سرشناسه:صافی گلپایگانی، لطف الله، 1298 -
Safi Gulpaygan, Lutfullah
عنوان و نام پديدآور:لمحات فی الکتاب و الحدیث و المذهب/ لطف الله الصافی الگلپایگانی مدظله الشریف.
مشخصات نشر:قم: مکتب تنظیم و نشر آثار آیت الله صافی گلپایگانی دام ظله، 1439 ق.= 1397.
مشخصات ظاهری:3 ج.
شابک:1000000 ریال: دوره 978-600-7854-09-9 : ؛ ج.1 978-600-7854-06-8 : ؛ ج.2 978-600-7854-07-5 : ؛ ج.3 978-600-7854-08-2 :
وضعیت فهرست نویسی:فیپا
يادداشت:عربی.
يادداشت:چاپ دوم.
يادداشت:ج. 2 و 3 (چاپ دوم: 1439 ق. = 1397)(فیپا).
يادداشت:چاپ قبلی: موسسه البعثه، قسم الدراسات الاسلامیه، 1366.
یادداشت:کتابنامه.
موضوع:احادیث شیعه -- قرن 14
موضوع:Hadith (Shiites) -- Texts -- 20th century
موضوع:شیعه -- دفاعیه ها
موضوع:Shi'ah -- Apologetic works
موضوع:شیعه -- ردیه ها
موضوع:Shi'ah -- Controversial literature
شناسه افزوده:دفتر تنظیم و نشر آثار حضرت آیت الله العظمی حاج شیخ لطف الله صافی گلپایگانی
رده بندی کنگره:BP136/9/ص18ل8 1397
رده بندی دیویی:297/212
شماره کتابشناسی ملی:5308292
اطلاعات رکورد کتابشناسی:فیپا
ص: 1
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 3
ص: 4
ص: 5
ص: 6
الجزء الثانى
كتبت هذا النقد بعد ما انتشر كتاب (الخطوط العريضة) بطبعته الاُولى سنة 1380، ثم رأيت أنّ الأولى في هذا العصر الذي تواترت فيه الكوارث والفتن على المسلمين ترك نشره، فخفت أن يكون التعرّض للجواب - أيضاً - سبباً للشقاق والضعف، والفشل والتفرقة المنهي عنها، فذكرت قوله تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن(1). وقوله تعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم(2). وقوله تعالى: وإذا مرُّوا باللغو مروا كراماً(3).
فقلت في نفسي: دع الخطيب ومن يحذو حذوه يكتب، ويتقوَّل على الشيعة ويفتري عليهم كل ما يريد، فاللّه سبحانه يقول: ما يلفظ من قول إلّالديه
ص: 7
رقيب عتيد (1) .
فالحريُّ بنا وبكل مسلم غيور على دينه وأُمته ترك هذه المناقشات المثيرة والظروف والأحوال على ما يشاهد في العالم الإسلامي، فالفتن والكوارث قد أحاطت بنا من كل جانب، وجحافل الإلحاد بكل أفكاره ومبادئه الشرقية والغربية، والإستعمار الصهيوني والصليبي أخذ يحاربنا، وبلا هوادة مستعملاً كافة الأساليب الخدّاعة والمخطّطات الهدّامة، فهم الآن ومنذ زمن غير قريب يغزوننا في عقر دارنا، يهتكون حرماتنا، ويخربون مساجدنا، ويسعون لهدم جميع آثار الإسلام، و صروح الفضيلة والشرف والأخلاق الكريمة التي أشادتها رسالة نبينا محمد صلّى اللّه عليه وآله.
فالإسلام مهدّد من جانب الإستعمار، ومهدد من جانب الصهيونية، ومن جانب المبشّرين الصليبيين، مهدّد من جانب المجوسية، مهدّد من جانب الشيوعية، مهدّد من جانب الصحف والمجلات الأجيرة لإشاعة الخلاعة والدعارة، مهدّد من جانب النعرات القومية، مهدّد من جانب ما يسمى بالعلمانية، مهدّد... ومهدّد... ومهدّد...
فها هي ذي حرمات اللّه مساجدنا في فلسطين تهتك، وتدنّس بكل وسائل اللهو والخلاعة والمجون.
وها هو ذا المسجد الأقصى المبارك الذي أضرمت فيه إسرائيل نيران حقدها الدفين على الإسلام والمسلمين، وأعلنت بحرقه نواياها الصهيونية8.
ص: 8
الخبيثة.
وهذه فلسطيننا الحبيبة مازالت تئن تحت نير احتلال العدو، وتوجه منها في كل يوم الإعتداءات الإسرائيلية نحو الأراضي الإسلامية والمحيطة بها.
وهذه مئات الأُلوف من إخواننا المسلمين المشرّدين من أبناء فلسطين ما برحوا لاجئين، يعيشون في المخيمات، ويقاسون أنواعاً من الحرمان والإضطهاد.
فيا أخي ماقيمة كتاب (الخطوط العريضة) ونحن في هذه الأحوال الدقيقة الحرجة؟ وما فائدة هذه الأقلام للإسلام والمسلمين؟ ومن ينتفع بمثل هذه النشريات غير أعداء الدين؟ وهل وراء ذلك غير اليد الصهيونية الإستعمارية الأثيمة؟
واجبنا والظروف والأحوال هذا هو الجهاد، والتضحية في سبيل اللّه بنفوسنا وأموالنا وألسنتنا، لتكون كلمة اللّه هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
واجبنا سيما القادة والعلماء، والكُتّاب والأثرياء، وذوي القدرة، أن نبذل كل إمكانياتنا لتحرير الأراضي المغتصبة، ومقدساتنا في القدس العزيز، وأن نتسلّح بسلاح الإيمان، والإعتصام بحبل اللّه والإتحاد، وأن ندعو المسلمين إلى التحابب والتوادد، لا أن نشتغل بالبحث عن المفاضلة بين الصحابة، والخلافات المذهبية، ونجعل ذلك سبباً للجفوة والبغضاء، ونوقد ناراً أخمدَتْها الأزمنة والدهور، ونحيي أحقاداً أماتتها الشدائد.
فمن أمرِّ الاُمور علينا، ومما يملأ القلوب حسرة هو أن يرى فريق من
ص: 9
المسلمين في رحاب الحرمين الشريفين، وفي أعظم مؤتمر إسلامي سنوي كرّم اللّه به هذه الأُمة، ويؤمه المسلمون من جميع الأصقاع والأقطار جعلوا همهم تفريق كلمة الأُمة والدعوة إلى التباغض و التقاطع والتنافر، بينما كان من الواجب عليهم أن يوجّهوا هذا المؤتمر الإسلامي العظيم إلى معالجة ماابتلي به المسلمون جميعاً من دعايات الإلحاد، والكفر، فيتخذوا الأساليب الناجحة لدفع هذه النعرات الضالة المضلّة، وأن يستنهضوا بهذه الجموع الحاشدة التي جاءت من كل فج عميق ليذكروا اسم اللّه، وليطوفوا بالبيت العتيق الأُمم الإسلامية في شرق الأرض وغربها للجهاد والنضال، والعمل لكل ما يحقّق النصر، ورفع الظلامة التي حاقت بأُولى القبلتين.
إذا لم نتفهّم هذه الحقيقة البسيطة فكيف نتوقُع أن يعود إلينا مجدنا الذاهب لنعيش كما عاش آباؤنا الذين أكرمهم اللّه، فألّف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمة اللّه إخواناً.
فصاروا في جميع الأرض حراًوصرنا في أماكننا عبيداً
ولا حول ولا قوة إلّاباللّه العلي العظيم.
نعم، إنّي تركت نشر هذا النقد، وأوكلت أمر الخطيب، وما أتى به من البهتان إلى يوم الجزاء، يوم يحكم اللّه بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
ولكن لما هو والأيادي الأثيمة، التي كانت ولا تزال وراء هذه النشريات، لم يقتنعوا بطبعته الأُولى فكرروا طبعه ثانياً في جدة وثالثاً ورابعاً في الديار الشامية، وخامساً في القاهرة سنة 1388، وترجم إلى اللغة الأُوردية كأنّهم
ص: 10
عثروا على كنز مخفي يجب نشره، أو على صحيفة علم لم يطّلع عليها أحد.
ثم كرر طبعه للمرة السادسة محرّفاً، ووزّع مجاناً في هذه السنة 1389 في الموسم وفي أرض التوحيد، وفي المملكة العربية التي يدعو عاهلها المسلمين إلى الإتحاد والإتفاق والوحدة الإسلامية، بين الحجّاج الوافدين إلى بيت اللّه الحرام ليحملوا هذه الدعوة الممزقة المفرقة إلى بلادهم، ويثيروا نار الفتن الدامية بين المسلمين، حتى يهدّد كياننا من الداخل، ويتشجّع أعداؤنا علينا من الخارج.
فلعن اللّه الإستعمار، والصليبية، والصهيونية، ولا أخالُك تظن أنّ أي عمل يرتكز على إثارة العصبيات المذهبية بين المسلمين كهذا العمل عملاً بسيطاً يقدم عليه متعصّب لمذهبه، فما وراء هذه النشريات يا أخي إلّايد الإستعمار والصهاينة، وليس المنفق على هذه الدعايات إلّاأعداء الإسلام من إسرائيل وحلفائها!!!
فلهذا طلب مني جمع من الأزكياء الخبراء بما وراء مثل هذه الكتابات نشر هذا النقد، لئلّا يقع بعض من لا معرفة له بعقائد الفرق في مكائد هذه الأقلام، ويعرف أن ما في كتاب (الخطوط العريضة) إما بهتان محض وافتراء بحت، أو ما ليس الإلتزام به منافياً لأُصول الإسلام وما عليه السلف والخلف، خصوصاً إذا كان عن التأول والإجتهاد، فأجبتهم إلى سؤلهم متوكّلاً على اللّه تعالى.
ولا يخفى عليك أنّي في هذا الكتاب استهدفت الحقيقة والتاريخ بروح موضوعية مجرّدة عن كل تعصّب وانحياز، فمن الإنصاف لقارئ الكريم الذي ينشد الحقيقة أيضاً ألّا يتسرّع إلى الحكم حتى يشبع الكتاب دراسةً واستيعاباً، وحتى يتجرّد عن كل تعصّب مقيت، وله بعد ذلك أن يحكم له أو أن يحكم عليه،
ص: 11
وعند ذلك فالإختلاف والإتفاق قيمة علمية، وبينة قائمة مادام الرائد هو الإنصاف، والحق هو المنشود.
قم المقدّسة - لطف الله الصافي الگلپايگاني
29 ذي الحجة 1389 ه
ص: 12
المقدّمة الثانية
لاريب في أنّ الدعوة الإسلامية إنّما قامت على عقيدة التوحيد، وتوحيد العقيدة، وتوحيد الكلمة، وتوحيد الأنظمة والقواعد، وتوحيد المجتمع، وتوحيد الحكومة، وتوحيد المقاصد.
فعقيدة التوحيد هي المبنى الوحيد لجميع الفضائل، وهي الحجر الأساسي للحرية، واشتراك الجميع في الحقوق المدنية.
فلا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود، وكل الناس أمام الحق والشرع سواء، والناس كلهم من آدم، وآدم من تراب، و إنما المؤمنون إخوة(1) و إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم(2) و «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد3.
ص: 13
بعضه بعضاً»(1) و «مثل المؤمنين في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعض عضوه تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى»(2) و «من أصبح ولا يهتم بأُمور المسلمين فليس منهم»(3).
أصبح المسلمون بنعمة اللّه إخواناً معتصمين بحبل اللّه تعالى، قلوبهم مؤتلفة وأغراضهم واحدة، أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم، فتحوا الأصقاع والبلدان، وصاروا سادات الأرض، ودعاة الناس إلى الحرية والإنسانية، وقوّاد الإصلاح والعدالة الإجتماعية.
هدّموا قصور الجبابرة المستبدين، وأنقذوا الضعفاء من استعباد الأقوياء الظالمين، وأخرجوا الناس من ذل سلطان الطواغيت وعبادة العبّاد، وأدخلوهم في عز سلطان اللّه وسلطان أحكامه وعبادته.
هكذا كان المسلمون الذين أخلصوا دينهم للّه، ولولا ما نجم فيهم من النفاق وحب الرئاسة والحكومة، والمنافرات التي وقعت بينهم في الإمارة، لما كان اليوم على الأرض أُمة غير مسلمة.
ولكن فعلت فيهم السياسة فعلها الفاتك، ففرقت كلمتهم، وأزالت وحدتهم ومجدهم، فصاروا خصوماً متباعدين، بعدما كانوا إخواناً متحابين، واشتغلوا بالحروب الداخلية عوضاً عن دفع خصومهم وأعدائهم، ونسوا ما ذكروا به من7.
ص: 14
الأمر بالإتحاد، والإخوة الدينية، فصرنا في بلادنا أذلّة بعد أن كنا في غير أوطاننا أعزّة.
وأكثر هذه المفاسد إنّما أتتنا من أرباب السياسات، ورؤساء الحكومات، الذين لم يكن لهم إلّاالإستيلاء على عباد اللّه، ليجعلوهم خولاً ومال اللّه دولاً، فأثاروا الفتن، وقلّبوا الإسلام رأساً على عقب، وضيّعوا السنن والأحكام، وعطّلوا الحدود، وأحيوا البدع وقضوا بالعبور والتهمة، واستخدموا عَبَدة الدراهم والدنانير، وأمروهم بوضع الأحاديث لتأييد سياساتهم، وفسّروا القرآن وحملوا ظواهر السنّة وفق آرائهم، ومنعوا الناس عن الرجوع إلى علماء أهل البيت الذين جعلهم النبي صلى الله عليه و آله عِدْلاً للقرآن، وأمر بالتمسك بهم(1). فراجع بعين البصيرة والإنصاف كتب التاريخ والحديث حتى تعرف أثر أفاعيل السياسة من الغاشم في تلك الفظائع التاريخ والحديث حتى تعرف الأثر.
ولا تنس أيضاً أثر سياسات خصوم الإسلام من المسيحيين واليهودا.
ص: 15
وغيرهما في تأجيج نار الشحناء والبغضاء بين المسلمين، فإنّهم لم يسلبوا سلطاناً، ولم يملكوا بلادنا إلّابما أوقعوا بيننا من التفرق والتشتّت، وبما بذلوا من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة لبثّ التنافر والتباغض بين المسلمين، ومنعهم من الإتحاد، فهم لا يزالون يضعون حواجز في طريق تقارب الحكومات الإسلامية، ويصرفونهم عن الدفاع عن وطنهم الإسلامي الكبير ليؤسسوا حكومات مستعمرة، وأوطاناً مفتعلة، من غير أن يعتبروها أجزاءاً لوطننا الإسلامي ويطالبونهم بالدفاع عن حدود هذه الأوطان التي أحدثها المستعمرون وذلك لتفريق كلمة المسلمين، وتضاربهم فيما بينهم حتى تقف كل حكومة منهم في وجه الأُخرى.
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسّراًوإذا افترقن تكسّرت آحاداً
والعارفون بأهداف الإستعمار يعلمون أن تجزئة الأُمة الإسلامية أعظم وسيلة تمسّك بها المستعمرون للإحتفاظ بسلطتهم.
فيا أخي ما قيمة الوطن الذي افتعله الأجنبي لمصلحة نفسه، وأي امتياز جوهري بين السوداني والمصري، والأردني والسوري، واليماني والباكستاني، والعربي والعجمي، بعد أن كانوا مسلمين خاضعين لسلطان أحكام الإسلام، وأي رابطة أوثق من الروابط الإسلامية والإخوة الدينية.
المسلمون كلّهم أولاد علات، أبوهم واحد وهو الإسلام، وأُمهاتهم شتّى، بلادهم منهم ولكن الإستعمار صيّرهم أقواماً متمايزة، وأراد أن يكون في كل بلد وإقليم حكومة خاصة، وشعائر تميز بعضها من بعض، واللّه تعالى أراد أن يكون الجمع أُمة واحدة.
ص: 16
قال اللّه سبحانه: وإن هذه أُمتكم أُمة واحدة وأنا ربّكم فاتّقون(1).
وقال عز من قائل: ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ماجاءهم البيّنات وأُولئك لهم عذاب عظيم(2).
فالمسلم أخو المسلم سواء كان من أهل قطره أم لا، المسلم الفلسطيني أخ للمسلم العراقي، وللمسلم الإيراني، وللمسلم الصيني، وللمسلم الأرجنتيني، ووو.
جميع بلاد الإسلام وطن لكل مسلم، والإسلام حكومته، وقانونه وسياسته، وعقيدته ودينه، وأما الحكومات العميلة التي لا يتصل بعضها ببعض بالصلات الإسلامية الوثيقة، والتي جعلت شعارها القوميات الضيقة المحدودة، وتشدّقت بالدفاع عنها، ولم تكترث بأوضاع العالم الإسلامي، وما يصيب المسلمين في غير إقليمها من الضعف والإضطهاد، فلا تخدم إلّاأعداء الإسلام ما لم تجعل شعارها الوحيد الإحتفاظ بمصالح المسلمين وتحقيق أهداف الإسلام في شرق الأرض وغربها.
فيا اللّه، يا منزل القرآن، ويا منزل سورة التوحيد وحِّدْ حكوماتنا، وخلّص المسلمين من كل حكومة انفصالية إقليمية، واجمعهم تحت راية حكومة إسلامية واحدة.
المسلمون شعارهم واحد، ومقصدهم واحد، وعقيدتهم واحدة، لا يعين5.
ص: 17
المسلم غير المسلم على أخيه المسلم، ولا يرغب المسلم في حكومة قامت على خيانة المسلمين، ولا يذل نفسه عند الكفار ليعينوه حاكماً على المسلمين.
المسلم لا يكتب ما يوجب اشتداد البغضاء والتنافر بين إخوانه، ويمنعهم عن التقارب والتفاهم.
هذا شيء يسير من تأثير السياسات الغاشمة في الأُمة الإسلامية، ولم يبق منها في هذا العصر ما يمنع من التوفيق بين المذاهب، واتحاد المسلمين واجتماعهم تحت لواء الإسلام إلّابعض العصبيات الجامدة التي ليس وراءها حقيقة، ولا مصلحة للمسلمين، وإلّا دعايات الإستعماريين (من الشيوعيين والرأسماليين) وقد قام بينهما الصراع في استعمار ممالك المسلمين، وكل منهما يريد أن يستعمر، ولا يرى إلّاما فيه مصلحة لنفسه أبعدهما اللّه عن المسلمين وممالكهم، وخذل عمّالهما وكل حكومة تأسّست على رعاية منافعهما، وموادة من حاد اللّه ورسوله.
هذا بلاء المسلمين في عصرنا، ومنه يتوجه الخطر عليهم، وهذه السياسة هي التي لا تتوخّى إلّافقر المسلم وجهله، وهذه هي التي تشيع الفحشاء في المسلمين، وتبيح بيع الخمر والقمار والربا، تدعو إلى السفور، وتروّج الدعارة والتحلّل، وخروج النساء سافرات عاريات.
هذه السياسة هي التي تريد اشتغال المسلمين بالملاهي والمعازف، وانصرافهم عن حقائق الإسلام والقرآن، وتروّج البطالة، ولاتحب اشتغال المسلمين بالعلوم النافعة والصنائع، وتأسيس المعامل حتى لا يباع في أسواقهم إلّا متاع المستعمرين.
ص: 18
وأمّا السياسات العاملة لتفريق المسلمين في القرون الأُولى والوسطى فقد قضى عليها الزمان، فمضت العصور التي استعبدت الناسَ فيها جبابرة الأُمويين والعباسيين، ومضت الأعصار التي كان فيها تأليف الكتب وجوامع الحديث تحت مراقبة جواسيس الحكومة.
مضت العصور التي كان العلماء فيها تحت اضطهاد شديد، والعمّال والولاة يتقربون إلى الخلفاء والأُمراء بقتل الأبرياء، ونفيهم عن أوطانهم وتعذيبهم في السجون، وقطع أيديهم وأرجلهم.
مضى الذين شجعوا العمل على التفرقة واختلاف الكلمة، وإشعال الحروب الداخلية.
مضت السياسات التي سلبت عن مثل النسائي حرية العقيدة والرأي وقتلته شر قتلة.
مضى عهد الجبابرة الذين صرفوا بيوت أموال المسلمين في سبيل شهواتهم، واتخاذ القينات والمعازف هواية لهم.
مضت العصور التي سبّوا فيها على المنابر أعظم شخصية ظهرت في الإسلام، لا يريدون بسبّه إلّاسب الرسول صلى الله عليه و آله.
مضت الأزمنة التي كان يرمي فيها بعض المسلمين بعضهم بالإفتراء والبهتان وحتى الكفر والإلحاد.
مضت العصور المظلمة التي عاشت فيها كل فرقة وطائفة من المسلمين كأُمّة خاصة لا يهمها ما ينزل على غيرها من المصائب والشدائد، ولم يكن بينهم
ص: 19
أي تعاون أو أدنى تجاوب.
نعم قد مضت تلك العصور، وظهرت في تاريخ الإسلام صحائف مشرقة مملوءة بنور الإيمان والاُخوّة الإسلامية، فقامت جماعة من المصلحين المجاهدين بالدعوة إلى الإصلاح والإتحاد، فأدركوا أن آخر هذا الدين لا يصلح إلّا بما صلح به أوله، وأعلنوا أن المستقبل للإسلام، و إن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين(1).
فدعوا إلى اتّباع الكتاب والسنّة، ورفض العصبيات: العصبية الشعوبية، والعصبية المذهبية والقِبَلية، فأدّوا رسالتهم في شرق البلاد الإسلامية وغربها، رزقهم اللّه التوفيق في توحيد الكلمة، وجمع شمل الأُمة، فأثّرت أعمالهم الإصلاحية في نفوس المسلمين أثراً جميلاً، ولبّى دعوتهم جمّ غفير من الغيارى على الإسلام من العلماء الأفذاذ وغيرهم.
فكان من ثمرات هذه الجهود الكبرى بل ومن أحلى أثمارها تأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة، وإصدار مجلة (رسالة الإسلام) العالمية التي جعلت شعارها قوله تعالى: إن هذه أُمّتكم أُمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون(2) وكتب فيها من كتّاب المذاهب ودعاة الخير والإصلاح، ورجالات الإسلام جماعة من المشايخ، والأساتذة، فحقّقت مساعيهم كثيراً من أهدافهم في رفع التدابر والتنافر.
وكان من فوائد هذه الجهود عرض عقائد كل من الفريقين على الآخر بعد أن لم يكن لأكثرهم معرفة بمذهب غيرهم في الأُصول والفروع، وكان هذا الجهل2.
ص: 20
سبباً لتكفير بعضهم بعضاً في الأزمنة الماضية، فعرفوا اتفاق الكل في الأُصول، وأنّ بعض الخلافات التي أدى إليها اجتهاد كل فريق لا يضر بالتقريب والتفاهم بعد اتفاق الجميع في الأُصول.
وسيبزغ بفضل هذا الجهاد فجر وحدة المسلمين، ويصبحون كما أصبح أسلافهم في حياة النبي صلى الله عليه و آله إخواناً، ويدخل هذا الدين على ما دخل عليه الليل ولا تبقى قرية إلّاونودي فيها بكلمة التوحيد.
نعم إن قوماً إلههم واحد، وكتابهم واحد، وقِبلتهم واحدة، وشعائر دينهم واحدة، وقد جعلهم اللّه أُمة واحدة، أترى ليس إلى دفع مشاجراتهم واختلافهم سبيل؟
إنّ الإسلام يدعو إلى وحدة الأُمم، ووحدة الأقوام والطوائف في مشارق الأرض ومغاربها.
دين الإسلام دين التوحيد، ودين خلع العصبيات، ورفض ما يوجب الشحناء والعداوات، دين يسير بأبناء البشر نحو حكومة عادلة ومساواة إنسانية كاملة، ونظام عدل للإقتصاد والإجتماع، ونظام للحكم والدستور ونظام للتربية والتعليم، ونظام في جميع نواحي الحياة ونظام للجموع وهم فيه سواء.
أترى أنّ هذا النظام الإلهي لا يقدر على فصل الخصومات، وحسم المنازعات بين أبنائه؟
أترى أنّ الإسلام لم تكن له أساليب وتعاليم صحيحة لتمكين الأُمة في الوطن الإسلامي الكبير الذي يشمل جميع المسلمين، أحمرهم، وأبيضهم، وأسودهم؟
أترى أنّه لا يعرض على أبنائه دواء لدائهم؟
ص: 21
أترى أنّه لا يقدر على رفع المشاجرات التي أحدثها عمّال السياسات الغاشمة. وأيدي الإستعمار الظالمة تلك المشاجرات التي يعود كل فائدتها لأعدائنا؟
أترى أنّ اللّه حرّم على هذه الأُمة أن يجلسوا على صعيدٍ واحد ويعيشوا في ظل حكومة واحدة فأقفل عليهم باب التفاهم والتجاوب؟
هذا هو القنوط من رحمة اللّه واليأس من روحه، وكل دائنا يرجع إلى ذلك.
ودواؤه الثقة باللّه، والإيمان بأنّ النصر من عنده، وأنّ جند اللّه هم الغالبون، وأنّ العالم سيلجأ إلى الإسلام، وأنّه هو الدافع الفذ للمشاكل التي أحاطت بالجامعة الإنسانية، وأنّ المسلمين هم الذين يجب عليهم أن يؤدّوا رسالة الإسلام إلى غيرهم وقد آن وقت ذلك وإن لم يأن فعن قريب سيجيء إن شاء اللّه تعالى.
فإذن لا عجب أن قامت في المسلمين نهضات للإصلاح، ورفع التفرقة وجمع الشمل، وإعادة كيانهم المجيد، ومجدهم العزيز.
ونسأل اللّه تعالى الإستقامة والصبر للمصلحين، ولمن يوازرهم على توحيد كلمة المسلمين إنّه لما يشاء قدير.
ربّنا أفرغ علينا صبراً، وثبّت أقدامنا وانصرنا
على القوم الكافرين
ص: 22
بِسمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم
الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ العالَمينَ * الرَّحْمنِ الرَّحيمِ * مالِكِ يَومِ الدّينِ * إِيّاكَ نَعْبُدُ وَايّاكَ نَستَعينُ * اهْدِنَا الصِّراطَ المُسْتَقيمَ * صِراطَ الَّذينَ انْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضّآلّينَ(1).
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمّدٍ امينِكَ عَلى وَحْيِكَ، وَنَجيبِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَصَفِيِّكَ مِنْ عِبادِكَ، اماِم الرَّحْمَةِ وَقآئِدِ اْلخَيْرِ وَمِفْتاحِ اْلَبَركَةِ، وَعَلى آلِهِ الطّاهِرينَ.
رَبَّناَ اغْفِرْ لَنا وَلإِخْوانِنَا الَّذينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمانِ وَلا تَجْعَلْ في قُلوُبِنا غِلًّا لِلّذَينَ آمَنوُا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤوُفٌ رَحيمُ (2) .0.
ص: 23
وكانَ مِنْ دُعائِهِ عليه السلام في الصّلاة على أتباع الرُّسُل ومُصَدّقيهمْ(1):
اللّهُمَّ وَأَتْباعُ الرُّسُلِ وَمُصَدِّقُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ بِالْغَيْبِ عِنْدَ مُعارَضَةِ اْلمُعانِدينَ لَهُمْ بِالتَّكْذيبِ، وَالإِشْتِياقِ إِلى اْلمُرْسَلينَ بِحَقائِقِ الإيمانِ في كُلِّ دَهْرٍ وَزَمانٍ، أَرْسَلْتَ فيهِ رَسُولاً وَأَقَمْتَ لأَهْلِهِ دَليلاً مِنْ لَدُن آدَمَ إِلى مُحَمَّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مِنْ أَئِمَّةِ اْلهُدى، وَقادَةِ أَهلِ التُّقى، عَلى جَميعِهِمُ السَّلامُ فَاذْكُرْهُمْ مِنْكَ بِمَغْفِرَةٍ وَرِضْوانٍ.
اللّهُمَّ وَأَصْحابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللّهُ عَلَيهِ وَآلِهِ خاصَّةً الذين احْسَنُوا الصَّحابَةَ، وَالّذَينَ أَبْلَوا اْلبَلآءَ اْلحَسَنَ في نَصْرِهِ، وَكانَفُوهُ وَأَسْرَعُوا إلى وِفادَتِهِ، وَسابَقُوا إلى دَعْوَتِهِ، وَاستَجابُوا لَهُ حَيْثُ أَسْمَعَهُمْ حُجَّةَ رِسالاتِهِ، وَفارَقُوا الأَزْواجَ وَاْلأَولاد في اظْهارِ كَلِمَتِهِ، وَقاتَلوُا الابآءَ والأَبْنآءَ في تَثْبيتِ نُبُوَّتِهِ، وَانْتَصَرُوا بِهِ، وَمَنْ كانُوا مُنْطَوينَ عَلى مَحَبَّتِهِ يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبوُرَ في مَوَدَّتِهِ، وَالَّذينَ هَجَرَتْهُمُ العَشآئِرُ اذْ تَعَلَّقوُا بِعُرْوَتِهِ، وَانْتَفتْ مِنْهُمُ اْلقَراباتُ اذْ سَكَنُوا في ظِلِّ قَرابَتِهِ، فَلا تَنْسَ لَهُمُ اللّهُمَّ ما تَرَكُوا لَكَ وَفيكَ، وَاَرضِهِمْ مِنْ رِضْوانِكَ، وَبِما حاشُوا اْلخَلْقَ عَلَيْكَ، وَكانُوا مَعَ رَسُولِكَ دُعاةً لَكَ الَيْكَ، وَاشكُرْهُمُ عَلى هَجْرِهِم فيكَ دِيارَ قَوْمِهِمْ، وَخُروجِهِمْ مِنْ سِعَةِ اْلمَعاشِ الى ضيقِهِ، وَمَنْ كَثَّرْتَ في اعْزازِ دينِكَ مِنْ مَظْلوُمِهِم.
اللّهُمَّ وَأَوْصِلْ الى التّابِعينَ لَهُمْ بِاِحْسانٍ الَّذينَ يَقُولوُنَ رَبَّناَ اغْفِرْ لَناة.
ص: 24
وَلإِخْوانِنَا الَّذينَ سَبقوُنا بِالإيمانِ خَيرَ جَزآئِكَ، الَّذينَ قَصَدُوا سَمْتَهُمْ، وَتَحَرّوُا وِجْهَتَهُمْ، وَ مَضَوْا عَلى شاكِلَتِهِمْ...
اللّهُمَ وَصَلِّ عَلى التّابِعينَ مِنْ يَوْمِنا هذا الى يَوْمِ الدِّينِ وَعَلى ازواجِهِمْ، وَعَلى ذُرِّيّاتِهِمْ، وَعَلى مَنْ اطاعَكَ مِنهُمْ صَلاةً تَعْصِمُهُمْ بِها مِنْ مَعْصِيَتِكَ (إلى آخر الدعاء الشريف).
ص: 25
ص: 26
المسلمون كما أسلفنا الإيعاز إليه في حاجة ماسة إلى الاتحاد، ورفض ما أوجب الشحناء بينهم في الأجيال الماضية، وإذا كانت بينهم بعض الخلافات فيجب عليهم أن لا يجعلوها سبباً للتنازع والتخاصم. قال اللّه تعالى: ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم(1).
سيما في هذا العصر الذي تداعى علينا الأُمم كما تداعى الأكلة على القصاع(2).
ص: 27
وأولى الناس برعاية هذا الواجب هم الكُتّاب والمصنّفون، فإنّهم أدلّاء العامة، وهداة الحركات الفكرية، فكما تكون لبعض المقالات والمؤلفات آثار قيمة لجمع الشمل، وعز الإسلام يكون لبعضها الآخر من مصارع السوء، والآثار المخزية ما لايمكن دفعها إلّابعد مجاهدات ومجاهدات، فيجب على المؤلفين الإحتراز عما يوجب إثارة الضغائن المدفونة كما أنّه يجب عليهم التجنّب عن الإفتراء والبهتان، ورعاية الأمانة والصدق، ونصيحة الأُمة.
فإن أراد كاتب أن يكتب حول مذهب ما، كلمة أو كتاباً فالواجب عليه الرجوع إلى مصنفات علماء هذا المذهب في العقائد والفقه، وملاحظة آراء أكابرهم، والنظرات المشهورة بين أهل هذا المذهب، وترك الآراء الشاذة المتروكة بينهم، وأن لا يأخذ البريء منهم بجرم المسيء، ولا ينسب إلى الجميع ما ذهب إليه بعض من ابتلي بالشذوذ في الرأي، فإنه ليس من مذهب إلّاويوجد فيه من له بعض الآراء الشاذة.
ولعمر الحق! لو راعى الكُتّاب والمؤلفون هذا الأمر حق رعايته لذهبوا بكثير من أسباب المنازعات والمخالفات، ولما وقعت بين المسلمين هذه المنافرات، ولما بهت المسلم أخاه المسلم بالكفر والشرك، وهذا أدب يجب على كل كاتب أن يرعاه وإن لم يكن مسلماً.
إذا طهرت الصحف والأقلام من دنس الأغراض والعصبيات، وانتزعت من أيدي الجهّال وغير الخبراء، أدى ذلك إلى تخلّص نفوس العامة من الأحقاد والضغائن، ومن إساءة الظن بالأبرياء.
هذا، ونحن لا نخفي أسفنا الشديد على ما يصدر عن بعض الكُتّاب مما لا
ص: 28
ينتفع به إلّاأعداؤنا، وليست فيه أية فائدة إلّاالضعف والفشل، وخدمة الإستعمار الغاشم مضافاً إلى ما في كلماتهم من الإفتراء والبهتان.
ونحن نحسن الظن بإخواننا المسلمين، ولا نحب أن يصدر عن مسلم بصير بعقائد أهل السنة والشيعة وآرائهم مثل هذه المقالات التافهة، ونرجو أن لا يكون بين المسلمين من يتعمد ذلك، ونكره أن يكون بين الأمة من يخون الإسلام بلسانه وقلمه، ولا يشعر بضرره على قومه وأُمته.
وربّما عذرنا بعض الكُتّاب الذين يكتبون في الأجيال الماضية عن الشيعة وأهل السنة، ويسندون إليهم المقالات المكذوبة عليهم، حيث لم يكن العثور على كتب الفريقين وآرائهم في وسع كل كاتب، وأما في هذا العصر الذي أصبح كتب الفريقين في متناول جميع الباحثين، ويمكن استعلام عقيدة كل طائفة من علمائها بكل الوسائل والسُبل، فلا عذر لمن يرمي أخاه بما ليس فيه، ويتهمه بمجرّد سوء الظن، وقد قال اللّه تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنّ بعض الظنّ إثم(1).
ومن الكتب التي نسبت إلى الشيعة المخاريق العجيبة، وسلكت مسلك أنصار الأُمويين وغيرهم من أعداء عترة النبي صلى الله عليه و آله كتاب سمّاه مؤلّفه الخطوط العريضة للأُسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الإثنى عشرية فبالغ في البهتان والإفتراء، وتجريح عواطف الشيعة وأهل السنة، وفيه من الكذب الظاهر والفحش البين، والخروج عن أدب البحث والتنقيب ما لا يصدر إلّاعن جاهل12
ص: 29
بحت، أو من كان في قلبه مرض النفاق، وأراد تفرقة المسلمين وإفساد ذات بينهم، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيما رواه الترمذي وأحمد وأبو داود:(1).
ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة، إصلاح ذات البين فإنّ فساد ذات البين هو الخالقة(2).
وفي خبر من طرقنا إنّه صلى الله عليه و آله قال:
إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة، والصيام(3).
وأخرج الطبراني عنه صلى الله عليه و آله: من ذكر امرءً بما ليس فيه ليعيبه حبسه اللّه في نار جهنم حتى يأتي بنفاد ماقال(4).
فما ظنّك ياأخي بمن أشاع على طائفة من المسلمين الذين آمنوا باللّه ورسوله وكتابه وباليوم الآخر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويصومون ويحجون، ويحرّمون ما حرّم اللّه في كتابه وسُنّة نبيه، ويحلّون ما أحلّ اللّه ورسوله، ما هم منه أبرياء.
وقد طعن في هذا الكتاب على أئمة المذهب ومفاخر الإسلام، ودافع عن سيرة يزيد بن معاوية، وأظهر انحرافه عن أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي لا يحبه إلّا مؤمن، ولا يبغضه إلّامنافق، ليهيّج الشيعة ويستنهضهم على أهل السنة حتى1.
ص: 30
يعارضوا ذلك بالمثل، فيتحقق أمله وأمل أعداء الدين من المستعمرين وغيرهم بإثارة خصومة حادة بين المسلمين، فإن الإستعمار لا يحب أن يرى الشيعي والسني يغزوانه في صف واحد، ولا يريد اتفاقهما في الدفاع عن الصهيونية، ولا يريد اتحاد المسلمين في إحياء مجدهم واسترجاع تراثهم الإسلامي، واستعادة البلاد والأراضي المغتصبة منهم.
الإستعمار يريد الشقاق والنفاق حتى يصفو له الجو وتتحقق أهدافه، ومحب الدين الخطيب كاتب الخطوط العريضة، ومن يسلك سبيله، يمهد له الوصول إلى مطامعه الخبيثة من حيث يعلم أو لا يعلم.
ولكن لا يبلغ الإستعمار آماله إن شاء اللّه تعالى، وسينجح المصلحون، ولا تهِنُ عزائمهم بهذه الكلمات، فإنّهم أعلم بمقالات أرباب المذاهب وآرائهم، والتقريب فكرة إصلاحية كلّما مر عليها الزمان يزداد المؤمنون بها، وإن يرى محب الدين استحالتها لأنّه لم يفهم أو لم يشأ أن يفهم معناها.
وبعد ذلك كلّه فنحن نكره أن نتكلم في نية محب الدين، وأنّه أراد إثارة الفتن، وخدمة أعداء الإسلام، وإعانتهم على هدم كيان المسلمين فاللّه هو العالم بالضمائر، فلا نريد أن نسير معه في مقالاته، ونوضّح أخطاءه وعثراته، بل نريد تخليص أذهان بعض إخواننا من أهل السنة، وتطهيرها من هذه التهم والإفتراءات، وجعلنا كتاب الخطوط العريضة مورد البحث والنقد لأنّه بالغ في التهجّم على الشيعة، وأتى بكل ما أراد من الكذب والبهتان، ولم نعارضه بالمثل
ص: 31
ف إنّما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات اللّه واُولئك هم الكاذبون(1) بل لم نتعرّض لما عند أهل السنة من آراء شاذة في الفروع والأُصول، وما نسب أهل الإعتزال إلى الأشاعرة، والأشاعرة إلى المعتزلة، وأتباع بعض المذاهب إلى غيرهم، وما حدث بينهم من المجادلات الكلامية في الكلام وخلق القرآن وغيره، وتكفير بعضهم بعضاً إلّاما دعت الحاجة إليه لتوضيح المراد وتحقيق البحث والتنقيب، فإنا لا نرى فائدة في نقل هذه المناقشات إلّاضعف المسلمين وتشويه منظر الدين ونأخذ بما أدّبنا اللّه تعالى به، فقال سبحانه:
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم (2) .
ونقول: ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم(3).0.
ص: 32
قال محب الدين الخطيب في ص 5: ونضرب لذلك مثلاً بمسألة التقريب من أهل السنة والشيعة... ثم هاجم دار التقريب بشدة، لأنّ غرضه الأصلي من تأليفه الخطوط العريضة! مهاجمة مبدأ التقريب.
من سبر أحوال المجتمع الإسلامي في أمسه ويومه، ووقف على الصراع الطائفي الذي أردى المسلمين في مثل هذا الضعف والإنحلال، والسقوط في أحضان الإستعمار وجد أنّ سبب هذا التنافر والتشاجر وجلّه أو كلّه يرجع إلى سياسات غابرة انتهت وكانت من نتائجها إبادة أربابها، ويدرك كما أدرك المصلحون ودعاة الوحدة والتقارب أنّ الإسلام لن تعود إليه دولته الذاهبة إلّاإذا عادت إلى المسلمين وحدتهم في ظل الإسلام.
والواقع: إنّ من أعظم الأسباب في نشوب هذه المعارك المذهبية إنّما هو جهل كل طائفة بآراء الطائفة الأخرى، وإن التقارب بين المذاهب الإسلامية أمر
ص: 33
ممكن إذا ما قدّر للمسلمين أن يعيشوا في أُفق أعلى وأنزه مما عاشوه في بعض أجيالهم الماضية.
بل إنّ ذلك ضرورة حتمية لمصيرهم ومستقبلهم، وليس ذلك من المستحيل كما زعمه الخطيب، بل يمكن أن يعيش المسلمون في محبة ووئام، كما عاش خيار الصحابة في صدر الإسلام، مع اختلافهم في الرأي والفتيا، حيث كانوا إخوة أحباء، تتميز أخوّتهم بالتفادي والإيثار، ولم يفض اختلافهم في الرأي إلى جفوة أو بغضاء، أو تدابر أو تقاطع أو شحناء.
نعم أدرك المصلحون أن المجتمع الإسلامي في عصرنا هذا لا يقبل تكفير المسلم المؤمن بكتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه و آله بمجرّد المزاعم والإفتراءات والخلافات الفرعية(1).
فليس إذن فكرة التقريب فكرة شيعية أو فكرة سنية فضلاً عن أن تكون وليدة فكرة حكومة شيعية أو سنية، ولم تؤسس دار التقريب للتقريب بين السنة والشيعة فقط، بل تأسست للتقريب بين جميع المذاهب الإسلامية، وقد ساهم في تأسيسها من رجال العلم والدين أفذاذ لايشك في صدق نياتهم.
وأما ما ذكر من إنفاق دولة شيعية على دار التقريب فنحيل الفاحص عن ذلك إلى أقطاب جمعية التقريب السنة وغيرهم.
ولو سلم كون التقريب فكرة شيعية، وصدر من مبدأ شيعي، فلماذا لا يقبلهة.
ص: 34
السني لأنّه فكرة شيعية! ما الذي يمنع من التفكّر والتأمّل حول آراء الطرفين؟
وماذا يخسر السنّي إذا ما عرض له الشيعي آراءه وعقائده لئلّا يسيء إليه الظن ولا يتّهمه بالفسق أو الكفر؟
إنّ الشيعي لا يرى بذلك بأساً ولا يحس ضرراً من أن يدرس عقائد أهل السنّة ومذاهبهم، فهو حر في دراسة جميع العقائد يقرأ كتب أهل السنة وصحفهم ومجلّاتهم.
فهذه مكتبات قم، والنجف وطهران، وجبل عامل وغيرها من البلاد والعواصم الشيعية، والجامعات العلمية مملوءة من كتب السنّيّين القدماء ومن الصحاح، وجوامع الحديث والتفاسير والتواريخ، يدرسونها في مدارسهم، ومن كتب المتأخّرين، والمعاصرين أمثال الشيخ محمد عبده، ومحمد فريد وجدي والعقّاد، ورشيد رضا، وهيكل، والطنطاوي، وأحمد أمين، وسيد قطب، ومحمد قطب، والندوي، والمودودي وعفيف طباره، ومحمد الغزالي، وعبد الرزاق نوفل، والشيخ منصور علي ناصيف مؤلف (التاج الجامع للأصول) والشيخ المراغي والشيخ نديم الجسر وغيرهم.
وهذه محاضرات الشيعة في الفقه يدرسون فيها أقوال جميع أئمة الفقه، ورؤساء المذاهب، ويذكرون خلافاتهم، ويبحثون في أدلّة الأقوال، ويأخذون بما هو أوفق بالكتاب والسنة باجتهادهم من غير تعصّب لرأي، وكانت هذه سيرتهم من القديم، فراجع كتاب الخلاف للشيخ الإمام أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، والتذكرة للعلّامة الحلّي وغيرهما، لم يمنع أحد من العلماء تلامذته، وطلبة العلوم من مراجعة كتب أهل السنة، ولا ينكر أحد على أحد
ص: 35
شراء وبيع كتب أهل السنة في العقائد والحديث والكلام، ولا يرون بذلك كلّه بأساً، بل يستحسنونه ويستحثون عليه.
ص: 36
حكى الخطيب(1) في ص 6 نسبة بشعة من بعض كتب الشيعة إلى الخليفة عمر بن الخطاب، ونسب نشر الكتاب الذي ذكر فيه هذه النسبة إلى علماء النجف، ونسب إليهم أنّهم قالوا فيه عنه كذا...
من أوضح ما يظهر منه سوء نيّة الخطيب، وأنّه لم يرد إلّاإثارة الفتن والشقاق والخلاف بين المسلمين بافتراءاته النابية إسناد نشر الكتاب المذكور إلى علماء النجف، وحكايته عنهم أنّهم قالوا فيه عن عمر بن الخطاب إنّه كان...
ولو أسند نشره إلى ناشر معين وذكر اسمه واسم مؤلّفه لكان له عذر في نقلها، ولكنّه أسند نشره كذباً وبهتاناً إلى علماء النجف يعني به جميعهم، وهم من أحوط الناس على رعاية حرمة الإسلام والمسلمين، لا تجري أقلامهم
ص: 37
وألسنتهم الطيبة النزيهة إلّافي الإصلاح بين المسلمين وتوحيد كلمتهم، ودعوتهم وإرشادهم إلى الخير، ورفض البغضاء والشحناء، فهم في طليعة المصلحين المجاهدين لتحقيق الوحدة الإسلامية، ونبذ ما يوجب الخلاف والشقاق.
إذن فلا شك أنّه لم يرد بما حكاه عنهم إلّاتجريح العواطف وتهييج الفتنة، وافتراق كلمة المسلمين أو النيل من الخليفة بنشر هذه النسبة إليه، وتسجيل نقلها عن علماء النجف الأشرف، وفيهم من رجالات الدين والعلم والمعرفة بتواريخ الإسلام، وتراجم الرجال مَنْ آرائه وأقواله في غاية الإعتبار والإعتماد، فكأنّه أراد بتسجيل ما حكاه على علماء النجف الأشرف تسجيل أصل النسبة على الخليفة وإشاعتها، فإنّ الكتاب الذي ذكر فيه هذه النسبة (إن كان الخطيب صادقاً فيما حكاه) ليس معروفاً وفي متناول أيدي الشيعة وأهل السنة، فنحن لم نقف عليه ولا على اسم كاتبه بعد، مع الفحص الكثير في المكتبات، ولم نطّلع على مافيه إلّابحكاية الخطيب في كتابه الذي نشره في أرجاء العالم الإسلامي، وجعله في متناول أيدي أعداء الإسلام، والمتتبعين لعورات المسلمين، وكان الواجب على الحكومات السنية مؤاخذة الخطيب ومصادرة كتابه بإشاعته هذه النسبة، وحكايته في كتاب يقرؤه المسلمون وغيرهم.
وعلى كل حال لا حاجة لنا بتبرئة علماء النجف عما حكى عنهم، فإنّ شأنهم الرفيع أكبر وأنبل من ذكر الأمور الشائكة في كتبهم، فهم معتمدون في مقالاتهم وآرائهم في المذهب والفقه والعلوم الإسلامية على أقوى الأدلّة العلمية.
ص: 38
هذا، ولو فرضنا ذكر شيء من هذا القبيل في نقل لايعتمد عليه، أيجوز له أن ينسب ذلك إلى الشيعة!؟ وإلّا فيجوز أن ينسب إلى السنّيّين عقائد النواصب الذين سبوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وأحدثوا في الإسلام ماأحدثوا، وقتلوا سبطي رسول اللّه وريحانتيه صلى الله عليه و آله.
والعجب أنّ الخطيب تارة يقول: إنّ التقية عند الشيعة عقيدة دينية تبيح لهم التظاهر بغير ما يبطنون، وأخرى يقول: بتظاهرهم بأمر، لوكان التقية من دينهم لكان الواجب عليهم أن يستروه، لا أن يذيعوه ويكتبوه، وينشروه حتى يقرأه كل معاضد ومعاند، فتأمل ما في كلماته من التهافت والتناقض، ومجانبة الحق والإنصاف عصمنا اللّه تعالى منها.
ص: 39
ص: 40
قال الخطيب في ص 7: ومن أتفه وسائل التعارف أن يبدأ منها بالفروع قبل الأصول، فالفقه عند أهل السنة وعند الشيعة لا يرجع إلى أصول مسلّمة عند الفريقين، والتشريع الفقهي عند الأئمة الأربعة من أهل السنة قائم على غير الأسس التي يقوم عليها التشريع الفقهي عند الشيعة، وما لم يحصل التفاهم على هذه الأسس والأصول قبل الإشتغال بفروعها، وما لم يتم التجاوب في ذلك من الباحثين في المعاهد العلمية الدينية للطائفتين فلا فائدة من إضاعة الوقت في الفروع قبل الأصول، ولا نعني بذلك أصول الفقه بل أصول الدين من جذورها الاُولى... إلى آخره.
إن كان مراده من الأصول تلك التي قامت عليها دعوة الإسلام فلا اختلاف
ص: 41
فيها بين المسلمين من الشيعيين والسنيين، لا اختلاف بينهم في أنّ اللّه واحد أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وليس كمثله شيء، ولا في أنّه عليم قدير، سميع بصير، له الأسماء الحسنى، ولا في نبوّة أنبياء السلف، ولا في نبوة خاتم الأنبياء وسيّدهم محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه و آله، ولا في أنّ القرآن كتاب اللّه الذي أُنزل إليه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد(1).
ولا اختلاف بينهم في المعاد، والثواب والعقاب، والجنّة والنار، وغير ذلك من الأمور الإعتقادية التي يعرفها المسلمون، ويؤمنون بها كلّهم، كما لاخلاف بينهم في وجوب الصلاة، والصوم، والحج والزكاة وغيرها من التشريعات المالية والبدنية، والإجتماعية والسياسية.
وإن كان مراده من الأصول مسائل أخر مما اختلف فيه الصحابة أو التابعون، أو الفقهاء فليست هذه المسائل من تلك، وإذا كان الخطيب يعرف أصلاً من الأصول التي قامت عليها دعوة الإسلام مما يعد الإيمان في عصر النبي صلى الله عليه و آله والصحابة عند الجميع من شرايط الإسلام، ولايعرفه المسلمون من أهل السنة أو الشيعة في هذا العصر فنحن نطالبه به.2.
ص: 42
وأمّا ما ذكره من أنّ الفقه عند أهل السنة وعند الشيعة لا يرجع إلى أصول مسلّمة عند الفريقين، وأنّ التشريع الفقهي عند الأئمة الأربعة من أهل السنة قائم على غير الأُسس التي يقوم عليها التشريع الفقهي عند الشيعة.
فجوابه: أنّ الفقه عند جميع المسلمين من الشيعة وأهل السنة يرجع إلى الكتاب والسنة، والشيعة من أشد الناس تمسّكاً بهما إن لم نقل إنّهم أشد الفريقين في ذلك، ومع ذلك كيف تكون الأسس التي قام عليها التشريع الفقهي عند أهل السنة غير الأسس التي قام عليها عند الشيعة، وما الفرق بين السني والشيعي في هذه الأسس(1) ؟ نعم لا يجوز عند الشيعة إعمال القياس والإستحسان والرأي في
ص: 43
الشريعة، كما هو المعمول به عند بعض رؤساء المذاهب الأربعة، لأنّ القول بجواز العمل بالقياس والإستحسان يفضي عندهم إلى القول بنقص الشريعة التي لم تترك شيئاً من الأمور الدينية والدنيوية إلّاوقد بينت حكمها، ولعدم مسيس الحاجة إلى إعمال القياس، لإمكان استخراج أحكام جميع الوقايع والأحداث والقضايا من الكتاب والسنة، وعدم وجود واقعة لا يمكن إدراجها تحت الأحكام الكلية، وذلك لم يكن من مختصات الشيعة.
ولا يخفى عليك إنّ أكثر الخلافات الواقعة في الفقه يرجع إلى اختلاف الإجتهاد في استخراج الحكم من النصوص، وثبوت بعض الأحاديث عند مجتهد، وعدم ثبوتها عند مجتهد آخر.
هذا مضافاً إلى أنّه لا إلزام لتبعية المجتهد للأسس التي قام عليها التشريع الفقهي بحسب مذهب خاص، ولا أن يكون مقيّداً بطريقة إمام خاص كالشافعي
ص: 44
وأبي حنيفة وغيرهما، بل يجب أن يكون المتبع هو الأسس التي قام عليها التشريع الإسلامي (الكتاب والسنّة) سواء وافق رأي أهل مذهب خاص أم لم يوافق، فإن وافق اجتهاد مجتهد في مسألة فتوى الشافعي، وفي مسألة فتوى الحنفي، وفي مسألة فتوى المالكي، وفي مسألة فتوى مجتهد شيعي لا بأس به، فإنّ المحذور مخالفة الأصول التي قام عليها التشريع الإسلامي لا الأسس التي قام عليها اجتهاد مجتهد خاص.
وقد كان المسلمون قبل حصر المذاهب في الأربعة يجتهدون في الكتاب والسنة، كما هو سيرة الشيعة الإمامية في الإجتهاد إلى اليوم.
وأمّا صحة الإجتهاد في فتوى مجتهد خاص فلم يدل عليها دليل، ولم يقم على اعتباره لغيره من المجتهدين حجة من الكتاب والسنة، مضافاً إلى أنّه يوجب سد باب الإجتهاد وسلب الحرية عن المجتهدين ووقوف الفقه الإسلامي عن مسيره، وحرمان العلماء عن التفكير والتأمل في الكتاب والسنة، وأظن أنّ الأئمة الأربعة أيضاً لم يريدوا أن يكون مسلكهم في الفقه حجة لسائر المجتهدين، وسبباً لإقفال باب الإجتهاد عليهم، لتنحصر المذاهب في الأربعة(1)ة.
ص: 45
كما أظن أنّ المجتهدين لو جعلوا نصب أعينهم التشريع الإسلامي، والكتاب والسنة، ولم يقيّدوا أنفسهم باتباع مذهب مجتهد معين، كما كان عليه المسلمون قبل تأسيس هذه المذاهب، لزال كثير من هذه الإختلافات والمنافرات، ولسار الفقه الإسلامي نحو عالم أرقى وأوفق بالكتاب والسنة وبمزاج العصر، ولمزيد البحث في ذلك مجال آخر.
ص: 46
قال الخطيب في ص 7: وأوّل موانع التجاوب الصادق بإخلاص بيننا وبينهم ما يسمّونه (التقية) فإنّها عقيدة دينية تبيح لهم التظاهر لنا بغير ما يبطنون... إلخ.
بعد تصنيف الشيعة في عقائدهم وفقههم كتباً كثيرة لا يمكن إحصاؤها، وبعدما اطّلع عليه الخاص والعام من معتقدات الإمامية، وبعد عرضهم مذاهبهم بما كتب علماؤهم في التفسير والحديث والكلام والفقه على الملأ الإسلامي، وبعد إعلانهم عقائدهم على رؤوس المنابر، وفي الجرائد والمجلات، وبعد هذه الحوارات الحاصلة بين الفريقين، وبعد المشافهات التي وقعت بين عظمائهم من العلماء وغيرهم حيث يزور إخواننا من أهل السنة بلاد الشيعة، ومعاهد علومهم الدينية، ويشاهدون بأعينهم التزام الشيعة بشعائر الإسلام، ويحضرون دروسهم، ومحاضراتهم في العقائد وفي الفقه، هل يمكن للشيعة التظاهر في عقائدهم بغير ما يبطنون؟ وهل ينتفعون بإخفاء عقائدهم.
ص: 47
أيزعم الخطيب أنّ علماء الأزهر، وأقطاب التقريب لم يطلعوا على ما اطلع عليه من كتب الشيعة، ولم يدركوا حقيقة مذهب الإمامية وآرائهم في التقية وغيرها؟
أليس شيخ الأزهر أبصر من الخطيب ونظرائه بالمذاهب الإسلامية؟ هذا المصلح الذي أدرك بعلمه الواسع وغيرته على الإسلام والمسلمين ضرورة الإتحاد والإتفاق، وإمكان التقريب بين الطائفتين، فقام للّه وأدى ما عليه من نصيحة الأُمة، ورفع الجفوة، فأيد الزعماء المصلحين، وأسلافه من مشايخ الأزهر كالعلامة الكبير الشيخ عبد المجيد سليم بإصدار فتواه التاريخية بجواز التعبّد بمذهب الإمامية وجواز الإنتقال من سائر المذاهب إلى هذا المذهب.
ألا يصير أُضحوكة الناس من يقول: إنّ الشيعة حيث يقولون بالتقية لا يقبل منهم إقرار واعتراف في عقائدهم، وإنّهم يبطنون خلاف ما يظهرون.
أليست التقية جائزة عند اهل السنة؟
ألم يعمل بالتقية الصحابي الجليل عمّار بن ياسر ونزل فيه هذه الآية الشريفة: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان(1)(2).
قال الواحدي في أسباب النزول: قال ابن عباس: (نزلت يعني قوله تعالى:
من كفر باللّه من بعد إيمانه (2) في عمّار بن ياسر، وذلك إن المشركين أخذوه وأباه ياسراً، وأُمه سُمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً، فأما سُمية فإنها ربطت بين بعيرين، ووجئ قلبها بحربة، وقيل لها: إنّك أسلمت من أجل الرجال، فقُتلت،2)
ص: 48
وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام، وأما عمار فإنّه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً فأخبر النبي صلى الله عليه و آله بأنّ عماراً كفر، فقال: كلّا إن عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه، وأخلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهو يبكي، فجعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله يمسح عينيه وقال: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، فأنزل اللّه هذه الآية).
ونحن ننقل كلمات بعض أعلام الفريقين في التقية حتى يعلم أنّ القول بها متفق عليه بين فرق المسلمين غير الخوارج، فإنه ينقل أنهم منعوا التقية مطلقاً.
قال الفخر الرازي في تفسيره المسمى بمفاتيح الغيب(1) في تفسير قوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء إلّاأن تتّقوا منهم تقاة(2):
المسألة الرابعة: اعلم أنّ للتقية أحكاماً كثيرة؛ ونحن نذكر بعضها:
(الحكم الأول): إنّ التقية إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار، ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمعية والموالاة، لكن بشرط أن يضمر خلافه، وأن يعرض في كل ما يقول، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.
(الحكم الثاني للتقية): هو أنّه لو أفصح بالإيمان، والحق حيث يجوز له8.
ص: 49
التقية كان ذلك أفضل، ودليله ما ذكرنا في قصة مسيلمة.
(الحكم الثالث للتقية): أنّها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة، وقد تجوز أيضاً فيما يتعلق بإظهار الدين، فأما مايرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا، وغصب الأموال والشهادة بالزور، وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز البتة.
(الحكم الرابع): ظاهر الآية يدل على أن التقية إنّما تحل مع الكفار الغالبين إلّا أن مذهب الشافعي (رض) أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس.
(الحكم الخامس): التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى الله عليه و آله: حرمة مال المسلم كحرمة دمه، ولقوله صلى الله عليه و آله: من قتل دون ماله فهو شهيد. ولأنّ الحاجة إلى المال شديدة، والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء، وجاز الإقتصار على التيمم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال فكيف لا يجوز هاهنا واللّه أعلم.
(الحكم السادس): قال مجاهد: هذا الحكم كان ثابتاً في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا.
روى عوف عن الحسن أنّه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى لأنّ دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان (انتهى كلامه).
وقال الشيخ الطوسي في التفسير المسمّى بالتبيان، في تفسير الآية
ص: 50
المذكورة: والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس، وقد روى رخصة في جواز الإفصاح بالحق عندها (ثم ذكر ما روى الحسن في قصة مسيلمة وقال:
فعلى هذا، التقية رخصة، والإفصاح بالحق فضيلة، وظاهر أخبارنا يدلّ على أنّها واجبة وخلافها خطاء(1).
وقال الطبرسي في مجمع البيان: وفي هذه الآية دلالة على أنّ التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقال أصحابنا: إنها جائزة في الأحوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والإستصلاح، وليس تجوز من الأفعال في قتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه استفساد في الدين، قال المفيد: إنّها قد تجب أحياناً وتكون فرضاً، ويجوز أحياناً من غير وجوب، وتكون في وقت أفضل من تركها، وقد يكون تركها أفضل، وإن كان فاعلها معذوراً ومعفواً عنه، ومتفضّلاً عليه بترك اللوم عليها.
فهذه جملة من كلمات علماء الفريقين مفصحة بجواز التقية في الجملة، معلنة بتقارب آرائهم فيها، وأن الكل معتمدون في القول بها على الكتاب والسنة.
إذن فما ذنب الشيعة في القول بها؟ وما وجه مؤاخذتهم عليها إلّاالتعصّب والجهل، نعم رأي الشيعة جواز التقية، وقد عملوا بها في الأجيال التي تغلبت فيها على البلاد الإسلامية أُمراء الجور، وحكّام جبابرة مثل معاوية، ويزيد، والوليد، والمنصور، والهادي، وهارون، وزياد، والحجاج، والمتوكل، وغيرهم ممنً.
ص: 51
عذبوا أئمة أهل البيت أئمة الخير، وقدوة العلم والزهد والدين، وعذّبوا أشياعهم شر تعذيب، وقتلوهم أبشع قتلة(1).
وفي العصور التي كان فيها أخذ الحديث من أئمة أهل البيت و عترة النبي صلى الله عليه و آله وممن يحبهم أو يفضّلهم على غيرهم من أعظم الجرائم السياسية، في العصور التي سلبت عن المسلمين الحرية التي هتف بها الإسلام، وكان سب أمير المؤمنين علي عليه السلام سُنّة جارية لا يجترئ أحد أن ينكره.
نعم عملوا بالتقية في الأزمنة التي كان فيها من بني فاطمة الزهراء بضعة الرسول صلى الله عليه و آله من يخفي انتسابه إليها وإلى بعلها عليهما السلام ليسلم من القتل والسجن والسوط، وأنواع التعذيب للمتشرفين بهذه النسبة الشريفة الطاهرة الزكية، وفي الأجيال التي لا يعد الرجل فيها من أهل السنة إلّاإذا كان في نفسه عن أمير المؤمنين وفاطمة وسائر أهل البيت عليهم السلام شيء من البغض، أو يتظاهر بذلك ويترك أحاديث فضائلهم.
هذا الخطيب البغدادي يذكر في تاريخه(2): أنّ نصر بن علي الجهضمي المحدّث الكبير لمّا حدّث بهذا الحديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «من أحبني وأحب هذين (وأشار إلى الحسن والحسين عليهما السلام) وأباهما وأُمهما كان معي5.
ص: 52
في درجتي يوم القيامة»(1) أمر المتوكل بضربه ألف سوط، وكلمه جعفربن عبد الواحد، وجعل يقول: هذا الرجل من أهل السنة، ولم يزل به حتى تركه.
فهل تجد في مثل هذا العصر بداً من التقية. فتأمّل من مغزى هذه القصة وأمثالها، وقد عمل بالتقية في هذه العصور كثير من المحدّثين والعلماء من أهل السنة أمثال أبي حنيفة والنسائي، ولم يكن للمحدّثين وأرباب الصحاح والمسانيد كأحمد وغيره حرية في تخريج ما يخالف سياسة الحكومة وأهواء الأُمراء، ولم يكن للمصنفين في تأليف الكتب ونقل الروايات بد من التقية لكونهم تحت اضطهاد شديد ومراقبة عيون الحكومة التي بثّت جواسيسها في البلاد للفحص عمن يرى أو يروي لأهل البيت منقبة وفضيلة. ولقد أجاد إمام الحنفية في الأشعار المنسوبة إليه:
حب اليهود لآل موسى ظاهري.
ص: 53
لم يحفظوا حتى النبي محمّد في آله واللّه بالمرصاد(1)
هكذا كان حال المسلمين وعلمائهم في تلك القرون المظلمة، وأمّا في هذا العصر فالعلماء والباحثون أحرار في إظهار آرائهم حول المباحث الإسلامية، وليس بين الشيعي والسني ذلك التنافر الذي أوجدته السياسة في تلك العصور، فلا خوف ولا قتل ولا سجن لبيان الرأي، ولا يقاس هذا الزمان بعصر الأمويين والعباسيين، وعصر الحجاج والمتوكل، ذلك زمان وهذا زمان(2) ولكن الخطيب لما رأى أنّ تصريحات علماء الشيعة في رسالة الإسلام، وفي كتبهم في العقائد وغيرها بدأت يدفع عنهم ما افترت عليهم السياسة والتعصّب والجهل ويذهب بالتنافر الذي بقي بين المسلمين أكثر من 13 قرناً لم يتمكّن أن يقول شيئاً غير مقالة إن الشيعة يتظاهرون بغير ما يبطنون.ح.
ص: 54
وسواء أراد الخطيب وناشر كتابه أم لم يرد فقد حسن التجاوب بين الفريقين، والتفاهم فيما بينهم، إلى حد أن صدرت عن شيخ الأزهر فتواه التاريخية بجواز التعبد بمذهب الإمامية، كما صدرت عن علماء الشيعة مثل السيّد شرف الدين والسيّد محسن الأمين، والشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، وغيرهم مقالات وكتب قضت على الإفتراءات قضاءً حاسماً(1).ر.
ص: 55
ص: 56
قال الخطيب في ص 8: وحتى القرآن الذي كان ينبغي أن يكون المرجع الجامع لنا ولهم على التقارب نحو الوحدة، فإنّ أصول الدين عندهم قائمة من جذورها على تأويل آياته وصرف معانيها إلى غير ما فهمه منها الصحابة عن النبي صلى الله عليه و آله وإلى غير ما فهمه منها أئمة الإسلام عن الجيل الذي نزل عليه القرآن.
عقائد الشيعة مأخوذة من الكتاب والسنة القطعية، ومن الأدلّة العقلية القاطعة، وتمام الملاك والمناط الفذ والمرجع الوحيد في تمييز العقيدة الصحيحة عن السقيمة عندهم هو العقل وظواهر القرآن والسنة، فالشيعي لا يعتقد بما خالف ظواهر الكتاب أو السنة، نعم إذا صادم الظاهر ما قام عليه البرهان القطعي
ص: 57
العقلي أو تعارض ما دل عليه نص أو صريح من الكتاب أو السنة لا يعتمدون عليه، كما برهنوا عليه في الأصول، ويؤوّلون هذا الظاهر بتأويل صحيح مقبول لدى العقل والشرع، ومع ذلك لا يستندون إلى هذا التأويل، ولا يؤسسون الأمور الإعتقادية، بل والمسائل العملية الفرعية على تلك التأويلات.
وعند الشيعة روايات بطرقهم عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، إسناد بعضها صحيحة وبعضها سقيمة، في تفسير الآيات وبيان مصاديقها، وشأن نزولها وتقييد بعض مطلقاتها، وتخصيص بعض عموماتها، وبيان خاصها وعامها، وغير ذلك.
وأفرد بعضهم في هذا القسم من التفسير، وجمع فيه تلك الروايات وليست مقبولة عند الشيعة، وهو بينهم كتفسير السيوطي المسمى (بالدر المنثور في التفسير بالمأثور) عند الجمهور.
والعجب من الخطيب أنّه يرمي الشيعة بتأويل الآيات، ويغمض النظر عن تأويلات أكابر أهل السنة، وأقطابهم من المتصوّفة وغيرهم مما لا يقبله الطبع السليم والذهن المستقيم، ومما تضحك به الثكلى.
فاقرأ يا أخي قليلاً من هذه التأويلات الخيالية الباطلة في تفسير النيشابوري (غرائب القرآن). وراجع التفاسير المشهورة المعتمدة عند الشيعة كالتبيان للشيخ الطوسي، ومجمع البيان لأمين الإسلام الطبرسي حتى تعرف نزاهة الشيعة عن هذه التأويلات الوهمية الشعرية وعدم اعتدادهم بها.
ص: 58
قال الخطيب في ص 8: بل إن أحد كبار علماء النجف وهو الحاج ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي الذي بلغ من إجلالهم له عند وفاته سنة 1320 ه أنهم دفنوه في بناء المشهد المرتضوي بالنجف، في إيوان حجرة بانو العظمى بنت السلطان الناصر لدين اللّه، وهو إيوان الحجرة القبلية عن يمين الداخل إلى الصحن المرتضوي من باب القبلة في النجف الأشرف بأقدس البقاع عندهم.
هذا العالم النجفي ألّف في سنة 1292 ه وهو في النجف عند القبر المنسوب(1) إلى الإمام علي كتاباً سمّاه (فصل
ص: 59
الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) جمع فيه مئات النصوص عن علماء الشيعة ومجتهديهم في مختلف العصور بأنّ القرآن قد زيد فيه ونقّص منه، وقد طبع كتاب الطبرسي هذا في إيران سنة 1298 ه، وعند طبعه قامت حوله ضجة لأنّهم كانوا يريدون أن يبقى التشكيك في صحة القرآن محصوراً بين خاصتهم ومتفرقاً في مئات الكتب المعتبرة عندهم، وأن لا يجمع ذلك في كتاب واحد تطبع منه ألوف من النسخ، ويطَّلع عليه خصومهم فيكون حجة عليهم، ماثلة أمام أنظار الجميع، ولما أبدى عقلاؤهم هذه الملاحظات خالفهم فيها مؤلفه، وألّف كتاباً آخر سماه (رد بعض الشبهات عن فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) وقد كتب هذا الدفاع في آخر حياته قبل موته بنحو سنتين، وقد كافئوه على هذا المجهود في إثبات أنّ القرآن محرّف بأن دفنوه في ذلك المكان الممتاز من بناء المشهد العلوي في النجف... إلخ.
القرآن معجزة نبينا محمد صلى الله عليه و آله الخالدة، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قد عجز الفصحاء عن الإتيان بمثله، وبمثل سورة وآية منه، وحيّر عقول البلغاء وفطاحل الأدباء، قد بيّن اللّه تعالى فيه أرقى المباني، وأسمى المبادئ، وأنزله على نبيه دليلاً على رسالته، ونوراً للناس، وشفاءً لما في الصدور، وهدى ورحمةً للمؤمنين.
قال سيّدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: واعلموا أن هذا
ص: 60
القرآن(1) هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلّاقام عنده بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، ونقصان من عمى، واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم(2).
ولا ينحصر إعجاز القرآن في كونه في الدرجة العليا من الفصاحة والبلاغة، وسلاسة الترتيب، وسلامة التركيب، والتأليف العجيب، والأسلوب البكر فحسب، بل هو معجزة أيضاً لأنه حوى أصول الدين والدنيا، وسعادة النشأتين.
ومعجزة لأنّه أنبأ بأخبار حوادث كثيرة تحقّقت بعده.
كما أنه معجزة في التاريخ، وبما فيه من أخبار القرون السالفة، والأُمم البائدة، التي لم يكن لها تاريخ في عصر الرسول صلى الله عليه و آله مما أثبتت الكشوف الأثرية صحتها.
ومعجزة لأنّ فيه أصول علم الحياة والصحة والوراثة، وماوراء الطبيعة، والإقتصاد والهندسة والزراعة.1.
ص: 61
ومعجزة في الإحتجاج.
وإعجاز في الأخلاق و الآداب وما إلى ذلك.
وقد مرت عليه أربعة عشر قرناً ولم يقدر في طول هذه القرون أحد من البلغاء أن يأتي بمثله، ولن يقدر على ذلك أحد في القرون الآتية والأعصار المستقبلة، ويظهر كل يوم صدق ما أخبر اللّه تعالى به فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا(1).
هذا هو القرآن، وهو روح الأُمة الإسلامية، وحياتها ووجودها وقوامها، ولولا القرآن لما كان لنا كيان.
هذا القرآن هو كل ما بين الدفتين، ليس فيه شيء من كلام البشر، كل سورة من سوره وكل آية من آياته متواتر مقطوع به، لاريب فيه، دلّت عليه الضرورة والعقل، والنقل القطعي المتواتر.
هذا هو القرآن عند الشيعة ليس إلى القول فيه بالنقيصة فضلاً عن الزيادة سبيل، ولا يرتاب في ذلك إلّاالجاهل أو المبتلى بالشذوذ.
وإليك بعض تصريحات أعلام الإمامية ورجالاتهم في العلم والدين، الذين لا يجتري شيعي على رد آرائهم سيما في أصول الدين، وفي أمثال هذه المسائل، لجلالتهم في العلم والتتبع وكثرة إحاطتهم، وقوة حذاقتهم في الفنون الإسلامية.4.
ص: 62
قال شيخ المحدّثين محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الملقب بالصدوق (ت 281 ه) ومؤلف كتاب من لا يحضره الفقيه، وعشرات من الكتب القيّمة، في رسالته المعروفة باعتقادات الصدوق: اعتقادنا في القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه محمد صلى الله عليه و آله هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك - إلى أن قال -: ومن نسب إلينا أنا نقول: إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب، ثم شرع في إقامة البرهان على ذلك، (فراجع تمام كلامه).
وقال الشيخ المفيد: وأمَّا النقصان! وقد قال جماعة من أهل الإمامة إنّه لم ينقص من كلمة، ولا من آية ولا من سورة، ولكن حذف ما كان ثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله، وذلك كان ثابتاً منزلاً، وإن لم يكن من جملة كلام اللّه تعالى الذي هو القرآن المعجز، وقد يسمى تأويل القرآن قرآناً قال تعالى: ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً(1) فسمّي تأويل القرآن قرآناً، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف، وعندي أن هذا القول أشبه من مقال من ادعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل، وإليه أميل واللّه أسأل توفيقه للصواب.
وأما الزيادة فيه فمقطوع على فسادها(2).
وقال الشيخ الجليل أبو علي أمين الإسلام الطبرسي أحد أعلام الشيعة في علوم القرآن، في تفسيره القيّم المسمى بمجمع البيان(3).ا.
ص: 63
فأما الزيادة فيه فمجمع على بطلانها، وأما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية أهل السنة أن في القرآن نقصاناً، والصحيح من مذهبنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى (قدس اللّه روحه)، واستوفى الكلام فيه غاية الإستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات، وذكر في مواضع: أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان، والحوادث العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب، فإنّ العناية اشتدت، والدواعي توفرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حد لم تبلغه فيما ذكرنا، لأنّ القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته، وحروفه وآياته، فكيف أن يكون مُغَيَّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد!!
قال: وقال أيضاً: إنّ العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة، ككتاب سيبويه والمزني، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من جملتها ما يعلمون من تفصيلها، حتى لو أن مُدخِلاً أدخل باباً من النحو في كتاب سيبويه أو من غيره في كتاب المزني لعُرف ومُيّز، وعلم أنّه ملحق ليس من أصل الكتاب، ومعلوم أن العناية بنقل القرآن وضبطه أكثر من العناية بضبط كتاب سيبويه، ودواوين الشعراء.
قال: وذكر أيضاً: إنّ القرآن كان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن، واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنّه كان يعرض على النبي صلى الله عليه و آله ويتلى عليه وأنّ جماعة من الصحابة مثل عبداللّه بن
ص: 64
مسعود، وأُبيّ بن كعب وغيرهما، ختموا القرآن على النبي صلى الله عليه و آله عدة ختمات، كل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنّه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبتوت، وذكر أن من خالف ذلك من الإمامية والحشوية من أهل السنة لا يعتد بخلافهم، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث، نقلوا أخباراً ضعيفة ظنوا صحتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع بصحته.
وقال شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه) ومؤلّف كتاب الخلاف والمبسوط، والتهذيب والإستبصار وغيرها، في تفسيره المسمى بالتبيان(1) أما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضاً، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى (رحمه اللّه)، وهو الظاهر في الروايات (إلى أن قال:) ورواياتنا متناصرة بالحث على قراءته، والتمسّك بما فيه، ورد ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه، وعرضها عليه فما وافقه عمل عليه، وما خالفه تجنّب ولم يلتفت إليه.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله رواية لا يدفعها أحد إنّه قال: (إنّي مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض) وهذا يدلّ على أنّه موجود في كل عصر، لأنّه لا يجوز أن يأمرنا بالتمسك بما لا يقدر على التمسك به، كما أن أهل البيت ومن يجب اتّباع قوله حاصل في كل وقت، وإذا كان الموجود بيننا مجمعاً على صحته).
ص: 65
فينبغي أن نتشاغل بتفسيره وبيان معانيه وترك ما سواه.
وقال العالم الجليل الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتابه المسمى بكشف الغطاء: (والسابع في زيادته) لا زيادة فيه من سورة ولا آية، من بسملة وغيرها، لا كلمة ولا حرف، وجميع ما بين الدفتين مما يتلى كلام اللّه تعالى بالضرورة من المذهب بل الدين وإجماع المسلمين، وأخبار النبي والأئمة الطاهرين عليهم السلام.
وقال: (الثامن في نقصه) لاريب في أنّه محفوظ من النقصان، بحفظ ملك الديّان، كما دلّ عليه صريح القرآن، وإجماع العلماء في جميع الأزمان، ولا عبرة بالنادر، وماورد من أخبار النقيصة تمنع البديهة من العلم بظاهرها (إلى آخر كلامه المتين).
وقال الشيخ الأكبر العالم الشهير، نابغة الزمان، الشيخ محمد بهاء الدين العاملي على ما حُكي عنه في آلاء الرحمن ص 26:
الصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظ عن ذلك، زيادة كان أو نقصاناً، ويدلّ عليه قوله تعالى: وإنا له لحافظون(1) ، وقال في كتاب الزبدة: القرآن متواتر لتوافر الدواعي على نقله.
وممن صنّف في نفي النقيصة، بعد الإجماع على عدم الزيادة، الشيخ العلّامة الجليل علي بن عبد العالي الكركي، المعروف بالمحقق الثاني.
وقال العلامة الكبير المولى محمد إبراهيم الكلباسي في كتاب الإشارات:
بعد استقراء كلمات علماء الإسلام بأصنافهم في كتبهم الكلامية والأصولية9.
ص: 66
والتفسيرية، وما اشتمل على الخطابات والقصص، وما يتعلّق بعلم القرآن بأصنافه، ومنه علم القراءة والتواريخ وغيرها، مع كمال اهتمامهم في ضبط ما يتعلّق بكل واحد منها يتبيّن أن النقصان في الكتاب مما لا أصل له، وإلّا لاشتهر وتواتر، نظراً إلى العادة في الحوادث العظيمة، وهذا منها بل من أعظمها.
وقال العلّامة المغفور له المجاهد المعاصر الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في (أصل الشيعة وأصولها): إنّ الكتاب الموجود بين المسلمين هو الكتاب الذي أنزله اللّه إليه للإعجاز والتحدي، وإنّه لا نقص ولا تحريف، ولا زيادة فيه، وعلى هذا إجماعهم.
