لمحات فی الکتاب و الحدیث و المذهب المجلد 1

اشارة

سرشناسه:صافی گلپایگانی، لطف الله، 1298 -

Safi Gulpaygan, Lutfullah

عنوان و نام پديدآور:لمحات فی الکتاب و الحدیث و المذهب/ لطف الله الصافی الگلپایگانی مدظله الشریف.

مشخصات نشر:قم: مکتب تنظیم و نشر آثار آیت الله صافی گلپایگانی دام ظله، 1439 ق.= 1397.

مشخصات ظاهری:3 ج.

شابک:1000000 ریال: دوره 978-600-7854-09-9 : ؛ ج.1 978-600-7854-06-8 : ؛ ج.2 978-600-7854-07-5 : ؛ ج.3 978-600-7854-08-2 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ دوم.

يادداشت:ج. 2 و 3 (چاپ دوم: 1439 ق. = 1397)(فیپا).

يادداشت:چاپ قبلی: موسسه البعثه، قسم الدراسات الاسلامیه، 1366.

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:احادیث شیعه -- قرن 14

موضوع:Hadith (Shiites) -- Texts -- 20th century

موضوع:شیعه -- دفاعیه ها

موضوع:Shi'ah -- Apologetic works

موضوع:شیعه -- ردیه ها

موضوع:Shi'ah -- Controversial literature

شناسه افزوده:دفتر تنظیم و نشر آثار حضرت آیت الله العظمی حاج شیخ لطف الله صافی گلپایگانی

رده بندی کنگره:BP136/9/ص18ل8 1397

رده بندی دیویی:297/212

شماره کتابشناسی ملی:5308292

اطلاعات رکورد کتابشناسی:فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

الجزء الاول

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمدُ للّه رب العالمين، وصلّى اللّه عليسيّدنا محمّد نبيّه وآله الطيبين الطاهرين.

منذ بداية عصر غيبة مولانا بقية اللّه الأعظم والسرّ الأكبر وصاحب العصر والزمان - أرواحنا له الفداء - ينبري بين الفينة والاُخرى خلال فترات متزامنة علماء وفقهاء أفذاذ، ممّن بذلوا ويبذلون على مرّ التاريخ الغالي والنفيس من أجل إحياء تراث أهل بيت النبوة عليهم السلام، دفاعاً عن العقيدة الحقّة وإيصال علوم الرسالة الإسلامية إلى أذهان معتنقيها ومريديها، والباحثين عنها لأجل الخلاص من الوضع العالمي المأساوي الذي تعيشه الشعوب المستضعفة في ظلّ أنظمة بشرية لا ترى إلّا مصالحها الخاصة....

وقد برز من بين ظهراني هؤلاء الفطاحل شيخُنا المقدام، حامل لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المفكر الاسلامي المشهور بالاُطروحة المهدوية في هذا العصر، صاحب منتخب الأثر، وهو بحقٍّ شيخ صدوق زماننا، الفقيه الكبير، المرجع الديني سماحة آية اللّه العظمى الشيخ لطف اللّه الصافي الگلپايگاني دام ظلّه الوارف.

لقد كان لرواج هذا السفر العظيم أثراً كبيراً بين الشعوب المسلمة، وفي إثراء المكتبة الإسلامية في بحوثٍ في غاية الأهميّة، ممّا ساعد الاُمّة على تطوّرها ونموّها في المحافل العالمية وعلى مسار المراحل التاريخية الأخيرة.

ص: 7

وكتاب «لمحات في الكتاب والحديث والمذهب» - عزيزي القارئ - الذي بين أيدينا هو مجموعة من المقالات الإسلامية والكتب والرسائل الدينيّة في مواضيع شتّى، من العقيدة والتفسير والحديث والكلام والفقه والتاريخ والقضايا الثقافية والفكرية المهمة، قد كُتبت في مواضيع عدّة وتواريخ مختلفة يعود زمن بعضها إلى أكثر من نصف قرن من حياتنا، وهي ما بين مطوّلة ومختصرة، جُعل كلّ منها بحسب الحاجة إليها في ظروف ساعدت على دفع الشبهات والدفاع عن المذهب والدين الحنيف.

وهذا السفر الثرّ في محتواه، الذي يعتبر عصارة أفكار فقيه اهل البيت عليهم السلام هو جامع للعلوم العقلية والنقلية والمدافع عن ساحة الولاية المقدسة.

وقد وجدنا لهذه الثروة الفكرية النفع الأكيد بعد زيادة الرغبة فيها، والإقبال عليها، والطلب لها في إعادة جمعها وطبعها في ثلاث مجلدات، وهي مجموعة من ثلاثٍ وعشرين رسالة.

ونسأل اللّه تعالى أن يُمِدّ في عمر وعافية وتوفيق كاتبها، وأن يجعل فيما كتبه الخير والبركة لعامة المسلمين وأحرار العالم أجمعين بحقّ محمّد وآله الطاهرين.

وفي النهاية نتقدّم بالشكر الجزيل والامتنان الوفير لكلّ من ساهم في تهيئة وإخراج هذا الكتاب، ونشكر سماحة العلّامة الاُستاذ الشيخ محمدحسن الصافي الگلپايگانى حفظه اللّه، الذي كان وجوده بركة في إحياء تراث أهل البيت عليهم السلام، وخصوصاً في نشر هذا الكتاب القيّم الذي طُبع تحت إشرافه، نسأل اللّه تعالى أن يوفّقه لكلّ خيرٍ، إنّه نعم المولى ونعم النصير، والحمد للّه ربّ العالمين.

قسم النشر العالمي

ص: 8

نبذة موجزة عن شخصية المؤلّف الجليل:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

العلماء مشاعل النور على طريق الكمال والارتقاء، ومصابيح الضوء في ظلمات الحياة، بل إنّهم كنجوم السماء يهتدي بهم التائهون في لجج الأحداث، ويستدلّ بهم الحائرون في ظلمات الدروب(1).

ص: 9


1- قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «إنّ مَثَل العلماء في الأرض كمَثَل النجوم في السماء يُهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر، فإذا طُمِست أوشك أن تضلّ الهداة» المحجّة البيضاء: ج 1 ص 21، وبحار الأنوار: ج 2 ص 25. وقال الإمام محمد بن علي الباقر سلام اللّه عليه: «العالم كمَن معه شمعة تضيء للناس، فكلّ من أبصر شمعته دعا له بخير، كذلك العالم معه شمعة يزيل بها ظلمة الجهل والحيرة» بحار الأنوار: ج 2 ص 4، والمحجّة البيضاء: ج 1 ص 31.

كيف لا وهم يدلّون على اللّه، ويذبّون عن دينه، ويمسكون أزمّة القلوب من أن تزيغ، ويدفعون عن شرائع اللّه تحريف المحرّفين وكيد المبطلين؟

ومؤلّفنا الجليل سماحة آية اللّه العلّامة الشيخ لطف اللّه الصافيّ هو أحد هؤلاء الأعلام، الذين كرّسوا حياتهم للذبّ عن حياض العقيدة والشريعة، والدفاع عن جوانبها بأقلامهم وكتاباتهم ومواقفهم.

ومن هنا ينبغي لقارئنا الكريم أن يتعرّف على هذه الشخصيّة عن كثب، وإن كانت رسائله وكتاباته الحاضرة خير طريق لهذه المعرفة، وأفضل وسيلة لهذا التعرّف.

ولا غرو فمؤلّفنا الجليل من بيت شُيِّد على اسس الزهد والتقوى، ومن شجرة قد ضربت بجذورها في العلم والكمال(1).

فقد وُلد سماحته في 19 جمادى الاُولى من عام 1337 ه، وأخذ المقدمات والعلوم الآلية من الأديب البارع الشيخ ابوالقاسم المشتهر بالقطب، حيث قرأ عليه الصرف والنحو والمنطق والمعاني والبيان والبديع، كما أنّه قرأ عند والده العلّامة الشيخ محمدجواد الصافي: القوانين والفرائد والمكاسب والكفاية،ل.

ص: 10


1- فوالده هو العلّامة المجاهد الفاضل الجليل الشيخ محمدجواد الصافي، ولد في 27 شعبان المعظّم من عام 1287 ه، وتوفّي في 25 رجب من عام 1378 ه، وقد ترجم له العلّامة الشيخ آغا بزرگ الطهراني في «نقباء البشر». ووالدته العالمة الفاضلة، والشاعرة المُحِبّة لأهل البيت النبوي الطاهر، المربّية لأولادها الأفاضل، على خير الصفات والفضائل.

وذلك في مسقط رأسه في جرفادقان، في عصرٍ كان تحصيل العلوم الإسلامية والانخراط في سلك رجال الدين أمراً صعباً للغاية؛ نظراً للمضايقات التي كانت تمارسها حكومة الطاغية «البهلوي» المقبور، وما كان يقوم به زبانيته من ملاحقة لطلّاب العلوم الإسلامية والمتزيّين بزيّهم، بشتّى الأعذار والحجج الواهية.

إلّا أنّ مؤلّفنا الجليل اختار هذا السبيل بطوع رغبته، ومضى فيه دون أن يعبأ بالمتاعب والمشكلات، واستمرّ في تحصيل العلوم الإسلامية المباركة، كما أ نّه تزيّا بزيّ أهل العلم في تلك الظروف غير عابئٍ بالصعوبات.

ثمّ إنّه عام (1360 ه) انتقل لتكميل دراساته الإسلامية العليا إلى الحوزة العلميّة، التي أسّسها في مدينة قم المقدّسة المجاهد العظيم فقيد الاُمّة الإمام الراحل الشيخ عبدالكريم الحائري عام (1340 ه)(1).

فحضر أبحاث أصحاب السماحة الآيات العظام:

السيد محمدتقي الخونساري المتوفّى عام (1371 ه).

والسيد محمد الحجة الكوهكمري المتوفّى عام (1372 ه).).

ص: 11


1- توفّي آية اللّه الإمام الشيخ عبدالكريم الحائري مؤسّس الحوزة العلميّة عام (1355 ه)، وقد أرّخ العلّامة الجليل السيد صدرالدين العاملي - الذي كان واحداً من الزعماء البارزين في الحوزة العلميّة في قم، بعد وفاة شيخنا المؤسّس - بقوله: دَعاه مولاه فقل مورِّخاً: لدى الكريم حلَّ ضيفاً عبدُهُ (1355 ه).

والسيد صدرالدين العاملي المتوفّى عام (1373 ه).

والسيد محمدرضا الگلبايگاني قدس سره.

والإمام الراحل الحاج سيد حسين البروجردي - قدّس اللّه روحه الشريفة - المتوفّى عام 1380.

وقد كان أكثر دراسته على الأخير حيث استفاد من أبحاثه ما لم يستفده من سواه.

فقد حضر أبحاث آية اللّه البروجردي - رضوان اللّه تعالى عليه - مدة سبعة عشر عاماً، وتلقّى منه بحوثاً قيّمة في مجالَي علم الفقه والاُصول على مستوى الخارج، وقد كان سماحته يحظى لدى الإمام البروجردي بمكانة خاصة، حتّى أ نّه كان يشترك في مجالس استفتاءاته، وربما أناط رحمه الله إليه مهمّة حلّ الكثير من المسائل الفقهية والعقائدية الوافدة من مختلف الأنحاء والأصقاع.

ومن هنا تبلورت مواهبه وقابلياته تحت رعاية الإمام المحقّق البروجردي قدّس اللّه روحه الشريفة.

ثمّ إنّه هاجر - أثناء دراسته في قم - إلى النجف الأشرف عام (1364) وحضر في حوزتها الإسلامية العريقة أبحاث:

العلّامة الشيخ محمدكاظم الشيرازي، المتوفّى عام (1367 ه).

والعلّامة السيد جمال الدين الگلبايگاني، المتوفّى سنة (1377 ه).

والعلّامة الشيخ محمدعلي الكاظمي، المتوفّى عام (1364 ه).

ص: 12

كما حصل على إجازة الرواية والحديث من خاتمة المجيزين المعاصرين العلّامة المتتبّع الشيخ آغا بزرگ الطهراني والعلّامة الشيخ محمدصالح السمناني ومن والده الجليل رحمهم اللّه.

ثمّ إنّ المترجَم له غادر النجف الأشرف عائداً إلى بلاده، وقد كان العلّامة الراحل الشيخ محمدكاظم الشيرازي مُصرّاً على أن يقيم سماحته في حوزة النجف عندما شَعَرَ بأ نّه يَنوي الرحيل إلى إيران، إلّاأنّ بعض الأسباب والعلل دفعت به إلى أن يغادر النجف إلى إيران وسكن حوزه قم المشرّفة، مواصلاً جهوده العلمية، ومتابعاً حركته الفكرية بحدٍّ كبير.

المرء بأفكاره وآرائه:

إنّ أفضل ما يوقفنا على حقائق الرجال وما يتحلّون به من فضائل وملكات وسجايا، وما ينطوون عليه من علم وفكر وثقافة هو آثارهم وذخائرهم العلمية، وما دبجته يراعاتهم من آراءٍ وأفكار.

ولهذا فإنّنا إذا لاحظنا ما كتبه مؤلّفنا الجليل في طائفة من حقول المعرفة الإسلامية لَعَلِمنا من فورنا بأ نّنا نواجه بحقّ شخصيّة علمية فذّة، وقمّة فكرية قلّما يجود الدهر بأمثالها إلّافي فترات معيّنة من تاريخ الاُمّة.

فهو - دام ظلّه - متخصّص في بعض العلوم الإسلامية ومشارك في بعض آخر، وأفضل دليل على ذلك: كتاباته القيّمة ومؤلّفاته العلمية الثمينة، التي نشير إلى طائفة منها في هذه اللمحة العابرة على سبيل المثال لا الحصر:

ص: 13

1 - منتخب الأثر في أحوال الإمام الثاني عشر:

وهو الكتاب الذي طُبع عدّة مرات، وقد قال عنه العلّامة المحقّق الشيخ آغا بزرگ الطهراني في رسالة إلى المؤلّف بأ نّه لم يَرَ كتاباً في الجامعيّة نظيره.

كما وكتب عنه العالم الراحل الشيخ حبيب المهاجر العاملي في كتابه «الإسلام في علومه وفنونه» كلاماً مفصّلاً قال فيه: ولا ينبغي لمؤمن إلّاأن تكون عنده نسخة من هذا الكتاب.

ولم تُقتصر الإشادة به على علماء الشيعة، بل وأشاد به جملة من علماء السنّة وبعض المستشرقين أيضاً، ولذلك أصبح هذا الكتاب مرجعاً ومصدراً لكلّ من أراد الكتابة حول الإمام المهديّ المنتظر صلوات اللّه عليه وعلى آبائه الطيّبين.

والسرّ في كلّ ذلك: أنّ المؤلّف الجليل جمع فيه كلّ ما ورد من الأحاديث والروايات حول الإمام المهدي عليه السلام وبوّبه أحسن تبويب، ونسّقه أحسن تنسيق، وأشار في نهاية كلّ باب ما يمكن أن يكون شاهداً لهذا الباب ممّا جاء في الأبواب الاُخرى.

2 - مع الخطيب في خطوطه العريضة:

ومحبّ الدين الخطيب - الذي يتعرّض هذا الكتاب للردّ على ما نشره في كتابه الخطوط العريضة - هو من النواصب المعاصرين، الذين لم يكتموآ بغضهم وعداءهم لآل الرسول صلوات اللّه عليه وعليهم أجمعين.

فقد سعى الخطيب هذا في تفنيد كلّ ما ورد حول فضائل أهل البيت النبوي

ص: 14

الطيبين في كتب أهل السنّة، وانكاره وردّه.

ولم يقتصر على هذا، بل أظهر بغضه الدفين وحقده المشؤوم على أهل البيت النبوي في سعيه الحثيث لإحياء ونشر ما ألّفه بعض النواصب من القدامى في الإيقاع بالشيعة التابعين لأهل البيت النبوي وقادتهمم من آل الرسول صلّى اللّه عليه وعليهم، ومن ذلك تعليقه على كتاب «العواصم من القواصم»!

ولا غرابة «فكلّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ»(1).

كما لا غَرو أن يصدر كلّ ذلك في هذا العصر، عصر العلم والتفتّح العلمي ما دامت هناك حكومات وأنظمة تجد بقاءها واستمرارها في إيجاد الفرقة بين طوائف المسلمين، وانقسام الاُمّة الواحدة إلى شعوب متنازعة بدل أن تكون متعارفة متعاطفة، ومن هذه الحكومات «النظام السعودي»، الذي كان ولا يزال يستأجر أقلاماً لتأليب السنّة على الشيعة، وإثارة مشاعر الشيعة ضدّ السنّة، وإذا بهذه الأقلام المأجورة تقدح في الرجال الطاهرين من أئمة المسلمين من أبناء الرسول، بينما تمجّد بالسكّيرين والفاسقين أمثال يزيد بن معاوية، والوليد بن عبدالملك، والملوك والسلاطين المعاصرين الذين حذوا حذوهم واقتفوا أثرهم.

وقد كان كتاب «الخطوط العريضة» لمحبّ الدين هذا من جملة تلك الأوراق المسمومة والصحائف الصفراء التي قامت الحكومة السعودية الجائرة..

ص: 15


1- مع الأسف أنّ بعض الإذاعات في دول الخليج في مثل هذه الظروف الخطيرة من حياة الاُمّة الإسلامية بدأت تروّج لهذا الكتاب، وتلفت نظر المستمعين إليه، ولا ندري ما إذا كان ذلك جهلاً أو...

بطبعها ونشرها وترويجها، وهو الكتاب الذي ألصق فيه «الخطيب الحاقد» تُهماً كثيرةً بالشيعة، وسعى في تشويه سمعتهم الناصعة بهدف إيجاد الشقاق والفرقة بين المسلمين.

فقد طُبع هذا الكتاب على نفقة النظام السعودي، وقامت سلطات السعودية بتوزيعه علىّ الحجيح مجّاناً؛ تحقيقاً لأهداف الاستعمار البغيض الذي لا تروقه وحدة الصفّ الإسلامي وتماسكه.

وقد تصدّى مؤلّفنا الجليل - انتصاراً للحقّ ودفاعاً عن الحقيقة - بالردّ الموضوعي الهادئ والعلمي على هذا الكتاب.

إنّ القرآن الكريم وإن كان يصف المؤمنين بأ نّهم [إذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً](1)، وأ نّهم [إذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً](2) إلّاأنّ قيام أعداء الوحدة ببثّ هذا الكتاب ونشره باللغات المختلفة جعل السكوت عليه أمراً غير جائز ولا وارد؛ ولهذا قام المؤلّف الجليل بكتابه الردّ العلمي المذكور على ذلك الكتاب.

3 - جلاء البصر لمَن يتولّى الأئمّة الاثني عشر:

وقد قام المؤلّف في هذا الكتاب بتوضيح وإثبات أنّ عدد الأئمّة اثنا عشر، لا ثلاثة عشر، وقوّم سنده ومتنه، وقد طُبع أيضاً.3.

ص: 16


1- الفرقان: الآية 72.
2- الفرقان: الآية 63.

4 - صوت الحق ودعوة الصدق:

وقصّة هذا الكتاب هي: أنّه بعد أن انتشر كتابه «مع الخطيب في خطوطه العريضة» الذي كان ردّاً على افتراءاته للشيعة، وتوضيحاً لما ارتكبه الخطيب من جنايات على الإسلام والمسلمين عامّةً وعلى الشعية والتشيّع خاصّةً، أوعزت السلطات السعودية إلى أحَد اللاهوريّين باسم «إحسان اللهي ظهير» بأن يكتب ردّاً قاسياً على ما كتبه مؤلّفنا الجليل وينتصر للخطيب ويؤيّد افتراءاته، وقد سمّى كتابه «الشيعة والسنّة»، وأعلن فيه بقوة بأنّ الشيعة والسنّة لا يمكن أن يتّحدا، وجاء الكتاب ليكون نعرة جديدة من نعرات الخلاف والشقاق، فقام مؤلّفنا الجليل - بحكم الواجب - بتأليف كتاب آخر باسم «صوت الحق ودعوة الصدق»، استعرض فيه ما ارتكبه المؤلّف الثاني من أخطاء.

وكان بهذا الكتاب وقع جيّد، حيث كتب أحد الأفاضل من الجيزة بمصر عنه في رسالة تقدير يقول مخاطباً سماحة المؤلّف دام بقاه:

(طالعت كتابكم الكريم الموسوم «صوت الحق ودعوة الصدق» وهو يسفر عن غيرتكم الصادقة، وحرصكم الشديد على سلامة الدين، ووحدة المسلمين ولَمّ شعثهم وقوّة شوكتهم؛ ليكونوا درعاً حصيناً وجُنّةً وثيقةً لمكافحة كلّ ما يتهدّد سلامة مبدئهم ويؤول إلى تفريق جمعهم.

وليت شعري ما الذي يجنيه هؤلاء - مثل محبّ الدين وأشباهه - من وراء إفكهم؟! ومَن المُستفيد من طعنهم وافترائهم على عباد اللّه المؤمنين؟!

لا أجد مبرّراً لإثمهم وبهتانهم سوى الحسد والشنآن الذي يضمرونه لأهل

ص: 17

البيت عليهم السلام وشيعتهم، ظانّين - بزعمهم - أنّهم بذلك يستطيعون طمس آياتهم الساطعة وإطفاء أنوارهم المتلألأة. هيهات هيهات، فلو اجتمع أهل الأرض على أن يثيروا التراب على السماء فلن يثيروه إلّاعلى أنفسهم، وتبقى السماء كما هي ضاحكة السنّ، بسّامة المحيا).

ثمّ إنّ أحد العلماء الأفذاذ ألّف كتاباً حاكَمَ فيه المؤلّفَين والكاتِبَين باسم «الشيعة والسنّة في الميزان».

5 - العقيدة بالمهديّة:

وأثبت فيه المؤلّف أنّ العقيدة بالإمام المهدي مأخوذة من صميم الإسلام، وأورد فيه ما أورده العلماء السنّة والشيعة في جوامعهم الحديثة في شأنه عليه السلام.

وقد سبق المؤلّف في هذا العمل بعض القدامى الأفذاذ من علماء أهل السنّة، فقد ألّف العلّامة الحجّة علي بن حسام الدين المتّقي الشاذلي المتوفّى عام (977 ه)، كتاباً في هذا المجال أسماه «البرهان في علامات مهدي آخر الزمان».

وأمّا مؤلّفنا الجليل فقد أورد في كتابه أسماء ثمانية وعشرين من الصحابة، وخمسة وأربعين من التابعين، واثنين وأربعين من المشايخ وأرباب الجوامع ممّن رووا أحاديث المهدي.

وبما أنّ التعريف بتفصيل كلّ واحد من مؤلّفات العلّامة الصافي - دام بقاؤه - ممّا يوجب الخروج عن حجم هذه المقدمة فإنّنا نكتفي بذكر أسماء ما تبقّى من

ص: 18

هذه المؤلّفات على سبيل التعداد:

6 - نويد أمن و أمان: وهو كتاب باللغة الفارسية حول الإمام المهدي - صلوات اللّه عليه - غيبةً وظهوراً، وقد طبع مراراً وتكراراً.

7 - عقيده نجات بخش: وهو أيضاً بالفارسية ومطبوع مراراً، يستعرض فيه الآثار البنّاءة للعقيدة بالإمام المهدي عليه السلام.

9 - انتظار عامل مقاومت و حركت: بالفارسية أيضاً، ويبيّن فيه المؤلّف كيف أنّ انتظار الإمام المهدي خير عامل للمقاومة والحركة، مضافاً إلى ما له من ثواب اخروي، لا أنّه تنحصر ثمرته في الحياة الاُخرى كما توهّم بعض الغافلين والجاهلين؟

10 - فروغ ولايت: بالفارسية، وهو بحث علمي حول دعاء الندبة المعروف، ومعالجته من حيث السند والمتن.

11 - مفهوم وابستگى جهان به وجود إمام عليه السلام: ويستعرض فيه المؤلّف معنى ارتباط الكون بالإمام والحجّة وهو بالفارسية.

12 - نظام إمامت و رهبرى: بالفارسية، ومطبوع مراراً، ويبيّن فيه موضوع نظام الإمامة والفوارق الجوهرية بين هذا النمط من القيادة والأنماط الاُخرى.

13 - حول حديث الافتراق: طبع بالعربية ويتناول فيه المؤلّف حديث ستفترق امّتي بالدراسة والتحليل، وبيان الفرقة الناجية.

14 - اصالت مهدويت: وهو مطبوع بالفارسية، ويردّ فيه على النظرية

ص: 19

القائلة بأنّ فكرة المهدي فكرة باطنية انتهى إليها الشيعة تحت الضغوط والمضايقات السياسية، ويثبت فيه أصالة هذه الفكرة وتجذّرها في الثقافة الإسلامية.

15 - أمان الاُمّة من الضلال والاختلاف: مطبوع بالعربي وهو يستعرض الطرق التي يمكن أن تؤدّي إلى تقريب وجهات النظر الفقهية وتضييق شقّة الخلاف الفقهي بين الطوائف الإسلامية.

16 - إيران تسمع فتجيب: مطبوع باللغة العربية، وهو يجيب على بعض افتراءات وتساؤلات الندوي التي أوردها في كتابه «اسمعي يا إيران».

17 - راه إصلاح، يا أمر به معروف ونهى از منكر: مطبوع باللغة الفارسية.

18 - پيرامون روز تاريخى غدير: مطبوع بالفارسية.

19 - جابر بن حيان: مطبوع بالفارسية.

20 - المباحث الاُصولية: وهي تقريرات آية اللّه البروجردي - قدّس اللّه روحه - وهي تتمتّع بأهمّية كبرى؛ لأنّها تحتوي على تحقيقات هامّة في مجال علم الاُصول، عُرف بها الإمام الراحل البروجردي.

21 - إرث الزوجة: مطبوع بالعربية.

22 - رسالة في حكم القضاء على المدّعى عليه إذا نكل عن اليمين، أو رد: وهو مطبوع بالعربية.

ص: 20

23 - پرتوى از عظمت حسين عليه السلام: مطبوع باللغة الفارسية مراراً، وهو يتناول نهضة الإمام الحسين عليه السلام من بدئها إلى ختامها في تحليل رائع وقيّم.

24 - شهيد آگاه: وهو مطبوع بالفارسية، ويبحث فيه المؤلّف عن نهضة الإمام الحسين من زوايا خاصّة.

25 - الهيات در نهج البلاغة: وهو مطبوع بالفارسية، ويتناول فيه كلّ ما ورد في نهج البلاغة حول الذات الإلهية المقدسة وصفاتها الكمالية والجلالية.

26 - ولايت تكويني وتشريعي: مطبوع بالفارسية يبحث فيه المؤلّف عن هاتين الولايتين في الثقافة الإسلامية.

27 - حول الاستقسام بالأزلام: باللغة العربية، أجاب فيه على ما كتبه العلّامة الشيخ محمود شلتوت في مجلة «رسالة الإسلام» من أنّ الاستخارة المرويّة عن أهل البيت هي مِن قبيل الاستقسام بالأزلام المنهيّ عنه.

وقد طلب الإمام البروجردي رحمه الله من مؤلّفنا الجليل أن يكتب حول هذه المسألة ويرسل ما يكتبه إلى الشيخ شلتوت.

28 - نداى اسلام از اروپا: وهي مجموعة مقالات وأجوبة ألقاها باللغة الفارسية في مجالس إسلامية عقدت في المجمع الإسلامي بلندن، وقد طُبع مراراً.

29 - پاسخ به پرسشها: بالفارسية.

30 - عاليترين مكتب تربيت يا ماه مبارك رمضان: بالفارسية.

31 - حوادث تاريخى: بالفارسية.

ص: 21

32 - تاريخ حوزه هاى شيعى: بالفارسية، وهو يتناول تاريخ الحوزات العلمية الشيعية وأهمّ مراكزها ونشاطاتها ومقارنتها بغيرها من الحوزات والمراكز العلمية.

33 - پيرامون مسائل اسلامى: بالفارسية.

34 - پاسخ به پرسش هاى يك خانم مسلمان: بالفارسية.

35 - نظام امامت واُمّت: بالفارسية.

36 - حواشى بر عروة الوثقى: بالعربية.

37 - تعليقات بر كفايه: بالعربية.

38 - به سوى آفريدگار: بالفارسية، وهذا الكتاب يعالج 12 سؤالاً حول الالهيات والمعارف الإسلامية.

39 - تفسير آية الفطرة: بالفارسية.

40 - تجلّى توحيد در نظام امامت: بالفارسية.

41 - مسألۀ شناخت: بالفارسية.

42 - پيرامون معرفت إمام: بالفارسية.

43 - شرح دعاى معرفت حجت: بالفارسية.

44 - دربارۀ زندگى يوذاسف: بالفارسية.

45 - اعتبار قصد قربت در وقف: بالفارسية.

46 - التعزير أحكامه وملحقاته: بالعربية.

ص: 22

47 - تفسير آية التطهير: بالعربية.

48 - عصمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام: بالعربية.

49 - أحاديث الفضائل المخرّجة من الجامع الصغير: بالعربية.

50 - مَن لهذا العالم؟: بالعربية.

51 - چند رسالۀ فقهى: بالفارسية.

52 - سفرنامۀ حج: بالفارسية.

وهذه الرسائل والكتب القيّمة مطبوعة، وله غير هذه الكتب والرسائل كتب اخرى مخطوطة، أو هي تحت الطبع، أو طبعت، ممّا يقارب عدد مجموعها السبعين، وتكشف عن ثقافة المترجَم وسعة اطّلاعه، ومدى ارتباطه بواقع المسلمين.

وفي الختام تفتخر مؤسسة البعثة أن تقوم بنشر مجموعة قيّمة من الرسائل التي ألّفها سماحة المؤلّف الجليل حول القضايا المتنوعة في جزءين، الجزء الأوّل يشتمل على (12) كتاباً، والجزء الثاني يشتمل على (4) كتب.

وتقدّم هذه المؤسسة هذه المجموعة الكريمة والثمينة إلى القرّاء الكرام على أمل أن تخدم بذلك الإسلام والمسلمين، كما هو هدف المؤلّف دام بقاؤه، واللّه خير معين.

جعفر السبحاني

20 جمادي الآخرة، 1404

ص: 23

ص: 24

إلى هدى كتاب اللّه

اشارة

ص: 25

ص: 26

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

«إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فانه شافع مشفَّع وماحل مصدَّق. من جعله أمامه قاده إلى الجنّة ومن جعله خلفه ساقه إلى النّار» صدق رسول اللّه الصادق المصدّق الأمين، فلا ريب أنّ المسلمين لم يقعوا فيما وقعوا فيه من ذهاب العزّ وفقد المجد، واختلاف الكلمة وتشتّت الآراء وسلطة الاعداء وتكثر الحكومات والنظامات الجاهليّة المستوردة من الشرق والغرب بدلاً عن الحكومة الاسلامية الواحدة إلّابنبذهم الكتاب الكريم وراء ظهورهم وإخراجهم إيّاه عن شؤونهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فأصبحوا وكتاب اللّه متروكاً وهو بين أظهرهم لا يعملون به ولا يهتمون بأمره، اكتفوا بتلاوته ودرسه وهو خارجون على هداه وسلطان أحكامه ونظاماته يأوّلون آياته وأحكامه ويحملونها على آرائهم وأهوائهم ولذا التبست عليهم الفتن كقطع الليل المظلم، وصاروا في بلادهم عبيداً أذلّاء بعد ما كانوا في بلاد غيرهم أحراراً أعزّاء.

وهذه رسالة صدرت من مصلح مخلص وداع صادق من دعاة الحركة

ص: 27

الاسلامية العامّة الشاملة لجميع أقطار وطننا الاسلامي الكبير يدعو الأمّة جمعاء إلى هدى القرآن والرجوع إليه. كتبها قبل قيام الثورة الاسلامية بسنوات، نشرناها لأنّ حال غير ايران من بلاد المسلمين وإن أثّرت فيها الثورة الاسلامية في ايران وحركة الغيارى وأيقظت أبناءها لم تتغير من جهة نظاماتهم الفاسدة التي تعمل لمصلحة أعداء الاسلام نشرناها لأنّ يد الاستكبار الامريكى لم تقطع من بلادنا الاسلامية في الشرق الأوسط سيما فلسطين ولبنان وفي افريقيا والاحتلال الروسي المستكبر الآخر في آسيا وإفريقيا وبلاد مثل باكو وتاشكند وسمرقند وبخارا وتاجيكستان وعشق آباد وكازخستان وكرخيزيا وبلاد افغانستان وغيرها.

نشرناها استنهاضاً للمسلمين واستنصاراً منهم لنصرة الاسلام واستعادة بلاد القرآن المنتصبة في شرق الأرض وغربها.

ص: 28

بسم اللّه الرحمن الرحيم

[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَميعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذكُروا نِعْمَتَ اللّهِ عليكُم إذْ كُنتُمْ أعْداءً فأ لَّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم فَأَصْبَحتُم بِنِعمَتِهِ إخْواناً وكُنْتُم عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فأَ نْقَذَكُم مِنْها كذلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون](1).

[ وَقالَ الرَّسولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذوا هذا القُرآنَ مَهْجوراً](2)

«إذا الْتبسَتْ عَليكمُ الفِتنُ كقِطَع اللَّيل المُظلِم فعلَيكم بالقُرآن»(3).

هل نحن مسلمون؟

هل نحن مؤمنون؟9.

ص: 29


1- آل عمران: الآية 103.
2- الفرقان: الآية 30.
3- الكافي: ج 2 ص 599.

هل نتلو القرآن حقَّ تلاوته؟ هل نؤمن به ونستعذب حياضَ معارفه وتعاليمه؟ هل اتّخذناه منهاجاً لدنيانا وآخرتنا، نحكّمه في قضايانا الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، ومصدراً لأنظمتنا، ونظاماً لاُمورنا؟

أخي المسلم: إنّك إن كنت تريد استعادة مجدك الذاهب، مجد آبائك وأجدادك، إن كنت تريد النصر والغلبة على أعداء امتك، وإن كنت تريد النجاة بنفسك، وإنقاذ أبناء امّتك من هذه الشبكات التي حاكتها يد الاستعمار ونشرتها في بلادنا ومدارسنا وكلّياتنا وأسواقنا، وحتى في بيوتنا، وإن كنت من طلّاب الصلاح والإصلاح والفوز والفلاح، فتعال، تعال لنتمسّك بحبل القرآن، نهتدي بهداه، ونستضيء بنوره، ونعيش في ظلاله بأمن وطمأنينة، ونستشفي به من أدوائنا، ونستعين به على لأوائنا، ونرتّله ترتيلاً.

إنّنا يا أخي مسؤولون غداً عند اللّه تعالى عن هذا القرآن في محكمته العادلة: [يَوْمَ لايَنْفَعُ مالٌ ولابَنُونَ إلّامَنْ أتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَليم](1) وسيخاصمنا نبيّنا صلى الله عليه و آله إذا كنّا من الذين نبذوه وراء ظهورهم، يحتجّ علينا بكلّ آية من آياته، ويحاكمنا على كلّ حكم أهملناه من أحكامه.

إنّ داء المسلم المعاصر ليس إلّافي تركه العملَ بالقرآن، والاكتفاء باسم الإسلام مسجّلاً على بطاقة هويّته، محقّقاً بذلك قول الرسول الصادق الأمين «سيأتي زمان على أُمّتي لا يبقى من القرآن إلا رسمه ولا من الإسلام إلا9.

ص: 30


1- الشعراء: الآية 89.

اسمه؛ يسمّون به وهم أبعد الناس منه»(1).

إنّني أدعوك أيّها المسلم لأن ننظر بعين البصيرة إلى الآيات التالية، كرِّر، وأعد، ثم أعد تلاوتها، وتفكّر ثمّ تفكّر في معانيها وما تستهدفه من أغراض حكيمة وتعاليم سامية، ثمّ عرّج بالنظر إلى واقع عالَمنا الإسلامي، وإلى النظم الاجتماعية في بلاد المسلمين، فهل تجد بلداً طبّق هذه الآيات، أو بعضها فيها كمنهاج للحياة في نُظُمه الاجتماعية أو السياسية أو مناهجه التثقيفية أو التربوية؟

أنا لاأقول بأ نّك لم تسمع الآيات التي سأتلوها عليك، بل لاشكّ أنّك قد قرأتها كثيراً في صباحك ومسائك، وفي شهر صومك، وعند دعائك، وحينما أردت استكثار الثواب بقراءة كتاب اللّه تعالى، ولكنّ مجرد القراءة لايكفينا، ولايُنجينا إذا نحن لم نتفهّم معانيه ومقاصده، ولم نأخذ بمضمون ما نقرأ، ولم نعمل بأوامره، ولم ننزجر بزواجره.

إنّ الغاية من نقلها إليك أيّها الأخ المسلم إنّما هي محاولة الاستفادة من تعاليمها السامية؛ علّها تشحذ في الهمّة وتقوّي عزائمنا، وتدفعنا إلى العمل على ضوئها؛ لنعيد بناء مجدنا وعظمتنا، ونترفّع بأنفسنا - التي أراد اللّه لها أن تظلّ كريمة عزيزة - عن الإعتساف في الشهوات، التي أدّت بنا إلى هذا السقوط؛ ممّا جعل أعداءنا يغزوننا في عُقر دارنا، بعد أن كانوا هم هدفاً لغزونا لهم في عقر دارهم، ولاحول ولاقوة إلّاباللّه.

قال اللّه تعالى: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤمِنونَ بِاللّهِ واليَومِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللّهَ3.

ص: 31


1- ثواب الأعمال: ص 253.

وَرَسوُلَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أو أبناءَهُمْ أو إخْوانَهُمْ أو عَشِيرَتَهُم أوُلئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهُم بِرُوُحٍ مِنْهُ](1).

[فَلاَ وَرَبِّكَ لاَيُؤْمِنوُنَ حَتَّى يُحَكِّموُكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمَّ لايَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْليماً](2).

[قُلْ إنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وإخْوانُكُمْ وأزواجُكم وعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوالٌ اقْتَرَفتُموُها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَها ومَساكِنَ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وجِهادٍ فِي سبيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأتِيَ اللّهُ بأمْرِهِ واللّهُ لايَهْدِي القَومَ الفاسِقِين](3).

[يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَتّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصارى أوْلِياءَ بَعْضُهُم أوْلياءُ بَعضٍ ومَنْ يَتَوَلَّهُم مِنْكُم فَإنَّهُ مِنْهُم إنَّ اللّهَ لايَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمينَ](4).

[يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لاتَتَّخِذُوا الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُم سُلْطَاناً مُبِيناً](5).

[وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ](6).

[وَأَطيعُوا اللّهَ ورَسوُلَهُ ولاتَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ ريحُكُم واصْبِروُا إنَّ اللّهَ9.

ص: 32


1- المجادلة: الآية 22.
2- النساء: الآية 65.
3- التوبة: الآية 24.
4- المائدة: الآية 51.
5- النساء: الآية 144.
6- آل عمران: الآية 139.

مَع الصَّابِرِينَ](1).

[وَلا تَكُونُوا كالَّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأنْساهُمْ أنْفُسَهم أُوُلئِكَ هُمُ الفَاسِقونَ](2).

[يَاأ يُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَايَأْ لُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهم وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُم أكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ اْلآياتِ إنْ كُنْتُم تَعْقِلُونَ](3).

[يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلوا الَّذِينَ يَلوُنَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَموا أَنَّ اللّهَ مَعَ المُتَّقِينَ](4).

[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَميعاً ولاتَفَرَّقُوا](5).

إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ](6).

[ألَّذِينَ يَأْكُلوُنَ الرِّبوا لايَقُومُونَ إلّاكَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بأنَّهُم قالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبوا وَأحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحرَّمَ الرِّبوا](7).

يَا أيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْواجِكَ وبَناتِكَ ونِساءِ المُؤمنينَ يُدْنِينَ عَلَيْهنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ5.

ص: 33


1- الأنفال: الآية 46.
2- الحشر: الآية 19.
3- آل عمران: الآية 118.
4- التوبة: الآية 123.
5- آل عمران: الآية 103.
6- الحجرات: الآية 10.
7- البقرة: الآية 275.

ذلكَ أدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللّهُ غَفُوراً رَحيماً](1).

وَلْتَكُنْ مِنْكُم امَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بالمَعرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وأُولئكَ هُمُ المُفْلِحُونَ](2).

يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ](3).

يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إلَى الأَرْضِ أرَضِيتُم بِالحَيوةِ الدُّنيا مِنَ الآخِرةِ فَمَا مَتاعُ الحَيوةِ الدُّنيَا فِي الآخِرَةِ إلَّاقَلِيلٌ](4).

الرِّجالُ قوّامونَ على النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُم عَلى بَعْضٍ وبِمَا أنْفقُوا مِن أموالِهِم](5).

أفَحُكْمَ الجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْم يُوقِنونَ](6).

وَأعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبونَ بهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعدُوَّكُم وآخَرينَ مِنْ دوُنِهم لاتَعْلَمُونَهُم اللّهُ يَعْلَمُهُم وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيءٍ فِي سَبيلِ اللّهِ0.

ص: 34


1- الأحزاب: الآية 59.
2- آل عمران: الآية 104.
3- آل عمران: الآية 149.
4- التوبة: الآية 38.
5- النساء: الآية 34.
6- المائدة: الآية 50.

يُوَفَّ إلَيْكُم وأنْتُمْ لاتُظْلَمُونَ](1).

وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلّالِبُعُولَتِهِنَّ...](2).

والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ولايُنْفِقُونَها فِي سَبيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بعَذابٍ أليمٍ](3).

الزَّانِيَةُ وَالزَّاني فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُمَا مِأَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ](4).

إنَّمَا الْخَمْرُ والْمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفْلِحونَ](5).

ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بَمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولئكَ هُمُ الكافِرونَ](6).

إنَّ المُبَذِّرينَ كانُوا إخْوَانَ الشيَاطِينِ](7).

يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ ولَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ أوِ7.

ص: 35


1- الأنفال: الآية 60.
2- النور: الآية 31.
3- التوبة: الآية 34.
4- النور: الآية 2.
5- المائدة: الآية 90.
6- المائدة: الآية 44.
7- الإسراء: الآية 27.

الوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ](1).

وَلا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ](2).

الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أقَامُوا الصَّلوةَ وآتَوُا الزَّكوةَ وَأمَروُا بِالمَعْروفِ ونَهَوْا عَنِ المُنْكَر وَلِلّهِ عاقِبةُ الأُمُورِ](3) .

هذه الآيات ومثيلاتها - ممّا تضمَّن تحديد السلوك العام للإنسان المسلم والاُمه المسلمة - تعرفها أنت ويعرفها كلّ مسلم غيرك؛ ولكن أين هو التطبيق؟

إقرأ القرآن كتابَ اللّه ودستور دينك الذي تعتقد في قرارة نفسك أحقِّيَّته بالاتّباع، وقفْ عند كلّ آية من آياته بتدبّر، ثمّ قارن بين ما تضمَّنته من أمر أو نهي وبين سلوكك أنت وسير النظام في بلدك وطريقة حياة قومك، فهل تجد في كافّة هذه الجهات من يأخذ بها، أو يبني مسلكه في الحياة على هُداها؟

بل إنّك لن تجد غير الإنفصال التامّ في حياتك ونظام حكومتك وسلوك مجتمعك عنها، لا بل سوف تجدها خارجة عن نطاق دنياك، وكأنها لا تعنيك ولا تقصدك في الخطاب.

أجَل، إنّني أكرِّر الطلب لمبادرة قراءة هذه الآيات، ثمّ البحث في مطاوي تاريخنا الإسلامي، فهل تجده قد تحدّث في عصر من عصور امّتنا السالفة عن جيل اتّخذ القرآن مهجوراً كما اتّخذه أبناء جيلنا في عصرنا وزماننا هذا؟1.

ص: 36


1- النساء: الآية 135.
2- هود: الآية 113.
3- الحج: الآية 41.

لعن اللّه العلمانية ومن جاء بها، ومن سنَّ شرعية هذا المبدأ الخبيث الذي قلب الإسلام ظهراً لبطن.

تعالَ معي لنتجوَّل في أسواق المسلمين، فنرى أنّ أكثر ما يباع فيها سلع مستوردة من الأعداء، وأكثرها ممَّا لاضرورة في بيعها ولافي شرائها، بل منها ما له خطر الأثر على مقوّمات وجودهم وأخلاقهم، كأنواع الخمور وآلات اللهو وأدوات القمار.

ثمّ لِنُعرِّجَ معاً على معاهد العلم ومدارسه وكلّياته، حيث لانرى في مناهجها وأساليب تعليمها إلّاما يدفع الشباب إلى الانحراف عن العقائد الصحيحة، ويشوّقهم إلى ترك الالتزام بالآداب والتعاليم الإسلامية، وما ذلك إلّا لأنّها من وضع أعداء الإسلام، والمتربّصين به وبأهله الدوائر.

ثمّ لنُلقِ نظرة على ثُكنات الجيش ومراكز القوّات المسلّحة في البلاد الإسلامية ومحافل موظّفي حكوماتها، لنرى أنّ أعظم شعار إسلامي وهو الصلاة لاتقام في أوقاتها بينهم.

ثمّ انظر إلى الشوارع والأزِقّة والأسواق، لتراها غاصَّةً بأفواج النساء المتبرِّجات السافرات العاريات تقريباً، وهنّ يزاحمن الرجال بالمناكب والصدور، وفي ذلك ما فيه من إغراء للشباب، ودفعه إلى هاوية الرذيلة وانعدام الرجولة، ممّا يؤدِّي حتماً إلى انهيار المجتمع و دماره وتفكّكه.

وهيّا لنذهب ونراقب ما يجري في قاعات البرلمان ومجالس الاُمّة، ونصغي إلى ما يطرحه أعضاؤها من مشاريع وقرارات، لنرى كيف يسوِّغون

ص: 37

لأنفسهم حقّ التشريع والتقنين حتى على خلاف أحكام القرآن وضدّ مصالح المسلمين؟!

ولا تغفل يا أخي عن استعراض أراضينا المغتصبة من وطننا الإسلامي، وخصوصاً الجزء المقدّس منها، أعني اولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، فهل ترى من سبب لبقائها في أيدي الأعداء إلّااختلاف الرؤساء المتغلّبين على بلاد المسلمين، وتفرّقهم وعدم اعتصامهم بحبل اللّه؟ وهل تجد لهؤلاء من عذر عند اللّه تعالى في تنصيب كلّ واحد منهم نفسه رئيساً أو أميراً أو سلطاناً أو ملكاً على مجموعة من المسلمين في بقعة من بقاع وطننا الإسلامي الكبير، من غير أن يتنازلوا عن هذه العروش لمصلحة الإسلام واجتماع كلمة المسلمين ووحدتهم، تحقيقاً لقول النبي الأعظم «وهم يدٌّ عَلى من سواهم»(1)، حتى غدا العالم الإسلامي موزِّعاً إلى دويلات ضعيفة واهية مشتقة متباعدة في المشارب والأهواء والسياسات؟!

فهذه عميلة لأمريكا، وتلك تعمل لمصلحة روسيا، هذه تقتل الفدائيين وتريد اجتثاثهم من الأرض، ومن كانت حاله أحسن منها فى ذلك تترك نصرتهم بحجة أنها بعيدة عن منطقة المعركة، أو بدعوى ضعف إمكاناتها العسكرية والهجومية، إلى غير ذلك من التُرّهات والأباطيل.

ولقد أصبح المسلمون - ويا للأسف الشديد - في كافّة مظاهر حياتهم وعاداتهم وأوضاعهم مقلِّدين لأعدائهم، ولو كان هذا التقليد فيما ينفع لكان نعمة4.

ص: 38


1- الكافي: ج 1 ص 403، 404.

وهو ليس بمعيب، إذ أنّ الاُمم العاقلة هي التي تقتبس عن مثيلاتها كلّ ما تراه صالحاً لها، ولكنّ الذي اقتبسناه نحن عن الأجنبي من عادات وتقاليد أكثره يكمن فيه الضرر إن لم يكن جميعه كذلك.

فباللّه عليك يا أخي قل، وليكن قولك الحق، أنحن في أكثر عاداتنا ومظاهر حياتنا وقوانين حكوماتنا مسلمون، أم أنّنا في وادٍ و تعاليم ديننا ومفاهيمه في واد آخر؟

ولن أتعرض لما عليه صحافتنا وسائر وسائل إعلامنا، فإن ما هي عليه من ترويج الفساد وسوء الأخلاق والتشجيع على الدعارة، والدعوة إلى الخلاعة، والاستهتار بالقيم، والحثّ على الإلحاد، كلّ ذلك أمر بديهي لايحتاج إلى برهنة.

ومن أشدّ أمراضنا: مرض النفاق، إذ أنّنا نقول بإذاعاتنا ومآذننا وأثناء صلواتنا: «أشهدُ أن لاإله إلّااللّه، وأشهدُ أنّ محمّداً رسول اللّه، وعبده ورسوله»، مع أنّنا خارجون عن سلطان دين اللّه وسلطان أحكامه، متمسِّكون بالمناهج الكافرة الداعية إلى الشرك أو الإلحاد، نقرأ القرآن، ونردّد في مفتتح كلّ سورة «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم»؛ إلّاأنّ منّا من يُردّد ويهتف في افتتاحية مقاله وفي الكتابات الرسمية وغيرها باسم سُمُوّ الأمير، أو فخامة الرئيس، أو جلالة الملك والسلطان، غير آبهين بما أمرنا اللّه تعالى بالأخذ به، وجعله شعاراً لهذه الاُمّة، امّة التوحيد، من الابتداء باسمه المجيد.

اللّه أكبر! ما أبعدنا عن مفاهيم الإسلام وتعاليمه! ما الباعث لنا ياترى على قبول الذُل والصغار تجاه عبد ذليل مثلنا، مع أ نّنا نسمع قول اللّه سبحانه ونردّده

ص: 39

[ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أرباباً مِن دُونِ اللّه](1)، نؤمن لرسالة رسول اللّه محمد صلى الله عليه و آله، لكنّنا مع ذلك لا نتّبع ما جاء به من عند اللّه ولانتأسّى به، ثمّ نأخذ بمبادئ أعدائنا، فإذا لم يكن ذلك من النفاق، فما معنى النفاق إذن...؟!

اللهمّ إنّا نستغفرك ونتوب إليك ممّا نحن فيه من ضلال ماحِقٍ لعزّنا، دافعٍ لنا إلى نسيان ديننا وكتابنا وسنّة نبيّنا.

ميلاد جديد:

أَجَل، إنّه لا ريب ولا شكَّ في تحقّق جميع ما تقدّم ممَّا نحن عليه، إلّاأنّ المسلمين أو أكثرهم من الواعين قد أدركوا داءهم، وعرفوا دواءهم، ولولا نفوذ بعض المفاهيم الاستعمارية، والدعاية الشديدة لها في عدّة أقطار من عالَمنا الإسلامي بمختلف الأساليب الخدّاعة، ولولا سيطرة بعض الرؤساء والزعماء ممّن أعمى أبصارهم الجاه وحبُّ الرئاسة، ولولا هذه التمزّقات الإقليمية، والعصبيات العنصرية والقومية، التي وزّعت عالمنا الإسلامي، وحالت بين كلّ إقليم وإقليم آخر، لولا كلّ ذلك لكان المسلمون اليوم على هامة التاريخ يعيشون في عالم كلّه نور، وفي مدنية علمية وصناعية هي أرقى من جميع المدنيات.

وإنّنا ليحدونا الأمل رضوخاً لقول اللّه سبحانه: [لا تَيْأسُوا مِنْ رَوْح

ص: 40


1- آل عمران: الآية 64.

اللّهِ...](1)، و [لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمة اللّه](2)، بانبعاث نهضة إسلامية واعية على أيدي رجال مجاهدين، قد توّزعوا هنا وهناك من بلاد المسلمين، وآلوا على أنفسهم أن يعيدوا الإسلام إلى واقع المسلمين، ويدفعوهم إلى طريق إعادة مجدهم الإسلامي الزاهر، وبناء مجتمعنا على دعائم العقيدة الإسلامية الحقّة، والوقوف صفّاً واحداً في وجه نوايا الاستعمار الخبيثة.

وإنّنا لنجد في كلّ قطر رجالاً مجاهدين قد ثاروا على الباطل، وتنبّهوا لأحابيل الاستعمار، ووقفوا في وجه كلّ دعاية أجنبية تهدف إلى النيل من قداسة الإسلام وعزِّ المسلمين ووحدتهم.

ولقد قام الاستعمار من جانبه، مستعملاً كلّ ما لديه من قوة سياسية ومادية لإبادة هؤلاء الأبطال والتضييق عليهم ومطاردتهم، يساعدهم على ذلك أعوانهم وعملائهم؛ ذلك لأنّه يعلم بأنّ عمل هؤلاء المصلحين الدائب سوف يؤدِّي إلى تيقظ المسلمين، وبالتالي إلى وحدتهم ولو سياسياً، وذلك من أعظم الموانع دون تحقيق نواياه الخبيثة فيهم، إلّاأنّه بعون اللّه سيفشل في العاقبة، وستفشل أحابيل الصهيونية المتمثّلة بإسرائيل والدول المؤيّدة لها والمنفقة عليها، فإنّ الحقّ لابدّ وأن ينتصر في النهاية على الباطل مهما طال الأمد، واللّه ينصر من ينصره.

والوصول إلى الغاية لايتمّ إلّابالدعوة إلى الجهاد المتواصل، والعمل على3.

ص: 41


1- يوسف: الآية 87.
2- الزمر: الآية 53.

إعادة مناهج الإسلام وإرشاداته، وإلى واقع حياتنا الاجتماعية والسياسية، وذلك لايتمّ إلّاباشتراك الباحثين والكتّاب المسلمين ومفكّريهم ومصلحيهم في علاج جميع المشاكل، وبيانها لأبناء امّتهم، وعرض مفاهيم الإسلام وأساليبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها بأشكال واضحة ومفهومة لعموم المسلمين؛ حتى لا ينخدع الجهلة بهذه الحقائق بالمبادئ الكافرة والنظم المستوردة، وللصحافة أكبر الأثر في القيام بهذا الواجب ونقل الأفكار الإسلامية إلى أبناء المسلمين.

ولايخفى حاجتنا اليوم إلى دعاية إسلامية عالمية جامعة، تبلِّغ رسالات الإسلام في جميع نواحي الحياة إلى جميع الأجيال والاُمم المعاصرة، وتعرض على العالم الإسلامي مشاكل المسلمين في كلّ إقليم من أقاليمهم، وتطلب من الجميع العمل على معالجة تلك المشاكل، وتشرح لجيلنا المعاصر، سيّما الشّباب والطلّاب والطالبات أهداف الإسلام وغاياته، وتقوم بالدفاع عن قداسة الإسلام ودفع شبهات المستعمرين عنه.

إنّا نعلم يقيناً أنّ العالم سيلجأ إلى الإسلام، ويقطع رجاءه وأمله عن الأفكار المادية والبرامج البهيمية الشرقية والغربية، فقد ظهر عجز تلك المذاهب عن حلّ المشاكل الإنسانية، بل شدّدتها وكثّرتها هذه المذاهب التي لاترى هدفاً للحياة، ولا ما يعانيه البشر في هذه البسيطة، ولاتفسّر لوجودنا وبقائنا هنا تفسيراً معقولاً مرضياً تطمئنّ به النفوس، وتسوق نحو العمل والحركة.

فهذا من خواص المذهب المادي أّنه لايعرف لهذا العالم مفهوماً معقولاً، ومعنىً صحيحاً، وقصداً وهدفاً، ويوماً بعد يوم تجرّب البشرية، وتذوق مرارة

ص: 42

الأفكار والمذاهب التي بنيت على هذا الأساس، وتدرك أّنها لاتُشبع الإنسان، ولايقنع الإنسان بها.

ولاشكَّ أنّ الإسلام هو الدين الوحيد والرسالة الفرد الَّذي يحلّ كلّ المشكلات، ويفسّر كلّ ما في العالم تفسيراً معقولاً، ويقوّي في النفوس حبّ العمل والخير والإحسان والتضحية دون الحقّ والعدالة.

إذن فعلى عاتق الجيل الحاضر - سيما العلماء والكتاب والمثقّفين والشبّان - مسؤولية كبيرة؛ لأنّ العالم يسير إلى نقطة لابدّ له من الالتجاء إلى الإسلام، وذلك لايحصل إلّابالبلاغ المبين، وعرض الإسلام بمبادئه ونظمه للجيل الحاضر.

فاليوم الإسلام بحاجة كبيرة إلى تبليغ أهدافه وتعاليمه وإرشاداته، كما أنّ العالم بحاجة ملحّة إلى الإسلام وحكومته ونظامه.

فالمستقبل للإسلام، و [إنَّ الأرضَ لِلّهِ يُورِثُها مَن يَشاءُ مِن عِبادِه وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ](1)، [وَقُلِ اعْمَلوُا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُم وَرَسُولُهُ وَالمؤمنون](2).

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربِّ العالمين.

حرّره لطف اللّه الصافي الگلپايگاني5.

ص: 43


1- الأعراف: الآية 128.
2- التوبة: الآية 105.

ص: 44

أحاديث افتراق المسلمين على ثلاث وسبعين فرقة

اشارة

ص: 45

ص: 46

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

هنالك روايات متواترة ينقلها الشيعة والسنّة عن أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد تنبّأ بأنّ ما جرى على الاُمم السابقة سيجري على هذه الاُمّة أيضاً. يروي أبوسعيد الخدري عن الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله قوله:

«لتتّبعنّ مَن كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً ذراعاً، حتّى لو أنّ أحدهم دخل جحر ضبّ تبعتموهم».

قلنا: يا رسول اللّه، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟»(1).

ومن المسائل التي جرت على الاُمم السابقة، ووردت عنها أحاديث عن الرسول الكريم صلى الله عليه و آله هي مسألة «افتراق الاُمم» ففي أمثال هذه الأحاديث يشير النبي صلى الله عليه و آله إلى افتراق امّتَي موسى وعيسى - على نبيّنا وآله وعليهما السلام -

ص: 47


1- مسند أحمد: ج 3 ص 94؛ صحيح مسلم (شرح النووي): ج 16 ص 219، كتاب العلم؛ صحيح البخاري: ج 2 ص 171 (كتاب الأنبياء)؛ كنز العمّال: ج 11 ص 123؛ مسند الطيالسي: ح 2178.

ويقول انّ امّته أيضاً سوف تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة واحدة فقط هي الناجية ومن أهل الجنة، وسائر الفرق الباقية هالكة ومن أهل النار.

انّ هذه المقالة الّتي تمرّ تحت أنظار القارئ الكريم، دراسة إجمالية وجامعة تسعى إلى أن تتعرّف على «الفرقة الناجية» تعرّفاً أوسع وأفضل، وهي تقوم على اسس من الدلائل والشواهد العقلية والنقلية.

إنّ المؤلّف المحترم، بإراءته هذه القرائن والدلائل، يثبت أنّ «الفرقة الناجية» ماهي إلّاأتباع الأئمّة الإثنى عشر ومحبّي أهل البيت عليهم السلام، اللّهمّ اجعلنا في زمرتهم.

ص: 48

بسم اللّه الرحمن الرحيم

والحمد للّه ربِّ العالمين، وصلّى اللّه على سيِّد المرسلين أبي القاسم محمدٍ، وآله الطاهرين.

أخرَجَ جمعٌ من أرباب المسانيد والسنن وجوامع الحديث: كأحمد، وأبي داود، وابن ماجة، وابن حبّان، والترمذي، والنسائي، والبغوي، والدارمي، أحاديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أنّ امّته ستفترق على ثلاثٍ وسبعين فِرقة:

منها ما لانصّ فيه على الهالكة من الفرق والناجية منها.

ومنها ما فيه أنّ واحدة منها في الجنة والباقين في النار(1).

وفي بعضها: أنّ كلّها في الجنة إلّاالزنادقة.

وعن الشمس محمد بن أحمد بن بشّار المقدسي في «أحسن التقاسيم»:).

ص: 49


1- المناقب: ص 131، ط سنة (1326 ه).

أنّ حديث «اثنتان وسبعون في الجنة، وواحدة في النار» أصحّ إسناداً، و حديث «اثنتان وسبعون في النار وواحدة ناجية»، أشهر.

ومنها ما لاتعرّض فيه لتعيين الهالكة والناجية.

وفي بعضها: أنّ الناجية هي الجماعة، وفي البعض الآخر أنّه قال: «ما أنا عليه وأصحابي».

وفي بعضها كرواية أخرجها أخطب خوارزم موفق بن أحمد المكي، وابن مردويه على ما حكي عنه، عن علي عليه السلام، وحديث رواه الحافظ محمد بن موسى الشيرازي في الجمع بين التفاسير العشرة(1) ، عن أنس بن مالك: «تفترق هذه الاُمّة على ثلاثٍ وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهم الذين قال اللّه عزّوجلّ [وممّن خلقنا أمّة يَهدونَ بالحقِّ وَبهِ يَعدِلُون] وهم أنا وشيعتي».

وأخرج الإمام الحافظ حسن بن محمد الصغاني المتوفّى سنة (650 ه) في «الشمس المنيرة»(2): «افترقت امّة أخي موسى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت امّة أخي عيسى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق امتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلّها هالكة إلّافرقة واحدة» فلما سمع ذلك منه ضاق المسلمون ذرعاً وضجّوا بالبكاء، وأقبلوا عليه وقالوا: يا رسول اللّه، كيف لنا6.

ص: 50


1- روضات الجنات: ص 508، الطبعة السابقة.
2- نقلنا الحديث عن النسخة المخطوطة من هذا الكتاب، الموجودة في مكتبة «آستان قدس» برقم 1706.

بعدك بطريق النجاة؟ وكيف لنا بمعرفة الفرقة الناجية حتى نعتمد عليها؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا من بعدي أبداً، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، إنّ اللطيف الخبْير نبَّأني أ نّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض».

وأخرج ابن أبي حاتم، عن عليّ بن أبي طالب، قال: «افترقت بنو إسرائيل بعد موسى إحدى وسبعين فرقة، كلّها في النار إلّافرقة، وافترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين وسبعين فرقة، كلّها في النار إلّافرقة، وتفترق هذه الاُمّة على ثلاث وسبعين فرقة، كلّها في النار إلّافرقة، فأمّا اليهود فإنّ اللّه يقول: [وَمِن قَوم موسى أُمةٌ يَهْدون بِالْحقِّ وبه يَعْدِلونَ](1) وأمّا النصارى فإنّ اللّه يقول: [منهم أُمَّة مُقْتَصِدة](2) فهذه التي تنجو.

وأمّا نحن فيقول: [ومِمَّن خَلَقْنَا أُمّةٌ يَهْدُونَ بِالحقِّ وبه يَعْدِلون](3)، فهذه التي تنجو من هذه الاُمّة(4).

ويُستفاد من بعضها: أنّ الهالكة قوم يقيسون الاُمور برأيهم، وهو ما رواه الحاكم في المستدرك(5) ، كتاب الفتن، وصحّحه على شرطالبخاري ومسلم، عن عوف بن مالك، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ستفترق امّتي على بضعٍ وسبعين0.

ص: 51


1- الأعراف: الآية 159.
2- المائدة: الآية 66.
3- الأعراف: الآية 181.
4- الدرّ المنثور: ج 3 ص 136.
5- المستدرك للحاكم: ج 4 ص 430.

فرقة، أعظمها فرقة يقيسون الاُمور برأيهم، فيحرّمون الحلال، ويحلِّلون الحرام»(1).

كلمات العلماء حول هذه الأحاديث:

لقد كثرت كلمات العلماء حول رجال هذه الأحاديث ومتونها، وتعارض بعضها مع بعض، وشرح ألفاظها، وتعيين الفرقة الناجية، فأنكر بعضهم صحّته، وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير وصحّحه ولم يذكر الناجية والهالكة، وعلّل بعضهم ما في أسانيده محمد بن عمرو الليثي، وعبّاد بن يوسف، وراشد بن سعد، ووليد بن مسلم، وبعض المجاهيل.

واختلفوا في أنّ المراد بالاُمّة هل هي امّة الدعوة أم امّة الإجابة؟ وفي اختصاص الاختلاف باُصول الفرق دون فروعها، كما اختلفوا في العدد المأثور، وأنّ العدد لمجرد التكثير أو أنّ العدد لامفهوم له، فلا مانع من الزيادة على العدد المأثور وإن لم يجز النقص، أو أنّ المقصود أُصول الفرق دون فروعها.

وقال الكوثري: إنّ تشعّب الفرق لاينتهي إلى انتهاء تاريخ البشر، فلا يصحّ قصر العدد على فرق دون فرق، ولاعلى قرن دون قرن؛ لاستمرار ابتكار أهواء

ص: 52


1- وإن شئت الإطّلاع على سند هذا الحديث من طرق أهل البيت عليهم السلام، وما ورد عنهم في تفسيره، وكلمات أكابر العلماء وتحقيقاتهم الشافية حول هذه الأحاديث، راجع موسوعة «بحار الأنوار»، الجزء 28 من الطبعة الحديثة، باب افتراق الاُمّة بعد النبي صلى الله عليه و آله على ثلاث وسبعين فرقة. وما أفرده بعض علمائنا بالتأليف حول هذا الحديث.

وتلفيق آراء مدة دوام الحياة البشرية في هذا العالم، فالكلام في الفرق من غير تقيُّد بعدد هو الأبعد عن الحكم، وهو الذي لايكون مَدعاةً لهُزءِ الهازئين من غير أهل هذا الدين(1).

واختلفوا في تعداد الفرق وتفصيل معتقداتهم، وقد وقعوا في اشتباهات وجهالات في هذا المقام، وقالوا عن الشيعة وغيرهم ما يدلّ على جهلهم بأوضح المطالب التاريخية والكلامية ممّا ليس هنا محلّ ذكره. واخترعوا مذاهب وفرقاً لم تخرج بعد إلى عالَم الوجود، فراجع «الفصل» لابن حزم، و «الملل والنحل» للشهرستاني، و «التبصير» لأبي المظفر الإسفَرايني وغيرها.

فلا ينبغي الاستناد في نقل مذهب أيّ فرقة من فرق المسلمين على مثل هذه الكتب المليئة بالخرافات والجهالات، وما فيه شَين للإسلام والمسلمين، والجامعة بين الغثّ والسمين، والصحيح والسقيم، وأعاجيب الأكاذيب، وإن شئت أن تكتب عن طائفة أو شخص من المسلمين وغيرهم فلا تَعْزٌ إلى شخص ولافرقة من الفرق إلّاما سجِّل في كتبهم المعتمدة ومؤلّفاتهم المعتبرة، ولاتلزم أحداً منهم بلازم قوله إلّاإذا كان لازمه لزوماً بيّناً.

واستشكلوا أيضاً في كفر هذه الفرق ما عدا واحدة منها، فعن الشاطبي:

أهل السنة لايكفِّرون كلَّ مبتدع، بل يقولون بإيمان أكثر الطوائف التي فسَّروا بها الفرق، ورجّح أنّ الحكم بكون هذه الفرق في النار ما عدا الجماعة الملتزمة لِما كان عليه صلى الله عليه و آله و سلم هو وأصحابه لايقتضي أ نّها كلّها خالدة خلود الكفار، فجوّز أن8.

