معتمد الاصول: تقریر ابحاث الاستاذ روح الله الموسوی الامام الخمینی المجلد 2

اشارة

سرشناسه:فاضل موحد لنکرانی، محمد، - 1310

عنوان و نام پدیدآور:معتمد الاصول: تقریر ابحاث الاستاذ... روح الله الموسوی الامام الخمینی/ محمد الفاضل اللنکرانی

مشخصات نشر:تهران: موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی(س)، 1423ق. = 1381.

مشخصات ظاهری: 2ج

یادداشت:چاپ قبلی: موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی(س)، 1380 در دو مجلد است

یادداشت:عربی

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع:اصول فقه شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده:خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1368 - 1279

شناسه افزوده:موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی(س)

رده بندی کنگره:BP159/8/ف 18م 6 1381

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:م 81-47400

ص :1

هویة الکتاب

ص :2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

ص:3

معتمد الاصول: تقریر ابحاث الاستاذ... روح الله الموسوی الامام الخمینی

محمد الفاضل اللنکرانی

ص:4

تنبیهات البراءة

اشارة

بقی فی المقام امور مهمّة ینبغی التنبیه علیها:

ص:5

ص:6

التنبیه الأوّل: اشتراط جریان البراءة بعدم وجود أصل موضوعی

اشارة

اشتراط جریان البراءة بعدم وجود أصل موضوعی

إنّ أصالة البراءة الشرعیّة و کذا العقلیّة إنّما تجری فیما إذا لم یکن هناک أصل آخر وارد أو حاکم علیها، موضوعیّاً کان أو حکمیّاً، موافقاً کان أو مخالفاً لوضوح أنّه لا یبقی معه مورد لها، فلا تجری أصالة إباحة النظر و الوط ء فی المرأة التی شکّ فی زوجیّتها، لجریان أصالة عدم الزوجیة، و کذا لا تجری أصالة إباحة الأکل فی الحیوان الذی شکّ فی حلّیته مع الشکّ فی کونه مذکّی أم لا؟

و بالجملة: فلا إشکال فی المقام من حیث الکبری، إنّما الإشکال فی انطباقها علی المثال الأخیر بصوره الکثیرة الآتیة، و حینئذٍ فلا بأس بالتعرّض له تبعاً للرسالة(1) و الکفایة(2).

ص:7


1- (1) - فرائد الاُصول 371:1.
2- (2) - کفایة الاُصول: 397.

حول أصالة عدم التذکیة

فنقول: الکلام فی ذلک یتمّ برسم امور:

أقسام صور الشکّ فی حلّیة الحیوان

الأوّل: أنّ الشبهة فی الحیوان الذی شکّ فی حلّیته أو فی أجزائه من اللحم و الجلد و غیرها قد تکون حکمیة، و قد تکون موضوعیة.

و الاُولی علی صور:

منها: ما یکون الشکّ فی الحلّیة لأجل الشکّ فی کونه قابلاً للتذکیة کالحیوان المتولّد من الحیوانین.

و منها: ما یکون الشکّ فیها لأجل الشکّ فی اعتبار شیء آخر فی التذکیة زائداً علی الاُمور الخمسة أو الستّة المعتبرة فیها.

و منها: ما یکون الشکّ فیها لأجل احتمال مانعیّة شیء کالجلل أو الوط ء عنها.

و الصورة الاُولی علی قسمین؛ فإنّ الشکّ فی کونه قابلاً للتذکیة قد یکون باعتبار کونه عنواناً مستقلاًّ لم یعلم بقبوله لها کما فی المثال المتقدّم، و قد یکون باعتبار الشکّ فی انطباق عنوان قابل للتذکیة یقیناً أو غیر قابل لها أیضاً علیه، کما إذا شکّ فی انطباق عنوان الکلب الذی یعلم بعدم کونه قابلاً لها علی کلب البحر مثلاً.

هذا فی الشبهة الحکمیة.

ص:8

و أمّا الشبهة الموضوعیة فهی أیضاً علی صور:

منها: ما یکون الشکّ فی الحلّیة أو الطهارة لأجل الشکّ فی کون الحیوان الموجود فی البین مذکّی أم لا، بعد العلم بقبوله للتذکیة.

و منها: ما یکون الشکّ فیها لأجل الشکّ فی أنّ هذا اللحم أو الجلد هل یکون من الحیوان الذی لا یکون قابلاً لها کالکلب أو من أجزاء الغنم مثلاً.

و منها: ما یکون الشکّ فیها لأجل الشکّ فی أنّ هذا اللحم هل یکون من أجزاء الغنم المذکّی الموجود فی البین أو من أجزاء غیره من الحیوانات التی یعلم بعدم قبولها لها أو یشکّ فیه.

و منها: غیر ذلک من الصور.

فی معنی التذکیة

الثانی: أنّ التذکیة الموجبة للطهارة فقط أو مع الحلّیة هل هی عبارة عن المعنی البسیط الذی تحصّل من قابلیة المحلّ و الاُمور الخمسة التی هی عبارة عن فری الأوداج بالحدید علی القبلة مع التسمیة و کون المذکّی مسلماً، أو أنّها عبارة عن الأمر المنتزع من هذه الاُمور الستّة الذی یکون وجوده بعین وجود منشأ انتزاعه، و الفرق بینه و بین الوجه الأوّل واضح، أو أنّ التذکیة عبارة عن نفس الاُمور الخمسة و قابلیة المحلّ أمر خارج عن حقیقتها و إن کان لها دخل فی تأثیر تلک الاُمور فی الطهارة، أو مع الحلّیة بنحو الترکیب أو الأمر الواحد المتحصّل أو المنتزع؟ وجوه و احتمالات، و تحقیق الحقّ فی ذلک موکول إلی الفقه.

ص:9

حکم ما لو شکّ فی قابلیة حیوان للتذکیة

الثالث: إذا شکّ فی قابلیة حیوان للتذکیة فهل تجری فیه أصالة عدم القابلیة أم لا، و علی الثانی فهل تجری أصالة عدم التذکیة أم لا؟

فنقول: الظاهر عدم جریان أصالة عدم القابلیة؛ لأنّ القابلیة، و عدمها لیس لهما حالة سابقة نظیر کون المرأة قرشیّة الذی عرفت عدم وجود الحالة السابقة له، و غایة ما یمکن أن یقال فی تقریب الجریان ما أفاده المحقّق المعاصر فی باب قرشیّة المرأة ممّا تقدّم مع توضیح منّا.

و حاصله: أنّ العوارض علی قسمین: قسم یعرض لذات الماهیّة مع قطع النظر عن الوجودین بحیث لو کان لها تقرّر و ثبوت فی غیر عالم الوجود لکان یعرضها کالزوجیة بالنسبة إلی الأربعة، و قسم یعرض الوجود کالأبیضیة للجسم الموجود، و الفاسقیّة و القرشیّة للإنسان الموجود، و القابلیة للتذکیة للحیوان الموجود.

و حینئذٍ نقول: لا بأس بجریان استصحاب عدم تلک الأوصاف بالنسبة إلی موصوفها فی القسم الثانی و إن کان الموصوف حینما یتحقّق لا یخلو من اتصافه بذلک الوصف، بمعنی أنّه لو کان متّصفاً به لکان ذلک من أوّل وجوده و تحقّقه کوصف القرشیّة و کذا القابلیة فیقال: هذه المرأة - مشیراً إلی ماهیّتها - لم تکن قبل الوجود قرشیة، فیستصحب ذلک إلی زمان الوجود، و کذا هذا الحیوان لم یکن قبل الوجود قابلاً للتذکیة، فیستصحب ذلک إلی زمان الوجود(1).

ص:10


1- (1) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 218-220.

أقول أوّلاً: لو سلّمنا وجود الحالة السابقة لعدم القابلیة فلا مجال أیضاً لجریان استصحابه بعد عدم ترتّب أثر شرعی علیه، ضرورة أنّ الآثار الشرعیّة مترتّبة علی عدم کون الحیوان مذکّی بالتذکیة الشرعیّة، لا علی عدم کونه قابلاً لها و استلزام عدم القابلیة لعدم تحقّق التذکیة الشرعیّة استلزام عقلی یحکم به العقل من باب أنّ المرکب ینتفی بانتفاء أحد أجزائه، کما لا یخفی. و لا یثبت ذلک بالاستصحاب، لأنّه یصیر حینئذٍ من الاُصول المثبتة التی یکون جریانها علی خلاف التحقیق.

و ثانیاً: لا نسلّم وجود الحالة السابقة، فإنّ أخذ هذا القید العدمی أعنی عدم قابلیة الحیوان للتذکیة فی موضوع الحکم بالتحریم و النجاسة، إمّا أن یکون من قبیل القضیّة الموجبة المعدولة.

و إمّا أن یکون من قبیل الموجبة السالبة المحمول، و هی عبارة عن القضیّة الموجبة التی یکون المحمول فیها قضیّة سالبة مثل قوله: زید هو الذی لیس بقائم.

و إمّا أن یکون من قبیل الوصف و النعت.

و إمّا أن یکون من قبیل القضیّة السالبة الصادقة مع عدم الموضوع، و لا مجال لجریان الاستصحاب علی شیء من الوجوه و الاحتمالات.

أمّا علی الوجوه الثلاثة الاُوَل: فلأنّ جمیعها یحتاج إلی وجود الموضوع، ضرورة أنّ ثبوت شیء لشیء فرع ثبوت المثبت له، و ثبوت الوصف فرع ثبوت الموصوف، و فی المقام لا یکون الموضوع موجوداً فی الزمان السابق حتّی یثبت له المحمول و الوصف فیستصحب، کما هو واضح.

و أمّا علی الوجه الأخیر: فلأنّ اعتبار الموضوع للحکم بهذا النحو الذی

ص:11

یکون قیده السلبی صادقاً مع عدمه ممّا لا یعقل، ضرورة أنّه لا یعقل أن یکون الموضوع للحکم بالحرمة و النجاسة إلاّ أمراً وجودیاً ثابتاً.

إن قلت: لا بأس بجریان الاستصحاب علی الوجه الأخیر؛ لأنّه یستصحب عدم قابلیّة الحیوان للتذکیة الصادق مع عدم الحیوان إلی زمان وجوده، فیصیر الموضوع موجوداً، فیترتّب علیه الحکم.

قلت: استصحاب تلک الحالة و إن کان صحیحاً من حیث وجود الحالة السابقة، إلاّ أنّ تطبیق تلک الحالة التی تکون أعمّ من وجود الموضوع علی الحالة اللاحقة المشروطة بوجود الموضوع یکون بحکم العقل، فیصیر حینئذٍ من الاُصول المثبتة التی لا نقول بها، و قد تقدّم منّا فی باب قرشیّة المرأة تفصیل هذا الکلام بما لا مزید علیه، هذا.

و قد یقال فی تقریب جریان استصحاب عدم القرشیّة و کذا عدم القابلیة: إنّ الموضوع للحکم الشرعی إنّما هو المرکّب من عنوان المرأة و عنوان الغیر القرشیّة و کذا المرکّب من الحیوان و من عدم القابلیة للتذکیة، و حینئذٍ فلا بأس بجریان استصحاب هذا الجزء من الموضوع بعد کون الجزء الآخر محرزاً بالوجدان.