وممن فنّد القول بالتحريف زيادة ونقيصة، ورد كل شبهة في ذلك، بأتم بيان، وأوضح برهان، العالم الجليل المفسّر المتكلم المجاهد الشيخ محمدجواد البلاغي صاحب الكتب الممتعة، والتصانيف القيّمة، في مقدمة تفسيره المعروف والمسمى بآلاء الرحمن، فإنه قد أدى حق المقام، ودافع عن قداسة القرآن، وأظهر الحق وأبطل الباطل، فراجعه حتى تعرف قيمة خدمات الشيعة للإسلام والقرآن، وغيرتهم على الدين والكتاب.
وقال الشريف المصلح السيّد عبد الحسين شرف الدين في الفصول المهمة في تأليف الأُمة(1): والقرآن الحكيم لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، إنّما هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس، لا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً، ولا تبديل فيه لكلمة بكلمة، ولا لحرف بحرف، وكل حرف من حروفه متواتر3.
ص: 67
في كل جيل تواتراً قطعياً إلى عهد الوحي والنبوة، وكان مجموعاً على ذلك العهد الأقدس مؤلفاً على ما هو عليه الآن، وكان جبرئيل عليه السلام يعارض رسول اللّه صلى الله عليه و آله مراراً عديدة، وهذا كلّه من الأمور المعلومة لدى المحققين من علماء الإمامية، ولا عبرة بالحشوية فإنّهم لا يفقهون.
وقال العالم المتتبع، والرجالي الكبير السيّد محسن الأمين الحسيني العاملي في أعيان الشيعة(1): لا يقول أحد من الإمامية لا قديماً ولا حديثاً إن القرآن مزيد فيه قليل أو كثير فضلاً عن كلّهم، بل كلّهم متفقون على عدم الزيادة، ومن يعتد بقوله من محققيهم متفقون على أنّه لم ينقص منه.
وقال العالم المفسّر الشيخ محمد النهاوندي في مقدمة تفسيره (نفحات الرحمن): قد ثبت أن القرآن كان مجموعاً في زمان النبي صلى الله عليه و آله، وكان شدة اهتمام المسلمين في حفظ ذلك المجموع بعد النبي صلى الله عليه و آله وفي زمان احتمل بعض وقوع التحريف فيه، كاهتمامهم في حفظ أنفسهم وأعراضهم (إلى آخر كلامه التام).
وممّن صنّف في الإمامية في ردّ شبهة التحريف العالم الرئيس السيّد محمد حسين الشهرستاني، فإنّه صنّف في ذلك كتاباً أسماه (رسالة في حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف) وقال فيه على ما حكي عنه، بعد رد ما في فصل الخطاب من الشبهات: لا شبهة في أنّ هذا القرآن الموجود بين الدفتين منزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله للإعجاز للتسالم على نفي زيادة الآية والسورة فيها، والشكّ إنما هو في نزول ما عداه إعجازاً والأصل عدمه.8.
ص: 68
وممن أدّى حق الكلام في بطلان القول بالتحريف العالم الجليل والمرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئي في تفسيره المسمى ب (البيان) فراجع ما أفاده في ص 136-181 فقد أثبت بما لا مزيد عليه أن مسألة نقصان الكتاب مما لا أصل له، وقال في آخر كلامه:
وقد تبيّن للقارئ مما ذكرناه أنّ حديث تحريف القرآن حديث خيالي لا يقول به إلّامن ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل، أو من ألجأ إليه حب القول به، والحب يعمي ويصم، أما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه. انتهى كلامه.
ولنعم ما أفاده العلّامة الفقيه، والمرجع الديني السيّد محمدرضا الگلپايگاني بعد التصريح بأنّ ما بين الدفتين هو القرآن المجيد: ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، والمجموع المرتب في عصر الرسالة بأمر الرسول صلى الله عليه و آله بلا تحريف ولا تغيير، ولا زيادة ولا نقصان.
وإقامة البرهان عليه: أن احتمال التغيير زيادة ونقيصة في القرآن كاحتمال تغيير المرسل به، واحتمال كون القبلة غير الكعبة في غاية السقوط لا يقبله العقل وهو مستقل بامتناعه عادة.
ولو رمنا استقصاء كلمات علمائنا الأعاظم في كل جيل لطال بنا الكلام، ولايسع ذلك كتاب كبير ضخم، ويكفي في ذلك تصريح أستاذنا الإمام راوية أحاديث أهل البيت وحامل علومهم، نابغة العصر ومجدد العلم والمذهب في القرن الرابع عشر، السيّد الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي (حشره اللّه مع جده النبي الكريم صلى الله عليه و آله) فإنّه أفاد في بعض أبحاثه في الأصول كما كتبنا عنه في
ص: 69
تقريرات بحثه «بطلان القول بالتحريف»، وقداسة القرآن عن وقوع الزيادة فيه، وإن الضرورة قائمة على خلافه، وضعَّف أخبار النقيصة غاية التضعيف سنداً ودلالةً وقال:
إنّ بعض هذه الروايات مشتمل على ما يخالف القطع والضرورة، وما يخالف مصلحة النبوة، وقال في آخر كلامه الشريف:
ثم العجب كل العجب من قوم يزعمون أنّ الأخبار محفوظة في الألسن والكتب في مدة تزيد على ألف وثلاثمائة سنة، وأنّه لو حدث فيها نقص لظهر، ومع ذلك يحتملون تطرق النقيصة في القرآن المجيد.
ص: 70
اعلم أنّ الواجب على كل مسلم غيور على الدين والقرآن أن يدفع عن الكتاب الكريم هذه الشبهة، وأن يحتاط في نسبة القول بالتحريف أو التشكيك في القرآن إلى أحد من المسلمين، ويعلم أنّه مسؤول عند اللّه تعالى عما يقول ويكتب.
وكان الأولى بالخطيب أن يتمسك بأقوال العلماء ذوي الإختصاص والمهارة من الشيعة والسنة في صيانة القرآن من النقصان والزيادة، لا أن يركض وراء القول بالتحريف، ويسجل ذلك على طائفة كبيرة من المسلمين.
وقد أراد الخطيب بذلك تشويه سمعة التشيع، ولم يعلم أنّه شوّه سمعة الدين، وضرب الكتاب المبين، وخدم أعداء الدين، وفتح السبل أمام شبهات المبشّرين، وقد نسي هذا الكاتب أنّه يهدم بهذه الفرية على الشيعة أساس الإسلام، والشيعة أشد الناس غيرة على كتاب اللّه تعالى، وأدفعهم عن جلالة القرآن وقداسته، ينكرون القول بالزيادة والنقيصة أشد الإنكار، وكتبهم مشحونة
ص: 71
بالدلائل العقلية والنقلية على تنزّه القرآن عن الريب والشبهات.
فاقرأ أيّها الخطيب كتبهم في التفسير والعقائد والحديث، واقرأ فيها الأحاديث المتواترة القطعية الدالّة على أنّ القرآن هو هذا الذي بيد المسلمين، وانظر إلى الأخبار المأثورة على طرقهم في ثواب قراءة القرآن وقراءة سوره وآياته وكلماته، وفي وجوب الرجوع إليه والتمسك به يقرؤون القرآن في صلاتهم، ويتلونه في ليلهم ونهارهم، يعظمونه كمال التعظيم، ليس عندهم كتاب أعظم من القرآن، فارجع إلى كتبهم في الفقه والحديث، والدعاء إن كنت أهلاً للإنصاف.
ولا يسوؤنا واللّه نسبة هذه الفرية إلى الشيعة كما يسوؤنا ما يمس منها كرامة الدين الحنيف والقرآن المجيد.
أيّها الخطيب لو قال لك بعض المبشّرين أو غيرهم: إن من مذهب الشيعة وهم طائفة كبيرة من المسلمين، وقوع التحريف في الكتاب كما تسجّل عليهم، وفيهم من العلماء والمحقّقين، وأساتذة فن التاريخ والحديث، والعلوم الإسلامية رجال لايستهان بشأنهم وجلالتهم، وهم يسندون عقائدهم وعلومهم إلى أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله أعدال الكتاب بدلالة حديث الثقلين، ما تقول في جوابه؟.
أتقول: إنّهم كفار؟.
أو تقول: إنّهم يسبُّون الصحابة؟ أو تقول: إنّهم يقرؤون دعاء صنمي قريش؟ قل ما تقول في جوابه أيها الكاتب الإسلامي؟.
لو تعلم أنّك وأمثالك كم توقعون بالإسلام والمسلمين من الضرر، والضعف والفشل، بهذيانكم وافتراءاتكم على الشيعة، لتركتم هذه المخاصمات
ص: 72
الباردة، والمناقشات التي لا طائل تحتها، ولغسلتم عن كتبكم هذه المهازل والمخاريق.
وكم من فرق بين الخطيب وبين العلّامة الشيخ رحمة اللّه الهندي! فالخطيب يسند إلى الشيعة فرية يتبرأ منها كل شيعي، ولا يلتفت إلى أنّ تلك النسبة إنّما تجعل القرآن معرضاً للشك، و العلّامة الشيخ رحمة اللّه الذي يعد من أكبر علماء أهل السنة ومن أحوطهم على الإسلام أدرك أنّ هذه النسبة هي منتهى أمل المبشّرين وغاية مناهم، وأنّ الواجب على السنّي كالشيعي أن يدفعها عن الشيعة فأثبت في كتابه (إظهار الحق) الذي هو من نفائس كتب المسلمين في الرد على المسيحيين، بل قيل: لم يكتب مثله في ردّ المبشّرين بطلان هذه النسبة، وأدى ما عليه من إظهار الحق وإزهاق الباطل، وإماتة الشبهة، وقد دفع عن حريم القرآن هذه التهمة، حيث قال في الفصل الرابع من الجزء الثاني ص 89:
القرآن المجيد عند جمهور علماء الشيعة الإمامية الإثنى عشرية محفوظ عن التغيير والتبديل، ومن قال منهم بوقوع النقصان فيه فقوله مردود غير مقبول عندهم، (ثم نقل كلمات جماعة من أعلام الشيعة كالصدوق والسيّد المرتضى والطبرسي والقاضي نور اللّه، والمولى صالح القزويني شارح الكافي، والشيخ محمد الحر العاملي) وقال:
فظهر أن المذهب المحقّق عند علماء الفرقة الإمامية الإثنى عشرية أنّ القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، وأنّه كان مجموعاً مؤلفاً في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وحفظه ونقله ألوف من الصحابة كعبد اللّه بن مسعود، وأُبيّ بن كعب وغيرهما، ختموا القرآن
ص: 73
على النبي عدّة ختمات، ويظهر القرآن ويشهر بهذا الترتيب عند ظهور الإمام الثاني عشر رضي اللّه عنه (إلى أن قال:) وقد قال اللّه تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (1)(قال:) في تفسير الصراط المستقيم، الذي هو تفسير معتبر عند علماء الشيعة: أي إنّا لحافظون من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان (انتهى كلامه).9.
ص: 74
قبل إبداء الرأي حول كتاب فصل الخطاب نلفت من يحتج على الشيعة بهذا الكتاب، ويزعم تفردهم بهذا التأليف إلى كتاب اسمه (الفرقان) جمع فيه مؤلّفه وهو من إخواننا أهل السنة من أمثال ما في فصل الخطاب من الأحاديث الضعيفة المروية عن طرق أهل السنة، وإليك نص الأستاذ الشيخ محمد محمد المدني عميد كلية الشريعة بالجامعة الأزهرية قال:
وأما إن الإمامية يعتقدون نقص القرآن فمعاذ اللّه، وإنّما هي روايات رويت في كتبهم، كما روي مثلها في كتبنا، وأهل التحقيق من الفريقين قد زيّفوها وبيّنوا بطلانها، وليس في الشيعة الإمامية أو الزيدية من يعتقد ذلك، كما أنّه ليس في السنة من يعتقده.
ويستطيع من شاء أن يرجع إلى مثل كتاب الإتقان للسيوطي(1) ليرى فيه
ص: 75
أمثال هذه الروايات التي نضرب عنها صفحاً، وقد ألّف أحد المصريين في سنة 1948 م كتاباً اسمه (الفرقان) حشاه بكثير من أمثال هذه الروايات السقيمة، المدخولة المرفوضة، ناقلاً لها عن الكتب والمصادر عند أهل السنة، وقد طلب الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب بعد أن بيّن بالدليل والبحث العلمي أوجُه البطلان والفساد فيه، فاستجابت الحكومة لهذا الطلب، وصادرت الكتاب فرفع صاحبه دعوى يطلب فيها تعويضاً، فحكم القضاء الإداري في مجلس الدولة برفضها.
أفيقال: إن أهل السنة ينكرون قداسة القرآن؟ أو يعتقدون نقص القرآن لرواية رواها فلان؟ أو لكتاب ألّفه فلان؟ فكذلك الشيعة الإمامية إنّما هي روايات في بعض كتبهم كالروايات التي في بعض كتبنا، وفي ذلك يقول الإمام العلّامة السعيد أبو الفضل بن الحسن الطبرسي من كبار علماء الإمامية في القرن السادس الهجري في كتابه (مجمع البيان لعلوم القرآن)(1) ثم نقل كلام صاحب المجمع الذي سبق ذكره.
وبعد هذا كلّه نقول: لم نر في علماء الإمامية ومشايخهم من يعتني بكتاب فصل الخطاب، ويستند إليه، وليس بينهم من يعظم المحدث النوري لهذا التأليف، ولو لم يصنف هذا الكتاب لكان تقدير العلماء عن جهوده في تأليفه غيره من المآثر الرائعة كالمستدرك وكشف الأستار وغيرهما أزيد من ذلك بكثير، ولنال من التقدير والإكبار أكثر ما حازه من العلماء وأهل الفضل، ودفنه في3.
ص: 76
المكان المشرّف ليس لأجل تأليفه هذا الكتاب، إنّما المقام مقدس يدفن فيه من ناله التوفيق، وقد دفن فيه من العلماء وغيرهم من ذوي الثروة والسلطة والعوام جمع كثير.
وليست جلالة قدر الرجل في العلم والتتبع والإحاطة بالحديث مما يقبل الإنكار، وإن خطأه بسبب تأليف هذا الكتاب وصيّر هدفاً لسهام التوبيخ والإعتراض، فنبذ كتابه هذا وقوبل بالطعن والإنكار الشديد(1) بل صنف بعضهم في ردّه وفي إثبات عدم التحريف كتباً مفردة، كالعلّامة الشهير السيّد محمد حسين الشهرستاني مؤلف (رسالة حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف)، والعالم المحقّق الشيخ محمود الطهراني حيث ردّه بكتاب (كشف الإرتياب).
ومع ذلك كلّه نقول: من أمعن النظر في كتاب (فصل الخطاب) يرى أن المحدّث النوري لم ينكر ما قام عليه الإجماع واتفاق المسلمين من عدم الزيادة، ولم يقل إنّ القرآن قد زيد فيه، بل قد صرّح في ص 23 بامتناع زيادة السورة أو تبديلها، فقال: هما منتفيان بالإجماع، وليس في الأخبار ما يدلّ على وقوعها، بل فيها ما ينفيه كما يأتي، وقد اعترف المحدّث المذكور بخطائه في تسمية هذا الكتاب كما حكى عنه تلميذه الشهير وخرّيج مدرسته العالم الثقة الثبت الشيخ آقا بزرگ الطهراني مؤلف الذريعة، وأعلام الشيعة، وغيرهما من الكتب القيمة، فقالذ.
ص: 77
في ذيل ص 550 من الجزء الأول من القسم الثاني من كتابه (أعلام الشيعة):
ذكرنا في حرف الفاء من (الذريعة) عند ذكرنا لهذا الكتاب مرام شيخنا النوري في تأليفه فصل الخطاب، وذلك حسبما شافهنا به، وسمعناه من لسانه في أواخر أيامه فإنّه كان يقول: أخطأت في تسمية الكتاب، وكان الأجدر أن يسمى بفصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب، لأنّي أثبتُّ فيه أنّ كتاب الإسلام (القرآن الشريف) الموجود بين الدفتين المنتشر في أقطار العالم وحي إلهي بجميع سوره وآياته وجمله، ولم يطرأ عليه تغيير أو تبديل، ولا زيادة ولا نقصان من لدن جمعه حتى اليوم، وقد وصل إلينا المجموع الأولى بالتواتر القطعي، ولا شك لأحد من الإمامية فيه، فبعد ذا، أمِنَ الإنصاف أن يقاس الموصوف بهذه الأوصاف بالعهدين أو الأناجيل المعلومة أحوالها لدى كل خبير؟ كما أني أهملت التصريح بمرامي في مواضع متعددة من الكتاب، حتى لا تسدد نحوي سهام العتاب والملامة، بل صرحت غفلة بخلافه، وإنّما اكتفيت بالتلميح إلى مرامي في ص 22.
إذن المهم حصول اليقين بعدم وجود بقية للمجموع بين الدفتين، كما نقلنا هذا العنوان عن الشيخ المفيد في ص 26 (إلى أن قال:) هذا ما سمعناه من قول شيخنا نفسه، وأما عمله فقد رأيناه وهو لا يقيم لما ورد في مضامين الأخبار وزناً، بل يراها أخبار آحاد لا تثبت بها القرآنية بل يضرب بخصوصياتها عرض الجدار سيرة السلف الصالح من أكابر الإمامية كالسيد المرتضى والشيخ الطوسي وأمين الإسلام الطبرسي وغيرهم، ولم يكن العياذ باللّه يلصق شيئاً منها بكرامة القرآن، وإن ألصق ذلك بكرامة شيخنا (قدس سره) من لم يطلع على مرامه، وقد
ص: 78
كان باعتراف جميع معاصريه رجالي عصره، والوحيد في فنه، ولم يكن جاهلاً بأحوال تلك الأحاديث.
ولمزيد التوضيح ننقل كلاماً آخر من الشيخ المذكور في ذيل ص 311 من الجزء الثالث من الذريعة قال:
إنّ من الضروريات الأولية عند الأُمم كافة أن الكتاب المقدّس في الإسلام وهو المسمى بالقرآن الشريف، وإنه ليس للمسلمين كتاب مقدّس إلهي سواه، وهو هذا الموجود بين الدفتين المنتشر مطبوعه في الآفاق، كما أن من الضروريات الدينية عند المعتنقين للإسلام أن جميع ما يوجد فيما بين هاتين الدفتين من السور والآيات وأجزائها كلّها وحي إلهي نزل به الروح الأمين، من عند رب العالمين، على قلب سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله، وقد بلغ بالتواتر عنه إلى أفراد المسلمين، وإنّه ليس بين هاتين الدفتين شيء غير الوحي الإلهي لا سورة ولا آية، ولا جملة ذات إعجاز، وبذلك صار مقدساً محترماً بجميع أجزائه، وموضوعاً كذلك للأحكام من تحريم مس كتابته بغير طهارة، وتحريم تنجيسه، ووجب إزالة النجاسة عنه، وغيرها من الأحكام الثابتة، (إلى أن قال):
وقد كتبنا في إثبات تنزيه القرآن عما ألصقه الحشوية بكرامته، واعتقدت فيه من التحريف مؤلّفاً سمّيناه (بالنقد اللطيف في نفي التحريف عن القرآن الشريف) وأثبتنا فيه أنّ هذا القرآن المجيد الذي هو بأيدينا ليس موضوعاً لأي خلاف يذكر، ولاسيما البحث المشهور المعنون مسامحة بالتحريف... إلخ.
وقال نحواً من هذا الكلام أيضاً في الجزء العاشر من الذريعة: ص 78-79 وقال في جملته:
ص: 79
إنّ كتاب الإسلام المشهور في الآفاق هو الموسوم بالقرآن الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وليس هو إلّاهذا الموجود بين الدفتين الواصل إلينا بالتواتر عن النبي صلى الله عليه و آله، وأثبتنا أنّه بجميع سوره وآياته وجملاته وحي إلهي (إلى أن قال:) فهو منزّه عن كل ما يشينه من التغيير والتبديل، والتصحيف والتحريف، وغيرها باتفاق جميع المسلمين، وليس لأحد منهم خلاف أو شبهة أو اعتراض فيه، واختلاف القراءات إنّما هو اختلاف في لهجات الطوائف (إلى آخر ما أفاده).
هذا كتاب فصل الخطاب، وهذا قدره عند علماء الشيعة، وهذا كلام مؤلّفه فيه، وهذا ما يقول عنه أكبر تلامذة مؤلّفه، وهذه عقيدة مؤلّفه وتلامذته فيه.
ص: 80
قال الخطيب: وممّا استشهد به هذا العالم النجفي على وقوع النقص من القرآن إيراده في الصفحة 180 من كتابه سورة تسمّيها الشيعة سورة الولاية، مذكور فيها ولاية علي: يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنبي والولي الذين بعثناهما يهديانكم إلى الصراط المستقيم... إلخ، وقد اطلع الثقة المأمون الأستاذ محمد علي سعودي الذي كان كبير خبراء وزارة العدل بمصر، ومن خواص تلاميذ الشيخ محمد عبده على مصحف إيراني مخطوط عند المستشرق براين، فنقل منه هذه السورة بالفتوغراف، وفوق سطورها العربية ترجمتها باللغة الإيرانية، وكما أثبتها الطبرسي في
ص: 81
كتابه فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب، فإنّها ثابتة أيضاً في كتابهم (دبستان مذاهب) باللغة الإيرانية لمؤلّفه محسن فاني الكشميري، وهو مطبوع في إيران طبعات متعددة، ونقل عنه هذه السورة المكذوبة على اللّه العلامة المستشرق فولدكن، في كتابه تاريخ المصاحف: ج 2 ص 102، ونشرتها الجريدة الآسيوية الفرنسية سنة 1842، ص 431-439... إلخ.
السور القرآنية كانت مؤلّفة مشهورة في عصر الرسالة بأمر النبي صلى الله عليه و آله، وكان المسلمون يعرفونها بحدودها، وآياتها وتدلّ على ذلك الروايات الكثيرة المتواترة الواردة في فضل السور وثواب قراءتها، وأنّ من قرأ سورة يس أو سورة البقرة فله كذا وكذا من الأجر والثواب، وما ورد في أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قرأ سورة البقرة وسورة آل عمران في صلاة الآيات، وما ورد في نزول بعض السور جملة، وغيرها من الروايات الدالّة على كون سور القرآن مؤلفة معينة بآياتها في عهد الرسول صلى الله عليه و آله، ولا خلاف بين الشيعة في أنّ سور القرآن ليس أكثر من هذه السور المعروفة مائة وأربع عشرة سورة، واتفق فقهاؤهم بعد الإتفاق على وجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد في الأوليين على كفاية قراءة أي سورة من سور القرآن في الصلاة عدا سورتي الضحى وألم نشرح، فإنّهما سورة واحدة، وسورة الفيل ولإيلاف قريش، فهما أيضاً واحدة، ولا تجد في أصل من أصولهم
ص: 82
وفي أحاديثهم ورواياتهم سورة أخرى غير هذه السور الموجودة بين الدفتين.
ولا خلاف معتد به بين أهل السنّة أيضاً في ذلك، أي كون القرآن مائة وأربع عشرة سورة، نعم قال بعضهم: بأنها مائة وثلاث عشرة، فعدّ الأنفال والبراءة سورة واحدة، كما قد حكي عن بعضهم موافقتهم مع الشيعة في كون الضحى وألم نشرح سورة واحدة، والفيل ولإيلاف أيضاً سورة واحدة(1) ، ولكن أخرج أهل السنة في كتبهم روايات دلّت على زيادة سور القرآن على ما بين الدفتين كسورتي القنوت (الحفد والخلع) وأن مصحف أُبَيّ كان عدّد سورها مائة وست عشرة، لأنّه كتب في آخره سورتي الحفد والخلع(2).
وقد قال ابن حجر في شرح البخاري: وقد صح عن ابن مسعود إنكار ذلك (يعني إنكار كون المعوّذتين من القرآن) فأخرج أحمد وابن حبّان عنه أنّه لا يكتب المعوّذتين(3).
وقال هبة اللّه بن سلامة (ت 410 ه) في الناسخ والمنسوخ(4) فيما نسخ خطه وحكمه: وأما ما نسخ حكمه وخطه، فمثل ما روي عن أنس بن مالك (رض) أنّه قال: كنّا نقرأ على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله سورة تعدلها سورة التوبة، ماي.
ص: 83
أحفظ منه غير آية واحدة: ولو أنّ لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً، ولو أنّ له ثالثاً لابتغى إليها رابعاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتراب، ويتوب اللّه على من تاب.
وهذه الأخبار وإن كانت مطروحة لا يجوز الإتّكال عليها، وقامت الضرورة والإجماع من الفريقين على خلافها، ولا يشك من له معرفة بكلام العرب وفنون الأدب أنّ هذه الجمل لا تشبه بلاغة القرآن، مضافاً إلى ما في بعضها من الأغلاط اللفظية أو المعنوية التي أشار إليها المفسّر الشيعي الشهير البلاغي في مقدّمة تفسيره، إلّاأنّ المنصف يعرف منها أنّه لو جاز نسبة القول بوقوع نقص السورة في القرآن إلى الشيعة أو أهل السنة (ولا يجوز ذلك البتة) لكان أهل السنة أولى بها، فإنّهم نقلوا في كتبهم المعتبرة وتفاسيرهم ذلك، وإن سمى بعضهم بعض هذه بمنسوخ التلاوة والحكم، أو منسوخ التلاوة فقط، فإنّ ذلك لايدفع الإشكال، لأنّ وقوع النسخ محتاج إلى الإثبات، واتفقت كلمة العلماء على عدم جواز نسخ القرآن بخبر الواحد، مضافاً إلى أنّ بعض هذه الأخبار آبٍ عن هذا التأويل، وقد تردّد الأصوليون من السنة في جواز تلاوة الجنب ما نسخت تلاوته، وفي جواز مس المُحدِث كتابته واختار بعضهم عدم الجواز.
وأما الشيعة: فلم يقل أحد منهم بنقص سورة من القرآن، ولا بزيادة سورة أو آية أو كلمة عليه، وليس في رواياتهم ما يدلّ على نقص سورة أو زيادتها،
ص: 84
والسورة التي نسب اختلاقها إلى الشيعة، وسمّاها سورة الولاية لا ترى في أصول الشيعة وكتبهم منها عيناً ولا أثراً، ومقام الشيعة وفيهم ألوف من زعماء فن البلاغة والأدب المشهورين أرفع وأجل من أن يلصقوا بكرامة القرآن هذه الجمل التي يظهر فيها أثر الوضع، ويعرف ضعف تأليفها وخروجها عن أسلوب القرآن من كان له أُنس بكلام الفصحاء والبلغاء.
ولا عجب من نسبة محب الدين هذا الإفتراء إلى الشيعة، فإنّه جعل هذا دأبه في كتابه، ولا يضر الشيعة ذلك بعد كون كتبهم ومصنفاتهم في معرض مطالعة العلماء، ولكن العجب منه أنّه قال، ولم يخشى من ظهور كذبه عند الناس كالشمس في رابعة النهار: (ومما استشهد به هذا العالم النجفي على وقوع النقص من القرآن إيراده في ص 180 من كتابه سورة تسمّيها الشيعة (سورة الولاية) مذكور فيها ولاية علي (إلى أن قال:) فكما أثبتها الطبرسي في كتابه، فإنّها ثابتة أيضاً في كتابهم (دبستان مذاهب) باللغة الإيرانية لمؤلّفه محسن فاني كشميري، وهو مطبوع في إيران طبعات متعددة.
فانظر ما في كلامه هذا من الكذب الفاحش والإفتراء البيِّن!!!؟
الكذبة الاُولى: ليس في فصل الخطاب لا في ص 180 ولا في غيرها من أول الكتاب إلى آخره، ذكر لهذه السورة المكذوبة على اللّه تعالى، التي يقول الخطيب: إنّ الشيعة تسمّيها سورة الولاية مذكورة فيها ولاية علي (يا أيّها الذين آمنوا آمنوا بالنبي والولي اللذين بعثناهما يهديانكم إلى الصراط المستقيم... إلخ).
ص: 85
الكذبة الثانية: ما معنى المصحف الإيراني أيّها الخطيب؟ ألا تستحيي من اللّه تعالى؟ ما هذا المصحف الذي لم يعرفه الإيرانيون، ولم يوجد بعدُ عند خاصتهم وعامتهم، ولم يطّلع عليه أحد إلّامحمد علي سعودي المصري عند براين المسيحي.
أيّها العلماء، أيّها المنصفون، أيّها المصلحون ما هذه الإفتراءات، وما عذر الخطيب وناشر كتابه محمد نصيف... من أهالي جدّة الحجاز وأمثالهما عند اللّه تعالى؟ وما يريدون بانتشار هذه الأكاذيب؟ وما يطلبون من شيعة أهل البيت؟ وما عذر من يتغافل من زعماء السنة وعلمائهم وحكوماتهم عما يرد من هذه الأقلام على الإسلام والمسلمين من الضرر والفشل؟.
أليس في إخواننا أهل السنة والجماعة من يرشدهما إلى ما فيه مصلحة نفسهما، ومصلحة أُمتهما، ومصلحة المسلمين؟
أيّها المسلمون! اسألوا من إخوانكم السنة من أهالي إيران ومن ألوف من الذين زاروا إيران ويزورونها في كل شهر ويوم، هل سمعتم في إيران بمصحف غير هذا المصحف المطبوع المشهور في جميع الأقطار؟
أم هل وجدتم عند إيراني كتاباً يعتقد أنّه وحي إلهي يقرؤه آناء الليل وأطراف النهار غير القرآن، ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ويؤمن به جميع المسلمين؟ ولكن «إذا قل دين المرء قلّ حياؤه»، لا يستحيي من الكذب من اعتاده، ولا يخاف من تشويه سمعة الدِّين، وإيراد الطعن على الكتاب المبين، من
ص: 86
لا يعقل ما يقول أو باع دينه بدنياه، واعتنق خدمة أعداء المسلمين.
الإيرانيون أشدّ الناس احتراماً للقرآن المجيد، ولآياته وكلماته وحروفه، أسواقهم ومجالسهم وإذاعاتهم وبيوتهم ومدارسهم وكلياتهم عامرة بقراءته، لهم في كل قرية وبلد مجالس ومدارس لتعليم التجويد، وقراءة القرآن والتفسير، يهتمون بتعلّم القرآن كمال الإهتمام، ويؤدّبون أولادهم على قراءته، لم يسمع أحد منهم لا قديماً ولا حديثاً بهذا المصحف الذي تقول، ولم يطّلع عليه أحد من علمائهم ولا ادّعى رؤيته من كان فيهم من أهل الفحص والتنقيب.
نعم يوجد عندهم وفي مكتباتهم الكبيرة مثل مكتبة (آستان قدس) في المشهد الرضوي وغيرها أقدم النسخ المخطوطة من القرآن وأنفسها، يرجع تاريخ كتابته إلى صدر الإسلام، وتنسب كتابة بعضها إلى سيّدنا الإمام أمير المؤمنين، وبعضها إلى الإمام السبط الحسن المجتبى، وبعضها إلى الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهم السلام، لا تجد لهذه النسخ اختلافاً ما، حتى في حرف واحد مع هذه المصاحف المطبوعة إلّافي رسم الخط.
الكذبة الثالثة: وكذبه الآخر قوله بثبوت هذه السورة في دبستان مذاهب مع أنّه ليس لهذه السورة ذكر في هذا الكتاب أيضاً.
ص: 87
الكذبة الرابعة: ومن افتراءاته على الشيعة إسناده كتاب دبستان مذاهب إليهم، وهو كتاب في الملل والنحل، جمع مؤلّفه فيه بين الغث والسمين، والحق والباطل، وفيه حكايات يأبى العقل احتمال صحتها، واستند في نقل أكثر ما فيه إلى النقل عن المجاهيل، ويظهر من أسمائهم أنّهم كانوا من دراويش الهند، ولم يعلم مذهب مؤلّفه ولا اسمه على التحقيق، فقد أخفى مؤلفه اسمه ومذهبه، لا يوجد في أصل الكتاب اسمه ولا اسم مذهبه، كما هو الشأن في غير هذا الكتاب من ذكر اسم المؤلّف ومذهبه. وغرضه من ذلك: أن لا يحمل كلامه على العصبية، واختلف في اسمه، فحكي عن «سرجام ملكم» أن اسم مولّفه محسن الكشميري المتخلّص في شعره بالفاني ويوجد ترجمته في كتاب (صبح گلشن) من غير أن يذكر له هذا التأليف، وحكي عن مؤلف (مآثر الأُمراء) أنّ اسمه كان ذو الفقار، وقيل: إنّه لسياح، عاش في أواسط القرن الحادي عشر، وعن بعض المستشرقين أن في مكتبة بروكسل نسخة منه مذكور فيها أن اسم مؤلّفه كان (محمد فاني).
وفي كشف الظنون: أنّه تأليف مؤبّد شاه المهتدي صنفه لأكبر شاه، وعن مقدمة قزارستان أنّه تأليف مؤبّد أفراسياب، وقيل: إن اسم مؤلّفه كان كيخسرو ابن آذر كيوان، ولم أجد لهذه الأقوال شاهداً قوياً لا في نفس الكتاب ولا في
ص: 88
غيره.
وأما مذهب مؤلّفه: فيلوح من بعض ما ذكر فيه عدم اعتقاده بالنبوآت وبعث الأنبياء، فراجع ما ذكره في بحث الأديان، وما حكى فيه من المباحث الواقعة بين النصارى والمسلمين، وبين أهل السنة والشيعة، وما ذكر فيه من اختلاف الفرق، ويوجد فيه من نقل أعاجيب الأكاذيب ما ليس في غيره، وذكر فيه مذاهب أهل السنة ثم تعرّض لمذهب الشيعة، ويظهر من بعض مواضيعه أنّه كان إلى مذاهب أهل السنة أميل، ونسبه بعض علماء الشيعة المتتبعين إلى الزندقة والإلحاد، واللّه العالم بحقيقة حاله، وهو عليم بما في الصدور، ومع ذلك كلّه كيف يقول الخطيب إنّه كان من الشيعة الإيرانيين، ثم يقول على سبيل الجزم أنّه تأليف محسن الفاني الكشميري.
ومن الأعاجيب التي تضحك الثكلى ما نقل في «دبستان مذاهب» عن الشيعة من إسقاط سورة من القرآن (غير السورة التي نقلها الخطيب كذباً عنه) ولم يستند في ذلك إلى كتاب أو نقل عن مجهول، ونقلها في «فصل الخطاب» فيما نقل عن كتب أهل السنة، وهذه السورة المختلقة مشتملة على الأغلاط اللفظية والمعنوية، وركاكة الأسلوب يعرف من تدبّر فيها أنّها من اختلاقات أعداء الإسلام، ولا يرتاب من له معرفة بكلام العرب أنّها دون كلام سوقتهم فضلاً عن فصحائهم، وفضلاً عن كلام اللّه تعالى، وقد أوضح ذلك غاية الإيضاح العالم الشيعي الجليل الشيخ البلاغي في مقدمة تفسيره فراجع، واقض العجب عن من
ص: 89
يستند إلى هذه الكتب أو ينقل مثل هذه المهزلة في كتابه.
والحاصل: أنّ نسبة القول إلى نقص سورة من القرآن إلى الشيعة كذب محض، لم يقل به أحد من الشيعة، وليس في رواياتهم منها عين ولا أثر، كما أنّ نسبة تأليف كتاب «دبستان مذاهب» إليهم أيضاً كذب محض، لا شاهد له في نفس الكتاب ولا في غيره، ولم يعتمد أحد من الشيعة على هذا الكتاب.
الكذبة الخامسة: في كلامه هنا قوله بطبع «دبستان مذاهب» في إيران طبعات متعددة، وليت شعري من أين قال ذلك؟ وأيّ نسخة من هذا الكتاب طبع في إيران؟ وما اسم المطابع التي طبع فيها طبعات متعددة؟ ولِمَ لم ينقل تاريخ طبعه في إيران وسائر خصوصياته؟ وما فائدة هذه الأكاذيب؟
نعم قد عثرنا بعد فحص كثير في عدّة مكتبات كبيرة على ثلاث نسخ مطبوعة، الأولى: طبعت في بمبئي الهند، سنة 1262 والثانية: في سنة 1267 غير أنّه لم يذكر فيها مكان الطبع، والثالثة: طبعت أيضاً في بمبئي سنة 1277، ظني أنّ النسخة الثانية أيضاً مطبوعة في الهند، ومع هذا كيف يقول إنّه مطبوع في إيران طبعات متعددة؟!.
ص: 90
من أعظم البلاء على المسلمين بل عامة الأُمم الشرقية افتتان بعض شبّانهم ومثّقفيهم بمقالات الغربيين، سيما المتّسمين منهم بالمستشرقين، واعتمادهم على ثقافتهم وآرائهم في المسائل الراجعة إلى الشرق وإلى الإسلام، مع أنّ كثيراً منهم لا يريدون بالإستشراق إلّاالوقيعة بالمسلمين، وتتبّع عوراتهم، وتفريق كلمتهم، وبعضهم يروّجون الحضارات التي كانت قبل الإسلام، ويضعفون العلائق الدينية، يريدون بذلك إرجاعهم إلى الجاهلية، وإحياء شعائر الأُمم الكافرة التي قضى عليها الإسلام قضاءً حاسماً، ففي إيران يروّجون أساطير
ص: 91
كورش وداريوش، وعادات المجوس، وأيامهم وأعيادهم، كسَدَة ومهرجان، وفي مصر يبعثون جمعيات للتحقيق في تاريخ الفراعنة وما يوصل مصر الحديثة بالقديمة. وهذا ما يسمّونه (بالفولكلور) أي ترويج الدراسات الشعبية، والفحص عن عادات الشعب وعقائد أبنائه، ومدنيّتهم وآثارهم وقصصهم في الأجيال الماضية، وكشف آثار الأقدمين، فيدعون الأدباء والكُتّاب إلى البحث عن العقائد التي نسيها الزمان، والعادات والبرامج المتروكة، ويشوّقون بعض الشبّان وضعفاء العقول، ويصرفون الدراهم والدنانير والدولارات لتأليف الكتب وطبعها، ويستأجرون أقلام الصحف والمجلات والجرايد لترويج أهدافهم.
وهذا من أضر ألاعيب الإستعمار على المسلمين، لم يقصدوا بذلك إلّا إحياء الحضارات السابقة على الإسلام، وتكثير العصبيات القومية وتفريق الكلمة، ويرى آثار هذه السياسات الغاشمة في مصر والشام، والعراق وإيران، وتركيا وشمال أفريقية، وهند وأندونيسيا، ولبعض المستشرقين قدم راسخ في تحقيق أهداف الإستعمار، وتضعيف علائق الإتحاد الإسلامي، وإنشاء روح القِبَلية، والنخوة الجاهلية التي حاربها الإسلام.
ومن أعظم البلية أنّ بعض من لاخبرة له بالتاريخ، ومصادر التشريع الإسلامي وأهداف الدين القويم يحسب آراء المستشرقين من أصح الآراء، ويستشهد بها مبتهجاً بذلك.
ولبعضهم حول البحوث الإسلامية، وتاريخ رجال الدين وزعماء الشرق كتب ومقالات ربّما لا تجد فيه خلافاً مع ما عليه المسلمون إلّافي نقطة واحدة، ولكنّه لم يقصد بتأليف كتاب ضخم إلّاإبداء الشبهة في هذه النقطة، وإنكار حقيقة
ص: 92
واحدة.
وللأستاذ عبد الوهاب حمودة مقال تحت عنوان (من زلّات المستشرقين)(1) ذكر فيه زلّات المستشرقين المتكررة، وهفواتهم الشائعة وتصيّدهم للروايات الضعيفة، ونقد كتاب العقيدة والشريعة لجولد تسيهر، وكتاب (الإسلام) لجيوم وغيرهما.
وربّما لم يكن لعناية بعض من لا إحاطة له بالمسائل التاريخية والمباحث الإسلامية إلى أقوال المستشرقين إلّاانخداعهم بالأسماء التي يحسبون أنّ لها شأناً كبيراً أمثال: براون، ونولدكن، وهنري لامنس، وإميل درمنغم، فيحسب المسكين أنّ تحت هذه الأسماء حقائق عالية، وآراء ثاقبة، وليس ذلك إلّا لضعف الشرق، واستيلاء الغرب عليه، حتى أنّ بعض أبناء الشرق يعتقد صعوبة المناقشة في آراء المستشرقين ونظرات الغربيين والرد عليهم، لأنّه يحسبهم من رجالات العلم والإطلاع في جميع العلوم، ويظنّ أنّ تقدّمهم في الصناعات والطب والبيطرة مستلزم لتقدمهم في سائر العلوم، وأن يكونوا أخبر بحال الشرق وطباع أبنائه وتاريخ الإسلام، وأصول التشريع، وعقائد الفرق الإسلامية من علماء المسلمين، ولم يعقل أنّ ما حصل للمستشرقين من العلوم الإسلامية والبحوث التاريخية لم يحصل إلّالأجل الغور في علوم المسلمين، ومطالعة كتب علمائهم(2).0.
ص: 93
هذا مضافاً إلى أنّهم لا يريدون باستشراقهم إلّاخدمة أُمتهم وحكوماتهم، وليست آراؤهم العلمية خالية عن النزعات السياسية، ومع ذلك أليس من أبشع ما في كتاب الخطيب استشهاده بنقل ما وجد عند (براين) وحكاية (فولدكن) والجريدة الآسيوية الفرنسية.
أليس هذا لو كان الخطيب صادقاً في نقله شاهداً لما قلنا من أنّ كثيراً من المستشرقين لا يخدمون باستشراقهم إلّاسياسات حكوماتهم؛ ولا يطلبون إلّابقاء سيادة الغرب على الشرق، واستعباد الأُمم الشرقية سيّما الإسلامية منها، بإلقاء الخصومات والخلافات بينهم، وإلّا فأيّ مستشرق بصير عارف بلسان العرب وتاريخ الإسلام، ومقالات الشيعة وكتبهم، لا يعلم اختلاق هذه النسبة على الشيعة، ولا يعلم أنّ هذه الألفاظ لا تمس كرامة القرآن، وليس للشيعة علم واطلاع على هذه السورة المكذوبة على اللّه تعالى. فكأنّ الخطيب لم يقرأ قوله تعالى: إن جائكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين(1).6.
ص: 94
لا نريد أن نعارض الخطيب بالمثل، ولا نحب نقل هذه الأخبار المطروحة السقيمة، سواء أكان من طرق الشيعة أم من طرق أهل السنة، حذراً من أن يتوّهم جاهل لصوق بعض ما في هذه الأخبار بكرامة الكتاب، أو يتمسّك به بعض المستشرقين والمبشّرين عند من ليس له تضلّع في التاريخ والحديث، ولكن ما ذنبنا بعدما يرمي الخطيب وأقرانه الشيعة بهذا البهتانات، ومع ذلك لا نأتي بمتون هذه الروايات، ونشير إلى مواضعها في كتب القوم على سبيل الإختصار، ونبيّن الجواب عنها بحول اللّه تعالى وقوّته؛ فنقول:
إنّ نقل الروايات حول هذا الموضوع لم يكن من مختصات بعض كتب الشيعة كما أسلفنا مراراً، ولا يمنع من التقريب، ولا يجوز الطعن على الشيعة بذلك، فإنّ الروايات عن طرق أهل السنة في هذه المسألة أيضاً كثيرة جداً، وقد ذكرنا بعض ما ورد عن طرقهم ممّا يدلّ على نقص سورة تامة، بل في أحاديثهم ما يدلّ على نقص سورة كسورة البراءة في الطول والشدّة، وبعضها يدلّ على
ص: 95
نقص آية أو أكثر، والتغيير والتبديل، بل وبعضها يدل على وقوع الزيادة، فراجع الإتقان(1) ، ومسند أحمد(2) ، وصحيح البخاري باب رجم الحبلى من الزنا إذا أُحصنت(3) ، وتاريخ دمشق لابن عساكر(4) ترجمة أُبيّ بن كعب، وكتاب الأحكام للأمدي(5) ، وتفسير الطبري في تفسير آية: فما استمتعتم به منهنّ فآتوهن أُجورهن(6). وراجع تفسير الفخر الرازي أيضاً في ذلك، وراجع صحيح البخاري في باب: والنهار إذا تجلى(7) من كتاب التفسير(8) وفي باب: ما خلق الذكر والأُنثى(9)، وراجع أيضاً مافي كتاب الأحكام في أصول الأحكام(10) من أنّ ابن مسعود أنكر كون المعوّذتين والفاتحة من القرآن، وقد صرّح في الجزء الأول(11) باختلافهم في كون البسملة من القرآن.3.
ص: 96
فعلى قول من يقول بعدم كون البسملة من القرآن كأبي حنيفة يلزم زيادة البسملة في مائة وثلاث عشر موضعاً، وراجع أيضاً صحيح مسلم باب «لو كان لابن آدم» من كتاب الزكاة(1) وذكر في فصل الخطاب أكثر من تسعين حديثاً في هذا الباب من كتب العامة.
وروي عن عمر في آية الرجم إنّه قال: لولا أن تقول الناس زاد عمر في كتاب اللّه لكتبتها، يعني آية الرجم، فراجع الإتقان.(2) وذكر اليعقوبي المؤرّخ الشيعي أنّ عمر قال هذا حين حضرته الوفاة.
وفي هذه الروايات على ما حقّقه وبيّنه بعض علماء الشيعة من الإضطراب والتدافع، والتناقض في مضامينها، ومعارضتها بغيرها من الأخبار الكثيرة الصحيحة، وركاكة الأسلوب وضعف المعاني، وانحطاط الفقرات، وعدم مشابهتها بآيات القرآن ما لا يكاد يخفى على من له أدنى معرفة بأساليب الكلام وقواعد البلاغة(3).
وأما الروايات المأثورة عن طرق الشيعة فهي إلّاالنزر القليل منها غير مخرّجة في أصولهم المعتبرة كالكتب الأربعة، ومطعون فيها بضعف السند أو الدلالة أو هما معاً، ويمكن حمل أكثرها على التفسير، وبيان بعض المصاديق الظاهرة، وغير ذلك من المحامل الصحيحة التي يقبلها العقل والعرف.ي.
ص: 97
أضف إلى ذلك أنّك لا تجد في أحاديثهم رواية تدلّ على نقص سورة أو زيادتها كما يوجد في روايات أهل السنة، وقد عرفت أقوال أكابر الشيعة وحال هذه الروايات عندهم، وأنّها مضافاً إلى كونها مطروحة متعارضة معارضة بالأخبار المتواترة القطعية.
هذا مختصر الكلام حول الأحاديث، وغرضنا من ذلك هنا أنّ اعتراض الخطيب وبعض من لا خبرة له بالمسائل الإسلامية على الشيعة مع وجود مثلها بل أصرح منها في كتب أهل السنة وصحاحهم ليس في محله، والإعتذار عن ذلك بأنّها من منسوخ التلاوة ومنسوخ الحكم، أو منسوخ التلاوة فقط، عين الإعتراف بأنّ ما نزل قرآناً كان أكثر من هذا الموجود بين الدفتين، مع أنّ إثبات النسخ بخبر الواحد ممنوع، بل قطع الشافعي وأكثر أصحابه وأكثر أهل الظاهر كما حكي عنهم بامتناع نسخ القرآن بالسنة المتواترة، ولو تم لهم هذا الإعتذار فلا اختصاص لهم به لأنّهم والشيعة فيه سواء:
ولكن التحقيق في الجواب إنكار أصل نزول أكثر من هذا الموجود بين الدفتين، كما حققه محققوا الشيعة، وبرهنوا عليه، لا الإعتراف بالنزول ثم التمسّك بنسخ التلاوة، وعلى كل حال فهذه النقول لا تمس كرامة القرآن المجيد، ولا تقاوم الضرورة وإجماع الفريقين والأخبار المتواترة القطعية.
ص: 98
قال في ص 14: والحقيقة الخطيرة التي نلفت إليها أنظار حكومتنا الإسلامية أنّ أصل مذهب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية التي تسمى أيضاً بالجعفرية قائم على اعتبار جميع الحكومات من يوم وفاة النبي صلى الله عليه و آله إلى هذه الساعة عدا سنوات حكم علي بن أبي طالب حكومات غير شرعية، ولا يجوز الشيعي أن يدين لها بالولاء والإخلاص من صميم قلبه (إلخ)؟
زاد في الطنبور نغمة أخرى ليزيد الفتنة تأجّجاً، ويثير بها أولياء الحكومات على الشيعة، فقال: إنّ أصل مذهب الشيعة قائم على اعتبار جميع الحكومات غير الشرعية.
والجواب: هل يعتبر أهل السنة والخطيب - إن كان منهم - هذه الحكومات التي تأسّست في بلاد المسلمين كلها شرعية، وهل يعتبر الحكومات التي أسّسها
ص: 99
المستعمرون والحكومات التي لا عناية لها بشعائر الإسلام والحكومات التي قامت بتفكيك الأمورالسياسية ونظام الحكومة عن الإسلام حكومات شرعية، تلك الحكومات التي ألغت أصول الإسلام ومناهجه السياسية والإجتماعية، والنظامية والعمرانية، ومنعت الإسلام عن التدخّل في شؤون الحكومة، وخضعت لأعداء المسلمين واعتنقت نير المذلة، حتى بدّل بعضها التاريخ الهجري الإسلامي بالتاريخ الميلادي المسيحي.
هل يعتبر السنّي حكومة يقول زعيمها (جمال كورسل) على ما في بعض الجرائد(1): (يجب على الإسلام والمسلمين الخروج عن استعمار اللسان العربي في صلواتهم وأذانهم ودعائهم) حكومة شرعية.
وهل يعتقد شرعية حكومة ألغت نظام الإسلام في الميراث والطلاق وغيرهما؟
أمّا نحن معاشر الشيعة فنؤيّد كل حكومة إسلامية تخدم الإسلام وتقوم بحفظ مصالح المسلمين، وتدافع عن شرفهم وكيانهم وحقوقهم، ونرى تضعيفها والخروج عليها من الموبقات العظيمة، والشيعة تراعي مع كل حكومة مصلحة الإسلام، لم يخرج منهم من خرج في الأعصار الماضية على بعض الحكومات لكون أوليائه من أهل السنة، ولم يتركوا نصيحة الخلفاء والأمراء سيما في ما يرجع إلى قوة الإسلام وظهور المسلمين على غيرهم.
وكان الإمام علي في خلافة أبي بكر وعمر ناصحاً لهما يشير عليهما بآرائه).
ص: 100
السديدة في معضلات الأمور، ودخل في الأعمال الحكومية آنذاك جمع من الصحابة من شيعة الإمام كسلمان، وأبي ذر، والمقداد، وعمار، وغيرهم، وكان علي في خلافة عثمان أيضاً من أخلص نصحائه وأحوطهم عليه، ولو قبل عثمان نصيحته لكان تاريخ الإسلام غير هذا.
نعم إنّ الشيعة لا يعتبرون الحكومات اليزيدية حكومات شرعية، كما لا تعتبر حكومة الطواغيت الظالمين المستحلّين لآل محمد صلى الله عليه و آله ما حرّم اللّه ورسوله ومبغضيهم وأعدائهم من أهل النفاق حكومة شرعية، لا تعتبر حكومة معاوية التي حاربت أمير المؤمنين علياً عليه السلام الذي قال فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله:
إنّ علياً منّي وأنا من علي، وهو ولي كل مؤمن بعدي(1).
وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه(2).ة.
ص: 101
وقال: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبي بعدي(1).
وقال له ولفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام: أنا حرب لمن حاربتم وسلمٌ لمن سالمتم(2).
حكومة شرعية، تلك الحكومة التي أعلنت سب علي على المنابر،ى.
ص: 102
ودسّت السُّم إلى الحسن عليه السلام سيّد شباب أهل الجنّة(1) ، ولا تؤيّد حكومة يزيد الفاسق المعلن بالمنكرات والكفر، وقاتل الحسين عليه السلام، والمتمثّل بأشعار ابن الزبعري المعروف فرحاً بحمل رأس ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله، والذي أباح بأمره مسلم ابن عقبة المدينة ثلاثاً فقتل خلقاً من الصحابة ونهبت بأمره المدينة، وافتض في هذه الواقعة التي سوّدت صحائف التاريخ ألف عذراء حتى ولدت الأبكار لا يعرف من أولدهنَّ، وهو الذي أمر بغزو الكعبة(2).
الشيعة لا تقول بشرعية هذه الحكومة ولا بشرعية حكومة عبد الملك الغادر الناهي عن الأمر بالمعروف، الذي قال السيوطي في حقه: لو لم يكن من مساوئه إلّاالحجّاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة، يهينهم ويذلّهم قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً، وقد قتل من الصحابة والتابعين ما لا يخفى فضلاً عن غيرهم وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختماً، يريد بذلك ذلّهم فلا رحمه اللّه ولا عفا عنه(3).
نحن لا نقول بشرعية حكومة الوليد بن يزيد الفاسق الشريب للخمر، والمتهتّك لحرمات اللّه تعالى، الذي أراد الحج ليشرب الخمر فوق ظهر الكعبة فمقته الناس لفسقه، وهو الذي فتح المصحف فخرج: واستفتحوا وخاب كل جبار7.
ص: 103
عنيد (1) فألقاه ورماه بالسهم، وقال ما قال، وحكي عنه من قبائح الأعمال(2) ما بقي عاره على من يعتبر تلك الحكومات حكومات شرعية إسلامية.
نحن لا نفتي بشرعية حكومة هؤلاء، ولا حكومة أكثر الخلفاء العباسيين، والجبابرة الذين خانوا الإسلام، وأظهروا الفسق، وارتكبوا الفجور، كما لم يعتبر أبو حنيفة حكومة المنصور العباسي حكومة شرعية، وأفتى بجواز الخروج عليها، وكما لم يعتبر الأُمة المصرية حكومة فاروق حكومة شرعية فخلعته عن الحكم.
ولا تؤيّد الشيعة حكومة تعمل لإثارة الفتن بين المسلمين، وتسعى سعيها لتجديد ذكر الأمويين، وخدمة الإستعمار، وتتبّع سبيل هنري لامنس المسيحي المستشرق الخبيث عدو الإسلام والمسلمين.
وعليك أيّها القارئ العزيز بالتأمل في هذا الحديث، فعن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال لكعب بن عجرة:
أُعيذك باللّه من إمارة السفهاء، قال: وما ذاك يا رسول اللّه؟ قال: أمراء سيكونون من بعدي من دخل عليهم فصدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليسوا منّي ولست منهم، ولم يردوا علَيَّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدّقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك منّي وأنا منهم، وأولئك6.
ص: 104
يردون علَيَّ الحوض(1).
وأخرج في أُسد الغابة(2) عن أبي سلامة الأسلمي قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:
سيكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم، وإنّهم يحدّثونكم فيكذّبونكم، ويعملون فيسيئون، ولا يرضون منكم حتى تحسّنوا قبيحهم، وتصدّقوا كذبهم، فأعطوهم الحق مارضوا به، فإذا تجوروا فقاتلوهم، فمن قتل على ذلك فإنّه منّي وأنا منه، أخرجه الثلاثة.
وفي حديث آخر وصف فيه حال الفقهاء والقرّاء الذين يأتون الأُمراء الظالمين:
إنّ ناساً من أُمّتي سيتفقّهون في الدين، ويقرأون القرآن، ويقولون نأتي الأُمراء فنصيب من دنياهم، ونعتزل بديننا، ولا يكون ذلك، كما لا يجتنى من القتاد إلّاالشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلّا... قال الراوي: كأنّه يعني الخطايا.
ونِعم ما وصف به فيلسوف المعرّة حال الأُمة مع هؤلاء الأُمراء حيث قال:
قلّ المقام فكم أُعاشر أُمةً
والأساس المتين الذي يجب أن تقوم عليه كل حكومة إسلامية لتكون شرعية يجب على الناس تأييدها أن تكون صالحة عادلة، مصدر تحقيق رسالة الإسلام، ومظهر نظامه الإجتماعي والسياسي والإقتصادي، مجتهدة في رفع ألوِية العلم والدين، تضع أزمَّة الأمور في أنظف الأيدي، وتعترف للجميع حقوقهم، وتحترم الحريات التي منحها الإسلام، ويكون رجالها خدّاماً للإسلام، حرّاساً لحقوق المسلمين.
هذا وقد أيّد الشيعة الحكومة الإسلامية، ودافعوا عن حقوق كافة المسلمين، ودعاياتهم على الحكومات المستعمرة في المؤتمرات العالمية وغيرها، فالعالم الإسلامي لاينسى مساعي الشيعة في سبيل استقلال دولة الجزائر المسلمة والپاكستان وأندونيسيا وحمايتهم عن حكومة الجمهورية العربية المصرية في واقعة قتال السويس ولم يكن فرح أبناء الشيعة بهذه الفتوح أقل من فرح إخوانهم أبناء الجماعة إن لم يكن أكثر.7.
ص: 105
ص: 106
نقل الخطيب في ص 15 بواسطة بعض الكتب عن كتاب مسائل الرجال مكاتبة محمد بن علي بن عيسى إلى الإمام أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم عليه السلام، ثم فسّر ما فيها من السؤال عن الناصب والجواب عن ذلك، واستخرج من تفسيره تحامل الشيعة على الشيخين، وأنّه يكفي لأن يُعدَّ أي إنسان ناصباً وعدواً لآل البيت إذ قدّمهما واعتقد إمامتهما.
إن ما افترى على الشيعة وملأ به مجموعته، إما أن لا يكون له مصدر وإما أنّ ليس له مصدر سوى كتاب مجهول، أو شخص مجهول، أو متن شاذ، أو ما لا يؤيّد دعواه إلّاإذا فسّره بما يوافق هواه، أو ما فيه كل هذه العلل، ومن جملة ذلك هذه المكاتبة، فمصدرها كتاب مسائل الرجال كتاب مجهول لم نظفر بعد الفحص الكثير على اسم جامعه ومؤلّفه، ومحمد بن علي بن عيسى أيضاً مجهول، ولم يفسّرها الخطيب بما فسّره إلّاليهيج به أهل السنة على الشيعة، ويوقد نار النزاع، ويفرّق بين المسلمين، ويوقظ الفتن الراقدة التي ترجع تمام فائدتها إلى أعداء
ص: 107
الدين، فما تستفيد الأُمة من ذكر هذه الأمور التي أبلاها الدهر، وأنساها الزمان؟ وما فائدة استعراض هذه المباحث إلّاالتفرّق المنهي عنه في الإسلام؟ وما لنا والدخول في هذه المناقشات، وماذا نخسر لو حملناها على المحامل الصحيحة، وما يحمل الخطيب أن يفسّر مثل هذه المكاتبة التي عرفت علتها بهذا التفسير الشائك؟
وما فائدة الإهتمام في تكثير الفوارق بين المسلمين، ولِمَ لم يكتب بعد كاتب مصلح كتاباً في مشتركاتهم الأساسية، وما اتفق عليه كلمة الكل من العقائد الإسلامية التي هي الملاك الفذّ للحكم بالإسلام؟
وما يمنع الخطيب من مراجعة كتب الشيعة المعتمدة عندهم وأحاديثهم الصحيحة، وفتاوى فقهائهم حتى يعرف أنّ الناصب عندهم وفي اصطلاحهم كما صرّح به أكابر علمائهم من ينصب العداوة لأهل البيت، ويسبّهم، ويبغضهم(1).
قال شيخ المحدّثين محمد بن علي بن الحسين الملقّب بالصدوق (ت 381 ه) في (من لا يحضره الفقيه) وهو أحد الجوامع الأربعة التي يدور عليها فقه الشيعة الإمامية في جُلّ أبوابه بل كلها. والجهّال يتوهّمون أنّ كل مخالف ناصب وليس كذلك(2).
وبعد ذلك كله نسير في هذا البحث على نحو عام، بحيث يظهر منه أن مجرّد تخريج خبر في كتاب لا يصحّح الإحتجاج به حتى على مؤلفه فضلاً عن5.
ص: 108
أهل مذهبه، فتخريج الأحاديث وجمعها وحفظها مطلب، وملاحظة إسنادها ومتونها ودلالة ألفاظها وعامها وخاصها ومطلقها ومقيّدها، والنظر في متابعاتها أو معارضاتها، مطلب آخر.
فنقول: أولاً: لو كان إخراج كل رواية في كتاب من كتب أهل السنة أو الشيعة حجة عليهم وإن لم تكن الرواية معتبرة عندهم حتى عند مخرجيها حسبما ذكروه في كتب الحديث والدراية والرجال لكان حجة الشيعة على أهل السنة أقوى، فيستندون بروايات عن طرقهم في الأصول والفروع وفي صفات اللّه تعالى مما خالف ضرورة العقل والكتاب والسنة ويحتجّون على أهل السنة بعقائد بعض مشايخهم من المتصوّفة وغيرهم مما لا نحب ذكره.
وثانياً: إن الشيعة لا يعملون بالأحاديث إلّابعد الفحص والتنقيب عن حال رواتها ومخرجيها، وبعد حصول الإطمئنان بكون رواة الحديث في جميع الطبقات من الثقات الأثبات، أو حصول الوثوق بصدور الحديث من الأمارات المذكورة في محلها، ولو كان حديثاً معارضاً بحديث آخر يأخذون بما وافق منهما الكتاب والسنة القطعية، ولهم في ذلك أصول تكشف عن كمال تدقيقهم في تمييز الأحاديث الصحاح والحسان من الضعاف، ويعتبرون في حجية الحديث أن يكون معمولاً به بين رؤساء المذهب وقدماء الشيعة المعاصرين لأئمة أهل البيت، أو من قارب عصرهم، فلو كان حديثاً متروكاً لم يعمل به الفقهاء أو لم يعمل به إلّاالشاذ منهم وأعرض عن الفتوى والعمل به المشهور لا يعتمدون عليه، ولا يفتون بظاهره، فلا يحتج على طائفة هذا مسلكهم في العمل بالأحاديث والأخبار بكل حديث خرّجوه في كتب الحديث فضلاً عن غيره.
ص: 109
فلا ينبغي معاتبة الشيعة وغيرهم والحكم عليهم بمحض تخريج خبر في بعض كتبهم قبل الفحص عن حال الكتاب، وقبل النظر في سند الخبر وفي متنه، وأنّه وقع مورد القبول عند علمائهم وحكموا له بالصحاح والإعتبار أم لا.
وثالثاً: الحديث الذي يحمله الراوي مشافهةً قراءةً أو سماعاً أقرب إلى الصحة والإعتبار عند الشيعة من الحديث الذي تحمله بالمكاتبة، لأنّ في كثير من الموارد بواسطة وقوع الإشتباه في تشخيص خط المروي، وعدم حصول الوثوق بذلك، ودخالة اجتهاد الراوي وحدسه في تشخيص الخط يسقط الحديث عن الإعتبار، نعم لو كانت هناك قرائن معتبرة تدل على وقوع المكاتبة وكون الكتاب بخط المروي عنه لاكلام في اعتباره.
ورابعاً: هب أنّ في الشيعة من يتحامل على بعض الصحابة ولا يرى بأساً بحسب اجتهاده، أيكون هذا مانعاً من التقريب والتجاوب؟ أو يوجب خروجه عن الإيمان، أترى أنّ اللّه تعالى يقبل عذر بعض الصحابة في مشاتمات وسباب وقعت بينهم بحضرة النبي صلى الله عليه و آله أو بعد ارتحاله إلى الرفيق الأعلى، وفي محاربات وقعت بينهم، وشهادة بعضهم على بعض بالزنا وشرب الخمر، وقتل النفس والسرقة والكفر(1) ، ولا يقبل عذر من يتحامل على بعضهم اجتهاداً ونزولاً على حكم الأدلة الشرعية، فليس هذا معذوراً مأجوراً، أليس هذا أولى بقبول عذرهه.
ص: 110
من الأول؟
قال ابن حزم: من سب أحداً من الصحابة (رضي اللّه عنهم) فإن كان جاهلاً فمعذور، وإن قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق، كمن زنى وسرق، وإن عاند اللّه تعالى في ذلك ورسوله صلى الله عليه و آله فهو كافر، وقد قال عمر (رض) بحضرة النبي صلى الله عليه و آله عن حاطب وحاطب مهاجري بدري: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فما كان عمر بتكفيره حاطباً كافراً بل كان مخطئاً متأوّلاً(1). وقال: من كان على غير الإسلام وقد بلغه أمر الإسلام فهو كافر، ومن تأوّل من أهل الإسلام فأخطأ فإن كان لم تقم عليه الحجة، ولا تبيّن له الحق فهو معذور مأجور أجراً واحداًُ لطلبه الحق وقصده إليه مغفور له خطؤه... إلخ(2).
وقال أيضاً: أمّا الشيعة فعمدة كلامهم في الإمامة والمفاضلة بين أصحاب النبي صلى الله عليه و آله، واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلف غيرهم(3).
ولا ريب أنّ الشيعة لم تقل في الإمامة والمفاضلة ما قالت إلّابالحجج التي عندها من الكتاب والسنة، ولو كانوا بزعم غيرهم مخطئين متأوّلين فهم معذورون مأجورون على كل حال، ويأتي مزيد إيضاح لذلك إن شاء اللّه تعالى في بعض المباحث الآتية، واللّه الهادي إلى الصواب.3.
ص: 111
ص: 112
وفي ص 15 نقل عن مفتاح الجنان دعاء، ثم فسّره بما يهين بعض الصحابة، وقال: هو يعني كتاب مفتاح الجنان بمنزلة دلائل الخيرات(1) في بلاد العالم الإسلامي... إلخ.
لم أجد هذا الدعاء في أصل من أصول الشيعة، ولم أسمع بواحد من مشايخي، ولا بأحد من الشيعة يقرأ هذا الدعاء، ولم أعثر بعدُ عليه إلّافي كتاب الخطيب، والكتاب الذي ذكره ليس من الكتب المعتمدة، وليس له هذا الشأن والإعتبار والإشتهار، فقد تفحصّت عنه في عدّة من المكتبات فلم أجد فيها وفي فهارسها منه عيناً ولا أثراً.
نعم يوجد عند الشيعة كتاب دعاء أسماه مؤلّفه المحدّث الشيخ عباس
ص: 113
القمي (مفاتيح الجنان) ليس فيه هذا الدعاء، ويوجد فيه طعن شديد على الكتاب الموسوم بمفتاح الجنان، ولعلّه هو الكتاب الذي ذكره الخطيب، وهذا الكتاب لو كان أصله من تأليف بعض الشيعة لا شك في وقوع التصرّف والدسّ فيه، وذكر المحدث القمي أنّ فيه زيادات ليست في كتب الأدعية المعتبرة، قد دسّها فيه الوضاعون، والمحدث المذكور صنّف المفاتيح لتخليص المفتاح عن هذه الزوائد، وما لا مأخذ له في كتب الدعاء.
وعلى كل حال فلم أر لهذا الدعاء فيما بأيدينا من كتب الشيعة رواية، والأدعية التي يداوم الشيعة على قراءتها هي الأدعية المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام.
ومن أراد أن يرى الشيعة في مرآة أدعيتهم ينبغي له الرجوع إلى الكتب التي صنفها علماؤهم الأجلّاء، كالشيخ الطوسي، والسيّد ابن طاووس، وغيرهما في الدعاء، وقد أفردوا في جوامعهم في الحديث أيضاً كتباً في الدعاء لا ترى لهذا الدعاء فيها اسماً ولا أثراً، وهذه الأدعية مشتملة على المطالب العالية في المعارف والأخلاق الإسلامية، والآداب الإجتماعية بأفصح الألفاظ، وأبلغ العبارات، تهذّب الأخلاق وتصفّي الأرواح، وتكمّل النفوس وتطهّرها عن الأوساخ المادية، وتزيد في الوعي الإسلامي، فاقرأ الدعاء الذي علّمه الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام أبا حمزة الثمالي، والدعاء الذي علّمه سيّدنا أمير المؤمنين عليه السلام كميل بن زياد، ودعاء الحسين عليه السلام في يوم عرفة، وأقرأ الصحيفة السجادية وسائر الأدعية حتى تعرف مبلغ ثروة الشيعة العلمية والروحية في الدعاء، وتعرف أنّ الخطيب وزملاءه ممن يعيب الشيعة بدعاء صنمي قريش الذي عرفت حاله، ويتركون هذه الأدعية لا يريدون إلّاإثارة الضغائن المدفونة بالإفتراء وتتبّع عورات المسلمين.
ص: 114
قال في ص 16: وقد بلغ من حنقهم على مطفىء نار المجوسية في إيران، والسبب في دخول أسلاف أهلها في الإسلام سيّدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه سمّوا قاتله أبا لؤلؤة المجوسي (بأبا شجاع الدين) روى علي بن مظاهر من رجالهم، عن أحمد بن إسحاق القمي الأحوص شيخ الشيعة ووافدهم أنّ يوم قتل عمر بن الخطاب هو يوم العيد الأكبر، ويوم المفاخرة، ويوم التبجيل، ويوم الزكاة العظمى، ويوم البركة، ويوم التسلية... إلخ.
الشيعة طائفة كبيرة من المسلمين منتشرون في الممالك الإسلامية وغيرها كسوريا، ولبنان، وإمارات الخليج، والمملكة العربية، والأفغان، وهند وپاكستان، وإيران، والعراق، واليمن وتركيا، وتايلاند، وأندونيسيا، وتانزانيا، وبِرما، وسائر بلاد آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا، وأكثر قدمائهم كانوا من
ص: 115
عظماء المهاجرين والأنصار والتابعين، وليس جميعهم إيرانيين حتى يقال عنهم أنّهم سموا أبا لؤلؤة (بأبي شجاع الدين) تعصّباً للمجوسية، وحنقاً على الخليفة.
ومطفىء نار المجوسية في إيران هو مطفىء نار الكفر والشرك وعبادة الأوثان في البلاد العربية، وسائر الممالك الإسلامية، والسبب في دخول أسلاف أهلها في الإسلام هو السبب في دخول جميع المسلمين من الصحابة وغيرهم في الإسلام، وليس هو إلّاالرسول الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه و آله المبعوث إلى كافة الناس، والذي أرسله رحمة للعالمين، وبالهدى ودين الحق، وليظهره على الدين كلّه، وهو أكرم خلق اللّه وأعزهم وأحبهم إلى الشيعة، ومن كان في قلبه حنق عليه مثقال ذرة وأقل من ذلك فهو كافر عندهم خارج عن الإسلام، والقسط الأكبر والسهم الأوفر في نصرة الرسول صلى الله عليه و آله لإطفاء نار الوثنية والمجوسية وسائر أنواع الكفر والشرك لأصحابه المجاهدين الأولين السابقين الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس من المهاجرين والأنصار الذين بذلوا أنفسهم دونه، وجاهدوا في سبيل اللّه وقاتلوا وقتلوا: كأبي دجانة الأنصاري، وسيّد الشهداء حمزة، وجعفر الطيّار، وبطل الإسلام ومجاهده الأكبر، رجل الحق والتضحية، فارس الغزوات وقاتل صناديد الشرك علي بن أبي طالب.
وكل باحث في التاريخ يعلم أن سبب فتوحات المسلمين بعد ارتحال النبي صلى الله عليه و آله إلى الرفيق الأعلى هو إيمان المجاهدين بحقيقة الرسالة، وخلوص عقائدهم، وصدق نياتهم وقوة عزائمهم، وثباتهم وصبرهم عند لقاء العدو، وحبهم للتضحية والشهادة، والجهاد في سبيل اللّه، فهذه الفتوحات فتوحات الدين، فتوحات الإيمان والعقيدة، فتوحات التربية المحمدية، وفتوحات الأُمة
ص: 116
الإسلامية لا تنسب إلى شخص واحد أو قوم واحد، لأنّها ليست كغيرها من فتوحات الجبابرة مثل: إسكندر ونابلئون التي ليس ورائها قصد إلّااستعباد الناس، وبسط السلطة والملك، واغتصاب الأراضي، وليس الغلبة فيها بالسلاح وكثرة العُدّة والعدد، بل كان بقوة الإيمان والثقة باللّه، وإنّ النصر منه، والأرض له يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
وأما دخول أسلاف أهل إيران في الإسلام فإنه لم يكن بالإكراه والإجبار حتى يوجب الحنق على من أدخلهم فيه، بل كان عن كمال الإشتياق والإختيار، فقد فتحت حقيقة دعوة الإسلام وخلوصها عن الشرك وسماحة شرائعه وأحكامه، وجامعية تعاليمه وأكمليته قلوب الإيرانيين إلى الإسلام، وثباتهم على العقيدة الإسلامية، وشدة تمسّكهم بمبادئه إلى اليوم، وخدماتهم للإسلام - كما تأتي الإشارة إليها - سجّلت في التاريخ الإسلامي، والخطيب يفتري عليهم ويرميهم بالتعصّب للمجوس، وينسى حنق المنافقين على علي بن أبي طالب لأنّه قتل آبائهم وأبنائهم وأقاربهم في سبيل اللّه، وحنق الأمويين وغيرهم من مبغضي أهل البيت على الإسلام على الإمام علي، فلم يسند ما ظهر من الفتن الدامية بين المسلمين إلى حنق هؤلاء الذين لم تذب بالإسلام عصبياتهم الجاهلية، وبقيت قلوبهم مملوءة بالحقد والحنق على النبي صلى الله عليه و آله وأهل بيته، وعلى المجاهدين الأبطال الذين جعل اللّه بسيوفهم ومجاهداتهم كلمة الإسلام هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
ص: 117
فراجع ما ذكره المسعودي في مروج الذهب(1) في حوادث سنة اثنتي عشرة ومأتين من سبب أمر المأمون بلعن معاوية على المنابر حتى تعرف حنق هؤلاء على الرسول صلى الله عليه و آله وعلى أهل بيته.
وعلى كل حال، فالمؤمنون كلهم إخوة، لافرق بين إيرانيهم وعربيهم، وأبيضهم وأسودهم إلّابالتقوى، قال اللّه تعالى: إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم(2).
وأما ما ذكره من رواية علي بن مظاهر فهي رواية ضعيفة المتن وضعيفة السند، لم نجدها في الجوامع والأصول المعتبرة عند الإمامية، كما لم نجد ترجمة علي بن مظاهر الذي عده الخطيب من رجال الشيعة لا في كتب الرجال ولا في غيرها، ولا يستغرب وجود مثل هذا النقل عن مجهول في بعض المجاميع الكبيرة المبسوطة التي اعتاد مؤلفوها بجمع الأخبار من غير أن يكترثوا لاعتبار إسنادها وتحقيق متونها، وأمثالها في كتب أهل السنة أيضاً، فلا ينبغي مؤاخذة السنّة أو الشيعة بهذه الأخبار، بل يجب الرجوع إلى الماهرين في علم الحديث من علماء الفريقين العارفين.
وما ذكره من أنّ أبا لؤلؤة كان مجوسياً فلم يثبت، بل قيل كما حكي عن الذهبي والطبري إنّه كان نصرانياً حبشياً، وروي أنّه كان مجوسياً، وهو عم أبي الزناد الذي كان عالم أهل السنة في المدينة، وإمامهم في الحساب والفرائض، والفقه والحديث والشعر، وكان عبداً للمغيرة بن شعبة، وهل كان معتنقاً للإسلام3.
ص: 118
حين ما كان في المدينة المنورة أم لم يكن قد أسلم بعد؟ الظاهر أنّه اعتنق الإسلام، لأن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أمر بإخراج الكفّار من المدينة المنورة المكرمة، فلو كان كافراً لم يكن مأذوناً من الخليفة في المقام بالمدينة، والدخول في مسجد النبي صلى الله عليه و آله، والوقوف في صف المصلّين(1).
وعلى كل: لو كان فيمن يتولّى حبيبة الرسول فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين ويبالغ في ولايتها من سمع بمقالة النظام(2) ، أو قرأ كتاب الإمامة).
ص: 119
والسياسة لابن قتيبة(1) وغيره، فسمى - بزعم الخطيب - أبا لؤلؤة بأبي شجاع الدين لا يخرجه ذلك من الإيمان، ولا يجوز تفسيقه إذا كان عن اجتهاد، بل لا يجوز تكفير قاتله إن ثبت إسلامه، ولم تقم قرينة على معاندته للحق، وخصومته للإسلام، بل كان ذلك منه تشفّياً لغيظه وغضبه على عمر، لأنّه لم يكثر خراجه، ولم ينتصف له بزعمه من المغيرة.
فالمسلمون لم يكفروا من نقم على عثمان من الصحابة وغيرهم ولم يكفروا قتلته، وفي أهل السنة من لا يكفر عمران بن حطان الناصبي الذي مدح أشقى الآخرين، وشقيق عاقر ناقة صالح عبد الرحمن بن ملجم المرادي بأبياته المشهورة الخبيثة، بل أخذوا عنه الحديث، بل اجترأ بعضهم وعدَّ ابن ملجم من الصحابة مع قولهم بأنّ الصحابة كلهم عدول(2).ن.
ص: 120
فمن لم يكفر أمثال عمران بن حطان، وحريز بن عثمان الرحبي الذي قال عنه يحيى بن صالح: صلّيت معه سبع سنين، فكان لا يخرج من المسجد حتى يلعن علياً (عليه الصلاة والسلام) سبعين مرة(1). وغيرهما من مبغضي علي بن أبي طالب(2) ، ويأخذ منهم، ومن شمر بن ذي الجوشن، وعمر بن سعد...
الحديث.
ويذكر ابن ملجم في عداد الصحابة، كيف يعاتب الشيعة بزعم أنّ فيهم من يمدح أبا لؤلؤة، ويسميه بأبا شجاع الدين، ويعد ذلك مانعاً من التقريب واتحاد كلمة المسلمين.ة.
ص: 121
فأُمّ المؤمنين عائشة سجدت لقتل الإمام علي شكراً، وقالت ما قالت حتى عابها الناس(1) ، وهذا معاوية أظهر السرور بقتل أمير المؤمنين والحسن عليهما السلام، وسبه وأمر بسبه على رؤوس المنابر، ألم يظهر العثمانيون والمروانيون السرور بقتل الحسين عليه السلام، واتخذوا يوم عاشوراء عيداً، ووضعوا في فضيلته الأحاديث؟
فإذا كان إظهار الفرح بقتل عمر بن الخطاب سبباً للفسق أو الكفر أو العتاب فِلمَ لا تعاتبون ولا تكفرون هؤلاء الذين أظهروا سرورهم بقتل أهل بيت النبي والوصي عليهم السلام واتخذوا يوم قتلهم عيداً.
كانت مآتم بالعراق تعدّهاأُموية بالشام من أعيادها
فإذن ما ذكره الخطيب لا يمنع من التقريب والتجاوب، والتفاهم واتحاد الكلمة، بعد الإتفاق على الأُسس التي قام عليها الإسلام، وعلى المسلمين أن لا يتركوا الإعتصام بحبل اللّه لهذه الآراء التي أحدثتها سياسة الأُمراء الجبّارين، وأن يتمسّكوا بالدعوة المحمدية، وهدى القرآن والسنة، ويأخذوا بقوله تعالى: تلكي.
ص: 122
أُمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عمّا كانوا يعملون (1) .