ص: 53


1- التبصير في الدين: ص 8.

يكون منها من يُعذّب على البدعة والمعصية، ولا يخلد في العذاب خلود الكفّار المشركين، أو الجاحدين لبعض ما علم من الدين بالضرورة(1).

فهذه الرواية لو لم تقل بدلالتها على كون جميع الفرق مسلمة ومعدودة من الاُمّة لا تدلّ على كفر الجميع إلّاالواحدة. نعم قد دلّ بعضها على دخول الجميع في النار ماعدا الواحدة منها.

ومن أعظم ما وقع الاختلاف فيه في هذه الأحاديث: تعيين الفرقة الناجية، والتي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه، على ما في بعض طرقه.

قال الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية سابقاً: وأمّا تعيين أيّ فرقة هي الناجية - أي التي تكون على ما كان النبي عليه وأصحابه - فلم يتعيّن لي إلى الآن، فإنّ كلّ طائفة ممّن يذعن لنبينا بالرسالة تجعل نفسها على ما كان عليه النبي وأصحابه... إلى أن قال: وممّا يسرّني ما جاء في حديث آخر: أنّ الهالك منهم واحدة(2).

فهذا فهرس موارد الاختلاف في هذا الحديث من حيث السند والمتن والدلالة، ولايخفى عليك أنّ تعيين الفرقة التي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه، والجماعة الملتزمة لِما كانوا عليه لايثبت بنفس هذه الأحاديث، بل لابدّ من الرجوع إلى غيرها من الروايات والآثار والأدلة العقلية، مضافاً إلى أنّ أخبار (الجماعة) مطعون فيها من حيث السند؛ لاشتماله على مثلة.

ص: 54


1- تفسير المنار: ج 8 ص 220، الطبعة الثانية.
2- المصدر السابق: ج 8 ص 221-222، الطبعة الثانية.

أزهر بن عبد اللّه الناصبي، وعبّاد بن يوسف، وراشد بن سعد، وهشام بن عمار، ووليد بن مسلم، و عن الزوائد: (إسناد حديث عوف بن مالك فيه مقال)، وليس ببعيد أن تكون زيادة (وهي الجماعة) من بعض الرجال، ففسَّر الحديث وبيّن معناه على وفق رأيه وما هو الصواب عنده، ويؤيده: أنّ الدارمي خرّج هذا الحديث ولم يذكر هذه الزيادة، وحديث أنس مضافاً إلى ما في سنده أيضاً معارض بحديثه الآخر، فإن لفظ الحديث في بعض طرقه: «كلّها في النار، إلّا واحدة، وهي الجماعة»، وفي بعضها: «قيل يا رسول اللّه: مَن هم؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي».

فالاغترار بهذه الزيادات مع هذه المعارضات في نفس هذه الأحاديث، وابتلاؤها بالمعارضات الخارجية بعيد عن الصواب، ويؤيد زيادة جملة (وأصحابي) بعد قوله: (ما أنا عليه) في بعض متون هذه الأحاديث، وزيادة كلمة (الجماعة) في البعض الآخر عدمُ استقامة مفادهما.

أمّا الأول فلأ نّه إنّما نجا مَن نجا وينجو من هذه الاُمّة بسبب كونه على ما عليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ولاعبرة بكونه على ما عليه غيره كائناً من كان، وإن كان من أهل النجاة؛ لأنّه أيضاً إنَّما نجا بكونه على ما عليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فما معنى قوله:

(وأصحابي)؟ وإن كان المراد الكون على ما هو عليه مدة بقائه في هذه الدنيا، وعلى ما عليه أصحابه بعد ارتحاله فهذا أيضاً لايستقيم؛ لأّنه لاشكّ في وجود المنافقين في الصحابة، كما دلّت عليه آيات كثيرة، كما لاشكّ في ارتداد كثير منهم، كما دلت عليه أحاديث الحوض المتواترة وغيرها.

ولأ ّنه إذا كان الميزان قبل ارتحاله الكون على ما هو عليه، وبعد ارتحاله

ص: 55

الكون على ما عليه الصحابة فما هو الميزان بعد عصر الصحابة؟

مضافاً إلى أ نّه كيف يمكن الكون على ما عليه الصحابة مع ما حدث بينهم من الإختلاف، حتى ضرب بعضهم بعضاً، ولعن بعضهم بعضاً، ووقع بينهم ما وقع؟! هذا، ولاأظنُّ بأحد من المسلمين القول بأنّ ميزان النجاة الكونُ على ما عليه النبي وأصحابه صلى الله عليه و آله و سلم، بمعنى عدم الكون على ما عليه صلى الله عليه و آله و سلم موجباً للنجاة إلّا إذا انضمّ إليه الكون على ما عليه الأصحاب.

إذن فما يقول هؤلاء في نجاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم؟ فهل هي أيضاً متوقفة عندهم على كونه على ما كان عليه أصحابه؟! نعوذ باللّه من جرأتهم على اللّه ورسوله، ومن زياداتهم واختلاقاتهم في الأحاديث حبّاً للبعض وبغضاً لأهل بيت العترة الطاهرة، ولأن يثبتوا باختلاقهم الأحاديث وإدخال الزيادات فيها لغير أهل البيت محناً لايقاس بهم ما يشابه فضائلهم، ولكنَّ اللّه عليم بذات الصدور، يُظهر أكاذيبهم ومفتعلاتهم.

وأمّا الثاني - وهو زيادة (الجماعة) - فالدليل على أ نّها زيادة لايعتدّ بها، سيما مع عدم ذكرها في سائر المتون: أنّ المراد منها: إن كان ما عليه جميع الاُمَّة فهو خلاف المفروض في الحديث من افتراق الاُمّة، وإن كان ما عليه السّواد الأعظم والأكثرية فكيف صار الكون منها أبداً موجباً للنجاة؟ فهذه سيدة نساء الجنة، حبيبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانت تعتقد بعدم شرعية ولاية أبي بكر(1) ، وماتتا.

ص: 56


1- حكى لنا سيدنا الاُستاذ آية اللّه المغفور له السيد محمد تقي الخونساري ما جرى بينه وبين العلامة الشهير الشيخ حسن البنّاء، مؤسّس جمعية إخوان المسلمين من المباحثات حول المذهب، وذكر أنّ الشيخ بعد هذه المناظرات أعلن في المسجد الحرام، أو مسجد النبي صلى الله عليه و آله (الترديد منّي) حسنَ عقيدته بالشيعة، واعتذر عنهم من عقيدتهم في الخلافة، وعدم شرعية خلافة غير الإمام علي عليه السلام، بأنّ ذلك كان عقيدة فاطمة سلام اللّه عليها.

وهي واجدة عليه، وأهل السنة يدَّعون أنّ الجماعة كانت تذهب إلى شرعية ولايته، مع أ نّك تجد في الاُمّة فرقاً كثيرة أعظمها شيعة أهل البيت على عقيدة سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام، ولاتجد فيها فرقةً ولاواحداً يشكُّ في كونها من أهل النجاة، وأ نّها سيدة نساء العالمين، بل هذا دليل على عدم صحة زيادة (وأصحابي) أيضاً؛ لأنّ عقيدتها تفترق عن عقيدة جمع من الصحابة من حزب أبي بكر وعمر بن الخطاب.

اللهمّ وإن قيل بإرادة جميع الصحابة من قوله: (وأصحابي)، وعليه يكون المراد: أنّ أهل النجاة مَن يقول بقول جميع الصحابة، ويأخذ بما اتّفقوا عليه كلّهم، وهذا قريب من رواية «كلّهم في الجنّة إلّاالزنادقة»، وعليه فالواحدة هي الخارجة عمّا اتّفق عليه كلّ الصحابة وينكر بعضه أو كلّه فهو ليس من الاُمّة لا انّه منها وليس من الناجية.

والعجب ممّن كتب في الفرق المختلفة، ويقول: إنّ أول اختلاف وقع بين الاُمّة كان في أمر الحكومة وزعامة الاُمّة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ويذكر مخالفة سيدتنا الزهراء عليها السلام وسائر بني هاشم وشيعتهم، ثمّ يتمسّك بهذه الزيادة، ويقول:

الفرقة الناجية هي (الجماعة).

ويورد عليه على فرض صحة هذه الزيادة، وأن المراد منها السواد الأعظم: أنّ السواد الأعظم ثار على عثمان، وأنكر عليه أفاعيله وبدعه،

ص: 57

واستعماله الخونة وبني امية على المسلمين، وصرفه بيت مال المسلمين في أقاربه وخواصّه، وإهماله حدود اللّه، وطلبوا منه التوبة وإبطال بدعه وطرد الخونة عن الاستيلاء على الاُمور، إلّاأ نّه لم يقبل منهم، ولم يعمل بنصح ناصح مثل الإمام علي عليه السلام، و أصرّ على ما أغضب به رجالات الإسلام حتى قُتِل، فهل يعترف من يروي هذه الزيادة ويقول بصحتها أنّ عثمان لم يكن من أهل النجاة، بل هو من أهل النار؟ وأمثلة ذلك كثيرة في تاريخ الإسلام.

ونسأل ونسأل، حتى نسأل: هل الحنابلة المجسِّمة بما اعتقدوا في اللّه على خلاف سائر المسلمين وجماعتهم، من العين واليد، من أهل النجاة، أو من أهل النار؟

وابن تيمية مع آرائه المخالفة للجماعة من أيِّ الفريقين؟ والشيخ محمد عبده، ورشيد رضا، وفريد وجدي وغيرهم من أهل الثقافة الحديثة والمتأثّرين بالمذاهب الفلسفية الغربية الذين خالفوا جماعة العلماء وجماعة المسلمين، من أيِّهما؟

والفرقة التي أحدثتها أيادي الاستعمار، وأثارت الفتن المخزية الدامية، وهدمت المشاهد والمعالم التاريخية، والبنايات الأثرية الإسلامية، التي كانت من أقوى الدلائل والشواهد على أمجادنا التاريخية وسيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم ومشاهدها، من أيِّ الفريقين؟

وبعد ذلك كلّه فالأقوى في النظر زيادة هاتين الكلمتين، وعدم صدورهما من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وعلى فرض الصدور لايمكن الاعتماد عليهما؛ لإجمالهما وعدم استفادة ميزانية ظاهرة مستقيمة منها لمعرفة الفرقة الناجية.

ص: 58

تعيين الفرقة الناجية

فإذن لانجد مرجعاً في نفس هذه الأحاديث لتعيين الفرقة الناجية غير مثل الحديث الذي أخرجه أخطب خوارزم، وابن مردويه، والحافظ الشيرازي عن أنس، وغير الحديث الذي أخرجه الحافظ الصغاني، وقد دلّ الأول على أ نّهم شيعة علي، والثاني على أ نّهم هم المتمسّكون بالثقلين: كتاب اللّه والعترة.

ونحن لا نحبّ الخوض في هذه المسائل الكلامية التي طال اشتغال الفريقين بها، ويغني الباحثين ما كتبه السلف فيها، إلّاأنّ بعض من يكتب كذباً وزوراً عن الشيعة ما يوافق هواه، حيث تعرّض لكلام المحقّق الطوسي في شرح الحديث، واستشهد بزعمه به، لما يريد من إثارة الفتن بين المسلمين والافتراء على الشيعة بأ نّها تخالف المسلمين في الاُصول، أوجب علينا أن نبيِّن له ولأمثاله معنى ذلك، وأ نّهم أرادوا بمباينتهم مع الجميع أنّ الجميع يتشاركون في

ص: 59

الاُصول والعقائد الموجبة لدخول الجنة، ولا يخالفهم أحد سوى الإمامية، فإنّهم اشترطوا فيه بالأدلة الصحيحة ولاية الأئمة الاثني عشر أيضاً، ومعنى ذلك: أ نّهم شاركوا الجميع في العقائد الإسلامية الموجبة لدخول الجنة، وباينوا الجميع لاشتراطهم في دخول الجنة ولاية الأئمة، فهم أهل النجاة، فلابدّ لنا من نقل كلام المحقّق الطوسي عمّن هو الأصل في حكايته عنه، وهو العلّامة الحلي في كتابه «منهاج الكرامة»، وإجراء الكلام على سبيل الإيجاز حول تعيين الفرقة الناجية.

قال العلامة في «منهاج الكرامة»: الوجه الثاني في الدلالة على وجوب اتّباع مذهب الإمامية: ما قاله شيخنا الإمام الأعظم الخواجة نصير الحقّ والملّة والدين محمد بن الحسن الطوسي قدّس اللّه روحه، وقد سألته عن المذاهب؟ فقال: بحثنا عنها، وعن قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ستفترق امّتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة منها ناجية، والباقي في النار»، وقد عيّن الفرقة الناجية والهالكة في حديث آخر صحيح متفق عليه، وهو قوله: «مَثَل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، مَن ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق»، فوجدنا الفرقة الناجية هي الإمامية؛ لأنّهم باينوا جميع المذاهب، وجميع المذاهب قد اشتركت في اصول العقائد(1).

وننقل أيضاً كلام السيد الجزائري عن كتابه «الأنوار النعمانية»، قال بعد نقل كلام المحقّق الطوسي: (وهذا تحقيق متين، وحاصله: أ نّه لو كانت الفرقة الناجية غير الإمامية لكان الناجي كلّهم، لافرقة واحدة؛ وذلك لأنّهم متشاركون9.

ص: 60


1- منهاج الكرامة: ص 49.

في الاُصول والعقائد الموجبة لدخول الجنة، ولايخالفهم أحد سوى الإمامية، فإنّهم اشترطوا في دخول الجنة ولاية الأئمة الاثني عشر والقول بإمامتهم)(1) ، انتهى كلامه.ة.

ص: 61


1- الأنوار النعمانية.

ص: 62

الشيعة الإمامية هم الفرقة الناجية

ولتوضيح ما حقّقه المحقّق الطوسي نقول: الذي نحتجّ به لكون الفرقة الناجية هم الشيعة الإمامية وأتباع علي والأئمة من ولده عليهم السلام، مضافاً إلى ما أخرجه أخطب خوارزم، وابن مردويه، والحافظ محمد بن موسى الشيرازي، عن أنس وعلي عليه السلام من أ نّهم شيعة علي وأصحابه، امور:

1 - إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عينّ الفرقة الناجية والهالكة صريحاً في الحديث المشهور الصحيح، الذي أخرجه جمع كثير من الحفاظ: «إن مَثَل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، مَن ركبها نجا، ومن تخلّف عنها هلك»(1). فالفرقة الناجية هي الفرقة المتمسّكة بأهل البيت، والفرقة الهالكة هي المتخلّفة عنهم، ولاريب في استناد الشيعة في الاُصول والفروع وجميع العلوم الدينية كالتفسير والعقائد والفقه

ص: 63


1- انظر: بحار الأنوار: ج 23 ص 104، والحديث متواتر رواه الخاصة والعامة.

إلى أهل البيت عليهم السلام، وليس لغيرهم هذا الاستناد والاختصاص والتمسّك بفتاواهم، لو لم نقل بإعراضهم عن أهل البيت، فهذه كتب القوم مشحونة بالاحتجاج بأحاديث النواصب، وفتاوى أعداء العترة، أمثال: معاوية، وعمرو، وكعب الأحبار، وعكرمة، ومقاتل، وعِمران بن حَطّان، وحريز بن عثمان، ومروان، وغيرهم، ولم يُخرِّجوا عن أهل البيت إلّانزراً قليلاً لا يُعتدّ به جداً، كما لم يحتجّوا بفتاواهم أيضاً في الفقه(1).

2 - وقد عيَّنهم في غير أحاديث السفينة أيضاً، في الأحاديث الكثيرة التي بعضها متواتر، مثل أحاديث الثقلين الدالة على انحصار الأمن من الضلال في التمسّك بهم وبالكتاب، وعدم افتراقهم عنه، و عصمتهم عن الخطأ، وأنّ التخلّف عنهم سبب للهلاك، ويشهد لذلك الحديث الذي نقلناه عن «الشمس المنيرة» للحافظ حسن بن محمد الصغاني، ومثل أحاديث الأمان، وأحاديث الخلفاء والأئمة الاثني عشر، ومثل ما خرّجوه في تفسير قوله تعالى [إنَّ الذَّينَ آمَنوُا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة](2)، عن ابن عباس، أ نّه قال صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام: «تأتي أنت وشيعتُك يوم القيامة راضين مرضيين، ويأتي أعداؤك غِضَاباً مقمَحين»(3). ومثل ما ورد في أ نّه وشيعته هم الفائزون يوم القيامة.9.

ص: 64


1- راجع في ذلك كتابنا «أمان الأُمة»، وكتاب «شيخ المُضِيرة» للاُستاذ الشيخ محمود أبو ريّة، وكتاب «أبو هريرة» للشريف السيد شرف الدين.
2- البيّنة: الآية 7.
3- راجع الدرّ المنثور، والصواعق المحرقة: ص 159.

ومثل ما خرّجه في منتخب كنز العمال (1)«عليّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» (ك طس) عن امّ سلمة.

وما أخرجه أيضاً في المنتخب(2): «من أحبّ أن يحيا حياتي، ويموت موتي، ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي، فإنّ ربي عزّ وجلّ غرس قضبانها بيده، فليتوَلَّ علي بن أبي طالب، فإنّه لم يُخرِجكم من هدى، ولم يُدخِلْكم في ضلالة» (طب ك) وتعقب، وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن زيد بن أرقم.

وأخرج أيضاً (3)«من أحبّ أن يحيا حياتي ويموت ميتتي، ويدخل الجنة التي وعدني ربّي قضباناً من قضبانها غرسه بيده، وهي جنة الخلد، فليتولَّ علياً وذرّيته من بعده، فإنّهم لن يخرجوكم من باب هدىً، ولن يدخلوكم في باب ضلالة»، مطير والباوردي، وابن شاهين، وابن منده عن زياد بن مطرف.

وما أخرجه أيضاً (4)«تكون بين امّتي فرقة واختلاف، فيكون هذا وأصحابه على الحقّ، يعني علياً» (طب) عن كعب عجرة، والأحاديث بهذه المضامين كثيرة، وإحصاؤها صعب جداً(5).».

ص: 65


1- المطبوع بهامش مسند أحمد: ج 5 ص 30.
2- منتخب كنز العمّال: ص 32.
3- المصدر السابق: ص 32-34.
4- المصدر السابق: ص 34.
5- من أراد الاطّلاع على طائفة منها، وتحقيق إسنادها ومتونها، وبحوث لايستغني الباحث عنها، فليراجع كتابنا «أمان الاُمّة من الضلال والاختلاف».

وانتهاء الإمامية إلى علي عليه السلام وذريته، وانقطاعهم إليهم ظاهر من كتبهم في الحديث، ومذاهبهم في الفقه.

3 - قد اتّفقت مذاهب أهل السنّة فيما هو السبب للنجاة والخلاص من النار، أي الشهادتين والإتيان بالأركان الخمسة: الصلاة والزكاة، والحجّ والجهاد، ووافقهم الشيعة في جميع ذلك، وزادوا على هذه الاُمور ولاية الأئمة من أهل البيت عليهم السلام بدلالة روايات متواترة خرّجها حُفّاظ الفريقين، فالإمامية قد أخذوا بما هو ملاك النجاة عند أهل السنّة، ولا عكس، فيجب أن تكون الهالكة غيرهم.

4 - قد اشتركت الشيعة وأهل السنّة في اصول العقائد من التوحيد والنبوة، والمعاد وغيرها، وفي الفروع مثل الصلاة والصوم، والحجّ والزكاة، والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها، وامتازت عن أهل السنّة في مسألة الإمامة. فهي عندهم منصب إلهي يختار اللّه له من يشاء من عباده وينصّبه، ويأمر النبيّ بالنصّ عليه، كما نصّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم على الأئمة الاثني عشر في الروايات الصحيحة، وقد نص النبي على عددهم في الأحاديث المخرّجة في أصحّ كتب حديث أهل السنّة، كصحيح البخاري ومسلم، ومسند أحمد، فإنّه قد خرّجه من أربعة وثلاثين طريقاً، وغيرهم من أرباب الجوامع، وأخرجوه عن غير واحد من الصحابة، كجابر بن سمرة، وابن مسعود، وأنس.

فهذه عقيدة تشهد على صحتها ونجاة صاحبها صحاح الأحاديث، فالفرقة الناجية إن كانت هي الشيعة فهي، وإن كانت غيرهم من أهل السنّة يجب أن تكون الشيعة أيضاً من الناجية؛ لاشتراكها مع أهل السنّة في اصول العقائد الإسلامية

ص: 66

وفي الفروع العملية، مع أنّ القول بكون الناجية أهل السنّة يرجع إلى القول بنجاة جميع الفرق أو أكثرها، بخلاف ما لو كانت الشيعة هي الناجية، فالقول بنجاة أهل السنّة مستلزم للقول بنجاة الشيعة؛ لاشتراكها مع سائر الفرق في ما هو سبب للنجاة، ولاعكس، وهذا الوجه قريب من الوجه السابق.

5 - إنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد اختلفوا في مسائل كثيرة، ولم يحصل منهم الاتفاق على جميع الاُمور، ولم يعلم عصمة طائفة منهم بالخصوص، ولم يتّفق الفريقان في جواز الرجوع إلى شخص معيّن منهم، إلّاإلى علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فالمتمسّكون بهداهم الآخذون بحجزتهم أهل النجاة والفلاح قطعاً وإجماعاً، بخلاف المتمسّك بغيرهم كائناً مَن كان، فإن نجاة المتمسّك بغيرهم غير مقطوع به ولا متّفق عليه.

6 - إنّ الأخبار الصحيحة قد دلّت على ارتداد أكثر الصحابة إلّاالقليل منهم، مثل ما رواه البخاري في كتاب الحوض(1) ، عن أبي هريرة: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «بينما أنا قائم فإذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلمَّ! فقلت: أين؟ قال: إلى النار واللّه، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثمّ إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلمَّ! قلت: أين؟ قال: إلى النار واللّه، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلّامثل همَل النعم».).

ص: 67


1- صحيح البخاري: ج 4 ص 88 (ط مصر، سنة 1320 ه).

وهذا الحديث يدلّ على ارتداد جمع كثير من الصحابة، فلا تكون متابعتهم مطلقاً، وإن لم يثبت ثبات المتبوع وعدم ارتداده سبباً للاندراج في الفرقة الناجية، كما أنّ الحكم بنجاة جميعهم مخالف لصريح هذه الأحاديث، واتفق الفريقان على أنّ علياً وفاطمة والحسن والحسين وشيعتهم، كأبي ذرّ والمقداد وسلمان وعمّار وغيرهم من الصحابة لم يكونوا من المرتدّين، فمن تمسّك بهم ولم يعدل عنهم إلى غيرهم في الاُمور الدينية، سواء كانت اعتقادية أم عملية يكون من الفرقة الناجية.

ومن الروايات المصرِّحة بذلك: ما أخرجه في كنز العمال(1) ، عن يحيى بن عبد اللّه بن الحسن، عن أبيه، قال: كان علي عليه السلام يخطب، فقام إليه رجل فقال:

يا أمير المؤمنين أخبرني مَن أهل الجماعة؟ ومن أهل الفرقة؟ ومَن أهل السُنّة؟، ومَن أهل البدعة؟ فقال: «ويحك! أمّا إذا سألتني فافهم عنّي، ولاعليك أن تسأل عنها أحداً بعدي، فأمّا أهل الجماعة فأنا ومَن اتّبعني وإن قلّوا، وذلك الحقّ عن أمر اللّه وأمر رسوله صلّى اللّه عليه وآله، فأمّا أهل الفُرقة فالمخالفون لي ولمن اتّبعني وإن كثروا، وأمّا أهل السنّة فالمتمسّكون بما سنّه اللّه لهم ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم وإن قلّوا، وأمّا أهل البدعة فالمخالفون لأمر اللّه ولكتابه ورسوله صلّى اللّه عليه وآله، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا، وقد مضى منهم الفوج الأوّل وبقيت أفواج، وعلى اللّه قصمها واستئصالها عن جدبة الأرض...»، والحديث طويل، فيه بعض أحكام البغاة، وساقه إلى أن قال:9.

ص: 68


1- كنز العمّال: ج 8 ص 215، ح 3529.

«وتنادي الناس من كلّ جانب: أصبت يا أمير المؤمنين، أصاب اللّه بك الرشاد والسداد» فقام عمار فقال: يا أيّها الناس، إنّكم واللّه إن اتّبعتموه وأطعتموه لم يضلَّ بكم عن منهاج نبيّكم قبس شعرة، وكيف يكون ذلك وقد استودعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله المنايا والوصايا وفصلَ الخطاب على منهاج هارون بن عمران، إذ قال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّاأ نّه لانبيَّ بعدي» فضلاً عمّا خصّه اللّه به إكراماً منه لنبيه صلى الله عليه و آله و سلم حيث أعطاه ما لم يُعطِ أحداً من خلقه...» الحديث.

وهذا الحديث وأشباهه لاتنطبق إلّاعلى الشيعة الإمامية، المنيخين مطاياهم بفناء أهل البيت عليهم السلام، والمتمسّكين بهم.

ويُعجبني هنا ذكر أبيات ذكرها للشافعي أحمد بن القادر العجيلي في كتابه «ذخيرة المآل»، والشريف الحضرمي في «رَشفَة الصادي»، وهي هذه:

ولمّا رأيتُ الناسَ قد ذهبت بهم،5.

ص: 69

فإن قلتَ: في الناجين فالقولُ واحدُ، وإن قلتَ: في الهُلّاكِ خِفتَ عن العَدلِ

إذا كان مولى القوم منهم فإنّني1.

ص: 70

تنبيه:

أخرج الحاكم في المستدرك(1) ، في كتاب الفتن، قال: أخبرنا محمد بن المؤمّل ابن الحسن، ثنا الفضل بن محمد بن المسيّب، ثنا نعيم بن حمّاد، ثنا عيسى بن يونس، عن جرير بن عثمان، عن عبد الرحمان بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك (رض)، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ستفترق امّتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فرقة قوم يقيسون الاُمور برأيهم، فيحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام»، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

دلّ هذا الحديث على ذمّ أعظم الفرق، فرقة هي أكثرهم عدداً وجماعة، وهم أهل القياس والرأي، الذين يحرمون الحلال ويحللون الحرام، ولايخفى أنّ معظم أهل السنّة والجماعة هم أهل الرأي والقياس.

ص: 71


1- مستدرك الحاكم: ص 430.

ويؤيد هذا ظاهر حديثه الآخر، وهو ما أخرجه ابن ماجة عنه(1) ، قال:

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنّة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنّة، والذي نفس محمدٍ بيده لتفترقنّ امّتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار، قيل: يا رسول اللّه، مَن هم؟ قال: الجماعة». فإن ظاهره السؤال عن الفرق التي تكون في النار، فقال: «الجماعة».

وسواء كان ظاهر حديث ابن ماجة عنه هذا أم لم يكن فلا ريب أنّ حديث الحاكم عنه معارض لحديثٍ فُسّر فيه الناجية بالجماعة، إلّاإذا كان المراد منها ما نصّ عليه علي عليه السلام في حديث أخرجه عنه في كنز العمال، وإذا دار الأمر بين الأخذ بحديث الجماعة وحديث الحاكم وجب الأخذ بالأخير، فإنّ حديث الجماعة مطعون فيه من حيث السند والمتن والدلالة.

وممّا لاشكّ فيه أنّ الشيعة ليست من الفرق العاملة بالقياس والرأي التي دلّ هذا الحديث الصحيح على ذمّها؛ لشدّة تمسّكهم بالكتاب والسنّة، وعدم جواز العمل بالقياس والرأي عندهم، وهذا معروف من مذاهب أئمتهم، مذكور في كتبهم، وقد بيّنّا في بعض تصانيفنا أنّ سبب أخذ القوم بالقياس في الأحكام الشرعية قلّة مصادرهم، وميلهم عن أهل البيت، وعدم رجوعهم إلى الروايات المأثورة عنهم.ى.

ص: 72


1- سنن ابن ماجة: ج 2 ص 479، الطبعة الأُولى.

ثم لايخفى عليك أنّ الأدلة الستّة التي أقمناها على أنّ الناجية من الفرق هي الشيعة قائمة عليها، وإن قيل بعدم صحة أحاديث افتراق الاُمّة.

فكلّ منها دليل مستقلّ وبرهان واضح على انّ المذهب الصحيح بين جميع المذاهب ليس الّا مذهب أهل البيت عليهم السلام والحمد للّه الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه.

فنعم ما قيل:

إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهباً

ص: 73

ص: 74

الأحاديث الدالة على نجاة الموُحِّدين

قد علمت ممّا سبق اشتراك جميع الفرق في اصول العقائد، يعني بذلك:

الإيمان بالتوحيد والنبوة والبعث والصلوات الخمس إلى القبلة والحجّ وصوم شهر رمضان والزكاة، وغيرها من الاُمور التي اتّفقت الاُمّة في دخلها في الإيمان، وعدم حصول النجاة بدون الإيمان بها، وقد أعلن ذلك الصحاح الستّة وغيرها من كتب أهل السنّة، فدلّت رواياتهم على نجاة مَن آمن باللّه ورسوله واليوم الآخر، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، وحجّ البيت، وصام شهر رمضان، بل في صحاحهم روايات كثيرة دلّت على نجاة مطلق الموحِّدين.

ففي صحيح البخاري(1) ، في كتاب الرقاق، عن أبي ذرّ قال: قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «قال جبرائيل: مَن مات من امّتك لا يُشرك باللّه شيئاً دخل الجنة،

ص: 75


1- صحيح البخاري: ج 4 ص 75.

قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق».

وفيه(1) ، عن أبي هريرة: أنّ أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فقال: دُلَّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: «تعبد اللّه لاتشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدِّي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان». قال: والذي نفسي بيده لاأزيد على هذا، فلمّا ولّى قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم «من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا».

وفيه(2) ، في كتاب الرّقاق، عن عتبان قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلَّم «لن يوافي عبد يوم القيامة يقول: لا إله إلّااللّه، يبتغي به وجه اللّه، إلّا حرّم اللّه عليه النار».

وأخرج في اسد الغابة(3) ، في ترجمة أبي سلمى راعي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، قال: سمعت النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «من لقي اللّه عزّ وجلّ، يشهد أن لاإله إلّااللّه، وأنّ محمداً رسول اللّه، وآمن بالبعث والحساب، دخل الجنة»، قلت: أنت سمعت هذا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ فأدخل إصبعيه في اذُنيه، فقال: سمعت هذا منه غير مرة، ولامرتين ولاثلاث، ولاأربع.

وإن شئت أكثر من ذلك فراجع «مصابيح السنّة» للبغوي(4) ، وغيره من7.

ص: 76


1- البخاري: ج 2 ص 109.
2- البخاري: ج 7 ص 172.
3- اسد الغابة لابن الأثير: ج 5 ص 219.
4- مصابيح السنّة، كتاب الإيمان: ص 3-7.

كتب الحديث.

وهذه الأحاديث دالة على نجاة الشيعة، وأ نّهم من أهل الجنّة؛ لأنّهم يشهدون بجميع ما فيها من التوحيد والنبوة والبعث والحساب، ويؤمنون بها، لايشركون باللّه شيئاً، يقيمون الصلاة، ويؤدّون الزكاة، ويصومون شهر رمضان، وشاركوا أهل السنّة فيما هو عندهم من ملاك الإيمان والنجاة.

وقد أفتى بهذه النصوص، وإيمان المعتقدين بالاُصول المذكورة جماعة من علماء أهل السنّة، فراجع «الفصول المهمة» إن شئت تفصيلاً شافياً في ذلك كلّه؛ حتى تعلم أنّ التقريب بين المذاهب والتفاهم بين الفرق أمر ممكن، وأنّ ما عليه الشيعة من ولاية أهل البيت والقول بإمامتهم والتبرّي من أعدائهم لا يمنع ذلك، ولايخالف الاُصول التي بني عليها الإسلام، فإنّ غير ما تلونا عليك ممّا ذهب إليه أهل السنّة كلّهم أو بعضهم، حتى تصويب ما صدر عن الشيخين وعدالة الصحابة ليس من اصول الدين في شيء، ولادخل لهذه الاُمور في الإيمان أو في كماله، لاسيّما إذا كان مَن يرى خلاف ذلك مجتهداً.

فمَن يُؤوّل رزية يوم الخميس - التي يقول عنها ابن عباس: يوم الخميس، وما يوم الخميس؟ ثمّ جعل تسيل دموعه على خدَّيه كأ نّها نظام اللؤلؤ، ويعذر عمر ابن الخطاب وحزبه فيما قالوا لمّا قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً». فقال عمر وهو أول من منعه عن ذلك: إنّ النبي غلبه الوجع، وفي بعض طرقه: فقالوا: هجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،

ص: 77

وفي بعضه الآخر: قالوا: إنّ رسول اللّه يهجر(1) ، وعن أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة،(2) فقال عمر كلمة معناها أنّ الوجع قد غلب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - كيف لا يؤوّل قدح مَن يقدح في عدالة صحابي اجتهاداً، ولايقرّ خلافة الشيخين كما لم يقرّها فاطمة وعلي وغيرهما من بني هاشم، والصحابة الذين امتنعوا عن البيعة.

ومن تأمّل في ألفاظ هذا الخبر يعلم أنّ عمر بن الخطاب هو أول من تكلّم بأ نّه صلى الله عليه و آله و سلم يهجر نعوذ باللّه، وإن قاله غيره أيضاً قاله متابعة له، والتعبير بأ نّه قد غلبه الوجع من النقل بالمعنى لا باللفظ تأدّباً وتحرّزاً عن نقل تلك الكلمة، ولو سُلِّم أ نّه لم يزد على قوله: إنّ النبيّ غلبه الوجع! أفليس معناه أ نّه صلى الله عليه و آله و سلم يهجر أو يغلط؟!

أليس هذا ردَّ أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومعارضةً صريحة؟! أترى في هذا الكلام دلالة على غلبة الوجع وعدم الاعتداد بكلام المتكلم به لو صدر مثله عن مريض يجوز أن يقال مثل هذا فيه؟

باللّه يا أخي تأمَّل في مغزى هذه الحادثة.

فليس لأحد من الصحابة - كائناً من كان - ردّ قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم، لاسيّما).

ص: 78


1- راجع صحيح البخاري، باب كتابة العلم: ج 1 ص 21 و 22، والجزء الثاني منه: ص 111، باب جوائز الوفد، وفي باب مرض النبي صلى الله عليه و آله: ج 3 ص 58 بطريقين، وباب كراهية الخلاف: ج 4 ص 167، وراجع أيضاً صحيح مسلم في كتاب الوصية، ومسند أحمد من حديث ابن عبّاس.
2- راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2 ص 20 (ط مصر).

وهو يريد كتابة وصية لن تضلّ الاُمّة بعدها أبداً.

وما معنى الاجتهاد قبال الأمر الصريح الصادر عن النبي الذي قال اللّه تعالى فيه: [مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَمَا غَوى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلّاوَحْيٌ يُوحَى](1).

وقال: [مَا آتاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذوُهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا](2).

فانظر بعين الإنصاف تأوّلات القوم في هذه الرزية، فهذه حاشية السندي على صحيح البخاري، باب كتابة العلم، فاقرأ فيها تأوّلاتهم فيها حتى تعرف أ نّهم لم يأتوا في هذا الباب بشيء تسكن عنده النفس، ويقبله المنصف.

فالذي لايعتريه الشكّ أنّ كلامه صريح في ردّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومعارضته له، وأنّ الاُمّة حرمت بذلك عن الأمن من الضلال، ولم يُرِد ابن عباس بقوله:

«الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبين كتابه» إلّاهذا؛ لأنّ حرمان الاُمّة من الأمن من الضلال رزية ليس فوقها رزية، تَرتَّبَ عليها جميع المصائب والاختلافات، فلا إيراد على المسلم المنصف إن وقف عند هذه الواقعة العظيمة وتفكّر في مغزاها، كما لااعتراض عليه إن قال: إنّ الأمر الذي أراد كتابته فمنعوه عنه كان توثيق عهده لأخيه وابن عمّه عليٍّ عليه السلام بالإمامة والخلافة بعده، ولكنّهم لمّا علموا من تنصيصاته المتكرّرة في غدير خمٍّ، وحديث الثقلين الذي حصر فيه الأمن من الضلال بالتمسّك بالكتاب والعترة، وحديث المنزلة وغيرها صدّوه عن كتابته، وهذا هو الأمر الذي أبكى ابن عباس حتّى خضّب دمعه الحصباء، وقال:7.

ص: 79


1- النجم: الآية 2-4.
2- الحشر: الآية 7.

«الرزية كلّ الرزية...».

ولو كان صاحب هذه الكلمة غير عمر لكان موقفهم تجاهها غير هذا، ولكنّ الذي يهون الخطب عنده، ويسهل له قبول التأوّلات المذكورة في حاشية السندي وغيرها أنّ المتكلّم بها عمر.

وليعلم أ نّه ليس غرضنا من هذا المقال الطعن على الخليفة، ولاعلى غيره من المسلمين، ولا ردّ تأوّلاتهم في ذلك، فحساب الخلق على اللّه، [وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى](1)، بل غرضنا النظر في أمثال هذه الحوادث، من الناحية العلمية.

فمَن يتأوّل رزية يوم الخميس وأمثالها، ولايرى في ذلك بأساً، ويجتهد لأن يحملها على المحامل الصحيحة كيف لايؤوّل قول مَن قدح في عدالة أحد من الصحابة اجتهاداً ونظراً إلى مثل هذا الحديث الصريح في ردّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومعارضته معه، وهو في هذا الحال حتى اختصموا عنده، وأكثروا اللغو والاختلاف؟ وكيف يقول بقدح ذلك في الإيمان، ولايقول بقدح ما هو أقبح وأفظع منه؟

وإن شئت أن تعرف مبلغ أفاعيل السياسة فقايس بين أ نّهم منعوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن كتابة الوصية التي لو كتبها لن يضلّوا بعده أبداً، وقالوا ما قالوا، ولم يردّوا على أبي بكر حين أراد الوصية في مرض موته، ولم يقولوا: إنّه يهجر، وحسبنا كتاب اللّه، بل كتب أبو بكر وصيته لعمر حين اغمي عليه وقبل أن ينصّ على عمر، وأفاق بعد ذلك، وصوّب ما كتب، ودعا لعثمان.7.

ص: 80


1- الأنعام: الآية 164؛ الإسراء: الآية 15؛ فاطر: الآية 18؛ الزمر: الآية 7.

اللهمّ أنت الحَكَم العَدل، فاحكم بين أهل بيت نبيك وبين من عاداهم، وأنكر فضائلهم، وأراد إطفاء نورهم، وأظهر كلمتهم الحقّ، وأبطل بهم باطل أعدائهم، واحشرنا مع محمدٍ وآله الطاهرين، صلواتك عليهم أجمعين.

حرره لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

ص: 81

ص: 82

مَن لهذا العالَم؟

اشارة

ص: 83

ص: 84

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

مَن لهذا العالَم المليء بالفساد، والفواصل، والمظالم؟ من لدفع هذه الأساليب الإلحاديّة التي هوت بالإنسانية في أسفل درجات الحيوانية؟ (من نصّ الكتاب).

هذا بيان جميل يفصح عن الواقع الكائن في المجتمع البشري المعاصر، هذا المجتمع المليء بالجهل والضلالة، والظلم والجريمة والفساد وعدم المعرفة... والذي ما فتيء سائراً في هذا المسير المنحط نحو مزيد من السقوط والتردّي.

ترى ما العمل؟ من ذا الذي ينجي هذا الإنسان من بحر الفساد الهائج هذا؟

«كما تعرف تتيقن، انّ المبشّر به في لسان الأنبياء، والكتب السماوية، والقرآن الكريم، والسنّة النبويّة، والأحاديث المرويّة عن العترة الطاهرة، والآثار المخرّجة عن الصحابة، هو ابن الإمام الحسن العسكري بن علي بن محمّد بن

ص: 85

علي بن موسى بن جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وهو الإمام الثاني عشر، والعدل المشتهر، وصاحب الزمان، أرواح العالمين له الفداء» (من نصّ الكتاب).

بهذا السمو يُنهي مؤلّف كتاب «من لهذا العالَم» مقدمته، ثمّ يأخذ بذكر الآيات الالهية، والأحاديث النبوية بخصوص إمامة ولي العصر - عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف - ويشير في المقال إلى أسماء بعض من الصحابة وكتب مشايخ أهل السنّة من الذين يشيرون إلى الروايات المبشّرة بظهور الإمام المنتظر. وفي الختام يورد أسماء بعض من الكتب بعينها ممّا ألّف حول هذا الموضوع.

لقد طُبع هذا الكتاب عدّة مرّات، وطُبِع لأوّل مرّة في بداية الجلد الثاني من كتاب «مكيال المكارم» الشريف كمقدّمة له.

فعسى أن تكون مطالعة هذه الرسالة نافعة للقرّاء الكرام، وتجلب رضا إمام العصر، وسروره، أرواحنا فداه.

ص: 86

بسم اللّه الرحمن الرحيم

مَن لهذا العالم المليء بالفساد والفواصل والفوارق والمظالم؟

مَن لدفع هذه الأساليب الإلحادية التي هوت بالإنسانية في أسفل دركات الحيوانية؟

مَن لهذه التجهيزات الحربية التي يُنفَق عليها من أموال الفقراء والبائسين في الدقيقة الواحدة أكثر من (3/4) ميليون دولار (750 ألف دولار)، وفي السنة (400) ألف ميليون دولار، وهذا الرقم يساوي ما ينفق على الصحة العامة مرتين ونصف؟(1).

وإحصائية اخرى تقول: بلغت النفقات العسكرية في العالم (3500) مليار فرانك فرنسي، وهذا المبلغ يكفي لتجهيز (35) ميليون فراش لعلاج المرضى، وبناء (50) مليون مسكن، ومليون كيلومتر من الطرق الحديثة، وألفة.

ص: 87


1- حضارة الإسلام: ص 92، من العدد السادس من السنة التاسعة عشرة.

مدينة تتّسع الواحدة ل (200) ألف ساكن(1).

وإحصائية ثالثة تقول: لقد باعت الولايات المتحدة في عام (1973 و 1974) من الأسلحة ما قيمته (83) مليار دولار، والاتحاد السوفياتي ما قيمته (55) مليار دولار، وفرنسا ما قيمته (33) ملياراً من الدولارات، وبريطانيا (13) ملياراً(2) والولايات المتحدة تنفق على تسليح كلّ جندي (60) مرة أكثر ممّا تُنفِق على تعليم كلّ تلميذ(3).

وأيضاً هذه الولايات المتحدة الأمريكية تُنفِق من أول اوكتبر (1978) ولمدة اثني عشر شهراً في غضون سنة ما يبلغ مليارين وتسعمائة وسبعة وسبعين مليون دولار لصرفها على المواد اللازمة لتوليد القنبلة النيترونية(4) ، وذلك ما يساوي مبلغ خمسة آلاف وسبعمائة وسبعة وستّين دولاراً تقريباً في كلّ دقيقة من دقائق هذه المدة.

مَن لهذه القنابل الذرّية، والهيدروجنية، والنيترونية التي تدمّر البلاد الكبيرة، والممالك العظيمة، وتقضي على المدنيات، وتهدّم كيان الإنسانية، فكُرة واحدة في حجم البرتقالة الكبيرة من مادة البلوتونيوم التي تنتجها3.

ص: 88


1- حضارة الإسلام: ص 146، العدد الخامس والسادس من السنة السادسة عشرة، عن مجلة الإكسبريس، أيلول 1974 م.
2- حضارة الإسلام: ص 135، العدد 109 من السنة 17.
3- حضارة الإسلام: ص 97، العدد الثاني من السنة 19.
4- جريدة اطّلاعات الإيرانية: العدد 15743.

المفاعلات الذرّية الغريبة قادرة على قتل مليار إنسان(1) ؟

مَن لدحض هذه الشبهات التي اشغلت أفكار شبابنا وشبيبتنا، وفتياننا وفتياتنا؟

مَن لإزالة هذا الخوف والاضطراب والعناء الذي استولى على جميع البرية؟

مَن لهذه النعرات الطائفية والقومية والدعايات الممزِّقة؟

مَن لهذه الحكومات المستبدّة التي استعبدت الأقوام والأفراد، وازدادت ديكتاتوريتها واستضعافها على استبداد الأكاسرة، والقياصرة؟

مَن لهذه القوانين الكافرة المستوردة من الشرق والغرب؟

مَن لإنقاذ البشرية من هذه المهالك والمساقط التي جاءت بها مذاهب ونظريات الشرق والغرب، ودعاة الشرك والإلحاد؟

مَن لهذه الأفلام السينمائية والتلفزيونية التي تهبط بالمجتمع إلى مهاوي الشهوات، ورذائل الأخلاق؟

مَن لإلغاء هذه الحكومات الإقليمية والإمبريالية والماركسية، وإعلان تأسيس حكومة اللّه العالمية العادلة على الأرض؟

مَن ذا الذي يقوم بإذن اللّه بإزالة هذه الخلاعة والدعارة التي شملت البلاد؟

مَن الذي يحارب هذه الجاهليات التي هي أخطر وأضرّ لمفاهيم الإنسانية6.

ص: 89


1- حضارة الإسلام: ص 146، العدد 5 و 6 من السنة 16.

الصحيحة من الجاهليات الاُولى؟

مَن هو الذي يُحيي العدل والإنصاف، ويُميت الجور والاعتساف؟

مَن هو الذي يردّ الغيرة إلى الرجال، والحياء والشخصية والعِفّة إلى النساء، ويُزيل عنهنّ عار السفور والخروج إلى الأسواق والأندية، كاشفات عاريات، فأحسنهنّ حالاً الأجيرة في المراقص والملاهي؟

مَن الذي يرفع اللّه به المستضعفين، ويؤمّن به الخائفين، وينجّي به الصالحين، ويضع به المستكبرين، ويجتثّ به اصول الظالمين؟

مَن هو المصلح الذي بشّر اللّه به الاُمم بلسان أنبيائه، وما أوحى إليهم في كتبه وصحفه؟

مَن الموعود الذي يملأ اللّه به الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلِئت ظلماً وجوراً؟

مَن الذي يحقّق اللّه على يده الأمن والأمان، ويمحو به الظلم والعدوان، ويفتح اللّه على يديه مشارق الأرض ومغاربها؟

مَن هو الذي يجمع الكَلِم على التقوى، ويرفع لواء القسط في الدنيا؟

مَن الذي يثور على الظالمين ويُبيدهم، ويهدم قصورهم وديارهم، ويحطِّم آثارهم؟

مَن الذي يُحيي اللّه به الأرض بعد موتها؟

فمتى يقوم بأمر اللّه القائم الذي لمّا قرأ دِعبل قصيدته التائية المشهورة على

ص: 90

الرضا عليه السلام فذكّره بقوله:

خروج إمامٍ لا محالةَ لازمٍيقومُ على اسمِ اللّهِ والبركاتِ(1)

وضع الرضا عليه السلام يده على رأسه، وتواضع قائماً ودعا له بالفرج، وقال:

«اللهمَّ عجِّلْ فَرَجهُ وسَهِّلْ مَخْرَجَهُ»(2)يراجع منتخب الأثر: الباب (2)، الفصل (6).(3) ؟

وإلى متى يبقى في حجاب الغيبة، فقد ظهر كثير من علائم ظهوره وقيامه وعضنا البلاء؟ فمتى يظهر؟

فها هي الفتن شملت الآفاق، والجور قد عمَّ البلاد، وتُرِك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وخرجت النساء كاشفاتٍ عارياتٍ متبرّجات، خارجاتٍ من الدين، داخلاتٍ في الفتن، مائلاتٍ إلى الشهوات، مستحلّات للمحرّمات(3) ، لم يبقَ من القرآن إلّاالاسم، يُسمّون به وهم أبعد الناس عنه.

وها هي الصلاة قد اميتت، والأمانة قد ضُيّعت، والخمر يباع ويشرب علانية، وأهل الباطل قد استعلوا على أهل الحقّ، والأموال الكثيرة تصرف في معصية اللّه، وتنفق في سخطه، والولاة يقرِّبون أهل الكفر، ويبعِّدون أهل الخير، والحدود قد عُطِّلت، والسلطان يُذِلّ المؤمن للكافر، والرجل يتكلّم بشيء من الحق، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيقوم إليه من ينصحه في نفسه،).

ص: 91


1- ديوان دعبل بن عليّ الخزاعي: ص 63 (ط مؤسسة الأعلمى - بيروت، سنة 1417 ه).
2- منتخب الأثر: 505-506، الباب
3- ، الفصل (10) ح 3 و 4.

ويقول: هذا عنك موضوع، وظهر الاستخفاف بالوالدين، وكثر الطلاق، والنساء قد دخلن فيما لا ينبغي لهنّ دخوله، والقضاة يقضون بغير ما أنزل اللّه، واستُحِلّ الرِبا لا يُرى به بأس، والرجال تشبّهوا بالنساء والنساء تشبّهن بالرجال، وكثر أولاد الزنا، وظهرت القَينات والمعازف، وتداعت علينا الاُمم، كما تداعت الأكلة على القصاع؛ لكراهيتنا الموت وحبّنا للدنيا، وركبت ذوات الفروج السروج، وتغنّوا بالقرآن، وتعلّموه لغير اللّه، واتّخذوه مزامير، وهدر فنيق الباطل بعد كظوم، وتواخى الناس على الفجور، يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، تحزن ذوات الأولاد وتفرح العواقر و... و... و(1)نهج البلاغة: الخطبة 185.(2).

فمتى تشرق شمس الإقبال والسعادة من مشرق بيت الوحي والرسالة والولاية؟

سبحان اللّهِ ولا حولَ ولا قوّة إلّاباللّه، ما أطول هذا العناء وأبعد هذا الرجاء، كما أخبرنا به مولانا أمير المؤمنين عليه السلام(2).

فاللّه أكبر الذي جعل مع كلّ عُسرٍ يُسراً، ولكلّ ضيق رخاء، ولكلِّ فتنة مخرجاً، ولكلِّ شدّة فَرَجاً.

فلا تيأسوا يا إخواني من روح اللّه، إنّه لا ييأس من روح اللّه إلّاالقوم الكافرون.

ولا تحسبوا قوّة الظالمين وسلطة الكافرين شيئاً؛ فإنّهم على شفا حفرة5.

ص: 92


1- يراجع في ذلك كلّه منتخب الأثر: الباب
2- ، الفصل (6).

الهلاك والدمار، وعن قريب يزول ملكهم، ويبور سعيهم.

وإن أمعنت النظر يا أخي في كتاب ربّك - القرآن الكريم - وفي الأحاديث المرويّة عن نبيك والأئمة الطيبين من عترته - صلوات اللّه عليهم أجمعين - زاد رجاؤك بالمستقبل الزاهر، وبَعُدَ عنك اليأس والكسل، ولبعثك النشاط والأمل إلى السعي والعمل، ولأدّيت واجبك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعرفت مسؤولياتك وما أنت مسؤول عنه قِبالَ دينك وكتاب دينك وأحكامه، ولعرفت أنّ الذي خلق العباد لا يهملهم سُدىً، ولا يتركهم في تيّار هذه الخسارات والمهالك، وأنّ الأرض لا تخلو من قائم للّه بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً.

وتعرف أنّ البشرية ليست محكوماً عليها بالبؤس والشقاء والظلم، وأنّ الأرض للّه يُورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتّقين.

كما تعرف أيضاً أنّ نهاية المطاف ليس إلّاالنور، وإلّا العلم والمعرفة، وإلّا العدل والأمان.

وتعرف أنّ العالم يسير نحو الكمال، ولا يرجع القهقرى وإلى الوراء، وأنّ الظلم والاستكبار والاستثمار والاستضعاف لابدّ وأن ينتهي، ومحكوم بالزوال والانقراض، وأنّ النّصر مع جنود الحقّ وأنصار العدل ودعاة الخير والثائرين على الظلم والاستبداد، وأنّ حزب اللّه هم الغالبون.

كما تعرف أنّ العالم سيتخلّص من هذه الحكومات المتشعّبة المتفرّقة، التي تأسّست لاستعباد الناس بعضهم بعضاً، وستوحّد الحكومات، وتسقط هذه

ص: 93

الرايات والأعلام، ويُنشَر لواء واحد باسم اللّه، لواء الحق، لواء التوحيد، لواء رسالة الإسلام.

كما تعرف، وتتيقّن أنّ المبشّر به في لسان الأنبياء والكتب السماوية، والقرآن الكريم والسنّة النبوية، والأحاديث المروية عن العترة الطاهرة، والآثار المخرّجة عن الصحابة هو ابن الإمام الحسن العسكري بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهو الإمام الثاني عشر، والعدل المشتَهَر، وصاحب الزمان، أرواح العالمين له الفداء.

فاللّه لا يُخلِف المِيعاد، وهو أصدق القائلين، حيث يقول:

[وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثينَ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ](1).

وقال تعالى جَدُّه:

[وَعَدَ اللّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدونَني لايُشْرِكُونَ بي شَيئاً](2).

وقال عزّ اسمه:5.

ص: 94


1- القصص: الآية 5-6.
2- النور: الآية 55.

[إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذينَ آمنَوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ اْلاَشْهادُ](1).

وقال تبارك وتعالى:

[وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ](2).

وقال رسوله الصادق المصدّق صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا تقومُ الساعة حتى تُملَأَ الأرض ظلماً وجوراً وعدواناً، ثمّ يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً(3).

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «لَو لَمْ يبقَ من الدنيا إلّايومٌ واحدٌ لَطَوَّلَ اللّهُ ذلك اليومَ، حتى يَملك رجلٌ من أهل بيتي يُظهِر الإسلام ولا يُخلِف وعده، وهو على وعده قدير»(4).

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «لو لم يبقَ من الدنيا إلّايومٌ واحدٌ لَطَوَّل اللّه ذلك اليوم، حتى يخرج رجل من أُمّتي يواطئ اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت جوراً وظلماً»(5).ى.

ص: 95


1- غافر: الآية 51.
2- الصافّات: الآية 171-174.
3- المستدرك للحاكم: ج 4 ص 557، منتخب الأثر: ص 19، الباب الأول، الفصل الثاني، وفي هذا الباب من الأخبار المبشِّرة بالمهدي عليه السلام ما يزيد على ستمائة حديث.
4- منتخب الأثر: ص 23، ب 1، الفصل الثانى.
5- منتخب الأثر: ص 26، ب 1، الفصل الثانى.

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «أبشِروا بالمهدي (قالها ثلاثاً) يخرج على حين اختلاف من الناس، وزلزال شديد، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يملأ قلوب عباده عبادة، ويسعهم عدله»(1).

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «الأئمة من بعدي اثنا عشر، أوَّلهم أنت يا علي، وآخرهم القائم الذي يفتح اللّه عزّ وجلّ على يديه مشارق الأرض ومغاربها»(2).

وقال صلى الله عليه و آله و سلم في حديث أبي سعيد الخدري: «الأئمة بعدي اثنا عشر، تسعة من صلب الحسين، فالتاسع قائمهم فطوبى لمن أحبّهم»(3).

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنَّ عليّاً إمام امّتي من بعدي، ومن ولده القائم المنتظر، الذي إذا ظهر يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، والَّذي بعثني بالحقّ بشيراً ونذيراً إنّ الثابتين على القول بإمامته في زمان غيبته لأعزُّ من الكبريت الأحمر».

فقام إليه جابر بن عبد اللّه الأنصاري فقال: يا رسول اللّه، لولدك القائم غيبة؟ قال: «إي وربّي، ليمحّصنّ الذين آمنوا، ويمحق الكافرين، يا جابر، إنّ هذا الأمر من أمر اللّه، وسرٌّ من سرِّ اللّه، مطويٌّ من عباد اللّه، وإيّاك والشكّ فيه؛ فإنَّ الشكّ في أمر اللّه عزَّوجلَّ كفر»(4).ً.

ص: 96


1- منتخب الأثر: ص 80، ب 1، ف 2.
2- منتخب الأثر: ب 4، ف 1، ح 2، وفي الباب 91 حديثاً.
3- منتخب الاثر: ب 7، ف 1، ح 4، وفي الباب 107 حاديثاً.
4- منتخب الأثر: ب 5، ف 2، ح 1، وفي الباب 214 حديثاً.

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «والَّذي نفسي بيده إنّ مهدي هذه الاُمّة الذي يصلّي عيسى خلفه منّا، ثمّ ضرب يده على منكب الحسين عليه السلام وقال: من هذا، من هذا»(1).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «تنقض الفتن حتى لا يقول أحد (لا إله إلّااللّه)، وقال بعضهم: لا يقال (اللّه اللّه) ثمَّ ضرب يعسوب الدين بذنبه، ثمّ يبعث اللّه قوماً كقزع الخريف، وإنّي لأعرف اسم أميرهم ومناخ ركابهم»(2).

وقال عليه السلام: «إنّ ابني هذا (يعني الحسين) السيّد، كما سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وسيخرج من صلبه رجل باسم نبيّكم، يخرج على حين غفلة من الناس، وإماتة الحق، وإظهار الجور، ويفرح لخروجه أهل السماء وسكّانها...» - إلى أن قال: - «يملأ الارض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(3).

وقال عليه السلام في بعض خطبه: «وليكوننَّ من يخلفني في أهل بيتي رجل يأمر بأمر اللّه، قويّيحكم بحكم اللّه، وذلك بعد زمان مكلح مفصح يشتدّ فيه البلاء، وينقطع فيه الرَّجاء ويقبل فيه الرّشاء...» الخطبة(4).

وقال عليه السلام في خطبة أُخرى: «فنحن أنوار السَّماوات والأرض، وسُفن النّجاة، وفينا مكنون العلم، وإلينا مصير الاُمور، وبمهديّنا تقطع الحجج، فهو3.

ص: 97


1- منتخب الأثر: ب 8، ف 2، ح 3، وفي الباب 185 حديثاً.
2- منتخب الأثر: ب 1، ف 2، ح 62.
3- منتخب الأثر: ب 1، ف 2، ح 64.
4- منتخب كنز العمال: ج 6 ص 34، منتخب الأثر: ب 1، ف 2، ح 63.

خاتم الأئمة، ومنقذ الاُمّة(1).

وقال الإمام السبط الأكبر الحسن المجتبى محدثاً عن أبيه أميرالمؤمنين عليهما السلام أنّه قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لا تذهب الدنيا حتى يقوم بأمر امّتي رجل من ولد الحسين، يملأ الدنيا عدلاً كما ملئت ظلماً»(2).

وقال سيد أهل الإباء وأبو الشهداء، أبو عبد اللّه الحسين عليه السلام: «منّا اثنا عشر، أوَّلهم أميرالمؤمنين عليُّ بن أبي طالب، وآخرهم التاسع من ولدي، وهو القائم بالحقِّ، يُحيي اللّه به الأرض بعد موتها، ويُظهِر به دين الحقِّ على الدِّين كلّه ولو كره المشركون، له غيبة يرتدُّ فيها قوم، ويثبت على الدِين فيها آخرون، فيؤذَون ويقال لهم [متى هذَا الوَعدُ إنْ كُنُتُمْ صَادِقِين](3). أما إنَّ الصابرين في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهدين بالسيف بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم»(4).

وقال الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام في حديث رواه عنه أبوخالد: «تمتدُّ الغيبة بوليِّ اللّه عزّوجلّ الثاني عشر من أوصياء رسول اللّه والأئمة بعده، يا أبا خالد، إنّ أهل زمان غيبته، القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كلِّ زمان؛ لأنّ اللّه تبارك وتعالى أعطاهم من العقولً.

ص: 98


1- تذكرة الخواص: الباب 6؛ منتخب الأثر: ب 1، ف 2، ح 15.
2- منتخب الأثر: ب 8، ف 2، ح 2، وفي الباب 185 حديثاً.
3- يونس: الآية 48؛ الأنبياء: الآية 38؛ النمل: الآية 71؛ سبأ: الآية 29؛ يس: الآية 48؛ الملك: الآية 25.
4- منتخب الأثر: ب 10، ف 2، ح 4، وفي الباب 148 حديثاً.

والأفهام ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول اللّه، اولئك هم المخلصون حقّاً وشيعتنا صدقاً، والدُعاة إلى دين اللّه عزّوجلّ سرّاً وجهراً. وقال: انتظار الفرج من أفضل العمل»(1).

وقال الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام في حديث: «إنَّ قائمنا هو التاسع من ولد الحسين عليه السلام؛ لأنّ الأئمة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اثنا عشر، الثاني عشر هو القائم»(2).

وقال الإمام أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: «إنَّ الغيبة سَتَقع بالسادس من ولدي، وهو الثاني عشر من الأئمة الهداة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أوَّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وآخرهم القائم بالحقَّ، بقية اللّه في الأرض، وصاحب الزمان» الحديث(3).

وقال عليه السلام في حديث آخر: «هو الخامس من ولد ابني موسى، ذلك ابن سيّدة الإماء، يغيب غيبة يرتاب فيها المبطلون، ثمّ يُظهِره اللّه عزّوجلّ، فيفتح اللّه على يديه مشارق الأرض ومغاربها، وينزل روح اللّه عيسى بن مريم عليه السلام فيصلّي خلفه، فتشرق الأرض بنور ربّها، ولا تبقى في الأرض قطعة عُبد فيها غير اللّه عزوجل إلّاعُبد اللّه عزّوجلّ فيها، ويكون الدين للّه ولو كرهً.

ص: 99


1- منتخب الأثر: ب 24، ف 2، ح 1، وفي الباب 136 حديثاً.
2- منتخب الأثر: ب 8، ف 1، ح 34، وفي الباب 50 حديثاً.
3- منتخب الأثر: ب 27، ف 2، ح 5، وفي الباب 91 حديثاً.

المشركون»(1).

وقال الإمام أبو إبراهيم، موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام في حديث: «القائم الذي يُطهِّر الأرض من أعداء اللّه، ويملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، هو الخامس من ولدي، له غيبة يطول أمدها خوفاً على نفسه، يرتدّ فيها أقوام، ويثبت فيها آخرون» ثمّ قال عليه السلام: «طوبى لشيعتنا، المتمسّكين بحبلنا في غيبة قائمنا، الثابتين على موالاتنا، والبراءة من أعدائنا، اولئك منّا ونحن منهم» الحديث(2).

وقال الإمام أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام في حديث: «الإمام بعدي ابني محمد، وبعد محمّد ابنه عليّ، وبعد عليّ ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم، وهو المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، فيملأ الأرض قسطاً كما ملئت جوراً وظلماً»(3).

وقال الإمام أبو جعفر محمد بن عليٍّ الجواد عليه السلام: «إنَّ القائم منّا هو المهدي الَّذي يجب أن ينتظر في غيبته، ويطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي، والذي بعث محمداً بالنبوة وخصّنا بالإمامة إنّه لَو لَم يبقَ من الدنيا إلّا يومٌ واحد لَطَوَّل اللّه ذلك اليوم حتى يخرج فيه، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً» إلى أن قال عليه السلام: «أفضل أعمال شيعتنا انتظارً.

ص: 100


1- منتخب الأثر: ب 22، ف 2، ح 4، وفي الباب 9 أحاديث.
2- منتخب الاثر: ب 16، ف 2، ح 3، وفي الباب 98 حديثاً.
3- منتخب الأثر: ب 17، ف 2، ح 3، وفي الباب 95 حديثاً.

الفرج»(1).

وقال الإمام أبو الحسن علي بن محمد الهادي عليه السلام: «الإمام بعدي الحسن ابني، وبعد الحسن ابنه القائم، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً»(2).

وقال الإمام أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام: «أما إنَّ لولدي غيبة يرتاب فيها الناس، إلّامن عَصمه اللّه».

وقال عليه السلام في حديث آخر: «أما إنّ له غيبةً يُحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون ويُكذَّب فيها الوقّاتون، فكأنّي أنظر إلى أعلام بيضٍ تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة»(3).

وممّا وجد بخطّه عليه السلام: «أعوذ باللّه من قوم حذفوا محكمات الكتاب، ونسوا اللّه ربّ الأرباب، والنبي وساقي الكوثر في مواطن الحساب، ولظى والطامَّة الكبرى ونعيم يوم المآب، فنحن السَّنام الأعظم، وفينا النبوّة والإمامة والكرم، ونحن منار الهدى، والعروة الوثقى، والأنبياء كانوا يغترفون من أنوارنا، ويقتفون آثارنا، وسيظهر اللّه مهديّنا على الخلق، والسيف المسلول لإظهار الحقّ، وهذا بخطِّ الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بنً.

ص: 101


1- منتخب الأثر: ب 18، ف 2، ح 1، وفي الباب 90 حديثاً.
2- منتخب الأثر: ب 19، ف 2، ح 1، وفي الباب 90 حديثاً.
3- منتخب الأثر: ب 20، ف 2، ح 2 و 3 وفي الباب 146 حديثاً.

أبي طالب عليهم السلام»(1).

هذا غيض من فيض، وقطر من بحر، وقليل من كثير، ومن سَبَر غور كتب الأحاديث والجوامع المعتمدة يعرف أنّ النبي والأئمة من أهل بيته عليهم السلام بشّروا الناس بظهور المهدي عليه السلام في البشائر المؤكَّدة الصّريحة المتواترة، وأنّ ذلك كان عقيدة السلف من عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم والصحابة، وقام اتفاق المسلمين عليه، ولا اعتناء بمناقشة البعض في بعض الخصوصيات والصفات؛ لقلّة مصادره، أو لبعض الأغراض الفاسدة، والدعايات الباطلة، بعدما ورد فيه من الأحاديث المعيِّنة لشخصه وصفاته ونسبه.

وقد أخرج محدّثو الفريقين من أرباب الجوامع والكتب هذه الأحاديث عن جمع من الصحابة، مثل:

1 - أمير المؤمنين علي عليه السلام.

2 - وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام.

3 - والإمام الحسن المجتبى عليه السلام.

4 - والإمام الحسين سيد الشهداء عليه السلام.

5 - واُمّ سلمة.

6 - وعائشة.

7 - وعبد اللّه بن مسعود.9.

ص: 102


1- مشارق أنوار اليقين: ص 48 و 49.

8 - وعبد اللّه بن عباس.

9 - وعبد اللّه بن عمر.

10 - وعبد اللّه بن عمرو.

11 - وسلمان.

12 - وأبي أيوب الأنصاري.

13 - وأبي علي الهلالي.

14 - وجابر بن عبداللّه الأنصاري.

15 - وجابر بن سمرة.

16 - وثوبان.

17 - وأبي سعيد الخدري.

18 - وعبدالرحمان بن عوف.

19 - وأبي سلمى.

20 - وأبي هريرة.

21 - وأنس بن مالك.

22 - وعوف ابن مالك.

23 - وحذيفة بن اليمان.

24 - وأبي ليلى الأنصاري.

ص: 103

25 - وجابر بن ماجد الصدفي.

26 - وعَدِيّ بن حاتم.

27 - وطلحة بن عبيد اللّه.

28 - وقرّة بن أياس المزني.

29 - وعبد اللّه بن الحارث.

30 - وأبي امامة.

31 - وعمرو بن العاص.

32 - وعمّار بن ياسر.

33 - وأبي الطفيل.

34 - واُوَيس الثقفي.

