلقا، للأصل، و الإطلاقات، و يؤيّده إفتاء الصحابة مع اشتهارهم بالاختلاف في الأفضليّة، و عدم الإنكار

______________________________

(1) المسالك 2: 353، المفاتيح 3: 247.

(2) التحرير 2: 181.

(3) المسالك 2: 353.

(4) الشرائع 4: 69.

(5) المسالك 2: 353.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 47

عليهم.

احتجّ القائلون بوجوب تقديم الأعلم بأنّ الظنّ بقوله أقوى، و الأقوى أحرى بالاتّباع.

لأنّ أقوال المفتي كالأدلّة للمقلّد، و يجب اتّباع أقواها.

و لأنّه أرجح، فاتّباعه أولى، بل متعيّن.

و لما بني عليه أصول مذهبنا من قبح تقديم المفضول على الأفضل.

و للأخبار، منها: المقبولة: قلت: فإن كان كلّ واحد منهما اختار رجلا و كلاهما اختلف في حديثنا؟ قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما، و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر» «1».

و رواية ابن الحصين: في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما.

في حكم وقع بينهما فيه خلاف، فرضيا بالعدلين، و اختلف العدلان بينهما، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ فقال: «ينظر إلى أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما فلينفذ حكمه، و لا يلتفت إلى الآخر» «2».

و رواية النميري: سئل عن رجل يكون بينه و بين أخ له منازعة في حقّ، فيتّفقان على

رجلين يكونان بينهما، فحكما فاختلفا فيما حكما، قال: «و كيف يختلفان؟» قلت: حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان، فقال: «ينظر إلى أعدلهما و أفقههما في دين اللّه فيمضي

______________________________

(1) الكافي 1: 67- 10، الفقيه 3: 5- 18، التهذيب 6: 301- 845، الاحتجاج 2: 356، الوسائل 27: 106 أبواب صفات القاضي ب 9 ح 1.

(2) الفقيه 3: 5- 17، التهذيب 6: 301- 843، الوسائل 27: 113 أبواب صفات القاضي ب 9 ح 10.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 48

حكمه» «1».

و الجواب عن الأول، أمّا أولا:

فبأنّه إنّما يتمّ على القول بأنّ متابعة المقلّد لقول مجتهده لأجل أنّه محصّل للظنّ بالواقع، و هو ممنوع، لجواز أن يكون هذا حكما آخر نائبا مناب الحكم الواقعي و إن لم يحصل الظنّ به، كالتقيّة و شهادة الشاهدين و اليمين.

و لو كان بناء القضاء على الظنون لزم عدم سماع دعوى كنّاس على مجتهد أنه آجره للكناسة، و دعوى شرّير متغلّب على مجتهد عادل في دراهم، و لزم أن يقضي بالشاهد الواحد إذا كان مفيدا للظنّ، سيّما إذا كان المدّعي معروفا بالصلاح و السداد، و المدّعى عليه بخلافه.

و حينئذ، فلا دليل على اعتبار الأقوى، بل لا معنى للأقوى و الأقرب و الأرجح.

و أمّا ثانيا:

فلمنع إطلاق كون الظنّ بقوله أقوى، إذ مع موافقة قول غير الأعلم لقول مجتهد آخر حيّ أو ميّت يزعمه الرعيّة أعلم- بل مع احتمالها- كيف يكون الظنّ من قول الأعلم أقوى؟! و أيضا قد يتمكّن غير الأعلم من الأسباب ما لا يتمكّن منها الأعلم، فيكون الظنّ الحاصل من قوله أقوى.

و أمّا ثالثا:

فلمنع وجوب تقديم الأقوى، غاية الأمر: الرجحان.

و من هذا يظهر جواب الثاني أيضا.

و عن الثالث:

بأنّه قياس للقضاء و

الفتوى على الإمامة، فإنّ قبح تقديم المفضول في أصول مذهبنا في الأخير، و القياس باطل.

______________________________

(1) التهذيب 6: 301- 844، الوسائل 27: 123 أبواب صفات القاضي ب 9 ح 45.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 49

مع أنّه مع الفارق، كما صرّح به المحقّق الأردبيلي، قال: لأنّ الإمامة كالنبوّة في الاتّباع المحض له و التفويض إليه بالكلّية، و يحكم بالعلم البديهي و يحتاج إلى علم إلهي في جميع الأمور، و منشأ الفتوى و الحكم النصّ المستفاد عن بعض القرائن، و قد يفرض وصول مفضول إلى الحقّ دون الفاضل، و لا محذور فيه، و لا يمكن ذلك في أصل الإمامة و النبوّة، فإنّ المدار هنا على العلم الحقّ، و لهذا جوّز إمامة المفضول للفاضل في الصلاة، و جوّز للإمام نصب القاضي من غير اشتراط تعذّر الوصول إليه.

و عن الرابع:

بأنّ الأخبار مختصّة بما إذا اختار كلّ من المترافعين مجتهدا، أو ترافعا إلى مجتهدين فاختلفا، فلا يمنع من جواز اختيارهما غير الأعلم، أو من إمضاء حكمه بعد ترافعهما إليه و حكمه، لو رجع أحدهما، مع أنّها تدلّ على اشتراط الأورعيّة أو الأعدليّة في تقديم الأعلم أيضا، فلا يثبت مطلقا.

و القول: بأنّ أصل العدالة الحاجزة عن المسامحة أو الكذب حاصل لهما، فلا اعتبار بزيادة العدالة.

اجتهاد في مقابلة النّص، و معارض بأنّ أصل العلم الموجب لفهم الأحكام حاصل لهما، فلا وجه لاعتبار الزيادة إلّا تقوية الظنّ لقوّة فهمه، و هي أيضا متحقّقة في اعتبار الأعدليّة من جهة تقوية الظنّ في بذل غاية جهده، و استفراغ وسعه، و إخباره برأيه، و عدم الميل في الأحكام و لو مع البواعث القويّة.

مع أنّ الوارد في المقبولة الاختلاف في الحديث، و لا شكّ أنّ مدخليّة

الأعدليّة و الأصدقيّة في الترجيح حينئذ أكثر من الأعلميّة.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 50

و ظهر ممّا ذكرنا: أنّ الحقّ اختصاص ترجيح الأعلم بمورد النصوص، و هو ما إذا اختلف المترافعان أولا في الاختيار كما في المقبولة، أو اتّفقا على رجلين فاختلفا كما في الروايتين- كما هو ظاهر الفاضل في التحرير «1»- و أنّ اللّازم ترجيحه حينئذ أيضا هو الأعلم و الأعدل معا، فلو فضل أحدهما في أحدهما و تساويا في الآخر أو رجح الآخر في الآخر فلا يجب الترجيح.

ثمَّ المراد بالأعلميّة و الأعدليّة: الزيادة الظاهرة الكثيرة، و لا اعتبار باليسير منها، لعدم اتّفاق التساوي الحقيقي غالبا.

و المراد بالأعلميّة: الأعلميّة في الأحاديث، و في دين اللّه- كما في الروايتين- فلا اعتبار بالأعلميّة في العلوم الأخر، كالطبيعي و الرياضي و الطبّ، بل الكلام، و لو باعتبار بعض مسائلها المعيّنة في الأحكام، لعدم إيجاب ذلك الأعلميّة في الأحاديث و في دين اللّه.

و الأعلميّة في الأحاديث تكون تارة: بأكثريّة الإحاطة بها، و الاطّلاع عليها.

و اخرى: بالأفهميّة لها، و أدقّية النظر، و أكثريّة الغور فيها.

و ثالثة: بزيادة المهارة في استخراج الفروع منها، و ردّ الجزئيّات إلى كلّياتها.

و رابعة: بزيادة المعرفة بصحيحها و سقيمها و أحوال رجالها، و فهم وجوه الخلل فيها.

و خامسة: بأكثريّة الاطّلاع على ما يتوقّف فهم الأخبار عليها من علم اللغة و قواعد العربيّة و النحو و الصرف و البديع و البيان و نحوها.

______________________________

(1) التحرير 2: 181.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 51

و سادسة: باستقامة السليقة، و وقادة الذهن، و حسن الفهم فيها، كما أشار إليه في بعض الأخبار المتقدّمة بقوله: «و حسن الاختيار».

و سابعة: بأكثريّة الاطّلاع على أقوال الفقهاء التي هي كالقرائن في فهم

الأخبار، و مواقع الإجماعات، و أقوال العامّة التي هي من المرجّحات عند التعارض، و في فهم القرآن الذي هو أيضا كذلك.

و الأعلم الذي يمكن الحكم الصريح بوجوب تقديمه هو: الأعلم بجميع تلك المراتب، أو في بعضها مع التساوي في البواقي. و إلّا فيشكل الحكم بالتقديم.

و من ذلك تظهر ندرة ما يحكم فيه بوجوب التقديم البتّة، و اللّه سبحانه العالم.

المسألة التاسعة: إذا كان هناك مجتهدان أو أكثر يتخيّر فيهما الرعيّة

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 17    51     المسألة التاسعة: إذا كان هناك مجتهدان أو أكثر يتخير فيهما الرعية ..... ص : 51

فالحكم لمن اختاره المدّعي، و هو المتّبع إجماعا، له، و لأنّه المطالب بالحقّ و لا حقّ لغيره أولا، فمن طلب منه المدّعي استنقاذ حقّه يجب عليه الفحص، فيجب اتّباعه، و لا وجوب لغيره، و هذا ممّا لا إشكال فيه.

و إنّما الإشكال إذا كان كلّ منهما مدّعيا من وجه، كما إذا اختلف رجلان في امرأة باكرة رشيدة زوّجت نفسها لأحدهما، و زوّجها أبوها للآخر، و لم تكن تحت يد أحدهما.

و كما إذا اختلف أكبر الذكور مع غيره فيما ليس في يد أحدهما ممّا اختلف الفقهاء في أحبائه أم لا.

و كما إذا ادّعى مدّعيان شيئا في يد ثالث معترف بأنّه من أحدهما، و نحو ذلك.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 52

و إنّما قيّدنا في المثال الأول بقولنا: و لم تكن تحت يد أحدهما، و في المثال الثاني: بما ليس في يد أحدهما، و كذلك الثالث، لأنّه مع كونه في يد أحدهما يكون الآخر هو المدّعي، و يقدّم من قدّمه.

ثمَّ إنّا بيّنا المقدّم من الحاكمين في مثل ذلك في مسألة الاختلاف في الحبوة من كتاب الفرائض، و أنّه هو الأعلم و الأعدل مع اختلاف

الحاكمين في الوصفين، تبعا للحكم بتقديمه في الروايات المتقدّمة.

و أنّه يقدّم من سبق إليه أحد المدّعيين فحكم «1»، لأنّه حاكم حكم بحكم لمطالب ذي حقّ فيجب اتّباعه و إمضاؤه، و يحرم الردّ عليه و نقض حكمه، و الرادّ عليه كالرادّ على اللّه، و المستخفّ بحكمه كالمستخفّ بحكم الإمام، كما في المقبولة.

و لو استبق كلّ منهما إلى حاكم، فإن سبق أحدهما بالحكم فيقدّم حكمه.

و إن أحضر كلّ من الحاكمين غريم من ترافع إليه، فإن أجاب أحد الخصمين دعوة حاكم خصمه فالحكم حكمه.

و إن أبى كلّ إلّا حكم حاكمه، فإن سبق أحد الحاكمين على الحكم بالغائب فهو المتّبع.

و إن لم يسبق- إمّا لعدم كون رأيهما الحكم على الغائب، أو لاشتباه السابق منهما و عدم إمكان التعيين، أو لاتّفاق التقارن في الحكم- فيشكل الأمر.

و الظاهر في غير الأخير الرجوع إلى القرعة، لأنّها لكلّ أمر مجهول.

______________________________

(1) في «س»: ليحكم.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 53

و في الأخير عدم نفوذ شي ء من الحكمين، لعدم ثبوت نفوذ مثل ذلك.

المسألة العاشرة: ثبوت الاجتهاد

- بالعلم الحاصل من الاستفاضة العلميّة، و القرائن المفيدة للعلم، و المخالطة الموجبة له لمن له رتبة فهمه- واضح.

و بالاستفاضة الظنّية- بل بمطلق الظنّ- محلّ الخلاف. و الأقوى عدم الثبوت، وفاقا للمعارج و الذّريعة و المعالم و الوافية و معتمد الشيعة و تجريد الأصول لوالدي «1»، بل الأكثر كما قيل: للأصل، و الظواهر الناهية عن اتّباع الظنّ.

و خلافا للفاضل في التهذيب، فقال بكفاية غلبة الظنّ، و حكي عن مبادئه و نهايته أيضا «2»، و عن شرح المبادي لفخر المحقّقين و المنية للعميدي و الذكرى و الروضة و الجعفريّة و المقاصد العليّة «3»، و بعض من عاصرناه.

لإطلاق آية السؤال «4».

و لعدم وسيلة

للمقلّد إلى تحصيل العلم بالاجتهاد.

و للزوم العسر و الحرج لولاه.

و لأصالة عدم لزوم تحصيل العلم و عدم وجوب الرجوع إلى المعلوم اجتهاده.

و لعدم ثبوت اشتغال الذمّة بالرجوع إلى من ظنّ اجتهاده.

______________________________

(1) معارج الأصول: 201، الذريعة 2: 801، معالم الأصول: 239.

(2) مبادي الوصول: 247.

(3) الذكرى: 3، الروضة 3: 67.

(4) النحل: 43.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 54

و يضعّف الأول: بمنع شمول إطلاق الآية لمن ظنّ اجتهاده، فإنّ كون من ظنّ أنّه من أهل الذكر من أهله غير ثابت.

و الثاني: بأنّ العامّي و إن لم يتمكّن بنفسه و اختباره «1» من تحصيل العلم، و لكنّه يتمكّن من تحصيله من الاستفاضة و الأخبار المحفوفة بالقرائن المفيدة للقطع، كيف؟! و إنّا نرى العوام و المقلّدين مع كثرتهم و عدم حصرهم جازمين قاطعين باجتهاد جمع من مجتهدي عصرنا من المشايخ بحيث لا يرتابون فيه أصلا، بل و كذا باجتهاد جمع من المجتهدين الماضين، و ذلك أقوى تضعيف لذلك الدليل.

و لو سلّمنا عدم إمكان تحصيله العلم، فهو أيضا غير ضائر بعد حجّية الظنّ المخصوص له، كشهادة العدلين.

و منه يعلم ضعف الثالث أيضا. مع أنّه إن فرض تعسّر تحصيل المجتهد المعلوم اجتهاده فنقول: إن حصّله يرجع إليه، و إلّا فعليه ما عليه لو لا المظنون اجتهاده أيضا.

و الرابع: بمعارضته مع أصول أخر أقوى ممّا ذكر و مزيله له.

و منه يعلم ضعف الخامس أيضا، فإنّ ذلك إنّما يفيد لو لم يعارضه أصل آخر و ثبت من أدلّة التقليد جواز الرجوع إلى القدر المشترك.

نعم، يستثنى من الظنّ المنهيّ عن اتّباعه هنا شهادة العدلين، بل من غير ملاحظة إفادة الظنّ أيضا لو لم يظنّ خلافها، وفاقا للمحكي عن المعالم و المقاصد العلّية و معتمد

الشيعة و التجريد «2»، لأصالة قبول شهادة العدلين

______________________________

(1) في «ح»: و اختياره.

(2) معالم الأصول: 239.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 55

و حجّيتها، كما بيّناها مفصّلا في كتاب عوائد الأيّام «1».

و يدلّ عليها قول الصادق عليه السّلام- في صحيحة حريز- لابنه إسماعيل:

«فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم» «2».

و إطلاق مثل رواية السكوني: «إنّ شهادة الأخ لأخيه تجوز إذا كان مرضيّا و معه شاهد آخر» «3».

و صحيحة عمّار: «إذا كان خيّرا جازت شهادته لأبيه، و الأب لابنه، و الأخ لأخيه» «4»، و غير ذلك. و كونه في مقام بيان حكم آخر لا يضرّ، كما بينّاه في موضعه.

و مرسلة يونس: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين» الحديث «5».

فإنّ ولاية الاجتهاد أيضا حقّ ثابت من اللّه و من حججه للمجتهد.

خلافا للمحكيّ عن الذريعة و المعارج و الجعفريّة و الوافية «6»، للأصل المندفع بما مرّ.

و هل يشترط كون العدلين مجتهدين، أم لا؟

الظاهر: نعم، بمعنى: كونهما مقتدرين على الترجيح في الجملة في

______________________________

(1) عوائد الأيام: 273.

(2) الكافي 5: 299- 1، الوسائل 19: 82 أبواب أحكام الوديعة ب 6 ح 1.

(3) التهذيب 6: 286- 790، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26 ح 5.

(4) الكافي 7: 393- 4، الفقيه 3: 26- 70، التهذيب 6: 248- 631، الوسائل 27: 367 أبواب الشهادات ب 26 ح 2.

(5) الكافي 7: 416- 3، التهذيب 6: 231- 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم ب 7 ح 4.

(6) الذريعة 2: 801، معارج الأصول: 201.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 56

المسائل الشرعيّة، بناء على ما سيأتي في بحث الشهادات، و ذكرناه في العوائد «1»، من أنّ الشهادة المقبولة إنّما هي المستندة إلى الحسّ عرفا، و المحسوس فيما

نحن فيه هو مشاهدة ترجيحاته المطابقة للقواعد و ملاحظتها، و لا يتمكّن غير المجتهد من فهم المطابقة و الصحّة، إذ كلّ من يدرك ذلك فهو مجتهد. و قياس الاجتهاد على النظم- حيث إنّ لغير الشاعر درك موزونيّة الشعر- باطل.

نعم، يكفي للشاهد كونه متجزّيا، بل يكفي كونه مدركا لصحّة الترجيح الموقوف على تمكّنه من الترجيح، و إن لم يتكرّر ذلك منه بعد، بحيث تحصل له الملكة الحاصلة بتكرّر الترجيحات و القوّة القدسيّة، فتأمّل.

و إن شئت قلت باشتراط كونهما عالمين بمقدّمات الاجتهاد، مشرفين على حصول الاجتهاد بمعنى الملكة، و لكن فهم ذلك على العوام مشكل.

______________________________

(1) عوائد الأيام: 273.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 57

البحث الثاني في آداب القاضي و وظائفه
اشاره

اعلم أنّهم ذكروا آدابا كثيرة و وظائف عديدة للقاضي، بعضها يتعلق بالنائب الخاصّ، و بعضها مشترك بينه و بين العامّ، و لعدم ترتّب فائدة على الأول نقتصر ها هنا على الثاني.

ثمَّ الآداب المشتركة على قسمين:

أحدهما: ما هو أدب و وظيفة لمن اتّخذ القضاء شغلا و منصبا، و صار علما بذلك مرجعا للأنام، و جلس مجلس الحكومة، و تشمّر لتلك الرئاسة العامّة، فتولّى ذلك الشغل الخطير، و تكفّل لذلك المهمّ العظيم، و اتّخذه الرعيّة حاكما و قاضيا، و عرف بذلك، إمّا لأجل نصب الإمام له بخصوصه، أو للوجوب العينيّ أو الكفائيّ له في زمان الغيبة.

و الثاني: ما هو أدب و وظيفة لمطلق الحكم، و لو لمن لم يعرفه الناس، و اتّفق له أن يحكم حكما واحدا.

فما كان من الأول يكون آداب المنصب و الرئاسة، و الثاني آداب الحكم و لو كان واحدا.

و مثل الفريقين مثل أئمّة الجماعات، فإنّ منهم من اتّخذ الإمامة ديدنا، و فرّغ نفسه لها في جميع الأوقات أو أكثرها، و

منهم من ليس كذلك و إن ائتمّ به من يعرفه بالعدالة مرّة أو مرّات.

و يمكن أن يكون نظر كثير من الأصحاب- حيث قرّروا عنوانين،

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 58

أحدهما لآداب القاضي، و الثاني لوظائف الحكم- إلى ذلك أيضا، و إن أدخل بعضهم بعضا من كلّ منهما في الآخر، و نحن أيضا نذكرهما في عنوانين و إن دخل بعض من الثاني في الأول، لأنّ الأمر فيه سهل.

فلنذكر ها هنا ما يتعلّق بالأول، و نذكر الباقي في بحث وظائف الحكم، و نورد ما يتعلّق بالأول في طيّ مسائل:

المسألة الأولى: ينبغي له أن يستحضر حكمه أهل العلم،

و يشاورهم، و يناظرهم، لا لتقليدهم، بل لينبّهوه على الخطأ إن وقع منه سهوا و غفلة، و يستوضح منهم ما عسى أن يشكل عليه.

و منه يظهر أنّه لا ينحصر من ينبغي إحضاره بالمجتهدين، إذ يجوز لغير المجتهد تنبيه المجتهد إذا نسي أو غفل، فإنّه قد يعرف المفضول ما لا يعرفه الفاضل، و يتنبّه التلميذ لما لا يتنبّه له الأستاذ. فما في المسالك- من أنّ المراد من أهل العلم المجتهد- ليس بجيّد.

و أن يجمع ما يتعلّق بكلّ يوم و أسبوع و شهر و سنة من القضايا و وثائقها و حججها، و يكتب عليها تأريخها و أسامي أهلها، فإن اجتمع كلّ شهر كتب عليه شهر كذا، أو سنة فسنة كذا، أو يوم فيوم كذا، ليكون أسهل عليه و على من بعده من الحكّام في استخراج المطلوب منها وقت الحاجة.

المسألة الثانية: ينبغي له أن يتّخذ كاتبا

، لمسيس الحاجة، و عمل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و خلفائه.

و يشترط كونه: بالغا، عاقلا، مسلما، عدلا، بصيرا، ليؤمن من خيانته و انخداعه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 59

و يستحبّ كونه: فقيها، جيّد الخطّ، عفيفا من الطمع، لئلّا ينخدع عن غيره بمال و مثله.

و ينبغي أن يجلس بين يديه ليملي عليه و يشاهد ما يكتب.

المسألة الثالثة: القضاء في المسجد مكروه مطلقا

، وفاقا للأكثر كما في معتمد الشيعة، لمرسلة ابن أسباط: «جنّبوا مساجدكم الشرى، و البيع، و المجانين، و الصبيان، و الأحكام، و الضالّة، و الحدود، و رفع الصوت» «1».

و مرسلة الفقيه: «جنّبوا مساجدكم صبيانكم، و مجانينكم، و رفع أصواتكم، و شراءكم، و بيعكم، و الضالّة، و الحدود، و الأحكام» «2».

و الاستدلال بالنبويّ: «جنّبوا مساجدكم صبيانكم، و مجانينكم، و خصوماتكم» «3» منظور فيه.

و قيل باستحبابه كذلك «4»، لأنّ المسجد للذكر، و منه القضاء، و لكونه أفضل الأعمال اللّائق بأشرف البقاع.

و قيل بالإباحة كذلك «5»، للأصل، و فعل عليّ عليه السّلام، حتى أنّ دكّة قضائه مشهورة.

و قيل بكراهة الدائم دون غيره، جمعا بين أدلّة المنع و الجواز «6».

و الجواب:

أمّا عن أول دليلي الاستحباب: فيمنع كون المسجد لمطلق

______________________________

(1) التهذيب 3: 249- 682، علل الشرائع: 319- 2، الخصال: 410- 13، الوسائل 5: 233 أبواب أحكام المساجد ب 27 ح 1.

(2) الفقيه 1: 154- 716، الوسائل 5: 234 أبواب أحكام المساجد ب 27 ح 4.

(3) سنن ابن ماجه 1: 247- 750.

(4) كما في المراسم: 656.

(5) كما في التنقيح 4: 241.

(6) كما في الدروس 2: 73.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 60

الذكر، بل في رواية جعفر بن إبراهيم: «إنّما نصبت المساجد للقرآن» «1».

سلّمنا، و لكن كون القضاء ذكرا ممنوع.

و أمّا عن ثانيهما:

فبأنّه اجتهاد في مقابلة النصّ.

و أمّا عن دليلي الإباحة: فباندفاع الأصل بما مرّ، و عدم ثبوت فعل عليّ عليه السّلام. و اشتهار الدكّة لا يثبته، لمنع ثبوتها أولا، و كونها دكّة قضاء علي عليه السّلام ثانيا، و كونها من المسجد في الصدر الأول ثالثا.

و أمّا عن دليل التفصيل: فبأنّ المراد بأدلّة الجواز إن كان أدلّة جواز القضاء في المسجد فلا دليل، و إن كان أدلّة جوازه مطلقا فالجمع بالتخصيص متعيّن كما هو القاعدة، مع أنّ هذا الجمع لا شاهد له.

فإن قيل:

وجوب القضاء فوريّ، و هو مناف لكراهيّته.

قلنا:

الثابت الفوريّة العرفيّة دون الحقيقيّة، فيخرج عن المسجد و يقضي.

المسألة الرابعة: قالوا: يكره له اتخاذ الحاجب

. و المراد به: ما يمنع من وصول المتخاصمين إليه مطلقا.

للنبويّ: «من ولي شيئا من أمور الناس فاحتجب دون حاجتهم و فاقتهم احتجب اللّه تعالى دون حاجته و فاقته و فقره» «2».

و لأنّ قضاء حاجتهم مطلوب، فتركه مكروه، و اتّخاذ الحاجب سببه، و سبب المكروه مكروه.

و ربّما نقل قول بتحريمه عن بعض الفقهاء، و قرّبه فخر المحقّقين إن كان على الدوام، و استحسنه الشهيد الثاني «3». و الأقرب: الكراهة.

______________________________

(1) الكافي 3: 369- 5، التهذيب 3: 259- 725، الوسائل 5: 213 أبواب أحكام المساجد ب 14 ح 1.

(2) مستدرك الحاكم 4: 93، سنن البيهقي 10: 101.

(3) كل ذلك في المسالك 2: 358.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 61

و لا بدّ من تقييده بما إذا لم يجب عليه القضاء مطلقا أو فورا، و إلّا يحرم، لأنّ سبب الحرام حرام.

و بما إذا كان في مكان غير مباح لمن لم يأذنه، و إلّا فلا يجوز له المنع.

فإن قيل:

فعلى هذا يتعارض دليل الاستئذان مع دليل الكراهة و الحرمة هنا.

قلنا:

لا تعارض، لأنّ مدلول الأول

لزوم استئذان الداخل، و مدلول الثاني رجحان إذن القاضي.

و بما إذا لم يكن له أمر مساو أو أهمّ، و إلّا فيجوز أو يستحبّ.

و لكنّ ذكر القيدين الأخيرين غير لازم، لأنّ الكلام في القاضي من حيث هو قاض، و لذا خصّصنا الممنوع بالمتخاصمين، فإنّ كراهة منعهما أوجب جعله من آداب القاضي.

و أمّا منع سائر المؤمنين من المتزاورين و المتردّدين فغير مخصوص به، و ليس هنا موقع تحقيقه، و لذا اقتصروا بذكر ما يدلّ على كراهة منع الوالي مع تكثّر أخبار المنع عن الاحتجاب.

المسألة الخامسة: يكره القضاء مع الغضب، و الجوع، و العطش، و الهمّ، و الحزن، و مدافعة الأخبثين.

للحسن: «من ابتلي بالقضاء فلا يقضي و هو غضبان» «1».

و مرفوعة البرقي: «لا تقضينّ و أنت غضبان» «2».

______________________________

(1) الكافي 7: 413- 2، الفقيه 3: 6- 19، التهذيب 6: 226- 542، الوسائل 27:

213 أبواب آداب القاضي ب 2 ح 1.

(2) الكافي 7: 413- 5، الفقيه 3: 7- 24، التهذيب 6: 227- 546، الوسائل 27:

213 أبواب آداب القاضي ب 2 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 62

و رواية سلمة: «و لا تقعدنّ في مجلس القضاء حتى تطعم» «1».

و في النبويّ: «لا يقضي إلّا و هو شبعان ريّان» «2».

و في آخر «لا يقضي و هو غضبان مهموم و لا مصاب محزون» «3».

و قد يستثنى الغضب للّه تعالى، لقضيّة الزبير و الأنصاري «4». و فيه نظر.

و المرويّ في أمالي الشيخ: إنّ رجلا سأل أمير المؤمنين عليه السّلام عن سؤال فبادر فدخل منزله، ثمَّ خرج فقال: «أين السائل؟» فقال الرجل: ها أنا يا أمير المؤمنين، قال: «ما مسألتك؟» قال: كيت و كيت، فأجابه عن سؤاله، فقيل: يا أمير المؤمنين كنّا عهدناك إذا سئلت عن المسألة كنت فيها كالسكّة المحماة جوابا، فما بالك أبطأت اليوم عن جواب

هذا الرجل حتى دخلت الحجرة؟ فقال: «كنت حاقنا، و لا رأي لثلاثة: لا لحاقن، و لا حاقب، و لا حازق» «5».

و قد صرّحوا بكراهة سائر ما يشبه المذكورات من شاغلات النفس و مشوبات الخاطر، و لا بأس به و إن لم أعثر على نصّ عامّ.

و يمكن استنباط الجميع من التعليل المذكور في المرويّ عن الأمالي.

المسألة السادسة: يكره له تولّي التجارة

، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «ما عدل وال

______________________________

(1) الكافي 7: 412- 1، الفقيه 3: 8- 28، التهذيب 6: 225- 541، الوسائل 27:

211 أبواب آداب القاضي ب 1 ح 1.

(2) سنن البيهقي 10: 106.

(3) أورده في المسالك 2: 359 و الرياض 2: 389، و لم نعثر على مصدره.

(4) كما في سنن البيهقي 6: 153.

(5) أمالي الشيخ الطوسي: 525. قال في معاني الأخبار: 237، الحاقن الذي به البول، و الحاقب الذي به الغائط، و الحازق الذي به ضغطة الخف.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 63

اتّجر في رعيّته» «1».

و أمّا البيع و الشراء نادرا- بحيث لا تصدق التجارة- فلا يكره، و ينبغي تركه، لبعض الاعتبارات العقليّة.

و الانقباض المانع من اللحن بالحجّة.

و اللين الباعث على الجرأة، و تكلّمهم بما لا يعني.

و ارتكاب الحكومة بنفسه، أي أن يحضر مع خصمه في منازعة بين يدي قاض، قيل: لما روي: أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام و كلّ عقيلا في خصومة، و لما روي أنّ: «للخصومات قحما و إنّي لأكره أن أحضرها» «2».

و في دلالتهما نظر، و قد حضر أمير المؤمنين عليه السّلام المحاكمة في دعوى درع طلحة «3» و غيرها.

نعم، يدلّ على كراهته بعض الاعتبارات.

المسألة السابعة: يستحبّ أن يكون كاتبه- إن احتاج إليه- فقيها

، جيّد الخطّ- لئلّا يغلط في الكتابة، و لا يشتبه خطّه- بالغا، عاقلا، مسلما، عادلا، بصيرا بما هو موكول إليه. بل ربّما يجب بعض ذلك، لتؤمن خيانته و انخداعه بتزوير بعض الخصوم.

و أن يجلس كاتبه بين يديه ليملي عليه المطالب، فيكتبها و يشاهد ما يكتبه، ليأمن من الغلط.

و إذا افتقر القاضي إلى مترجم فلا بدّ من مترجمين عدلين.

______________________________

(1) الجامع الصغير للسيوطي 2: 500- 7941، المغني لابن قدامة 11: 440- 8269.

(2) شرح نهج البلاغة لابن

أبي الحديد 19: 107- 260، و القحمة: المهلكة- مجمع البحرين 6: 134.

(3) الكافي 7: 385- 5، الفقيه 3: 63- 213، التهذيب 6: 273- 747، الاستبصار 3: 34- 117، الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14 ح 6.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 64

البحث الثالث في بعض الأحكام المتعلّقة بالقاضي
اشاره

و فيه مسائل:

المسألة الأولى: اختلفت كلماتهم في جواز أخذ الأجرة و الجعل على القضاء

من المتخاصمين أو أحدهما أو غيرهما.

فقال في الكفاية: و لا أعرف خلافا بين الأصحاب في أنّه لا يجوز له أخذها من المتخاصمين مع وجود الكفاية من بيت المال، و مع وجود الحاجة إليه ففي جواز أخذه منهما أو من أحدهما قولان، أشهرهما:

المنع «1». انتهى.

و نقل والدي في معتمد الشيعة الإجماع على الحرمة صريحا مع عدم الحاجة.

و قال في التحرير: أمّا أخذ الأجرة عليه فإنّه حرام بالإجماع، سواء تعيّن عليه أو لم يتعيّن، و سواء كان ذا كفاية أو لا «2».

و في المسالك: فمع وجود الكفاية من بيت المال لا يجوز له أخذها من المتخاصمين مطلقا، و مع عدمها و وجود الحاجة إليها ففي جواز أخذه منهما أو من أحدهما قولان، أشهرهما: المنع «3». انتهى.

و ظاهره أيضا عدم الخلاف في المنع مع وجود الكفاية.

______________________________

(1) الكفاية: 262.

(2) التحرير 2: 180.

(3) المسالك 2: 354.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 65

و قال بعض الأجلّة: و لو أخذ الجعل من المتخاصمين، فإن لم يتعيّن للحكم و حصلت الضرورة قيل: جاز، و إن تعيّن للقضاء أو كان مكتفيا لم يجز له أخذ الجعل قولا واحدا «1». انتهى.

و عن المبسوط أنّه قال: عندنا لا يجوز بحال «2». و ظاهره الإجماع على المنع في الصورتين، و نقل الإجماع عليه عن الخلاف أيضا «3».

و قال في الشرائع: أمّا لو أخذ الجعل من المتحاكمين ففيه خلاف، و الوجه التفصيل، فمع عدم التعيين و حصول الضرورة قيل: يجوز، و الأولى المنع، و لو اختلّ أحد الشرطين لم يجز «4». انتهى.

و ظاهره وجود الخلاف مع عدم الضرورة أيضا.

و قال في المفاتيح: أمّا لو شرط على المتخاصمين أو أحدهما جعلا ليفصل الحكومة بينهما- من

غير اعتبار الحكم لأحدهما، بل من اتّفق الحكم له منهما على الوجه المعتبر- جاز عند بعضهم «5».

و ظاهره الجواز في الحالين أيضا.

و قال في شرحه: و المشهور أنّ القاضي لو شرط على المتخاصمين أو أحدهما بذله جعلا له- ليفصل المنازعة من غير اعتبار أن يحكم للباذل بخصوصه- جاز له أخذ ذلك، بل لو شرط الجعل على من اتّفق الحكم لأحدهما على الوجه الموافق للحقّ- بأن قال: من غلب منكما فلي عليه كذا- جاز أيضا عند الأكثر. انتهى.

______________________________

(1) كشف اللثام 2: 143.

(2) نقله عنه في كشف اللثام 2: 143، و قد يستفاد من المبسوط 8: 85.

(3) الخلاف 2: 598.

(4) الشرائع 4: 69.

(5) المفاتيح 3: 251.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 66

و ظاهره أيضا الجواز، بل شهرته في الحالين.

و نقل عن الحلبي و الحلّي و المحقّق الثاني «1» و جماعة «2»: المنع.

و عن المفيد و النهاية و القاضي: الجواز مع الكراهة «3».

و كيف كان، فالحقّ: عدم الجواز مطلقا مع الكفاية، لظاهر الإجماع، و لما مرّ في بحث التجارة من عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب.

و لصحيحة ابن سنان: عن قاض بين فريقين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق، فقال: «ذلك السحت» «4»، فإن الظاهر من الرزق على القضاء كونه بإزائه، فيكون أجرا، و هو غير ارتزاق القاضي كما يأتي. و بذلك يظهر ضعف تضعيف دلالتها، و احتمال حمل السحت فيها على الكراهة بالإجماع على حلّية الارتزاق.

و المرويّ في الخصال: «السحت أنواع كثيرة»، و عدّ منها أجور القضاة «5».

مضافا في صورة التعيين إلى عدم جواز توقيف أحد الواجب عليه على الشرط، لأنّه عمل لنفسه لا لأحد المتحاكمين. بل قد يضاف ذلك في صورة عدم التعيين أيضا، لما

ذكر.

و فيه: أنّ المسلّم عدم جواز التوقيف في الواجب العيني، و لذا قيل

______________________________

(1) الحلبي في الكافي في الفقه: 283، و الحلي في السرائر 2: 217، و المحقق الثاني في جامع المقاصد 4: 36.

(2) منهم المحقق في الشرائع 4: 69، و العلّامة في القواعد 2: 202، و الشهيد في الدروس 2: 69.

(3) المفيد في المقنعة: 588، النهاية: 367، و القاضي في المهذب 2: 586.

(4) الكافي 7: 409- 1، الفقيه 3: 4- 12، التهذيب 6: 222- 527، الوسائل 27:

221 أبواب آداب القاضي ب 8 ح 1.

(5) الخصال: 329- 26، الوسائل 17: 95 أبواب ما يكتسب به ب 5 ح 12.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 67

بجواز أخذ الأجرة فيما لا تشترط فيه القربة من الكفائيّات، غاية الأمر أنّ إيجاد ما تعلّق به الوجوب لا يكون من جهة امتثال أمر الشارع، و لا يكون الفاعل ممتثلا، و لا يلزم منه عقاب، أمّا على الفاعل فلعدم الوجوب عليه، و أمّا على الجميع فلسقوط الواجب عنهم، لأنّ الواجبات الكفائيّة الغير المشروطة بالقربة توصّليّة، و لازم الوجوب التوصّلي تقييده بعدم تحقّق التوصّل، فإذا حصل سقط.

و لكن الحقّ- كما سبق في كتاب التجارة- عدم جواز الأجرة على الواجب على الفاعل مطلقا، عينيّا أو كفائيّا، محتاجا إلى نيّة القربة أم لا.

و أمّا مع الضرورة و عدم الكفاية، فمع التعيين لا يجوز أيضا إجماعا كما صرّح به والدي في معتمد الشيعة، لأنّ اشتراط الجعل توقيف لامتثال أمر الشارع الواجب عليه على شرط و هو غير جائز.

و أمّا بدون التعيين، فقيل: يجوز، لانحصار الدليل على المنع حينئذ بإطلاق الصحيحة و الرواية، و هو معارض بأدلّة نفي الضرر، و هي راجحة بموافقة الكتاب و معاضدة

الاعتبار و أكثريّة الأخبار، و لو لا الرجحان أيضا لكان المرجع إلى أصالة الجواز.

و لا يرد انتفاء الضرر بتحصيل الكفاية من المعدّات لذوي الحاجات و المبرّات، لأنّ المفروض انتفاؤها أو تعسّر أخذها عليه.

و منعها والدي رحمه اللّه بإمكان دفع الضرر بترك القضاء و خروجه عن الاستحباب حينئذ.

و الحاصل: أنّ تعارض أدلّة نفي الضرر مع أدلّة حرمة الأجر إنّما هو إذا لم يجز ترك القضاء، و مع عدم التعيين يجوز، فلا تعارض، فيعمل

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 68

بالدليلين بترك القضاء الذي لا محذور فيه.

و هو كذلك، فالحرمة حينئذ هي الأقوى، لتعارض دليلي نفي الضرر و حرمة الأجرة مع دليل القضاء، فلا يعلم الإذن في القضاء هنا، فلا يجوز.

و منه يظهر فساد ما قد يقال من حصول ذلك التعارض مع التعيين أيضا بين دليل التعيين و أدلّة نفي الضرر، فيرجع إلى الأصل فيجوز.

لأنّ الرجوع إلى الأصل يوجب تحريم القضاء و وجوب التكسّب لدفع الضرر، فإنّ هذا إنّما يتمّ لو لم يمكن دفع الضرر إلّا بأخذ الأجرة، و المفروض إمكان دفعه بالتكسّب، و إلّا لم يكن القضاء موجبا للضرر.

المسألة الثانية: يجوز له الارتزاق من بيت المال

، و لو مع التعيين و عدم الحاجة، كما صرّح بهما والدي في معتمد الشيعة، و ادّعى بعضهم الإجماع عليه.

لمرسلة حمّاد الطويلة، و فيها: «و يؤخذ الباقي، فيكون ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه، و في مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد، و غير ذلك ممّا فيه مصلحة العامّة» «1» الحديث.

و قيّد في اللمعة الجواز بالحاجة «2». و لا وجه له بعد عموم الرواية المنجبرة.

و معنى الارتزاق منه: هو أخذ الرزق منه لأجل كونه قاضيا، لا لقضائه و عليه و بإزائه.

و إعطاء الوالي أيضا كذلك.

و الفرق بين المعنيين واضح، فإنّ الأخ يعطي أخاه لكونه أخا له،

______________________________

(1) الكافي 1: 539- 4، التهذيب 4: 128- 366، الوسائل 27: 221 أبواب آداب القاضي ب 8 ح 2.

(2) اللمعة (الروضة البهيّة 3): 71.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 69

لا لأجر الاخوّة و بإزائه. و كذا من وقف على المؤذّن مثلا أو نذر له شيئا فهو يعطيه لأجل كونه مؤذّنا، لا بإزاء أذانه. و لذا لو وقف أحد ضياعا على شيعة بلده أو صائميه يجوز لهم الارتزاق من نمائه، مع أنّه لا يجوز أخذ شي ء بإزاء التشيّع و الصوم.

و من هذا يظهر أنه لا تعارض بين المرسلة و بين الصحيحة و الرواية، لعدم كون المأخوذ حينئذ أجرا أو رزقا على القضاء، و إن كان رزقا لكونه قاضيا.

و هل يكره له ذلك مع اليسار؟.

صرّح والدي في معتمد الشيعة بالكراهة، ناسبا له إلى الأكثر، لصحيحة ابن سنان المتقدّمة.

و في دلالتها نظر يظهر ممّا مرّ.

نعم، لا بأس بالقول بالكراهة، لحكايتها عن الأكثر.

و لو لم يكن بيت المال، فهل يجوز له الارتزاق من سائر الوجوه التي مصرفها الخير أو سبيل اللّه؟

الظاهر: الجواز مع الضرورة و الحاجة، لتوقّف التوصّل إلى ذلك الخير العام بالارتزاق، و أمّا بدونها فيشكل، سيّما مع التعيين، بل لا يجوز حينئذ البتّة، كما لا يجوز صرفها إلى المصلّين و الصائمين لأجل صلاتهم و صيامهم.

المسألة الثالثة: يحرم على القاضي أخذ الرشوة
اشاره

- مثلّثة الراء- إجماعا من المسلمين، للمستفيضة من المعتبرة.

و في موثّقة سماعة: «إنّ الرشا في الحكم هو الكفر باللّه» «1».

______________________________

(1) الكافي 7: 409- 2، التهذيب 6: 222- 526، الوسائل 27: 222 أبواب آداب القاضي ب 8 ح 3.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 70

و في

مضمرته: «فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم» «1».

و كذا في روايته «2»، و مرسلة الفقيه «3»، و رواية عمّار بن مروان «4».

و في رواية يزيد بن فرقد: عن السحت، فقال: «الرشا في الحكم» «5».

و في رواية السكوني: قال: «السحت ثمن الميتة» إلى أن قال:

«و الرشوة في الحكم» «6».

و كما يحرم عليه أخذها كذلك يحرم على باذلها دفعها، لأنّه إعانة على الإثم و العدوان، و لقوله عليه السّلام: «لعن اللّه الراشي و المرتشي في الحكم» «7».

و لا كلام في شي ء من ذلك، و إنّما الكلام في أمور ثلاثة:

أحدها: أنّ الرشوة المحرّمة ما هي؟

و ثانيها: أنّه هل خصّص من تحريم الإرشاء و الارتشاء صورة، أم لا؟

و ثالثها: في التفرقة بينها و بين الهديّة للقاضي، و أنّها هل هي أيضا رشوة، أو كالرشوة محرّمة، أم لا؟

أمّا الأول: فلا كلام في أنّ الرشوة للقاضي هي: المال المأخوذ من

______________________________

(1) الكافي 5: 127- 3، التهذيب 6: 352- 997، الوسائل 17: 92 أبواب ما يكتسب به ب 5 ح 2.

(2) تفسير العياشي 1: 321- 112، الوسائل 27: 223 أبواب آداب القاضي ب 8 ح 8.

(3) الفقيه 3: 105- 435، الوسائل 17: 94 أبواب ما يكتسب به ب 5 ح 8.

(4) الكافي 5: 126- 1، التهذيب 6: 368- 1062، الوسائل 17: 92 أبواب ما يكتسب به ب 5 ح 1.

(5) الكافي 5: 127- 4، الوسائل 17: 93 أبواب ما يكتسب به ب 5 ح 4.

(6) الكافي 5: 126- 2، التهذيب 6: 368- 1061، تفسير القمي 1: 170، الخصال: 329- 25، الوسائل 17: 93 أبواب ما يكتسب به ب 5 ح 5.

(7) سنن الترمذي 2: 397- 1351، سنن ابن ماجه 2: 775-

2313، مسند أحمد 2: 387، مستدرك الحاكم 4: 103.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 71

أحد الخصمين أو منهما أو من غيرهما للحكم على الآخر، و إهدائه و إرشاده في الجملة.

إنّما الكلام في أنّ الحكم أو الإرشاد المأخوذين في مهيّته، هل هو مطلق شامل للحقّ و الباطل، أو يختصّ بالحكم بالباطل؟

مقتضى إطلاق الأكثر و تصريح والدي العلّامة في معتمد الشيعة و المتفاهم في العرف هو: الأول، و هو الظاهر من القاموس و الكنز و مجمع البحرين «1».

و يدلّ عليه استعمالها فيما اعطي للحقّ في الصحيح: عن الرجل يرشو الرجل على أن يتحوّل من منزله فيسكنه، قال: «لا بأس» «2».

فإنّ الأصل في الاستعمال إذا لم يعلم الاستعمال في غيره الحقيقة، كما حقّق في موضعه.

نعم، عن النهاية الأثيريّة ما ربّما يشعر بالتخصيص «3» ككلام بعض الفقهاء، و هو لمعارضة ما ذكر غير صالح، مع أنّ الظاهر أنّ مراد بعض الفقهاء تخصيص الحرمة دون الحقيقة.

و أمّا الثاني: فمقتضى إطلاق الأخبار التعميم.

و قد يخصّ الجواز للمرتشي إذا كان يحكم بالحقّ و إن لم يرتش.

و هو ضعيف غايته.

و قد يخصّ الجواز للراشي إذا كان محقّا و لا يمكن وصوله إلى حقّه بدونها، ذكره جمع كثير «4» منهم الوالد الماجد.

______________________________

(1) القاموس المحيط 4: 336، مجمع البحرين 1: 184.

(2) التهذيب 6: 375- 1095، الوسائل 17: 278 أبواب ما يكتسب به ب 85 ح 2.

(3) النهاية الأثيرية 2: 226، قال: فالراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل.

(4) منهم المحقق في الشرائع 4: 78، و الشهيد الثاني في المسالك 2: 364، و الروضة 3: 75.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 72

و هو حسن، لمعارضة إطلاقات تحريمها مع أدلّة نفي الضرر، فيرجع إلى الأصل

لو لم يرجح الثاني، و لكن الجواز حينئذ مخصوص بالراشي دون المرتشي.

و قد يخصّ أيضا «1» بما إذا أرشى و ارتشى للحكم بالباطل، إمّا لاختصاص حقيقتها بذلك كما مرّ، و ضعفه قد ظهر. أو لتخصيص ذلك بالصحيحة المذكورة المجوّزة للإرشاء للتحوّل من منزله، و يضعّف بأنّ الكلام في الرشا في الحكم دون التحوّل من المنزل.

و أما الثالث: فالفرق بين الرشوة و الهديّة: أنّ الاولى- كما عرفت-:

هي المال المبذول للتوصّل به إلى الحكم ابتداء أو إرشادا. و الثانية: هي العطيّة المطلقة، أو لغرض آخر نحو التودّد أو التقرّب إليه أو إلى اللّه.

و الحاصل: أنّ كلّ مال مبذول لشخص للتوصّل به إلى فعل صادر منه و لو مجرّد الكف عن شرّه لسانا أو يدا أو نحوهما فهو رشوة.

و لا فرق في الفعل- الذي هو غاية البذل- أن يكون فعلا حاضرا، أو متوقّعا، كأن يبذل للقاضي لأجل أنّه لو حصل له خصم يحكم للباذل، و إن لم يكن له بالفعل خصم حاضر و لا خصومة حاضرة.

و كلّ مبذول لا لغرض يفعله المبذول له، بل لمجرّد التودّد أو التقرّب إلى اللّه أو إليه أو لصفة محمودة أو كمال فيه، فهو هديّة، و إن كان الغرض من التودّد و التقرّب إليه الاحتفاظ من شرّ شخص آخر أو التوصّل إلى فعل شخص آخر يوجبه التقرّب و التودّد إليه.

و قد يستعمل لفظ أحدهما في معنى الآخر تجوّزا.

______________________________

(1) يعني: الحكم بالحرمة.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 73

فما كان من الأول، فإن كان الفعل المقصود الحكم فهو حرام مطلقا كما مرّ، سواء كان الحكم لخصومة حاضرة أو فرضيّة، و لذا حكموا بحرمة الهديّة الغير المعهودة قبل القضاء، لأنّه قرينة على أنّ المقصود منه

الحكم و لو فرضا.

و هو كذلك، لصدق الرشوة عرفا، فتشمله إطلاقاتها، و عليه يحمل إطلاق ما ورد في طريق العامّة و الخاصّة كما في أمالي الشيخ: «إنّ هدايا العمّال» كما في بعضها، أو: «هديّة الأمراء» كما في بعض آخر «غلول» أو «سحت» «1».

و تدلّ عليه أيضا رواية أبي حميد الساعدي: قال: استعمل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رجلا- يقال له: اللثّة- على الصدقة، فلمّا قدم قال: هذا لكم و هذا أهدي لي، فقام النبي صلّى اللّه عليه و آله على المنبر فقال: «ما بال العامل نبعثه على أعمالنا يقول: هذا لكم و هذا أهدي لي، فهلّا جلس في قعب بيته أو في بيت امّه فينظر أ يهدى له أم لا، و الذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلّا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته» الحديث «2».

و إن كان غير الحكم، فإن كان أمرا محرّما فهو أيضا كرشوة الحكم محرّم، لكونه إعانة على الإثم و اتّباعا للهوى.

و إن لم يكن محرّما فلا يحرم، للأصل، و اختصاص الأخبار المتقدّمة برشوة الحكم.

و ما كان من الثاني لا يحرم.

و قيل بحرمته للقاضي أيضا إن كان للباذل خصومة حاليّة أو مئاليّة،

______________________________

(1) أمالي الشيخ 1: 268، الوسائل 27: 223 أبواب آداب القاضي ب 8 ح 6.

(2) سنن البيهقي 4: 158.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 74

لإيجابه ميل قلبه، و انكسار قلب خصمه.

و فيه: أنّ إيجاب الميل القلبي لا يوجب التحريم، و حرمة كسر قلب الخصم إنّما تتأتّى في الخصومة الحاضرة أو الواقعة يقينا و لو بعد حين، و مع ذلك يوجب كسر قلبه إذا كان بحيث يطّلع عليه، فلو فرض إهداء شي ء علم أنّ غرضه ليس فعلا

أصلا و لم يطّلع خصمه عليه لا يكون حراما، و أمّا حصول ذلك العلم فهو أمر لا يكاد يحصل غالبا.

و لو لم يعلم مقصوده و أنّ المبذول هل هو من الأول أو الثاني، فمقتضى الأصل الحلّية، إلّا أن تدلّ على قصده القرينة، و منها: عدم الاعتياد قبل القضاء، و منها: حضور خصومة له أو عليه أو حصولها له بعد ذلك علما أو ظنّا.

و لو لم يعتبر ذلك في التميّز لزم عدم حرمة رشوة إلّا ما صرّح به الراشي أنّه للحكم، و هو خلاف الإجماع.

و لو تعارضت القرينتان- كأن يكون ذلك ممّن جرت عادته بذلك قبل حصول الخصومة، كالقريب و الصديق الملاطف، فبذل بعد حضورها أيضا- فالأحوط عدم القبول، بل الأحوط للقاضي سدّ باب الهدايا مطلقا، بل حكم جمع بكراهتها له، و لا بأس به، لفتواهم.

فرع: يجب على المرتشي ردّها على الراشي

- و إن بذلها برضى نفسه- مع بقاء عينها إجماعا، و الوجه فيه ظاهر.

و يجب عليه ردّ عوضها مع تلفها أيضا- و إن لم يكن التلف بتفريطه- وجوبا فوريّا، على المصرّح به في كلام الأصحاب، بل نفي الخلاف بيننا عنه «1»، و عن ظاهر المسالك «2» و غيره: إجماعنا عليه.

______________________________

(1) كما في غنائم الأيام: 675.

(2) المسالك 1: 167.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 75

و هو أيضا فيما إذا كان بذلها من غير رضى الباذل و طيب نفسه ظاهر، و أمّا لو بذلها بطيب نفسه- سيّما إذا حكم له بالحقّ- فإن ثبت الإجماع على ثبوت غرامتها عليه و ضمانه إيّاها مطلقا، و إلّا فللتأمّل فيه- للأصل- مجال واسع.

المسألة الرابعة [صرح جماعة بعدم نفوذ قضاء القاضي على من لا تقبل شهادته عليه، و لا لمن لا تقبل شهادته له ]
اشاره

صرّح جماعة- منهم: المحقق في الشرائع و الفاضل في القواعد و التحرير و الإرشاد و والدي العلّامة رحمه اللّه في معتمد الشيعة- بعدم نفوذ قضاء القاضي على من لا تقبل شهادته عليه، و لا لمن لا تقبل شهادته له «1».

و استدلّوا له بكونه شهادة و زيادة.

و فيه: منع ظاهر. و إطلاقات نفوذ حكم الحاكم يشمل الجميع، فلا مناص عن الحكم بالعموم إلّا أن يثبت الإجماع على ما ذكروه، و لكنّه غير ثابت، بل قال بعض الأجلّة في شرحه على القواعد: و خصّ بعضهم المنع بقاضي التحكيم «2».

و جوّزه المحقّق الأردبيلي، لعموم الأدلّة.

نعم، لا ينفذ حكم الحاكم لنفسه على خصمه إجماعا، لاختصاص النصوص بما يتضمّن الحكم للمتنازعين، أو ما يتبادر منه غير نفسه، بل لإطلاق الأوامر بالرجوع إلى الحاكم، و النظر في التنازع و الحوادث إلى من علم أو عرف، أو رواه الحديث، من غير تفصيل بين العالم و العارف و الراوي و غيرهم، و الرجوع و أمثاله

لا يكون إلّا إلى الغير.

و يدلّ عليه أيضا ما ورد في تنازع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع الأعرابي في

______________________________

(1) الشرائع 4: 71، القواعد 2: 202، التحرير 2: 181.

(2) كشف اللثام 2: 143.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 76

ثمن الناقة «1» و الفرس «2»، و تنازع وليّ اللّه مع عقيل «3» و عبّاس «4». و يؤكّده تصريح الأصحاب بكراهة تولّيه للترافع مع خصمه عند حاكم آخر، و استحباب التوكيل له.

و منه يظهر عدم نفوذ حكمه فيما له الشركة فيه إذا كان هو أو وكيله الخصم، لأنّه حينئذ مأمور بالرجوع إلى الحاكم، و لا معنى لرجوع أحد إلى نفسه.

و أمّا لو كان الخصم شريكه- كأن يدّعي أخوه دارا في يد غيره بحقّ الإرث- ينفذ حكمه في حقّ أخيه، للإطلاقات. و لا يثبت منه حقّه حينئذ، لعدم حكمه لنفسه و عدم نفوذه لو حكم، فلو ترك المدّعى عليه الكلّ نفذ حكمه في النصف و لم يتنازع في نصف الحاكم أيضا فلا بحث، و إن نازع معه يتحاكمان إلى ثالث، و إن حكم بخلاف ما حكم هو لأخيه، كما إذا تحاكم كلّ من الشريكين مع خصمه إلى حاكم غير ما تحاكم به الآخر فحكما كذلك، كلّ بحكم غير حكم الآخر.

و كذا إن ادّعى أحد على أخيه حصّته من دار مورّثه ينفذ حكم الحاكم لأخيه فيه، و لا تسقط به دعوى المدّعي في حصّة الحاكم، فلو ادّعى يتحاكمان إلى ثالث.

فإن قيل:

ثبوت حقّ الشريك يستلزم ثبوت حقّ الحاكم أيضا، فثبوت

______________________________

(1) الفقيه 3: 60- 210، أمالي الصدوق: 90 مجلس 22، الانتصار: 238، الوسائل 27: 274 أبواب كيفية الحكم ب 18 ح 1.

(2) الكافي 7: 400- 1، الفقيه 3:

62- 213، الوسائل 27: 276 أبواب كيفية الحكم ب 18 ح 3.

(3) مناقب آل أبي طالب 2: 109.

(4) رجال الكشي 1: 279- 109، 110.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 77

المحكوم به لشريكه دون نفسه يستلزم تخلّف الملزوم عن اللّازم، و هو باطل البتّة، فيجب إمّا عدم نفوذ الحكم أصلا، أو ثبوت المحكوم به في حصّة الحاكم أيضا، بأن يثبت للشريك- لعمومات نفوذ حكم الحاكم للغير- و لنفسه لأجل الاستلزام، و لكن ثبوته فيما له شركة فيه خلاف الإجماع القطعي، فلا بدّ أن لا ينفذ في شي ء منهما.

قلنا:

ليست هذه اللوازم لوازم عقليّة لا يمكن تخلّفها عن الملزوم، بل أمور شرعيّة قابلة للتخصيص، فالعمومات توجب نفوذ الحكم في حقّ الشريك، و الإجماع يمنع نفوذه في حقّ الحاكم، لأنّ بالإجماع تنفى الملازمة هنا، و لا يمكن نفي ثبوت الملزوم، لعدم الإجماع فيه، و كون عمومات النفوذ خالية عن المعارض.

و هل ينفذ حكمه لمن له الولاية بالأبوة أو الجدودة أو الوصاية عليه، أم لا؟

قال في التحرير: و لو تولّى وصيّ اليتيم القضاء فهل يقضي له؟ فيه نظر ينشأ من كونه خصما في حقّه كما في حقّ نفسه، و من أنّ كلّ قاض هو وليّ الأيتام «1». انتهى.

و التحقيق: أنّه إن كان الخصم و المنازع هو الحاكم فلا ينفذ حكمه و لا بدّ من الرجوع إلى الغير، و إن كان غيره- كشريك لمن هو وليّه- فينفذ حكمه في حصّة الشريك و المولّى عليه له.

أمّا في حصّة الشريك فبعمومات نفوذ حكمه.

و أمّا في حصّة المولّى عليه فبأدلّة الملازمة بين ثبوت ذلك المال و بين

______________________________

(1) التحرير 2: 181.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 78

شركة المولى عليه، فإذا حكم أنّه مال

مورّث الشريك فثبت حقّ المولّى عليه بأدلة الإرث.

بل و كذا غير المولّى عليه و المدّعي، فلو ثبت بعد دعوى المدّعي كون الملك الفلاني مال مورّثه و حكم بحصّته له ثبتت حصّة سائر الكبار أيضا، فلهم المطالبة بذلك الإثبات من غير حاجة إلى إقامة الشاهد ثانيا.

نعم، لو اعترف ذلك بعدم حقّيّة نفسه يعارض ذلك دليل الاستلزام و يرجع إلى الأصل.

فإن قيل:

ما الفرق بين حصّة الحاكم نفسه، فكانت لا تثبت بالاستلزام و تثبت حصّة من له الولاية عليه؟

قلنا:

الفارق هو الإجماع المتقدّم، فإنّه معلوم في حصّة نفسه، و لولاه لقلنا بثبوتها أيضا، و لا إجماع هنا حتى من جهة ما يثبت للحاكم أيضا من التسلّط في التصرّف بحقّ الولاية، إذ لم يتحقّق الإجماع إلّا في حصّته الماليّة.

و كذا الحكم في سائر الأيتام و المجانين و الغيّب الذي له الولاية عليه عموما، فلا ينفذ حكمه لهم لو كان هو الخصم و المنازع، و ينفذ حكمه لو كان المنازع غيره، من قيّم من جانبه على أمورهم، أو من جانب حاكم آخر.

و ليس القيّم كالوكيل في المخاصمة و التنازع، حتى يكون هو بمنزلة الموكّل، بل هو بمنزلة الوكيل لمن هو قيّم له، جعله الحاكم وكيلا له بحقّ ولايته لا وكيلا لنفسه، و لذا يفترق مع الوكيل في أنّه لا يشرط في الوكيل الوثاقة و العدالة و يشترط في القيّم، و يجوز له إجراء العقود بقيد الاحتساب دون الوكالة.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 79

و لو كان القيّم هو الحاكم، و وكّل أحدا في المنازعة، فلا ينفذ حكمه.

و كذا لا ينفذ حكمه لو وكّل أحدا من جانب نفسه لولايته على ولده الصغير أو ولد موصيه في منازعة.

و لو وكّله في جميع

أموره عموما من غير سبق نزاع فاتّفقت المنازعة، فهل ينفذ حكمه لوكيله؟ فيه إشكال.

كما أنّه يشكل الحكم بجواز جعل أحد قيّما لأحد هذين الصغيرين لا وكيلا لنفسه حتى ينفذ حكمه له.

و الأولى و الأحوط حينئذ الرجوع في المنازعة إلى حاكم آخر.

و لو لم يكن هناك غيره فالأولى التوصّل بالحيل الشرعيّة، فتنقل حصّة المولّى عليه إلى غيره مع خيار فسخ في مدّة معلومة، فيحكم للمنتقل إليه ثمَّ يفسخ.

فرع: لو باشر الحاكم بنفسه عقدا لغيره بوكالته كبيع أو نكاح، ثمَّ حصل النزاع فيه بين متنازعين، ينفذ حكم الحاكم فيه

، للإطلاقات.

و لا يضرّ كونه وكيلا، لأنّه كان وكيله في مجرّد إيقاع عقد، و تمّت الوكالة، و ليس مثل ذلك الوكيل ممّن يردّ قوله.

و لو باع عن بالغ غير رشيد لأحد ولاية، و باع أبوه أيضا لآخر كذلك، أو نكح غير رشيدة بظن الولاية، و نكحت نفسها لآخر، فتنازع المتبايعان أو الزوجان، ينفذ حكم ذلك الحاكم لمن حكم لهما، سواء كان النزاع في الرشد و عدمه، أو في إجراء العقد و عدمه، أو في صحّة عقد الحاكم عن الرشيد و الرشيدة و عدمه، للإطلاقات.

المسألة الخامسة: إذا حكم حاكم بحكم، لم يجب على حاكم آخر البحث عنه

، و جاز له إمضاؤه إذا اعتقده أهلا، بل يجب، للمقبولة.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 80

لكن لو نظر فيه جاز، فإن ظهرت إصابته أو لم يظهر شي ء من الصواب و الخطأ وجب الإمضاء.

و كذا إن ظهرت مخالفته لما هو صواب في نظر الثاني من الأدلّة الظنّية المحتملة للمخالفة.

و إن ظهر خطوة في دليل قطعيّ غير متحمّل لقبول المخالفة من المجتهدين، لم يجز إمضاؤه، بل وجب عليه و على غير ذلك الحاكم نقضه، سواء خفي الدليل على الحاكم الأول أو لا، و سواء أنفذه الحاكم الأول أو لا، و سواء أنفذه الجاهل به أم لا، للإجماع- كما صرّح به بعض الأجلّة في شرحه على القواعد أيضا «1»- و للقطع بأنّه خلاف حكم اللّه، فإمضاؤه إدخال في الدين ما ليس منه و حكم بغير ما أنزل اللّه، فيدخل في نصوص من حكم به، أو لم يحكم بما أنزل اللّه.

و كذا إن ظهر خطوة في دليل ظنّي عنده لأجل تقصيره في القدر اللّازم من الاجتهاد عند الأول، بل ينقض مع التقصير و لو اتّفق مطابقته لطريقة اجتهاده.

و الحاصل: إنّ الموجب للنقض أحد

الأمرين: إمّا الخطأ في الدليل القطعي، أو التقصير في الاجتهاد، إذ ليس الحكم في الصورتين حكم اللّه في حقه قطعا.

و لكن فهم التقصير في الاجتهاد إذا لم يخالف دليلا قطعيّا ممّا لا يظهر لغير نفسه غالبا و إن أمكن أحيانا، فالفائدة في الأغلب تظهر في جواز نقض نفسه حكمه أو وجوبه.

______________________________

(1) كشف اللثام 2: 154.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 81

و الظاهر أنّ صورة التقصير مراد من أطلق جواز النقض مع المخالفة، كالشيخ و ابن حمزة و ابني سعيد و الفاضل في التحرير و الإرشاد «1».

و أمّا بدون التقصير بحسب اجتهاده فلا ينقض حكمه، لا من نفسه و لا من غيره، و إن ظهر له بعد الاجتهاد دليل ظنّي يكون حجّة عنده حال الحكم من غير وجود ما يصلح لمعارضته، لأنّ الأدلّة الظنّية ليست كاشفة عن الأحكام الواقعيّة، و إنّما هي أمارات للأحكام الظاهريّة، فإذا لم يقصّر في استفراغ وسعه و بذل جهده بقدر ما أدّى اجتهاده إلى كفايته من السعي يكون الحكم حكم اللّه في حقّه و حقّ من يحكم له و عليه، فلا وجه للنقض.

و ما ذكرنا هو الضابط في المقام، بل هو مراد من تعرّض للمسألة من الأصحاب، و إن اختلف عبارتهم في تأدية المرام.

المسألة السادسة: لا ينقض الحكم بتغيّر الاجتهاد

، لأنّ الحكم كان ذلك في حقّهم قبل التغيّر، إلّا إذا كان التغيّر لأحد الأمرين المتقدّمين.

و لو تغيّر قبل تمام الحكم وجب بناؤه على الرأي الثاني.

المسألة السابعة: لو ادّعى المحكوم عليه عدم أهليّة الحاكم لعدم اجتهاده أو لفسقه

- و هذا إنّما يتصوّر إذا كان المحكوم عليه غائبا حين الحكم، أو ادّعى ظهور عدم أهليّته حال الحكم بعده مع زعمه أولا أهلا- فالخصم في تلك الدعوى يكون هو المحكوم له، و قد يكون الحاكم أيضا إذا كانت الدعوى ممّا يوجب ضمانا أو تعزيرا عليه.

ثمَّ هل تسمع تلك الدعوى على المحكوم له، أم لا؟

______________________________

(1) الشيخ في المبسوط 8: 101، 102، و ابن حمزة في الوسيلة: 209، و ابن سعيد في الجامع للشرائع: 529، و المحقق في الشرائع 4: 75، التحرير 2: 184، الإرشاد 2: 141.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 82

استوجه في الشرائع و المسالك عدم السماع، و عدم تسلّطه على حلفه «1».

و صرّح في الدروس بعدم سماع الدعوى على المحكوم له بفسق الحاكم على سبيل الإطلاق «2».

و تردّد في التحرير في ذلك كذلك «3».

و استشكل فيه في القواعد، و لكن في صورة عدم البيّنة «4».

و كذا في الكفاية، إلّا أنّه حكم بعدم السماع مع عدم البيّنة «5».

و ظاهر الأخيرين- بل الأولين أيضا- سماع الدعوى مع البيّنة.

و أظهر منهما عبارة الشهيد في غاية المراد، قال: إذا ادّعى المنكر جرح الشهود أو الحاكم كلّف البيّنة، فإن فقدها و ادّعى علم المدّعي بذلك، ففي توجّه اليمين على المدّعي وجهان. و صرّح بعض فضلائنا المعاصرين بأنّ النزاع في السماع و عدمه إنّما هو في صورة فقد البيّنة، و أمّا معها فلا نزاع في السماع.

قال: فدعوى فسق الحاكم ممّا لا ينبغي النزاع في مسموعيّتها، إنّما النزاع في صورة تكون دعوى المنكر

علم المدّعي بالفسق حتى ينحصر دفع النزاع بالحلف على عدم العلم، فإذا ادّعى المحكوم عليه بعد الحكم فسق الحاكم فيسمع و يطالب منه البيّنة، فإن أقامها فيبطل الحكم و إن بقي أصل الدعوى، و إن فقدت البيّنة فالقاعدة توجّه اليمين على المنكر.

______________________________

(1) الشرائع 4: 107، المسالك 2: 387.

(2) الدروس 2: 85.

(3) التحرير 2: 189.

(4) القواعد 2: 208.

(5) الكفاية: 274.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 83

و لكن لما كان الفسق فعل الحاكم و لا يصحّ الحلف على نفي فعل الغير- بل إنّما يصحّ حلف نفي العلم، و هو موقوف على دعوى العلم، بأن ادّعى المنكر علم المدّعي بالفسق- فهذا هو الذي استشكلوا فيه و صار معركة للنزاع «1». انتهى.

و لكن صريح المحقّق الأردبيلي تحقّق النزاع في صورة وجود البيّنة أيضا، قال ما ملخّصه: و لو ادّعى المنكر بعد إقامة البيّنة فسق الشهود أو القاضي فيمكن أن يسمع و يطالب بالبيّنة، فإن أثبته بالبيّنة فلا يثبت الحكم، و يمكن أن لا يسمع.

و إن لم تكن بيّنة و ادّعى علم المدّعي، فإن أقرّ المدّعي به توقّف الحكم إن كان قبله و إن كان بعده أبطله، و إن أنكر المدّعي فهل له تحليفه على عدم العلم بذلك، أم لا؟ استشكله المصنّف و غيره انتهى.

و كيف كان، فالحقّ سماع الدعوى في صورة وجود البيّنة و عدمها إن كانت الدعوى على المحكوم له، لعمومات سماع الدعوى و القضاء و عدم المخصّص.

و هل المدّعي المكلّف على الإثبات: المحكوم له، أو المحكوم عليه؟

قال بعض الفضلاء المعاصرين: إن كان القاضي معروفا بالعدالة فعلى القادح إثبات الجرح، و إن كان خامل الذكر فعلى المعدّل إثباته «2».

أقول:

دعوى المحكوم عليه إمّا تكون عدم علمه بأهليّة الحاكم

فلا ينفذ حكمه عليه، أو علمه بعدم أهليّته و فسقه.

فإن كان الأول، فلا ينبغي الريب في كون الإثبات على المحكوم له،

______________________________

(1) انظر جامع الشتات: 677.

(2) انظر جامع الشتات: 677.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 84

و لو بالمعروفيّة و الاستفاضة.

و إن لم يكن له دليل مثبت فله تحليف المحكوم عليه لو ادّعى علمه بالأهليّة.

و لو لم يدّع علمه لم يسلّط على تحليفه، و يعمل فيه بالأصل، و هو عدم نفوذ حكمه عليه.

و إن كان الثاني، فمع عدم المعروفيّة لا ريب أيضا في كون الإثبات على المحكوم له، فإن أثبت، و إلّا فله تحليف المحكوم عليه، فإن حلف بطل الحكم، و إن نكل ثبت، و إن ردّ الحلف انعكس.

و أمّا مع المعروفيّة فالإثبات على المحكوم عليه، فإن أثبته بالبيّنة فهو، و إلّا فإن ادّعى علم المحكوم له فله تحليفه و إيقاف الحكم أو إبطاله، و إن لم يدّعه فتسقط دعواه.

احتجّ المحقّق الأردبيلي على عدم سماع البيّنة مطلقا بأنّه أمين الإمام، و فتح هذا الباب موجب لعدم إجراء الأحكام و الطعن في الحكّام، فلا يقبلون القضاء.

و فيه: أنّ كونه أمينه في زمن الغيبة فرع أهليّته، فإن ثبت الفسق فليس أمينا، و إلّا يمكن سدّ باب تفسيق سائر الحكّام بتعزير المدّعي، حيث أهان العلماء، مع أنّ العدول و الحاكم الآخر أيضا أمناء اللّه، فإن كان الحاكم الأول أمينا لا يقدحون فيه. و لا يضرّ القدح، بل ذلك موجب لسعي القضاة في الاجتناب عن العيوب أو سترها، و هو أيضا مصلحة تامّة.

و احتجّوا على عدم السماع بدون البيّنة بأمرين، أحدهما: لزوم الفساد.

و الثاني: أنّه ليس حقّا لازما يثبت بالنكول و لا بيمين الردّ.

و يضعّف الأول بالمنع أولا، فإنّه أيّ

فساد في دعوى ذلك؟! و قد

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 85

يدّعى على الحاكم نفسه بدعاوي، و هي غالبا متضمّنة لتفسيقه من الكذب أو الخيانة.

و ثانيا بالمعارضة، فإنّ عدم سماعها قد يستلزم ضياع حقّ خطير سهل الإثبات، أو إتلاف دم، أو تحليل بضع محرّم، أو تحريم محلّل، و يستلزم جريان حكم شخص مجهول الحال أو معلوم الفسق لأحد عليه بدون لزوم شرعي.

نعم، لهذا الكلام وجه في القضاة المنصوبة من الإمام حال الحضور، و كأنّه ذكره العامّة و أخذه بعض أصحابنا و أجروه مطلقا، و إلّا فكيف يرضى أحد بأن يقول: إنّه إذا ورد أحد- مع مال خطير أو جارية جميلة- قرية أو بلدة و ادّعى عليه شخص مجهول أنّ المال ماله و الجارية جاريته، و حكم شخص في زيّ العلماء له بذلك، و أنّه يجب على ذلك الشخص تسليم المال و الجارية و إن لم يعرف ذلك الشخص أو عرف فسقه و دنوّ مرتبة علمه، و لم يسمع منه عذر و لا إرجاء «1»، سيّما في مثل تلك الأزمنة التي تصدّى فيها كلّ متغلّب في كلّ قرية أو بلدة للحكم؟! و يضعّف الثاني: بالمنع، و لم ليس حقّا لازما و لا غير ثابت بالنكول و ردّ اليمين إذا ادّعى على المحكوم له أنّ ما أخذه لم يكن بالاستحقاق لعدم أهليّة الحاكم واقعا أو عنده؟! هذا إذا كان التّداعي مع المحكوم له.

و لو ادّعى ما يوجب ضمانا أو تعزيرا على الحاكم فهو خصمه و عليه الإثبات، لادّعائه أمرا مخالفا للأصل، و لأنّه الذي لو ترك ترك، و عدم ثبوت

______________________________

(1) في «س»: ادعاء.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 86

دخوله تحت إطلاقات نفوذ حكمه بعد.

فإن أثبت

فهو، و إلّا فيحلف المحكوم عليه إمّا على عدم الأهليّة إن أنكرها، أو على عدم علمه بالأهليّة إن اكتفى بعدم العلم، الذي هو أيضا موجب لعدم نفوذ حكمه عليه بدون ثبوت الأهليّة.

فإن حلف بطل الحكم و ضمن الحاكم، و إلّا سقط حقّه، و إن ردّ الحلف فيحلف خصمه و يسقط عنه الضمان.

و لو ادّعى المحكوم عليه خطأ الحاكم بما لا يعذر فيه، أو تقصيره، أو جوره في الحكم، أو حكمه بشهادة الفاسقين عنده، و نحوه، فالخصم أيضا إمّا المحكوم له أو الحاكم كما مرّ، و يجب إحضار المدّعى عليه، وفاقا للشيخ و المحقّق و المسالك، بل نسبه فيه إلى الأكثر «1»، و كذا في شرح الإرشاد للأردبيلي في دعوى الحكم بشهادة الفاسقين، للعمومات المشار إليها.

إلّا أنّ الإثبات حينئذ على المحكوم عليه، و هو المدّعي، لأنّ مقتضى إطلاقات نفوذ حكم الحاكم قبول حكمه مطلقا، إلّا إذا ثبت خلافه، فإن لم يثبت فعلى المدّعى عليه اليمين.

ثمَّ في جميع الدعاوي المذكورة إن كان هناك حاكم يقبله الخصمان يتحاكمان إليه، و إلّا فيكون كسائر الدعاوي التي لا حاكم فيها، فلا تسلّط لمن عليه الإثبات على خصمه، بل يعمل بالأصل حتى يظهر الأمر.

و قد يستشكل في سماع هذه الدعاوي أيضا بإيجابه إهانة الحكّام و تزهّدهم في الحكم.

و إيجابه للعسر و الحرج.

______________________________

(1) الشيخ في المبسوط 8: 103، و المحقق في الشرائع 4: 83، 107. المسالك 2: 360.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 87

و إفضائه إلى التسلسل.

و يجاب عن الأول: بمعارضته بإيجاب عدم السماع لإبطال حقوق الناس، مع أنّه إن ثبت ما يدّعيه فلا بأس بالإهانة، بل ينبغي أن يستهان، و إلّا فلا إهانة، بل ربّما يوجب العزّة.

و الثاني: بمعارضته أيضا

بإيجاب العسر و الحرج على الناس في تضييع حقوقهم لو لم تسمع.

و الثالث: بمنع الإفضاء.

و لو ادّعى المحكوم عليه حكم الحاكم بالفاسقين «1»- مع عدم علمه بفسقهما و خطئه في التعديل من غير تقصير منه- فلا يسمع، لأنّ المناط في الحكم: العدالة عند الحاكم دون غيره.

نعم، لو أراد تبيين فسقهما عند الحاكم نفسه بعد حكمه فظاهرهم سماعه و نقض حكمه لو ثبت عنده. و يجي ء تحقيقه.

و لو ادّعى على الحاكم- القاضي بعلمه بالواقعة أو بعدالة الشهود أو نحوهما- كذبه لم يسمع منه، لأنّ قوله حجّة.

المسألة الثامنة: لو تبيّن خطإ القاضي في دم أو قطع عضو أو مال

، فإن لم يجر الحكم بعد في الأولين يمنع من إجرائه، أو كانت العين باقية في الثالث و لو عند المحكوم له فتستردّ.

و إن كان بعد جريان الحكم و تلف العين، فإن ثبت جور القاضي عمدا أو تقصيره في الاجتهاد ضمن، و الوجه واضح.

و إن كان مع ذلك خصومة المحكوم له عدوانا، فإن كان هو مباشرا

______________________________

(1) يعني بشهادة الفاسقين.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 88

للقطع أو القتل أو الإتلاف فهو الضامن، لتقديم المباشر على السبب، و إن لم يكن مباشرا- كما إذا حكم القاضي بعد دعواه فقتل أو قطع وكيل المحكوم له- فيحتمل جواز رجوع المحكوم عليه إلى كلّ من القاضي و الخصم.

و إن كانت خصومته جهلا بالمسألة فالظاهر أنّ الضمان على القاضي.

و إن كان الحكم من القاضي بعد بذل جهده فلا ضمان عليه أصلا، للأصل و عدم الدليل. بل على بيت المال إن كان في دم أو قطع، لرواية الأصبغ بن نباتة: «ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فعلى بيت مال المسلمين» «1».

و إن كان في مال، فمع بقاء عينه يستردّ، و إن كانت تالفة فالمصرّح به

في كلام جماعة أنّه أيضا على بيت المال، فإن ثبت إجماع مركّب فيه، و إلّا فالحكم به مشكل، لاختصاص النص بالدم و القطع.

و لا يبعد كونه على المحكوم له إن كانت خصومته عدوانا، و عدم ضمان أحد إن كان جهلا.

و كذا فيما على بيت المال إذا لم يكن هناك بيت مال، للأصل، و عدم دليل على تضمين شخص.

نعم، في صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج: قال: كان أبو عبد اللّه عليه السّلام قاعدا في حلقة ربيعة الرأي، فجاء أعرابي سأل ربيعة الرأي، فأجابه، فلمّا سكت [قال له الأعرابي: أ هو في عنقك؟ فسكت ] «2» ربيعة و لم يردّ عليه شيئا، فأعاد المسألة عليه، فأجابه بمثل ذلك، فقال

______________________________

(1) الفقيه 3: 5- 16، التهذيب 6: 315- 872، الوسائل 27: 226 أبواب آداب القاضي ب 10 ح 1.

(2) أثبتناه من المصدر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 89

الأعرابي: أ هو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «هو في عنقه» قال: «أو لم يقل، و كلّ مفت ضامن» «1».

و لكنّ الظاهر منها أنّ المراد بالضمان: كون إثمه و أجره في عنقه، و إلّا فمجرّد الإفتاء لا يوجب الضمان، أو المراد: الضمان مع التقصير و الخطأ، إذ لا ضمان بدونهما إجماعا، فتأمّل.

المسألة التاسعة: لو ترافعا عند مجتهد و تمَّ قضاؤه لا يجوز لهما الترافع عنده أو عند غيره ثانيا في هذه الواقعة بخصوصها

، و لو ترافعا لا يجوز للحاكم سماع الدعوى فيه إلّا إذا ادّعي خطأ و نحوه، و هي دعوى اخرى.

و لو لم يتمّ القضاء يجوز الترافع عند الغير، و لا يجب عليهما الإتمام عند الأول، فلو أقام مدّع شهوده عند مجتهد لم يعرفهم و طلب التزكية يجوز للمدّعي ترك المرافعة عنده و الترافع عند حاكم آخر يعرفهم، للأصل، و عدم دليل على التعيين بالشروع

في المرافعة أصلا.

المسألة العاشرة: إذا كان الحاكم عالما بالحقّ

، فإن كان إمام الأصل فيقضي بعلمه مطلقا إجماعا، و إن كان غيره فكذلك على الحقّ المشهور كما صرّح به جماعة، بل عن الانتصار و الغنية و الخلاف و نهج الحق و ظاهر السرائر: الإجماع عليه «2».

لأدلّة وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و القول باختصاصها بما إذا كانت الدعوى عدوانا و ظلما، فلا تجري

______________________________

(1) الكافي 7: 409- 1، الوسائل 27: 220 أبواب آداب القضاء ب 7 ح 2.

(2) الانتصار: 237، الغنية (الجوامع الفقهية): 624، الخلاف 2: 602، نهج الحق:

563، السرائر 2: 179.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 90

فيما إذا جهل المدّعي أو المنكر الحقّ.

غير صحيح، لأنّ الاختصاص إنّما هو في النهي عن المنكر، و أمّا الأمر بالمعروف فجار في جميع الصور.

و لعموم أدلّة الحكم مع وجود الوصف المعلّق عليه، كقوله تعالى:

وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ «1» و الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي «2».

و قوله تعالى فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً «3».

و أدلة إعانة الضعيف و إغاثة الملهوف و دفع الظلم عن المظلوم، فإنّ كلّ ذلك يدلّ على المطلوب.

و يدلّ عليه أيضا قوله سبحانه وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ - فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «4»، فإنّ العالم بالحقّ إن سكت فيكون ممّن لم يحكم بما أنزل اللّه، و إن حكم بغير ما يعلم فكذلك بزيادة الحكم بغير ما أنزل اللّه.

و قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «5».

و ظاهر أنّ كلّا من السكوت و الحكم بغير ما يعلم حقّا ترك للحكم بالعدل الذي هو المأمور به.

و قوله عزّ و جلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ «6».

______________________________

(1) المائدة:

38.

(2) النور: 2.

(3) النور: 4.

(4) المائدة: 44، 45، 47.

(5) النساء: 58.

(6) النساء: 135.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 91

و قوله عزّ و جلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ «1».

فإنّ جميع ما ذكر يدلّ على وجوب الحكم بما يعلم أنّه حقّ، و أنه معروف، و أنّه ما أنزل اللّه، على كلّ أحد. إلّا أنّ نفوذه منه و وجوب اتّباعه و إمضائه يحتاج إلى الدليل، حيث إنّه خلاف الأصل، و الدليل في أهل الحكم موجود، فيجب عليه الحكم، و يجب على الناس اتّباعه.

و يدلّ عليه أيضا قوله في مرفوعة البرقي المتقدّمة: «رجل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة» «2»، دلّت على جواز الحكم للعالم، و دلّت أدلّة نفوذ حكم الحاكم على وجوب اتّباعه.

و يمكن أن يستدلّ له أيضا برواية أبي ضمرة: «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنّة ماضية من أئمّة الهدى» «3»، فإنّ سنّتهم كانت قضاءهم بما يعلمون كما دلّت عليه الأخبار.

و بصحيحة زرارة: في قوله تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ «4» «فالعدل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الإمام من بعده يحكم به فهو ذو عدل، فإذا علمت ما حكم به رسول صلّى اللّه عليه و آله و الإمام فحسبك و لا تسأل عنه» «5».

و تدلّ عليه أيضا رواية الحسين بن خالد: «الواجب على الإمام إذا نظر إلى الرجل يزني أو يشرب خمرا أن يقيم عليه الحدّ، و لا يحتاج إلى

______________________________

(1) المائدة: 8.

(2) في ص 8 و 9.

(3) الكافي 7: 432- 20، التهذيب 6: 287- 796، الخصال: 155- 195، الوسائل 27: 231 أبواب كيفية الحكم ب 1 ح 6.

(4) المائدة: 95.

(5) التهذيب 6:

314- 867، الوسائل 27: 70 أبواب صفات القاضي ب 7 ح 26.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 92

بيّنة مع نظره، لأنّه أمين اللّه في خلقه» «1» الحديث.

و لا يضرّ احتمال إرادة إمام الأصل، لعموم العلّة، فإنّ العالم أيضا أمين اللّه، كما في رواية إسماعيل بن جابر: «العلماء أمناء» «2».

و في رواية السكوني: «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا» «3» الحديث.

و المرويّ في تحف العقول، و فيه: «مجاري الأمور و الأحكام على أيدي العلماء باللّه الامناء على حلاله و حرامه» «4».

و يدلّ عليه أيضا ما ذكره السيّد من إطباق الإماميّة على إنكارهم على أبي بكر في توقّفه على الحكم لفاطمة، مع علمه بعصمتها و طهارتها و أنّها لا تدّعي إلّا حقا «5».

و قد يستدلّ أيضا بوجوه أخر غير تامّة، كالإجماع المنقول.

و كون العلم أقوى من البيّنة.

و استلزام عدمه إمّا إيقاف الأحكام أو فسق الحكّام، لأنّهم إن حكموا بخلاف معلومهم يلزم الفسق، و إلّا الإيقاف.

فإنّ في الأول: عدم الحجّية.

و في الثاني: عدم معلوميّة العلّة في البيّنة حتى يقاس عليها العلم.

و في الثالث: منع الفسق إذا لم يدلّ دليل على جواز حكمه بعلمه.

______________________________

(1) الكافي 7: 262- 15، التهذيب 10: 44- 157، الاستبصار 4: 216- 809، الوسائل 28: 57 أبواب مقدمات الحدود ب 32 ح 3.

(2) الكافي 1: 33- 5.

(3) الكافي 1: 46- 5.

(4) تحف العقول: 169.

(5) الانتصار: 238.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 93

خلافا لما حكاه السيّد و جماعة عن الإسكافي، فلم يجوّز عمل غير الإمام بعلمه مطلقا «1»، بل ربّما ينسب إليه عدم تجويزه عمل الإمام أيضا.

و نسب في شرح المفاتيح القول بعدم جواز عمل غير الإمام إلى السيّد. و هو غريب، فإنّه

ادّعى إطباق الإماميّة على الجواز، و غلّط الإسكافي أشدّ التغليط و خطّأه.

و للمحكيّ عن ابن حمزة، فخصّ الجواز بحقوق الناس «2»، و حكي ذلك عن الحلّي أيضا «3»، و كلامه في قضاء السرائر عامّ «4».

و للمحكيّ عن الإسكافي في المختصر الأحمدي، فخصّه بحقوق اللّه «5».

و لا مستند لشي ء من هذه الأقوال، إلّا اعتبارات ضعيفة أو وجوه مرجوحة، لا تصلح لمعارضة ما مرّ.

كما أنّه يستدلّ للأول: بأنّه موضع التهمة و موجب لتزكية النفس.

و للثاني: بالنبويّ في قضية الملاعنة: «لو كنت راجما بغير بيّنة لرجمتها» «6».

و بمثل قوله في الروايات المستفيضة: «لا يرجم الزاني حتى يقرّ أربع مرّات بالزنا إذا لم يكن شهود» «7».

______________________________

(1) كما في الانتصار: 237، و حكاه أيضا الفاضل المقداد في التنقيح 4: 242.

(2) الوسيلة: 218.

(3) حكاه فخر المحققين في الإيضاح 4: 313، و السبزواري في الكفاية: 263.

(4) السرائر 2: 179.

(5) كما في المسالك 2: 355.

(6) سنن ابن ماجه 2: 855- 2560، مسند أحمد 1: 336.

(7) الوسائل 28: 103 أبواب حد الزنا ب 16.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 94

و قوله: «لا يرجم الرجل و المرأة حتى يشهد عليه أربعة شهود» «1».

و للثالث: بمثل رواية البصري: خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ، فلا تكون له بيّنة بماله، قال: «فيمين المدّعى عليه» «2»، حيث ترك الاستفصال فيها.

و مرسلة يونس: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان، فإن لم يكن امرأتان فرجل و يمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه» «3» الحديث.

و بالأخبار القائلة بأنّ البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر «4».

و في الأول: منع الكلّية.

و في الثاني: عدم ثبوت الرواية.

و في

البواقي: أنّها معارضة لما مرّ، و ما مرّ راجح بموافقة الكتاب و عمل الأصحاب و أصل الجواز. و به يجاب أيضا عن دليل اتقاء موضع التهمة فيما كان محلّا للتهمة، إلّا أن يوجب عسرا و حرجا أو ضررا، فيمكن حينئذ نفي الوجوب.

هذا، مع إمكان منع اختصاص البيّنة في عرفهم بالشاهد و عدم صدقه على علم الحاكم.

______________________________

(1) الكافي 7: 184- 4، التهذيب 10: 2- 1، الاستبصار 4: 217- 812، الوسائل 28: 95 أبواب حد الزنا ب 12 ح 4.

(2) الكافي 7: 415- 1، التهذيب 6: 229- 555، الفقيه 3: 38- 128، الوسائل 27: 236 أبواب كيفية الحكم ب 4 ح 1.

(3) الكافي 7: 416- 3، التهذيب 6: 231- 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم ب 7 ح 4.

(4) الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم ب 3.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 17    95     المسألة العاشرة: إذا كان الحاكم عالما بالحق ..... ص : 89

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 95

و إمكان اختصاص الاستخراج بما يحتاج إليه، و المعلوم للحاكم لا يحتاج إلى استخراج.

مع أنّ مدلول أخبار البيّنة و اليمين أنّ كلّ بيّنة فهي على المدّعي، لا أنّ كلّ مدّع تجب عليه البيّنة.

مع أنّ الظاهر منها أنّها في صورة الجهل بالواقعة، فالبيّنة شأنها التبيين و لا تبيين في المبيّن.

هذا، ثمَّ إنّ المانع من القضاء بالعلم استثنى صورا:

منها: تزكية الشهود و جرحهم.

و منها: الإقرار في مجلس القضاء و إن لم يسمعه غيره.

و منها: إقرار الخصم مطلقا.

و منها: العلم بخطإ الشهود و كذبهم يقينا.

و منها: تعزير من أساء أدبه في مجلسه و إن لم يعلم غيره.

و منها: أن يشهد معه آخر، فإنّه لا يقصر عن

شاهد، و اللّه العالم.

المسألة الحادية عشرة: لو جنّ الفقيه أو أغمي عليه أو فسق ثمَّ عاد إلى الحالة الأولى، تعود نيابته و ولايته

من غير نزاع على الظاهر، كما قاله المحقّق الأردبيلي، لدخوله بعد العود تحت العمومات و الإطلاقات.

و أمّا ما ترى في كتب الأصحاب- من الخلاف في ذلك، و فتوى الأكثر بعدم العود- فإنّما هو في القاضي المنصوب من قبل الإمام الثابت قضاؤه بالتخصيص دون التعميم.

المسألة الثانية عشرة: إذا كان تنازع المتخاصمين عند حاكم في أمر لاختلاف المجتهدين فيه:
اشاره

كأن يتنازع الولد الأكبر مع غيره في أخذ الحبوة مجّانا أو بحساب

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 96

إرثه، أو فيما يحبى به.

أو ادّعى أحد الشركاء الثلاثة الشفعة و أنكرها الآخران.

أو تنازع المتبايعان في نجاسة المبيع و عدمها.

أو تنازعت البكر و وليها في الاستقلال في العقد و عدمه.

أو تنازعا في دية جناية اختلف العلماء في مقدارها. إلى غير ذلك.

يجب على الحاكم المترافع إليه الحكم في الواقعة بمقتضى رأيه و فتواه إجماعا، لأنّه حكم اللّه عنده و في حقّ كلّ من يقلّده أو يترافع إليه.

و لا يفيد تقليد أحدهما مجتهدا آخر يخالف رأيه رأي ذلك المجتهد، أو كونه مجتهدا مخالفا لذلك المجتهد، إذ لم يثبت- من أدلّة وجوب عمل المجتهد باجتهاده أو المقلّد باجتهاد مجتهده- الوجوب في ترتّب الأثر، حتى في موضع مزاحمة حقّ غيره، لو بنى ذلك الغير على اجتهاد مخالف لاجتهاده.

و الحاصل: أنّ الثابت ليس أزيد من ترتّب آثار اجتهاده أو تقليده فيما هو حقّ نفسه ممّا ليس له مزاحم من حقوق الغير، و إلّا فلا دليل.

ثمَّ المراد برأيه و فتواه ليس ما هو فتواه في جميع أجزاء الواقعة المتنازع فيها، فإنّه قد تكون فتواه فيها وجوب البناء على فتوى غيره في جزء منها فيجب اتّباعها، فإنّ فتوى كلّ مجتهد صحّة عمل مجتهد آخر أو مقلّده إذا بناه على رأي ذلك المجتهد الآخر و عمل به فيه، فيجب الحكم بمقتضاه

لو كان كذلك.

فإذا كانت الواقعة بحيث لم يتحقّق من أحد المتنازعين فيها بناء على أمر بتقليد مجتهد، فيجب فيها الحكم في أصل الواقعة بمقتضى فتوى الحاكم و رأيه فيها.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 97

و إن تحقّق فيها بناء على أمر بتقليد غيره، فيجب الحكم بمقتضى ذلك البناء، لأنّ فتوى الحاكم أيضا على صحّة ذلك الأمر حينئذ و ترتّب الأثر عليه.

فإذا تنازع شخصان في أخذ الحبوة مجّانا أو بإزاء إرثه ابتداء قبل بنائهما فيها على تقليد مجتهد، يجب على الحاكم المفتي بالأخذ مجّانا الحكم به.

و لو كان المتنازعان مقلّدين لمجتهد يعطيها بإزاء الإرث فعملا بها في الواقعة، و أخذ الكبير بإزاء إرثه بتقليد مجتهده و أعطاه سائر الورثة بإزائه أيضا بتقليده، ثمَّ تنازعا فيها بعد ذلك عند الحاكم المذكور، يجب عليه الحكم بكونها بإزاء الإرث، لا لأجل أنّه فتواه مطلقا، بل لأجل أنّهما قلّدا المجتهد الآخر و عملا به، و انتقل المحبوّ بإزاء الإرث إلى المحبوّ له، و ما بإزائه إلى سائر الورثة، و فتوى الحاكم أيضا على الانتقال المذكور بالتقليد المذكور، و توقّف رفع حكم الانتقال إلى ناقل آخر، فيحكم بمقتضى هذه الفتوى بأنّها بإزاء الإرث.

و كذا لو كان المتنازعان في الشفعة مقلّدين لمن يرى الشفعة في الشركاء الثلاثة، فلو تنازعا قبل بنائهما على أخذ الشفيع المشفوع بتقليد مجتهده، و ترافعا عند من لا يرى ثبوت الشفعة حينئذ، يحكم ذلك بسقوط الشفعة.

و لو بنيا الأمر على تقليد الأول، و أخذ الشفيع المشفوع بتقليده، و رضى به الشريك تقليدا له أيضا، ثمَّ تنازعا عند نافي الشفعة، يجب عليه الحكم بكون المشفوع لآخذ الشفعة، لأنّه أخذه بتقليد من يقول بثبوتها و إعطاء الشريك الآخر أيضا

بتقليده، فصار المشفوع ملكا للشفيع بفتوى

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 98

ذلك المترافع إليه أيضا، فيحكم بمقتضاه.

و كذا لو باع شخص الصيد المقتول بالتّفنك «1» لأجل كونه مذكّى عنده بفتوى من يرى حلّيته، و اشتراه المشتري أيضا بتقليده، و أجريا العقد، ثمَّ وقع بينهما التنازع، و ترافعا عند من لا يرى حلّيته، يجب عليه الحكم بصحّة البيع، لأنّ فتواه صحّة بيعه للمجتهد المفتي بحلّيته و طهارته و لمقلّده، و قد وقع ذلك من المتبايعين الكذائيّين، فيكون صحيحا ممضى عنده أيضا. و هكذا في جميع الوقائع.

نعم، يشترط حينئذ في الحكم بالصحّة في تلك الموارد عمل المتنازعين معا بمقتضى فتوى المجتهد الآخر، و لا يكفي تقليد أحدهما، لما مرّ من عدم دليل على كفاية تقليد أحدهما فيما يكون الأمر بين اثنين.

نعم، لو لم تكن الواقعة ممّا يكون الأثر المترتّب على العمل بين المتنازعين، فيكفي تقليد أحدهما، كمسألة عقد البكر نفسها أو الوليّ، فلو عقدت البكر نفسها لزوج بتقليد مجتهد يرى استقلالها، و قبله الزوج بتقليده أيضا، ثمَّ تنازع الوليّ عند من يرى استقلاله، يجب الحكم بصحّة العقد، إذ لا تعلّق للوليّ في أثر العقد الذي هو حلّية البضع، و لا يحتاج تقليد البكر إلى رضى الوليّ.

و لو كان الحاكم في الأمثلة المذكورة في المعاملات ممّن لا يقول بلزوم التقليد في المعاملات، بل يكتفي بالمطابقة لرأي مجتهد، فبنى المتنازعان الأمر أولا على أحد الطرفين، يجب على هذا الحاكم الحكم بصحّته بناء على رأيه أيضا.

______________________________

(1) كلمة فارسية تعني: البندقية.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 99

و كذا لو اكتفى بالتقليد اللّاحق على العمل و قلّدا بعد العمل أيضا.

و هكذا.

و المحصّل: أنّه يجب على الحاكم المترافع إليه أن يستخرج

الأول فتواه في كلّ الواقعة المتنازع فيها و يحكم بمقتضاها، سواء كانت مطابقة لفتواه في جزء الواقعة أو لا، فيرى أنّه إذا سئل منه: ما رأيك في الحبوة إذا تنازع فيها الورثة؟ يفتي بأنّها للأكبر مجّانا، فيحكم به في الواقعة إذا تنازعا قبل رضاء الطرفين و بنائهما على تقليد، إذ ليس للواقعة جزء آخر.

و لو بنى المتنازعان فيها على تقليد من لا يرى مجّانا، فيزيد في الواقعة جزء آخر، لأنّ التنازع إنّما هو في الحبوة التي بنيا فيها الأمر على تقليد.

و يرى أنّه إذا سئل عنه: ما رأيك في الحبوة التي أخذها الأكبر مجّانا بتقليد من يراها كذلك و أعطاها سائر الورثة أيضا كذلك، فهل يصير مالا حلالا له؟ يفتي بأنّها ماله، فيجب الحكم به في الواقعة أيضا.

و لو سئل: أنّه لو أخذها الأكبر بتقليد من يراها مجّانا و لكن لم يرض به الباقون؟ فيفتي بأنّه لا يكفي تقليده فقط.

و يرى أنّه إذا سئل: ما فتواك في حقّ باكرة زوّجت نفسها بشخص بتقليدهما لمن يرى استقلالها؟ يفتي بالصحّة، فيجب عليه الحكم بها أيضا بعد وقوع العقد، و لو فرض أنّ فتواه على عدم الصحّة فيحكم به أيضا.

و لو تنازع الجاني و المجنيّ عليه في قدر الدّية المختلف فيها عند حاكم فيجب حكمه بمقتضى رأيه، و لا يفيد هنا بناء أحدهما أو كليهما على فتوى غيره، إلّا إذا عملا بها و أعطى الجاني الدية بمقتضاها و أخذها المجنيّ عليه كذلك.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 100

و بالجملة: اللّازم على الحاكم في جميع الوقائع تصوير فتواه في كلّ الواقعة إذا سئل عنها فيها و الحكم بها.

فرع: لو ترافع المتنازعان في أمر

قبل بنائهما على أحد الطرفين بالتراضي أو إجراء عقد فيه،

و حكم الحاكم بمقتضى رأيه، فهل يجوز للمتنازعين بعده البناء على تقليد الآخر في هذه الواقعة لو رضيا و يترتّب عليه أثره، أم لا؟

الظاهر: الثاني، لاستقرار الأمر على ما حكم به فلا ينقض، فلو حكم الحاكم بإحباء شي ء للولد الأكبر أو بكونه له مجانا بعد الترافع أو بسقوط الشفعة، فلو تراضيا بخلافه بعد ذلك لم يترتّب عليه أثر، فلا يصير الأخذ بالشفعة لازما، و لا الشي ء المحبوّ ملكا لغير الكبير، بل لو أرادوا اللزوم احتاج إلى عقد آخر ناقل شرعيّ، كبيع أو صلح أو هبة.

المسألة الثالثة عشرة: قد عرفت أنّه يجب على الحاكم إمضاء حكم حكم به حاكم آخر مقبول الحكم عنده

في واقعة خاصّة، و لا يجوز له نقضه. و الظاهر أنّه إجماعيّ، و نقل الإجماع عليه مستفيض، و الأخبار تدلّ عليه كما مرّ. و المراد بإمضائه: العمل بمقتضاه.

و لو أنكر المحكوم عليه حقّ المحكوم له فحضرا عند الحاكم الثاني و ادّعى المحكوم له الحقّ و أنكر غريمه و تمسّك المحكوم له بحكم الحاكم الأول، يجوز للثاني الحكم به له أيضا، كما يجوز له الحكم بالبيّنة و الحلف.

و الحاصل: أنّ الحكم السابق أيضا طريق لإثبات الحقّ كالبيّنة و اليمين و الإقرار.

و يمكن أن يكون قوله في بعض الروايات المتقدّمة: «أو سنّة قائمة»

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 101

إشارة إلى ذلك أيضا، فإذا سمع الدعوى و الإنكار و ظهر له الحكم السابق ظهورا علميّا يحكم له ثانيا لأجل ذلك الحكم، إذ بعد علمه و فتواه بوجوب اتّباعه و عدم جواز ردّه يكون ذلك حكم اللّه في حقّهما عنده، فيجب عليه الحكم بمقتضاه.

و قد يقال: إنّه و إن وجب إمضاؤه عليه، و لكن لا يجوز له الحكم، لجواز ابتناء الأول على فتوى مخالفة لرأيه.

و أنا لا أفهم وجوب الإمضاء و عدم وجوب

الحكم بمقتضاه، بل هما متلازمان، و لا مخالفة للرأي أبدا، إذ كون كلّ ما حكم به المجتهد على أحد الخصمين و له بعد الترافع حكم اللّه في حقّهما إجماعيّ، بل ضروريّ لا يحتمل المخالفة، فرأي كلّ مجتهد أنّ هذا حكم اللّه في حقّهما و فتواه على ذلك، و إن خالفه مع قطع النظر عن ذلك الحكم، و لكنّه غير المورد.

و كذا لا أتفهّم معنى ما قيل من أنّه يجب عليه الإمضاء و لا يجوز له الحكم بصحّته، لجواز مخالفته لنفس الأمر، لاحتمال كذب المدّعي و الشهود أو خطئهم.

و فيه: أنّ الصحّة هنا ليست إلّا ترتّب الأثر شرعا، و هو لازم وجوب الإمضاء، فلا معنى لوجوب أحدهما و عدم وجوب الآخر.

نعم، لو أراد بعدم جواز الحكم بالصحّة الحكم بمطابقة الواقع و نفس الأمر، فهو كذلك، و لكنّه كذلك بالنسبة إلى حكم نفسه أيضا.

و لا فرق في وجوب الإنفاذ بين ما إذا كان الحاكم الأول حيّا باقيا على شرائط القضاء، أو غير باق، بأن صار فاسقا بعد الحكم قبل الإنفاذ أو مجنونا أو كان ميّتا.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 102

و تفرقة بعضهم «1» بين الموت و الفسق- بوجوب الإنفاذ على الأول دون الثاني و إن كان الثاني أيضا ماضيا لو طرأ الفسق بعد الإنفاذ- لا وجه لها، كما صرّح به المحقّق الأردبيلي.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا من وجوب الإنفاذ و الحكم بمقتضاه إنّما هو إذا علم الحاكم الثاني بالحكم الأول، إمّا بحضوره مجلس الحكم و سماعه الدعوى و الإنكار و المرافعة و الحكم، أو ثبت ذلك عنده ثبوتا علميا بأخبار متواترة أو محفوفة بقرائن مفيدة للعلم.