و یرد علیه - مضافاً إلی أنّ ذلک مخالف لظاهر الأدلّة الشرعیّة - أنّ أخذ هذا فی الجزء العدمی إمّا أن یکون علی نحو یکون جزؤه الآخر مفروض الوجود، و إمّا أن یکون علی نحو یصدق مع عدم الجزء الآخر أیضاً، فعلی الأوّل یرجع إلی أحد الوجوه الثلاثة من الوجوه الأربعة المتقدّمة، و قد تقدّم الجواب عنه، و علی الثانی - فمضافاً إلی أنّ هذا النحو من الاعتبار ممّا لا یعقل، لاستلزامه التناقض، فإنّ أخذ الجزء الأوّل جزءاً للموضوع لا یصحّ إلاّ بعد أن یکون قد فرض وجوده، و أخذ الجزء الآخر علی نحو یصدق مع عدم الجزء الأوّل مناقض لذلک،

ص:12

کما هو واضح - یرد علیه ما اورد علی الوجه الأخیر من الوجوه الأربعة المتقدّمة، فتدبّر فی المقام، فانقدح أنّه لا مجال لاستصحاب عدم القابلیة أصلاً.

و أمّا استصحاب عدم التذکیة: فالظاهر عدم جریانه أیضاً، و قبل الخوض فی ذلک لا بدّ من بیان الوجوه المتصوّرة فی معنی عدم التذکیة بحسب التصوّر الابتدائی فنقول:

منها: أن یکون المراد به عدم زهوق الروح بالنحو المعتبر شرعاً المأخوذ موضوعاً للحکم بالطهارة أو مع الحلّیة علی نحو السالبة المحصّلة الصادقة مع انتفاء الموضوع الذی هو عبارة عن زهوق الروح.

و منها: أن یکون المراد به زهوق روح الحیوان لا علی النحو المعتبر شرعاً علی نحو الموجبة المعدولة.

و منها: أن یکون المراد به زهوق الروح الذی لم یکن علی النحو الشرعی علی نحو الموجبة السالبة المحمول.

و منها: أن یکون المراد به زهوق الروح لا بنحو التذکیة علی نحو السالبة المحصّلة.

و منها: أن یکون أمراً مرکّباً من زهوق الروح و من عدم تحقّق النحو المعتبر شرعاً فی صیرورته طاهراً و حلالاً.

إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ أخذ عدم التذکیة بالمعنی الأوّل موضوعاً للحکم الشرعی ممّا لا یعقل، لأنّ الأمر السلبی یستحیل أن یکون موضوعاً لحکم من الأحکام، و من هنا یعلم أنّ أخذه کذلک بالمعنی الرابع أیضاً لا یمکن إذا کانت السالبة أعمّ من وجود الموضوع، و إذا کانت فی صورة وجود الموضوع فهو یرجع إلی أحد الوجهین الثانی و الثالث، و أمّا المعنی الأخیر فهو أیضاً غیر معقول

ص:13

لو کان المراد من الجزء السلبی هو السلب الصادق مع عدم الجزء الآخر، للزوم التناقض، فلم یبق فی البین إلاّ الوجه الثانی و الوجه الثالث. فالاستصحاب لا بدّ أن یکون مجراه هو أحدهما.

و من الواضح أنّه لا یجری، لأنّه لیس له حالة سابقة حتّی تستصحب، لأنّه لم یمض للحیوان زمان کان زاهق الروح فیه لا علی النحو المعتبر شرعاً، فإنّه من حین زهوق روحه کان مشکوکاً من حیث التذکیة و عدمها، فلا مجال للاستصحاب.

و دعوی أنّ السالبة المحصّلة الصادقة مع عدم موضوعها کانت صادقة فی الزمان السابق، فتستصحب إلی زمان وجود الموضوع، و المستصحب لا بدّ و أن یکون ذا أثر شرعی فی الزمان اللاحق، و لا یعتبر أن یکون موضوعاً للحکم الشرعی حتّی فی الزمان السابق.

مدفوعة: بأنّ المستصحب لا بدّ أن یکون بنفسه موضوعاً للحکم الشرعی و لو فی الزمان اللاحق، و قد عرفت أنّ السالبة المحصّلة الصادقة مع انتفاء الموضوع لا یعقل أن تؤخذ موضوعاً، و إثبات الموضوع باستصحاب السالبة یکون من قبیل استصحاب العامّ لإثبات الخاصّ الموضوع للحکم، و هو من الاُصول المثبتة التی جریانها علی خلاف التحقیق.

فانقدح: أنّه لا مجال لاستصحاب عدم التذکیة، سواء شکّ فی قابلیّة الحیوان لها و عدمها، أو شکّ فی اعتبار شرط آخر زائد علی الاُمور المعتبرة فیها، أو شکّ فی مانعیّة شیء کالوط ء و الجلل، أو غیره من الشبهات الحکمیّة، و کذا لو شکّ فی کون الحیوان الموجود فی البین مذکّی أم لا، فإنّه لا یجری فیه أیضاً.

ص:14

ثمّ إنّه ربّما یظهر من الشیخ قدس سره التفصیل فی جریان استصحاب عدم التذکیة بین الآثار الوجودیّة و الآثار العدمیة(1)

. و قد صرّح بذلک بعض المحقّقین من محشی الرسالة، فقال - بعد استظهار أنّ المیتة فی نظر الشارع و المتشرّعة هی ما کان فاقداً لشرائط التذکیة، و أنّ الموضوع للحرمة و النجاسة هو ما عدا المذکّی، و أنّه لا یثبت بأصالة عدم التذکیة - ما لفظه: فمقتضی القاعدة هو التفکیک بین الآثار، فما کان منها مرتّباً علی عدم کون اللحم مذکّی کعدم حلّیته و عدم جواز الصلاة فیه و عدم طهارته و غیر ذلک من الأحکام العدمیة المنتزعة من الوجودیّات التی تکون التذکیة شرطاً فی ثبوتها ترتّب علیه، فیقال: الأصل عدم تعلّق التذکیة بهذا اللحم الذی زهق روحه، فلا یحلّ أکله و لا الصلاة فیه و لا استعماله فیما یشترط بالطهارة.

و أمّا الآثار المترتّبة علی کونه غیر مذکّی کالأحکام الوجودیّة الملازمة لهذه العدمیات کحرمة أکله و نجاسته و تنجیس ملاقیه و حرمة الانتفاع به ببیعه و غیر ذلک من الأحکام المعلّقة علی عنوان المیتة أو غیر المذکّی فلا(2) ، انتهی موضع الحاجة من کلامه قدس سره.

و یرد علیه أوّلاً: أنّ ما أفاد من أنّ التذکیة سبب فی ثبوت الآثار الوجودیّة کالطهارة و الحلّیة و جواز الاستعمال فی الصلاة، و هو مسبوق بالعدم، فیترتّب علیه ما ذکر، محلّ نظر؛ فإنّه لم یجعل الحیوان المذکّی موضوعاً لتلک

ص:15


1- (1) - فرائد الاُصول 371:1-372.
2- (2) - حاشیة فرائد الاُصول، المحقّق الهمدانی: 387-388، مصباح الفقیه، الطهارة: 653 /السطر 16.

الآثار، بل لم یجعل هذه الأحکام بعد تحقّق التذکیة أصلاً؛ ضرورة أنّ الطهارة الثابتة بعد التذکیة هی الطهارة التی کانت متحقّقة فی حال حیاة الحیوان، غایة الأمر أنّها استمرّت إلی بعد الموت لعدم قیام الدلیل علی النجاسة، و هکذا الحلّیة و جواز الصلاة فیه؛ فإنّ الحیوان فی حال الحیاة کان حلالاً و الصلاة فیه جائزاً، و استمرّ ذلک إلی بعد الموت فی الحیوان المذکّی، لعدم قیام ما یدلّ علی الحرمة و عدم جواز الصلاة فیه، بل المجعول فی باب الحیوان هو الحرمة و النجاسة و غیر ذلک من الآثار المترتّبة علی عدم کون اللحم مذکّی، و قد ذکر أنّه لا مجال للاستصحاب لإثبات ذلک.

و ثانیاً: أنّه لو سلّم أنّ الطهارة و الحلّیة و غیرهما کانت مجعولة و مترتّبة علی کون الحیوان مذکّی، لکن نقول: إنّ عدم هذه الأحکام الوجودیّة لا یکون مترتّباً علی عدم کون الحیوان مذکّی، فإنّ هذا الأمر العدمی یصدق مع عدم الحیوان، و مع وجوده حیّاً، و مع موته حتف الأنف، أو بغیر التذکیة الشرعیّة، و من المعلوم أنّ الموضوع لعدم الحلّیة و عدم جواز الصلاة فیه و عدم الطهارة هو القسم الأخیر، فإنّ الحیوان فی حال حیاته حلال طاهر کما عرفت، و مع عدمه لا یعقل الحکم علیه بذلک.

و حینئذٍ نقول: إنّ عدم کون الحیوان مذکّی و إن کان له حالة سابقة، إلاّ أنّه لا یکون مترتّباً علیه أثر شرعی، و استصحابه إلی زمان الموت لإثبات القسم الأخیر یکون مثبتاً محضاً، کما هو واضح لا یخفی.

و ثالثا: لو سلّم کون الموضوع لعدم هذه الأحکام الوجودیّة هو عدم کون اللحم مذکّی و قطعنا النظر عن استحالة کون الموضوع للحکم هو العدم المحمولی، لکن نقول: إنّ ترتّب تلک الأعدام علی الموضوع العدمی لیس ترتّباً

ص:16

شرعیاً، بل عقلیاً، بملاحظة أنّه إذا کان السبب فی ثبوت تلک الآثار الوجودیّة هو التذکیة فعند عدمها تنتفی تلک الآثار، لاستلزام انتفاء السبب انتفاء المسبّب استلزاماً عقلیّاً، کما هو واضح.

و رابعاً: لو سلّمنا جمیع ذلک نقول - بعد تسلیم کون الطهارة و نحوها مجعولة للمذکّی بسبب التذکیة، و عدم کونها هی الطهارة الموجودة حال الحیاة -: لا بدّ من الالتزام بکون الطهارة الثابتة فی حال الحیاة مسبّبة عن سبب آخر غیر التذکیة، و حینئذٍ لا مانع من استصحاب بقاء الجامع بعد زوال السبب فی حال الحیاة، و احتمال عروض سبب آخر الذی هو التذکیة مقارناً لزوال السبب الأوّل، و به یثبت طهارة الحیوان و جواز أکله و استعماله فیما یشترط بالطهارة.

و لکن ذلک متفرّع أوّلاً: علی جریان استصحاب القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلّی.

و ثانیاً: علی کون الجامع موضوعاً لأثر شرعی، و کلا الأمرین غیر خالیین عن المناقشة.