كلّ هؤلاء من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ممّن ظفرنا بأحاديثهم المبشِّرة بالمهدي عليه السلام، وأمّا أسماء أصحاب أمير المؤمنين وسائر الأئمة عليهم السلام والتابعين وتابعي التابعين وغيرهم فأكثر من أن تحصى.

ولا يخفى عليك أنّ أكابر أهل السنّة من حُفّاظهم ومحدّثيهم قد خرّجوا طوائف كثيرة من هذه الأحاديث في مسانيدهم وسننهم، وصحاحهم وجوامعهم، فقلّما يوجد كتاب حديث لم تكن فيه رواية أو أثر في المهدي عليه السلام، فإليك أسماء بعض كتبهم:

1 - مسند أحمد.

ص: 104

2 - السنن، للترمذي.

3 - كنز العمّال، لعليّ المتّقي الهندي المكّي.

4 - منتخب كنز العمّال، له أيضاً.

5 - سنن أبي داود.

6 - سنن ابن ماجة.

7 - صحيح مسلم.

8 - صحيح البخاري.

9 - ينابيع المودّة للقَندُوزي.

10 - مودّة، القربى للسيد علي الهمداني.

11 - فرائد السمطين، للحمويني الشافعي.

12 - المناقب، للخوارزمي.

13 - المقتل، له أيضاً.

14 - الأربعين، للحافظ ابن أبي الفوارس.

15 - مصابيح السنّة، للبغوي.

16 - التاج الجامع للاُصول، للشيخ منصور علي ناصف.

17 - الصواعق، لابن حجر.

18 - جواهر العقدين، للسمهودي.

ص: 105

19 - السنن، للبيهقي.

20 - الجامع الصغير، للسيوطي.

21 - تيسير الوصول، لابن الديبع الشيباني.

22 - جامع الاُصول، لابن الأثير.

23 - المستدرك، للحاكم.

24 - المعجم الكبير.

25 - والأوسط.

26 - والصغير، للطبراني.

27 - الدرّ المنثور، للسيوطي.

28 - نور الأبصار، للشبلنجي.

29 - إسعاف الراغبين، للصبَّان.

30 - مطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي.

31 - تاريخ إصبهان، لابن مندة.

32 - حلية الأولياء، للحافظ أبي نعيم الإصبهاني.

33 - تاريخ إصبهان، له أيضاً.

34 - تفسير الثعلبي.

35 - العرايس، للثعلبي أيضاً.

ص: 106

36 - فردوس الأخبار، للديلمي.

37 - ذخائر العقبى، لمحبّ الدين الطبري.

38 - تذكرة الخواصّ، للسبط ابن الجوزي.

39 - فوائد الأخبار، لأبي بكر الإسكاف.

40 - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد.

41 - الغرائب، للنيسابوري.

42 - تفسير الفخر الرازي.

43 - نظرة عابرة، للكوثري.

44 - البيان والتبيين، للجاحظ.

45 - الفتن، لنعيم التابعي.

46 - العوالي، لابن حاتم.

47 - تلخيص الخطيب.

48 - بدايع الزهور، لمحمد بن أحمد الحنفي.

49 - الفصول المهمّة، لابن الصبّاغ المالكي.

50 - تاريخ ابن عساكر.

51 - السيرة الحلبية، لعلي بن برهان الدين الحلبي.

52 - السنن، لأبي عمرو الداني.

ص: 107

53 - السنن، للنسائي.

54 - الجمع بين الصحيحين، للعبدري.

55 - فضايل الصحابة، للقرطبي.

56 - تهذيب الآثار، للطبري.

57 - المتَّفق والمفتَرَق، للخطيب.

58 - تاريخ ابن الجوزي.

59 - الملاحم، لابن المنادي.

60 - الفوائد، لأبي نعيم.

61 - اسد الغابة، لابن الأثير.

62 - الإعلام بحكم عيسى عليه السلام، للسيوطي.

63 - الفتن، لأبي يحيى.

64 - كنوز الحقائق، للمناوي.

65 - الفتن، للسليلي.

66 - عقيدة أهل الإسلام، للغماري.

67 - صحيح، ابن حبّان.

68 - مسند الروياني.

69 - المناقب، لابن المغازلي.

ص: 108

70 - مقاتل الطالبيين، لأبي الفرج الاصبهاني(1).

71 - الإتحاف بحبّ الأشراف، للشبراوي الشافعي.

72 - غاية المأمول، للشيخ منصور علي ناصف.

73 - شرح سيرة الرسول، لعبد الرحمان الحنفي السهيلي.

74 - غريب الحديث، لابن قتيبة.

75 - سنن أبي عمرو المقري.

76 - التذكرة، لعبدالوهّاب الشعراني.

77 - الإشاعة، للبرزنجي المدني.

78 - الإذاعة، للسيد محمد صديق حسن.

79 - الاستيعاب، لابن عبدالبرّ.

80 - مسند أبي عوانة.

81 - مجمع الزوايد، للهيثمي.

82 - لوامع الأنوار البهية، للسفاريني الحنبلي.

83 - حجج الكرامة، للسيد محمد صديق.ا.

ص: 109


1- ذكرناه في طيّ هذه الكتب؛ لاشتهاره بين الفريقين، وإلّا فمؤلّفه شيعي زيدي، وقد أخرج بعض الأحاديث في المهدي عليه السلام غيره أيضاً من الزيدية في كتبهم وجوامعهم، توجد عدّة نسخ منها في مكتبتنا.

84 - إبراز الوهم المكنون، له.

85 - مسند أبي يعلى.

86 - الإفراد، للدارقطني.

87 - المصنَّف، للبيهقي.

88 - الحربيات، لأبي الحسن الحربي.

89 - النظم المتناثر من الحديث المتواتر، لمحمد بن جعفر الكتاني.

90 - التصريح بما تواتر في نزول المسيح، للشيخ محمد أنور الكشميري.

91 - إقامة البرهان، للغماري.

92 - المنار، لابن القيّم.

93 - معجم البلدان، لياقوت الحموي.

94 - مقاليد الكنوز، لأحمد محمد شاكر.

95 - شرح الديوان، للميبدي.

96 - مشكاة المصابيح، للخطيب التبريزي.

97 - مناقب الشافعي، لمحمد بن حسن الأسنوي.

98 - مسند البزّار.

99 - دلائل النبوة، للبيهقي.

100 - جمع الجوامع، للسيوطي.

ص: 110

101 - تلخيص المستدرك، للذهبي.

102 - الفتوح، لابن أعثم الكوفي.

103 - لوامع العقول، للكشخانوي.

104 - تلخيص المتشابه، للخطيب.

105 - شرح ورد السحر، لأبي عبدالسلام عمر الشبراوي.

106 - الهدية الندية، للسيد مصطفى البكري.

107 - شواهد التنزيل، للحاكم الحسكاني.

108 - روح المعاني، للآلوسي.

109 - لسان الميزان، لابن حجر.

110 - أرجح المطالب، للشيخ عبد اللّه الآمر تسري الهندي الحنفي.

111 - نهاية البداية والنهاية، لابن كثير الدمشقي.

112 - الجمع بين الصحاح الستّة، للعبدري.

113 - التاريخ الكبير، للبخاري.

114 - تاريخ الرقّة، للقشيري.

115 - الفقه الأكبر، للمولوي المشهور بحسن الزمان.

116 - ميزان الاعتدال، للذهبي.

117 - تذكرة الحفّاظ، له.

ص: 111

118 - المقاصد الحسنة، للحافظ السخاوي

119 - الفتاوى الحديثية، لابن حجر المكّي.

120 - أشعّة اللمعات، للشيخ عبد الحقّ.

121 - العرائس الواضحة، للآبياري.

122 - تمييز الطيب، لابن الديبع.

123 - ذخائر المواريث، للنابلسي الدمشقي.

124 - رموز الأحاديث، للشيخ أحمد الحنفي.

125 - الفتح الكبير، للنبهاني.

126 - التدوين، للرافعي.

127 - سنن الهدى، للقدّوسي الحنفي.

128 - الاعتقاد، للبيهقي.

129 - مشارق الأنوار، للحمزاوي.

130 - السراج المنير، للعزيزي.

131 - غالية المواعظ، لنعمان أفندي.

132 - تاريخ الخميس، للدياربكري.

133 - البدء والتاريخ، للمقدسي.

134 - تاريخ الإسلام والرجال، للشيخ عثمان العثماني.

ص: 112

135 - وسيلة النجاة، لمحمد مبين الهندي.

136 - شرف النبي صلى الله عليه و آله و سلم، للنبهاني.

137 - وسيلة المآل، للحضرمي.

138 - الرياض النضرة، لمحبّ الدين الطبري.

139 - شرف النبي صلى الله عليه و آله و سلم، للخرگوشي.

140 - تاريخ بغداد، للخطيب.

وغيرها من الكتب والجوامع.

ولا يخفى عليك أن للقوم في المهدي المنتظر عليه السلام وما يرجع إليه كتباً مفردة، لا بأس بذكر أسماء بعضها ممّا اطّلعت عليه:

1 - البرهان في علامات مهدي آخر الزمان، للعالم الشهير الملّا علي المتّقي، المتوفّى سنة 975.

2 - البيان في أخبار صاحب الزمان، للعلامة الگنجي الشافعي المتوفّى عام 658.

3 - عقد الدُرر في أخبار الإمام المنتظر، لجمال الدين يوسف الدمشقي، من أعلام القرن السابع.

4 - مناقب المهدي عليه السلام، لأبي نعيم الاصبهاني، المتوفّى سنة 430.

5 - القول المختصر في علامات المهدي المنتظر، لابن حجر، المتوفّى عام 974.

ص: 113

6 - العرف الوردي في أخبار المهدي، للسيوطي، المتوفّى عام 911.

7 - مهديّ آل الرسول، لعلي بن سلطان محمد الهروي الحنفي.

8 - فوائد الفكر في ظهور المهدي المنتظر، للشيخ مرعي.

9 - المشرب الوردي في مذهب المهدي، لعلي القاري.

10 - فرائد فوائد الفِكَر في الإمام المهدي المنتظر، للمقدسي.

11 - منظومة القطر الشهدي في أوصاف المهدي، لشهاب الدين أحمد الخليجي الحلواني الشافعي.

12 - العِطر الوردي بشرح القطر الشهدي، للبليسي.

13 - تلخيص البيان في علامات مهدي آخر الزمان، لابن كمال باشا الحنفي، المتوفّى سنة 940.

14 - إرشاد المستهدي في بعض الأحاديث والآثار الواردة في شأن الإمام المهدي، لمحمد علي حسين البكري المدني.

15 أحاديث المهدي، وأخبار المهدي، لأبي بكر ابن خيثمة.

16 - الأحاديث القاضية بخروج المهدي، لمحمد بن إسماعيل الأمير اليماني، المتوفّى سنة 751.

17 - الهدية الندية فيما جاء في فضل ذات المهدية، لقطب الدين مصطفى بن كمال الدين علي بن عبد القادر البكري الدمشقي الحنفي، المتوفّى سنة 1162.

ص: 114

18 - الجواب المقنع المحرّر في الردّ على من طغى وتجبّر بدعوى أنّه عيسى أو المهدي المنتظر، للشيخ محمد حبيب اللّه بن مايابي الجكني الشنقيطي المدني.

19 - النظم الواضح المبين، للشيخ عبد القادر بن محمد سالم.

20 - أحوال صاحب الزمان، للشيخ سعد الدين الحموي.

21 - الأربعين (من أحاديث المهدي)، لأبي العلاء الهمداني، كما في ذخائر العقبى.

22 - تحديق النظر في أخبار المهدي المنتظر، لمحمد بن عبد العزيز بن مافع، كما في مقدمة الينابيع.

23 - تلخيص البيان في أخبار مهدي آخر الزمان، لعلي المتقي.

24 - الردّ على من حكم وقضى بأنّ المهدي جاء ومضى، للملّا علي القاري، المتوفّى سنة 1014.

25 - علامات المهدي للسيوطي.

26 - المهدي، لشمس الدين ابن قيّم الجوزية، المتوفّى عام 751.

27 - المُهدِي إلى ما ورد في المَهدي، لشمس الدين محمد بن طولون.

28 - النجم الثاقب في بيان أنّ المهدي من أولاد علي بن أبي طالب.

29 - الهديّة المهدويّة، لأبي الرجاء محمد الهندي.

30 - كتاب المهدي، لأبي داود صاحب السنن.

ص: 115

31 - الفواصم عن الفتن القواصم، كما ذكر في السيرة الحلبية 227/1.

32 - رسالة في المهدي عليه السلام، لابن كثير الدمشقي.

33 - كلمتان هامّتان: 1) نصف شعبان، 2) والمهدي المنتظر، لمحمد زكي إبراهيم المعاصر.

34 - رسالة في ردّ من أنكر أن عيسى عليه السلام إذا نزل يصلّي خلف المهدي عليه السلام صلاة الصبح.

35 - فصل الحكم بالعدل، وفضل الإمام العادل.

36 - التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح، للشوكاني الزيدي.

ثمّ اعلم أ نّه مضافاً إلى ما ذكر فقد صرّح جمع من أكابر أهل السنّة بتواتر أحاديث المهدي عليه السلام، وباتّفاق المسلمين على ظهوره، كما قد صرّح جمع منهم بأ نّه هو ابن الإمام الحسن العسكري عليه السلام، وصرّحوا بولادته وتاريخه وغيبته وبقائه حياً إلى أن يُظهِره اللّه تعالى(1).ا.

ص: 116


1- يراجع في ذلك مقدمة كتاب «الجواب المقنع المحرر» و «غاية المأمول»: ج 5 ص 362 و 381 و 382 و «الصواعق المحرقة»: ص 99، المطبعة الميمنية، و «حاشية الترمذي»: ص 46 (ط دهلي سنة 1342 ه) و «إسعاف الراغبين»: ب 2 ص 140 (ط مصر سنة 1312 ه) و «نور الأبصار»: ص 155 (ط مصر سنة 1312 ه) و «الفتوحات الإسلامية»: ج 2 ص 200 (ط سنة 1323 ه) و «سبائك الذهب»: ص 78، و «البرهان في علامات مهدي آخر الزمان» ب 13، و «مقاليد الكنوز» المطبوع بذيل مسند أحمد: ج 5 ح 3571، و «الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة»، و «الإشاعة لأشراط الساعة»، و «إبراز الوهم المكنون»، وكتبنا «منتخب الأثر»، و «نويد أمن وأمان»، و «مع الخطيب»، وغيرها.

هذا مختصر الكلام في شأن الموضوع عند أهل السنّة والزيدية، وكمال عناية أكابرهم وعلمائهم به.

وأما الشيعة الإثنا عشرية فأحاديثهم ومقالاتهم وكتبهم في ذلك أكثر من أن تحصى، فكن من الشاكرين على ذلك، وإيّاك والتقصير في أداء تكاليفك ومسؤولياتك، وأن يكون حظّك من الإيمان بذلك الظهور وانتظار الفرج، وكشف الغمّة، والتظاهر بالشوق إلى لقائه وانتظار دولته وأيّامه، والدعاء لتعجيل فرجه، فتكتفي بالصراخ والندبة، وتترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحبّ في اللّه والبغض في اللّه، ومحادّة من حادّ اللّه ورسوله، وتتقاعد عن العمل والجهاد لإعلاء كلمة اللّه، وتُصبح وتُمسي كسلاناً آيساً فارغاً عمّا يقع في بلاد المسلمين وما يصيبهم.

«من أصبح لا يهتمّ باُمور المسلمين فليس بمسلم»(1)، فما نسخ شيء من أحكام الإسلام وفرائضه، فحلال محمد صلى الله عليه و آله و سلم حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد صلى الله عليه و آله و سلم حرام إلى يوم القيامة، [ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين](2).

فسنن اللّه تعالى في عصر الغيبة هي سننه في عصر الحضور، و [لن تجدَ5.

ص: 117


1- الكافي: ج 2 ص 163، 164.
2- آل عمران: الآية 85.

لسنّةِ اللّهِ تبديلاً](1)، فلا تجهل حقيقة هذا الأمر وما اريد منه من التمييز والتمحيص، ولا تتّبع مَن يحرّف الكلم عن مواضعه، فلا إذن ولا رخصة لأحد في ترك الفرائض وفعل المحرّمات.

والإيمان بالمهدي عليه السلام ووجوده وظهوره يؤكّد الشعور بالمسؤولية، ويحبّب إلينا إقامة العدل والحقّ، وإماتة الظلم والباطل.

فالمسلم المؤمن به هو القويّ في دينه لا يخاف غير اللّه، ولا يتقاعس عن نصرة دينه، فهو دائماً في السير والحركة حتى يصل هو والعالم إلى نقطة الكمال، ويملأ اللّه الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

قال اللّه عزوجل: [قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرىَ اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُه وَالْمُؤْمِنُونَ](2).

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

5 جمادى الثانية 1398 ه5.

ص: 118


1- الأحزاب: الآية 62.
2- التوبة: الآية 105.

العقيدة بالمهدية

اشارة

ص: 119

ص: 120

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

«لا ريب أنّ العقيدة المهدويّة عقيدة إسلامية خالصة نبعت من الكتاب والسنّة واتّفق المسلمون سلفاً وخلفاً عليه، وحكم بتواتر أحاديثها جمع من الأكابر والأفذاذ» (من نصّ الكتاب).

إنّ القصد من هذه المقالة هو إثبات ما ورد في النصّ المذكور في أعلاه، فالكاتب المحترم، عند البحث في ذلك، يورد مقدمة قصيرة جامعة حول «العقيدة بالمهدية» ثمّ يأخذ بعد ذلك بتعريف كتاب بعنوان «البرهان في علامات مهديّ آخر الزمان» وبتوضيحه.

إنّ الكتاب المذكور من جملة الكتب المستقلّة التي كتبت في هذه العقيدة الشريفة، ومؤلّف الكتاب من مشاهير علماء أهل السنّة، ويدعى «علي بن حسام الدين المتّقي الشاذلي» (المتوفّى سنة 977 ه). إنّه ينقل في كتابه روايات المهدوية عن 28 من الصحابة، و 45 من التابعين، و 42 من المشايخ وأرباب

ص: 121

الجوامع من أهل السنّة. إنّ أسماء هؤلاء مع أربعين حديثاً من الروايات المذكورة في كتاب «البرهان» تأتي في ختام هذه المقالة.

واليوم، لمّا كانت هذه المقالة مفيدة ونافعة، فضلاً عن كونها صغيرة الحجم أيضاً، نُعيد طبعها ونشرها، آملين أن يمُنّ اللّه جلّ جلاله بالقبول الحسن على الكاتب والناشر، وعجّل اللّه فرج مولانا صاحب الزمان.

ص: 122

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمدٍ وآله الطاهرين.

لا ريب أنّ العقيدة بالمهدية عقيدة إسلامية خالصة، نبعت من الكتاب والسنّة، واتّفق المسلمون سلفاً وخَلَفاً عليها، وحكم بتواتر أحاديثها جمع من الأكابر والأفذاذ.

فهي فكرة إسلامية مبنية على أقوى الأدلة النقلية والعقلية، ويؤيّدها التاريخ والشواهد الكثيرة، ولم يبلغنا إنكارها والشكّ فيها من أحد من المسلمين، خواصّهم وعوامّهم، إلّابعض الناشئة المتأ ثّرين بدعايات الغربيين، والساقطين في شبكات الاستعمار، والذين لا يفسّرون الثقافة إلّابإنكار النصوص أو تأويلها بما يوافق أهواء الملحدين والمادِّيين، وقد حاولوا بذلك فتح باب لو فتحت - ولا وفَّقهم اللّه له - لسقط الاعتماد على السنّة، والاستناد

ص: 123

إليها، وبظواهرها، وظواهر الكتاب، ووقعت الشريعة والدعوة المحمّدية في معرض التغيير والتحريف حسب ما يريده أهل البدع والأهواء. وإذا أمكن إنكار مثل هذه الأحاديث التي صرّح رجال علم الحديث ومهرة هذا الفنّ من المتقدّمين والمعاصرين بتواترها، فما ظنُّك بغيرها من الأحاديث المستفيضة والآحاد؟

وقد نبَّه على خطر هؤلاء الخارجين على الكتاب والسنّة وجرأتهم على اللّه ورسوله جماعة من علماء الإسلام، وأ لّفوا في تفنيد آرائهم الكتب والمقالات، ولا أرى وراء ذلك إلّاأيدي الذين يريدون تضعيف التزام المسلمين وتمسُّكهم بنصوص الشريعة، فما يمنعهم عن النفوذ في بلاد المسلمين والسلطة عليهم إلّا تمسّك المسلمين بالكتاب والسنّة، ولم يفتح لهم باب ذلك إلّابعد ضعف هذا الالتزام والغفلة عنه، عصمنا اللّه تعالى من فتن أهل الزيغ والأهواء، وأذناب الاستعمار.

وممّا يُضحِك الثكلى أنّ هؤلاء الذين اتّبعوا أهواءهم كثيراً ما استندوا في تضعيف هذه الأحاديث: تارةً بأنّ هذه العقيدة ليست في أصلها من عقائد أهل السنة القدماء، ولم يقع لها ذكر بين الصحابة في القرن الأول ولابين التابعين.

واُخرى بأ نّها سبّبت المنازعات والثورات على الحكومات، والدعايات السياسية، وثالثةً ببعض اختلافات وقع في بعض أحاديثها مع البعض الآخر، وهذا من غرائب ما تشبّث به في رد السنّة النبوية،

أمّا أولاً: فأيُّ دليل أقوى على وقوع ذكرها بين الصحابة والتابعين، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو المصدر الأول لبثّ هذه العقيدة بين المسلمين، من هذه الأحاديث

ص: 124

المتواترة، ومن إجماع المسلمين، ومن أ نّهم لم يردّوا دعوى أحد من مدّعي المهدوية بإنكار صحة خروج المهدي عليه السلام، بل ردّوهم بفقدانهم الصفات والعلائم المذكورة له، كما تشهد بذلك حكاية محمد بن عجلان مع جعفر بن سليمان، وما قاله فقهاء أهل المدينة وأشرافهم(1).

فإذا لم تكن هذه الأحاديث مع كثرتها وتواترها، واتفاق المسلمين على مضمونها، دليلاً، فبأيِّ دليل يُستند على صحِّة نسبة أية عقيدة إسلامية إلى الصحابة، وإلى الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم؟

وثانياً: فلعلّك لا تجد عقيدة ولا أصلاً لم تقع حولها المنازعات والمخاصمات، وقد وقعت حول الإلوهية وحول النبوات المنازعات والمخاصمات أكثر من المهدية بكثير، كما وقع النزاع بين الأشاعرة وغيرهم، وبين أتباع المذاهب من الشوافع والأحناف والحنابلة والمالكية وغيرهم منازعات وحروب كثيرة، بل يمكن أن يقال: إنّ العدل والأمن وغيرهما من المفاهيم التي اتفق أبناء الإنسان كلّهم على لزومها وقعت حولها وحول تحققها، ودفع من اتخذها وسيلة لمقاصدها السياسية معارك دامية. ولعلَّك لاتجد ضحاياموضوع أكثر من ضحاياالبشرية باسم إقامة الحق ورعاية العدل والقسط، والحماية عن حرية الإنسان وحقوقه.

والحاصل: أنّ لبس الحقّ بالباطل، وعرض الباطل مقام الحق وإن كان يصدر من أهل الباطل والمبطلين بكثير غير أ نّه لايضرُّ الحقَّ، واللّه تعالى يقول4.

ص: 125


1- راجع: البرهان في علامات مهديِّ آخر الزمان: ص 174.

[بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ](1)

هذا، مضافاً إلى أن قبول دعوة الدجاجلة المدَّعين للمهدوية كثيراً ما يقع من أجل عدم الاهتداء بعلامات المهديِّ عليه السلام ونسبه، وخصائصه المصرَّحة بها في الأحاديث، وإلّا ليس فيه موضع للإضلال والتضليل. ومن واجب العلماء أن يبيّنوا هذه العقيدة وما تهدف إليه، وما به يعرف المهدي من الدجاجلة المدَّعين للمهدوية وفق الروايات المأثورة.

وثالثاً: أنّ من الفروق بين المتواتر وغيره: أنّ في المتواتر اللفظي التفصيلي يحصل القطع واليقين بصدور حديث معين بعين ألفاظ متنه، وفيه لا يمكن الاختلاف والتعارض إلّامع متواتر آخر، والمتبع فيه علاج التعارض بالتوفيق، والجمع بينهما بحمل العامّ على الخاصّ، أو المطلق على المقيّد، أو الظاهر على الأظهر، وغير ذلك، وإلّا فيتساقط ظاهر كلٍّ منهما من صلاحية الاستناد به، وفي المتواتر الإجمالي لاعبرة بالاختلاف وتعارض متون الأحاديث التي علم إجمالاً بصدور واحد منها بلفظه، بل يؤخذ ما هو الأخصّ مضموناً من الجميع.

وفي المتواتر المعنوي - وهو ما اتفق عليه عدة أحاديث يحصل القطع بها عليه وإن لم يكن بينها مقطوع الصدور بلفظه ومتنه، مثل ما جاء في جود حاتم من الحكايات الكثيرة، فإنّ من جميعها يحصل القطع بما هو القدر المشترك والمضمون العام بين الجميع، وهو وجود حاتم في زمانٍ من الأزمنة، وجوده - يؤخذ بالقدر المشترك والمضمون المتفق عليه بين الأحاديث.8.

ص: 126


1- الأنبياء: الآية 18.

فعليه لا يضرّ بالتواتر اختلاف المتون والمضامين، بل في غير المتواتر أيضاً من الأحاديث لا يضرّ الاختلاف بصحة ما هو الصحيح بين المتعارضين، وما هو أقوى بحسب السنّة أو المتن أو الشواهد والمتابعات، وهذه امور لا يعرفها إلّاالحاذق في فنّ الحديث، وإلّا فلو أمكن ترك الأحاديث بمجرد وجود تعارض بينها لزم ترك جلّها لولا كلّها، ولتغيّر وجه الشريعة في أكثر الأحكام الفرعية؛ لأنّه قلَّ موضوع في العقائد والأحكام والتاريخ وتفسير القرآن الكريم وغيرها يكون أحاديثه سليمة من التعارض، ولو بالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد.

فالمتّبع في علاج هذه التعارضات التي لايخلو كلام أهل المحاورة عنها وفي تشخيص الحديث الصحيح عن السقيم، والقوي عن الضعيف، والمعتبر والحجة عن غير المعتبر، هي القواعد المعتبرة العقلانية، والرجوع إلى مهرة الفن، وردّ بعض الأحاديث إلى البعض، والجمع والتوفيق بينها في موارد إمكان الجمع والأخذ بما هو أقوى سنداً أو متناً أو أوفق بالكتاب والسنّة الثابتة وغير ذلك، لا ردّها والإعراض عنها.

والأخبار التي وردت في المهدية كلُّها تلاحظ على ضوء هذه القواعد، فيؤخذ بمتواترها، ويعامل مع آحادها معاملة غيرها من أخبار الآحاد، فيقوى بعضها ببعض، ويفسِّر بعضها بعضاً، ويؤخذ بالضعيف منها أيضاً بالشواهد، والمتابعات، وغيرها من المؤيدات المعتبرة، فلا يردُّ مثل هذه الأحاديث إلّا الجاهل بفنّ الحديث، والمثقف المعادي للسنّة، والمتأثر بالدعايات الباطلة وأضاليل المستعمرين.

ص: 127

ص: 128

إيحاءات العقيدة بالمهدية

لا يخفى عليك أنّ العقيدة بالمهدية عقيدة ينبعث منها الرجاء، والنشاط والعمل، وتطرد الفشل واليأس والكسل، وتشجِّع الحركات الاصلاحية والإسلامية، وتقوّي النفوس الثائرة على الاستكبار والاستضعاف. فالإسلام لم يستكمل أهدافه، ولم يصل إلى تحقيق كلّ ما جاء لأجل تحقّقه، وسيكون المستقبل للإسلام، ولابدّ من يوم يحكم فيه الإسلام على الأرض، ويقضي على كلّ المظالم والاستضعاف. و سيلجأ أبناء العالم إلى الإسلام، كلّ يوم أظهر من أمس، ويرون نوره أسطع، وضياءه ألمع من قبل، وسنشاهد جميعاً فشل هذه الأنظمة السائدة المستكبرة، والأحزاب المتنمّرة الملحدة، وسوف يعرض الإسلام برامجه الاقتصادية والسياسية في بسط الأمن والأمان، وتحقيق أهداف الإنسانية، والقضاء على الجهل والظلم والعدوان والعنصرية، وتتفتّح قلوب البشريّة لقبول الإسلام وبرامجه التي هي العلاج الوحيد للمشاكل اللاإنسانية

ص: 129

العالقة في المجتمعات البشرية الآن.

فالبشرية الحائرة لم ولن تجد ضالّتها في الأنظمة الغربية والشرقية، ولم تنتج هذه الأنظمة والمكاتب إلّازيادة الطين بلّةً، وتعقيد الاُمور والمشاكل، والدعارة والخلاعة والفساد والاستعلاء والاستكبار.

والعقيدة بالمهدية توقظ شعورنا بكرامة الإنسان، وأنّ الأرض للّه لا للظالمين والمستعمرين، وأنّ العاقبة للمتّقين، وأنّ اللّه أرسل رسوله النبي الخاتم سيدنا محمداً صلى الله عليه و آله و سلم بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه، وتُشرِبنا حبَّ الحقّ والعدل والإحسان، وتُنهِضنا لإعلاء كلمة اللّه وإقامة حدوده وتنفيذ سلطانه، وتربطنا بمبادئنا الإسلامية، وتطالبنا بالعمل بمسؤولياتنا.

فاللّه تعالى أصدق القائلين، حيث يقول: [هُوَ الَّذي أرْسَلَ رَسولَهُ بالهُدَى وَدِينِ الحقِّ لِيُظْهِرَهُ علَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشرِكُونَ](1).

ويقول تعالى: [وَعَدَ اللّه الَّذِين آمَنوُا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِين مِنْ قَبْلهم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوْفِهم امْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَاوُلئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ](2).

ويقول تعالى شأنه: [وَنُريدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِين استُضْعِفُوا فِي الأرْضِ ونَجعَلَهُمْ5.

ص: 130


1- التوبة: الآية 33؛ الصف: الآية 9.
2- النور: الآية 55.

أئمّةً ونَجْعَلَهُمُ الوارِثِينَ](1).

ويقول عز اسمه [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ](2).

الأصل في العقيدة بالمهدية:

والأصل في العقيدة بالمهدية، وظهور الإسلام على جميع الأديان، وانتهاء العالم في سيره إلى حكومة الإسلام وحكومة أحكام اللّه، ووحدة القوانين والأنظمة، وخلافة المؤمنين الصالحين في الأرض، وتبديل خوف البشرية بالأمن، وزوال الاستضعاف بكلِّ صوره ومظاهره هو ما كان في نفس دعوة الإسلام وعقيدة التوحيد وكلمة الإخلاص من القوَّة المبدئية للقضاء على جميع مظاهر الشرك والاستكبار، ولتحرير الإنسان من سلطان الطواغيت، وإخراج البشرية من ذلِّ عبادة الناس إلى عزِّ عبادة اللّه.

وما نرى من أنّ العالم ينحو في سيره لإقامة مجتمع بشري عالمي، وإدغام المجتمعات بعضها ببعض، وتقليل الفوارق السياسية والاجتماعية من الطبقية والعنصرية، والعلم والتقدم الصناعي، أتاح للبشرية أن تكون جملة واحدة، وأن تكون الملل ملة واحدة، وتوسيع العلاقات والروابط بين الملل والأقوام، جعلهم كأهل بلد واحد ومحلة واحدة، فكما خلف البشرية المجتمعات القبلية، ووصلت

ص: 131


1- القصص: الآية 5.
2- الصافّات: الآية 171-173.

في سيرها إلى المجتمعات المدنية التي تأسّست على أساس دويلات ومناطق موزّعة من حيث اللغة، او على أساس منافع سياسية أو اقتصادية أو عنصرية، وترغب كلّ واحدة منها في التغلّب والسلطة والسيطرة على غيرها، فالاُمّة الكبيرة سوف تتخلّص دوماً من هذه الحكومات والوحدات الصغيرة فتصبح وحدة كبرى وحكومة إلهية عالمية عظمى، لا تخص بفرد وطائفة ومنطقة وعنصر دون آخر، بل حكومة الإسلام التي تشمل الجميع، والجميع فيها سواء.

وما وعد اللّه به المؤمنين والبشرية جمعاء في الكتاب المجيد، وبشَّرنا به على لسان أنبيائه ورسله، وما أخبَرنا به نبيُّنا الصادق الأمين صلوات اللّه وسلامه عليه، فكما آمنّا بكل ما أخبرنا به من المغيّبات، وآمنّا بملائكة اللّه وكتبه ورسله، وما ثبت إخباره به من تفاصيل المعاد والجنة والنار وغير ذلك من امور لا يمكن إثبات أصلها أو تفصيلاتها إلّابالوحي وإخبار النبيِّ صلى الله عليه و آله، آمنّا بذلك أيضاً، ونسأل اللّه الثبات عليه وعلى جميع مبادئنا الإسلامية، والاعتقادات الصحيحة القويمة.

[ربَّنا لا تُزِغْ قُلوبَنا بَعدَ اذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً انَّكَ انْتَ الوَهّابُ](1).8.

ص: 132


1- آل عمران: الآية 8.

الكتب المفردة في المهدية

اهتمّ علماء الإسلام بأحاديث المهدي وإخراجها وتحقيقها وتثبيت الإيمان بها في القلوب اهتماماً كبيراً، فمضافاً إلى إخراجها في كتب السُّنن والجوامع والمسانيد وغيرها أفردوا فيما جاء فيه من الأحاديث والآثار كتباً كثيرة، وقفتُ على ما يربو على الثلاثين ممّا أفرده أكابر أهل السنّة في ذلك، مثل: كتاب «البيان في أخبار صاحب الزمان» و «القول المختصر في علامات المهدي المنتظر» و «عقد الدُرَر» و «العُرف الوَردي» وغيرها من الكتب التي أقلّ ما يثبت بها هو أنّ العقيدة بالمهدية عقيدة إسلامية، أصلها ثابت في الكتاب والسنّة، وأ نّها عقيدة جميع السلف والصحابة والتابعين، لا تختصُّ بفِرقة من فِرق المسلمين، وهي أحد البراهين على ختم رسالات السماء بنبيِّنا محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله و سلم، وأنّ شريعته لا تُنسَخ أبداً، وأنّ المهدي عليه السلام - كما اختار أبو داود في سننه في كتاب «المهدي» ودلت عليه الأحاديث الصحيحة - خليفته الثاني

ص: 133

عشر، الذين بشّر الرسول الأعظم الاُمّة بهم في الأحاديث المروية بطرق كثيرة في المسند والصحيحين وغيرها.

ومن أراد الاطّلاع على قوة ما استند عليه المسلمون في العقيدة بالمهدية، وكثرة أحاديثها ومخرجيها، واشتهارها بين علماء المسلمين فليراجع كتب الجوامع والسنن والمسانيد والتفاسير والتاريخ والرجال واللغة وغيرها، ليعرف أنّ استقصاء هذه الأحاديث والكتب المخرجة فيها صعب جداً، ونحن نسرد الكلام فيما جاء في كتاب واحد حول هذا الموضوع كنموذج منها، ودليل على كثرة ما في غيره، وهو كتاب «البرهان في علامات مهدي آخر الزمان».

فنقول بحول اللّه تعالى وقوته: أمّا الكتاب والمؤلّف، فهما غنيّان عن التعريف؛ لأنّ الكتاب معروف، توجد نسخه المخطوطة في عدة من المكتبات الكبيرة، وطبع أخيراً من النسخة الفتوغرافية التي مخطوطتها محفوظة في مكتبة المسجد الحرام بمكة المكرمة، ورأيت نسخة مخطوطة منه ومحفوظة في مكتبة جامع المغفور له الإمام البروجردي بقم.

وأمّا مؤلّفه فهو العالم الكبير المحدّث عليّ بن حسام الدين بن عبدالملك المتقي الشاذلي المديني الهندي، المتوفّى سنة سبع وسبعين وتسعمائة، مشهور، ترجمته موجودة في كتب التراجم، كما أ نّها مذكورة في مقدمة النسخة المطبوعة من كتابه هذا.

وأمّا ما جاء في هذا الكتاب ممّا أردنا الاطّلاع عليه جملةً فهي أسماء المشايخ والمحدّثين وأرباب الجوامع والسنن والمسانيد، الذين خرّجوا هذه

ص: 134

الأحاديث في كتبهم، وأخرجها مؤلف هذا الكتاب عنهم، وأسماء جماعة من المشاهير والتابعين الذين رووا هذه الأحاديث والآثار، وأسماءجمع من الصحابة الذين رووها عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله. وإليك أسماءهم:

أسماء المشايخ وأرباب الجوامع:

1 - الطبراني.

2 - أبو نعيم الإصبهاني.

3 - الخطيب البغدادي.

4 - ابن أبي شيبة.

5 - نعيم بن حماد، أحد شيوخ البخاري.

6 - الحاكم.

7 - أحمد بن حنبل.

8 - الماوردي.

9 - البزّار.

10 - التِرمذي.

11 - الدارقطني.

12 - ابن ماجة.

ص: 135

13 - أبو يعلى الموصلي.

14 - ابن عساكر.

15 - مسلم.

16 - الثعلبي.

17 - أبو داود.

18 - ابن الجوزي.

19 - ابن أبي اسامة.

20 - تمام البجلي.

21 - الروياني.

22 - ابن مندة.

23 - الحسن بن سفيان الشيباني.

24 - عثمان بن سعيد الداني.

25 - أبو الحسن الحربي.

26 - ابن كثير.

27 - ابن سعد.

28 - الواقدي.

29 - أبو بكر بن المقري.

ص: 136

30 - ابن المنّاوي.

31 - أبو غنم الكوفي.

32 - ابن مردويه.

33 - ابن خزيمة.

34 - أبو عوانة.

35 - أبوبكر الإسكافي.

36 - الدَيلمي.

37 - القُرطُبي.

38 - ابن لُهيعة.

39 - أبوبكر أحمد البيهقي.

40 - أبو الحسن الآبري.

41 - ابن حبّان.

42 - أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد اللّه بن صدقة.

أسماء المشاهير من التابعين وغيرهم:

1 - عاصم بن عمرو البجلي.

2 - سعيد بن المسيّب.

ص: 137

3 - أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام.

4 - إسحاق بن يحيى.

5 - شهر بن حوشب.

6 - الزُهري.

7 - مطر الوراق.

8 - طاووس.

9 - صبّاح.

10 - عمرو بن علي.

11 - مكحول.

12 - كعب بن علقمة.

13 - قتادة.

14 - عبد اللّه بن الحارث.

15 - محمد بن جبير.

16 - أرطاة بن منذر.

17 - حكم بن عُيينة.

18 - أبو قبيل.

19 - ابن أبي طلحة.

ص: 138

20 - كثير بن مرّة.

21 - ابن سيرين.

22 - مجاهد.

23 - خالد بن سعد.

24 - أبو مريم.

25 - شريك.

26 - أبو أرطاة.

27 - ضمرة بن حبيب.

28 - حكم بن نافع.

29 - خالد بن معدان.

30 - محمد بن الحنفية.

31 - السدي.

32 - سليمان بن عيسى.

33 - بقية بن الوليد.

34 - وليد بن مسلم.

35 - قيس بن جابر.

36 - عمرو بن شعيب.

ص: 139

37 - ابن شوذب.

38 - دينار بن دينار.

39 - معمر.

40 - فضل بن دكين.

41 - سالم بن أبي الجعد.

42 - محمد بن صامت.

43 - حكيم ابن سعد.

44 - إبراهيم بن ميسرة.

45 - أبو امية.

أسماء الصحابة والصحابيات:

1 - أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

2 - عمار بن ياسر.

3 - حذيفة بن اليمان.

4 - أبو سعيد الخدري.

5 - طلحة بن عبيداللّه.

6 - ابن عمر.

ص: 140

7 - عبد اللّه بن مسعود.

8 - جابر بن عبد اللّه.

9 - عبد الرحمان بن عوف.

10 - عمر بن الخطاب.

11 - ابن عباس.

12 - أبو هريرة.

13 - أنس بن مالك.

14 - أبو أمامة.

15 - الهلالي.

16 - أبو الطفيل.

17 - الحسن عليه السلام.

18 - الحسين عليه السلام.

19 - ثوبان.

20 - ابَيُّ بن كعب.

21 - جابر بن سمرة.

22 - جابر الصدفي.

23 - عمرو بن العاص.

ص: 141

24 - عبد اللّه بن عمرو بن العاص.

25 - امّ سلمة.

26 - عائشة.

27 - أسماء بنت عُميس.

28 - امّ حبيبة.

ثمّ إنَّا بعد ذلك رأينا لمزيد بصيرة القارئ، ولعدم خلوّ هذه الرسالة من متون هذه الأحاديث، ولأجل كسب الثواب الموعود في أحاديث «من حفظ على امّتي، أو من امّتي...)(1)، إخراج أربعين حديثاً من أحاديث هذا الكتاب التي تربو على مائتين، في هذه الرسالة فيما يلي، وما توفيقي إلّاباللّه.

1 - أخرج أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجة ونعيم بن حمّاد، في الفتن، عن عليٍّ عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: المهديّ منّا أهل البيت، يصلحه اللّه في ليلة»، (ب 2، ص 89، ح 1).

2 - وأخرج أبو داود وابن ماجة والطبراني والحاكم، عن امّ سلمة، قالت:

سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «المهديُّ من عترتي، من ولد فاطمة»، (ب 2، ص 89، ح 2).).

ص: 142


1- نقل عن الشافعي أ نّه قال في هذه الأحاديث: المراد: الحديث في مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام، ولهذا حكاية عجيبة عن أحمد بن حنبل تطلب من كتاب الأربعين للشيخ أبي الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس (المتوفّى في سنة 412 ه).

3 - وأخرج الحاكم وابن ماجة وأبو نعيم عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «نحن سبعة ولد عبد المطّلب سادة أهل الجنة: أنا، وحمزة، وعلي، وجعفر، والحسن، والحسين، والمهدي»، (ب 2، ص 89، ح 3).

4 - وأخرج الترمذي وصحّحه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

«لو لم يبق من الدنيا إلّايوم، لطوّل اللّه ذلك اليوم، حتى يلي المهديّ»، (ب 2، ص 90، ح 2).

5 - وأخرج الطبراني في الأوسط من طريق عمرو بن علي، عن علي بن أبي طالب عليه السلام أ نّه قال للنبي صلى الله عليه و آله: «أمِنّا المهدي أم من غيرنا يا رسول اللّه؟ قال: بل منّا، بنا يختم اللّه، كما بنا فتح، وبنا يُستنقَذون من الشرك، وبنا يؤلِّف اللّه بين قلوبهم بعد عداوة الشرك»، (ب 2، ص 91، ح 7).

6 - وأخرج نعيم بن حمّاد، وأبو نعيم من طريق مكحول، عن علي، قال:

«قلت: يا رسول اللّه، أمِنّا آل محمدٍ المهدي، أم من غيرنا؟ فقال: لابل منّا، يختم اللّه به الدين كما فتح، بنا ينقذون من الفتنة كما انقذوا من الشرك، وبنا يؤلِّف اللّه بين قلوبهم، وبنا يصبحون بعد عداوة الفتنة إخواناً، كما أصبحوا بعد عداوة الشرك إخواناً في دينهم»، (ب 2، ص 91، ح 8).

7 - وأخرج الحارث بن أبي اسامة وأبو نعيم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لتملأنّ الأرض ظلماً وعدواناً، ليخرجنّ رجل من أهل بيتي حتى يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت عدواناً وظلماً»، (ب 2، ص 91 و 92،

ص: 143

ح 10).

8 - أخرج الطبراني في الكبير، وأبو نعيم، عن ابن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «يخرج رجل من أهل بيتي، يواطيء اسمه اسمي، وخلقه خلقي، يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»، (ب 2، ص 92، ح 11).

9 - وأخرج أبو نعيم، عن حذيفة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «وَيحَ هذه الاُمّة من ملوكٍ جبابرة، يقتلون ويُخيفون المطيعين إلّامن أظهر طاعتهم، فالمؤمن التقي ليصانعهم بلسانه ويفرّ منهم بقلبه وجنانه. فإذا أراد اللّه تعالى أن يعيد الإسلام عزيزاً قصم كلَّ جبّار عنيد، وهو القادر على ما يشاء أن يصلح امّة بعد فسادها. يا حذيفة، لو لم يبقَ من الدنيا إلّايوم لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يملك من أهل بيتي رجل، تجري الملاحم على يديه، ويُظهِر الإسلام، لا يُخلف وعده، وهو سريع الحساب»، (ب 2، ص 92، ح 12).

10 - أخرج الحسن بن سفيان وأبو نعيم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لو لم يبقَ من الدنيا إلّاليلة ليملك فيها رجل من أهل بيتي»، (ب 2، ص 92، ح 13).

11 - أخرج الروياني في مسنده، وأبو نعيم، عن حذيفة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «المهديُّ رجل من ولدي، لونه لون عربي، وجسمه جسم إسرائيلي، على خده الأيمن خال كأ نّه كوكب درّي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضى في خلافته أهل الأرض وأهل السماء والطير

ص: 144

في الجو»، (ب 2، ص 93 و 94، ح 16).

12 - أخرج أبو نعيم، عن الحسين عليه السلام: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال لفاطمة: «يا بنيَّةُ، المهدي من ولدكِ»، (ب 2، ص 94، ح 17).

13 - وأخرج ابن عساكر، عن الحسين عليه السلام، أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «أبشري يا فاطمة، المهدي منكِ»، (ب 2، ص 94، ح 17).

14 - أخرج الطبراني في الكبير، وأبو نعيم، عن الهلال(1): أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال لفاطمة: «والذي بعثني بالحقِّ، منهما - يعني الحسن والحسين - مهدي هذه الاُمّة إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً، وتظاهرت الفتن، وتقطّعت السُبُل، وأغار بعضهم على بعض، فلا كبير يرحم صغيراً، ولا صغير يوقّر كبيراً، يبعث اللّه عند ذلك منهما من يفتح حصون الضلالة وقلوباً غفلاً، يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان، ويملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جوراً»، (ب 2، ص 94 و 95، ح 19).

15 - وأخرج أيضاً (يعني نعيم بن حماد) عن عليّ وعائشة، عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «المهدي رجل من عترتي، يقاتل على سنّتي كما قاتلت أنا على الوحي»، (ب 2، ص 95، ح 21).

16 - وأخرج أيضاً، عن عليّ عليه السلام، قال: «المهدي رجل منّا، من ولد فاطمة»، (ب 2، ص 95، ح 23).).

ص: 145


1- في بعض النسخ (الهلالي).

17 - وأخرج الطبراني، عن عوف بن مالك: أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «تجيء فتنة غبراء مظلمة، تتّبع الفتن بعضها بعضاً، حتى يخرج رجل من أهل بيتي يقال له: المهدي، فإن أدركته فاتّبعه، وكن من المهتدين»، (ب 4، ف 1، ص 103، ح 20).

18 - وأخرج الداني، عن الحكم بن عُيينة، قال: قلت لمحمد بن علي:

سمعت أ نّه سيخرج منكم رجل يعدل في هذه الاُمّة، قال: «إنّا نرجو ما يرجو الناس، وإنّا نرجو لو لم يَبق من الدنيا إلّايوم لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يكون ما ترجو هذه الاُمّة، وقبل ذلك فتن شر فتنة، يُمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً، فمن أدرك ذلك منكم فليتّقِ اللّه، وليكن من أحلاس بيته»، (ب 4، ف 1، ص 104، ح 7).

19 - وعن عمّار بن ياسر: «إذا قتلت النفس الزكية، وأخوه تقتل بمكة صنيعة، نادى منادٍ من السماء: أنّ أميركم فلان، وذلك المهدي، الذي يملأ الأرض حقّاً وعدلاً»، أخرجه الإمام أبو عبد اللّه نعيم بن حمّاد في كتاب الفتن.

(ب 4، ف 2، ص 112، ح 7).

20 - أخرج الطبراني في الأوسط، عن طلحة بن عبيد اللّه، عن النبي صلى الله عليه و آله:

«ستكون فتنة، لايهدأ منها جانب إلّاجاشَ منها جانب، حتى ينادي منادٍ من السماء: أنّ أميركم فلان»، (ب 1، ص 71، ح 1).

21 - أخرج أبو نعيم، والخطيب في تلخيص المتشابه، عن ابن عمر، قال:

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يخرج المهدي وعلى رأسه ملك ينادي: أنّ هذا مهدي

ص: 146

فاتبعوه»، (ب 1، ص 72، ح 2).

22 - وأخرج أبو نعيم، عن علي، قال: «إذا نادى منادٍ من السماء: أنّ الحقَّ في آل محمد، فعند ذلك يظهر المهدي على أفواه الناس، ويُشرَبُون حُبَّه، ولايكون لهم ذكر غيره»، (ب 1، ص 73، ح 4).

23 - وأخرج أيضاً (يعني نعيم بن حمّاد)، عن شهر بن حوشب، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «في المحرم ينادي منادٍ من السماء: ألا إنّ صفوة اللّه (من خلقه) فلان فاسمعوا له، أطيعوه في سنة الصوت المعمعة»، (ب 1، ص 75، ح 9).

24 - وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، قال: «تختلف ثلاث رايات:

راية بالمغرب، وراية بالجزيرة، وراية بالشام، تدوم الفتنة بينهم سنة - ذكرخروج السفياني وما يفعله من الظلم والجور، ثمّ ذكر خروج المهدي ومبايعة الناس له بين الركن والمقام، وقال: - يسير بالجيوش حتى يسير بوادي القرى في هدوء ورفق، ويلحقه هناك ابن عمّه الحسني في اثني عشر ألف فارس، فيقول له: يا ابن عم، أنا أحق بهذا الجيش منك، أنا ابن الحسن وأنا المهدي. فيقول له المهدي: بل أنا المهدي. فيقول له الحسني: هل لك من آية فاُبايعك؟ فيومي المهدي إلى الطير فيسقط على يديه، ويغرس قضيباً.. فيخضرّ ويُورِق. فيقول له الحسني: ياابن عمي، هي لك»، (ب 1، ص 76 و 77، ح 15)(1).ر.

ص: 147


1- هذا الحديث يدلُّ على أنّ المهدي عليه السلام من ولد الحسين عليه السلام، كما دلّت عليه أخبار كثيرة ذكرناها في منتخب الأثر.

25 - وأخرج نعيم، وأبو نعيم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

«يكون عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن رجل يقال له: المهدي، يكون عطاؤه حثياً»، (ب 1، ص 84، ح 33).

26 - وأخرج أبو نعيم، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يكون عند انقطاع من الزمان، ليبعثن اللّه من عترتي رجلاً، أفرق الثنايا، أجلى الجبهة، يملأ الأرض عدلاً، يفيض المال فيضاً»، (ب 1، ص 84، ح 32).

27 - وأخرج أحمد ومسلم، عن أبي سعيد وجابر، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «يكون في آخر الزمان خليفة يقسّم المال ولايعدّه»، (ب 1، ص 83، ح 28).

28 - وعن حذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه و آله في قضية المهدي عليه السلام ومبايعته بين الركن والمقام، وخروجه متوجّهاً إلى الشام، قال: «وجبرائيل على مقدِّمته، وميكائيل على ساقته، يفرح به أهل السماء والأرض، والطير والوحش، والحيتان في البحر». أخرجه أبو عمر وعثمان بن سعيد المقري في سُننه.

(ب 1، ص 77، ح 16).

29 - وأخرج أحمد والباوردي في المعرفة، وأبو نعيم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «بشراكم بالمهدي، رجل من قريش من امّتي على اختلاف من الناس وزلازل، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ويرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، ويقسم المال صحاحاً

ص: 148

بالسوية بين الناس، ويملأ قلوب أمة محمد غنى، ويسعهم عدله حتى أ نّه يأمر منادياً فينادي: من له حاجة؟ فما يأتيه أحد إلّارجل واحد، يأتيه يسأله، فيقول: ائت السادِن يعطيك، فيأتيه، فيقول: أنا رسول المهدي إليك لتعطيني مالاً. فيقول: إحثِ، فيحثى، فلا يستطيع أن يحمله، فيخرج به ويندم، فيقول: أنا كنت أجشع امة محمد نفساً، كلهم دعى إلى هذا المال فتركه غيري، فيرده عليه، فيقول: إنّا لانقبل شيئاً أعطينا، فيلبث في ذلك ستاً أو سبعاً أو تسع سنين، ولا خير في الحياة بعده»، (ب 1، ص 79 و 80، ح 21).

30 - وأخرج أيضاً عن عبد اللّه، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه و آله (المهدي منا، أجلى الجبهة، أقنى الأنف) (ب 3، ح 3، ص 99).

31 - وأخرج نعيم بن حماد عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «ستكون بعدي فتن، منها فتنة الأحلاس، يكون فيها حرب وهرب، ثمّ بعدها فتنة أشد منها، ثمّ تكون فتنة. كلما قيل انقطعت تمادت حتى لايبقى بيت إلّادخلته، ولا مسلم إلّاملته حتى يخرج رجل من عترتي»، (ب 4، ص 103، ح 3).

32 - وأخرج نعيم عن علي، قال: «لا يخرج المهدي حتى يقتل ثلث، ويموت ثلث، ويبقى ثلث» (ب 4، ف 2، ص 111 و 112، ح 4).

33 - وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد، قال: حدَّثني فلان - رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله -: «أن المهدي لايخرج حتى تُقتل النفس الزكية، فإذا قتلت

ص: 149

النفس الزكية غضب عليهم من في السماء ومن في الأرض، فأتى الناس، فزفوه كما تزف العروس إلى زوجها ليلة عرسها، وهو يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وتنعم امّتي في ولايته نعمة لم تنعمها قطّ»، (ب 4، ف 2، ص 112، ح 6).

34 - وأخرج أبو عمرو الداني في سننه، عن حذيفة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يلتفت المهدي وقد نزل عيسى بن مريم كأ نّما يقطر من شعره الماء.

فيقول المهدي: تقدَّم، صَلِّ بالناس. فيقول عيسى: إنّما اقيمت الصلاة لك، فيصلّي خلف رجل من ولدي»، (ب 9، ص 160، ح 9).

35 - وأخرج الطبراني في الأوسط، والحاكم، عن امّ سلمة، قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يبايع الرجلَ بين الركن والمقام عدةُ أهل بدر، فتأتيه عصائب أهل العراق وأبدال أهل الشام، فيغزوه جيش من أهل الشام حتى انتهوا بالبيداء خَسَف بهم»، (ب 4، ف 2، ص 117، ح 18).

36 - وعن محمد بن الحنفية رضى الله عنه، قال(1): كنّا عند علي عليه السلام، فسأله رجل عن المهدي؟ فقال: «هيهات هيهات! ثمّ عقد بيده تسعاً، فقال: ذلك يخرج في آخر الزمان(2) ، وإذا قيل للرجل: اللّه اللّه قيل(3) ، فيجمع اللّه له قوماً قزعاً كقزعه.

ص: 150


1- يعني: وأخرج نعيم، عن محمد بن الحنفية.
2- قيل في معنى ذلك: إنّه عقد بيده تسعاً عدد الأئمة التسعة من ولد الحسين عليه السلام، فلمّا بلغ إلى المهدي عليه السلام قال: ذلك يخرج في آخر الزمان.
3- الظاهر أنّ الصحيح هكذا: (إذا قال الرجل: اللّه تعالى قُتِل)، كما في كشف الأستار، وقال: أخرجه الحافظ أبو عبد اللّه الحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم، ولم يُخرِجاه.

السحاب يؤلّف بين قلوبهم، لايستوحشون على أحد، ولايفرحون بأحد، دخل فيهم على عدة أصحاب بدر، لم يسبقهم الأوّلون ولا يُدركهم الآخرون، وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه»، (ب 6، ص 144، ح 8).

37 - وأخرج ابن ماجة، والطبراني، عن عبد اللّه بن الحارث ابن جزء الزبيدي، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يخرج ناس من المشرق، فيوطئون للمهدي سلطانه»، (ب 7، ص 147، ح 2).

38 - وأخرج أبو غنم الكوفي في كتاب الفتن، عن عليّ بن أبي طالب، قال: «ويحاً للطالقان! فإن للّه بها كنوزاً ليست من ذهب ولا فضّة، ولكن بها رجال عرفوا اللّه حقَّ معرفته، وهم أنصار المهدي في آخر الزمان»، (ب 7، ص 150، ح 14).

39 - وأخرج أبونعيم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «منّا الذى يصلِّي عيسى بن مريم خلفه»، (ب 9، ص 158، ح 1).

40 - وأخرج أبو بكر الإسكافي في فوائد الأخبار، عن جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «مَن كذّب بالدجّال فقد كفر، ومن كذّب بالمهدي فقد كفر»، (ب 12، ص 170، ح 2).

والحمد للّه تعالى على ما شرَّفني بإخراج هذه الأربعين حديثاً من

ص: 151

الأحاديث في المهدي عليه السلام، ومن أراد التوسّع في ذلك فعليه بتتبّع كتب المسانيد والجوامع، والموسوعات الكبيرة كالبحار و العوالم، وكتاب كمال الدين للصدوق، والغيبة للشيخ الطوسي، وكفاية الأثر وكتابنا منتخب الأثر.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

قم المشرفة - لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

12 رجب الخير - 1401

ص: 152

عصمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام

اشارة

ص: 153

ص: 154

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

من أعظم ما بُني عليه اليقين بصدق الأنبياء ورسالاتهم السماويّة إلى الرسالة الختميّة الخالدة المحمديّة، وأمان المهتدي بهدى أئمّة أهل البيت عليهم السلام من الضّلال، عصمتهم عن المعاصي والخطأ والسهو والنسيان قد أشبع الكلام فيه علماء الإسلام بما لا مزيد عليه؛ وهذه رسالة فيها بعض ما يتعلّق بالعقيدة بعصمة الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام وعلمهم، وعلى طالب المزيد والتفصيل مطالعة كتب الأساطين كالمفيد والشيخ والخواجة والعلّامة وغيرهم أعلى اللّه مقامهم وشكر اللّه مساعيهم الجميلة.

ص: 155

ص: 156

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وردتنا رسالة من رئيس الجماعة الإسلامية (عادل جوهر) في أمريكا وكندا، تتضمن ثلاثة أسئلة، ترجع كلّها إلى مسألة العصمة في الأئمة الأطهار من أهل البيت النبوي، وقد رفعنا هذه الأسئلة إلى العلامة الحجة آية اللّه الشيخ لطف اللّه الصافي دام ظله، علماً بأنّ سماحته أحد الأبطال في المباحث الاعتقادية، وخاصة ما يتعلق منها بالولاية، فتفضلّ - دام ظله - بتدوين رسالة مفصلّة وافية بالمراد وشافية لغليل السائل، وقد سلّمنا نسخة من هذه الرسالة إلى مندوب الجماعة، حتى يبعثها إلى الجماعة الإسلامية.

ونظراً لأهمية محتويات هذه الرسالة العقائدية قمنا بنشرها ملحقة بكتاب أقطاب الدوائر التي تدور مسائلها حول آية التطهير، التي هي من أوضح دلائل العصمة في أهل البيت عليهم السلام.

ونحن عندما نقوم بطبع هذه الرسالة الجوابية القيّمة ننشر معها نصّ رسالة

ص: 157

الجماعة؛ تدليلاً على اهتمامهم بهذه الاُمور، وإلفاتاً لنظر المفكرين الإسلاميين إلى مايدور في أذهان المسلمين القاطنين في تلكم الديار. واللّهَ نسأل التوفيق والهداية، إنه سميع الدعاء.

17 ربيع الاول - 1403 هجرية

ص: 158

نصّ الرسالة وأسئلتها:

سماحة العلامة الاُستاد الشيخ جعفر السبحاني دامت إفاضاته.

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

وبعد، إنّنا في الجماعة الإسلامية في أمريكا وكندا نعتزّ أشدّ الاعتزاز بورثة الأنبياء والعترة الطاهرة عليهم السلام، علمائنا الأعلام، حفظهم اللّه تعالى.

ومن جملة النشاطات التي نقوم بها: إصدار مجلّة إسلامية «الرسالة»؛ كي نقوم بجزء يسير من الأعباء والمسؤوليات الكبيرة الملقاة على عاتقنا في بلاد الغربة.

وإنّنا في الحقيقة بحاجة ماسّة إلى البحوث والمقالات الإسلامية، وبحاجة إلى مشاركة العلماء الأجلّاء في دعم تطور مجلّة «الرسالة».

وإنّنا نودّ من سماحتكم التفضّل بالإجابة على الأسئلة التالية، ويفضل أن تكون الإجابة على هيئة بحث علمي، كما نودّ أن تجيزونا بنشرها.

ص: 159

1 - ما هي أدلة عصمة الأئمة عليهم السلام من مصادر التشريع الإسلامي؟ وما هو نوعها؟ وما هو الفرق بينها وبين عصمة الأنبياء؟

2 - هل يزداد علم الإمام المعصوم عليه السلام مع الأيام؟ وهل أنّ علمه عليه السلام قبل تولية الإمامة يختلف عنه قبل ذلك؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكننا والحالة هذه الحكم بأفضلية الإمام علي عليه السلام على الإمام الجواد، الذي تولّى الإمامة وهو ابن تسع سنين؟

3 - كيف يمكننا درء الشبهة القائلة باختلاف مستويات الأئمّة إيماناً وعلماً وخلقاً، وذلك باعتبار ما يرويه لنا التاريخ من سيرهم؟

وختاماً أسأل اللّه عزّ وجلّ أن يتّسع وقتكم للإجابة على هذه الأسئلة، التي تتخذ أهمية بالغة في مثل ظروفناالحالية، وأسأله تعالى أن يوفّقكم وإيّانا لتحقيق ما فيه رضاه. والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

رئيس الجماعة الإسلامية

عادل جوهر

الثلاثاء، 14 جمادي الآخرة، سنة 1402 ه

ص: 160

جواب آية اللّه الصافي:

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، سيما سيدهم أبي القاسم محمد وآله الطاهرين المعصومين.

وبعد، فهذه رسالة وجيزة في الجواب عن أسئلة أرسلها بعض الإخوان الأزكياء من أهل الدعوة إلى هدى الإسلام في آمريكا إلى أحد أصدقائي من العلماء وأساتذة الحوزة العلمية، كتبتها التماساً للثواب، وامتثالاً لأمر هذا الصديق العزيز أدام اللّه أيامه، ونفّع المسلمين بعلومه وبركاته.

والكلام بالنظر إلى الأسئلة يقع في مباحث:

المبحث الأوّل: في عصمة الأنبياء والائمة عليهم السلام

المبحث الثاني: في علم الإمام عليه السلام

ص: 161

المبحث الثالث: في اختلاف مستويات الائمة عليهم السلام في الإيمان والعلم والأخلاق.

ص: 162

المبحث الأول: في عصمة الأنبياء والأئمة عليهم الصلاة والسلام

اشارة

وهذا سؤاله بلفظه عنها:

ما هي أدلة عصمة الأئمة عليهم السلام من مصادر التشريع الإسلامي؟ وما هو نوعها؟ وما هو الفرق بينها وبين عصمة الأنبياء؟

والجواب على هذا السؤال يأتي في طيِّ مسائل:

المسألة الأولى: ماهي العصمة؟

المسألة الثانية: ما أنواع العصمة؟ وما النوع الّذي يجب اتّصاف النبي والإمام به؟

المسألة الثالثة: الأدلّة على عصمة الأنبياء والائمة.

ص: 163

المسألة الرابعة: ماهي الدلائل العقليّة على عصمة الأنبياء والائمة؟

المسألة الخامسة: ماهي أدلّة عصمتهم من مصادر التشريع الإسلامي؟

ص: 164

المسألة الاُولى: ما هي العصمة؟

الجواب:

أنّ العصمة قوة قدسية، وبصيرة ملكوتية، ونورانية ربانية راسخة في النفس، يَحفظ بها صاحبها نفسه عن القبائح، وعن إتيان كلّ ما في فعله الانصراف عن الحق ونسيان المولى.

وإن شئت قلت: هي حضور خاصّ للعبد عند مولاه لا يرتكب معه ما ينافي هذا الحضور، فلا يشتغل في هذا الحضور إلّابما يناسبه، ففي مثل هذا الموقف الأقدس لا ذنب ولا معصية ولاانصراف عن اللّه تعالى وهذا مقام رفيع لايناله ولايفوز به إلّاعباد اللّه المخلصون الكاملون، الذين ليس لغير اللّه سلطان عليهم، وهم الأنبياء والأئمة عليهم السلام.

ص: 165

وإن شئت مثالاً لذلك والمثال لا يُسئَل عنه، فانظر إلى نفسك إذا كنت طالباً لسلعةٍ ما فإنّك تذهب إلى السوق لشرائها، فيعرضها البائع لك بدينار، وآخر بدينارين، ولاشكّ أ نّك مختار في اشترائها من الأول أو الثاني، لكن لاتشتريها إلّا من الأول؛ لِما فيكَ من قوة التميز بين نفعك وضررك، والمعصوم في صفاء النفس، والاتصال بعالم الغيب، وقوة الإدرك حتى في ترك الأولى كترك المستحبّات وفعل المكروهات أصفى نفساً منك ومن غيرك نفساً.

وبالجمة: فالحضور ضد الغياب، والتوجّه ضد الانصراف، فمَن كان في محضر المولى ليس بغائب عنه، ومن ذاق حلاوة قربه ومؤانسته لايبتغي عنها بدلاً، ومَن جلس على بساط عبادته وأدرك لذّة مناجاته يقول كما قال زين العابدين عليه السلام:

«متى راحة مَن نصب لغيرك بدنه، ومتى فرح من قصد سواك بنيته؟»(1).

قال العلامة الجليل السيد عبداللّه شبر: (العصمة عبارة عن قوة العقل من حيث لايغلب مع كونه قادراً على المعاصي كلّها كجائز الخطأ، وليس معنى العصمة أنّ اللّه يجبره على ترك المعصية، بل يفعل به ألطافاً يترك معها المعصية باختياره، مع قدرته عليها، كقوة العقل، وكمال الفطانة، والذكاء، ونهاية صفاء النفس، وكمال الاعتناء بطاعة اللّه تعالى، ولو لم يكن قادراً على المعاصي بل كان مجبوراً على الطاعات لكان منافياً للتكليف، ولاإكراه في الدين، والنبي صلى الله عليه و آله أول0.

ص: 166


1- الصحيفة السجادية: ص 165؛ بحار الأنوار: ج 46 ص 40.

من كُلّف، حيث قال: [فَأَنَا أَوَّلُ العابِدينَ](1) و [أَنَا أَوَّلُ المُسلِمينَ](2) وقال تعالى: [وَاعْبُد رَبَّكَ حَتَّى يَأتيَكَ اليَقينُ](3).

ولأ نّه لو لم يكن قادراً على المعصية لكان أدنى مرتبة من صلحاء المؤمنين، القادرين على المعاصي التاركين لها(4).

