لمحات فی الکتاب و الحدیث و المذهب المجلد 3

اشارة

سرشناسه:صافی گلپایگانی، لطف الله، 1298 -

Safi Gulpaygan, Lutfullah

عنوان و نام پديدآور:لمحات فی الکتاب و الحدیث و المذهب/ لطف الله الصافی الگلپایگانی مدظله الشریف.

مشخصات نشر:قم: مکتب تنظیم و نشر آثار آیت الله صافی گلپایگانی دام ظله، 1439 ق.= 1397.

مشخصات ظاهری:3 ج.

شابک:1000000 ریال: دوره 978-600-7854-09-9 : ؛ ج.1 978-600-7854-06-8 : ؛ ج.2 978-600-7854-07-5 : ؛ ج.3 978-600-7854-08-2 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ دوم.

يادداشت:ج. 2 و 3 (چاپ دوم: 1439 ق. = 1397)(فیپا).

يادداشت:چاپ قبلی: موسسه البعثه، قسم الدراسات الاسلامیه، 1366.

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:احادیث شیعه -- قرن 14

موضوع:Hadith (Shiites) -- Texts -- 20th century

موضوع:شیعه -- دفاعیه ها

موضوع:Shi'ah -- Apologetic works

موضوع:شیعه -- ردیه ها

موضوع:Shi'ah -- Controversial literature

شناسه افزوده:دفتر تنظیم و نشر آثار حضرت آیت الله العظمی حاج شیخ لطف الله صافی گلپایگانی

رده بندی کنگره:BP136/9/ص18ل8 1397

رده بندی دیویی:297/212

شماره کتابشناسی ملی:5308292

اطلاعات رکورد کتابشناسی:فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

الجزء الثالث

الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغيّر

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي جعل دين الإسلام خاتم الشرائع والأديان، وضمن صيانة أحكامه عن النسخ والتغيير في جمع الأدوار والأزمان، والصلاة والسلام على خير من أرسله لهداية نوع الإنسان، سيّدنا أبي القاسم محمد المنزل عليه القرآن، وعلى آله الطيبين الطاهرين أُمناء الرحمن.

قال اللّه تعالى: [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وإِنَّ كثيراً مِنْهُمْ لَفَاسِقُونَ](1).

قال اللّه تعالى: [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ](2).

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «أَلا هل عسى رجل يبلغه الحديثُ عنّي وهو متكِئٌ

ص: 7


1- المائدة: الآية 49.
2- المائدة: الآية 50.

على أَريكَتِه فيقول: بيننا وبينكم كتابُ اللّه فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرّمناه، وإنَّ ما حرّم رسول اللّه كما حرَّم اللّه»(1).

وذكر عند ابن عباس الضب، فقال رجل من جلسائه: أُتي به رسول اللّه صلى الله عليه و آله فلم يحلِّه ولم يحرّمه، فقال: «بئس ما تقولون، إنّما بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله محللاً ومحرّماً»(2).

الإسلام دين إلهي عالمي لجميع العصور

من الأُمور التي لاريب فيها والتي اتفق عليها المسلمون، ودلَّت عليها البراهين المحكمة العقلية والسمعية أنّ الإسلام دينٌ عالميٌّ لنوع الإنسان كافة، ولجميع الأعصار والأزمان، وأنّه أقوم الأديان وأوضحها، وأوسط الطرق وأشملها، وأنّه صالحٌ لإدارة المجتمع الإنساني دائماً، فكلّما يمضي عليه الزمان لاتسبقه الحضارات والمدنيات، ولايتأخّر عن العلم والتكنيك، فهو يقود البشرية ويهديها إلى الرشد والكمال، فلايوجد باب إلى خير الإنسان وفلاحه وسعادته، إلّا وقد فتحه عليه، ولا يوجد باب يؤدي إلى الشقاء والبوار والتبار، إلّاوقد أغلقه عليه.

قد تكفّل وشمل بسعة تعاليمه وأحكامه وشرائعه جميع ما يحتاج إليه البشر من النظم المادية والمعنوية، والروحية والجسمية، الفردية والإجتماعية، وغيرها

ص: 8


1- سنن الترمذي: ح 2664، كتاب العلم، باب 10.
2- الحديث المسند: ج 1 ص 294 و 345.

مما هو مبيّن بالكتاب والسنة، فقد أنزله اللّه تعالى ليكون دين الجميع ودين العالم كله، ودين الأزمنة والأعصار كلها، ورفع به جميع ما يمنع الإنسان عن الرُّقي والتقدّم السليم الحكيم، وحرّر به الإنسان عن رقيّته السيئة المخزية، وأخرجه من ذلّ عبادة الطواغيت المستكبرين وحكومة الجبّارين، وأدخله في عز حكومة اللّه تعالى خالق الكون ورب العالمين، وهتف به وناداه أنّه لا فضل لعربي على عجمي، وأنّ كل الناس عالمهم وجاهلهم، غنيهم وفقيرهم، قويَّهم وضعيفهم أمام الحق سواء، وأنّ أكرمهم عند اللّه أتقاهم، وأنّ الدار الآخرة للذين لايريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتّقين، وأنّ اللّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.

وهذا قَبَسٌ قَليلٌ من الإسلام الذي ختم اللّه به الأديان، دين اللّه الخاتم، دين الفطرة ودين الحياة، دين العلم والعدل والإنصاف وكرائم الأخلاق، دينٌ كله نظام: نظام العقيدة الصحيحة الخالصة من الخرافات، نظام الآداب الحسنة، نظام العبادة للّه تعالى، نظام الحكومة والسياسة، نظام المال والإقتصاد، نظام الزواج والعائلة والأحوال الشخصية، نظام التعليم والتربية الرشيدة، نظام القضاء وفصل الخصومات، نظام الحقوق والمعاملات، نظام الصلح والحرب، ونظام كل الأُمور، فهو عقيدةٌ وشريعةٌ، وسياسةٌ وحكومة.

نظام لاينسخ ولا يزول ولا يتغيّر أبداً؛ لأنّ اللّه تعالى ختم به وبالمرسل به، سيّدنا وسيّد الخلق أجمعين، وسيّد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبداللّه صلى الله عليه و آله، النبوّات والرسالات، فلاشريعة بعده ولاكتاب ولانبوَّة، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين.

ص: 9

ولاريب أنّ معنى خاتمية الدين بقاء أحكامه الخمسة من الكراهة والندب والإباحة والوجوب والإستحباب، وأحكامه سواء كانت أحكام موضوعات بعناوينها الأولية مثل حرمة أكل الميتة، أو بعناوينها الثانوية مثل جواز أكل الميتة في حال الإضطرار، وسواءكانت من الأحكام الظاهرية أو الواقعية، على ما بُيِّن تعريفها في علم أُصول الفقة، وهكذا أحكامه الوضعية كالزوجية والملكية والولاية والحكومة وغيرها، سواء قلنا بأنّ الوضعية منها متأصلة بالتشريع والجعل الإلهي، أو منتزعة من الحكم التكليفي الشرعي.

فهذه الأحكام بجملتها وبكل واحد منها مصونةٌ عن التغيير والتبديل، فلاتنالها يد الإنسان كائناً من كان بتغيير ولاتبديل، لا لأنّها أحكام خالدة حَكَم اللّه تعالى بخلودها وبقائها ما بقي من الإنسان كائن حي فحسب، بل لأنّه مضافاً إلى ذلك ليس لغير اللّه تعالى - على أساس الإيمان بالتوحيد وبصفات اللّه الكمالية التي هو سبحانه متفرد بها - صلاحية التشريع والحكم، والولاية على غيره، بل وعلى نفسه.

فالنظام المؤمن باللّه تعالى لايعدل عن أحكام اللّه تعالى، ولايرى لشعبه ولالقيادته حق التشريع، ولايتخذ حاكماً وولياً من دون اللّه، بل يقدّس اللّه وينزّهه عن أن يكون له شريك في الحاكمية والمشرِّعية، وذلك بخلاف مبادئ الأنظمة المشركة الملحدة، التي من مبادئها أنّ الحكومة ووضع القوانين والأنظمة حق للشعب والأكثرية دون اللّه تعالى، ولا فرق بينها وبين حكومات الطواغيت الماضية والأنظمة المَلكية المطلقة في الشرك ونفي حاكمية اللّه تعالى، إلّاأنّ هؤلاء المؤمنين بالديمقراطية يرون الحاكمية والإستبداد بالأمر، وتشريع البرامج

ص: 10

والنظم السياسية والقضائية وغيرها حقاً للشعب والناس، والحكومات الديكتاتورية الطاغوتية تراها للديكتاتور الطاغوت، فهذه حكومة طاغوتية جَماعية خارجة عن حكومة اللّه تعالى، وهذه حكومة طاغوتية استبدادية فردية، وكل منهما ليست من الحكومات الشرعية المؤمنة باللّه تعالى وحكومته وأحكامه وشرائعه.

ولايخفى عليك أنّ صيانة الأحكام الإلهية عن تصرّف أفراد البشر بالنسخ والتغيير والتبديل خصيصة عامة لجميع الشرائع والأديان السماوية، فلا ولاية لأحد على تغيير حكم من أحكام اللّه، نعم عدم جواز نسخ الأحكام من جانب اللّه تعالى كما في الشرائع السابقة خصيصة اختص بها دين الإسلام؛ لأنّه خاتم الأديان والشرائع، وأفضلها وأقومها، فلانبوة ولانبي بعده كما جاء في الخبر المتواتر عن الرسول صلى الله عليه و آله إنّه قال لعلي عليه السلام: «أنت منِّي بمَنْزلة هارون منْ مُوسى إلّاأَنه لانبيَّ بَعْدي» وفي لفظٍ: «إلّا أَنَّه لانُبُوَّةَ بَعْدي»(1).

والخاتمية سرّها وباطنها وعلتها أكملية الدين، فالدين الخاتم، يجب أن يكون أكمل الأديان، كما أنّ الأكمل لابد وأن يكون الخاتم؛ لأنّه نهاية الغرض والحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب، فلا رسالة بعده. فالرسالة المحمدية هي تمام الرسالات وكمالها، وجاء بها نبينا الأعظم سيّدنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وما أحسن ما قيل بالفارسية:8.

ص: 11


1- الحديث متواتر رواه الفريقان؛ للمزيد راجع: شرح إحقاق الحق: ج 5 و 16، ونفحات الأزهار: ج 17 و 18.

نام أحمد نام جمله أنبيا است چونكه صد آمد نودهم پيش ما است

نعم جاء برسالته صلى الله عليه و آله عندما بلغ المجتمع الإنساني بلوغه الصالح لتحمل هذه الرسالة والعمل بها، ومهما تتقدّم العلوم والمعارف، وتتقارب البلدان وتسير إلى الأمام والوحدة الإجتماعية والسياسية، يتكامل هذا البلوغ والصلاحية.

وجدير بالذكر: أنّ هذا الأساس والعقيدة عند المسلمين، بأنّ الأحكام مصونة عن التغيير والتبديل، كان من أدلّ الأدلّة لرد المتجاوزين والمتعدّين حدود اللّه وأحكامه، ونفي إبطال المبطلين طوال أربعة عشر قرناً.

ولو لم نحتفظ بهذا الأصل الأصيل، ولم ننكر على من يتخلّف عنه أو يقول باختصاصه بالنصوص القرآنية، أو باختصاصه بغير الأُمور الدنيوية والمالية، لرأينا الدين غير الدين والملة غير الملة، ولتلاعب أهل الأهواء والآراء في كل عصر بلعب جديد يوافق بزعمهم مزاج العصر.

ومن هذه التلاعبات مقالٌ نُشِر في مجلة «العربي» الكويتية العدد 379 ص 33 ذوالعقدة 1410 ه يونيو 1990 م. تحت عنوان «الفتاوى والأحكام الإسلامية بين التغيّر والثبات» بقلم الدكتور عبدالمنعم النمر، نلفت أنظار الباحثين الأعزّاء إلى الأُمور التالية فيه:

الأمر الأوّل: الخلط بين الحكم الشرعي والفتوى.

الأمر الثاني: التفصيل بين الأحكام في الثبات والتغيّر.

الأمر الثالث: أحكام المعاملات.

الأمر الرابع: هل أنّ أحكام المعاملات إلهية أو اجتهادات من الرسول صلى الله عليه و آله.

ص: 12

الأمر الخامس: النبي والاجتهاد.

الأمر السادس: الأحكام كليتها وجزئيتها.

الأمر السابع: فتاوى السابقين لا حصانة لها.

الأمر الثامن: الآراء والأحكام البشرية.

الباب التاسع: باب الاجتهاد مفتوح للجميع إلى يوم القيامة.

الباب العاشر: الأحكام الحكومية.

الباب الحادي عشر: بعض الأمثلة فى الفتاوى والأحكام الإلهية.

ص: 13

ص: 14

الأمر الأوّل: الخلط بين الحكم الشرعي والفتوى

قال: «ليس لكل الأحكام والفتاوى الإسلامية حصانة من تغيّرها حسب الزمان والمكان، والظروف التي تمر ببيئة المسلم ومجتمعه».

فتراه خلط بين الحكم والفتوى ولم يفرق بينهما، مع أنّ الأحكام الشرعية لاتتغير وهي ثابتة باقية، وفعليتها متقوّمة بوجود موضوعاتها في الخارج، كما أنّها باقية ببقائها، سواء في ذلك أحكام الشريعة الإسلامية وأحكام الشرائع السابقة، غير أنّ الثانية قد نالتها يد النسخ دون الأُولى، فلاتنالها يد النسخ أبداً لخاتمية دين الإسلام، فلايأتي بعده حكم جديد من السماء، وحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

نعم لو أراد بالحكم الأحكام السلطانية الموقتة المنشأة في موارد الضرورة وتزاحم الأحكام والتي يدور بقاؤها مدار الضرورة التي أوجبتها، لصح ذلك؛

ص: 15

لأنّها بطبيعتها تقتضي التغيّر، ولكن الظاهر من كلامه إرادة غير ذلك أو الأعم من ذلك، أو القول بكون الأحكام كلها إلّاما كان منصوصاً عليه في القرآن من الأحكام السلطانية، فلايكون ما صدر عن الرسول صلى الله عليه و آله من الأحكام الشرعية.

وإن أراد من الحكم الأحكام القضائية فهي وإن كانت تقبل التغيير والنقض أيضاً كما هو مذكور في كتاب القضاء كما لو تبيّن للقاضي خطؤه، إلّاأنّ كلامه لايشمل ذلك، والظاهر من كلامه نفي كلية حصانة جميع الأحكام الشرعية عن التغيير، والقول بتغييرها في الجملة على نحو الموجبة الجزئية، ولكن العقل والنقل والضرورة وخاتمية الدين تدلّ على عدم جواز وقوع أي تغيير في الأحكام الشرعية، فلايجمع بينها وبين الفتاوى بنفي الحصانة عنها، والحكم بجواز تغييرها في الجملة.

وأما الفتوى التي هي نتيجة اجتهاد المجتهد ونظره في الأدلّة من العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبيّن، والأُصول اللفظية، والأُصول العملية وغيرها، واستنباط حكم الشرع منها فهي قابلة للتغيير، وليس من لوازمها الثبات، لعدم حصانة المجتهد من الإشتباه والخطأ في اجتهاده، فربّما يفتي المجتهد مثلاً بإطلاق أو عموم، أو بالبراءة من التكليف لعدم عثوره على مقيّد للإطلاق أو مخصّص للعموم، أو دليل على التكليف مع الفحص المتعارف، ثم يطلع على الدليل المقيّد للإطلاق، أو المخصّص للعموم، أو الدال على التكليف مما يستظهر به خطؤه وبطلان فتواه، فيرجع لامحالة عن فتواه الأُولى ويتغيّر رأيه لا من جهة أنّ الحكم الذي أفتى به تغيّر، بل لظهور أنّ الحكم الشرعي لم يكن على ما أفتى به.

ص: 16

فالرأي الإجتهادي حيث أنّه يحصل من الظنِّ المعتبر الحجية بحكم العقل والشرع، يجب اتباعه عملياً ما دام لم يكشف خلافه، أما لو انكشف خلافه فيؤخذ بالظن المعتبر الذي قام على خلافه، وليس هذا من تغيير حكم اللّه في شيء، فحكم اللّه تعالى واحد إلّاأنّ اجتهاد المجتهد ورأيه يتغير إذا ظهر له خطؤه وعدم إصابته حكم اللّه تعالى.

وبعبارة أُخرى: إنّ الطريق الذي يقوم عند المجتهد للوصول إلى الواقع قد يؤدي إليه وقد لايؤدي إليه على مذهب المخطِّئة القائلين: بأنّ حكم اللّه الواقعي للجميع من الجاهل به والعالم سواء، فللمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد.

أما على قول المصوِّبة القائلين: بتعدد أحكام اللّه تعالى بتعدّد ظنون المجتهدين وآرائهم تبعاً لما يقوم عندهم من الطرق، فلابد من القول بتحمّل الواقعة الواحدة حكمين متخالفين بسبب تخالف ظنون المجتهدين أو تغيّر ظن المجتهد الواحد، وهذا أيضاً غير تغيُّر حكم اللّه تعالى، بل هو نظير انتفاء موضوع حكم وتحقّق موضوع حكم آخر.

نعم أصل مسألة التصويب محل إشكال لاستلزامه الدور المحال، واستلزامه دخالة ظن المجتهد أو علمه بالحكم، في وجود الحكم.

وهنا كلام في التفصيل بين الأدلّة الظنية القائمة لتعريف أصل التكليف وبيانه، وبين الأدلّة الظنية المبينة لشرائط التكليف وأجزائه، مثل شرائط الصلاة وأجزائها نفياً وإثباتاً، ذكرناه في الأُصول ولانطيل ببيانه هنا؛ لأنّ النتيجة على كل صورةٍ أنّ حكم اللّه تعالى لا يتغيّر وإن تغيّرت فتوى المجتهد فيه.

ص: 17

ص: 18

الأمر الثاني: التفصيل بين الأحكام في الثبات والتغيُّر

فصَّل الكاتب بين الأحكام العبادية المنصوص عليها في الكتاب والسنة، وبين الأحكام الدنيوية المتعلّقة بالمعاملات والتصرفات الحياتية المنصوص عليها في الكتاب والسنة، مثل حلِّ البيع وتحريم الربا وكيفية تقسيم المواريث وحكم قتل العمد والخطأ وشبه العمد، والطلاق والزواج، وقاعدة: [فللذّكر مثل حظّ الأُنثيين](1) فهذه أحكام وقواعد دلّت عليها النصوص، ولامجال لأحد أن يغيّرها ويدّعي أنّها كانت أحكاماً لظروف خاصة، بل هي تسري في كل الظروف.

على أنّه ربّما يظهر من الكاتب في آخر بحثه حول مسألة حق الإنتخاب للمرأة، أنّه يقول بجواز تغيير الأحكام المنصوص عليها أيضاً كما سيأتي.

ص: 19


1- النساء: الآية 176.

قال: «ومع ذلك فلهذه الأحكام الثابتة تفصيلات لم يكن بها نص قاطع المعنى، بل يكون معناه محتملاً لأكثر من وجه، وهذه يجري فيها الرأي الذي يقوم به العالم المتخصّص على ضوء ما يفهمه من الكتاب والسنة لا على ضوء ظروف الحياة وتحقيق المصلحة» إلى آخر كلامه.

والظاهر أنّ مراده: أنّ ما ورد فيه نص قطعي لايحتمل إلّامعنى واحداً فليس فيه مجال للإجتهاد، وما يحتمل أكثر من معنى يجري فيه الإجتهاد، ولكن هذا لايختص بما ذكره من تفاصيل الأحكام، بل إذا ورد نفس الحكم في نص يحتمل أكثر من معنى فهو قابل للإجتهاد وتغيّر الرأي أيضاً كما ذكرناه.

مثلاً: القول بكفاية مسح بعض الرأس أو بوجوب مسحه كله، ليس من باب تغيّر الحكم، وكيف يكون الرأيان المتقابلان في زمانٍ واحد من تغيّر الحكم؟ بل على القول بالتصويب يكون كل منهما بالنسبة إلى من اختاره حكم اللّه تعالى؛ لأنّ الحكم على هذا القول متعدّد، أو يتعدّد بعدد آراء المجتهدين أو المجتهد الواحد.

والإشكال على هذا الرأي بأنّه إذا كان الأمر كذلك فعن أيّ حكم يفحص المجتهد ويطلب عليه الدليل؟ مع أنه معلّق على علمه أو ظنّه ولا تحقّق له قبل رأيه، هذا الإشكال وارد على القائل بالتصويب ولا جواب عنده عليه، إلّاأنّ ما يهمّنا هنا أنّه على كلا القولين بالتخطئة والتصويب، فإنّ اختلاف آراء المجتهدين وتغيّر فتاواهم بأسبابها المعروفة ليس من باب تغيير الحكم بل يؤيّد ثبات الأحكام وصيانتها عن التغيير.

كما ينبغي الإشارة إلى ما ورد في كلامه من تفسير الإجتهاد، فقد ذكر أنّ مثل

ص: 20

فهم الباء في قوله تعالى: [وَامْسَحُوا بِرُؤوُسِكْم](1) وهل أنّها للتبعيض أو هي زائدة ليس اجتهاداً بالمعنى الصحيح، بل هو اختيار لمعنى من المعنيين.

ولكن ذلك محل نظر ونقاش، فكأنّه توهّم أنّ للناظر في الأدلّة المحتملة لمعانٍ متعددة الخيار في اختيار واحد منها، مع أنّ عليه أيضاً أن ينظر في اللغة والشواهد التي أُقيمت على كل واحد من المعاني والقرائن الدالّة على إرادة بعضها المعيّن، فيرجّح باجتهاده واحداً من المعاني ويفتي به، وإلّا فيتوقّف عن الفتوى.6.

ص: 21


1- المائدة: الآية 6.

ص: 22

الأمر الثالث: أحكام المعاملات

قال: «أما المعاملات وترتيبها وأحكامها فهي حق للعباد، ومن أجل مصالحهم في دنياهم، فمن حقّهم أن يحدّدوا أين تكون مصالحهم إذا لم يأت من الشرع الحكيم نص قرآني يحدّدها، كما جاء مثلاً في المواريث لما يعلمه سبحانه من تدخّل العواطف فيها فحسم الرأي، وقد أشار الرسول صلى الله عليه و آله إلى هذا في حديثه المشهور بعدما حدث في تلقيح النخل: «إذا أَمَرْتُكُمْ بأمرٍ مِنْ أُمُورِ دِيِنكُمْ فُخُذُوا منه مَا اسْتَطَعْتم، وما كان من أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فإلَيْكُم، أنتمْ أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دنْيَاكُمْ»(1). وكأنّ هذا الحديث هو الأصل في إمكان تغيير بعض الأحكام الخاصة بالمعاملات حسب تغيير عللها وظروفها والمصلحة للناس فيها، على أن يكون التغيير على أساس القواعد العامة الشرعية مثل: لاضرر ولاضرار، ودرء المفاسد

ص: 23


1- أُنظر: مجمع الزوائد: ج 1 ص 179، الأحكام لابن حزم: ج 6 ص 776.

مقدّم على جلب المصالح» إلى آخر ما قال.

أقول: أوّلاً: إذن لا كلام في أنّه إذا لم يأت من الشارع الحكيم نصُّ قرآني «ولانبوي وإن لم يذكره واقتصر على القرآني منه» في مورد ولم تشمله النصوص العامة بعمومها أو إطلاقها، فمباح بحكم الشرع أيضاً للمكلّفين فعله وتركه، وهذا - أي حكم الشرع بالإباحة فيما لا نص فيه - حكم ثابت لايقبل التغيير، فليس لأحد تحريم تركه أو إيجاب فعله.

وثانياً: لايوافق هذا الخبر وما هو بمضمونه لقوله تعالى: [مَا آتَاكُم الرّسُولُ فَخذُوهُ وَمَا نَهاكُم عَنْهُ فانْتَهُوا](1) ، وقوله تعالى: [وَمَا يَنطِقُ عَن اْلَهوى إنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى](2) ، وقوله عزَّ مِن قائل: [لَقَد كَان لَكُم في رَسُولِ اللِّه أُسْوةٌ حَسَنةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللّه وَالْيوْمَ الآخِرَ](3). لأن مفاد الخبر على ما بنيتم عليه أنّ الأُمة أعلم من الرسول صلى الله عليه و آله بشؤون دنياهم، ولذا يجوز لهم مخالفة أوامره المربوطة بأُمور الدنيا من المعاملات وغيرها مما لم يَرِد فيه النص القرآني، وعليه: فلا يجب اتّباع شيء من أوامر النبي ونواهيه المربوطة بالسياسات والمعاملات وغيرها من الأنظمة المقرَّرة الثابتة بلسانه أو بسيرته في الأحوال الشخصية والإجتماعية والمالية وغيرها، فيكون النبي صلى الله عليه و آله كسائر الناس في أقواله وأفعاله وسيرته، فلاوجوب لاتّباعه ولا حسن للتأسّي به! وهذا أمر لا أظن أحداً من المسلمين فضلاً عن علمائهم وفقهائهم الراسخين في العلوم الإسلامية يلتزم به.1.

ص: 24


1- الحشر: الآية 7.
2- النجم: الآية 3-4.
3- الأحزاب: الآية 21.

وما نفهمه نحن من الخبر - بعد الغض عن اضطراب متنه ومخالفته لما ثبت بالكتاب والسنة - أنّ المراد منه أنّه ليس من شأن الرسول صلى الله عليه و آله بمقتضى رسالته ولا زعامته وقيادته السياسية وإدارته أُمور الناس أن يتدخّل، في شؤونهم الفردية التي يعمل كل أحد فيها ما يريد ويختار وتختلف فيه الأنظار، فهذا يرى هذه المهنة وافية لمعاشه والآخر يرى غيرها كذلك، وهذا يرى سقي الزرع في المواعيد المعينة وذاك يراه في غيرها، وهذا يرى تلقيح النخل مفيداً والآخر يرى أن يبقيها على حالها، هذا يرى أن يبيع مثلاً سكناه للإتجار بثمنه، والآخر يرى غير ذلك، وهذا الطبيب يرى علاج المرض الخاص بكيفية خاصة وغيره يرى غيرها. فالدين والشرع وحتى القوانين التي تنشأ من قِبَل البرلمانات والمراكز التي لها صلاحية وضع القانون أو الدستور في الأنظمة العلمانية لا تتدخّل في أمثال هذه الأُمور، بل كل واحد من الناس حر مختار فيها.

وفي تلقيح النخل أيضاً الأمر هكذا، فكل قوم وكل شخص يعمل على طبق ما يرى فيه صلاح نفسه ولا يتدخّل فيه الشرع ولا القانون الوضعي، نعم ربّما تقتضي الضرورة كحفظ النظام وإدارة المجتمع وأمن الأموال والنفوس المحترمة أن يحجز الحاكم الناس عن بعض حرياتهم في زمان أو مكان ما، ولكن مع أنّ وجوب إطاعة الحاكم من الأحكام الشرعية؛ فإنّ حكمه هذا ليس حكماً شرعياً مثل: أحكام العبادات والمعاملات والسياسات والحقوق والأحوال الشخصية وغيرها، ولابحث لنا فيه.

وثالثاً: إن كان المراد من الخبر الذي استشهد به أنّ النبي صلى الله عليه و آله لايأمرهم في أُمور دنياهم بأمر وحكم، فالإستدلال به لإثبات جواز التغيير في أحكام

ص: 25

المعاملات والأُمور الدنيوية ضربٌ من التهافت والتناقض. وإن كان المراد منه أنّهم أعلم بشؤون دنياهم من النبي صلى الله عليه و آله ويحق لهم أن ينظروا في أُمور دنياهم ونظام أُمورهم الدنيوية، فشأن النبي صلى الله عليه و آله الذي أدّبه اللّه تعالى وأحسن تأديبه أجلُّ وأنبل وأعلى من التدخل فيما لا حق فيه، بل هو حق للعباد وهم أبصر منه به، فهو يجتنب لا محالة عن هذا اللغو، وقد قال اللّه تعالى في حقه: [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى](1) وهو صاحب الخلق العظيم وأسمى مراتب الأدب ومكارم الأخلاق.

هذا مضافاً إلى أنّ الخبر إن كان يدلّ على أنّ أمر دنيا الناس مفوّض إليهم، فلا اعتبار بأوامره ونواهيه فيه، وعليه: فتخرج أكثر الأحكام الشرعية الراجعة إلى أُمور الناس ومعايشهم وسياسة المدن والإدارة الثابتة بسنة الرسول صلى الله عليه و آله وأوامره ونواهيه من دائرة الدين، ونبقى نحن وأحكام العبادات وقليل من غيرها من الأحكام المنصوصة في القرآن!

هذا إذا لم يأت من المتنوّرين العصريين من يقول فيها أيضاً شبه ما قال عبدالمنعم النمر في الأوامر النبوية والأحكام الثابتة بالسنة، وعليه: يلزم على الفقهاء حذف أكثر أبواب الفقه الإسلامي التي هي من أعظم براهين صدق هذه النبوة الخاتمة وكمالها.

ورابعاً: إذا كانوا هم أعلم بأُمور دنياهم من رسول ربّالعالمين صلى الله عليه و آله فهم أعلم من الفقهاء بالطريق الأولى، فما معنى موقف الفقهاء في الإجتهاد في هذه الأُمور والنظر في السنة بعدما كان الناس أولى وأحقّ بدنياهم وأعلم حسب الفرض من3.

ص: 26


1- النجم: الآية 3.

الرسول صلى الله عليه و آله!

بل إذا كان موقف الناس هكذا قِبال أوامر النبي صلى الله عليه و آله ونواهيه حتى في حياته وكان يجوز لهم ترك العمل بأوامره، وكان الأصل والمعتبر ما يرون هم بأنفسهم في أُمورهم حسبما تقتضيه المصالح والظروف، فما قيمة اجتهاد الفقهاء في أُمور الناس الدنيوية؟

وخامساً: أنّ مغزى هذا الرأي أنّه لا اعتناء بسيرة النبي صلى الله عليه و آله وسنته في الأنظمة الدنيوية، بل الناس هم وما رأوا فيها من مصالحهم ومنافعهم، وإذن فليس فيها تشريع و لايوجد حكم شرعي، فما معنى تغيّر الحكم؟

وسادساً: إذا اشترطتم أن يكون التغيير على أساس القواعد العامة الشرعية فليس معنى «أنتم أعلم بشؤون دنياكم» إلّاالكرّ على ما فرَّضه، وقد ذكر أنّ مراده من هذه القواعد العامة، مثل لاضرر ولاضرار، ودرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح، فإن أراد من القاعدة الثابتة - كما لابد أن يكون - أنّ درء المفاسد التي نهى عنها الشرع مقدّم على جلب المصالح التي أمر بها، فذلك، وإن لم يكن قاعدة كلية عامة؛ لأنّ مفسدة ارتكاب بعض المحرّمات ربّما لاتكون أهم من مفسدة ترك بعض الواجبات ومصلحة فعلها، بل تكون هذه أهم من الأُولى، ولكن القائل بها لا يريد بها إلّاالقاعدة الشرعية التي هي كالشارح والمفسّر لأدلّة سائر الأحكام ومعها لاتغيير أيضاً في الحكم؛ لأنّ المعيار في المصلحة هو المصالح التي أمر الشارع بحفظها والمفاسد التي نص الشارع على وجوب درئها.

وسابعاً: إن أُريد من تغيير الأحكام تغييرها بظروفها وعللها والمصلحة للناس حسب ما أمره الشارع، مثل أكل الميتة الذي يباح عند الإضطرار، أو ارتكاب أي

ص: 27

محذور آخر أخف إذا دار الأمر بين المحذورين، والأهم والمهم، أو ترك واجب لدفع الضرر، أو نحو ذلك، فهذا ليس من تغيير الحكم - كما أشرنا إليه - بشيء، بل هو انتفاء حكم خاص بانتفاء موضوعه، ووجود حكم آخر بوجود موضوعه، فأكل الميتة لغير المضطر حرام شرعاً وللمضطر حلال شرعاً، وكل منهما حكم شرعي لموضوعه المختص به ثابت لايقبل التغيير.

والوضوء واجب إذا لم يكن فيه ضرر على صحة جسم المتوضّي، وهو حرام وبدعة إذا كان فيه خطر على صحته.

أما في دوران الأمر بين الأهم والمهم، أو المهمين المتساويين عند الشرع، فحيث أن المكلف لا يتمكّن من امتثال الوجوبين لابدَّ له عقلاً في الصورة الاُولى من حفظ الأهم، وفي الصورة الثانية هو بالخيار في الإتيان بأيّهما شاء.

ففي كل هذه الصور لاتغيير في الحكم الشرعي.

ولايخفى عليك أنّ ذلك يجري في الأحكام الجزئية لا الأحكام الكلية، فلا تجد حكماً كلياً مزاحماً بكليته لحكم كلي آخر.

وكذا قاعدة أنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح ليس معناها - كما مر الإشارة إليه - تغيير الحكم الشرعي، بل المراد أنّ الحكمين الشرعيين اللذين أحدهما شرّع لدفع مفسدة، والآخر لجلب مصلحة، كأن يكون أحدهما حكماً تحريمياً توجب مخالفته الوقوع في المفسدة، والآخر وجوبياً توجب مخالفته تفويت المصلحة، ولايمكن للمكلف الجمع بين امتثال كلا الحكمين، فيأتي بالذي يدرء المفسدة أو يترك ما فيه المفسدة دون الذي يجلب المصلحة، وعليك إن أردت المزيد بملاحظة باب تزاحم الأحكام في الكتب الأُصولية.

ص: 28

الأمر الرابع: هل أنّ أحكام المعاملات إلهية، أو اجتهادات من الرسول صلى الله عليه و آله؟

صرّح في مقاله بأنّ أحكام المعاملات التي عبّر عنها بالأُمور الجزئية لم تكن على أساس الوحي، بل كانت باجتهاد منه صلى الله عليه و آله! وإليك نصّ ما قال: «جاء الرسول صلى الله عليه و آله إلى المدينة فوجدهم يتبايعون في الثمار قبل نضجها وبُدُوِّ صلاحها دون تضرر ونزاع فأباحها لهم في ظل الإسلام، ثم بدأ المتعاملون بها يتنازعون وتكثر شكواهم لثمرة أصابها مرض... وجاؤوا للرسول صلى الله عليه و آله يتحاكمون إليه، فغير رأيه الأول بناء على هذا، وقال لهم: «أما وقد تنازعتم فلاتبيعوا الثمر قبل ظهور صلاحه ونضجه» ومنع بذلك بيع الثمر قبل ظهور صلاحه، حتى لا يتعلّل المشتري بما طرأ عليه من تلف ليرجع في الصفقة أو ينقص له البائع من ثمنها الذي تبايعا عليه... ومعنى ذلك بوضوح: أنّ أحكام الرسول صلى الله عليه و آله في مثل هذه الأُمور الجزئية لم تكن على أساس وحي من اللّه نزل عليه خاص بهذه الجزئية، بل كانت باجتهاد منه وتقدير للمصلحة على ضوء الظروف التي أمامه» إلى آخره.

ص: 29

أقول: أوّلاً: لماذا لايكون مثل هذا من النسخ؟ وأنّ الحكم الأول قد نسخ بالثاني، ونسخ الحكم لا مانع من وقوعه إذا وقع في عصر الرسالة، وإلّا فهل يقول أحد بجواز العمل بالحكم الأول إذا اقتضى اجتهاد المجتهد ذلك، ولايراه من الإجتهاد في مقابل النص؟

وثانياً: لقائل أن يقول: ما كان عليه أهل المدينة من التبايع في الثمار قبل نضجها وبُدُوِّ صلاحها لم يكن من الأحكام الشرعية الموحى بها إلى النبي صلى الله عليه و آله، بل كان المجتمع في هذه القوانين والعادات التي كان ملتزماً بها قبل بزوغ شمس النبوة الخاتمة باقياً على حاله، والأحكام إنّما نزلت على الرسول صلى الله عليه و آله تدريجاً وفي المناسبات، فالحكم الشرعي الإلهي الذي لايتغير هو عدم جواز بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها على التفاصيل المذكورة في الفقه، لا أنّ الرسول صلى الله عليه و آله عدل عن رأيه الأول وظهر له خطؤه، وأنّ الحكم الثاني كان من رأيه أيضاً وهو قابل للتغيير.

فالصحيح أنّ الحكم الثاني ثابت أبداً لا يتغيّر، صارت الظروف ما صارت وتغيرت الأحوال ما تغيرت، والنص النبوي كالنص القرآني لا فرق في ذلك بين المعاملات والعبادات فكلها مصونة عن التغيير.

نعم الأحكام السلطانية التي تصدر تحقيقاً لتنفيذ الأحكام الشرعية، وحفظ النظام، وإقامة العدل، وإيصال حق كل ذي حق إليه، والدفاع عن حوزة الإسلام، ربّما تحدّد حريات الأفراد في أموالهم وأنفسهم في مقدار من الزمان، وما دامت الضرورة الموجبة للتحديد المذكور باقية، فللحاكم مثلاً أن يحكم على مالك الغلّات بعرض غلّته للبيع عند احتياج الناس إليها دفعاً للحرج عن العامة، وحفظاً

ص: 30

للنفوس المحترمة.

والفرق بين حكم الحاكم وحكم الشارع أنّ الأول غيري موقت، شرّع جوازه من الشارع حفظاً لنظام الدين ومصالح المسلمين، والثاني حكم ثابت نفسي، نسبته إلى الأحكام الحكومية كنسبة الأصل إلى الفرع والهدف إلى الوسيلة، والأول لايستند بنفسه إلى اللّه تعالى بل إلى الحاكم نبياً كان أم غيره، نعم جواز حكمه وجواز حكومته ووجوب إطاعته من الأحكام الشرعية الثابتة التي لاتقبل التغيير.

ولكن مع ذلك فإنّ للأحكام الحكومية الصادرة عن النبي صلى الله عليه و آله قداسة ليست لغيرها، فلا يجوز تغييرها؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و آله لا يحكم إلّابوحي من اللّه تعالى على ما نص به القرآن الكريم: [وَمَا يَنْطِقُ عَن الْهَوى إنْ هُوَ إلَّاوَحْيٌ يُوحى](1) ، وأكّد لزوم التأسي به في قوله تعالى: [لَقَد كَان لَكُمْ في رسُولِ اللّه أُسوةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كان يَرجُو اللّهَ والْيومَ اْلآخِر](2) فالنبي صلى الله عليه و آله في صيانة اللّه وحفظه عن الخطأ في أحكامه وجميع أفعاله وأقواله، سواء كان في الشرعيات أو الإخبار بالملاحم وحالات الأُمم الآتية والماضية، وأحوال الملائكة، وكيفيات عالم الغيب مثل الجنة والنار، أو بيان المعارف والأخلاقيات، أو الأحكام الحكومية.

لكنّ القوم حيث رأوا أنّ بعض الصحابة قد تجرّأ على التصرّف في الأحكام الإلهية والرد على النبي الأعظم صلى الله عليه و آله فأنكر عليه صلح الحديبية، ولم يقبل منه1.

ص: 31


1- النجم: الآية 3-4.
2- الأحزاب: الآية 21.

تشريع متعة الحج وحرَّمها، وحرّم متعة النساء بعد ارتحال الرسول صلى الله عليه و آله إلى الرفيق الأعلى، ومنع رسول اللّه صلى الله عليه و آله من كتابة وصيته، وقال كلمته الخبيثة التي لا ننقلها تأدّباً وحذراً من التعدّي على ساحة صاحب الخلق العظيم، الرسول الرؤوف الرحيم، صلوات اللّه عليه وعلى آله، وغير ذلك مما فعل أو قال هو أو غيره - لما رأوا ذلك - استهانوا بمخالفة النصوص الشرعية، والسنة النبوية، ونسبوا الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله إلى الإشتباه والخطأ! ولاحول ولاقوة إلّاباللّه العلي العظيم.

ثم إنّ الأمثلة التي ذكرها لإثبات مرامه كلها قابلة للمناقشة لايثبت بها مدّعاه.

فالمنع عن التقاط ضالة الإبل، وإجازة التقاطها أيضاً، ليس من قبيل تغيير الحكم، بل يمكن الجمع بينهما بأنّ مورد المنع عن الإلتقاط غير مورد الجواز، فإذا لم يخش على الإبل التلف لامتناعها على السباع واستمرارها بالرعي، لا تتعرّض لها ولاتلتقط؛ لأنّ العادة جرت بطلب مالكها لها حيث فقدها، أما إذا كانت فاقدة الأمرين فيجوز التقاطها، وفي الصورتين راعى الشارع الأقدس مصلحة المال والمالك، والحكمان حكمان ثابتان لا يقبلان التغيير إلى يوم القيامة.

وروي عن الإمام أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قضى في رجل ترك دابته من جهد، قال: «إن تركها في كلأ وماء وأمن فهي له يأخذها حيث أصابها، وإن تركها في خوف وعلى غير ماء ولاكلأ فهي لمن أصابها».

وفي خبر مسمع عنه عليه السلام: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام يقول في الدابة إذا سرحها

ص: 32

أهلها أو عجزوا عن علفها أو نفقتها فهي للذي أحياها. قال وقضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل ترك دابته في مَضْيَعَة فقال: إن كان تركها في كلأ وماء وأمن فهي له، يأخذها متى شاء، وإن تركها في غير كلأ وماء فهي للذي أحياها».

وأما امتناع الرسول صلى الله عليه و آله عن التسعير فلايستفاد منه الإطلاق، وأنّه كان ممتنعاً عنه ولو عُرض مثل الحنطة وأشباهها، ممّا تتقوّم به الحياة والمعاش بسعر لايستطيع أكثر الناس شراءه، ويقعون بذلك في الحرج والمشقة الشديدة والمجاعة.

هذا مضافاً إلى أنّ أكثر الموارد التي استشهد بها هذا الكاتب وغيره على اجتهاد الرسول صلى الله عليه و آله وكون حكمه حكماً موسمياً ورأياً رآه دون أن يكون مستمداً من الوحي، هي موارد دار الأمر فيها بين ارتكاب أحد المحذورين الشرعيين والمتزاحمين، فرجّح صلى الله عليه و آله ارتكاب المحذور الأخف، في ضوء إرشادات الشارع وتعاليمه.

والحاصل: أنّ هذه الأُمور لا تعد من التغيير به، وهكذا عمل القاضي شريح، مضافاً إلى أنّه ليس بحجة، فقد بقي قاضياً إلى عصر غلبة بني أُمية، العصر الذي سلب فيه الناس حرياتهم الإسلامية، ولم يكن لأحد حق النصيحة لعمّال الحكومة وقضاتها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّابتعريض ماله ونفسه وخاصته للنهب، وأنواع التعذيب والقتل، مضافاً إلى ذلك؛ فإنّه يمكن حمل عمل شريح على هذه المحامل إن كان هو ممن يفهم هذه الأُمور، فمثلاً قوله صلى الله عليه و آله:

ص: 33

«البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»(1) ، وقاعدة حجية البيّنة، لاريب أنّها قاعدة شرعية وطريق لإثبات الدعاوي وفصل الخصومات، إلّاأنّها كذلك إذا كانت بحسب النوع تفيد الظن ويعتمد عليها العرف، أما إذا تغيّر حال الناس وآل الأمر إلى ما آل من ظهور بني أُمية وأعوانهم وأتباعهم على الأُمور، ورأى القاضي المسكين أن أعوان القاضي والشهود الذين يشهدون على دماء الناس وأموالهم يتقربون إلى أرباب السياسة والحكومة بالشهادة على المخالفين والثائرين عليهم، ويشهدون كذباً وزوراً على محبّي أهل بيت النبوة وشيعة الحق، فلابد له أن يعتذر بعدم اعتماده على البيّنة، وأنّه باجتهاده استنبط من دليل اعتبار البيّنة أنّ مناط حجيتها حصول الإطمئنان بها للنوع غالباً واعتماد العرف عليها؛ فإذا انتفت تلك الخصوصية تنتفي حجيّتها لا محالة، ولاريب أنّه لم يمكن له في مثل ذلك العصر ردّ الشاهد ضد أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم بسبب فسقه العملي والقولي.

على كل، لاريب في أنّ اختلاف آراء القضاة أو القاضي الواحد في القضايا المتشابهة، كاختلاف أهل الفتيا في فتاويهم، أو المفتي الواحد في فتواه في موضوع واحد لاربط له بتغيير الحكم الشرعي، بل الواقع أنّه هو يجتهد ولايرى مثلاً لدليل حجية البيّنة أو الحلف أو غيرهما إطلاقاً يشمل بعض القضايا، وإلّا فلايجوز لأيّ قاضٍ كائناً من كان مع الإعتراف بشمول إطلاق النص وعمومه).

ص: 34


1- أُنظر: الكافي: ج 7 ص 415، وسائل الشيعة: ج 27 (طبع بيروت).

الإمتناع عن القضاء، أو القضاء على خلاف النص.

الأمر الخامس: النبي والإجتهاد

تقدّم أنّ الكاتب قال: إنّ أحكام الرسول صلى الله عليه و آله في مثل هذه الأُمور الجزئية....

إلى آخره، وهذا التصريح منه بأنّ النبي صلى الله عليه و آله كان فيما يأمر به وينهى عنه يعمل بالإجتهاد، وعليه: يجوز وقوعه في الخطأ كسائر المجتهدين، والمسألة خلافية.

والذي نذهب إليه ونؤمن به تنزيه النبي صلى الله عليه و آله عن الخطأ في الشرعيات فيما هو فيه أُسوة للأُمة وغيرها، وهذا واضح للمتدبّر بأدنى تدبّر وتأمل؛ لأنّه إذا كانت سيرة الرسول وسنته القولية والفعلية من مصادر اجتهاد المجتهدين وتفسير الكتاب وبيان مراداته، وإذا كان هو العالم الأول بخصوصه وعمومه، وناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومفاهيم ألفاظه، ومعانيها الحقيقية والمجازية، وكان هو العالم - بتعليم اللّه ووحيه - بموضوعات أحكام اللّه تعالى الكلية وتفاصيلها، ففي ماذا يجتهد وهو العارف بكل ذلك؟

ص: 35

ولو لم يكن عالماً بجميع تفاصيل الأحكام بتعليم اللّه ووحيه يبقى الدين ناقصاً فاقداً للمصادر الكافية لاستنباط جميع الأحكام منها.

اللهم إلّاأن يقال: إنّه يجتهد عند اشتباه الموضوع بغيره مع أنّه مبين للمفهوم عنده، ولكن هذا غير الإجتهاد المصطلح الذي يقوم به الفقهاء والمجتهدون، وهو خارج عما نحن فيه، فالناس كلهم يجتهدون في تشخيص موضوع الحكم عند اشتباهه بغيره، مثل اشتباه مائع بأنّه دم أو ماء، مع أنّ مفهوم الدم الذي هوموضوع الحرمة مبين لا سترة عليه، فتارة يقعون في الخطأ وأُخرى يصيبون الواقع، ولكنّه ليس من اجتهاد الفقيه المصطلح بشيء.

مضافاً إلى أنّ شأن النبي صلى الله عليه و آله أنبل وأجل من ذلك، فهو مصون عن ذلك الخطأ وغيره من الأخطاء، بل ربّما يحطّ مثل هذا الخطأ مع كونه في الموضوع وتطبيقه الخارجي من كرامته صلى الله عليه و آله، وشخصيته الرسولية صلى الله عليه و آله أكثر من خطئه في تبليغ أصل بعض الأحكام، فهو مصون عنه، وهو المؤيّد من عند اللّه تعالى المحفوظ من الخطأ والزلل.

وبالجملة: المجتهد هو الذي يفحص عن أدلّة الأحكام في الكتاب والسنة ويفتي بما ظفر به من الأدلّة بعد النظر في عامها وخاصها و.... وتارة لايظفر بالدليل الخاص مع وجوده فيفتي بعموم العام، أو يظفر بسببٍ آخر. أما النبي صلى الله عليه و آله فهو العالم بالأحكام سواء كانت جزئية أم كلية، فإطلاق المجتهد على النبي دون شأنه الجليل، وكذا أهل بيته الذين هم عِدْل القرآن، فهم معصومون عن الخطأ لأنّهم والقرآن لن يفترقا؛ ولأنّ التمسّك بهم أمان من الضلال، وهم سفينة النجاة، كما وردت بذلك صحاح الفريقين.

ص: 36

نعم لابأس بأن يقال: إنّ النبي صلى الله عليه و آله بعدما نزلت عليه الأحكام الكلية كان يبيّن جزئياتها وتفاصيل ما أوحى اللّه إليه، إلّاأنّه في هذا أيضاً مصون عن الخطأ والإشتباه، وإن قلنا: إنّ إخباره عن هذه الجزئيات بالخصوص ليس مما نزل به جبرئيل على قلبه الطاهر الأقدس، بل هو بيان لجزئياته أو مصاديقه ولكنّه في كل ذلك تحت رعاية اللّه الخاصة، لايخطئ ولايقول إلّابوحي من اللّه تعالى: [ومَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إنْ هُوَ إِلّا وَحيٌ يُوحى](1).

هذا ولايخفى عليك أنّ الدليل على أنّه لايخطئ في موضوعات الأحكام التي تشتبه على غيره هو عين الدليل على عصمته وعدم خطئه في أصل الأحكام.4.

ص: 37


1- النجم: الآية 3-4.

ص: 38

الأمر السادس: الأحكام كليتها وجزئيتها

الأحكام الكلية هي الأحكام المحمولة على الموضوعات الكلية، مثل الصلاة والصوم والحج والبيع والنكاح والرهن. وهكذا تفاصيلها وشرائطها وأجزاؤها من السجود والركوع والقراءة وخيار الغبن وخيار العيب. وكذا موضوعات الأحكام التحريمية مثل الخمر والربا والميسر والغش وإيذاء المؤمن والزنا وغيرها... فالحكم يكتسب كليته من موضوعه.

وأما الأحكام الجزئية فهي ما يتعلق بالجزئيات الخارجية للموضوع الكلي، فالحكم الجزئي جزئي من جزئيات الحكم الكلي، وهذا مثل حرمة شرب هذا الخمر، أو حرمة غصب ملك زيد، أو حرمة الزنا بامرأة معلومة، أو حرمة نكاح هذه المرأة، أو وجوب أداء زكاة هذا المال المعين، أو وجوب صلاة ظهر هذا اليوم، أو وجوب الوضوء لهذه الصلاة، أو خيار الغبن في هذه المعاملة.

ص: 39

ولكن اشتبه الأمر على هذا الكاتب فعدّ نهي النبي صلى الله عليه و آله عن بيع الثمر قبل ظهور صلاحه ونضجه - الذي استقرت عليه فتاوى الفقهاء وبنوا على بطلانه - عدّة من الأحكام الجزئية ولم يتفطّن إلى أنّ الجزئي والكلي متلازمان، لايوجد أحدهما بدون الآخر، فإذا كان هذا الحكم أي بطلان بيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها جزئياً، فما هو إذن الحكم الكلي الذي هذا من جزئياته؟!

وليت شعري كيف يخفى على الذي يكتب في الفقه وفي مثل هذا الموضوع الذي شغل فكر أكثر أهل الثقافة العصرية المغترّين بالأساليب الشرقية والغربية، أنّ الحكم ببطلان هذا البيع والنهي عنه هو من الأحكام والنواهي الكلية التي لاتحصى جزئياتها، مثل بيع هذه الثمرة أو بيع تلك أو بيع هاتيك. (1)ر.

ص: 40


1- راجع آراء الفقهاء وأقوالهم في المسألة وأحاديث هذا الباب في كتاب (الخلاف) للشيخ الطوسي، مسألة 139 و 140 و 141 من كتاب البيوع. وكتاب (المؤتلف من المختلف بين أئمة السلف) مسألة 135 من كتاب البيوع. والموسوعة الفقهية الكبيرة (جواهر الكلام) كتاب التجارة، الفصل الثامن في بيع الثمار.

الأمر السابع: فتاوى السابقين لاحصانة لها

نعم لا حصانة لرأي أحد من السابقين من الصحابة والتابعين فضلاً عن غيرهم، إلّارأي من نص النبي صلى الله عليه و آله على عصمته وحصانة رأيه، وأنّه مع الحق والحق معه يدور حيثما دار، وأنّه مع القرآن والقرآن معه. وكذا رأي الأئمة من العترة النبوية عليهم السلام الذين لايخلو الزمان من واحد منهم؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و آله نصَّ على عصمتهم، فقال في الحديث المتواتر المشهور: «إنِّي تَاركٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْن كتَابَ اللّه وَعِتْرَتي أَهْل بَيْتي إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلّوُا أَبَداً، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَردَا عَلَيَّ الْحَوضَ».

ولم يدع أحدٌ تلك الحصانة والعصمة لأحدٍ من الأُمة إلَّاللأئمة الإثنى عشر عليهم السلام المنصوص عليهم في أحاديث الخلفاء والأئمة الإثني عشر عليهم السلام المتواترة.

ويدل أيضاً على حصانة أقوالهم وآرائهم وأحاديثهم عليهم السلام أحاديث متواترة

ص: 41

أُخرى ليس هنا مجال الإشارة إليها، ذكرنا طائفة منها في كتابنا «أمان الأُمة من الضلال والإختلاف».

وأما غيرهم من الصحابة والتابعين والفقهاء والمجتهدين فلم يدّع أحد لهم ذلك، بل ثبت خلاف العصمة لأكبرهم، ومع ذلك ترى كاتب المقالة يستشهد بأقوالهم، ويستشهد بعمل شريح وبكلامه، وبرأي سعيد بن المسيب، وآراء غيرهما من المجتهدين والصحابة وأعمالهم، ثم يقول: فتاوى السابقين لا حصانة لها.

ص: 42

الأمر الثامن: الآراء والأحكام البشرية

الأحكام السلطانية وإن كانت بشرية غير إلهية، وكانت لا محالة متأخّرة عن الأحكام الإلهية؛ لأنّها لتحقيق إجراء الأحكام الإلهية وتنفيذها، لكن أصل جواز الحكم للحاكم وولايته على إصدار هذه الأحكام وإلزام الآخرين في الموارد التي قرّرها الشارع حكم شرعي، كما أنّ وجوب طاعة الحاكم في أحكامه حكم شرعي أيضاً كما ذكرنا.

وإذا لم يكن الحاكم في هذه الأحكام من المعصومين وأُولي الأمر الذين قرن اللّه إطاعتهم بطاعة الرسول صلى الله عليه و آله - ولو كان من عمّالهم والمنصوبين من قبلهم بالنصب الخاص أو العام - فإنّه يجوز وقوعه في الخطأ والإشتباه، ولكن تجب إطاعته حفظاً للنظام إلّاإذا علم خطؤه، وحينئذٍ فلا يجب على العالم بذلك إطاعته، بل ينبغي في بعض الموارد تنبيهه على خطئه. ومن لايعلم ذلك - وإن احتمله - فيجب عليه إطاعة الحاكم، على تفصيلاتٍ ليس هنا مقام ذكرها.

ص: 43

وهذا نظير تطبيق غير الحاكم الأحكام الشرعية على موضوعاتها الخاصة الخارجية، فتارة يصيب فيها، وتارة يخطئ، وهذا يصيب والآخر يخطئ.. وهذا مبنى قوله صلى الله عليه و آله في خبر أحمد والترمذي وابن ماجة ومسلم: «وإذَا حَاصرْتَ حِصناً فَأَرادوكَ أن تُنْزِلَهُم على حُكْمِ اللّه فلاتُنْزِلْهُم على حُكْمِ اللّه، ولكنْ أَنْزِلْهُم على حُكْمِكَ فإنَّك لاتَدْري أتصيبُ حكَم اللّهِ فِيهم أم لا»(1) فإنّ المراد منه - واللّه أعلم - أنّ إنزالهم على حكم اللّه لابد وأن يكون بما هو حكم اللّه برأيه، وحيث يمكن أن لايكون في رأيه مصيباً حكم اللّه تعالى يمكن أن ينزلهم على غير ما شرط لهم، وهو حكم اللّه الواقعي. وأما لو شرط عليهم إنزالهم على حكمه فإنّه وإن أنزلهم على ما هو حكم اللّه برأيه لكن إن لم يصب حكم اللّه لم يتخلّف عن الشرط، مضافاً إلى أنّه بذلك يسدّ باب مناقشتهم إياه بأنّك ما أنزلتنا على حكم اللّه تعالى. وهذه الرواية صريحة بصحة القول بالتخطئة وبطلان التصويب.0.

ص: 44


1- أُنظر: مسند أحمد: ج 5 ص 358؛ سنن الترمذي: ج 3 ص 86؛ سنن ابن ماجه: ج 2 ص 954؛ كتاب مسلم: ج 5 ص 140.

الأمر التاسع: باب الإجتهاد مفتوح للجميع إلى يوم القيامة

من الأخطاء الكبيرة القول بسدّ باب الإجتهاد وحصر المذاهب الفقهية في الأربعة المعروفة، وإلزام العامي بتقليد أحد أرباب هذه المذاهب، وإلزام المجتهد أن يكون مجتهداً في الفقه المنسوب إلى واحد منهم، فيسلبونه بذلك حرية التفكير والإجتهاد الحر، والنظر في الأدلّة من الكتاب والسنة، والإفتاء بما يؤدي إليه نظره وإن خالف جميع المذاهب، كما يسلبون بذلك العامي حريته في التقليد، فلايجوّزون له تقليد مجتهد إذا خالف رأيه في المسألة رأي فقهاء هذه المذاهب، وإن كان موافقاً لرأي كثير من الصحابة والتابعين، والفقهاء الذين كانوا قبل هذه المذاهب الأربعة!

لقد جعلوا هذه الأُمة بذلك شيَعاً مختلفين متفرقين، وأحدثوا بهذه البدعة فتن الطوائف الشافعية والحنابلة والأحناف والمالكية، التي تسبّبت في حدوث حروب دامية بينهم، لا يتسع المجال لذكر بعضها.

ص: 45

وليت شعري مامرادهم بأنّ فلاناً مجتهد حنفي أو شافعي، أو أو....؟ فإن كان مرادهم أنّه مجتهد في فقه فلان وأنّه يعرف آراءه وفتاواه من النظر في كلماته فلا يخلو إما أن يقدر هو بنفسه على استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة فهو مجتهد والحجة له، ولمن يأخذ بفتواه اجتهاده الشخصي لا اجتهاد الشافعي مثلاً، فهو مجتهد مثل الشافعي، مستقل بآرائه وفتاواه، وإن خالف فيها سائر الفقهاء.

وإن كان لايتمكّن من الإجتهاد فهو عامي يجب عليه تقليد المجتهد الجامع لشرائط التقليد والإفتاء كائناً من كان، أو عليه الإحتياط في الفروع.

لقد خسرت الأُمة الإسلامية بسبب قول إخواننا السنيين بسدّ باب الإجتهاد آراء علمية دقيقة، وفتاوى هامة مفيدة، كان بإمكانهم أن يستنبطوها من الكتاب والسنة بحرية تفكيرهم، لولا هذه المقولة التي جعلوها ديناً يدان به، بينما نرى مذهب الإمامية شيعة أهل البيت عليهم السلام ما زال ببركة فتح باب الإجتهاد والبحث الحر في الكتاب والسنة ينمو فقهه ويزداد قوةً وعمقاً وسعةً، وما زال يظهر منهم في كل عصر فقهاء كبار ينتقدون آراء الفقهاء الماضين، ويصلون بالتعمّق في الكتاب والسنة إلى ما لم يصل إليه المتقدّمون.

والذي يسهل الخطب أنّه بفضل جهود جمع من أكابر فقهاء إخواننا السنة، وإدراكهم عمق الخسارة التي تسبّب فيها سدّ باب الإجتهاد، قد تزلزل هذا البناء الذي بُني لأغراض سياسية، وسيأتي زمان إن شاء اللّه تعالى لاترى بفضل جهود المصلحين المخلصين هذا التفرّق المذهبي، ولايبقى من العلماء المجتهدين من ينسب نفسه إلى الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة أو أحمد، بل يتبع اجتهاده

ص: 46

واستنباطه هو؛ لأنّه لم تدل آية ولا رواية على أنّهم أولى من غيرهم ممن يأتي بعدهم، وأنّ اجتهادهم أقوى من اجتهاد مجتهدي عصرنا، فهم واجتهادهم ونحن واجتهادنا، والباحث يعرف قصة هذا الحصر في الإجتهاد الذي لم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه و آله ولا في عصر الصحابة، إلّاأنّ أرباب السياسة خافوا أن يؤدي فتح باب الإجتهاد إلى ظهور شخصيات علمية مرموقة، فلايكون لهم بدّ من الخضوع لفقههم وآرائهم وزعامتهم الدينية، الأمر الذي يتعارض مع سلطتهم الإستبدادية، وأنظمتهم الكسروية والقيصرية، لأنّ العلماء إذا ملكوا القلوب يقومون بواجبهم، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر والظلم والإستبداد والإستعباد.

وهؤلاء علماء الإمامية بفضل نعمة فتح باب الإجتهاد، ومايترتّب عليه من وجود مرجعية دينية نافذة القول في قلوب الناس، ترى منهم رجالاً في كل عصر يحرسون الاسلام ويُبَلِّغون رسالته، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقفون في وجه ظلم الحُكّام والأُمراء، وربما ثاروا على المستكبرين الجبارين، وبذلك يؤكدون على أنّ الدين هو العقيدة والسياسة والنظام والقضاء والعبادة والأخلاق، وأنّه يجب أن يكون رجالات الدين رجالات السياسة والإدارة والحكومة، لاتنفصل الأُولى عن الثانية، بل السياسة من الدين داخلة فيه دخول الجزء في الكل، فالحكومة الشرعية الرشيدة هي الحكومة التي يتولّاها الفقيه مباشرة أو يكون تحت رعايته وإرشاده وأمره ونهيه.

هذا وقد عرفت أنّ فقهاء الشيعة مع قولهم بفتح باب الإجتهاد اتفقوا خلفاً عن سلف على ثبات أحكام اللّه تعالى، ولايجوّزون تغيير أي حكم من أحكام اللّه تعالى لأحد حتى لأئمتهم الذين يقولون بعصمتهم، ومع أنّ فقهاء الإمامية لايقولون بالرأي والقياس بل يفتون بالكتاب والسنة في المسائل المستحدثة

ص: 47

كغيرها، ويرون أن ما أدّى إليه اجتهادهم حكم اللّه تعالى الذي لايتغير أبداً، إلّاأن ينكشف خطؤهم في إصابته.

ص: 48

الأمر العاشر: الأحكام الحكومية

تقدّمت الإشارة إلى أنّ الأحكام الحكومية التي هي من أجل ضمان تطبيق الأحكام الإلهية تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة حتى لو كانت من حاكم واحد، فيوماً يرى إرسال الجيش إلى شرق الدولة مثلاً، وفي زمان يرى تسييرها إلى غربها، وفي زمان آخر يطلب من الناس أن لايسافروا إلى بلاد الكفر مثلاً، وفي وقت يطلب منهم السفر إليها تحصيلاً لغرض خاص.

فهذه الأحكام طبيعتها عدم الثبات، بخلاف أحكام المعاملات ونظائرها، فإنّ قوانينها وأحكامها ثابتة لاتقبل التغيير.

والذي اخترناه في الفقه، بدلالة تقصِّي بعض الأحاديث المروية عن طريق العترة الطاهرة، أنّ الأحكام إذا كانت نبوية صادرة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وكان النص الدال عليها مطلقاً لايخصها بزمان خاص أو ظرف خاص، فلايجوز رفع

ص: 49

اليد عنها بالإجتهاد، وحملها على أنّها أحكام حكومية، فمثلاً: نصٌّهُ صلى الله عليه و آله على أنّ «مَنْ أَحْيَا أرضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ»(1) وإن قلنا: إنّ المستفاد منه ليس الحكم بسببية الإحياء للملكية، وجواز التملّك بالإحياء، بل هو إذن منه في الإحياء والإنتفاع من الأرض، لكن مع ذلك لايجوز لأحد ممن يلي الأمر بعده رفع هذا الأمر وهذا الإذن ومنع الناس عن إحياء الأرض الموات، أو جعله مشروطاً بشرط.

ولذلك نقم المسلمون فيما نقموا على عثمان أنّه آوى الحَكَم بن العاص وردّه إلى المدينة، وأعطاه مائة ألف بعدما كان منفياً في حياة النبي صلى الله عليه و آله وفي زمان أبي بكر وعمر، وقد سألهما إدخاله المدينة فامتنعا عن الإذن له وقال أبو بكر: هيهات هيهات أن أُغيّر شيئاً فعله رسول اللّه واللّه لا رددته أبداً. وقال عمر: ويحك يا عثمان! تتكلّم في لعين رسول اللّه وطَرِيِده وَعَدُوِّ اللّه وعدوّ رسوله!3.

ص: 50


1- الكافي: ج 5 ص 280؛ وسائل الشيعة: ج 25 ص 413.

الأمر الحادي عشر: بعض الأمثلة في الفتاوى والأحكام الإلهيّة

في الأمثلة التي مثّل بها الكاتب خلط أيضاً بين الأحكام الإلهية وفتاوى الفقهاء التي ليست مصونة من التغيير وليس ذلك بسبب أنّ الحكم الذي أفتى به المفتي يتغيّر فتتغيّر الفتوى بتغيّره؛ فإنّ المفتي إذا أفتى بحسب ما أدى نظره إليه يرى مؤدى نظره حكماً شرعياً لايقبل التغيير، وعندما يرجع عنه لايرجع بسبب تغيّر الحكم الشرعي الذي استنبطه بل لأنّه ليس مصوناً من عدم إصابة حكم اللّه تعالى، فربّما مخطئ في فتواه ثم يظهر له خطؤه فيرجع عن فتواه، ورجوع المجتهدين عن رأيه إلى رأي جديد ليس بعزيز.

فلايقاس الحكم الشرعي الثابت المصون عن التغيير بفتوى المجتهد الذي ليس مصوناً من الإشتباه والخطأ.

وبعض الأمثلة التي ذكرها الكاتب ليس من تغيير الفتوى أيضاً بشيء بل هي

ص: 51

أشبه بالإجتهاد في مقابل النص ورد النص بالتأويل:

قال في مسألة كون المرأة ناخبة أو نائبة «فقد صدرت مثلاً فتوى في النصف الأول من هذا القرن بعدم السماح للمرأة أن تكون ناخبة أو نائبة، وتجاوز الزمن هذه الفتوى كما تجاوزتها الفتوى البصيرة من العلماء الآن إذ لم يقرّوا الدليل الذي استند عليه المانعون، ونظروا إليه من وجهة نظر أُخرى، فوق أن المرأة تعلّمت وقطعت أشواطاً في العلم كالرجل، وكذلك في الوظائف، وبرز الكثير في عملهنّ وتخصّصهنّ فلم يعد من المستساغ باسم الدين منعهنّ من إبداء الرأي في الإنتخابات أو المجالس التشريعية أو الأعمال الإدارية بينما نعطيه الرجل الأُمي، على أن لكل بلد وضعاً يراعيه المفتون في فتاواهم قد لايوجد في بلد آخر» إلى آخره.

ونحن لانريد الكلام والبحث في المسألة هنا لإبداء رأينا الفقهي، ولكن حيث ندرك خطر المسار الخارج على الأحكام الشرعية الذي يسيّره مثل هذا الكاتب، لانخفي أسفنا الشديد على هذه المواجهة الهدّامة مع نصوص من الكتاب والسنة وإجماع الأئمة والأُمة! فكأنّه يرى أنّ لكل أحد أن ينظر إلى النصوص والأدلّة بأيّ وجهة شاء، ولو انتهت وجهته إلى ترك النصوص، فلا معيار ولا ميزان للنظر في النصوص والإستنباط منها!

وكأنّه ظن أنّ الشارع الحكيم العالم بالمغيّبات الذي أرسل رسوله الخاتم بالدين الذي ختم به الأديان، وشرائع الأحكام التي ختم بها الشرائع، لم يكن عالماً بأنّ المرأة سوف تقطع أشواطاً في العلم.

وكأنّه زعم أن ما جاء في الكتاب والسنة من الأحكام المختصة بالنساء أو

ص: 52

الرجال مختص بعصر الرسول صلى الله عليه و آله وعصور لم تتقدّم فيها المرأة التقدّم الذي وصفه! فقوله تعالى: [الرِّجَالُ قَواَّمُونَ عَلى النِّسَاء](1) ، وقول نبيه صلى الله عليه و آله: «لَنْ يفلح أمر قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة» وغيرهما من النصوص ساقطة - والعياذ باللّه - عن الإعتماد والإستناد إليها!

أو لم يكن في عصر الرسالة من النساء من كانت أبصر وأحذق في الأُمور من كثير من الرجال؟ ألم تتولَّ في إيران السلطنة والملك امرأة من بني ساسان، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيها: «لَنْ يُفْلح قومٌ أسندوا أمرهم إلى امرأة»(2).

هذا مضافاً إلى أنّ الرجال كانوا إلّاالقليل منهم كالنساء في الأُمية، فلو كانت علّة بعض الفروق الشرعية بين المرأة والرجل أُمية النساء كان اللازم جعل ذلك اللأُميّين وغيرهم رجالاً ونساءاً.

فاتضح بذلك أنّ حكمة الفرق في بعض الأحكام بين الرجال والنساء ليست ما زعمه الكاتب من أُمّية النساء في عصر الرسالة وتأخّرهن عن الرجال في بعض الكفاءات.

وقد ظهر مما ذكرناه أنّه لايجوز للمؤمن بالدين الحنيف وخاتميته وبقاء أحكامه إلى آخر الدهر مواجهة النصوص، وردها بهذه المحامل الفاسدة التي لو فتح بابها لايبقى نص ولاحكم في مأمن منها، بل تكون كل الأحكام والقوانين المالية والسياسية والإجتماعية والشخصية معرضاً للتغيير والتبديل المستمر.5.

ص: 53


1- النساء: الآية 34.
2- تحف العقول: 35.

فيمكن أن يقال مثلاً: إنّ الطلاق إنّما جعل بيد الرجل دون المرأة حينما كانت المرأة تعيش عيشة الأُمّية، ولاتعرف شيئاً عن حقوقها الإنسانية إلّاأن تكون خادمة للزوج والبيت حاضنةً للطفل، وأما في عصر تتنافس النساء مع الرجال في العلوم والفنون، وظهور المرأة أكثر حذقة من الرجال في تدبير المجتمع والدولة، فكيف نسمح أن يكون أمر الطلاق بيد الرجل يطلّق امرأته في أيّ زمان شاء، ولايكون للمرأة ذلك؟!

وهكذا يقال: «لاغفر اللّه لقائله» في العدّة وغيرها حتى تكون النتيجة، أن يأتي هؤلاء الذين يعدّون أنفسهم من أهل التنوُّر والثقافة بشرعٍ جديد، وفقهٍ حديث هو أبعد عن فقه ديننا الحنيف، وشرعه القويم، الذي جاء به رسولنا النبي الكريم صلى الله عليه و آله، من المشرق عن المغرب؛ لأنّه فقه يحلّل الربا المحرّم ويسمِّيه استثماراً وفائدة، ويحلّل سائر المحرّمات ويسمّيها بأسماء أُخر، أو يبقيها على أسمائها!

أعاذنا اللّه وجميع المسلمين وأحكام دينه المبين من هذا الفقه الخارج عن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، الفقه الغربي الأمريكي الذي يؤيّده وينشره ويدعو إليه فقهاء الأنظمة العميلة.

ولاحول ولاقوّة إلّاباللّه العلي العظيم، وصلى اللّه

على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

لطف اللّه الصافي

25 ذي الحجة 1410 ه - لندن

ص: 54

مسألة التعصيب

اشارة

ص: 55

ص: 56

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله وحبيبه وصفيه خير خلقه سيّدنا أبي القاسم محمد وآله الطاهرين.

وبعدُ، فقد طالعت كلمة فضيلة شيخ الأزهر الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق - ألهمنا اللّه تعالى وإياه الخير والصواب - التي نشرتها جريدة الأهرام المصرية الصادرة بتاريخ 27-1-89 حول مطالبة الأُستاذ أحمد بهاء الدين المالكي مراجعة الفقه الشيعي في باب المواريث، وهو منع العَصَبة من إرث باقي التركة وردُّ ما بقي على أصحاب الفروض كالبنت والبنات، طالباً إعادةَ النظر في المسألة وملاحظة أدلّة القائلين بعدم إرث العصبة وردِّ ما بقي إلى أصحاب الفروض وأدلّة القائلين بإرث العصبة، والأخذ برأي الذي أدلّته من الكتاب والسنة أقوى من الآخر، وأنّه لاينبغي الإعراض عن رأي انفرد به تلامذة مدرسة أهل البيت عليهم السلام لأنّه رأي شيعي، فالْحَريُّ بالمجتهد أن يكون حُرّاً في اجتهاده لاينظر إلى الأدلّة ليصل إلى مذهب فقهي معين، بل ينظر فيها ليصل إلى ما تنتهي الأدلّة إليه، ولايختار رأياً إلّابعد ملاحظة أدلّة آراء الفقهاء والغور فيها، ومقارنة بعضها مع بعض، سواء انتهى اجتهاده إلى ما يوافق الفقه الشيعي أو السني.

ص: 57

والبحث كله يجري في أنّ أي المذهبين في الموضوع معتمد على نصوص الكتاب والسنة وأيّهما خرج عنهما.

قال الشيخ جاد الحق: والواضح من نصوص القرآن الكريم في آيات المواريث، ومن نصوص السنة الشريفة التي وثّقها جمهور المحدّثين إنّ ما انفرد به فقه المذهب الشيعي الإمامي في هذا الموضوع وغيره خروج على نصوص القرآن والسنة الصحيحة فضلاً عن عمل الصحابة. إنتهى.

ومن الواضح: أنّ هذا كلام معارض بمثله من الشيعة وهو: أنّ ما انفرد به فقه المذهب السني في القول بالتعصيب واستحقاق العصبة ما بقي من السهام المقدّرة وغيره خروج على نصوص القرآن العزيز والسنة الشريفة، ومستلزم في الموضوع للآراء الفاسدة التي لايقبلها العقل والعرف، وينزّه الدين الحنيف منها.

عيد سعيد عيد سعيد

ص: 58

ما يستدل لإثباته في الفقه السني أو الشيعي

الذي يستدلّ لإثباته في الفقه السني أمران:

أحدهما: أنّ رد ما بقي من السهام إلى أرباب الفروض خروج على النصوص.

وثانيهما: أنّ التعصيب والقول باستحقاق العصبة ما بقي من السهام مأخوذ من النصوص كتاباً و سنةً.

والذي يستدلّ لإثباته في الفقه الشيعي أمران أيضاً:

الأول: أنّ القول بالتعصيب خروج على النصوص.

والثاني: أنّ القول بردّ ما بقي إلى أقرباء الميت من ذوي الفروض مأخوذ من الكتاب والسنة.

ونحن نتكلّم في كل واحد من هذه الأُمور الأربعة من غير تعصّب لمذهب دون آخر إن شاء اللّه تعالى.