ثمّ إنّه لو قطع النظر عمّا ذکرنا من عدم جریان استصحاب عدم التذکیة بوجه فهل یجری فیما لو شکّ فی أنّ اللحم أو الجلد الموجود فی البین هل اخذ من الغنم المذکّی الموجود المعلوم، أو من الغنم الغیر المذکّی کذلک، أو لا یجری؟ وجهان مبنیّان علی أنّ التذکیة هل تکون وصفاً للحیوان بأجمعه، کما هو الظاهر، أو أنّه یتّصف بها الأجزاء أیضاً؟

فعلی الأوّل لا وجه لجریان استصحاب عدم التذکیة، لأنّه لیس هنا حیوان شکّ فی اتّصافه بهذا الوصف حتّی یجری فیه استصحاب عدمه، لأنّ

ص:17

المفروض تمیّز المذکّی عن غیره، و لیس هنا أصل آخر یثبت به أنّه اخذ من المذکّی أو من غیره، و حینئذٍ فیحکم بالحلّیة و الطهارة، لأصالتهما.

و علی الثانی فلا محیص عن استصحاب عدم التذکیة، کما هو واضح، هذا.

و لو شک فی أنّ لحم الغنم مثلاً الموجود فی البین هل اتّخذ من الغنم المذکّی المشتبه بغیر المذکّی أو من غیره، فهل یجری فیه و فی الحیوانین استصحاب عدم التذکیة أم لا؟ وجهان مبنیّان علی أنّ عدم جریان الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی هل هو للزوم المخالفة العملیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، أو للزوم التناقض فی أدلّة الاُصول؟

فعلی الأوّل لا یکون هنا مانع من الجریان، لعدم لزوم المخالفة العملیّة، لأنّ مقتضی الأصلین الاجتناب عن کلا الحیوانین، و حینئذٍ فاللازم الاجتناب عن اللحم أو الجلد أیضاً، بعد کون الحیوان المتّخذ منه ذلک محکوماً بالنجاسة و الحرمة.

و علی الثانی فلا مجال لإجراء استصحاب عدم التذکیة بعد العلم الإجمالی بوجود المذکّی فی البین، کما أنّه لا مجال لإجراء قاعدتی الحلّ و الطهارة بعد العلم بوجود غیر المذکّی أیضاً، هذا بالنسبة إلی الحیوانین.

و أمّا بالنسبة إلی اللحم أو الجلد الذی اتّخذ من أحدهما فإن قلنا: بأنّه أیضاً یصیر من أطراف العلم الإجمالی فلا یجری فیه الاستصحاب و لا قاعدتا الحلّ و الطهارة، و إلّا فیجری فیه الاستصحاب بناءً علی الوجه الثانی من الوجهین المتقدّمین، و أمّا علی الوجه الأوّل فالمرجع فیه هو قاعدتا الحلّ و الطهارة.

هذا کلّه فیما لو کان کلّ واحد من الحیوانین مورداً للابتلاء.

ص:18

و أمّا لو کان کلاهما أو خصوص الحیوان الذی لم یتّخذ منه الجلد خارجاً عن محلّ الابتلاء فلا مانع حینئذٍ من جریان الاستصحاب فی الحیوان الذی اتّخذ منه الجلد، لعدم جریانه فی الحیوان الآخر بعد خروجه من محلّ الابتلاء حتّی یلزم التناقض أو یحصل التعارض بناءً علی الجریان و التساقط، و الحیوان المتّخذ منه الجلد و إن کان خارجاً عن محلّ الابتلاء أیضاً فی الفرض الأوّل، إلاّ أنّه یجری فیه الاستصحاب بالنظر إلی جلده الذی کان محلاّ للابتلاء.

و من هنا یظهر عدم جریان الاستصحاب فیما لو کان الحیوان الآخر فقط مورداً لابتلاء المکلّف، لأنّ الحیوان المتّخذ منه الجلد أیضاً مورد للابتلاء لا بنفسه، بل بجلده الموجود فی البین، فیحصل التناقض أو التعارض من جریان الأصلین، فتدبّر جیّداً.

ص:19

التنبیه الثانی: فی حسن الاحتیاط شرعاً و عقلاً

اشارة

فی حسن الاحتیاط شرعاً و عقلاً

قد مرّ أنّ مقتضی الأدلّة جریان البراءة شرعاً و عقلاً فی الشبهة الوجوبیة و التحریمیة، إلاّ أنّه لا یخفی أنّ الاحتیاط فیهما بالإتیان أو الترک ممّا لا شبهة فی حسنه و لا ریب فی رجحانه شرعاً و عقلاً، بلا فرق فی ذلک بین العبادات و غیرها.

تقریر إشکال الاحتیاط فی العبادات و دفعه

نعم قد یشکل فی جریان الاحتیاط فی العبادات فیما إذا دار الأمر فیها بین الوجوب و غیر الاستحباب؛ تارةً من جهة أنّ العبادة لا بدّ فیها من نیّة القربة، و هی متوقّفة علی العلم بأمر الشارع تفصیلاً أو إجمالاً، و فی الشبهات البدویّة لا علم بالأمر، فلا یمکن فیها الاحتیاط.

و اخری من جهة أنّ حقیقة الإطاعة عقلاً متقوّمة بما إذا کان الانبعاث مستنداً إلی بعث المولی، و فی الشبهات البدویّة لا یکون الأمر کذلک، فإنّ الانبعاث فیها إنّما هو عن احتمال البعث، کما هو واضح.

هذا و لا یخفی أنّ الإشکال الأوّل إنّما نشأ من تخیّل أنّ القربة المعتبرة فی العبادة إنّما تکون کسائر الشروط المعتبرة فیها المأخوذة فی متعلّق الأمر؛ إذ حینئذٍ لا یمکن تحصیل المأمور به بجمیع شروطه، لعدم العلم بأمر الشارع حتّی

ص:20

تصحّ نیّة القربة، مع أنّ الأمر لیس کذلک، فإنّ قصد الأمر و إن کان یمکن أن یؤخذ فی متعلّق الأمر - کما عرفت ذلک فی مبحث التعبّدی و التوصّلی - إلاّ أنّه لم یقع ذلک فی الخارج، و الأمر لا یدعو إلاّ إلی متعلّقه، و حینئذٍ فیمکن الإتیان به بجمیع ما اعتبر فیه برجاء کونه مقرّباً و محبوباً، لأنّه لا یعتبر الجزم بکون المأتی به مأموراً به و مقرّباً، بل یکفی الإتیان به برجاء ذلک و إن کان قادراً علی تحصیل العلم.

و ما یتوهّم من عدم کفایة الامتثال الاحتمالی مع القدرة علی الامتثال العلمی، مدفوع بعدم قیام الدلیل علی ذلک، کما لا یخفی.

و أمّا الإشکال الثانی: فیدفعه أنّ الانبعاث لا یعقل أن یکون مستنداً إلی نفس بعث المولی بحیث یکون وجوده و تحقّقه فی الواقع مؤثّراً فی حصول الانبعاث، و إلّا لزم أن لا ینفکّ عنه، مع أنّ الوجدان یقضی بخلافه بعد ملاحظة العصاة، و کذلک یلزم أن لا یتحقّق الانبعاث بدونه، مع أنّا نری تحقّقه بالنسبة إلی الجاهل المرکّب، فلا یدور الانبعاث و عدمه مدار وجود البعث و عدمه.

فالحقّ أنّ الانبعاث إنّما یکون مستنداً إلی الاعتقاد بوجود البعث، لا بنحو یکون للصورة الاعتقادیّة مدخلیّة فی تحقّقه بحیث لا یمکن أن یتحقّق بدونها، بل الغرض نفی مدخلیّة البعث بوجوده الواقعی و لو بنحو الجزئیة، و حینئذٍ فالآتی بالفعل بداعی احتمال تعلّق الأمر به أیضاً مطیع.

اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ فی صورة العلم بوجود البعث یکون الانبعاث مستنداً إلی نفس البعث، لأنّه نال الواقع و وصل إلیه بالعرض، و هذا بخلاف صورة الاحتمال، فإنّ الانبعاث فیها لا محالة یکون مستنداً إلی الاحتمال الذی لا یکون له کاشفیة بوجه، و هذا هو الفارق بینهما فی صدق الإطاعة

ص:21

و الامتثال، فإنّ المحرّک و الداعی فی الصورة الاُولی هو الواقع المنکشف، و فی الصورة الثانیة هو نفس الاحتمال.

و الذی یسهّل الخطب: أنّ ذلک کلّه مبنی علی اعتبار تحقّق الإطاعة و الامتثال فی صحّة العبادة، مع أنّه لم یدلّ علی ذلک دلیل، فإنّه لا یعتبر فیها أزید من الإتیان بها بداعی کونها مقرّبة و محبوبة له تعالی أو برجاء ذلک، و صحّتها علی الوجه الثانی لا تتوقّف علی تعذّر الوجه الأوّل المتوقّف علی العلم بأمر الشارع تفصیلاً أو إجمالاً.

و ما أفاده بعض الأعاظم علی ما فی تقریرات بحثه من أنّ للامتثال مراتب أربعة بحسب نظر العقل، آخرها الامتثال الاحتمالی و لا یحسن إلاّ عند تعذّر سائر المراتب(1) ، ممّا لا یعرف له وجه، و قد عرفت شطراً من الکلام علی ذلک فی مبحث القطع.

تصحیح الاحتیاط فی العبادات بالأمر المتعلّق بنفس الاحتیاط

ثمّ إنّه لو قیل بعدم إمکان الاحتیاط فی العبادات فی الشبهات البدویّة؛ لاحتیاج ذلک إلی ثبوت الأمر من ناحیة المولی، فهل یمکن تصحیح ذلک بالأمر المتعلّق بنفس الاحتیاط فی مثل قوله علیه السلام:

«أخوک دینک فاحتط لدینک» (2)

؟ قد یقال: نعم. و لکنّ التحقیق العدم؛ لأنّ شمول مثل ذلک القول للعبادات

ص:22


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 69:3 و 400.
2- (2) - الأمالی، الشیخ الطوسی: 168/110، وسائل الشیعة 167:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 46.

فی الشبهات البدویّة متفرّع علی إمکان الاحتیاط فیها؛ لأنّ شمول الحکم فرع تحقّق موضوعه، فإثبات إمکان الاحتیاط فیها بمثل ذلک القول دور واضح، کما لا یخفی.

نعم، قد یقال فی توجیه ذلک بأنّ الأمر بالاحتیاط قد تعلّق بذات العمل الذی یحتمل وجوبه، لا بالعمل بقید أنّه محتمل الوجوب بحیث یکون احتمال الوجوب قیداً فی المأمور به، بل متعلّق الأمر نفس العمل الذی یحتمل وجوبه، فإن کان توصّلیاً، یکفی الإتیان به بلا قصد الأمر المتعلّق به، و إن کان عبادیّاً - أی کان بحیث لو تعلّق الأمر به لکان أمره عبادیّاً - فلا بدّ من قصد الأمر الذی تعلّق به و هو الأمر بالاحتیاط الذی فرض تعلّقه بذات العمل، فینوی التقرّب به و یقصد امتثاله.

هذا، و لکن لا یخفی أنّ الأمر المتعلّق بالاحتیاط إنّما تعلّق بعنوان الاحتیاط، و لا یعقل أن یتجاوز عنه و یسری إلی ذات العمل الذی له عنوان آخر کالصلاة و نظائرها، و مجرّد أنّ تحقّق هذا العنوان فی الخارج إنّما هو بإیجاد ذلک العنوان لا یوجب سرایة الأمر إلیه بعد وضوح تغایرهما فی عالم المفهومیّة و عدم کون الخارج ظرفاً لتعلّق الأمر و ثبوته، و قد حقّقنا ذلک بما لا مزید علیه فی مبحث اجتماع الأمر و النهی فراجع.