وقال الشريف الأجلّ شارح الصحيفة: العصمة في اللغة: اسم مِن عَصَمَهُ اللّهُ من المكروه يَعصِمُه (باب ضرب)، بمعنى حفظه ووقاه.

وفي العرف: فيض إلهي يقوى به العبد على تحرّي الخير وتجنّب الشر...

إلى آخره(5).

وقال الراغب: (وعصمة الأنبياء حفظه إيّاهم أوّلاً بما خصّهم به من صفاء الجوهر، ثمّ بما أولاهم من الفضائل الجسمية والنفسية، ثمّ بالنصرة وبتثبت أقدامهم، ثمّ بإنزال السَكِينة عليهم، وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق)(6).

وقال الشيخ الأكبر المفيد قدس سره: (العصمة من اللّه لحججه هي التوفيق، واللطف والاعتصام من الحجج بها من الذنوب والغلط في دين اللّه تعالى،).

ص: 167


1- الزخرف: الآية 81.
2- الأنعام: الآية 163.
3- الحجر: الآية 99.
4- حق اليقين: ج 1 ص 90.
5- رياض السالكين: الروضة السادسة عشرة.
6- مفردات القرآن للراغب الإصفهاني، في مادة (عصم).

والعصمة تفضّل من اللّه تعالى على مَن علم أ نّه يتمسّك بعصمته، والاعتصام فعل المعتصم، وليست العصمة مانعة من القدرة على القبيح، ولامضطرّة للمعصوم على الحسن، ولاملجئة له إليه)(1).

وقال أيضاً رضوان اللّه تعالى عليه: (العصمة لطف يفعله اللّه بالمكلّف بحيث يمنع عنه وقوع المعصية، وترك الطاعة مع قدرته عليها)(2).

وقال العلّامة الحلّي رحمه الله: (هي ما يمتنع المكلف معه من المعصية متمكّناً فيها، ولايمتنع فيها عدمها)(3).

وقال الفاضل السيوري قدس سره: (قال أصحابنا ومن وافقهم من العدلية: هي لطف يفعله اللّه بالمكلّف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية؛ لانتفاء داعيه، ووجود صارفه، مع قدرته عليها، ووقوع المعصية ممكن نظراً إلى قدرته، وممتنع نظراً إلى عدم الداعي ووجود الصارف، وإنّما قلنا بقدرته عليها لأنّه لولاه لَما استحقّ مدحاً ولاثواباً؛ إذ لااختيار له حينئذٍ؛ لأنّهما يستحقّان على فعل الممكن وتركه، لكنّه يستحقّ المدح والثواب لعصمته إجماعاً فيكون قادراً)(4).

وقالت الأشاعرة: (هي القدرة على الطاعة، وعدم القدرة على3.

ص: 168


1- تصحيح الاعتقاد: ص 214.
2- النكت الاعتقادية: ص 45.
3- كتاب الألفين: المبحث السابع، وراجع في ذلك كلامه في شرح تجريد الاعتقاد، المسألة الثانية من المقصد الخامس.
4- اللوامع الإلهية: ص 243.

المعصية)(1).

وقال بعض الحكماء: (إنّ المعصوم خلقه اللّه جبلّة صافية، وطينة نقية، ومزاجاً قابلاً، وخصّه بعقل قوي وفكر سوي، وجعل له ألطافاً زائدة، فهو قوي بما خصّه على فعل الواجبات واجتناب المقبحات، والالتفات إلى ملكوت السماوات، والإعراض عن عالم الجهات، فتصير النفس الأمارة مأسورة مقهورة في حيِّز النفس العاقلة.

وقيل: هو المختصّ بنفسٍ هي أشرف النفوس الإنسانية، ولها عناية خاصة وفيض خاصّ، يتمكّن به من أسر القوة الوهمية والخيالية، الموجبتين للشهوة والغضب، المتعلّق كلّ ذلك بالقوة الحيوانية).

ولبعضهم كلام حسن جامع هنا حيث قال: (العصمة ملكة نفسانية يمنع المتّصف بها من الفجور مع قدرته عليه، وتتوقّف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي، ومناقب الطاعات لأنّ العفّة متى حصلت في جوهر النفس، وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاوة والطاعة من السعادة صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس، فتصير ملكة، ثمّ إنّ تلك الملكة إنّما تحصل له بخاصية نفسية أو بدنية تقتضيها، وإلّا لكان اختصاصه بتلك الملكة دون بني نوعه ترجيحاً من غير مرجّح، ويتأكّد ذلك العلم بتواتر الوحي، وأن يعلمة.

ص: 169


1- لايخفى عليك بطلان هذه المقالة لأنّ القدرة على الطاعة لا تُحقَّق إلّامع القدرة على تركها، والقدرة على ترك الطاعة هي القدرة على المعصية.

المؤاخذة على ترك الأولى)(1).

أقول: لاريب أنّ الاختصاص بتلك الملكة إنّما يكون بجهة مرجّحة يعلمها اللّه تعالى، وليس علينا السؤال عن هذه الجهة، وهذا كاختصاص كثير من المخلوقات بل كلّها بأوصاف خاصة، واختلافهم في الأفراد والأنواع، واختصاص السماء والأرض بالخلق وغير ذلك.

وما هو المعلوم عقلاً وشرعاً أنّ كلّ ذلك لم يكن عبثاً، ومن خلق هذا الخلق وجعل هذا النظام المتقن في كلّه وأجزائه لم يكن لاعباً وعابثاً، فالنظام الحاكم على عالم الإنسان، والحاكم على عالم الحيوان والنباتات بأنواعها والجمادات تشهد بحكمه كلّ تلك المخلوقات وتقدّسه عن اللغو والعبث.

وقال سبحانه وتعالى في وصف اولي الألباب:

[وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلقِ السَّمواتِ وَالأرضِ رَبَّنا ما خَلَقتَ هذَا باطِلاً سُبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ](2).

وقال تعالى: [وَمَا خَلقنَا السَّماءَ والأرضَ وَمَا بَينَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الّذينَ كَفَرُوا فَوَيلٌ لِلَّذينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ](3).

وقال عزَّ مِن قائلٍ: [أفَحَسِبتُمْ أ نَّمَا خَلقنَاكُمْ عَبَثاً وَأ نَّكُم إلَينا لا تُرجَعُون](4).5.

ص: 170


1- اللوامع الإلهية، اللامع العاشر: ص 169 و 170.
2- آل عمران: الآية 191.
3- ص: الآية 27.
4- المؤمنون: الآية 115.

وهذا لايمنع عن القول بأشرفية البعض من البعض، وأفضليته، بل غاية ما يقال فيه: إنّ ذلك بتقديره وحكمته.

فالسؤال الذي ربّما يختلج في بعض الأذهان في اصطفاء من اصطفاه اللّه من الأنبياء والأئمة عليهم السلام، هو السؤال عن اختصاص كلّ ذوي الفضل في هذا العالم بنوعه أو فرده على غيره.

والجواب على النحو العام هو: أنّ أفعال اللّه تعالى كلّها متقنة محكمة صدرت عنه لأغراض متعالية، والتفضيل المشاهد في العالم: إمّا أن يحصل لعلل يقتضيها ضيق عالم المادة، وما جعل اللّه في كلّ جزء من أجزاء هذا العالم بتقديره من التأثير في غيره أو التأثير منه، وإمّا أن يحصل لعلل اختيارية تؤثّر في كمال النفس وفضلها، وتؤثّر في تفضيل بعض الأفراد من الإنسان والحيوان والنبات على غيرها، وقد يحصل لعلل اخرى اختيارية للعبد وغير اختيارية ممّا توجب الترجيح وتؤثّر فيه، والجهات المرجّحة كثيرة لايمكننا إحصاؤها ومعرفة تفاصيلها، فإذا وجد بإذن اللّه تعالى وتقديره شخص قابل للإفاضة الغيبية والعناية الربانية كالعصمة والعلوم اللدنية لايحرم منها، ويستحيل أن يمنع اللّه تعالى ذلك عنه، واللّه تعالى أعلم بموارد عناياته وإفاضاته.

هذا، ولنا أن نقول: إنّ النظام لايتمّ بل لايقوم إلّاعلى التفضيل والإختصاص والاصطفاء فاختصاص العين بالرؤية، والاُذُن بالسمع، وسائر الأعضاء بخاصّية معينة، وكذا اختصاص هذا الشجر بهذا الثمر، وهذا بهذا هو المقوّم لهذا النظام بإذن اللّه تعالى، ولو لم يكن هذا الاختصاص لم يكن هذا العالم

ص: 171

[ذلِكَ تَقديرُ العَزيزِ العَليمِ](1).

فالاصطفاء والاختصاص والتفضيل أمر واقع في عالم التكوين مهما كانت علله، معلومة كانت لنا، أو مجهولة عندنا، نرى ذلك بالعيان، ونقرؤه في تراجم الأنبياء والأولياء وأرباب العقول الكبيرة وغيرها، كما نلمس عصمة الأنبياء والأولياء من خلال سيرتهم وعباداتهم، وخصائصهم وأخلاقهم، لايمكننا إنكار الواقعيات. والقرآن المجيد أيضاً ناطق باصطفاء بعض الناس على بعض، وبعض الأنواع على بعض، قال اللّه تعالى: [وَلَقَد فَضَّلْنا بَعضَ النَّبيّينَ عَلى بَعضٍ](2)

وقال سبحانه: [تِلكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعضَهُم عَلى بَعضٍ مِنهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعضَهُم دَرَجاتٍ](3)

وقال عزّ من قائلٍ: [وَإذ قَالَتِ المَلَائِكَةُ يَا مَريَمُ إنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ العالَمِينَ](4)، أي على عالم زمانها كما ورد في التفاسير.

وقال جلّ شأنه: [يَا بَني إسرائيلَ اذكُرُوا نِعْمَتيَ الَّتي أنعَمتُ عَلَيكُم وَأ نِّي فَضَّلتُكُم عَلَى العالَمِينَ](5) أي على عالَمَي زمانهم.

وقال اللّه تعالى: [وَلَقَد كَرَّمنَا بَني آدَمَ وَحَمَلنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِنَ0.

ص: 172


1- يس: الآية 38؛ الأنعام: الآية 96؛ فصّلت: الآية 12.
2- الإسراء: الآية 55.
3- البقرة: الآية 253.
4- آل عمران: الآية 42.
5- البقرة: الآية 40.

الطَّيِّباتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلى كَثيرٍ مِمَّن خَلَقنَا تَفضيلاً](1)

وقال تعالى جَدّه: [إنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبراهيمَ وَآلَ عِمرانَ عَلَى العالَمِينَ](2).

وقال تعالى شأنه: [ثُمَّ أورَثْنَا الكِتابَ الَّذينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنَا](3).

وقال تعالى: [وَلَا تَتَمَنَّوا ما فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعضَكُم عَلى بَعضٍ](4)

نعم، يستفاد من بعض الآيات الدالة على التفضيل وجهه أيضاً، كقوله تعالى: [فَضَّلَ اللّهُ المُجَاهدينَ عَلَى القاعِدينَ أجْراً عَظيماً](5)

وقوله عزّ شأنه: [يَرفَعِ اللّهُ الّذينَ آمَنُوا مِنكُم وَالّذينَ أوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ](6)

حيث يستفاد من الآية الاُولى أنّ وجه تفضيل المجاهدين على القاعدين هو جهادهم، ومن الثانية أنّ وجه رفع درجات المؤمنين والعلماء هو إيمانهم وعلمهم.

كما يستفاد من البعض الآخر جهة التفضيل، كقوله تعالى: [مِنهُم مَن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفعَ بَعضَهُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَريَمَ البيِّناتِ وَأيَّدناهُ بِرُوحِ1.

ص: 173


1- الإسراء: الآية 70.
2- آل عمران: الآية 33.
3- فاطر: الآية 32.
4- النساء: الآية 32.
5- النساء: الآية 95.
6- المجادلة: الآية 11.

القُدُسِ](1) حيث يستفاد منه أنّ جهة تفضيل موسى على بعض الأنبياء: أ نّه كلم اللّه، وجهة تفضيل عيسى: البينات تأييده من جانب اللّه تعالى بروح القدس، وكما يستفاد من البعض الآخر أنّ التفضيل إنّما يكون لحكمة اخرى خارجة عن المفضل والمفضل عليه، وإن كان فائدته يرجع إليهما وإلى النظام، كقوله تعالى:

[وَرَفَعنا بَعضَهُمْ فَوقَ بَعضٍ دَرَجاتٍ لِيتَّخِذَ بَعضُهُمْ بَعضاً سُخرِيّاً](2).

إذن فلا استبعاد في اختصاص بعض الناس بالاصطفاء والعصمة وغيرها من الفضائل بعد ما يرى مثلها في نظام اللّه تعالى في خلقه، وبعد ما جرى عليه عادته وسنّته، فلا يجوز السؤال عن ذلك حسداً أو اعتراضاً، ولافائدة فيه، قال اللّه تعالى: [أمْ يَحسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتيهُمُ اللّهُ مِن فَضلِهِ فَقَد آتَينا آلَ إبْراهيمَ الكِتابَ والحِكمَةَ وآتَيناهُمْ مُلكاً عَظِيماً](3)

وروى شيخنا ثقة الإسلام الكليني في «الكافي» عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حمّاد بن عثمان، عن عبد اللّه الكاهلي، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «لو أنّ قوماً عبدوا اللّه وحده لاشريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجّوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثمّ قالوا لشيء صنعه اللّه أو صنعه رسول اللّه صلى الله عليه و آله: ألا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين، ثمّ تلا هذه الآية: [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتّى4.

ص: 174


1- البقرة: الآية 253.
2- الزخرف: الآية 32.
3- النساء: الآية 54.

يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدُوا في أنفُسِهِم حَرَجاً مِمَّا قَضَيتَ وَيُسلِّمُوا تَسليماً](1) ثمّ قال أبوعبداللّه عليه السلام: عليكم بالتسليم»(2).0.

ص: 175


1- النساء: الآية 65.
2- الكافي: ج 2 ص 398، ح 6، عنه مرآة العقول: ج 4 ص 280.

ص: 176

المسألة الثانية: ما هي أنواع العصمة؟

وما هو النوع الذي يجب أن يكون النبي والإمام متّصفين به؟

والجواب:

أنّ العصمة تارةً تطلق ويراد منها العصمة عن الكفر، والكذب في تبليغ الرسالة والإخبار عن أحكام اللّه، والمعارف الدينية.

وتارةً اخرى يراد منها العصمة عن الكفر، ومطلق الكذب بعد النبوة، أو مع ما قبلها.

وثالثةً يراد منها العصمة عن مطلق المعاصي وكلّ ما ينفر عنه بعد النبوة او مع ما قبلها.

ورابعةً يراد منها العصمة عن المعاصي، وكلّ ما ينفر عنه، وعن ترك الأولى

ص: 177

أيضاً بعد النبوة أو مع ما قبلها.

فهذه سبعة أنواع، كلّ نوعٍ تحت نوعٍ أوسع وأشمل، حتى يصل إلى النوع السابع وهو العصمة عن المعاصي، وترك الأولى، وكلّ ما ينفر عنه قبل النبوة وبعدها.

ولاريب أنّ الدليل عليه دليل على الجميع، والأقوال في النوع المعتبر في النبي والإمام مختلف لافائدة في ذكرها هنا، من أراد الإطّلاع عليها فليراجع كتاب «تنزيه الأنبياء» والكتب المؤلفة في الكلام والفِرَق.

والذي نقول به ونعتقده هو عصمة الأنبياء عن جميع المعاصي وعمّا ينفر عنه، قبل النبوة وبعدها، وعن الخطأ والسهو والاشتباه في كلّ ما يرجع إلى تبليغ رسالات اللّه تعالى، وعصمة نبينا محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه و آله والأئمة المعصومين عليهم السلام عن جميع ذلك وعن ترك الأولى وعن الخطأ والسهو في جميع الاُمور.

ص: 178

المسألة الثالثة: الأدلة التي تقام على عصمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام

هل هي عقلية أو سمعية؟ وأعني بالثانية: ما يستفاد من مصادر التشريع الإسلامي، وهل الأصل في إثبات هذا الموضوع هو العقل أو النقل يكفي في ذلك، فإن لم تقم الأدلة العقلية عليه فهل يجوز إثباته بالنقل؟

والجواب:

أمّا عن الأول فنقول: قد دلّ العقل والنقل على وجوب عصمة الإمام، وأدلتهاالعقلية والنقلية كثيرة جداً، فهذا كتاب «الألفين» لنابغة علوم المعقول والمنقول العلّامة الحلّي رضوان اللّه تعالى عليه، والنسخة المطبوعة منه - وإن كان ناقصة - مشتملة على ما يتجاوز عن ألف دليل عقلي وسمعي على أنّ الإمام يجب ان يكون معصوماً.

ص: 179

وأمّا الجواب عن الثاني: فالأصل في الاعتقاد بعصمة النبي والإمام، ووجوب كون الإمام معصوماً هو حكم العقل، والشرع يؤيد العقل في حكمه هذا، وذلك لأنّ العقل قاطع بوجوب اتصاف النبي والإمام بالعصمة، والشرع إنّما يكون المرجع الأول في كلّ مورد، لو حكم فيه بالإيجاب أو السلب لم يكن حكمه بأيّهما مغايراً لحكم العقل.

وبعبارةٍ اخرى: الشرع هو المرجع الأول في كلّ مورد لم يكن للعقل فيه حكم بالإيجاب أو السلب، بحيث يكون حكم الشرع بالسلب أو الإيجاب موضوعاً لحكم العقل به أيضاً، أو لحكمه الآخر، كحكمه برمي الجمار والسعي بين الصفا والمَروة، فإنّ العقل بعد حكم الشرع به يحكم به كما يحكم بوجوب إطاعته ووجوب الأمر به وذمّ تاركه.

وضابطة اخرى في ذلك: أن لايكون حكم الشرع في مورد تكون حجية حكم الشرع أو أصل الشرع متوقفة على حكم العقل به.

ففي مسألة عصمة الأنبياء فإنّ العقل هو المرجع الأول، ويحكم بوجوب كون النبي معصوماً لأدلته، وأمّا الشرع فالعلم بأصله متوقف على العلم بلزوم بعث النبي وشرائطه وأوصافه، والعلم بهذه لو كان ممكن الحصول من جانب الشرع لزم الدور لأنّ العلم بالشرع وما يخبر عنه النبي متوقف على العلم بأوصافه، ولو كان العلم بأوصافه متوقفاً على إخبار النبي للزم الدور.

فقد اتّضح من ذلك أنّ ما في دائرة حكم الشرع به والشرع هو المرجع الأول فيه هو ما لم يكن للعقل فيه حكم إيجابي أو سلبي، ولم يكن ممّا يتوقف

ص: 180

عليه العلم بالشرع، وإثبات اشتراط العصمة في النبي خارج عن ذلك، وكذا إثبات اشتراط عصمة الإمام، فإنّه وإن لم يكن ممّا يتوقف عليه العلم بالشرع لكنّ العقل حاكم به بالإيجاب، وعليه يكون الشرع فيه مرشداً إلى حكم العقل ومؤيداً ومقرراً له، ومن هنا يعلم أنّ الحكم بوجوب إطاعة اللّه تعالى عقلي وإرشادي، كما أنّ الحكم بوجوب إطاعة النبي والإمام شرعي ومولوي.

فإن قلت: إذا كان العقل هو المرجع الأول في تلك المسألة فمن أيّ طريق نعرف عصمة النبي، وأنّ المعجزة التي أتى بها دليل على صدقه ونبوته، وبالتالي على عصمته.

وبعبارة اخرى صدق مدّعي النبوة يثبت بالمعجزة إذا كان معصوماً، ومن المعلوم عدم وجود دليل عقلي على عصمة مدّعيها، إلّاأن يقال: إنّ المعجزة كما تدلّ على صدق مدّعي النبوة تدلّ على عصمته أيضاً، وعليه كيف يكون العقل هو المرجع الأول؟.

قلت: أولاً: ماقلنا بأنّ العقل هو المرجع الأول فيه هو لزوم العصمة في النبي والإمام، وفرق بين مسألة وجوب كون النبي والإمام معصومين وبين مسألة طريق معرفة المعصوم، والمعجزة دليل على صدق مدّعي النبوة وعصمته بحكم العقل، فما يدلّ عليه العقل أولاً بدون الاستعانة بالمعجزة هو لزوم بعث النبي ونصب الإمام ولزوم اتصافهما بالعصمة، وما يحكم به العقل بالمعجزة هو كون هذا الشخص المعيّن هو النبي المعصوم، والإمام المعصوم.

وثانياً: أنّ المعجزة وإن يثبت بها صدق النبي وعصمته ليست من الأدلة

ص: 181

السمعية والشرعية، بل هي ممّا يثبت بها الشرع وحجية السمع، فمعجزات الأنبياء والأولياء خارجة عن الأدلة السمعية الشرعية، ومدلولها ليست من الاُمور التي تثبت بإخبار النبي والإمام.

فظهر بذلك أن لامنافاة بين كون العقل حاكماً بلزوم العصمة في النبي والإمام، وبين كون المعجزة دليلاً على صدق النبي وعصمته، وكذلك الإمام، وأنّ هذا أيضاً حكم العقل، وليس من الشرع وما يثبت حجّيته وحقّيته بالمعجزة بشيء.

نعم، هنا أمر لابأس بالإشارة إليه، وهو: أنّ المعجزة إنّما تكون دليلاً على العصمة إذا لم يكن في مدّعي النبوة عملاً وخلقاً وخلقاً ما ينافي العصمة، وإذا كان فيه ما ينافي ذلك كارتكاب القبائح وسوء الأخلاق فهو الدليل على أنّ ما يظهره بعنوان المعجزة ليس معجزة لأنّ اللّه لايؤيد عمل المبطلين، ولايصلح عمل المفسدين، وهكذا يجيء الكلام في النص الصادر عن النبي على نبوة من يأتي بعده أو إمامته، فإذا كان المدّعي لورود النصّ عليه غير مرضيّ الأخلاق والأفعال لايعتنى بما يدّعيه، ويُعلم من ذلك أنّ ما يدّعيه من النصّ لم يصدر، أو صدر في حقّ غيره.

ص: 182

المسألة الرابعة: ما هي الدلائل العقلية على عصمة الأنبياء والأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين؟

الجواب:

أدلتها كثيرة، نذكر نموذجاً منها ممّا يدلّ على معتقد الحقّ.

فمنها: أنّهم لو لم يكونوا معصومين عن المعاصي عمداً وسهواً، وعن الخطأ والنسيان والسهو في كلّ ما يرجع إلى ما يجب اتّباعهم من أقوالهم وأفعالهم وسيرهم وسلوكهم لَيرفع الاطمئنان والاعتماد عن اتّباعهم والاقتداء والتأسّي بهم، وتبطل فائدة بعث الأنبياء ونصب الأئمة، ويُنقَض الغرض الباعث إلى إرسال الرسل، بل خطؤهم ونسيانهم في الاُمور العادية أيضاً يضعف ذلك الاعتماد، وتنزّههم عنه يقوّي ذلك ويؤكّده غاية التأكيد، فاللطف والحكمة يقتضي

ص: 183

اختصاصهم بعنايات وألطاف تدفع عنهم السهو والنسيان.

لايقال: إنّ ذلك غلوّ فيهم، وإنّهم ما فوق الإنسان وأعلى منه.

لأنّه يقال: اختصاصهم بتلك العنايات، وكون ذكرهم وتوجّههم دائمياً ليس فوق حدّ الإنسان، ولايقول ذلك إلّامن قصر عن معرفة الإنسان ومراتب كماله، وما يصل إليه في سيره إلى اللّه تعالى.

قال الإمام أبو عبداللّه الصادق عليه السلام(1) على ما روي عنه: الصورة الإنسانية هي أكبر حجج اللّه على خلقه، وهي الهيكل الذي بناه بحكمته، وهي مجموع صور العالمين، وهي المختصر من العلوم في اللوح المحفوظ.

ويُنسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام.

وأنتَ الكتابُ المُبينُ الذيبأحرُفِهِ يظهرُ المُضمرَ(2)

الغلوّ إنّما يحصل برفعهم من مرتبة العبودية والمخلوقية، والفقر الذاتي إلى مرتبة المعبودية والخالقية والغنى الذاتي.

والفضائل وكثير من الصفات وما يتقرّب به العبد إلى المولى ويتخلّق بأخلاقه مشتركة بين الإنسان والملائكة، فلم يدلّ دليل على امتناع اتصاف البشر بها وإن لم تحصل إلّاللأوحدي من الناس، وإثباتها لهم ليس غلوّاً فيهم، و غاية ما يقال فيهم: إنّ هذه الصفات في الملائكة فعلية، وليست بالإستعداد2.

ص: 184


1- شرح الأسماء الحسنى للسبزواري: ج 1 ص 12.
2- تفسير الصافي: ج 1 ص 92؛ شرح الأسماء الحسنى للسبزواري: ج 1 ص 12.

وبالقوة، والإنسان لابشرط في ذلك عن الفعلية والاستعداد، فبعض أفراد الإنسان فيه هذا بالقوة، وبعضهم حاصل فيه بالفعلية.

هذا، مضافاً إلى أنّ القول بأ نّهم ما فوق الإنسان إن اريد به رفعهم إلى مرتبة الملائكة وإثبات هويتهم لهم فليس هذا رفعاً لهم من مرتبتهم إن لم يكن إثباتاً لقصر لهم إذ الأنبياء والأئمة أفضل من الملائكة؛ لأنّ عصمتهم عن المعاصي ليس معناها عدم تمكّنهم منها، أو نفي ما كان يمكن أن يكون داعياً لهم، وكم فرق بين من لايتحقق له الداعي إلى الأكل لعدم إمكان ذلك له، فلا يسند إليه ترك الأكل حقيقة، وإن اسند إليه فلا يكون إلّامجازاً، كقول القائل: إنّ الحجر لايأكل، فامتناعه عن الأكل ليس عن عمد واختيار، بل لايصحّ أن يسند إليه الامتناع عن ترك الأكل، وبين من يمتنع عنه بالاختيار، ويسند إليه كسائر أفعاله وتروكه الاختيارية؛ ولأجل هذا يقول المحقّق الطوسي القدوسي قدس سره في أفضلية الأنبياء على الملائكة: والأنبياء أفضل؛ لوجود المضاد(1).

وأمّا قوله تعالى: [قُل إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحى إليَّ](2)، وقوله تعالى: [قُل سُبحَانَ رَبّي هَل كُنتُ إلّابَشَراً رَسولاً]. (3) فليس مفادهما أنّ إثبات صفات الملائكة لهم غلوّ ورفع عن درجة الإنسان إلى درجةٍ أعلى، بل المراد نفي الغلوّ بإثبات صفات اللّه المختصة لهم وإثبات الإستقلال لهم في عرض إرادة اللّه3.

ص: 185


1- راجع كتاب: الصراط المستقيم للعاملى النباطى: ج 1 ص 131 الرقم 8 (ط المكتبة الرضوية، المطبعة الحيدرية - ايران، 1384 ه).
2- الكهف: الآية 110؛ فصّلت: الآية 6.
3- الإسراء: الآية 93.

ومشيئته، فهم عباد مكرمون لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، ليس لهم الإتيان بآية إلّابإذن اللّه تعالى، فمثل النبي الخاتم صلى الله عليه و آله الذي:

فاقَ النّبيّينَ في خَلقٍ وفي خُلقٍ

[مَا يَنطِقُ عَنِ الهَوى إن هُوُ إلَّاوَحيٌ يُوحى](1).

وأيضاً مثل هاتين الآيتين ردّ على من يطلب من النبي صلى الله عليه و آله ترك ما هو ضرورة وجود الإنسان، كالأكل والشرب والمشي في الأسواق زعماً منه أن ترك ذلك كمال النبي صلى الله عليه و آله؛ ولهذا قالوا [مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأكُلُ الطَّعَامَ وَيَمشي فِي الأسْواق](2)، وقال سبحانه وتعالى [وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أن يُؤمِنُوا إذ جَاءَهُمُ الهُدى إلّاأن قَالُوا أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً * قُل لَو كَانَ فِي الأرضِ مَلَائِكَةٌ يَمشُونَ مُطمَئِنّينَ لَنَزَّلنَا عَلَيهِم مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً](3).

ومن الأدلة التي اقيمت على عصمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام: أ نّه يجب في النبي والإمام قوة الرأي والبصيرة وعدم السهو، وكلّ ما يُنفَر عنه، ومن المعلوم أنّ المعصية كبيرةً كانت أو صغيرةً من أعظم ما يُنفَر عنه ومن أقوى الشواهد على ضعف الرأي، والسهو أيضاً يذهب بمكانته الاجتماعية، وربّما يصير سبباً5.

ص: 186


1- النجم: الآية 3.
2- الفرقان: الآية 7.
3- الإسراء: الآية 94 و 95.

لاستهزاء الناس به، وإنكاره ما عليه وادّعائه ما ليس له، وكلّ ذلك ينافي مصلحة النبوّات.

ومنها: أ نّه يجب متابعتهم وإطاعتهم، ولو لم يكونوا معصومين جاز أن يأمروا بالمعصية وما فيه المفسدة، وينهوا عن الطاعة وما فيه المصلحة، وذلك يؤدّي إلى إغواء الناس وإضلالهم، وهذا ضدّ المقصود من بعث الرسل؛ لأنّ الغرض فيه هداية العباد والبشارة والإنذار.

ومنها: غير ذلك من الأدلة التي تُعدّ بالمئات، ذكرها العلامة الحلّي في «الألفين» وفي سائر كتبه في الكلام والإمامة، وذكر طائفة منها غيره أيضاً، من شاء أكثر من ذلك فليراجع هذه الكتب.

ص: 187

ص: 188

المسألة الخامسة: ما هي أدلة عصمتهم من مصادر التشريع الإسلامي؟

الجواب:

أنّ الأدلّة الدالّة عليها مصادر التشريع الإسلامي كثيرة جداً، تجد المئات منها أيضاً في كتاب «الألفين». ونحن نشير إلى بعض تلك الأدلّة بتعبيرٍ منّا.

فنقول: من الأدلّة الدالّة عليها من القرآن المجيد: قوله تعالى: [وَإذِ ابْتَلى إبرَاهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إمَاماً قَالَ وَمِن ذُرّيَّتي قَالَ لا يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمينَ](1). فهذه الآية الكريمة صريحة في عِظَم أمر الإمامة، وأ نّها عهد اللّه تعالى لاينالها الظالمون، والظلم عنوان عام لكلّ ما لايجوز فعله شرعاً أو

ص: 189


1- البقرة: الآية 124.

عقلاً، كما تعرف ذلك من موارد استعمالاته فى الكتاب والسنّة واللغة.

لايقال: إنّ الآية لاتدلّ على أكثر من عدم لياقة الظالم لنيل منصب الإمام في حال تلبّسه بالظلم، ولاتدلّ على عدم نيله إذا كان متلبّساً به فيما مضى.

لأنّه يقال: أولاً: لا نُسلّم كون المشتقّ حقيقةً في المتلبّس بالمبدأ في الحال، أي في حال الجري والنسبة، بل هو أعم منه وممّا انقضى عنه المبدأ.

وثانياً: أنّ ما هو الملاك في عدم نيل الظالم الإمامة هو صدور الظلم عنه، فما يمنع شارب الخمر وقاتل النفس المحترمة، والسارق وغيرهم من الظالمين عن التشرّف بمقام الإمامة هو شرب الخمر وقتل النفس والسرقة، وإن صدر عنهم في الماضي وتابوا بعده، وليس المراد أنّ الشارب حال تلبّسه بشرب الخمر، والزاني في حال تلبّسه بالزنا، والسارق في حال تلبّسه بالسرقة، وعابد الأصنام في حال تلبّسه بعبادة الأصنام وعدم توبته عن هذه الأفعال غير صالح لهذا المقام، أمّا بعد هذا الحال ولو بساعة ولحظة وبعد التوبة لاتقدح هذه المعاصي في صلاحيته، وهذا واضح يُعرَف بأدنى تأمّل.

إن قلتَ: فما هو معنى قوله صلى الله عليه و آله: «الإسلام يجبّ ما كان قبله»(1)، و «التوبة تجبّ ما قبلها»(2)، وقوله صلى الله عليه و آله: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»(3).5.

ص: 190


1- بحار الأنوار: ج 6 ص 22.
2- مستدرك الوسائل: ج 12 ص 129، عن عوالي اللآلي.
3- الكافي ج 2 ص 435.

قلتُ: لاريب في ذلك، ولكن قد بيّنّا لك أنّ الشرع إنّما يحكم تأسيساً، وهو المرجع الأول فيما لاحكم فيه للعقل، ففي دائرة الأحكام والتكاليف الشرعية - وضعية كانت أو تكليفية - الإسلام يجب ما قبله، ويذهب بالآثار الشرعية المترتبة على الأفعال التي ارتكبها الشخص قبل إسلامه على التفصيل المذكور في الفقه، أمّا الآثار الوضعية الحقيقية فليست بتشريعية، ولاتنالها يد الإنشاء والاعتبار، فليست قابلة للمحو بالإسلام والتوبة.

فتنفُّر الطباع عمّن ارتكب قبائح الأعمال والشرور وعبد الأصنام قبل إسلامه وتوبته لايزول بهما، وكذا عدم الاعتماد على الكذّابين والخائنين وأهل الفجور والشر والفساد أمر طبيعي لايمكن رفعه بالإنشاء، ومصلحة النبوّات وتربية العباد، وسياسة امورهم تقتضي أن يكون النبي والإمام من غيرهم.

وكم فرق بين من لم يكفر باللّه طرفة عين، وكان له في سالف عمره سوابق حسنة، وكانت حياته مضيئة بالخيرات مشرقة بالصلح والسلم والكرامة الإنسانية والرشد والفلاح ومنع الظلم ورحمة الأيتام والضعفاء والمستضعفين، وبين من مضى برهة من عمره في عبادة الأصنام وارتكاب القبائح حتى وَأْد البنات بقساوة شديدة قلّما يرى مثلها في تاريخ الإنسان(1).).

ص: 191


1- وهذا عمر بن الخطاب قد دفن فيما روي ستّاً من بناته في الجاهلية، وإن كان ليحفر لإحداهنّ الحفرة يريد أن يئدها فيها فيتخلّله غبار الحفر فتنفض البنت عن أبيها غباره، وتمشّط لحيته بأصابعها حناناً ورقةً فلا يلين ذلك من قلبه شيئاً، حتى إذا انتهى زجّها في قبرها وأهال التراب بين بكائها وعويلها واستنجادها به: يا أبتاه! (الأُستاذ محمد سعيد الأفغاني - مجلة حضارة الإسلام، طبع دمشق، العدد 2، ص 21، س 22).

وثالثاً: عدم نيلِ الظالم عهدَ اللّه تعالى في حال ظلمه، سيّما إذا كان ظلمه عبادة الأصنام وارتكاب الفجور، والظلم للعباد بالاستعلاء عليهم واستضعافهم واضح لايحتاج توهّمه إلى دافع، سيّما إذا كان السائل نبياً جليلاً كإبراهيم الخليل الذي بلغ في معرفة اللّه تعالى الغاية القصوى، ودفع توهّمه خلاف البلاغة، فإذن ليس المراد منه إلّامطلق من صدر عنه الظلم، بل خصوص من صدر عنه الظلم في الماضي، أو يعلم اللّه بصدوره عنه في المستقبل، وأمّا المتلبس بالظلم، فعدم أهليّته معلوم بالضرورة لاحاجة إلى التنبيه عليه.

نعم، هذه الآية لاتدلّ على أزيد من عصمتهم عن المعاصي.

ومن هذه الآيات قوله تعالى: [يَا أ يُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أطيعُوا اللّهَ وأطيعُوا الرَّسُولَ واُولِي الأمرِ مِنكُم](1).

وهذه الآية دلّت على وجوب إطاعة الرسول، واُولي الأمر في كلّ ما يأمرون به وينهون عنه، ولو لم يكونوا معصومين لزم الأمر بإطاعة غير المعصوم، والأمر بإطاعته قبيح؛ لكونه معرّضاً للأمر بالقبيح والنهي عن الحسن.

ومنها قوله تعالى: [يَا أ يُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقينَ](2).

فإنّه يدلّ على وجوب الكون مع الصادقين، والكون معهم عبارة عن متابعة أقوالهم والاقتداء بأفعالهم، والتزام سيرتهم وعدم مفارقتهم، فيجب أولاً عدم خلو الزمان منهم، وثانياً كونهم معصومين عن المعاصي والخطأ والسهو، بل9.

ص: 192


1- النساء: الآية 59.
2- التوبة: الآية 119.

وترك الأولى، وقد روي من طرق الشيعة وأهل السنّة أنّ الصادقين هم أئمة أهل البيت عليهم السلام(1).

وللفخر الرازي في تفسيره الكبير كلام حول تفسير هذه الآية يؤيد بالإفصاح مذهب الشيعة الإمامية، وكلامه في غاية التحقيق، ولاعبرة بما قال في ذيل كلامه من الجواب عمّا تفطّن به فإنّه في غاية الضعف، ويستبعد خفاء ضعفه عن مثله، فلعلّه إنّما قاله خوفاً من النواصب الذين يرون إنكار فضائل أهل بيت النبي عليهم السلام وبغضهم من علائم كون الشخص من أهل السنّة، مع أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال:

«لايحب علياً منافق، ولايبغضه مؤمن»(2).

وقال علي عليه السلام: عهِدَ إليَّ النبي صلى الله عليه و آله: أ نّه «لايحبّك إلّامؤمن ولايبغضك إلّا منافق»(3).

ومن الآيات الدالة على عصمتهم: قوله تعالى حكايةً عن إبليس: [فَبِعِزَّتِكَ لَاُغوِيَنَّهُم أجمَعينَ إلّاعِبادَكَ مِنهُمُ المُخلَصينَ](4).3.

ص: 193


1- يراجع في ذلك شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1 ص 259-262، والدرّ المنثور للسيوطي: ج 3 ص 90، وخصائص الوحي المبين لابن بطريق: الفصل الثالث والعشرون، ص 136، وغيرها من كتب أعلام الشيعة وأهل السنّة، ولابن بطريق هنا استدلال على أنّ الإيمان والتقوى لاينفعان إلّابعد الكون مع أميرالمؤمنين علي عليه السلام.
2- أخرجه الترمذي وأحمد، فراجع.
3- راجع مسند أحمد: ج 1 ص 84 و 95 و 128، وغيره من الجوامع مثل: سنن النسائي، وابن ماجة، والترمذي.
4- ص: الآية 83.

وقوله تعالى: [إنَّ عِبادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطانٌ](1).

وقوله سبحانه: [أَفَمَن يَهدي إلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدِّي إِلاّ أَن يُهدي فَما لَكَم كَيفَ تَحكُمُونَ](2)، وقوله عزّ وجلّ: [قُل إن كُنتُم تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُوني يُحبِبكُمُ اللّهُ](3). وقوله عزّ من قائل [إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً](4) وغيرها ممّا يطول بنا المقام بذكرها وبيان الاستدلال بها.

إن قلت: إذا كان الأمر بإطاعة غير المعصوم قبيحاً لايصدر عن الحكيم كما ذكرتم في بيان الاستدلال بقوله تعالى: [أطِيعُوا اللّهَ وَأطيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمرِ مِنكُم](5) فما تقولون في امراء السرايا، وحكام البلاد، والمفتي والقاضي، مع أنّ الاُمّة اتّفقت على وجوب إطاعتهم وعدم عصمتهم؟

قلت: أولاً: إنّهم وإن كانوا ممّن تجب طاعته فيما علم بعدم خطئهم، وفيما لاطريق إلى العلم بخطئهم، إلّاأ نّه لو علم بخطئهم لم تجب إطاعتهم؛ لأنّه «لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق»(6) وليس أمر امراء السرايا وحكم حكّام البلاد بحيث لايمكن تخلّفه عن الواقع وفرض الخطأ فيه، كما هو الأمر في أمر النبي والإمام وحكمهما، لأنّه لايتخلّف عن الواقع، ودليل على الشرع، والشرع1.

ص: 194


1- الحجر: الآية 42؛ الإسراء: الآية 65.
2- يونس: الآية 35.
3- آل عمران: الآية 31.
4- الأحزاب: الآية 33.
5- النساء: الآية 59.
6- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 381.

يعرف به كما يعرف بغيره من مصادر التشريع.

وثانياً: إنّ النبي والإمام إذا أخطأ ليس من ورائهما نبي أو إمام ينبّه على خطئهما، بخلاف امراء السرايا والحكّام فإنّ النبي والإمام من ورائهم يحفظان الشريعة من التحريف والتغيير، وينبّهان على خطأ امراء السرايا والعمال.

وثالثاً: نقول: إمّا أن نقول بوجوب إطاعة الإمام في جميع الأوقات، أو يخصّص عمومه ببعض الأوقات، لاسبيل إلى الثاني، فإنّ الاُمّة اتّفقت على وجوب إطاعته مطلقاً وفي جميع الأوقات، وعلى هذا لو فرض كون الإمام غير المعصوم يمكن أن يقع في الخطأ في وقت مّا، ويأمر على خلاف ما أمر به النبي فحينئذ: إمّا أن تجب إطاعته ومخالفة النبي، وهذا باطل قطعاً، وإمّا أن تجب إطاعة النبي ومخالفة الإمام، وهو مخالف لوجوب إطاعة كلّ واحدٍ منهما؛ لأنّ اللّه ساوى بينهما في الأمر بإطاعتهما، وإما أن تجب إطاعة كلّ واحدٍ منهما وهو محال وتكليف بما لايطاق، فلا يبقى إلّاالأمر الرابع وهو عصمة الإمام كالنبي، وعدم وقوع المخالفة بينهما.

وعلى هذا فنقول: فرق واضح بين إطاعة الإمام وإطاعة أمراء السرايا والحكام، فإن اللّه لم يساوِ بين إطاعتهم وإطاعة الإمام والنبي، وإنّما وجبت إطاعتهم بأمر النبي أو الإمام بتعيينهما إيّاهم لهذه المناصب؛ ولذا يجب أن يكون الإمام كالنبي معصوماً دون غيرهما من امراء السرايا والحكّام.

هذا بعض الأدلة التي اقيمت على عصمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام من القرآن المجيد المصدر الأول للتشريع الإسلامي بتقرير منّا.

ص: 195

وهنا أيضاً أدلة كثيرة من السنّة التي هي المصدر الثاني للتشريع، نشير إلى طائفة منها:

فمنها: الأحاديث المتواترة المشهورة بين الفريقين بأحاديث الثقلين(1) وهذه الأحاديث على كثرتها وتواترها، وكثرة مُخرِجِيها ورواتها من الصحابة قد دلّت على عدم خلوّ الزمان من إمام معصوم عن الذنب والسهو والخطأ، وحصر طريق الأمن من الضلال والاختلاف بالتمسّك بالكتاب والعترة الهادية المعصومة.

ومنها: أحاديث السفينة(2) ، الدالة على أنّ «مثل أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق».

وهذه الأحاديث أيضاً دلّت على وجود إمامٍ معصومٍ من أهل البيت في جميع الأعصار.».

ص: 196


1- منها: ما أخرجه عبد بن حميد في مسنده، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي، إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عَلَيَّ الحوض». إحياء الميت بفضائل أهل البيت: ج 7. ومنها: ما أخرجه أحمد في مسنده: ج 3 ص 17: «إنّي اوشكُ أن ادعى فاُجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه عزّوجلّ، وعترتي، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض، فانظروني بِمَ تخلفوني فيهما».
2- أخرج هذه الأحاديث من أعلام العامة ما يربو على المائة عن جمع من الصحابة وألفاظها في بعض طرقها هكذا: «مَثَلُ أهل بيتي مَثَل سفينة نوح، مَن ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق».

ومنها: أحاديث الأمان،(1) وهذه الأحاديث أيضاً دلّت على عدم خلوّ الزمان من معصوم من أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله يكون وجوده أماناً لأهل الأرض، والتمسّك به أماناً من الضلالة والاختلاف.

وقد أشبعنا الكلام حول هذه الأحاديث «أحاديث الثقلين»، و «أحاديث السفينة»، و «أحاديث الأمان» وإسنادها ومتونها ودلالتها في كتابنا «أمان الأمة من الضلال والاختلاف».

ولا يخفى عليك أنّ الأحاديث في عصمة النبي والإمام كثيرة جداً، والأحاديث المذكورة وإن لم تدلّ على عصمة النبي إلّاأ نّها بعد الدلالة على عصمة الإمام تدلّ على عصمة النبي بالطريق الأولى، وإنّما استشهدنا بهذه الأحاديث لتواترها وشهرتها بين الفريقين، ومن أراد أكثر من ذلك فليراجع الموسوعات والجوامع، كالكافي والبحار.

وقد ثبت بالأدلة العقلية والنقلية عصمة النبي والإمام عن جميع المعاصي عمداً وخطأً وسهواً، وعن السهو والنسيان فيما يؤول إلى تبليغ أحكام اللّه تعالى، وشؤون الرسالة والإمامة، وأمّا العصمة عن الخطأ والنسيان والسهو في الاُمور العادية وترك الأولى لغير نبيّنا والأئمة عليهم السلام من الأنبياء الماضين فغير ثابتة، بل ربما يستظهر من بعض الآيات والأحاديث صدور هذه الاُمور من بعضهم، وهذا وإن كان قابلاً للتأويل إلّاأ نّه ليس في البحث عنه كثير فائدة؛ لأنّ مثل ذلك غير».

ص: 197


1- ولفظها في بعض طرقها هكذا: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف...».

مضرّ بشؤون رسالاتهم ومقاماتهم العلية الثابتة، وليس من الاُمور الاعتقادية التي تجب معرفتها، فيكفينا الإعتقاد في ذلك إن قيل بوجوب الاعتقاد فيه بما هو الواقع.

نعم، لمّا قلنا: إنّ العصمة هي أعلى مراتب حضور العبد عند مولاه، ونورانية نفسانية ملكوتية تذهب بكل الظلام، وتشرق كلّ وجود صاحبها فلا شكّ أنّ لهذه النورانية مراتبَ ودرجاتٍ أعلاها ما حصل لنبيّنا والأئمة عليهم السلام، وأدناها ما يصون الشخص عن المعاصي عمداً وسهواً، وعن الاشتباه والسهو والنسيان في أمر الرسالة وشؤونها، فعلى هذا يمكن أن يوجد في عظماء الأنبياء نورانية وعناية ربانية دائمة تصرفهم عن ترك الأولى، وتدفع عن قلبهم غطاء السهو و حجاب النسيان.

وأمّا بالنسبة إلى نبيّنا محمدٍ صلى الله عليه و آله وأوصيائه وخلفائه الاثني عشر عليهم السلام فحيث إنّهم في أعلى مراتب القوة القدسية والنورانية الربانية، ولا تفوق رتبتهم في الحضور عند المولى والجلوس على بساط قربه واُنسه رتبة، فعدم صدور ترك الأولى عنهم كعدم صدور المعاصي في نهاية الوضوح، يظهر ذلك لكلّ من درس تاريخ حياتهم النورية وأخلاقهم الإلهية، وأدعيتهم ومناجاتهم، وخشيتهم من اللّه تعالى، وإنابتهم إليه وانقطاعهم عن الخلق.

فهم أكمل المظاهر لإخلاص العبد وترك الاشتغال بغير اللّه تعالى، لايصدرون إلّاعن أمره، كلّ أفعالهم محمودة مرضية، وكلّ حالاتهم حميدة شريفة، لاتؤثر فيهم الدواعي إلّاداعي اللّه، فكمال إخلاصهم يمنعهم عن الاعتناء بغير داعي اللّه تعالى، وعن الاشتغال بغير ذكره وامتثال أوامره ونواهيه، قد

ص: 198

خرقت أبصار قلوبهم حجب النور فوصلت إلى معدن العظمة، وصارت أرواحهم معلّقة بعزّ قدسه، جباههم ساجدة لعظمته، وعيونهم ساهرة في خدمته، ودموعهم سائلة من خشيته، وقلوبهم متعلّقة بمحبّته، وأفئدتهم منخلعة من مهابته، انقطعت همّتهم إليه، وانصرفت رغبتهم نحوه، لقاؤه قرة أعينهم، وقربه غاية سؤولهم. إذن فكيف يصدر ترك الأولى ممّن بعض شؤونه وحالاته ما سمعت؟! رزقنا اللّه تعالى محبتهم وولايتهم وشفاعتهم، وحشرنا في زمرتهم.

ولا يخفى عليك أنّ ترك الأولى ليس معناه ترك المستحبّ أو فعل المكروه فحسب، بل ربّما يكون بترك المستحب أو فعل المكروه، وربّما يكون بفعل المستحب وترك المكروه، والنبي والإمام أعلم بموارد ترك الأولى، فلا يجوز نسبة ترك الأولى إلى النبي والولي، بل إلى غيرهما من الفقهاء العارفين بأحكام اللّه تعالى، وموارد تزاحم المستحبات والمكروهات، بعضها من بعض، بمجرد ترك المستحب أو فعل المكروه، بل يمكن الاستدلال بفعلها على عدم كون هذا الفعل أو الترك مستحباً أو مكروهاً بقول مطلق، وإلّا لَما كان يصدر عنهم.

ثم إنّه قد بقي مطلب آخر، وهو: النظر في الآيات والأحاديث الذي تُوُهِّم منه عدم عصمة الأنبياء، ولئلّا يطول بنا المقام نحيل الباحثين إلى التفاسير المأثورة عن أهل بيت النبوة أعدال القرآن الكريم، وكتاب «تنزيه الأنبياء» و «الشافي» وتلخيصه، و «اللوامع الإلهية»، و «بحار الأنوار» وغيرها من كتب الكلام والحديث، ومجمل القول في الآيات: إنّها غير ظاهرة في عدم عصمة الأنبياء، ولو سلّم ظهور لبعضها يجب تأويله وحمله على المجاز، لدلالة هذه القرائن العقلية على عدم إرادة ظاهرها.

ص: 199

وأمّا الأحاديث فأكثرها من الإسرائيليات، ومخرَّجة في كتب العامة، فهي إمّا موضوعة لاسند لها ولا أصل، كخبر الغرانيق والإسرائيليات التي اخذت من اليهود، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه في قصص الاُمم الماضية وأنبيائهم، تجد فيها من الخرافات والأعاجيب ما تضحك له الثكلى. وإمّا ضعيفة السند لايعتمد عليها، سيّما في اصول الدين، ومعارضة بأحاديث اخرى صحيحة معتضدة بحكم العقل.

وبالجملة: فلا تجد في الأخبار ما يصحّ التعويل عليه، والركون إليه في نفي العصمة للأنبياء صلوات اللّه على نبينا وآله وعليهم أجمعين، واللّه الهادي إلى الصواب.

ص: 200

المبحث الثاني: في علم الإمام عليه السلام

وإليك سؤال السائل العزيز بلفظه:

هل يزداد علم الإمام المعصوم عليه السلام مع الأيام؟ وهل أنّ علمه عليه السلام بعد تولّيه الإمامة يختلف عنه قبل ذلك؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكننا والحالة هذه الحكم بأفضلية الإمام علي عليه السلام على الإمام الجواد عليه السلام الذي تولّى الإمامة وهو ابن تسع سنين؟

الجواب: قد عقد شيخ المحدّثين ثقة الإسلام الكليني رضى الله عنه في كتاب الحجة من الجامع الكافي أبواباً في علومهم، منها: «باب: لولا أنّ الأئمة عليهم السلام يزدادون لنفد ما عندهم».

وإبداء الرأي في هذه الأبواب لو لم نقل بكون بعضها من متشابهات كلامهم

ص: 201

وأسرارهم عليهم السلام موقوف على ملاحظة جميعها، وما فيها من الأحاديث، وردّ مجملها على مفصّلها، وظاهرها على صريحها، وملاحظة أسنادها، ثمّ شرحها وتفسيرها بما لايخالف اصول المذهب، كأفضلية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من سائر الأئمة عليهم السلام، وأفضلية رسول اللّه صلى الله عليه و آله من الجميع.

فلو فرض وجود حديث معتبر يدلّ بلازمه الخفيّ مثلاً على أفضلية بعض الأئمة عليهم السلام من أمير المؤمنين عليه السلام لا يحتجّ به؛ لأنّ المعلوم من ضرورة المذهب، وما يعرفه الخاصّ والعامّ من مذهب أهل البيت عليهم السلام، اتّفاقهم على أفضلية أميرالمؤمنين من غيره من الأئمة عليهم السلام.

فمثل هذا اللازم ليس المراد قطعاً، وهذه القرينة القطعية تكفي في تعيين المراد، وعدم اعتبار مثل هذه اللوازم بل الظواهر.

إذن إذا عرضت هذه الأحاديث على أهل الفن، وعلى من له أنس بأحاديثهم ومعرفة مذاهبهم لايعتني بمثل هذه الاحتمالات، كما أ نّك لاتحتمل إذا سمعت قائلاً يقول: «رأيت أسداً يرمي» أنّ مراده من الأسد هو الحيوان المفترس.

وبعد هذه المقدمة نقول: إنّ ازدياد علم الإمام المعصوم أمر ممكن معقول قد ورد في الأحاديث، ولاشكّ في أنّ الأنبياء والأئمة عليهم السلام وإن عُلِّموا الأسماء كلّها، وأنّ الائمّة عليهم السلام عُلِّموا علم ما كان وما يكون(1) إلّاأنّه لا شكّ في أنّ علم2.

ص: 202


1- عقد في الكافي باباً بهذا العنوان: «باب أنّ الأئمة عليهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون، وأ نّه لايخفى عليهم شيء» كما عقد باباً بهذا العنوان: «باب أنّ الأئمة عليهم السلام يعلمون جميع العلوم التي اخرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل عليهم السلام»، وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام على ما في نهج البلاغة (الخطبة 175): «واللّهِ لو شئتَ أن اخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيَّ برسول اللّه صلى الله عليه و آله؛ ألا وإنّي مُفضيه إلى الخاصّة ممّن يُؤمَن ذلك منه، والذي بعثه بالحقّ واصطفاه على الخلق ما أنطق إلّاصدقاً، وقد عهد إليَّ بذلك كلّه، وبمهلك مَن يهلك ومنجى مَن ينجو، ومآل هذا الأمر وما أبقى شيئاً يمرّ على رأسي إلّاأفرغه في اذُنيَّ وأفضى به إلَيَّ» وقال عليه السلام (الخطبة 1): «فاسألوني قبل أن تفقدوني، فواللّه الذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيءٍ فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فتنة تهدي مائة وتضلّ مائة إلّاأنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحطّ رحالها، ومَن يُقتَل مِن أهلها ويموت منهم موتاً». نهج البلاغة، شرح محمدعبدة: ص 182.

الجميع عند علم اللّه ليس إلّاكما قال اللّه تعالى: [وَمَا اوتيتُم مِنَ العِلمِ إلَّاقَليلاً](1)؛ ولذا خاطب نبيه الذي علَّمه ما لم يكن يعلم وقال: [وَقُل رَبِّ زِدني عِلماً](2).

فالإمام كالنبي في حركته الكمالية، وسيره الى اللّه تعالى لايقف على حدٍّ، كما أنّ السير إلى اللّه تعالى، في عين أ نّه في كلّ مرحلة من مراحله مرتبة من الوصول ونيل للمقصود، فإنّه لانهاية له، ولاينتهي إلى حدّ، ففي هذا المسير يسير الإمام دائماً إلى الأمام، ولايتساوى يوماه، بل كلّ يومٍ من أيامه أفضل من أمسه، وليس ابتداء هذا السير من حين الولادة الجسمانية، بل يبتدئ من حين وجوده النوري، ويستمرّ في العوالم والنشئآت التي يُسار به قبل هذا العالم، كما أنّ أمده لاينتهي بارتحاله من هذه الدنيا، ولعلّ سائر الناس من الصلحاء في عالم البرزخ4.

ص: 203


1- الإسراء: الآية 85.
2- طه: الآية 114.

كان هذا حالهم، لاينتهي سيرهم الكمالي بالموت العنصري، بل يمكن أن يكون الموت لهم بحسب صلاحياتهم وقابلياتهم مبدأً لمثل هذا السير، واللّه أعلم.

والحاصل: أنّ مثل هذا السير لازم لكل سالك إلى اللّه، ولانهاية له، فهو لايزال في حال الرجوع إلى اللّه تعالى: قال اللّه سبحانه: [إنَّا للّهِِ وَإنَّا إلَيهِ رَاجِعُونَ](1)، وقال تعالى: [أَلَا إلَى اللّهِ تَصيرُ الأُمُورُ](2). ولو فرض لسلوكه وسيره ورجوعه هذا انتهاء فلا دخل لطول حياته العنصرية، وقصرها فيه.

ولايخفى عليك أ نّا وإن عجزنا عن درك حقيقة هذا الشأن والعلوم التي تفاض على الإمام، إلّاأ نّه لاوجه لاستبعاد مثل هذا الشأن لهم وكم لهم من الشؤون بل ولغيرهم ممّا لاندرك حقيقته؟ ولكن نعرفه بآثاره ونلمسه بعينه.

إذن فلا دخل لتولّي الإمامة وعدمه في العلم الذي يزداده الإمام حتى يشكل الحكم بأفضلية الإمام علي عليه السلام على الإمام الجواد عليه السلام.

نعم، في العلوم المشار إليها بقوله سبحانه: [وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمَاءَ كُلَّهَا](3) وفيما هو من مؤهّلات الإمامة فإنّ الأئمة عليهم السلام سواء، لايتفاوت علمهم هذا بعد تولية الإمامة من قبلها، ولايزدادون فيه بتولّيهم.

وعلى هذا يدفع توهّم الإشكال في أفضلية الإمام علي عليه السلام من الإمام الجواد عليه السلام لتولّيه الإمامة في صغر سنّه؛ لعدم ثبوت أفضليّته على سائر الأئمة1.

ص: 204


1- البقرة: الآية 156.
2- الشورى: الآية 53.
3- البقرة: 31.

بذلك.

ومسألة تولِّي أمر الإمامة أمر إداري منظَّم يرجع إلى الحكم والإدارة، لاتنحصر شؤون الإمامة فيه، والإمام صاحب هذه الشؤون هو قبل تولّيه الإمامة كبعد تولِّيه، فمن جملة هذه الشؤون: حجّية أقواله وأفعاله في الأحكام الشرعية، والمعارف الإسلامية، فهذه ثابتة له مطلقاً، ولادخل لتولّيه الإمامة في ذلك.

فالإمام الحسن المجتبى عليه السلام إمام واُسوة، وأقواله وأفعاله وسيرته وهُداه حجّة يجب الأخذ بها، ويحرم ردّها في حياة أبيه وقبل تولِّيه الإمامة واُمور النظام.

كما أنّ الحسين عليه السلام أيضاً قبل تولِّيه الاُمور في عصر أبيه وعصر أخيه كان إماماً، كما نصّ على ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقال: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1). فهما إمامان حتى في عصر النبي صلى الله عليه و آله وفي صغر سنّهما.

والإمام عليّ عليه السلام أيضاً كان إماماً وولياً قبل تولِّيه الإمامة والولاية في عصر الرسالة أيضاً، ولاينافي ذلك كونه مأموراً بإطاعة النبي صلى الله عليه و آله، وكون النبي صلى الله عليه و آله متبوعاً ونبياً وحاكماً عليه، والإمام عليه السلام تابعاً له ومقتدياً به، وواحداً من امّته، ومستضيئاً من أنوار علومه، ومتَّبعاً لشريعته، وكون إمامة الإمام وسائر الأئمة عليهم السلام أيضاً جزءاً من شريعته ورسالاته.

ويدلّ على ذلك: الحديث الأول من «باب حالات الأئمة عليهم السلام في صغر السنّ» من كتاب الحجّة من الكافي، والحديث طويل أخرجه بإسناده عن1.

ص: 205


1- بحار الأنوار: ج 43 ص 291.

الكناسي، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام... - إلى أن قال: - فقلت: جعلت فداك، أكان علي عليه السلام حجة من اللّه ورسوله على هذه الأمة في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله؟ فقال:

«نعم يوم أقامه للناس ونصّبه علماً ودعاهم إلى ولايته، وأمرهم بطاعته»، قلت: وكانت طاعة علي عليه السلام واجبة على الناس في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وبعد وفاته؟ فقال: «نعم، ولكنّه صمت فلم يتكلم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وكانت الطاعة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله على امّته وعلى عليّ عليه السلام في حياة رسول اللّه، وكانت الطاعة من اللّه ومن رسوله على الناس كلّهم لعلي عليه السلام بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وكان علي عليه السلام حكيماً عالماً»(1).

ثمّ إنّ لنا كلاماً في المقام لابأس بالإشارة إليه، وهو: أنّ أفضلية بعض الناس من بعض، وبعض الأنبياء من بعض، وبعض الأئمة من بعض إنّما تكون بقول مطلق في الصفات النفسية والخصائص الذاتية، والتخلّق بالأخلاق الإلهية إذا كان المفضل في كلّ هذه الكمالات أقوى وأفضل من غيره، أمّا في غيرها من الفضائل فربّما لايوجد من يكون باعتبار جميع العناوين والأوصاف أفضل من غيره؛ فإنّ الإمام علي عليه السلام أفضل من ابنيه سبطَي نبيّ الرحمة، من جهة: أ نّه ابن عم الرسول، وزوج البتول، وأبو السبطين، فليس لهما ابن عمّ كابن عمّ أبيهما، وزوجة كزوجته، وابنين كابنيه، وهما أفضل من الإمام عليه السلام من جهة: أنّ لهما أباً مثل الإمام، وجدّاً مثل الرسول صلى الله عليه و آله، واُمّاً مثل سيدة نساء العالمين، وليس للأمير عليه السلام هذه الفضائل، وجعفر الطيار الشهيد أفضل من أخيه الإمام، من جهة:2.

ص: 206


1- الكافي: ج 1 ص 382.

أنّ له أخاً كالإمام، وليس للإمام أخٌ كأخِ جعفر رضى الله عنه.

ومسألة تولّي الإمام الجواد عليه السلام الإمامة في صغر السنّ فضيلة، وإن شئت قل: أفضليّةٌ من هذا القبيل، فالإمام أبو الحسن الرضا عليه السلام استشهد وابنه الإمام الجواد عليه السلام في صغر السنّ لابدّ له من تولّي الإمامة بعد أبيه، وقيامه مقامه؛ لأنّه وسائر الأئمة عليهم السلام في مؤهّلات تولّي الأمر في حال صغرهم وكبرهم سواء.

ومن هنا يعلم أنّ نبوة عيسى ويحيى في صغرهما وكونهما صبيَّين لايدلّ على أفضليتهما من غيرهما من الأنبياء؛ لأنّ نبوتهما في حال الصغر ليس لأنّهما استأهلا لذلك وغيرهما ممّن صار نبياً بعد ما بلغ أشُدَّه لم يستأهل لذلك في حال الصغر، بل ربّما ذلك كان لحكمة ومصلحة اقتضت ذلك فيهما، وتلك في غيرها، فبقاء النبي في القوم أربعين سنة، وظهور صدقه وأمانته، ومكارم أخلاقه في الناس ربّما كان هو المصلحة الموجبة لتأخّر بعثه ومأموريته للدعوة إلى اللّه تعالى، كما ربّما يكون ذلك لحصول الاستعداد اللازم في الناس لقبول الإسلام، وغير ذلك من المصالح التي لايعلمها إلّااللّه والراسخون في العلم [اللّهُ أعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتَهُ](1).4.

ص: 207


1- الأنعام: الآية 124.

ص: 208

المبحث الثالث: في اختلاف مستويات الأئمة عليهم السلام في الإيمان والعلم والأخلاق

قال السائل المحترم زاد اللّه في سداده ورشاده: كيف يمكننا درء الشبهة القائلة باختلاف مستويات الأئمة عليهم السلام إيماناً وعلماً وخُلُقاً؟ وذلك باعتبار ما يرويه لنا التاريخ من سيرهم.

أقول: إن كان المراد من المستويات: مقوّمات الأهلية للإمامة، وتولّي الزعامة والقيادة فكل واحد منهم عليهم السلام واجد لتلك المرتبة، وإن كان المراد اختلاف مستوياتهم في الزائد على هذه المرتبة فالذي دلّ عليه الدليل هو أفضلية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من سائر الأئمة ومن أنبياء السلف على نبيّنا وآله وعليهم السلام.

ويستفاد من بعض الأحاديث أنّ مولانا المهدي عليه السلام - وهو تاسع الأئمة من

ص: 209

ذرّية الحسين عليه السلام - أفضل التسعة عليهم السلام كما أنّ الأحاديث الكثيرة دلّت على أ نّه عليه السلام يؤمّ عيسى بن مريم وعيسى يقتدي به صريحة في أفضليّته من عيسى على نبينا وآله وعليه السلام.

وإن كان المراد: أنّ سيرهم التاريخية دلّت على اختلاف مستوياتهم فنقول:

اولاً: إنّ سيرهم التاريخية إنّما دلّت على علوِّ مستوى أرباب هذه السيرة، ولم نجد فيها ما يدلّ على اختلاف مستوياتهم، ومجرّد عدم حفظ التاريخ سيرة بعضهم، وما صدر عنه من العلوم لايدلّ على أنّ مستوى غيره ممّن حفظ عنه التاريخ ذلك كان أرفع وأعلى منه، لاسيّما مع ما نعلم بأنّ السبب الوحيد في عدم حفظ ما صدر عن بعض الأئمة عليهم السلام مثل الإمامين السبطين عليهما السلام إلّاالنزر اليسير، هو السياسات الغاشمة الجبارة الحاكمة على المسلمين.

وإن شئت أن تعرف أفاعيل السياسة في ذلك، والخسارات العلمية التي منيت بها هذه الاُمّة من أرباب هذه السياسات، التي حرمت الناس حرياتهم في أخذ العلوم الإسلامية من منابعها الأصلية ومصادرها الأولية راجع كتب التاريخ، وكتاب «النصائح الكافية»، وكتابنا «أمان الاُمّة».

نعم، مرّت على هذه الاُمّة أزمنة كان أخذ العلم عن أهل البيت عليهم السلام وروايته من أعظم الجرائم السياسية، يُعذَّب مُحِبُّوهم وشيعتهم شرَّ تعذيب، ويُنكَّل بهم أشدّ التنكيل، يُقطِّعون أيديهم وألسنتهم، ويقتلونهم شرّ قتلة، ويسبّون بطل الإسلام ونفس الرسول وباب علمه وخليفته ووصيّه على المنابر، التي لم تقم في

ص: 210

الإسلام إلّابمجاهداته وتضحياته وبطولاته.

ففي هذه الظروف والأحوال لم تسمح الفرص لبعض الأئمة عليه السلام القيام ببثِّ العلم كما سمحت للبعض الآخر مثل الإمام الباقر والإمام جعفر الصادق عليهما السلام، ومع ذلك فما في أيدينا منهم يكفي في الدلالة على علومهم اللدُنِّية، وأنّ مستوى كلّ واحد منهم في الإيمان والعلم والأخلاق أعلى المستويات، وأ نّهم خُزّان العلم، ومعادن الإيمان، وينابيع الحكم، وكنوز الرحمن، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، وعلم كلّ واحد منهم علم الجميع.