ص: 59

هل ردّ ما بقي من السهام إلى أرباب الفروض خروج على النصوص؟

والجواب: أما النصوص القرآنية، فاعلم أنّ المقطوع به من دلالة آيات الفرائض عليه أنّ لأربابها الفرائض المقدرة، فإذا لم ينقص المال عن السهام المفروضة يرثونها بالفرض أما إنّهم إذا بقي من السهام شيء يرثونه أم لايرثونه؟ فلا دلالة لهذه الآيات عليه، فكما لا دلالة لهذه الآيات على أنّ ما بقي للعصبة والأولى من الذكور دون الأُنثى، لادلالة لها على حرمان أرباب الفرائض عما بقي إذا زاد المال عن السهام، والحكم على الفقه الشيعي بخروجه على النصوص القرآنية موقوف على استظهار حصر نصيب البنت أو البنات وسائر أرباب الفروض في السهام المقدّرة، وحرمانهم عمّا بقي من آيات المواريث بالإستظهار العُرفي المعتبر المفقود في الموضوع، لأنّ هذا الإستظهار مبني على الأخذ بمفهوم اللقب المعلوم عدم اعتباره، قال الغزالي في درجات دليل الخطاب: الأُولى - وهي أبعدها -: وقد أقر ببطلانها كل محصل من القائلين بالمفهوم وهو مفهوم اللقب كتخصيص الأشياء الستة في الربا(1).

وعلى هذا لا نص من القرآن على حصر نصيب أرباب الفروض فيها، وحرمانهم عمّا بقي حتى يكون القول برده إليهم خروجاً عليه.

وأما النصّ في السنّة الشريفة:

فالذي يستدلّ به على خروج القول بردّ ما بقي إلى أرباب الفروض خروجاً6.

ص: 60


1- المستصفى: ج 2، ص 46.

عليه هو عين ما يستدلّ به في الفقه السني على استحقاق العصبة ما بقي من المال وهو خبران:

الخبر الأول: ما رووه عن طاووس مرسلاً عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعن ابن عباس مسنداً بألفاظ مختلفة.

ويناقش فيه أوّلاً: بضعفه؛ لإرساله في بعض طرقه كما في الترمذي، واختلاف الطرق في لفظ الحديث، ففي بعضها: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر) وفي بعضها: (أقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب اللّه فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر).

ويدلّ ذلك على عدم ضبط الخبر سنداً ومتناً، وعلى وقوع الإشتباه إما في الطريق المرسل بوقوع النقص فيه أو الزيادة في الطرق المسندة، ولاترجيح لأحدهما على الآخر، ولايرجّح الطريق المسند على المرسل، لتقدّم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة، لعدم تقدّم الأصل الأولي على الثاني مطلقاً، سيما إذا كان الطريق الذي يجري فيه أصالة عدم النقيصة أضبط وأحفظ، وتمام الكلام في ذلك يطلب من كتب أُصول الفقه.

وثانياً: بضعفه؛ لأنّ راويه عبداللّه بن طاووس مجروح بأنّه كان على خاتم سليمان بن عبد الملك الأُموي المرواني، قاتل أبي هاشم عبد اللّه بن محمد بن علي (ابن الحنفية) بالسمّ ظُلماً وخداعاً، وكان ابن طاووس كما هو شأن كل من يوالي بني امية كثير الحمل على أهل البيت عليهم السلام(1).8.

ص: 61


1- العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل: ص 103-104، الكامل لابن الأثير:، ج 5، ص 44، تهذيب التهذيب: ج 5 ص 268.

وثالثاً: روي عن ابن عباس وطاووس والد عبد اللّه تكذيبه، وتبرّؤهما من هذا الخبر، روى ذلك أبو طالب الأنباري قال: حدثنا محمد بن أحمد البربري، قال: حدثنا بشر بن هارون، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثني سفيان، عن أبي إسحاق، عن قارية بن مضرب قال: جلست عند ابن عباس وهو بمكة فقلت: يابن عباس، حديث يرويه أهل العراق عنك وطاووس مولاك يرويه: أنّ ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر؟ قال: أمن أهل العراق أنت؟ قلت: نعم، قال: أبلغ من وراءك أنّي أقول: إنّ قول اللّه عزوجل: [آباؤكم وأبناؤكم لاتدرون أيّهم أقرب لكم نفعا فريضة من اللّه](1) وقوله: [وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه](2) وهل هذه إلّافريضتان، وهل أبقتا شيئاً؟ ما قلت هذا، ولاطاووس يرويه علَيَّ، قال: قارية بن مضرب: فلقيت طاووس فقال: لا واللّه ما رويت هذا على ابن عباس قط، وإنّما الشيطان ألقاه على ألسنتهم، قال سفيان:

أراه من ابنه عبد اللّه بن طاووس، فإنّه كان على خاتم سليمان بن عبد الملك، وكان يحمل على هؤلاء القوم حملاً شديداً، يعني: بني هاشم(3).

ورابعاً: بضعفه؛ من جهة دلالته، وأنّه لايثبت به ضابطة عامة أو نظام جامع كلِّي، فمن أين ذهبتم إلى إرادة العموم من لفظي (المال) و (الفرائض) فلعلّه صلى الله عليه و آله أمر بذلك في مورد خاص، وواقعة خاصة، وأراد بالمال ما كان معهوداً بين7.

ص: 62


1- النساء: الآية 11.
2- الأنفال: الآية 75؛ الأحزاب: الآية 6.
3- تهذيب التهذيب: ج 5 ص 268، تهذيب الأحكام: ج 9، ص 262، الخلاف للطوسي: ج 2، ص 67.

المتكلم والمخاطب: أي مال ميت خاص، وبالفرائض أيضاً: فرائض أهلها في مورد خاص، خفي علينا وطرأ عليه الإجمال لتقطيع الخبر، وحذف السبب الذي اقتضى صدور هذا الكلام، وكم لذلك من نظير من الأحاديث، ويؤيّد ذلك وأنّ الخبر ليس على ظاهره، إجماعهم على ترك الأخذ بظاهره في موارد كثيرة(1).

هذا، ومن تأمل في ما ذكر من العلل يعرف أنّ ترك مثل هذا الخبر بها ليس من الخروج على السنة بشيء، وإلّا فليعدَّ كل من ترك خبراً لعلّة من العلل خارجاً على السنة، وسواء قَبِلَ القائل بالتعصيب سقوط هذا الخبر عن الإعتبار، أم لم يقبل فهو معارض بالأخبار الصحيحة المخرّجة في الصحيحين وغيرها، وبالنصوص القرآنية كما سنبيّنه إن شاء اللّه تعالى.

الخبر الثاني: خبر جابر بن عبد اللّه الأنصاري رضي اللّه عنهما.

ففي الترمذي: في باب ما جاء في ميراث البنات: حدثنا عبد بن حميد، حدثني زكريا بن عدي، أخبرنا عبيداللّه بن عمرو، عن عبد اللّه بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبداللّه قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه، هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أُحد شهيداً، وإنّ عمّهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولاتنكحان إلّاولهما مال، قال: «يقضي اللّه في ذلك، فنزلت آية الميراث، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى عمّهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أُمّهما الثمن، وما بقي فهو لك»(2).0.

ص: 63


1- يراجع في ذلك: تهذيب الأحكام: ج 9 ص 263، 264، وكتب فقه المذاهب السنية.
2- سنن الترمذي: ج 3 ص 280.

وأخرجه أحمد في مسنده، وأخرج نحوه ابن ماجة في باب فرائض الصلب قال: حدثنا محمد بن عمرو العدني، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد اللّه بن محمد بن عقيل، عن جابر.

وأخرجه أبو داود بسنده عن عبد اللّه في باب ما جاء في الصلب وساق نحوه.

والإحتجاج به ضعيف لأُمور:

الأول: لأنّه معارض بغيره من الأخبار الواردة في سبب نزول الآية أيضاً عن جابر.

قال السيوطي: أخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه من طرق، عن جابر بن عبداللّه قال: عادني رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأبوبكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلى الله عليه و آله لاأعقل شيئاً، فدعا بماء فتوضّأ منه ثم رشّ علَيَّ فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول اللّه، فنزلت: [يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظّ الأُنثيين](1).

وأخرج عبد بن حميد والحاكم عن جابر قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يعودني وأنا مريض، فقلت: كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد علَيَّ شيئاً ونزلت:

[يوصيكم اللّه في أولادكم] (2) .

الثاني: لضعف سنده؛ لأنّ راويه عبد اللّه بن محمد بن عقيل، وهو وإن وصفه5.

ص: 64


1- النساء: الآية 11.
2- الدر المنثور: ج 2، ص 124-125.

ابن حبّان بأنّه من سادات المسلمين وفقهاء أهل البيت وقرّاءهم، إلّاأنّهم لايحتجون بروايته، وضعّفوه وقالوا بوجوب مجانبة أخباره، ورموه برداءة الحفظ(1) والراوي عنه في مسند الترمذي والمسند عبيد اللّه بن عمرو، وهو مرميّ بأنّه كان أخطأ(2) ، والراوي عنه وهو زكريا بن عدي، قال أبو نعيم فيه: ماله وللحديث هو بالتوراة أعلم، وكان أبوه يهودياً فأسلم(3).

ومحمد بن أبي عمرو الواقع في سند ابن ماجة هو محمد بن يحيى بن أبي عمرو العدني المكي، قال أبو حاتم: كان به غفلة، ورأيت عنده حديثاً موضوعاً حدث به عن ابن عيينة(4).

الثالث: لأنّه أخرج أبو داود الحديث بلفظٍ آخر قال: حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضّل(5) حدثنا عبد اللّه بن محمد بن عقيل بن جابر، عن عبداللّه قال:

خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواق فجاءت المرأة باثنتين، فقالت: يا رسول اللّه، هاتان بنتا ثابت بن قيس قتل معك يوم أُحد، وقد استفاء عمّهما مالهما وميراثهما كله، فلم يدع لهما مالاً إلّاأخذه، فما ترى يا رسول اللّه؟ فواللّه لاتنكحان أبداً إلّاولهما مال، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:ة.

ص: 65


1- المجروحين من المحدّثين: ج 2 ص 41، الجرح والتعديل: ج 2 ص 154، تهذيب التهذيب: ج 6، ص 13-15.
2- تذكرة الحفّاظ: ج 1، ص 241.
3- تهذيب التهذيب: ج 3، ص 331، تذكرة الحفّاظ: ج 1، ص 396.
4- الجرح والتعديل: ج 4 القسم الأول ص 124 و 125 الرقم 560.
5- بشر بن المفضّل كان عثمانياً، أي منحرفاً عن علي عليه السلام، فوصفوه بأنّه صاحب السنة.

«يقضي اللّه في ذلك»، قال ونزلت سورة النساء: [يوصيكم اللّه في أولادكم]... (1) الآية، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «ادعو لي المرأة وصاحبها، فقال لعمّهما: أعطهما الثلثين، وأعط أُمّهما الثمن، وما بقي فلك»، فقال أبو داود:

أخطأ فيه، هما بنتا سعد بن الربيع، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة(2).

وهذا الخبر كما ترى مخالف لفظاً ومدلولاً لما رواه الترمذي والمسند وابن ماجة وأبو داود في طريقه الآخر، ولاريب أنّه لايحتج به؛ لأنّ ثابت بن قيس - كما ذكره ابن داود وغيره - كان حيّاً إلى واقعة اليمامة، وقتل في هذه الواقعة، إلّا أنّه حيث إنّ الأقرب أنّ الذي وقع في هذا الغلط والإشتباه هو عبد اللّه الذي وصفوه برداءة الحفظ يكون هذا الخبر أيضاً شاهداً على ذلك، وسقوط روايته عن الإعتبار.

وبعد ذلك كله هذا الخبر لايصلح للإحتجاج به؛ لأنّه أيضاً معارض بغيره مثل خبر سعد بن أبي وقاص الذي سنذكره إن شاء اللّه تعالى.

ما هو الدليل من الكتاب والسنة على القول بالتعصيب؟

قد علم مما ذكرناه أنّه ليس هنا نص من القرآن الكريم يدلّ على حرمان أرباب الفرائض عما بقي منها، وحصر نصيبهم في السهام المقدّرة، فضلاً من أن يدلّ على استحقاق العصبة له.4.

ص: 66


1- النساء: الآية 11.
2- سنن أبي داود: ج 2 ص 4.

وأما السنّة الشريفة فما تعلّقوا به كما عرفت هو خبر ابن طاووس وجابر بن عبد اللّه، وقد تبيّن لك حال خبريهما وأنّهما لايصلحان للإحتجاج بهما.

ما يترتّب على القول بالتعصيب من الآراء الفاسدة:

بعدما عرفت من عدم وجود نص قرآني على صحة القول بالتعصيب، وضعف ما تعلّقوا به من السنة سنداً ودلالة، فاعلم أنّه يضعف هذا القول بما يترتّب عليه من الأقوال الباطلة:

منها: أنّهم الزموا أن يكون الولد الذكر للصلب أضعف سبباً من ابن ابن ابن عم، بأن قيل لهم: إذا قدّرنا أنّ رجلاً مات وخلّف ثمانية وعشرين بنتاً وابناً، كيف يقسّم المال؟ فمن قول الكل: إن لِلْابنِ سهمين من ثلاثين سهماً ولكل واحدة من البنات جزء من الثلاثين، وهذا بلا خلاف، فقيل لهم: فلو كان بدل الابن، ابن ابن ابن العم؟ فقالوا: لابن ابن ابن العم عشرة أسهم من ثلاثين سهماً وعشرين سهماً بين الثمانية والعشرين بنتاً، وهذا على ماترى تفضيل للبعيد على الولد الصلب، وفي ذلك خروج عن العرف والشريعة(1).ب.

ص: 67


1- من جهة زيادة نصيب ابن ابن ابن العم إذا كان مع البنات على نصيب الولد الصلب، ومن جهة زيادة نصيب ابن ابن ابن العم إذا كان مع البنات على نصيب الابن إذا كان معهن، والمثال الآخر لذلك إذا كان له خمس بنات وابن فللابن سهمان من سبعة أسهم، ولكل من البنات سهم واحد، وإذا كان له خمس بنات وابن عم فلكل من البنات سهمان من خمسة عشر، ولابن العم خمسة أسهم، وفي كل ذلك تفضيل للبعيد على القريب.

وترك لقوله تعالى: [وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه](1).

ثم قيل لهم: فما تقولون إن ترك هذا الميت هؤلاء البنات ومعهم بنت ابن، فقالوا: للبنات ثلثان وما بقي فللعصبة، وليس لبنت الابن شيء: لأنّ البنات قد استكملن الثلثين، فإذا استكملن فلاشيء لهنّ، قيل لهم: فإنّ المسألة على حالها إلّا أنّه كان مع بنت الابن ابن ابن، قالوا: للبنات ثلثان وما بقي فبين ابن الابن وابنة الابن، للذكر مثل حظّ الأُنثيين، قلنا لهم: فقد نقضتم أصلكم وخالفتم حديثكم، فلم لاتجعلون ما بقي للعصبة في هذه المسألة كما جعلتموه في التي قبلها؟ ولِمَ لم تأخذوا في هذه المسألة بالخبر الذي رويتموه فتعطوا ابن الابن، ولاتعطون ابنة الابن شيئاً، في أيّ كتاب أو سنّة وجدتم أنّ بنات الابن إذا لم يكن معهنّ أخوهنّ لايرثن شيئاً، فإذا حضر أخوهنّ ورثن بسبب أخيهن الميراث؟(2) القول بالتعصيب خروج على النصوص القرآنية:

إعلم أنّه يستدل على بطلان القول بالتعصيب بخروجه على النصوص القرآنية المبيّنة لأنظمة المواريث وقواعدها المحكمة.

منها: قوله تعالى: [للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ممّا قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً](3).7.

ص: 68


1- الأنفال: الآية 75؛ الأحزاب: الآية 6.
2- تهذيب الأحكام: ج 9، ص 265-266.
3- النساء: الآية 7.

قد أبطل اللّه تعالى بهذه الآية النظام الجاهلي المبني على توريث الرجال دون النساء مثل توريث الابن دون البنت، وتوريث الأخ دون الأُخت، وتوريث العم دون العمة، وابن العم دون بنته، فقرر بها مشاركة النساء مع الرجال في الإرث إذا كنّ معهم في القرابة في مرتبة واحدة، كالابن والبنت والأخ والأُخت، وابن الابن وبنته والعم والعمة وغيرهم، فلايوجد في الشرع مورد تكون المرأة مع المرء في درجة واحدة إلّاوهي ترث من الميت بحكم هذه الآية الكريمة.

والآية صريحة ونص على إبطال النظام الجاهلي المذكور، وإعطاء النظام الإلهي المبني على توريث أهل طبقة واحدة، كما أنّها صريحة في توريث الرجال مع النساء، فكما أنّ القول بحرمان الرجال الذين هم في طبقة واحدة نقض لهذه الضابطة المحكمة الشريفة، كذلك القول بحرمان النساء أيضاً والحال هذا نقض لهذه الضابطة القرآنية.

ومثل هذا النظام الذي تجلى فيه اعتناء الإسلام بشأن المرأة، ورفع مستواها في الحقوق المالية كسائر حقوقها، يقتضي أن يكون عاماً لايقبل التخصيص والإستثناء إلّاإذا كان وجهه ظاهراً بنظر العُرف لايعد عنده نقض القاعدة المقررة، كما هو كذلك (أي نقض للقاعدة) على القول بالتعصيب.

فالفرق واضح بين إخراج الوارث الكافر أو القاتل من تحت العمومات بالتخصيص، وإخراج العمة إذا كانت مع العم عن إرث ابن الأخ بالتعصيب، وكذا إخراج بنت العم إذا كانت مع ابن العم، والحكم بحرمانها عما بقي من الفرائض، واختصاص ما بقي بابن العم، فإنّ في الأول تخصيص عمومات الإرث بالوارث الكافر والقاتل، تخصيص عرفي يحمل به العام على الخاص تحكيماً للأظهر

ص: 69

على الظاهر، فإخراج الولد القاتل عن عموم قوله تعالى: [للرجال نصيب]الآية، لايعد نقضاً لأصل القاعدة التي بيّنتها هذه الآية، بخلاف تخصيص هذه القاعدة بالنساء فيما بقي من الفرائض؛ فإنّه عند العرف يعد نقضاً لهذة القاعدة التي قررت مشاركة النساء مع الرجال في الميراث بلاموجب ظاهر، فلايراه العرف إلّاكنفي تلك القاعدة ورفع اليد عن حكمتها وفائدتها قاعدة تقتضي شمولها لجميع الموارد.

وهذا أمر يظهر بالتأمل وملاحظة مناسبة الحكم والموضوع، ففي الأول ليس التخصيص والإخراج منافياً لمناسبتهما، بخلاف الثاني فإنّ الحكم باختصاص المرء بالمال منافٍ لمناسبة الحكم والموضوع في النظام المذكور الآبي عن الإستثناء.

إن قلت: لااعتبار بفهم العرف وجهَ حكم الشرع، فسواء فهِمه أم لم يفهمه وجب علينا القول والإتباع والتسليم، قال اللّه تعالى: [وما كان لمؤمن ولامؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم](1) وهذا أي عدم دخل فهم وجه حكم الشرع في وجوب الإمتثال والتسليم القلبي والعملي ثابت بالعقل والشرع، ولعلّك لم تجد عارفاً بحكمة جميع الأحكام بالتفصيل لا من العلماء ولا من غيرهم إلّامن علّمه اللّه تعالى ذلك.

قلنا: نعم يجب علينا التسليم والإطاعة وإن لم نفهم وجه حكمة الحكم، بل كمال العبودية للّه تعالى لايتحقّق إلّابالتسليم المحض قبال أوامر المولى،6.

ص: 70


1- الأحزاب: الآية 36.

فلايسأل العبد في مشهد العبودية عن وجه أمر المولى، لايلتفت إلى نفسه ولايرى إلّامولاه، لايقصد بعمله إلّاوجه اللّه تعالى وإطاعة أمره، قال اللّه تعالى: [وما أُمروا إلّاليعبدوا اللّه مخلصين له الدين](1) ، وقال سبحانه وتعالى:

[ومن أحسن ديناً ممّن أسلم وجهه للّه وهو محسن] (2) .

إلّا أنّ ذلك لايدفع ما ذكرناه، ولايبطل به ما يستظهر العرف بمناسبة الحكم والموضوع من الألفاظ، فيرى في مورد العموم المستفاد من اللفظ آبياً عن التخصيص، فيردّ دليل المخصّص أو يحمله على ما لاينافي العموم، وفي مورد آخر لايرى بأساً بتخصيص العموم، فبعد ورود المخصّص يحمل العام على الخاص حملاً للظاهر على الأظهر كما مر، وهذا أمر واضح عند العارف بالمحاورات العرفية.

ولمزيد التوضيح وظهور إباء الآية عن التخصيص بالنسبة إلى المرأة، وعدم جواز تخصيص عمومه بالخبرين المذكورين، حتى ولو سلما عن المناقشة فيهما دلالةً أو سنداً نقول: إنّ الأحكام الشرعية على قسمين:

قسم منها الأحكام العبادية المتعلّقة بما بين العبد وبين اللّه تعالى، والوظائف التي يتقرّب بها كل فرد إلى اللّه تعالى، ويستكمل بها الكمالات الإنسانية، ويحضر بها مشاهد القرب، ويتشبّه بها بالملائكة الروحانية، و يرتفع بها إلى الحضور في عالم القدس والأُنس.5.

ص: 71


1- البيّنة: الآية 5.
2- النساء: الآية 25.

وهذه الأحكام وإن كانت أساس السعادات الدنيوية والأُخروية، والجسمية والروحية، وروح جميع الأنظمة الشرعية إلّاأنّ الغرض الأول والأسنى من تشريعها إيصال العباد إلى المقامات المعنوية، والتوجّه إلى خالقهم ومنعمهم الحقيقي، وجلوسهم على بساط الشكر وحصول حال التعبّد والتسليم والإنقياد للحق في نفوسهم وغير ذلك.

فهذه أحكام تعبّدية صرفة لايطّلع على ما فيها من الحكم بالتفصيل إلّا الأوحدي من الناس ممن أكرمه اللّه تعالى بالإطلاع على ذلك، ولايتحقّق الغرض الأصلي منها إلّابامتثالها بقصد الإطاعة والتعبّد الخالص، فلو اطّلع العبد على بعض ما فيه من الفائدة والحكمة غير ما يتحقّق بالعبادة والإتيان به تعبّداً، فأتى به لتحصيل هذه الفائدة والحكمة لم يكن ممتثلاً لها، ولايستحق بها ما يستحق عباد اللّه المخلصون.

والقسم الثاني: الأحكام المشروعة لنظم أُمور الدنيا، وسياسة المدن، وإدارة المجتمع، وروابط الأفراد بعضها مع بعض في الأموال وغيرها، ففي مثل هذه الأحكام بملاحظة الأحكام وموضوعاتها والمناسبة بينهما، يفهم العرف في الجملة غرض الشارع، وما يحقّقه وما يرتبط به، ويكون لهذا الفهم دخل في استظهار مراده من كلامه من العموم والخصوص وغيرهما، وتكون هذه المناسبات التي يفهمها العرف من القرائن الحالية أو المقالية الدالّة على ما أراده المتكلم من كلامه.

فإذا قرّر الشارع الذي أخذ بيد المرأة المسكينة، وأنقذها من دركات السقوط والشقاء، أنّ للنساء نصيباً مما ترك الوالدان والأقربون كما قرر ذلك للرجال،

ص: 72

بمناسبات كثيرة من عناية بحفظ حقوق النساء وكرامتهنّ الإنسانية والمنع عن إستضعافهن، يفهم أنّ عموم هذا الحكم الحافظ لشؤون المرأة وتثبيت حقوقها في المجتمع لايقبل التخصيص بحرمان المرأة عن حقها واستقلال المرء بإرث جميع ما بقي لكونه من الكرّ على ما فرّ.

فكما لايقبل التخصيص قوله تعالى: [اعدلوا هو أقرب للتقوى](1). وقوله تعالى: [ما على المحسنين من سبيل](2) وقوله تعالى: [وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به](3) وغيرها من القواعد الشرعية القرآنية، لاتقبل هذه القاعدة المحكمة، الحاكمة بإرث المرأة من الميت إذا كانت مع المرء في طبقة واحدة، أيضاً التخصيص.

وهذه أُمور لابدّ للفقيه ملاحظتها عند النظر في أدلّة الأحكام.

فإن قلتم: فكيف اختلف نصيب المرء والمرأة من الميراث وصار للذكر مثل حظّ الأُنثيين.

قلنا: إنّ اختلاف الذكر والأُنثى في تقدير الميراث لاينافي القاعدة المذكورة، فإنّها تقرّر إرث المرأة مع الرجل من تركة الميت إذا كانت معه في درجة واحدة، وأما تقدير السهام فأمر آخر يثبت بدليله، لاينافي المحافظة على حقوق المرأة ورفع الإستضعاف عنها، سيما إذا كان ذلك بملاحظات اقتصادية مثل أن المرء6.

ص: 73


1- المائدة: الآية 8.
2- التوبة: الآية 91.
3- النحل: الآية 126.

يعطي ولايعطى، والحاصل أنّ تقدير المواريث بالإختلاف أمر لايخالف القاعدة المشار إليها بخلاف حرمانها عن الميراث.

هذا، وقد ظهر مما ذكر بطوله أنّ هذا النص القرآني الدال على إرث المرأة من تركة الميت إذا كانت مع الرجل في درجة واحدة لايقبل التخصيص، سواء كان المال الذي يرثاه تمام تركة الميت، أو بعضها مما بقي من سهام أرباب الفرائض، وهذا - أي إباء هذا النص من قبول هذا التخصيص - من أقوى الشواهد على ضعف خبر ابن طاووس وخبر جابر.

آية أُخرى:

ومن النصوص القرآنية التي يكون القول بالتعصيب خروجاً عليها هو قوله تعالى: [وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه](1).

فقد دلّت على قاعدة مهمة مبنية على أهم ما بنيت عليه أحكام المواريث الشرعية، وهي أنّ الإرث على ترتيب الطبقات، الأقرب فالأقرب، والأقرب ذكراً كان أو أُنثى يمنع الأبعد، ومن كان منهما في الطبقة المتقدمة يمنع من كان في الطبقة المتأخرة، ولاريب أنّ البنت أقرب من ابن ابن أخ ومن ابن العم ومن العم؛ لأنّها تتقرب إلى الميت بنفسها وهؤلاء يتقربون إليه بغيرهم، فالحكم بتقديم كل واحد من هؤلاء عليها تقديم للأبعد على الأقرب، ومن يتقرب بالميت بغيره على من يتقرّب بنفسه، ولاريب أن هذا خروج على هذا النص القرآني الذي قرر 6

ص: 74


1- الأنفال: الآية 75، الأحزاب: الآية 6

أنّ الأقرب من أولى الأرحام أولى من الأبعد.

ومن جانب آخر يخالف القول بالتعصيب الآيتين الكريمتين؛ لأنّ مدلولهما أنّ الأقربية إلى الميت هي تمام المناط لإرث الوارث لتركته، ففي أي شخص وجد هذا المناط فإنّه يرث الميت، لاترجيح لأقرب على أقرب إذا كان الأقرب أكثر من واحد، سواء كان الجميع ذكوراً أم إِناثاً، أو بعضهم من الذكور وبعضهم من الإِناث، وسواء كان ما يرثونه جميع تركة الميت، أو بعضها مما بقي من الفرائض، فالقول بأنّ ما بقي من الفروض لأولى رجل ذكر، دون من كان في درجته من الإِناث خروج على ما تنص عليه الآيتان، من أنّ تمام المناط في إرث المال الأقربية إلى الميت والحال.

فإن قلتم: إنّ المستفاد من الآيتين أنّ أُولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، إلّا أنّه لم يعيّن هذا البعض الأولى، فذلك يستفاد من غير الآيتين من الكتاب والسنة.

قلنا: إن ما قلتم خلاف الظاهر؛ فإنّ مدلولها ليس أنّ بعضهم أولى ببعض تشريعاً وقانوناً وإن كان أبعد من الميت من غيره، بل في الآيتين مضافاً إلى تشريع أولوية بعضهم ببعض إشارة إلى جهة واقعية، ورابطة تكوينية تكون بين الوارث والمورّث وهي: المناط في أولوية الوارث، فمن كان بهذه الرابطة أقرب إلى الميت فالعُرف والإرتكاز يراه أولى به، والشرع قرر هذا الإرتكاز العرفي، فجاء تشريعه موافقاً للتكوين، فكأنّه بقوله: (وأُولوا الأرحام...) بيَّن ما يراه العُرف، ويأمر به حسب اقتضاء طبع الموضوع.

وكيف كان، فلاريب في أنّ الأقرب يمنع الأبعد بحكم الآيتين، وأن توريث الأبعد بالعصبة في الموارد الكثيرة نقض لهذه القاعدة المرتكزة في الأذهان التي

ص: 75

حكم بها الشارع، وأبطل بها غيرها من أحكام الجاهلية، كما أنّه لاريب في أنّ خصوص الذكر الأقرب إلى الميت دون الأُنثى التي هي في درجته، كما يفعله القائل بالتعصيب، خروج على هذا النص القرآني.

آية أُخرى:

ومما خرّجوه على النصوص القرآنية قولهم بأنّ الأخ يرث النصف مع البنت، فإنّه مضافاً إلى خروجه على قوله تعالى: (وأُولوا الأرحام...) خروج على النص القرآني الآخر، وهو قوله تعالى: [إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أُخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهاإن لم يكن لها ولد](1) وذلك لأنّ إرث الأخ من الأُخت مشروط بحكم الآية بانتفاء الولد، ولاريب في أنّ البنت ولد، بدليل قوله تعالى: [يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظّ الأُنثيين] فلايكون الأخ وارثاً مع الولد مطلقاًبنتاً كان الولد أو ابناً؛ لأنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه، فتوريث الأخ النصف مع البنت خروج على الكتاب العزيز.

ومن جهة أُخرى خالفوا الكتاب في توريث أُخت الميت لأبيه واُمه النصف مع بنت الميت فإنّ ذلك أيضاً خروج على قوله تعالى: [إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أُخت]، لصدق الولد على البنت.

وقد أخرج الحاكم في المستدرك أنّه سئل ابن عباس عن رجل توفى وترك بنته وأُخته لأبيه وأُمه فقال: ليس لأُخته شيء، والبنت تأخذ النصف فرضاً76

ص: 76


1- النساء: الآية 176

والباقي تأخذه ردّاً... الحديث.

القول بالتعصيب خروج على نصوص السنة الشريفة:

منها ما أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه، وكذا مسلم وغيرهما، ومن جملة طرقه ما رواه البخاري في باب ميراث البنات قال: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: «مرضت بمكة مرضاً فأشفيت منه على الموت فأتاني النبي صلى الله عليه و آله يعودني، فقلت: يا رسول اللّه، إن لي مالاً كثيراً، وليس يرثني إلّاإبنتي أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: الثلث؟ قال: الثلث كبير، إنّك إن تركت ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس»...(1) الحديث.

وفي مسلم في باب الوصية بالثلث وفيه: (ولايرثني إلّاابنة لي واحدة) وفي الترمذي في باب ما جاء في الوصية بالثلث قال: وهذا حديث حسن صحيح.

وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن سعد بن أبي وقاص، وأخرجه كما في الدر المنثور مالك والطيالسي، وابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي، وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان.

وهذا الحديث نص على بطلان القول بالتعصيب؛ لأنّه قال: (وليس يرثني إلّا ابنتي) ولم ينكر عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقرره على ما قال، ومقتضاه كون جميع5.

ص: 77


1- كتاب البخاري: ج 8 ص 5.

التركة للبنت، ولاتجوز جميعها إلّابالرد عليها، ويؤكد دلالة هذا النص على المذهب المختار في الفقه الشيعي، وأنّه لا دلالة لآيات الميراث في الفرائض على حرمان أربابها عما بقي، أنّ واقعة سعد ومرضه هذا وقعت بعد نزول آيات المواريث.

نص آخر من السنة يدلّ على بطلان التعصيب

ومما يدلّ من السنة الشريفة على بطلان القول بالتعصيب خبر واثلة بن الأسقع قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: (المرأة تحوز ثلاث مواريث: عتيقها، ولقيطها وولدها الذي تُلاعن عليه) وفي لفظه الآخر: (والولد الذي لاعنت عليه)(1).

وجه دلالته أنّه لما منعت الملاعنة إرث الأب من الولد تحوز الأُم - مع أنّها من أرباب الفرائض - ما بقي من فرضه بالرد لا محالة، ولايسمع دعوى انصراف ما دل من الكتاب عن سهم الأُم من تركة ولدها الذي لاعنت عليه حتى يكون الخبر وارداً في مورد لم يفرض له فريضة في الكتاب، لعدم وجه لهذا الانصراف مع شمول الآية للأُم مطلقاً، سواء كان ولدها الولد الذي تلاعنت عليه أو غيره.

نعم هذا الخبر نص على صحة رد ما بقي من الفرض على صاحب الفرض، كما بُيّن في الفقه الشيعي، وهو وإن لم يدل على حرمان العصبة من الباقي، لأن لازم الحكم لعدم لحوق الولد بالملاعن عدم وجود العصبة له بحكم الشرع، إلّا أنّ القائل بالتعصيب حيث يقول بحرمان أرباب الفرائض من الباقي، سواء كان

ص: 78


1- المسند: ج 3، ص 490 وج 4 ص 107، وابن ماجه: باب تحوز المرأة ثلاث مواريث.

للميت عصبة أم لا، هذا الخبر يرد مااختاره في المال الباقي من السهام فتدبّر.

وكيف كان، فالإعتماد على خبر سعد المخرّج في الصحيحين النص على بطلان التعصيب.

ومثله ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن سويد بن غفلة في ابنة وامرأة ومولى قال. قال: كان علي عليه السلام يعطي الإبنة النصف، والمرأة الثمن ويرُد ما بقي على الإبنة(1).

ما هي الأدلّة في الفقه الشيعي على صحة قولهم بالردّ؟

ربّما يقال: إنّه وإن ثبت بما ذكرتم بطلان القول بالتعصيب وخروجه على النصوص القرآنية كما ثبت أنّ القول بمنع العصبة من إرث الباقي وردّه إلى أرباب الفرائض من قربى الميت ليس خروجاً على النصوص إلّاأنّه لايثبت بذلك أنّ حكم اللّه تعالى فيما بقي هو الرد إلى أرباب الفرائض (غير الزوج والزوجة) بحسب سهامهم المقدّرة، فلايجوز الفتوى بذلك والقول به إلّابدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع.

فيقال: نعم هذا صحيح لابد من إثبات القول بالرد من دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وعلى ذلك بني الفقه الشيعي في جميع المسائل.

وفي مسألتنا هذه، وإن ظهر مما ذكرناه أدلّة القول بالرد من الكتاب والسنة،8.

ص: 79


1- كنز العمال: ج 11، ص 7، ح 30388.

إلّا أنّه لمزيد التوضيح نقول: قد ثبت هذا القول بالدليل من الثلاثة:

أما الإجماع: فإنّه لا شك في أنّ إجماع الأُمة قد انعقد على قولين، ولا شك في أنّ إجماعهم كذلك إجماع على نفي القول الثالث يعبّر عنه في الإصطلاح بالإجماع المركب، ومعه لايجوز لأحد إلّااختيار أحد القولين، ومعناه أنّ الحق ليس خارجاً عنهما فبإثبات بطلان أحدهما تثبت صحة الآخر وإن لم تثبت صحته بدليل خاص، فلابد من القول به، وإلّا يلزم ردّ ما عليه جميع الأُمة ومخالفة إجماعهم.

وأما الكتاب العزيز: فيدلّ على أن ما بقي من المال بعد إلحاق الفرائض بأهلها يكون لذوي قرباهم قوله تعالى: [وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه](1) حيث دل على أن من كان قرباه أقرب إلى الميت كان أولى بتركته، سواء كان هنا عَصَبة أم لم تكن، أو كان له التسمية أو لم تكن؛ لأنّه مع كونه أقرب يكون هو أولى بإرث جميع المال من غيره الأبعد.

فإذا لم يكن للميت غير البنت أو البنات، ترث بحكم هذه الآية تمام التركة، لكونها أقرب دون غيرها.

فإن قلتم: لاتصريح في الآية الكريمة بأنّ أُولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في الميراث أو أنّ هذه الأولوية في غير ذلك.

قلنا: لاريب في ظهور الآية في الميراث، وإن احتمل اللفظ الميراث وغيره، وغاية الأمر حمله على العموم مما يحتمله اللفظ من الميراث وغيره، فادعاء6.

ص: 80


1- الأنفال: الآية 75؛ الأحزاب: الآية 6.

التخصيص بغير الميراث مضافاً إلى أنّه لا دليل عليه خلاف الظاهر، فإنّ أظهر مصاديق العموم وما يتبادر منه هو الميراث والآية نص فيه.

وأما السنة: أمّا من طرق أهل السنة، فالذي يدلّ عليه من الصحيحين وغيرهما خبر سعد بن أبي وقاص الذي هو نص على صحة مذهب الشيعة، وخبر واثلة بن الأسقع وخبر سويد بن غفلة، وقد مر بيان الإستدلال بهما، فلانعيد الكلام في ذلك.

وأما من طرق الشيعة: فالأحاديث الثابتة عندهم من طرق أهل البيت عليهم السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله كثيرة متواترة مخرّجة في جوامعهم في الحديث في باب الفرائض والمواريث، بحيث لايشك من راجعها أنّ أهل البيت عليهم السلام هم الأصل لهذا المذهب بأحاديثهم ورواياتهم، وأقوالهم الثابتة بالأحاديث المتواترة لا عذر لمن ترك الرجوع إلى هذه الأحاديث التي تحمل فقهاً ضخماً، وعلوماً جمّة، وتغني المراجع عن إعمال القياس والقول بالرأي والإستحسان في دين اللّه، والعجب ممن يأخذ بأخبار النصاب وأعوان الظلمة، ويترك هذه الأحاديث المروية عنهم عليهم السلام.

وقد قيل فيهم ونِعم ما قيل:

إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهبا

هذا مضافاً إلى أنّ حجية ما عند أهل البيت من العلم قد ثبت بمثل أحاديث الثقلين المتواترة، التي نص فيها الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله على وجوب التمسّك

ص: 81

بالكتاب والعترة، وقال: [ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا فإنهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض](1) فالعلم الذي هذا شأنه مأمون عن الخطأ فيه، ورواية من شأنه عدم الإفتراق من الكتاب أولى بالأخذ والإتباع من رواية غيرهم كائناً مَن كان، وإذا كان مثل الشافعي في مسألة التعويل على أخبار الآحاد يعوِّل على عمل أئمة أهل البيت عليهم السلام، ويقول: وجدنا علي بن الحسين رضى الله عنه يعوّل على أخبار الآحاد، وكذلك محمد بن علي(2).

فكيف يجوز الإعراض عن علومهم وأحاديثهم تعصّباً لأعدائهم، وتمسّكاً بالخوارج والنواصب، وجرحهم الثقات الأثبات بجرم ولائهم لأهل البيت عليهم السلام والتمسّك بهداهم، فتراهم يخرجون حديث مَن ثبت نفاقه ببغض أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي قال له النبي صلى الله عليه و آله: «لايحبك إلّامؤمن ولايبغضك إلّامنافق»، ويصدّقونه، مع أنّ اللّه تعالى يقول: [واللّه يشهد إن المنافقين لكاذبون](3) وربّما يأوّلون هذا الحديث وأمثاله بتأويلات باردة غير مقبولة(4) ، وقد خسر الإسلام وأُمته بهذه السيرة السيئة خسارات كبيرة، لايمكن تداركها إلّابإعادة النظر في الأحاديث بقطع النظر عن الشرائط السياسية السائدة على أخذ الحديث وتحمله وروايته.ف.

ص: 82


1- أُنظر: نفحات الأزهار: ج 1؛ شرح إحقاق الحق: ج 9 و 24.
2- المستصفى: ج 1 ص 96.
3- المنافقون: الآية 1.
4- راجع كتاب: العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل، ومقدّمة دلائل الصدق، وكتابنا أمان الأُمة من الضلال والإختلاف.

المقارنة العلمية

قال فضيلة الشيخ جاد الحق في آخر كلمته المنشورة في الأهرام: (وبالمقارنة العلمية إجمالاً بين أدلّة من يرون الإرث بالتعصيب وهم فقهاء المذاهب السبعة المدوّن فقههم وغيرهم، ومن الفقهاء الذين توالت الروايات عنهم في كتب الفقه العام، وبين من لايرون هذا وهم الشيعة الجعفرية، إنَّ المقارنة ترجّح أدلّة الأولين على الآخرين؛ و ذلك لأنّ الشيعة حينما منعوا الإرث بالتعصيب كمبدأ لمذهبهم قالوا: يرد باقي التركة على أصحاب الفروض بوجهٍ عام، حتى إذا ما كان للمتوفى بنت أو بنات فقط، ووجد معها أو معهنّ عاصب من غير الأبناء والأب، حازت البنت أو البنات كل التركة فرضاً ورداً، والتوريث بالرد أمر اجتهادي لايستند إلى نص خاص، ومن ثم كان الإختلاف واسعاً في مداه وفي مواضعه، وليس لدى الشيعة من سند في هذا إلّاما يتردّد في كتبهم - على ما سبقت الإشارة إلى نصه المنقول في كتاب جواهر الكلام - وهو قول أئمتهم وهو قول لايثبت عند غيرهم).

ص: 83

أقول: أما المقارنة العلمية فمن تأمل فيما ذكرناه من الأدلّة على عدم وجود نص قرآني على القول بالتعصيب، والمناقشة فيما استندوا به من السنة للقول بالتعصيب سنداً ودلالة، وفيما يترتب على القول به من اللوازم الفاسدة والأدلّة على خروج القول به على النصوص القرآنية والسنة الشريفة يظهر له رجحان قول المانعين من إرث العصبة ما بقي من السهام.

وأما استناد الشيعة الجعفرية إلى نص خاص فنقول: كأنه يرى دلالة النص العام على الفقه الشيعي في الموضوع فيسأل منه أنه ما الفرق بين دلالة النص الخاص على حكم ودلالة النص العام عليه بعمومه، نعم إذا كان النص الخاص وارداً على النص العام يقدّم عليه لكونه أخص وأظهر، وأما العام الذي لم يرد عليه الخاص فهو حجة لجميع الأفراد، فكما لافرق بين أن يكون دليل وجوب إكرام زيد العالم قوله: أكرم زيد العالم الدال بخصوصه، أو قوله: أكرم العلماء الدال بعمومه على وجوب إكرامه، وكذلك لافرق بين أن يكون في البين نص خاص يدلّ على ردّ ما بقي من الفرائض إلى أصحابها أيضاً، أو يثبت ذلك بدليل عام يشمل عمومه الموضوع، مثل قوله تعالى: [وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه](1).

هذا وقد ظهر لك وجود الدليل الخاص على بطلان القول بالتعصيب ووجوب رد ما بقي إلى أصحاب الفرائض من طرق أهل السنة فضلاً عن طرق الشيعة، فإنّ ذلك ثابت من طرقهم المتواترة.6.

ص: 84


1- الأنفال: الآية 75؛ الأحزاب: الآية 6.

وأما قوله: إنّ قول أئمتهم قول لايثبت عند غيرهم فلم يعلم ماذا أراد بذلك فضيلة الشيخ.

يقول: إن قول أئمتهم ليس بحجة فلايحتج مثلاً بقول الإمام أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين الباقر عليهم السلام، وبأحاديثه التي تفرّد هو بروايتها عن آبائه عن جده رسول اللّه صلى الله عليه و آله؟

فهذا خروج ظاهر على نصوص الثقلين المتواترة التي نصت على أنّ التمسّك بالكتاب وبعترة النبي صلى الله عليه و آله هو سبب الأمن من الضلال، ولا أظنّه يقول هذا، وكذا قول الإمام أبي عبداللّه جعفر الصادق عليه السلام ورواياته، والشيعة ترجّح أقوالهم ورواياتهم في علوم الدين من العقائد والتفسير والفقه على روايات غيرهم أخذاً بهذه النصوص ونصوص متواترة أُخرى، فيرجّحون قول أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام على قول غيره من الصحابة، وإن كان الجميع على قول والإمام على قول يخالف الجميع، كل ذلك ثابت عندهم بالأدلّة القاطعة الصحيحة(1).ة.

ص: 85


1- وقد مدح أئمتهم جماعة من أسلاف الشيخ جاد الحق من شيوخ الأزهر السابقين عليه مثل الشيخ عبداللّه الشبراوي الشافعي مادح أهل البيت عليهم السلام بقصائده الرائعة، ومؤلّف كتاب الإتحاف بحب الأشراف المملوء بفضائل أئمة الشيعة ومناقبهم، فقال ناقلاً عن بعض أهل العلم ومعجباً بكلامه ومصدّقاً له: إنّ آل البيت حازوا الفضائل كلها علماً وحلماً، وفصاحة وصباحة، وذكاء وبديهة، وجوداً وشجاعة، فعلومهم لاتتوقّف على تكرار درس، ولايزيد يومهم فيها على ما كان بالأمس، بل هي مواهب من مولاهم، من أنكرها وأراد سترها كان كمن أراد ستر وجه الشمس، فما سألهم في العلوم مستفيد ووقفوا، ولاجرى معهم في مضمار الفضل قول إلّاعجزوا وتخلُفوا، وكم عاينوا في الجلاد والجدال أُموراً فتلقّوها بالصبر الجميل، وما استكانوا وما ضعفوا، تقر الشقائق إذا هدرت شقائقهم، وتصغي الأسماء إذا قال قائلهم ونطق ناطقهم سجايا خصّهم بها خالقهم... إلخ (الإتحاف بحب الأشراف: ص 9). وهذا الشيخ سليم البشري المالكي من شيوخ الأزهر يقول: مخاطباً للشريف الإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين الموسوي: أشهد أنّكم في الفروع والأُصول على ما كان الأئمة من آل الرسول، وقد أوضحت هذا الأمر فجعلته جليّاً، وأظهرت من مكنونه ما كان خفياً، فالشك فيه خيال والتشكيك تضليل، وقد استشففته فراقني إلى الغاية، وتمخرت ريحه الطيبة فأنعشني قدسي مهبّها بشذاه أيضاً... إلخ (المراجعات: المراجعة رقم 111 ص 337 و 338) وأما الشيخ الأكبر الشيخ محمد شلتوت فقد أفتى بفتواه التاريخية جواز التعبّد بمذهب الشيعة الإمامية.

أو أن الشيخ يريد بقوله: إن قول أئمة أهل البيت عليهم السلام لم يثبت عند غير الشيعة، يعني لم يثبت صدوره منهم عند غير الشيعة.

فيقال له: وهل يثبت قول الشخص ورأيه إلّامن طريق أصحابه وخواصه وتلامذته الذين أخذوا منه العلم، فمن راجع كتب الشيعة في الحديث والفقه والتفسير يعرف اختصاصهم بأهل البيت عليهم السلام، وإن علومهم مذخورة عندهم وفي كتبهم، لا شك أنّهم معتمدون في مذهبهم وفقههم على هؤلاء الأئمة الذين شهد بعلمهم وفقههم حتى أَلد أعدائهم، لم ينكر ذلك أحد عليهم، وصحة نسبة كثير مما انفرد به فقه المذهب الشيعي الجعفري إلى أئمة العترة عليهم السلام ثابتة عند أهل العلم والباحثين، مشهور بين العلماء كقولهم ببطلان العول والتعصيب.

وبعد ذلك نقول: يا فضلية الشيخ! أنتم تقولون: إنّ الشيعة لم يستندوا إلى نص خاص، ومنعوا الإرث بالتعصيب حتى إذا كان للمتوفى بنت أو بنات فقط ووجد معها عاصب من غير الأبناء والأب حازت البنت أو البنات كل التركة فرضاً وردّاً.

فما تقولون في خبر سعد بن أبي وقاص الذي أخرجه الشيخان في عدّة

ص: 86

مواضع من صحيحيهما، والترمذي وغيرهم، ألا يدل على أنّ البنت الواحدة ترث جميع التركة، وأن الأب إن أوصى بثلث ماله ترث بنته الباقي وهو الثلثان؟ فإن لم يكن هذا النص الخاص فما هو إذن النص الخاص؟

فإن كان الشيعة هم القائلون بالتعصيب أفلا تحتجون عليهم وتستدلّون على بطلانه به، وتقدّمونه على خبر ابن طاووس وخبر عبداللّه بن محمد بن عقيل لما فيهما من العلل الكثيرة، وصحة سند خبر سعد بن أبي وقاص وقوة متنه فليكن عملكم هكذا والحال بالعكس فأنتم القائلون بالتعصيب، والشيعة قائلون بمنع العصبة عن إرث ما بقي من المال ورده إلى أرباب الفرائض من قرابة الميت، فلماذا تركتم هذا النص الصحيح السالم من العلل، وخبر واثلة بن الأسقع المخرج في المسند وسنن ابن ماجة، وخبر سويد بن غفلة المخرج في السنن الكبرى للبيهقي، وأخذتم بالخبرين المذكورين مع ما فيهما من العلل ومخالفتهما لنصوص الكتاب، وهل بعد ما علم، الترجيح يكون مع خبر سعد وخبر واثلة وسويد مع موافقتها لنصوص الكتاب أو لهذين الخبرين؟ أنتم وفقهكم وإنصافكم.

وإذا كان الحال في الموضوع الذي درسه الشيخ ونظر فيه هكذا، فما ظنّك بغيره مما حكم فيه على الشيعة أهل البيت بالخروج على النصوص في سائر الأبواب، واللّه هو المستعان على ما يصفون.

ص: 87

نكتة مهمة

من راجع الأحاديث المخرجة في جوامع حديث أهل السنة يعرف أنّهم في الفروع التي لا نص فيها من القرآن والسنة الثابتة معتمدون على آراء عدة من الصحابة متناقضة بعضها مع بعض، ففي مسألة واحدة ينقلون مثلاً أن عمر قال كذا، وزيد بن ثابت قال كذا، وابن عباس قال كذا، في حين إنّهم كثيراً ما لم يستندوا فيما قالوا إلى دليل من الكتاب والسنة، حتى أنّهم رووا عن عبيدة السلماني أنّه قال: حفظت من عمر بن الخطاب في الجد مائة قضية مختلفة كلها، ينقض بعضها بعضاً(1).

وقضى هو في ميراث، فلمّا اعترض عليه رجل بأنّه قد قضى فيه في عام كذا خلاف هذا القضاء، فقال عمر: تلك على ما قضيناه يومئذ وهذه على ما قضيناه(2).

ومن قضاياه أنّه لم يورِّث أحداً من الأعاجم إلّاأحداً ولد في العرب(3).

وورَّث عمر جدةَ رجل مع ابنها، وكان عثمان لايورِّث الجدة وابنها حي(4).

وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس: إنّه

ص: 88


1- كنز العمال: ج 11، ص 58، ح 30613.
2- راجع كنز العمال: ج 11، ص 26 ح 30481.
3- كنز العمال: ج 11، ص 29، ح 30493.
4- كنز العمال: ج 11، ح 30487 وح 30518.

دخل على عثمان فقال: إنّ الأخوين لايردّان الأُم عن الثلث، قال اللّه: [فإن كان له إخوة] فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة، فقال عثمان: لاأستطيع أن أردَّ ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس(1).

وأخرج ابن راهويه وابن مردويه عن عمر إنّه سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله كيف تورث الكلالة؟ فأنزل اللّه: [يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة](2) إلى آخرها فكان عمر لم يفهم، فقال لحفصة: إذا رأيتِ من رسول اللّه صلى الله عليه و آله طيب نفس فسليه عنها، فرأت منه طيب نفس فسألته، فقال: أبوك ذكر لك هذا، ما أرى أباك يعلمها، فكان عمر يقول: ما أراني أعلمها، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله ما قال.

والأخبار بذلك عن عمر كثيرة(3).

فهذه المناقضات القولية والفعلية التي نرى نموذجاً منها في باب المواريث من أقوى الشواهد على أنّه يجب أن يكون في الأُمة عالمٌ بالأحكام يكون قوله حجة على الجميع، لا يفارق الحق ولا يفارقه الحق، وهم الذين جعلهم النبي صلى الله عليه و آله عِدلاً للقرآن، وأخبر بأنّ التمسك بهم وبالكتاب أمان من الضلالة أبداً، وهم الذين أراد النبي صلى الله عليه و آله الوصية بهم والنص عليهم بالكتاب لما قال في مرضه: «ايتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لاتضلوا بعده» فخرج بعضهم على نص النبي صلى الله عليه و آله وقال: غلبه الوجع وحسبنا كتاب اللّه فاختصموا، ومنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه و آله كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول: ما قال عمر، فلما كثر اللغو9.

ص: 89


1- الدر المنثور: ج 2، ص 126، كنز العمال: ج 11، ص 34-35، ح 30517.
2- النساء: الآية 176.
3- الدر المنثور: ج 2، ص 249.

والإختلاف عند النبي صلى الله عليه و آله ورأى بأبي هو وأُمي أنّ الأمر انتهى إلى التخاصم، وأنّهم مصرون على منعه من كتابة وصيته، وآل الأمر إلى ما آل، قال: قوموا، فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب(1).

عيد سعيد عيد سعيد عيد سعيدم.

ص: 90


1- يراجع في ذلك: البخاري، كتاب العلم، باب كتابة العلم، وكتاب المرضى والطب، باب قول المريض: قوموا عنّي. وكتاب المغازي، والإعتصام، والمسند، وصحيح مسلم.

إجماع الصحابة

من راجع جوامع الحديث رجوع تبصّر وتعمّق يظهر له أنّ ادّعاء إجماع الصحابة في مسائل كثيرة ليس مقطوعاً به، لايثبت بنقل أقوال عدّة قليلة منهم، فإنّهم لم ينقلوا في المسائل التي عدوّها إجماعية إلّاأقوال عدّة من الصحابة لعلّها لاتتجاوز في مسألة واحدة عن العشرة، وأكثر هؤلاء أيضاً كان من الفئة السياسية الغالبة على الأمر والحكم والسلطة، ثم في نقل أقوالهم ورواياتهم أيضاً عملت السياسة عملها الغاشم، ومع ذلك من أين يأتي الجزم بإجماع الصحابة ويحكم بتحقّقه وهم أُلوف، وفيهم مئات من أكابرهم وعظمائهم.

ومن أين يحصل العلم بالإجماع الذي يدعى تحقّقه بعد عصر الصحابة في المسائل التي امتاز أهل البيت عليهم السلام برأيهم الخاص بهم، الذي لاترضى السياسة والحكومة الأخذ بها واتباعها وإشاعتها دون آراء غيرهم، ممن يرى شرعية حكوماتهم ولاينكر عليهم استبدادهم واستضعافهم عباد اللّه، واتخاذهم إياهم خولاً ومال اللّه دولاً.

ص: 91

وكيف يحكم بإجماع الصحابة بعدما نرى أنّ مثل حبر الأُمة عبداللّه بن عباس رضي اللّه تعالى عنهما حينما يقول: (ترى إن الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يحص في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً إذا ذهب نصف ونصف، فأين موضع الثلث؟ وقال: أول من عال الفرائض عمر بن الخطاب، قال: واللّه ما أدري كيف أصنع بكم ما أرى أيّكم قدّم اللّه وأيّكم أخّر، ثم قال ابن عباس: وايم اللّه لو قدّم من قدّم اللّه، وأخّر مَن أخَّر اللّه ما عالت فريضة، فقيل: ما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ قال: هبته واللّه(1).

فإذا كان هذا حال مثل ابن عباس فما ظنّك بغيره، وما ظنّك بأعصار وقعت فيها شيعة أهل البيت عليهم السلام وحاملوا علومهم وحفظة أحاديثهم تحت أشد الإضطهاد من الحُكّام، وصار نقل العلم عنهم من أكبر الجرائم السياسية، فمع ما نرى ذلك في نقل آراء الصحابة وأنّ السياسة لم تكن تسمح لنقل الحديث وآراء الصحابة إلّاعن فئة ممن كان هواه موافقاً لهوى الحكام كيف يجوز للعارف بالتاريخ الحكم بإجماع الصحابة في المسائل الفقهية.

هذا مضافاً إلى أنّ حجية إجماع الصحابة إن تحقّق لاتكون إلّابأمرين:

أحدهما: أنّ إجماعهم قد يكشف عن السنة الشريفة وأنّهم أخذوا ذلك عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فإجماعهم يكون بمنزلة رواية الجميع عنه صلى الله عليه و آله وذلك إذا علم أنّهم لم يعتمدوا فيما أجمعوا عليه على آرائهم.

وثانيهما: وجود من ثبت بالنص الصحيح أنّه لايفارق الحق ولايفارقه الحق9.

ص: 92


1- كنز العمال: ج 11، ص 27-28، ح 30489.

يدور معه حيثما دار فيهم، وأما إذا كان مَنْ هذه صفته خارجاً عنهم ويقول غير ما قالوه فلاحجية لقول السائرين.

عيد سعيد عيد سعيد عيد سعيد

ص: 93

ص: 94

الفقه المدوّن الصحيح الثابت

لايكاد ينقضي عجبي من فضيلة الشيخ وهو شيخ الأزهر الأكبر، وما في كلمته من الغمز بالشيعة بأنّه ليس لهم فقه صحيح مدون.

قال: (ولهم - يعني للشيعة - في هذا فروع تردّدت في المصادر الفقهية لمذهبهم هذا الذي انفرد بهذه القاعدة دون باقي مذاهب الفقه الإسلامي التي نقل فقهَها نقلاً مدوّناً صحيحاً ثابتاً).

يقول الشيخ هذا، تعريضاً على الشيعة في حين أنّه يقول عنده أحد الموسوعات الفقهية الشيعية (جواهر الكلام) وهي موسوعة كبيرة طبعت في هيئتها الجديدة في أكثر من أربعين مجلداً تتضمّن جميع أبواب الفقه من العبادات والمعاملات، والقضاء والشهادات و الحدود والديات وغيرها قد أبدى فيه مؤلّفه في المسائل الفقهية أقوى الأدلّة على ضوء الكتاب والسنة المأثورة المروية من طرق أهل البيت عليهم السلام، وأقوالهم المعتمدة على ما عندهم من العلوم والأحاديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

ص: 95

وللشيعة موسوعات كبيرة في خلافات الفقهاء، والنظر في أدلّتهم، ومقايسة آراء المذاهب بعضها مع بعض، مثل كتاب الخلاف للشيخ الإمام أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (م 460) المؤلّف في أكثر العلوم الإسلامية، وهو كتاب قيِّم لايستغني عنه الباحث في المذاهب الفقهية ممن لم يجعل اجتهاده تقليداً ومحصوراً في فقه مذهب خاص ويجتهد في مستوى أعلى من ذلك، ويرى لنفسه الحق أن يقابل كل هذه المذاهب برأيه الفقهي الذي استنبطه باجتهاده في الكتاب والسنة.

ومثل كتاب تذكرة الفقهاء للعلّامة الحلّي (م 726) وكان سيّدنا الأُستاذ الفقيه الأكبر الإمام البروجردي (م 1380) تغمده اللّه بغفرانه عالماً بفقه جميع المذاهب وبآراء جميع الفقهاء والصحابة والصحابيات يتذاكرها ويدرسها في بحوثه الفقهية التي كان يلقيها يومياً على مئات من الفقهاء والمجتهدين وطلبة الفقه.

ومن يراجع كتب الفقه للشيعة يظهر له جلياً أنهم متمسّكون في العقائد والأُصول والفروع بأقوى الأدلة من الكتاب والسنة، لايحكمون آراءهم ولا رأي أحد من الناس على دين اللّه، إليهم ينتهي الفخر في الإبتداء بالتأليف في أكثر العلوم الإسلامية، وهم بدؤوا واهتموا بحفظ الحديث وضبطه وكتابته، حينما تركه غيرهم حتى نهوا عن كتابته، وأمروا بمحو ما كتب منه(1).

وبعد ذلك نقول: ماذا يريد الشيخ من نقل المذاهب السبعة فقهَها نقلاً مدوّناً صحيحاً ثابتاً، فإن أراد به مثلاً أنّ الشوافع أو الأحناف نقلوا فقه الشافعي أو أبي).

ص: 96


1- يراجع في ذلك (كتاب أضواء على السنة المحمدية) و (كتاب تأسيس الشيعة).

حنيفة بالنقل الصحيح الثابت، فمضافاً إلى اختلافهم في ذلك ما قيمة هذا النقل لغيره من المجتهدين وإن كان صحيحاً، فكل مجتهد هو واجتهاده وما يستنبطه من الكتاب والسنة سواء ثبت عنده نقل المذاهب السبعة نقلاً مدوّناً صحيحاً ثابتاً أم لم يثبت؛ لأنّ المجتهد ينظر في هذا المقام إلى المنقول لا إلى المنقول منه؛ فإن وجده صحيحاً عندما يعرضه على الكتاب والسنة يختاره ويقول به وإن لم يثبت نقله عن المنقول منه، وإن لم يجده صحيحاً عليه أن يذره ويتركه وإن ثبت نقله عن الشافعي وغيره أو سمعه بنفسه منه، فلم يدلّ دليل من الشرع على أنّ ما أدّى إليه اجتهاد أئمة المذاهب السبعة هو أصوب وأقرب إلى الواقع من اجتهاد غيرهم، ولم ينفع تقسيم المذاهب الفقهية بالمذاهب المعروفة إلّاالإختلاف بين الأُمة وإثارة الفتن الدامية التي ليس هنا محلّ الإشارة إلى بعضها.

وتمام القول والقول التمام أنّه لا حجية لهذه المذاهب بنفسها للمجتهد والباحث في الأدلّة، ولايجوز للمجتهد أن يقصر اجتهاده في فقه مذهب خاص من المذاهب الأربعة أو السبعة، ولايكفيه هذا الإجتهاد في العمل بالتكاليف الشرعية.

إن قلت: فما تقول في الفقه الشيعي؟

قلت: أوّلاً: في الفقه الشيعي يجتهد الفقيه بالنظر في أدلّة المذاهب ويرجّح ما هو أقوى من الأدلّة التي أُخذت من الكتاب والسنة.

وثانياً: يمتاز الفقه الشيعي بأنّه معتمد على فقه العترة الطاهرة الثابت حجيته ووجوب الأخذ به بالسنة الثابتة المتواترة، فكما لايجوز التقدّم على الكتاب ولاالتأخر عنه، كذلك لايجوز التقدّم عليهم ولاالتأخّر عنهم، قال رسول

ص: 97

اللّه صلى الله عليه و آله: «فلا تقدّموهما (الكتاب والعترة) فتهلكوا، ولاتقصّروا عنهما فتهلكوا ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم».

ولاريب أن مذاهب أهل البيت عليهم السلام في الفقه منقولة عنهم بالنقل الصحيح المدوّن الثابت من عصر الأئمة عليهم السلام إلى زماننا، وليس في الأُمة من يختص بهم في فقهه غير الشيعة الإمامية.

وإن أراد الشيخ من نقل فقه المذاهب نقلاً... نقل مصادرهم في الفقه فهذا أمر لايعترف أهل كل مذهب للآخر، ولايخلو من المجازفة سيما في المسائل الخلافية التي ربّما ينتهي القول بصحة مصادر الجميع إلى التناقض والتهافت.

ثم إنّ في ذلك - أي نقل المصادر - الفقه الشيعي معتمد على الأدلّة الصحيحة من الكتاب والسنة، ينظر في عمومهما وخصوصهما ومطلقهما ومقيّدهما ومجملهما ومبينهما، وهم في معرفة الرواة وتمييز المجاهيل عن المعاريف، والثقات والأثبات عن الضعاف معتمدون على الأُصول العقلائية العُرفية المقبولة، ومصادر فقههم من السنة الشريفة التي جلها ثبت من طرق أهل البيت عليهم السلام، كانت في الأعصار المتتالية ثابتة مدوّنة.

حتى أنّه حُكي أنّ الحافظ ابن عقدة الشهير، خرج عن أربعة آلاف رجل من تلامذة مدرسة الإمام جعفر الصادق عليه السلام.

والحاصل: أنّ استناد الشيعة في مذهبهم وفقههم إلى أهل البيت عليهم السلام من الأُمور المعلومة الثابتة بالتاريخ والنقل الصحيح بل المتواتر، من يطلب علوم أهل هذه البيت لايجدها عند غير الشيعة، وفي غير الجوامع الشيعية، مثل

ص: 98

الجوامع الأربعة المعروفة وغيرها.

ولم يكن لترك هذه العلوم الكثيرة والأخذ بأخبار أمثال سمرة بن جندب، وعمران بن حطان، وحريز بن عثمان، وأزهر الحمصي، وخالد بن سلمة الذي ينشد بني مروان الأشعار التي هجا بها الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، وشبابة بن سوار، وشبث بن ربعي، وعمرو بن سعيد، والمغيرة بن شعبه، وغيرهم وغيرهم باعث إلّا سياسة الحُكّام والأغراض السياسية التي حملت الناس على سب أخ النبي صلى الله عليه و آله أميرالمؤمنين علي عليه السلام على رؤوس المنابر، حتى عدّ ذلك من السنة، وكان منهم من يفتخر علناً تقرّباً إلى الولاة ببغض من قال النبي صلى الله عليه و آله: «لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّامنافق»(1) وآل الأمر إلى ما آل، وصار الحديث في يد تجّاره وسيلة للتقرب إلى الحُكّام وأخذ الجوائز منهم، وترك حديث من عرف بالميل إلى أهل البيت عليهم السلام أو اتُّهم بذلك، وقتل وسجن وعذب في سبيل ذلك خلائق كثيرة، وهدرت دماء الأبرياء، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، ولاحول ولاقوة إلّاباللّه العلي العظيم.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين

حرّره في شهر رمضان المبارك 1409 ه

لطف اللّه الصافي..

ص: 99


1- رواه الفريقان؛ راجع: الغدير: ج 3، تاريخ مدينة دمشق: ج 42، وشرح إحقاق الحق: ج 7، 17، 21، 22، 23، 30، و....

ص: 100

القرآن مصون عن التحريف

ص: 101

ص: 102

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطاهرين.

من الأُمور الواضحة البيّنة أنّ الكتاب المُبين الَّذي: [أحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكيم خَبيرٍ](1) ، والذي نزّله اللّه على عبده محمد صلى الله عليه و آله: [تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِين](2) و [لِيَكُونَ لِلْعالَمينَ نَذيراً](3) و [لِيَهْدي بِه مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلام](4) و [لِيُخْرجَ النّاسَ مِنَ الظّلُماتِ إلَى النّور...](5).

هو هذا الكتاب المشهور المعروف الذي وصل منذ عصر نزوله، ولايزال في أيدي المسلمين شيعة وسنة، يعرفونه جميعاً أنه هو كتاب اللّه المنزل على قلب1.

ص: 103


1- هود: الآية 1.
2- النحل: الآية 89.
3- الفرقان: الآية 1.
4- المائدة: الآية 16.
5- إبراهيم: الآية 1.

الرسول الكريم صلى الله عليه و آله الموسوم بالقرآن، والمشتمل على مائة وأربعة عشر سورة، يحترمونه أسمى الإحترام ويعظّمونه أعظم التقديس بكله، بسوره وآياته وكلماته وحروفه، لايستثنون من هذا الإحترام والتعظيم والتقديس كلمة واحدة ولا حرفاً واحداً.

ولا ريب أنّ هذا التعظيم والتقديس، الذي أخذه الخلف عن السلف، ينتهي إلى عصر نزوله، عصر بزوغ شمس الرسالة الخاتمة المحمدية، وأنّهم كانوا يستنكرون ما يشعر الإهانة به عملاً أو لفظاً في جميع الأدوار والأعصار أشد الإنكار، ويعتبرونه جريمة كبيرة كإهانة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله يكفّر فاعلها ويعاقب عليها. لايلصق بكرامته وعلو قدس فصاحته وبلاغته كلام أحد من البشر، فهو بنفسه وبلاغته يشهد بقدسيته الكاملة ويردّ دعوى لحوق غيره به (رد الغيور يد الجاني عن الحرم).

ومن البراهين القائمة التامة القاطعة على عدم وقوع التحريف فيه زيادة ونقيصة أنّه معجزة الإسلام الخالدة، معجزة باقية تثبت بها رسالة سيدنا محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله، بل وسائر رسالات السماء لأنها كلها تثبت بالقرآن الكريم.

والتحدي به لإثباته مستمر إلى زماننا هذا وما بعده، فلكل مسلم أن يتحدى به في جميع الأزمنة.

ولاريب أنّ وقوع الزيادة أو النقيصة فيه تمنع من ذلك، لأنه حينئذٍ لايكون مصوناً من المعارضة والإتيان بمثله، فعجز البشر عن الإتيان بمثله في مر الزمان، مع هذا الإعلام والإعلان العام الشامل لجميع الأعصار والأدوار، دليل واضح على صيانته من الزيادة والنقصان.

ص: 104

فها نحن وجميع المسلمين نتحدى به لإثبات رسالة الإسلام ونبوة سيدنا محمد بن عبد اللّه خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله، ونقول: يا أيها الناس! إن كنتم في ريب من أن القرآن مصون وأنّه في حفظ اللّه من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان:

[فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعدّت للكافرين] (1) .

هذا مضافاً إلى أن العارف بالتاريخ الإسلامي واهتمام النبي صلى اللّه وآله بشأن القرآن تبليغاً وحفظاً وكتابة، وكذا اهتمام الصحابة بأخذه وحفظه وتعليمه وتعلّمه، وكذا تجزءته بالآيات والسور بأسمائها المعروفة في عصره، يعرف أن مثل هذا الكتاب مع هذا الإهتمام البليغ بشؤونه لايمكن عادة أن يزاد عليه أو ينقص منه، فإذا كان ديوان شعر شاعر مشهور مصوناً من التصرف فيه والتغيير، والقصائد السبع المعلقة في نزول القرآن محفوظة عن ذلك، وإن زيد عليها بيت عرفه أهل الأدب والعارفون بفنون البلاغة بل وغيرهم، فكيف يمكن عادة وقوع ذلك في القرآن الكريم مع كثرة الدواعي إلى حفظه لفظاً بلفظ وكلمة بكلمة؟ ومن الذي لايعرف من أهل اللسان أنّ ما نقل في المنقولات الضعيفة أنه سقط من القرآن لايلتصق به فصاحة وبلاغة وأُسلوباً ومضموناً وهداية.

فإن قلت: نعم احتمال الزيادة مردود قطعاً، وأما احتمال النقيصة وإن كان بمكان من الضعف لايعتد ولايعتنى به، إلّاأنّه غير مقطوع به.

قلت: أوّلاً: إنّ بقاء التحدّي به إلى يوم القيامة وعجز الإنس والجن عن الإتيان4.

ص: 105


1- البقرة: الآية 23 و 24.

بمثله ينفي هذا الإحتمال.

وثانياً: هذا الاحتمال كما ذكرتم لايعتنى به عند العرف فهو كالعدم، والعلم بالشيء لغةً وعرفاً أعم من ذلك ومن عدم احتمال الخلاف.

وثالثاً: هذا الاحتمال منفي بدلالة آيات من القرآن الكريم الذي أثبتنا ضرورة عدم وقوع الزيادة فيه، مثل قوله تعالى: [إنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الِذّكْرَ وَإنّا لَهُ لَحافِظُونَ](1) ، وقوله عز من قائل: [لايأتِيِه الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ](2).

ورابعاً: بالإحاديث المأثورة الثابتة عن النبي صلى الله عليه و آله.

وخامساً: بالأحاديث المتواترة المروية عن الأئمة المعصومين من عترته عليهم السلام مثل الأحاديث المروية في ثواب قراءة السور، والأخبار الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب، وكذا الأحاديث المتواترة الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والتمسّك به، والأخبار الدالة على استشهاد الأئمة عليهم السلام بالآيات الكريمة، وأحاديث الثقلين المتواترة، وغيرها.

وأما الأخبار الضعيفة التي يستشعر منها النقيصة فضعاف جداً، معلولة بعلل كثيرة في أسنادها وألفاظها ومداليلها يطول الكلام بنا بالإشارة إليها، وكلها لاتقاوم الطائفة الاُولى من الأخبار الدالة على أنّ القرآن المنزل من اللّه تعالى هو هذا الكتاب.

هذا مضافاً إلى أنّ هذه الأخبار مردودة مطروحة بمخالفتها للكتاب والإجماع2.

ص: 106


1- الحجر: الآية 9.
2- فصّلت: الآية 42.

العملي من جميع المسلمين شيعة وسنة القائم على صيانة القرآن من التحريف، ولذا لم يقع ذلك محل خلاف بين الأُمة شيعة وسنة، إلّاما عن بعض الحشوية من أهل السنّة وظاهر بعض الإخباريين من الشيعة الذين لايعتد بخلافهم، فصار خلافهم متروكاً مهجوراً، وصار القول بعدم التحريف قولاً ظاهراً واضحاً عرفه الخاص والعام من الفريقين وحتى العوام، حتى صار أنّ التفوّه باحتمال خلاف ذلك يعدّ من التفوّه بخلاف الضرورة.

فلايصح عدّ ذلك من الخلافات الواقعة بين الفريقين التي يقال فيها رأي الشيعة كذا، ورأي السنة كذا.

فالقرآن الموجود بين الدفتين هو كتاب دين الفريقين، وهو أصلهم الأول الذي تأتي بعده السنة المشروط صحة الإعتماد عليها بأن لاتكون مخالفة للقرآن، وهذا الأمر يحتج به الجميع في الأُصول والفروع، وفي خلافاتهم ويعتمدون عليه وعلى السنة.

فكل الأُمة شيعة وسنّة يتمسّكون بجميع محكماته وفي متشابهاته أيضاً يقولون: [آمنّاً به كلٌ من عند ربّنا](1).

ومن عجيب ما وقع في هذه المسألة التي سمعت الإتفاق والإجماع عليها من السنة والشيعة وعدم الخلاف بينهم فيها: أن العصبيات الطائفية، والأغراض السياسية العاملة لتوهين الإسلام، وكتابه العزيز، ولتمزيق المسلمين، وتفريق كلمة الأُمة، والقضاء على وحدتهم الإسلامية، بعثت بعض الكتاب إلى نسبة7.

ص: 107


1- آل عمران: الآية 7.

القول بالتحريف إلى الشيعة، لوجود أخبار ضعيفة لم يعمل بها أحد منهم، ولم يعتبروها حجة حسب أُصولهم المحكمة للأخذ بالحديث والإعتماد عليه والإحتجاج به.

والذي يزيد في التعجّب أنّ هذا الخلاف المحدث من جانب هؤلاء ليس في دعوى وقوع التحريف من جانب وإنكاره من جانبٍ آخر.

بل في العمل على إلصاق تهمة التحريف بالشيعة بسبب هذه الروايات المشتركة في مصادر الجميع، ثم العمل على تصوير الشيعة بصورة مشوّهة، مع أنهم طائفة تعتقد عقيدة مؤمنة بالكتاب وصيانته عن التحريف، وتدافع عن كرامته بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة وينكرون التحريف أشد الإنكار بأعمالهم وعباداتهم وكل سيرتهم العملية، وبأقوالهم وتصريحات علمائهم ورجالاتهم، والجميع يعلم أن تمسكهم بالكتاب واعتقادهم بصيانته أضوء وأنور من الشمس في رائعة النهار.

وأعجب من ذلك أنّ مثل هذه الروايات من طرق إخواننا السنة، الصحيحة عندهم، كثيرة جداً، ولو جاز نسبة القول بالتحريف إلى إحدى الطائفتين دون الأُخرى، بسبب نقل مصادرها لمثل هذه الأحاديث، لكان نسبته إلى غير الشيعة أولى، لأن في الأخبار المخرّجة في كتب غيرهم ما يعتبر عندهم من الصحاح دون ما ورد من طرق الشيعة فإنّها ضعاف.

مضافاً إلى أن أكثرها ورد في تفسير الآيات وبيان مصاديقها وشأن نزولها، ولاإرتباط لها بالتحريف.