ثمّ إنّ المحقّق النائینی أجاب عن هذا التوجیه علی ما فی تقریرات بحثه بما ملخّصه: أنّ الأمر بالعمل إمّا أن یکون بنفسه عبادیّاً - أی کان الغرض من الأمر التعبّد و التقرّب به - کالأمر المتعلّق بالصلاة، و إمّا أن یکتسب العبادیّة من أمر آخر لأجل اتّحاد متعلّقهما، کوجوب الوفاء بالنذر، فإنّ الأمر بالوفاء بالنذر

ص:23

لا یکون عبادیّاً، بل هو کسائر الأوامر التوصلیّة، و لکن لو تعلّق النذر بما یکون عبادة کنذر صلاة اللیل یکتسب الأمر بالوفاء بالنذر العبادیّة من الأمر بصلاة اللیل، کما أنّ الأمر بصلاة اللیل یکتسب الوجوب من الأمر بالوفاء.

و السرّ أنّ النذر إنّما یتعلّق بذات صلاة اللیل، لا بها بما أنّها مستحبّة، و إلّا کان النذر باطلاً؛ لعدم القدرة علی وفائه، فإنّها تصیر بالنذر واجبة، فلا بدّ و أن یتعلّق النذر بذات صلاة اللیل، و الأمر الاستحبابی أیضاً تعلّق بها لا بوصف کونها مستحبّة، کما هو واضح، فیکون کلّ من الأمر الاستحبابی و الأمر بالوفاء بالنذر قد تعلّق بذات صلاة اللیل، و لمکان اتحاد متعلّقهما یکتسب کلّ منهما من الآخر ما کان فاقداً له، هذا إذا اتّحد متعلّق الأمرین.

و أمّا إذا لم یتّحد فلا یکاد یمکن أن یکتسب أحد الأمرین العبادیّة مع کونه فاقداً لها من الآخر الواجد لها، کالأمر بالوفاء بالإجارة إذا کان متعلّق الإجارة أمراً عبادیّاً، کما لو اوجر الشخص علی الصلاة الواجبة أو المستحبّة علی الغیر، فإنّ الأجیر إنّما یستأجر لتفریغ ذمّة الغیر، فالإجارة إنّما تتعلّق بما فی ذمّة المنوب عنه، و ما فی ذمّة المنوب عنه إنّما هی الصلاة الواجبة أو المستحبّة بوصف کونها واجبة أو مستحبّة، فمتعلّق الإجارة إنّما تکون الصلاة بقید کونها مستحبّة علی المنوب عنه، لا بذات الصلاة بما هی هی، و متعلّق الأمر الاستحبابی إنّما هو نفس الصلاة، فلا یتّحد الأمر الاستحبابی مع الأمر الإجاری.

و کیف کان: فقد عرفت أنّ الأمر العبادی إمّا أن یکون بنفسه عبادة، و إمّا أن یکتسب العبادیّة من أمر آخر، و الأوامر المتعلّقة بالاحتیاط فاقدة لکلتا

ص:24

الجهتین، أمّا الجهة الاُولی فواضح، و أمّا الجهة الثانیة فلأنّ الأمر بالاحتیاط لم یتعلّق بذات العمل مرسلاً عن قید کونه محتمل الوجوب، بل التقیید بذلک مأخوذ فی موضوع أوامر الاحتیاط، و إلّا لم یکن من الاحتیاط بشیء، بخلاف الأمر المتعلّق بالعمل المحتاط فیه، فإنّه علی تقدیر وجوده الواقعی إنّما تعلّق بذات العمل، فلم یتّحد متعلّق الأمرین حتّی یکتسب الأمر بالاحتیاط العبادیّة من الأمر المتعلّق بالعمل لو فرض أنّه کان ممّا تعلّق الأمر العبادی به، و قد عرفت أنّه ما لم یتّحد متعلّق الأمر الغیر العبادی مع متعلّق الأمر العبادی لا یمکن أن یصیر الأمر الغیر العبادی عبادیاً(1) ، انتهی ملخّصاً.

و لا یخفی ما فیه؛ فإنّ اکتساب الأمر الغیر العبادی العبادیّة من الأمر العبادی نظراً إلی اتّحاد متعلّقهما ممّا لا نتصوّره بعد عدم إمکان اتّحاد متعلّق الأمرین، فإنّه کیف یعقل تعلّق إرادتین مستقلّتین بأمر واحد و شیء فارد. و لذا لو تعلّق أمران بطبیعة واحدة لا بدّ من جعل الأمر الثانی تأکیداً للأمر الأوّل لو لم یکن المقصود الإتیان بفردین منها؛ لوضوح استحالة أن یکون أمراً تأسیسیّاً ناشئاً من إرادة مستقلّة، فاتّحاد متعلّق الأمرین ممّا لا یعقل. و علی تقدیر الإمکان فاکتساب الأمر الغیر العبادی العبادیّة من الأمر الآخر العبادی ممّا لا وجه له بعد کون کلّ من الأمرین له مبادئ مخصوصة و مقدّمات خاصّة به، فإنّ مجرّد اتّحاد المتعلّق لا یوجب سرایة العبادیّة بعد عدم کون الأمر الناشئ من مقدّماته الخاصّة به أمراً عبادیّاً کان الغرض التعبّد و التقرّب به.

ص:25


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 403:3-406.

هذا مضافاً إلی أنّ المثال الذی ذکره لاتّحاد متعلّق الأمرین لا یکون من هذا الباب؛ فإنّ متعلّق الأمر النذری هو الوفاء بالنذر، و متعلّق الأمر الاستحبابی الذی تعلّق بالمنذور هی صلاة اللیل، و لا خفاء فی کونهما متغایرین فی عالم المفهومیة الذی هو ظرف تعلّق الأمر و ثبوته، و مجرّد اجتماعهما فی الخارج بوجود واحد لا یوجب اتّحادهما مفهوماً و صیرورتهما عنواناً واحداً حتّی یصحّ القول باتحاد متعلّقهما، کما حقّقنا ذلک فی محلّه.

فالتحقیق: أنّ صلاة اللیل إنّما تکون مستحبّة و لو بعد تعلّق النذر، و الوفاء بالنذر یکون واجباً مطلقاً، و بعد تغایر المتعلّقین لا یعقل سرایة الوجوب من الثانی إلی الأوّل، و کذا سرایة العبادیّة من الأوّل إلی الثانی، فافهم و اغتنم.

تصحیح الاحتیاط فی العبادات بأخبار من بلغ

ثمّ إنّه یؤیّد ما ذکرنا من إمکان الاحتیاط فی العبادات فی الشبهات البدویّة، بل یدلّ علیه أخبار من بلغ(1) ؛ فإنّها بصدد بیان أنّ العمل المأتی به برجاء إدراک الواقع إذا لم یکن مصادفاً له و لم یقله رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم یترتّب علیه الثواب و یعطی علیه تفضّلاً و عنایة، و ظاهرها أنّه لو صادف الواقع و کان ممّا قاله رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم لکان الآتی به مدرکاً للواقع حقیقة و مستوجباً للثواب المترتّب علیه، فلو کان العمل المأتی به باحتمال الأمر لغواً أو تشریعاً محرّماً لما کان وجه لترتّب الثواب علیه و إدراک الواقع، کما هو واضح.

ص:26


1- (1) - راجع وسائل الشیعة 80:1، کتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 18.

مفاد أخبار من بلغ

و إذا انتهی الکلام إلی ذکر أخبار من بلغ فینبغی التعرّض لبیان مفادها، فنقول: ذکر المحقّق الخراسانی قدس سره فی الکفایة: أنّه لا یبعد أن یقال بدلالة بعض تلک الأخبار علی استحباب ما بلغ علیه الثواب، فإنّ

صحیحة هشام بن سالم المحکیّة عن المحاسن عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: «من بلغه عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم شیء من الثواب فعمله کان أجر ذلک له و إن کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم لم یقله» (1) ظاهرة فی أنّ الأجر کان مترتّباً علی نفس العمل الذی بلغه عنه صلی الله علیه و آله و سلم أنّه ذو ثواب، و کون العمل متفرّعاً علی البلوغ و کونه الداعی إلی العمل غیر موجب لأن یکون الثواب مترتّباً علیه فیما إذا أتی برجاء أنّه مأمور به و بعنوان الاحتیاط بداهة أنّ الداعی إلی العمل لا یوجب له وجهاً و عنواناً یؤتی به بذلک الوجه و العنوان، و إتیان العمل بداعی طلب قول النبی صلی الله علیه و آله و سلم کما قیّد به فی بعض الأخبار و إن کان انقیاداً، إلاّ أنّ الثواب فی الصحیحة إنّما رتّب علی نفس العمل، و لا موجب لتقییدها به، لعدم المنافاة بینهما(2) ، انتهی.

و أفاد المحقّق النائینی علی ما فی تقریرات بحثه ما ملخّصه: إنّ الوجوه المحتملة فی هذه الأخبار من حیث الدلالة ثلاثة:

أحدها: أن یکون مفادها مجرّد الإخبار عن فضل اللّه سبحانه من غیر نظر

ص:27


1- (1) - المحاسن: 2/25، وسائل الشیعة 81:1، کتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 18، الحدیث 3.
2- (2) - کفایة الاُصول: 401

إلی حال العمل و أنّه علی أیّ وجه یقع. و بعبارة اخری: أنّها ناظرة إلی العمل بعد وقوعه و أنّ اللّه تعالی حسب فضله و رحمته یعطی الثواب الذی بلغ العامل و إن تخلّف قول المبلّغ عن الواقع.

ثانیها: أن تکون الجملة الخبریّة بمعنی الإنشاء، و یکون مفاد قوله علیه السلام:

«فعمله» أو

«ففعله» الأمر بالفعل و العمل، کما هو الشأن فی غالب الجمل الخبریّة الواردة فی بیان الأحکام، سواء کانت بصیغة الماضی کقوله علیه السلام: «من سرّح لحیته فله کذا»(1) ، أو بصیغة المضارع کقوله:

«یسجد سجدتی السهو» (2) ، و علیه فمقتضی إطلاق البلوغ القول باستحباب العمل مطلقاً، سواء کان قول المبلّغ واجداً لشرائط الحجّیة أو لم یکن، و هذا - أی کون الجملة الخبریّة بمعنی الإنشاء و أنّها فی مقام بیان استحباب العمل - یمکن أن یکون علی أحد وجهین:

أحدهما: أن تکون القضیّة مسوقة لبیان اعتبار قول المبلغ و حجّیته، سواء کان واجداً لشرائط الحجّیة أو لم یکن، کما هو ظاهر الإطلاق، فیکون مفاد الأخبار مسألة اصولیّة مرجعها إلی حجّیة الخبر الضعیف فی باب المستحبّات. ففی الحقیقة تکون أخبار من بلغ مخصّصة لما دلّ علی اعتبار الوثاقة أو العدالة فی الخبر و أنّها تختص بالخبر القائم علی وجوب الشیء،

ص:28


1- (1) - هذا نصّ الروایة: عن أبی عبد اللّه علیه السلام، قال: «من سرّح لحیته سبعین مرّة و عدّها مرّة مرّة لم یقربه الشیطان أربعین یوماً». الکافی 10/489:6، وسائل الشیعة 126:2، کتاب الطهارة، أبواب آداب الحمام، الباب 76، الحدیث 1.
2- (2) - تهذیب الأحکام 1466/354:2، وسائل الشیعة 203:8، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 3، الحدیث 14.