فهذا الإمام جعفر الصادق عليه السلام قد أخذ العلم منه جماعة يربو عددهم على أربعة آلاف رجل، حتّى أنّ الحافظ الشهير ابن عقدة (المتوفّى سنة 333 ه) صنّف كتاباً في أسماء الرجال الذين رووا عنه أربعة آلاف رجل، وأخرج لكلّ رجل حديثاً وعلماً رواه عن الصادق عليه السلام، وله أيضاً كتاب من روى عن أمير المؤمنين، وكتاب من روى عن الحسن والحسين عليهم السلام، وكتاب من روى عن علي بن الحسين عليه السلام، وكتاب من روى عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام، وهو الذي قال في مجلس مناظرة له:

إنّه يجيب بثلاثمائة ألف حديث من أحاديث أهل البيت عليهم السلام.

ومَن سَبر غور كتب الحديث، واُصول الشيعة، وكتب التراجم والرجال، وما بقي ممّا صدر عنهم في الأجواء المملوءة بالاضطهاد والضغط والقمع، في جميع حاجات الإنسان المعنوية والمادية يعرف أنّ مستواهم في جميع الكمالات أعلى وأنبل من أن يُقاس إليهم أحد من الناس، جعلنا اللّه تعالى من

ص: 211

شيعتهم، ووفّقنا لمتابعتهم، والاقتداء بهم، والمنتظرين لفرج قائمهم، وصلّى اللّه على محمدٍ وآله الطاهرين.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين

لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

ليلة السابع عشر من رجب المرجب سنة 1403 ه. ق.

ص: 212

إيران تسمع وتُجيب

اشارة

ص: 213

ص: 214

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

إنّ رسالة «إيران تسمع فتجيب» ردّ على مزاعم كاتب وهّابيّ مغرض، كان هذا الكاتب الذي يدعى «ابوالحسن ندوي هندي» قد زار إيران في عهد حكومة الطاغوت على رأس وفد من عربستان، حيث اجتمع المذكور بعدد من الطاغوتيّين وبشخصيات علميّة ودينيّة، كما زار بعضاً من المساجد والمدارس التي ارتأى له رجال الأمن زيارتها. وعندما رجع ندوي هذا إلى بلاده، كتب رسالة تحت عنوان «إسمعي يا إيران» راح فيها يأخذ بعض المآخذ غير الصحيحة ويورد الاتّهامات الفاسدة على الشعب المسلم في إيران.

وكتاب «إيران تسمع فتجيب» ردّ على التساؤلات والاعتراضات التي يشير إليها هذا الوهّابي، ممّا يكشف بوضوح سياسة الوهّابيّين الاستعمارية، وجواب عالم الإسلام عليها.

إنّ من المسائل المؤسفة التي يذكرها هذا الكاتب الوهّابي هو: لماذا يجهل

ص: 215

الناس في إيران موضع قبر طاغوت كبير مثل هارون الرشيد بحيث أنّ أحداً لم يستطع أن يدلّنا عليه.

إنّنا بإعادة نشر هذه الرسالة نستهدف القضاء على جذور أمثال هذه الاعتراضات والافتراءات الّتي لا تستند إلّاعلى التعرّض وسوء النيّة.

ص: 216

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، وأفضل صلواته وأزكى تحياته على خير خلقه، محمدٍ وعترته الأطهار، ما تعاقب الليل والنهار.

وبعد، فقد قال عزّ من قائل في محكم كتابه الكريم ومبرم خطابه العظيم:

[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا](1)، و [اِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أقْدامَكُم](2).

لا ريب أنّ الشعوب الإسلامية بحاجة ملحّة إلى استعادة شخصيتها الإسلامية، وتنمية الإحساس بالإسلام، وبتوجيهاته السياسية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية، وإلى أن تقف موقفاً حاسماً أمام التيّارات المدمّرة الملحدة الوافدة من خارج العالم الإسلامي؛ كي لا يجد المستعمر مجالاً لزرع7.

ص: 217


1- آل عمران: الآية 103.
2- محمّد صلى الله عليه و آله: الآية 7.

الأفكار الإلحادية الهدّامة كالصهيونية والشيوعية.

فالمسلمون يواجهون في عقر دورهم، وفي بلادهم، وفي نواديهم ومجتمعاتهم وجامعاتهم وشوارعهم وأسواقهم ومجلّاتهم وجرائدهم جاهليات كثيرة: جاهلية العصر الحاضر، جاهلية القرن، جاهلية الشرق، جاهلية الغرب، جاهلية الرأسمالية والإمبريالية، جاهلية الشيوعية والماركسية...، وجاهليات هي ليست أقلّ خطراً من الجاهلية الاُولى إن لم تكن أخطر.

فحاضر المسلمين في مظاهرهم وظواهرهم، وفي ملابسهم، وفي مطبوعاتهم، وفي إذاعاتهم، وفي أفلام سينماءاتهم يدلّ على أ نّهم أصبحوا بعيدين كلّ البعد عن الإسلام شكلاً ومضموناً.

أمّا شكلاً فيلاحظذلك في عاداتهم، وآدابهم، وأزيائهم، ومخالطاتهم، ومعاشراتهم.

وأمّا مضموناً فيلاحظ ذلك في قوانينهم وبرامجهم وأنظمتهم؛ إذ أنّ أكثر الجماعات الإسلامية اتخذت العلمانية مبدأً رسمياً وعملياً لها، فمن لم يتّخذها رسمياً اتخذها عملياً، فنبذوا الإسلام واُصوله ومبانيه وتعاليمه السامية، وعزلوه عن إدارة المجتمع، وأصبح المثل الأعلى للمسلمين والهمّ الأكبر لهم رجالاً ونساءً، هو مسايرة ركب الحضارة الغربية أو الشرقية ومتابعتها...، وأكثر ما يتجلّى ذلك في نداءات الكثير من قادتهم ومثقّفيهم وكُتّابهم بضرورة الأخذ بتلك الحضارات المليئة بالمضارّ والمفاسد والشرور واتّباعها.

ومن المحزن والمخزي أنّ العامّة من الناس تستجيب لهذه النداءات

ص: 218

المغرية، والدعوات الخلّابة، وهي لا تعلم خلفياتها وحقيقتها وما تنطوي عليه، معتقدة بكلّ صدق وإخلاص وبراءةٍ أنّ هؤلاء الجهلة المأجورين يعالجون أدواءهم، فأصبحت لذلك مناهج التربية والتعليم، ووسائل الثقافة والإعلام، متأثرة بهذا الدواء (السُمّ المعسول).

وبذلك تحقّقت امنية أعداء الدين الإسلامي والاُمّة الإسلامية، حيث كتب أحد المبشّرين (لقد قضينا على برامج التعليم في الأفكار الإسلامية منذ خمسين عاماً، فأخرجنا منها القرآن وتاريخ الإسلام، ومن ثمّ أخرجنا الشُبّان المسلمين من الوسائط التي تخلق فيهم العقيدة الوطنية والإخلاص والرجولة والدفاع عن الحقّ. والواقع أنّ القضاء على الإسلام في مدارس المسلمين هو أكبر واسطة للتبشير، وقد جئنا بأعظم الثمرات المرجوّة منه)(1).

ففي سبيل إجهاض تلك الحملات الإلحادية الهدّامة - التي إن لم تهدّد كيان الإسلام عقيدة ونظاماً، فإنها تهدد كيان الفرد المسلم - يتحتّم على كلّ مسلم أن يضطلع بالمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه، والتي لايرضى اللّه تعالى بالاستخفاف والاستهانة بها.

وإذا لم تُجابَه أساليب الاستعمار لدفعها عن وطننا الإسلامي وإبعادها عن أراضينا، ومحو آثارها من اقتصادياتنا، وتعطيل انعكاساتها على حكوماتنا ومدارسنا وكلّياتنا وجامعاتنا ومعاهدنا العلمية الاُخرى فلايمكننا بأيّ شكل أو سبيل بناء صرح إسلامي جديد.5.

ص: 219


1- حضارة الإسلام: العدد (14)، ص 103، س 15.

لذلك فإنّنا نقول: إنّ حجر الأساس في تحقيق هذه الأهداف هو التمسّك بحبل اللّه، والاعتصام به وبأحكامه وشرعه ومنهاجه القويم، والعمل لتحكيم النظام الإسلامي في جميع نواحي حياتنا المادية والمعنوية، واجتماع المسلمين على صعيد واحد، تحت لواء واحد، وفي وطن واحد، وفي ظلّ سلطان اللّه وسلطان حكمه، وتطبيق الكتاب والسنّة، في جميع المظاهر والظواهر.

وهذا يتطلّب تيقّظاً أكثر، ووعياً أوفر، واتحاداً أوثق، واتفاقاً أضمن، ومجالاً أوسع، وأفراداً صلحاء أنور ضميراً، وأوضح تفكيراً.

ونكاد لانجد مسلماً - شيعياً أو سنّياً - لايرى ضرورة اتحاد الكلمة وتحقيق الوحدة الإسلامية، وحدةٍ تشمل الجماهير المفترقة، والجماعات المتفرقة في ظلّ حكومات مسمّاة بأسماء ليست من الإسلام في شيء، وحدة تعم جميع الفرق والمذاهب، ليعيشوا في ظلّها إخواناً يشدّ بعضهم أزر بعض، ويكونوا كالجسد الواحد، إذا شكا منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.

معوِّقات وحدة الكلمة:

كان المانع من تحقيق هذا الهدف المقدّس إلى الآن هو الاستعمار الحربي والعسكري، أو الاقتصادي أو الثقافي ومن ثمّ حبّ الدنيا والمال والجاه، وعدم تقيّد أغلب الرؤساء والاُمراء والملوك والحكّام بنظم الإسلام، وعدم مراعاتهم لمصالحه. وبذلك فرّقوا المسلمين وجعلوهم شيعاً، واختلقوا في كلّ قطر وبلد

ص: 220

حكومة، إن لم نقل: إنّها اسّست في الأصل لمصلحة الاستعمار، فبالإمكان القول: إنها اسّست على قاعدة تجعل لكلّ حكومة سياسة خاصة وأهدافاً مستقلّة، لاينتفع بها الإسلام والمسلمون، اللهمّ سوى الطغمة الحاكمة في تلك المنطقة. والاستعمار بعد ذلك هو المستفيد الوحيد من هذه التفرقة تمام الفائدة، بل إنّه يرى بقاءه في وطننا الإسلامي الكبير منوطاً بهذه التفرقة، مع أنّ الإسلام يؤكد على ضرورة أن يكون لجميع المسلمين، بل لجميع أبناء البشر سياسة موحّدة وحكومة واحدة تحفظ جميع سكان الأرض، شرقها وغربها، إذ يقول اللّه تعالى: [إنَّ هذِهِ امّتُكُم امَّةً واحِدَةً وَأنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدونِ](1).

وهناك مانع آخر كان له فيما مضى أثر كبير في ضعف المسلمين وتفريق كلمتهم، حتى وصل بهم الأمر، إلى رمي بعضهم البعض بالكفر والشرك، ألا وهو النفاق واللجاج والعناد والتعصّب الأعمى والقبلية!

فالباحث في التاريخ الإسلامي يقرأ الكثير عن الحروب الدامية والغزوات المدمِّرة، التي راح ضحيّتها جماعات من المسلمين، إثر البحوث الكلامية بين الأشاعرة والمعتزلة، والخلافات الشديدة بين معتنقي المذاهب الأربعة، والعصبيات التي قضت على حرية التفكير الشيعي، وحالت دون أخذ التفسير والفقه وسائر العلوم الإسلامية عن أئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام.2.

ص: 221


1- الأنبياء: الآية 92.

وباؤوا خُسراناً:

ولكن هذا المانع أصبح ضعيفاً في عصرنا هذا بفضل المصلحين، وانبثق فجر جديد في تاريخ المسلمين، لايفكّر فيه المسلم - الشيعي أو السنّي - بكيفية الوقوف بوجه أخيه، بل أصبح على العكس من ذلك، يفكر بكيفية القيام إلى جنبه أو وراءه؛ لعونه ونصرته ومؤازرته.

فالعالم الإسلامي قد تحرك وانتفض وانتبه واستيقظ من رقدته، وأخذ يسير في طريق انتشال حقّه وانتزاعه. فهذه النهضات الإسلامية في جميع البلاد قد أعيت السلطات التي ابتُدعت واُوجدت لحفظ منافع الأعداء ومصالحهم، والقضاء على المناهج الإسلامية السامية، والبرامج الدينية الرفيعة، وكذلك الحركات التي تطالب بالرجوع إلى أحكام الإسلام ابتدأت تقطف ثمار النصر والنجاح، ففي تركيا - مثلاً - تشكّلت وزارة ائتلافية بمنتهى الغرابة من حزب الشعب الجمهوري ذي الميول العلمانية، ومن حزب الإنقاذ الوطني ذي الاتجاهات الدينية المحافظة والذي يتزعّمه نجم الدين أربكان، ويدعو أربكان إلى مكافحة الميوعة ومحاربة تردّي الأخلاق، كما يبدو في أحاديثه وتصريحاته حنين إلى الإمبراطورية العثمانية، وقد وافق أجاويد زعيم حزب الشعب على امور طالبه بها شريكه في الحكم، منها إعادة فتح المدارس الثانوية، وتدريس الأخلاق في الكلّيات، وغير ذلك(1).

ص: 222


1- حضارة الإسلام: العدد (1) ص 104، س 15.

واجب العلماء والمصلحين:

بعد هذا العرض للمشاكل الإسلامية المعاصرة يطرح السؤال التالي نفسه:

ما هو واجب العلماء والمصلحين في هذه الأدوار؟ وما الذي يجب عليهم أن يقوموا به لبناء المجتمع الإسلامي الصحيح؟

والإجابة على هذا تنحصر في النقاط التالية:

1 - يجب على العلماء والقادة تشجيع الجماهير الإسلامية، ولاسيّما الشباب منهم على الاتجاهات الدينية، والتمسّك بالآداب والسنن الإسلامية، ورفض العادات الأجنبية، وتحذيرهم من مكائد الاستعمار وشراك الإلحاد الصهيوني والتبشيري والشيوعي، ونهيهم عن التفرق والتشتت والتمزق والاستبداد، وعن الركون إلى دعاة الكفر والضلال، قال اللّه تعالى [يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنوُا لَاتَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالْنَّصَارَى أوْليَاءَ بَعْضُهُمْ أوْلياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإنَّهُ

ص: 223

مِنْهُمْ إنَّ اللّهَ لايَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمين](1).

وقال عزّ من قائل [لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤمِنْونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آباءَهُمْ اوْ أَبْناءَهُم أوْ إخْوانَهُمْ أوْ عَشيرَتَهُمْ اولئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيِمانَ وَأيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ](2).

2 - على العلماء العاملين أن يعلنوا بطلان أي منهج وسياسة وقيادة ونظام، غير الإسلام؛ فإنّ الحكم لِلّه وحده، أمر أن لا يُعبد ولا يطاع غيره، ولا يُحكَم إلّا بحكمه [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَاُولئِكَ هُمُ الكافِرُونَ](3).

3 - على العلماء والقادة المصلحين إنشاء جمعيات من ذوي العزائم، المخلصين والغيارى على الإسلام وكتابه وسنّته؛ لتقوم بمهمّة الصلة بين الجماعات المسلمة في شتى الأقطار، وتؤيد الحركات الدينية المؤيدة بنصٍّ من كتاب أو سنّة أو زعيم ديني، والمنبثقة من الجماهير، ولاسيما من الشباب والطلاب والطبقة المثقفة الواعية، وتوفد إلى البلاد المعتنقة للدين الإسلامي من يطّلع على شؤونهم، ويدرس مستواهم الثقافي والتربوي والاقتصادي والاجتماعي والحكومي، ويدرك مشاكلهم ومتطلّباتهم وحاجاتهم المعنوية والمادية، وما يعانونه من الأعداء، وأنّهم لو غفلوا أو تغافلوا عن ذلك خسروا كيانهم ومجدهم ودينهم ودنياهم وتجارتهم وأخلاقهم.4.

ص: 224


1- المائدة: الآية 54.
2- المجادلة: الآية 22.
3- المائدة: الآية 44.

رابطة العالم الإسلامي

إنّ رابطة العالم الإسلامي لهي في مكة المكرمة، قبلة المسلمين، والبلد الحرام الذي يؤمّه مئات الآلاف من الحجيج في كلّ عام، يأتون من كلّ فجٍّ عميق؛ ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم اللّه أيّاماً معلومات، هذا البلد الأمين مَشرَق شمسِ نبوة سيدنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله، والمدينة المنورة مهجره وحرمه ومرقده، وحسبنا مكة والمدينة بما ترمزان إليه؛ لتكونا رابطةً للعالم الإسلامي.

وحسبنا هذا الحجيج رابطةً تربط جميع أقطار العالم الإسلامي بعضها ببعض، فالحج أكبر وأعظم مظهر من مظاهر وحدة الاُمّة، وأنّ الجميع من العرب والعجم والبيض والسود، والفقراء والأغنياء، والقادة والسَوَقة امة واحدة في رحاب اللّه.

اسِّست في هذا البلد الطيب المبارك رابطة العالم الإسلامي وظن الكثير أ نّها اسّست لتكون اسماً ومسمّىً كذلك إن شاء اللّه تعالى، وقد تركت في نفوس

ص: 225

المسلمين وخاصّةً الشباب أثراً كبيراً.

وكان المأمول في هذه الرابطة الدفاع عن مصالح المسلمين، وتشجيعهم في ميادين العمل ضد الاستعمار، ووضعهم في مصافّ الحركات التحررية والتقدمية، وتوثيق عُرى الاُخوّة، والتجاوب والتعايش والتفاهم بين المسلمين، وأن تكون انشودة هذا الجيل الحائر المتخبّط في الاضطرابات الفكرية والاصطدامات العلمية، وأن تأخذ بأيدي الفتيان والفتيات الجامعيين والجامعيات؛ لئلا يسقطوا في مهاوي اليأس والشقاء، والخلاعة والفحشاء، والميوعة والدعارة والإلحاد.

وقد كتبتُ قبل سنتين أو أكثر مقالاً، عرضت فيه على تلك الرابطة بعض ما ينبغي أو يجب أن تقوم به في البلدان الإسلامية، وأشرتُ إلى ضرورة تشجيع النشاط الديني ومكافحة الأساليب الكافرة، وكان أملي وطيداً أن يؤخذ ذلك بعين الاعتبار، ولا أدري هل وصل مقالي إليها أم لم يصل، ولعلّ المسؤولين لم يروا مصلحة لهم في نشره في مجلّتهم أو صحفهم.

وعلى أية حالٍ فالرابطة بدأت مهمّتها، وجعلت نفسها في غير موضعها، وأخذت تؤيّد الحكومة السعودية الّتي أنشأها الإستعمار، وكانت ولا تزال في حضانته، يعرفها بهذه الخصّيصة المسلمون وغيرهم. لقد أحيت هذه الحكومةُ الملوكيّة الخبيثة، وسمّت نفسها وبلاد الحرمين الشريفين بالسعودية؛ لتكون رمزاً لمقاصدها المفرّقة، واختصاص الحكم بعائلة خاصّة. فأخذت الرابطة تؤيّد الإستعمار بتأييدها هذه الحكومة، وبدعاياتها الوهّابية التي هي كالأساس لهذه الحكومة وأهدافها الاستعمارية.

ص: 226

ولو كانت الرابطة تقوم بمهمتها سليمةً بعيدةً عن النزعات الاستعمارية والطائفية لكان موقفها غير موقفها الحالي، ومسيرها غير هذا المسير. ولو أراد أعضاؤها والقائمون بأمرها خدمة الإسلام لوجب عليهم أن ينزِّهوا الرابطة عن الدعاية للمستكبرين الذين استضعفوا عباد اللّه، وجعلوهم خُوَلاً، كما جعلوا مال اللّه دُوَلاً، كما وجب عليهم القيام بانتخاب أعضاء صالحين مصلحين مخلصين، غيارى على الإسلام، عالمين بحاضر العالم الإسلامي وبالأسباب والعوامل التي أدّت إلى ضعف المسلمين وتخلّفهم عن مواكبة ركب الحضارة الصناعية؛ ليدركوا حقائق ما يجري في كلّ منطقة، ويرشدوا ويوجّهوا كلّ شعب إلى سبل القضاء على سيطرة الأجانب وأساليبهم الكافرة، ويتجنّبوا ما يورث التفرق بين الأفراد والجماعات، والاختلاف في الآراء المذهبية وتكرارها في صحفهم ومجلّاتهم، وعلى لسان وفودهم إلى الأقطار.

فالجيل الحاضر لايكاد يقبل هذه العصبيات المذهبية، وهو يرى أنّ الاُصول الأولية الجامعة للمسلمين والمقوّية لكيانهم أصبحت معرّضة لخطر الإلحاد وأفكاره الهدّامة، بالإضافة إلى أنّ ذلك يزيد البلاء والمرض، ويورث عصبيات غيرهم وحساسياتهم، ويدعو إلى الظنّ بهذه الجمعية التي نودّ أن تقف في وجه عملاء الاستعمار، وتعمل لتحرير بلاد الإسلام من سلطة الحكومات العميلة.

ص: 227

الإيفاد:

لقد أوفدت جمعية رابطة العالم الإسلامي ممثّلين وهيئات إلى البلدان الإسلامية، وهذا عمل كبير، وكلّما كان الوفد أوسع فكراً وأبعد نظراً وأكثر تجنباً للعصبيات المذهبية، وأعرف بواقع العالم الإسلامي ومشاكله، وأكثر إخلاصاً كانت ثمراته أكثر ومنافعه أوفر، وبالعكس تماماً لو كان الوفد غير خبير، ومتحيِّزاً لفئة دون غيرها، ناظراً إلى العالم الإسلامي وجماهيره بمنظار مذهبه الشخصي ورأيه السياسي، غير عابئ بالمسائل العامة التي اتفقت عليها آراء جميع الفرق فإنّه لا يعود إلّابالضرر والفشل والتنازع المنهيّ عنه في الكتاب العزيز.

ص: 228

وما أدراك ما ايران:

إيران، وما أدراك ما إيران؟ إيران المجاهدة، إيران الصامدة في وجه الاستعمار بفضل نضال شعبها وعلمائها المجاهدين، إيران التي أنجبت للإسلام والمسلمين علماء أعلاماً ورجالاً عباقرة، وكتّاباً ومحدّثين، وفلاسفة ومتكلّمين وغيرهم، إيران التي كانت ولاتزال محطّاً لنظر الاستعماربكل صوره وأشكاله، والتي حاول بكلّ جهده القضاء على كيانها الإسلامي وروحيتها المؤمنة، ولم ينجح - والحمدِ للّه - كما نجح في بعض البلاد. إيران التي بقي شعبها ملتزماً بالمظاهر الإسلامية والأحكام الدينية، إلّامن فُتِن منهم بالأساليب الغربية والدعايات الفارغة الكاذبة المضلِّلة.

إيران؛ وما أدراك ما إيران؟ إيران التي ضحّت وتضحّي كلّ يوم في سبيل الدفاع عن الإسلام وأحكام القرآن، لقد ضحّى علماؤها الأعلام وطلبة العلوم الإسلامية والعصرية، المؤمنون باللّه ورسوله، المتمسكون بمبادئ الإسلام، المطالبون بتطبيق أحكام القرآن، فزُجّوا في السجون، واُبعدوا عن الأوطان،

ص: 229

وعُرِّضوا لأنواع التعذيب الروحي والجسمي.

إيران؛ وما أدراك ما إيران؟ إيران التي اتخذت حكومتها العلمانية (عملياً لا رسمياً) أساس مناهجها وبرامجها: فصل الدين عن السياسة والدولة والقضاء والتربية والتعليم والاقتصاد والعمران، كأكثر البلاد الإسلامية.

ص: 230

اسمعي يا إيران!:

زار إيران وفد الرابطة برئاسة الاُستاذ أبي الحسن الندوي، وبعد الزيارة كتب الاُستاذ المذكور رسالة تحت عنوان «إسمعي يا إيران»، آخَذَ فيها على الشعب الإيراني زيارته لمشهد الإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام ومشهد اخته السيدة فاطمة عليها السلام، وزعم أنّ عناية الشعب بالمساجد هي أقلّ من عنايته بالمشاهد، وأنّ المشاهد المشرّفة أكثر عمراناً وأشدّ ازدحاماً، وأنّ كثيراً منها تشكو قلّة المصلّين.

وآخَذَ فيها على شعب إيران وجود صورة النبي صلى الله عليه و آله وصورة أمير المؤمنين علي عليه السلام بكثرة في المساجد والبيوت، وقال: قد رأينا ذلك، وعزّ علينا في مسجد سبهسالار وبعض المساجد والبيوت، وعَدَّ ذلك من الذرائع إلى الشرك.

كما آخَذَ على الشعب الإيراني المسلم حبّه الشديد لأهل البيت عليهم السلام، وخشي أن يكون قد اخذ الشيء الكثير من حق النبوة، حيث قال: «أخشى أن

ص: 231

تكون قد جُعلت الإمامة منافسة للنبوة، ومشاركة لها في كثير من الصفات...»، إلى أن ساق الكلام إلى التقريب، وزعم أنّ الشيعي لايطلب ذلك بالقلب، ولايبسط في سبيل ذلك يده، وطلب من الشيعة إذا أرادوا التقريب تغيير نظرهم في صحابة الرسول صلى الله عليه و آله وفي أزواجه امّهات المؤمنين، كما حمل على الشيعة بالتلويح في مطاوي كلامه في أكثر من موضع.

ص: 232

مهمات الرابطة:

هذا بعض ما في رسالته ممّا له مساس بالشؤون الإسلامية، وهو بهذا لم يأتِبجديد، فهذه امور طُرِحت من قبلُ واستوفت حقوقها من الجدل والكلام.

ومع هذا نختصر الحديث، ونقول:

إنّ إيران تسمع فتجيب:

أمّا مسألة زيارة القبور والمشاهد التي أثارها في رسالته فإنّها ليست مسألة جديدة تنبَّه لها الاُستاذ الندوي وحده، بل هي من المسائل التي طال البحث والنقاش حولها، فحرّمها فريق خاصّ بلا دليل أو برهان أو شاهد من كتاب أو سنة! وجوّزها الآخرون استناداً إلى الكتاب والسنّة، واتضح الحق بما لامزيد عليه. وقد ا لِّفت في ذلك مئات من الكتب، وكتبت مقالات حولها، واُريقت دماء محترمة بسبب التعصّب في هذه المسألة، وقد خرجت بعد كلّ هذا من معرض التفكير، وإذا ما فكر فيها اليوم مسلم فإنّما يفكّر لمعرفة الواقع والحقيقة فقط،

ص: 233

لالإثارة النقاش والجدل...

وكأنّ الاُستاذ النَدَوي قد زعم وتصور أنّ جمعية الرابطة حينما تشكّلت في مكة المكرمة إنّما تشكّلت لدعم المذهب الوهّابي فحسب، فلم يلفت نظرها الواقع الإسلامي المعاصر، وما يهدّد أحكام الإسلام والمجتمعات الإسلامية من هجمة تقاليد الاستعمار الثقافي الشرقي والغربي، ومن أساليب خداع الشباب، وإبعادهم عن تعاليم دينهم وتقاليد بلادهم التي يكمن فيها الخطر كلّ الخطر على المسلمين. فكأني بالاُستاذ الندوي يرى أنّه ليس في أهداف الرابطة ومشاريعها التدخل في هذه الاُمور، فلايؤاخذ ولايقول شيئاً عمّا جنت أيدي الحكومات على الإسلام والمسلمين، من استبدال المناهج التربوية والبرامج التعليمية الإسلامية بالبرامج الكافرة، في المعاهد والكلّيات والجامعات، ولايشكو من القوانين التي توضع وتطبّق كلّ يوم رغم أنف الشعوب الإسلامية (الشيعة والسنّة) في جميع مرافق الحكومة، وفي الإدارة والقضاء والمجتمع والجيش، وحتى في الأوقاف والمستشفيات وغيرها. وكذلك لايشكو من إلغاء النظام الإسلامي الذي يؤمن به كلّ مسلم شيعياً كان أو سنّياً.

للضيافة الأحكام!!

نعم، لايشكو من ذلك، لأنّه كان في ضيافة مديرية الأوقاف التي لم تؤسّس في إيران إلّاللقضاء على نفوذ رجال الدين والعلماء الأفاضل، وللسيطرة على المساجد ومراقبتها؛ لئلّا تكون مراكز للثقافة والإرشاد والأمر بالمعروف

ص: 234

والنهي عن المنكر؛ كي لا يعترض أحد على أحد، لاسيّما على أرباب المناصب، فلايقال للمسؤول في أية رتبة كان: لِمَ فعلت أو ارتكبت هذا المنكر أو ذاك؟ ولِمَ تجاوزت حدود اللّه والشرع؟ لماذا تصنعون التماثيل وتنصبونها في الميادين وغيرها وتعظّمونها مع أنّ هذا أشدّ نكراً وضرراً من عبادة الأوثان؟ إذ أنّ عبادة الأوثان لاتزيد في طغيان هذه الأوثان واستبدادها أو تكبّرها وغيّها، بينما تعظيم تماثيل الاُمراء والقوّاد يزيد في جبروتهم، ويشجعهم على التمادي في الغيّ والاستبداد والظلم.

لم يسأل الشيخ الندوي مضيِّفه مدير الأوقاف - الذي احتفى به وأكرم ضيافته - عن المساجد الكبيرة القديمة الأثرية في إيران، كمسجد الشاه، ومسجد الشيخ لطف اللّه، والجامع العتيق في إصفهان وشيراز وغيرهما من المدن الإيرانية. لم يسأله: لماذا تسمح الحكومة وأجهزتها بدخول السافرات العاريات إلى بيوت اللّه، وفي هذا هتك لحرمتها؟!

لماذا لم يلفت سفور النساء وأزيائهنّ المخزية، والمؤسّسات الربوية التي تزداد وتتضاعف يوماً فيوماً نظر الشيخ الندوي ولم يعترض على مضيّفيه؟

لماذا لم يسأل مدير الأوقاف عن سبب تشجيع الحكومة للحركات التي هي في محصّلتها النهائية محاربة للإسلام ومحاولة للقضاء عليه؟!

لماذا لم يؤاخذ عليه الأفلام السينمائية التي تفسد الأخلاق وتسوق الشباب إلى هاوية الفحشاء ومهاوي الفساد؟ لماذا لم ينصح أحداً في هذه الاُمور في رسالته هذه؟

ص: 235

لماذا لم ينظر إلى الصحف والمجلّات التي لاتهدف إلّاإلى ترك السنن الإسلامية، وتدعو إلى الفسق والفجور والاستهتار؟

هذه مسائل يجب على وفود الرابطة أن يدرسوها ويلحظوها، ويبحثوا عنها في كلّ بلد يفدون إليه، لافرق بين إيران ومصر والجزائر وتونس والمغرب وباكستان وتركيا، وغيرها من البلاد الإسلامية.

يجب على الوفد نصح الحكومات وشعوبها في هذه المسائل، وإبلاغهم البلاغ المبين: إنّ الإسلام يرفض كلّ قانون يخالف شريعة اللّه، وينبذ كلّ سلطة لاتهتم بتطبيق الأحكام الإسلامية التي يؤمن بها المسلم الشيعي والسنّي على حدٍّ سواء، فلامعنى لهذه القوانين التي ليست من الإسلام في شيء، ولاتمتّ إليه بصلة. وكذلك نصحهم باعتماد أهداف الإسلام في نُظُمهم الاجتماعية والسياسية والتربوية والإقتصادية، ونبذ النُظُم الوافدة أو المستوردة من الخارج، ونصحهم بالاستعداد للجواب يوم الحساب.

الفكرة القومية:

ثمّ ما هذه الفكرة الخبيثة التي جزّأت العالم الإسلامي ومزّقته شرّ ممزّق، ونبذت تعاليم الكتاب والسنة في المجتمعات المسلمة؟ فكأ نّكم تصوِّبون وتؤيدون مبدأ العلمانية، فلاتناقشون الحكومات في هذه المسائل وفي كلّ ما له دخل بالسياسة، ولاتحثّون الشعوب على أن يكونوا صفّاً واحداً أمام هذه التيارات الملحدة والسياسات المخزية، وكأنّ هذه الاُمور الخطيرة ليست همّاً

ص: 236

للمسلمين ولا تشكل منعطفاً خطيراً وصعباً للعقيدة، بل تناقشون فقط زيارة المشاهد المشرّفة وما رأيتم في مسجد سبسهالار من صورة النبي صلى الله عليه و آله وصورة أمير المؤمنين علي عليه السلام؟! هذا المسجد الذي وضعت الحكومة ومديرية الأوقاف يدها عليه، وهتكت حرمته بحجة أنّه أثري، فسمحت للكفار بزيارته للاستئناس به والتفرّج عليه، ومن جرّاء ذلك عطّلت الجماعة ومجالس الوعظ وقراءة القرآن والتفسير فيه، كما هو الشأن في مئات المساجد العامرة بالصلاة، وإقامة الجماعة والجمعة، ومجالس الوعظ ودرس القرآن والتفسير، في طهران وحدها فضلاً عن سائر المدن.

ألم يعلم الموفَد، أم لعلّه لم يشأ أن يعلم أن كثيراً من العلماء الأفذاذ، والخطباء الغيارى على الإسلام هم إمّا سجناء أو مبعدون عن الأهل والوطن، لالشيء إلّالقيامهم بالواجب الديني من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولوقوفهم ضد اليهود والحركات الصهيونية؟!

ص: 237

ص: 238

وفد الرابطة... ماذا زار؟ وبمن التقى؟:

... لم يلتقِ وفد الرابطة في طهران ومشهد الرضا وقم المقدسة بالعلماء المجاهدين الربّانيين، الذين كرّسوا حياتهم وأفنوا عمرهم في سبيل الدفاع عن الإسلام وأحكامه، وهم قِمم وأعلام في شتّى العلوم والمسائل الإسلامية.

نعم، لم يلتقِ الوفد إلّابمن سمحت مديرية الأوقاف بزيارته ولقائه...!

لم يزر الوفد في قم المشرّفة، الجامعة العلمية ومعاهدها التي تدرس فيها المعارف الإسلامية، والتي هي مقرّ الأساتذة الجهابذة، والعلماء والخطباء، والكتّاب والمؤلّفين، كالمدرسة الفيضية، ودار الشفاء، والحجّتية وأمثالها، عند إلقاء المحاضرات العلمية، وإقامة الجمعة والجماعة، التي يشترك فيها المئات من حملة العلم والعلماء والزهّاد والطلّاب، وقد لايكون لها نظير في العالم الإسلامي!

ص: 239

كما لم يزر مئات المساجد في قم عند أوقات الصلاة؛ ليرى بأمّ عينيه اهتمام الشعب الإيراني بإقامة الصلاة جماعة.

كما لم يزر المدارس الدينية ببلدة قم المقدسة، كالمدرسة الصادقية، والجوادية، والرضوية، والمنتظرية، والعلوية، والكرمانية، والحجتية الكبرى، ودار الفقاهة، ومدارس آية اللّه الگُلپايگاني، وآية اللّه المرعشي!

... لم يزر الوفد المكتبات العامة الكبيرة، المليئة بنفائس الكتب المخطوطة والمطبوعة لعلماء الشيعة والسنّة، كمكتبة الإمام آية اللّه البروجردي، ومكتبة آية اللّه المرعشي وغيرها!

كما لم يزر الجامع الكبير الذي أسّسه وبناه أخيراً الإمام الراحل السيد البروجردي، تغمده اللّه برحمته، والذي يُعدّ من أكبر المساجد، ومن أكبر مراكز العلم ونشر الثقافة الإسلامية، ويلقي فيه مراجع الشيعة محاضراتهم العلمية على جمع غفير من الطلاب والعلماء، في الفقه والاُصول، وهذا المسجد هو آية من آيات الفنّ، يُعرب عن مدى اهتمام الشيعة بأمر المساجد!

كما لم يرَ الوفد في قم من ثمانية آلاف طالب علم إلّاالنفر القليل المشتغلين في بعض فروع الحوزة العلمية!

فلو كان قد زار المراكز التي أشرنا إليها، وجالس أصحاب السماحة العلماء للنقاش والبحث حول المسائل الإسلامية واطّلع على آرائهم السديدة وحججهم البالغة وأدلتهم الدامغة لما آخَذَ على الإيرانيين والشيعة ما آخذ عليهم في رسالته، ولَعَدَل عن تفكيره الباطل حول عقائد الشيعة، ولاسيما عقيدتهم في أهل

ص: 240

البيت عليهم السلام، ولَعَلِم أنّ الشيعة هم أشد المسلمين وأكثرهم سداداً في التوحيد، وفي تعظيم معالم النبوة والرسالة.

ولم يكن حال الوفد في مشهد سيدنا الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام - الذي ملئت العلوم المروية عنه الخافقين - بأحسن منه في قم، بل كان أسوأ، فإنّه لم يلتقِ في تلك الربوع المشرّفة بالعلماء الذين قلّما يوجد مثلهم، اللهمّ إلّا ببعض منهم بطريق رسمي، كما لم يساعده التوفيق للالتقاء بالعلماء المصلحين المجاهدين المقاومين للتيارات الإلحادية والأنظمة غير الإسلامية.

فالالتقاء بأمثال هؤلاء التقاء يفيد الإسلام والمسلمين، وإلّا فاللقاءات المذكورة في «اسمعي يا إيران» تحت إشراف الحكومة والأوقاف والأمن وأجهزة المخابرات ليست غير مفيدة فحسب، بل هي مضرّة تورث يأس الشباب الناهض المتطلّع إلى الإصلاح المنشود عن طريق الرابطة والعلماء.

ص: 241

ص: 242

هذا ما نتوقّع

وهنا أغتنم الفرصة لاُخاطب أعضاء الرابطة: بأنّ المتوقّع منكم أن تختاروا لزيارة أيّ بلد من بلاد المسلمين مَن يدرك مشاكلهم، ويتفهّم واقعهم الذي يعيشونه في المجالات السياسية والاجتماعية والتربوية، ويتعرّف بسرعة وحذق وإخلاص على المكائد والأشراك المنصوبة للمسلمين بجميع مظاهرها الطائفية والمذهبية، والتي ترمي إلى القضاء على الإسلام بكلّ مظاهره، وعلى الكيان الإسلامي والشعائر والالتزامات الدينية عند الجميع، دونما أي تفريق أو تمييز بين مذهب وآخر.

فالمفروض على الوفود النظر إلى أوضاع البلاد التي يزورونها من هذه الجهة، وبمثل هذه الرؤية، ومطالبة المسؤولين والحكّام بتطبيق أحكام الإسلام، وكذلك الالتقاء بالعلماء المجاهدين المصلحين الذين وقفوا في وجه الأفكار الهدّامة الكافرة، وأبوا أن يكونوا اجَراء للحكومات العميلة، وذلك بدعمهم والتنسيق معهم ومع مواقفهم.

ص: 243

وعليها التمعّن في الأوضاع التعليمية والتربوية ومناهجها التي تسير على غير المنهج الإسلامي عند الجميع، وبرمجة كيفية مؤازرة جماهير المسلمين، التي قابلت بكلّ صمود و مسؤولية الدعايات الفارغة الفاسدة، بالدعوة إلى المناهج الإسلامية، وفي كيفية الوقوف إلى جانبهم لإعلاء كلمة الإسلام، وتجنّب الدعايات التي لم تأتِ إلّابالشقاق والتفرقة والضعف، وملاحظة تدبّر مستوى كلّ شعب في الأخلاق والآداب والحكومة والحرية.

كما عليها أن تدعَ الكلام في المسائل الفرعية الخلافية، وتُترَك كلّ طائفة واجتهادها، ولاتكثر الجدل والنقاش، وتتجنّب ظنّ السوء بالمسلمين، وتسأل عن الاقتصاد والصناعة والتجارة وسائر مقدّرات المسلمين، كيف وقعت في أيدي اليهود وبراثن الفرقة العميلة الضالّة المضلّة البهائية؟

هل سأل الوفد عن أصحاب المصانع الكبيرة والمعامل المهمة والمتاجر العظيمة، أهم من الشيعة الذين يزورون المشاهد - على حدّ تعبير الندوي - أم من اليهود وغيرهم من الفرق غير الإسلامية؟!

ص: 244

هل... وهل... وهل...؟:

هل عرفتم «إلقانيان» اليهودي التاجر الذي استولى على قسم كبير من تجارة هذه المنطقة؟

هل عرفتم «حبيب الثابت» اليهودي البهائي الذي يمتصّ دماء الشعب المسلم بمعامله الكثيرة؟

هل عرفتم مؤسس معامل «أرج» لتعرفوا المسلمين بهم ليقاطعوا بضائعهم؟ إذ أنّ في إمارات الخليج والكويت وبعض البلاد العربية الأخرى تباع منتوجات اليهود والبهائية، ويصرف ريعها لصالح الكفر والاستعمار، وللقضاء على اقتصاد المسلمين في المنطقة!

هل عرفتم يا رئيس الوفد من هذه الاُمور شيئاً؟

هل قرأتم الصحف والمجلّات؟ وهل اطّلعتم على القوانين السائدة في البلاد التي اتفق فقهاء الفريقين (السنّة والشيعة) على بطلانها؟

ص: 245

هل تتبّعتم ما يجري على الشعب الإيراني المسلم العريق، وما تقوم به الدولة من إحياء آثار المجوس، وأيام كورش، وتعظيم العادات والآداب التي قضى الإسلام (الشيعي والسني) عليها؟!

هل فهمتم شيئاً عن التيّارات الإلحادية الهادفة إلى إضعاف الإسلام في إيران وسائر البلاد الإسلامية؟!

هل رأيتم التماثيل المنصوبة في الساحات والميادين كالأصنام، يُجبَر الناس على تعظيمها؟

هل رأيتم التشريفات المزيّفة التقليدية التي يُجرونها ويقومون بها لاحترام الرؤساء والزعماء؟

هل درستم وضع المعاهد التي اختلط فيها الفتيان والفتيات السافرات؟

هل بحثتم مع مَن التقيتم به في قم ومشهد من العلماء حول هذه المسائل؟

هل زرتم المعامل، وكذلك المعاهد المنسوبة إلى المعارف، وما إلى ذلك؟

هل سألتم عن جهاز الدولة، من الحاكم والأمير والوزير والقائد والنائب؟ وهل أ نّهم يحضرون جماعات المسلمين وجُمَعهم، أو يقيمون الصلاة في أوقاتها؟ هل سألتم عن إقامة الجمعة أو الصلاة فرادى في الجيش، وإنّهم ليأمرونهم بترك الصلاة والإفطار في شهر رمضان المبارك؟!

هل اجتمعتم في مدينتَي قم ومشهد - وفيهما آلاف العلماء والخطباء - بمن تبحثون معه في هذه المسائل التي تعمّ البلاد الإسلامية؟ وهل، وهل، وهل وألف هل؟!

ص: 246

إذا لم تعرفوا هذه المسائل، أو لم يُسمَح لكم بمعرفتها فما فائدة هذه الرحلات والجولات؟!

ص: 247

ص: 248

نظرة العين الواحدة:

رأيتم زيارة الناس للمشاهد، ولكنّكم لم تروا المنكرات والمظاهر المخالفة لروح التوحيد الإسلامي؟ أليس من الشرك أن يختصّ أحد الناس أو جماعة منهم باسم البرلمان بحقّ التشريع ووضع القوانين ذلك الحقُّ الذي هو خاصّ باللّه تعالى وحده؟! أليس الحكم كلّه للّه؟! أليس من الشرك أن تصدّر المراسيم والبيانات الرسمية باسم جلالة الملك أو سموّ الأمير أو سيادة الرئيس بدل تصديرها بالبسملة، أو تدشين البنايات والمعامل والمعاهد والمستشفيات وغيرها باسم هؤلاء المستكبرين، تبرّكاً بأسمائهم التي لاخير فيها ولابركة؟

ألم تسمِّ النظام المسيطر على الحرمين الشريفين والحجاز، أرض الحجاز والمملكة بالسعودية والأرض كلّها للّه، والاُسرة السعودية وأمراؤها ليسوا أرباباً من دون اللّه تعالى، وليسوا أولى بهذه الأراضي المقدّسة من غيرهم من سكّانها، ولولا القبلة التي ولّى اللّه الناس إليها ونشأة الرسول الأكرم والأئمة عليهم السلام وروضة الرسول، وما في تلك الديار ممّا يدلّ على أمجادنا الإسلامية والبنايات الأثرية

ص: 249

تشهد بصحّة تاريخنا المضيء بالإخلاص والبطولات لَما قُدِّست تلك الجزيرة ولَما أمَّها المسلمون، ولَما أتَوها من كلّ فجٍّ عميق؟!

يا أعضاء جمعية الرابطة، ووفدها!:

هذه المصائب لم تُصب إيران وحدها، بل تعاني منها جميع البلاد الإسلامية، وأنتم غافلون أو متغافلون عنها، وتصبّون اهتمامكم في المآخذ التي تورث الشحناء والبغضاء والضعف والتفرقة، لماذا لاتحملون هذه الخلافات على المحامل الصحيحة وعلى اجتهاد من يقول به؟

ذروا المسلمين واجتهاداتهم في هذه الاُمور، واتركوهم ومذاهبهم واجتهادهم في الكتاب والسنّة، وكونوا على يقين أنّ أحداً من المسلمين الذين يتلون سورة التوحيد في صلاتهم ويتلون آية [أنَّمَا إلَهُكُم إلَهٌ واحِدٌ](1) ويتلون آية [وَلاَ يُشرِكْ بِعِبادَةِ ربِّهِ أحَداً](2) لا يعبد القبور، ولايشرك أولياء اللّه تعالى في شؤونه، فالأمر كلّه للّه، وبيده ناصية كلّ شيء، لايملكون لنفسهم نفعاً ولاضرّاً، ولاموتاً ولاحياةً ولانشوراً، نعبده ونستعين به وندعوه ونبتهل إليه، وأنكروا عليهم ما اتفق الكل على خطره وتحريمه، وكونوا أشدّاء على الكفار رحماء بينكم.

فكّروا فيما يهمّ المسلمين، وفي الاُمور التي تورث التودّد وتوحيد

ص: 250


1- فصّلت: الآية 6؛ الأنبياء: الآية 108؛ الكهف: الآية 110.
2- الكهف: الآية 110.

الكلمة، وتوثيق عُرى الاُخوَّة الإسلامية، ولاتشغلوا أنفسكم وأوقاتكم بمباحث أَكَلَ عليها الدهر وشرب، وأدّى التعصّب فيها إلى فتن كبيرة وإلى إتلاف النفوس.

فقد جرّب المسلمون أضرار أمثال هذا الجدل والنقاش وأخطارها، وعرفوها، فاعرفوها أنتم واعتبروا بها، ولنذكر نموذجاً منها: تلك الفتنة التي وقعت بين الحنابلة والشافعية، وكان السبب في إثارتها، أسلافكم الحنابلة وأصحاب أبي محمد البربهاري، كما يُحدّثنا ابن الأثير بما نصّه: (فخرج توقيع الراضي بما يقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم، ويوبخهم باعتقاد التشبيه وغيره، فمنه: تارةً أ نّكم تزعمون أنّ صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال ربّ العالمين، وهيئتكم الرذلة على هيئته، وتذكرون الكفّ والأصابع والرجلين والنعلين المذَّهبَين والشعر القَطِط، والصعود إلى السماء والنزول إلى الدنيا، تبارك اللّه عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً، ثمّ طعنكم على خيار الأئمة، ونسبتكم شيعة آل محمد صلى الله عليه و آله إلى الكفر والضلال، ثمّ استدعاءكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لايشهد بها القرآن، وإنكاركم زيارة قبور الأئمة، وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع، وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوام ليس بذي شرف ولانسب ولاسبب برسول اللّه صلى الله عليه و آله وتأمرون بزيارته، وتدّعون له معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، فلعن اللّه شيطاناً زيّن لكم هذه المنكرات، وما أغواه!)(1).

والنموذج الجديد أفاعيل الوهّابية والفتن التي أثارتها انجلترا في الحرمين8.

ص: 251


1- الكامل لابن الأثير: ج 8 ص 308.

الشريفين بيد عملائها من آل سعود في الإسلام فيها بخسارات عظيمة لعلك لم تجد مثيلها في تاريخ الإسلام وبعد إنجلترا جاء دور أمريكا والصهاينة في التلاعب بالنظام السعودي، فجعلته تحت رعايتها وحضانتها فذهبت بثروات المسلمين الاقتصادية والمادية والمعنوية.

اجتمعوا، وكونوا صفاً واحداً، واسماً على مسمىً، رابطة بين المسلمين والعلماء الصالحين المصلحين وأصحاب الغيرة على النواميس الإسلامية، لا مع الحكومات وعملائهم، فإنّ أكثرهم كما تعلمون يهابون الوحدة الإسلامية ويخشونها، إيماناً منهم بأنّ وحدة الاُمة الإسلامية تزيل سلطانهم وتزعزع أركان حكوماتهم، وتدكّ صروحهم، فترى بعض الحكومات في المجتمعات السنّية، تحارب فكرة الوحدة السياسية والإقليمية، ولاتسمح لأحد أن يعمل لها أو يدعو إليها.

فكّروا كيف ينبغي أن تعملوا لإعادة مجد الإسلام، وإعادة سلطان أحكام اللّه في الدول الإسلامية وفي مجتمعاتها؟ وكيف ينبغي أن نعمل لتحقيق الوحدة الإسلامية...؟ لاتبادروا إلى نشر مقالات ورسائل مثل «إسمعي ياإيران» و «الخطوط العريضة»، ولا تعاتبوا محبّي أهل البيت عليهم السلام من الشيعة والسنّة، ومن يأخذ بمذهبهم في الأصول والفروع، ويرى أئمتهم أعدال الكتاب بمقتضى «حديث الثقلين» المسلّم به بين الفريقين، وأحاديث كثيرة أخرى، ولاتتَّهموهم بالغلوّ فيهم، ولاتقولوا: إنّ الشيعة جعلت الإمامة - العياذ باللّه - مشاركة للنبوة، فإنّ الشيعة بريئون من هذه التهم، وبعيدون عمّا تقذفونهم به، وليس حبّهم لأهل البيت عليهم السلام إلّامظهراً من مظاهر حبّهم واحترامهم للنبي الأعظم صلى الله عليه و آله؛ فإنّه صلى الله عليه و آله أمر

ص: 252

بحبّهم ورغّب فيه ترغيبات أكيدة، تشهد بذلك روايات متواترة، أخرجها الحفّاظ وأرباب الجوامع والصحاح والمسانيد في كتبهم، ولايلوم الشيعة على ذلك إلّا مَن في قلبه مرض أو نفاق...

الشيعي متأثّر بحبّ عليّ وفاطمة والحسنين وسائر الأئمة عليهم السلام؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يحبّهم، ويأمر بحبهم، وكانوا أحبّ الناس إليه وأعزّهم عليه.

هُمُ العُروةُ الوُثقى لِمُعتصِمٍ بِها

فماذا تنقمون من الشيعة في ذلك؟ ولماذا تؤاخذونهم على ما هو من علائم الإيمان وطهارة المولد؟

ص: 253

ص: 254

هذا رأينا...:

وأما ما رأيتم في مسجد سبهسالار وغيره من الصور فقد مرّ الجواب عنه، وقد أفتى علماء الشيعة ببدعة هذه الصور وتركها، كما أفتوا بكراهة الصلاة في مكان فيه صورة. وإنّي لم أزُر إلى الآن مسجد سبهسالار، ولكن لم أرَ في غيره من المساجد الكثيرة في طهران وقم وإصفهان ومشهد وغيرها من المدن أية صورة!...

وأمّا ما اقترحتم على الجعفريّين من وجوب تغيير نظرتهم إلى بعض صحابة الرسول صلى الله عليه و آله وبعض أزواجه امّهات المؤمنين إذا أرادوا التقريب، فإن أردتم بذلك أن يترك الشيعي اجتهاده فأنتم تعلمون أن ترك مؤدّى الاجتهاد والاعتقاد بخلافه غير جائز، ولاينبغي لمجتهد أن يطلب من غيره ترك ما أدى إليه اجتهاده.

وأمّا التقريب فليس معناه ترك السنّي أو الشيعي لمذهبه، بل معناه: أن

ص: 255

لا يؤاخذ كل واحد منهم الآخر بما لايتنافى مع الإسلام في شيء، ويأخذ كلّ منهما في مقام التجاوب والتفاهم بالاُصول الإسلامية، الجامعة المشتركة بين الجميع، وأن لا يُدخِلوا في الدين ما ليس منه، من تأييد الحكومات غير الشرعية ونحوه؛ فإنّ عقيدة الشيعة لاتتجاوز في ذلك عقيدة بنت الرسول سيدة نساء العالمين، وسلمان وأبي ذرّ والمقداد وحذيفة وعمار ونظائرهم. فالواجب على الشيعة وغيرهم أن يتّبعوا في تلك المسائل اجتهادهم الحرَّ في الكتاب والسنَّة والتاريخ الصحيح؛ إذ لايجوز السير على خلاف الاجتهاد إذا أدَّى إلى غلط فلان وخيانة فلان.

فإن كان في الكتاب والسنّة وتاريخ الإسلام أدلة كثيرة قوية على عدم عدالة بعض الصحابة، وعدم مبالاتهم بمصالح الإسلام والمسلمين وأفاعيلهم الموبقة، كمعاوية وبُسر بن أرطاة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم، من الذين كان يعتقد عمار بن ياسر أنّ دماءهم جميعاً أشدّ حلّيةً من دم عصفور فلاينبغي مطالبة المجتهدين في إيمان هؤلاء وعدالتهم بترك هذه الأدلة.

وإذا لم يمكن تخليص الكتاب والسنّة وتاريخ عصر الرسالة والخلفاء وبني امية وبني العباس من هذه الأدلة، ولايمكن تخليص التاريخ من مثل حرب الجمل وصفّين فإنّه لايجوز عتاب من يجتهد في ذلك، ولايجوز منع المسلمين من مطالعة التاريخ والنظر في تلكم الأدلة، كما لايجوز سدّ باب التقريب بمطالبة ذلك؛ فإنّ جميع الشيعة لو اتفقوا - العياذ باللّه - حتى مع النواصب فالكتاب والسنّة وتاريخ الإسلام وتراثنا الإسلامي العلمي يأتي بغيرهم شيعة لأهل

ص: 256

البيت عليهم السلام من جديد؛ لأن ذلك أمر طبيعي للبحث ومطالعة الكتاب والسنّة والتاريخ.

نعم، لابأس أن يطلب أحد المذاهب من الآخر تجديد النظر في أدلته، فالواجب على الفريقين أن لايجعلوا هذه المسائل سبباً للعداوة والبغضاء، ولايكفِّر بعضهم بعضاً، ولا سيّما في هذا العصر الذي أصبحت فيه نتيجة هذه المباحث رأياً مجرداً وعقيدة محضة لمن اعتقد. وليس هناك أي مانع من وقوف الشيعة والسنّة صفّاً واحداً ما لم يتركوا التمسّك بالكتاب والسنّة، وتركوا اللجاج والعناد والعصبية العمياء.

فمن لم يَرَ الخير والفضل والعدل في بعض الصحابة أو في معتقدهم، بل ولم يعرف ذلك الصحابي ولم يسمع باسمه لايكون مسؤولاً عن ذلك، ولايضرّ بإسلامه، ولايؤاخذه اللّه تعالى به، لأنه لم يكلف عباده بمعرفة الصحابة والإيمان بهم وبعدالتهم، ولم يجعل ذلك ركناً من أركان دينه، أو حكماً من أحكام شريعته.

إذن فالسبب في التنافر والتباعد والتباغض هو غلوُّ بعض الجامدين والجاهلين في هذه المسائل، والاشتغال بها جهلاً أو غفلة أو عمداً، أعاذنا اللّه من الجهل والغفلة.

وكذلك في أزواج النبي صلى الله عليه و آله، فإنَّهن - ولاشكّ - قد تشرّفنَ بما لم تتشرّف به غيرهنّ من النساء، وإنّ لبعضهن مكانة مرموقة في العبادة والخير وكثرة الصدقة والفهم والحكمة، ومنهنَّ من أطاعت أمر [وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ](1)، فلم يغادرن3.

ص: 257


1- الأحزاب: الآية 33.

البيت، حتى أنّ جميعهنّ حججن، غير سودة وزينب بنت جَحش، فإنّهما قالتا:

لاتحرّكنا دابّة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله حج بنسائه عام حجة الوداع، ثمّ قال: «هذه الحجة»، ثمّ ظهور الحصر، وهذه منقبة وفضيلة كبيرة لاُمّهات المؤمنين لاتضاهيها أية منقبة، فهنيئاً لهنّ بتلك الكرامة، حيث لم يُدخِلنَ أنفسهنّ في الفتن والحروب الدامية التي حدثت بعد النبي صلى الله عليه و آله، وحفظنَ الرسول في امّته.

نعم، استنكر الشيعة وغيرهم ما صدر عن بعض امّهات المؤمنين في الفتن التي أدّت إلى قتل عثمان، والفتن التي أسفرت عن قتل جماعة من الصحابة من المهاجرين والأنصار، وفتحت على المسلمين أبواب الفتن وويلات المحن، وأدّت إلى حكومة جبابرة بني امية، وإمارة أمثال الحجّاج وبسر ومسلم بن عقبة وأضرابهم.

فمن تصفح التاريخ استنكر ذلك ورأى ما صدر عنها من عظيم المصائب التي حلّت بالمسلمين، سواء حمل على الاجتهاد، أو على اتّباع الهوى، وبغضها للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي قال له النبي صلى الله عليه و آله: «لا يُحبُّك إلّامؤمن، ولا يبغضك إلّامنافق»(1). فالخسارة التي أصابت الإسلام والمسلمين بخروجها على ولي الأمر، ومخالفتها له، وبغضها إيّاه لم تُجبَر إلى الآن... ولاعتب على من يقرأ كتب الحديث والتاريخ ويحلل الأمور ولايتمالك من الحكم عليها، حتى أنّ أهل بيتها وخاصّتها كانوا يعيبون عليها خروجها وما أدخل عليهم يوم الجمل1.

ص: 258


1- بحار الأنوار: ج 27 ص 81.

من العار.

وقد روي: أنّها ركبت بغلة وخرجت تصلح بين غلمان لها ولابن عباس، فأدركها ابن أبي عتيق وقال: يعتق ما تملك إن لم ترجعي، فقالت: ما حملك على هذا؟ قال: ما انقضى عنا يوم الجمل حتى يأتينا يوم البغلة(1).

ولايمكن منع الباحثين خاصة الشباب الذين يتطلّعون إلى حرية التفكير والبحث والتنقيب، بعد ما سجّل التاريخ ما لا نحبّ ممّا يمسّ كرامة امّ المؤمنين عائشة، كما لايمكن منع انتهاء البحث إلى الحكم عليها. فالاعتراف بخطئها أولى من الإصرار على تبرئتها، رغم المصادر الوثيقة التاريخية، والأحاديث النبوية، فمتابعة الدليل والبرهان والقول بالحق أولى من القول بلا دليل، والمكابرة في الاُمور الجلية، فالجيل المعاصر يردّ كلّ قولٍ لا يدعمه دليل، ولايقبل إلّاما أدّى إليه أعمال الفكر الحر(2).

وتبرئة امّ المؤمنين من أوزار حرب الجمل ليست من العقائد الإسلامية حتى يطلب ممّن لايراها الاعتقاد بها.

وليت شعري إن كان الفريقان في حرب الجمل وصفّين مجتهدين فمن الباغي منهما؟ أم كيف يجوز الاجتهاد قبال الإمام علي عليه السلام الذي قال فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله «عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، ولن يفترقا حتى يردا عَلَيَّ الحوض».

ص: 259


1- تهذيب التهذيب: ج 6 ص 11.
2- راجع في ذلك ما كتبناه في «صوت الحق ودعوة الصدق».

يوم القيامة»(1)، و «عليّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ، لايفترقان حتى يردا عَلَيَّ الحوض»(2)، وهل الاجتهاد الممنوع في مقابل النصّ سوى هذا؟

ففي مسألة كهذه - التي هي من القضايا التي قياساتها معها ومع هذه الوثائق التاريخية - لايليق بمسلم أن يطلب من غيره الحكم لطرف معيّن، ويسير في بحثه وتنقيبه سيراً ينتهي به إلى نتيجة معينة قبل البحث، بل يجب أن يطلب من الباحثين ترك العصبية، وتشجيعهم على حرية التفكير.

والغرض من ذلك كلّه: أنّ اختلاف الآراء في مثل هذه المسائل لا يمنع من التقريب واتحاد المسلمين، ولايمكن حسم هذه الاختلافات ما دام التاريخ أمام المطالعة والبحث، فكلّ من يراجع التاريخ، خاصة في العصر الحاضر، ولم يقنع بتبرئة امّ المؤمنين عائشة ومعاوية وعمرو بن العاص ومروان بن الحكم وأضرابهم بعذر اجتهادهم، لاينبغي تحميلُ رأيٍ آخر عليه، ولاينبغي عتابه على رأي أدّى إليه اجتهاده، ولايجوز هجرانه وترك موالاته. فمن يرى تصويب كلّ اجتهاد، أو يرى حمل فعل المسلمين على الاجتهاد، ويرى مرتكبي إراقة الدماء المحترمة، وهتك الأعراض، ونهب الأموال في صدر الإسلام مجتهدين معذورين يجب عليه أن يرى من نظر في التاريخ وظهرت له خيانة زيد أو خطأ عمرو مجتهداً معذوراً، بل هذا أولى بالعذر ممّن سبقه!5.

ص: 260


1- بحار الأنوار: ج 38 ص 35؛ الغدير: ج 10 ص 286.
2- بحار الأنوار: ج 38 ص 35.

مقياس صدق الدعوة:

وأمّا ما تمسَّك به في الصفحة (35) من أنّ الناس قد اعتادوا أن يقيسوا صدق الدعوة بكثرة ما أبرزته هذه الدعوة من نماذج رائعة، وسوء النظر إلى الصحابة يضعف تأثير الدعوة وقيمة هذه التعاليم، ويضعف الإيمان بمربّيهم وقائدهم فهذا كلام خطابي شعري ليست له أية قيمة علمية، وإلّا فيدّعي ذلك بالنسبة إلى اللّه تعالى - العياذ باللّه - ويُستدلّ على ضعف هدايته وتعاليمه بقلّة مَن اهتدى بهداه، وعلى قوة إغواء إبليس بكثرة الكفّار وأهل المعاصي، ويُستدلّ لقوة تعاليم بوذا بكثرة مؤيّديه.

على أنّ دعوة الرسول صلى الله عليه و آله وتربيته أثّرت في جميع الصحابة حتى المنافقين منهم، فغيّر تفكيرهم ومسير حياتهم، فعرفوا للإنسان حقوقاً لم يكونوا يعرفونها لولاهداية اللّه تعالى وتعاليم رسوله، وقدّمت في مجالات مختلفة رجالاً وأبطالاً، وإذا قسنا نجاح دعوة الإسلام بنجاح الدعوات الاُخرى رأينا أنّ الإسلام أكثر نجاحاً من الجميع. فالإسلام وإن لم ينجح بعدُ في جميع أهدافه

ص: 261

ومطالبه وأغراضه لكنّه قدّم للبشرية مثالاً رائعاً ونموذجاً حياً من الرجال الكُمَّل، أمثال أبي ذرّ وسلمان ومقداد وعَمّار وسعد بن معاذ وخُزيمة بن ثابت وابن التيهان وخَبّاب بن الأَرَتّ وحُجر بن عدي وعَمرو بن الحَمق الخزاعي وغيرهم، وبهؤلاء الرجال والآلاف من الجهابذة والأبطال ورجال التضحية والإباء والمثل الإنسانية العليا، الذين أنجبهم الإسلام خلال أربعة عشر قرناً تعرف قيمة تربية الإسلام وأهدافه ومقاصده.

ولا يُعابُ على الإسلام أو الدعوة إن ظهر فيها أشقى البرية كابن ملجم المرادي ويزيد ومسلم بن عقبة والحجّاج، بل يجب أن نعرف الأسباب التي دعت للقيام في وجه هذه الدعوة ومسخها، حتى آل أمر الاُمّة إلى حكومة هؤلاء.

فلا ينبغي لنا تبرئة الخاطئين والخائنين رغم المصادر الوثيقة، ورغم ما نعرف عنهم من الخطأ والخيانة من أجل أن لايسيء أحد ظنّه، خاصة إذا كان يجهل الاُمور ولا يعلم المقاييس الصحيحة، فإن الإسلام أعلى وأقوى برهاناً من أن يمسّ كرامته هذا الزعم الفاسد.

وهذا المنطق يؤدّي بنا - إذا ماأحسنّا الظنّ واعتبرنا ما فعله بعض السلف والصحابة حسناً وسليماً وشرعياً - إلى اتّهام الإسلام وتعاليمه بأنّ هذه التعاليم وهذه المناهج لاتهدي - والعياذ باللّه - إلى الرشاد والعدل و المساواة و المواساة، و إلى الصلاح والإصلاح.

والحق هو إسناد كلّ فعل حسن صدر عنهم إلى الإسلام وتربيته، وإلى

ص: 262

هدى القرآن، وإسناد أفعالهم المخالفة لهدى القرآن وغير اللائقة بشأنهم إلى أنفسهم.

فمثلاً وقعة الحَرّة وأضرابها من الوقائع الكثيرة التي وقعت أيام خلفاء بني امية وبني العباس، والتي سَوَّدت وجه التاريخ ليست من آثار دعوة الإسلام، ولاعلاقة لها - بعيدة أو قريبة - بالإسلام والتربية الإسلامية، إلّاعلاقة التباين والتضاد، وهي بعيدة عنه بُعد المشرقين. وتبرئة الذين لم ينسَ التاريخ خياناتهم وخطيئاتهم مردودة ومرفوضة عند الباحثين المنصفين.

فليس ما ذكرتم عذراً لتحسين الاعتقاد بهم وتصويب أخطائهم. وقد سبق مثل هذا الكلام من الشيخ نظام الدين عبد الملك المراغي - أفضل علماء الشافعية في عصره - عند مناظرته للعلامة الحلي في المذهب، وقد افحِم آنذاك بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة التي أقامها العلّامة، رضوان اللّه عليه، بحيث لم يبقَ للحاضرين شبهة، وبهت الشيخ وخجل، وأخذ في الثناء على العلّامة، وذكر محامده وقال: قوة أدلة هذا الشيخ في غاية الظهور، إلّاأنّ السَلَف منّا سلكوا طريقاً، والخلَفَ ولأجل إلجام العوام ورفع شقّ عصا أهل الإسلام سكتوا عن زلل أقدامهم، فبالحَرِيّ أن لاتُهتَك أسرارهم...

والأخذ بهذه النصيحة إنّما يفيد لو لم يسجّل التاريخ، ولم تدوّن كتب الحديث والجوامع والمسانيد والصحاح ما صدر عن بعض الصحابة، ولم يكن صدر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من أقوال في أهل بيته ومناقبهم وفضائلهم.

أمّا بعد ذلك وبعد مثل أحاديث الثقلين والروايات المتواترة كرواية «الأئمة

ص: 263

اثنا عشر» وغيرها، وما حفظ التاريخ من الأحداث والفتن، رغم كونه تحت رقابة السياسة، فإنّ طلب السكوت وترك البحث والتنقيب غيرُ ممكِنَين ولامُجدِيَين.