وأن لا يجدّدوا هذه المناقشات، ولا يخوضوا في هذه المباحث، فإنّه ليس عليهم حساب الأموات، ولا ينبغي أن يكون لهم غرض إلّانشد الحقيقة، فإنّ اللّه عليم بما في صدور العالمين.
عيد سعيد عيد سعيد عيد سعيد1.
ص: 123
ص: 124
يجب على كل مسلم في شرق الأرض وغربها أن يقدّر خدمات الفرس للإسلام وعلومه، وأن يفتخر بهم وبمساعيهم الجميلة في سبيل إعلاء كلمة الإسلام ومعارفه وآدابه، قوم مدحهم اللّه في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل اللّه فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنّما يبخل عن نفسه واللّه الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم(1).
أخرج البغوي(2) عن أبي هريرة: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله تلا هذه الآية: وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم(3) قالوا: يارسول اللّه، من هؤلاء الذين إن تولّينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال: هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناله رجال من الفرس.
ص: 125
وأخرج أيضاً(1) عن أبي هريرة قال: ذكرت الأعاجم عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال النبي صلى الله عليه و آله: «لأنا بهم أو ببعضهم أوثق مني بكم أو ببعضكم».
وأخرج أيضاً(2) عن أبي هريرة قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه و آله إذ نزلت سورة الجمعة، فلمّا نزلت هذه: وآخرين منهم لما يلحقوا بهم(3) قالوا: من هؤلاء يا رسول اللّه؟ قال وفينا سلمان الفارسي، ثم قال: فوضع النبي صلى الله عليه و آله يده على سلمان ثم قال: لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء. وأخرج ابن الأثير(4) عن قيس بن سعد: لو كان العلم متعلّقاً بالثريا لناله ناس من فارس.
وأخرج السيوطي في مفحمات الأقران في تفسير مبهمات القرآن (5)(سورة الجمعة) وآخرين منهم لما يلحقوا بهم أخرج البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: إنهم قوم سلمان، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: هم الأعاجم.
وأخرج البخاري(6) عن أبي هريرة قال: كنّا جلوساً عند النبي صلى الله عليه و آله فأنزلت عليه سورة الجمعة: وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال: قلت: من هم يا رسول اللّه؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي، وضع رسول اللّه صلى الله عليه و آله يده على سلمان، ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل5.
ص: 126
من هؤلاء»، وأخرج مسلم نحوه في كتاب الفضائل، باب فضل سلمان.
وأخرج الحافظ أبو نعيم(1) بإسناده أحاديث رويت عن النبي صلى الله عليه و آله في فضل الإيرانيين وأنّهم المبشّرون بمنال الإيمان والتحقق به وإن كان عند الثريا، ولفظ بعضها: لوكان الدين عند الثريا لذهب رجل أو قال: رجال من أبناء فارس حتى يتناولوه، وفي بعضها إنّه قال صلى الله عليه و آله: «أعظم الناس نصيباً في الإسلام أهل فارس، لو كان الإسلام في الثريا لتناوله رجال من أهل فارس»، وفي بعضها:
«لو كان الدين معلقاً»، وفي بعضها: لو كان هذا العلم بالثريا لناله قوم من أهل فارس، وفي بعضها: لو كان الخير منوطاً بالثريا لتناوله منكم رجال (إلخ).
قوم نشأ فيهم من رجالات العلم والفقه والحديث والتاريخ، والفلاسفة والمتكلّمين، وأساتذة البلاغة والأدب من يفتخر بهم الملأ الإسلامي، كالبخاري والنسائي، وأبي داود السجستاني، والترمذي وابن ماجة ومسلم من أرباب السنن، والطبري وابن ماكولا الجرفاذقاني (الگپايگاني) والحاكم والنيسابوري، والفخر الرازي والبيضاوي والفيروز آبادي وغيرهم من أعلام السنيين.
وكالصدوق والكليني والشيخ الطوسي، وأمين الإسلام الطبرسي والطبري الشيعي، وابن شهر آشوب، والأردبيلي، والسيّد عليخان الشيرازي وقطب الدين الرازي، والشيخ الرضي مؤلّف كتاب شرح الرضي، والعلّامة المجلسي، والفيلسوف أبي نصر الفارابي، وأبي علي سينا البلخي، والخواجه نصير الدين الطوسي وابن مسكويه، والحكيم الإلهي السيّد الداماد، وصدر المتألهين).
ص: 127
الشيرازي والفاضل الآوي، وسالار الديلمي، والشيخ بهاء الدين محمد العاملي، والوحيد البهبهاني، والفاضل النراقي، والشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي، وفي هذا العصر ترجمان العلوم الإسلامية أستاذنا السيّد الزعيم آغا حسين الطباطبائي البروجردي المتوفى سنة 1380(1) وغيرهم من أعلام الشيعة.
فحق للإيراني بل لكل مسلم أن يفتخر بأُلوف من أمثال هؤلاء الجهابذة، والنوابغ الذين لا ينسى التاريخ مساعيهم المشكورة في خدمة الإسلام، وجهودهم في الإحتفاظ بشعائر الدين الحنيف، وهذه كتبهم ومدارسهم ومساجدهم تنبي عن قدمهم الراسخة في الغيرة على الإسلام وكتابه وأُمته، وعن خلوص نياتهم في سبيل إعلاء كلمة التوحيد وإن نسب إليهم الخطيب التعصّب للمجوس، فاللّه تعالى يقول: وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم(2) ، ويقول عز شأنه: ولو نزّلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين(3).9.
ص: 128
مما اتفق عليه المسلمون خلفاً عن سلف، وتواترت فيه الأخبار عن النبي صلى الله عليه و آله: أنّه لابد من إمام يخرج في آخر الزمان من نسل علي وفاطمة يسمى باسم الرسول ويلقّب بالمهدي، ويستولي على الأرض ويملك الشرق والغرب، ويتبعه المسلمون ويهزم جنود الكفر، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، وينزل عيسى من السماء ويصلّي خلفه...
وأخرج جمع من أعلام أهل السنة والجماعة روايات كثيرة في أنّه من عترة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومن ولد فاطمة، ومن ولد الحسين، وإنّه يملأ الأرض عدلاً، وإنّ له غيبتين إحديهما تطول، وإنّه الخليفة الثاني عشر من الخلفاء الذين أخبر النبي صلى الله عليه و آله بأنّهم يملكون أمر هذه الأُمة، وإنّه لا يزال هذا الدين منيعاً إلى اثنى عشر، وفي شمائله وخلقه وخُلقه، وسيرته بين الناس، وشدّته على العمّال،
ص: 129
وجوده بالمال، ورحمته بالمساكين، وفي اسم صاحب رايته وما كتب فيها، وكيفية المبايعة معه بين الركن والمقام، وما يقع قبل ظهوره من الفتن وذهاب ثلثي الناس بالقتل والموت، وخروج السفياني واليماني والدجال، ووقوع الخسف بالبيداء، وقتل النفس الزكية، وفي علائم ظهوره وأنه ينادي ملك فوق رأسه: (هذا المهدي خليفة اللّه فاتبعوه) وإن شيعته يسيرون إليه من أطراف الأرض، وتطوى لهم طياً حتى يبايعوه، وإنّه يستولي على البلدان، وإنّ الأُمة ينعمون في زمنه نعمة لم ينعموا مثلها. وغيرها من العلائم والأوصاف التي اقتطفناها من روايات أهل السنة، فراجع كتبهم المفردة في ذلك: كأربعين الحافظ أبي نعيم الإصبهاني، والبيان في أخبار صاحب الزمان لأبي عبداللّه محمد بن يوسف الكنجي الشافعي (ت 658 ه)، والبرهان في علامات مهدي آخر الزمان للعلامة المتقي صاحب منتخب كنزالعمال (ت 975 ه)، والعُرف الوردي في أخبار المهدي للسيوطي (ت 911 ه)، والقول المختصر في علامات المهدي المنتظر لابن حجر (ت 974 ه)، وعقد الدرر في أخبار المنتظر للشيخ جمال الدين يوسف الدمشقي من أعلام القرن السابع، والتوضيح في تواتر ماجاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح للشوكاني (ت 1250 ه).
أضف إلى ذلك روايات أخرجها أكابر المحدّثين منهم في كتبهم وصحاحهم ومسانيدهم كأحمد، وأبي داود، وابن ماجة، والترمذي، ومسلم، والبخاري، والنسائي، والبيهقي، والماوردي، والطبراني، والسمعاني، والروياني، والعبدري وابن عساكر، والدار قطني، وأبي عمرو الداني، وابن حبّان، والبغوي، وابن الأثير، وابن الديبع، والحاكم النيسابوري، والسهيلي، وابن
ص: 130
عبد البر والشبلنجي، والصبّان والشيخ منصور علي ناصف، وغيرهم ممن يطول الكلام بذكر أسمائهم.
وأضف إليها تصريحات جماعة من علمائهم بتواتر الأحاديث الواردة في المهدي عليه السلام(1).
فلا خلاف بين المسلمين في ظهور المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً وإنّما الخلاف وقع بينهم في أنّه ولد أو سيولد، فالشيعة الإمامية يقولون بولادته، وبوجوده وحياته وغيبته، وإنّه سيظهر بإذن اللّه تعالى، وإنّه الإمام الثاني عشر، وهو ابن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
ورواياتهم في ذلك تجاوزت حدّ التواتر، معتبرة في غاية الإعتبار، مؤيّدة بعضها ببعض، وكثير منها من الصحاح بل مقطوع الصدور، رواها في جميع الطبقات الأثبات الثقات، من الأجلّاء الذين لا طريق للغمز فيهم، وإن شئت أن تعرف مقدار ذلك فارجع إلى ما ألّفه الحافظ الجليل الثقة أبو عبداللّه النعماني بإسناده العالية، وما ألّفه الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي الإمام فيا.
ص: 131
جميع العلوم الإسلامية، وكتاب كمال الدين وتمام النعمة تأليف الشيخ المحدّث الكبير محمد بن علي ابن الحسين الصدوق (ت 381 ه) وكتابنا منتخب الأثر، ومئات من الكتب المصنفة في ذلك.
وهذه الروايات مخرّجة في أصول الشيعة وكتبهم المؤلّفة قبل ولادة الإمام الحجة بن الحسن العسكري عليهما السلام، بل قبل ولادة أبيه وجده عليهم السلام.
منها كتاب المشيخة لإمام أهل الحديث الشيخ الثقة الثبت الحسن ابن محبوب السرّاد الذي كتابه هذا في كتب الشيعة أشهر من كتاب المزني ونظرائه، وصنفه قبل ولادة المهدي بأكثر من مائة سنة، وذكر فيه أخبار الغيبة فوافق الخبر المخبر، وحصل كلما تضمنه الخبر بلا اختلاف.
وأما ولادته عليه السلام (فقد ثبت بأوكد ما يثبت به أنساب الجمهور من الناس إذ كان النسب يثبت بقول القابلة، ومثلها من النساء اللاتي جرت عادتهنّ بحضور ولادة النساء، وتولّي معونتهن عليه، وباعتراف صاحب الفراش وحده بذلك دون من سواه، وبشهادة رجلين من المسلمين على إقرار الأب بنسب الإبن منه، وقد ثبتت أخبار عن جماعة من أهل الديانة والفضل، والورع والزهد، والعبادة والفقه، عن الحسن بن علي أنّه اعترف بولادة المهدي عليه السلام، وآذنهم بوجوده، ونص لهم على إمامته من بعده، وبمشاهدة بعضهم له طفلاً، وبعضهم له يافعاً، وشاباً كاملاً)(1).
وهذا الفضل بن شاذان العالم المحدّث المتوفى قبل وفاة الإمام أبي محمدد.
ص: 132
الحسن العسكري عليه السلام، روى عنه في كتابه في الغيبة خبر ولادة ابنه المهدي، وكيفيتها وتاريخها، وكانت ولادته عليه السلام بين الشيعة وخواص أبيه من الأُمور المعلومة المعروفة، وقد أمر أبوه عليه السلام أن يعق عنه ثلاث مائة شاة، وعرضه على أصحابه يوم الثالث من ولادته.
والأخبار الصحيحة الواردة بإسناد عالية في ذلك كثيرة متواترة جداً، وقد أحصى بعض العلماء أسماء جماعة ممن فازوا بلقائه في حياة أبيه وبعدها، كما قد نقل عن بعض أهل السنة الإجتماع به عليه السلام، بل أخرج بعض حفّاظهم مثل حافظ زمانه أحمد بن محمد بن هاشم البلاذري الحديث عنه عليه السلام.
نعم كان أبوه وشيعته يسترون ولادته عن أعدائه من بني عباس وغيرهم، وكان السر في ذلك إن بني العباس لما علموا من الأخبار المروية عن النبي والأئمة من أهل البيت عليهم السلام أنّ المهدي هو الثاني عشر من الأئمة، وهو الذي يملأ الأرض عدلاً، ويفتح حصون الضلالة، ويزيل دولة الجبابرة، أرادوا إطفاء نوره بقتله، فلذا عيّنوا العيون والجواسيس للتفتيش عن بيت أبيه، ولكن أبى اللّه إلّاأن يجري في حجته المهدي سُنة نبيه موسى عليهما السلام، وقد ورد في الروايات الكثيرة عن آبائه عليهم السلام خفاء ولادته، ومشابهته في ذلك بموسى عليه السلام، فراجع الباب الثاني والثلاثين من الفصل الثاني من كتابنا منتخب الأثر.
فعلى هذا لم ينبعث الإيمان بظهور المهدي عليه السلام إلّامن الإيمان بنبوة جده محمد صلى الله عليه و آله، وليس في الخصوصيات المذكورة أمر غير مألوف مما لم نجد مثله في هذه الأُمة أو الأُمم السالفة، فلابد لمن يؤمن باللّه وبالنبي الصادق المصدّق بعد العلم بهذه الأخبار الكثيرة الإيمان بظهور المهدي المنتظر صاحب هذا النسب
ص: 133
المعلوم، والسمات والنعوت المشهورة، ولا يجوز مؤاخذة الشيعي بانتظار هذا الظهور، ولا يصح دفع ذلك بمحض الإستبعاد.
فالمسلم الذي يؤمن بحياة عيسى، بل وحياة الدجّال الكافر، وخروجه في آخر الزمان، وبحياة خضر وإدريس، ويروي عن نبيه في أصح كتبه في الحديث(1) إنّه احتمل كون ابن صياد هو الدجّال، ويروي عن تميم الداري ما هو صريح في أنّ الدجّال كان حياً في عصر النبي صلى الله عليه و آله وأنه يخرج في آخر الزمان، ويؤمن بطول عمر نوح ويقرأ في القرآن: فلبث فيهم ألف سنة إلّاخمسين عاماً(2) وقوله تعالى: فلولا أنّه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون(3) وأمثال هذه الأمور مما يستغربه بعض الأذهان لقلة الأُنس به، كيف يعيب الشيعة على قولهم ببقاء الإمام المنتظر، وينسبهم إلى الجهل وعدم العقل، ومفاسد هذه الإستبعادات في المسائل الدينية كثيرة، ولو فتح هذا الباب لأمكن إنكار كثير من المسائل الإعتقادية وغيرها مما دلّ عليه صحيح النقل بالإستبعاد، ويلزم من ذلك طرح ظواهر الأخبار والآيات بل وصريحها، ولا أظن بمسلم أن يرضى بذلك وإن كان الخطيب ربّما لا يأبى عن ذلك ويراه نوعاً من الثقافة.
ووافق الإمامية من أعلام أهل السنة في أنّ المهدي هو ابن الحسن4.
ص: 134
العسكري عليهما السلام جمع كثير كصاحب روضة الأحباب، وابن الصباغ مؤلف (الفصول المهمة) وسبط ابن الجوزي مؤلّف (تذكرة الخواص) والشيخ نور الدين عبدالرحمن الجامي الحنفي في كتاب (شواهد النبوة) والحافظ محمد بن يوسف الكنجي الشافعي مؤلف (البيان في أخبار صاحب الزمان) والحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي الفقيه في (شعب الإيمان) فإنّه يظهر منه على ما حكي عنه الميل إلى موافقة الشيعة بل اختيار قولهم، وذلك لأنّه نقل عقيدة الشيعة ولم ينكرها، وكمال الدين محمد بن طلحة الشافعي صاحب (العقد الفريد) صرّح بذلك في كتابه (الدر المنتظم) و (مطالب السؤول) وله في مدحه عليه السلام أبيات، والقاضي فضل بن روزبهان شارح الشمائل للترمذي، ومؤلف (أبطال نهج الباطل) وابن الخشاب والشيخ محيي الدين، والشعراني، والخواجه محمد پارسا، وملك العلماء القاضي شهاب الدين دولت آبادي في (هداية السعداء) والشيخ سليمان المعروف بخواجه كلان البلخي القندوزي في (ينابيع المودة) والشيخ عامر بن عامر البصري صاحب القصيدة التائية المسمّاة بذات الأنوار وغيرهم من العلماء ممن يطول بذكرهم الكلام.
وقد صرّح بولادته جماعة من علماء أهل السنة الأساتذة في النسب والتاريخ والحديث كابن خلكان في (الوفيات) وابن الأزرق في (تاريخ ميافارقين) على ما حكى عنه ابن خلكان، وابن طولون في (الشذرات الذهبية) وابن الوردي على ما نقل عنه في (نور الأبصار) والسويدي مؤلف (سبائك الذهب) وابن الأثير في (الكامل) وأبي الفدا في (المختصر) وحمداللّه المستوفي في (تاريخ گزيده) والشبراوي الشافعي شيخ الأزهر في عصره في (الإتحاف)
ص: 135
والشبلنجي في (نور الأبصار) بل يظهر منه اعتقاده بإمامته، وأنه المهدي المبشّر بظهوره، وإن شئت أن تقف على أكثر من ذلك فراجع كتابنا (منتخب الأثر) الباب الأول من الفصل الثالث منه.
ومع هذا أليس من عجيب جرأة الخطيب وعناده وتحامله على الشيعة إنكاره في ص 16 و 29 ولادة المهدي عليه السلام لأنّها لم تسجّل بزعمه في سجل مواليد العلويين، وقد خرج هنا عن حدود الأدب وبالغ في الفحش والإفتراء، وأظهر سجيته «وكل إناء بالذي فيه ينضح» ولم يستند فيما ذكره من الأراجيف والأضاليل إلى البرهان، وادّعى أنّ ولادته لم تسجّل في مواليد العلويين، كأنّهم جعلوا سجل مواليدهم عنده، وكان هو النقيب القائم على سجل ولاداتهم، وعلم أنساب أهل البيت مذخور عنده دون غيره من العلويين وشيعتهم ودون أرباب التواريخ وعلماء الأنساب، فمن لم يعرفه الخطيب ليس منهم؟
أيّها الخطيب! ما هذاالسجل الذي سجّل فيه ولادة العلويين في عصرالإمام أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام، ومن أين يطلب؟ ومن أخبرك به؟ ومن أطلعك على مواليد جميع العلويين؟ ومن كان النقيب في تلك الأعصار؟ ومن أين تقول إنّ العلويين لا يعرفون ولداً للحسن العسكري عليه السلام، مع أن كثيراً منه من أخلص الناس ولاء له؟ وهل يوجد طريق لإثبات ولادة المولود أوثق من أخبار والده وقابلته، وخواص أهل بيته؟ أيشك عاقل في ولادة من رآه مئات من الناس، والأخيار الأثبات، وظهرت منه الكرامات الكثيرة؟
إذا كان هذا ومثله معرضاً للشك فلا يبقى اعتماد على ما نقله التاريخ من حوادث الأعصار ووقايع الأمصار.
ص: 136
نعم قد خفيت ولادته عن أعدائهم لأنّهم كانوا ساعين في إطفاء نوره والإستيلاء عليه، لما وصل إليهم من الأخبار المبشّرة بظهوره، وأنّه هو الشخص الذي يزيل دولة الجبابرة، فهذا المعتضد الخليفة العباسي يرسل الجواسيس إلى بيت الإمام الحسن بن علي العسكري عليهما السلام لأخذ ابنه(1).
ومن الأغلاط الفاحشة التي أسندها هذا الرجل (تبعاً لأسلافه) إلى الشيعة هو أنّ الإمام المنتظر مخبوء في سرداب بيت أبيه، وأسند اختراع هذه الفكرة إلى محمد بن الحسن النميري المعروف بين الشيعة بالكفر والزندقة والإلحاد، والملعون في لسان الإمام أبي الحسن علي الهادي عليه السلام، وأعجب من ذلك عدّه النوّاب ووكلاء الإمام باباً للسرداب إلى آخر ما قال من الهذيان والإفتراء.
أقول: هذه كتب الشيعة المؤلفة قبل ولادة المهدي وولادة أبيه وجده عليه السلام إلى هذا الزمان ليس فيها لهذا البهتان أثر في كتاب واحد من أصاغر علماء الشيعة فضلاً عن أكابرهم كالكليني والصدوق والنعماني، والمفيد والشيخ، والسيدين المرتضى والرضي وغيرهم، فراجع كتب الشيعة حتى تقف على مبلغ عصبيةة.
ص: 137
الخطيب ونظرائه وعنادهم، وتعرف ميزان ثقافتهم وعلمهم بآراء الفرق والمذاهب.
نعم لو قرأ هو وأسلافه كتب الشيعة لوجدوها مشحونة من أحاديث تكذّب هذه النسبة، ولكنهم لم يعتادوا الفحص والتتبّع والتحقيق سيما في الفِرَق والمذاهب فيقولون فيهم ما يشاؤون، ويتبعون ما لا يعلمون وما لهم بذلك من علم إن هم إلّايظنون.
ص: 138
وقع البحث بين الشيعة وغيرهم في مسألة الرجعة منذ عهد قديم، مما يرجع تاريخه إلى المائة الأولى من الهجرة، ولهم فيها مقالات وبحوث واحتجاجات، يجدها المتتبّع في كتب الفريقين، وكان القول بالرجعة رأي العترة الطاهرة، و كان البحث فيها رائجاً بينهم وبين غيرهم، ومستندهم في ذلك آيات من القرآن المجيد، وروايات رووها بإسنادهم الذهبية عن جدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله.
فالحقيقة التي لا يمكن إنكارها لدى الباحثين في المسائل الإسلامية أنّ المصدر في العقيدة بالرجعة أئمة أهل البيت الذين ثبت وجوب التمسّك بهم بحديث الثقلين وغيره.
فالشيعة تقول بالرجعة على نحو الإجمال لاستلزام إنكارها رد القرآن والروايات المتواترة المخرجة في كتبهم المعتبرة، ولعدم مانع عقلي أو شرعي من القول بها.
ص: 139
واستشهدوا لأصل إمكان الرجعة ووقوعها وعدم استحالتها بوقوعها في الأُمم السالفة، وقد أخبر اللّه تعالى عنه في آيات: منها قوله تعالى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم أُلوف حذر الموت فقال لهم اللّه موتوا ثم أحياهم(1) وقوله تعالى: أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها فأماته اللّه مأة عام ثم بعثه(2).
ويمكن الإستشهاد له أيضاً بقوله تعالى: فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين(3).
واستدلوا بأنها سيقع في هذه الأُمة لا محالة بقوله تعالى: ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ممن يكذّب بآياتنا فهم يوزعون(4) فإنّ هذا اليوم ليس يوم القيامة لأنّ فيها يحشر اللّه تعالى جميع الناس، لقوله تعالى: وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا(5).
فأخبر اللّه تعالى في الآيتين بأنّ الحشر حشران: حشر عام، وحشر خاص، فاليوم الذي يحشر فيه من كل أُمة فوجاً لابد أن يكون غير يوم القيامة وهو يوم الرجعة، واعتمدوا أيضاً فيها على روايات كثيرة، منها الخبر المعروف بين الفريقين: لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا7.
ص: 140
جحر ضب تبعتموهم(1).
فيجب أن يكون من هذه الأُمة قوم يرجعون إلى الدنيا بعد موتهم كما وقع ذلك في الملأ الذين خرجوا من ديارهم وفي غيرهم.
فلا وجه لأن يستبعد الرجعة من يؤمن باللّه تعالى وبقدرته، بعد دلالة العقل والنقل على إمكانها، وبعد وقوعها في الأُمم السابقة وإخبار النبي صلى الله عليه و آله وأهل بيته بوقوعها في هذه الأُمة، ولا قيمة للإستبعاد في إنكارها، وإلّا لجاز أن يرد به كثير من معجزات الأنبياء، وإحياء الموتى يوم القيامة، وعذاب القبر، وغيرها من المطالب الثابتة بالنقل.
وأما ما ذكر الخطيب في ص 16 و 17 وغيرهما حول تفاصيل الرجعة وكيفيتها فليس أكثره مما دلت عليه آية، أو وردت فيه رواية معتمدة صحيحة، بل لا يلزم الإعتقاد ببعض هذه التفاصيل، وإن وردت فيه رواية، لعدم حجية أخبار الآحاد في المسائل الإعتقادية.
هذا مضافاً إلى ضعف كثير من هذه الأخبار الدالّة على التفاصيل؛ إما من جهة الدلالة أو من جهة السند، ومع هذا كيف أسند هذا المفتري على الشيعة ما ذكره في ص 20 من الإعتقاد برجعة الشيخين وصلبهما على شجرة في زمان المهدي عليه السلام، وأعجب من ذلك إسناده هذه العقيدة إلى السيّد الشريف المرتضى الذي اشتهر عنه عدم جواز الإحتجاج بأخبار الآحاد في الفروع الفقهية، فضلاً عن مثل هذه المسألة، وهذا كتاب مسائل الناصرية موجود عندها، لم نجد فيه2.
ص: 141
بحثاً عن الرجعة.
ومما ينبغي التنبيه عليه: أنّ القول بالرجعة ليس مورد اتفاق جميع الشيعة(1) وليس التشيّع منوطاً به، ولا من لم يتحصّله خارجاً عنه، ولم يؤمن بها من آمن بها إلّاتسليماً بما أخبر به النبي صلى الله عليه و آله، وتصديقاً لما أنبأ عن المغيبات، ولكن القوم ينكرون ذلك على الشيعة ويؤاخذونهم به كأنّهم عبدوا حجراً أو صنماً.
فعلى ما ذكر ليس في العقيدة بالرجعة سيما على وجه الإجمال ما يمنع من التفاهم والتقريب، ولا منافاة بين هذه العقيدة وبين جميع ما يجب أن يلتزم به المسلم من أركان الدين وما بني عليه الإسلام.).
ص: 142
نسب الخطيب في ص 20 إلى الشريف المرتضى وأخيه الشريف الرضي الإشتراك في تزوير الزيادات على نهج البلاغة. فقال فيما ذكر أخيراً في الرجعة السيّد المرتضى مؤلف كتاب أمالي المرتضى وهو أخو الشريف الرضي الشاعر، وشريكه في تزوير الزيادات على نهج البلاغة، ولعلّها أكثر من ثلث تلك الكتاب، وهي التي فيها تعريض للصحابة وتحامل عليهم إلخ.
إذا وصف الطائي بالبخل مادر
من هو أنّ الدنيا أنّ من ملأ كتاباً بأبشع الأكاذيب، وخان الإسلام بقلمه وتزويراته، ينسب إلى التزوير من بلغ في الصدق والأمانة والتثبّت درجة قلّما يوجد نظيره في العلماء الأثبات الثقات، وإنّي أرى أنّ الإعراض والصفح الجميل عن سوء أدبه بالسيّدين أولى، فإن تحامل مثله عليهما لا يمس ما هما عليه من الجلالة وقداسة النفس والشخصية والعبقرية وعلوّ المقام، فهما المثلان البارزان في العلم والأدب والبلاغة، وإباء النفس وعلو الطبع، والتقوى وكرائم الأخلاق ومحامد الأوصاف.
وقد شهد بعظمة قدرهما ونبوغهما في العلم والأدب والورع والدين عظماء الفريقين، وترجمهما علماء التاريخ والرجال، ومؤلّفو المعاجم، وأثنوا عليهما بكل الثناء.
وهذه عشرات من تصانيفهما تنبئ عن شموخ مقامهما، وخدماتهما للعلوم الإسلامية والأدب العربي، فجدير بكل مسلم في شرق الأرض وغربها أن يعتز بهما.
وقد تخرّج من مدرستهما جماعة من العلماء الفطاحل الأفذاذ، وشُدّت إليهما الرحال، ووفد إليهما الناس من كل الأصقاع ليس فيهما وضع غمز، ومكان عيب.
والحق أنّهما معجزتان من معجزات الإسلام، ومفخرتان لأهل بيت سيّد الأنام، وآيتان ظاهرتان من آيات اللّه البيّنات، وشأن من هذا مكانته في الجلالة والتقوى أعلى وأنبل من التزوير والكذب، ولو كان مثل السيّدين معرضاً لتهمة الكذب والتزوير لما بقي في العلماء ونقلة الأحاديث من يعتمد على أقواله
ص: 143
ص: 144
ورواياته.
ولو كان جميع ما في نهج البلاغة مما يوافق هوى الخطيب لكان الشريف الرضي عنده من أوثق الرواة، وكان كتابه عنده في المرتبة العليا من الإعتبار.
ص: 145
ص: 146
إليك ما قاله الاُستاذ الشيخ محمدحسن نائل الرصفي في مقدّمة كتابه شرح نهج البلاغة:
أما كتاب نهج البلاغة فهو الكتاب الذي أقامه اللّه حجة واضحة على أنّ علياً (رضي اللّه عنه) قد كان أحسن مثال حي لنور القرآن وحكمته، وعلمه وهدايته، وإعجازه وفصاحته، اجتمع لعلي في هذا الكتاب ما لم يجتمع لكبار الحكماء، وأفذاذ الفلاسفة، ونوابغ الربانيين من آيات الحكمة السامية، وقواعد السياسة المستقيمة، ومن كل موعظة باهرة، وحجة بالغة تشهد له بالفضل وحسن الأثر، خاض علي في هذا الكتاب لُجّة العلم والسياسة والدين، فكان في كل هذه المسائل نابغة مبرزاً، ولئن سألت عن مكان كتابه من العلم فليس في وسع الكاتب المسترسل، والخطيب المصقع، والشاعر المفلق أن يبلغ الغاية من وصفه، والنهاية من تقريظه، وحسبنا أن نقول إنّه الملتقى الفذّ الذي التقى فيه جمال الحضارة وجزالة البداوة، والمنزل الفرد الذي اختارته الحقيقة لنفسها
ص: 147
منزلاً تطمئن فيه، وتأوي إليه بعد أن زلّت به المنازل في كل لغة(1).
وهو كتاب تتجلّى فيه روح شريفة، يكسب القارئ في هذا الكتاب منها العصبية للحق، والشدة في الدين، والقصد في الحكمة والسياسة، وعندنا أن الذين يسمون إلى الإصلاح في هذا البلاد يجب عليهم أن يتخذوا هذا الكتاب إماماً في إصلاحهم من جهاته اللغوية، والعلمية والدينية، وأن الناشئين لو تأثّروا هذا الكتاب في العبارة وصدق النظر، لبلغوا من قوتي العقل واللسان تلك المنزلة التي نتمنّى لهم، ونودّ أن لو يصلون إليها في وقت قريب(2).
والذي لا يعتريه الشك هو كون الجامع لهذا الكتاب الشريف الرضي، قد ثبت ذلك بالتواتر القطعي، وصرح به في غيره من تصانيفه(3) وفي الجزء الخامس من تفسيره،(4) ونسخة كتبت في عصر الشريف الرضي وشحت بخطه الشريف موجودة مشهورة، لم يشترك معه أحد في جمعه لا الشريف المرتضى ولا غيره، وهذا غني عن البيان.
ولا شك أيضاً في أنّ الشريف الرضي اختار ما فيه من الخطب والكلمات المأثورة عن أمير المؤمنين عليه السلام في الكتب المعروفة، والأُصول المعتمدة المعتبرة، وكانت هذه الخطب والكتب والكلمات وحتى الخطبة الشقشقية أيضاً7.
ص: 148
من خطب أمير المؤمنين عليه السلام المعروفة بين العلماء والمؤلفين، أثبتوها في الكتب قبل ولادة الرضي والمرتضى وولادة أبيهما، وقد سبق الرضي (في جمع خطب أمير المؤمنين) أبو سليمان زيد الجهني، فألّف في عصر أمير المؤمنين كتاب (الخطب) جمع فيما أملاه أمير المؤمنين عليه السلام كما قد شرح خطب أمير المؤمنين (قبل تأليف نهج البلاغة) جماعة كأبي الحسين أحمد بن يحيى الراوندي المتوفى سنة 245 ه، والقاضي أبي حنيفة نعمان المغربي المتوفى سنة 363 ه.
وكيف يقبل العقل أن يزوِّر مثل الشريف على مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في كتاب اطّلع عليه السنّي والشيعي في عصره، سيما في مدينة بغداد الحافلة بجماهير من العلماء، من غير أن ينكر ذلك أحد عليه أو يرده، مع وجود الدواعي الشديدة لهم في تكذيبه، وإظهار تزويره، فاحتمال ذلك حتى بالنسبة إلى كلمة من هذا الكتاب مقطوع العدم، وإن شك الخطيب فيها، فمثل العلّامة الشيخ محمد عبده يصرّح بأنّ جميع ألفاظ كتاب نهج البلاغة صادر عن الإمام علي عليه السلام، ويجعل ما فيه حجة على معاجم اللغة، فراجع ما كتبه الأستاذ محمد محيي الدين المدرّس في كلية اللغة العربية بالجامع الأزهر مقدّمة على نهج البلاغة وشرحه، وراجع أيضاً مقدّمة شرح الشيخ محمد عبده، وشرح ابن أبي الحديد، وغيرها من الشروح، وكتاب (ما هو نهج البلاغة) و (الذريعة: ج 14 ص 111-161) وكتاب مدارك نهج البلاغة ودفع الشبهات عنه حتى تعرف مبلغاً من مكانة هذا الكتاب وقوة اعتباره.
ص: 149
ص: 150
نقل الخطيب في ص 21 عن بعض الشيعة أنّه نفى نعمة الإيمان عن أبي بكر وعمر، لأنه قال في كتابه: وإن قالوا إنّ أبا بكر وعمر من أهل بيعة الرضوان الذين نص على الرضا عنهم في القرآن في قوله في هذه السورة (يعني الفتح):
لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة (1) قلنا: إنّه لو قال: لقد رضي اللّه عنه الذين يبايعونك تحت الشجرة أو عن الذين بايعوك لكان في الآية دلالة على الرضا عن كل من بايع، ولكن لما قال: لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذ يبايعونك فلا دلالة فيها إلّاعلى الرضا عمن محض الإيمان.
ص: 151
(ثم قال الخطيب): ومعنى ذلك أنّ أبابكر وعمر لم يمحضا الإيمان فلا يشملهما رضا اللّه.
نحن نسوق الكلام أولاً: فيما يستفاد من الآية، وثانياً: في أنّ نفي الإيمان عن بعض الصحابة إذا كان النافي مجتهداً متأوّلاً، هل يوجب الكفر أو الفسق عند أهل السنة أم لا؟ ونبحث في كلتا الجهتين من ناحيتهما العلمية.
أمّا الكلام في الآية الكريمة: فلا شك في دلالتها على فضل بيعة الرضوان وفضل المؤمنين الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه و آله تحت الشجرة، ولكن لا دلالة لها على الرضا عن كل من بايعه حتى المنافقين الذين لا دافع لاحتمال دخول بعضهم في المبايعين.
فالحكم بالرضا عن شخص معيّن إنّما يصح إذا كان إيمانه محققاً معلوماً، فلا يشمل من ليس مؤمناً وإن كان من المبايعين، كما لا تشمل الآية المؤمن الذي لم يكن حاضراً تحت الشجرة فلم يبايع هناك، كما لا يجوز التمسّك بالآية لإثبات إيمان بعض معيّن من المبايعين لو صار معرضاً للشك، كائناً من كان، فإنّه هو التمسّك بعموم العام في الشبهة المصداقية الذي برهن في الأصول على عدم صحته، نعم لو قال لقد رضي اللّه عن الذين بايعوك تشمل كل من بايعه كائناً من كان وإن شك في إيمانه، ولكن لا يجوز التمسّك به فيمن شككنا في أصل بيعته، كما لا يثبت إيمان من شككنا في إيمانه بقوله: لقد رضي اللّه عن المؤمنين(1) وهذا كلام متين في غاية المتانة، ولذا سكت الخطيب عن جوابه.8.
ص: 152
وأيضاً هذه الآية لاتدلّ على حسن خاتمة أمر جميع المبايعين المؤمنين، وإن فسق بعضهم أو نافق، لأنها لا تدلّ على أزيد من أن اللّه تعالى رضي عنهم ببيعتهم هذه، أي قبل عنهم هذه البيعة ويثيبهم عليها، وهذا مشروط بعدم إحداث المانع من قبلهم. والحاصل أن اتصاف الشخص بكونه مرضياً لا يكون إلا بواسطة عمله المرضي، والعامل لا يتصف بنفسه بهذه الصفة، فهذه صفة تعرض الشخص بواسطة عمله، فإذا صدر عنه الفعل الحسن والعمل المرضي يوصف العامل بهذه الصفة أيضاً، ولا دلالة للآية على أنّ من رضي اللّه عنه بواسطة عمله يكون مرضياً طول عمره، وإن صدرت منه المعاصي الموبقة بعد ذلك، ورضا اللّه تعالى عن أهل بيعة الحديبية ليس مستلزماً لرضاه عنهم إلى الأبد، والدليل على ذلك قوله تعالى في هذه السورة في شأن أهل هذه البيعة وتعظيمها:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللّه يد اللّه فوق أيديهم فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه اللّه فسيؤتيه أجراً عظيماً (1) .
فلو لم يجز أن يكون في المبايعين من ينكث بيعته وكان رضا اللّه عنهم مستلزماً لرضاه عنهم إلى الأبد لافائدة لقوله تعالى: فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه.
وأيضاً قد دلّت آيات من القرآن وأحاديث صحيحة على وقوع غضب اللّه تعالى وسخطه على من يرتكب بعض المعاصي، ومع ذلك لم يقل أحد بأنّ هذا مانع من حسن إيمانه في المسقبل، وذلك مثل قوله تعالى في سورة الأنفال:0.
ص: 153
ومن يولهم يومئذٍ دبره إلّامتحرفاً لقتال أو متحيّزاً إلى فئة فقد باء بغضبٍ من اللّه ومأواه جهنّم وبئس المصير (1) .
فإذا لم يكن بوء شخص أو قوم إلى غضب اللّه مانعاً من حسن حاله في المستقبل لم يكن رضاه أيضاً سبباً لعدم صدور فسق أو كفر من العبد بعد ذلك.
والقول بدلالة الآية على حسن حال المبايعين مطلقاً، وعدم تأثير صدور الفسق عنهم في ذلك مستلزم للقول بوقوع التعارض بين هذه الآية وبين آية الأنفال المذكورة، فيمن ولّى دبره عن الجهاد من المبايعين، لأنّها أيضاً تدلّ بإطلاقها على سوء حال من يولي دبره، وعدم تأثير صدور الحسنات في رفع ذلك.
هذا وقد أخرج مالك في الموطأ في باب الشهداء في سبيل اللّه، من كتاب الجهاد(2) عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد اللّه: أنّه بلغه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال لشهداء أُحد: هؤلاء أشهد عليهم، فقال أبو بكر الصدّيق: يا رسول اللّه، ألسنا بإخوانهم أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا، فقال رسول اللّه: بلى ولا أدري ما يحدثون بعدي، قال: فبكى أبو بكر ثم بكى، ثم قال: أئنّا لكائنون بعدك؟
وهذا الحديث صريح بأنّ حسن خاتمة مثل أبي بكر من الصحابة المبايعين المهاجرين موقوف على ما يحدث بعد الرسول صلى الله عليه و آله.).
ص: 154
هذا مختصر الكلام حول مدلول الآية الكريمة، وعليه ليس المستفاد منها أنّ أبا بكر وعمر لم يمحضا الإيمان، نعم لايثبت بها إيمان واحد معيّن من المبايعين على نحو التفصيل، فلا يصح التمسّك بها في إثبات إيمان صحابي خاص وعدم نفاقه، أو حسن حاله إذا شك فيه، وإن كان الخطيب يرى دلالتها على أكثر من هذا، فليبين لنا حتى ننظر فيه.
ص: 155
ص: 156
لا حاجة إلى الإشارة إلى ماورد في ذم سب المؤمن، فإنّ هذا معلوم بالضرورة من الدين، وإنكار أصل حرمته موجب للكفر، ولا شك في أنّ المناقشات الحادثة بين المسلمين مناقشات صغروية، مثل عدالة شخص أو إيمانه، أو فسقه أو نفاقه، فالنزاع في هذه الأمور وأشباهها يرجع إلى إثباتها بالأدلّة الشرعية وعدمه، ويذهب كل من اختار أحد الطرفين إلى ما تقتضيه الأدلّة باجتهاده، ولو علموا جميعاً ثبوت شيء في الدين أو عدم ثبوته لم يختلفوا فيه، وقلما يوجد من حملته العصبية واللجاج على إنكار الحق فلا ريب في أنّ أكثر المسلمين من الطائفة الأولى لاينكرون ما ثبت عندهم بالأدلّة الشرعية.
فمن أنكر من المسلمين أمراً يراه غيره من الدين لعدم ثبوته عنده أو ثبوت خلافه ليس كافراً ولا فاسقاً، وإذا كان الحال هذا لا اعتراض على من قال الخطيب في ص 21: إنّ معنى كلامه إن أبابكر وعمر لم يمحضا الإيمان فلا
ص: 157
يشملهما رضا اللّه، ولا يحكم بكفره وفسقه إذا كان ذلك منه عن اجتهاد وتأوّل، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حديث أخرجه البخاري ما نصّه(1): إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.
وهذا ابن حزم يقول(2): وذهبت طائفة إلى أنّه لا يكفّر ولا يفسّق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا، وإن كل من اجتهد في شيء من ذلك، فدان بما رأى أنّه الحق فإنّه مأجور على كل حال، وإن أصاب فأجران وإن أخطأ فأجرٌ واحد.
(قال:) وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة، والشافعي وسفيان الثوري، وداود بن علي، وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة لا نعلم منهم خلافاً في ذلك أصلاً.
وقال الفاضل النبهاني في أوائل كتاب (شواهد الحق) على ما حكي عنه:
اعلم أنّي لا أعتقد ولا أقول بتكفير أحد من أهل القبلة لا الوهابية ولا غيرهم، وكلّهم مسلمون تجمعهم مع سائر المسلمين كلمة التوحيد والإيمان بسيّدنا محمد صلى الله عليه و آله، وما جاء من دين الإسلام.
وبالغ في ذلك الشيخ أبو طاهر القزويني (على ما حكي عنه) في كتابه (سراج العقول) فقال بإثبات الإسلام لكل فرد من أهل القبلة، وجزم بنجاة الجميع من كل فرق الإسلام، وحكي عن شيخ السادة الحنفية ابن عابدين في7.
ص: 158
باب المرتد من كتاب الجهاد ص 302: أنّه حكم قاطعاً بإسلام من يتأوّل في سب الصحابة، مصرّحاً بأنّ القول بتكفير المتأوّلين في ذلك مخالف لإجماع الفقهاء.
وقد أسلفنا في بعض المباحث السابقة مقالة ابن حزم فيمن سب أحداً من الصحابة، وما قال في تكفير عمر بحضرة النبي صلى الله عليه و آله حاطباً، وهو صحابي مهاجري بدري. ولا يخفى أنّه لو كان في من ينتحل دين الإسلام مَن سبَّ بعض الصحابة أو غيرهم من المسلمين عناداً للّه ورسوله فلا شك في كفره، وأما إذا كان الساب جاهلاً، أو أوردته الشبهة ذلك المورد، يكون على ما صرّح به ابن حزم معذوراً.
وعن الأوزاعي إنّه قال: لئن نشرت لا أقول بتكفير أحد من أهل الشهادتين. وعن صاحب الإختيار: اتفق الأئمة على تضليل أهل البدع أجمع وتخطئتهم، وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفراً لكن يضلل.
وعن صاحب فتح القدير: إنّه قطع بعدم كفر من يكفّر الصحابة ويسبّهم، وذكر أنّ ما وقع في كلام أهل المذهب في تكفيرهم ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون إنّما هو من كلام غيرهم.
وصرّح ابن حجر(1): بأنّ مذهبه فيمن لعن أنّه لا يكفّر بذلك.
ولو سردنا الكلام في نقل فتاوى أعلام أهل السنة في ذلك خرجنا عن طريق الإيجاز، ومقتضى كلام غير واحد من هؤلاء أن الساب لا يكفّر، وإن كان متعمّداً في ذلك، عالماً بحرمته، مثل أن يسبّه لمناقشة وقعت بينهما.1.
ص: 159
وأضف إلى جميع ذلك كلّه النصوص الكثيرة المخرّجة في الصحاح الستة الحاكمة على أهل الأركان الخمسة بالإسلام ودخول الجنة، وإذا كان الخوارج الذين استحلّوا دماءالمسلمين، وكفّروا الصحابة، وحاربوا أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ونص النبي صلى الله عليه و آله على أنّهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه، وأنّهم شر الخلق والخليقة، وطوبى لمن قتلهم وقتلوه، عند أهل السنة من المسلمين والمعذورين في مذهبهم، فغيرهم ممن تمسّكوا بالثقلين وتمذهبوا بمذاهب أهل البيت أعدال الكتاب، واقتفوا أثرهم واهتدوا بهديهم أولى بذلك.
ومن شاء أن يطّلع على الكلام الفصل في ذلك فعليه بكتاب (الفصول المهمة في تأليف الأمة) للعلّامة المصلح السيّد عبد الحسين شرف الدين، فإنّه (رضوان اللّه عليه) قد أدى حق التحقيق والإفادة في ذلك، وسعى في جمع الشمل ولمّ الشعث، فراجع كتابه هذا ومراجعاته، وكتابه (إلى المجمع العلمي العربي) وكتاب (أبي هريرة) وغيرها من تصانيفه القيّمة.
والحاصل: أنّ نفي الإيمان عن بعض الصحابة وسبّهم إذا كان النافي والساب مجتهداً لايضر بالإسلام عند أكابر أهل السنة، وليس مانعاً من التقريب ورفض الشحناء والبغضاء، واعتصام الجميع بحبل اللّه تعالى، والعجب ممن لا يكفّر ولا يفسّق معاوية وأتباعه في سب أمير المؤمنين علي عليه السلام على منابر المسلمين، ويفسّق من سب الشيخين تأوّلاً واجتهاداً أعاذنا اللّه تعالى من العصبية واللجاج.
نصيحة وتذكرة
ينبغي لمن يرى جواز سب أحد من المسلمين أن لا يعلن بذلك، ولا يجهر
ص: 160
به بمشهد منه أو بمشهد أقاربه، ومن لا يرى رأيه بل يحرم ذلك في بعض الموارد إذا كان السب إيذاء لمسلم حاضر أو سبباً لتجريح العواطف، وحدوث الفتن وضعف المسلمين، وظهور التخاصم والتنازع بينهم.
ص: 161
ص: 162
ذكر الخطيب في ص 22: أنّ الشيعة يرفعون أئمتهم من منزلة البشر، ونقل عناوين أبواب من الجامع المعروف بالكافي في علوم الأئمة، وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل، وأنهم يعلمون علم القرآن كله وغير ذلك، وافترى على الشيعة بأنّهم يثبتون لأئمتهم علم الغيب وينكرون على النبي صلى الله عليه و آله ما أوحى اللّه به من أمر الغيب... إلخ.
الشيعة لا يعتقدون فضيلة ومنقبة لأئمتهم إلّاويعتقدون لرسول اللّه صلى الله عليه و آله تلك الفضيلة على النحو الأتم الأكمل، ولا يفضّلون أحداً من السابقين واللاحقين من الأنبياء والأئمة، والملائكة وغيرهم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله، بل يفضّلونه على جميع المخلوقات ويعدون الإمام من أتباع الرسول ومن أُمته، لا يعدل النبي عند الشيعة أحد من أُمته، والإمام مأمور بطاعة الرسول لا يسعه غير
ص: 163
أتباعه، ولا يرفعون النبي ولا أحداً من الأئمة من منزلة البشر، والنبي والأئمة هم المثل الأعلى لكمال الإنسان، اختصهّم اللّه بعناياته الخاصة، والإمامة عندهم منصب يختار اللّه له من كان مستأهلاً لتقلده، ويأمر نبيه بالنص عليه، وصنفوا في هذه النصوص كتباً مفردة، خرّجوا فيها طائفة من تلك النصوص عن الكتب المعتمدة عند أهل السنة وصحاحهم.
ومن النصوص المعروفة المتواترة على كون الأئمة اثنى عشر الأحاديث التي خرّجها مسلم، وأحمد، والبخاري، والترمذي، والطيالسي، وأبو نعيم الإصبهاني، والسجستاني، والحاكم، والمتقي، وابن الديبع، والخطيب، والسيوطي وغيرهم، في عدد الأئمة عن غير واحد من الصحابة كجابر بن سمرة وعبداللّه بن مسعود، وأنس بن مالك، ومن المعلوم أنّ هذا العدد لا ينطبق إلّاعلى الأئمة الإثنى عشر.
وأفرد في هذه الأحاديث العلّامة محمد معين السندي كتاباً أسماه (مواهب سيّد البشر في حديث الأئمة الإثنى عشر).
ويدل على وجوب التمسّك بأئمة أهل البيت، وأخذ العلم عنهم، وعصمتهم، وبقائهم إلى يوم القيامة، وعدم خلو الزمان من إمام منهم، وكونهم أعلم الناس بعد النبي صلى الله عليه و آله، وأن التمسّك بهم أمن من الضلال، وانحصار سبيل النجاة في التمسّك بهم، وبالكتاب الكريم، أحاديث الثقلين المتواترة، وأحاديث الأمان، وأحاديث السفينة، وغيرها من النصوص الكثيرة، وقد صرّح بجميع ذلك جمع من أعلام أهل السنة، ذكرنا أسمائهم ومقالاتهم في كتاب أفردناه في وجوب الرجوع إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام في الفقه والمعارف الإسلامية، وفي
ص: 164
وجوب العمل بالأحاديث المخرّجة في جوامع الشيعة.
ولو قرأ الخطيب كتب الإمامية، ودرس العلوم المأثورة عن أئمتهم لأقرّ بأنّ الأبواب المعنونة في الكافي ليس إلّاعناوين لبعض ما ورثوا عن جدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ولعرف أن من أشدّ ما ابتلي به المسلمون، وأضره عليهم انصرافهم عن أهل بيت نبيهم، وإعراضهم عمن أوجب اللّه تعالى ورسوله عليهم الرجوع إليه في الأمور الدينية، والأحكام الشرعية.
ومن تتبّع قليلاً في الكتب الإسلامية يعرف اختصاص أئمة أهل البيت سيما أمير المؤمنين علي عليه السلام بعلوم كثيرة من التفسير، والفقه، والحديث، والتوحيد، وغيرها مما ليس عند غيرهم.
هذه عقيدة الشيعة في أهل البيت وعلومهم، وإليك بعض ما قال سيدنا أمير المؤمنين علي عليه السلام في ذلك:
قال: لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه و آله من هذه الأُمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة(1).
وقال: موضع سره، ولجأُ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه(2).
وقال: فيهم كرائم القرآن، وهم كنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا، وإن4.
ص: 165
صمتوا لم يسبقوا(1).
وقال: هم عيش العلم، وموت الجهل، ويخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وسمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه، هم دعائم الإسلام، وولائج الإعتصام، بهم عاد الحق في نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن مقامه، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع و رواية، فإنّ رواة العلم كثير، ورعاته قليل(2).
وقال: وإنّما الأئمة قوام اللّه على خلقه، وعرفاؤه على عباده، لا يدخل الجنّة إلّامن عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلّامن أنكرهم وأنكروه(3).
هذا ما يقول الشيعة في أئمة أهل البيت عليهم السلام لم يقولوا ما قالوا فيهم اختراعاً واقتراحاً من عند أنفسهم، بل أخذوه من الأحاديث النبوة، والنصوص العلوية، والأخبار المروية عن أهل بيت النبوة، وأئمة العترة (عليهم الصلاة والسلام).4.
ص: 166
قال في ص 22 و 23: وبينما يدعون لأئمتهم الإثنى عشر ما لا يدّعيه هؤلاء لأنفسهم من علم الغيب، وأنهم فوق البشرية، فإنّهم - أي الشيعة - ينكرون على النبي صلى الله عليه و آله ما أوحى اللّه به إليه من أمر الغيب كخلق السماوات والأرض، وصفة الجنة والنار، وقد سجّلت ذلك مجلة (رسالة الإسلام) التي تصدرها دار التقريب في القاهرة إذ نشرت في عددها الرابعة من السنة الرابع صفحة 368 بقلم رئيس المحكمة العليا الشرعية الشيعية في لبنان، ويعدّونه من ألمع علمائهم العصريين، مقالاً عنوانه (من اجتهادات الشيعة الإمامية) نقل فيه عن مجتهدهم الشيخ محمد حسن الآشتياني إنّه قال في كتابه (بحر الفوائد) ج 1 ص 267: إنّ الرسول إذا أخبر عن الأحكام الشرعية أي
ص: 167
مثل نواقض الوضوء وأحكام الحيض والنفاس يجب تصديقه، والعمل بما أخبر به، وإذا أخبر عن الأمور الغيبية مثل خلق السماوات والأرض، والحور والقصور فلايجب التديّن به بعد العلم به (أي بعد العلم بصحة صدوره عن الرسول) فضلاً عن الظن به (إلخ).
ذكرنا عقيدة الشيعة في النبوة والإمامة، وأنّ النبي ينص على الإمام بأمر من اللّه، وأنّه تبع للنبي، والنبي مفضّل عليه في جميع الكمالات، فالنبي كالأصل والإمام فرعه، وليس في الشيعة من يستبيح لنفسه الشك فيما أخبر به النبي صلى الله عليه و آله فضلاً عن إنكاره، سواء كان المخبر به من الأمور العادية كقيام زيد وقعود عمرو، أم من الأمور الدينية، فالنبي هو الصادق المصّدق في جميع ما أخبر به، وما ينطق عن الهوى إن هو إلّاوحيٌ يوحى(1) ، ومن أنكر أو أظهر الشك فيما أخبر به النبي صلى الله عليه و آله من أمر الغيب كخلق السماوات والأرض، وصفة الجنة والنار بعد حصول اليقين بإخباره عنه كافر، لا شك عند الشيعة في كفره.
ولكن الخطيب حيث عجز عن فهم كلام العلّامة الآشتياني، وكلام رئيس المحكمة العليا الشرعية في لبنان الذي هو من ألمع العلماء المجاهدين المعاصرين، حمله على ما يوافق هواه، وخاض في الإفتراء والهذيان، فادّعى أنّ الشيعة ينكرون على النبي صلى الله عليه و آله ماأوحى اللّه به من أمر الغيب.
وحيث إنّ المسألة المبحوث عنها في كلام المحقّق الآشتياني في نفسها4.
ص: 168
من المسائل العلمية النظرية لا بأس بالإشارة إليها هنا، حتى يعلم أنّ الأولى للخطيب ونظرائه عدم الخوض في هذه المسائل، وإيكال البحث عنها إلى أهلها.
فنقول في توضيح ما أفاده الآشتياني:
إنّ ما أخبر به النبي صلى الله عليه و آله على قسمين: أولهما ما يكون من الأُمور العادية كقيام زيد ومجيء عمرو، ولا يكون مرتبطاً بالدين لا بأُموره الإعتقادية، ولا بأحكامه الشرعية، ولا بأحكامه العملية، كالصلاة والصوم والحج وغيرها.
وثانيهما: ما يكون من الدين، وهذا أيضاً على قسمين: أحدهما: ما يكون في الأُمور الإعتقادية، وما يجب أن يعتقده المسلم كالتوحيد والنبوة والمعاد وغيرها.
وثانيهما: ما يكون في الأحكام الدينية العملية كالصلاة والزكاة والصوم وغيرها.
فالقسم الأول: أعني ما ليس مرتبطاً بالدين كالإخبار عن الأُمور العادية والإخبار ببعض كيفيات خلق السماوات والأرض، والكواكب وبدء الخلق، وبعض تفاصيل الجنة والجحيم، وخصوصيات الحور والقصور، وأشجار الجنة وأنهارها ومياهها(1) ليس من الأُمور الإعتقادية التي بني عليها الإسلام، ولا يحكم بإسلام من لم يكن عارفاً بها، فمن لم يؤمن باللّه أو لم يعتقد النبوة أو المعاد، أو أنكر الثواب والعقاب، والجنة والنار، كافر خارج عن الإسلام، أما منه.
ص: 169
لم يعرف بعض خصوصيات الجنة وبعض أنواع الملائكة وأسمائهم، وكيفية مبدء خلق السماء وعدد قصور الجنة أو عدد ولدانها، ولم يقرع سمعه ماورد في ذلك من الأحاديث لا يضر ذلك بإسلامه، ولا يكلّف بتحصيل هذه المعارف، وهذا كالإطّلاع على عدد غزوات النبي صلى الله عليه و آله، وعدد أولاده وزوجاته، فإنّ المعرفة بهذه الأُمور والأحوال وإن كانت في حدّ نفسها راجحة مرغوباً فيها، لكن ليست من الأُمور الإعتقادية التي يدور مدار معرفتها ترتيب آثار الإسلام، ويحكم بكفر منكرها.
نعم من ثبت عنده إخبار الرسول عن هذه الخصوصيات والتفاصيل يحصل له الإعتقاد بها لاعتقاده صدق الرسول صلى الله عليه و آله في كل ما أخبر به، وإظهار الشك فيها أو إنكارها بعد العلم بإخبار النبي عنها موجب للكفر قطعاً لرجوع ذلك إلى تكذيب النبي صلى الله عليه و آله.
وأما القسم: الثاني فيجب الإعتقاد وتحصيل الإيمان والمعرفة به، لم يختلف في ذلك اثنان من الشيعة.
وأما القسم الثالث: أي إخباره عن الأحكام العملية فيجب العمل به، ولا يجوز إنكاره بعد ثبوته عنده، وإنكاره بعد العلم بإخباره موجب للكفر والخروج عن الإسلام(1) ، ولا يتفاوت في ذلك أي عدم وجوب التدين بالأُمورى.
ص: 170
ص: 171
العادية، وخصوصيات الأُمور المذكورة بين إخبار النبي وإخبار الإمام عليهما السلام، ووجوب تصديق النبي في إخباره عن المغيّبات أولى من وجوب تصديق الإمام، ومقدّم عليه بحسب المرتبة، فإنّ وجوب تصديق الإمام فرع وجوب تصديق النبي صلى الله عليه و آله، هذا حاصل كلام الآشتياني في المقام.
وقد صرح في موضعين من عباراته في ص 276 بكفر من أنكر إخبار الرسول في الأُمور العادية، ولكن الخطيب يفتري على الشيعة، ويقول: إنّهم يرفعون مرتبة أئمتهم في إخبارهم عن الأُمور الغيبية (والعياذ باللّه) فوق مرتبة النبي صلى الله عليه و آله ونسي أن في أهل السنة من يقول: إنّ النبي كان فيما قال وعمل في الأُمور الدينية مما لا نص فيه مجتهداً كسائر المجتهدين(1).
ثم إنّه لم يقنع بذلك فقال: إنّ جميع رواة الغيبيات عن الأئمة الإثنى عشر معروفون عند علماء الجرح والتعديل من أهل السنة بأنّهم كانوا كذبة، وهذا من أبشع افتراءاته على علماء الجرح والتعديل، فإنّ كرامات الأئمة الإثنى).
ص: 172
عشر عليهم السلام، وإخبارهم عن الأُمور الغيبية بما هو مخزون عندهم من علوم جدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وورثوا عنه ثابتة بالتواتر، قد خرج طائفة منها جمع عن أعلام أهل السنة، لا سيما ما صدر منها عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، ولا عجب في ذلك لأنّ النبي صلى الله عليه و آله اختصهم بعلوم ليست عندهم، ولذلك أمر أُمته بالرجوع إليهم، وجعل الأمان والنجاة والأمن من الضلال في التمسّك بهم.
وقد احتجّ بروايات رجال الشيعة جمع من علماء أهل السنة(1) رواة أحاديث الشيعة الأثبات الثقات معروفون في كتب الرجال، ومن راجع كتب الجرح والتعديل للشيعة يقف على اهتمامهم بتعرّف أحوال الرجال، وعدم احتجاجهم بأحاديث الضعاف سواء كان الراوي شيعياً أم سنياً، ولو كان للخطيب أدنى خبرة بكتب الشيعة لعلم مبلغ اعتنائهم بتحقيق حال الرواة، ولو قرأ كتاب (تأسيس الشيعة) لعرف تقدّمهم في علم الحديث، والفحص عن أحوال الرواة وسائر الفنون الإسلامية.
والأُصول التي يعتمد عليها الشيعة في استخراج الأحاديث الصحاح والحسان في غاية المتانة والإنضباط.ه.
ص: 173
والحاصل: أنّ كثيراً من الروايات المأثورة في إخبارهم عن الحوادث المستقبلية والأ؛ مور الغيبية من صحاح الأحاديث، رواها الثقات بأسناد عالية.
ولا يرتاب المتتبّع في تواترها إجمالاً بل بعضها متواتر تفصيلاً، وإنكار جميع هذه الروايات زلّة كبيرة، فمن أين علم الخطيب أنّ جميع رواة هذه الأحاديث معروفون بالكذب، ومن أين اطّلع على جميع تلك الأحاديث ورواتها، مع أنه لا يعرف من أسماء كتب الشيعة واحداً من الأُلوف، وفي أي كتاب ذكر علماء الجرح والتعديل من أهل السنة أنّ جميع رواة تلك الأحاديث كانوا كذبة، ولِمَ لم يأت بأسماء هؤلاء المعروفين؟
وهذه أخبار أمير المؤمنين علي عليه السلام عن المغيّبات مخرّجة في كتب أهل السنة في التاريخ والحديث، وبعضها ثابت بالتواتر التفصيلي وبعضها بالتواتر الإجمالي.
والعجب من جماعة يثبتون لرؤساء الصوفية والدراويش أخباراً عن الأمور الغيبية، وكرامات يأبى العقل قبولها، ثم يستبعدون ما صدر عن أئمة أهل البيت مثل أمير المؤمنين وسبطي رسول اللّه، والسجاد والباقر عليهم السلام وغيرهم أعدال الكتاب، وعدول أهل البيت الذين بشّر النبي صلى الله عليه و آله بأنّهم ينفون عن الكتاب تحريف الغالين، وإبطال المبطلين، ويقدحون في رجال هذه الأخبار بأنّهم كانوا كذبة، مع أنّه لا ذنب لهم إلّاروايتهم بعض فضائل أهل البيت والنصوص المأثورة في إمامتهم وعلومهم من الأحاديث التي كانت روايتها في عصر الأُمويين والعباسيين من أكبر الجرائم السياسية.
وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتاب أفردناه لإثبات حجية روايات أصول الشيعة، ووجوب الرجوع إليها والتمسّك بها في الفقه، كما قد أفردنا لتخريج
ص: 174
مناقب كل واحد من الأئمة الإثنى عشر وتاريخ حياتهم عن كتب أهل السنة كتاباً (لكل واحد من الأئمة كتاباً).
نسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا لإتمامها ونشرها.
ص: 175
ص: 176
نسب الخطيب في ص 24 إلى الشيعة أنّهم يتملّقون أيَّ حكومة من الحكومات الإسلامية بألسنتهم إذا كانت قوية، فإذا ضعفت أو هوجمت من عدو انحازوا إلى صفوفه، واستشهد أخيراً على خروج المغول وما صدر منهم في بغداد من سفك الدماء وهتك الأعراض، وغيرها من الجرائم العظيمة، واتّهم حكيم الشيعة وفيلسوف الإسلام الخواجة نصير الدين الطوسي الشهير، وابن أبي الحديد المعتزلي من السنية، وابن العلقمي مؤيّد الدين الوزير بالتدخّل في هذه الفاجعة... إلخ.
كان الأولى أن يترك الكلام عن أفعال الشيعة، وما صدر بزعمه عنهم فإنّ عقيدة طائفة ورأيها شيء وعملها شيء آخر، وربّما لا يوافق أعمال بعض الناس
ص: 177
عقيدتهم، ولا يجوز الإعتماد في استنباط آراء الفرق وعقائدهم على مجرّد أعمال بعضهم، فإنّه ما من قوم إلّاويوجد فيهم من يخون قومه، ويقدّم على ضرر أُمته، ولو جعلنا تاريخ الإسلام نصب أعيننا لعثرنا على خيانات كثيرة من عصر الرسالة إلى هذا الزمان صدرت من المنافقين وفسّاق المسلمين، وأُولئك الذين أوهن قلوبهم حب الدنيا وكراهية الموت.
وهل تأخر المسلمون عن غيرهم إلّالخيانات صدرت من عمّال السياسة وعبدة الرئاسة وأتباع الشيطان، أُنظر بعينك أيّها المنصف إلى الملأ الإسلامي، وانظر إلى القوّاد العملاء والأُمراء العبيد للإستعمار الذين لم تقع الأُمة فيما وقعت فيه إلّابخياناتهم افترى سبباً لبقاء الحكومة الغاصبة الإسرائيلية التي أنشأها المستعمرون في بلاد المسلمين غير خيانة بعض الحكّام والأُمراء؟ أنسيت ما فعلت يد الخيانة بالجيش المصري في حكومة فاروق؟ ألم تقرأ في الصحف والمجلات خيانات تصدر من بعض رؤساء الحكومات المسمّات بالإسلامية على الإسلام وأبنائه؟
ألم يقرع أُذنك ما وقعت فيه الأُمة في الحرب العالمية الأُولى بسبب خيانة بعض القوّاد وطلّاب الرئاسة والحكومة، فتمزّقت الوحدة الإسلامية، وتأسّست في كل قطر حكومة ضعيفة مستعمرة، وأصاب المجتمع الإسلامي ما أصاب حتى ألغى بعض تلك الحكومات سنن ديننا الحنيف في جميع الشؤون الحكومية، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّاباللّه.
ولو نظرت إلى التاريخ وقايست بين الشيعة وأهل السنة في ذلك لطمست ما كتبت أيها الخطيب، ولعلمت أنّ أي الفريقين أحق باللوم والتوبيخ.
ص: 178
ومما هو جدير هنا بالذكر نموذجاً لهذه المخاصمات التي أذهبت مجد المسلمين وسلطانهم ما أصاب الناس من القتل والسبي والنهب عند افتتاح جيوش التتار بلدة إصبهان، وذلك بعد أن عجزوا عن افتتاحها ونزلوا عليها مراراً في سنة سبع وعشرين وستمائة، ووقع الحرب بينهم وبين أهلها، وقتل من الفريقين خلق كثير، ومع ذلك لم يبلغوا التتار غرضهم حتى وقع الإختلاف بين أهل إصبهان في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة؛ وهم طائفتان: حنفية وشافعية، وبينهم حروب متصلة، وعصبية ظاهرة.
فخرج قوم من أصحاب الشافعي إلى من يجاورهم من التتار، فقالوا لهم:
اقصدوا بلدنا حتى نسلّمه إليكم، وكان ذلك في سلطنة ابن چنگيزخان، فأرسل جيوشاً نزلوا على إصبهان في سنة ثلاث وثلاثين المذكورة، فحصروها فاختلف سيفا الشافعية والحنفية في المدينة حتى قتل كثير منهم، وفتحت أبواب المدينة، فتحها الشافعية على عهد كان بينهم وبين التتار أن يقتلوا الحنفية، ويعفو عن الشافعية، فلما دخلوا البلد قتلوهما جميعاً وبدأوا بالشافعية فقتلوهم قتلاً ذريعاً، ولم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم، ثم قتلوا الحنفية ثم قتلوا سائر الناس، وسبّوا النساء وشقّوا بطون الحبالى، ونهبوا الأموال، وصادروا الأغنياء ثم أضرموا النار فأحرقوا إصبهان حتى صارت تلولاً من الرماد(1) وأمثال هذه الحادثة بين أرباب المذاهب ليست بقليلة، مثل الفتنة الكبرى التي هاجت ببغداد لاختلاف الحنابلة وغيرهم في معنى قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً(2) فقالت9.
ص: 179
الحنابلة: معناها يقعده اللّه على عرشه، وقال غيرهم: بل هي الشفاعة ودام الخصام، واقتتلوا حتى قتل جماعة كثيرة(1) ومع ذلك لا لوم على جميع أهل هذه المذاهب، إنّما اللوم والذنب على سفهائهم وجهّالهم، وعلى الذين اتخذوا هذه المذاهب سبباً للإختلاف والتفرقة بين المسلمين وتفسيق غيرهم من سائر الفرق، وجعلوها وسيلة لتحقيق أغراضهم الدنية.
ثم إن التملّق لأرباب السلطة والحكومات كيف صار من خصائص الشيعة، وكيف نسي تملّق بعض السنيين من الحكومات في عصر الأُمويين والعباسيين، فاقرأ دواوين الشعراء وانظر إلى جماعة زيّنوا للناس قبائح أعمال الأُمراء في تلك العصور المظلمة، وانظر إلى العلماء والمحدّثين الذين لم يطعنوا في سيرة هؤلاء وتركوا نصيحتهم، ولم يطلبوا منهم الرجوع إلى الكتاب والسنّة في حين أنّهم يفتون بوجوب إطاعتهم، ويعدّون الخروج عليهم من أعظم المحرّمات، فلو تملّق بزعم الخطيب بعض الشيعة لجبابرة الملوك عملاً بالتقية وحقناً للدم، وحفظاً للعرض تملّق بعض السنيين للحطام الدنيوي، والزخارف الفانية.
ويكفيك مثلاً وشاهداً ما وقع لغياث بن إبراهيم النخعي، حيث دخل على المهدي العباسي فوجده يلعب بالحمام، فساق في الحال إسناداً إلى النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: (لا سبق إلّافي نصل أو خف أو حافر أو جناح) اتباعاً لهوى المهدي، فأمر له المهدي ببدرة، فلما قام قال المهدي: أشهد على قفاك إنّه قفا كذّاب على5.
ص: 180
رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ثم أمر بذبح الحمام لكن لم يتعرّض له ولم يأخذ ما أعطاه، حتى فعل نحواً من ذلك مع هارون الرشيد(1).
وخبر شقّ أبي البختري وهب بن وهب أمان الرشيد ليحيى ابن عبد اللّه بن الحسن بالسكين، فوهب له هارون بذلك ألف ألف وستمائة ألف، وولّاه القضاء(2) ، ونظائر ذلك كثيرة لا سيما في استيلاء بني أُمية وبني العباس، وإذا كان هذا حال بعض السنيين فهل يجوز أن يسند ذلك إلى جميعهم؟ وهل تجد قوماً أو أُمة لم يكن فيهم أمثال هؤلاء؟
فلا يجوز لأهل السنة مؤاخذة الشيعة على ما صدر على بعضهم، كما لا يجوز للشيعي أيضاً أن يؤاخذ السني بأعمال الحجّاج ومسلم بن عقبة وغيرهما من الجبابرة.
هذا ولا ريب في أنّ استيلاء التتار على بغداد كان من أعظم مصائب المسلمين في التاريخ، ولكن هل كان ابتلاؤهم بهذه الفاجعة أعظم أم ابتلاؤهم بحكومة معاوية، ومحاربته أمير المؤمنين علياً عليه السلام؟ فما ترتّب بعد على حادثة ما ترتّب على أفاعيل معاوية ومحاربته علياً عليه السلام من المفاسد.
قال أحد كبار علماء الألمان في الآستانة لبعض المسلمين وفيهم أحد شرفاء مكة: إنّه ينبغي لنا أن نقيم تمثالاً من الذهب لمعاوية ابن أبي سفيان في0.
ص: 181
ميدان كذا من عاصمتنا (برلين).
قيل له: لماذا؟ قال:
لأنّه هو الذي حوّل نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلى عصبية الغلب، ولولا ذلك لعمّ الإسلام العالم كله، ولكنّا نحن الألمان وسائر شعوب أوربة عرباً مسلمين(1).0.
ص: 182
قال اللّه تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمّرناها تدميرا(1).
تحكّموا واستطالوا في حكومتهم
كانت حادثة خروج التتار حادثة عظمى، ومصيبة كبرى، عمّت الخلائق وخص المسلمون بشدة بلائها، لم يطرق الأسماع بمثلها، شوّهت تاريخ الإنسانية وما قيل في شرحها من قتل العلماء والصلحاء، والخواص والعوام،
ص: 183
وتخريب البلاد، وشقّ بطون الحوامل، وقتل الأجنة، وهدم الجوامع والمعابد، وإحراق الكتب وهتك الأعراض في كل مدينة افتتحوها ليس إلّاإجمال عن تفاصيل هذه الأحوال، فشملت الفتنة المسلمين وممالك الإسلام، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، وكانت مدينة بغداد من البلاد التي أُصيبت في هذه الحادثة بأشدّ المظالم، وبلغ عدد من قتل فيها على ما قيل أكثر من مليون نسمة، بل قيل: إنّه لم يسلم إلّامن اختفى في بئر أو قناة، ووقع فيها من القتل الفظيع وهتك الأعراض ونهب الأموال وغرق الناس في دجلة وضياع الكتب ماقلّ نظيره في تاريخ العمران، ولم تكن خسارة الشيعة في هذه الكارثة لا في بغداد ولا في غيرها من بلاد خراسان وما وراء النهر بأقل من خسارة أهل السنة، فقتلوا فيمن قتل، وكان في القتلى من الأشراف والفاطميين ما لا يحصى.
وكان من أقوى أسباب انهزام المسلمين(1) ما حدث بينهم من المنازعات والحروب الداخلية، والرغبة في الملك والسلطان، وانهماكهم في المعاصير.
ص: 184
والشهوات، وضعف الخلفاء في تدبير الأُمور،(1) وظهور العصبيات الباردة في المسائل الكلامية، والخلافات المذهبية،(2) واشتغال أرباب المناصب بالملاهي وتكبّر الخليفة المستعصم، وبخله بالأموال، فكان كما وصفه في تاريخ الخلفاء(3) تائهاً في لذّاته لا يطلع على الأُمور، وليس له غرض في المصلحة.
وقال ابن كثير: ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة، استهلت هذه السنة، وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدّمة عساكر سلطان التتار هولاكوخان... إلى قوله: وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أُصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت مولّدة تسمى (عرفة) جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها، وهي ترقص بين يدي الخليفة فانزعج الخليفة من9.
ص: 185
ذلك، وفزع فزعاً شديداً(1).
وقال ابن الطقطقي في الفخري في الآداب السلطانية(2): كان المستعصم آخر الخلفاء شديد الكلف باللّه و... واللعب، وسماع الأغاني، لا يكاد مجلسه يخلو من ذلك ساعة واحدة، وكان ندماؤه وحاشيته جميعهم منهمكين معه على التنعّم واللذّات، لا يراعون له صلاحاً.
وفي بعض الأمثال: (الخائن لا يسمع صياحاً)، وكتب له الرقاع من العوام وفيها أنواع التحذير وأُلقيت وفيها الأشعار في دار الخلافة فمن ذلك (مجتث):
قل للخليفة مهلاً
فانهض بعزم وإلّا
وفي ذلك يقول بعض شعراء الدولة المستعصمية من قصيدة أوّلها:
يا سائلي ولمحض الحق يرتاد3.
ص: 186
قتل، وهتك، وأحداث يشيب بها رأس الوليد، وتعذيب وإصفاد(1)
كل ذلك، وهو عاكف على سماع الأغاني، واستماع المثالث والمثاني، وملكه قد أصبح واهي المباني، ومما اشتهر عنه أنّه كتب إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يطلب منه جماعة من ذوي الطرب، وفي تلك الحال وصل رسول السلطان هلاكو إليه، يطلب منه منجنيقات وآلات الحصار، فقال بدر الدين: انظروا إلى المطلوبين وابكوا على الإسلام وأهله، وبلغني أنّ الوزير مؤيّد الدين محمد بن العلقمي كان في أواخر الدولة المستعصمية ينشد دائماً (خفيف):
كيف يرجى الصلاح من أمر قوم
(انتهى كلام الفخري).
وكان من حبّه للمال أنّ الملك الناصر داود المعظّم أودع عنده في سنة سبع وأربعين وديعة قيمتها مائة ألف دينار، فجحدها الخليفة، فاستقبح هذا من مثله، وهو مستقبح ممن دونه بكثير، بل ومن أهل الكتاب مَن إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك(2).ن.
ص: 187
وكان من بخله أن فارق كثير من الجند بغداد لانقطاع أرزاقهم، ولحقوا ببلاد الشام في سنة خمسين وستمائة(1).
وكان من قلة تدبيره وضعفه تركه ما أشار عليه به الوزير من المهادنة وإرسال التحف والهدايا إلى هلاكو وخواصه وقوّاده، بعدما قبل أوّلاً، فترك الحزم واقتصر على إنفاذ شيء يسير،(2) وأخذ برأي أعداء الوزير وحسّاده، فإنّهم خطّأوه وشجّعوا الخليفة على الحرب وترك المهادنة(3).
وقد كان أبوه المستنصر قد استكثر من الجند جداً، ومع ذلك كان يصانع التتار ويهادنهم ويرضّيهم(4) ، ولعلّه لو قبل هذه النصيحة، وسلك على منهاج أبيه لدفع عن المسلمين هذه المصيبة العظمى.9.
ص: 188
ويظهر مما أنشأه الشيخ الأديب الشاعر سعدي الشيرازي في مرثية المستعصم أنّ الملك أبابكر بن سعد الزنكي أيضاً أشار إلى المستعصم بالمصانعة والمهادنة فلم يقبل نصيحته، وقد دفع هذا الملك التتار بالمصانعة والتدبير عن بلاد فارس.
وذكروا(1) من تكبّر الخليفة أنّه كان في طريق بلاطه حجر كالحجر الأسود عليه غطاء أطلس أسود، وكان الملوك والسلاطين وكبراء الناس وغيرهم يزورون ذلك الغطاء ويستلمون الحجر، وذكروا أنّ العالم المتورّع مجد الدين إسماعيل الفالي الذي أرسله أتابك مظفّر الدين سعد رسولاً إلى الخليفة امتنع عن تقبيل الحجر المذكور ونعم ما فعل، فإنّه يجب على كل مسلم موحّد مؤمن باللّه ورسوله أن يمتنع عن ذلك، فلمّا ألزموه وضع المصحف الشريف على الحجر وقبّل المصحف.
ومن أفظع الوقائع الحادثة في خلافة المستعصم تخريب محلّة الكرخ في بغداد، وقتل جماعة كثيرة من الشيعة من بني هاشم وغيرهم، ونهب أموالهم وأسر البنات، وحملهنّ عاريات على الخيول في السوق بأمر أبي العباس أحمد بن المستعصم(2).ا.