و لا یعمّ الخبر القائم علی الاستحباب.

فإن قلت: کیف تکون أخبار من بلغ مخصّصة لما دلّ علی اعتبار الشرائط فی حجّیة الخبر، مع أنّ النسبة بینهما العموم من وجه، حیث إنّ ما دلّ علی اعتبار الشرائط یعمّ الخبر القائم علی الوجوب و علی الاستحباب، و أخبار من بلغ و إن کانت تختصّ بالخبر القائم علی الاستحباب، إلاّ أنّه أعمّ من أن یکون واجداً للشرائط و فاقداً لها، ففی الخبر القائم علی الاستحباب الفاقد للشرائط یقع التعارض، و لا وجه لتقدیم أخبار من بلغ.

قلت: - مع أنّه یمکن أن یقال: إنّ أخبار من بلغ ناظرة إلی إلغاء الشرائط فی الأخبار القائمة علی المستحبّات فتکون حاکمة علی ما دلّ علی اعتبار الشرائط فی أخبار الآحاد، و فی الحکومة لا تلاحظ النسبة - إنّ الترجیح لأخبار من بلغ؛ لعمل المشهور بها، مع أنّه لو قدّم ما دلّ علی اعتبار الشرائط فی مطلق الأخبار لم یبق لأخبار من بلغ مورد، بخلاف ما لو قدّمت أخبار من بلغ، و هذا الوجه - أی الوجه الثانی - أقرب کما علیه المشهور(1) ، انتهی ملخّص موضع الحاجة من کلامه قدس سره.

و فیه وجوه من النظر:

أمّا أوّلاً: فلأنّ جعل أخبار من بلغ مخصّصة أو معارضة لما دلّ علی اعتبار الشرائط فی أخبار الآحاد ممّا لا وجه له، بعد کون کلّ منهما مثبتاً، فإنّ ما دلّ علی اعتبار خبر الثقة مطلقاً لا ینفی ما یدلّ علی اعتبار الخبر مطلقاً فی باب المستحبّات و لا مضادّة بینهما حتّی یجعل الثانی مخصّصاً أو معارضاً. نعم فی بعض

ص:29


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 409:3-414.

أدلّة اعتبار خبر الثقة ما یشعر بعدم حجّیة قول الفاسق کآیة النبأ، و لکنّه کما عرفت لا یخلو من المناقشة.

و ثانیاً: فإنّه لو سلّم التعارض فجعل أخبار من بلغ حاکمة علی ما یدلّ علی اعتبار الشرائط فی الخبر الواحد ممّا لا وجه له، فإنّ ملاک الحکومة أن یکون الدلیل الحاکم ناظراً إلی الدلیل المحکوم و متعرّضاً لحاله من حیث السعة و الضیق و هذا الملاک مفقود فی المقام، فإنّ غایة ما یدلّ علیه أخبار من بلغ بناءً علی هذا القول هو بیان حجّیة الخبر مطلقاً فی المستحبّات. و أمّا کونها ناظرة إلی تلک الطائفة و مفسّرة لها فلا یظهر منها أصلاً، کما لا یخفی.

و ثالثا: فما أفاد من أنّه لو قدّم ما دلّ علی اعتبار الشرائط فی مطلق الخبر لم یبق لأخبار من بلغ مورد، محلّ نظر؛ لأنّ هذه الأخبار کما اعترف قدس سره تکون شاملة بإطلاقها لخبر الثقة و غیرها و إخراج الثانی من تحتها لا یوجب أن لا یکون لها مورد بعد بقاء الأوّل مشمولاً لها، و لا یلزم أن یکون المورد الباقی مختصّاً بهذه الأخبار، مع أنّ جعل ذلک من المرجّحات ممّا لا دلیل علیه، فإنّه لم یذکر فی باب التراجیح أنّ من جملة المرجّحات خلوّ الدلیل الراجح عن المورد، کما لا یخفی.

و الأظهر فی بیان مفاد أخبار من بلغ أن یقال: إنّها بصدد جعل الثواب لمن بلغه ثواب علی عمل، فعمله رجاء إدراک ذلک الثواب، نظیر الجعل فی باب الجعالة و الغرض من هذا الجعل التحریص و الترغیب علی إتیان مؤدّیات الأخبار الواردة فی السنن، لئلّا تفوت السنن الواقعیة و المستحبّات النفس الأمریّة، فالغرض منه هو التحفّظ علیها بالإتیان بکلّ ما یحتمل کونه سنّة، سواء کان بلغ استحبابه بسند معتبر أو غیره.

ص:30

و حینئذٍ: فلا یستفاد من هذه الأخبار استحباب العمل الذی بلغ استحبابه مطلقاً، بحیث کان ترتّب الثواب علیه لخصوصیة فی نفس العمل و مزیّة فیه مقتضیة له، بل مفادها مجرّد جعل الثواب علیه تفضّلاً لأجل التحفّظ علی المستحبّات التی تکون فیها خصوصیة راجحة و یکون ترتّب الثواب علیها لأجلها. فهذه الأخبار نظیر الأخبار الدالّة علی ترتّب الثواب علی المشی إلی الحجّ (1) أو زیارة قبر أبی عبد اللّه الحسین علیه السلام(2) ؛ فإنّ المشی إنّما یکون مقدّمة، و المقدّمة لا تکون راجحة ذاتاً محبوبةً بنفسها، و لکن جعل الثواب علیها إنّما هو لأجل الحثّ و التحریک علی ذی المقدّمة، کما لا یخفی.

و من هنا یظهر الخلل فیما أفاده المحقّق الخراسانی قدس سره فی الکفایة ممّا تقدّم نقله، فتدبّر جیّداً.

ص:31


1- (1) - راجع وسائل الشیعة 78:11، کتاب الحج، أبواب وجوبه و شرائطه، الباب 32.
2- (2) - راجع وسائل الشیعة 439:14، کتاب الحج، أبواب المزار، الباب 41.

التنبیه الثالث: أنحاء متعلّق الأمر و النهی

اشارة

أنحاء متعلّق الأمر و النهی

الأوامر و النواهی قد یتعلّقان بنفس الطبیعة من غیر لحاظ شیء معها أصلاً من الوحدة و الکثرة و غیرهما.

و قد یتعلّقان بصرف الوجود، و المراد به هو الطبیعة المأخوذة علی نحو لا ینطبق إلاّ علی أوّل وجود الطبیعة، واحداً کان أو کثیراً.

و قد یتعلّقان بالطبیعة علی نحو العامّ المجموعی.

و قد یتعلّقان بها علی نحو العامّ الاستغراقی.

فإذا تعلّق الأمر و النهی بنفس الطبیعة من غیر لحاظ الوحدة و الکثرة فالأمر یکون باعثاً إلی نفسها، کما أنّ النهی یکون زاجراً عنها. و من المعلوم أنّ الطبیعة متکثّرة فی الخارج بتکثّر أفرادها؛ لأنّ کلّ فرد منها هی تمام الطبیعة مع خصوصیة الفردیّة، و حینئذٍ فإذا أتی بوجود واحد من وجودات الطبیعة یتحصّل الغرض، لأنّه تمام الطبیعة المأمور بها، فیسقط الأمر، لحصول الغرض.

و أمّا إذا أتی بوجودات متکثّرة دفعة واحدة، فهل یتحقّق هنا إطاعات متعدّدة حسب تعدّد الوجودات المأتی بها، نظراً إلی أنّ المطلوب علی ما هو المفروض هو نفس الطبیعة، و هی تتکثّر بتکثّر وجوداتها، فتکثّر الطبیعة مستلزم لتکثّر المطلوب، کما أنّ فی الواجب الکفائی لو قام بالإتیان به أزید من واحد یکون کلّ من أتی به مستحقّاً للمثوبة، مع أنّ المطلوب فیه أیضاً هی نفس طبیعة الواجب، و لذا یحصل الغرض بالإتیان بوجود واحد منها من مکلّف واحد.

ص:32

أو أنّه لیس هنا أیضاً إلاّ إطاعة واحدة، نظراً إلی أنّ الطبیعة و إن کانت متکثّرة بتکثّر الأفراد، إلاّ أنّها بوصف کونها مطلوبة و مأموراً بها لا تکون متکثّرة، کیف و تکثّر المطلوب بما هو مطلوب لا یعقل مع وحدة الطلب بعد کونهما من الاُمور المتضایفة، و تنظیر المقام بباب الواجب الکفائی فی غیر محلّه بعد کون الطلب فی ذلک متعدّداً، أو کون کل واحد من المکلّفین مأموراً. غایة الأمر أنّه مع إتیان واحد منهم یحصل الغرض، فیسقط الأمر عن الباقین، فالأمر الواحد لا یکون له إلاّ إطاعة واحدة.

و أمّا النهی و الزجر عن نفس الطبیعة فهو و إن کان أیضاً بحسب نظر العقل یتحقّق إطاعته بترک وجود واحد منها، لأنّه کما أنّ الطبیعة یوجد بوجود فرد منها کذلک ینعدم بانعدام فرد ما، لأنّه إذا فرض أنّ وجوداً واحداً منها یکون تمام الطبیعة فوجوده وجود لها، و عدمه عدم لها، و لا یعقل أن یکون وجوده وجوداً لها و لا یکون عدمه عدماً لها، إلاّ أنّ العقلاء یرون أنّ المطلوب فی باب النواهی عدم تحقّق الطبیعة أصلاً، و قد ذکرنا ذلک فی باب النواهی من مباحث الألفاظ فراجع(1). هذا کلّه فیما إذا تعلّق الأمر أو النهی بنفس الطبیعة.

و أمّا لو تعلّق بصرف الوجود الذی مرجعه إلی وجوب نقض العدم فی ناحیة الأمر و الزجر عنه فی ناحیة النهی، فیتحقّق إطاعة الأمر بإیجادها؛ أی الطبیعة مرّة أو أکثر، فإنّه إذا وجد ألف فرد من الطبیعة دفعة لا یکون الصرف إلاّ واحداً، کما إذا أوجد فرداً واحداً، بخلاف ما إذا أوجد أفراداً تدریجاً، فإنّه یتحقّق الصرف بأوّلها، لأنّ الصرف لا یتکرّر، فیکون للأمر به إطاعة واحدة

ص:33


1- (1) - تقدّم فی الجزء الأوّل: 165.

متحقّقة بأوّل الوجودات واحداً کان أو متعدّداً، و کذا عصیان واحد حاصل بترکها رأساً، کما أنّ للنهی به أیضاً إطاعة واحدة حاصلة بترک جمیع الأفراد، و عصیان واحد متحقّق بالإتیان بفرد منها.