ص: 264

قبر هارون الرشيد:

قال رئيس الوفد في الصفحة (15): ولم نعرف أثراً لضريح الخليفة هارون الرشيد الذي دوّى اسمه في الآفاق، ونال من الشهرة حظّاً لم ينله ملك من ملوك المسلمين أو ملوك الشرق، والذي قال لقطعة سحاب مرت على رأسه: امطري حيث شئت فسيأتيني خراجك.

فإذا كان الاُستاذ الندوي يريد من هذا تنبيه القرّاء بأنّ الدهر هكذا يفعل بالملوك وأهل الدنيا الجبابرة، [فَمَا بَكَتْ عَلَيهِمُ السَّماءُ وَالأرضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ](1)، ولاتُعرف قبورهم، وإن عُرفت فالناس يعرضون عنها ولايسألون عنها، ولايعتنون بها كاعتنائهم بآثار أولياء اللّه ورجال الدين والخير، فلاريب أن ما ذكر إنّما هو من العِبَر، وما أكثر العبر وأقلّ الاعتبار، وقد عزف عن قبر هارون والترحّم عليه حتى أهل السنّة، فلم يقصده أحد تقرباً إلى اللّه تعالى أو تقديراً

ص: 265


1- الدخان: الآية 29.

لشخصيته، في حين أنّ أكابر العلماء من أهل السنّة كانوا ولايزالون يزورون مرقد علي بن موسى الرضا عليه السلام في البقعة الهارونية، ويقدّسون قبره، ويروون عنه الكرامات، كما يزورون قبر والده الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام في الكاظمية ببغداد، الذي أخذه هارون ظلماً، وحبسه، ثمّ أمر السندي بن شاهك بقتله.

وإن أراد بحديثه هذا إبداء الأسف على عدم معرفة قبر هارون، وكان يودّ أن يكون له ضريح كضريح الإمام الرضا عليه السلام ويحترمه المسلمون كاحترامهم للإمام، فهذا أمر لايتوقّعه إلّامن لم تكن له بصيرة بفلسفة الاجتماع وآثار مواقف الرجال، فموقف الإمام الرضا وسائر أئمة أهل البيت عليهم السلام موقف يجذب العواطف، وينفذ إلى أعماق القلوب، ويحبّب صاحبه إلى كلّ قريب وبعيد، بينما موقف أعدائهم وظالميهم موقف يجعل صاحبه معرضاً للطعن، وتنفر منه القلوب، وتشمئزُّ منه النفوس، ويبغض صاحبه إلى كلّ قريب وبعيد.

وإنّ من أقوى الأدلة على حرية التفكير الإسلامي واستقرار روح العدل والمساواة، والنفور من الدكتاتورية والظلم عند المسلمين: عدم اعتنائهم بآثار الجبابرة، واعتناؤهم بآثار أهل البيت عليهم السلام والصحابة والعلماء والمصلحين المشهورين بالغيرة على الإسلام والجهاد ضد استبداد المستبدّين.

وإنّي - وقد ساقنا الحديث إلى هنا - أرى أنّه من الضرورة بمكان أن نعلن - كمسلمين واعين - عدم شرعية حكومة هؤلاء المستكبرين، أو اولئك الذين ملكوا المسلمين، وأحيوا سنن الملوكية بكلّ ما فيها من التواء وانحراف عن خطّ الرسالة وصفاء التعاليم السماوية المباركة، وسمّوا أنفسهم خلفاء، ويشهد التاريخ

ص: 266

- كالكامل وغيره - على سيرتهم غير المرضية، وأنّ منهاج الشريعة وبرامج الإسلام لايمكن أن تنجب حكومات كهذه الحكومات، أو تعترف بها وبشرعيتها، كما لايمكن أن تنجب من يعترف بشرعيتها ويدافع عنها.

فالإسلام والمسلم لايفخر بهؤلاء، بل يفخر بمبادئه السامية البنّاءة، وبمُثُله العليا، وقيمه الرفيعة، ورجاله المؤمنين، الذين أدركوا حقيقة رسالة الإسلام، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.

فما هي صلة ملوك بني امية وبني العباس في سيرتهم وسلوكهم الحكومي والسياسي والمالي بالإسلام؟ وما عذرنا عند الباحثين في مبادئ الإسلام وتاريخه إن اعتبرنا حكومة هؤلاء شرعية، واعتبرناهم مَثَلاً لسياسة الحكم والإدارة واحترام حقوق الإنسان ومبدأ المساواة والمواساة الإنسانية في الإسلام، ومظهراً بارزاً من مظاهر التربية الإسلامية؟

فما يريد من قبر هارون والمأمون والأمين والمتوكّل والوليد ومعاوية ويزيد وعبد الملك وأمثالهم - مَن لم يكن في قلبه مرض، وهوى نفسه مع الحكّام الجبابرة، الذين استكبروا في الأرض وعتوا عتوّاً كبيراً؟

والمناهج التربوية الإسلامية أسمى وأنزه من أن تؤيّد حكّاماً وقادة يستضعفون الناس، ويتجاهرون بالفسق من الخمر والميسر، والظلم بمصادرة أموال الناس وقتل النفوس البريئة، ولم يكن هؤلاء أحسن سيرةً ممّن يتولّون اليوم امور المسلمين باسم الملك أو الأمير أو القائد. فهل تسمح ياأخي أن تسند سِيَرهم التي يُعلَن عنها في الإذاعات وعلى شاشات التلفاز والصحف

ص: 267

والمجلّات، وسائر وسائل الإعلام، إلى الإسلام، وتقول: إنّ الإسلام ونظامه التربوي يرتضي حاكماً يرقص مع النساء الأجنبيات في النوادي والحفلات والمجالس الرسمية، ويأتي بالمغنّيات والراقصات المحسوبات على المسلمات في مجالس ضيافته للكفّار، ولايحترم السنن الإسلامية، ويسمح باختلاط الرجال الأجانب بالنساء الأجنبيات، ولايتجنّب الآداب الغربية في ضيافاتها واستقبالاتها الرسمية، ويشوّق النساء بترك الآداب الإسلامية ويهتك العفاف.

اعرف أيّها المثقّف مناهج الإسلام التربوية، وأهدافه في الحكم والإدارة، وتأمّل في آيات القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة وسيرة الأئمة الهداة المهديّين، وأعرض سيرة هارون وغيره من رؤساء الاستكبار والاستعلاء على كتاب اللّه تعالى، سيّما على مثل هذه الآية الكريمة [تِلكَ الدَّارُ الآخِرةُ نَجعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرضِ وَلا فَسَاداً وَالعاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ](1) حتّى تعرف أنّ الإسلام وبرامجه وتعاليمه لاينجب حكّاماً مثل هؤلاء المستكبرين، الذين أحيوا سنن الأكاسرة والقياصرة الجبّارين، وتركوا سنن الأنبياء والمرسلين.3.

ص: 268


1- القصص: الآية 83.

هذا ما ينبغي:

إنّ ما ينبغي لوفد الرابطة القيام به:

1 - حثّ الشباب وخرِّيجي المعاهد والكلّيات على التمسّك بالمبادئ الإسلامية، والتحلّي بالأخلاق الكريمة، والدعوة إلى الإسلام ونظامه.

2 - زيارة المعاهد العلمية والجامعات وكلّيات العلوم الحديثة، وإلقاء المحاضرات على طلّابها، وتشجيعهم على حفظ الاستقلال الإسلامي، والحفاظ على آدابه، ونبذ ما سواه، ودعوتهم إلى الجد وبذل الجهد في طلب العلم، وتعلّم الصناعات التي سيطر الغرب بها على الشرق.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومطالبة الحكومات برفض الشعائر الكافرة، وعدم تقوية الفرق والأقليات الملحدة التي اختلقها الاستعمار حديثاً لمقاصده والقضاء على الإسلام، وعدم حمايتهم، كالقاديانية والبهائية وغيرها، التي يؤيدها الاستعمار لنواياه الشرّيرة، كالصهاينة والصليبية

ص: 269

والمجوس، الذين تحيا آثارهم باسم «الفلكلور»، تقويةً لقوميات مختلفة متشتّتة، في عقر دار الأمة الإسلامية.

4 - مطالبة الحكومات بنقض حكم السفور، وفرض الحجاب على الفتيات في المدارس والمعاهد والكلّيات، وفصل كلٍّ من الجنسين عن الآخر بمدارس خاصّة، فإنّ المدارس المختلطة تبعّد الطلاب والطالبات عن السنن الإسلامية، وتُميت فيهم روح الغيرة الإسلامية، وتُظهرهم بمظهر الميوعة، وتُذهب بكرم الأخلاق، وتأتي بالفحشاء والمنكر، وفساد الأخلاق والدعارة والاستهتار.

5 - تشجيع طلّاب العلوم الإسلامية والمدارس الدينية من الشيعة والسنّة، وتحفيزهم على أداء واجبهم الديني في شرق الأرض وغربها، وتوحيد الكلمة، وإعلاء كلمة التوحيد، ورفض النعرات الطائفية، وترك المذاهب وشؤونها.

6 - إطلاعهم على مدى الخطر اليهودي والتبشير المسيحي والشيوعية بشتّى مظاهرها على الإسلام والمسلمين ومقدّراتهم.

7 - مناشدة المسلمين في العالم لتوحيد كلمتهم واسترداد حقوقهم المغتصبة؛ لأجل مستقبل إسلامي أفضل.

إلى غير ذلك.

تبصرة:

إنّما لم نناقش ما أشار إليه من الرأي حول المسائل الفرعية والآراء

ص: 270

الطائفية؛ لأنّا لا نُحبُّ إجابة من يكرّر هذه المناقشات لدواعٍ معلومة، سيّما إذا لم يأتِ بجديد.

فعلى الباحث في هذه مراجعة كتب أعلام المسلمين، كالعلّامة السيد محسن الأمين، والعلّامة كاشف الغطاء، والعلّامة شرف الدين، والعلّامة السبكي الشافعي، والشيخ يوسف النبهاني، وغيرهم من فحول العلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لِلّه ربِّ العالمين.

قم المقدسة - لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

سنة (1395) هجرية

ص: 271

ص: 272

جلاء البصر

اشارة

ص: 273

ص: 274

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

يتناول كتاب «جلاء البصر لمن يتولّى الأئمّة الإثنى عشر» عدداً من الروايات الّتي تُوهم أنّ عدد الأئمّة عليهم السلام ثلاثة عشر إماماً. وكان هذا الموضوع قد ورد ضمن أسئلة وُجّهت إلى آية اللّه العظمى الگلپايگاني قدس سره فأوكل سماحته حلّ هذا المعضل إلى كاتب هذه المقالة.

وقد جاءت المقالة في أربعة أقسام:

القسم الأوّل: يتناول الأخبار التي تُوهم عدم موافقتها لتلك الأخبار الصحيحة والجمع عليها.

القسم الثاني: حول أسنادها.

القسم الثالث: حول نصوصها.

القسم الرابع: حول ما يصحّ أن يُقال في تأويلها والجمع بينها وبين غيرها من أحاديثنا المتواترة الموافقة لما استقرّ عليه مذهب أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم

ص: 275

الطائفة المحقّة الإثنى عشرية (من نصّ الكتاب).

بعد أن يقوم المؤلّف بإيراد توضيح علمي وفنّي حول أسناد تلك الروايات ونصوصها ودلالتها، يستنتج أنّها حتّى وإن كانت واضحة وصريحة، فإنّها ساقطة من الاعتبار، إذ تدحضها أحاديث متواترة تروى عن طريق الشيعة والسنّة تؤكّد أنّ عدد الأئمّة الأطهار إثنى عشر إماماً.

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ كتاب «جلاء البصر» يدحض كلّ هذه الاحتمالات والتوهّمات، ويثبت أنّه حتّى الروايات الّتي تُوُهِّمَ أنّ ظاهرها على كون الأئمّة الأطهار ثلاثة عشر إماماً، فإنّها عند إعادة نظرة أدقّ تدلّ على أنّ الأئمّة اثنا عشر عليهم السلام لا أكثر.

ص: 276

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الأولين والآخرين أبي القاسم محمد المصطفى وآله الطاهرين، حجج اللّه على الخلق أجمعين.

يرد في كلّ يوم من شتّى أقطار العالم الإسلامي على بعض فقهاء العصر ومراجع الشيعة - ممّن لا يرتضي التصريح باسمه الشريف (1)- عشرات من المسائل والاستفتاءات حول المعارف الإسلامية والمفاهيم الدينية، والفروع الشرعية العملية وغيرها، بل قد تنوف في بعض الأيام على المائة، فيتصدى - مدّ ظلّه - للإجابة عليها، مع ما هو عليه من الأعمال المرهقة المتعلقة بالحوزاته.

ص: 277


1- المقصود: هو المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد محمد رضا الگلپايگاني قدس سره، الذي خسرت الاُمة بفقدها أحد الأفذاذ والأركان، والذي كان مثلاً للتواضع وإنكار الذات، فكان يقوم بأعمال عديدة وكبيرة ولا يرضى بذكر اسمه بالمدح والثناء. تغمّده اللّه برحمته الواسعة وأعلى مقامه.

العلمية والجامعات الدينية وبخاصة جامعة قم الإسلامية الكبرى من إدارة شؤونها، والقيام فيها بمهامّ التدريس العالي، وإلقاء المحاضرات العلمية يومياً على مجموعة كبيرة من فضلاء الحوزة، الذين يحضرون مجلس بحثه للاستفادة من علمه الغزير وتحقيقاته القيّمة، بالإضافة إلى نشاطه في خدمة العلم والدين، عن طريق تأسيس المشاريع العلمية والدينية، كالمدارس والمساجد والمكتبات العامة، وتشجيع القائمين بأمثال هذه المشاريع مادّياً ومعنوياً.

يضاف إلى كلّ ما تقدم تصدّيه لإرسال المبلّغين إلى شتّى الأنحاء من المدن والقرى، وإنشاء مستشفى ضخم مجهّز.

هذا بعض ما يقوم به ذلك الرجل الكبير الرائد، الذي لا يحب أن يذكر اسمه الشريف حياءاً واستخفاءً، ولأنّه يستقلّ ذلك كلّه في جنب اللّه تعالى، أطال اللّه بقاءه، فقد أصبح بنعمة اللّه تعالى عَلَماً هادياً، ونجماً لامعاً يهتدي به المؤمنون.

وممّا ورد من الأسئلة على سماحته في هذه الأيام، السؤال التالي:

ما وجه الجمع بين طائفة من الأحاديث التي تدلّ بظاهرها على كون الأئمة الاثني عشر من ذرية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أو من ولده، أو من ولده وولد علي، أو من ولد علي وفاطمة عليهم السلام، مع غيرها من الأخبار المتواترة التي اتّفق عليها الكلّ في كون الأئمة مع مولانا أمير المؤمنين عليهم السلام اثني عشر، وأنّ أحد عشر منهم من ولد رسول اللّه، صلى الله عليه و آله و سلم فهل يمكن الجمع بينهما على نحو صحيح عرفي، أم يجب طرح الطائفة الاُولى وعدم الاعتداد بها؟

فأمرني بالإجابة على هذا السؤال وحلّ معضلاته، ودَفعُ ما ربّما يُتوهَّم

ص: 278

ترتّبه على ذلك من الإشكال.

وإنّني امتثالاً لأمره الشريف أتصدّى للإجابة عليه، متوكّلاً على اللّه تعالى ومستعيناً به، فأقول:

اعلم أنّ الأخبار المتواترة الدالة على أنّ الأئمة اثنا عشر مأثورة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته عليهم السلام من طرق الفريقين.

وقد أخرج كثيراً منها جمع من أكابر علماء العامة، كأحمد بن حنبل في مسنده من خمسٍ وثلاثين طريقاً، والبخاري ومسلم في الصحيحين، والترمذي، وأبي داود، والطيالسي، والخطيب، وابن عساكر، والحاكم، وابن الديبع، والسيوطي، والمتّقي، والبغوي، وابن حجر، والحميدي، والطبراني، والشيخ منصور علي ناصيف، وأبي يعلى والبزّاز وغيرهم(1).ث.

ص: 279


1- يراجع مسند أحمد: ج 5 ص 86 و 87 و 88 و 89 و 90 و 92 و 93 و 94 و 95 و 96 و 97 و 98 و 99 و 100 و 101 و 106 و 107 و 108 و ج 1 ص 398 (ط مصر المطبعة الميمنية سنة 1313 ه) وصحيح البخاري: ص 175 (ط مصر سنة 1355 ه) وصحيح مسلم: ج 2 ص 191 (ط مصر 1348 ه)، وسنن الترمذي: ج 2 ص 45 (ط دهلي 1342 ه)، وسنن أبي داود: ج 2 ص 207 (ط مصر، الطبعة الثانية) والمستدرك على الصحيحين (ط حيدر آباد سنة 1334 ه) في كتاب معرفة الصحابة: ج 3 ص 617 و 618، ومسند أبي داود الطيالسي: ح 767، و ح 1278، وتاريخ بغداد: ج 2 ص 126 رقم 516، و ج 6 ص 263 رقم 3269، ج 14 ص 353 رقم 7673 (ط سنة 1349 ه)، وتيسير الوصول: ج 2 ص 34 ب 1 ف 1 (ط مصر سنة 1346 ه)، وتاريخ الخلفاء: ص 7، والصواعق: ص 18، ف 3 ب 1 (ط مكتبة القاهرة)، وينابيع المودة: ص 258 و ص 445، ومصابيح السنة: ج 2 ص 265 (ط محمدعلي صبيح)، ومنتخب كنز العمّال، المطبوع بهامش مسند أحمد: ج 5 ص 312، ومجمع الزوائد: ج 5 ص 190، وغيرها من جوامع الحديث.

وقد صنّف محمد معين السندي - من علماء الجمهور - كتاباً في هذه الأحاديث سمّاه: «مواهب سيّد البشر في أحاديث الأئمة الاثني عشر» كما قد روى هذه الأحاديث جمع من الصحابة:

1 - كأمير المؤمنين علي عليه السلام.

2 - وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها.

3 - والحسن عليه السلام.

4 - والحسين عليه السلام.

5 - وعبداللّه بن مسعود.

6 - وأبي جحيفة.

7 - وأبي سعيد الخُدري.

8 - وسلمان الفارسي.

9 - وأنس بن مالك.

10 - وأبي هريرة.

11 - وواثلة ابن الأسقع.

12 - وعمر بن الخطّاب.

13 - وأبي قتادة.

14 - وأبي الطفيل.

ص: 280

15 - وشفي الأصبحي.

16 - ومكحول.

17 - وعبد اللّه بن عمر.

18 - وعبد اللّه بن أبي أوفى.

19 - وعمّار بن ياسر.

20 - وأبي ذرّ.

21 - وحذيفة بن اليمان.

22 - وجابر بن عبداللّه الأنصاري.

23 - وعبد اللّه بن عباس.

24 - وحذيفة بن اسيد.

25 - وزيد بن أرقم.

26 - وسعد بن مالك.

27 - وأسعد بن زرارة.

28 - وعِمران بن حصين.

29 - وزيد بن ثابت.

30 - وعائشة.

31 - واُمّ سلمة.

ص: 281

32 - وأبي أيوب الأنصاري.

33 - وجابر بن سمرة.

34 - وأبي امامة.

35 - وعثمان بن عفّان.

36 - وعبداللّه بن عمرو بن العاص(1).

وهذه الأخبار على طائفتين:

فطائفة منها ليس فيها إلّاالتصريح بأنّ الخلفاء والأئمة اثنا عشر.

والطائفة الاُخرى تتضمّن أسماء الاثني عشر بعضهم أو جميعهم.

ثمّ إنّ هذه الأخبار حسب استقصائنا الناقص بلغت قريباً من الثلاثمائة حديثاً، والأخبار الدالة على أنّ أمير المؤمنين علياً عليه السلام أول الأئمة عليهم السلام تزيد على ذلك بكثير، منها ما ينوف على المائة وثلاثين حديثاً، من جملة الأحاديث الدالة على أنّ الأئمة اثنا عشر، حسب البيان المتقدم، فضلاً عن غيرها(2) ، فلو وجد حديث لا يتوافق مع ظاهر هذه الأحاديث المتواترة وجب تأويله إن أمكن، وإلّا فيطرح ولا ريب في ذلك.م.

ص: 282


1- يراجع في ذلك الكتب التي أشرنا اليها من كتب أهل السنّة، وجوامع حديث الشيعة ومؤلّفاتهم في هذا الموضوع، كالصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم في ثلاثة أجزاء، وإثبات الهداة في سبعة، وكفاية الأثر، ومقتضب الأثر، والمناقب لابن شهر آشوب، وبحار الأنوار، والعوالم، والعمدة لابن بطريق، وكتابنا منتخب الأثر.
2- إن شئت التثبّت في ذلك فراجع البحار، وإثبات الهداة، والصراط المستقيم.

وبعد هذه المقدمة نطرق باب الدراسة والتحليل لهذه الطائفة من الأخبار؛ حتّى يستبين الحق فيها، ويظهر المراد منها، ودراستنا هذه تدور حول أربع جهات:

الاُولى: حول الأحاديث التي تُوهِم عدم موافقتها لتلك الأخبار الصحيحة، والمجمع عليها.

الثانية: حول أسنادها.

الثالثة: حول متونها؟

الرابعة: حول ما يصحّ أن يقال في تأويلها، والجمع بينها وبين غيرها من أحاديثنا المتواترة الموافقة لِما استقرّ عليه مذهب أهل البيت عليهم السلام، وشيعتهم الطائفة المحقّة الاثني عشرية، إن رأينا في هذه الأحاديث تعارضاً مع غيرها من الأخبار.

ص: 283

أما الأحاديث:

فمنها: ما رواه شيخنا ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني قدس سره عن محمد بن يحيى، عن عبد اللّه بن محمد الخَشّاب، عن ابن سَماعَة، عن علي بن الحسن بن رباط، عن ابن اذينة، عن زُرارة، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «الإثنى عشر الإمام من آلِ محمدٍ عليهم السلام كلهم محدَّث، من وُلدِ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومن ولد علي، ورسول اللّه وعلي هما الوالدان عليهماالسلام...» الحديث(1).

ومنها: ما رواه الكليني رضى الله عنه أيضاً عن أبي علي الأشعري، عن الحسن بن عُبَيد اللّه، عن الحسن بن موسى الخشّاب، عن علي بن سماعة، عن علي بن الحسن بن رباط، عن ابن اذينة، عن زرارة قال: سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول:

ص: 284


1- الكافي: ج 1 ص 531 باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم عليهم السلام (ط دار الكتب الإسلامية).

«الاثنا عَشَر امام(1) من آل محمد كلّهم محدّث من وُلد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومن وُلد علي بن أبي طالب، فرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعلي عليه السلام هما الوالدان»(2).

ومنها: ما أخرجه ثقة الإسلام رضوان اللّه عليه، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن الحسين، عن أبي سعيد العصفوري، عن عمرو بن ثابت، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّي واثنا عشر من ولدي وأنت يا علي رَزّ(3) الأرض، يعني أوتادها «و» جبالها،8.

ص: 285


1- كذا في الأصل، والظاهر (الاثنا عشر إماماً).
2- الكافي: الباب المذكور آنفاً: ج 1 ص 533، ح 14.
3- كذا في النسخة المطبوعة الموجودة عندنا، قال في القاموس: ج 2 ص 176: رزّت الجرادة وترزّ: غرزت ذنبها في الأرض لتبيض كأرزت، والرجل طعنه، والباب أصلح عليه الرزّة، وهي حديدة يدخل فيها القفل، والشيء في الشيء أثبته. وقال العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول: فقوله: «يعني أوتادها» كلام أبي جعفر عليه السلام أو بعض الرواة، والمعنى: أنّه شبّههم عليهم السلام بالرزّ الذي هو سبب استحكام الأرض وشدها وإغلاقها، كذلك هم في الأرض بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض بالنسبة إليها، فقوله: «جبالها» عطف بيان للأوتاد، كما قال تعالى: (والجبال أوتاداً) سورة النبأ: الآية 7. وفي الغيبة: «وجبالها» كما في بعض نسخ الكتاب، وهو أظهر، فيكون عطفاً على «رزّ» من كلام الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، أو على أوتادها، فيكون من كلام الإمام عليه السلام، والأول على هذا أصوب. وفي بعض النسخ: «زرّ الأرض» بتقديم الزاء على الراء المهملة، كما ضبطه في الوافي، ولعلّ هذا هو الأظهر والأبلغ لبيان المراد. قال في القاموس: ج 2 ص 38: الزرّ - بالكسر - الذي يوضع في القميص، (ج) أزرار، وزرور، وعظم تحت القلب، وهو قوامه. انتهى. فعلى هذا أُطلق عليهم ذلك لأنّهم قوام الأرض، فلا تقوم إلّابهم، ولو بقيت الأرض بغير حجّة لساخت بأهلها، كما لا يقوم أمر أهل الأرض إلّابهم، واتّباع آثارهم والاقتداء بهم، والاهتداء بهديهم عليهم السلام، قد ثبت ذلك بالروايات والنصوص الكثيرة، ويظهر من بعض الأخبار المخرجة من طرق أهل السنّة أيضاً أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يدعى في لسان الصحابة بهذا اللقب، ويعترفون له هذا العنوان. قال في النهاية في حديث أبي ذرّ: قال يصف علياً عليه السلام: إنّه لَعالِمُ الأرض وزرّها الذي تسكن إليه، أي قوامها، وأصله من زرّ القلب، وهو عظم صغير يكون قوام القلب به، وأخرج الهروي هذا الحديث عن سلمان. انتهى كلام ابن الأثير. وهذا المقام الدالّ عليه المعنى المتقدّم الذي أفصح أبو ذرّ وسلمان بثبوته لمولانا علي عليه السلام هو مقام الولاية الكبرى والإمامة العظمى، التي لا يمكن تقلّدها إلّابإذن اللّه ونصبه، وهو المنصب الإلهي الذي يكون صاحبه والياً ومشرفاً على جميع امور الدين والدنيا بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وهو مقام الخلافة التي لا يليها إلّاأئمة أهل البيت، أعني الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، قال أمير المؤمنين عليه السلام: «اللهم بَلى، لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجة، إمّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلّا تبطل حجج اللّه وبيّناته. نهج البلاغة: ج 3 ص 178.

بنا أوتدَ اللّهُ الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخَت الأرضُ بأهلها ولم يُنظروا»(1).

ومنها أيضاً: ما أخرجه أبو جعفر الكليني بهذا الإسناد، عن أبي سعيد رفعه، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: من وُلدي اثنا عشر نقيباً، نجباء، محدَّثون، مفهَّمون، آخرهم القائم بالحق، يملؤها عدلاً كما مُلئت جوراً»(2).8.

ص: 286


1- الكافي: ج 1 ص 534، ح 17.
2- الكافي: ج 1 ص 534، ح 18.

ومنها أيضاً: ما رواه عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام، عن جابر بن عبد اللّه الانصاري، قال: «دخلتُ على فاطمة عليها السلام وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها، فعددت اثني عشر، آخرهم القائم عليه السلام، ثلاثة منهم محمد، وثلاثة منهم علي»(1).

وأخرجه الشيخ قدس سره بسنده عن جابر ين يزيد(2).

ومنها: ما رواه أيضاً، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن مُسعدة بن زياد، عن أبي عبد اللّه، ومحمد بن الحسين، عن إبراهيم، عن ابن أبي يحيى المَديني، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنت حاضراً لمّا هلك أبو بكر واستخلف عمر، أقبل يهودي من عظماء يهود يثرب، وتزعم يهود المدينة أنّه أعلم أهل زمانه، حتى رفع إلى عمر، فقال له: يا عمر، إنّي جئتك اريد الإسلام، فإن أخبرتني عمّا أسألك عنه فأنت أعلم أصحاب محمد بالكتاب والسنّة، وجميع ما اريد أن أسأل عنه. قال: فقال له عمر: إنّي لستُ هناك، لكنّي ارشدك إلى مَن هو أعلم امتنا بالكتاب والسنّة، وجميع ما قد تسأل عنه، وهو ذاك، فأومأ إلى علي عليه السلام، ثم ذكر احتجاج اليهودي على عمر، وما سأل أمير المؤمنين عنه... إلى أن قال: فأخبرني عن هذه الاُمة كم لها من إمام هدى؟ وأخبرني عن نبيكم محمد أين منزله في الجنة؟ وأخبرني مَن معه في الجنة؟2.

ص: 287


1- الكافي: ج 1 ص 532، ح 9.
2- الغيبة: ص 92.

فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ لِهذه الاُمة اثني عشر إمامَ هدىً من ذرّية نبيّها، وهم منّي، وأمّا منزل نبينا في الجنة ففي أفضلها وأشرفها جنة عَدن، وأمّا مَن معه في منزله فيها فهؤلاء الاثنا عشر من ذرّيته، واُمّهم، وجَدّتهم، واُمّ امّهم وذراريهم، لا يشركهم فيها أحد(1).

وأخرجه الشيخ رضى الله عنه بهذا الإسناد، إلّاأنّه قال: عن إبراهيم بن أبي يحيى المدني، وقال «في منزله منها» بدل «في منزله فيها»(2).

ومنها: ما أخرجه الشيخ أبو القاسم علي بن محمد بن علي الخزّاز القمّي، قال: حدّثنا أبو الفضل محمد بن عبد اللّه رحمه الله، قال: حدّثنا رجاء بن يحيى أبو الحسن اليسرباني(3) الكاتب، قال: حدّثنا محمد بن علاء - بسُرَّ من رأى - أبو بكر الباهلي، قال: حدّثنا معاذ بن معاذ قال: حدّثنا ابن عوف، عن هشام بن يزيد، عن أنَس بن مالك، قال: سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن حواري عيسى؟ فقال: «كانوا من صفوته وخيرته، وكانوا اثني عشر..» - إلى أن قال - فقلت:

فمن حواريّك يا رسول اللّه؟ فقال: «الأئمة بعدي اثنا عشر من صلب علي وفاطمة، وهم حوارِيَّ وأنصاري، عليهم من اللّه التحية والسلام»(4).ك.

ص: 288


1- الكافي: ج 1 ص 352، ح 8.
2- الغيبة للطوسي: ص 98.
3- سند الحديث على ما في البحار: ج 36 ص 309، ح 149 هكذا: أبو المفضّل، عن رجاء بن يحيى العبرتائي الكاتب، عن محمد بن خلّاد الباهلي، عن معاذ بن معاذ، عن ابن عون، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك.
4- كفاية الأثر: في باب ما جاء عن أنس بن مالك.

ومنها: ما خرّجه الشيخ الخزّاز قال: حدّثني محمد بن وهبان، قال:

حدثّني جدّي إسحاق بن البهلول، قال: حدّثني أبو البهلول بن حسّان، قال:

حدّثني طلحة بن زيد الرقّي، عن الزبير بن عطاء، عن عمير بن هاني العيسى، عن جنادة بن أبي امية، قال: دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام في مرضه... - إلى أن قال: - فقلت: يا مولاي، مالك لا تعالج نفسك؟ فقال: «يا عبد اللّه، بماذا اعالج الموت؟»، فقلت إنّا للّه وإنّا إليه راجعون. ثمّ التفت إلي فقال:

«واللّه إنّه لَعَهدٌ عَهِده إلينا رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، إنّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من وُلد علي وفاطمة، ما منّا إلّامسموم أو مقتول»(1).

هذا ما عثرت عليه من الأخبار ممّا قد يُوهِم ظاهره خلاف ما دلّت عليه الأخبار المتواترة، من حصر الأئمة في الاثني عشر، وأنّ أوَّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام.1.

ص: 289


1- كفاية الأثر: في باب ما جاء عن الحسن عليه السلام، وأخرجه في الصراط المستقيم: ج 2 ص 128، وفي الإنصاف: ص 121.

ص: 290

أمّا الكلام في أسنادها:

فنقول: أمّا الرواية الاُولى والثانية فقد صرّح العلّامة المجلسي رضى الله عنه في مرآة العقول بمجهوليتهما، وإنّما جعلتا روايتان وتكرّر نقلهما في الكافي لتعدّد سندهما، وإلّا فلا ريب في أنّهما رواية واحدة، رواها زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، كما لا ينبغي الاعتماد على كل واحد من سنديهما. أمّا السند الأوّل: فمحمد بن يحيى هو أبو جعفر العطّار القمي، من مشايخ الكليني، شيخ أصحابنا في زمانه ثقة عين، كثير الحديث، وعبداللّه بن محمد من مشايخه، وهو أخو (بنان) أحمد بن محمد بن عيسى، فهو ليس بالخشّاب، والصحيح عبداللّه بن محمد، عن الخشّاب، والظاهر أنّه الحسن بن موسى الخشّاب، كما وقع في السند الثاني، وهو من وجوه أصحابنا، مشهور كثير العلم والحديث.

وعلّة السند في علي بن سماعة؛ لأنّه غير مذكور في كتب الرجال، والمذكور أخوه الحسن بن سماعة، فيمكن وقوع التصحيف فيه، وما في النسخة المطبوعة بهامش مرآة العقول، والنسخة التي أخرجنا منهاالحديث «ابن

ص: 291

سماعة»، وعليهما فيحتمل أن يكون هو الحسن بن سماعة بن مهران، وهو واقفي لم تثبت وثاقته، ويحتمل أن يكون الحسن بن محمد بن سماعة، فإنّه يروى أيضاً عن علي بن الحسن بن رباط(1) ، وهو أيضاً من شيوخ الواقفية، ثقة، كثير الحديث، وكان يعاند في الوقف، ويتعصّب، ويحتمل أن يكون ابن سماعة، هو محمد بن سماعة بن موسى بن رويد، أو محمد بن سماعة بن مهران، وقد أنكر وجود الثاني صاحب تنقيح المقال.

والكلام في ترجيح هذه الاحتمالات بعضها على بعض لا ينتهي إلى ما تركن إليه النفس، ويخرج السند من الجهالة؛ فلذا لا نطيل الكلام في ذلك. فظهر أنّ علّة هذا السند هو كون الراوي عن علي بن الحسن بن رباط مجهولاً، لم يعلم أنه علي بن سماعة، أو الحسن بن سماعة، أو الحسن بن محمد بن سماعة، أو محمد بن سماعة.

وأمّا علي بن الحسن بن رباط فهو ثقة، معوَّل عليه، من أصحاب مولانا الرضا عليه السلام.

وابن اذَينة شيخ من أصحابنا البصريين، ووجههم، روى عن أبي عبداللّه عليه السلام.

وأمر زرارة في جلالة القدر معلوم.

وأمّا السند الثاني: فالظاهر أنّ أبا علي الأشعري هو أحمد بن إدريس1.

ص: 292


1- يراجع في ذلك الاستبصار: باب ما يحرم جارية الأب على الابن ج 3 ص 211، ح 765، وباب أنّه تحجب الاُمّ عن الثلث ج 3 ص 141، ق 2، ح 524، والتهذيب: ج 9 ص 285، ح 1032، و ج 7 ص 291، ح 1221.

القمّي، الثقة، الفقيه، كثير الحديث، توفّي بالقرعاء سنة ستٍّ وثلاثمائة.

وأمّا الحسن بن عبداللّه أو عبيد اللّه فهو أيضاً قمّي، ولكنّه مرمىً بالغُلوّ، وعلي بن سماعة - على ما بيّنّاه - ليس مذكوراً في كتب الرجال، إلّاأنّ الشيخ قدس سره ذكر «الحسن بن سماعة» بدل «علي بن سماعة»(1) ، وهو - كما قرأت - واقفي لم تثبت وثاقته، مع أنّ المفيد أيضاً أخرجهاعن علي بن سماعة، وبذلك يضعف احتمال التحريف، ويقوي جهالة السند.

ومثل هذا السند غير معتبر أيضاً فلا يعتمد عليه.

وأمّا الحديث الثالث: فمحمد بن يحيى هو أبو جعفر العطّار القمّي المذكور في سند الرواية الاُولى، ومحمد بن أحمد هو محمد بن أحمد بن يحيى، وهو وإن كان جليل القدر ثقة في الحديث إلّاأنه كان يروى عن الضعفاء، ويعتمد المراسيل، ولا يبالي عمّن أخذ(2).

وكان محمد بن الحسن الوليد يستثني من روايته ما رواه عن جماعة سمّاهم، وهو صاحب كتاب «نوادر الحكمة»، كتاب يعرفه القمّيون بدبّة شبيب(3).ك.

ص: 293


1- غيبة الشيخ الطوسي: ص 97.
2- يراجع في ذلك وغيره مما ذكرناه في هذه الرسالة من أحوال الرجال الكتب الرجالية مثل: جامع الرواة، والفهرست، ورجال العلامة، والنجاشي، والكشي، وتنقيح المقال، ومنهج المقال وغيرها.
3- شبيب فامي كان بقم له دبة ذات بيوت يعطي منها ما يطلب منه من دهن فشبّهوا هذا الكتاب بذلك.

ومحمد بن الحسين هو ابن أبي الخطّاب الهمداني، جليل من أصحابنا، ثقة، عين، عظيم القدر، كثير الرواية.

والظاهر أنّ أبا سعيد العُصفوري وأبا سعيد العصفري وعبّاد بن يعقوب الرواجني واحد، كما نبّه عليه شيخنا النوري عليه الرحمة.

وقال في جامع الرواة في عباد بن يعقوب: تقدّم عن «جش» قول بأن هذا، وأبا سعيد العصفري واحد (مح).

قال ابن حجر: صدوق رافضي. وعن الذهبي: شيعي وثقة، أبو حاتم، له أخبار المهدي.

وأمّا عمرو بن ثابت فهو ابن أبي المقدام، من أصحاب مولانا الصادق عليه السلام، ثقة على الأظهر.

وأبو الجارود هو زياد بن منذر، وإليه تُنسب الجارودية، رويت في ذمّه روايات تضمّن بعضها كونه كذّاباً كافراً.

وأمّا الحديث الرابع: فهو مرفوع، وقد عرفت رجال سنده إلى أبي سعيد.

والحديث الخامس: يظهر ضعف سنده ممّا تقدّم في أبي الجارود.

وأمّا الحديث السادس: فقال المجلسي قدس سره في مرآة العقول: سنده الأول صحيح، لكنّ الظاهر أنّ فيه إرسالاً؛ إذ مسعدة من أصحاب الصادق عليه السلام، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطّاب، من أصحاب الجواد والهادي والعسكري عليهم السلام، لكن يروي هارون بن مسلم عنه كثيراً، مع أنّه قال النجاشي فيه: لقي أبا محمد وأبا الحسن، فيحتمل أن يكون مسعدة معمّراً، روى عنه محمد.

ص: 294

أقول: لا يدفع بذلك احتمال الإرسال؛ لبعد عدم فوز مثل مسعدة بن زياد بلقاء مولانا الكاظم والرضا والجواد عليهم السلام في مدة تزيد على خمسين سنة، وعدم روايته عنهم ولو بالمكاتبة، أو بالواسطة، فالظاهر أنّه توفّي في زمان الصادق عليه السلام، وقد قبض في شوال سنة ثمان وأربعين ومائة، أو أوائل عصر الكاظم عليه السلام، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب، توفّي في سنة اثنتين وستّين ومائتين، وبذلك يستبعد رواية محمد بن الحسين عنه بلا واسطة، بل ورواية هارون بن مسلم، فبقي احتمال الإرسال على حاله، واللّه أعلم.

وأمّا سند الثاني فمجهول عامّي، كما صرّح به في مرآة العقول.

وأمّا الحديث السابع: فضعيف، لم نعثر على بعض رجاله في ما عندنا من كتب رجال الشيعة.

والحديث الثامن: أيضاً لم نعرف بعض رجاله، ولا يخفى عليك، أنّ الأحاديث والنصوص المخرجة في كفاية الأثر أكثر رجالها وأسنادها من العامة، فإنّ مؤلفه رضى الله عنه صنّف هذا الكتاب لتخريج ما روى بأسانيدهم في النصّ على الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، فلا اعتداد بما في هذين الخبرين (السابع والثامن) إن ثبت أنّ ظاهر بعض ألفاظهما يخالف مذهب الحق، ولا يقبل التأويل، بعدما ملأ الخزّاز كتابه هذا بالأحاديث الصريحة على عددهم، وأسمائهم، وأوصافهم من طرق العامة، فراجع كتابه حتى تعرف كثرة هذه الأحاديث من طرقهم.

هذا تمام الكلام في أسناد هذه الأحاديث، وقد عرفت عللها، وأنّها بنفسها لا تنهض حجة، ولا يُعتَمَد عليها.

ص: 295

ص: 296

متون الأحاديث:

اعلم أنّ متن الحديث الأول والثاني واحد، وحيث إنّ المروي عنه في كليهما أيضاً واحد، وينتهي سند كل واحد منهما إلى علي بن الحسن بن رباط، عن ابن اذينة، عن زرارة، فلا ريب في اتحادهما، كما نبّهنا عليه.

والظاهر أنّه وقع في هذا المتن تحريف، فإنّ المفيد رضى الله عنه أخرج هذا الحديث بسنده عن الكليني، ومتنه هكذا: «الاثنا عشر الأئمة من آل محمد كلّهم محدَّث: علي بن أبي طالب، وأحد عشر من وُلده، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعلي هما الوالدان»(1).

وأخرجه الصدوق رضى الله عنه أيضاً عن محمد بن علي ماجيلويه رضى الله عنه عن الكليني - رضوان اللّه تعالى عليه - بهذا اللفظ: «اثنا عشر إماماً من آل محمد عليهم السلام كلّهم

ص: 297


1- الإرشاد: ص 375، في باب ماجاء من النصّ على إمامة صاحب الزمان الثاني عشر من الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين.

محدّثون بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وعلي بن أبي طالب منهم»(1).

فالمعوّل على رواية المفيد والصدوق عن الكليني، فإنّها كما توافق غيرها من الروايات المتواترة توافق عنوان الباب الذي أخرج الكليني فيه هذا الحديث، وتوافق الأخبار المخرجة في نفس هذا الباب.

وأظنّ أنّ التحريف في هذا المتن ناتج عن نقل معنى الحديث ومضمونه، دون التقيّد بألفاظه، فاشتبه على بعض الرواة، أو أنّ الناقل تسامح في مقام النقل اتّكالاً على وضوح كون عدد الأئمة اثني عشر، وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام منهم وأولهم، وليس خارجاً عنهم، فلا تجد في فرق المسلمين من كان معتقداً بهذا العدد، ولا يرى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام منهم.

وكيف كان فالاعتماد على متن الحديث على لفظ الإرشاد، والخصال، وعيون أخبار الرضا عليه السلام.

وأمّا متن الخبر الثالث والرابع: فلا ريب أيضاً في وقوع التصحيف فيهما، فإنّ أصل أبي سعيد الذي روى عنه هذان الخبران من الاُصول الموجودة عندنا، وفيه تسعة عشر حديثاً، ولفظ الحديث الثالث في هذا الأصل هكذا: «إنّي وأحد عشر من وُلدي، وأنت يا علي زرّ الأرض، أعني أوتادها جبالها»، وقال:

«وتَّد اللّه الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الأحد عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها، ولم يُنظروا»(2).6.

ص: 298


1- العيون: ج 1 ص 57، الخصال: ج 2 ص 480، ح 49، البحار: ج 36 ص 393، باب 45، ح 6.
2- أصل أبي سعيد: ص 16، ح 6.

وهذا المتن كما ترى تامّ مستقيم.

ولفظ الحديث الرابع: قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: من وُلدي أحد عشر نقيباً نجيباً [نقباء، نجباء خ ل] محدَّثون، مفهَّمون، آخرهم القائم بالحق يملؤها [الأرض خ ل] عدلاً كما ملئت جوراً»(1).

وهذا المتن أيضاً موافق لألفاظ سائر الأحاديث المتواترة.

وأمّا الخبر الخامس: فقد أخرجه الصدوق بطريقين: عن الحسن بن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام، عن جابر بن عبداللّه الأنصاري بهذا اللفظ: قال: دخلتُ على فاطمة عليها السلام وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء، فعددت اثني عشر، آخرهم القائم عليه السلام، ثلاثة منهم محمد، وأربعة منهم علي عليهم السلام»(2).

وأخرجه أيضاً في كمال الدين بهذا اللفظ(3).

وأوضح من ذلك شاهداً على وقوع التحريف في خبر الكافي، وأنّه مختصر من متنه الطويل: ما أخرجه الصدوق قدس سره قال: حدّثنا علي بن الحسين بن شاذويه المؤدَّب، وأحمد بن هارون القاضي - رضي اللّه عنهما - قالا: حدّثنا4.

ص: 299


1- أصل أبي سعيد: ص 5، ح 4، وفي المناقب: ج 1 ص 300، وفي حديث أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: من أهل بيتي اثنا عشر نقيباً محدَّثون، مفهَّمون، منهم القائم بالحق يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً». وهذا اللفظ أيضاً موافق لألفاظ سائر الروايات المعتبرة.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام: ص 46 و 47، ح 6 و 7.
3- كمال الدين: ج 1 ص 269، ح 13 و ص 311، ح 3، و ص 313، ح 4.

محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن جعفر بن محمد بن مالك الفزاري الكوفي، عن مالك السلولي، عن درست بن عبد الحميد، عن عبد اللّه بن القاسم، عن عبداللّه بن جبلّة، عن أبي السفاتج، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: دخلتُ على مولاتي فاطمة عليها السلام وقُدّامها لوح يكاد ضوؤه يُغشي الأبصار، فيه اثنا عشر اسماً، ثلاثة في ظاهره، وثلاثة في باطنه، وثلاثة أسماء في آخره، وثلاثة أسماء في طرفه، فعددتها فإذا هي اثنا عشر اسماً، فقلت: أسماء من هؤلاء؟ قالت: «هذه أسماء الأوصياء، أولهم ابن عمّي، وأحد عشر من وُلدي، آخرهم القائم صلوات اللّه عليهم أجمعين» قال جابر: فرأيت فيها محمداً محمداً محمداً في ثلاثة مواضع، وعلياً وعلياً وعلياً وعلياً في أربعة مواضع(1).

فالعارف الخبير بفنّ الحديث يعرف أنّ ما رواه الكليني في الكافي، والصدوق في العيون وكمال الدين، والشيخ في الغيبة هو مختصر هذا الحديث.

وأمّا متن الحديث السادس: فالظاهر أنّ موضوعه هو مجيء يهودي إلى عمر للسؤال عما أراد، وأنّ عمر أرشده إلى أمير المؤمنين عليه السلام، هو بعينه موضوع ما رواه الكليني أيضاً في هذا الباب: 529/1 و 530، ح 5، و 294/1 و 295 و 296 ح 3. وما رواه الصدوق في كمال الدين عن أبي الطفيل، وما رواه بسنده أيضاً في كمال الدين عن أبي عبد اللّه عليه السلام: 297/1 و 298 و 299، ح 5، وفيه أيضاً في: 299/1 و 300، ح 6، وفيه أيضاً: ص 300، ح 7، و ص 301 و5.

ص: 300


1- كمال الدين: ج 1 ص 311، ح 2، عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 46، ح 5.

302، ح 8، وفي عيون أخبار الرضا: 53/1 و 54، ح 19، وفي الخصال:

476/2 و 477، ح 40، وفي مقتضب الأثر، عن عمر بن سلمة: 14 و 15 و 16 و 17، وأخرجه في ينابيع المودَّة: 443 عن عامر بن واثلة. وفي فرائد السّمطين على ما في العبقات: 240/2، ح 12.

فالظاهر أنّ كلّ هذه الأحاديث حكاية عن واقعة واحدة، ولفظ الحديث في بعضها: «إنّ لمحمدٍ إثني عشر إمامَ عدل».

وفي بعضها: «يكون لهذه الاُمّة بعد نبيها إثنا عشر إماماً عدلاً، والذين يسكنون معه في الجنة هؤلاء الأئمة الاثنا عشر.

وفى بعضها: «فإنّ لهذه الاُمة اثني عشر إماماً هادين مهديّين»، وأمّا قولك: «مَن مع محمد صلى الله عليه و آله و سلم من امته في الجنة، فهؤلاء الاثنا عشر أئمة الهدى».

وفي بعضها: «إنّ لمحمد من الخلفاء اثني عشر إماماً عدلاً، ويسكن مع محمد في جنة عَدن معه اولئك الإثنا عشر الأئمة العدل».

ولفظ بعضها: «يا هارونيّ، لمحمد بعده اثنا عشر إماماً عدلاً، ومنزل محمد في جنة عدن، والذين يسكنون معه هؤلاء الاثنا عشر».

وبعضها هكذا: قال: «كم لهذه الاُمة من إمام هدىً لا يضرّهم مَن خالفهم؟ قال: اثنا عشر إماماً، قال: فمن ينزل معه (يعني مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم) في منزله؟ قال: اثنا عشر إماماً».

وبهذه المتون المعتبرة جدّاً يصحّح متن الحديث المرويّ عن أبي سعيد

ص: 301

الخُدري، وتشهد كلّها بوقوع التصحيف فيه، أو المسامحة في نقل ألفاظه أو مضمونه، فلا ريب في أنّ المعتمد عليه هو هذه المتون الكثيرة(1).

وأمّا الحديث السابع: فلم أعثر بعدُ على متنٍ آخر له.

وأمّا الحديث الثامن: فقد روى في كفاية الأثر في الباب الذي روى فيه هذا الحديث حديثاً آخر عن مولانا الإمام أبي محمد الحسن السبط عليه السلام أيضاً، وساق الكلام إلى أن قال: «ولقد حدّثني حبيبي، عن جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أنّ الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوته».

وهذا المتن خالٍ من الإشكال، ولا يبعد اتحاده مع ما رواه جنادة بن أبي امية عنه عليه السلام، بل الظاهر اتحادهما.

وعمدة السبب في هذا الاختلاف في ألفاظ بعض الأحاديث: رواية الحديث بالمضمون والمدلول، وغفلة بعض الرواة أو تسامحه، وعدم اهتمامه بحفظ لفظ المعصوم، فلابدّ من تصحيح مثل هذه المتون بغيرها من المتون المعلومة صحّتها، ولابدّ في ذلك من الرجوع إلى خبراء الفنّ العارفين بالمتون السليمة والسقيمة. وعندي أنّ هذا الفن - يعني معرفة المتون - من مهمّات علم الحديث.

هذا تمام الكلام في أسناد هذه الأحاديث ومتونها.

ولقد ظهر لك ممّا تقدم أنّ هذه الأسانيد بنفسها لا تنهض حجّةً في قبالم.

ص: 302


1- راجع البحار: ج 36، الباب 42، باب نصّ أمير المؤمنين على الأئمة عليهم السلام.

الأحاديث المتواترة وأسانيدها، بل ليست بحجّة مطلقاً، كما أنّ هذه المتون أيضاً لا يُحتَجُّ بها، فإذا كان ولابدّ من الاحتجاج بها فلا يحتجّ إلّابما هو خالٍ من الإشكال، مؤيّد بغيره، فإنّ الأخبار يُقوّي بعضها بعضاً.

وعليه فلا حاجة لنا إلى النظر في المتون المذكورة وتأويلها وشرحها، على ما يوافق المذهب واتفق عليه أهل الحق.

ولكن لا بأس بإجراء الكلام في ذلك أيضاً؛ تتميماً للفائدة؛ وحرصاً على دفع هذه الشبهة؛ ووفاءً بما وعدناه في ابتداء هذه الرسالة.

ص: 303

ص: 304

ما يصحّ أن يقال في توجيه هذه الأحاديث:

اعلم أوّلاً: أن بعض هذه المتون ظاهر في انحصار الأئمة في الاثني عشر، وخروج أميرالمؤمنين عليه السلام منهم، كالحديث السادس والسابع والثامن، بل الأول والثاني، وهذا مخالف للضرورة وإجماع الكلّ من عصر المعصومين عليهم السلام إلى زماننا هذا، وهذا الإجماع والضرورة قرينة قطعية على عدم إرادة ظاهرها، وأنّ الكلام على فرض صدوره جرى على ما جرى للغلبة؛ أو لكون أكثرهم من صلب علي، أو من ذرية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

أو أنّه قد استُعير لفظ «الذرّية» للعترة، واُريد بها ما يعمّ الولادة الحقيقية والمجازية، أو لوجوه اخرى مذكورة في البحار وفي مرآة العقول(1).

وثانياً: الظاهر أنّ كلّ من أخرج هذه الأحاديث - كشيخنا الكليني قدس سره، ومشايخه وتلامذته - إنّما أخرجوها في باب ما جاء في الاثني عشر والنصّ

ص: 305


1- انظر: بحار الأنوار: ج 36 ص 398، ومرآة العقول: ج 1 ص 437.

عليهم؛ لأنّهم رأوا أنّ هذه المتون تقبل الجمع مع غيرها من الروايات، وبذلك يرتفع التنافي بينهما على فرض وجوده.

وثالثاً: إنّنا إذا سبرنا الأحاديث يتحصّل لنا منها: أنّهم عليهم السلام سلكوا في إطلاقاتهم وألفاظهم في هذا الباب مسلك المجاز، فأطلقوا على الأئمة عليهم السلام ذرّية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أو ولده، أو أنّهم من ولد علي وفاطمة تغليباً؛ لكون أكثرهم من ذرّية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومن ولد علي وفاطمة عليهم السلام؛ ولمعلومية أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ليس من ذرّية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومن ولد فاطمة، وبهذا الشاهد يرتفع الإشكال.

فمن الأخبار التي اطلق فيها لفظ «الذرّية» على جميعهم: ما أخرجه الخزّاز بسنده، عن مولانا سيد الشهداء الحسين عليه السلام قال: دخل أعرابي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يريد الإسلام، ومعه ضَبّ...، وساق الحديث إلى أن قال: فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلّااللّه، وأنّك رسول اللّه حقاً، فأخبرني يا رسول اللّه هل يكون بعدك نبي؟ قال: لا، أنا خاتم النبيين، ولكن يكون أئمة من ذرّيتي قوّامون بالقسط كعدد نقباء بني إسرائيل، أولهم علي بن أبي طالب هو الإمام والخليفة بعدي، وتسعة من الأئمة من صلب هذا، ووضع يده على صدري، والقائم تاسعهم يقوم بالدين في آخر الزمان، كما قمت في أوله...» الحديث(1).7.

ص: 306


1- كفاية الأثر: باب ما جاء عن الحسين عليه السلام، بحارالأنوار: ج 36 ص 342 و 343، ح 208، وكتابنا منتخب الأثر: ص 88 و 89، الفصل 1، الباب 7، ح 17.

فمثل هذا الحديث صريح في أنّ هذه الإطلاقات والتعبيرات إنّما صدرت مجازاً واتّكالاً على القرينة ووضوح المراد.

وأمّا الحديث الثالث: فيحتمل فيه أن تكون فاطمة عليها السلام مشمولة به ضمن لفظ «الاثني عشر»، بل إنّ ذلك هوالظاهر من الحديث، ومن قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إني واثنا عشر من ولدي، وأنت يا علي رزّ الأرض».

هذا، مضافاً إلى صحّة إطلاق الولد على أميرالمؤمنين، وعلى سائر الأئمة تغليباً، وعطف «أنت» عليه من قبيل عطف الخاصّ على العام تأكيداً وتشريفاً، كعطف جبرئيل على الملائكة(1).

وفي الحديث الرابع: أيضاً إنّما قال: «من ولدي» تغليباً؛ أو لكون أكثرهم من ولده.

والحديث الخامس: أيضاً مثله، ويمكن أن يكون المراد من قوله:

«فعددت» يعني فعددتهم مع والدهم اثني عشر، آخرهم القائم، ثلاثة منهم - أي من ولدها - محمد، وثلاثة منهم - أي من ولدها - علي، حيث إنّه لا حاجة في مثل هذا المقام إلى ذكر أمير المؤمنين عليه السلام؛ لأنّه كان معروفاً بالإمامة، فلا يشكّ في إمامته من رأى الإمامة في ولده، وإنّما أخبر الراوي عن سائر من اسمه علي؛ لأنّه لم تُعلَم إمامتهم كما عُلِمت إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، مع أنّ منهم من لم يكن موجوداً في ذلك الزمان، وهما اثنان: الإمام علي بن موسى الرضا، والإمام علي بن محمد النقي عليهما السلام.0.

ص: 307


1- بحار الأنوار: ج 36 ص 260.

وحاصل ما ذكرناه في علل هذه الأحاديث امور:

1 - إنّ أسنادها غير معتبرة، فلا يجوز الاعتماد عليها بنفسها.

2 - إنّ متونها مصحفة محرفة، يشهد بتصحيفها وتحريفها غيرها من الروايات المتواترة، فينبغي تصحيح متونها بها.

3 - إنّ لبعضها متوناً اخرى بألفاظ صحيحة وسليمة من الإشكال، فينبغي أن يكون الاعتماد عليها، لا عَلى غيرها.

4 - وعلى فرض صحة صدور هذه المتون فاللازم إنّما هو الجمع بينها وبين سائر الروايات بما ذكرنا، من حملها على التجوّز والتغليب، وغيرهما ممّا لا يأبى العرف وأهل اللسان صحّته.

فإن قلت: فما وجه تخريج هذه الأحاديث في الجامع الكافي مع ما فيها من العلل، ولزوم حمل ألفاظها على المجاز وترك ظواهرها؟

قلت أولاً: إنّ استعمال المجازات ليس خارجاً عن قانون المحاورة، وليس استعمال الألفاظ في معانيها المجازية أقلّ من استعمالها في معانيها الحقيقية لو لم يكن أكثر، ولا فرق في حجّية ظواهر الألفاظ بين الاستعمالات الحقيقية والمجازية، فكلّهما حجّة عند أهل اللسان.

وثانياً: أنّ مَهَرة فنّ الحديث العارفين بعلل الأحاديث، وما وقع فيها من التغيير والتصحيف إسناداً أو متناً لا يطرحون الحديث بمجرد هذه العلل بعد وضوح مورد التصحيف والتغيير، فكثيراً ما نرى في كتب الخاصة والعامة أنّهم يصحّحون الأسانيد وأسماء رجالها وطبقاتها بغيرها، ويصحّحون ألفاظ الحديث

ص: 308

أيضاً بألفاظ حديث آخر، ويحملون بعض الألفاظ على المجاز بقرينة غيرها من الروايات، ولا يشكّون في ذلك.

فبناءً على ما تقدم نقول: إنّ الكليني رضى الله عنه، الخرّيت في صناعة معرفة الحديث إنّما أدخل هذه الأخبار في باب ما جاء في الأئمة الاثني عشر والنصّ عليهم؛ لعلمه الأكيد بأنْ ليس لهذه الأخبار محامل اخرى غير التنصيص على الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، فلا يجوز رفع اليد عنها وتركها وطرحها، فإنّ ذلك لا يصدر إلّامن الجاهل الذي لا يعرف أحوال الأحاديث، ولا يدري أنّ الأخبار يفسّر بعضها بعضاً، ويبيّن بعضها إجمال بعضها الآخر، وأن إسنادها يقوّي ويعتمد عليها بغيرها.

هذا ما وفّقنا اللّه تعالى إليه من الكتابة حول هذه الأحاديث الشريفة مع كمال الاستعجال، وكثرة المشاغل، وتشتّت البال، وقد ظهر بما لا مزيد عليه صحة الاستناد والاعتماد عليها؛ لإثبات إمامة الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، الذين هم سادتنا، وشفعاؤنا، وأولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وبعده ابنه الحسن عليه السلام، وبعده الحسين عليه السلام، وبعده ابنه علي بن الحسين عليهما السلام، وبعده ابنه محمد بن علي الباقر عليهما السلام، وبعده جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، وبعده موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام، وبعده علي بن موسى الرضا عليهما السلام، وبعده محمد بن علي الجواد عليهما السلام، وبعده علي بن محمد النقي عليهما السلام، وبعده الحسن بن علي العسكري الأمين عليهما السلام، وبعده ابنه مولانا وسيدنا ناموس الدهر، وولي العصر الحجة بن الحسن المهدي، عجّل اللّه تعالى فرجه، وصلوات اللّه وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين.

ص: 309

اللهمّ اجعلنا من أنصاره وأعوانه ومقوّي سلطانه.

قد تمّ تأليف هذه الرسالة في اليوم السابع والعشرين من جمادى الثانية من شهور سنة 1391 ه ق.

قم المشرّفة

لطف اللّه الصافي الگپايگاني

ص: 310

مشروعية الاستخارة: وأ نّها ليست من الاستقسام بالأزلام

اشارة

ص: 311

ص: 312

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

قبل سنوات نشر شيخ الجامع الأزهر، محمود شلتوت، في مجلة «رسالة الاسلام» القاهرية مقالاً في التفسير، فأورد الآية الشريفة [وأن تَسْتَقْسِموا بالأزلام](1) التي تشير إلى هذه السنّة الجاهلية المنهيّ عنها ويقرنها ب «الاستخارة» التي وردت في روايات معتبرة عن أهل البيت عليهم السلام والمتعارف عليها بين الشيعة.

فانبرى المؤلّف بأمر من المرجع الفقيد آية اللّه العظمى البروجردي قدس سره لكتابة هذه الرسالة ردّاً على الشيخ شلتوت وتذكرة له، وبعث بها إليه.

يقوم الكاتب في هذه الرسالة بإيراد تحقيق كامل عن الاستقسام بالأزلام ويثبت عدم مشابهته للاستخارة.

ومن جملة الاُمور التي يذكرها المؤلف في نقد ما توهّمه الشيخ شلتوت

ص: 313


1- المائدة: الآية 3.

بهذا الخصوص هو أنّ المفسّرين وإن اختلفوا في تفسير الاستقسام بالأزلام إلّاأنّ القول المعتمد في تفسيره أنّ المشركين عندما كانوا ينحرون بعيراً لأمرٍ ما، كانوا يتوسّلون بهذه الطريقة لمعرفة الشخص الذي يكون عليه دفع ثمن البعير، فأبطل اللّه تعالى تلك العادة الجاهلية بإنزال الآية المذكورة.

إنّ المؤلّف، بما بذله من التدقيق والتمحيص بشأن «الاستخارة» يتوصّل إلى إثبات أنّ الاختلاف بين الاستقسام بالأزلام والاستخارة كالاختلاف بين الشرك والتوحيد.

ص: 314

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله الأمين، الذي ترك في امّته ما إن تمسّكوا به لن يَضلّوا أبداً، كتاب اللّه، وعترته أهل بيته صلى اللّه عليه وعلى آله الطاهرين.

قال اللّه تعالى: [حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزيرِ وَمَا اهِلَّ لِغَيرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أكَلَ السَّبُعُ إلّامَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأنْ تَسْتَقْسِموُا بالأَزْلامِ](1)

قرأت في «رسالة الإسلام»(2) التي تُصدرها دار التقريب بالقاهرة جزءاً في تفسير القرآن الكريم للأستاذ الشهير الشيخ محمود شلتوت(3) ، ووقفت فيهع.

ص: 315


1- المائدة: الآية 3.
2- العدد الأول من السنة الخامسة.
3- شيخ الأزهر الأسبق، توفّي سنة 1383 ه. وهذا النقد كتب في حياته عندما نشر هذا العدد، واُرسل إليه، وهذا الذي بيد قارئنا العزيز هو ما ارسل إليه مع إضافات اضيفت إليه عند عرضه للطبع.

على ما كتب حول تفسير هذه الآية الكريمة وقوله تعالى [وَأن تَسْتَقْسِموا بِالأزلامِ]، وما اختاره فيه. وقد ألحق فيما ألحق بالاستقسام بالأزلام، من الطَرق بالحَصَى وضرب الفول والرمل، الاستخارةَ من اللّه تعالى بالقرآن الكريم، وحَبّات السبحة المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وزعم أنّ كلّ ذلك ينافي احتفاظ الإنسان بعقله، وأنّ القرآن المجيد يصير بذلك - والعياذ باللّه - أداة الشعوذة.

ولايخفى عليك أ نّه إنّما قال ما قال؛ لأنّه لم يتحصّل أولاً معنى الاستقسام بالأزلام، وثانياً لم يتفهّم حقيقة الاستخارة، وأ نّها لم ترد في مورد استقلّ العقل بحسن فعله أو تركه، أو حكم الشرع برجحان فعله أو تركه، ولاتنافي كرامة القرآن المجيد وكونه كتاب الهداية والإرشاد بالتي هي أقوم، كما أ نّه لاينافي ذلك التبرّك به وبآياته، وقراءته لأجل الثواب، وحصول بعض المقاصد كشفاء الأمراض ممّا هو مجرّب ومأثور في الأحاديث الكثيرة المتواترة.

غير أنّ التأثر بالثقافة المادية المسيطرة على الأفهام والمشاعر يريد أن لايقبل تأثير عالم الغيب في عالَم الشهادة، ويريد أن لايؤمن بعلل غير مادية وتأثيرات غيبية، فينكر أثر التوكّل والتفويض والدعاء والصدقة؛ ولذا ترى بعضهم يُنكرون معجزات الأنبياء، وما صدر عنهم من خرق العادات في عالم المادة، كقلب العصا بالثُعبان، ومعجزة صالح، وحوت يونُس، وإحياء الموتى،

ص: 316

وإبراء الأكمه والأبرص، ونصرة النبي صلى الله عليه و آله بالملائكة.

ومن لايُنكر ذلك منهم يؤوّله، ويرى الإيمان به ضرباً من الإيمان بالخرافات، ويُعدّ إنكاره نوعاً من الثقافة، وفتح باب ذلك في الكتاب والسنّة يقلب الشريعة ظهراً لبطن، أعاذنا اللّه من شر هذه الثقافات.

وفي الاستخارات المأثورة التي هي ليست إلّامظهراً من مظاهر الإيمان باللّه وطلب الخير أو معرفته منه أيضاً يتّبعون هذه الثقافة التي ليست من التفكير الإسلامي بشيء فينكرونها، ويلحقونها تارةً بأفعال المشركين وعاداتهم، واُخرى بما لم يرد فيه حديث ورواية، ولم تثبت شرعيته من جانب الشرع.

هذا، ولزيادة البحث حول تفسير هذه الجملة الشريفة القرآنية [وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزلامِ]، نذكر كلام الشيخ المذكور، ثمّ نتكلم حول تفسيرها بحول اللّه وقوته.

قال الشيخ محمود شلتوت: (ويلحق بهذا النوع الذي حرّمه اللّه على الإنسان احتفاظاً بعقله، ما يشبه من وسائل الاستقسام التي يعتادها الناس اليوم:

كالطَرق بالحَصى، وضرب الفول والرمل، والاستخارة بحبّات السبحة، ومن أقبح أنواع الاستخارة: الاستخارة بالقرآن الكريم، الذي جرت به عادة بعض المسلمين، وصار شأناً معروفاً حتى عند أهل العلم والدين، وما كان اللّه ليرضى أن يكون كتاب هدايته وإرشاده بالتي هي أقوم في الحياة العقلية والروحية والعملية أداة الشعوذة، أو لعبة يد عابث أو مضلّل أو محتال).

أقول: في تفسير الاستقسام بالأزلام أقوال:

ص: 317

القول الأول: أنّ المراد بالاستقسام بالأزلام: طلب معرفة الخير والشرّ، وما قسم في مستقبل الحياة واستعلامها من عند الأصنام. وعلل بعضهم حرمة ذلك على تضمّنه العقيدة بالأصنام. وردّه بعضهم: بأنّ ذلك لم يكن في جميع الأحوال عند الأصنام، فربّما كان مع الرجل زَلمان يستقسم بهما إذا شاء.