ص: 108

ولكن مع ذلك لم تقابل الشيعة غيرهم بالقول بالتحريف لما في جوامعهم ومسانيدهم من الأخبار الصريحة الدالة عليه:

أوّلاً: لأن غيرهم إلّاالنزر القليل الذين لايعتدّ بهم متفقون مع الشيعة على صيانة الكتاب من التحريف.

وثانياً: لأن رميهم بهذا القول يحط من إعتبار القرآن وإصالته، والشيعة لاتسلك طريقاً ينتهي إلى ذلك.

وثالثاً: لأنهم في المسائل الخلافية يعتمدون على أقوى الحجج والأدلة من الكتاب والسنة ولايحتاجون إلى رمي غيرهم بمثل ذلك.

والذين يتهمون الشيعة بهذا القول لجؤوا إلى ذلك حيث رأوا أنّه لا حجة لهم في المسائل الخلافية على الشيعة، فرموهم بافتراءات هم أبعد عنها من المشرق عن المغرب، ومن جملتها نسبة القول بتحريف الكتب والإعتقاد - والعياذ بالله - بأُلوهية الأئمة عليهم السلام، أو أن أمين الوحي جبرائيل خان، لأنه كان مأموراً بالنزول على الإمام ونزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله والعياذ باللّه، وفسّروا به ما قيل في أبي عبيدة الجرّاح الملقّب بالأمين: خان الأمين وصدّها عن حيدر! فسّروا ذلك أنه في جبرئيل عليه السلام، إلى غير ذلك من الإفتراءات التي سوف يحاكمهم الشيعة عليها عند اللّه تعالى، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.

وأعجب من ذلك أنهم في الموسم الذي يأتي الناس من كل فجّ عميق لحج بيت اللّه الحرام العتيق، والحضور في أعظم مشاهد عظمة اللّه تعالى، وأكرم المواقف القدسية العبادية التي يظهر فيها جلال وحدة الأُمة، وعزّة توحيد

ص: 109

كلمتهم، وإعلانهم نفي الطواغيت والمستعبدين المستكبرين بإعلان كلمة التوحيد، كلمة الإسلام وكلمة الحرية، وكلمة المساواة الإنسانية، وكلمة السماء والأرض.

نعم، في مثل هذا المشهد العظيم، والمؤتمر الكبير الذي ينبغي، بل يجب على المسلمين، سيما علمائهم ومصلحيهم وقادتهم أن يجلسوا على بساطٍ واحد، بساط الاُخوّة الإسلامية، والإعتصام بحبل اللّه تعالى، وينظروا فيما أحاط بالمسلمين، وابتلوا به من المشاكل والمصاعب وفي علاجها، فهذه فلسطيننا العزيزة اولى القبلتين أرض النبؤات مازالت مغتصبة في أيدي الصهاينة، وهذه ... وهذه... مما أنت أيها القارئ العزيز أعلم به، وترى منه ما ترى وتعلم منه ما تعلم.

نعم، في هذه الظروف الحرجة نرى في كل سنة منشورات توزّع على ضيوف الرحمن تدعو الأُمة إلى التباغض والتباعد، منشورات مملوءة بالزور والبهتان من أمثال نسبة القول بتحريف الكتاب إلى شيعة العترة الطاهرة، والذين لهم سهم بارز وقدم راسخ في إعلاء كلمة اللّه وإعلان الإسلام النظام الوحيد الذي فيه نجاة الإنسان.

وليس وراء هذه التهم غير إشغال المسلمين بما فيها، وصرفهم عن مواجهة المشاكل السياسية ووقوفهم في مواجهة أعداء الإسلام.

وإلّا فمن لايعلم أنّ نسبة القول بالتحريف إلى الشيعة هجوم عنيف على الكتاب أكثر من الهجوم على الشيعة؟ من لايعلم أنه لو كان لناشري هذه الأكاذيب، والذين من ورائهم، والذين ينفقون عليهم، أقل غيرة على الإسلام

ص: 110

وعلى كتابه العزيز، لَاتخذوا موقفاً غير ذلك، ودافعوا عن الكتاب، وردّوا تهمة التحريف عن الشيعة، ولسلكوا مسلك أعلام الأُمة ومصلحيهم من السنة والشيعة، ونشروا مقالات الشيعة العلمية في صيانة الكتاب وتصريحات أعلامهم، ولم يفتحوا لأعداء الإسلام والقرآن باب الغمز بكتاب اللّه تعالى والإشكال عليه، فمَنِ المستفيد يا ترى من إلصاق تهمة تحريف القرآن بطائفة كبيرة من المسلمين، فيها من أعاظم علماء الإسلام وأئمة العلم والأدب وأعلام الفكر والورع؟!

وهل يحسب ذلك إلّاعملاً لمصلحة الإستعمار؟ وهل يكون هدف القائم بنشر هذه الكتيبات في عصرنا هذا، الذي قام فيه المسلمون بحمد اللّه تعالى سيما شبابهم لإعادة مجدهم وعزّهم الذي ذهب، إلّاإيجاد المجادلات والمخاصمات وقلب الحقائق؟!

فالواجب على كل مسلم غيور على دينه وقرآنه الكريم الوقوف في وجه هذه الحركات الشيطانية، وتنزيه المسلمين شيعة وسنة عن هذا الرأي.

كما أنّ الواجب على المسلم أيضاً أن يعرف الذين هم من وراء هذه الأقلام المأجورة وما قصدوا به من الحط من عظمة القرآن وإسناده الثابت اليقيني إلى الوحي النازل على الرسول الأمين صلى الله عليه و آله.

ومن شاء أن يعرف الشيعة وإجلالهم وتعظيمهم القرآن الكريم فليتجوّل في بلادهم في ايران ولبنان والعراق والبحرين والقطيف والإحساء وغيرها، وفي مكتباتهم ومساجدهم، حتى يرى رأي العين في جميع مجتمعات الشيعة، في شرق الأرض وغربها، كمال اهتمامهم بشؤون القرآن وتعظيمهم له، وإنّه ليس لهم

ص: 111

ولا عندهم كتاب غير ما هو عند جميع المسلمين، فلاتجد منهم بيتاً ليس فيه القرآن، بل لا تجد منهم أحداً إلّاويتقرّب الى اللّه بتلاوته، فهم يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، وفي إذاعاتهم وفي مجالسهم للذكر والوعظ والإرشاد والدعاء وجميع المناسبات، ليس عندهم ما يقدّسونه ويعظّمونه مثل تعظيمهم القرآن الكريم حتى بمقدار آية أو جملة أو كلمة منه، حتى لو كان ذلك كلام الرسول صلى الله عليه و آله أو الأئمة الطاهرين من عترته الطاهرة عليهم السلام.

ولكن المصيبة كل المصيبة أنّ البعض يكذّبون أسماعهم وأعينهم التي تكذب افتراءاتهم ويصرون على عدائهم لشيعة أهل البيت عليهم السلام وتفريق كلمة المسلمين، ويشوّهون بافتراءاتهم كرامة كتاب اللّه، ويجعلونه غرضاً لتشكيك الأعداء.

قال اللّه تعالى: [يا أُيّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَديداً](1).

وقال عزّ شأنه: [إنَّ الَّذينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لايخْفُونَ عَلَيْنا أفَمَنْ يلْقى فِي النّارِ خَيْرٌ أمَّنْ يَأتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إنَّه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ](2).

وقال: [يا أيّهَا الَّذين آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنّ إنّ بَعْضَ الظَّنّ إثْمٌ وَلايَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً](3).

وقال: [وَاعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاتَفَرَّقُوا](4).3.

ص: 112


1- الأحزاب: الآية 70.
2- فصّلت: الآية 40.
3- الحجرات: الآية 12.
4- آل عمران: الآية 103.

[ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولاتجعل في قلوبنا غلاًّ للَّذين آمنوا، ربنا إنك رؤف رحيم] (1) حرّره إجابةً لالتماس بعض الفضلاء الأعزّة

لطف اللّه الصافي0.

ص: 113


1- الحشر: الآية 10.

ص: 114

وقت الغداة فى بلاد الاغتراب

اشارة

ص: 115

ص: 116

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين وصلوات اللّه وسلامه على خير خلقه وسيد أنبيائه أبي القاسم محمد وآله الطاهرين، واللعن على أعدائهم أجمعين.

وبعد... فهذه رسالة وجيزة حول بعض الفروع المتعلقة بأوقات الصلوات لا سيّما وقت صلاة الغداة، وابتداء الزمان الذي يجب فيه على الصائم ترك الأكل والشرب وسائر المفطرات كتبتها في (لندن) عاصمة انكلترا، وقد وقع الاختلاف موضوعاً وحكماً في وقت صلاة الغداة فيها، وما جاورها من البلدان، وفي أول زمان يجب على الصائم الإمساك عن المفطرات.

وقد عرضت المسألة جمع من المؤمنين على حضرة فقيه عصره ومرجع الطائفة المحقّة السيد الگپايگاني (قدّس سرّه).

وإليك نصّ الاستفتاء بطوله:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين

وبعد، فان في بعض النقاط من الكرة الأرضية وبالتحديد في شمالها ينعدم

ص: 117

الفجر المتعارف في البلاد الإسلامية حيث ان الكرة الأرضية مائلة المحور فهذه البلدان لايغيب عنها نور الشمس تماماً بل يصلها عبر القطب الشمالي (حيث لاحاجز بينها وبين البلدة) ويتم هذا في أواخر الربيع وأوائل الصيف (حيث النهار الأطول) فعندما تغرب الشمس يبقى تمام الليل ذا نور كنور الفجر الذي هو متعارف في البلدان الإسلامية (مثلاً) حيث أنّ الشمس لم تغب بالمقدار الذي تغيبه في البلدان الأُخرى أو الأيام الاُخرى.

ولكن هناك حالة ثانية وهي التي يبتدئ بازدياد النور بعد ثباتها. وللمثال على هذا: فإنّ الفجر في مدينة «لندن» ينعدم في خلال شهرين تقريباً من 23 آيار الى 20 تموز؛ وفي هذه الأيام المذكورة نرى حالة الليل فيها حالة الفجر، حيث لم يكن هناك ظلام مطبق لأن الشمس لم تغب عنها تماماً كما في سائر البلدان أو سائر الأيام فيها، بل إنّ نور الفجر في هذه الليالي متواصل فلم يكن أن يتحقّق الفجر، ولكن هناك في وقت مبكّر من الصباح يبتدىء هذا النور بالإزدياد والإنتشار، فلو اعتبرناها فجراً لهذا البلد لكان الفارق بين اليوم الذي يتحقّق فيه الفجر بلندن مثلاً كسائر البلدان يكون الفجر في الساعة (1:22) وطلوع الشمس في الساعة (4:58)(1) وفي يوم 23 آيار الذي لم يتحقق فيه الفجر كسائر البلدان أو الأيام يكون ابتداء إزدياد النور فيه في الساعة (3:12) وطلوع الشمس في الساعة (4:57).ي.

ص: 118


1- بتوقيت مدينة لندن الصيفي.

هناك ملاحظات لابدّ من ذكرها:

1 - انّ الفجر الحقيقي يتحقّق بنزول الشمس عن خط الأُفق ب (18) درجة في سائر البلدان، ولكن في لندن مثلاً في بعض الأيام من (23 آيار الى 20 تموز) فقط لايتحقق نزول الشمس عن خط الأُفق (18) درجة بل غاية نزوله (12) درجة فقط، فيبقى نور الشمس مباناً - كما في الفجر في الأيام العادية - في تمام الليل.

2 - \إنّ المتعارف عند المسلمين في لندن مثلاً هو الاعتماد في تمام السنة على (12) درجة حتى في الأيام التي يتحقّق فيها الفجر الحقيقي والتي هي عشرة أشهر تقريباً خلافاً للبلدان التي يتحقّق فيها الفجر في تمام السنة فإنّهم يعتمدون على (18) درجة.

3 - \إنّ الشهرين المذكورين اللذين لم يتحقق فيهما الفجر مختص بمدينة لندن وما جاورها، وأما البلدان التي في أقصى الشمال فالمدة التي لايتحقق فيها الفجر أكثر.

4 - إنّ عدم تحقّق الفجر غير مختص بشمال الكرة الأرضية بل إن هذه الحالة موجودة في جنوبها أيضاً، فالبلدان التي لم يتحقّق فيها الفجر في بعض الأيام كثيرة، فالسؤال الآن بالنسبة إلى هذه البلدان يتوجّه على النحو التالي:

1 - هل الاعتماد في تمام السنة على الحالة التي يبتدء بإنتشار النور (درجة 12) ولو تحقّق الفجر في بقية أيام السنة وعلى هذا نقطع بأن أكثر أيام السنة (يعني ما يقارب عشرة أشهر في لندن مثلاً) لم يكن الاعتماد على الفجرالحقيقي

ص: 119

رغم تحققه.

2 - \أو أن الاعتماد في تمام السنة الحقيقي (18 درجة) وفي الأيام التي لم يتحقق فيها الفجر يتماشا فيه على الفجر التقديري حيث يتجدّد الفجر بتقدم الفجر وتأخره التدريجي كما في سائر الأيام، وفي هذه الحالة يلزم في أكثر البلدان أو في أكثر الأيام تقدم وقت الفجر التقديري على الغروب الحقيقي، وهذا غير صحيح قطعاً.

3 - أو إن الاعتماد على ما له فجر حقيقي، كما في الأشهر العشر مثلاً بلندن على الفجر الحقيقي (18 درجة) وعلى ما ليس له فجر حقيقي (كما في الشهرين مثلاً بلندن) على الوقت الذي يبتدئ النور بالازدياد والانتشار (12 درجة) ولكن سبق وقلنا: إنّ الفارق بين اليوم الذي يتحقّق فيه الفجر (18 درجة) واليوم الذي لم يتحقّق فيه الفجر (12 درجة) كثير جداً.

ففي يوم 22 آيار بلندن مثلاً الفجر الحقيقي يكون الساعة (1:22) وفي 23 آيار الذي لم يتحقق فيه الفجر يكون الساعة (3:12) على اعتبار انتشار النور وازدياده (12 درجة) فالفارق بين القولين (1:50) أي مائة وعشرة دقائق (110) وهذا غير مألوف.

4 - أو إن الاعتماد على ماله فجر حقيقي كما في الأشهر العشر بلندن مثلاً على الفجر الحقيقي (18 درجة) وعلى ما ليس له فجر حقيقي (كما في الشهرين بلندن مثلاً) على أقرب بلد يتحقق له فجر حقيقي والذي هو نصف ما بين مجموع غروب الشمس وشروقها بمعنى: أنّ الفجر في هذين الشهرين مثلاً يبقى ثابتاً تقريباً.

ص: 120

5 - أو إن اللجوء إلى الاحتياط فيمسك عن المفطر على (18 درجة) ويصلّي على (12 درجة) وهذا موجب للعسر والحرج في أكثر البلدان إن لم تصل إلى كلها؟

6 - أو أن هناك حل آخر؟

ولابأس بإبداء رأيكم إنّ الفجر والغروب هل هما موضوعيان أو طريقيان؟

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جمع من المؤمنين - لندن.

10 رمضان 1406 ه

هذا تمام الاستفتاء بألفاظه والجواب عن الأسئلة التي وردت فيه يظهر من بيان أُمور:

الأمر الأول

هل الفجر والصبح والدلوك والغسق وغيرها مما له مسمى حقيقي في الخارج أُخذت في لسان الأدلة الشرعية على نحو الموضوعية، فأحكامها مختصة بمسمّياتها، وتدور مدار تحققّها كسائر الموضوعات التي لها أحكام خاصة، أو أُخذت على نحو الطريقة مثلاً: يكون الفجر طريقاً الى أمرٍ آخر هو في الحقيقة موضوع الحكم كمواجهة معينة معلومة بين الشمس والأرض، مثل: نزول

ص: 121

الشمس عن خط الاُفق ب (18 درجة) أو مضى مدة معلومة من غروب الشمس، أو أول مدة معينة تطلع عند انتهائها الشمس عرض السنة بحساب معين، وعليه:

لو فرض في بعض البلاد أو الأزمنة عدم تحقّق الفجر - سواء كان مفهومه الضوء، الحادث المنتشر بعد انعدام نور الشمس أو أعم منه ومن اشتداد الضوء كما يجيء في الأمر الآتي - المعيار تحقق ما هو الفجر طريق اليه، فلو علم ذلك من الطرق الفنية وغيرها يبنى عليه وهو المعتبر شرعاً؟

ظاهر الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة هو الموضوعية كقوله تعالى:

[وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً] (1) وقوله سبحانه وتعالى: [من قبل صلاة الفجر](2) وقوله عز من قائل: [سلام هي حتى مطلع الفجر](3) وأظهر منها في الأحاديث الشريفة كقوله عليه السلام: «اذا طلع الفجر فقد دخل وقت الغداة»(4) ، وقوله عليه السلام: «وقت صلاة الغداة ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس»(5).

فإن قلت: إن لازم أخذ الفجر أو طلوع الشمس مثلاً على نحو الموضوعية تأخير البيان عن وقت الحاجة، وسكوت الشارع عن بيان ما هو التكليف الواقعي لطائفة من المكلفين، أو القول بعدم كونهم مكلفين بمثل الصلاة، وهو خلاف الإجماع والضرورة.8.

ص: 122


1- الإسراء: الآية 78.
2- النور: الآية 58.
3- القدر: الآية 5.
4- الكافي: ج 3 ص 448.
5- تهذيب الأحكام: ج 2 ص 38.

لايقال: إنّ ذلك إنّما يتم إذا لم تكن الأحكام الظاهرة مجعولة من قبل الشارع، ولم يتمكّن المكلف من الإحتياط ومعها يرجع الشاك في الحكم الواقعى إليها، وان لم يجد في الأحكام الظاهرية مايرجع إليه في ظاهرالحال، ويرفع شكه، بالعمل بالإحتياط لامحالة.

لأنّه يقال: إنّ الموضوع في الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي، والإحتياط إنّما يستحسن ويرغب فيه إذا احتمل المكلف اشتغال ذمته بأمر، وفيما نحن فيه لازم القول بالموضوعية عدم كلية الضابطة التي أعطاها الشارع وعدم شمولها لسائر الأماكن والأزمنة التي لايتحقّق الفجر فيها مثلاً، فمع العلم بخروج أهالي هذه البلاد عن تحت ما صدر من الشارع في بيان أحكامه (كما هو الفرض) لايبقى موضوع للحكم الظاهري، والإحتياط أيضاً في مثل هذا الفرض أي صورة عدم احتمال التكليف بلا موضوع، لاحسن له.

قلت: أوّلاً: من أين علم أنّ الشارع لم يبين ما هو وظيفة المكلف في هذه المناطق والأزمنة؟ فلعله بَيِّنٌ وخفي علينا لعدم ابتلاء المشافهين به، والبيان الذي يحتج به وإن كان هو البيان الواصل الى المكلف، ومع عدمه يكون معذوراً في المخالفة، ولايجب عليه الإحتياط إلّاأنّ حسنه محفوظ، فلايقال: إنّ الاحتياط بلاموضوع بالمرة.

وثانياً: لايخفى عليك الفرق بين الحكم الواقعي الأصلي المتّصل وبين التكليف والحكم التبعي الذي يبين ويحدّد موضوع الحكم الكلي ويبين أجزائه وشرائطه ومصاديقه وأفراده بحسب حالات المكلف.

ففي الأول: وهو الحكم الواقعي الأصلي إذا علم بعدم صدور بيان من الشارع

ص: 123

لامحل للشك فيه للعلم بعدم التكليف فضلاً عن الحكم الظاهري الذي هو موضوعه الشك في الحكم الواقعي. نعم لو شك فيه لإحتمال صدور البيان وعدم الظفر به، فالمرجع فيه البراءة، ويجوز فيه الاحتياط.

وأما في الثاني: فالحكم الذي يدل الدليل على أجزاء ما هو موضوع له، وشرائطه إما أن يكون معلوم التعلق بجميع المكلفين مطلقاً وإن كان الشرط الذي دلّ على شرطيته الدليل متعذّراً، أو كان تعلّقه به في صورة تعذّر شرطه مشكوكاً فيه، فإن كان مشكوكاً فيه فظاهر دليل الشرطية والجزئية انتفاء التكليف بالمشروط بتعذّر الشرط أو الجزء.

وأما إن كان الحكم معلوم التعلق بالمكلف في جميع حالاته، فالدليل الدال على الشرائط واجزاء موضوع الحكم الكلي الثابت على جميع المكلفين مثل:

الصلاة إذا كان قاصراً عن شموله للجميع، فالواجب علينا الاحتياط إن أمكن وقلنا بوجوبه وعدم جواز اجراء البراءة في الشرائط والأجزاء، وإلّا فيجوز الاكتفاء بما بقي من الأجزاء والشرائط.

وإن شئت قلت: إن في تحديد موضوع الحكم الكلي وتعيين شرائطه وأجزائه لايجب على الشارع بيان تكليف المكلف في الحالات النادرة، أو تكليف النادر من المكلفين، بل وغير النادرين بعد إمكان إتيان المكلف بالتكليف الكلي بالعمل بالاحتياط، أو العمل بالاُصول العملية لو كان مورد ابتلائه مجرى تلك الأُصول كما فيما نحن فيه، فإنّه في جانب الصلاة يأتي بها بعد العلم بدخول الصبح وفي جانب الصوم يأخذ باستصحاب جواز الأكل والشرب (استصحاب الحكم).

وأما استصحاب الموضوع أي الليل، فقد يقال بعدم جريانه لتردد مفهومه بين

ص: 124

الفرد المحقّق عدم بقائه وبين الفرد المتيقّن بقائه.

وفيه: إنّ الزمان مثل الليل إن كان موضوعاً للقطعة الخاصة منه المحدودة بين الحدّين، وتردّد مفهومه بين قطعة خاصة محدودة بالحدّين الكذائيين ما، وما هو محدود بالحدّين الآخرين اللذين يكون بهما أطول من الاُولى، وبعبارة أُخرى:

يكون بالحدين الأولين مقطوع التحقيق وبالحدّين الآخرين غير المحقّق، فلاريب في عدم جريان الاستصحاب فيه لافرداً ولاكلياً، لأنه إن كان الأول فقد تحقّق بعد وصول الى حدّه الثاني، ومضى وتصرم بعده، فلاشك في تحقّقه في الزمان السابق وعدم تحقّقه في الزمان اللاحق، وإن كان الثاني فلاشك في عدم تحقّقه قبل تحقّق حدّه الثاني، وهذا نظير الحركة القطعية التي لاتتحقق بالنسبة إليها اجتماع اليقين والشك.

وأمّا إن كان موضوعاً لما يتحقّق بين الحدّين (لا لما يتحقّق بالحدّين) كالحركة التوسطية، فإجتماع اليقين والشك فيه يتحقّق بالوجدان سواء كان الشك فيه من جهة وصول الفرد المتحقّق الى منتهاه، أو من جهة أن الفرد المتحقّق هو الذي ينتهي وجوده ويزول بعد ساعة أو ما يزول ويرتفع بعد ساعتين، وسواء كان ذلك من جهة تردد مفهومه بين ما يزول بعد ساعة وما يرتفع بعد ساعتين، ففي الجميع يجتمع اليقين والشك ويجري الاستصحاب فيه.

نعم لايجري استصحاب الفرد إلّافي الصورة الاُولى، وهي التي شك في بقاء الفرد المتحقّق من جهة الشك في وصوله الى منتهاه المعلوم، وأما الكلي فيجري في هذه الصورة وسائر الصور، وعلى هذا لا إشكال في استصحاب بقاء الليل على نحو الكلي، وترتيب آثاره وأحكامه عليه مثل جواز الأكل وغيره مما

ص: 125

لايكون من أحكام فرد خاص من الليل.

فإن قلت: سلّمنا ظهور العناوين المذكورة الدالة على الظواهر المسمية بها في الأدلة على الموضوعية إلّاأنّ العرف بعدما يرى من الربط بين هذه الظواهر وأوضاع فلكية أُخرى، وإنّ الاُولى لاتحدث بدون الثانية.

ويرى أنّ بعض المقصود من جعل هذه العناوين دخيلاً في الحكم توزيعه على الأوقات واشتغال المكلف بالعبادة في فصل زماني خاص، يرى بمناسبة الحكم والموضوع عدم الفرق بين أزمنة حدوث هذا الوضع الفلكي الخاص، فلايرى فرقاً بين كون حدوثه سبباً عرفياً لظاهرة خاصة مثل الفجر وكانت هذه معه، أو لم تكن معه.

ويرى أنّ الأخذ بالظاهرة في لسان الدليل كان لأجل عدم إمكان دلالة العرف إلى هذا الوضع الفلكي في المتعارف والأغلب إلّابه، فلذلك يلحق العرف بالفجر مثلاً الزمان الذي يتحقق فيه الوضع الفلكي الفجري وإن لم يتحقق الفجر معه، لأنّ المناط بتنقيحه أعم مما يتحقّق معه الفجر ومما لايتحقق، وهذا قول بالموضوعية لكن لا بدلالة المنطوق، بل بدلالة المفهوم وتنقيح ما هو مناط الحكم.

قلت: في الموارد التي يكون الوضع الفلكي الخاص مسيره موافقاً على حسب المتعارف مع مسيره في الأزمنة التي تكون معه الظاهرة المجعولة في لسان الدليل موضوعاً للحكم كالفجر مثلاً، فلايتفاوت مثلاً مدة ما بين الطلوعين في الأيام التي لايتحقّق فيها الفجر مع الأيام التي يتحقّق فيها تفاوتاً فاحشاً بحيث لايرى العرف فرقاً بين الحالتين إلّاأنّه في حالة يؤثر هذا الوضع في حدوث الظاهرة الخاصة، وفي حالة بواسطة فقد شرط أو عروض مانع لايؤثر، يمكن

ص: 126

دعوى تنقيح المناط والقطع به خصوصاً إذا كان المدعى من العارفين بالهيئة والأوضاع الفلكية إلا أن الموارد مختلفة جداً، ودعوى القطع بتنقيح المناط في بعضها يجب أن يكون مقبولا عند العرف لايعدّ من الاجتهاد في مقابل النص هذا في الموارد المذكورة، وأمّا في الموارد التي يتفاوت آثار وجود هذه الظاهرة مع غيرها فالقول بتنقيح المناط باطل قطعاً.

ثم إنه لايخفى عليك أنه لامجال للبحث عن موضوعية الفجر أو طريقيته عند القائل بموضوعية التبيّن في قوله تعالى: [حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر](1) إلّاإذا كان ما يعدّ الفجر طريقاً اليه قابلاً للتبين مثل الفجر حتى يقول بقيام تبينه مقام تبيّن الفجر، وأمّا إذا لم يكن ذلك الأمر قابلاً للتبيّن فلامجال للبحث عن طريقية الفجر أو موضوعيته مع القول بموضوعية التبيّن، وهذا واضح جداً.7.

ص: 127


1- البقرة: الآية 187.

الأمر الثاني: في مفهوم لفظ (الفجر) لغةً واصطلاحاً

قال الراغب في «مفرداته»: الفجر شق الشيء شقاً واسعاً (إلى أن قال:) ومنه قيل للصبح: فَجْر لكونه فَجرَ الليل قال: [والفجر وليال عشر] (1)[إن قرآن الفجر كان مشهوداً](2) وقيل: الفجر فجران الكاذب وهو كذنب السرحان والصادق وبه يتعلّق حكم الصوم والصلاة.

وفي «لسان العرب»(3): الفجر: ضوء الصباح وهو حمرة الشمس في سواد الليل، وهما فجران؛ أحدهما المستطيل وهو الكاذب الذي يسمى ذنب السرحان؛ والآخر المستطير وهو الصادق المنتشر في الأُفق الذي يحرم الأكل والشرب على الصائم، ولايكون الصبح إلّاالصادق. قال الجوهري: الفجر آخر

ص: 128


1- الفجر: الآية 1.
2- الإسراء: الآية 78.
3- لسان العرب: ج 11، ص 130، باب حرف الفاء.

الليل كالشفق في أوله.

أقول: يمكن أن يقال: إنّ الفجر موضوع للضوء الحادث المنتشر في الأُفق ويفجر ظلمة الليل التي حصلت بسبب غروب الشمس، وتكملت ووصلت الى نهايتها بسبب بعد الشمس عن الاُفق، سواء وصلت الظلمة إلى نهايتها بإنعدام نور الشمس عن الاُفق بالمرة بسبب غيبوبتها كما هي الحال في البلاد المتعارفة، أو لم تصل وبقي تمام الليل بواسطة عدم غيبوبة الشمس بتمام ضوئها عن الأرض ذا نور كنور الفجر، ففي كلتي الصورتين النور يطلع ويفجر الظلمة الحادثة بسبب غروب الشمس، وإن كانت ظلمة الليل في الصورة الثانية ضعيفة، إلّاأنّه لا شك في وجودها كظلمته في أول الليل التي هي توجد بغروب الشمس عن الاُفق، والضوء الحادث على الاُفق يفجر هذه الظلمة وإلّا لم يكن مرئياً.

وبعبارة أُخرى نقول: إنّ الفجر عبارة عن حالة نورية تحدث بشروق الشمس وتفجر ظلمة الليل وتشقّها شقّاً وتزداد إلى أن تطلع الشمس؛ سواء كان الليل ظلمته مطبقة أو غير مطبقة، وسواء انعدم نور الشمس فيها أو لم ينعدم، وبقي تمام الليل ذا نور كنور الفجر، فكل هذه الحالات التي تحدث بشروق الشمس من أفراد الفجر، وكما في لسان العرب، ضوء الصباح.

فإن قلت: هذا مقبول لو كان اشتداد الضوء في الليالي التي لاينعدم نور الشمس فيها موافقاً لطلوع الفجر في غيرها بحساب التقاويم، أو لايختلف عن سائر الأيام اختلافاً فاحشاً، وأمّا مع الاختلاف الفاحش كما إذا كان طلوع الفجر المتعارف على ما ذكر في الاستفتاء في (لندن) في يوم 22 آيار في ساعة (1:22) وفي يوم 23 آيار الذي لايتحقّق فيه الفجر المتعارف، بل يشتد الضوء

ص: 129

الموجود ويزداد، يكون الفجر أي أول زمان شروع النور في الشدة والإزدياد في ساعة (3:12) فيكون الفارق بين يومين متواليين مائة وعشرة دقائق (1:50) وهو وضع غير مألوف.

قلت: لااعتناء بهذا الإختلاف والتفاوت بعد تحقّق الفجر وشق ظلمة الليل وطلوع ضوء الصباح تارة بالكيفية المألوفة وتارة بكيفية غير مألوفة.

هذا مضافاً إلى أنّ في إنكار صدق اسم الفجر على شروع النور بالإزدياد الذي لايمكن تحقّقه إلّابشروق الشمس على الاُفق، وتحقّق الوضع الفجري، لافائدة عملية فيه، فإنه كما يظهر من عمل مسلمي (لندن)، على ما في هذا الاستفتاء، واعتمادهم على (12 درجة) في تمام السنة، لاخلاف بين عرفهم في دخول الصبح ووجوب الإمساك عن المفطرات عند اشتداد الضوء.

فلاينبغي الإختلاف في أن هذا هو الفجر الحقيقي والإعتماد عليه، والحكم بجواز ارتكاب المفطر قبل حدوثه لعدم تحقّق الفجر واقعاً، أو إنّ هذا الانتشار والاشتداد بعد مضي (1:50) من زمان الفجر المتعارف في اليوم السابق عليه، وإن كان دليلاً على اليوم ويجب الإمساك عنده إلّاأنّه لايدل على تحقّق الفجر به فلعلّه تحقّق قبل ذلك وإنما منع من ظهوره ورؤيته النور الباقي من أول الليل، كما يمنع منه نور القمر في الليالي المقمرة، ولكن مع ذلك يحكم بعدم جواز الأكل والشرب قبل ذلك بحكم الاستصحاب، فلافائدة عملية في ذلك، فإنه كيف كان يجوز الأكل والشرب قبل ذلك كما يجب تركهما بعده.

نعم، لو ادعى أحد بمناسبة الفارق الزماني المذكور سبق طلوع الفجر على زمان اشتداد الضوء وانتشاره، وادّعى تحقّقه في زمان معين قبل ذلك، فعليه

ص: 130

العمل على طبق قطعه، فلايجوز له الأكل والشرب من هذا الزمان.

هذا تمام الكلام في هذا الأمر واللّه هو الموفّق للصواب.

ص: 131

الأمر الثالث

هل الحكم المستفاد من قوله تعالى: [وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود](1) حكم واقعى أم حكم ظاهري مجعول للشاك في بقاء الليل وجواز الأكل والشرب؟ وهل التبيّن المذكور في الآية الكريمة اخذ على نحو الطريقية أو الموضوعية؟

والجواب: إنّه يجوز أن يكون حكم جواز الأكل والشرب المستفاد من الآية الشريفة حكماً واقعياً تكون غايته التبيّن المذكور فيها، وهي تتحقّق بتحقّق الخيط الأبيض المتبيّن من الخيط الأسود للناس من ذوي الأبصار المتعارفة كسائر المبصرات إذا لم يكن عن تبيّنه مانع كغلبة نور القمر في الليالي المقمرة، وعليه: يكون الحسّ والرؤية الطريق للإحراز هذا الأمر المتبيّن بنفسه كسائر

ص: 132


1- قال في مجمع البيان: والخيط الأبيض بياض الفجر، والخيط الأسود سواد الليل، وأول النهارطلوع الفجر الثاني لأنه أوسع ضياءً. وقال ابن الأثير في النهاية: وفي حديث عدي: (الخيط الأبيض من الخيط الأسود) يريد به بياض النهار وسواد الليل.

الموضوعات المحسوسة والمبصرة من غير احتياج إلى جعل من الشارع، وعلى هذا الاستظهار يكون ما هو الموضوع لتحقّق الغاية أمراً واحداً، وهو الخيط الأبيض المتبيّن بنفسه من الخيط الأسود، لاأمرين يكون أحدهما الخيط الأبيض والآخر تبيّن ذلك.

وعليه: حيث يكون التبيّن لازماً لوجود الموضوع لاينفك عنه ليس هو من الموضوع بشيء، أي لم يؤخذ فيه وليس هو طريقاً إليه، فيكفي حصول العلم بذلك الأمر المتبيّن بنفسه، ويقوم مقام رؤيته في الليالي المقمرة التي لايدرك ذلك بالبصر لمنع المانع. ويجوز أن يكون الحكم المذكور واقعياً غايته التبيّن المذكور على أن يكون التبيّن جزء للغاية المركّبة منه ومن الخيط الأبيض.

وعليه: أيضاً الحكم بجواز الأكل في الليالي الغير المقمرة يكون حكماً واقعياً لامحالة، وأما الليالي المقمرة فلاتشملها الغاية المذكورة إذا شك في بقاء الليل، نعم يجوز الأكل والشرب إلى العلم بدخول اليوم بالاستصحاب.

هذا، وهل - على البناء على استظهار الحكم الواقعي من الآية - الأظهر هو الوجه الأول أو الثاني؟

يمكن أن يقال: إنّ الوجه الثاني وهو كون التبين جزءً للموضوع خلاف الظاهر، أو كون الأول أظهر منه.

أوّلاً: لأنّه خلاف مفهوم الفجر بحسب العرف فإنّه أعمّ من تبيّن الخيط الأبيض حسياً أو تقديراً.

وثانياً: لاستلزامه عدم شمول الضابطة المستفادة من الآية لليالي المقمرة مع

ص: 133

ظهور الابتلاء بها ولزوم بيان حكمها، فلذلك يستضعف استظهار الوجه الثاني من الآية الكريمة ويرجّح الوجه الأول.

هذا كله مبني على استظهار كون الحكم المذكور حكماً واقعياً.

ولكن التحقيق أنّه كما يجوز ذلك يجوز أن يكون الحكم المذكور حكماً ظاهرياً مجعولاً للشاك في الفجر وبقاء الليل حكماً أو موضوعاً كالاستصحاب، فالشاك في بقاء الليل يبني على بقائه الى أن يتبيّن له الفجر.

ويمكن عدّ الآية من أدلة حجية الاستصحاب في غير هذا المورد أيضاً بادّعاء دلالة الآية الكريمة على إرجاع العرف الى ما هو المركوز في أذهانهم، واستقر عليه عملهم من إبقاء ما كان على ما كان، والأخذ بالحالة السابقة عند الشك في بقائها، وأنها لاتنقض إلّاباليقين، وسواء استظهرنا ذلك منها أو لم نستظهره.

القول بظهور الآية في كون حكم جواز الأكل ظاهرياً قوي جداً، ولازمه الالتزام بطريقة التبيّن الحسّي وقيام القطع وكل طريق شرعي معتبر مقامه، وأما القول بموضوعيته فرده الظهورَ المذكور وصحتُه منوط بكون الحكم المستفاد من الآية الحكم الواقعي، ومع ظهور الآية في طريقية التبيّن وكون الحكم حكماً ظاهرياً مجعولاً للشاك لاوجه للذهاب إليه.

ولو تنزّلنا عن ذلك وقلنا بظهور قوله تعالى: [كلوا واشربوا...](1) في الحكم الواقعي فالقول بموضوعية التبيّن عليه أيضاً خلاف الظاهر كما أشرنا إليه، فالظاهر على هذا البناء هو الوجه الأول وهو كون الغاية تحقّق الخيط الأبيض7.

ص: 134


1- البقرة: الآية 187.

المتبيّن للناس؛ سواء أحرز ذلك بالحسّ والبصر أو بالعلم أو بطريقٍ معتبر آخر، فتأمّل جيداً.

هذا ولو شككنا في طريقية التبيّن وموضوعيته فالمرجع في الصوم هو الإستصحاب، وفي الصلاة الإحتياط بتأخير أدائها إلى زمان العلم بانقضاء الليل ودخول الصبح.

ولايقال: إنّ مقتضى الأخذ بالظاهر هو الموضوعية.

فإنّه يقال: الأمر كذلك في مثل قولنا: صلّ حتى الفجر، أو قوله تعالى: [أقم الصلاة لدلوك الشمس].

وأمّا إذا قال: أقم الصلاة حتى يتبين لك الفجر، أو دلوك الشمس، فالظاهر هو الطريقية، وفرض الشك في الطريقية أو الموضوعية تنزّل عن هذا الظهور.

ثم لايخفى عليك أنه على القول بموضوعية التبيّن والقول بأنّ مفهوم الفجر أعم من الفجر المتعارف ومما هو مثل شروع النور في الإزدياد والشدة بشروق الشمس على الاُفق كما لابد من التبيّن الحسّي في الفجر المتعارف لابد من تبيّضه بشروع النور في الاشتداد.

هذا، وقد تم بيان ما أردنا من الأُمور فنذكر الجواب عن المسائل المطروحة في الإستفتاء والمربوطة بها في ضمن فروع:

الأول: الأظهر بل الظاهر أنّ العناوين المأخوذة في لسان الأدلة، مثل الفجر والمغرب وغيرهما اخذت على نحو الموضوعية، فلايتعدّى عنها إلى غيرها إلّا بمفهوم الموافقة من المساواة أو الأولوية، أو تنقيح المناط كما مر في الأمر الأول.

ص: 135

الثاني: إنّ مفهوم الفجر وهو شق ظلمة الليل - سواء كانت مطبقة أم غير مطبقة - أعمّ من الفجر المتعارف الذي يحدث في الاُفق بعد الفجر الكاذب، واشتداد النور وشروعه في الإزدياد في البلاد أو الليالي التي لاينعدم نور الشمس في الليل ويبقى في كمال ظلمته كالفجر.

وعليه: ففي مثل مدينة لندن التي في أشهرها العشر - على ما في هذا الاستفتاء - ينعدم نور الشمس، ويتحقّق الفجر كسائر البلاد، الاعتماد على الفجر المتعارف، وفي الشهرين اللذين لاينعدم نور الشمس في الليل الإعتماد على شروع النور في الإزدياد والإشتداد، وهو فجر هذين الشهرين لأنّ النور الزائد يفجّر الظلمة المختلطة بالنور ويذهب بها شيئاً فشيئاً إلى أن لايبقى منها شيء كما هو الحال في الفجر المتعارف.

الثالث: الاعتماد على اشتداد الضوء في الفرض المذكور في الاستفتاء في الشهرين اللذين لاينعدم نور الشمس في الليل معتبر شرعاً؛ إمّا لأجل صدق الفجر على حالة اشتداد النور كما ذكرناه في الفرع الثاني، وإمّا لأجل القطع بتحقق النهار عنده، فلايجوز بعد ذلك تناول المفطر.

نعم، بالنسبة إلى قبله وإن كان يجوز تناول المفطر ولايجزي الإتيان بصلاة الصبح إلّاأنّ جواز المفطر وعدم إجزاء الصلاة على الأول للعلم ببقاء الليل، وعلى الثاني للعمل بالاستصحاب والتعبّد على بقاء الموضوع أو الحكم.

الرابع: لايجوز ترك الإعتماد بالفجر المتعارف المحقّق في عشرة أشهر السنة والإعتماد في كل السنة على الفجر الذي يتحقّق باشتداد الضوء في الشهرين، بل يختص ذلك بهما.

ص: 136

الخامس: الظاهر أنّ التبيّن المذكور في الآية طريقي، فيكفي وجود الفجر بمصداقيه سواء احرز بالحس أو بالقطع أو بأيّ طريق معتبر شرعي.

السادس: لو لم يتحقّق الفجر في بعض البلاد أو الأزمنة إذا شك في بقاء الليل يعتمد في صومه على الاستصحاب وفي صلابته على الاحتياط، فيجوز له الأكل والشرب إلى أن يعلم بتحقّق النهار ويؤخّر أداء الصلاة الى ذلك.

السابع: إذا اشتبه تحقّق الفجر وعدمه في بعض المناطق على أهله، فإمّا أن يكون الأمر مشتبهاً على الجميع لعدم وصول فحصهم إليه فحكمه يظهر مما تقدم في الفروع السابقة.

ولو اختلف أهله في تحقّقه وعدمه، فادعى طائفة منهم تحقّقه استناداً الى رؤيتهم الحسّية وطائفة ادّعت عدم تحقّقه استناداً إلى عدم رؤيتهم مع الفحص الكامل المستمر وربما يؤيد ذلك ببعض القواعد العلمية الدال على عدم تحقّق الفجر في ذلك المكان، ففي هذا الفرض يعمل كل منهم على مقتضى علمه.

وأمّا الشاك في تحقّق الفجر في المنطقة المذكورة، فهل يرجع الى الطائفة الاُولى التي ادّعت تحقّقه استناداً الى رؤيتها الحسية؟

الظاهر جواز الرجوع إذا كانوا من العدول أو الثقات، ولايعارض شهادتهم عدم انتهاء الفحص الطائفة الثانية إلى رؤيته والتصديق بتحقّقه، بل والتصديق بعدم تحقّقه لأنّه لو كان أمر قابل للمشاهدة والرؤية لرأوه.

وذلك لأنّ ما هو الموضوع للأحكام هو تحقّق الفجر الذي يحرز بشهادة الشهود، اللهم إلّاأن يكون اللذين يدعون عدم الرؤية جمع لايجوز في العادة

ص: 137

عدم رؤيتهم مع الفحص وعدم المانع سيّما إذا كان فحصهم مستمراً في طول السنين والأعوام، وبقي الأمر مختلفاً فيه، فالإعتماد على قول مدّعي الرؤية وإن كانوا من أهل العدالة والوثاقة في مثل هذا الفرض لايخلو عن الإشكال، لأنّ من مباني الاعتماد على قول العادل أصالة عدم الاشتباه، ومع إختلاف جماعة من ذوي الأبصار الصحيحة في ذلك لايعتمد بأصالة عدم الإشتباه، فالشاك يعمل على طبق الأصل والإحتياط، واللّه العالم بأحكامه.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على سيدنا أبي القاسم محمد وآله الطاهرين سيّما بقية اللّه في الأرضين وحجته على العالمين أرواحنا له الفدا.

كتبه في بعض ضواحي (لندن) في شهر اللّه الأعظم من شهور سنة 1407 ه عبده المفتاق الى رحمة اللّه، وجدّدت النظر في بلدة قم المشرّفة، عش آل البيت عليهم السلام.

لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

7 - \جمادى الأُولى - 1408 ه

ص: 138

حديث عرض الدِّين

اشارة

ص: 139

ص: 140

المقدّمة في الإيمان و مراتبه

إنَّ الاعتقاد بالمبدأ و المعاد و النبوّة و الإمامة، يُعدُّ من موجبات السعادة و إطمئنان القلب و رفع الاضطراب الروحي، و إحياء الأمل و التفاؤل بالحياة، و السير نحو الفلاح و الفوز.

و لا نبالغ إذا ما قلنا: أنّه لا توجد طلبات أدعى للسعادة و الراحة من هذه الطلبات الثلاث التي ذكرت في هذا الدعاء:

«اللّهُمَّ إنِّي أسألكَ إيمانا تباشر به قَلْبي، و يقيناً صادقاً حتى أعلمَ أنَّه لَنْ يصيبني إلاّ ما كتبتَ لي، و رضَّني من العَيش بما قسمتَ لي»(1).

الحاجة الأُولى: الايمان الذي يجعله اللّه تعالى مستولياً على قلب الإنسان و

ص: 141


1- ورد في أدعية عدَّة، منها: دُعاء أبي حمزة الثمالي.

محيطاً به.

الحاجة الثانية: اليقين الصادق، و هو أن يعتقد الإنسان أن لن يصيبه إلاّ ما كتب اللّه له.

الحاجة الثالثة: الرضا بالرزق المقسوم و العيش المقرّر من قبل الحق جلَّ و علا.

إنَّ الإيمان و اليقين و الرضا، من الحالات و المقامات التي لها درجات و مراتب متفاوتة بين البشر، ففي الوقت الذي يصح إطلاق الإيمان و اليقين و الرضا على كل مرتبة منها، لكنَّ أفرادها متفاوتة كتفاوت مراتب و أفراد النور، و قد تصل الفاصلة بين مرتبة و أُخرى إلى درجة بحيث لو كان بالإمكان تطبيق مقياس سرعة الضوء عليها، لأشرنا إليها بذلك المقياس.

فكما نعلم، أنَّ نور الشمس نورٌ، و نور المصباح نور، و نور السراج نور، و نور الشمعة نور أيضاً، و لكنها متفاوتة الشدَّة و الدرجة، فكذلك الإيمان الذي عُبِّرَ عنه في القرآن الكريم بالنور، كما في تفسير الآية الشريفة: [ربَّنا أتْمِم لَنا نُورَنا](1).

و الآية الشريفة: [يَومَ تَرى المؤمنين و المؤمنات يَسعى نُورُهُم بَيْنَ أيديهِمْ](2).

و لذا فإنَّ إيمان النبيِّ الأكرم صلى الله عليه و آله إيمانٌ و نورٌ مكَّنهُ من القيام بأكبر وأثقل وظيفةٍ أوكِلَت إلى أحدٍ من الخليقة من قِبَل اللّه تعالى، حيث قام بمهمته على2.

ص: 142


1- التحريم: الآية 8.
2- الحديد: الآية 12.

أفضل وجه ممكن متحدياً الدنيا بأسرها ومغيِّراً الكفر و العادات الباطلة، والشرك إلى التوحيد و الصلاح.

و كذلك إيمان أمير المؤمنين عليه السلام نورٌ و إيمان وصل إلى مرتبة قال عنه علي عليه السلام:

«لَوْ كُشفَ الغِطاءُ ما إزْدَدْتُ يَقيناً»(1).

و قال عليه السلام: «لَوْ أُعطيتُ الأقاليم السَبعَةَ بما تحت أفلاكها على أنْ أعْصي اللّه في نَملةٍ أسلُبُها جُلبَ شعيرةٍ ما فعلتُهُ»(2).

و هكذا سائر الأئمة المعصومين و الأنبياء العظام عليهم السلام كانوا مظاهرَ لقوة الإيمان و مراتبه الكاملة، التي تعدُّ دورساً نافعة و مثبتةً لإيمان الناس.

و الحاصل: أنَّ إيمانَ خواصَّ الأصحاب و الشخصيات الإسلامية الذي تجلى في عملهم و إيثارهم و فدائهم في الغزوات مثل بدرٍ و أُحدٍ و الخندق و الجمل و صفّين و النهروان و يوم عاشوراء قد إرتفع بهم إلى أعلى مراتب تجلّيات الإيمان، و كان نوراً.

إنَّ إيمان حمزة بن عبد المطلب و جعفر الطيار و أبي الفضل العباس و سلمان و المقداد و عمّار و حبيب بن مظاهر و زهير و رشيد و ميثم، و المئات بل الآلاف من المؤمنين الذين خرجوا من بوتقة الامتحان خالصين من الغشّ و إن لم يكونوا في درجة واحدة من الإيمان، لكنَّ ما قام به كلُّ واحدٍ منهم كان تجلّياً من تجلّيات4.

ص: 143


1- بحار الانوار: ج 46 ص 135، غرر الحكم، الفصل 75، ح 1 و 2 ص 603.
2- نهج البلاغة: الخطبة 224.

عظمة إيمانهم و قوّة عقيدتهم و حاكياً عن إطمئنانهم و عدم إضطراب قلوبهم.

وإيمان الأشخاص الآخرين إيمان أيضاً، لكن درجة التفاوت بين إيمانهم و إيمان اولئك الخُلَّص، يصعب قياسها و تقديرها.

فكلُّ هؤلاء و بحسب درجات إيمانهم، يتمتّعون بالإستقرار و سكون الباطن وراحة البال و التسليم و الرضا و التوكل على اللّه و الثقة بالنفس، ليتصلوا إلى المرتبة العالية، فلا يفرحوا بما يصلهم و لا ييأسوا على ما يفوتهم من الدنيا مصداقاً لقوله تعالى: [لِكَيْلا تَأسَوا على ما فاتَكُمْ و لا تَفرَحُوا بِما آتاكُمْ](1) و يصلوا إلى حيث لا يخافون إلاّ اللّه: «حَدُّ اليقين أن لا تخافَ مَعَ اللّهِ شيئاً»(2).

والحاصل: أنَّ للتوكّل و التسليم و الرضا و التفويض إلى اللّه - و كلها من مقامات السعداء - مراتب يحوزها بعض الناس بمقدار قوّة درجات إيمانهم و خلوص عقيدتهم عن الشرك و الخرافات و الانحرافات الاُخرى.

وعلى هذا، ليس ثمَّة وسيلة لنيل الإنسان السعادة الواقعية، أعلى من الإيمان الصحيح و اليقين الخالص، فإنّه يدفع كل إضطرابٍ و خوفٍ من زوال النعم، و يرفع كلَّ اضطراب و توجس من إبهام المستقبل.

[الّذينَ آمنوا و تَطْمَئنُّ قلوبُهُم بِذِكرِ اللّه ألا بِذِكرِ اللّه تطمئنُّ القُلوب] (3) .8.

ص: 144


1- الحديد: الآية 23.
2- بحار الأنوار: ج 67 ص 180 و 143.
3- الرعد: الآية 28.

فطالب السعادة عليه أن يسعى جاهداً للإيمان بحقائق مفاهيم هذه الجمل النورانية:

[حَسبُنا اللّه و نِعْمَ الوَكيل] (1) .

[ما شاء اللّه لا قوّة إلاّ باللّه] (2) .

[أُفَوِّضُ أمري إلى اللّه إنَّ اللّه بصيرٌ بالعباد] (3) .

[وَ مَنْ يَتَوكَّل على اللّهِ فَهوَ حَسْبُه] (4) .

[حَسبيَ اللّه] (5) .

[إنّا للّهِ و إنَّا إلَيهِ راجَعُونَ] (6) .

لينجو من ظلمات الحيرة و الترديد.6.

ص: 145


1- آل عمران: الآية 173.
2- الكهف: الآية 39.
3- غافر: الآية 44.
4- الطلاق: الآية 3.
5- التوبة: الآية 129، الزمر: الآية 38.
6- البقرة: الآية 156.

ص: 146

عرض الدّين على قادة الدّين

من جملة الطرق الرئيسية لتحصيل الإيمان الثابت و تقويته، هي التأمل في الآيات الآفاقية و الأنفسية، و التفكّر في خلق السماوات و الأرض ضمن مضامين القرآن المجيد. كما إنَّ مطالعة سيرة النبيِّ الأكرم صلى الله عليه و آله و الأئمة المعصومين عليهم السلام و مراجعة الأحاديث و الروايات الواردة عنهم و خطبهم و أقوالهم في مختلف المجالات العقائدية مفيدٌ في توسيع المعرفة و دليلٌ للوصول إلى منبع عين الإيمان و اليقين الصافية.

و في طيّات الكتب، كبحار الأنوار، كمٌّ هائل من الروايات و الأحاديث الواردة عنهم عليهم السلام في العقائد، ما يُغني عن الجوع إلى الآخرين و طرق أبوابهم.

و من جملة الطرق التي يمكن بها معرفة العقائد و مطابقتها للوحي و هدي القرآن الكريم و تعليمات الرسول الأعظم و أهل بيته الطاهرين عليهم السلام و التي تؤدي إلى الإطمئنان و سكون القلب أكثر فأكثر، هو «عَرضُ الدّين» على قادة الدين، و خاصة في تفصيلات المسائل العقائدية التي ينحصر إثباتها بطريق الوحي و إخبار الرسول الأعظم و أهل بيته عليهم السلام و لا طريق لمعرفتها إلاّ بالرجوع إلى

ص: 147

المدارك الصحيحة السماعية من الكتاب و السنة.

فمثلاً: في تفاصيل الثواب و الجزاء، و هل أنّه روحاني أو جسماني أم أنّه بكلاهما؟ أو في تفصيلات الميزان و الصراط و وجود الملائكة و الحقائق؟ و أمور كثيرة اخرى من هذا القبيل، يعتبر المرجع الوحيد المصون من الاشتباه هو رسول اللّه و الأئمة الطاهرين عليهم السلام.

لا يخفى، إنَّ الشرع و العقل يتّفقان في أصل بعض العقائد، كما إنَّ الحاكم في اصول العقائد هو العقل، و القرآن الكريم ساق الإنسان و أرجعه إلى العقل و أمر الناس باتباع العقل فيها، و لكن في التفصيلات و الاعتقادات الاُخرى - \غير الاُصول - \لابدَّ من مراجعة الشرع، و من ثمَّ نجد أنَّه لا طريق للعقل في معرفة تلك الاُمور، أو أنَّ الإنسان غير مكلف بمعرفة تلك الاُمور، بملاحظة أنَّ بعض الأُمور و المطالب الاعتقادية ليست من المستقلاّت العقلية و الأوَّليّات البديهية و الفطرية، و لذا لا تكون نتائج البحث العقلي فيها مصونة من الاشتباه و الخلط، و بلحاظ غموض فهمها و دركها من قبل أغلب الناس أو جميعهم، سيكون التكليف بمعرفتها تكليفاً بما لا يطاق. و من هنا نُهي الناس عن تحصيل الاعتقاد بها عن طريق العقل لاحتمال الوقوع في الضلالة، و حينئذٍ يكتفى بالدليل السماعي الذي ثبت جواز الاعتماد عليه عقلاً، فلا يكون الإنسان معذوراً فيما إذا وقع في الضلالة نتيجة سلوكه طريق العقل لمعرفة تلك الاُمور.

و كما نعلم، فإنّ الكثير من المواضيع التي تبحث في الفلسفة و الكلام و ما يصطلح عليه بالعرفان، و التي ترتبط بالإلهيّات هي من هذا القبيل.

و الحاصل: أنَّ المرجع الوحيد المصون من الخطأ و الاشتباه في مثل هذه

ص: 148

المسائل هو الشرع، و إنَّ اولئك الذين يسلكون طريقاً آخر لمعرفتها، و الذين يُأوّلون الكتاب و السنَّة بما يوافق استنتاجاتهم العقلية، يكونون قد سلكوا طريقاً خطراً، يطوون به الظلمات بلا دليلٍ و مرشدٍ من الكتاب و السُنَّة، و إنَّ هذا الطريق لن يوصلهم إلاّ إلى الحَيرة و التشكيك و الترديد.

و إنَّك لن تجدَ تعارضاً أبداً بين الاستنتاج العقلي في الموارد التي يجوز لنا اتباع المسلك العقلي لمعرفتها، و بين الأدلة القطعية من القرآن و السنَّة القطعية الصدور، و لو فرض ووجد مثل هذا التعارض، فإنَّ الفهم القطعي العقلي سيكون قرينة قطعية عقلية على عدم إرادة ظاهر الكلام، و هذا الحكم العقلي سيكون قرينة على المجازية، و سيكون الحاكم هو قاعدة «إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات هو المتعيِّن».

و أمّا في غير هذه المباحث، إذا تعارض الاستنتاج العقلي مع دلالة الكتاب و السنّة، و وقع الشخص في الاشتباه، فلا يكون معذوراً لأنه منهيٌّ من البداية عن الورود في هذا الطريق.

و كمثال لما ذكرنا نقول: نحن و من خلال الآيات القرآنية الكثيرة و الأحاديث الشريفة، نفهم بالقطع و اليقين أنَّ الخالق هو غير المخلوق، و لا يوجد أيُّ قدر مشترك ذاتي أو حقيقي بينهما، [لَيسَ كَمِثلِه شيء](1) و هذه الحقيقة لا يمكن تطبيقها على بعض المسالك العرفانية أو الفلسفية المبتنية على أصالة الوجود، أو القول بأنَّ كل شيء هو اللّه تعالى.1.

ص: 149


1- الشورى: الآية 11.

أو تشبيه الخلق و الخالق بالموج و البحر و الحبر و الحروف، أو الإصطلاحات و التشبيهات الاُخرى، و صرف النظر عن واقعية كلِّ عالم الكون الذي تعرّض له القرآن الكريم و أخبر عن واقعيته كُلاًّ و أجزاءاً، فمن غير المعقول القول: أنَّ كلَّ هذه السماوات و المجرّات و المنظومات و الجبال و البحار و المخلوقات اللامتناهية التي يتركّب الإنسان نفسه و كذا الحيوانات الاُخرى من الملياردات منها، غيرُ متحقّقةٍ واقعاً، و أنَّ كلَّ ما هو موجود هو الوجود المطلق و ظهوراته فقط، أو مطلق الوجود و مراتبه فقط، و أنَّه لا شيء حقيقي في العالم إلاّ نفس الوجود و لو وجد إختلافٌ فهو في المراتب فقط.

و حتى لو قلنا بأنَّ وجود الأشياء غيرُ وجود الحقِّ، و أنَّ كلِّ شيء هو غير وجود الاشياء الاخرى، لكن قلنا بالاشتراك المعنوي و اعتبرنا أنَّ كُنه الحقِّ و كُنه الأشياء الاُخرى واحدٌ بهذا المعنى، و ادَّعينا معرفتها، و أنّه يُطلق على الجميع بنحو التشكيك «الوجود» فهذا المسلك مخالف للكتاب و السنة و الاعتقادات الشرعية و غير منسجم معها.

فما نفهمه من ظاهر الكتاب الكريم هو شيئية الأشياء كلِّها و واقعيتها و تحقّقها الخارجي، و مغايرة الذات الإلهية المقدّسة لها و تنزّهها عن المشابهة معها.

و كذلك في مسألة ربط الحادث بالقديم، و التي إذا لم يكن الكلام فيها منهياً عنه، فإنّه بلا شك غيرُ مأمورٍ به، فإذا وصل البحث إلى حيث القول: أنَّ اللّه عاجز - \ نعوذ باللّه - \عن خلق غير ما هو موجود، و أنَّ صدور العالم و الكائنات عنه بالإيجاب، و أنَّه لا إبداع في ما يسمى بعالم العقول و المجردات، و أنَّ العالم عبارة عن تشكيلات ميكانيكية، فكما أنَّ المخترع البشري أو الصانع الذي هو

ص: 150

استاذ في صنعته فقط و يمكنه أن يصنع ما هو ماهرٌ في صنعه فقط، فكذلك في خلق الكائنات، فلا يمكن أن يترك هذا النحو من الخلق - \نعوذ باللّه - \و أنَّه عاجز خلق خلقٍ آخر، إذا وصل الكلام إلى مثل هذه النظريات أو ما يقاربها، و يُشابهها - \ حتى لو لم يقال بهذه الصراحة - \فإنّه مخالف لظواهرالقرآن المقبولة و المسلَّمة، و منافٍ لها.

فقولنا: إنَّ هذا العالم قد أُوجد طبقاً لحكمةٍ و مصلحة و أنَّ اللّه أحسن الخالقين و أنَّه حكيم عليم، هو غير ما يقوله هؤلاء من أنَّ برنامج الإيجاد و الخلق لا يمكن أن يكون إلاّ بهذه السلسلة - \التي يدّعيها هؤلاء - \و أنَّ النظام الأتمّ هو النظام القائم على أساس الصادر الأول للمعلول الأول و... إلخ، و أنَّه بدون الصادر الأول للمعلول الأوّل و العقل الأوّل و غيره مما يقولون، يكون اللّه عاجزاً - \ والعياذ باللّه - \عن خلق عالم المحسوسات بدون وسائط، و سلسلة عوامل يفترضها هؤلاء.

فهذه الآراء لا يمكن مطابقتها للقرآن الكريم أبداً، فإنَّ مفهومها هو إدّعاء عجز اللّه عزوجل، و إثبات عوالم و مخلوقات و نظم [ما أنزل اللّه بها من سُلطانٍ](1).

و بحسب ما جاء في الكتاب و السنّة، فإنَّ اللّه هو الخالق، و مفهوم هذا القول لايساوي مفهوم: أنَّ اللّه علّة و أنّه علَّة أُولى.

و الخوض في مثل هذه المباحث قد يجرُّ إلى القول بقدم العالم، و قد ذهب البعض إلى أنَّ إجماع المسلمين قائم على أنَّ هذا القول يوجب الكُفر.0.

ص: 151


1- النجم: الآية 33. يوسف: الآية 40.

و قد اعترض العالم المتبحّر الملاّ محمد إسماعيل الخاجوئي رحمه الله في رسالة له في تفسير قوله تعالى: [و كان عرشُهُ على الماء](1) على أحد كبار أساتذة الحكمة حيث قال: (إنَّ اسم «الماء» قد أُطلق في كثير من الموارد في الكتاب و الحديث على العلم و العقل القدسي الذي يحمل العلم، و إنَّ اسم «الأرض» قد اطلق على النفس المجرَّدة القابلة للعلوم و المعارف) بأنّ هذا الحمل هو حمل اللفظ على غير ظاهره و لا شاهد من الكتاب و السنة و العقل على مثل هذا الحمل، كما أنَّه لا قائل به من المفسّرين و المحدِّثين، و أنّ هذه التأويلات هي من قبيل التعبير عن السماء بالحبل.

ثم يبسط الخاجوئي اعتراضه و يقول: كلُّ من يقول بوجود العقل المجرد ذاتاً و فعلاً، فهو قائل بقدمه، و هذا يستلزم القول بقدم العالم، و من قال بقدم ما سوى اللّه تعالى فهو كافرٌ بإجماع المسلمين حتى لو كان من الإمامية.

و كما قال آية اللّه العلاّمة في جواب من سأله عن حال رجل يعتقد بالتوحيد و العدل و النبوّة و الإمامة، لكنه قائل بقدم العالم، و عن حكمه في الدنيا و الآخرة، قال العلّامة:

«مَنْ اعتقد قِدَم العالم فَهُو كافرٌ بلا خلاف، لأنَّ الفارق بينَ المسلم و الكافر ذلك، و حكمه في الآخرة حكم باقي الكفّار بالإجماع»(2).

و الحاصل: إننا و إن لم نكن في مقام ردِّ و إبطال و إثبات بعض الآراء و7.

ص: 152


1- هود: الآية 7.
2- الأجوبة المهنّائية: ص 88، بحار الانوار: ج 54 ص 247.

الأفكار و لا في مقام بيان الحكم الفقهي لمعتقدي تلك الآراء، و لكن نقول: بأنّ طرق هذه المباحث - \حتى لو تصوّر القائلون بها إنّهم غير ملزمين بتبنّي القول بالحدوث الدهري أو الزمان التقديري و تبعاته - \و البحث فيها ليس لازماً، لا شرعاً و لا عقلاً، و أنَّه خطير، و لا ضمان بالخروج بنتيجة صحيحة منها حتى من قِبل أساطين الحكمة و الفلسفة، و إنْ انحرف في نقطةٍ و مورد واحد، و ضلَّ ضلالة بسيطة.

و هنا نبيِّن هذا المعنى بذكر عدّة جُمَل من خطبة أمير المؤمنين عليه السلام الرائعة المعروفة بخطبة الأشباح، و التي يقول عنها السيد الرضي (عليه الرحمة) أنَّها من جلائل خطبه عليه السلام، ليتّضح هذا المطلب العرفاني الدقيق، بل هو من أعلى المطالب العرفانية الصادرة عن لسان اللّه الناطق و أمير البيان عليه السلام.

روى مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام أنشأ هذه الخطبة على منبر الكوفة بعد أن سأله رجل قائلاً:

«يا أميرَ المُؤمنين، صِفْ لَنا ربَّنا مثلَما نَراهُ عياناً لنزداد له حُبّاً و بِهِ معرفةً»

فغضب عليُّ عليه السلام و دعا الناس للصلاة جامعة، و لمّا اجتمع المسلمون و غصَّ المسجد بالمصلّين، صعد عليّ عليه السلام المنبر و لم يزل على غضبه...

و هنا، يطرح هذا السؤال نفسه، لماذا غضب الإمام علي عليه السلام من مثل هذا السؤال؟

يبدو أنَّ كيفية طرح هذا السؤال هي التي أثارت غَضَب علي عليه السلام حيث أنَّ

ص: 153

السائل كان يظن إمكانية توصيف الباري عزوجل بدرجة من الوضوح يتمكن عامة الناس من معرفة كُنه حقيقته و صفاته، كما لو كان يُشاهَد عياناً، أو أنَّ عبداً من عباده و إنْ كان رئيس العارفين و مولى الموحدين يمكنه حَدُّ صفاته أو معرفة حقيقة ذاته و توضيحها و تبسيطها لدرجة التصور و لو كان تقريبيّاً، و مهما كان ظن السائل، فإنَّ مجرد التفكير في مثل ذلك يثير غضب أمير المؤمنين عليه السلام حيث انه عليه السلام استعظم نفس السؤال، فكان علي عليه السلام يرى أنّه ليس لأحدٍ الحقّ مهما عَلَت معرفته أن يسأل مثل هذا السؤال فضلاً عن أن يكون لأحدٍ الحق في وصف الباري عزوجل إلى درجةٍ أكبر مما وصف هو نفسه به تبارك و تعالى.

و هذا هو الذي دعاه إلى أنْ يصعد المنبر و يخطب تلك الخطبة التي إفتتحها بالحمد و الثناء ثم الصلوات على النبي محمد صلى الله عليه و آله حتى توجّه بخطابه إلى السائل قائلاً:

«فَانظُر أيُّها السائلُ: فما دَلَّكَ القرآنُ عليه مِن صفتِه فأتمَّ به و استَضِيءْ بنورِ هدايتِه و ما كلّفكَ الشَّيطان عِلمِه ممّا ليسَ عليكَ في الكتابِ فرضُه و لا في سنَّة النَّبي صلّى اللّه عليه و آله و أئمَّة الهُدى أثَرَه فكِلْ عِلمَه إلى اللّه سبحانَه فإنَّ ذلكَ منتَهى حقِّ اللّه عليكَ. و اعلَم أنَّ الرّاسخينَ في العلمِ هُمُ الَّذينَ أغناهُم عن إقتِحامِ السُّدد المَضْروبة دونَ الغُيوبِ الإقرارُ بجملةِ ما جَهِلوا تفسيرَه مِن الغيبِ المحجوبِ، فمَدَح اللّه تعالى اعترافهم بالعجز عن تَناولِ ما لَمْ يُحيطوا به علماً. و سَمّى تَركَهم التَّعمُّقَ فيما لم يُكلِّفهم البحثَ عن كُنهه رُسوخاً فاقتصِر على ذلك، و لا تُقدِّرْ عظَمَةَ اللّه على قدرِ عقلِكَ

ص: 154

فتكونَ من الهالِكينَ...»(1)

و هذا الكلام الإعجازي لأمير المؤمنين عليه السلام هو أفضل دليل و مرشدٍ و أعلى مرتبة من المعرفة الممكنة للملائكة و الإنسان، و كلّ ما عدا ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام و كل ما كتب خارج حدود هذه الخطبة، فهو غرور و التباس عقلي، أو هي مجرد كلمات و إصطلاحات و ألفاظ.

يقول الشيخ الأجلّ، فخر الشيعة و عالم الإسلام الكبير، الشيخ المفيد قدس سره في مسألة توقيفية الأسماء الحُسنى:

«لا يجوز تسمية الباري تعالى إلاّ بما سمّى به نفسه في كتابه أو على لسانِ نبيِّه أو سمّاه حُجَجُه و خُلفاء نَبيِّه و كذلك أقول في الصفات، و بهذا تطابَقَتْ الأخبار عَن آل محمد عليهم السلام و هو مذهبُ جماعة الإماميَّة و...»(2).

و قال المحقق القدوسي الطوسي قدس سره في كتاب الفصول (ص 22) و هو مصنف باللغة الفارسية، قال ما ترجمته:

لطيفة: بعد أنْ علمنا أنَّ الباري سبحانه و تعالى ذاتٌ واحدةٌ منزّهةٌ، لا مجال للتعدد و التكثّر في كبرياء عظمته من أيِّ جهة كانت، أطلق على نفسه لفظ «اللّه» بلا ملاحظة أي اضافة و أطلق الأسماء الحسنى الاُخرى باعتبار الإضافات أو بحسب تركّب الإضافة و السّلب، كالحيِّ و العزيز و الواسع و الرّحيم. و عليه:

فكلَّ لفظ لائقٍ بجلاله و كماله، يمكن إطلاقه عليه، إلاّ أنَّه من غير الأدب إطلاق3.

ص: 155


1- نهج البلاغة: الخطبه 91.
2- أوائل المقالات للمفيد، ص 53.

الأسماء التي لم تصدر الإجازة من حضرته لإطلاقها عليه، إذ لعلَّه لا يليق بمقامه من جهة أُخرى لأنَّ ظاهر الحال يقتضي أنَّه إذا لم يكن قد تلطّف برأفَته و عنايته اللامتناهية و ألهَمَ أنبيائه و المقربين من عباده، لما كان لأحدٍ اللياقة بإطلاق أيِّ لفظٍ على حقيقته، إذ لا يمكن بأيّ وجه مطابقة الاسم على المسمّى.

و بحسب بعض الآيات مثل قوله تعالى: [اللّهُ يَعلَمُ ما تحمِلُ كلُّ أُنثى](1) و قوله تعالى: [إنَّ اللّهَ بكلِّ شيءٍ عَليمٌ](2) فإنَّ الشيء المعلوم هو غير العالم، و بحسب بعض المسالك أنَّه لا يوجد شيءٌ غيرُ علم اللّه بذاته و مراتب ظهور وجوده.

و أما البحث في حقيقة العلم و كيفيته و ماهيته، فإننا إذا كنّا مجازين في البحث عن حقيقة علمنا نحن و ماهيته، و الوصول الى الآراء المختلفة فيه، لكننا ممنوعون عن البحث في حقيقة علم اللّه الذي هو عين ذاته، إذْ لا يمكن لنا درك حقيقة علمه: [و لا يُحيطونَ به علماً](3).

إذن، فلسان الكتاب العزيز و السنَّة الشريفة و مفهوم الاصطلاحات الإسلامية و الأسماء الحسنى التي يُسمع بإطلاقها على ذات الباري تعالى، هي غير مفهوم الاصطلاحات الاُخرى التي راج إطلاقها عليه، و التي ظهرت بعد ظهور الفلسفة و العرفان الاصطلاحي و اشتغال المسلمين بهذه المباحث و رواجها، و التي حجبتهم عن السير العلمي الإسلامي الخاص، و عن التفكير في الآيات الإلهية0.

ص: 156


1- الرعد: الآية 8.
2- البقرة: الآية 231.
3- طه: الآية 110.

التي أُمروا بالبحث فيها.

فلابدَّ من معرفة اللّه بالطريق الّذي عرَّفَ نفسه به و هو طريق الوحي و رسالات الأنبياء و الكتاب و السنّة و السبل المنطقية القرآنية، و يستحيل معرفته بغير هذا الطريق، و ينبغي عدم التقدّم على هذه الإرشادات كما ينبغي عدم التأخّر و الابتعاد عنها.

إنَّ معرفة اللّه في القرآن المجيد و في أحاديث العرض، عريضة و شاملة، بل هي غير متناهية، كلما سار الإنسان في إطار الإرشادات القرآنية و الأحاديث الشريفة و تقدّم فيها، فإنَّه سيبقى المجال أمام سيره و عروجه مفتوحاً على مصراعيه.

و لابدَّ من طرق باب أهل بيت الوحي عليهم السلام و الالتزام باتّباعهم، و أخذ الاصطلاحات المطابقة للواقع عنهم، و توسعة المعرفة بالتفكّر و العبادة و الدعاء و الرياضات الشرعية.

و هناك في الأدعية المأثورة عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السلام و سائر الأئمة الأطهار عليهم السلام، من العبائر و الجمل ما يفتح أبواباً الى طريق المعرفة.

ففي الوقت الذي تتضمّن فيه تلك الأدعية مضامين عالية و عرفانية حقيقية، فهي أيضاً كانت ترشد اولئك المسلمين من سكنة الصحاري و البوادي الذين لم يتتلمذوا في مدرسة ما، و لم يقرأوا «الشفاء» و «النجاة» و «الإشارات» و «الأسفار» و «الفصوص» و جعلت منهم مؤمنين إلى مرتبة لم يحلم بمثلها أمثال ابن سينا و الفارابي.

ص: 157

فلو أنّنا اشتغلنا بقراءة تلك الأدعية و شرحها و تفسيرها بدلاً من تلك الكتب، لفهمنا بأننا مع ما نملك من هذه المعارف و الآثار، لا ينبغي أن نذهب إلى غيرها و ننسى حديث: «لَوْ كانَ موسى حيَّا لَما وسِعَهُ إلاّ إتّباعي»(1).

فكلامنا هنا هو أنّ علينا أن نعرض عقائدنا على القرآن الكريم و على الأحاديث الصحيحة و على حملة هذين المصدرين الأساسيين، أمثال «زكريا بن آدم» الذي قال فيه الإمام الرضا عليه السلام: «المَأمونُ على الدّين و الدُنيا»(2) و الشيخ الطوسي و المجلسي، ليشهد هؤلاء على أنَّ الدين الذي عُرض عليهم، دينٌ موافق لما أنزله اللّه تعالى على نبيه الأكرم صلى الله عليه و آله، و أن يقولوا:

«هذا دينُ اللّه الذي أنزلَه على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و بلَّغه عنهُ أوصياؤهُ».

إنَّ اولئك الذين أمضَوا أعمارهم في طي الطرق الأُخرى، و اشتغلوا بغير ما ورد عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام، سيذعنون بأنّه لا يمكن نسبة محصول و نتائج بعض الاشتغالات و البحوث إلى اللّه و النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، فمدرسة الأنبياء و مدرسة القرآن و الوحي و الإمام الباقر و الصادق عليهما السلام يعرفها زرارة و أبان بن تغلب و محمد بن مسلم و عمّار بن ياسر و الأصبغ بن نباتة و حذيفة و أبوذر و أمثالهم، لا الآخرون.

فلم نعهد و لم نسمع يوماً أنَّ شخصاً ذهب إلى مثل يعقوب ابن إسحاق الكندي0.

ص: 158


1- بحار الأنوار: ج 30 ص 361.
2- جامع الرواة: ج 1 ص 330.

و عرض عليه دينه، فأمثال يعقوب بن إسحاق و سائر الفلاسفة و العُرفاء الاصطلاحيين، هم أنفسهم إذا أرادوا عرض دينهم، كان عليهم عرضه على النبي صلى الله عليه و آله و الأئمة عليهم السلام و رواة أحاديثهم.