ص: 189
وعلى كل حال احتمال كون اتهام الوزير العلقمي بالمواضعة مع هلاكو من مختلقات المتعصّبين(1) وأعداء الشيعة قريب جداً لا يدفعه شيء، وإسناده.
ص: 190
الإشتراك في هذه الجرائم الفظيعة إلى أحد من المسلمين من غير دليل قطعي لايجوز عند العقل والشرع.
ص: 191
ولأجل زيادة التوضيح ننقل كلام (ابن الطقطقي) في الفخري (ص 246) قال: كان (يعني العلقمي) رجلاً فاضلاً كاملاً لبيباً كريماً وقوراً محباً للرئاسة، كثير التجمّل، رئيساً متمسّكاً بقوانين الرئاسة، خبيراً بأدوات السياسة، لبيق الأعطاف بآلات الوزارة، وكان يحبُّ أهل الأدب، ويقرب أهل العلم، اقتنى كتباً كثيرة نفيسة (إلى أن قال:) وكان مؤيد الدين الوزير عفيفاً عن أموال الديوان وأموال الرعية، متنزّهاً مترفّعاً. قيل: إنّ بدر الدين صاحب الموصل أهدى إليه هدية تشتمل على كتب وثياب ولطائف قيمتها عشرة آلاف دينار، فلما وصلت إلى الوزير حملها إلى خدمه الخليفة وقال: إنّ صاحب الموصل قد أهدى لي هذا، واستحييت منه أن أردّه إليه، وقد حملته وأسأل قبوله فقبل، ثم إنّه أهدى إلى بدر الدين عوض هديته شيئاً من لطائف بغداد قيمته اثنا عشر ألف دينار، والتمس منه أن لا يهدي إليه شيئاً بعد ذلك.
وكان خواص الخليفة جميعاً يكرهونه ويحسدونه، وكان الخليفة يعتقد فيه ويحبّه، وكثروا عليه عنده، فكفّ يده عن أكثر الأُمور، ونسبه الناس إلى أنّه خامر وليس ذلك بصحيح.
قال(1): وفي آخر أيامه قويت الأراجيف بوصول عسكر المغول صحبة السلطان هلاكو فلم يحرّك ذلك منه (يعني المستعصم) عزماً ولا نسبة منه همّة، ولا أحدث عنده همّاً، وكان كلّما سمع عن السلطان من الإحتياط والإستعداد شيء ظهر من الخليفة نقيضه من التفريط والإهمال (إلى أن قال:) وكان وزيره4.
ص: 192
مؤيّد الدين ابن العلقمي يعرف حقيقة الحال في ذلك، ويكاتبه بالتحذير والتنبيه، ويشير عليه بالتيقّظ والإحتياط والإستعداد، وهو لا يزداد إلّاغفولاً، وكان خواصه يوهمونه أنّه ليس في هذا كبير خطر (إلخ).
وليس عندي ببعيد أنَّ نسبة الخيانة إلى الوزير العلقمي صدرت أوّلاً من بعض المتعصّبين كما أسلفنا الإيعاز إليه، ثم نقلها بعض الشيعة ممن جرح عواطفهم ما صدر من العباسيين وعمّالهم على الشيعة من سلب الحرية والإضطهاد، والقتل والتعذيب، مما تقشعرُّ من ذكره الأبدان، فكأنّه أراد بنقل ذلك شفاء ما في صدره من هذه الأعمال الفجيعة، والسياسات الظالمة، ومن نقلها من السنيين لم يسندها إلى مصدر معتبر موثوق به، ولم أعثر في كتب التراجم والمعاجم الشيعية ذكراً لهذه النسبة، فضلاً عن الإفتخار به، ولو كان فيهم من يفتخر بذلك (العياذ باللّه) لذكروا في كتبهم المؤلفة في عصر الخواجة والعلقمي.
وهذه كتب العلّامة الحلّي في الإمامة وخلاف الأُمة ليس فيها ذكر عن ذلك، مع أنّه كان من تلامذة الخواجة في المعقول، نعم في الأعصار الأخيرة ذكر ذلك القاضي نور اللّه الشهيد المتوفى سنة 1021 في مجالس المؤمنين، وتبعه مؤلف روضات الجنات المتوفى س 1313 من غير استناد إلى أصل موثوق به، وسواء أكان تدخّل العلقمي في هذه الحادثة معلوماً أم مشكوكاً. فأُصول الشيعة تأبى عن الرضا بهذه الكارثة، وماجرى فيها من القتل العام، وذبح المسلمين والمسلمات، فالشيعي لا يجوِّز قتل مسلم واحد سنياً كان أو شيعياً إلّابالحق، فكيف يرضى بهذء المذبحة العامة وقتل الشيوخ والأطفال، وتغلّب الكفّار على
ص: 193
المسلمين، وليس في فقهاء الشيعة من أفتى بجواز قتل واحد من أهل السنة لأنّه سنّي، فضلاً عن قتل عامة أهل بغداد مع ما فيهم من العلماء والأشراف من السنيين والشيعيين.
وأما الخواجه نصير الدين المحقّق الطوسي فشأنه أجل وأنبل من التدخّل في هذه الفاجعة، وقد كان هلاكو قبل استخلاصه الخواجة من يد الإسماعيلية أرسل إلى الخليفة وطلب منه أن يعينه بالجنود والعساكر، وكان غرضه من ذلك توطئة الوسيلة للخروج عليه، وفتح بغداد كغيره من البلاد، ولم يكن لمنع الخواجه في فسخ عزيمته قليل تأثير، فهو وإن كان مكرّماً عنده ظاهراً، وكان هلاكو يفتخر بوجوده في البلاط السلطاني، وأراد أن ينتفع بعلمه وحكمته، لكن لم يكن الخواجة ممن لازم السلطان وصحبه بالإختيار، بل كان مكرهاً مجبوراً في ذلك، لم يكن له بدّ من صحبة السلطان، وما كان حاله عند هلاكو أحسن من حاله عند الإسماعيلية.
ومما يبعد نسبة وجود مواضعة بين هذا الفيلسوف وابن العلقمي أنّ ابن العلقمي كتب إلى الأمير ناصر الدين المحتشم أنّ نصير الدين الطوسي قد ابتدأ بمكاتبة الخليفة، وأنشأ قصيدة في مدحه، وأراد الخروج من عندك، وهذا لا يوافق الرأي فلا تغفل عن هذا، فلما قرأ المحتشم كتابه حبس المحقّق(1).
وعلى كل حال، فمثل هذا الحكيم الفيلسوف الذي قلّما يجود الزمان بمثله في العلم والأخلاق، والفضائل النفسانية، والكمالات الإنسانية، ويضرب به المثل في التواضع والحلم، والرحمة البشرية، لا يقدم على أمر لا يقدم عليه إلّا0.
ص: 194
من ألقى جلباب الإنسانية عن نفسه، ورفع اللّه الرحمة عن قلبه، وأين هذا من رجل كان معلّم الأخلاق، ولايزال يكون تصانيفه في الحكمة العملية من مصادر التربية، وتعليم إصلاح الباطن وتهذيب النفس(1).
نعم ليس لمثل الخواجة ذنب غير حب أهل البيت، فصار بهذا الذنب غرضاً لسهام الجهّال، كما أنّ الشارح المعتزلي السني الذي توفّي قبل استيلاء المغول على بغداد(2) ليس له ذنب غير شرح نهج البلاغة، وما أبان فيه من الحقائق التاريخية، وفضائل أهل البيت، ومثالب مبغضيهم، فلم يحرّمه الخطيب من افتراءاته، ونسب إليه الإشتراك في هذه الفاجعة، ولم يسند ذلك إلى أي كتاب من كتب التراجم والتاريخ، ولم يأت في تحامله على هذا الشرح الذي يُعدّ من نفائس كتب المسلمين في الأدب والتاريخ واللغة، والكلام وغيرها، إلّابالفحش والشتم، والخروج عن أدب الكتابة.
هذا مختصر الكلام حول هذه الحادثة وأسبابها، ولا ريب أنّها من أعظم عبر التاريخ، ويجب على المسلمين الإعتبار بها وإن يعرفوا ضرر التنازع والتدابر، والإنهماك في المعاصي، والإشتغال بالملاهي والملذّات.
وما كان اللّه ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (3) .0.
ص: 195
ص: 196
لم يدع الخطيب شيئاً من الإفتراء والبهتان إلّاأسنده إلى الشيعة، وترك عنان القلم في ذلك حتى قال في ص 27:
إنّهم لا يرضون من المسلمين إلّابأن يتبرؤا من كل من ليس شيعياً، حتى آل البيت من بنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله.
الشيعة أعظم الناس احتراماً وأشد حفظاً للرسول في عترته وذريته، ليس عندهم أعز من أبناء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وبناته وذريته، ويتوسلّون إلى اللّه تعالى بحبهم، ويتقرّبون إلى رسوله بولايتهم، ولم ينفك شيعي عن ذلك قط، ولا تجد لهذا الإفتراء أثراً عند الشيعة، لا في كتبهم ومقالاتهم، ولا في محافلهم وأنديَتهم، فاذهب أيها المفتري إلى مجالس الشيعة حتى تعلم مبلغ تحسّرهم وصراخهم، وصياحهم عند ذكر مصيبة الرسول بفقد ولده العزيز إبراهيم، وعند ذكر ما جرى على زينب بنت رسول اللّه من هبار، وحاشا ثم حاشا أن تكون في نفوس الشيعة إلا محبة أولاد الرسول وشيعتهم ومحبيهم.
ص: 197
وهل التشيّع غير الولاء الخالص لأهل البيت، وكم من الفرق بينهم وبين من هو عندك معدود من أهل السنة ممن سب علياً وسائر أهل البيت عليهم السلام وترك التمسّك بهم وتقرّب بذلك إلى الأُمراء طمعاً في جوائزهم وصِلاتهم.
نعم الشيعة يفضّلون فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين على إخوتها وأخواتها وغيرهنّ من النساء، لفضائلها ومناقبها التي عرفها الخاص والعام، ولاختصاصها بأبيها.
قالت عائشة: ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول اللّه صلى الله عليه و آله، وكانت إذا دخلت عليه رحّب بها وقام إليها، وأخذ بيدها فقبّلها وأجلسها في مجلسه(1).
وفي رواية أُخرى عنها: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ولا دلاً وهدياً برسول اللّه صلى الله عليه و آله من فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله. قالت: وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه و آله قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه و آله إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبّلته في مجلسها(2).
وقال صلى الله عليه و آله: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني(3).
وقال صلى الله عليه و آله: هي بضعة مني، وهي قلبي، وهي روحي التي بين جنبيَّ، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه(4).1.
ص: 198
أخذ الخطيب عن أسلافه المنحرفين عن أهل البيت عليهم السلام ما اخترعوه من الكذب الفاحش، والإفتراء البيّن على الشيعة، ومن أفحش هذه الإفتراءات البراءة من زيد بن علي بن الحسين وغيره من أكابر أهل البيت عليهم السلام، وهذا بهتان يكذّبه كتب الشيعة ورواياتهم، فإنّ من أظهر شعائر التشيّع الحب الخالص والولاء لأهل البيت والعلويين، لا سيما الفاطميين منهم.
فهذه كتب التاريخ تنبئ عن ذلك، وتشهد على مواقفهم ومشاهدهم في سبيل الدفاع عن أهل البيت، وتخبرك عمن قتل منهم دون العلويين.
وهذه الشيعة ضيقوا عليهم أعداء أهل البيت والنواصب، وابتلوهم بأنواع الإضطهاد والمصائب والفتن، من القتل وقطع الأيدي والأرجل، والسجن والجلد، والقذف بالكفر والخروج عن الدين، والآراء المفتعلة، وليست لهم جريمة إلّاحب علي وفاطمة وابنيهما، والتمذهب بمذاهبهم.
وهذه الشيعة تخاصمهم أنت ونظراؤك لأنّهم يكرمون أبناء علي وفاطمة،
ص: 199
ويعرفون لهم ما حباهم اللّه من الكرامة والفضيلة، ثم تنسبون إليهم أنهم لا يرضون من المسلمين إلّاأن يتبرّؤا من آل الرسول مثل زيد الشهيد.
وهذه كتب الإمامية في التراجم والنسب، مشحونة بالثناء البليغ لزيد الشهيد، ووصفه بكل جميل وجلالة قدره وكرامة مقامه عند الشيعة، أشهر من أن يذكر، وأمره في الورع والعلم، والبسالة وشدة البأس وإباء النفس، والحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى ما فيه الصلاح وخير الأُمة غني عن البيان، حاز الشرف النبوي، والمجد العلوي، والسؤدد الفاطمي، والروح الحسيني، خرج الشيعة عنه الأحاديث وأثنوا عليه، ومدحه شعراؤهم وأبنوه، وللإمامية في ترجمته كتب مفردة تنبئ عن منزلته عندهم، وخرّجوا أيضاً في شأنه وفضله روايات كثيرة عن النبي والوصي، والإمام الباقر والصادق والرضا عليهم السلام.
هذا حال الشيعة وسيرتهم في احترام العلويين، وأهل هذا البيت المبارك، فيا أهل الإنصاف! هذه كتب التراجم والتاريخ اقرؤوا فيها كيف هدر دم زيد خلفاء الأُمويين وأتباعهم الذين يفتخر الخطيب بهم، ويعتبر حكوماتهم شرعية، وينقم على الشيعة بأنّهم لا يعتبرونها شرعية.
إسألوا الخطيب عن أسماء قتلة زيد، وعمن أمر بقتله ومن قطع رأسه الشريف، والخليفة الذي أمر بإحراقه، وبعث رأسه إلى المدينة، فنصب عند قبر الرسول صلى الله عليه و آله يوماً وليلة واسألوه عن الخليفة الذي أمر أبا خالد القسري بقطع لسان كميت ويده بقصيدة رثى بها زيداً، وابنه يحيى، هل كان هؤلاء من الشيعة أو من أسلاف الخطيب؟
ص: 200
أيّها الخطيب أو ليس محمد بن إبراهيم المخزومي عامل خليفتكم بالمدينة يعقد الحفلات بها سبعة أيام، ويخرج إليها، ويحضر الخطباء فيلعنون هناك علياً وزيداً وشيعته من قومك الماضين؟ أو ليس الحكم الأعور القائل:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة... إلخ. من شعراء رهطك الأولين؟(1)
إقرأ كتب التاريخ، وانظر هل تقدر على إحصاء أسماء من قتل من الشرفاء الأجلّاء، ثم انظر هل تجد في قاتليهم غير بني العباس وبني أُمية وعمّالهم؟ واسأل عن مذاهبهم، هل كانوا من الشيعة أم من غيرهم؟
إسألوا الخطيب عن أبي البختري وهب بن وهب الذي شق أمان الرشيد ليحيى بن عبداللّه بن الحسن بالسكين، وجعل يشقه ويده ترتعد حتى صيّره سيوراً، فأجازه الرشيد بألف ألف وستمائة ألف، إنّه كان من قضاة الشيعة أو من أصحاب مذهبه، وأرباب نحلته؟
هذا كتاب مقاتل الطالبيين، اقرأ فيه شيئاً من مصائب أهل البيت ومحنهم، وما أصابهم من الخلفاء وحكوماتهم الشرعية من الظلم والقتل، وقطع الأيدي والأرجل والحبس في أعماق السجون، وتعذيبهم بمنع الماء والطعام، وارجع إلى نفسك وانظر هل تقر القول بشرعية حكومة هؤلاء الجبابرة؟ وهل ترى من أيّد تلك الحكومات وأفتى بوجوب طاعتها، واشترك في مظالمها وجرائمها علىم.
ص: 201
الإسلام والمسلمين لحطام الدنيا لم يرتكب ذنباً، ولم يقترف إثماً؟.
ص: 202
من الحقائق المسلمة التاريخية، والأُمور التي لا تقبل الريب والإنكار كون مدفن أمير المؤمنين علي عليه السلام في المكان المشهور الذي يتشرّف الناس بزيارته، وقد أخفى أهل بيته وأولاده قبره الشريف عن أعدائه من بني أُمية وغيرهم، فلم يعرف هؤلاء موضع مضجعه، وأهل بيته وأولاده كانوا عارفين بموضع قبر أبيهم عليه السلام. وقد أخبروا بذلك شيعتهم وخواصهم، وكانوا يزورونه في هذا المكان الطيب، فزاره علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام بالزيارة المأثورة عنه، المعروفة بأمين اللّه، وزاره أيضاً أبو عبداللّه جعفر بن محمد عليهما السلام وغيرهم من الأئمة ومشايخ أهل البيت، والنصوص في تعيين محل القبر وأنّه بالغري في هذا المكان الذي يزار فيه عن الإمام الحسن والحسين وزين العابدين وابنيه محمد الباقر وزيد الشهيد، وأبي عبداللّه الصادق، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وغيرهم من الأئمة وأكابر أهل البيت متواترة، ومن يكون أعرف بموضع قبر الميت من أبنائه، وأقاربه، وعشيرته وخواصه.
ص: 203
وأخرج أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ص 42 بسنده عن الحسن بن علي الخلال، قال: قلت للحسن بن علي: أين دفنتم أمير المؤمنين؟ قال: خرجنا به ليلاً من منزله، حتى مررنا به على مسجد الأشعث حتى خرجنا به إلى الظهر بجنب الغري.
وأخرج ابن أعثم الكوفي أيضاً في تاريخه (على ما في ترجمته) عن الحسن بن علي عليهما السلام إنه قال: دفناه بالغري.
وأخرج أيضاً(1) بسنده عن أبي قرة قال: خرجت مع زيد بن علي ليلاً إلى الجبّان، وهو مرخي اليدين لا شيء معه، فقال لي: يا أبا قرة أجائع أنت؟ قلت:
نعم، فناولني كمثراة ملأ الكف، ما أدري أريحها أطيب أم طعمها؟ ثم قال لي: يا أبا قرة، أتدري أين نحن؟ نحن في روضة من رياض الجنة، نحن عند قبر أمير المؤمنين علي.
وأخرج الحافظ الصغاني في (الشمس المنيرة) أن من المشهور أن زيد بن علي عليه السلام الذي ينتسب إليه أهل هذا المذهب الزيدي قال لأصحابه، وهم يسلكون معه طريق الغري: أتدرون أين نحن؟ نحن في رياض الجنة، في طريق قبر أمير المؤمنين.
وأخرج العلّامة المحدّث الثقة ابن قولويه المتوفى سنة 367 أو 368 في كامل الزيارة، والسيّد ابن طاووس في فرحة الغري النصوص المأثورة المتواترة في ذلك عن النبي صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين، والحسن والحسين والسجاد، وسائر8.
ص: 204
الأئمة عليهم السلام.
نقول هذا، وفيه الكفاية وفوق الكفاية، غير متعرّضين لما ظهر من كرامات كثيرة، وآيات بيّنة عند الضريح المقدس، مما لا تسعه الأوراق، وتعجز عن إحصائه الأقلام، ذكر طائفة منها العلماء والمحدّثون في كتبهم بأسناد معتبرة، وصرّح بذلك ابن بطوطة في رحلته(1) وذكر بعض ما يتعلّق بليلة المحيا ليلة السابع والعشرين من رجب.
وقد أفرد الباحثون والمحقّقون في تعيين قبره، وأنّه مدفون بالنجف، وفي تاريخ هذا المشهد الشريف مؤلفات قيمة، منها كتاب فرحة الغري للسيّد النقيب العلّامة غياث الدين عبد الكريم بن طاووس، المتوفى سنة 693 ه، وهو كتاب حسن نافع جيد جداً.
وكتاب موضع قبر أمير المؤمنين لأبي الحسن محمد بن علي بن الفضل بن تمام الكوفي الدهقان أحد أعلام القرن الرابع الهجري.
وأيضاً كتاب موضع قبر أمير المؤمنين عليه السلام لأبي جعفر محمد بن بكران عمران الرازي من القرن المذكور.
وكتاب الدلائل البرهانية في تصحيح الحضرة العلوية للعلّامة الحلّي، وكتاب نزهة الغري للشيخ محمد الكوفي.
وكتاب نزهة أهل الحرمين في تعمير المشهدين (الغروي والحائري) للسيّد العلّامة السيّد حسن الصدر.0.
ص: 205
وماضي النجف وحاضرها للشيخ جعفرالنجفي آل محبوبة.
واليتيمة الغروية للسيّد حسون المتوفى سنة 1333 ه.
ولؤلؤ الصدق للسيّد عبداللّه ثقة الإسلام الإصبهاني.
وحدّ الغري وغيره، وصرّح بكون القبر في الغري جمع من أكابر المؤرخين كاليعقوبي المتوفى سنة 292 ه فقال على سبيل الجزم في تاريخه:
ودفن بالكوفة في موضع يقال له الغري.
وقال أبو الفداء في المختصر:(1) والأصح وهو الذي ارتضاه ابن الأثير وغيره أنّ قبره هو المشهور بالنجف وهو الذي يزار اليوم.
وقال ابن الطقطقي في الفخري:(2) وأما مدفن أميرالمؤمنين عليه السلام فإنّه دفن ليلاً بالغري ثم عفي قبره إلى أن ظهر حيث مشهده الآن صلوات اللّه وسلامه عليه.
وفي معجم البلدان(3) وهو (يعني النجف) بظهر الكوفة كالمسناة تمنع سيل الماء أن يعلو الكوفة ومقابرها، والنجف وقشور الصليان، وبالقرب من هذا الموضع قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، وفيه أيضاً(4) والغريّان طربالان، وهما بناءان كالصومعتين بظاهر الكوفة، قرب قبر علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.6.
ص: 206
وفي مراصد الإطلاع(1): والنجف أيضاً بظهر الكوفة كالمسناة تمنع سيل الماء أن يعلو الكوفة ومقابرها، وبالقرب من هذا الموضع قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب المشهور.
وأخرج الگنجي الشافعي(2) بسنده عن الحاكم أبي عبداللّه الحافظ بإسناد رفعه قال: لما حضرت وفاة علي عليه السلام قال للحسن والحسين عليهماالسلام: إذا أنا متّ فاحملاني على سرير ثم أخرجاني ليلاً ثم آتيا بي الغريين، فإنّكما ستريان صخرة بيضاء تلمع نوراً فاحتفرا فإنّكما ستجدان فيها ساجة فادفناني فيها فدفناه وانصرفنا.
وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة:(3) وقبره بالغري (إلى أن قال) وأولاده أعرف بقبره، وأولاد كل الناس أعرف بقبور آبائهم من الأجانب، وهذا القبر الذي زار بنوه لما قدموا العراق، منهم جعفر بن محمد عليهما السلام وغيره من أكابرهم وأعيانهم.
وقال أيضاً في شرح النهج:(4) وهذا القبر الذي بالغري هوالذي كان بنو علي يزورونه قديماً وحديثاً، ويقولون: هذا قبر أبينا لا يشك أحد في ذلك من الشيعة ولا من غيرهم، أعني بني علي من ظهر الحسن والحسين وغيرهما من سلالته المتقدمين منهم والمتأخرين ما زاروا، ولا وقفوا إلّاعلى هذا القبر بعينه.).
ص: 207
وقد روى أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم وفاة أبي الغنائم محمد بن علي بن ميمون الرسي المقري بأبي نجودة قراءته قال: توفّى أبوالغنائم هذا في سنة عشر وخمسمائة، وكان محدثاً من أهل الكوفة، ثقة حافظاً، وكان من قوام الليل، ومن أهل السنة، وكان يقول: ما بالكوفة من هو على مذهب أهل السنة وأصحاب الحديث غيري، وكان يقول:
مات بالكوفة ثلاثمائة صحابي ليس قبر أحد منهم معروفاً إلّاقبر أمير المؤمنين، وهو هذا القبر الذي يزوره الناس الآن، جاء جعفر بن محمد، وأبوه محمد بن علي بن الحسين عليهما السلام فزاراه... إلخ.
وقد زاره أيضاً جمع من الخلفاء كالمنصور، والرشيد، والمقتفي، والناصر، والمستنصر، والمستعصم(1).
وفي كتاب (السيّدة زينب) الذي وضعته لجنة نشر العلوم والمعارف الإسلامية بالقاهرة: وخفي قبره إلى أن ظهر حيث مشهده الآن (وفيه): قد ثبت أن زين العابدين علي بن الحسين، وجعفراً الصادق، وابنه موسى زاروه في المكان المذكور، ولم يزل قبره مستوراً لا يعرفه إلّاخواص أولاده، ومن يثقون به بوصية كانت، لما علم من دولة بني أُمية في عداوتهم له، فلم يزل مختفياً حتى كان زمن هارون الرشيد (ثم ذكر حكاية خروج هارون إلى ظهر الكوفة للصيد، وما رأى من كرامة الإمام عليه السلام، وظهور القبر له بدلالة بعض شيوخ الكوفة، وأمره ببناء قبة عليه)(2).ب.
ص: 208
هذا وإيضاح موضع دفن جثمان الإمام عليه السلام وأنه في النجف في المحل الذي يزار الآن غني عن البيان، قام عليه اتفاق أهل بيته والأئمة من ولده وشيعته، لم يختلف في ذلك منهم اثنان، ولكن الخطيب أنكر هذا الواقع المسلّم حسداً وبغضاً، لأن في رحاب هذا المشهد تحيى مآثر العترة الطاهرة، وتأسّست منذ ألف سنة أعظم جامعة إسلامية لا تزال ترسل أشعتها إلى أرجاء العالم الإسلامي.
يحسد الخطيب أهل البيت على ما آتاهم اللّه من فضله، ومنحهم من المحبة في قلوب المؤمنين، وعلى أيامهم ومشاهدهم ومواقفهم التي ترسخ في النفوس حب الشرف والفضيلة.
هذه المشاهد تقول: إنّ أعداء الحق وأتباع الباطل، وإن جهدوا جهدهم وسعوا سعيهم، وقتلوا أصحاب الحق وهدموا بيوتهم، وفرّقوا جموعهم، وعذّبوهم في قعر السجون، وسبّوهم على المنابر، لا يقدرون على إطفاء نور اللّه، ويأبى اللّه إلّاأن يتم نوره ولوكره الكافرون.
هذه المشاهد تصيح في وجوه الظلمة وتنادي البشرية وتقول: كونوا أحراراً وأنصاراً لدين اللّه وأعواناً لعباد اللّه، وادفعوا عن كيان الإسلام، وشرف الإنسان يبقى لكم الذكر الخالد وتقول:
قف دون رأيك في الحياةإنّ الحياة عقيدة وجهاد
هذه القبور شعائر الحرية، وشعائر إخلاص أبناء البشر، وأهل الآباء والحمية، وتدعو الناس إلى إعانة المظلوم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدفاع عن حقوق الإنسانية الكبرى.
هذه القبور تقول: إنّ أنصار الحق هم الغالبون، وإنّ حزب اللّه هم المفلحون، وإنّ المستقبل لهم، وإنّ الدهر لا ينساهم، واللّه يورثهم الأرض ويجعلهم الأئمة ويجعلهم الوارثين.
لقد حارب هذه القبور و أراد هدمها، ومنع الناس عن زيارتها جبابرة الأرض وأعداء الحرية، والخطيب ومن كان فيه نزعة أُموية يتبع أثر هؤلاء فيثقل عليه ما يرى من ميل النفوس إلى زيارة هذه المشاهد، فكأنّهم يحبّون أن يكون هذه الضرائح التي تهوي إليها الأفئدة، وتحن إليها القلوب لأعداء أهل البيت، وجبابرة التاريخ الذين حاربوا الفضائل الإنسانية، وسعوا في إطفاء نور الحق وكان من ألذّ الأشياء عندهم قتل الأبرياء، وتعذيب الصلحاء، فيقول في جملة من كلماته التي يظهر منها التعصّب والعناد، وبغض أهل البيت عليهم السلام، بعد تكرار افتراءاته السابقة على الشيعة من القول بوقوع التحريف في القرآن في ص 27 و 28: وقد زعموا ذلك (يعني القول بالتحريف)(1) في جميع عصورهم وطبقاتهم على ما نقله عنهم، وسجّله لهم نابغتهم العزيز عليهم، الحبيب إلى قلوبهم الحاج ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي في كتابه (فصل الخطاب في إثباتب.
ص: 209
ص: 210
تحريف كتاب رب الأرباب) الذي اقترف جناية كتابة كل سطر منه في جانب قبر الصحابي الجليل أمير الكوفة المغيرة بن شعبة (رض) الذي تزعم الشيعة أنّه قبر علي بن أبي طالب(1).
انظر إلى هذه الكلمات بعين الإنصاف، واقض العجب عما يريد الرجل من التفريق بين المؤمنين، وانظر كيف يكرر افتراءاته، وكيف يأتي بكل ما يهيّج السنة على الشيعة وبالعكس، فيتعرّض لما لا يعد من الخلافات المذهبية، ولا مساسب.
ص: 211
له بتحقيق الوحدة الإسلامية.
انظر كيف يثني على المغيرة بن شعبة، ويأبى ذلك في حق من هو مجمع الأوصاف المحمودة الإنسانية، فيأتي بعد هذا الثناء على المغيرة بذكر اسم أمير المؤمنين عليه السلام مجرّداً عن جميع أوصافه وألقابه.
وانظر كيف لا يستحيي من العلماء، ومن قلمه وقرطاسه، فيقول جازماً من دون أن يذكر خلافاً في ذلك: إنّ الذي تزعم الشيعة أنّه قبر علي بن أبي طالب هو قبر المغيرة كأنّه من أولاد المغيرة، أو كان حاضراً حين واروه في التراب.
فاسألوه من أين عرفت موضع قبر المغيرة؟ ومن أين ثبت ذلك عندك؟ ومن أيّ مصدر صحيح أخذته؟ وهذا العلّامة الشهير السبط ابن الجوزي يقول:
لم يعرف له قبر، وقيل: إنّه مات بالشام، وهذا ابن حبّان يقول على ما حكي عنه في معجم البلدان في (الثوية): إنّ المغيرة بن شعبة دفن بالكوفة بموضع يقال له الثوية، وهناك دفن أبو موسى الأشعري في سنة خمسين، وقال في (مراصد الإطلاع) قيل بالثوية دفن المغيرة وأبو موسى الأشعري وزياد.
أم كيف ينكر معرفة ولد أمير المؤمنين الذين دفنوا أباهم، وزاروه في هذا الموضع الذي عرفوا الناس به، وكيف ينكر معرفة شيعته بقبره، فمن كان أبصر وأعلم منهم بذلك، وما قيمة إنكار شخص بعيد عن الميت بعد إخبار أولاده وخواصه بقبره، ومن يعتد بكلام مثل هذا المجازف الذي لا مأخذ له، وأبطله الأخبار المتواترة المذكورة، وتصريحات أعلام المؤرخين، وظهور الكرامات الكثيرة عنه عليه السلام عند القبر الشريف.
ص: 212
لم يقنع كاتب (الخطوط العريضة) في إظهار الإنحراف عن أهل البيت، أصحاب الكساء، وبني فاطمة عليهم السلام، والميل إلى أعدائهم ومبغضيهم بما افترى على الشيعة حتى مدح في ص 31 سيرة يزيد بن معاوية، وكفى به عبقرية أن يكون من أمجاده يزيد المخمور الذي أخجل تاريخ الإنسانية بما يرتكبه من أنواع الجرائم والمنكرات(1).
ص: 213
أعلن الخطيب عقيدته في ص 32، وخالف جميع الأُمة فرفع أبا بكر وعمر وعثمان، وحتى عمرو بن العاص، حتى جعل منزلتهم أعلى من مرتبة جميع الأنبياء، وجبرئيل وميكائيل وسائر الملائكة، وجميع خلق اللّه، فانظر كيف يعلن بذلك ويصرح بتفضيل الشيخين وعثمان، وحتى مثل عمرو بن العاص على الأنبياء والمرسلين، كسيّدنا إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام، وعلى جميع خلق اللّه، وهو الذي يمقت الشيعة لقولهم بتفضيل الإمام على سائر الصحابة، ويفتري عليهم بأنّهم (ونعوذ باللّه من ذلك) يرفعون مرتبة أئمتهم عن مرتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله.
وإنّما ذكر عمرو بن العاص فيمن فضله على جميع خلق اللّه تلويحاً بتفضيل معاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة، ومن يحذو حذوهما في بغض أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وسفك الدماء، وقتل الأبرياء على الأنبياء عليهم السلام أيضاً.
ص: 214
قال في صفحة 33: إن استحالة التقريب بين طوائف المسلمين، وبين فرق الشيعة هي بسبب مخالفتهم لسائر المسلمين في الأُصول، قال: ومما لا ريب فيه أنّ الشيعة الإمامية هي التي لا ترضى بالتقريب... إلخ.
الشيعة الإمامية كما تشهد به كتبهم القديمة والحديثة المطبوعة وغيرها لا تخالف سائر المسلمين في أُصول الإسلام: التوحيد والنبوة والمعاد، يؤمنون باللّه الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد ويؤمنون بأنبياء اللّه ورسله، ومعجزاتهم وكتبهم لا يفرّقون بين أحد منهم، ويؤمنون بماأُنزل على سيدنا محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله، وأنّه لا نبي بعده، وبشريعته التي ختمت الشرائع، وأنّ القرآن المجيد هذا الكتاب الكريم الذي يقرؤه أهل السنة والشيعة هو الكتاب المنزل عليه، ويؤمنون بسؤال القبر، وقيام الساعة، وإحياء الأموات للحساب، وبالجنة والنار، والصراط والميزان وبملائكة اللّه، لا سبيل
ص: 215
للشك في هذه العقائد عند شيعي، وأيضاً يؤمنون بوجوب الصلوات المفروضة وغيرها من الواجبات، كما يؤمنون بحرمة الخمر والميسر، والميتة ولحم الخنزير، والكذب والغيبة، والربا والزنا، واللواط ونكاح المحارم، وغيرها من المحرّمات المعلومة الثابتة بالكتاب والسنة المعدودة من ضروريات الدين الحنيف، فمن شك في ذلك ليس من الشيعة بشيء بل لا يحكمون عليه بالإسلام، ويحكمون جميع فقهائهم عليه بالكفر والإرتداد، وهكذا يؤمنون بسائر أحكام اللّه تعالى في المعاملات، والقضاء، والنكاح، والطلاق، والظهار والإيلاء، والحدود والديات.
ولا يضر في الحكم بالإسلام عندهم اختلاف أرباب المذاهب في الفروع الفقهية فيحكمون بإسلام المعتنقين بالمذاهب الأربعة المعروفة، بل ومن لم يعتنق خصوص مذهب من هذه المذاهب، لأنّ باب الإجتهاد عندهم مفتوح، فليس على المسلم إلّاأن يأخذ بالكتاب والسنة، وليس لحصر المذاهب في الأربعة المشهورة أصل صحيح، بل يجب على من أدى اجتهاده إلى خلاف هذه المذاهب اتباع اجتهاده، ومع هذا كيف لا ترضى الشيعة بالتقريب.
وأما افتراؤه في ص 33 و 34 عليهم بأنّهم يرفعون الأئمة عن مرتبة البشر إلى مرتبة آلهة اليونانيين فبهتان محض، يعرف كذب هذا الإفتراء كل من كان له قليل معرفة بكتب الشيعة وعقائدهم، فهم أبعد الفريقين من هذه المقالات، لا يقولون بمثل ذلك في رسول اللّه صلى الله عليه و آله فضلاً عن الأئمة، ويعتقدون فيهم أنّهم عباد اللّه تعالى، مخلوقون مربوبون، محتاجون إليه، وأنّ من غلى فيهم فاعتقد تأليههم، أو اشتراكهم مع اللّه تعالى في أمر الخلق والرزق، والإماتة، والإحياء
ص: 216
وغيرها كافر مرتد خارج عن الإسلام يحكمون بنجاسته.
وأظن أنّ الخطيب أيضاً كان عالماً بتنزّه الشيعة عن هذه المقالات والعقائد الباطلة، ولكن لما لم يجد شيئاً يمنع عن التقريب والتجاوب بين الطرفين جاء بهذا البهتان العظيم، ونسب الشرك والكفر بالقول بتأليه أئمة آل البيت إلى طائفة كبيرة من المسلمين المؤمنين الموحّدين، الذين يشهدون في مآذنهم وإذاعاتهم بكلمة التوحيد، ويتبرؤون عمن يعتقد تأليه الأئمة وغيرهم، أو يرفعهم عن مرتبة البشر.
فليس ما بينهم شيء يمنع عن التقريب والتجاوب، وليس معنى التقريب أن يترك الشيعي مذهبه ويصير سنياً أو بالعكس(1) ، بل معناه أن يُترك كل على اجتهاده فيعيشوا في مجال أوسع من هذا المجال، وأن يتركوا العصبيات الباردة، ويعترف كل واحد منهم للآخر بالحقوق الإسلامية، لايتهم السني الشيعي بالشرك والكفر، والإستهانة بالفرائض وفعل المحرّمات، ولا يتهم الشيعي السني بالنصب وعداوة آل البيت، فلا يسيرون إلّاعلى ضوء الحقائق فيأوِّلون بعض ما يصدر عنهم بحسب اجتهادهم في الكتاب والسنة بما يتأوّلون بعض ما صدر من السلف، فإنّ حاجة المسلمين بهذه التأوّلات فيما بين أنفسهم في عصرنا أكثر وأشد من حاجتهم إلى تأويل أعمال السلف، فإنّ حسابهم على اللّه، والزمان حال بيننا وبينهم.م.
ص: 217
إن الشيعة لا يعتمدون على الإفتراء والأكاذيب حين يناقشون غيرهم، بل يعتمدون على الكتب المعتبرة الموثوق بها عندهم، ولا يقابلون الشتيمة بمثلها كشتائم الخطيب وغيره ممن لا نريد سرد أسمائهم، وسيحكم اللّه بينهم وبين هؤلاء يوم يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
فالشيعة أرضى الفريقين بالتقريب، وقد خطت في سبيله خطواتها الواسعة، ولكن من يريد بقاء الملأ الإسلامي في ظلمة المناقشات والمنافرات لتبقى عليهم سلطة الإستعمار لا يحب التقريب وتحقّق الأُخوة الإسلامية بين الطائفتين، لا يحب أن يعيش أهل القبلة كلهم في عالم واحد معتصمين بحبل اللّه، فيفتري على الشيعة أُموراً لم تخطر على قلب شيعي، وينسب إليهم من العقائد ما هم أبعد منه من المشرق إلى المغرب كالقول بتأليه الأئمة ونبوتهم، وتارة يكفرهم بآراء لا توجب الكفر بل ولا الفسق إذا كانوا مجتهدين، وذلك مثل التبرّء من أعداء أهل البيت كمعاوية وعمرو بن العاص، والحجّاج ويزيد، وغيرهم ممن ثبتت عداوته لأهل البيت وبغضه لعلي عليه السلام، وقاتلوا علياً وحسناً وحسيناً، فإن ترك التبرّي لا يعد من أُصول الدين، ولا بمرغوب فيه شرعاً، بل دلت الروايات الصحيحة على وجوبه.
وأما ما قال في ص 34 من مخالفة أُصول الشيعة لجميع اصول المسلمين فنسأل الخطيب عن معنى الأصل والأُصول، وما قصد من أُصول الشيعة وأُصول المسلمين.
فإن كان مراده من أُصول الشيعة ماامتازوا به عن أهل السنة وغيرهم من فرق المسلمين من التمذهب بمذهب أهل البيت أعدال الكتاب وسفن النجاة، فلا
ص: 218
تجد فرقة من الفرق إلّاولها جهة امتياز عن غيرها، وليس معنى ذلك أنّها تخالف أُصول الإسلام.
وإن كان مراده أن أُصول الشيعة تخالف أُصول الإسلام والأُسس التي عليها يقوم الإيمان، وأن الشيعة لم تأخذ بأصول الإسلام الثابتة بالكتاب الكريم والسنة، فهذا بهتان على الشيعة، فإنّهم من أشد الناس أخذاً بأُصول الإسلام وبالكتاب والسنة، ولا ذنب لهم سوى أنّهم لم يؤمنوا بشرعية حكومة أمثال معاوية ويزيد والوليد من الحكّام الجبابرة والطواغيت، واهتدوا بهدى أهل البيت عليهم السلام فهل ترى الرجوع إليهم في العلوم الشرعية والتمسّك بهم وبالكتاب المأمور به في حديث الثقلين موجباً لجواز تكفير الشيعة أو تفسيقهم؟
وهل يكون الإيمان بصحة خلافة الشيخين وعثمان من أُصول الإسلام؟
وهل يجوز تكفير مسلم إن أدى اجتهاده إلى عدم صحتها؟
فإن جاز ذلك فلِمَ لا تحكمون بكفر النواصب والخوارج، وأصحاب الجمل وصفين، وبني أُمية وأتباعهم من الذين أنكروا خلافة علي عليه السلام الشرعية بإجماع الفريقين وفعلوا ما فعلوا.
ألا ترى أنّه لم يكفر أحد من الصحابة المسلمين الذين خرجوا على عثمان حتى قتل، وكان في من نقم عليه أُم المؤمنين عائشة، ولا ينكر ذلك عليها.
وإذا كانت فاطمة عليها السلام بنت رسول اللّه وسيدة نساء العالمين لم ترض بحكومة أبي بكر ولم تقرها، ولم تعتبرها شرعية، وماتت واجدة عليه كيف يجوز تفسيق من اتّبع مذهبها مجتهداً في ذلك، ولو كان الإيمان بشرعية هذه
ص: 219
الحكومات من أُصول الإسلام كيف خفي على سيدة نساء أهل الجنة، وعلى بعلها باب علم النبي، وعلى غيرهما من بني هاشم، كالعباس والصحابة الذين امتنعوا عن البيعة(1).
فيعلم من ذلك كلّه أنّ الإعتقاد بشرعية هذه الحكومات ليس من أُصول الإسلام في شيء، ولا يجوز تفسيق من أدى اجتهاده إلى عدم شرعيتها، ولا يجوز لأهل السنة تكفير من لا يرى حكومة مضت عليها الدهور باد أهلها شرعية، ولا ينبغي للمسلمين الإشتغال بهذه المباحث التي قضت عليها الأزمنة، وليس حساب أهلها علينا، إن حسابهم إلّاعلى اللّه، وتلك أُمة قد خلت ولا مساس للقول بسوء صنيع هذه الأفراد، والقول بحسن حالهم بالإسلام، فإنّه أوسع من هذه المجادلات، فإذا لا ينبغي مناقشة الشيعي بما يرى من جواز التبرّء من أعداء آل محمد ومبغضيهم، وليس هذا مانعاً من التقريب والتجاوب، فكل في تلك المسائل على مذهبه، لا يضر ذلك بالتقريب بعد اتفاق الفريقين على اتّباع الكتاب والسنة، فإنّ الخلافات ترجع إلى الإختلاف في فهم مدلول الكتاب أو السنة، واعتبار بعض الأحاديث وعدمه، فإحدى الطائفتين إن أدى اجتهادها5.
ص: 220
في مسألة إلى خلاف ما اختارته الأُخرى فإنّما اختارته تمسّكاً بالكتاب أو السنة، كما أنّ الطائفة الأُخرى أيضاً اختارت كذلك، وإن كان في أهل السنة من يعمل بالقياس فالشيعة لا يعملون به، ولا يحتجّون إلّابالكتاب والسنة، فلا يليق أن يكون مجرّد ذلك سبباً للجفوة والتباعد، ولا يوجب اختبار رأي في هذه المسائل، لا سيما إذا كان عن اجتهاد، وكان عارياً عن العصبية والعناد، موجباً للخروج عن الإسلام أو جواز التفسيق، أو استحقاق اللوم والتوبيخ.
ص: 221
ص: 222
زعم الخطيب في ص 34 أن الشيوعية التي تفاقمت في العراق وبحزب توده في إيران أكثر مما كان لها من أثر في سائر العالم الإسلامي هي وليدة التشيّع، والشيوعيون في ذينك القطرين من صميم أبناء الشيعة (إلخ).
الشيوعية لم تؤثر في ذينك القطرين لا سيما في إيران أكثر مما أثّرت في سائر العالم الإسلامي، وقد بذلت في سبيل تحقّق أُمنياتها في إيران منذ ظهرت إلى الآن أموالاً كثيرة، وفعلت السياسية الهدّامة، وعاونها في ذلك عوامل استراتيجية، وكون إيران محاددة لأُم الحكومات الشيوعية، وأعظمها سلطة وقدرة، ورغبها في بسط نفوذها الغاشم في إيران ما فيها من آبار الزيت وغيرها، وكونها طريقاً للإستيلاء على الهند والپاكستان، ولقد احتل الجيش الروسي في الحرب العالمية الثانية إقليم خراسان، ومازندران، وآذربايجان وجيلان، فأُسست في آذربايجان تحت اضطهاد الجنود الأجنبية وإشرافها حكومة
ص: 223
شيوعية ومع ذلك لم تنجح مساعيها في إيران ولم تنل ما أرادت من السلطة على إيران الشيعي، فقاومت آذربايجان الإتجاهات الأجنبية، واستقامت بالقوة الروحية الإسلامية، وتحمّلت الكوارث والمحن الشديدة، حتى فشلت دعايات الشيوعيين، فلم تؤثر في الآذربايجانيين ولا في غيرهم، لكونه من صميم أبناء الشيعة، وأغنياء من الأساليب الإقتصادية التي تعرض عليهم الشيوعية، ولأنّهم مؤمنون بأنّ التعاليم الإسلامية تضمّنت جميع ما يحتاجه الإنسان من النظم الإقتصادية والإجتماعية.
ولو كان التشيّع سبب تأثر إيران والعراق بالشيوعية فما سببه في تأثر البلاد السنية منها، ففي بعض الممالك السنية نرى الحزب الشيوعي من أقوى الأحزاب تأثيراً في الثورات والحوادث السياسية، وبعضها كألبانيا اعتنقت الشيوعية، وهذه كتب علمائهم ومثقّفيهم، حتى الإسلامية منها بين أيدينا قد تأثّر بعضها بآراء الشيوعيين، ويرى القارئ ميل مصنفيها إلى النظام الشيوعي، وتفسير تعاليم الإسلام على نحو يوافق ذلك النظام، وأضف إلى ذلك جرائد الأحزاب الشيوعية ومجلاتها، ودعاياتها بمختلف الأساليب في تلك البلاد.
وأما في إيران فقد فشلت تلك الدعايات، وقضى عليها الإسلام والتشيّع قضاءً حاسماً، واستنكرها الخواص والعوام استنكاراً شديداً.
ونسأل اللّه أن يحفظ بلاد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من شر الأعداء، وأن يمنّ عليها بالخير والبركة والأمان والسلام.
ص: 224
والحق أنّ الشيوعية مهما ظهرت وأنّى ظهرت في بلاد المسلمين ليست إلّا وليدة جنايات المستعمرين، فإنّ الإستعمار يمنع اجتماع المسلمين حول أحكام القرآن، ويسعى سعيه لتفريق كلمتهم ليحفظ سلطته على الممالك الإسلامية، ولينهب ما في أيديهم من الثروة ويقضي على مجدهم وكيانهم.
إنّ الإستعمار يرى الإسلام صخرة تقاوم مقاصده وأغراضه، فيسعى سعيه لتحطيمها، ولئلّا تكون الحكومات رمزاً لعلائق المسلمين، ولا تتحقّق مقاصد الإستعمار في بلادنا إلّاإذا عمّ الجهل والفقر، وشملت أبناءنا الرجعية والتقهقر إلى الجاهلية، فالإستعمار يريد اضمحلال المعارف الإسلامية التي هي أرقى المعارف البشرية ليسلب من المسلمين حرياتهم التي منحهم الإسلام، ولا يريد إلّا أن يصبحوا أرقاءه وعبيده.
الإستعمار هو الذي يرغب الفتيان والفتيات وأرباب المناصب والرؤساء والمترفين بترك الآداب الإسلامية، ورفض الشعائر الدينية، ويشوّقهم إلى
ص: 225
الإشتغال بالملاهي والمعازف، وشرب الخمر والقمار، والفحشاء واختلاط النساء بالرجال، ويستأجر الأقلام لتشويق المجتمع إلى الفساد والمنكرات.
وإنّ خوف الإستعمار من اتحاد المسلمين وتيقّظهم، واجتماعهم حول كلمة التوحيد أشد من خوفه من استيلاء الشيوعية، لأنّ العالم الإسلامي لو استيقظ من رقدته يدافع عن الإنسانية وحقوقها المغتصبة، ويعرض عليها أرقى الأساليب والنظم الإجتماعية، وأنفعها في حياتها الإجتماعية والروحية، والإقتصادية والمدنية، وينقذ الناس من مظالم المستعمرين، واستبداد الشيوعيين، ويقضي على استثمار الناس بعضهم بعضاً.
ولا تدخل الشيوعية في إقليم إلّابعد دخول الإستعمار فيه، فالإستعمار يمهّد السبيل للشيوعية لأنّه يأتي بالفقر والمشاكل الإقتصادية ويذهب بالحرية، ويمنع عن التقدم وعن قيام الأُمة بما فيه صلاح نفسها وعلاج دائها.
الإستعمار هو السبب للضعف وذهاب قوة الأُمة، ويقضي على الدين والآداب، والشعائر الإسلامية.
فالإستعمار ينتهي إلى الشيوعية، فإذا بلغ مظالمه غايتها أخلى السبيل للشيوعيين للقضاء على ما بقي من الحريات والفضائل، ولم تفتتن الجماعات بما يعرض عليها الشيوعية من أساليبها الخادعة إلّابما جنت عليها أيدي المستعمرين الجبّارين.
الإستعمار يفرّق بين المسلمين، ويؤسس في كل إقليم حكومة مستعمرة لتحفظ مصالحه، ويسعى سعيه كي لا تستولي عليه الشيوعية ولا تذهب بسلطانه، ولا يدري أن الشيوعية وليدته، وأن التخلّص من نكباتها خصوصاً في
ص: 226
الممالك الإسلامية لا يتحقّق إلّابهدم جميع البنايات الإستعمارية وإيكال أُمور المسلمين إلى أنفسهم.
الإسلام ديننا، وعزنا ومجدنا وتاريخنا، وتعاليمه وأحكامه آدابنا وشريعتنا، وسياسته سياستنا، وحكومته حكومتنا، وبلاده في شرق الأرض وغربها وطننا، لا يصلح أُمورنا إلّاالإسلام، ولم يفسد ما فسد منها إلّاالبعد عن الإسلام، والمستعمر يريد هدم هذه المباني فيجعل لأهل كل قطر تاريخاً ووطناً، ويشجّع العصبيات القومية(1) ، ويكثرون أسباب الإمتياز بين الأقاليم الإسلامية،ن.
ص: 227
ويحيون آثار الأقدمين، ويربطون كل شعب بالعصور البائدة الحياة القِبَلية، لأن ذلك يقطع أسباب الإرتباط بين المسلمين، فيجب على أيّ شعب من المسلمين الإهتمام بإحياء أيام الإسلام وشعائره، دون ما ليس منه شيء من أيامهم الماضية، وشعائرهم التي أبطلها الإسلام، وأن يعظّموا رجالاتهم لأنهم رجالات الإسلام، وأن يعتزّوا بتاريخ شعبهم لأنّه صفحة من صفحات تاريخ الإسلام المشرقة لا لأنّه تاريخ شعب خاص أو مملكة أو أُمة خاصة، لأن هذا من أضر مكائد الإستعمار على الوحدة الإسلامية.
اللهم ادفع عنّا شر الأعداء، واجمعنا في ظل راية الإسلام، واجعلنا معتصمين بحبلك، وانصرنا على القوم الكافرين.
ص: 228
زعم الخطيب في ص 34: أن علي محمد الشيرازي الذي ادّعى قبل مائة سنة أنّه باب المهدي المنتظر ثم ادعى أنّه هو المهدي نفي إلى آذربايجان لأنّها مباءة السنيين من أهل المذهب الحنفي، ولم تقم الحكومة بنفيه إلى بلد شيعي لأن من طبيعة مذهب الشيعي قبول أهله لهذه الأوهام.
هذا من آثار جهله العجيب بأحوال البلدان، ولا تثريب عليه لأنّه لا يحترز من القول بغير علم، فيقول ما يوافق هواه، بل ينكر الحقائق الظاهرة، فإنّ إقليم آذربايجان من الأقاليم العريقة بالتشيّع والولاء الكامل الخالص لأهل البيت عليهم السلام، ومعاهد الشيعة العلمية ومدارسهم وجوامعهم فيها كثيرة، وسكان هذا الإقليم مهتمون غاية الإهتمام بالإلتزام بالشعائر الإسلامية. وقد أبلوا في سبيل اللّه والتشيّع بلاءاً حسناً، ظهر فيه ثباتهم وصدق عزائمهم وحسن إسلامهم، وقوة إيمانهم، ونفي علي محمد إلى آذربايجان كان لأسباب سياسية أُشير إلى بعضها في كتاب (بى بهائي باب وبها) وكتاب (يادداشتهاي كينياز دالكوركي الروسي) وقد
ص: 229
منع أهل آذربايجان من الإفتتان بدعاوي علي محمد تشيّعهم والتزامهم بأُصول الإسلام، وولاء أهل البيت عليهم السلام، فصلب علي محمد هناك (في تبريز) بعد أن تاب ورجع عن دعاواه، وأظهر الإسلام وكتب توبته بخطه، لكن لم تقبل منه لعدم قبول توبة المرتد عن الفطرة في الظاهر.
حركة البابية والبهائية
وليعلم أنّ حركة البابية والبهائية في جميع مراحلها كانت تحت حماية السياسة الإستعمارية(1) ، فهي التي ربّتها وقامت بنفقاتها، فاستعملتها أولاً الحكومة الروسية لأهداف سياسية معينة، فشجّعت عمّالها هذه الحركة للقضاء على الحكومة الإيرانية، أو التدخّل في الشؤون الحكومية وتفريق كلمة المسلمين، وكانت حكومة إيران في تلك الأزمنة لأسباب معلومة مضطرة إلى المسامحة في الأُمور مع حكومة روسيا، ولكن مع ذلك لم تنجح سياسة حكومة روسيا، ولم تتحقّق أُمنياتها لأنّ إيران الشيعية قامت في وجه هذه السياسات وأخمدت نار فتنها.).
ص: 230
ثم دخلت هذه الفرقة في مرحلة جديدة، حيث استخدمتها حكومة إنكلترا للعمل في إداراتها الجاسوسية إلى أن اتخذت لها حيفا وعكا مركزاً للدعاية، لأنّهم أدركوا أنّ الظروف والأحوال في إيران لا تساعد على قبول مثل هذه الدعايات السخيفة، فخدم الحزب البهائي حكومة إنكلترا خدمات خانوا بها الشرق والإسلام والمسلمين، لا سيما في الحرب العالمية الأُولى، فالتمس عباس أفندي رئيس البهائية من القائد الإنكليزي اللورد النبي الذي دخل بيت المقدس في الحرب العظمى الأُولى وقال: اليوم فقد انتهت الحروب الصليبية أن يحصل له لقب (سر) فحصل له، فكانت البهائية في أحضان جواسيس إنكلترا إلى أن شاركتهم في ذلك حكومة آمريكا لتستخدمها أيضاً في مقاصدها السياسية في الشرق الأوسط وغيره، فأصبحت البهائية حركة صهيونية أمريكية.
قال الكاتب الكبير الدكتور شلبي في كتابه (مقارنة الأديان: ج 1 ص 309) فيما كتبه حول الجمعيات السرية الخطرة التي كانت ولا تزال من أهم المؤسسات التي اعتمد عليها اليهود لتنفيذ أغراضهم، والوصول إلى هدفهم، فعدّ منها البابية والبهائية: (ومن الواضح أن حياة البهائية في عكا بين جماعات اليهود أثّرت فيها تأثيراً واسعاً، وقطعت ماكان باقياً بينها وبين الإسلام من صلات طفيفة إن وجدت فأصبحت البهائية وجهاً آخر لليهودية وللصهيونية).
وقال في ص 310 بعد ذكر موت البهاء: وخلّفه ابنه (عباس أفندي) الذي كان في خدمة الحلفاء خلال الحرب العالمية الأُولى فأنعمت عليه بريطانيا برتبة فارس مع لقب سير، وتوفي سنة 1931 م فخلّفه ابن بنته شوقي رباني الذي مات بعد ذلك دون أن ينجب ولداً، وفي ظل الفكر الجديد للبهائية دفعها اليهود إلى
ص: 231
أقطار الأرض ورعوها بالمال، ومنحوها الرعاية التامة فأصبحت البهائية (حركة صهيونية أمريكية) كما يسمّيها الكُتّاب والمحدّثون، وأسفرت البهائية عن وجهها الصهيوني إذ بعد وفاة ميرزا شوقي رباني اجتمع المجلس الأعلى للطائفة البهائية في إسرائيل وانتخب صهيونياً آمريكياً اسمه (ميسون) ليكون رئيساً روحياً لجميع أفراد الطائفة البهائية في العالم (انتهى كلام الدكتور شلبي).
وليس لتدخّل البهائية في بعض الأُمور سبباً غير السياسة، وليس لأكثرهم لولا الكلّ سيّما زعمائهم ورؤسائهم إيمان بالبهائية، فلم يعتنقوها للتدين بها بل اعتنقوها ليتقرّبوا بها إلى أعداء الإسلام ويكسبوا الدراهم والدنانير.
هذا، وأخيراً نلفت أنظار الباحثين في تاريخ البابية والبهائية وآراءهم، ولعب السياسات بهم إلى كتاب (تاريخ الباب أو مفتاح باب الأبواب) المطبوع في مصر مطبعة المنارس 1321 ه، تأليف الدكتور محمد مهدي زعيم الدولة، وصاحب جريدة (حكمة) نزيل القاهرة، وكتاب (مهازل البهائية على مسرح السياسة والدين)، تأليف أنور ودود المطبوع في حيفا مطبعة الكشاف، وكتاب (ساخته هاي بهائيت در صحنۀ دين وسياست) له أيضاً وكتاب (بى بهائي باب وبهاء) تأليف محمد علي الخادمي الشيرازي، وكتاب (يادداشتهاي كينياز) تأليف كينياز دالكوركي الروسي الوزير المفوّض للحكومة الروسية في طهران، وكتاب (محاكمه وبررسي در تاريخ باب وبها) تأليف الدكتور ح م ت وكتاب (نصائح الهدى) تأليف العلّامة البلاغي، وكتاب (بزبگير شرح دزد بگير)، وكتاب (يارقلي) وغيرها.
كما نلفت الأنظار أيضاً إلى التواريخ المؤلّفة في عصر حدوث فتنة الباب
ص: 232
مثل (روضة الصفا) و (ناسخ التواريخ) وغيرهما، وإلى كتاب (كشف الحيل) في ثلاثة أجزاء للفاضل البحّاثة (الآيتي) الملقّب عند البهائية ب (آواره)، وهذا الرجل كان داعيتهم العظيم ونحريرهم الكبير، ومنتهى أملهم، وكانوا يعتزون به كمال الإعتزاز فاستبصر وتاب عن ضلالاته، واعتنق الإسلام وأظهر بطلان مقالات هذه الطائفة، وأظهر حيلهم ومخازيهم وشنائع أعمال رؤسائهم، وصنف في ذلك كتباً كثيرة ككشف الحيل، ومجلة نمكدان، وغيرهما(1).ه.
ص: 233
وقد ردّ عليهم أيضاً (الميرزا حسن نيكو) في كتاب أسماه: (فلسفۀ نيكو) في ثلاثة أجزاء، وكان هو أيضاً معدوداً من دعاة البهائية، ولكنّه أنكر اعتناقه هذا المسلك السخيف، واعتذر أنّه إنّما دخل فيهم للفحص عن حقيقة مسلكهم وبواطن أُمورهم وأسرارهم.
هذا آخر ما وفّقنا اللّه تعالى في نقد (الخطوط العريضة) مع ضيق المجال وكثرة الإشتغال، واللّه الهادي إلى سواء الصراط، وهو حسبي ونعم الوكيل، وصلّى اللّه على سيّدنا ونبينا محمد، وآله الهداة وأصحابه الأبرار، والتابعين لهم بإحسان.
لطف اللّه الصافي الگلپايگاني
شوّال المكرّم 1382 ه
ص: 234
ص: 235
ص: 236
قال اللّه تعالى: وَمَن أحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلَى اللّهِ وَعَمِلَ صاَلِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ الْمُسلِميِنَ(1).
من أعظم الواجبات الملقاة على عواتق العلماء، والكُتّاب، وقادة الأُمة، لا سيّما في هذا العصر أَن يخلصوا نيّاتِهم، ويُنزّهوا أقلامهم عن كل ما يورث الوهن والفشل، ويؤدي إلى الضعف في صفوف المسلمين، ويبعدوا نُفوسهم عن سوء الظن، وأَن يَتَّقوا اللّه فيما يقولون. لا يكتمون الحقائق، ولا ينشرون الأباطيل، ولا يعتمدون فيما يكتبون على الزور والبهتان، والإفتراءات الظالمة التي تُؤَدّي بالناس إلى الضَّلال، وإثارة العصبيات البغيضة الممزِّقة لجسم الأُمة، والمفرِّقة للجماعة، والدافعة للجهّال على تنمية التباغض والصِّدام، وفعل ما لا يُجوِّزه العقل والشرع كما يجب عليهم أن ينتهجوا أُسلوب الأنبياء عليهم السلام في
ص: 237
المناقشة والجدال والدَّعوة إلى الحق على ضوء ما أَدّبنا اللّه به في كتابه العزيز حيث: قال عزَّ اسمه: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ(1).
وقال سبحانه: أُدْعُ إلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هيَ أَحْسَنُ(2).
وقال تبارك وتعالى: يا ايُّهاَ الَّذيِنَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(3).
وقال تعالى شأنه: إِدْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ(4).
وقال تعالى حكاية عن نبيه شعيب لمَّا قال له قومه: إِنّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ، وَإِنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبينَ * يا قَوْمِ لَيْسَ بي سَفاهَةٌ وَلكنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ(5).
وقد أمر نبيَّه الأَعظم صلى الله عليه و آله أن يقول للمشركين: إنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(6).
فلم يصرّح بضلالة المشركين في مقام التخاطب معهم مع أنّ المشركين في ضلال مبين من دون أدنى شك أو ريب.4.
ص: 238
فأقرب الطرق الموصلة إلى الحقيقة، الأخذ بهذا المنهج الإلهي، وهو الجدال بالتي هي أحسن، وأكمل المناهج هو هذا المنهج الذي أمر اللّه به أنبياءه ورسله ليسيروا عليه في أداء رسالاته.
فأحرى بنا أن لا نتّبع سواه أثناء الدعوة إلى الدين الحنيف ومحاولتنا اجتذاب الآخرين إلى رسالة رسول اللّه محمد صلى الله عليه و آله، وفيما نتناقش حوله من المسائل الخلافية بين المسلمين لأنّه المنهج الوحيد البعيد عن الغلط في القول، والمنزّه عن أساليب الشتم والفحش والإفتراء، والمتحلِّي باللين واللطف، والمستند على العلم والمعرفة، والداعي إلى حمل أقوال المسلمين وأفعالهم على المحامل الصحيحة مهما أمكن، والإجتناب عن المزاعم والظنون الباطلة، ومتابعة الهوى، والعصبية الممقوتة.
قال اللّه تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أوُلئِك كانَ عَنْهُ مَسْئُولاً(1).
وقال سبحانه: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَلَهُمْ وَلَوْكُنْتَ فَظّاً غِليظَالْقَلْبِ لاَ نْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ(2).
وإذا كان القرآن الكريم يخبر عن قوم شعيب، وهم كفّار أثناء ردّهم عليه بقوله: وَإِنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبينَ(3). مما يشير إلى أنّهم تحلَّوا بشيء من الأدب6.
ص: 239
حيث لم يقطعوا بكذبه حسب ما توحي به عبارتهم.
فكيف يجوز للمؤمن الذي يأخذ بأدب اللّه أن يحكم على أخ له في اللّه، أو على طائفة كبيرة من إخوانه المسلمين بالكفر أو الفسق يتهمهم بما لا يقولون به، وما عذره عند اللّه تعالى إن كفَّر مسلماً بما لا يوجب الكفر، أو استعمل في رده عليه أُسلوب الشتم والفحش إلى جانب الإفتراء والبهتان اللذين يؤديان إلى إثارة الضغائن، ويحولان دون ظهور الحق وانكشاف الواقع.
فالباحث النزيه إذن لا يجوز لنفسه إن لم يكن في قلبه مرض أن ينحرف عن النهج الإلهي في حواره ومناقشاته مع الآخرين، ويتبع عوضاً عن ذلك أُسلوب الشتم، والدس، والضغينة، والتهريج بالباطل حين يؤدّي به الأمر إلى أن يحكم على طائفة لعلها الكبرى بين طوائف المسلمين، ولعلمائها واُدبائها على امتداد التاريخ عشرات الأُلوف من المؤلفات في مختلف الموضوعات، والعلوم الإسلامية عقيدة ونظاماً، أن يحكم على مثل هذه الطائفة من خلال أخبار آحاد شاذة أهملها العلماء والمحققون، وأساطين علم الحديث، لعدم الإعتماد عليها والأخذ بها، بل وإيمانهم بكذبها، فيتّهم هذه الطائفة نتيجة أخذه بشواذّ الأخبار هذه بما هي بريئة منه، ويرميها بالآراء والأقوال الشاذة.
وإننا لنستعيذ باللّه إذا كان بين المنتحلين للعلم والكتابة من لا يحمل سلاحاً للدفاع عن آرائه إلّاالشتم والإفتراء والمغالطة، والقول بغير علم، بل على خلاف العلم، وكأنّهم لم يسمعوا قول اللّه تعالى: إِنَّما يَفتَري الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
ص: 240
بِآياتِ اللّهِ وأولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (1) .
كما نستعيذ به من كُتّاب يؤثرون خصائصهم الطائفية على مقوّمات الشخصية الإسلامية فيؤيّدون الأُولى بما يذهب بالثانية، ويفترون على غيرهم بما لو ثبت (وهو ليس بثابت قطعاً) لأَصبح عاراً على الإسلام.
فهؤلاء إذن خطر على الإسلام كمبدأ وعقيدة، وخطر على جماعة المسلمين كأُمة يجب أن تصان وحدتها، والعمل على جمع كلماتها، وخصوصاً في هذه الظروف العصيبة التي تواجه الإسلام والمسلمين من جانب أعدائهم.
إنّني لأتساءل في نفسي، كما يتساءل كل مخلص في نفسه، عما يقصد أمثال هؤلاء من كتاباتهم الباطلة المملوءة حقداً وبهتاناً على شيعة أهل بيت النبوة، ومذهبهم غير تشويه جوهر الإسلام بتشويه منظر التشيّع.
ناهيك عما في ذلك من بث روح العداء والخلاف، والفرقة بين المسلمين، وخصوصاً فيما بين الشيعة والسنة في ظرف يعمل المخلصون فيه بكل جهد وإخلاص لبث روح التفاهم والتعارف بينهما.
كم كان حَرِيّاً بهؤلاء عوضاً عن بث هذه السموم أن يجرّدوا أقلامهم إن كانوا حقيقة ذوي علم وإيمان وعمل للكتابة حول الإسلام وبيان جوهره الإنساني، وحقائقه السامية، ومفاهيمه الراقية ليجتذبوا إليه هذه الأجيال التائهة، وخصوصاً في عصرنا المادي هذا، وأن يكتبوا الحقائق التي تُقرِّب بين السنة والشيعة، وتؤلِّف بين مختلَف المذاهب الإسلامية.5.
ص: 241
وبذلك يكونون قد أدَّوا ما أوجبه اللّه عليهم من الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة.
الحوادث المنذرة
الحوادث التي تقع كل يوم في داخل بلاد المسلمين من الشيعة والسنة، وفي خارج عالمنا الإسلامي تنذر الجامدين، والغافلين، والمعرضين عن الإعتصام بحبل اللّه، وتحتم علينا جميعاً أن ننتبه من رقدتنا، ونستيقظ من نومتنا، ونتمسّك بكتاب ربّنا وسنّة نبينا، ونحسن الظن بأنفسنا كمسلمين إلههم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، وقبلتهم واحدة، وحجهم واحد، وشعائر دينهم لا تكاد تختلف في شيء.
نعم، الأجدر بنا ما دمنا كذلك أن نلتفت إلى هذاالجيل المسلم خصوصاً بعد أن شاهدنا، ونشاهد طغيان الإلحاد، وامتداد الكفر، وسموم الدعايات (المضللة) التي تنفثها الإرساليات المسيحية، والشيوعية العالمية في نفوس أبنائنا وأفكارهم لتسلخهم عن الإسلام، وتُصيِّرهم أدوات في يدها للقضاء عليه، وسلاحاً ضد جماعة المسلمين.
ثم إنّ أفواجاً كثيرة في مجتمعنا الإسلامي من الأجيال الصاعدة باتت لا ترحّب بدعاة العصبية المذهبية، وتقاوم كل من يحاول منعها عن التفكير الحر، ولا يستسيغون استعراض كل ما يؤدي إلى الإختلاف بين مذاهب المسلمين، ولا ينصلتون وراء دعوات البهتان والإفتراء، بل يعترفون بالحق أنّى كان، وفي أيّ مذهب انحصر.
ص: 242
وما ذلك منهم إلّالتأكيد الإتصال، والإتحاد، والتجاوب، والتحابب بين المسلمين.
فلا يمكن لأحد في هذا العصر وإن جهد جهده. وكتب ما كتب من الكذب والإفتراء، أن يجعل طائفته بعيدة عن معرفة آراء غيرها، فالشيعي والسنّي يلتقيان كل يوم وكل آن، ويتجاوبان(1) ، ويعرض كل واحد منهما مذهبه علىة.
ص: 243
الآخر، ويتفاهمان ثم يخرجان بنتيجة مقنعة، وهي أنّ الأُسس التي تدعو كل واحد منها إلى التقارب والتلاحم مع الآخر أكثر وأهم من غيرها الذي يدعوهما المغرضون بسببه إلى الإبتعاد، والتضارب، ويعرفان أنّ بعض الكُتّاب ممن نشير إليهم لم يريدوا بكتاباتهم إلّاالإحتفاظ بافتراق الأُمة، ولم يأتوا إلّابما أتى به من سبقهم في أعصار لم تكن فيها الظروف مهيأة لتحقيق الإتصال، كما هو حالهم اليوم في اللقاءات الحسنة والإتصالات الوُدِّية ذات الروح الإسلامية الفاضلة.
نظراً لكل ذلك فإنّني أقول، وأُكرر بأنّ جيلنا المعاصر، بما أصبح فيه من وعي، لا يستسيغ أيَّة صيحة تدعو المسلمين إلى الفرقة والإختلاف، ولا يجيب نداء إلّامن كان يدعو إلى الوحدة الإسلامية، وإلى ما فيه عز الإسلام والمسلمين، وتوحيد كلمتهم وإعلاء أمرهم.
ومع ذلك كلّه فإنّ بعض الكُتّاب يغفلون أو يتغافلون عما عليه جيلنا لا سيما الشبّان، وتلامذة الجامعات، وأساتذتها من المستوى الثقافي، ويظنون أن هؤلاء يقرؤون كل كتاب، ويسمعون كل نداء، وأنهم لا يدركون ما يريد أمثال
ص: 244
هؤلاء المرتزقة من الإفساد بين المسلمين أعاذ اللّه الإسلام من شرورهم، ووقى المسلمين فتنة أقلامهم وكتاباتهم.
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (1) .9.
ص: 245
إنّ من أعظم الأخطار على وحدة المسلمين، وتعاونهم ضد عدوهم المشترك إقدام بعض المستهزئين الأغبياء، الذين لا يقدِّرون عواقب ما يفعلون، على ما يؤدي إلى انشغال أبناء الأُمة الإسلامية الواحدة بصراعات كلامية لا تبتني على أساس سليم، قد يؤدي في حالة عدم وضع حد لعبثهم، إلى تعميق جذور التباغض والتمزّق، والإنهيار المخيف الذي تعاني منه امتنا اليوم شر معاناة.
ومن ثمَّ فإنهم يكونون قد ساهموا مساهمة مخلصة! في تحقيق أغراض الإستعمار والصِّهيونية، من تكريس التفرقة والنزاع الداخلي، ليحولوا بين المسلمين وبين الوحدة، لعلمهم بأنّها الكفيلة لو تحققت بإزالة نفوذهما عن البلاد الإسلامية وسيطرتهما عليها.
ففي كل فترة من الزمن يطلع على الأُمة واحدة من أمثال هؤلاء الجهلاء يدافع عن عصبيتهم المذهبية الممقوتة ضد مذهب أو آخر من مذاهب المسلمين
ص: 246
بأكاذيب ملفقة، وأراجيف مزيفة قد بان الحقد الأعمى من خلال أسطرها، والجهل بحقيقة الإسلام، وبحقيقة المذهب الذي يفتري على قدسيته من مطاوي مواضعها يحبر بها أوراقاً قد أطلق عليها اسم رسالة أو كتاب، وهي في مضمونها أبعد ما تكون عن مدلول هذين اللفظين، بل أول ما تدلّ عليه فراغ واضعها من العلم والفضل والأدب؛ لأنّهم سدّوا على أنفسهم أبواب التعمّق والتحقيق خصوصاً فيما يتعلّق بالمذاهب الإسلامية من مصادرها الأساسية، لذلك تراهم ويا للعار يخبطون في أبحاثهم خبط عشواء فيرمون غيرهم بالكفر حيناً، وبالفسق أحياناً استناداً إلى كلام أخذوه عن هذا، أو رأي نسبوه إلى ذاك، أو قول سمعوه من ذلك من الناس، كأنّما عند هؤلاء علم الأولين والآخرين أو أنّهم معصومون عن الخطأ والكذب والإفتراء.
وهناك من الأقوال ما يتركون بعضاً منه، وينقلون بعضاً لغرض في نفوسهم مما يجعل الإنسان الذي يدفع به سوء الطالع لقراءة تضليلاتهم يساءل نفسه: إذا كان الحق هو غرض هؤلاء، والحقيقة غايتهم فلِمَ يفعلون ذلك، ولِمَ لا يحقّقون في صحة ما يسمعون، وما يقولون؟
ولِمَ لا يرجعون إلى مصادر المذهب الذي يكتبون عنه حين ينتهي بحثهم إلى ما يريده الباحثون المنصفون، ولكن هؤلاء ليست لهم من غاية إلّاتشديد العداء، وإضعاف الصداقة.
لذا تراهم يأتون بالغث لا السمين، أو يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون.
ص: 247
بسم اللّه الرحمن الرحيم
إلى أساتذة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة المحترمين.
إلى علماء پاكستان لا سيما مدينة لاهور.
إلى قادة الفكر ودعاة التقريب بين المذاهب الإسلامية، والذين على جهادهم المخلص يتوقّف مستقبل الإسلام الأزهر.
إلى كل من يؤمن باللّه تعالى، وبمحكمته العادلة.
وبعد، فإنّه قد نشرت في السنوات الأخيرة رسالة أسماها مؤلفها (الخطوط العريضة في الأُسس التي قام عليها مذهب الشيعة الإمامية) وملأها بالأقاويل العجيبة التي يعرف كذبها كل من له أدنى بصيرة بالمذاهب الإسلامية، وتحت هذا الستار سعى في هدم الأُسس التي قام عليها دين الإسلام الحنيف حتى جعل كتاب اللّه تعالى القرآن المجيد هدفاً لسهامه، وبالغ في الدعوة إلى التخاصم، والتنازع، والتفرقة المنهي عنها، وتهييج العصبيات الطائفية.
ثم إنّي لما قرأتها أدركت خطرها على الإسلام، وعلى كتاب اللّه الكريم ووجدتها أمنيَّة دعاة التبشير والإلحاد، وكل من يُكنُّ عداءً للقرآن والإسلام وحرماته من المستشرقين، وغيرهم يتخذونها سنداً لأضاليلهم وضلالاتهم.
ص: 248
ومن جانب آخر تؤدي إلى تفرقة الأُمة، وبث روح التنافر والتشاجر، وإيقاد نار الشحناء والبغضاء.
فرأيت أنّ من الواجب على كل كاتب إسلامي دفع ما في هذه الرسالة من الشبهات سيما حول الكتاب الكريم الذي اتفقت كلمة المسلمين من الشيعة والسنة، بل وغيرهم على أنّه هو هذا الكتاب الموجود بين الدفتين المطبوع المنتشر في أقطار الأرض، وأنّه لا ريب فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه تنزيل من حكيم حميد.
فكتبت كتاب (مع الخطيب في خطوطه العريضة)، وأثبت فيه صيانة الكتاب المجيد من التحريف، وأوضحت ما في هذه الرسالة من الضلالات والجهالات.
فأثّر بحمد اللّه تعالى ومنِّه في قلوب المسلمين، والأوساط الثقافية أثراً إيجابياً، ووقع عند العلماء والمصلحين، ورجالات الإسلام وأساتذة الجامعات، والباحثين المنصفين موقع القبول والشكر والتقدير، ولذلك طبع مرات عديدة.
واللّه تعالى يعلم أنّه ما دعاني إلى كتابة هذا الكتاب إلّاخدمة للإسلام وللقرآن المجيد، والدفاع عن كرامته والسعي لجمع الكلمة، ولمِّ الشعث، والتحابب، والتوادد بين الأُمة.
وما كنت أظن بعد ذلك أنّ كاتباً يزعم أنّه يكتب للإسلام ولمصلحة أمّته يتّخذ قبال هذا الكتاب وما دافعنا به عن قداسة القرآن الكريم، وصيانته من التحريف، والدعوة إلى الوحدة الإسلامية موقفاً سلبياً يكرر ما في (الخطوط العريضة). ويقفو أثر مؤلفها ليعطي المبشّرين، وأعداء الإسلام، ودعاة التفرقة،
ص: 249
والتمزيق بالزور والبهتان سلاحاً انتزعناه منهم في (مع الخطيب في خطوطه العريضة).
حتى جاءنا بعض الإخوان بعد رجوعه من العمرة وتشرّفه بزيارة الحرمين الشريفين بكتاب (الشيعة والسنة) وذكر بأنّ نائب جامعة المدينة المنورة الإسلامية قد أهداه إليه مع كتاب (العواصم من القواصم) الذي كان قد شرحه محب الدين الخطيب شرحاً أظهر فيه نصبه وعدواته للعترة النبوية، وولاءه لأعدائها، وأنكر فيه الحقائق التاريخية المعلومة ظلماً وعدواناً. فقرأته، وعجبت من سعي كاتبه في تفريق كلمة المسلمين، ولعمر الحق! ما كان يخطر ببالي أنّ أحداً من المسلمين يجعل مهمته الإحتفاظ باختلاف الكلمة، والتباعد، وتشديد المجادلات الطائفية، ويعارض دعوة المصلحين من الزعماء والرؤساء والعلماء في التقريب إلى الوحدة الإسلامية، ويخطئهم جميعاً، ويتبع غير سبيل المؤمنين، ويرد هذه النداءات والصيحات التي ارتفعت من العلماء والرجال البارزين الغيارى على الإسلام من الشيعة والسنة في شرق الأرض وغربها، ويتهم الجميع بالجهل والكذب، والنفاق والخداع.