و أمّا لو تعلّق الأمر و النهی بالطبیعة علی نحو العامّ المجموعی فلا یکون لهما إلاّ إطاعة واحدة حاصلة بالإتیان بجمیع وجودات الطبیعة فی ناحیة الأمر، و بعدم الإتیان بالجمیع فی ناحیة النهی، و کذا لا یکون لهما إلاّ عصیان واحد حاصل فی الأمر بما یتحقّق به الإطاعة فی النهی، و فی النهی بما یتحقّق به الإطاعة فی الأمر.

و أمّا لو تعلّق الأمر و النهی بالطبیعة علی نحو العامّ الاستغراقی الذی مرجعه إلی کون کلّ فرد من الطبیعة مطلوباً فعله أو ترکه، فینحلّ کل واحد منهما إلی الأوامر المتعدّدة حسب تعدّد أفراد الطبیعة، أو النواهی المتعدّدة کذلک، و حینئذٍ فلکلّ منهما إطاعات متکثّرة و عصیانات متعدّدة، کما لا یخفی.

اختلاف جریان الاُصول العملیة باختلاف متعلّقات الأحکام

اشارة

إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّ جریان الاُصول العملیة یختلف باختلاف متعلّقات الأحکام حسب ما ذکرنا.

حکم ما لو تعلّق الأمر أو النهی بالطبیعة علی نحو العامّ الاستغراقی

فإذا تعلّق الأمر أو النهی بالطبیعة علی نحو العامّ الاستغراقی، کما لو تعلّق وجوب الإکرام بکلّ فرد من العلماء، فهل المرجع فی الشبهات الموضوعیّة هی البراءة أو الاشتغال؟ قد یقال بالثانی؛ نظراً إلی أنّ البیان من قبل المولی تامّ

ص:34

لا نقص فیه؛ لأنّه لیس علیه إلاّ بیان الکبریات، و المفروض العلم بها.

و لکنّ الحقّ هو جریان البراءة؛ لأنّه و إن لم یکن علی المولی إلاّ بیان الکبریات، إلاّ أنّ العلم بها لا یکون بمجرّده حجّة علی العبد بالنسبة إلی الفرد المشکوک.

و توضیح جریان البراءة فی مثل المقام ممّا کان الحکم متعلّقاً بالطبیعة علی نحو العامّ الاستغراقی أن یقال: إنّ مثل کلمة «کلّ» المأخوذ فی الموضوع إنّما یکون عنواناً إجمالیّاً مشیراً إلی جمیع أفراد مدخوله، فهو بمنزلة ما لو تعرّض لذکر جمیعها واحداً بعد واحد، و لا یکون الغرض تحصیل هذا العنوان بحیث یکون المطلوب هو إکرام کلّ عالم بهذا العنوان الإجمالی، بل الغرض إنّما هو إکرام کلّ فرد علی سبیل الاستقلال، و حینئذٍ فلو شکّ فی فرد أنّه عالم أم لا فمرجعه إلی الشکّ فی تعلّق الوجوب بإکرامه، و هو مجری البراءة. و هذا بخلاف ما لو کان الحکم متعلّقاً بالطبیعة علی نحو العامّ المجموعی؛ فإنّ المطلوب فیها هو إکرام المجموع بما هو مجموع، و لذا لا یکون له إلاّ إطاعة واحدة و عصیان واحد، فإذا شکّ فی أنّ هذا الفرد عامّ أم لا، فلا یجوز إجراء البراءة؛ لأنّ مع إجرائها یشکّ فی حصول غرض المولی و سقوط الأمر، و سیأتی توضیحه.

و بالجملة: بعد ما عرفت من أنّ الأمر فی العامّ الاستغراقی ینحلّ إلی أوامر متعدّدة، لعدم کون عنوان الکلّ المأخوذ فی الموضوع مقصوداً بذاته لا یبقی إشکال فی جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیة.

إن قلت: بناء علی ما ذکر - من عدم کون العلم بالکبری بمجرّده حجّة ما لم ینضمّ إلیه العلم بالصغری - لا یبقی مجال للقول بعدم جواز التمسّک بالعامّ فی

ص:35

الشبهة المصداقیّة للمخصّص؛ لوضوح أنّه بعد ما لم یکن المخصّص حجّة بالنسبة إلیه فلم لا یجوز التمسّک بالعامّ بعد کونه حجّة بالنسبة إلی الأفراد المعلومة التی تکون الشبهة المصداقیّة للمخصص من جملتها قطعاً، کما لا یخفی؟

قلت: الوجه فی ذلک هو أنّ التمسّک بالعامّ و حجّیته یتوقّف علی اصول عقلائیة التی من جملتها أصالة تطابق الإرادة الاستعمالیة مع الإرادة الجدّیة.

و من الواضح أنّ هذا الأصل العقلائی ما لم یکن العامّ مخصّصاً قطعاً أو احتمالا یکون متّبعاً بالنسبة إلی جمیع أفراد العامّ، و أمّا بعد عروض التخصیص قطعاً فلا محالة یکون مقصوراً بغیر مورد الخاصّ.

و بعبارة اخری: التخصیص و إن لم یکن موجباً لتعنون العامّ بعنوان غیر الخاصّ حتّی تکون الشبهة المصداقیّة للمخصّص شبهة مصداقیّة للعامّ أیضاً، إلاّ أنّه یوجب قصر مورد قاعدة التطابق علی غیر مورد الخاصّ. و حینئذٍ فبعد عدم جواز التمسّک بالخاصّ لا یجوز التمسّک بالعامّ أیضاً، لأنّه و إن کان بعمومه یشمل الفرد المشکوک، إلاّ أنّه بالمقدار الذی یجوز التمسّک به و یکون حجّة، لا یعلم شموله فلا یکون حجّة.

و لبعض المحقّقین من المعاصرین وجه آخر فی تقریب جریان البراءة فیها، قال علی ما فی تقریرات بحثه ما حاصله: إنّ الخطاب کما لا یمکن أن یکون فعلیّاً إلاّ بعد وجود المکلّف، کذلک لا یمکن أن یکون فعلیّاً إلاّ بعد وجود الموضوع، و السرّ فی ذلک أنّ التکالیف الشرعیّة إنّما تکون علی نهج القضایا الحقیقیة التی تنحلّ إلی قضیة شرطیّة مقدّمها وجود الموضوع و تالیها عنوان المحمول، فلا بدّ من فرض وجود الموضوع فی ترتّب المحمول، فمع الشکّ فی

ص:36

وجوده یشکّ فی فعلیّته، و مع الشکّ فیها یکون المرجع هی البراءة(1)

. هذا، و لکن ما أفاده من أنّ القضایا الحقیقیة تنحلّ إلی القضایا الشرطیة فی غیر محلّه، لأنّ القضایا الحقیقیة قضایا بتیّة، کالقضایا الخارجیة، بلا فرق بینهما من هذه الجهة أصلاً.

غایة الأمر أنّ الحکم فی القضایا الحقیقیة إنّما یکون علی الطبیعة بوجودها الساری أعمّ من الأفراد المحقّقة و المقدّرة، و فی القضایا الخارجیّة یکون مقصوراً علی خصوص الأفراد الموجودة.

و بالجملة فقولنا: کلّ نار حارّة، یکون الحکم بالحرارة فیه حکماً بتّیاً ثابتاً لجمیع أفراد طبیعة النار، و لا یکون حکماً مشروطاً بوجوده، کیف و لو کان الحکم فی مثله مشروطاً بوجود الموضوع لکان اللازم فی مثل ما إذا کان المحمول من لوازم ماهیّة الموضوع، کقولنا: الأربعة زوج أن یکون ترتّب الزوجیة علی الأربعة مشروطاً بوجودها، مع أنّ المفروض کونها من لوازم الماهیّة التی مرجعها إلی ثبوتها لنفس الماهیّة مع قطع النظر عن الوجودین، بحیث لو فرض لها تقرّر و ثبوت فی غیر عالم الوجودین لکانت تلزمها.

و بالجملة: فمعنی القضیّة الشرطیة هو کون الشرط فیها دخیلاً فی ثبوت المحمول و ترتّبه علی الموضوع، مع أنّ القضایا الحقیقیة لا یکون کلّها کذلک کما عرفت.

فالحقّ أنّ القضایا الحقیقیة قضایا بتّیة غیر مشروطة، و لذا جعلها المنطقیون من الحملیّات التی تکون قسیماً للشرطیّات.

ص:37


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 393:3.

نعم لا شبهة فی أنّ الحکم ما لم یتحقّق موضوعه لا یثبت، و لیس ذلک لاشتراطه بوجود الموضوع، بل لأنّ الموضوع ما لم یوجد لا یکون موضوعاً، فإنّ النار ما لم تتحقّق فی الخارج لا تکون ناراً، و الحکم بالحرارة معلّق علی النار و حینئذٍ فمع الشکّ فی وجود الموضوع لا یکون الحکم مترتّباً و لا یکون حجّة علی العبد، لأنّ العلم بالکبری بمجرّده لا یکون حجّة ما لم ینضمّ إلیه العلم بالصغری کما عرفت، لا لأجل الشکّ فی وجود الشرط المستلزم للشکّ فی المشروط و هو فعلیّة الحکم.

و کیف کان: فالتحقیق فی تقریب جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیة ما ذکرنا.

هذا کلّه فیما لو کان متعلّق الحکم مأخوذاً بنحو العامّ الاستغراقی.

حکم ما لو تعلّق الأمر أو النهی بالطبیعة علی نحو العامّ المجموعی

و أمّا لو کان مأخوذاً بنحو العامّ المجموعی فقد یقال کما قیل: إنّ جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیّة فیه مبنی علی جریان البراءة فی الأقلّ و الأکثر الارتباطیین، لأنّه أیضاً من مصادیق تلک المسألة.

و لکن لا یخفی أنّه لو قلنا بالجریان فی تلک المسألة فلا یلازم القول بالجریان فی المقام؛ لأنّ مع الشکّ فی کون فرد عالماً مثلاً و عدم إکرامه یشکّ فی تحقّق العنوان الذی اخذ موضوعاً للحکم و یجب علی المکلّف تحصیله و هو إکرام المجموع بما هو مجموع، و من الواضح لزوم تحصیل هذا العنوان.

و هذا بخلاف ما لو شکّ فی لزوم السورة فی الصلاة مثلاً، فإنّه یعلم مع

ص:38

کونها فاقدة للسورة بصدق عنوانها، و إلّا فلو کان الجزء المشکوک بحیث یشکّ فی تحقّق عنوان الصلاة مع فقدانه فلا مجال لجریان البراءة أصلاً، کما هو واضح لا یخفی.

هذا فی ناحیة الأمر، و أمّا لو کان العامّ المجموعی متعلّقاً للنهی فالظاهر جواز ارتکاب الفرد الذی یشکّ فی تحقّق المجموع به، لأنّ حقیقة النهی عبارة عن الزجر عن المنهی عنه، و مع ارتکابه لا یعلم بتحقّق المنهی عنه فی الخارج و لیس النهی کالأمر، فإنّ معناه هو الطلب، و لا بدّ من تحصیل مطلوب المولی بعد العلم بالطلب، و حینئذٍ فلو شکّ فی تحقّق المجموع بإکرام غیر الفرد المشکوک فمقتضی الاشتغال الیقینی هو تحصیل البراءة الیقینیّة بإکرام الفرد المشکوک أیضاً، و هذا بخلاف النهی، فإنّه زجر عن إکرام مجموع الفسّاق مثلاً فی المقام و مع ارتکاب إکرام الفرد الذی یشکّ فی تحقّق المجموع به لا یعلم بتحقّق المنهی عنه حتّی یکون مزجوراً عنه، کما هو واضح.