ص: 159

ص: 160

عَرْض الدّين في العصر الراهن

و في عصرنا الحاضر، على الجميع و خاصة جيل الشباب و المثقّفين و الجامعين المؤمنين الأعزاء، أن يهتمّوا بمسألة عرض الدّين على علماء الدّين الذين عرفوا الدين من القرآن الكريم و أحاديث أهل البيت عليهم السلام فقط، إذ أنَّ يد التحريف و التأويل و التصرّف و إتباع الاستحسان و السليقة الشخصية، قد امتدّت إلى العقائد و التعاليم الإسلامية من قبل بعض الأشخاص، و لاسباب عديدة منها: التأثر بالحضارة الغربية، و إنَّ بعض فاقدي الأهلية و الصلاحية قد نصَّبوا أنفسهم خطباء للدّين، فتراهم يعقدون جلسات الحوار و المناقشة، و يخطبون و يكتبون المقالات الدينية التي تستهدف الإسلام و التزام الناس بالعقائد و الاحكام الشرعية، و يوحون للناس بأنَّ التقيّد بالأحكام الشرعية و مداليل الكتاب و السنة، بعيدٌ عن الانفتاح الفكري و الحضاري، و يحاولون تخطئة ما تلقّاه كبار العلماء و الفقهاء على إمتداد القرون المتمادية، معتقدين بأنّ الكثير من الأحكام الالهية لا تناسب المزاج العصري الذي أسسه الغرب أو الشرق،

ص: 161

متوسّلين ببعض المصطلحات الرنّانة مثل «الفقه المنفتح» أو «انقباض و انبساط الشريعة» لاتهام بعض الأحكام و تعطيل خاتمية و أبدية المنهج الشرعي و نظام الجزاء و القوانين الاجتماعية الإسلامية و غيرها.

و قد تدخَّل هؤلاء حتى في العقائد و عرّفوا الكتاب و السنة باصطلاحات عرفانية، و بذلك يكونوا قد سلكوا طريقاً إذا استمروا به لم يؤد إلاّ إلى تضعيف الالتزام الديني عند الكثير من الناس.

لقد كان عمل الأنبياء المهم و العظيم هو هداية الناس إلى المنهج الذي أُمروا بتبليغه من قبل اللّه، و حثِّهم على العمل بهذا المنهج و الالتزام الوجداني به، هذا العمل الجبّار الذي عجز عن مثله كلَّ الفلاسفة و كل أدعياء الفكر و الثقافة الحديثة، و لا زالوا عاجزين.

إنَّ هؤلاء الأشخاص الذين يدّعون الثقافة و الفكر، أينما وجدوا فإنّهم حاولوا إضعاف الإيمان و مواجهته، و يفتخرون بأنّهم يستطيعون أن يخدشوا المعتقدات و المسلَّمات الإسلامية و أن يقلّلوا من تمسّك الناس و التزامهم بدينهم، و يفسّرون الدين بما تشتهيه أذواقهم المتأثرة بالثقافات الأجنبية و أحوال و أوضاع الغرب، و ينكرون أو يشككون في الأصالة الفكرية الإسلامية.

و للأسف الشديد، فإنّ بعض هذه الأحابيل قد أثّرت في بعض طبقات المجتمع الإسلامي برجاله و نسائه، خاصة و أنها منمَّقة و مطلية بطلاء التجديد الديني و الرجوع إلى الذات مما أدّى إلى إدخال الوسوسة في بعض المسائل الدينية المسلّمة، و الالتزامات الإسلامية عند البعض.

ص: 162

و لا يخفى أنَّ مثل هذه المخالفات و المواجهات للشرع الحنيف يكون لها صدى إعلامي، و من هنا تجد أنَّ أبطال مثل هذه الاتجاهات هم من عشّاق الشهرة و الصيت الذائع الذين يحاولون الظهور على ساحة المجتمع بأيِّ ثمن حتى لو كان إنكار المسلَّمات الدينية و المقدسة عند المسلمين، فهؤلاء عاجزون تماماً عن شق طريق الوجاهة و الرفعة، لخوائهم و ضعفهم و عدم أهليتهم، فيتشبّثون بمثل هذه الإطروحات الهزيلة لكسب السمعة و الشهرة، و هم يعرفون تماماً، أنَّهم كلما إزدادوا في هتك الحرمات و إثارة الشبهات و إهانة المقدسات و إنكار القيم الاجتماعية، إزدادت شهرتهم، و هذا ما يطمحون اليه، و لا شكَّ في أنَّ هؤلاء سيكون لهم أتباع و مروّجين ممن تتعارض مصالحهم الشخصية و أهوائهم و أمزجتهم مع تلك المسلّمات العقائدية و الدينية.

فالكثير من المتأثّرين بالغرب و من يتصوّرون أنهم من المجدّدين يعتبرون أنَّ الكاتب و الخطيب المتحرر المثقّف هو الأكثر جرأةً على محاربة المقدّسات و المسلّمات الإسلامية و الاستهزاء بها.

و من ثمَّ تجد بأنَّ كتاب المرتدّ سلمان رشدي، و الذي كان عارياً عن أيِّ استدلال منطقي و توجيه معقول، و الخالي من أيِّ ردٍّ فكري وجيه، قد عدَّته بعض المحافل التي لا ترى للحرية حدّاً، من الكتب الفكريّة المتحررة المنفتحة، كلُّ ذلك لأنّ ما ورد في الكتاب هو أعلى ما يمكن من درجات الإهانة و الجرأة على الشخصيات المقدّسة عند المسلمين بل عند كل العالم، فصار رشدي و كتابه مشهوراً عن طريق هتك القداسة و إهانة العصمة و الطهارة، و لذا فقد قامت القوى الاستعمارية التي رقصت على أنغام هذه السنفونية، قامت بحماية هذا المرتد و

ص: 163

الدفاع عنه، مع أنَّ الكتاب فاقدٌ للمحتوى الفكري المنطقي المستدل.

و لذا، فإنّ شبابنا إذا ما أرادوا الأمان من شرِّ إضلال مثل هؤلاء المجدّدين الصوريين، و أن يتعلّموا الدين الإسلامي الصحيح و المنزّه و كما أُنزل على قلب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، و أخذه من مصادره الأصيلة النقيّة، عليهم أنْ يراجعوا بأنفسهم تلك المصادر، و أن يعتبروا الكتاب و السنة الخاليين من التأويل و التوجيه، حُجَّة دامغة، أو أن يرجعوا إلى حَملَة الإسلام، أي أُولئك الذين أخذوا الدين من مكتب أهل البيت عليهم السلام، و الذين غاصوا بحار هذين المصدرين و سبروها، فإنَّ هؤلاء معروفون عند الجميع، أمثال أبي ذر و المقداد و سلمان و سُليم و محمد بن مسلم و ابن أبي عُمير و الفضل بن شاذان و ابن بابويه و الكليني و الشيخ الطوسي و تلامذتهم و تلامذة تلامذتهم إلى يومنا هذا، من العلماء والفقهاء والمراجع الكرام.

فهذه الطبقة من العلماء هم الذين تناقلوا الإسلام و الدين الصحيح على مرِّ الأعصار و الأدوار بعد أن تلقّوه من مصارده الأصلية يداً بيد و صدراً بصدر و روحاً بروح، و نقلوه إلى الخَلَف عن السلف، فلو لم يكن هؤلاء المخلصون لم يتمكّن الآخرون من الحفاظ على هذه الأمانة الغالية، و لعمَّت غوغاء البحوث الفلسفية و أفكار و آراء الصوفية لهذا و ذاك، و لم يكن ليبق شيء ثابت و خالص و لا لتسلّم المباني الاعتقادية الإسلامية من خطر الانحراف و التأويل.

فكلُّ المطَّلعين المنصفين يعرفون تماماً أنَّ أمثال هؤلاء الأفذاذ من العلماء هم المنفردون من سائر أقرانهم من أرباب العلوم العقلية و المشهورين من المتبحّرين في العلوم الإسلامية، في حفظ الإسلام و صيانته، فكان لهم الدور الأساسي في

ص: 164

تبليغ الدين للأجيال اللاحقة، و المناهج الاُخرى كالفلسفة و العرفان الاصطلاحي لم يكن لها مثل هذا الاهتمام و لم تسعى لتحقيق هذا الهدف.

و لا شك في أنّه لو خُلّي الأمر بين المسلمين و بين أمثال علاء الدولة السمناني و بين يزيد و أبو سعيد و صوفية الهند و ايران و الخانقاهات الكئيبة، كان الشيء الوحيد الذي يفتقده المسلمون اليوم هو «الإسلام» و كل ما كان موجوداً حينها، يعجز عن إدارة الدين و الدنيا.

فمثل «ابن الفارض و السهروردي و ابن العربي»، لم يكن لهم دورٌ في هذا المجال، و ما قام به السيد المير داماد (عليه الرحمة) من خدمات في حفظ الدين و صيانة آثار أهل البيت عليهم السلام، لا يمكن حسابه في خانة تجرّه في الفلسفة و ما قال هو عنه في مشاركته لفلاسفة اليونان فيه، و مع أنَّه (رحمه اللّه) قد استعان بالفلسفة في بعض آرائه و نظراته في بعض المسائل الإسلامية، لكن خدماته وخدمات أمثاله للإسلام، كانت نتيجة تخصُّصه في مجالات العلوم الإسلامية والمعارف القرآنية و آثار أهل البيت عليهم السلام لا غير.

و على أيِّ حال، في مسألة «عرض الدين» و تحصيل الإطمئنان بمطابقة دين الشخص مع الدين الذي جاء عن النبي و الأئمة الأطهار عليهم السلام وأنّه دين اللّه، يكون المعيار و المناط الوحيد هو الوحي الإلهي و كلمات أهل البيت عليهم السلام.

و بمقتضى: «هذا العِلمُ دينٌ فانْظُروا عَمَّنْ تأخُدونَ دينَكُمْ»(1) لابدَّ من أخذ دين اللّه و علم الدين من أهله و في كل المجالات.9.

ص: 165


1- منية المريد: ص 239.

ص: 166

تأريخ عَرْضُ الدّيْن

إنَّ قضية تحصيل الإطمئنان بمطابقة المعتقدات الدينية مع النصوص الشرعية و الوحي النازل على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و ما ورثه عنه الأئمة الطاهرون عليهم السلام بصورة عرض الدين و العقائد، أو بصورة السؤال عن أُصول و مباني الدين، كانت موجودة منذ زمن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، فكان بناء الأشخاص المؤمنين من ذوي المعرفة على عرض معتقداتهم و ما فهموه من الإسلام على نفس النبي صلى الله عليه و آله أو على أهل بيته، أو يعرضونه على كبائر العلماء الذين كانت لهم إحاطة بالنصوص الشرعية، و هذا ما يندر القيام به في زماننا الحاضر على أهمية هذه القضية.

نقل في البحار الشريف(1) ضمن روايات عن كتاب أمالي الشيخ الطوسي و معاني الأخبار للشيخ الأجلّ الصدوق، و رجال الشيخ الجليل الكشّي، قضية عرض دين إبراهيم المخارقي و حمران بن أعين و عمرو بن حريث و خالد

ص: 167


1- بحار الأنوار: ج 66 ص 3-\9.

البجلي و الحسن بن زياد العطار و يوسف، على حضرة الإمام الصادق عليه السلام.

و في الكافي الشريف روى رواية عرض دين إسماعيل بن جابر على حضرة الإمام الباقر عليه السلام، و عرض دين منصور بن حازم على حضرة الإمام الصادق عليه السلام.

و لم يكتف أمثال هؤلاء العظام بما حصلوا عليه من العلم و اليقين بالاجتهاد في الاُمور العقائدية، فكانوا يعرضون ما يتقنوه من الدين على الأئمة عليهم السلام ليطمئنوا من تطابقه مع ما نزل من اللّه على رسوله صلى الله عليه و آله و مع ما عند الائمة عليهم السلام وخشية الزيادة و النقصان.

ص: 168

السيّد عبد العظيم عليه السلام يَعرضُ دينَه

من جملة الشخصيات المرموقة الكبيرة التي عرضت دينها على إمام زمانها هو السيد أبو القاسم عبد العظيم بن عبد اللّه بن عليّ بن الحسن بن زيد بن السبط الأكبر الإمام أبي محمد الحسن المجتبى، ابن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

هذا السيد الجليل من أعاظم ذرّية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و أولاد المرتضى و البتول عليهم السلام، و من أجلَّة معارف علماء أهل البيت و من كبار أصحاب الإمامين الجواد و الهادي عليهما السلام، و من محارم أسرار الأئمة عليهم السلام، و يظهر أنَّه كان من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام - \كما يقول بعض علماء الرجال - \بمقتضى كونه من نفس الطبقة في سلسلة النسب إلى حضرة أمير المؤمنين و سيدة نساء العالمين الزهراء البتول عليهما السلام.

و السيد عبد العظيم الحسني و إن لم يدرك عصر إمامة الإمام الحسن العسكري عليه السلام، كما سياتي في الرواية، و لكن يقوى الاحتمال بدرك خدمته عليه السلام قبل إمامته.

ص: 169

و أمّا الرواية الدالة على فضل زيارة السيد عبد العظيم، و وفاته في عصر إمامة الهادي عليه السلام فهي الرواية التي نقلها الصدوق في ثواب الأعمال بسندٍ عن شخص تشرَّف بحضرة الإمام الهادي عليه السلام فسأله الإمام عليه السلام قائلاً:

«أين كُنْت؟» قال: «زُرتُ الحسين عليه السلام» فقال الإمام الهادي عليه السلام: «أما إنَّكَ لَوْ زُرتَ قَبرَ عبد العظيم عنْدَكُم لكُنتَ كَمَنْ زارَ الحُسَين بنَ علي عليه السلام»(1).

و من جملة الروايات الدالة على فضل و علم هذا الشريف الجليل، الرواية المروية عن الإمام الهادي عليه السلام حيث يقول لأحد شيعة الرّي:

«إذا أشْكلَ عليك شيءٌ من أمرِ دينك بناصيتك فَسَلْ عَنهُ عبدَ العظيم بن عبد اللّه الحَسَني و إقرأهُ منّي السّلام»(2).

و يُعلم من قضية عرض دين مثل هذه الشخصية الجليلة، أهميَّة تصحيح العقائد، أعم من ما يجب الاعتقاد به أو أكثر من ذلك و أبعد.

و ما يجب الاعتقاد به أُمور يجب الاعتقاد بها - \بحسب إرشادات الكتاب و السنَّة - \بمفهومها و تعريفها الوارد في الكتاب و السنة ليصح إطلاق لفظ المسلم و المؤمن على المعتقد بها.

و ما هو أبعد من الواجب، و هو ما لا يضر عدم الالتفات و الاعتقاد به، بإسلام و إيمان الإنسان، و لكن الاعتقاد بها بعنوان الاُمور الدينية، أيضاً يجب أن يكون0.

ص: 170


1- ثواب الأعمال للصدوق: 99، كامل الزيارات: باب 107، ص 537.
2- مستدرك الوسائل، كتاب القاضي - \باب حكم التوقّف و الاحتياط في القضاء و الفتوى و العلم ج 17 ص 321 ح 32 الرقم 21470.

بدليل معتبر من الكتاب و السنة، كما إنَّ عدم الاعتقاد بها مع وجود الدليل عليها من الكتاب و السنّة و الالتفات إلى ذلك الدليل، يُعدُّ من عدم الإيمان بالنبوّة.

و على هذا، يجب على كل مسلم أن يُحرز مطابقة عقائده مع الكتاب و السنّة، و بهذا الترتيب:

أوّلاً: أن يعرف ما وجب شرعاً الاعتقاد سلباً أو إيجاباً به.

ثانياً: أن يحرز مطابقة معتقداته مع ما عرفه.

ثالثاً: أن يعرض معتقداته في المسائل الاُخرى بالمعنى الذي ذكرنا من عدم لزوم الاعتقاد بها، على الكتاب و السُنَّة.

رابعاً: أن لا يحمل الكتاب و السنة على ما يعتقده بدون قرينة عقلية أو شرعية واضحة للعُرف بلا إشكال و لا خلاف في قرينيَّتها، فمن أراد التحصُّن من التعرّض للضلالة و الانحراف عليه أن يطبّق هذا الترتيب ليطمئن من رضى اللّه تعالى عن معتقداته، و لا طريق سوى القرآن و السنة لضمان السلامة من الوقوع في خطر الضلالة و البدعة و الانحراف.

فإذا كان مثل السيد الجليل عبد العظيم الحسني عليه السلام مع ما أُوتي من علم وإطلاع بالكتاب و السنَّة، و تأليف كتاب خطب أمير المؤمنين عليه السلام، و أنّه كان يحمل من المعتقدات الجزمية القطعية، يرى ضرورة عرض عقائده على حضرة الإمام عليه السلام ليحصل على تصديق الإمام عليه السلام لتلك المعتقدات و ذلك الدين.

فالآخرون - و خاصة أمثالي أنا - ينبغي عليهم بالأولويّة المبادرة إلى عرض دينهم لكسب الإطمئنان بالموافقة، بل عليهم تكرار العرض على أكثر من طرف

ص: 171

من علماء القرآن و الحديث و معارف أهل البيت عليهم السلام والذين استقوا علومهم من الأئمة عليهم السلام.

فلابدَّ إذن، و بكل تواضع و خضوع، أن نعرض معتقداتنا على الخبراء المعتمدين و العلماء بالصحيح و السقيم و الكامل و الناقص منها.

ص: 172

أدب و أخلاق كريمة

في قضية عَرض الدين للسيد الشريف الجليل عبد العظيم الحسني عليه السلام، نكتةٌ أدبيّة أخلاقية مهمة ينبغي تعلّمها، ألا و هي عدم الاغترار بالعلم و المقام العلمي، و التواضع في سبيل نيل المكارم. فالغرور آفة خطيرة تهدّد شجرة الإنسانية و تمنع من رُقيّ الإنسان و نيل الكمالات، و من أخطر أنواع الغرور هو الاغترار بالعلم و العقل و الفهم، فلابدَّ من الحذر منه و تهذيب النفس و تخليتها من هذا المرض.

و لذا، فإنّ الأعاظم و تلامذة مدرسة أهل بيت الوحي و النبوّة الذين وصلوا إلى مقام الإنسانية، كلَّما إزدادوا علماً و دركاً للحقائق، إزدادوا خضوعاً و تواضعاً قِبال أساتذتهم و مربّيهم، و ابتعدوا عن العناد و التعنّت، و باصطلاح الفقهاء، لا يتسرّعون في الفتوى، فهؤلاء يعرفون تماماً أنَّ رفع أيِّ جَهل يوجبُ الالتفات إلى جهلٍ بمجهولاتٍ و مجهولات، و إنَّ كلَّ جوابٍ يحصلون عليه سيكون مصدراً لأسئلةٍ و أسئلة.

ص: 173

و لذا، فإنّك لو سألت من شخص قليل المعرفة عمّا يعرفه عن الإنسان أو الحيوان أو الشجرة أو الشمس و القمر و حقيقة الحياة و أُمور اخرى، فإنّه و بلا تأمل و تفكير سيدّعي أنَّه يعرف كل شيء عنها، لكنّك لو سألت عالماً قضى عمره في الفنون المختلفة للمعرفة و مجالات العلم، عن هذه الاُمور التي هي مظاهر لقدرة اللّه تعالى، فإنّه سيجيب قائلاً: للأسف إنَّ أكثر هذه الأشياء لازالت مجهولة لدينا. فنفس هذه الإدراك دليل على وصول هذا العالم إلى أوج معرفته و إلى سعة أفق علمه و فكره، تلك المعرفة التي يفتقدها الشخص المسؤول الأوَّل، و السيد عبد العظيم الحسني عليه السلام، مع كثرة دركه للحقائق و العلوم و المعرفة، نجده يتقدم بكل تواضع و يجلس متأدّباً بين يدي إمام زمانه و يعرض عليه دينه بلا تكبّر و لا غرور.

نقطة أُخرى:

و هنا صفة ممتازة أُخرى و أدبٌ يضاف إلى أدب هذا السيّد الجليل في هذه القضية، و هي صفة التسليم و القبول من الإمام عليه السلام بلا أيِّ إعتراض أو تشكيك، و هذا درسٌ لابدَّ أن نتعلّمه جيداً في مقابل مقام الولاية و الإمامة و بين يَدي حجة اللّه، فعلى المؤمن أنْ يُذعن للحق و يقبله بلا تغطرس و عناد، و هذا شعبة من «إنصافُ النّاسِ مِنْ نَفسِك»(1) و هو أحد أصعب الأعمال الجليلة و الفضائل5.

ص: 174


1- وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، باب وجوب اجتناب المحارم: ج 11 ص 20 ح 4387 و ج 15 ص 255.

الممتازة الثلاث التي وردت في الحديث، و التي لا يقوى كل واحدٍ على الاستمرار في ميدان السبق عندها.

إنَّ السيد عبد العظيم الحسني عليه السلام ينتسب إلى الإمامين الهُمامين الحسنين عليهما السلام و هو أقرب في سلسلة النسب إليهما من الإمام الهادي عليه السلام بواسطتين، إذ أنَّ الإمام علي الهادي ينتهي نسبه إلى الإمام سيد الشهداء الحسين عليه السلام بستة وسائط، فهو في عمود النسب، السابع من ولد الحسين عليه السلام و الثامن من ولد أمير المؤمنين عليه السلام و فاطمة الزهراء عليها السلام، و أمّا السيد عبد العظيم فهو ينتهي إلى الإمام الحسن المجتبى بأربعة وسائل فقط.

ففي عمود النسب: يعتبر الخامس من ولد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام والسادس من ولد أمير المؤمنين و فاطمة الزهراء عليهما السلام، و مع هذا نجده متأدّباً بين يدي حجة اللّه و صاحب الولاية، متواضعاً في أخذ المعارف و العلوم من أهل البيت عليهم السلام، فنفس هذا الأدب و عرض دينه على الإمام الهادي عليه السلام دليل باهر على كمال معرفته و جلالة قدره و إحكام اعتقاده بولاية و إمامة علي الهادي عليه السلام، مع أنّه الأقرب في سلسلة النسب إلى رسول اللّه و أمير المؤمنين و فاطمة الزهراء عليهم السلام من الإمام الهادي عليه السلام، و لكنه و لعمق معرفته، كان يعي تماماً أنَّ الوقوف في وجه مقام الولاية و الإمامة و الحجّة هو محوٌ وفناء، و أنَّ الإيمان بالولاية يقتضي رعاية أعلى درجات التواضع و الأدب و التسليم و الإطاعة، فهو لا يعتبر نفسه رقماً في قبال وجود الإمام الهادي عليه السلام و هو حجّة اللّه على الناس.

و قد عُرفَ مثل هذا التواضع و الأدب عن السيد الجليل عليِّ بن جعفر عليه السلام و هو من مشاهير و أعاظم علماء و محدّثي أهل البيت عليهم السلام و صاحب تأليفات و

ص: 175

آثار مهمة، فلقد كان تام الانقياد و التسليم للإمام أبي جعفر الجواد عليه السلام، مع أنَّ علي بن جعفر هو عمُّ أب الإمام الجواد عليه السلام و أنَّهُ ينتسب إلى الإمام الحسين عليه السلام بثلاث وسائط، بينما ينتسب الإمام الجواد عليه السلام بخمس وسائط إلى الإمام الحسين عليه السلام، و كان عليّ بن جعفر شيخاً كبيراً و لم يكن الإمام الجواد عليه السلام قد تجاوز مرحلة الصبى و الشباب، و مع ذلك كان هذا السيد الجليل يظهر كمال الأدب و الاحترام و يقبِّل يَد الإمام الجواد عليه السلام.

ص: 176

شرح حديث عرض الدّين

اشارة

ص: 177

ص: 178

البحث في جهتين

الاولى: الحديث سنداً

الثانية: الحديث لفظاً و دلالةً

سند الحديث

إنَّ سندَ الحديث و بحسب ما جاء في كتاب «كمال الدين» للصدوق هو:

«حدثنا عليّ بن أحمَد بن موسى الدّقاق و عليُّ بن عبد اللّه الورّاق - \ رضي اللّه عنهما - \قالا: حدثنا محمَّد بن هارون الصّوفي قال: حدَّثنا أبو تُرابٍ عَبد اللّه بن موسى الرَّويانيُّ عن عَبد العظيم الحسني»(1)

و سند الحديث في كتاب التوحيد للصدوق أيضاً هو:

ص: 179


1- كمال الدين، الباب 37، ما أضربه الهادي عليه السلام من وقوع الغيبة: ص 379 ح 1.

حدثنا عليّ بن محمّد بنُ عمران الدّقاق - \رحمه اللّه - \و عليُ بن عبد اللّه الورّاق قالا: حدَّثنا محمّد بن هارون الصوفي قال: حدَّثنا أبو تراب عُبيد اللّه بن موسى الروياني عَن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسنيّ»(1)

و ما نراه هو إنَّ هذا السند و إنْ لم يُعدُّ صحيحاً أو حسناً بحسب الاصطلاح الحديثي، ولكن إذا اعتبرنا أنَّ الصحيح هو ما يمكن الإطمئنان له، كان هذا الحديث صحيحاً، فانَّ مثل الصدوق قد ذكره في عدَّة كتب في مقام الإحتجاج به على صحة المذهب، مضافاً إلى إنَّه ترضّى على راويين من رواة السند و هم من مشايخه يعني عليّ بن أحمد و عليّ بن عبد اللّه أو عبيد اللّه.

و الظاهر أنَّ محمد بن هارون و عبد اللّه أو عُبيد اللّه بن موسى و هما من مشايخ الصدوق بواسطة، كانا معروفين عنده أيضاً و من رواة الأحاديث.

أضف إلى ذلك إحتمال كون محمد بن هارون هو محمد بن هارون بن عمرانّ و الذي يُعلم جلالةُ قدره من كتاب الارشاد و الكافي و كمال الدين.

و أمّا عبد اللّه بن موسى الرويانيّ، فالظاهر أيضاً أنَّ الصدوق قد إعتمد على روايته في مثل «كمال الدين» و «التوحيد»، هذا و قد صرّح صاحب «روح و ريحان» و «جنّة النعيم» بحسن حاله.

و فوق هذا كلّه، فإنَّ جمعاً من الأعاظم قد احتجّ في مؤلفاته بهذا الحديث و إستند عليه، كما في الكتب التالية:7.

ص: 180


1- التوحيد: ص 81، باب 2، ح 37.

1 - \صفات الشيعة.

2 - \كمال الدّين.

3 - \التوحيد.

4 - \كفاية الأثر.

5 - \أعلام الورى.

6 - \كشف الغُمَّة.

7 - \روضة الواعظين.

8 - \كفاية المهتدي (ألأربعين).

9 - \العوالم.

10 - \بحار الأنوار.

11 - \الإنصاف.

12 - \إثبات الهداة.

و غيرها من الكتب.

و على هذا، و بالأخذ بنظر الإعتبار أنَّ هناك شواهد كثيرة في سائر الروايات على مضمون هذا الحديث، و عدم وجود شاهدٍ على ضعفه و وضعه و جعله، يكون هذا الحديث معتبراً سنداً و متناً، و يمكن الاعتماد عليه.

ص: 181

نكتةٌ روائيّة

و أود أن أشير إلى نقطة هنا، و هي: أنَّ نظري القاصر في الروايات التي لم يذكر بعض الرجال أسانيدها في كتب الرجال المتداولة و التي تختص بذكر رجال الاسانيد مثل «الكافي» و «من لا يحضره الفقيه» و «التهذيب» هو إنَّ مثل هذه الروايات إذا ذكرت في كتب مثل مؤلفي تلك الكتب المختصة أو من طرازهم و المقاربين لزمانهم أو السابقين على عصرهم، و لم تكن متونها مشتملةً على مطالب ضعيفة و مستغربة، و خاصة إذا كان في سائر الروايات ما يتضمن مثل تلك المداليل، كان بالإمكان الإعتماد على مثل هذه الروايات، فانَّ ظاهر رواية هؤلاء الأعاظم لها دليل، على إعتمادهم عليها و قبولها.

أجل: إذا كان هناك قرينة في البين على إنَّ المؤلف كان في مقام جمع مطلق الأخبار، دون الإعتماد عليها، لم يكن نقل الرواية مع جهالة الراوي موجباً للإعتماد عليها و قبولها.

و لذا، فانَّ مثل كتاب «التوحيد» للصدوق أو «كمال الدين» أو «غيبة الشيخ

ص: 182

الطوسي» أو «غيبة النعماني» لا يمكن ترك الروايات الواردة فيها إذا لم يرد قدحٌ ظاهرٌ ثابتٌ لسندها أو متنها و عدم الاعتناء بقبولها من قبل مؤلفي تلك الكتب لمجرَّد أنَّ واحداً أو أكثر من رواتها مجهول، في حين أنَّ السيرة العقلائية قائمة على الأخذ بالاخبار المرسلة التأريخية إذا لم تقم الشواهد الثابتة على ردِّ مضمونها فضلاً عن دلالة الشواهد على مضمونها.

و على أيِّ حال، و بالإلتفات إلى الروايات الكثيرة الأخرى، يكون مضمون هذه الروايات مقطوع الصّدور عن الائمَّة عليهم السلام و خاصة هذه الرّواية فإنّها ليست بأقلَّ من سائر أخبار الآحاد المعتبرة، و لذا فانَّ العلماء اعتمدوها، و إنَّ الأفاضل شرحوها، حيث نقل إنَّ من جملة من تناولها هو المرحوم القاضي سعيد القمي حيث كتب فيها شرحَيْن مفصلين.

ص: 183

ص: 184

متن الحديث و شرحه

روى الصدوق في كمال الدين الحديث بهذا اللفظ:

«قال: دَخَلتُ على سَيِّدي عليَّ بن محمَّدٍ عليهما السلام»

إنَّ شرح الحقائق الدقيقة التي يتضمنها هذا الحديث الشريف بشكل وافٍ و إن كان مستعصياً على أمثالي، بل قد يكون خارجاً عن قدرة الكثير من الأعاظم وشرحه بالشكل المتعارف يحتاج إلى فرصة كافية و مجالٍ واسع، و لكن انطلاقاً من «ما لا يُدركُ كُلّه لا يُترك كلّه» سنحاول و بنحو الإختصار تفسير و بيان معنى ألفاظه جملةً فجملة، مستمدّين العون من اللّه تعالى و مستجدين عناية الإمام الهادي عليه السلام على ذلك.

«1 - \قال: دَخَلتُ على سيِّدي عليِّ بن محمَّد - \عليهما السلام - \فَلَمّا بَصَرَ بي قال لي: مَرحباً يا أبا القاسم، أنتَ وليُّنا حقّاً»

و هنا أمور مهمة لابدُّ من الإشارة اليها:

أوّلاً: تكريم و تعظيم السيد عبد العظيم الحسني للامام الهادي عليه السلام و وصفه

ص: 185

بسيِّدي.

ثانياً: تلطف الإمام الهادي عليه السلام و عنايته بالسيد عبد العظيم و ترحيبه به و مخاطبته بكنيته (أبو القاسم)، مما يدلُّ على إحترامه.

ثالثاً: وصف الإمام عليه السلام للسيد عبد العظيم بالوليّ الحقيقي، و هذا تصديق مهمٌّ من قبل الإمام مع الأخذ بنظر الإعتبار ما في الروايات و الأحاديث من مدحٍ لتولّي أولياء اللّه، و هو دليل على عظمة مقام السيد عبد العظيم، و من أهمّ ثمار هذا التولي هو حشر الولي مع إمامه يوم القيامة بمقتضى «يُحشَرُ المرءُ معَ مَنْ أحبّ». (1)«2 - \قال: فَقُلتُ لهُ: يابْنَ رسولِ اللّه إنّي أُريدُ أنْ أعْرِضَ عليكَ ديني فإنْ كانَ مرضِياً ثَبَتُّ علَيه حتّى القى اللّه عزّوجل»

«3 - \فقال: هاتِ يا أبا القاسِم»

«4 - \فقلتُ: إنّي أقولُ إنَّ اللّهَ تبارك و تعالى واحدٌ لَيسَ كَمثلِهِ شيءٌ»

إنَّ لفظ الجلالة «اللّه» هو أشهر أسماء اللّه الحُسنى و اليه تنسب الأسماء الاُخرى كالرّحيم و الرّحمن و الغفّار و التوّاب و الخالق، فيقال: أنَّها من أسماء اللّه، و لا يقال: إنَّ اللّه اسمٌ من أسماء الرّحيم أو الخالق أو الرزاق أو الواحد أو الأحد، و السِّرُ في ذلك هو إنَّ «اللّه» اسمٌ للذات المقدسة للباري تعالى، و أمّا الباري، و الخالق، و العليم، و العلاّم، و القدير، و الاسماء الاخرى هي أسماء1.

ص: 186


1- بحار الأنوار: ج 66 ص 81.

لصفات الذات أو صفات الأفعال له عزوجل.

و الحاصل، إنَّ هذا الإسم الجليل يطلق على الذات الإلهية الجامعة لكل صفات الكمال، و مقدَّمٌ على سائر الأسماء، و حاوٍ لمعاني كل الاسماء الحسنى، و أمّا الأسماء الاخرى، فانَّ كلَّ واحدٍ منها يدلُّ على أحد تلك المعاني لا كلِّها.

فمثلاً إسم «القادر» الشريف، يدلُّ فقط على قدرة الحق تعالى و لا يدلّ على علمه، و إن دلَّ على بعض الأسماء الاخرى كالحيِّ فعلاً، فانَّ ذلك من باب الإلتزام، لا أنَّ مفهوم ذلك الإسم هو المعنى المطابقي للقادر.

و الأمر الآخر هنا: هو إنَّ المشار اليه و مرجع الضمير في مثل قوله تعالى: «إنَّهُ حميدٌ مجيدٌ» أو «إنَّهُ على كلِّ شيءٍ قدير» هو لفظ الجلالة، و أمّا في مثل قوله تعالى: «هو اللّه لا إله إلاّ هو» فقد يكون الضمير الأول هو ضمير الشأن، أو انَّه إشارة إلى الذات و مسمّى «اللّه»، كما إنَّ الضمير الثاني قد يكون إشارة إلى الذات الإلهية المقدسة، و قد يكون راجعاً إلى «اللّه».

و على أيِّ حالٍ، فإن كتب شروح الأسماء الحسنى و كتب الأدعية الشريفة، تناولت هذا اللفظ الذي هو أجلَّ الألفاظ و اشرف الكلمات، باسهاب و تفصيل، كما انَّ الروايات الواردة في فضيلة هذا الاسم الشريف كثيرة و من جملتها ما ورد عن الصادق عليه السلام من أنَّ من قال عشر مرات «يا اللّه» فسيقال له:

«لبَّيكَ عَبْدي، سَل حاجَتَكَ تعطَه» (1)7.

ص: 187


1- وسائل الشيعة، باب أنَّه يستحب أن يقال في الدعاء...: ج 7 ص 88 ح 8807.

و أمّا «الواحد» فهو أحد الأسماء الحسنى، و لكن هناك عناية خاصة بخصوص هذا الاسم و إسم «الاحد» من بين سائر الأسماء، و بالاقرار به من خلال كلمة التوحيد التي لا يتحقق إسلام الشخص إلاّ بها، و بالإعتقاد بمعناها و أنَّه لا يتحقق الإيمان الا بإدرك معنى هذا الاسم الشريف و الإعتقاد به.

و بحسب ما جاء في رواية الصدوق في «التوحيد» عن أمير المؤمنين عليه السلام فانَّ إطلاق «الواحد» على اللّه تعالى له معنيان:

أحدهما: أنَّه لا شبيه له و لا نظير.

ثانيهما: أنّه لا يقبل الإنقسام لا في عالم الوجود الخارجي و لا في العقل و لا في الوهم، بمعنى أنه لا يتصور التركيب و التجزئة فيه.(1) و بعد هذه المقدمة القصيرة نقول:

إنَّ السيد عبد العظيم قال: أقول إنَّ اللّه تبارك و تعالى واحد، أي ليس له عضوٌ و لا جزءٌ و لا عديل و لا نظير، و لا شريك له و لا شبيه و لا مماثل، «ليسَ كَمثلِهِ شيءٌ» فالكلُّ مخلوق و هو خالق، و الكلُّ فقير و هو الغنيّ، و الكلُّ عاجز و هو القادر المقتدر، و الكلُّ مسبوق بالغير و هو السابق على الكلّ، فلا شيء مثله.

سواءً كان ذلك الشيء خارجياً أو ذهنياً، و سواء كان شيئاً أو جزء الشيء، و سواء كان ذلك الجزء مما به الامتياز عن الاشياء الاخرى، أو كان مما به الاشتراك الحقيقي معها.3.

ص: 188


1- التوحيد، باب معنى الواحد و التوحيد و الموحد: ح 3 ص 83.

إذن، فهو شيءٌ و لا شيءَ هوَ، و بهذا يُعرَف بأنَّ كلَّ ما نقوله أو نراه أو نتصوره في أذهاننا، فهو غير اللّه، لان معنى عدم المثلية هو أنّه غيرُ أيِّ شيء على الاطلاق و إلاّ لزم أن يكون له مثل.

«5 - \خارجٌ عن الحَدَّين حدِّ الإبطال و حدِّ التَشبيه»

و لشرح و تفسير هذه الجملة العميقة و الدقيقة لابد من ذكر نقطة و هي: أنه ورد في الرواية عن الإمام الجواد عليه السلام ما يستفاد منه أنَّ توصيف الباري عزوجل ب (الخارج عن الحدّين حدّ الابطال و حدّ التشبيه) هو توصيف ذاته جلّ شأنه بهذا الوصف، يعنى ان ذاته خارجة عن هذين الحدّين.(1)ه.

ص: 189


1- ) لا يخفى أنه في النسخة المطبوعة، إبتداءاً ربط البحث في جملة الأبطال و التشبيه بالصفات، و قد بيّنا رأينا هناك بأنّه و بملاحظة هذه الروايات الواردة يتضح لنا بأنّ البحث مرتبط بالذات، و لكن و لأنَّ أصل ذلك المطلب صحيح في حدَّ ذاته أيضاً، و يرتبط نوعاً ما بكلِّ البحث و جمله (خارجٌ عن الحدّين) تشمل بإطلاقها البحث في الصفات، لذا سنأتي بوجهة نظرنا تلك في هوامش هذا الكتاب: الخارج عن الحدّين... يعني أنَّ اللّه ليس محدوداً بهذين الحدّين و ليس معرَّفاً بهذين التعريفين: الأول: حدُّ الإبطال و هو القول بنفي الصفات الثبوتيَّة له بالمرَّة، و هذا القول ناشي عن الإفراط في الحذر من القول بالتركيب و إثبات صفة له عزّ اسمُه، و نتيجة هذا الرأي هي القول بأنّ الباري تعالى - \نعوذ باللّه - \فاقد لصفاتٍ مثل العلم و القدرة. الثاني: حدُّ التشبيه، و هو القول بتشبيه الباري بالخلق و إنَّ العلم و القدرة و بعض الصفات الاُخرى خارجة عن ذاته و حاله حال سائر الموجودات، و الحقُّ أنّه هنا لابد أيضاً من القول بالأمر بين الامرين و أن نعتقد بانَّ صفاته هي عين ذاته، لا أن ننفي عنه الصفات، فانّ ذلك مخالف للعقل و الشرع، و لا أن نشبهه بخلقه و نعتبر أن تلك الصفات أمور زائدة عن ذاته فكما أن ذاته منزهة عن الشبيه فكذلك حقيقة صفاته التي هي عين ذاته منزهة عن معرفتها. فنحن نعلم بان علمه ليس امراً زائداً على ذاته مثل علم المخلوقات، كما نعلم بأنه عالم بكلِّ شيء في العالم و عليم به.

1 - \روى العلامة المجلسي - \رضوان اللّه تعالى عليه - \عن كتاب المحاسن للبرقي أنَّه سُئل الإمام الجواد عليه السلام:

«أ يجوز أن يُقال للّه أنّه موجود؟ قال: نعم تُخرجهُ عن الحَدَّين حدِّ الإبطال و حدِّ التشبيه»(1)

2 و 3 - \روى الصدوق - \أعلى اللّه مقامه - \روايتين عن الإمام الجواد عليه السلام بانه سُئل: «أ يجوز أن يُقال إنَّ اللّه عزّوجل شيء؟

فقال: «نعم تُخرجه عن الحدَّين حدِّ التعطيل و حدِّ التشبيه»(2).

شرح و بيان:

حدُّ الابطال و التّعطيل هو أننا كما ننزه الذات عن أن تكون موضوعاً لحمل عناوينٍ مثل الجسم، و الجوهر، و سائر العناوين الخاصة التي تطلق على المخلوقات، فكذلك ننزهه عن أن يكون موضوعاً لحمل العناوين العامة كالشيئية و الموجودية أيضاً، و حدُّ التشبيه أن نحمل على الذات ما يمكننا أن1.

ص: 190


1- بحار الانوار: ج 3 ص 265.
2- التوحيد، باب 7، ح 1 و 7، ص 104، الاُصول في الكافي، كتاب التوحيد، باب إطلاق القول بأنّه شيء، ج 2 ص 82 ح 1.

نتصوره، سواء أكان لهذا المتصوَّر فردٌ خارجي حيث يستلزم الشرك أم لم يكن، وكان وجوداً ذهنياً فحسب.

و بعبارة اخرى نقول: لأنَّ كُنه و ماهية اللّه المتعال منزهة عن التصور و التوهم، إذن فكلَّ ما يمكن تصوره إذا قيل أنه هو، فليس ذلك صحيحاً، فما ذلك التصور هو اللّه و لا يمكن حمله عليه و لا يصدق عليه، إذ فرض صدقه عليه يستلزم التشبيه بغيره.

و بعبارة اخرى: إنَّ كُنه ماهية اللّه تعالى لمّا كانت منزهة عن التصور و التوهم، لذا فانّ كلَّ ما يمكن تصوره إذا حمل على الذات و قيل أنَّه هو، فليس هو و لا يمكن حملُه عليه و لا يصدق عليه ذلك، إذ أنَّ فرض صدق هذا الحمل يستلزم التشبيه بغيره، و نتيجة ذلك هي: إنّه اذا لم يُحكم على الذات بحكمٍ و لم يُخبر عنها بخبر فهذا هو التعطيل و الابطال، و ترك الاعتراف و الاقرار بها. اذا حكم عليها بحكم و قيل عنها أنها شيء متوهم و متصور في الذهن، فهذا هو التشبيه بالأشياء المتصورة، فالشخص بين أمرين و محذورين، الإلتزام بايٍّ منهما باطل فلابد من الخروج عن هاذين المأزقين و الإعتراف و الإقرار بالذات و لتوضيح هذا المطلب الدقيق نقول:

إنَّ الإخبار عن الصفات و الاسماء الحُسنى مثل الخالق و القادر و الرزاق و العالم و اطلاقها على اللّه تعالى، أمرٌ صحيح يقيناً و قد نطق الكتاب و السنَّة بذلك، و كذلك سلب الصفات السلبية عنه عزّ اسمه صحيح و لا إشكال فيه، مع أنَّ صحة هذا الاطلاق تتوقف أيضاً على جواز الاخبار عن الذات و الاعتقاد بها، و هو بين المحذورين السابقَين.

ص: 191

و على كل حال، فانّه لا يصحُّ الإخبار عن كنه و حقيقة الذات الإلهية تعالت و جلَّت بانَّها شيء معيَّن حتى لو كان في الذهن، لانَّ تصور ذاتِه و كُنهِه غيرُ مقدور لاحدٍ حتى الأنبياء أولي العزم و الملائكة المقربين، إذن، فلا يمكن أن تكون الذات بعنوان القضية الموجبة موضوعاً لاثبات محمولٍ و عنوانٍ خاصٍ أبداً، و لايصدق عليه مثل تعريف الإنسان بالحيوان الناطق أو الجوهر أو العرض و التي تصدق على الإنسان، فذاته المقدسة تأبى عن التعريف لانَّ ذلك فرع إمكان تصور كنهه و حقيقته و هو محال، و كلُّ ما قيل من أنه ذات اللّه و كنهه فهو يستلزم المحذورين و يتوقف على محالين و هما:

الاول: تصور و معرفة كنه و ذات الباري تعالى.

الثاني: تشبيهه بالغير و بما يُتصور في الذهن.

و الحاصل هو أن الإخبار عن ذات و كنه اللّه عزوجل، أمرٌ دائر بين التعطيل و الإمتناع عن الإخبار و الاقرار أو الإخبار و التشبيه، و كلاهما باطل و الخروج عن هذين المحذورين، انما يكون فقط بما ذكره الإمام الجواد عليه السلام بحسب ما جاء في هذه الروايات، و ما ذكره السيد عبد العظيم في قضية عرض دينه على الإمام عليه السلام من إنَّ اللّه تعالى خارج عن هذين الحدَّين و إن لم يُبيّن تفصيل كيفية ذلك الخروج، و كأنَّه إكتفى بوضوح ذلك الأمر فيما بينه و بين الإمام عليه السلام، و حاصل هذه الروايات هو الاقرار و الاعتراف و الاعتقاد بالذات بانها موجودٌ و شيءٌ بدون القول بالتشبيه، و اللّه هو العالم بذاته و صفاته و نعوذ باللّه أن نقول فيه ما لم يقُله هو سبحانه و تعالى، و أنبياؤه و أولياؤه.

و في كتاب «التوحيد» الشريف، روى أنَّ إبن أبي نجران قال: سألت أبا

ص: 192

جعفر الثاني (الإمام الجواد عليه السلام) فقلتُ: «أتوهَمُ شيئاً» أي أنّي أتوهَّم اللّه تعالى شي. «فقال: نعم غير معقول و لا محدود فما وقع وهمك عليه من شىء فهو خلافُه لا يشبهه شيءٌ و لا تدركه الأوهام، كيف تدركه الاوهام و هو خلاف ما يعقل و خلاف ما يتصور في الأوهام، إنَّما يتوهم شيٌ غير معقول و لا محدود»(1)

و للعلامة المجلسي - \رضوان اللّه تعالى عليه - \بيانٌ فيما يرتبط بهذا الحديث يقول فيه: إنّ المفاهيم و المعاني على قسمين، مفاهيم لها عمومية و شمول و لا يخرج عنها شيءٌ من الأشياء الذهنية و العينية منها: مثل مفهوم الشيء و الموجود و المخبَر عنه، و لذا فهي تطلق أيضاً على ما لا يقبل التعقل و التصور و غير المحدود.

ومفاهيم عند اطلاقها يمكن توهم و تصور مصاديقها.

وإطلاق المفاهيم من القسم الأول على اللّه المتعال هي إثبات و نفي إنكارٍ و إبطال و تعطيل، و نفي إطلاقها على اللّه تعالى هو إبطال و تعطيل و إنكار.

و لذا نجد أنّ الإمام عليه السلام يجيز أن يقال «اللّه موجود» أو «اللّه شيءٌ»، إذ لا يتصور له مصداق في الذهن، و لأنّ المفهومَ عام يصدق على غير المتصور، و المنزّه عن التصور، بل ليس به مفهومٌ متصور و مصداقٌ ذهني خاص، فيصدق إطلاقه على الباري تعالى، و كلّ ما يتصور في الذهن من المفاهيم فلا يعقل أن يكون هو اللّه، و أنَّ اللّه ليس ذلك الشيء و هو منزه عنه، و لذا فانّ إطلاق6.

ص: 193


1- التوحيد: باب 7، ص 106، ح 6.

«الشيء» و «الموجود» على ذات الباري عزوجل، خارج عن حدِّ التعطيل و مأذون و مجاز، و إثبات، و نفي «الشيء» و «الموجود» عنه تعالى في حدِّ الابطال و الانكار و التعطيل غير مأذون و مجاز.

و بالجملة، يمكن القول أنَّ المستفاد من هذه الأحاديث و الروايات هو: لمّا كانت معرفة حقيقة الذات و كنه الحق تعالى محالة، و أنَّ الشي غير المحدود لا يقبل التعقل و التصور، فلا يوجد لفظ و إسمٌ و عنوانٌ يدل عليه، و في مقام التعريف و الإشارة إلى تلك الذات يقتصر فقط على إستعمال العناوين العامة مثل «موجود» و «شيء» و «حقّ» و «ثابت» و هذا نهاية التعريف و معرفة الذات الإلهية المقدسة، و الذي ينبغي أن يعرفه الجميع، و إذا قال أحدٌ أنّه «ليس بموجود» أو «ليس بشيء» أو «ليس بحقّ» حذراً من التشبيه، كما يخبر عن تلك الذات بأنها ليست جسماً و لا صورةً و لا جوهراً و لا عرضاً، فإنَّ ذلك الحادٌ و تعطيلٌ و إنكار، بخلاف الأول الذي يعدُّ إيماناً و إعترافاً و إقراراً، و هذا هو أيضاً جواب للشبهة القائلة: إذا كان اللّه تعالى لا يمكن لاحدٍ أن يتصوره و يتعقله بما نتصور و نتعقل به الممكنات من الحدِّ و التعريف و التوصيف، فكيف يُشار اليه إذن؟

فالجواب: هو أنّه يمكن الإشارة اليه بهذه العناوين العامّة من أنّه «شي» و لا يصح إطلاق غير هذه العناوين عليه، و لا وجود للفظٍ خاص يدلُّ على كنه ذاته حتى لو كان مثل «الوجود بالمعنى» الذي يقوله القائل بأصالة الوجود.

و مثال ذلك: ما لو رأينا نقشاً أو بناءاً أو أمراً حادثاً و لم نشاهد النقاش أو البنّاء أو المحدِثْ، و لم نسمع بوصفه، لكننا مع ذلك نحكم بوجوده و عدم تصور شكله

ص: 194

لا يكون مانعاً عن الحكم بوجوده، فكذلك إستحالة تعقل ذات الباري تعالى، لا تمنع من إطلاق لفظ «الشيء» و «الموجود» عليه و الإشارة اليه بها، و غاية و نهاية معرفة الذات هي: «أنَّه شيءٌ و موجودٌ و ليس كمثله شيء» و هذا هو معنى أنّه خارج عن الحدَّين، فهو منزَّه عن التعطيل و الإبطال و منزه عن التشبيه، فباثبات أنَّه شيءٌ و موجود و قادر و عالم و ليس كمثله شيء، نكون قد أقررنا و آمنا و إعتقدنا به، و هذا لا يعني أنَّ ذاته تعالى هي أمرٌ بين أمرين، بل المقصود هو أنَّه فيما يرتبط بالإقرار و الإعتراف به و قبوله لابد أن نعتقد أنها أمرٌ بين أمرين، بمعنى أنّه حصل الاقرار بوجود اللّه تعالى و كذلك حصل تنزيه عن التشبيه، ففي مقابل الإنكار أو الاقرار و مع تشبيه كان إثبات الذات و نفي التشبيه بين هذين الأمرين، و بعبارة أخرى، إنَّ مقابل عدم الثبوت أو الثبوت و التشبيه هو الثبوت و عدم التشبيه.

و على أيّ حال، سواءٌ كان التعبير بالأمر بين الامرين دقيقاً أو لم يكن كذلك، فالمطلب معلوم، و ليس الكلام في هويّة و كُنهِ الباري تعالى ليقول قائل: إنَّ التعطيل و التشبيه ليسا نقيضين، إذ يمكن ارتفاعهما فلا تعطيل و لا تشبيه، فاذا لم يكن تعطيلاً و لا تشبيهاً فما هو إذن؟

و يقول هو أوسع و هو حقّ، لا بمعنى أنّه ثابت، و أنَّ له واقعية و حقيقة و أنه موجد الأشياء و خالقها طبق حكمة و مصلحة، و لا بالمعاني الاخرى التي ذكرت في كتب التفسير للحق، و التي بيَّنها مثل الراغب الاصفهاني في مفردات القرآن، بل إنَّ الحق هنا بمعنى أنَّ في مقابله العَدَم، لا عدمه هو بل عدم كل الأشياء، و حقُّ غيرُ متناهٍ و أنَّ كل ما هو موجود فهو هو و أنَّ غيره باطل و عدمٌ

ص: 195

صرفٍ.

و هذا المعنى للخارج عن حدِّ الابطال و التشبيه، معنى عجيب لا يخلو من المغالطة، ففي هذه الروايات طرحت مسألة الإثبات و الإقرار بوجود اللّه و نفي الإبطال و الإنكار و التعطيل، و ليست المسألة مسألة ماهية اللّه و لا الحديث عن كنهه جلَّ و علا ليقول هذا القائل: أنّه الحقُّ أو يقول أنّه الوجود غير المتناهي و أنَّ غيره باطل حقيقي و عدمٌ محض.

فلا يستفاد ذلك أبداً من الروايات فاللّه تعالى هو اللّه و أنَّ ذاته هي ذاته، فلا يمكن تفسير رواية عرض الدين و الروايات المشابهة لها بهذه المعاني التي قالها بعض العامّة في القرن السابع و بعض الخاصة في القرن العاشر، فينبغي أن لا تنسب هذه المعاني الى مدرسة أهل البيت عليهم السلام ومعارفهم الأصيلة.

فاللّه شيءٌ و موجودٌ أو له وجود، و مثل هذه العناوين العامة يجوز إطلاقها على اللّه تعالى، و كذلك مثل «اللّه حقّ» بمعنى أنَّه ثابت و أنّه خلق العالم طبق الحكمة و لم يخلقه بالباطل، و أنَّ غيره باطل يعني غير ثابت، و أمّا أنّ «اللّه حقّ» بمعنى أنّه حقٌّ و وجود و أنَّ مقابله باطل و عدمٌ و أنّ وجود أيِّ شيء عداه هو نقيضه، فهذا ما لا يوافق القرآن و الروايات و الوجدان، و الاسماءالحسنى و الرحمن و الرحيم و الخالق و البديع و الرزاق و المحي و المميت و المعزّ و المذلّ و المجيب و الشافي و الغفّار و التوّاب و... الخ. بل هو مخالف لها.

فوجود الشيء أو عدم وجوده يعني أنَّه موجود أو غير موجود، لا الوجود أو العدم بالمعنى المستقل الذي هو أنَّه لا يوجد شيء غير الوجود و أنَّ وجوده وجود الوجود و عدمُه عدمُ الوجود.

ص: 196

فاللّه تعالى حقٌّ، يعني أنّه ثابت و دائم و أزلي و أبديّ و أنَّ غيره باطلٌ بمعنى أنّه زائل و فانٍ، وهذا هو معنى:

ألا كلُّ شيء ما خلا اللّه باطلو كلَّ نعيم لا محالة زائلٌ(1)

و بهذا التوجيه يصدق هذا الشعر، و أمّا إذا قيل: إنَّ اللّه حقٌّ بمعني أن كلَّ شيء هو اللّه، أو أنّه لا شيء سواه و أنّ الأمر يدور بين أمرين، إمّا الحق و الوجود أو الباطل و العدم، و إنَّ السماوات و الأرض و كل المخلوقات التي هي باطلٌ، إذا كانت موجودة أيضاً، كما كان اللّه تعالي الذي هو الحقّ أو الحقّ الذي هو اللّه موجوداً، كان ذلك من قبيل إجتماع النقيضين و إجتماع الحق و الباطل! فهذا الكلام ليس صحيحاً، لأنَّ الحقَّ و الباطل ليسا من النقيضين و اجتماعهما ممكن و الباطل بمعناه الصحيح الذي يعني أنَّ الموجودات مُحدثَةٌ و لها وجود، كما أنَّ الحقَّ و الوجود الثابت الأزلي الأبدي محدِثُ الممكنات، موجودٌ و معنى أنَّ اللّه تعالى واجب الوجود هو أن وجوده واجب و عدمه ممتنع، لا إنَّ وجوده وجودٌ و في مقابله عدمٌ، بمعنى نفي ممكن الوجود الموجود بالوجدان.

و الآيات القرآنية الشريفة، ابتداءاً من بسملة الفاتحة إلى سورة الناس صريحة بهذا المعنى، فالرحمن و الراحم و الخالق و الرازق و المالك و الحق و الثابت و المصور و القادر و الحافظ و الغفّار و... الخ، موجود و كذلك المرحوم و المخلوق و المرزوق و المملوك و المحفوظ و المغفور له و... الخ، لها وجود.

و لا يخفى، أنَّ المستفاد من كلمات البعض هو: لمّا كان معنى الخروج عن حدّ7.

ص: 197


1- بحار الأنوار: ج 22 ص 267.

التعطيل أو حدِّ التشبيه ليس هو الأمر بين أمري التعطيل و التشبيه أو الإنكار و التشبيه، إذن لابدَّ أن يكون شيءٌ رابع أبعد من هذه الثلاثة، و هو الحقّ و الوجود، بذلك المعنى للحق و هو، الغير متناهي و المقابل للباطل و العدم، و كأنَّ هذا البعض يريد القول بأنّ الخروج عن الحدّين لا يكون بإطلاق «الشيء» عليه تعالى و الذي له معنى عام، بل إن الخروج عن الحدّين هو إثبات الذات و الاخبار عن الذات و ما به الذات، و هو الحق و الوجود، و استشهدوا لذلك بالحديث الأول من الباب 36 من كتاب التوحيد، و الذي ينتهي سنده إلى هشام بن الحكم - \ رحمه اللّه - \، و هو حديث غنيّ بالمعاني مشحون بالحقائق الراقية في معرفة اللّه.

يقول في ضمن هذا الحديث: و لابدّ من إثبات صانع الأشياء خارج من الجهتين المذمومتين إحداهما النفي إذ كان النفي هو الابطال و العدم، و الجهة الثانية التشبيه إذ كان التشبيه من صفة المخلوق الظاهر التركيب و التأليف...

الخ.(1) فيقول البعض: أنّ المستفاد من جملة: «و لابدَّ من اثبات صانع الاشياء..» أنّ المراد من «خارج عن حدِّ الابطال و حدِّ التشبيه» ليس هو الإقرار و إثبات أنّهُ شيٌ أو موجودٌ، بل لابدَّ من إثبات صانع الاشياء بعنوانه الخاص و بذاته الخاصة و أنّه حقٌّ و وجودٌ و أنَّه غير متناهٍ، و الذي يتضمن نفي الإبطال و التشبيه، و أمّا القول بأنَّه شيءٌ، فهو أعم من نفي أو إثبات التعطيل و التشبيه، حتى لو دلَّ6.

ص: 198


1- التوحيد للصدوق: باب 36، ح 1، ص 246.

على نفي الابطال فانه لا يدل على نفي التشبيه و لذا يقول في الرواية أنّه لابد من إثبات صانع الاشياء بنحو ينفي التعطيل و التشبيه معاً.

و من هنا يمكن القول بأن قول السيد عبد العظيم «خارجٌ عن الحدين» هو عبارة أخرى عن «الحقّ» و «الوجود» و «غير المحدود» و «غير المتناهي» و لكن ذلك السيد الجليل، إعترف بالخارج عن الحدّين، إما بنحو الإجمال مع أنه آمن بالحق و الوجود مع عدم معرفته بان الخارج عن الحدّين هو الحق و هو الوجود، و إمّا أنه اعترف بذلك مع معرفته بان الخارج عن الحدّين هو «الحقّ» و «الوجود» و لكنه اكتفى بذلك التعبير لدلالته عليه.

الجواب:

أمّا ما يرتبط بانّ القول بأنّه «شيءٌ» أو «موجودٌ» هو إخراج عن حدِّ التعطيل و التشبيه فبيانه هو أنَّ التشبيه إمّا في الذات أو في الصفات، و ما تشير اليه الرواية هو إنكار الذات أو تشبيه الذات، و القول بأنَّه شيءٌ أو موجودٌ، لا هو تعطيلٌ و لا هو تشبيه و إمتناع عن القول بالتعطيل و التشبيه.

وظاهر الرويات هو أنّ السائل كان خائفاً من الوقوع في التعطيل و التشبيه، فكان محتارا في إختيار اللفظ الذي يثبت به الذات الالهية و يُخبر عنها، و لذا، سأل الإمام عليه السلام عن لفظ «الشيء» و لفظ «الموجود» فاجابه الإمام عليه السلام بانَّ هذين اللفظين ليس فيهما خطر التعطيل و التشبيه بل و فيهما الخروج عن هذين الحدَّين.

كما أنَّ المستفاد من رواية هشام، لا يعدو هاتين الصفتين، «هو صانع

ص: 199

الأشياء» و «هو خارج عن الحدين»، و الصفة الاولى ثبوتية و الصفة الثانية تنزيهية، أي: إنَّه منزهٌ عن الحدين و إنَّ التعبير عنه بالشيء لا يشتمل على مفهوم التعطيل و التشبيه، بل إنَّ فيه دلالة على إثبات الذات.

و بعباة أخرى، إنَّه أطلق عليه لفظاً ليس فيه مفهوم الابطال و لا التشبيه، إذ في مقام الاخبار عنه عزَّ إسمه، قد يتلفظ بلفظ يشتمل على مفهوم الإنكار أو التعطيل و التشبيه مع أنَّ اللافظ يُنزه ذلك الإله عن التعطيل و التشبيه واقعاً، و أمّا لفظ «الشىء» و «الموجود» فانه يدلّ على الذات و الإقرار بها فقط، بدون الدلالة على تلك المفاهيم المحذورة.

و نضيف في خاتمة هذا البحث الدقيق، أنَّ البعض قالوا:

ليس المراد من الابطال و التعطيل، ترك إثبات وجود اللّه تعالى، و الذي هو بديهي، بل إنَّ المراد من ذلك، التعطيل في التعبير عن حقيقة ذات الالوهية بالألفاظ، و تعطُّل العقل عن معرفة ذاته عزَّ إسمه، إذ لا يوجد لفظٌ دالٌ على ذلك الوجود، فيكتفى في إثبات تلك الذات المقدسة و الاعتراف و الاقرار بها، باطلاق تلك العناوين العامّة مثل «شيء» و «الوجود» و «ثابت»، كما إنَّ الأسماء الحسنى مثل القادر و العالم و بإعتبار دلالتها على الذات أو الشيء الموجود الذي له قدرة و علم، تدلُّ على الذات و الصفة كليهما، و إثباتها أيضاً إثبات للذات و للشيء.

يقول العلامّة المجلسي: «حدُّ التعطيل هو عدم إثبات الوجود و الصفات الكمالية و الإضافيّة له، و حدّ التشبيه الحكم بالاشتراك مع الممكنات في

ص: 200

حقيقة الصفات و عوارض الممكنات»(1)

أقول: اذا كان حدّ التعطيل ما ذكره بالتفصيل فلا يخرج منه بالقول بانه شيء.

و حدّ التشبيه لا ينحصر بالاشتراك مع الممكنات في حقيقة الصفات، بل يكون بالاشتراك في حقيقة الذات مثل ما يقوله القائل بأصالة الوجود و اللّه هو العالم و نستغفره و نتوب اليه من الورود في المباحث التي لم يكلفنا بالورود فيها لعجز عقولنا عن إدراكها أو لصعوبة فهمها و لكونها من مزال الاقدام و لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم.

«6 - \و إنَّه ليسَ بجسمٍ و لا صورة و لا عَرَضٍ و لا جَوهَرٍ»(2)

فلا هو بجسم و لا صورة، و لا هو بعرضٍ و لا جوهر، و لا فرق في سلب الجسمية و الصورتية و العرضية و الجوهرية، سواءٌ فسَّرناها طبقا لإصطلاح أهل المعقول كما نقل عن المحقق الطوسي - \عليه الرحمة - \أو فسرناها بالمعنى العرفي و الذي يبدو أنه أظهر، و هو أنَّ الجسم بمعنى الجَسد أو الشيء الذي له الأبعاد الثلاثة (الطول و العرض و العمق)، و إنَّ الصورة بمعنى التشكُّل بشكل يتميز به عن الأشكال الاخرى، و العَرَض في الإصطلاح العرفي هو الشيء القائم بالغير و في المحل.

و بعبارة أخرى: الجوهر الذي هو عرفاً في مقابل العرض، لا الجوهر الذي هوة.

ص: 201


1- مرآة العقول، كتاب التوحيد، باب إطلاق القول بأنّه شيء: ج 1 ص 282 ذيل ح 2.
2- و لو أن جملة (ليس كمثله شيء) تدلُّ بالالتزام على تنزّه الباري عن الجسمية و سائر صفات و ذاتيات الممكنات، لكن جملة «ليس بجسم...» تدلّ على ذلك بالمطابقة.

في مقابل المعاني الاخرى و الذي ينقسم في الاصطلاح إلى خمسة أقسام، و أحدُ قسمي الممكن، و أما الجوهر بمعنى ذات الشيء و حقيقة الشيء فليس مراداً.

و على كل حال، فاللّه تعالى، منزَّهٌ عن هذه المعاني، أعم من أن يكون المقصود هو المعاني الاصطلاحية أو كان المقصود، المعاني العرفية في مقابل المعاني الاخرى.

«7 - \بَلْ هُوَ مُجسِّمُ الأجسام و مصوِّرُ الصُور و خالقُ الأعراضِ و الجواهِر»(1)

إنَّ الأجسامَ و الأعراض و الجواهر و الصور، لم توجد من قبل نفسها، كما أنَّ وجودها ليس قديماً و دائمياً، و لا أنها غير محتاجة لخالقٍ و موجد، فكما يُصرِّح القرآن الكريم: «أم خُلقوا مِنْ غَيرُ شيءٍ أم هُمُ الخالِقون»(2)

فجواب هذا التساؤل الشريف في الآية، هو النفي بداهةً و فطرةً، فمثل هذا الوجود غير متصور و ممتنع، فكلّ هؤلاء عاجزون عن إيجاد أنفسهم، كما أنَّ كسب الوجود من أمثالهم محالٌ أيضاً، كما لو طلب محتاج من محتاج شيئاً، و طلب مقروضٌ من مقروضٍ دَيناً.

و عليه، اذا كان اللّه تعالى و هو مجسِّم الأجسام و مصور الصُور، جسماً أو صورةً، كان محتاجاً إلى مجسِّم ومصوِّر.5.

ص: 202


1- أمالي الشيخ الصدوق: ص 419.
2- الطور: الآية 35.

لذا، يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

«بتَشعيرِهِ المشاعِرَ عُرِفَ أنْ لا مَشعَرَ لَهُ، و بمضادَّتِهِ بينَ الأمور عُرفَ أن لا ضِدَّ له و بمقارَنَته بَيْنَ الأشياءَ عُرفَ أنْ لا قَرينَ لَهُ»(1)

«8 - \و رَبُّ كُلِّ شيءٍ و مالِكُهُ و جاعِلُهُ و مُحدِثُهُ»

الرَّب، بمعنى المربّي و موصل الشيء من النقص إلى الكمال، و هذا المعنى للتربية متصور في الموجودات التي ليس لكل أو بعض كمالاتها فعليَّةُ و لكنها حائزة على الإستعداد للكمال بالقوَّة، لتكون تربيتها مؤثرة، و لإيصالها من النقص إلى الكمال و من القوَّة إلى الفعليَّة.

و على هذا، تدلُّ جملَة «ربُّ كلِّ شيءٍ» على أنَّ كل الاشياء بحاجة إلى تربية، و ليس لها الفعليّة المستغنية عن المربي، حتى لو كانت من قبيل المجردات و العقول، التي يعتقد القائلون بوجودها أنها فعلية محضة، فالقول بها و أنَّ صدور المخلوقات غير المجردة لابدَّ أن يترتب على صدورها و خلقتها، مستلزمٌ لعيوب و مفاسد عديدة.

والمعنى الآخر للرَّب هو السيد و الصاحب و المالك. و من يصنف المخلوقات إلى صنفين، لابد أن يقول بأن إضافة «ربّ» إلى كلِّ شيء، يفيد أن المراد من الربّ هو المعنى الثاني، إذْ بعد فرض أنّ المخلوقات على قسمين تكون إضافة «ربّ» إلى كلّ شيء جاعلةً المعنى الأول بحاجة إلى تفسير و تأويل و توجيه.6.

ص: 203


1- نهج البلاغة، الخطبة 186.

و عليه، يكون المعنى هو إنَّ من أوصاف اللّه تعالى هو انَّه صاحبُ كلِّ شيء و مالكه، و جاعِلَه و موجده.

و لا يخفى أنَّ الصفات التي وردت في هذه الفقرات من كلام السيد عبد العظيم في مقام عرض الدين، هي بعض الصفات السلبية و بعض الصفات الثبوتية الفعلية، التي مصدرها الصفة الثبوتية الذاتية، لانَّ كلَّ الصفات الفعلية ترجع إلى صفة العلم و القدرة، و تدلُّ على صدور الفعل و الظهور الخارجي للقدرة.

و المطلب الدقيق هنا هو إنَّ عدّة مسائل اخرى ترتبط بعرض العقائد و التي لم يبيّنها السيد عبد العظيم الحسني، كالإعتقاد بالعلم و قدرة اللّه، و مسألة الكلام و الإرادة، و يبدو أنَّه أوكلها لوضوحها، مضافاً إلى استفادتها بالملازمة من تلك الجمل، لا أنَّه غفل عنها تماماً.

و قد يكون المراد و المقصود هو بيان العقائد المختلف فيها بين الشيعة و سائر الفرق الاسلامية، و خاصة الأشاعرة، و إنَّ الغرض هو بيان العقيدة الحقَّة في هذه المسائل الخلافية، و بعض الجمل الاخرى ناظرَة إلى هذا المعنى أيضاً.

و الأمر المهم هنا هو إنَّ هذا الوصف للباري عزوجل، إما هو للصفات الثبوتية الفعلية، أو للصفات السلبية للذات الإلهية المنزهة عنها، و لا يستفاد إثبات الصفات الثبوتية الذاتية إلاّ من جملة «خارج عن الابطال»:، و أمّا ما يرتبط بكنه و حقيقة هذه الصفات التي هي منزهة عن الإدراك مثل تنزه الذات عن إدراكها من قبل المخلوقات فلم تتعرض له أيّ عبارة، و ذلك لأن الكلام عنها منهيٌ عنه و ممنوع.

ص: 204

و من هنا يُعلم عدمُ جواز البحث في هذه الصفات الذاتية كالعلم و الحياة و الذي يرتبط بحقيقة هذه الصفات، و أنَّ البحث فيها قد يوجب الضلال و الإضلال.

و ما أجمع و أتمَّ و أكمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المعنى حيث يقول:

«دَعْ القَول فيما لا تعرف، و الخطابُ فيما لا تُكلّف و أمْسِك عَن طريقٍ إذا خِفتَ ضلالَته فانَّ الكفَّ عِندَ حَيَرة الضَّلالة خيرُ مِن ركوبِ الاهوال»(1)

و ما أروع ما أنشأهُ الفاضل المعتزلي أبنُ أبي الحديد:

و اللّه لا موسى، و لا، عيسى المسيح و لا محمد0.

ص: 205


1- وسائل الشيعة، كتاب القضاء، باب وجوب التوقّف و الاحتياط في القضاء، ح 3346، ح 20، ج 18 ص 117.

ص: 206

عرض الدِّين و النبوَّة

«9 - \وَ أنَّ محمَّداً صلى الله عليه و آله عَبدُه و رسولُه خاتِمُ النبيّين فلا نَبيَّ بَعدَهُ إلى يوم القيامَةِ و إنَّ شريعَتَه خاتِمَة الشرائع فلا شريعَةَ بَعدها إلى يَومِ القِيامَة»

الجملة الاولى من هذه الفقرة هي نفس العبارة التي نردِّدها تسع مرات يومياً في صلواتنا اليومية «وَ أشهَدُ أنَّ محمَّداً عَبدُه و رسولُه» و يُستفاد من هذه الجملة الشريفة، عظمة مقام العبوديَّة للّه، و بطبيعة الحال فإن الجميع هم عباد اللّه بالمعنى العام بهذه الكلمة، أي: أنَّ جميع الخَلق هم في ملكية اللّه و تحت إرادته و أمره، و لا يملكون لنفسهم نفعاً و لا ضرّاً، و إنَّ نشأتهم و نموّهم و تكاملهم كلّها من اللّه تعالى و كما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي:

«سيّدي أنا الصَّغيرُ الَّذي رَبَّيتَهُ و أنا الجاهلُ الَّذي عَلَّمتَهُ و أنا الضّالُ الَّذي هَديتَه،... و الفقيرُ الَّذي أغنَيتَهُ» (1)

ص: 207


1- إقبال الأعمال: ص 165، الصحيفة السجاديَّة: ص 223.

و لكن اذا نسب العبد تشريفاً إلى سيِّده و مولاه، فالمناسب هو إلتزام هذا العبد بلوازم العبودية له، و إلاّ لم تصح هذه النسبة، كما أنَّ المولى لا ينسب عبداً إليه إلاّ اذا كان ذلك العبد قد سلَّم أمره إلى مولاه تسليماً مطلقاً محضاً، و لم يتبع هواه و لم يكن له إرادة في عرض إرادة مولاه.

و بناءً عليه، عندما نشهد بعبودية خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه و آله للّه تعالى، فاننا نشهد بنيلة أعلى مراتب العبودية و التسليم و الطاعة للّه عزوجل، الأمر الذي من اكتسبه و مهما كانت الدرجة و المقام المقدس الذي وصل اليه، فانه باعتبار درجة عبوديته و تسليمه و إطاعته للّه تعالى.

و لذا، فان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو الشخص الاول، لانَّه العبد الاوَّل. فبحسب الروايات هو أوَّل من أقرَّ بالربوبيَّة من الأنبياء في مرحلة أخذ الميثاق من الخلق.

و كذلك، فانّ اللّه تعالى، و باعتبار أنَّ النبي محمد صلى الله عليه و آله هو العبدُ الحقيقي الذي حاز أتمّ و أكمل مقامات العبودية للّه، وصفه بأنه عبد و قال:

«سُبحانَ الَّذي أسرى بِعَبدِهِ»(1)

و كذلك الاشخاص الذين ذكرهم تعالى في سورة الفرقان بقوله:

«و عبادُ الرَّحمنِ الّذينَ يَمشونَ على الارضِ هَوناً»(2) و الذين نسبهم اليه، فقد قبل عبوديتهم له.3.

ص: 208


1- الإسراء: الآية 1.
2- الفرقان: الآية 63.

و العبودية بالمعنى الاول و الشاملة لجميع البشر، لها جنبة تكوينية و قهرية، ليس لأحدٍ التمرُّد عليها و لو بمقدار ذرَّة، و أمّا بالمعنى الثاني، للعبودية فهي إختيارية إرادية فالعبد في مسير هذه العبودية يتعرف على نفسه و يدرك فقره و إحتياجه إلى اللّه، و أنَّ عليه أن يفوِّض أمره اليه تعالى و أن يتقدم في طريق التسليم و الطاعة المحضة و يرضا برضاه.

أجل، بعد الاقرار بعبودية خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله، يقرّ برسالة و خاتمية النبي محمّد صلى الله عليه و آله و أنَّه لا نبيَّ بعده إلى يوم القيامة، و أنَّ شريعته هي خاتمة الشرائع و الأديان إلى يوم الدّين.

أمّا الاقرار و الشهادة بالرسالة، فهو شرطٌ في إسلام الشخص فما لم يشهد أحدٌ بالرسالة، لا يُحكم باسلامه، و لا تجري عليه أحكام الإسلام إلاّ إذا كان مسلماً بفطرته فيحكم باسلامه تبعاً لأبويه، و لا يبعد أن يبقى هذا الحكم بإسلامه جارياً عليه بعد بلوغه مادام لم يظهر ما يخالف الإسلام.

و على كلّ حال، لا توجد كلمة أعظم من الشهادة بالرسالة و الاقرار بنبوة محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه و آله، بعد كلمة التوحيد و الاقرار بالوحدانية للّه تعالى، و كما إنها تأتي بعد الشهادة بالتوحيد في الأذان و التشهد، فكذلك بين الأمور الاعتقادية يأتي الاقرار بالرسالة و النبوَّة في المقام الثاني بعد التوحيد.