ويردّ ذلك بأنّ هذا لاينافي كون العلّة تكريم الأصنام، فإنّ الظاهر أنّ الأصل في ذلك عندهم أن يكون عند الأصنام، وعند تعذّر الحضور في بيت الصنم يستقسم بما معه من الأزلام، كما أنّ الظاهر أنّ هذا ليس من العلّة المنحصرة، فيمكن أن يكون لحرمته علل اخرى.

وكيف كان، قال في لسان العرب: (قال الأزهري: الاستقسام مذكور في موضعه، والأزلام كانت لقريش في الجاهلية مكتوب عليها أمر ونهي، وافعل ولاتفعل، قد زَلمت وسوّيت ووضعت في الكعبة، يقوم بها سدنة البيت. فإذا أراد رجل سفراً أو نكاحاً أتى السادن، فقال: أخرج لي زَلماً، فيخرجه وينظر إليه، فإذا خرج قدح الأمر مضى على ما عزم عليه، وإن خرج قدح النهي قعد عمّا أراده، وربّما كان مع الرجل زَلمان وضعهما في قرابه، فإذا أراد الاستقسام أخرج أحدهما)(1).

وقال أبو البقاء في تفسيره: (كانت سبعة عند سادن الكعبة، عليها أعلام، كانوا يحكمونها (يجيلونها - خ ل)، فإن أمرتهم ائتمروا، وإن نهتهم انتهوا)(2).5.

ص: 318


1- لسان العرب: ج 12 ص 270.
2- تفسير الجلالين: ص 135.

وروى الطبري في تفسيره(1): عن ابن إسحاق، قال: كانت هُبَل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت في بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يُهدى للكعبة. وكانت عند هُبَل سبعة أقداح، كلّ قدح منها فيه كتاب - إلى أن قال: - كانوا إذا أرادوا أن يجيبوا غلاماً أو أن ينكحوا منكحاً، أو أن يدفنوا ميتاً، أو يشكّوا في نسب واحد منهم ذهبوا به إلى هبل بمائة درهم وبجزور، فأعطاها صاحب القداح الذي يضربها، ثمّ قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، قالوا: يا إلهنا، هذا فلان بن فلان، قد أردنا به كذا وكذا، فاخرج الحق فيه... إلى آخره.

وهذا كما ترى يدلّ على عدم انحصار الاستقسام بالأزلام بمعرفة الخير والشر، بل يعمها ومعرفة الحق عند اختلافهم، فكأ نّهم يحكّمونها أو يحكّمون الصنم الذي يستقسمون بالأزلام عنده.

وقال القفّال: ذكر هذا في جملة المطاعم؛ لأنّه ممّا أبدعه أهل الجاهلية، وكان موافقاً لما كانوا فعلوه في المطاعم، وذلك أنّ الذبح على النصب إنّما كان يقع عند البيت، وكذا الاستقسام بالأزلام كانوا يوقعونه عند البيت إذا كانوا هناك.

وقال بعضهم: وإنّما حرّم ذلك لأنّهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام. وهذا القول هو اختيار جمهور، كما نقل الرازي في تفسيره.

إلّا أنّ سياق الآية يأبى ذلك؛ فإنّ اللّه تعالى قال في أول السورة: [اُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأْنْعَامِ](2) ثمّ ذكر استثناء أشياء بقوله تعالى: [إلّا مَا يُتْلَى عَلَيكُم]. وفي هذه1.

ص: 319


1- جامع البيان: ج 6 ص 103.
2- المائدة: الآية 1.

الآية الكريمة ذكر تلك الصورة المستثناة، واستثناء الاستقسام على هذا التفسير من العموم المستفاد من قوله تعالى: [اُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ اْلأنعام]، مع أ نّه ليس من المطاعم على هذا القول لايستقيم، وذِكرُهُ في جملة المطاعم أيضاً ينافي هذا القول، وتوجيه القفّال بعيد من الظاهر.

القول الثاني: ما نقله الرازيّ(1) وغيره، وقال: إنّه قول المؤرخ وكثيرٍ من أهل اللغة، وهو: أنّ الاستقسام هو الميسر المنهيّ عنه، والأزلام: قداح الميسر.

وإلى هذا يرجع ما حكي عن مجاهد من أ نّه كعاب فارس والروم التي كانوا يتقامرون بها، وما حكي عن أبي سفيان بن وكيع من أ نّه هو الشطرنج.

وهذا القول إن كان راجعاً إلى أنّ الاستقسام هو من أفراد الميسر المنهيّ عنه يرجع إلى القول الثالث المروي عن أهل البيت الطاهر عليهم السلام. وإن كان المراد منه تفسير الاستقسام بمطلق الميسر يردّه السياق والظاهر، كما رددنا به القول الأول. نعم، تفسير الأزلام بقداح الميسر وبما يتقامرون به لاينافي هذا السياق.

القول الثالث: وهو القول الحقّ؛ لأنّه مرويّ عن أئمة أهل البيت عليهم السلام(2) الذين جعلهم النبي صلى الله عليه و آله عِدلاً للقرآن، وقال: «إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عَلَيَّ الحوض».

وهذا القول - كما في «مجمع البيان» وغيره - روي عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر بن علي بن الحسين، وابنه جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام، وهو: «إنّ8.

ص: 320


1- تفسير فخرالدين الرازى: ج 11 ص 135 (ط القديمة، الطبعة الثالثة).
2- بحار الأنوار: 35/38.

الأزلام عشرة، سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها، وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّئونه أجزاءً، يجتمعون عليه فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل، وثمن الجزور على مَن تخرج له التي لا أنصباء لها، وهو القمار، فحرمّه اللّه تعالى»(1).

وذكر هذا القول أبو السعود في تفسيره، إلّاأ نّه ترك التنويه بذكر قائله عليه السلام، فقال: وقيل: هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعهودة. وذكره البيضاوي والسيوطي وغيرهما.

وقال الآلوسي في «روح المعاني»: وقيل: المراد بالاستقسام بالأزلام:

استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة، أي طلب قسم من الجزور أو ما قسم اللّه تعالى منه، وهذا هو الميسّر، وقد تقدّم ذلك. وروى علي بن إبراهيم، عن الأئمة الصادقين رضي اللّه تعالى عنهم، ورجّح بأ نّه يناسب ذكره مع محرّمات الطعام. إنتهى كلام الآلوسي.

وهذا القول هو القول الموافق لسياق الآية وما قبلها من الآيات.

ومن هذا القليل يعرف المنصف أنّ الاُمّة لو تمسّكوا بالكتاب والعترة، وأخذوا العلم من أهله، واتّبعوا هُدى أهل البيت عليهم السلام أَمِنُوا من الضلال والاختلاف، ومن القول بغير علم، وتفسير القرآن بالرأي، ويُعرف أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لم يأمر الاُمّة بالرجوع إلى أهل بيته إلّالفضائل اختصّهم اللّه بها؛ ولأنّ اللّه تعالى أمره بذلك.2.

ص: 321


1- مجمع البيان: ج 3 ص 272.

وقد فسّر الزمان سرّ ذلك، فصدر عنهم في المعارف الإسلامية والعلوم الحقيقية من التوحيد والتفسير والفقه والحديث والأخلاق والآداب، وشرح معالم الإنسانية ما لم يصدر عن أحدٍ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله، قد اعترف بذلك الموافق والمخالف.

ثمّ إنّ مِن جميع ذلك يظهر أ نّه لاوجه لإلحاق الاستخارة بالقرآن المجيد وبحبّات السبحة بالاستقسام بالأزلام؛ لوجود الفرق بين الاستقسام بالأزلام وبين الاستخارة. فإنّ حقيقة الاستقسام على القول الأول الذي ظهر لك ضعفه يرجع إلى الشرك، واستعلام ما يكون في المستقبل، وطلب معرفة الخير والشرّ من الأصنام. والاستخارة حقيقتها: الدعاء وطلب الحاجة ومعرفة الخير من اللّه تعالى علاُّم الغيوب. والفرق بينهما هو الفرق بين الشرك والتوحيد، مع أ نّه ليس في الاستخارة طلب معرفة ما يقع في مستقبل الحياة مثل الموت والمرض ووجدان الضالّة وغيرها ممّا يكون مآله طلب معرفة الغيوب.

وإنّما يستفاد منها إذا كان مؤدّاها الخير أنّ الأمر كيف وقع؟ ووقع أم لم يقع، يكون فيه الخير، وأنّ ما يقع هو أصلح الأمرين أو الاُمور. ومثل هذا إنّما يؤثّر في الإقدام على الفعل أو تركه، ولهذا ورد النهي عن التفؤّل بالقرآن دون الاستخارة به. فإنّ التفؤّل إنّما يكون فيما سيقع، كشفاء المريض وقدوم المسافر وغيرهما، بخلاف الاستخارة فإنّها طلب لمعرفة الرشد وما فيه الخيرة.

فعلى هذا فالاستخارة بالقرآن الكريم وبالسبحة ليست مخالفة للكتاب، ولا مانعاً من هدايته وإرشاده للتي هي أقوم ولو قلنا بالقول الأول في تفسير الاستقسام. وأما بحسب القول الثاني والثالث فلا ارتباط بين الاستقسام

ص: 322

والاستخارة أصلاً، ولاوجه لإلحاقها به.

وبعد ذلك فلا بأس بذكر بعض ما ورد في الاستخارة من الأحاديث، فنقول: دلّت الروايات من طرق العامة على استحباب الاستخارة ومطلوبيتها:

فمنها: ما أخرجه أحمد والبخاري وغيرهما من أرباب السنن والمسانيد، عن جابر بن عبد اللّه، قال: كان رسول اللّه يعلّمنا الاستخارة في الاُمور كلّها، كالسورة من القرآن، يقول «إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثمّ ليقل: اللهمّ إنّي أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك...» الحديث.

ومنها: ما أخرجه أحمد في مسنده - ج 1، ص 168 - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «من سعادة ابن آدم استخارته اللّه، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه اللّه، ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة اللّه، ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضى اللّه عزّوجلّ».

وعن أنس بن مالك: لما تُوفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: كان رجل ملحد (يلحد)، وآخر يضرح، فقالوا: نستخير ربنا، فبعث (فنبعث) إليهما، فأيّهما سبق تركناه، فأرسل إليهما، فسبق اللّه صاحب اللحد، فألحدوا له.

وهذا الحديث يدلّ على أنّ الاستخارة بالسبحة جائزة، لاإشكال في جوازها.

وأمّا الأخبار من طرقنا فأكثر من أن تحصى:

فمنها: ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسند صحيح، قال: قال أبوعبد

ص: 323

اللّه عليه السلام «صلِّ ركعتين، واستخر اللّه، فواللّه ما استخار اللّه مسلم إلّاخار له البتَّة».

ومنها: ما روي عن البرقي في المحاسن عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «قال اللّه عزّوجلّ: مِن شقاء عبدي أن يعمل الأعمال فلا يستخيرني»(1).

ومنها: ما روي عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: قلت له:

ربّما أردت الأمر، تفرق مني فريقان، أحدهما يأمرني، والآخر ينهاني. قال:

فقال: «إذا كنتَ كذلك فصلِّ ركعتين واستخر اللّه مائة مرة ومرة، ثمّ انظر أجزَمَ الأمرين لك فافعله، فإنّ الخيرة فيه إن شاء اللّه»(2).

وفي رواية عن أبي الحسن عليه السلام: «ثم انظر أيّ شيء يقع في قلبك فاعمل به»(3).

وفي رواية اليسع القمّي، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «انظر إذا قمت إلى الصلاة، فإنّ الشيطان أبعد ما يكون من الإنسان إذا قام إلى الصلاة، أيّ شيء يقع في قلبك فخذ به، وافتح المصحف فانظر إلى أول ما ترى فيه، فخذ به إن شاء اللّه تعالى»(4).

وربّما يُستخار لرفع التحيّر وطلب التعرّف على ما فيه الخيرة بالسبحة،0.

ص: 324


1- المحاسن: ج 2 ص 598.
2- الكافي: ج 3 ص 471؛ المحاسن: ج 2 ص 599.
3- الكافي: ج 3 ص 471.
4- تهذيب الأحكام: ج 3 ص 310.

وهي أيضاً مروية في طرقنا عن الصادق عليه السلام، وكذا بالرقاع، وهي أيضاً مروية عن أبي عبداللّه عليه السلام.

ومنها: ما روى عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا أراد أحدكم شيئاً فليصلِّ ركعتين، ثم ليحمد اللّه وليُثنِ عليه، ويصلّي على محمد وأهل بيته، ويقول:

اللهمّ إن كان هذا الأمر خيراً لي في ديني ودنياي فيسّره لي واقدره، وإن كان غير ذلك فاصرفه عني...»(1) الحديث.

ومنها: ما روى في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «كان عليّ بن الحسين إذا همّ بأمر حجٍّ وعُمرةٍ أو بيعٍ أو شراءٍ أو عتقٍ تطهّر، ثمّ صلّى ركعتي الاستخارة، وقرأ فيهما سورة الرحمّن والحشر، والمعوَّذتين وقل هو اللّه أحد إذا فرغ وهو جالس في دبر الركعتين، ثمّ يقول: اللهمّ إن كان كذا وكذا خيراً لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله، فصلِّ على محمد وآله ويسّره لي على أحسن الوجوه وأجملها، اللهمّ وإن كان كذا وكذا شرّاً لي في ديني ودنياي وآخرتي وعاجل أمري وآجله فصلِّ على محمد وآله واصرفه عني»(2).

ومنها: ما روي عن محمد بن خالد أ نّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن الاستخارة؟ فقال: «استَخِر اللّهَ في آخر ركعة من صلاة الليل، وأنت ساجد، مائة مرّة ومرّة»، قال: كيف أقول؟ قال «تقول: أستخيرُ اللّه برحمته، أستخير اللّه0.

ص: 325


1- الكافي: ج 3 ص 472.
2- الكافي: ج 3 ص 470.

برحمته»(1).

ومنها غيرها ممّا هو مذكور في جوامع الحديث.

ولا يخفى عليك أ نّه يستفاد من مجموع هذه الأحاديث: أنّ الاستخارة نوعان:

النوع الأول: مجرّد طلب الخير بالدعاء، كما دلّت عليه رواية محمد بن خالد.

النوع الثاني: طلب التعرّف على ما فيه الخير من اللّه تعالى، أو طلب العزم على ما فيه الخيرة، كما دلّ عليه خبر اليسع القمّي، وأحاديث الاستخارة بالرقاع وبالقرآن المجيد وبالسبحة وحديث إسحاق بن عمار. ومحلّ هذا النوع تحيّر المستخير في أمرين مباحين، أو مستحبّين، بل ومكروهين إذا لم يكن طريق لمعرفة رجحان أحدهما على الآخر، لامن الشرع ولامن العقل، ولامن أحد يشاوره.

فإذا صار حاله كذلك ولم يأتِ منه الجزم على أحد الطرفين يستخير اللّه تعالى؛ لرفع تحيّره وتحصيل الجزم على أحد الطرفين، ويعمل على مؤدّى استخارته، ويبني على أنّ ذلك هو الأرجح، كما أ نّه يصير أرجح أيضاً من جهة أداء استخارته إليه وكونه عملاً بما خار اللّه تعالى له.

وليكن هذا آخر كلامنا في هذا البيان، ومن أراد التوسّع في ذلك فعليه3.

ص: 326


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 563.

بمراجعة جوامع الحديث، وما كتب الأصحاب حول الاستخارة وآدابها وأنواعها.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

حرّره لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

ص: 327

ص: 328

تفنيد اكذوبة خِطبة الإمام عليٍّ على الزهراء عليهما السلام

اشارة

ص: 329

ص: 330

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

لا يخفى على من له إلمام بالتاريخ والحديث أنّ العلم والتاريخ والحديث تربّى في حجر الحكومة بدلاً عن أن تربّى الحكومة في حجرها وأنّ سياسات الحكّام الجائرة أثّرت في نقل التاريخ ورواية الأحاديث، فنقل المؤرّخون المأجورون تقرّباً إلى الحكّام والطواغيت في التاريخ قصصاً موضوعة وحكايات مفتعلة تؤيّد سياساتهم كما أسقطوا عن الصحيح منها تارة وزادوا عليها اخرى.

وكذا دسّوا في الأحاديث ما لا أصل له وأسقطوا من بعضها وزادوا على بعضها حسب ما ترتضيه سياسات الحكّام. وقد وقع ذلك بالعمدة في الأحاديث المأثورة في فضائل أهل البيت عليهم السلام ومثالب أعدائهم من المنافقين والذين أخبر النبي صلى الله عليه و آله عن سوء حالهم في أحاديث الحوض فسعوا في ترك رواية تلك الطائفتين من الأحاديث أو تحريفها وإلّا فتأويلها.

ولذا لم يبق في الكتب التي ا لّفت في عصر ملوك بني اميّة وبني العبّاس

ص: 331

واشتهرت بين الناس وأصبحت من المصادر الحكوميّة إلّاالنزر اليسير، وقد سعوا أيضاً في الأحاديث الراجعة إلى الفقه ونظامات الإسلام أيضاً بترك الأحاديث المرويّة عن طرق أهل البيت حتّى أميرالمؤمنين علي عليه السلام إلّاما لا بُدَّ منه واستبدلت السياسة الرجال والعلماء بأفراد مأجورين مشبوهين معروفين بالفساد حتّى عند أرباب تلك السياسات، وقد وقعت الاُمّة بذلك في محنة وبلاء عظيم.

ومن جملة ما دسّوا في الأحاديث عداءً لأهل البيت عليهم السلام اكذوبة خطبة الإمام أميرالمؤمنين على الزهراء سيدة نساء العالمين عليهما السلام فاخترعوها ودسّوها في بعض متون الأحاديث المتواترة المشهورة المرويّة بطرق كثيرة ومتون متقاربة التي مغزيها صحة موقفها وموقف الإمام عليهما السلام قبال ما وقع بين الاُمّة في الحكم والنظام. وهذه رسالة وجيزة في بيان إبطال هذا الدسّ. واللّه الهادي إلى الصواب.

ص: 332

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وسلام على عباده الذين اصطفى، محمّدٍ وآله الطاهرين.

وبعد، فهذه رسالة وجيزة في تفنيد اكذوبة خِطبة الإمام علي على الزهراء عليهما السلام، كتبتها ردّاً على بعض نواصب العصر، وتقرّباً إلى اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم، واللّه الموفِّق والهادي إلى الصواب.

ليس يخفى على مَن له إلمام بكتب الحديث أنّ أعداء أهل البيت عليهم السلام قد سعوا في إطفاء نورهم، وطمس علومهم، وكتمان فضائلهم. وما بقي في جوامع الحديث من أحاديث فضائلهم ليس إلّاالقليل منها، فتركوا رواية مناقبهم لأسباب سياسية، وكان في عصر الاُمويين والعباسيين رواية الحديث في فضل علي وأهل بيته عليهم السلام من أكبر الجرائم، وكان من أهمّ الوسائل للتقرّب بها إلى الحكام وضع الأحاديث المشعرة بتنقيص أهل البيت ومدح آخرين، وفيما يكون مغزاه الاعتراف بشرعية الحكومات، وسيرة الخلفاء والاُمراء، وكانوا يَعدّون مِن

ص: 333

أظهر العلائم بكون الرجل من أهل السنّة ميله عن أهل البيت، ومحبّته للعثمانيين(1).

وكان أقلّ ما عملوا في ذلك كتمانهم فضائل الإمام علي عليه السلام، حتّى أن امّ المؤمنين عائشة تمتنع من التصريح باسم عليٍّ عليه السلام، كما في حديثها في تمريض النبي صلى الله عليه و آله و سلم، حيث كانت تقول: فخرج ويدٌ له على الفضل بن عباس ويدٌ له على رجل آخر، وفي حديثها الآخر تقول: فخرج بين رجلين، تخطّ رجلاه في الأرض بين عباس بن عبدالمطّلب وبين رجل آخر(2) ، فتراها تصرّح باسم الفضل وعباس، وتترك التصريح باسم علي عليه السلام! مع أنّ في هذا ليس كثير فضل لمن هو من النبي صلى الله عليه و آله و سلم بمنزلة هارون من موسى، وكان له مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مشاهده المعروفة، ونزل في فضله ما نزل من الكتاب المجيد، ولا يبغضه إلّا منافق، ولا يحبّه إلّامؤمن، وهذا يدلّ على شدّة اهتمامهم لإخفاء مناقب أهل البيت، ومبالغتهم في ذلك.

وازداد حقدهم شدّةً في عهد معاوية وملوك بني امية وبني عباس، حتّىه.

ص: 334


1- راجع في ذلك كتاب «العتب الجميل» للحضرمي، و «النصائح الكافية» له، وكتابنا «أمان الاُمّة».
2- راجع صحيح البخاري: ج 2 ص 21-22 (ط المطبعة العامرة، سنة 1330 ه). وقال في حاشيته: قوله: لم تُسَمّ عائشة، أي لم تذكر اسمه، ولم ترد ذكره، وكانت - رضي اللّه عنها - واجدة على سيدنا علي؛ لمّا بلغها من قوله حين استشار نبينا - عليه الصلاة - في حديث الإفك «النساء سواها كثيرة». انتهى. ولنا حول أحاديث عبيد اللّه بن عتبة بن مسعود مقال، ليس هنا محلّ ذكره.

ضربوا مثل عطية العوفي أربعمائة سوط وحلقوا لحيته؛ لأنّه أبى أن يسبّ أمير المؤمنين علياً عليه السلام، واستلّوا لسان إمام العربية ابن السِّكِّيت؛ لأنّه لمّا خاطبه المتوكّل وقال: مَن أحبُّ إليك، هما - يعني وَلَدَيه - أو الحسن والحسين؟ فقال:

قنبر خير منهما. فأمر المتوكّل باستلال لسانه، فاستلّوه حتى مات، وقيل أَمَرَ الأتراكَ فداسوا بطنه حتّى مات.

ومن عجيب ما ادرج ودُسّ في الأحاديث: أكذوبة خِطبة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بنتَ أبي جهل على سيدة نساء العالمين فاطمة البتول عليها السلام، فزادوا على الحديث المتواتر بين الفريقين «فاطمة بضعة منّي، يُؤذيني ما آذاها»، وفي رواية اخرى «يُريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها»؛ كي تقبلها النفوس، وتقع مورد القبول، ولم يلتفتوا إلى مايمسّ بهذه الزيادة كرامة مقام الرسالة، وقدسية مَن لا ينطق عن الهوى.

ونحن مع الغضّ عمّا في هذه الزيادة من اضطراب المتن، وشدّة الاختلاف من حيث الألفاظ والمضامين، مثل ما في بعضها: «أنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن يُنكحوا بنتهم عليّ بن ابيطالب»، وهذا لا يدلّ على أنّه عليه السلام خطبها، أو أراد خطبتها، وفي بعضها: أنّ فاطمة أتت النبي صلى الله عليه و آله و سلم وشكت من ذلك، وفي بعضها لا يوجد ذكر عن أبي العاص، وغير ذلك ممّا يشهد بدسّ هذه الزيادة في الحديث، مع ما في بعض رواتها من الانحراف عن علي عليه السلام، وكونه من الخوارج، وأتباع ابن الزبير والعثمانيين.

نقول: تشهد بوضع هذه القصة واختلاقها امور:

ص: 335

الأول: عدم وجود هذه الزيادة في بعض طرق الحديث، فأخرجه البخاريُّ(1) هكذا: قال: حدثنا أبو الوليد، حدثنا ابن عُيَينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مَليكة، عن المسوّر بن محزمة: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و سلم قال: «فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها أغضبني».

وأخرجه مسلم، قال: حدثني أبو معمّر إسماعيل بن إبراهيم الهذلي، حدّثنا سفيان، عن عمرو، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن محزمة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «إنّما فاطمة بضعة منّي، يُؤذيني ما آذاها»(2).

الثاني: الظاهر أ نّه لا خلاف بين المسلمين في اختصاص هذا الحكم بفاطمة عليها السلام دون غيرها من أخواتها وسائر النساء، ولم يُفتِ أحد من أهل العلم فيما أعلم بعدم جواز النكاح على سائر بنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وليس هذا إلّالما حازته عليها السلام من الفضيلة والكرامة والدرجة الرفيعة عند اللّه تعالى، واختصاصها بفضائلها المشهورة دون غيرها من النساء. ولو كان علة حرمة نكاح امرأة اخرى عليها اجتماع بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبنت عدوّ اللّه مكاناً واحداً لاشتركت معها في هذا الحكم أخواتها زينب ورُقية واُمّ كلثوم، ولَما جاز نكاحهنّ من أبي العاص بن ربيع، وعُتبة وعُتيبة ابنَي أبي لهب في حال كفرهم، بل لَما جاز نكاحهنّ بمن كان قبل الإسلام مشركاً كافراً، فإنّه إذا لم يجز تزويج امرأة مسلمة لكفر أبيها على بنت رسول اللّه، ولا يجب الإسلام لها ذلك لا يجوز نكاح بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من).

ص: 336


1- صحيح البخاري: باب مناقب فاطمة.
2- صحيح مسلم: ح 1417 (ط سنة 1332 ه).

مسلم كان قبل إسلامه مشركاً، وكان أبوه واُمّه أيضاً مشركين، بل هذا أولى منه بهذا الحكم.

هذا، مضافاً إلى أنّ عثمان كان متزوّجاً بامرأة اخرى، وتزوّج معها رقية على ما يظهر ممّا ذكره في الإصابة(1) في قصّة إسلامه في ترجمة سَعدى العَبْشَميَّة، ولم ينقل أنّه طلّق زوجته قبل نكاح رقية، ثمّ إنّه بعد وفاة رقية تزوّج امّ كلثوم، ونكح على رقية أو على امّ كلثوم رملة بنت عدوّ اللّه شَيبة، ولا يتفاوت الأمر في كون نكاحه رملة قبل عُمرة القضية، أو في هذه السنة، فإن عمرة القضية وقعت في سنة سبع، وموت امّ كلثوم - رضي اللّه عنها - وقع في سنة تسع. ويشهد لذلك - أي لأنّ عثمان كان متزوجاً بامرأة اخرى على بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله - حديثُ مفارقته أهله في ليلة وفاة امّ كلثوم رضي اللّه عنها، فعلى ذلك لا يستقيم أن يكون علة حرمة نكاح امرأة اخرى على فاطمة عليها السلام ما ذكروه من عدم اجتماع بنت رسول اللّه وبنت عدوّ اللّه في مكان واحد.

الثالث: أترى علياً عليه السلام ناكحاً ابنة أبي جهل لو طلب النبي وفاطمة عليهما السلام ترك نكاحها؟

أترى علياً يخالف النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وفاعلاً ما يغضبه؟ فإذا ما دعا النبي صلى الله عليه و آله و سلم بإعلان ذلك على المنبر؟ وكيف لم يملك نفسه عن الغضب، وهو الذي قال اللّه تعالى في خُلقه [اِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيمٍ](2)، مع ما في هذا الإعلان من تنقيص4.

ص: 337


1- الإصابة في تمييز الصحابة: ج 4 ص 427، رقم 539.
2- القلم: الآية 4.

لمكانة مجاهد الإسلام وابن عمّه ووصيّه والمدافع عنه بنفسه؟

حاشا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وابن عمّه من ذلك كلّه، وحاشا أن يستولي الغضب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيفعل ما لا يفعله إلّامن لا يملك نفسه عند الغضب.

الرابع: إذا كان الزواج بامرأة اخرى على فاطمة عليها السلام حراماً، وكان ذلك من خصائصها على ما دلّ عليه بعض الأحاديث من طرق الشيعة أيضاً(1) ، هل يمكن أن يكون علي وفاطمة عليهما السلام غير عالِمَين بهذا الحكم إلى هذا الوقت؟

وهل يوجد أرضى من علي وأسلم منه للّه ولرسوله، وهو الذي لم يُسمَع منه إلّاالتسليم المحض لِلّه ولنبيه، ولم يذكر أحد أنّه ردّ على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حكم أو قضية؟!

إذن فما معنى هذه القصّة؟ وما اريد من نقلها وافتعالها؟

الخامس: وممّا يبعّد ذلك أيضاً: رواية علي بن الحسين عليهما السلام هذه الزيادة، مع ما فيها من التلويح بتنقيص منزلة جده علي عليه السلام، بل وتعريض مقام جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما يجب أن ينزّه عنه مقام الرسالة.

السادس: وأغرب من ذلك أن يقيس النبي صلى الله عليه و آله و سلم أبا العاص بن الربيع - الذي بقي في شركه إلى عام الحُديبية، واُسر مع المشركين مرتين، وفرّق الإسلام بينه وبين زوجته بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فهاجرت مسلمة وتركته لشركه، ولايذكر التاريخ بعد إسلامه موقفاً له في الإسلام غير كونه مع علي عليه السلام لمّا بويع).

ص: 338


1- راجع مناقب ابن شهر آشوب: ج 3 ص 330 (ط المطبعة العلمية). وممّن أفتى بذلك من أهل السنّة: عبد اللّه بن داود، فراجع ذخائر العُقبى للمحب الطبري: ص 38 (ط سنة 1356 ه).

أبوبكر - بأخيه وابن عمّه أمير المؤمنين، مع سوابقه المحمودة ومشاهده المشهورة في نصرة الإسلام ونصرة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وفضائله ومكارم أخلاقه، ومع ما قال في حقّه النبيّ صلى الله عليه و آله: «إن عليّاً منّي، وأنا من علي، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي»(1) و «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هرون من موسى إلّاأنّه لا نبوة بعدي»(2)، وقال له: «إنّ اللّه عزّوجلّ قد زيّنك بزينة لم يتزيّن العباد بزينة أحبّ إليه منها: الزهد في الدنيا، فجعلك لا تنال من الدنيا شيئاً، ولا تنال الدنيا منك شيئاً، ووهب لك حبّ المساكين، ورضوا بك إماماً، ورضيت بهم أتباعاً. فطوبى لمن أحبّك وصدّق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب عليك، فأمّا الذين أحبوك وصدقوا فيك فهم جيرانك في دارك، ورفقاؤك في قصرك، وأمّا الذين أبغضوك وكذبوا عليك فحقّ على اللّه أن يوقفهم موقف الكذّابين يوم القيامة»(3)، وقال صلى الله عليه و آله: «عليّ خير البشر، منَ شكّ فيه كفر (ع)» وفي رواية: «فمن أبى فقد كفر (حظ)»(4).

فحاشا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يُثني على أبي العاص - رضي اللّه عنه - بما فيه التعريض بذمّ علي عليه السلام، وحاشا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن ينسى مواقف الإمام في الحروب ونجدته وبسالته وإيثاره نفسَ النبي على نفسه، فمن كان أوفى بعهد رسول اللّه من الإمام؟ ومن كان أدفع عن الإسلام منه؟7.

ص: 339


1- شرح النهج: ج 2 ص 450 (ط مصر)، ومصابيح السنّة: ج 2 ص 275.
2- صحيح مسلم: ج 7 ص 120.
3- اسد الغابة: ج 4 ص 23.
4- كنوز الحقائق، المطبوع بهامش الجامع الصغير: ج 2 ص 16-17.

وأضف إلى ما ذكر: أنّك لا تجد في حياة النبي والإمام والزهراء عليهم السلام مثيلاً لهذه القصة، ولا ما يدفع استبعاد وقوعها في حياتهم، بل كلّما سبرنا تاريخ حياة الرسول وصهره العزيز وبنته العزيزة وجدناه حافلاً بالشواهد والحكايات التي تكذّب هذه القصة جداً. فما أحسن مَن ترك إخراج هذه الزيادة كالبغوي في مصابيح السنّة، واكتفى بتخريج قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها أغضبني»، وفي رواية: «يُريبني ما أرابها، ويُؤذيني ما آذاها»، فكأ نّهم تركوا هذه الزيادة لبعض العلل التي أشرنا إليها.

هذا، ولعلّامة المعتزلة ابن أبي الحديد كلام حول هذا الحديث، وقد نقل عن شيخه أبي جعفر الإسكافي كون هذه الزيادة من الموضوعات.

وقال السيد المرتضى في «تنزيه الأنبياء» (هذا خبر باطل موضوع، غير معروف ولا ثابت عند أهل النقل - إلى أن قال: - على أنّ هذا الخبر قد تضمّن ما يشهد ببطلانه، ويقضي على كذبه من حيث ادّعي فيه أنّ النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم ذمَّ هذا الفعل، وخطب بإنكاره على المنابر، ومعلوم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لو كان فعل ذلك على ما حُكي لَما كان فاعلاً لمحظور في الشريعة(1) ؛ لأنّ نكاح الأربع حلال على لسان نبينا محمد صلى الله عليه و آله و سلم، والمباح لا يُنكره الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، ولا يصرح بذمّه،ت.

ص: 340


1- لأنّ على قول مَن يأخذ بهذا الخبر لم يكن نكاح امرأة على فاطمة عليها السلام قبل نهيه صلى الله عليه و آله و سلم محظوراً، بل كان مباحاً لأنّه لو كان محظوراً لا يقدم عليه مثل علي بن أبي طالب عليه السلام. فليس مقبولاً عند العقل أن يُنكر النبي صلى الله عليه و آله و سلم على من أراد فعل مباح قبل أن يصير ممنوعاً في الشريعة، ويبالغ في إنكاره، بل يذمَّه على ذلك، فإنّ الأولى بل اللائق بخُلُقه الكريم ومقامه العظيم أن يُعلِم ذلك علياً من غير ارتكاب هذه التعريضات.

وبأنّه متأذّيه، وقد رفعه اللّه عن هذه المنزلة، وأعلاه عن كلّ منقصة ومذمّة. ولو كان عليه السلام نافراً من الجمع بين بنته وبين غيرها بالطباع التي تنفر من الحَسَن والقبيح لَما جاز أن يُنكره بلسانه، ثمّ ما جاز أن يبالغ في الإنكار، ويُعلن به على المنابر وفوق رؤوس الأشهاد، ولو بلغ من إيلامه لقلبه كلّ مبلغ فما هو اختص به من الحلم والكظم، ووصفه اللّه به من جميل الأخلاق وكريم الآداب ينافي ذلك ويحيله، ويمنع من إضافته إليه وتصديقه عليه، وأكثر ما يفعله مثله في هذا الأمر إذا ثقل عليه أن يعاقب عليه سرّاً، ويتكلم في العدول عنه خفياً على وجه جميل، وبقول لطيف.

وهذا المأمون الذي لا قياس بينه وبين الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وقد أنكح أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام بنته، ونقلها معه إلى مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، لمّا ورد كتابها عليه تذكر أنّه قد تزوج عليها أو تسرّى، يقول مجيباً لها، ومنكراً عليها: إنّا ما أنكحناه لنحظر عليه ما أباحه اللّه تعالى، والمأمون أولى بالامتعاض من غيرة بنته، وحاله أجمل للمنع من هذا الباب والإنكار له.

فواللّهِ إنّ الطعن على النبي صلى الله عليه و آله و سلم بما تضمّنه هذا الخبر الخبيث أعظم من الطعن على أمير المؤمنين عليه السلام وما صنع هذا الخبر إلّاملحد قاصد للطعن عليهما، أو ناصب معاند لا يبالي أن يُشفي غيظه بما يرجع على اصوله بالقدح والهدم.

على أنّه لا خلاف بين أهل النقل أنّ اللّه هو الذي اختار أمير المؤمنين عليه السلام لنكاح سيدة النساء صلوات اللّه وسلامه عليها، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ردَّ عنها جلّة أصحابه، وقد خطبوها وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي لم ازوّج فاطمة عليّاً حتّى زوّجها اللّه إيّاه في سمائه»، ونحن نعلم أنّ اللّه سبحانه لا يختار لها من يُغِيرها ويؤذيها

ص: 341

ويغمّها، فإنّ ذلك أدلّ دليلٍ على كذب الراوي لهذا الخبر.

وبعد، فإنّ الشيء إنّما يُحمَل على نظائره، ويُلحق بأمثاله، وقد علم كلّ من سمع الأخبار أنّه لم يعهد من أمير المؤمنين عليه السلام خلافاً على الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، ولا كان قطُّ بحيث يُكرَه على اختلاف الأحوال وتقلّب الأزمان، وطول الصحبة، ولا عاتبه عليه السلام على شيء من أفعاله، مع أنّ أحداً من الصحابة لم يَخلُ من عتاب على هفوة ونكير لأجل زلّة، فكيف خرق بهذا الفعل عادته وفارق سجيّته وسنّته؟... إلى آخره)(1).

هذا، وقد تلخَّص وتحصَّل من جميع ماذكر: أنّ اكذوبة خطبة أمير المؤمنين عليه السلام بنتَ أبي جهلٍ على سيدة نساء العالمين عليها السلام اكذوبة اختلقها النواصب وأعداء أهل البيت عليهم السلام، تكذّبها سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخُلُقه الكريم، وسيرة ابن عمّه الإمام علي عليه السلام، فكلّ حالاته وسوابقه تشهد باختلاق هذه الاُكذوبة.

قال اللّه تعالى: [إنَّما يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذين لا يُؤْمِنُونَ بآياتِ اللّهِ وَاُولئِكَ هُمُ الكاذِبونَ](2).

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

حرّره لطف اللّه الصَّافي الگلپايگاني5.

ص: 342


1- راجع تنزيه الأنبياء: ص 171-173 (ط سنة 1290 ه).
2- النحل: الآية 105.

البكاء على الإمام الحسين عليه السلام

اشارة

ص: 343

ص: 344

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

حول البكاء على مولانا سيد الشهداء أبي عبداللّه الحسين عليه السلام شهيد العبرة الأحاديث تجاوزت عن حدّ التواتر. فقلّما يوجد موضوع وردت فيه الروايات بالحثّ والترغيب إليه كموضوع البكاء عليه وإظهار الحزن عليه وذكر مصائبه وإنشاد الشعر فيه.

وشعر الشيعة وأدبها وخلوصها في ولاء العترة الطاهرة بل وحياة الحق وروح التضحية لإقامته والدفاع عن حرمات الإسلام، والقيام في وجه الظلم والاستكبار والاستضعاف تتمثّل في الشعائر الحسينية، وهذه كلمة في فضيلة الالتزام بهذه الشعائر وأنّ الاحتفاظ بها احتفاظ بكيان الإسلام وانّها كعلّة مبقية لشريعة سيّد الأنام صلى الله عليه و آله.

والسلام على مولانا الحسين وعلى أولاده وأصحابه الذين واسَوه بأنفسهم وبذلوا مهجهم فيه لتكون كلمة اللّه هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

ص: 345

ص: 346

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سلام اللّه عليك يا أبا عبد اللّه.

يا سيّدَ الشهداء.

يا مُنقِذَ الاسلام.

يا جمالَ الإنسانية.

ويا مَن هدّمتَ صروح المستكبرين، ونصرت الحق المبين بقيامك وتضحيتك نفسَك الكريمة ونفوس أهل بيتك وأنصارك وأنصار اللّه وأنصار رسوله.

ياليتني كنتُ معكم فأفوز فوزاً عظيماً.

أنتم واللّه معادن الحرية والكرامة، وشهداء الإسلام والحق والعدل، ومبادئ الإنسانية،

لَولا صَوارِمُكُم وَوَقعُ نِبالِكُم لَم تَسمَعِ الآذانُ صوتَ مُكَبِّرِ

ولولا تضحياتكم لَما قام للدين عمود، ولما اخضرّ للإسلام عُود، ولاستُبدِلت الشريعة الإلهية والرسالة المحمدية بالرجعية السفيانية، والجاهلية الاُموية، والإمارة الطاغوتية اليزيدية.

يا حسينَ الحقّ، يا حسينَ العدل، ويا حسينَ القرآن.

يابن رسول اللّه، نفسي لنفسك الفداء، ولنفس من يحبّك، ويحبُّ محبّيك، ويسعد بزيارة قبرك، ويذكر مصائبك ويبكي، ويبكى لها، وينوح عليك الفداء.

يا بطلَ الإسلام، أنت جدَّدت فخر آل هاشم، وأسّست بناءً لايغلق بابه ولا ينهدّ صَرحُه أبداً.

وصيحاتك في وجه كلّ ظالم وغاشم وجبار باقية مدى الدهر، تنذر الطواغيت ومستعبدي عباد اللّه بالخزي والخذلان.

اللّه أكبر! ما أكبر كلمتك الخالدة: «إني لا أرى الموتَ إلّاسعادةً، ولا الحياة مع الظالمين إلّابَرَماً»(1).

لقد أكرمك اللّه تعالى يا سيدي بالشهادة، وقد أَعَدتَ باستشهادك في سبيل اللّه عِزّ الإسلام. فلا ينسى الإسلام وتاريخه، ولا تنسى الإنسانية مواقفك العظيمة.

ولا يُنسى موقفك حين خاطبت والي المدينة المنوَّرة لمّا عرض عليك5.

ص: 347


1- تحف العقول: ص 245.

ص: 348

البيعة ليزيد، فقلت صلوات اللّه عليك: «إنّا أهلُ بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الرحمة، بنا فتح اللّه، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لايبايع مثلَه»(1).

ولاينسى ثباتك على هذا المبدأ الأصيل في يوم عاشوراء، الذي استشهد فيه شباب آل محمدٍ ورجالات الإسلام وحماة الحق.

فلا يُنسىّ موقفك العظيم في هذا اليوم، حيث قلت صلوات اللّه عليك:

«ألا وإنّ الدَعِيَّ ابن الدَعِيَّ قد ركزني بين اثنتين، بين السِلّة والذِلّة، وهيهات منّا الذِلّة! يأبى اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحُجُور طابت وطهرت، واُنوف حمية، ونفوس زكية، من أن نُؤثِرَ طاعة اللِئام على مصارع الكرام»(2).

اللّه أكبر! تاهت العقول في واقعة الطفّ، وفي معرفة أبطاله العظماء.

لقد أسّس مولانا الحسين عليه السلام في يوم الطفّ مدرسته الكبرى لكلّ من يريد الدفاع عن كرامة الإنسان، ويحبُّ الاستشهاد في سبيل اللّه مدرسةً لاتندرس تعاليمها وإرشاداتها، ولا تُمحا آثارها.

يا أبا الشهداء، يا جمالَ هذا الكون، ويا نفحةَ الديّان، وصَفوة الإنسان.

على رَغمِ مَن قتلك وقتل أصحابك، وأسر أهل بيتك؛ حرصاً على اجتثاث1.

ص: 349


1- بحار الأنوار: ج 44 ص 325.
2- تحف العقول: ص 241.

أصل الدين وإطفاء نور اللّه فهذا لواء الإسلام يهتزّ في أرجاء البسيطة، وهذه شمس هدايته تشرق على الأرض، وهذا صوت الأذان يُسمع من المآذن ومكبّرات الصوت والإذاعات في أوقات الصلوات، وهذه شعائر الإسلام تُعَظَّم في مشارق الأرض ومغاربها، كلّ ذلك ببركات نهضتك المقدّسة، وإيثارك الإسلام وأحكامه على نفسك الكريمة، ونفوس أهل بيتك، وأصحابك عليك وعليهم السلام.

يا سيّدَ الأحرار، ويا معلّم الشجاعة والغيرة والإباء.

هذه مجالس الشيعة ومحبّي أهل البيت، وحفلاتهم التأبينية تُحيا بذكر مصائبك، وما تحمّلت في سبيل إعلاء كلمة اللّه من النوائب، وما علمت الإنسانية من الدروس العالية في مدرسة كربلاء.

فذكراك، يامولاي، ذكرُ اللّه تعالى، وذكرى الرسول، وذكرى والدك بطل الإسلام، وذكرى امّك سيدة نساء العالمين، وذكرى جميع رجالات الدين، وأنصار الحق، وحماة المستضعفين.

لقد ظلمك بنو امية وأتباعهم، واشتروا لأنفسهم اللعن الأبدي، كما ظلمك من أنكر فضيلة البكاء، والنياحة عليك، وإقامة المآتم ومجالس العزاء، وحركة المواكب والهيئات، ممّا جرت سيرة المتشرّعة من الشيعة، خواصّهم وعوامّهم عليه؛ لِما فيه من إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام والتأسّي بهم. فهؤلاء الذين يعارضون شعائر العزاء لك - وإن ادّعوا أ نّهم من الشيعة - ليس لهم التفكّر الشيعي.

فالشيعة لا تشكّ فيما هو من ضروريات مذهبها، سيما إذا كان من

ص: 350

مقوماته، ولا تشكّ فيما دلّت السنّة النبوية المروية من طرق الفريقين، والأحاديث المتواترة من طرق أهل البيت عليهم السلام على مطلوبيته واستحبابه. لعن اللّه هذه الثقافة الغربية، التي لاتهدف إلّاإبعادنا عن الإسلام وعن أمجادنا وسنننا.

وإنّي لا يكاد ينقضي عجبي ممّن يطلب منّي ومن غيري تسجيل استحباب البكاء، والتعزية، والإبكاء، وإحياء الشعائر الحسينية، بكل شكل ونوع لم يكن منهياً عنه في الشرع، وقد أفتى به الأساطين، وسعوا في ترغيب الناس إليه، وأ لّفوا فيه كتباً مفردة. فقلَّما تجد كثرة الروايات في موضوع من الموضوعات مثل ما جاء في البكاء على الحسين عليه السلام، والتباكي، والإبكاء عليه، وإنشاء الشعر وإنشاده في مصائبه، وإظهار الحزن عليه بكل نحو مشروع. وقد أخرج هذه الروايات في كلّ عصر وطبقة الرواة الثقات ورجالات علم الحديث، وهي فوق التواتر، هذا، مضافاً إلى ما ورد من طرق العامة في ذلك.

ولايخفى عليك يا أخي، أنّ هذه الناشئة الخبيثة، التي هي من أذناب الاستعمار وعملائه، وتعدُّ نفسها من أهل الثقافة تريد صرف أذهان الناس عن هذه الشعائر؛ لأنّها تحيي أمجادنا الإسلامية، وتوقظ شعور المسلمين، وتزيّن للنفوس التضحية في سبيل إحياء الحق، وتُنفِّر الشعوب عن الظلمة والمستعمرين، واُولئك الذين اتخذوا الناس خولاً، ومال اللّه دولاً، ولاغروَ فإنّ المستعمرين والطواغيت لايرتضون سيرة الحسين عليه السلام، ولايحبون إحياء ذكره، واهتداء الناس إلى مأسَاة كربلاء.

فهذه الشعارات الحسينية، وهذه الألوية التي تنصب على بيوت التعزية، وتحمل مع الهيئات في الطرق والشوارع تُهدِّد كيان الظلمة والمستكبرين،

ص: 351

وتُشجِّع الشعوب للقيام والقضاء عليهم وإبطال باطلهم.

هذه الشعارات تُقَوِّي في النفوس حبّ الخير، وحبّ أولياء اللّه، وحبّ الشهادة في سبيل اللّه، وحبّ إعلاء كلمة اللّه، وحبّ أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وهل الإيمان إلّاالحب؟

إذن فلانعبأ بالاستعمار، ولانتوقّع من أذنابه تأييد هذه الشعائر، فكل إناء بالذي هو فيه ينضحُ.

فلايضرّ التفكّر الشيعي وأصالتَه الأصيلة الإسلامية قولُ من يقول عداءً لأهل البيت عليهم السلام: إنّ الصفوية ابتدعوا هذه الشعائر، وحملوا الناس عليها، بعد ما دلّت الأحاديث الصحيحة المتواترة على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله والأئمة المعصومين - سلام اللّه عليهم - هم الذين سَنّوا النِياحة والبكاء والتباكي والإبكاء على مولانا الحسين عليه السلام، وهم الأصل في الشعائر الحسينية، وهم الذين رغّبوا الناس بذكراه وإنشاد الأشعار وغير ذلك، فصارت بذلك سنّة إلى يوم القيامة لايقدر على محوها جبار ولامستعمر ولامستكبر.

وبالجملة: فلاتجد في عبادة مستحبة وعمل راجح ما ورد في ثواب النياحة والنوح والبكاء على سيدنا أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام، وفي ثواب زيارة قبره، وكلّ ما يرجع إلى إحياء أمره مِن تذكّر عطشه عند شرب الماء، وتذكّر مصائبه عند المصائب، ومن أنكر هذه الاُمور فهو كمنكر الشمس في رائعة النهار.

فليس يصح في الأفهام شيءإذا احتاج النهار إلى الدليل

وفي ختام هذه المقالة التي كتبتها عُجالةً وارتجالاً يعجبني أن أترنّم بأبيات من قصيدتي باللغة الفارسية التي نظمتها لإظهار شدة شوقي إلى كربلاء، وتقبيل تراب أقدام مجاوري روضة مولانا الحسين عليه السلام، وهي هذه:

كربلا، اى كربلا، اى كربلا،

از تو بانگ انقلاب آيد بگوش

ص: 352

ص: 353

همچو عباس تو ز اخوان صفا

حرَّره أقلُّ من أناخ مطيَّته بأبواب محبّي مولاه الحسين، عليه وعلى أصحابه الكرام أفضل التحية والسلام.

لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

24 صفر الخير 1392 ه

ص: 354

في تفسير آية التطهير

اشارة

ص: 355

ص: 356

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

لا يخفى أنّ من أشهر الآيات التي تثبت بها طهارة أهل البيت عليهم السلام من رجس المعصية والخطأ آية التطهير التي دلّت الروايات المتواترة المخرّجة في كتب الحديث والتفسير على أنّ المراد منهم هو أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء سيدة نساء أهل الجنة والامامان السبطان الحسن والحسين عليهم السلام، ثمّ من بعدهم من قام مقامهم إلى خاتم الأئمة الأثني عشر مولانا المهدي المنتظر ابن الحسن العسكري بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

وقد حاول بعض المعاندين للعترة الطاهرة لمّا رأى عدم إمكان إنكار نزولها فيه لمكان هذه الروايات المتواترة عند الفريقين نفي دلالتها على عصمتهم التي دلّت عليها غيرها من الأدلّة العقلية والشرعية أيضاً، فأنكر دلالة الآية على عصمتهم الاختياريّة إذا كانت الارادة فيه التكوينيّة، وأمّا التشريعية فزعم انّها تعمّ جميع المكلّفين ولا تدلّ على عصمتهم هذا وقد ألّف المحقّقون من العلماء حول

ص: 357

مفاد الآية وأنّ الارادة فيها هي التكوينية وسائر الادلّة التي اقيمت على عصمتهم كتباً مفردة وأثبتوا دلالة الآية على فضيلتهم وعصمتهم، وعدم منافات كون عصمتهم بالارادة التكوينية وكونها من أعظم فضائلهم بما لا مزيد عليه.

ومع ذلك فهذه رسالة تثبت فيها دلالة الآية على عصمتهم وإن تنزّلنا عن كون الإرادة تكوينية وقلنا بأنّ المراد منها الإرادة التشريعية لم يسبق - فيما نعلم - مؤلّفها بهذا البيان غيره فطالعه واغتنمه.

ص: 358

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ر بِّ العالمين، وصلّى اللّه على سيّد رسله أبي القاسم محمدٍ وآله المطهّرين المعصومين.

من الآيات التي استدلّ بها على عصمة سيّدة نساء العالمين وسادتنا الأئمة الهداة الميامين - عليهم أفضل صلاة المصلِّين - وطهارتهم عن كلّ رجس: آية التطهير.

قال اللّه تعالى: [إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً](1).

وجه الاستدلال بها مضافاً إلى الأخبار الكثيرة التي أخرجها أعلام المحدِّثين وأكابر المفسّرين من العامة والخاصة في كتب الحديث والجوامع والمسانيد وكتب التفسير عن النبي صلى الله عليه و آله وأهل بيته وأصحابه: أنّ لفظة «إنما»3.

ص: 359


1- الأحزاب: الآية 33.

محقّقة لِما ثبت بعدها، نافية لِما لم يثبت.

والإرادة التي جاءت في الآية الكريمة هي الإرادة الحتمية والحقيقية التي يتبعها التطهير، دون ما يسمّونه بالإرادة التشريعية التي يتبعها الأمر أو النهي.

وذلك لأنّه تعالى أراد التطهير عن الأرجاس عن جميع المكلّفين بالإرادة التشريعية، أي إنشاء البعث أو الزجر، وأمرهم بكلّ ما ينبغي أن يفعلوه، ونهاهم عن كلّ ما ينبغي أن يتركوه، والآية الكريمة تدلّ على اختصاص الإرادة المذكورة فيها بأهل البيت عليهم السلام دون غيرهم، وهي الإرادة الحتمية الحقيقية التي يتبعها التطهير لا محالة.

وأيضاً لاريب في أنّ هذا التعبير الصريح في اختصاصهم بهذه الإرادة صريح في المدح والتعظيم لأهل البيت عليهم السلام، وإذا كانت الإرادة غير حتمية فلا مدح لهم بها، ويختلّ نظام الكلام المنزّه عنه كلام العقلاء فضلاً عن اللّه تعالى.

وعليه فلا مناص من القول بأنّ المراد منها هي الإرادة المستتبعة للتطهير وإذهاب الرجس؛ وبذلك تختصّ الآية بأهل البيت عليهم السلام؛ لأنّه لم يدّعِ ولم يقل:

أحدٌ بعصمة غيرهم، فيندفع توهّم شمول الآية لغير أهل البيت عليهم السلام ممّن ثبت عدم عصمتهم كأزواج النبي صلى الله عليه و آله.

وممّا يدلّ على أنّ الإرادة هي الإرادة الحقيقية أنّ متعلّق الإرادة في الآية إذهاب الرجس عنهم الذي هو فعل اللّه تعالى، والإرادة التي تتعلّق بفعله تعالى حتمية لاتتخلّف عن المراد، ففرق بين مايكون المراد فعله تعالى وبين مايكون فعل غيره المختار.

ص: 360

فإذا كان متعلّق الإرادة فعل الغير مختار يصحّ أن تكون هي التشريعية، كما يجوز أن تكون التكوينية، وإن شئت قلت: الحقيقية، وإن كان الظاهر من موارد الاستعمالات بلا قرينة صارفة هو الأولى، وإطلاق الإرادة التشريعية على إنشاء ما يصلح لأن يكون باعثاً أو زاجراً مجرد الاصطلاح.

وإذا كان متعلّق الإرادة فعل اللّه تعالى أو صدور الفعل عن غيره المختار بدون اختياره كانت الإرادة حتميةً لاتتخلّف عن المراد، وإلّا لزم إسناد العجز إلى البارئ سبحانه وتعالى شأنه، المنزّه عن كلّ عجز ونقص، والمتعالي عن ذلك علوّاً كبيراً.

ولايخفى عليك أنّ في الآية ضروباً من التأكيد في المدح والتعظيم لأهل البيت عليهم السلام، كما يدلّ قوله: [تَطهيراً] أيضاً على عِظَم شأن هذا التطهير.

إن قلت: على هذا إذا كان إذهاب الرجس عنهم بفعل اللّه تعالى وإرادته الحقيقية لا التشريعية كيف يوجّه مدحهم وتفضيلهم على غيرهم لأمرٍ لم يكن من فعلهم، ولا باختيارهم؟

قلت: إنّ عنايات اللّه الخاصّة بل والعامّة لاتشمل إلّامَن له قابلية قبولها، وهو عزّوجلّ أعلم بمحالِّها ومواردها.

قال اللّه تعالى: [وإن مِن شَيءٍ إلَّاعِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إلّابِقَدَرٍ مَعلُومٍ](1).

وقال جلّ شأنه: [اللّهُ أعلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ](2).4.

ص: 361


1- الحجر: الآية 21.
2- الأنعام: الآية 124.

وقال سبحانه وتعالى: [أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحمَةَ ربِّكَ نَحنُ قَسَمنَا بَينَهُم مَعِيشَتَهُم](1).

وهذا كالتوفيق والخذلان فلايفوز بالتوفيق من اللّه - الذي هو ولي التوفيق - إلّامَن كانت له أهلية ذلك وكسبها بالاختيار، كما لايصيب الخذلان إلّا مَن جعل نفسه في معرضه بالاختيار.

قال اللّه تعالى: [ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةُ الذينَ أسَاؤُا السُوأى أن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَكَانُوا بِهَا يَستَهزِؤُونَ](2).

فهذه امور مرتبطة بالشؤون الربوبية، واستصلاح حال العباد وما تقتضيه الحكمة الإلهية، وهو العالم بها وبمواردها، وهو الحكيم العليم الفيّاض الوهّاب الجواد الذي لايبخل، ولا تنفد خزائنه، ولايمنع فيضه ممّن له أهلية ذلك.

ألا ترى اختلاف الناس في الاستعدادات والقوى النفسانية والجسمانية؟ فاللّه تعالى أعطى من أعطاه من قوة الدرك والشعور بحكمته؛ ولأ نّه أهل لقبول عطيته وأخذ موهبته، ولم يُحرم مَن لم يُعطِهِ ذلك ولم يبخس حقّه، بل أعطاه بقدر استعداده وقدرته، وهو العالِم بذلك كلّه وهو الحكيم العليم، ونعم ماقاله الشاعر (بالفارسية):

آنكه هفت اقليم عالم را نهاد0.

ص: 362


1- الزخرف: الآية 32.
2- الروم: الآية 10.

گر بريزى آب را در كوزه اى

ثم إنّ بعض أهل الأهواء من المغترّين بالثقافة الغربية، ومن حذا حذوهم ممّن نعتوا أنفسهم بالثقافة والتنوّر الفكري - وما هم بذلك - زعم أنّ الإرادة لو كانت تشريعية؛ ليكون أهل العصمة وغيرهم سواءً لكان اجتنابهم عن المعاصي والقبائح باختيارهم لكانت أدلَّ على فضيلتهم، وكمال نفوسهم من اجتنابهم عن المعصية بصفة أنّهم معصومون، وأنّ اللّه أراد عصمتهم عن المعاصي، وبهذا البيان التافه أراد نفي العصمة ونفي دلالة آية التطهير على عصمتهم، وإنكارها من الأصل.

والجواب عن هذا الزعم الفاسد: أ نّه لاملازمة بين العصمة وعدم الاختيار، ولامنافاة بينها وبين الاختيار، فإنّ الإرادة الحتمية والتكوينية تارةً تتعلّق بفعله، وما يصدر عنه بلاواسطة أمر بينه وبين المراد، وبعبارة اخرى:

تتعلّق بوقوع أمر بدون واسطة أمر آخر، سواء كان في خارج عالم الاختيار والأسباب والمسببات أو في عالم الاختيار والأسباب، فلاتتخلّف الإرادة عن المراد، حتى إذا كانت متعلّقة بأمر اختياري لولا هذه الإرادة، وبما له أسباب كثيرة؛ لأنّه بعد ما أراد وقوعه مطلقاً بدون واسطة الأسباب واختيار فاعل مختار يقع لامحالة كما أراد.

وتارةً اخرى تتعلّق بما يصدر عن العبد بالاختيار، أو بوقوع ما يكون له أسباب متعددة كذلك، أعني باختياره وبواسطة الأسباب، ففي مثله فإنّ حصول

ص: 363

المراد وتحقّقه وعدم تخلّف الإرادة عن المراد إنّما يكون بصدوره عن العبد بالاختيار، وبكونه مسبّباً لهذه الأسباب، ففي هذه الصورة لاتنافي بين إرادته المتعلقة بما يقع في عالم الإختيار والأسباب والمسببات، وتوسّط الوسائط والأسباب، بل لو وقع بغير اختيار العبد أو بتأثير الأسباب لكان من تخلّف المراد عن إرادته.

وبناءً على هذا نقول: إنّ قضية إذهاب الرجس عنهم عليهم السلام، وتعلق إرادته تعالى به التي لاتتخلّف عن مراده هي عصمتهم، وعدم صدور القبائح منهم، وطهارتهم عن الأرجاس حال كونهم مختارين في الفعل والترك، غير مقهورين، محفوفين بشواغل عالم الطبيعة، ممّا يدعو النفوس إلى الانصراف عن الملأ الأعلى، والاشتغال بذكر اللّه تعالى.

تحقيق دقيق:

ولنا تحقيق دقيق في سدّ ثغور دلالة هذه الآية على عصمة الأئمة عليهم السلام، ألهمنا اللّه تعالى ببركة ما حقّقه الرجل الإلهي الفريد في عصره، الإمام في العلوم الإسلامية، سيدنا الأستاذ البروجردي - أعلى اللّه في الفردوس مقامه - في مباحثه في اصول الفقه، في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي، ورفع التنافي المتوهم بينهما. نذكرة ومماشاةً لمن يصرّ على كون الإرادة في الآية تشريعية.

ص: 364

فنقول مستمدّين العون من اللّه تعالى:

اعلم أنّ الإرادة التشريعية هي عبارة عن العلم بالشيء بأ نّه ينبغي أن يُفعل، أو لايفعل، وإنشاء الأمر والنهي، والطلب والزجر لكونهما صالحين أن يكونا داعيين للعبد إذا فعل ما امر به أوْ زاجراً له إن فعل ما نهي عنه. وبعبارة اخرى: هي إنشاء ما يصلح لأن يكون داعياً له إلى الفعل المأمور به، وزاجراً عن الفعل المنهيّ عنه؛ كي ينبعث نحو الفعل من ينبعث بأمره، وينتهي عن المنهيّ عنه من ينتهي عن نهيه، ويُتمّ الحجّة على غيره ممّن يستخفّ بأمره، ولايعتني به.

وهذا قد يجتمع مع الطلب الحقيقي وإرادة الفعل من العبد جداً، وهي روح الحكم كما يمكن أن يفارقه، فإذا علم المولى من حال عبده أ نّه ينبعث بأمره، وينزجر بنهيه، وأنَّ أمره يدعوه إلى إطاعته وامتثاله، يريد منه بالإرادة الجدّية والطلب الحقيقي فعل ما أمره به، وترك ما نهاه عنه فأمره ونهيه بالنسبة إلى هذا العبد يكون حقيقياً جدّياً.

وإذا علم من حاله أ نّه لايؤثّر فيه أمر المولى، ولايحركه بشيء، ولايصير داعياً له نحو الإطاعة والامتثال فلايعقل أن يكون أمره ونهيه بالنسبة إلى هذا العبد حقيقياً، ولايقترن مثل هذا الأمر والنهي بالإرادة الجدّية من الآمر والناهي.

فإنشاء الأمر والطلب في الصورة الاُولى كما يكون بالإرادة الحقيقية يكون حقيقياً مجامعاً مع الإرادة الجدّية، وفي الصورة الثانية يكون صورياً، ولإتمام الحجة وقطع العذر.

ص: 365

وبالجملة: فلايعقل إرادة الانبعاث الجدية والطلب الحقيقي ممّن يعلم أ نّه لاينبعث بأمر المولى، فلايعقل أن يقول: «قم» أو «لاتزن» أو «لاتشرب الخمر» وطلب القيام وترك الزنا وترك الخمر بالإرادة الجدّية ممّن يعلم أ نّه لاينبعث بهذا الأمر ولايأتمر به، ولاينزجر عن الزنا وشرب الخمر، ولاينتهي بنهيه عنهما حتى لو كان المولى من الموالي العرفيين، ولم يعلم ذلك من العبد، واحتمل في حقّه تأثير أمره فيه وانبعاثه به، وتحريكه نحو الفعل، لاتتأتى منه الإرادة الجدية بمجرد ذلك الاحتمال، بل إنّما يأمر وينهى برجاء انبعاث عبده أو انتهائه.

والحاصل: أ نّه لايعقل تعلّق الإرادة الجدّية والطلب الحقيقي بصدور فعل عمّن يعلم المريد أ نّه لايفعله، والأمر أو النهي في هذه الصورة لايكون إلّا صورياً. أي إنشاء الأمر لا لغاية الانبعاث، بل لإتمام الحجّة.

وما ذكرناه يستفاد من كثير من الآيات القرآنية الكريمة، كقوله تعالى [ليُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ القَولُ عَلَى الكَافرينَ](1).

وقوله تعالى: [إنّما تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأجْرٍ كَرِيمٍ](2).

وقوله تعالى جِدّه: [رُسُلاً مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ لِئَلّا يَكونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللّهُ عزيزاً حكيماً](3).6.

ص: 366


1- يس: الآية 70.
2- يس: الآية 11.
3- النساء: الآية 156.

وقوله سبحانه: [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيى مَن حَيَّ عَن بَيّنَةٍ](1).

فإرادة قبول الإنذار من المنذر، والإنذار بقصد أن يُنذَر المنذَر لايكون حقيقياً إلّاإذا كان المنذر ممّن اتّبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب، ويؤثّر فيه الإنذار.

أمّا من لم يؤثّر فيه ذلك، ولايُنذَر بالإنذار فإنذاره ليس إلّاصوريّاً ولرفع عذره؛ ولئلّا يكون له على اللّه حجّة.

هذا، وإن شئت قلت: إنّ الإرادة التشريعية على ضربين:

ضرب منها ما يعلم المريد من حال المراد منه أ نّه ينبعث نحو المأمور به بأمره، ويحرّكه ويصير داعياً له، فيطلب منه ذلك بالطلب الحقيقي والإرادة الجدية.

وضرب منها ما يعلم المريد من حال المراد منه أ نّه لايتأثّر بأمره، فيحكم بأمره أو نهيه بما ينبغي أن يفعل أو لايفعل وينشئ ما يصلح أن يكون داعياً له، ولكن لاطلب له حقيقياً في هذه الصورة، ولايريد انبعاث المأمور بهذا الأمر بالإرادة الجدّية، بل لايصحّ إطلاق الطلب والإرادة على ذلك بنحو الحقيقة إلّا مجازاً وبالتمحل، بخلاف الأول فإنّ إطلاق الطلب والإرادة وأ نّه مريد وطالب يكون على نحو الحقيقة.

وعلى هذا نقول: إنّ الإرادة المذكورة في الآية وإن كانت تشريعية إلّاأ نّها2.

ص: 367


1- الأنفال: الآية 42.

جدّية حقيقية من النوع الأول الذي أراد الآمر والناهي بالإرادة الجدّية والطلب الحقيقي انبعاث المأمور، وأمره ونهيه يصدر عنه بداعي انبعاثه، وصراحة الآية في ذلك: أنّ الإرادة المذكورة في الآية وفي كلّ موردٍ لم تكن قرينة على المجاز صريحة في الإرادة الجدّية الحقيقية.

وإن أبى المعاند عن كلّ ذلك أيضاً وقال: إنّ الإرادة التشريعية عامة تشمل جميع المكلفين المطيعين والعاصين على السواء.

قلنا: لاتنازع في الألفاظ والأسماء والاصطلاحات، وقد قيل من قديم:

لامَشاحَّة في الاصطلاح، فعرِّفِ الإرادة التشريعية بما شئت، وقل: إنّ الإرادة التشريعية هي جعل ما يصلح لأن يكون داعياً للعبد أو زاجراً له، وإنشاء ما له قابلية الداعوية وبعث العبد نحو الفعل أو الترك.