نعم لو کان النهی عبارة عن طلب الترک فلا بدّ حینئذٍ أیضاً من تحصیل مطلوب المولی و هو ترک المجموع، فلا یجوز ارتکاب إکرام الفرد الذی یشکّ فی تحقّق المجموع به، لأنّه لا یعلم مع ارتکابه بحصول المطلوب، کما لا یخفی.

و من هنا یعلم أنّ ما أفاده فی الکفایة من أنّه لو کان النهی عن شیء فی زمان أو مکان بحیث لو وجد فی ذاک الزمان أو المکان و لو دفعة لما امتثل أصلاً کان اللازم علی المکلف إحراز أنّه ترکه بالمرّة و لو بالأصل، فلا یجوز الإتیان بشیء یشکّ معه فی ترکه(1).

ص:39


1- (1) - کفایة الاُصول: 402.

إنّما یتمّ بناء علی ما ذهب إلیه فی باب النواهی من أنّ معنی النهی هو طلب الترک، و أمّا بناءً علی ما هو التحقیق فی معناه فلا یلزم علی المکلّف إحراز أنّه ترکه بالمرّة، بل یلزم علیه أن لا یعلم بحصول الشیء المنهی عنه. و بعبارة اخری أن لا یرتکب ما علم بکونه منهیّاً عنه، کما لا یخفی.

هذا کلّه فیما لو تعلّق الأمر أو النهی بالطبیعة علی نحو العامّ المجموعی.

حکم ما لو تعلّق الأمر أو النهی بالطبیعة علی نحو صرف الوجود

و أمّا لو تعلّق الأمر بصرف الوجود الذی یکون عبارة عن الأمر المتحصّل من أوّل الوجودات أو المنتزع منه، فلا شبهة فی أنّه لا یکتفی فی مقام الامتثال بالإتیان بالفرد الذی یشکّ فی کونه مصداقاً للمأمور به؛ لأنّ مقتضی الاشتغال الیقینی هی البراءة الیقینیة، و أمّا لو تعلّق النهی به فیجوز الإتیان بالفرد المشکوک، لعدم العلم بکونه مصداقاً للمنهی عنه، فیشکّ فی تحقّق الزجر بالنسبة إلیه، هذا.

حکم ما لو تعلّق الأمر و النهی بنفس الطبیعة

و لو تعلّق الأمر أو النهی بنفس الطبیعة فحکمه حکم ما لو تعلّق بصرف الوجود، فلا یکتفی فی مقام امتثال الأمر بالإتیان بالفرد المشکوک، و یجوز الإتیان به فیما لو کانت متعلّقة للنهی.

فانقدح من جمیع ما ذکرنا: أنّ الإتیان بالفرد الذی یشکّ فی تحقّق المنهی عنه به جائز فی جمیع الأقسام الأربعة المتقدّمة، و السرّ فی أکثرها

ص:40

هو ما ذکرنا من أنّ النهی لیس بمعنی طلب الترک حتّی یلزم علی المکلّف تحصیل المطلوب و هو ترک المنهی عنه جزماً، کیف و الترک الذی هو العدم کیف یعقل أن یکون متعلّقاً للطلب و مورداً للاشتیاق؟! لأنّه لیس شیئاً حتّی یمکن أن یصیر مطلوباً و مشتاقاً إلیه، و هذا لا فرق فیه بین العدم المطلق و العدم المضاف.

و أمّا ما فی بعض الکتب العقلیّة من أنّ العدم المضاف و أعدام الملکات لها حظّ من الوجود و نصیب من التحقّق(1) فلا ینبغی الاغترار بما یدلّ علیه ظاهر عبائرهم، فإنّ مراد أساطین الفنّ هو تقریب أذهان المتعلّمین، و إلّا فمن الواضح أنّ العدم لا یمکن أن یصیر وجوداً.

و أمّا الإتیان بالفرد الذی یشکّ فی تحقّق المأمور به فلا یجب فی العامّ الاستغراقی و لا یکتفی به فی امتثال الأمر المتعلّق بنفس الطبیعة أو بصرف الوجود و یجب الإتیان بما یشکّ فی تحقّق المجموع به فی العامّ المجموعی کما عرفت.

ثمّ إنّه یقع الکلام بعد ذلک فی الأصل المحرز للموضوع فنقول: لو کان المتعلّق مأخوذاً بنحو العامّ الاستغراقی، و کان هنا فرد داخل فی العامّ سابقاً، و الآن شکّ فی بقائه فیه، فالظاهر جریان الاستصحاب، و یترتّب علیه کون إکرامه أیضاً مأموراً به؛ لما عرفت من أنّ الحکم فی العامّ الاستغراقی إنّما تعلّق بعنوان الکلّ، لا بما أنّه عنوان واحد کسائر العناوین، بل بما أنّه عنوان إجمالی

ص:41


1- (1) - الحکمة المتعالیة 345:1-352، شرح المنظومة، قسم الحکمة: 47-48.

مرآة لجمیع الأفراد، و لذا ذکرنا أنّ الأمر فیه ینحلّ إلی أوامر متعدّدة، و حینئذٍ فبالاستصحاب یثبت فرد آخر، فیترتّب علیه حکم العامّ.

و أمّا لو کان المتعلّق مأخوذاً بنحو العامّ المجموعی الذی قد عرفت أنّه أمر واحد و شیء فارد و هو عنوان المجموع، فالظاهر عدم جریان الاستصحاب فی الفرد الذی یشکّ فی کونه عالماً بعد کونه عالماً سابقاً قطعاً، أو غیر عالم کذلک، لأنّ استصحاب بقاء عالمیّة فرد لا یترتّب علیه أثر شرعی، إذ الأثر الشرعی إنّما ترتّب علی المجموع، و الاستصحاب لا یثبت أنّ المجموع لا یتحقّق إلاّ بذاک، کما أنّ استصحاب عدم العالمیّة لا یثبت تحقّق عنوان المجموع بما عداه، کما لا یخفی.

نعم لو جری الاستصحاب فی نفس عنوان المجموع کما لو کان إکرام مائة من العلماء متّصفاً بأنّه إکرام مجموع العلماء سابقاً، و الآن شکّ فی بقائه لأجل احتمال کون الزائد علی المائة أیضاً عالماً، فیترتّب علیه الأثر الشرعی و لا یکون مثبتاً.

مسألتان لم یتعرّض لهما المحقّق الخراسانی فی الکفایة:

اشارة

ص:42

المسألة الاُولی
اشارة

فی دوران الأمر بین التعیین و التخییر

إذا دار الأمر بین التعیین و التخییر فهل الأصل الجاری هی البراءة أو الاشتغال، و لا بدّ قبل الخوض فی ذلک من تقدیم امور:

الأوّل: حقیقة الواجب التخییری

قد عرفت فی تصویر الواجب التخییری أنّ الالتزام بثبوت الواجب التخییری فی مقابل الواجب التعیینی ممّا لا یرد علیه شیء من المحذورات المتوهّمة من کونه مستلزماً لتعلّق الإرادة بأحد الشیئین أو الأشیاء علی سبیل التردید الواقعی، بأن یکون التعلّق بحسب الواقع و نفس الأمر مردّداً، و کذا تعلّق البعث بأحدهما أو بأحدها علی سبیل الإبهام النفس الأمری.

و کذا عرفت أنّ ما أفاده فی الکفایة(1) ، من أنّه لو کان هناک غرض واحد مترتّب علی الشیئین أو الأشیاء فلا محالة یکون الواجب هو الجامع و القدر المشترک بینهما أو بینها؛ لأنّه لا یمکن صدور الغرض الواحد من المتعدّد بما هو متعدّد، فحیث إنّ الغرض یترتّب علی الجامع فلا محالة یکون الجامع واجباً.

محلّ نظر، بل منع؛ فإنّه - مضافاً إلی منع ما ذکره من عدم إمکان صدور الواحد من المتعدّد، فإنّ ذلک إنّما هو فی موارد مخصوصة کما حقّق فی

ص:43


1- (1) - کفایة الاُصول: 174.

محلّه(1) - یرد علیه: أنّه لو سلّم ترتّب الغرض علی الجامع فذلک لا یوجب أن یکون هو الواجب، فإنّ الجامع قد یکون جامعاً غریباً بحیث لا یغنی توجیه البعث إلیه من بیان أفراده و مصادیقه، بل یحتاج المولی إلی تعریف المصادیق أیضاً، فإنّه حینئذٍ یکون البعث إلی کلّ واحد من المصادیق علی سبیل التخییر أسهل و أوفق، کما لا یخفی.

مضافاً إلی أنّ الکلام لیس فیما یترتّب علیه الغرض و أنّه هل هو واحد أو متعدّد، و لیس التقسیم أیضاً ناظراً إلیه، بل التقسیم إنّما هو للوجوب باعتبار الواجب، و هو فی لسان الدلیل متعدّد و إن کان المؤثّر فی حصول الغرض هو الجامع و القدر المشترک بین الأفراد، و إلی أنّه لا ینحصر الواجب التخییری بما إذا کان هناک غرض واحد، بل ربّما یکون للمولی غرضان یترتّب أحدهما علی أحد الشیئین و الآخر علی الآخر، و لا یمکن مع حصول أحدهما تحصیل الآخر، أو لا یکون تحصیله لازماً، و حینئذٍ فلا بدّ من أن یبعث العبد نحوهما بحیث یخلّل بین البعثین کلمة «أو» و نحوها الدالّة علی عدم إمکان تحصیل الغرضین أو عدم لزومه. و بالجملة: فتصویر الواجب التخییری ممّا لا محذور فیه أصلاً، و حینئذٍ فیمکن أن یدور الأمر بینه و بین الواجب التعیینی.

الثانی: أقسام الواجب التخییری

أفاد المحقّق النائینی علی ما فی التقریرات أنّ الواجب التخییری علی ثلاثة أقسام:

ص:44


1- (1) - راجع الحکمة المتعالیة 210:2-212، و 192:7-258.

الأوّل: الواجب التخییری بحسب الجعل الابتدائی الشرعی - أی کان الخطاب من أوّل الأمر خطاباً تخییریّاً ذا أفراد فی مقابل الخطاب التعیینی - کخصال الکفّارات.

الثانی: هو التخییر الناشئ عن تزاحم الحکمین و تمانع الخطابین فی مقام الامتثال إذا لم یکن أحد الحکمین أهمّ و أولی بالرعایة، و هذا التخییر یعرض للخطابین بعد ما کانا عینیّین، و بذلک یمتاز عن القسم الأوّل بناءً علی ما قوّیناه فی باب التزاحم من أنّ منشأ التزاحم هو إطلاق الخطابین دون وجودهما، فهو الساقط دونهما، و أمّا بناءً علی سقوطهما من رأس و استکشاف العقل خطاباً تخییراً آخر یکون الخطاب التخییری المستکشف کالخطاب التخییری المجعول ابتداءً بحسب أصل التشریع.