و من ضمائم الإيمان بالرسالة، الايمانُ بان محمداً صلى الله عليه و آله هو خاتم النبيّين، فلا نبيّ بعده.

و الظاهر أنَّ السرّ في إنَّ السيد عبد العظيم الحسني و في مقام الإعتراف

ص: 209

بالنبوَّة، يعبِّر عن النبي بالرسول الذي يفهم منه الواسطة و السفير بين الخالق و الخلق، و أمّا في مقام الاقرار بالخاتمية فعبَّر عنه بخاتم النبيّين، لا خاتم المرسلين، السرُّ هو أنَّ الرسول معنى و مفهوم أخصّ من النبي صلى الله عليه و آله، فكل رسول هو نبي و لا عكس.

و عليه يكون معتقده هو أنَّ الرسول مضافاً إلى إنَّه خاتم المرسلين فكذلك هو خاتم النبيّين، و لذا عبّر بخاتم النبيّين ليفهم المعنيان معاً، فانَّ ختم النبوَّة يعني بالضرورة ختم الرّسالة.

و من الواضح: أنَّه بختم النبوَّة، تختم الشرائع، إذ إنَّ تشريع شريعة جديدة يتوقف على مجيء سفير و نبي جديد، و بدون ذلك لا يمكن مجيء دين جديد.

و هذه الخاتمية ثابتةٌ في كلِّ أبعادها، بالأدلَّة القرآنية و الاحاديث القطعية المسلَّمة، و منكرها يُعدُّ منكراً لضرورة من ضروريات الدين.

و هذا الدّين، كما إنَّه عامٌ لكلِّ الازمنة، «حلالُ محمد حلالٌ إلى يَوم القيامة و حرامُ محمد حرامٌ إلى يوم القيامة»(1) ، فكذلك هو شامل لكلِّ الامكنة، فقد مرَّ اكثر من 1400 سنة على ظهور هذا الدّين، و هذه الفترة تؤيد خاتمية هذا الدّين.

إذ طيلة هذه الفترة الطويلة، لم نسمع بنبوة ثابتة و معقولة و مقبولة، و لم نسمع بشريعة جديدة صالحة و جامعة و كافية و محكمة و وافية إدَّعى أحد بالمجيء بها.35

ص: 210


1- بحار الأنوار: ج 26 ص 35

فهذا الدين متأصّل و خالدٌ، و باقٍ ما طلع قمرٌ و أشرقت شمس، و هو أكمل الأديان و اكثرها جمعاً للشرائع و التعليمات، و لعلَّ أحد أسرار إعطاء النبي صلى الله عليه و آله المعجزة الباقية و هي القرآن الكريم، هو الخاتمية لهذا الدين، فهذه المعجزة باقية إلى الأبد، و لازال إعلان «و إن كُنتُم في رَيبٍ ممّا نَزَّلنا على عَبدِنا فَإتُوا بِسورَةٍ مِن مِثلِه و ادْعُوا شُرَكائَكُم مِن دونِ اللّهِ إن كُنتُم صادِقين فإنْ لَم تَفعَلُوا و لَنْ تَفعَلُوا فاتَّقُوا النّارَ التي وَقُودُها النّاسُ و الحجارَة أُعِدَّت لِلكافِرينَ»(1) يرنّ في أسماع أهل العالم، يترنم به كلّ مسلم و في كل عصر و مكان متحديا الدنيا باجمعها.

«10 - \و أقول إنَّ الإمامَ و الخليفَةَ و وليّ الأمر بَعدهُ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثمَّ الحسنُ، ثمَّ الحُسينُ، ثمَّ عليُّ بنُ الحسين، ثمَّ محمّد بن عليّ، ثمَّ جعفَرَ بنَ محمَّد، ثمَّ موسى بن جعفر، ثمَّ عليّ بن موسى، ثمَّ محمَّدُ بن عليّ، ثمَّ أنت يا مولاى فقال عليه السلام و من بعدى الحسن ابني فكيف للناس بالخلف من بعده؟ فقلت: فكيف ذاك يا مولاى؟ قال: لانّه لا يُرى شخصه و لا يحلُّ ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت جوراً و ظلماً»

و هنا ينبغي التنبيه على أُمور:

الأوَّل: إنَّ كلمة «إمام» و «خليفة» و «وليّ الأمر» ليست مترادفة، و إن كانت متجسّدة في مصداقٍ واحد، أي أنه يصدق اطلاق الولي و الإمام على4.

ص: 211


1- سورة البقرة: الآية 23-\24.

الخليفة كما يصدق إطلاق خليفة و وليّ على من يصدق إطلاق «الإمام» عليه، فهذه الالفاظ متلازمة في التصادق، و لكنّها ليست مترادفة في المفهوم، فمن كل واحدٍ منها يُستفاد بعدٌ من أبعاد الشخصية التي هي مصداقٌ لهذه العناوين، و إنْ كان لازم الاتصاف بمعنى كلِّ واحدٍ منها، هو الإتصاف بمعنى الآخَرين أيضاً.

فالمفهوم الظاهري للفظِ «إمام» هو الزعيم و القائد، و من يكون فعله و سيرته و كلامه، أسوة و حجّة، و يجب على الجميع الإقتداء و التأسّي به و إطاعته.

و من الواضح: أنّ مثل هذا الشخص لابدّ أن يكون الأعلم من بين الجميع، و أن يكون معصوماً عن الخطأ و الاشتباه، و إلاّ لم تتحقق الأمامة في وجوده، ذلك أنَّه إذا لم يكن كذلك، لم يكن لاحدٍ الثقة و الإطمئنان بصحة متابعته و الاقتداء به فضلاً عن وجوب طاعته و التسليم له. فمع إحتمال خطأ و اشتباه المرشد و الدليل، لا يكون طي طريق بمعيته مقبولاً عند العقلاء، كما أنّه لا يجوز شرعاً تجويز طي مثل هذا الطريق فضلاً عن ايجابه.

و المستفاد من قوله تعالى، «و إذ ابتَلى إبراهيمَ رَبُّهُ بكَلماتٍ فأتَمَّهُنَّ قال إنِّي جاعِلُكَ للنّاسِ إماماً قالَ و مِن ذُرّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهدي الظّالِمينَ»(1)

كذلك يستفاد من الحديث الوارد في تفسير هذه الآية الشريفة، و من الدرجات التي طواها خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حتى وصل إلى مرتبة الإمامة، المستفاد هو أنَّ مقام الامامة مقام عظيم.

كما إنَّ المستفاد من الحديث المشهور «مَن ماتَ و لَمْ يَعرِف امامَ زمانِهِ4.

ص: 212


1- البقرة: الآية 124.

ماتَ ميتَةً جاهليَّةً»(1) هو إمامة و لزوم عصمة صاحب هذا المقام.

و أمّا الخلافة و التي تعني بمفهومها العام النيابة عن الغير و القيام بدوره و عمله، فمفهومها الخاص هنا هو أنّها منصب إلهي، بنحو يستلزم نسبة ما يصدر من الخليفة، إلى اللّه، و أنَّ الخليفة هو عاملٌ و مجرٍ لارادة اللّه، إذ لا يمكن هداية العباد أو الحكم بينهم بلا وساطة البشر، فيتمُّ ذلك بواسطة الخليفة، و لا شكَّ حينئذٍ في وجوب إتّصاف الخليفة النائل لهذا المنصب الشريف بالأعلميَّة و العصمة، و التقوى العالية التي اشترطناها في الإمامة.

و أمّا ولاية الأمر، بمعنى صاحب الإختيار في الأمور من قبل اللّه تعالى، فهو منصبٌ من المناصب التشريعية، مشروط بشرائط تختلف باختلاف إقتضاء سعة و ضيق متعلقات الولاية و حدود مداخلات الوليّ.

فولاية النبي أو الإمام و الخليفة، و لأنَّ حدودها واسعة، تشمل كلّ الأمور، و لوجوب الطاعة لهم بصريح الآية الكريمة «أطيعُوا اللهَ و أطيعُوا الرَّسولَ و أولي الأمرَ منكُمْ»(2) تكون هذه الولاية مطلقة و غير مشروطة، و هي مثل مقام الإمامة و الخلافة مشروطة بالعصمة، و بهذا المعنى عُدَّت في رديف الصلوة و الصوم و الزكوة و الحج، في الحديث المعروف:

«بُنيَ الإسلام على خَمسْ على الصلوةِ و الزَّكوةِ و الصَّوم و الحجِّ و9.

ص: 213


1- الغدير: ج 10 ص 359 و قد ذكر بعبارات مختلفة.
2- النساء: الآية 59.

الوِلايَة وَ لَمْ يُنادَ بِشَيءٍ كما نوديَ بالوِلايَة»(1)

و بجملة «وَ لم يُنادَ بشيءٍ كما نُوديَ بالولاية» يُشار إلى أهميتها الخاصة فالملاحظ في الحديث أنَّ الولاية عُدَّت في سلسلة أحكام اللّه، مع أنَّ صاحب هذا المقام لا يكون إلاّ الإمام و الخليفة.

و موضوع وجوب إطاعة ولي الأمر، هو نفس الأوامر الولايتية للإمام و الخليفة، و الأوامر الصادرة بعنوان إدارة النظام، و رتق و فتق الأمور.

و بهذا اللحاظ، تكون ولاية أمر و نهي الولي مستندة اليه هو، بينما هي مستندة إلى اللّه في حالة الخليفة.

عباراتُنا شَتّى و حُسنُكَ واحدٌو كُلٌّ إلى ذاكَ الجَمالِ يُشيرُ(2)

الثاني: و الدرس المستفاد من كلام السيد عبد العظيم و المقرون بتأييد الإمام عليه السلام، و هو قوله: «إنَّ الإمام و الخليفة و ولي الأمر بعده...» هو أنَّ النبي عليهما السلام أيضاً إمامٌ و خليفةٌ و وليُّ أمرٍ، و لذا فيجب أن تستمر هذه الإمامة و الخلافة و الولاية من بعده، بخلاف النبوَّة، التي أقرّ بها في الفقرة السابقة فإنّها ختمت برسول اللّه محمد صلى الله عليه و آله و أنه لا يجب إستمرارها، حيث إنّها تدور مدار وجود مصلحة و حاجة في المجتمع، و من جعلها الخاتمة يظهر عدم وجود مصلحة و حاجة في الدين الجديد، بخلاف الامامة و الخلافة و ولاية الأمر، فانه لا يخلو زمنٍ من الحاجة اليها و لا أرضٍ من ضرورتها، و كما رُوي عن أمير1.

ص: 214


1- الاُصول من الكافي، كتاب الإيمان و الكفر، باب دعائم الإسلام: ج 1 ص 81 ح 2.
2- كشف الرموز: ص 81.

المؤمنين عليه السلام:

«أللهمَّ بَلى! لا تَخلو الارضُ مِن قائمٍ للّهِ بحُجَّة إمّا ظاهراً مشهوراً و إمّا خائفاً مغموراً»(1)

و مما ذُكر، يمكن القول: إنَّ بُعدَ الخلافة و الإمامة في شخصية الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله الجامعة لمقام النبوّة و الخلافة و ولاية الأمر، هو أشرف من بُعدِ النبوَّة و الولاية، و ليس مفهوم ذلك أفضليَّة الائمَّة - \عليهم السلام - \على النبي صلى الله عليه و آله - \ نعوذ باللّه - \فان هؤلاء الأطهار و إنْ حازوا منصب الامامة و الخلافة و الولاية، لكنهم لم يتصفوا بصفة النبوّة، أمّا النبي الاكرم صلى الله عليه و آله فقد حاز المقامات الاربعة جميعاً.

أضف إلى ذلك، إنَّ ولاية و إمامة أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان أفضل كلِّ الائمَّة المعصومين - \عليهم السلام - \كانت خاضعة لولاية و امامة النبي الاكرم صلى الله عليه و آله و كان النبي صلى الله عليه و آله أولى بالمؤمنين من أنفسهم بما فيهم أمير المؤمنين عليه السلام، إذ أنَّ الآية الكريمة: «النّبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفُسِهِمْ»(2) تشمل أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً.

الثالث: بيان خلافة أمير المؤمنين عليه السلام لرسول اللّه صلى الله عليه و آله بلا فصل و ولايته من بعده، و على ذلك أدلّة قطعية و مدارك يقينية ثابتة، من جملتها نص الغدير المتواتر، و الذي رواه العامة و الخاصة من المحدثين و المورخين و المفسرين و6.

ص: 215


1- نهج البلاغة، الحكمة 147.
2- الأحزاب: الآية 6.

علماء الرجال و غيرهم، في الكتب و الجوامع و المجاميع و المسانيد و بأسانيد متعددة عن جماعة كثيرة من الصحابة و التابعين و تابعي التابعين.

و من جملتها واقعة يوم الإنذار، و النصوص على امامته و ولايته عليه السلام في المشاهد و المواقف الاخرى، كثيرة و لو أنصف المناقش و لم يُعاند، لما كان بالإمكان خفاء هذا الأمر عليه و عدم إتضاحه كونه كالشمس في رابعة النهار.

و كل الفضائل و المناقب التي ذكرت لأمير المؤمنين عليه السلام في آلاف المصنفات و الكتب المعتبرة، تثبت هذا المعنى و هو أنَّ الشخص الوحيد الصالح لمقام خلافة اللّه و خلافة الرسول صلى الله عليه و آله، لم يكن الاّ علي بن أبي طالب عليه السلام و كل العلوم التي كشفها علي عليه السلام للمسلمين، و عدم إحتياجه إلى غيره، و احتياج الكلّ اليه، و اخباراته عن المغيّبات و سائر معجزاته، كلها تشهد على خلافته بلا فصل للنبي صلى الله عليه و آله فكلُّ ما نقوله و نكتبه هو من قبيل توضيح الواضحات، و هو أقلّ من قطرة من بحر و ذرةٍ من شمس.

«سُبحانَ الَّذي خَلَقَه و جعلهُ آيتهُ الكُبرى و حُجَّته العظمى و أعطاهُ و مَنَحهُ مِن العُلوم و الكمالات ما حيَّر به عُقول ذَوي الالباب»

الرابع: الأمر الرابع: المستفاد من هذه الرواية هو إمامة الائمة الإثني عشر - \ عليهم السلام - \، و بحسب مآت الروايات الصحيحة و المعتبرة من طرق الشيعة و السنّة، فانَّ إمامتهم ثابتة و محرزة، من جملتها ما نقله الإمام أحمد بن حنبل لوحده، فقد نقل باربعين طريقاً عن جابر و عبد اللّه بن مسعود، من الروايات ما يفيد حصر عدد الائمة و الخلفاء في إثني عشر رجلاً، و هذا العدد لا ينطبق على رأي أيّ فرقة من الفرق الاسلاميّة إلاّ الفرقة الإمامية الاثني عشرية،

ص: 216

فعلى المنصف إما أن يطرح كل هذه الروايات المتواترات المسلمات و يرتكب ما لا يرتكبه ايُّ مسلم مؤمن برسالة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه و آله، و على أقل التقادير إذا لم يشأ التجاسر و ردِّ قول النبي صلى الله عليه و آله، أن يعتذر بجهله بالمقصود من هذه الروايات فيطرحها، أو أن يقبل مذهب الشيعة الذي ينفرد في إنطباق هذه الروايات على رأيه و منهجه في الامامة.

مضافاً إلى ذلك، فانَّ أكثر من مئتي حديث من هذه الأحاديث تضمن شرح و تفسير تلك الطائفة التي تضمنت ذكر عدد الخلفاء و الائمة فقط، فوضحتها بالصفات و العلامات، بل و حتى ذكر اسماء هؤلاء الاثني عشر من أوّلهم و هو علي ابن أبي طالب عليه السلام و إلى آخرهم و هو المهدي بن الإمام الحسن العسكري عليه السلام.

أضف إلى أنَّ روايات كثيرة أخرى، و شواهد عديدة من معجزاتهم و خوارقهم للعادة، تثبت إمامة هؤلاء الأئمة الإثني عشر بما لايبقي مجالاً للشك و الشبهة.

و من جملة ذلك: نفس هذه الرواية التي تحصر الائمة و تعيّنهم في هؤلاء الاثني عشر، و السيد عبد العظيم الذي توفي قبل وفاة الإمام الهادي عليه السلام و قبل ولادة صاحب العصر - \أرواحنا فداه - \رَوى خبر ولادة الإمام الحجة بن الحسن - \ أرواحنا فداه - \و غيبته عن الإمام الهادي عليه السلام.

الخامس: لقد وردت الاشارة في هذه الرواية إلى ثلاث صفات من أوصاف صاحب الزمان - \أرواحنا فداه - \بنحو الاجمال.

الأولى: لا يُرى شخصُه، و هو إشارة إلى استتاره عن الأنظار، و هذا لا يعني

ص: 217

النفي الكلّي لرؤيته، إذ تشرف بزيارته قبل الغيبة الكبرى جماعة من المؤمنين، و كذا نال شرف زيارة قطب عالم الإمكان و كهف الأمان جماعة في غيبته الكبرى، و إنّما المقصود من العبارة أنَّ الالتقاء به غير ميسر للجميع بصورة عادّية، و إنَّ أغلب الناس محرومون من لقائه، و يجهلون مقر إقامته و أحواله و إنَّ اولئك الذين يحظون بشرف لقائه خاصة في الغيبة الكبرى إنَّما يوفقون لذلك بنحوٍ غير طبيعي و بالاتّفاق، كما أنَّ الظاهر من نفي الرؤية في الرواية هو نفي الرؤية مع المعرفة الشخصية التي لا تتيسر إلاّ للأوحدي من الناس، و أمّا الرؤية مع عدم المعرفة الشخصية فهي جائزة و لا تنافي الهدف من غيبته و الحكمة فيها.

الثانية: الصفة الثانية هي، عدم حليّة ذكره باسمه الشريف، فبحسب هذه الرواية و روايات أخرى، لا يجوز ذكره باسمه الذي هو اسم رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

و في حكم تسميته - \أرواحنا فداه - \في عصر الغيبة و أنّه هل إنَّ ذلك لا يجوز مطلقاً أو يجوز مطلقاً؟ و إن كان مكروهاً مطلقاً أو أنَّه مكروه في المجامع فقط، أو أن الحرمة خاصة بذكره في المجالس و المجامع، أو أنّ الحرمة من باب التقية و أن ذكره جائز مع عدم التقية، إحتمالات، و لعلَّ إحتمال أنَّ النهي عن التسمية إلى زمان الظهور مختص بالمجالس و المجامع تعظيماً له، و أنّه جائز في الموارد الاخرى، هو الإحتمال الأرجح.

و على أى حال، فالقول بالحرمة مطلقاً و الجواز مطلقاً ضعيف، و الاحتياط يقتضي ترك التسمية، إلاّ في بعض الموارد، كما لو ورد إسمه الشريف في رواية يُراد نقلها، أو في مورد الضرورة التي يلزم فيها إعلان إسمه الشريف، و هذه المسئلة من جملة المسائل التي اختُلف في الفتوى بها بين الشيخ الأجلّ بهاء

ص: 218

الدين العاملي و السيد الجليل ميرداماد - \عليهما الرحمة - \و قد كتب الميرداماد كتاب «شرعة التسمية» و الذي طبع أخيراً بتوصية من الدّاعي تأييداً لنظره و رأيه في المسألة.

الثالثة: ما ذكره الإمام الهادي عليه السلام من أنّ خليفة الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت جوراً و ظلماً. و قد ورد اكثر من مائة حديث معتبر بطرق الشيعة و السنة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و الائمة الطاهرين، وصف المهدي - \عجل اللّه تعالى فرجه الشريف - \بهذا الوصف، و هو من أوصافه البارزة و المهمة إلى حدٍّ عَدّت هذه الصفة و هي من أوصافه الفعلية، في جملة أهداف و غايات الظهور المهمة، كظهوره و غلبة الإسلام على سائر الأديان و إنتشار عقيدة التوحيد و الحكم الإسلامي في كل العالم و... الخ، من أهداف الظهور.

و هذه الصفة و إن كانت في هذه العبارات من جملة أوصافه الفعلية و أنّ ذلك من منجزاته المهمة و الكبيرة، و لكن تدلّ بالإلتزام على إتّصافه ذاتاٍ بصفة العدالة و كمال النفس و استقامة الفكر و الروح - \صلوات اللّه و سلامه عليه - \فمن البديهي، أنَّ القيام بمثل هذه الاعمال و تحقيق هذه الاهداف و البرامج، يتوقف على الاتصاف الذاتي بهذه الكمالات، و على حيازة الأهلية العظيمة التي لم يحزها إلاّ الأنبياء و الائمة الطاهرين - \عليهم السلام - \، المؤيّدين من عند اللّه تعالى.

«11 - \قال: فقلتُ: أقرَرتُ و أقولُ: إنَّ وليَّهُم وليُّ اللّه، و عدوَّهُم عدُوّ اللّه و طاعَتَهُم طاعَة اللّه و مَعصِيَتَهُم معصيةُ اللّه»

ص: 219

من خلال هذه الكلمات التي قالها السيد عبد العظيم الحسني، نقف على عظمة مقام الإمامة و الولاية، و التي يظهر مما ذكرناه، أنّها تالي ولاية اللّه تعالى، فوليّهم وليُّ اللّه.

و يستفاد من بعض الأحاديث المعتبرة، أنَّ العبد لو عبد اللّه مدة دعوة نوح في قومه (950 سنة)، يصوم يومه و يقوم ليله، و قُتل بين الركن و المقام مظلوماً، لم يشمّ رائحة الجنَّة ما لم يتولى هؤلاء الأطهار. (1)«مَن أتاكُم نَجى و مَن لَمْ يأتِكُم هلك» (2)«مَن أطاعَكُم فقد أطاعَ اللّه و مَن عصاكُم فقدْ عصى اللّه»(3).

و قد ورد في بعض الروايات التي نقلت بطرق العامّة أيضاً، أنَّ العبد يُسئَل يوم القيامة و قبل أن يرفع قدماً على قدم في جملة أمور أربعة عن ولاية أهل البيت - \ عليهم السلام - \بكل معانيها، و عن محبتهم و أنّهم أولياء الأمر و الائمة و الخلفاء، و هذا أمرٌ مسلّمٌ بين المسلمين منذ صدر الإسلام و عصر الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله

يقول الفرزدق في قصيدته:

مِنْ مَعشَرٍ حُبُّهُم دينٌ و بُغضُهُم كُفرٌ و قربُهُم مَنجى و مُعتَصَمُ

«12 - \و أقولُ: إنَّ المِعراجَ حقٌّ و المُسائَلَةَ في القَبرِ حقٌّ و إنَّ الجَّنَّة حقٌّ و1.

ص: 220


1- بحار الأنوار: ج 27 ص 172.
2- تهذيب الاحكام، باب الزيارة الجامعة: ج 6 ص 98.
3- المصدر السابق: ج 6 ص 101.

النارَ حقٌّ و الصراطَ حقٌّ و الميزانَ حقٌّ و إنَ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا ريبَ فيها و إنَّ اللّه يَبعَثُ مَن في القُبور»

و في هذا القسم، يعرض السيد عبد العظيم قسماً آخر من معتقداته، و يشهد بحقانية المعراج و سؤال القبر و الجنة و النار و الصراط و الميزان و الساعة و القيامة و البعث و الإحياء، و سنحاول بيان هذه الامور بنحو الإختصار.

نُذكِّر مقدمةً بأنَّ الاعتقاد بالمعاد و حشر الأموات و الثواب و العقاب واجبٌ، و إن اكتفينا في مقام الحكم باسلام الإنسان، باقراره بالشهادتين و التوحيد و الرسالة، و الذي يتضمن الاعتقاد بحقانية كلِّ ما نزل على النبي صلى الله عليه و آله و الاقرار الاجمالي به، لكن الاعتقاد تفصيلاً بخصوص المعاد و عالم العقبى و إحياء الموتى للحساب، واجبٌ كما إنَّ الاعتقاد بالجنّة و النار و الصراط و الميزان بنحو التفصيل لازمٌ واجب، و لعلّ علّة وجوبه تفصيلاً و عدم كفاية الاجمال هنا، هو وضوح و ظهور و ضرورة إشتمال دعوة النبي صلى الله عليه و آله على هذه الامور، كالاعتقاد بالملائكة و الأنبياء السابقين و الكتب السماوية النازلة عليهم.

و بعد بيان هذه المقدمة، نبيّن عدة امور ترتبط بهذه المواضيع:

الف) المعراج

من جملة معتقدات المسلمين، أنَّ اللّه سبحانه و تعالى، و في ليلةٍ سمّيت بليلة المعراج، سار بحبيبه خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه و آله من مكّة المكرمة (المسجد الحرام) إلى المسجد الاقصى، و من هناك عرج بجسمه العنصري إلى العوالم

ص: 221

العليا حتى وصل إلى مرتبة «ثمَّ دَنى فتدلّى فكانَ قابَ قَوسَينِ أو أدنى»(1)

و تفاصيل هذا الإسراء و المعراج الذي تمَّت بالقدرة الالهية و بالإعجاز و خرق النواميس الطبيعية، ذُكِرَ بعضها في القرآن الكريم و بعض الاحاديث، و إن كان الاعتقاد بكلِّ تفاصيلها التي جاءت في الاحاديث و خصوصاً أخبار الآحاد، ليس بواجب.

و من جملة الآيات الدالة على هذا المعراج، قوله تعالى:

«سُبحانَ الَّذي أسْرى بَعبدِهِ ليلاً من المَسجدِ الحَرامِ إلى المَسجِدِ الأقصى الّذي بارَكنا حَولَهُ لِنُريَهُ مِن آياتِنا إنَّهُ هُوِ السَّميع البَصير»(2)

و كذلك ورد في سورة النجم عدة آيات في هذا المعنى، و كذلك قوله تعالى:

«وَ إسأل مَن أرسَلنا مِنْ قَبلِكَ مِنْ رُسُلِنا»(3)

و قوله تعالى:

«فَسْئَل الَّذينَ يَقرَؤُنَ الكِتابَ مِنْ قَبلِك»(4)

و بناءً على هذا، فانَّ أصل المعراج، حقٌّ و هو أمرٌ ثابت و مسلّمٌ لا يتردّد فيه المسلمون و يعدّونه من معجزات الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله الكبيرة، و أنَّ العروج كانَ بالجسد العنصري، و الظاهر أنَّ مثل هذا الأمر إنَّما يكون إعجازيا فيما لو تمَّ94

ص: 222


1- النجم: الآية 8-\9.
2- الإسراء: الآية 1
3- الزخرف: الآية 45
4- يونس: الآية 94

بالجسد، لأنَّ السير الروحي متيسر لكلِّ البشر و الى كلِّ النقاط في هذا العالم، و إن كان سَيرُ النبي صلى الله عليه و آله يختلف عن سير أرواح الآخرين بانكشاف الحقائق التي لا تنكشف لغيره عادةً.

و لكن الإنصاف هو إنَّ التلقّي الأول للمسلمين من هذا المعراج و الذي آمن به المؤمنون و صدَّقوا النبي الاكرم صلى الله عليه و آله عَليه، و الذي أنكره الكفّار حينها و استهزؤا به، هو المعراج الجسماني، و ليس في الادلة ما يدلُّ على أنَّ النبي صلى الله عليه و آله قال لهم إنه أسري بروحه لا بجسمه، دفعاً لاستغرابهم و استبعادهم، بل الظاهر أنه - \ صلوات اللّه عليه - \أكّد جسمانية المعراج لهم.

و على أيّ حالٍ، فان الكثير من العلماء يرى أنَّ إنكار جسمانية المعراج هو إنكار لضرورة من ضروريات الدين و موجبٌ للكفر، و تترتب عليه أحكام الارتداد، و البعض الآخر منهم قيَّده بصورة استلزامه إنكارَ النبي صلى الله عليه و آله.

و ما لا ينبغي إهماله و السكوت حياله هو إنَّ شبهات بعض أهل المعقول في مورد المعراج الجسماني و انَّه يستلزم الخرق و الالتئام في الأفلاك، مردودةٌ لعموم قدرة اللّه و صدور المعجزات و خوارق العادة الكثيرة، و لإخبار الرسول الصادق المصدَّق، مضافاً إلى منافاتها للإكتشافات العلمية المعاصرة الثابتة.

فهؤلاء الحضرات، قد رسموا لما سوى اللّه خارطةً فرضية على أساس نظرياتهم الشخصية، عيّنوا على أساسها هيكلية الكون و الأفلاك، ظناً منهم أنهم رسموا خارطة ربط الحادث بالقديم، و صدور الكثير عن الواحد، و كأنّهم كانوا مع اللّه في كل مكان و زمان و شاهدوا كلَّ التَّحوّلات التي جَرت على هذا الكون و الكيوان في كل أدوار العالم، و على هذا الأساس عنونوا عالم العقول و

ص: 223

المجرّدات، و اعتقدوا بسلسلاتٍ ظهر بطلانها بتقدم العلوم و الفنون الحديثة.

و طريق الصواب و المصون من الخطر هو الإكتفاء بأخبار النبي الصادق المصدَّق في هذه الأمور، و الاعتقاد بالمعراج و إنْ عجزنا عن معرفة كيفيته و ديناميكيته و امكانه للبشر و أن لا نقول من عندنا ما لم يصلنا من الشرع و أن لا نكلَّف أنفسنا في فهم ما لم يكلفنا الشرع فهمه و معرفته و الخوض فيه.

و قد حاول بعض الماضين من أهل المعقول التوفيق بين القول بالمعراج الجسماني و القول بالمعراج الروحاني، في رسالة موسومة ب «الورديّة» على ما حُكي عنها، فقال: إنَّ النبي صلى الله عليه و آله كان له معراج جسماني و معراج روحاني و معراج عقلاني، و معراجه الجسماني كان مسير جسده الشريف إلى منتهى مراتب الأجسام، و الذي طواه على البُراق.

و العبارة التي نقلت عن صاحب الرسالة الورديّة هي:

«و سُري بسَيرهِ إلى اللّه مِن ظلماتِ عالَم الأجسامِ و الأجرام على مركبه الذي سُمّي بالبُراق في كمال السُّرعَة»

و يقول في خصوص الجنبة الروحانيّة للمعراج:

«وَ إرتَقى بِروُحه القُدسيَّة إلى مَدارجِ الأرواح و خَرق الحُجُب و بلغَ قِمَّة الضِراح إلى أن صارَ إماماً لصفوف الأرواح النوريَّة»

و يقول في المعراج العقلاني:

«ثُمَّ تَرقّى بِعَقلِه النُوريّ و نورِهِ العقليّ و دَخَلَ سُرادقاتِ الجَلالِ و رَفَعَ أستار البَهاء و الجَمال إلى أنْ وَصَلَ إلى حدٍّ لَمْ يكن بينَهُ و بَينَ رَبِّه أحدٌ حتّى

ص: 224

نَفسه الشريف و ذاتِهِ الرفيعة»

و هذه العبارات و إن كانت لا تخلو من لطافةٍ، خاصة تعبيره عن المعراج الجسماني ب «سُري» و عن الروحاني ب «إرتقى» و عن العقلاني ب «تَرَقّى»، و كذلك لطافة تقسيمه المعراج إلى ثلاث مراتب و تحديد الجسماني منه بالسير إلى منتهى عالم الأجسام، تخلصاً من مخالفة ضرورية المعراج الجسماني، و لكن من الواضح إنَّ المعراج الذي كان مرتكزاً في أذهان المتشرعة و المستفاد من ظواهر الآيات و الروايات هو إنَّ كلَّ المعراج كان معراجاً جسمانياً، و أنَّه صلى الله عليه و آله أينما ذهب، فقد ذهب بجسده العنصري لا غير، و ما أروع ما قاله الشهيد - \قدس سره - \في مديحة للنبي صلى الله عليه و آله، حيث يقول:

وَ مَن قَد رقى السَبع الطِباقَ بَنَعلِهِو عَوّضَهُ اللّهُ البُراق عن المهر(1)

و يقول الآخر:

سُبحانَ مَن خصَّ بالإسراء رُتبَتَه7.

ص: 225


1- الروضة البهيّة - \ترجمة حياة الشهيد الثاني - \قدس سره - \شعر الشهيد: ج 1 ص 187.

له البُراق جوادٌ و السما طُرُقٌ مَسْلوكَةٌ و دَليل السَيْرِ جبريلُ(1)

و أما ما ذكره من أنَّه ترك جسمه في منتهى عالم الأجساد و عرج بروحه إلى منتهى عالم الارواح النورية و من ثمّ ذهب بعقله النوري و نوره العقلي إلى حيث لم يكن بينه و بين اللّه سبحانه احدٌ حتى نفسه الشريفة و ذاته الرفيعة، فالحقيقة أنّنا لا ندري شيئاً من هذا الكلام، و حتى اولئك الذين عاصروا هذه الواقعة، و الذين جاءوا من بعدهم، لم يفهموا هذه المعاني منها، فهذه العبارات أشبه ما تكون ب «رجماً بالغيب»، فلو أنَّ الإنسان أذعن بعجزه عن معرفة حقائق هذا المطلب، كان أدلّ على علمه و فهمه و معرفته من إظهار علمه عن هذا الطريق.

فلا يمكننا أن نقيس كلَّ الأشياء بميزان خيالي مبتنٍ على أساس سلسلة مزاعم و نظريات حول ما سوى اللّه و عوالم خيالية رتبناها بمخيلتنا، ذلك الميزان الذي لا يصلح الا لقياس التخيلات.

إذن، بحسب دلالة القرآن الكريم، و ألاحاديث الشريفة، كان معراج النبي جسمانياً، و إنَّ كل الحقائق التي انكشفت له صلى الله عليه و آله كانت قد إنكشفت لشخصه المتجسم بهذا الجسم الشريف، و لا نفهم معنى لما ذكره الفاضل المذكور، فإن كان مراده أنَّ روحَ أو عقلَ النبي صلى الله عليه و آله قد عرجا إلى عالم الارواح و العقول مع بقائها في الجسد العنصري، فهذا لا ينسجم مع ما قاله من سير الجسم إلى منتهى عالم الاجسام، و إنْ كان مراده أنَّ هذه الروح الشريفة قد خلعت البدن العنصري و3.

ص: 226


1- الأنوار البهيّة، فصل في بيان ولادة النبي صلى الله عليه و آله...: ص 33.

اخترقت العوالم الاخرى فوصلت إلى عالم الارواح و من ثمَّ إلى عالم العقول، فانّ هذا المعنى لا يفهم من الآيات و الروايات إلاّ بالتأويل و التوجيه، ثم إنَّ أصل وجود عوالم ماوراء عالم الاجسام و بالمعنى الذي يطلق على الملائكة (أولي أجنحة)، هو محل كلام.

و الحاصل، إنَّ هؤلاء الحضرات قد خططوا للكائنات، و إصطنعوا عالم الأرواح و عالم العقول، و طبقوا المعراج و حقائقه على اساس هذا المخطط الذهني الشخصي، و أوّلوها بما ينسجم معه، فلا نبالغ إن قلنا إنَّ كلامهم مصداقٌ لقوله تعالى: «إنْ هيَ إلاّ أسماءٌ سمّيتموها أنتُم و آباؤُكُم ما أنزل اللّه بها من سُلطانٍ»(1) إذ ليس لديهم دليلٌ شرعي على دعواهم.

يقول السيد شبّر: إنَّ المعراج من ضروريات الدين في الجملة و منكره خارج عن ربقة الإسلام و المسلمين، و قد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

«لَيسَ مِن شيعَتِنا مَن أنكَرَ أربَعَة أشياء: المعراج و المسائلة في القَبرِ و خلق الجنَّة و النار و الشفاعة»(2)

ثم يقول: و ما عليه الإمامية هو إنَّ المعراج كان ببدن و جسم النبي صلى الله عليه و آله الشريف.

و من جملة الروايات المهمة و التي رويت في كتب أهل السنة، هذه الرواية عن عبد اللّه بن عمر، قال: سمعت أنّ النبي صلى الله عليه و آله قد سئل:8.

ص: 227


1- النجم: الآية 23.
2- بحار الأنوار ج 8 ص 197، ح 8.

«بأيّ لُغَةٍ خاطَبَكَ ربُّك ليلة المعراج؟

فقال صلى الله عليه و آله: خاطَبني بلغة عليّ بن أبي طالب عليه السلام فألهَمَني أن قُلت يا ربّ أنتَ تحاطبُني أم عليّ؟

فقال: يا أحمد أنا شيءٌ لَيسَ كالأشياء لا أقاس بالناس و لا أوصف بالأشياء خلقتك من نوري و خَلَقتُ عَليّاً مِن نَورك إطَّلَعتُ على سرائرِ قَلبِك فَلَمْ أجد في قَلبِكَ أحبّ اليكَ من عليِّ بن أبي طالب عليه السلام فخاطبتكَ بَلسانِهَ كَيْما يَطمئنُّ قلبُك»(1)

ب) سؤال القبر

من المسائل الاعتقادية التي ينبغي الإيمان بها، هي مسألة القبر و المسائلة بعد الموت، و التي ثبتت بالاحاديث و الروايات الكثيرة، و إنَّ إنكارها مخالف للاسلام و ردٌّ للأحاديث المتواترة، و لذا فانَّ السيد عبد العظيم قد عرض إعتقاده بهذه القضية على الإمام عليه السلام.

روى الصدوق (عليه الرحمة) في كتاب «الاعتقادات» إنَّ مسألة القبر حقٌّ لا مهرب منه، و من أجاب في القبر بالصواب و المطابقة للواقع، فقد فاز بروح و ريحان، و من لم يجب بالصواب فله نُزلٌ من حميم.6.

ص: 228


1- الجواهر السنيَّة: ص 295. بحار الأنوار: ج 18 ص 386.

ج) الجنَّة و النار

إنَّ الاعتقاد بحقانية الجنّة و النار، لهوَ من العقائد المحكمة و المسلّمة عند المسلمين، و قد صرّحت الآيات القرآنية و الأحاديث الشريفة الكثيرة بهذه الحقيقة، خذ مثالاً على ذلك:

قال اللّه تعالى في وصف الجنَّة:

«مَثَلُ الجنَّة الّتي وُعِدَ المتَّقونَ فيها أنهارٌ من ماءٍ غَيْرِ آسِن»(1)

و قال عزَّوجل:

«إنَّا أعْتَدنا للظّالمينَ ناراً أحَاطَ بِهم سُرادِقُها و إنْ يَستَغيثُوا يُغاثُوا بماءٍ كالمُهلِ يَشوي الوُجوهُ بئسَ الشَّرابُ و ساءَتْ مُرتَفَقاً»(2)

د) الميزان

و كذلك الاعتقاد بالميزان، عقيدةٌ انبثقت من الآيات القرآنية المجيدة و الاحاديث الشريفة، و لابد من الإعتقاد بها إجمالاً، و إن لم يعتقد بتفاصيلها التي لا ضرورة في الإعتقاد بها.

و التفاسير و التعاريف التي ذكرت للميزان و ما يوزن به متعددة، و كلها قابلة9.

ص: 229


1- محمد صلى الله عليه و آله: الآية 15.
2- الكهف: الآية 29.

للتحقق، و قد تختلف الكيفيات باختلاف الأشخاص و باختلاف مواقف القيامة و الحساب.

ه) الصراط

يقول السيد شبَّر - \عليه الرحمة - \إنَّ الصراط من ضروريات الدين و لا يخالف فيه أحدٌ من المسلمين، و هو بحسب الروايات جسرٍ على جهنم، أحدُّ من السيف و أدقُّ من الشعرة.

و كما يقول الصدوق - \عليه الرحمة - \فانَّ جميع الناس لابدّ أن يعبروا من على هذا الجسر.

و هناك معنى آخر للصراط ورد في الروايات و هو أئمة أهل البيت - \عليهم السلام - \و أنَّ المراد من «الصراط المستقيم» هو ولاية أمير المؤمنين و سائر الأئمة الاطهار - \عليهم السلام - \.

و بالتأمل بالآيات القرآنية و الروايات الشريفة، يستفاد أنَّ لفظ الصراط قد إستعمل في لسان القرآن و السنَّة و أطلق على كلّ واحدٍ من المعنيين مستقلاً، كما أنه فسِّر في المورد الواحد بالمعنيين معاً.

و) المعاد

يُبيِّن السيد عبد العظيم إعتقاده بالمعاد بهذه العبارة:

ص: 230

«و أنَّ السَّاعَةَ (القيامة) آتيةٌ لا ريبَ فيها و أنَّ اللّه يَبعثُ مَن في القبورِ.»

إنَّ مسألة القيامة و عودة الأرواح إلى الأجسام و يوم البعث و احياء الموتى من المعتقدات الأوليّة و الأصيلة في الإسلام، و قد دلت على ذلك آيات قرآنية كثيرة:

و لا يخفى، أن يوم القيامة له اسماء متعددة، أحدها: الساعة.

و قد سُمّي به يوم القيامة في موارد عديدة من الآي الحكيم، كقوله تعالى:

«يا أيُّها النّاسُ إتَّقوا رَبَّكُم إنَّ زَلزَلَةَ السِّاعَةِ شيءٌ عظيم»(1) و قوله تعالى:

«و إنَّ السّاعةَ آتيةٌ»(2) و قوله تعالى: «يَسئَلونَكَ عَنِ السَّاعَة»(3).

و من جملة أسماء القيامة، كما يقول تعالى: «لا أُقسِمُ بِيَومِ القِيامَة»(4)

و من أسمائها: الحاقَّة، القارِعَة، الآزِفَة، يومُ الدّين، يوم الحساب، يوم الحسرة، يوم التغابُن و غيرها من الأسماء المصرَّح بها في الآيات القرآنية الشريفة.

«14 - \و أقولُ: إنَّ الفرائض الواجبة بَعدَ الولاية: الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر»

هنا عدّة أمور يمكن إستفادتها من هذا الكلام: 1

ص: 231


1- الحج: الآية 1
2- طه: الآية 15
3- الاعراف: الآية 187
4- القيامة: الآية 1

أوّلاً: أهمية الولاية و تقدمها على الصلوة و سائر الواجبات، إذ بدون الولاية لا يكون العملُ مقبولاً مِن قبل اللّه تعالى.

ثانياً: أهميَّة الفرائض المذكورة من بين كلِّ الفرائض الاخرى، مع عدم إنحصار الفرائض في المذكورات.

ثالثاً: إنَّ فضيلة هذه الفرائض كثيرة كما ورد في القرآن و الأحاديث فقد أكدت الآيات القرآنية على الصلوة و الزكوة، و كذلك الصوم و الحج و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، كما هو ثابت و مسلّم عند الجميع، و أنَّ على المسلم الإعتقاد و التديّن بوجوبها.

رابعاً: الظاهر أنَّ المراد بالفرائض هنا كلُّ التقديرات و الأنظمة و التعليمات الإلزامية الشرعية، بقرينة وصفها بالوجوب.

و قد يكون المقصود من الفرائض، التكاليف المأمور بها و الالزامية و إنّ المقصود من وصفها بالواجبة، ثبوتها بحسب القرآن المجيد.

خامساً: كما أشرنا، لا تنحصر الفرائض في هذه الأبواب و إنْ كانت الفرائض المذكورة هي عمدة و أهم الفرائض.

«15 - \قال عليُّ بن محمّدٍ عليه السلام: يا أبا القاسم هذا و اللّه دينُ اللّه الذي إرتضاه لعباده فاثبت عَليه ثَبَّتك اللّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا و (في) الآخرة»

و هذا القسم الأخير من الحديث يتضمَّن تصديق الإمام عليه السلام بصحة دين السيد عبد العظيم الحسني، و أمره بالثبات عليه، و دعاؤه له.

ص: 232

و لنا على هذا الفقرة توضيحات ثلاث:

الاول: إنَّ الإمام عليه السلام قال للسيد عبد العظيم: «يا أبا القاسم هذا و اللّه دين اللّه الذي إرتضاه لعباده»

و كما نعلم، إنَّ المعتقدات الدينية و كذلك الفرائض الواجبة، لا تنحصر بما ذكره السيد عبد العظيم هنا، بل هناك مسائل أخرى في الإلهيات و في النبوّة و غيرها، لم يُشر اليها صراحةً هنا، كمسألة الإيمان بالعدل الالهي و الإيمان بالملائكة و الأنبياء السابقين، و مع ذلك نجد أنَّ الإمام عليه السلام يقول له: «هذا و اللّه دين اللّه».

و يبدو إن ذلك بملاحظة ما يلي:

1 - \إنَّ الإيمان باللّه و رسالة خاتم الأنبياء متضمّن لكل هذه المسائل الإعتقادية الإسلامية.

2 - \بعض هذه الامور ليست جزءاً من العقائد التي تُعَدُّ معرفتها و الاعتقاد بها بخصوصها شرطاً في الاسلام و النجاح و النجاة، بل حتى لو غفل عنها الإنسان، و كانت معتقداته الاصلية صحيحةً و عمل بتكاليفه، كان من الناجحين الناجين أيضاً.

فمثلاً، لو أنَّ شخصاً لم يعرف الملائكة معرفة تفصيلية، أو أنَّه لم يعرف بعض الأنبياء السابقين كذلك، مثل داود و سليمان و شعيب، بل و لم يعرف أسماءهم و عناوينهم، أو انّهُ لم يعرف بعض الأحكام الواجبة التي لم يبتل بها، فان كلَّ ذلك لا

ص: 233

يقدح في إيمانه و إسلامه، إلاّ اذا كان معتقده مخالفا لما جاء عن النبي صلى الله عليه و آله مع التفاته لذلك، و هو ما يستلزم إنكار النبي صلى الله عليه و آله و الذي يعدُّ كفراً و إرتداداً.

و لذا و تفاديا لخطر مخالفة الاعتقاد الديني لما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و ثبت بالكتاب و السنَّة، ينبغي على المرء أن يكتفي بالمعرفة الإجمالية في غير الامور التي يلزم الاعتقاد بها تفصيلاً، و إلاّ كان عليه عرض عقيدته و دينه في كل الامور على الكتاب و السنة لئلا يقع في الضلال و البدعة عن قصدٍ أو بدونه.

الثاني: المسألة الاخرى التي تستفاد من كلام الإمام عليه السلام، هي مسألة الثبات على العقيدة الصحيحة و على الإيمان السليم، فعلى المرء أن يسعى جاهداً للحفاظ و الثبات على عقيدته، و أن يحذر دائماً وسوسة الشيطان و النفس الأمارة، و خاصة في زمن غيبة حضرة وليّ الأمر - \أرواحنا فداه - \، حيث الإمتحانات شديدة على أهل الإيمان، إلى الدرجة التي عبَّر عنها الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله في حديث جابر المعروف، حيث قال:

«ذاك الّذي يَغيبُ عَن شيعتِه و أوليائه غَيبَةً لا يَثبتُ فيها على القول بامامته إلاّ مَنْ إمتحَنَ اللّه قلبَه للإيمان»(1)

ففي هذا الزمن الذي كثرت فيه الأفكار و الآراء المضلّة، و في هذا الدور الذي هو دور التمحيص و التخليص، على المرء أنْ يستغيث باللّه طلبا للثبات على العقيدة الصحيحة، و أنْ يداوم على هذا الدُّعاء:4.

ص: 234


1- كمال الدين، الباب الثالث و العشرون، ح 1-\3، و كفاية الأثر: ص 54.

«يا أللّه يا رحمن يا رحيم يا مقلِّبَ القلوب ثَبِّت قلبي على دينِك»، و أن يستحضر دائماً عقائده، و أن يودعها عند ربِّ العالمين بقراءة هذا الدعاء المنقول عن فخر المحققين - \عليه الرحمة - \:

«اللّهمَّ يا أرحَمَ الراحمين إنّي قَدْ أودَعتُكَ يَقيني هذا و ثَبات ديني و أنتَ خيرُ مُستَودَعٍ و قد أمرتَنا بحِفظِ الوَدايِعِ فَرُدَّهُ عليَّ وقتَ حُضور مَوْتي»(1)

و نُقل عن البعض، قراءة هذا الدعاء بعد الإقرار بالعقائد الحقَّة:

«يا أللّه يا رحمان يا رحيم أودَعتُكَ هذا الإقرار بكَ و بالنَّبي صلى الله عليه و آله و بالائمة - \ عليهم السلام - \و أنت خير مُستودعٍ فرُدَّ عليَّ في القبْر عند مسألة منكرٍ و نكير»(2)

إجمالاً، إنَّ جوهرة الاعتقاد باللّه و بالرسول و الائمة - \عليهم السلام - \لا تضاهيها لا تساويها جوهرة في الكمال و الغلاء، فلو أنَّ الإنسان فَقَد الدنيا بما فيها و حافظ على عقيدته، فلا ضَير عليه، و أمّا إذا فقد عقيدته فقد خسر الدنيا و الآخرة مهما كان عنده، و من ثمَّ نجد المحتالين و القراصنة و السَّراق قد نصبوا شباكهم لإختلاس هذه الجوهرة النفسية.

«عصمنا اللّه تعالى من فساد العقيدة و رزقنا الإيمان بتمامه و كماله و6.

ص: 235


1- مفاتيح الجنان: ص 86، و من جملة الأدعية لحفظ الدين و كمال الإيمان، الدعاء المنقول في المفاتيح أيضاً عن الشيخ الطوسي - \عليه الرحمة - \عن الإمام الصادق عليه السلام و الذي يُقرأ بعد كل صلاة واجبة، و الدعاء موجود في مفاتيح الجنان: ص 68.
2- منازل الآخرة: ص 116.

الثّبات عليه بحقِّ محمد و آله الطاهرين - \صلوات اللّه عليهم - \.

الثالث: في هذا القسم، نلاحظ أنَّ الإمام عليه السلام قد دعا للسيد عبد العظيم بتثبيت اللّه له على القول الثابت في الحياة الدنيا و الآخرة، و هذا الدعا مقتبس و ماخوذ من قوله تعالى:

«يُثبِّتُ اللّه الّذين آمنوا بالقول الثّابت في الحياة الدَّنيا و في الآخرة»(1)

و التي يستفاد منها أن اللّه تعالى يثبت إيمان المؤمنين على القول الثابت - \و الذي هو بحسب بعض الروايات، كلمة التوحيد، و في كلام الإمام هنا هو كلُّ هذه الأقوال الثابتة - \في الحياة الدنيا و في الآخرة.

و يظهر من كلمات البعض، إنَّ أحد مصاديق أو أهمّ مصاديق التثبيت على القول الثابت، هو في حالة الإحتضار و النزع و ظهور سكرات الموت، و هي حالٌ خطيرة جدّاً، نعوذ باللّه من هولها.

فينبغي على المؤمن أن يطلب من اللّه، حُسنُ العاقبة و الموت بإيمان خالصٍ.

و من الطبيعي فانّ المواظبة على الطاعات و العبادات و ترك المحرمات، و مجالسة الأخيار، و المواظبة على قراءة القرآن و التأمل في الآيات و سائر الأعمال النافعة، موثرة بأجمعها ساعة الإحتضار، و إنَّ خواتيم الامور مرتبطة بنحوٍ ما بسوابقها الحسنة.

فعلى المؤمن السالك لطريق الشرع أن يواظب في كلِّ الجهات و أن يحذر7.

ص: 236


1- إبراهيم - \الآية 27.

سوء الخاتمة، و أن يداوم على قراءة الأدعية المفيدة لحسن العاقبة و النجاة من العدول عن العقائد الحقة.

كما إنه يستحب لذوي الميت أنْ يلقّنوه الشهادتين و العقائد الحقَّة في حال إحتضاره، و خاصة كلمة التوحيد، و كما ورد في الخبر: «لَقِّنو مَوتاكُم لا إلهَ إلاّ اللّه»(1)

و يقول السيد في «الدُّرَّة»:

و لقن الشهادتين المحتضر

و أمّا الثبات على العقيدة في الآخرة، فقد ورد في جملة تفاسيره أنّه الثبات حال سوآل منكرٍ و نكير، عند ما يسألونه: من ربُّك؟ ما دينُك؟ من نبيُّك؟ من إمامُك؟

فيقول: اللّه جلَّ جلاله ربّي، و الاسلامُ ديني، و محمّد نبيّي، و علي و الحسن و الحسين و علي بن الحسين و محمد بن علي و جعفر بن محمّد و موسى بن8.

ص: 237


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 78.

جعفر و علي بن موسى و محمد بن علي و علي بن محمد و الحسن بن علي و الحجَّة بن الحسن - \عليهم السلام - \ائمتي.

«اللهمَّ ثبّتنا على دينك ما أحييتنا و لقنَّا حجَّتنا عند موتنا و لا تكِلنا إلى انفسنا طرفة عين أبداً في الدنيا و الآخرة و أحينا حياة محمد و أهل بيته و أمتنا مماتهم، و ارزقنا شفاعتهم و أحشرنا في زمرتهم، و صلّ عليهم صلاة لا يحصى عددها و اغفر لنا و لوالدينا و لمن كان له حق علينا و لجميع المؤمنين و المؤمنات يا خير الناظرين و يا ارحم الراحمين.»

ص: 238

بين العلمين الشيخ الصدوق و الشيخ المفيد

اشارة

ص: 239

ص: 240

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمدللّه رب العالمين والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء

والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطاهرين

لاريب في أنّ للإعتقاد الصحيح أو الفاسد تأثيراً كبيراً في تقدم الإنسان ورقيه وكماله وسعادته، وبناء شخصيته في الدنيا والآخرة، أو إنحطاطه وتأخّره فيهما فالعقيدة هي التي تدفع الإنسان إلى العمل والنشاط والتضحية والإيثار، والعقيدة هي التي تسوق إلى النهضة والثورة والمقاومة والثبات في الجهاد والحرب، وهي من وراء السلام والإعمار أو الدمار.

وإنّ مظاهر التمدن والحضارة التي تبدو في صور مختلفة كلها ناشئة عن العقيدة...

فالمسجد تبنيه العقيدة، ومعبد الأصنام ترعاه العقيدة أيضاً، ومراحل النمو السياسي والفكري والإجتماعي والإقتصادي في كل أُمة أو قوم إنّما ترتبط بعقيدتهم.

ص: 241

والأنبياء والرسل أساس هدايتهم العقيدة، العقيدة بالتوحيد وسائر الاعتقادات النزيهة عن الخرافات.

وقد أوضح نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه و آله للبشرية بكلمة طيبة وهي: (لاإله إلا اللّه) عقيدة التوحيد، ونفي الشرك وجعلها أساس دعوته وتبليغه، وإن قسما مهماً من آيات القرآن المجيد يدعو إلى الإعتقاد الصحيح والعقائد الحقة.

والمسائل الأخلاقية والعبادية والعملية تعد في المرحلة الثانية والثالثة من مراحل هداية الأنبياء وتعاليمهم للبشر (بعد مرحلة التوحيد)، والفقه الأكبر الذي هو حسن المعرفة باللّه، الشامل لجميع المسائل الاعتقادية كالتوحيد والنبوة والإمامة والمعاد، إنّما هو الإيمان والاعتقاد بهذه الحقائق...

وجميع المواجهات والتصديات التي كان يقوم بها المشركون بوجه خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله إنّما كانت مواجهات وتصديات لما كان يبديه من إعتقاده!...

وعلى كل حال؛ فإنّه ما لم تصح عقيدة الإنسان والمجتمع وتخلص من الخرافات وتتنزه عن الأوهام، فلاسبيل للمجتمع إلى الرقي الحقيقي والرشد والتقدم، بل حتى لو قدر له أن يتقدم في المظاهر المادية أو الظواهر الإقتصادية فإن ذلك سيحدث له صعوبات ومشاكل، وسيبتلي بالظلم والإستكبار والإستعلاء، ولذا فإنحراف العقيدة وتلوّن الاعتقاد أشد خطراً من أي سقم ومرض...

لذا فثمة تعاليم مهمّة يطبّقها الإسلام صوناً للأنام عن الانحراف العقائدي والفساد الفكري، لئلا يختطف المدلسون وسرّاق العقيدة هذه الثروة الإنسانية

ص: 242

النفيسة التي لا نظير لها، فكان من هذه التعاليم والفرائض المهمة وجوب كشف البدع والبراءة من أهل البدع، والرد على شبهاتهم، وتحريم نشر عقائدهم الفاسدة، والحظر على انتشار كتب الضلال، ووجوب إبطال الباطل وإظهار الحق، ونظائر هذه الأمور وذلك من أجل صيانة العقائد عن الانحراف، وحماية ثغور المسلمين الفكرية والعقائدية.

فمثل هذا التحذير (من أصغى إلى ناطق فقد عبده) والتأكيد على مجالسة العلماء والإجتناب عن مجالسة أهل البدع إنّما كان ذلك لهذا الغرض.

وما يأمر به القرآن الكريم في قوله تعالى: [وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره](1) وفي قوله تعالى: [إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره إنكم إذاً مثلهم](2) كل ذلك للحفاظ على العقائد والأخلاق وصونها...

وإنّ على كل مسلم أن ينظر في عقائده ليطمئن إلى مطابقتها لتعاليم القرآن المجيد وإرشاداته، وتعاليم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسيرته. وليخلص نفسه من خطر الضلال.

والمرجع الأول أو الأساس لبلوغ الإنسان هذا الهدف هو القرآن المجيد، والأحاديث المتواترة المقطوعة الصدور التي رواها رواة أحاديث علوم أهل0.

ص: 243


1- الأنعام: الآية 68.
2- النساء: الآية 140.

البيت عليهم السلام وحملة علومهم.

ثم عليه أن يعرض دينه في الدرجة الثانية على العلماء الذين لهم تعمّق في القرآن والحديث، وليس الغرض من ذلك التقليد طبعاً، بل من أجل أن يتعلّم منهم ويصل إلى اليقين والإعتقاد بالاستدلال المناسب في كل باب.

ومن جملة السبل لتصحيح الاعتقاد من حيث مباني الاعتقاد الإسلامي مطالعة الكتب التي ألّفها أساطين العلماء أمثال الصدوق، والشيخ المفيد، والشيخ المجلسي(1) والشيخ البهائي، والشهيدان ونصير الدين الطوسي، وغيرهم من الأعاظم ممن كتب في الاعتقادات.

ولايخفى أنّ كتب الاعتقادات والعقائد في أصول الدين وسائر عناوينه كثيرة جداً، يضاف إليها ما كتب بكثرة في بعض المسائل الإعتقادية بوجه خاص، كالتوحيد والنبوة والإمامة.

والهدف من تأليف هذه الكتب هو أن لئلّا يضيف ذوو الأهواء والأغراض والمبدعون شيئاً على العقائد والمعارف الإسلامية، ولتصان المسائل الاعتقادية والمباحث التي استنبطت من مصدر اسلامي للرد ثانياً على أُولئك الذين ينسبون إلى المسلمين وخاصة شيعة أهل البيت عليهم السلام منهم العقائد الفاسدة ردّاً قامعاً،ه.

ص: 244


1- من الطريف أن نذكر هنا أن هذه (الاعتقادات) التي جمعها العلامة المجلسي في 750 بيتاً، وفقاً لما يرويه المحدث النوري في ليلة من اخريات ليالي محرم الحرام سنة 1086 ه ق في مشهد الرضا عليه السلام، هي حسب تصورنا دليل على تأييده من عند اللّه لاستحضاره الذهني وإحاطته الشاملة، وهي كسائر التوفيقات التي لا نظير لها التي كانت من نصيب مفخرة الإسلام المجلسي قدس سره.

والفائدة الثالثة: هي أن ينظر المسلمون فيها ليصححوا اعتقاداتهم ويعرفوا آراء علماء مذهبهم.

ومما لاينبغي أن يجهل أن بعض هذه الكتب لو اشتملت على مسائل لا يجب الاعتقاد بها في حد نفسها، فهو لكي تحتضن الثقافة الإسلامية جميع المسائل التي تتعلّق بالمعارف الإسلامية من تفسير، وقصص أنبياء، وما يجري في القيامة وعالم البرزخ، والملائكة والجنة والنار، والأمور الأخرى المستفادة من الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة، ولئلا يؤول أحد القرآن أو الحديث حسب ظنه وسليقته على خلاف ظواهره، والمعاني المقبولة فيعد ذلك عرفاناً أو فلسفة من نفسه، ثم ينسبه إلى الإسلام وأولياء الإسلام.

من أجل ذلك كانت مطالعة كتب العقائد مفيدة جداً، نافعة مانحة الوعي والمعرفة.

كتابان قيمان

من جملة الكتب القيمة النفيسة التي ألفت في هذا الحقل كتاب (الاعتقادات) للشيخ الجليل الحافظ لأسرار علوم آل البيت عليهم السلام الشيخ الصدوق، وكتاب (تصحيح الاعتقاد) للشيخ الأعظم فخر الشيعة، وقامع البدع، ورافع رايات الحق الشيخ المفيد رضوان اللّه تعالى عليهما.

فهذان الكتابان قيمان نافعان متضمنان فوائد جمة، وإنّ مطالعتهما جميعاً تفتح للقراء آفاقاً بعيدة المدى. في كتاب (الاعتقادات) مسائل يجب على الكل

ص: 245

الاعتقاد بها، كما ذكرت إلى جانبها مسائل لايجب الاعتقاد بها، وفي بعض الموارد أُثيرت بحوث فقهية وفرعية وعملية، وهي تحت عنوان (اعتقادنا) ولم تفرق بين هذه المسائل لامن قبل الشيخ أبي جعفر الصدوق نفسه، ولا من قبل أبي عبداللّه المفيد.

وما هو مسلم في المسائل التي لايجب الاعتقاد بها أنّه ينبغي أن يكون الاعتقاد بها غير مخالف للمسائل والاعتقادات الواجبة الأصلية، ولامخالفاً لضروريات الدين، لكن لايلزم أن يكون الإنسان معتقداً بهاأو بكيفيات بعضها الآخر، وإن كان يجب الاعتقاد بأصلها ولا يكلف الانسان بأن يعتقد بها او يبلغ درجة اليقين فيها.

فمثلاً في باب الاعتقاد في التكليف: الاعتقاد بأنّ اللّه تعالى يكلف بما لايطاق لكان ذلك منافيا للعقيدة بعدل الباري، وتنزهه عن الصفات والأفعال القبيحة، إلّاأنّه لا يلزم مع الاعتقاد بتنزه اللّه تعالى عن فعل القبيح، الالتفات إلى تفاصيله مثل أنه تعالى لا يكلّف بما لايطاق.

وفي باب الجبر والتفويض: الإعتقاد بالجبر المستلزم إثبات صدور الظلم والقبيح عن اللّه مناف للاعتقاد بالعدل، والاعتقاد بالتفويض في بعض معانيه مناف للتوحيد، إلّاأن عدم الالتفات (بالأمر بين الأمرين) إذا لم يكن مفهومه العقيدة بأحد الأمرين لا يوجب الخروج عن الإيمان، فليست معرفة الأمر بين الأمرين شرطاً في الإيمان.

وفي مسألة الوحي: يجب الاعتقاد بالوحي وارتباط النبي بعالم الغيب، ورسالته من قبل اللّه ونبوته، لكن لايجب الاعتقادبكيفية ذلك وإن افترضناإمكان

ص: 246

معرفته واستيعابه.

إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في الاعتقادات مما لسنا في صدد استقصائه، ولعلنا سنشير إلى بعضها خلال بحثنا في أبواب هذين الكتابين.

والآن نَود بمراجعتنا هذين الكتابين للتلمذة أن نجلس في مدرسة علم هذين نابغتين في الحديث والكلام وعَمَدَين معارف الدين، ونَنهل من معانيهما الفياض، وأن نقتطف من ثمار علومهما اليانعة.

وأول باب فتحه أبو جعفر عليه الرحمة في هذه الرسالة الموسومة بالاعتقادات، باب له تقدم مطلق على جميع الأبواب، وهو باب التوحيد الذي عبر عنه ب (باب اعتقاد الإمامية في التوحيد) ثم قال:

(إعلم أنّ اعتقادنا في التوحيد: أنّ اللّه تعالى واحد أحد ليس كمثله شيء، قديم لم يزل ولايزال سميعاًبصيراً، عليماً حكيماً، حيّاً قيوماً، عزيزاً قدوساً، عالماً قادراً غنياً، لايوصف بجوهر ولاجسم ولاصورة ولاعرض ولاخط ولاسطح، ولاثقل ولاخفة، ولاسكون ولاحركة، ولامكان ولازمان، وإنّه تعالى متعال عن جميع صفات خلقه، خارج (عن الحدين) حد الإبطال وحد التشبيه).

ثم واصل هذه الكلمات الرفيعة العرفانية مشيراً إلى بعض آيات القرآن وتفسيرها.

ومنها: هذه الآية الكريمة: [يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود.. وهم

ص: 247

سالمون] (1) فقال في مقام نفي توهم دلالة الساق على ساق الرِجل: الساق وجه الأمر وشدته.

وقال المفيد قدس سره أيضاً «يوم يكشف عن ساق» يريد به: يوم القيامة ينكشف فيه عن أمر شديد صعب عظيم وهو الحساب والمداقّة على الأعمال والجزاء.

ومنها هذه الآية: [والسماء بنيناها بأيد](2) فقال في تفسيرها: الأيد: القوة، ومنه قوله تعالى: [واذكر عبدنا داود ذا الأيد](3) يعني ذا القوة.

وجاء في كلام المفيد (ومضى في كلام أبي جعفر رحمه اللّه شاهد اليد عن القدرة قوله تعالى: [واذكر عبدنا داود ذا الأيد](4) فقال: ذو القوة).

قال الشيخ المفيد: وفيه وجه آخر وهو أنّ اليد عبارة عن النعمة قال الشاعر:

له عليّ أياد لست أُكفرهاوإنّما الكفر ألاّ تشكر النعم

فيحتمل أن قوله تعالى: [داود ذا الأيد](5) أن يريد به: ذا النعم، ومنه قوله تعالى [بل يداه مبسوطتان](6).

أقول: كأنّه اشتبه الأيد المفرد الذي هو بمعنى القدرة والقوة بالأيد الذي جمع64

ص: 248


1- القلم: الآية 42 و 43.
2- الذاريات: الآية 47
3- ص: الآية 17
4- ص: الآية 17.
5- ص: الآية 17.
6- المائدة: الآية 64

يد، والشيخ أبو جعفر فسّر الآية على الأيد المفرد لا على الأيد الذي هو جمع، والشيخ أبو عبد اللّه فسّره على ما هو جمع اليد. والظاهر هو الأول الذي فسر اللفظ به.

ومنها تفسيره لهذه الآية: [ونفخت فيه من روحي](1) إذ قال: وهو روح مخلوقة جعل اللّه منها في آدم وعيسى، وإنّما قال روحي كما قال بيتي وعبدي وجنّتي، أي مخلوقي وناري وسمائي وأرضي.

وقد استدرك الشيخ أبو عبد اللّه المفيد على هذا التفسير فقال (ليس وجه إضافة الروح إلى نفسه والبيت إليه من حيث الخلق فحسب، بل الوجه في ذلك التمييز لهما بالإعظام والإجلال).

لكن هذا الاستدراك على الصدوق - كما يبدو - غير موجه؛ لأنّ الظاهر هو أنّ الغرض من وصف الروح بقوله: هي روح مخلوقة، بيان حدوث الروح ومخلوقيتها وإثبات صفات الحدوث والمخلوقية لها، ودفع توهم عدم حدوثها لا أنّه لم يلتفت الى أنّ الإضافة تكريمية وتشريفية، ويكفي دليلاً على التفاته إلى هذه اللطيفة أنّه في مقام التشبيه شبه إضافة الروح بإضافة البيت إلى ذاته المقدسة.

ومن الآيات التي فسرها الصدوق في هذا الباب في رفع توهم المجسمة قوله تعالى: [يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدَىَّ](2) فقال: إنّ المراد: بقدرتي5.

ص: 249


1- الحجر: الآية 29 و ص: الآية 72.
2- ص: الآية 75.

وقوتي.

وقد استدرك عليه الشيخ المفيد فقال: هذا يفيد تكرار المعنى فكأنّه قال:

بقدرتي وقدرتي، أو بقوتي وقوتي، إذ القدرة هي القوة والقوة هي القدرة، بل المراد من (بيدىَّ) هو: بنعمتيَّ، والمراد منهما نعمة الدنيا ونعمة الآخرة و (الباء) في قوله تعالى (بيدىَّ) تقوم مقام اللام واللام لام الغاية، أي خلقت لنعمتيَّ كما قال في سورة الذاريات: [وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون](1) ثم قال: وفي تأويل الآية وجه آخر وهو أن المراد باليدين فيهما هو القوة والنعمة فكأنّه قال:

خلقت بقوتي ونعمتي، وفيه وجه آخر وهو أن إضافة اليدين إليه إنّما اريد تحقق الفعل وتأكيد إضافته إليه وتخصيصه به دون ما سوى ذلك من قدرة أو نعمة، وشاهد ذلك قوله تعالى: [ذلك بما قدّمت يداك](2) والعرب تقول (يداك أوكَتا، وفُوك نَفخ).

ومما تجدر الإشارة إليه هو أنّ الصدوق قال في تفسير الآية أيضاً: [بل يداه مبسوطتان] يعني نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.

وربّما استفيد ذلك من قول اليهود: [يد اللّه مغلولة](3) حيث ذكروا اليد مفردة بمعنى أنّ اليهود لما كانوا غير معتقدين بعالم الآخرة، بل كانوا يعتقدون بنعمة الدنيا وهذا العالم فحسب، فإنّهم عبروا عن ذلك باليد، وبما أنّهم كانوا يزعمون أنّ4.

ص: 250


1- الذاريات: الآية 56.
2- الحج: الآية 10.
3- المائدة: الآية 64.

هذا العالم يجري لوحده وأنّ اللّه فرغ منه وخرج عن أمره، فقد أنكروا استمرار نعمة اللّه وإفاضة فيضه، ولذا فقد عبر عن قولهم: [يد اللّه مغلولة]

وفي عبارة: [بل يداه مبسوطتان] رد على الإعتقادين الفاسدين، وذلك بأنّالدنيا ونعمتها واستمرارها منه سبحانه، والآخرة ونعمتها واستمرارها من قبله أيضاً. فاللّه لم يفرغ من الأمر و [كلُّ يومٍ هو في شأن](1).

أما تفسيره لقوله تعالى: [لما خلقت بيدي] حيث إعتبر الباء بمعنى اللام وجعل اللام للغاية فيبدو بعيداً، أضف إلى ذلك أن لفظي القوة والقدرة ليسا مترادفين بمعنى واحد، فمعناهما مختلف بحسب اللغة، ولذا فقد قيل في الأسماء الحسنى للّه: إن معنى القادر غير معنى القوي.

وبعد هذا نقول: يبدو أنّ أظهر الوجوه في تفسير الآية الشريفة هو الوجه الثالث من الوجوه التي أشار إليها المفيد، وهو بما أن ظهور قدرة الإنسان إنّما يكون بكلتي يديه، وبكلتي اليدين تتجلى القدرة بصورة أكمل وأكثر لذا فقد بيّن بهذا التعبير ظهور كمال قدرة اللّه في خلق آدم وعبر عن ذلك [بيديَّ]، وليس المراد منه أنّ قدرة اللّه لها مراتب، وليس شأنها كما هي الحال بالنسبة إلى المقدورات كالإنسان مثلاً، إذ لايستطيع أن يحمل بيد واحدة ما ينبغي حمله بيديه معاً.

وفي علم اللّه وقدرته لايوجد هذا التفاوت والإختلاف فيهما بالنسبة إلى المقدورات والمعلومات، لكن قدرة اللّه الواسعة غير المتناهية هذه هي التي9.

ص: 251


1- الرحمن: الآية 29.

أظهرها بخلق المخلوقات الصغيرة والكبيرة، وما يرى وما لايرى، والإنسان والحيوان، والملائكة والمجردات، والنمل والجراد، والذرة الخ.

وفي ذكر بيان وجود الإنسان إظهار للقدرة بصورة أجلى، ومن البشر الكاملين آدم عليه السلام وسائر الأنبياء، وخاصةً الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه و آله وأوصياءه، فهم أكمل وأجلى وأتم صورةً لإظهار قدرة اللّه.

ولهذه الجهة كان التعبير (بيديّ) في خلق آدم أكثر ملائمة ومناسبة وموافقة للبلاغة. واللّه هو العالم بمراده.

ومن جملة الآيات التي فسّرها الصدوق في هذا الباب، دفعاً لتوهم النقص في ذات الباري تعالى، هذه الآيات: [يخادعون اللّه وهو خادعهم](1) وقوله تعالى:

[ومكروا ومكر اللّه] (2) و [اللّه يستهزي بهم](3) فقال: وفي القرآن: [يخادعون اللّه وهو خادعهم](4) وفيه أن [اللّه يستهزئ بهم](5) وفي القرآن: [سخر اللّه منهم](6) وفيه: [نسوا اللّه فنسيهم](7) ومعنى ذلك كله أنه عز وجل يجازيهم جزاء المكر، وجزاء المخادعة، وجزاء الإستهزاء، وجزاء النسيان، وهو أن67

ص: 252


1- النساء: الآية 142
2- آل عمران: الآية 54
3- البقرة: الآية 15
4- النساء: الآية 142.
5- البقرة: الآية 15.
6- التوبة: الآية 79
7- التوبة: الآية 67

ينسيهم أنفسهم كما قال عزوجل: [ولا تكونوا كالذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم](1) ؛ لأنّه عزوجل في الحقيقة لايمكر ولايخادع ولايستهزيء ولايسخر ولاينسى، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

وقد استدرك المفيد عليه قائلاً (هو كما قال إلّاأنّه لم يذكر الوجه في ذلك، والوجه أنّ العرب تسمي الشيء باسم المجازى عليه للتعلّق فيما بينهما والمقارنة، فلما كانت المجازى عليها مستحقة لهذه الأسماء كان الجزاء سمي بأسمائها (ص 21).

ثم استشهد بهذه الآية: [إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً](2) ثم قال (فسمى ما يأكلون من الطيبات تسمية النار وجعله ناراً لأن الجزاء عليه النار).

وبديهي أنّه إذا كان غرض المفيد من الإستشهاد بهذه الآية ليبين أنّه بمجرّد المقارنة بين الجزاء والمجازى عليه يطلق أحدهما على الآخر كما هي الحال في آيات المكر والخديعة والإستهزاء، اذ اطلق الجزاء وأُريد به المجازى عليه، وفي هذه الآية انعكس الأمر فاُطلق المجازى عليه مكان الجزاء وهو النار، فذاك إتمام للمطلب.

وقد استدرك المفيد على الصدوق في تفسير قوله تعالى: [نسوا اللّه](3) فقال:9.

ص: 253


1- الحشر: الآية 19
2- النساء: الآية 10
3- الحشر: الآية 19.

النسيان في اللغة هو الترك والتأخير، وبناء على هذا فمعنى: [نسوا اللّه] تركوا إطاعة اللّه ومعنى: [نسيهم] تركهم من ثوابه، ومعنى قوله تعالى: [فأنساهم أنفسهم](1) أي ألجأهم إلى ترك تعاهدها إلخ.

لكن يمكن أن يقال إنّ المتبادر إلى ذهن العرف هو تفسير الصدوق واللّه أعلم.9.

ص: 254


1- الحشر: الآية 19.

الاعتقاد في صفات الذات وصفات الأفعال

قال الشيخ أبو جعفر الصدوق (كلما وصفنا اللّه تعالى من صفات ذاته؛ فإنّما نريد بكل صفة منها نفي ضدها عنه عز وجل ونقول: لم يزل اللّه عز وجل سميعاً بصيراً عليماً حكيماً قادراً عزيزاً حياً قيوماً واحداً قديماً، وهذه صفات ذاته (ص 8) ولانقول: إنّه عز وجل لم يزل خلاقا فاعلاً شائياً مريداً راضياً ساخطاً رازقاً وهاباً متكلماً، لأن هذه الصفات صفات أفعاله وهي محدَثة لايجوز أن يقال: إنّ اللّه لم يزل موصوفاً بها).