و في حكم العلم إقرار المتخاصمين، لنفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم.

و

الظاهر أنّه إجماعيّ، و لا كلام في شي ء من ذلك.

و إنّما الكلام فيما إذا لم يعلم الحاكم الثاني بالحكم الأول، بل ظنّه بإحدى الطرق المورثة للمظنّة، فهل يجب عليه الإمضاء، أم لا؟ و الطرق التي اختلفوا فيها ثلاثة:

الأول: مجرّد الكتابة، بأن يكتب قاض إمّا مطلقا أو إلى خصوص حاكم آخر: أنّ فلانا حضر مجلس الحكم و ادّعى على فلان و حكمت له أو عليه بالمدّعى. أو كتب: إنّي حكمت على فلان بكذا.

و لا خلاف في عدم اعتبارها لو كان المحكوم به من حقوق اللّه، بل ادّعي عليه الإجماع، لوجوب درئها بالشبهة.

و لو كان من حقوق الناس، فالمشهور فيها أيضا ذلك، بل قيل:

بلا خلاف يوجد إلّا من الإسكافي «2»، بل عن السرائر و المختلف و القواعد

______________________________

(1) كما في المسالك 2: 381.

(2) كما في رياض المسائل 2: 408.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 103

و في التحرير: الإجماع عليه «1».

للأصل، و روايتي طلحة «2» و السكوني «3»: «إنّ عليا عليه السّلام كان لا يجيز كتاب قاض في حد و لا في غيره، حتى وليت بنو أميّة فأجازوا بالبيّنات».

و ضعفهما- لو كان- منجبر بالشهرة العظيمة و الإجماعات المحكيّة و الأدلّة القاطعة من الكتاب و السنّة المانعة من العمل بالمظنّة، فإنّ مجرّد الكتاب لا يفيد أزيد منها، لاحتمال التزوير، أو عبث الكاتب و عدم قصد ما فيها، و غير ذلك من الاحتمالات.

خلافا للمحكيّ عن الإسكافي، فقال باعتبارها في حقوق الناس «4».

و ظاهر المحقّق الأردبيلي الميل إليه، بل في حقوق اللّه أيضا، قال- بعد نقل قول الإسكافي-: و ذلك غير بعيد، إذ قد يحصل الظنّ المتاخم للعلم أقوى من الذي حصل من الشاهدين بالعلم بالأمن من التزوير و أنّه كتب

قصدا لا غير، فإذا ثبت بأيّ وجه كان- مثل: الخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم- يجب إجراؤه من غير توقّف.

و يكون ذلك مقصود ابن الجنيد، و يمكن أن لا ينازعه فيه أحد، و يكون مقصود الباقي: المنع في غير تلك الصور، بل الصورة التي لم تكن مأمونة من التزوير و لا معلوما كونه مكتوبا قصدا، و لهذا يجوز العمل بالمكاتبة في الرواية و أخذ المسألة و الحديث.

و بالجملة: لا ينبغي النزاع في صورة العلم، و يمكن النزاع في صورة

______________________________

(1) السرائر 2: 162، المختلف: 691، القواعد 2: 216، التحرير 2: 188.

(2) التهذيب 6: 300- 841، الوسائل 27: 297 أبواب كيفية الحكم ب 28 ح 1.

(3) التهذيب 6: 300- 840، الوسائل 27: 297 أبواب كيفية الحكم ب 28 ح 1.

(4) حكاه عنه في المختلف: 706.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 104

الظنّ، و يمكن القول به هناك أيضا إذا كان أقوى من ظنّ الشاهدين، و يكون احتمال النقيض مجرّد التجويز العقلي، مثل: صيرورة أداني البيوت علماء عالمين بجميع العلوم، و القول بعدمه في غير ذلك.

هذا في حقوق الناس.

و أمّا في حقوق اللّه، فيحتمل ذلك أيضا، لما مرّ. و يحتمل العدم للدرء بالشبهات. انتهى.

و ردّ: بأنّ ذلك فرع قيام دليل قاطع على جواز العمل بالظنّ مطلقا، و لم نجده في نحو المورد ممّا يتعلّق بالموضوعات و لو كان الظنّ متاخما للعلم، و مجرّد كون ظن الكتابة أقوى من ظنّ الشهادة لا يوجب قطعيّته و لا حجّيته، إلّا أن تكون حجّية الأخيرة من حيث إفادتها المظنّة، و هو ممنوع، بل هي من جهة الأدلّة الأربعة و هي أدلّة قاطعة أو ظنون مخصوصة مجمع عليها.

فلا وجه لقياس الكتابة على الشهادة، و

لا على الرواية و أخذ المسألة، لقيام الأدلّة المخصوصة على حجّية الظنّ فيهما، و لذا يكتفى فيهما بظنّ ما و لو لم يفد الظنّ الأقوى.

أقول: ما ذكره الرادّ صحيح لا غبار عليه، إلّا أنّ مقتضى كلام الأردبيلي اعتبار الكتابة الموجبة للعلم، كما هو صريح صدر كلامه إلى قوله: و يمكن النزاع في صورة الظن. و المستفاد من ذيله أيضا، لأنّه اعتبر فيه ما كان احتمال خلافه مجرّد التجويز العقلي و مثل صيرورة الأداني علماء متبحّرين، و هذا و إن كان ظنّا عند الحكماء، و لكنّه علم عرفا و شرعا، لأنّه

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 105

العلم العاديّ المجمع على اعتباره شرعا، كما بيّناه في عوائد الأيّام «1»، و لا كلام في اعتبار ذلك.

نعم، يرد عليه حينئذ: أنّه لا وجه لقياسه على الشهادة و الرواية و أخذ المسألة، لأنّها ليست بهذه المثابة البتّة، و إن كانت حجّيتها معلومة من جهة الأدلّة.

و بالجملة: كلام الأردبيليّ لا يخلو عن اضطراب، و إن كان الظاهر أنّ مراده العلم العادي، فيرجع نزاعه مع القوم لفظيّا.

الثاني: إخبار الحاكم الأول مشافهة: إنّي حكمت بكذا.

و في إنفاذه و وجوب اعتباره و عدمهما خلاف:

الأول: للفاضل في القواعد و الإرشاد، و الشهيدين في الدروس و المسالك «2».

و الثاني: للخلاف و النافع «3».

و تردّد في الشرائع و التحرير «4».

دليل الأول: أنّه ثبت أنّ حكم الحاكم حكم الإمام و الردّ عليه حرام.

و أنّه أقوى من الشاهدين.

و يردّ الأول: بأنّه لا كلام في وجوب إنفاذ حكم الحاكم، و إنّما الكلام في أنّه هل يثبت بإخباره بعد الحكم، و لذا قال الأردبيليّ: و ليس إثباته بقول الحاكم أقوى من إثباته بعدلين، إذ هما عدلان و هو عدل واحد،

و قول

______________________________

(1) عوائد الأيّام: 153.

(2) القواعد 2: 217، الدروس 2: 92، المسالك 2: 380.

(3) الخلاف 2: 603، المختصر النافع 2: 283.

(4) الشرائع 4: 96، التحرير 2: 188.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 106

العدلين حجّة دون الواحد.

و منه يعلم ردّ الثاني أيضا، مع أنّه إنّما يفيد لو كان قبول العدلين لأجل المظنّة، و ليس كذلك.

و دليل الثاني: الأصل، و كون حكم الثاني بمجرّد أخبار الأول حكما بغير علم. و هو كذلك، فالثاني هو الأقوى.

نعم، لو ضمّت مع إخباره قرائن مفيدة للعلم بصدور الحكم يجب اعتباره.

الثالث: الشهادة على حكمه، بأن يشهد عدلان على صدور الحكم منه لفلان على فلان بعد الترافع بكذا و كذا.

و قد وقع الخلاف فيها، فقيل بعدم قبولها مطلقا «1»، و يظهر من المختلف أنّه قول جماعة، قال: و ربّما منع من ذلك جماعة من علمائنا «2».

للأصل المتقدّم ذكره مرارا.

و لذيل روايتي طلحة و السكوني المتقدّمتين «3»، حيث قال: «فأجازوا بالبيّنات».

و ردّ الأصل بما يأتي.

و الروايتان بضعفهما سندا الخالي عن الجابر هنا، و دلالة، لظهور سياقهما في أنّ البيّنة التي كان بنو أميّة يجيزونها إنّما هي على صحّة الكتابة لا على أصل الحكم.

و قيل بعدم القبول إن كانت البيّنة مجرّدة عن الإشهاد- أي

______________________________

(1) كما في المهذب 2: 587.

(2) المختلف: 706.

(3) في ص: 103.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 107

لم يشهدهما الحاكم الأول على حكمه في الواقعة- و القبول إن أشهدهما، و هو مذهب المحقّق في النافع «1» بل قيل بعدم خلاف فيه بين الأصحاب كافّة «2».

أمّا الأول: فلما مرّ من الأصل.

و أمّا الثاني: فلظاهر الإجماع.

و مسيس الحاجة إليه في إثبات الحقوق مع تباعد البلاد و تعذّر نقل الشهود أو تعسّره، و عدم

مساعدة شهود الفرع أيضا على التنقّل، و الشهادة الثالثة غير مسموعة.

و لأنّها لو لم تقبل لبطلت الحجج مع تطاول المدّة، و لأدّى إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة.

و لأنّ الغريمين لو تصادقا أنّ الحاكم الأول حكم بينهما ألزمهما الثاني ما حكم به الأول إجماعا، على الظاهر المصرّح به في بعض الكلمات، فكذا إذا قامت البيّنة، إذ يثبت بالشهود ما يثبت بالإقرار.

و مال المحقّق الأردبيليّ إلى القبول مطلقا، لأنّ حكم الحاكم حجّة متّبع يجب إنفاذه و العمل بمقتضاه على أيّ طريق ثبت عند حاكم آخر، سواء كان بإقرار الخصم أو البيّنة، و لعدم تعقّل مدخليّة للإشهاد في اعتبارها.

أقول:

إن كان هناك دليل على وجوب قبول شهادة العدلين مطلقا كما هو كذلك، أو في خصوص المورد، فالحقّ القبول مطلقا من غير مدخليّة للإشهاد فيه. و إن لم يكن فالحقّ عدم القبول كذلك.

______________________________

(1) المختصر النافع: 283.

(2) المسالك 2: 381 قال: إنّه موضع وفاق.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 108

و أمّا التفصيل المذكور فلا أرى له وجها مقبولا، إلّا ما قد يضمّ مع أصالة حجّية شهادة العدلين من ظاهر الإجماع على عدم القبول هنا مع عدم الإشهاد، أو ما قد يضمّ مع أصالة عدم الحجّية من ظاهر الإجماع على القبول مع الإشهاد.

و ما قد يقال من مسيس الحاجة و اقتضاء الضرورة للقبول، و للزوم تقدير الضرورة بقدرها و اندفاعها بالقبول مع الإشهاد يجب الاقتصار عليه.

و هما ضعيفان جدّا، لمنع الإجماعين، سيّما في جانب عدم القبول.

و منع مسيس الحاجة أولا، لإمكان حصول العلم بالحكم بواسطة القرائن المنضمّة مع العدل أو العدلين أو جماعة من غير العدول، سيّما مع الكتابة، و إمكان إشهاد الشاهدين على شهادة الأصل، و غير ذلك.

مع أنّه

قد لا ترتفع الضرورة بالشهادة مع إشهاد الحاكم أيضا، لعدم تمكّن الشاهدين من المسافرة.

و بالجملة: اللّازم في هذه المسألة البناء على حجّية مطلق شهادة العدلين و عدمها، و سيأتي تحقيقه في باب الشهادات.

و لكن ذلك إذا شهدا بالحكم، بأن يقولا: كنّا في مجلس المرافعة، فادعى فلان على فلان، و أنكر المدّعى عليه أو كان غائبا، فحكم عليه الحاكم بعد الإتيان بما كان عليه في الترافع.

و كذا لو علما بالدعوى و الترافع بالقرائن ثمَّ سمعا الحكم.

و لكن لو سمعا من الحاكم إخباره بالحكم- أي قال لهما: إنّي حكمت قبل ذلك- لا تقبل الشهادة، لما عرفت من عدم وجوب قبول إخبار الحاكم بنفسه بذلك عند الحاكم الآخر.

و كذا إذا حكم الأول- ثمَّ كتب حكمه في ورقة فقال للشهود أو

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 109

الحاكم الثاني: ما في هذه الورقة حكمي- لم يجز للشهود أن يشهدوا بالحكم بمجرّد ذلك، و لا للحاكم أن ينفذه لسماعة أو لشهادة هذه الشهود.

و هو ظاهر ممّا تقدّم و صرّح به جماعة، منهم: الفاضل في الإرشاد، و الأردبيليّ في شرحه «1»، و غيرهما.

نعم، لو كتب صورة حكمه قبل صدوره، ثمَّ قال بمحضر الحاكم الثاني أو الشهود: حكمت لفلان بما في هذه الورقة، و حفظت الورقة بحيث أمن من التغيّر، يحتمل جواز إنفاذه و قبول الشهادة بها، فتأمّل.

______________________________

(1) الإرشاد 2: 148، الأردبيلي في مجمع الفائدة 12: 214.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 110

المطلب الثاني في كيفية القضاء و الحكم

اشاره

و لاحتياجه إلى المدّعي و الدعوى و المدّعى عليه و جوابه، و لكلّ منها متعلّقات، فهاهنا سبعة فصول:

الفصل الأول في بيان شأن القاضي و وظيفته بالنسبة إلى كلّ من المتداعيين أو كليهما.
اشاره

و فيه مسائل:

المسألة الاولى: لا خلاف في وجوب التسوية بين الخصوم في العدل في الحكم
اشاره

، فلا تجوز التفرقة فيه بين المسلم و الكافر، أو الشريف و الوضيع، أو العادل و الفاسق، أو غيرهم، و الإجماع منعقد عليه، و صريح الكتاب يرشد إليه:

قال اللّه سبحانه إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «1».

و قال عزّ و جلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ

______________________________

(1) النساء: 58.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 111

وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «1».

و قال جلّ شأنه يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى «2»، إلى غير ذلك.

و الأخبار فيه مستفيضة.

و لو كان في العدل مظنّة الضرر بما لا يرضى به الشارع، يجب ترك الحكم دون الحكم بغير العدل، و مع ظنّه في الترك أيضا فالظاهر الجواز، و لا يبعد ترجيح أكثر الضررين و أشدّهما.

و هل تجب التسوية بينهما في غير ذلك من وجوه الإكرام، أم تستحبّ؟

ذهب الصدوقان إلى الأول «3»، و هو ظاهر النهاية «4» و صريح المحقّق و الفاضل في غير المختلف «5» و نسبه في المسالك و الروضة و المفاتيح و المعتمد إلى المشهور «6».

و ذهب الديلمي و الفاضل في المختلف إلى الثاني «7». و اختاره الحلّي، و جعل القول بالوجوب توهّم من لا بصيرة له بهذا الشأن «8».

و ظاهر الكفاية التردّد «9».

______________________________

(1) المائدة: 8.

(2) سورة ص: 26.

(3) نقله عنهما في المختلف: 700.

(4) النهاية: 338.

(5) المحقق في الشرائع 4: 80، و الفاضل في التحرير 2: 183.

(6) المسالك 2: 365، الروضة 3: 72، المفاتيح 3: 252.

(7) الديلمي في المراسم: 230، المختلف: 701.

(8) السرائر 2: 157.

(9)

الكفاية: 266.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 112

و الحقّ هو: الأول، لقول عليّ عليه السّلام لشريح في رواية سلمة: «ثمَّ واس بين المسلمين بوجهك، و منطقك، و مجلسك، حتى لا يطمع قريبك في حيفك، و لا ييأس عدوك من عدلك» «1».

و رواية السكوني عن الصادق عليه السّلام: قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام:

من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة، و في النظر، و في المجلس» «2».

و مثلها مرسلة الفقيه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و فيها «فليساو» بدل «فليواس» «3».

و قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه و إشارته و مقعده، و لا يرفعنّ صوته على أحدهما ما لا يرفع على الآخر» «4».

و قول الرضا عليه السّلام في فقهه: «و اعلم أنّه يجب عليك أن تساوي بين الخصمين، حتى النظر إليهما، حتى لا يكون نظرك إلى أحدهما أكثر من نظرك إلى الثاني» «5».

و لأنّ تخصيص أحدهما يوجب كسر قلب الآخر و منعه عن إقامة حجّته.

و الإيراد على الروايات بأنّها ضعيفة سندا، فلا يثبت منها حكم مخالف للأصل.

______________________________

(1) الكافي 7: 412- 1، الفقيه 3: 8- 28، التهذيب 6: 225- 541، الوسائل 27:

211 أبواب آداب القاضي ب 1 ح 1.

(2) الكافي 7: 413- 3، التهذيب 6: 226- 543، الوسائل 27: 214 أبواب آداب القاضي ب 3 ح 1.

(3) الفقيه 3: 8- 27، الوسائل 27: 214 أبواب آداب القاضي ب 3 ح 1.

(4) سنن البيهقي 10: 135، المسالك 2: 365.

(5) فقه الرضا «ع»: 260، مستدرك الوسائل 17: 350 أبواب آداب القاضي ب 3 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 113

مردود بعدم ضير هذا الضعف

عندنا، سيّما مع صحّة الأولى عمّن أجمعوا على تصحيح ما يصحّ عنه، و انجبارها بالشهرتين.

نعم، غير الأخيرة لا يدلّ إلّا على وجوب التساوي في بعض وجوه الإكرام، فيبقى مثل: التعظيم و التكريم و القيام و الإذن في الدخول، باقيا تحت الأصل.

و الأخيرة و إن كانت عامّة إلّا أنّ الشهرة التي ادّعوها ليست إلّا في بعض الوجوه، لأنّه المصرّح به في كلام الأكثر، فلا يبعد تخصيص الوجوب بما في غير الأخيرة، إلّا أنّ المستفاد من التعليل في الأولى التعميم، فهو «1» الأقرب.

و احتجّ الآخرون أمّا على نفي الوجوب فبالأصل، و أمّا على الاستحباب فبالروايات المتقدّمة، حيث يسامح في أدلّة السنن. و جوابه قد ظهر.

فروع:
أ: الأمر بالمواساة في الوجه يشمل المواساة «2» في التوجّه و عدمه،

و طلاقة الوجه و عدمها، و إن كان الظاهر منها هو الأول.

و بالمواساة في المنطق يشمل المواساة في الكميّة و الكيفيّة، و يعمّ ما يتعلّق بالدعوى و غيره من أنواع التكلم.

و بالمواساة في المجلس يشمل المواساة «3» في القرب و كيفيّة الجلوس.

______________________________

(1) في «ح»: و هو.

(2) في «ق» و «س»: المساواة.

(3) في «ح»: المساواة.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 114

ب: لو دخل الخصمان قبل إظهار الدعوى و جلس أحدهما أقرب إلى الحاكم،

يجب عليه أن يسوّي بينهما بعد الإظهار أيضا.

و إذا رضي الأدون مجلسا بما هو عليه فهل تسقط شرعيّة المساواة، أم لا؟

فيه وجهان، من: أنّ الحكمة في الأمر بالمساواة هو عدم طمع القريب و عدم كسر قلب البعيد.

و من: إطلاق الروايات و عدم المقيّد.

و الأوجه الثاني، لإمكان تعدّد العلّة، و إطلاق غير المعلّلة من الروايات.

ج: عدّوا من وجوه الإكرام: الإنصات،

و المراد به: الإصغاء إلى كلامه.

و الحكم بوجوبه أو استحبابه- لعموم الرضوي و التعليل- ظاهر.

د: و عدّوا منه: التسوية في السلام عليهما و الجواب لهما إن سلّما معا، و هو كذلك،

لما مرّ.

و لو سلّم أحدهما دون الآخر يجب الجواب لمن سلّم، و لا يجب شي ء للآخر.

و لو ابتدأ أحدهما بالسلام، فهل يجب أو يستحبّ تأخير الجواب رجاء لأن يسلّم الآخر، أم لا؟

اختار في المسالك: الأول، إذا لم يطل الفصل بحيث يخرج عن كونه جوابا للأول «1».

و الأظهر: الثاني، لأنّ البدأة بجواب سلام من ابتدأ بالسلام لا تنافي

______________________________

(1) المسالك 2: 365.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 115

التسوية عرفا، بل يمكن أن يقال: إنّ التأخير مناف لها، حيث بادر بجواب أحدهما و أخّر جواب الآخر.

بل لو قلنا بمنافاة المبادرة بجواب البادئ للتسوية لا يجب التأخير أيضا على القول بالوجوب، و لا يستحبّ على القول بالاستحباب، لأنّ وجوبها أو استحبابها إنّما هو فيما إذا علم بتسليمهما معا، و هو غير متيقّن بعد.

ه: وجوب التسوية أو استحبابها مختصّ بالأفعال الظاهريّة دون الميل القلبي،

بمعنى: محبّة أحدهما، أو الميل إلى التكلّم معه و القرب إليه في المجلس و التعظيم له، أو الميل إلى أن يكون حكم اللّه موافقا لهواه، للأصل، و لأنّ الحكم على القلب غير مستطاع.

و أمّا قضيّة قاضي بني إسرائيل المرويّة عن الباقر عليه السّلام في صحيحة الثمالي «1»، فلا تدلّ على أنّ المؤاخذة كانت على الأمر القلبي، بل كانت على ما قاله بقوله: «قلت: اللّهمّ» إلى آخره، حيث أظهر باللسان ما كان في قلبه و إن لم يظهره على الخصمين.

نعم، يستحبّ الاجتهاد في تطهير السرّ بحيث يتساوى عنده جميع عباد اللّه، و لكنّه لا يختصّ بالقاضي، و كلامنا فيما يجب أو يستحبّ على شخص من حيث هو قاض.

و: لا يختصّ وجوب التسوية فيما ذكر بحال حضور الخصمين معا،

بل يجب مع غياب أحدهما أيضا، لإطلاق الروايات، و إيجابه طمع من يزيد إكرامه، الذي هو أحد علّتي المنع في الرواية الأولى.

______________________________

(1) الكافي 7: 410- 2، التهذيب 6: 222- 529، الوسائل 27: 225 أبواب آداب القاضي ب 9 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 116

ز: الحكم بوجوب التسوية أو استحبابها مشروط بما إذا تساوى الخصوم في الكفر و الإسلام،

فلو كان أحدهما مسلما و الآخر كافرا جاز قيام الكافر مع جلوس المسلم، أو كون المسلم أعلى منزلا منه علوّا صوريّا أو معنويّا. لا أعرف فيه خلافا، و نقل عليه الإجماع أيضا «1».

و الدليل عليه- مضافا إلى اختصاص رواية سلمة و النبويّ بالمسلمين، و احتمال إرجاع الضمير في قوله: «بينهم» في رواية السكوني إلى المترافعين المسلمين، و ضعف الأخيرة و خلوّها عن الجابر في المقام- ما روي: أنّ عليّا عليه السّلام جلس بجنب شريح في حكومة له مع يهوديّ في درع و قال: «لو كان خصمي مسلما لجلست معه بين يديك، و لكنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لا تساووهم في المجلس» «2»، و ضعفه منجبر (بالعمل) «3».

و هل يختصّ ذلك بالمجلس، أو يتعدّى إلى غيره أيضا؟

الظاهر: التعدّي، كما اختاره في الروضة «4»، و إليه ذهب والدي في المعتمد، و استقواه بعض المعاصرين «5»، للأصل، و اختصاص النصوص- بحكم التبادر و اختصاص المورد- بالمسلمين، و خلوّ ما ظاهره العموم عن الجابر عن ضعفه.

المسألة الثانية: قالوا: لا يجوز للحاكم أن يلقّن أحد الخصمين

ما يستظهر به على خصمه و يستنصره و يغلب عليه، و أن يهديه إلى وجوه الحجاج، و استدلّوا عليه بظاهر الوفاق، و بأنّه منصوب لسدّ باب المنازعة

______________________________

(1) الرياض 2: 294.

(2) المغني 11: 444.

(3) ليس في «ح».

(4) الروضة 3: 73.

(5) غنائم الأيام: 676.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 117

لا لفتح بابها، فتجويزه ينافي الحكمة الباعثة لتعيينه.

و تأمّل فيه السبزواري «1»، و مال الأردبيليّ إلى الجواز إن لم يرد بذلك تعليم ما ليس بحقّ، و جنح إليه بعض معاصرينا «2».

و الحقّ: الحرمة مطلقا، سواء كان تلقين أحد الخصمين ببيان ما يوجب استظهاره من غير أن يأمره بقوله أو فعله،

مثل أن يقول لمن لا يرضى بالحلف إذا ردّ عليه: كلّ من ادّعى بالظنّ لا يردّ عليه اليمين، أو إن ادّعيت بالظنّ لا يجوز لخصمك الردّ.

أو يقول لمن يريد الجواب بالأداء في مقابلة دعوى القرض: كلّ من يجيب بالأداء يجب عليه الإثبات و المنكر ليس له ذلك.

أو يأمره بالقول أو الفعل، مثل أن يقول: ادّع بالظنّ، أو أنكر القرض، أو انكل، أو ردّ اليمين.

و سواء كان ذلك مع علم الحاكم بأنّ ما يلقّنه مخالف للواقع، مثل أن يأمره بادّعاء الظنّ مع علمه بأنّه يدّعي العلم، أو بإنكار القرض مع علمه بتحقّقه، أو بتعيين المدّعى به مع علمه بكونه مجهولا للمدّعي.

أو يعلم أنّه مطابق للواقع.

أو لا يعلم فيه أحد الأمرين، مثل أن يلقّنه دعوى الظنّ فيما لم يعلم أنّه ظانّ أو عالم.

لكون الجميع منافيا للتسوية المأمور بها، و كون بعض صورها إعانة على الإثم، و بعض آخر أمرا بالمنكر.

و تجويز التلقين بما يوجب التوصّل إلى الحقّ و دفع الضرر- إذا علم

______________________________

(1) الكفاية: 266.

(2) المحقق القمّي في رسالة القضاء (غنائم الأيام: 676).

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 118

أنّه لا يهدى إليه فيضيع حقّه- ضعيف، لأنّ مع علم الحاكم يحكم بعلمه، فلا يحصل ضرر.

و أمّا ما ذكروه دليلا على عدم الجواز مطلقا- من إيجابه فتح باب المنازعة- فضعيف، لمنع عدم جواز فتحها كلّية أولا، و عدم إيجابه له على الاطّراد ثانيا.

هذا حكم التلقين.

و أمّا الاستفسار المؤدّي إلى تصحيح الدعوى أو الجواب، فهو أيضا غير جائز، لما مرّ من منافاته التسوية، و إيجابه في بعض الصور إعانة على الإثم.

سواء كان قبل تكلّم من يستفسر منه، كأن يستفسر عن المدّعى عليه بعد دعوى القرض عليه: هل ما استقرضت أو

استقرضت و أدّيت؟ و قد يضمّ معه ما يوجب الجواب بما يستظهره، مثل أن يقول: هل ما استقرضت حتى تكون البيّنة على المدّعي، أو أدّيت حتى تكون البيّنة عليك؟

أو بعد التكلّم، مثل أن يستفسر عمّن يجيب بعدم اشتغال الذمّة أنّه:

هل أدّيت أو ما استقرضت؟ و اللّه العالم.

المسألة الثالثة: إذا دخل الخصمان، فإن بدر أحدهما بالدعوى سمع منه

، و إن لم يبدر و سكتا فلا يجب على الحاكم الأمر بالتكلّم، و وجهه ظاهر.

و قد ذكروا أنّه يستحبّ أن يقول هو أو من يأمره: تكلّما، أو ليتكلّم المدّعي منكما.

و لم أعثر على دليل على الاستحباب، و ظاهر الحلّي عدم الاستحباب،

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 119

حيث قال: و لا ينبغي للحاكم أن يسأل الخصمين، و المستحبّ له تركهما حتى يبدءا بالكلام، فإن صمتا فله أن يقول لهما حينئذ: إن كنتما حضرتما بشي ء فاذكراه «1». انتهى.

و قال والدي- طاب ثراه- في المعتمد بالاستحباب لو عرف كون الحياء أو احتشامه مانعا لهما عن المبادرة. و ليس ببعيد.

ثمَّ إنّهم قالوا: إنّه إذا استحبّ التكلّم يكره تخصيص أحدهما بالخطاب «2»، لمخالفته للتسوية المتقدّمة.

و فيه منع، لعدم منافاته للتسوية عرفا، لأنّه ابتداء الكلام، و مجرّد تقديم الالتفات إلى أحدهما- سيّما إذا علم كونه مدّعيا- لا يخالف التسوية عرفا.

و بذلك يوجّه الحكم بالكراهة هنا ممّن حكم بوجوب التسوية في التكلّم. و فيه ما فيه.

و وجّهه في المعتمد بأنّ الحكم بالحرمة لأجل الانجبار، و هو فيما نحن فيه مفقود، فلا يثبت من عموم الأخبار سوى الكراهة. و هو أيضا غير جيّد.

المسألة الرابعة: إذا ازدحم جماعة من المدّعين، فإن جاءوا على التعاقب و عرف الترتيب، قالوا: يقدّم الأسبق فالأسبق
اشاره

. و إن جاءوا معا، أو لم يعرف الترتيب، أقرع بينهم، و قدّم من خرجت قرعته.

و قيل:

يكتب أسماء المدّعين و يجعلها تحت ساتر ثمَّ يخرج رقعة رقعة، ثمَّ يستدعي صاحبها فيحكم له «3». و هذا أيضا نوع من القرعة.

______________________________

(1) السرائر 2: 157.

(2) القواعد: 204، الدروس 2: 74، المفاتيح 3: 252.

(3) الوسيلة: 211، و الرياض 2: 395.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 120

و قيل بالأول، إلّا أن يكثروا و عسر الإقراع فبالثاني «1».

و قيل بجواز الأمرين مطلقا، و

نسبه في المسالك إلى الأشهر «2».

و أصل هذا الحكم مشهور بين الأصحاب، مصرّح به في كلماتهم، بل لم أعثر فيه على مخالف.

و إطلاق عباراتهم يشمل ما لو تزاحموا في مجرّد الورود و الحضور عند الحاكم و إن لم يتكلّموا بعد و لم يطلبوا الترافع بل كانوا ساكتين، و ما لو تزاحموا في بيان الدعوى و طلب الترافع أيضا، و ما لو بدر أحدهم بطلبه مع سكوت الباقين.

و الظاهر أنّ مرادهم إنّما هو غير الصورة الأخيرة، لأنّ الحكم بتقديم الأسبق ورودا فيها مشكل جدّا، لأنّ الحكم و القضاء في الوقائع الخاصّة و القضايا الجزئيّة لا يجب إلّا بطلب المدّعي و ترافعه، و معه يجب، فبطلب أحدهم يجب الاشتغال بقطع دعواه، و لم يجب الاشتغال بقطع سائر الدعاوي بعد.

فعلى القول بكون وجوب الاشتغال بعد الطلب فوريّا يكون بطلان إطلاق وجوب تقديم الأسبق ظاهرا، بل يجب تقديم البادئ بالطلب و إن لم يكن أسبق ورودا.

و على القول بعدم الفوريّة نقول: إنّ ما لم يجب الاشتغال به بعد لا يمكن أن يجب تقديمه على الواجب و لو لم يكن فوريّا، و إلّا لا نقلب غير الواجب واجبا.

بل لا يبعد أن يقال: إنّ الصورة الأولى أيضا خارجة عن مقصودهم،

______________________________

(1) كما في المهذب 2: 582 و كشف اللثام 2: 148.

(2) المسالك 2: 366.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 121

لأنّ قطع الدعوى مع سكوت المدّعي و عدم طلبه ليس بجائز، فكيف يحكم بوجوب تقديمه؟! إلّا أن يقال: إنّ المراد تقديم الأمر بالتكلّم، و استحباب أصله لا ينافي وجوب تقديم بعض أفراده. و لكنّه بعيد.

ثمَّ إنّ أكثر الأصحاب لم يذكروا على ما حكموا به- من وجوب تقديم الأسبق مع العلم بالسبق و

القرعة بدونه- دليلا. و يظهر من المسالك أنّه لمراعاة التسوية بين الخصوم «1».

و فيه: أنّ الثابت من التسوية هو وجوبه أو استحبابه بالنسبة إلى شخصين متخاصمين، و أمّا بالنسبة إلى خصمين آخرين فغير ثابت.

و استدلّ والدي- طاب ثراه- على الأول في المعتمد بالأولويّة، و على الثاني بأنّ القرعة لكلّ أمر مشكل.

و يرد على الأول: منع الأولويّة، و على تسليمها منع صلاحيّتها لإيجاب التقديم.

و على الثاني: منع الإشكال، لأنّه إنّما يكون إذا علم استحقاق أحدهما للتقديم و لم يتعيّن، و أمّا إذا لم يعلم الاستحقاق فالحكم التخيير.

نعم، يظهر من السرائر أنّه وردت بهذا الحكم رواية، حيث قال: فإذا جلس حكم للأول فالأول، فإن لم يعلم بالأول أو دخلوا دفعة روى أصحابنا أنّه: يتقدّم إلى من يأمر كلّ من حضر للتحاكم إليه أن يكتب اسمه و اسم أبيه و ما يعرف به من الصفات الغالبة عليه دون الألقاب المكروهة، فإذا فعلوا ذلك و كتب أسماءهم و أسماء خصومهم في الرقاع قبض ذلك كلّه

______________________________

(1) المسالك 2: 366.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 122

و خلط الرقاع و جعلها تحت شي ء يسترها به عن بصره، ثمَّ يأخذ منها رقعة ينظر فيها و يدعو باسم صاحبها و خصمه فينظر بينهما «1». انتهى.

و هذه الرواية و إن كانت ضعيفة، و لكن بملاحظة اشتهار الحكم عند الأصحاب اشتهارا قويّا كاد أن يكون إجماعا، لا يبعد القول بثبوت هذا الحكم وجوبا.

فروع:
أ: كلّما آل الأمر إلى الإقراع، فهل يقتصر على كتب اسم المدّعي، أو يكتب اسم خصمه أيضا؟

المشهور: الأول، لأنّه المستحقّ للتقديم أو التأخير واقعا، المجهول استحقاقه ظاهرا، و الخصم تابع له.

نعم، لو ثبت للخصوم أيضا استحقاق عند تعدّدهم يفتقر إلى قرعة أخرى، أو رقاع متعدّدة في القرعة الواحدة، و لكنّه لم يثبت، فللمدّعي الاختيار في التعيين مع التعدّد.

و

لا يخفى أنّ هذا الدليل إنّما يتمّ لو كان الموجب للإقراع هنا وضعه لكلّ أمر مشكل. و لو كان موجبه الرواية المتقدّمة فلا بدّ من كتب اسم الخصم أيضا تعبّدا، لذكره فيها.

ب: صرّح في المسالك و التحرير بأنّ المقدّم بالسبق أو القرعة إنّما يقدّم في دعوى واحدة،

فلو قال: لي دعوى اخرى مع هذا الخصم أو مع غيره لم يسمع إلى أن يفرغ القاضي من سماع دعوى سائر الحاضرين،

______________________________

(1) السرائر 2: 156.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 123

فحينئذ تسمع دعواه «1».

و مستند الحكم غير واضح، فالحكم بوجوب التأخير مشكل.

ج: يجوز لمن حقّه التقديم بالسبق أو القرعة إسقاط حقّه،

فيقدّم من له السبق بعده أو من خرجت القرعة له.

و لو وهب حقّه لغيره، فهل يجب تقديمه، أو يجوز، أو يقدّم من له السبق؟

قيل بالأول، لأنّ الحقّ صار له. و يخدشه أنّ الثابت ثبوته لنفسه، و حصول النقل بالانتقال موقوف على الدليل، و ليس، فالظاهر الثالث.

و هل تجوز للحاكم الشفاعة في الإسقاط أو الهبة؟

الظاهر: نعم، للأصل.

د: إذا حضر الخصمان فسبق أحدهما إلى الدعوى، ثمَّ قطع المدّعى عليه دعواه بدعوى أخرى،

أو قال: أنا المدّعي، لم تسمع منه دعواه بلا خلاف يعرف، بل يمنع حتى يجيب عن الدعوى و تنتهي الحكومة.

و يمكن أن يستدلّ عليه بحديث التسوية، و في فقه الرضا عليه السّلام: «و إذا تحاكم خصمان فادّعى كلّ واحد منهما على صاحبه دعوى فالذي بدأ بالدعوى أحقّ من صاحبه أن يسمع منه، فإذا ادّعيا جميعا فالدعوى للذي على يمين خصمه» «2»، و ضعفه بالعمل مجبور.

و استدلّ في المسالك على هذا الحكم بما سبق من وجوب تقديم السابق «3».

______________________________

(1) المسالك 2: 366، التحرير 2: 183.

(2) فقه الرضا «عليه السّلام»: 260، مستدرك الوسائل 17: 351 أبواب آداب القاضي ب 5 ح 1.

(3) المسالك 2: 366.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 124

و فيه: أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان المراد بالسابق- فيما سبق- السابق بالدعوى، و هو خلاف ظاهر كلام الأصحاب، بل الظاهر منهم أنّ المراد منه: السابق بالورود، و على هذا فربّما يكون الخصمان دخلا معا أو دخل السابق بالدعوى متأخّرا.

و لو ابتدرا معا، فالمشهور بين الأصحاب- كما في المختلف «1» و غيره «2» و ادّعي الإجماع عليه «3»- أنّه تسمع الدعوى من الذي على يمين صاحبه، و هو المحكيّ عن عليّ بن بابويه في رسالته و المفيد في المقنعة و الشيخ في النهاية «4»، و ادّعى عليه الشيخ في

الخلاف الإجماع «5»، و قال السيّد: إنّه ممّا انفردت به الإماميّة، و ادّعى الإجماع عليه أيضا «6».

و الشيخ بعد أن ادّعى إجماع الطائفة مال إلى القرعة، و استوجهه في المسالك «7».

و ظاهر الكفاية و المفاتيح التوقف «8».

و الأصل فيه ما رواه محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السّلام أنّه قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قضى أن يقدّم صاحب اليمين في المجلس بالكلام» «9».

______________________________

(1) المختلف: 698.

(2) كالكفاية: 266.

(3) كما في مفتاح الكرامة 10: 32.

(4) حكاه عن علي بن بابويه في المختلف: 698، المقنعة: 725، النهاية: 338.

(5) الخلاف 6: 234- 32.

(6) الانتصار: 243.

(7) المسالك 2: 366.

(8) الكفاية: 266، المفاتيح 3: 252.

(9) الفقيه 3: 7- 25، الوسائل 27: 218 أبواب آداب القاضي ب 5 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 125

و اعترض بجواز أن يكون المراد باليمين يمين القاضي، كما احتمله في المفاتيح «1»، أو الحلف كما احتمله الإسكافي «2»، لأنّه صاحب اليمين إن شاء أحلف خصمه و إن لم يشأ لم يحلف، بل يحتمل أن يكون المراد بالتقديم بالكلام: التقديم بتكلّم الحاكم معه.

و ردّ بالمخالفة للظاهر.

و بنقل الاتّفاق في المسالك على أنّ المراد منه يمين الخصم.

و بأنّ الأصحاب حملوه عليه، و فهمهم قرينة.

و بصحيحة ابن سنان عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «إذا تقدّمت مع خصم إلى وال أو إلى قاض فكن عن يمينه» يعني: يمين الخصم «3».

و في الأول: أنّا لو سلّمنا مخالفة الأول للظاهر فمخالفة الثاني و الثالث ممنوعة.

و الاتّفاق المدّعى غير ثابت.

و الصحيحة لا تفيد أزيد من رجحان التيامن المرغّب فيه في كلّ شي ء، إلّا أنّ الحلّي و الشيخ في الخلاف و المبسوط قالا: إنّه روى أصحابنا يقدّم

من على يمين صاحبه «4». و كذا يدلّ عليه الرضويّ المتقدّم «5»، و هما منجبران بالشهرة و الإجماع المنقول، فلا مناص عن العمل بهما.

ه: ما ذكر من تقديم الأسبق إنّما هو فيما إذا لم يستضرّ غيره

______________________________

(1) المفاتيح 3: 253.

(2) نقله عنه في المختلف: 699.

(3) الفقيه 3: 7- 26، التهذيب 6: 227- 548، الوسائل 27: 218 أبواب آداب القاضي ب 5 ح 1.

(4) الحلّي في السرائر 2: 156، الخلاف 6: 234- 32، و المبسوط 8: 154.

(5) في ص 123.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 126

بالتأخير، و لو استضرّ يقدّم، دفعا للضرر، و عدم الشهرة الجابرة.

و لا بعد في جواز تقديم المرأة أيضا مطلقا، لعدم الانجبار.

و: قد ذكروا أنّ المفتي و المدرّس أيضا كالقاضي

عند تزاحم المستفتين و الطلبة في وجوب تقديم الأسبق أو القرعة، و مأخذ الحكم غير معلوم.

المسألة الخامسة: قد صرّح كثير من الأصحاب- منهم الشيخ في المبسوط «1»- باستحباب ترغيب الخصمين إلى الصلح للقاضي.
اشارة

و يظهر من السرائر ذهاب جمع إلى عدم الجواز، حيث قال: و له أن يأمرهما بالصلح، و يشير بذلك، لقوله تعالى وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ «2» و ما هو خير فللإنسان فعله بغير خلاف من محصّل، و قد يشتبه هذا الموضع على كثير من المتفقّهة، فيظنّ أنّه لا يجوز للحاكم أن يأمر بالصلح و لا يشير به، و هذا خطأ من قائله «3». انتهى.

و تفصيل الكلام: إنّ ترغيب الحاكم في الصلح إمّا يكون بعد الحضور للمرافعة و قبل بيان الدعوى، أو يكون بعد البيان و قبل ثبوت الحقّ بالبيّنة أو اليمين أو الإقرار أو سقوطه بالحلف، أو يكون بعد الثبوت أو السقوط و قبل الحكم و إظهار الثبوت أو السقوط، أو يكون بعده.

و لا ينبغي الارتياب في استحباب الترغيب في الأولين.

و يدلّ عليه قوله تعالى وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ.

و قوله سبحانه إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ «4».

______________________________

(1) المبسوط 8: 170.

(2) النساء: 128.

(3) السرائر 2: 160.

(4) الحجرات: 10.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 127

و قوله جلّ شأنه فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ «1».

و قوله عزّ اسمه وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ «2».

و المرويّ في تفسير الإمام، و هو طويل يذكر فيه كيفيّة قضاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و في آخره: «فإذا ثبت عنده ذلك لم يهتك ستر الشاهدين، و لا عابهما و لا وبّخهما، و لكن يدعو الخصوم إلى الصلح، فلا يزال بهم حتى يصطلحوا» الحديث «3».

و صحيحة هشام بن سالم: «لأن أصلح بين اثنين أحبّ إليّ

من أن أتصدّق بدينارين» «4».

و رواية أبي حنيفة سائق الحاج: قال: مرّ بنا المفضّل و أنا و ختني «5».

نتشاجر في ميراث فوقف علينا ساعة، ثمَّ قال لنا: تعالوا إلى المنزل، فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم، فدفعها إلينا من عنده، حتى إذا استوثق كلّ منّا من صاحبه قال: أما أنّها ليست من مالي، و لكن أبو عبد اللّه عليه السّلام أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شي ء أن أصلح بينهما و أفتديهما من ماله «6».

و ظاهر أبي الصلاح أنّ المستحبّ للقاضي الترغيب في أصل الصلح،

______________________________

(1) الأنفال: 1.

(2) البقرة: 224.

(3) الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم و احكام الدعوى ب 6 ح 1، بتفاوت يسير.

(4) الكافي 2: 209- 2، الوسائل 18: 439 أبواب أحكام الصلح ب 1 ح 1.

(5) الختن بالتحريك: كلّ من كان من قبل المرأة، مثل الأب و الأخ، و هم الأختان.

هكذا عند العرب، و أمّا عند العامّة فختن الرجل: زوج ابنته- الصحاح 5: 2107.

(6) الكافي 2: 209- 4 و فيه: و افتديها من ماله، التهذيب 6: 312- 863 الوسائل 18: 440 أبواب أحكام الصلح ب 1 ح 4، و فيه: و افتدى بها من ماله.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 128

و أمّا التوسّط فيما يصلحان به فيحوّله إلى ثالث «1»، و لعلّه مخافة أن يتحشّما أو أحدهما من القاضي فيقع الصلح من غير رضاء.

و أمّا في الثالث، فإن أعلم الحاكم المدّعي بالثبوت أو المنكر بالسقوط فكالأخير، و يأتي حكمه.

و إلّا، فإن طلب منه بتخيّر الحكم أو علم مطالبته بشاهد الحال فالظاهر عدم الجواز، لمنافاته للفوريّة الثابتة من مطالبة التخيّر.

و إلّا، فإن علم أنّه لو أظهر الحكم لم يرض من له الحكم بالصلح

فلا يجوز أيضا، لكونه تدليسا و خيانة. و إن لم يعلم بذلك فلا يبعد الجواز، للأصل. بل الاستحباب، للعمومات المتقدّمة، و يدلّ عليه أيضا حديث قضاء عليّ عليه السّلام بين صاحبي الأرغفة الثمانية المرويّ في الكافي و الفقيه و التهذيب «2».

و قال والدي العلّامة في المعتمد بعدم الجواز مع جهل صاحب الحقّ بعلم الحاكم بالحقّ مطلقا.

ثمَّ لو ارتكب القاضي المحرّم و أمر بالصلح أو رغّب فيه فيما يحرم و رضى به، فقال والدي العلّامة رحمه اللّه بصحّة الصلح، لعدم تعلّق النهي به، بل بأمر الحاكم. نعم، له خيار الفسخ بعد علمه به.

و أمّا في الأخير، فالاستحباب غير واضح، لأنّه حقيقة ليس ترغيبا في الصلح، لأنّ الظاهر منه هو ما يكون قبل ثبوت الحقّ لإسقاط اليمين أو رفع تجشّم الإثبات، بل هو ترغيب لأحدهما بإسقاط الحقّ أو بذل المال لغير

______________________________

(1) الكافي في الفقه: 447.

(2) الكافي 7: 427- 10، الفقيه 3: 23- 64، التهذيب 6: 290- 805 الوسائل 27: 285 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 21 ح 5.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 129

مستحقّه.

و الظاهر أنّ إضافة الأصحاب الترغيب إلى ضمير التثنية لتخصيصهم الاستحباب بغير هذه الصورة، إذ لا معنى لترغيب الخصمين حينئذ كما لا يخفى.

و قول المحقّق و الفاضل في الشرائع و القواعد بكراهة شفاعة الحاكم في إسقاط الحقّ «1» منزّل على ذلك أيضا، فلا تنافي بين قولهما باستحباب الترغيب في الصلح و الكراهة في هذه الشفاعة، و لا حاجة في الجمع بينهما الى جعل الصلح متوسّطا بين الإسقاط و عدمه، أو جعله مستثنى، أو حمله على بعث غيره على ترغيبهما في ذلك، كما في المسالك «2».

و ظاهر جماعة- كالمفيد و النهاية و

الكامل و المراسم و السرائر- عدم جواز الشفاعة «3».

و دليلهم رواية السكوني، و فيها: «و لا تشفع في حقّ امرئ مسلم و لا غيره إلّا بإذنه» «4».

و النبويّ: سأله أسامة حاجة لبعض من خاصم إليه، فقال له:

«يا أسامة، لا تسألني حاجة إذا جلست مجلس القضاء، فإنّ الحقوق ليس فيها شفاعة» «5».

______________________________

(1) الشرائع 4: 81، القواعد 2: 205.

(2) المسالك 2: 366.

(3) المقنعة: 724، النهاية: 341، المراسم: 231، السرائر 2: 160.

(4) الفقيه 3: 19- 45 الوسائل 27: 304 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 35 ح 1.

(5) دعائم الإسلام 2: 537- 1905، مستدرك الوسائل 17: 358 أبواب آداب القاضي ب 11 ح 2، بتفاوت يسير.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 130

و الأولى قاصرة الدلالة على الوجوب. و الثانية غير ثابتة الحجّية.

فالكراهة أولى.

فرع:

قال والدي العلّامة قدّس سرّه في المعتمد: ثمَّ من يؤدّي إليه شي ء بالصلح بالإعطاء أو الإسقاط بغير حقّ، فإن علم بعدم استحقاقه له حرم عليه و وجب أن يتخلّص منه، و إلّا لم يحرم عليه، لعلمه ظاهرا بكونه حقّا له، نظرا إلى فعل الحاكم. انتهى. ولي فيه تأمّل.

المسألة السادسة: قال جماعة بأنّه يكره للقاضي أن يضيّف أحد الخصمين إلّا و معه خصمه «1».

لرواية السكوني: «إنّ رجلا أتى أمير المؤمنين عليه السّلام فمكث عنده أيّاما ثمَّ تقدّم إليه في خصومة لم يذكرها لأمير المؤمنين عليه السّلام، فقال له: أخصم أنت؟

قال: نعم، قال: تحوّل عنّا، إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى أن يضاف خصم إلّا و معه خصمه» «2»، و ظاهرها عدم الجواز، و به صرّح في المبسوط «3». و هو الأقوى.

و تدلّ عليه أيضا منافاته للتسوية الواجبة.

و صرّح في القواعد «4» و غيره «5» بكراهة حضوره و لائم الخصوم، و علّل بأنّه لئلّا يزيد أحدهم في إكرامه فيميل إليه. و يمكن القول بتحريمه إذا كان لأحد المتخاصمين، لمنافاته التسوية، بل لهما أيضا إذا دخل في الرشوة المحرّمة.

______________________________

(1) المبسوط 8: 151: القواعد 2: 205.

(2) الكافي 7: 413- 4، التهذيب 6: 226- 544، الفقيه 3: 7- 21 الوسائل 27:

214 أبواب آداب القاضي ب 3 ح 2، بتفاوت.

(3) المبسوط 8: 151.

(4) القواعد 2: 205.

(5) المسالك 2: 364.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 131

المسألة السابعة: يكره أن يسارّ القاضي أحدا في مجلسه

، لكونه مورثا للتهمة، و لمرفوعة البرقي «1»، و مرسلة الفقيه «2»: قال أمير المؤمنين عليه السّلام لشريح: «لا تسارّ أحدا في مجلسك».

و أمّا مسارّة أحد الخصمين فهي محرّمة، لمنافاتها التسوية.

المسألة الثامنة: يكره أن يعنّت الشهود

، أي يدخل عليهم المشقّة، و يكلّفهم ما يثقل عليهم من التفريق و المبالغات في مشخّصات القضية، إذا كانوا من ذوي البصائر و الأديان القويّة.

و لا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد، و هو أن يداخله في التلفّظ بالشهادة، بأن يدخل في أثناء شهادته كلاما يجعله ذريعة إلى أن ينطق بما أدخله الحاكم، و يعدل عمّا كان يريد الشاهد، هداية له إلى شي ء ينفع فتصحّ شهادته، أو يضرّ فتردّ شهادته.

أو يتعقّبه عند فراغه بكلام ليجعله تتمّة للشهادة، بحيث تصير به الشهادة مسموعة أو مردودة.

بل الواجب أن يصبر عليه حتى ينتهي ما عنده، ثمَّ ينظر فيه و يحكم بمقتضاه من قبول أو ردّ.

و إذا تردّد الشاهد في شهادته لم يجز له ترغيبه في إقامتها، لجواز عروض أمر يوجب التردّد.

و لا يجوز له تزهيده في الإقامة، و لا أن يردّده فيها.

______________________________

(1) الكافي 7: 413- 5، التهذيب 6: 227- 546، الوسائل 27: 213 أبواب آداب القاضي ب 2 ح 2.

(2) الفقيه 3: 7- 24، بتفاوت يسير، الوسائل 27: 213 أبواب آداب القاضي ب 2 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 132

و لا يجوز له إيقاف عزم الغريم عن الإقرار، و يجوز ذلك في حقوق اللّه سبحانه، كما تنبّه عليه قضية ماعز «1».

و الوجه في الكلّ واضح.

المسألة التاسعة: قالوا: يستحبّ إجلاس الخصمين بين يدي الحاكم.

و هو كذلك، لأنّه أقرب إلى التسوية و أسهل للمخاطبة.

و لقول عليّ عليه السّلام حين ترافعه مع يهوديّ في الدرع عند شريح: «لو لا أنّه ذمّيّ لجلست معه بين يديك، غير أنّي سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول:

لا تساووهم في المجالس» «2».

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قضى أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي «3».

و

لو قاما بين يديه جاز.

قيل: و لا تجوز الإقامة إن لم يرضيا «4».

و هو حسن إن كان القضاء في مكان مباح لهما أو مملوك لمن أذن بالجلوس لهما، و إلّا فتجوز إن لم يأذن المالك بالجلوس، بل تجب.

و إن اختار أحدهما القيام مع جلوس الآخر فقد أسقط نفسه حقّه بالتسوية، فيجوّزه من يرفع الأمر بالتسوية حين إسقاط أحدهما. و الحقّ عدم السقوط كما مرّ.

المسألة العاشرة: إذا تعدّى الغريمان أو أحدهما سنن الشرع

، فإن

______________________________

(1) سنن البيهقي 8: 226.

(2) المغني 11: 444- 445، بتفاوت.

(3) المغني 11: 445.

(4) انظر كشف اللثام 2: 149.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 133

كان بالإتيان بمحرّم- كفحش أو ضرب أو إيذاء للغريم أو معاونة أو للقاضي بنسبته إلى جور أو ميل أو مثل ذلك- فعلى القاضي العمل بمراتب النهي عن المنكر في ردعه عن التعدّي، و إجراء حكم ما صدر فيه من حدّ أو تعزير، إن كان ممّا له حكم.

و إن كان بغير المحرّم- كإساءة أدب و مثلها- فينبغي له وعظه و إرشاده برفق و مداراة.

المسألة الحادية عشرة: قالوا: من أتى القاضي مستعديا على خصمه و التمس من الحاكم إحضاره

، فإن كان خصمه في البلد و كان ظاهرا غير معذور يمكن إحضاره وجب على الحاكم إجابته و إحضاره مطلقا، سواء حرّر المستعدي دعواه أم لا، و سواء شقّ عليه الحضور في مجلس الحكم- لكونه من أهل الصيانات و المروّات- أم لا.

و نسبه في الكفاية إلى المعروف من مذهب الأصحاب «1»، و في المسالك و شرح المفاتيح و المعتمد و عن المبسوط: ادّعاء الإجماع عليه «2».

قيل:

لتوقّف الحكم الواجب بينهما على ذلك، و لأنّ الحاكم منصوب لاستيفاء الحقوق، و ترك الإحضار تضييع لها «3».

و احتاط في الكفاية في إحضاره قبل تحرير الدعوى، لأنّ في الإحضار في مجلس الحكم نوع إيذاء، فلعلّ دعواه كانت غير مسموعة «4».

______________________________

(1) الكفاية: 365.

(2) المسالك 2: 265، المبسوط 8: 154. و فيه: و هو الأقوى عندنا ..

(3) الرياض 2: 393.

(4) الكفاية: 265.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 134

و عن الإسكافي: التخصيص بمن لا يشقّ عليه الحضور من جهة الرفعة و الشرف، و أمّا هو فيوجّه الحاكم إليه من يعرّفه الحال ليحضر، أو وكيل له، أو أن ينصف خصمه و يغنيه عن معاودة الاستعداء

«1».

و في المبسوط عن بعضهم: إن كان من أهل الشرف فيستدعيه الحاكم إلى منزله دون مجلس الحكم، لما ذكر «2».

و ردّ بعدم منافاة ذلك للشرف، فإنّ عليا عليه السّلام حضر مع يهوديّ عند شريح، و حضر عمر مع ابيّ عند زيد بن ثابت ليحكم بينهما في داره، و حجّ المنصور فحضر مع جمّالين مجلس الحكم لحلف كان بينهما «3».

قالوا: و إن احتاج الإحضار إلى بعض الأشخاص المرتّبين على باب القاضي فالظاهر أنّ مئونتهم على الطالب إن لم يرزقوا من بيت المال.

و إذا ثبت عند القاضي امتناعه من غير عذر أو سوء أدب فللقاضي أن يستعين على إحضاره بأعوان السلطان، فإذا حضر عزّره بما يراه.

و في كون مئونة المحضر- و الحال هذه- على المدّعي أو على الخصم، وجهان، جزم بعضهم بالثاني «4» و لا وجه له.

قالوا: و متى كان للمطلوب عذر مانع من الحضور- كالمرض و الخوف من عدو و شبههما- فليس للقاضي أن يكلّفه الحضور، بل يكلّفه بعث وكيل ليخاصم عنه، أو يبعث القاضي من يحكم بين المتخاصمين، و إن دعت الحاجة إلى تحليفه يرسل إليه من يحلّفه.

______________________________

(1) حكاه عنه في المختلف: 702.

(2) المبسوط 8: 154.

(3) انظر المبسوط 8: 154.

(4) كما في المسالك 2: 365.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 135

قالوا: و إن كان المطلوب خارج البلد لا يحضره القاضي بمجرّد التماس المدّعي، بل يسأله أن يحرّر دعواه عليه، فإن حرّرها و كانت دعوى مسموعة أحضره و إن كان في بلدة بعيدة منه، و إن لم يحرّر دعواه و حرّرها و كانت غير مسموعة لم يكلّفه الحضور.

و الفرق بين المسألتين في اعتبار التحرير في الثانية دون الاولى لزوم المشقّة و الضرر و عدمهما، إذ

ليس في إحضار الحاضر مئونة و لا مشقّة، بخلاف الغائب.

و خالف في ذلك الإسكافي أيضا، و لم يوجب الإحضار حينئذ بمجرّد تحرير الدعوى أيضا، بل قال: لم يجب إلّا بعد أن يثبت المستعدي حقّه عند الحاكم «1». و مثله قال في الخلاف «2».

و فرّق في المبسوط بين كونه في بلد تحت ولاية القاضي و غيرها، فيحضر بالتحرير في الأول، و يقضي على الغائب في الثاني «3».

و فرّق في المختلف بين ما إذا لم يتمكّن المدّعي من الإثبات و طلب غريمه للإحلاف، أو لم يكن له مال، بل كان بيد الغريم، فلا يمكنه استيفاء الحقّ لو ثبت منه بدون حضوره. و بين ما إذا تمكّن و كان له مال يستوفي منه الحقّ إن ثبت. فيحضر في الأول دون الثاني «4».

و قد تلخّص ممّا ذكر: أنّ في صورة الحضور في البلد: ظاهر الأكثر الاتّفاق على الإحضار و لو قبل التحرير، لغير ذوي الأشراف و أرباب المعاذير.

نعم، ناقش بعض متأخّري المتأخّرين في ذلك، و احتمل اختصاص

______________________________

(1) حكاه عنه في المختلف: 702.

(2) الخلاف 6: 235- 236- 34.

(3) المبسوط 8: 155.

(4) المختلف: 703.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 136

وجوب الإحضار مع الحضور بصورة تحرير الدعوى «1». و هو ظاهر المحقّق الأردبيلي، بل تأمّل هو في جواز الإحضار بدون «2» التحرير أيضا.

و في صورة الغيبة: و لا يحضر قبل التحرير، و أمّا بعده فالأكثر على الإحضار، و الفاضل في المختلف على التفصيل المذكور، و المحقّق الأردبيليّ على التفصيل المنقول عن المبسوط.

هذا في الرجل.

و أمّا المرأة، فقالوا: إن كانت برزة كان حكمها حكم الرجل، فتحضر حيث يحضر الرجل و لو من غير البلد، و لكن يشترط هنا- زيادة على الرجل- أمن

الطريق من هتك عرض و وجود محرم و نحوه.

و في الكفاية: الأولى البعث إليها للإحضار أو التوكيل، إلّا بالنسبة إلى من لا تبالي بالإحضار أصلا «3».

قالوا: و إن كانت مخدّرة لم تكلّف الحضور بنفسها، بل يبعث إليها من يحكم أو يأمرها بالتوكيل.

و في الكفاية: لا يعتبر في المخدّرة لأن لا تخرج إلّا لضرورة، بل الظاهر أنّ التي قد تخرج إلى عزاء ذوي الأرحام أو زياراتهم أو إلى الحجّ و زيارة المشاهد أحيانا مخدّرة.

بل مع كثرة ذلك و خروجها إلى السوق للبيع و الشراء و نحوهما كثيرا- كالخروج لشراء الخبز و القطن و بيع الغزل و نحوها- بحيث لا تبالي بالخروج، فهي برزة، و المرجع فيها إلى العرف و العادة.

______________________________

(1) حكاه في الرياض 2: 393.

(2) في «ق» بذلك ..

(3) الكفاية: 265- 266.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 137

و عن الشيخ في المبسوط: إنّ البرزة هي التي تبرز لقضاء حوائجها بنفسها، و المخدّرة هي التي لا تخرج لذلك، و هو قريب «1». انتهى.

قال في القواعد و شرحه: فإن اختفى المدّعى عليه المحضر نادى منادي الحاكم على بابه ثلاثة أيّام إن لم يحضر سمر «2» بابه و ختم عليه و جمع أهل محلّته و أشهدهم على أعدائه.

فإن لم يحضر و سأل المدّعي ختم بابه ختمها، فإن لم يحضر بعد الختم بعث الحاكم من ينادي إن لم يحضر أقام الحاكم عنه وكيلا و حكم عليه.

فإن لم يحضر فعل ذلك و حكم عليه إن ثبت عليه شي ء و إن لم يحكم عليه حال الغيبة ابتداء «3». انتهى.

هذا ما ذكروه في هذا المقام، و لم أجد على أكثر ما ذكروه دليلا، و لا أرى له وجها، إلّا إذا قلنا بعدم

جواز الحكم على الغائب مطلقا.

و أمّا لو قلنا بجوازه كذلك أو على الغائب عن البلد، فلا وجه لوجوب الإحضار فيما يجوز فيه الحكم عليه، لعدم توقّف الحكم عليه، بل يحكم مع غيبته، فإن أدّى إلى الحلف، فإن جوّز الحلف في غير مجلس القضاء يبعث من يحلّفه، و إلّا يحضره حينئذ.

و إن أدّى إلى أخذ مال فيؤدّيه الحاكم من مال المدّعى عليه إن كان، و إن كان ماله عند نفسه يبعث من يأخذه منه أو يأتي بحجّته، بل يمكن أن يقال بعدم وجوب ذلك حينئذ على الحاكم عينا، بل يجب على كلّ مقتدر

______________________________

(1) الكفاية: 266.

(2) السّمر: شدّك شيئا بالمسمار. و سمرة يسمره و سمّره، جميعا: شدّه. لسان العرب 4: 378.

(3) القواعد 2: 207، كشف اللثام 2: 334.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 138

على إجراء حكمه كفاية.

و التمسّك بالإجماع ضعيف، لأن تحقّقه- بعد ما علمت- غير ثابت، و منقوله غير حجّة، و أضعف منه التمسّك بجريان الصدر السلف عليه، إذ لم يكن في السلف للفرقة الناجية قضاة علانية يحضرون و يعزّرون غالبا، بحيث تثبت منه السيرة أو الإجماع، و كان الحكم بيد المتغلّبة.

و بالجملة: لا وجه تامّا لوجوب الإحضار مع جواز الحكم على الغائب، فالأقرب: التخيير، و الأولى البعث إليه و إخباره بأنّه يحضر أو يحكم عليه.

ثمَّ إنّ بعض شرّاح المفاتيح- بعد بيان وجوب الإحضار كما تقدّم- قال في شرح مسألة الحكم على الغائب: كما يجب على القاضي إحضار الخصم مع سؤال المدّعي و إمكان حضوره، كذلك يجوز- على المشهور- أن لا يحضره، بل يحكم على من غاب عن مجلس القضاء، سواء كان مسافرا أو حاضرا في البلد. انتهى.

و لا يخفى ما فيه من التناقض ظاهرا.

و

أمّا بعث المنادي و ختم الدار فلم أظفر له على رواية، و يشبه أن يكون ذلك مستخرجا من الاعتبارات التي يستحسنها العامّة، و إن كان شأن مثل الفاضل أرفع من ذلك، و لو لا أنّه تصرّف في مال الغير بدون إذنه لقلنا باستحبابه، لفتوى ذلك الشيخ الجليل.

و اللّه هو الهادي إلى سواء السبيل.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 139

الفصل الثاني فيما يتعلّق بالمدّعي و دعواه
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الأولى: لمّا كانت تتعلّق بالمدّعي أحكام- كتقديم مختاره من الحاكمين، و طلب البيّنة منه، و نحو ذلك- مسّت الحاجة إلى معرفته

، و عرّفه الفقهاء بثلاثة تعريفات:

أحدها:

أنّه الذي لو ترك الخصومة و النزاع لترك و حاله، و خلّي و نفسه. و بعبارة اخرى: أنّه الذي لو سكت و لم يخاصم سكت عنه، و لم يخاصم، و لم يتوجّه إليه كلام، و لم يطالب بشي ء.

و ثانيها:

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 17    139     المسألة الأولى: لما كانت تتعلق بالمدعي أحكام - كتقديم مختاره من الحاكمين، و طلب البينة منه، و نحو ذلك - مست الحاجة إلى معرفته ..... ص : 139

ّ المدّعي هو الذي يدّعي خلاف الأصل. و الظاهر أنّ المراد بالأصل هو القاعدة دون أصل العدم خاصّة، فيكون مدّعي ملكية عين في يد غيره مدّعيا.

و ثالثها:

إنّ المدّعي هو الذي يذكر أمرا خفيّا بحسب الظاهر، أي خلاف الظاهر بحسب المتعارف و المعتاد.

و المنكر خلاف المدّعي على كلّ من التعريفات.

و قد زيد رابع أيضا

، و هو الذي يدّعي الثاني أو الثالث، نقله في النافع و الشرائع و القواعد و الروضة قولا «1» .. و يحتمل أن يكون الترديد

______________________________

(1) المختصر النافع: 284، الشرائع 4: 106، القواعد 2: 208، الروضة 3: 76.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 140

لبيان تعدّد القول دون أقسام المدّعي، كما هو الظاهر من الشرائع.

و قد يزاد خامس

، و هو: أنّ المدّعي من يكون في مقام إثبات قضيّة على غيره، ذكره في مجمع البحرين قائلا: إنّه الظاهر من الحديث «1».

و حكي نسبته إلى الصدوق أيضا.

و ليس المراد بالترك في التعريف الأول تركه مطلقا و لو من غير جهة تلك الدعوى الخاصّة التي يدّعيها، بل المراد تركه من هذه الجهة و من تلك الحيثيّة، فإنّ قيد الحيثيّة في التعاريف مأخوذ، بل رجوعه

إلى ما تقتضيه الحالة السابقة شرعا لو لا تلك الدعوى، كما صرّح به والدي العلّامة قدّس سرّه في المعتمد، قال: المراد بالترك هو: عدم الإلزام بأمر متجدّد حادث، مع العمل بالحالة السابقة و الرجوع إلى ما ثبت شرعا قبل الدعوى. و بعدمه: الإلزام بمتجدّد حادث لإثبات واقع قبلها. انتهى.

و ذكر قريبا منه المحقّق الأردبيلي.

و المراد بالأصل في التعريف الثاني هو القاعدة الثابتة شرعا، اللّازم أخذها لو لا ثبوت خلافها، سواء كان أصل العدم أو غيره، لا خصوص أصل العدم و الاستصحاب.

و على هذا يظهر تساوق المعنيين الأولين و اتّحادهما و تلازمهما في جميع الموارد، إذ كلّ من يدّعي خلاف أصل بالمعنى الذي ذكرنا لو ترك دعواه يترك و يعمل بالأصل الذي ادّعى خلافه، و كلّ من يترك على الحالة السابقة و يعمل بمقتضاها شرعا لو ترك الدعوى يدّعي خلاف الأصل بالمعنى المذكور.

______________________________

(1) مجمع البحرين 1: 143.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 141

و ما يتوهّم فيه افتراقهما من دعوى المديون الردّ، حيث إنّه يدّعي خلاف الأصل و لا يترك لو ترك.

فاسد، لأنّه أيضا لو ترك هذه الدعوى يترك من هذه الحيثيّة، و يعمل بمقتضى الحالة السابقة، و هي وجوب الردّ عليه.

و كذا الكلام في دعوى المتصرّف في مال الغير- بنحو من الأنحاء- الردّ، فإنّ عدم ترك مدّعي الإيفاء و الردّ بعد الإقرار و مؤاخذته بهما إنّما هو مقتضى الحالة السابقة المستصحبة و رجوع إليها.

و قد يتوهّم الافتراق في مثل دعواه عدم كون بائع مال زيد وكيلا عنه مع إقرار زيد بالتوكيل ليردّ العين أو يستردّ الثمن أو لا يطالب به.

و هو أيضا فاسد، لأنّه ليس مدّعيا في تلك الدعوى، بل هو المدّعي للوكالة بعد الإقرار

بملكيّة الغير، لأنّه لو ترك يترك على ما تقتضيه الحالة السابقة شرعا من الردّ و الاسترداد.

نعم، لو ادّعى المشتري استحقاق الردّ أو الاسترداد مطلقا فيكون مدّعيا من تلك الجهة، فهاهنا دعويان، إحداهما: فساد البيع من غير تعرّض للتوكيل و عدمه، فالمشتري مدّع بالمعنيين. و الأخرى: فساده من جهة انتفاء التوكيل، و هو مدّعى عليه من هذه الجهة. و هكذا في أمثاله.

و ممّا ذكرنا ظهر أيضا اتّحاد المعنى الخامس مع الأولين أيضا.

و أمّا تفسيره بمعنى من يدّعي خلاف الظاهر فهو قد يفارق الأولين، كما في مثال إسلام الزوجين الذي ذكروه، إذا ادّعى أحدهما التقارن و الآخر التعاقب، حيث إنّ الأصل التعاقب، لأصالة تأخّر إسلام كلّ منهما إلى آخر ما يمكن التأخير إليه. و خلاف الظاهر العلم بالتقارن.

و يفارقهما أيضا في دعوى زيد مالا على عمرو، فإنّه مدّع على

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 142

الأولين دون التفسير بدعوى خلاف الظاهر.

و كيف كان، فالظاهر من المعاني المذكورة هو أحد الثلاثة، أو جميعها، من جهة أنّها تتّحد مواردها للعرف، الذي هو الحاكم في أمثال المقام، فإنّه المتبادر عرفا.

و لا يعارضه وضع لغوي، لعدم ثبوت وضع لغوي- مخالف لذلك- لمبدإ اشتقاق المدّعي، الذي هو: الدعوى أو الادّعاء. و لا يضرّ ثبوته لمثل الدعاء و الدعوة، لاختلاف اللفظين و لو من جهة الهيئة الاشتقاقيّة.

و يدلّ عليه أيضا استقراء موارد استعمال هذه الألفاظ في الأخبار، كما لا يخفى على المتتبّع.

و أمّا التفسير بدعوى خلاف الظاهر، فهو ممّا لا دليل عليه، و لا شاهد له من العرف أو اللغة، و يخالف ما يطلق عليه المدّعي في بعض الموارد قطعا كما أشرنا إليه.

و مع ذلك يخدشه: أنّ الظهور و الخفاء قد يحصل بأمارات

جزئيّة مختلفة بالنسبة إلى الأشخاص- كالعدالة و الأمانة و سائر القرائن- فيلزم أن يكون شخص واحد في دعوى واحدة مدّعيا عند حاكم يعرف ديانة المدّعي عليه، و منكرا عند آخر لا يعرفها، و يستبعد وضع لفظ المدّعي و المنكر لمثل ذلك.

و لذلك قد يقال: بأنّ المراد بالظاهر في ذلك التفسير هو الظاهر شرعا، أي لو لا دليل على خلافه ثبت أخذه شرعا ما لم يثبت خلافه، و يرجع حينئذ إلى المعنى الأول، بالمعنى الذي ذكرنا للأصل.

و قد يفسّر الظاهر بمقابل الخفي، و الأصل بأصل العدم و الاستصحاب،

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 143

و يحمل الترديد في التعريف- كما في النافع و الشرائع «1» و غيرهما «2»- على الاختلاف في تقديم الأصل أو الظاهر عند تعارضهما.

[ففي ] «3» كلّ موضع يقدّم الأصل يجعل المدّعي من يدّعي خلافه.

و في كلّ موضع يقدّم الظاهر يجعل من يدّعي خلاف الظاهر.

و في كلّ موضع تساويا في الظهور و الخفاء و مخالفة الأصل و موافقته- كما لو ادّعى كلّ منهما عينا في يدهما جميعا- يرجع إلى التداعي، لكون كلّ منهما مدّع من جهة، و مدّعى عليه من اخرى.

و لا يخفى أنّ هذا أيضا يرجع إلى التفسير الأول، لأن الظاهر الثابت تقديمه شرعا على الأصل هو الأصل بالمعنى الذي ذكرناه، و مع ذلك لا يلائم تعريفه بمن يدّعي خلاف الظاهر خاصّة.

و قد يقوى تعريفه بمدّعي خلاف الظاهر بتعلّق اليمين في بعض الموارد على من معه الظاهر، فمقابله يكون مدّعيا.

و فيه: أنّه كلّ ما كان كذلك فإنّما هو في موضع يكون الظاهر حجّة شرعا، فيكون أصلا و لو سلّم عدم حجيّته في بعض المواضع، فيكون تعلّق اليمين ثابتا بدليل خارج، كما في اليمين

المردودة و جزء البيّنة و الاستظهاريّة. و ليس في مطلق تعلّق اليمين دلالة على كون مخالفه مدّعيا.

و قد يقوى أيضا بأنّ جعل البيّنة على المدّعي قرينة على أنّه الطرف الأضعف، و المنكر هو الطرف الأقوى، و لذا جعلت عليه اليمين، و من معه

______________________________

(1) المختصر النافع: 284، الشرائع 4: 106.

(2) كالمسالك 2: 387، الرياض 2: 410.

(3) في «ح» و «ق»: في، و الأنسب ما أثبتناه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 144

الظاهر يقوى طرفه بالظهور، فيكون مخالفه مدّعيا.

و لا يخفى ما فيه، فإنّه علّة مستنبطة لا حجّية فيه، مع أنّ الظهور إن كان بدون لزوم أخذه شرعا تمنع تقويته، و إلّا فيرجع إلى الأصل بالمعنى الذي ذكرناه.

ثمَّ لا يخفى أنّ توجّه اليمين في بعض الموارد على المدّعي لا يوجب نقضا في تعريفه أصلا، إذ ليس عدم توجّه اليمين جزء من حقيقته و لا مأخوذا في تعريفه، و إنّما هو حكم شرعيّ ثابت له بالعمومات أو المطلقات القابلة للتخصيص و التقييد، فكلّما توجّه يمين على المدّعي العرفي فهو من ذلك الباب، مع أنّ في ما مثّلوا به للنقض من الودعيّ المدّعي للردّ كلاما مرّت الإشارة إليه.

و لا يخفى أيضا أنّه يمكن أن يكون شخص واحد مدّعيا و مدّعى عليه باعتبارين، و كلّ من المتداعيين مدّعيا و منكرا كذلك، كما مرّ بعض أمثلته في مسألة تقديم من يختاره المدّعي من الحاكمين، و منه ما إذا ادّعى البائع بيع عبده و ادّعى المدّعي شراء أمة البائع، إلى غير ذلك.

المسألة الثانية: يشترط في المدّعي أن يكون بالغا عاقلا

، فلا تسمع دعوى الصغير و لا المجنون، بلا خلاف يوجد، كما صرّح به طائفة «1»، بل بالإجماع كما في المعتمد، بل بالإجماع المحقّق.

قيل:

و للأصل، أي أصالة عدم ترتّب آثار

الدعوى من وجوب سماعها و قبول بيّنة المدّعي و سقوط دعواه بالحلف و ثبوتها بالنكول و نحوها عليها، لاختصاص ما دلّ على سماع الدعوى و أحكامها- بحكم التبادر-

______________________________

(1) منهم المحقّق في المختصر النافع: 284، العلّامة في القواعد 2: 208، السبزواري في الكفاية: 274، صاحب الرياض 2: 410.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 145

بما إذا صدرت ممّن اجتمعت فيه الشرائط، التي منها التكليف، مضافا إلى تضمّن الدعوى أمورا تتوقّف على التكليف، كإقامة البيّنة و نحوها «1».

و لا يخلو عن نظر، لمنع التبادر المذكور من مثل قوله كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ «2» و قوله فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ «3» و نحوهما «4»، بل مثل قوله عليه السّلام: «البيّنة على المدّعي» «5»، لأنّ ذلك حكم وضعيّ لا تكليفي. و منع توقّف ما ذكر على التكليف، و لو سلّم فينتقل الكلام في دعوى لا تتوقّف على ذلك، فالمناط: الإجماع.

مضافا إلى تضمّن الدعوى كثيرا تصرّفات ماليّة- كإحلاف أو إقرار- لا تجوز منهما، إلّا أنّ مقتضاهما الاقتصار في عدم السماع بما يثبت فيه الإجماع، أو ما أوجب تصرّفا ماليّا منه.

فلو جاء يتيم لا وليّ له إلى حاكم و ادّعى: أنّ فلانا فقأ عيني أو قتل أبي أو نزع ثوبي و يريد الفرار ولي بذلك شهود فاسمع شهودي و خذ بحقّي، و لا يمكن الأخذ بعد فراره، فليس فيه تصرّف ماليّ له، و تحقّق الإجماع على عدم السماع فيه غير معلوم.

نعم، يمكن القول بعدم جواز إحلافه و لا قبول حلفه لو ردّ إليه حينئذ، بل الحاكم يحلّف المنكر من جهة ولايته لو ظنّ صدق الصغير، فتأمّل.

و زاد المحقّق الأردبيليّ رحمه اللّه و والدي العلّامة- طاب ثراه- و بعض

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 410.

(2)

النساء: 135.

(3) سورة ص: 26.

(4) المائدة: 8، 42.

(5) الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 3.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 146

آخر «1»: الرشد أيضا، و ادّعى في المعتمد الإجماع عليه صريحا.

و لا أرى له دليلا، سيّما فيما لا يتضمّن دعوى ماليّة، كادّعاء القذف و الضرب و الجرح و نكاح الولي في حال الصغر و نحوها. و الإجماع مطلقا غير ثابت.

نعم، لا تسمع دعواه المتضمّنة للتصرّفات الماليّة، لعدم جوازها من السفيه، أو تسمع إلّا إذا انتهى إلى تصرّف مالي.

و أن يدّعي لنفسه أو لمن له الولاية عليه أبوّة أو حكومة أو قيمومة أو وصاية أو وكالة، بالإجماع مطلقا إثباتا، و في الجملة نفيا.

و قد يزاد دليلا للنفي: أنّ المدّعي من يطالب بحقّ ماليّ أو غيره، و لا حقّ لغير من ذكر، و حقّ الغير ليس له مطالبته.

و في كون المدّعي من ذكر مطلقا و عدم جواز مطالبة حقّ الغير كذلك و لو بمجرّد إثباته نظر.

و قد يزاد أيضا الأصل، فإنّ الأصل عدم وجوب السماع، و عدم جواز إجبار الغريم على الجواب، و عدم ترتّب سائر آثار الحكم.

و فيه: أنّه حسن لو لا عمومات الحكم، نحو قوله سبحانه وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «2».

و لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ «3».

و فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ «4».

______________________________

(1) كالمحقق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام): 677.

(2) المائدة: 49.

(3) النساء: 105.

(4) سورة ص: 26.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 147

و قد أنزل سبحانه و أراه أنّ البيّنة على المدّعي «1»، و الأصل عدم نزول غيره من ردّ الدعوى و عدم سماعها.

و مقتضى الأمر بالمحاكمة بينهم هو التحاكم و رفع النزاع مطلقا، فالمناط

في جانب النفي هو الإجماع، فيقتصر فيه على الثابت فيه الإجماع، و هو المدّعي عن الغير بلا ولاية و لا وكالة و لا إذن صريح أو بالفحوى أو شاهد الحال، فلو ادّعى بأحد هذه الوجوه تسمع الدعوى، و يحكم بما تقتضيه الشريعة.

و أمّا ما على الحاكم بعد السماع و ما يجوز للمدّعي بعد الدعوى فهو أمر آخر، إذ تختلف آثار الدعوى في الموارد، فإنّه ليس على الوكيل و الوصيّ الحلف و لا ردّ اليمين بدون التوكيل فيه للوكيل أو المصلحة للولي، و لا ينفذ إقرار الوكيل، و لا يجوز له الأخذ بدون التوكيل فيه.

و الحاصل: أنّ المراد هنا بيان شرائط صحّة الدعوى و سماعها، و أمّا لوازمها و آثارها فيذكر كلّ منهما في موضعه.

ثمَّ بما ذكرنا- من الاقتصار في النفي بموضع الإجماع- يعلم عدم توقّف سماع دعوى الوكيل على ثبوت وكالته، كما هو ظاهر التحرير في بحث جواب المدّعى عليه أنّ ما في يده ليس له و أنّه لغائب، قال: و لو أقام ذو اليد البيّنة للغائب لم يقض بها للغائب، و لو ادّعى وكالة الغائب كان له إقامة البيّنة عن الغائب «2».

و ظاهر المحقّق الأردبيليّ و بعض الفضلاء المعاصرين التوقّف، حيث قيّدا السماع بالثبوت «3».

______________________________

(1) الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم و احكام الدعوى ب 3.

(2) التحرير 2: 190.

(3) غنائم الأيام: 677.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 148

و بما ذكرنا- من الاكتفاء بشاهد الحال- يصحّ سماع دعوى الأمين الذي بيده مال الغير و لا يمكنه إثبات وكالته في الدعوى، مع إيجاب تأخيرها ضياع حقّ مالكه، مع أنّ في مثله حقّا للأمين أيضا، و هو أنّه لو لا الادّعاء للزم التفريط المستلزم للضمان، بل

له حقّ الأخذ منه.

و كذا يصحّ سماع دعوى مثل الجار الذي ادّعى لجاره الغير الحاضر على شخص بأنّه سرق مال جاره و يريد الفرار.

و دعوى ردّ صديقه الغائب الدين الذي يدّعيه الدائن عند الحاكم ليأخذ من ماله.

أو إيفاء الميّت- الذي له صغار- دينا يدّعيه عليه غيره، و يعلمه شخص آخر، و يعلم شهوده عليه.

هذا إذا كانت الدعوى بشاهد الحال بقصد كونه من جانب المالك، و إلّا فقد يدخل في باب الشهادة.

المسألة الثالثة: يشترط في سماع الدعوى صحّتها و إمكان ما يدّعيه

- فلا عبرة بدعوى محال عقلا أو عادة أو شرعا- و لزومه، فلو ادّعى هبة أو وقفا لم تسمع إلّا مع دعوى الإقباض، و كذا الرهن عند مشترط الإقباض فيه، فإنّ الإنكار فيما لا يلزم رجوع، و لأنّه مع الإثبات لا يجوز الإجبار على التسليم، كذا ذكروا.

و فيه نظر، لأنّ أصل الملك شي ء، و لزومه أمر آخر، و لكلّ منهما فوائد، فيمكن دعوى أحدهما بدون الآخر، و إذا ثبت أحدهما يبقى الآخر، فإن سلّم المدّعى عليه ذلك، و إلّا لا بدّ من إثبات ذلك الأمر إن أراد اللزوم، فيمكن أن يثبت أو يحلف كما في سائر الدعاوي، و لولاه لزم عدم دعوى شراء حيوان إلّا مع ضمّ مضيّ زمان سقوط خيار الثلاثة و تفرّق المجالس.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 149

و الظاهر عدم القائل بذلك، و لذا تأمّل في أصل الاشتراط المحقّق الأردبيلي، معلّلا بما ذكرنا، فلا يبعد سماع الدعوى، و مع ثبوتها العمل بمقتضاها و لوازمها، إن متزلزلا فمتزلزلا، و إن لازما فلازما.

و لو قلنا: بأنّه إن ذكر فائدة للدعوى أو كانت الفائدة موافقة للأصل تسمع و إلّا فلا، كان أقرب، بل هو الأظهر، كما سيظهر وجهه.

المسألة الرابعة: يشترط أن يكون المدّعى به ممّا يصحّ تملّكه

، فلا تسمع دعوى ما لا يملك، كحشرات الأرض- إلّا مع التصرّف فيه لمنفعة مقصودة للعقلاء كدواء- و كالخمر و الخنزير إذا كان المدّعي مسلما و لو على ذميّ، و الوجه ظاهر.

المسألة الخامسة: ذهب المحقّق «1» و جماعة «2» إلى أنّه يشترط في الدعوى كونها بصيغة الجزم
اشاره

، فلو قال: أظنّ، أو: أتوهّم أنّ لي أو لأبي عليك دينارا، أو أنّك سرقت مالي، لم تسمع دعواه، حتى ادّعى اليقين فيما ادّعاه، و هو المحكيّ عن ابن زهرة و الكيدري و التنقيح «3»، و نسبه في الكفاية إلى المشهور «4»، و في المعتمد إلى الأكثر.

و حكي عن الشيخ نجيب الدين بن نما و فخر المحقّقين و الشهيدين في النكت و المسالك عدم الاشتراط «5»، و هو ظاهر المحقّق الأردبيلي،

______________________________

(1) الشرائع 4: 82.

(2) كالشهيد الثاني في المسالك 2: 366، السبزواري في الكفاية: 266، صاحب الرياض 2: 410.

(3) الغنية: 625، حكاه عن الكيدري في الرياض 2: 410، التنقيح الرائع 4: 267.

(4) الكفاية: 266.

(5) حكاه عن ابن نما في الشرائع 4: 82 بقرينة ما في الإيضاح 4: 327- 328 و التنقيح 4: 267 و ..، و فخر المحققين في الإيضاح 4: 327، و حكاه عن نكت الإرشاد في الرياض 2: 410، المسالك 2: 366.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 150

و اختاره بعض فضلائنا المعاصرين «1».

و لكن المنقول عن الأول عدم الاشتراط في التهمة «2»، و عن المحقّق الثاني عدم الاشتراط فيما يخفى عادة و يعسر الاطّلاع عليه- كالقتل و السرقة و نحوهما- و الاشتراط في نحو المعاملات «3»، و هو ظاهر الدروس و الروضة «4».

و قيل: لعلّهم أرادوا بذلك ما ذكره ابن نما، فيتحدان، و هو ظاهر بعض مشايخنا المعاصرين، حيث نفي الخلاف في الاشتراط فيما لا يخفى، قال: و أمّا في غيره-

كالتهمة- فقولان، و نسب القول بعدم الاشتراط إلى الذين ذكرناهم «5».

و نقل في شرح المفاتيح عن الشهيد الثاني و ابن نما القول بعدم الاشتراط مطلقا، ثمَّ قال: و قوّى المحقّق الشيخ عليّ عدم الاشتراط فيما يخفى عادة. و ظاهره تغاير القولين.

و لعلّ من حكم بالاتّحاد فهم من التهمة ما يخفى، و من حكم بالتغاير حمل التهمة على مجرّد التوهّم، الذي هو أعمّ من الظنّ.

و تردّد الفاضل في القواعد و الإرشاد و التحرير «6»، و هو ظاهر الصيمري و المفاتيح و شرحه و الكفاية «7»، و إن كان كلام الأخير إلى عدم

______________________________

(1) المحقّق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام): 678.

(2) انظر الشرائع 4: 82.

(3) حكاه عنه في مفتاح الكرامة 10: 69.

(4) الدروس 2: 84، الروضة 3: 80- 81.

(5) انظر الرياض 2: 410.

(6) القواعد 2: 208، الإرشاد 2: 144، التحرير 2: 186.

(7) المفاتيح 3: 259، الكفاية: 266.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 151

الاشتراط أميل.

و قال والدي المحقّق رحمه اللّه: و التحقيق عندي سماع الدعوى أولا، مع احتمال إقرار الخصم، أو شهادة بيّنة لها، أو ادّعاء المدّعي سماع أحدهما، حذرا من تأدّي عدمه إلى الإضاعة المنهيّ عنها. فإن تحقّق أحدهما حكم بمقتضاه، و إلّا سقطت الدعوى كسقوطها أولا إن قطع بعدم احتمال شي ء منها.

إلى أن قال: فالظاهر أنّ المشترط للجزم لا ينفي إصغاء الحاكم إلى الظانّ أولا مع تطرّق الاحتمالات المذكورة، و إنّما لم يتعرّض لذلك مسامحة، أو إحالة إلى الظهور. انتهى.

و الأقوى: عدم الاشتراط مطلقا، سواء كانت في المخفيّات و غيرها، كما صرّح به الفاضل المعاصر «1»، لأصالة عدم الاشتراط. مع صدق الدعوى على غير المجزومة أيضا، فيقال: دعوى ظنّية، أو احتماليّة، و يدلّ عليه عدم

صحّة السلب عرفا، فتشملها إطلاقات أحكام الدعوى و المدّعي.

و لعموم أدلّة الحكم، كقوله سبحانه وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «2».

و قوله جلّ شأنه فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ «3».

و قوله عزّ جاره فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ «4»، و غير ذلك «5».

______________________________

(1) المحقق القمّي في رسالة القضاء (غنائم الأيام): 678.

(2) المائدة: 49.

(3) النساء: 65.

(4) سورة ص: 26.

(5) النساء: 135.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 152

قيل:

في دلالة عموم أدلّة الحكم نظر، إذ لعلّ الحكم و ما أنزل اللّه عدم السماع «1».

و فيه:

أنّه يتمّ لو لا مثل قوله: «البيّنة على المدّعي» فإنّه الحقّ و ممّا أنزل اللّه، و الأصل عدم إنزال غيره.

و للروايات المذكورة في باب ضمان الصائغ و الأجير و غير ذلك الباب «2».

و كرواية بكر بن حبيب: «لا يضمن القصّار إلّا ما جنت يداه، و إن اتّهمته أحلفته» «3».

و الأخرى: أعطيت جبّة إلى القصّار فذهبت بزعمه، قال: «إن اتّهمته فاستحلفه، و إن لم تتّهمه فليس عليه شي ء» «4».

و صحيحة أبي بصير: عن قصّار دفعت إليه ثوبا فزعم أنّه سرق من بين متاعه، فقال: «عليه أن يقيم البيّنة أنّه سرق من بين متاعه و ليس عليه شي ء» «5».

و الأخرى: «لا يضمن الصائغ و لا القصّار و لا الحائك، إلّا أن يكونوا متّهمين فيجيئون بالبيّنة، و يستحلف لعلّه يستخرج منه شي ء» «6».

______________________________

(1) الرياض 2: 411.

(2) الوسائل 19: 141 و 148 أبواب أحكام الإجارة ب 29 و 30.

(3) التهذيب 7: 221- 967، الاستبصار 3: 133- 481، الوسائل 19: 146 أبواب أحكام الإجارة ب 29 ح 17.

(4) التهذيب 7: 221- 966، الوسائل 19: 146 أبواب أحكام الإجارة ب 29 ح 16.

(5) الكافي

5: 242- 4، الفقيه 3: 162- 712، التهذيب 7: 128- 953، الوسائل 19: 142 أبواب أحكام الإجارة ب 29 ح 5.

(6) التهذيب 7: 218- 951، الفقيه 3: 163- 715، الوسائل 19: 144 أبواب أحكام الإجارة ب 29 ح 11.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 153

و توهّم اختصاص تلك الروايات بالتهمة- فلا تنهض دليلا على العموم- فاسد، لأنّ التهمة تعمّ جميع المواضع التي ينكر فيها المدّعى عليه، فإنّها لا تختصّ بمثل القتل و السرقة، بل تشمل الكذب في الإنكار و جلب النفع و دفع الضرر أيضا. و لا ينفكّ المدّعى عليه المنكر عن اتّهامه بأحد هذه الأمور.

و لا يضرّ الاختصاص بالأشخاص المذكورين فيها، لأنّ الظاهر عدم الفرق، مع أنّ العلّة المذكورة في الأخيرة لعلّها عامّة.

و تؤيّد المطلوب أيضا روايتا أبي بصير «1» و الأصبغ «2» الواردتين في قضية الشابّ الذي ذهب [أبوه ] «3» مع جمع إلى سفر و لم يرجع، حيث قضى شريح فيها بالحلف، ثمَّ فرّق أمير المؤمنين عليه السّلام بين الشهود. فإنّ الظاهر كون دعوى الشابّ احتماليّة أو ظنّية.

و يؤيّد المطلوب أيضا سماع دعوى الورثة و حلفهم بنفي العلم ببراءة المديون.

احتجّ المشترطون بأنّ المتبادر من الدعوى ما كان بالجزم.

و بأنّ الدعوى توجب التسلّط على الغير بالالتزام بالإقرار، أو بالإنكار، أو التغريم، و هو ضرر عليه.

و بأنّ الدعوى في معرض أن يتعقّبها يمين المدّعي، أو القضاء بالنكول، و هما غير ممكنين، لاستحالة الحلف بدون الجزم، و امتناع ثمرة

______________________________

(1) الكافي 7: 371- 8، التهذيب 6: 316- 875، الفقيه 3: 15- 40، الوسائل 27: 279 أبواب كيفية الحكم و احكام الدعوى ب 20 ح 1.

(2) الكافي 7: 373- 9، الوسائل 27: 208 أبواب كيفية الحكم و

احكام الدعوى ب 20 ح 1.

(3) ما بين المعقوفين ليس في النسخ، أضفناه من المصادر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 154

النكول، إذ لا يستحلّ للغريم أن يأخذ بمجرّد إنكار المدّعى عليه و نكوله، لاحتمال كونه للتعظيم أو غيره.

و بالأخبار المصرّحة: بأنّه إذا ردّ اليمين على المدّعي فلم يحلف فلا حقّ له، كصحيحتي محمّد «1» و جميل «2»، و مرسلتي أبان «3» و يونس «4»، و أخبار البصري «5» و البقباق «6» و يونس «7».

و الجواب عن الأول:

منع التبادر كما مرّ، و لا يثبته حكم الإمام [عليه السلام ] في بعض الأخبار «8» بردّ اليمين على المدّعي بالإطلاق، لأنّ غايته أنّه عامّ خصّ.

و عن الثاني:

منع كون الإنكار و الحلف ضررا، و لو سلّم فتخصيص عمومات نفي الضرر بالأدلّة الشرعيّة ليس بعزيز، مع أنّه قد يعارض بضرر المدّعي أيضا في عدم سماعه، كما إذا قطع بأنّ أحد هذين أخذ ماله و لم

______________________________

(1) الكافي 7: 416- 1، التهذيب 6: 230- 557، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و احكام الدعوى ب 7 ح 1.

(2) الفقيه 3: 37- 127، الوسائل 27: 242 أبواب كيفية الحكم و احكام الدعوى ب 7 ح 6.

(3) الكافي 7: 416- 4، التهذيب 6: 230- 561، الوسائل 27: 242 أبواب كيفية الحكم و احكام الدعوى ب 7 ح 5.

(4) الكافي 7: 416- 3، التهذيب 6: 231- 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و احكام الدعوى ب 7 ح 4.

(5) الكافي 7: 415- 1، التهذيب 6: 229- 555، الفقيه 3: 38- 128، الوسائل 27: 236 أبواب كيفية الحكم و احكام الدعوى ب 4 ح 1.

(6) الكافي 7: 417- 2، التهذيب 6: 231- 563، الوسائل 27:

243 أبواب كيفية الحكم و احكام الدعوى ب 8 ح 2.

(7) لم نعثر عليه.

(8) الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و احكام الدعوى ب 7.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 155

يعلم التعيين، فتكون دعواه على كلّ منهما غير مجزومة، و تخصيص السماع بمثل ذلك لعلّه فصل بلا قائل.

و عن الثالث:

منع امتناع ثمرة النكول، و منع عدم الحلّية بمجرّد النكول، فإنّ الشارع قد أحلّ المال للغريم في نظائره كثيرا، كما في صحيحة الحلبي: في الغسّال و الصبّاغ: «ما سرق منهما من شي ء فلم يخرج منه على أمر بيّن أنّه قد سرق و كلّ قليل له أو كثير فهو ضامن، فإن فعل فليس عليه شي ء، و إن لم يفعل و لم يقم البيّنة و زعم أنّه قد ذهب الذي قد ادّعى عليه فقد ضمنه إن لم تكن له بيّنة على قوله» «1».

و صحيحته الأخرى: عن رجل جمّال استكري منه إبل، و بعث معه بزيت إلى أرض، فزعم أنّ بعض الزقاق انخرق فأهراق ما فيه، فقال: «إنّه إن شاء أخذ الزيت» و قال: «إنّه انخرق، و لكنّه لا يصدّق إلّا ببيّنة عادلة» «2».

و الثالثة: في حمّال يحمل معه الزيت، فيقول: قد ذهب، أو أهرق، أو قطع عليه الطريق: «فإن جاء ببيّنة عادلة أنّه قطع عليه أو ذهب فليس عليه شي ء، و إلّا ضمن» «3».

إلى غير ذلك من الأخبار المتكثّرة «4».

و إذا استحلّ في هذه الموارد أخذ المال من الغريم إذا لم تكن له بيّنة مع احتمال صدقه و عدم علم المدّعي بكذبه، فلم لا يستحلّ فيما نحن فيه

______________________________

(1) الكافي 5: 242- 2، التهذيب 7: 218- 952، الفقيه 3: 161- 708، الوسائل 19: 141 أبواب أحكام الإجارة ب

29 ح 2، بتفاوت.

(2) الكافي 5: 243- 1، التهذيب 7: 217- 950، الفقيه 3: 162- 710، الوسائل 19: 148 أبواب أحكام الإجارة ب 30 ح 1، بتفاوت يسير.

(3) الفقيه 3: 161- 707، الوسائل 19: 153 أبواب أحكام الإجارة ب 30 ح 16.

(4) الوسائل 13: 276 أبواب أحكام الإجارة ب 30.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 156

بالنكول؟! و هل كان المدّعي عالما باشتغال ذمّته؟! بل هذه الأخبار أيضا أدلّة لنا، إذ ليس للمدّعي فيها أيضا إلّا دعوى الخيانة أو التفريط احتمالا، فحكم الإمام بالسماع و طلب البيّنة من المدّعى عليه و الضمان بدونه.

و قد يوجد ما يمكن فيه طلب البيّنة من المدّعى عليه في غير الدعوى المجزومة أيضا، كما إذا ادّعى عليه: إنّي أظنّ، أو أتوهّم عدم ردّك ما استقرضت منّي و بقاءه عليك.

و عن الرابع:

بأنّه مخصوص بما أمكن فيه الردّ قطعا، و هو هنا غير ممكن، لنهي الشارع عن الحلف بدون العلم.

و بأنّ الظاهر من قوله: «فلم يحلف» أنّه نكل عن الحلف، لا أنّ الشارع لم يجوّز له ذلك، بل نقول: إنّه صرّح في روايتي أبي بصير «1» و يونس «2» أنّه: «لا يستحلف الرجل إلّا على علمه» فتدلّان على عدم جواز الردّ في المورد، و الأخبار المتقدّمة مخصوصة بما يجوز فيه الردّ قطعا بل في بعضها: إنّ المدّعى عليه يستحلف المدّعي، و في آخر: إنّ الحلف واجب على المدّعي بعد الردّ إليه، فلا يشمل المورد قطعا، بل و كذا كلّ ما يتضمّن ردّ المدّعى عليه، فإنّه يدلّ على جوازه له.

فإن قيل:

فتح باب ذلك قد يوجب الضرر ببسط يد المتغلّبة، فإنّ كثيرا منهم يقطعون بعدم حلف الأشراف و ذوي الشؤون للشي ء اليسير،

______________________________

(1) الكافي 7:

445- 2، التهذيب 8: 280- 1021، الوسائل 23: 247 أبواب الأيمان ب 22 ح 2.

(2) الكافي 7: 445- 4، التهذيب 8: 280- 1022، الوسائل 23: 247 أبواب الأيمان ب 22 ح 4.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 157

فيدّعون على هذا دينارا و على ذلك كذا، و هكذا.

قلنا أولا:

بالمعارضة بالمثل في الضرر- كما مرّ- لمن قطع بالأخذ و تردّد في الأخذ بين شخصين أو أكثر.

و ثانيا:

أنّه إن ظن المدّعى عليه أو احتمل كذب المدّعي في ادّعاء الظنّ أو الاحتمال فله أيضا حلفه على أنّه ظانّ أو مجوّز، و إلّا فلا يكون تغلّب و فتح لباب التغلّب.

ثمَّ إنّ مقتضى الأدلّة التي ذكرنا: عموم سماع الدعوى الغير المجزومة، سواء كانت ظنّية أو احتماليّة، بل وهميّة، كما يظهر من كلام جمع شمول محلّ النزاع له، كالشرائع و المفاتيح «1» و غيرهما «2»، حيث عنونوا محلّ النزاع بقولهم: أظنّ، أو: أتوهّم. بل ظاهر كلّ من قال بعدم الجزم في التهمة التعميم، إذ لا اختصاص للتهمة بالظنّ.

و قال في الدروس: و أمّا الجزم فالإطلاق محمول عليه، فلو صرّح بالظنّ أو الوهم فثالث الأوجه السماع فيما يعسر الاطّلاع عليه «3».

و هو صريح في شمول النزاع للوهم أيضا.

و اختصاص بعضهم بذكر الدعوى الظنّية في مورد الخلاف لا وجه له.

و من ذلك يظهر جواز تحليف كلّ من الجماعة التي يعلم عدم خروج الحقّ من بينهم.

فرع:

لو أنكر المنكر في هذه الدعوى ظنّ المدّعي عليه أو تجويزه فلا يخلو إمّا يدّعي علمه بعدم المدّعى به، أو علمه بتحقّقه من جهة اشتباه

______________________________

(1) الشرائع 4: 82، المفاتيح 3: 259.

(2) الروضة 3: 80، مفتاح الكرامة 10: 69.

(3) الدروس 2: 84.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 158

عليه

و ادّعى الظنّ لعدم التسلّط على ردّ الحلف.

و له تحليفه على عدم العلم في الصورة الأولى، لعموم الأدلّة، فيندفع تسلّط المدّعي إن نكل أو ردّ الحلف على مدّعي العلم، و يتسلّط على إحلاف المدّعى عليه ظنّا إن حلف على انتفاء العلم.

و أمّا على الثانية، فليس له حلف المدّعي على انتفاء العلم، لأنّ غايته أنّه يقول: إنّي لا أحلف و لا أريد ادّعاء العلم، و ردّ الحلف إنّما هو في صورة التشبّث بالعلم لا غيره، و بمجرّد النكول عليه لا يثبت تحقّقه و انتفاء الظنّ حتى تلغى الدعوى الظنّية، فتكون دعواه الظنّية باقية.

نعم، له أن يحلّف المدّعى عليه على انتفاء المدّعى به، فتتمّ الدعوى، و على انتفاء الظنّ تماما تسقط الدعوى أيضا إن لم يدّع بعده العلم. و له يمين المنكر، و للمنكر الردّ إن ادّعى العلم بعده.

و أمّا تسلّط المنكر على المدّعي بحلفه على أنّه ظانّ في أصل الدعوى الظنّية- كما ذكره بعض معاصرينا- فلا أرى له وجها.

المسألة السادسة: هل يشترط في سماع الدعوى كون المدّعى به معلوما معيّنا

بالوصف في المثلي، و القيمة في القيمي، و الجنس، و النوع، و القدر، أم تكفي معلوميّته في الجملة، كثوب، أو فرس، أو مال أو شي ء؟

الحقّ: الثاني، وفاقا للنافع و الإرشاد و القواعد و الإيضاح و المسالك و الروضة «1» و والدي العلّامة في المعتمد و أكثر متأخّري المتأخّرين «2»، بل

______________________________

(1) المختصر النافع: 284، الإرشاد 2: 143، القواعد 2: 208 الإيضاح 4: 328، المسالك 2: 367، الروضة 3: 79.

(2) كالسبزواري في الكفاية: 266، الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 335، صاحب الرياض 1: 413.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 159

الأكثر مطلقا كما في شرح المفاتيح، لعمومات الدعوى و المدّعي و الحكم، و لأنّ عدم سماعه قد يوجب

الضرر المعلوم المنفي شرعا، لأنّه ربّما يعلم حقّه بوجه ما خاصّة و يمكنه إثباته، و لا يعلم شخصه أو صفته، فلو لم تسمع دعواه لبطل حقّه.