وأعجب من ذلك وأعظم مصيبة على المسلمين أن يكون القائم بنشرها جامعة المدينة المنورة الإسلامية التي ينبغي أن تكرّس كل جهودها للدفاع عن وجودنا الإسلامي شيعة وسنة، وإرشادالمسلمين إلى ترك الجفوة والبغضاء، وأن تساهم بما عندها من طاقاتٍ مع العلماء المصلحين من الفريقين لتحقيق التقريب والأُخوّة الإسلامية.
ويسوءنا زيادة على ذلك إنّ الحكومة السعودية التي تنفق على هذه
ص: 250
الجامعة هي التي تعتني بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية اعتناءاً كبيراً، فجلالة الملك الراحل فيصل آل سعود كان من أُولئك الرجال الذين ينادون الأُمة بالوحدة الإسلامية، وهو الذي أدرك بثاقب نظره أنّ الشيعة لو لم تكن في عقائدها الإسلامية، والإلتزام بأحكام الشريعة، والدفاع عن كرامة القرآن الكريم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحادة من حاد اللّه ورسوله، والمحافظة على مصالح المسلمين أقوى من سائر الطوائف فهي ليست أقل من غيرها في ذلك كلّه.
فهم الذين يضحون بأنفسهم في الدفاع عن أحكام القرآن، ويجعلون نصب أعينهم اللّه ورسوله فيما يقولون وما يفعلون، دليلهم كتاب اللّه وسنة رسوله الكريم.
وجلالة الملك الحالي الملك خالد أيضاً يعرف ذلك، ويقفو أثر أخيه لا يرتضي هذه النعرات الطائفية، ولا يحب التباعد والتباغض، ووثوقه واعتماده في المشاكل الإسلامية على أبناء الشيعة ليس بأقل من وثوقه واعتماده على أبناء السنة، بل ربّما يكون بعض أبناء الشيعة أوثق عنده من بعض أبناء السنة المتأثّرين بالدعايات الإلحادية.
والحكومة العربية السعوديّة هي التي تشجِّع الحركات الإسلامية في البلاد العربية والإسلامية وغيرها، وتنفق عليها، وتؤيّدها وتدرك أنّ الإسلام في برامجه وأحكامه، ومناهجه مهدّد من جانب الإستعمار والإلحاد في البلاد الشيعية والسنيّة.
وإذا اشتغل المسلمون بالمنازعات الطائفية، وإذا كانت حصيلة بعض
ص: 251
الجامعات وانتاجات كتابهم وناشريهم لا سيما في المملكة السعودية مطلع شمس هداية الإسلام ومهبط وحي القرآن، مثل كتاب (السنة والشيعة)، وكتاب (حقائق عن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية) وكتاب (العواصم من القواصم) بشرح الخطيب، وغيرها من الكتب كل ما فيها بعيد عن روح الإسلام، بل هي مجلبة لغضب اللّه سبحانه لما فيها من طعن بأهل بيت رسوله الأعظم ونصب العداء لهم، والولاء لأعدائهم، وتحقيق أمل الأعداء في قطع جذور الإسلام من البلاد سواء أكانت شيعية أم سنية، والتفشيل لسعي الزعماء والمصلحين.
ولا ريب أنّ ما يكتبه هؤلاء المتمذهبون بولاء بني أُمية، وبني مروان والمصوّبون لمظالمهم، والمعلنون العداء لسيّدة نساء العالمين، وبعلها أخي رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ووصيه، وابنيها سيّدي شباب أهل الجنة، وسائر أهل البيت عليهم السلام لا يتوافق مع ما عليه أكثر أهل السنة فهذه كتبهم، ومؤلّفاتهم في الحديث والتاريخ، والتراجم مملوءة بفضائل أهل البيت لا سيما أمير المؤمنين، والسيّدة الزهراء، والسبطين كما هي مشحونة بمثالب أعدائهم، وقد دوّنوا حتى المعاصرين منهم (شكر اللّه مساعيهم) كتباً مستقلة في فضائل أهل البيت، وفي الخرافات ومثالب أعدائهم مثل معاوية وغيره، وأثبتوا فيها مطاعنهم وبدعهم.
فمن كان في قلبه حب لآل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ولعلي عليه السلام الذي لا يحبه إلّا مؤمن، ولا يبغضه إلّامنافق، لا يمكن أن يشجّع مثل هؤلاء الكُتّاب وينشر ما هو ضد مصلحة الإسلام والمسلمين.
فإلى رئاسة جامعة المدينة المنورة الإسلامية الموقّرة، وأساتذتها المحترمين نوجّه نداءاتنا المتكررة، طالبين منهم أن يكونوا عند مسؤولياتهم
ص: 252
الإسلامية مراعين مصلحة الإسلام العليا، وأن لا يظنوا بأنّ أمثال هذه النشرات تفيد المسلمين.
والذي نرجوه منهم هو أن يكونوا من كتّابها وناشريها على حذر، وأن يقرؤوا عليهم قول اللّه تعالى:
فَوَيلٌ لِلَّذينَ يَكْتُبُونَ الْكتابَ بِأَيْديهمْ ثُمَّ يَقوُلوُنَ هذا مِن عِنْد اللّهِ لِيَشْترُوا بِهِ ثَمناً قَليلاً فَويْلٌ لَّهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (1) .
ثم إنّكم أيّها الإخوة الكرام لفي أقدس بلاد اللّه في الحرمين الشريفين، فإنّ القلوب من شرق الأرض وغربها تهفو إلى دياركم، وتشتاق إلى بلادكم، وأنتم يا علماء الحرمين، ويا مجاوريهما محترمون عند الجميع لشرف مكانكم.
فيا ساكني أطراف طيبة كلّكمإلى القلب من أجل الحبيب حبيب
خذوا أُهبتكم، وجدّدوا النظر في مناهجكم، وكتبكم ومقالاتكم ودروسكم وبحوثكم فقد أعطاكم اللّه في كل سنة فرصة سعيدة اختص اللّه سبحانه بها أُمتنا، وأقدركم بها على أن تصلحوا بين المسلمين، وتعرضوا عليهم أساليب إسلامية قيمة في مناهج حياتهم التي أثرت فيها الأساليب الكافرة، وأن تشجّعوا الحركات الإسلامية، وتؤيدوا العلماء المصلحين، وتدعوا أبناء الأُمة جميعاً من الشيعة والسنة إلى تطبيق أحكام القرآن.
فعلى الخطيب الذي يخطب في المسجدين لهذه الجموع الغفيرة القادمة لأداء فريضة الحج المقدسة من كل فج عميق أن يزوِّدهم من تعاليم الإسلام بما9.
ص: 253
يؤدي بهم إلى اتّباع سبيل الإستقامة، والتضحية في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، والجهاد ضد الإلحاد الذي أحاط بالعالم الإسلامي من كل جانب، ويحثَّهم على مقاومة التيارات الخبيثة، ويطلعهم على الأسباب التي أدت إلى إبعاد الشيعة والسنة عن المناهج الإسلامية، وجعلت مجتمعاتهم أشبه بالمجتمعات الغربية، وأنّ برامج تعاليمهم وسياساتهم، وحكوماتهم بعيدة عن روح الإسلام ومبادئه السمحاء التي لا خلاف فيها بين الأُمة شيعة وسنة.
لا أن يقول عن طوائف المسلمين ما يورث الشنآن والبغضاء، وما لا يستقبله جيلنا الحاضر إلّابالنفور، ولا يزيد الأُمة إلّاجهلاً، وفي كليهما خدمة لأعداء الإسلام: الإستعمار والصهيونية.
فلا يتشوّق المسلم المعاصر إلى مسألة أهم من مسألة الوحدة الإسلامية، والتقريب بين الشيعة والسنة لأنّه لا يرى مانعاً من تحقيقها في عقائد الشيعة، ولا في عقائد السنة، ولو لم يوجد في بعض المنتحلين للعلم والكتابة مثل كاتب (الخطوط العريضة) و (حقائق عن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية)(1). و (الشيعة والسنة) وناشر (العواصم من القواصم) وشارحه لأصبح المسلمون في وئام ووداد.ء.
ص: 254
المسلمون جميعاً من الشيعة والسنة يعتقدون بأنّ اللّه عز وجل وحده لا شريك له إله الجميع، وخالق كل شيء، وأنّه الرزاق ذو القوة المتين، والغفار والوهاب، ومجيب الدعاء، وقاضي الحاجات، وإليه يرجع الأمر كلّه، له الأسماء الحُسنى لا إله إلّاهو الحي القيّوم.
إنّ الإسلام دين الجميع والقرآن هذا الموجود بين الدفتين الذي يتلى في إذاعات المسلمين، ويقرؤه الشيعة والسنة آناء الليل وأطراف النهار في صلواتهم، وفي شهر رمضان يتقرّبون إلى اللّه بقراءته، وتعلّمه وتعليمه هو كتابنا، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وسيّد الخلق وأفضلهم أجمعين هو محمد بن عبد اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نبينا، وأنّ حلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة لا نبي بعده، وأنّ كل ما جاء به من اللّه حق نؤمن به، وأنّ الكعبة قبلتنا، وأنّ الصلوات الخمس، والزكاة الواجبة، وحج بيت اللّه الحرام، والجهاد في سبيل اللّه، وولاية أولياء اللّه، ومحادة من حاد اللّه ورسوله فرائضنا، وأنّ اللّه
ص: 255
يبعث من في القبور لتجزي كل نفس بما كسبت.
فالمسلمون كلّهم في هذه العقائد وأمثالها، وفي عباداتهم ومعاملاتهم شرع سواء، يعتقد الجميع أنّ الإسلام عقيدة ونظام، وحكم وسياسة، ولا اعتداد بسائر المناهج السياسية، والإجتماعية والمالية والتربوية، إذا كانت خارجة عن نطاق الإسلام، ونظاماته الجامعة(1).
لا يشك أحد في اتفاق الشيعة وأهل السنة على جميع ذلك، ولا ينكره إلّا من كان في قلبه مرض، أو يسعى من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر إلى إثارة الفتنة بين المسلمين ككاتب (الخطوط العريضة) و (الشيعة والسنة) و (حقائق...) و (مجلة البعث الهندية) ممن يحسدون المسلمين على ما آتاهم اللّه من الوحدة، وجعل أُمتهم أُمة واحدة، فقال سبحانه وتعالى: إنَّ هذِهِ امَّتُكُمْ امَّةٌ واحِدَةٌ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ(2).
يعتمدون في آرائهم وأحكامهم على كتب ابن تيمية وأمثاله، أشد وأكثر مما يعتمدون على الكتاب والسنة، يردُّون الأحاديث الصحيحة، ويسعون لأن يَسدوا على المسلمين طريق التفكّر والتعقّل، ويشجّعون على الجمود الفكري والوقوف، وعدم الإنطلاق إلى الأمام، حتى أنّ بعضهم ممن يعد عند طائفته من أكابر علماء المسلمين كفر في مقال نشرته جريدة البلاد كما نشرته جريدة الدعوة2.
ص: 256
الإسلامية كل من قال من المسلمين بأنّ الشمس ثابتةٌ والأرض جارية، فقال بكل جرأة وصراحة: إن كل من قال هذا القول فقد قال كفراً وضلالاً(1) ، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.
ومن عجيب أحوالهم إنّهم يكتبون حول المذهب، ويسعون في تفريق كلمة المسلمين، ويغضبون على من يجيب عنهم، ويظهر زورهم وبهتانهم ومخاريقهم، وسوء نياتهم، وكيدهم للإسلام والمسلمين.
والجدير بنا بعدما ذقنا مرارة المجادلات والإختلافات، في الأجواء المشحونة بالعصبيات، والسائرة في ركاب الأطماع والإتجاهات السياسية، وجربنا ما أدى إليه تضارب الطوائف، من المعتزلة والأشاعرة والوهابية، والسنة والشيعة، وأصحاب المذاهب الأربعة، من الضعف والفشل القضاء على هذه الحالة المنكرة بالإعتصام بحبل اللّه، وحسن الظن بالمسلمين، والتزام طريق الإنصاف والعقل، وعدم التسرّع إلى تكفير أهل القبلة وتفسيقهم بمجرّد المزاعم، والإستناد إلى بعض الأخبار المتروكة أو المتشابهة التي يوجد الكثير منها في كتب الفريقين.
ونحمل ما نعرف من غيرنا مما هو خلاف مذهبنا مهما أمكن على المحامل الصحيحة وأنّه ناتج عنده من الإجتهاد بعد اتفاق الكل على الأُصول الإسلامية التي دلّت صحاح الأحاديث على أنّها هي الميزان والملاك في الحكم على).
ص: 257
الآخرين بالإسلام وعدمه.
فتعالوا نجلس إخواناً متحابين على صعيد إسلامي واحد، لننظر كيف يجب أن نقف قبال الأعداء، ونصون شبّاننا عن الإنضياع وراء الأفكار الإلحادية التي تأتي من الشرق أو الغرب، ونوحّد مساعينا لتطبيق أحكام الإسلام، ونعمل على طرد هذه البرامج التربوية المادية، التي كادت أن تذهب أو أنّها ذهبت بالغيرة الدينية، وأثّرت على الفتيان والفتيات حتى صاروا يفخرون بالدعارة والخلاعة، والرقص والغناء، والقمار وشرب الخمر والسفور، واختلاط النساء بالرجال الأجانب، وتقليد الكفار في جميع أطوار حياتهم حتى المجالس والملابس، بعد ما كانوا يفخرون بالآداب الحسنة من الحياء والغيرة، والشجاعة والفتوة، والعفة والطهارة والشرف، وغير ذلك من أخلاق الأنبياء سيما نبينا الذي وصفه اللّه تعالى بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(1).
وبعدما كانوا لا يخضعون إلّالسلطان الدين وسلطان أحكام اللّه.
تعالوا لنذهب إلى المدارس وإلى الكليات والجامعات، والبارلمانات ودواوين القضاء، ومراكز الجند، ولننظر إلى ما تحتويه أفلام السينما ومناهج التلفزيون في بلادنا، وإلى ما ينشر كل يوم في الجرائد والمجلات، وإلى...
وإلى...
حتى نرى كيف خرجت كلّها عن مناهج الإسلام، وبشكل يؤدي إلى القضاء على شخصيتنا الإسلامية.4.
ص: 258
تعالوا لنرى بين من يتسمون بالمسلمين، من يبدأ بإسم سمّو الأمير أو الرئيس أو السلطان، بدلاً عن بسم اللّه الرحمن الرحيم.
تعالوا لنرى ما أُصيبت به أُمتنا من تجزئة البلاد، وتفرقتها بين حكومات متعددة، ودويلات صغيرة ضعيفة خاضعة للإستعمار، يوجه بعضها ضد البعض لتعميق جذور التفرقة فيما بينها، والإبقاء على عدم التلاقي بين الأشقَّاء من شعوبها.
ثم إن هذه الحكومات التي تحتفظ بتفرقة الأُمة، لتحتفظ بوجوداتها لا يمكن أن تسمح لها بوحدة حكومية سياسية، بل إنّها أخذت بتطبيق مبدأ العلمانية المستلزم لفصل الدين عن الدولة، والإسلام عن مسلكية الحكومة، وإبعاده عن الحياة الإجتماعية حتى أنّ التواريخ الإسلامية في بلاد المسلمين بدّلت بالتواريخ والتقاويم الغربية.
ص: 259
كان الدفاع عما ألصق محب الدين الخطيب بكرامة القرآن وإثبات صيانته عن التحريف، وإبطال دعوى الزيادة والنقصان منه أهم ما دعانا إلى تأليف كتابنا (مع الخطيب في خطوطه العريضة) فردَدنا على الخطيب بالأدلّة القاطعة، وأوضحنا أنّ ما في كتب الحديث والتفسير سواء عند الشيعة أو أهل السنة مما يوهم التحريف كلُّه أخبار آحاد، أعرض عنها محقّقو الفريقين إما لضعف إسنادها، أو لضعف دلالتها، فحقّقنا ذلك تحقيقاً كاملاً، وأبطلنا ما كتب حول ذلك من أهل السنة ككتاب (الفرقان) كما أوضحنا أيضاً استنكار علماء الشيعة لكتاب (فصل الخطاب) وذكرنا أن مخرجي هذه الأخبار الضعيفة أيضاً لم يعتمدوا عليها حتى في مورد واحد(1) ، وأن اعتماد الشيعة والسنة على الأخبار المتواترة
ص: 260
القطعية الصريحة على أنّ القرآن الكريم، الكتاب الذي أنزله اللّه على الرسول الأعظم نبينا محمد صلى الله عليه و آله، هو هذا الكتاب الموجود بين الدفتين الذي يعرفه المسلمون من الشيعة والسنة، ويعرفه غيرهم أيضاً لا شك في ذلك ولا ريب.
كما قد بيّنت حال كتاب (دبستان مذاهب) المجهول مؤلّفه المطبوع بالهند بأنّه إن صح صدوره عن بعض طوائف المسلمين (وهو بعيد) فهي غير الشيعة قطعاً لأدلّة كثيرة، وشواهد تحكم بذلك من نفس هذا الكتاب، وبيّنت أنّ ما أُلصق بكرامة القرآن الكريم من الآيات والسور المختلقة ليست من الوحي بشيء، وأنّ هذا هو الحق الواضح الذي عليه الشيعة والسنة.
يعرف ذلك كل من جال في البلاد الشيعية والسنية، ويعرفه حتى أساتذة جامعة المدينة المنورة الإسلامية وإن أُعجب بعضهم برسالة (الخطوط العريضة) و (الشيعة والسنة) لإصرار كاتبيهما على إسناد القول بالتحريف إلى الشيعة.
وبالجملة: فليس في الإسلام والمسلمين كتاب غير هذا القرآن، الذي هو بين الدفتين لا يقدمون عليه كتاباً ولا يقدسون، ولا يحترمون مثله أي كتاب، وهم يتلونه آناء الليل وأطراف النهار.
ص: 261
وإنّني أعلن ذلك، وأطلب من كل من يشك فيه، ويريد أن يتأكد من كذب القائمين بنشر هذه المخاريق، سواء كان هذا الشاك من السنة أو الشيعة أو من المستشرقين، الذين يريدون أن يكتبوا عن القرآن حقاً وصدقاً، لا كذباً ووفقاً لأهوائهم الإستعمارية.
أنا أطلب من الجميع أن يجولوا في بلاد الشيعة في إيران والعراق وسوريا، ولبنان واليمن، والبحرين والكويت، وسائر إمارات الخليج، والهند وپاكستان، والقطيف والأحساء وأفغانستان، وسائر البلاد الإسلامية، ويسألوا ويفحصوا عن الشيعة وعن شأن القرآن المجيد الموجود بين الدفتين عندهم وعند جميع المسلمين، وعقيدتهم فيه وعن كيفية معاملتهم له، حتى يعرفوا عقيدة الشيعة في القرآن الكريم، وتقديسهم وتعظيمهم له، وحتى يتخلّصوا مما أوقعهم فيه البغاة من الشك والتهمة، حتى يعرفوا به قيمة غير ذلك مما في كتاب (الخطوط العريضة) و (الشيعة والسنة)، وغيرها من الطعن على الشيعة.
ولو أتى (إحسان إلهي ظهير) المتخرّج من جامعة المدينة المنورة، بأضعاف ما أتى به من الأحاديث الضعاف والمتشابهات، مع تعمّده كتم الأحاديث الصحيحة المتواترة في جوامع حديث الشيعة، وكتبهم المعتبرة المصرحة بأنّ الكتاب الذي نزل على نبينا محمد صلى الله عليه و آله هو هذا الكتاب الموجود المطبوع المنتشر في أقطار الأرض، يكذّبه هذا الفحص والتجوال.
ولو بالغ في نسبة التحريف إلى الشيعة، فإنّ كتبهم وتصريحاتهم المؤكدة تكذبه وتدفعه، كما أنّ احتجاجهم بالقرآن في مختلف العلوم، والمسائل الإسلامية في الأُصول والفروع، واستدلالهم بكل آية آية وكلمة كلمة منه،
ص: 262
واعتبارهم القرآن أول الحجج وأقوى الأدلّة يظهر بطلان كل ما افتراه.
فيا علماء پاكستان، ويا أساتذة جامعة المدينة المنورة ما الذي يريده إحسان إلهي ظهير، وموزّع كتابه الشيخ محسن العباد، نائب رئيس الجامعة من تسجيل القول بتحريف القرآن على طائفة من المسلمين يزيد عدد نفوس أبنائها عن مائة مليون نسمة، وفيهم من أعلام الفكر، والعلماء العباقرة أقطابٌ تفتخر بهم العلوم الإسلامية؟
وما فائدة الإصرار على ذلك إلّاجعل الكتاب الكريم في معرض الشك والإرتياب؟
ولماذا ينكران على الشيعة خواصهم، وعوامهم وسوقتهم، قولهم الأكيد بصيانته عن التحريف؟
ولماذا يتركان الأحاديث الصحيحة المتواترة المروية بطرق الشيعة عن أئمة أهل البيت المصرحة بأنّ القرآن مصون بحفظ اللّه تعالى عن التحريف؟
ولماذا يقدحان في إجماع الشيعة وضرورة مذهبهم، واتفاق كلمات أكابرهم، ورجالاتهم على صيانة القرآن الكريم من التحريف، ويجعلان إجماع المسلمين، واتفاق طوائفهم في ذلك معرضاً للشك والريب إن لم يريدا كيداً بالقرآن المجيد؟
أبهذا تزوّد جامعة المدينة المنورة خريجيها حتى لا يعقلون ما يقولون، ويردّون بلجاجهم الطائفي على من أثبت في غاية التحقيق والتدقيق صيانة الكتاب عن التحريف؟
ص: 263
فيا علماء المسلمين اقرأوا (مع الخطيب) وما كتبتُ وحقّقتُ فيه حول صيانة الكتاب عن التحريف، وانظروا هل كان اللائق بشأن جامعة المدينة المنورة أن توزّع كتاب (مع الخطيب في خطوطه العريضة) أو كُتيّب (الشيعة والسنة)، و (العواصم من القواصم) مع شرحه الخبيث؟
فقد دفعتُ بعون اللّه تعالى وحمده كل شبهة، ورددتُ على جميع الأحاديث الموهمة لذلك من طرق السنة والشيعة، وبيّنتُ علل إسنادها، وضعف إسنادها، ومتونها، وأثبتّ عدم ارتباط كثير منها بمبحث التحريف.
فَمَن خدِم القرآن إذن يا أساتذة الجامعة، ويا علماء پاكستان؟ ومن هو الذي أدى حقه؟ ومن الخائن له؟ أهو الذي يصر على نسبة القول بتحريفه إلى إحدى الفرقتين الكبيرتين من المسلمين زوراً وبهتاناً، وجهلاً وعدواناً، ومن ينفق على طبعه، ويوزّع كتابه في أرجاء العالم الإسلامي، ويجعله في متناول أيدي المستشرقين المأجورين الذين يغتنمون صدور هذه الزلات من جهلة المسلمين؟
هل هذا هو الخائن؟ أو من يدفع عن الكتاب الكريم هذه المقولة النكراء هو الخائن يا ترى؟
أنا واللّه لا أدري ما أقول لهؤلاء فأمرهم عجيب، يهتكون أعظم الحرمات، ويجعلون كتاب اللّه هدفاً لسهام الأعداء لكي يدخلوا بزعمهم شيناً وعيباً على شيعة أهل البيت، ويبلبلوا على الناس أمرهم، وعقائدهم: أُولئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوُا
ص: 264
الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (1) .
فيا أساتذة جامعة المدينة المنورة، فقد ضل سعيكم إن كان حصيلة مناهجكم في التعليم والإرشاد من لا ينزل عن مركب الباطل واللجاج، وإن جيء له بألف دليل حتى أنّه كرر ما أجبنا عنه في (مع الخطيب) من نسبة القول بأُلوهية الأئمة، والتعصّب للمجوسية، والإشتراك في كارثة بغداد وغيرها إلى الشيعة، ولم يلتفت إلى الأجوبة المنطقية، والتاريخية المذكورة فيه عن جميع هذه الإفتراءات.
كما كرر الكلام أيضاً حول طعن الشيعة، ككثير من أهل السنة على بعض الصحابة، ولم يلتفت إلى ما في (مع الخطيب) من التحقيق حول هذه المسائل، وحكم من نفي الإيمان عن بعض الصحابة، وسب بعضهم عند أهل السنة، وإن ذلك على مذهب أهل السنة، وسيرة سلفهم لا يخرج المسلم عن الإسلام والإيمان، فلا يجوز بهذا الحكم على أحد بالتكفير والتفسيق كما لا يمنع من التقريب.
فما أتى به هذا المغرض المضلل المتطاول على العلماء حتى الشيخ الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر، الأسبق الراحل في كتابه ليس إلّاتكراراً بما أتى به أسلافه وقد أجبتُ عنه في (مع الخطيب). ولكن لم يلتفت هو إليه لأنّه أراد المخادعة، والتباس الحق بالباطل. ولو لم يكن من أهل العناد واللجاجة لنظر إلى (مع الخطيب) وإلى ما فيه من الأدلّة الحلية والنقضية، والبراهين الجلية المأخوذة6.
ص: 265
من صريح الكتاب أو السنة بعين الإنصاف، ولم يكرر دعاوى البهتان، ولم يسلك سبيل العداء والنفاق.
ولو وافقنا ووافق مصلحي الأُمة، ولاستجاب لصيحاتهم، ونداءاتهم في الدعوة إلى التقريب والإتحاد فاللّه تعالى هو الحكم بيننا وبينه ثم الباحثون المنصفون(1).
فجدّدوا يا أساتذة الجامعة النظر في مناهجكم التعليمية حتى يكون المتخرّجون من مدرستكم مزوّدين بلباس التقوى والعلم، والصدق والإخلاص، وشعارات الإسلام متجنّبين النعرات الطائفية الممزّقة، متمسّكين بالوحدة الإسلامية.
فناشدتكم باللّه تعالى أن تنظروا فيما كتب تلميذكم هذا حول القرآن الشريف، وما رمى به الشيعة، هل خدم بهذا دينه، وأُمته، وبالتالي طائفته أم خدم به أعداء القرآن والإسلام؟ء.
ص: 266
وناشدتكم باللّه أن تطالعوا (مع الخطيب) و (أمان الأُمة من الضلال) وما عرضتُ فيهما على جميع الأُمة، من المنهج الذي ينبغي أن يكون الجميع عليه، وما بينته فيهما مما يذهب بالتنافر والتشاجر، فانظروا فيهما، وفيما يكتب في مجلة (البعث)، وفيما كتب مؤلف (الشيعة والسنة) وشارح العواصم، وكاتب (حقائق عن...) بعين الإنصاف وقارنوا بينهما وبينها، حتى تعلموا أي الفريقين أشد نفاقاً، وأيهما على هدى أو في ضلال مبين.
أنا أقول: واللّه تعالى يعلم أني صادق فيما أقول عن عقيدة الشيعة في القرآن وفي النبي صلى الله عليه و آله، وفي الأئمة عليهم السلام وفي معنى الرجعة، والبداء أن كل عقائدهم مأخوذة من الكتاب والسنة، وإنّهم يعتقدون بكل ما يجب الإعتقاد به، وما هو شرط للحكم بالإسلام، والنجاة عند أهل السنة، ودلّت عليه صحاح أحاديثهم.
فلا موجب إذن لهذه الجفوة والبغضاء، والتنافر بين المسلمين، وتفسير عقائدهم بما هم بريئون منه، ولا يقولون به.
فكم سأل علماء أهل السنة الأكابر المصلحون وغيرهم، علماء الشيعة عن عقائدهم في كل ذلك وقولهم بالرجعة والبداء، وحتى التقية؟ فما رأوا بعد الجواب شيئاً في عقائد الشيعة يخالف روح الإسلام، وما دلّ عليه الكتاب والسنة، وما وجدوا في آرائهم في الفروع والأُصول ما يجوز به تفسيق أحد من المسلمين، ولا يمكن على الأقل حمله على الإجتهاد(1) ، ولا ما يمنع أن يكونا.
ص: 267
الجميع صفاً واحداً، وجسداً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، ومعتصمين بحبل اللّه تعالى.
ومع ذلك هؤلاء يأتون كل يوم بكتاب زور، غايته التمزيق والتفريق وجرح العواطف، وإحياء الضغائن، فيوماً يكتبون (الخطوط العريضة)، ويوماً ينشرون (العواصم من القواصم) مع شرح خبيث، ويوماً يكتبون (حقائق عن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية) حشر اللّه تعالى كاتبه وناشره معه، ويوماً يأتون بكتيّب (الشيعة والسنة) ويقولون عن الشيعة الذين فيهم أئمة أهل البيت عليهم السلام والصحابة الكبار، والتابعين والمحدّثين، ورجالات الدين والعلم والتحقيق في جميع العلوم الإسلامية ممن لا تنكر مقاماتهم الرفيعة في العلم، ولا يستهان بشأنهم وبخدماتهم لهذا الدين، وغيرتهم على الإسلام وشعائره، يقولون بتحريف كتاب الإسلام (القرآن المجيد)، وإنّه قد زيد فيه، ونقص منه كالسورة المختلقة الموسومة بالولاية(1).
فإن قيل لهم: إذا أثبتم (ولا يثبت أبداً) أن هذا رأي الشيعة فكيف تدفعونً.
ص: 268
شبهة التحريف عن كرامة القرآن المجيد، فلا يقبل أعداء الإسلام أن هذه الجماهير الغفيرة من عصر الصحابة إلى هذا الزمان قد اختاروا هذا الرأي من غير أن يكون له أصل وأساس، ولا يسمع منكم في رد ذلك ما تأتون به من الإفتراء والشتم، كقولكم إن الشيعة ربيبة اليهود أو إنهم يكفرون الصحابة؛ لأنّ الباحثين من الأعداء في كتب التاريخ والتراجم والرجال أيضاً يعرفون أنّ هذه الإفتراءات كلها جاءت من سياسة الحُكّام، في عهود كان الميل إلى أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله من أكبر الجرائم السياسية.
ولهم أن يقولوا: إذا كانت الشيعة وهي ليست إلّاربيبة النبي الأعظم صلى الله عليه و آله ربيبة اليهود، فالسنة ربيبة المنافقين والمشركين الذين دخلوا في الإسلام كرهاً، وربيبة معاوية ويزيد، ومروان وعبدالملك والوليد ابنه، ومسلم بن عقبة، وبسر بن أرطاة، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن سمية، والحجاج، ووليد بن عقبة، والحصين بن نمير، وشبيب بن مسلمة، وعمران بن الحطان، وحريز بن عثمان، وشبابة بن سوار، وشبث بن ربعي، وغيرهم من الجبابرة ومن في حاشيتهم من الأُمراء وعلماء السوء.
فلماذا لا تتركون العداء والعصبية حتى في هذا، ولا تقطعون جذور هذه الشبهة، ولِمَ لا تبرّؤون الشيعة عن هذا القول كما هم يبرّؤونكم، وتعرضون عما عند الشيعة، من أدلّة كثيرة قاطعة علمية وتاريخية، على صيانة القرآن عن التحريف، وعن ما هو المشاهد منهم في بلادهم، ومجالسهم وعباداتهم.
فهم أشد الأُمة تمسّكاً بالقرآن المجيد، وينكرون هذا الرأي السخيف أشد الإنكار، ويردّون أيضاً ما ورد في أحاديث أهل السنة القائلة بأنّه نقص من القرآن
ص: 269
مما أُشير إليه في (مع الخطيب) إشارة إجمالية.
نعم إذا أوضحتُ كل ذلك لهذه الفضلة والمتفضّلة، وهم لا يدركون قيمته من الناحية العلمية والدينية، ولا يحبون وضوحه وتقريره، يقولون: لا يقبل ذلك منهم لأنّهم يجوّزون التقية، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.
فما عذركم عند اللّه تعالى؟ فإن كنتم معادين، ومعاندين لأهل البيت وشيعتهم - كما يظهر من كتبكم ومقالاتكم - فلا تجعلوا القرآن معرضاً للشك بعدائكم لأهله، وافترائكم على حملته.
فحسبكم أن ضيّعتم وصية الرسول الرؤوف الرحيم ولم تحفظوه، ولم تحفظوا وصيته في أهل بيته، وذريته وشيعتهم، وتركتم هداهم والتمسك بهم، واقتديتم بأعدائهم الذين نكلوا بهم، وعملوا للقضاء على فضائلهم، ودافعتم عن سيرة هؤلاء الأعداء وعمّالهم، فاعملوا ما شئتم إن اللّه تعالى يقول: إنَّ الَّذيِنَ يُلْحِدوُنَ في آياتِنا لاَيَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى في النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتيِ آمِناً يَوْمَ الْقيامَة اعْمَلوُا ما شِئْتُمْ إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(1).
ولا تظن يا أخي أني أظن بجميع إخواننا من أهل السنة سوءاً، فإنّ أكثرهم من أهل الغيرة على الإسلام والقرآن وحرمات اللّه، ويقدرون الدفاع عن صيانة القرآن من التحريف سواء كان في الملأ الشيعي أو السني، ولا يرتضي أحد من عوامهم فضلاً عن علمائهم ومصلحيهم أن يمس أمثال الخطيب وإحسان ظهير ومن يوزّع كتابهما كرامة القرآن المجيد بمقالاتهم وكتبهم، فأمثالهما وإن عدّوا0.
ص: 270
أنفسهم من أهل السنة إلّاأنّ فيهم نزعات ليست من الإسلام، تحملهم على نشر هذه المقالات لتكون الشريعة سفيانية، والملّة يزيدية مروانية.
أنشدكم باللّه يا أساتذة جامعة المدينة المنورة، ويا علماء لاهور! أما عرفتم عن جيرانكم من شيعة المدينة المنورة، ومن شيعة لاهور وپاكستان عقيدة الشيعة في صيانة القرآن المجيد وسلامته من التحريف؟
أما رأيتم تعظيمهم وتقديسهم له، وإنّهم لا يقدّسون كتاباً مثله، ولا يكون تعظيمهم له أقل من أهل السنة إن لم يكن أكثر؟
فلِمَ لا ترشدون هؤلاء الجهّال الذين أعمت بصيرتهم العصبية الطائفية؟ ولم لا تؤاخذون من يرغّبهم ويشوِّقهم، وينفق عليهم ليكتبوا عن الإسلام والمسلمين، وينشروا عليهم أمثال هذه المقالات الشانئة الشائكة.
ولعمر الحق إنّ مقالاتهم هذه في عدائهم للشيعة زيّنت لهم كل كذب وافتراء، فهم مصداق لما قيل: (حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء).
فقد حفظوا عداءهم القديم الذي ورثوه عن أعداء آل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وشيعتهم الذين لا ذنب لهم غير ولائهم لعترة النبي صلى الله عليه و آله والتمسك بهم وبسيرتهم، تمسكاً بحديث الثقلين المتواتر وغيره من الأحاديث المتواترة.
فتارة يحكمون عليهم بما زيّنته لهم عصبيتهم مستندين في ذلك إلى الأحاديث الضعاف أو المتشابهة، التي توجد في كتب أهل السنة، سواء في أُصول الدين أم فروعه، وفي التراجم والتاريخ أضعاف أضعافها.
وأُخرى يفترون عليهم بأنّهم يقولون في رسول اللّه بأنّ علياً وأولاده أفضل
ص: 271
منه، وأنّهم فوق البشر بل آلهة(1).
وتارةً يقولون: إنّ شيعة أهل بيت النبي عليهم السلام، وأبناء بنته سيّدة نساء العالمين هم ربيبة اليهود، وأتباع عبداللّه بن سبأ الموهوم(2) ، متغافلين عما في كتب أهل السنة حتى الصحاح منها من أحاديث يأباها العقل، ولا توافق روح القرآن.
ونسوا ما ملأوا كتبهم من الفضائل والكرامات، والعلم بالغيب لغير الأنبياء من رؤساء الصوفية، وأئمة مذاهبهم مما لا يؤيّده الكتاب ولا السنة، ولم يثبت بنقلٍ معتبر.
ونسوا ما رووا في بعض الصحابة من أنّ علمه سبق علم النبي صلى الله عليه و آله، بل استبق في علمه إرادة اللّه عزوجل فيما أوحى إلى النبي صلى الله عليه و آله، فهو عرف ما لم يعرفه رسول اللّه صلى الله عليه و آله قبل نزول الوحي.
ونسوا اعتماد عمر بن الخطاب وعثمان ومعاوية، وعلمائهم ومحدّثيهم على كعب الأحبار اليهودي الذي كان من أوثق الناس عند عمر ومعاوية، وكانا يرجعان إليه، ويأخذان بقوله كحجة شرعية في تفسير الكتاب والسنة، كما نسوا اعتماد معاوية، وابنه يزيد على غير المسلمين ومشاورتهما لهم.
وتارةً يذكرون احتراق قلوب الكفّار والمجوس واليهود، وحنقهم علىي.
ص: 272
الإسلام والمسلمين، ثم يهاجمون شيعة أهل البيت(1) ، ويأتون بأُسطورة عبداللّه ابن سبأ، وينسبون إليه إضرام نار الثورة على عثمان التي لم تقم عليه إلّابأسباب كلّها ترجع إلى سيرة عثمان، وما ارتكب من الأحداث والأعمال مما لا يرتضيه المسلمون، وكان خارجاً عن روح العدل الإسلامي، وما ابتنت عليه سياسة الحكم والإدارة في الإسلام وإلى استبداده بالأمر، وعدم اعتنائه بنصيحة الصحابة من المهاجرين والأنصار، وكان في طليعة من أضرم عليه نار الثورة، وحرك الناس وهيجهم عليه جماعة من الصحابة كطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة(2).
نعم يذكرون حنق اليهود والمجوس على الإسلام، ثم يحملون على شيعة أهل البيت، يجعلونهم هدفاً للإفتراء والبهتان، وينسون احتراق قلوب المنافقين الذين قتل آبائهم وأقاربهم المشركون، في غزوة بدر وغيرها، ودخلوا في الإسلام كُرهاً، ولم يذهب بالإسلام حقدهم وحنقهم على نبي الإسلام وعلى بطله المجاهد الإمام علي. مثل أبي سفيان، ومعاوية، والحكم وابنه مروان، وعبداللّه ابن سعد بن أبي سرح، والوليد بن عقبة، وغيرهم ممن اندرجوا في حاشية عثمان وكانوا معتمدين عنده، فهو لا يدخل في أمر ولا يخرج عن أمر إلّابمشورة هؤلاء.
إي واللّه حفظ هؤلاء، شيئاً وغابت عنهم أشياء!ة.
ص: 273
الإستعمار والإلحاد يريدان القضاء على الفكر الشيعي في المناطق الشيعية، وعلى الفكر السني في المناطق السنية؛ لأنّهما أرادا القضاء على الفكر الإسلامي والشعائر الإسلامية، وتاريخ الإسلام ومناهجه، والتزام المسلمين شيعة وسنة بأحكام القرآن، وحلاله وحرامه.
وهؤلاء عوضاً عن أن يؤيّدوا مواقف الشيعة قبال أعداء الإسلام، ويزوّدوهم ويلتحقوا في صفوفهم، ويقدروا جهادهم ونضالهم يأتون بأُسطورة عبداللّه بن سبأ الموهوم، والبهتانات التي يكذّبها التاريخ، يساعدون بكل ذلك الإستعمار، ويضربون المسلمين بعضهم ببعض، ويفتحون باب الجدال والنزاع.
فياليتهم كانوا قد قصروا عداءهم وحقدهم على الشيعة فقط، وتركوا إعلان ما في سرائرهم من العداء لأهل البيت، والولاء لظالميهم أمثال معاوية ويزيد.
فواللّه إنّكم إن لم تكونوا مرتزقة تعملون لأعداء الإسلام! ولا تريدون غير خدمتهم، وكنتم تقصدون بكتبكم الممزّقة للأُمة خدمة طائفتكم، وإرشاد أبنائها فأنتم من أجهل الناس بواقع الأُمور، وما يجري في العالم الإسلامي المعاصر.
حفظتم ما ورثتم من أسلافكم من حب معاوية، وعمرو بن العاص، والوليد بن عقبة، وبسر بن أرطاة، وأمير مؤمنيكم يزيد بن معاوية، والوليد وغيرهم من مبغضي أهل البيت، وناصبي العداء لعلي عليه السلام والحرب عليه، وذلك من أظهر الأدلّة على نفاقهم ومروقهم لقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله: (يا علي، لا يحبّك إلّا مؤمن، ولا يبغضك إلّامنافق).
حتى قلتم: إنّ الرجل لا يكون من أهل السنة إلّاأن يكون فيه شيء من بغض علي عليه السلام، وضيّعتم مودة أهل بيت نبيكم التي فرضها اللّه عليكم في القرآن،
ص: 274
وحث الرسول صلى الله عليه و آله عليها، وأكّدها في الروايات المتواترة، وأمَرَ الأُمة بالتمسّك بهم، وجعل التمسّك بهم أماناً من الضلال والإختلاف.
حفظتم بولائكم لآل أبي سفيان، وآل مروان، وقلتم بشرعية حكوماتهم وحكومات ملوك بني العباس كالمنصور، وهارون، والمتوكل، وحكومات غيرهم من الجبابرة الذين لا فرق بينهم، وبين جبابرة سائر الأُمم إلّاأنّهم سمّوا أنفسهم: أُمراء المؤمنين، وأنتم وعلماء السوء قبلكم لم تأمروهم بالمعروف ولم تنهوهم عن المنكر، بل صوّبتم أفعالهم وأعمالهم التي سوّدت صحائف تاريخ الإسلام، وقلتم بوجوب إطاعتهم، وحرمة الخروج عليهم، ونسيتم أنّ الإسلام وشريعته لايرتضيان مثل هذه الحكومات.
لأنّ الإسلام جاء لإحياء العدل، وإماتة الجور والإستضعاف، وإزالة الإستبداد، وقد أمر الناس بأن يخرجوا من ذل حكومة المستعبدين إلى عز حكومة اللّه، جاء الإسلام معلناً حرية الناس، وأبطل الملوكية والكسروية والقيصرية، والحُكّام الذين تدعونهم أُمراء المؤمنين كان أكثرهم شراً من الأكاسرة والقياصرة في الجور والإستبداد، والإسراف والاشتغال بالملاهي والمناهي والمعازف.
فأنتم شوّهتم تعاليم الإسلام الراشدة في الحكومة، وولاية الأُمور إذ صوّبتم استمرارية حكومات لا ينسى التاريخ جرائمها وجناياتها، ومظالمها على العباد، ووددتم أن تكتب سيرتها وتاريخها سيما تاريخ مثل يزيد بن معاوية وهارون بالذهب.
فواقعة مثل واقعة الحرة وواقعة الطف، وقتل سيّد شباب أهل الجنة،
ص: 275
وضرب الكعبة بالمنجنيق، وما وقع في عصر بني أُمية وبني العباس من هتك الحرمات، والغدر والخيانة، والحروب الدامية، وتعطيل الأحكام، الجدير عندكم بأن يكتب بماء الذهب.
فهنيئاً لكم يا كُتّاب (الخطوط العريضة) و (الشيعة والسنة) و (حقائق عن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية) وناشري (العواصم من القواصم) وجزاكم اللّه تعالى حين يجازي معاوية، وعمرو بن العاص، ويزيد ومسلم بن عقبة، والحصين بن نمير، والمتوكل وغيرهم من مبغضي الإمام علي عليه السلام، وحشركم اللّه معهم، وفرّق بينكم وبين أهل بيت الرسالة والنبوة بحبّكم لأعدائهم، والمرء مع من أحبّ.
نعم أنتم لا تفهمون كل ذلك، ولا اعتداد بكم بعدما أدرك ذلك كثيرون من علماء أهل السنة، ودافعوا عن الإسلام ومناهجه وتعاليمه، ووقفوا في وجه هذه الحكومات حتى لا يزعم جاهل أن الإسلام أتى بها، وأن مناهجها كانت إسلامية، وإنّ أنظمتها كانت مما يقرّه الإسلام، وأوضحوا - وإن كان الأمر في نفسه - في كمال الوضوح أنّ هذه الحكومات لم تكن سائرة على جادة الحق، ولا على مناهج الإسلام في السياسة والحكومة، والتعليم والتربية.
ولعمر الحق! إنّ هذا واجب على كل من يدافع عن الإسلام، ومناهجه العادلة الراشدة.
وأيضاً لما رأيتم أيّها النصاب، ومصوّبي أعمال معاوية ويزيد، ومسلم بن عقبة والحجّاج، وغيرهم من الجبابرة، أنّه لا يمكن الدفاع على ضوء العلم والمنطق عن هؤلاء وأمثالهم، وعما صدر عن أسلافكم من الجرائم، والجنايات، وسفك الدماء بغير حق، تشبّثتم تارة بحديث رويتموه عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: لا
ص: 276
تمس النار مسلماً رآني أو رأى من رآني(1).).
ص: 277
وأُخرى أتيتم بقول منكر مخالف لصريح الكتاب والسنة، وما في أصح كتبكم في الحديث فقلتم: (إنّ الصحابة كلهم عدول) ما قصدتم بذلك إلّاتعديل فسقتهم وظلمتهم، والمنافقين الذين أخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن ارتدادهم في أحاديث الحوض.
فجمعتم بين المتناقضين الفسق والعدالة، وبنيتم بزعمكم سدّاً وحُصناً بينهم وبين الباحثين في التاريخ، وعمّا جرى على الإسلام والمسلمين في عصر الصحابة والتابعين، ونسيتم أنّ فسق جماعة منهم ثابت بالتاريخ والأثر الصحيح، وأنّ القرآن المجيد ناطق بنفاق جمع من الصحابة في غير واحدة من الآيات، وأنّ أحاديث الحوض الصحيحة صريحة في ارتداد جماعة من الصحابة.
نظراً لكل ذلك، فإنّ ما قلتموه لا يقنع الباحثين، ولا يمنعهم عن البحث والتنقيب، ولا يخفى على العلماء المحقّقين ما أردتم إخفاءه سيما ما جرى على
ص: 278
أهل البيت من ظالميهم.
فلا يمكن للجيل المسلم المثقّف، والباحثين المنصفين أن يستعرضوا تاريخ الإسلام دون أن يقرأوا مثل حديث يوم الدار أو يقرأوه ولا يفهموا معناه من التنصيص على خلافة الإمام علي عليه السلام.
كما أنّه لا يمكن أن يقرأوا تاريخ عصر الصحابة، ولا يعرفون منه شيئاً، ولا يدركون مغزى الأحداث التي وقعت قبيل ارتحال الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله من واقعة غدير خُم التاريخية، ومنع بعض الصحابة النبي صلى الله عليه و آله عن الوصية، وكتابة ما لا تضلّ الأُمة بعده أبداً، فقال في رسول اللّه ما قال... وما وقع في السقيفة مما أدى إلى الإستبداد بالأمر دون أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله وبني هاشم، ثم منعهم السيّدة الزهراء عن حقها في فدك حتى ماتت وهي غاضبة، تمسّكاً بحديث نسب إلى النبي صلى الله عليه و آله، مع أنّهم قالوا حين أراد الرسول صلى الله عليه و آله أن يكتب وصية لا تضلّ الأُمة بعدها أبداً: حسبنا كتاب اللّه، ومنعوا الأُمة عن كتابة الحديث وحفظه بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله.
مع أنّهم لم يردُّوا على الخليفة الأول حين أراد الوصية في مرض موته ولم يقولوا: إنه يهجر، وحسبنا كتاب اللّه، بل كتبوا وصيته للخليفة الثاني قبل أن ينص هو على ذلك، وكان مغمىً عليه.
كما لا يمكن أن يمنع الباحثون عما حدث في عصر عثمان حتى كتب بعض الصحابة إلى بعض، ودعوا الغائبين عن المدينة أن اتركوا محاربة الكفّار وتعالوا إلى المدينة للنهي عن المنكر، ودفع ما وقع من الأحداث.
وقد أسفرت تلك الحوادث عن الثورة التاريخية على السلطة التي صارت
ص: 279
أُلعوبةً بيد بني أُمية الذين داسوا على أحكام الإسلام في الحكومة والولاية والمال، واستهزؤوا بأحكام اللّه تعالى مما دفع المسلمين إلى النهوض للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستخلاص الحكم من أيدي أمثال مروان، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، ومعاوية بن أبي سفيان.
فطلبوا أولاً من الخليفة الرجوع إلى الكتاب والسنة، و إبعاد هؤلاء سيما مروان عن التدخّل في أُمور المسلمين فلم يقبل منهم، وبقي جاداً على أفعاله بل اشتدّ البلاء وأصرّ الخليفة على سيرته التي لا يرتضيها الصحابة إلّامن كان منهم في حواشي بني أُمية أو من زمرتهم.
وكان ممن نقم على الخليفة، وحرّض عليه غاية التحريض أُمّ المؤمنين عائشة، وطلحة والزبير، وغيرهم من الصحابة حتى انتهت هذه الحركة بقتل عثمان بعدما كان أمير المؤمنين علي عليه السلام من أشد المدافعين عنه، وأخلص نصحائه، وبعدما استقر الأمر وسكنت الإضطرابات، وسكتت أصوات الثائرين بعد تمامية البيعة والولاية لعلي عليه السلام، ولم ينل بعض الثائرين والناقمين على عثمان كأُمّ المؤمنين عائشة، وطلحة والزبير، ما أرادوا من تهييج الناس على عثمان الذي انتهى بقتله أخذوا. ويا للسخرية يطالبون بدمه، والإقتصاص من قتلته، فنكث طلحة والزبير بيعتهما وخرّجا بأُمّ المؤمنين عائشة إلى البصرة، وفتحوا على المسلمين أبواب الحروب الداخلية، وتتابعت الأحداث والفتن، وتغلّب على بلاد الإسلام وأُمور المسلمين ولاة وحُكّام لم يقلّ استبدادهم واستضعافهم المسلمين عن الأكاسرة والقياصرة، وصار ما صار، وآل الأمر إلى ما آل من قضاء على الإسلام، وتمزيق للمسلمين، وديارهم، وتسليط أعدائهم
ص: 280
عليهم.
ومع هذا كله لا يمكن مطالبة المسلم الباحث بأن يصوِّب أعمال هؤلاء مع أنّ التاريخ حفظ من هذه الأحداث وآثارها المخزية ما حفظ، كيف يمكن في هذا العصر عصر الكتابة والطباعة، والقضاء على الأُمِّيَّة منع جيلنا المسلم عن مطالعة التاريخ، وعن البحث في هذه الأحاديث، والسؤال عما كان ورائها، وعمن كان المسبّب لها، والمحقّق لمآسيها وفظائعها.
فلو فرض محو اسم الشيعة وكتبهم ومعارفهم عن صفحة الوجود فلا يقتنع الباحثون المعاصرون بقراءة التاريخ من غير تدبير ومعرفة، ولا يمكن منعهم عن ذلك، كما لا يمكن إقناعهم بحمل كل ذلك على الإجتهاد وصدوره عن نيات صادقة خالصة.
إذ لا يمكن أن تكون نتيجة النيات الخالصة هذه الفتن الكبيرة والحروب الدامية، ولا سبيل لكم أيها المغرضون إلّاترك تضليل الناس وإلّا دعوتهم إلى الكتاب وسيرة الرسول وسنته، وأن لا تزيدوا على ما قرره الرسول صلى الله عليه و آله شيئاً من وجوب القول بعدالة الصحابة، وشرعية الحكومات التي غلبت على الأُمور، وحتى كأتباع سيرة الشيخين الذي ابتدعه ابن عوف، وردّه الإمام علي عليه السلام، وخسر ثمن قبوله الذي ما كان أغلى منه عند أهل الجاه والرئاسة وطلّاب الحكومة وهو إمارة المسلمين، وقبله الخليفة الثالث ثم لم يعمل في حكومته لا بسيرة النبي صلى الله عليه و آله ولا بسيرة الشيخين.
فعليكم أن تجدّدوا النظر في رأيكم في هذه الحكومات، ومن استبد على ولاية أُمور المسلمين إلى هذا العصر، فلا تعرّضوا هذه المسائل وغيرها إلّاعلى
ص: 281
الكتاب والسنة، وسيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، أو اجعلوا ذلك رأياً واجتهاداً منكم، ولا تطالبوا الباحثين المنصفين أن يوافقوكم فيه على رغم ما تؤدي إليه بحوثهم ويعرفونه من الروح الإسلامي، وعدله ومناهجه في الحكم.
ولا تجعلوا ذلك مانعاً عن التقريب والتجاوب وتحقيق الوحدة الإسلامية، ولا تفرّقوا كلمة المسلمين، فالباحثون والجيل المثّقف ورأيهم واجتهادهم، وأنتم يا مقلدة علماء السوء الذين باعوا دينهم بدنيا أُمراء الجور ورأيكم.
نعم احتفظتم بعدائكم لشيعة أهل البيت، ولما وقعتم في العجز أمام قوة أدلّة الشيعة من الكتاب، وصحاح الأحاديث الدالّة على أن النجاة منحصرة في التمسك بعترة النبي صلى الله عليه و آله وأهل بيته، والأخذ عنهم والرجوع إليهم، وأنّهم سفن النجاة، وأنّ الحق يدور معهم، وأنّهم والكتاب لن يفترقا حتى يردا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله الحوض، وأنّ حربهم حرب رسول اللّه، وسلمهم سلم رسول اللّه، وأنّ من سلك طريقاً غير طريقهم زُجّ إلى النار، افتريتم عليهم بأنّهم يقولون (العياذ باللّه) إنّ الأئمة أفضل من رسول اللّه صلى الله عليه و آله، أو أنّهم آلهة، أو أنّهم يقولون بعد تسليمهم في الصلوات «خان الأمين(1)» يريدون أمين وحي اللّه تعالى والملك المقرّبة.
ص: 282
ص: 283
(جبرئيل عليه السلام) أو أنّ لهم قرآناً غير هذا القرآن، أو أنّهم يكفِّرون جميع الصحابة من افتراءات لا خلاف بين الشيعة في كفر من قال بواحد منها، أو أنكرتم عليهم ما يثبتون من الفضائل والمناقب والكرامات والعلوم لأهل البيت عليهم السلام مما ثبت بالأثر الصحيح وشهد بكثير منها، وأخرجها جماعة من أعلام أهل السنة ممن يطول بنا الكلام بسرد أسمائهم حتى أنّ جمعاً منهم صنفوا في ذلك كتباً مفردة.
أو أخذتموهم بعقائدهم الصحيحة التي تعتقدونها أنتم إن كنتم من أهل السنة (ولستم منهم) كالتقية التي نزل بها القرآن الكريم.
أو أخذتموهم بآراء وأقوال لم تحصلوها، وما دريتم قولهم فيها أو دريتم وتجاهلهم كالرجعة(1) والبداء(2) ، وقلتم فيها ما تريدون، وتركتم النظر حول هذهى.
ص: 284
المسائل، ولم تكلفوا أنفسكم النظر في أدلّتهم من الكتاب والسنة، فأوَّلتموها بمزاعمكم ليكون لكم عذر عند العوام والجهّال حتى لا يسألوكم عن حقيقة ما يقوم عليه مذهب شيعة أهل البيت.
فإنّ السؤال إذا وصل إلى هنا لا يمكنكم أن تدفعوا الناس عن الميل إلى مذهب أهل البيت وإلى التشيّع؛ لأنّ مذهبهم اقتصر على الأخذ عن أهل البيت والتمسّك بهم دون غيرهم، كما قال أبان بن تغلب: إنّ الشيعة هم الذين إذا اختلف الناس عن النبي صلى الله عليه و آله يأخذون بقول الإمام علي عليه السلام، ويتركون غيره من الأقوال(1).ه.
ص: 285
والبحث والتنقيب إذا كان للوصول إلى الحقيقة ينتهي إلى مذهب الشيعة كما ترى ذلك في كتب جماعة من رجالات العلم من المتقدمين، والمعاصرين من أهل السنة في مسائل كثيرة، فبعضهم صرح بما ينتهي إليه البحث في ضوء علمي، وبعضهم إن لم يصرّح فلقد أورد البحث وأتمه على نحو يلتفت من يقرأه إلى نتيجة بحثه.
ولا يقبل المسلم المثقّف، والجيل المعاصر ما ذكره بعض السلف من أعذار مختلقة للأحداث التي وقعت بعد ارتحال الرسول الأعظم إلى الرفيق الأعلى، فترى مثل سيد قطب لا ينكر سوء سيرة عثمان وضعف سياسته، وما خسر المجتمع الإسلامي به في كتابه (العدالة الإجتماعية) ويعظّم نهضة الإمام الحسين عليه السلام وقيامه لحفظ الإسلام غاية التعظيم، يذكر عمله مع عمل إبراهيم الخليل النبي العظيم عليه السلام في تفسيره.
ولعلّك لا ترى من الكُتَّاب المثقُفين من يدفع عن سيرة معاوية، وعمرو بن العاص، ويزيد بن معاوية، ويحمل أفاعيلهم المنكرة وأفاعيل أمثالهم على الإجتهاد، فأمر هؤلاء صار أوضح من أن يخفى على الباحث المنصف، وكلما قلت العصبيات زاد الأمر وضوحاً إلى أن يقطع اللّه دابر المنافقين.
ومع ذلك كلّه نحن لم نطلب في (مع الخطيب) وفي سائر كتبنا حول الدعوة إلى الوحدة الإسلامية من هؤلاء الذين جعلوا شعارهم الدعوة إلى التفرقة
ص: 286
والإختلاف إلّاالإعتصام بالوحدة الإسلامية، وأن لا يغالوا في ولاء المنافقين الذين أظهر آثار النفاق فيهم بغضُهم الإمام علي عليه السلام، وعداءهم لأهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس، وأمرنا الرسول الأعظم بالتمسّك بهم، وأن يأخذوا بالروابط الأصلية الإسلامية التي تربط بين جميع الفرق والمذاهب.
فلا يحكموا بكفر من صرّحت صحاح الأحاديث، وسيرة الرسول وسيرة أصحابه على إسلامه؛ لأنّه يتمسّك بأهل بيت النبي صلى الله عليه و آله ويأتمّ بهم، ويقتدي بهداهم وسيرتهم، ويتبرء من أعدائهم، ولا يقول بأنّ الصحابة - حتى من ثبت فسقه بل ارتداده بالأثر الصحيح - كلهم عدول، بل يحكم على كل منهم بما يحكم عليه التاريخ، ويؤدي إليه اجتهاده.
فإذا أنتم لا تكفرون قتلة عثمان ومن شرك في دمه، وأثار الفتنة عليه كأُمّ المؤمنين عائشة وطلحة والزبير، وعمار وغيرهم، ولا تفسقونهم كما لا تفسقون عايشة وطلحة والزبير، ومن كان معهم في وقعة الجمل، وتحملون كل ما صدر عنهم على خطأهم في الإجتهاد، وتقولون للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد، وتقولون بوجوب إطاعة أمير مؤمنيكم مروان، وهو الذي قتل طلحة يوم الجمل، وكان طريد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ولعينه، وقد أسلم عام الفتح إسلام الطلقاء، وهو الذي كان من وراء الأحداث التي أثارت المسلمين على عثمان.
فَلِمَ تكفرون وتفسقون إذن من أدّى اجتهاده إلى فسق بعضهم أو نفاقهم؟ ومن أين جئتم بأنّ الإيمان بشرعية حكومة جبابرة هذه الأُمة، ووجوب إطاعتهم وإطاعة ولاتهم داخل في الإيمان؟
ولِمَ لا يجوز الحكم بفسق من شهد التاريخ، والأثر الصحيح، والأحاديث
ص: 287
المعتبرة بفسقه.
وهل أنّ هذه الآراء جاءت إلّامن قبل السياسات التي سلبت حرية التفكير الديني عن المسلمين بعد عصر الرسالة؟
وإلّا فهذه فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه وحبيبته سيّدة نساء العالمين، وسيّدة نساء أهل الجنة المطهرّة عن الرجس بحكم آية التطهير، ماتت وكانت عقيدتها ورأيها عدم شرعية حكومة أبي بكر، وماتت غاضبة على الشيخين فمن كانت عقيدته عقيدتها لا يؤاخذ بها، ونفس هذه العقيدة كانت عند غيرها ممن امتنع عن البيعة لأبي بكر.
ومن جانب آخر فهذه أُمّ المؤمنين عائشة حاربت علياً الذي قال النبي صلى الله عليه و آله في حقه: «علي مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيثما دار»، وقال:
«من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»، فحدثت من جراء ذلك في الإسلام فتنة كانت هي كالأساس لجميع الفتن التي حدثت بعدها إلى يومنا هذا.
ومع ذلك فأنتم تفضّلونها على سائر أُمهات المؤمنين(1).5.
ص: 288
ص: 289
فلِمَ تؤاخذون من يؤدي به اجتهاده إلى الحكم على عائشة بأنّها خالفت رسول اللّه بخروجها على الإمام، وأنّ اللّه سائلها عن هذه الدماء التي أُريقت في وقعة الجمل، وما بعدها من صفّين والنهروان؟
والحاصل: نحن نطالبكم أن لا تُدخلوا في الدين ما ليس منه، فقد عرف اللّه تعالى في كتابه والنبي صلى الله عليه و آله في سنته الإسلام وحدوده، وما به يخرج المرء عن دينه، ولا يوجد فيها شيء مما اعتبرتموه أنتم عناداً وعصبية خروجاً عن الدين.
فعدم الإيمان بشرعية بعض الحكومات، وبصحة إيمان أبي سفيان وابنه معاوية، والوليد بن عقبة، وبسر بن أرطاة، وغير ذلك مما تنقمون بسببه على شيعة أهل البيت عليهم السلام ليس خروجاً عن الإسلام، وقد أفردنا رسالة خاصة كتبناها حول حديث افتراق الأُمة وما هو الميزان في النجاة، وأنّ شيعة أهل البيت أخذت بكل ماله دخل في الإسلام، وسبب للنجاة عند أهل السنة والجماعة.
ومن جهة أُخرى: فهذه الأُمور التي تأخذونها على شيعة أهل البيت
ص: 290
ومتبعي سبيلهم ومذهبهم، وتجعلونها مانعاً من التقريب واعتصام الأُمة بالوحدة الإسلامية، لم يبق لها في هذه العصور أثر عملي في اتجاهاتكم السياسية والإجتماعية، وإنّما هي آراء وتفكيرات أنتجتها السياسات الغاشمة، وأنتم تتبعون سلفكم فيها، فلا معاوية ولا يزيد، ولا الوليد ولا المنصور، ولا هارون ولا الحجّاج ولا مسلم بن عقبة، ولا بسر بن أرطاة ولا زياد بن أبيه وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة أُمراء مؤمنيكم، وولاة أُموركم حتى تلتحقوا بصفوفهم، وتحاربوا معهم الإمام علياً، والإمام الحسين، وشيعتهم من الصحابة مثل سلمان، والمقداد وأبي ذر، وعمّار وحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق، وأُلوف من الصحابة ممن كانوا في حزب علي، ومعه في واقعة الجمل، وصفّين والنهروان، وتقتلوهم.
والتفكير الشيعي أيضاً عقيدة وفكر لا يخرج في حقيقته عما يعتبر في الإسلام مما دلّت عليه صحاح أحاديثكم.
نعم.... إنّه فكرة وعقيدة تجيء طبعاً من مراجعة الأحاديث الصحيحة المتواترة، ومن مطالعة تاريخ الإسلام، والبحث والتنقيب في سيرة الرسول وأهل بيته وأصحابه، وفي سيرة من تولّى الأمر بعده، وما أثُر في مسير التاريخ وظهور الحكومات في العالم الإسلامي، وسيرة الحُكّام المخالفة لتعاليم الإسلام الرشيدة في الحكم والإدارة، وحساب هؤلاء على اللّه تعالى.
وأنتم على عقيدتكم ورأيكم فيما تقولون فيهم من أنّهم كانوا فيما فعلوه وأحدثوه متّبعي هوى الإسلام، لم يريدوا بما فعلوا رئاسة وسلطاناً ولا جاهاً دنيوياً، وما مخالفتهم لأمر الرسول صلى الله عليه و آله واستباحتهم الدماء المحقونة وتحليلهم
ص: 291
الحرام وتحريمهم الحلال إلّالرأي رأوه واجتهاد أدى بهم إلى ذلك.
أنتم وشأنكم قولوا ما شئتم، واحكموا أو تحكموا بالتاريخ كما يحلو لكم، فنِعم المجتهدون مجتهدوكم: معاوية، وعمرو بن العاص، وبسر بن أرطاة، ووليد بن يزيد، وسمرة بن جندب، وحصين بن نمير، ومروان وغيرهم.
فنعمت الحصيلة حصيلة اجتهادهم: الإستبداد بأُمور المسلمين، وقتلى الجمل وصفّين ومرج عذراء، وأمارة يزيد، وقتل الإمام الحسن السبط الأكبر وأخيه الإمام الحسين ريحانتي رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وقتل غيرهم من أهل بيت الرسول وأصحابه، وقتل مالك بن نويرة، ونكاح زوجته قهراً قبل انقضاء عدّة الوفاة، ونفي أبي ذر الذي قال رسول اللّه في حقّه ما قال(1) ، وغير ذلك من المنكرات.ر.
ص: 292
فأنتم ورأيكم في هذه الأُمور، ولكن لماذا تطلبون ممن أدى اجتهاده إلى خلاف اجتهادكم في أصحاب هذه الأحداث ترك اجتهاده، ولا تحترمون اجتهاده فيهم كأنّه ارتكب كبيرة من الكبائر.
وإذا كان من الجائز أن تحمل أعمال هؤلاء، وحروبهم، وقتلهم النفوس، وبغضهم للإمام علي عليه السلام الذي كان بغضه من أظهر آثار النفاق، بل يعد في عهد الرسول صلى اللّه عليه وآله من علائم خبث الولادة، على الإجتهاد، وإذا أنتم تعذرون معاوية، وقلتم بأنّه مجتهد مخطئ لا ذنب له مع أفاعيله المنكرة الموبقة الجسيمة، وقد سنّ سب أخ الرسول، ومن هو بمنزلة نفسه على المنابر، وتحملون جميع ما صدر عنه، وعن أتباعه من بني أُمية، وغيرهم على الإجتهاد لا تفسقون واحداً منهم.
لماذا لا تحترمون اجتهاد من أدى اجتهاده إلى ما كان تراه فاطمة سيّدة نساء العالمين والإمام علي، وأبوذر والمقداد وعمار، ووجوه الصحابة الذين رأوا وجوب الجهاد ضد معاوية وقتله وقتل أصحابه حلالاً، وكانوا يتقرّبون إلى اللّه بذلك وبالبراءة منه؟
فإذا كانت السيّدة فاطمة المطهرّة عليها السلام وبنو هاشم وغيرهم ممن امتنع عن بيعة أبي بكر مجتهدين، فالذي يرى رأيهم في ذلك عذره أولى بالقبول.
مضافاً إلى أن الرأي بشرعيتها لا يدخل أحداً في الإسلام كما أن القول بعدم شرعيتها لا يخرج أحداً عنه، فتلك المسائل والعقيدة بشرعية الحكومات التي تولّت الأُمور بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ليست من أُصول الدين، ولا يخرج أحد بإنكارها عن الإسلام، كما لم يخرج المسلمون الأولون بذلك عنه.
ص: 293
فمن لم يعرف أصحاب هذه الحكومات، ولم يسمع باسمهم لا يسئل عن ذلك في القيامة أصلاً ولا يجوز لكم أن تعرضوا على الناس عند عرض الإسلام وأُصوله وأهدافه شرعية حكومة هؤلاء أو اتّباع سيرتهم أو الإيمان بعدالتهم إلّا إذا كنتم تريدون أن تزيدوا ذلك على ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله.
فمسألة (الصحابة كلهم عدول) ليست من أُصول الدين وفروعه بشيء، ولا مدخلية لمثل هذه مما نسجته يد السياسة الأثيمة، ومبغضي أهل البيت عليهم السلام في إسلام المسلم أصلاً، ولا يجوز تكفير المسلم أو تفسيقه إذا رأى غير ذلك مع التزامه بأحكام الإسلام من الصلاة، والصيام، والحج والزكاة، وغيرها، وتركه ما حرّمه اللّه تعالى في كتابه وسُنّة رسوله.
وكل باحث في تاريخ الإسلام إذا كان منصفاً يعرف أنّ الأصل في إدخال هذه الأُمور في الدين، ما كان إلّاسياسة الحُكّام الذين قلّبوا الإسلام ظهراً لبطن، حتى قال أبو الدرداء: «واللّه لا أعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه و آله شيئاً إلّاأنّهم يصلّون جميعاً»(1).
وقال أنس: «ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي صلى الله عليه و آله، قيل: الصلاة قال: أليس ضيّعتم ما ضيّعتم فيها؟»(2).
ولكنّهم منعوا بكلمتهم (الصحابة كلهم عدول) الأُمة عن البحث والتنقيب حول ما شجر بين الأولين لما رأوا أنّ ذلك يؤدي إلى معرفتهم ما لا يحبون،ا.
ص: 294
ويحتم عليهم النزول عن عروشهم الإستبدادية، وينتهي إلى الحكم بعدم شرعية حكوماتهم، وجعلوا هذا كبعض الأُمور التعبديّة، الذي لا يجوز لأحد أن يسأل عنه لعدم اهتداء العقل إلى حقيقته، فلا يجوز لأحد أن يتكلّم في صحابي، ولو كان بسراً، والمغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب، والوليد بن عقبة، بل ولا في من رأى صحابياً، ولو كان هو الحجّاج أو مسلم بن عقبة. وأما إذا كان ممن اعتلوا عرش الحكم واستبدّوا بمقدّرات الأُمة، فلا يجوز القدح في أعماله أصلاً؛ لأنّ على الأُمة إطاعة الولاة؛ ولأنّهم (العياذ باللّه) صنائع الإسلام، ومطبّقوا مناهجه السياسية، فلا يجوز لأحد أن يقف أمام مواقفهم السياسية حراً، وينظر إليها بعين الفهم والعقل، والمحاكمة الواعية.
لأنّ هذا يسفر طبعاً عما لا يناسب ما اتخذوه عقيدة في بعض الصحابة، كأنّ الإسلام مع ما في كتابه من الآيات الكثيرة في منافقي الصحابة، ومع ما أخبر النبي صلى الله عليه و آله في أخبار الحوض عن ارتداد ملأ منهم قد سنّ للصحابة قواعد غير ما سنّه لسائر أبناء الأُمة.
وما أدري إلى متى ستستمر أمثال هذه المجادلات؟ ومتى ينتهون من الوقوف في وجه تبصر الأُمة وتيقّظها؟ وإلى متى يسدّون أسماعهم عن نداءات الوحدة الموجّهة من مصلحي الأُمة، وزعماء المسلمين من الشيعة والسنة؟ ومتى يمتنعون عن خيانة الإسلام والمسلمين بمقالاتهم وكتاباتهم الممزّقة لشمل الأُمة؟
نحن لا نحب معارضة ما كتب كاتب (الشيعة والسنة) وغيره عن الشيعة، وما أخذوه عليهم من الكذب والبهتان، ولو شئنا لكتبنا نحن صدقاً وواقعاً
ص: 295
أضعاف ما قاله هؤلاء عن الشيعة، فإنّ ما في كتبهم المعتمدة المشهورة من فضائح أعمال كثيرة من هؤلاء حتى قضاتهم مثل: يحيى بن أكثم، وابن أبي داود، وما قاله علماؤهم في الجرح والتعديل في أمثال: ابن حزم، وابن تيمية، وأبي حنيفة وغيرهم، من المطاعن ما يتعسّر استيعابه، فمن أراد معرفة ما قيل في هؤلاء فليراجع كتب أهل السنة في التاريخ والتراجم.
نعم إنّنا لن نملأ كتابنا بذكر مساوئ هؤلاء، فحسابهم وما فعلوا، وما أفتوا به، ودم من قتل بفتاويهم في الفتن التي وقعت بين الأُمة: كفتنة اختلافهم في خلق القرآن، واختلاف أتباع المذاهب، والصدمات الدموية التي وقعت نتيجة هذا الإختلاف على اللّه تعالى، وهو الذي يجازيهم عليه، ولسنا بحاجة لأن نخوض في هذه الأُمور بعدما كان معنا من الآيات الكريمة، والأحاديث المتواترة ما يدلّ على صحة مذهب الشيعة، وبعدما قام بكشف فضائح جماعة من هؤلاء علماء أفذاذ من أهل السنة، فكَفَوْنَا هذه المهمة.
فإن أردنا أن نستشهد بخيانات الأُمراء والوزراء، والحُكّام وعلماء السوء، ومحبّي الجاه والرئاسة، وراجعنا التاريخ للكشف عنهم لما وسعنا الوقت، لأنهم أكثر من أن يستقصى ذكرهم، وشرح خياناتهم في كتاب وكتاب وكتاب، وإن جاء إحسان ظهير بواحد من المتسمّين بالشيعة، ورماه بالخيانة نقابله بالمئات بل بالأُلوف من المتسمّين بالسنة.
فإن كنت تقول: يا إحسان ظهير! إن پاكستان الشرقية ذهبت بزعمك في أيدي الهندوس ضحية، بخيانة يحيى خان الشيعي، فماذا أنت قائل عن فلسطين، ذهبت ضحية بأيدي اليهود بخيانة من؟ ولماذا لا تقول بأنّ مجيب الرحمن
ص: 296
وحزبه الذين تولّوا الهندوس، وذهبت پاكستان الشرقية بسعيهم ضحية في أيدي الهندوس كانوا من الشيعة أو السنة؟ وأثرهم في انفصال الپاكستانيين كان أكثر أم يحيى خان؟(1)
وبماذا تُجيب لو سُئلت عن الحكومة العثمانية وبلادها الواسعة؟ وعن الذين تمزّقت بخيانتهم وذهبت ضحية في أيدي الكفّار؟ فطاغية تركيا الذي ألغىى.
ص: 297
الخلافة وأعلن اللادينية والإلحاد، ورفض شعائر الإسلام كان من الشيعة أو السنة؟
وبماذا تُجيب إذا سألوك عن هذه التفرقة الموجودة في البلاد الإسلامية التي هي الأساس لاستيلاء الكفّار على بلادنا، وشؤوننا جاءت من خيانة من؟
ثم إنّ هؤلاء الحُكّام الذين لا مقصد لهم إلّاالإحتفاظ بحكوماتهم وإماراتهم، والذين اتخذوا اليهود والنصارى والشيوعيين أولياء، وارتدوا عن الإسلام يحاربونه بكل سلاح بعد أن أهملوه إهمالاً تاماً، وأخذوا مكانه بالمبادئ العلمانية أهم من الشيعة أو السنة؟
فهل ترى سبباً لبقاء العدو في بلادنا وأراضينا، وأفكارنا غير خيانة الرؤساء؟
وهذه لبنان قد ابتُليت بالحروب الداخلية، وانْهار كل شيء فيها معنوياً وإنسانياً، واقتصادياً وعمرانياً، وأصبحت حواضرها خربة، والمسلمون يقتلون فيها بعضهم بعضاً، وقد أذاقهم اللّه لباس الجوع والخوف بخيانة من؟
نعم الشيعة تقول: لا دين لمن دان اللّه بولاية إمام ليس من اللّه كما تقول:
أثافي الإسلام ثلاثة: الصلاة، والزكاة، والولاية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا تعتقد أنّ للجبابرة نصيباً من الحكم والولاية والتصرّف في الأُمور، لأنّ الشيعي معتقد بنظام الإسلام السياسي، ولا يرى لغير اللّه ولا لأحكامه حكماً وحكومة، فمن لم يدِنْ بحكومة شرعية من اللّه لا اعتداد بعباداته وأعماله؛ لأنّ المجتمع إذا لم يقم على حكومة رشيدة صالحة تطبّق مناهج الإسلام في السياسة والقضاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا لم يكن الحاكم من الذين قال
ص: 298
اللّه فيهم: الذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وللّه عاقبة الأمُور(1) لا عبرة بالاعتناء بالتكاليف الفردية.
لأنّ ذلك لا يكفي في صلاح المجتمع، واستقامة مناهجه التربوية والمالية، والسياسية والإجتماعية، وحفظ النظام والأمن، كما أنّه على خلاف الغاية التي أرادها اللّه من بعث الرسل والأنبياء.
فإنّ اللّه سبحانه يقول: ولقد بعثنا في كل أُمة رسولاً أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت(2) من هذه الآية الكريمة نستفيد بأنّ أمر المجتمع الذي لم يكن حاكمه من اللّه، ولم تكن حكومته شرعية آيل لا محالة إلى عبادة غير اللّه، وإطاعة الطواغيت، وقد أمر اللّه الناس بأن يخلصوا إطاعتهم للّه في قوله تعالى: وما أُمروا إلّاليعبدوا اللّه مخلصين له الدين(3).
ومن هذا يظهر سر التأكيد على معرفة الإمام في الحديث المعروف: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) وسر تأكيد النبي صلى الله عليه و آله على إرجاع الأُمة إلى الأئمة من أهل بيته في الأحاديث المتواترة كحديث الثقلين.
والشيعة قد أخذوا بهذا المبدأ، فلا يرون لغير اللّه وغير أحكامه حرمة، وليس لمن استمدّ حكمه وحكومته من غير اللّه سلطان ولا حكومة، قال تعالى:
إن الحكم إلّاللّه أمر ألّا تعبدوا إلّاإيّاه ذلك الدِّين القَيِّم (4) ، وقال سبحانه: إنَّ هذه0.
ص: 299
أُمتكم أمةٌ واحدة وأنا رَبُّكُمْ فَاعْبدُونِ (1) .
هذا هو الأساس الذي يجب أن يرتكز عليه نظام الحكم في الإسلام، وهذا هو النظام الإسلامي الذي يجب أن ترتكز عليه أية حكومة تدَّعي الإسلام.
فهل تجد لهذه الحقائق في البلاد الإسلامية رسماً أو اسماً؟ ففي كل قطر ومنطقة حاكم ونظام يدعوان إلى أُسلوب في الحكم ليس من الإسلام في شيء.
فهل يجوز للمسلم في نظركم إطاعة الحاكم مهما كان، وأياً كان نظامه؟ وهل يجوز للمسلمين التسليم بالأمر الواقع حتى ولو كان في هذا الواقع إبقاء على تمزّق بلاد المسلمين إلى دويلات صغيرة ضعيفة؟ والأُمة المسلمة إلى شعوب لكل منها في محيطه الخاص عاداته وتقاليده وطرق تفكيره، لا يكاد يتحسّس آلام إخوانه في سائر الأقطار؟
فإذا كانت الأرض في نظر الإسلام كلها للّه، والأُمة الإسلامية أُمة واحدة كما صرّح بذلك القرآن، فيجب أن يكون حاكمها واحداً، وحكومتها واحدة، فما هو موقف حكّامنا من ذلك؟ وما هو موقفهم من رأي الإسلام هذا؟ وما داموا مسلمين، فلماذا لا يحقّقون كلمة الإسلام فيهم؟ ولماذا يصدّون الناس عن سبيل اللّه؟ ولماذا هذه الإمتيازات التي ليست من الإسلام وهم يؤثرون أنفسهم بها على سائر المسلمين؟!