أما المفيد فقد استدرك على الصدوق قائلاً (صفات اللّه تعالى على ضربين، أحدهما: منسوب إلى الذات فيقال: صفات الذات وثانيهما: منسوب إلى الأفعال، فيقال: صفات الأفعال والمعنى في قولنا: صفات الذات أنّ الذات مستحقة لمعناها استحقاقاً لازماً لا لمعنى سواها، ومعنى صفة الفعل: أنّ اللّه - بوجود الفعل وصدوره عنه - يوصف بالفعل وبدونه، أو كما قال المفيد... قبل وجوده لايوصف به، فصفات الذات تطلق على الذات، واللّه متصف بها دون

ص: 255

واسطة معنى آخر غير ذاته جل وعلا، إلّاأنّ اتصافه بصفة الفعل بواسطة معنى آخر وهو صدور الفعل عنه.

وقال: إنّ صفات الذات لايصح لصاحبها الوصف بأضدادها ولاخلوه منها، وأوصاف الأفعال يصح الوصف لمستحقيها بأضدادها وخروجه عنها، ألا ترى أنّه لايصح وصف اللّه تعالى بأنّه يموت، ولا بأنّه يعجز، ولا بأنّه يجهل، ولايصح الوصف عن كونه حياً عالماً قادراً ويصح الوصف بأنّه غير خالق اليوم ولارازق لزيد ولامحيي لميت، الخ.

وتوضيحاً لذلك نقول: الظاهر أنّ الصدوق أراد من قوله (كلما وصفنا اللّه تعالى من صفات ذاته؛ فإنّما نريد بكل صفة منها نفي ضدها...) نفي الصفات الزائدة على الذات ولانقول (اللّه علمٌ وعالم ذاته وعلمه).

كأنّه أراد أن يقول: إنّ مدلول العالم والقادر... وما يفهم من ذلك مع ملاحظة نفي الصفات الزائدة على الذات: أنّ اللّه ليس بجاهل أو اللّه ليس بعاجز، وبتعبير آخر: لعل مراده أنّ الفرق بين صفة الذات وصفة الفعل، أنّ مفهوم صفة الذات هو نفي ضدها عن اللّه، أي معنى (اللّه عالم) هو إثبات العلم للّه، بهذا المفهوم أن ضده منفي عن اللّه، وأن اللّه ليس متّصفاً بضد ذلك و (ليس بجاهل) الذي مفهومه نفي كل نوع من الجهل كالجهل بالجزئيات، لأنّ نقيض السالبة الكلية (ليس بجاهل) الموجبة الجزئية (جاهل بالجزئيات) بخلاف قولنا (اللّه الشافي) أو اللّه الكافي الذي ليس مفهومه أن اللّه ليس بالشافي وليس بالكافي. وبهذين المعيارين تتميز صفات الذات عن صفات الفعل.

واللطيفة المهمة الأخرى هنا: هي أنّه إذا كانت في الصفات التي ذكرها

ص: 256

الصدوق، وسائر صفات اللّه الكمالية، سواء كانت جمالية أو جلالية، ما اختلف فيه أهي صفة الذات أم صفة الفعل، ولم تتضح ماهيتها من الكتاب والسنة؛ فإنّ طريق السلامة والنجاة أن نتجنب الخوض فيها ونكتفى بالإعتقاد الإجمالي في مورد الاعتقاد والتدين بها، وأن نعرض عن الجدل والنقاش في مثل هذه الأمور.

وينبغي أن نروي بعض الأحاديث الواردة عن أهل بيت العصمة في هذا المقام لمناسبة الكلام، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال لمحمد بن مسلم: «يا محمد، إن الناس لايزال بهم المنطق حتى يتكلموا في اللّه فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لااله إلا اللّه الواحد الذي ليس كمثله شيء»(1). وروي عنه عليه السلام أنه قال أيضاً «من نظر في اللّه كيف هو هلك»(2).

كما روي عن أحد الصادقين (إما الباقر أو ابنه أبي عبد اللّه عليهما السلام) أنّه عند ما سُئل عن شيء من الصفة: «فرفع يده إلى السماء ثم قال: تعالى الجبار تعالى الجبار من تعاطى ما ثَمَّ هلك!»(3).

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «إنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللّه عن الإقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب، إقراراً بجهل ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا: [آمنا به كلٌ من عند ربنا](4) وقد مدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم7.

ص: 257


1- الكافى: ج 1 ص 92.
2- الكافي: ج 1 ص 93.
3- الكافي: ج 1 ص 94.
4- آل عمران: الآية 7.

التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً»(1).

الاعتقاد في التكليف

لم يستدرك الشيخ أبو عبد اللّه المفيد في هذا الباب على الشيخ الصدوق رحمهما اللّه وخلاصة كلام الشيخ أبي جعفر هو أن اللّه تعالى لم يكلف عباده إلّا دون ما يطيقون واستشهد بقوله تعالى: [لايكلف اللّه نفساً إلا وسعها](2) ثم فسّر الوسع بأنه (دون الطاقة) كما تمسك بحديث روي عن الصادق عليه السلام في هذا الشأن أيضاً.

الاعتقاد في أفعال العباد

قال الصدوق عليه الرحمة: اعتقادنا في أفعال العباد أنّها مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين، ومعنى ذلك أنه لم يزل عالماً بمقاديرها.

وقد إستدرك الشيخ المفيد قدس سره على الشيخ أبي جعفر بقوله: الصحيح عن آل محمد صلى الله عليه و آله أنّ أفعال العباد غير مخلوقة للّه، والذي ذكره أبو جعفر قد جاء به حديث غير معمول به ولامرضي الإسناد، والأخبار الصحيحة بخلافه، وليس يعرف في لغة العرب أنّ العلم بالشيء هو خلق له، ولو كان ذلك - كما قال المخالفون للحق - لوجب أن يكون من علم النبي صلى الله عليه و آله فقد خلقه، ومن عَلِمَ

ص: 258


1- نهج البلاغة [شرح صبحي الصالح]: الخطبة 91.
2- البقرة: الآية 286.

السماء والأرض فهو خالق لهما، ومن عرف بنفسه شيئاً من صنع اللّه تعالى وقرره في نفسه لوجب أن يكون خالقاً له. وهذا محال لايذهب وجه الخطأ فيه على بعض رعية الأئمة عليهم السلام فضلاً عنهم...

فأما التقدير فهو الخلق في اللغة؛ لأنّ التقدير لايكون إلّابالفعل، فأما بالعلم فلايكون تقديراً ولايكون أيضاً بالفكر، واللّه تعالى متعالٍ عن خلق الفواحش والقبائح على كل حال.

وعقّب على ذلك برواية عن أبي الحسن الثالث عليه السلام فقال: إنّه سئل عن أفعال العباد فقيل له: هل هي مخلوقة للّه تعالى؟ فقال عليه السلام: «لو كان خالقاً لها لما تبرّأ منها، وقد قال سبحانه: [اللّه بريءٌ من المشركين ورسولُه](1) ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنما تبرّأ من شركهم وقبائحهم»(2). ثم ذكر الإمام عليه السلام ما جرى بين أبي حنيفة والإمام موسى بن جعفر عليهما السلام في هذا المقام واستشهد ببعض الآيات التي تدلّ على تنزّه اللّه عن فعل القبيح.

ونحن نقول في هذا البحث: من المتيقن به أنّ الشيخ الصدوق كالشيخ المفيد لا يرى أنّ اللّه فاعل أفعال العباد، وما ذكره الشيخ المفيد من الآيات والروايات فيه تطابق نظر ووحدة رأي بينه وبين الشيخ الصدوق، إلّاأنّه هنا أراد أن يفسر ظواهر من قبيل (اللّه خالق كل شيء)(3) أو (كلٌّ من عند اللّه)(4) ففي الوقت78

ص: 259


1- التوبة: الآية 3
2- بحار الأنوار: ج 5، ص 20.
3- الزمر: الآية 62
4- النساء: الآية 78

الذي يكون الإنسان نفسه فاعل أفعال نفسه، لكن لما كان العلم بما فيه من هذا النظام والترتيب والتقدير، ومن جملته كون الإنسان مختاراً هو فعل اللّه ومحكوم تقديره، فمن هذه الجهة يكون صدور المعصية والقبيح من الإنسان باختياره بتقدير اللّه ومن لوازم خلقه وتقديره وآثارهما أيضاً، لذا فلو قيل بأنّ أفعال العباد هي مخلوقة من اللّه، فإنّه لم يقع في ذلك خلاف ولاإثبات نقص واستناد قبيح إليه سبحانه، ولعل ذلك هو معنى (الحديث القدسي) (يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك).

وبديهي أنّ العالم بالمقادير هو خالق التقادير، ومن هذا المنطلق جاز أن يطلق عليه خالق المقادير، وهذا هو غير الفعل المتعلق بالتقدير الواقع في التقدير، كما أن تقدير أمور عالم الخلق ونظامه المقدر والمقرر، غير العلم بالنظام والتقدير، وعلم اللّه وإن كانت حقيقته التي هي حقيقة الذات عينها غير معلومة لأحد، إلا أننا نعلم هذا القدر وهو أن غير العلم مخلوق.

إذن فلايمكن القول: بأنّه إذا كانت أفعال العباد مخلوقة بخلق التقدير فمن علم النبي فقد خلقه فهذا الإشكال لا يرد ونقول: فإنّه لايرد على الصدوق، أي:

إشكال، وما قاله الصدوق وتوضيحنا عليه هو ما قاله الشيخ المفيد في ذيل (باب الجبر والتفويض).

وعلى كل حال فما قاله المفيد هو الحقيقة عينها، وهو أنّ (اللّه تعالى متعال عن خلق الفواحش والقبائح على كل حال) وهذه حقيقة يعتقد بها الصدوق وأهل العلم جميعاً والشيعة قاطبة، والآيات والروايات صريحة في ذلك، ولايتهم أي شيعي بغير هذا الإعتقاد.

ص: 260

أما الاستدلال بخصوص الآية: [ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت](1) فمحل نظر وتأمل، لأننا إذا لم نقل: إنّ الخلق - هنا - ظاهر في معناه المصدري وهو الإيجاد، لابمعنى اسم المصدر، فعلى الأقل أنّ المعنى الثاني غير راجح أو ليس بأرجح من المعنى الأول.

الاعتقاد في نفي الجبر والتفويض

قال الشيخ أبو جعفر الصدوق: إعتقادنا في الجبر والتفويض قول الإمام الصادق عليه السلام «لاجبر ولاتفويض بل أمر بين أمرين» فقيل له: وما أمر بين أمرين؟ فقال: «ذلك مثل رجل رأيته على معصيته فنهيته فلم ينته، فتركته، ففعل تلك المعصية، فليس حيث لايقبل منك فتركته، كنت أنت الذي أمرته بالمعصية».

ولتوضيح هذا الحديث الشريف وقبل التعرض إلى كلام الشيخ أبي عبد اللّه المفيد نقول: يحتمل أن يكون المراد أن الأمور غير مفوَّضة إلى الناس أنفسهم، وإلّا لكان كل من التكليف والأمر والنهي في غير محله، كما أنّ الإختيار لم يسلب منهم، وإلا لما كان يتحقق منهم العصيان في التكاليف.

وهذا البيان يكون وجيهاً في صورة مالو كان المراد من التفويض هو التفويض المطلق، أي: الأعم من التفويض التكويني و التشريعي؛ لأنّ التفويض التشريعي ينتفي بهذا البيان.

ويمكن أن يبين بهذا النحو وهو أنّ الأمر بين الأمرين، يعني أن نهي العبد عن

ص: 261


1- الملك: الآية 3

المعصية لايكون سبباً عن صدّه عن المعصية، وتركه على حاله لايكون دافعاً له إلى المعصية، وفي هذا الأمر (الوسط) يكون اختياره محفوظاً لكنّه ليس بلاتكليف ولامفوض إليه.

إلّا أنّ الشيخ أبا عبد اللّه المفيد عرف الجبر أولاً فقال: هو الحمل على الفعل... بالقهر والغلبة، وحقيقته إيجاد الفعل في الخلق دون أن يكون لهم القدرة على الإمتناع. ثم قال: وقد يعبر عما يفعله الإنسان بالقدرة التي معه على وجه الإكراه له على التخويف والإلجاء، أنه جبر، والأصل فيه ما فعل من غير قدرة على إمتناعه منه حسب ما قدمناه، وإذا تحقق القول في الجبر على ما وصفناه كان مذهب أصحاب المخلوق هو بعينه، لأنهم يزعمون أنّ اللّه تعالى خلق في العبد الطاعة من غير أن يكون للعبد قدرة على ضدها والإمتناع منها، وخلق فيه المعصية كذلك، فهم المجبرة حقاً والجبر مذهبهم على التحقيق.

والتفويض: هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال، والإباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال، وهذا قول الزنادقة وأصحاب الإباحات، والواسطة بين هذين القولين: أنّ اللّه تعالى أقدر الخلق على أفعالهم ومكّنهم من أعمالهم وحدّ لهم الحدود في ذلك، ورسم لهم الرسوم، ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها الخ...(1).

وتعقيباً على ما قاله هذان الشيخان العظيمان، ينكشف بما ذكرناه آنفاً من شرح توضيحي لمفاد الرواية التي رواها الشيخ الصدوق عليه الرحمة - أن3.

ص: 262


1- راجع تصحيح الاعتقاد: ص 32-33.

التفويض عندهما جميعاً بمعنى واحد.

كما ينبغي أن نستدرك قائلين: إن التفويض اطلق على معنيين آخرين:

أحدهما: تفويض الخلق والرزق إلى الأئمة عليهم السلام كما روي عن الإمام الرضا عليه السلام حيث قال: «من زعم أن اللّه يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليه فقد قال بالجبر، ومن زعم أنّ اللّه فوّض الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام فقد قال:

بالتفويض. فالقائل: بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك»(1).

وما يلمس من خلال هذا التعريف: أنّ مورد الجبر والتفويض ليس واحداً، فالجبر في مورد أفعال العباد، والتفويض في أمر الخلق والرزق، ووفقاً لهذا التعريف، فإنّ تصور الأمر بين الأمرين اللذين هما في مورد واحد يكون بغير موضوع.

وثانيهما أنّ العباد في أفعالهم مخيرون وهم في غنى وإستقلال عن المدد الإلهي وقوته، وأعمالهم تصدر دون حوله وقوته، ولاتوجد في البين مسائل من قبيل التوفيق والخذلان.

والظاهر: أنّ المسألة التي أُثيرت بين المتكلمين والأشاعرة والعدلية في الجبر بمعناه المذكور والتفويض، هي بهذا المعنى، والحديث الشريف «لاجبر ولاتفويض بل أمر بين الأمرين» والأحاديث الكثيرة الأخرى والوجوه المذكورة في المراد من «الأمر بين الأمرين» تشعر بهذا المعنى وهو أنّ التفويض في قبال الجبر، كالرواية الواردة عن محمد بن عجلان، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: فوّض اللّه الأمر إلى العباد؟ فقال: «اللّه أكرم من أن يفوّض الأمر إليهم،4.

ص: 263


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 1 ص 124.

قلت: فأجبر اللّه العباد على أفعالهم؟ فقال: اللّه أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثم يعذّبه عليه»(1).

وقال عليه السلام في حديث آخر: «اللّه تبارك وتعالى أكرم من أن يكلّف الناس ما لايطيقونه، واللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لايريد»(2).

الاعتقاد في الإرادة والمشيئة

ما قاله الصدوق عليه الرحمة في هذا الباب ليس بمكان من الوضوح يصل إليه فهم مثلي بسهولة، ونستطيع أن ندرك نظرات هذا الرجل العظيم، لذا فنحن في حدود ما فهمناه واستظهرناه من أقواله في هذا الشأن نسجل ملاحظاتنا فنقول:

الظاهر من كلمات الصدوق: أنّه عدّ الإرادة والمشيئة بمثابة اللفظين المترادفين، وفرق بينهما وبين الحب والرضا والسخط والكراهة.

فما كان متعلق الإرادة والمشيئة فهو حتمي الوقوع، وما كان متعلق الحب والرضا فلايلزم منه الوقوع، كما أنّ ما هو متعلق السخط والكراهة لايلزم منه العدم، بل أراد ما يكون متعلق حبه أو كرهه أن يُفعل أو يُترك بإختيار الفاعل.

ولإيضاح هذا الأمر أستشهد بآيات من قبيل: [لايرضى لعباده الكفر](3) و

ص: 264


1- التوحيد للصدوق: ص 361.
2- الكافي: ج 1 ص 389.
3- الزمر: الآية 7.

[ولو شاء ربُّك لآمن في الأرض كلهم جميعاً] (1) ولديه عبارات هي محل نقاش، كما نرى كقوله (شاء أن لايكون شيء إلّابعلمه)؛ لأنّ الإرادة أو المشيئة تتعلّق بأمر لايوجد لولا الإرادة والمشيئة، أما الشي الذي لايكون إلّابعلمه فهذا تحصيل حاصل وواقعية ثابتة...

وما ينبغي التنويه عنه هنا أنّ العبارة في النسخة المطبوعة عندي من إعتقادات الصدوق وردت كلمة (بعلمه) في جملة (شاء اللّه أن لايكون شيء إلّابعلمه) بالباء الموحدة، وإذا أردنا أن نؤوّل هذه الجملة بما يلي: شاء اللّه أن لايقع شيء إلّا بسبب علمه، أي: أراد أن لايقع ما لايعلمه، فهذا مستلزم للجبر والدور، وهو ما نقله الشيخ المفيد عن قول المجبرة الذين لم يصرحوا أنّ اللّه أراد المعصية فيكونوا كفاراً بذلك، فقالوا: يريد أن يكون ما علم كما علم، ويريد أن تكون معاصيه قبائح منهياً عنها!.

والجواب على ذلك: أنّه يستلزم الدور؛ لأنّ إرادة (ما علم) - (المعلوم) مثلاً وجود زيد - متوقفة على إرادة وجوده، وإرادة الوجود ستكون متوقفة على كونه معلوما...

وخلاصة الكلام هنا - ولعله ينسجم ونظري في هذين الشيخين الجليلين - هو أنّ النظام المقرر بتقدير اللّه وتدبيره في العالم كله، واللّه عالم به، سيقع وفقاً للنظم المقرر بالإرادة الإلهية، ومن جملته صدور الأفعال عن العباد بإختيارهم متعلق هذه الإرادة، أما الكفر والظلم والأعمال القبيحة فلايرضاها وقد نهى عنها ولو صدرت عن العباد في هذا النظام فقد اسند صدورها إليهم أنفسهم، فما هو9.

ص: 265


1- يونس: الآية 99.

متعلّق الإرادة كون العباد مخيرين، ومن هذه الجهة، فإنّه لم يجبر العباد ولم يضطرهم على صدور أفعال الخير، ولم يرد أن يضيق عليهم ويثقلهم ويعسر عليهم، لذا فإن جميع العالم يجري وفقاً لإرادة اللّه تعالى ومشيئته، ولايقع شيء خارج إرادته ومشيئته، ومن ذلك أفعال العباد أيضاً فلاتصدر عنهم جبراً، ومع ذلك فجريان نظام العالم تحت رعايته ولاحول ولاقوة إلّاباللّه وهو يجري بحوله وقوته و (كل يوم هو في شأن).

الاعتقاد في القضاء والقدر

ذكر الصدوق رحمه اللّه في هذا الباب روايات مهمة وغزيرة جداً، يدرك مضامينها المتضلعون في المعرفة إلى حدٍّ ما.

وهذه الروايات تشير إلى غموض أمر القدر وعظمة أسرار الخلق ودقائقه، وعجز البشر عن أن يتوصل إلى معرفة جميع أسرار عالم الخلق والأفعال، بحيث يبسط العارفون ألسنة التقديس والتسبيح تلقائياً خاضعين خاشعين للّه وهم يصغون إلى هذا النشيد الصوفي الرائع:

أنى يحيط بكنه ذاتك عابد

فسبحان الذي دانت له السماوات والأرض بالعبودية.

ص: 266

والغرض أن هذه الروايات عند أُولئك الذين ذاقوا من عين طعم معرفة اللّه وأسماءه الحسنى، في منتهى العذوبة واللذة والانعاش.

أما الشيخ أبو عبداللّه المفيد فقد أشار في ما يتعلق بمعنى القضاء إلى أربعة معان بل إلى (خمسة معان) وهي (الخلق) و (الأمر) و (الإعلام) و (القضاء في فصل الخصومات و (الفراغ من الأمر) وقد استدل على هذه المعاني مستشهداً بالقرآن المجيد، وإن كان الأنسب أن يستشهد في الإستدلال على (الفراغ من الأمر) بقوله تعالى: [فإذا قضيت الصلاة](1).

وواضح أن المعنى المناسب من هذه المعاني الخمسة للقضاء الذي يقترن ذكره بالقدر، هو: الأمر والحكم الذي يشمل الحكم والقضاء التكويني والحكم والقضاء التشريعي.

وما ورد النهي عن التكلم فيه هو الكلام في القدر، وليس المراد منه أن الكلام والفحص عن كيفية الأشياء ممنوع ومنهي عنه - كما لو أردنا أن نعرف مثلاً ممَّ يتألف الماء وكم هي نسبة عناصره بالمئة، أو نعرف مقدار الهواء والأشياء الأخرى - فكل ذلك ليس منهياً عنه، وما هو بوادٍ مظلم حتى يكون السلوك فيه خطراً، فإكتشاف علل الأشياء الظاهرية والطبيعية والكلام فيها وفي ما هو مبدأ العلوم المتعارفة، كالطب والكيمياء والفيزياء والهيئة وغيرها، كل ذلك غير منهي عنه، بل التدبر والتفكر فيه مما رغبت فيه الآيات وحضّت عليه الأحاديث كما يقول القرآن الكريم: [وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون](2).0.

ص: 267


1- الجمعة: الآية 10
2- الذاريات: الآية 20.

كما أنّ البحث أو الفحص عن الحكمة من الأحكام الإلهية وما فيها من مصلحة، وهو ما تتناوله أقلام المتكلمين، كل ذلك ليس بحثاً عن القدر، إلّاأنّ يكون البحث في سلسلة أحكام عبادية بحتة، ومعرفة أسرارها وعللها لاتتم إلّا عن طريق الوحي والنبي الأكرم نفسه صلى الله عليه و آله والأئمة من بعده عليهم السلام الذين هم خلفاءه، فبواسطتهم يمكن استكشافها ومعرفة كنهها، فليس بيان حكمتها تعويلاً على الحدس والتخمين فيها مقنعاً والقول بغير علم فيها منهي عنه.

ولعل المقصود من القدر، الغامضة معرفتُه والمظلم مسلكه وواديه، هو المعايير والمقادير والنظم الكائنة في عالم الخلق - غير النظم الظاهرية والأسباب والمسببات المعلومة - والأمور التي لايرقى إليها إدراك البشر والبعيدة عن متناول العلوم البشرية، وبعبارة اخرى أسرار الخلق والإيجاد والنظم والأحوال الكلية، العامة الجارية على العالم وسر قسمة الأرزاق.

والخلاصة: الأمور التي يكون البحث فيها والفحص عنها، موجباً للشك والحيرة والتردد وظهور فلسفة التحير (لست أدري)، وربّما يكون مدعاة للإعتراض وسوء الظن، وسالباً لحال الإطمئنان في النفس وحسن ظن الإنسان بكل ما يجري في العالم، ومزلزلاً لركونه وتسليمه لأمر اللّه الذي يكون فيه في أحسن الحالات وأسعدها، أي: أنّ السلوك في هذا الوادي والتفكير فيه لايعيق الإنسان من أن ينتهي إلى هدف فحسب بل يجعله مبتلى بمرض سوء الظن والحيرة، وهو من أخطر الأمراض النفسية، وربّما تسوق صاحبها إلى التفكير في انتحاره وتدمير أحبابه.

والكلام الآخر - هنا - الذي فيه مجال للاستدراك على الشيخ المفيد رحمه اللّه أنّه قال: قال الشيخ أبو جعفر في القضاء والقدر: والكلام في القدر منهي عنه،

ص: 268

وروى حديثاً لم يذكر إسناده.

فإذا كان مقصوده الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام في جواب رجل سأله عن القدر فأجابه: «بحر عميق فلاتلجه»(1) ، فلم يكتف السائل بذلك وسأله ثانية فقال له: طريق مظلم فلاتسلكه، ثم سأله ثالثة فقال له: «سرّ اللّه فلاتتكلّفه»(2) ، وهذا الحديث هو الحديث الثالث من الكتاب القيم (توحيد الصدوق) وقد رواه في الباب (60) (باب القضاء والقدر والأرزاق والأسعار والآجال) عن أبيه علي بن الحسين بن بابويه القمي بسند ينتهي إلى أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يذكر مسنده في هذه الرسالة (الإعتقادات)؛ لأنّها مختصرة.

واستدراك المفيد الآخر على الصدوق قوله: عوّل أبو جعفر في هذا الباب على أحاديث شواذ لها وجوه يعرفها العلماء متى صحت و ثبت أسنادها ولم يقل فيه قولاً محصلاً.

أوّلاً: لم يكن الصدوق في صدد بيان معنى القضاء، وإنّما روى حديثاً قيماً عن زرارة أنه سأل الصادق عليه السلام فقال له: يا سيدي ما تقول في القضاء والقدر؟ قال:

أقول: «إن اللّه تعالى إذا جمع العباد يوم القيامة سألهم عما عهد إليهم، ولم يسألهم عما قضى عليهم»(3) ، وروى نظير هذا الحديث في الباب المذكور من كتابه (التوحيد) بسند ينتهى إلى ابن أُذينة. وروى حديثاً آخر في باب القضاء والقدر من كتابه المشار إليه آنفاً بسندٍ ينتهى إلى الأصبغ بن نباته.5.

ص: 269


1- التوحيد للصدوق: ص 345.
2- التوحيد للصدوق: ص 365.
3- التوحيد للصدوق: ص 365.

ومع ذلك فإنّ الصدوق إذا لم يكن هنا قد بيّن معنى القضاء و ربّما أعرض عنه لوضوحه، فإنّه ذكر للقضاء في كتابه (التوحيد) عشر معان ٍ، واستشهد لجميع هذه المعاني بآيات القرآن الكريم، بينما لم يذكر المفيد قدس سره هنا أكثر من أربعة معان للقضاء، وإن كانت المعاني العشرة يمكن إرجاعها بعضها إلى بعض، ونحن لسنا في مقام البحث اللغوي عنها هنا، وإنّما مقصودنا أن يعلم أن مثل هذه المعاني لم تكن خافية على الصدوق.

وثانياً: على أي أساس ومعيار عدت هذه الأخبار من الشواذ، مع أنّ الصدوق نفسه روى في كتابه التوحيد في باب القضاء والقدر ستة وثلاثين حديثاً؟!.

ومما رواه من الأحاديث في هذا الباب حديث آخر مهيب وقيم جداً وهو:

«ألا إن القدر سر من سر اللّه، وستر من ستر اللّه، وحرز من حرز اللّه، مرفوع في حجاب اللّه»(1).

وعلى كل حال فإننا في هذا الباب نتزوّد من كلمات هذين العلمين ونجلس على خوان نعمةٍ ومائدة بسطها هذان العلمان وأمثالهما للاُمة الإسلامية عامة وللعلماء والباحثين خاصة، فشكر اللّه مساعيهم.

والأولى أن نتأدب في هذه الأبواب بأدب الروايات وأن نتجنب عن الخوض في القدر، والأولى من ذلك: أن نقيد النهي المطلق في هذه الروايات ونعتبره خاصاً باُولئك الذين يعد تكلمهم في القدر خلاف مصلحتهم ويعرضهم للضلال.

وعلى أي حال، نحن نظن أن إثارة مسألة قضاء اللّه وقدره والإيمان بها، من فوائدها أن لا يعد أحد أن يد اللّه لادخل لها في الأمر، ولايغفل الناس عن التوكل0.

ص: 270


1- كتاب التوحيد: ح 32، ب 60.

على اللّه والإستمداد من حوله وقوته، في الوقت الّذي هم يتوسلون بالأسباب الظاهرية، ولايبسطوا ألسنة الاعتراض والشك بوجه الحوادث والمصائب المكدرة أيضاً، وأن لاينسوا الحقيقة المشار إليها في هذه الآية الكريمة: [عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم واللّه يعلم وأنتم لاتعلمون](1) فيرضوا بقضاء اللّه الذي هو (من الأركان الأربعة) وفقاً لتعبير الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، واللّه هو العالم.

الاعتقاد بالفطرة

للشيخ المفيد في بحث الاعتقاد بالفطرة رأي آخر غير ما ذهب إليه الشيخ الصدوق.

ولتوضيح ذلك نقول: توجد في باب الإعتقاد بالفطرة وآيات الفطرة وأحاديثها كالحديث: «فطرهم على التوحيد»(2) أو «كل مولود يولد على الفطرة»(3) ، ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أنّ المراد من ذلك هو أنّ اللّه جعل فطرة الإنسان نقية مقتضية للتوحيد والعقائد الحقة، وحب الحق والخير، والتصديق بحسن العدل وقبح الظلم، والنفور عن الباطل والشر، بحيث لو لم يحجب هذه الفطرة تلك الأُمور المخالفة من قبيل سوء التربية، فالإنسان بنفسه سيهتدي إلى اللّه ويقر بوجود

ص: 271


1- البقرة: الآية 216.
2- الكافي: ج 2 ص 13.
3- الكافي: ج 2 ص 13.

الصانع كما يتقبل العقائد الحقة عند ما تعرض عليه.

والصدوق فسّر الفطرة بهذا المعنى وقد بحثنا بتفصيل في (رسالتنا) في تفسير آية الفطرة حول هذا الوجه، وكونه موافقاً لأصول العقائد الإسلامية في الفطرة والأحاديث الشريفة التي تدلّ على هذا المعنى.

2 - والوجه الثاني: أنّمعنى «فطر اللّه الخلق على التوحيد»(1) فطرهم للتوحيد، أي: خلق الناس للإعتقاد بالتوحيد، وإلى هذا المعنى ذهب الشيخ الأعظم الشيخ المفيد وإختاره.

3 - الوجه الثالث: هو أنّه عبّر عن إرادة التوحيد منهم بالإرادة التكوينية، والظاهر أنّ المفيد استظهر من كلام الصدوق هذا الوجه فأجاب عن ذلك بقوله:

لو كان الأمر كذلك لكان الجميع موحدين.

وبديهي أنّه لوكان الأمر دائراً بين الوجه الثاني والثالث فالقول الصحيح والمعتبر هو قول المفيد (الوجه الثاني) لكن بما أنناقلنا: بأنّالوجه المعتبرالمستفاد من الآية والروايات هو القول الأول، وهو مااختاره الصدوق ظاهراً، وفيه رجحان على القول الثاني ظاهراً.

الإعتقاد في الإستطاعة

إختلاف وَجهتي نظر هذين العلمين في باب الاعتقاد أشبه ما يكون بإلاختلاف اللفظي، فتعريفنا بأن الاستطاعة بأنّها الوجود المقتضي للقدرة، أو

ص: 272


1- تصحيح اعتقادات الإمامية: 60.

الوجود المقتضي للقدرة على الفعل بشرطه فعلى كل حال: لما كان عدم القدرة مستنداً إلى عدم المقتضي فمع وجود المقتضي وعدم الشرط، فالمستند هو عدم الشرط.

وقد عبر عن الاستطاعة بالمعنى الأول في الآيات والروايات أحياناً، وعبر عنها بالمعنى الثاني في موارد أُخرى، فإذا كان المقصود من مصطلح الإستطاعة ما يقابل عدم الاستطاعة والجبر، فالقدرة على الفعل وتركه استطاعة وإن لم يوجد شرط أعمالها، وعلى أيّ حال، لايوجد اختلاف جوهري بين هذين العلمين، أو لانعرفه.

الإعتقاد في البداء

يبدو أنّ هذين العلمين متفقان في رأى مسألة البداء، وإن كان تعبير المفيد أكثر تفصيلاً ونفعاً، وانا الحقير كاتب المقال قد تعرّضت لجميع جوانب هذه المسألة في رسالة (سر البداء) وبوسع القارىء العزيز أن يرجع إلى تلك الرسالة.

الإعتقاد في التناهي عن الجدال

يظهر أنّ هذين العلمين متفقا النظر في باب الجدال أيضاً، وإن كان كلام المفيد أبسط وأبين، ولو قلنا: بأنّ كلام المفيد موضح لكلام الصدوق وشرح له لم نعدُ في ذلك وجهَ الصواب.

ص: 273

الاعتقاد في اللوح والقلم

الرواية التي رواها الصدوق في باب (اللوح والقلم) يحتمل أن يكون المراد منهما الملكين القائمين على اللوح والقلم بأمر اللّه، وهما يقرآن ما يكتب بقلم القدرة ويبلغانه سائر الملائكة.

وأما القول بأنّ الملائكة يدعون بالألواح والأقلام فغير مستبعد، حيث يكفي في التسمية أدنى مناسبة، وما ورد في حديث (سلسلة الذهب) المعروف الذي رواه الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام وذكر سند الحديث فقال «عن اللوح عن القلم عن اللّه تبارك وتعالى»(1) الذي يظهر منه أنّ اللوح والقلم إسم ملكين.

وعلى كل حال فإنّ ما ورد في هذه المصطلحات على لسان الشرع من اللوح والقلم والعرش والكرسي، وما يتعلّق بعالم الغيب، فمصدر رواياته صحيح حتماً، والإستظهار البدائي منها غير صحيح، وما قاله الصدوق من هذه الجهة قابل للمناقشة، إذ كيف يمكن التعويل على خبر الواحد الذي لايكون موجباً للعلم، فيدعى الإعتقاد به، ثم يعبر عنه بلفظ (اعتقادنا) الذي يوهم بأنّه هو عقيدة الشيعة جميعهم.

وفي تعريف هذه المصطلحات الإسلامية والعقائدية:

أوّلاً: كل تعريف مخالف للأُصول الإسلامية، مثل تنزه الخالق عن صفات المخلوق فهو باطل ومردود.

ص: 274


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 2 ص 136.

ثانياً: لايصح التعبير القاطع بالجزم بمحض خبر الواحد خاصة إذا كان سنده ضعيفاً غير قوي؛ فإنّه لايحصل الاعتقاد واليقين بالخبر الظني الصدور، وكل تعريف ينافي اصول المذهب أيضاً في مثل باب (الكرسي والعرش)، وعدم تنزه الباري تعالى عن الجسمية وصفات المخلوق الأخرى فهو في عقيدة الشيعة باطل ومردود.

أما تعريف العرش بالملك أو المعاني الأخرى، بالإستناد إلى ظاهر اللفظ أو الروايات الشارحة فقابل للطرح، لكن الروايات إذا لم تكن متواترة أو قطعي الصدور، فلاتوجب اليقين والعلم والعقيدة نوعاً ما وتجري في مثل هذه الروايات عبارة (لايوجب علماً ولاعملاً).

فكما قال الشيخ المفيد: لايجوز القطع والعمل بالروايات التي هي أخبار آحاد، أي: أن القطع لايحصل منها عادةً، إلا أنها إذا لم يعارض مضمونها اصول المذهب فلا يجوز ردها أيضاً.

وعلى هذا ففي مقام الكرسي والعرش أيضاً يرد هذا البحث في المراد من «اعتقادنا» وهو أنّه اذا كان المقصود منه اعتقاد جميع الشيعة، وأنّه يجب على جميع الشيعة أن يكونوا معتقدين فكيف يمكن أن يحصل الاعتقاد في شيء غالباً ما يكون سبباً للإحتمال أو الظن؟ عد هذا المعنى من المسائل الإعتقادية عند الشيعة؟ كيف يكون توجيه وإذا كان المراد هو اعتقاد الصدوق شخصياً فلانقاش فيه طبعاً... فقد يحصل لمثله من أخبار الآحاد هذا الاعتقاد بها لوجود القرائن، لكن ذلك لايلزم منه اعتقاد الآخرين بها، ويكون القول ما قاله الشيخ المفيد عندئذ (إذا كان لمثل كلمتي (الكرسي والعرش) ظاهر، فيعول على ذلك الظاهر،

ص: 275

وإلا فالوجه الوقوف عندها)(1).

الإعتقاد في الكرسي

قال الصدوق رحمه اللّه: اعتقادنا في الكرسي أنّه وعاء جميع الخلق والعرش والسماوات والأرض وكل شيء خلقه اللّه تعالى، والكرسي في وجه آخر هو العلم، وقد سئل الصادق عليه السلام عن قول اللّه عز وجل: [وسع كرسيه السموات والأرض](2) قال: هو علمه، وليس للمفيد استدراك على الصدوق في هذا الباب.

الاعتقاد في العرش

يستفاد من كلام الصدوق أنّ العرش يطلق على مجموع الخلق، ويطلق على (العلم) أيضاً، وروى الشيخ الصدوق هنا حديثاً عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام قد رواه في كتاب (التوحيد) أيضاً، إذ سئل عليه السلام عن تفسير الآية: [الرحمن على العرش استوى](3) فقال عليه السلام: «استوى من كل شيء، فليس شيء أقرب إليه من شيء». والظاهر من هذه الرواية أنّه استشهد بإطلاق العرش على العلم، وإستفاد منه أن نسبة جميع الأشياء إلى علم اللّه على سبيل الإستواء والتساوي، فليس شي أقرب إليه من شيء.

ثم روى بعض الأخبار الواردة عن حملة العرش من الملائكة، وينبغي أن

ص: 276


1- لم نقف على نص للشيخ المفيد وإنما نقلنا مضمون الترجمة.
2- البقرة: الآية 255.
3- طه: الآية 5.

نقول: إنها إذا لم يمكن تأويلها من الأخبار نفسها فلاننفي ظاهرها بل نقول: [وما يعلم جنود ربّك إلا هو](1) وسبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك، وما أصغر عظيمه في جنب ما غاب عنا من قدرتك.

ومع ذلك كما اشرنا آنفاً للاعتقاد واجب بهذه المعاني، ولا بأخبار الاحاد يحصل اليقين والإعتقاد لكل أحد.

وفي القسم الآخر من هذا الباب فسّر حملة العرش بالمعنى الثاني، أي: (العلم) ومن جملتهم بل أكملهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله والأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين، وكل شيعي مؤمن بولاية الأئمة الإثنى عشر عليهم السلام يعتقد بذلك، وقد أدلى المفيد في هذا الباب بدلوه فقال (2)(العرش في اللغة هو الملك، والإستواء عليه هو الإستيلاء عليه، فأما الوصف للعلم بالعرش فهو في مجاز اللغة دون حقيقتها... فأما العرش الذي تحمله الملائكة فهو بعض المُلك، والأحاديث التي رويت في صفة الملائكة الحاملين للعرش، أحاديث آحاد وروايات أفراد لايجوز القطع بها ولاالعمل عليها) واللّه هو العالم.

الاعتقاد في النفوس والأرواح

في بحث النفوس والأرواح جرى نقاش من قبل فأورد على كلام الصدوق حيث قال (اعتقادنا في النفوس أنّها هي الأرواح، وأنّها الخلق الأول، وأنّها

ص: 277


1- المدّثر: الآية 31.
2- يحسن بنا أن نشير أنّ ما بين المعقوفين هو مقاطع من أقوال المفيد ذكرت مراعاة لترجمة الأصل؛ لأنّ الكاتب لم يذكر من أقوال المفيد إلّاعصارتها - المترجم.

خلقت للبقاء، وأنّها في الأرض غريبة وفي الأبدان مسجونة). فرد عليه بشدة قائلاً (كلام أبي جعفر في النفس والروح على مذهب الحدس دون التحقيق، ولو إقتصر على الأخبار ولم يتعاط ذكرَ معانيها كان أسلم له من الدخول في باب يضيق عنه سلوكه). ثم ذكر المفيد لكل من النفس والروح أربعة معانٍ لاتلاقي بين كل معنى و معنى لا في الترادف ولا في المفهوم.

ونحن نقول هنا محتملين: إنّ الظاهر أنّ الصدوق أراد بالنفوس هنا ذوات الناس، أي: الخصوصية أو الإمتياز ما بين هذا الإنسان وذاك الإنسان، وهذا هو المعنى الأول من المعاني الأربعة التي ذكرها المفيد (للنفس).

وبعبارة اخرى: إّن نفس الإنسان وذاته روح، وفي قبال هذا المعنى ما قيل في نفس الحيوان(1) وذاتِه: بأنّها بدنه العنصري الحي، فإذا لم نقل بأنّ الحيوانات لها روح بحسب طبيعتها ونفسها، أو روح أطلقها الصدوق على النفس، لاتصح على أي معنى من المعاني التي عرفها المفيد للنفس.

فإنّ معنى هاتين الكلمتين غير منحصر بهذا العدد من المعاني.

فقد قال المفيد (وأما الروح فعبارة عن معان، أحدها: الحياة. والثاني:

القرآن. والثالث: ملك من ملائكة اللّه تعالى. والرابع: جبرئيل عليه السلام).

مع أنّه ورد في أحاديث كثيرة التعبير بالروح واُريد بها روح الإنسان، والمفيد نفسُه أشار إلى أن الروح تطلق على سائر الملائكة أيضاً، وقال إضافة إلى ذلك - بصراحة -: (إن الأرواح بعد موت الأجساد على ضربين) مع أنّ هذا المعنى هوم.

ص: 278


1- ورد التعبير في أصل المقال بصيغة الجمع وقد استغنى المترجم بصيغة المفرد الداخلة عليهالامُ الجنس لأنها تدل على العموم، فاعلم. المترجم.

غير المعاني الأربعة التي ذكرها المفيد للروح.

وعمدة ما في نقاش المفيد وإشكاله على الصدوق في ما يلي:

أوّلاً: في خلق الأرواح قبل الأجسام الذي يعتقد به الصدوق وفقاً لدلالة الروايات الكثيرة عليه، وكأن المفيد أنكر ذلك حتى نسبه إلى القائلين بالتناسخ والحشوية من الشيعة الذين يقولون بأنّ الذوات الفعالة أو الأرواح مخلوقة في عالم الذر، واستدل على نفي كل ذلك بقوله: (ولو كان ذلك كذلك، لكنا نعرف نحن ما كنا عليه، وإذا ذكّرنا به ذكرناه ولاخفي علينا الحال فيه).

وقد فسّر حديث الأرواح بالملائكة، وإعترض على شيخه الصدوق بشدة حتى قال: (والذي صرّح به أبو جعفر في معنى النفس والروح هو قول التناسخية بعينه! من غير أن يعلم أنه قولهم، فالجناية بذلك على نفسه وعلى غيره عظيمة)(1).

وينبغي أن ننوه هنا قائلين: إنه وإن كانت حقيقة الروح والنفس والعقل وما بطن من وجود الإنسان، كسائر كثير من الحقائق الأخرى، ما تزال مجهولة، إلّا أنّه ورد التصريح بخلق الأرواح قبل الأجساد في أحاديث كثيرة، ولما لم يكن للصدوق رحمه اللّه سبيل إلى ردها فقد أظهر اعتقاده بها، ولاعلاقة لهذا الاعتقاد بالتناسخ؛ لأنّ التناسخ هو عبارة عن تعلق الروح بالأجسام العنصرية المتعددة في هذه الدنيا، فهي تحلّ بعد فناء كل جسم بجسم آخر(2) ، وأن تظهر الحقيقة الواحدة في صور متعددة، وأن تنال في كل مرحلة جزاء المرحلة السابقة منم.

ص: 279


1- راجع تصحيح الاعتقاد: ص 68، طبعة قم.
2- ليس هذا رأي صاحب المقال بل هو زعم القائلين بالتناسخ. المترجم.

ثواب أو عقاب، مع أنّ خلق الأرواح قبل الأجسام، يعني تعلق الروح منحصراً بجسم عنصري واحد، وهو غير الأرواح والأجسام الأخرى روحاً وجسماً.

وهذا المعنى ممكن في حد نفسه دون أن نكون في صدد إثباته، وإن كان عند مثل الصدوق ثابتاً فقد أخذه عن رجال كان لهم تحذق وتتبع كامل في الأخبار، ولاينبغي قياسه بالقول بالتناسخ!...

والبحث الآخر: ويظهر أنّ مناقشةَ المفيد الثانيةَ للصدوق، في مسألة بقاء الأرواح، حيث قال: (اعتقادنا أنّها خلقت للبقاء ولم تخلق للفناء، لقول النبي صلى الله عليه و آله: «ما خلقتم للفناء بل خلقتم للبقاء، وإنما تنقلون من دار إلى دار وإنها في الأرض غريبة وفي الأبدان مسجونة» واعتقادنا أنها إذا فارقت الأبدان فهي باقية منعّمة ومنها معذّبة إلى أن يردّها اللّه عزوجل بقدرته إلى أبدانها).

فاستدرك المفيد على هذا التعبير بقوله (ما ذكره من أنّ الأنفس باقية فعبارة مذمومة ولفظ يضادّ ألفاظ القرآن، قال اللّه تعالى: [كل من عليها فان. ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام](1).

وفي استدراكنا على كلام الشيخ المفيد نقول: إنّ بقاء الأرواح بالجملة مستفاد من آيات القرآن، وفي مقام الجمع بين هذه الآيات والآية التي تمسّك بها المفيد، يرد هذا الإحتمال، وهو أنّ الحكم أو الإخبار في قوله تعالى: [كل من عليها فان](2) يتعلق بمخلوقات الكرة الأرضية، ولاينافي بقاء الروح بعد فناء ذات6.

ص: 280


1- الرحمن: الآية 26، 27.
2- الرحمن: الآية 26.

الإنسان بعد الموت، كما ورد التصريح بحياة الشهداء بعد الموت في هذه الآية:

[ولاتحسبنّ الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون. فرحين بما آتاهم اللّه...] (1) وجاء التصريح في بعض الآيات الأخرى، وكثير من الأخبار بحياتهم بعد الموت، وأن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام كل منهما خاطباهم بعد الموت.

مضافاً إلى ذلك أنّ الشيخ الأعظم أبا عبد اللّه المفيد نفسه بَيَّن الحياة بعد الموت في هذا الفصل، وأكد على ذلك في الجملة، وفي كتابه (أوائل المقالات) أيضاً، في مثل باب (القول في احتمال الرسل والأنبياء والأئمة، الآلام وأحوالهم بعد الممات)، أبان المفيد حياة الأنبياء والأئمة عليهم السلام بعد الموت، واستشهد بهذه الآية: [ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً](2) واستشهد في قصة مؤمن آل فرعون بالآية: [قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرمين](3) ، وأكّد على هذا المعنى أيضاً في المسألة 24 من (المسائل العكبرية)، وصرّح بحياة الروح في أبواب (القول في أحوال المكلفين) و (القول في نزول الملكين) و (القول في تنعيم أصحاب القبور) أيضاً.

وعلى هذا فالظاهر أنّ مراد المفيد هو:

أوّلاً: أنّ أرواح الجميع في البرزخ لاتنتقل إلى حال الثواب أو العقاب، وهو في قبال جماعة يقولون: إنّ أرواح المؤمنين تحيا في البرزخ جميعاً، وأما من لم7.

ص: 281


1- آل عمران: الآية 169.
2- آل عمران: الآية 169.
3- يس: الآية 26-27.

يمحّضوا الإيمان أو الكفر فتنعدم أرواحهم.

وثانياً: كل الأرواح تفنى وتنعدم بحكم الآية: [كل من عليها فان. ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام](1).

وكما يستفاد من كلامه في باب (المسألة في القبر) أنّها تحيا هناك، حيث قال (وهذا يدلّ على أنّه تعالى يحيي العبد بعد موته للمسألة، ويديم حياته لنعيم إن كان يستحقه، أو لعذاب إن كان يستحقه)(2).

وبديهي أنّه لاالاعتقاد بأنّ الأرواح تفنى، ولاالاعتقاد بأنّ الأرواح لاتفنى، لايصطدم بالبرهان العقلي على استحالتها، وينبغي استفادة ذلك من دليل النقل، ومسلك المحدثين في هذا الباب - طبعاً - هو أكثر مظنة للاعتماد، وتصريحهم بالبقاء أدعى للاطمئنان، وإن كان لايصح الاعتماد على التقليد في مثل هذه المسائل، لأنه لايكون موجباً لعلم ولا لعمل.

وأكثر الكلمات - كما يظهر - متفقة على أنّ الأرواح باقية إلى يوم القيامة، فإما هي في العذاب والنقمة، أو الثواب والنعمة، والحديث المعروف «القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفرات النيران» يشير إلى هذا المعنى.

وقال المفيد في باب (في ما يوصف به الموت): «الدنيا سجن المؤمن، والقبر بيته، والجنة مأواه، والدنيا جنة الكافر، والقبر سجنه، والنار مأواه»(3).6.

ص: 282


1- الرحمن: الآية 26-27.
2- تصحيح الاعتقاد: ص 79، ط قم.
3- تصحيح اعتقادات الإمامية: ص 96.

الاعتقاد في الموت

إعترض المفيد على الصدوق في باب الاعتقاد في الموت فقال: (ترجم الباب بالموت، وذكر غيره، وقد كان ينبغي أن يذكر حقيقة الموت، أو يترجم الباب بمآل الموت، وعاقبة الأموات)(1) إلّاأنّ أبا جعفر عنون الباب بالاعتقاد بالموت لابحقيقة الموت حتى يرد عليه هذا الاعتراض من قِبَل المفيد، كما أنّ قصده في بعض الأبواب الأخرى لم يكن بيان الحقيقة، مثل باب النفوس والأرواح.

وأما التعريف الذي ذكره المفيد للحياة وهو (ما كان بها النمو والإحساس، وتصح معها القدرة والعلم)، فليس تعريفاً لحقيقة الحياة أيضاً، بل هو تعريف لأثر الحياة وحقيقة الحياة، حسب اعتقاد بعض من الأمور المجهولة أيضاً.

فبناءً على هذا فإنّ تعريف الموت بأنّه (ما استحال معه النمو والإحساس) ليس تعريفاً لحقيقة الموت أيضاً، أجل لو قلنا: إن الموت: هو إنعدام الإحساس واستحالة النمو والعجز عن الحركة، والحياة: هي النمو والإحساس أنفسهما فنحن وإن لم نعرف حقيقةَ كلٍ منهما الا أنَّنا عرفنا لفظيِ الحياة والموت ظاهراً.

وأما ما قاله أبو عبد اللّه المفيد: (وليس يُميت اللّه عبداً من عبيده إلّاوإماتته أصلح له من بقائه، ولايحييه إلّاوحياته أصلح له من موته، وكل ما يفعله اللّه تعالى بخلقه فهو أصلح لهم وأصوب في التدبير)، فمراده غير واضح عندنا، وبديهي أنّ (كل ما يفعله اللّه تعالى بخلقه فهو أصلح لهم وأصوب في التدبير)، فهو مُسلَّم وثابت في نظام (الكل) وكل النظام، ولاريب فيه، والإحياء والرزق

ص: 283


1- تصحيح الاعتقاد: ص 74، ط قم.

والخلق، ومثل هذه الأمور التي تعطى هي في صالح العباد جميعاً.

أما إذا كانت (إماتة العبد) المقصود منها الإماتة عند الأجل المسمى، فهذه هي الإماتة التي في صالح العبد، ولكن إذا اريد بها ما يشمل غير الأجل المسمى، أيضاً من أسباب يحصل بها الموت كالقتل ظلماً مثلاً، فتصور هذه الإماتة في صالح العبد هو في منتهى الإشكال!.

ومما لاريب فيه، أنّه في نظام الخلق قُدِّر أنْ يحصل ويقع الموت بالأسباب العدوانية أيضاً، والمصلحة الكلية تقتضي ذلك، أما فهم المصلحة الشخصية تقتضي ذلك أيضاً فهذا مشكل جداً... وأكثر إشكالاً من ذلك أن يقال أو يحكم:

بأن جميع الهالكين بالحوادث المختلفة من زلزال، أو حادثة دهس أو هجمة حيوان كاسر أو انهدام، أو غرق كلُّ ذلك من مصلحة الشخص، فذلك ما يدعوا تأمل.

وأن قلنا: بأنّ اللّه يتدارك الضرر الوارد على الشخص، فإن نسبة مثل هذه الإماتة إلى اللّه تختلف عن نسبة الشرور والسيئات إلى الباري تعالى...

ويبدو أنّه وإن كان الموت بسبب ارتكاب القتل وتأثير فعل القاتل في القتل، ماضياً ومقرراً في نظام كل العالم الذي هو خلق اللّه وفعله، إلّاأنّ هذا الفعل ينسب إلى الفاعل القريب آن يكون قاتلاً وإن كان الفعل صادراً من الفاعل القريب من القدرة التي منحها اللّه، وتأثيره أيضاً وفقاً للنظام الذي قرره اللّه سبحانه.

لايقال: فما تقولون: إذاً في معنى قوله تعالى: (يحيي ويميت)؟.

والجواب: أن جريان الموت والحياة في الكائنات على الدوام، في جسم الإنسان، وفي خلايا الإنسان والحيوانات وجميع الموجودات الحية، حتى

ص: 284

النباتات، فالأرض تحيا بالربيع ثم تموت في فصلي الصيف والخريف تدريجاً، واللّه يميتها ويحييها بحكم الآية الكريمة: [واعلموا أن اللّه يحيي الأرض بعد موتها](1) إنّ آثار إماتة اللّه وإحياءه واسعة وكثيرة إلى درجة لايتم شرحها وبسطها بكتابة مجلدات كثيرة! كما أن أسرار هذا الإحياء والإماتة في غاية من الغموض والكثرة إلى درجةٍ يجد البشر نفسه معها - على الرغم من جده واجتهاده وبحثه في كائنات هذا العالم - ما يزال في المرحلة الابتدائية من الدراسة، وفي صفها الأول.

فاللّه سبحانه المميت والمحيي وهو يميت ويحيي، ولكن الفلاح مثلاً: ينثر حب من الحنطة أو البذور الأخرى ويحرث الأرض ويسقيها، واللّه هو الذي ينمي الزرع وهو الزارع الحقيقي كما قال سبحانه في كتابه: [أفرأيتم ما تحرثون؟ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون](2) ؟

ولكن هناك فرقاً بين من ينثر الحب ويحرث الأرض أو يغرس الشجر، واللّه ينمي كل ذلك، ويهبه النضرة والخضرة، ويونعه بالأزهار والأثمار... وبين من يهلك الحرث ويحرقه ويقطع الشجر، فهذا الأمر وإن كان بسبب القوة التي منحها اللّه إياه، وما أودعه من أثر في الآلات، لكن ذلك لايسند إليه ولايكون في صالح العبد دائماً.

وعلى كل حال فنحن لانسهب في الكلام هنا خوفاً أن ننتهي إلى الخوض في قدر اللّه المنهي عنه، ونأتمر مطيعين لأمر الامام الصادق عليه السلام: «إذا انتهى الكلام4.

ص: 285


1- الحديد: الآية 17.
2- الواقعة: الآية 64.

إلى اللّه فأمسكوا»(1).

يا من علا كل شيء

المساءلة في القبر

يبدو أن هذين العلمين متفقان في المسألة (المساءلة في القبر)، وإن كان الشيخ أبو عبد اللّه المفيد بين ذلك بتفصيل أكثر، وبما أنّ أبا عبد اللّه لم يعترض على أبي جعفر الصدوق في أمر (الرجعة)، فيبدوا أنّه متفق معه، كما أنّه لم يعلق على الأبواب التالية (البعث بعد الموت) و (الحوض) و (الشفاعة) و (الوعد والوعيد) و (ما يكتب على العبد).

وفي مسألة العدل جاء كلام أبي عبد اللّه ببيان وافٍ وشرح كافٍ مكملاً ومتمماً لكلام أبي جعفر رحمه اللّه.

الإعتقاد في الأعراف

وفي باب (الأعراف) أيضاً لايوجد اختلاف كبير بين وجهتي نظر الصدوق

ص: 286


1- الكافي: ج 1 ص 92.

والمفيد، سوى ما قاله الصدوق في الأعراف: إنّه (سورٌ بين الجنة والنار).

أما المفيد فقد قال: قد قيل: إنّ الأعراف جبل بين الجنة والنار، وقيل: أيضاً إنّه سورٌ بين الجنة والنار.

فالإختلاف بينهما إن وجد فهو من حيث الإيجاز والتفصيل، وكلام المفيد في ذيل هذا الباب في منتهى الكمال إذ قال: (وكل ما ذكرناه جائز في العقول وقد وردت به أخبار واللّه أعلم بالحقيقة من ذلك، إلّاأنّ المقطوع به في جملته أنّ الأعراف مكان بين الجنّة والنار، يقف عليه من سميناه من حجج اللّه تعالى على خلقه، ويكون به يوم القيامة من المرجئين لأمر اللّه، وما بعد ذلك فاللّه أعلم بالحال فيه)(1).

وفي (باب الصراط) كلام كلٍ منهما قريب من الآخر بل موافق للآخر، قدس اللّه سرهما.

الاعتقاد في العقبات

خلاصة رأي الشيخ أبي جعفر الصدوق في العقبات على طريق المحشر: أنّها (اسمُ كل واحدةٍ منها اسمٌ على حدة، اسمُ فرضٍ أو أمر أو نهي، فمتى انتهى الإنسان إلى عقبة إسمها الفرض وكان قصَّر في ذلك الفرض حبس عندها وطولب بحق اللّه، فإن خرج منها بعمل صالح قدّمه و برحمة تداركه، نجا منها إلى عقبة اخرى، فلايزال يدفع من عقبة إلى اخرى، فإن سلم من جميعها انتهى إلى دار البقاء، وإن لم ينجه عمل صالح ولاأدركته من اللّه تعالى رحمة، زلت به قدمه

ص: 287


1- التصحيح للمفيد: ص 86، ط قم.

عن العقبة فهوى في نار جهنم، (نعوذ باللّه منها)(1).

ثم قال: (وهذه العقبات كلها على الصراط، اسم عقبة منها الولاية، يوقف جميع الخلائق عندها، فيسألون عن ولاية أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام من بعده، فمن أتى بها نجا وجاز، ومن لم يأت بها بقي فهوى الخ...).

أما خلاصة رأي المفيد هي قوله (ليس المراد بها جبال في الأرض تقطع، وإنّما هي الأعمال شبهت بالعقبات، وجعل الوصف لما يلحق الإنسان في تخلصه من التقصير في طاعة اللّه تعالى كالعقبة التي يجهد صعودها وقطعها)، واستشهد بقول اللّه تعالى: [فلا اقتحم العقبة وما أدريك ما العقبة فكُّ رقبة](2) وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إن أمامكم عقبة كؤودا، ومنازل مهولة، لابد من الممر بها، والوقوف عليها، فإما برحمةٍ من اللّه نجوتم وإما بهلكة ليس بعدها انجبار».

ونقول تعقيباً على ذلك، إنّ استظهار أبي عبد اللّه المفيد لطيف في حد نفسه، إلّا أنّه غاية ما يمكن أن يقال هنا: إن استظهار الشيخ أبي جعفر لايرجح عليه، وكل على استظهاره! لكن الاستدلال على ذلك، بالاستناد إلى ما ظنه الحشوية، وأنّ الحكمة لاتقتضي هذه العقبات، ولاوجه لخلق عقبات تسمى بكذا وكذا...

فذلك موقوف على إحاطة الإنسان بجميع الحِكَم من الأفعال الإلهية، والمعيار هنا هو أوّلاً: وجود خبر معتبر وصحيح، ثانياً: الترجيح العرفي لأحد الاستظهارين. واللّه سبحانه هو العالم.3.

ص: 288


1- مقاطع من أقوال الصدوق في باب الاعتقاد في العقبات.
2- البلد: الآية 13.

في باب الحساب والميزان

لايظهر في هذا الباب اختلاف بين هذين العالمين العلمين أيضاً، إلّاأنّ الشيخ أبا عبد اللّه في كتابيه (تصحيح الاعتقاد) و (أوائل المقالات) قال:

(بأنّالحساب هو المقابلة بين الأعمال والجزاء عليها والمواقفة للعبد على ما فرّط)، وأراد به ان يختص اصحاب المعاصي من أهل الايمان وقال: (الكفار حسابهم وعقابهم على حسب الاستحقاق، ويوفّى المؤمنون أجرهم بغير حساب).

وقال: وليس هو (أي الحساب) كما ذهب العامة إليه من مقابلة الحسنات بالسيئات والموازنة بينهما، على حسب استحقاق الثواب والعقاب عليهما، إذ كان التحابط بين الأعمال غير صحيح.

وأنكر ما ذهب إليه أهل الحشو من أن في القيامة موازين كموازين الدنيا، لكل ميزان كفتان توضع الأعمال فيها؛ إذ الأعمال أعراض والأعراض لايصح وزنها. وبديهي أن مطالب في هذه المقولة مرجع السمع، وهي تستفاد من ظواهر القرآن والأحاديث الشريفة، ويمكن أن يكون المراد من وزن العمل هو وزن المثال، كما هو مذكور في باب تجسم الأعمال، وهي أُمور خفيت حقائقها علينا، فلايمكن إنكارها بمثل هذا المعيار: (الأعمال أعراض والأعراض لايصح وزنها).

وإجمالاً: ما يمنع أن تكون هناك موازين تزان فيها الأعمال ليعلم موافقتها من مخالفتها للأوامر والنواهي، وليوزن صاحب العمل، أو العمل نفسه مع سجل العمل وصحائف الأعمال، وقد وردت عندنا في باب تجسم الأعمال روايات

ص: 289

تقول: بتجسم العمل الذي يقول عنه إنّه عرض، فيبدو في صورة حسنة جميلة، وإليه أشارت الآية الكريمة: [فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره](1).

ويحتمل أن يكون المراد منه أنّ العمل نفسه يحفظ، كما يلاحظ اليوم في التلفاز، مع أنّ صاحب العمل ترك مكانه مثلاً، أو انه قد مات لكن عمله يعرف في التلفزة.

ويحتمل أن يكون المراد منه سجل الأعمال، أو يكون المراد جزاء العمل الثواب، أو العقاب عليه. فكل هذه الأمور محتملة، ولاينبغي أن يقال: إنّ الصوت لايسمع في ذلك العالم، مع أنّه قد أمكن سمعه في هذا العالم.

والخطأ الذي وقع فيه بعض المتكلمين هو أنّ هذه الأمور التي أخبر عنها الوحي والنبى صلى الله عليه و آله، جعلوها محلاً للمناقشة والرفض والقبول بسلسلة من المعلومات الناقصة عندهم، ثم أرادوا أن يزنوا الأشياء الضخمة الهائلة، بميزان توزن فيه الأشياء اليسيرة، شأن من يريد أن يَزِن الكرات والمجرات بميزان أعده للبطيخ مثلاً، أو العكس من ذلك، كمن يَزِن الذهب بميزان يوزن فيه الصخر الذي اجتلب من ظهور الجبال!!

وعلى كل حال فإن الصدوق والمفيد كليهما متفقان على أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمة من أهل بيته عليهم السلام هم المتولون أمر الحساب.7.

ص: 290


1- الزلزال: الآية 7.

الاعتقاد في الجنة والنار

في ما يتعلق بالجنة والنار وجهتا نظر هذين العلمين متقاربتان في كتابيهما، وفي كل من الكتابين تفاصيل لم يذكر بعضها في الكتاب الآخر، فما هو ثابت من هذه التفاصيل بموجب الآيات والأخبار الصحيحة فهو حق وإن لم يجب الاعتقاد به، لكن إنكاره بل الشك فيه بعد الاطلاع على موارده ومصادره غير جائز.

والأمر الذي لايوافق الشيخ المفيد فيه أبا جعفر الصدوق، هو أنّ الصدوق جعل أهل الجنة أنواعاً (على مراتب منهم المتنعمون بتقديس اللّه وتسبيحه وتكبيره في جملة ملائكته الخ...).

إلّا أنّ المفيد ردّ على هذا القول بما يلي: (وقول من زعم أن في الجنة بشراً يلتذ بالتسبيح والتقديس من دون الأكل والشرب، قول شاذ عن دين الإسلام، وهو مأخوذ من مذهب النصارى الذين زعموا أن المطيعين في الدنيا يصيرون في الجنة ملائكة لايطعمون ولايشربون ولاينكحون) ثم عقّب على ذلك مستشهداً بآيات من الكتاب العزيز كقوله تعالى: [اكلها دائم وظلّها تلك عقبى الذين اتّقوا](1) وقوله تعالى: [إنّ أصحاب الجنّة اليوم في شغل فاكهون. هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون](2) وغير ذلك من الآيات... ومثل هذه الآيات كثير في القرآن، وما قاله المفيد أوفق بمدلول هذه الآيات.

ولاريب أنّ التنعم بهذه النعم غير منافٍ للالتذاذ بحصول القرب الإلهي، وبلوغ

ص: 291


1- الرعد: الآية 35.
2- يس: الآية 55، 56.

الثواب ومجالسة الأنبياء والأئمة الطاهرين والمقربين... واللّه أعلم.

الاعتقاد في كيفية نزول الوحي

ما قاله الشيخ أبو عبد اللّه المفيد في حقيقة الوحي ونزوله، أكثر قبولاً (ومتانةً) مما قاله الشيخ أبو جعفر الصدوق.

فالوحي والعلاقة القائمة بين اللّه سبحانه والمصطفيْن من عباده لرسالتهم إلى الناس حقيقةٌ إظهارُ العجز عن إدراكها، والاكتفاء بمعرفتها عن طريق آثارها، خير من إظهار وجهة النظر في حقيقتها، فالأمور التي تعرف بالآثار فحسب، أو تعرف بإخبار الأنبياء، كثيرة، ولايلزم أن تكون منحصرة بالوحي... وقد عرّف الشيخ المفيد الوحي قائلاً (قد يطلق على كل شيء قصد به إفهام المخاطب على السر له عن غيره، والتخصيص له به دون سواه).

الإعتقاد في نزول القرآن

رأي الشيخ أبي عبد اللّه المفيد في هذا الباب، أرجح وأقوى من رأي شيخه الصدوق، وملخص ما قاله الشيخ المفيد: أن نزول القرآن جملة في بدء البعثة مع وجود آيات كقوله تعالى: [قد سمع اللّه](1) ، أو قوله: [لقد سمع اللّه](2) ، أو الآيات النازلة في مناسبات خاصة ونزولها قبل تلك المناسبات، لاينطبق

ص: 292


1- المجادلة: الآية 1.
2- آل عمران: الآية 181.

معانيها، ولو كانت هناك رواية صحيحة معتبرة، فينبغي حملها على معنى يوافق هذه الآيات، لأن حمل الحديث على خلاف الظاهر أولى وأهون من حمل القرآن على خلاف الظاهر.

الإعتقاد في مَبْلَغ القرآن

لم يضف الشيخ أبو عبد اللّه المفيد في هذا الباب شيئاً على ما قاله أبو جعفر الصدوق، ويبدو أنّه متفق وإياه في أنّ القرآن النازل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله، هو هذا الذي (ما بين الدفتين)، وأنّه وافقه في سائر الأمور الأخرى هنا.

الإعتقاد في الأنبياء والرسل والحجج والملائكة

إتفق هذين العلمين الجليلين إتفاقاً تاماً في الاعتقاد بالأنبياء والرسل والحجج والملائكة، وفي عدد الأنبياء والأوصياء والأئمة الطاهرين عليهم السلام حتى خاتم الأئمة ومنقذ الأمة مولانا وسيّدنا المهدي المنتظر أرواح العالمين له الفداء إتفاق تام متطابق، ولاشبهة ولاكلام في ذلك...

الإعتقاد في العصمة

قال أبو جعفر الصدوق في باب الإعتقاد بالعصمة (اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة أنّهم معصومون، مطهرون من كل دنس، وأنّهم لايذنبون ذنباً، لاصغيراً ولاكبيراً، ولايعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم. وإعتقادنا فيهم أنّهم

ص: 293

معصومون موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل امورهم وأواخرها، لايوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولاعصيان ولاجهل)(1).

لكن يستفاد من كلام أبي عبد اللّه المفيد أنّ الأنبياء جميعهم والأئمة الطاهرين معصومون وموصوفون بالكمال حال النبوة، إذ قال (والأنبياء والأئمة من بعدهم معصومون في حال نبوتهم وإمامتهم، من الكبائر كلها والصغائر، والعقل يجوز عليهم ترك مندوب إليه على غير التعمد للتقصير والعصيان، ولايجوز عليهم ترك مفترض؛ لأنّ نبينا صلى الله عليه و آله والأئمة عليهم السلام من بعده كانوا سالمين من ترك المندوب والمفترض قبل حال إمامتهم وبعدها)(2).

ومع أنّه صرّح بأنّهم (لم يكن لهم قبل أحوال التكليف أحوال نقص وجهل؛ فإنّهم يجرون مجرى عيسى ويحيى في حصول الكمال لهم مع صغر السن...)، وقال (هذا أمر تجوزه العقول ولاتنكره، وليس إلى تكذيب الأخبار سبيل) إلّاأنّه قال (والوجه أن نقطع على كمالهم عليهم السلام في العلم والعصمة في أحوال النبوة والإمامة، ونتوقف في ما قبل ذلك، وهل كانت أحوال نبوة وإمامة أم لا؟ ونقطع على أنّ العصمة لازمة منذ أن أكمل اللّه تعالى عقولهم إلى أن قبضهم...).

وينبغي أن ننوّه موضحين بأنّ هذا الكلام مخالف لضرورة المذهب والأحاديث المتواترة، فالشيعة متفقون على أنّ النبي صلى الله عليه و آله قبل بعثته، والأئمة عليهم السلام قبل تكليفهم بالقيام بمسؤولية الإمامة، كانوا في مقام العصمة وكمال الصفات الإنسانية. فهذا الكلام لاينسجم، وقداسة مقام خاتم الأنبياء الرفيعِ صلى الله عليه و آله7.

ص: 294


1- اعتقادنا: ص 7، ط قم.
2- تصحيح الاعتقاد: 107.

الذي وصفه أمير المؤمنين عليه السلام بما كان عليه قبل بعثته.

وفي إعتقاد كل شيعي ومن جملتهم أبو عبد اللّه المفيد نفسه أنّ أمير المؤمنين كان معصوماً في عصر النبي صلى الله عليه و آله، وإن كانت مسؤولية الإمامة مناطة بشخص رسول اللّه صلى الله عليه و آله يومئذٍ، وكان أمير المؤمنين عليه السلام مؤهلاً لكل ما يستلزم الإمامة معصوماً.

وكذلك الحال بالنسبة للحسن عليه السلام وهو في عهد أبيه إذ كان معصوماً مؤهلاً لمستلزمات الإمامة. ومثله أخوه الحسين عليه السلام في عهد أبيه أمير المؤمنين عليه السلام وأخيه الحسن عليه السلام، حيث كان معصوماً مؤهلاً لخصائص الإمامة ومستلزماتها... هكذا سائر الأئمة عليهم السلام كانوا معصومين مؤهلين للإمامة قبل إمامتهم...

والأحاديث الدالّة على هذه العقيدة فاقت حد التواتر، وتترتب عقلاً على عدم عصمة النبي والإمام قبل النبوة والإمامة من المفاسد الكثيرة ما تترتب من المفاسد نفسها في حال النبوة والإمامة إذا قلنا بعدم عصمتهم.

ولايجوز شرعاً ولاعقلاً التفكيك أو الفصل بين هاتين الحالتين وقبول النبوة وإمامة أصحاب السوابق السيئة، وليس من حقنا أن نُسيء إلى ساحة المفيد القدسية، لكن الشيخ الصدوق لو قدر له أن يواجهه في عالم مّا من العوالم كعالم الرجعة أو العالم الذي هما فيه الان وعاتبه على كلماته، لكان يقول له: إذا كنت مقلداً ولم تكن من أهل التقليد إلّاإنّك مع إحاطتك بالعلوم الاسلامية وتحذقك في معارف أهل البيت عليهم السلام قد وقعت في هذا الخطأ!!

وعلى كل حال فنحن نقر بعظمة هذين العلمين، ونقول: العصمة عن الخطأ خاصة باللّه تعالى وبمن أعطاه هذه الحالة القدسية من أنبيائه والأئمة الطاهرين

ص: 295

والملائكة عليهم السلام والجواد قد يكبوا.

الاعتقاد في نفي الغلو والتفويض

لايوجد إختلاف جوهري في هذا البحث ما بين هذين العلمين وكلاهما يتفقان في نفي الغلو والتفويض، لكن في مسألة من نسب بعض المشايخ إلى التقصير كأن الشيخ المفيد قد تدارك الشيخ المفيد في البحث السابق، وأورد على الصدوق في قوله (علامة المفوضة والغلاة وأصنافهم، نسبتهم إلى مشايخهم (أو مشايخ قم وفقاً لما جاء في كلام الشيخ المفيد) وعلمائهم، القول بالتقصير).

فقال المفيد: ليس نسبة هؤلاء القوم إلى التقصير علامةً على غلو الناس، الخ... ثم قال الشيخ المفيد: وقد سمعنا حكاية ظاهرةً عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد رحمه اللّه، لم نجد لها رافعاً في التقصير، وهي ما حكي عنه أنّه قال (أول درجة في الغلو، نفي السهو عن النبي والإمام) ثم قال المفيد (فإن صحت هذه الحكاية عنه فهو مقصر مع أنّه من علماء القميين ومشيختهم).

وعقّب ذلك بقوله (وقد وجدنا جماعةً وردوا إلينا من قم يقصرون تقصيراً ظاهرا في الدين، وينزلون الأئمة عليهم السلام عن مراتبهم ويزعمون أنّهم كانوا لايعرفون كثيراً من الأحكام الدينية، حتى ينكت في قلوبهم، ورأينا من يقول: إنّهم ملتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون، ويدّعون مع ذلك أنّهم من العلماء، وهذا هو التقصير الذي لاشبهة فيه).

ثم قال: ويكفي في علامة الغلو نفي القائل به عن الأئمة، سمات الحدوث، وحكمه لهم بالإلهية والقدم إلى أن قال: ولايحتاج مع ذلك إلى الحكم عليهم

ص: 296

وتحقيق أمرهم بما جعله أبو جعفر (الصدوق) سمة للغلو على كل حال)(1).

الإعتقاد في الظالمين

لم يستدرك الشيخ المفيد في هذا الباب، على الشيخ أبي جعفر الصدوق، ويظهر أن وجهتي نظرهما متحدتان.

الإعتقاد في التقية

في فصل التقية التي تعرض لها أبو جعفر بإجمال، فصّل الشيخ أبو عبد اللّه فيها، وكما قال الشيخ المفيد: فإنه لايجوز كتمان الحق بصورة مطلقة، والصدوق وإن لم يصرح بذلك إلّاأنّ مراده هذا المعنى نفسه أيضاً.

وبديهي إذا لم يكن موجب للتقية ولاضرورة في الأمر، ولايجوز حينئذٍ إنكار الحق وترك الاعلان به، وجميع أدلّة التقية في القرآن والأحاديث تدلّ على هذا التفصيل، ومعنى ما يقال: إنّ التقية ثابتة والعمل بها واجب حتى ظهور المهدي أرواحنا له الفداء، هو أنّه قد تحصل ضرورات أو أخطار قبل ظهور المهدي سلام اللّه عليه مما توجب التقية أو تجيزها وذلك ممكن، لكن بعد ظهوره حيث يظهر اللّه الإسلام والإيمان على الدين كله وينتشر ذلك في العالم وبحكم قوله تعالى:

[يبدل اللّه المؤمنين من بعد خوفهم أمناً] (2) لا وجود للخوف حينئذٍ، فلايبقى

ص: 297


1- تصحيح الاعتقاد: ص 114.
2- النور: الآية 55.