و يؤيّده سماع دعوى الوصيّة بالمجهول و الإقرار به.

خلافا للمحكيّ عن المبسوط و السرائر و الدروس «1»، و نسب إلى التحرير أيضا «2»، و ليس كذلك، لأنّه نقله عن الشيخ و تنظّر فيه «3».

و استدلّ على العدم بعدم فائدتها، و هو حكم الحاكم لو أقرّ به المدّعى عليه أو ثبت بالبيّنة.

و يضعّف: بمنع عدم الفائدة، لأنّه يلزم حينئذ ببيان الحقّ المقرّ به أو المثبت، و يقبل تفسيره بمسمّى الدعوى، و يحلف على نفي الزائد، أو العلم به إن ادّعى عليه أحدهما كما يأتي. كذا قالوا.

و هو حسن لو فسّره الخصم، أمّا لو لم يفسّر- إمّا لادّعائه الجهل أيضا، أو لإصراره على العدم الواقعي و إن ألزم به ظاهرا- فإن كان الجهل في القدر فيلزم بالقدر المشترك، و هو أقلّ قدر ثبت، و إن كان الجهل في النوع أو الوصف فالظاهر الرجوع إلى القيمة، لأنّ بعد ثبوت العين عليه و عدم إمكان استخلاصها يجوز للمدّعي أخذ القيمة من باب التقاصّ، كما بيّن في مسألة المقاصّة. و على هذا، فيرجع الجهل أيضا إلى القدر، فيؤخذ بأقلّ ما يمكن من الثمن.

______________________________

(1) المبسوط 8: 156، السرائر 2: 177، الدروس 2: 84.

(2) كما نسبه إليه في الرياض 2: 413.

(3) التحرير 2: 186.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 160

المسألة السابعة: لا يشترط عند كافّة أصحابنا- على ما صرّح به بعضهم «1»- ذكر سبب استحقاق المدّعي

، و لا كشف ما يلزمها و يتعلّق بها من الحقوق و اللوازم، بل يكفي فيها الإطلاق مجرّدا عن ذكر السبب و غيره، لأصالة عدم الاشتراط، و للعمومات المشار إليها، مع أنّ أسباب الاستحقاق كثيرة، و

ضبط جميعها و ذكر مقدارها ممّا يؤدّي إلى الحرج.

نعم، يشترط في دعوى القتل من ذكر سبب دعواه و كيفيّة قتله- بأنّه قتله بنفسه أو بأمره، عمدا أو شبه عمد، أو خطأ- للخلاف الواقع في أحكام القتل باختلاف أسبابه و كيفيّاته.

و من مخالفينا من اشترط في صحّة الدعوى ذكر السبب و تفصيل وجه لزومه في ذمّة الخصم، إلّا أنّه خصّ ذلك بالدعاوي المتعلّقة بالعقود، فاعتبر في دعوى البيع مثلا ذكر المبيع و وقوعه منه أو من وكيله، و تعيين ثمنه حالا أو مؤجّلا، و غير ذلك من المشخّصات، (و في دعوى الزوجيّة ادّعاء العقد بخصوصيّاته، و تعيين المهر، و مطالبة النفقة، و سائر حقوقها» «2» «3».

و منهم من اشترط ذلك في دعوى النكاح خاصّة «4».

المسألة الثامنة: يشترط في وجوب سماع الدعوى و الحكم عليها أن تكون متضمّنة لوقوع التخاصم و التنازع

، أو الإنكار، أو نحوه، صريحا أو ظاهرا، فلو قال أحد: إنّ لي عشرة دراهم على زيد، و هو معترف بها و يؤدّيها، و لكن أريد منك طلبه و سماع الإقرار منه و الحكم بمقتضاه، أو

______________________________

(1) كالفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 335.

(2) ما بين القوسين ليس في «ق».

(3) المغني و الشرح الكبير 11: 449.

(4) حكاه عنهم في كشف اللثام 2: 335.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 161

أريد إقامة البيّنة و صدور الحكم. لم يجب السماع، و لو سمع و أقيمت البيّنة، أو أقرّ عنده، لم يجب الحكم، بل لا يجوز من باب القضاء، لظهور الدعوى فيما كان فيه مخاصمة، و لاختصاص أدلّة وجوب القضاء و نفوذه و ظهورها فيما كان كذلك، فلا يكون ذلك قضاء شرعيّا نافذا، و لا تترتّب عليه آثاره من عدم جواز النقض لو وقع التخاصم بعد ذلك.

نعم، يكون الحاكم شاهد أصل إن سمع الاعتراف، أو

فرع واحد إن أقيمت عنده البيّنة.

و لذا صرّح الفاضل في التحرير في بحث القضاء على الغائب بأنّه لا بدّ أن يدّعي جحود الغائب، فلو أقرّ أنّه معترف لم تسمع بيّنته إلّا لأخذ المال، و لو لم يتعرّض لجحوده احتمل السماع و عدمه «1». انتهى.

و قوله: لأخذ المال، يعني: أنّه إذا ادّعى عدم أدائه المال أو تأخيره و تضرّره بالتأخير و أراد أخذه جاز سماع دعواه و بيّنته لذلك، فإنّ ذلك خصومة و نزاع.

و احتمل السماع مع عدم التعرّض للجحود لظهور طلب الحكم و إرادة إقامة البيّنة في ذلك.

و على هذا، فلا يجوز القضاء فيما ليس فيه طرف دعوى موجود، كما إذا وقف أحد ضيعة بطريق مختلف فيه عند الفقهاء، و أراد سدّ دعوى سائر البطون بإصدار الحكم باللزوم و الصحّة عن فقيه دفعا لادّعاء بعض البطون اللّاحقة، لم يؤثّر الحكم في ذلك.

و كذا إذا أوصى إلى غير عادل، و أراد سدّ دعوى الورثة بطلب الحكم

______________________________

(1) التحرير 2: 187.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 162

بالصحّة و اللزوم عن مجتهد يرى ذلك، أو طلب الحكم في دين مؤجّل يعترف به الدائن احتياطا لإنكاره بعد حلول الأجل، إلى غير ذلك.

و لو كان الغريم معترفا و لكن ماطل في الأداء، فيجوز الترافع، و لكن الدعوى في المماطلة دون الإنكار.

و أمّا ما ذكروه- من أنّ جواب المدّعى عليه إمّا إقرار أو إنكار- فالمراد أنّه إذا ادّعى المدّعي إنكاره أو أطلق الدعوى الظاهرة في الإنكار تسمع الدعوى و يطلب الغريم، فإن أقرّ بعد الطلب فحكمه كذا.

المسألة التاسعة: يشترط في سماع الدعوى أن تكون صريحة في استحقاق المدّعي لما يدّعيه

، فلو ادّعى: أنّ هذه ابنة أمته، لم تسمع، لعدم فائدتها، لجواز ولادتها في غير ملكه. و كذا لو قال: هذه ابنة أمتي و

ولدتها في ملكي، لاحتمال كون الابنة حرّة، أو ملكا لغيره، فيما لم يصرّح باستحقاق الأخذ، لم تسمع.

و كذا لو ادّعى أنّه اشترى ضيعتي، أو غصب داري، أو أقرض منّي عشرة، لم تسمع ما لم يقيّدها بما يصرّح باستحقاقه الآن، لجواز أن يكون اشترى و أدّى الثمن، أو غصب ورد، أو ابتاع بعده، أو أقرض و أدّاه.

فمجرّد تلك الدعاوي لا توجب دعوى حقّ.

و لو ضمّ معه ما يصرّح بالحقّ تسمع، فإنّه بدون الضمّ لا يدّعي استحقاق شي ء و لا يطلبه، لأنّه المفروض.

أمّا لو ضمّ مع ذلك مطالبة المدّعي به فهي دعوى الاستحقاق، فتسمع.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 163

و من ذلك يظهر أنّ ما ذيّله به جماعة «1» هذه المسألة- من حكم تصديق الخصم له في هذه الدعوى مطلقا، أو مع ضمّ ما ينافي ملكيّة المدّعي من كونه إقرارا أو لا، و الفرق بين تصديق ما ذكر و تصديق أنّ هذا الغزل من قطنه أو الدقيق من حنطته- ليس في موقعه أصلا، لأنّ فرض هذه المسألة: أنّ المدّعي لا يدّعي استحقاقا و لا يطالب شيئا، و لذا لا تسمع بيّنته على ما ادّعاه، فلا تترتّب فائدة على كونه إقرارا له أم لا من جهة هذه المسألة. و ليس من متمّماتها أو فروعها.

نعم، هذا من مسائل كتاب الإقرار، و تظهر فائدته فيما إذا ادّعى المدّعي الاستحقاق، فتأمّل.

هذا، ثمَّ إنّه قد يناقش في إطلاق حكمهم بعدم سماع الدعوى فيما لم تكن صريحة في الاستحقاق أيضا، بأن يقال: إن كان مرادهم أنّه لا تسمع إذا قال: اشترى منّي ذلك- مثلا- و لا أدّعي شيئا آخر، أو لا دعوى لي غيرها، فهو كذلك.

أمّا لو قال: هذه دعواي الآن، لوجود

بيّنتي عليها الآن، و أدّعي تمامها بعد ذلك، فلم لا تسمع؟! فلعلّه تكون له بيّنة اخرى غير حاضرة على إقرار خصمه: بأنّي ما أدّيت ثمن ذلك ممّن اشتريت، أو ثبت بعد ذلك فساد الشراء، أو نحو ذلك من الفوائد.

و من ذلك يعلم أنّه لو أطلق الدعوى المذكورة أيضا يجب سماعها، لاحتمال ترتّب الفوائد عليها.

و أولى منه بالسماع ما إذا ادّعي أنّ هذا زوجي، أو هذه زوجتي، من

______________________________

(1) منهم العلّامة في التحرير 2: 189، و الفخر في الإيضاح 4: 327، و الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 335، و الفيض في المفاتيح 3: 259.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 164

غير ضمّ دعوى في حقّ آخر، لاستقلال الزوجيّة بترتّب أحكام عليها إذا ثبتت.

أقول:

السماع في دعوى الزوجيّة صحيح، لما ذكر، إلّا أنّ المناقشة المذكورة في عدم سماع الدعوى الغير الصريحة ليست بجيّدة، إذ على ذلك يكون لهذه الدعوى فردان أو أفراد، بعضها مسموعة و بعضها غير مسموعة فإذا أطلق فلا يعلم أنّه ادّعى المسموعة حتى يجب السماع و طلب الجواب، أو لا حتى لا يجب، و الأصل عدم الوجوب.

و كذا لو قيّد الدعوى ب: الآن، و بقوله: أدّعي تمامها بعد ذلك، لأنّ التمام غير معلوم، فلعلّه أيضا لم يوجب السماع.

بل لو عيّنه و قال: أدّعي مطالبة الثمن- مثلا- بعد ذلك، لم يجب، إذ لعلّه لم يدّع، أو لم يتمكّن من الادّعاء.

المسألة العاشرة [لو ادّعى أمرا آخرا متعلّقا بتلك الدعوى موجبا لنقض الحكم فهل تسمع تلك الدعوى، أم لا؟]

لا شكّ في عدم سماع دعوى بعينها ثانيا بعد رفعها إلى الحاكم و حكم فيها بحكم.

و أمّا لو ادّعى أمرا آخرا متعلّقا بتلك الدعوى موجبا لنقض الحكم- كفسق شهود المشهود له، أو إقرار الخصم بالحقّ، أو ردّ ما يدّعيه المدّعي و نسيانه حال الترافع- فهل تسمع

تلك الدعوى، أم لا؟

فيه خلاف، بل وقع الخلاف في الأولين قبل الحكم أيضا، فتردّد الفاضل في التحرير في سماعها «1»، و استشكل في الإرشاد فيهما «2»، و كذا في القواعد في فسق الشهود «3».

______________________________

(1) التحرير 2: 189.

(2) الإرشاد 2: 143.

(3) القواعد 2: 208.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 165

و جعل الشهيد في الدروس الأقرب عدم السماع فيها «1»، و لكن جعل في قواعده الأقرب السماع فيها «2».

و في الكفاية: عدم السماع في الأول، و التردّد في الثاني «3».

و قال والدي- طاب ثراه- في المعتمد في الثلاثة: إنّ فيها وجهين، و قوّى رحمه اللّه العدم.

و يظهر من القواعد- بل الدروس و غاية المراد- أنّ النزاع إنّما هو إذا أراد الإحلاف دون ما إذا كانت له بيّنة، فإنّها تسمع حينئذ. و صرّح بعض فضلائنا المعاصرين بذلك «4»، كما مرّ في مسألة الدعوى على الحاكم أيضا.

و كيف كان، فالحقّ السماع في غير ما إذا كان بعد الحكم لليمين، لعمومات سماع الدعوى و الحكم بالبيّنة و اليمين و النكول.

و قد يستدلّ في صورة كون الدعوى بعد الحكم بابتناء الحكم أولا على فاسد لم يعلم فساده.

و فيه: أنّ قبل السماع لا يعلم الفساد بعد.

و استدلّ الوالد قدّس سرّه بثبوت الحكم على الوجه المعتبر، و الأصل صحّته حتى يقطع ببطلانه، و مجرّد دعوى الخصم فساده لا توجب القطع به، فلا يلزم السماع و ترك ما ثبت في الشرع اعتباره لأجله.

و فيه أولا: أنّه لو تمَّ ذلك لجرى في كلّ دعوى مخالفة للأصل.

و ثانيا: إنّا لا نقول بفساد الحكم قبل القطع شرعا بالبطلان، و لا إفساده

______________________________

(1) الدروس 2: 85.

(2) القواعد و الفوائد 1: 412.

(3) الكفاية: 274.

(4) جامع الشتات: 677.

مستند الشيعة في

أحكام الشريعة، ج 17، ص: 166

بمجرّد دعوى الخصم، و لا ترك ما ثبت اعتباره بمجرّد السماع، بل تستصحب الصحّة و تسمع الدعوى، فإن وجد ما يوجب الفساد يحكم به، و إلّا فلا.

و ثالثا: إنّ العمومات المذكورة مخرجة عن الأصل.

و أمّا إذا كان الحكم باليمين فلا تسمع الدعوى بعده، للنصوص، إلّا إذا ادّعى إقرار الحالف بعد الحكم، كما يأتي.

المسألة الحادية عشرة: تسمع دعوى المؤجّل قبل حلول الأجل

، إجماعا كما صرّح به والدي رحمه اللّه في المعتمد، لعموم أدلّة الدعوى و الحكم، و لأنّها دعوى حقّ لازم.

و لا يصلح التأجيل، للمانعيّة، مع أنّ المنع قد يؤدّي إلى الإضاعة، لإمكان الإثبات قبل الحلول، و تعذّره بعده، لفقد الشهود، أو الحاكم، أو مثل ذلك.

المسألة الثانية عشرة: لو ادّعى المحكوم عليه فسق الشهود و لا بيّنة له، و ادّعى علم المشهود له

، فاستوجه جماعة عدم تسلّطه على حلفه «1».

و تحقيق الكلام- على نحو مفيد في كلّ ما كان من قبيل هذا المقام-:

إنّ من شرط سماع الدعوى على شخص أن تكون- بحيث لو ثبت بالبيّنة أو الإقرار أو النكول ثبت على المدّعى عليه نفسه- حقّا لازما، فلا تسمع الدعوى الغير المفيدة أصلا، كأن يدّعي على شخص أنّك ضحكت عليّ.

و من هذا الباب ما لو ادّعى على الشاهد: إنّك تعلم فسق نفسك، أو اعترفت بذلك، لأنّه لا يفيد لو ثبت، لأنّ المعتبر عدالته عند المتخاصمين،

______________________________

(1) الدروس 2: 85، المسالك 2: 388، الكفاية: 274.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 167

أو الحاكم، لا عند نفسه.

و كذا لا تسمع الدعوى التي لا توجب حقّا على المدّعى عليه، كأن يقول للحاكم في موضع لا ضمان عليه: إنّك غير قابل، أو خاطئ، أو جائر «1»، للأصل، و عدم شمول أدلّة سماع الدعوى لمثل ذلك أيضا.

مضافا في الأخير إلى أنّه يشترط كون الدعوى بحيث لو أقرّ المدّعى عليه أو حلف بعد الردّ أو النكول ثبت الحقّ، و لا يثبت بشي ء من ذلك حقّ على الحاكم أو الشاهد، و لا على المشهود له، إذ لا يثبت بإقرار الغير و لا نكوله أو ردّه الحلف حقّ على الغير.

و مثلها الدعوى على الشاهد: إنّك كاذب، أو خاطي، فيما لا ضمان عليه.

و أمّا لو كانت هذه الدعاوي في موضع أوجب ثبوتها ضمانا

على الحاكم أو الشاهد، فتسمع كما مرّ سابقا.

و لو كانت إحدى هذه الدعاوي من المحكوم له فتسمع، و لذا تقبل منه البيّنة.

و لكن يشترط في دعوى فسق الشاهد عليه بيانه لموجب الفسق، إذ ربّما يزعم غير ما يوجب الفسق فسقا.

و يشترط أيضا دعوى كونه فاسقا واقعا، أو عند الحاكم، لا عند المدّعي فقط، لأنّ المشروط هو عدالة الشاهد عند الحاكم لا عند المشهود له خاصّة.

بخلاف فسق الحاكم، فإنّ فسقه عند المحكوم له مانع من نفوذ حكمه له و عليه، فلو ادّعى عليه بما يوجب فسق الحاكم عنده لا عند الحاكم

______________________________

(1) في «ح»: خائن.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 168

- كالغيبة، إذا ظنّ الحاكم كونها صغيرة، و المحكوم له كونها كبيرة- تسمع.

و لو كان ما يوجب الفسق عند أحد المتخاصمين دون الآخر كان لكلّ منهما حكمه.

و لو ادّعى على المشهود له كذب الشهود، و أراد بالكذب ما هو المشهور في معناه من عدم المطابقة للواقع، فإن كانت له بيّنة على ذلك فهو يرجع إلى تعارض البيّنتين، و إن لم تكن له بيّنة لا تسمع الدعوى، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أنا أقضي بالبيّنات، فمن قطعت له مال أخيه فقد قطعت له قطعة من النار» «1».

و بالجملة: دعوى عدم المطابقة للواقع عين أصل الإنكار الساقط بالبيّنة بمقتضى الأخبار، فلا تسمع ثانيا.

بخلاف فسق الحاكم، فإنّ انتفاءه شرط في نفوذ حكمه دون عدم المطابقة للواقع، بل صرّحت الأخبار بعدم اشتراطه كما مرّ.

و إن أراد بالكذب عدم المطابقة لاعتقاد الشاهد فقط، فلا تسمع أيضا، لعدم ترتّب فائدة عليه. و كذا إن أراد عدم المطابقة للواقع و الاعتقاد معا.

و إن ادّعى مواضعة الشاهد و المشهود

له على شهادة الزور، فالظاهر سماع الدعوى، و جواز الإحلاف، و الحكم بالردّ و النكول.

و كذا لو ادّعى إقرار خصمه بالمدّعى به، فتردّد في الشرائع في إلزام

______________________________

(1) الكافي 7: 414- 1، التهذيب 6: 229- 552، الوسائل 27: 232 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 2 ح 1، و الرواية فيها هكذا: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان، و بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنّما قطعت له به قطعة من النار».

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 169

الخصم بالجواب و عدمه «1»، و استظهر في المسالك الإلزام و سماع الدعوى «2»، و هو الحقّ، إذ إقراره أمر يثبت به حقّه ظاهرا، و لا يجب أن يكون ممّا يوجب الثبوت واقعا، و إلّا لم يفد فيما إذا ادّعى عليه الحقّ أيضا. و على هذا، فيثبت حقّه بإقامة البيّنة على الإقرار، و بالنكول و اليمين المردودة.

المسألة الثالثة عشرة: إذا تمّت الدعوى يطلب الحاكم من المدّعى عليه الجواب

، إمّا بعد سؤال المدّعي- كما عن الشيخ و في الشرائع و القواعد «3»- لأنّه حقّ له، فيتوقّف على مطالبته.

أو من غير مسألته، كما قوّاه الشيخ أيضا في المبسوط «4»، و حكاه في المختلف عن الشيخين و الديلمي و الحلّي «5».

و حكي عن التحرير أيضا، لدلالة شاهد الحال على مطالبة المدّعي «6». و يظهر من تعليله أنّه أيضا يشترط طلب المدّعي.

و لكن الخلاف في اشتراط الإذن الصريح، أو يكفي المطلق، و الأظهر كفاية المطلق، لأنّه إن أريد بالإذن الصريح ما يدلّ عليه اللفظ مطابقة فلا دليل عليه، و إن كان مطلقا- و لو بالالتزام العرفي- فما طلب أولا يستلزم ذلك عرفا.

______________________________

(1) الشرائع 4: 107.

(2) المسالك 2: 388.

(3) الشيخ في المبسوط 8: 157، الشرائع

4: 82، القواعد 2: 208.

(4) المبسوط 8: 157.

(5) المختلف: 700.

(6) التحرير 2: 186.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 170

الفصل الثالث فيما يتعلّق بالمدّعى عليه، و جوابه، و ما يترتّب عليه
اشاره

و هو لا يخلو عن أقسام، لأنّه «1» إمّا يقرّ، أو ينكر، أو يسكت، أو يدّعي الردّ أو الإبراء أو نحوهما، أو يقول: لا أدري، أو: هذا ليس لي، و نحوه، أو يكون المدّعى عليه غائبا. فهاهنا ستّة أبحاث.

البحث الأول في الإقرار
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الأولى: متى تحقّق الإقرار بجميع المدّعى به، و كان المقرّ جامعا للشرائط المقرّرة في بابه
اشارة

- من البلوغ و العقل و عدم الحجر في الماليّات- لزم عليه ما أقرّ، سواء حكم الحاكم به أم لا، لأنّ إقرار العقلاء على أنفسهم جائز.

بخلاف ما إذا أقام المدّعي بيّنة، فإنّه لا يثبت بمجرّد إقامتها، لأنّها منوطة باجتهاد الحاكم في قبولها و ردّها.

و تظهر ثمرة الفرق بين المقامين بذلك في جواز مقاصّة المدّعي حقّه إذا ادّعاه ظنّا أو احتمالا، فيجوز بالإقرار و إن لم يحكم الحاكم بعد، دون البيّنة، فإنّه يتوقّف على الحكم.

______________________________

(1) في «ح»: لأنّ جوابه إمّا ..

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 171

و في جواز أخذ المقرّ به عنه لكلّ أحد من باب النهي عن المنكر.

و في جواز الحكم لقاض آخر بعد علمه بالإقرار، بخلاف البيّنة المعدّلة عند القاضي الأول، فإنّه لا يجوز الحكم للثاني بدون التعديل عند نفسه.

و الحاصل: أنّ الإقرار علّة تامّة لثبوت الحقّ عليه، بخلاف البيّنة، فإنّها مع الحكم علّة. أو يقال: إنّ الإقرار حجّة مطلقة لكلّ أحد، و البيّنة لم تثبت حجّيتها إلّا للحاكم.

فإن قيل:

كما أنّ ثبوت الحقّ بالبيّنة يتوقّف على ثبوت حجّية البيّنة أولا بأدلّتها، ثمَّ النظر في حالها من العدالة و الجرح و نحوهما، ثمَّ النظر في دلالة اللفظ المؤدّى به الشهادة. فكذلك الثبوت بالإقرار، فإنّه يتوقّف على جواز إقرار العقلاء بأنفسهم، و ثبوت الرواية، و فهم المراد من الجواز، ثمَّ النظر في حال المقرّ من كونه بالغا عاقلا رشيدا غير مكره، ثمَّ النظر في حال لفظ الإقرار، فإنّ في الألفاظ حقائق و مجازات، و لها قرائن، و لذا عنون الفقهاء مسائل كثيرة في تحقيق معاني الإقرارات.

و لا يمكن أن يقال: إنّ أدلّة حجّية البيّنة تختصّ بحجّيّتها للحاكم دون دليل ثبوت الإقرار،

لأنّه لا فرق بينهما من هذه الجهة، و إنّما يختصّ الحكم بالحاكم، لأدلّة اختصاص الحكم به و عدم جوازه لغيره.

قلنا:

فرق بينهما، أولا: في المقدّمة الأولى، فإنّ حجّيّة الإقرار لا تثبت بالحديث المذكور خاصّة، بل هي صارت ضروريّة لكلّ أحد- خاصّي و عامّي- فلا يحتاج إلى اجتهاد في حجّيّة الأخبار سندا و متنا و الفحص عن المخصّص و المعارض و نحوهما. بخلاف أدلّة البيّنة.

فإن قلت:

حجّيّة البيّنة العادلة أيضا صارت اليوم ضروريّة.

قلت:

نعم، و لكن للحاكم، يعني: ثبت على كلّ أحد أنّها حجّة

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 172

للحاكم لا لكلّ أحد، بخلاف الإقرار.

و ثانيا: في المقدّمة الثانية، فإنّ ما يحتاج معرفته من حال البيّنة أمور شرعيّة توقيفيّة خلافيّة صعبة المأخذ، يحتاج إلى الاجتهاد في مأخذه من العدالة و التهمة و الإصرار على الشهادة، و من معرفة من لا تجوز شهادته و من تجوز و نحو ذلك .. بخلاف حال المقرّ غالبا، فإنّ معرفة أحواله بالنسبة إلى المجتهد و غيره متساوية.

نعم، لو كان المقرّ في حالة اختلافيّة شرعا، بحيث تحتاج معرفته إلى الاجتهاد و الفقاهة من علامات البلوغ أو الرشد أو نحوهما، فنقول: يتوقّف الثبوت بالإقرار على الحكم أيضا.

و ثالثا: في المقدّمة الثالثة، فإنّ فهم الإقرار إنّما هو كفهم سائر معاني الألفاظ العرفيّة التي يتساوى فيها العامّي و الخاصّي، و حجّة على كلّ أحد.

بخلاف ما تؤدى به الشهادات، فإنّ فيها اختلافات، كقبول الشهادة العلميّة و الاستصحابيّة و نحوهما.

نعم، لو فرض ثبوت الحقّ بالتواتر بألفاظ محكمة على نحو يظهر على كلّ أحد، فنقول: إنّه كالإقرار، و لكنّه فرد نادر، و مع ذلك ليس إثباتا بالبيّنة التي تقابل الإقرار.

فرع: إثبات الإقرار بالبيّنة كالإقرار في لزوم الحكم به

، إلّا أنّ في الإقرار لا تسمع دعوى عدم الاستحقاق

حينئذ، لأنّه إنكار بعد الإقرار، إلّا إذا أقرّ بالاشتغال سابقا. و تسمع في إثباته.

و المراد بسماعه في إثباته: أنّه يسمع لو ادّعى سبب عدم الاستحقاق، كردّ أو إبراء، و حينئذ ينقلب مدّعيا، و له إحلاف المدّعي على نفيه. و لعلّ ذلك مراد الفاضل في القواعد من حكمه بجواز إحلاف المنكر المدّعي

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 173

- المثبت لإقراره بالبيّنة- على نفي الاستحقاق «1».

المسألة الثانية: و إذا أقرّ المدّعى عليه، فإن التمس المدّعي الحكم به له عليه فالظاهر عدم الخلاف بينهم في وجوبه حينئذ

، و إن اختلفوا فيه قبل سؤال المدّعي.

و فيه:

أنّ بعد ما تقرّر عندهم في المسألة الاولى- من عدم كون الحكم هنا جزءا لسبب ثبوت الحقّ، و جواز أخذ المدّعي بنفسه بدون الحكم قهرا أو تقاصّا، و جواز أخذ سائر المقتدرين- فلا وجه للحكم بوجوب الحكم بسؤال المدّعي مطلقا، لعدم دليل عليه.

نعم، يصحّ ذلك لو توقّف الوصول إلى الحقّ عليه، فالصحيح التقييد به.

لا يقال:

عمومات وجوب الحكم بما أنزل اللّه «2» تثبته هنا أيضا.

قلنا:

لا شكّ أنّها مقيّدة بصورة التوقّف، لأنّ الحكم من الواجبات المشروطة بالحاجة، فإنّه لو فرض أنّ بعد الترافع و قبل الحكم وقع الصلح بين المتداعيين أو أعطاه حقّه أو نحو ذلك، لا يجب الحكم على الحاكم.

ثمَّ على القول بوجوبه مطلقا أو في صورة التوقّف فهل يجب بعد سؤال المدّعي، أو قبله؟

فيه قولان، و الأولى و الأحوط: التوقّف بالسؤال و لو بشاهد الحال، بل مقتضى الأصل عدم الوجوب بدونه، بل يمكن القول بعدم الجواز أيضا و عدم ترتّب الأثر عليه، لأنّ الحكم إلزام مخالف للأصل.

المسألة الثالثة: و إذا وجب عليه الحكم فيحكم عليه بما يفيد إنشاء إلزامه من الألفاظ

، و لا يكفي مثل قوله: ثبت عندي في ترتّب الأثر، لأنّه

______________________________

(1) القواعد 2: 212.

(2) المائدة: 47- 49.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 174

ليس حكما، بل إخبار.

و لو طلب المدّعي كتابة الحجّة على المدّعى عليه ليكون في يده، ففي وجوب إجابته و عدمه قولان، أشهرهما- كما صرّح به في المفاتيح «1».

و شرحه و غيرهما «2»- الوجوب.

و حكى في المبسوط قولا بعدمه «3» و اختاره بعض متأخّري المتأخّرين، للأصل. و هو الحقّ، لأنّه إن كان لإنشاء الحكم فقد حكم لفظا و لا يجب غيره، و إن كان لاستمراره و الدوام عليه بعد ذلك فأيّ دليل على وجوب ذلك؟! فإنّه قد

لا يحتاج إليه بعد ذلك، و لو احتاج فقد لا ينساه الحاكم أو الشهود على الحكم، و إن نسيه فقد لا يتذكّر بملاحظة الكتابة.

و لذا اقتصر جمع من المتأخّرين في إيجاب الكتابة بما إذا توقّف إيصال الحقّ المحكوم به عليها.

و هو أيضا غير سديد، لأنّه لا يختصّ بالكتابة و لا بالحاكم، بل يجب على كلّ أحد الإيصال بما أمكنه من باب الأمر بالمعروف، فلا وجه حينئذ للتخصيص بالكتابة، فإنّه قد يحصل الأثر بنصب أحد على الأخذ منه، أو إعلام مقتدر برسالة، أو برفع صوت و غلظة عليه، أو بتخويف، أو غير ذلك من الوجوه.

و قد يتوقّف على أحد هذه الأمور، فذكر الكتابة و إيجابها بخصوصها لا وجه له.

هذا، مع أنّ ترتب الأثر على الكتابة غالبا يكون بإراءتها لمقتدر على إجراء الحكم فيجريه، فهو إن أجراه بمجرّد الكتابة من غير ضمّ بيّنة معها- كما هو المتعارف في هذه الأزمنة- فهو غير جائز، و الكتابة- لأجل ذلك-

______________________________

(1) المفاتيح 3: 255.

(2) المسالك 2: 364.

(3) المبسوط 8: 118.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 175

تكون نوع إعانة على الإثم. و إن ضمّ معها البيّنة فهي بنفسها كافية، إلّا أن يفرض كون الكتاب قرينة موجبة لحصول العلم بضمّ خبر عدل أو فسّاق، أو [وقّف ] «1» المقتدر الإيصال بالكتاب.

ثمَّ إنّه إذا لم تجب الكتابة و طلبها المدّعي و أجابه الحاكم استحبابا فله أخذ الأجرة عليها و ثمن القرطاس و المداد، و متى وجبت لم يجز له أخذ الأجرة، لعدم جوازه في الواجبات العينيّة و لا الكفائيّة، كما مضى في كتاب التجارة، بل لا يجوز له طلب ثمن القرطاس و نحوه أيضا.

و من القائلين بوجوب الكتابة إذا توقّف أثر الحكم عليها من

لم يجوّز الأجرة على الكتابة، و جوّز أخذ نحو القرطاس.

و هو غير جيّد، لأن إعداد ما تتوقّف عليه الكتابة الواجبة أيضا يكون كأصل الكتابة ممّا يتوقّف عليه الواجب، فيكون إعداده واجبا عليه لو لم يؤدّه المدّعي، فإن أراد جواز الأخذ منه لو أعطاه فهو كذلك، لأنّه أيضا نوع إعداد، و إن أراد أنه يجوز إيقاف الكتابة على أخذه منه فلا.

ثمَّ إذا كتب الكتاب ينبغي- بل يلزم عليه- أن يكتبه على نحو يخصّص المدّعي و الغريم و يميّزهما عن غيرهما، بحيث لا يقبل الاشتباه، و يأمن عن التزوير، سواء حصل ذلك المقصود بكتابة النسب أو الحلية «2» أو هما معا.

و الخلاف في هذا المقام في أنّه هل يكفي الأول أو الثاني و نحو ذلك لا وجه له، إذ ليس ذلك منوطا بدليل شرعي، و إنّما المقصود رفع الاشتباه و الأمن من التزوير، و قد يحصل التزوير بالاكتفاء بالنسب، كما قد يحصل بالاكتفاء بالحلية، و لا بدّ في النسب أيضا إلى ذكره بقدر لا يقبل اللبس عادة، فقد يتعدّد زيد بن عمرو بن بكر الأصفهاني مثلا.

______________________________

(1) في «ح» و «ق»: توقّف، و الأنسب ما أثبتناه.

(2) الحلية: بمعنى الصفة- مجمع البحرين 1: 105.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 176

و قد يتواطئان على تشهير أحدهما بتلك النسبة في بلد آخر، بحيث يحصل العلم لكثير من أهل ذلك البلد، و تنتهي مسبّبيّته إلى كتابته باسمه و نسبه، أو قول المكاريين، أو نحوهما.

و لا بدّ من تمييز المدّعي أيضا كما ذكرنا، إذ قد يقع التزوير من جهته فيتواطآن على ادّعائه و حكم الحاكم له و أخذه المدّعى به بحضوره لدفع خصومة شخص آخر.

المسألة الرابعة: و إذ حكم الحاكم عليه، فإن أدّى المحكوم عليه الحقّ بنفسه فهو
اشاره

، و إلّا فإن كان ذا مال

فيكلّف بالأداء، فإن امتنع و مطل بلا عذر مقبول كان للمدّعي أخذه منه قهرا و لو بالملازمة له.

و إن لم يقدر فيجب على كلّ من يقدر كفاية، فإن احتاج الإيصال إلى عقوبة له- من حبس أو إغلاظ في القول و نحوهما- فيجب على الحاكم.

و الظاهر عدم جوازه للغير و لو نفس المدّعي.

أمّا جوازه للحاكم فلتوقّف إيصال الحقّ عليه و هو واجب.

و للخبر المشهور المنجبر: «ليّ الواجد يحلّ عقوبته و عرضه» «1».

و المستفيضة الواردة في حبس المماطل، كموثّقة عمّار: «كان أمير المؤمنين عليه السّلام يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه، ثمَّ يأمر فيقسّم ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فيقسّم بينهم» يعني: ماله «2». و نحوها ذيل رواية الأصبغ «3».

______________________________

(1) مجالس الطوسي: 532، الوسائل 18: 333 أبواب الدين و القرض ب 8 ح 4، و فيه: «ليّ الواجد بالدين يحلّ عرضه و عقوبته».

(2) الكافي 5: 102- 1، التهذيب 6: 191- 412، الاستبصار 3: 7- 15، الوسائل 18: 416 أبواب أحكام الحجر ب 6 ح 1، بتفاوت.

(3) الفقيه 3: 19- 43، التهذيب 6: 232- 568، الوسائل 27: 247 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 11 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 177

أقول:

الالتواء من الليّ، و هو سوء الأداء و المطل.

و روايتي غياث، الاولى: «إنّ عليّا عليه السّلام كان يفلّس الرجل إذا التوى على غرمائه، ثمَّ يأمر به فيقسّم ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فقسّمه بينهم» يعني: ماله «1».

و الثانية: «إنّ عليّا عليه السّلام كان يحبس في الدين، فإذا تبيّن له إفلاس و حاجة خلّى سبيله حتى يستفيد مالا «2»». و قريبة منها صدر رواية الأصبغ «3».

و رواية السكوني: «إنّ عليّا عليه السّلام كان

يحبس في الدين، ثمَّ ينظر، فإن كان له مال أعطى الغرماء، و إن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء، فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم، إن شئتم فآجروه، و إن شئتم فاستعملوه» «4».

و بهذه الأخبار- المعتضدة بلزوم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، مثل: رواية جابر الطويلة في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: «فأنكروا بقلوبكم، و الفظوا بألسنتكم، و صكّوا بها جباههم» «5»، و مرسلة التهذيب:

«قد حقّ لي أن آخذ البري ء منكم بالسقيم، و كيف لا يحقّ لي ذلك؟! و أنتم

______________________________

(1) التهذيب 6: 299- 833، الوسائل 18: 416 أبواب أحكام الحجر ب 6 ح 1.

(2) التهذيب 6: 196- 433 و 299- 834، الاستبصار 3: 47- 156، الوسائل 18:

418 أبواب أحكام الحجر ب 7 ح 1.

(3) الفقيه 3: 19- 43، التهذيب 6: 232- 568، الوسائل 27: 247 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 11 ح 1.

(4) التهذيب 6: 300- 838، الاستبصار 3: 47- 155، الوسائل 18: 418 أبواب أحكام الحجر ب 7 ح 3.

(5) الكافي 5: 55- 1، التهذيب 6: 180- 372، الوسائل 16: 131، أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما ب 3 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 178

يبلغكم عن الرجل منكم القبيح و لا تنكرون عليه و لا تهجرونه و لا تؤذونه حتى يتركه» «1»، و غير ذلك «2»- تخصّص أدلّة نفي الضرر و نحوها.

و أمّا صحيحة زرارة: «كان عليّ عليه السّلام لا يحبس في السجن إلّا ثلاثة:

الغاصب، و من أكل مال اليتيم ظلما، و من ائتمن على أمانة فذهب بها، و إن وجد له شيئا باعه، غائبا كان أو شاهدا» «3»- حيث دلّت من جهة إطلاق الجزء

المنفيّ من الحصر على عدم حبس غير الثلاثة- فهي أعمّ مطلقا ممّا مرّ، فيجب تخصيصها به.

و أمّا وجوبه على الحاكم فلكونه أمرا جائزا يتوقّف عليه واجب، هو إيصال الحقّ، و ما يتوقّف عليه الواجب واجب، بل تدلّ عليه الروايتان الأخيرتان و ما بمعناهما في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و أمّا اختصاص وجوبه بالحاكم فلا اختصاص غير الخبر الأول من أخبار الحبس بفعل الإمام عليه السّلام. و الأول مجمل، حيث إنّه حكم بحلّ العقوبة، و لم يبيّن أنّه على من يحلّ، فيقتصر فيه على المتيقّن.

و أمّا أخبار الأمر بالمعروف و إن كانت عامّة إلّا أنّها مخصّصة بمثل رواية مسعدة بن صدقة: سئل عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أ واجب هو على الأمّة جميعا؟ فقال: «لا» فقيل: و لم؟ قال: «إنّما هو على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعفة الذين لا يهتدون سبيلا» إلى أن قال: «و الدليل على ذلك كتاب اللّه عزّ و جلّ: قول اللّه

______________________________

(1) التهذيب 6: 181- 375، الوسائل 16: 145 أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما ب 7 ح 4.

(2) الوسائل 16: 144 أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما ب 7.

(3) التهذيب 6: 299- 836، الاستبصار 3: 47- 154، الوسائل 27: 248 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 11 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 179

عزّ و جلّ وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ «1» فهذا خاصّ غير عام» الحديث «2».

و من ذلك يعلم أنّه إذا آل الأمر إلى العقوبة و الإيذاء لا يجوز لغير الحاكم، لأنّها أعمال غير جائزة في الأصل يجب الاقتصار

فيها على موضع الرخصة، و لأنّ غيره لا يعلم قدر الجائز منها فيتعدّى عن الحقّ.

فروع:
أ: هل يجوز للحاكم الإذن لغيره، و لغيره المباشرة بإذنه بقدر ما أذن فيه؟

الظاهر: نعم، لأنّه حينئذ يكون عالما، كما ورد في رواية مسعدة.

ب: هل يجوز لمباشر الإيصال مع العقوبة أو بدونها أخذ الأجرة عليها؟

الظاهر: لا، لما مرّ في كتاب التجارة، إلّا إذا لم تكن له كفاية لمعاشه لو اشتغل بالإيصال- أي تضرّر ضررا بيّنا- فيسقط عنه الوجوب، لمعارضة أدلّته مع أدلّة نفي الضرر، و الأجرة حينئذ على بيت المال إن كان، و إلّا على المدّعي إن طلب و أراد، و لا يجوز الأخذ من المدّعى عليه بوجه.

ج: إذا ماطل المحكوم عليه، و لم يقتدر الحاكم على الإيصال،

و طلب المدّعي من الحاكم كتابة الحكم أو شهادة الشاهدين عليه أو نحوهما حتى يوصله و يجري الحكم من يقدر عليه، يجب عليه- كما مرّ- إن لم

______________________________

(1) آل عمران: 104.

(2) الكافي 5: 59- 16، التهذيب 6: 177- 360، الوسائل 16: 126 أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما ب 2 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 180

يعلم ترتّب محرّم عليه، كالتعدّي من الجائز في الإيذاء، من قذف أو ضرب أو أخذ مال أو مطالبة من أقربائه و نحوها.

و إن علم ذلك، فإن كان مقصود الحاكم أيضا أن يفعل المدّعي كذلك فهو معاونة على إثمين: إثم المدّعي- حيث إنّ أخذه ذلك ليؤدّيه إلى المقتدر الجائر المتعدّي عن الجائز معاونة للجائر «1» على إثمه- و إثم الجائر.

و إن لم يكن مقصوده ذلك، فإن علم أنّ المدّعي يفعل كذلك فلا معاونة منه على إثم الجائر- كما بيّنا في العوائد «2»- و لكنّه معاونة على إثم المدّعي، و لكن لا يحرم على الحاكم مع ذلك، لتعارض أدلّة حرمة المعاونة على الإثم مع أدلّة وجوب ردع المماطل و أخذ الحقّ منه، فيرجع إلى أصل الجواز. بل يمكن القول بذلك في حقّ المدّعي أيضا، لمعارضة أدلّة نفي الضرر في حقّه مع أدلّة حرمة المعاونة، فتأمّل.

د: العقوبة المجوّزة للحاكم في حقّ المماطل لا تختصّ بالحبس و الإغلاظ،

بل قد تنتهي إلى الأكثر منه- من ضرب- فيجوز أيضا، لإطلاق العقوبة و قوله: «صكّوا جباههم» و قوله: «لا يؤذونه». و يجب الاقتصار على الأقلّ.

و إنّما أطنبنا في ذلك المقام للاحتياج إليه في أمثال تلك الأزمنة.

ه: لو لم تفد العقوبة في أدائه، و لم يمكن بيع ماله،

يحبس حتى يؤدّي أو يموت أو يبرئه الغريم.

المسألة الخامسة: كما تجوز للحاكم عقوبة المماطل الغير المؤدّي للحقّ، فهل يجوز له إعطاء ماله للمحكوم له من غير إذنه

إذا أمكن و كان من

______________________________

(1) في «ح» و «ق»: على الجائر، و الصحيح ما أثبتناه.

(2) عوائد الأيام: 27.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 181

جنس الحقّ، و بيعه و إعطاؤه الثمن إن لم يكن من جنسه، أم لا؟

و إذا جاز فهل هو مقدّم على العقوبة- يعني: أنّ العقوبة إنّما تكون إذا لم يمكن إعطاء المال، أو بيعه- أو مخيّر بينهما، أو يتأخّر فيعاقب، فإن أبى مع العقوبة أيضا يعطي أو يبيع؟

لم يحضرني الآن تصريح بذلك من الأصحاب، إلّا ما ذكره بعض الأجلّة في شرحه على القواعد، حيث قال: و إن عرف كذبه في دعوى الإعسار حبس حتى يخرج من الحقّ بنفسه، أو يباع عليه ماله و يعطى صاحب الحق «1». انتهى.

فإن كان قوله: «يباع» عطفا على «حبس» يكون تخييرا بين الحبس و البيع، و إن كان عطفا على «يخرج» يكون حكما بتأخير البيع عن العقوبة.

و قال بعض الفضلاء المعاصرين: ثمَّ إن كان المقرّ واجدا للمال فيلزم بإعطائه و لو بحبس الحاكم و إغلاظ القول، أو بأن يبيع ماله في أداء دينه لو لم يمكن الاستيفاء إلّا بذلك «2». انتهى.

فإن كان قوله: «بذلك» إشارة إلى الحبس و البيع معا يكون قولا بالتخيير، و إن كان إشارة إلى البيع يكون قولا بتأخير البيع عن الحبس.

أقول:

كما أنّ العقوبة مخالفة للأصل لا ترتكب إلّا مع الدليل، فكذلك إعطاء ماله أو بيعه، لأنّ تمييز ما في ذمّة شخص من بين أمواله بيده و بيع غير المالك لا يجوز، و الدليل على حلّيّة العقوبة موجود كما مرّ، و لا دليل على الإعطاء و البيع إلّا كونه ممّا يتوقّف عليه إيصال الحقّ الواجب، و

هو- قبل اليأس بالعقوبة المنصوص جوازها- ممنوع، فلا يجوز

______________________________

(1) انظر كشف اللثام 2: 336.

(2) غنائم الأيام: 679.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 182

إلّا بعد عدم تأثير العقوبة.

و تدلّ عليه أيضا الروايات المتقدّمة المصرّحة بتأخير البيع عن الحبس «1».

نعم، إذا لم يمكن العقوبة لغيبة- بخفاء أو فرار- يجوز البيع و الإعطاء أولا، لكونه ممّا يتوقّف عليه الإيصال.

و هل يباع بغير الغريم، أو يجوز البيع به أيضا؟

الظاهر: الثاني، للأصل.

و لا يتوهّم أنّ الظاهر من الروايات البيع بالغير، حيث قال: «باعه، فيقسّم»، لأنّه يمكن أن تكون الفاء تفصيليّة، أي باعه بأن يقسّمه بين الغرماء، فيبيع كلّا منهم بقدر حصّته. بل هو الظاهر من قوله: يعني ماله، فإنّ الظاهر أنّ الغاية لبيان أنّ المقسوم بينهم نفس المال دفعا لتوهّم تقسيم الثمن، [لا أنّها] «2» لبيان أنّ المبيع نفس المال لدفع توهّم بيع المديون، لأنّه ليس محلّا للتوهّم.

هذا، مضافا إلى كون تقدير الثمن في قوله: «يقسّمه» خلاف الأصل.

المسألة السادسة: لو ادّعى المحكوم عليه بالإقرار أو بغيره الإعسار
اشاره

، فإن علمه الحاكم أو أقرّ به المحكوم له يثبت إعساره.

و إلّا فإمّا لا يعلم له مال أو لا، حتى ما أخذه من المحكوم له، و ذلك يكون بأن تكون الدعوى على نفقة زوجة أو صداقها أو دية جرح أو مال مصالحة دعوى غير ثابتة أو نحوها.

______________________________

(1) راجع ص 176 و 177.

(2) في «ح»: لأنّها، و في «ق»: إلّا أنّها، و الصحيح ما أثبتناه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 183

أو يعلم له مال و يعلم تلفه أيضا، كأن يعلم أنّ ما أخذه من المحكوم له أنفقه، أو أخذ منه قهرا، أو سرق، و نحو ذلك، و لا يعلم ما سواه.

أو يعلم له مال غير معلوم التلف، و لو كان هو

ما اقترضه من الغريم أو اشتراه منه.

فعلى الأولين، فإن ادّعى المحكوم له علمه بكذبه في الإعسار و كونه ذا مال تطلب منه البيّنة، لأنّه مدّع حينئذ، و البيّنة على المدّعي، فإن جاء بها و أثبت عليه مالا موجودا يؤخذ منه، و إن لم يؤدّه كان حكمه حكم الواجد للمال، و قد مرّ.

و إن أثبت عليه مالا قبل ذلك، و لم يعلم تلفه، يصير من القسم الأخير، و يأتي حكمه.

و إن لم تكن له بيّنة أحلف المحكوم عليه، لأنّه منكر حينئذ، و اليمين على من أنكر.

و إن لم يدّع علمه بكذبه بل ظنّ ذلك أو جوّزه لما مرّ سابقا من سماع الدعوى بالظنّ و الاحتمال، فيكون المحكوم له مدّعيا، و المحكوم عليه منكرا، فاليمين عليه.

و تأمّل فيه المحقّق الأردبيلي، بل قال بعد تأمّله: و عدم إحلافه أظهر، لظاهر آية النظرة، و لعدم الدليل على الإحلاف إلّا في الصورة الأخيرة.

و فيه: أنّ مدلول الآية إنظار ذي العسرة، و عسرته بعد غير معلومة لا واقعا و لا شرعا، فكيف يستدلّ لحكمه بالآية؟! و الدليل له- على ما اخترناه من سماع الدعوى المظنونة و الموهومة- ظاهر، لصدق المدّعي و المنكر.

نعم، يشكل ذلك على القول بعدم سماعها، لعدم الدليل،

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 184

و تصريحهم بالإحلاف هنا أيضا مؤيّد لما اخترناه.

و هل له ردّ الحلف إذا كان غريمه جازما في دعواه يساره أم لا؟

فيه إشكال ينشأ من عمومات الردّ و عدم المانع، و من أنّ فائدة الردّ الخروج عن عهدة المدّعى به إذا حلف المدّعي، فإنّ قوله: «رددت عليك اليمين» متضمّن ل: أنّه إن حلفت اخرج عن عهدة دعواك، و هو يثبت هنا بعدم القدرة عليه، فكيف يردّ؟!

بل في شمول عمومات الردّ لمثل المقام تأمّل أيضا.

و لعلّ الأول أظهر، إذ تظهر الفائدة في نكول المدّعي فتسقط دعواه، و في حلفه، فإنّ إنكاره القدرة لا يثبت انتفاءها واقعا، فيثبت عليه اليسار بعد حلف المدّعي، و يعمل معه ما يعمل مع الواجد من الحبس و الغلاظ إلى أن يؤدّي أو يموت أو يبرئه المدّعي.

و إن لم يردّ الحلف- إمّا لعدم إمكانه، كما إذا كانت دعوى يساره غير مجزومة، أو لم يرد الردّ- فإن حلف على عدم اليسار حكم له بالإعسار، و إن نكل و لم يحلف فقال في القواعد و حكي عن التذكرة: إنّه يحلف مدّعي اليسار، فيحكم بيساره، و يعمل معه عمل الواجد من الحبس «1».

و قال بعض الفضلاء المعاصرين: إنّه يعمل به عمل الواجد، فيحبس من غير ذكر حلف المدّعي «2».

و لعلّه مبنيّ على الخلاف في أنّ مع نكول المنكر هل يثبت حقّ المدّعي، أو يردّ الحاكم اليمين على المدّعي. و يأتي تحقيقه.

و على الأخير- و هو أن يعلم له مال و ادّعى تلفه- فتؤول الدعوى إلى

______________________________

(1) القواعد 2: 209، التذكرة 2: 58.

(2) غنائم الأيام: 680.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 185

تلف المال، و الأصل بقاؤه، فيصير المدّعي عليه بالحقّ مدّعيا لتلف المال فتطلب منه البيّنة، فإن أقامها يحكم له بالإعسار، و يعمل معه عمل ذي العسرة، و يأتي.

و إن لم يقم البيّنة، فقال جماعة- منهم: الشرائع و القواعد و الكفاية «1» و غيرها «2»، بل قال بعض مشايخنا المعاصرين: إنّه المشهور «3»- إنّه يحبس حتى يعيّن إعساره، أو يقرّ، أو يخرجه صاحب الحقّ.

و عن التذكرة: أنّه يحلف مدّعي الحقّ على عدم التلف ثمَّ يحبس «4».

و هو ظاهر بعض متأخّري المتأخّرين

«5».

حجّة الأول:

رواية غياث الثانية، و صدر رواية الأصبغ، و رواية السكوني، المتقدّمة جميعا في المسألة الرابعة.

و دليل الثاني:

العمومات الآتية المصرّحة بأنّه إذا لم تكن للمدّعي بيّنة فيمين المدّعى عليه أو المنكر «6».

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 17    185     المسألة السادسة: لو ادعى المحكوم عليه بالإقرار أو بغيره الإعسار ..... ص : 182

أقول:

مقتضى الأخبار الأولى الحبس مطلقا، سواء كان المدّعى عليه منكرا جازما بعدم التلف أو لا، بل كان يقول: لا أدري، كما هو الأكثر.

و لكنّها مخصوصة بالدين، بل من لم يثبت حاله من الإعسار و عدمه.

و مقتضى العمومات الثانية حلف المدّعى عليه في خصوص صورة الإنكار و دعوى عدم التلف، و لكنّها عامّة في الدين و العين و سائر الحقوق.

______________________________

(1) الشرائع 2: 95، القواعد 2: 209، الكفاية: 267.

(2) كالمسالك 2: 367.

(3) انظر الرياض 2: 396.

(4) التذكرة 2: 58.

(5) انظر كشف اللثام 2: 337.

(6) انظر الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 7.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 186

فتتعارضان بالعموم من وجه في صورة إنكار المدّعي، و لا أصل هنا، و كلّ من الحبس و الإحلاف مخالف للأصل محتاج إلى الإذن، فمقتضى القاعدة التخيير بين الحبس أو لا، أو الإحلاف ثمَّ الحبس، إلّا أنّي لم أجد به قائلا، و لكن إثبات الإجماع المركّب في أمثال المقام مشكل، و الأحوط الإحلاف ثمَّ الحبس، و دليل تجويز الإحلاف حينئذ أدلّة الاحتياط، كما بيّنا في موضعه.

و لكن يحصل الإشكال للحاكم حينئذ لو لم يحلف المنكر لعدم التلف، فهل يحكم بنكوله و يثبت به الإعسار، أو يحبس؟

و لندرة الفرض- من جهة أنّ الأغلب عدم علم المدّعي، و لو فرض أحيانا- فنكوله نادر، و

لو فرض النكول فتمكّن الحبس للحاكم في هذه الأزمنة مشكل، و جواز غيره من العقوبات هنا غير ثابت، فصرف الوقت في حاله حينئذ ليس بذلك المهم.

و كيف كان، فلو لم ينكر المدّعي عدم التلف يحبس، للروايات المتقدّمة الخالية عن المعارض.

هذا، و للمحقّق الأردبيلي هنا كلام آخر، حيث قال:

قد لا تكون له بيّنة و يكون معسرا لا مماطلا، و مجرّد وجود مال سابقا لا يستلزم بقاءه، و الرواية ضعيفة، و دلالتها غير ظاهرة. و قد يكون ظاهر حاله إتلافه، كأن يستقرض ليخرجه في مئونته مع حاجته، أو وجد عنده و كان يحتاج كلّ يوم إلى نفقة، و كيف يأتي بالبيّنة بإخراج كلّ درهم؟! فيمكن عدم الحبس، بل إحلافه على عدم بقائه عنده، و يخلّى سبيله إلى الميسرة و يؤيّده ظاهر الآية، فإنّ الظاهر منها كونه ذا عسرة بحسب الظاهر لا نفس الأمر، و هو حينئذ كذلك، فيمكن عدم اليمين أيضا

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 187

لذلك، إلّا أنّه لمّا ادّعي عليه المال، و علم وجوده، و لم يكن للمدّعي إثبات البقاء، و الاستصحاب يقتضي البقاء، و أنكر هو وجوده، احلف. انتهى.

أقول:

أمّا دعوى ضعف الرواية- بعد اشتهار العمل بمضمونها- فلا يضرّ. و أمّا عدم ظهور دلالتها فلا يتحقّق وجهه.

و أمّا ظهور إعساره، فإن بلغ ذلك إلى حدّ يعتبر شرعا فلا كلام، لحصول التبيين المذكور في الروايات. و أمّا إذا لم يبلغ ذلك فلا وجه لاعتباره و ترك النصّ لأجله، و لفظ «ذي العسرة» موضوع للمعنى الواقعي، غاية الأمر تقييده بالعلم أيضا، و أمّا بأمثال ذلك الظهور فلا، و إحلاف مدّعي التلف لا وجه له، و جعله منكرا للبقاء لا (وجه) «1» يجعله منكرا، و إلّا لجرى

ذلك في كلّ مدّع. فكلامه غير سديد.

فروع ثلاثة:
أ: البيّنة التي تقام على الإعسار يلزم أن تشهد بتلف المال علما أو حسّا على اختلاف القولين في مسألة الشهادة،

و حينئذ تقبل، لأنّها بيّنة الإثبات، أمّا لو شهد بمطلق الإعسار فهو راجع إلى النفي، فلا تقبل.

نعم، إذا كان مراقبا لأحوال المشهود له، مطّلعا على خفايا أمره، فله أن يشهد بما ضبط و اطّلع من أحواله و أعماله الكاشفة عن العسر، فإن علم الحاكم بها عسره يحكم به، و أمّا شهادته بأنّه ذو عسرة أو معسر فلا وجه لقبولها، إلّا إذا اكتفينا بالشهادة العلميّة، و قلنا بأنّ تلك شهادة إثباتيّة، و المقدّمتان ممنوعتان.

______________________________

(1) ليست في «ح».

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 188

ب: مئونة المحبوس حال الحبس من ماله، و وجهه ظاهر.

و يشكل الأمر لو لم يكن له شي ء ظاهر، و كان ينفق كلّ يوم بقرض أو كسب قدر مئونته أو سؤال أو كلّ على غيره و نحوها، بل قد يغتنم المحبس لذلك.

و كذا الإشكال في مئونة الحبس، فإنّه يحتاج إلى مكان و مراقب ليلا و نهارا لئلّا يهرب، فإن كان هناك بيت مال فالمؤنتان عليه، و إلّا فإن بذله خصمه من ماله فلا إشكال أيضا، و إلّا فتحميله على الحاكم ضرر عليه منفيّ شرعا، فيعارض بأدلّته أدلّة الحبس، فيرجع إلى أصل عدم وجوب الحبس عليه، أو يقال بالتخيير، فله إطلاقه و لا يجب عليه شي ء.

ج: إذا لم يكن للحاكم محبس، و لا أعوان ينصبها للمراقبة،

و سائر ما يحتاج إليه للحبس- كما هو الغالب في تلك الأزمنة- فله بعثه إلى محبس السلطان و نحوه، و للسلطان و نحوه الحبس بإذن الحاكم، لأنّه يصير حينئذ محبسا للقاضي. و لو لم يتمكّن من ذلك أيضا سقط عنه.

المسألة السابعة: ثمَّ إذا حكم للمدّعى عليه بالإعسار بالبيّنة، أو علم الحاكم، أو اليمين، أو الإقرار
اشاره

، فذهب جماعة إلى أنّه ينظر و يمهل و يخلّى سبيله حتى يحصل له مال، و هو مذهب المفيد و الشيخ في الخلاف و الحلّي و المحقّق و القواعد و المسالك و المهذّب و الصيمري «1» و المعتمد و غيرهم «2»، بل هو المشهور كما في المسالك و الكفاية و شرح القواعد للهندي «3» و المعتمد، و غيرها «4».

______________________________

(1) المفيد في المقنعة: 723، الخلاف 1: 624، الحلّي في السرائر 2: 160، المحقّق في الشرائع 4: 84، القواعد 2: 209، المسالك 2: 367.

(2) كما في التبصرة: 187.

(3) المسالك 2: 367، الكفاية: 267، كشف اللثام 2: 336.

(4) كالروضة 3: 83، الرياض 2: 396.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 189

للأصل، و قوله تعالى وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ «1»، و روايتي غياث و الأصبغ المتقدّمتين «2»، و مفهوم الحصر في صحيحة زرارة السابقة «3».

و رواية السكوني: «إنّ امرأة استعدت على زوجها أنّه لا ينفق عليها و كان زوجها معسرا فأبى عليه السّلام أن يحبسه، و قال: إنّ مع العسر يسرا» «4».

و عن الشيخ في النهاية: أنّه يسلّم إلى الغرماء ليؤاجروه و يستعملوه و يستوفوا حقّهم من ما يفضل من قوته و قوت عياله «5»، لرواية السكوني المتقدّمة في المسألة الرابعة، و وصفها في المختلف بالمشهور «6».

و عن ابن حمزة قول ثالث، مفصّل بين ما إذا كان المعسر ذا حرفة يكتسب بها فالثاني، و ما

إذا لم يكن كذلك- و نفى عنه البعد في المختلف «7»- فالأول «8»، للرواية الأخيرة، كما في المختلف، أو جمعا بينها و بين الروايات السابقة «9» كما قيل، و لأنّه يتمكّن من أداء ما وجب عليه و إيفاء الحقّ صاحبه فيجب عليه كالسعي في المؤنة، و حيث يتمكّن من الكسب لا يكون معسرا، لتحقّق اليسار بالقدرة على تحصيل المال، و لهذا

______________________________

(1) البقرة: 280.

(2) في ص: 176 و 177.

(3) في ص 178.

(4) التهذيب 6: 299- 837 و ج 7: 454- 1817، الوسائل 18: 418 أبواب أحكام الحجر ب 7 ح 2.

(5) النهاية: 352.

(6) المختلف: 711.

(7) المختلف: 711.

(8) الوسيلة: 212.

(9) في ص: 176 و 177.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 190

الحق القادر على الكسب بالغنيّ في باب الزكاة.

أقول:

قد يخالجني- في التمسّك بهذه الأخبار في تخلية سبيله حتى يستفيد مالا، و في إيجاره و استعماله- شي ء، و هو أنّه قد استفاضت الأخبار على أنّ الإمام يقضي دين المديونين عن سهم الغارمين:

ففي مرسلة العبّاس: «الإمام يقضي عن المؤمنين الديون ما خلا مهور النساء» «1».

و في رواية أبي نجار: جعلت فداك، إنّ اللّه عزّ و جل يقول وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ أخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها اللّه عزّ و جل في كتابه، لها حدّ يعرف إذا صار هذا المعسر إليه لا بدّ من أن ينظر، و قد أخذ مال هذا الرجل و أنفقه على عياله، و ليس له غلّة ينتظر إدراكها، و لا دين ينتظر محلّه، و لا مال غائب ينتظر قدومه؟ قال: «نعم، ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام، فيقضي ما عليه من الدين من سهم الغارمين» الحديث «2». و غير ذلك

من الأخبار «3».

و أخبار المسألة واردة في فعل عليّ عليه السّلام، و هو إمام مبسوط اليد، بيده بيت المال و الزكوات، فكان عليه الأداء، فما التوفيق بين هذه الأخبار؟! و هلّا يؤدّي الإمام ديونهم؟! و لا يمكن حمل أخبار المسألة على صورة عدم حضور سهم الغارمين عنده، لأنّه ليس قضية في واقعة، بل

______________________________

(1) الكافي 5: 94- 7، التهذيب 6: 184- 379، الوسائل 18: 337 أبواب الدين و القرض ب 9 ح 4.

(2) الكافي 5: 93- 5، و فيه بدل «أبي نجار»: «أبي محمّد» و كذا في التهذيب 6:

185- 385 و الوسائل 18: 336 أبواب الدين و القرض ب 9 ح 3، و في الوافي 18:

789- 15 عن الكافي: أبي نجاد.

(3) الوسائل 18: 335 أبواب الدين و القرض ب 9.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 191

يصرّح بأنّه عليه السّلام كان يفعل ذلك، و هو دالّ على التجدّد الاستمراري.

و الذي أراه أنّ أخبار قضاء الإمام مخصوصة بمن لم يكن له طريق إلى الوفاء، و لا يمكنه استفادة المال من استغلال أو تكسّب أو عمل، كما تشعر به رواية أبي نجار، و أخبار المسألة مخصوصة بمن أمكنه استفادة المال، كما يصرّح به قوله: حتى يستفيد المال، و قوله: ليستعملوه، أي يطلبوا منه العمل و تكون لفظة «حتى» تعليليّة، أي يخلّي سبيله ليستفيد المال و يؤدّي الدين.

و التوفيق بين رواية السكوني «1» و سائر روايات المسألة: أنّ مورد سائر الروايات إنّما هو ما إذا كان المديون بحيث يعلم من حاله أنّه يستفيد المال بنفسه من غير حاجة إلى استعماله فيها و إجباره عليها، كما هو المستفاد من قوله: حتى يستفيد. و مورد رواية السكوني إنّما هو ما إذا

لم يكن كذلك و لم يبال بعدم أداء الدين و عدم الاستفادة، إذ من الظاهر أنّ من يعلم من حاله أنّه يستفيد بنفسه لا حاجة فيه إلى المؤاجرة و الاستعمال.

و بما ذكرنا يرتفع التنافي بين الأخبار طرّا.

ثمَّ نقول: إنّ بما ذكرنا ظهر عدم صلاحيّة شي ء من الأخبار لمستند المشهور، لأنّ المشهور: أنّه يخلّى سبيله و يترك بحاله مطلقا، سواء كان قادرا على الاستفادة- و لو بالتكسّب- أم لا، و هو لا يلائم مع قوله: خلّى سبيله حتى يستفيد «2»، أي ليستفيد، فإنّ التخلية إنّما كانت لذلك، و لو منعت من إرادة هذا المعنى- لاحتمال كون حتى للغاية- فنقول: باحتمال التعليلية يسقط استدلالهم.

______________________________

(1) المتقدمة في ص: 177.

(2) راجع ص: 177.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 192

و أمّا صحيحة زرارة «1»، فلا دلالة لها أصلا، لأنّ الظاهر المتبادر من الحبس إسجانه في سجن الإمام، و أمّا اشتغاله بالكسب فليس حبسا قطعا.

و منه يظهر حال رواية السكوني الأخيرة.

و أمّا الآية الشريفة، فكما مرّت إليه الإشارة لا تدلّ على مرادهم أصلا، لأنّ من يقدر على استفادة المال و لو بالتكسّب- الذي لم يكن شاقّا عليه، بل هو حرفته و عليه معاشه- لا يصدق عليه أنّه ذو عسرة أصلا، لا لغة و لا عرفا.

و لو سلّمنا صدقه عليه فنقول: إنّ الإنظار المأمور به هو ترك مطالبة أداء الدين حال العسرة، فإذا تركه و أخّره أنظره و لو أمره بالتكسّب و تحصيل اليسار ثمَّ الأداء، ألا ترى أنّه يصحّ أن يقال: أمهله حتى يشتغل ببيع ضياعه و يأخذ ثمنه و يعطيه، فيصدق الإنظار مع أنّه مشغول بطلب المشتري و المبايعة و أخذ الثمن.

و الحاصل: أنّ الإنظار هو الإمهال و التأخير،

و يمكن أن يكون المراد إمهاله في أداء الدين و تأخيره مطالبته. و أمّا الأصل فإنّما يفيد لو لم يكن دليل مخرج عنه، و لا شكّ أنّ قضاء الدين على كلّ متمكّن منه واجب، و القادر على العمل و التكسّب متمكّن فيجب عليه، و لازمه وجوب العمل و الكسب من باب المقدّمة، و لازمه جواز أمره به و حمله عليه، بل وجوب ذلك.

و ظهر ممّا ذكرنا خلوّ المشهور عن الدليل، و كذا قول النهاية إن أراد دفعه إلى الغرماء مطلقا، سواء أمكنه الاستفادة بعمل أم لا، و سواء أدّى ما

______________________________

(1) المتقدمة في ص: 178.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 193

يجب عليه بنفسه مع الإمكان [أم لا «1»]، إذ ظاهر أنّ الرواية مخصوصة بصورة قدرته على عمل تحصل منه اجرة و شي ء و إلّا فلا فائدة فيه- كشيخ هرم أعمى و مفلوج و أعرج و أشل- و بصورة عدم اشتغاله بنفسه و وفائه الدين.

و منه يظهر خلوّ قول ابن حمزة «2» أيضا عن الدليل لو أراد الإطلاق.

فالحقّ- كما هو ظاهر المحقّق الأردبيلي، و صاحب الكفاية «3»، و بعض مشايخنا المعاصرين و فضلائهم «4»- أنّه و إن لم يتسلّط الغريم على استيفاء منافعه و إجارته ابتداء و لكن يجب على المديون المتمكّن من العمل و الكسب اللّائق بحاله الغير الشاقّ عليه الكسب.

و لو ترك هذا الواجب و توانى منه- بحيث يترتّب عليه ضرر الغرماء- على الحاكم إجباره أمرا بالمعروف و دفعا للضرر.

و لو رأى أنّه لا ينجح فيه أمره و جبره و إقامته على الفعل الواجب إلّا بالدفع إلى الغرماء أمكن الجواز، بل الوجوب، بل يجب إن أمكن.

فروع:
أ: إذا أمر بالتكسّب أو استعمل،

يوضع ممّا استفاده مئونته و مئونة عياله الواجب

نفقتهم بالمعروف، و يصرف الزائد في الدين.

ب: التكسّب يشمل جميع الصنائع و الحرف و الأشغال

- و لو مثل

______________________________

(1) أضفناه لاقتضاء السياق.

(2) الوسيلة: 212.

(3) الكفاية: 267.

(4) انظر الرياض 2: 396، غنائم الأيام: 679.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 194

الاحتطاب و الاحتشاش- إذا كان ممّن يتخشّى «1» منه ذلك، و يليق بشأنه و حاله، و لا يعدّ شاقّا عليه عرفا. و يقتصر في زمان التكسّب بما هو متعارف سائر الناس في حرفهم و صنائعهم.

ج: لو رضي الغريم بإمهاله حتى يحصل له مال و عفى عن تكسّبه فله ذلك.

و لو تعدّد الغرماء و رضي بعضهم دون بعض يأمره من لم يرض بالتكسّب، و يكون جميع فاضل مئونته ممّا استفاد لذلك.

د: لو ارتاب الحاكم بالمقرّ و شك في بلوغه،

أو عقله، أو رشده، أو اختياره، أو شبه ذلك ممّا هو شرط في صحّة إقراره، توقّف في الحكم حتى يستبين حاله، و وجهه واضح.

______________________________

(1) أي يترجّى منه ذلك- ففي مجمع البحرين 1: 124 و لسان العرب 14: 228:

خشيت بمعنى: رجوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 195

البحث الثاني في الإنكار
اشاره

اعلم أنّه إذا أنكر المدّعى عليه ما ادّعي عليه فلا يخلو إمّا أن يكون الحاكم عالما بالحال أو لا، و على الثاني فإمّا تكون للمدّعي بيّنة أم لا، فهاهنا مقامان:

المقام الأول فيما إذا كان الحاكم عالما
اشاره

و قد عرفت أنّ الحقّ أنّه يقضي حينئذ بعلمه مطلقا، و لكن بقيت هنا مسائل ينبغي التنبيه عليها:

المسألة الاولى: لو كان الحاكم حكم في الواقعة بحكم سابقا

- بعلمه أو بغيره من الإقرار أو البيّنة أو اليمين- و تذكّره، يقضي بمقتضاه، سواء تذكّر مستند الحكم السابق أم لا، لأنّ حكمه أيضا حجّة تامّة و مستند شرعي، فهو عالم بحكم الواقعة، فيشمله مثل قولهم عليهم السّلام: «رجل يقضي بالحقّ و هو يعلم» «1» و سائر عمومات الحكم.

و إن لم يتذكّر الحكم، فإن شهد عدلان بحكمه به فالأصحّ لزوم القضاء به، وفاقا لوالدي العلّامة رحمه اللّه، لعموم قبول شهادة العدلين كما يأتي.

______________________________

(1) الكافي 7: 407- 1، الفقيه 3: 3- 6، التهذيب 6: 218- 513، الوسائل 27:

22 أبواب صفات القاضي ب 4 ح 6.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 196

و قيل بالمنع، لإمكان رجوعه إلى العلم «1».

و فيه: منع كلّية الإمكان أولا، و مع صلاحيّته للمنع ثانيا و إنّما هو إذا كان العمل بالشاهدين من باب الظنّ، و تختصّ حجّيّته هنا بصورة انسداد باب العلم.

و ظاهر التحرير التردّد في المسألة «2»، حيث نقل القولين من غير ترجيح.

و لو لم يكن شاهد، و كان هناك خطّه و خاتمه لم يحكم به و إن أمن التزوير، للأصل.

نعم، لو ضمّ معه قرائن اخرى موجبة للعلم بحكمه يلزم الحكم، و الوجه واضح.

المسألة الثانية: لا يختلف لزوم حكمه بما حكم أولا

مع تذكّر الواقعة أو شهادة العدلين أن يعلم عدم تبدّل رأيه في بعض جزئيّات الواقعة، أو كلّها، أو لم يعلم، أو علم التبدّل، لأنّه قد ثبت (الحقّ بالحكم السابق) «3»، فيجب استصحابه، و لا يصلح تبدّل الرأي لرفعه، كما إذا لم يحصل التنازع بعده، و كذا إن ظهر له طريان الفسق لشهود الحكم الأول بعده.

المسألة الثالثة: لو تذكّر ثبوت الحقّ عنده أولا من غير حكم به، أو شهد بذلك الشاهدان

. فإن تذكّر مستند الثبوت أو شهد به الشّاهدان بحيث ثبت، يحكم بمقتضاه.

______________________________

(1) الدروس 2: 78.

(2) التحرير 2: 185.

(3) بدل ما بين القوسين في «ح»: الحكم بالحقّ.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 197

لا لأجل الثبوت السابق، لعدم كون مجرّد الثبوت بدون الحكم ملزما للخصم.

بل لأجل المستند، لعدم دليل على وجوب مقارنة قيام المستند لحال الحكم.

و لكن يشترط حينئذ عدم تبدّل رأيه، فلو ثبت عنده أولا بشهادة النساء مثلا، أو بشهادة رجل و يمين المدّعي، و لم يحكم، و تبدّل رأيه قبل الحكم عن قبول ذلك في مثل تلك الواقعة، لا يحكم به، للأصل، لعدم تعلّق حقّ على الخصم حتى يستصحب، و الثبوت السابق بدون الحكم غير ملزم.

نعم، لو طرأ فسق الشهود لم يمنع من الحكم، و الفرق: أنّ المعتبر في عدالة الشاهد إنّما هو حال الأداء، و في فتوى المجتهد حال الحكم.

و إن لم يتذكّر المستند و لم يثبت بمثل العدلين أيضا فلا يحكم، للأصل، إذ لم يثبت أن مجرّد الثبوت عند الحاكم- من غير ظهور المستند الثابت اعتباره شرعا- من مستندات الحكم.

فإن قيل: الثبوت عند الحاكم قائم مقام علمه، فإذا جاز حكمه بعلمه جاز بالثبوت أيضا.

قلنا: لا نسلّم أنّ مطلق الثبوت عنده قائم مقام علمه، بل الثبوت مع الحكم، و أمّا بدونه فلا، و أمّا الحكم بعد الثبوت

بالمستند فليس لأجل الثبوت، بل لأجل المستند.

المسألة الرابعة: لو لم يتذكّر الواقعة و لكن شهد عدلان بشهادته فيها، فهل يجوز حكمه بمقتضى شهادته هذه، أم لا؟

قال والدي العلّامة رحمه اللّه في المعتمد: نعم. و لعلّه لأجل أنّه إذا جاز

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 198

حكم الحاكم بشهادة نفسه جاز بما ثبتت به شهادته أيضا، لأنّه حكم بشهادة نفسه أيضا.

و فيه: أنّه إنّما يصحّ لو كان حكمه بشهادة نفسه لأجل أنّها شهادة نفسيّته- كما في شهادة الشاهدين- و ليس كذلك، لعدم دليل عليه، و إنّما هو لأجل علمه حين الحكم، و هو منتف هنا. فالأصحّ عدم جواز الحكم بها، للأصل.

المسألة الخامسة: لا يجوز للحاكم العالم بالواقعة- فيما يجوز حكمه بعلمه- قطع النظر عن العلم

و إيقاف الحكم على غيره من البيّنة أو اليمين، لأنّ معنى الإيقاف: أنّه لو كان الغير مخالفا للعلم عمل به، و هو غير جائز، إذ قبول البيّنة إنّما هو إذا لم يعلم مخالفتها للواقع و إلّا فلا تقبل إجماعا، و لأنّه موجب للحكم بخلاف ما يعلم، بل بغير ما أنزل اللّه باعتقاده.

بل نقول: إنّ المتبادر من عمومات طلب البيّنة و اليمين إنّما هو في صورة اشتباه الواقعة، و على هذا فلا يكون بناء العمل على الغير مشروعا أيضا.

و منه يظهر عدم جواز طلب البيّنة أو اليمين، لأنّه إلزام للمطلوب منه بدون ملزم شرعي. بل لا يجوز الإحلاف و لو مع رضى الخصمين، لأنّه أمر شرعيّ يتوقّف على التوقيف.

و يجوز طلب البيّنة من غير أمر و إلزام، بأن يقول: إن كان لك بيّنة و أردت إقامتها فلك ذلك، لأصالة جواز الإتيان بها، و جواز إخبارها، و جواز استماع خبرها، بل قد يكون راجحا إذا أوجب البعد عن معرض التهمة، و اللّه العالم.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 199

المقام الثاني فيما إذا لم يكن الحاكم عالما بالحال
اشاره

و الحكم حينئذ إمّا يكون باليمين، أو بالبيّنة، أو بهما. و تفصيل الكلام فيها في ثلاثة مواضع بعد ذكر مقدّمة.

المقدّمة:

اعلم أن من القواعد الثابتة المسلّمة بين الأمّة المدلول عليها بالأخبار «1»: أنّ الدعاوي تقطع بالبيّنة و اليمين.

قال اللّه سبحانه وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ «2».

و في رواية أبي ضمرة: «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنّة ماضية من أئمّة الهدى» «3».

و في مرسلة أبان: «اقض بينهم بالبيّنات و أضفهم إلى اسمي يحلفون به» و فيها أيضا: «ثمَّ أوحى اللّه تعالى إليه» أي إلى داود «أن احكم بينهم بالبيّنات و أضفهم إلى اسمي يحلفون به» «4».

و في صحيحة سعد و هشام: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان» الحديث «5».

______________________________

(1) انظر الوسائل 27: 229 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 1.

(2) البقرة: 140.

(3) الكافي 7: 432- 20، التهذيب 6: 287- 796، الخصال: 155- 195 و فيه:

بتفاوت يسير، الوسائل 27: 231 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 1 ح 6.

(4) الكافي 7: 414- 3، التهذيب 6: 228- 551، الوسائل 27: 229 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 1 ح 2 و فيه: اقض عليهم ..

(5) الكافي 7: 414- 1، التهذيب 6: 229- 552، الوسائل 27: 232 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 2 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 200

و في تفسير الإمام عليه السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحكم بين الناس بالبيّنات و الأيمان في الدعاوي» «1»، إلى غير ذلك.

ثمَّ إنّ هذا حكم مجمل و قاعدة مبهمة.

و من القواعد المسلّمة

بين الأمّة الثابتة بالأخبار المستفيضة المفصّلة لذلك المجمل: أنّ البيّنة على المدّعي و اليمين على المنكر.

ففي صحيحة الحلبي و جميل و هشام: «البيّنة على من ادّعى و اليمين على من ادّعي عليه» «2».

و في صحيحة العجلي: «الحقوق كلّها: البيّنة على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه، إلّا في الدم خاصّة» الحديث «3».

و في رواية أبي بصير: «إنّ اللّه [عزّ و جلّ ] حكم في الدماء ما لم يحكم في شي ء من حقوق الناس، لتعظيمه الدماء، لو أنّ رجلا ادّعى على رجل عشرة آلاف درهم أو أقلّ من ذلك أو أكثر لم يكن اليمين على المدّعي، و كانت اليمين على المدّعى عليه» الحديث «4».

و في صحيحته: «إن اللّه حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم، حكم في أموالكم أنّ البيّنة على المدّعي، و اليمين على المدّعى عليه» الحديث «5».

______________________________

(1) الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 2 ح 3.

(2) الكافي 7: 415- 1، التهذيب 6: 229- 553، الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 3 ح 1.

(3) الكافي 7: 361- 4، الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 3 ح 2.

(4) الكافي 7: 362- 8، الفقيه 4: 73- 223، التهذيب 10: 167- 663، الوسائل 29: 156 أبواب دعوى القتل و ما يثبت به ب 10 ح 5.

(5) الكافي 7: 361- 6 و 415- 2، الفقيه 4: 72- 219، التهذيب 6: 229- 554، الوسائل 27: 234 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 3 ح 3، و ج 29: 153.

أبواب دعوى القتل و ما يثبت به ب 9 ح 4.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 201

و

غير ذلك ممّا يأتي.

ثمَّ من القواعد المسلّمة كذلك أيضا الثابتة كذلك: أنّ البيّنة و اليمين ليستا بمجتمعتين، بل يمين المدّعي عليه إنّما هي إذا لم يقم المدّعي البيّنة، فالبيّنة مقدّمة على اليمين، و اليمين بعد عدم البيّنة.

ففي صحيحة سليمان بن خالد: «أحكم بينهم بكتابي، و أضفهم إلى اسمي تحلّفهم به» ثمَّ قال: «هذا لمن تقم له بيّنة» «1».

و مرسلة يونس: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل و يمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه، فإن لم يحلف و ردّ اليمين على المدّعي فهي واجبة عليه أن يحلف و يأخذ حقّه، فإن أبي أن يحلف فلا شي ء له» «2».

و في تفسير الإمام عليه السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا تخاصم إليه رجلان في حقّ قال للمدّعي: أ لك بيّنة؟ فإن أقام بيّنة يرضاها و يعرفها أنفذ الحكم على المدّعى عليه، و إن لم تكن له بيّنة حلف المدّعى عليه باللّه ما لهذا قبله ذلك الذي ادّعاه و لا شي ء منه» الحديث «3»، إلى غير ذلك ممّا يأتي.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا من القواعد الثلاث مطّردة عند أصحابنا في جميع

______________________________

(1) الكافي 7: 415- 4، التهذيب 6: 228- 550، الوسائل 27: 229 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 1 ح 1.

(2) الكافي 7: 416- 3، التهذيب 6: 231- 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 7 ح 4.

(3) الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 6 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 202

الدعاوي المسموعة، التي يتعيّن فيها جواب المدّعى

عليه، بحيث لو أقرّ ألزم بالحقّ، سواء كانت الدعوى ماليّة أو غير ماليّة، كالنكاح و الطلاق و الرجعة و العتق و النسب و الولاء و غيرها. و خالفنا في ذلك بعض العامّة، و لم يثبتوا اليمين على المنكر فيها سوى الدعاوي الماليّة غالبا «1». و عموم ما مرّ يردّه.

نعم، هذه القاعدة غير مطّردة في الحدود إذا كان حقّ اللّه المحض خاصّة، بلا خلاف يعرف كما في الكفاية «2» و غيره «3»، بل بالإجماع كما صرّح به المحقّق الأردبيلي.

للنبويّ: «لا يمين في حدّ» «4».

و في مرسلة الصدوق: «ادرؤا الحدود بالشبهات، و لا شفاعة و لا كفالة و لا يمين في حدّ» «5».

و مرسلة البزنطي: «أتى رجل أمير المؤمنين عليه السّلام برجل، فقال: هذا قذفني، و لم تكن له بيّنة، فقال: يا أمير المؤمنين، استحلفه، فقال: لا يمين في حدّ، و لا قصاص في عظم» «6»، و نحوها في مرسلة ابن أبي عمير «7».

______________________________

(1) انظر بداية المجتهد 2: 473.

(2) الكفاية: 271.

(3) كالرياض 2: 405.

(4) لم نعثر على كذا نص، نعم ورد مضمونه في دعائم الإسلام 2: 466- 1653، مستدرك الوسائل 18: 26 أبواب مقدمات الحدود ب 21 ح 1.

(5) الفقيه 4: 53- 190، الوسائل 28: 47 أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامّة ب 24 ح 4.

(6) الكافي 7: 255- 1، الوسائل 28: 46 أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامّة ب 24 ح 1.

(7) التهذيب 10: 79- 310، الوسائل 28: 46 أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامّة ب 24 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 203

و في رواية غياث بن إبراهيم: «لا يستحلف صاحب الحدّ» «1».

و رواية إسحاق بن عمّار: «إنّ رجلا استعدى عليّا عليه السّلام

على رجل، فقال له: إنّه افترى عليّ، فقال عليّ عليه السّلام للرجل: أ فعلت ما فعلت؟ فقال:

لا، ثمَّ قال عليّ عليه السّلام للمستعدي: أ لك بيّنة؟ قال: فقال: مالي بيّنة، فأحلفه لي، قال عليه السّلام: ما عليه يمين» «2».

و يدلّ عليه أيضا الأصل، و اختصاص ما دلّ من النصّ و الفتوى غالبا بالمنكر لما عدا الحدّ من الحقوق الماليّة و نحوها ممّا يستحقّها المدّعي، [مع أنّ الحد حقّ اللّه سبحانه، و إذن صاحب الحقّ ] «3» شرط في سماع الدعوى، و لم يأذن اللّه سبحانه فيها، بل ظاهره الأمر بالستر و الإخفاء، و الكفّ عن التتبع و كشفها، و درء الحدود بالشبهات.

و يستفاد من أكثرها أنّه إذا كانت الدعوى ممّا يشترك فيه حقّ اللّه و حقّ الناس- كالقذف و الزنا- و لا بيّنة للمدّعي، غلب حقّ اللّه على حقّ الناس، و لا يستحلف المدّعى عليه، كما عليه الأكثر. و يدلّ عليه أيضا قوله سبحانه:

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ «4» دلّت على أنّه إذا لم يأت مدّعي الزنا بالمشهود يحدّ و لا يستحلف.

و عن الشيخ في المبسوط: ترجيح حقّ الآدمي، فيستحلف المدّعى

______________________________

(1) التهذيب 10: 150- 602، الوسائل 28: 46 أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامّة ب 24 ح 2.

(2) التهذيب 6: 314- 868، الوسائل 28: 46 أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامّة ب 24 ح 3.

(3) بدل ما بين المعقوفين في النسخ: مع الحدّ إن اذن صاحب. و الصحيح ما أثبتناه.

(4) النور: 4.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 204

عليه الزنا، فإن حلف حدّ القاذف، و إن ردّ و حلف القاذف فيثبت الزنا في حقّه بالنسبة إلى حدّ القذف دون ثبوت حدّ

الزنا «1». و استحسنه في الدروس «2». و الأصل و الكتاب و السنّة يردّه.

نعم، إذا كانت الدعوى مركّبة من حقّين- كالسرقة المستلزمة للغرامة و للقطع- تسمع في حقّ الآدمي خاصّة، و يستحلف و تترتّب عليه آثاره بالنسبة إلى الغرامة، و سيأتي إن شاء اللّه تحقيقه في موضعه.

ثمَّ إنّ ما ذكرناه من القواعد إنّما هو على الأصل في المحاكمات، و قد يتخلّف في بعض الموارد بالدليل، كضمّ اليمين مع البيّنة في الدعوى على الميّت، و كالدعوى على قيّم الصغير، حيث لا يمين عليه، و يأتي كلّ في موضعه. و عليك بملاحظة الأصول «3» المذكورة إلى أن يأتيك الدليل.

و إذ علمت أنّ على المدّعي البيّنة أولا، فإذا تلقّى المدّعى عليه بالإنكار فيقول الحاكم للمدّعي: أ لك بيّنة، كما قاله النبي [صلّى اللّه عليه و آله ] في المروي عن تفسير الإمام المتقدّم و الولي [عليه السّلام ] في رواية إسحاق المتقدّمة، راجحا مطلقا، لإطلاق رواية التفسير، و وجوبا إن جهل المدّعي بأنّ عليه البيّنة لتوقّف الحكم عليه. فإن قال: ليس لي بيّنة، استحلفه على ما حكم به اللّه. [و إن ] «4» قال: نعم، استحضرها منه كذلك. و إن قال: لي بيّنة واحدة، استحضرها و استحلفه، و حكم في كلّ من الصور بما يقتضيه حكم اللّه، كما نبيّنه في المواضع الثلاثة:

______________________________

(1) المبسوط 8: 215.

(2) الدروس 2: 93.

(3) في «ق»: الأمور.

(4) ما بين المعقوفين ليس في «ح» و «ق»، أضفناه لاستقامة المعنى.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 205

الموضع الأول في الحكم باليمين
اشاره

و فيه مسائل:

المسألة الأولى: إذا قال المدّعي: إنّه لا بيّنة لي، عرّفه الحاكم أنّ له اليمين على خصمه المنكر لحقّه، فإن التمس المدّعي منه إحلافه أحلفه.

و لا يجوز للحاكم تحليفه إلّا بعد سؤال المدّعي، بلا خلاف بينهم كما في المسالك و المفاتيح و شرحه «1»، و قولا واحدا كما ذكره بعضهم «2»، و اتّفاقا كما في شرح القواعد للهندي «3»، بل بالإجماع كما في المعتمد، بل هو إجماع محقّق، فهو الدليل عليه، مضافا إلى أنّه حقّ للمدّعي، فيتوقّف على مطالبته.

و ليس هنا شاهد حال دلّ على رضائه بإحلاف القاضي أو حلف المنكر بنفسه، إذ ربّما يتعلّق الغرض بأن لا يحلّفه لتبقى دعواه توقّعا لوجود شهود له، أو تذكّر، أو لردعه عن الإنكار، أو انتظار زمان آخر صالح للدعوى أو الإحلاف، أو طيّ الدعوى بالصلح ببعض «4» المدّعى به، أو أخذ ماله تقاصّا، أو غير ذلك.

و يمكن أن يستدلّ له بصحيحة ابن أبي يعفور: «إذا رضي صاحب

______________________________

(1) المسالك 2: 368، المفاتيح 3: 255.

(2) انظر الرياض 2: 397.

(3) كشف اللثام 2: 337.

(4) في «ق»: بنقص ..

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 206

الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله ذهبت اليمين بحقّ المدّعي فلا حقّ له» قلت: و إن كانت له بيّنة عادلة؟ قال: «نعم، فإن أقام بعد ما استحلفه باللّه خمسين قسامة ما كان له حقّ، و كانت اليمين قد أبطلت كل ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه» «1».

فإنّه عليه السّلام علّق إذهاب اليمين بالحقّ برضى صاحب الحقّ، و أيضا اشترط استحلافه- أي طلبه الحلف- فلا تذهب الدعوى بدون طلبه.

و على هذا، تدلّ على المطلوب أخبار أخر متضمّنة لقوله:

«استحلفه» كروايتي خضر بن عمرو: في الرجل يكون له على الرجل مال فيجحده، قال: «إن استحلفه فليس له أن يأخذ منه بعد اليمين شيئا» الحديث

«2»، حيث شرط عدم جواز الأخذ باستحلافه.

و الأخبار بهذا المضمون كثيرة، و بها تقيّد إطلاقات حلف المدّعى عليه.

و على هذا، فإن تبرّع المنكر بالحلف أو أحلفه الحاكم بدون إذنه لغي، و أعيد ثانيا مع التماس المدّعي.

المسألة الثانية: كما أنّه لا اعتداد بإحلاف الحاكم بدون إذن المدّعي كذلك لا اعتداد بإحلاف المدّعي بدون إذن الحاكم و حكمه به

، و لا يحلف المدّعى عليه بدونه، كما هو المصرّح به في كلام الأصحاب من دون ذكر خلاف و لا ظهور مخالف.

______________________________

(1) الكافي 7: 417- 1، الفقيه 3: 37- 125، التهذيب 6: 231- 565، الوسائل 27: 244 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 9 ح 1، بتفاوت.

(2) الكافي 5: 101- 3، و ج 7: 418- 2، الفقيه 3: 113- 481، التهذيب 6:

231- 566، و ج 8: 293- 1085، الوسائل 23: 285 أبواب الأيمان ب 48 ح 1، و ج 27: 246 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 10 ح 1، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 207

و قال بعض مشايخنا المعاصرين: من غير خلاف بينهم أجده، بل ظاهر الأردبيلي نسبته إلى الأصحاب كافّة. انتهى «1».

و قال في موضع آخر: بلا خلاف، بل ظاهرهم الإجماع عليه كما يستفاد من كثير «2». انتهى.

و قال بعض الفضلاء المعاصرين: و لم نعرف في ذلك خلافا «3».

و الظاهر أنّه كذلك.

و احتجّ له تارة بأنّه وظيفته.

و هو لا يخلو عن مصادرة.

و ثانية: بأنّه من تتمّة الحكم، و لا حكم بغيره.

و هو أيضا لا يخلو عن خدشة، إذ يمكن أن يقال: إنّه من مقدّمات الحكم لا من أجزائه- كإحضار البيّنة- فلا يثبت اختصاصه به من اختصاص الحكم به.

و ثالثة: بأنّه المتبادر إلى الفهم من الاستحلاف في الروايات.

و فيه: أنّ المذكور في الروايات استحلاف المدّعي دون الحاكم.

و رابعة: باستصحاب عدم لزوم ما يترتّب على

الحلف من سقوط الحقّ و نحوه إلّا بالمتيقّن.

و فيه: أنّه كان حسنا لو لا العمومات و الإطلاقات بالترتّب على حلف المدّعى عليه، مثل قوله في رواية البصري: «فإن حلف فلا حقّ له» «4» و في

______________________________

(1) الرياض 2: 397.

(2) الرياض 2: 403.

(3) غنائم الأيام: 690.

(4) الكافي 7: 415- 1، الفقيه 3: 38- 128، التهذيب 6: 229- 555، الوسائل 27: 236 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 4 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 208

مرسلة يونس: «فهي واجبة عليه أن يحلف و يأخذ حقّه» «1»، إلى غير ذلك.

و القول: بأنّ غاية ما في الأخبار الإطلاق، و هو منصرف إلى ما هو الغالب في الحلف في مقام الدعاوي، من كونه بإذن الحاكم، مع أنّها منساقة لبيان حكم آخر غير ما يراد إثباته.

قابل للخدش و المنع، فإنّ الاختصاص بالإطلاق- ثمَّ غلبة ما ذكر حين صدور الأخبار، ثمَّ ورودها مورد حكم آخر، ثمَّ عدم إفادة مثله لو سلّم للإطلاق و العموم- ممّا يقبل المنع.

فلم يبق دليل للمسألة إلّا ظاهر الإجماع، و هو حسن.

و تدلّ عليه أيضا رواية محمّد بن قيس: «إنّ نبيّا من الأنبياء شكا إلى ربّه كيف أقضي بأمور لم أخبر ببيانها؟ قال: فقال: ردّهم إليّ و أضفهم إلى اسمي يحلفون به» «2»، و نحوه في مرسلة أبان و في صحيحة سليمان بن خالد.

و يؤيّده أيضا المرويّ في تفسير الإمام المتقدّم في المقدّمة- حيث نسب التحليف إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «3»- و بعض الأخبار المتضمّنة لقضاء أمير المؤمنين عليه السّلام، فإنّ الثابت من تلك الأخبار: أنّ ذلك وظيفة الحاكم، و أنّه ما لم يأت بذلك لم يتمّ حكمه، فلا يجوز له الحكم.

و يتحقّق الإذن من الحاكم بمجرّد الأمر بالحلف، و لا يحتاج إلى تلقينه ألفاظها، للأصل.

المسألة الثالثة [صرّح جماعة بأنّه يجب أن يكون الحلف في مجلس القضاء و الحكم،]
اشاره

صرّح جماعة- منهم: الحلّي و المحقّق و الفاضل «4»

______________________________

(1) الكافي 7: 416- 3، التهذيب 6: 231- 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 7 ح 4.

(2) الكافي 7: 414- 2، الوسائل 27: 230 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 1 ح 3.

(3) راجع ص: 201.

(4) الحلّي في السرائر 2: 183، المحقّق في الشرائع 4: 88، و المختصر: 282، الفاضل في القواعد 2: 211، و التبصرة: 188.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 209

و غيرهم «1»- بأنّه يجب أن يكون الحلف في مجلس القضاء و الحكم، و نفى عنه بعض مشايخنا المعاصرين الخلاف، بل قال: إنّ ظاهرهم الإجماع عليه «2».

إلّا أنّ ظاهر الفاضل في التحرير عدم اشتراط ذلك و لا وجوبه، حيث قال: و إن أمسك المدّعي عن إحلاف المنكر ثمَّ أراد إحلافه بالدعوى المتقدّمة جاز، لأنّه لم يسقط حقّه منها و إنّما أخّرها «3».

و أمّا قوله في باب الحلف-: لا ينبغي للحاكم أن يحلف أحدا إلّا في مجلس حكمه إلّا في حقّ المعذور «4»- فلا يدلّ على الحرمة و لا الاشتراط، بل لفظ «لا ينبغي» ظاهر في الكراهة.

و إلى ذلك مال بعض فضلائنا المعاصرين، قال: و أمّا لزوم كونه في مجلس الحكم- كما يظهر من بعض العبارات- فوجوبه غير معلوم و إن كان هو المنساق من ظاهر الروايات، لكنّها لا تفيد الاشتراط، بل ما يدلّ على استحباب تغليظ اليمين بالمكان يدلّ على جوازه في غيره أيضا، سيّما مع الكراهة في بعضها «5». انتهى.

و استدلّوا للوجوب ببعض ما مرّ دليلا على لزوم كونه بإذن الحاكم.

و قد

عرفت ما فيه.

و قد يستدلّ أيضا بما مرّ في الأخبار المستفيضة من أمر الحاكم بإضافة المدّعى عليه إلى الاسم فيحلف به، فإنّ المتبادر عن ذلك أنّه يلزم

______________________________

(1) كالسبزواري في الكفاية: 270، و الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 340.

(2) الرياض 2: 403.

(3) التحرير 2: 186.

(4) التحرير 2: 191.

(5) غنائم الأيام: 690.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 210

أن يكون في حضوره، و لا أقلّ من عدم العلم بالامتثال بدون ذلك.

و فيه منع ظاهر، لصدق الإضافة إلى الاسم بالأمر بالحلف به كيف ما كان.

و قد يقال: إنّ المتبادر من قوله: «أضفهم إلى اسمي يحلفون به» أنّ اللّازم الحلف لأجل طلب الحاكم، فلو حلف المدّعى عليه لا لذلك لم يكن معتدّا به.

و لا يعلم كونه لذلك إلّا بتصريح المدّعى عليه، أو بقرينة تدلّ عليه.

و التصريح لا يفيد، لكونه جالبا به النفع، دافعا للمضرّة، فلا بدّ من أن يستدلّ عليه بالقرائن، و ليست إلّا كونه في حضوره بعد طلبه، إذ المستفاد من ذلك أنّه أوقعه لأجله، بل لا يمكن تحقّق أزيد من ذلك، فلا بدّ من الإتيان به.

فإن قيل:

الإتيان بالحلف بعد طلب نائب الحاكم في الإحلاف أيضا كذلك.

قلنا:

نعم، لو قلنا بجواز الاستنابة فيه، و لكنّه غير معلوم، لأنّه أمر به الحاكم، و الأصل عدم جواز الاستنابة فيه و عدم كفايته.

و فيه: أنّه تتحقّق الإضافة بالأمر بالحلف، و وجوب كون حلفه بقصد أمر الحاكم به فلا دليل عليه، فإذا وكّل عليه أحدا ليأتي بالمأمور به يصدق عليه الحلف بأمر الحاكم، و ليس ذلك استنابة في الحلف، مع أنّه لو تمَّ ذلك لدلّ على لزوم كون الحلف في مجلس الحاكم دون مجلس الحكم، و هو غير مطلوبهم.

و منه يظهر أنّ

القول بعدم الوجوب و الاشتراط أظهر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 211

فروع:
أ: القائلون بوجوب كونه في مجلس الحكم استثنوا من ذلك المعذور،

كالمريض و الزمن «1»- اللذين لا يمكنهما أو يشقّ عليهما الحضور إلى الحاكم- و الخائف، و غير البرزة من النساء، و الحائض و النفساء، مع كون الحاكم في موضع لا يجوز لهما المكث فيه أو الدخول.

قالوا: فيستنيب الحاكم حينئذ من يحلّفه، لاستلزام الحضور مع ذلك العسر و الحرج، و إلزام الحاكم حينئذ بمباشرته الإحلاف بالمسير إليه مستلزم للنقص فيه، أو إلقائه في ضيق و شدّة و عسر، مع عدم كونه معهودا في الأزمنة السابقة. و احتمل بعض الأصحاب وجوب ذلك على الحاكم، إلّا إذا وجب النقص «2».

أقول:

لازم أدلّة نفي العسر و الحرج أحد الأمرين: إمّا جواز الاستنابة، أو جواز إيقاف الحكم إلى ارتفاع العذر، إلّا في عذر لم يرج زواله.

فالحكم بالأول مطلقا لا وجه له، إلّا أن يقال بالتخيير، و مرجعه إلى جواز الاستنابة أيضا.

و لكن هذا إنّما يتمّ على ما هو المشهور من عدم جواز إذن الحاكم لمقلّده العادل في الحكم في واقعة مخصوصة.

أمّا على ما اخترناه- من جوازه- فيرتفع العذر بالإذن لمن يقولون

______________________________

(1) الزمانة: العاهة، و آفة في الحيوان، يقال: زمن الشخص زمنا و زمانة فهو زمن من باب تعب، و هو مرض يدوم زمانا طويلا- مجمع البحرين 6: 260.

(2) حكاه عنه في الرياض 2: 403.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 212

باستنابته في الإحلاف أن يحكم و يستحلف.

نعم، لو فرض عدم إمكان ذلك لتمّ الحكم بالتخيير المذكور.

ب: قد ظهر من عدم اشتراط كون الحلف في مجلس الحكم جواز تأخير المدّعي إحلاف المنكر إلى وقت آخر،

كما نقل عن التحرير «1».

و لا يشترط اعادة الدعوى ثانيا، بل لا يلزم إحضاره عند الحاكم أيضا.

ج: قال في القواعد و التحرير «2»: لو قال: أبرأتك من هذه اليمين،

سقط حقّه منها في هذه الدعوى، و له أن يستأنف الدعوى، لأنّ حقّه لا يسقط بالإبراء من اليمين. فإن استأنف الدعوى و أنكر الخصم فله إحلافه، لأنّ هذه دعوى مغايرة للّتي أبرأه من اليمين فيها «3». انتهى.

و هو كذلك، لأنّا لو قلنا بسقوط حقّ هذه اليمين الحاصل بحكم الحاكم بسبب تلك الدعوى لا يوجب سقوط حقّه الذي كان يدّعيه، للأصل. و مع بقائه يجوز له دعواه ثانيا، و مع الدعوى يجب على الحاكم استماعها و الحكم بمقتضاها، فإذا حكم بالحلف يكون هذا حقّا ثابتا «4» ثبت بالدعوى الثانية. و إن شئت قلت: لم يثبت من الإسقاط إلّا سقوط اليمين الثابتة بذلك الحكم دون غيره.

المسألة الرابعة: ثمَّ المنكر- الذي وجّه الحاكم إليه الحلف- إمّا أن يحلف حلفا معتبرا شرعا
اشاره

- كما يأتي بيانه- أو يردّه على المدّعي، أو ينكل

______________________________

(1) التحرير 2: 186 و 191.

(2) ليست في «ح».

(3) التحرير 2: 186، و لم نجدها في القواعد.

(4) في «ح»: ثانيا ..

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 213

و يأبى عن أحد الأمرين.

فإن حلف سقطت الدعوى عنه في الدنيا، و لكن لا تبرأ ذمّته من الحقّ في نفس الأمر لو كان كاذبا، بل يجب عليه فيما بينه و بين اللّه تعالى التخلّص من حقّ المدّعي بلا خلاف، بل بالإجماع، له، و للاستصحاب- حيث لم يثبت من أدلّة سقوط الدعوى أزيد من سقوطها ظاهرا- و للمعتبرة من الأخبار:

كصحيحة سعد و هشام: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان، و بعضكم ألحن بحجّته من بعض، و أيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنّما قطعت له قطعة من النار» «1».

و المرويّ في تفسير الإمام عليه السّلام: «فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا أيّها الناس،

إنّما أنا بشر و إنّكم تختصمون، و لعلّ بعضكم يكون ألحن بحجّته، و إنّما أقضي على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حقّ أخيه بشي ء فلا يأخذنّه، فإنّما أقطع له قطعة من النار» «2».

و يستفاد منها مثل ذلك في جانب المدّعي لو شهدت له البيّنة الكاذبة، و بخصوصه وردت أخبار كثيرة، منها: رواية المناهي المشهورة المرويّة في الفقيه، و فيها: «إنّه نهى عن أكل مال بشهادة الزور» «3».