وإذا كانت بلاد المسلمين كلها دار الإسلام وبها يتحقّق الوطن الإسلامي الكبير، فلماذا إذن هذه الحدود والحواجز، والجنسيات المختلفة؟ ولماذا لا2.
ص: 300
توزّع الأموال العامة على جميع المسلمين؟ ولماذا كان العكس من ذلك هو الحاصل فعلاً؟ فترى بعض أقطارهم يعاني من التخم، بينما أقطاراً أُخرى تعاني من الجوع؟ فلماذا هذه الإختصاصات، والإستيثارات؟
فما دمنا لم نجتمع تحت كلمة اللّه الواحدة وحزب اللّه الواحد ونظام واحد وجنسية واحدة، فما دمنا لم نرفض هذه المناهج والبرامج والنظم الكافرة التي جاء بها الإلحاد والعلمانية والإستعمار الفكري والمادي في بلادنا، وهذه الجنسيات التي مزّقنا الإستعمار بها، حتى جعل في كل قطر وإقليم حاكماً لحفظ مصالحه الإستعمارية، وحال بين المسلمين وبين تشكيل دولة واحدة، نعم... ما دمنا كذلك فهل يمكن أن يكون واجباً هناك أهم من توحيد المساعي لتشكيل دولة إسلامية واحدة ودخول الجميع في ولاية اللّه، وأن لا يدينون بولاية إمام ليس من اللّه؟
فماذا عملتم وماذا تعملون لتحقيق هذه الأهداف الإسلامية الأصيلة؟ كأنّكم يا أساتذة الجامعة لستم من أبناء هذا العالم المعاصر، ولم تطّلعوا على ما كتبه أبناء السنة المصلحون حول هذه المسائل، وكأنّكم تعيشون في عالم غير عالم المسلمين؟
أفما تلاحظون ما يجري على المسلمين وبلادهم وعليكم من الإستعمار وأذنابه؟ وكأنّكم لم تسمعوا بالنظم والمناهج السياسية والإقتصادية غير الإسلامية، بل الإلحادية التي تعرض على المسلمين من الشيعة والسنة صباحاً ومساءً في المدارس والجرائد والمجلات والكتب، ودور السينما ومحطّات التلفزيون، ولم تلاحظوا أيضاً أنّ شخصية الإنسان المسلم في جميع البلاد
ص: 301
أخذت تتغيّر وتتحوّل إلى شخصيات أُخرى غير إسلامية.
وكأنّكم لم تفكّروا فيما يحتاج إليه المسلم المعاصر، وما يجب أن يزوّد به من المعارف الإسلامية الأصيلة، والدراسات العميقة حول وجود (اللّه) تعالى الذي قام الإلحاد على إنكاره بأشنع الوجوه، ويعتبر الإعتقاد به من الرجعية، ومانعاً من التقدّم في مجالات الحياة الإجتماعية والصناعية وغيرهما، وحول نبوآت الأنبياء عليهم السلام سيما نبوءة سيّدنا محمد صلى الله عليه و آله، وحول معجزاتهم حتى أنّ الناشئة الجديدة وكبار مثقّفيكم ينكرون المعجزات المادية، أو إنهم يكتمون إيمانهم بتلك المعجزات وحول القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ألم تلتفتوا إلى ما يعمل ضد قدسيته؟ أو ما قرأتم الكتاب الخبيث الذي وضعه أخيراً المأجورون؟ وطبع في بعض البلاد العربية بنفقة المستعمرين والملحدين، وقد أنكر فيه واضعه كون القرآن وحياً، واستدلّ على صحة مدعاه حتى بآيات من القرآن المجيد، وبروايات كلها واردة في كتبكم(1) تتعامون عن كل ذلك، ثم تتسارعون على شيعي أثبت صيانة القرآن عن التحريف، واستنكر نسبة القول بالتحريف إلى الشيعة، وأتى بأقوى الأدلّة المثبتة لذلك، أو عداءكم للشيعة، ومعاندتكم للحق ادّى بكم إلى هذه الدرجة من التعامي؟ قال تعالى في كتابه العزيز:ء.
ص: 302
أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمّن لا يهدِّي إلّاأن يهدى فما لكم كيف تحكمون (1) .
ويبدو أنّكم غافلون عما يجري في بلاد المسلمين من العمل على إقصاء الشريعة الإسلامية من مسرح الحياة، وتطبيق أنظمة أُخرى في الحكومة والمال، والقضاء والتعليم والتربية التي ليست من الإسلام بشيء، ولعلّكم غافلون أو تتغافلون أيضاً عما انتهى إليه وضع شبّان المسلمين من التأثّر بالآداب الغربية الإستعمارية أو الشرقية الملحدة، ثم تتوجّهون بكل حماس للرد على دعوة مخلصة تستنهض المسلمين ليقوموا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص لدفع هذه الكوارث التي أصابتنا جميعاً.
وكأنّكم لم تقرأوا الكتب والصحف التي تدعو الفتيان والفتيات إلى الخلاعة والدعارة، وتحثّهم على رفض جميع الشعائر والآداب الإسلامية.
كل هذه المخاطر التي تهدّد الإسلام بالصميم، وتزلزل أُسس الدين وما أتى به سيد المرسلين محمد صلى الله عليه و آله غير مهمة في نظركم، ولا تستنهض همتكم، والمهم الوحيد عندكم أمر يزيد وأبيه، ومروان وهارون، والدفاع عن سيرهم ومخازيهم.
فما هو موقفكم من هذه التيارات، وماذا عملتم؟ واللّه تعالى يقول: وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون(2) غير نشر (الخطوط العريضة) و5.
ص: 303
(حقائق عن أمير المؤمنين يزيد) و (الشيعة والسنة) و (العواصم من القواصم) مع شرحه الخبيث؟ وبماذا تزوّدون الشباب الباحث عن دينه وعقيدته الإسلامية؟ وماذا عملت جامعة المدينة المنورة في هذا السبيل؟
فهذا شاب مسلم يأتي جامعتكم بواسطة أحد تلامذتها المثقّفين من الذين لم يتأثّروا أبداً بدعاياتكم الطائفية يطلب منكم بكل رجاء وأمل أن تزوّدوه بالكتب الإسلامية، وما يتمكّن أن يتخذه سلاحاً فكرياً في بلاده لتوحيد كلمة المسلمين، ودفع الدعايات الإلحادية والإرساليات التبشيرية وغيرها من المذاهب الكافرة، فإذا بكم تعطونه كتاب (العواصم من القواصم) وشرحه، وكتاب (الشيعة والسنة) المملؤان بالكذب والإفتراء والغلط والخلط، ولسان حالكم يقول لهذا الشاب ولأمثاله: دع الدعايات الكافرة تعمل عملها المدمّر في أفكار أبناء الأُمة، وتذهب بعقيدتك في التوحيد والنبوة، والقرآن والمعاد، والآداب الإسلامية.
افسح لها المجال في ذلك وعاد شيعة أهل البيت ومحبّي أصحاب الكساء، وقل فيهم كل ما تريد، واجعل ذلك شغلاً لطائفتك خاصة، ولأهل السنة عامة، شاغلاً لهم عمّا يتعرّض له الإسلام ممن يحاربه بلسانه ويده وقلمه، وقوته وماله، فلا ضير إن خسرنا في سبيل ذلك الإسلام وكتابه، بعدما نكون قد احتفظنا بشريعة أُموية يزيدية، وملة مروانية وليدية، ودافعنا عن شرعية حكومات أمثال معاوية ويزيد، ومروان وعبد الملك بن مروان، وغيرهم ممن نعرفهم من أصحاب المثل العليا في الحكومات الإسلامية.
هذا حاصل ما تؤدي إليه هذه الكتيبات، وهذه الإفتراءات وصيحات الزور
ص: 304
والبهتان، التي تقشعر منها الجلود، يكررونها واحداً بعد واحد كل يوم لا يصغون إلى أجوبتها، ولا يقرأون ما كتب في دفعها، ولا يلتفتون إلى نتائجها المخزية، حتى أن مؤلف (الشيعة والسنة) لم يأت بشيء إلّاتكرار ما قاله أسلافه، ولم يلتفت إلى الأجوبة الشافية التي كانت بين يديه في (مع الخطيب في خطوطه العريضة).
لأنّه يرى أنّه إن تعرّض لما ذكر فيه من الأجوبة لا يبقى له مجال للتكرار، ولا يمكنه الرد عليها أو مناقشتها، سيما في المسائل العلمية التي ليس الخوض فيها إلّامن شأن العلماء والباحثين المحقّقين، ولو كان منصفاً وأتى في كتابه في كل مبحث رد به علينا بفكرتنا التي هي موضوع رده وتكراره، وذكرها بألفاظه لما أمكنه التعمية والمغالطة، ولظهرت للقرّاء أكاذيبه ومغالطاته، كما تظهر لهم أُكذوبات الخطيب.
ومما تركنا التعرّض له أو اقتصر على الإشارة إليه في (مع الخطيب) حول التقية وتأويل الآيات، وصيانة الكتاب من التحريف، وحول كتاب (فصل الخطاب) وكتاب (الفرقان)(1) وكتاب (دبستان مذاهب)، والأحاديث المخرّجة في كتبهم وجوامعهم التي تدلّ على وقوع النقص والزيادة في الكتاب المجيد، وحول رأي الشيعة في الحكومات، والأحاديث الكثيرة التي استشهدت بها، وحول افترائهم على الشيعة باتّهامهم لهم بالتعصّب للمجوسية، وحول الفتوحات الإسلامية وأبطالها، وسبب دخول أسلاف أهل إيران في الإسلام وخدماتد.
ص: 305
الإيرانيين للإسلام والمسلمين، وحول إيمان الشيعة بظهور المهدي عليه السلام وعقيدتهم بالرجعة ومعناها، وحول نهج البلاغة وبيعة الرضوان، وحكم من نفى الإيمان عن بعض الصحابة، أو سب بعضهم عند أهل السنة، ومنزلة النبي والإمام عند الشيعة، وحول غلط الخطيب في فهم كلام العلّامة الآشتياني وتبرئة ابن العلقمي، والشيعة عن تسبيب كارثة في فاجعة بغداد، وأسباب سقوط بغداد، وحول التقريب بين المذاهب، وحول الشيوعية وأسباب تفاقمها في البلاد الإسلامية وغيرها، وغير ذلك.
فمن يراجع ما في (مع الخطيب) حول هذه المباحث يظهر له أنّ مؤلف (الشيعة والسنة) ومن يتبع سبيله لا يسلكون إلّاسبيل العناد، ولا يستهدفون إلّا إلباس الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون، ويخافون أنّه لو انسدّ بمثل كتاب (مع الخطيب) و (أجوبة مسائل موسى جار اللّه) و (نقض الوشيعة) و (الفصول المهمة)، و (أصل الشيعة وأُصولها) و (المراجعات) و (موسوعة أعيان الشيعة) و (الغدير والدعوة الإسلامة) وغيرها باب هذه المغالطات والإفتراءات التي يلفقونها على الشيعة أن يعرف الناس حق أهل البيت وما خصّهم اللّه به، ويطّلعوا على فضائلهم ومناقبهم، ووصية النبي صلى الله عليه و آله فيهم ومانزل في شأنهم، ولم يلتفتوا إلى أنّ هذا أمر لا يمكن ستره عن الناس أو تضليلهم عنه، ونحن في عصر أصبحت فيه الكتب والمقالات التي تتعرّض لمختلف الموضوعات في متناول الجميع، فمن لم يطلع اليوم على الحقيقة فسيطّلع عليه، ويعرفها غداً.
وياليت هؤلاء يدركون بأنّ مزاج العصر - مضافاً إلى الوعي الإسلامي الحديث - لا يقبلان إثارة الرواسب القديمة التي سببت العداء بين المسلمين،
ص: 306
والتي قامت على سياسة حكومات ذهبت في طيّات الدهور.
والذي يبدو أنّ هؤلاء إنّما يخافون من الفكر الإسلامي القويم الذي ترتكز عليه عقيدة الشيعة المأخوذة عن مصدر الوحي، ومن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة؛ لأنّهم خطر على مذاهب بني أُمية وسيرة يزيد ومعاوية، وعلى الحُكّام الجبابرة ومبادئهم، وهم في نفس الوقت لا يخافون دعاة الإلحاد وعملاء الإستعمار، مع أنّهم خطر على الإسلام والقرآن، وسيرة محمد وإبراهيم، ورسالات جميع الأنبياء (صلى اللّه عليهم أجمعين)، والمبادئ الإنسانية القويمة.
يخافون من تمسّك الأُمة بأهل البيت وعترة نبيهم واتخاذهم أئمة، ويخشون من أن تمتثل الأُمة أمر الرسول صلى الله عليه و آله بالتمسّك بهم وأخذ معالم الإسلام ومعارفه عنهم دون غيرهم، ولا يخافون من النواصب والذين يدعون إلى ولاء بني أُمية، ويزيد بن معاوية، ومبادئهم الرجعية وسيرتهم الجاهلية.
يخافون من أن تكون الشريعة محمدية وعلوية، وفاطمية وحسنية وحسينية، وباقرية وجعفرية، ولا يخافون من أن تكون أُموية عثمانية، ويزيدية ومروانية.
فأيّ المذاهب أصح من مذهب أهل البيت الذي نص على صحته النبي صلى الله عليه و آله في الأحاديث المتواترة، فنِعم ما قيل فيهم:
إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهباً
ص: 307
ووال أُناساً قولهم وحديثهم روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري(1)
ونِعم ما قال الفرزدق في قصيدته المشهورة:
من معشر حبّهم دين وبغضهم
فما عذركم عند اللّه تعالى إذ تزوّدون الناس بكتب المعروفين بالإنحراف عن عترة أهل البيت الطاهرة، ومنكري فضائلهم: كابن تيمية، وابن العربي، وتهملون الكتب التي كتبها علماء أهل السنة في فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله، وتحدّثوا فيها عن فضائلهم ومناقبهم.حل
ص: 308
ما هكذا تورد يا سعد الإبل! فإذا كنتم تريدون خدمة الإسلام فاللّه تعالى يعلم أن هذه الكتب، وهذه الطريقة المشحونة بالعصبية الطائفية لا تجلب إلّا الضرر على الإسلام والقرآن، ولا تؤدي إلّاإلى الضعف، ومضاعفة المشاكل بين المسلمين.
وإن كانت لكم غيرة على القرآن فزوّدوا الشباب والخواص والعوام بمثل كتاب (مع الخطيب) المدافع عن قداسة القرآن وحرمته، لا أن تأتوا بضده وتنسبوا بزعمكم إلى طائفة من المسلمين، حيث يزيد عددها على المائة ميليون نسمة، القول بالتحريف وهم يستنكرون هذا القول أشدّ الاستنكار.
فما الذي تريدونه إن لم يكن هدفكم الفرقة والإختلاف وجرح العواطف؟ ما الذي تريدون من نشركم أمثال كتاب (حقائق عن أمير المؤمنن يزيد بن معاوية) ومن (العواصم من القواصم)؟ وإلّا فأيّ مسلم يرضى بعد واقعة الطف والحرّة أن يقول ليزيد (أمير المؤمنين)؟
قال نوفل بن أبي الفرات: كنت عند عمر بن عبدالعزيز فذكر رجل يزيد، فقال: أمير المؤمنين يزيد، فقال: تقول: أمير المؤمنين، وأمر به فضرب عشرين سوطاً.
وأخرج مسلم، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من أخاف أهل المدينة أخافه اللّه، وعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين.
ويزيد هو الذي أباح المدينة ثلاثة أيام لأهل الشام، حتى ارتكبوا فيها الجرائم الكبيرة من قتل الصحابة، وافتضاض العذارى، ونهب الأموال، وغير ذلك مما سوّد به وجه الإنسانية.
ص: 309
وإن كنتم يا ناشري كتاب (حقائق...) لا تعرفون يزيد، أو أنكم تحبّون ما ارتكبه من الجرائم، ولذا تحاولون تحسين سيرته، فولده معاوية عرفه وأباه وعرّفهما للناس(1) كما تشهد عليه وقعة الطف والحرّة وغزوة الكعبة، وحبر الأُمة عبداللّه بن عباس، وجمع من الصحابة والتابعين.
قال ابن حنظلة الغسيل: واللّه ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء إنّه رجل ينكح أُمهات الأولاد والبنات والأخوات ويشرب الخمر، ويدع الصلاة.
فاهنأوا إذن يا أيّها المؤمنون! بأميركم يزيد، حشركم اللّه معه ومع أبيه معاوية، ومع جده أبي سفيان، وجدّته هند، وزياد وعبيد اللّه بن زياد ومروان والوليد (فقل في نفسك إن كنت موقناً بصحة طريقتك، وطريقة محب الدين الخطيب: اللهم آمين). يامن ترحَّمت في كتابك على الخطيب ودافعت عنه.
وحشرنا اللّه مع الحسين، وجدّه، وأبيه، وأُمه، وأُخته وجدّته أُمّ المؤمنين، وشيعة أهل البيت، ومحبّيهم، ومبغضي أعدائهم (نقول: اللهم آمين، اللهم آمين، ويرحم اللّه عبداً قال: آمينا).
ولا تظنن يا أخي أن يكون بين الكُتّاب المثقّفين، وعلماء أهل السنة من غير طائفة محب الدين الخطيب، وإحسان إلهي ظهير، وهزاع بن عبد الشمري وناشري كتبهم، وغيرهم من أتباع ابن تيمية، وابن العربي، من يدنّس قلمه بمثل2.
ص: 310
هذه الكتابات، أو يوجد غير هؤلاء من يجب افتراق الأُمة، ويبغض التجاوب والتفاهم، ولا تقاس جامعات القاهرة والإسكندرية، والرياض(1) وغيرها، وأساتذتها وتلامذتها وعلماء مصر ولبنان، والهند والمغرب والكويت، وكذلك الكثير من علماء لاهور موطن إحسان إلهي ظهير، وعلماء الحرمين الشريفينن.
ص: 311
المصلحين بهؤلاء.
فإنّ شأنهم أجلّ وأنبل من أن يقاسوا بالمستغرقين من كتب النواصب ومبغضي أهل البيت، وإنّ في مكتبتي عشرات من كتب علماء مصر ولبنان المعاصرين حول وجود اللّه تعالى والنبوة، وكثير من المسائل الإسلامية، وفي التفسير والحديث والتاريخ، وحتى حول المذاهب وحياة الصحابة، بأقلام نزيهة بريئة من العناد والعصبية الطائفية، وغير ذلك مما يفيد الشيعة والسنة، ويزيد في الوعي الإسلامي، ويؤكّد الصلات الوثيقة بين الأُمة، ويسلّح الشبّان بسلاح الإيمان باللّه والثقة به، والإيمان برسوله وبكتابه، وأُصول الدين وفروعه. زاد اللّه في وعيهم وتوفيقهم.
فكم من فارق بين من يكتب للأُمة كتاب (قصة الإيمان) و (روح الدين الإسلامي) و (مع الأنبياء في القرآن) و (روح الصلاة في الإسلام) و (الإنسان بين المادية والإسلام) و (العدالة الإجتماعية في الإسلام) و (حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام) و (محمد صلى الله عليه و آله المثل الكامل) و (نظام الأُسرة وحل مشكلاتها) و (النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية) و (معاوية بن أبي سفيان في الميزان) و (أبو الشهداء) و (سُموّ المعنى في سُموّ الذات) و (شيخ المضيرة) و (أضواء على السنّة المحمدية) و (التعريف بالإسلام) و (الإمام الحسين) و (الإمام الصادق) و (الإسلام دين ودنيا) و (الإسلام دين وفكر) و (العلم يدعو للإيمان) و (في موكب الدعوة) و (هذا ديننا) و (الحجاب) و (عقيدة المسلم) و (خلق المسلم) و (شبهات حول الإسلام)، و (حكمة القرآن في بناء المجتمع) و (الإسلام والإستبداد السياسي) و (الإسلام والأوضاع الإقتصادية) و (القرآن والعلم الحديث) و (مع اللّه
ص: 312
في السماء) و (المسلمون والعلم والحديث) و (طريقي إلى اللّه) و (الحياة الأُخرى) و (الإسلام والعلم الحديث) و (السماء وأهل السماء) و (القرآن والمجتمع الحديث) و (اللّه والعلم والحديث) و (بين الدين والعلم) و (العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل) و (فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي) وغيرها...
هذه من المؤلفات القيّمة التي وضعها علماء أهل السنة، وكتّابها من الذين أثّرت أقلامهم في الشباب، وأخذوا بأيديهم من الكبوة والسقوط في أحضان الإلحاد.
فهل يقاس هؤلاء الكُتّاب بغيرهم ممن لا يعتني بمصلحة الإسلام وشؤون المسلمين، والظروف والأحوال الخطيرة التي أحاطت بهم، ولا يجتنب عن الإفتراء، وسوء الظن بالمؤمنين.
ولا أقول: إنّ جميع الكتب المذكورة خالية من الخطأ والإشتباه، ومن النزعات الطائفية في بعض الموارد، فإنّ هذا وأمثاله قد يصدر عن الكاتب ولا نؤاخذ أحداً من أرباب المذاهب على خوضه في موارد الإختلاف والبحث والمناقشة، إذا كان ذلك على ضوء العلم والإنصاف بعيداً عن العناد والشنآن، والإفراط في الذم والشتم.
فليكتبوا عن الشيعة، ولينظروا في أدلّتهم بكل إمعان وتدبر، فهذا هو الذي تطلبه الشيعة من كل باحث، لأن ذلك لا يزيد الحق إلّاوضوحاً كما أنّه يرسخ التجاوب والتفاهم بين الطائفتين، ويؤكد الأُخوة الإيمانية بينهما.
فكم يوجد من أهل السنة من يراجع كتب الشيعة في التفسير والفقه،
ص: 313
والكلام والأدب، ويقدّر نبوغهم وجهودهم في العلوم الإسلامية(1) ويعظّم اتصاف علمائهم بالصدق والورع والأمانة، ويتعمّق في آرائهم ومقالاتهم، وربّما يأخذ بها كما يأخذ بآراء علماء طائفته، بل إنّه بعد التحقيق يرجّح في بعض المسائل مذهب الشيعة(2).
وقد أعجب بكتاب (مع الخطيب) (كما أشرنا إليه) المنصفون من علماء أهل السنة وأساتذة بعض الجامعات، وقدَّروا ما فيه من التحقيقات العلمية حول صيانة الكتاب من التحريف، والرد العلمي على الخطيب وإيضاح غلطه في فهم كلام العلّامة الآشتياني وغيره، كما قدّروا ما فيه من دعوة الأُمة إلى الوئام والإتحاد.
فإن كنت أردت يا أخي الإطلاع على جوهر ما اختلف فيه الشيعة والسنة، فلا تغتر بما يصدر عن هذه الأقلام المفترية، وعليك بالإمعان في كتب الحديث والتفسير والتاريخ، والمناقب والفضائل، مثل الخصائص للنسائي، وشواهد التنزيل للحافظ الحاكم الحسكاني، وأنساب الأشراف للبلاذري، وترجمةح.
ص: 314
الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ ابن عساكر، وتاريخ صفّين لنصر بن مزاحم، والسقيفة، والولاية، والغدير، والعبقات، والمراجعات، والنص والإجتهاد، والفصول المهمة في تأليف الأُمة، وأعيان الشيعة، وأجوبة مسائل موسى جار اللّه، ونقض الوشيعة، وإلى المجمع العلمي العربي، وأصل الشيعة وأُصولها، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ورسالة محمد معين السندي في أحاديث الأئمة الإثنى عشر المخرّجة في صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد، وغيرهما، بطرق صحيحة متواترة لا تنطبق إلّاعلى الأئمة الإثنى عشر عليهم السلام، وفتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي، وفضائل الخمسة، وإحقاق الحق، والدعوة إلى الإسلام، ودلائل الصدق، وجواهر العقدين، ونظم درر السمطين، وكفاية الطالب، وأمان الأُمة من الضلالة والإختلاف، وحديث افتراق المسلمين على ثلاث وسبعين فرقة، وغيرها.
وعليك أيضاً بتتبّع كتب الفريقين في الحديث والتاريخ، والتفسير، والفقه، واللغة، فإنّ في جميعها مواضيع كثيرة تشرح لك حقيقة مذهب الشيعة وأنّهم اتّخذوا أتباع العترة الطاهرة، واقتدوا بهم واهتدوا بهداهم.
لأن النبي صلى الله عليه و آله أوصى إليهم، وأوجب على الأُمة التمسّك بهم، وجعل التمسّك بهم أمناً من الضلال في أحاديث الثقلين المتواترة وفي حديث الغدير المتواتر، وأحاديث الأمان، وأحاديث السفينة، وأحاديث الأئمة الإثنى عشر، وحديث يوم الدار، وغيرها من الأخبار الكثيرة المتواترة المخرّجة كلها في أصح كتب الحديث عن أهل السنة.
وسترى بعد اطلاعاتك أنّه ليس للشيعة من ذنب إلّاتمسّكهم بولاية أهل
ص: 315
البيت، حيث اعتبر ذلك من أعظم الجرائم السياسية في عصر بني أُمية وبني العباس، حيث عذّب هؤلاء شيعة أهل البيت - وخصوصاً العلماء والمفكّرين منهم، حتى ولو كانوا من صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله - بمختلف أنواع العذاب، وسجنوهم في أظلم السجون وأشقِّها، وقتلوهم شر قتلة، ومنعوهم عن رواية الأحاديث من طرق أهل البيت، ونقل علومهم ومذاهبهم في الأُصول وفي الفقه.
ولكن الشيعة سيقفون مع خصومهم وظالميهم، ومن افترى عليهم وعلى مذهبهم، سيقفون وإياهم في محكمة اللّه العادلة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فيا أساتذة جامعة المدينة المنورة! عليكم أن تفكّروا في وحدة المسلمين وتطبيق مبادئ الإسلام وشرائعه وأحكامه، والتخلّص عن ضيق العصبية الطائفية، وأن لا تكتبوا ولا تنشروا ما تستعين به الأعداء على المسلمين، ولا تغترّوا بهذه الأقلام الأثيمة التي تحول دون ارتفاع الجهل، وقلع جذور الضلال والإختلاف.
وإن أبيتم ذلك وقررتم مواصلة السير على الطريق التي أنتم عليه لأنّكم لا تريدون توحيد كلمة المسلمين من الشيعة والسنة على أساس كلمة التوحيد والقرآن والسنة، فكونوا فيما بين أنفسكم معتصمين بحبل اللّه، فالوحدة الإسلامية صارت ضحية لخيانة القادة، والحُكّام بتشجيع منكم. يا حملة الفكر الوهابي، إذ أنّ دعوتكم هي التي تسبّبت في تمزيق بلاد المسلمين بشكلٍ عام، والعرب بشكلِ خاص.
إذ أنّها بدافع حب السيطرة، والإنتشار من قبل داعيتها الأول (محمد بن
ص: 316
عبدالوهاب) ساعدت الإستعمار في القضاء على نفوذ الخلافة العثمانية في الحجاز، وأحداث الإنفصال عن حكومتها تحت ستار مذهب جديد أعني:
الدعوة الوهابية، ومما زاد في الطين بَلّة والمسلمين بُعداً عنكم تصدّي رؤساء مذهبكم الأوائل بإصدار فتاوي التكفير لأتباع المذاهب الإسلامية الأُخرى والعياذ باللّه.
وهذا مما لا يمكن إنكاره، لأنّ اشتهاره يكاد أن يجعله في درجة البديهيات(1).
ثم إنّه بعد تحقّق انفصال الحجاز ونجد تحت ستار هذه الدعوة، أخذ الإستعمار ينفث سمومه في سائر الأقطار الإسلامية، بتشجيع ذوي النفوذ فيها على الثورة ضد العثمانيين، وهكذا حتى تحقّق له ما أراد من تمزيق الأُمة بين دويلات ضعيفة خاضعة لنفوذه خادمة لأغراضه قهراً أو اختياراً.
ثم إنّ الإستعمار لم يكتفِ بهذا بل تجاوزه بالتعاون مع الصهيونية العالمية على ترسيخ أُسس التمزّق بين المسلمين على صعيدٍ عرقي، فعمل على إثارة العصبية العربية تحت ستار القومية ضد إخوانهم الترك والفرس، وغيرهما، وكذا إثارة العصبية الطورانية في نفوس الأتراك ضد إخوانهم المسلمين... من القوميات الأُخرى، وعملا أيضاً على إثارة القومية الفارسية في مقابل إخوانهم الآخرين من الشيعة والسنة.
وياليتهم اكتفوا بذلك، بل تجاوزوه إلى ما هو أخطر، إذ استخدموا الأقلامة.
ص: 317
المأجورة وأوحوا إلى أصحابها بالكتابة لإثارة الحسّاسيات المذهبية، والطائفية كي يرسخوا جذور العداء، وما أنتم إلّابعض ضحاياه الغافلين أو المتغافلين، وما كتاباتكم المتعصّبة ضد مذاهب المسلمين بشكل عام، والشيعة منهم بشكل خاص إلّاتنفيذاً لهذه المخطّطات الصهيونية الحاقدة، والإستعمارية الجهنمية.
فنحن لو تفحّصنا مبررات الثورة لدى الخارجين على الخلافة العثمانية لوجدنا أن أكثرهم كان يتعلّل بشعار القومية العربية، والتخلّص من السيطرة التركية على أُمة العرب، وهكذا حتى سقطت الخلافة العثمانية بعد أن تمزّق جسم الأُمة الإسلامية إلى دويلات، وهذا بينما كان الشيعة، وحكومة إيران الشيعية في ذلك الوقت تؤيّد الخلافة العثمانية، وتدافع عنها لعلمها بأنّ الإستعمار إنّما يريد القضاء على الإسلام لا على فساد الخلافة العثمانية.
وكان الساعد الأيمن للإستعمار الكافر على ذهاب الدولة العثمانية هو أحد أبناء السنة، وربيب اليهود لا سيما يهود الدونمة مصطفى كمال الذي لاقى كل التشجيع والتأييد - وبكل أسف - من جانب علمائكم، وزعمائكم آنذاك، فصوّبوا ما أتى به من المناهج ضد الإسلام كالعلمانية وغيرها(1).
وقد قامت إنكلترا بكل ما عندها من وسائل الغدر والمكر، بالتعاون مع عملائها في الداخل ممن لهم نفوذ ونزعة ودعاية خاصة أمثال من حملوا لواء الوهابية، للقضاء على ما كان ينادي به العرب والمسلمين من الوحدة تحت ظلً.
ص: 318
حكومة إسلامية، وإحياء الخلافة في الجزيرة العربية، رافضين تمزيق الأُمة بتطبيق شعار اللا مركزية الذي كان الإستعمار وعملاؤه يركّزون عليه، وينكّلون بمعانديه ومحاربيه من المسلمين، الذين يدركون بأنّ من المبادئ الإسلامية الرئيسية إقامة الحكومة الشرعية على أساس الإمامة الكبرى(1).
ولكن إنكلترا بالتعاون مع عملائها، خصوصاً دعاة الطائفية الوهابية الذين غذتهم وأيّدتهم، قد نجحت في القضاء على فكرة الخلافة والإمامة في الجزيرة العربية التي من لوازمها إقامة الوحدة العربية والإسلامية بتمامية الإنقلاب الوهابي الإنفصالي، وإقامة الحكومة المسمّاة بالسعودية(2).؟
ص: 319
وفي هذه الأجواء المحمومة التي فجّرها مصطفى كمال ضد الإسلام والمسلمين، وبينما كان يحمل لواء العصبية الطورانية في تركيا، وتثيرها في عروق الأتراك ضد العرب، ويقضي بالموت البطيء على نفوذ الخلافة العثمانية في نفس هذا الوقت، حمل الوهابيون في نجد والحجاز لواء العصبية المذهبية ضد المسلمين باستحلالهم دماءهم، وتوجيه بأسهم وسطوتهم، وأفواه بنادقهم كلّها إلى قتالهم خاصة، وغزوهم كلّما سنحت لهم فرصة، وقتلهم بأنواع الغدر والبغي(1).
وقد كشفت الأحداث وأثبتت الوقائع أنّهم كانوا يقومون بكل هذه الفظائع بتأييد من بريطانيا العظمى آنذاك، عدوة المسلمين الأُولى وأداة الصهيونية النافذة، وقد كانت هذه تمهيداً في نفس الوقت لطعن المسلمين في فلسطين بإقامة دولة إسرائيل بعد تمزيق العالم الإسلامي إلى دويلات ضعيفة متنافرة لا تقوى على مواجهة الدولة اليهودية الجديدة.
فمن يكون السبب بعد هذا لذهاب عزّ المسلمين وإضعافهم، والقضاء على كيانهم؟ ومن يكون العامل على تشويه سمعة الإسلام، والساعي في إطفاء نوره؟
أهم الشيعة الذين قاوموا - كما يشهد لهم التاريخ عند المنصفين، وكما تشهد بذلك مؤلفاتهم التي لا تحصى - كلّما أدى أو يؤدي بالمسلمين إلى الضغفب.
ص: 320
والوهن والتشتّت، ودافعوا عن الإسلام بكل ما لديهم من وسائل، وتعرّضوا لدفع كافة الشبهات التي تعرّض لإثارتها أعداء الإسلام لزلزلة أبناء المسلمين عن عقيدتهم، وتحمّلوا في سبيل ذلك كل أنواع الأذى والإضطهاد والتشريد والقتل، أم هم غيرهم؟ وخصوصاً محبّو الرئاسة والسيطرة منهم، والمتهالكون على الحكم، وفي مقدّمتهم زعماء المذهب الوهابي كما يشهد بذلك التاريخ.
ففي جميع أنحاء العالم الإسلامي لم تجدوا خائناً بزعمكم غير يحيى خان المنسوب إلى التشيع، فمن أين تجيء الوقائع الدامية، والفضائح التي تقع في بلاد الإسلام كل يوم، وتؤيّد الإستعمار، وتقوي التشتّت والتمزّق؟ ومن العميل فيها؟ ومن العامل على مجابهة الدولة العربية بعضها مع بعض، كالحكومة المغربية مع الجزائرية، والليبية مع المصرية والسودانية، والسورية مع العراقية و... و... غير أبناء أهل السنة؟
وإذا ثبت تدخّل ابن العلقمي في كارثة بغداد التي لم تقلّ فيها خسارة أبناء الشيعة عن السنة، والشواهد التاريخية التي ذكرتُ بعضها في (مع الخطيب) تدلّ على عدم تدخّله.
فهل جميع المتدخّلين في سائر الكوارث، والمحن والحروب، والفتن التي ابتليت بها الأُمة في شرق الأرض وغربها من عصر الصحابة إلى زماننا كانوا من أبناء الشيعة أو من أبناء السنة؟
أنسيتم صنائعكم في الحرمين الشريفين؟ وما ارتكبتم بجهالاتكم من هتك للقبور؟ وهدم للمشاهد المشرفة؟ والأبنية التاريخية التي كانت من أقوى الشواهد على صحة تاريخ الإسلام، ومواقف رسوله ومناقب أبطاله؟ فجعلتم
ص: 321
تاريخاً كان له في كل بقعة من بقاع نزل فيها الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، وأبوه وجده، وأُمه وأقاربه شاهداً على صحة ما يحكيه ويثبت من أمجادنا، خالياً عن تلك الشواهد العينية، وجعلتموه معرضاً للضياع والنسيان.
فالتاريخ الخالي من الشواهد الأثرية لا يعتمد عليه عند المؤرخين المعاصرين.
فهل تعرف شاهداً أقوى على وجود إبراهيم الخليل، وإسماعيل وهاجر من الكعبة المعظّمة، ومن حِجر إسماعيل، ومقام إبراهيم؟
ولو كانت هذه الآثار والبنايات التاريخية التي تجدّد الناس بها في كل يوم ذكرى رسول اللّه وأهل بيته، ومنازل الوحي، ومواقفه العظيمة، ومواقف أبطال صحابته، لو كانت بيد غير المسلمين لما باعوها ولما تخلّوا عنها، ولو دفع لهم ثروات الدنيا بأجمعها، ولعلّه ما كان عملٌ مما قام به زعماء المذهب الوهابي بجمودهم الفكري والعصبية المذهبية أقر لعين الإستعمار من هدم هذه البقاع، وجعلهم تاريخ الإسلام سيما في المستقبل في معرض الشك والإرتياب.
فهذا عمل لا يمكن للإستعمار أن يقوم به بيده الآثمة؛ لأنّه يتهم بالوحشية والرجعية، ولكن تحت ستار المذهب وبيد غيره من أبناء المسلمين وصل إلى مناه، ولا حول ولا قوة إلّاباللّه.
فحياة الأُمم والملل، ومواقفهم الجليلة في التاريخ إنّما تعرف بما خلفوا من آثار تدلّ عليها، فهل يعرف شاهد على المدينة الإسلامية وحضارتها وعصرها الذهبي في الأندلس غير الآثار الأندلسية الباقية عن المسلمين.
ص: 322
أنسيتم ما فعل أمراؤكم الأقدمين الذين تقدسونهم من التجاوز على حرمات اللّه في الحرمين الشريفين، ومنهم مسلم بن عقبة عامل أمير مؤمنيكم يزيد، والحصين بن نمير، والحجاج عامل أمير مؤمنيكم الآخر عبد الملك الذي روج الخلاعة والدعارة في مدينة الرسول صلى الله عليه و آله؟ وتفترون على الشيعة، ويقول إحسان إلهي ظهيركم: (وها هي الكعبة جريحة بجريمة طائفة منكم).
فما هي الجريمة، ومن هذه الطائفة؟ خذل اللّه ولعن اللّه الكاذب والمفتري، ومن لا يخاف من اللّه، ويأتي بأقبح الكذب والإفتراء، ولا يستحيى من اللّه تعالى، ولعن اللّه من لا يحترم الكعبة، ويرى جواز هتك لبنة من المسجد الحرام وسائر الأبنية المشرفة في الحرمين وغيرهما.
ولعن اللّه من لا يعتقد في الكعبة أنّها أول بيت وضع للناس فيه آيات بينات مقام إبراهيم من دخله كان آمناً.
وها هي ألوف من كتب فقه الشيعة وكتب أدعيتهم، منتشرة في جميع الأقطار الإسلامية، فيها أحكام الكعبة المعظمة وأحكام الحرم، وآداب الورود في الحرم، والأدعية التي يدعى اللّه تعالى بها في الحرم وفي مكة المكرمة وفي المسجد الحرام وفي الكعبة المعظمة، وما يجب في الحرم على المحرم وغيره مما يرجع إلى حفظ احترام الحرم والمسجد والكعبة.
فقولوا ما شئتم واللّه يحاسبكم بما تقولون وتفترون، وهو يعلم أنّ الشيعة أبعد الطوائف عن هذه الإفتراءات، بُعدَ المشرق من المغرب.
فقولوا واكتبوا، وافتروا على شيعة أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله كما تريدون، فهم بريئون من كل افتراءاتكم مقتدين في ذلك أثر أئمتهم عليهم السلام.
ص: 323
فهذا الإمام السبط الأكبر الحسن المجتبى عليه السلام حج راجلاً خمساً وعشرين حجة، وإمامهم الثالث أبو الشهداء وسيد أهل الإباء الحسين عليه السلام حج أيضاً ماشياً عشرين حجة أو أكثر، وهو الذي ترك مكة المكرمة بعدما علم أنّ بني أُمية يريدون قتله فيها غيلة حذراً من هتك حرمتها، ولما قال ابن الزبير: أقِم في هذا المسجد أجمع لك الناس، قال: واللّه لئن أُقتل خارجاً منها بشبر أحب إليَّ من أن أُقتل فيها، ولئن أُقتل خارجاً منها بشبرين أحب إليَّ من أن أُقتل خارجاً منها بشبر، وايم اللّه لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم، واللّه ليعتدن علَيَّ كما اعتدت اليهود في السبت(1).
ولا يخفى عليك أنّنا لا نؤاخذ أهل السنة بالأفاعيل المنكرة التي صدرت من جهّالهم، وطلبة الجاه والرئاسة وعُمّال السياسة، ولا نريد الإستشهاد بهذه الأُمور على بطلان طائفة وأحقّية أُخرى، فإنّ هذه ليس معياراً لتمييز الحق من الباطل، أو لمعرفة الصحيح من السقيم في المسائل الخلافية، ولا يتمسّك بهذه الأُمور إلّامن يريد المغالطة، وقد ضعفت حجته، وليس عنده من الأدلّة العقلية أو النقلية ما يثبت به مذهبه، وعند الشيعة بحمد اللّه تعالى في جميع المسائل أقوى الأدلّة، وأصرح النصوص وأصحها.
بل أُريد إلفات القارئ إلى أنّا لو فرضنا صحة ما استشهد به إحسان إلهي ظهير والخطيب مما أسنداه إلى بعض الشيعة فحجج الشيعي في ذلك أقوى؛ لأنّه يأتي بها من أوثق المصادر التاريخية عند أهل السنة، فقم أنت يا إحسان إلهي8.
ص: 324
ظهير واقرأ التاريخ بتجرد وفهم، أو تجوَّل في البلاد الإسلامية حتى تعرف الخائنين من غير الشيعة من الذين باعوا أمجادنا الإسلامية من الكافرين، واتخذوهم أولياء.
وحينئذٍ يمكنك أن تعرف أنّ الخائن ليس منحصراً بمن ترميه بالخيانة في واقعة انفصال الپاكستانيين من بين جميع القادة والأُمراء، والوزراء الذين كانوا يشاركونه في الحكم.
فهذه الوقائع من المصائب التي ابتلى بها المسلمون (الشيعة والسنة)، على حدّ سواء، أعاذ اللّه الجميع منها.
ولو قد أخذنا بمبدأ التحابب والتوادد الإسلامي، ولم يتهم بعضنا بعضاً بما هو بريء عنه، ولم نجعل ما أدى إليه اجتهاد طائفة في المسائل الخلافية دليلاً على الكفر أو الفسق لأصبح المسلمون يعيشون في الوئام والإتفاق.
ص: 325
لا يخفى أنّ كتب الحديث بما فيها من الصحيح والسقيم، والقوي والضعيف والغريب، والمرفوع والمرسل والمتروك وغيرها، لا يحتج بكل ما فيها، ولا يجعل كل حديث منها حجة على ما اعتقده المسلمون من الشيعة أو السنة(1) ، يعرف ذلك الحذاق في هذا الفن، ويصح أن يقال: إنّ كل عقيدة إسلامية جاءت من الكتاب والحديث ولا يصح أن يقال: كل حديث جاء بالعقيدة، وبناء على
ص: 326
ذلك فلا يقبل من الحديث إلّاما توفّرت فيه شرائط الصحة والقبول، ولا يكون متروكاً ولا معرضاً عنه.
اللهم إلّاأن يعلم جهة الترك والإعراض وأنّها ليست شرعية، كما يجب أن لا يكون الحديث مخالفاً لصريح القرآن، وإلّا يضرب على الجدار، وهذا من أعظم ما أخذت به سيدة نساء العالمين عليها السلام على القوم في مسألة تركة النبي صلى الله عليه و آله، فإنّ بعضهم حدّث عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ولم يلتفتوا إلى أنّ هذا مخالف لكتاب اللّه تعالى.
كما يجب أن لا يكون الحديث مخالفاً لضرورة عقلية، وإلّا يجب تأويله وحمله على المحامل الصحيحة، وجعل الضرورة قرينة على المجاز، والأحاديث الدالّة على التحريف سواء أكان من طرق الشيعة أو السنة كذلك.
فإذا فرض أن يكون بينها الظاهر في ذلك فهو مخالف لضرورة العقل كما أنّه مخالف للقرآن المجيد، ولذا تركها العلماء، ولا تجد أحداً من الشيعة حتى من يتبع الشواذ من يعمل بها، كما لا أظن أن يكون بين أهل السنة من يفتي بذلك ويعتمد عليها إلّاالقليل ممن لا نحب التصريح بذكر أسمائهم.
وسواء أساء المنحرفين عن أهل البيت ومحبّي أعدائهم ممن لا يعتد بآرائهم عند أهل السنة أو لا يسوؤهم، وسواء أرادوا أم لم يريدوا فالمسلمون كلهم من الشيعة والسنة تفكيرهم في المسائل الإسلامية ومناهجهم في حل المشاكل وخططهم وسيرتهم في مواجهة التيّارات المخرّبة الإلحادية غير تفكير هؤلاء، فقادتهم وزعماؤهم وعلماؤهم والمصلحون يجتمعون في مجلس واحد ويتذاكرون في مستقبل الأُمة مجتنبين سوء الظن فيما بينهم، وربّما يعتمد السني
ص: 327
على الشيعي في هذه المسائل، والغيرة على حفظ نواميسنا الإسلامية، والإحتفاظ بأمجادنا أكثر من اعتماده على بعض أهل السنة، فقد عرف الكثيرون من علماء السنة حقيقة التشيّع والشيعة، وأدركوا مبلغ إخلاصهم لدين اللّه وكتابه، كما يعرفون أنّ كل ما يقول هؤلاء عن الشيعة من الكذب والنفاق والخداع زور وبهتان.
فهم أفصح الناس للإسلام والمسلمين وكتاب اللّه وسُنّة رسوله، فليتجوّل كل من يريد أن يعرف عقيدة الشيعة في كتاب اللّه، ولا يريد الفساد والفتنة في بلاد الشيعة، وليراجع مؤلفاتهم حتى يعرف عقيدتهم فيه، وأنّهم ما اختاروا رأياً، ولا اعتقدوا عقيدة في الأُصول والفروع إلّااستندوا فيها إلى الكتاب والسنة.
وإذن فلن تحصلوا من وراء سعيكم في إيقاد نار التباغض والمجادلة بغير الحق إلّاالخسران، وإلّا تكريس الضعف في صفوف المسلمين، وخيانة الزعماء والمصلحين.
مع أنّه لا يكاد يجول في خاطري ولا في خاطر أحد من الواعين أو يدور في مخيلته، ونحن في هذا العصر عصر النور، ومع توفير كتب الحوار المنطقي بين الفريقين، وخصوصاً تلك التي تتضمّن المناظرات القيّمة، حول جميع المسائل الخلافية بين أقطاب المذهبين ككتاب (المراجعات) وغيره.
نعم ما كنا نتصوّر بعد هذا كله أن يأتي كاتب يتلبّس ثوب العلم فيكرر نقل الأكاذيب التي اخترعتها سياسة الجور والظلم، ووضعها تجّار الدين ممن باعوا أنفسهم للشيطان إرضاءً لهؤلاء الساسة ضد شيعة أهل البيت عليهم السلام.
فكل ما أتى به من الزور والبهتان وافتراه على الشيعة ليس إلّابعض ما
ص: 328
كتب موسى جار اللّه، وقد رد عليه رداً شافياً كافياً لم يجعل لالتباس الحقيقة بالباطل مجالاً السيّد شرف الدين في (أجوبة مسائل موسى جار اللّه) وسيّد الأعيان السيّد محسن الأمين مؤلف (أعيان الشيعة) و (نقض الوشيعة).
فيا أهل الإنصاف اقرأوا هذه الكتب (أجوبة مسائل موسى جار اللّه) و (نقض الوشيعة) و (إلى المجمع العلمي العربي) و (المراجعات) و (النص والإجتهاد) و (الفصول المهمة) و (أبو هريرة) و (عبداللّه بن سبأ) و (أصل الشيعة وأُصولها) و (أمان الأُمة من الضلالة والإختلاف) و (مع الخطيب في خطوطه العريضة).
فانظروا هل بقي بعدما تضمّنته هذه الكتب من حقائق، سؤال عن الشيعة؟
وهل يرد اعتراض عليهم؟
وهل بقي مجال لتكرار ما نسجته أيدي أهل العناد واللجاج؟
وهل يقول بعد هذه الكتب أحد بعدم إمكان حصول التفاهم والتجاوب، والتقريب بين الفريقين؟ إلّاالمعاند اللجوج ومن يكتب لمنفعة أعداء الإسلام.
اقرأوا هذه الكتب حتى تعرفوا أنّه ليس هنا ما يمنع من تحقيق وحدة الأُمة، وتوحيد الكلمة، والتقريب والتجاوب، إلّاافتراءات المفترين، وجهالات المتعصّبين الجامدين.
ص: 329
وأخيراً نطلب من جامعة المدينة المنورة، وأساتذتها المصلحين تشكيل مؤتمر من أقطاب فكرة التقريب، والسكرتير العام لدار التقريب، وغيرهم من العلماء المصلحين من الشيعة والسنة ومن هذا الخادم الضعيف للمسلمين، وليكن مقره في المدينة المنورة حتى ينظر الجميع فيما يعرض من جانب المصلحين في التقريب بين الفريقين، والتجاوب والتفاهم، وحتى يتضح لهم أن لا شيء بين الفريقين يوجب هذه الجفوة والتباعد، والتنافر والبغضاء.
وان امتياز الشيعة عن السنة في بعض جوانب العقيدة إنّما هو عقيدة لهم أدى اجتهادهم في الكتاب والسنة إليها، ولا تختلف عقائد الشيعة مع السنة في أركان الإسلام الإعتقادية والعملية التي يكون الإعتقاد بها من شرائط الإسلام، والتي اتفقت عليها كلمات أكابر أهل السنة، ودلّت عليها صحاح أحاديثهم.
وحتى يظهر للجميع أن قد آن أن نترك هذه المناقشات ونشر هذه الكتيبات، ونختم على الكلام حول الخلافات والإفتراءات المذهبية، فقد كفانا
ص: 330
السلف مؤونة ذلك بما يغني الباحثين، فلا تجتني ثمرة من المقالات الشائكة سيما على أساس العصبية والزور والبهتان إلّاالضعف والتخالف والتخاصم، أعاذنا اللّه تعالى منها، ونسأله أن يجمع شملنا، ويلمّ شعثنا، ويشعب صدعنا، ويرتق فتقنا، وينصرنا على القوم الكافرين.
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ (1) .
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ القِيمَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْميعادَ (2) .
رَبَّنا اغْفِرْ لَنا وَلإخِوانِنَا الَّذينَ سَبَقُونا بِاْلإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلّاً لِلَّذينَ آمنوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحيمٌ (3) .
لطف اللّه الصافي
26 ذي الحجة الحرام 1396 ه
إيران - قم المشرفة0.
ص: 331
ص: 332
ص: 333
ص: 334
لا ريب في اتفاق المسلمين وإجماعهم على وجوب الأخذ والتمسّك والعمل بالكتاب والسنة، كما لا ريب في حصر مدارك الأحكام ومصادر الفقه الإسلامي فيهما عند الشيعة الإمامية وغيرهم ممن لا يجوز العمل بالقياس(1) ، فما خالف الكتاب والسنة أو لم يؤخذ منهما ولم يكن مستنداً إليهما مزخرف وباطل يضرب على الجدار.
ولا ريب أيضاً في أن الشيعة يتبعون أهل البيت عليهم السلام، ويهتدون بهداهم ويقتفون آثارهم، ويحتجّون بالسنة المروية عنهم، ويقدّمون أقوالهم وأحاديثهم في كل من اختلف فيه الفقهاء وتعارضت فيه الأحاديث على أقوال غيرهم
ص: 335
ورواياتهم(1).
فحقيقة مذهب الشيعة وجوهره: إنّهم يأخذون في كل مسألة وقع الخلاف فيها بين الأُمة بقول الإمام أمير المؤمنين وأولاده الأئمة المعصومين عليهم السلام، لا يقدّمون عليهم أحداً من الأُمة.
وهم يستندون في عملهم هذا إلى أدلّة كثيرة، نذكر بعضها في هذه الرسالة إن شاء الله تعالى.
كلام أبان بن تغلب في تعريف الشيعة:
أخرج الشيخ الجليل الثقة أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد النجاشي (ت 450) بسنده عن أبان بن تغلب(2) قال: تدري من الشيعة؟ الشيعة الذين إذا).
ص: 336
اختلف الناس عن رسول الله صلى الله عليه و آله أخذوا بقول علي عليه السلام، وإذا اختلف الناس عن علي عليه السلام أخذوا بقول جعفر بن محمد عليه السلام(1).
وقد روى أحاديث أهل البيت عليهم السلام وأقوالهم في الفقه من لدن عصرهم إلى عصرنا هذا، جماعات كثيرة من الصحابة والتابعين والعلماء والمصنفين والثقات والأثبات الممدوحين بالعدالة والوثاقة ممن يتجاوز عددهم حدّ التواتر في جميع الطبقات، ناهيك عن ذلك كتب الأحاديث والتراجم.
وقد اتفق المسلمون في الصدر الأول وفي عصر التابعين على صحة الرجوع إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام، واستغنت الإمامية من بين المسلمين بسبب2.
ص: 337
الرجوع إليهم والأخذ برواياتهم وعلومهم، عن الاعتماد على القياس والاستحسان باعتبار أنّ الأحاديث المروية بطرقهم الصحيحة عن أئمتهم عن آبائهم عن النبي صلى الله عليه و آله قد أحاطت بأحكام جميع الوقائع، حيث إنّهم لم يدعوا واقعة إلّاوقد بيّنوا حكمها؛ وذلك ما نراه ونلمسه فيما رواه عنهم جماهير من الثقات في كل طبقة، وأقوالهم محفوظة في كتب الحديث المؤلفة من عصورهم المتعاقبة حتى وقتنا هذا. وإلى ذلك يرجع الفضل كله في سعة دائرة فقه الشيعة واستغنائهم عن استعمال القياس وغيره من الطرق المخترعة في استنباط الأحكام الشرعية، فلا تجد فيهم من يقول برأيه ولا من يعمل بالقياس، وما ذلك إلّا لأنّهم أخذوا العلم من منهله الصافي وطلبوه من معينه الفيّاض، وولجوا فيه من الأبواب التي فتحها الله تعالى لهم، ومن هنا قيل فيهم:
إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهباً
وفيهم أيضاً يقول الشاعر كما في رشفة الصادي ص 122:
إن كنت تمدح قوماً
إسنادهم عن أبيهم عن جبرئيل عن الله
***
وإنّما احتاج إخواننا أهل السنة إلى إعمال الأقيسة والاستحسانات في الأحكام الشرعية لتركهم التمسّك بالعترة الطاهرة وأقوالهم وأحاديثهم، ولقلّة
ص: 338
الأحاديث الحاكية عن السنة من طرقهم، كما تشهد بذلك جوامعهم سيّما الصحاح الست.
قال ابن رشد القرطبي في مقدّمة كتابه (بداية المجتهد) وقال أهل الظاهر:
القياس في الشرع باطل، وما سكت عنه الشارع فلا حكم له، ودليل العقل يشهد بثبوته، وذلك أنّ الوقائع بين الأشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال والاقرارات متناهية، ومحال أن يقابل مالا يتناهى بما يتناهى. وسيأتي الكلام عن ذلك إن شاء الله تعالى.
ومن قرأ كتب الشيعة الإمامية في العقائد من التوحيد والنبوة والمعاد وفي التفسير والفقه وغيرها، يعرف أن عندهم علم كثير من العلوم الإسلامية مما لا يوجد عند غيرهم، وأنّ السياسات التي استولت على شؤون المسلمين ومنعت الناس عن التمسّك بأهل البيت(1) حملتهم على ترك روايات رجال الشيعة، فوّتت على غير الشيعة علوماً كثيرة وحرمتهم عن تلك الأحاديث الصحيحة والاهتداء بهدى العترة الطاهرة، فآل أمر الدين الحنيف والسنة النبوية إلى ما آل،).
ص: 339
حتى قال أنس: ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قيل: الصلاة. قال: أليس ضيّعتم ضيّعتم ما ضيّعتم فيها؟(1).
وقال الزهري: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلّاهذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيّعت(2).
وفي حديثٍ آخر عن ثابت عنه قال: «ما من شيء كنت أعرفه على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلّاقد أصبحت له منكراً إلّاإنّي أرى شهادتكم ثابتة قال: فقيل له: يا أبا حمزة! فالصلاة؟ قال: قد قيل فيها ما رأيتم»(3).
وقالت أُم الدرداء: دخل علَيَّ أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف من أُمة محمد صلى الله عليه و آله شيئا إلّاإنّهم يصلّون جميعاً(4).
وأخرج أحمد بسنده عن أُم الدرداء قالت: دخل علَيَّ أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: من أغضبك؟ قال: والله لا أعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه و آله شيئاً إلّا أنّهم يصلّون جميعاً(5).0.
ص: 340
وعن ابن عبّاس: إنّه كان يتمثّل بهذا البيت:
فما الناس بالناس الّذين عهدتم ولا الدار بالدار الّتي كنت تعرف(1)
وعن زيد بن ضمير الرحبي قال: سألت عبداللّه بن بسر صاحب النبي صلى الله عليه و آله: كيف حالنا من حال من كان قبلكم؟ قال: سبحان اللّه! لو نشروا من القبور، ما عرفوكم إلّا أن يجدوكم قياماً تصلّون(2).
وعن سالم: قال أبوالدرداء: «لو أنّ رجلاً كان يعلم الإسلام وأهمه(3) ثمّ تفقّده اليوم ما عرف منه شيئاً»(4).
ولا يخفى أنّ الواجب على العلماء الأخذ بأخبار الثقات الممدوحين بالأمانة والوثاقة ممن يحصل الإطمئنان بصدقهم. ومن جملة الثقات الذين هم كذلك ثقات الشيعة، فلا ينبغي للفقيه ولكل من يروم تعلّم الفقه الإسلامي ومعرفة نظمه ومناهجه في شؤون الحياة، الإعراض عن أحاديثهم وترك الروايات الموثوق بصدورها المخرّجة في جوامعهم لمجرّد أنّ في سندها شيعي أو موال لأهل البيت، أو راو لشيء من فضائلهم(5) ، كما أنّه لا يجوز الاتّكال على أخبار).
ص: 341
الكذّابين والوضّاعين، فلا يجوز للباحث في الفقه والأحكام الشرعية الإعراض عن هذا العلم الجمّ الموجود عن شيعة أهل البيت.
وسنحاول في هذا المختصر إيراد بعض ما يدلّ على وجوب أتباع الأئمة الاثني عشر من أهل بيت النبوّة والعترة الطاهرة برواياتهم، والأحاديث المخرّجة عنهم في أُصول الشيعة وجوامعهم المعتبرة. فعمدنا إلى إخراج بعض الأحاديث الواردة عن طرق إخواننا أهل السنة الدالّة من وجهة نظرهم على حجية أقوالهم ومذاهبهم وإجماعاتهم في الفقه وكلّ مسائل الشرعيّة.
ونبحث في هذا الكتاب على ضوء الأدلّة الصحيحة والأحاديث المعتبرة عن مسألة ترتبط بواقع حياتنا الإسلامية في هذا العصر وفي جميع العصور، يجب أن ندرسها ونبحث عنها ونتفهمها ونعين موقفنا منها، لا الإعراض عنها، وليس فيها إن نظرنا بعين البصيرة والإنصاف أقلّ ما يوجب التباعد، بعدما كان اختلاف الفقهاء غير عزيز، وبعدما كان الكتاب والسنة مصدر الجميع في
ص: 342
الاستنباط والاجتهاد، بل النظر في هذه المسألة يأتي بالتفاهم والتجاوب، والتقريب بين المذاهب الفقهيّة، والأخذ بما هو أوفق بالكتاب والسنة وتمركز الآراء والمذاهب في مذهب من اتّباعه بالاتّفاق موجب للنجاة وأمان من الضلال، ويوجب تحكيم أساس الفقه من غير تعرّض لمسألة الخلافة والزعامة العامة، وما وقع فيها بين الفريقين من النقاش، وما استدل به أعلام الطائفتين من أجل إثباتها لهم أو عدم إثباتها.
وإنّما اقتصرنا هنا على ذلك لأنّ علماء الفريقين قد أشبعوا الكلام حول مسألة الخلافة والحكومة، وأطالوا البحث فيها في كتبهم ومقالاتهم من لدن ارتحال الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله إلى زماننا هذا بما يظهر به الحق للباحثين في هذه المسألة. ولأنّ إثبات حجية أقوال أئمة العترة ووجوب اتباعهم والأخذ برواياتهم وإجماعاتهم لا تدور مدار إثبات الإمامة العامة والولاية والزعامة الكلية لهم في جميع الأُمور الدينية والدنيوية بعد النبي صلى الله عليه و آله. بل يجب على من لا يعرف لهم هذه الخصائص واختصاصهم بها، الأخذ بأقوالهم واتّباعهم والاحتجاج بأحاديثهم والركون إلى آرائهم، حتى يسير الفقه مسيره، ويصان عن القول بغير علم، ويكون التعويل فيه على أصح الأدلة، لافرق في ذلك بين الشيعة ومن لا يعتقد من أهل السنة أحقيّتهم بمنصب الخلافة الكبرى، وتخصيصها من قبل الله سبحانه وتعالى بهم.
فالولاية الشرعية التي كانت ثابتة للنبي صلى الله عليه و آله وبعده لخلفائه وولاة الأمر من أهل بيته وعترته، وان كانت لا تنفكّ عن وجوب الاتّباع والتأسّي والتمسّك بهم وحجية أقوالهم وأفعالهم، إلّاأنّ الثاني لم يقصر على زمان حياتهم وتمكّنهم من
ص: 343
التصرّف في الأُمور فحسب، بل يجب التمسّك بهم وبأقوالهم وأفعالهم مطلقاً.
فالمسألة من ناحيتها الأُولى في عصرنا اعتقادية، وللكلام فيها مجال غير هذا، وليس لها في زماننا كثير مساس بالعمل، فليس في مقدور أحد في هذا الزمام أن يعمل لتكون تلك الولاية في الخارج لشخص دون آخر ممن مضى عصره، فليس في وسع أحد تغيير ما وقع.
الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام امام وولي، لا شكّ في ولايته وإمامته، ولا يقبل إيمان عبد إلّابولايته، ولا ريب في أنّه كان على الحق، كما لا شك أنّ معاوية كان على الباطل وباغياً عليه، إلّاأنّ الإمام استشهد بجناية ابن ملجم على الاسلام والمسلمين، وتغلّب معاوية على الأمر، وآل أمر المسلمين - سيّما في سياسة الحكم والإدارة - إلى ما آل إليه.
والحسين عليه السلام أبو الشهداء وسيّد الأحرار، لا شك في إمامته وأنّه سيّد شباب أهل الجنة، وثار لطلب الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما لا ريب في سوء أعمال يزيد ومظالمه وجرائمه وموبقاته. إلّاأنّه لا يمكننا أن نغيّر التاريخ وأحداثه الواقعة بعد أربعة عشر قرن، فلا يمكن لمحبّي أهل البيت عليهم السلام ومن يعتقد عدم شرعية حكومات غيرهم ممن استبدّوا بالأمر أن يمنعوا عن عرش الخلافة هؤلاء الحُكّام الذين حالت بيننا وبينهم الأزمنة والقرون، ويجلسوا أئمة أهل البيت في المسند الذي وضعه الله تعالى لهم وأجلسهم عليه واختصهم به.
إذن فلا عمل لهذا، ولا اختلاف عملياً في ذلك بين الشيعة والسنة، ولا وجه لعتاب من يعتقد عدم شرعية هذه الحكومات إذا كانت عقيدته نابعة من طول
ص: 344
البحث والاجتهاد في الكتاب والسنة، ولا ينبغي أن يكون سبباً للتباعد والتنافر والشحناء والبغضاء، والرمي بما هو بريء منه من الكفر والشرك والضلال مع الشهادة بالتوحيد والرسالة.
وأما من ناحيته الأُخرى التي نبحث عنها في هذا الكتاب - \على ضوء الأدلة الصحيحة والأحاديث المعتبرة، فهي مسألة ترتبط بواقع حياتنا الإسلامية في هذا العصر وفي جميع العصور، يجب أن ندرسها ونبحث عنها ونتفهّمها ونعين موقفنا منها، لا الإعراض عنها. وليس فيها - \إن نظرنا بعين البصيرة والإنصاف - \ أقل ما يوجب التباعد، بعدما كان اختلاف الفقهاء غير عزيز، وبعدما كان الكتاب والسنة مصدر الجميع في الاستنباط والاجتهاد، بل النظر في هذه المسألة يأتي بالتفاهم والتجاوب، والتقريب بين المذاهب الفقهية، والأخذ بما هو أوفق بالكتاب والسنة، ويوجب تحكيم أساس الفقه كما ستعرف إن شاء الله تعالى.
وقد أقر هذا المبدأ وأخذ به جمع من أعيان أهل السنة: ومنهم الفخر الرازي، فنراه يقدّم الاقتداء بأمير المؤمنين علي عليه السلام على غيره من الصحابة، فهو يقول في تفسيره في مسألة الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة:
وأما أنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى، والدليل عليه بقوله عليه السلام: «اللهم أدر الحق مع علي حيث دار»(1).9.
ص: 345
وقال: إطباق الكل على أنّ علياً كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم(1).
وقال في مقام الاستدلال: الجهر بذكر الله على كونه مفتخراً بذلك الذكر غير مبال بإنكار من ينكره، ولا شك أنّ هذا مستحسن في العقل فيكون في الشرع كذلك.
وكان علي بن أبي طالب يقول: «يا من ذكره شرف للذاكرين»، ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في اخفائه، ولهذا السبب نقل أنّ علياً رضي الله عنه كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات. وأقول: إنّ هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي، لا تزول البتة بسبب كلمات المخالفين(2).
وقال أيضاً: إنّ الدلائل العقلية موافقة لنا، وعمل علي بن أبي طالب عليه السلام معنا، ومن اتخذ علياً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه(3).
ومع ذلك قال: قالت الشيعة: السنّة هي الجهر بالتسمية، سواء كانت في الصلاة الجهرية أو السرية، وجمهور الفقهاء يخالفونهم فيه(4) ، لماذا؟ لأنّهم شيعة أهل البيت، والمتمسّكون بهم بالتمسّك المأمور به في حديث الثقلين.
والقارئ العزيز إذا تأمّل فيما نذكره في هذا الكتاب، وتتبّع مصادر الشيعة وكتب حديثهم وفقههم، إن لم يصدق شيئاً فيصدق على الأقل أنّ إجماع فقهاء الشيعة في كل مسألة من المسائل الفقهية - \كهذه المسألة التي ذكرها الفخر - \1.
ص: 346
كاشف عن إجماع عترة النبي صلى الله عليه و آله وعن رأيهم ومذهبهم فيها.
إذن فماذا عذر الجمهور عند الله تعالى في مخالفة الشيعة في مثل هذه المسألة، وترك الاقتداء بعلي بن أبي طالب عليه السلام، وترك التمسّك بالعترة.
وخلاصة القول: إنّ ما يدور حوله البحث في هذه الرسالة أمران:
(الأول) وجوب الأخذ بأحاديث أهل البيت، وما رواه عنهم أعلام الشيعة بطرقهم المعتبرة المعتمدة في جوامعهم.
(الثاني) حجية أقوالهم ومذاهبهم وآرائهم، بل وأفعالهم، ووجوب اتّباعهم الرجوع إليهم والسؤال منهم والتمسّك بهم وتقديم قولهم على غيرهم(1).ه.
ص: 347
سبب إعراض الجمهور عن أحاديث أهل البيت عليهم السلام:
وإنّنا لنرغب قبل الدخول في الموضوع إلفات النظر إلى شيء هو من الأهمية بمكان حسبما نراه، وهو أنّ السبب الوحيد والباعث الحقيقي لعدول من عدل عن الأخذ بأحاديث أهل البيت، وما رواه المحدّثون من الشيعة - \كما يظهر لكل باحث لم يكن إلّاالسياسة وغلبة الاُمراء والملوك المستبدّين الذي سوّدت مظالمهم صفحات التاريخ، وعملوا على تحريف حقائق هذا الدين، وأحكام شريعته الحنيفة السمحاء، أو تأويلها لتوافق أهوائهم الفاسدة وسياساتهم الغاشمة. فعدلوا بالناس نتيجة لذلك عن الصراط المستقيم، وحالوا بينهم وبين الاعتصام بحبل الله المتين والتمسّك بالثقلين، حيث أشعروهم بأنّ الرجوع إلى أهل بيت النبوة وأخذ العلم والاستفتاء منهم من أكبر الجرائم السياسية التي يستحقّ مرتكبها القتل والسجن على أقل تقدير.
وقد لاقى الكثير ممن روى عن أهل البيت أو في فضائلهم من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله والتابعين ورجالات الدين وأئمة الحديث وغيرهم أنواعاً من القتل والسجن والتعذيب على أيدي هؤلاء الحُكّام والظَّلَمة، وما قصدهم من ذلك إلّا إطفاء نور العلم النبوي الخالد معاندة للحق وأهله.
ومن له إلمام بتاريخ العصر الأُموي والعباسي يعلم موقف الحُكّام من كل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويستنكر سيرتهم السيئة(1) ، وسيما من آلم.
ص: 348
البيت عليهم السلام وشيعتهم ومن روى علومهم وحديثهم. ويكفيك الرجوع إلى كتاب (النصائح الكافية) وغيره مما ألّف في هذا الموضوع.
ونحن نرى أنّ الإضراب عن الخوض في هذه المسألة أصلح والتفرّغ للبحث عن المقصود أولى، لأننا لو تعرّضنا لها لاستغرق ذلك بحثاً طويلاً.
إلّا أنّ الباحث فيما نحن بصدده لا يسعه دراسة الموضوع دراسة وافية من دون تعمّق في موقف السياسة ضد أئمة أهل البيت وأشياعهم، كما لا ينبغي الإغماض وعدم التعرّض - \ولو بالإيجاز - \لكشف دور السياسة الغاشمة في وضع الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه و آله لمصلحة الحاكمين، ومن استولى على مركز الخلافة بالسيف والقهر.
فهذا معاوية بن أبي سفيان يأمر بسبّ أمير المؤمنين، باب مدينة العلم
ص: 349
وبطل الإسلام وابن عم الرسول وأخيه، ومن أنزله من نفسه بمنزله هارون من موسى، وعمل على قتل ريحانة الرسول وسبطه الأكبر، وكتب بعد عام الجماعة:
«أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته» واستعمل على أهل الكوفة زياد بن أبيه وضم إليها البصرة، فكان يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف، فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل وبسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل وطردهم وشرّدهم عن العراق(1).
نذكر مثالاً لذلك: أنّه بعث في طلب صيفي بن فسيل الشيباني، فلما أُتي قال له: يا عدوّ الله، ما تقول في أبي تراب؟ قال: ما أعرف أبا تراب، فقال: ما أعرفك به، أتعرف علي بن أبي طالب؟ قال: نعم. قال: فذاك أبو تراب. فقال: كلّا ذاك أبو الحسن والحسين. فقال له صاحب الشرطة: يقول الأمير هو أبو تراب وتقول لا؟ قال: فان كذب الأمير اكذب أنا وأشهد على باطل كما شهد؟ فقال له زياد: وهذا أيضا، علي بالعصا فأتي به. فقال: ما تقول في علي؟ قال: أحسن قول. قال:
اضربوه حتى لصق بالأرض. ثم قال: اقلعوا عنه، ما قولك في علي؟ قال: والله لو شرحتني بالمواسي ما قلت فيه إلّاما سمعت مني. قال: لتلعننه أو لأضربنّ عنقك.
قال: لا أفعل، فأوثقوه حديداً وحبسوه(2).
واشتد الأمر حتى أنّ المقري قال: كان بنو أُمية إذا سمعوا بمولود اسمه على قتلوه(3).9.
ص: 350
ومن عمّاله على المدينة مروان بن الحكم، وكان لا يدع سب علي عليه السلام على المنبر كل جمعة تنفيذاً لأوامر معاوية.
وكتب إلى عمّاله نسخة واحدة «أُنظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاه ورزقه».
وشفع ذلك بنسخة أُخرى: «من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوه به واهدموا داره».
فلم يكن البلاء وأكثر منه بالعراق ولا سيما بالكوفة، حتى أنّ الرجل من شيعة علي عليه السلام ليأتيه من يثق بدينه فيدخل بيته فيلقى إليه سره، ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدث حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه.
ونقل أبو عثمان الجاحظ: إنّ معاوية كان يقول في آخر خطبته: اللهم إنّ أبا تراب (إلى آخر ما قال مما لم نذكره حياءاً من الله ورسوله).
وروى فيه أيضاً: أنّ قوماً من بني أُمية قالوا لمعاوية: إنّك قد بلغت ما أمّلت، فلو كففت عن هذا الرجل. فقال: لا والله حتى يربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير ولا يذكر له ذاكر فضلاً(1).ي.
ص: 351
وأفرط في ذلك حتى أظهر ما في صدره، وعرض على كريم ابن عفيف الخثعمي البراءة من دين علي الذي يدين الله به، وأمر زياد أن يقتل عبد الرحمن بن الحسّان العنزي شر قتلة لشهادته في علي عليه السلام أنّه كان من الذاكرين الله كثيراً، ومن الآمرين بالحق، القائمين بالقسط، والعافين عن الناس، ولمقاله في عثمان، فدفنه زياد حياً(1).
وأمر بافتعال الأحاديث في شأن عثمان واكرام من يروي في فضله، حتى أكثروا في فضائله لما كان يبعث إليهم من الصلات والقطائع، فليس يجد امرؤ من الناس عاملاً من عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة إلّاكتب اسمه وقربه6.
ص: 352
وشفعه، فلبثوا بذلك حيناً، فكتب إلى عُمّاله: أنّ الحديث في عثمان قد جهر وفشا في كل مصر وكل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّاواتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحب إلَيَّ وأقر لعيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقرئت كتبه على الناس، فرويت أحاديث كثيرة في مناقب الصحابة مختلقة لا حقيقة لها، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقى إلى معلمي الكتاب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع، حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤن والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا في مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها وهم يظنون أنّها حق، ولو علموا أنها باطل لما رووها ولا تديّنوا بها. فلم يزل الأمر كذلك حتى قتل الحسن بن علي عليه السلام بالسم ظلماً، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلّاوهو خائف على دمه أو طريد على الأرض، ثم
ص: 353
تفاقم الامر بعد استشهاد الحسين عليه السلام(1).
وان شئت الإحاطة بدوافع معاوية من منعه الملح عن ذكر فضائل أمير المؤمنين علي وسائر أهل البيت عليهم السلام فراجع ما ذكره المسعودي في حوادث سنة اثنتي عشرة ومائتين من حديث مطرف بن مغيرة(2) ، حتى تعلم أنّهم لم يريدوا من سب علي إلّاسب رسول الله وإطفاء نوره صلى الله عليه و آله.
وهذا عبد الملك بن مروان قد شدّد الضغط على محبي أهل البيت، وولّى عليهم الحجّاج الذي أخذ يقرّب إليه كل من كان أشد بغضاً لأهل البيت وأكثر موالاة لأعدائهم، حتى جاء واحد منهم يوماً إليه - \يقال جد الأصمعي - \وقف للحجّاج فقال: إنّ أهلي عقوني فسمّوني علياً وإنّي فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج. فتضاحك الحجّاج وقال: للطف ما توسّلت به قد ولّيتك موضع كذا(3).
والحجّاج هو الذي كتب إلى محمد بن القاسم أن يعرض عطية العوفي بن سعد على سب علي عليه السلام، فإن لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته، فأبى عطية أن يسب، فأمضى محمد بن القاسم حكم الحجّاج فيه(4).
وقد عرقب الحجاج أو بشير بن مروان أبو يحيى الأعرج المعرقب من7.
ص: 354
شيوخ الأربعة ومسلم لما عرض عليه سب الإمام عليه السلام فأبى فقطع عرقوبه. قال ابن المديني: قلت لسفيان: في أيّ شيء عرقب؟ قال: في التشيّع(1).
وهكذا استمر الأمر إلى أيام عمر بن عبد العزيز، وأشرار الولاة يتطاولون على مقام أمير المؤمنين عليه السلام حتى من كان منهم في المدينة المنورة، وبجوار القبر الشريف وعلى منبر الرسول صلى الله عليه و آله(2).
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم في تاريخه: أنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أُمية تقرّباً إليهم. وذكر السيوطي أنّه كان في أيام بني أُمية أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بما سنه لهم معاوية(3).
فانظر أيها القارئ بعين الإنصاف إلى هذه المخازي، وإن شئت فراجع9.
ص: 355
الكثير منها في كتب القوم، حتى تعرف ما اقترفته أفاعيل السياسة المجرمة من أجل إمالة الناس عن أهل بيت الوحي والنبوة.
قال سيدنا الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام في جواب الحرث بن الجارود التميمي، لما رآه في جماعة من أهل بيته في المدينة وهم جلوس في حلقة، فقال الحرث: السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، كيف أصبحتم رحمكم الله؟ فرفع الإمام رأسه إليه فقال: أما تدري كيف نمسي ونصبح، أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، يذبّحون الأبناء ويستحيون النساء، وأصبح خير الأُمة يشتم على المنابر، وأصبح من يبغضنا يعطى الأموال على بغضنا، وأصبح من يحبنا منقوصاً حقه أو قال: حظه، أصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمّداً قرشي، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً كان عربياً، فهم يطلبون بحقّنا ولا يعرفون لنا حقّاً، اجلس يا أبا عمران فهذا صباحنا من مسائنا(1).
وأخرج نحوه ابن سعد بسنده عن المنهال بن عمرو(2).
دور بني العباس في الظلم والاستبداد:
جاء بعد بنى أُمية بنو العباس، فلم تكن وطأتهم على أهل البيت وعترة الرسول صلى الله عليه و آله وشيعتهم ومحبّيهم بأخف من أسلافهم، إن لم نقل بأنّهم كانوا أشد منم.
ص: 356
أُولئك ظلماً وعنفاً واضطهاداً لهم.
إذ أنّهم بالإضافة إلى المسلك المنحرف الذي سلكوه من وضع الأحاديث، وبالإضافة إلى أنّهم كبني أُمية أحيوا ما أماته الإسلام من السنن الملوكية، أخذوا يباشرونهم بأنفسهم أو بالإيعاز إلى عمّالهم المنحرفين، قتل كل من يعترض سبيل مسلكهم الظالم أو يخشون اعتراضه، حتى أزهقوا الكثير من النفوس الطاهرة، وسفكوا الجَمّ من الدماء الزكية من أكابر أهل البيت وشيعتهم ومحبّيهم.
لم يهمل التاريخ مظالم مثل المنصور والهادي وهارون وغيرهم من ملوك بني العباس(1).