موضوع للتقية.

الإعتقاد في آباء النبي صلى الله عليه و آله

كلا العلمين متفقا القول أنّ آباء النبي صلى الله عليه و آله كانوا موحدين مؤمنين، وكما قال المفيد: إجماع عصابة الحق على هذا الاعتقاد، ويتفق الشيخ المفيد والصدوق في وجهتي نظريهما في إيمان أبي طالب وآمنة ام النبي صلى الله عليه و آله وإن لم يصرح الشيخ المفيد بذلك.

الإعتقاد في العلوية

إن اختلاف نظر هذين العالمين العليمين الجليلين هو في تفسير الآية الكريمة:

[قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى] (1) حيث فسّر الصدوق كلمة (إلا) في الآية بمعنى الإستثناء، لكن المفيد جعل كلمة (إلّا) بمعنى لكن، فيكون مفاد الصدوق بناءً على هذا أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال لأمته ما معناه لاأطلب منكم أجراً غير مودة القربى ويكون مفاد الشيخ المفيد من تفسير الآية إنّي لاأطلب منكم أجراً، وإنّما أطلب منكم أو أُوجب عليكم المودة في القربى.

وقد قال المفيد: لايصح القول بأنّ اللّه تعالى جعل أجر نبيه مودة أهل بيته عليهم السلام ولا أنّه جعل ذلك من أجره عليه السلام؛ لأن أجر النبي صلى الله عليه و آله في التقرب إلى اللّه تعالى هو الثواب الدائم وهو مستحق على اللّه تعالى في عدله وجوده وكرمه،

ص: 298


1- الشورى: الآية 23.

وليس المستحق على الأعمال يتعلق بالعباد؛ لأنّ العمل يجب أن يكون للّه تعالى خالصاً، وما كان للّه فالأجر فيه على اللّه تعالى دون غيره.

هذا مع أنّ اللّه تعالى يقول: [يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلّاعلى الذي فطرني](1) فلو كان الأجر على ما ظنّه أبو جعفر في معنى الآية لتناقض القرآن حتى قال فيكون قوله: [قل لا أسألكم عليه أجراً](2) كلاماً تاماً، ويكون قوله: [إلا المودة في القربى](3) كلاماً مبتدأ إلخ...(4)

لكن الظاهر أنّ هاتين الجملتين بعضها مرتبط ببعض مسوقتان للترغيب في:

[المودة في القربى] (5) وليست الجملة الأولى: [لا أسألكم عليه أجراً](6) هي لعدم سؤال الأجر، بل هي مقدمة وتمهيد لبيان مفاد الجملة الثانية، فهي بهذا المعنى أنّي لاأُريد منكم أجراً قبال حق الرسالة العظيم عليكم سوى المودة في القربى، ولما كانت الجملتان مترابطتين فلاتهافت بينهما.

وأما (قول المفيد) بأن الرسالة لكونها عملاً للّه فأجرها على اللّه، فجواب هذا الكلام: أنّه لازم أداء هذا العمل للّه هو إثبات الحق لرسول اللّه على أُمته، والأمة مسؤولة أيضاً أن تؤدي ما عليها من الحق، لذا فقد كلّفت هذه الأمة عرفاً وترغيباً لأداء حق الرسالة بهذا البيان وهو مودة ذوي القربى من أهل بيت محمد صلوات3.

ص: 299


1- هود: الآية 51.
2- هود: الآية 51،؛ الشورى: الآية 23، الأنعام: الآية 90.
3- الشورى: الآية 23.
4- تصحيح الإعتقاد ص 118
5- الشورى: الآية 23.
6- الشورى: الآية 23.

اللّه عليهم أجمعين...

وعلى كل حال، فينبغي أن يعالج هذا الكلام برُمّته في التفسير، لكن ما ينبغي الإشارة إليه وبناءً على التفسيرين ووفقاً لما ورد في الروايات الكثيرة فإنّ المراد بالقربى هو قربى رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وقد إتفقت وجهتا نظر الصدوق والمفيد على ذلك.

الإعتقاد في الأخبار المفسّرة والمجملة

لايوجد في هذا الباب نقاش بين الصدوق والمفيد، إلّاأنّ الظاهر اتفاقهما على أنّ الأخبار المفسرة حاكمة على الأخبارالمجملة.

الإعتقاد في الحظر والإباحة

قال الصدوق في هذا الباب (الأشياء كلها مطلقة حتى يرد في شيء منها نهي) وخلاصة كلام الشيخ المفيد المتين: أنّه ليست الأشياء كلها مطلقة ومحكومة بالإباحة فالأشياء في أحكام العقول على ضربين:

أحدهما: معلوم حظره بالعقل... كالظلم والسفه والعبث (فالعقل لا يجيز ارتكابها وإن لم يصلنا نهي عنها). والضرب الآخر: وهو ما ليس للعقل فيها حكم، فهذه القاعدة جارية في هذا الضرب.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ رأي الصدوق يوافق هذا الرأي أيضاً وهذا تعبيره إنّما هو بلحاظ أنّ كل ما قبّحه العقل ووبّخ عليه فاعلَه فقد نهى عنه الشارع، لذا بوسعنا أن نقول: الناس أحرار في جميع الأمور، إلّاما ورد النهي عنه.

ص: 300

الإعتقاد في الأخبار الواردة في الطب

في باب (الأخبار الواردة في الطب) أيد الشيخ أبو عبد اللّه شيخه أبا جعفر الصدوق وأضاف قسماً آخر على هذه الأحاديث التي ذكرها الشيخ أبو جعفر...

غاية ما في الأمر أنّ الشيخ المفيد قال: الطب صحيح والعلم به ثابت وطريقه الوحي وإنّما أخذ العلماء به عن الأنبياء... إلخ.

ولكن الظاهر أنّه وإن لم يكن هناك سبيل إلى النفي، أن (الطب وتعلّمه إنّما هو من تلقين الأنبياء) إلّاأنّ القول بأنّ علم الطب كله من السماء مخالف للتجربة والحس. فالبشر وقف على الطب الذي هو واحد من العلوم الكثيرة والصناعات التي تعلّمها بذكائه واستعداده وتجاربه، وإن قلنا بجواز الإقتباس في بعض موارده وأقسامه من الأنبياء والوحي في ما مضى، أو في ما سيأتي من الزمن.

الإعتقاد في الحديثين المختلفين

هذا البحث طويل الذيل وقد اشبع تفصيلاً في باب التعادل والترجيح في الأصول، لذا فقد ارتأينا أن لانلج هذا البحث الذي تعرض له هذان العلمان الجليلان بل نحيل تحقيق مطلبه إلى مراجعة أصول الفقه.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربِّ العالمين والصلاة والسلام

على سيّدنا محمد وآله الطاهرين واللعن على أعدائهم أجمعين

لطف اللّه الصافي

7 جُمادى الأُولى 1413 ه

ص: 301

ص: 302

سِرُّ البداء

اشارة

ص: 303

ص: 304

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي يمحو ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب والصلاة والسلام على أفضل أولى الألباب سيدنا أبي القاسم محمد وآله الأطياب أعدال الكتاب سيما الإمام الذي يملأ الأرض بالعدل والصواب، ويجعل كيد الكافرين في تباب، واللعن على اعدائهم من الآن إلى يوم الحساب.

وبعد: فهذه رسالة وجيزة في البداء سمّيتها (سرّ البداء) كتبتها تبصرة لنفسي ورجاء ان ينتفع بها غيرى، وإن يجعلها اللّه تعالى ذخراً لي ويتقبلها منّى بفضله وكرمه ويعفو عن زلاتى وخطيئاتي بعفوه ورحمته انه كريم رحيم ولاحول ولاقوة الا بالله العلي العظيم.

ص: 305

ص: 306

حول البداء

والكلام فيه يقرر في ضمن مباحث:

الأول: إعلم إنَّ من جملة معتقدات الشيعة الإمامية والفرقة الناجية المقتبسة من الكتاب والسنة وممّا يفصح عنه اتفاق كلمات علمائهم في التفسير والحديث والكلام والعقايد أمران:

الأمر الأول: الاعتقاد بأن اللّه تعالى عالم لجميع الأشياء من الأزل وقبل وجودها لا يزيد في علمه شيئاً، ولايزداد فيه ولاتأخر لعلمه عن ذاته، ولاهو غير ذاته بل هو عين ذاته، وهو العالم بالاشياء قبل وجودها كعلمه بها بعد وجودها ليس علمه مسبوقاً بالجهل كما أن وجوده ليس مسبوقاً بالعدم، وقدرته ليست مسبوقة بالعجز فهو منزّه عن كل ما فيه وصمة الجهل، والنقص، ومقدس من أن يظهر له أمر على خلاف ما علم أو بعد خفائه عنه (تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً)

وقد أثبتوا في كتبهم الكلامية وغيرها إستحالة خفاء شيء عنه كاستحالة كونه محلاً للحوادث والتغيير والتبديل. ويترتب على كل من الإستحالتين إستحالة

ص: 307

البداء بمعنى ظهور الشيء بعد الخفاء، وحصول العلم به بعد الجهل به على اللّه سبحانه وتعالى.

الأمر الثاني: اعتقادهم بان اللّه تعالى قادر مختار ينشئ الاشياء بمشيته، ويفعل ما يشاء بحكمته. له الخلق والامر والتدبير، لم يفرغ من أمر الخلق والرزق لايفعل ما يفعل بالايجاب، بل بالارادة والمشيّة.

فكل يوم هو في شأن، ولايغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بانفسهم.

يمحو ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب.

يقدّم أجل هذا ويؤخر مدة ذاك.

يخرج الحىّ من الميت ويخرج الميت من الحى.

يعزّ من يشاء ويذل من يشاء يرسل الرياح وينزل الغيث، وما من دابّة في الارض الا عليه رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها.

بعث النبيين واحداً بعد واحد مبشرين ومنذرين وأنزل عليهم الكتاب كتاباً بعد كتاب.

يسمع دعاء عباده ويستجيبه، ويدفع عنهم ميتة السوء، والبلاء، ويفرّج عنهم الغموم، ويكشف منهم الهموم. يزيد في الأعمار، والآجال، والأرزاق، والأمطار، والبنين، وسائر ما أنعم به على عباده بالايمان والتقوى والأعمال الصالحة كالصدقة وقضاء حوائج الناس، والاحسان اليهم، وصلة الرحم، والبرّ بالوالدين وشكر النعمة، والإستغفار، والتوبة.

ص: 308

قال اللّه تعالى: [لئن شكرتم لازيدنكم](1).

وقال سبحانه: [استغفروا ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم باموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهاراً](2).

وقال عز وجل: [ولو أنهم اذ ظلموا انفسهم جاؤك فاستغفروا واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللّه تواباً رحيماً](3).

وقال سبحانه وتعالى: [ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لايحتسب](4).

وقال: [ولو أنّ اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذّبوا فاخذناهم بما كانوا يكسبون](5) و... و...

فالآيات الكثيرة المشتملة على الجملة الفعلية المضارعة دالة على أن اللّه تعالى لم يفرغ من الأمر والتدبير، ومنها يعلم تفسير قوله تعالى: [كل يوم هو في شأن](6) وانه لايشغله شأن عن شأن، وان نزول كثير من النعم ودوامه وبقائه مشروط بأعمال العباد وحسن تصرفهم في النعم ومقدار شكرهم عليها.9.

ص: 309


1- إبراهيم: الآية 7.
2- نوح: الآية 10-12.
3- النساء: الآية 64.
4- الطلاق: الآية 2-3.
5- الأعراف: الآية 96.
6- الرحمن: الآية 29.

وأما الأحاديث: فهى أيضاً من طرق الشيعة فوق حد الإحصاء، كقوله صلى الله عليه و آله:

«صلة الرحم تزيد في العمر وتدفع ميتة السوء وتنفي الفقر»(1).

وقال صلى الله عليه و آله: «من أكثر الإستغفار جعل اللّه له من كل همّ فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لايحتسب»(2).

وروايات كثيرة رويت في الترغيب على الإنفاقات والصدقات والخير والإحسان، واكرام الذرية الطاهرة، واعانة الضعفاء، وقضاء الحوائج، والبرّ بالوالدين، والأيتام واداء حقوق الجار والاخوان وغيرها من الاعمال الصاحلة سيما الصلاة والصيام والدعاء.

ومن طرق العامة ايضاً كذلك:

منها ما أخرجه السيوطى في الدر المنثور(3) قال: أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي رضى اللّه عنه انه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن هذه الآية (يمحو اللّه....)؟ فقال له: لاقرن عينيك بتفسيرها ولاقرّن عين امتى بعدى بتفسيرها: الصدقة على وجهها، وبرّ الوالدين، واصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة، ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء.

(وقال) اخرج ابن ابى شيبة في المصنف، وابن ابى الدنيا في الدعاء عن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال: ما دعا عبد قط بهذه الدعوات الا وسع اللّه له في6.

ص: 310


1- بحار الأنوار: ج 74 ص 172.
2- نفس المصدر.
3- الدر المنثور: ج 4 ص 66.

معيشته:

(يا ذا المن ولا يمنّ عليه يا ذا الجلال والاكرام يا ذا الطول لااله الاانت ظهر اللاجين، وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين ان كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقياً فامح عنّى اسم الشقاء واثبتني عندك سعيداً، وإنْ كنت كتبتني عندك في أمّ الكتاب محروماً فامح حرمانى ويسّر رزقي واثبتني عندك سعيداً موفقاً للخير فانك تقول في كتابك الذي انزلت: [يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب](1).

وأخرج أيضاً في الدر المنثور (2)(قال) وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: (يسأله من في السماوات والارض) يعنى: يسأل عباده ايّاه الرزق والموت والحياة كل يوم هو في ذلك.

(قال) وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده، والبزاز وابن جرير والطبراني، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الايمان، وابن عساكر عن أبي الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قول اللّه: (كل يوم هو في شأن) قال: من شأنه ان يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين، وزاد البزاز وهو يجيب داعياً.

ومنها ما أخرج في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: من سره ان ينبسط له رزقه او ينسا له في اثره فليصل3.

ص: 311


1- الرعد: الآية 39.
2- الدر المنثور: ج 6 ص 143.

رحمة(1) وكذلك يبتلى عباده بالفقر والمرض، ونقص الأعمار والأرزاق وتغير النعم وحبس الدعاء ونزول البلاء بكفرانهم النعم وتكذيبهم الرسل، وظلم بعضهم بعضاً وقطع الرحم والزنا وسائر المناهى والمعاصى لإستصلاحهم، وتكفير ذنوبهم، وتمحيصهم ولحكم اخرى وعنايات يختص بها بعض عباده المخلصين فيبتليهم لترفيع درجاتهم وظهور شؤونهم العالية، وتسليمهم وانقيادهم ليكونوا اسوة حسنة لمن اراد أن يتأسى بهم ولغير ذلك من الحكم المتعالية التي هو أعلم بها.

قال اللّه تعالى: [ضرب اللّه مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بانعم اللّه فاذاقها اللّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون](2) وقال جلّ ثناؤه: [ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت ايدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون](3).

وقال تبارك وتعالى: [ذلك بأن اللّه لم يك مغيراً نعمة انعمها على قوم حتى يغيروا ما بانفسهم](4).3.

ص: 312


1- صحيح البخاري ج 2، كتاب البيوع، باب من أحب البسط في الرزق ص 4 صحيح مسلم: ج 8، كتاب البرّ، ص 8 قال ابن الأثير: الأثر الأجل وسمى به لأنّه يتبع العمر، قال زهير: المرء ما عاش ممدود له أمل لاينتهي العمر حتى ينتهي الأثر.
2- النحل: الآية 112.
3- الروم: الآية 41.
4- الانفال: الآية 53.

وقال عز وجل: [وما يعمر من معمر ولاينقص من عمره الا في كتاب](1).

وقال سبحانه: [وواعدنا موسى ثلثين ليلة واتممناها بعشر فتمّ ميقات ربه اربعين ليلة](2).

وقال اللّه تعالى: [ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشّر الصابرين](3).

وقال سبحانه وتعالى: [ولقد اخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذّكرون](4).

وقال عز وجل: [وان يمسسك اللّه بضر فلا كاشف له الا هو، وان يردك بخير فلا رادّ لفضله](5).

وقال: [امن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض](6).

وقال تعالى شأنه: [فلولا كانت قرية آمنت فنفعها ايمانها الا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ومتعناهم الى حين](7).8.

ص: 313


1- فاطر: الآية 11.
2- الاعراف: الآية 142.
3- البقرة: الآية 155.
4- الاعراف: الآية 130.
5- يونس: الآية 107.
6- النمل: الآية 62.
7- يونس: الآية 98.

وقال عز اسمه: [فلولا انه كان من المسبحين للبث في بطنه الى يوم يبعثون](1).

وقال جل ثناؤه: [فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر](2).

و و و.....

وروى عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام:

«إنَّ اللّه يبتلي عباده عند الاعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائب ويقلع مقلع ويتذكر متذكر ويزدجر مزدجر»(3) ، «ولو أنَّ الناس حين تنزل بهم النقم ونزل عنهم النعم رجعوا الى ربهم بصدق من نياتهم ووله من قلوبهم لرد اليهم كل شارد وأصلح لهم كل فاسد»(4).

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله: «لايزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرّ والتقوى فاذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولافي السماء»(5)

وملخص الكلام: إنَّ من سبر الآيات الكريمة والأحاديث من طرق الخاصة1.

ص: 314


1- الصافات: الآية 143-144.
2- الأنبياء: الآية 84.
3- نهج البلاغة [صبحي الصالح]: 199 خ 143؛ بحار الأنوار: ج 88 ص 312.
4- نهج البلاغة [صبحي الصالح]: 257 خ 178؛ بحار الأنوار: ج 29 ص 597.
5- تهذيب الأحكام: ج 6 ص 181.

والعامة لايبقى له شك في أن اللّه تعالى يمحو ما يشاء ويثبت ولم يعجزه ولايعجزه شيء في الأرض ولافي السماء يختار لعبيده ما يشاء حسب ما تقتضيه حكمته الكاملة من الزيادة في الرزق أو النقص منه، وكذا يزيد في عمر بعضهم، وينقص عن عمر البعض الآخير، ويديم الصحة أو يزيلها، ويبدلها بالمرض ويقدم أمراً ويؤخر آخر، ويكتب من كان مكتوبا من الأشقياء في السعداء وبالعكس، ويوفّق بعض الناس للخير ويحرم بعضهم منه خذلاناً باعمالهم، ويختار لهم في جميع شئونهم ما يريد على حسب حكمته. لم يترك امر تدبيره فيهم ولم يفرغ منه وهو العليم الخبير القدير المدبر الحكيم.

هذا هو البداء بمعناه الصحيح واعتقاد الشيعة فيه الذي جاءت به مآة من النصوص في الكتاب والسنة ومآله وحقيقته العقيدة بالقدرة المطلقة الأزلية للذات الإلوهية المقدسة كما إنَّ نفي البداء عن اللّه تعالى بمعناه الباطل وهو ظهور الشيء له بعد خفائه عنه ايضاً يرجع الى العقيدة بصفة كمالية أخرى وهي علمه الأزلى بالكليات والجزئيات وتقدس ذاته المقدسة عن الجهل مطلقاً.

ولايخفى عليك إنَّ أمر النبوات، والعقيدة بها، والبشارة والإنذار والوعد والوعيد والامر والنهي والترغيب والتهديد، والحثّ على الدعاء والتوبة والتوكل والتفويض، وشكر النعمة وأمثالها إنما يتم بهذه العقيدة والإيمان بأن اللّه لم يفرغ من الامر وكل يوم هو في شأن، ولاينافى ذلك علمه الأزلي بكل ما يقع في المستقبل وما يقدمه وما يؤخره، وما يزيد وما ينقص، وهذا مذهب جمع من الصحابة، ولم اطلع على احد منهم ومن التابعين كان مذهبه نفى ذلك ولاأظن بأحد من العلماء من أهل القبلة إلّابعض من يأتى الإشارة اليه غير ذاك.

ص: 315

وزيادة على ذلك نقول: إن علمه تعالى لاينقض حكمته ولايقيد قدرته ومشيته، وقدرته لا تنفى علمه لاحدّ لكل واحد منهما ولايتصور زيادة كل منهما على الآخر وكل منهما على سعته التي لانهاية لها فهو العليم القادر المريد العزيز، الحوادث كلها تجرى بأمره وتدبيره، يزيد في الخلق ما يشاء وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير القائم بشئون خلقه ولم يفرغ من ذلك، يبتلى الانسان فيكرمه وينعّمه و يقدّر عليه رزقه، والحوادث كلها وكل واحد منها ليس واجب الوقوع حتى لايكون لله فيه أمر ونهى ولايقدر على تغييره والزيادة فيه أو النقصان بل له الأمر والتدبير قبل كل شيء ومع كل شيء وبعده (ما رأيت شيئاً الا ورأيت اللّه قبله وبعده ومعه)(1) يفصل فيه ما يشاء، وصفاته وأسمائه الفعلية كالمنان، والرزاق، والكافي، والشافى، والمعطى، والمجيب، والمصور، والمدبر، والبديع، والبدىء، والحافظ، والرقيب، والواهب، والمنعم، والمحسن، والمغيث، والمميت، والمحيى كلها يدل على ذلك، وان معانيها لم ينقطع، ولا ينقطع، وإنّه لم يزل، ولايزال من شأنه أنْ يرزق، ويشفى، ويكفى، ويعطى ويمنع ويجيب، ويخلق ويصور، ويبدىء، وينعم، ويغيث، وينجى، ويهلك، ويرسل الرياح والمنان بالعطيات و و...

ومن الواضح إنَّه اذا كان قد فرغ من الامر، ولم يكن له الزيادة والنقصان في شئون عباده لا يتصور مفهوم فعلىّ حقيقى لهذا الاسماء، ولايتعقل اتصافه بهذه الصفات إلا بالتمحل والتكلفات وسيأتي زيادة توضيح في المبحث الثالث ان شاء اللّه تعالى.1.

ص: 316


1- انظر: مرآة العقول: ج 10 ص 391.

اعتقاد الشيعة بالبداء بمعناه الصحيح

المبحث الثاني: قد ظهر لك مما ذكرنا أنّ الخاصة، والعامة تشتركان في العقيدة بما اوجب توهم القول بالبداء بمعناه الفاسد المردود عندهما ولكن التعصّب والعناد حمل النصاب واعداء أهل البيت يرمى الشيعة بهذا القول وهم بفضل تمسكهم بالكتاب والعترة (الثقلين) بريئون عن هذه العقيدة الفاسدة، وأبعد من هذا الضلال المبين من السماء عن الأرض نعم حكى عن غير الشيعة مثل النظام وبعض المعتزلة: القول بأن اللّه تعالى قد فرغ من الأمر بخلقه الموجودات دفعة واحدة على ما هى عليه الآن معادن ونباتاً وحيواناً وانساناً ولم يتقدم خلق آدم على خلق اولاده والتقدم إنما يقع في أمورها لافي حدوثها ووجودها واخذوا هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة ومثل هذه العقيدة ما ذهب اليه بعض الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلكية وبأن اللّه تعالى لم يؤثر حقيقة الا في العقل الاول فهم يعزلونه تعالى عن ملكه، حكى عن بعضهم:

أن اللّه تعالى أوجد جميع مخلوقاته دفعة واحدة دهرية لا ترتب فيها باعتبار

ص: 317

الصدور بل انّما ترتبها في الزمان فقط كما إنّه لاتترتب الأجسام المجتمعة زماناً وإنما ترتبها في المكان فقط(1) مثل هذا القول، قول المجبّرة في «المقتول لو لم يقتل» فقالت: إنّه كان يموت قطعاً ومن يستنكر القول بالبداء ولايؤمن بما دلت عليه ما تلونا عليك من الآيات والروايات نسئل عن رأيه في قدرته تعالى: للّه جل شأنه أنْ يفعل ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء ويشفى ويعطى من يشاء ويستجيب دعاء من يشاء ويعزّ من يشاء ويذل من يشاء؟ فان قال: نعم فهذا ما يقوله الشيعة وهو ما يسمونهم بالبداء، وان قال: لا فقد أنكر قدرة اللّه تعالى وأنكر الكتاب والسنة ووافق اليهود في قولهم: يد اللّه مغلولة غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا فمن ذهب الى انكار البداء يتّبع اليهود وغيرهم في هذه المقالة الكافرة ونفى قدرة اللّه تعالى المطلقة ونفى سائر صفاته الكمالية واسمائه الحسنى تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

فان قلت: فلماذا سمى تلك العقيدة الصحيحة بالبداء الذي هو بمعنى ظهور الشيء بعد الخفاء.

قلت: أوّلاً نمنع هذا الظهور وثانياً نقول ان ظهوره بدوى يزول بالقرائن العقلية والمقالية وليس بأقوى من ظهور الآيات والروايات في ذلك لولا تلك القرائن فكما لادلالة لهذه الآيات على علمه بشيء بعد الجهل به بدلالة آيات أخرى والقرينة العقلية، لادلالة لهذا اللفظ أيضاً على ذلك اصلاً بدلالة الآيات والروايات وما إستقر عليه عقيدة القائلين بالبداء سيما أئمة أهل بيت عليهم السلام.2.

ص: 318


1- مرآة العقول: ج 2، ص 131 و 132.

ولايخفى إنَّ باب المجاز في جميع اللغات سيّما اللغة العربية باب واسع وفي الكتاب والسنة ما لايحصى والمتبع في الدلالات الكلامية و غيرها هو الذوق السليم والرأى المستقيم وإنّما دخل بعض الآراء الفاسدة مثل القول بالتجسيم وإنْ له تعالى يد و جنب ورجل وغيرها من الأعضاء - لمّا جاء في الكتاب والسنة مجازاً وتعبيراً عن احاطة قدرته وعلمه وغيرهما من صفاته الكمالية - لاعوجاج فهم البعض والحرمان عن صفاء الذهن ونورانية الضمير فتمسكوا في عقايدهم الفاسدة الى الألفاظ المجازية الموهمة عند صاحب الذهن السقيم لآرائهم فنعوذ بالله من الحرمان والخذلال ونسأله التوفيق والإيمان.

ص: 319

دفع الإشكال عن البداء

المبحث الثالث: إنّه وإن ظهر بما لايزيد عليه أنّ العقيدة بالبداء بمعناه الصحيح الذي بسطنا الكلام فيه مأخوذة من الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة وعليها قام نظام التشريع ومصلحة النبوات، وإستكمال النفوس وتربيتها وتزكيتها وقيام الامور بالقسط ولذا جاء في الأحاديث تعظيماً لهذه العقيدة:

ما عبد اللّه بشيء مثل البداء(1) إلا أنه لقائل أن يقول:

نعم لاريب في بطلان القول بالبداء بمعناه الفاسد الذي أشرتم اليه لإستحالة الجهل على اللّه تعالى شأنه عن ذلك وعن كل نقص، وإستحالة عروض التغير والتبديل عليه ولاريب ايضاً في صراحة الآيات والروايات فيما ذكرتم للبداء من معناه الصحيح الا أنّ الأخذ بالآيات والروايات، وما دلت عليه إنما يصح لو لم

ص: 320


1- التوحيد: ص 231 و 233 ب 54 ح 1 و 2، البحار: ج 4 ب 3 ح 19 و 20.

يصادم ذلك اشكال عقلى والا يلزم تأويل الظاهر والصريح على ما لايدفعه ذلك الإشكال.

بيان الاشكال: كيف يوفق بين هذا الأصل الاصيل الذي يقتضى وجوب وقوع جميع الحوادث على وفق علمه تعالى، وعدم امكان احداث تغيير وتبديل وتقديم وتأخير فيه لتنزهه تعالى شأنه عن صيرورته محلاً للحوادث وبين ما تقتضيه ظواهر هذه الآيات، واسمائه الحسنى، والاحاديث على كثرتها من أنه يفعل ما يشاء، ويستجيب الدعاء ويدفع البلاء، ويزيد في الآجال، وينقص منها وإنّه يُخبر بعباده اذا غيروا ما بأنفسهم ويمحو ما يشاء ويثبت على وفق حكمته، واقتضاء أفعال عباده من الخير والشر فهو كل يوم في شأن وكل ذلك لا يجمع مع تعلق علمه بالحوادث من الازل ولاريب أن القائل بالبداء بالمعنى الذي ذكرتم له لا يرضى لنفسه أن يكون لازم اعتقاده انكار علم اللّه تعالى الازلى بالحوادث واثبات تجدد علمه بها تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً اذا فكيف يوفق بينهما؟

أقول: هذه الشبهة، وشبهة المجبرة ترتضعان من ثدى واحد ولو تمت لبطل أكثر مسائل النبوات.

والجواب: أوّلاً: إنَّ علمه تعالى قد تعلق بوقوع أفعاله باختياره وارادته ومشيته، وأفعال العباد أيضاً باختيارهم وارادتهم فلو كان تعلق العلم بها موجباً لخروج الفعل عن إختيار الفاعل ومشيّته لزم الخلف وتخلف العلم عن المعلوم.

وثانياً: العلم بالشيء لايمكن أن يكون علةً لوجوب وجود المعلوم لأنّه مع غضّ النظر عن تعلق العلم به إنْ كان وجب وجوده بواسطة وجود علته ولذا صار وجوده متعلقاً للعلم به لامعنى لتأثير العلم في وجوب وجوده وإنْ لم يجب

ص: 321

وجوده بحيث كان تعلق العلم به علة وجوده أو من أجزاء علته يلزم الدور المحال لتوقف العلم به على وجوده في ظرفه، وتوقف وجوده على وجوبه فان الشيء ما لم يجب لم يوجد وتوقف وجوبه على تحقق علته التي هي عين العلم به.

وعلى هذا لايلزم من علم اللّه تعالى بأفعاله وأفعال عباده الإيجاب في الأفعال الصادرة منه تعالى ولا الجبر في أفعال المكلفين، ولاتخلف المعلوم عن العلم به.

ص: 322

جريان البداء وقانون العلية

المبحث الرابع: ربما يسأل فيقال: كيف يجوز أن يمنع في هذا العالم المادّى الحاكم عليه الأسباب الماديّة مثل صلة الرحم والصدقة والدعاء وغيرها عن تأثير الاسباب المادّية في مسبباتها، وكيف تؤثر هذه الامور في حصول مسببات مادّية لها أسباب مادية إختصت بها، وكيف يتغير بها السنن السائدة على الكون، والقواعد المحكمة الحاكمة عليها التي قام عليها باذن اللّه تعالى وتقديره نظام هذا العالم فمن يزرع الحنطة مثلا يحصد الحنطة ولايحصد منها الشعير والأرز، ومن سعى وجدّ واجتهد يحصل أكثر ممن قعد وتهاون وكسل، والنار مقتض للإحراق لايمنعه من ذلك الا عدم وجود شرطه أو وجود مانعه المادى،

والحاصل: أنَّ تأثير المقتضيات المادية في مقتضياتها التي تكون ايضاً مادّية لامحالة ليس موقوفاً على أزيد مما نرى وهو وجود المقتضى والشرط وعدم المانع، وبعد حصول ذلك الذي نسميه بالعلة التامة لايتخلف المعلول المادى عن علته المادّية.

ص: 323

أقول: كان هذا القائل توهم أن القائل بالبداء بمعناه الصحيح إنّما يقول بتأثير الأسباب الغيبية وعالم الغيب في عالم الشهادة فقط فيمنع من وقوع بعض الحوادث والامور حتى بعد تحقق سببه المادّى أو تؤثر ما له سبب مادى بدون تحقق سببه المادي فلا يقع البداء في عالم الأسباب والمسببات العادية التي يدرك الإنسان استنادها الى أسبابها بالحسّ وغفل من أن ناموس البداء جار في الامور التكوينية سواء كان ذلك أي حصول البداء بواسطة أمر مثل الدعاء وصلة الرحم، والذنوب والأعمال الصالحة أو بواسطة أمر من الامور المادّية فالامر الذي يقع فيه البداء ما ليس وقوعه من الامور المحتومة بل موقوف في كثير من الموارد على أفعال العباد وكسبهم سواء كان هذا الفعل يعد سبباً عادياً في الامر البدائي وجوداً أو عدماً كسعى العبد أو تكاسله عن السعى والعمل فالذي يقتل نفسه أو غيره لم يحكم علمه بذلك وليس عمله هذا من الامور المحتومة، والمقتول أيضاً لم يكن موته محتوماً عليه في هذا الزمان بل كان حياته موقوفة على عدم حدوث ما يقطع إستمرار حياته وهو قتله وعلى هذا المبنى يجب على الإنسان التحفظ ودفع العدوّ نعم قد يكون ذلك من الامور المحتومة بحيث لو لم يقتل في هذا الوقت لكان يموت فيه بحتف الأنف وهذا أيضاً وإنْ كان بلحاظ أن موته بحتف الانف موقوف على عدم موته بالقتل يكون من الامور البدائية الا أنه بملاحظة أن زهاق روحه في هذا الزمان كان محتوماً لايقع فيه البداء وإنْ كان أيضاً من الامور البدائية بلحاظ جواز وقوع البداء فيه عقلاً لولا كونه في تقدير اللّه تعالى من الامور المحتومة التي لايقع فيه البداء.

نعم لم يبحث عن مثل هذه الأمور في مبحث البداء وإختصوا البحث فيه

ص: 324

بالامور التي يقع تحت سيطرة عالم الغيب، وما لايعدّ من الأسباب المادّية كالدعاء والصدقة وغيرها مع أن ملاك البحث والنفي والاثبات بالنسبة إليها واحد.

وبعبارة أخرى نقول: أن الاسباب سواء كانت ظاهرة مرئية محسوسة أو كانت غيبية مخفية تحقق بها مسبّباتها باذن اللّه تعالى وتقديره وتمنع عن وقوعها موانعها سواء كانت ظاهرة أو غيبية وحيث أن الكل مستند اليه وهو جاعل الأسباب وفاعلها وخالق موانعها ويقدرها ولو باقداره العبد عليها وإنْ كان ما يجرى في العالم يجرى بارادة اللّه تعالى التكوينية فهو الماحى والمانع اذا منع - المانع الظاهرى أو الغيبى - السبب، كذلك عن تأثيره وهو المثبت اذا أثر السبب في مسببه وتحقق سواء كانا هذا أومن ذاك فالمرض الكذائى يمنع المريض من أن تمتد حياته الى أجله المسمى فيمحو اللّه تعالى ذلك بالصدقة وصلة الرحم ويثبت حياته ويؤخر في أجله والشخص الصحيح تقتضى صحته بقائه الى اجله المسمى ويمنع من ذلك بعض اعماله السيئة كل ذلك باذن اللّه تعالى وتقديره في نظامه الأتم الأحسن الذي قرره في خلقه.

ويمكن أن يقرر هذا بوجه آخر وهو أن يقال: أن الاسباب الظاهرية العادية التي تتحقق في عالمنا المحسوس والشهادة تقتضى تحقق مسبباتها فكما أنه يمحى أثرها بالموانع الظاهرية يمحى أثرها ببعض الموانع الغيبية فمثل صلة الرحم تدفع ميتة السوء التي تحقق سببها الظاهرى وكذلك توجب بعض الامور الزيادة في العمر والرزق إما لأن اللّه جعل في هذه الامور هذه الخواص أو لأن اللّه تعالى وعد عباده بأنه يفعل ذلك عند إتيان المكلف بها وعلى كلا الوجهين قد

ص: 325

دلت الآيات والروايات قال ا لله تعالى: [ولئن شكرتم لازيدنكم](1) ، وقال جل إسمه: [ولو أن أهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض](2) ، وقال: [أفرأيتم ما تمنون أ أنتم تخلقونه أم نحن الخالقون](3) وفي الدعاء «اللهم إغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء»(4) والحاصل أن كل الامور الغير المحتومة واقع تحت سنة المحو والإثبات.

وثانياً نقول: أن الظاهر من هذا الايراد الاستبعاد أو انكار سلطان عالم الغيب وتأثير الاسباب والموانع الغيبية على عالم الشهادة.

وهذا التوهم: إمّا ينشأ من قصر النظر الى عالم الشهادة، والتأثر من تسويلات الحسيّين والماديين الغافلين أو المنكرين لعالم الغيب وتأثيره في عالم الشهادة.

وإمّا ينشأ من قضاء العادة على وقوع أمر بعد أمر آخر بمشية ألله وتقديره فيتوهم أن هذا مقتضى تمامية ألامر الأول في العليّة للأمر الثاني فلا يجوز أن يتخلف عنه كما لايجوز تخلف المعلول عن علته التامّة فكانه لم يعرف المتوهم الفرق بين المقتضى والعلة التامة، وبين العلة وأجزائها، وبين ما يقارن وجوده وجود شيء آخر، ولم يتفطن الى جواز عدم احاطة البشر بجميع العلل ومعلولاتها، وشرائطها وموانعها وكون عالم الظاهر تحت سيطرة عالم الغيب، وتأثير الأسباب الغيبية باذن اللّه تعالى في عالم الشهادة فيزعم العلة ما ليس بها،0.

ص: 326


1- إبراهيم: الآية 7.
2- الأعراف: الآية 96.
3- الواقعة: الآية 58-59.
4- الكافي: ج 2 ص 590.

ومعلولها ما ليس هو مع أنّه لايرى شيئاً غير وجود شيء عند وجود شيء آخر أو أشياء أخرى ولم ير عليّة هذا لذاك ولم يفهم لماذا صار هذا الامر المادّى علة لهذا ولماذا صارت علية هذا لذاك ذاتية له ولم تصر ذاتية لشيء آخر، أليس هذا يعنى القول بالعلل المادية وأنها من ذاتيات العلل الأخبار عن الغيب وما أحسن قولهم في تعريف المعجزة أنها خرق عادة يأتى بها النبي عند التحدّى وطلب القوم منه الآية والمعجزة كما جاء في القرآن الكريم حكاية عن فرعون في محاجتة مع النبي موسى على نبينا وآله وعليه السلام قال: [ان كنت جئت بآية فات بها ان كنت من الصادقين فالقى عصاه فاذا هى ثعبان مبين](1).

لايقال: أن ما تقول ينتهى الى نفى قاعدة العلية، ولازمه تأثير كل شيء في كل شيء أو عدم تأثير شيء في شيء.

فإنّه يقال: أن القاعدة تامة لاخدشة فيها، والعلة التامة كلّما وجدت لاتنفك عن معلولها، ولايجوز وجود المعلول بدون العلة كما لايجوز وجود الحادث بدون المحدث القديم ووجود المخلوق بدون الخالق لكن لاتعرف بنفس هذه القاعدة مواردها ولاتثبت بها مصاديقها. فربما يتحقق المقتضى والشرط وعدم المانع فيزعم الغافل من الشرط و عدم المانع أن المقتضى تمام العلة كما ربما يغفل من عدم المانع فيستند المعلول الى المقتضى والشرط أو بالعكس يستنده الى المقتضى وعدم المانع.

وعلى هذا يجوز أن يمنع ارادة اللّه القاهرة على جميع ما سواه النار من7.

ص: 327


1- الأعراف: الآية 106-107.

الإحراق وغير ذلك مما وقع في التكوينيات على خلاف العادة وجريان الأسباب والمسببات العادية.

فمن قصر نظرها الى ما يعرف من الأسباب الظاهرة ولم يلتفت الى غيرها مما يجهلها من الأسباب الظاهرة والباطنة وحكم اللّه تعالى وسننه في تربية عباده، وإستصلاح أمورهم لا يرى تخلف المسببات عن الاسباب الظاهرة تشمله هذه الآية الكريمة: [يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون](1).

ولو طرح حجاب الغفلة والإلتفات الى ظاهر الحياة الدنيا يفهم ان سنن اللّه تعالى لا تنحصر فيما يعرفه من قصر نظره الى عالم الظاهر فالدعاء والصدقة وصلة الرحم، وإعانة الضيف وشكر النعمة وغيرها، وكذا الظلم وقطع الرحم وغيرهما من الاعمال السيئة تؤثر في وقوع كثير من الحوادث باذن اللّه تعالى وسنته ويغير اللّه تعالى لها مظاهر حياتنا المادية من الرخاء والخصب، ونزول الأمطار، وظهور البركات كما يغير بها حالات النفوس وأحوال القلوب فتشملها التوفيق أو تحرم منه وتبتلى بالخذلان. ولانعنى بالبداء إلا ذلك.

فيزيد اللّه تعالى بصلة الرحم في عمر من لايتجاوز عمره بحسب الأسباب الظاهرة - لو لا هذه الصلة - من ثلاثين مثلاً الى أربعين، أو ينقص منه بواسطة قطع الرحم مثلاً الى عشرين، وهكذا يدفع بصلة الرحم أو الصدقة أو الدعاء عن البلاء وميتة السوء. وكذا يؤثر عمله في شقاوته وسعادته فيكتسب بالأعمال الصالحة، والتوبة السعادة فيمحو اللّه إسمه من الأشقياء ويثبته في زمرة السعداء كما هو في7.

ص: 328


1- الروم: الآية 7.

أم الكتاب. ولايزيد في العمر ولا ينقص منه الا اللّه، ولايدفع البلاء، ولايكتب الشقي سعيداً الا اللّه، وملائكته العاملين الموكلين على هذه الامور بأمره اذاً فليس لنا إلا القول بذلك، وإنّه لم يغلق باب رحمة اللّه على عباده، وأنّه هو الحاكم البارىء المصور المعزّ الخالق لما يشاء والفاعل لما يشاء لااله الا هو العزيز الحكيم.

ص: 329

في محل البداء

المبحث الخامس: لايخفى عليك أن محل البداء بمعناه المعقول المستفاد من الكتاب والسنة ليس جميع الامور حيث أن الحوادث كما دلّ عليه العقل والنقل ليست كلها موقوفة غير محتومة بل بعضها محتوم، وبعضها مما هو مكتوب في لوح المحو والإثبات موقوف على أمر من الامور كالدعاء والصدقة وبعبارة أخرى كلّما يحدث في العالم وما يعرضه من الحالات والعوارض اما يكون بامر اللّه تعالى محتوم الوقوع ليس وجوده أو عدمه أو طروّ حالة عليه مثل عروض زيادة أو نقص موقوفاً على امر من الامور وشأن من الشئون أو لايكون كذلك بل لوجوده أو فنائه وطروّ حالة عليه، صورتان، طبيعية وهى ما يقتضيها طبع الكائن، وغير طبيعية وهى ما يمنع طبع الكائن عن التأثير مطلقاً أو يؤخر أو يقدمه فمثلاً يمكن أن يقال إن لبعض أفراد الإنسان بحسب القضاء الإلهي أو بحسب طبعه وإستعداد مزاجه اقتضاء أن يعيش إلى تسعين سنة فلا يعيش أزيد من ذلك إلا أن له أجل آخر بل مدة أُخرى قبل ذلك فيموت به في ستين مثلاً لامر

ص: 330

من المرض وغيره فان وصل الرحم أو تصدق بصدقة يؤخر موته به وكذلك قطع الرحم يعجل فناءه قبل الستين استمرار بقائه الى تسعين بالنسبة الى كل سنة وكل يوم يمكن أن يكون في علمه تعالى معرضاً لخطرات وهجوم ما يقطع حبل عمره ويدفع كل ذلك بمثل الدعاء والصدقة وكل ما يدفع البلاء من ترك الذنوب وغيره كما يمكن أن يعجل ذلك ايضاً بالذنوب الجالبة للبليات.

ويمكن أن يكون الشخص بسبب حالة أو حالات كثيرة مورداً لامور محتومة و بحسب حالات كثيرة أخرى مورداً لامور موقوفة لايعلم تفاصيل ذلك إلا اللّه تعالى وليس علينا الا الإيمان والتسليم والإعتقاد بالبداء اجمالاً لانعرف المحتوم من الموقوف الاّ باخبار اللّه تعالى وانبيائه وأوليائه وفي موارد غير قليلة ربما يعرف الموقوف من المحتوم بالمنامات الصادقة وما يظهر لنا في الوقايع بالأمارات والقرائن.

هذا وكل ذلك كما حققناه وذكرناه مراراً لاينافى علمه تعالى بما تصير اليه الامور، وما يحصل شرطه وما لايحصل، وهو ما محتوم ليس مشروطاً بشيء لكيفيات وجود الأشياء، وخلقها، وشرايطه، و جميع ما هو مرتبط بها معلومة لله تعالى من الأزل كما لاينافى علمه بكل هذه الامور وقوع البداء فيها.

ويمكن أن يقال واللّه أعلم به: أن البداء يقع في قدر اللّه تعالى دون قضائه فما قدر اللّه من تأثير الأشياء وخواصها وآثارها وكونها أسباباً لمسببات خاصة ليس محتوم الوقوع بل يمحو أثر بعضها ببعض الامور المادية التي يستند في الإنسان محوه به لانسهو بذلك التأثير والتأثر والغير المادية كالدعاء والتوكل وصلة الرحم فالبداء في هذه الامور معناه أمران أحدهما: أن ما قدر من الآثار

ص: 331

والتأثيرات للأشياء لايجب أن يحقق مطلقاً بل يمكن أن يمنعه تقدير اللّه الآخر، وما قدر من الأثر شيء آخر من الامور المادية أو غيرها كصلة ألرحم والدعاء ولا ينافى علمه أزلا بما ينتهى اليه ذلك التقديرات المقدرة.

وثانيهما: أن اللّه تعالى يمنع من هذه المقدرات فيجعل مثلاً النار التي من شأنها الإحراق بتقدير اللّه على عبده برداً وسلاماً ويمنع تأثير السيف والحديد على مولانا الرضا عليه السلام ويدفع البلا عن عبده بالدعاء وهذا بخلاف ما تعلق به قضائه تعالى فإنه يقع لامحالة وكل ذلك من شؤون قدرته وحكمته واللّه هو العالم بحقايق الامور.

ص: 332

لا يقع البداء فيما أخبر به اللّه أو حججه

المبحث السادس: لامجال للريب في أنه لايقع البداء المعقول الذي جاءت به الآيات والروايات فيما أخبر اللّه تعالى ورسله به عباده لأنّه موجب لتكذيبه تعالى أو تكذيب رسله بل هو مختص بما هو علمه مخزون مكنون عند اللّه تعالى وعند أوليائه المأمونين على أسراره المودعة فيهم والخير والناس عنه.

ويدل على ذلك طائفة من الروايات مثل رواية الفضيل بن يسار: قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: العلم علمان فعلم عند اللّه مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه وعلم علمه ملائكته ورسله فإنه سيكون لايكذب نفسه ولاملائكته، ولارسله وعلم عنده مخزون يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء(1) وعلى هذا ليس البداء في مثل تنصيص الأنبياء بعضهم على بعض وفي

ص: 333


1- الكافي: ج 2 ص 139 و 140 باب البداء، ح 7.

تنصيصهم على خلفائهم، وأوصيائهم كتنصيص الأنبياء الماضين على نبوة سيدنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وتنصيصه على الائمة الإثنى عشر عليهم السلام، وأخباره عن الملاحم والمغيبات كشهادة أمير المؤمنين عليه السلام وشهادة مولانا أبي محمد الحسن السبط الأكبر عليه السلام بالسم وشهادة أبي عبد اللّه سيد الشهداء عليه السلام بالسيف بالطف، وشهادة عمار وأنّه تقتله الفئة الباغية، وغيرها من اخباره الغيبية.

كما أنه ليس البداء فيما وعد اللّه تعالى به نبيه صلى الله عليه و آله في القرآن المجيد وأخبره به من الحوادث المستقبلة كظهور الإسلام على جميع الأديان وخروج دابة الأرض، وخلافة المؤمنين في الأرض، وعجز البشر عن الإتيان بمثل سورة من القرآن الى الأبد والى آخر الدهر وغيرها دون غير ذلك مما لم يخير اللّه تعالى له ولاأنبيائه وخلفائه بالتنصيص.

ولولا ذلك لبطل تنصيصات الرسل على من يأتى بعدهم من الأنبياء، ولماتم الإستدلال بتنصيص الأنبياء على بنوة نبينا صلى الله عليه و آله وعليهم أجمعين مع ان اللّه تعالى احتج بذلك في كتابه الكريم.

قال اللّه تعالى: [الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم](1).

وقال سبحانه وتعالى: [الذين يتبعون الرسول النبي الامى الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل](2).7.

ص: 334


1- البقرة: الآية 146؛ الأنعام: الآية 20.
2- الاعراف: الآية 157.

وقال عز من قائل: [ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل](1).

وقال تعالى شأنه: [واذ قال عيسى بن مريم يا بني اسرائيل اني رسول اللّه اليكم مصدقاً لما بين يدى من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد](2).

ألا ترى أنّه لايسمع من أهل الكتاب إدعاء وقوع البداء في مثل هذه النصوص كما لايسمع إدعاء الإمامة من غير الأئمة الإثنى عشر عليهم السلام(3)

والحاصل إن وقوع البداء في هذه التنصيصات، والتعريفات و ما به يعرف المحق من المبطل، والآيات والعلامات والملاحم لايوافق حكمة اللّه تعالى،ة.

ص: 335


1- الفتح: الآية 29.
2- الصف: الآية 6.
3- بل يمكن أن يقال أن التنصيص على امامة الائمة وولايتهم لايجوز أن يقع فيه البداء لانه اخبار عن الولاية التي هو من الامور الانشائية والمجعولات الشرعية كما قال اللّه تعالى (واذا ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فاتمهن قال: اني جاعلك للناس اماماً) بل يمكن أن يقال ذلك في الرسالة أيضاً استناداً بقوله تعالى: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته فلا يتطرق في مثل ذلك البداء لانه بعد الانشاد يقع على ما يقع ورفعه بعد وجوده في وعاء الامور الاعتبارية قبل مجيء زمان القيام به لايجوز، ويكون من رفع الحكم قبل مجيء وقت اتيانه نعم اذا لم يكن المولى في انشائه جاداً وكان انشائه صورياً يجوز رفعه لكن هو خارج عما نحن فيه، واما بعد قيامه به فلا يجوز رفعه وقطع استمراره لان اللّه تعالى لايتشرف احداً بنصبه للامامة والولاية ألتي هي عهده الذي لا يناله الظالمين الا اذا كان جامعاً بشرائط توليها من العصمة عن الذنوب والخطاء في ماضى عمره و مستقبله لا ينتزع منه لباساً وتشريفاً شرفه به فكيف يجوز بعد أن ابتلى ابراهيم بما ابتلاه وجعله للناس اماماً انتزاع هذه الكرامة التي كرمه بها منه هذا مضافاً الى أن النصوص قد دلت على استمرار الولاية والامامة العامة لمن نصبه اللّه لها صراحة.

ومفسد لنظام النبوات، ويبطل الإتكال على التنصيصات وأخبار الانبياء والأوصياء، ولذا لم يحتمل أحد في قصة صلح الحديبية جواز وقوع البداء فيما أخبر به النبي صلى الله عليه و آله من فتح مكة المكرمة، ولم يرد النبي صلى الله عليه و آله إعتراض المعترض المنافق بعدم لزوم وقوعه في هذا العام لجواز وقوع البداء فيه بل اجابه بانه صلى الله عليه و آله لم يقيده بهذا العام قال اللّه تعالى: [لقد صدق اللّه رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام ان شاء اللّه آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين](1).7.

ص: 336


1- الفتح: الآية 27.

دفع الوهم

المبحث السابع: ربما يتوهم استفادة وقوع البداء في بعض ما نص اللّه والنبي أو الولى به من بعض الآيات والروايات مثل قوله تعالى:

[وواعدنا موسى ثلاثين ليلة، واتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة] (1) .

وقوله تعالى: [فلو لا كانت قرية آمنت فنفعها ايمانها الا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ومتعنا هم الى حين](2).

ومن الروايات مثل ما ورد في وقوع البداء في إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وفي أبي جعفر محمد بن الامام علي النقي عليه السلام.

ومثله ما ورد في أخبار روح اللّه عيسى على نبينا وآله و عليه السلام بموت امرأة تهدى الى زوجها في ليلتها فلمّا اصبحوا جاؤوا فوجدوها على حالها.

ص: 337


1- الاعراف: الآية 142.
2- يونس: الآية 98.

وفي أن اللّه تعالى أوحى الى نبي من أنبيائه بأن يخبر فلان الملك إني متوفيه الى كذا وكذا، وفي شابّ كان عند داود اذ أتاه ملك الموت فسلّم عليه واحدّ ملك الموت النظر الى الشاب.

وما ورد في نبي من أنبياء بني اسرائيل أن اللّه وعده أن ينصره الى خمسة عشر ليلة ونبىّ وعده اللّه النصرة إلى خمسة عشره سنة،

وفي أخبار النبي صلى الله عليه و آله بقتل يهودي اسود في قفاه، وما ورد في تعيين وقت الفرج والرخاء.

والجواب عن هذا التوهم:

أوّلاً: أنّه يمكن أن يقال أنّ ما قلنا بعدم وقوع البداء فيه بدلالة العقل والنقل عليه هو أخبار النبي أو الولى عمّا من شانهما أن يخبرا عنه كالتنصيص على الأوصياء والخلفاء والأخبار عن المغيبات إظهاراً للمعجزة وفي مقام التحدى والإحتجاج واعلاماً لعلائم الحق والباطل واعلاماً لبعض ما يقع من جلائل الحوادث والفتن كفتنة الرجال والشجرة المعونة وغيرها من الاخبارات التي تؤكد وقوعها معنى النبوات وتقوى الوغى الإيمانى والإهتداء الى الحق والصواب.

وأمّا ما ذكرتم من الآيات والإخبار فما فيها من الإخبار اخبار عن امور جزئية لاترتبط بالعقائد والشرعيات من الاصول والفروع، والاخبارُ عنها كان بعد اثبات نبوة النبي أو ولاية الولى المخبر عنه بالمعجزة أو بالنص أو كليهما مع ما يدل في نفس الواقعة بعد ظهور كونها بدائية من أن ما اخبر عنه انما لم يقع لكونه من

ص: 338

الامور الموقوفة فكان موت هذا مثلاً موقوفاً على ترك الصدقة أوصلة الرحم أو بقائه وتأخير أجله موقوفاً على الصدقة وصلة الرحم فلما وصل الرحم أخرّ في أجله، ومع وجود هذه الدلالة في الواقعة ليست دلالة الأخبار عن الأمر الموقوف الذي لم يقع على جلالة قدر شأن النبي أو الولي بأقل من وقوعه على طبق أخباره بل يكون هذا افيد وآكد في استصلاح الناس وموعظتهم ودعوتهم إلى البر والخير.

ولو تأمّلنا في الموارد الّتي ورد عدمُ وقوع ما أخبر عنه النبي أو الولى نجد في جميعها شاهداً على ذلك سواء إعتبر هذا الشاهد بمنزلة القرينة على أن المخبر عمل بالتورية في خبره أو أنه كان مأموراً بالاخبار عنه، وإنْ لاقبح في ذلك بعد وجود فائدة ومصلحة فيه، وظهور حقيقة الامر على الناس ويأتي لذلك مزيد بيان انشاء اللّه تعالى.

وثانياً: نَقُولُ: إنَّ الآياتِ التي فسّرت بالبداء بعضها لايدل على أزيد من كون بعض الامور بدائياً وموقوفاً على أمر وجودى أو عدمى بل لايدل أزيد من كونه غير حتمى الوقوع وأنه بمشيّة اللّه تعالى كقوله تعالى محو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب.

وقوله جل وعز: [وما يعمر من معمر ولاينقص من عمره الا في كتاب](1).

وبعضها وان ادعى دلالته على اخبار اللّه تعالى أو نبيّه بأمر وقع خلافه الا انّه لم يثبت دلالته على ذلك مثل قوله تعالى: [وواعدنا موسى ثلثين ليلة وأتممناها1.

ص: 339


1- فاطر: الآية 11.

بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة] (1) . فان صحة دعوى دلالته على عدم زيادة زمان الميعاد على ثلثين موقوفة على حجية مفهوم العدد الذي ثبت في الأصول عدم حجيته بل عدم دلالته ومثله لايدل على أزيد من الوعد بالثلثين، ولايدل على تقييده بعدم تشرف موسى بالزيادة على ذلك العدد، ففي الحقيقة ما هو الموقوف الإتمام بالأربعين فانه موقوف على ثلثين دون العكس فلا يجيء منه تكذيب النبي، وإن شئت فقل: انّه يدل على عدم وقوع الميعاد على الاقل لا الأكثر.

وبعض الآيات كقوله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام: [يا بني اني أرى في المنام إني اذبحك](2) فلا دلالة لقوله تعالى: [اني اذبحك] على أزيد من الشروع بالذبح بالإشتغال بمقدماته، والا قال: إني أرى في المنام اني ذبحتك، وكان الواجب على ابراهيم الاشتغال بمقدمات الذبح والشروع فيه ثم ذبح إبنه لأن الظاهر من الحكم بالمقدمة الحكم بذى المقدمة ولكن هذا بدلالة العقل بعد ما لم يرد من الآمر بيان في ذلك وليس بدلالة اللفظ كما يستفاد من (انى ذبحتك) وبعد ما جاء البيان يعلم أن المأمور به هو الشروع والاشتغال بمقدمات الذبح طبقاً لما رآه في المنام ولذا قال اللّه تعالى (قد صدقت الرؤيا) ومثل هذا ليس من البداء بشيء ولامن تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وبعض الآيات مثل قوله تعالى: [فلو لا كانت قرية آمنت فنفعها ايمانها الا قوم]2.

ص: 340


1- الأعراف: الآية 142.
2- الصافّات: الآية 102.

[يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ومتعناهم الى حين] (1) لادلالة فيها الا على أن الايمان يمنع من العذاب، وهذا مدلول آيات كثيرة وروايات متواترة وقد ورد في التفسير إنَّ يونس على نبينا وآله و عليه السلام أخبرهم بالعذاب إنْ لم يتوبوا، ولم يؤمنوا، وهذا لايجعله معرضاً لتكذيب المكذبين نعم ورد في تفسيرها في بعض الروايات أنه أخبرهم بالعذاب، ولم يقيده بعدم الإيمان والاستمرار على الكفر والعصيان، وظاهر هذه الأخبار وإنْ كان يجعل النبي معرضاً للتكذيب الا أنه يمكن أن يقال: إنَّ عدم تقييده نزول العذاب بعدم الإيمان في اللفظ كان اتكالاً على القرنية المعلومة، وهى عدم نزول العذاب بعد الإيمان لأنه ظن بهم عدم الايمان وخرج من بينهم لظنه ذلك لا لأن العذاب كان محتوماً عليهم غير موقوف بعدم الإيمان ولذا أمرهم عالم بالايمان والتوبة هذا ويمكن أن يقال أن الأخبار بنزول العذاب كان اخباراً بمقدماته، وإشرافه عليهم كما في قوله تعالى: [ولما ورد ماء مدين](2) وكما قيل في تفسير قوله تعالى: [ان منكم الا واردها](3).

هذا مختصر الكلام في الآيات التي قيل بأخبارها عن وقوع أمر وقع فيه البداء من غير تقييد بأنه موقوف يمكن أن يقع فيه البداء.

وأما الأحاديث فهى مع الغض عن ضعفها من حيث السند أو المتن أو كليهما وقوة الأحاديث الدالة على أن اللّه لايكذب رسله بحيث لو وقعت المعارضة بينها1.

ص: 341


1- يونس: 98.
2- القصص: الآية 23.
3- مريم: الآية 71.

وبين هذه الأحاديث يجب الإعتماد عليها وترك هذه الأحاديث وردّ علمها اليهم عليهم السلام على طوائف.

منها ما ورد في وقوع البداء في إسماعيل(1) أبن سيدنا الامام أبي عبد اللّه جعفر الصادق عليه السلام وفي أبي جعفر محمد بن مولانا الامام أبي الحسن على الهادي عليه السلام الا إنَّه لا دلالة في ما ورد فيهما على الاخبار بوقوع امر فيهم كالامامة وغيرها قبل موتهما حتى يلزم من موتهما تكذيب هذا الخبر بل كان الأمر بالعكس اذ لم يرد في امامتهما نص وخبر وورد التنصيص على الائمة الاثنى عشر المعروفين في أحاديث متواترة روتها الثقاة قبل ولادتهما.

قال السيد الأجل شارح الصحيفة: فائدة: روى عن الصادق أنه قال: «ما بدا للّه أمر كما بداله في اسماعيل» فتوهم بعضهم أن معناه انّه جعله أولاً قائماً بعده مقامه فلما توفى نصب الكاظم عليه السلام بدله وهذا وهم باطل وخطأ محض كيف وقد ثبت وصحّ من طرق الامامية، ورواياتهم إنّ النبي صلى الله عليه و آله قد انبأ بأئمة امته،).

ص: 342


1- قد نبشت الحكومة الجائرة المتسمية بالسعوديّة في زماننا باسم توسعة الشارع قره فوجدجسده طريّاً كأنه مات في الحال فنقل الى البقيع ودفن والقصة مشهورة معروفة: واسماعيل هذا توفى سنة ثلاث وثلاثين ومأه قبل وفاة أبيه الصادق عليه السلام مبشرين سنة توفى بالعريض قرب المدينة، وحمل على اعناق الرجال حتى دفن بالبقيع وكان أبو عبد اللّه عليه السلام يحبّه حباً شديداً ويكرمه اكراماً عظيماً وروى انه لما مات جزع عليه ابوعبداللّه عليه السلام جزعاً شديداً ووجد به وجداً عظيماً وتقدم سريره ولا رداء وأمر بوضع سريره على الأرض قبل دفنه مراراً كثيرة وكان يكشف عن وجهه وينظر اليه يريد بذلك تحقيق الرد فإنّه عند الظانين خلافته له من بعده وازالة الشبهة عنهم في حياته (راجع رياض السالكين شرح الصحيفة).

وأوصيائه وعترته، وأنه سماهم بأعيانهم عليهم السلام وأن جبرئيل عليه السلام نزل بصحيفة من السماء فيها اسماؤهم، وكفاهم كما شحنت بالروايات في ذلك كتب الحديث سيّما كتاب الحجة من الكافي، وأنّما معنى الحديث المذكور أن صح وثبت ما قاله الصدوق قدس سره في كتاب التوحيد أنه يقول: ما ظهر لله أمر كما ظهر له في اسماعيل اذا إخترمه قبلى ليعلم انه ليس بامام بعدى. انتهى

ولايخفى عليك أن الروايات على عدد الأئمة الاثنى عشر من طرق العامة أيضاً متواترة وقد وردت فيها أسمائهم بأعيانهم، وأما الرواية فقد حكى عن كتاب زيد النرسى عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: قال: ما بدا للّه بداء أعظم من بداء بدا له في أسماعيل ابني(1) فيمكن حملها على أنه ما بدأ وظهر لإثبات امر اللّه تعالى وإنْ عهد الإمامة لم يكن معهوداً للاسماعيل كما بدا للّه فيه وعلى هذا استعمل البداء في ظهور الأمر بعد خفائه، أى: ظهور أن أمر الامامة ليس للإسماعيل للناس بعد ما كان مخفياً عنهم لاثبات امر اللّه تعالى

وهنا احتمال آخر وهو أنّ المراد من اسماعيل هو اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام وكلمة ابنى، أما هو تصحيف (أبي) كما يدل عليه ما روى الصدوق عن أبي الحسين الأسدى وهو أنه روى أن الصادق عليه السلام قال: ما بد اللّه بداء كما بداله في اسماعيل أبي اذ امر أباه بذبحه ثم فداه بذبح عظيم أو زيدت على الحديث سهواً من بعض الناقلين ويدل على ذلك إنَّ أعظمية البدا تناسب قصة اسماعيل المشهورة بين الناس المعروفة بالعظمة والتي هى من أعظم الشواهد على تسليم9.

ص: 343


1- بحار الأنوار: ج 4 ص 122 ب 3 ح 69.

المؤمن الموحد لربه تعالى قال اللّه تعالى: [قال يا بُنيّ انّي ارى في المنام اني اذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدنى انشاء اللّه من الصابرين فلما اسلما وتله للجبين وناديناه ان يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا انا كذلك نجرى المحسنين. ان هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم](1) وعلى كل ذلك المراد بوقوع البداء فيهما ليس وقوعه في إمامتهما لما دلت من الروايات المصرحة بإمامة الائمة الاثنى عشر عليهم السلام فليردّ علم هذه الأحاديث لو صحت وسلمت ممّا يرد عليها من المناقشات السندية الدلالية اليهم عليهم السلام أو يحمل على المحامل الصحيحة مثل إنَّ بقاء اسماعيل وهكذا محمد الى بعد مضى والدهما كان موقوفاً على ان لايصيرذلك سبباً لتوهم إمامتها أو موقوفاً على أن لايظن إمامتها في حياة أبيها وهذا حمل صحيح بل إستظهار مستقيم من مثل قوله ما بد اللّه بداء كما بدا في اسماعيل ابني سيما بقرينة الروايات المتواترة الناصة على امامة الائمة عليهم السلام المروية بالطرق الصحيحة، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهذا وقد سمعت أن الصدوق خرّيت صناعه الحديث وإمام أهله وحامليه فسرّ هذا الحديث بانه عليه السلام يقول: «ما ظهر للّه امر كما ظهر في اسماعيل إبني إذا اخترمه قبلى ليعلم أنه ليس بإمام بعدي»(2)

هذا وقد سمعت ما إحتملنا ايضاً في مفاد الخبر واللّه أعلم.

وقال: حبر الطائفة الشيخ المفيد رضوان اللّه تعالى عليه في (تصحيح0.

ص: 344


1- الصافات: الآية 102-107.
2- التوحيد: ص 336 باب 54 ح 10.

الاعتقاد): قول أبي عبد اللّه عليه السلام: ما بدا للّه في شيء كما بداله في اسماعيل فانما أراد به ما ظهر به من اللّه تعالى فيه من دفاع القتل عنه وقد كان مخوفاً عليه من ذلك مظنوناً به فلطف له في دفعه عنه وقد جاء في الخبر بذلك عن الصادق عليه السلام فروى عنه عليه السلام انه قال: «ان القتل قد كتب على اسماعيل مرتين فسألت اللّه في دفعه عنه فدفعه»(1)

وظاهر كلامه أن الصادق عليه السلام سئل عن قوله: (بد اللّه...) فأجاب عنه، وفسر كلامه بأن القتل قد كتب...) وعلى هذا فالمعوّل في مقام بيان آراء من الحديث على تفسير الإمام عليه السلام.

ثم لايخفى عليك إنَّ من الأحاديث الواردة في وقوع البداء في أبي جعفر محمد بن الامام علي بن محمد بن على الرضا عليهم السلام بل أظهرها ما روى فيه أن مولانا أبا الحسن على الهادي عليه السلام لما توفى إبنه أبو جعفر قال: لإبنه الامام أبي محمد عليه السلام: يا بنىّ أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك امراً(2) أقول: لو لم نقل بأنه ومثله من الأحاديث من متشابهاتها فلا ظهور له على أن محمد بن علي عليه السلام كان منصوصاً عليه بالإمامة فبدا للّه فيه قبل موته فإماته أو بدا للّه فيه بعد موته فأقام مقامه أخاه أبا محمد عليه السلام كما أنه لادلالة له على أن مولانا أبا محمد لم يكن منصوصاً عليه قبل موت أخيه أبي جعفر فلما توفى اخوه جعله اللّه تعالى خليفة لأبيه ونصبه إماماً للناس بعده فهذا الاحتمال لا يستظهر من الخبر 6

ص: 345


1- تصحيح اعتقادات الامامية: ص 66.
2- الكافي، كتاب الحجة، باب الإشارة والنص على أبي محمد عليه السلام، ح 4 و 5 و 6

مضافاً الى أنه يرّده الاحاديث الصحيحة الصريحة على ان أبا محمد كان منصوصاً عليه بالامامة من اللّه تعالى ومن النبي صلى الله عليه و آله ومن أجداده الطاهرين قبل ولادته وولادة أخيه محمد إن قلت: نعم لادلالة لهذا الخبر على أن محمداً كان منصوصاً عليه بالامامة الا أنه لاشك في دلالة على وقوع بداء فيه اذا فما هو ومالمراد من الامر في قوله فقد احدث فيك امراً.

قلت: يمكن أن يكون المراد من أحداث الامر إظهار إمامة مولانا أبي محمد عليه السلام لمن يظنّ اخاه أبا جعفر خليفة لأبيه وليس معنى ذلك أن اللّه تعالى توفاه لإظهار هذا الأمر بل المراد ان بطلان هذا الظن كان امراً يترتب على موته فاسند إحداثه الى اللّه تعالى لإسناد سببه وهو موته اليه.

هذا ولايخفى عليك أن ما صدر من بعض الأعيان والعباقرة، وأكابر العلماء في تفسير هذا الخبر فقال: أي: جعلك اللّه اماماً بموت أخيك الأكبر قبلك فبدا للّه فيك(1) فكلام لايصدر من مثله ولاأدري كيف نعالج ذلك مع أنّه ثبت في كتابه فهل دس هذا في كلامه أو سقط هنا من كلامه ما يوضح مراده وكيف كان فهو أجلّ من أن يفسّر الخبر بمثل هذا مع مخالفته لإتفاق الإمامية وللأحاديث المتواترة.

أخبار أُخرى: ومن الأحاديث التي قيل بدلالتها على وقوع البداء فيما أخبر به الأنبياء عليهم السلام ما فيه الاخبار بموت شخص لم يتفق موته في الوقت المعين مثل الحديث المروى عن أمالى الصدوق بسنده عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه7.

ص: 346


1- الكافي: ج 3 ص 388 وكذلك الوافي ج 2 ص 387.

الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام: أن عيسى روح اللّه مر بقوم مجلبين فقال: ما لهؤلاء قيل: يا روح اللّه أن فلانة بنت فلان تهدى الى فلان بن فلان في ليلتها هذه قال: يجلبون اليوم ويبكون الغد فقال قائل منهم: ولم يا رسول اللّه؟ قال: لأن صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه فقال القائلون بمقالته: صدق اللّه وصدق رسوله، وقال أهل النفاق؟ ما أقرب غداً فلما أصبحوا جاؤا فوجدوها على حالها لم يحدث بها شيء فقالوا: يا روح اللّه إن التي أخبرتنا أمس أنها ميتة لم تمت فقال عيسى على نبينا وآله و عليه السلام: [يفعل اللّه ما يشاء](1) فإذهبوا بنا اليها فذهبوا يتسابقون حتى قرعوا الباب فخرج زوجها فقال له عيسى عليه السلام: استأذن لي على صاحبتك قال: فدخل عليها فأخبرها أن روح اللّه وكلمته بالباب مع عدة قال:

فَتَخَدَّرت فدخل عليها فقال لها: ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت: لم اصنع شيئاً الاّ وقد كنت أصنعه فيما مضى أنه كان يعترينا سائل في كل ليلة جمعة فنُنيله ما يقوته الى مثلها، وانه جاءني في ليلتي هذه وأنا مشغولة بأمرى وأهلي في مشاغيل فهتف فلم يجبه أحد ثمّ هتف فلم يجب حتى هتف مراراً فلما سمعتُ مقالته قمت متنكّرة حتى نلته كما كُنّا ننيله فقال لها: تنحّى عن مجلسك فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة عاضّ على ذنبه فقال عليه السلام بما صنعت صرف عنك هذا(2) وما روى عن العيون بسنده عن النوفلي يقول: قال الرضا عليه السلام سليمان المروزي: ما انكرت من البداء يا سليمان واللّه عزّ وجلّ يقول: [أو لا يذكر الانسان1.

ص: 347


1- ابراهيم: الآية 27.
2- بحار الأنوار: ج 4 ص 94 باب 3 ح 1.

انا خلقناه من قبل و لم يك شيئاً] (1) ويقول عز وجلّ: [وهو الذي يبدء الخلق ثم يعيده](2) ويقول: [بديع السماوات والأرض](3) ويقول عز وجل: [يزيد في الخلق ما يشاء](4) ويقول: [وبدأ خلق الانسان من طين](5) ويقول عز وجل: [وآخرون مرجون لامر اللّه اما يعذبهم واما يتوب عليهم](6) ويقول عز وجل: [وما يعمر من معمر ولاينقص من عمره الا في كتاب](7) قال سليمان: هل رويت فيه عن آبائك شيئاً؟ قال: نعم رويت عن أبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: أن للّه عز وجل علمين علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه الا هو، من ذلك يكون البداء، وعلماً علمه ملائكته ورسله فالعلماء من أهل بيت نبيّك يعلمونه قال سليمان: أحبّ أن تنزعه لي من كتاب اللّه عز وجل قال: قول اللّه عز وجل لنبيّه: [فتولّ عنهم فما أنت بملوم](8) أراد إهلاكم ثم بدأ فقال: [فذكّر فان الذكرى تنفع المؤمنين](9) قال سليمان: زدنى جعلت فداك قال الرضا عليه السلام. لقد5.

ص: 348


1- مريم: الآية 67.
2- الروم: الآية 27.
3- البقرة: الآية 117؛ الانعام: الآية 101.
4- فاطر: الآية 1.
5- السجدة: الآية 7.
6- التوبة: الآية 106.
7- فاطر: الآية 11.
8- الذاريات: الآية 54.
9- الذاريات: الآية 55.

أخبرنى أبي عن آبائه أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: أن اللّه عز وجل أوحى الى نبي من أنبيائه أنْ أخبر فلان الملك إنّى متوفيه الى كذا وكذا فاتاه ذلك النبي فأخبره فدعا اللّه الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير، وقال: يا رب أجلّنى حتى يشبّ طفلى، وأقضى أمرى فأوحى اللّه عز وجل الى ذلك النبي إنْ أنت فلان الملك فأعلمه إني قد أنسيت أجله وزدت في عمره خمس عشرة سنة فقال ذلك النبي: يا ربّ إنك لتعلم إني لم أكذب قط فاوحى اللّه عز وجل اليه انّما انت عبد مأمور فابلغه ذلك واللّه لا يسأل عما يفعل.

ثم التفت الى سليمان فقال له: أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب قال:

اعوذ بالله من ذلك وما قالت اليهود؟ قال: [قالت اليهود يد اللّه مغلولة](1) يعنون ان اللّه قد فرغ من الامر فليس يحدث شيئاً فقال اللّه عز وجل: [غلت ايديهم ولعنوا بما قالوا](2) ولقد سمعت قوماً سألوا أبي موسى بن جعفر عليه السلام عن البداء فقال:

وما ينكر الناس من البداء، وان يقف اللّه قوماً يرجئهم لامره.

قال سليمان: الا تخبرنى عن: [انا انزلناه في ليلة القدر](3) بما في أي شيء أُنزلت؟ قال: يا سليمان ليلة القدر يقدر اللّه عزوجل فيها ما يكون من السنة ألى السنة من حياة او موت أو خير أو شر أو رزق فما قدره في تلك الليلة فهو من المحتوم.

قال سليمان: الآن قد فهمت جعلت فداك فزدنى فقال: يا سليمان أنّ من1.

ص: 349


1- المائدة: الآية 64.
2- المائدة: الآية 64.
3- القدر: الآية 1.