ثمَّ بما ذكرنا تخصّص الأخبار المتضمّنة لنفي الحقّ للمدّعي عن المنكر بعد حلفه أو ثبوته له بعد بيّنته لحقوق الدنيا، فإنّها تسقط عن المنكر

______________________________

(1) الكافي 7: 414- 1، التهذيب 6: 229- 552، الوسائل 27: 232 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 2 ح 1.

(2) الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 2 ح 3، بتفاوت يسير.

(3) الفقيه 4: 2- 1، بتفاوت يسير، الوسائل 27: 232 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 2 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 214

بعد الحلف المعتبر، فلا تجوز له المطالبة و لا المقاصّة بماله كما كان له قبل الحلف، و لا العود في الدعوى، فلو عاد إليها لم تسمع منه، بلا خلاف فيه يوجد، بل باتّفاق المسلمين كما قيل «1».

للنصوص المستفيضة، كصحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة في المسألة الاولى، و في آخرها: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و من حلف لكم باللّه فصدّقوه، و من سألكم باللّه فأعطوه، ذهبت اليمين بحقّ المدّعي و لا دعوى له» «2».

و روايتي خضر بن عمرو المتقدّمتين فيها أيضا «3»، و رواية البصري المرويّة في الفقيه: عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ فلا تكون له بيّنة

بماله، قال: «فيمين المدّعى عليه، فإن حلف فلا حقّ له، و إن ردّ اليمين على المدّعي فلم يحلف فلا حقّ له» «4».

و مرسلة إبراهيم بن عبد الحميد: في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده إيّاه فيحلف له يمين صبر «5»، إله عليه شي ء؟ قال: «لا، ليس له أن يطلب منه» «6».

و صحيحة سليمان بن خالد: عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني

______________________________

(1) انظر كشف اللثام 2: 337.

(2) الفقيه 3: 37- 126، الوسائل 27: 245 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 9 ح 2، بتفاوت.

(3) راجع ص: 206.

(4) الفقيه 3: 38- 128، الوسائل 27: 236 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 4 ح 1.

(5) أي الزم بها و حبس عليها، و كانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم- النهاية لابن الأثير 3: 8.

(6) الكافي 7: 418- 3، التهذيب 8: 294- 1086، الوسائل 23: 286 أبواب الأيمان ب 48 ح 2، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 215

عليه و حلف، ثمَّ وقع له عندي مال، فآخذه لمكان مالي الذي أخذه و أجحده و أحلف عليه كما صنع؟ فقال: «إن خانك فلا تخنه، و لا تدخل فيما عبته عليه» «1».

و رواية عبد اللّه بن وضّاح: كانت بيني و بين رجل من اليهود معاملة فخانني بألف درهم، فقدّمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، و قد علمت أنّه حلف يمينا فاجرة، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح و دراهم كثيرة، فأردت أن أقتصّ الألف درهم التي كانت لي عنده فأحلف عليها، فكتبت إلى أبي الحسن عليه السّلام فأخبرته أنّي قد أحلفته فحلف، و قد وقع له عندي مال، فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها

فعلت، فكتب: «لا تأخذ منه شيئا، إن كان ظلمك فلا تظلمه، و لو لا أنّك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذه من تحت يدك و لكنّك رضيت بيمينه، لقد مضت اليمين بما فيها» فلم آخذ منه شيئا «2».

و أمّا حسنة الحضرمي: رجل لي عليه دراهم فجحدني و حلف عليها، أ يجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي؟ فقال: «نعم» الحديث «3».

فهي أعمّ مطلقا ممّا مرّ، لشمولها للحلف قبل استحلاف المدّعي

______________________________

(1) الكافي 5: 98- 1، الفقيه 3: 113- 482، التهذيب 6: 197- 437 و 348- 980، الاستبصار 3: 52- 171، الوسائل 17: 274 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 7.

(2) الكافي 7: 430- 14، التهذيب 6: 289- 802، الاستبصار 3: 53- 175، الوسائل 27: 246 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 10 ح 2.

(3) التهذيب 6: 348- 982، الاستبصار 3: 52- 168، الوسائل 17: 273 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 4.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 216

و الحاكم أيضا، فيجب تخصيصها بما مرّ. مع أنّها لا تصلح لمعارضة ما مرّ، لأشهريّته رواية و شذوذها.

و مقتضى صريح الصحيحة الاولى و إطلاق البواقي أو عمومها عدم الفرق في ما ذكر بين ما لم يقم بعد الحلف بيّنة أو أقامها، كما هو الحقّ المشهور، و اختاره الشيخ في الخلاف و النهاية و موضع من المبسوط، و نسبه الإسكافي إلى الصادقين عليهما السّلام «1»، و عن الخلاف و الغنية الإجماع عليه «2».

خلافا للمحكي عن موضع من المبسوط، فتسمع البيّنة مطلقا «3»، و لعلّه للإطلاقات سماع البيّنة.

و فيه: أنّها بما مرّ مقيّدة، سيّما مع شذوذ ذلك القول بالمرّة.

و للمحكيّ عن المفيد

و ابن حمزة و القاضي و الديلمي، فتسمع- إلّا إذا شرط الحالف سقوط الحقّ باليمين- إلحاقا لها بالإقرار، فكما يجب الحقّ به بعد الحلف- كما يأتي- يجب بها أيضا «4».

و هو قياس مع الفارق، فإنّ الإجماع في الإقرار موجود دون البيّنة، و أيضا الإقرار تمام العلّة في ثبوت الحقّ، بخلاف البيّنة، فإنّها لا تثبته إلّا بعد الحكم، و مع ذلك فهو اجتهاد في مقابلة النصّ.

و للمحكيّ عن موضع آخر من المبسوط و الحلبي و الحلّي «5»، و مال

______________________________

(1) الخلاف 2: 622، النهاية: 340، المبسوط 8: 210، حكاه عن الإسكافي في المختلف: 699.

(2) الخلاف 2: 622، الغنية (الجوامع الفقهية): 625.

(3) المبسوط 8: 158.

(4) المفيد في المقنعة: 733، ابن حمزة في الوسيلة: 213، حكاه عن القاضي في المختلف: 699، الديلمي في المراسم (الجوامع الفقهيّة): 657.

(5) المبسوط 8: 210، الحلبي في الكافي في الفقه: 447، الحلّي في السرائر 2: 159، و فيه: و إن قال المدّعي: ليس معي بيّنة، و طلب من خصمه اليمين فحلّفه الحاكم، ثمَّ أقام بعد ذلك البيّنة على صحّة ما كان يدّعيه، لم يلتفت إلى بيّنته و أبطلت. و هو كما ترى مخالف لما نسب إليه، قال في مفتاح الكرامة 10: 77 أو وجدوا ذلك في السرائر و لم نعثر عليه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 217

إليه في المختلف «1»، فتسمع لو أحلف مع نسيان البيّنة أو عدم علمه بها، و لا تسمع مع العلم بها و الرضا به عنها، لأنّ طلب الإحلاف لظنّ عجزه من استخلاص حقّه بالبيّنة.

و جوابه ظاهر ممّا مرّ.

و مقتضى إطلاق أكثر الأخبار أو عمومها و كذا الفتاوى عدم الفرق في ذلك بين دعوى العين والدين، و لازمه أنّه

لو ظفر صاحب العين بها بعد الحلف لم يجز له أخذها، و لو أخذها كان فعل حراما، كما هو مقتضى قوله: «ذهبت اليمين بحقّ المدّعي» و قوله: «فلا حقّ له» «2».

إلّا أنّه يمكن أن يقال: إنّ المستفاد- من قوله: «قطعت له قطعة من النار» و: «لا يأخذنّه» في صحيحة سعد و هشام و تفسير الإمام و النهي عن الأكل «3»- أنّه لا يملكه الحالف و لا يملكه غيره أيضا، فالعين باقية على ملكيّة المالك البتّة، ضرورة عدم تملّك غيرهما.

بل يدلّ قوله: «لا يأخذنّه» أنّ للمالك التصرّف فيه، فيكون له فيه حقّ، و ليس جميع أنواع الحقّيّة الدنيويّة منفيّة عنه، و به يحصل نوع من الإجمال في الحقّ المنفي، فيقتصر فيه على المصرّح به في الأخبار من الادّعاء و المطالبة و التقاصّ، و يبقى غير ذلك، و هو مقتضى الاستصحاب

______________________________

(1) المختلف: 699.

(2) المتقدّمين في ص: 206 و 214.

(3) الوارد في رواية المناهي، و قد تقدّم الجميع في ص: 213.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 218

أيضا، فلا تخرج العين عن ملكيّة المالك، فله التصرّف فيها و أخذها لو أمكن بدون الدعوى و المطالبة و التقاصّ.

و لا يجوز لغيرهما العالم بالحقيقة ابتياعها عن الحالف و لا ردّها إليه لو وقعت في يده.

و يجب على وارث الحالف المطّلع ردّها، و على الغير أمر الحالف بالردّ من باب النهي عن المنكر، و كذا في الدين، فإنّه يجب على العالم بالواقع نهيه عن ذلك المنكر.

هذا، ثمَّ إنّهم قالوا: لو أكذب الحالف نفسه أو ادّعى سهوه أو نسيانه أو إثباته بالحلف- للعجز عن الأداء حين الترافع- و اعترف بالحقّ المدّعى كلّا أو بعضا جاز للمدّعي المطالبة و حلّت له المقاصّة.

قال المحقّق

الأردبيلي: و لعلّه لا خلاف فيه. و قيل: بل لا خلاف ظاهرا بينهم «1». و عن المهذّب و الصيمري دعوى الإجماع عليه «2»، و صرّح بالإجماع والدي العلّامة في المعتمد، فإن ثبت الإجماع فهو، و إلّا فالأخبار المتقدّمة تردّه، و دعوى انصرافها بحكم التبادر إلى غير محلّ الكلام واهية.

و الوجوه التي استدلّوا بها لتخصيص الأخبار غير تامّة.

منها: ما ذكره في المسالك بقوله: لتصادقهما حينئذ على بقاء الحقّ في ذمّة الخصم، فلا وجه للسقوط «3».

و ما ذكره المحقّق الأردبيلي من عموم إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، و من عموم أدلّة جواز المقاصّة.

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 398.

(2) لم نعثر عليه في المهذّب، و لكن نسبه إليه في الرياض 2: 398.

(3) المسالك 2: 368.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 219

و ما ذكره غيرهما «1» من خصوص الخبر: إنّي كنت استودعت رجلا مالا فجحدنيه فحلف لي، ثمَّ إنّه جاء بعد ذلك بسنتين بالمال الذي كنت استودعته إيّاه، فقال: هذا مالك فخذه و هذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك، و اجعلني في حلّ، فأخذت منه المال و أبيت أن أخذ الربح منه، و أوقفت المال الذي كنت استودعته حتى أستطلع رأيك، فما ترى؟ قال: فقال: «خذ نصف الربح و أعطه النصف و حلّله، لأنّ هذا رجل تائب» «2».

و الرضوي: «و إذا أعطيت رجلا مالا فجحدك و حلف عليه، ثمَّ أتاك بالمال بعد مدّة و بما ربح فيه و ندم على ما كان منه، فخذ منه رأس مالك و نصف الربح، و ردّ عليه نصف الربح، هذا رجل تائب» «3».

لضعف الكلّ غايته:

أمّا الأول، فلكونه اجتهادا في مقابلة النصّ، أو مصادرة على المطلوب.

و أمّا الثاني، فلأنّ

مقتضى جواز الإقرار الحكم بتعلّقه بما في ذمّته حينئذ واقعا، و لا دلالة على ذلك على جواز المطالبة أو التقاصّ أصلا، فإنّه ليس بأقوى من علم المدّعي نفسه بذلك، مع أنّهم صرّحوا بأنّه إذا لم يقرّ لا تجوز له المطالبة أو التقاصّ، و صرّحوا بأنّه لا تبرأ ذمّة الحالف في نفس الأمر.

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 398.

(2) الفقيه 3: 194- 882، التهذيب 7: 180- 793، الوسائل 23: 286 أبواب الأيمان ب 48 ح 3.

(3) فقه الرضا عليه السّلام: 252، المقنع: 124.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 220

و مع ذلك قالوا: إنّ المحلوف له المطّلع على ذلك الأمر النفس الأمريّ ليس له المطالبة و التقاصّ، مع أنّ الثابت من الإقرار ليس إلّا تعلّقه في ذمّته قبل الحلف، و أمّا بعده و بعد تصريح الأخبار بأنّ اليمين أذهب حقّه فلا.

و من ذلك ظهر ضعف ما قيل من أنّ التعارض بين عموم الإقرار و ما مرّ من الأخبار بالعموم من وجه، و الترجيح للأخير «1».

فإن قيل: معنى جوازه أنّه يؤخذ به فيحصل التعارض.

قلنا: بل معناه أنّه مثبت للحقّ عليه، فكما أنّ الثبوت الواقعي المعلوم للمدّعي لم يكن مجوّزا للمطالبة و التقاصّ فكذا ذلك.

و أمّا الثالث، فلأنّ أدلّة التقاصّ أعمّ مطلقا من صحيحة سليمان بن خالد و رواية ابن وضّاح المتقدّمتين «2»، و القاعدة: تخصيصها بهما.

و أمّا الرابع، فلأنّ محلّ الكلام جواز الدعوى و المطالبة و التقاصّ، دون جواز الأخذ لو بذل الحالف المال، فإنّه جائز مع عدم الإقرار أيضا، كيف؟! و هم صرّحوا بأنّ على الحالف مطلقا إبراء ذمّته عن الحقّ المحلوف عليه، و نهى في الأخبار- كما مرّ- عن أخذ ما حلف به لو كان كاذبا.

و على

هذا فالحكم المذكور مشكل غاية الإشكال.

و لذا تردّد فيه صاحب الكفاية، بل يشعر منه الميل إلى خلافه، حيث قال: قالوا كذا، و ظاهر الروايات يدلّ على خلافه «3». انتهى.

و الأحوط أنّه إن بذله الحالف أخذه كما في غير الإقرار أيضا، و إلّا

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 398.

(2) في ص: 214 و 215.

(3) الكفاية: 267.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 221

فلا يقتص و لا يطالب و لا يدّعيه.

فرع:

على القول بجواز المطالبة مع إكذاب نفسه لو ادّعى صاحب الحقّ أنّ الحالف أكذب نفسه فأنكر كانت دعوى مسموعة، و طولب فيها بالبيّنة و المنكر باليمين، و الوجه ظاهر.

المسألة الخامسة: إذا لم يحلف المدّعى عليه، بل ردّ اليمين على المدّعي، جاز و صحّ بالإجماع
اشاره

محقّقا و محكيّا «1»، له، و للنصوص المستفيضة، كمرسلة يونس المتقدمة في المقدّمة «2»، و رواية البصري المتقدّمة في المسألة الرابعة، و قوله في آخر تلك الرواية: «و لو كان حيّا لألزم اليمين، أو الحقّ، أو يردّ اليمين عليه» «3».

و صحيحة محمّد: في الرجل يدّعي و لا بيّنة له، قال: «يستحلفه، فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له» «4».

و رواية عبيد: في الرجل يدّعى عليه الحقّ و لا بيّنة للمدّعي، قال:

«يستحلف، أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ [له ]» «5».

و مرسلة أبان: في الرجل يدّعى عليه الحقّ و ليس لصاحب الحقّ بيّنة،

______________________________

(1) كما في الرياض 2: 398.

(2) راجع ص: 201.

(3) الفقيه 3: 38- 128، الوسائل 27: 236 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 4 ح 1.

(4) الكافي 7: 416- 1، التهذيب 6: 230- 557، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 7 ح 1.

(5) الكافي 7: 416- 2، التهذيب 6: 230- 556، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 7 ح 2، بدل ما بين المعقوفين في «ح» و «ق»: عليه، و ما أثبتناه من المصادر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 222

قال: «يستحلف المدّعى عليه، فإن أبى أن يحلف و قال: أنا أردّ اليمين عليك لصاحب الحقّ، فإنّ ذلك واجب على صاحب الحقّ أن يحلف و يأخذ ماله» «1».

و صحيحة هشام: «يردّ اليمين على المدّعي» «2».

و رواية أبي العباس: «إذا

أقام الرجل البيّنة على حقّه فليس عليه يمين، فإن لم يقم البيّنة فردّ عليه الذي ادّعى عليه اليمين، فإن أبى أن يحلف فلا حقّ له» «3»، و نحوها موثّقة جميل «4» و مرسلة أبان «5»، إلى غير ذلك.

ثمَّ بعد الردّ إن حلف المدّعي باليمين المردودة استحقّ و أخذ الحقّ بالإجماع، له، و لمرسلتي يونس، و أبان المتقدّمتين، المنجبرتين- لو كان فيهما ضعف- بالإرسال.

فروع:
أ: إذا ردّ المنكر اليمين على المدّعي فليس للمدّعي الردّ ثانيا،

بلا خلاف، لاستلزامه التسلسل، و لأنّ جواز الردّ أمر توقيفيّ و لا دليل عليه،

______________________________

(1) الكافي 7: 416- 4، التهذيب 6: 230- 561، الوسائل 27: 242 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 7 ح 5.

(2) الكافي 7: 417- 5، التهذيب 6: 230- 560، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 7 ح 3.

(3) الكافي 7: 417- 2، التهذيب 6: 231- 563، الوسائل 27: 243 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 8 ح 2.

(4) المتقدمة الإشارة إليها في ص 154 و لكن بعنوان صحيحة جميل.

(5) الكافي 7: 417- 2، الوسائل 27: 243 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 8 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 223

و لتصريح المرسلتين المتقدّمتين بوجوب اليمين عليه.

و هل للمنكر استردادها و حلفه بنفسه؟

فإن كان بعد حلف المدّعي فليس ذلك له، بلا إشكال و خلاف، و عن المسالك الإجماع عليه «1»، و لثبوت الحقّ على المنكر بحلفه بمقتضى الأخبار المتقدّمة فيجب على الحاكم الحكم به، و لا يسقط الحقّ الثابت باليمين. و إن كان قبل حلفه، فعن الشيخ- كما في الدروس «2» و غيره «3»- أنّه أيضا كذلك إذا لم يرض به المدّعي، و هو الأصحّ، لأنّ كلّا من الحلف و الردّ

و الاسترداد أمور شرعيّة موقوفة على التوقيف، و لا توقيف هنا.

فإن قيل:

جاز للمنكر الحلف قبل الردّ فيستصحب.

قلنا:

يعارضه جوازه للمدّعي أيضا بعد الردّ فيستصحب، و لا يمكن استصحابهما معا، لعدم إمكان اجتماع الحلفين.

فإن قيل:

يمكن أن يكون جوازه للمدّعي مقيّدا بعدم الاسترداد.

قلنا:

يعارضه إمكان تقييد جوازه للمنكر أيضا بعدم الردّ، مع أنّ المصرّح به في الأخبار- كما مرّ- وجوبه على المدّعي، و ذلك يستلزم سقوطه عن المنكر حال وجوبه عليه، لعدم إمكان بقائهما معا، فلا يبقى شي ء يستصحب، بل يستصحب عدمه في حقّه.

و ظاهر الدروس أنّ له ذلك «4». و نفى بعض الفضلاء المعاصرين عنه البعد، محتجّا بأنّ الردّ في معنى الإباحة لا الإبراء، و الأصل بقاء الحقّ «5».

______________________________

(1) المسالك 2: 373.

(2) الدروس 2: 94.

(3) كالمسالك 2: 373.

(4) الدروس 2: 94.

(5) انظر غنائم الأيام: 681.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 224

و فيه: أنّه إن أريد أنّه إباحة لا إبراء فمع أنّه لا معنى محصّل له نقول:

إنّه ليس بشي ء منهما، بل أمر شرعي، كمطالبة المدّعي أولا عنه الحلف، فإنّه ليس إباحة و لا إبراء.

و إن أريد أنّه في معناها من جهة عدم اللزوم فهو مصادرة محضة.

و أمّا أصل بقاء الحقّ فقد عرفت حاله.

ثمَّ بما ذكرنا ظهر عدم جواز الاسترداد مع رضا المدّعي أيضا، لجريان الأدلّة فيه أيضا، و دعوى الإجماع في أمثال تلك المسائل مجازفة.

ب: إذا ردّ المنكر اليمين على المدّعي فهل للمدّعي إلزام المنكر بإحضار المال قبل اليمين؟

قال في المختلف: لا نصّ فيه «1». و عن الحلبي: القطع بأنّه له «2».

و عن الشهيد الثاني: العدم «3»، و هو مختار والدي، و هو الأظهر، للأصل، و عدم ثبوت حقّ عليه بعد .. و القدرة على الإثبات ليس ثبوتا.

ج: اختلفوا في أنّ حلف المدّعي باليمين المردودة،

فهل يمينه بمنزلة البيّنة، أو الإقرار؟ و فرّعوا على ذلك الخلاف فروعا كثيرة مذكورة في مواضعها.

و الحقّ- كما ذكره المحقّق الأردبيلي و صاحب الكفاية «4» و والدي العلّامة في المعتمد- عدم مستند مقبول يصحّ الاتّكاء عليه لشي ء من القولين، و اللّازم إرجاع كلّ فرع فرّع إلى الأصول و القواعد و اعتبار الأدلّة فيها.

______________________________

(1) المختلف: 700 و فيه: و لم يحضرني الآن قول لأصحابنا يوافقه على ذلك.

و الوجه المنع ..

(2) الكافي في الفقه: 447.

(3) الروضة 3: 86.

(4) الكفاية: 268.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 225

المسألة السادسة: مقتضى ما ذكرنا من توقيفيّة الردّ و أصالة عدم جوازه

- بل دلالة قوله: «و اليمين على المدّعى عليه» في الأخبار المتكثّرة «1» على عدم الردّ- اختصاصه بمورد الإجماع و النصوص، و كلاهما مخصوصان بما إذا كان المدّعي صاحب الحقّ و ادّعى لنفسه الحقّ، أمّا الأول فظاهر، و أمّا الثاني فللتصريح في جميع الأخبار المتقدّمة بقوله: «حقّه» أو:

«لا حقّ له» أو: «صاحب الحقّ» أو: «ماله» حتى آخر رواية البصري، كما يظهر ممّا تقدّم على ما نقلناه عنه و ما تأخّر «2».

نعم، ظاهر صحيحة هشام «3» إطلاق المدّعي، و لكن يضعّفه:

جواز انصرافه إلى الغالب، و هو المدّعي لنفسه، كما يستفاد من سائر الأخبار أيضا، بل تبادره منه.

و عدم ظهور قول بالإطلاق، بل ظهور إطباق الأصحاب على خلافه.

و إجمال قوله: «يردّ»، حيث إنّه ليس المراد منه الإخبار الذي هو حقيقته، و لا الطلب، و لا الرجحان، بل مجاز آخر، و هو يمكن أن يكون مطلق الجواز، و أن يكون الجواز المطلق. و الثاني غير معلوم، و الأول لا يفيد الإطلاق.

و معارضتها مع الأخبار المتكثّرة القائلة بأنّ اليمين على المدّعى عليه.

و على هذا، فلا دليل على جواز الردّ على من يدّعي لغيره حقّا،

حيث تجوز له الدعوى، و لذلك صرّح الأصحاب- من غير خلاف بينهم يوجد- باستثناء جواز الردّ فيما إذا كان المدّعي وصيّا ليتيم، أو قيّما له أو

______________________________

(1) المتقدّمة في ص: 201.

(2) المتقدمة إليها الإشارة جميعا في ص: 154 و 214 و 221 و 222.

(3) المتقدمة في ص: 222.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 226

لغائب، أو وليّا لأحدهما أو لمجنون أو سفيه، أو وصيّا لحجّ أو خمس أو زكاة أو نحو ذلك.

و على هذا، فيلزم على المنكر- على تقدير الإنكار- إمّا دفع الحقّ على المدّعي أو اليمين له، يعني: إذا لم يحلف يحكم عليه بوجوب الأداء، لما يأتي من الحكم على ثبوت الحقّ بالنكول، لعمومات: «البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر» الخالية عن معارضات الردّ هنا.

و منهم من حكم في غير الأخير بالإيقاف حتى يبلغ الطفل و يفيق المجنون و يرجع الغائب فيحلف، و في الأخير يحبس المنكر حتى يحلف أو يقرّ.

و ليسا بوجه، أمّا الأول فلأنّه ترك لأدلّة الحكم بالنكول بل موجب، و أمّا الثاني فلذلك، مضافا إلى عدم دليل على جواز الحبس.

نعم، لو كان المدّعي وكيلا، يردّ اليمين، و يحلف الموكّل، لأنّه المدّعي حقيقة و الوكيل آلته، بخلاف الوصيّ و القيّم.

و كذا يشترط في جواز الردّ عدم مانع من يمين المدّعى عليه، فإن كان هناك مانع منه لا يكون ردّ، إذ جواز ردّ اليمين فرع جواز اليمين، فإذا لم يجز لم يجز، و لذا خصّ الأصحاب جواز الردّ أيضا بما إذا كانت الدعوى مجزومة.

و أمّا إذا كانت مظنونة أو موهومة- على القول بسماعهما- لا يكون ردّ، لأنّ اليمين لا يكون إلّا على البتّ و اليقين كما يأتي، فلو لم يحلف يحكم عليه،

لما مرّ.

المسألة السابعة: لو لم يحلف المدّعي بعد ردّ اليمين إليه، فإن كان عدم حلفه تركا له و امتناعا عنه

- بأن يقول: لا أحلف، أو: لا أريد أن

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 227

أحلف، لكون الحلف مكروها أو تركه مرغوبا إليه- سقط حقّه و بطلت دعواه في ذلك المجلس إجماعا، و في غيره أيضا على الأشهر الأظهر، بل عليه أكثر من تقدّم «1» و عامّة من تأخّر، للأخبار المتقدّمة جميعا، فليس له مطالبة الخصم بعد ذلك، و لا استئناف الدعوى في مجلس آخر، و لا مقاصّته.

و حكى بعض الأجلّة الخلاف فيه عن المبسوط و عن موضع من القواعد، فتسمع دعواه في مجلس آخر «2»، و الأخبار المذكورة تدفعه.

و لا فرق في سقوطه مطلقا بين ما إذا لم يقم بعده بيّنة أو أقامها، لإطلاق النصوص و الفتاوى.

و في التحرير و عن الشهيدين «3» و بعض من تبعهما «4»: سماع دعواه إذا أتى ببيّنة، و اختاره والدي رحمه اللّه في المعتمد، و لعلّه لأجل أنّ معنى قوله في الروايات المتقدّمة-: «إن لم يكن شاهدا و لا بيّنة له» أو: «ليس له بيّنة» و نحوها-: انتفاؤها في نفس الأمر و انحصار الحجّة المثبتة لحقّه في اليمين.

و فيه: أنّه لو سلّم ذلك فلا يجري في رواية أبي العبّاس و موثّقة جميل و مرسلة أبان «5»، فإنّها متضمّنة لقوله: «فإن لم يقم بيّنة» الشامل لجميع صور عدم إقامة البيّنة، سواء كان لعدمها، أو عدم تذكّرها، أو عدم إرادتها، أو غير ذلك.

______________________________

(1) كالصدوق في المقنع: 132، و الطوسي في النهاية: 340، و الحلّي في السرائر 2: 159.

(2) انظر كشف اللثام 2: 337، و هو في المبسوط 8: 209، و القواعد 2: 209.

(3) التحرير 2: 194، الشهيد الأول في الدروس: 177، و الشهيد الثاني في الروضة 3: 86.

(4)

كالفيض الكاشاني في المفاتيح 3: 257، و صاحب الرياض 2: 399.

(5) المتقدمة جميعا في ص: 222.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 228

و استدلّ والدي بانصراف إطلاق أخبار المسألة إلى صورة عدم البيّنة.

و فيه: منع ظاهر.

و إن لم يكن عدم حلفه امتناعا و تركا- بل كان استمهالا حتى ينظر في الحساب، أو يسأل الشركاء أو غيرهم، أو كان لأجل توقّع حضور بيّنته «1» أو قال: أحضر البيّنة- ترك و لم يبطل حقّه على الأصحّ كما في المسالك «2» و غيره «3»، لأصالة بقاء حقّه، و عدم فوريّة اليمين.

و ظاهر التحرير عدم السماع حينئذ أيضا «4».

و استشكل فيه المحقّق الأردبيلي و صاحب الكفاية «5»، لعموم الأدلّة.

و فيه: منع العموم، فإنّ معنى قوله: «أبى أن يحلف»- كما في طائفة من الأخبار المذكورة «6»-: ترك الحلف و الامتناع منه، و لا يقال للمستمهل المقتدر: إنّه أبى، بل هو الظاهر من قوله: «فلم يحلف» كما في طائفة أخرى «7»، لأنّ الظاهر من عدم الحلف الامتناع منه، سيّما بملاحظة الطائفة الأولى، فيبقى الأصل و الاستصحاب بحاله.

و حينئذ فهل يقدّر الإمهال بقدر أم لا؟

الظاهر: الثاني وفاقا للمسالك «8»، للأصل، و عدم الدليل، و أصالة

______________________________

(1) في «ق» زيادة: أو إحضاره.

(2) المسالك 2: 368.

(3) كالمفاتيح 3: 257: و الرياض 2: 399.

(4) التحرير 2: 194 و فيه: لا تسمع دعواه إلّا ببيّنة، و إن طلب الإمهال أخّر ..

(5) الكفاية: 268.

(6) في ص: 154 و 222.

(7) تقدّمت في ص: 214.

(8) المسالك 2: 368.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 229

عدم اللزوم بالتقدير، و لأنّ اليمين هنا لإثبات حقّه، و اليمين حقّه، فله تأخيره ما شاء، بخلاف المدّعى عليه.

المسألة الثامنة: لو لم يحلف المدّعى عليه و لم يردّ اليمين، بل أبى عن أحد الأمرين و نكل عن الحلف
اشاره

، قالوا: يقول له الحاكم: إن حلفت

و إلّا جعلتك ناكلا، أو قال: إن حلفت أو رددت اليمين أو جعلتك ناكلا.

و على القول بردّ الحاكم اليمين بعد النكول إلى المدّعي يقول: حلفت أو رددت و إلّا رددت و جعلتك ناكلا.

قالوا: و يستحبّ تثليث ذلك.

و عن المبسوط و الدروس وجوب المرّة الاولى «1».

و لم أعثر على دليل عليه- كما اعترف به بعض آخر أيضا «2»- و الأصل ينفيه، كما أنّه ينفي استحباب الثلاث بل المرّة أيضا، إلّا أن يثبت بفتوى الفقهاء، حيث يسامح في أدلّة السنن.

و لكن فيه أيضا في المقام إشكالا، إذ مقتضى الأخبار ثبوت الحقّ عليه، أو ثبوت الردّ على المدّعي بترك الحلف، فسقوطهما- بعد قول الحاكم ما ذكر و قبوله الحلف بنفسه- مناف لتلك الأخبار، محتاج إلى الدليل، و لذا قالوا بعدم قبول يمين المنكر بعد الحكم بالنكول، فإنّه لا فرق في ذلك بين قبل الحكم و بعده، لأنّ النكول يوجب الحكم، و الحكم أحد الثبوتين، فما يدلّ على عدم قبول الحلف في إسقاط ما ثبت على المنكر بالحكم بعده يدلّ على عدم قبوله في إسقاط ما ثبت على الحاكم من الحكم

______________________________

(1) المبسوط 8: 159 و فيه: يقول هذا له ثلاثا ..، نعم نسب إليه في مفتاح الكرامة 10: 80 وجوب المرة الأولى فقط، الدروس 2: 89.

(2) حكاه عن الأردبيلي في مفتاح الكرامة 10: 80.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 230

بالنكول قبله أيضا، و لو قاله قبل إظهار عدم الحلف لكان أولى.

و كيف كان، فإذا نكل و أصرّ عليه ففي حكمه خلاف، فذهب الصدوقان و المفيد و الشيخ في النهاية و الديلمي في المراسم و القاضي في الكامل و أبو الصلاح و المحقّق في الشرائع و النافع و المعتبر

و الفاضل في التلخيص و المحقّق الثاني إلى أنّه يقضى عليه بمجرّد نكوله «1».

و هو قول ابن زهرة في الغنية بعد ما ذكر في موضع منه ما يدلّ على القول الآخر- كما حكي عنه- حيث قال في موضع آخر بعده: و إن نكل المدّعى عليه عن اليمين ألزمه الخروج عن خصمه ممّا ادّعاه «2».

و اختاره من متأخّري المتأخّرين جماعة، كالكفاية و المفاتيح و شرحه و والدي العلّامة «3» و بعض الفضلاء المعاصرين «4»، و هو ظاهر الشهيد الثاني «5».

و ذهب الإسكافي و الشيخ في المبسوط و الخلاف و القاضي في المهذّب و الحلّي و ابن حمزة و الفاضل في أكثر كتبه و الشهيد إلى أنّه يردّ الحاكم اليمين على المدّعي، فإن حلف ثبت حقّه، و إن نكل بطل «6».

______________________________

(1) المفيد في المقنعة: 724، النهاية: 340، المراسم: 231، أبو الصلاح في الكافي في الفقه: 447، الشرائع 4: 85، النافع: 282، و حكاه عن تعليق النافع للمحقق الثاني في مفتاح الكرامة 10: 83.

(2) الغنية (الجوامع الفقهية): 626.

(3) الكفاية: 268، المفاتيح 3: 257.

(4) المحقق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام): 685.

(5) الروضة 3: 369.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 17    230     المسألة الثامنة: لو لم يحلف المدعى عليه و لم يرد اليمين، بل أبى عن أحد الأمرين و نكل عن الحلف ..... ص : 229

(6) حكاه عن الإسكافي في المختلف: 695، المبسوط 8: 117 و 159 و 160 و 212، الخلاف 2: 621، المهذّب 2: 585، الحلّي في السرائر 2: 165، ابن حمزة في الوسيلة: 217، الفاضل في المختلف: 695، التحرير 2: 186، التبصرة: 187، الشهيد في الدروس 2: 89.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص:

231

و اختاره بعض مشايخنا المعاصرين «1»، و نسبه بعضهم إلى أكثر المتأخّرين «2»، و عن الخلاف و الغنية الإجماع عليه «3»، و في السرائر: أنّه مذهب أصحابنا عدا الشيخ في النهاية «4».

و الحقّ هو الأول، لاستصحاب عدم ثبوت الحلف على المدّعي، و عدم توقيفيّة الردّ من الحاكم، لصدر رواية البصري المرويّة في الكافي و التهذيب: عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ فلا تكون له بيّنة بماله، قال:

«فيمين المدّعى عليه، فإن حلف فلا حقّ له، و إن لم يحلف فعليه» «5».

و ذيلها المرويّ في الكافي و التهذيب و الفقيه، و فيه: «و لو كان حيّا لألزم اليمين، أو الحقّ، أو يردّ اليمين عليه» الحديث «6».

و في كلّ من صدرها و ذيلها دلالة على المطلوب، أمّا الصدر ففي قوله: «و إن لم يحلف فعليه» و أمّا الذيل ففي قوله: «لألزم اليمين، أو الحقّ، أو يردّ اليمين».

و الإيراد عليها تارة بضعف السند. و هو- بعد وجودها في الكتب الأربعة- عندنا باطل، مع أنّه بتلقّي الأصحاب لها منجبر. و القول- بأنّه جابر لخصوص ما تلقّوه لا جميعا- فاسد، لأنّه إنّما هو إذا كان الانجبار مخصوصا بالمدلول، و أمّا مع

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 400.

(2) كما في الرياض 2: 400.

(3) الخلاف 2: 621، الغنية (الجوامع الفقهية): 625.

(4) السرائر 2: 180.

(5) الكافي 7: 415- 1، التهذيب 6: 229- 555، الوسائل 27: 236 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 4 ح 1.

(6) الفقيه 3: 38- 128.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 232

الانجبار المتني فيكون حجّة في جميع ما يدلّ عليه الكلام، كما بيّنا في موضعه.

و اخرى: باختلاف النسخة، فإنّ الرواية على ما في الفقيه خالية عن قوله: «و إن لم يحلف

فعليه» بل بدله: «و إن ردّ اليمين على المدّعي فلم يحلف فلا حقّ له» و على هذا فلا دلالة فيها على الحكم.

و فيه: أنّ الاختلاف إنّما يوهن إذا كان في النسخ من الكتاب الواحد، أمّا من الكتب المتعدّدة فلا، لأنّ الأصل فيه تعدّد الرواية دون نسخ الرواية الواحدة، هذا مع أنّ ذيله- الذي هو أدلّ على المطلوب من صدره- اتّفقت عليه كتب المشايخ الثلاثة.

و ثالثة: بضعف الدلالة، إذ لا قائل بإطلاق ثبوت الحقّ عليه بعدم الحلف، بل لا بدّ إمّا من تقييده بالنكول عن الردّ، أو بما إذا ردّه على المدّعي و حلف، و الأول ليس بأرجح من الثاني.

و فيه: أنّ مقتضى الإطلاق ثبوت الحقّ بعدم الحلف على المنكر، سواء لم يردّ مع ذلك اليمين، أو ردّه و حلف المدّعي، أو ردّه و لم يحلف، خرج الأخير بالدليل فيبقى الباقي، و مثل ذلك الاستدلال جار في أكثر أبواب الفقه، و ليس من باب احتمال التقديرين أو التجويزين حتى يحتاج إلى الترجيح و يحصل الإجمال بدونه.

و رابعة: باحتمال كون المبتدأ المقدّر لقوله: «فعليه» الحلف، و الضمير المجرور للمدّعي، أي فالحلف على المدّعي، أو يكون المبتدأ المقدّر: الحقّ المالي- و هو الدعوى- و الضمير للمنكر.

و فيه: أنّه خلاف الظاهر، و فتح باب تلك الاحتمالات يسدّ باب الاستدلال غالبا.

و خامسة: باحتمال التقيّة فيه، لكون ذلك مذهب جمع من العامّة،

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 233

و منهم أبو حنيفة «1».

و فيه: أنّه إنّما يفيد في موضع المعارضة و لا معارض للرواية.

هذا، مع أنّ غير الأخير من تلك الوجوه لا يضرّ في دلالة الذيل.

و تضعيف دلالته- باحتمال كون قوله: «أو يردّ اليمين عليه» بصيغة المجهول، فيراد ردّ الحاكم- سخيف

غايته، لأنّه لا يسبق إلى ذهن من له أدنى إنس بالكلام مثل ذلك، مع أنّ ردّ الحاكم على المدّعي ليس منوطا بالحياة، و أيضا لو كان كذلك للزم أن يقول: «و يردّ» بلفظة: الواو، دون: أو، على ما هو بصدده.

نعم، يكون الإلزام بالحقّ مع ردّ الحاكم، فلا معنى للتقسيم بالأقسام الثلاثة، و هذا ظاهر.

و تدلّ على المطلوب أيضا صحيحة محمّد: عن الأخرس كيف يحلف؟ قال: «إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كتب له اليمين و غسلها و أمره بشربها فامتنع فألزمه الدين» «2».

و ظاهر أنّه لم يردّ اليمين على المدّعي كما تدلّ عليه لفظة «الفاء»، فإنّها تدلّ على ترتّب الإلزام على الامتناع من غير حاجة في بيان عدم الردّ إلى توسيط قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة. و لا قائل بالفرق بين الأخرس و غيره.

و الإيراد عليها تارة بمثل ما مرّ من لزوم تقدير، لعدم جواز الإلزام بالامتناع عن اليمين إلّا مع الامتناع عن الردّ أيضا، و تقديره ليس بأولى من

______________________________

(1) انظر بداية المجتهد 2: 469.

(2) الفقيه 3: 65- 218، التهذيب 6: 319- 879، الوسائل 27: 302 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 33 ح 1، بتفاوت يسير.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 234

تقدير ردّ الحاكم على المدّعي.

و فيه: أنّ لزوم تقدير إنّما هو إذا قلنا: إنّ النكول و علّة الإلزام بالحقّ هما الامتناعان معا، و ليس كذلك، بل النكول و الموجب للإلزام هو الامتناع عن اليمين، إلّا إذا ردّها مع ذلك إلى المدّعي، فإذا امتنع نكل، و الزم ما لم يظهر ردّ، فلا يحتاج إلى تقدير عدم الردّ و ذكره، لأنّ الامتناع كاف في الإلزام ما لم يظهر منه الردّ.

و اخرى: بأنّه قضية

في واقعة، فلا تكون عامّة.

و فساده ظاهر، لأنّه إن أريد بعدم عمومها عمومها بالنسبة إلى ردّ اليمين بعد الامتناع و عدمه فقد عرفت أنّ لفظة «الفاء»- الدالّة على الترتيب المثبت لعلّيّة الامتناع فقط- تدلّ على أنّ الإلزام مترتّب على الامتناع.

و إن أريد عمومها بالنسبة إلى غير هذا الأخرس أو الشخص المخصوص، فعدم القول بالفصل كاف في التعميم.

و ثالثة: بأنّه فرع العمل به في كيفيّة إحلاف الأخرس، و لم يقل به غير نادر.

و فيه أولا: إنّا نقول بالعمل به فيها و إن لم يكن مشهورا.

و ثانيا: إنّ مخالفته المشهور إنّما هو إذا قلنا: إنّ العمل بهذه الكيفيّة لخصوصيّتها، و أمّا لو قلنا بكونه لأجل أنّها أحد أفراد الإشارة المفهمة، لم يخالف الشهرة كما يأتي.

و رابعة: بمنافاتها لما ذكر من نقل الجمهور خلافه في النكول عن عليّ عليه السّلام.

و فيه: أنّه أيّ اعتماد على نقل الجمهور؟! و كم من هذا القبيل- كما لا يخفى- على من لاحظ إسنادهم في الفرائض إليه؟!

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 235

و ممّا يدلّ على المطلوب أيضا رواية أبي بصير المتقدّمة في المقدّمة، حيث قال فيها: «لو أنّ رجلا ادّعى على رجل عشرة آلاف درهم أو أقلّ من ذلك أو أكثر، لم يكن اليمين على المدّعي، و كانت اليمين على المدّعى عليه» «1».

فإن قوله: «لم يكن اليمين» عامّ شامل لما إذا نكل المدّعى عليه عن اليمين أو لم ينكل، ردّ اليمين على المدّعي أو لم يردّ، خرجت صورة الردّ بالإجماع و النصوص، فيبقى الباقي.

و منه ما إذا نكل المدّعى عليه فلا يمين على المدّعي حينئذ بمقتضى الرواية، فلا يخلو إمّا يلزم المدّعى عليه بالحقّ، أو المدّعي بترك الدعوى، أو يوقّف الحكم،

و الأخيران باطلان بالإجماع، فيبقى الأول و هو المطلوب.

و بتقرير آخر: إذا نكل المدّعى عليه فليس إلّا يمين المدّعي، أو إلزام المدّعي عليه إجماعا، و الأول باطل بعموم الرواية، فبقي الثاني، و هو المطلوب.

و قد يستدلّ أيضا بقولهم عليهم السّلام: «البيّنة على المدّعي، و اليمين على من أنكر» «2»، و في إتمام دلالته إشكال.

احتجّ الآخرون «3» بالإجماع المنقول.

و استصحاب براءة ذمّة المنكر.

______________________________

(1) الكافي 7: 362- 8، الفقيه 4: 73- 223، التهذيب 10: 167- 663، الوسائل 29: 156 أبواب دعوى القتل و ما يثبت به ب 10 ح 5.

(2) انظر الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 3.

(3) كما في الرياض 2: 400.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 236

و النبوي العاميّ: أنّه صلّى اللّه عليه و آله ردّ اليمين على طالب الحقّ «1».

و رواية عبيد و صحيحة هشام، المتقدّمتين في المسألة الخامسة «2».

و بنقل الجمهور نسبة ذلك القول إلى أمير المؤمنين عليه السّلام.

و الأول: مردود بعدم الحجّية، سيّما مع مخالفة فحول الطائفة قبل الدعوى، بل مخالفة الناقل نفسه قبلها كالشيخ «3»، أو بعدها كابن زهرة «4»، و لذا جعل في المسالك و المعتمد هذا الاحتجاج من غرائب الاحتجاجات «5».

و الثاني: بمعارضته مع أزيد منه من الاستصحابات المتقدّمة، ثمَّ بمزايلته بما ذكرنا من الأدلّة.

و الثالث: بعدم الحجيّة، ثمَّ بعدم الدلالة، لكونه قضيّة في واقعة لا يعلم حالها أنّها في أي واقعة.

و الرابع: بعدم الدلالة، لأنّ الظاهر أنّ فاعل «يردّ» هو المدّعى عليه، لمناسبته لضمير: «يستحلف» المقارن له، و لا أقلّ من الاحتمال المسقط للاستدلال.

و الخامس: بذلك أيضا، لما مرّ من تعدّد مجازه و عدم تعيينه، و لعلّه أنّه قد يجوز الردّ.

و السادس: بعدم

حجّيّة نقلهم و إن أطبقوا عليه.

و قد استدلّ بوجوه أخر بيّنة الوهن، فلا فائدة في التعرّض لها.

______________________________

(1) سنن الدار قطني 4: 213- 24.

(2) راجع ص: 221 و 222.

(3) النهاية: 340.

(4) الغنية (الجوامع الفقهية): 626.

(5) المسالك 2: 369.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 237

فرعان:
أ: لو سكت المدّعى عليه بعد عرض الحاكم عليه اليمين فهل هو نكول أم لا؟

قال في التحرير: نعم، بعد تعريف القاضي أنّه إذا عرض عليه اليمين ثلاثا و امتنع بسكوت أو غيره استوفى الحقّ بيمين المدّعي «1».

أقول:

الأولى الرجوع في ذلك إلى العرف، فإنّ سكوته قد يكون لتدبّر و تأمّل في الواقعة، أو لدهش، أو لتعظيم للحلف، فإن دلّت القرائن الحاليّة على أنّه تارك للحلف يصير ناكلا. و لعلّه لذلك جعل في التحرير تنكيله بعد التعريف ثلاثا، إذ مع ذلك يحكم العرف بترك الحلف.

ب: ظاهر عبارات الأصحاب- كما قيل «2»، و منهم الفاضلان «3»- عدم الالتفات إلى قول المنكر لو بذل بعد نكوله اليمين،

بأن حلف، أو يقول:

ندمت من النكول بل أحلف.

و خصّه المحقّق في النافع و الفاضل في التحرير بما إذا كان ذلك بعد الحكم عليه بالنكول «4».

و نفى بعضهم الخلاف فيه في هذه الصورة على القول المختار، و في صورة إحلاف الحاكم المدّعي على القول الآخر، مستدلّا بثبوت الحقّ على المدّعى عليه بذلك، فيستصحب إلى تيقّن المسقط، و اختصاص السقوط

______________________________

(1) في النسخ: المدعى عليه، و الصحيح ما أثبتناه كما في التحرير 2: 194.

(2) انظر الرياض 2: 401.

(3) المحقّق في الشرائع 4: 85، العلّامة في القواعد 2: 209.

(4) النافع: 282، التحرير 2: 194.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 238

بيمينه بحكم التبادر و غيره بيمينه قبل الحكم عليه بنكوله «1».

و استشكل بعض آخر في عدم الالتفات إذا كان ذلك قبل الحكم، و منهم من حمل إطلاقاتهم على ما في النافع أيضا «2».

أقول:

بل يمكن حمل كلام النافع على إطلاقاتهم، فإنّه قال: لو بذل المنكر اليمين بعد الحكم بالنكول لم يلتفت إليه. و كما يمكن أن تكون «الباء» سببية يمكن أن تكمن إلصاقيّة، أي بعد ثبوت النكول و تحقّقه.

و كيف كان، فالعلّة المذكورة لعدم الالتفات مشتركة، لأنّ كما أنّ الحكم بسبب النكول أو إحلاف المدّعي علّة لثبوت الحقّ عليه فيستصحب، فكذلك

أصل النكول سبب و علّة لثبوت حقّ الحكم و وجوبه، أو جوازه بالحقّ أو بالردّ على الحاكم، فيجب استصحابه. و الحاصل: أنّ بعد الحكم يستصحب ثبوت الحقّ على المدّعى عليه، و قبله على الحاكم، و لا فرق.

و أمّا ما ذكره الأردبيلي ردّا على إطلاقهم، من أنّه فرع ثبوت الحقّ بالنكول فورا و لا دليل عليه.

ففيه: أنّه و إن كان كذلك و لكن ثبت ما على الحاكم عليه فورا، إذ يمكن أن يقال في ثبوت الحقّ بتوقّفه على الحكم، و أمّا وظيفة الحاكم فلا يتوقّف ثبوتها على طول مدّة قطعا.

إلّا أن يقال: إنّه يمكن أن يكون ما على الحاكم مقيّدا بعدم الرجوع عن النكول فلا يمكن استصحابه، و لا يجري ذلك في ثبوت الحقّ في ذمّته، فإنّه لا يقبل التقييد.

و لكن ذلك يصحّ على القول بتوقّف ثبوت الحقّ على الردّ على

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 401.

(2) كما في غنائم الأيام: 685.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 239

المدّعي.

و أمّا على المختار، فالظاهر ثبوته بالنكول، و حكم الحاكم جزء لسبب ثبوته على الناس لا في الواقع، أو على الحاكم، فبالنكول يثبت الحقّ على الحاكم، فيحكم به لإثباته على الغير، فتأمّل.

و قد يقال أيضا: بأنّ عدم الالتفات قبل الحكم أو بعده إنّما هو إذا عرض حكم النكول على المدّعى عليه، أو كان عالما به، و أمّا لو لم يعرض عليه فادّعى الجهل بحكم النكول فيشكل نفوذ القضاء، لظهور عذره.

و فيه: أنّ ذلك ليس حكما تكليفيّا حتى يعذر فيه الجاهل أحيانا، بل وضعي، و ليس الاستشكال هنا إلّا كالاستشكال في ثبوت الدية على من كسر رأس غيره مع الجهل بثبوت الدية به.

و على القول بعدم الالتفات مطلقا أو بعد الحكم

فهل يتفاوت الحكم برضى المدّعي بيمينه أم لا؟

قيل: نعم «1»، و الأظهر: لا، لأنّه أمر شرعي لا ينوط برضى أحد الخصمين أو عدم رضاه.

______________________________

(1) كشف اللثام 2: 337.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 240

الموضع الثاني في الحكم بالبيّنة
اشاره

و فيه أيضا مسائل:

المسألة الاولى: و إن قال المدّعي: لي بيّنة، استحضرها الحاكم منه

وجوبا إن علم جهل المدّعي بانّ له الإحضار، و جوازا مطلقا كما عليه الأكثر، كما صرّح به جماعة، و منهم: الشيخان و الديلمي و الحلبي و القاضي في أحد قوليه «1»، للأصل.

و خلافا للمبسوط و المهذّب و السرائر، فلم يجوّزوه مطلقا، لأنّه حقّ له، فله أن يفعل ما يرى «2».

و فيه: أنّ الأمر هنا للإرشاد دون الإيجاب.

و منهم من فصّل بين علم الحاكم بمعرفة المدّعي بماله و جهله به «3»، و الظاهر أنّ ذلك أيضا مراد المبسوط و من تبعه، كما أنّ الظاهر أنّ مرادهم نفي جواز الأمر الإيجابي، و مراد المجوّزين الإرشادي، فيعود نزاع الكلّ إلى اللّفظي. ثمَّ- بعد حضور البيّنة- يجي ء الوجهان في سؤال الحاكم عنها قبل طلب المدّعي و عدمه، و لعلّ الأقرب: الجواز.

المسألة الثانية: لا يتعيّن على المدّعي إذا كانت له بيّنة

غائبة.

______________________________

(1) المفيد في المقنعة: 723، الطوسي في النهاية: 339، الديلمي في المراسم:

231، الحلبي في الكافي في الفقه: 446، حكاه عن القاضي في المختلف:

690.

(2) المبسوط 8: 159، المهذّب 2: 585، السرائر 2: 158، 165.

(3) كالعلّامة في المختلف: 690، و القواعد 2: 210، و الشهيد في الدروس 2: 90.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 241

إحضارها و لا حاضرة إقامتها، بل يجوز له الإحلاف حينئذ أيضا، بمعنى:

أنّ المدّعي الذي له بيّنة مخيّر بين إقامة البيّنة و التحليف، و للحاكم تخييره بينهما. صرّح به في التحرير «1»، و نفى بعض مشايخنا المعاصرين عنه الخلاف في صورة عدم حضور البيّنة، ثمَّ قال: بل ذكر جماعة من دون خلاف بينهم ثبوت الخيار للمدّعي بين إحلافه و بين إقامة البيّنة و لو كانت حاضرة، لأنّ الحقّ له، فله أن يفعل ما يشاء منهما «2». انتهى.

و نسب بعض فضلائنا المعاصرين تخييره مطلقا إلى المستفاد من

الأدلّة، و قال: فلا يتوهّم أنّه مع إمكان إقامة البيّنة لا يجوز التحليف «3».

انتهى.

أقول: و تدلّ عليه صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة في المسألة الاولى من الموضع الأول «4»، حيث حكم فيها بذهاب اليمين بحقّ المدّعي كلّما رضي بيمين المنكر، بل صرّح بأنّه كذلك و إن كانت له بيّنة عادلة.

و إطلاق رواية محمّد بن قيس المتقدّمة في المسألة الثانية منه «5».

و لا تنافيها صحيحة سليمان بن خالد المتقدّمة في المقدّمة «6»، حيث قال: «هذا لمن لم تقم له بيّنة»، لأنّ المشار إليه للفظ «هذا» هو ما تقدّم من الأمر بالإضافة إلى الاسم الدالّ على تعيينه لمن لم تقم له البيّنة، و هو كذلك، مع أنّ المذكور فيها عدم إقامة البيّنة لا عدم وجودها، و أمّا بعد قيام

______________________________

(1) التحرير 2: 191.

(2) انظر الرياض 2: 397.

(3) غنائم الأيام: 685.

(4) راجع ص: 205 و 206.

(5) راجع ص: 208.

(6) راجع ص: 201.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 242

البيّنة فلا شكّ في عدم الحلف.

و لا مرسلة يونس المتقدّمة فيها أيضا «1»، حيث قال: «فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه»، لأنّ جزاء الشرط هو كون اليمين متعيّنا و لازما على المدّعى عليه، كما تدلّ عليه لفظة «على»، و لا شكّ أنّه فرع عدم البيّنة، و أما معها فلا يتعيّن عليه، بل المدّعي بالخيار.

و لا المرويّ عن تفسير الإمام المتقدّم فيها أيضا «2»، حيث علّق تحليف الرسول صلّى اللّه عليه و آله للمدّعى عليه بقوله: «و إن لم تكن له بيّنة»، لأنّ المراد منه: و إن لم يقم البيّنة، بقرينة ما تقدّم عليه من قوله: «فإن أقام بيّنة»، و لأنّ المعلّق على عدم البيّنة هو تحليف الرسول صلّى اللّه

عليه و آله و هو لا ينافي اختيار المدّعي، فإنّ الحاكم ليس له خيار.

و على ما ذكر، فلو كانت للمدّعي بيّنة و أعرض عنها و التمس اليمين، أو قال: أسقطت البيّنة و اكتفيت باليمين، فهل يجوز الرجوع قبل الحلف؟

الأظهر الأشهر- كما صرّح به بعض من تأخّر «3»- نعم، لأصالة بقاء الخيار، و عدم دليل على اللزوم بذلك الاختيار، و أصالة عدم السقوط بذلك الإسقاط. و لا يعارضها استصحاب بقاء ما ثبت للحاكم بالتماسه من جواز تحليف المنكر أو وجوبه، لأن المسلّم ثبوته له هو ثبوته ما دام المدّعى عليه باق على ذلك الاختيار.

المسألة الثالثة: إن قال المدّعي: لي بيّنة غائبة، خيّره الحاكم بين الصبر إلى حضورها و بين الإحلاف

، لما عرفت من كونه مخيّرا بينهما، فإن

______________________________

(1) راجع ص: 201.

(2) راجع ص: 201.

(3) كالعلّامة في التحرير 2: 191.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 243

اختار الأول قبل منه، و قالوا: يؤجّل و يضرب له وقت بمقدار إحضارها، و منهم من لم يذكر التأجيل.

و تدلّ على الأول رواية سلمة بن كهيل المتضمّنة لما ذكره أمير المؤمنين عليه السّلام لشريح: «و اجعل لمن ادّعى شهودا غيّبا أمدا بينهما، فإن أحضرهم أخذت له بحقّه، و إن لم يحضرهم أوجبت عليه القضيّة» «1».

و القضيّة التي أمر بإيجابها عند عدم الحضور لا تخلو عن إجمال، فيمكن أن تكون حلف المنكر، و أن تكون إسقاط الحقّ، و أن تكون غيرهما، إلّا أنّ الظاهر أحد الأولين، لعدم معهوديّة غيرهما، بل عدم تصوّره.

و يدلّ على التأجيل أيضا أنّه ربّما أحضر المدّعي عليه من بلد بعيد، لعدم وجود أهل الترافع في بلدهما، و يتضرّر المدّعى عليه بالمكث حتى أراد المدّعي إحضار البيّنة، و بالرجوع و العود أيضا، و لا يمكنه التوكيل للحلف، فلا بدّ من تعيين الأمد، و هو الأظهر.

و

الحقّ أنّه ليس للمدّعي مطالبة غريمه بالكفيل حتى يحضر البيّنة، و لا ملازمته، و لا حبسه، وفاقا للمبسوط و الخلاف و الإسكافي و الحلّي و القاضي في أحد قوليه «2»، و عليه أكثر المتأخّرين بل عامّتهم كما قيل «3»، و نسبه بعضهم إلى المشهور مطلقا «4»، للأصل، فإنّ مطالبة الكفيل قبل ثبوت

______________________________

(1) الكافي 7: 412- 1، الفقيه 3: 8- 28، التهذيب 6: 225- 541، الوسائل 27: 211 أبواب آداب القاضي ب 1 ح 1.

(2) المبسوط 8: 159، الخلاف 2: 600، حكاه عن الإسكافي في المختلف:

690، الحلّي في السرائر 2: 158، القاضي في المهذّب 2: 586.

(3) انظر الرياض 2: 397.

(4) كما في الكفاية: 269.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 244

الحقّ أمر بلا دليل، سيّما مع جواز الحكم على الغائب، و ملازمته و حبسه عقوبة قبل حصول السبب لا دليل عليها.

و عن المقنعة و النهاية و القاضي- في قوله الآخر- و الوسيلة و الغنية:

جوازه له «1»، بل عن الأخير نفي الخلاف فيه، حفظا لحقّ المدّعي، حذرا عن ذهاب الغريم، و لزوم مراعاة حقّ المسلم في نفس الأمر، فيجب التكفيل من باب المقدّمة.

و فيه: أنّه لم يعلم ثبوت حقّ نفس أمريّ له، بل هو مجرّد احتمال، و هو لا يصلح دليلا، فأين الحقّ الواجب مراعاته حتى يكون التكفيل مقدّمته؟!

المسألة الرابعة: بعد حضور البيّنة لا يقول الحاكم لهما: اشهدا

، لأنّه إيجاب بلا دليل على الوجوب، بل يقول: من كان عنده كلام أو شهادة، أو: إن كان عند كما شهادة، فليذكر ما عنده إن شاء، فإن أجابا و شهدا فلينظر في أمر الشهادة:

فإن لم تكن الشهادة جامعة لشرائطها- الاتّفاقيّة، كالمطابقة للدعوى، أو الخلافية على الموافق للراجح في نظره، من الحسّيّة و العلميّة، أو الأصليّة و الفرعيّة، أو

الاستصحابيّة و الحاليّة، كما تأتي كلّها في باب الشهادات- فليطرحها.

و إن كانت جامعة لها فلينظر في حال الشاهدين:

فإن علم عدم كونهما جامعين للشرائط الآتية في باب الشهادة- من العدالة، و انتفاء الشركة، و التهمة، و العداوة، و كثرة النسيان، و البلوغ،

______________________________

(1) المقنعة: 733، النهاية: 339، حكاه عن القاضي في المختلف: 690، الوسيلة: 212، الغنية (الجوامع الفقهية): 626.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 245

و نحوها ممّا يأتي- فليطرح شهادتهما أيضا.

و إن علم اجتماعهما لجميع الشرائط قبل شهادتهما و حكم.

و إن جهل كلّ حالهما أو بعضها استكشف عنها بما هو طريق الاستكشاف، فإذا انكشف الحال فليعمل بمقتضاها من القبول و الردّ، و لو لم ينكشف فليعمل بمقتضى نظره (في كلّ حال) «1» من الشرائط، من أصالة وجوده أو عدمه، أو اشتراط العلم بالوجود أو عدم العلم بالخلاف، أو نحو ذلك ممّا يأتي، و يعمل بمقتضاه.

المسألة الخامسة: إن عرف الحاكم فسقهما لا يطلب التزكية من المدّعي

، لأنّ الجارح مقدّم، و له العمل بعلمه، إلّا أن تكون معرفته استصحابيّة، أو مستندة إلى ظاهر حال يمكن التخلّف.

فلو أراد المدّعي في الأول إثبات زوال الحالة الاستصحابيّة و توبته من الفسق المعلوم يسمع، و كذا لو أراد في الثاني إثبات ما يخالف الظاهر، كما إذا كان الشاهدان أو أحدهما من شركاء العاشر «2»، فإنّ ظاهر حاله حينئذ الفسق، و أراد المدّعي إثبات أنّه مجبور على ذلك، و عمله مقصور بما هو مجبور فيه، أو أنّ مقصوده من الشركة دفع الظلم عن المعشور من ماله و بذل حصّته، أو إخفاء ماله، أو نحو ذلك. و نحوه إثبات أنّ مدمن الخمر مجبور، أو أنّه- لمرض منحصر علاجه فيه- معذور.

و يمكن الاكتفاء باشتراط معرفة الحاكم في ذلك، لأنّ معرفته إنّما تكون إذا كان

باب تلك الاحتمالات مسدودا عنده عادة، و أمّا مع احتمال

______________________________

(1) بدل ما بين القوسين في «ق»: في احتمال كلّ ..

(2) التعشير: و هو أخذ العشر من أموال الناس بأمر الظالم، يقال: عشرت القوم عشرا بالضم: أخذت منهم عشر أموالهم، و منه العاشر- مجمع البحرين 3: 404.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 246

- و لو بعيدا- فلا يكون عالما.

و لو لم يحتمل الحاكم و لكن ادّعى المدّعي إثباته و خطأ الحاكم يسمع.

المسألة السادسة: قد أشرنا إلى أنّه إن عرف الحاكم عدالتهما و اجتماعهما للشرائط حكم بشهادتهما
اشاره

، و لا أعرف في ذلك خلافا، بل صرّح بانتفائه جماعة، منهم صاحب الكفاية «1».

و يدلّ عليه قوله في المرويّ في تفسير الإمام المتقدّم ذكره في المقدّمة: «فإن أقام بيّنة يرضاها و يعرفها أنفذ الحكم على المدّعى عليه» «2»، و لما مرّ من حكم الحاكم بعلمه مطلقا، بل قد عرفت أنّ من لم يجوّز عمله بعلمه استثنى هذه الصورة.

و لا يلزم عليه حينئذ سؤال المدّعي عليه أنّه: هل لك جرح فيه أو كلام، للأصل.

و هل يجوز له ذلك؟

الظاهر: نعم، لعدم دليل على المنع، فإن قال المدّعى عليه: لا كلام لي، أنفذ الحكم، و إن قال: نعم، سمع دعواه، لكونه دعوى، فيجب سماعها.

و كذا لو ادّعى عليه الجرح من غير سؤال الحاكم، فإن أثبت ما ادّعاه يطرح الشاهدان، و إلّا فيحكم بمقتضى علمه، إذ لم يرد عليه ما يزيله.

و لا حلف له حينئذ على أحد و لو على المدّعي لو أنكر ما ادّعاه من الجرح.

ثمَّ يعزّر المدّعى عليه أو يحدّ إن كان جرحه الذي لم يقدر على إثباته

______________________________

(1) الكفاية: 264.

(2) راجع ص: 201.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 247

ممّا يوجب أحدهما.

و هل يقبل حينئذ قول المدّعي فقط و لو لم يكن عادلا إذا

ذكر ما يوجب جرحه، لجهله بأنّه يوجب الجرح، أو لغير ذلك؟

يأتي تحقيقه في باب الشهادات عند بيان ما يثبت العدالة و الجرح.

و هل معرفة الحاكم الكافية في المقام: المعرفة العلميّة، أو تكفي الظنيّة بعد كونها معتبرة شرعا، كتزكية العدلين قبل ذلك؟

الظاهر: أنّه لا ينبغي الريب في الثاني، لأنّ الظنّ المعتبر شرعا قائم مقام العلم.

فرع:

لو بنى الحاكم فيهما بالعدالة الاستصحابيّة و حكم ثمَّ ظهر فسقهما حال الحكم ينقض الحكم كما صرّحوا به، لأنّ فقد الشرط يقتضي عدم المشروط، و وجوده العلميّ إنّما يفيد لوجوب الحكم حال العلم و قد حكم، لا لتأثير الحكم بعد الانكشاف.

المسألة السابعة: و إن جهل الحاكم حالهما- من اجتماع الشرائط و عدمه
اشاره

- استكشف عنه بما هو طريق الانكشاف في كلّ شرط، و قد يكون ممّا يعمل فيه بالأصل، كما يأتي في موضعه.

و هل يكون إقرار الخصم بالعدالة و باجتماع سائر الشرائط كافيا في الاستكشاف و مثبتا لوجود الشرط، أم لا؟

فيه خلاف يأتي تحقيقه في باب الشهادات.

و إن لم ينكشف من قول الخصم و كان محتاجا إلى الاستكشاف طلبه من المدّعي حتى تبين الحال بالبيّنة المقبولة أو نحوها.

و هل يتعيّن ذلك على كشف المدّعي و إقامته البيّنة، حتى لو قال:

لا بيّنة لي على تزكية الشهود- مثلا- أو: لا أعرف شاهدا عليها، أو قال

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 248

يتعسّر عليّ ذلك، أو قال: لا أفعل، سقطت الشهود و يطرح الحاكم شهادتهما؟

أو طلبه من المدّعي أحد طرق فحص الحاكم، فله الفحص من غير جهة المدّعي، بل عليه ذلك لو لم يفعل المدّعي؟

الظاهر: الثاني، كما يأتي في باب الشهادات، و يدلّ عليه فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المرويّ في تفسير الإمام عليه السّلام «1».

ثمَّ لو أقام المدّعي البيّنة على التزكية، أو استكشف الحاكم من جهة غيره، قالوا: يطلب الحاكم من المنكر الجرح، فإن أرادوا لزومه فلا أرى عليه دليلا، إلّا إذا علم جهله باستحقاقه الجرح لو كان، حيث إنّ إهمال ذكره يوجب بطلان حقّه، مع تأمّل فيه أيضا. و إن أرادوا جوازه فهو كذلك.

ثمَّ إن اعترف المنكر بعدمه حكم، و إن ادّعاه بعد طلب

الحاكم أو بنفسه قبل الطلب يؤمر بإحضار الجارح، فإن أحضره يعمل معه كما يعمل مع بيّنة المدّعي من الردّ و القبول و الاستكشاف.

و إن استنظر و استمهل قالوا: يمهل ثلاثة أيّام، أمّا الإمهال فقالوا: لأنّه مقتضى العدل، و لرواية سلمة المتقدّمة في المسألة الثالثة «2».

و فيهما نظر، أمّا الأول فلأنّ العدل يحصل بالحكم ثمَّ الاسترداد إن ثبت الجرح بعد ذلك أيضا، بل هو أقرب إلى العدل.

و أمّا الثاني، فلأنّ الظاهر من قوله في الرواية: «فإن أحضرهم أخذت له بحقّه» أنّ المراد شهود المدّعي المطالب للحقّ، فتأمّل.

______________________________

(1) الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 6 ح 1.

(2) راجع ص: 243.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 249

و أمّا تقديره بثلاثة أيّام فلم أقف على ما يدلّ عليه، و يستشمّ من كلام بعضهم احتمال الإجماع عليه «1»، و استشهد له بعضهم بالإمهال بذلك القدر في بعض الأمور الأخر «2».

و ضعفه ظاهر، و لذا قيل: لو ادّعى أنّ شهودي على الجرح على مسافة لا يصلون إلّا بعد الثلاثة، يمهل الأزيد «3».

و فيه إشكال، بل في الثلاثة أيضا، لثبوت العدالة بالبيّنة، و أصالة عدم الجرح، و إمكان التلافي لو أثبته بعد الحكم.

و لو قلنا بالإمهال و طلب المدّعي التكفيل فيما يحتمل الفرار أو الاختفاء أو نحوهما فقبوله هنا أولى منه في إمهال المدّعي لإحضار البيّنة.

و الظاهر أنّ له ذلك هنا، لثبوت حقّه.

فرع:

لا بأس بتفريق الشهود إذا ارتاب الحاكم بهم أو احتمل غلطهم، للأصل، بل ربّما يستحبّ تأسّيا بالحجج عليهم السّلام.

و قيل: محلّ التفريق قبل الاستزكاء «4». و لا بأس به، لوجوب الحكم فورا بعده إذا طلب المحكوم له.

المسألة الثامنة: إذا أقام المدّعي البيّنة المستجمعة للشرائط فلا يمين عليه

، بلا خلاف فيه كما في الكفاية «5» و غيره «6»، بل بالإجماع كما عن

______________________________

(1) كما في الرياض 2: 397.

(2) كما في مفتاح الكرامة 10: 88. قال: و هو مقدر في بعض المسائل الفقهيّة كما في خيار الحيوان و خيار التأخير و حبس الغريم على مختار الشيخ ..

(3) كما في الرياض 2: 397.

(4) المسالك 2: 363.

(5) الكفاية: 268.

(6) كالرياض 2: 401.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 250

الخلاف «1»، و به صرّح بعض فضلائنا المعاصرين «2».

و يدلّ عليه الأصل، و الأخبار المستفيضة المتضمّنة لقوله عليه السّلام: «البيّنة على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه» «3» فإنّ التفصيل قاطع للشركة.

و صحيحة محمّد: عن الرجل يقيم البيّنة على حقّه، هل عليه أن يستحلف؟ قال: «لا» «4»، و نحوها روايته «5».

و كذا موثّقة أبي العبّاس «6»، و موثّقة جميل، و رواية أبي العبّاس، و مرسلة أبان، المتقدّمة جميعا في المسألة الخامسة من الموضع الأول «7».

و أمّا قول أمير المؤمنين عليه السّلام لشريح في رواية سلمة-: «و ردّ اليمين على المدّعي مع بيّنته، فإنّ ذلك أجلى للعمى و أثبت في القضاء» «8»- فلا يصلح لمعارضة ما ذكر، لشذوذه، مع أنّه إمّا يحمل على الاستحباب بقرينة نفي الوجوب في الأخبار الأخر، أو على البيّنة الواحدة، إمّا لعمومها و خصوصيّة ما مرّ، أو للجمع بينها و بين ما مرّ بشهادة ما يدلّ على ضمّ اليمين مع الشاهد الواحد.

______________________________

(1) الخلاف 2: 600.

(2) المحقق القمي في

رسالة القضاء (غنائم الأيام): 686.

(3) انظر الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 3.

(4) التهذيب 6: 230- 558، الوسائل 27: 243 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 8 ح 1.

(5) الكافي 7: 417- 1، التهذيب 6: 231- 564، الوسائل 27: 243 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 8 ح 1.

(6) التهذيب 6: 230- 559، الوسائل 27: 243 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 8 ح 1.

(7) راجع ص: 222.

(8) الكافي 7: 412- 1، الفقيه 3: 8- 28، التهذيب 6: 225- 541، الوسائل 27: 211 أبواب آداب القاضي ب 1 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 251

و أمّا مكاتبة الصفّار الصحيحة-: هل تقبل شهادة الوصيّ للميت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع عليه السّلام: «إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين» «1»- فلا تنافي ما مرّ، لأنّها محمولة على عدم قبول شهادة الوصيّ.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو على الأصل، و قد يستثنى منه بعض المواضع بالدليل، و اللّه الهادي إلى سواء السبيل.

المسألة التاسعة: لو قال المدّعي بعد إقامة الشهود: كذبت شهودي، بطلت الشهود

، فلا تسمع شهادتهم في حقّه، و لكن لا تبطل دعواه، كذا قالوا.

و الوجه فيه: أنّ الكذب على المشهور و إن كان مخالفة الواقع- و عليه فيكون التكذيب إقرارا على انتفاء الحقّ- و لكنّ الظاهر المتفاهم منه في العرف أنّه مخالفة الاعتقاد، و لا أقل من احتمال ذلك، فلا تسقط الدعوى به.

و لا فرق في ذلك بين ما إذا كان التكذيب قبل الحكم أو بعده، إذ بعد الحكم ينكشف بطلان المستند، لأنّ إقرار صاحب الحقّ دليل شرعي.

______________________________

(1) الكافي 7: 394- 3، الفقيه 3: 43- 147، التهذيب 6: 247- 626، الوسائل 27:

371 أبواب الشهادات ب 28 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 252

الموضع الثالث فيما يحكم فيه بالبيّنة و اليمين معا
اشارة

و هو ما يستثنى من القاعدة المتقدّمة من عدم تعلّق اليمين بالمدّعي، و يخرج عن تحت ذلك الأصل بدليل.

و فيه مسألتان:

المسألة الأولى: ممّا استثني من القاعدة: الدعوى على الميّت
اشارة

، فإنّ المدّعي إذا أقام البيّنة يستحلف معها على بقاء الحقّ في ذمّة الميّت استظهارا، على المعروف من مذهب الأصحاب كما في الكفاية، بل لا مخالف يظهر منهم كما فيه أيضا «1»، بل بلا خلاف مطلقا كما في المفاتيح «2» و شرحه و غيرهما «3»، بل بالإجماع كما في المسالك و الروضة و شرح الشرائع للصيمري «4»، بل بالإجماع المحقّق.

له، و لرواية البصري المتقدّم صدرها: «و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات، فأقيمت البيّنة عليه، فعلى المدّعي اليمين باللّه الذي لا إله إلّا هو: لقد مات فلان و أنّ حقّه لعليه، فإن حلف و إلّا فلا حقّ له، لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها، أو بغير بيّنة قبل الموت، فمن ثمَّ صارت عليه

______________________________

(1) الكفاية: 268.

(2) المفاتيح 3: 258.

(3) كالرياض 2: 401.

(4) المسالك 2: 369 و 370، الروضة 3: 104.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 253

اليمين مع البيّنة، فإن ادّعى و لا بيّنة له فلا حقّ له، لأنّ المدّعى عليه ليس بحيّ، و لو كان حيّا لألزم اليمين، أو الحقّ، أو يردّ اليمين، فمن ثمَّ لم يثبت له حق» «1».

و تجويز إرادة البيّنة الواحدة و كون اليمين يمين جزء البيّنة خلاف الظاهر، بل يأباه التعليل.

و الإيراد بأنّ اليمين على الوجه المغلّظ المذكور فيها ليست بواجبة إجماعا، فلا يكون قوله: «فعلى المدّعي» للإيجاب، فلا يثبت المطلوب.

مردود بأنّه لا دلالة فيها على إرادة الإتيان باليمين على هذا الوجه، بل يجوز أن يكون توصيفه عليه السّلام تعظيما للّه لا لأجل ذكره في اليمين.

و

مكاتبة الصفّار الصحيحة المتقدّم صدرها أيضا: أو تقبل شهادة الوصيّ على الميت بدين مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع: «نعم، من بعد يمين» «2».

فروع:
أ: هل يختصّ ذلك الحكم بالميّت، أو يتعدّى إلى ما يشاركه في المعنى،

كالطفل و المجنون و الغائب؟

الأكثر- كما في المسالك و شرح الصيمري و الكفاية و شرح المفاتيح و المعتمد «3» و غيرها «4»- إلى التعدّي، و هو مذهب الفاضل في جملة من

______________________________

(1) الكافي 7: 415- 1، الفقيه 3: 38- 128، التهذيب 6: 229- 555، الوسائل 27: 236 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 4 ح 1، بتفاوت يسير.

(2) الكافي 7: 394- 3، الفقيه 3: 43- 147، التهذيب 6: 247- 626، الوسائل 27:

371 أبواب الشهادات ب 28 ح 1، و في غير الفقيه من المصادر لا توجد لفظة «بدين».

(3) المسالك 2: 370، الكفاية: 268.

(4) كمفتاح الكرامة 10: 93، و الرياض 2: 401.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 254

كتبه، منها التحرير «1»، و والدي العلّامة في المعتمد، للعلّة المنصوصة، أو اتّحاد طريق المسألتين، لا من باب القياس الممنوع.

و فيه: أنّ إحدى العلّتين المنصوصتين هي كون المدّعى عليه ليس بحيّ، و اختصاصها بالميّت ظاهر، مع أنّها علّة لانتفاء الحقّ مع عدم البيّنة لا لثبوت اليمين.

و الأخرى: «لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها» و هي أيضا مختصّة به، لقوله بعد ذلك: «قبل الموت».

مع عدم إمكان تحقّق الإيفاء من الطفل، و معارضته في الغائب مع مرسلة جميل: «الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البيّنة، و يباع ماله و يقضى عنه دينه و هو غائب» «2».

و على هذا، فكما يحتمل كون العلّة عدم الوصول إلى العلم بالحال بالفعل، يمكن أن يكون عدم إمكان الوصول بعد ذلك، فيختصّ بالميّت، فلا يمكن الاعتماد بذلك التعليل

في غير مورد النصّ.

و بما ذكر يظهر حال اتّحاد الطريق، مع أنّ مورد النصّ- و هو الميّت- أقوى من الفرع.

و الاستدلال بصدر صحيحة الصفّار المتقدّمة قبل ذلك- بحمل الرجل على الغائب، أو تعميمه و إخراج غير المذكورين بالدليل- خلاف الظاهر، و موجب للتخصيص الغير الجائز، و هو إخراج الأكثر، مع احتمال كون ضمّ اليمين فيها لعدم قبول شهادة الوصيّ كما مرّ، و لذا ذهب المحقّق «3»

______________________________

(1) القواعد 2: 210، التحرير 2: 187.

(2) التهذيب 6: 296- 827، الوسائل 27: 294 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 26 ح 1.

(3) الشرائع 4: 85.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 255

و جماعة- و منهم أكثر متأخّري المتأخّرين «1»- إلى العدم، و هو الأقوى.

ب: لمّا كان الحكم المذكور- أي ضمّ اليمين مع البيّنة- مخالفا للأصل يجب الاقتصار فيه على المتيقّن،

و هو ما إذا كانت الدعوى على الميّت دينا، فلو كانت عينا في يده بعارية أو غصب أو نحوهما دفعت إليه مع البيّنة من غير يمين، كما صرّح به جماعة، منهم: القواعد و المسالك و التنقيح «2»، لاختصاص النصّ بالدين، أمّا الصحيحة فلتصريحها بلفظ: الدين، و أمّا الرواية فلظهورها فيه أيضا، لمكان لفظ: «الحقّ» و: «لعليه» و: «أوفاه».

نعم، صحيحة الصفّار مطلقة على ما نقلها في الكفاية، حيث لم يذكر فيه لفظ: بدين، و لذا استشكل في المسألة لذلك الإطلاق «3»، و لكنّ النسخ المصحّحة التي كانت عندنا كلّها مشتملة على لفظ: بدين، و على هذا فلا إشكال في المسألة و لو كان بمجرّد اختلاف النسخ.

و أمّا ما قيل من أنّ النصّ و إن كان مخصوصا بالدين إلّا أنّ مقتضى التعليل المنصوص- و هو الاستظهار- العموم «4».

ففيه: أنّ العلّة هي احتمال الإيفاء، و هو في العين التي بيده غير جار، بل الجاري فيها النقل بالبيع

و نحوه. و غير ذلك من التعليل مستنبط لا يعبأ به.

و لو لم توجد العين المدّعى بها في التركة و حكم بضمانها على الميّت للمالك ففي إلحاقها بالعين- نظرا إلى الأصل- أو بالدين- لانتقالها إلى الذمّة-

______________________________

(1) كالشهيد الثاني في الروضة 3: 105، و المسالك 2: 370، و الفاضل السبزواري في الكفاية: 269، و صاحب الرياض 2: 401.

(2) القواعد 2: 210، المسالك 2: 370، التنقيح 4: 256.

(3) الكفاية: 268.

(4) انظر الرياض 2: 401.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 256

وجهان، أظهرهما: الثاني، لصيرورتها دينا بعد الفقدان، فتشملها الأخبار.

نعم، لو فقدت بعد الموت أو لم يعلم أنّها فقدت حال الحياة أو بعدها فحكم المدّعى به حكم العين، لعدم معلوميّة الانتقال إلى ذمّة الميّت.

ج: لو أقرّ له قبل الموت بمدّة لا يمكن فيها الاستيفاء عادة،

بل قد يعلم عدمه- كما إذا أقرّ عند جماعة و مات بعد الإقرار بحضورهم من غير غيبة لهم- ففي وجوب ضمّ اليمين إلى البيّنة وجهان.

رجّح في المسالك و الكفاية و المعتمد العدم «1»، لعدم جريان التعليل المذكور في الخبر هنا.

و فيه: أنّ التعليل لا يوجب تخصيص الإطلاق، لأنّ العلل الشرعية معرّفات لا ينتفي المعلول بانتفائها، فإنّه قد يكون وجود العلّة في بعض الأفراد علّة للحكم في الجميع، مع أنّ التعليل- كما قيل «2»- يمكن أن يكون من باب إبداء النكتة و التمثيل، فإنّ احتمال الإبراء أيضا قائم، و كذا احتمال نسيان المقرّ للإيفاء و تذكّره لو كان حيّا حين الدعوى.

و لذا قوّى بعض فضلائنا المعاصرين «3» الضمّ، لإطلاق النصّ.

و هو حسن، إلّا أنّ فيه: أنّ النصّ معارض بأخبار أخر واردة في إقرار المريض، و في الوصيّة بالدين:

كصحيحة منصور: عن رجل أوصى لبعض ورثته أنّ له عليه دينا، فقال: «إن كان الميّت مرضيّا فأعطه الذي

أوصى له» «4».

______________________________

(1) المسالك 2: 370، الكفاية: 269.

(2) قاله في غنائم الأيام: 687.

(3) المحقق القمي في غنائم الأيام: 687.

(4) الكافي 7: 41- 2، الفقيه 4: 170- 594، التهذيب 9: 159- 656، الاستبصار 4: 111- 426، الوسائل 19: 291 أبواب أحكام الوصايا ب 16 ح 1 و ج 23:

183 أبواب الإقرار ب 1 ح 1، بتفاوت يسير.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 257

و صحيحة أبي ولّاد: عن رجل مريض أقرّ عند الموت لوارث بدين له عليه، قال: «يجوز ذلك» «1».

و رواية السكوني: في رجل أقرّ عند موته لفلان و فلان لأحدهما عندي ألف درهم، ثمَّ مات على تلك الحال، فقال: «أيّهما أقام البيّنة فله المال، و إن لم يقم واحد منهما البيّنة فالمال بينهما نصفان» «2».

و مكاتبة الصهباني: امرأة أوصت إلى رجل و أقرّت له بدين ثمانية آلاف درهم- إلى أن قال- فكتب عليه السّلام بخطّه: «إن كان الدين صحيحا معروفا مفهوما فيخرج الدين من رأس المال» «3» إلى غير ذلك «4».

فإنّ هذه الأخبار شاملة لصورة عدم حلف المقرّ له أيضا، فتعارض ما مرّ بالعموم من وجه، و إذ لا ترجيح فيرجع إلى القاعدة المتقدّمة المكتفية للمدّعي بالبيّنة، و هو الأصحّ، بل مقتضاها عدم اشتراط عدم إمكان الاستيفاء أيضا، بل يكون الحكم ذلك إذا أقرّ عند الموت أو أوصى بالوفاء عند الموت. إلّا أنّ الظاهر أنّ ذلك مختصّ بإقرار الميّت، فلو شهد شاهدان بانتقال شي ء إليه قبل موته بمدّة لا يمكن الاستيفاء يجب ضمّ اليمين، لاختصاص النصّ بالإقرار، و ألحقها والدي رحمه اللّه بالإقرار أيضا.

______________________________

(1) الكافي 7: 42- 5، التهذيب 9: 160- 660، الاستبصار 4: 112- 430، الوسائل 19: 292 أبواب أحكام الوصايا ب 16

ح 4.

(2) الكافي 7: 58- 5، الفقيه 4: 174- 610، التهذيب 9: 162- 666، الوسائل 23: 183 أبواب الإقرار ب 2 ح 1.

(3) التهذيب 9: 161- 664، الاستبصار 4: 113- 433، الوسائل 19: 294 أبواب أحكام الوصايا ب 16 ح 10.

(4) انظر الوسائل 19: 291 أبواب أحكام الوصايا ب 16.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 258

و هل تلحق به شهادة البيّنة ببقاء الحقّ إن قبلناها؟

قال والدي رحمه اللّه: نعم. و الأظهر العدم، لشمول دليل اليمين و علّتها له أيضا.

د: هل يختصّ ضمّ اليمين بما إذا كان الثبوت بالبيّنة- كما هو مورد النصّ

- أو يضمّ لو كان الثبوت بعلم الحاكم بالقضيّة أيضا و حكم بها؟

قيل: و لا يبعد ترجيح الضمّ «1». و هو كذلك، للعلّة المنصوصة.

و ليس ذلك من قبيل الدعوى على غير الميّت، لاختصاص العلّة بالميّت، و لكنّها غير مختصّة بالبيّنة و إن كان المعلول مخصوصا. و احتمال الإبراء أو مقاصّة الميّت لدين له أو غير ذلك قائم هنا أيضا.

و قيل: نعم، لو فرض انتفاء جميع الاحتمالات رأسا عند الحاكم لاتّجه عدم ضمّ اليمين «2».

أقول:

بل يكفي في عدم الضمّ حينئذ انتفاء احتمال الإيفاء خاصّة عن الحاكم، لأنّ المورد خاصّ بالإثبات بالبيّنة و التعليل باحتمال الإيفاء، فإذا انتفيا معا فلا وجه للضمّ حينئذ.

و جعل التعليل تمثيلا- أي جعله من باب ذكر فرد من أمثلة الاحتمالات و السكوت عن الباقي- إنّما يحسن مع شمول المورد، و أمّا بدونه فلا فائدة له.

و إن أريد من التمثيل ذكر فرد و إرادة كلّ ما هو مثله فلا وجه له أصلا، فعدم الضمّ حينئذ أقوى، فيختصّ عدم الضمّ بما إذا كان الإثبات بعلم الحاكم لا من جهة البيّنة خاصّة حتى لا يشمله إطلاق المورد و علم الحاكم

______________________________

(1) غنائم الأيام: 687.

(2) غنائم الأيام:

687.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 259

عدم الإيفاء حتى لا يشمله التعليل، و ذلك يتحقّق بإقرار الميّت عند الحاكم في زمان لا يحتمل الإيفاء بعده، و قد يعلم عدم الإيفاء بالقرائن الخارجيّة.

و الظاهر أنّ في حكم الحاكم أيضا غيره ممّن بيده مال للميّت و علم بالواقعة و بعدم الإيفاء فله تسليمه للمدّعي من غير يمين.

ه: لو علم المدّعي ببقاء حقّه على الميّت

له المقاصّة، و لا يمين عليه حينئذ.

و: اليمين المتوجّهة إلى المدّعي حينئذ يمين واحدة،

سواء كان الوارث واحدا أو متعدّدا، فلا يكلّف الحلف لكلّ وارث يمينا على حدة، قصرا للحكم المخالف للقاعدة على القدر المتيقّن، و لأنّه دعوى واحدة على مال الميّت.

ز: لو كان للمدّعي شاهد واحد و حلف يمينا لجزء البيّنة،

فهل يحتاج إلى يمين اخرى للاستظهار، أم لا؟

صرّح في الإرشاد بعدمه، و علّل بأنّ الشاهد و اليمين حجّة بنفسه، فلا يحتاج إلى ضمّ شي ء آخر.

و بأنّه غير مورد النصّ، لأنّه ما إذا ثبت الحكم بالبيّنة.

و بأنّه لا فائدة في تكرار اليمين.

و الأول معارض بالشاهدين.

و الثاني مردود بعموم التعليل.

و الثالث بالفرق بين اليمينين، فإنّ الأولى على حصول الاشتغال، و الثانية على بقاء الحقّ.

نعم، لو حلف أولا بما يفيد البقاء أيضا- أي على الوجه المذكور في

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 260

الرواية «1»- يمكن الاكتفاء بها، لعدم الفائدة، و عدم شمولها للعلّة المذكورة، و إفادتها لها حينئذ.

ح: لو أقام البيّنة ففقد الحاكم أو غاب قبل الحلف لا يثبت له حقّ.

و احتمال أن يكون له أن يأخذ حقّه و يقول: أنا باذل اليمين فاحلفني على الوجه الشرعي، لا وجه له.

ط: قال المحقّق الأردبيلي: لا يسقط اليمين بإسقاط بعض الحقّ،

فلا يمكن أن يسقط من مال الطفل شي ء لليمين، فيعطى الباقي بغير يمين، لأنّ الثبوت موقوف عليها، و قد صرّح في الرواية: بأنّه إذا لم يحلف لا حقّ له. كما لا يمكن إسقاط شاهد واحد بإسقاط البعض.

نعم، إذا كان الوارث ممّن يصحّ صلحه ينبغي المصالحة، و كذا مع الوليّ وصيّا أو حاكما بإسقاط البعض بإسقاط اليمين، فإنّه أصلح من الإحلاف و إعطاء جميع الحقّ، و الوليّ لا يترك مصلحته. انتهى.

أقول: ما ذكره- من عدم تبعيض الحقّ بتبعيض الحجّة، و عدم ثبوت شي ء إلّا بتمام الحجّة- صحيح ظاهر.

و كذا ما ذكره من جواز إسقاط الوليّ بعض الحقّ بإسقاط اليمين إذا رأى في ذلك المصلحة، و هو إنّما يكون إذا قطع- بل أو ظنّ- أنّ المدّعي يحلف و يأخذ الجميع، فإنّ له حينئذ إسقاط بعض الحقّ بإسقاط اليمين، أو المصالحة ببعض الحقّ، لأنّ له أن يفعل للمولّى عليه ما يرى مصلحة له.

كما تدلّ عليه صحيحة ابن رئاب، حيث قال في آخرها: «فليس لهم» أي للصغار «أن يرجعوا فيما صنع القيّم لهم، الناظر لهم فيما يصلحهم» «2».

______________________________

(1) المتقدمة في ص: 252 و 253.

(2) الكافي 7: 67- 2، الفقيه 4: 161- 564، التهذيب 9: 239- 928، الوسائل 19: 421 أبواب أحكام الوصايا ب 88 ح 1، بتفاوت يسير.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 261

و صحيحة ابن سنان: في قول اللّه عزّ و جلّ فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ «1» قال: «المعروف هو القوت، و إنّما عنى الوصيّ أو القيّم في أموالهم و ما يصلحهم» «2».

و صحيحته الأخرى، و في آخرها: «فليأكل

بالمعروف الوصيّ لهم و القيّم في أموالهم ما يصلحهم» «3».

و لو علم عدم إتيان المدّعي بالحلف أو ظنّ ذلك- بل و لو احتمله- لا يجوز له إعطاء البعض، لعدم تحقّق المصلحة.

ي: قيل: لو ادّعى وارث زيد على وارث عمرو بشغل ذمّة عمرو بحقّ زيد و أقام البيّنة،

فهل يكون تحت النصّ، و حينئذ يحلف المدّعي على نفي العلم باستيفاء مورّثه أو الإبراء، أو على البتّ، إذ الاستيفاء و الإبراء من المدّعي أيضا متصوّر، لأنّه بعد مورّثه صاحب الحقّ؟

لم أجد فيه تصريحا، و الظاهر دخوله تحت الرواية، لكون الدعوى على الميّت، و وجود العلّة المنصوصة، بل هي هنا أغلظ.

و في كيفيّة الحلف هنا ظنّي أنّه لو قلنا بالحلف على نفي العلم ببراءة ذمّة عمرو من هذا الحقّ مطلقا لكان له وجه. انتهى.

قال والدي رحمه اللّه في المعتمد أيضا بضمّ يمين نفي العلم، إلّا مع اعتراف وارث الميّت بعدم علم المدّعي، فيسقط اليمين حينئذ. انتهى.

أقول:

و لا شكّ في دخول هذه الصورة أيضا تحت الرواية موضوعا

______________________________

(1) النساء: 6.

(2) الكافي 5: 130- 3، التهذيب 6: 340- 950، الوسائل 17: 250 أبواب ما يكتسب به ب 72 ح 1.

(3) التهذيب 9: 244- 949.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 262

و تعليلا، و لكن القول بيمين نفي العلم ليس له وجه أصلا، لأنّها ليست من اليمين التي ذكرها في الرواية، و لا يدلّ عليها دليل آخر، و إنّما هي تثبت في كلّ موضع ادّعى أحد على غيره علما مثبتا لحقّ عليه، أو نافيا لحقّ منه على غيره لو لا ذلك العلم لثبت، فتشمله أدلّة ثبوت اليمين على المدّعى عليه.

و لم يفرض هنا ادّعاء علم على وارث الطالب بالحقّ، و لو فرض لم يكن علمه على نفيه مثبتا لحقّ عليه، و لا نافيا من الغير له حقّا لو

لا ذلك العلم لثبت، إذ الكلام بعد في ذلك، و النزاع في اشتراط العلم ببقاء الحقّ و اليمين عليه، لا عدم العلم بعدم البقاء.

و التحقيق: أنّه- كما ذكره هذا القائل- صار صاحب الحقّ و طالبه حينئذ وارث زيد، فإن علم هو بالبقاء يحلف عليه على النحو المذكور في الرواية و يأخذ الحقّ، و إلّا فلا حقّ له- كما نصّ به في الرواية- كما كان مورّثه أيضا كذلك، و لم يتحقّق سبب لصيرورة الوارث أقوى من المورّث.

و لا يتوهّم أنّ الأحكام مشروطة بالإمكان، معلّقة عليه، فإذا لم يمكن منهم «1» ينتفي الحكم، و لمّا لم يمكن للوارث الحلف على البتّ فينفى عنه الحلف رأسا لا بالبتّ و لا بنفي العلم، و يكون ذلك خارجا عن تحت الرواية مندرجا في أصل القاعدة.

لأنّ ذلك إنّما يتمّ في التكليفيّات دون الوضعيّات، فلو كان إثبات الحلف في المورد من باب التكليف لكان ذلك، و لكن هو وضع لإثبات الحقّ، فهو سبب له، فغايته أنّ حال عدم الإمكان لا يتحقّق المسبّب، لا أن يخرج الموضوع عن تحت الرواية.

______________________________

(1) ليست في «ق».

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 263

فإنّه إذا قال الشارع: كلّ من نجس ثوبه يجب عليه غسله، يحكم بخروج من لا يتمكّن من غسله لعدم الماء عن تحت الموضع، و ليس هذا الحكم له، لكونه تكليفيّا.

بخلاف ما لو قال: كلّ من نجس ثوبه فتطهيره إنّما هو بالغسل، فإذا لم يغسل لم يطهر، فإذا لم يمكن الغسل نقول بعدم تحقّق الطهارة، لا أنّ عدم الإمكان يصير سببا لخروج غير المتمكّن عن تحت العموم و تطهر ثوبه بعدم إمكان الغسل.

و لذا لو كان زيد حيّا و طلب الحقّ بنفسه و لكن ادّعى

ظنّ البقاء أو احتماله لا يثبت له الحقّ بدون الحلف، لأجل عدم إمكان الحلف له.

ثمَّ على ما ذكرنا لو تعدّد الوارث يحلف كلّ على بقاء قدر حصّته، و لو حلف بعضهم دون بعض ثبت سهم الأول و سقط سهم الثاني، و لو كان فيهم صغير أو مجنون أو غائب يظهر حكمه في الفرع الآتي.

يا: لو كان المدّعي على الميّت وليّا أو وصيّا تكفيه البيّنة،

و لا يتوقّف الثبوت على اليمين، للقاعدة المتقدّمة، و عدم اندراجه تحت موضوع الرواية، لاختصاصه بمدّعي حقّ نفسه، لقوله: «و أنّ حقّه» و قوله: «فلا حقّ له».

و لا يفيد عموم العلّة هنا، لأنّها تعليل لقوله: «فعلى المدّعي» إلى آخره، لا لقوله: «فلا حقّ له» خاصّة، بقرينة قوله: «فمن ثمَّ صارت عليه اليمين» فيكون المعنى: و إن كان المطلوب ميّتا فقبول بيّنة الطالب معلّق على اليمين، للعلّة المذكورة.

و لمّا لم يكن التعليق فيما إذا كان المدّعي وليّا أو وصيّا فيحتمل أمران، أحدهما: انتفاء التعليق، و الآخر: انتفاء المعلّق عليه، فلا يمكن تعيين

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 264

أحدهما و يجي ء الإجمال «1»، فيرجع إلى القاعدة، لعدم ثبوت المخرج عنها.

و لا يرد مثل ذلك في الوارث، لأنّه داخل في موضوع الرواية، و لأجله يثبت الحكم له لو لا العلّة أيضا، بخلاف ما هو خارج عنه، فإنّ ثبوت الحكم فيه إنّما هو لأجل عموم العلّة، و العلّة لمّا كانت للتعليق فلا يعلم أنّ مع عدم إمكان المعلّق هل ينتفي الحكم أو التعليق.

و لنوضّح ذلك بمثال: إذا قال الشارع: جواز شراء جلد الميتة مشروط بالدباغة، فإن دبغ و إلّا فلا يجوز. و علّة اشتراطه بالدباغة أنّه نجس، فيحكم في كلّ جلد ميتة بعدم الجواز بدون الدبغ و إن كان ممّا لا يمكن دبغه، لعموم

قوله:

و إلّا فلا يجوز. و لكن لا يمكن إثبات الحكم بعموم التعليل للدبس النجس، فإنّه غير قابل لذلك الاشتراط، فيمكن أن يكون الحكم فيه عدم الجواز أيضا، و أن يكون عدم الاشتراط. و لو كان يقول: و علّة عدم جواز البيع أنّه نجس، لعمّ الدبس أيضا.

بل يظهر ممّا ذكرنا أنّه يمكن منع عموم العلّة بالنسبة إلى مثل الوليّ أيضا، لأنّ بعد كون التعليل للاشتراط باليمين- كما هو في الرواية- يكون معنى التعليل هكذا: ثبوت الحقّ مشروط باليمين، لأنّا لا ندري لعلّه أوفاه ببيّنة، و كلّ ما لا ندري فيه ذلك يشترط ثبوت الحقّ فيه باليمين.

و المتبادر الظاهر من هذا الكلام أنّ كلّ ما يمكن فيه اليمين مشروط بذلك لا مطلقا، كما إذا علّل اشتراط دباغة الجلد بأنّه نجس، فإنّه في قوّة:

أنّ كلّ ما نجس يشترط جواز شرائه بالدباغة، فإنّه يفهم كلّ أحد فيه اختصاصه بما يقبل الدبغ.

بخلاف ما لو علّل عدم جواز الشراء مطلقا بالنجاسة، بل صرّح الفاضل في

______________________________

(1) في «ح»: الاحتمال ..

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 265

التحرير- في بحث الحكم على الغائب، حيث جعله كالميّت، و أوجب اليمين فيه أيضا- بأنّه: لو ادّعى وكيل شخص على الغائب فلا يمين و يسلّم الحقّ «1».

و الظاهر أنّ مراده: ما إذا لم يكن الموكّل حاضرا يمكن إحلافه.

فإن قيل:

صحيحة الصفّار «2» مطلقة شاملة للمورد أيضا.

قلنا

: نعم، و لكن دلالتها- على عدم قبول شهادة الوصيّ مع شاهد آخر بدون اليمين- إنّما هي بمفهوم لم تثبت حجّيته.

و إنّما أطنبنا الكلام في المقام لأنّ الفرع من الفروع المهمّة، و لم أعثر على من تعرّض له بنفي أو إثبات إلّا ما نقلناه عن التحرير.

المسألة الثانية: و ممّا استثني أيضا من القاعدة: ما إذا كان للمدّعي شاهد واحد
اشاره

، فإنّه يحلف لأجل الشاهد الآخر،

فيحكم له.

و الحكم بالشاهد الواحد و اليمين في الجملة ممّا لا خلاف فيه بين أصحابنا و أكثر العامّة، كما في الكفاية «3»، و نقل عليه الإجماع جماعة «4»، بل هو إجماع محقّق، فهو الدليل عليه، مضافا إلى المستفيضة من الصحاح و غيرها:

كصحيحة منصور: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقضي بشاهد واحد مع يمين صاحب الحقّ» «5»، و نحوها موثّقة البصري «6».

______________________________

(1) التحرير 2: 187.

(2) المتقدّمة في ص: 251 و 253.

(3) الكفاية: 272.

(4) منهم الحلّي في السرائر 2: 140، الشهيد الثاني في المسالك 2: 375، صاحب الرياض 2: 406.

(5) الكافي 7: 385- 4، التهذيب 6: 272- 741، الاستبصار 3: 33- 113، الوسائل 27: 264 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14 ح 2.

(6) التهذيب 6: 273- 743، الاستبصار 3: 33- 114، الوسائل 27: 267 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14 ح 8.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 266

و صحيحة حمّاد بن عيسى: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قضى بشاهد و يمين» «1».

و مرسلة الفقيه: قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بشهادة شاهد و يمين المدّعي، و قال صلّى اللّه عليه و آله: «نزل عليّ جبرئيل بشهادة شاهد و يمين صاحب الحقّ» و حكم به أمير المؤمنين عليه السّلام بالعراق «2».

و صحيحة البجلي: دخل الحكم بين عتيبة و سلمة بن كهيل على أبي جعفر عليه السّلام، فسألاه عن شاهد و يمين، فقال: قضي به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قضى به عليّ عليه السّلام عندكم بالكوفة» «3».

و صحيحة محمّد: «لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع

يمين الخصم في حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق اللّه و رؤية الهلال فلا» «4».

و صحيحة حمّاد بن عثمان: «كان عليّ عليه السّلام يجيز في الدّين شهادة رجل و يمين المدّعي» «5».

و صحيحة أخرى لمحمّد: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يجيز في الدين

______________________________

(1) الكافي 7: 385- 2، التهذيب 6: 275- 748، الاستبصار 3: 33- 112، الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14 ح 4.

(2) الفقيه 3: 33- 103، الوسائل 27: 269 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14 ح 14، و فيه: بتفاوت يسير.

(3) الكافي 7: 385- 5، التهذيب 6: 273- 747، الاستبصار 3: 34- 117 و فيه:

دخل الحكم بن عيينة، الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14 ح 6.

(4) الفقيه 3: 33- 104، التهذيب 6: 273- 746، الاستبصار 3: 33- 116، الوسائل 27: 268 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14 ح 12، بتفاوت.

(5) الكافي 7: 385- 1، التهذيب 6: 275- 749، الاستبصار 3: 33- 111، الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14 ح 3.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 267

شهادة رجل واحد و يمين صاحب الدّين، و لم يكن يجيز في الهلال إلّا شاهدي عدل» «1».

و موثّقة أبي بصير: عن الرجل يكون له عند الرجل الحقّ و له شاهد واحد، قال: فقال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقضي بشاهد واحد و يمين صاحب الحقّ، و ذلك في الدين» «2».

و رواية القاسم بن سليمان: «قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بشهادة رجل مع يمين الطالب في الدين وحده» «3».

و رواية

داود بن الحصين، و هي طويلة، و في آخرها: «و لا يجيز في الطلاق إلّا شاهدين عدلين» قلت: [فأنّى ] ذكر اللّه تعالى قوله فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ «4»؟ قال: «ذلك في الدين، إذا لم يكن رجلان فرجل و امرأتان، و رجل واحد و يمين المدّعي إذا لم تكن امرأتان، قضى بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام [بعده ] عندكم» «5».

و صحيحة الحلبي: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أجاز شهادة النساء مع يمين

______________________________

(1) الكافي 7: 386- 8، التهذيب 6: 272- 740، الاستبصار 3: 32- 108، الوسائل 27: 264 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14 ح 1، بتفاوت يسير.

(2) الكافي 7: 385- 3، التهذيب 6: 272- 742، الاستبصار 3: 32- 109، الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14 ح 5.

(3) التهذيب 6: 273- 745، الاستبصار 3: 32- 110، الوسائل 27: 268 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14 ح 10.

(4) البقرة: 282.