ولم يهمل ما فعله المتوكل بابن السكّيت إمام العربية المعروف، فإنّه كان قد ندبه تعليم أولاده، حتى جاء يوم جمعهم في مجلس واحد، فنظر المتوكل إلى ولديه المعتز والمؤيّد وخاطب ابن السكّيت قائلاً له: من أحب إليك هما يعني ولديه المذكورين أو الحسن والحسين؟ فقال: قنبر يريد به مولى علي عليه السلام خير منهما، فأمر حينئذٍ الأتراك فداسوا بطنه حتى مات. وقيل: أمر باستلال لسانه فاستلّوه حتى مات(2).
وذكر ابن حجر في ترجمة علي بن نصر الجهضمي من شيوخ الستة: قال أبو علي بن الصواف عن عبد الله بن أحمد لما حدّث نصر بن علي بهذا الحديث8.
ص: 357
يعني حديث علي بن أبي طالب (أنّ رسول الله أخذ بيد حسن وحسين فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأُمّهما كان في درجتي يوم القيامة) أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلّمه فيه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له: هذا من أهل السنة، فلم يزل به حتى تركه(1).
ذلك هو الأثر لتدخّل السياسة المنحرفة في الأُمور، فهل ترى أنشدك الله لهذه الأعمال وجهاً إلّاالمحافظة على الاستمرار في القبض على أزمة الأُمور ومقاليد الحكم، وإلّا القضاء على الفكر الحر، وإلّا التنكّر للحق والقضاء عليه، وإلّا بغض علي بن أبي طالب وسائر أهل البيت الذي هو من أظهر آثار النفاق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لا يحبّ علياً منافق، ولا يبغضه مؤمن(2). وقال جابر: ما كناا.
ص: 358
نعرف منافقينا إلّاببغضهم علي بن أبي طالب(1).
وهل هنا من المصاديق أجلى من أن يؤمر بضرب المتحدّث عن فضل علي والزهراء والحسنين عليهم السلام الذين هم أصحاب الكساء وأهل المباهلة ألف سوط لذلك؟
فما ظنّك إذن بمن يتتلمذ ويأخذ العلم والحديث عن سائر أئمة أهل البيت كالباقر والصادق والكاظم عليهم السلام، وكيف تكون نظرة هؤلاء إليه، وإلى أيّ مدى يكون حقدهم عليه؟!
ثم إنّ الحكّام العبّاسيين لم يكونوا أقل حماساً في هذا الميدان من الأُمويين، فقد أخذوا يقرّبون الكثير من المحدّثين الذين عرفوا عنهم عزوفهم عن الحديث بما روي في فضائل أهل البيت أو الأخذ عنهم وعن شيعتهم في الفقه والتفسير والعقائد، وشددوا النكير على من حدّث شيئاً في فضائلهم ومناقبهم عليهم السلام منزلين به أشد العقوبات، وأوجدوا محدّثين مأجورين يضعون الأحاديث في فضائل بني العباس وما يؤيّد سيرتهم وسياستهم، ويسردونها على العوام.
ذكر الذهبي في ترجمة ابن السقاء الحافظ عبد الله بن محمد الواسطي:
اتفق أنّه أملى حديث الطير فلم تحتمله نفوسهم، فوثبوا به وأقاموه وغسلواا.
ص: 359
موضعه، فمضى ولزم بيته(1).
وأغرب من ذلك ما فعله أهل دمشق بالنسائي صاحب السنن وخصائص أمير المؤمنين علي عليه السلام.(2)
***
وبالغ بغضهم في رد فقه أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرجس، وجعلهم النبي صلى الله عليه و آله عدل القرآن وكسفينة نوح وباب حطّة حتى قال ابن خلدون في مقدّمته: وهو ممن كان يخدم الملوك والاُمراء ويتزلف إليهم ويؤيّد آرائهم السياسية، هذا الرجل الذي وقعت منه في مقدمته هذه أخطاء فاحشة قد نبّه على بعضها الأُستاذ شاكر، وما ذلك إلّالأنّه نظر في المسائل الإسلامية من زاوية وجهة نظر السياسة للدول الأُموية الأندلسية التي يقول عنها العقّاد: إنّها أنشأت للشرق الإسلامي تأريخاً لم يكتبه مؤرخوه ولا يكتبونه على هذا النحو لو أنّهم كتبوه(3) ضمن الفصل الذي عقده في علم الفقه: وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به(4). فسبحان الله! إذا كان أهل البيت مبتدعين، فلِمَ جعلهم رسولن.
ص: 360
الله صلى الله عليه و آله أعدالاً للكتاب، جعل التمسّك بهم أمانا من الضلال؟ وما معنى هذا الحث الملح والترغيب الواردين في الكتاب والسنة على محبتهم وولايتهم؟
وقد سمعت بأنّ جماعة من المحدّثين الذين انضافوا وراء هذه الأباطيل قد أعرضوا وضعّفوا روايات جمّ غفير من الثقات لمجرّد كونهم شيعة أو مغالين بزعمهم في محبة أهل البيت، مع كونهم في نفس الوقت يحتجون بروايات النواصب والخوارج والمنافقين المعروفين بالانحراف عن أهل البيت، والمشهورين بالظلم والخيانة والمآثم والمعاصي.
والعجب أنّ مثل البخاري الذي يروي عن ألف ومائتين من الخوارج(1) ، ويحتج بأكثر من مائة مجهول(2) ، وبأعداء أهل البيت مثل: المغيرة ومروان وعمرو بن العاص وغيرهم من المنافقين الذين ظهر فيهم أبرز أمارات الإنفاق).
ص: 361
وهو بغضهم لعلي عليه السلام وصحّ فيهم أحاديث الحوض المتواترة وغيرها(1). هذا البخاري لا يروي شيئاً من حديث ريحانتي الرسول وسبطيه سيدي شباب أهل الجنة، ويحتج بحديث سمرة بن جندب(2) ، ص 138 من الجزء الثاني من صحيحه قبل باب ما جاء في صفة الجنة بأربعة أحاديث، وكذا في غير ذلك من الموارد التي لا تخفى على المتتبّع.
ويحتج أيضاً بحديث عكرمة وعمران بن حطان(3). دون حديث واحد من).
ص: 362
مثل الإمام جعفر بن محمد الصادق والإمامين الكاظم والرضا عليهم السلام.
***
والآن يحق لنا أن نتساءل: لماذا كان موقف بني أُمية وبني العباس من أهل البيت هذا الموقف المخزي؟
وهل يمكن أن يكون الجواب غير أنّ أهل البيت ليس لهم من ذنب سوى أنّهم وشيعتهم لم يدخلوا في حزب هؤلاء الجبابرة الذين قلبوا الإسلام، ولم يقبلوا أن يكونوا أعواناً لمثل يزيد ومروان وعبد الملك والوليد المتجاهر بالكفر، ومنصور وهارون والمتوكل وغيرهم، ولم يكونوا ليسكتوا على مظالمهم وجرائمهم فضلاً عن أن يشاركوهم فيها؟
وهل يمكن أن يكون لذلك من سبب غير أنّ هؤلاء الحُكّام المجرمين لما رأوا أنّهم لو أقرّوا أحاديث أهل البيت وأخذوا بمذاهبهم في الفقه لزال سلطانهم(1) ولم يبق لهم من نفوذ ولا سيطرة على عباد الله تعالى، ولانكشف كافةا.
ص: 363
ألاعيبهم وانحرافاتهم عن الجادة المستقيمة ولما استطاعوا أن يلغوا بدماء المسلمين وينهبوا أموالهم ويهتكوا أعراضهم، ولما تمكّنوا من استلاب بيت مال المسلمين وإنفاقه على أنفسهم وخاصتهم لبناء القصور وشراء الإماء والقينات والخوض في اللهو واللعب وأنواع المعاصي وفنونه الخلّاعة والدعارة والترف، وامتلاء ارجاء بيوتهم بأصوات المعازف، والتنعّم بمطارف الحرير وألوان الأطعمة، ولقد حكى الكثير من مجالسهم المحرّمة التي كانوا يعقدونها لمعاقرة أنواع الخمور.
كل ذلك والبلاد التي نكبت بحكمهم تعجّ بالجياع الذين كانوا بأمسّ الحاجة إلى ما يسدّ جوعهم ويدفع عنهم غائلة الفاقة ويحفظهم عن الحر والبرد، فراجع كتب التاريخ حتى ترى الأعاجيب مما كان يحدث في بلاط الملوك والخلفاء والاُمراء.
هذا مختصر الكلام في سبب إعراض الجمهور عن أحاديث أئمة العترة الطاهرة، ومن هنا نشرع بعون الله تعالى في المقصود. والله ولي التوفيق.
ص: 364
أجمع العقلاء كافة على الأخذ والعمل بأخبار الثقات، واعتبارها حجة في مقام التعامل والخصومة. ولولا ذلك لما قامت لهم سوق ولاختلّ نظام أُمورهم.
والشريعة الإسلامية قد قرّرت هذه الطريقة العقلائية وأقرّتها، ولم تردع الناس عنها. وتبعاً لذلك استقر بناء المسلمين منذ عصر النبي صلى الله عليه وآله إلى زماننا هذا على رغم من رام إمالة الناس عن التحدّث بأحاديث الرسول(1)
ص: 365
والاحتجاج بخبر الثقات، حتى أنّهم اعتبروا تحمل الحديث وحفظه ونقله من أعظم المناصب الدينية وأفضل القربات إلى الله سبحانه، ولذا أكرموا المحدثين
ص: 366
غاية الاكرام وأنزلوهم أحسن المنازل، وأسندوا إليهم الوظائف ومنحوهم الصلات، حتى صارت مجالس املاء الحديث على كثرتها من أعظم المجالس اعتبارا وقدرا ومنزلة وشرفا، وقد تنقل الكثير من الشيوخ الحديث ورجالات العلم في الآفاق، وشدوا الرحال إلى كثير من البلاد لاستماع الحديث ونقله وتدوينه.
وكان في طليعة شد الرحال إليهم لذلك من مختلف الآفاق هو الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، حتى زاد مجموع من نقل عنه على أربعة آلاف رجل كلهم يقول: حدثني جعفر بن محمد (1.
ومما تقدم يعلم مدى المكانة العالية والشأن الكبير اللذين كانا للحديث عند المسلمين، ولقد كان له على تنقله أحداث التاريخ التأثير الخطير في نفوسهم وتوجيه أمورهم وأحوالهم وفى مسلكهم مع حكوماتهم، مما يعتبر العامل في كثير من الأزمنة في دعم الحكم وتأسيسه، وكذا التدخل في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية وغيرها.
وقد اشتهر بحفظ الحديث جماعة كالبخاري ومسلم وابن ماجة والترمذي والنسائي وأبي داود ومالك وأحمد والبيهقي والطبراني وابن عساكر والطيالسي والدارمي والحاكم وابن أبي شيبة والسيوطي وغيرهم من أهل السنة وأعلامهم.
وكمؤلّفي الأُصول الأربعمائة من أعلام القرن الثاني والثالث الهجري، والكليني صاحب الجامع المعروف بالكافي، والصدوق مؤلّف من لا يحضره الفقيه، والشيخ الطوسي مؤلّف كتابي التهذيب والاستبصار، والبحراني صاحب كتاب العوالم، والمجلسي مؤلّف كتاب بحار الأنوار، والفيض الكاشاني صاحب
ص: 367
كتاب الوافي، والحر العاملي مؤلّف وسائل الشيعة، وغيرهم من الإمامية.
كما قد صنف علماء الفريقين كتبا كثيرة وأسفاراً ضخمة، سواء في معرفة الرجال والطبقات والتمييز بين المشتركات أم في معرفة الحديث وأقسامه وأنحاء تحمله، ما لو أردنا التكلّم حولها لطال بنا المقام، إلّاأنّنا طلباً للاختصار نقتصر على ذكر شيء من مصنفات الشيعة في ذلك:
فمن مؤلفاتهم في الرجال(1): رجال الفضل بن شاذان (ت قبل 260)، وطبقات الرجال لأحمد بن محمد بن خالد البرقي (ت 274 أو 280)، ورجال الكشّي من أعلام القرن الثالث الهجري الموسوم بمعرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين، الذي اختصره الشيخ الطوسي وسمّاه «اختيار الرجال»، ورجال أبي علي المحاربي من أعلام القرن الثالث الهجري وقبله، ورجال محمد بن أحمد بن داود بن علي (ت 378) في الممدوحين والمذمومين، ورجال العقيقي من أعلام القرن الرابع الهجري، ورجال ابن عيّاش (ت 401)، ورجال ابن عبدون (ت 423)، ورجال النجاشي (ت 450)، ورجال الشيخ الطوسي والفهرست له (ت 460)، ومعالم العلماء لابن شهرآشوب (ت 588)، ورجال ابن داود من أعلام القرن السابع الهجري، ورجال ابن طاووس (ت 673)، وكتب الرجال للعلّامة الحلّي (ت 726): الخلاصة وإيضاح الاشتباه وكشف المقال، ورجال الأمير مصطفى التفريشي (ت 1015)، ومجمع الرجال للمولى عناية الله الأصبهانين.
ص: 368
ومعاصر التفريشي، وكتب الرجال للمحقّق الأسترآبادي (ت 1028) الثلاثة الكبير والوسيط والصغير، وكتابي رجال السيّد علي خان المدني (ت 1120) المعروفين بسلافة العصر والدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، ورجال العلّامة المجلسي (ت 1111)، ورجال الشيخ سليمان البحراني الماحوزي (ت 1121)، والرجال الموسوم برياض العلماء لميرزا عبد الله أفندي الأصبهاني (ت حدود 1130)، ورجال الشيخ أبي علي الحائري (ت 1159)، وأعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين العاملي، وغيرها مما يطول الكلام بسرد أسمائها.
ومن الكتب المصنّفة لتمييز المشتركات: كتاب تمييز المشتركات للمولى محمد أمين الكاظمي من أعلام القرن الحادي عشر الهجري، وكتاب جامع الرواة للأردبيلي (ت 1101) وغيرهما.
ونذكر من الكتب المؤلّفة في الطبقات: كتاب سيّدنا واُستاذنا زعيم الشيعة الإمام السيّد حسين الطباطبائي البروجردي (ت 1380) أعلى الله في القدس درجته ودرجة جميع العلماء العالمين.
ص: 369
عرفت أنّ العمل والاحتجاج بأخبار الثقات مما اتفق العقل والنقل على صحته، فالواجب الأخذ بخبر الثقة الممدوح بالأمانة والوثاقة، سواء كان من الشيعة أو من أهل السنة. كما أنّه لا ينبغي الأخذ والاتّكال على أخبار الكذّابين والوضّاعين والمجهولين والمنافقين من أيّ فرقة كانوا.
فالإعراض عن الروايات المخرّجة في جوامع الشيعة المنقولة إليهم عن أئمتهم بسندهم المتصل إلى جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله ينافي ما استقر عليه بناء العقلاء ودلّت عليه الأدلّة السمعية.
فإنّ الأمانة والإخلاص يحتّمان على كل باحث في الفقه استنباط الأحكام من الروايات المعتبرة المخرّجة في كتب الفريقين، وأن لا يقتصر في ذلك على أحاديث طائفة دون أُخرى، فلا يجوز له ترك هذا العلم الكثير في أبواب المعارف الإسلامية من الفقه والعقائد والأخلاق والآداب والتفسير والاحتجاج.
ص: 370
ومن جهة أُخرى، فإنّه يظهر لكل مطّلع على كتبهم الرجالية سعة تحقيقاتهم في التعرّف على أحوال الرجال، وأنّهم أشدّ من غيرهم بكثير في الاعتماد على الممدوحين بالوثاقة والعدالة، كما يظهر لكل باحث في كتبهم الفقهية شدة تورّعهم في الفتيا واحتياطهم في استنباط الأحكام وملاحظة خصوصيات الأحاديث من السند والمتن وموافقتها الكُتّاب، واجتنابهم الشديد عن القول بغير علم، واستنادهم في الجرح والتعديل ومعرفة رجال الحديث إلى أقوال أكابر علمائهم الذين لم يقدح فيهم قادح، واتفقت الكلمة على جلالة قدرهم وصدقهم وورعهم.
وأما الرجاليون من إخواننا أهل السنة وإن كان فضلهم أيضاً لا ينكر في المسائل الرجالية لأنّ لهم في هذا العلم دراسات لا يستغني الباحث في الرجال والحديث عنها، غير أنّ بعض علمائهم في الجرح والتعديل مطعون عندهم بشيء من الهوى والحسد والعداوة والتدليس وغيرها، حتى أنّ ابن معين يتّهم أحمد بن حنبل بالكذب(1).
وذكر الشيخ الصالح المقبلي في كتابه (العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشائخ) أنّ أحمد لما تكلّم في مسألة خلق القرآن وابتلي بسببها جعلها عديل التوحيد أو زاد، حتى أنّه بلغه أنّ محمد بن هارون قال لإسماعيل بن علية:
يا بن الفاعلة! قلت القرآن مخلوق أو نحو هذه العبارة. قال أحمد: لعلّ الله يغفر له يعني محمد بن هارون، وكان إسماعيل بن علية أحق أن يرجو له أحمد... إلخ(2).0.
ص: 371
وقال المقبلي: نجد أحدهم ينتقل من مذهب إلى آخر بسبب شيخ أو دولة أو غير ذلك من الأسباب الدنيوية والعصبية الطبيعية، كما رووا أنّ ابن الحكم أراد مجلس الشافعي بعد موته، فقيل له: قال الشافعي الربيع أحق بمجلسي، فغضب وتمذهب لمالك وصنّف كتاباً سمّاه (الرد على محمد بن إدريس فيما خالف فيه الكتاب والسنّة)(1).
وتكلّموا في علي بن المديني لمّا أجاب في الفتنة، والذابّون عنه لم يجدوا من الذبّ إلّاأنّه قال: من قال: إنّ القرآن مخلوق فقد كفر، ومن قال: إنّ الله لا يرى فقد كفر، فإن صحّ عنه ذلك فقد كفر مثل عائشة ومن وافقها من الصحابة والتابعين على نفي الرؤية(2).
وقال يحيى بن معين: كان عمرو بن عبيد دهرياً، قيل: وما الدهري؟ قال:
يقول لا شيء، وما كان عمرو هكذا. وقال يحيى بن معين في عتبة بن سعيد بن عاص ثقة، وهو جليس الحجّاج.
وروى البخاري لمروان بن الحكم الذي رمى طلحة وهو في جيشه والمتسبّب لخروجه على علي عليه السلام وفعل كل طامة.
وقال ابن حجر العسقلاني في ترجمة مروان: إذا ثبتت صحبته لم يؤثر الطعن فيه، كأنّ الصحبة نبوة أو أنّ الصحابي معصوم(3).2.
ص: 372
وقال ابن معين: إنّ مالكاً لم يكن صاحب حديث بل كان صاحب رأي.
وقال الليث بن سعد: أحصيت على مالك سبعين مسألة وكلها مخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وآله(1).
وقال أحمد أمين: إنّ بعض الرجال الذي روى لهم البخاري غير ثقات، وضعّف الحفّاظ من رجال البخاري نحو الثمانين(2).
وكان الحافظ أبو زرعة الرازي يذم وضع كتاب صحيح مسلم في كلام طويل(3).
ويطول بنا الكلام لو سردناه في سائر الصحاح وما قالوا فيها، وقد حكموا على مثل ابن حبّان بالزندقة، وطعنوا في ابن حزم بأنّه ينسب إلى دين الله ما ليس فيه، ويقول عن العلماء ما لم يقولوا. وكان مع كلّما طعنوا فيه متشيّعاً لأُمراء بني أُمية ماضيهم وباقيهم، ويعتقد صحة إمامتهم(4).
ونحو ذلك قال المقبلي في ابن حزم، فوصفه بأنّه كان يتكلّف الغمز في أهلظ.
ص: 373
البيت عليهم السلام، ويعمى عن مناقبهم ويحابي بني أُمية سيّما المروانية(1) ، وحكى عن طبقات الشافعية: والذي أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر في كلامه وعدم اعتبار قوله.
وقالوا في أبي حنيفة: كان لا يعمل بالحديث حتى وضع أبو بكر ابن أبي شيبة في كتابه (المصنف) باباً للردّ عليه ترجمه (باب الرد على أبي حنيفة)، وقال ابن عدي: إنّه لم يرو إلّاثلاثمائة حديث، بل قال ابن خلدون في مقدّمته: يقال إنّه إنّما بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثاً أو نحوها إلى خمسين(2).
وحكموا على جمع من المحدّثين بأنّ لهم تعنّت في جرح الأحاديث بجرح رواتها، منهم ابن الجوزي، وعمر بن بدر الموصلي، والرضي الصغاني، والجوزقاني، وابن تيمية الحرّاني مؤلّف منهاج السنّة، وأبو حاتم، والنسائي، وابن معين، وابن حبّان وغيرهم(3).
وكثيرا ما جرحوا من تعصّب أو عداوة أو منافرة، ومثّلوا لذلك جرح مالك محمد بن إسحاق، وقدح النسائي في أحمد بن صالح المصري، وقدح الثوري في أبي حنيفة، وقدح ابن معين في الشافعي، وأحمد في الحارث المحاسبي، وابند.
ص: 374
مندة في أبي نعيم الأصبهاني(1).
واحتجّوا على جرح الرواة أو تعديلهم بما ليس بحجة، فمن الحجة لهم في ذلك ما ساقه الخطيب في الكفاية ص 99 بسنده عن يعقوب النسوي أنّه قال في (تاريخه): سمعت إنساناً يقول لأحمد بن يونس: عبد الله العمري ضعيف؟ قال:
إنّما يضعّفه رافضي مبغض لآبائه، ولو رأيت لحيته وخضابه وهيئته لعرفت أنّه ثقة. قال الخطيب: فاحتج أحمد بن يونس على أنّ عبد الله العمري ثقة بما ليس بحجة؛ لأنّ حسن الهيئة مما يشترك فيه العدل والمجروح(2).
وقد رد ابن تيمية الحرّاني في كتابه منهاج السنة كثيراً من الأحاديث الجياد، حتى قال ابن حجر في حقه: وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي (يعني العلّامة الحلّي) أدته إلى تنقيص علي رضي الله عنه(3).
واتهموا فقهاء أهل الرأي، فقال أبو العباس القرطبي صاحب كتاب المفهم شرح صحيح مسلم: استجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي دلّ عليه القياس الجليّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسبة قولية، فيقولون في ذلك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ولهذا ترى كتبهم مشحونة0.
ص: 375
بأحاديث تشهد متونها بأنّها موضوعة... إلخ(1).
وأخرج ابن أبي حاتم في ترجمة إسحاق بن نجيح الملطي عن ابن أحمد قال: سمعت أبي يقول: إسحاق بن نجيح الملطي من أكذب الناس، يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه و آله برأي أبي حنيفة(2).
وقد جهل ابن حزم جماعة من المشهورين، كالترمذي والبغوي وابن ماجة وغيرهم(3).
وتراهم تركوا رواية من فيه بزعمهم الرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبى بكر وعمر والدعاء إلى ذلك، بل من كان فيه شيئاً من التشيّع، حتى عدّ السيوطي من قرائن الوضع كون الراوي رافضياً والحديث في فضائل أهل البيت(4).
مع أنّ العِبرة في الرواية بصدق الراوي وتحرّزه عن الكذب ووثاقته وحصول الإطمئنان بنقله، والمتتبّع في كتب التواريخ والرجال يعرف أنّالموصوف بهذه الصفات في الشيعة وأتباع أهل البيت وخرّيجي مدرستهم لو لم يكن بأكثر منهم في سائر الفرق ليس بأقل من غيرهم.
وليت شعري كيف جوّزوا ترك رواياتهم لمكان ما ذكروا لهم من العقيدة1.
ص: 376
التي أدى اجتهادهم إليها، فعدّوا ذلك جرحاً لرجال الشيعة والمتمسّكين بأهل البيت، في حين أنّهم يأخذون بروايات من يبغض علي بن أبي طالب والزهراء والسبطين عليهم السلام ومن حاربهم وسبّهم، فإذا كان الحطّ على أبي بكر وعمر جرحاً في الراوي كيف لا يكون بغض علي ومحاربته وسبّه جرحاً فيه؟
ليس من جانب العقل أو السمع ما يدلّ على صحة هذا الأساس غير أنّهم رأوا عدم إمكان الجمع بين الأخذ بفقه أهل البيت ورواياتهم وفقه غيرهم، ورأوا أنّ القول بترك أقوال مبغضي أهل البيت ممن تعرف أحوال بعضهم فيما يأتي والأخذ بروايات الشيعة يضطرهم إلى اعتناق مذهب أهل البيت، وترك المذاهب الحكومية التي أيّدتها السياسات طوال القرون. اتهموا الشيعة بما هم بريئون منه، فحكموا على كل من كان فيه الرفض الكامل والتشيّع لأهل البيت بأنّ الكذب شعارهم والنفاق دثارهم. والله يعلم أنّ أيّ الفريقين أولى بالكذب والنفاق.
فمبغضو أهل البيت وسابّوهم ومن حاربهم وقتلهم بزعمهم هم الصادقون المخلصون البريئون من الكذب والنفاق وهم أهل السنة، وأنّ حكم رسول الله صلى الله عليه وآله عليهم بالنفاق والمروق من الدين وغير ذلك، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
ولا يخفى عليك أنّ اتّهامهم هذا يرد بما شرطوا أيضاً في قبول الجرح بأنّه إذا كان لعداوة أو لمذهب لا يعتدّ به(1).
ثم إنّهم قد احتجّوا بروايات كثير من المجهولين والنصّاب والخوارج ومن9.
ص: 377
طعن فيه بالكذب ونحوه، حتى حُكي عن الذهبي وابن حجر في كتابيهما (الميزان) و (تهذيب التهذيب) أنّ البخاري احتجّ بجماعة في صحيحه مع أنّه ضعّفهم بنفسه(1).
وحُكي عن الميزان في ترجمة إسرائيل بن يونس: أنّ يحيى بن سعيد القطّان قال: لو لم أرو إلّاعمّن أرضى ما رويت إلّاعن خمسة.
وقد جمعت بعض ما قاله علماء الجرح والتعديل في بعض الرجال من شيوخ الستة أو بعضهم، وطعنوا فيه مثل قولهم: (كذّاب، أو متّهم بالكذب، أو متروك، أو هالك، أو لا يكتب حديثه، أو ضعيف جداً، أو مجمع على ضعفه، أو ذاهب الحديث، أو متهم في الإسلام، أو لص يسرق الحديث، أو أكذب الناس، أو يضع الحديث) أو غير ذلك، نشير هنا إلى أسمائهم، ومن طلب التفصيل فعليه بمراجعة تراجمهم في تهذيب التهذيب وغيره من كتب الرجال. فمنهم:).
ص: 378
1 أزهر الحرازي الحمصي(1).
2 إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة.
3 أحمد بن عيسى بن حصان المصري.
4 إسرائيل بن يونس.
5 إسماعيل بن سميع الكوفي البيهسي الخارجي.
6 إسماعيل بن عبد الله الأصبحي(2).
7 إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني(3).ً.
ص: 379
8 بسر بن أرطأة(1).
9 بشر بن رافع الحارثي.
10 بقية بن الوليد.
11 جعفر بن الزبير الدمشقي.
12 حريز بن عثمان الرحبي الحمصي الناصبي(2).
13 حجاج بن يوسف بن حجاج الثقفي.
14 حصام بن مسك الأزدي.2.
ص: 380
15 حصين بن نمير الواسطي(1).
16 خالد بن سلمة المخزومي(2).
17 خالد بن عرفطة(3).
18 خالد بن عبد الله بن يزيد القسري(4).
19 خالد بن عمرو الأُموي السعيدي.
20 خيثم بن عراك.
21 داود بن الزبرقان الرقاشي.
22 زهير بن محمد التميمي المروزي.
23 زهير بن معاوية.4.
ص: 381
24 أبو خيثمة الكوفي الجعفي(1).
25 زياد بن جبير حبة الجعفي(2).
26 زياد بن علاقة الثعلبي(3).
27 سفيان بن سعيد الثوري.
28 سليمان بن داود أبو داود الطيالسي (صاحب المسند).
29 سهيل بن أبي صالح.
30 شبابة بن سوار المدائني(4).
31 شبث بن ربعي التميمي اليربوعي(5).ي.
ص: 382
32 صالح بن حسان النضري.
33 طارق بن عمرو المكي، مولى عثمان(1).
34 عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب.
35 عبد الله بن ذكوان.
36 عبد الله بن زيد العدوي.
37 عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم.
38 عبد الله بن شفيق العقيلي(2).
39 عبد الله بن طاووس بن كيسان اليماني(3).
40 عبد الرحمن بن آدم البصري(4).
41، 42 عبدالرحمن بن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم وأبوه.د.
ص: 383
43 عبد العزيز بن المختار الدباغ البصري.
44 عبد الكريم بن أبي المخارق.
45 عبد الملك بن عمير اللخمي.
46 عبد الملك بن مروان.
47 عبد الوهاب بن عطاء الخفاف.
48 عثمان بن حيان الدمشقي.
49 عثمان بن عاصم بن حصين.
50 عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقّاص.
51 عثمان بن عبد الرحمن الحرّاني.
52 عكرمة البربري، المطعون بطعون كثيرة.
53 علي بن طبيان (ظبيان).
54 علي بن عاصم.
55 عمر بن علي بن عطاء المقدمي البصري.
56 عمر بن سعد بن أبي وقّاص(1).ي.
ص: 384
57 عمرو بن سعيد العاص الأُموي(1).
58 عمرو بن عبد الله بن الأسوار اليماني.
59 عمران بن حطان الخارجي(2).
60 عمير بن هاني(3).ة.
ص: 385
61 عنبسة بن خالد الأُموي(1).
62 عنبسة بن سعيد الأُموي(2).
63 فائد بن عبد الرحمن.
64 فليح بن سليمان المدني(3).
65 قتادة بن دعامة.
66 قيس بن أبي حازم، واسمه حصين بن عوف، ويقال: عوف بن الحارث(4).
67 كثير بن عبد الله المزني المدني.
68 لمازة بن زبار البصري(5).
69 مجاهد بن جبر المكي.ة.
ص: 386
70 محمد بن أشعث بن قيس الكندي(1).
71 محمد بن بشار.
72 محمد بن جابر السحيمي.
73 محمد بن حميد الرازي.
74 محمد بن خازم الضرير الكوفي.
75 محمد بن زياد الألهاني(2).
76 محمد بن سعيد المصلوب.
77 محمد بن عبد الله بن علاثة.
78 محمد بن كثير الصنعاني.
79 محمد بن مسلم بن تدرس، أبو الزبير المكي.
80 محمد بن الفضيل بن عطية العبسي.
81 مروان بن الحكم(3).جل
ص: 387
82 معاوية بن خديج(1).
83 معاوية بن أبي سفيان(2).
84 نجيح السندي.
85 نعيم بن أبي هند الكوفي.
86 المغيرة بن شعبة(3).
87 مهلب بن أبي صفرة(4).
88 نعيم بن أبي هند الكوفي.
89 هشام بن حسان.
90 هشام بن عمّار، خطيب دمشق.
91 هشيم بن بشير.ي.
ص: 388
92 الوليد بن مسلم الدمشقي.
93 الوليد بن عقبة بن أبي معيط(1).
94 يحيى بن أكثم القاضي.
95 يحيى بن العلاء البجلي.
96 يزيد الرقاشي.
97 يزيد بن أبي كبشة السكسكي، خليفة الحجّاج على الخراج ووالي العراقين.
98 يزيد بن معاوية بن أبي سفيان(2).
99 يزيد الرشك(3).
100 أبو بكر بن أبي موسى الأشعري(4).
وغيرهم ممن يقف عليهم الباحث في الرجال، وهؤلاء ونظراؤهم كلّهمة.
ص: 389
مطعونون كما ذكرنا، إما بالكذب، أو بوضع الحديث، أو بالضعف، أو ليس بشيء، أو كذّاب، أو لا تجوز الرواية عنه، أو ليس بثقة، أو بالتدليس، أو يروي الموضوعات، أو متروك، أو مجمع على ضعفه، أو بالسرقة، أو شرب الخمر، أو عامة حديثه كذب، وغيرها من الطعون التي ذكروا، وفي غيرهم في كتب الرجال مثل تهذيب التهذيب.
***
وما ذكرنا من أسماء شيوخ الحديث ليس إلّاغيض من فيض، إلّاأنّه يظهر لك مما تقدم أنّه لا عذر لمن يتمسّك بأحاديث المنافقين والنصّاب والمرجئة والمعروفين بالفسق والكذب والظلم الفاحش والدعارة والخلاعة والضعفاء والمدلّسين في ترك أحاديث جوامع الشيعة، وروايات أهل البيت الطاهرين.
كما يظهر لك أن ترك حديث العترة الطاهرة ليس إلّالعلة سياسية من أظهر مصاديقها التقرّب إلى الولاة والاُمراء(1) ، أو الخوف منهم ومن أعوانهم، وللعصبيات المذهبية والضغائن الجاهلية، ثم الجهل بما عند الشيعة من الثروة العلمية والأحاديث المعتبرة.ي.
ص: 390
وليس غرضنا قدح السلف والطعن فيهم: «تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت»(1) ، بل الغرض من ذلك التقريب بين المذاهب وأن يكون سير الفقه الإسلامي سيراً لائقاً به، وأرقى وأرفع من العصبيات الطائفية، وأن لا يترك الفقيه وكل باحث في العلوم الإسلامية ما عند غير طائفته من العلوم والأحاديث المعتبرة، ولا يعتبر كله ضلالاً وباطلاً، سيّما إذا لم يكن اعتباره أقل مما عند طائفته، بل كان ما عند غير طائفته أقوى وأصح سنداً ومتناً، فلا يجوز الاقتصار على أحاديث طائفة وترك أحاديث غيرها، فكيف يترك الطالب الفاحص عن الحق هذه العلوم الجمّة التي حصلت عند الشيعة(2) وعند جهابذتها ورجالها من لدن عصر الرسالة وعصر الإمام علي إلى زماننا هذا، بفضل تمسّكهم بأئمة أهل البيت.
وكيف يضرب على هذه الجوامع والكتب الكثيرة التي لا ريب في أنّها من أغلى ذخائر الترات الإسلامي؟ ومن أين يحكم المنصف (العياذ بالله) على كل ما في هذه الجوامع بالبطلان؟ ومن أين يقول من يحتج بالحديث بعدم جواز الاحتجاج بهذه الأحاديث مع ما يرى من إتقان فقه الشيعة وكونه أوفق بالكتاب والعقل.
وهذا حجر أساسي للتقريب بين المذاهب وأهلها، فإنّهم إذا جعلوا على أنفسهم أن لا يتجاوزوا عن الكتاب والسنة وأن لا يقولوا إلّابما دلّت عليه).
ص: 391
الأحاديث المعتبرة، سواء كان من طرق الشيعة أو السنة، ونظروا في الأحاديث والأقوال نظرة من لا يريد إلّاالواقع والحقيقة، يحصل بينهم الوئام والوفاق أزيد مما هم عليه الآن(1).
وفائدة أُخرى تحصل عند مراجعة الأحاديث المروية في جوامع الشيعة والاطّلاع على العلوم الاسلامية المدوّنة فيها: أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بالرجوع إلى أهل بيته والتمسّك بهم ولم يجعلهم عدلاً للقرآن إلّالأنّهم معادن العلم وينابيع الحكم، وأعلم من غيرهم بالأحكام الشرعية.
ونِعم ما قاله أبو الحسن بن سعيد كما نقل عن كتابه كنوز المطالب:
يا أهل بيت المصطفى عجبا لمن2.
ص: 392
اتفق علماء الفريقين على تقديم من كان اختصاصه بالمروي عنه أكثر، فيقدّم ما يرويه أهل بيت رجل أو تلميذه أو خادمه أو قريبه على ما يرويه غيره، ولذلك يقدّمون ما يرويه أبو يوسف والشيباني عن أبي حنيفة، وما يرويه المزني والربيع عن الشافعي على ما يرويه غيرهم عنهما.
وقد اتفقوا أيضاً على تقديم الأعدل من المخبرين على من ليس له تلك المنزلة من العدالة، وهذه طريقة العقلاء في أُمورهم الدينية والدنيوية.
ومن ذلك نعلم وجوب تقديم أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام على روايات غيرهم لوجهين:
أحدهما: أنّ الأُمة أجمعت على عدالتهم ووثاقتهم وفضلهم وتقواهم وجلالة قدرهم ووجوب حبّهم وموالاتهم، ولم يتحقّق منهم إجماع على عدالة
ص: 393
غيرهم من الصحابة(1) والتابعين.
ثانيهما: أنّه لا ريب في اختصاص أهل البيت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّهم أدرى بما في البيت، فهم أهل بيت الوحي والنبوة ومحطّ الرسالة ومختلف الملائكة. وقد أجمعت الأُمة على اختصاص الإمام علي عليه السلام برسول الله صلى الله عليه وآله في معرفة الأحكام الشرعية والعقائد الإسلامية وتفسير القرآن والسنة ومعرفة المحكم والمتشابه والمطلق والمقيّد والعام والخاص والتأويل والتنزيل وغيرها.
وقد قال صلى الله عليه و آله في حقه: «أنا مدينة العلم وعلي بابها، ومن أراد المدينة فليأت الباب»(2).ه.
ص: 394
وقال: «أنا دار الحكمة وعلي بابها»(1).
وقال: «علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض»(2).
وقال: «علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار»(3).
وقال: «أعلم امّتي من بعدي علي بن أبي طالب عليه السلام» (عن سلمان)(4).
وقال: «علي باب علمي، ومبيّن لاُمتي ما أرسلت به من بعدي، حبه إيمان وبغضه نفاق، والنظر إليه رأفة»(5).
وقال علي عليه السلام: «علّمني رسول الله ألف باب، كل باب يفتح ألف باب» أخرجه أبو نعيم والإسماعيلي في معجمه(6).6.
ص: 395
وقال رسول الله صلى الله عليه و آله: «إنّ الله أمرني أن أُدنيك ولا أُقصيك، وأن أُعلّمك وأن تعي لك أن تعي». قال: فنزلت هذه الآية تعيها اذن واعية. أخرجه أبو نعيم في الحلية عن علي(1).
وقال: «إنّي أردت أن أُدنيك ولا أُقصيك، وأن أُعلّمك وأن تعي وحقّ لك أن تعي» قال: فنزلت هذه الآية وتعيها اذن واعية. أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير عن ابن أبي مرة الأسلمي، وابن المغازلي عن ابن بريدة عن أبيه، وأخرجه الطبري(2).
ومن هذا الوجه أخرجه ابن جرير، وأخرجه أيضاً من وجه آخر عن بريدة، ومن وجه آخر عن مكحول مرسلاً لمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «سألت الله أن يجعلها اذنك يا علي». وهكذا أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وأخرجه الثعلبي من وجهٍ آخر عن حسن(3).5.
ص: 396
وعن ابن عباس قال: كنا نتحدّث أنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله عهد إلى علي سبعين عهداً لم يعهدها إلى غيره. ورواه الطبراني في معجمه بسنده عن السندي بن عبدويه(1) ، وأخرجه أبو نعيم في الحلية قال: حدثنا الطبراني به(2).
وقال عبد اللّه بن عباس: والله لقد أعطى علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وايم اللّه لقد شارككم في العشر العاشر(3).
وروى طاووس عنه أنّه قال: كان علي ولي اللّه، قد ملئ علماً وحكماً(4).
وقال ابن عباس أيضاً: إذا حدثنا ثقة عن علي بفتيا لا نعدوها.
وفي أُسد الغابة: إذا ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل عنه إلى غيره.
وفي الإصابة: إذا جاءنا الثبت عن علي لم نعدل به(5).
وقالت عائشة: إنّه أعلم الناس بالسنة، وكانت كثيراً ما ترجع إليه في المسائل(6).ا.
ص: 397
وعن أبي الطفيل قال: شهدت علياً يخطب، وهو يقول: «سلوني، فواللّه لا تسألوني عن شيء إلّاأخبرتكم به، وسلوني عن كتاب اللّه، فواللّه مامن آية إلّا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل، ولو شئت أوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب»(1).
وقال ابن عباس: علم رسول اللّه من علم اللّه، وعلم علي من علم رسول اللّه، وعلمي من علم علي، وما علمي وعلم أصحاب محمّد صلى اللّه عليه وآله في علم علي إلّاكقطرة في سبعة أبحر(2).
ولقد كان معاوية يكتب فيما ينزل به فيسأل علي بن أبي طالب، فلما بلغه قتله قال: ذهب الفقه والعلم بموت علي بن أبي طالب(3).
كما قد شهد بكثرة علمه وأنّه أعلم الناس جماعة من الصحابة، ذكر أسماء».
ص: 398
جمع منهم في كتاب فتح الملك العلي.
وقال علي عليه السلام: «واللّه ما نزلت آية إلّاوقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت، إنّ ربّي وهب لي قلبا عقولاً ولساناً طلقاً»(1).
وقيل لعلي عليه السلام: مالك أكثر أصحاب رسول اللّه حديثاً؟(2) فقال: «إنّي كنتة.
ص: 399
سألته أنبأني وإذا سكت ابتدأني»(1). وروي عنه: «كنت إذا سألت أعطيت وإذا سكت ابتدئت»(2).
وقال سعيد بن المسيّب: كان عمر يتعوّذ باللّه من معضلة ليس فيها أبو حسن(3). وقال: لم يكن أحد من الصحابة يقول (سلوني) إلّاعلي(4).
وقال رسول الله صلى الله عليه و آله لفاطمة الزهراء عليها السلام: «أما ترضين أن أُزوّجك (زوّجتك - خ ل) أقدم أُمتي سلماً وأكثرهم علما وأعظمهم حلماً» رواه أحمد والطبراني برجال وثقوا(5).
وفي حديث أخرجه الحافظ أبو بكر عبد الرزاق الصنعاني: «لقد زوجتكه وأنّه لأول أصحابي سلماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً»(6).
وعن سلمان قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّ لكل نبي وصياً فمن وصيك؟ فسكت عني، فلما كان بعد رآني فقال: «يا سلمان، فأسرعت إليه، قلت: لبيك.9.
ص: 400
قال: تعلم من وصي موسى؟ قال(1): نعم يوشع بن نون. قال: لِمَ؟ قلت: لأنّه كان أعلمهم يومئذٍ. قال: فإنّ وصيي وموضع سرّي وخير من أترك بعدي وينجز عِدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب»(2).
وأخرج ابن سعد عن جبلة بن المصفّح عن أبيه قال: قال لي علي عليه السلام: «يا أخا بني عامر! سلني عمّا قال الله ورسوله، فنحن أهل البيت أعلم بما قال اللّه ورسوله»(3).
وأخرج الرازي عن علي عليه السلام أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال له: «ليهنك العلم أبا الحسن، لقد شربت العلم شرباً ونهلته نهلاً»(4).
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه، وقد سئل عن علي عليه السلام فقال: رحمة الله على أبي الحسن، كان والله علم الهدى وكهف التقى وطود النهى ومحل الحجى وغيث الندى ومنتهى العلم للورى، ونورا أسفر في الدجى، وداعياً إلى المحجة العظمى، مستمسكاً بالعروة الوثقى، أتقى من تقمّص وارتدى، وأكرم من شهد النجوى بعد محمد المصطفى، وصاحب القبلتين، وأبو السبطين، وزوجة خير النساء، فما يفوقه أحد، لم تر عيناي مثله ولم أسمع بمثله، فعلى من بغضه لعنة الله8.
ص: 401
ولعنة العباد إلى يوم التناد. أخرجه أبو الفتح القواس(1).
والأحاديث في هذه المعاني كثيرة جدّاً لا شبهة في تواترها.
وقال علي عليه السلام في خطبته المعروفة بالقاصعة: «وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني في صدره ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل، ولقد قرن اللّه به صلى الله عليه و آله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أُمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يرى غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول اللّه وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقلت: يا رسول اللّه، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان آيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلّاأنّك لست بنبي ولكنّك وزير وإنّك على خير»(2).
وقال: «كنت أسمع الصوت وأبصر الضوء سنين سبعاً، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله حينئذٍ صامت ما اذن له في الإنذار والتبليغ»(3).5.
ص: 402
وقال: «لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأُمة سبع سنين»(1).
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «لقد صلّت الملائكة علَيَّ وعلى علي سبع سنين، وذلك أنّه لم يصل معي رجل غيره». أخرجه ابن الأثير بسنده عن أبي أيوب الأنصاري، وأخرجه المحب الطبري إلّاأنّه لم يذكر (سبع سنين)، وقال: لأنّا كنّا نصلّي ليس معنا أحد يصلّي غيرنا(2).
والأخبار في هذا المعنى وأنّه أول من صلّى وأسلم كثيرة.
وأخرج ابن الأثير عن أبي الطفيل قال: قال بعض أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وآله: «لقد كان لعلي من السوابق ما لو أن سابقة منها بين الخلائق لوسعتهم خيراً». ثم قال: وله في هذا أخبار كثيره تقتصر على هذا منها، ولو ذكر ما سأله الصحابة مثل عمر وغيره لأطلنا(3).
وأخرج المحب الطبري عن أبي الحمراء قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله: «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في فهمه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى يحيى بن زكريا في زهده وإلى موسى في بطشه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه»، أخرجه أبو الخير الحاكمي.3.
ص: 403
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله:
«من أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حمله وإلى نوح في حكمه وإلى يوسف في جماله فلينظر إلى علي بن أبي طالب» أخرجه الملا في سيرته(1).
وأخرج ابن أبي الحديد عن أحمد والبيهقي: «من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه والى آدم في علمه والى إبراهيم في حلمه والى موسى في فطنته والى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام»(2).
وأخرج ابن المغازلي بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وآله: «من أراد أن ينظر إلى علم آدم وفقه نوح فلينظر إلى علي بن أبي طالب»(3).
وأخرج الحافظ جمال الدين الزرندي عن أبي الطفيل وجعفر ابن حبّان إنّ الإمام الحسن السبط عليه السلام قال في خطبته: «أنا من أهل البيت الذين كان جبرئيل ينزل فينا ويصعد من عندنا»(4).
هذا وسيأتي في بعض الفصول الآتية ما يدل عَلى ذلك إن شاء الله تعالى(5).
ومما ذكرنا يظهر ما اختص به علي عليه السلام دون غيره، وناهيك عن علمهث.
ص: 404
الواسع المستفاد من علم النبي صلى الله عليه و آله كتاب (نهج البلاغة) وما روي عنه في الأحكام الشرعية وقضاياه.
ثم إنّه لا ريب في اختصاص الحسن والحسين عليهما السلام برسول الله صلى الله عليه و آله وبأمير المؤمنين، وهما ممن أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. كما أنّه لا شك في اختصاص أبنائهم بهم اختصاصاً يقصر غيرهم عن بلوغه.
إذن فلا شك في وجوب تقديم ما رواه أعلام أهل بيت النبوة، مثل الإمامين محمد الباقر وجعفر بن محمد الصادق عليهما السلام بإسنادهم المتّصل إلى جدّهم الرسول، وتعيّن الأخذ به دون حديث غيرهم كائناً من كان، فضلاً عن كون الراوي من الخوارج والنصّاب والمنافقين ومن عمّال أمية وقتلة الأخيار، أو من دعاة المرجئة وأهل الزندقة والمتقرّبين إلى الولاة وحكّام الجور بوضع الأحاديث.
وظهر لك أيضاً وجه إعراضهم عن أحاديث العترة الطاهرة وقلة تخريجها في مثل الصحيحين، وعدم احتجاجهم بأقوالهم، مع أنّ الأخبار المتواترة من طرق الفريقين في فضلهم ووجوب موالاتهم واتباعهم يؤكد وجوب التمسّك بهم غاية التأكيد، ويأمر بالأخذ بأقوالهم وأحاديثهم، كما يدلّ على وجوب الرجوع إليهم غاية الإيجاب والإلزام.
هم القوم من أصفاهم الودّ مخلصا
ص: 405
ص: 406
استدلّ القائلون بحجية القياس وجواز العمل به في الأحكام كما نص عليه ابن رشد في مقدمة كتابه «بداية المجتهد» بأنّ النصوص وكذا الأفعال والإقرارات الشرعية متناهية، بينما الوقائع والقضايا غير متناهية، ولا يمكن شمول المتناهي لغير المتناهي(1).
ص: 407
ص: 408
فالعمل بالقياس عند من يقول بجوازه إنّما هو بالنسبة إلى الوقائع التي لم يرد فيها حكم من الشارع وسكت عنها، أما الوقائع والقضايا التي ورد حكمها من قبل الشارع فلا يجوز العمل به فيها.
ونحن تركنا التعرّض في هذا المختصر للرد على الأدلّة التي أقاموها على حجية القياس وتفنيدها، إذ أنّ ما كتب حول هذا الموضوع في كتب الأُصول من قبل كثير من محقّقي الشيعة وغير واحد من محقّقي أهل السنة يكاد أن لا يحصى، فمن شاء أن يتبيّن له الحق فليراجع.
ولكن الذي نريد أن نقول: هو مجمل رأي الشيعة الإمامية في الموضوع، ويتلخّص في عدم جواز العمل بالقياس والاخالة(1) في أحكام الله تعالى، وعدم جواز القول بخلو الكتاب والسنة عن أحكام أكثر الوقائع، وعدم وفائهما بها.
وذلك لوجود أئمة أهل البيت وعترة النبي صلى الله عليه و آله إلى القرن الثالث بين ظهراني الأُمّة محيطين علماً بأحكام جميع الوقائع، فلا توجد واقعة إلّاوحكمها عندهم، وقد أجمعوا على حرمة العمل بالقياس، وإجماعهم حجة.
أضف إلى ذلك رواياتهم الكثيرة في حرمته عن جدّهم رسول الله صلى الله عليه و آله،).
ص: 409
ونصوصهم من أنّ دين الله لا يصاب بالعقول، وأنّ السنة إذا قيست مُحِقَ الدين(1).
وأضف أيضاً إلى ذلك أنّ موضوع جواز العمل بالقياس على القول به إنما يتحقّق في واقعة سكت الشارع عن حكمها، وبعد ارجاعه الأُمة إلى أهل بيته والزامه بالتمسك بهم والأخذ بأقوالهم، يجب الرجوع إليهم لا العمل بالقياس، لأنّهم عيبة علم النبي صلى اللّه عليه وآله وهداة الأُمة من بعده وأمانهم من الضلال، فكيف يجوز العمل بالقياس مع وجود أئمة من أهل البيت مثل جعفر بن محمد الصادق بين الأُمة وهم يقولون ببطلان العمل بالقياس وعلمهم بأحكام جميع الوقائع.
نعم لو لم يكن في أحاديثهم والعلوم المذخورة عندهم عن النبي صلّى اللّه عليه وآله حكم واقعة، تصل النوبة إلى البحث عن حجية القياس والرأي والاخالة في استكشاف حكم تلك الواقعة وعدمها، فلا يجوز الاجتهاد والقياس مع النص.
ومع ذلك كيف يرضى المسلم المؤمن بما آتاه الرسول وبما نهى عنه أن يدين بالقياس ويأخذ بالاستحسان ويعمل على وفق الفتاوى التي يأباها العقل ولا تقرّها الشريعة المقدسة السمحاء، وترك أحاديث أئمة أهل البيت المخرّجة في جوامع الشيعة، ويضرب على كل هذه الأحاديث والعلوم بالرد، ويستند في أحكام دينه على روايات النواصب والخوارج والمنافقين والمجاهيل ممن أشرنا).
ص: 410
إلى بعضهم.
ونختم الكلام في هذا الموضوع بما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام، قال:
«ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً، وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد. فأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاءه فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول صلى الله عليه و آله عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول: ما فرطنا في الكتاب من شيء وقال: فيه تبيان كل شيء وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضاً، وأنّه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، وأنّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تكشف الظلمات إلّابه»(1).
هذا مختصر الكلام في الأمر الأول، وهو وجوب الأخذ بأحاديث أئمة أهل البيت وما روي عنهم بالطرق المتصلة إليهم عليهم السلام، ويأتي الكلام في الأمر الثاني، وهو حجية أقوال أئمة العترة وأفعالهم وسيرتهم ووجوب اتباعهم والرجوع إليهم(2).ة.
ص: 411
ومما يؤيّد صحة هذه الأحاديث أنّ الفقه الشيعي المستند إليها أوفق بالكتاب والسنة والعقل والشريعة الحنيفية السمحة، كما لا يخفى على كل باحث في الفقه والكتب المؤلفة في خلافات الفقهاء، كالخلاف للشيخ الطوسي، وتذكرة الفقهاء للعلّامة الحلي وغيرهما.
ولَنِعم ما قال ابن الوردي عمر بن المظّفر بن عمر التيمي مؤلف (تاريخ ابن الوردي) وناظم البهجة:
يا أهل بيت النبي من بذلت5.
ص: 412
قد دلّت النصوص الصريحة الكثيرة المتواترة التي خرّجها أكابر علماء الجمهور وأعاظم أئمتهم المحدّثين وحفّاظهم، على وجوب التمسّك بأهل البيت وأخذ العلم عنهم وحجية أقوالهم وأنّ اتّباعهم هو طريق النجاة، وهم الآخذون بالكتاب والسنة، نذكر بعون الله تعالى طائفة منها في هذا المختصر:
الأول: نصوص الثقلين
نصوص الثقلين(1) متواترة قطعية، أجمعت الأُمة على صحتها، وقد أخرجها أكابر أهل السنة ومحدّثيهم في صحاحهم وجوامعهم ومسانيدهم
ص: 413
بأسانيد صحيحة، وقد بقيت على تواترها في جميع الأعصار إلى العصر الحاضر، وقلّما يخلو عن روايتها مسند أو جامع أو كتاب في الفضائل، منذ أن بدأ تدوين الأحاديث في الكتب، بل قد رويت في كتاب واحد بطرق متعددة.
وتواترها وقوة اشتهارها بين أهل السنة فضلاً عن الشيعة يغني عن ذكر مصادرها ومخرجيها، فراجع كتاب (عبقات الأنوار) وما كتب فيه حول هذه الأحاديث(1). وراجع كتب الحديث عند العامة وتفاسيرهم وتواريخهم وكتبهم في اللغة، حتى تعرف شأن هذه النصوص من الاشتهار والتواتر.
قال ابن حجر: ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بضع وعشرين صحابياً لا حاجة لنا ببسطها(2).
ونصوص الحديث على كثرتها وإن كانت ترجع إلى معنى واحد وهو وجوب التمسّك بالكتاب والعترة إلّاأنّ لفظها قد يختلف عند مخرّجيها بحسب اختلاف أسانيدها الصحيحة، وإنّها صدرت في غير مورد ومكان.
النص الأوّل: فعند الطبراني وغيره بسنده صحيح أنه صلى الله عليه و آله قال في خطبة خطبها بغدير خم تحت شجرات: «إني أظن أن يوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت).
ص: 414
وجهدت ونصحت، فجزاك الله خيراً. فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلّاالله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنته حق وأن ناره حق، وأن الموت حق، وأن البعث حق بعد الموت، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك. قال: اللّهم اشهد. ثم قال: أيّها الناس إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا مولاه - \يعني علياً - \اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. ثم قال: أيّها الناس إنّي فرطكم وإنّكم واردون علَيَّ الحوض، حوض أعرض مما بين بصرى إلى صنعاء، فيه عدد النجوم قد حان من فضة، وإنّي سائلكم حين تردون عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، الثقل الأكبر كتاب الله عز وجل سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن ينقضيا حتى يردا علَيَّ الحوض»(1).
النص الثاني: وعند الترمذي وغيره بإسنادهم عن جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول:
«أيّها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي». (قال الترمذي) وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد(2).
النص الثالث: وأخرج بطريق آخر عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله2.
ص: 415
صلى الله عليه وآله: «إني تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض، فانظروني كيف تخلفوني فيهما»(1). وأخرجه ابن الأثير إلّاأنه قال: (لن تضلّوا أحدهما أعظم)...
الحديث(2).
النص الرابع: وعند أحمد في مسنده: «إني أُوشك أن أُدعى فأُجيب، وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللطيف الخبير أخبروني أنهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض، فانظروني بم تخلفوني فيهما»(3).
أقول: ولأحمد في مسنده لهذا الحديث طرق كثيرة جداً مضامينها متقاربة(4) ، وأخرجه ابن سعد عن أبي سعيد إلّاأنه قال: «فانظروني كيفه.
ص: 416
تخلفوني فيهما»(1).
5 - \وعند مسلم في صحيحه من بعض طرقه عن زيد بن أرقم قال: قام رسول اللّه صلى الله عليه وآله فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد اللّه وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: «أمّا بعد، ألا أيّها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّى فأجيب، وانا تراك فيكم ثقلين كتاب اللّه فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به، فحث على كتاب اللّه ورغب فيه ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي». وأخرج الحديث بطرق أخرى أيضا(2) ، وأخرجه البيهقي باسناده عن يزيد بن حيان(3).
النص السادس: وفي رواية صحّحها ابن حجر: «إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن تبعتموهما، وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي». زاد الطبراني:
«إنّي سألت ذلك لهما فلا تقدّموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم»(4). وأخرجه الحاكم عن زيد وصححه على شرط8.
ص: 417
الشيخين، وفيه بعد قوله: «وأهل بيتي عترتي» ثم قال: «أتعلمون إنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم» ثلاث مرات قالوا: نعم. فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «من كنت مولاه فعلي مولاه»(1).
النص السابع: وفي رواية أُخرى أنّه صلى الله عليه وآله قال في مرض موته: «أيّها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم، إلّاإنّي مخلف فيكم كتاب ربّي عز وجل وعترتي أهل بيتي. ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال: هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي، لا يفترقان حتى يردا علَيَّ الحوض، فأسألهما ما خلّفت فيهما»(2).
النص الثامن: وفي رواية صححها أيضاً ابن حجر: «إنّي تارك فيكم ما أن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب اللّه وعترتي»(3).
النص التاسع: وعند الطبراني في الكبير وأحمد أيضاً في مسنده بسندٍ صحيح: «إنّي تارك فيكم خليفتين، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وأنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض»(4).
وأورده السيوطي أيضاً بسند صحيح بلفظٍ آخر عن أحمد وعبد بن6.
ص: 418
حميد(1) ومسلم، وأخرجه ابن عقدة في الموالاة بسنده عن زيد بن ثابت(2) ، وأخرجه الهيثمي مختصراً عن زيد بن ثابت وقال رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات(3).
النص العاشر: وأخرج الحاكم وصححه على شرط الشيخين عن زيد قال:
لما رجع رسول اللّه صلى الله عليه وآله من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقمن فقال: «كأنّي قد دعيت فأجبت، إنّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله وعترتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض. ثم قال: إنّ اللّه عز وجل مولاي وأنا مولى كل مؤمن ثم أخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فهذا وليه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه»(4).
النص الحادي عشر: ومثله في كنز العمال نقلاً عن ابن جرير في تهذيب الآثار بسنده عن أبي الطفيل، وفي آخره فقلت لزيد: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه و آله، فقال:... ما كان في الدوحات أحد الّا قد رآه بعينه وسمعه بأُذنيه (ثم قال في الكنز) أيضاً عن ابن جرير عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري مثل ذلك(5).0.
ص: 419
النص الثاني عشر: وأخرج النسائي بسنده عن زيد بن أرقم قال: لمّا رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقمن، ثم قال: «كأنّي دُعيت فأجبت، وإنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض. ثم قال: إنّ اللّه مولاي وأنا ولي كل مؤمن. ثم أخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فهذا وليه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه». فقلت لزيد: سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم؟ فقال: وإنّه ما كان في الدوحات أحد إلّارآه بعينه وسمعه بأُذنيه(1).
النص الثالث عشر: وأخرج الحافظ ابن عقدة (في المولاة) عن عامر بن أبي ليلى بن ضمرة وحذيفة بن أُسيد قالا: قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
«أيّها الناس إنّ اللّه مولاي وأنا أولاكم من أنفسكم، ألا ومن كنت مولاه فهذا مولاه. وأخذ بيد علي فرفعها حتى عرفه القوم أجمعون، ثم قال: اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، ثم قال: وإنّى سائلكم حين تردون علَيَّ الحوض عن الثقلين، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، قالوا: وما الثقلان؟ قال: الثقل الأكبر كتاب اللّه سبب طرفه بيد اللّه وطرفه بأيديكم، والأصغر عترتي، وقد نبّأني العليم الخبير أن لا يفترقا حتى يلقياني، سألت ربّي لهم ذلك فأعطاني، فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم». وأيضاً أخرجه ابن عقدة من طريق عبد اللّه بن سنان عن أبي الطفيل عن عامر وحذيفة بن أُسيد نحوه(2).7.
ص: 420
النص الرابع عشر: أخرج الدولابي في (الذرية الطاهرة) روى الحافظ الجعابي عن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن عن أبيه عن جده عن علي، ولفظه:
«إنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا، كتاب اللّه حبل طرفه بيد اللّه وطرفه بأيديكم، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض»(1).
النص الخامس عشر: وأخرج ابن عقدة من طريق سعد بن ظريف عن الأصبغ ابن نباتة عن علي، وعن ابن أبي رافع مولى رسول اللّه ما لفظه: «أيّها الناس إنّي تركت فيكم الثقلين الثقل الأكبر والثقل الأصغر، فأما الأكبر هو حبل اللّه فبيد اللّه طرفه، والطرف الآخر بأيديكم، وهو كتاب اللّه إن تمسّكتم به لن تضلّوا ولن تذلّوا أبداً، وأما الأصغر فعترتي أهل بيتي، إنّ اللطيف الخبير أخبرني إنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض، وسألت ذلك لهما فأعطاني، واللّه سائلكم كيف خلّفتموني في كتاب اللّه وأهل بيتي»(2).
النص السادس عشر: أخرج ابن عقدة من طريق محمّد بن عبد اللّه بن أبي رافع عن أبيه عن جده، وعن أبي هريرة ما لفظه: «إنّي خلّفت فيكم الثقلين إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض»(3).
النص السابع عشر: أخرج أبو نعيم عن أبي الطفيل: إنّ علياً قام فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أنشد اللّه من شهد يوم غدير خم إلّاقام، ولا يقوم رجل8.
ص: 421
يقول: نبّئت أو بلغني إلّارجل سمعت أذناه ووعاه قلبه، فقام سبعة عشر رجلاً منهم خزيمة بن ثابت وسهل بن سعد وعدي بن حاتم وعقبة بن عامر وأبو أيوب الأنصاري وأبو سعيد الخدري وأبو شريح الخزاعي وأبو قدامة الأنصاري وأبو يعلى الأنصاري وأبو الهيثم بن التيهان ورجال من قريش، فقال علي: هاتوا ما سمعتم. فقالوا: نشهد أنا أقبلنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله من حجة الوداع نزلنا بغدير خم، ثم نادى بالصلاة فصلّينا معه، ثم قام فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ما أنتم قائلون؟ قالوا: قد بلّغت. قال: اللّهم اشهد - \ثلاث مرات - \ثم قال: إنّي أُوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون. ثم قال: أيها الناس إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، ولن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض، نبّأني بذلك اللطيف الخبير. ثم قال: إنّ اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين، ألستم تعلمون أنّي أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى ذلك ثلاثاً. ثم أخذ بيدك يا أمير المؤمنين فرفعها، وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. فقال علي:
صدقتم وأنا على ذلك من الشاهدين»(1).م.
ص: 422
النص الثامن عشر: أخرج المتقي الهندي خطبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في غدير خُمّ منها: «أيّها الناس ألا هل تسمعون! فإنّي فرطكم على الحوض وأنتم واردون علَيَّ الحوض، وإنّ عرضه أبعد ما بين صنعاء وبصرى، فيه أقداح عدد النجوم من فضة، فانظروا كيف تخلّفوني في الثقلين.
قالوا: وما الثقلان يا رسول اللّه؟ قال: كتاب اللّه طرفه بيد اللّه وطرفه بأيديكم فاستمسكوا به ولا تضلّوا، والآخر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدّموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم، من كنت أولى به من نفسه فعلي وليه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه». قال: رواه الطبراني في الكبير عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم(1).
النص التاسع عشر: وأخرج الشريف الحضرمي: «إنّي فرطكم على الحوض فأسألكم عن ثقلي خلّفتموني فيهما. فقام رجل من المهاجرين فقال:
وما الثقلان؟ قال: الأكبر منهما كتاب اللّه سبب طرفه بيد اللّه وسبب طرفه بأيديكم فتمسّكوا به، فالأصغر عترتي، فمن استقبل قبلتي وأجاب دعوتي فليستوص بهم خيراً (أو كما قال:) فلا تقتلوهم ولا تقهروهم ولا تقصروا عنهم، وإنّي قد سألت اللطيف الخبير فأعطاني أن يردوا علَيَّ الحوض كتين - أو قال:
كهاتين وأشار بالمسبحتين - ناصرهما لي ناصر وخاذلهما لي خاذل ووليهما لي ولي وعدوّهما لي عدو»(2).7.
ص: 423
النص العشرون: أخرج عبد بن حميد في مسنده عن زيد بن ثابت قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، إنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض»(1).
النص الحادي والعشرون: وأخرج ابن أبي شيبة والخطيب في المتفق والمفترق عن جابر بلفظ: «إنّي تارك فيكم ما لن تضلّوا بعدي إن اعتصمتم به، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي»(2).
النص الثاني والعشرون: أخرج الحسن بن محمد الصغاني الحافظ (ت 650) في «الشمس المنيرة»: (3)«افترقت أُمة أخي موسى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت أُمة أخي عيسى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أُمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم هالكة إلّافرقة واحدة. فلما سمع ذلك منه ضاق المسلمون ذرعاً وضجّوا بالبكاء وأقبلوا عليه وقالوا: يا رسول اللّه، كيف لنا بعدك بطريق النجاة؟ وكيف لنا بمعرفة الفرقة الناجية حتى نعتمدث.
ص: 424
عليها؟ فقال صلى اللّه عليه وآله: إنّى تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا من بعدي أبداً، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، إنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عَلَيَّ الحوض».
النص الثالث والعشرون: وأخرج الدارمي بسنده عن يزيد بن حبان عن زيد بن أرقم قال: قام رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوماً خطيباً، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال:
«أيها الناس، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأُجيبه، وإنّي تارك فيكم الثقلين، أولهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور، فتمسّكوا بكتاب اللّه وخذوا به». فحثّ عليه ورغّب فيه ثم قال: «وأهل بيتي أُذكّركم اللّه في أهل بيتي - \ثلاث مرات». وأخرجه المتقى أيضاً عن زيد بن أرقم(1).
***
النص الرابع والعشرون: وأخرج الحافظ الطحاوي: أنّ النبي صلى الله عليه و آله حضر الشجرة نجم مخرج آخذاً يد عليّ فقال: «يا أيّها الناس! ألستم تشهدون أنّ اللّه ربّكم؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تشهدون أنّ اللّه أولى بكم من أنفسكم وأنّ اللّه ورسوله مولاكم؟ قالوا: بلى، قال: إن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم لن تضلّوا بعدي: كتاب اللّه بأيديكم، وأهل بيتي»(2).
النص الخامس والعشرون: وفي المعجم الأوسط: «إنّي تارك فيكم7.
ص: 425
الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض»(1).
النص السادس والعشرون: وأيضاً فيه: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي - أهل بيتي - ولن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض»(2).
هذه بعض ألفاظ نصوص الثقلين، وقد ظهر منها أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد كرّر عليهم ذلك في موارد متعددة، في غدير خم والجحفة كما رواه الحاكم(3) ، وابن الأثير(4) ، والنسائي في الخصائص، والذهبي في التلخيص وغيرهم، وفي حجة الوداع بعرفة كما سمعته عن الترمذي، وفي مرض موته كما أخرجه ابن حجر، وبعد انصرافه من الطائف لمّا قام خطيباً، وفى غيرها من المواطن.
ويستفاد من ذلك شدّة اهتمام النبي صلى الله عليه و آله بإبلاغ ذلك وبإرجاع الأُمة إليهما، فكرر ذلك بحسب المواطن والمواقف، حتى لا يبقى لأحد عذر في ترك الرجوع إليهما والتمسّك بهما.
قال ابن حجر: ثم اعلم أنّ لحديث التمسّك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً، ومر له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، وفي بعض تلك الطرق أنّه قال بحجة الوداع بعرفة، وفي أُخرى أنّه قال بالمدينة في مرض7.
ص: 426
موته وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنّه قال ذلك بغدير خم، وفي أُخرى أنّه قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف كما مر. ولا تنافي، إذ لا مانع من أنّه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة(1).
دلالة أحاديث الثقلين:
يستفاد من هذه النصوص أُمور:
(الأمر الأول) وجوب التمسّك بالكتاب والعترة، والمراد به إنّما هو وجوب السير على وفق أوامرهم ونواهيهم وإرشاداتهم، لكونهم أعدال القرآن، وعدم افتراق أحدهما عن الآخر.
(الأمر الثاني) انحصار سبيل النجاة والعصمة عن الضلالة بالتمسّك بهم وبالكتاب دون غيرهم كائناً من كان، لأنّه جعلهم عدل الكتاب وغير مفترقين عنه، ولأنّه لو كان التمسّك بغيرهم مؤمناً من الضلال لوجب أن ينبّه عليه، خصوصاً في مثل تلك المواطن.
ويدلّ على ذلك أيضاً قوله صلى اللّه عليه وآله «فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنهّم أعلم منكم» وأنّه خاطب الجميع في هذه النصوص، فما من الأُمة أحد إلّاوهو مأمور بالتمسّك بهم.8.
ص: 427
(الأمر الثالث) تعليق الأمن من الضلالة بالتمسّك بالكتاب وأهل البيت جميعاً، فالتمسّك بأحدهما إن لم يقترن بالتمسك بالآخر لا يوجب الأمن من الضلالة، فإنّه صلى الله عليه و آله لم يقل: «ما إن تمسّكتم بأيّهما أو بأحدهما». وعليه: فمفهوم الحديث يدل على وعيد عظيم، وهو أن من لم يتمسّك بهما أو تمسّك بأحدهما فقط يقع في الضلال، وذكر ذلك الفاضل الشهير أحمد أفندي المعروف بالمنجّم باشي (ت 1113 أو 1116) في طي ما أفاده من النكات الجليلة، وهو من أعلام السنّة ومحقّقيهم(1). بل التمسّك الحقيقي بأحدهما من غير التمسّك بالآخر لا يتحقّق، فلا يمكن التمسّك بأحدهما دون الآخر.
(الأمر الرابع) عصمة العترة عن الخطأ والاشتباه، وذلك لوجوه:
1 - \عدم افتراقهم عن الكتاب، فتجويز افتراقهم عن الكتاب، وهو منافٍ لقوله صلى اللّه عليه وآله: «لن يفترقا».
2 - \لو لم يكونوا معصومين لجاز أن يكون المتمسك بهم ضالاً، ويدفع هذا أمر النبي صلى اللّه عليه وآله بالتمسّك بهم.
3 - \لو لم يكونوا معصومين لما أمكن أن يكونوا منقذين من الضلالة مطلقاً، ولم يكن التمسّك بهم أمناً من الضلال كذلك، وهو ينافي قوله صلى الله عليه و آله: «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا».
4 - \أنّهم لو لم يكونوا معصومين من الخطأ لم يكن التقدم عليهم والتخلف عنهم سبباً للتهلكة على سبيل الإطلاق، وقد قال صلى اللّه عليه وآله: «فلا9.
ص: 428
تقدّموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا».
5 - \أنّ النبي صلى الله عليه و آله أمر باتّباعهم والتمسّك بهم على سبيل الإطلاق، ولا يجوز اتّباع أحد على الإطلاق إلّاإذا كان معصوماً.
(الأمر الخامس) كون العترة أعلم الناس بعد النبي صلى اللّه عليه وآله إذ لا معنى لإختصاصهم بالاقتران بالكتاب وعدم افتراقهم عنه إلّاإذا كان عندهم من العلوم اللدنية ما ليس عند غيرهم، وكانوا أعلم بالكتاب والسنة من غيرهم، وكان لهم من اللّه عنايات اختصّهم بها، وإلّا فحالهم وحال غيرهم سواء، ولا يصح اقترانهم بالكتاب في كون التمسّك بهم منقذاً من الضلالة، ويدل على ذلك قوله صلى اللّه عليه وآله: «فلا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم»(1).
(الأمر السادس) بقاء العترة الهادية إلى يوم القيامة، وعدم خلوّ الزمان من عالم من أهل البيت تكون أقواله حجة كالكتاب المجيد، ويدل على ذلك أُمور:
أوّلاً: قوله صلى اللّه عليه وآله: «إنّي تارك فيكم الثقلين»(2) وقوله: «إنّي مخلّف فيكم»(3) وقوله: «إنّي تارك فيكم خليفتين»(4) وقوله: «إنّى قد تركت فيكم»(5) وقوله: «إنّي قد خلفت فيكم الثقلين»(6) فإنها تدل على أنّه صلى اللّه عليه وآله ترك في أُمته من يكون مرجعاً في أُمورهم وخليفته عليهم، وهو القرآنق.
ص: 429
والعترة. ومن المعلوم أنّ احتياج الأُمة اليهما ليس مختصّاً بزمان دون زمان، فلو لم يبق ما ترك في الأُمة مدى الدهر لا يصدق عليه أنه ترك فيهم من يكون كذلك، وعليه فلا يصح صدور هذه التعابير والتصريحات منه. والفرق واضح بين أن يكون تاركاً ومخلّفاً في الجميع ما إن تمسّكوا به لن يضلوا أو في البعض، وهذه العبارات كلها صريحة في الأول دون الثاني.
ثانياً: قوله صلى اللّه عليه وآله: «ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا» وقوله: «إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» فإنّ نفي الضلال على سبيل التأبيد إن تمسّكوا بالثقلين لا يصح إلّاإذا كان ما يتمسّك به باقياً متأبّداً.
ثالثاً: قوله صلى اللّه عليه وآله: «لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض» فإنه لو لم يكن في زمن من الأزمنة من هو عدل الكتاب وقرينه لزم افتراق كل منهما عن الآخر، وهذا ينافي ما هو صريح الحديث من كونهما عدلين وعدم افتراقهما أبداً.
رابعاً: قوله صلى اللّه عليه وآله: «لن ينقضيا حتى يردا علَيَّ الحوض» فإنه يدلّ على دوامهما وعدم انقضائهما أبداً.
قال ابن حجر: وفي أحاديث الحث على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة كما أن الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما يأتي، ويشهد لذلك الخبر السالف: «في كل
ص: 430
خلف من أُمتي عدول من أهل بيتي...» إلى آخره(1).
ومما يدلّ على وجود من يكون أهلاً للتمسّك به من أهل البيت في جميع الأزمان وعدم خلوّ الزمان من إمام معصوم إلى يوم القيامة - \كما هو مذهب الإمامية - \مضافاً إلى أخبار السفينة والأمان وغيرهما من الأخبار الكثيرة التي يأتي الإيعاز إلى بعضهما إن شاء اللّه تعالى، الحديث المشهور الذي أخرجه الحميدي في الجمع بين الصحيحين على ما حُكي عنه: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» ونحوه ما عن الحاكم عن ابن عمر، وفيه من الحث الشديد على وجوب معرفة الإمام والتهديد والوعيد لمن قصر في أداء حقه ومعرفته وعدم خلوّ الزمان إلى يوم القيامة مِنْ وجود إمام معصوم ما لا يخفى.
وأخرج ابن مردويه عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «يوم ندعو كل أُناسٍ بإمامهم» قال: يُدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسُنّة نبيهم(2).
وأخرجه الثعلبي مسنداً عنه صلى اللّه عليه وآله(3).
هذا ومن شاء استقصاء ما يستفاد من الحديث من شؤون أهل البيت عليهم السلام9.
ص: 431
ومقاماتهم فعليه بكتاب عبقات الأنوار: ج 12 م 12، فإنّه ذكر أُمور كثيرة واستشهد لها بالأحاديث وتصريحات أعلام أهل السنة في غاية التحقيق(1).
واللّه هو الهادي إلى الصراط المستقيم.ن.
ص: 432
لا ريب في أنّ المراد بالعترة التي أمر النبي صلى الله عليه و آله الأُمة بالتمسّك بها ليس كل واحد منها، بل المراد منها - \بمناسبة عدم افتراقهم عن الكتاب وكونهم معصومين ووجوب متابعتهم وأنّ التمسّك بهم أمن من الضلال - \أئمتهم وعلماؤهم والمستجمعون للفضائل والكمالات العلمية والعملية، وقد صرح بذلك غير واحد من أهل السنة.
قال ابن حجر: (تنبيه) سمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم القرآن وعترته، وهي بالمثنّاة الفوقانية: الأهل والنسل والرهط الأدنون، ثقلين لأن الثقل كل خطير مصون، وهذان كذلك، إذ كل منهما معدن للعلوم اللدنية والأسرار والحكم العلية والأحكام الشرعية، ولذا حث صلّى اللّه عليه وآله الاقتداء والتمسّك بهم والتعلّم منهم، وقال: «الحمد للّه الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت». وقيل: سُمّيا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما.
ثم الذين وقع الحث عليهم منهم إنّما هم العارفون بكتاب اللّه وسنة رسوله،
ص: 433
إذ هم الّذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض، ويؤيّده الخبر السابق: «ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم». وتميزوا بذلك عن بقية العلماء، لأنّ اللّه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وشرّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة، وقد مرّ بعضها(1).
وقال السمهودي: والحاصل: أنّه لمّا كان كل من القرآن العظيم والعترة الطاهرة معدناً للعلوم اللدنية والحِكَم والأسرار النفيسة الشرعية وكنوز دقائقها واستخراج حقائقها، أطلق رسول اللّه صلى الله عليه و آله عليهما الثقلين، ويرشد لذلك حثه صلى الله عليه و آله في بعض الطرق السابقة على الاقتداء والتمسّك والتعلّم من أهل بيته، وقوله في حديث أحمد: الحمد للّه الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت،(2) ما سيأتي من كونهم إماماً للأُمّة(3).
وقال السّيد أبو بكر العلوي الشافعي: قال العلماء: والذين وقع الحث على التمسّك بهم من أهل البيت النبوي والعترة الطاهرة، هم العلماء بكتاب اللّه عز وجل منهم، إذ لا يحث صلى اللّه عليه وآله على التمسّك إلّابهم، وهم الذين لا يقع بينهم وبين الكتاب افتراق حتى يردوا الحوض، ولهذا قال: «لا تقدّموهما3.