الامور أموراً موقوفة عند اللّه تبارك وتعالى يقدم منها ما يشاء و يؤخر ما يشاء يا سليمان إنَّ علياً عليه السلام كان يقول: العلم علمان فعلم علمه اللّه ملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون ولايكذب نفسه ولاملائكته ولارسله وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه احداً من خلقه يقدم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء، ويمحو ويثبت ما يشاء قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين لاأنكر بعد يومى هذا البداء، ولا أكذب به إنْ شاء اللّه(1) وما روى عن كتاب الامامة والتبصرة لعلى بن بابويه باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كان في بني إسرائيل نبى وعده اللّه أنّ ينصره الى خمسة عشر ليلة فأخبر بذلك قومه فقالوا: واللّه اذا كان ليفعلن وليفعلن فأخّره اللّه تعالى الى خمسة عشرة سنة، وكان فيهم من وعده اللّه النصرة الى خمس عشره سنة فأخبر بذلك النبي قومه فقالوا: ما شاء اللّه فعجله اللّه لهم في خمس عشرة ليلة(2).

وما روى عن كتاب قصص الأنبياء وبالإسناد الى الصدوق بسنده عن هشام بن سالم قال: سأل عبد الأعلى مولى بنى سام الصادق عليه السلام وأنا عنده حديث يرويه الناس، فقال: وما هو؟ قال: يروون أن اللّه عز وجل أوحى الى حزقيل النبي صلوات اللّه عليه إنْ أخبر فلان الملك إني متوفيك يوم كذا فأتى حزقيل الملك فأخبره بذلك قال: فدعا اللّه وهو على سريره حتى سقط ما بين الحائط والسرير فقال: يا رب اخّرني حتى يشب طفلى وأقضى أمرى فأوحى اللّه الى2.

ص: 350


1- البحار: ج 4 ص 95 و 96 ب 3 ح 2.
2- البحار: ج 4 ص 112 ب 3 ح 32.

ذلك النّبي إنْ أئت فلاناً وقل: إنّي انسأت في عمره خمسة عشرة سنة فقال النبي:

يا رب وعزتك إنك تعلم اني لم أكذب كذبة قط فأوحى اللّه اليه إنّما أنت عبد مأمور فأبلغه(1) وما روى عن الكافى بسنده عن سالم بن مكرم عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: مرّ يهودى بالنبي صلى الله عليه و آله فقال: السام عليك فقال النبي صلى الله عليه و آله: عليك فقال أصحابه: إنمَا سلم عليك بالموت فقال: الموت عليك فقال النبي صلى الله عليه و آله: وكذلك رددت ثم قال النبي صلى الله عليه و آله: أن هذا اليهود يعضِّه أسود في قفاه فيقتله قال: فذهب اليهودى فإحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ثم لم يلبث أنْ انصرف فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

ضعه فوضع الحطب فإذا اسود في جوف الحطب عاضّ على عود فقال: يا يهودى ما عملت اليوم؟ قال: ما عملت عملاً الا حطبى هذا حملته فجئت به وكان معى كعكتان فأكلت واحدة وتصدقت بواحدة على مسكين فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: بها دفع اللّه عنه وقال: أن الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان(2) والذي يقال في هذه الأحاديث أوّلاً أن المخبر عنه فيها ليس من الامور المحتومة التي ليست فيها البداء وانَّما كان من الامور الموقوفة كما يدل عليه نفس ما في هذه الاخبار من ظهور الحقيقة وإنكشاف الواقع على نحو لايكذب به النبي، ولايبقى لذى مقال مقالاً بل يقوى اعتماد الناس به.

وثانياً ما في هذه الاحاديث من الأخبار ببعض الوقايع ليس من الامور7.

ص: 351


1- البحار: ج 4 ص 112 و 113 باب 3 ح 33.
2- البحار: ج 4 ص 121 و 122 باب 3 ح 67.

التبليغية التي هى من وظائف الأنبياء والائمة عليهم السلام وما يدور مدارها وجود مفهوم النبوات والأنباء من اللّه تعالى والسفارة بين الخالق والخلق، وإتمام الحجة على العباد وغير ذلك مما به يقوم مصالح النبوات وتقتضيه قاعدة اللطف وغيرها من القواعد العقلية التي يثبت بها لزوم بعث الرسل وانزال الكتب وهداية الناس وتبليغهم وإرشادهم الى كل ما يقر بهم الى الجنة ويبعدهم عن النار.

ويؤيد هذا ما في نفس هذه الاخبار مثل خبر العيون فإنه لو لم يحمل ما علّمه اللّه تعالى ملائكته ورسله على ما علّمهم من الامور التبليغية وما هو من شأن الرسل الاخبار به يقع التنافي بين قوله عليه السلام وعلماً علّمه ملائكته ورسله... وما روى فيه عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ويرفع التنافي برفع اليد عن عموم ما علمه اللّه تعالى وتخصيصه بغير مثل قضية النبي المروية عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وفي نفس هذا الحديث التي قرينة على عدم شمول عمومه لمثل ما في هذه الأحاديث فتدبر.

وثالثاً: الأخبار بما في هذه الأحاديث كان بعد ثبوت نبوتهم بالمعجزات، والبينات وبعد ذلك لايضرّ وقوع مثل ما في هذه الأحاديث بأمر نبوة ولايضعف به الإيمان بصدقهم سيما بعد ما في هذه القصص من الشاهد على أن الأخبار بها لم يكن جزافاً وكذباً هذا وقد تلخص من جميع ما ذكر أن ما نص اللّه تعالى وأنبياءه والائمة الطاهرين عليهم السلام عليه من الامور الاعتقادية والمطالب الدينية لايقع فيها البداء يجب أن يقع الاخبار بهذه الامور كما أخبر بها البتة والا لاختل نظام النبوات ويترتب عليه مفاسد كثيرة.

إنْ قلت فما تقول في النسخ فإنَّه واقع في التشريعيات مما نص عليه النبي

ص: 352

الذي نسخ بعض أحكام شرعه من التكليفات أو الوضعيات بل ربما وقع ذلك في شرع نبى واحد فكان الحكم في موضوع في برهة من عصر نبوته تحريمه ثم نسخ وجاء الوحي بوجوبه أو اباحته قلت: النسخ ليس من البداء الذي قررنا صحته في التكوينيات بل إظهار الحكم في موضوع يظن استمرار حكمه السابق وان شئت قلت هو ردّ حكم العقلاء أو بنائهم باستمرار حكم المولى ما لم يرد منه بيان انتهائه فاذا قال المولى اكرم العلماء فكما أن له عموم افرادى يشمل به الحكم جميع أفراد العلماء وليس إخراج بعض أفراد العلماء منه بالمخصص المنفصل أو المتصل نسخ الحكم. كذلك له عموم أزمانى شامل لجميع الازمنة وليس اخراج بعض الأزمنة منه بالدليل المتصل او المنفصل نسخ لهذا الحكم بل في كل منهما دليل على أن شمول الحكم الذي انشأ ضرباً للقاعدة والقانون للمورد المخصص لم يكن الجدّى.

هذا ويمكن أن يقال أن العموم بالنسبة الى أفراد العام يستفاد من اللفظ بخلافه بالنسبة الى الازمان فلا دلالة لللفظ باحدى دلالته الثلاث عليه بل مستند ذلك أما بناء العقلاء على الإستمرار أو حكمهم بالاستمرار وبقاء الحكم فالاول إنَّما يثبت الحكم به على جميع أفراد العام بالحجة اللفظية، والثاني بالحجة العقلية ليس في موردها دليل قطعى أو الظهور اللفظى الحجة على أن الحكم كان كذا حتى يكون انشاء حكم آخر نسخاً له فتدبر جيداً.

نعم اذا دلّ دليل بالخصوص على حكم في مورد خاص مثل وجوب صلاة الظهر ثم جاء دليل آخر على نسخ هذا الحكم قبل مجيىء وقت العمل به فللبحث فيه من جهة البداء مجال الا أنه لم يقع مثله في التشريعيات والموارد التي توهم

ص: 353

ذلك فيها مثل أمر ابراهيم الخليل عليه السلام بذبح أبيه لم يكن الأمر بها حقيقة بل كان الأمر بها على بعض المقدمات أو فهم بالقرينة عدم جدّ الآمر في أمره، وأن ارادته لم تكن جدية وإنَّما أمر بما أمر لمصالح أخرى وأما اخراج بعض افراد الظهر مثلاً من دليل وجوب صلاة الظهر تقييداً أو تخصيصاً في هذا المورد الذي يستفاد من اللفظ شمول الحكم للافراد والازمان على وزان واحد فليس من البداء

أخبار من تعيين وقت الفرج:

وأما الأخبار الواردة في تعيين وقت الفرج والرخاء مثل مضمرة أبي بصير قال: قلت له: الهذا الأمر أمر تريح اليه ابداننا ننتهى اليه قال: بلى ولكنكم اذعتم فزاد اللّه فيه(1) وحديث أبي حمزة الثمالي قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: إن علياً كان يقول: الى السبعين بلاء وكان يقول: بعد البلاء رخاء وقد مضت السبعون ولم نر رخاء فقال:

أبو جعفر عليه السلام يا ثابت أن اللّه تعالى كان وقت هذا الأمر في السبعين فلمّا قتل الحسين إشتد غضب اللّه على أهل الأرض فأخره الى أربعين ومأة سنة فحدثنا كم فإذعتم الحديث وكشفتم قناع السر فاخره اللّه ولم يجعل له بعد ذلك وقتاً عندنا، ويمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أُم الكتاب قال أبو حمزه: وقلت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السلام فقال: قد كان ذلك(2) وخبر عثمان النواء قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: كان هذا الأمر فيّ9.

ص: 354


1- البحار: ج 4 ص 113 ب 3 ح 38.
2- البحار: ج 4 ص 114 ب 3 ح 39.

فأخره اللّه يفعل بعد في ذريتي ما يشاء(1)

وحديث فضل بن أبي قرة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: أوحى اللّه إلى ابراهيم انَّه سيولد لك فقال لسارة فقالت: أألد وأنا عجوز فأوحى اللّه إليه انّها ستلد ويعذب أولادها اربعمائة سنة بردها الكلام علىّ قال: فلما طال على بني إسرائيل العذاب ضجّوا وبكوا الى اللّه أربعين صباحاً فأوحى اللّه الى موسى وهارون يخلّصهم من فرعون فحطّ عنهم سبعين ومأة سنة قال: وقال أبو عبد اللّه عليه السلام هكذا أنتم لو فعلتم لفرج اللّه عنّا فامّا اذا لم تكونوا فإن الامر ينتهي الى منتهاه(2) وخبر عمرو بن الحمق قال: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام حين ضرب على قرنه فقال لي: يا عمرو إنّى مفارقكم ثم قال: سنة السبعين فيها بلاء قالها ثلاثاً فقلت: فهل بعد البلاء رخاء؟ فلم يجبني وأغمى عليه فبكت أم كلثوم فأفاق فقال: يا أم كلثوم لاتؤذينى فاتك لو قدترين ما أرى لم تبكى أن الملائكة في السماوات السبع بعضهم خلف بعض والنبيون خلفهم وهذا محمد صلى الله عليه و آله آخذ بيدى يقول: إنطلق يا عليّ فما أمامك خير لك مما أنت فيه فقلت: بأبي أنت وامّى قلت: الى السبعين بلاء فهل بعد السبعين رخاء قال: نعم يا عمرو إنَّ بعد البلاء رخاءاً ويمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أُم الكتاب(3).0.

ص: 355


1- البحار: ج 4 ص 114 ب 3 ح 40.
2- البحار: ج 4 ص 118 ب 3 ح 50.
3- البحار: ج 4 ص 119 و 120 باب 3 ح 60.

هذه الاخبار ما ربما يوهم ظاهرها البداء في حصول الفرج قبل قيام مولانا المهدي عليه السلام وبأبي هو وامّي مع أن الاخبار المتواترة من طرق العامة والخاصة قد دلت على أن الفرج التام لايتحقق الا بظهوره عليه السلام فهو الذي يملأ الاخرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.

والجواب عن هذه الأخبار:

أوّلاً بضعف سند بعضها وجهالة رجالها كخبر عثمان النوا و بالإجمال أو ضعف متن بعضها.

وثانياً بما في بعضها من عدم التصريح والجزم بالوقت بل والتصريح بعدم الجزم وأن سنة البداء تؤثر في ذلك ولذا تلى عليه السلام كما ترى في خبر عمرو بن الحمق وأبي حمزة (يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) وهذا لاينافي الخبر الجزمي والتصريح بأن الرخاء والفرج انّما يتحقق بظهور الامام المنتظر والولي الثاني عشر عليه السلام فالله تعالى وأوليائه بتعليمه تعالى اياهم عالمون بوقوع البداء في جميع هذه الاوقات وان ظهور هذا الامر والعدل الكلى والرخاء التام لايتحقق الا بعد امتحان شديد وفتن كبيرة كثيرة لايبقى فيها على الايمان الا من إمتحن اللّه قلبه بالايمان بعد غيبة الامام الثاني عشر عليه السلام غيبة يطول أمدها يرتاب فيها الجاهلون الى ان من اللّه تعالى على عباده بظهوره عليه السلام فيملأ به الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظملاً وجوراً.

وربما يكون وجه الحكمة في أخبارهم عليهم السلام بظهور الامر في هذه الازمنة لو قلنا بدلالة هذه الاخبار به مع علمهم بعدم تحققه لوقوع البلاء فيه، هو بيان ان عدم ظهور الامر وتمكن الائمة من القيام بالامر راجع الى الناس ووجوده لطف

ص: 356

وتصرفه لطف آخر وعدمه منّا وأنْ يكون هذه الأخبار تسلية للمؤمنين المنتظرين لفرج أولياء اللّه وغلبة الحق ونصرة الدين وأهله فأخبروا الشيعة بجواز حصول الفرج والخلاص عن حكومة الجبابرة والطواغيت في بعض الأزمنة لحصول مقتضيه وان كانوا عالمين بما يمنع تحقق ذلك ولذا ارشدوهم الى ان ذلك قد لايتحقق لقوله تعالى: [يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعند ام الكتاب](1) والحاصل إنَّ هذه الأخبار انّما صدرت لاجل تأليف القلوب وتقريباً للفرج ومنعاً لاستيحاش الناس لو قيل لهم بانه لا يتحقق الا مثلاً بعد الألف أو مدة طويلة كذا وكذا وقد صرح في بعض الأحاديث بهذه الفائدة.

وثالثاً فرق واضح بين القول: بأن بعد كذا رخاء وبين القول: بأن الرخاء بعد كذا وما يستفاد من بعض هذه الأحاديث، بل صريح لفظه هو الأول وإنَّ بعد كذا يكون رخاء ومثل هذا ليس الأخبار عن تقدم أمر الفرج العام الشامل لجميع البشر بظهور الإمام المنتظر عليه السلام.

ورابعاً نقول: يجوز أن يكون الأمر الذي جاء في هذه الأحاديث قد وقت له أوقات بحسب الأسباب التي هي واقعة تحت اختيار المكلفين، وكان تأخره لعدم تحقق تلك الأسباب بسوء اختيارهم كما أشرنا اليه، أو نقول كما يستفاد من شيخ الطائفة قدس سره ايضاً: أن المصلحة إقتضت تحقق الأمر في وقت من الاوقات مشروطة بأن لايتحقق ما يقتضى المصلحة تأخيره الى زمان آخر لايقع فيه ما يقتضى أيضاً تأخيره والاّ فيؤخر اللّه تعالى الى ذلك الزمان.9.

ص: 357


1- الرعد: الآية 39.

فالمصلحة قد اقتضت وقوع هذا الأمر، اي: أمر إدارة امور الأمة وتدبير شئونها السياسيّه والاجتماعية وغيرهما من حين إرتحال الرسول الأعظم صلوات اللّه وسلامه عليه وآله الى الرفيق الاعلى تحت يد من نصبه اللّه تعالى ولياً على الامور، وجعله حجة على عباده، فلمّا وقع ما وقع لم يتحقق الامر كما إقتضته المصلحة الأولى، واقتضت مصلحة أخرى وهي حفظ كيان الاسلام ودفع الخطر عنه، وعدم قيام الولي لمطالبة بالأمر بالمحاربة والقوة فتأخر تحقق هذا الأمر لهذه المصلحة ومصالح أخرى من إمتحان العباد وغيره مما لانحيط به واللّه أعلم به.

وبعبارة أخرى: لاشك في أن اصلاح حال العباد وقيام الامور بالقسط منوط بكون ادارة الامور والولاية عليها لمن له الولاية عليها من قبل اللّه تعالى، وحيث لايعرف من له هذه الأهلية واللياقة الا اللّه تعالى يجب على حسب قاعدة اللطف وغيرها تعيين من يلى الامر بعد النبي ونصبه فلا يجوز إهمال هذا الامر الخطير مع دخله العظيم في تحقق أهداف النبوات، ورسالات السماء وتوقف كمال الدين وتمام النعمة عليه قال اللّه تعالى: [اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام ديناً](1) وقد نص النبي صلى الله عليه و آله بأمر اللّه تعالى على ولاية الأئمة الاثنى عشر عليهم السلام حفظاً لهذه المصلحة، ولئلاّ يكون للناس على اللّه حجة وقد أقتضت تحقق هذا الأمر بعد النبي صلى الله عليه و آله أسبابه ومقتضياته وكانت الامور تجرى على مجراها الذي ينتهى الى ذلك لولا مخالفة الفئة المنافقة، وحزب3.

ص: 358


1- المائدة: الآية 3.

الشيطان الذين منعوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله من كتابة وصيته فهتكوا حرمته وقالوا وأسمعوه ما لايقوله المسلم المؤمن بالله ورسوله وانه: [ما ينطق عن الهوى ان هو الا وحى يوحى](1).

وعلى هذا يصح أن يقال: إنَّ الأمر أي: كون الولاية بعد النبي لأمير المؤمنين عليهما الصلاة والسلام، وإنْ كان من الامور الحتمية المتحققة له عليه السلام بنصب النبي صلى الله عليه و آله ايّاه لها بل كانت متحققة له قبل ذلك وكان نصب النبي صلى الله عليه و آله اعلاماً بهذا الأمر المتحقق الا إنَّ ميعاد تحققه الظاهري كان عند ارتحاله صلى الله عليه و آله الى الرفيق الأعلى ولكنه منع من ذلك ما صدر من المخالفين وطلاب الرياسة من الإجتماع في السقيفة ونقض البيعة، وبعد قيام من لم يكن له أهلية القيام بهذا الأمر الخطير ولم يعينه النبي صلى الله عليه و آله، ثم بعدما وقع الامر بيد من عيّنه اللّه تعالى فجاهد في اللّه حق جهاده الا أن بقية الفئة المنافقة ومحبى الدنيا والرياسة حالوا بينه وبين الأمور نكثوا بيعته وخرجوا على الإمام الحق فقام أميرالمؤمنين مولانا أبوالحسن عليه السلام بدفع مكايدهم عن الاسلام وأخماد فتنهم الى أن استشهد عليه السلام بضربة أشقى الأشقياء آل الأمر الى أن تغلب مثل معاوية على بلاد الاسلام وارتكب مظالم تقشعر منه الجلود(2) وجهد في إطفاء نور النبوة والتوحيد وإرجاع الناس إلى القهقري حتى مات وترك الأمر لابنه الفاسق الفاجر بعد ما أكره الناس على البيعة له تحت سيوف عمّاله فاقتضت الأسباب والأوضاع الإجتماعيّة رجوع الأمر إلى أهله لكن هذه الأسباب أيضاً لم تؤثر لأن الأمة الا القليل منها لم تجب دعوة).

ص: 359


1- النجم: الآية 3-4.
2- راجع كتاب (النصائح الكافية لمن يتولى معاوية) وكتاب (معاوية بن أبي سفيان في الميزان).

مولانا أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام التي قام به اتماماً للحجة فتركت نصرته وباعت الدين بالدنيا فلما قتل الحسين عليه السلام أخر ذلك، أي: لم يتهيىء ما يقتضيه من الأسباب الى سنة مأة وأربعين وفي هذا الأوان أيضاً لما اذيع ذلك للظالمين وإنكشف السرّ شدّ اعداء اللّه واعداء آل محمد عليهم السلام على المؤمنين وشيعة الحق فردوهم عما يأملون وبعد ذلك اخر الرخاء والفرج ولم يعلموا الشيعة بأزمنة أخرى ربما حصل فيها بعض الأسباب المقتضية لهذا الأمر ويمنع المانع من تأثيرها وهكذا يستمر الأمر إلى زمان لا يعلمه إلا اللّه يوم الوقت المعلوم يوم ظهور مولانا المهدي عليه السلام ومما يؤثر حصول المقتضيات ويقويها ويجب رفع الموانع الدعاء لتعجيل الفرج.

وعلى هذا نقول: ما ورد في تعيين وقت الفرج والرخاء انّما ورد في مقام بيان هذه المراحل والأوضاع التي مرت على الأمة وبيان لبعض الأسباب الذي صار سبباً لتأخير ظهور هذا الأمر وتحقق ما وعد اللّه تعالى به أنبيائه ورسله وعباده قال اللّه تعالى: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا ا لمرسلين إنهم لهم المنصورون، وإنْ جندنا لهم الغالبون.

هذا وقد ظهر لك أن ما في بعض الأخبار من توقع الرخاء في سنة كذا أو تأخيره الى سنة كذا ليس معناه أن الأمر يتحقق بمشية اللّه تعالى لامحالة في سنة كذا حتى اذا أخر منها يلزم منه العجز أو الجهل عليه تعالى اللّه عنهما علواً كبيراً.

أو يقال: كيف يكون هذا مع دلالة الأخبار المتواترة على عدم تحقق ذلك لواحد من الائمة عليهم السلام الا بقدر ما تحقق لأمير المؤمنين والامام المجتبى عليهما السلام، والاّ ما يتحقق على النحو الكامل لمولانا المهدي بأبي هو وأمي.

ص: 360

فإن المراد من هذه الأخبار ان أمر ولايتهم من حيث الظهور وفعلية توليهم الأمور مشروطة بأمور مثل قبول الأمة وتسليمهم لهم وغير ذلك مما لايعلم الا بأخبار اللّه تعالى، وتخصيص بعض السنين والأوقات بالذكر انّما يكون لأصل أن زوال بعض الموانع يجعل الفرج والرخاء أرجى وأسهل حصولاً

فإن قلت: ما فائدة الأخبار بذلك مع العلم بعدم حصوله له لعدم تحقق شرطه أو وجود مانعه.

قلت: مضافاً الى ما مر في ضمن الجواب الثاني فائدته أوّلاً: اتمام الحجة وبيان أنّ اللّه تعالى لم يكتب على خلقه الذل والصغار وسيطرة الظالمين عليهم، وأنّه لايصيبهم ما أصابهم الا بما كسبت أيديهم.

وثانياً الترغيب الى العمل وتشويق الناس وتشجيعهم على حفظ مواضعهم قبال الكفرة والظلمة، وعلى حفظ الثبات، والإستقامة في إداء الواجبات.

وثالثاً تقوية روح الرجاء وحسن الظن بالمستقبل حتى لايتسلط عليهم القنوط عن رحمة اللّه تعالى، ولاييأسوا من روح اللّه، وهذه حكمة كبيرة يجب على من يسوس الناس بالسياسة الالهية رعايتها حتى لايخرجوا عن الطريق المستقيم، ولايتكاسلوا، ولايتقاعدوا عن العمل.

هذا، الهمنا اللّه تعالى حول هذه الأحاديث واللّه ولى التسديد والتوفيق

ومنه يظهر لك تفسير غيرها من الأحاديث إنشاء اللّه تعالى

ص: 361

دفع التنافي بين الأخبار

المبحث الثامن: أن قيل: جاء في بعض الأحاديث المروية في باب البداء انّ للّه علمين، علم علمه لملائكته ورسله فذلك لايجيء فيه البداء وعلم مخزون عنده لم يطلع عليه أحداً من خلقه فذلك الذي يقع فيه البداء، وأنتم قد أجبتم عن الأخبار التي دلت على وقوع البداء فيما علمه اللّه تعالى بعض رسله بحمل العلم الأول على الأمور التبليغية وما من شأن النبي بيانه وإرشاد الناس إليه والإعلام به وأيضاً اختصاص مفاد ما دل على وقوع البداء فيما علمه اللّه تعالى رسله على موارد ظهر وجه الحكمة فيها على الخلق فصار مؤيداً للنبي وموجباً لمزيد الإيمان به.

إذاً فكيف يوفق بين هذه الأخبار والأخبار التي رواها الكليني رضوان اللّه تعالى عليه الدالة على أن النبي والأئمة صلوات اللّه عليهم كانوا عالمين بما كان وما يكون وما هو كائن وكيف يوجه هذا التقسيم وحصر علمهم فيما لايجيء فيه البداء؟

ص: 362

أقول:

أوّلاً: يستفاد من قوله عليه السلام في هذه الأحاديث (فإنه يكون ولايكذب نفسه لا ملائكته ولارسله) أن المراد من العلم المخزون عنده هو ما لم يطلع عليه أحداً بهذه الخصوصية، أي: لما لم يطلع عليه أحداً وقوع البداء فيه لايستلزم تكذيب اللّه وتكذيب ملائكته ورسله دون ما علمه ملائكته ورسله ومن المعلوم، أن ما علمه أنبيائه انّما يستلزم تكذيبهم لو كانوا مأمورين بأخبار القوم به وأمّا لو لم يخبروا الناس به وعلمهم اللّه تعالى ليكون مخزناً عندهم لا يستلزم ذلك تكذيبهم، فإنّ الملائكة والأنبياء بل والمؤمنين الكاملين لايكذبون اللّه ولا رسله اذا وقع البدأ فيما أخبروا عنه، اذاً ليس نفس التعليم مستلزماً للتكذيب، بل أخبارهم الناس بما علمهم اللّه تعالى ووقوع البداء فيه يجعلهم معرضاً لتكذيب الجاحدين والمنافقين وضعفاء النفوس، والإيمان وعلى هذا لايستفاد من الحديث ما يخالف ما يدل على سعة علم الائمة عليهم السلام، بل يدل على أن ما علّمهم ولم يأذن لهم بالأخبار عنه لايقع فيه البداء كما يدل بالمنطوق على إنّ اللّه تعالى أو النبي أو الولي إذا أخبروا الناس عن أمر لايقع فيه البداء فالحديث يوضح محل البداء وليس في مقام تعيين مقدار ما يتعلق علم النبي والإمام به من المغيبات.

وثانياً: ما كان مخزوناً عند اللّه تعالى يشمل ما كان مخزوناً عند ملائكته ورسله والائمة عليهم السلام بإذنه، ولم يأذن لهم أن يخبروا به أحداً من خلقه، بل ما يقبل التقسيم هو ما عندهم دون ما هو عنده، لأن هذا التقسيم إن كان بملاحظة خصوصية في المعلوم وامتياز بعضه عن بعض فلا يوجد خصوصية في العلم وتعدد علم الباري جلّ شأنه فإن علمه يتعلق بكل ما يجوز أن يكون معلوماً

ص: 363

ومتعلقاً للعلم على وزان واحد فكما لايجوز الإشارة الى ذاته منحازاً عن صفاته، ولا يجوز الإشارة الى صفات ذاته، منحازاً عن ذاته ولايجوز الإشارة الى علمه بخصوصية تعلقه الى المعلوم المعين ممتازاً عن علمه بالمعلوم الآخر، فلا تبعض ولاتجزئة في علمه تعالى ولايشار الى علمه بالمعلوم الخاص، لأن كل ذلك ينتهى الى القول بالتجزئة والتركيب الذي ينافى القول الحق وعينية الذات والصفة وإتحادهما مصداقاً بالنسبة إلى البارىء تعالى فلا يمكن كما لايمكن تصور حقيقتها أيضاً.

إن قلت: فكيف تقول: إنَّه عالم بالجزئيات قلت هو تعالى شأنه عالم بالجزئيات والكليات لا يعزب عن علمه شيئاً، ولكن لا تعدد ولا تكرر لعلمه والكثرة المتصورة إنّما جائت من ناحية معلوماته كقدرته ولا تكثر في قدرته ولايتصور فيه الشدة والضعف والتكرار والتعدد، بل الشدة والضعف يخيل للجاهل الذي يرى المقدورات وكراتها وتعددها وكبيرها وصغيرها فيتوهم هذه في حقه تعالى.

والحاصل: ان التقسيم الحقيقي بالنسبة الى صفاته الذاتية باطل مستلزم للنقص واثبات ما هو تعالى منزه عنه.

والذي يؤيد ما قلناه: من أن لفظة (عنده) ليست صريحة في أن العلم مخزون فيه وعند نفسه وإنه يصح أن يكون مخزوناً عند ملائكته وعمال إرادته وانبيائه ورسله وأوليائه، ويقال: إنه مخزون عنده قوله تعالى: [قال علمها عند ربي في

ص: 364

كتاب] (1) أي: مخزون ومكتوب في كتاب وقوله تعالى: [وعنده ام الكتاب](2) فالمراد بما هو مخزون عنده ما هو مجعول ومخزون في وعاء مناسب من الأوعية كنفس الملك وقلب النبي والولي واللوح المسمى باللوح المحو والإثبات مما جعله بحكمته وقدرته مظاهر علمه فهذا ليس بعلمه الحقيقي الذاتي بل يطلق عليه العلم تنزيلاً، لكونه حاكياً عنه فالعلم المخزون محتاج الى الخازن والى المخزن وهو يتصور بالنسبة الى علمه تعالى إذا كان مخزوناً في قلب النبي أو الولي أو نفس الملك أو كتاب مناسب له، فالله هو الخازن والمخزون العلم والمخزن هو باطن النبي ومع ذلك يصح أن يقال إنه مخزون عنده كما انه مكتوب عنده في كتاب.

ويدل على أن العلم يطلق على ما في الكتاب وما يحكى عنه قوله تعالى: [قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا](3) فإن العلم الذي طلب منهم إخراجه ليس ما هو من الكيفيات النفسانية بالنسبة الينا، بل إنّما أريد عنه ما عندهم من الكتب والآثار.

فتلخص من جميع ما ذكرناه عدم دلالة هذه الأخبار على حصر علم النبي والأئمة عليهم السلام بالمغيبات فيما أخبروا عنه، هذا مضافاً الى عدم معارضتها مع الأخبار المتواترة الدالة على علمهم بها سواء في ذلك ما أخبروا عنها وما لم8.

ص: 365


1- طه: الآية 52.
2- الرعد: 39.
3- الأنعام: الآية 148.

يخبروا عنه.

إنْ قيل: كيف يوجه مع القول بالبداء أخبار الأنبياء والأولياء، بل وأخبار اللّه تعالى عن المغيبات وما يقع في مستقبل الزمان لجواز وقوع البدا، فيها.

أقول: أوّلاً: إنَّ بعض الأمور ليس من الأمور الموقوفة فلا يجيء فيه البداء.

وثانياً: جواز وقوع البداء في أمر غير وقوعه، أو لا وقوعه فيه وكون أمر موقوفاً على أمر لا يلازم وجود الموقوف عليه، فيجوز الأخبار بوقوع أمر بدائى موقوف لتعلق العلم بوقوعه وعدم وقوع البداء فيه كما يجوز الأخبار بعدم وقوعه في الظرف الذي إقتضت الأسباب الظاهرة وقوعه للعلم بوقوع البداء فيه، وكون وقوعه موقوفاً على أمر يعلم عدم تحققه، فكما يجوز الأخبار عن المغيبات التي لايتطرق فيه البداء يجوز الأخبار عن وقوع الأمور البدائية أو لا وقوعها.

إن قيل: ما قلتم يرفع الإشكال إذا لم يقع البداء فيما أخبروا عنه وأما اذا وقع فيه البداء وخالف الواقع الخبر كما روى ذلك في عدة من الروايات كيف يوجه ذلك فانه ينافى مصلحة النبوات، وقاعدة اللطف ومستلزم لنقض الغرض وتنفر الناس عن المخبر واستنكارهم عليه، وتقبيحهم إياه.

فإن كان النبي أو الولي غير عالمين بما أخبر عنه ولو بإحتمال وقوع البداء فيه فكيف يجوز لهما الأخبار عنه من غير أن يشترطاه بالبداء وكونه متوقفاً على عدم حدوث بعض ما يمنع منه، وإن قيل إن النبي والولي كانا عالمين بما أخبرا به يقال: من أين حصل لها العلم بذلك مع علمهما بإمكان وقوع البداء فيه ومضادّة هذا العلم مع العلم بما أخبرا عنه.

أقول: الجواب عن هذه الشبهة - بعد الغضّ عن ضعيف هذه الروايات من

ص: 366

حيث السند والمتن وعدم جواز الإلتزام والإعتقاد بمفادها - وإنْ كان يظهر مما ذكرناه من ذي قبل، أوّلاً: انّا لانسلّم منافات الأخبار بأمر اتفق عدم وقوعه لعدم حصول شرطه أو وجود مانعه لمصلحة النبوات، وقاعدة اللطف بعد ما ظهر وجه ذلك وسيما إذا كانت فيه مصلحة أخرى ايضاً من مصالح النبوات، مثل توجيه الناس الى المعارف الالهية وصفاته الجلاليّة والجماليّة وتقوية الوعي الاعتقادي وبصيرة الواعين في الإيمان بالله وصفاته الكمالية، وإنه لم يزل ولايزال قادر ورحمن، وكريم، غفار وهاب لايشغله شأن عن شأن، وأنه المفزع في كل نائبة مفرج الهموم وكاشف الغموم يعفو ويصفح ويفعل ما يريد حتى لايزعم من قلّت بصيرته إنه فرغ من الأمر وفوضه إلى ما يرى ويتولد من الأسباب والفواعل الظاهرة على سبيل التسلسل فيستند الأفاعيل إليها على سبيل الحقيقة على نحو لم يكن لله تعالى فيه تدبير ومشية فيقول بمقالة اليهود.

قال اللّه تعالى: [وقالت اليهود يد اللّه مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان](1) وقال عزّ شأنه: [أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون](2).

وقال سبحانه: [أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون](3).

وقال تعالى جده: [أفرأيتم الماء الذي تشربون أنتم أنزلتموه من المزن أم نحن4.

ص: 367


1- المائدة: الآية 64.
2- الواقعة: الآية 58-59.
3- الواقعة: الآية 63-64.

المنزلون] (1) .

وعلى هذا لايحكم بقبح الأخبار عن أمر لايقع بالبداء اذا ظهر وجه الحكمة فيه ونمنع كونه سبباً لتنفر الناس عن النبي أو الإمام الذي ثبت نبوته أو إمامته بالمعجزة والنص، بل ربّما يكون ظهور الأمر للناس وإن ما أخبر به كان لازم الوقوع لولا إنتفاء شرطه أو حدوث مانعه سبباً لقوة إيمانهم وكمال رغبة النفوس إليه، لأن أقل ما يستفاد من ذلك هو أنه مطلع على المغيبات التي ربما لاتتحقق بالبداء.

وثانياً نقول: إن الكذب ليس من العناوين المقبحة بالذات كالظلم الذي يحكم العقل بقبحه الذاتي؛ وبنفس عنوانه كيف اتفق، وفي أي زمان اتفق، وعلى أي وجه وفي أي مكان اتفق.

وأما الكذب فهو مثل الضرب المولم، وكثير من العناوين حسنه وقبحه يختلف بحسب إختلاف أفراده والوجوه، والاعتبارات فبعض افراده يقع تحت العناوين المحسنة بالحسن الذاتي كحفظ النفس المحترمة من الوقوع في التهلكة، ومنع الظالم من الظلم، ودفع الخطر عن جماعة المسلمين ومصالحهم العامة، ومثل الكذب وضع اليد على مال الغير، والتصرف فيه فإنه إذا كان بإذنه أو لحفظه واحساناً اليه يكون حسناً لامحالة.(2) ولو سلم قبح مجرد الكذب ولو لم يكن واقعاً تحت عنوان آخر من العناوينه.

ص: 368


1- الواقعة: الآية 68-69.
2- يستفاد ذلك من القرآن المجيد في ما حكاه من قصة موسى وعبد من عباد اللّه.

المقبحة بالذات فلا شك إنه ليس مثل الظلم الذي لايمكن أن يقع حسناً، بل إذا وقع تحت أي عنوان يكون حسنه غالباً على قبح مجرد الكذب بحيث يذم تاركه على تركه يحكم بحسنه، وعلى أي حال فلا يحكم بقبح الأخبار عن وقوع أمر بحسب اقتضاء أسبابه العامة الظاهرة وقوعه مع العلم بعدم وقوعه، أو الشك في ذلك إذا ترتبت على هذا الأخبار مصلحة مهمة، وخصوصاً إذا دفعت حزازة الأخبار عن خلاف الواقع بظهور حقيقة الأمر، وإن الأخبار كان معتمداً على منشأ عقلائي، وهو العلم بوجود المقتضى والأسباب.

وثالثاً نقول: إن الموارد المذكورة في الروايات بعضها أخبار وإنذار عن وقوع ما ينذر به لإتمام الحجة على المنذر (بالفتح) وتحذيره عن وقوعه فيه، وترغيبه بالتحذير عنه بالتوبة والإنابة والصدقة وغيرها، وفي مثله يكون الخبر مشعراً بجواز وقوع البداء، وإن الواجب على المنذرين التوبة والرجوع إلى اللّه تعالى.

فتلخص إنه لايثبت بهذه الأخبار أمر غير إيضاح أمر البداء وتبيين موارده فالأخبار فيها إما كان اتكالاً على القرنية الحالية وهي معلومية جواز وقوع البداء في مواردها بالإيمان والتوبة والصدقة وغيرها، كما يستفاد ذلك من قصة قوم يونس على نبينا وآله عليه السلام أو كان الفرض آرائة الشاهد على ذلك ليطمئن به قلوب المؤمنين ويدفع به إستبعاد المرتابين واللّه ورسوله أعلم فارتفع الإشكال بحذافيره واللّه الموفق للصواب.

فإن قيل: فما تقول في ما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام إنه قال: لولا آية في كتاب اللّه لاخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه

ص: 369

الآية: [يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب](1) وروى نحوه عن سيدى شباب أهل الجنة وعن الإمام زين العابدين والباقر وأبي عبد اللّه عليهم السلام(2) فإنه يدل على أنهم غير عالمين بالوقايع البدائية والأمور الموقوفة.

أقول: ليس المراد منه لولا هذه الآية لكانوا عالمين بما كان وبما يكون وبما هو كائن ولكن الآية ونظام البداء السائد باذن اللّه على أمور الخلق منعهم عن العلم بذلك، بل الظاهر إن المراد التنبيه على إنهم عليهم السلام إنّما إمتنعوا عن اظهار ما عندهم من العلوم وبيان ما يقع فيه البداء وما لم يقع، لأن المصالح المتضمنة في نظام البداء المحققة لمصالح النبوات وكمال النفوس في المعارف الإلهية لاتتحصل إلا بخفاء العلم بمواردها على الناس، فالأخبار بكل ذلك أو بجلها ينافي المصالح العظيمة الكامنة في نظام المحو والإثبات ويشعر بل يدل على ذلك كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته بعد النهروان «وأيم اللّه لولا إن تنكلوا وتدعوا العمل لحدثتكم بما قضي اللّه على لسان نبيكم»(3) إذا فلا دلالة لمثل هذا الحديث على أنه لولا هذه الآية وهذا النظام الكامل التام لكنا عالمين بما يكون إلى أن تقوم الساعة، فإن هذا مضافاً إلى أنه لايستفاد من هذه الأحاديث يرد بالأخبار الكثيرة المتواترة الدالة على أنهم عالمون بما يكون إلى قيام الساعة(4).2.

ص: 370


1- الرعد: الآية 39.
2- البحار: ج 4 ص 97 ب 3 ح 4 و 5.
3- الغارات: ج 1 ص 7.
4- راجع الكافي ج 2.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: «واللّه لو شئت إن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف ان تكفروا فيّ برسول اللّه صلى الله عليه و آله الا وإني مفضيه الى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق ما انطق إلا صادقاً ولقد عهد إلى بذلك كله وبمهلك من يهلكو ومنجى من ينجو ومآل هذا الأمر وما أبقى شيئاً يمر على رأسى إلا أفرغه في اذنىّ وأفضى به الىّ»(1).

وقال عليه السلام: في خطبة ذكر فيها طائفة من الملاحم: «سلونى قبل أن تفقدوني (إلى أن قال) والذي نفسي بيده لاتسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولاعن فئة تضل مأة إلاّ نبأتكم بناعقها وسائقها»(2).

قال السيد الأجل شارح الصحيفة إنجيل أهل البيت وزبور آل محمد صلوات اللّه عليهم في الروضة الثانية والأربعين:

تواترت الأخبار عن العترة الزاكية وأجمعت الصحابة من الفرقة الناجية إن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه والأوصياء عن أبنائه علموا جميع ما في القرآن علماً قطعيّاً بتأييد إلهي، وإلهام ربّاني وتعليم نبوي وقد طابق العقل في ذلك النقل، وذلك إن الإمام إذا لم يعلم جميع ما في القرآن لزم إهمال الخلق، وبطلان الشرع، وانقطاع الشريعة وكل ذلك باطل بحكم العقل والنقل.

ومن الأخبار ما ورد من طرق العامّة عن أبي الطفيل قال: شهدت علياً عليه السلام2.

ص: 371


1- نهج البلاغة [صبحي الصالح]: 250 خ 175 [نشر هجرت].
2- الغارات: ج 1 ص 7 و 8، نهج البلاغة الخطبة 92.

يخطب وهو يقول: «سلونى فواللّه لا تسئلوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلونى عن كتاب اللّه فو اللّه ما من آية إلا وأنا إعلم بليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل»(1).

وقال أبو نعيم في حلية الأولياء عن ابن مسعود قال: «إن القرآن نزل على سبعة أحرف وما منها حرف إلا وله ظهر وبطن وإن علي بن أبي طالب عنده علم الظاهر والباطن»(2).

وأيضاً أخرج من طريق أبي بكر بن عياش عن نصير بن سليمان الأحمسى عن أبيه عن علي عليه السلام قال: «واللّه ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت، وأين أنزلت إن ربي وهب لي قلباً عقولاً، ولساناً سئولاً»(3).

وأما الروايات في ذلك من طرق الخاصّة فأكثر من أن تحصى منها ما رواه ثقة الإسلام بسند حسن عن جابر قال: «سمعت أباجعفر عليه السلام يقول: ما ادعى أحد من الناس إنه جمع القرآن كلّه كما أنزل اللّه إلا كذاب وما جمعه وحفظه كما نزّله اللّه إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده صلوات اللّه عليهم أجمعين»(4).

وعن سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام: «إن في القرآن علم، مضى وعلم ما يأتي8.

ص: 372


1- بحار الأنوار: ج 40 ص 179.
2- حلية الأولياء: ج 1 ص 65.
3- حلية الأولياء: ج 1 ص 67.
4- الكافي: ج 1 ص 228.

إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون فلو سألتموني عنه لعلمتكم»(1).

وعن أبي جعفر عليه السلام إنه قال: «ما يستطيع أحد أن يدعى إن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء»(2).

وعنه عليه السلام: «إن من علم ما أوتينا تفسير القرآن»(3).

وعن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «واللّه اني لاعلم كتاب اللّه من أوّله الى آخره فكانّه في كفى فيه خبر السماء وخبر ما كان وخبر ما هو كائن قال اللّه عز وجل فيه تبيان كل شيء»(4).

قال بعض المحققين: قوله عليه السلام: (كأنه في كفىّ تنبيه على أن علمه عليه السلام بما في الكتاب علم شهودي بسيط واحد بالذات متعلق بالجميع كما أن رؤية ما في الكف رؤية واحدة متعلقة بجميع أجزائه، والتعدد إنّما هو بحسب الإعتبار وقوله عليه السلام: (فيه خبر السماء) يعنى أحوال الأفلاك وحركاتها وأحوال الملائكة ودرجاتها، وحركات الكواكب ومداراتها، ومنافع تلك الحركات وتأثيراتها إلى غير ذلك من الأمور الكائنة في العلويّات، والمنافع المتعلقة بالكليات، وقوله عليه السلام: (وخبر الأرض) يعني من جور مرها وانتهائها وما في جوفها9.

ص: 373


1- الكافي: ج 1 ص 61.
2- الكافي: ج 1 ص 228.
3- الكافي: ج 1 ص 229.
4- الكافي: ج 1 ص 229.

وإرجائها، وما في تحتها وأهوائها، وما فيها من المعدنيات، وما تحت الفلك من السايط والمركبات التي تتحير فى ادراك نبذ منها عقول البشر، ويتحير دون بلوع أو في مراتبها ظاهر الفكر، والنظر، وقوله: (وخبر ما كان وما هو كائن) أي: من أخبار السابقين، وأخبار اللاحقين كليّاتها وجزئياتها، وأحوال الجنة ومقاماتها، وتفاوت مراتبها ودرجاتها، وأخبار المثاب فيه بالإنقياد والطاعة والمأجور فيها بالعبادة والزهادة، وأهوال النار ودركاتها، وأهوال مراتب المعقوبة، ومصيباتها، وتفاوت مراتب البرزخ في النور والظلمة، وتفاوت أحوال الخلق فيه بالراحة والشدة كل ذلك بدليل قوله تعالى: (فيه تبيان كل شيء) أي: كشفه، وإيضاحه فلا سبيل إلى إنكاره واللّه أعلم انتهى كلام شارح الصحيفة.

هذا آخر، ما وفقنا بتحريره حول البداء والحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على رسوله الأمين وأهل بيته الطاهرين، وقد تم تحرير ذلك في شهر ذو القعدة الحرام من شهور سنة 1405 الهجرية القمرية وقد تجنّبنا في هذه الرسالة عن الاستشهاد بمخترعات الفلاسفة اذناب اليونانيى واتباعهم من المنتحلين إلى المذاهب الاسلامية، أولئك الذي لم يهتدوا بهدى أهل بيت الوحى والنبوة عليهم السلام وسلكوا سبلاً متشعبة أبعدتهم عن التمسك بالثقلين.

وأنا أقل العباد لطف اللّه الصافي الگلپايگاني ابن العالم الفقيه المرحوم المولى محمد جواد الصافي غفر اللّه تعالى له ولوالديه وحشرهم مع ساداته الأنجبين عليهم الصلاة والسلام.

ص: 374

فتنة ردّ النصوص أو الاجتهاد في مقابل النص

اشارة

ص: 375

ص: 376

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه وسلام على عباده الذين إصطفى اللّه خير امّا يشركون وصلّى اللّه على سيّدنا أبي القاسم محمد وآله الطاهرين.

وبعد: فلا يخفى على الباحثين العارفين برسالة الإسلام إن من أهمّ ما تدعو به هذه الرسالة السماوية العظمى هو الإنقياد الخالص والتمسّك الصادق بالهدايات الإلهيّة، والتسليم الكامل لشرائع الدين وأحكامه والإلتزام بما يستفاد من ظواهر الأدلّة الشرعيّة (كتاباً وسنّة) على نحو جرت عليه سيرة العقلاء وترك الإجتهاد بعرض النظر والرأي قبال نصوص الكتاب والسنّة.

وهذا: أي: الالتزام المطلق وقبول كلّ ما بيّنه الشارع سواء كان من المعارف الحقّة الإعتقادية أو التعاليم العبادية، والنظم الإجتماعية، والسياسية والمالية، وغيرها هو الإسلام الخالص والدين الحنيف الذي بعث به جميع الأنبياء فمن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين

لا يستكمل، بل لا يتحقّق الإيمان الذي هو عبارة عن عقد القلب والقبول القلبي إلّابهذا التسليم الجامع الشامل.

وإن قلنا بأن الإيمان عمل كلّه ومبثوث على القوى والجوارح والأعضاء وإن

ص: 377

عقد القلب إيمان القلب وعمله القلبي كما ورد في بعض الأحاديث مثل حديث أبي عمرو الزبيري، لأن الإيمان القلبي ليس كإيمان سائر الأعضاء والقوى فإيمان اللسان يجتمع مع إيمان العين مثلاً ويتحقق بدونه أيضاً، وهكذا إيمان العين بالنسبة إلى إيمان اللسان والأذن والرجل واليد وغيرها، وهذا على خلاف إيمان القلب فإنه لا يمكن أن يتحقق إيمان أي قوة من القوى وأي عضو من الأعضاء بدونه فلا يكون العمل الصادر من اللسان إيمانياً، إلّاإذا كان منبعثاً من إيمان القلب بهذا العمل وإنّه المأمور به الشرعي وكان القلب مؤمناً مضافاً إليه بوظائف سائر الأعضاء الشرعية أيضاً فالعمل الصالح المأمور به من قبل الشرع، وكذا ترك ما نهى الشرع منه لا يكون عملاً إيمانيّاً إلّاإذا كان القلب مؤمناً بجميع الأوامر والنواهي الشرعيّة وما أنزل على النبي صلى الله عليه و آله وهذا بخلاف الإيمان القلبي، فإنه يتحقق بدون إيمان سائر الأعضاء الذي هو عبارة عن أعمالها فيما أمر اللّه تعالى به ونهى عنه.

وعلى هذا وإن كان إيمان القلب مقولاً بالتشكيك ذو مراتب ودرجات بحسب القوة والضعف ليس قابلاً للتجزئة بالإيمان ببعض الشرعيّات والكفر ببعضها (الإيمان بالبعض والكفر بالبعض) كالإيمان بالصلاة والكفر بالزكاة، أو غيرها من العقايد والأحكام المعلومة إنها من الدين كالقصاص، والحدود وأحكام الأموال والأحوال الشخصيّة وإذا كان العبد غير مؤمن بواحدة منها لا يكون مؤمناً وإن كان مؤمناً بغيرها، بل تصور الإيمان بغيرها أيضاً مع عدم الإيمان بواحدة منها في غاية الإشكال، بل لا يمكن إلّابالتعسّف والتكلّف.

والسرّ في ذلك عدم تحقّق الإيمان باللّه تعالى وإنّه حكيم وعالم بجميع

ص: 378

المصالح والمفاسد، وأعلم من العبد في تدبير أموره وتنظيم شؤنه إلّابالإيمان بجميع ما أنزل اللّه تعالى من دون إستثناء شيء منه وعدم الإيمان حتى بشيء منه يكشف عن عدم الإيمان بالجميع وبعلمه وحكمته تعالى، بل يكشف ذلك عن إجتهاد العبد وإستبداده وإعتماده برأيه في تعيين مسير أموره.

ولذا يكفر من أنكر ضروريّاً من ضرورة الدين أو ما كان معلوماً عنده انه من الدين، ويكفر من ردّ على النبي صلى الله عليه و آله ولم يقبل منه ولو مرّة واحدة وفي مورد واحد.

ولا ريب أن ذلك التسليم كان ولا يزال من أقوى ما يحفظ به الدين عن التغيير والتبديل وإدخال ما ليس منه فيه فالدين في عين تقومه به بقائه أيضاً متقوم به.

ويضمن ذلك، أي: الالتزام الصحيح بالدين ومعرفة مفاهيم مصطلحاته التمسك بالعترة الطاهرة الذين نصّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله على أن التمسّك بهم وبالكتاب الكريم معاً أمان من الضلال والإختلاف فيرجع إليهم في معرفة جميع مصطلحات الدين، وتفسير القرآن الكريم والسنّة النبويّة إذا صارت مثار الإختلاف، وتنازع الآراء.

وهذا، أي: لزوم وجود من يكون مرجعاً للأُمّة في ما يحدث بينهم من الاختلاف مؤيّد بالحكم العقل القطعي أيضاً لأنّه إذا كان من أهداف الدين والوحي رفع الإختلاف بين الناس يجب أن يكون مرجعاً بينهم إذا وقع الاختلاف في نفس الدين ومفاهيم مصطلحاته، وإلّا تسقط فائدة الدين في رفع الاختلاف وينقض الغرض من بعث الرسل وإنزال الكتب ولا تبقى للدين قائمة ولا دعامة.

ص: 379

وقد إهتم الإسلام بهذين الأصلين الأصيلين إهتماماً بليغاً فإليك بعض ما جاء من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة فيهما.

قال اللّه تعالى: [يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي اللّه ورسوله واتقوا اللّه إن اللّه سميع عليم](1).

وقال سبحانه: [فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً](2).

وقال عزّ من قائل: [يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم](3).

وقال عزّ ثناؤه: [إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد](4).

وأما الأحاديث فيهما فكثيرة لا تحصى.

منها: ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله: «لا يكون العبد مؤمناً حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ولا يزيغ عنه»(5).

منها: ما روي عن أبي جعفر عليه السلام: «لا تتخذوا من دون اللّه وليجة فلا تكونوا مؤمنين فإن كل سبب ونسب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة منقطع إلّاما أثبته5.

ص: 380


1- الحجرات: الآية 1.
2- النساء: الآية 65.
3- النساء: الآية 59.
4- الرعد: الآية 7.
5- فتح الباري: ج 13 ص 245.

القرآن»(1).

منها: ما روي أيضاً عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كل شيء يجرّه الإقرار والتسليم فهو الإيمان وكلّ شيء يجرّه الإنكار والجحود فهو الكفر»(2).

ومنها: ما عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لو ان العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا»(3).

ومنها: ما عن أبي جعفر عليه السلام قال بريد العجلي: سألته عن أدنى ما يكون العبد به مشركاً فقال: «من قال للنواة: انها حصاة وللحصاة: أنّها نواة ثمّ دان به»(4).

ومنها: ما عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لو ان قوماً عبدوا اللّه وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجّوا البيت وصاموا شهر رمضان ثمّ قالوا لشيء صنعه اللّه أو صنعه النبي صلّى اللّه عليه وآله الا صنع خلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثمّ تلا هذه الآية: [فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً](5) ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام: فعليكم بالتسليم»(6).8.

ص: 381


1- الكافي: ج 1 ص 59.
2- الكافي: ج 2 ص 387.
3- الكافي: ج 2 ص 388.
4- الكافي: ج 2 ص 397.
5- النساء: الآية 65.
6- الكافي: ج 2 ص 398.

وأمّا الأحاديث المأثورة الدالّة على وجوب الرجوع إلى العترة والتمسّك بهم وانهم أمان من الضلال و... فهي أيضاً كثيرة متواترة من طرق الفريقين قد أخرجنا طائفة منها في كتابنا أمان الأُمّة من الضلال والاختلاف فراجع إن شئت فمنها الأحاديث المتواترة المشهورة بين الخاص والعام بأحاديث الثقلين، ومنها أحاديث السفينة ومنها أحاديث الأمان وغيرها.

ص: 382

ردّ النصوص وتاريخه

أوّل من ردّ النصوص هو إبليس الذي خالف أمر اللّه تعالى بالسجود لآدم إستكباراً وردّ على اللّه تعالى بما جاء عنه في القرآن المجيد قال: [لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون](1) وفي سورة الإسراء: [قال أأسجد لمن خلقت طيناً](2) وفي سورة ص قال: [قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين](3).

والمستفاد من الآيات الثلاثة أمر واحد، وهو أنه إستكبر وأبى أن يسجد لآدم واستند في إستكباره بإعمال رأيه واجتهاده في ما يرجع إلى علّة الأمر وحكمته، وإنّه لم يصدر هذا الأمر من اللّه تعالى كما ينبغي فنفى امّا علمه تعالى أو عدله

ص: 383


1- الحجر: الآية 33.
2- الإسراء: الآية 61.
3- الأعراف: الآية 12؛ ص: الآية 76.

بصدور ما لا ينبغي صدوره منه تعالى اللّه عما يقوله الظالمون علواً كبيراً.

وهذا شأن كلّ رادّ لنصوص الكتاب والسنّة وإن كان للأغراض الخاصة من حبّ الجاه والرياسة والزخارف الدنيويّة، أو استكباراً واستعلاء عصمنا اللّه تعالى من هذه المهلكات التي أهلكت طوائف كثيرة من الأُمم الماضية وهذه الأُمّة حتى من ذوي السوابق الحسنة.

وكان قارون أيضاً ممن سلك مسلك إبليس في معارضته لمن يوعظه بما وعظ اللّه الخلق به ويأمره بالإحسان وينهاه عن الفساد في الأرض حيث قال: [أنا أوتيته على علم عندي](1) يعني لا وجه فيما أمر في اللّه بالزكاة ولا حق للّه تعالى وللفقراء في مالي فإنّما أوتيته على علم عندي.

وقد سلك هذا السبيل من ردّ حكم متعة الحجّ وبقي مصرّاً على منع الناس منه إلى آخر أيّامه، وردّ على النبي صلى الله عليه و آله صلح الحديبية ورد أيضاً عليه صلى الله عليه و آله لما أراد أن يكتب لهم كتاباً لا يضلّوا بعده أبداً فمنع النبي صلى الله عليه و آله عن ذلك، وردّ عليه وقال ما لا نجسر على حكايته وقال ابن عباس: إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّه وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب وهذا أشنع صور ردّ النصوص وأضرّها على الأُمّة وأفسدها لأمرهم.

وكذا أسقط من الأذان (حي على خير العمل) وجعل مكانه (الصلاة خير من النوم)(2) وتخلّف في سائر المتخلّفين عن جيش أُسامة وقد لعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله).

ص: 384


1- القصص: الآية 78.
2- لا يخفى على كلّ من له ذوق وفطانة وبصيرة بالألفاظ والمعاني إنّ هذا الفصل لا يناسب سائرفصول الأذان ولا شيء تحته فمن لا يعرف ان الصلاة خير من النوم ومن سائر الأعمال المباحة وأين هذا المضمون من مضمون قول المؤذن حي على الصلاة وحي على الفلاح وحي على خير العمل وما الفرق بين قولك الصلاة خير من النون و (الماء أعذب أو أطيب من البول).

من تخلّف عنه وكذا حرّم متعة النساء وغير ذلك مما يطول الكلام بذكره.

ومن الإجتهاد في مقابل النص وبالتعبير الصحيح ردّ النص صريحاً حبّاً للجاه والرياسة ردّ النصوص المتواترة على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فغيروا به مسير الإسلام في السياسة والحكم، وإعتذر بعضهم للذين ردّوا هذا النص بأن ذلك إنّما صدر منهم حفظاً لبعض المصالح ودفع الفتن والمفاسد، وقد قيل إنَّ الضرورات تبيح المحظورات فإمامة الإمام عليه السلام وولايته بعد النبي صلى الله عليه و آله وإن كانت منصوصاً عليها ولا شك فيها وكان هو الأولى والأحقّ بها من جميع الصحابة أحقية أوجبت تعيينها لهذا المنصب الإلهي الذي ليس أمره بيد غير اللّه تعالى كما لا شك في إنّه ليس لأحد من الصحابة، بل لجميعهم سوابق كسوابقه الجليلة ومناقب كمناقبه الكبيرة الكثيرة لا يدانيه أحد منهم في العلم والزهد والعبادة والشجاعة والجهاد في سبيل اللّه ولولا سيفه لما قام عمود الدين، ولولا علومه وخطبه في التوحيد ما إهتدت الأُمّة إلى المعارف التوحيدية فإحتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل دليل على إنّه إمام الكلّ إلّاإنّه تقدّم عليه من تقدّم مخافة إنّ سوابقه الكريمة الكثيرة في نصرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومجاهدته بين يديه ومنازلاته مع رؤساء الكفر وشجعان المشركين وقتل صناديدهم تجدد ولايته.

الأمور في النفوس حقدهم وحسدهم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ولأهل بيته خاصّة ولبني هاشم عامّة وتحملهم وبقية المقتولين بيده في غزوات رسول اللّه صلى الله عليه و آله على

ص: 385

ما يفسد أمر الإسلام ووحدة الأُمّة.

وهذا الاعتذار أو الإستدلال شبيه بإستدلال إبليس بل يرتضعان من لبن واحد ولو لم يكن أسوء من تركهم النصوص وتقديم من أخّره إليه وتأخير من قدّمه إليه يكون مثله سواء بسواء فلا معنى لهذه المقالة إلّاإن اللّه تعالى لمّا اختار عليّاً خليفة لرسوله صلى الله عليه و آله وأمره بتبليغ ذلك إلى الأُمّة ما كان عالماً بما يترتب عليه مما ذكره هذا المعتذر أو كان عالماً به ومع ذلك أمر به.

وجوابه واضح: وهو أن اللّه تعالى كان عالماً بثقل ذلك على المنافقين والذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم إلّاإنّه لولا مخالفة هذه الفئة التي يعتذروا لهم ولما أحدثوا في الإسلام بهذا الاعتذار لم يؤثر ثقل ذلك على بعض النفوس في وقوع الأمور تحت ولاية وليّه، بل كان ثقل ولاية غير من له الأمر على النفوس أكثر ولعلّ من ذلك حدث بعض الحروب، بل إرتدّ بعض الناس ولو قام الوصيّ عليه السلام مقام النبيّ صلى الله عليه و آله ما وقعت الفتن التي وقعت في أوّل حكومة الأوّل، والحاصل إنّ هذا عذر غير مقبول وإجتهاد في مقابل النص الصريح وربما يكون من التفسير بما لا يرضى صاحبه، والتاريخ يشهد بأنّه لم يحمل الذين استبدوا بالأمر وتركوا النصوص وأتمروا على أن يصرفوا هذا الأمر عمّن نصبه النبيّ صلى الله عليه و آله في حياة الرسول صلى الله عليه و آله وتركوا جثمان الرسول المقدس وإجتمعوا في السقيفة على ما فعلوا وارتكبوا إلا حب الجاه والرياسة قال اللّه تعالى: [قل أأنتم أعلم أم اللّه](1).

ثم إنَّ الأمر استمرّ بعد ذلك حتّى آل الأمر في سلطنة معاوية بسبب ترك0.

ص: 386


1- البقرة: الآية 140.

النصوص والقول بالرأي إلى مرتبة من الهبوط والسقوط التي يشتكي عنها أنس بن مالك بدمشق ويقول: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلّاهذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيّعت، وقال أبو الدرداء: واللّه ما أعرف من أمة محمد صلّى اللّه عليه وآله شيئاً إلّا إنّهم يصلّون جميعاً.

وبقيت هذه السيرة السيّئة في أيدي أولي الرياسة والسياسة ومن يريد هدم الدين، وصرف الناس عن أحكامه وبرامجه إلى زماننا هذا الذي وصلت النوبة لإظهار هذا الإستكبار الإبليسي إلى أمثال القذافي الملعون الملحد المؤمن بالمبادئ السوسياليستية وبورقيبة طاغية تونس أراح اللّه المسلمين من شرورهم وفتنتهم وضلالهم وإضلالاتهم، من ناحية أخرى.

ص: 387

فتنة الفلسفة والفلاسفة

لمّا شاع من عصر المأمون فلسفة اليونانيين بين المسلمين صارت نصوص الإسلام سيّما في أصول الدين غرضاً لتأويلات المتفلسفين فصرفوا النصوص على آرائهم وعدّ من الثقافة الخروج من نصوص الشريعة وظواهرها وتأويلها على ما يوافق ما حرروها في الفلسفة حتى في الطبيعيات فبعدوا وأبعدوا الناس عن مفاهيم نصوص الدين، في التوحيد والصفات ومفهوم الحدوث والقدم والخالق والمخلوق وغيرها، فأولوها بما لا يوافق ظواهرها فبنوا دينهم على الظنون والزعوم وفسروه بما لا يرتضيه صاحبه وأهل تفسيره فقرروا المعارف العالية على الأسس التي قرّرها الذين لم يسلكوا مسلك الأنبياء، ولم يستضيئوا من نور هدايتهم السماوي فاستقلوا بعقولهم ومشوا في مذاهبهم وجاءوا بإصطلاحات التي لا توافق اصطلاحات القرآن الكريم ووقعوا في القول بالإيجاب والحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وفسروا ربط الحادث بالقديم كربط المعلول بالعلّة لا كربط المخلوق بالخالق مع الفرق الواضح بين

ص: 388

الاصطلاحين، فكم فرق بين الخالق والمخلوق والعلّة والمعلول؟ لا يدرك بالاصطلاح الثاني ما يدرك بالاصطلاح الأول، وما يدرك من الثاني لا يدرك من الأول، لا يتّحد الطريقان ولا ينتهيان إلى مقصد واحد والعلّة يعبّرون عنها بالعلّة الأولى والثانية و... وأما الخالق فلا يعبّر عنه بالخالق الأوّل والثاني وكذا المعلول الأوّل والثاني والثالث.. ولا يقال المخلوق الأول والثاني والثالث(1). فجميع المخلوقات وإن وقعت خلقة بعضهم في طول خلقة البعض الآخر مخلوقون لخالق واحد نسبة الجميع إليه سواء لا كالمعلول الثاني، والعلّة الثالثة الذي هو معلول للمعلول الأوّل والعلّة الثانية و. و..

وكتب الفلاسفة مع ما يوجد فيها ممّا يوافق وحي السماء لا يوافق جميع مباحثها مع الوحي وما هو ثابت بالكتاب والسنّة ففيها الغثّ والسمين والحقّ والباطل، وما يتّفق مع ما جاء به الأنبياء وما يخالفه وذلك لأنّهم سيّما القدماء منهم اقتنعوا واستغنوا بمنسوجاتهم عمّا جاء به رسل اللّه تعالى واستقلّوا بعقولهم عن هدايتهم فيما لا يهتدي العقل إليه لولا هداية الأنبياء، والذين جاؤا بعدهم سلكوا مسالكهم واتبعوا طريقهم غير انهم سعوا بعد ما أثبتوا عليه في المسائل تطبيق الكتاب والسنّة عليه فكأنّهم أرادوا أن ينزّهوا المشرّع عمّا وصل إليه عقولهم، ولذا لم يأمنوا عن الأخطاء والعثرة والزلّة إلّاالقليل منهم فنرى إن إثنان من أشهر حكماء المعاصرين بالغا في تخطئة اثنين من مشاهير الفلاسفة في مسألة المعاد..

ص: 389


1- نعم جاء في بعض الأحاديث أوّل ما خلق اللّه... ولكن المراد منه ليس ما يريد هؤلاء من المعلول الأوّل المسمّى بالعلّة الثانية والعقل الثاني والمعلول الثاني للعلّة الثانية و. و...

الجسماني حتى رماهما بما نعوذ باللّه منه(1).

هذا مع انهم تكلّفوا الكلام فيما لم يكلّفوا بالتكلّف فيه، بل نهوا عنه.

فهل هؤلاء يسلكون سبيل أرسطو وأفلاطون وسقراط والرواقيين والمشائيين، والفارابي وابن سينا وغيرهم؟ أم هم المهتدون بهدي محمد وأهل بيته صلّى اللّه عليهم، والسالكون سبيلهم، نحن لا نحكم على الجميع على إنهم من الطائفة الأولى أو الثانية ونرجو أن يكون جلّ فلاسفة المسلمين من الثانية وأما حسابهم فعلى اللّه تعالى.ء.

ص: 390


1- راجع رسالة الخاجوئي محمد إسماعيل المازندراني في تفسير قوله تعالى: وكان عرشه على الماء.

فتنة العرفاء والمتصوفة

ومن الذين بنوا أمرهم على تأويل النصوص وصرفها على ما يوافق أهوائهم وخيالاتهم وأعظمهم ضرراً وأقبحهم تأويلاً الطائفة المتسمّية بالعرفاء والمتصوفة، الذين لعبوا بأصول الدين وفروعه وطبّقوها على آرائهم الفاسدة وصحّحوا بها أعمالهم الخبيثة، لهم مقالات واهية وكلمات باطلة حرّموا الحلال وحلّلوا الحرام، وجاءوا مع إختلافهم في سيرهم وسلوكهم وسلاسلهم بما يخالف صريح النصوص، وتأويلات أوهن من بيوت العنكبوت وحسبك في ذلك أن تطالع بعض كتبهم وتاريخ رؤسائهم وأشعارهم حتى تعرف إنّهم من العرفان الحقيقي ومن الشرع أبعد من الأرض عن السماء، أعاذ اللّه المسلمين من شرورهم فلم يتقهقروا إلّالإشتغالهم بترّهات هؤلاء وإنصرافهم عن التمسّك بالثقلين.

وأكثر ضرراً من هاتين الطائفتين على أنفسهم وعلى غيرهم من خلط ما تسمّيه هؤلاء بالعرفان بفلسفة اليونان فزاد في الطنبور نغمة أخرى.

ص: 391

وإن شئت أن تعرف ما عليه المتصوفة ومن سلك مسالكهم فراجع تفسير ملا عبدالرزاق القاساني تجد فيه كثيراً من هذه التأويلات، فإنّه في مثل الآية الكريمة: [وانظر الى حمارك](1) تأول الحمار بالعزير النبي(2) والصفا والمروة بالقلب والنفس(3) ، وامّا الجدار فكان لغلامين يتيمين(4) بالعقل النظري والعقل العلمي، وفي خلقكم من نفس واحدة، تأول النفس بالنفس الناطقة، وفي: خلق منها زوجها تأول الزوج بالنفس الحيوانية، والتأويلات الفاسدة في كلماتهم كثيرة جداً، فراجع الفصوص وغيرها ولا يهمّنا ذكر أكثر من ذلك، والغرض الإشارة إلى فساد الطريقة.].

ص: 392


1- البقرة: الآية 259.
2- تفسير ملّا عبدالرزّاق: ج 1 ص 147.
3- نفس المصدر: ص 100.
4- في سورة الكهف الآيه 82: [وأما الجدار فكان لغلامين يتيمَين في المدينة].

فتنة المثقفين العصريين

ظهرت في عصرنا الموسوم بعصر الذرة والفضاء صورة جديدة من صور ردّ النصوص نسمّيها فتنة المتهوّرين والمثقفين أو أتباع النهضة الحديثة المفتونين بالتقدّم الصناعي، والمظاهر المادّية والمكاتب العلمانية المؤمنة بفصل الدنيا عن الدين، وتفسير الحوادث الخارقة للعادة المستندة في الكتاب والسنّة بإرادة اللّه تعالى بالتفسير والتعليل المادّي فينكرون تأثير عالم الغيب في عالم الشهادة.

وممّا يتفاقم الداء إنهم يظهرون الإسلام ويتظاهرون بالنصيحة له وللمسلمين وإنّه يحب أن يفسر الدين على أساس يقبله الفكر الغربي أو لا يستنكره الملحد الشرقي ويأوّل إصطلاحاته على نحو يوافق المذاهب المادّية، والقوانين الوضعيّة، وبعضهم يريد أن يوفّق بين الدين وأنظمته في الإدارة والحكم وغيرهما مع الأنظمة الديمقراطيّة كما يريد بعضهم التوفيق بين الدين وهو نظام إلهي مع الأنظمة الماركسيّة الملحدة.

فالثقافة عندهم الترديد في الحقايق المقبولة في الدين ودلّت عليها نصوص

ص: 393

الكتاب والسنّة ممّا لا يمكن أن يعلّل بالعلل المادّية فينكرون أو يأوّلون النصوص المصرّحة بمعجزات الأنبياء وينكرون وجود الشيطان الذي أمرنا اللّه بالإستعاذة منه ووجود الملائكة ونصرة النبي صلّى اللّه عليه بهم وأنهم أولي أجنحة، وكذا ينكرون خروج الدجّال ودابّة الأرض وظهور المهدي عليه السلام لا لضعف إسناد أحاديثها بل لمجرّد عدم تفسيرها بدون التأويل بالتفسير المادّي مضافاً إلى إنَّ كثيراً من هذه الأمور ثابت بالكتاب الكريم.

وأمّا في ناحية الأحكام الشرعيّة سواء السياسية منها، والماليّة والإجتماعية والفردية وحتى العبادية منها ففتنتهم وإنكارهم أكثر وأظهر فينكرون بعض أحكام المواريث مثل قوله تعالى: [للذكر مثل حظ الأنثيين](1) ويطلبون بمساواة المرأة مع الرجل في الميراث ولا يقبلون جواز تعدّد الزوجات، وجواز الطلاق وكونه بيد الرجل وكذا عدم جواز قضاء المرأة وعدم جواز قيامها بتدبر أمور الدولة والحكومة، وكذا لا يصوبون إجراء أحكام القصاص والحدود والديات والتعزيرات والمالكية الفرديّة في هذا الزمان لأن هذه الأحكام بعد مضي أربعة عشر قرن من إنشائها لا تنطبق بزعمهم الفاسد على عصرنا هذا، الذي وصل فيه البشر في العلم والتكنيك إلى مرتبة السماء وملخّص الكلام انهم ينكرون إكمال الدين وإتمام النعمة واحتياج الناس إلى النظم السماويّة ويزخرفون ملتقطاتهم المأخوذة من أعداء الإسلام بتوجيهات ربّما يقبلها ضعاف النفوس والذين وقعوا تحت تأثير سلطان المادّة وسلبت المظاهر المادّية وقوة الصنعة والتكنيك1.

ص: 394


1- النساء: الآية 11.

استقلالهم وحرّيتهم في التفكّر وصرفتهم عن عالم الغيب والفكرة في كرامة الإنسان وقصرت هممهم على الأمور المادّية والحياة الدنيوية والمآرب الجسمانية، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون فلا يفسّرون الحياة وما يتحمّل لها الإنسان من المشاقّ والمتاعب والمصائب تفسيراً مقنعاً تطمئن به النفس إلّاإنّه لا مقصد، ولا هدف لكلّ ما في هذا العالم من كرتنا الأرضية والكرات السماويّة تتحرّك المتحرّكات وتتبدَّل الحالات عبثاً.

إذاً فما قيمة الإنسان؟ وما قيمة كدحه وسعيه وما قيمة اكتشافاته واختراعاته؟ وهل الحكم عليه بالفناء والنجاة من العناء أحسن؟ أم الحكم عليه بالبقاء وتحمّل هذه الشدائد العظيمة؟

والحاصل: إنَّ فتنة المفتونين بالمظاهر المادّية فتنة لا يجوز إهمالها فلو لم تقم لدفعها رجالات العلم والدين الذين وجب عليهم أن يظهروا علومهم عند ظهور البدع لا يبقى للدين إصطلاح إلّاغيرته.

فإلى اللّه نشكو بثّنا وحزننا ومنه نستمدّ ونطلب العون والتوفيق فقد أصبحنا في عصر محفوف بفتنة تحريف الدين وردّ النصوص وصرفها إلى الأهواء من جوانب كثيرة سيّما الجهّال المتسمّين بالمثقّفين والمتهوّرين المقبلين إلى مذهب الحسّيين والمعرضين عن المؤمنين.

فما أحوج عصرنا بين العصور إلى تبيين مفاهيم إصطلاحات الكتاب والسنّة وتثبيت معاني ما قام به دعوة هذا الدين الحنيف ورَدّ الناس والباحثين إلى النصوص وربّ أهل التأويل الغير الراسخين في العلم وتاركي التمسّك بالثقلين عن حريم المتشابهات فضلاً عن المحكمات.

ص: 395

وقد قام بحمد اللّه تعالى من أقدم العصور لدفع أهل الأهواء عن حريم الكتاب والسنّة جماعة من العلماء من أصحاب أهل البيت عليهم السلام وتلامذة مدرستهم فدافعوا عن النصوص واحتفظوا بمتون الكتاب والسنّة وأثبتوها وبيّنوا مفاهيمها فبقى الدين بفضل مساعيهم ومجاهدتهم على أمره الأوّل غضّاً سليماً عن التحريف والتبديل وجعلوه في متناول أيدي الجميع فشكر اللّه مساعيهم الجميلة وجزاهم عن الإسلام أحسن الجزاء.

كما قد قام في عصرنا عدّة من الأعلام فأبطلوا ثقافة المثقّفين وأظهروا بدعهم وفساد تحريفاتهم وتأويلاتهم، وأثبتوا خاتمية الرسالة المحمديّة صلّى اللّه عليه وآله وجامعيتها وانها وافية لجميع مطالب الإنسان في جميع الأعصار والأزمان وكافلة بأحكامها ونظام المجتمع الحالي البشري كما كانت كافلة للمجتمع البشري في عصر الرسالة وبعدها إلى زماننا هذا واللّه هو المستعان وعليه التكلان.

لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

23 - ربيع الثاني - 1406 ه

ص: 396

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.