(5) التهذيب 6: 281- 774، الاستبصار 3: 26- 81، الوسائل 27: 360 أبواب الشهادات ب 24 ح 35، و في «ح» و «ق»: قلت: فان ... و أمير المؤمنين عليهم السّلام عندكم، و ما أثبتناه من المصادر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 268

الطالب في الدين، يحلف باللّه أنّ حقّه لحقّ» «1» و قريبة منها مرسلته «2».

و موثّقة منصور: «إذا شهد لطالب الحقّ امرأتان و يمينه فهو جائز» «3»، و غير ذلك من الأخبار «4».

ثمَّ مقتضى الأصل الثابت بالقاعدة المذكورة- و اختصاص النصوص كلّها بما يختصّ بحقوق الناس، لأنّها إمّا متضمّنة للفظ: «صاحب الحقّ» أو:

«الدين» أو ما يخلو عن مثله، كصحيحتي

حمّاد بن عيسى و البجلي، فوارد بلفظ: «قضى» و هو غير مفيد لعموم أو إطلاق، لأنّه قضية في واقعة- اختصاص الثبوت بها بحقوق الناس دون حقوق اللّه، كما عليه الإجماع انعقد أيضا.

و تدلّ عليه صريحا صحيحة محمّد المتقدّمة، فلا ريب في ذلك الاختصاص أصلا.

و هل يختصّ من حقوق الناس بالأموال، كالقرض و الغصب، و ما يقصد منه المال، كعقود المعاوضات و القراض و الوصيّة و الجنايات الموجبة للديات و نحوها؟

قال في الكفاية: المعروف من مذهب الأصحاب أنّه لا يثبت بهما غير الأموال من حقوق الناس، فلا يثبت الطلاق و النسب و الوكالة و الوصيّة

______________________________

(1) الكافي 7: 386- 7، الفقيه 3: 33- 106، التهذيب 6: 272- 739، الاستبصار 3: 32- 107، الوسائل 27: 271 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 15 ح 3.

(2) الكافي 7: 390- 2، التهذيب 6: 269- 723، الاستبصار 3: 29- 95، الوسائل 27: 351 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 24 ح 2.

(3) الفقيه 3: 33- 105، الوسائل 27: 271 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 15 ح 1.

(4) انظر الوسائل 27: 364 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14، و ص 271 ب 15، و ص 350 أبواب الشهادات ب 24.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 269

إليه و عيوب النساء «1». انتهى.

و قيل: و لا يقضى بهما في غير المال و ما يقصد منه المال بلا خلاف. و قيل أيضا: ظاهر الأصحاب الإطباق على تقييده بالمال «2».

انتهى.

و يظهر من الكفاية التردّد في ذلك التخصيص، حيث قال: فإن لم يثبت إجماع على التخصيص كان القول بالعموم غير بعيد «3». انتهى.

و ذهب الشيخ في النهاية و الحلبي و

ابن زهرة إلى التخصيص من بين الأموال أيضا بالدين «4»، و عن الأخير الإجماع عليه.

أقول: دليل التخصيص الأخير هو موثّقة أبي بصير، و رواية القاسم بن سليمان، و رواية داود بن الحصين، المؤيّدة بصحاح حمّاد بن عثمان و محمّد و الحلبي.

و الإيراد عليها بأنّه لا دلالة فيها إلّا على أنّ قضاءه بذلك كان في الدين، و لم يقض به في غيره، و هو أعمّ من عدم جواز القضاء به فيه، فقد يجوز و لكن لم يتّفق له صلّى اللّه عليه و آله.

ضعيف جدّا، لأنّ المتبادر من قوله في الموثّقة: «كان يقضي بذلك و ذلك في الدين» و كذا قوله في الرواية: «وحده» أنّ تجويزه القضاء به كان مختصّا به، مع أنّ رواية داود لم تتضمّن القضاء أولا، بل هي صريحة في التخصيص.

______________________________

(1) الكفاية: 272.

(2) انظر الرياض 2: 406- 407.

(3) الكفاية: 272.

(4) النهاية: 334، الحلبي في الكافي في الفقه: 438، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 624.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 270

و أمّا التخصيص الوسط فلا أرى في الأدلّة منه عينا و لا أثرا.

و قد يستدلّ له بأخبار الاختصاص بالدين منضمّة مع تتمّة صحيحة البجلي المتقدّم صدرها، المتضمّنة لادّعاء أمير المؤمنين عليه السّلام على عبد اللّه بن قفل التميمي عند شريح درع طلحة، حيث وجدها بيده، و قال: «إنّها أخذت غلولا» «1» فطلب شريح البيّنة، فشهد الحسن عليه السّلام، فقال شريح:

هذا شاهد، و لا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر، و ساق الكلام إلى أن قال: «فغضب عليّ عليه السّلام و قال: خذوها» أي الدرع «فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات» ثمَّ أخذ في عدّ تلك الثلاث، إلى أن قال: «ثمَّ أتيتك بالحسن

فشهد، فقلت: هذا واحد، و لا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر، و قد قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بشهادة واحد و يمين» الحديث «2».

فإنّ الدرع كانت عينا موجودة لا دينا، فيعلم أنّ القضاء بذلك لا يختصّ بالدين المعهود، بل المراد من الدين مطلق المال، كما قد يحمل عليه كلام النهاية «3»، و يشعر كلام بعض اللغويين إلى أنّه مطلق الحقوق «4».

و فيه: أنّه يمكن أن تكون تخطئته في قوله: «و لا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر» حيث أتى بالنفي للماهيّة الدالّ على العموم، بل هو الظاهر، حيث ذكر عليه السّلام في مقام تعداد الخطأ ذلك القول لا عدم حكمه في الواقعة بالشهادة و اليمين.

و يدلّ عليه أيضا استشهاده بقضاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مطلقا من غير بيان

______________________________

(1) غلولا: أي سرقة من الغنيمة قبل القسمة- مجمع البحرين 5: 436.

(2) الكافي 7: 385- 5، التهذيب 6: 273- 747، الاستبصار 3: 34- 117، الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 14 ح 6.

(3) حمله عليه في المختلف: 725.

(4) مجمع البحرين 6: 253.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 271

موضع قضائه.

ثمَّ لو سلّم ذلك، فمقتضى الجمع التخصيص بالدين و العين، و أمّا التعدّي إلى غيرهما من الحقوق المتعلّقة بالأموال- كالرهن و المساقاة و الإجارات و نحوها- فلا يكون عليه دليل.

و التمسّك بعدم القول بالفصل في المقام ضعيف.

و أمّا حمل الدين على مطلق المال فهو ممّا تأباه اللغة و العرف و كلام الأصحاب طرّا، حيث يقابلون الدين مع العين أو مع المال.

و بالجملة: إن كانت دلالة الموثّقة و الروايتين على الاختصاص بالدين تامّة- كما هو كذلك- يجب

القول بالتخصيص الأخير، لأخصّيتهما من سائر الأخبار، و إلّا فالتخصيص الأول، و هو الاختصاص بحقوق الناس، لما عرفت.

و أمّا الوسط فلا وجه له أصلا.

نعم، ظاهر الحلّي و الفاضل في المختلف دعوى الإجماع على كفاية الشاهد و اليمين في الأموال «1»، و نفي جماعة- على ما قيل «2»- الخلاف فيه.

و لكن قد عرفت مرارا عدم حجّية الإجماع المنقول و حكاية نفي الخلاف، سيّما أنّ كلام الحلّي ليس صريحا في الإجماع، فإنّه قال: و يحكم بالشاهد و اليمين في الأموال عندنا. و مثل ذلك ليس دعوى للإجماع، و مع ذلك مختصّ بالأموال، و شموله- لما يكون المقصود منه المال مطلقا، كالنكاح و الرهن و قتل الخطاء و نحوهما ممّا ذكروه- ليس بظاهر.

و كذا كلام المختلف، فإنّه ذكر الدين و العين مع عدم صراحته أيضا

______________________________

(1) الحلّي في السرائر 2: 116، المختلف: 716.

(2) الكفاية: 285، الرياض 2: 406.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 272

في دعواه، لأنّه قال: المال سواء كان دينا- كالقرض- أو عينا يثبت بشاهد و امرأتين إجماعا، و كذا بشاهد و يمين، فإنّ قوله: «و كذا» يمكن أن يكون إشارة إلى نفس الثبوت لا الثبوت مع الإجماع.

هذا، مع معارضتهما بدعوى إجماع ابن زهرة على الاختصاص بالدين «1»، و ظهور مخالفة طائفة من فحول القدماء «2».

و مع ذلك كيف تسمع دعوى نفي الخلاف؟! و مع أنّ أكثر ما ذكروه من دعوى نفي الخلاف أو المعروفيّة من مذهب الأصحاب و نحوهما إنّما هو على عدم ثبوت غير الأموال بالشاهد و اليمين، كما مرّ من عبارة الكفاية «3».

و قد يستدلّ لتخصيص الوسط برواية عاميّة رواها ابن عبّاس: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «استشرت جبرئيل في القضاء

باليمين مع الشاهد فأشار بذلك في الأموال لا تعدو ذلك».

و هي رواية ضعيفة لا تصلح للاستناد و إن قلنا بموافقتها للشهرة، لأنّها لا تجبر الروايات العاميّة، مع أنّها عامّة يجب تخصيصها بما يدلّ على الاختصاص بالدين، و هو أولى من جعل الحصر في روايات الدين إضافيّا قطعا.

هذا، مع ما في التخصيص الوسط من الإجمال و الاختلاف في بيان المطلوب الذي لا يكاد يبين بيانا مستندا إلى دليل، فإنّ منهم من عبر بالأموال «4»، و منهم من قال: العين و الدين «5»، و قال القاضي: المال و ما كان

______________________________

(1) الغنية (الجوامع الفقهية): 624.

(2) كالطوسي في النهاية: 334.

(3) الكفاية: 272.

(4) كالشهيد الثاني في المسالك 2: 376.

(5) كالحلّي في السرائر 2: 116.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 273

و صلة إليه «1»، و قال الحلّي «2» و أكثر المتأخّرين «3»: المال، أو ما يقصد منه المال.

ثمَّ اختلفوا في المراد ممّا يقصد منه المال أو يكون و صلة إليه، أنّه هل ما كان كذلك بأصل الشرع، أو كان الغرض من الدعوى ذلك، أو كان يستتبع المال، أو كان الغرض من فعله المال؟

و ذكروا أمثلة لا ينطبق بعضها على بعض، فذكروا منها: الجنايات الخطائيّة، مع أنّه ليس المقصود من فعله أو الغرض من وضعه مال، بل قد لا يكون الغرض من الدعوى أيضا ذلك، بل يتصوّر المدّعي جواز القصاص.

و ذكروا لما ليس ممّا يقصد منه المال: الوكالة و الوصاية و النسب، مع أنّ دعوى الوكالة كثيرا ما تكون بقصد المال، كأخذ حقّ الوكالة، أو تصحيح عمل الوكيل في المال ليأخذه، أو إفساده، كالبيع.

و دعوى الوصاية قد «4» تكون لأخذ حقّ السعي، و قد تكون لتصحيح بيع الوصي.

و دعوى النسب قد

تكون لأخذ الميراث أو النفقة و غير ذلك.

و لأجل ما ذكرنا من إجمال المراد و اختلافهم في تأديته قد وقعت للقائلين بهذا القول من فقهائنا الأطياب- من المتقدّمين و المتأخّرين في أبواب الاختلاف في دعوى العقود و الإيقاعات من الوقف و النكاح و الطلاق

______________________________

(1) المهذّب 2: 562.

(2) السرائر 2: 140.

(3) كالمحقّق في الشرائع 4: 92، و العلّامة في المختلف: 716، و الشهيد الثاني في الروضة 3: 142.

(4) في «ح» زيادة: لا.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 274

و الخلع و العتق و التدبير و المكاتبة و السرقة و غيرها- اختلافات شديدة بينهم، بل بين كتب فقيه واحد، بل بين مباحث كتاب واحد، بحيث لا يكاد ينضبط و لا يرتفع، و ليس ذلك إلّا لعدم استناد تعيين الموضوع إلى مستند شرعيّ مضبوط.

فهذا القول ممّا لا ينبغي الركون إليه و السكون لديه، بل إمّا يعمّم الثبوت- كما في حقوق الناس، كما يميل إليه في الكفاية «1»، إن لم تتمّ أدلّة التخصيص بالدين، إمّا سندا أو دلالة- أو يخصّص بالدين إن قلنا بتماميّة أدلّتها، كما هو كذلك، لأنّها من الروايات المعتبرة، مع أنّ واحدة منها موثّقة، و هي في نفسها عندهم حجّة، و بأخبار صحيحة أخرى معتضدة، و دلالتها واضحة جدّا.

فالحقّ: اختصاص الثبوت بالشاهد الواحد و يمين المدّعي بالدين لا غير.

فروع:
أ: المراد بالدين الذي يثبت بشاهد و يمين: كلّ حقّ ماليّ للغير،

متعلّق بذمّة الآخر، بأيّ سبب تعلّق بالذمّة، فيشمل ما استقرضه، و ثمن المبيع، و مال الإجارة، و المهر، و دية الجنايات، و المغصوب، و المسروق، و النفقة، و الموصى به، و المضمون له، و المحوّل إليه، و غير ذلك.

و المراد بكون الدعوى دينا: أن يكون هو المقصود من الدعوى، و يكون مأخوذا فيه، و يكون هو المدّعى

به بالذات و المطلوب من الخصم

______________________________

(1) الكفاية: 272.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 275

و إن تعلّقت الدعوى أو الإنكار بالسبب، فلو تلفت منه مائة دينار لأجل شراء ملكه و هو أنكر الشراء يكون دعوى الدين، و كذا لو ادّعى مائة دينار لأجل الجناية أو السرقة أو الإجارة و نحوها، لصدق دعوى الدين في الكلّ.

بخلاف ما لو ادّعى نفس السبب من دون مطالبة ما يترتّب عليه، فإنّه لا تصدق عليه دعوى الدين.

و لذا لو ادّعت امرأة على رجل مائة دينار من جهة الصداق، فبذل المائة، يسقط تسلّطها عليه.

بخلاف ما لو ادّعي النكاح الذي جعل الصداق فيه مائة، إلّا إذا كان أثر السبب (و المطلوب) «1» منه منحصرا في ذلك الدين، فإنّه لو ادّعى أحد وصيّة مائة دينار يكون دعوى الدين، إذ لا يقصد من دعواها إلّا المائة دينار، أي لا يتبادر من دعواها إلّا طلب ذلك.

ب: قالوا: يشترط شهادة الشاهد أولا و ثبوت عدالته ثمَّ اليمين،

و لو بدأ باليمين وقعت لاغية، و افتقر إلى إعادتها بعد الإقامة، و لم يظهر في ذلك مخالف، بل نسبه في المفاتيح إلينا «2»، و نفى عنه الخلاف في شرحه، و استدلّ له بتعليل ضعيف غايته.

و قد يستدلّ أيضا بأنّ هذا حكم مخالف للأصل، فيقتصر في ثبوت الحقّ به على موضع اليقين، و هو ما إذا تأخّر اليمين.

و فيه: أنّ هذا إنّما يتمّ لو لا إطلاقات طائفة من النصوص بالثبوت بذلك، فإنّ أكثرها و إن كان خاليا عن الإطلاق- لتضمّنه الإخبار عن حكم النبيّ و الولي، فهو إخبار عن واقعة، و مثله لا إطلاق فيه- إلّا أنّ صحيحة

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 17    275     ب: قالوا: يشترط شهادة الشاهد أولا و ثبوت عدالته ثم اليمين، .....

ص : 275

____________________________________________________________

(1) في «ق»: فيه المطلوب.

(2) المفاتيح 3: 264.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 276

محمّد الاولى و صحيحة منصور الأخيرة و رواية داود «1» مطلقة. و نفي إطلاقها- لكونها واردة في بيان حكم آخر غير ما نحن فيه، و لأنّ المتبادر منها تقديم اليمين- ضعيف، لعدم منافاة الورود مورد حكم آخر للإطلاق، و لظهور منع التبادر، و لذا تأمّل طائفة في ذلك الحكم، كصاحبي الكفاية و المفاتيح «2».

و اختار شارح المفاتيح عدم اشتراط الترتيب، و هو الأقوى.

ج: لا تثبت دعوى جماعة مع شاهد إلّا مع حلف كلّ منهم،

فلو حلف بعضهم دون بعض ثبت نصيب الحالف فقط، للأصل، فإنّ الأصل عدم ثبوت نصيب الغير، و لم تكن للممتنع معه شركة فيما يثبت، لأنّ الحلف جزء سبب الاستحقاق، و هو يختصّ بأحدهما، فيمكن إبراء شريكه أو استيفاؤه.

و ذلك بخلاف ما إذا ادّعى أحد الشريكين بسبب مشترك فأقرّ الغريم، فإنّ ما أقرّ به للمدّعي يشترك فيه الآخر أيضا، لأنّ نسبة الإقرار إليهما على السواء، و كذا البيّنة، فما يأخذه أحد الجماعة من نصيبه بسبب الحلف لا يشترك معه غيره ممّن لم يحلف، و ما يأخذه بسبب الإقرار أو البيّنة يشترك معه فيه الباقون، كذا قالوا.

أقول: ما ذكروه من اختصاص ما أخذه الحالف به و عدم اشتراك غيره معه إنّما هو فيما إذا كان المدّعى به دينا أو عينا و أخذ ما أخذ منها مشاعا، أي اشترك مع الغريم فيها بالإشاعة بقدر نصيبه.

أمّا لو كان المدّعى به عينا و أخذ نصيبه منها مفروزا فلا بدّ من القول

______________________________

(1) المتقدّمة جميعا في ص: 266 و 267 و 268.

(2) الكفاية: 272، المفاتيح 3: 264.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 277

بكونه مشتركا بينه و بين باقي الشركاء.

مثلا: إذا ادّعى أخوان

على زيد حنطة معيّنة مشاهدة بأنّها من مال مورثنا، و أقاما شاهدا واحدا، و حلف أحدهما دون الآخر، و أخذ الحالف نصف تلك الحنطة، يجب أن يكون مشتركا بين الأخوين.

و كذا إذا ادّعيا أرضا معيّنة و أخذ الحالف نصفها المعيّن بأن يقسّم مع الغريم، فلا بدّ من الشركة.

لا لأجل الحلف، حتى يرد أنّه لا يثبت بالحلف مال الغير.

بل لأجل اعترافه بأنّه مال المورث، و هو مأخوذ به، كيف و لو ادّعاه لنفسه و أخذه بالشاهد و اليمين أو اليمين المردودة، ثمَّ أقرّ بأنّه مال عمرو، يتسلّط عمرو على أخذه منه، فأثر الحلف رفع مانع تصرّفه، و حكم ظاهر الشرع باستحقاقه القبض و الشركة أثر الإقرار.

و لعلّ مراد القوم من نفي الاشتراك أيضا في غير تلك الصورة.

فإن قيل:

يلزم مثل ذلك في نصيبه من الدين المأخوذ بالحلف و العين المأخوذة بالإشاعة كذلك أيضا، لما ذكر.

قلنا:

لا يلزم ذلك أصلا، لأنّ المقرّ به في الدين ليس إلّا اشتغال ذمّة الغريم بحصّته و بحصّة الشركاء، و لا يثبت بذلك شي ء أصلا، و يثبت بالشاهد و اليمين اشتغال ذمّته بحصّة الحالف، أي بأمر كلّي يساوي حصّته من الدين، و هذا الكلّي ليس جزءا من الكلّي الأول، لعدم تعيينه، بل يساوي بعضه، و تعيّن ذلك الكلّي المحكوم عليه له بإقباض الغريم و قبض الحالف، و لا اعتراف من الحالف على شركة الشريك فيه، و إنّما اعترافه في أمر كلّي ثابت في الذمّة، و لم يقصد الغريم أنّه يعطيه من باب ذلك الكلّي، لعدم اعترافه بثبوته عليه، و لو قصد أيضا لم يفد، فهذا الشخص الخارجيّ

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 278

لا دليل على شركة الشركاء فيه أصلا، و أين الاعتراف باستحقاق

الشريك شيئا في ذمة الغريم عن الاعتراف بشركته في ذلك الشي ء المعيّن؟! فإن قيل:

فعلى هذا يلزم عدم شركة الشريك فيما يقبضه الآخر من الدين المشترك الذي يقرّ به الغريم، أو يثبت بالبيّنة أيضا- كما حكي عن الحلّي في باب الشركة من السرائر «1»، و إن وافق القوم في باب الدين و الصلح «2»- لأنّ شركة الشريك في أمر انتزاعيّ كلّي ثابت في الذمّة، و لا يلزم من ذلك شركته فيما أعطاه الغريم لأحدهما و يقصده، و هو أيضا قبضه لنفسه.

نعم، لو أقبضه الغريم لهما معا تمّت شركتهما، حيث إنّ التعيين بيد الغريم.

و القول بأنّ قصد الغريم إنّما يعتبر و يؤثّر في تعيين قدر الدين من ماله و إفرازه عن سائر ما بيده، لا في تعيين الشركاء في الدين، و إنّما هو بيد الشريك، فيما عيّنه الغريم يصير للدين بقصده، و يكون مراعى في حقّ الديّان حتى يعيّنوا المستحقّ.

فاسد جدّا، لأنّه إن أريد أنّ التعيين بيد جميع الشركاء من القابض و غيره فهم لا يقولون به، بل يقولون بشركة الشريك الآخر و لو لم يرض القابض.

و إن أريد أنّ التعيين بيد غير القابض فهو أيضا ليس كذلك.

و إن أريد أنّ للجميع التعيين بقدر الحّصة فهو أمر لا دليل عليه و لا سبيل، و أيضا يلزم أنّه لو كانت عليه ديونا متعدّدة لديّان عديدة من غير

______________________________

(1) السرائر 2: 402.

(2) السرائر 2: 45، 68.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 279

شركة يشترك الباقون فيما قبضه أحد الديّان لنفسه بقصده و قصد الغريم أيضا، و هو ممّا لا يقول به أحد.

و أيّ فرق بين الديون المتعدّدة لديّان متعدّدة و بين دين واحد لديّان؟! فإنّ التفرقة إنّما هي قبل التعلّق

بالذمّة، و أمّا بعده فالمتعلّق بالذمّة أمر كلّي متخصّص بحصص متعدّدة في الصورتين.

و بالجملة: جعل الدين في إحدى الصورتين كلّيّا واحدا مشتركا و في الأخرى كلّيات متعدّدة غير مشتركة ليس إلّا محض التصوير و الاعتبار، و إلّا فالدين و ما في الذمّة فيهما مائة درهم- مثلا- لشخصين، و ليس إناطة تعيين المستحقّ بيد الشريك في بعض الصور مستندا إلى دليل فقهيّ شرعيّ.

قلنا:

نعم، يلزم ما ذكر، و هو الموافق للأصل، إلّا أنّ الدليل الشرعيّ أوجب الشركة في الدين المشترك، و هو المستفيضة من الأخبار المعتبرة، كصحيحة سليمان بن خالد «1»، و موثّقة غياث بن إبراهيم «2»، و روايتي ابن سنان «3» و ابن حمزة «4»، و غيرها «5»، المؤيّدة بالشهرة العظيمة، و لولاها لكنّا نقول في الدين المشترك الثابت بالإقرار أو البيّنة أيضا باختصاص القابض بما قبضه، و لكنّ الدليل أوجب القول بالتشريك، بمعنى: أنّ الشريك الآخر له المطالبة و إن كانت له الإجازة في الاختصاص أيضا، و لذلك يقتصر فيه على موضع الدليل.

______________________________

(1) الفقيه 3: 23- 60، التهذيب 6: 207- 477، الوسائل 18: 370 أبواب الدين و القرض ب 29 ح 1.

(2) الفقيه 3: 55- 190، التهذيب 6: 195- 430، الوسائل 18: 435 أبواب أحكام الضمان ب 13 ح 1.

(3) التهذيب 7: 186- 821، الوسائل 19: 12 أبواب أحكام الشركة ب 6 ح 2.

(4) التهذيب 7: 185- 818، الوسائل 19: 12 أبواب أحكام الشركة ب 6 ح 1.

(5) انظر الوسائل 19: 12 أبواب أحكام الشركة ب 6.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 280

و بذلك تندفع بعض الإيرادات الواردة في المسألة و الإشكالات الموردة فيها.

و لتحقيق هذه المسألة موضع آخر تذكر فيه.

د: لو ادّعى قيّم المولّى عليه من الطفل و المجنون و الغائب،

و أقام شاهدا

واحدا، لا يحلف المدّعي، لاختصاص اليمين بصاحب الحقّ، بل توقف الدعوى- مع عدم مصلحة في طيّها بيمين الغريم أو الصلح أو غيرهما- إلى رفع الحجر عن صاحب الحقّ، فإن حلف أخذ، و إلّا سقط.

و لو كان المدّعي وصيّا على الثلث- مثلا- لا يحلف، بل تسقط دعواه، لأصالة عدم ثبوتها. و لو حلف سائر الورثة كلّا أو بعضا يأخذون نصيبهم و لا يخرج منه الثلث، لأنّ الحلف أثبت حصّته خاصّة.

ه: لو أقام المدّعي شاهدا واحدا، ثمَّ رضى بيمين المنكر،

كان له ذلك، للأصل. و يستحلفه، فإن حلف قبل عوده سقطت الدعوى، و إن عاد قبل حلفه و أراد بذل الحلف قال في التحرير: احتمل إجابته إلى ذلك و عدمها «1».

أقول:

بل تتعيّن الإجابة، للأصل، و عدم مشروعيّة اليمين بدون طلب المدّعي، و قياسها على اليمين المردودة- كما ذكره الشيخ «2»- غير صحيح، للفارق.

و قال في التحرير: لا تقبل في الأموال شهادة امرأتين و يمين المدّعي «3».

أقول:

صحيحتا الحلبي و منصور «4» تدلّان على القبول.

______________________________

(1) التحرير 2: 194.

(2) المبسوط 8: 190.

(3) التحرير 2: 193.

(4) المتقدمتان في ص: 267 و 268.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 281

البحث الثالث في السكوت

فإن سكت المدّعى عليه بعد طلب الجواب عنه، فإن كان لدهشة أزالها الحاكم بالرفق و الإمهال.

و إن كان لغباوة و سوء فهم توسّل إلى إزالته بالتعريف و البيان.

و إن كان لآفة من صمم أو خرس توسّل إلى معرفة جوابه بالإشارة المفهمة للمطلوب باليقين «1».

و إن كان لعدم فهم اللغة توسّل إلى إفهامه إلى مترجمين عدلين، و كذا لو احتاج الحاكم إلى فهم جوابه. و لا يكفي واحد، لأصالة عدم حجّية قوله، فيقتصر في محلّ الحاجة إلى المجمع عليه.

و إن كان سكوته تعنّتا و لجاجا ألزمه الجواب أولا باللطف و الرفق، ثمَّ الغلظة و الشدّة، متدرجا من الأدنى إلى الأعلى، على حسب مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فإن أجاب و إلّا حبسه (حتى يجيب) «2» إن سأله المدّعي إلى أن يجيب أو يعفو الخصم، أو يموت، عند المفيد و الشيخ في النهاية و المختلف و الديلمي و ابن حمزة «3»، و كافّة المتأخّرين كما في المسالك و الكفاية «4».

______________________________

(1) في «ق»: بالتعين ..

(2) كذا، و الأنسب بالسياق حذفه.

(3) المفيد

في المقنعة: 725، النهاية: 342، المختلف: 691، الديلمي في المراسم: 231، ابن حمزة في الوسيلة: 217.

(4) المسالك 2: 370، الكفاية: 269.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 282

و استدلّ عليه تارة بما ذكره في الشرائع و التحرير من أنّ به رواية «1»، و هي و إن كانت مرسلة إلّا أنّها منجبرة بما ذكر.

و اخرى: بحديث: «ليّ الواجد يحلّ عقوبته» «2» حيث إنّه واجد للجواب و يماطل فيه، بناء على تفسيرهم العقوبة بالحبس خاصّة.

و ثالثة: بما مرّ من حبس الأمير الغريم باللّي و المطل «3».

و قيل: يجبر حتى يجيب بالضرب و الإهانة «4». و لعلّه لإطلاق العقوبة، بناء على عدم ثبوت التفسير المذكور، و لأنّه طريق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و عن المبسوط و السرائر «5» و بعض المتأخّرين «6»: أنّ الحاكم يقول له ثلاثا: إن أجبت و إلّا جعلتك ناكلا، و في المبسوط: أنّه قضية المذهب.

و استدلّ له بأنّ السكوت إمّا هو النكول أو هو أقوى، لأنّ الناكل منكر غير حالف و لا رادّ، و هذا إمّا مقرّ أو منكر كذلك.

و أدلّة الكلّ مدخولة:

أمّا أدلّة الأول، فلأنّ ضعف الرواية و إن انجبر بما مرّ إلّا أنّ متنها ليس معلوما، حتى في دلالته ينظر، و مثل ذلك ليس عند الأصحاب بمعتبر.

و تفسير العقوبة بخصوص الحبس غير ثابت. و حبس الأمير لا يفيد التخصيص، مع أنّ كونه في مثل المورد غير معلوم، و صدق الواجد على

______________________________

(1) الشرائع 4: 86، التحرير 2: 187.

(2) مجالس الشيخ: 532، الوسائل 18: 333 أبواب الدين و القرض ب 8 ح 4، بتفاوت.

(3) في ص: 176.

(4) حكاه في كشف اللثام 2: 338 و فيه: و لم نعرف القائل.

(5) المبسوط 8: 160، السرائر

2: 163.

(6) حكاه عنه في الرياض 2: 401.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 283

مثل ذلك غير ظاهر.

و منه يظهر ضعف دليل الثاني أيضا.

و أمّا أدلّة الثالث فلمنع كونه نكولا، مع أنّه ما ورد لفظ النكول في الروايات. ثمَّ منع كونه إمّا مقرّا أو منكرا، فقد يكون أدّى الحقّ و لم يكن منكرا يلزمه اليمين، و لا مقرّا يلزمه الحقّ، فيسكت عن الإنكار لعدم صحّته، و عن الإقرار لإلزامه بالمقرّ به مع عدم البيّنة على أدائه، و عدم تقصيره في فقد البيّنة حتى يرد: أنّه أدخل الضرر على نفسه، لإمكان موت الشهود. و إمكان التورية منه لا يفيد، إذ قد لا يعلم شرعيّتها، أو لا يهتدي إلى طريقها.

نعم، يمكن أن يستدلّ للقول الأخير بما ذكره بعضهم من جريان أدلّة النكول فيه، كقوله في رواية البصري- على طريق الفقيه- المتقدّمة:

«فيمين المدّعى عليه، فإن حلف فلا حقّ له»، فإنّه لا شكّ في صدق المدّعى عليه عليه، فيدلّ بالمفهوم على أنّه إن لم يحلف فللمدّعي حقّ عليه.

و أظهر منه منطوق قوله: «فإن لم يحلف فعليه» في هذه الرواية على طريقي الكافي و التهذيب.

و للثاني: بقوله في آخرها على الطرق الثلاثة: «و لو كان حيّا لألزم باليمين، أو الحقّ، أو يردّ اليمين عليه» «1»، حيث إنّه أمر بالإلزام بأحد الأمرين، و لا يتحقّق الإلزام إلّا بالأمر أولا، ثمَّ الإيذاء، ثمَّ الضرب و هكذا.

و للأول: بأنّ الإلزام ليس مطلقا، بل مجمل، فيقتصر فيه على المتيقّن، و هو الحبس.

______________________________

(1) الفقيه 3: 38- 128، بتفاوت يسير.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 284

و يمكن الجواب عن الاستدلالين الأخيرين بأخصّية الصدر عن الذيل، لمكان قوله: «فإن لم يحلف»، فيجب تخصيص الذيل به، و

يلزمه التخيير في مبدأ الأمر بين أحد الثلاثة، فإذا لم يحلف و لم يرد- كما في المورد- يبقى الإلزام بالحقّ كما هو القول الأخير، و لعلّه الأقوى، فتأمّل.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 285

البحث الرابع فيما إذا أجاب المدّعى عليه بقوله: لا أدري، أو هذا ليس لي، أو لفلان، و نحوه، ليصرف الدعوى عن نفسه.
اشاره

و فيه مسألتان:

المسألة الأولى: إذا أجاب المدّعى عليه بنحو قوله: لا أدري
اشاره

، فقال صاحب الكفاية و قبله الأردبيلي: إنّ مقتضى ظاهر كلامهم أنّه لم يكف حلف المنكر على نفي العلم، و أنّه لا يجوز حينئذ الحلف بنفي الاستحقاق لعدم علمه، بل لا بدّ من ردّ اليمين، و إن لم يردّ يقضى عليه بالنكول مطلقا، أو بعد ردّ اليمين على المدّعي «1».

و قال بعض المعاصرين- بعد نقله عنهما-: و لم يحضرني ذكر ذلك في كلام غيرهما «2».

أقول:

التحقيق: أنّه إن ادّعى المدّعي العلم عليه علما أو ظنّا- بل أو احتمالا- فله حلفه على نفي العلم، كما صرّح به بعض مشايخنا المعاصرين أيضا «3»، لأنّه دعوى صحيحة مستلزمة- بعد تحقّق المدّعى به بالنكول- ثبوت الحقّ له، فيدخل في عموم اليمين على من أنكر. و بعد الحلف يسقط أصل الدعوى، لا لما ذكره أيضا من تركّب الدعوى من أمرين- فإذا سقط جزؤه سقط الكلّ، كما ذكروه في الحلف على نفي العلم

______________________________

(1) الكفاية: 270.

(2) غنائم الأيام: 692.

(3) انظر الرياض 2: 404.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 286

بفعل المورّث- بل لأنّ بعد ثبوت انتفاء علمه بالحلف لا تسلّط له عليه بدون البيّنة، كما يأتي.

نعم، لو أقام بعد ذلك بيّنة تقبل، لأنّ الحلف كان على نفي العلم، و لازمه عدم سماع بيّنة العلم.

و إن لم يدّع عليه العلم و لا بيّنة له فلا تسلّط له عليه أصلا بمطالبة الحقّ، للأصل الخالي عن المعارض بالمرّة. و لا بالحلف، للأدلّة المصرّحة بأنّ الحلف على البتّ كما يأتي.

فلو لم تكن بيّنة له سقطت دعواه، بمعنى: عدم ترتّب أثر عليها في حقّه، إذ لم يثبت من الشارع في حقّ المدّعي سوى البيّنة أو التحليف، و هما منفيّان في المقام قطعا، و الأصل عدم

تحقّق مقتضى الدعوى، فيحكم به.

و تدلّ عليه موثّقة سماعة: عن رجل تزوّج أمة أو تمتّع بها فحدّثه ثقة أو غير ثقة، فقال: إنّ هذه امرأتي و ليست لي بيّنة، قال: «إن كان ثقة فلا يقربها، و إن كان غير ثقة فلا يقبل [منه ]» «1».

و حسنة عبد العزيز: إنّ أخي مات و تزوّجت امرأته، فجاء عمّي فادّعى أنّه كان تزوّجها سرّا، فسألتها عن ذلك فأنكرت أشدّ الإنكار و قالت:

ما كان بيني و بينه شي ء قطّ، فقال: «يلزمك إقرارها و يلزمه إنكارها» «2».

و رواية يونس: عن رجل تزوّج امرأة في بلد من البلدان، فسألها:

______________________________

(1) التهذيب 7: 461- 1845، الوسائل 20: 300 أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ب 23 ح 2، و فيهما: عن رجل تزوّج جارية .. فحدّثه رجل ثقة ..، و ما بين المعقوفين ليس في «ح» و «ق»، أثبتناه من المصدرين.

(2) الكافي 5: 563- 27، الفقيه 3: 303- 1452، الوسائل 20: 299 أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ب 23 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 287

أ لك زوج؟ فقالت: لا، فتزوّجها، ثمَّ إنّ رجلا أتاه فقال: هي امرأتي، فأنكرت المرأة ذلك، ما يلزم الزوج؟ فقال: «هي امرأته، إلّا أن يقيم البيّنة» «1».

دلّت هذه الروايات على عدم قبول مدّعي الزوجيّة في سقوط حقّ الزوج الثاني، مع أنّ الثاني غير عالم به، كما يدلّ عليه الفرق بين الثقة و غيره في الاولى، و سؤاله عن حالها في الثانيتين، و أنّه لا حلف عليه.

و أمّا قوله في الاولى: «إن كان ثقة فلا يقربها» فلكونها جملة محتملة للإخباريّة لا يفيد أزيد من الكراهة، و لذا خصّه بالمقاربة دون سائر الأمور، و لم يحكم بزوجيّة الأول

بمجرّده.

و اختصاص الروايات بدعوى الزوجيّة غير ضائر، لعدم القول بالفصل بين الحقوق.

و ما نقل عن بعضهم في هذه المسألة- من أنّه يحلف على نفي العلم «2»، و احتمله الأردبيلي و نفى عنه البعد في الكفاية «3»- فمرجعه إلى ما ذكرنا، إذ ظاهر أنّ هذا الحلف إنّما هو إذا جوّز المدّعي علمه حتى تتحقّق دعواه و لو احتمالا. أمّا لو اعترف بعدم علمه فلا معنى ليمين نفي العلم.

و أمّا ما قيل من احتمال أن يقال بردّ الحاكم أو المدّعى عليه الحلف إلى المدّعي «4» فلا وجه له، لأنّه أمر مخالف للأصل، محتاج إلى التوقيف، و لا توقيف.

______________________________

(1) التهذيب 7: 468- 1874، الوسائل 20: 300 أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ب 23 ح 3.

(2) حكاه عنه في الرياض 2: 404.

(3) الكفاية: 270.

(4) انظر الرياض 2: 404.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 288

و لا يتوهّم عموم بعض روايات اليمين، مثل قولهم: «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنّة ماضية» «1» و قولهم: «اقض بينهم بالبيّنات، و أضفهم إلى اسمي» «2»، لأنّها بين مجملة و معيّنة لكون اليمين على المدّعى عليه، و المبيّن حاكم على المجمل، سيّما مع التصريح في صحيحتي العجلي و أبي بصير و روايته، المتقدّمة جميعا في مقدّمة المقام الثاني من البحث الثاني «3».

و كذا لا يتوهّم دلالة إطلاقات ردّ اليمين، لأنّ الردّ إنّما يكون مع تعلّق اليمين بالمدّعى عليه، فإذا لم يتعلّق لا يكون ردّ، مع أنّه لا إطلاق فيها يشمل المورد.

و القول- بأنّه لولاه [للزم ] «4» عدم سماع دعوى مسموعة بلا جهة- واه جدّا، لأنّ طلب الجواب من المدّعى عليه ثمَّ طلب البيّنة من المدّعي و تحليفه على

نفي العلم لو ادّعاه عين سماعها.

نعم، يلزم عدم ثبوت تسلّط للمدّعي في بعض الصور- و ما الضرر فيه؟!- كما في مورد الروايات الثلاث، الذي لا خلاف فيه أيضا ظاهرا، و كما فيما إذا كان المدّعى عليه وارثا، بل هو من أفراد موضوع المسألة، غاية الأمر صيرورة دعواه لاغية، فليكن كذلك، و ما الضرر فيه بعد كونها مخالفة للأصل؟! و القول بأنّ الأصل عدم انقطاع الدعوى المسموعة بلا بيّنة و لا يمين:

مردود بأنّ الأصل أيضا عدم توجّه اليمين على المدّعي، مع أنّ أصالة

______________________________

(1) راجع ص: 199.

(2) راجع ص: 199.

(3) راجع ص: 200.

(4) بدل ما بين المعقوفين في «ح» و «ق»: لزم، و الظاهر ما أثبتناه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 289

عدم الاشتغال و عدم وجود دليل شرعي على الحكم به دليل على الانقطاع، مزيل للأصل.

و لا يتوهّم أنّه يمكن إلزام المدّعي عليه بلا يمين مردودة أيضا لعدم المعارض لقول المدّعي، لأنّ الأصل من أقوى المعارضات، و من أين ثبتت حجّية قول المدّعي الجالب للنفع لدفع الأصل الثابت من الشرع؟! فإن قيل:

بوجوب حمل أفعال المسلم و أقواله على الصحّة و الصدق.

قلنا:

من أين ثبت ذلك؟! سيّما إذا كان قوله مخالفا للأصل مثبتا للحقّ على الغير، و لم نعثر إلى الآن على دليل تامّ على ذلك، كما بيّناه في كتابي عوائد الأيّام و مناهج الأحكام.

سلّمنا، فغاية ما نسلّمه أنّه لا يكذب في ادّعاء علمه، و لكن من أين تثبت حجّية علمه علينا؟! فإن قيل:

ورد في رواية البصري المتقدّمة: «و لو كان حيّا لألزم اليمين، أو الحقّ، أو يردّ اليمين عليه» «1» دلّت على أنّه لو كان حيّا لتعلّق به أحد الثلاثة، و لمّا لم يكن اليمين أو ردّه

هنا فتعيّن الإلزام بالحقّ.

قلنا:

يجب إمّا تخصيص الحيّ بالعالم، أو تخصيص الإلزام و الردّ به، و لا مرجّح، فيحصل الإجمال المسقط للاستدلال. و اللّه الموفّق في كلّ حال.

و أمّا ما احتمله في الكفاية من كون عدم العلم بثبوت الحقّ كافيا في الحلف على عدم الاستحقاق، لأنّ وجوب إيفاء حقّه إنّما يكون عند العلم به «2».

______________________________

(1) راجع ص: 231.

(2) الكفاية: 270.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 290

ففاسد، لأنّ المدّعي أمّا يحتمل علمه أو لا، فإن احتمله فله حلفه على نفيه، و إن لم يحتمله فهو على ما ذكره معترف بعدم الاستحقاق أيضا، فكيف يحلّفه؟! ثمَّ بما اخترناه صرّح به بعض معاصرينا، حيث قال ما ملخّصه: إنّه إن ادّعى المدّعى عليه العلم فلا إشكال في جواز الحلف على نفي العلم، و به تسقط الدعوى، و إن لم يدّع عليه العلم فمقتضى الأصل و الأخبار أنّه لا يتوجّه عليه شي ء أصلا، إذ الأصل براءة ذمّته، و لم ينكر شيئا ممّا يدّعيه المدّعي حتى يصدق عليه المنكر، مع أنّها غير ممكنة حينئذ، فلا يكفي صدق المدّعى عليه عليه أيضا، و لا يجب عليه ردّ اليمين، بل الظاهر أنّ الحاكم أيضا لا يردّه، إذ لا معنى لردّ اليمين إلّا بعد ثبوته على المدّعى عليه، و لا يثبت شي ء باليمين على المدّعى عليه حينئذ، فلا يجوز للمدّعي أيضا الحلف حينئذ، و لا يثبت به شي ء لو حلف «1». انتهى.

هذا إذا كانت الدعوى على الدين و ما في الذمّة.

و أمّا إذا تعلّقت بالأعيان الخارجيّة فهو على قسمين:
أحدهما: أن تكون العين في يد المدّعى عليه

، لأجل انتقالها إليه من متصرّف لها غير ثابت اعترافه بما ينافي الملكيّة بأحد أنحاء الانتقال، كالإرث، أو الشراء، أو نحوهما، و لا خلاف حينئذ في أنّه إذا لم تكن للمدّعي بيّنة ليس

له على المدّعى عليه تسلّط، سوى اليمين على نفي العلم إن ادّعاه عليه، كما يأتي.

و ثانيهما: أن تكون العين بيده من غير ادّعائه الملكيّة لها
اشاره

، بل يعترف بأنّه لا يعرف صاحبها، لأجل نسيانه أو غيره، فله أقسام:

______________________________

(1) انظر غنائم الأيام: 692.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 291

الأول: أن يجيب المتصرّف بأنّي لا أدري هل هو منّي، أو من المدّعي

. فإن ادّعى عليه المدّعي الدراية علما أو ظنّا أو احتمالا فله إحلافه على نفي العلم، فإن نكل أو ردّ فيما يجوز فيه الردّ و حلف المدّعي يحكم به له و يأخذه، لا لكون النكول أو الردّ إقرارا، لمنعه، بل للأخبار النافية للحقّ عن الناكل و الرادّ مع حلف المردود إليه، فينحصر الحقّ في المدّعي.

و إن حلف، أو لم يدّع المدّعي العلم عليه، فالظاهر القرعة بينهما، لأنّها لكلّ أمر مجهول.

الثاني: أن يجيب بأنّي لا أدري أنّه هل هو منّي، أو منك، أو من ثالث حاضر يمكن الترافع معه.

فإن نفاه الثالث عن نفسه ينحصر بين المدّعي و المتصرّف، و يرجع إلى الأول.

و إن ادّعاه لنفسه فلكلّ منهما إحلاف المتصرّف على نفي العلم مع ادّعائه عليه، فإن نكل عنهما أو عن أحدهما يسقط حقّه و ينحصر بين المتداعيين، و يرجع إلى مسألة تنازع اثنين في عين في يد ثالث لم يصدق أحدهما إن لم يصدّق أحدهما، و إلى مسألة تنازعهما في يد ثالث صدّق أحدهما إن رجع إلى تصديقه، و ستأتي المسألتان.

و إن حلف المتصرّف لهما فالظاهر الإقراع بين الثلاثة.

و إن قال الثالث أيضا: لا أدري، و منع عن أخذ المدّعي، فله إحلافهما على نفي العلم إن ادّعاه عليهما، و إحلاف من يدّعيه عليه خاصّة، فمع نكولهما أو أحدهما يسقط حقّ الناكل، و مع حلفهما يقرع بين الثلاثة.

و إن أقرّ المتصرّف للمدّعي بعد الترديد يقبل منه، لأنّ قوله أولا بعدم العلم ليس إقرارا على أحد.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 292

نعم، للثالث إحلافه لو ادّعى علمه، و تغريمه لو نكل أو ردّ.

الثالث: أن يكون الثالث من لا يمكن الترافع معه

- كالفقراء، أو غائب مفقود الخبر، أو صغير، أو مجنون- فمع ادّعائه العلم عليه يحلّفه، فإن لم يحلف يسقط حقّ نفسه و يقرع بين الباقين، و إن حلف يقرع بين الثلاثة. و يقبل قوله إن أقرّ بعد ذلك قبل الإقراع للمدّعي، لعدم تحقّق شي ء مقبول شرعا ينافيه.

نعم، للصغير أو المجنون بعد الكمال تغريمه لو ادّعى عليه العلم و نكل عن يمينه.

الرابع: أن يكون الثالث مسافرا

، و حكمه أيضا يظهر ممّا ذكرنا في الأقسام السابقة.

الخامس: أن يجيب بأنّي لا أدري أنّه منّي، أو من المدّعي، أو من غيرنا، من غير تعيين

، فمع عدم ادّعاء العلم على المتصرّف يقرع بين الثلاثة أيضا، فإن خرجت القرعة لأحدهما يردّ إليه، و إن خرجت للغير يدخل في مجهول المالك. و كذا مع ادّعاء العلم عليه و حلفه.

و مع نكوله أو ردّ اليمين و حلف المدّعي يسقط حقّ المتصرّف، و يقرع بين المدّعي و الغير، فإن خرجت للمدّعي يعطى العين، و إن خرجت للغير فللمدّعي إغرام المتصرّف، لتضييعه حقّه.

السادس: أن يجيب بأنّي لا أدري أنّه من المدّعي، أو الغير المعيّن،

أو غير المعيّن، مع اعترافه بأنّه ليس من نفسه، فهو يخرج عن تلك المسألة، و يدخل في المسألة الآتية إن شاء اللّه، (و إن كان له جهة مناسبة مع تلك المسألة لأجل قوله: لا أدري أنّه منك، و سيأتي حكمه إن شاء اللّه تعالى) «1».

______________________________

(1) ما بين القوسين ليس في «ح».

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 293

المسألة الثانية: لو كان جواب المدّعى عليه: إنّه ليس لي
اشاره

، ليصرف الدعوى عن نفسه، و هو إنّما يكون إذا كانت الدعوى على عين في يد المدّعى عليه، و هو على أربعة أقسام:

أحدها: أن يقول: ليس لي، مقتصرا عليه

. أو يضمّ معه قوله: هو لرجل لا أعرّفه- من باب التفعيل- أي لا أسمّيه. أو يضمّ معهما أو مع أحدهما: و ليس لك، أو: لرجل غيره و غيرك.

و الوجه فيه- وفاقا للشرائع و القواعد و المسالك «1» و غيرها «2»- أنّه لا ينزع من يد المتصرّف، لأنّ انتفاء ملكيّته لا يفسد يده، لإمكان كونها بالإجارة، أو الوكالة، أو العارية، أو اللقطة، أو غيرها، و لا ترتفع الخصومة عنه، بل يخاصم بمطالبته البيان، توصّلا للمدّعي بحقّ ترافعه، فإنّ للمدّعي على من عيّنه حقّا إمّا الأخذ إن أقرّ، أو الحلف إن أنكر.

و لو كذب المقرّ ثبت لصاحب ما يجهل مالكه عليه الحقّ، فيكون تركه البيان تفويتا لحقّ الغير، و هو منكر يجب صرفه عنه على طريقة النهي عن المنكر، و أيضا يخاصم بمطالبة الحلف على نفي علمه بحقّية المدّعي، و يقبل إن أقرّ بعد ذلك، لما سيأتي في بحث التنازع في الأعيان من أنّ إقرار ذي اليد مطلقا يجعل المقرّ له ذا اليد، المقتضي للملكيّة له.

و الوجه الآخر: أنّه ينزع الحاكم المال من يد المتصرّف، و يحفظه إلى أن يظهر مالكه، و ترتفع الخصومة منه، و علّله في الإيضاح بأنّ بنفي المتصرّف عن نفسه و عدم البيان لمالكه صار مجهول المستحقّ «3».

و فيه: أنّ جهل الحاكم أو المدّعي بالمقرّ له لا يدخله في عنوان

______________________________

(1) الشرائع 4: 112، القواعد 2: 231، المسالك 2: 392.

(2) انظر كشف اللثام 2: 364.

(3) إيضاح الفوائد 4: 402.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 294

مجهول المالك، ثمَّ إنّ كلّ

ذلك إذا لم تكن للمدّعي بيّنة، و إلّا فيأخذه.

و قيل: تجري في ذلك القسم الأقوال الثلاثة المتقدّمة في السكوت، من الحبس، و الإجبار على البيان، و الإلزام بالحقّ.

و الأولان هما مثل المطالبة بالبيان، و أمّا الأخير فبعد نفيه عن نفسه لا وجه له.

و القول- بأنّ هذا الإقرار لا يثبت مال الغير- ممنوع، و لعلّ وجهه: أنّه يحتمل تفسيره بما لا يقبل، كأن يقول: إنّه للتهمة.

و فيه: أنّ عدم قبول كونه للتهمة لا يوجب عدم قبول نفيه عن نفسه.

و كذا ما ذكره في المسالك، من أنّ الظاهر أنّ ما في يده ملكه، و ما صدر عنه ليس بمزيل «1».

فإنّه إن أراد أنّه ليس بمزيل لمطلق اليد فهو مسلّم، و لكنّه غير مفيد.

و إن أراد أنّه ليس بمزيل لليد المقتضية «2» للملكيّة فهو ممنوع.

و إن أريد أنّه ليس بمزيل لأصل الملكيّة المتحقّقة أولا بظاهر اليد فقد عرفت ما فيه، فإنّ إقراره على نفسه مزيل له.

و ثانيها: أن يقول: ليس لي و لا أعرف مالكه

- من باب المعرفة- أي لا أدري من هو. و لم يحضرني من صرّح بحكمه.

و الوجه فيه: أنّه يخرج عن ملكيّة المتصرّف، و ترتفع عنه خصومة المدّعي، إلّا إذا ادّعى عليه العلم بحقّيّته فيحلّفه، فإن نكل أو ردّ و حلف المدّعي يأخذ الغرامة منه، لتضييعه حقّه باعترافه بأنّه مجهول المالك، الذي هو إمّا مال الإمام، أو الفقراء، أو لمن يعرفه بعد تعريف السنة، أو غير

______________________________

(1) المسالك 2: 392.

(2) في «ق»: المتضمّنة ..

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 295

ذلك من أقسام مجهول المالك، و ليس المدّعي أحدها.

و إن حلف ترتفع خصومة المدّعي عنه.

و على التقديرين ليس لأحد- حتى الحاكم- أخذه منه، للأصل، حيث «1» يحتمل أن يكون ممّا يبقى في يده للتعريف.

نعم،

لو عيّن وجه الجهل يعمل بمقتضاه.

الثالث: أن يضيفه إلى من تمتنع مخاصمته

، كالفقراء- بالوقف أو غيره- و الوقف لمسجد (أو مشهد) «2» أو مدرسة أو نحوها.

[و لا تنصرف ] «3» الخصومة عنه إلّا بيمين نفي العلم و حلفه، فإن لم يحلف يغرّم، و إن حلف و لا بيّنة للمدّعي يرتفع تسلّطه، و لا ينتزع من يد المتصرّف، لجواز توليته.

و من هذا القسم: ما لو أقرّ به لطفله، أو لطفل الغير، أو مجنون، أو غائب، أو مفقود الخبر. و لا تسلّط للمدّعي حينئذ على الوليّ بدون البيّنة إذا كان غير المتصرّف، و له عليه يمين نفي العلم إن كان هو المتصرّف و ادّعى علمه، لفائدة الغرامة.

و من هذا الباب: ما لو نقله المتصرّف إلى غيره- من طفل أو غيره- ممّن لا يدّعي المدّعي علمه قبل تمام الترافع، فإنّه لا تسلّط للمدّعي حينئذ سوى إحلاف المتصرّف إن ادّعى علمه، و إغرامه إن نكل أو ردّ.

الرابع: أن يضيفه إلى معيّن لا تمتنع مخاصمته

، و هو على قسمين، لأنّه إمّا يقول: هي لزيد البالغ الحاضر، أو يقول: هي لزيد البالغ المسافر، أو الحاضر في بلدة بعيدة، ليوقف الدعوى و يؤخّرها، مع صرفها عن

______________________________

(1) في «ح»: حتى ..

(2) ليست في «ح».

(3) بدل ما بين المعقوفين في «ح» و «ق»: و تنصرف، و الظاهر ما أثبتناه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 296

نفسه.

أمّا الأول، فقال في الكفاية في ذيل مسألة سكوت المدّعى عليه:

و إذا قال المدّعى عليه: هذا لفلان، صرفت الدعوى عنه.

و إن ادّعى المدّعي العلم على المدّعى عليه بأنّ هذا له صحّت الدعوى.

فإن أقرّ به بعد الإنكار، قال بعضهم: إنّه يسلّم من غير حاجة إلى الإثبات، لأنّه مؤاخذ بإقراره، و المال في يده، و هو قادر على دفعه إلى أهله، و تلزمه الغرامة للمقرّ له أولا.

و فيه: أنّه

مؤاخذ بإقراره الأول، فلا يصحّ إقراره الثاني المخالف للأول، فالظاهر أنّه تلزمه الغرامة للمدّعي.

و إن أصرّ على الإنكار يلزمه الحلف على عدم علمه بذلك، فإن حلف أو نكل يترتّب على كلّ واحد حكمه، و يجوز له الردّ، لجواز علم المدّعي بعدم علم المنكر، فيستحبّ فيه حكم الحلف و الردّ و النكول على ما مرّ «1». انتهى.

أقول:

ما ذكره في ردّ قول البعض صحيح، و لكن إطلاقه لزوم الغرامة للمدّعي غير صحيح، بل لا يلائم قوله: صرفت الدعوى عنه، بإطلاقه، إذ لو تمكّن من الادّعاء على المقرّ له و إثبات دعواه بإقراره أو بالبيّنة فلا وجه لتغريم المدّعى عليه، بل لا وجه له قبل المرافعة مع المقرّ له مطلقا، إذ لعلّه يقرّ أو يردّ الحلف أو ينكل، فيأخذ المدّعي العين، فلا وجه لتغريمه، لأنّه لم يتلف العين عليه.

و منه يعلم عدم تسلّط يمين نفي العلم على المدّعى عليه أيضا قبل الترافع مع المقرّ له، بل الصحيح أن يقال: صرفت الدعوى عنه إلى المقرّ له

______________________________

(1) الكفاية: 269.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 297

إن أمكن، فيرافع معه.

فإن رجعت العين إليه بإقرار أو بيّنة أو نكول أو ردّ حلف تمّت الدعوى و لا شي ء على المدّعى عليه.

و إن لم ترجع و حكم بها للمقرّ له، أو كان ممّن لم يتمكّن المدّعي من الترافع معه، فيرجع إلى المدّعى عليه.

فإن لم يدّع العلم بصحّة دعواه- و لو ظنّا أو احتمالا- فلا تسلّط له عليه.

و إن ادّعاه، فإن أقرّ يغرّم، و إن أصرّ فله إحلافه على نفي العلم، فإن حلف تمّت الدعوى أيضا.

و إن لم يحلف- بل ردّ الحلف إن أمكن، بأن تكون دعواه جزما، و حلف المدّعي أو نكل- فعليه الغرامة

للمدّعي، لإتلافه ما كان يعلم أنّه ماله.

هذا إذا لم تكن للمدّعي بيّنة على إقرار المدّعى عليه له سابقا على إقراره للمقرّ له، و إن كانت له و أثبته فيأخذ العين عن المقرّ له مع الإمكان، و هو يرجع إلى المدّعي إن شاء، و يستغرم منه، لاعترافه بالإقرار الثاني تضييعه حقّه بالإقرار الأول، و مع عدم الإمكان يأخذ الغرامة من المدّعى عليه.

هذا كلّه إذا صدّق زيد الحاضر المقرّ له المقرّ في إقراره له، و لو كذّبه ففي المسالك: إنّ فيه أوجها:

أحدها: أنّه ينزع الحاكم منه، و يحفظه إلى أن يظهر مالكه، لخروجه عن ملك المتصرّف بإقراره، و عدم دخوله في ملك المقرّ له بإنكاره، و عدم ثبوت ملك المدّعي، و أصالة عدمه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 298

و الثاني: أنّه يترك في يد المدّعى عليه، إذ لا منازع له، و لعلّه يرجع و يدّعيه.

و الثالث: أنّه يسلّم للمدّعي، لعدم المنازع له فيه «1».

و احتمله في القواعد أيضا «2».

أقول: يرد على الأخير: إنّ عدم المنازع لا يكفي في دفع الأصل و حصول التسلّط له على المتصرّف، و عدم شمول أدلّة ما يسلّم للمدّعي لما لا يد عليه للمورد، و لذا تنظّر فيه في الإيضاح «3» بأنّه لا دليل عليه.

و على ما قبله: بمنع أنّه لا منازع له، بل على الحاكم منازعته، حيث إنّه يتصرّف في ملك ليس له ينفيه عن نفسه، و لا لغير المقرّ له حتى يحتمل جواز تصرّفه فيه لأجله، لإقراره بأنّه له، و لا للمقرّ له، لتكذيبه. فلا يبقى وجه لتصرّفه. و رجوعه بعد نفيه عن نفسه غير مفيد، لعدم ثبوت اقتضاء اليد الكذائيّة لأصالة الملكيّة.

فأوجه الأوجه هو: الأول، كما قطع به في

الشرائع «4» و اختاره في القواعد «5».

و أمّا الثاني- و هو أن يقول: إنّه لغائب معيّن- قال في المسالك ما ملخّصه: أنّه تنصرف الخصومة عنه إلى الغائب، فإن كانت للمدّعي بيّنة قضي على الغائب بشرطه، و إلّا أقرّ في يد المدّعى عليه. و لو طلب المدّعي إحلافه على نفي العلم بأنّ العين له فالأظهر أنّه له، فإن أقرّ أو نكل يغرّم القيمة، فإن

______________________________

(1) المسالك 2: 392.

(2) القواعد 2: 232.

(3) إيضاح الفوائد 4: 402.

(4) الشرائع 4: 112.

(5) القواعد 2: 232.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 299

سلّمت العين للمدّعي بعد حضور الغائب بالبيّنة أو إقراره يردّ القيمة «1». انتهى.

أقول:

كلّ ما ذكره صحيح لا خدشة فيه، إلّا حكمه بإغرام القيمة معجّلا للمدّعي مع الإقرار أو النكول، فإنّ قبل حضور المقرّ له و الترافع له لم يعلم تضييع حقّ له غرامة للمدّعي، إذ لعلّ المقرّ له يقرّ له أو ينكل، فلو قيل بتأخير الإغرام إلى طيّ الدعوى مع الغائب فلعلّه كان أظهر.

ثمَّ لو حضر الغائب و كذّب المقرّ فحكمه كما إذا كذّبه الحاضر، و قد مرّ.

فروع:
أ: قال في المسالك: لو أقام المقرّ له البيّنة على ملكه لم يكن للمدّعي تحليف المقرّ ليغرّمه «2».

أقول:

و الفرق بينه و بين استقرار الملك للمقرّ له بالحلف: أنّ حلفه مسبّب عن صيرورته ذا اليد الحاصلة بإقرار المدّعي، فهو السبب للحيلولة بينه و بين العين، بخلاف البيّنة. و لكن لا يخفى أنّ هذا إنّما يتمّ على قبول بيّنة الداخل، و اللّه العالم.

ب: قال في التحرير في صورة الإقرار للغائب: لو أقام ذو اليد بيّنة تشهد أنّها للغائب،

سمعها الحاكم، و لم يقض بها للغائب، لأنّه لم يدّع هو و لا وكيله، و إنّما الفائدة: سقوط اليمين عن المقرّ إذا ادّعي عليه العلم.

و لو ادّعى وكالة الغائب كان له إقامة البيّنة عن الغائب.

و لو ادّعى رهن الغائب أو إجارته فالأقرب سماع البيّنة على الغائب بالملك، لتعلّق المقرّ بحقّ «3». انتهى.

______________________________

(1) المسالك 2: 393.

(2) المسالك 2: 393.

(3) التحرير 2: 190.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 300

أقول:

الكلّ كذلك، أمّا سماع بيّنته للغائب فلأنّ بإقراره خرج عن كونه داخلا، و بادّعائه ملكيّة الغير الصارفة للدعوى عنه، فمن جهة حقّ صرف الدعوى عنه يصير مدّعيا لنفسه هذا الحقّ فتسمع بيّنته فيما يتعلّق بنفسه، و منه يظهر وجه سقوط اليمين عن المقرّ.

و أمّا إقامة البيّنة عن الغائب مع دعوى الوكالة، فلما سبق من كفاية الوكالة الادّعائيّة في سماع الدعوى و الحكم.

و أمّا قبول البيّنة بملك الغائب عند دعوى الرهن أو الإجارة، فلأنّ دعواه في الرهن و الإجارة الصحيحين، و صحّتهما موقوفة على ملكيّة الغائب، فدعوى ملكيّة الغائب أيضا جزء من الدعوى لنفسه، كما إذا ادّعى على الغائب بيع ملكه له حال بلوغه، فبيّنة البلوغ حقيقة بيّنة لحقّ المدّعي.

ثمَّ إنّ في صورة إقامة المقرّ البيّنة- لا بدعوى الوكالة، بل لإسقاط اليمين، أو تصحيح الرهن أو الإجارة، و حضر الغائب و طلب الحكم- افتقر إلى دعوى مجدّدة، فيحكم بمقتضاها، فإن أقام المدّعي بيّنة قضي بدون

بيّنة الغائب، لأنّه الداخل.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 301

البحث الخامس فيما إذا أجاب المنكر بالإبراء أو الإقباض

و ينقلب حينئذ مدّعيا و المدّعي منكرا.

و لا فرق في هذه الدعوى بين أن كان المدّعي أقام البيّنة أوّلا أو لا، و ليس فيه تكذيب لبيّنته. ثمَّ جواب المدّعى عليه الثانوي أيضا إمّا إقرار، أو إنكار، أو سكوت، و حكم الكلّ كما مرّ.

نعم، لو أجاب ب: لا أدري، يكون الأصل حينئذ معه، و يعمل بمقتضى الأصل.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 302

البحث السادس فيما إذا كان المدّعى عليه غائبا
اشاره

و فيه مسائل:

المسألة الأولى: إذا ادّعى المدّعي دعوى مسموعة، فإمّا يكون المدّعى عليه حاضرا في المجلس، أو غائبا عنه.

فعلى الأول، قال في الدروس باشتراط القضاء عليه بعلمه «1»، فلو لم يعلم- لعدم فهم، أو اختلاف لغة، أو عدم التفات- لم يقض عليه، أي قبل السؤال.

و هو كان حسنا- للأصل- لو لا إطلاقات الأمر بالحكم و القضاء المتقدّمة.

كصحيحة سليمان: «احكم بينهم بكتابي» «2».

و مرسلة يونس: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه» «3».

و مرسلة أبان: «اقض بينهم بالبيّنات» «4»، و غير ذلك.

و توهّم تبادر كونه بعد السؤال عن الخصم، أو بعد علمه، فيقتصر في غيره على موضع النصّ، و هو الغائب.

______________________________

(1) الدروس 2: 91.

(2) الكافي 7: 415- 4، التهذيب 6: 228- 550، الوسائل 27: 229 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 1 ح 1.

(3) الكافي 7: 416- 3، التهذيب 6: 231- 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 7 ح 4.

(4) الكافي 7: 414- 3، التهذيب 6: 228- 551، الوسائل 27: 229 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 1 ح 2 و فيه: اقض عليهم بالبيّنات.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 303

مردود بمنع التبادر، و جريان السيرة على ذلك- لو سلّم- فإنّما هو على الإعلام دون اشتراطه.

إلّا أنّه يرد على الأول: أنّ القضاء بكتاب اللّه لا يدلّ على القضاء قبل السؤال، إذ لعلّ حكم الكتاب هو السؤال عن المدّعى عليه.

و على الثاني: أنّه لا شكّ أنّ استخراج الحقّ يحصل بالإقرار أيضا، فإمّا يجعل الحصر إضافيّا، أو تخصّص الحقوق بما جحدت بعد السؤال و بالغائب، و ليس أحد المجازين أولى من الآخر.

و على الثالث: يتضمّن قولهم: «و أضفهم إلى اسمي يحلفون به» و ذلك يدلّ على وقوع الجحود أيضا.

أمّا ما في صحيحة سليمان من قوله: «هذا» أي الإضافة

إلى الاسم «لمن لم تقم له بيّنة» فلا يدلّ مفهومه إلّا على أنّ مع قيام البيّنة لا يحلف، و أمّا الحكم بها بدون وقوع النزاع و الجحد أو بعد الجحود خاصّة فلا.

و على هذا، فالأظهر عدم القضاء بالبيّنة فيما نحن فيه قبل السؤال، بل تدلّ عليه صريحا رواية محمّد بن مسلم: «إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع من الآخر» «1» فلو جعل الحاضر الغير العالم كالغائب لم يكن بعيدا.

و على الثاني: فإمّا أن يكون غائبا عن بلد الحكم أيضا، أو عن المجلس دون البلد.

فعلى الأول: يجوز الحكم عليه بعد قيام البيّنة أو علم الحاكم، بل يجب حيثما يجب الحكم، سواء كان بعيدا أو قريبا، بلا خلاف أجده، بل

______________________________

(1) الفقيه 3: 7- 23، التهذيب 6: 227- 549، الوسائل 27: 216 أبواب آداب القاضي ب 4 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 304

مطلقا كما قيل «1»، بل باتّفاق أصحابنا كما في المسالك «2»، بل بالإجماع كما صرّح به والدي العلّامة رحمه اللّه في المعتمد، بل بالإجماع المحقّق، له.

و لمرسلة جميل: «الغائب يقضى [عليه ] إذا قامت عليه البيّنة، و يباع ماله، و يقضى عنه دينه و هو غائب، و يكون الغائب على حجّته إذا قدم» قال: «و لا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلّا بكفلاء إذا لم يكن مليّا» «3»، و نحوها روايته عن محمّد «4».

و ضعفهما غير ضائر، سيّما مع الانجبار، و صحّة الأولى على الأصح عن ابن أبي عمير.

و يدلّ عليه أيضا عموم صحيحة زرارة المتقدّمة «5» في حكم المقرّ المماطل.

و أمّا الاستدلال بعمومات لزوم الحكم مطلقا (أو بالبيّنة) «6» فهو كان حسنا لو لا رواية محمّد المخصّصة هنا بصورة

السماع من الخصم.

و أمّا المرويّ في قرب الإسناد: «لا يقضى على غائب» «7» فحمله

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 414.

(2) المسالك 2: 370.

(3) التهذيب 6: 296- 827، الوسائل 27: 294 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 26 ح 1، بدل ما بين المعقوفين في «ح» و «ق»: عنه، و ما أثبتناه من المصدرين. و ليس فيهما: إذا لم يكن مليّا.

(4) الكافي 5: 102- 2، الوسائل 27: 294 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 26 ح 1.

(5) التهذيب 6: 299- 836، الاستبصار 3: 47- 154، الوسائل 27: 248 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 11 ح 2.

(6) ليست في «ق».

(7) قرب الإسناد: 141- 508، الوسائل 27: 296 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 26 ح 4.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 305

بعضهم على التقيّة، و آخر على الغائب عن المجلس دون البلد، و في الوسائل على عدم الجزم بالحكم، لجواز قبول حجّة الغائب «1». و الأولى ردّه بالمخالفة للإجماع هنا، مع أنّه لا يفيد أزيد من المرجوحية.

و على الثاني: فإمّا يتعذّر حضوره، أو لا يتعذّر، و على الثاني: إمّا علم امتناعه من الحضور، أو لم يعلم.

فإن تعذّر فيجوز الحكم عليه أيضا بلا خلاف كما قيل «2»، بل عليه الوفاق في المسالك «3»، و الإجماع في المعتمد و غيره «4»، فإن ثبت الإجماع و إلّا فللكلام فيه مجال واسع، إذ لا يكون عليه دليل سوى عمومات الحكم، و قد عرفت تخصيصها، و عمومات الحكم على الغائب، و ستعرف ما فيها.

و إن لم يتعذّر، فإن امتنع فكذلك أيضا، و من معاصرينا من جعل ذلك أيضا محلّ الخلاف الآتي «5»، و هو غير صحيح، لتصريح الشيخ

في المبسوط بجواز الحكم في صورة الامتناع «6».

و إن لم يعلم امتناعه ففيه خلاف، فقال الشيخ في المبسوط: إنّ الصحيح أنّه لا يقضى عليه «7». و اختاره والدي العلّامة رحمه اللّه في المعتمد، و مال إليه المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد، بل و كذلك في الصورتين

______________________________

(1) الوسائل 27: 296.

(2) انظر الرياض 2: 414.

(3) المسالك 2: 370.

(4) الخلاف 2: 601.

(5) غنائم الأيام: 688.

(6) المبسوط 8: 162.

(7) المبسوط 8: 162.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 306

الأوليين أيضا إن لم يثبت الإجماع على الجواز فيهما.

و ذهب الفاضلان و الشهيدان و فخر المحقّقين «1» و غيرهم من المتأخّرين و متأخّريهم «2»- بحيث يكاد أن يكون ذلك إجماعا منهم- إلى الجواز، و نسبه في المسالك «3» و غيره «4» إلى المشهور.

نعم، يستشمّ من الدروس التوقّف «5»، حيث ذكر المسألة و لم يبيّن الترجيح، و هو الظاهر من القواعد أيضا، حيث قال: و إن كان حاضرا على رأي «6».

و كيف كان، فدليل المشهور ما مرّ من العموم و الخصوص.

و استدلّ أيضا بالخبر المستفيض عنه صلّى اللّه عليه و آله- كما قيل «7»- الوارد في حكاية زوجة أبي سفيان «8».

و فيه: أنّ الظاهر منه أنّه من باب الاستفتاء و الإفتاء دون الحكم، لقولها: أ يجوز أن آخذ من ماله؟ و لعدم تحقّق طلب بيّنة عنها، و لا يمين، و لا غيرهما من لوازم القضاء.

______________________________

(1) المحقّق في الشرائع 4: 86، المختصر: 285، الفاضل في التحرير 2: 187، و التبصرة: 189، الشهيدان في اللمعة و الروضة 3: 103، و المسالك 2: 370، فخر المحقّقين في الإيضاح 4: 359.

(2) كالسبزواري في الكفاية: 269. و الكاشاني في المفاتيح 3: 253، و الفاضل الهندي في كشف

اللثام 2: 347.

(3) المسالك 2: 370.

(4) كالكفاية: 269.

(5) الدروس 2: 91.

(6) القواعد 2: 216.

(7) انظر المسالك 2: 370.

(8) صحيح مسلم 3: 1338.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 307

و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «خذي ما يكفيك» و إن كان ظاهرا في الحكم إلّا أنّه يحمل على إرادة جواز الأخذ، بقرينة ما ذكر.

هذا، مع أنّه لا دليل على حضور أبي سفيان في البلد، أو عدم امتناعه، أو تعذّره من الحضور.

و لا إطلاق فيه، لكونه قضية في واقعة، فلا يتمّ الاستدلال به و لا بالعموم، لما مرّ من المخصّص، بل و لا خصوص مجوّزات الحكم على الغائب، لما يأتي.

احتجّ الشيخ بأنّ القضاء على الغائب ضرورة يقتصر فيها على موضع الحاجة «1».

و الأردبيلي: بأنّه إدخال الضرر على الغائب، إذ قد يتعذّر عليه إقامة الحجّة بعد الحكم، و على تقديرها قد يتعذّر عليه استيفاء الحقّ من الخصم، أو الكفيل، لموت أو فقر.

و مرجع الأول إلى الأصل، و الثاني إلى قاعدة نفي الضرر.

و الأول: يندفع بالدليل.

و الثاني: يخرج عنه أيضا به، مع أنّ ترك القضاء أيضا قد يكون ضررا على المدّعي. و أيضا لو كان إيجاب الحكم لتعذّر إقامة الحجّة لا وجه له و لو سلّم فهو نادر، و الضرر الحاصل من تعذّر الاستيفاء- لو كان- إنّما هو من جهة دفع المال دون القضاء.

و قد يستقرب العدم بضعف الخبرين «2» سندا و دلالة.

أمّا الأول فظاهر.

______________________________

(1) المبسوط 8: 162.

(2) أي مرسلة جميل و رواية محمد المتقدّمتان في ص: 304.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 308

و أمّا الثاني فلعدم ظهور الخبرين في الحاضر في البلد الغير المتعذّر حضوره، و لعلّه لأجل ظهور قوله: «قدم» في المسافر، و كذا الحاجة

إلى دفع المال و أخذ الكفيل، مع أنّ الغائب يحتاج إلى متعلّق مقدّر، فهو إمّا البلد أو المجلس، فيحصل فيه الإجمال الموجب للاقتصار على المتيقّن.

و لو منع احتياجه إلى المتعلّق و جعل لفظه مستعملا في الشخص الغير الحاضر لصار أشكل، لمنع صدقه عرفا على من في البلد.

و الجواب: أمّا عن ضعف السند فقد مرّ.

و أمّا عن ضعف الدلالة: فيمنع ظهور لفظ: «قدم» في المسافر لغة، بل يصدق على قدوم المجلس أيضا، و دفع المال و أخذ الكفيل يمكن تحقّقه كثيرا في الحاضر في البلد أيضا، و الغائب مطلق كالأكل، فلا يحتاج إلى متعلّق خاصّ، فيتحقّق كلما تحقّقت الغيبوبة. إلّا أنّه يمكن أن يقال:

إنّه ليس المراد مطلق الغيبوبة كالأكل، إذ كلّ شخص غائب عن غير موضع واحد، فالمراد: الغائب عن موضع خاصّ، و لا دليل على أنّه مجلس الحكم، فيدخله الإجمال المسقط للاستدلال. و لا يبقى دليل على جواز الحكم على مثل ذلك الغائب، و قد عرفت حال عمومات الحكم.

فإذن قول الشيخ هو الأظهر و عليه العمل، (و جانب العدم أحوط) «1».

المسألة الثانية: يكفي في جواز القضاء عليه إقامة البيّنة عليه، و لا يحتاج إلى يمين

. و ذهب جماعة «2»- منهم الوالد العلّامة- إلى إحلاف المدّعي، بل ادّعى عليه الشهرة، و قد مرّ دليلهم بجوابه في بحث الدعوى على الميّت.

______________________________

(1) بدل ما بين القوسين في «ح»: و إن كان مراعاة جانب العدم أحوط.

(2) كالسبزواري في الكفاية: 269.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 309

المسألة الثالثة: إذا حكم على الغائب فهل يدفع إلى المدّعي المدّعى به، أم لا؟

المعروف من مذهب الأصحاب: نعم، و يدلّ عليه الخبران «1».

و هل هو على الوجوب بعد طلب المدّعي، أم الجواز؟

الخبران لا يثبتان أزيد من الجواز، فهو الوجه.

و أمّا عمومات النهي عن المنكر و نحوها فلا تفيد هنا، إذ مع بقاء الغريم على الحجّة و عدم الإحاطة بما يحتجّ به لا يعلم منكر، و لا حقّ ثابت بلا كلام حتى يجب استيفاؤه.

و هل يتوقّف جواز الدفع على أخذ الكفيل، كما ذهب إليه الشيخ في النهاية و القاضي و الحلّي على ما حكي عنهم، و المحقّق في كتابيه «2»، و جمع من المتأخّرين «3»، منهم الوالد العلّامة؟

أم لا، كما حكي عن ابن حمزة «4»؟ بل هو مذهب كلّ من أوجب اليمين هنا، فاكتفوا بالتحليف عن التكفيل.

الحقّ هو: الأول، للخبرين المتقدّمين، و لكنّ التكفيل فيهما مقيّد بعدم كون المدّعي مليّا، فمع ملاءته لا تكفيل، و هو كذلك، لذلك.

و ظاهر أنّ علّة التكفيل و التقييد إنّما هي دفع الضرر عن الغريم لو ثبت استحقاقه الاسترداد، و على هذا فيجب أن يكون الكفيل من يسهل الاستيفاء عنه، و كذلك الملاءة، فلو كان مليّا و لكن كان المال المحكوم به له خطيرا

______________________________

(1) أي مرسلة جميل و رواية محمّد، المتقدّمتان في ص 304.

(2) النهاية: 352، و حكاه عن القاضي في الرياض 2: 414، الحلّي في السرائر 2:

34، المحقّق في الشرائع 4: 85، و النافع:

285.

(3) كابن سعيد في الجامع للشرائع: 527، و العلّامة في القواعد 2: 216.

(4) الوسيلة: 214.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 310

زائدا عن قدر ملاءته لا يكتفى بها.

و بالجملة: مقتضى العلّة المستفادة: تحصيل الوثوق بسهولة الاستيفاء و دفع الضرر عن الغريم لو تمّت حجّته.

المسألة الرابعة: جواز الحكم على الغائب يختصّ عندنا- كما قيل «1»- بحقوق الناس مطلقا

، مالا كانت أو عقدا أو غيرهما، دون حقوق اللّه المحضة، فلا يجوز الحكم فيها على الغائب، و قيل: الظاهر أنّه إجماعيّ «2»، و صرّح والدي في المعتمد بالإجماع عليه.

و يدلّ عليه- بعد ظاهر الإجماع- الأصل، و قوله: «ادرءوا الحدود بالشبهات» «3» فإنّ احتمال إقامة الغائب الحجّة شبهة و أيّ شبهة؟! و شمول العمومات لحقوق اللّه غير معلوم، سيّما ما تضمّن منه مثل قوله: «احكم بين الناس» و: «بينهم» و: «اقض لهم» «4».

و أمّا الخبران و إن كانا شاملين لها إلّا أنّهما يعارضان رواية قرب الإسناد «5» المنجبرة في المورد، فإمّا ترجّح- لمرجوحيّة الخبرين بمخالفة العمل فيه أو يتساقطان، فيرجع إلى الأصل، مع أنّ نفس مخالفتهما للعمل في المورد يسقط حجّيتهما فيه.

و إذا كانت الدعوى فيما يتضمّن الحقّين- كالسرقة- فالمشهور فيه أيضا أنّه يحكم على السارق بغرامة المال بعد الثبوت، بخلاف القطع،

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 415.

(2) غنائم الأيام: 688.

(3) الفقيه 4: 53- 190، الوسائل 28: 47 أبواب مقدّمات الحدود و أحكامها العامّة ب 24 ح 4.

(4) انظر الوسائل 27: 229 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 1.

(5) المتقدّمة في ص: 304.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 311

فيصبر حتّى يحضر فيثبت عليه، و لا منافاة بين الحكمين، و هو كذلك، و يظهر وجهه ممّا مرّ.

و تردّد المحقّق في الشرائع «1»، و وجه العدم هو كونهما معلولين لعلّة واحدة، فلا ينفكّان.

و

يدفعه: أنّ كون السرقة علّة تامّة للقطع ممنوع، بل هو مع حضور المدّعى عليه.

و قد يعتذر بأنّ علل الشرع معرّفات، و لا مانع عن تخلّفها عن المعلول، كما لو أقرّ بالسرقة مرّة فتثبت الغرامة دون القطع، و كذا لو أقرّ المحجور عليه بالمال فيثبت الحكم في القطع دون المال.

و فيه: أنّ المعرّف معناه: أن يعرّف العالم بالأحكام المستأهل لمعرفتها ثبوت الحكم بسبب وجوده، فلا يتخلّف عنه. و اللّه العالم.

المسألة الخامسة: قد دلّ الخبران و صرّح الأصحاب: بأنّ الغائب المحكوم عليه على حجّته

، فإذا حضر فادّعى فسق الشهود، أو الردّ، أو الإبراء، أو تحقّق رضاع محرّم في دعوى النكاح، أو عدم أهليّة الحاكم، أو وجود بيّنة معارضة لبيّنة، أو غير ذلك من الحجج، يحكم له بمقتضاه.

و هل يشترط أن تكون إقامة الحجّة عند الحاكم الأول، أو يجوز له إقامتها عند حاكم آخر؟

الظاهر هو: الثاني، للأصل، إلّا في جرح الشهود و تعارض البيّنات، لأنّهما من تتمّة الحكم الأول، و لم يثبت جواز إتمام حكم واحد من حاكمين، و لا حجّية الجرح الثابت عند أحدهما، و لا الشهادة المؤدّاة عنده

______________________________

(1) الشرائع 4: 86.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 312

على الآخر.

و الحاصل: جواز الإقامة عند الغير إذا كانت الحجّة دعوى أخرى طارئة على الاولى، و عدمه إذا كانت نقضا في الدعوى الاولى.

نعم، الظاهر أنّه يجوز لهما بعد حضور الخصم إعادة الترافع عند الغير، فتقام الحجّة عنده بعد إقامة المدّعي حجّته، لأنّ القضاء الأول غير تامّ بعد، فيجوز تركه و الرجوع إلى الغير، و لذا يؤخذ الكفيل.

و على هذا، فلو مات الحاكم الأول أو سافر سفرا يتعسّر الوصول إليه قبل إقامة الغريم حجّته بجرح الشهود أو معارضة البيّنة يعيدان المرافعة عند حاكم آخر، فتأمّل. و اللّه العالم.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة،

ج 17، ص: 313

الفصل الرابع فيما إذا كان المدّعى عليه أو المدّعي أو كلاهما غير صاحب الحقّ
اشارة

و فيه بحثان:

البحث الأول فيما إذا كان المدّعى عليه المخاصم مع المدّعي غير الغريم الذي تعلّق الحقّ به لو كان
اشاره

و هو إمّا يكون وارثا للغريم، أو مملوكا، أو وكيلا له، أو وليّا بالأبوّة، أو الوصاية، أو الحكومة، أو القيمومة. فهاهنا مسائل:

المسألة الأولى: إذا كان المدّعى عليه وارثا للغريم
اشاره

، فيشترط في سماع دعواه أمران:

أحدهما: ثبوت موت المورّث.

و الثاني: تخلّف مال عنه تحت يده.

فإن اعترف المدّعي بانتفاء الأمرين لم تسمع الدعوى، لكونها لاغية.

و إن اعترف الوارث بهما سمعت الدعوى قطعا.

و إن اختلفا فيهما أو في أحدهما فتحصل حينئذ ثلاث دعاو أو دعويان: دعوى الأمرين، أو أحدهما، و دعوى المال. و يبدأ بأيّ من الثلاثة أراد، لعدم دليل على تقديم أحدها.

و قد يتراءى هاهنا إشكال، و هو أنّ هذه الثلاثة ليست بدعوى واحدة،

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 314

لجواز تغاير أحكامها، فتثبت إحداها بالبيّنة، و الأخرى بالشاهد و اليمين، و الثالثة باليمين المردودة و بالشاهدين و اليمين، أو تثبت اثنين منها و يتصالحان في الأخيرة، فهي دعاو متعدّدة، و صحّة كلّ منها- أي صحّة سماعها- متوقّف على ثبوت الأخرى الموقوف على صحّتها، و كونها مسموعة أيضا يتوقّف على صحّة الأخرى.

و دفعه: أنّ سماع كلّ منها موقوف على احتمال تحقّق المدّعى به فيها و في الأخريين، و هو متحقّق غير متوقّف على شي ء، و فائدة كلّ منها التسلّط على أخذ المال بعد تمام الدعاوي الثلاث، أو رفع تسلّطه على الوارث. و بذلك تفترق الدعوى على الوارث عن الدعوى على المورّث بأنّ الأخيرة دعوى واحدة غير متوقّف مقتضاها على شي ء آخر، بخلاف الدعوى على الوارث. و قد تفترق أيضا بأنّ اليمين في الدعوى مع المورّث على البتّ في نفي المدّعى به، و هنا على نفي العلم.

و فيه: أنّ المورّث أيضا إن قال: لا أدري، و ادّعى المدّعي علمه يحلفه على نفي العلم، كما أنّ

الوارث أيضا إن ادّعى نفي المدّعى به.

و هو أمر ممكن، كما إذا ادّعى ثمن الضيعة الفلانيّة على المورّث، و علم الوارث أداءه في حضوره، أو قال: إنّي أقرضت مورّثك المبلغ الفلاني في اليوم الفلاني في المكان الفلاني، و علم هو انتفاءه، يحلف على البتّ في نفي المدّعى به، كما صرّح به بعض فضلائنا المعاصرين أيضا «1».

و لا دليل على أنّ يمين الوارث منحصر في يمين نفي العلم، فتأمّل.

______________________________

(1) المحقّق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام): 692.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 315

فرعان:
أ: لو حلف الوارث على نفي العلم، فهل تسقط دعوى المدّعي في أصل الحقّ

و إن حصلت له بيّنة بعد و أراد إقامتها، أم لا؟

قال بعض المعاصرين: فيه نظر، و الحقّ: أنّ الأدلّة المتقدّمة لا دلالة فيها على ما نحن فيه، و لا يبعد سماع البيّنة حينئذ «1». انتهى.

أقول:

ما نفى البعد عنه قريب جدّا، بل هو كذلك، لأنّ المستفاد من الأدلّة الدالّة على سقوط الحقّ باليمين ليس إلّا سقوط ما حلف على نفيه، و هو العلم فيما نحن فيه، بل صرّح بذلك في صحيحة ابن أبي يعفور، و فيها: «و كانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه» «2».

نعم، لو أراد إقامة البيّنة بعده على إثبات علمه بإثبات إقراره و نحوه لا تسمع.

ب: لو ردّ الوارث المدّعى عليه العلم باليمين، فهل يتعيّن عليه الحلف على علمه،

أو يكفي الحلف على ثبوت الحقّ، فقد يسهل على المدّعي الحلف عليه دون الحلف على علم الوارث؟

قال بعض المعاصرين: الظاهر أنّ الخيرة بيد الحالف لا المحلف، فيجوز له الحلف على ثبوت الحقّ «3».

______________________________

(1) غنائم الأيام: 692.

(2) الكافي 7: 417- 1، الفقيه 3: 37- 125، التهذيب 6: 231- 565، الوسائل 27: 244 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 9 ح 1.

(3) غنائم الأيام: 692.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 316

أقول:

فيه نظر، بل الحقّ تعيّن الحلف على العلم، لأنّ الحلف أمر توقيفي، و لم يثبت جواز حلف المدّعي إلّا مع الردّ، و الردّ لا يكون إلّا على إثبات ما توجّه على المنكر، فكما لا يجوز للمدّعي إحلاف الوارث النافي للعلم إلّا بنفي العلم، فبعد ردّه لا يجوز له الحلف إلّا بإثبات العلم، لأنّ مخيّرة ليس ما ردّه.

و منه يظهر أنّه ليست الخيرة بيد المحلف أيضا، بل تتعيّن شرعا.

و أمّا ما مرّ في بحث الحلف من جواز حلف المنكر على نفي الأعمّ مع

دعوى الأخصّ، فلكون الأخصّ مندرجا تحت الأعمّ و مستلزما له، و ليس كذلك المورد، فإنّ ثبوت الحقّ واقعا لا يستلزم علم الوارث.

المسألة الثانية: إذا كان المدّعى عليه مملوكا، فهل الغريم هو أو مولاه؟

اختلف كلام الأصحاب فيه، فقال المحقّق في الشرائع: الغريم مولاه، سواء كانت الدعوى في المال أو الجناية «1». بمعنى: أنّه إذا أقرّ المملوك لم يسمع، بل يترتّب الأثر على إقرار مولاه، فيؤخذ بإقراره المال المدّعى على المملوك أصالة أو بواسطة الجناية خطأ. و لو أنكر المملوك لا يترتّب عليه أثره من اليمين و ردّها و القضاء مع النكول أو مع ردّ اليمين، و أنّ ذلك كلّه إلى المولى.

و كذا القصاص، فإنّه لا يقتصّ منه بإقراره، بل يقتصّ منه بإقرار مولاه بالموجب. و كذا لو ثبت المدّعى بالبيّنة. و يتوجّه اليمين على المولى.

و بالجملة: المدّعى عليه في الدعوى على المملوك هو المولى

______________________________

(1) الشرائع 4: 90.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 317

لا المملوك مطلقا، و إليه ذهب الفاضل في التحرير و الإرشاد و القواعد «1».

إلّا أنّ في الأخير قرّب توجّه اليمين في موردها على العبد، و مع نكوله عنها تثبت الدعوى في ذمّته، يتبع بها إذا أعتق.

و في باب الإقرار منه حكم بعدم قبول إقرار العبد على نفسه مطلقا، لكن يتبع بالمال بعد العتق، و حكم بعدم قبول إقرار المولى عليه مطلقا، لكن في الإقرار عليه بالجناية يجب المال و يتعلّق برقبته «2».

و عن الشيخ في المبسوط: إنّ الغريم في الجناية الموجبة للقصاص العبد مطلقا، و في موجب المال المولى كذلك «3».

و قال في المسالك: إنّ الأقوى أنّ الغريم كلّ واحد من العبد و المولى، فإن وقع النزاع مع العبد لم ينفذ إقراره معجّلا مطلقا، و ثبت بعد العتق مطلقا، فيتبع بالمال و تستوفى

منه الجناية.

و إن أنكر و حلف انتفت عنه الدعوى مطلقا، و إن ردّها أو نكل اتبع بموجبها بعد العتق كما لو أقرّ.

و إن وقع النزاع بينه و بين المولى- سواء كان قد وقع بينه و بين العبد أم لا- فإن أقرّ بالمال لزم مقتضاه معجّلا في ذمّته، أو متعلّقا برقبة العبد على حسب موجب الدعوى.

و إن أقرّ بالجناية لم يسمع على العبد بالنسبة إلى القصاص، و لكن يتعلّق برقبة المجنيّ عليه بقدرها، فيملكه المقرّ له إن لم يفدها المولى «4».

______________________________

(1) التحرير 2: 190، القواعد 2: 211.

(2) القواعد 1: 278.

(3) المبسوط 8: 215.

(4) المسالك 2: 374.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 318

و استشكل في الكفاية- بعد نقل قوله- في قوله: بعدم نفوذ إقراره معجّلا مطلقا، على القول بأنّ العبد يملك شيئا، أو على بعض الوجوه.

و كذا في قوله: إن ردّها أو نكل اتبع بموجبها بعد العتق، على القول المذكور. و كذا في قوله: و إن وقع النزاع بينه و بين المولى، فإن أقرّ بالمال لزم مقتضاه معجّلا في ذمّته، أو متعلّقا برقبة العبد «1». انتهى.

و قال المحقّق الأردبيلي- بعد نقل القول الأول-: و فيه تأمّل ظاهر، إذ قد يمنع لزوم المال على السيّد بمجرّد إقرار أنّ مملوكه أتلف مال الغير أو أخذه، و أيضا قد يترتّب على إقراره أثر، بأن يتبع بعد العتق.

نعم، لو كان المدّعى مالا موجودا في يد المولى صحّ ذلك.

و كذا في القصاص، فإنّه قد يترتّب على إقراره أثر، بمعنى: أنّه إذا أقرّ بالموجب و أنكر السيّد يجب عليه القصاص بعد العتق.

و أيضا إثبات القصاص عليه بالفعل مع إنكاره و عدم البيّنة بمجرّد إقرار السيّد مشكل جدّا، فإنّ للعبد أيضا حقّا، كيف

و هو المتألّم؟! نعم، يمكن أن يتملّك المجنيّ عليه منه حينئذ بقدر الجناية.

و أيضا كيف يتوجّه اليمين إلى السيّد مع إنكاره و إقرار العبد، و يحلف على نفي فعل الغير مع إقرار الغير به؟! نعم، يمكن الإحلاف على نفي العلم، و كأنّه المراد. انتهى.

أقول:

إنّ ما استشكله في الكفاية على قول صاحب المسالك- على القول بتملّك العبد- فهو في موقعه جدّا، و كذا كثير ممّا أورده الأردبيلي على القول الأول.

______________________________

(1) الكفاية: 271.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 319

و كذا يشكل ما ذكروه من أخذ العبد بالإقرار حين الرقّية بعد العتق.

و تحقيق الكلام: إنّ الدعوى على العبد- سواء كان هو المخاطب بالدعوى أو المولى- إمّا ماليّة، أو بدنيّة، أو غيرهما.

فإن كانت ماليّة، فإمّا يتبعها إقرار أو لا، فإن تبعها الإقرار فإمّا يكون هو إقرار المولى، أو العبد، أو هما.

فإن أقرّ المولى خاصّة، فتتفرّع المسألة على أنّ الحقوق الماليّة المتعلّقة بالعبد هل تتعلّق بالمولى مطلقا، أو على القول بعدم تملّك العبد شيئا؟

فإن ثبت ذلك ينفذ الإقرار في حقّ المولى، لأنّه إقرار على نفسه، و إلّا فلا يثبت شي ء على المولى و لا على العبد مطلقا.

و إن أقرّ العبد خاصّة فلا ينفذ إقراره في حقّ المولى مطلقا، للأصل.

و لا في حقّ نفسه، على القول بعدم تملّكه و تعلّق ما يتعلّق بسببه بالمولى، لا في حال الرقّية و لا بعد العتق، أمّا حال الرقّية فظاهر، و أمّا بعدها فلأنّ على ذلك ليس إقرارا على نفسه حتى تكون الرقّية مانعة عن نفوذه فيؤثّر بعد رفع المانع، بل إقرار في حقّ الغير، و لذا لو أقرّ المولى حينئذ ثبت الحقّ عليه، و لا معنى لثبوت حقّ واحد على شخصين، و أيضا

تعلّقه على العبد بعد العتق فرع كونه إقرارا على نفسه، و كونه كذلك فرع تعلّقه عليه بعد العتق، و هذا دور.

و أمّا على القول بتملّكه و تعلّق الحقوق بنفسه فينفذ إقراره في حقّه.

فإن أقرّا معا فالنافذ إقرار المولى على نفسه إن قلنا بعدم تملّك العبد و تعلّق الحقوق بالمولى، و يلغى إقرار العبد، و إقرار العبد على القول الآخر و يلغى إقرار المولى.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 320

و إن لم يتبع الدعوى إقرار أصلا، فإمّا تكون للمدّعي بيّنة أو لا.

فإن كانت له بيّنة يثبت الحكم المشهود به على المولى إن قلنا بتعلّق الحقوق الماليّة بسبب العبد على المولى و عدم تملّك العبد، و على العبد إن قلنا بتملّكه و تعلّق الحقوق بنفسه، و عليه بعد العتق إن لم يثبت تعلّقها بالمولى و قلنا بعدم تملّكه.

و إن لم تكن له بيّنة فالحلف على من ينفذ إقراره كما مرّ، و النكول كالإقرار.

و إن كانت الدعوى بدنيّة- حبسا، أو ضربا، أو جرحا، أو قتلا- فتثبت بالبيّنة، و بإقرارهما معا، و بإقرار أحدهما و نكول الآخر، أو ردّه الحلف و حلف المدّعي، و لا يثبت بإقرار أحدهما خاصّة شي ء، و لا بنكوله و لا بيمينه المردودة شي ء أصلا، حتى على العبد بعد عتقه، لأنّ حال الرقّية ليس إقرارها على نفسه محضا.

و إن كانت الدعوى غير الماليّة و البدنيّة- كالطلاق- فهو كسائر من يدّعى عليه إن لم يكن له تعلّق بالمولى. و اللّه العالم.

المسألة الثالثة: لو كان المدّعى عليه وكيلا لصاحب الحقّ

- و منه الأمين في المعاملات- أو وليّا له بأحد وجوه الولاية، فلو أثبت المدّعي حقّه بالبيّنة أو الشاهد و اليمين يحكم له، و إلّا فلا يفيد إقرار المدّعى عليه، لأنّه في حقّ الغير،

و لا يحلف، إذ لا حلف للغير، و لأنّ الحلف إنّما يكون فيما يثبت الحقّ بترك الحلف بالإقرار أو النكول، و ليس كذلك في حقّ الغير.

و ليس له ردّ الحلف إلّا في الوكيل إذا كان وكيلا في ذلك أيضا عموما أو خصوصا، لما مرّ في بحث يمين المنكر في المسألة السادسة، و لأنّه

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 321

ليس للوكيل و الوليّ إلّا الإتيان بمصلحة الموكّل و المولّى عليه، و لا مصلحة في ردّ الحلف.

و لا يترتّب أيضا على جوابه- بأنّه ليس لموكّلي، أو لمن لي الولاية عليه- ما يترتّب على جواب صاحب الحقّ بذلك، لأنّه إقرار على الغير.

فإن قيل: فعلى هذا فما فائدة مطالبة الجواب عن الوكيل و الولي؟ بل ما فائدة الدعوى عليهما؟! بل يحكم حينئذ للمدّعي كما يحكم على الغائب له.

قلنا: فائدته أنّه لعلّه يجيب بإبراء، أو ردّ، أو نقل و يثبته، أو يستحلف إن كان وكيلا فيه. و كذا يظهر في جرح الشهود و تعارض البيّنات و نحوها.

و يظهر من ذلك أنّه لو باع أمين شخص شيئا منه لزيد، فادّعى زيد بعده العين، أو اشتراط خيار في العقد، أو نحوهما، و لا بيّنة، لا تسلّط له على حلف الأمين. و كذا لو اشترى له.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 322

البحث الثاني فيما إذا كان المدّعي غير صاحب الحقّ
اشاره

و فيه أيضا مسائل:

المسألة الاولى: لو كان المدّعي وكيل صاحب الحقّ، و كان هو غائبا، و أقام الوكيل البيّنة له، و ثبتت دعواه
اشاره

، فقال الغريم: أبرأني صاحب الحقّ، أو: وفيته حقّه، و أراد التأخير إلى حضور الموكّل و استحلافه، ففي إلزامه على الحقّ أو تمكّنه وجهان:

الأول: مختار الشرائع و التحرير- و إن احتمل فيه التوقّف أخيرا- و القواعد و الإرشاد و الإيضاح «1» و غاية المراد و المحقّق الأردبيلي و المعتمد، و بعض المعاصرين «2»، و مال إليه في المسالك «3»، و حكي عن القفال من العامّة «4».

و هو الأقرب، لثبوت الحقّ على الغريم، و لا يبطل بالاحتمال المخالف للأصل.

قيل:

و لأنّ دعوى الغريم على الموكّل فلا تسقط دعوى آخر به، و لأنّ ذلك يوجب انتفاء فائدة التوكيل، لإمكان هذه الدعوى لكلّ خصم، و هو- مع أنّه خلاف المعلوم من المذهب- مستلزم للعسر و الحرج «5».

______________________________

(1) الشرائع 4: 86، التحرير 2: 187، القواعد 2: 216، الإيضاح 4: 358.

(2) غنائم الأيام: 689.

(3) المسالك 2: 371.

(4) حكاه عنه في المسالك 2: 371.

(5) غنائم الأيام: 689.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 323

و فيهما نظر، أمّا الأول فلرجوع الدعوى إلى الوكيل أيضا بعدم استحقاقه الأخذ لأجل إبراء موكّله أو أخذه، بل الدعوى معه حقيقة و ما تشبّث به مستند دعواه.

و أمّا الثاني، فلأنّ مجرّد الإثبات أيضا فأيده عظيمة، إذ لعلّ الموكّل لا يتمكّن منه بعد ذلك.

و لم أعثر على مصرّح بالوجه الثاني، نعم ظاهر الكفاية التوقّف «1»، و ليس لهذا الوجه دليل تامّ.

و هل يسلّم المال إلى الوكيل مع الكفيل، أو بدونه؟

استقرب الأردبيلي الأول، لأنّ فيه جمعا بين الحقّين.

و الوجه: الثاني، للأصل، و عدم ثبوت حقّ للغير يلزم جمعه.

هذا إذا لم يكن الوكيل وكيلا مطلقا، أو في خصوص دعوى الإبراء أو الدفع أيضا، و إلّا فاللازم عدم

إلزامه الغرامة حتى تتمّ الدعوى الثانية، كذا قيل «2».

و هو حسن إن لم يعزل نفسه بعد إثبات الدعوى الأولى، إلّا أنّه لو عزل لم يتسلّط على المطالبة أيضا، إلّا أن يقال بجواز عزله في بعض ما وكّل فيه.

هذا كلّه إذا لم يصبر الوكيل، و إلّا فيجوز له التأخير عن أصل الدعوى و عن المطالبة، لعدم لزوم فعل ما وكّل فيه عليه، إلّا أن يكون قد أوجب على نفسه بوجه من الوجوه، فتأمّل.

ثمَّ إنّ إلزام الغريم على دفع المال إنّما هو إذا كان الوكيل وكيلا في

______________________________

(1) الكفاية: 269.

(2) غنائم الأيام: 689.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 324

الأخذ أيضا، و إلّا فيكتفى بإلزامه الغريم على إيصال المال إلى مالكه.

فرع:

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 17    324     فرع: ..... ص : 324

مرّ سابقا سماع دعوى الوكيل بالوكالة الادّعائيّة، فإن أثبت دعواها بالبيّنة يحكم بها، و لكن لا يردّ إليه المال و لو ادّعى الوكالة في أخذه، لعدم الدليل. و إن لم يثبت بالبيّنة فله إحلاف الغريم، لعمومات اليمين على المنكر. فإذا جاء صاحب الحقّ، فإن قبل الوكالة فهو، و إلّا فإن اتّفق الثلاثة على عدم التوكيل لغي الحكم، و إن اختلفوا فهي دعوى اخرى يحكم فيها بمقتضى الشريعة.

فإن قيل:

اليمين حقّ لصاحب الحقّ، فلا يجوز لغيره مطالبته و إسقاطه بلا دليل- كالمال- سيّما إذا أنكر الغريم الوكالة.

قلنا:

هو يطلب حقّ نفسه، لأنّ الوكيل- و لو كان ادّعائيّا- حقّا على الغريم من جهة عمومات البيّنة و الحلف و الحكم، فهذا الحلف حقّ له من جهة كونه مدّعيا، فيطالبه، فإن قبله صاحب الحقّ فهو، و إلّا فله المطالبة أيضا، فتأمّل.

المسألة الثانية: لو كان صاحب الحقّ في زمن الغيبة الإمام الغائب عليه السّلام،

كأن يكون لميّت لا وارث له مناسبا دينا على غيره، أو اعترف أحد حال حياته بالاشتغال بالمظالم المجهول مالكها- على القول بكونها مالا للإمام، أو علم اشتغاله بها من جهة أخرى، أو علم ذلك على حيّ- فإن كان النائب العامّ عالما بالدين و المظالم و ببقائهما و كذّب المنكر فله الحكم بوجوب الأداء و مطالبته منه و أخذه، لا من باب القضاء و الترافع، بل من باب الأمر بالمعروف و نحوه ممّا مرّ في بحث حكم الحاكم بعلمه، و لكن حصول مثل ذلك العلم له نادر جدّا.