إلّا أنّك تعلم أنّ هذا مجرد اصطلاح، ولايحصر مفهوم الإرادة في ذلك، ولا يخرج عن مفهومها الحقيقي ولاينفي ما هو واقع الأمر، وهو أنّ المولى إذا علم من حال عبده أ نّه ينبعث بأمره ويتحرك بتشريعاته يطلب منه ما أمره به بالطلب الحقيقي وبالإرادة الجدّية، وإذا علم من حاله أ نّه لاينبعث بذلك ولايؤثّر أمره ونهيه في تحريكه أو امتناعه لايطلب منه بتشريعاته ما شرّعه بالطلب الحقيقي والإرادة الحقيقية، ولايدعوه نحو فعل ما أمره به بداعي أن يفعله، بل يدعوه بداعي أن يُتمَّ عليه الحجّة، و هذا ما نسمّيه بالأمر الصوري، ومن راجع وجدانه يعرف منه ذلك.

فيصحّ أن نقول: إنّ إطلاق الإرادة على التشريعية إطلاق مجازي، بخلافه

ص: 368

على الإرادة الجدّية فإنّه إطلاق حقيقي.

وبالجملة: فهل يمكنك إنكار الإرادة الجدّية بالمعنى الذي تلوناه عليك؟

وهل يمكنك أن تقول: إنّها تتعلّق بما لاتؤثّر الإرادة التشريعية في الانبعاث نحوه؟

وهل يمكنك إنكار تعلّقها حقيقةً بالانبعاث، وبوقوع الفعل عن العبد إذا كان الأمر والطلب والإرادة التشريعية مؤثّراً في بعث العبد أو زجره؟

وهل يمكنك أن تقول بعد ذلك بظهور الإرادة المذكورة في الآية في الإرادة التشريعية دون الإرادة الجدّية، مع عدم وجود قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي، ووجود الشواهد في الكلام على أنّ المراد بالإرادة هي الجدّية؟

وإن شئت فقل: إنّ الإرادة على قسمين: جدّية، وتشريعية.

فالتشريعية عبارة عن طلب التكاليف عن جميع المكلّفين على السواء بإنشاء ما يصلح أن يكون داعياً لهم، والحكم بما ينبغي أو يجب أن يفعل، أو لايفعل.

والجدّية على ضربين: تكوينية، وغير تكوينية.

فالتكوينية ما يتعلّق بكون شيء بدون واسطة فعل فاعل مختار.

وغير التكوينية ما يتعلّق بفعل فاعل مختار إذا علم من حاله تحريكه وانبعاثه بالطلب منه.

وبعد كلّ ذلك نقول: إنّ اللّه تعالى وإن قطع بالإرادة التشريعية عذر عباده،

ص: 369

وأنشأ بأوامره ونواهيه ما يصلح أن يكون داعياً للجميع نحو الفعل المأمور به، أو زاجراً لهم عن الفعل المنهيّ عنه، وجعل الكلّ في ذلك سواء، إلّاأنّ إرادته الحقيقية وطلبه الحقيقي تتعلّق بفعل مَن ينبعث عن أمره وينزجر عن نهيه، وأنّ المستفاد من الآية الشريفة أ نّه لعلمه بحال هذه الذوات المقدّسة، وأ نّهم عباد مُكرَمون، لايسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون، وما يشاؤون إلّاأن يشاء اللّه، أراد بالإرادة الجدية (لاالتكوينية) انبعاثهم نحو جميع الطاعات، وانزجارهم عن جميع المنهيّات، فأمرهم بما أمرهم، ونهاهم عمّا نهاهم لا لأن يكون هذا الأمر والنهي لقطع العذر وإتمام الحجّة عليهم، بل لانبعاثهم نحو ما امروا به، وانزجارهم عمّا نُهُوا عنه؛ وليكون باعثاً وداعياً لهم للامتثال، وتطهيراً لهم عن جميع الأرجاس، وقد أخبرَنا بذلك في هذه الآية الكريمة إعلاماً بجلالة قدرهم، وعلوّ شأنهم، وسموّ مقامهم، وكمال نفوسهم.

وعلى هذا دلّت الآية الشريفة على أنّ فيهم ملكة قبول كلّ ما أمر اللّه تعالى به ونهى عنه، والاهتداء بهدايته، ومن كان حاله هذا يريد اللّه تعالى إذهاب الرجس عنه، ويوفّر له أسباب التوفيق، ويخصّه بعناياته الخاصّة، ويجعله تحت رعايته الكاملة يلهمه كلّ خير، ويميّز له كلّ شرّ، لايدعه في حال من الحالات، ولا في شأن من الشؤون، يختاره ويصطفيه من بين عباده، وهو القادر على ما يريد، وبكلّ شيء عليم، [لا يُسْئَل عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ](1).

لا يقال: إنّ ما ذكرتَ هو حاصل لغير هؤلاء الذوات الكريمة أيضاً من3.

ص: 370


1- الأنبياء: الآية 23.

الذين يخشون الرحمان بالغيب، ويتّبعون الذكر، ويقبلون المواعظ بحسب مراتبهم ودرجاتهم.

فإنّه يقال: نعم، ونحن نعرف كثيراً من الناس على بعض مراتب تلك الصفة السامية والملكة العالية القدسية، مطيعين للّه خائفين منه، أهل الخضوع والخشوع وقيام الليل، معروفين بالعدالة والزهد، ولكن لانعرف على صفة العصمة المطلقة التامة غير من شهد اللّه تعالى له بذلك؛ لأنّ صاحب ملكة العصمة المطلقة لا يُعرَف إلّامن طريق الوحي، والارتباط بعالم القدس والملكوت الأعلى.

وقد عرّفَنا اللّه تعالى في هذه الآية أهل البيت عليهم السلام، وأخبرنا بطهارتهم عن الأرجاس كلِّها، وعصمتهم صلوات اللّه عليهم أجمعين، ورزقنا اللّه اتّباعهم والاقتداء بهم، وأماتنا بحبّهم وولايتهم، ولايفرّق بيننا وبينهم طرفة عين أبداً في الدنيا والآخرة، إنّه الكريم المتفضّل الوهّاب.

وآخر دعوانا أنِ الحمد للّه ربِّ العالمين.

حرّره تراب أقدام محبّي أهل البيت عليهم السلام

لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

16 صفر الخير، 1403 ه

ص: 371

ص: 372

تفسير آية الإنذار: وأحاديث يوم الدار، أو بدء الدعوة

اشارة

ص: 373

ص: 374

المقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الآيات النازلة في أهل البيت عليهم السلام سيّما في فضائل أميرالمؤمنين الإمام أبي الحسن علي عليه السلام كثيرةً جداً ذكرها الفريقان في كتبهم في أسباب النزول والتفسير وأفرد بعض الأعلام والحفّاظ من أهل السنّة كالحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» كتباً في ذلك. ورغم جدّ أعدائهم في المنع عن رواية الأحاديث حول تفسير هذه الآيات أو تأويلها لم تخلص كتب الجوامع والمسانيد التي صُنّفت تحت إشراف هذه السياسات ورقابتها عنها.

ومن هذه الآيات، آية الانذار التي تقرأ بعض ما يتعلّق بها في هذه الرسالة المسمّاة «حديث يوم الدار» وتعرف أنّ إنكار ما ورد في شأن نزولها، ممّا يدلّ على خلافة عليّ عليه السلام شنشنة اخزميّة وخصلة امويّة حرّكها بغض الإمام عليه السلام الذي هو من أظهر آيات النفاق، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: لا يُحبّك إلّامؤمن ولا يُبغِضك إلّا منافق.

ص: 375

ص: 376

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، أبي القاسم محمدٍ وعلى آله الطاهرين.

قال اللّه تعالى: [وَأنْذِرْ عَشيرَتَكَ الأَقْرَبينَ](1).

لا يزال يأتينا من الناصبة، وبقية الفئة الباغية، والمرتزقة الذين يعيشون في أحضان الاستعمار - وهمّهم الوحيد التفرقة بين المسلمين، وإشغالهم بخلافات مستحدثة؛ كيلا يلبّوا دعوة المصلحين وعباقرة الاُمّة إلى توحيد الكلمة - ما يجرح العواطف، ويُثير الفتنة والتباغض والتخالف، ممّا لا ربح فيه إلّا للأعداء، ولا يزيدنا إلّاالضعف والفشل.

وهذا إن دلّ على شيءٍ، فإنَّما يدلّ على أنّهم جعلوا أصابعهم في آذانهم؛ حتى لايسمعوا صرخات المصلحين؛ لأنّهم لايحبون استيقاظ امتنا الكبيرة، التي4.

ص: 377


1- الشعراء: الآية 214.

لو استيقظت من نومتها، وعرفت صلاحياتها وطاقاتها وإمكانياتها لقامت بوجه كل استكبار واستضعاف وقضت عليه، ورفعت راية التوحيد، وأسَّست المدنية على النظام الإلهيِّ الخالي من الظلم والانظلام، وسلب الحريات التي منحها اللّه تعالى الإنسان في شرائع الأنبياء، سيّما الشريعة الإسلامية الخاتمة.

نعم، لو التفت الجيل الحاضر المسلم إلى مستقبله وإلى حاضره، وما يجري في العالم، وما أحاط البشريةَ من المشاكل التي فرضتها عليها الصهاينة وأذناب الاستعمار، والتبشير والإلحاد وعبدة لنين وماركس أدرك ما يجب عليه من القيام بإبلاغ رسالة الإسلام لإنقاذ البشرية، والسعي للقضاء على كلّ سلطة وسيطرة إلّاسلطة أحكام اللّه تعالى، ويدكّ بذلك عروش الجبابرة والمستكبرين ويهدّد كيانهم.

ولَعَمْرُ الحقّ، ما على البسيطة شيء أشدّ خطراً على الاستكبار العالمي من تيقّظ المسلمين من رقدتهم، واعتصامهم بحبل اللّه تعالى.

إذن فلا عجب من وقوفهم بوجه المصلحين وسعيهم في تفرقة كلمة المسلمين وتجزئة بلادهم؛ ليكون كلّ إقليم ومنطقة تحت أمر حاكم عميل ونظام في خدمة الشرق أو الغرب.

فانظر إلى بلاد المسلمين بعين البصيرة والعبرة؛ لتدرك محنتها من هؤلاء الحكّام والمهتّمين بتفرقة المسلمين، ثمّ انظر هل تجد لهذه الحكومات المتخالفة في السياسة والنظام والإدارة مفهوماً؟ غير أنّ الاستعمار لم يقم ولن يدوم في بلادنا إلّابها. وأوجّه السؤال إلى المسلمين المضطهدين تحت سيطرة هذه

ص: 378

الحكومات الجائرة عن الحاكم الإسلامي الذي قرن اللّه طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه و آله من بينها:

فمن هو إذاً حاكم الاُردن، أو تركيا، أو الجزيرة العربية المسمّاة باسم السعودية، أو حاكم الكويت، أو البحرين، أو قطر، أو أبوظبي، أو سلطنة عما، أو المغرب، أو تونس، أو الجزائر، أو باكستان، أو ماليزيا، أو أندونزيا، أو الصوُمال، أو لبنان، أو نيجيريا، أو اليمن الشمالية، أو اليمن الجنوبية الماركسية، أو ليبيا الاشتراكية، أو السودان، أو مصر، أو العراق، أو تانزانيا، أو سوريا، أو أفغانستان، أو اوزبكستان، أو تاجيكستان، أو ألبانيا، أ، بنگلادش، وأو... وأو...؟!

مَن الذي يحكم من حكّام هذه البلاد بحكم الإسلام؟ وأيُّ هذه الحكومات حكومة شرعية إسلامية تمثّل وحدة الاُمة وحكومتها العالمية التي تسود العالم كلَّه؟

وهل تعرف منها من لايتحكّم في مصيره الشرق الملحد أو الغرب المستعمر؟ ومن هي شبكات هؤلاء المستعمرين الذي لايرقبون في مؤمن إلّاً ولاذمةً، يُنفقون الأموال الطائلة التي يحصلون عليها بامتصاص دماء الشعوب، من أجل اختلاق الخلافات وإنكار الحقائق الإسلامية، وإيجاد الشكّ في التاريخ المليء بأمجادنا وبطولات أبطالنا؟ كما يحاولون أن تبقى اختلافات الفرق بحالها، فحينما يرون أنّ الشعور بالولاء لأهل البيت عليهم السلام والتمسّك بهم سيشمل جميع الاُمة ويوحّدها، ويُذهب بالأحقاد التي أوجدتها السياسة، ويقضي على تفرقة الاُمة بالفريقين الشيعة والسنّة، ويلفّ الجميع حول الكتاب والعترة (الثقلين) ويوحّد المذاهب أجمع، يتوسّلون بأهل التعصّب والعناد والنصاب

ص: 379

يخيفونهم من ظهور الحق ويقظة الشباب المثقّف، وفهمهم ما وراء الوقائع الدامية والخلافات الطائفية من مؤامرات المنافقين ومبغضي أهل البيت عليهم السلام، فيستأجرون لذلك أقلام عبدة الدنيا، ومحبّي الجاه، والضعفاء الذين لايفهمون ما وراء هذه الاُمور، ولايفكّرون فيما يريده الاستعمار من الاحتفاظ بتفرّق المسلمين.

إي واللّه، لقد أدرك الاستعمار أنّ جيلنا المسلم قد استيقظ عن نومته، وانتبه إلى ما حوله، وأدرك أنّ الخلافات المذهبية والسياسات العاملة لمنع الناس عن التمسّك بالثقلين وأخذ العلم عن أهل البيت عليهم السلام الذين هم وحدهم حملته وسَدَنته، تذوب بالإمعان الخالص من التعصّب في الكتاب والسنّة والتاريخ، كما أدرك الكثير من أبناء أهل السنّة، فلبّوا دعوة المصلحين الأفذاذ؛ لترك العصبيات الطائفية، وفهموا أنّ شيعة أهل البيت عليهم السلام لاذنب لهم إلّاولاء أهل البيت، وأخذ العلم عنهم في ظروف لم تكن موافقة لسياسة أرباب السلطة المتغلبين على المسلمين، فتحكّموا في رقاب محبّيهم ورواة فضائلهم ومناقبهم وحملة العلم عنهم، ونكّلوا بهم أشدّ التنكيل وساموهم سوء العذاب، حتى أصبح الرجوع إلى أهل البيت عليهم السلام ونقل الحديث عنهم، وحتى إعانة الذرّية الطاهرة النبوية من أعظم الجرائم السياسية.

وقد بقيت شرذمة ضئيلة من أبناء هؤلاء الذين يقولون بشرعية حكومات الطواغيت، الذين عَلَوا وطغوا واستكبروا في الأرض، أمثال معاوية ويزيد والوليد وهارون والمتوكّل وغيرهم، وكان استكبارهم أكثر من استكبار طواغيت الجاهلية في روما وايران.

ص: 380

وهؤلآء لايزالون يصدّون المسلمين عن التجاوب والتفاهم، ويلبّون دعوة الاستعمار لإثارة الضغائن وإنكار الحقائق، ينظرون دائماً إلى الخلف، ولاينظرون إلى الأمام. لايقبلون من التاريخ والحديث إلّاما يؤيد آراءهم، ويجرحون كأسلافهم كلّ من يروي ما لايوافق أهواءهم، ويطعنون في كلّ حديث يخالف مذهبهم وإن بلغ في الصحة ما بلغ، أو يؤولونه. قد أعمت العصبية أبصارهم وبصائرهم. السنّة عندهم بدعة، والبدعة عندهم سنّة. يقتفون آثار السفيانيين، ويدافعون عن سيرة الجبابرة، ويعملون على كتمان فضائل بطل الإسلام، ونفس الرسول وابن عمه وأخيه، وباب مدينة علمه، ومن هو منه بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لانبي بعده، ومن لايحبّه إلّامؤمن، ولايبغضه إلّا منافق، أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ينكرون مناقبه ومناقب أهل بيته، ويرمون من روى فضائله بالكذب ووضع الحديث، ويعدّون ولاء أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله جريمةً لاتُغتفر، ولكن لو كانت هذه المناقب مرويةً في شأن أعداء آل النبي صلى الله عليه و آله لايقابلونها بالإنكار، وسيّما إذا كان رجالها مطعونين بالنصب وقتل المسلمين وأقبح الظلم وأشنع الفسق. فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.

قرأنا في بعض المجلّات (حضارة الإسلام، العدد الخامس من السنة الثامنة عشرة برجب 1397 ه) نقداً من الكاتب محمد حسنين هيكل، على كتاب للجنرال ا. أكرم، ترجمة الركن صبحي الجابي، فيه موارد هامّة من الاشتباه، وقلب الحقائق، من أعظمها: الاستناد إلى المنقولات الضعيفة والحكايات الواهية في شأن بدء الوحي وكيفية نزوله، ممّا لايناسب شأن الرسالة المحمدية، فيتّهم الرسول صلى الله عليه و آله بخشيته على نفسه عندما نزل عليه

ص: 381

الوحي، وجاءه الملك الأمين جبرئيل عليه السلام يرى كأ نّه - والعياذ باللّه - لم يحصل له اليقين بما جعل اللّه على عاتقه، وشرّفه به من النبوة والرسالة، فانطلقت به السيدة خديجة أتت به ورقة بن نوفل.

وهذه وإن كانت رواية البخاري ومسلم في بدء الوحي وكيفية نزوله إلّاأنّها مردودة عليهما وعلى شيوخهما؛ لأنّ شأن الرسول صلى الله عليه و آله في المعرفة والإدراك كان أنبل وأجلّ من الشكّ فيما أوحى اللّه تعالى به، وأمر الرسالة أيضاً أعلى وأنزه من ذلك. وكيف لايعرف الرسول صلى الله عليه و آله ما تعرفه وتؤمن به السيدة خديجة - رضي اللّه تعالى عنها - وقد كان تحت رعاية اللّه تعالى قبل البعثة، وخلق اللّه نوره قبل أن يخلق العالم، مضافاً إلى أنّه يجب أن يكون إلقاء الوحي والتعيين لهذا المنصب العظيم سيما الرسالة المحمدية العظمى على نحوٍ يحصل للمبعوث بها بنفسها اليقين والإيمان على أنّه بعث إلهي ووحي سماوي. وبالجملة شأن الرسالة وشأن الرسول بريء من خشيته صلى الله عليه و آله على نفسه.

اللهمّ إلّاأن يكون المراد خشيته من اللّه تعالى لعظم ما أمره به وجعله على عاتقه، ولاريب أ نّه صلى الله عليه و آله كان أخشى الناس وأخوفهم من اللّه تعالى، وكان أعبدهم وأزهدهم، وأعرفهم باللّه. ولاريب أنّ من كان أعرف الناس باللّه يكون أخوفهم منه وأرجى به منهم، أمّا الشكّ والخشية على نفسه فلم يعرضه حتى لحظة واحدة، وهذا أمر يعرفه من سبر تاريخ حياته وأخلاقه الكريمة، وقد قال اللّه تعالى: [آمَنَ الرَّسُولُ بِما انزِلَ إلَيهِ مِنْ رَبّه](1) فهو مِن أول مانزل به الوحي آمن5.

ص: 382


1- البقرة: الآية 285.

بما انزل إليه وخرج من غار حراء وقلبه مليء بالإيمان بما نزل به.

نقده الآخر:

ثمّ إنّه أنكر على المؤلّف ما ذكر من أنّ النبي صلى الله عليه و آله قد بقي مدة ثلاث سنوات يتلقّى تعليمات ربّه، دون أن يتكلّم شيئاً عن رسالته، ويوهم القارئ بأنّ علياً وخديجة وأبا بكر أسلموا في زمن واحد، ولم يكن بين إسلام خديجة والإمام واسلام أبي بكر فترة حتى يسيرة، مع أ نّه يظهر لمن يمعن النظر في الأحاديث الصحيحة والتاريخ أنّ أبا بكر لم يسلم إلّابعد فترة طويلة لايستبعد تقديرها بثلاث سنين. ولايأبى العقل أن يكون النبي صلى الله عليه و آله مدة ثلاث سنوات أو أكثر يتلقّى تعليمات ربّه، ولم يكن مأموراً بإظهارها وتبليغها بغير خديجة وعلي من أهل بيته. فكانوا يعبدون اللّه بما تعبّده اللّه به سرّاً، حتّى إذا أمر اللّه النبي صلى الله عليه و آله بإظهار الدعوة بلغ عدد المؤمنين في ثلاث سنوات إلى الأربعين أو أكثر على اختلاف الروايات في ذلك.

ويؤيّد بل ينصّ على ما قلناه: الروايات الكثيرة التي دلّت على أنّ علياً عليه السلام عبد اللّه تعالى مع رسوله صلى الله عليه و آله سبع أو تسع سنين قبل أن يعبده أحد من هذه الاُمّة، وأنّ الملائكة صلّت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعلى علي عليه السلام سبع سنين؛ لأنّه لم يصلِّ معه أحد غيره(1).

ص: 383


1- يراجع في ذلك: كنز العمال: ج 13 ح 36389 و ح 36390 و ح 36391، والخصائص العلوية للنسائي: ج 3، وتاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام عليه السلام: ح 71 و 80 و 81 و 91 و 99 و 112 و 113 و 114، وفرائد السمطين: 1، ح 191 و 192 و 187 و 188، وتهذيب التهذيب: ج 7 ص 336، واُسد الغابة: ج 4 ص 18، والرياض النضرة: ج 2 ص 217، وذخائر العقبى: 64، وغيرها.

آية الإنذار وحديث الدار:

وممّا أخذ هذا الناقد على هذا المؤلّف وناقشه: أنّه ذكر حديث الدار ويوم الإنذار، وتجاوز عن الحدّ في نقده، وحكم باختلاف الرواية بالأصل؛ لوجود راوٍ مشهور بالكذب وصنع الأحاديث بزعمه، وهو: أبو مريم الأنصاري عبد الغفار بن القاسم، الذي أثنى عليه الحافظ ابن عقدة وأطراه، كما في لسان الميزان.

والرواية مشهورة مستفيضة أخرجها جمع من الحفّاظ وأكابر المحدِّثين، واختصرها بعضهم، كما أبدل الطبري في تفسيره قوله صلى الله عليه و آله «فأ يُّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟» بلفظ «فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وكذا وكذا».

وقوله صلى الله عليه و آله: «إن هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا» بلفظ «إنّ هذا أخي وكذا وكذا».

والطبري - وهو الذي روى الرواية كاملة وتامة في تاريخه - يرويها بهذه الصورة المحرّفة المشوّهة المجملة حتى لايفهم القارئ مغزاه، ولايعرف خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله المنصوص عليه في هذه الروايات وفي غيرها من الأحاديث، أو لايرمونه أهل العناد والنصب بالرفض والتشيّع، ولايفعلون به ما فعله أهل دمشق

ص: 384

بالنسائي صاحب السنن والخصائص العلوية.

وقد تبع الطبري في تفسيره ابن كثير في تاريخه(1) ، وهذا إن لم يدلّ على شيء فقد دلّ على أنّ السياسة هي القوة التي تعيّن منهج سير العلم والحديث والتفكّر. فمثل هذه الكلمة القاطعة: «إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا» لايجوز سياسياً نقلها والتحدث بها، لأنّها إعلان إبطال الحكومات المستبدّة التي قلبت نظام الإدارة والحكم، وأحيت سنن الأكاسرة والقياصرة.

فالنظام الذي يقطع عرقوبَ مثلِ بشير بن مروان، ويضرب عطية العوفي أربعمائة سوط، وينتف لحيته؛ لإبائهما عن سبّ الإمام عليه السلام(2) لايسمح مهما أمكنه التحدّث بمثل هذه الأحاديث والإجهار بها، ويبالغ في المنع عن ذلك تخويفاً وتطميعاً.

وهذا يحيى بن يعمر يُبعَثُ به من خراسان إلى الكوفة بأمر الحجّاج لقوله:

«إنّ الحسن والحسين ذرّية رسول اللّه صلى الله عليه و آله»(3).ّ.

ص: 385


1- البداية والنهاية: ج 3 ص 40.
2- تهذيب التهذيب: ج 7 ص 226، و ج 10 ص 157 و 158.
3- قال في وفيات الأعيان: ج 5 ص 222 و 223 ح 868: حكى عاصم بن أبي النجود المقري المقدم ذكره: أنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي بلغه أنّ يحيى بن يعمر يقول: إنّ الحسن والحسين - رضي اللّه عنهما - من ذرية رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وكان يحيى يومئذٍ بخراسان، فكتب الحجّاج الى قتيبة بن مسلم والي خراسان - وقد تقدم ذكره أيضاً - أن ابعث إليّ بيحيى بن يعمر. فبعث به إليه، فقام بين يديه، فقال: أنت الذي تزعم أنّالحسن والحسين من ذرّية رسول اللّه صلى الله عليه و آله؟ واللّه لألقين الأكثر منك شعراً، أو لتخرجن من ذلك! قال: فهو أماني إن خرجت؟ قال: نعم، قال: فإنّ اللّه جلّ ثناؤه يقول: [ووهبنا له إسحاقَ ويعقوبَ كلّاً هَدَينا ونوحاً هدينا من قبلُ ومن ذرّيته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى] الآية 84 من سورة الأنعام. قال: وما بين عيسى وإبراهيم أكثر ممّا بين الحسن والحسين ومحمد صلوات اللّه عليه وسلامه، فقال الحجّاج: وما أراك إلّاقد خرجت، واللّه لقد قرأتها وما علمت بها قطّ.

إذن فلا عجب بمؤاخذة هؤلاء المتعصّبين للباطل لهيكل بإخراجه رواية يوم الدار في تاريخه، حتى اضطرّ إلى حذفها منه في طبعته الثانية.

ولاعجب منهم إن لم يؤاخذوا عليه تركه في تاريخه كثيراً من فضائل الإمام التاريخية، وما وقع فيه من الأغلاط والاشتباهات فيما يرجع إلى سيرة النبي صلى الله عليه و آله ومواقف وصيّه وأخيه الرشيدة.

ولاتعجب من الكاتب محمد حسنين، الذي يكتب فى مجلة حضارة الاسلام مؤاخذته على الجنرال ا. أكرم ومترجم كتابه بنقل حديث يوم الدار بالمضمون.

فتلك شنشنة اخزومية، وسيرة اموية، وبدعة مروانية قد الزموا بها في ردّ الأحاديث الصحيحة، وجرح رواة فضائل أهل البيت عليهم السلام، في حين أّنهم يحتجّون بروايات أمثال: المغيرة بن شعبة، وبُسر بن أرطاة، وأزهر الحرازي الحمصي، وحريز بن عثمان الرحبي، وخالد بن عبد اللّه القسري، وشبابة بن سوار، وعمر بن سعيد بن العاص الاُموي، وعمران بن حطّان وغيرهم(1).».

ص: 386


1- راجع في ذلك كتابنا «أمان الاُمة من الضلال والاختلاف».

فانظر كتبهم في الرجال وفي الجرح والتعديل، مثل: لسان الميزان والجرح والتعديل للرازي، وتدبّر في كلماتهم في شأن أبي مريم الأنصاري، الذي روى هذا الحديث في عصرٍ كان رواية مثله من أكبر الجرائم السياسية، وانظر هل تجد في ذلك الرجل موضع غمز وتنقيص إلّاالموالاة ومودّة ذوي القربى، ورواية مثل هذه الرواية؟!

فلا تجد غير ذلك سبباً لتركهم حديثه وحديث أمثاله، فرموه لذلك تارةً بالكذب، وتارة اخرى بعدم الوثاقة، وعلّته الأصلية هو التشيّع وروايته أحاديث الفضائل. فهذا أحمد بن حنبل يقول فيه، كما نقله الرازي عنه في الجرح والتعديل: (إنّه ليس بثقة، كان يحدّث ببلايا في عثمان) ويقول: (هو متروك الحديث، كان من رؤساء الشيعة). وفي لسان الميزان قال: (يقال: كان من رؤوس الشيعة). ثمّ أخرج عنه حديث «عليّ مولى مَن كنت مولاه».

فهذا ذنب الرجل أ نّه أولاً كان يحدث ببلايا في عثمان، وثانياً: أ نّه كان من رؤساء الشيعة. وإذا كان الحديث ببلايا عثمان موجباً للقدح في أحد فما يقولون في عائشة وطلحة والزبير وعمار وغيرهم من الصحابة، الذين كانوا من المتجاهرين في القوم ببلايا عثمان وذمّه المشيرين عليه حتى قتل؟

وإذا كان عثمان أحدث في الإسلام ما أحدث، وصنع ما أغضب الصحابة مثل الصحابي الزاهد الكبير الذي قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حقّه: «ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجةٍ أصدق من أبي ذر»(1) ، فأنكر9.

ص: 387


1- بحار الأنوار: ج 22 ص 329.

عليه صنائعه غير المرضية، فنفاه عثمان إلى الربذة، فمات في منفاه وحيداً مظلوماً، فما ذنب أبي مريم الأنصاري إن حدّث ببلاياه؟ وإن كان هذا سبباً للطعن فيه فمن كان هذه بلاياه أحقّ وأولى بالطعن منه!

أتريدون أن لايقول أحد من التاريخ وممّا جرى على هذه الأمة شيئاً، ولايعرف أحد ما وقع في عصر الصحابة، ولايفهموا تلكم الحقائق التي ترتبط معرفتها بمعرفة رسالة الإسلام، ومناهجها العالية في السياسة والحكومة والمال وغيرها؟

لاواللّهِ، لايمكن ذلك، وإن أمكن إخفاء تلك الحقائق التاريخية في العصور الماضية لايمكن ذلك في عصرنا الحاضر، عصرالطباعة والنشر، والثقافة والفكر، الذي تيقّظ فيه المسلمون من رقدتهم، وأدركوا - سيّما الشبّان المثقّفون - أنّ بلاءنا كلّه يرجع إلى صنائع بعض الأوّلين من أهل السياسة، ممّا شوّه وجه الإسلام في الحكم والإدارة.

وإذا كان قدحاً كون الرجل من رؤساء الشيعة، فما يقول هؤلاء في رؤسائهم، مثل: سلمان، وأبي ذرّ، والمقداد، وعمار بن ياسر(1) ، وغيرهم منم.

ص: 388


1- قال الكاتب الشهير محمد كرد علي - وهو من أبناء السنّة - في كتابه «خطط الشام»: ج 6 ص 245: عُرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله، مثل سلمان الفارسي القائل: (بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن أبي طالب والموالاة له). ومثل أبي سعيد الخدري الذي يقول: (امر الناس بخمسٍ، فعملوا بأربع وتركوا واحدة)، ولمّا سُئل عن الأربع؟ قال: (الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحج). قيل: فما الواحدة التي تركوها؟ قال: (ولاية علي بن أبي طالب). قيل له: وإنّها لمفروضة معهنّ؟ قال: (نعم هي مفروضة معهن). ومثل أبي ذرّ الغفاري وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت وأبي أيوب الأنصاري وخالد بن سعيد بن العاص وقيس بن سعد بن عبادة، وكثير أمثالهم.

الصحابة المعروفين بالوفاء والولاء لأهل البيت عليهم السلام، ومن التابعين لهم بإحسان؟

وما يقولون في أئمة الشيعة المعصومين، الذين أذهب اللّه عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا؟

وما يقولون في شأن رسول اللّه صلى الله عليه و آله الذي هو أول من سن التشيع، وهو الذي لقّب المؤتمّين بأمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام بالشيعة، وبشّرهم بأ نّهم خير البرية؟

هذا، ويُسئل عن حال من جرح أبا مريم الأنصاري: هل هو مرضيّ عند علماء الجرح والتعديل من أهل نحلته؟

فابن معين يتّهم مثل أحمد بن حنبل بالكذب. وقال المقبلي: (نجد أحدهم ينتقل من مذهب إلى آخر بسبب شيخ أو دولة أو غير ذلك من الأسباب الدنيويه والعصبية الطبيعية)(1).

وقال ابن معين: (إنّ مالكاً لم يكن صاحب حديث، بل كان صاحب رأي)(2).

وقال الليث بن سعد: (أحصيتُ على مالك سبعين مسألة، وكلّها مخالفة9.

ص: 389


1- أضواء على السنّة المحمّديّة: ص 345.
2- أضواء على السنّة المحمّديّة: ص 299.

لسنة الرسول صلى الله عليه و آله)(1).

وقالوا في غيرهم من أئمتهم ما قالوا(2). وعلى هذا لايبقى اعتماد على أقوالهم في الجرح والتعديل المبتنية على ما سمعت في تعرّف أحوال رجال الشيعة والمتشيّعين ورواة فضائل أهل البيت عليهم السلام، ولايجوز الركون عليها.

وبعد ذلك كلّه نقول: بأنّ الرواية رويت بإسناد آخر ليس فيه عبدالغفار بن القاسم. فرواه البيهقي في الدلائل عن إبن اسحاق، عن شيخ أبهَمَ اسمه، عن عبد اللّه بن الحارث، الى قوله: (إنّي قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة)(3) ، ولاأدري لماذا أبهم ابن إسحاق شيخه الراوي عن عبد اللّه بن الحارث، كما لاأدري أنّ عدم الانتهاء إلى آخر الحديث هل كان من البيهقي، أو من ابن إسحاق، أو غيرهما، وكان ذلك خوفاً عن النواصب، أو إخفاءً للحقّ عناداً ونصباً؟ ولايبعد أن يكون الشيخ الذي أبهم اسمه ابن إسحاق، هو عبد الغفار بن القاسم(4).

وعلى هذا الاحتمال يكون السند في ذلك موافقاً لسند الطبري، لايثبت به0.

ص: 390


1- أضواء على السنّة المحمّديّة: ص 299.
2- يراجع في ذلك أضواء على السنّة المحمدية: ص 289، والعتب الجميل وغيرهما.
3- دلائل النبوة: ج 1 ص 428 و 429 و 430، البداية والنهاية: ج 3 ص 39-40.
4- بل هو هو كما قال البيهقي، قال أبو عمر أحمد بن عبد الجبّار: بلغني أنّ ابن إسحاق إنّما سمعه من عبد الغفار بن القاسم بن مريم المنهال بن عمرو، عن عبد اللّه بن الحارث، وكان ما أخفى النبي صلى الله عليه و آله أمره واستتر به إلى أن أمر بإظهاره ثلاث سنين من مبعثه. قلت: وقد روى شريك القاضي عن المنهال بن عمرو، عن عبداللّه الأسري، عن علي في إطعامه إياهم تقريب (بقريب) من هذا المعنى مختصر (مختصراً). دلائل النبوة ج 1 ص 429 و 430.

وجود سند آخر للحديث غيره، إلّاأ نّه جاء بإسناد آخر ليس فيه هذا الرجل، كما تفطّن به ابن كثير، فقال بعد ما قال في عبد الغفار:

(ولكن روى ابن أبي حاتم في تفسيره، عن أبيه، عن الحسين بن عيسى بن ميسرة الحارثي، عن عبد اللّه بن عبد القدّوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبداللّه بن الحارث، قال: قال عليّ: «لما نزلت هذه الآية [وَأنْذِرْ عَشيرَتَكَ الأَقْرَبينَ] قال لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله: اصنع لي رِجل شاةٍ بصاعٍ من طعام، وإناءً لبناً، وادعُ لي بني هاشم، فدعوتهم، وإنّهم يومئذٍ لأربعون غير رجل، أو أربعون ورجل» فذكر القصة نحو ما تقدم إلى أن قال: «وبَدَرَهُم رسول اللّه صلى الله عليه و آله الكلام، فقال: أيّكم يقضي عنّي ديني ويكون خليفتي في أهلي؟ قال: فسكتوا، وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله، قال: وسكتُّ أنا لِسِنّ العباس. قالها مرة اخرى، فسكت العباس، فلمّا رأيت ذلك قلت: أنا يا رسول اللّه، قال: أنت...

الحديث»(1).

وقال ابن كثير: (وهذه الطريق فيها شاهد لِما تقدم، إلّاأنّه لم يذكر ابن عباس فيها، فاللّه أعلم. وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عباد بن عبد اللّه الأسدي وربيعة بن ناجذ عن علي نحو ما تقدم، أو كالشاهد له)(2).

فابن كثير كما يظهر من كلامه يقوّي ضعف السند من طريق الطبري بغيره ممّا لاضعف فيه، إلّاأنّه أيضاً غلط في أصل تضعيف السند كغيره، كما أ نّه غلط0.

ص: 391


1- البداية والنهاية: ج 3 ص 39 و 40.
2- المصدر السابق نفسه: ص 40.

غلطاً كبيراً في الحكم على عبد الغفَار بن القاسم بأنّه كذّاب شيعي ولم يأتِ بدليل على ذلك، غير أنّ ابن المديني وغيره اتّهمه بوضع الحديث، وضعّفه الباقون.

ولايخفى أنّ من يتّق اللّه، ويعتقد حرمة عرض المسلم كحرمة ماله ودمه لايخوض في عرض المسلم بمجرد التهمة، ولايُسيئ الظنّ به، ولايجوز له أن يقول أزيد ممّا قيل فيه. إذا وجب ذلك، فمن أين قلت يابن كثير: إنّه كذّاب؟ وما كذبه؟ ومن أين علمت ذلك؟ وما جوابك حين يخاصمك عبد الغفار عند اللّه تعالى؟!(1) هذا، وقد ظهر لك أنّ للحديث طرقاً كثيرة، بعضها فيها عبد الغفار، وبعضها ليس فيه هذا الرجل.ا.

ص: 392


1- لا يخفى عليك أنّ أرباب الرجال والتراجم والفهارس من الشيعة المشهورين بكمال التورّع والاحتياط، سيما في الجرح والتعدل صرّحوا بوثاقة هذا الشيخ الجليل (أبي مريم عبد الغفار بن القاسم القيس الأنصاري)، والرجل من أصحاب الإمام زين العابدين علي بن الحسين وابنه الإمام محمد بن علي الباقر وابنه الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام، ويكفيه ذلك فخراً وشرفاً وفضلاً. توجد ترجمته في فهرست الشيخ ورجاله، وفهرست النجاشي، والخلاصة للعلّامة، ورجال ابن داود، والكشّي، والوجيزة، والبُلغة، وجامع الرواة وغيرها. وممّا يؤيّد حُسنَ حال الرجال، ويزيد في تعرّف حالهم: معرفة شيوخهم وتلاميذهم ومن أخذ عنهم العلم. وللرجل في هذا شأن سامٍ ومكان عالٍ، فإنّ شيوخه الذين أخذ العقيدة والمذهب منهم، واتخذهم أئمة وتمسّك بهم، واعتصم بحبل ولايتهم الذي هو حبل اللّه، هم مَن عرفتهم: الإمام زين العابدين والإمام باقر علوم النبيين والإمام جعفر الصادق عليهم السلام، فقد تخرّج هذا الرجل من مدرستهم الكبيرة، وتلمّذ عندهم، وأخذ العلم من نَميرهم الصافي. يراجع جامع الرواة، والكشّي، والنجاشي وغيرها.

ونحن نذكر طائفة من هذه الطرق؛ ليظهر لك قوة أسنادها واشتهارها، وأنّ العلماء الحفّاظ والمحدّثين تلقّوها بالقبول، فنقول:

الطريق الأول: ما أخرجه ابن كثير في تاريخه، عن إبن أبي حاتم في تفسيره، وهذا هو الطريق الذي مرّ نقله عنه، وليس فيه عبد الغفار(1).

الطريق الثاني: ما أخرجه البيهقي في الدلائل، عن ابن إسحاق، عن شيخ أبهم اسمه، أخرجه ابن كثير أيضاً عن البيهقي، وقد مرّ نقله أيضاً(2).).

ص: 393


1- وقد روى الحديث عن عطاء، وعَدِيّ بن ثابت، والمنهال بن عمرو، ونافع. الجرح والتعديل للرازي: ج 3 ص 53. وسمع منه يحيى بن سعد الأنصاري، وشعبة، وكان حسن الرأي فيه. الجرح والتعديل: ج 3 ص 53 و 54. وروى عنه جماعة من الأجلّاء والرواة، كالحسن بن محبوب، ومحمد بن موسى خوراء، وصالح بن عقبة، وموسى بن بكر، وعلي بن الحسن بن رباط، وأبو ولّاد، وأبان بن عثمان، وهشام بن سالم، وعلي بن النعمان، وعثمان بن عيسى، وعبداللّه بن المغيرة، وثعلبة بن ميمون، ويونس بن يعقوب، والقاسم بن سليمان، وعبد الرحمن بن حمّاد، ومحمد بن أبي حمزة، ومحمد بن عيسى، والعباس بن المعروف، وسيف، وفضالة، وإبراهيم بن سنان، وظريف، و أحمد بن عمر، وجميل بن صالح والحسن بن سري. جامع الرواة: ج 1 ص 461 و 462. وممّا يظهر منه: جلالة قدره، وحسن عقيدته، وإيمانه بالأئمة الاثني عشر، الذين بشّر النبي صلى الله عليه و آله الاُمة بهم، كما جاء في الروايات المتواترة، ما روى الشيخ الجليل أبو القاسم علي بن محمد بن علي الخزّاز في كتاب «كفاية الأثر في النصوص على الأئمة الاثني عشر»، بسنده عنه، قال أبو مريم الأنصاري:
2- دخلت على مولاي الباقر عليه السلام وعنده اناس من أصحابه، فجرى ذكر الإسلام، قلت: يا سيدي! فأيّ الإسلام أفضل؟ قال: «مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده»، قلت: فأيّ الأخلاق أفضل؟ قال: «الصبر والسماحة»، قلت: فأيّ المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال: «أحسنهم أخلاقاً»، قلت: فأيّ الجهاد أفضل؟ قال: «من عُقِر جواده واُهريق دمه»، قلت: فأيّ الصلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت»، قلت: فأيّ الصدقة أفضل؟ قال: «أن تهجر ما حرّم اللّه عزّوجلّ عليك»، قلت: ياسيدي، فما تقول في الدخول على السلطان؟ قال: «لا أرى ذلك»، قلت: إنّي ربّما سافرت إلى الشام فأدخل على إبراهيم بن الوليد، قال: «ياعبدالغفّار، إنّ دخولك على السلطان يدعو إلى ثلاثة أشياء: محبّة الدنيا، ونسيان الموت، وقلّة الرضا بما قسم اللّه لك»، قلت: يابن رسول اللّه، فإنّي ذو عيلة وأتّجر إلى ذلك المكان لجرّ المنفعة، فما ترى في ذلك؟ قال: «ياعبداللّه، إنّي لست آمرك بترك الدنيا، بل آمرك بترك الذنوب، فترك الدنيا فضيلة، وترك الذنوب فريضة، وأنت إلى إقامة الفريضة أحوج منك إلى اكتساب الفضيلة»، قال: فقبّلت يده ورجله، وقلت: بأبي أنت وأُمي يابن رسول اللّه، فما نجد العلم الصحيح إلّاعندكم، وإنّي قد كبرت سنّي ورقّ عظمي، ولاأرى فيكم ما اسَرُّ به، أراكم مُقتَّلين مشرّدين خائفين، وإنّي أقمت على قائمكم منذ حين، أقول: أَخَرَجَ اليوم أو غداً، قال: «ياعبدالغفّار، إنّ قائمنا هو السابع من وُلدي، وليس هو أوان ظهوره، ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن آبائه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ الأئمة بعدي اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل، تسعة من صلب الحسين، والتاسع قائمهم يخرج في آخر الزمان، فيملؤها قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت جوراً وظلماً»، قلت: فإنّ هذا كائن يابن رسول اللّه، فإلى من بعدك؟ قال: «إلى جعفر، وهو سيد أولادي وأبوالأئمة، صادق في قوله وفعله، ولقد سألت عظيماً ياعبدالغفّار، وإنّك لأهل الإجابة»، ثمّ قال: «ألا إنّ مفتاح العلم السؤال»، وأنشأ يقول: شفاء العمى طول السؤال وإنّماتمام العمى طول السكوت على الجهل راجع كتاب منتخب الأثر وكفاية الأثر للخزّاز القمّى: ص 252 (ط منشورات بيدار - قم، 1401 ه).

الطريق الثالث: ما أخرجه الحافظ الكبير عبيد اللّه بن عبد اللّه بن أحمد، المعروف بالحاكم الحسكاني بطريق ليس فيه عبد الغفار، قال: (حدّثني ابن فنجويه، حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد اللّه، حدّثنا الحسن بن علي بن شبيب المعمري، قال: حدّثنا عبّاد بن يعقوب، عن علي بن هاشم، عن صباح بن

ص: 394

يحيى المزني، عن زكريا ابن ميسرة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: لمّا نزلت [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ](1) جمع رسول اللّه بني عبد المطّلب، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً، الرجل منهم يأكل المسنّة ويشرب العسّ، فأمر علياً برِجْل شاة فآدمها، ثمّ قال: ادنوا بسم اللّه، فدنا القوم عشرةً عشرة، فأكلوا حتى صدروا، ثمّ دعا بعقب من لبن، فجرع منه جرعة، ثمّ قال لهم: اشربوا ببسم اللّه، فشرب القوم حتى رووا، فبدرهم أبو لهب، فقال: هذا ما أسحركم به الرجل! فسكت النبي صلى الله عليه و آله يومئذٍ فلم يتكلّم، ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشرب، ثمّ أنذرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فقال: يابني عبد المطلب، إنّي أنا النذير إليكم من اللّه عزّوجلّ، والبشير لما يجيء به أحدكم، جئتكم بالدنيا والآخرة، فأسلموا وأطيعوني تهتدوا، ومن يؤاخيني ويؤازرني، ويكون وليّي ووصيّي بعدي، وخليفتي في أهلي، ويقضي ديني؟ فسكت القوم، وأعاد ذلك ثلاثاً، كلّ ذلك يسكت القوم ويقول علي: أنا، فقال: أنت، فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب:

أطع ابنك، فقد أمّره عليك)(2).

وأخرجه ابن البطريق بسنده عن الثعلبي في تفسيره(3).

الطريق الرابع: ما أخرجه الحافظ الشهير أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة اللّه الشافعي، المعروف بابن عساكر، قال: (أخبرنا أبو البركات عمر بن إبراهيم الزيدي العلوي بالكوفة، أنبأنا أبو الفرج محمد بن أحمد بن علّان الشاهد، أنبأنار.

ص: 395


1- الشعراء: الآية 214.
2- شواهد التنزيل: ج 1 ص 420 و 421 ح 580.
3- العمدة لابن البطريق: الفصل الثالث عشر.

محمد بن جعفر بن محمد بن الحسين، أنبأنا أبو عبد اللّه محمد بن القاسم بن زكريا المحاربي، أنبأنا عبّاد بن يعقوب، أنبأنا عبد اللّه بن عبد القدّوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبّاد بن عبد اللّه، عن علي بن أبي طالب، قال: «لمّا نزلت [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ] قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: يا علي، اصنع لي رِجْل شاة بصاع من طعام، وأعد قعباً من لبن - وكان القعب قدَرَ رَيِّ رجل - قال: ففعلت، فقال لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله: اجمع بني هاشم، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً أو أربعون غير رجل، فدعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالطعام، فوضعه بينهم، فأكلوا حتى شبعوا، وإنّ منهم لمن يأكل الجذعة بأدامها، ثمّ تناولوا القدح فشربوا حتى رووا وبقي فيه عامته، فقال بعضهم: ما رأينا كاليوم في السحر يرون أنّه أبو لهب.

ثم قال: يا علي، اصنع رِجْل شاة بصاع من طعام، وأعد بقعب من لبن، قال: ففعلت، فجمعهم، فأكلوا مثل ما أكلوا بالمرة الاُولى، وشربوا مثل المرة الاُولى، وفضل منه ما فضل في المرة الاُولى، فقال بعضهم: ما رأينا كاليوم في السحر.

فقال في المرة الثالثة: اصنع رِجْل شاة بصاع من طعام، وأعد بعقب من لبن، ففعلت، فقال: اجمع بني هاشم، فجمعتهم، فأكلوا وشربوا، فبدرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالكلام، فقال: أيّكم يقضي ديني ويكون خليفتي ووصييّ من بعدي؟ قال: فسكت العباس مخافة أن يحيط ذلك بماله، فأعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله الكلام، فسكت القوم، وسكت العباس مخافة أن يحيط ذلك بماله، فأعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله الكلام الثالثة. قال: وإنّي يومئذ لأسوأهم هيئة، إنّي يومئذ أحمش الساقين أعمش العينين، ضخم البطن، فقلت: أنا يا رسول اللّه، قال: أنت يا علي، أنت يا

ص: 396

علي»(1).

الطريق الخامس: ما أخرجه ابن البطريق بإسناده، عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، قال: حدّثنا أسود بن عامر، قال: حدّثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبّاد بن عبد اللّه الأسدي، عن علي عليه السلام قال: «لمّا نزلت هذه الآية [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ] جمع النبي صلى الله عليه و آله من أهل بيته، فاجتمع ثلاثون رجلاً، فأكلوا وشربوا ثلاثاً، ثمّ قال لهم: من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة، ويكون خليفتي؟ فقال رجل لم يسمِّه شريك: يا رسول اللّه، أنت كنت تجد من يقوم بهذا؟ قال: ثمّ قال الآخر يعرض ذلك على أهل بيته، فقال علي: أنا»(2).

الطريق السادس: ما رواه أيضاً شمس الدين مفتي الفريقين يحيى بن الحسن بن البطريق الأسدي بإسناده، عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، قال:

حدثنا يحيى بن عبدالحميد الحمّاني، قال: حدّثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد اللّه، عن علي عليه السلام، قال عبد اللّه: وحدثنا أبو خثيمة، قال: حدّثنا أسود بن عامر، قال: حدّثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبّاد بن عبد اللّه الأسدي، عن علي عليه السلام قال:

«لمّا نزلت [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ] دعا رسول اللّه بأربعين رجلاً من أهل بيته، أن كان الرجل منهم ليأكل جذعة، وأن كان شارباً فرقاً، فقدّم إليهم،7.

ص: 397


1- مناقب الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام للكوفي: ج 1 ص 378.
2- العمدة: الفصل الثالث عشر، ص 87.

فأكلوا حتى شبعوا، فقال لهم: من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة، ويكون خليفتي في أهلي؟ فعرض ذلك على أهل بيته، فقال علي: أنا، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: علي يقضي ديني، وينجز مواعيدي». ولفظ الحديث للحمّاني، وبعضه لحديث أبي خثيمة(1).

الطريق السابع: ما في المسند (حدّثنا عبد اللّه: حدّثنا أبي: ثنا عفان: ثنا أبوعوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجذ، عن علي رضى الله عنه قال: «جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله بني عبد المطّلب، فيهم رهط، كلّهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق، قال: فصنع لهم مدّاً من طعام، فأكلوا حتى شبعوا، وبقي الطعام كأ نّه لم يمسَّ. ثمّ دعا بغمر، فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كأ نّه لم يمسّ ولم يشرب، فقال: يابني عبد المطّلب، إني بُعثت إليكم خاصّةً وإلى الناس بعامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيّكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟ قال: فلم يقم إليه أحد، قال: فقمت إليه، وكنت أصغر القوم، فقال (اجلس) ثلاثاً كان في الثالثة ضرب بيده على يدي».

وأخرجه ابن حجر، وقال: «رواه أحمد، ورجاله ثقات».

وأخرجه ابن عساكر بسنده عن ربيعة(2) ، وروى ابن حجر نحوه، وفيه:

فبدرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال: «أيّكم يقضي عني ديني؟» قال: فسكت وسكت القوم، فأعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله المنطق، فقلت: أنا يا رسول اللّه فقال: «أنت يا علي،8.

ص: 398


1- العمدة: الفصل الثالث عشر.
2- مسند أحمد: ج 1 ص 159، مجمع الزوائد: ج 8 ص 302، تاريخ دمشق ترجمة الإمام عليه السلام: ص 98.

أنت يا علي».

قال ابن حجر: رواه البزّار، واللفظ له، وأحمد باختصار، والطبراني في الأوسط باختصار أيضاً. ورجال أحمد وأحد إسنادَي البزّار رجال صحيح غير شريك وهو ثقة)(1).

الطريق الثامن: ما في المسند (حدّثنا عبداللّه: ثنا أبي: ثنا أسود بن عامر:

ثنا شريك، عن الأعمش عن المنهال، عن عباد بن عبد اللّه الأسدي، عن علي رضى الله عنه قال: لمّا نزلت هذه الآية [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ] قال: جمع النبي صلى الله عليه و آله من أهل بيته، فاجتمع ثلاثون، فأكلوا وشربوا، فقال لهم: «من يضمّن عنّي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة، ويكون خليفتي في أهلي؟» فقال رجل لم يسمه شريك: يا رسول اللّه، أنت كنت بحراً، من يقوم بهذا؟ قال: ثمّ قال الآخر، فعرض ذلك على أهل بيته، فقال علي رضى الله عنه: أنا»(2).

الطريق التاسع: ما أخرجه علّامة المعتزلة، عن شيخه أبي جعفر الإسكافي، قال: (وقد روي في الخبر الصحيح أنّه كلّفه في مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام وانتشارها بمكة أن يصنع له طعاماً، وأن يدعو له بني عبد المطّلب، فصنع له الطعام، ودعاهم له، فخرجوا ذلك اليوم، ولم ينذرهم صلى الله عليه و آله لكلمة قالها عمّه أبولهب.

فكلّفه في اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلك الطعام، وأن يدعوهم ثانيةً،1.

ص: 399


1- مجمع الزوائد: ج 8 ص 302-303.
2- مسند أحمد: ج 1 ص 111.

فصنعه ودعاهم، فأكلوا. ثمّ كلّمهم صلى الله عليه و آله، فدعاهم إلى الدين، ودعاه معهم؛ لأنّه من بني عبد المطّلب. ثمّ ضمّن لمن يؤازره منهم وينصره على قوله أن يجعله أخاه في الدين ووصيّه بعد موته، وخليفته من بعده، فأمسكوا كلهم وأجابه هو وحده، وقال: «أنا أنصرك على ما جئت به، واُؤازرك واُبايعك»، فقال لهم - لمّا رأى منهم الخذلان ومنه النصر، وشاهد منهم المعصية ومنه الطاعة، وعاين منهم الإباء ومنه الاجابة -: «هذا أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي»، فقاموا يسخرون ويضحكون ويقولون لأبي طالب: اطع ابنك، فقد أمّره عليك)(1).

الطريق العاشر: ما أخرجه المتّقي، عن علي عليه السلام قال:

(«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: يابني عبد المطّلب، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه أن أدعوكم اليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت: يا نبي اللّه، أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي، ثمّ قال: هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا»). (ابن جرير، وفيه عبد الغفار بن القاسم، قال في المغني: تركوه)(2).

أقول: لم يتركوه إلّالولائه لأهل البيت عليهم السلام، ولروايته فضائل ابن عمّ النبي وأخيه ووصيّه وخليفته.

الطريق الحادي عشر: ما أخرجه أيضاً المتّقي عن علي عليه السلام قال:1.

ص: 400


1- شرح نهج البلاغة: ج 13 ص 244.
2- كنز العمال: ج 13 ص 114، ح 36371.

(«لمّا نزلت هذه الآية [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ] جمع النبي صلى الله عليه و آله من أهل بيته، فاجتمع ثلاثون، فأكلوا وشربوا، فقال لهم: من يضمّن عنّي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة، ويكون خليفتي في أهلي؟ وقال رجل:

يا رسول اللّه، أنت كنت بحراً، من يقوم بهذا؟ ثمّ قال الآخر: فرض هذا على أهل بيته واحداً بعد واحد، فقال علي: أنا». (حم وابن جرير، وصحّحه الطحاوي ض).)(1).

الطريق الثاني عشر: ما أخرجه أيضاً المتّقي، عن علي عليه السلام قال:

«لما نزلت هذه الآية [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ] دعا بني عبد المطّلب، وصنع لهم طعاماً ليس بالكثير، فقال: كلوا بسم اللّه من جوانبها، فإنّ البركة تنزل من ذروتها، ووضع يده أوّلهم فأكلوا حتى شبعوا، ثمّ دعا بقدح، فشرب أولهم، ثمّ سقاهم فشربوا حتى رووا، فقال أبولهب: لقدماً سحركم؟ وقال: يابني عبدالمطّلب، إنّي جئتكم بما لم يجئ به أحد قطّ، أدعوكم إلى شهادة أن لاإله إلّا اللّه، وإلى كتابه. فنفروا وتفرقوا. ثمّ دعاهم الثانية على مثلها، فقال أبو لهب كما قال في المرة الاُولى، فدعاهم، ففعلوا مثل ذلك، ثم قال لهم ومدّ يده: من يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووليّكم من بعدي؟ فمددت وقلت: أنا ابايعك، وأنا يومئذٍ أصغر القوم، عظيم البطن، فبايعني على ذلك. قال: وذلك الطعام أنا صنعته») (ابن مردويه)(2).5.

ص: 401


1- كنز العمال: ج 13 ص 128-129، ح 36408.
2- كنز العمال: ج 13 ص 149، ح 36465.

أقول: وهذه الطرق والمتون كلّها تقوّي ما أسنده الطبري في تاريخه بسند فيه عبدالغفار بن القاسم إن فرضنا ضعفه به، فيرقى السند بهذا السند بهذه الطرق وبشواهد كثيرة صحيحة ومتواترة إلى درجة كمال الصحّة والاعتبار.

وأمّا ما أخرجه الطبري فهو هذا:

(حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني محمد بن إسحاق، عن عبدالغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد اللّه بن الحارث، عن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب، عن عبد اللّه بن عباس، عن عليّ بن أبي طالب، قال:

«لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلى الله عليه و آله [وَأنذِر عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ] دعاني رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال لي: يا علي، إنّ اللّه أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أنّي متى ابادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليه حتى جاءني جبرئيل، فقال: يا محمد، إنّك إلّاتفعل ما تؤمر به يعذبّك ربّك.

فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رِجْل شاة، واملأ لنا عسّاً من لبن، اجمع لي بني عبدالمطّلب حتى اكلّمهم واُبلّغهم ما امرت به.

ففعلت ما أمرني به، ثمّ دعوتهم له، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبوطالب، وحمزة، والعباس، وأبولهب. فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلمّا وضعته تناول رسول اللّه صلى الله عليه و آله جذيةً من اللحم فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها في نواحي الصحفة، ثمّ قال: خذوا بسم اللّه، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة، وما أرى إلّاموضع أيديهم، وأيمُ اللّه

ص: 402

الذي نفسي بيده وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمت لهم جميعاً، ثمّ قال:

اسقِ القوم، فجئتهم بذلك العسّ، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً، وأيمُ اللّه إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.

فلمّا أراد رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يكلّمهم بدره أبولهب، فقال: لقدماً سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فقال الغد: يا علي، إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول، فتفرّق القوم قبل أن اكلّمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثمّ اجمعهم إلي.

قال: ففعلت، ثمّ جمعتهم، ثمّ دعاني بالطعام فقرّبته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة، ثمّ قال: اسقهم، فجئتهم بذلك العسّ، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثمّ تكلّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال: يابني عبد المطلب، إنّي واللّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟

قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت - وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمقهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً -: أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي، ثم قال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتُطيع)(1).9.

ص: 403


1- تاريخ الطبري: ج 2 ص 216، الكامل لابن الأثير: ج 2 ص 62-63، وأخرجه في كنز العمال عن ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه وأبو نعيم: ج 13 ص 131 و 132 و 133، ح 36419.

ثم اعلم أنّ للحديث طرقاً ومتوناً اخرى، وفيما أتينا بها من الطرق غنىً وكفاية، ولعلّ الفاحص المتتبّع يجد أكثر ممّا اطّلعنا عليه. وفي ختام الكلام نُنبِّه على امور:

الأول: أنّ الاختصار الواقع في الأحاديث إنّما هو لبعض الأسباب والأغراض: فتارةً اختُصِر الحديث لأنّ مجلس إملاء الحديث كان مناسباً للاختصار، واُخرى لأنّ الراوي قصد من رواية الحديث التنبيه على نكتة خاصة وموضوع خاص، وثالثةً لأنّه سئل عن موضوع خاص مربوط ببعض ما في الحديث، ورابعةً لعلّة خوف الراوي من المُسْتَمْلين والمستمعين، وخامسةً لمنافاة نقل تمام ألفاظ الحديث مع أغراضه السياسية والدنيوية، وغير ذلك.

وكلّ ذلك وإن كان ممكناً في الاختصار الذي عرض على هذا الحديث إلّا أنّ في مثله من أخبار فضائل العترة الطاهرة لمّا كان الحذف والتحريف والإبدال والاختصار، وعدم التصريح بالأسامي، والتأويل، وحتى الإعراض عن سماع الحديث، وترك الإملاء قد وقع في موارد كثيرة لاتحصى، الأظهر ان ما وقع في هذا الحديث الشريف أيضاً من الاختصار والإبدال إنّما وقع لإخفاء فضائلهم وكتمان مناقبهم.

فمثل إبدال قوله صلى الله عليه و آله: «إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا» بجملة «إنّ هذا أخي ووصيّي وكذا وكذا» ليس إلّاعناداً ونصباً، كما إنّ

ص: 404

تركهم تخريج المئات بل الاُلوف من تلك الأحاديث أو إعراضهم عن أخذ العلم والفقه عنهم ليس إلّالذلك.

ونِعمَ ما قال خليل بن أحمد اللغوي الشهير لمّا سئل عن فضائل أمير المؤمنين علي عليه السلام: (ما أقول في مدح امرئٍ كتم أحباؤه فضائله خوفاً، وأعداؤه حسداً، ثمّ ظهر بين الكتمين ما ملأ الخافقين)(1).

وهو الذي قال في شأن الامام عليه السلام: (احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل على أنّه إمام الكلّ)(2).

الثاني: أنّه قد ظهر لك أنّ حديث يوم الدار في التنصيص على خلافة علي عليه السلام مستفيض، بل متواتر، وعدم التصريح في متون بعض طرقها بالخلافة لبعض الأسباب التي ذكرناها في الأمر الأول لايضرّ بعدم وجودها في غيرها، وبعد ما علمنا أنّ أصل عدم الزيادة يُقدَّم عند العقلاء على أصل عدم النقيصة، سيّما في مورد يمكن تعدّد صدور الكلام وتعدّد وقوع الواقعة، وسيّما إذا كانت الروايات المتضمّنة للزيادة أقرب بحسب الاعتبار بالقبول، وخصوصاً إذا كانت للزيادة في الأخبار الكثيرة شواهد لاتحصى.

الثالث: أنّه لاريب أنّ الوراثة المذكورة في بعض متون هذا الحديث ليست الوراثة المالية؛ فإنّها مضافاً إلى عدم موافقتها لِما عليه إجماع أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم من أنّ البنت ترث جميع تركة الأب بالفرض والردّ، ولايرث معها غيرها1.

ص: 405


1- الرواشح السماويّة: ص 289.
2- معجم رجال الحديث: ج 8 ص 81.

من العمومة والخؤولة وأبنائهم، وأن ابن العمّ الأبويني يرث العمّ دون العمّ الأبي من غير أن يكون هذا الحكم مختصّاً بأمير المؤمنين عليه السلام، لاتوافق على مذهب العامة أيضاً الخبر المكذوب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله المخالف للقرآن المجيد، وهو:

(نحن معاشر الأنبياء لانورِّث، ما تركناه صدقة).

والظاهر بدلالة هذه القرينة أنّ الوراثة المذكورة في هذا الحديث إنّما اريد بها وراثة العلم والولاية.

الرابع: أجاب بعضهم عن هذا الحديث الصريح على خلافة الإمام بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله بلا فصل أحد: أنّ كلمة «بعدي» لاتقتضي أن يكون هو الخليفة بعده بلا فصل، بل الحديث صادق، وإن سبق عليه الثلاثة الذين تقمّصوا بها قبل الإمام عليه السلام.

وجوابه واضح غنيّ عن البيان، فإنّ قوله: «أنت خليفتي بعدي» صريح في عدم الفصل، ولو قال بعد ذلك (أنت خليفتي بعد أبي بكر وعمر وعثمان) لكان نوعاً من التهافت أو الأحجّية التي ينبغي تنزيه كلام الحكيم في مثل هذه المقامات عنهما، وهذا أصرح من أن يقول: (أنت الخليفة بعدي)، وإن كان هذا أيضاً صريح في ذلك.

ونظير هذا التصريح في شأن علي عليه السلام كثير في الأحاديث، مثل:

«علي وليّ كلّ مؤمن بعدي»(1).4.

ص: 406


1- كنز العمال: ج 13 ص 142، ح 36444.

وقوله صلى الله عليه و آله: «علي بن أبي طالب مولى كلّ مؤمن ومؤمنة، وهو وليّكم بعدي»(1).

وقوله: «أنت وليّ كلّ مؤمنٍ بعدي»(2).

وقوله: «علي منّي وأنا منه، وهو وليّكم بعدي»(3).

وقوله: «إنّ علياً وليّكم بعدي»(4).

وقوله صلى الله عليه و آله: «هذا أوّل من آمن بي، وأوّل من يصافحني، وهو فاروق هذه الاُمّة، ويعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة، وهو الصِدِّيق الأكبر، وهو خليفتي من بعدي»(5).

الخامس: أنّك قد عرفت كثرة مُخرِجِي هذا الحديث من أكابر أهل السنّة، مثل:

1 - أحمد في مسنده.

2 - ابن أحمد.

3 - ابن مردويه.س.

ص: 407


1- تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام: ص 142 و ص 399، ح 465.
2- المستدرك للحاكم: ج 3 ص 134، ومسند أحمد: ج 1 ص 331.
3- تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام: ص 400، ح 466، و ص 401، ح 467 و 468.
4- المصدر السابق: ص 402، ح 479.
5- ميزان الاعتدال: بترجمة عبداللّه بن واهر، بسنده عن ابن عبّاس.

4 - الحسكاني.

5 - ابن إسحاق.

6 - البيهقي في سننه ودلائله.

7 - الثعلبي في تفسيره.

8 - الطبري في تاريخه وتفسيره.

9 - ابن كثير في تاريخه.

10 - الإسكافي.

11 - ابن أبي الحديد.

12 - النسائي في الخصائص.

13 - الحاكم في المستدرك.

14 - ابن أبي حاتم.

15 - ابن عساكر.

16 - الطحاوي.

17 - الضياء المقدسي.

18 - سعيد بن منصور.

19 - ابن الأثير.

20 - المتقي.

21 - الحلبي.

ص: 408

22 - الذهبي.

23 - يحيى بن سعيد في إيضاح الإشكال.

24 - البزّار.

25 - الطبراني.

26 - جعفر بن محمد الخلدي.

27 - الكنجي الشافعي.

28 - الحموئي.

29 - ابن قتيبة.

30 - ابن عبد ربّه.

وغيرهم من الحفّاظ وأرباب التاريخ، كابن حجر، وأبي نعيم وهَيْكَل.

ولشهرة هذا الحديث ذكره - كما في المراجعات - عدة من الكتاب الغربيين في كتبهم الفرنسية والإنجليزية والألمانية، واختصره توماس كارليل في كتابه «الأبطال» المترجم بالعربية والفارسية.

وليكن هذا آخر ما كتبناه حول آية الإنذار وحديث يوم الدار، حامداً للّه تعالى، ومصلّياً على النبيّ وأهل بيته عليهم السلام، سيّما ابن عمّه سيف اللّه المسلول، ونفس الرسول، وزوج البتول الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام.

وآخر دعوانا أنِ الحمد للّه ربِّ العالمين.

حرّره لطف اللّه الصافي الگلپايگاني

ص: 409

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.