ص: 434
فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا» واختصوا بمزيد الحث على غيرهم من العلماء كما تضمنته الأحاديث السابقة، وذلك مستلزم لوجود من يكون أهلاً للتمسّك به منهم في كل زمان وجدوا فيه إلى قيام الساعة، حتى يتوجّه الحث إلى التمسّك به، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً للأُمة كما سيأتي، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض(1).
وقال الحكيم الترمذي: وهذا (يعني أهل بيتي) عام أُريد به الخاص، وهم العلماء العاملون منهم(2).
وقال التفتازاني في شرح المقاصد: ألا ترى أنّه عليه الصلاة والسلام قد قرنهم بكتاب اللّه في كون التمسّك بهما منقذ عن الضلال، ولا معنى للتمسّك بالكتاب إلّاالأخذ بما فيه من العلم والهداية، فكذا في العترة(3).
وقال ابن أبي الحديد علّامة المعتزلة: وقد بيّن رسول اللّه عترته من هي لما قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين» فقال: «عترتي أهل بيتي»، وبين فيما مقام آخر من أهل بيته حيث طرح عليهم الكساء وقال حين نزلت: إنما يريد اللّه ليذهب:
«اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس»(4).
وقال ابن حجر: ثم أحق من يتمسّك به منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه، لما قدمناه من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته، ومن ثم قال0.
ص: 435
أبو بكر: علي عترة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم(1) ، أي الذين حث على التمسّك بهم، فخصه لما قلنا، وكذلك خصه صلى اللّه عليه وآله بما مر يوم غدير.
وقد(2) خص علياً بالأمر بالتمسّك به في روايات أُخرى متواترة أخرجها العام والخاص في كتبهم، فمنها: ما أخرجه الحافظ أبو نعيم بسنده عن الإمام السبط الحسن عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: ادعوا لي سيّد العرب - \يعني علي بن أبي طالب - \فقالت عائشة: ألست سيّد العرب؟ فأقل: أنا سيّد ولد آدم وعلي سيّد العرب. فلمّا جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه، فقال لهم: يا معشر الأنصار! ألا أدلّكم على ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعده أبداً؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: هذا علي فأحبّوه بحبّي، وأكرموه بكرامتي، فإنّ جبرئيل أمرني بالذي قلت لكم من اللّه عز وجل» ورواه أبو بشر عن سعيد بن جبير عن عائشة نحوه في السؤدد مختصراً(3).
كما قد نص عليه في نفس هذه النصوص، وأخرجه غير واحد من أكابر أهل السنة كابن حجر المكي، والدارقطني، والسمهودي وغيرهم(4).
وقد خص علياً والزهراء والحسن والحسين عليهم السلام بالأمر بالتمسّك بهم،4.
ص: 436
وأنّهم وكتاب اللّه لا يفترقان حتى يردا علَيَّ الحوض في حديثٍ أخرجه الثعلبي في العرائس عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك(1) ، وفي غيره من الأحاديث.
وخص الأئمة الاثني عشر عليهم السلام بالأمر بالتمسك بهم في حديثٍ أخرجه الحافظ أبو الفتح محمد بن أبي الفوارس في أربعينه، وفي أحاديث كثيرة أُخرى.
وقد ظهر مما ذكرناه في دلالة أحاديث الثقلين وجه تعيّن وجوب التمسّك بالأئمة الاثني عشر من بين العترة الطاهرة واختصاصهم بذلك المنصب، فإنّ غيرهم من العترة لم يدع العصمة والعلم بأحكام جميع الوقائع.
ويدلّ عليه أيضاً إجماع المسلمين على أنّ من عداهم ليس معصوماً وعالماً بجميع الأحكام الشرعية، كما يدلّ عليه الأخبار الكثيرة التي خرّجها مسلم وأحمد والبخاري والترمذي وأبو داود والحاكم والمتقي وابن الديبع والخطيب والسيوطي وغيرهم في عدد الأئمة والخلفاء عن جابر بن سمرة، وابن مسعود، وأنس وغيرهم(2).ث.
ص: 437
ومن المعلوم أن هذا العدد لا ينطبق إلّاعلى الأئمة الاثني عشر، وقد صرّح بأسمائهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في روايات كثيرة متواترة أخرجها الإمامية بطرقهم المعتبرة في صحاحهم وجوامعهم، كما قد أخرج طائفة منها جمع من شيوخ السنّة وأعلامهم، وأفرد جماعة من أصحاب الحديث من الفريقين في فضائلهم ومناقبهم وكراماتهم وما ورد فيهم من النصوص وتنصيص كل واحد منهم على الإمام الذي يلي الأمر بعده، وفي العلوم الصادرة عنهم كتباً نافعة قيّمة(1).
قال الفاضل القندوزي: قال بعض المحقّقين: إنّ الأحاديث الدالّة على كون الخلفاء بعده صلى الله عليه و آله اثنا عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة، فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان علم أنّ مراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من حديثه هذا الأئمة الإثنى عشر من أهل بيته وعترته إذ لا يمكن أن يحل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلّتهم عن اثنى عشر ولا يمكن أن يحمل على الملوك الأُمويين لزيادتهم على الاثني عشر ولظلمهم الفاحش إلّاعمر بن عبد العزيز، ولكونهم غير بني هاشم لأنّ النبي قال: «كلّهم من بني هاشم» في رواية عبد الملك عن جابر.
وإخفاء صوته في هذا القول يرجح هذا الرواية، لأنّهم لا يحسنون خلافة بني هاشم. ولا يمكن أن يحمل على الملوك العبّاسيين لزيادتهم على العدد9.
ص: 438
المذكور ولقلة رعايتهم الآية قل لا أسئلكم عليه أجراً إلّاالمودة في القربىوحديث الكساء. فلابد أن يحمل هذا الحديث على الأئمة الاثني عشر من أهل بيته وعترته صلى اللّه عليه وآله، لأنّهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلّهم وأورعهم وأتقاهم وأعلاهم نسباً وأفضلهم حسباً وأكرمهم عند اللّه. وكان علومهم من آبائهم متّصلاً بجدّهم صلى اللّه عليه وآله وبالوراثة اللدنية، كذا عرّفهم أهل العلم والتحقيق وأهل الكشف والتدقيق. ويؤيد هذا المعنى - \أي أنّ مراد النبي صلى اللّه عليه وآله الأئمة الاثنا عشر من أهل بيته - \ويشهده ويرجّحه حديث الثقلين والأحاديث المتكثرة المذكورة في هذا الكتاب... إلخ(1).
وقال محمد معين السندي في كتابه «دراسات اللبيب» في طي كلماته في حديث الثقلين: ولما كان هذا بطريق دلالة النص انتظرنا نصاً فيهم يدلّنا على إمامتهم في العلم، فوجدنا قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «الحمد للّه الذي جعل الحكمة فينا أهل البيت»، فعلمنا أنّهم الحكماء العارفون والعلماء الوارثون الذين وقع الحث على التمسّك بهم في دين اللّه تعالى وأخذ العلوم عنهم، وأيّدنا في ذلك ما أخرج الثعلبي في تفسير قوله: واعتصموا بحبل اللّه جميعا(2) عن جعفر الصادق عليه السلام قال: «نحن حبل اللّه الذي قال تعالى واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرّقوا» انتهى.
وكيف لا وهم أحد الثقلين، فكما أنّ القرآن حبل اللّه الممدود من السماء فكذلك أهل هذا البيت المقدّس (صلوات اللّه تعالى وتسليماته عليهم أجمعين)،3.
ص: 439
وقد قال قائلهم عليه السلام مُخبِراً عن نفسه القدسي وسائر رهطه المطهّرين:
وفينا كتاب اللّه أنزل صادقاوفينا الهدى والوحي والخير يذكر
ثم ساق الكلام إلى أن قال: فعلمنا من كلام الأئمة (عليهم رضوان اللّه تعالى) معنى التمسّك بهم بما لا ريبة فيه، إلّالمن ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردّدون.
وقال أيضاً: فإذا انضمّ إلى ذلك ما ورد من الأخبار في الأئمة الاثني عشر ممّا بسطنا أكثرها في المقامات الأربعة من كتابنا المسمى «مواهب سيّد البشر في حديث الأئمة الاثني عشر» بالترتيب بسطناها، وما اجتمع عليه السلف والخلف من غزارة علوم هذا العدد المبارك وخرقهم العوائد وما اختصّوا به من المزايا الباهرة من بين سائر الرجال الأبطال من هذه الفئة الفائقة على معاصريها في كل عصر، يتيقّن بأنّهم الأولى بصدق أحاديث التمسّك عليهم من غيرهم.
وقال أيضاً في طيّ تحقيقاته: فلا وجه لأن يمتري من له أدنى إنصاف في أن من صدق عليهم هذه الأحاديث والآية من غير شائبة، وهم الأئمة الاثني عشر من أهل البيت عليهم السلام وسيدة نساء العالمين بضعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أمّ الأئمّة الزهراء الطاهرة، على أبيها وعليها الصلاة والسلام، لا شائبة في كونهم معصومين كالمهدي منهم عليهم السلام... إلخ(1).
وقال الشبراوي الشافعي: قد أشرق نور هذه السلسلة الهاشمية والبيضة الطاهرة النبوية والعصابة العلوية، وهم اثنا عشر إماماً مناقبهم عليه وصفاتهم6.
ص: 440
سنية ونفوسهم شريفة أبية وأرومتهم كريمة محمدية، وهم محمد الحجة ابن الحسن الخالص ابن علي الهادي ابن محمد الجواد ابن علي الرضا ابن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق، ابن محمد الباقر ابن علي زين العابدين ابن الإمام الحسين أخي الإمام الحسن ولدي الليث الغالب علي بن أبي طالب (رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين)(1).
وقال الشبراوي أيضاً: ويكفيه (يعني الإمام الحسن العسكري عليه السلام) بأنّ الإمام المهدي المنتظر من أولاده، فللّه درّ هذا البيت الشريف والنسب الخضم المُنيف، وناهيك به من فخار وحسبك فيه من علوّ مقدار، فهم جميعاً في كرم الأرومة وطيب الجرثومة، كأسنان المشط متعادلون ولسهام المجد مقتبسون، فياله من بيت عالي الرتبة سامي المحلة، فلقد طاول السماك علاً ونبلاً، وسما على الفرقدين منزلةً ومحلّاً، واستغرق صفات الكمال فلا يستثنى فيه بغير ولا بالاً، وانتظم في المجد هؤلاء الأئمة انتظام اللآلئ، وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم واللّه يرفعه، وركبوا الصعب والذلول في تشتيت شملهم واللّه يجمعه، وكم ضيّعوا من حقوقهم مالا يهمله اللّه ولا يضيّعه. أحيانا اللّه على حبّهم وأماتنا عليه(2).8.
ص: 441
ص: 442
الثاني من النصوص الصريحة المرشدة إلى التمسّك بأهل البيت وحجية مذاهبهم وأقوالهم ووجوب التأسّي بأعمالهم، أحاديث السفينة الّتي أخرجها من أعلام السنّة ما يربو على المائة: كأحمد والطبراني وأبي نعيم والبزّار وابن عبد البر والسيوطي والسمعاني وابن الأثير والفخر ومحمد بن طلحة الشافعي والمتّقي والملّا وسبط ابن الجوزي والمحب الطبري والخطيب وابن كثير وابن المغازلي والسمهودي وابن الصبّاغ وأبي بكر الحضرمي والصبان والشبلنجي والقندوزي وابن حجر وغيرهم، عن أبي ذر وابن عباس وابن الزبير وأنس وأبي سعيد الخدري وسلمة بن الأكوع، وإليك بعض ألفاظ الحديث:
النص الأوّل: اخرج الحاكم بسنده عن حنش الكناني قال: سمعت أبا ذر يقول وهو آخذ باب الكعبة: أيّها الناس من عرفني فأنا من عرفتم ومن أنكرني فأنا أبو ذر، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق».
ص: 443
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وأخرجه ابن المغازلي إلّا أنّه قال: «إنّما مثل» وقال «من ركب فيها»، وفي حديثٍ آخر زاد: «ومن قاتلنا في آخر الزمان فكأنّما قاتل مع الدجّال» وأخرجه الطبراني عن أبي ذر إلّا أنّه قال: «سفينة نوح في قوم نوح» قال: «هلك» بدل «غرق» وزاد: «ومثل باب حطة بني إسرائيل»، وأخرجه أبوطالب يحيى بن الحسين المتولد سنة 340 ه بأمل بسنده عن حنش إلّاأنّه قال: «من عرفني فقد عرفني» وقال: «مثل أهل بيتي فيكم»، وأخرج نحوه الهيثمي وابن حجر والسيوطي(1).
النص الثاني: أخرج البزّار وغيره عن ابن عباس: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا، ومن تخلّف عنها غرق»(2).
النص الثالث: أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول: «إنّما مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة0.
ص: 444
في بني إسرائيل من دخله غفر له»(1).
النص الرابع: أخرج البزّار عن عبد اللّه بن الزبير أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تركها غرق»(2).
النص الخامس: وأخرج الثعلبي: «مثل عترتي كسفينة نوح، من ركب فيها نجا»(3)، وأخرجه القندوزي عنه إلّاأنّه قال: «من ركبها نجا»(4).
النص السادس: وأخرج الخطيب بإسناده عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «إنّما مثلي ومثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق»(5).
النص السابع: أخرج الحمويني في فرائد السمطين بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رضي اللّه عنهما) قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «يا علي، أنا مدينة العلم وأنت بابها، ولن يؤتى المدينة إلّامن قبل الباب، وكذب من زعم أنّه يحبّني ويبغضك، لأنّك مني وأنا منك، لحمك من لحمي ودمك من دمي وروحك من روحي وسريرتك من سريرتي وعلانيتك1.
ص: 445
من علانيتي، سعد من أطاعك وشقي من عصاك وربح من تولّاك وخسر من عاداك، فاز من لزمك وهلك من فارقك، مثلك ومثل الأئمة من ولدك من بعدي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق، ومثلكم كمثل النجوم كلّما غاب نجم طلع نجم إلى يوم القيامة»(1).
النص الثامن: أخرج الشبلنجي والصبان قالا: وروى جماعة من أصحاب السنن عن عدة من الصحابة أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها هلك. وفي رواية: غرق، وفي أُخرى:
زُجّ في النار»(2).
النص التاسع: قال ابن حجر: وجاء من طرقٍ عديدة يقوّي بعضها بعضاً:
«إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا»، وفي رواية مسلم:
«ومن تخلّف عنها غرق» وفي رواية «هلك»(3). وقال: وفي رواية: «إنّ مثل أهل بيتي» وفي رواية: «ألا إنّ مثل أهل بيتي» وفي رواية «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم» وفي رواية: «من ركبها سلم ومن تركها غرق»(4).
النص العاشر: وقال ابن حجر أيضاً: «إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب4.
ص: 446
حطة في بني إسرائيل، من دخل غفر له، وفي رواية: غفر له الذنوب»(1).
النص الحادي عشر: وأخرج ابن السري عن علي عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تعلّق بها فاز، ومن تخلّف عنها زُجّ في النار»(2).
النص الثاني عشر: أخرج الديلمي أبو منصور شهردار بن شيرويه في كتاب «مسند الفردوس» عن أبي سعيد الخدري قال: صلّى بنا رسول اللّه صلاة الأُولى، ثم أقبل بوجهه الكريم علينا فقال: «يا معاشر أصحابي، إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح وباب حطة بني إسرائيل، فتمسّكوا بأهل بيتي بعدي الأئمة الراشدين من ذريتي، فإنّكم لن تضلّوا أبداً». فقيل: يا رسول اللّه، كم الأئمة بعدك؟ قال: «اثنا عشر من أهل بيتي. أو قال: من عترتي»(3).
النص الثالث عشر: وأخرج ابن أبي شيبة عن علي عليه السلام قال: «إنّما مثلنا في هذه الأمة كسفينة نوح وكباب حِطّة»(4).
النص الرابع عشر: وأخرج القطّان في أماليه وابن مردويه عن عبّاد بن عبد اللّه الأسدي في حديثٍ أنّ علي بن أبي طالب عليه السلام قال: «واللّه إنّ مثلنا في هذه الأُمّة كمثل سفينة نوح في قوم نوح، وإنّ مثلنا في هذه الأُمّة كمثل باب8.
ص: 447
حطّة في بني إسرائيل»(1).
النص الخامس عشر: وأخرج الطبراني عن جعفر بن المعتمر قال: رأيت أباذر الغفاري أخذ بعضادتي الكعبة وهو يقول: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أبوذر الغفاري، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله (يقول): «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح في قوم نوح من ركبها نجا، من تخلّف عنها هلك، وكمثل باب حطّة بني إسرائيل»(2).
وقال ابن حجر: وجه تشبّههم بالسفينة فيما مرّ أنّ من أحبّهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرفهم صلى اللّه عليه وآله، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم وهلك في مفاوز الطغان، ومرّ في خبر: أنّ من حفظ حرمة الإسلام وحرمته صلّى اللّه عليه وآله وحرمه رحمه حفظ اللّه تعالى دينه ودنياه، ومَن لا لم يحفظ دنياه ولا آخرته، وورد: «يرد الحوض أهل بيتي، ومن أحبّهم من أُمّتي كهاتين السبّابتين»، ويشهد له خبر «المرء مع من أحبّ»، وباب حطّة أنّ اللّه تعالى جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحاء أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سبباً للمغفرة، وجعل لهذه الأُمة مودة أهل البيت عليهم السلام سبباً لها كما سيأتي قريباً(3).
وقال السيد أبو بكر بن شهاب الدين العلوي الحسيني الشافعي الحضرمي:
ووجه تمثيله صلّى اللّه عليه وآله لهم بسفينة نوح، أنّ النجاة من هول الطوفان1.
ص: 448
ثابتة لمن ركب تلك السفينة، وأنّ من تمسّك بأهل بيته صلى الله عليه و آله وأخذ بهديهم كما حَثّ عليه في الأحاديث السابقة نجا من ظلمات المخالفات واعتصم بأقوى سبب إلى ربّ البريات، ومن تخلّف عن ذلك وأخذ غير مأخذهم ولم يعرف حقّهم غرق في بحار الطغيان واستوجب الحلول في النيران، إذ من المعلوم مما سبق. ويأتي أنّ بغضهم منذر بحلولها موجب لدخولها.
وأمّا وجه تمثيله صلّى اللّه عليه وآله لهم بباب حطّة - \وهو باب أريحاء وقيل: باب بيت المقدس - \فذلك أنّ المولى سبحانه وتعالى جعل لبني إسرائيل دخولهم الباب مستغفرين متواضعين سبباً للغفران، كما تقدّم عن ثابت البناني في قوله عزّ وجلّ: وإنّي لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى(1) قال:
إلى ولاية أهل البيت، فجعل الاهتداء إلى ولايتهم مع الايمان والعمل الصالح سبباً للمغفرة(2).
وفي فرائد السمطين: أنّ الواحدي بعد نقل ما رواه الحاكم بسنده عن حنش بن المعتمر قال: سمعت أبا ذر وهو آخذ بباب الكعبة وهو يقول: أيّها الناس! فأنا من قد عرفتم ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر، إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من دخلها نجا ومن تخلّف عنها هلك».
قال: أُنظر كيف دعا الخلق إلى التسبّب إلى ولائهم والسير تحت لوائهم بضرب مثلهم بسفينة نوح، جعل ما في الآخرة من مخاوف الأخطار وأهوال0.
ص: 449
النار، كالبحر الذي لجّ براكبه فيورده مشارع المنية ويفيض عليه سجال البلية، وجعل أهل بيته عليه وعليهم السلام سبب الخلاص من مخاوفه والنجاة من متالفه، وكما لا يعبر بحر الهياج عند تلاطم الأمواج إلّابالسفينة كذلك لا يؤمن لفح الجحيم ولا يفوز بدار النعيم إلّامن تولّى أهل بيت الرسول (صلوات اللّه عليه وعليهم)، ونحل لهم ودّه ونصيحته وأكّد في موالاتهم عقيدته، فإنّ الّذين تخلّفوا عن تلك السفينة آلوا شر مآل وخرجوا من الدنيا إلى أنكال وجحيم ذات أغلال، وكما ضرب مثلهم لسفينة نوح، قرنهم بكتاب اللّه فجعلهم ثاني الكتاب وشفع التنزيل(1).
***
أقول: من تدبّر حق التدبّر في أحاديث السفينة، وما يأتي من أحاديث الطائفة، وأحاديث من مات ولم يعرف إمام زمانه، وأحاديث الخلفاء والأئمة الاثني عشر، وأحاديث الثقلين، وحديث في كلّ خلف، وحديث من سرّه.
وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي أخرجنا بعضها في هذا الكتاب، يحصل له العلم بعدم خلوّ الزمان من إمام معصوم من أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله، يجب التمسّك به في الأُمور الدينية ومعرفته ومتابعته والتأسّي به وأخذ العلم عنه، فهو خليفة الرسول في بيان الأحكام وتبليغ مسائل الحلال والحرام وتفسير القرآن، كما أنّ الكتاب العزيز أيضاً خليفته، وهما لا يفترقان عن الآخر.
وعلى هذا الأساس المتين المستفاد من هذه الأخبار المتواترة القطعية6.
ص: 450
وغيرها، بني مذهب الإمامية القائلين بوجود الإمام المعصوم في كل عصر وزمان من أهل البيت، وانحصار الإمامة في الاثني عشر إلى قيام الساعة. ويرشد إلى ذلك - \أي عدم خلوّ الأرض من الإمام - \ما رواه الخاص والعام عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: «اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجة أما ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً، لئلّا تبطل حجج اللّه وبنياته، وكم ذا، وأين أولئك؟ أولئك واللّه الأقلون عدداً والأعظمون عند اللّه قدراً، يحفظ اللّه بهم حججه وبيناته». أخرجه الشريف الرضي والذهبي مع اختلاف يسير وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص والموفق بن حمد الخوارزمي في المناقب وعلي المتقي في كنز العمال وأبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء(1).
وقد ظهر مما ذكر أن أحاديث السفينة صريحاً حصرت طريق النجاة بالتمسك بهم، فلا ينجو إلّامن تمسك بهم، كما أنّه لم ينج من قوم نوح إلّامن ركب السفينة، فمن لم يركبها وتخلّف عنها غرق.6.
ص: 451
ص: 452
الثالث من الأحاديث الدالّة على نجاة المتمسكين بأهل البيت، وانحصار نجاة غيرهم من الأُمة كائناً من كان بالتمسّك بهم، وأنّهم أمان للأُمة من الاختلاف والهلاك والاندثار (أحاديث الأمان). وإليك بعض ألفاظها:
النص الأول: أخرج الحاكم عن ابن عباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لامّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس»(1)، وأخرجه ابن حجر والسيوطي(2).
النص الثاني: وأخرج ابن حجر أيضاً: «أهل بيتي أمان لأهل الأرض،
ص: 453
فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما كانوا يوعدون»(1).
النص الثالث: وأخرج أبو يعلى في مسنده عن سلمة بن الأكوع بسندٍ حسن: «النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لاُمّتي»(2)، وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادره(3) ، وأخرجه ابن حجر، وأخرج عن أحمد: «فإذا ذهب النجوم ذهب أهل السماء وإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض»(4)، وأخرجه الهيثمي عن الطبراني عن سلمة إلّاأنّه قال: «النجوم جعلت أماناً لأهل السماء وإنّ أهل بيتي أمان لاُمّتي»(5)، وأخرجه ابن أبي شيبة والمسدد في مسنديهما(6).
النص الرابع: أخرج أحمد في المناقب عن علي عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهب النجوم ذهب أهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض».1.
ص: 454
أقول:(1) روى أحاديث الأمان بطرق كثيرة وألفاظ متقاربة، جمع كثير من أعلام أهل السنة عن أمير المؤمنين علي وأنس وأبي سعيد الخدري وجابر وأبي موسى وابن عباس وسلمة بن الأكوع، لا حاجة هنا إلى إخراج ألفاظها وسرد أسماء مخرجيها أزيد من ذلك(2).
قال ابن حجر: الآية السابعة (يعني من الآيات الواردة في أهل البيت عليهم السلام) قوله تعالى: وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم(3) ، أشار صلّى اللّه عليه وآله إلى أنّ وجود ذلك المعنى في أهل بيته، وإنّهم أمان لأهل الأرض، كما كان هو صلّى اللّه عليه وآله أماناً لهم، وفي ذلك أحاديث كثيرة(4).
وقال بعضهم: يحتمل أنّ المراد بأهل البيت الذين هم أمان علماؤهم، لأنّهم الذين يهتدى بهم كالنجوم، والذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون، وذلك عند نزول المهدي لما يأتي في أحاديثه... إلخ(5).
وقال أحمد: إنّ اللّه خلق الأرض من أجل النبيّ صلّى اللّه عليه وآله،0.
ص: 455
فجعل دوامها بدوام أهل بيته وعترته(1).
وقال الشريف السمهودي بعد إيراد هذه الأحاديث: يحتمل أنّ المراد بأهل البيت الّذين هم أمان للأُمة علماؤهم الّذين يهتدى بهم كما يهتدى بنجوم السماء، وهم الّذين إذا خلت الأرض منهم جاء أهل الأرض من الآيات ما كانوا يوعدون وذهب أهل الأرض، وذلك عند موت المهدي الّذي أخبر به النبي صلّى اللّه عليه وآله(2).
أقول: إنّ دلالة هذه الأحاديث على حجية مذاهب أهل البيت عليهم السلام وكونهم أماناً من الاختلاف لعصمتهم، ووجود من يكون أهلاً للتمسّك به منهم في كل زمان إلى قيام الساعة، وإنّ المراد من أهل البيت الذين هم أمان لأهل الأرض أئمتهم، في غاية الوضوح؛ فإنّهم لم يختصوا بهذا التشريف من دون الناس إلّا لكونهم معدناً للعلوم النبوية والأحكام الشرعية والفضائل المحمودة، فلابد أن لا يخلو الزمان ممن يكون منهم موصوفاً بهذا الصفات وأهلاً لأن يكون مشرّفاً بهذا التشريف، وأماناً لهذه الأُمّة المرحومة ولجميع أهل الأرض من الزوال والفناء والاختلاف.
وأصرح من الجميع في أنّ المراد من أهل البيت أئمتهم وعلماؤهم، ما أخرجه الحاكم عن ابن عباس وصحّحه، فإنّ اتّصاف أهل البيت بكونهم أماناً للأُمة من الاختلاف على سبيل الإطلاق في الأُمور الدينية وغيرها، كما قال8.
ص: 456
صلى اللّه عليه وآله: «وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف» ليس إلّابعلمائهم وأئمتهم عليهم السلام الّذين نص عليهم النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في غير هذه الأحاديث.
وهم الذين وصفهم سيّدهم وأفضلهم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام فيما قال في أوصافهم: «لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه(1) ، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي(2) ، وهم أزمة الحقّ وأعلام الدين وألسنة الصدق(3)».
هم الراقون في أوج الكمال3.
ص: 457
ص: 458
من تدبّر في أحاديث الثقلين والسفينة والأمان يظهر له أنّ سبيل النجاة للجميع منحصر في التمسّك بأهل البيت عليهم السلام، وإليك طوائف أُخرى من الأحاديث الدالّة على ذلك:
(فالأول) من هذه النصوص المرشدة إلى صحة الاحتجاج بفتاواهم والإقتداء بهم، ما أخرج الحافظ أبو نعيم بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «من سره أن يحيى حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي، فليوال علياً من بعدي وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعدي، فإنّهم عترتي خلقوا من طينتي، رزقوا فهماً وعلماً، وويل للمكذّبين بفضلهم من أُمتي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم اللّه شفاعتي»(1).
وأورده المتقي عن الطبراني في الكبير، والرافعي في مسنده مع اختلاف
ص: 459
في بعض ألفاظه(1) ، وكذلك أخرجه الحمويني(2) ، وأخرجه السيوطي في جمع الجوامع(3) وابن أبي الحديد(4). وأخرج نحوه أحمد في مسنده وفي مناقب علي عليه السلام(5) ، وأخرجه الكنجي الشافعي مسنداً عن ابن عباس(6) ، وابن شهرآشوب عن أبي نعيم بطرق متعددة عن زيد بن أرقم وابن عباس(7) ، وأخرجه أيضا أبو نعيم في (منقبة المطهّرين)، والرافعي في (التدوين) والدهلوي في (تحقيق الإشارة) وغيرهم(8).
(الثاني) أخرج المتقي عن زياد بن مطرف قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول: «من أحب أن يحيى حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعدني ربّي قضباً من قضبانها غرسها بيده وهي جنة الخلد، فليتولّ علياً وذريته من بعده، فإنّهم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم باب ضلالة». أخرجه عن مطير والباوردي وابن شاهين وابن مندة بأسانيدهم عن زياد بن مطرف(9) ، وأخرج نحوه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في (ذيل2.
ص: 460
المذيّل) بسنده عن(1) زياد، وساق السند هكذا: حدّثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري، قال: حدّثنا أحمد بن أشكاب، قال: حدّثنا يحيى بن يعلى المحاربي، عن عمار بن زريق الضبي، عن أبي إسحاق الهمداني، عن زياد بن مطرف.
وأورده ابن حجر العسقلاني في ترجمة زياد بن مطرف قال: وأخرجوا من طريق ابن إسحاق عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «من أحب أن يحيى حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة فليتول علياً وذريته من بعده». قال ابن مندة: لا يصح، قلت: في إسناده يحيى بن يعلى المحاربي وهو واهٍ(2).
أقول: يحيى بن يعلى المحاربي من شيوخ البخاري، روى عنه وروى الباقون سوى الترمذي له بواسطة أبي كريب، ومحمد بن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد اللّه بن نمير وغيرهم، وذكره ابن حبّان في الثقات، مات سنة 216 ه(3).
وقال ابن أبي حاتم: روى عنه أبي وأبو زرعة ومحمد بن مسلم والناس، أنبأنا عبد الرحمن قال: سألت أبي عنه فقال: هو ثقة(4).
فالحكم بعدم صحة الحديث من غير علة فيه ليس إلّالما اعتادوا من ردّالأحاديث الواردة في فضل أهل بيت النبوّة، فمالوا بالناس عن طريقهم السوي والصراط المستقيم.7.
ص: 461
وأخرج الطبراني وأبونعيم في فضائل الصحابة: «من أحب أن يحيى حياتي ويموت موتي ويسكن جنّة الخُلد التي وعدني ربّي، فإنّ ربي غرس قضبانها بيده، فليتولّ عليّ بن أبي طالب، فإنّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم ضلالة»(1).
(الثالث) أخرج الخوارزمي بسنده عن سيّدنا أبي عبد اللّه الحسين السبط عليه السلام قال: سمعت جدّي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: «من أحب أن يحيى حياتي ويموت ميتتي (مماتي - خ ل) ويدخل الجنة التي وعدني ربّي فليتول علي بن أبي طالب وذريته وأهل بيته الطاهرين أئمة الهدى ومصابيح الدجى من بعدهم، فإنّهم لن يخرجوكم من باب الهدى إلى باب الضلالة».
وأخرج عن الباقر محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده الحسين عليهم السلام نحوه(2) ، وأخرجه ابن شهرآشوب عن أبي المؤيد المكّي(3).
(الرابع) أخرج ابن سعد عنه صلى الله عليه و آله: «أنا وأهل بيتي شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا»(4)، وأورده المحب الطبري لأبي سعيد في شرف النبوة إلّاأنّه قال: «فمن تمسّك بنا اتّخذ...» الحديث(5).6.
ص: 462
وأورده القندوزي عن شرف النبوة عن عبد العزيز(1) ، وأخرجه الحضرمي عن أبي سعيد(2).
(الخامس) أخرج الملّا عن عمر: أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «في كل خلوف من أُمتي عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ألا وإنّ أئمتكم وفدكم إلى اللّه عز وجل، فانظروا بمن توفدون»(3). وأخرجه ابن حجر إلّاأنّه قال: «في كل خلف» وقال: «تحريف الضالّين» وقال: «وانظروا من توفدون»(4)، وأخرجه الحضرمي(5) ، والقندوزي(6).
وأخرج علي بن محمد بن عبد اللّه العبّاسي العلوي بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «في أهل بيتي عدول، ينفون عن الدين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، ألا وإنّ أئمتكم وفدكم إلى اللّه تعالى، فانظروا من تقدّمون في دينكم وصلاتكم»(7).
(السادس) أخرج الصبان عن أبي ذر: اجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس3.
ص: 463
من الجسد ومكان العينين من الرأس، ولا يهتدي الرأس إلّابالعينين(1). وأخرجه الشريف الحضرمي(2) ، والنبهاني(3) ، وحكى إخراجه عن جماعة من أصحاب السنن بالإسناد إلى أبي ذر مرفوعاً. وأخرج أبو القاسم علي بن محمد الخزّاز القمّي في كتابه القيّم «كفاية الأثر في النصوص على الأئمة الاثني عشر» مسنداً عن واثلة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «أنزلوا أهل بيتي بمنزلة الرأس من الجسد وبمنزلة العينين من الرأس، والرأس لا يهتدي إلّابالعينين، اقتدوا بهم من بعدي لن تضلّوا». فسألنا عن الأئمة، فقال: «الأئمة بعدي من عترتي» أو قال:
«أهل بيتي عدد نقباء بني إسرائيل»(4).
وأخرج الحافظ أبو نعيم بسنده عن عليم بن سلمان قال: أنزلوا آل محمد بمنزلة الرأس من الجسد وبمنزلة العين من الرأس، فإنّ الجسد لا يهتدي إلّا بالرأس، وأنّ الرأس لا يهتدي إلّابالعينين(5) ، وأخرجه ابن حجر عن الطبراني عن سلمان إلّاأنّه قال: «وبمنزلة العينين»(6).
(السابع) أخرج المسعودي في جواهر العقدين عن ربيبة السعدي حديثاً طويلاً عن حذيفة في فضل الحسين عليه السلام إلى أن قال: «أيّها الناس، إنّه لم يعد أحد2.
ص: 464
من ذرية الأنبياء الماضين ما أعطي الحسين بن علي خلا يوسف بن يعقوب بن إبراهيم. أيّها الناس، إنّ الفضل والشرف والمنزلة والولاية لرسول اللّه وذريته، فلا تذهبن بكم الأباطيل»(1). وأخرجه الحافظ جمال الدين محمد بن يوسف الزرندي الحنفي عن صاحب كتاب «السنة»(2) ، وأخرج ذيل الحديث الحضرمي(3) ، والقندوزي(4) ، وابن حجر(5).
(الثامن) أخرج الحمويني بسنده عن أصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام في قوله تعالى: إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون(6) قال: «الصراط ولايتنا أهل البيت».
وأخرج الثعلبي في تفسير الفاتحة من تفسيره الكبير عن أبي بريده أو أبي يزيد - \كما أخرج ابن البطريق عن الثعلبي - \: إنّ الصراط المستقيم هو صراط محمد وآله.
وعن تفسير وكيع بن جراح عن سفيان الثوري عن السدي عن أسباط ومجاهد عن ابن عباس في قوله: اهدنا الصراط المستقيم قال: قولوا: أرشدنا إلى حب آل محمد وأهل بيته. وأخرج القندوزي عن المناقب عن زيد بن موسى4.
ص: 465
الكاظم عن أبيه عن آبائه عليهم السلام نحو حديث الأصبغ(1).
وأخرج الشريف الحضرمي أنّ عبد الرحمن بن زيد قال في قوله تعالى:
اهدنا الصراط المستقيم هم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأهل بيته(2) ، وأخرج الحاكم الحسكاني الحنفي في «شواهد التنزيل» عشرين حديثاً في ذلك(3).
(التاسع) أخرج ابن حجر في الآية الخامسة من الآيات التي ذكر أنّها وردت فيهم، وهي قوله تعالى: واعتصموا بحبل اللّه جميعا عن الثعلبي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: «نحن حبل اللّه الذي قال اللّه فيه:
واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرّقوا»(4).
وقد فسّر الشافعي حبل اللّه بولاء أهل البيت في الأبيات التي ذكرها له أحمد بن عبد القادر العجيلي في كتابه «ذخيرة المآل» والشريف الحضرمي في كتابه «رشفة الصادي»، وهي هذه:ا.
ص: 466
ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم5.
ص: 467
رضيت علياً لي إماماً ونسله وأنت من الباقين في أوسع الحل(1)
(العاشر) أخرج الخوارزمي موفق بن أحمد عن أبي صالح عن ابن عباس (رضي اللّه عنهما) قال: الصادقون في هذه الآية يعني: يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين(2) محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم وأهل بيته. أخرجه أبو نعيم والحمويني بلفظه، وأخرجه أبو نعيم عن الصادق جعفر بن محمد، وأخرجه أيضاً وصاحب المناقب عن الباقر والرضا عليهما السلام قالا: «الصادقون هم الأئمة من أهل البيت»(3).
وقال سبط ابن الجوزي: قال علماء السير: معناه: كونوا مع علي وأهل بيته.
قال ابن عباس: علي سيّد الصادقين(4). وعن جماعة كأبي نعيم وابن مردويه وابن عساكر عن جابر وابن عباس وأبي جعفر، قالوا: مع علي بن أبي طالب(5).
وأخرج ابن حجر أنّ الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام كان إذا تلا قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين يقول دعاءاً طويلاً يشتمل على طلب اللحوق بدرجة الصادقين والدرجات العلية، وعلى وصف المحن وما انتحلته المبتدعة المفارقون لأئمة الدين والشجرة النبوية، ثم1.
ص: 468
يقول: «وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا، واحتجوا بمتشابه القرآن وتأوّلوا بآرائهم واتّهموا مأثور الخبر» إلى أن قال: «فإلى من يفزع خلف هذه الأُمة، وقد درست أعلام هذه الملة ودانت الأُمة بالفرقة والاختلاف، يكفّر بعضهم بعضاً واللّه يقول: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جائهم البيّنات(1)»، فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة وتأويل الحكم إلّاأهل (أعدال - خ ل) الكتاب وأبناء أئمة الهدى ومصابيح الدجى، الذين احتج اللّه بهم على عباده ولم يدع الخلق سدى من غير حجة، هل تعرفهم أو تجدونهم إلّامن فروع الشجرة المباركة، وبقايا الصفوة الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وبرّأهم من الآفات وافترض مودتهم في الكتاب(2).
وأخرجه الحافظ عبد العزيز بن الأخضر عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، وهو آخر الصحابة موتاً(3) ، وأخرجه الحضرمي(4) ، والسمهودي في جواهر العقدين(5) ، ثم قالا:
هم العروة الوثقى وهم معدن التُّقىوخير حبال العالمين وثيقها
وفي الباب روايات أُخرى أخرجها الحاكم الحسكاني(6).2.
ص: 469
(الحادي عشر) أخرج ابن حجر في الآية الرابعة من الآيات التي ذكر أنّها وردت فيهم، وهي قوله تعالى: وقفوهم إنّهم مسؤولون(1) عن الواحدي: أي عن ولاية علي وأهل البيت، لأنّ اللّه أمر نبيه صلى الله عليه و آله أن يعرف الخلق أنّه لا يسألهم على تبليغ الرسالة أجراً إلّاالمودة في القربى، والمعنى أنّهم يسألون هل والوهم حق الموالاة كما أوصاهم النبي أو أضاعوها وأهملوها، فتكون عليهم المطالبة والتبعة؟ انتهى.
وأشار بقوله: «كما أوصاهم النبي» إلى الأحاديث الواردة في ذلك، وهي كثيرة(2). ورواه الحضرمي عن الواحدي أيضاً(3) ، وفي الباب روايات أُخرى أخرجها الحسكاني(4).
أقول: حق موالاتهم هو تصديق أقوالهم واتّباع آثارهم واتّخاذهم الأئمة في الدين، وأولى بالأنفس والأموال والاحتجاج بأحاديثهم.
(الثاني عشر) أخرج ابن حجر أيضاً في الآية الثامنة، وهي قوله تعالى:
وإنّي لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى (5) عن ثابت البناني أنّه قال: اهتدى إلى ولاية أهل البيت عليهم السلام وجاء ذلك عن أبي جعفر الباقر أيضاً(6).1.
ص: 470
وأخرجه الحضرمي وقال: جعل الاهتداء إلى ولايتهم مع الإيمان والعمل الصالح سبباً لوجود المغفرة(1).
وأخرج ابن البطريق عن الحافظ أبي نعيم بسنده عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه عن علي عليه السلام أنّه في هذه الآية: إنّي لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى قال: «إلى ولايتنا»(2)، وفي الباب روايات أخرى أخرجها الحاكم الحسكاني(3).
(الثالث عشر) أخرج القاضي: قال صلى اللّه عليه وآله: «معرفة آل محمد براءة من النار، وحب آل محمد جواز على الصراط، والولاية لآل محمد أمان من العذاب»(4).
وأخرجه الحمويني مسنداً عن المقداد والسمهودي في جواهر العقدين(5) ، وأخرجه في كتاب السبعين في فضائل أمير المؤمنين في الحديث التاسع والستين، وقال: أورده أبو إسحاق في كتابه، وأخرج تمام هذا الكتاب الشريف (كتاب السبعين) في ينابيع المودة: ص 230-241.
أقول: لا ريب في أن معنى معرفتهم ليس معرفتهم بأسمائهم وأشخاصهم، بل المراد معرفتهم بأنّهم أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله والعالمون بأحكام اللّه، وبأنّهم2.
ص: 471
مراجع النّاس في أُمورهم الدينية والدنيوية. ومن جهة أُخرى: فإنّه لا يصح هذا الحث الأكيد على معرفتهم وحبّهم وولايتهم إلّاإذا كانت مذاهبهم صحيحة واتّباعهم سبيل للنجاة والإعراض عنهم سبب للهلاك.
(الرابع عشر) أخرج الطبراني في الأوسط عن الإمام الحسن بن علي عليهما السلام أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «ألزموا مودتنا أهل البيت، فإنّه من لقي اللّه عز وجل وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده! لا ينفع عبداً عمل عمله إلّا بمعرفة حقنا»(1). وأخرج ابن حجر(2) والشريف الحضرمي(3) ، والسيّد علي الهمداني في المودة الثانية من (مودة القربى) عن جابر والصبان(4) والنبهاني(5) وغيرهم.
(الخامس عشر) أخرج الطبراني عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن ماله فيم أنفقه ومن أين اكتسبه، وعن محبتنا أهل البيت»(6).5.
ص: 472
وأخرجه أبو المؤيّد الخوارزمي عن أبي هريرة(1) ، والحموي عن علي عليه السلام(2) نحوه. وأخرجه ابن حجر عن الطبراني في الكبير والأوسط(3) والمتقي(4) أخرجا عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة» قالا: «فيما» بدل «فيم» و «عن حبنا أهل البيت»، وأخرجه ابن المغزلي بلفظ كنز العمال والطبراني(5).
(السادس عشر) أخرج الثعلبي في تفسيره عن محمد بن أسلم الطوسي عن يعلى بن عبيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد اللّه البجلي قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «ألا ومن مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح في قبره بابان من الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد بشّره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل اللّه تعالى زوّار قبره ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على0.
ص: 473
السنّة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه «آيس من رحمة اللّه»، آلا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة»(1).
وأخرجه الزمخشري في الكشّاف في تفسيره آية المودة، والحمويني في فرائد السمطين(2) ، والشبلنجي(3) ، والشريف الحضرمي(4) ، والصفوري مختصراً وقال: حكاه القرطبي في سورة(5) الشورى، وصاحب فصل الخطاب وروح البيان(6).
(السابع عشر) أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي برزة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربعة: عن جسده فيما بلاه، وعمره فيما أفناه، وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت. قيل: يا رسول اللّه، فما علامة حبكم؟ فضرب بيده على منكب علي»(7).
وأخرج أبو طالب يحيى بن الحسين بسنده عن علي عليه السلام قال: قال رسول6.
ص: 474
اللّه صلى اللّه عليه وآله: «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأله اللّه عز وجل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت». فقال أبو برزة: ما علامة حبكم يا رسول اللّه؟ قال: «حب هذا - \ووضع يده على رأس علي عليه السلام»(1).
(الثامن عشر) أخرج السيوطي والحضرمي عن الديلمي عن علي عليه السلام قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «أدّبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب أهل بيته، وعلى قراءة القرآن، فإنّ حملة القرآن في ظل اللّه يوم لا ظل إلّاظله مع أنبيائه وأصفيائه»(2). وأخرجه المتقي إلّاأنّه قال: «وقراءة القرآن»(3) وأخرجه ابن حجر إلّاأنّه قال «وقراءة القرآن والحديث» ولم يذكر ما بعده(4).
أقول: الأخبار في هذه المعاني كثيرة متواترة، وفيها من ضروب التأكيد والترغيب في محبة أمير المؤمنين علي والزهراء والحسنين وأولادهم عليهم السلام وذم مبغضيهم، ما يَجعل حبهم بأعظم الواجبات والفرائض، وبغضهم والإعراض عنهم بأشدّ المحرّمات، بل يجعله من أكبر الكبائر، ونعم ما قاله الشافعي:ث.
ص: 475
يا أهل بيت رسول اللّه حبّكم
وللفرزدق في قصيدته المعروفة:
من معشر حبّهم دين وبغضهم
وأخرج السيوطي والنبهاني عن ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: ومن يقترف حسنة(1) قال: المودة لآل محمد صلى اللّه عليه وآله(2).
وفي هذه الآية وآية: قل لا أسئلكم عليه أجراً إلّاالمودّة في القربى(3) روايات كثيرة(4).
وأخرج النبهاني عن ابن مسعود: حب آل محمد يوماً خير من عبادة سنة(5).5.
ص: 476
وأخرج أيضاً عن الديلمي عن علي عليه السلام: «أثبتكم على الصراط أشدّكم حبّاً لأهل بيتي». وأخرجه المناوي أيضاً عن الديلمي(1).
ومن المعلوم البديهي أنّ الحث على محبّتهم بهذا التأكيد واهتمام النبي صلى الله عليه و آله في بيان فضائلهم ومناقبهم وتنزيلهم منزلة نفسه في حبهم وبغضهم وسلمهم وحربهم واختصاصهم بفضائل كثيرة دون غيرهم، أقل ما يدلّ عليه هو صحة الإقتداء بهم في الأحكام الشرعية، وحجية أقوالهم وأفعالهم وحرمة الإعراض عن أحاديثهم وعلومهم.
(التاسع عشر) أخرج السيوطي في تفسير قوله تعالى: ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب(2) عن علي عليه السلام: إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لمّا نزلت هذه الآية قال: «ذاك من أحب اللّه ورسوله وأحب أهل بيته صادقاً غير كاذب». قال: أخرجه ابن مردويه، وأخرجه المتقي(3).
وأخرج الحافظ أبو نعيم بسنده عن أنس أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال في هذه الآية: «أتدري من هم يا بن أُمّ سليم؟ قلت: ومن هم؟ قال:
نحن وشيعتنا»(4).
وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير في تفسير قوله تعالى: فاسئلوا أهل4.
ص: 477
الذكر إن كنتم لا تعلمون (1) عن جابر قال: قال علي بن أبي طالب عليه السلام: «نحن أهل الذكر». وأخرجه الطبري في تفسيره(2).
وأخرج الحسكاني في ذلك روايات غيرها(3).
وأخرج الشارح المعتزلي عن شيخه أبي عثمان عن أبي عبيدة عن جعفر بن محمد عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام: «ألا أنّ الأبرار عترتي وأطائب أرومتي، أحلم الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً، ألا وأنّا أهل بيت من علم اللّه علمنا، وبحكم اللّه حكمنا، ومن قول صادق سمعنا، فإن تتّبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، وإن لم تفعلوا يهلككم بأيدينا، معنا راية الحق، من تبعها محق ومن تخلّف عنها غرق، ألا وبنا يدرك ترة كل مؤمن وبنا تخلع ربقة الذل عن أعناقكم وبنا فتح لا بكم»(4).
وأخرجه الحافظ عمرو بن بحر في كتابه عن أبي عبيدة(5).
(العشرون) أخرج الكنجي بسنده عن أبي أُمامة الباهلي قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «إنّ اللّه خلق الأنبياء من أشجار شتى، وخلقني وعلياً من شجرة واحدة، فأنا أصلها وعلي فرعها وفاطمة لقاحها والحسن والحسين ثمرها، فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجى، ومن زاغ عنها هوى، ولو أنّ عبداً3.
ص: 478
عبد اللّه بين الصفا والمروة ألف عام ثم لم يدرك محبتنا أكبّه اللّه على منخريه في النار، ثم تلا: قل لا أسئلكم عليه أجراً إلّاالمودّة في القربى(1)»(2). وأخرجه ابن حجر عن فضائل ابن جبر(3) ، وأخرج نحوه ابن المغازلي عن جابر(4).
وأخرج الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالإسناد مرفوعاً إلى أبي امامة الباهلي نحوه(5) ، والحمويني بسنده عن جابر بن عبد اللّه أيضاً نحوه(6).
وأخرجه الهمداني في (مودة القربى) في المودة الثامنة، وزاد: «وأشياعنا أوراقها»، وأخرجه الطبري وابن عساكر بعدة طرق عن أبي أُمامة(7).
ونحو هذا الحديث في المضمون والدلالة على نجاة المتمسّكين بهم عليهم السلام ما أخرجه أحمد في المناقب، والسمهودي في جواهر العقدين، والطبراني في معجمه الكبير، وابن عساكر في تاريخه، والنيسابوري في تفسيره، والمتّقي والصبان عن الطبراني عن أبي رافع وابن حجر وغيرهم(8).1.
ص: 479
(الحادي والعشرون) أخرج الديلمي في مسنده عن علي عليه السلام: «يا علي، إنّ اللّه قد غفر لك ولذريتك ولولدك ولأهلك وشيعتك ولمحبي شيعتك، فأبشر فإنّك الأنزع البطين»(1). وأخرج ابن حجر نحوه(2).
وأخرج الخوارزمي أنّه صلى الله عليه و آله قال: «يا علي، إنّ اللّه قد غفر لك ولأهلك وشيعتك ومحبي شيعتك، فإنّك الأنزع البطين، منزوع من الشرك بطين من العلم».
وروى الإمام سيدنا علي بن موسى الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام مثل ما رواه الديلمي، وقال في آخره: «منزوع من الشرك، مبطون من العلم»(3).
(الثاني والعشرون) أخرج الحافظ الزرندي عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أُولئك هم خير البريّة(4) قال لعلي: «هو أنت وشيعتك، تأتى يوم القيامة أنت وشيعتك راضين مرضيين، ويأتي عدوك غضابا مقمحين. فقال: يا رسول ومن عدوى؟ قال: من تبرأ منك ولعنك. ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: رحم اللّه عليا رحمه اللّه»(5).9.
ص: 480
وأخرج الحاكم عن ابن عباس أيضاً قال: نزلت في علي وأهل بيته(1).
قال السيوطي في الدر المنثور في تفسيرها: أخرج ابن عدي عن ابن عباس قال: لما نزلت: إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات(2) قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله لعلي: «أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين»، وأخرجه الشبلنجي إلى قوله: «مقمحين»(3).
(الثالث والعشرون) أخرج الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالإسناد المرفوع إلى يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب علي عليه السلام قال: سمعت علياً يقول: «حدّثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأنا مسنده إلى صدري، فقال: يا علي، أما تسمع قول اللّه تعالى: إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة هم أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض إذا اجتمعت الأُمم للحساب تدعون غرّاً محجّلين»(4).
وأخرج ابن مردويه عن علي عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: ألم تسمع قول اللّه: إنّ الذين آمنوا(5) الآية، هم أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأُمم للحساب تدعون2.
ص: 481
غُرّاً محجّلين»(1).
وفي الباب روايات كثيرة أخرجها الحاكم الحسكاني الحنفي(2).
(الرابع والعشرون) أخرج الهيثمي عن عبد اللّه بن أبي نجى أنّ علياً عليه السلام أتى يوم البصرة بذهب وفضة، فقال: «ابيضّي واصفرّي وغرّي غيري، غرّي أهل الشام غداً إذا ظهروا عليكِ. فشق قوله على الناس، فذكر ذلك له، فأذن في الناس فدخلوا عليه قال: إنّ خليلي صلى الله عليه و آله قال: يا علي، إنّك ستقدم على اللّه وشيعتك راضين مرضيين، ويقدم عليك عدوك غضبان مقمحين، ثم جمع يده إلى عنقه يريهم الأقماح». رواه الطبراني في الأوسط(3).
(الخامس والعشرون) أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه قال: كنّا عند النبي صلى اللّه عليه وآله فأقبل علي عليه السلام فقال النبي: «والذي نفسي بيده ان هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ونزلت: إنّ الذين آمنوا الآية»(4)، وأورده القندوزي في حديثٍ طويل ذكر فيه بعض فضائل علي عليه السلام عن المناقب عن أبي الزبير المكي عن جابر(5).
(السادس والعشرون) أخرج الكنجي بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال:
نظر النبي صلى الله عليه و آله إلى علي عليه السلام فقال: «وشيعته هم الفائزون يوم القيامة». وقال: وقد2.
ص: 482
سمعته من جمّ غفير بطرق مختلفة، وأخرج المناوي: «شيعة علي هم الفائزون» وأخرج أيضاً: «علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة»(1). وأخرج البلاذري عن أُمّ سلمة نحوه، كما أخرج عنها ابن عساكر أيضاً قالت: سمعت النبي صلى اللّه عليه وآله يقول: «إنّ علياً وشيعته هم الفائزون يوم القيامة»(2).
(السابع والعشرون) أخرج الديلمي في الجزء الأول من كتاب الفردوس في باب الألف عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «أنا شجرة، وفاطمة حملها، وعلي لقاحها، والحسن والحسين ثمرها، والمحبّون لأهل البيت ورقها من الجنة حقاً حقاً»(3). ومر نحو ذلك عن أبي أُمامة، وفي الباب نحوه عن عبد الرحمن بن عوف وأبي سعيد الخدري وجابر(4).
وأنشد بعضهم شعراً في هذه الأحاديث:
يا حبّذا دوحة في الخُلد نابتة3.
ص: 483
(الثامن والعشرون) أخرج الزمخشري عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه و آله قال له:
«إذا كن يوم القيامة أخذت بحجزة اللّه، وأخذت أنت بحجزتي، وأخذ ولدك بحجزتك، وأخذت شيعة ولدك بحجزتهم، فترى أين يؤمر بنا»(1).
وأخرج في ربيع الأبرار: «إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة، وأخذت أنت بحجزتي، وأخذوا ولدك بحجزتك، وأخذوا شيعة ولدك بحجزهم، فنودي أين من يؤنس بنا»(2).
وفي مسند الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام المطبوع مع مسند الإمام زيد في الباب الرابع ص 455، أخرج بالإسناد، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يا علي، إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة اللّه، وأخذت أنت بحجزتي، وأخذ ولدك بحجزتك، وأخذ شيعة ولدك بحجزتهم، فترى أين يؤمر بنا». قال أبوالقاسم الطائي: سألت أبا العباس بن ثعلب عن الحجزة قال: هي السبب، وسألت ابن نفطويه النحوي عن ذلك فقال: هي السبب.
(التاسع والعشرون) أخرج الحافظ جمال الدين محمد بن يوسف الزرندي الحنفي عن إبراهيم بن شيبة الأنصاري قال جلست إلى الأصبغ بن نباتة فقال: ألا أقرأ عليك ما أملاه على علي بن أبي طالب، فأخرج لي صحيفة فيها مكتوب:
«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به محمد رسول اللّه صلى اللّه عليهم.
ص: 484
وآله أهل بيته وأُمته، أوصى أهل بيته بتقوى اللّه ولزوم طاعته، وأوصى أُمته بلزوم أهل بيته، وأنّ أهل بيته يأخذون بحجزة نبيهم صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأنّ شيعته آخذون بحجزهم يوم القيامة، وإنّهم لن يدخلوكم في باب ضلالة، ولن يخرجوكم من باب هدى»(1)، وأخرجه الشريف الحضرمي الشافعي(2).
أقول: الأحاديث الواردة في نجاة من تمسّك بهم وفي فضل شيعتهم عليهم السلام كثيرة جداً تجاوزت حدّ التواتر(3) ، وصنف فيها جمع من أعلام الشيعة والسنة كتباً مفردة.
(تنبيه) شيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، وقد غلب هذا الاسم في عصر النبي صلى اللّه عليه وآله والصحابة إلى العصر الحاضر على أتباع علي عليه السلام والذين اختصوا به وبأولاده، واتخذوهم أولياء واتخذوهم أئمة في الدين، وفي تبليغ الأحكام عن الرسول صلى اللّه عليه وآله، وفى تفسير القرآن والسنة، وفي سائر الأُمور، وقد نص على ذلك علماء اللغة:ث.
ص: 485
قال الجوهري في الصحاح: شيعة الرجل أتباعه وأنصاره. وقال الفيّومي في المصباح: الشيعة: الأتباع والأنصار. وقال الراغب: من يتقوّى بهم الإنسان وينتشرون عنه. قال الفيروزآبادي في القاموس: وشيعة الرجل - \بالكسر - \ أشياعه وأنصاره، والفرقة على حدة، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكّر والمؤنث، وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولّى علياً وأهل بيته حتى صار اسماً لهم خاصاً.
وقال ابن منظور في لسان العرب: الشيعة: اتباع الرجل وأنصاره، جمعها شيع وأشياع (إلى أن قال:) قد غلب هذا الاسم على من يتولّى علياً وأهل بيته (رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين) حتى صار لهم اسماً خاصاً، فإذا قيل فلان من الشيعة عرف أنّه منهم، وفي مذهب الشيعة كذا أي عندهم، وأصل ذلك من المشايعة، وهي المتابعة والمطاوعة. وقال الأزهري: والشيعة قوم يهوون هوى عترة النبي صلى الله عليه و آله ويوالونهم.
وذكر نحوه ابن الأثير في النهاية.
وقال الشيخ أبو محمد الحسن النوبختي في الفرق والمقالات المطبوع في إستانبول: الشيعة هم فرقة علي بن أبي طالب المسمّون بشيعة علي في زمان النبي صلى الله عليه و آله، وما بعده معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته(1).
وقال أبو حاتم السجستاني في الجزء الثالث من كتاب «الزينة»: أنّ لفظ الشيعة كان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله لقب أربعة من الصحابة: سلمان وأبي ذر9.
ص: 486
والمقداد وعمّار(1).
وقال علي بن محمد الجرجاني في كتاب «التعريفات» في باب الشين:
الشيعة هم الذين شايعوا علياً (رضي اللّه عنه) وقالوا: أنّه الإمام بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله، واعتقدوا أنّ الإمامة لا تخرج عنه وعن أولاده.
ومما ذكرنا يظهر الأحاديث المذكورة على أن الشيعة اسم أطلقه النبي صلى اللّه عليه وآله على جماعة خاصة من أُمته، وهم أتباع علي عليه السلام وأشياعه ومن اتخذه ولياً واقتفى أثره وأثر ولده، ويتأسّى ويقتدى به وبأولاده الأئمة في عقائده وأعماله. ولا معنى لهذا إلّاكونهم أئمة في الدين وأولياء الناس بتعيين رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وكون الأخذ بأقوالهم والعمل بفتاواهم في الفروع والأُصول سبباً للنجاة في الدارين.
وليس المراد منها كل من يحب علياً ولا يبغضه، فإنّ مجرد ذلك لا يصحّح إطلاق الشيعة عليه ولا يختصه بأهل البيت، فلا يقال لمن يحب أحداً أنّه من شيعته إلّاإذا اقتدى به وتولّاه وتابعه وشايعه والتزم بمتابعته ومشايعته، كما لا ينتمي من أخذ العلم عن جميع العلماء إلى واحد منهم إلّاإذا كان له اختصاص به.
ولا ريب في أنّه ليس في فِرَق المسلمين وطوائفهم فرقة تنتمي إلى أهل البيت غير الشيعة، ولا شبهة في إضافة علومهم وفقههم إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام، كمالا شبهة في صحة إضافة فقه الحنابلة إلى أحمد بن حنبل والحنفية إلى أبي حنيفة والشافعية إلى الشافعي والمالكية إلى مالك. فكما لا يجوز لأحد إنكار9.
ص: 487
صحة حكاية فقه المذاهب الأربعة بين أهل السنة عن مالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة، لاستفاضة الفتيا عنهم، لا يجوز أيضاً لأحد إنكار صحة فقده المذهب الجعفري وما عند الإمامية من الحديث والعلم، وصحة انتمائه إلى جعفر بن محمد وآبائه وأولاده الأئمة عليهم السلام، سيما مع استفاضه كونهم من أجله أهل العلم والفتيا في جميع الأحكام وتواتر ذلك بين المسلمين، ومعروفية فتاواهم ومذاهبهم بين الشيعة دون غيرهم من الفرق.
(الثلاثون) أخرج شيخ الإسلام إبراهيم بن محمد الحمويني الشافعي في حديثٍ بإسناده عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ذكر فيه بعض فضائل علي عليه السلام (إلى أن قال): «والحسن والحسين إماما أُمتي بعد أبيهما وسيدا شباب أهل الجنة، وأُمهما سيدة نساء العالمين، وأبوهما سيد الوصيين، ومن ولد الحسين تسعة تاسعهم القائم من ولدي، طاعتهم طاعتي ومعصيتهم معصيتي، إلى اللّه أشكو المنكرين لفضلهم والمضيعين لحرمتهم بعدي، وكفى باللّه ولياً وناصراً لعترتي وأئمة ومنتقماً من الجاحدين حقهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(1)»(2).
(الحادي والثلاثون) أخرج القندوزي عن المناقب بالإسناد عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبداللّه الأنصاري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حديثاً ذكر فيه أيضاً بعض فضائل علي عليه السلام (إلى أن قال): «وزوجته الصدّيقة الكبرى ابنتي، وابناه سيدا شباب أهل الجنة ابناي، وهو وهما والأئمة من3.
ص: 488
بعدهم حجج اللّه على خلقه بعد النبيين، وهم أبواب العلم في أُمتي، من تبعهم نجا من النار ومن اقتدى بهم هدى إلى صراط مستقيم، لم يهب اللّه محبتهم لعبد إلّاأدخله الجنة»(1).
(الثاني والثلاثون) أخرج الزمخشري بإسناده قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:
«فاطمة بهجة قلبي، وابناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، والأئمة من ولدها امناء ربّي، وحبل ممدود بينه وبين خلقه، من اعتصم بهم نجا ومن تخلّف عنهم هوى»(2).
(الثالث والثلاثون) أخرج الحمويني والخوارزمي مسنداً والهمداني في (مودة القربى) عن سليم بن قيس الهلالي عن سلمان الفارسي قال: دخلت على النبي صلى الله عليه و آله، فإذا الحسين بن علي على فخذيه، وهو يقبّل خدّيه ويلثم فاه ويقول:
«أنت سيّد ابن سيّد أخو سيّد، وأنت إمام ابن إمام أخو إمام، وأنت حجة ابن حجة أخو حجة، وأنت أبو حجج تسعة تاسعهم قائمهم المهدي»(3).
(الرابع والثلاثون) أخرج الهمداني في (مودة القربى) في المودة العاشرة عن أصبغ بن نباتة عن عبد اللّه بن عباس قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون»،4.
ص: 489
وأخرجه الحمويني(1).
(الخامس والثلاثون) أخرج الحمويني في فرائد السمطين بسنده عن عباية بن ربعي عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «أنا سيد النّبيّين، وعلي سيد الوصيين، وإن أوصيائي بعدي اثنا عشر، أولهم علي وآخرهم المهدي»(2). وأخرجه في (مودة القربى) في المودة العاشرة.
(السادس والثلاثون) أخرج الحمويني في فرائد السمطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «إنّ خلفائي وأوصيائي وحجج اللّه على الخلق بعدي الاثنا عشر، أولهم أخي وآخرهم ولدي. قيل: يا رسول اللّه، ومن أخوك؟ قال: علي ابن أبي طالب. قيل: فمن ولدك؟ قال: المهدي الذي يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، والذي بعثني بالحق بشيراً! لو لم يبق من الدنيا إلّايوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي، ينزل روح اللّه عيسى بن مريم فيصلّي خلفه، وتشرق الأرض بنور ربّها، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب»(3)، وأخرجه في روضة الأحباب في ذكر الإمام الثاني عشر(4).
(السابع والثلاثون) أخرج القندوزي عن المناقب عن أبي الطفيل عامر بن واثلة - \وهو آخر من مات من الصحابة - \عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:8.
ص: 490
«أنت وصيي، حربك حربي وسلمك سلمي، وأنت الإمام أبو الأئمة الأحد عشر الذين هم المطهّرون المعصومون، منهم المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فويل لمبغضيهم. يا علي، لو أنّ رجلاً أحبك وأولادك في اللّه لحشره اللّه معك ومع أولادك، وأنتم معي في الدرجات العلى، وأنت قسيم الجنّة والنّار، تدخل محبيك الجنة ومبغضيك النار»(1).
(الثامن والثلاثون) أخرج القندوزي عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «من أحب أن يركب سفينة النجاة ويستمسك بالعروة الوثقى ويعتصم بحبل اللّه المتين، فليوال علياً وليعاد عدوه، وليأتم بالأئمة الهداة من ولده، فإنهم خلفائي وأوصيائي وحجج اللّه على خلقه من بعدي وسادات أُمتي وقوّاد الأتقياء إلى الجنة، حزبهم حزبي وحزبي حزب اللّه، وحزب أعدائهم حزب الشيطان»(2)، وأخرجه الهمداني في (مودة القربى) في المودة العاشرة(3).
وأخرج أبو سعيد عبد الملك بن محمد النيسابوري الخركوشي في (شرف المصطفى) عن علي عليه السلام أنّه قال: «فيكم من يخلف من نبيكم صلى الله عليه و آله، ما ان تمسّكتم به لن تضلّوا، وهم الدعاة، وهم النجاة، وهم أركان الأرض، وهم النجوم، بهم يستضاء من شجرة طاب فرعها وزيتونة طاب (بورك - ظ) أصلها، نبتت في الحرم وسقيت من كرم، من خير مستقر إلى خير مستودع،8.
ص: 491
من مبارك إلى مبارك، صفت من الأقدار والأدناس ومن قبيح ما نبت به شرار الناس، لها فروع طوال لا تنال، وحسرت عن صفاتها الألسن، وقصرت عن بلوغها الأعناق، فهم الدعاة وبهم النجاة، وبالناس إليهم حاجة، فاخلفوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بأحس الخلافة، فقد أخبركم أنهم والقرآن الثقلان وأنهما لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض، فالزموهم تهتدوا وترشدوا ولا تتفرقوا عنهم ولا تتركوهم فتفرقوا وتمرقوا»(1).
(التاسع والثلاثون) أخرج الديلمي في حديث عن جابر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّه قال: «فمن سره أن يلقى اللّه وهو عنه راض فليتول علياً وعترته، فإنهم أوليائي ونجبائي وأحبّائي وخلفائي»(2).
(الأربعون) أخرج الحافظ أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس (ت 412) في أربعينه بإسناده حديثاً طويلاً، وهو الحديث الرابع من أربعينه، ذكر فيه أسماء الأئمة الاثني عشر من الإمام علي ابن أبي طالب إلى المهدي محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وذكر فضيلة موالاة كل واحد منهم واتخاذهم أولياء(3).9.
ص: 492
ومن الروايات الواردة فيهم الدالة على وجوب التمسّك بهم والمصرحة بعددهم وأسمائهم، ما أخرجه القندوزي عن واثلة وصاحب فرائد السمطين عن عمر بن سلمة(1) ، وشارح غاية الأحكام عن أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام(2) ، وصاحب روضة الأحباب والمناقب(3) عن جابر، والخوارزمي بسنده عن أبي سلمى راعى إبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وبسنده عن علي عليه السلام(4) ، والحمويني في حديث مناشدة أمير المؤمنين علي عليه السلام(5) وغيرها.
***
أقول: الأحاديث في إرجاع الأُمة إلى أهل البيت وفي التصريح بأسماء الأئمة الاثني عشر كثيرة متواترة، لا يمكن في مثل هذا الكتاب استقصاؤها، وإنما ذكرنا منها - \مضافاً إلى أحاديث الثقلين والسفينة والأمان - \هذه الأحاديث الأربعين تبركاً، ولما نقله الحافظ أبو الفتح محمد بن أبي الفوارس في أوّل أربعينه عن الشافعي بعد ذكر حديث «من حفظ عني من أُمتي أربعين حديثا كنت له شفيعا» أن المراد من هذه الأربعين مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
ونقل بإسناده عن أحمد بن حنبل أنه قال: خطر ببالي من أين صح عند الشافعي، فرأيت النبي صلى اللّه عليه وآله في النوم.2.
ص: 493
وهو يقول: شككت في قول محمد بن إدريس عن قولي: من حفظ من أُمتي أربعين حديثاً في فضائل أهل بيتي كنت له شفيعاً يوم القيامة، أما علمت أنّ فضائل أهل بيتي لا تحصى؟.
من أراد الاطّلاع على طائفة من هذه الأحاديث فعليه بكتابنا منتخب الأثر، فقد أخرجنا فيه ما يزيد على 270 من الأحاديث المروية في الأئمة الاثني عشر من طرق الفريقين، وما كتبناه مقدمة على كتاب مقتضب الأثر للعلامة المحدّث ابن العيّاش الجوهري (ت 401).
وليراجع أيضا الكتاب القيّم ينابيع المودة، ومودة القربى، والمناقب للخوارزمي، وفرائد السمطين للحمويني، ونظم درر السمطين للزرندي، وجواهر العقدين للسمهودي، والفصول المهمة لإبن الصبّاغ، وكفاية الطالب للكنجي الشافعي، وتذكرة الخواص، والصواعق المحرقة، ووفاء الوفا بأخبار دار المصطفى ص 73، وحسن التوسل بهامش الاتحاف ص 74، ورشفة الصادي ص 28 تفسيراً لآية النور، والمناقب لإبن المغازلي، وشواهد التنزيل للحاكم الحسكاني، وغير ذلك من جوامع الحديث والصحاح والمسانيد والتفاسير والتواريخ مما جاء أسماؤها في كتاب عبقات الأنوار. فإنك إن سبرت هذه الكتب وكتبا عبقات الأنوار تجد في هذه المعاني روايات كثيرة.
وقد أفرد العلامة محمد معين السندي مؤلف «دراسات اللبيب في الأُسوة بالحسنة الحبيب» كتاباً أسماه «مواهب سيد البشر في حديث الأئمة الاثني
ص: 494
عشر»(1).
كما قد ذكر فضائلهم جمع من الأعلام وأرباب التراجم، وقد أفردوا في ذلك كتباً عديدة.
وأما الإمامية فأفردوا في ذلك كتباً كثيرة لا يستغني الباحث عنها، فممن صنف منهم في ذلك: الشيخ الجليل الثقة الثبت أبو القاسم علي بن محمد بن علي الخزار الرازي من أعلام القرن الرابع الهجري، فصنف كتابه القيّم «كفاية الأثر في النصوص على الأئمة الاثني عشر»، وأخرج فيه في ذلك بأسانيده وطرقه المعتبرة عن جماعة من الصحابة كأمير المؤمنين علي والحسن والحسين عليهم السلام وابن عباس وابن مسعود وأنس بن مالك وزيد بن أرقم وعمار وجابر بن سمرة وأبي ذر وسلمان وجابر بن عبد اللّه وزيد بن ثابت وأُمّ سلمة وغيرهم.
ومما يؤيّد هذه الأحاديث روايات أُخرى أخرجها في غير هذه الأبواب جمهرة من علماء الفريقين. وقد صنف في كراماتهم ومناقبهم وما سمع منهم من العلم والحديث من عصر الصادقين بل من النصف الثاني من القرن الأول كتباً لا).
ص: 495
يسع هذا المختصر سرد أسمائها، فمن أراد الإطلاع عليها فعليه بمطالعة أجزاء كتاب «الذريعة إلى تصانيف الشيعة».
وأقل ما يستفاد من هذه الأحاديث هو حجية أقوال أهل البيت ومذاهبهم في الفقه والعلوم الشرعية ووجوب الرجوع إليهم وإلى أحاديثهم ونجاة من تمسّك بهم. وقد عرفت مما أسلفنا أنّ ما بيد الشيعة في الفقه والأحكام الشرعية وما في جوامعهم مأخوذ من أهل البيت عليهم السلام لا ريب في ذلك، فلا يعرف مذاهبهم ولا يؤخذ علومهم إلّامن كتب الشيعة، وهذا أمر واضح يعرفه كل منصف متتبّع خبير.
***
ونختم الكلام بإيراد بعض الكلمات الصادرة عن إمام البلغاء وسيّد الفصحاء نفس الرسول وسيف اللّه المسلول، قائد البررة وقاتل الكفرة، ولي كل مؤمن ومؤمنة، أمير المؤمنين أبي الحسن والحسين علي بن أبي طالب عليه السلام في شأن أهل البيت ووجوب الاقتداء بهم:
1 - \فمن ذلك قوله عليه السلام في خطبته في مدح النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام بجامع الكوفة: «فنحن أنوار السماوات والأرض وسفن النجاة، وفينا مكنون العلم وإلينا مصير الأُمور، وبمهديّنا تقطع الحجج، فهو خاتم الأئمة ومنقذ الأُمة ومنتهى النور»(1).
2 - \وقال عليه السلام: «موضع سرّه ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه8.
ص: 496
وكهوف كتبه وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه - إلى أن قال -: لا يقاس بآل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم من هذه الأُمة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله»(1).
3 - \وقال عليه السلام: «تاللّه لقد علمت تبليغ الرسالات وإتمام العدات وتمام الكلمات، وعندنا أهل البيت أبواب الحكم وضياء الأمر، ألا وإنّ شرائع الدين واحدة وسبله قاصدة، من أخذ بها لحق وغنم، ومن وقف عنها ضل وندم»(2).
4 - \وقال عليه السلام: «أُنظروا أهل بيت نبيكم، فالزموا سمتهم واتبعوا أمرهم، فلم يخرجوكم من هدى ولن يعيدوكم في ردى، فإن لبدوا فالبدوا، وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلّوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا»(3).
5 - \وقال عليه السلام: «وأنّى تؤفكون، والأعلام قائمة والآيات واضحة والمنار منصوبة، فأين يتاه بكم، بل كيف تعمهون، وبينكم عترة نبيكم، وهم أزمة الحق وأعلام الدين وألسنة الصدق، وأنزلوهم بأحسن منازل القرآن(4) ،ن.
ص: 497
وردوهم ورود الهيم العطاش(1) ، أيّها الناس خذوها من خاتم النبيين صلى الله عليه و آله:
«أنّه يموت من مات منا وليس بميت، ويبلى من بلي منّا وليس ببال، فلا تقولوا بمالا تعرفون، فإنّ أكثر الحق فيما تنكرون، واعذروا من لا حجة لكم عليه، وأنا هو ألم اعمل فيكم بالثقل الأكبر(2) وأترك فيكم الثقل الأصغر، وركزت فيكم راية الإيمان، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام، وألبستكم العافية من عدلي، وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي، واديتكم كرائم الأخلاق من نفسي»(3).
6 - \وقال في وصف النبي صلى اللّه عليه وآله: «أرسله بأمره صادعاً وبذكره ناطقا، فأدى أميناً ومضى رشيداً، وخلّف فينا راية الحق، من تقدّمها مرق ومن تخلف عنها زهق ومن لزمها لحق(4) ، دليلها مكيث الكلام بطئ القيام سريع إذا قام - إلى أن قال -: ألا إنّ مثل آل محمد صلى اللّه عليه وآلهب.
ص: 498
كمثل نجوم السماء إذا خوى نجم طلع نجم»(1).
7 - \وقال عليه السلام: «نحن شجرة النبوة ومحطّ الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم وينابيع الحكم، ناصرنا ومحبّينا ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضينا ينتظر السطوة»(2).
8 - \وقال عليه السلام: «فاسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده! لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة، إلّاأنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحطّ رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ويموت منهم موتاً»(3).
9 - \وقال عليه السلام، وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعمّا في أيدي الناس من اختلاف الخبر: إنّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً (إلى أن قال في آخر هذه الخطبة): «وليس كل أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من كان يسأله ويستفهمه، حتى أن كانوا ليحبّون أن يجيء الأعرابي والطارئ، فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا، وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلّاسألت عنهر.
ص: 499
وحفظته»(1).
10 - \وقال: «أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً، أن رفعنا اللّه ووضعهم وأعطانا وحرمهم وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى»(2).
11 - \وقال عليه السلام: «وإنّما الأئمة قوام اللّه على خلقه، وعرفاؤه على عباده، لا يدخل الجنة إلّامن عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلّامن أنكرهم وأنكروه»(3).
12 - \وقال عليه السلام: «نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت إلّامن أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سُمّي سارقاً (ومنها) فيهم كرائم القرآن وهم كنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا وإن صمتوا لم يسبقوا»(4).
13 - \وقال عليه السلام: «هم عيش العلم وموت الجهل، يخبركم حلمهم يخالفون الحق ولا يختلفون فيه. هم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق في نصابه وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدين وعاية ورعاية لاعقل سماع ورواية، فإنّ رواة العلم كثير ورعاته قليل».4.
ص: 500
14 - \أخرج ابن سعد عن جبلة بنت المصفّح عن أبيها قال: قال لي علي عليه السلام: «يا أخا بني عامر سلني عما قال اللّه ورسوله، فإنّا نحن أهل البيت أعلم بما قال اللّه ورسوله»، قال: والحديث طويل(1).
***
هذا آخر ما كتبناه حول وجوب الأخذ بأحاديث جوامع الشيعة وحجية أقوال أئمتهم عليهم السلام، ووجوب التمسّك بهم قبل عشر سنين، فجدّدت النظر فيه ولخّصته وأعددته للطبع طلباً لمرضاة اللّه تعالى ومرضاة رسوله صلى اللّه عليه وآله.
والرجاء ممن يطّلع عليه إن رأى فيه هفوة أن يتجاوز عنّي ويدعو لي ليغفر لي ربي هفوتي وذنوبي ويستر عيوبي ويحشرني ووالدي وجميع أساتذتي ومشايخي وأهلي وأولادي في زمرة المتمسّكين بولاية أهل البيت عليهم الصلاة والسلام.
إن تجد عيباً فسد الخللاجلّ من لا عيب فيه وعلا
وكان إتمام ذلك في السادس عشر من ربيع الثاني من سنة 1389 ه، ثم أجّلت النظر فيه واستنسخته وراجعت مصادره ومآخذه ثالثاً، وزدت عليه في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن من شهور سنة 1394 ه.
وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.
لطف اللّه الصافي الگلپايگاني4.
ص: 501