فإن أنكر الغريم و لم يتمكّن النائب العالم عن استيفاء الحقّ عن الإمام

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 325

بنفسه ترافع معه بنصب وكيل أو نائب آخر، فإن أقام البيّنة

حكم له، و إلّا فله حلفه إن رأى المصلحة للحقّ، و له ترك الدعوى مع المصلحة، و له المصالحة معها أيضا.

و إن لم يعلم به النائب، فإن كانت هناك بيّنة فللنائب الادّعاء الظنّي، فيترافعان عند حاكم آخر- لعدم دليل على نفوذ حكمه فيما ادّعاه بنفسه- أو يوكّل غيره من جانب الإمام لا من جانب نفسه، فيترافع ذلك الغير و المدّعى عليه عنه ذلك الحاكم، و يحكم بمقتضاه.

فإن ثبت بالبيّنة فيحكم، و إلّا فله إحلافه بالظنّ الحاصل من البيّنة الغير المقبولة، أو الشاهد الواحد، أو كونه في روزنامجته «1»، أو غير ذلك.

فإن حلف سقطت الدعوى، و إن نكل ثبت عليه الحقّ، و لا ردّ هنا.

و إن اعترف بالحقّ و ادّعى الأداء فعليه الإثبات، و إن لم يثبت فعليه الأداء، لأدلّة النكول، من دون يمين على المدّعي، للأصل. و كذا لا يمين على المدّعي إن كان هناك شاهد واحد، بل يتوجّه اليمين على المدّعى عليه، إمّا يحلف فيتخلّص، أو ينكل فيحكم عليه.

ثمَّ إنّ الإحلاف فيما له ذلك ليس واجبا مطلقا، بل قد يجب و قد لا يجب، بل قد لا يجوز، و إنّما يتبع ذلك مصلحة حقّ الإمام.

و قال الشيخ في المبسوط هنا بحبس المدّعى عليه حتى يعترف، أو يحلف «2». و هو مبني على عدم حكمه بالنكول، و كذا حكم في الدروس أيضا «3».

______________________________

(1) كلمة فارسية تعني: دفتر المذكّرات اليومية.

(2) المبسوط 8: 214.

(3) الدروس 2: 90.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 326

و استشكل المحقّق في الشرائع فيه بأنّ الحبس عقوبة لم يثبت موجبها «1».

و استوجه في المسالك القضاء بالنكول «2»، و لو لم يقل به في غير ذلك الموضع.

و إن كان المال المدّعى أنّه للإمام

عينا مجهولا مالكها، و ادّعى أحد أنّها له، فيحكم بها له، إذ كلّ عين ادّعاها أحد و لم يعرف مالكها فيحكم بها له، و لا يفيد علم الحاكم أو الشاهد، لأنّ غايته أنّهما لا يعرفان مالكها.

نعم، لو فرض علمهما بكذبه أنّه مالكها بوجه من الوجوه فيفيد، و لكن من أين يحصل ذلك العلم؟!

المسألة الثالثة: لو كان المدّعي وصيّا لميّت و ادّعى وصيّته للمساكين،

فإن أقام البيّنة فيحكم، و إلّا فله إحلاف الوارث، فإن حلف سقطت الدعوى، و إن نكل ثبت الحقّ- كما نقله في المسالك عن قوم «3»- لأدلّة ثبوت الحقّ بالنكول، و استوجهه في المسالك هنا أيضا و إن لم يقل بالحكم بالنكول في غيره.

و لا ردّ هنا، و لا يمين جزء البيّنة إذا كان هناك شاهد واحد.

و قيل: يحبسهم حتى يحلفوا أو يعترفوا «4». و إليه ذهب في المبسوط و الدروس «5». و لا دليل عليه، و لذا قال في القواعد في هذه المسألة و في

______________________________

(1) الشرائع 4: 92.

(2) المسالك 2: 375.

(3) المسالك 2: 375.

(4) حكاه في المبسوط 8: 214 بقوله: و قال آخرون يحبس الورثة حتى يحلفوا أو يعترفوا.

(5) المبسوط 8: 214، الدروس 2: 90.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 327

سابقتها: إنّ فيه نظرا «1».

و أمّا إحلاف الفقير فلم يقل به أحد، و لا وجه له أيضا، لعدم تعيّن الحقّ لفقير خاصّ.

و لو تعدّد الوارث و اعترف البعض ثبتت حصّته، و يعمل في الباقي بما مرّ.

و لو كان المدّعي وصيّا على الثلث و ادّعى دينا لميّت، فكذلك أيضا.

و لو كان وصيّا على طفل، فادّعى دينا على رجل و لا بيّنة له، يستحلف الرجل، فإن حلف يسقط، و إن نكل يثبت.

و قيل: إن لم يحلف توقّف الدعوى حتى يبلغ الطفل و يحلف

و يحكم له «2».

و لا وجه له، و إن قال في المسالك: إنّه الذي يقتضيه مذهبنا.

و يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى مذهبهم في ردّ اليمين على المدّعي مع النكول، و حينئذ كان للإيقاف وجها، و كذا إذا كان له شاهد واحد كما مرّ.

المسألة الرابعة: قال في الشرائع و المسالك: إنّه لو كان للميّت دين على آخر
اشاره

، فالمحاكمة و المرافعة فيه للوارث و إن كان على الميّت دين يحيط بالتركة أو يزيد عليها، و ليست المحاكمة حينئذ للغرماء، و استدلّا بأنّ الوارث إما مالك أو قائم مقام المالك «3».

قال في المسالك: و على هذا، فلو توجّه اليمين مع الشاهد أو يردّ الغريم فالحالف هو الوارث و إن كان المنتفع بالمال هو المدين «4». انتهى.

______________________________

(1) القواعد 2: 212.

(2) انظر المسالك 2: 375.

(3) الشرائع 4: 92، المسالك 2: 375.

(4) المسالك 2: 375.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 328

و نسب في الكفاية ذلك إلى الأصحاب، مشعرا بدعوى الوفاق، بل تشعر به نسبة الخلاف إلى بعض العامّة خاصّة، قال: لا يحلف ليثبت مالا لغيره.

قالوا: فلو ادّعى غريم الميّت مالا له على آخر مع شاهد، فإن حلف الوارث ثبت، و إن امتنع الوارث من الحلف لم يكن للغريم الحلف عند الأصحاب، و علّل بأنّ التركة تنتقل إلى الوارث، أو تكون على حكم مال الميّت، و على التقديرين خارجة عن ملك الغريم. و فيه خلاف لبعض العامّة. و لا يجبر الوارث على الحلف «1». انتهى.

و يشعر أيضا كلام المسالك بدعوى الوفاق، حيث قال: و إن امتنع الوارث من الحلف لم يكن للغريم الحلف عندنا، لأنّه لا يثبت بيمينه مالا لغيره «2».

و قال بعض الفضلاء المعاصرين: الظاهر أنّه لا خلاف فيه بين الأصحاب.

قال في القواعد في هذه المسألة: المحاكمة للوارث على ما يدّعيه

لمورّثه و عليه، و لو أقام شاهدا حلف هو دون الديّان، فإن امتنع فللديّان إحلاف الغريم، فيبرأ منهم لا من الوارث، فإن حلف الوارث بعد ذلك كان للديّان الأخذ من الوارث إن أخذ. و هل يأخذون من الغريم؟ إشكال «3».

انتهى.

أقول:

ما ذكره- و كذا ذكره غيره «4» أيضا من ثبوت الإحلاف للغريم

______________________________

(1) الكفاية: 273.

(2) المسالك 2: 377.

(3) القواعد 2: 212.

(4) كالفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 342.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 329

مع امتناع الوارث عن الحلف- ينافي نفي المحاكمة للغريم مطلقا، بل يثبت له حقّا فيها أيضا و إن قدّم الوارث و خصّ الغريم بالإحلاف دون الحلف.

بل تنظّر شيخنا الشهيد قدّس سرّه في الدروس في نفي الحلف عن الغريم أيضا، قال: و لا يمين لإثبات مال الغير، و فيما له به تعلّق نظر- كغريم الميّت إذا أقام له شاهدا بدين، و المرتهن إذا أقام شاهدا بملك الراهن، و امتنع من اليمين- من النفع، و من ثبوت الملك أولا للغير «1». انتهى.

ثمَّ أقول أولا: إنّهم- كما ذكر- فرّعوا اختصاص المحاكمة بالوارث و إثبات الحلف له دون الغريم بأنّه لا يمين لإثبات مال الغير، مع أنّه جار في الوارث أيضا على القول بعدم انتقال التركة إلى الوارث، كما هو الحقّ المشهور، فإنّه على ذلك القول إمّا يكون مال الديّان، أو في حكم مال الميّت، و على التقديرين ليس مالا للوارث.

و القول- بأنّه ينتقل أولا إلى الوارث ثمَّ منه إلى الغريم- قول بلا دليل، كيف؟! و قد قال اللّه سبحانه مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ «2».

و مخالفة ظاهر الآية ببعض الاعتبارات الوهمية لا وجه له.

و القياس على المفلس ضعيف، فإنّ المال ثابت كونه له، و

التفليس لم يخرجه من ماله، بخلاف المورد.

و كونه في حكم مال الميّت لا يجعله مال الوارث.

و كونه قائما مقام الميّت مطلقا ممنوع، سيّما فيما إذا لم ينتقل إليه شي ء، و لو سلّم فثبوت جميع أحكامه له ممنوع، و لو سلّم فحلف الميّت

______________________________

(1) الدروس 2: 95.

(2) النساء: 11.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 330

في إثبات ما في حكم ماله لو كان حيّا ممنوع، و إنّما هو لإثبات ماله، مع أنّ عدم الانتقال إلى الديّان أيضا محلّ كلام.

و غاية ما يستدلّون به له أنّهم لو أبرءوا الميّت عن الدين ينتقل المال إلى الوارث، و لا شي ء من مال الشخص ينتقل بالإبراء إلى غيره.

و هو استدلال ضعيف، إذ لأحد أن يقول: إنّ الإبراء ليس بناقل، بل هو سبب لبراءة ذمّة الميّت، فهي رافع للمانع عن الانتقال، و سبب الانتقال الإرث الخالي من المانع.

و ثانيا: إنّ المحاكمة و الحلف و الإحلاف لا تختصّ بإثبات المال، بل تجري في دعوى الحقوق و التعلّقات أيضا، و من البديهيّات أنّ هذا المال لو ثبت لكان للديّان فيه حقّ و تعلّق و لو كان هو الانتقال إليه بعد النقل إلى الوارث، و هذا أيضا نفع و حقّ يقع فيه النزاع و التحاكم، فتكون المحاكمة و الحلف من الغريم لإثبات حقّ الغريم بنفسه لا حقّ الغير. و إلى ذلك أشار في الدروس بقوله: من النفع «1».

و ثالثا: إنّ جميع أدلّة سماع الدعوى و إثبات حقّ المرافعة للمدّعي و أدلّة الحلف و الإحلاف و الردّ شاملة للغريم هنا، فلا وجه لرفع اليد عنها، بل في شمولها للوارث نظر ظاهر، إذ لا يعدّ عرفا في مثل ذلك المال أنّه حقّ الوارث.

و رابعا: إنّ في تخصيص

المحاكمة و الحلف و الإحلاف بالوارث و عدم اعتناء فيه بالغريم ضررا و إضرارا ظاهرين على الغريم، فإنّ الوارث ربّما لا يحلف و لا يستحلف، بل لا يقيم البيّنة أيضا إذا علم أنّه لا ينتفع

______________________________

(1) الدروس 2: 95.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 331

بها، و هو منفيّ في الشريعة المقدّسة، بل ربّما يكون الوارث غائبا مفقود الخبر، أو صغيرا، أو امرأة غير عالمة بالدين، و الغريم عالم به.

و منه يظهر أنّ الحقّ: أنّ المدّعي إذا كان الدين محيطا بالتركة هو الغريم، و له الترافع و الحلف و الإحلاف، و ما ذكره في الكفاية و المسالك «1» ليس صريحا في دعوى الإجماع، بل و لا ظاهرا فيه أيضا، و لو كان صريحا لم تكن فيه حجّية، سيّما مع مخالفة الفاضل و عدم موافقة الشهيد «2» بل عدم تعرّض كثير من الأصحاب له.

و هل للوارث المحاكمة و الحلف و الإحلاف أيضا، أم تختصّ بالغريم؟

الأول محتمل أيضا، لنوع تعلّق للوارث به و لو من جهة إيجاب استيفائه براءة مورّثه، (أو إيجاب إبراء) «3» من الغريم، للانتقال إليه و استخلاص المال له لو ظهر بعده مال آخر، و كونه في حكم مال مورّثه، و كون نماؤه- لو كان- زائدا عن الدين له، إلى غير ذلك.

و على هذا، فلو تحاكم الغريم و أخذ المال بالبيّنة أو الحلف لا تسلّط للوارث أصلا.

و لو تحاكم الوارث و أخذه كان الغريم أخذه منه، أو من الذي عليه المال، و ليس له المرافعة ثانيا.

و لو تحاكم الغريم و أسقط دعواه بالإحلاف كان للوارث التحاكم، فإن أخذ هو المال يكون للغريم الأخذ منه.

و لو تحاكم الوارث و أسقط دعواه بالإحلاف فللغريم التحاكم أيضا،

______________________________

(1) الكفاية:

273، المسالك 2: 377.

(2) الفاضل في القواعد 2: 212، الشهيد في الدروس 2: 95.

(3) بدل ما بين القوسين في «ق»: و إيجاب الإبراء.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 332

لأنّ إحلاف شخص لا يسقط إلّا ما يتعلّق بنفسه.

فرع:

لو أحاط دين جماعة بالتركة فادّعى آخر بأنّ له على الميّت دينا، فتشارك الغرماء بقدر نصيبه، فهل يتحاكم مع سائر الغرماء، أو مع الوارث؟

الظاهر: جواز محاكمة كلّ منهما معه، و يظهر حكمه بعد الترافع ممّا مرّ، فتأمّل. و اللّه العالم.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 333

الفصل الخامس في نبذ من أحكام الدعاوي في الأعيان
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الأولى: قيل: ظاهر اليد يقتضي الملكيّة ما لم تعارضه البيّنة
اشاره

، بلا خلاف فيه يوجد، و ربّما كان ذلك إجماعا، بل ضرورة، و النصوص به مع ذلك مستفيضة:

منها:- زيادة على ما تأتي إليه الإشارة في بحث تعارض البيّنة- الخبر المرويّ في الكتب الثلاثة، و فيه: أرأيت إذا رأيت [شيئا] في يد رجل أ يجوز [لي ] أن أشهد أنّه له؟ فقال: «نعم» قلت: فلعلّه لغيره، قال عليه السّلام:

«و من أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكا لك، ثمَّ تقول بعد الملك: هو لي، و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه إليك من قبله؟» ثمَّ قال عليه السّلام: «و لو لم يجز هذا ما قام للمسلمين سوق» «1».

و قريب منه الخبر المرويّ في الوسائل عن تفسير عليّ بن إبراهيم صحيحا، و عن الاحتجاج مرسلا، عن مولانا الصادق عليه السّلام في حديث فدك: «إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال لأبي بكر: تحكم فينا بخلاف حكم اللّه

______________________________

(1) الفقيه 3: 31- 92، و في الكافي 7: 387- 1، و التهذيب 6: 261- 695، و الوسائل 27: 292 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 25 ح 2: ..؟ قال:

نعم، قال الرجل: أشهد أنّه في يده و لا أشهد أنّه له، فلعلّه لغيره، فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: أ فيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن ..، و ما بين المعقوفين ليسا في «ح» و «ق»، أضفناهما من المصادر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 334

تعالى في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه ادّعيت أنا فيه من تسأل البيّنة؟ قال: إيّاك كنت أسأل البيّنة

على ما تدّعيه، قال: فإذا كان في يدي شي ء فادّعى فيه المسلمون، تسألني البيّنة على ما في يدي و قد ملكته في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بعده، و لم تسأل المؤمنين البيّنة على ما ادّعوا كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم؟!» الخبر «1». انتهى «2».

أقول:

في شرح المفاتيح أيضا ادّعاء الاتّفاق على أصل الاقتضاء.

ثمَّ أقول:

الرواية الأولى هي رواية حفص بن غياث، و هي و إن كانت ضعيفة إلّا أنّ الرواية معتبرة، لوجودها في الأصول المعتبرة، و مع ذلك بعمل الأصحاب منجبرة، و بالرواية الأخرى و غيرها معتضدة.

و تدلّ عليه أيضا موثّقة يونس بن يعقوب: في المرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة، قال: «ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من متاع الرجل و النساء فهو بينهما، و من استولى على شي ء منه فهو له» «3».

و لا شكّ أنّ الاستيلاء على الشي ء يتحقّق بكونه في يده، و الاختصاص بمتاع البيت غير ضائر، لعدم الفاصل.

و يمكن أن يستدلّ على المطلوب أيضا برواية مسعدة: «كلّ شي ء هو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل ثوب

______________________________

(1) تفسير القمّي 2: 156، الاحتجاج: 92، الوسائل 27: 293 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 25 ح 3، بتفاوت.

(2) الرياض 2: 415.

(3) التهذيب 9: 302- 1079، الوسائل 26: 216 أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 3.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 335

يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة، أو المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر، أو امرأة تحتك و هي أختك أو رضيعتك، و الأشياء كلّها على هذا حتى

يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة» «1».

و تدلّ عليه أيضا رواية حمزة بن حمران: أدخل السوق فأريد أن أشتري جارية فتقول: إنّي حرّة، فقال: «اشترها، إلّا أن تكون لها بيّنة» «2».

و صحيحة العيص: عن مملوك ادّعى أنّه حرّ و لم يأت ببيّنة على ذلك، أشتريه؟ قال: «نعم» «3».

فلا كلام في أصل المسألة، و إنّما الكلام في مواضع:
الأول: في معنى اليد

، فإنّه قد يتصوّر أنّ معنى اليد في هذا الكلام ليس على حقيقته، بل المراد المعنى المجازي، و لعدم انحصاره في معنى خاصّ إمّا يدخله الإجمال، أو يحمل على أقرب المجازات، و هو أيضا لا يخلو عن إبهام و إجمال.

و فيه: أنّ اليد و إن كانت حقيقة في العضو المخصوص إلّا أنّها في هذا التركيب ليست مجازا، لأنّ هذا التركيب حقيقة في معنى خاصّ يعرفه أهل المحاورات بقرينة التبادر و عدم صحّة السلب، فيجب الحمل عليه.

و لا شكّ في صدق الكون في اليد عرفا فيما كان تحت اختياره و يتصرّف فيه التصرّفات الملكيّة- كالبيع، و الإجارة، و الإعارة، و نحوها-

______________________________

(1) الكافي 5: 313- 40، التهذيب 7: 226- 989، الوسائل 17: 89 أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4.

(2) الكافي 5: 211- 13، الفقيه 3: 140- 613، التهذيب 7: 74- 318، الوسائل 18: 250 أبواب بيع الحيوان ب 5 ح 2.

(3) الفقيه 3: 140- 614، التهذيب 7: 74- 317، الوسائل 18: 250 أبواب بيع الحيوان ب 5 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 336

و كذا فيما يستعمله و ينتفع به و يتصرّف فيه بالإفساد و الإصلاح، كالركوب و الحمل في الدابّة، و العمارة و التخريب في الدار، و الغرس و الزرع في الأرض، و هكذا. و من وجوه الاستعمال: وضع متاعه، أو جنس

آخر، بل مطلق ماله فيه، للصدق العرفي.

و هل تصدق اليد على شي ء بكونه في مكانه المختصّ به تملّكا أو استئجارا أو عارية، كغلّة في بيته، أو دابّة في مذوده «1»، أو متاع في دكّته؟

الظاهر: نعم، للصدق العرفي.

و أمّا في كون ماله فيه من غير وضعه فيه أو عدم ثبوت ذلك- كمذود فيه دابته، أو دار فيها متاعه- يدا نظر، الظاهر: العدم ما لم يعلم أنّه بنفسه وضعه، للشّك في صدق الاسم، فلو كانت هناك دابّة عليها حمله الذي حمله بنفسه عليها تصدق اليد على الدابّة، بخلاف ما إذا كان عليها حمله و لم يثبت أنّه حمله عليها، أو حمله غيره الذي يدّعي الدابّة و بيده لجامها.

و هل يكون إغلاق باب الدار و نحوها و كون مفتاحها في يده يدا؟

الظاهر: نعم، لو كان هو الذي أغلق الباب و أخذ المفتاح.

و قد تتعارض الأمور الموجبة لصدق اليد في مال، كما إذا كان متاع زيد في الدار و أغلق عمرو بابها، أو تكون دابّة في حصار و عليها حمل الغير، أو زمامها في يد الغير، و نحو ذلك. و يجب الرجوع إلى العرف في الصدق في أمثاله.

و من صور التعارض: ما إذا كان طريق في دار زيد و يسلكه عمرو فادّعى ملكيّته، و الظاهر حينئذ ترجيح السالك. و منه: الدابّة عليها حمل زيد

______________________________

(1) المذود: معلف الدابّة- مجمع البحرين 3: 46.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 337

و لجامها بيد عمرو.

و من باب التعارض: ما اتّفق في هذه الأيّام في قريتنا، فكانت فيها دار فيها طريق يعبر عنه عامّة الناس، فسدّ مالك الدار الطريق و لم ينازعه أحد من العابرين إلّا واحد، فزاحمه و ادّعى الملكيّة متشبّثا باليد الحاصلة

من العبور، فمنعنا صدق اليد له عليه، لعدم ثبوت ما كان ينتفع به منه أمرا مخصوصا به تصدق لأجله يده عليه.

و منه يعلم أنّه لو لم يكن ذلك الطريق في ملك شخص معلوم، و ادّعى أحد ملكيّته، و نازعه واحد من العابرين لأجل نفسه لا للعامّة، لأجل يد العبور، لا يصلح لمزاحمته، لعدم كون ذلك يدا، و إن جاز له مزاحمته لكونه طريقا مسلوكا له و لغيره.

ثمَّ لا يتوهّم أنّ ما ذكرنا- من عدم توقّف صدق اليد على التصرّفات الملكيّة- يخالف ما ذكره جماعة في بحث ما يصير به الشاهد شاهدا من الإشكال في جواز الشهادة بالملكيّة بدون مشاهدة التصرّفات، كصاحب الكفاية، بل المحقّق «1»، بل قد يستشكل مع التصرّفات أيضا، و نقل التردّد فيه عن المبسوط «2»، لأنّ اليد شي ء، و الشهادة على الملكيّة شي ء أخر.

و لذا تراهم جميعا يقولون: اليد المنفردة عن التصرّف هل تصحّح الشهادة على الملكيّة، أم لا؟ فيثبتون اليد، و يختلفون في الشهادة، بل قد يثبتون اليد و يضمّون معها التصرّف أيضا.

و كذا لا ينافي ما ذكروه مع ما سنذكره من اقتضاء مطلق اليد أصالة الملكيّة، كما أنّ استصحابها أيضا يقتضي أصالتها مع الاختلاف في جواز

______________________________

(1) الكفاية: 284، المحقّق في الشرائع 4: 134، المختصر: 289.

(2) المبسوط 8: 181- 182.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 338

الشهادة بالملكيّة الاستصحابيّة. و لذا اتّفقوا على أنّ ما كان في يد مورّث شخص و لم يعلم حاله يحكم بملكيّته له، و يجوز اشتراؤه منه و لو لم تجز الشهادة له بملكيّة مورّثه.

الثاني: المراد بكون اليد ظاهرة في الملكيّة و اقتضائها لها: أنّها الأصل فيها، لا أنّها الدليل عليها

، فلا يخرج عن مقتضاها بلا دليل مخرج، و لا يعارض دليلا أصلا، بل ترفع اليد عنه مع الدليل، كما هو الشأن

في الأصول، و لذا لو لا أنّه ورد من الشرع الحلف على المنكر لو لا البيّنة لما حكمنا به.

و الدليل على ذلك الإجماع، و أخبار سؤال البيّنة عن المنازع «1» و الحكم بها، و قوله في رواية مسعدة المتقدّمة: «حتى يستبين لك غير ذلك» «2»، و بها تقيّد الإطلاقات أيضا.

الثالث: لا شكّ في أنّه يشترط في اقتضاء اليد أصالة الملكيّة عدم انضمام اعترافه بعدم الملكيّة بالإجماع

، فإنّه دليل مخرج عنها.

و هل يشترط انضمام ادّعائه الملكيّة، أم لا؟

الظاهر: الثاني، لعموم صدر رواية حفص المتقدّمة «3»، الحاصل من ترك الاستفصال، و موثّقة يونس السابقة «4»، بل لظاهر الإجماع، و لذا يحكم بملكيّة ما في يد الغائب- و كان في يد المتوفّى- له، و يحكم بكونه ميراثا منه ما لم يعلم خلافه، و يجوز الانتفاع بما في يد أحد مع إذنه من دون

______________________________

(1) المتقدمة في ص: 335.

(2) راجع ص: 334.

(3) في ص: 333.

(4) في ص: 334.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 339

سؤال ادّعائه الملكيّة و عدمه.

نعم، الظاهر اشتراط عدم انضمام ادّعاء عدم العلم بملكيّته أيضا، فلو قال ذو اليد: إنّي لا أعلم أنّه ملكي أم لا، لا يحكم بملكيّته، لأنّ الثابت من اقتضاء اليد الملكيّة غير ذلك المورد.

أمّا الإجماع فظاهر، و أمّا أخبار طلب البيّنة من مدّعيه فكذلك أيضا.

و أمّا الروايتان المتقدّمتان «1» فلظهورهما في ذلك، بل قوله في الثانية:

«يملكونه» صريح فيه، كما أنّ قوله في الأولى: «صار ملكه إليك من قبله» ظاهر فيه أيضا.

و أمّا الموثّقة «2» فلإمكان منع صدق الاستيلاء عليه في مثل ذلك الشي ء.

مضافا إلى رواية جميل بن صالح الصحيحة عن السرّاد: رجل وجد في بيته دينارا، قال: «يدخل منزله غيره»؟ قلت: نعم كثير، قال: «هذه لقطة» قلت: [فرجل وجد] في صندوقه دينارا، قال: «يدخل أحد يده في صندوقه

غيره أو يضع فيه شيئا؟» قلت: لا، قال: «فهو له» «3».

فإنّه حكم فيما هو في داره الذي لا يعلم أنّه له مع كونه في يده على ما مرّ، و مستوليا عليه أنّه ليس له، و أيضا علّل كون ما وجد في الصندوق له بما يفيد العلم بأنّه ليس لغيره.

و إلى موثّقة إسحاق بن عمّار: عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة

______________________________

(1) في ص: 333 و 334.

(2) المتقدمة في ص: 334.

(3) الكافي 5: 137- 3، الفقيه 3: 187- 841، التهذيب 6: 390- 1168، الوسائل 25: 446 أبواب اللقطة ب 3 ح 1، بدل ما بين المعقوفين في «ح» و «ق»:

فوجد، و ما أثبتناه من المصادر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 340

فوجد فيها نحوا من سبعين درهما مدفونة، فلم تزل معه و لم يذكرها حتى قدم الكوفة، كيف يصنع؟ قال: « [يسأل ] عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها» قلت: فإن لم يعرفوها؟ قال: «يتصدّق بها» «1».

فإنّه لا شكّ أنّ الدراهم كانت في تصرّف أهل المنزل على ما عرفت، و لو أنّهم قالوا: لا نعلم أنّها لنا أو لغيرنا، فيصدق أنّهم لا يعرفونها، فلا يحكم بملكيّتها لهم.

و من ذلك يعلم أنّ اليد لا تكفي في حكم ذي اليد لأجلها لنفسه إن لم يعلم ملكيّته، و لكنّ المراد بعدم علمه الملكيّة: عدم علمه بالملكيّة الشرعيّة لا الواقعيّة، فإنّ الغالب أنّ الوارث لا يعلم حال ما انتقل إليه من مال مورّثه، و المشتري في السوق لا يعلم أنّه من مال البائع، إذ ربّما سرقة أو غصبه، فإنّ اليد الخالية عن اعتراف المورّث و البائع بالعلم بعدم الملكيّة أو عدم العلم بالملكيّة الشرعيّة كافية في علم الوارث و المشتري بالملكيّة الشرعيّة.

فلو

كان متاع في دكّة أحد و لم يعلم أنّه ممّا ورثه أو اشتراه أو وضعه غيره، لا يجوز له التصرّف فيه.

و كذا إذا كان في ما خلّفه مورّثه شي ء اعترف المورّث بأنّي لا أعلم أنّه منّي أو لا.

و كذا لا يجوز شراء شي ء عن شخص كان في يده و يقول: إنّي لا أعلم أنّه من أموالي أو من الغير.

بل يلزم على ذي اليد الفحص، فإن لم يتعيّن مالكه يكون مجهول

______________________________

(1) التهذيب 6: 391- 1171، الوسائل 25: 448 أبواب اللقطة ب 5 ح 3، بدل ما بين المعقوفين في «ح» و «ق»: فاسأل، و ما أثبتناه من المصادر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 341

المالك، إمّا كونه مجهولا عند غير ذي اليد فظاهر، و إمّا عنده فكذلك أيضا، لأجل أنّه يعلم أنّه لا يعلم.

الرابع: كما أنّ مقتضى اليد أصالة الملكيّة فيما يملك كذلك مقتضاها أصالة الاختصاص بذي اليد فيما ليس ملكا

- كالوقف- فلو كان شي ء في يد أحد مدّعيا وقفيّته عليه فادّعاه غيره و لا بيّنة له يقدّم قول ذي اليد، لموثّقة يونس بن يعقوب المتقدّمة «1»، بل الظاهر الإجماع أيضا.

الخامس: ما ذكر من تقديم قول ذي اليد لدلالة اليد على الملكيّة أو الاختصاص إنّما هو إذا لم يعارضه أصل آخر

، و أمّا إذا عارضه أصل أو استصحاب آخر ففي بعض موارده الخلاف، و في بعض آخر يقدّم الاستصحاب كما يأتي.

فلو ادّعى مالك الأرض ملكيّتها و المتشبّث بها وقفيّتها عليه منه، أو المتشبّث: الإجارة، و المالك: عدمها، أو المتشبّث: التحجير، و غيره أثبت تحجيره السابق، لا يقدّم قول ذي اليد كلّيّا، و تحقيق كلّ مسألة مذكور في موضعها.

السادس: هل يختصّ اقتضاء اليد لأصالة الملكيّة أو الاختصاص بالأعيان، أم يجري في المنافع أيضا؟

لم أعثر بعد على مصرّح بأحد الطرفين، و الظاهر هو الأول، للأصل، و عدم ثبوت الإجماع في غير الأعيان، و اختصاص أكثر الأخبار بها.

أمّا أخبار تعارض البيّنات «2» و الروايتان الأخيرتان فظاهرة، لأنّ موردها في الأعيان.

______________________________

(1) في ص: 334.

(2) انظر الوسائل 27: 249 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 342

و أمّا رواية حفص «1»، فلأنّ لفظ: «شيئا» فيها و إن كان نكرة في سياق الشرط المفيدة للعموم إلّا أنّ رجوع الضمير في قوله: «الشراء منه» و: «أن تشتريه» يوجب إمّا تخصيصه بالأعيان، أو التوقّف، كما بيّن في الأصول، لعدم جواز الشراء في المنافع إجماعا.

و أمّا الموثّقة «2»، فلرجوع الضمير المجرور فيها إلى المتاع، الذي هو من الأعيان.

و أمّا رواية مسعدة «3»، فلأنّ الاستدلال بها إنّما هو بواسطة الأمثلة المذكورة فيها، و كلّها من الأعيان. و أمّا قوله: «و الأشياء كلّها على هذا» فإنّما يدلّ على الحلّية دون المطلوب.

نعم، ظاهر حديث فدك «4» العموم، إلّا أنّه يمكن دعوى اختصاص صدق اليد حقيقة بالأعيان، فإنّها المتبادر عرفا من لفظ: «ما في اليد»، بل الاستيلاء و صدقه على المنافع غير معلوم، بل نقول: إنّ الكون في اليد و الاستيلاء إنّما هو في الأشياء الموجودة في الخارج القارّة، و أمّا الأمور التدريجيّة الوجود

الغير القارّة- كالمنافع- فلو سلّم صدق اليد و الاستيلاء فيها فإنّما هو فيما تحقّق و مضى، لا في المنافع الآتية التي هي المراد هنا.

و لا يتوهّم أنّ ما ورد في خصوص الرحى الواقعة على نهر ماء الغير و المنع عن سدّ الماء عنه «5» يثبت اقتضاء اليد في المنافع الملكيّة أيضا، و كذا ما ذكره جماعة في الميراث، لأنّ عدم اقتضاء اليد الملكيّة لا ينافي

______________________________

(1) المتقدّمة في ص: 333.

(2) المتقدّمة في ص: 334.

(3) المتقدّمة في ص: 334.

(4) المتقدّم في ص: 333 و 334.

(5) الوسائل 25: 431 أبواب إحياء الموات ب 15 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 343

المنع عن سدّ منفعة مخصوصة بدليل آخر- كالخبر، أو الضرر- فيختصّ الحكم بمورده.

و أمّا ما قد يدّعى من ظهور اليد في الملكيّة، و هو حاصل في المنافع أيضا.

ففيه- بعد تسليم اليد-: منع حجّيّة ذلك الظهور أولا، و منع الظهور ثانيا، لأنّه لو سلّم فإنّما هو في الأعيان مع التصرّفات الملكيّة. و أمّا في المنافع التي أعيانها ملك الغير فلا، لشيوع مشاهدة تصرّفات الناس في كثير من المنافع من غير تحقّق جهة اللزوم و الملكيّة، فيحمل الجار على حائط جاره أو المشترك، و ينصب الميازيب على داره، و يطرح الثلج، و يضع خشب السقف على حائطه، و يجري الماء من داره إلى داره، أو ماءه إلى داره، و يستعمل المسلمون- بشاهد الحال- بعضهم ماء بعض، و يجرون مياههم في دورهم، و قد يغيّرون مواضع الجريان في كلّ عام، و يبنون الحياض الكبيرة المجدّدة، إلى غير ذلك.

بل يمكن ادّعاء ظهور عدم الملكيّة في أمثال ذلك، و ابتناء الأمر أولا على المسامحة، أو شاهد الحال.

السابع: ما ذكر- من أنّ الاستيلاء يدلّ على أصالة الاختصاص للمستولي- إنّما هو إذا لم يكن هناك مدّع ثبت له اختصاص آخر أيضا،

فلو كان كذلك لا

يفيد الاستيلاء شيئا، لأنّ جهة الاختصاص الثابتة بالاستيلاء غير معيّنة، و إرجاعها إلى ما يدّعيه المستولي لا دليل عليه بخصوصه حتى يحمل عليه، و الجهة الأخرى للغير ثابتة، فليس لها معارض معلوم، و لا رافع كذلك.

فلو ادّعى أحد استئجار شي ء في يد غيره، مدّعيا بأنّه استأجره،

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 344

تطلب البيّنة من المدّعي، لأصالة الاختصاص بالمستولي، فإنّ جهة الاختصاص بينهما واحدة.

بخلاف ما لو ادّعى المالك عدم الإجارة، لأنّ ملكيّته مختصّة به، و المستأجر يدّعي الاختصاص الاستئجاري، و لا دليل عليه.

و كذا لو ادّعى أحد اختصاصه بشي ء في يده، و يستولي عليه من جهة استحقاق منفعته بصلح و نحوه، و ادّعى «1» المالك عدمه، فلا يقدّم قول المستولي، لثبوت جهة اختصاص للمالك، و عدم ثبوت الاختصاص النفعي للمستولي فاحتفظ بذلك، فإنّه مفيد في كثير من المواضع.

الثامن: يشترط في دلالة اليد على الملكيّة احتمال كونها ناشئة من السبب المملّك

، فلو علم مبدؤها و أنّه ليس سببا مملّكا لا حكم لها، كيد الغاصب و الودعي، و كما إذا كان شي ء لم يحتمل وجها شرعيّا مملّكا، و كما إذا أخذه المدّعي بحضورنا و أثبت يده عليه، للإجماع، و اختصاص الأدلّة بغير ذلك.

و المراد باحتمال الاستناد إلى السبب المملّك أيضا: الاحتمال المتحقّق بعد إعمال الأصول و القواعد الممهّدة الثابتة، فلو كانت هناك يد لم يعلم منشؤها، و لكن علم مسبوقيّتها بيد عارية أو غصب، و لم يعلم أنّ اليد الحاليّة هل هي تلك اليد، أو زالت الاولى و حصلت يد حاصلة من السبب المملّك، فمقتضى استصحاب اليد السابقة و أصالة عدم حدوث يد اخرى يجعلها هي اليد الاولى، فلا تفيد ملكيّته.

و ليس هذا من باب تعارض الاستصحاب و الأصل مع اليد المقتضية

______________________________

(1) في «ق»: و إن ادّعى ..

مستند

الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 345

للملكيّة، بل تصير اليد بواسطة الأصل و الاستصحاب غير اليد المقتضية.

التاسع: لا يشترط في صدق اليد عرفا مباشرة ذي اليد بنفسه للتصرّف

، بل تكفي مباشرة الوكيل و المستعير و الأمين و المستأجر و الغاصب بعد ثبوت أحد هذه الأوصاف له في ذلك التصرّف، للصدق العرفي. و كذا يد المقرّ أنّها لزيد، فإنّه يقال عرفا: إنّها في يد زيد، فتأمّل.

العاشر: يمكن أن تكون يدان أو أزيد على شي ء واحد

، بمعنى: أن تكون يد كلّ منهما بحيث لو كانت منفردة لصدق كون ذيها ذا اليد بالنسبة إلى تمام الشي ء عرفا، كالدابّة يركبانها رديفين، أو السراج يستضيئان به، و اللحاف ينامان معا في كلّ ليلة فيه، و الإناء يأكلان منه دفعة، و حينئذ فيحكم بكونهما ذا اليد على ذلك الشي ء، لا أنّ يد كلّ منهما على بعضه المشاع، لإمكان كون شي ء واحد في يد اثنين، فلا ضرورة إلى التبعيض.

و ليست اليد كالملكيّة التي لا يمكن تعلّقها بتمام شي ء بالنسبة إلى كلّ من الشخصين، بل مثل القرابة لشخصين و التوطّن في بلدتين، و الجارية لدارين، و المصاحبة مع شخصين، و المؤانسة لهما، و هكذا.

الحادي عشر: اقتضاء اليد للملكيّة التامّة لذي اليد إنّما هو إذا لم تعارضها يد أخرى أيضا

، أي كانت يدا منفردة، فلو كان شي ء واحد في يد شخصين- بحيث لم تختصّ يد كلّ بالبعض عرفا- لا يدلّ على ملكيّته لواحد منهما، للمعارض، و لا لهما معا بأن يكون تمامه ملكا لهما، لعدم الإمكان.

و هل يحكم حينئذ بالاشتراك في الملكيّة حتى يكون بينهما بالسويّة؟

كما هي قاعدة الشركة، مع عدم دليل على الاختلاف، أم لا، بل يحكم بواسطة اليدين على نفي ملكيّة غيرهما و إن لم يحكم بملكيّتهما أو

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 346

أحدهما؟

ظاهر أكثر الأخبار المتقدّمة و إن كان خاليا عن الدلالة في ذلك، لأنّ الرواية الأولى «1» مختصّة باليد الواحدة، و العلّة المذكورة فيها بقوله: «و من أين جاز لك» إلى آخره، لا تدلّ على أنّه إذا اشتراه من اثنين يجوز له أن يشهد أنّه لهما، بل تدلّ على أنّه يجوز له أن يشهد أنّه ملك لهما أو لأحدهما.

و الثانية «2» و إن كانت أعمّ إلّا أنّها لا تدلّ على الأزيد من طلب البيّنة من الخارج

عنهما، المستلزم لاقتضاء نفي ملكيّة الغير و حصول الملكيّة في الجملة الشاملة لملك هذا و هما معا بالشركة، و أمّا الاشتراك بخصوصه فلا.

و كذا إطلاق الروايات الثلاث الأخيرة «3».

إلّا أنّ مقتضى قوله في الموثّقة: «و من استولى على شي ء منه فهو له» «4» أنّه لو استوليا معا عليه كان لهما، و بمقتضى قاعدة التساوي في الشركة المبهمة أنّه بينهما نصفين، و مرجعه إلى أنّ اليدين المشتركتين تقتضيان الملكيّة المشتركة.

و تعضده الروايات الكثيرة «5» الدالّة على تنصيف ما يدّعيه الاثنان و يدهما عليه بدون البيّنة لأحدهما، أو مع البيّنة لهما، بل الظاهر أنّه إجماعيّ أيضا، كما يظهر من حكمهم بالتنصيف في تداعي شخصين ما في

______________________________

(1) المتقدّمة في ص: 333.

(2) المتقدّمة في ص: 333 و 334.

(3) المتقدّمة في ص: 334 و 335.

(4) المتقدّمة في ص: 334.

(5) انظر الوسائل 18: 450 أبواب أحكام الصلح ب 9، و ج 27: 249 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 347

يدهما معا.

الثاني عشر: لو أقرّ ذو اليد بملكيّة زيد، ثمَّ أقرّ بعده لعمرو، يحكم باليد لزيد

، لثبوتها بالاعتراف الأول، و عدم صدق اليد عرفا للثاني بعد الأول، فلا يصلح الثاني لمعارضة الأول، فيبقى الأول بلا معارض و مستصحبا.

المسألة الثانية: لو تنازع اثنان في عين واحدة
اشاره

، بأن ادّعى كلّ منهما جميعها، فإمّا تكون في يدهما، أو يد أحدهما، أو يد ثالث، أو لا يد عليها، فهذه أربع صور.

الصورة الاولى: أن تكون في يدهما معا

، فترجع دعوى كلّ منهما إلى النصف الذي في يد الآخر، و يكون النصف الآخر خاليا له عن المعارض، لما مرّ في الموضع الحادي عشر من المسألة الاولى.

و على هذا، فإن كانت هناك بيّنة لأحدهما يحكم بالجميع له، لأنّ البيّنة حجّة شرعيّة.

و إن كانت لهما فيرجع إلى تعارض البيّنات، و يأتي حكمه.

و إن لم تكن بيّنة يحلف كلّ منهما على نفي ما يدّعيه صاحبه ممّا في يده، لأنّه منكر بالنسبة إليه، و لا يتعرّض في الحلف لإثبات ما في يده، إذ لا يمين على ما لا دعوى فيه. فإن حلفا أو نكلا قضي بينهما بالسويّة من غير ردّ يمين على المنكول له، على المختار.

و إن حلف أحدهما و نكل الآخر بعده قضي بالجميع للحالف من غير ردّ يمين اخرى عليه، على ما اخترناه من القضاء بالنكول.

و إن نكل الأول ثبتت دعوى صاحبه في نصف الناكل، فإن حلف الآخر لنفي النصف الّذي ادّعاه صاحبه عليه يخلص الكلّ له.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 348

و على القول بردّ يمين الناكل، تثبت على كلّ منهما اليمين المردودة مع نكولهما، و على الحالف يمين اخرى بعد نكول الثاني مع نكوله بعد حلف الأول، فيحلف مرّتين، و كذا إذا كان النكول قبل حلف صاحبه.

و هل يجمع اليمينين حينئذ في يمين واحدة، أم لا؟

الوجه: الأول، كما هو ظاهر الأصحاب من غير خلاف يعرف كما قيل «1»، لما أثبتنا في موقعه من أصالة تداخل الأسباب.

ثمَّ إنّه هل يتخيّر الحاكم في البدأة بينهما بالإحلاف، أو يقرع بينهما؟

فيه وجهان، و

قيل: يبدأ بالسابق منهما بالدعوى، فيحلف صاحبه «2». و هو حسن، لما مرّ من تقديم حقّ من بدر بالدعوى.

و يمكن الاستدلال أيضا بأنّ كلّا منهما- لكون يد الآخر عليها- مدّعي، و لكون يده عليها منكر، فلكلّ منهما الحلف و الإحلاف، فيتحالفان، أو ينكلان، أو يحلف أحدهما و ينكل الآخر، لعموم الأدلّة، فالترجيح على الأخير ظاهر، و على الأولين لا يمكن الجمع بإعطاء جميع العين كلّا منهما و لا منع كليهما، لعدم خروج الملكيّة عنهما، و لا ترجيح أحدهما بزيادة، لعدم المرجّح، فلم يبق إلّا التنصيف، و لكن فيه كلام يأتي من عدم ظهور مثل ذلك من المدّعي و المنكر المتقابلين.

و يدلّ على المطلوب أيضا: أنّه ثبت تنصيف العين بينهما في المورد من الأخبار، كمرسلة ابن المغيرة الصحيحة عن ابن محبوب- مع كون الإرسال عن غير واحد من أصحابنا-: في رجلين كان معهما درهمان، فقال أحدهما: الدرهمان لي، و قال الآخر: هما بيني و بينك، فقال أبو

______________________________

(1) رياض المسائل 2: 416.

(2) انظر الكفاية: 275.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 349

عبد اللّه عليه السّلام: «أمّا الذي قال هما بيني و بينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له فيه شي ء و أنّه لصاحبه، و يقسّم الدرهم الثاني بينهما نصفين» «1»، المعتضدة بموثّقة يونس المتقدّمة «2».

و رواية السكوني: في رجل استودع رجلا دينارين و استودعه آخر دينارا، فضاع دينار منهما، فقضى لصاحب الدينارين دينارا، و يقسّمان الدينار الباقي بينهما نصفين «3».

و ثبت أيضا بالعمومات المشار إليها توقّف القضاء بينهما على التحالف، فيعمل بالجميع، فيتحالفان و يقتسمان نصفين.

و لكن يبقى ها هنا شي ء يرد على ذلك و على ما تقدّم أيضا، و هو أنّ الظاهر المتبادر من الأخبار

الأخيرة- التي هي أخصّ مطلقا من العمومات- أنّ الاقتسام إنّما هو بلا حلف، بل هو من مقتضى إطلاقها أو عمومها، فإنّها حاكمة بالتقسيم مطلقا، سواء حلفا أو حلف أحدهما خاصّة.

فمقتضى الاستدلال تقديم الأخيرة و القضاء بينهما نصفين من دون حلف، كما هو مختار المحقّق في الشرائع صريحا «4»، و السيّد أبي المكارم في الغنية ظاهرا، مدّعيا عليه إجماع الطائفة، قال فيه: و إن كان لكلّ واحد منهما يد و لا بيّنة لأحدهما كان الشي ء بينهما نصفين، كلّ ذلك بدليل إجماع الطائفة «5». انتهى.

______________________________

(1) التهذيب 6: 208- 481، و في الفقيه 3: 22- 59، و الوسائل 18: 450 أبواب أحكام الصلح ب 9 ح 1، بتفاوت يسير.

(2) في ص: 334.

(3) الفقيه 3: 23- 63، التهذيب 6: 208- 483 و ج 7: 181- 797، الوسائل 18:

452 أبواب أحكام الصلح ب 12 ح 1، بتفاوت.

(4) الشرائع 4: 110.

(5) الغنية (الجوامع الفقهية): 625.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 350

و نقل القول به في التحرير أيضا، حيث قال في المسألة على ما حكي: إنّ فيها قولين «1». و ظاهر بعض فضلائنا المعاصرين التردّد «2»، حيث نقل القولين من غير ترجيح، و لكنّ المشهور بين الأصحاب- كما صرّح به الصيمري- هو الأول. و قال في المسالك: بل لم ينقل الأكثر فيه خلافا «3».

إلّا أنّ هذه الشهرة المحكيّة لا توجب و هنا فيما يقتضيه الاستدلال، سيّما مع معارضتها بالإجماع المحكيّ، و عدم تعرّض طائفة لأصل المسألة، منهم الشيخ في النهاية «4».

هذا، مع ما في دلالة العمومات على ثبوت الحلف في صورة التداعي كما يأتي بيانه، فالأقوى هو مختار الشرائع، و اللّه العالم.

الصورة الثانية: أن تكون في يد أحدهما

، فيقدّم قوله و تطلب البيّنة من الخارج، فإن

أقامها فيحكم بها له إجماعا، و إن أقاماها يرجع إلى التعارض الآتي حكمه.

و إن لم تكن بيّنة، فللخارج إحلاف ذي اليد المنكر، فإن حلف سقطت الدعوى عنه، و إن نكل يحكم بالعين للمدّعي الخارج بدون يمين على الأظهر، و معها على القول الآخر، و لا خلاف في شي ء ممّا ذكر غير ما أشير إلى الخلاف فيه.

و تدلّ عليه الأخبار المتواترة معنى المتقدّمة أكثرها، و في الرواية:

«فإن كانت له» أي للمدّعي الخارج «بيّنة، و إلّا فيمين الذي هو في يده،

______________________________

(1) التحرير 2: 195، قال: و هل يحلف كل واحد على النصف المحكوم له به أو يكون له من غير يمين؟ الأقوى عندي الأوّل مع احتمال الثاني.

(2) غنائم الأيام: 706.

(3) المسالك 2: 390.

(4) النهاية: 344.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 351

هكذا أمر اللّه عزّ و جلّ» «1».

الصورة الثالثة: أن تكون في يد ثالث و لا بيّنة

، و حينئذ فإمّا يصدّق أحدهما بخصوصه، أو يصدّقهما معا، أو يصدّق أحدهما لا بعينه- أي يقول: إنّها لأحدهما و لا أعرفه- أو يكذّبهما معا، أو يقول: لا أدري أنّها لهما أو لا.

فعلى الأول، قالوا: بأنّها للمصدّق له مع يمينه، فإنّه في حكم ذي اليد، و على الثالث المصدّق اليمين للآخر إن ادّعى عليه علمه بأنّها له، فإن امتنع يجب عليه إغرام القيمة له بلا يمين، أو مع اليمين المردودة، على اختلاف القولين، لأنّه لا يمكنه دفع العين، لاستحقاق المصدّق له إيّاها بإقراره، فلا يمكنه الارتجاع عنه، و تفويته العين على الآخر بإقراره، فيغرّم القيمة. و لم أعثر على مصرّح بخلاف ذلك، بل لعلّه إجماعي.

و يدلّ على كونه للمصدّق له أنّه حينئذ يكون ذا اليد، فإنّ ظاهر العرف أنّ من أسباب صدق اليد كونه الشي ء تحت تصرّف من ثبت

أنّه مباشرة، كالوكيل و الأمين و المستودع و المستأجر و المستعير، أو أقرّ بذلك. و لعلّ إلى ذلك يشير استدلالهم بأنّه في حكم ذي اليد، بل تصريح جماعة- منهم الشهيد في الدروس «2»- بأنّ ذا اليد من صدّقه الثالث.

و يدلّ عليه أيضا أنّه أقرّ الثالث بكونه له، و من أقرّ شيئا في يده لأحد فهو له.

لا لعموم إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، لأنّ الإقرار على النفس إنّما

______________________________

(1) التهذيب 6: 240- 594، الاستبصار 3: 43- 143، الوسائل 27: 234 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 3 ح 4، و المعترضة من المصنّف.

(2) الدروس 2: 100.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 352

هو في نفيه عن نفسه لا في إثباته للغير، مع أنّ الثابت دلالته من العموم ليس إلّا نفوذه على نفسه لا على غيره.

بل للمستفيضة الدالّة على من أقرّ بعين لأحد فهو له، كمرسلة جميل: في رجل أقرّ أنّه غصب رجلا على جاريته، و قد ولدت الجارية من الغاصب، قال: «تردّ الجارية و ولدها على المغصوب إذا أقرّ بذلك، أو كانت له بيّنة» «1»، و عمومها الحاصل من ترك الاستفصال- بل من أداة الشرط- يشمل صورة ادّعاء الغير للجارية أيضا.

و صحيحة سعد بن سعد: عن رجل مسافر حضره الموت فدفع مالا إلى رجل من التجّار، فقال: إنّ هذا المال لفلان بن فلان ليس له فيه قليل و لا كثير، فادفعه إليه يصرفه حيث شاء، فمات و لم يأمر فيه صاحبه الذي جعله له بأمر، و لا يدري صاحبه ما الذي حمله على ذلك، كيف يصنع؟

قال: «يضعه حيث شاء» «2»، و مثلها صحيحة إسماعيل الأحوص «3».

دلّتا على ثبوت المال لصاحبه بمجرّد الإقرار، و لا يمكن أن

يكون ذلك لادّعائه ما لا يد لأحد عليه، لأنّه لم يكن مدّعيا له.

و صحيحة أبي بصير: عن رجل معه مال مضاربة، فمات و عليه دين، فأوصى أنّ هذا الذي ترك لأهل المضاربة، أ يجوز ذلك؟ قال: «نعم، إذا كان مصدّقا» «4»، أي لم يكن متّهما.

______________________________

(1) الكافي 5: 556- 9، الفقيه 3: 266- 1266، التهذيب 7: 482- 1936، الوسائل 21: 177 أبواب نكاح العبيد و الإماء ب 61 ح 1، بتفاوت.

(2) التهذيب 9: 160- 662، الوسائل 19: 293 أبواب أحكام الوصايا ب 16 ح 6.

(3) الكافي 7: 63- 23، الوسائل 19: 293 أبواب أحكام الوصايا ب 16 ح 6.

(4) التهذيب 9: 167- 679، الوسائل 19: 296 أبواب أحكام الوصايا ب 16 ح 14.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 353

و تؤيّده أيضا رواية [المهتدي ] «1»: إنّ أخي مات و تزوّجت امرأته، فجاء عمّي فادّعى أنّه تزوّجها سرّا، فسألتها عن ذلك فأنكرت أشدّ الإنكار و قالت: ما كان بيني و بينه شي ء قط، فقال: «يلزمك إقرارها و يلزمه إنكارها» «2».

و تدلّ على سلطنة المدّعي على إحلاف المصدّق له عمومات البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر.

و على تغريم المصدّق لو نكل أو ردّ اليمين: أنّ بالنكول أو اليمين المردودة ثبت عليه الحقّ، كما مرّ في الأخبار المتقدّمة في بحث النكول و ردّ اليمين «3».

و كلّ من ثبت عليه حقّ للغير و ضيّعه فعليه الغرامة، كما دلّت عليه العلّة المنصوصة في رواية عمر بن حنظلة: في رجل قال لآخر: اخطب لي فلانة، فما فعلت من شي ء ممّا قاولت من صداق أو ضمنت من شي ء [أو شرطت ] فذلك رضا لي، و هو لازم لي، و لم يشهد على

ذلك، فذهب فخطب له و بذل عنه الصداق و غير ذلك ممّا طالبوه و سألوه، فلمّا رجع إليه أنكر له ذلك كلّه، قال: «يغرّم لها نصف الصداق عنه، و ذلك أنّه هو الذي ضيّع حقّها» الحديث «4»، دلّت على أنّ من ضيّع حقّا لغيره فعليه الغرامة له.

و على الثاني قالوا: يقضى بها لهما بالسويّة، و لكلّ منهما إحلاف

______________________________

(1) في «ح» و «ق»: المهدي، و الصحيح ما أثبتناه.

(2) الكافي 5: 563- 27، الفقيه 3: 303- 1452، الوسائل 20: 299 أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ب 23 ح 1.

(3) انظر الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 7.

(4) الفقيه 3: 49- 169، التهذيب 6: 213- 504، الوسائل 19: 165 أبواب أحكام الوكالة ب 4 ح 1، ما بين المعقوفين ليس في «ح» و «ق»، أضفناه من المصادر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 354

الآخر كما لو كانت في يدهما، و لهما إحلاف المصدّق إن ادّعيا علمه، لفائدة الغرم، فإن حلف فهو، و إلّا فيغرّم القيمة تماما لهما، و يقتسمانها بينهما نصفين على القول بالحكم بالنكول. و على القول بردّ اليمين عليهما، فإن حلفا معا يغرّم التمام كذلك أيضا، و إلّا غرّم نصف القيمة للحالف منهما.

و يظهر الوجه في هذه الصورة أيضا ممّا ذكرنا في سابقتها بعينه.

و على الثالث، قيل: يحتمل القرعة، فيحلف من خرجت له، فإن نكل حلف الآخر، و إن نكلا قسّمت بينهما. و يحتمل القضاء بينهما نصفين ابتداء بعد حلفهما أو نكولهما كما لو كانت بيدهما «1».

أقول: بل الأوجه الثاني، لرواية السكوني: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام في رجل أقرّ عند موته لفلان و فلان لأحدهما عندي ألف درهم، ثمَّ مات

على تلك الحال، فقال: أيّهما أقام البيّنة فله المال، فإن لم يقم واحد منهما البيّنة فالمال بينهما نصفان» «2».

و لكنّ الظاهر من الرواية التنصيف بدون الإحلاف، بل هو مقتضى إطلاقها، فالقول به- كما فيما إذا كان في يديهما معا- أوجه.

و حكم الفاضل في القواعد بالقرعة بينهما من غير ذكر حلف «3»، و هو كان حسنا لو لا الرواية المذكورة.

و على الرابع، قالوا: حلف لهما و أقرّت العين في يده، سواء ادّعاها

______________________________

(1) انظر المسالك 2: 390، الرياض 2: 416.

(2) الكافي 7: 58- 5، الفقيه 4: 174- 610، التهذيب 9: 162- 666، الوسائل 23: 183 أبواب الإقرار ب 2 ح 1، بتفاوت.

(3) القواعد 2: 222.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 355

لنفسه أم لا، و لا يجب عليه نسبة الملك إلى نفسه أو إلى أحد معيّن، و هو كذلك، لثبوت يده عليها بالتصرّف، و بعدم الاعتراف بها للغير.

و على الخامس، فإن قال: لا أدري أنّها لهما أو لغيرهما- مع اعترافه بأنّها ليست لنفسه- أقرع بينهما وفاقا للقواعد «1»، لأنّها لكلّ أمر مجهول، و لا حلف، لما يأتي في الصورة الرابعة. و كذا إن قال: لا أدري أنّها لي أو لهما.

الصورة الرابعة: أن لا تكون يد عليها

، قال المحقّق الأردبيلي: فهي مثل ما كانت في يد ثالث، و لم يصدّق أحدهما، و لم يدّعيا علمه، فيحلفان أو ينكلان و يقتسمانها بالسويّة. و إن حلف أحدهما دون الآخر تكون للحالف بحكم العقل، و لرواية إسحاق بن عمّار، و فيها: «فلو لم تكن في يد واحد منهما و أقاما البيّنة؟ قال: أحلفهما، فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف» «2». انتهى.

أقول:

الحلف أمر شرعيّ يتوقّف على التوقيف، و لا أرى دليلا على حلفهما هنا و الحكم

بنكولهما أو نكول الناكل، و الرواية مخصوصة بصورة إقامتهما البيّنة، و التعدّي يحتاج إلى الدليل، و القرعة لكلّ أمر مجهول، فالرجوع إليها أظهر، كما حكم به عليّ عليه السّلام في روايتي أبي بصير و ابن عمّار:

الاولى: «بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام إلى اليمن، فقال له حين قدم: حدّثني بأعجب ما ورد عليك، قال عليه السّلام: يا رسول اللّه، أتاني قوم قد

______________________________

(1) القواعد 2: 222.

(2) الكافي 7: 419- 2، التهذيب 6: 233- 570، الاستبصار 3: 38- 130، الوسائل 27: 250 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 356

تبايعوا جارية، فوطؤوها جميعا في طهر واحد، فولدت غلاما، فاختلفوا فيه، كلّهم يدّعيه، فأسهمت بينهم و جعلته للذي خرج سهمه، و ضمّنته نصيبهم» الحديث «1».

و الأخرى: «إذا وطئ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد، فولدت، فادّعوه جميعا، أقرع الوالي بينهم، فمن قرع كان الولد [ولده، و يردّ] قيمة الولد على صاحب الجارية» الحديث «2»، و عمل بها الأصحاب طرّأ في مورده من غير إحلاف.

فإن قيل:

عمومات البيّنة على المدّعي و اليمين على المنكر تشمل المورد.

قلنا:

العمومات غير ظاهرة في مثل ذلك، بل ظاهرة في غيره، حتى ما تتضمّن لفظ «المدّعى عليه» الغير المعلوم تحقّقه عرفا هنا، حيث إنّه لا يد لأحد عليها حتى يصدق الادّعاء عليه.

و قد يقال: إنّ الرواية الواردة في قضيّة فدك: «و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

البيّنة على من ادّعى و اليمين على من أنكر» «3» تشمل المورد، لصدق من أنكر عليه، و كذا رواية ابن أبي يعفور: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين

______________________________

(1) الفقيه 3: 54- 183، و

في الكافي 5: 491- 2، و التهذيب 8: 170- 592، و الاستبصار 3: 369- 1320، و الوسائل 27: 258 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 13 ح 5: و احتجّوا، بدل فاختلفوا.

(2) الفقيه 3: 52- 176، التهذيب 8: 169- 590، الاستبصار 3: 368- 1318، الوسائل 27: 261 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 13 ح 14، و بدل ما بين المعقوفين في «ح» و «ق»: له يردّ، و ما أثبتناه من المصادر.

(3) تفسير القمّي 2: 156، الاحتجاج: 92، الوسائل 27: 293 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 25 ح 3.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 357

المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحقّ المدّعي» الحديث «1».

و ردّ: بأنّ مدلولهما أنّ كلّ بيّنة على المدّعي و كلّ يمين على المنكر، لا أنّ كلّ مدّع و منكر عليه البيّنة و اليمين. و حاصله: منع عموم من أنكر و المنكر، بل نفي عموم المدّعي في جميع الروايات أيضا.

و فيه: أنّه لا وجه لمنع العموم حتى في قوله: «من أنكر»، لأنّ الموصولة المتضمّنة لمعنى الشرط- أي ما كان ما بعده علّة لما قبله- تفيد العموم، كما بيّن في الأصول.

نعم، يرد عليه أولا: معارضة العمومات مع روايتي أبي بصير و ابن عمّار.

و ثانيا: أنّ [أحد] «2» هذين المتخاصمين في مفروض المسألة لا يصدق عليه المدّعى عليه و لا المنكر- بأيّ معنى من المعاني المذكورة لهما- في مقابلة المدّعي، الذي هو من لو ترك ترك، إلى آخر التعاريف.

بل هما مدّعيان، فلا يتوجّه عليهما يمين و لو أبيت، إلّا أنّ المنكر عرفا من تشبّث بالإنكار، فلا يمكن أن يكون المراد الإنكار الالتزامي، إذ يكون

كلّ مدّع منكرا أيضا، و لا يقول به أحد، مع أنّ الإنكار الالتزامي لا يكفي في صدق المنكر العرفي قطعا، فلا بدّ من إرادة الصريح. و لا شكّ أنّ الإنكار الصريحي لا يكون في جميع صور مفروض المسألة، بل إنّما هو إذا قال كلّ من المدّعيين: إنّه ليس لك، منضمّا مع قوله: إنّه لي.

______________________________

(1) الكافي 7: 417- 1، الفقيه 3: 37- 125، التهذيب 6: 231- 565، الوسائل 27: 244 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 9 ح 1.

(2) ما بين المعقوفين ليس في «ح» و «ق»، أضفناه لاستقامة المعنى.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 358

و ثالثا: أنّ المتبادر من المدّعي و المنكر في صورة ذكرهما و مقابلتهما:

الذي لم يجتمع معه الآخر، فالمراد بالمدّعي: الذي لم يكن منكرا، و بالمنكر: الذي لم يكن مدّعيا، كما هو ظاهر.

و رابعا: أنّا لو سلّمنا الجميع فلا يحكم بعد حلفهما بالتنصيف، لجواز إسقاط حقّ كلّ منهما بحلف الآخر، فلا يحكم لواحد منهما، فتأمّل.

هذا إذا كانت دعواهما دفعة واحدة، عرفا أو حقيقة، و إلّا فيحكم بها للمتقدّم ادّعاء، و تطلب البيّنة من الآخر أو الإحلاف، كما مرّ.

ثمَّ إنّ كلّ ما ذكر في هذه الصور الأربع إذا لم تكن هناك بيّنة، و إلّا فإن كانت لأحدهما حكم بها له، لأنّ البيّنة حجّة شرعيّة. و إن كان لكلّ منهما و أمكن الجمع بينهما- كما لو شهدت إحداهما بملك زيد أمس، و الأخرى بانتقاله إلى عمرو الآن، أو أطلقت أحدهما و فصّلت الأخرى- جمع بينهما، لوجوب العمل بهما مع عدم التنافي، و لو لم يمكن الجمع فتتعارض البيّنات، و يأتي حكمه.

المسألة الثالثة: لو ادّعى أحد مالا لا يد لأحد عليه، ليس لأحد منعه من التصرّف فيه، و لا طلب البيّنة منه، و لا إحلافه
اشاره

، للأصل، و الإجماع، بل الضرورة كما قيل «1» و موثّقة

منصور، بل صحيحته: عشرة كانوا جلوسا و وسطهم كيس فيه ألف درهم، فسأل بعضهم بعضا: أ لكم هذا الكيس؟ فقالوا كلّهم: لا، فقال واحد منهم: هو لي، [فلمن هو؟] قال: «هو للذي ادّعاه» «2»،

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 413.

(2) الكافي 7: 422- 5، التهذيب 6: 292- 810، النهاية: 350- 7، الوسائل 27: 273 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 17 ح 1، و ما بين المعقوفين ليس في «ح» و «ق»، أضفناه من المصادر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 359

و مقتضى قوله: «هو للذي ادّعاه» أنّه يحكم به له، و أنّه يجوز ابتياعه منه و التصرّف فيه بإذنه. و نفي عنه الخلاف أيضا «1».

و قد يستدلّ له بصحيحة البزنطي أيضا: عن الرجل يصيد الطير الذي يسوى دراهم كثيرة، و هو مستوي الجناحين، و هو يعرف صاحبه، أ يحلّ له إمساكه؟ قال: «إذا عرف صاحبه ردّه عليه، و إن لم يكن يعرفه و ملك جناحه فهو له، و إن جاء طالب لا تتّهمه ردّه عليه» «2».

و فيه: أنّ الأمر بالردّ فيها مقيّد بعدم الاتّهام، الذي هو حقيقة في عدم تجويز كذبه، و إلّا فيكون منهما، و مع عدم تجويز الكذب يخرج عن الموضوع، لأنّه حينئذ يعلم ملكيّة الغير.

و الاحتجاج له بوجوب حمل أفعال المسلمين على الصحّة و الصدق موقوف على ثبوت القاعدة، و هو في حيّز المنع، مع أنّها مخصوصة بالمسلم، و المدّعى أعمّ منه.

فروع:
أ: لو ادّعاه ثان بعد تصرّف المدّعي الأول له، أو الحكم به له،

يكون الثاني مدّعيا، فتجري عليه أحكامه، و يقدّم قول الأول، للاستصحاب، و لأنّه مقتضى كونه له فهو كذي اليد، و لعدم دليل على قبول دعوى الثاني، لاختصاص الإجماع و النصّ بالأول.

و كذا إذا ادّعى الثاني بعد ادّعاء الأول بزمان لا

يعدّ ادّعاؤهما دفعة عرفا، إذ بالدعوى الاولى صار مالا للمدّعي بحكم النّص، و إن لم يضمّ بعد

______________________________

(1) كما في الرياض 2: 413.

(2) التهذيب 6: 394- 1186، الوسائل 25: 461 أبواب اللقطة ب 15 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 360

معه الحكم أو التصرّف فيستصحب.

نعم، لو كان ادّعاؤهما دفعة عرفية أو حقيقيّة يجي ء الإشكال، لعدم ثبوت إجماع، و الخروج عن النصّ، لظهوره فيما لا يدّعي معه في زمان واحد عرفا، و سيأتي حكمه في باب التنازع في الأعيان.

ب: لو لم تكن عليه يد و لا مدّع ظاهر، لا يحكم بكونه مجهول المالك،

و لا تجري عليه أحكامه إلّا بعد الفحص اللازم، و هو القدر الميسور منه، لعدم صدق عنوان مجهول المالك أو غير معروف المالك عرفا إلّا بعد هذا القدر من الفحص، فإذا تحقّق و تصرّف فيه النائب العام من جانب الإمام، أو تصدّق به فادّعاه مدّع، لا يسمع منه إلّا بعد الإثبات، للاستصحاب، و اختصاص النصّ و الإجماع بغير ذلك، فإن أثبته يردّ إليه مع بقاء العين، و لا ضمان مع التلف. بل و كذا على الظاهر لو ادّعاه بعد الفراغ عن الفحص و الحكم بصدق العنوان، لما مرّ.

ج: هل حكم ما في يد أحد و لا يدّعي ملكيّته- بل يجهل مالكه،

أو ما في ذمّة أحد كذلك- كحكم ما لا يد عليه، فيحكم به لمن يدّعيه، أو لا؟

مقتضى أصالة عدم براءة ذي اليد عن اشتغاله بإيصاله إلى صاحبه و أصالة عدم تسلّط المدّعي على أخذه و عدم شرعيّة الحكم به له: الثاني، و الموثّقة «1» مخصوصة بغير ذلك المورد.

و ممّا ذكرنا من الأصول و الخصوصيّة يظهر الفرق بينه و بين ما لا يد لأحد عليه.

و لهذا القسم أنواع كثيرة، منها: اللقطة، و الضالّة، و الكنز، و مال من لا يعرف

______________________________

(1) أي موثقة منصور المتقدّمة في ص: 358.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 361

له وارث إذا ادّعى أحد الوراثة، و المنهوب من بين جماعة غير محصورين، و المغصوب منهم، و الموروث ممّن اعترف المورّث بعدم ملكيّته، و المنسيّ صاحبه، و أحد المشتبهين اللذين كلّ منهما لشخص و تلف أحدهما، و غير ذلك.

و ما ذكرناه إنّما هو على سبيل الأصل المناسب لهذا المقام، و إلّا فلبعضها أو كلّها أحكام خاصّة، مذكورة كلّ منها في مورده إن شاء اللّه.

د: الظاهر اختصاص الحكم بما لا يد عليه أصلا لا على عينه و لا على منفعته،

فلو كان شي ء لم تكن يد على عينه، و لكن كانت منفعته في يد واحد أو جماعة محصورين أو غير محصورين، ينتفعون به و لا يدّعون ملكيّته، لا يحكم بملكيّة أحد بمجرّد ادّعائه، و لا يخلّى بينه و بينه إلّا ببرهان و بيّنة، للأصل، و عدم ثبوت الإجماع في مثل ذلك، بل ثبوت عدمه، و اختصاص النصّ بغير ذلك.

فلو كان هناك طريق مسلوك للعامّ أو الخاصّ- على القول بعدم كون الخاصّ ملكا لسالكيه- لا يملكه أحد بمجرّد دعوى الملكيّة، و كذا لو كان رباط ينزله الناس من غير ادّعاء ملكيّته و لا اشتهار وقفيّته، أو بركة كذلك يتروون منها.

بل يحكم في الأول بكونه طريقا، و يعمل فيه بما يعمل في الطرق، و في الأخيرين بمجهول المالكيّة، و اللّه العالم.

المسألة الرابعة: إذا ادّعى كلّ منهم أنّه اشترى العين من ذي اليد، و أقبض الثمن، و العين المبيعة في يد البائع

، فهو من مسألة تنازع المتداعيين ما في يد ثالث، و قد مرّت، و قد يذكر حكم ذلك منفردا لأجل بعض خصوصيّات البيع الذي يظهر حكمه بالتأمّل.

المسألة الخامسة: لو ادّعى اثنان أنّ ثالثا اشترى من كلّ منهما هذا المبيع، و كلّ يطالبه بالثمن

، فإن أقرّ لهما ألزم بالثمنين، لإمكان الصدق

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 362

و صحّة البيعين، بأن يشتري من أحدهما فباعه من الآخر ثمَّ اشترى منه.

و إن أقرّه لأحدهما لزمه الثمن له و حلف للآخر، و إن نكل اغرم له.

و إن أنكرهما و لا بيّنة حلف لهما.

و إن أقام كلّ منهما بيّنة ثبت البيعان و يلزم الثمنان، إلّا في صورة لم يمكن الاجتماع، فيرجع إلى المرجّحات المعتبرة الآتية في بحث تعارض البيّنات، من الأعدليّة و الأكثريّة إن كانت، و إلّا إلى الإقراع، فمن أخرجته القرعة قضي له بالثمن الذي شهدوا به بعد حلفه للآخر، فإن امتنع حلف الآخر و حكم له، فإن امتنع قسّم الثمن بينهما مع التشابه، و يحكم لكلّ واحد منهما بنصف ما ادّعاه من الثمن مع الاختلاف.

المسألة السادسة: لو ادّعى كلّ واحد من شخصين كلّ واحد من ثوبين

- مثلا- في يد كلّ واحد منهما أحدهما ما في يد الآخر، فإن لم تكن بيّنة يحلف كلّ منهما للآخر بنفي ما في يده لصاحبه، و يحكم له بما في يده.

و إن كانت لأحدهما بيّنة يحكم له بهما جميعا، الذي في يد صاحبه للبيّنة، و الذي في يده لأنّه في يده و لا بيّنة لصاحبه، إلّا أنّه يحلف لدفع صاحبه عمّا في يده.

و لو كانت لهما البيّنة يحكم لكلّ منهما بما في يد الآخر، لما يأتي من ترجيح بيّنة الخارج.

المسألة السابعة: إذا ادّعى زيد على عمرو عينا في يد عمرو، و أقام المدّعي بيّنة، حكم له قطعا

، و انتزعت من يد عمرو، و تسلّم إلى زيد، فإن ادّعى عمرو بعد أخذ زيد الملك السابق، و أقام البيّنة، و شهدت البيّنة على أنّها كانت له قبل الانتزاع، لم تقبل بيّنته (وفاقا للشرائع و الإرشاد «1» «2».)

______________________________

(1) الشرائع 4: 116

(2) الإرشاد 2: 151.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 363

لا لأنّه ذو اليد حينئذ أيضا نظرا إلى أنّه يدّعي أنّ الأخذ منه ظلم فكأنّها في يده، لأنّه الآن ليس ذا اليد قطعا، و النزع عنه بحكم الحاكم ليس ظلما، فلا يدخل تحت ما دلّ على عدم قبول بيّنة ذي اليد، بل يصدق عليه المدّعي.

و لا لأنّه على ذلك يصير جعل المدّعى عليه خارجا، و انتزاع العين من المدّعى عليه ثانيا سهلا بتأخير بيّنته إلى الحكم و الانتزاع، لأنّه لا فساد في ذلك، و كم من الحيل الشرعيّة التي تبنى عليها الأحكام.

و لا لأنّه نقض للحكم الأوّل، و هو غير جائز، لمنع كونه نقضا و إن عبّر به في الشرائع و القواعد «1»، لأنّ النقض إنّما هو إذا كان إبطالا لحكم الحاكم من جهة حكمه لا لدعوى اخرى.

بل لأنّه إمّا يقتصر على الشهادة بالملك

السابق، فيرجع إلى تعارض الملك القديم و اليد الحاليّة، و سيأتي أنّ اليد مقدّمة. أو يضمّ معها قوله:

لا أعلم لها مزيلا، أو: أعتقد ملكيّته الآن للاستصحاب، و نحوهما، بناء على قبولهما، فيردّ بالعلم بالمزيل، و هو حكم الحاكم، بل و كذا لو قال:

و هو إلى الآن ملكه، لأنّ غايته أنّه أمارة كحكم الحاكم بقطع الملكيّة.

فتبقى اليد الحاليّة بلا معارض.

و إن ادّعى ملكا لا حقا بعد الانتزاع منه، و أقام عليه البيّنة، فالوجه:

قبول البيّنة و استرداد العين، لعدم التعارض بين البيّنتين.

و إن أطلق الدعوى، و أقام البيّنة المطلقة و قبلناها، فالوجه: القبول و الاسترداد أيضا، لعدم المانع، و صدق المدّعي.

______________________________

(1) الشرائع 4: 116، القواعد 2: 233.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 364

و حكم في القواعد بنقض الحكم و استرداد العين على الإطلاق الشامل للصور الثلاث، و لكن قال: على إشكال «1». و يظهر وجه الحكم و الإشكال ممّا ذكرنا.

و بنى في المسالك الحكم في الصورة الأولى على أن المراد ببيّنة الخارج و الداخل هل الخروج و الدخول عند الملك المدّعى، أو حال التعارض «2»؟ و ستعلم أنّ المعتبر حال التعارض، للصدق العرفي.

المسألة الثامنة: لو كانت العين بيديهما معا، و ادّعى أحدهما الكلّ، و الآخر النصف، و لا بيّنة

، فعلى ما ذكرنا- في مسألة ما إذا كانت العين بيديهما، و ادّعى كلّ منهما الكلّ- من أنّ الكلّ بيد كلّ منهما يكون النصف لمدّعي الكلّ بلا معارض، و يكون النصف في يدهما معا، فيكون هو المتنازع فيه، و حكمه حكم العين التي تنازع فيها اثنان يدهما عليه، من غير فرق بين المشاع و المعيّن.

و كذا في صورة البيّنة لهما، يكون في النصف حكم الكلّ الذي تنازع فيه اثنان و أقاما البيّنة، و يأتي حكمه.

و كذا يظهر حكم ما إذا زاد ما يدّعيه

الآخر عن النصف، أو نقص، أو زاد المدّعون عن الاثنين. و بالجملة: جميع ما يتصوّر من الأقسام.

المسألة التاسعة: إذا تنازع الزوجان أو ورثتهما أو أحدهما مع ورثة الآخر في أمتعة البيت الذي في يدهما
اشارة

، فإن كانت هناك بيّنة لأحدهما كلّا أو بعضا قضي له بها بلا خلاف، و إن لم تكن بيّنة فاختلفوا فيها على خمسة أقوال:

______________________________

(1) القواعد 2: 233.

(2) المسالك 2: 396.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 365

الأوّل: أنّهما فيها سواء مطلقا

، سواء كان المتنازع فيه ممّا يصلح للرجال خاصّة أو النساء كذلك أو لهما، و سواء كانت الدار لهما أو لأحدهما أو لثالث، و سواء كانت الزوجيّة باقية أو زائلة، و سواء كانت يدهما عليه تحقيقا بالمشاهدة أو تقديرا، فيتحالفان، أو ينكلان، فيقسّم بينهما بالسويّة، و يختصّ الحالف بالجميع لو حلف أحدهما و نكل الآخر.

حكي عن المبسوط و ظاهر الإرشاد و صريح القواعد و الإيضاح و التنقيح «1»، و نسبه الأردبيلي في شرح الإرشاد إلى المتن و جماعة.

و لكن كلام المبسوط ليس صريحا في اختصاص الفتوى بذلك، لأنّه قال بعد القول المذكور: و روى أصحابنا أنّ ما يصلح للرجال فللرجل، و ما يصلح للنساء فللمرأة، و ما يصلح لهما يجعل بينهما «2»، و في بعض الروايات: أنّ الكلّ للمرأة و على الرجل البيّنة، لأنّ من المعلوم أنّ الجهاز ينتقل من بيت المرأة إلى بيت الرجل «3»، و الأوّل أحوط «4». انتهى.

فإنّ قوله: و الأوّل، يحتمل أن يراد به ما أفتى به أوّلا و حكي عنه، و أن يراد به ما رواه الأصحاب، لكونه أولا بالنسبة إلى الرواية الثانية، و يؤيّده ما في الخلاف من جعله الأحوط ذلك «5». و كيف كان، فلا تكون فتواه منحصرة بما حكي عنه أولا، بل هي إمّا تكون أحوط، فتجوز غيرها أيضا، أو تكون غيرها أحوط، فتجوز أيضا، بل تكون أولى.

______________________________

(1) المبسوط 8: 310، القواعد 2: 223، الإيضاح 4: 381، التنقيح 4: 278.

(2)

انظر الوسائل 26: 213 أبواب ميراث الأزواج ب 8.

(3) الكافي 7: 130- 1، التهذيب 6: 298- 831، الاستبصار 3: 45- 151، الوسائل 26: 213 أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 1.

(4) المبسوط 8: 310.

(5) الخلاف 2: 645.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 366

ثمَّ إنّ دليلهم على ذلك ما مرّ- في تنازع الشخصين في عين كانت في يدهما- من العمومات و غيرها، فإنّ هذه الدعوى أيضا فرد من سائر الدعاوي، فتشملها أدلّتها.

الثاني: إنّ ما يصلح للرجل خاصّة يحكم به للرجل، و ما يصلح للنساء كذلك يحكم به للمرأة، و ما يصلح لهما يقسّم بينهما بعد التحالف أو النكول.

حكي عن الشيخ في النهاية و الخلاف و الإسكافي و الحلّي في السرائر و ابن حمزة و الكيدري و النافع و ظاهر الشرائع و التحرير و المهذّب و الدروس «1»، و قرّبه القاضي و لكن في الدعوى بعد الطلاق، بل هو مذهب الأكثر كما في المسالك و شرح المفاتيح «2»، بل هو المشهور كما في الشرائع و صريح النكت، بل عن الخلاف و في السرائر الإجماع عليه، و نسبه في المبسوط- كما مرّ- إلى روايات الأصحاب «3».

لقضاء العادة بذلك، و صحيحة رفاعة: «إذا طلّق الرجل امرأته و في بيتها متاع فلها ما يكون للنساء، و ما يكون للرجال و النساء قسّم بينهما» قال: «و إذا طلّق الرجل المرأة فادّعت أنّ المتاع لها، و ادّعى الرجل أنّ المتاع له، كان له ما للرجال، و لها ما للنساء» «4».

______________________________

(1) النهاية: 350، الخلاف 2: 645، حكاه عن الإسكافي في المسالك 2: 398، السرائر 2: 194، ابن حمزة في الوسيلة: 227، النافع: 285، الشرائع 4: 119، التحرير 2: 200، المهذّب 2: 579، الدروس 2: 110.

(2) المسالك 2: 398.

(3) المبسوط 8: 310.

(4) الفقيه 3: 65- 215، التهذيب 6: 294- 818، الاستبصار 3: 46- 153، الوسائل 26: 216 أبواب

ميراث الأزواج ب 8 ح 4، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 367

و موثّقة يونس: في المرأة تموت قبل الرجل، أو رجل قبل المرأة، قال: «ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من متاع الرجال و النساء فهو بينهما، و من استولى على شي ء [منه ] فهو له» «1».

و في موثّقة سماعة: عن رجل يموت، ماله من متاع البيت؟ قال:

«السيف و السلاح [و الرحل ] و ثياب جلده» «2».

و اختصاص الاولى بالطلاق و الثانية بالموت غير ضائر، للإجماع المركّب، و تتميم كلّ منهما بالأخرى، لعدم التنافي.

و كذلك لا يضرّ عدم تصريح صدر الصحيحة و الخبرين الآخرين بالتنازع، لشمولها له، مضافا إلى ظهورها فيه، سيّما مع ضمّ ذيل الصحيحة.

و كذا لا يضرّ عدم اشتمال كلّ من الصدر و الذيل و الخبرين على الأحكام الثلاثة بعد اشتمال الكلّ للكلّ، مضافا إلى ثبوت الحكم في صورة صلاحية المتاع لهما بما مرّ في القول الأول، و في الصورتين الأخريين بالظهور المستند إلى العادة.

و الثالث: إنّ القول قول المرأة مطلقا، فالمتاع المتنازع فيه كلّه لها، إلّا ما أقام الرجل عليه البيّنة.

و هو المحكيّ عن صريح الشيخ في الاستبصار و ظاهر الكليني في الكافي «3»، و رجّحه في شرح المفاتيح، و حكاه الأردبيلي عن التهذيب أيضا.

______________________________

(1) التهذيب 9: 302- 1079، الوسائل 26: 216 أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 3.

و ما بين المعقوفين من المصدرين.

(2) التهذيب 6: 298- 832، الاستبصار 3: 46- 152، الوسائل 26: 215 أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 2، ما بين المعقوفين ليس في «ح» و «ق»، أضفناه من المصادر.

(3) الاستبصار 3: 44، الكافي 7: 130- 1، التهذيب 6: 298، و ج 9: 301، و حكاه عنهما في الرياض 2: 418.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 368

لصحيحة البجلي: «هل قضى

ابن أبي ليلى بقضاء ثمَّ رجع عنه؟» فقلت له: بلغني أنّه قضى في متاع الرجل و المرأة- إذا مات أحدهما فادّعى [ورثة] الحيّ و ورثة الميت أو طلّقها الرجل فادّعاه الرجل و ادّعته المرأة- بأربع قضيات- فعدّها الراوي إلى أن قال في الرابعة:- ثمَّ قضى بعد ذلك بقضاء لو لا أنّي شاهدته لم أروه عليه، ماتت امرأة منّا و لها زوج و تركت متاعا فرفعته إليه، فقال: اكتبوا إليّ المتاع، فلمّا قرأه قال للزوج: هذا يكون للرجل و المرأة فقد جعلناه للمرأة، إلّا الميزان فإنّه من متاع الرجل فهو لك- إلى أن قال:- فقلت: ما تقول أنت فيه؟ فقال: «القول الذي أخبرتني أنّك شهدته و إن كان قد رجع عنه» فقلت: يكون المتاع للمرأة؟ فقال: «أرأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج؟» فقلت: شاهدين، فقال: «لو سألت من بينهما» يعني: الجبلين، و نحن يومئذ بمكة «لأخبروك أنّ الجهاز و المتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها، فهي التي جاءت به، و هذا المدّعي، فإن زعم أنّه أحدث فيه شيئا فليأت عليه بالبيّنة» «1».

و قريبة منها الصحيحة الأخرى له و لإسحاق بن عمّار، و فيها: «إلّا الميزان، فإنّه من متاع الرجل فللرجل» «2».

و صحيحته الثالثة، و هي أيضا قريبة منهما، إلّا أنّها لا تتضمّن استثناء الميزان، و في آخرها: فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «القضاء الأخير و إن كان قد رجع عنه، المتاع متاع المرأة، إلّا أن يقيم الرجل البيّنة، قد علم من بين

______________________________

(1) الكافي 7: 130- 1، التهذيب 6: 298- 831 و ج 9: 301- 1078، الاستبصار 3: 45- 151، الوسائل 26: 213 أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 1، بتفاوت

يسير. ما بين المعقوفين ليس في «ح» و «ق»، أضفناه من المصادر.

(2) التهذيب 6: 297- 830، الاستبصار 3: 45- 150، الوسائل 26: 213 أبواب ميراث الأزواج ب 8 ذ ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 369

لابتيها» «1» يعني: بين جبلي منى «أنّ المرأة تزفّ إلى بيت زوجها بمتاع» «2».

الرابع: إنّ ما لا يصلح إلّا للرجال فهو للرجل، و ما يصلح لهما أو للنساء خاصّة فهو للمرأة

، و هو مذهب الصدوق في الفقيه «3»، و مستنده الصحيحتان الأوليان المتقدّمتان دليلا للثالث.

الخامس: الرجوع في ذلك إلى العرف العامّ أو الخاصّ

، الدالّ على اختصاص بعضه بأحدهما، فإن وجد عمل به، و إن فقد أو اضطرب كان بينهما نصفين.

اختاره الفاضل في المختلف و الشهيدان في النكت و الروضة و المحقّق الشيخ عليّ، و استقربه في الكفاية، و استحسنه في المهذّب، و نفى عنه البأس في شرح الشرائع للصيمري «4».

لأنّ عادة الشرع في باب الدعاوي- بعد الاعتبار و النظر- راجعة إلى ذلك، و لهذا حكم بقول المنكر مع اليمين، بناء على الأصل، و كون المتشبّث أولى من الخارج، لقضاء العادة بملكيّة ما في يد الإنسان غالبا، فحكم بإيجاب البيّنة على من يدّعي خلاف الظّاهر، و الرجوع إلى من يدّعي ظاهر العرف.

و يؤيّده استشهاده عليه السّلام بالعرف، حيث قال: «قد علم من بين

______________________________

(1) لابتا المدينة: حرّتان عظيمتان يكتنفانها. و اللابة: هي الحرّة ذات الحجارة السود قد ألبتها لكثرتها، و جمعها: لابات، و هي الحرار، و إن كثرت فهي اللّاب و اللّوب، مجمع البحرين 2: 168.

(2) التهذيب 6: 297- 829، الاستبصار 3: 44- 149، الوسائل 26: 213 أبواب ميراث الأزواج ب 8 ذ ح 1.

(3) الفقيه 3: 65.

(4) المختلف: 698، الروضة 3: 108، الكفاية: 278، المهذّب 2: 579.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 370

لابتيها» و قال: «لو سألت من بينهما».

أقول:

أمّا ما ذكروه دليلا للقول الأوّل فهو حسن على ما استثنوه في مسألة التداعي فيما كان بيد المتداعيين من أنّ يد كلّ منهما على النصف، و من أنّ كلا منهما مدّع و منكر. و لكن قد عرفت ما في الأساس الثاني.

و يمكن منع الأوّل هنا، لأنّه إنّما كان فيما إذا علم أنّ المدّعى به

بيديهما معا، و هو هنا غير معلوم، و ليس أيضا ممّا لم يكن يد أحدهما عليه.

و أمّا ما ذكرناه من الأخبار للمسألة المذكورة فهي غير مفيدة للمورد، لأنّها إمّا مخصوصة بأعيان خاصّة ليس المورد منها، أو مخصوصة بالمورد حاكمة فيه بغير ذلك.

مع أنّه لو سلّم الأساسان فهما عامّان، و أخبار المسألة خاصّة، يجب تخصيصهما بها، سيّما مع موافقة الخصوص للشهرة المحقّقة و المحكيّة «1» و الإجماعات المنقولة «2»، و ندرة القائل بحكم العموم للمورد، سيّما مع ما عرفت من عدم اقتصار فتوى المبسوط بذلك «3»، و رجوع الفاضل عنه في المختلف «4»، و عدم ظهور كلامه في الإرشاد على الحكم بذلك، فلا محيص عن قطع النظر عن ذلك القول و تركه.

و أمّا ما ذكروه دليلا للثاني، فأمّا أول دليليهم- و هو قضاء العادة- فإنّه إن أريد به قضاء العادة في المالكيّة، بمعنى: أنّ العرف و العادة يقضيان بأنّ

______________________________

(1) كما قد يستفاد من الشرائع 4: 119.

(2) كما في الخلاف 2: 645، السرائر 2: 194.

(3) المبسوط 8: 310.

(4) المختلف: 698.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 371

ما يصلح للرجال فهو من مال الرجال، و كان هو ملكه، و هو الذي جاء به، و ما كان للنساء فهو من مال النساء كذلك، و ما يصلح لهما فهو يحتمل الأمرين.

ففيه أولا: أنّه ليس كذلك كلّيا و لا غالبا، فكم من امرأة معسرة من بيت فقير يعلم أنّها لا تملك شيئا أو إلّا قليلا، يتزوّجها رجل من الأغنياء المتموّلين و يهيّئ لها من الألبسة النسائيّة و الحلي و الحلل ما لا يحصى كثرة، و قد يموت أحدهما في أسرع وقت، يعلم أنّه لم تتمكّن الزوجة من تحصيل هذه الأشياء بنفسها.

و

كم من أمة يعتقها مولاها و يتزوّجها و لا شي ء لها.

و كم من امرأة مات أخوها أو أبوها أو ولدها أو زوجها السابق، فترث منه ألبسه رجاليّة و أسلحة و سروجا.

و كم من رجل ماتت زوجته السابقة أو أمّها أو بنتها أو أختها، فيرث منها مقانع و حليّا و ثيابا نسائيّة.

و ثانيا: أنّه إن أريد بالعادة عرف زمان خاصّ و بلد مخصوص نادر، فظاهر أنّ مثل ذلك ممّا لا يعتني به الفقيه، و لا يجعله دليلا على حكم كلّي عامّ يشمل الأزمان و البلدان جميعا.

و إن أريد غير ذلك، فهو ليس كذلك، كما يشاهد في هذه الأزمان- بل يقطع به من قبل ذلك بكثير و في أكثر هذه البلدان- من أن الزوج يجي ء بأكثر الألبسة النسائيّة و حليّها، و الزوجة الموسرة بقدر حالها تجي ء بلباس لزوجها، و هذا أمر متعارف مشاهد، مع أنّ هذا أمر مختلف باختلاف الأزمان و الأشخاص و البلدان و القرى و الطوائف، اختلافا محسوسا مشاهدا.

و إن أريد بقضاء العادة قضاؤها في اليد، و كان المراد تعيين ذي اليد

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 372

منهما، حيث إنّ الغالب اشتباه من بيده منهما في متاع البيت، حتى يحكم بمقتضى اليد.

ففيه: أنّه إن أريد القضاء العلميّ- كما يظهر من المحقّق الأردبيلي- فهو ممنوع، إمّا مطلقا، أو إلّا نادرا، في مثل اللباس الذي يلبس كلّ يوم أو غالبا.

و إن أريد الظنّي، فمع أنّه أيضا لا يحصل كلّيا- فإنّ من المشتركات ما يظنّ أنّه بيد المرأة، تتصرّف فيه في البيت كالأواني و السفرة و المكنسة و غيرها- لا حجّية فيه، و لا يعدّ مثل ذلك قضاء، مع أنّ المعتاد في بعض البلدان أنّ التصرّف في

الأدوات الرجاليّة أيضا مع النسوان.

و أمّا ثاني دليليهم- و هو الأخبار- فهو حسن، إلّا أنّه تعارضها الأخبار الثلاثة التي [بعدها] «1» للبجلي «2»، فلا بدّ أن ينظر في حال المتعارضين، و سيأتي.

و أمّا دليل القول الثالث- و هو الأخبار الثلاثة المشار إليها- فالأخيرة منها و إن طابقته و لكنّ الأوليين لا تطابقانه، لدلالتهما على اختصاص ما يختصّ بالرجال بالرجل، فإنّه الذي حكم به ابن أبي ليلى أخيرا و صحّحه الإمام عليه السّلام، و المتاع الذي كتبوه و حكم فيه بكونه للمرأة مصرّح به فيهما بكونه للرجل و المرأة، و هو المراد من قوله: فقلت: يكون المتاع للمرأة؟

فإنّ اللّام للعهد، بقرينة قوله: «القول الذي أخبرتني».

و لو أريد مطلق المتاع ليحصل التعارض بين القولين و التنافي- و لو

______________________________

(1) بدل ما بين المعقوفين في «ح»: يعدّها و في «ق» «يعد» و الظاهر ما أثبتناه، و الضمير عائد إلى الأخبار الأولى.

(2) المتقدمة في ص: 368.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 373

لم يجعل الأوّل قرينة للثاني أيضا- يحصل الإجمال في المراد، و يجب الأخذ بالمتيقّن، و هو متاع الرجال و النساء، و لم يعلم أيضا دخول ما يختصّ بالرجال في الجهاز الذي يجاء به من بيت الزوجة، بل الظاهر إمّا متاع النساء خاصّة، أو المشترك، إذ لا يرتاب أحد في أنّ للزوج أيضا في البيت شيئا، لأنّه لم يدخله عاريا فلا يحتاج فيما يختصّ بالرجال- و لو شيئا- إلى البيّنة.

بل نقول: إنّه يعلم كلّ من بين لابتيها- بل كلّ أحد- أنّ الزوج ليلة الزفاف لم يكن جالسا في بيته عاريا مكشوف الرأس و العورة، بلا فراش و لا وطاء و لا آنية و لا إبريق و لا كوزة و

لا سراج، منتظر لأن تجي ء الزوجة بهذه الأشياء، و الغالب أنّ لباسه غير منحصر بما لبسه حينئذ أيضا. و على هذا، فيكون للزوج أيضا شي ء في البيت قطعا، فيحصل الإجمال في المراد من التعليل المذكور، و لا يصلح قرينة لشي ء.

و لكون الأوليين أخصّ مطلقا من الأخيرة فيجب تخصيصها بهما، مع أنّ الواقعة في الجميع واحدة.

و على هذا، فلا تصلح تلك الأخبار دليلا لذلك القول أصلا، مع أنّ وجود القائل بهذا القول غير معلوم، فإنّ نسبته إلى الكليني ليست إلّا لمجرّد نقل هذه الأخبار، كما صرح به من نسبه إليه، و هو لم ينقل إلّا الخبرين الأولين، فلو صحّت النسبة من هذه الجهة لكان هو أيضا كالصدوق، و قائلا بالقول الرابع.

و ما ذكره الشيخ في كتابي الأخبار- سيّما الاستبصار- ليس صريحا و لا ظاهرا في الاختيار، و إنّما دأبه فيهما إبداء الاحتمالات للجمع بين الأخبار. و منه يظهر سقوط هذا القول أيضا من درجة الاعتبار.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 374

و أمّا دليل القول الرابع- و هو الخبران الأولان للبجلي، أو مع الثالث بعد الجمع- فهو كان حسنا لو لا معارضته مع أخبار القول الثاني، و ندرة القائل بمضمونهما، بل لا يعلم قائل به، فإنّ عبارة الصدوق ليست صريحة في اختيار «1» ذلك، و إنّما ذكر ذلك في بيان معنى الحديث، و سيأتي الكلام فيه.

و أمّا القول الخامس، فمراد القائل به إمّا الرجوع إلى العرف و العادة في الحكم بالملكيّة، يعني: أنّ ما يحكم العرف و العادة بكونه ملكا للزوج يحكم به له، و ما يحكمان فيه بكونه ملكا للزوجة يحكم به لها.

أو مراده: الرجوع إليهما في تعيين ذي اليد، أي ما جرت العادة فيه

بكونه في يد الزوجة يحكم بكونه في يدها، فيقدّم قولها بدون البيّنة مع اليمين، و ما جرت فيه بكونه في يد الزوج يحكم بكونه في يده كذلك.

و على الأوّل، إمّا يكون المراد: الملكيّة الحاليّة، أي يرجع إلى العرف و العادة، فيحكم بالملكيّة للزوج حال التنازع فيما يحكمان حينئذ بكونه ملكا له، و بالملكيّة للزوجة كذلك.

أو يكون المراد: الملكيّة السابقة، أي يرجع إلى بناء العرف و العادة فيما تجي ء به الزوجة إلى بيت الزوج من مالها، و يأخذه الزوج من ماله و يجي ء به، فيبنى الحكم عليه.

و على جميع التقادير، إمّا يكون المراد بالعرف و العادة: ما يفيد منهما العلم، أو الأعمّ منه و من الظنّ.

فإن كان المراد العلم، فلا حكم علميّا للعرف و العادة في الملكيّة

______________________________

(1) في «ق»: اعتبار ..

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 375

السابقة في أمتعة البيت من حيث هي كذلك أبدا، لا في الأزمنة السابقة و لا اللّاحقة، و من أين يحصل ذلك العلم لو لا الأمور الخارجة؟! و لو فرض حصول علم بذلك لأجل العادة المفيدة للعلم فنحن نسلّم الحكم فيه، و لكنّه ليس مخصوصا بأمتعة البيت، بل كلّ شي ء علم الحاكم أنّه من مال أحد المدّعيين بإحدى طرق العلم أو أنّه بيده يحكم له بمقتضاه.

و إن كان المراد الأعمّ، فحصول الظنّ بالملكيّة السابقة- سيّما إذا مضت من مبدأ النكاح مدّة متطاولة، كخمسين سنة أو ستين- مشكل غالبا.

و لو قطع النظر عن ذلك فلا تضايق بتسليم الظنّ العادي في بعض الأشياء بالنسبة إلى بعض الأشخاص أو الطوائف في بعض البلاد أو الأزمان، و إن منعه صاحب التنقيح أيضا و منع الرجحان «1».

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 17    375

    الخامس: الرجوع في ذلك إلى العرف العام أو الخاص ..... ص : 369

لكن ما الدليل على اعتبار ذلك الظنّ؟ فإنّه لو كان المناط هو الظهور فالظنّ لم تكن له جهة اختصاص بمتاع البيت و الزوج و الزوجة، بل يلزم الأخذ به في غير ذلك المورد، كدعوى الرجل مع أخته، و يعتبر الظنّ الحاصل من الشاهد الواحد، بل من حال المدّعي و المدّعى عليه.

و لا يمكن أن يقال: إنّه خرج بالإجماع، إذ الإجماع لم يختصّ بموضع دون موضع، بل انعقد على عدم اعتبار الظهور الظنّي غير الظنون المخصوصة في هذا الباب.

و العجب كلّ العجب من الفاضل، حيث استشهد لاعتبار التنازع الظاهر في باب الدعاوي بقبول قول المنكر مع اليمين، باعتبار قضاء العادة بملكيّة الإنسان غالبا ما في يده «2»، و لم يستشهد لعدم اعتبار الظهور بعدم

______________________________

(1) التنقيح الرائع 4: 279.

(2) المختلف: 698.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 376

قبول دعوى المدّعي العادل المتديّن شيئا في ذمّة الفاسق المتغلّب، و لو ضمّ معه شهادة فاسقين مورثة لشدّة الظهور، و نحو ذلك، مع أنّ تقديم قول المنكر لا يختصّ بالأعيان الكائنة في اليد، بل يشمل ما في الذمّة أيضا، مع أنّ منشار النجّار و كتاب العالم إذا كان بيد شخص معروف بالسرقة و خرج من بيت النجّار و العالم لو ادّعاه النجّار و العالم يقدّم قول ذي اليد السارق، مع أنّ الظاهر خلافه، فيعلم أنّ ذلك ليس باعتبار الظهور و المظنّة.

هذا إذا كان المراد الملكيّة السابقة.

و لو أريد الملكيّة الحالية فلا وجه لحصول العلم أو الظنّ بها من حيث إنّه متاع البيت و أنّهما الزوجان أصلا، و كيف يعلم أو يظنّ بما وقع بينهما في زمان اجتماعهما؟!

و كذا الكلام إن كان المراد تعيين ذي اليد بالعرف و العادة.

فإن قيل:

التعليل المذكور الذي ذكره الإمام عليه السّلام في الأخبار الثلاثة «1» بقوله: «يعلم من بين لابتيها» إلى آخره، يدلّ على اعتبار العادة في ذلك.

قلنا:

العلّة المذكورة هي العلم كما في بعضها، و الإخبار العلميّ- الذي هو وظيفة البيّنة- كما في بعض آخر، و لا كلام فيه حينئذ، و إنّما الكلام في تحقّق العلم العادي كما هو المعلوم، و لعلّه كان عادة مخصوصة معلومة في بلده عليه السّلام في ذلك الزمان، مع أنّ في التعليل إجمالا لا يتمّ الاستدلال به، كما مرّت الإشارة إليه.

و من ذلك ظهر خلوّ هذا القول عن الدليل التامّ أيضا، فلا ينبغي الارتياب في سقوطه من البين. و ظهر بطلان الأقوال الثلاثة، التي هي غير

______________________________

(1) المتقدّمة في ص: 368- 369.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 377

الثاني و الرابع.

و بقي الكلام فيهما و في دليلهما، فنقول: لا شكّ في كون متاع النساء للنساء، للتصريح به في روايات القول الثاني، و عدم دلالة سائر الروايات على خلافه إن لم تدلّ عليه بالأولويّة أو العموم.

و لا في كون متاع الرجال للرجال، لتصريح صحيح رفاعة و موثّقة سماعة و صحيحتي البجلي الأوليين «1» من غير معارض أيضا، سوى عموم صحيحة البجلي الأخيرة، و تخصيصها بالخصوصيّات متعيّن، مع أنّ في عمومها نظرا، بل الظاهر أنّ المراد بمتاع المرأة فيها هو المتاع الذي حكم فيه أبو ليلى، و صرّح بأنّه يكون للرجل و المرأة.

نعم، يقع التعارض بين الأخبار في المتاع المشترك، فإنّ صريح صحيحة رفاعة و موثّقة يونس أنّه يقسّم بينهما، و صريح الصحاح الثلاثة للبجلي- التي هي صحيحة واحدة حقيقة، و إن كان بعض رجال

أسنادها مختلفة- أنّه للمرأة، فلا بدّ من الترجيح، و لا شكّ أنّه للأوليين، لمخالفة الأخيرة للشهرة العظيمة القديمة و الجديدة، بل عدم عامل بها صريحا البتّة، سوى المشايخ الثلاثة، و اثنان منهما و إن شاركا الآخر في ذلك الحكم و لكنّهما خالفاه في حكم متاع الرجال، و خالفا الصحاح أيضا، فليس عامل بها إلّا الصدوق خاصّة، و عمله أيضا غير معلوم كما مرّت إليه الإشارة، بل عمل الشيخين الأخيرين أيضا، فلا شكّ أنّ مثل ذلك الخبر ليس بحجّة و إن لم يكن له معارض، فكيف معه؟! هذا، مع ما في دلالة الصحاح على إطلاق الحكم و كلّيته من

______________________________

(1) المتقدّمة جميعا في ص: 366 و 367 و 368.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 378

المناقشة، لمكان التعليل المذكور فيها، فإنّ مقتضاه أنّ الحكم المذكور مخصوص بما توجد فيه العلّة، و هو العلم بأنّ الزوجة أهدت الجهاز و المتاع إلى بيت الزوج، و لم يعلم أنّ للزوج أيضا فيه شيئا، فلا يجري فيما علم أنّ الزوجة لم تهد الجهاز إليه، أو لم يعلم ذلك، أو علم أنّ الزوج أرسل أمتعته إلى بيت الزوجة، و هي أهدتها- أو مع شي ء آخر- إلى بيت الزوج، كما هو متعارف الآن في كثير من البلدان، أو علم أنّ للزوج أيضا في بيته أمتعة.

و بالجملة: لا يثبت الحكم في غير مورد تجري فيه العلّة، كما هو الآن في أكثر البلدان.

و ظهر من ذلك أنّ الترجيح للروايتين الأوليين، الحاكمتين بأنّ المتاع يقسّم بينهما، و أنّ الحقّ هو القول الثاني، فعليه العمل.

فروع:
أ: اعلم أنّ أخبار المسألة خالية عن ذكر اليمين رأسا،

بل الظاهر منها انتفاؤها، و لا دليل على ثبوت اليمين إلّا عمومات اليمين على من ادّعي عليه، بجعل المرأة مدّعى عليها فيما

يصلح لها، و الرجل فيما يصلح له، و كلّ منهما في النصف فيما يصلح لهما، و قد عرفت حالهما في مثل المورد.

إلّا أنّ ظاهر الأصحاب الاتّفاق على ثبوتها، و من لم يتعرّض لها فإنّما هو لأجل كون المقام مقام بيان من يقدّم «1» قوله فقط.

و يؤيّد ثبوتها الاعتبار أيضا، فإنّ ما يصلح للمرأة لو كان بيدها في غير

______________________________

(1) في «ح»: تقدّم ..

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 379

بيت زوجها، و ادّعى الزوج، لا يترك للمرأة بدون يمينها، فكيف إذا كان في بيت الزوج و لم تثبت يدها، و كذلك الرجل؟! و يمكن أن يجعل ذلك دليلا بالأولويّة، فالظاهر أنّ الأحكام الثلاثة إنّما هي بعد اليمين، فيحكم بمقتضاها، و مع النكول يحكم بمقتضاه.

و هذا ظاهر إذا كانت الدعوى بين الزوجين بنفسهما، و لو كانت بين أحدهما و وارث الآخر، فيحلف أحدهما فيما يتعلّق به على البتّ، و الوارث فيما يتعلّق به على نفي العلم بأنّه من مال المدّعي، لأنّ الأخبار مطلقة بأنّه من مال مورّثه، و لم يثبت الإجماع- لو كان هنا- على الأزيد من ذلك.

و يؤكّده أنّه يكتفى فيما في يد مورّثه بذلك الحلف لو ادّعي على الوارث، و هذا أقوى منه، لتصريح الأخبار بأنّه له «1».

و يجب أن يكون الحلف على الوارث بعد ادّعاء المدّعي العلم عليه، و إلّا فيعطى بلا يمين.

و يحتمل ثبوت اليمين عليه إلّا إذا أقرّ المدّعي بعدم علمه، بناء على أن يقول: إنّ هذا اليمين جزء الحكم، لا أنّه حقّ لغيره، كاليمين الاستظهاريّة و جزء البيّنة.

و منه يظهر الحكم لو كانت الدعوى بين الوارثين، فيحلف كلّ منهما على نفي العلم بالتفصيل المذكور.

و لو كان أحد الوارثين أو كلاهما صغيرا

أو مجنونا أو غائبا يدفع ما يتعلّق به إلى وليّه بدون يمين، كما إذا كان بيد مورّثه في بيت آخر، لإطلاق الأخبار بأنّه له، و لا يقصر ذلك من حكم الشارع باقتضاء اليد الملكيّة.

______________________________

(1) الوسائل 27: 249 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 380

ب: الحكم المذكور مخصوص بمتاع البيت الذي لم يعلم أنّه بيد أحدهما و تصرّفه بخصوصه،

و لو علم ذلك- كالثوب الذي على الرجل أو المرأة، أو الحليّ الذي عليها- فهو لذي اليد بعد اليمين، لقوله عليه السّلام في موثّقة يونس: «و من استولى على شي ء منه فهو له» «1».

و على هذا، فلو كان في الدار بيت أو في البيت مخزن كان بيد أحدهما- أي هو الذي يغلق بابه و يفتح، و مفتاحه بيده دون الآخر، و بالجملة يكون بيده خاصّة عرفا- فيحكم بما فيه له و إن كان ممّا يصلح للآخر أو مشتركا، إلّا إذا كان إغلاقه و فتحه بأمر الآخر أو بإذنه، أو لأجل مصلحته، أي لا يكون بحيث لا يقال عرفا: إنّه بيت ذلك أو مخزنة، و يده عليه دون الآخر.

و كذا لو كان في البيت صندوق، هو ملك أحدهما و مفتاحه بيده، و لا يدخل الآخر يده عليه بدون رضاه.

ج: و أيضا يختصّ الحكم بمتاع البيت أو الدار الذي هما يسكنانه و يتردّدان فيه لا غير ذلك،

كما يظهر من التعليل الوارد في صحيحة البجلي، حيث قال: «يهدى إلى بيت زوجها» «2»، و كذا يظهر من صحيحة رفاعة و موثّقة سماعة «3».

و أمّا قوله في موثّقة يونس: «ما كان من متاع النساء» و كذا قوله: «و ما كان من متاع الرجال و النساء» فلا بدّ له من قيد، مثل قوله: ما كان متعلّقا بهما، أو: بيدهما، أو: في بيتهما، أو نحو ذلك. و حيث لا يعلم القيد

______________________________

(1) المتقدّمة في ص: 367.

(2) المتقدمة في ص: 368.

(3) المتقدمتان في ص: 366 و 367.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 381

فيقدّر المتيقّن، و هو متاع البيت كما في سائر الأخبار.

و المراد من متاع البيت: ما يكون في بيتهما يتمتّعان به، أيّ شي ء كان، و لذا مثّل بعضهم لما يصلح للرجال منه بالأسلحة و المناطيق، و ما يصلح

لهما بالفرش و الحبوبات، و عدّ في موثّقة سماعة السيف و السلاح من متاع البيت، و ليس المراد ما يتعارف التمتّع به في البيت، كما في لفظ أثاث الدار.

و يشترط أن يكون البيت أو الدار ممّا يتعلّق بهما و يتصرّفان فيه، فلو كان للزوجة بيت معيّن في الدار، و لا مدخل لها في غيره، لا يجري الحكم في متاعه.

و منه بيت الضيافة للرجال، و بيت الحكم و التدريس، و الإصطبل، الذي يختصّ بالتصرّف فيه الرجل.

و لو كان لأحدهما شي ء خارج البيت يحكم فيه لذي اليد منهما، و لو كان بيد ثالث يصدّق قوله في حقّهما، كما مرّ بأقسامه.

د: لا فرق في الحكم المذكور

بين ما إذا كان التداعي في تمام متاع البيت أو بعضها، لإطلاق الأدلّة.

ه: اعلم أنّ الحكم في أكثر الأخبار المذكورة مخصوص بالزوجة الدائمة،

لتصريح صحيحة رفاعة بالطلاق المختصّ بها، و اشتمال الصحاح الثلاث على قوله: «طلّقها» المخصّص للمرأة- التي هي مرجع الضمير- بالدائمة، أو الموجب للتوقّف في التخصيص و العموم.

و لكن مقتضى إطلاق المرأة في موثّقة يونس ثبوت الحكم في المنقطعة أيضا، و هو مقتضى دليل القائلين بالقول الأوّل، لأنّ مرجعهم إلى العمومات الجارية في كلّ أحد و منه المنقطعة، و كذا دليل القائلين بالقول الأخير، و هو الرجوع إلى العرف إن تحقّق و إلّا فإلى العمومات. و لذا

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 382

أجري في القواعد الحكم في تداعي العطّار و النجّار في آلاتهما «1».

و منه يعلم عدم انعقاد إجماع على التخصيص بالدائمة، و حينئذ فالعمل بمقتضى إطلاق الموثّقة- مع عدم منافاة اختصاص البواقي له- أولى و أظهر.

و: لو ادّعى أحدهما اليد المستقلّة على بعض المتاع، فإن كان ممّا يختصّ به فلا تترتّب ثمرة على المتنازع،

لاتّحاد حكمه مع ثبوت اليد و عدمه.

و لو ادّعاها في المختصّ بالآخر أو المشترك يترافعان أولا في ذلك، فعلى مدّعي اليد الإثبات، فإن أثبتها يقدّم قوله، و إلّا فله إحلاف الآخر، فإن نكل فعليه حكمه، و إن حلف تنفى اليد المستقلّة، و يحكم بمقتضى حكم متاع البيت الذي لا يستولي عليه أحدهما.

ز: هل الحكم المذكور مخصوص بما لم تعلم فيه ملكيّته السابقة لأحدهما،

و أمّا فيما علم فيه فيستصحب حتى يظهر خلافه، أو لا، بل يجري فيه أيضا؟

مقتضى التعليل المذكور في الصحاح الثلاث: الأوّل، لأنّه صرّح بأنّ هذا الحكم لأجل ملكيّة الزوجة السابقة، و لو ادّعى الزوج أنّه أحدث في البيت شيئا فعليه البيّنة. و لا يضرّ ترك العمل بأصل الحكم فيها، لأنّ ترك جزء من الحديث- لمعارض- لا يوجب ترك الباقي.

و لكنّ مقتضى إطلاق سائر الأخبار: [الثاني ] «2»، فيتعارضان بالعموم من وجه، و يرجع إلى استصحاب الملكيّة، بل اليد السابقة أيضا.

فالحقّ هو: الأوّل، إلّا أن تعلم يد مستقلّة حاليّة فيه للآخر، فتقدّم على الملكيّة السابقة، و اللّه العالم بحقائق الأمور.

______________________________

(1) القواعد 2: 223.

(2) بدل ما بين المعقوفين في النسخ: الأوّل، و هو غير صحيح.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 383

الفصل السادس في بيان نبذة من أحكام تعارض الملك السابق و اليد، و تعارض البيّنات و تصادقهما
اشاره

بحيث يستلزم العمل بكلّ منهما تكذيب الأخرى، و إلّا فيجب التوفيق بينهما، و العمل بكلّ منهما، لكونه حجّة شرعيّة، و هو غالبا يكون في تنازع الأعيان.

و قد يتحقّق في الديون إذا بيّن المدّعي السبب، كأن يقول: لي عليه عشرة ثمن الفرس الفلاني الذي بعته يوم كذا، و أقام عليه بيّنة، و أقام المدّعى عليه البيّنة على أنّ هذا الفرس بعينه مات بشهر قبل ذلك عند المدّعي.

و قد يتحقّق في سائر الحقوق أيضا، كأن يقيم المدّعي البيّنة على أنّه جرحه اليوم الفلاني في موضع كذا، و أقام المدّعى عليه البيّنة على أنّه كان في ذلك اليوم في بلدة اخرى بينهما مسافة عشرة أيّام.

ثمَّ العين التي تعارضت فيها البيّنتان إمّا تكون في يد أحد المتداعيين، أو يدهما معا، أو يد خارج عنهما، أو لا تكون عليها يد. و نبيّن أحكامها في مسائل:

المسألة الأولى: إذا كانت في يد أحدهما و أقام كلّ منهما بيّنة، فللأصحاب فيه أقوال:
الأوّل: ترجيح بيّنة الخارج مطلقا

، سواء شهدت البيّنة من الجانبين بالملك المطلق، أو المقيّد بالسبب، أو التفريق.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 384

و هو المحكيّ عن والد الصدوق و الشيخ في كتاب البيوع من الخلاف و الديلمي و ابن زهرة و الكيدري «1»، و عن الغنية دعوى إجماعنا عليه، و اختاره طائفة من المتأخّرين «2»، منهم بعض مشايخنا المعاصرين «3».

و دليلهم على ذلك: الإجماع المنقول، و المستفيضة المصرّحة: بأنّ البيّنة على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه «4»، فإنّ التفصيل قاطع للشركة، و مقتضاها اختصاص قبول البيّنة من المدّعي، كما استدلّ به أكثر الأصحاب.

و يدلّ عليه صريحا خبر منصور- الذي لو كان فيه ضعف فبالشهرة مجبور-: رجل في يده شاة، فجاء رجل فادّعاها، فأقام البيّنة العدول أنّها ولدت عنده، و لم يهب و لم يبع، و جاء الذي

في يده بالبيّنة مثلهم عدول و أنّها ولدت عنده، و لم يهب و لم يبع، فقال: «حقّها للمدعي، و لا أقبل من الذي في يده بيّنة، لأنّ اللّه تعالى إنّما أمر ان تطلب البيّنة من المدّعي، فإن كانت له بيّنة و إلّا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر اللّه عزّ و جلّ» «5».

و هذه الرواية بنفسها أيضا حجّة مستقلّة على المطلوب، و ذكر السبب في السؤال غير ضائر، لعموم الجواب و العلّة.

______________________________

(1) حكاه عن والد الصدوق في المقنع: 133، الخلاف 3: 130، المراسم: 234، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 625.

(2) كالعلّامة في القواعد 2: 222، الشهيد الثاني في الروضة 3: 108 و 109، الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 365.

(3) انظر الرياض 2: 419.

(4) انظر الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 3.

(5) التهذيب 6: 240- 594، الاستبصار 3: 43- 143، و فيهما بتفاوت يسير، و أورد ذيله في الوسائل 27: 234 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 3 ح 4.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 385

و الرضويّ المنجبر ضعفه بما ذكر، قال عليه السلام: «فإذا ادّعى رجل على رجل عقارا أو حيوانا أو غيره، و أقام بذلك بيّنة، و أقام الذي في يده شاهدين، فإنّ الحكم فيه أن يخرج الشي ء من يد مالكه إلى المدّعي، لأنّ البيّنة عليه» «1».

و مبنى استدلالهم على أصالة عدم حجّية بيّنة الداخل، فلا يرد عليهم:

أنّه إن كان بناؤهم على عدم حجّيتها فهو مناف لقبولها في بعض الموارد، و إن كان على قوّة الظنّ فقد يكون الظنّ الحاصل من بيّنة الداخل أقوى من بيّنة الخارج. فإنّا نختار الأوّل، و الأصل لا ينافي الخروج

عنه بالدليل.

قيل:

ظاهر المستفيضة أنّ وجوب البيّنة على المدّعي لا عدم الحكم بها لو أقامها المنكر، أي تجب البيّنة على المدّعي، و لا يكلّف المنكر تجشّمها، و اليمين أيضا لا يجب إلّا على المنكر، فالتفصيل إنّما هو في الواجب لا في الجائز، فنقول بسماع بيّنة المنكر أيضا، كما صرّح به جماعة في موارد عديدة:

منها:

ما ذكروا في مقام تعارض البيّنات، بأنّهما تعارضتا فتساقطتا، و التساقط لا يكون إلّا مع حجّيتهما، و بأنّ لذي اليد دليلين: اليد و البيّنة، و بتقديم الأعدل و الأكثر منهما.

و منها:

ما ذكره الفاضل في القواعد و التحرير و الشهيد في الدروس من سماع بيّنة ذي اليد قبل المخاصمة للتسجيل، و بعدها لدفع اليمين.

و يدلّ على سماع بيّنة الداخل أيضا عموم قولهم: «أحكام المسلمين

______________________________

(1) فقه الرضا عليه السّلام: 261، مستدرك الوسائل 17: 372 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 10 ح 3.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 386

على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنّة ماضية» «1».

و قوله سبحانه لنبيّ من الأنبياء: «اقض بينهم بالبيّنات، و أضفهم إلى اسمي» «2».

و كون قول العدلين دليلا شرعيّا غالبا.

و خصوص الأخبار، كصحيحة حمّاد الحاكية لأمر اللعين موسى بن عيسى في المسعى، إذ رأى أبا الحسن موسى عليه السّلام مقبلا [من المروة على بغلة، فأمر ابن هياج رجلا من همدان منقطعا إليه أن يتعلّق بلجامه و يدّعي ] البغلة، فأتاه و تعلّق باللجام، و ادّعى البلغة، فثنى أبو الحسن عليه السّلام رجله و نزل عنها، و قال لغلمانه: «خذوا سرجها و ادفعوها إليه» فقال: و السرج أيضا لي، فقال: «كذبت، عندنا البيّنة بأنّه سرج محمّد بن علي، و أمّا البغلة فإنّا اشتريناها منذ قريب، و أنت

أعلم بما قلت» «3».

و رواية فدك المتقدّمة «4»، فإنّه لو كانت إقامة البيّنة للمنكر بلا فائدة و غير مجوّزة لكان أولى بالمجادلة به مع أبي بكر.

و رواية حفص السابقة «5»، حيث قال فيها: أ يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ إلى غير ذلك.

______________________________

(1) الكافي 7: 432- 20، التهذيب 6: 287- 796، الخصال: 155- 195، الوسائل 27: 231 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 1 ح 6.

(2) الكافي 7: 414- 3، التهذيب 6: 228- 551، الوسائل 27: 229 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 1 ح 2 و فيه: اقض عليهم ..

(3) الكافي 8: 86- 48، الوسائل 27- 291 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 24 ح 1، بدل ما بين المعقوفين في «ح» و «ق»: على بغلته رجلا أن يدّعي، و ما أثبتناه من المصدر.

(4) في ص: 333.

(5) في ص: 333.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 387

و أمّا رواية منصور «1» فيمكن أن يكون وجه التعليل فيها: أنّ اللّه حكم بإعمال بيّنة المدّعي و إحقاق حقّه بمجرّد البيّنة و إن ثبتت للمدّعى عليه أيضا بيّنة، إلّا أنّه لا يمكن ثبوت حقّ المدّعى عليه بالبيّنة إذا لم تكن للمدّعي بيّنة «2».

أقول أوّلا:

إنّ ما ذكره- من أنّ غاية ما يفيده، إلى آخره- فيه: إنّه لو سلّمنا أنّ معنى قولهم: البيّنة على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه، ما ذكره من التفصيل بين الواجبين دون الجائزين معيّنا أو احتمالا، فمع منعه- كما يأتي- يرد عليه: أنّه يمكن للمستدلّ أن يقول: إنّه على التقديرين يثبت ترتّب الأثر على بيّنة المدّعي، و أمّا تأثير بيّنة المنكر فيكون احتماليّا، بل يكون مسكوتا عنه على ذلك الاحتمال أيضا،

و الأصل عدمه. و ما ذكره دليلا لتأثيره غير ناهض كما يأتي، فيمكن تتميم الاستدلال أيضا.

و ثانيا:

إنّه على ما ذكره يجوز للمنكر الحلف و تجوز إقامة البيّنة، و قد مرّ في بحث كيفيّة الحكم جواز ترك المدّعي لبيّنته الغائبة أو الحاضرة، و الاكتفاء بإحلاف الخصم، و قد عرفت نفيهم الخلاف فيه.

و إذا جاز للمدّعي ترك بيّنته و للمنكر رفع الحلف بالبيّنة، فأين الوجوب الثابت لهما من هذه الأخبار؟! هذا، مع أنّ سماع بيّنة المنكر دفعا لليمين في غير مقام التعارض ممنوع، كيف؟! و قال بعض مشايخنا المعاصرين: إنّ وظيفة ذي اليد اليمين دون البيّنة، فوجودها في حقّه كعدمه بلا شبهة، و لذا لو أقامها بدلا

______________________________

(1) المتقدّمة في ص: 384.

(2) غنائم الأيام: 702.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 388

عن يمينه لم تقبل منه إجماعا إن لم يقمها المدّعي «1». انتهى.

و ثالثا:

إنّ الإمام في هذه الأخبار ليس في مقام بيان التكليف حتى يفيد الوجوب أو الجواز، و إنّما هو في مقام التوقيف و بيان الحكم الوضعي، و هو المتبادر من هذا الكلام في ذلك المقام، فالمعنى: أنّ حكم اللّه (الموقف الذي وضعه) «2» هو إتيان المدّعي بالبيّنة و المدّعى عليه بالحلف، و التفصيل قاطع للشركة في التوقيف و الوضع، فلا يترتّب أثر على بيّنة المدّعى عليه إلّا بدليل آخر.

و رابعا:

إنّ ما ذكره- من قول جماعة بسماع بيّنة المدّعى عليه في موارد- فمع كون أكثرها من الأقوال النادرة الشاذّة لو سلّم غير مفيد، إذ نحن نقول بكون ذلك من باب القاعدة و يقبل التخصيص، كما خصّ جانب المدّعي بثبوت اليمين عليه مع الردّ، و مع الشاهد الواحد، و مع كون الدعوى على الميّت، و في الدماء، و

غير ذلك، فلا يصير ذلك دليلا على صرف اللفظ عن ظاهره، و لا موجبا لإثبات أثر بيّنة المنكر، الذي هو خلاف الأصل في غير تلك الموارد.

و خامسا:

إنّ استدلاله بسماع بيّنة المنكر بالعمومين اللذين ذكرهما باطل جدّا، إذ لا عموم في الحديث الأوّل أصلا، فإنّ المعنى: أنّ الحكم يتحقّق بأحد هذه الأمور، أمّا أنّ مواردها أين هي فلا يعلم من الخبر، و لذا لا يحكم في المدّعى باليمين، و ليست السنّة ماضية في جميع الموارد.

و أمّا الثاني، فلو كان عامّا لاقتضى الجمع بين البيّنة و اليمين في جميع الموارد، لا قبول البيّنة فقط، بل لا دلالة على قبولها في مورد أصلا،

______________________________

(1) الرياض 2: 420.

(2) بدل ما بين القوسين في «ح»: الموظف الذي وظفه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 389

فالمراد منه العمل بكلّ في مورده الثابت شرعا.

و سادسا:

إنّ كون قول العدلين دليلا مطلقا- حتى في موقع الترافع و عن المنكر- فأول الكلام، و الاستقراء المفيد غير ثابت.

و سابعا:

إنّ الاستدلال بصحيحة حمّاد غريب جدّا، لأنّه لم يكن في مقام إقامة البيّنة و الترافع، و إنّما ترك الإمام البغلة توقّيا لدينه، حيث كان يجوز صدقه فيها مع جواز ردّ قوله، كما صرّح به في رواية حفص المتقدّمة «1»، و لوجود البيّنة على أنّ السرج لمحمّد بن عليّ فكان يعلم أنّه كاذب فيه فلم يطعه.

و ثامنا:

أنّه لا دلالة لرواية فدك على ما رآه، إذ لعلّ المخالفين يجوّزون بيّنة الداخل، فلا يصير ما ذكره حجّة عليهم، مع أنّه تكفي للحاجة حجّة واحدة.

و تاسعا:

إنّ رواية حفص ليست صريحة في جواز الشهادة و قبولها عنه في جميع الموارد و موضع التنازع، فلعلّ المراد نسبته إليه- كما صرّح به الإمام بعد ذلك- أو

يشهد له بالملك الاستصحابي، أو ملكيّة الأمس، و نحو ذلك، مع أنّ جواز الشهادة لا يستلزم جواز القبول، ألا ترى أنّ الفاسق لو سأل الإمام: إنّي لو رأيت في يد أحد شيئا يملكه أ يجوز لي أن أشهد له؟ بحيث يقول: نعم، و لا يقول: إنّه غير مقبول الشهادة.

و عاشرا:

أنّ الإمام عليه السّلام قال: «و لا أقبل من الذي في يده بيّنة» في رواية منصور، و هو صريح في عدم قبول بيّنة المدّعى عليه، و عدم ثبوت حقّه به.

______________________________

(1) في ص: 333.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 390

ثمَّ إنّه ذكر بعض أمور أخر، لا فائدة في ذكرها سوى التطويل.

الثاني: أنّه ترجّح بيّنة الداخل مطلقا

، و هو المحكيّ عن كتاب الدعاوي من الخلاف «1».

و احتجّ له بالأصل. و الاستصحاب.

و بأنّ ذا اليد له حجّتان: اليد و البيّنة، و الآخر له حجّة واحدة، فيترجّحان عليه.

و بأنّ البيّنتين تعارضتا و تساقطتا، فبقيت العين في يد صاحب اليد بلا بيّنة للمدّعي.

و ببعض الأخبار العاميّة و الخاصّية، الآتية إليها الإشارة، المخصوصة بما ذكر فيه السبب، سوى رواية إسحاق على ما في التهذيب «2»، و لكن الظاهر اختصاصها أيضا بذلك، لإيرادها بعينها في الكافي مسبّبة «3»، كما يأتي.

و لو سلّم عمومها فلا بدّ من تخصيصها، لدلالة صدرها على الرواية الأخرى، على أنّ مع مسبّبية البيّنتين يحلفان، و بضميمة الإجماع المركّب و الأولويّة يثبت الحكم في الصورة الباقية أيضا.

مع أنّها معارضة مع رواية منصور المتقدّمة، المتضمّنة لقوله: «لا أقبل من الذي في يده بيّنة»، و أعمّيتها من صورة التعارض غير ضائرة، إذ عدم القبول مع عدم المعارض يستلزمه معه بالطريق الأولى.

______________________________

(1) الخلاف 2: 635.

(2) التهذيب 6: 233- 570، الوسائل 27: 250 أبواب كيفية الحكم و

أحكام الدعوى ب 12 ح 2.

(3) الكافي 7: 419- 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 391

و لو قطع النظر عن الجميع و فرض تماميّة الدلالة، تكون خارجة عن الحجيّة، للشذوذ الشديد.

الثالث: ترجيح الخارج مطلقا، إلّا إذا انفردت بيّنة الداخل بذكر السبب، فيرجّح.

حكي عن الشيخ في النهاية «1»، و قد ينسب إلى الصدوق أيضا «2»، و عن القاضي و الطبرسي و الشرائع و النافع و المختلف و التحرير و الإرشاد و القواعد و نكت الإرشاد و الروضة و المهذّب- ناسبا خلافه إلى الندرة- و التنقيح «3».

و حجّتهم على الجزء الأوّل ما مرّ دليلا للقول الأوّل.

و على الثاني- على ما قيل «4»- يستشعر من كلام الشيخ في الخلاف و المبسوط و من كلام ابن فهد من الإجماع على تقديم بيّنة الداخل مع ذكر السبب مطلقا، أو مع تفرّدها به، و تأييده بالسبب، و الأخبار الآتية المشار إليها، المتضمّنة لتقديم قول ذي اليد مع ذكر السبب.

الرابع: ترجيح الخارج مطلقا، إلّا إذا تضمّنت البيّنتان أو بيّنة الداخل فقط ذكر السبب، فيرجّح الداخل.

نسب إلى الشيخ في جملة من كتبه «5»، و قد ينسب إلى القاضي و جماعة، و من المتأخّرين من أنكر ظهور قائل بهذا القول عدا الشيخ في

______________________________

(1) النهاية: 344.

(2) الموجود في الفقيه 3: 39 غير مطابق للنسبة، فراجع.

(3) القاضي في المهذّب 2: 578، حكاه عن الطبرسي في الرياض 2: 420، الشرائع 4: 111، النافع: 286، المختلف: 692، التحرير 2: 195، القواعد 2:

232، الروضة 3: 109، التنقيح 4: 280- 281 و فيه نقل للقول دون الأخذ به.

(4) رياض المسائل 2: 420.

(5) كالاستبصار 2: 42، الخلاف 2: 636.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 392

طائفة من كتبه مع تأمّل في بعضها أيضا «1».

و استدلّوا بالخبر العامّي الذي رواه جابر: إنّ رجلين تداعيا دابّة، فأقام كلّ منهما البيّنة أنّها دابّته أنتجها، فقضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للذي في يديه «2».

و رواية إسحاق «إنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين عليه السّلام في دابّة في أيديهما، فأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها أنتجت عنده، فأحلفهما

عليّ عليه السّلام، فحلف أحدهما و أبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما و أقاما البيّنة؟ قال: أحلّفهما، فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعا جعلتها بينهما نصفين، قيل:

فإن كانت في يد أحدهما و أقاما جميعا البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي في يده» «3».

و موثّقة غياث بن إبراهيم: «اختصم إليه رجلان في دابّة، و كلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها للذي في يده، و قال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين» «4».

الخامس: ترجيح الخارج مطلقا، إلّا مع أعدليّة بيّنة الداخل، ثمَّ أكثريّتها، فيترجّح

، و هو للمفيد «5».

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 421.

(2) سنن البيهقي 10: 256، بتفاوت يسير.

(3) الكافي 7: 419- 2، و في التهذيب 6: 233- 570، الاستبصار 3: 38- 130 لا توجد: في دابّة في أيديهما، فأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها أنتجت عنده، فأحلفهما علي عليه السّلام، الوسائل 27: 250 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12 ح 2.

(4) الكافي 7: 419- 6، التهذيب 6: 234- 573، الاستبصار 3: 39- 133، الوسائل 27: 250 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12 ح 3.

(5) المقنعة: 730.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 393

السادس: ترجيح أكثرهما عددا، و مع التساوي فللحالف منهما، و مع حلفهما أو نكولهما فللداخل.

نقل عن الإسكافي «1»، و اختاره من متأخّري المتأخّرين صاحب المفاتيح و شارحة «2»، إلّا أنّهما اقتصرا على تقديم الأكثر، و مع التساوي في العدد يقدّمان بيّنة الخارج.

و تدلّ على اعتبار الأكثريّة صحيحة أبي بصير: عن الرجل يأتي القوم فيدّعي دارا في أيديهم، و يقيم الذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها من أبيه و لا يدري كيف أمرها، فقال: «أكثرهم بيّنة يستحلف و تدفع إليه» و ذكر:

«أنّ عليّا أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت لهؤلاء البيّنة أنّهم أنتجوها على مذودهم «3» لم يبيعوا و لم يهبوا، و قامت لهؤلاء البيّنة بمثل ذلك، فقضى بها لأكثرهم بيّنة و استحلفهم» «4».

السابع: الفرق بين السبب المتكرّر- كالبيع- و غير المتكرّر- كالنتاج و نساجة الثوب

- نسب إلى ابن حمزة «5»، و فسّر في شرح المفاتيح قوله بأنّه إذا شهدت لذي اليد على سبيل التكرار- كأن يقول: كان يبيعه مرّة و يشتريه اخرى- ترجّح بيّنته، و إن قالت: اشتراها مرّة، و اقتصر على ذلك، أو قال قولا آخر، قدّمت بيّنة الخارج.

______________________________

(1) حكاه عنه في المختلف: 693.

(2) المفاتيح 3: 271.

(3) المذود: معلف الدابّة- مجمع البحرين 3: 46.

(4) الكافي 7: 418- 1، الفقيه 3: 38- 129- 130، التهذيب 6: 234- 575، الاستبصار 3: 40- 135، الوسائل 27: 249 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12 ح 1، بتفاوت.

(5) الوسيلة: 219، و نسبه إليه في المسالك 2: 391.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 394

الثامن: تقديم بيّنة الخارج، إلّا إذا شهدت بالملك، و شهدت بيّنة الداخل بالإرث، فيقدّم أكثرهم بيّنة و يستحلف

، هو ظاهر الصدوق في الفقيه «1»، و حكي عن الحلبي «2»، و تدلّ عليه صحيحة أبي بصير المتقدّمة.

التاسع: الرجوع إلى القرعة مطلقا

، حكي عن العماني «3»، مدّعيا تواتر الأخبار بقضاء النبي صلّى اللّه عليه و آله بذلك «4».

و ربّما توجد في المسألة أقوال أخر.

و قد تردّد جماعة في المسألة أيضا، كما في الدروس و اللمعة و المسالك و الكفاية «5»، و قد اختلف بعضهم مع بعض في نسبة الأقوال أيضا.

أقول:

لا ينبغي الريب في أنّ الأصل مع القول الأوّل، لما مرّ من الأدلّة المثبتة للقاعدة، و هي كون البيّنة حجّة للخارج، و أصالة عدم حجّيتها لغيره، و مع ذلك أفتى بمقتضى ذلك الأصل جماعة من فحول العلماء، من القدماء و غيرهم «6»، و ادّعي عليه الإجماع «7»، فلا يجوز رفع اليد عنه إلّا بمخرج، فاللّازم النظر في أدلّة سائر الأقوال.

______________________________

(1) الفقيه 3: 39.

(2) قال في الرياض 2: 420: .. و يحتمل فيه القول بمضمونه كما حكاه في المختلف عن الحلبي. إلّا أنّ المنقول في المختلف: 693 هو عين ما في الكافي:

440، و لم نر فيه ظهورا في ذلك.

(3) حكاه عنه في المختلف: 693.

(4) الوسائل 27: 257 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 13.

(5) الدروس 2: 101، اللمعة (الروضة 3): 107، المسالك 2: 390، الكفاية:

276.

(6) راجع ص: 383 و 384.

(7) كما في الغنية (الجوامع الفقهية): 625.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 395

فنقول: أمّا أدلّة الثاني فغير تامّة جدّا، أمّا الأصل و الاستصحاب فلاندفاعهما ببيّنة المدّعي، التي هي حجّة شرعيّة، بل برواية منصور المتقدّمة «1» أيضا.

و أمّا سقوط بيّنة المدّعي بالتعارض فلكونه فرع التعارض، الذي هو فرع كون بيّنة المنكر دليلا شرعيّا، و هو ممنوع غايته.

و أصالة حجيّة

قول العدلين غير ثابتة، و لو سلّمت فهي في مقام الترافع غير مسلّمة، لقطع الإمام الشركة، و قول نادر بسماعها غير مفيد، سيّما مع معارضته بدعوى الإجماع على خلافه كما مرّ.

و بعض الأخبار المشار إليها غير ناهضة، لما مرّ من اختصاصها بالمقيّد بالسبب، و لم نعثر على خبر غير مقيّد، و لم يدّعه أحد، بل صرّح بعضهم بعدم وضوحه «2».

فلا شكّ في سقوط هذا القول من البين بالمرّة، سيّما مع ما له من الشذوذ و الندرة، كما صرّح به بعض الأجلّة «3».

و أمّا أدلّة الجزء الثاني للثالث فيرد على أولها: عدم حجّية الإجماع المنقول أولا.

و منع ظهور كلمات من ذكر في الإجماع ثانيا.

و معارضته مع صريح نقل الإجماع في الغنية المؤيّد بموافقة أكثر القدماء ثالثا.

و على ثانيها: منع كون السبب مؤيّدا، كما صرح به بعض مشايخنا،

______________________________

(1) في ص: 384.

(2) كما في الرياض 2: 419.

(3) انظر الرياض 2: 419.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 396

حيث قال: مع أنّ في حصول التأيّد بالسبب نظرا، و لو سلّم فلا نسلّم كلّيته «1».

و على ثالثها: أنّ الأخبار موردها اشتمال البيّنتين على السبب، فلا ربط لها بمحلّ البحث من كون بيّنة الداخل مقيّدة خاصّة.

و التتميم بالأولويّة- كما في المسالك «2»- مردود بأنّ صحّته فرع قولهم بالأصل، و هو تقديم بيّنة الداخل في المسبّبين حتى يسري في الفرع بالأولويّة، و هم لا يقولون به، مع أنّ العمل بالأولويّة إنّما يتمّ مع مقطوعيّة العلّة، و هي ليست هنا بمقطوعة و لا مظنونة، لأنّ ذكر السبب إنّما وقع في كلام السائل.

و أمّا دليل الرابع- و هو الأخبار الثلاثة المتقدّمة- فمع كون أولها عامّيا ضعيفا غير منجبر، أنّ شيئا منها لا يدلّ على

المطلوب، إذ ليس فيها إلّا أنّ بعد شهادتهما بالنتاج عنده قضى لذي اليد بعد الحلف كما في الأولين، أو مطلقا كما في الأخير، الواجب حمله على المقيّد أيضا.

و هذا كما يمكن أن يكون لتعارض البيّنتين المسبّبتين و تقديم بيّنة ذي اليد منهما، يمكن أن يكون لطرح بيّنة الداخل، لعدم توقيفيّته، و عدم فائدة لبيّنة الخارج، لكونها شهادة على الملك القديم، و كونه مرجوحا بالنسبة إلى اليد الحاليّة كما هو المشهور.

بل الاحتمال الثاني هو الأظهر، لقضائه عليه السّلام بعد الحلف، الذي لا يقولون به القائلون بالقول الرابع، و إنّما هو على الاحتمال الثاني، فلا يكون لهذا القول و لا لسابقه دليل أصلا كالقول السابق عليهما.

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 421.

(2) المسالك 2: 390.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 397

مع أنّه على فرض الدلالة- كما زعمه المستدلّ- يحصل التعارض بينهما و بين أخبار القول الأوّل، و الترجيح مع أخبار الأوّل، لموافقتها لأصالة عدم حجّية بيّنة الداخل و عدم وجوب الحلف، و للسنّة النبويّة الثابتة- التي هي كون إقامة البيّنة وظيفة المدّعي، و هي من المرجّحات المنصوصة- و للشهرة العظيمة سيّما القديمة، و مخالفتها لأكثر العامّة، كما صرّح به التقيّ المجلسي في حاشية الفقيه «1».

و تدلّ عليه رواية جابر، و نسبة القضاء في الخبرين إلى أمير المؤمنين عليه السّلام «2».

و أمّا ما في الخلاف- من سماع أبي حنيفة بيّنة الداخل «3»- فهو ليس صريحا في أنّه يقدّمها في مورد الروايات- كما ظنّ- حتى يكون مرجّحا لروايات القول الرابع.

فخلوّ هذا القول عن الدليل أيضا في غاية الظهور كالقول الخامس أيضا، فإنّه مع ندرته جدّا- كما صرّح به بعض الأجلّة، حيث ناقش مع المهذّب و الدروس في نسبة اعتبار الأعدليّة

قبل الأكثريّة إلى قدماء الأصحاب كما في الأوّل، أو أكثرهم كما في الثاني، و قال: لم أقف على قائل منهم بذلك عدا من ذكرنا، أي المفيد، و إن قالوا بذلك فيما إذا كانت العين بيد ثالثة «4». انتهى- لا شاهد له من الأخبار أصلا.

نعم، في رواية البصري: «كان عليّ عليه السّلام إذا أتاه خصمان يختصمان

______________________________

(1) انظر روضة المتقين 6: 175.

(2) المتقدّمة جميعا في ص: 392.

(3) الخلاف 2: 635.

(4) انظر الرياض 2: 420.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 398

بشهود، عدلهم سواء، و عددهم سواء، أقرع بينهم على أيّهم يصير اليمين» الحديث «1».

و لا دلالة له على هذا المطلب أصلا، إذ لا دلالة لها إلّا على أنّه إذا لم يكن عدلهم و عددهم سواء لم يقرع، و لا يعلم أنّه ما يصنع، مع أنّ إرادة الأعدليّة من تساوي عدلهم غير معلومة، و اعتبر معه التساوي في العدد أيضا، و مع ذلك لا دلالة لها على كون العين في يد واحد منهما.

و أمّا القول السادس، فمع ما ذكر من الشذوذ المخرج لدليله عن الحجّية، يرد على دليله- و هو الصحيحة- أنّ الاستدلال بها إن كان من جهة ذيلها المتضمّن لقضاء عليّ عليه السّلام في البغلة فلا تعرّض فيها لكونها في يد أحدهما كما هو محلّ النزاع، فيحتمل كونها في يد ثالث، و لا بأس بالقول به حينئذ كما يأتي.

و إن كان من جهة صدرها فهو أخصّ ممّا هو بصدده، لصراحتها في أنّ بيّنة ذي اليد إنّما هي على كون الدار بيده بالإرث، و هو القول الثامن، فلا يفيد له، مع عدم دلالتها على سائر مطالبة من الحلف مع التساوي و الحكم للداخل مع النكول.

و أمّا السابع، فلم

أعثر له على دليل.

و أمّا الثامن، فدليله- كما عرفت- هو الصحيحة المذكورة، و هي و إن كانت دالّة على ذلك القول إلّا أنّ شذوذها و مخالفتها لشهرة القدماء- حتى لم يذكر عامل بها سوى من ذكر، و كلام الصدوق أيضا ليس صريحا في

______________________________

(1) الكافي 7: 419- 3، الفقيه 3: 53- 181، التهذيب 6: 233- 571، الاستبصار 3: 39- 131، الوسائل 27: 251 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12 ح 5، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 399

الفتوى بمضمونها- يمنع من العمل بها.

و أمّا التاسع، فدليله الأخبار المتكثّرة كما ذكره، و هي- كما قال- كثيرة معتبرة يأتي ذكرها، إلّا أنّها برمّتها مطلقة، و أخبار القول الأوّل- بكون العين في يد أحدهما- مقيّدة، و الخاصّ مقدّم على العام البتّة، سيّما مع موافقة الخاصّ للشهرة، بل الإجماع، و مخالفه العامّ في عمومه لعمل الأصحاب.

و من ذلك ظهر أنّ أقوى الأقوال و أمتنها هو القول الأوّل، فعليه الفتوى و عليه المعوّل.

المسألة الثانية: لو كانت العين في يديهما معا، و أقام كلّ واحد منهما بيّنة على الجميع
اشاره

، قضى لهما نصفين، تساوت البيّنتان كثرة و عدالة و إطلاقا و تقييدا أم اختلفتا، بلا إشكال في أصل الحكم كما في المسالك «1»، و على المعروف بينهم كما في الكفاية «2»، و بلا خلاف كما في المفاتيح «3»، و على الأشهر، بل عليه عامّة من تأخّر إلّا من ندر كما قيل «4».

لمرسلة ابن المغيرة الصحيحة عن ابن محبوب، و رواية السكوني، المتقدّمتين في المسألة الثانية من بحث أحكام الدعاوي في الأعيان «5»، الممكن تعميمهما لمورد النزاع بترك الاستفصال عن إقامة البيّنة و عدمها.

و لقوله عليه السّلام في موثّقة غياث المتقدّمة: و قال: «لو لم تكن في يده

______________________________

(1) المسالك 2: 390.

(2) الكفاية: 276.

(3) المفاتيح 3:

271.

(4) انظر الرياض 2: 421.

(5) راجع ص: 348 و 349.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 400

جعلتها بينهما نصفين» «1» فإنّه أعمّ من أن تكون في يديهما.

بل صرّح بعضهم بأنّ المراد: أنّه لو لم تكن في يده فقط بل تكون في يديهما «2».

و رواية تميم بن طرفة: إنّ رجلين عرّفا بعيرا، فأقام كلّ واحد منهما بيّنة، فجعله أمير المؤمنين عليه السّلام بينهما «3». و معنى قوله: عرّفا- كما فسّر-:

أنّهما أحضراه عرفة، و كان في يديهما.

و توهّم كونها قضية في واقعة- فيحتمل اشتمالها على ما يخرج عن مفروض المسألة- ليس في موقعه، لأنّ غرض الإمام عليه السّلام عن حكاية قضاء الأمير عليه السّلام بيان الحكم، كما تدلّ عليه تتمّة الخبر و جرت عليه طريقة الأئمّة و أصحابهم و يتفاهم منه عرفا، فلا يكون شي ء له مدخليّة في الحكم عن الكلام خارجا، بل القرينة الحاليّة قائمة على أنّ مناط القضاء كان هو ما في الكلام خاصّة.

و يدلّ عليه أيضا ما مرّ في المسألة الاولى من بحث أحكام الدعاوي، من أنّ كلّا منهما مدّع و منكر، فيعمل ببيّنته و تنصّف، بالتقريب المتقدّم في المسألة المذكورة.

إلّا أنّه يمكن أن يقال: إنّ إعمال البيّنة هو العمل بتمام مقتضاها، و لمّا لم يمكن ذلك في المتعارضتين فتكونان عن مدلول العمومات خارجتين.

______________________________

(1) راجع ص: 392.

(2) انظر الرياض 2: 420.

(3) الكافي 7: 419- 5، الفقيه 3: 23- 61 و فيه بدل «عرّفا»: ادّعيا، التهذيب 6:

234- 574، الاستبصار 3: 39- 134، الوسائل 27: 251 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12 ح 4.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 401

و هل يتعلّق الحلف بكلّ منهما أيضا، فيقتسمان بعد حلفهما أو نكولهما، و يختصّ

بالحالف مع نكول أحدهما؟ كما قوّاه الفاضل في التحرير، و جعل عدم اعتبار اليمين احتمالا «1»، و صرّح به أيضا في التنقيح «2»، بل قيل: المستفاد من التنقيح عدم الخلاف في الإحلاف «3».

و يدلّ عليه أيضا صريحا صدر رواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة «4»، و هي غير منافية، للروايات المتضمّنة للنصف بالإطلاق «5»، فيجب العمل بهما، مع أنّ هذه الرواية مخصوصة صريحا في المورد، و الروايات إمّا ظاهرة فيه أو عامّة له.

أو لا، كما هو المشهور؟

الظاهر: الأوّل، لما مرّ. و لا يضرّ كون ما في الرواية قضية في واقعة بالتقريب المتقدّم في رواية تميم.

ثمَّ الخلاف في المسألة في مقامات أربعة:
أحدهما: في إطلاق الحكم المذكور بالنسبة إلى البيّنات

، و المخالف فيه- على ما قيل «6»- جمع من القدماء و صاحب المهذّب من المتأخّرين، و بعض الفضلاء المعاصرين «7»، فخصّوا ذلك بما إذا تساوت البيّنتان في الأمور المرجّحة من الأعدلية و الأكثرية و ذكر السبب، و حكموا مع الاختلاف فيها لأرجحهما.

______________________________

(1) التحرير 2: 194.

(2) التنقيح 4: 281.

(3) انظر الرياض 2: 422.

(4) في ص: 392.

(5) الوسائل 27: 249 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12.

(6) انظر الرياض 2: 421.

(7) المهذب البارع 4: 492، المحقق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام: 704).

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 402

و اختلفوا في المرجّح أيضا، فعن المفيد: اعتبار الأعدلية هنا خاصّة «1»، و عن الإسكافي: اعتبار الأكثرية كذلك «2»، و عن المهذّب: اعتبار الأعدلية فالأكثرية «3»، و عن ابن حمزة: اعتبار الأعدلية أو الأكثرية أو التقييد بالسبب «4»، و عن الديلمي: اعتبار المرجّح من غير بيان له «5».

و لا دليل على شي ء منها، سوى ذيل صحيحة أبي بصير المتقدّمة «6»، المرجّحة للأكثرية فقط، و هو- لكونه قضية في واقعة- لا يصلح دليلا

لشي ء من تلك الأقوال، إلّا أن يضمّ معه التقريب المتقدّم، فيصير دليلا للإسكافي خاصّة.

و ظاهر أنّ قوله شاذّ نادر، فتكون الرواية الموافقة له- لمخالفة الشهرة القديمة العظيمة- عن حيّز الحجيّة خارجة، فتكون هي مرجوحة بالنسبة إلى دليلنا بمخالفة تلك الشهرة، بل السنّة الثابتة، و إن كانت بالنسبة إلى هذا الذيل عامّة، لأنّ مخالفة عمومها أيضا داخلة في أسباب المرجوحية المنصوصة.

و لو قطع النظر عن جميع ذلك فيعارض دليلنا بالعموم من وجه، و الأصل مع عدم قبول بيّنة الداخل و إن كان أكثر، بل مطلق البيّنة، سيّما في صورة التعارض، فيكون كما لا بيّنة له، و الحكم التنصيف أيضا.

و عدا ما قيل من أنّ حال البيّنتين حال الخبرين المتعارضين «7».

و هو قياس باطل، بل مع الفارق، للخلاف في مناط العمل بالخبر هل

______________________________

(1) المقنعة: 730.

(2) حكاه عنه في المختلف: 693.

(3) المهذّب 2: 578.

(4) الوسيلة: 218.

(5) المراسم: 234.

(6) في ص: 393.

(7) انظر غنائم الأيام: 704.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 403

هو من حيث إنّه خبر، أو من حيث إفادته المظنّة، و على الأخير يمكن لزوم متابعة أقوى الظنّين. بخلاف البيّنة، فإنّ مناط العمل بها خصوصيّتها- كاليد- كما صرّح به جماعة من الأصحاب، و لذا يعمل بها و لو لم تفد المظنّة، بل حصل من قول المدّعى عليه أو بشهادة الفاسق ظنّ أقوى منها.

و ثانيها: في أصل الحكم المذكور

، و المخالف فيه- كما حكي- العماني «1»، فإنّ إطلاق كلامه يقتضي لزوم القرعة هنا أيضا و تقديم من أخرجته، و دليله المستفيضة «2» المتقدّمة إليها الإشارة.

و جوابه: إنّ دليلنا أخصّ مطلقا منها، راجح عليها بما مرّ، فيجب التخصيص.

لا يقال: يلزم تخصيص الأكثر، إذ لم تبق إلّا صورة واحدة، هي كون العين في يد

ثالث، أو مع كونها ممّا لا يد عليها، و هو أيضا تخصيص المساوي، و فيه أيضا كلام.

لأنّا نقول: إنّ روايات القرعة ليست مخصوصة بالأعيان، فتشمل غيرها أيضا، مع أنّ أكثرها قضايا في وقائع.

و ثالثها: في سبب الحكم المذكور

، فقيل: هو تساقط البيّنتين، فيكون كما لا بيّنة فيه «3».

و قيل: لأنّ لكلّ واحد منها مرجّحا باليد على نصفها، فيبنى على ترجيح بيّنة الداخل «4».

و قيل: لترجيح بيّنة الخارج فيقضى لكلّ واحد منهما بما في يد

______________________________

(1) المختلف: 693.

(2) الوسائل 27: 257 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 13.

(3) نقلهما في المسالك 2: 390 من غير تعيين القائل و لم نعثر عليه.

(4) نقلهما في المسالك 2: 390 من غير تعيين القائل و لم نعثر عليه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 404

صاحبه «1».

و تظهر الثمرة في ثبوت اليمين، فتثبت عليهما على الأوّل، و لا يمين على الأخيرين.

و الحقّ: أنّ أكثرها تخريجات و استنباطات غير ملائمة لطريقة الإماميّة، بل السبب ما ذكرنا من العمومات و الأخبار الخاصّة.

و رابعها: في لزوم اليمين و عدمها

، فإنّ المشهور- كما قيل «2»- هنا عدم اليمين، لإطلاق الروايات المتقدّمة «3»، و عدم صراحة رواية إسحاق «4» في كون العين بيديهما.

و فيه: أنّ عدم صراحتها لعلّها على بعض الطرق، و أمّا على ما نقله في الوافي عن التهذيب و الكافي فهي صريحة في كونهما ذا اليد «5». و اللّه هو المعتمد.

المسألة الثالثة: لو كانت في يد ثالث، يقضى بأرجح البيّنتين عدالة،
اشاره

و مع التساوي في العدالة يقضى بأكثرهما عددا، و مع التساوي يقرع بين المتداعيين، فمن خرج اسمه احلف و قضي له، و لو امتنع حلف الآخر و قضي له. فإن نكلا قضي بينهم بالسويّة على المشهور بين الأصحاب خصوصا المتأخّرين، بل عليه عامّتهم كما قيل «6»، وفاقا لنهاية الشيخ و التهذيب و الاستبصار و موضع من الخلاف و الصدوقين و الحلبي و القاضي

______________________________

(1) الشرائع 4: 111.

(2) الرياض 2: 422.

(3) في ص: 391 و 392.

(4) المتقدّمة في ص: 392.

(5) الوافي 16: 931.

(6) انظر الرياض 2: 422.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 405

و الحلّي و ابن حمزة و يحيى بن سعيد و ابن زهرة مدّعيا عليه الإجماع «1».

و دليلهم: أمّا على اعتبار الرجحان بالأعدليّة فرواية البصري: «كان عليّ عليه السّلام إذا أتاه خصمان بشهود، عدلهم سواء، و عددهم سواء، أقرع بينهم على أيّهم يصير اليمين» قال: «و كان يقول: اللّهمّ ربّ السموات السبع أيّهم كان الحقّ له فأدّه إليه، ثمَّ يجعل الحقّ للذي يصير عليه اليمين إذا حلف» «2».

و أمّا على اعتبار الأكثرية فهي أيضا، مضافة إلى صحيحة أبي بصير المتقدّمة «3» دليلا للقول السادس من المسألة الاولى.

و موثّقة سماعة: «إنّ رجلين اختصما إلى عليّ عليه السّلام في دابّة، فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت على مذوده، و أقام كلّ واحد منهما بيّنة

سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين، فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة، ثمَّ قال: اللّهمّ ربّ السموات السبع و و ربّ الأرضين السبع و ربّ العرش العظيم عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم أيّهما كان صاحب الدابّة و هو أولى بها فأسألك أن تخرج سهمه، فخرج سهم أحدهما فقضى له بها» «4».

______________________________

(1) النهاية: 344، التهذيب 6: 237، الاستبصار 3: 42، الخلاف 2: 638، الصدوقين في الفقيه 3: 39، و المقنع: 133، الحلبي في الكافي في الفقه: 449، المهذب 2: 578، الحلّي في السرائر 2: 167، ابن حمزة في الوسيلة: 220، ابن سعيد في الجامع: 532، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 625.

(2) الكافي 7: 419- 3، الفقيه 3: 53- 181، التهذيب 6: 233- 571، الاستبصار 3: 39- 131، الوسائل 27: 251 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12 ح 5، بتفاوت.

(3) في ص: 393.

(4) الفقيه 3: 52- 177، التهذيب 6: 234- 576، الاستبصار 3: 40- 136، الوسائل 27: 254 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12 ح 12، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 406

و أمّا على الرجوع إلى القرعة فبالروايات المتقدّمة «1»، مضافة إلى صحيحة الحلبي «2»، و رواية داود بن سرحان: في شاهدين شهدا على أمر واحد، و جاء آخران فشهدا على غير الذي شهدا و اختلفوا، قال: «يقرع بينهم، فأيّهما قرع فعليه اليمين، و هو أولى بالقضاء» «3».

و أمّا على تأخّر القرعة عن الأكثريّة فباختصاص جميع روايات القرعة بصورة التساوي في العدد، كما هو ظاهر.

و أمّا على تأخّرها عن الأعدليّة فللرواية الأولى أيضا «4».

و أمّا على تأخّر الأكثريّة عن الأعدليّة فلم أعثر على دليل لهم.

نعم، استدلّ له بعض مشايخنا

بالإجماع المنقول عن الغنية «5».

و لا يخفى ضعفه، بل ضعف بعض أدلّتهم الأخر المذكورة أيضا، فإنّ دلالة رواية البصري و موثّقة سماعة على اعتبار الأعدليّة و الأكثريّة ليست إلّا بمفهوم الوصف، الذي هو عند المحقّقين غير حجّة.

و الأولى الاستدلال بالرضويّ المنجبر ضعفه بما مرّ، قال: «فإن لم يكن الملك في يد أحد، و ادّعى الخصمان فيه جميعا، فكلّ من أقام عليه شاهدين فهو أحقّ به، فإن أقام كلّ واحد منهما شاهدين فإنّ أحقّ المدّعيين

______________________________

(1) انظر الوسائل 27: 257 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 13.

(2) التهذيب 6: 235- 577، الاستبصار 3: 40- 137، الوسائل 27: 254 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12 ح 11.

(3) الكافي 7: 419- 4، الفقيه 3: 52- 178، التهذيب 6: 233- 572، الاستبصار 3: 39- 132، الوسائل 27: 251 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12 ح 6.

(4) أي رواية البصري المتقدّمة في ص: 405.

(5) انظر الرياض 2: 421.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 407

من عدل شاهداه، فإن استوى الشهود في العدالة فأكثرهم شهودا يحلف باللّه و يدفع إليه الشي ء، و كلّ مالا يتهيّأ فيه الإشهاد عليه فإنّ الحقّ فيه أن تستعمل فيه القرعة» «1».

لا يقال: إنّ قوله: «فإن لم يكن الملك في يد أحد»- الظاهر في أنّه لا يد عليه أصلا- يخرج الكلام عن مفروض المسألة، لأنّ المتبادر من اليد: اليد المقتضية «2» للملكيّة، و اليد المنضمّة مع اعتراف المتصرّف بعدم استحقاقه له- كما هو المفروض- ليست يدا كذلك، كما مرّ مفصّلا، فالمفروض أيضا ممّا لا يد عليه، مع أنّ الظاهر في قوله: «يد أحد»- بعد بيان حكم ما في يد أحدهما- إرادة عدم كونه

في يد أحد من المتداعيين.

بل يمكن أن يقال: إنّ الظاهر من قوله: «و يدفع إليه الشي ء» أيضا ذلك، فإنّ الظاهر من دفع الشي ء أنّه في يد أحد.

نعم، بقي أنّ الظاهر من قوله: «من عدل شاهداه» أنّ الترجيح بأصل العدالة دون الأعدليّة.

و قوله: «فإن استوى الشهود في العدالة» و إن احتمل الثاني إلّا أنّه ليس نصّا فيه، بل يحتمل الأوّل أيضا.

إلّا أنّه يمكن أن يقال: إنّ الظاهر من التساوي في العدالة بالإطلاق من غير تقييد بأصلها يفيد التساوي في القدر أيضا، و لذا يصحّ سلب التساوي عرفا عن المختلفين في القدر، و يؤكّده قوله في الرواية الأولى:

«عدلهم سواء» فإنّه ظاهر في حدّ العدالة.

______________________________

(1) فقه الرضا عليه السّلام: 262، مستدرك الوسائل 17: 372 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 10 ح 3.

(2) في «ق»: المتضمّنة ..

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 408

و أمّا على حلف من خرجت القرعة باسمه و القضاء له بعدها فبرواية البصري و صحيحة الحلبي، و بهما يقيّد إطلاق الموثّقة و الرضوي.

و أمّا على التنصيف بعد نكولهما، فقيل: للإجماع المنقول المتقدّم «1»، و وهنه ظاهر.

و قيل: لتعارض البيّنتين و تساقطهما، مع عدم إمكان ترجيح إحداهما على الأخرى بالقرعة، فلم يبق إلّا النصف «2».

أقول:

و يمكن الاستدلال له بعمومات التنصيف المتقدّمة هنا و في بحث الدعوى في الأعيان، كموثّقة غياث «3»، و رواية تميم «4»، و مرسلة ابن مغيرة «5» و غيرها «6»، خرجت صورة اختلاف البيّنتين عدالة أو عددا، و قيل:

القرعة و الحلف بما مرّ «7»، فيبقى الباقي.

و ظهر بما ذكر أنّ سند المسألة واضح، و الحكم بها- كما قالوا- متعيّن.

و أمّا المخالف فيها من الفتاوى، فبين من اقتصر على اعتبار الأعدليّة خاصّة،

كالمفيد «8».

و من اقتصر على اعتبار الأكثريّة خاصّة، كالإسكافي و محتمل

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 423.

(2) كما في الإيضاح 4: 407.

(3) المتقدّمة في ص: 392.

(4) المتقدّمة في ص: 400.

(5) المتقدّمة في ص: 348.

(6) كرواية السكوني المتقدّمة في ص: 354.

(7) كما في المبسوط 8: 264.

(8) المقنعة: 730.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 409

الصدوقين «1»، و هو ظاهر المحقّق الأردبيلي، حيث قال: إنّ العدالة تكفي للشهادة، و أمّا أنّ زيادتها تفيد الترجيح فلا.

و من اقتصر على اعتبارهما خاصّة، من غير ذكر الترتيب بينهما و لا القرعة بعدهما، كموضع من الخلاف، قائلا: إنّه الظاهر من مذهب أصحابنا «2».

و من اقتصر على ذكر المرجّح مطلقا، من دون بيان له و لا ذكر قرعة، كالديلمي «3».

أو مع ذكر القرعة بعد العجز عن الترجيح، مدّعيا عليه إجماع الإماميّة، كموضع آخر من الخلاف «4».

و بين من قدّم الأكثريّة على الأعدليّة، كالحلّي «5»، معزيا له إلى ظاهر الأصحاب.

و بين من اقتصر على القرعة خاصّة، كالعماني «6».

و بين قائل بالقرعة مع الشهادة بالملك المطلق من الجانبين، و بالقسمة نصفين إن كانت الشهادتان مقيّدتين، و القضاء للمقيّد إن كانتا مختلفتين، كالشيخ في المبسوط «7».

______________________________

(1) حكاه عن الإسكافي في المختلف: 693، حكاه عن والد الصدوق في المقنع:

134، الصدوق في المقنع: 134.

(2) الخلاف 2: 636.

(3) المراسم: 234.

(4) الخلاف 2: 638.

(5) السرائر 2: 169.

(6) المختلف: 693.

(7) المبسوط 8: 258.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 410

و الكلّ أقوال نادرة عن الدليل التامّ خالية كما لا يخفى على المتتبّع، سيّما بعد ما ذكرنا في هذه المسألة و المسألتين السابقتين.

و أمّا المخالف لها من الأخبار فبعض العمومات اللّازم تخصيصها بما مرّ، و رواية إسحاق المتقدّمة «1» المتضمّنة لقوله: «فلو لم

تكن في يد واحد منهما و أقاما البيّنة؟ قال: «أحلّفهما، فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعا جعلتها بينهما نصفين».

و لكن عدم قائل به يوجب رفع اليد عنه بالمرّة.

ثمَّ إنّه قد عرفت اعتبار اليمين مع القرعة، و ظاهر الصدوقين و الشيخ في النهاية و الخلاف و التهذيب و الاستبصار و القاضي و ابن زهرة اعتبارها مع الأكثريّة أيضا «2»، و ادّعى في الخلاف و الغنية إجماع الإماميّة عليه.

و تدلّ عليه صحيحة أبي بصير و الرضويّ المتقدّمان «3»، فالقول به متعيّن.

و أمّا مع الأعدليّة فلا دليل على اعتبارها، و لذا يظهر من جماعة- منهم: الشرائع و النافع و الإرشاد و التحرير و القواعد و اللّمعة- عدمه «4»، و عن الروضة اعتبارها معها «5»، و الأصل ينفيه. و اللّه العالم.

______________________________

(1) في ص: 392.

(2) حكاه عن والد الصدوق في المقنع: 134، الصدوق في المقنع: 134، النهاية:

343، الخلاف 2: 636، التهذيب 6: 237، الاستبصار 3: 42، القاضي في المهذّب 2: 578، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 625.

(3) في ص: 393 و 406.

(4) الشرائع 4: 111، النافع: 286، التحرير 2: 195، القواعد 2: 232، اللمعة (الروضة البهية 3): 107.

(5) الروضة 3: 107.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 411

فرع:

لم يتعرّض الأكثر لتصديق الثالث لأحد المتداعيين هنا، كما تعرّضوا له في صورة عدم البيّنة.

قيل: لعلّ إطلاقهم هنا مبنيّ على الإغماض عن حكم اليد و خلافها، و نظرهم إلى بيان سائر المرجّحات «1». انتهى.

و هو محتمل، و يحتمل أيضا أن يكون بناؤهم على عدم اعتبار تصديقه، نظرا إلى إطلاق الأدلّة، كما فهمه المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد، حيث حكم بتفرقة المطلوب بين صورة عدم البيّنة و صورة

وجودها في سماع تصديق الثالث، و قال بأنّ الحكم بالتصديق و الحلف هنا أيضا ممكن.

و وجه عدم الاعتبار حينئذ- كما يظهر من الفاضل في التحرير «2»-: أنّ البيّنتين متطابقتان على عدم ملكيّة الثالث، فلا يكون إقرارا، لأنّه إنّما يكون في ملك الشخص واقعا أو ظاهرا، و مع البيّنتين لا يكون كذلك، و للتأمّل فيه مجال.

المسألة الرابعة: لو لم تكن العين في يد أحد

، فإن كانت لواحد منهما بيّنة يقضى له، و إن كانت البيّنة لهما فظاهر عبارة الصدوقين أنّ حكمه حكم يد الثالث «3»، و قال بعض فضلائنا المعاصرين: إنّه الأولى «4».

و هو كذلك، لإطلاق أكثر الأخبار المتقدّمة- إن لم نقل جميعا- بالنسبة إلى هذه الصورة أيضا.

______________________________

(1) غنائم الأيام: 708.

(2) التحرير 2: 195.

(3) الصدوق في المقنع: 133- 134، و حكاه عن والده.

(4) المحقق القمّي في رسالة القضاء (غنائم الأيام: 708).

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 412

المسألة الخامسة: كلّ ما ذكر إنّما كان في تعارض البيّنات في الأعيان من الأموال، و قد يتحقّق في الديون

، كما إذا كانت دعوى الدين مقرونة بسبب خاصّ يقيم المنكر البيّنة على انتفاء السبب.

و كما إذا ادّعى أحد على آخر جناية فيها الدية خاصّة في وقت خاصّ، و أقام بيّنته، و أقامها الآخر على أنّه لم يكن حاضرا في هذا الوقت.

أو ادّعى أحد بالشهود وصيّة زيد له بثلث ماله، و ادّعاها آخر أيضا كذلك.

و قد يتحقّق في غير الأموال من الحقوق أيضا، كما إذا أقام أحد شهودا على زوجيّة زينب له، و أقامها الآخر كذلك.

أو أقام أحدهما على وصيّة زيد له بالولاية على الصغير، و أقام آخر أيضا كذلك. إلى غير ذلك.

و التحقيق في الجميع: أن يبنى على أصالة عدم قبول بيّنة المنكر، و على تعيين القرعة لكلّ أمر مشكل.

و على هذا، فنقول: إنّ جميع الأخبار المتضمّنة لسماع بيّنة المنكر أيضا و مزاحمتها لبيّنة المدّعي كانت مخصوصة بالأعيان من الأموال، فلا أثر لها في غيرها أصلا، و كلّ ما دلّ على سماع بيّنة المدّعي و قبولها فمخصوص بحكم العقل بما لا يعارضه مثلها.

فمورد التعارض الواقع في غير الأعيان إن كان ممّا يكون أحدهما مدّعيا و الآخر منكرا تطرح بيّنة المنكر و يعمل بمقتضى بيّنة المدّعي.

و إن كان ممّا يكون

كلاهما مدّعيين و لا دليل للحكم في خصوص المسألة، يقرع و يحكم بمقتضى القرعة، لعموم: «القرعة لكلّ أمر مجهول»

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 413

أو: «مشكل» «1» المستفيضة دعوى الإجماع على روايته و العمل به «2»، و لصحيحة الحلبي و رواية داود بن سرحان و رواية البصري و الرضوي، المتقدّمة جميعا «3».

و تدلّ عليه أيضا مرسلة داود بن أبي يزيد العطّار الآتية «4».

و رواية زرارة: رجل شهد له رجلان بأنّ له عند رجل خمسين درهما، و جاء آخران فشهدا بأنّ له عنده مائة درهم، كلّهم شهدوا في موقف، قال: «أقرع بينهم، ثمَّ استحلف الذين أصابهم القرع باللّه أنّهم يشهدون بالحقّ» «5».

و مقتضى هذه الرواية و روايتي البصري و داود بن سرحان و صحيحة الحلبي الإحلاف بعد القرعة أيضا، و عليه العمل.

و بهذه الأخبار تقيّد المطلقات في مقام تعارض البيّنات. و اللّه العالم.

المسألة السادسة: لو تعارضت اليد الحاليّة مع الملكيّة السابقة أو اليد السابقة
اشاره

، ففي تقديم الحاليّة أو السابقة قولان، كلّ منهما عن الشيخ في كلّ من المبسوط و الخلاف «6».

و تبعه على الأوّل جماعة «7»، و لعلّهم الأكثرون، و منهم من

______________________________

(1) الوسائل 17: 189 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 13 ح 11.

(2) انظر عوائد الأيام: 226.

(3) في ص: 405 و 406.

(4) في ص: 423.

(5) التهذيب 6: 235- 578، و في الكافي 7: 420- 1، الاستبصار 3: 41- 138، الوسائل 27: 252 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12 ح 7: يحلفون بالحقّ، بدل: يشهدون بالحقّ.

(6) المبسوط 8: 269 و 280، الخلاف 2: 641.

(7) كالعلّامة في القواعد 2: 232 و 234، يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع:

532، الشهيد الثاني في الروضة 3: 109.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 414

المتأخّرين: الكفاية و

المفاتيح و شرحه «1»، و بعض فضلائنا المعاصرين «2».

و على الثاني: الشرائع «3»، و يظهر من الإرشاد الميل إليه.

و يظهر من التحرير وجه ثالث هو التساوي، حيث قال: و لو كان السبق في جانب و اليد في جانب، ففي تقديم السبق أو اليد أو التساوي نظر «4». انتهى.

و احتجّ للأوّل بأنّ اليد ظاهرة في الملك الحالي، و لا تدفعها اليد السابقة، لاحتمال كونها بعارية و نحوها، و لا الملك السابق، لاحتمال انتقالها منه إلى الغير، و لعدم مطابقة الدعوى و الشهادة، إذ الدعوى بالملك الحالي، و الشهادة متعلّقة بالسابق.

و فيه- مضافا إلى أنّ احتمال العارية و نحوها متحقّق في اليد الحاليّة أيضا-: أنّ اليد و الملك السابقين و إن لم يصلحا لدفع الحالي و لم يطابقا الدعوى إلّا أنّ استصحاب مقتضى اليد السابقة و أصل الملك السابق صالح لدفعه، مطابق للدعوى.

و القول بأنّ الاستصحاب إنّما يعمل به لو لا المعارض له، و اليد الحاليّة هنا له معارض، خصوصا في اليد السابقة، لانقطاعها رأسا، كما ذكره بعضهم «5».

أو أنّ الاستصحاب و إن عارض اليد و لكنّ اليد أقوى، لأنّ اقتضاءها الملكيّة و إن كان ظنيّا لكن نفسها قطعي، بخلاف استصحاب مدلول الشهادة، فإنّ مقتضى الشهادة ظنّيّ و كذا استصحابه، فالأوّل ظنّ حاصل من

______________________________

(1) الكفاية: 277، المفاتيح 3: 273.

(2) المحقق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيّام: 710).

(3) الشرائع 4: 112.

(4) التحرير 2: 195.

(5) انظر المسالك 2: 393.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 415

القطع، و الثاني ظنّ حاصل من الظنّ، فيقدّم، كما قاله آخر.

أو أنّ الثابت حجّيته هو ما شهد به الشاهد بعلمه أو ظنّه الاستصحابي، و أمّا ظنّ الحاكم لاستصحاب المخبر به فلا دليل على حجّيته،

و لا يستلزم فعلية الظنّ للشاهد، و إنّما الثابت حجّية علمه القطعي في القضاء، لا مطلق الظنّ، كما ذكره ثالث.

فاسد، سيّما الأخير.

أمّا الأوّل: فلأنّ مقتضى التعارض رفع اليد عن المتعارضين عند عدم المرجّح، لا تقديم أحدهما.

نعم، لو كانت اليد دليلا على الملك يدفع بها الاستصحاب عند التعارض، و لكن قد عرفت أنّه أيضا كالاستصحاب من باب الأصل.

و أمّا الثاني: فلمنع كون اليد أقوى بعد ثبوت حجيّة الكلّ من الشارع، و ما ذكر في تقويتها من تخريجات العامّة العمياء، ثمَّ منع إيجاب مثل تلك القوّة- لو كانت- للتقديم.

و أمّا الثالث: فلأنّ أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ أدلّة واضحة على حجّية ذلك الاستصحاب، و لو اختصّ جواز قضاء الحاكم بعمله لما جاز الحكم بالبيّنة أيضا، إذ لا تفيد العلم.

فإن قيل: هي أمارة ثبتت حجّيتها شرعا.

قلنا: و كذلك الاستصحاب، و لو سلّمنا أنّ حجّية الاستصحاب لأجل الظنّ فإنّما هو ظنّ ثابت الحجّية.

و استدلّ للثاني: بأنّ اليد الحاضرة إن كانت دليل الملك فالسابقة المستصحبة أو الملك السابق المستصحب أولى، لمشاركتهما في الدلالة

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 416

على الملك الحالي، و انفرادهما بالزمن السابق «1».

و فيه: أنّ انفرادهما بالسابق لا يوجب ترجيحا إلّا من جهة الاستصحاب أيضا، و إذا سقط بالمعارضة لا يبقى وجه ترجيح.

و ذكر الحلّي في السرائر «2»- في مسألة تعارض بيّنتي ملك القديم و الأقدم- ما يمكن أن يستدلّ به للثاني هنا أيضا، بأن يقال بعد ثبوت الملكيّة السابقة: لا يمكن الملكيّة الحادثة إلّا بانتقال عن الأوّل إلى الثاني، و هو خلاف الأصل، و موجب بوجوب الدرك على الأوّل، و هو أيضا خلاف الأصل.

و فيه: أنّ هذا الأصل معارض بأصالة اقتضاء اليد الملكيّة، الموجبة للانتقال

و الدرك، فلا تأثير له، و لا يفيد تعدّد خلاف الأصل في جانب، كما بيّناه في محلّه. مع أنّ توقّف ملكيّة الثاني على الانتقال عن الأوّل ممنوع، لجواز بناء الشاهد على الملكيّة الظاهرة المستفادة من اليد أو نحوها، و كان واقعا ملكا للثاني، و كان بيده وكالة أو نحوها، فأخذ المال من غير انتقال.

ثمَّ بما ذكر يظهر دليل الوجه الثالث المذكور في التحرير أيضا «3».

و التحقيق: أنّ اقتضاء اليد للملكيّة يعارض استصحاب الملكيّة، فلا يبقى لشي ء منهما حكم، و لكنّ أصل اليد لا يعارضه شي ء، و هو باق بالمشاهدة و العيان، و الأصل عدم التسلّط على انتزاع العين من يده، و لا على منعه من التصرّفات التي كان له فيها، حتى بيعها و إجارتها، إذ غاية الأمر عدم دليل لنا على ملكيّته، و لكن لا دليل على عدم ملكيّته أيضا،

______________________________

(1) انظر المسالك 2: 393.

(2) السرائر 2: 169.

(3) التحرير 2: 195.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 417

و أصالة عدم الملكيّة بالنسبة إليه و إلى غيره سواء، مع ثبوت أصل الملكيّة، فلا يجري فيه ذلك الأصل أيضا.

مضافا إلى إمكان حصول جواز هذه التصرّفات كلّا أو بعضا بالتوكيل و الإجارة و الولاية و الإذن و غيرها، فتبقى أصالة عدم التسلّط و أصالة جواز تصرّفاته خالية عن المعارض.

و إلى هذا يشير كلام من قال: إنّ احتمال كون اليد الثانية بالعارية أو غيرها لا يلتفت إليه مع بقاء اليد على حالها، فإنّ المقصود الأصلي من إعمال اليد هو إبقاء تسلّطها على ما فيها و عدم جواز منعها من التصرّفات كيف شاء بسبب احتمال الغصب أو العارية أو غيرهما، فيحكم عليها بما يحكم على ملك الملّاك، و ليس هذا معنى

الحكم بأنّه ملك «1». انتهى كلامه رفع مقامه.

فإن قيل:

كما أنّ الملكيّة أو اليد السابقة تقتضي استصحاب الملكيّة، كذلك تقتضي استصحاب تسلّط المالك الأوّل و الحاكم على منع ذي اليد عن التصرّفات أيضا، و به تندفع أصالة عدم التسلّط.

قلنا:

ليس تسلّط الأوّل كالملكيّة التي إذا حدثت يحكم لها بالاستمرار حتى يثبت المزيل، بل هو ممّا يمكن تقييده بقيد، و المعلوم من التسلّط الأولي هو تسلّطه ما دام يحكم له بالملكيّة و تعلم له الملكيّة، فالمعلوم ثبوته أولا ليس إلّا ذلك المقيّد، فبعد انتفاء الحكم بالملكيّة و العلم بها ينتفي القيد، و يتغيّر الموضوع.

ثمَّ إنّه كما أنّ نفس اليد المشاهدة الحاليّة و مقتضياتها- سوى الملكيّة-

______________________________

(1) غنائم الأيّام: 710.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 418

لا معارض لها، فكذلك أيضا كون البيّنة على غير ذي اليد، و كون من يدّعيه مطالبا بالبيّنة، و ذي اليد باليمين، إذا لم يخرج خارج اليد عن صدق المدّعي عرفا، و لا صاحبها عن المنكر كذلك.

فيدلّ على كون وظيفة الأوّل البيّنة و الثاني اليمين قولهم: «البيّنة على المدّعي، و اليمين على من أنكر» و رواية فدك المتقدّمة «1»، فتكون البيّنة على المالك السابق و اليمين على ذي اليد، و لا يمنع ذو اليد من شي ء من التصرّفات، و ليس المطلوب من ترجيح اليد الحالية غير ذلك أيضا، مع أنّه يمكن جعل هذين الأمرين دليلا برأسه على الملكيّة أيضا بالإجماع المركّب يسقط به الاستصحاب بالمرّة لعدم صلاحيّته لمعارضة الدليل مطلقا.

فرعان:
أ: صرّح جماعة من الأصحاب

- منهم: المحقّق في الشرائع و الفاضل في جملة من كتبه و المحقّق الأردبيلي و في المسالك و الكفاية و المفاتيح «2» و غيرها «3»- بأنّه لو شهدت بيّنة المدّعي: أنّ صاحب اليد غصبها، أو

استأجرها، أو استعارها، أو نحو ذلك، سقط اعتبار اليد، و حكم بها للمدّعي. و نفى عنه الإشكال في المسالك، بل ظاهره بل صريحه نفي الخلاف عنه، و في الإيضاح: أنّه تقبل الشهادة حينئذ قولا واحدا «4»، و هو مؤذن بدعوى الإجماع عليه، و نفى عنه الريب في شرح

______________________________

(1) في ص: 333.

(2) الشرائع 4: 113، الفاضل في القواعد 2: 234، التحرير 2: 196، المسالك 2: 393، الكفاية: 277، المفاتيح 3: 273.

(3) كما في كشف اللثام 2: 367.

(4) إيضاح الفوائد 4: 414.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 419

المفاتيح.

و كيف كان، فلا ريب في الحكم، لأنّ استصحاب اليد السابقة الغصبيّة أو الاستيجاريّة مثلا و أصالة عدم حدوث يد اخرى يجعل اليد الحاليّة يد مباشرة لا المقتضية للملكيّة، فلا يبقى معارض للاستصحاب، بل ليس مقتض لملكيّة ذي اليد، إذ ليس إلّا اليد، و اقتضاؤها مخصوص بما إذا لم يدلّ على عدمه دليل، و ما ذكرنا دليل على عدم الاقتضاء.

ب: قال في الكفاية: و في كلامهم القطع بأنّ صاحب اليد لو أقرّ أمس بأنّ الملك له

- أي للمدّعي- أو شهدت البيّنة بإقراره أمس له، أو أقرّ بأنّ هذا له أمس، قضي به له، و في إطلاق الحكم بذلك إشكال «1». انتهى.

و كذا حكم في القواعد بثبوت الإقرار، و استصحاب موجبه لو شهدت البيّنة بإقراره له بالأمس، أو أقرّ المدّعى عليه بالأمس أنّه له، و بالانتزاع عن يده لو أقرّ بأنّه كان ملك المدّعي بالأمس «2».

و كذا في التحرير «3» و شرح الإرشاد للأردبيلي في صورة الشهادة بإقرار الأمس، و صورة إقرار المدّعي بأنّه كان له بالأمس، إلّا أنّه جعل الأقرب في الصورة الأخيرة الانتزاع من يده، مؤذنا بوقوع الخلاف فيه، إلّا أنّه قال في شرح الإرشاد: إنّه غير واضح الدليل إلّا أن يكون إجماعا.

و

قال في تمهيد القواعد: لو قال المدّعى عليه: كان ملكك بالأمس، أو قال المقرّ بذلك ابتداء، قيل: لا يؤخذ به، كما لو قامت بيّنة بأنّه كان ملكه بالأمس، و الأقوى أنّه يؤاخذ، كما لو شهدت البيّنة بأنّه أقرّ أمس.

______________________________

(1) الكفاية: 277.

(2) القواعد 2: 234.

(3) التحرير 2: 195.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 420

انتهى.

و قد يستدلّ على بعض هذه الصور- و يفرّق بينه و بين ما تقدّم- بأنّ الإقرار ينبئ عن التحقيق، و الشاهد قد يخمّن، و يقال فيما تقدّم: بأنّ اليد محسوسة، و الشهادة مظنونة، و بأنّ استصحاب المقرّ به ظنّ ناشئ من القطع، و استصحاب المشهود به ظنّ حاصل من الظنّ.

و لعمري أنّه لا يليق للفرقة الإماميّة أن تتشبّث بأمثال هذه التخريجات.

و التحقيق: أنّه إن أقرّ المدّعى عليه في الحال- أي بعد الادّعاء عليه- بأنّه كان له في السابق، أو ثبت هذا الإقرار بالبيّنة، يقدّم المدّعي، لأنّ ذلك الإقرار المسموع منه أو الثابت بالبيّنة يتضمّن أمرين، أحدهما: ملكيّة المدّعي في السابق، و ثانيهما: الانتقال منه إلى المدّعى عليه، و هو في الثاني مدّع و لا تفيده اليد لمعارضة الاستصحاب، فتكون عليه البيّنة و الإثبات، نظير الدعوى بالدين، فإنّه لو ادّعي عليه عن مبيع اشتراه بالذمّة فأقرّ بذلك البيع يصير مدّعيا، و ترفع اليد عن أصالة براءة الذمّة و نحوه و لو لم يصرّح بأنّي أدّيته.

و على هذا، فتشمله عمومات البيّنة على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه.

و هذا مراد من قال بأنّ ذلك اعتراف من ذي اليد بكونه مدّعيا وظيفته الإثبات.

و أمّا لو كان المدّعى عليه أقرّ في السابق بملكيّته، أو ثبت إقراره السابق، فلا يوجب تقديم المدّعي، لأنّ ذلك لا يجعله مدّعيا

عرفا، سواء كان ذلك الإقرار سابقا على يده أو على الادّعاء عليه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 421

و في حكم الإقرار بالملكيّة السابقة للمدّعي الإقرار بالاشتراء و نحوه من وجوه الانتقالات، بل ذلك أولى بالقبول، لأظهريّته في جعله مدّعيا.

المسألة السابعة: كما يتحقّق التعارض بين الشاهدين و مثلهما، يتحقّق بينهما و بين شاهد و امرأتين

، و كذلك بينهم و بين مثلهم، و المعروف من مذهبهم عدم تحقّقه بين الشاهدين، أو شاهد و امرأتين، و بين شاهد و يمين.

قيل: لضعف الشاهد و اليمين، من جهة وقوع الخلاف في كونه مثبتا، و من جهة أنّ الحالف يصدّق نفسه، بخلاف الشاهدين، فإنّهما يصدّقان غيرهما «1».

و لا يخفى ضعف الوجهين، و أنّهما من الوجوه المستنبطة الموافقة لطريق العامّة، التي فتح بابها شيخ الطائفة في خلافه و مبسوطه «2»، حيث جرى فيهما على طريقة المخالفين و الترجيح بين أقوالهم بمذاقهم، لكونه مختلطا معهم كما ذكره الحلّي في السرائر «3» و غيره، فظنّ الداخل في فقه الإماميّة الغير السائر على بصيرة في دينه أنّ أمثال هذه الوجوه ممّا تعتبره الإماميّة أيضا، لحسن الظنّ بالشيخ و الغفلة عن مرامه.

و قد علّل المحقّق الأردبيلي عدم تعارضهما بأنّ الشاهد و اليمين ليسا بحجّة شرعيّة مستقلّة في جميع الأحكام، بل الشاهد حجّة مع انضمام يمين المدّعي في بعض الأحكام مع تعذّر الشاهدين.

و هو حسن، إلّا أنّ لقائل أن يقول: إنّ الكلام في الأحكام التي يكون

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 17    421     المسألة السابعة: كما يتحقق التعارض بين الشاهدين و مثلهما، يتحقق بينهما و بين شاهد و امرأتين ..... ص : 421

____________________________________________________________

(1) انظر المسالك 2: 391.

(2) الخلاف 2: 637، المبسوط 8: 210.

(3) السرائر 2: 171.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 422

الشاهد و اليمين حجّة فيها، كما

إذا كانا مدّعيين فيما كان بيديهما معا، أو بيد ثالث، أو لا يد عليه، و منه الوصيّة بالثلث إذا ادّعاها كلّ شخص لنفسه، و لازم الدليل حصول التعارض، لعموم أدلّة حجّية الشاهد و اليمين في تلك الموارد، و لكنّه إنّما يتمّ عند من يقبلهما في مطلق الأموال أو حقوق الناس.

و أمّا على اختصاصهما بالديون- كما هو الحقّ- فلا يمكن فيها التعارض، إلّا إذا ادّعى دينا بسبب خاصّ- كثمن مع فرس معيّن في زمان معيّن- و أتى بالشاهد الواحد و حلف معه، و أتى المدّعى عليه بشاهدين على موت ذلك الفرس قبل ذلك الزمان.

و يمكن أن يقال حينئذ أيضا: إنّ بيّنة المنكر لا دليل على قبولها إلّا مع التعارض مع البيّنة في موارد خاصّة لا مطلقا، فلا تعارض بيّنة الشاهد و اليمين أصلا.

هذا، ثمَّ إنّه نقل في الشرائع عن الشيخ قولا بالتعارض و القرعة بينهما «1»، و كذلك صرّح في الدروس بقوله بذلك «2»، و عن فخر المحقّقين نفي القول عنه «3»، بل نقول إنّه متردّد، و به صرّح في المسالك بعد نقل عبارته في المبسوط «4».

و لا يخفى أنّ عبارته المنقولة في المسالك ظاهرة في التعارض، إذ لولاه للزم الحكم بالثلث لزيد الذي له الشاهدان، و طرح قول عمرو الذي له الشاهد و اليمين، فلو لا حجية مستنده و تعارضه مع مستند زيد فما وجه

______________________________

(1) الشرائع 4: 111.

(2) الدروس 2: 102.

(3) إيضاح الفوائد 4: 409.

(4) المسالك 2: 391.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 423

القرعة؟! و ليس معنى التعارض إلّا تضادّ المدلولين و عدم العمل بهما.

و أمّا حمل مراده على أنّه على القول بالتعارض- كما هو أحد قولي المخالفين، فمقتضى مذهبنا الإقراع دون التنصيف- فخلاف

الظاهر.

و أمّا قوله: على مذهبنا يقرع، فنظره إلى أنّ القرعة لكلّ أمر مجهول، و هذا ظاهر، و اللّه العالم.

المسألة الثامنة: قد عرفت لزوم التنصيف بين المتداعيين في بعض الموارد

، فاعلم أنّه قال في الشرائع: و كلّ موضع قضينا فيه بالقسمة فإنّما هو في موضع يمكن فيه فرضها- كالأموال- دون ما يمتنع، كما إذا تداعى رجلان زوجة «1».

قال في المسالك: بل الطريق هنا الحكم لمن أخرجته القرعة، إذ لا سبيل إلى غيره، و تؤيّده مرسلة داود العطّار: في رجل كانت له امرأة، فجاء رجل بشهود شهدوا أنّ هذه المرأة امرأة فلان، و جاء آخرون فشهدوا أنّها امرأة فلان، فاعتدل الشهود و عدلوا، قال: «يقرع بين الشهود، فمن خرج اسمه فهو المحقّ، و هو أولى بها» «2»، و على هذا فلا فائدة في الإحلاف بعد القرعة، لأنّ فائدته القضاء للآخر مع نكوله، و هو منفيّ هنا «3». انتهى.

أقول: هذا الاستدراك إنّما يحسن عند من يحكم بالنصف بعلل مستنبطة، و أمّا على ما هو التحقيق من أنّه لدلالة الأخبار عليه فلا حاجة إلى

______________________________

(1) الشرائع 4: 112.

(2) الكافي 7: 420- 2، التهذيب 6: 235- 579، الاستبصار 3: 41- 139، الوسائل 27: 252 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 12 ح 8، بتفاوت.

(3) المسالك 2: 391.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 424

الاستدراك، لأنّ أخبار النصف كلّها واردة في الأموال- كالبغلة و الدابّة و الدرهم و متاع البيت- و أمّا غيرها فلا، بل هي داخلة في عموم القرعة و خصوصيّاتها في تعارض البيّنات، كروايتي البصري و داود بن سرحان و صحيحة الحلبي «1»، فيعمل بها.

و أمّا ما ذكره أخيرا- من نفي فائدة الإحلاف بعد الإقراع- ففيه نظر، إذ مع حلفه يحكم بالزوجيّة له، و مع نكوله يعرض الحلف

على الآخر، فإن حلف يحكم له، و إن نكل هو أيضا يحكم لمن صدّقته الزوجة، لادّعائها و عدم معارض شرعي، فإن لم تصدّق أحدهما فتمنع عنهما و يخلّى سبيلها، و لا دليل على لزوم القضاء لأحدهما. إلّا أنّ مقتضى مرسلة داود عدم الإحلاف و العمل بمقتضى القرعة، لقوله: فهو المحقّ و الأولى. فهو متعيّن.

و لا يرد: أنّ مقتضى رواية البصري و ما بعدها الإحلاف.

لأنّها عامّة، و المرسلة خاصّة بالزوجة، فتخصّص بها، فإن لوحظت جهة عموم للمرسلة أيضا- لدلالتها على الأولويّة مطلقا، سواء كان بعد الحلف أو قبله- فيتساقطان، و يبقى حكم القرعة بلا معارض، فتأمّل.

و هل يفيد تصديق الزوجة لأحدهما قبل الإقراع للحكم له؟

قال الأردبيلي: نعم، و لا أرى له دليلا، فتأمّل. و اللّه العالم.

المسألة التاسعة: إذا تعارضت البيّنتان في الملك و اختلفتا في التاريخ

- بأن تكون أحدهما في الحال و الأخرى من سنة إلى الحال، أو تكون أحدهما من سنة إلى الحال و الأخرى من سنتين إلى الحال-

______________________________

(1) المتقدّمة جميعا في ص: 405 و 406.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 425

فالمشهور ترجيح الأقدم، لتعارض البيّنتين في الوقت المشترك بينهما فسقطتا، و المختصّة بالوقت المتقدّم سلمت عن المعارض فيستصحب حكمها.

و اعترض عليه: بأنّ مناط الحكم الملك في الحال، و قد استويا «1».

و فيه: أنّ لازمه عدم الحكم بمقتضى البيّنة الحاليّة، و ذلك لا ينافي الحكم بمقتضى الاستصحاب.

و توهّم أنّ استصحاب الشاهد قد سقط بالتعارض، و استصحاب الحاكم لا يفيد.

باطل كما يأتي في مسألة استصحاب الشاهد، و مرّت الإشارة إليه أيضا في مسألة تعارض الملك القديم و اليد الحادثة.

و في المسالك: إنّ المسألة مفروضة فيما إذا كان المدّعى به في يد ثالث. و أمّا إذا كان في يد أحدهما، فإن كانت بيّنة الداخل أسبق

تأريخا فهو المتقدّم لا محالة، لأنّ بعد التساقط تبقى للداخل اليد و الاستصحاب معا.

و إن كانت بيّنة الخارج أسبق، فإن لم يجعل السبق مرجّحا يقدّم الداخل أيضا، لبقاء اليد خالية عن المعارض.

و إن جعلناه مرجّحا يتعارض مع يد الداخل، فيمكن أنّ يقدّم الداخل، لأنّ اليد أقوى من الاستصحاب، و أن يقدّم الخارج، لأنّ جهة بيّنته أقوى، و إذا انضمّت هذه الجهة مع الاستصحاب يترجّح، و إن تعارضا فتساقطا «2».

______________________________

(1) انظر المسالك 2: 392، الكفاية: 277.

(2) المسالك 2: 392.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 426

قال في الكفاية- بعد نقل ذلك-: و الظاهر أنّ هذه التفاصيل إنّما تجري على القول بتقديم بيّنة الداخل لا مطلقا «1».

أقول:

مراده أنّا إذا قلنا بترجيح بيّنة الخارج لم يكن اعتبار لبيّنة الداخل، فتكون لاغية، بخلاف ما إذا قلنا بترجيح الداخل، فإنّه لا يكون إلّا لطرح البيّنتين و ملاحظة المرجّحات الأخرى، التي منها اليد، فقد تكون في الطرف الآخر أيضا.

و منه يظهر أنّ كلام المسالك ليس مبنيّا على مخالفته لما اختاره أوّلا من ترجيح بيّنة الخارج، بل نظره إلى أنّ فرض المسألة لا يمكن إلّا على اعتبار بيّنة الداخل و تقديمه.

و قد يقال: إنّ ما ذكره إنّما يتمّ لو بنى ترجيح بيّنة الخارج على حديث: «البيّنة على المدّعي»، أمّا لو بنى على المرجّح الخارجي- ككون التأسيس أولى من التأكيد- فيمكن إجراء الكلام على تقديم بيّنة الخارج أيضا، و لا بأس به، إلّا أنّ المبنى الثاني ممّا لم يعبأ به أحد من محقّقي الطائفة.

و اعلم أيضا أنّ مفروض المسألة- كما ذكرنا- إنّما هو إذا صرّحت بيّنة القديم أو الأقدم بالملكيّة الحاليّة أيضا، أو ضمّ مع الملكيّة القديمة قوله: و لا أعلم له مزيلا،

و نحوه، على كونه معتبرا مقبولا، كما سيأتي تحقيقه، أو يسكت عن الحال إن قلنا بكفايته في ثبوت الشهادة الحالية أيضا. و أمّا لو ضمّ مثل قوله: و لا أدري ما ذا حدث في الحال، و نحوه ممّا ينفي الشهادة الحاليّة، فهو خارج عن المسألة، فتأمّل.

______________________________

(1) الكفاية: 277.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 427

ثمَّ أقول: إنّ بعض ما ذكر إنّما هو إذا قلنا بأنّ تقديم بعض البيّنات المعارضة على البعض في مقام تعارضها إنّما هو بالمرجّحات الاعتباريّة الظنّية كما هو طريق العامّة و إن اقتفى أثرهم بعض الخاصّة غفلة عن الحقيقة.

و أمّا على ما ذكرنا- من أنّ المناط هو الأدلّة الشرعيّة من الأخبار و الإجماع- فلا وقع لأكثر هذه التفصيلات الضعيفة، بل الحكم هو المشهور، للاستصحاب المذكور إن كان في يد ثالث، و إلّا فيقدّم ذو اليد، كما مرّ وجهه في مسألة تعارض الملك القديم و اليد الجديدة.

هذا لو قطع النظر عن إطلاق أخبار المسألة، و إلّا- كما هو الحقّ- فهو المتّبع، و لا تساقط للبيّنات.

المسألة العاشرة: قالوا: لو تعارضت البيّنة بالملك المطلق و البيّنة باليد فالترجيح لبيّنة الملك

، لأنّ اقتضاء اليد للملكيّة إنّما هو بعنوان الأصل، فيزول بالدليل.

و استشكل فيه في الكفاية بجواز أن يكون مستند الشهادة بالملك أيضا هو اليد، فلا يزيد على الشهادة باليد «1».

و ضعّف: بأنّ بناء الشهادة على مجرّد اليد في غاية الندرة، مع الإشكال في جوازه «2».

و فيه: منع الندرة، بل لعلّه الغالب. و إشكال الفقهاء في جوازه لا يوجب تفطّن الشاهد أيضا.

و التحقيق: أنّا إن اكتفينا في قبول الشهادة بالملك المطلق فلا ينبغي

______________________________

(1) الكفاية: 277.

(2) غنائم الأيام: 712.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 428

الريب في دفعها لليد، لما مرّ، و ليس علينا الالتفات إلى المستند.

و إن قلنا بلزوم

ذكر المستند فاللّازم ملاحظة حال المستند مع اليد، فإن دفعها يقدّم المستند و إلّا اليد، فإذا شهد بأنّه اشتراه زيد عن مالكه، و أخذه ذو اليد غصبا أو عارية، تقدّم شهادة الملك، و إن قال: اشتراه و ملكه، و لا أعلم مزيله، يبنى على كفاية ذلك في الشهادة الحاليّة و عدمها.

المسألة الحادية عشرة: لو تعارضت البيّنة بسبب الملك- مثل قوله: اشتراه أو انتجه في ملكه- و البيّنة بالتصرّف تصرّف الملّاك

، قيل: قدّمت بيّنة الملك بالسبب، لكون التصرّف أعمّ من الملك المطلق «1».

أقول:

إن ضمّت كلّ من البيّنتين قوله: و اعلم أنّه ملكه الحال، فإن اعتبرنا هذه الشهادة فيرجع إلى ما تقدّم من تعارض البيّنتين، و لا تثمر زيادة السبب أو اليد شيئا، و إن لم نعتبرها فتكون الشهادة هي السبب و اليد، و يرجع إلى ما إذا لم تضمّ هذه الزيادة. فإن اكتفينا في قبول الشهادة للملكيّة الحالية بالملكيّة السابقة مع السكوت، أو: و لا أعلم له مزيلا، تندفع بها أصالة اليد، و إلّا فتقدّم اليد، لعدم معارض لها، سوى الاستصحاب المندفع باليد، كما يأتي. و اللّه العالم.

______________________________

(1) القواعد 2: 223، المسالك 2: 392.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 429

الفصل السابع في ذكر بعض المسائل التي يقع فيها التنازع
اشاره

و فيه مسائل:

المسألة الأولى: قال في القواعد: لو كان في دكّان عطّار و نجّار فاختلفا في قماشه،

حكم لكلّ بآلة صناعته.

و قال أيضا: لو كان الخيّاط في دار غيره فتنازعا في الإبرة و المقصّ حكم بهما للخيّاط، لقضاء العادة بأنّ من دعى خيّاطا إلى منزله فإنّه يستصحب ذلك معه.

و لو تنازعا في القميص فهو لصاحب الدار، لأنّ العادة أنّ القميص لا يحمله الخيّاط إلى منزل غيره.

و راكب الدابّة أولى من قابض لجامها.

و صاحب الحمل أولى.

و السرج لصاحب الدابّة دون الراكب.

و الراكب أولى بالحمل من صاحب الدابّة.

و لو تنازع صاحب العبد و غيره في ثياب العبد فهي لصاحب العبد، لأنّ يد العبد عليها.

و لو تنازع صاحب الثياب و آخر في العبد تساويا، لأنّ نفع الثياب يعود إلى العبد لا إلى صاحبه.

و لو تنازع صاحب النهر و الأرض في حائط بينهما فهو لهما، لأنّه

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 430

حاجز بينهما فتساويا «1». انتهى.

أقول:

هذه المسائل كلّها متفرّعة على الحكم بشي ء لصاحب اليد مع يمينه، فالمرجع فيها إلى تعيين ذي اليد، و قد عرفت سابقا أنّه لا نصّ على تعيينه من الشارع و لا من أهل اللغة، فيجب الرجوع فيه إلى العرف، فمن حكم العرف بكونه ذا اليد و متصرّفا فيه يقدّم قوله مع يمينه.

و لا شكّ أنّ مناسبة شي ء لصناعة أحد و حرفته لا توجب صدق ذي اليد العرفي، و كذا ظنّ ملكيّته لا يكفي في ذلك الصدق، و لذا لو ادّعى نجّار منشارا- في يد خيّاط- أنّه ملكه، لا يقدّم قوله.

نعم، لو قلنا: إنّ حكم الشارع بتقديم قول ذي اليد إنّما هو لمظنّة ملكيّته، صحّ تقديم قول من ظنّ ملكيّته لشي ء، لا لصدق اليد، بل لذلك الظنّ، و هو غير معلوم.

و على هذا، فاللّازم في هذه المسائل الرجوع إلى

العرف، فنقول:

أمّا في الاولى، فلا نسلّم صدق ذي اليد عرفا على كلّ ذي صناعة من المتداعيين المذكورين في آلات صناعته، إلّا إذا علمنا مع ذلك باستعماله إيّاها مكرّرا، و تقلّباتها فيه، و أخذها، و وضعها، و العمل بها، و لو لا ذلك فالظاهر تساويهما.

و كذا الثانية، لأنّ كون خيّاط في دار غيره لا يدلّ على أنّه دعي إليها للخياطة.

و لو سلّم فلا يدلّ على أنّه حمل معه الإبرة و المقصّ.

و لا بعد في حمل خيّاط قميصا معه إلى دار دعي إليها.

______________________________

(1) القواعد 2: 223.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 431

فلو كانت الإبرة و المقص بيد الخيّاط مستعملا إيّاهما آخذا و واضعا لهما يحكم فيهما بيده.

و القميص لو كان في يد صاحب الدار أو موضوعا في داره فله.

و لو كان بيد الخيّاط أو في حجره أو منديله فله.

و لو كان يقصّه أو يخيطه في دار زيد ففيه إشكال، لعدم معلوميّة صدق اليد عرفا عليه مع ذلك، إلّا إذا علم أنّه لم يدع إلى الدار للخياطة، بل إلّا إذا لم يعلم أنّه دعي إليها لها.

و أمّا الثالثة فكما ذكره.

و الرابعة كذلك إذا علم أن صاحب الحمل هو الذي حمله على الدابّة بنفسه، و أمّا لو علم أنّ قابض اللجام هو الذي وضع عليها حمل ذلك الشخص و شدّها فلا نسلّم صدق ذي اليد على صاحب الحمل.

و كذا لو اختلفا في واضع الحمل.

و في الخامسة يحكم لصاحب الدابّة لو لم يعلم أن واضع السرج عليها ذلك الغير، و إلّا فالظاهر تقديم قول الغير، للصدق العرفي.

و السادسة محلّ إشكال، و الظاهر فيها التساوي.

و السابعة كما قال.

و الثامنة محلّ إشكال، بل الظاهر تقديم صاحب الثياب، لصدق اليد عرفا، و

لا مدخليّة لعود نفع الثوب في الصدق.

و أمّا التاسعة، فإن لم يعلم اختصاص أحدهما بمكان الحائط، و لم تكن الأرض ممّا يحكم في العرف بأنّ الحائط لها- كأن يكون الحائط مختصّا بحدّ واحد منها، و كانت سائر حدودها خالية عن الحائط- فالظاهر أنّه كما لا يد لأحد عليه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 432

و إن كان المكان مختصّا بأحدهما فالحائط له.

و لو كانت الأرض ممّا تقضي العادة بتعلّق الحائط بها- كما إذا كانت محوّطة من الجوانب الأربعة- فالحائط لصاحب الأرض.

المسألة الثانية: قال أيضا: و لو اختلف الموجر و المستأجر في شي ء في الدار

، فإن كان منقولا فهو للمستأجر، و إلّا فللموجر «1».

أقول:

هذه أيضا من متفرّعات اليد و التصرّف، و الظاهر أنّه قدّس سرّه بناها على مظنّة الملكيّة، و قد عرفت ما فيه، مع أنّ ما ذكره بإطلاقه في ذلك أيضا محلّ نظر، فإنّ في جريان الحكم في كلّ منقول و كلّ مثبّت غير ظاهر، فإنّ الحكم بكون مصراع الباب المقلوع الظاهر فيه آثار القلع و الخشبة الكبيرة المعلوم استخراجها من بناء من المستأجر مشكل، و الحكم بكون السلّم أو الباب المثبّتين أو المسمار المثبّت- سيّما إذا كانت الدار بيد المستأجر بالإجارة منذ سنين عديدة- للموجر أشكل.

و التحقيق: أنّه تتعارض هنا ملكيّة العين مع ملكيّة المنفعة في التأثير في صدق اليد عرفا، فإن كان لأحدهما فيها تصرّف السكنى- بأن يكون ساكنا فيها- فاليد في المنقولات له مطلقا، بل في غيرها أيضا على احتمال، و إن لم يسكن فيها أحدهما فالساكن فيها أخيرا هو صاحب السكنى، فتأمّل.

المسألة الثالثة: قال في التحرير: لو ادّعى أنّك مزّقت ثوبي فلي عليك الأرش، كفاه أن يقول: لا يلزمني الأرش

، لجواز التمزيق و عدم تعلّق الأرش. فلو أقرّ طولب بالبيّنة و يتعذّر عليه.

قال: و كذا لو ادّعى عليه دينا، فقال: لا تستحقّ عندي شيئا،

______________________________

(1) القواعد 2: 223.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 433

لم يكلّف الحلف على عدم الإقراض، لجواز الاستيفاء أو الإبراء.

و لو ادّعى عينا، فقال: ليس عندي ما يلزمني التسليم، كفى في الجواب، لجواز أن تكون رهنا أو مستأجرة. فلو أقام المالك البيّنة بالملك وجب التسليم «1». انتهى.

أقول:

ما ذكره في الجواب فهو كذلك، إذ لا شكّ أنّ مجرّد دعوى التمزيق أو الإقراض أو أخذ العين لا يوجب جوابا- كما مرّ في بحث الدعوى- بل الموجب للجواب هو المجموع المركّب من الأفعال المذكورة، و استحقاق الأرش أو استيفاء الدين أو

تسلّم العين. فبالجواب عن الجزء الأخير يحصل الجواب عن الدعوى المركّبة، و الأصل عدم وجوب الإلزام بالجواب عن الجزء الآخر الذي لا يلزم بدعواه منفردا جوابا.

و أمّا ما يستفاد من صدر كلامه و صريح ذيله- من أنّه لو أقام المدّعي البيّنة على الجزء الأوّل يطالب المدّعى عليه بالجواب، و الخروج عن الحقّ- فهو كذلك فيما كان بحيث لو ثبت ما ادّعاه كان مثبتا لحقّ على المدّعى عليه مطلقا، كالإقراض و أخذ العين.

و أما لو كان له فردان أحدهما لا يوجب حقّا عليه فلا يطالب المدّعى عليه بالجواب أو الخروج عن الحقّ ما لم يدّع الفرد الموجب و أقام البيّنة عليه.

فلو ادّعى عليه أنّه جنى عليه دابّته حين ركوبه، ولي عليه الدية، و أقام البيّنة على جناية الدابّة، لم تفد ما لم يقيّدها بكون الجناية من يده.

و كذا لو قال: مزّق ثوبي- و قلنا بعدم لزوم الأرش بالتمزيق لا عن

______________________________

(1) التحرير 2: 189.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 434

عمد- لم تفد إقامة البيّنة ما لم يقيّد التمزيق بالعمد. و لعلّ ذلك مراد الفاضل أيضا.

المسألة الرابعة: لو كتب الحاكم كتابا للمدّعي بالحكم، فاستوفى حقّه من المدّعى عليه، و طلب الكتاب من المدّعي

، قال في التحرير:

لا تجب إجابته «1».

و هو كذلك، للأصل، و لأنّه ملكه لسبق حقّه عليه، و لاحتمال ترتّب فائدة له عليه.

نعم، قال: لو قال للحاكم: اكتب لي محضرا بقبض الحقّ منّي، لئلّا يطالبني الخصم به ثانيا في موضع آخر، فالوجه: وجوب إجابته.

أقول:

لا ينبغي الريب في رجحانها، لأنّ فيها إجابة ملتمس مسلم، و لكن لا دليل على وجوبها، و الأصل ينفيه.

المسألة الخامسة: إذا اتّفقا على استئجار شي ء معيّن في مدّة معيّنة، و اختلفا في الأجرة

، فالاختلاف إن كان في قدرها، كأن يقول الموجر:

عشرة، و المستأجر: خمسة، فإن لم تكن لأحدهما بيّنة فالمشهور- كما في الكفاية «2»- بتقديم قول المستأجر مع يمينه، لأنّه منكر للزيادة التي يدّعيها الموجر، و لا بيّنة للمدّعي.

و فيها قول للشيخ «3» و بعض المتأخّرين «4» بالتحالف، لكون كلّ منهما مدّعيا لعقد ينكره الآخر، ثمَّ الرجوع إلى أجرة المثل.

______________________________

(1) التحرير 2: 186.

(2) الكفاية: 277.

(3) انظر المبسوط 8: 263.

(4) حكاه عنه في الكفاية: 277.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 435

و قول للشيخ أيضا بالقرعة مطلقا «1»، لأنّها لكلّ أمر مشكل.

و قول له أيضا بالتفصيل بالفرق بين النزاع قبل انقضاء الأجل فالتحالف، أو بعده فالقرعة أو تقديم قول المستأجر متردّدا بينهما «2».

و إن كانت لهما البيّنة فمع تقديم تأريخ إحداهما تبطل الأخرى، و مع الاتّحاد أو الجهل بالمتقدّم فالمشهور- كما في الكفاية «3»- تقديم بيّنة المؤجر، لأنّه المدّعي.

و فيه أيضا قول بالتحالف «4»، و بالقرعة «5»- فيحلف من أخرجته القرعة- و بتقديم بيّنة المستأجر على القول بتقديم بيّنة الداخل «6».

و إن كانت لأحدهما البيّنة، ففي الكفاية: أنّ الحكم فيه لذي البيّنة.

و استدلّ له الأردبيلي بأنّ كلّ واحد منهما مدّع في الجملة.

و إن كان الاختلاف في نوع الأجرة حتى لا يكون بينهما قدر مشترك، فظاهرهم انحصار القول

فيه بالتحالف، أو القرعة مع عدم البيّنة، أو إقامتهما البيّنة، و متابعة البيّنة إن أقامها واحد منهما.

أقول:

أمّا القول بتقديم قول المستأجر في صورة الاختلاف في القدر و عدم البيّنة لأنّه المنكر، و كذا القول بتقديم بيّنة المؤجر في صورة تعارض البيّنتين، لا يلائم ما ذكروه في صورة وجود البيّنة لأحدهما من الحكم لذي

______________________________

(1) حكاه عنه في المسالك 2: 394.

(2) حكاه عنه في المسالك 2: 394.

(3) الكفاية: 278.

(4) الكفاية: 278.

(5) المبسوط 8: 264. الكفاية: 278.

(6) الكفاية: 278.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 436

البيّنة مطلقا، لأنّ مقتضى دليلهم للأولين عدم اعتبار بيّنة المستأجر، فكيف يحكم له بها؟! و التحقيق: أنّه لا ينبغي الريب في كون المستأجر مدّعيا أيضا- كما مرّ في كلام الأردبيلي- و إن استلزمت دعواه نفي الزائد، للصدق الواضح العرفي.

و نظير ذلك دعوى المطالب بالدين للأداء، فإنّه مدّع مع استلزامه نفي ما يطالب به.

و كذا لو ادّعى زيد على عمرو مائة، ثمن فرسه المعيّن الذي باعه له أمس، و ادّعى عمرو موت ذلك الفرس بعينه شهرا قبل الأمس، و كانت له بيّنة، فإنّه تسمع بيّنته و إن استلزمت نفي ما يدّعيه زيد من الثمن عنه.

و الأمر كذلك هنا، لأنّ المستأجر يدّعي وقوع العقد على الخمسة، و هو ادّعاء و إن استلزم نفي الزائد، فتقديم قوله مطلقا- لأنّه منكر محض- لا وجه له.

نعم، هو منكر لوقوع العقد على العشرة المستلزمة لإثبات الزيادة، كما أنّ الموجر منكر لوقوعه على الخمسة المستلزمة لنفيها، فالقول الأوّل- في صورة عدم البيّنة و الاختلاف في القدر- غير جيّد.

و أمّا القول بالتحالف فيها فهو و إن كان موافقا للقاعدة، إلّا أنّ الرجوع إلى أجرة المثل بعده غير جيّد، لأنّها قد تكون

أنقص من الخمسة، مع اعتراف المستأجر باشتغال الذمّة بها، و قد تكون أزيد من العشرة، مع اعتراف الموجر بعدم استحقاق الزائد. بل هما معترفان بوقوع العقد على المعيّن، و أنّه ليس غير الخمسة أو العشرة، فالرجوع بعد التحالف إلى القرعة بين القدرين أجود، مع أنّ في التحالف هنا أيضا كلاما مرّ وجهه،

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 437

و هو أنّ المتبادر من المدّعي و المنكر- في صورة التقابل و توظيف حكم لكلّ منهما- هو المدّعي و المنكر المحض في الدعوى الواحدة، مع أنّ بيمين أحدهما أولا و سقوط دعوى الآخر تثبت دعوى الحالف، لاعترافهما بعدم خروج العقد عن أحد الأمرين.

فأجود الأقوال هو القول الثالث، و هو الرجوع إلى القرعة، و أحوطهما الجمع بين التحالف و القرعة في القدر، كما مرّ.

هذا مع عدم البيّنة، و أمّا مع وجودها لهما فالرجوع إلى القرعة أظهر، لرواية البصري و صحيحة الحلبي المتقدّمتين في بحث تعارض البيّنات «1»، سيّما مع ما ذكرنا من عدم معلوميّة شمول البيّنة على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه لمثل ذلك، خصوصا رواية منصور المتضمّنة للفظ: ذي اليد «2».

و مع وجودها لأحدهما فالحكم لذي البيّنة، لصدق المدّعى عليه، كما مرّ.

و كذا الحكم في صورة الاختلاف في النوع، فيقرع مع عدم البيّنة، أو وجودها لهما، و يحكم لذي البيّنة مع وجودها لأحدهما.

مسألة: إذا ادّعى استئجار دار بأجرة، و قال الموجر: بل بيت منها بتلك الأجرة، و لا بيّنة

، فقال الشيخ و المحقّق: يقرع «3». و قيل: يقدّم قول المؤجر، لأنّه المنكر للزيادة «4». و الأوّل أقرب، لما مرّ.

______________________________

(1) راجع ص: 405 و 406.

(2) التهذيب 6: 240- 594، الاستبصار 3: 43- 143، الوسائل 27: 255 أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 14.

(3) الشيخ في المبسوط 8: 264، المحقق في الشرائع 4:

113.

(4) الكفاية: 278.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 438

و قيل بالتحالف حينئذ، فيحكم للحالف، و مع حلفهما أو نكولهما يحكم ببطلان الإجارة، و عدم استحقاق الأجرة، و مع استيفاء المنفعة بأجرة المثل، و وجهه كون كلّ منهما منكرا «1».

و قد مرّ ما يضعّفه، مع أنّه قد يوجب إسقاط ما يعترفان باستحقاقه من الأجرة المعيّنة و منفعة البيت.

و لو كانت لأحدهما بيّنة يقضى له.

و لو كانت لهما، فمع اتّحاد التاريخ أو الجهل يقرع.

و مع تقدّم تأريخ الدار تبطل إجارة البيت.

و مع تقدّم إجارة البيت حكم به بالأجرة المسمّاة، و بطل من إجارة الدار ما قابلها، و صحّ في الباقي، و يعلم ذلك بمعرفة أجرة المثل و مراعاة النسبة.

و لو ادّعى استئجار بيت بأجرة، و قال الموجر: بل آجرت ذلك البيت الآخر بها، و لا بيّنة، يقرع بينهما.

و توهّم كون ذلك دعويان متخالفتان- فيعمل في كلّ منهما بمقتضى القضاء- إنّما يصحّ إذا اقتصر كلّ منهما على دعوى إجارة ما يدّعيه، دون نفي الآخر.

و أمّا مع اعترافهما أو أحدهما بوحدة العقد و الموجر به فلا يتمّ ذلك، إذ قد يحلفان أو ينكلان، فيلزم الحكم بما يعترفان فيه بعدم الاستحقاق.

و لو كانت بيّنة لأحدهما يحكم له.

______________________________

(1) القواعد 2: 228.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 439

و لو كانت لهما يقرع أيضا إذا اتّفق المتنازعان على وحدة الموجر به، و عدم استحقاق الأجرتين و المنفعتين، و إلّا فيحكم لهما.

و كذا يقرع لو وقعت الدعوى المذكورة على اجرة عينيّة مخصوصة واحدة- كثوب معيّن- إلّا إذا أقاما البيّنة و تقدّم تأريخ أحدهما فيحكم بها، و يبطل الآخر. و اللّه العالم بحقائق أحكامه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 440

المطلب الثالث في بيان ما يحتاج إلى الرفع إلى الحاكم و الدعوى و الرجوع إلى حكمه، و ما لا يحتاج إليه و يجوز فيه التقاصّ بدون الترافع

اشاره

اعلم أنّ

منشأ التخالف بين الشخصين و التنازع في واقعة إمّا يكون لأجل جهل طالب الحقّ- الذي هو المدّعي- بحكم الواقعة، و لأجله يجوز ثبوت حقّ له على خصمه فينازعه.

أو جهله بنفس الواقعة، كالدعوى الظنّية أو الاحتماليّة، على القول بسماعهما.

أو لأجل اختلاف المجتهدين في حكم الواقعة، فطالب الحقّ يقلّد من يقول بثبوت الحقّ له، و خصمه يقلّد من ينفيه، أو الأول يقلّد من يثبت حقّا في واقعة- كالقصاص- و الثاني يقلّد من يثبت غيره، كالدية. و منه تنازع أحد الشركاء الثلاثة في الشفعة، و الولد الأكبر مع سائر الورثة في الحبوة، و المتبايعين في لزوم العقد و عدمه في الصيغة الفارسيّة، و غير ذلك.

أو لأجل إنكار المدّعى عليه الحقّ عدوانا، أو سهوا و نسيانا، أو عدم بقاء الحقّ و إن لم يكن منكرا.

و قد يكون الاحتياج إلى الرفع إلى الحاكم لمجرّد الاستيفاء، من غير سبق منازعة و إنكار- كطالب القصاص ممّن يقرّ بالقتل و هو تحت يد الولي، أو طالب الحقّ من صغير أو غائب ماله في يده، و نحو ذلك- و يكون النزاع حينئذ فرضيّا.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 441

فإن كان منشأ النزاع المتحقّق أو الفرضي أحد الجهلين فلا مناص من الترافع، أو ترك الحقّ.

أمّا في الجهل الأول فلأنّ الطالب لا يعلم الحكم، فلعلّه لم يكن بذي حقّ، و الأصل عدم ثبوته له.

و أمّا في الثاني فلأنّه لا يعلم ثبوت حقّ له، و لا يثبت له حقّ إلّا بالحلف أو النكول الذي يختصّ الحكم به بالحاكم.

و كذا إن كان المنشأ اختلاف العلماء، فلا يجوز للطالب أخذ حقّ بدون الترافع و حكم الحاكم، لأنّ ثبوت الحقّ له إمّا يكون بتقليد الطرفين لمن يقول بثبوته- و

المفروض انتفاؤه، و إلّا لما كان بينهما نزاع- أو بحكم الحاكم.

و أمّا ثبوته بتقليد المدّعي خاصّة فلا، لأنّ القدر المسلّم ثبوته أنّ رأي المجتهد حكم له و لمقلّده ما لم يزاحمهما حقّ شخص آخر لا يقلّده في ذلك الأمر- كما مرّ في أوائل الباب- و لم يثبت من أدلّة التقليد أزيد من ذلك.

و أمّا كونه حكما ثابتا له إذا زاحمه حقّ غيره الذي لا يقلّد ذلك المجتهد فلا دليل عليه أصلا، فلا يصير السيف- مثلا- ملكا له بالحبوة بتقليد من يقول بدخوله في الحبوة ما لم يقلّده سائر الورثة أيضا، فلا يجوز له التقاصّ بسببه.

و إن كان منشأ النزاع الفرضي أو الواقعي مجرّد إنكار المدّعى عليه بأحد وجوهه المذكورة، أو عدم بقائه، أو عدم كون الإبقاء بيده- كالقصاص، أو الحقّ الذي على الصغير مثلا، و المال بيد ذي الحقّ- فقد وقع الخلاف في توقّف استيفاء الحقّ في بعض موارده على الترافع و عدمه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 442

و المراد توقّفه عليه شرعا، بمعنى: أنّه هل يجوز لطالب الحقّ الاستيفاء لو أمكن بدون الرفع و يحلّ له ما استوفاه شرعا؟ و إلّا فلا كلام في التوقّف في صورة عدم إمكان الاستيفاء لجحود الخصم و تغلّبه، بحيث لم يمكن الوصول إلى الحقّ و دفع تغلّب الخصم بدون التوصّل إلى الحاكم.

ثمَّ لبيان محلّ الخلاف و تحقيق الحقّ في المقام نقول: و المطلوب إمّا يكون عقوبة، أو حقّا غير مالي، أو مالا، فهاهنا ثلاثة أبحاث

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 443

البحث الأول في العقوبات

و هي إمّا قصاص، أو حدّ، أو دية، و الأخير داخل في الدعاوي المالية.

أمّا الأول:

ففيه قولان:

الأول:

عدم الاحتياج إلى الحاكم، و جواز استقلال الولي في القصاص،

اختاره في موضع من المبسوط و النافع «1»، و ظاهر الشرائع حيث جعل التوقيف أولى «2»، و الفاضل في أحد قوليه «3»، و أكثر المتأخّرين، بل عامّتهم- كما قيل «4»- و نسبه في كتاب قصاص المسالك إلى الأكثر «5».

و الثاني:

وجوب الرفع إلى الحاكم، ذهب إليه في موضع آخر من المبسوط و في الخلاف «6»، و عن المقنعة و المهذّب و الكافي و القواعد و الغنية و قضاء المسالك «7»، و في الكفاية: لا أعرف فيه خلافا «8». و عن الغنية:

بلا خلاف «9»، و عن ظاهر الخلاف: الإجماع عليه «10».

______________________________

(1) المبسوط 7: 54، النافع: 299.

(2) الشرائع 4: 228.

(3) التحرير 2: 255.

(4) الرياض 2: 521.

(5) المسالك 2: 477.

(6) المبسوط حكاه عنه في التنقيح 4: 444، الخلاف 2: 369.

(7) المقنعة: 760، المهذب 2: 485، الكافي: 383، الغنية (الجوامع الفقهية):

620، المسالك 2: 477.

(8) الكفاية: 275.

(9) الغنية (الجوامع الفقهية): 620.

(10) الخلاف 2: 369.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 444

و الأقوى هو الأول، لقوله سبحانه فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «1»، و عموم أخبار جواز اقتصاص الولي من الجاني «2»، و هي كثيرة جدّا، و الأصل عدم التوقّف على شي ء.

و دليل الثاني: الإجماع المنقول.

و احتياج إثبات القصاص و استيفائه إلى الاجتهاد، للاختلاف.

و القياس على الحدود بالطريق الأولى.

و مفهوم رواية محمّد: «من قتله القصاص بأمر الإمام فلا دية له في قتل و لا جراحة» «3».

و بعض اعتبارات أخر ضعيفة.

و يردّ الأول: بعدم الحجيّة، سيّما مع مخالفته للشهرة المطلقة و المقيّدة المحكيّة.

و الثاني: بخروج موضع الاختلاف عن محلّ الخلاف، إذ هو تيقّن الولي بثبوت القصاص، و هو غير متوقّف على إذن الحاكم في كثير من الموارد، و منها:

ما إذا كان الولي من أهل الاجتهاد و النظر، أو عالما بمواقع الإجماع أو الضرورة، أو بفتوى المجتهد، و نحو ذلك.

و الثالث: ببطلان القياس، و بمنع الأولويّة، لعدم مقطوعيّة العلّة.

و الرابع:- مع كون مفهومه مفهوم وصف لا حجّية فيه- بأنّه لو اعتبر لكان مقتضاه ثبوت الدية على الولي القاتل إذا لم يكن بإذن الإمام، و القائلون بالتوقّف لا يقولون به.

______________________________

(1) البقرة: 194.

(2) الوسائل 29: 126 أبواب القصاص في النفس ب 62.

(3) التهذيب 10: 279- 1091، الوسائل 29: 183 أبواب قصاص الطرف ب 21 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 445

مضافا إلى أنّه لا يدلّ على اعتبار إذنه بالخصوص، فإنّ كلّ قصاص شرعي إنّما هو بأمر الإمام.

ثمَّ على القول الأخير، لو بادر الولي إلى القصاص لم يكن عليه قود و لا دية بلا خلاف، للأصل، و اختصاص أدلّتهما بغير ذلك. و في استحقاقه التعزير و عدمه قولان.

و هل قصاص الطرف كقصاص النفس- لأنّه قصاص، و للأصل، و العمومات- أو يجب فيه الرفع، لأنّه بمثابة الحدّ؟ الأقرب: الأول، لما ذكر.

و أمّا الثاني:

فلا تجوز المبادرة إليه بدون إذن الحاكم، لظاهر الإجماع، و رواية حفص بن غياث: من يقيم الحدود: السلطان أو القاضي؟

فقال: «إقامة الحدود إلى من إليه الحكم» «1». و اللّه العالم.

______________________________

(1) الفقيه 4: 51- 179، التهذيب 6: 314- 871 و ج 10: 155- 621، الوسائل 27: 299 أبواب كيفية الحكم ب 31 ح 1 و ج 28: 49 أبواب مقدمات الحدود ب 28 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 446

البحث الثاني في الحقوق الغير الماليّة، كالزوجيّة، و الوصاية، و الطلاق، و حقّ الشفعة، و الخيارات، و نحوها.

و الظاهر: الإجماع على عدم وجوب المرافعة و إذن الحاكم فيها، و استقلال ذي الحقّ في استيفائه مع الإمكان و علمه بحقّه- اجتهادا،

أو تقليدا، أو ضرورة و إجماعا- لظاهر الإجماع، و الأصل الخالي عن المعارض بالمرّة.

مضافا إلى رجوع بعض الحقوق إلى المال الثابت جواز أخذه بلا رفع، كما في الحقّ الثابت بخيار الفسخ، و نحوه، فتأمّل.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 447

البحث الثالث فيما إذا كان المطلوب مالا، عينا أو دينا
اشاره

و في كلّ منهما: إمّا يكون المطلوب منه مقرّا به باذلا غير مماطل و لا معتذرا، أو لا يكون كذلك.

فإن كان الأول فلا كلام فيه، و لا دعوى، و لا يجوز الأخذ بدون إذن الغريم حينئذ، لأنّ الغريم مخيّر في جهة القضاء، فلا يتعيّن إلّا بتعيينه.

نعم، للحاكم أيضا تعيينه لو كان الغريم غائبا، لعموم النص المصرح بالقضاء عن الغائب.

و إن كان الثاني، فالظاهر الإجماع على عدم وجوب الرفع، و جواز مقاصّة الطالب عن مال المطلوب منه بنفسه في الجملة، و إنّما الخلاف في بعض موارده.

و لنذكر أولا طائفة من الآيات و الأخبار المجوّزة للمقاصّة، ثمَّ نتبعها بما يستنبط منها.

أمّا الآيات: فقوله سبحانه فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «1».

و قوله فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ «2».

و أمّا الأخبار: فمنها صحيحة الحضرمي: رجل كان له على رجل مال، فجحده إيّاه، و ذهب به، ثمَّ صار إليه بعد ذلك للرجل الذي ذهب

______________________________

(1) البقرة: 194.

(2) النحل: 126.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 448

بماله مال قبله، أ يأخذه مكان ماله الذي ذهب به ذلك الرجل؟ قال: «نعم، لكن لهذا كلام يقول: اللّهمّ إنّي آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه منّي، و إنّي لا آخذ ما أخذته خيانة و لا ظلما» «1».

و الأخرى، و هي أيضا قريبة من سابقتها «2».

و زاد في خبر آخر: «إن استحلفه على ما أخذ منه فجائز أن يحلف إذا قال هذه الكلمة»

«3».

و الأخرى: رجل لي عليه دراهم، فجحدني و حلف عليها، أ يجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي؟ فقال: «نعم، و لكن لهذا كلام» قلت: و ما هو؟ قال: «تقول: اللّهمّ لم آخذه ظلما و لا خيانة، و إنّما أخذته مكان مالي الذي أخذ منّي، لم أزدد شيئا عليه» «4».

و رواية ابن وضّاح: كانت بيني و بين رجل من اليهود معاملة، فخانني بألف درهم، فقدّمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، و قد علمت بأنّه حلف يمينا فاجرة، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح و دراهم كثيرة، فأردت أن أقبض الألف درهم التي كانت لي عنده فأحلف عليها، فكتبت إلى أبي الحسن عليه السّلام، فأخبرته أنّي قد أحلفته فحلف، و قد وقع له عندي مال، فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت؟ فكتب: «لا تأخذ منه شيئا، إن كان ظلمك فلا تظلمه، و لو لا أنّك رضيت بيمينه فحلّفته

______________________________

(1) الكافي 5: 98- 3، التهذيب 6: 197- 439، الاستبصار 3: 52- 169، الوسائل 17: 274 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 5، بتفاوت يسير.

(2) الفقيه 3: 114- 485، الوسائل 17: 274 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 5.

(3) الفقيه 3: 114- 487، الوسائل 17: 274 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 6.

(4) التهذيب 6: 348- 982، الاستبصار 3: 52- 168، الوسائل 17: 273 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 4.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 449

لأمرتك أن تأخذها من تحت يدك، و لكنك رضيت بيمينه، لقد مضت اليمين بما فيها» «1».

و صحيحة داود بن زربي: إنّي أخالط السلطان، فتكون عندي الجارية فيأخذونها، أو الدابّة

الفارهة فيأخذونها، ثمَّ يقع لهم عندي مال، فلي أن آخذه؟ فقال: «خذ مثل ذلك، و لا تزد عليه» «2»، و قريبة منها الأخرى «3».

و صحيحة البقباق: إنّ شهابا ماراه في رجل ذهب له ألف درهم، و استودعه بعد ذلك ألف درهم، قال أبو العبّاس: قلت له: خذها مكان الألف الذي أخذ منك، فأبى شهاب، قال: فدخل شهاب على أبي عبد اللّه عليه السّلام، فذكر له ذلك، فقال: «أمّا أنا فأحبّ أن تأخذ و تحلف» «4».

و رواية الأرمني، كان لي على رجل دراهم، فجحدني، فوقعت له عندي دراهم، فأقبض من تحت يدي مالي عليه؟ و إن استحلفني حلفت أنّ ليس له عليّ شي ء؟ قال: «نعم، فاقبض من تحت يدك، و إن استحلفك فاحلف له، إنّه ليس له عليك شي ء» «5».

و رواية إسحاق بن إبراهيم: إنّ موسى بن عبد الملك كتب إلى أبي جعفر عليه السّلام يسأله عن رجل دفع إليه مالا ليصرفه في بعض وجوه البرّ، فلم

______________________________

(1) الكافي 7: 430- 14، التهذيب 6: 289- 802، الاستبصار 3: 53- 175، الوسائل 27: 246 أبواب كيفية الحكم ب 10 ح 2، بتفاوت.

(2) التهذيب 6: 338- 939، الوسائل 17: 272 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 1، بتفاوت يسير. و فيهما: عن داود بن رزين.

(3) الفقيه 3: 115- 489، الوسائل 17: 272 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 1.

(4) التهذيب 6: 347- 979، الاستبصار 3: 53- 174، الوسائل 17: 272 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 2.

(5) التهذيب 8: 293- 1083، الوسائل 23: 285 أبواب الأيمان ب 47 ح 1، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 450

يمكنه صرف ذلك المال في الوجه الذي أمره به،

و قد كان له عليه مال بقدر هذا المال، فسأل هل يجوز لي أن أقبض مالي، أو أردّه عليه و أقتضيه؟

فكتب: «اقبض مالك ممّا في يدك» «1».

و رواية عليّ بن سليمان: رجل غصب رجلا مالا أو جارية، ثمَّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه، أ يحلّ له حبسه عليه أم لا؟ فكتب عليه السّلام: «نعم، يحلّ له ذلك إن كان بقدر حقّه، و إن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه، و يسلّم الباقي إليه إن شاء اللّه» «2».

و رواية جميل: عن الرجل يكون له على الرجل الدين، فيجحده، فيظفر من ماله بقدر الذي جحده، أ يأخذه و إن لم يعلم الجاحد بذلك؟

قال: «نعم» «3».

ثمَّ نقول: إنّ تحقيق المقال في هذا المجال بذكر مسائل:
المسألة الأولى: المال المطلوب إن كان عينا

، فإن كان المالك قادرا على أخذه من دون فتنة أو مشقّة، و لا ارتكاب أمر غير مشروع- كدخول دار الغاصب بغير إذنه، أو ثقب «4» جداره، أو نحو ذلك- جاز له الأخذ من غير رفع إجماعا، للاستصحاب، و تسليط الناس على أموالهم، و للأصل.

و لا يجوز له الأخذ من مال الغاصب بقدره حينئذ، للأصل، و ظاهر

______________________________

(1) التهذيب 6: 348- 984، الاستبصار 3: 52- 170 الوسائل 17: 275 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 8، بتفاوت.

(2) التهذيب 6: 349- 985، الاستبصار 3: 53- 173، الوسائل 17: 275 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 9 و فيه: رجل غصب مالا ..

(3) التهذيب 6: 349- 986، الاستبصار 3: 51- 167، الوسائل 17: 275 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 10.

(4) في خ ل «ح»: نقب ..

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 451

الإجماع.

و أمّا إطلاق صحيحة داود الاولى و روايتي ابن وضّاح و

عليّ بن سليمان فشموله لمثل تلك الصورة غير معلوم، و لا ظاهر.

و إن توقّف أخذه على أمر غير مشروع- كتصرّف في داره، أو فتح بابه- من غير إضرار بالغاصب، و لم يمكن بغير ذلك جاز الأخذ أيضا، و يحلّ له ما لا يحلّ لغرض آخر، لنفي الضرر و الضرار المعارض لحرمة التصرّف في مال الغير مثلا، فتبقى الإباحة الأصليّة بحالها.

و كذا لو تضمّن ضررا لم يكن أزيد من ضرر المالك، لقوله سبحانه:

فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ ، و قوله فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ .

و لو نوى ضمان ضرره حينئذ صار جواز الأخذ أظهر، لعدم صدق الضرر.

و لو أمكن الأخذ حينئذ بالرجوع إلى الحاكم، فهل يتعيّن- تحرّزا عن ضرر الغاصب أو ارتكاب ما لا يحلّ- أو يجوز الأخذ، للآيتين؟

فيه احتمالان، و الأحوط الرفع.

و لو أمكن المقاصّة من مال آخر له جازت المقاصّة مع إمكان أحد الأمرين المتقدّمين- من أخذ العين بالتصرّف في ماله أو إضراره، و من الرفع- أو كليهما، لإطلاق الصحيح و الروايتين. و يجوز الرفع أيضا بلا ريب. و مقتضى الآيتين جواز الأمر الأول أيضا.

و الظاهر أنّ تأخير الغاصب في الردّ تأخيرا موجبا للضرر كنفس الغصب و عدم إرادة الردّ أيضا.

ثمَّ لو اقتصّ المالك من مال الغاصب، ثمَّ ردّ الغاصب العين، فللمالك الأخذ، للاستصحاب، و عليه ردّ المال المقاص- لعدم ثبوت جواز

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 452

التصرّف فيه- إليه حينئذ أيضا. و كذا لو ظفر المالك بعينه.

هذا إذا كانت العين المقاصّة باقية، و لو تلفت فلا يجب على المالك العوض من ماله، للأصل.

و هل يجوز له أخذ عين ماله من الغاصب- للاستصحاب- أو لا يجوز، لاستلزامه الجمع بين العوض و المعوّض؟

فيه إشكال، و إن كان

الأول أقرب، لما مرّ، و منع كونه ما أخذ عوضا عن ماله أولا، بل هو أمر جوّزه الشارع عقوبة، و منع عدم جواز الجمع بين العوض و المعوّض ثانيا.

المسألة الثانية: و إن كان المطلوب دينا، و الغريم جاحدا، و ليست له بيّنة

، أو كانت و لم يمكن التوصّل إلى الحاكم، أو أمكن و لم يكن حكمه نافذا عليه، أو احتاج الإثبات عند الحاكم إلى مدّة، أو تعب يوجب الضرر، أو كان مماطلا و لم يمكن الانتزاع بالحاكم، جازت المقاصّة من مال الغريم بلا خلاف يعرف، كما صرّح به في الكفاية أيضا «1»، و تدلّ عليه الآيتان، و الأخبار المتقدّمة جميعا مع الجحود، و طائفة منها مع المماطلة.

و لو أمكن الوصول إلى الحقّ بالرفع إلى الحاكم من غير تأخير و ضرر، كان مقرّا مماطلا أو جاحدا، ففي جواز التقاصّ حينئذ و عدمه قولان:

الأول: للأكثر- كما في المسالك و الكفاية «2» و عن الصيمري- و منهم:

الشيخ و الشرائع و المسالك و الدروس و الخلاف «3»، بل قيل: عامّة المتأخّرين «4».

______________________________

(1) الكفاية: 275.

(2) المسالك 2: 388، الكفاية: 275.

(3) الشيخ في المبسوط 8: 311، الشرائع 4: 109، المسالك 2: 389، الدروس 2: 85، الخلاف 2: 646.

(4) انظر الرياض 2: 411.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 453

للعمومات المتقدّمة، بل صريح بعضها، و هو رواية إسحاق، حيث قال فيها: أو أردّه عليه و أقتضيه. فإن الاقتضاء صريح في إمكان التوصّل.

و الثاني: للنافع «1»، للأصل، و بعض الاعتبارات اللّازم رفع اليد عنها بما مرّ.

و هل يحلّ التقاصّ مطلقا؟ كما هو مذهب المعظم.

أو يجب ذكر الكلام المذكور في الأخبار الأربعة الأولى؟ كما عن الصدوق في الفقيه و الشيخ في التهذيب «2».

الأظهر: الأول، للأصل، و عدم دلالة غير الثالثة على تعيين ذكره و التوقّف عليه،

بل غايته الاستحباب، كما عليه أكثر الأصحاب.

و أمّا الثالثة، فهي و إن دلّت بالمفهوم على اعتباره في الجواز إلّا أنّ مقتضاها اعتباره في جواز الحلف خاصّة، و هو ممّا لم يقل به أحد.

و يشترط جواز المقاصّة بعدم الترافع و التحالف، فإنّه لا يجوز التقاصّ بعده، كما مرّ.

و لا يشترط فيها إذن الحاكم، للأصل.

نعم، تشترط فتواه في محلّ الاختلاف.

المسألة الثالثة: مقتضى عموم أكثر الأخبار المتقدّمة و خصوص صحيحتي داود و رواية عليّ بن سليمان: جواز المقاصّة

من جنس الحقّ و من غيره، كما هو ظاهر الفتاوى، و صريح جماعة أيضا «3».

فما يظهر من بعضهم- من التأمّل في جواز الأخذ من غير جنس

______________________________

(1) النافع: 284.

(2) الفقيه 3: 115، التهذيب 6: 349.

(3) النافع: 284، الكفاية: 275، الرياض 2: 412.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 454

الحقّ- لا وجه له أصلا.

و هل يتوقّف الأخذ من غير الجنس على تعذّر الأخذ من الجنس أم لا؟

عن جماعة- منهم الشهيدان «1»-: الأول، و الأقرب- الموافق لظاهر جمع آخر «2»-: الثاني، للعمومات، و عدم دليل على تعيين الجنس حين إمكانه.

فإن قيل:

الأخذ من غير الجنس يتوقّف على تقويم و تفويض، بقبول أو بيع، و كلّ ذلك مخالف للأصل، لا يصار إليه إلّا مع التوقّف، و لا توقّف مع إمكان الأخذ من الجنس.

قلنا:

التقويم لا مخالفة للأصل فيه، و التفويض يتحقّق في الجنس أيضا، مع أنّه لو سلّم يجوز ارتكابه مع الدليل، و هو هنا موجود، لأنّ ما يدلّ بعمومه على أخذ غير الجنس يدلّ على ذلك أيضا، للتوقّف.

ثمَّ إن كان المأخوذ منه من جنس الحقّ، فإن كان ما ظفر به بقدر الحقّ أو كان زائدا عليه و أمكن أخذ القدر بدون التصرّف في الزائد فلا كلام.

و كذا إن وقع القدر و الزائد في يده بإذن الغريم بقرض أو وديعة- على القول بجواز

التقاصّ منها- فيأخذ القدر، و يردّ الزائد.

و إن لم يكن بيده و توقّف أخذ القدر بالتصرّف في الزائد أيضا- كما لو كان المجحود ألف درهم، و ظفر بكيس أو صندوق فيه ألفان،

______________________________

(1) الشهيد الأول في الدروس 2: 85، الشهيد الثاني في المسالك 2: 389.

(2) منهم المحقّق في الشرائع 4: 109، و العلّامة في التحرير 2: 188، و السبزواري في الكفاية: 275.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 455

و لم يمكن أخذ الألف إلّا بنقله إلى مكان آخر و فتحه- فهل يجوز هذا التصرّف في الزائد أم لا؟

الظاهر: نعم، لأدلّة نفي الضرر المعارضة مع أدلّة النهي عن تصرّف مال الغير، و لأنّه لو لم يجز التصرّف في الزائد لما جاز التصرّف في قدر الحقّ حينئذ أيضا، لأنّ سبب الحرام حرام، مع أنّه جائز لإطلاق الآيتين، و بعض العمومات المتقدّمة.

و من ذلك ظهر جواز التصرّف في الزائد من غير الجنس أيضا، و يكون الزائد في الصورتين أمانة في يده، و لا ضمان عليه لو تلفت بدون تقصيره و تفريطه- كما صرّح به في التحرير «1»- إذا لم يمكن الأخذ بدون الزيادة، للأصل.

و لو أخذ الجنس الذي لم يكن بيده و تلف كان من ماله، لأنّه إن أخذه بقصد التقاصّ صار ماله، و إن أخذه متردّدا بين التقاصّ و عدمه كان تصرّفا غير جائز، فيضمن.

و لو كان المأخوذ من غير الجنس، فظاهر الكفاية الإجماع على تخييره بين أخذه بالقيمة و بين بيعه و قبض ثمنه لحقّه، و حيث قال: و يتخيّر عند الأصحاب «2».

و ظاهر الدروس الخلاف فيه، حيث قال: و الأقرب تخيّره بين تملّكه بالبيع و بالقيمة «3».

و كيف كان، فالظاهر التخيير، لتجويز الاعتداء، و أخذ الحقّ

منه

______________________________

(1) التحرير 2: 188.

(2) الكفاية: 275.

(3) الدروس 2: 85.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 456

و قبضه، و أخذ مثل المال منه على سبيل الإطلاق في العمومات، و هو يحصل بكلّ من الوجهين، و الأصل عدم تعيّن نوع خاصّ منه.

و ليس له الانتفاع بما أخذ قبل القبول أو البيع، و عليه المبادرة إلى أحدهما، فلو أخّر مع الإمكان فنقصت الثمن ضمن النقصان، و لا يضمن ما نقص قبل التقصير، كذا قال في التحرير «1».

و لا أدري دليلا تامّا على تضمين نقصان الثمن بالتأخير، مع كون أصل التصرّف جائزا، و الأصل عدم الضمان، سيّما إذا كان التأخير لطلب زيادة في القيمة، أو مصلحة أخرى للمالك أو نفسه.

و أولى بعدم الضمان ما إذا لم يحصل لأجله ضرر على المالك، كما إذا كان المال ممّا لم يرد مالكه بيعه.

و لو تلف المساوي للحقّ من غير الجنس قبل القبول أو البيع من غير تقصير منه، فقال الشيخ: الأليق بالمذهب عدم الضمان «2». و هو كذلك، للأصل.

و احتمل الفاضلان الضمان، لأنّه قبض بدون إذن المالك «3».

و فيه: أنّ إذن الشارع أعظم من إذن المالك.

المسألة الرابعة: في جواز المقاصّة من الوديعة و عدمه قولان:
الأول:

للتهذيبين و السرائر و الشرائع و النافع و المختلف و الإرشاد و التحرير و شرح الشرائع للصيمري و التنقيح و النكت و المسالك «4»، و فيه

______________________________

(1) التحرير 2: 188.

(2) المبسوط 8: 311.

(3) المحقّق في الشرائع 4: 109، العلّامة في التحرير 2: 188.

(4) التهذيب 6: 349، الاستبصار 3: 53، السرائر 2: 36، الشرائع 4: 109، النافع: 284، المختلف: 412، التحرير 2: 188، التنقيح 4: 268، المسالك 2: 389.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 457

و في الكفاية: أنّ عليه أكثر المتأخّرين «1»، و قيل: بل لعلّه عليه

عامّتهم «2».

و هو الأقوى، لعموم الآية، و إطلاق أكثر الأخبار المتقدّمة، بل عمومها الناشئ عن ترك الاستفصال، و خصوص رواية إسحاق بن إبراهيم السابقة، و أظهر منها صحيحة البقباق، و رواية عليّ بن سليمان.

و دلالة الصحيحة على الرجحان- المخالف لظاهر الاتّفاق كما قيل «3».

حيث إنّهم حكموا بالكراهة- غير قادح في الحجّية، لاحتمال خصوصيّة في واقعة شهاب- من جهته، أو من جهة الرجل، أو من جهة ماله- أوجبت ذلك الرجحان.

و القول بأصالة عدم الخصوصيّة واه جدا، إذ قد تكون جهات الرجحان موافقة للأصل أو مساوية مع خلافها بالنسبة إلى الأصل.

و الثاني:

للصدوق في أكثر كتبه و التقيّ الحلبي و الكيدري و الطبرسي و ابن زهرة «4» مدّعيا عليه إجماع الإماميّة، و نسب إلى بعض متأخّري المتأخّرين، و لعلّه صاحب الوافي «5»، و نسبه في التحرير إلى الشيخ أيضا «6».

للإجماع المنقول، و للكتاب، و السنّة المستفيضة الآمرة بردّ الوديعة «7».

______________________________

(1) المسالك 2: 389، الكفاية: 275.

(2) الرياض 2: 412.

(3) الرياض 2: 412.

(4) الصدوق في الفقيه 3: 185، التقي في الكافي في الفقه: 331، الطبرسي في مجمع البيان 1: 288، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 592.

(5) انظر الرياض 2: 412، الوافي 18: 815.

(6) التحرير 2: 188.

(7) الوسائل 19: 71 أبواب أحكام الوديعة ب 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 458

و خصوص صحيحة ابن عمّار: الرجل يكون لي عليه الحقّ، فيجحدنيه، ثمَّ يستودعني مالا، ألي أن آخذ مالي عنده؟ فقال: «لا، هذه خيانة» «1».

و رواية ابن أخي الفضيل الصحيحة عن ابن أبي عمير: إنّ ابني مات و ترك مالا في يد أخي، فأتلفه، ثمَّ أفاد مالا فأودعنيه، فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شي ء؟ فأخبرته بذلك، فقال:

«لا، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، و لا تخن من خانك» «2».

و الأول ليس بحجّة، سيّما مع مخالفة أجلّاء الطائفة و الشهرة العظيمة المتأخّرة.

و الثاني بالمعارضة بالمثل من الكتاب و السنّة المجوّزة للتقاص «3»، الراجحة على ما ذكروه بالشهرة، و باتّفاقهم على رجحانها على عمومات حرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه، مع أنّ ما ذكروه ليس بأقوى من تلك العمومات.

و الروايتان محمولتان على الكراهة بقرينة الأخبار المجوّزة للتقاصّ عن الوديعة، مع كونهما أعمّ من اجتماع شروط المقاصّة من إمكان الأخذ منه، و عدم الإحلاف سابقا، و غير ذلك. و احتمال كون الإتلاف في الأخيرة ممّا لا يوجب الضمان المجوّزة للتقاص.

المسألة الخامسة: لو اقتصّ حقّه، ثمَّ أتى الغريم بالمال المجحود

أو

______________________________

(1) الكافي 5: 98- 2، الفقيه 3: 114- 483، التهذيب 6: 197- 438، الوسائل 17: 275 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 11.

(2) التهذيب 6: 348- 981، الاستبصار 3: 52- 172، الوسائل 17: 273 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 3.

(3) راجع ص: 447 و 448.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 459

المماطل فيه، فإن كانت عين ما اقتصّه باقية جاز لمن اقتصّ أخذ حقّه، و ردّ المقتصّ، لأصالة عدم اللزوم. و كذا لو تمكّن من انتزاع حقّه بعد التقاصّ بالبيّنة و الإثبات و الأخذ، و ردّ المقتصّ مع بقاء عينه، لما ذكر.

و هل يجب عليه ذلك، أم لا؟

الظاهر: الثاني، للأصل، و الاستصحاب.

و يمكن أن يقال: إنّ الثابت من أدلّة التقاصّ ليس أزيد من جواز أخذه و التصرّف فيه ما دام غريمه جاحدا أو مماطلا، و أمّا بعد الإقرار و البذل فيستصحب عدم جواز التصرّف، فإنّه قبل التقاصّ لم يكن جائز التصرّف، و بعده لم

يثبت الزائد عن الجواز ما لم يبذل، فيستصحب العدم بعد البذل، إلّا أنّه يتعارض الاستصحابان حينئذ، و يرجع إلى التخيير أيضا.

و كذا الحكم لو كانت العين تالفة، إلّا أنّ عدم الوجوب حينئذ أظهر، لأصالة عدم لزوم التغريم من ماله، و استصحاب الأول.

و هل يجوز له مع عدم ردّ المقتصّ به قبول ما بذل له الغريم أيضا؟

الظاهر: لا، لسقوط حقّه بعد التقاصّ في نفس الأمر، و إن لم يعلمه الغريم و كان غاصبا بحسب علمه.

المسألة السادسة: هل يختصّ التقاصّ بما إذا علم حقّه على الغريم واقعا

، أو يجوز مع العلم الشرعيّ الحاصل بالأصول الشرعيّة أيضا؟

الظاهر: الثاني، لقيام مقتضى الأصول الشرعيّة مقام الواقع، فلو جوّز كون جحود الغريم لأجل علمه بحقّ له عليه أو على مورّثه، و لكن لم يعلمه، يجوز التقاص.

و كذا لو علم حقّ لمورّثه على زيد، و ادّعى هو الإيفاء، و لكن لم يعلم به ذلك الوارث، فلا يجب عليه الترافع، و الأخذ بعد يمين نفي

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 460

العلم، بل يجوز له التقاص، لأصالة عدم الحقّ في الأول، و عدم الإيفاء في الثاني.

المسألة السابعة: يجوز التقاصّ من مال الغريم المشترك بينه و بين غيره

، و عليه أداء مال الغير و إيصاله إليه، للعمومات، و أدلّة نفي الضرر، و لأنّ حرمة مال الشريك ليس بأزيد من حرمة الزائد على الحقّ من مال الغريم.

المسألة الثامنة: لو كان الغريم غائبا، و لم يعلم جحوده أو عدم بذله

، يجوز التقاصّ من ماله الحاضر، للعمومات، و لإطلاق صحيحة البقباق، و رواية إسحاق، بل صحيحة زربي «1»، و عدم ثبوت الإجماع الثابت في الحاضر المقرّ الباذل في ذلك.

المسألة التاسعة: لو كان حقّه مظنونا لا يجوز له التقاص

، لعدم علمه بحقّ ثابت، و عدم شمول العمومات له.

و تسلّطه على إحلاف الغريم، أو أخذ الحقّ بعد نكوله على سماع الدعوى الظنيّة لا يدلّ على ثبوت الحقّ له.

نعم، لو نكل و حكم الحاكم به تجوز له المقاصّة حينئذ لو لم يبذل.

المسألة العاشرة: لو كان له على شخص حقّ، و لم يعلم به الغريم أو نسيه

يجوز له التقاص، من غير وجوب الإعلام و المطالبة، للعمومات.

و كذا لو كان حقّ عليه، و لم يعلم تذكّره و عدمه و إقراره.

و كذا لو كان له حقّ، و منعه الحياء أو الخوف أو مصلحة أخرى عن المطالبة.

______________________________

(1) المتقدّمة جميعا في ص: 449.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 461

المسألة الحادية عشرة: يجوز تقاصّ ما أعطاه لغيره رشوة محرّمة أو ربا

، إذا كان مضطرّا في الإعطاء، بل غير مضطرّا أيضا، إذا علم الآخذ كونه رشوة أو ربا.

المسألة الثانية عشرة: لو كان لزيد مال على عمرو، و لعمرو على بكر، يجوز لزيد المواطاة مع بكر

، و أخذ حقّه منه، للعمومات. و يجوز لبكر إعطاؤه، لأنّ جواز أخذ الغريم يستلزم ذلك. و يجوز حلف بكر على البراءة.

المسألة الثالثة عشرة: لو كان الحقّ مختلفا فيه بين العلماء

لا يجوز لطالب الحقّ التقاصّ قبل الترافع بتقليد مجتهد يفتي بثبوته، كما مرّ في صدر الفصل، فلو جنى عليه أحد بجناية، ديتها عند بعض المجتهدين عشرة، و عند بعض آخر عشرون، لا يجوز له تقاصّ العشرة الزائدة المختلف فيها بتقليد الثاني.

المسألة الرابعة عشرة: لو كان له حقّ على من لا يفي ماله بديونه، يجوز له التقاصّ من ماله ما لم يحجر عليه الحاكم.

و لو حجر عليه فهل يجوز له تقاصّ تمام حقّه من مال الغريم أم لا؟

فيه إشكال، و الأحوط: لا.

و لو كان له حقّ على ميّت عليه دين زائد على التركة لا يجوز له تقاصّ الزائد عن حصّته بعد التوزيع، لانتقال ماله بموته إلى الديّان.

المسألة الخامسة عشرة: يجوز التقاصّ من مال الغريم المتزلزل

- كما ابتاعه ببيع الخيار- لصدق ماله عليه، فيعمل المشتري لو فسخه البائع ما يعمله في صورة التلف.

المسألة السادسة عشرة: يجوز التوكيل في التقاص

، لأنّه أمر يقبل

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 462

الوكالة، لعموماتها.

و هل يجوز لغير ذي الحقّ التقاصّ له من غير توكيل، إذا علم مطالبة الغير لحقّه؟

الظاهر: نعم، لأنّه دفع ظلم عن الغير، و هو جائز، بل واجب.

المسألة السابعة عشرة: الحقّ الذي يجوز تقاصّه أعمّ من أن يكون ذو الحقّ معيّنا أو أحد الأفراد

، فلو أوصى أحد بشي ء لواحد من أولاد زيد، يجوز لأحدهم مقاصّته بعد الجحود أو المماطلة، لصدق كون حقّه عليه، لأنّ ذلك أيضا نوع حقّ.

و على هذا، فيجوز للفقير تقاصّ الزكاة و الخمس و ردّ المظالم عن الغنيّ المماطل.

و هل يجوز للحاكم ذلك للإيصال إلى أهله؟

الظاهر: نعم، بل يجب، لما مرّ من وجوب دفع الظلم عن المظلوم.

المسألة الثامنة عشرة: هل يشترط في التقاصّ عن غير الجنس التقويم

، أم يجوز بدونه إذا كان غير زائد على الحقّ قطعا، كأن يقاصّ من له ألف دينار على شخص فرسا له غاية قيمته من العشرين إلى الأربعين؟

الظاهر: الجواز، للأصل.

المسألة التاسعة عشرة: يجوز التقاصّ من المنافع كما يجوز من الأعيان

، فيجوز له إجارة دار الغريم و كراية دابّته، لصدق الظفر بالمال.

المسألة العشرون: هل يجوز تقاصّ مستثنيات الدين- كفرس ركوبه، و ثياب بدنه، و نحوهما- أم لا؟

الظاهر: أنّه إن لم يتملّك ما يفي به الدين غير هذه الأمور لا يجوز، و وجهه ظاهر، و إلّا فيجوز، لأنّ المستثنى ليس عين هذه الأمور، بل أعمّ

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 463

منها و من أثمانها.

المسألة الإحدى و العشرون: الظاهر عدم حصول التقاصّ بدون التصرّف

، للأصل، و عدم شمول العمومات، فلا يجوز قبول أمة الغريم التي في بيته أو عبده مقاصّة، و عتقه من كفّارة، و لا قبول داره التي يسكن فيها الغريم، أو ضيعته التي في تصرّفه، و وقفها أو بيعها للغير، من غير أن يتصرّف الغير فيها.

و لو كان لزيد حقّ على عمرو، و لبكر حقّ لا يعلمه على زيد، و غصب بكر مال عمرو، لا يجوز له مقاصّة ذلك المال، و جعله عوضا عن حقّ بكر عند نفسه، و لا تبرأ ذمّته بذلك، فتأمّل. و اللّه العالم.

المسألة الثانية و العشرون: قال في القواعد: و لو نقب جداره ليأخذه لم يكن له «1» أرش النقب «2».

أقول:

لا ينبغي الريب في جواز النقب، لأدلّة نفي الضرر، و لقوله سبحانه فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ «3».

و يلزمه عدم ضمان الأرش، لأنّه تصرّف جائز، و الأصل عدم الضمان. و لو ضمن الأرش كان الجواز أظهر- كما مرّ- كما إذا لم يكن الأرش زائدا على حقّه.

المسألة الثالثة و العشرون: و لو جحد من عليه مثله جاز أن يجحد أيضا

، و يكون صادقا بعد قصده التقاص، فيحلف على نفي ما جحده.

و اللّه العالم بحقائق أحكامه.

______________________________

(1) في خ ل «ح» و «ق»: عليه ..

(2) القواعد 2: 231.

(3) البقرة: 194.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 464

المطلب الرابع فيما يتعلّق بالاستحلاف و الحلف

اشاره

و قد مرّ بعض ما يتعلّق بذلك في المطلب الثاني- من اشتراط كون الحلف بإذن الحاكم و المدّعي، و عدم سماع الدعوى بعدها، و غير ذلك- و بقيت أحكام أخر متعلّقة إمّا بنفس الحلف، أو الحالف، أو المحلوف عليه، لا بدّ من ذكرها، فهاهنا ثلاثة أبحاث.

البحث الأول في أحكام تتعلّق بنفس اليمين
اشاره

و فيه أربع مسائل:

المسألة الاولى: لا يصحّ الإحلاف إلّا باللّه سبحانه
اشاره

، أي لا يترتّب الأثر المقصود من الإحلاف إلّا إذا كان به بلا خلاف، بل عليه الإجماع في كتاب الأيمان عن الشيخين في المقنعة و النهاية، و الغنية و المقداد و السيّد في شرح النافع «1» و نسبه في الكفاية إلى ظاهر الأصحاب «2»، بل لعلّه إجماع محقّق، فهو الدليل عليه، مضافا إلى الأصل، و النصوص المستفيضة:

منها صحيحة سليمان بن خالد المتقدّمة، و فيها- بعد سؤال بعض

______________________________

(1) المقنعة: 554، النهاية: 555، الغنية (الجوامع الفقهية): 617. و المقداد في التنقيح 3: 503، حكاه عن السيد في الرياض 2: 248.

(2) الكفاية: 226.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 465

الأنبياء عن اللّه سبحانه عن كيفية الحكم بين الناس-: «احكم بينهم بكتابي، و أضفهم إلى اسمي تحلفهم به» ثمَّ قال: «هذا لمن لم تقم له بيّنة» «1».

و رواية محمّد بن قيس: «إنّ نبيّا من الأنبياء شكى إلى ربّه كيف أقضي في أمور لم أخبر ببيانها؟ فقال: ردّهم إليّ، و أضفهم إلى اسمي يحلفون به» «2».

و مرسلة أبان، و فيها: «احكم بينهم بالبيّنات، و أضفهم إلى اسمي يحلفون به» «3».

دلّت هذه الأخبار على وجوب الحلف باسم اللّه في قطع الدعوى.

و في المرويّ في تفسير الإمام الوارد في كيفيّة قضاء رسول اللّه المتقدّم بعضها: «و إن لم تكن له بيّنة حلف المدّعى عليه باللّه» «4».

و في رواية البصري المتقدّمة: «فعلى المدّعي اليمين باللّه الذي لا إله إلّا هو» «5».

و في صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة: «فإن أقام بعد ما استحلفه باللّه خمسين قسامة ما كان له حقّ» «6».

______________________________

(1) الكافي 7: 415- 4، التهذيب 6: 228- 550، الوسائل 27: 229 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 1

ح 1، بتفاوت.

(2) الكافي 7: 414- 2، الوسائل 27: 230 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 1 ح 3، بتفاوت يسير.

(3) الكافي 7: 414- 3، التهذيب 6: 228- 551، الوسائل 27: 229 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 1 ح 2.

(4) الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 6 ح 1.

(5) الكافي 7: 415- 1، الفقيه 3: 38- 128، التهذيب 6: 229- 555، الوسائل 27: 236 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 4 ح 1.

(6) الكافي 7: 417- 1، التهذيب 6: 231- 565، الوسائل 27: 244 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 9 ح 1، و في الجميع لا توجد لفظة: حقّ.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 466

دلّت بالمفهوم على أنّه لو أقام البيّنة قبل الاستحلاف باللّه و لو حلف بغيره كان له حقّ، فلا تسقط الدعوى.

و رواية أبي حمزة: «لا تحلفوا إلّا باللّه، و من حلف باللّه فليصدق، و من حلف له باللّه فليرض» «1».

دلّت بالمفهوم على عدم وجوب التصديق و الرضا بمن لم يحلف باللّه و إن حلف بغيره، و كذا حرّم الحلف بغير اللّه، فيكون فاسدا.

و يظهر من الوجه الأول دلالة صحيحة الخزّاز: «من حلف باللّه فليصدق، و من لم يصدق فليس من اللّه، و من حلف له باللّه فليرض، و من لم يرض فليس من اللّه» «2».

و من الوجه الثاني دلالة صحيحة محمّد: قول اللّه تعالى وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى «3»، وَ النَّجْمِ إِذا هَوى «4» و ما أشبه ذلك، فقال: «إنّ للّه تعالى أن يقسم من خلقه بما شاء، و ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به» «5»، و قريبة منها صحيحة عليّ

بن مهزيار «6».

و صحيحة الحلبي: «لا أرى أن يحلف الرجل إلّا باللّه» «7»، و نحوها

______________________________

(1) الكافي 7: 438- 1، التهذيب 8: 283- 1040، الوسائل 23: 211 أبواب الأيمان ب 6 ح 1.

(2) الكافي 7: 438- 2، الفقيه 3: 229- 1079، الأمالي: 391- 7، المحاسن:

120- 133، الوسائل 23: 211 أبواب الأيمان ب 6 ح 3، بتفاوت.

(3) الليل: 1.

(4) النجم: 1.

(5) الكافي 7: 449- 1، التهذيب 8: 277- 1009، الوسائل 23: 259 أبواب الأيمان ب 30 ح 3.

(6) الفقيه 3: 236- 1120، الوسائل 23: 259 أبواب الأيمان ب 30 ح 1.

(7) الكافي 7: 449- 2، الفقيه 3: 230- 1085، التهذيب 8: 278- 1010، الوسائل 23: 260 أبواب الأيمان ب 30 ح 4، بتفاوت يسير.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 467

رواية سماعة «1».

و موثّقة سماعة: هل يصلح لأحد أن يحلّف من اليهود و النصارى و المجوس بآلهتهم؟ قال: «لا يصلح لأحد أن يحلّف أحدا إلّا باللّه» «2».

و ظاهر أنّه إذا لم يصلح يكون فاسدا، لأنّ نفي الصلاح الفساد.

و رواية المدائني: «لا يحلف بغير اللّه» و قال: «اليهودي و النصراني و المجوسي لا تحلّفوهم إلّا باللّه» «3».

و يستفاد من خصوص الأخيرتين و عموم ما تقدّم عليهما عموم الحكم للمسلم و الكافر، كما هو الحقّ المشهور، و تدلّ عليه أيضا صحيحتا الحلبي و ابن أبي عمير: عن أهل الملل كيف يستحلفون؟ فقال:

«لا تحلّفوهم إلّا باللّه» «4».

و صحيحة سليمان بن خالد: «لا يحلف اليهودي و لا النصراني و لا المجوسي بغير اللّه، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «5».

خلافا للمحكيّ عن المبسوط و الإيضاح و الدروس في المجوسي، فأوجبوا عليه الحلف بغير لفظ اللّه ممّا

يرفع احتمال إرادة غيره منضمّا مع

______________________________

(1) الكافي 7: 450- 3، التهذيب 8: 278- 1011، الوسائل 23: 261 أبواب الأيمان ب 30 ح 5.

(2) الكافي 7: 451- 2، التهذيب 8: 279- 1015، الاستبصار 4: 39- 133 الوسائل 23: 267 أبواب الأيمان ب 32 ح 5.

(3) الكافي 7: 451- 5، التهذيب 8: 278- 1014، الاستبصار 4: 39- 132، الوسائل 23: 266 أبواب الأيمان ب 32 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة    ج 17    467     المسألة الاولى: لا يصح الإحلاف إلا بالله سبحانه ..... ص : 464

(4) الكافي 7: 450- 1، التهذيب 8: 279- 1016، الاستبصار 4: 40- 134، الوسائل 23: 267 و 269 أبواب الأيمان ب 32 ح 6 و 14.

(5) الكافي 7: 451- 4، التهذيب 8: 278- 1013، الاستبصار 4: 39- 131، الوسائل 23: 265 أبواب الأيمان ب 32 ح 1، بتفاوت يسير، و الآية في المائدة: 48.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 468

اللّه، لرفع احتمال إرادة النور أو الظلمة الذي هو إله باعتقاده «1».

و فيه- مع شذوذه- أنّه اجتهاد في مقابلة النصوص.

و قد يستدلّ له أيضا بأنّ بدون ذلك لا يحصل الجزم بأنّه حلف.

و فيه: أنّ المعتبر من الحلف هو كونها باللّه، و هو قد وقع، و أمّا مطابقة قصده للفظه فلا دليل عليها، مع أنّ العبرة في الحلف إنّما هي على نيّة المستحلف إذا كان محقّا لا الحالف، كما نقل بعض متأخّري المتأخّرين الاتّفاق عليه «2».

و تدلّ عليه رواية إسماعيل بن سعد الأشعري: عن الرجل يحلف، و ضميره على غير ما حلف عليه، قال: «اليمين على الضمير» يعني: على ضمير المظلوم «3».

و رواية مسعدة، و فيها: «و أمّا إذا كان ظالما

فاليمين على نيّة المظلوم» «4».

هذا، مع أنّ دليلهم لو تمَّ لا طرد في غير المجوسي من أهل الملل الباطلة، فلا وجه للتخصيص به.

و للمحكي عن الشيخ في النهاية و الفاضلين «5» و جماعة «6»، فجوّزوا

______________________________

(1) المبسوط 6: 194، الإيضاح 4: 13، الدروس 2: 96.

(2) انظر الرياض 2: 402.

(3) الفقيه 3: 233- 1099، و في الكافي 7: 444- 2، و الوسائل 23: 245 أبواب الأيمان ب 21 ح 1 لا توجد: يعني على ضمير المظلوم.

(4) الكافي 7: 444- 1، التهذيب 8: 280- 1025، قرب الاسناد: 9- 28، الوسائل 23: 245 أبواب الأيمان ب 20 ح 1.

(5) النهاية: 347، المحقق في الشرائع 4: 87 و الفاضل في التحرير 2: 191.

(6) كالفاضل السبزواري في الكفاية: 270، و الفاضل الهندي في كشف اللثام 2:

339، و صاحب الرياض 2: 402.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 469

إحلاف الذمّي، بل مطلق الكافر- كما قيل «1»- بما يقتضيه دينه إذا رآه الحاكم أردع له من الباطل، و أوفق لإثبات الحقّ.

لرواية السكوني: «أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام استحلف يهوديا بالتوراة التي أنزلت على موسى» «2».

و صحيحة محمّد بن قيس: «قضى عليّ عليه السّلام فيمن استحلف أهل الكتاب بيمين صبر أن يستحلفه بكتابه و ملّته» «3».

و صحيحة محمّد: عن الأحكام، فقال: «في كلّ دين ما يستحلفون به» «4» و في بعض النسخ: «ما يستحلّون به».

و أجيب «5» عن الأول تارة: بضعف الرواية.

و اخرى: بكونها قضية في واقعة لا عموم لها.

و ثالثة: بجواز اختصاصه بالإمام.

و رابعة: باحتمال كون الحلف بالتوراة منضمّة مع الحلف باللّه.

و عن الثاني: بالأخيرين، و باحتمال كون المجرورين في «كتابه و ملّته» راجعين إلى من استحلف، و يؤيّده أفرادهما.

و عن الثالث: بجواز

كون المراد أنّه يمضي عليهم حكمه إذا حلّفهم عند

______________________________

(1) المسالك 2: 371.

(2) الكافي 7: 451- 3، التهذيب 8: 279- 1019، الاستبصار 4: 40- 135، الوسائل 23: 266 أبواب الأيمان ب 32 ح 4.

(3) الفقيه 3: 236- 1117، التهذيب 8: 279- 1018، الاستبصار 4: 40- 137، الوسائل 23: 267 أبواب الأيمان ب 32 ح 8.

(4) الفقيه 3: 236- 1116، التهذيب 8: 279- 1017، الاستبصار 4: 40- 136، الوسائل 23: 267 أبواب الأيمان ب 32 ح 7.

(5) الكفاية: 270، الرياض 2: 402.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 470

حاكمهم، كما أنّه تجري عليه أحكام عقودهم، و يلزم عليهم ما التزموا به.

و يرد على الأول: بعدم ضير في ضعف الرواية سندا بعد وجودها في الأصول المعتبرة، مع أنّ ضعفها ليس إلّا للنوفلي و السكوني، و في ضعفهما كلام.

و على الثاني: أنّ القضيّة في واقعة كافية في إبطال العموم المطلوب، مع أنّ القضيّة الواقعة غير معلومة، فيلزم تخصيص العامّ بالمجمل، فتخرج العمومات المتقدّمة بأسرها عن الحجّية.

و على الثالث: أنّ أمثال تلك التجويزات لا يلتفت إليها في بيان الأخبار، و إلّا بطل الاستدلال بها بالمرّة، مع أنّ ذلك الاحتمال أيضا مناف للعموم المطلوب، و موجب للإجمال في المخصّص، فتأمّل.

و على الرابع: بأنّ الانضمام أيضا مناف للمطلوب من عدم جواز الاستحلاف بغير اللّه.

و على الخامس: بأنّه خلاف الظاهر المتبادر، مع أنّه أيضا مناف للمطلوب من جهة أعميّة المستحلف من المسلم، و من جهة أنّ استحلاف المسلم بكتابه أيضا غير المطلوب. إلّا أن يقال: المراد بطريق ما أنزل في كتابه، و يقرّ في ملّته، و هو أيضا خلاف ظاهر آخر.

و على السادس: أنّه تخصيص للحديث بلا مخصّص.

فالصواب أن يجاب عن الجميع بأنّها

معارضة للأخبار المتقدّمة، و هي راجحة بالأشهريّة رواية و فتوى، و الأصرحيّة دلالة.

و بموافقة الكتاب، التي هي من المرجّحات المنصوصة، حيث قال

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 471

سبحانه في آية الوصيّة في السفر فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ «1» يعني: الأخيرين من غير المسلمين.

و بموافقة الاحتياط و الأصل.

و بالمخالفة لمذاهب العامّة، كما صرّح به في الوافي «2» و شرح المفاتيح و غيرهما «3».

و بالأحدثيّة، التي هي أيضا من المرجّحات المنصوصة، لكون بعض الأخبار المتقدّمة مرويّا عن أبي جعفر الثاني عليه السّلام، و الأخيرة لم تتجاوز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

فروع:
أ: هل المراد بالحلف باللّه الحلف بهذا اللفظ المقدّس،

أو به و بمثله من الأسماء المختصّة به- كالرحمن و الرحيم- أو بهما و بمثلهما من الأوصاف الدالّة على تلك الذات المقدّسة- مثل: بالذي لا إله إلّا هو، و بالذي خلق كلّ شي ء- أو بذات اللّه؟

الظاهر: الأخير، لأنّ المعنى الحقيقي للفظ اللّه هو الذات المقدّسة، فالمراد الحلف بتلك الذات المتعالية، فيصحّ الحلف بكلّ ما أفاده.

و يدلّ عليه أيضا قوله في صحيحة الحلبي- بعد النهي عن الحلف إلّا باللّه-: «فأمّا قوله: لعمر اللّه، و قوله لاهاه فذلك باللّه» «4».

______________________________

(1) المائدة: 107.

(2) الوافي 16: 1059- 1060.

(3) كالكفاية: 149.

(4) الكافي 7: 449- 2، الفقيه 3: 230- 1085، التهذيب 8: 278- 1010، قرب الاسناد: 292- 1151، الوسائل 23: 260 أبواب الأيمان ب 30 ح 4، بتفاوت.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 472

و كذا قوله في صحيحة محمّد المتقدّمة: «و ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به» «1»، فإنّ الضمير راجع إلى الذات دون اللفظ.

و الظاهر أنّه لا خلاف فيه أيضا إلّا عن بعض المتأخّرين في شرحه على النافع، و لذا جعل بعض من تأخّر عنه قوله مخالفا لظاهر الإجماع المحقّق

و المحكيّ عن الشيخين «2».

ب: كما لا يصحّ الحلف إلّا باللّه سبحانه، و لا يترتّب الأثر إلّا عليه،

و لا ينعقد في باب الأيمان إلّا به، كذلك لا يجوز الحلف إلّا به سبحانه.

فيأثم الحالف بغيره من المخلوقات- كالأنبياء، و الأئمّة، و الملائكة، و الكتب المعظّمة، و الكعبة، و الحرم، و المشاهد المشرّفة، و الآباء، و الأصدقاء، و نحوها- على الأشهر بين الطائفة، بل قيل: إنّه مقتضى الإجماعات المنقولة «3». و صرّح به جماعة، منهم: المحقّق الأردبيلي و صاحب المفاتيح «4» و شارحه و بعض مشايخنا المعاصرين «5».

لروايتي أبي حمزة و سماعة، و صحاح محمّد و عليّ بن مهزيار و الحلبي، المتقدّمة جميعا «6».

فإنّ الأولى متضمّنة للنهي الصريح في الحرمة.

و الثانية و الأخيرة متضمّنة لقوله: «لا أرى» و الظاهر منه نفي الجواز.

و الثالثة و الرابعة متضمّنة لقوله: «ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به»

______________________________

(1) راجع ص: 466.

(2) انظر الرياض 2: 248.

(3) الرياض 2: 402.

(4) المفاتيح 2: 39.

(5) الرياض 2: 248 و 402.

(6) في ص: 466 و 467.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 473

و المتبادر منه نفي الجواز أيضا.

و حملها على الحلف الذي يترتّب عليه الأثر الشرعي لا وجه له.

مضافا إلى ما علّله بعضهم من أنّ القسم بشي ء يستلزم تعظيما له، و لا مستحقّ للتعظيم المطلق و بالذات سوى اللّه تعالى «1».

و ربّما يشعر بذلك قوله في صحيحة الحلبي «2» و رواية سماعة «3»:

«و لو حلف الناس بهذا و أشباهه لترك الحلف باللّه».

و تدلّ على الحرمة أيضا مرسلة يونس المرويّة في الكافي: عن قول اللّه تعالى فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ قال: «أعظم إثم من يحلف بها» الحديث «4».

و رواية الحسين بن زيد الطويلة، المرويّة في الفقيه، المشتملة على جملة المناهي، و فيها: «و نهى أن يقول الرجل للرجل: لا و

حياتك و حياة فلان» «5».

و رواية صفوان الواردة في حكاية أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام مع أبي جعفر المنصور الكاذب، حيث إنّه بعد ما قال له عليه السّلام: إنّ مولاك يدعو الناس إليك، فقال: «و اللّه ما كان» فقال: لست أرضى منك إلّا بالطلاق

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 248.

(2) الكافي 7: 449- 2، الفقيه 3: 230- 1085، التهذيب 8: 278- 1010، قرب الاسناد: 292- 1151، الوسائل 23: 260 أبواب الأيمان ب 30 ح 4.

(3) الكافي 7: 450- 3، التهذيب 8: 278- 1011، الوسائل 23: 261 أبواب الأيمان ب 30 ح 5، بتفاوت يسير.

(4) الكافي 7: 450- 5، الوسائل 23: 265 أبواب الأيمان ب 31 ح 2، و الآية في الواقعة: 75.

(5) الفقيه 4: 2- 1، الوسائل 23: 259 أبواب الأيمان ب 30 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 474

و العتاق و الهدي و المشي، فقال: «أ بالأنداد دون اللّه تأمرني أن أحلف؟!» الحديث «1».

فإنّه يشعر بأنّ الحلف بغيره سبحانه جعل للأنداد له.

و ذهب بعضهم إلى الكراهة، لضعف الأوليين سندا، و الثانية دلالة «2».

و هما ممنوعان، سيّما و أنّ الضعف منجبر بالشهرة.

و قد يقال باختصاص النهي عن الحلف بغير اللّه بما إذا أقسم العبد على فعل نفسه، و من هو مثله من الخلق، فأمّا إذا أنشد اللّه في حاجة فلعلّه يجوز له أن يذكر من خلق اللّه ما يشاء، كما ورد في الأدعية المأثورة.

و لا يخفى أنّه لا حاجة إلى الاستثناء و التخصيص، لأنّ المنهيّ عنه هو الحلف و الاستحلاف، و أمّا مثل قولك: أنشدك بكذا، و أسألك بحقّ كذا، فليس هو شيئا منهما، فهو خارج عن موضوع المسألة.

و على هذا، فيجوز في سؤال

المخلوق عن المخلوق أيضا نحو ذلك، فيقول له: أنشدك بالقرآن العظيم، أو بحقّ أبيك عليك أن تفعل كذا، للأصل الخالي عن المعارض، لأنّه ليس حلفا و لا استحلافا.

ج: لا شكّ في مرجوحيّة الحلف باللّه، و كراهتها،

و استحباب تركها لو كان صادقا.

لقوله سبحانه وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ «3».

و قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا «4».

______________________________

(1) الكافي 6: 445- 3، الوسائل 23: 230 أبواب الأيمان ب 14 ح 3، بتفاوت.

(2) المسالك 2: 371، الكفاية: 270.

(3) البقرة: 224.

(4) آل عمران: 77.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 475

و في صحيحة الخزّاز: «لا تحلفوا باللّه صادقين و لا كاذبين» «1».

و في مرسلة سلام بن سهم: «من حلف باللّه كاذبا كفر، و من حلف باللّه صادقا أثم» «2».

و في رواية السكوني: «من أجلّ اللّه أن يحلف به أعطاه اللّه خيرا ممّا ذهب منه» «3».

و في رواية أبي بصير الواردة في قضية سيّد الساجدين عليه السّلام، و ادّعاء مطلّقته أربعمائة دينار لأجل الصداق، و إعطائه إيّاه: «فقلت: يا أبت جعلت فداك أ لست محقّا؟ قال: بلى، و لكنّي أجللت اللّه أن أحلف به يمين صبر» «4».

و مقتضى هذه الروايات كراهية الحلف و استحباب تركها مطلقا.

إلّا أنّ في مرسلة علي بن الحكم: «إذا ادّعي عليك مال و لم يكن له عليك، فأراد أن يحلفك، فإن بلغ مقدار ثلاثين درهما فأعطه و لا تحلف، و إن كان أكثر من ذلك فاحلف و لا تعطه» «5».

و مقتضى الجمع تخصيص العمومات بهذه الرواية، إلّا أنّ ظاهر رواية أبي بصير استحباب الترك في أربعمائة دينار أيضا، و يمكن أن يكون ذلك

______________________________

(1) الكافي 7: 434- 1، الفقيه 3: 229- 1078، التهذيب 8: 282- 1033، الوسائل 23: 198

أبواب الأيمان ب 1 ح 5.

(2) الفقيه 3: 234- 1108، الوسائل 23: 198 أبواب الأيمان ب 1 ح 6.

(3) الكافي 7: 434- 2، الفقيه 3: 233- 1096، التهذيب 8: 282- 1034، الوسائل 23: 198 أبواب الأيمان ب 1 ح 3.

(4) الكافي 7: 435- 5، التهذيب 8: 283- 1036، الوسائل 23: 200 أبواب الأيمان ب 2 ح 1.

(5) الكافي 7: 435- 6، التهذيب 8: 283- 1037، الوسائل 23: 201 أبواب الأيمان ب 3 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 476

لاختلاف الحال بالنسبة إلى الأشخاص، سيّما الإمام عليه السّلام. و يمكن حمل المرسلة على خفّة الكراهة في أكثر من ثلاثين درهما.

و كما يستحبّ ترك الحلف يستحبّ ترك الاستحلاف أيضا، لرواية عبد الحميد الطائي: «من قدّم غريما إلى السلطان يستحلفه و هو يعلم أنّه يحلف، ثمَّ تركه تعظيما للّه تعالى لم يرض اللّه له بمنزلة يوم القيامة إلّا بمنزلة خليل الرحمن عليه السّلام» «1».

ثمَّ ما ذكرنا من كراهة الحلف إنّما هو إذا كان صادقا، و أمّا إن كان كاذبا فهو من المحرّمات الشديدة، بل من الكبائر الموبقة، بل عدّها في بعض الروايات المتقدّمة كفرا باللّه سبحانه، و وردت فيها تهديدات شديدة في أخبار عديدة:

كقوله عليه السّلام: «من حلف على يمين و هو يعلم أنّه كاذب فقد بارز اللّه تعالى» «2» أي: حاربه.

و قوله: «اليمين الصبر الفاجرة تدع الديار بلاقع» «3».

أقول: البلاقع جمع بلقع، و هي: الأرض القفر التي لا شي ء بها. يريد أنّ الحالف بها يفتقر، و يذهب ما في بيته من الرزق. و قيل: هو أن يفرّق اللّه شمله، و يقتّر عليه ما أولاه من نعمه «4».

______________________________

(1) التهذيب 6: 193- 419، ثواب الأعمال: 130- 1،

الوسائل 23: 289 أبواب الأيمان ب 52 ح 1.

(2) الكافي 7: 435- 1، ثواب الأعمال: 226- 1، المحاسن: 119- 131، الوسائل 23: 203 أبواب الأيمان ب 4 ح 4.

(3) الكافي 7: 435- 2، ثواب الأعمال: 226- 3، الوسائل 23: 204 أبواب الأيمان ب 4 ح 5.

(4) قال في النهاية 1: 153 البلاقع جمع بلقع و بلقعة: و هي الأرض القفر التي لا شي ء بها، يريدون أن الحالف بها يفتقر و يذهب ما في بيته من الرزق. و قيل:

هو أن يفرّق اللّه شمله و يغيّر عليه ما أولاه من نعمه.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 477

و في رواية أخرى: «إيّاكم و اليمين الفاجرة، فإنّها تدع الديار من أهلها بلاقع» «1»، و الأخبار بذلك المضمون كثيرة.

و في أخبار اخرى: إنّها تورث عقر الرحم و انقطاع النسل «2».

و في آخر: إنّها «تورث العقب العقر» «3» و في بعض النسخ: «العقب الفقر» «4».

و في رواية اخرى: «إنّه ينتظر بها أربعين ليلة» «5» أي لا يتجاوزها بهلاك صاحبها.

هذا في الحلف.

و أمّا الإحلاف، فلا يحرم إذا كان المستحلف محقّا إجماعا، و لذا استحلف مولانا الصادق عليه السّلام من سعى به عند منصور الدوانيقي، فحلف و مات «6».

و كذا إذا كان مبطلا، لأنّ الحالف لم يحلف إلّا صادقا، فلا وجه لكون المستحلف به آثما و إن أثم بالكذب في أصل الدعوى.

______________________________

(1) الكافي 7: 435- 3، ثواب الأعمال: 226- 2، الوسائل 23: 204 أبواب الأيمان ب 4 ح 6.

(2) الوسائل 23: 202 أبواب الأيمان ب 4.

(3) الكافي 7: 436- 4، الوسائل 23: 204 أبواب الأيمان ب 4 ح 7.

(4) الكافي 7: 436- 4، ثواب الأعمال: 226- 4، الوسائل 23: 204 أبواب الأيمان

ب 4 ح 7.

(5) الكافي 7: 436- 7، المحاسن: 119- 130، ثواب الأعمال: 226- 5، الوسائل 23: 205 أبواب الأيمان ب 4 ح 9.

(6) راجع ص: 473- 474.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 478

المسألة الثانية: يستحبّ للحاكم تقديم الوعظ على اليمين لمن توجّهت إليه

، لأنّها إمّا مكروهة أو محرّمة، و الترغيب في ترك المكروه و التحذير عن فعل المحرّم مطلوب قطعا، فيعظ الحالف بذكر الآيات و الأخبار الواردة في ثواب ترك الحلف مع الصدق و عقاب فعلها مع الكذب.

و كذا يستحبّ وعظ المستحلف أيضا، لما عرفت من استحباب تركه.

المسألة الثالثة: يجزي للحالف أن يقول في يمينه: و اللّه ماله قبلي كذا، و ترجمة ذلك بلغته- أيّ لغة كانت

- بلا خلاف فيه كما قيل «1»، لصدق اليمين، و عدم دليل على لزوم الزائد، و لإطلاقات الحلف باللّه.

و لرواية أبي حمزة و صحيحة الخزّاز، المتقدّمتين في المسألة الأولى «2»، المتضمّنتين لقوله: «من حلف باللّه فليصدق، و من حلف له باللّه فليرض».

و لمرسلة الفقيه: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من حلف لكم باللّه فصدّقوه» «3».

إلّا أنّهم قالوا: إنّه يستحبّ للحاكم تغليظ اليمين عليه قولا، ك: و اللّه الذي لا إله إلّا هو، عالم الغيب و الشهادة، الرحمن الرحيم، الطالب الغالب، الضارّ النافع، المهلك المدرك، الذي يعلم من السرّ ما يعلمه من العلانيّة،

______________________________

(1) انظر الرياض 2: 402.

(2) راجع ص: 466.

(3) الفقيه 3: 37- 126 و فيه: من حلف لكم باللّه على حقّ فصدّقوه، الوسائل 27:

245 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 9 ح 2.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 479

كما في الصحيحة المتضمّنة لإحلاف الأخرس «1».

أو زمانا، كالجمعة، و العيد، و بعد الزوال، و بعد العصر، كما في الآية «2».

و مكانا، كالكعبة، و المقام، و المسجد الحرام، و الحرم، و المشاهد المكرّمة، و المسجد الجامع، ثمَّ سائر المساجد، و المحراب منها.

و بغير ذلك، كإحضار المصحف.

و استدلّوا له بأنّه مظنّة رجوع الحالف إلى الحقّ، و مظنّة تعجيل المؤاخذة إن أقدم عليها، و بصحيحة الأخرس، و بالآية الواردة في الوصيّة تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ أي صلاة العصر

فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ «3».

و رواية زرارة و محمّد: «لا يحلف أحد عند قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أقلّ ما يجب فيه القطع» «4».

و المرويّ في قرب الإسناد: «إنّ عليّا عليه السّلام كان يستحلف اليهود و النصارى في بيعهم و كنائسهم، و المجوس في بيوت نيرانهم، و يقول:

شدّدوا عليهم احتياطا للمسلمين» «5».

و لمرسلة البرقي «6» المتضمّنة لإحلاف الصادق عليه السّلام الساعي له عند

______________________________

(1) الفقيه 3: 65- 218، التهذيب 6: 319- 879، الوسائل 27: 302 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 33 ح 1.

(2) المائدة: 106.

(3) المائدة: 106.

(4) التهذيب 6: 310- 855، الوسائل 27: 298 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 29 ح 1، بتفاوت يسير.

(5) قرب الاسناد: 86- 284، الوسائل 27: 298 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 29 ح 2.

(6) الكافي 6: 445- 3، الوسائل 23: 269 أبواب الأيمان ب 33 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 480

المنصور بالبراءة بعد حلفه باللّه الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم.

و في الكلّ نظر، لعدم نهوضها لإثبات العموم، و ورودها في موارد خاصّة.

نعم، لا بأس بالقول به، لاشتهاره بين الأصحاب، بل نفى بعضهم الخلاف فيه «1».

و هذا القدر كاف في مقام الاستحباب، و لذا يخصّ ذلك بالحاكم دون الغريم، لاختصاص فتاويهم به.

و لو امتنع الحالف عن التغليظ لم يجبر عليه، للأصل. و لا يصير بامتناعه ناكلا لو حلف باللّه، لعدم تركه الحلف، و لوجوب تصديق من حلف باللّه، كما مرّ.

قالوا: و استحباب التغليظ ثابت في جميع الحقوق الماليّة و غيرها، إلّا في الماليّة إذا كانت أقلّ من نصاب القطع ربع الدينار، لرواية زرارة و محمّد

المتقدّمة.

و فيه: أنّه يمنع فيه عن تغليظ خاصّ، و لكن لعدم ثبوت الاشتهار- بل الفتوى في ذلك- و انحصار الدليل التامّ فيه يكون الاستثناء صحيحا.

المسألة الرابعة: يحلف الأخرس بالإشارة المفهمة على المشهور

- كما صرّح به جماعة «2»- لأنّ الشارع أقام إشارته مقام تلفّظه في سائر أموره.

و قال الشيخ في النهاية: يحلفه الحاكم بالإشارة و الإيماء إلى اسم اللّه

______________________________

(1) الرياض 2: 402.

(2) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 372، السبزواري في الكفاية: 270، صاحب الرياض 2: 403.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 481

سبحانه، و توضع يده مع ذلك على اسم اللّه المكتوب في المصحف، و إن لم يحضر المصحف يكتب اسم اللّه سبحانه، و توضع يده عليه «1».

و لعلّ دليله: أنّ حصول الإفهام بالإشارة و العلم بمرادها يحصل من ذلك الوجه.

و نسب جماعة إلى النهاية وضع اليد على الاسم خاصّة «2».

و قال ابن حمزة في وسيلته: إذا توجّه الحلف على الأخرس وضع يده على المصحف، و عرّفه حكمها- أي حكم اليمين- و حلّفه بالأسماء- أي أسماء اللّه تعالى- فإن كتب اليمين على لوح، ثمَّ غسلها، و جمع الماء في شي ء، و أمره بشربه، جاز، فإن شرب فقد حلف، و إن أبي ألزمه «3».

و دليله على الجزء الأول لعلّه حصول الإشارة المفهمة بذلك.

و على الجزء الثاني صحيحة محمّد: عن الأخرس كيف يحلف إذا ادّعي عليه دين فأنكر، و لم تكن للمدّعي بيّنة؟ فقال: «إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام اتي بأخرس، و ادّعي عليه دين، فأنكر، و لم تكن للمدّعي بيّنة، فقال: أمير المؤمنين عليه السّلام: الحمد للّه الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بيّنت للأمّة جميع ما تحتاج إليه، ثمَّ قال: ائتوني بمصحف، فاتي به، فقال للأخرس: ما هذا؟ فرفع رأسه إلى

السماء، و أشار إلى أنّه كتاب اللّه عزّ و جلّ» إلى أن قال: «ثمَّ كتب أمير المؤمنين عليه السّلام: و اللّه الذي لا إله إلّا هو» إلى آخر ما مرّ في المسألة السابقة «إنّ فلان بن فلان المدّعي ليس له قبل فلان بن فلان الأخرس حقّ، و لا طلبة بوجه من الوجوه، و لا سبب من

______________________________

(1) النهاية: 347.

(2) منهم فخر المحققين في الإيضاح 4: 336، الفاضل المقداد في التنقيح 4: 257.

(3) الوسيلة: 228، و فيه: .. و حلّفه بالإيماء إلى أسماء اللّه تعالى ..

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 482

الأسباب، ثمَّ غسله، و أمر الأخرس أن يشربه، فامتنع فألزمه الدين» «1».

و نسب جماعة إلى ابن حمزة الطريق المرويّ خاصّة «2»، و نفى عنه البعد الفاضل المقداد «3»، و رجّحه المحقّق الأردبيلي، و اختاره الإرشاد و شرح المفاتيح، للرواية الصحيحة الخالية عن المعارض، و ضعف دليل المشهور، كما ذكره الأردبيلي، قال: و مجرّد كون الإشارة معتبرة في مواضع لا يوجب كونها كلّية و عدم جواز العمل بالرواية. انتهى.

و تضعيف دلالة الصحيحة بكونها قضيّة في واقعة ضعيف غايته، إذ ذكر أبي عبد اللّه عليه السّلام ذلك بعد السؤال عنه عن كيفيّة حلف الأخرس مطلقا أوضح شاهد على عدم اختصاصه بواقعة خاصّة، و كذا قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «الحمد للّه الذي» إلى آخره.

و منه يظهر ضعف ما قيل أيضا من جواز كون حلفه بهذا الطريق بعد الحلف بالإشارة، و يكون ذلك من باب التغليظ «4».

بل ذلك أضعف جدّا، لأنّه لو كان كذلك لما كان وجه للإلزام بالدين بعد الامتناع من ذلك الحلف.

و احتمال امتناعه عن الإشارة أيضا أسخف بكثير، لأنّ معه لم يكن وجه لذلك لو

كان المقصود بالذات الأول. فهذا القول أتقن و أظهر.

______________________________

(1) الفقيه 3: 65- 218، التهذيب 6: 319- 879، الوسائل 27: 302 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 33 ح 1، بتفاوت.

(2) منهم الفاضل المقداد في التنقيح الرائع 4: 257، و الشهيد الثاني في المسالك 2: 372، و صاحب الرياض 2: 403.

(3) التنقيح الرائع 4: 259.

(4) الرياض 2: 403.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 483

البحث الثاني فيما يتعلّق بالحالف
اشاره

و فيه أيضا أربع مسائل:

المسألة الأولى: الأصل في الحالف هو المنكر دون المدّعي

- كما مرّ في صدر المقام الثاني من البحث الثاني من الفصل الثالث- إلّا في مواضع دلّ الدليل على يمين المدّعي، و قد مرّ بعض صورة، كصورة ردّ المنكر، و مع نكوله على أحد القولين، و مع الشاهد الواحد، و مع البيّنة في الدعوى على الميّت. و له صور أخرى أيضا تأتي في مواقعها.

المسألة الثانية: يتسلّط المدّعي على المنكر حلفه في كلّ دعوى صحيحة

يتعيّن فيها الجواب على المنكر، و يطالب به، بحيث لو أقرّ أو أتى بما يقوم مقام الإقرار- من النكول، أو الردّ إلى المدّعي و حلفه- الزم بالحقّ، سواء كانت الدعوى متعلّقة بفعل المدّعى عليه نفسه، أو بفعل الغير ممّا يوجب الإقرار به إلزامه بالحقّ:

بالإجماع، و النصوص، كما في رواية البصري المتقدّمة: «فإن حلف فلا حقّ له، و إن لم يحلف فعليه»، و قوله في آخرها: «و لو كان حيّا لألزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه» «1».

نعم، هذه القاعدة غير مطّردة في الحدود، كما مرّ، و سيجي ء أيضا.

المسألة الثالثة [يجب أن يكون الحالف باتّا عالما بما يحلف عليه ]

يجب أن يكون الحالف- سواء كان المدّعى عليه،

______________________________

(1) الكافي 7: 415- 1، الفقيه 3: 38- 128، التهذيب 6: 229- 555، الوسائل 27: 236 أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ب 4 ح 1.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 484

أو المدّعي الذي ردّت عليه اليمين- باتّا عالما بما يحلف عليه، بالإجماع و المستفيضة:

كصحيحة هشام بن سالم: «لا يحلف الرجل إلّا على علمه» «1».

و مرسلة ابن مرار: «لا يستحلف العبد إلّا على علمه، و لا يقع اليمين إلّا على العلم، استحلف أو لم يستحلف» «2».

و قد يقال: إنّ ذلك إنّما هو إن كانت الحلف على فعل نفسه- سواء كان إثباتا أو نفيا- و إن كانت على فعل الغير فكذلك إن كان في إثبات، و إن كانت على النفي حلف على نفي العلم إن ادّعي عليه العلم.

و قد يعبّر بأنّ الحلف على العلم إن كان في الإثبات مطلقا، و كذا إن كان في نفي فعل نفسه، و إن كان في نفي فعل الغير حلف على نفي العلم.

و قد يختصر و يقال: الحلف على البتّ أبدا، إلّا إذا حلف

على نفي فعل الغير.

أقول: الحلف على نفي العلم- كما صرّحوا به- إنّما هو إذا ادّعي عليه العلم، و لمّا كان علم كلّ أحد و عدمه معلوما لنفسه أبدا، فيكون حلفه على نفسه حلفا على البتّ و القطع أيضا، فلا حاجة إلى التفصيل و لا إلى الاستثناء، بل الحلف على الإثبات و النفي على البتّ مطلقا أبدا، و يكفي أن يقال: الحلف على البتّ أبدا.

______________________________

(1) الكافي 7: 445- 3، التهذيب 8: 280- 1020، الوسائل 23: 246 أبواب الأيمان ب 22 ح 1.

(2) الكافي 7: 445- 4، الوسائل 23: 247 أبواب الأيمان ب 22 ح 4، و فيهما: ..

عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن بعض أصحابه، و في التهذيب 8:

280- 1022: و عنه (محمد بن يعقوب) عن بعض أصحابه ..

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 485

و على هذا، فلو ادّعى حقّا على أحد، و أنكره، يحلف بتّا على عدم الاستحقاق، أو نفي ما يدّعيه، كما يأتي.

و إن ادّعى على غيره ممّن يوجب ثبوته ثبوت الحقّ على ذلك المدّعى عليه- كالمورث و الوكيل و الولي- فإن لم يدّع العلم عليه لم تسمع دعواه، و إن ادّعى العلم سمعت، و يحلف أيضا على نفي ما يدّعيه من العلم بتّا.

و لو ردّ اليمين على المدّعي يحلف أيضا على البتّ، سواء كانت يمينا متعلّقة بفعله أو فعل الغير الذي يحلف على نفي العلم به.

ثمَّ إنّه قد ذكرنا سابقا أنّ من ادّعى على أحد حقّا، و أجاب هو بقوله:

لا أدري، فإن لم يدّع عليه العلم لا حقّ له عليه، و إن ادّعاه له أن يحلّفه على نفي العلم.

و اعلم أيضا: كما أنّه يمكن العلم لكلّ أحد بانتفاء فعل نفسه، كذلك

يمكن علمه بانتفاء فعل غيره، من إقرار المدّعي، أو كون الفعل مقيّدا بزمان أو مكان أو حالة خاصّة يعلم انتفاءه فيه، أو يحصل له العلم بالانتفاء بأمور خارجيّة و قرائن منضمّة.

و تحصّل من هاتين المقدّمتين و ممّا مرّ من أنّه على البتّ أبدا أنّ الضابط الكلّي: أنّه يجب أن يكون حلف الحالف بنيّة منطبقة على جوابه، فإن أجاب بالنفي أو الثبوت قطعا حلف عليه، سواء كان في فعل نفسه أو غيره ممّا يوجب خلاف ما أجابه ضمانه، و إن أجاب بعدم العلم حلف عليه كذلك إذا ادّعي العلم عليه.

و تنشعب من ذلك الضابط جميع الفروع.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 486

و قد يستشكل في مواضع لا إشكال فيها بعد ما ذكرنا، فإنّه إن كان المورد ممّا لا يلزم على المدّعى عليه شي ء بالإقرار فلا تسمع الدعوى.

و إن كان ممّا يلزم، فإن أجاب بانتفاء الفعل بتّا يحلف عليه، و إن أجاب بنفي العلم يحلف عليه إن ادّعي علمه.

المسألة الرابعة: المدّعى أمّا يطلق الدعوى

- كقوله: لي عليك عشرة، أو: ما في يدك من العين الفلانيّة مالي- أو يقيّدها بسبب خاصّ، كقوله: لي عليك عشرة بسبب الاقتراض، أو ثمن المبيع الفلاني، أو: ما في يدك من العين الفلانيّة سرقتها منّي.

و على كلّ من التقديرين إمّا يجيب المدّعى عليه بالإطلاق، أو بالتقييد.

فإن أطلقا فيكفي الحلف على نفي الاستحقاق المطلق بلا خلاف، لمطابقة المحلوف عليه مع الدعوى، فتسقط بالحلف على نفيها بمقتضى الإجماع و الأخبار.

و لو قيّدها المدّعي بعد حلف المدّعى عليه على نفي المطلق، فادّعى ثانيا: أنّ لي عليه عشرة ثمن المبيع، لا يسمع أيضا، لأنّ نفي المطلق بالحلف يستلزم نفي المقيّد، إلّا بعد مضيّ زمان أمكن أن تكون تلك دعوى ثانية

ثابتة على المدّعى عليه بعد المرافعة الاولى.

و إن قيّدا يكفي الحلف على نفي المقيّد أيضا في سقوط تلك الدعوى إجماعا.

و لو ادّعى بعد الحلف الاستحقاق بسبب آخر يسمع منه، و يطلب من المدّعى عليه الجواب، و له حلفه، لأنّ سقوط شي ء خاصّ لا يستلزم سقوط خاصّ آخر.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 487

و كذا لو ادّعى بعدها الاستحقاق المطلق، لأنّ سقوط الخاصّ لا يستلزم سقوط العام.

و إن أطلق المدّعي و قيّد المدّعى عليه- كأن يدّعي عليه عشرة، و أجاب بأنّه ليس عليّ عشرة ثمن المبيع- و حلف عليه، لم يفد في سقوط الدعوى أصلا، و تكون الدعوى باقية، و الوجه واضح.

و إن انعكس، فادّعى المقيّد، و أجاب بنفي المطلق- فيدّعي: أنّ لي عليك عشرة ثمن المبيع، فأجاب بأنّه ليس لك عليّ شي ء أصلا- و حلف عليه، فلا شكّ في سقوط الدعوى، لأنّ انتفاء المطلق و العامّ يستلزم انتفاء المقيّد و الخاصّ، و لصدق الحلف المسقطة للدعوى.

و تدلّ عليه أيضا صحيحة محمّد «1» الواردة في كيفيّة حلف الأخرس، حيث ادّعي عليه الدين، و كتب في الحلف ما هو عامّ. و لازمه أنّه لو طلب المدّعي منه الحلف بعد ذلك على نفي المقيّد لم يكن له ذلك، إذ لا حلف بعد حلف، و لا حلف بعد سقوط الدعوى.

و لو طلب منه أولا الحلف على نفي المقيّد، فهل يجب عليه ذلك، و للمدّعي تلك المطالبة؟

الظاهر: لا، إذ لم يثبت من الشرع إلّا تسلّطه على إحلافه، و أمّا تسلّطه عليه في كلّ جزء جزء من متعلّقات الحلف فلا، و الأصل يقتضي عدم التسلّط.

و لا يصير بتركه ما أراد ناكلا بعد إثباته بأصل الحلف على المدّعى به، و لو

بما يشمله بالعموم.

______________________________

(1) المتقدّمة في ص: 481.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 488

و ليس ذلك إلّا من قبيل أن يدّعي عليه العشرة، ثمن المبيع الذي باعه منه في يوم كذا، بلفظ كذا، في مكان كذا، و هكذا، و يريد بها الإحلاف على نفي جميع تلك الجزئيّات، فإن أبى المدّعي إلّا بأن يحلّفه كذلك، و لم يرض بالحلف المطلق، فللمدّعي عليه الإباء عنه أيضا، فيتوقّف حتى يرضى المدّعي بالمطلق.

و الحاصل: أنّه لا يجب عليه الحلف بالمقيّد، و ليس للمدّعي إجباره عليه، للأصل السالم عن المعارض.

و قد عبّر الأكثر عن هذا القسم بأنّ المدّعى عليه لو أراد الحلف على نفي الاستحقاق المطلق ففي إجابته قولان، أشهرهما: نعم. و المعنى واحد.

ثمَّ إنّهم قد يستدلّون على الإجابة و على عدم التسلّط على إجباره بالمقيّد بأنّه قد يكون للعدول من المطلق إلى المقيّد غرض صحيح، بأن كان قد غصب أو استأجر أو سرق أو اشترى، و لكن برئ من الحقّ بوجه من وجوه الإبراء، و تكليفه بنفي المقيّد يوجب إما الكذب في الحلف، أو وقوعه في مضيق طلب الإثبات.

و هو كان جيّدا لو كان المخالف- و هو الشيخ على ما حكي عنه «1»- يقول: بأنّ للمدّعي الإحلاف على نفي سبب التقييد، كأن يحلف على أنّه ما اشتريت منك، أو ما استأجرت، أو ما سرقت.

و لكنّ الظاهر أنّ الخلاف إنّما هو في الإحلاف على نفي المقيّد، كأن يحلف على أنّه ليس في ذمّتي ثمن المبيع، أو وجه الإجارة، أو ليس في يدي مغصوب منك.

______________________________

(1) انظر المبسوط 8: 207، و حكاه عنه في المسالك 2: 373.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 489

و لا يخفى أنّ ذلك لا يوجب كذبا في

الحلف لو صدق في الواقع و إن تحقّق الشراء أو الاستئجار أو الغصب أولا.

و أمّا الإحلاف على نفي السبب منفردا، أو مع نفي المسبّب- من الاشتغال بثمن المبيع، أو نحوه- فلا تسلّط عليه أصلا، إذ قد ذكرنا في بحث الدعوى أنّه يشترط في سماعها كونها صريحة في ادّعاء الاستحقاق، و دعوى السبب منفردا لا توجب دعوى استحقاق، فتكون غير مسموعة، فلا يترتّب عليها تسلّط إحلاف. و دعواه منضمّة مع المسبّب و إن كانت مسموعة إلّا أنّه باعتبار جزئها الأخير، فهو ما به الدعوى حقيقة، فيكون تسلّط الحلف عليه خاصّة، فتأمّل.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 490

البحث الثالث في المحلوف عليه
اشاره

و فيه مسائل:

المسألة الاولى: لو ادّعي عليه دين و هو معسر جاز له أن يحلف أنّه لا حقّ له

، و يوري إن علم صدق دعواه- صرّح بذلك في التحرير «1»- لصدقه في دعواه.

المسألة الثانية: الحلف ينصرف إلى ما حلّفه الحاكم عليه

، فلا تنفع تورية الظالم من الخصمين، لرواية مسعدة بن صدقة: «فإذا كان مظلوما فيما حلف عليه و نوى اليمين فعلى نيّته، و أمّا إذا كان ظالما فاليمين على نيّة المظلوم» «2».

و لو كان أحد الخصمين معتقدا لحقّية ما يحلف عليه اجتهادا أو تقليدا مخالفا لاجتهاد الحاكم، لم يفد في تأويل الحلف اعتقاد نفسه، لأنّه في الترافع محكوم بمتابعة الحاكم، و ليس ما اجتهده أو قلّده حكم اللّه في حقّه حينئذ.

المسألة الثالثة: قالوا: لا يجوز أن يحلف أحد ليثبت مالا لغيره، أو يسقط حقّا عن غيره.

و هو كذلك للإجماع، و الأصل و اختصاص الروايات صريحا أو

______________________________

(1) التحرير 2: 192.

(2) الكافي 7: 444- 1، التهذيب 8: 280- 1025، قرب الإسناد: 9- 28، الوسائل 23: 245 أبواب الأيمان ب 20 ح 1، بتفاوت يسير.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 491

ظهورا فيما يراد به حقّ الحالف نفسه، و لأنّ الحلف إنّما يكون فيما إذا نكل عن الحلف أو أقرّ بالحقّ يثبت، و لا يتحقّق شي ء منهما في حقّ الغير.

قال في التحرير: فلو ادّعى رهنا و أقام شاهدا أنّه للراهن لم يكن له أن يحلف، بل إن حلف الراهن تعلّق حقّ الرهانة به، و إلّا فلا، انتهى «1».

أقول: سماع الشاهد الواحد من المرتهن أيضا محلّ نظر، بل على الراهن اليمين، فلو حلف تعلّق حقّ الرهانة.

و أمّا قوله: و إلّا فلا، ففيه إشكال، لأنّ في نكوله تضييعا لحقّ المرتهن، فلعلّ المدّعي و الراهن اتّفقا على ذلك لتضييع حقّه، سيّما مع عدم تمكّن الراهن من أداء حقّه من غيره.

و كذلك في دعوى الملك الذي آجره غيره إذا ادّعاه ثالث.

و التحقيق: إنّ الدعوى إمّا تكون مع الراهن أو المرتهن.

فعلى الأول: تختصّ الدعوى على ملكيّة الراهن، فإن حلف الراهن سقطت الدعوى منه و من المرتهن، و

إلّا تثبت الدعوى على ملكيّة المدّعي، و لكن لا يبطل الرهن، لعدم منافاة بين ملكيّته و صحّة الرهن، لجواز أن يكون بإذنه، فللمرتهن العمل بمقتضى المراهنة.

فإن ادّعى على الراهن بعد ذلك فساد المراهنة، فإن أجاب المرتهن بأنّه رهن بإذنه، يصير مدّعيا، و عليه الإثبات، و يقبل الشاهد الواحد مع اليمين لو أجزناه في المراهنة أيضا، و هو ليس حلفا لإثبات مال الغير، بل لحقّ نفسه.

و إن أجاب بعدم فساد المراهنة يكون منكرا، و عليه الحلف، فإن

______________________________

(1) التحرير 2: 192.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج 17، ص: 492

حلف تثبت المراهنة الصحيحة، و لا ينافيها عدم ملكيّة الراهن.

و على الثاني: فإن ادّعى عليه ملكيّة المرهون فقط لم تسمع دعواه، لما عرفت في بحث شرائط سماع الدعوى من عدم سماع دعوى غير صريحة في الاستحقاق و إن ضمّ معها فساد المراهنة، فيكفي جواب المرتهن بعدم الفساد، و عليه الحلف، و تبقى دعواه مع الراهن.

و كذلك في الإجارة و الإصداق و نحوهما. و اللّه العالم.

تمَّ مقصد القضاء.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.