الثالث: التخییر الناشئ عن تعارض الحجّتین و تنافی الطریقین بناءً علی المختار من أنّ المجعول فی باب الأمارات نفس الحجّیة و الطریقیة، و أمّا بناءً علی ما ینسب إلی المشهور من القدماء من القول بالسببیة فهذا التخییر یکون من صغریات التخییر فی باب المتزاحمین(1) ، انتهی ملخّصاً.

و أنت خبیر بأنّ التخییر فی باب التزاحم و کذا فی باب تعارض الطریقین لیس قسماً آخر من التخییر بحیث یکون حقیقة التخییر فی تلک الموارد الثلاثة مختلفة، فإنّه لیس بینها اختلاف من هذه الجهة، فإنّ ذات التخییر فیها علی نسق واحد بلا اختلاف فیه أصلاً، و الاختلاف إنّما هو فی المخیّر فیه، و هو لا یصحّح التقسیم لنفس التخییر، کیف و إلّا یلزم تکثّر الأقسام لأجل تکثّر المتعلّقات.

ص:45


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 417:3-421.
الثالث: حکم الشکّ فی اشتراط التکلیف فی مرحلة البقاء

لا یخفی أنّ تمام الملاک فی باب جریان البراءة العقلیّة هو انتهاء الشکّ إلی الشکّ فی أصل التکلیف من دون أن یعتبر فیه شیء آخر.

و بعبارة اخری: تمام الملاک هو عدم تمامیّة الحجّة علی العبد من ناحیة المولی بحیث کان العقاب علی مخالفته عقاباً بلا بیان و مؤاخذة بلا برهان، کما أنّ تمام الملاک فی باب جریان قاعدة الاشتغال هو أن یکون الشکّ فی سقوط التکلیف بعد تمامیّة الحجّة من ناحیة المولی.

إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّه أفاد المحقّق النائینی علی ما فی التقریرات أنّه کما یمکن أن یکون التکیف فی عالم الجعل و الثبوت و مرحلة التشریع و الحدوث مشروطاً کاشتراط وجوب الحجّ بالاستطاعة و الصلاة بالوقت، کذلک یمکن أن یحدث للتکلیف الاشتراط فی مرحلة البقاء و الاستمرار، بعد ما کان مطلقاً فی مرحلة الحدوث و الثبوت، کما لو فرض اشتراط بقاء التکلیف بالصلاة بعدم الصیام، و هذان الفرضان متعاکسان فی جریان البراءة و الاشتغال عند الشکّ فیهما، فلو شکّ فی إطلاق التکلیف و اشتراطه فی عالم الجعل و الحدوث فالأصل یقتضی البراءة عند عدم وجود ما شکّ فی شرطیّته للتکلیف، و إن شکّ فی الإطلاق و الاشتراط فی مرحلة البقاء و الاستمرار فالأصل یقتضی الاشتغال، لأنّ حقیقة الشکّ یرجع إلی أنّ الصیام فی المثال المتقدّم هل یکون مسقطاً للتکلیف بالصلاة أو لا، و کلّما رجع الشکّ إلی الشکّ فی المسقط فالأصل یقتضی عدم السقوط، بخلاف ما إذا رجع إلی الشکّ فی أصل التکلیف، فإنّه

ص:46

مجری البراءة کما فی الفرض الأوّل(1) ، انتهی.

و أنت خبیر بأنّ مراده بما إذا کان التکلیف مشروطاً بحسب البقاء و الاستمرار إن کان هو اشتراط التکلیف المجعول مطلقاً ابتداء، بحیث صار التکلیف المطلق مشروطاً، فمن الواضح أنّه من البداء المستحیل فی حقّه تعالی، و إن کان مراده أنّ التکلیف الأوّل بحسب الحدوث و الثبوت کان مطلقاً إلی حدّ مخصوص، و بعد حصول ذلک الحدّ یشکّ فی جعله مشروطاً بوجود شیء آخر أو بعدمه، أو أنّه باق علی إطلاقه، فمرجع الشکّ حینئذٍ إلی الشکّ فی أصل التکلیف بعد ذلک الحدّ ما دام لم یحصل الشرط، و هو مورد لجریان البراءة، کما لا یخفی. فلا فرق حینئذٍ بین الفرضین.

و بالجملة: فکون التکلیف المطلق حدوثاً مشروطاً بقاءً ممّا لا یتصوّر علی أحد الوجهین، و علی الوجه الآخر مورد لجریان البراءة، لا قاعدة الاشتغال.

الرابع: وجوه الشکّ فی التعیین و التخییر

الشکّ فی التعیین و التخییر یتصوّر علی وجوه:

أحدها: أنّه یعلم بتعلّق التکلیف بأحد الشیئین بخصوصه و یشکّ فی أنّ الشیء الآخر هل هو عدله بحیث یکون ما تعلّق به التکلیف قطعاً أحد فردی الواجب التخییری، أو لا یکون عدلاً له، فیکون التکلیف المتعلّق بالشیء الأوّل تکلیفاً تعیینیّاً و لا یقوم مقام متعلّقه شیء آخر.

ثانیها: أنّه یعلم بتعلّق التکلیف بکلّ من الشیئین، و لکن یشکّ فی أنّ کلاًّ

ص:47


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 421:3-422.

منهما واجب عیناً فیجب الإتیان بکلیهما، أو أنّهما واجبان تخییراً یسقط کلّ منهما بفعل الآخر.

ثالثها: أنّه یعلم بتعلّق الوجوب بأحد من الشیئین معیّناً، و یعلم أیضاً بأنّ الإتیان بالشیء الآخر یوجب سقوط الوجوب المتعلّق بالشیء الأوّل، لکن یشکّ فی أنّ إسقاطه للوجوب هل هو لمکان کونه أحد فردی الواجب التخییری بحیث تعلّق به الوجوب أیضاً، أو أنّه لم یتعلّق به الوجوب، بل هو إمّا مباح أو مستحبّ موجب لسقوط الواجب.

إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّه یقع الکلام فیما یقتضیه الأصل العملی، و أنّ الأصل الجاری فی المقام هو البراءة مطلقاً، أو الاشتغال مطلقاً، أو التفصیل بین أقسام الشکّ فی التعیین و التخییر أو أنحاء الواجب التخییری، و نحن و إن أنکرنا تقسیم الواجب التخییری إلی الأقسام الثلاثة المتقدّمة، إلاّ أنّه یمکن أن یکون الأقسام مختلفة فی الحکم و إن کانت بحسب الحقیقة أقساماً للمخیّر فیه، لا لأصل التخییر.

و حینئذٍ: فلا بدّ من التکلّم فی کلّ من أقسام الشکّ فی التعیین و التخییر، و کذا فی کلّ من أنحاء الواجب التخییری و لنمحّض الکلام فعلاً فی خصوص البراءة العقلیّة.

مقتضی الأصل فی الوجوه المذکورة
الوجه الأوّل:

فنقول: إذا شکّ فی التعیین و التخییر علی الوجه الأوّل من الوجوه الثلاثة المتصوّرة، و کان الواجب التخییری الذی هو طرف الشکّ من الواجبات

ص:48

التخییریّة الابتدائیة فی عالم التشریع فهل الأصل العملی الجاری فیه هی البراءة أو الاشتغال؟ التحقیق أن یقال: إنّ ذلک یبتنی علی کیفیة إنشاء الخطاب التخییری و تصویره:

فتارة یقال: بأنّ الخطاب التخییری عبارة عن تقیید إطلاق الخطاب المتعلّق بکلّ من الفردین أو الأفراد بما إذا لم یأت المکلّف بعدله، فیکون وجوب العتق فی الخصال مقیّداً بعدم الإطعام و الصیام، و کذا وجوب الإطعام مقیّد بعدم الخصلتین الاُخریین، و حینئذٍ فکلّ واجب تخییری یکون واجباً مشروطاً بعدم الإتیان بعدله.

و اخری یقال: برجوع جمیع الواجبات التخییریّة إلی الواجب التعیینی، نظراً إلی أنّ الغرض یکون مترتّباً علی الجامع، فهو الواجب تعییناً و التخییر بین أفراده تخییر عقلی، و هذا الوجه هو الذی اختاره المحقّق الخراسانی(1) و تبعه بعض من تلامیذه(2) ، کما أنّ الوجه الأوّل هو الذی قوّاه المحقّق النائینی علی ما فی التقریرات(3)

. و ثالثة یقال: بأنّ الواجب التخییری سنخ آخر من الخطاب فی مقابل الخطاب التعیینی، و هذا هو الذی اخترناه و حقّقناه(4)

. و رابعة یقال: بأنّ مرجع کون الشیء واجباً تعیینیّاً إنّما هو إلی کونه

ص:49


1- (1) - کفایة الاُصول: 174.
2- (2) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 481.
3- (3) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 417:3.
4- (4) - تقدّم فی الجزء الأوّل: 155.

مطلوباً بطلب تامّ قائم به بشراشر وجوده الموجب بمقتضی النهی عن النقیض للمنع عن جمیع أنحاء عدمه حتّی العدم فی حال وجود غیره، فی قبال الواجب التخییری الذی مرجعه إلی کونه متعلّقاً لطلب ناقص علی نحو لا یقتضی إلاّ المنع عن بعض أنحاء عدمه، و هو العدم فی حال عدم العدل، و هذا الوجه هو الذی اختاره المحقّق العراقی علی ما فی التقریرات(1). و لکن لا یخفی أنّه لا یکون تصویراً للواجب التخییری بحیث یندفع به ما أورد علیه، بل إنّما هو تقریر له و بیان للمراد منه، فتدبّر.

إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّه لو قیل فی تصویر الواجب التخییری بالوجه الأوّل الذی مرجعه إلی اشتراطه بعدم الإتیان بالعدل، فالأصل الجاری فی المورد المفروض هی البراءة، لأنّ مرجع الشکّ فی التعیینیة و التخییریّة إلی الشکّ فی الإطلاق و التقیید، و هو مرجع البراءة فیما لو لم یحصل القید، فإذا أتی ببعض الأطراف یشکّ فی أصل التکلیف، لعدم تحقّق الشرط علی تقدیر الاشتراط، لأنّ الشرط عبارة عن عدم الإتیان بالعدل، و المفروض أنّه أتی به، هذا.

و لو قیل فی تصویر الواجب التخییری بالوجه الثانی الذی مرجعه إلی کون التخییر تخییراً عقلیّاً کشف عنه الشارع، و الواجب الشرعی هو الجامع و القدر المشترک بین الأطراف ففی جریان البراءة أو الاشتغال وجهان، ذکرهما فی کتاب الدرر(2).

ص:50


1- (1) - نهایة الأفکار 288:3.
2- (2) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 481.

وجه جریان قاعدة الاشتغال أنّ تعلّق التکلیف بالخاصّ معلوم یجب الخروج عن عهدته و یشکّ فی أنّه هل یسقط بإتیان شیء آخر أو لا، فمقتضی الاشتغال بالحکم الثابت فراغه عن عهدة التکلیف یقیناً.

و وجه جریان البراءة أنّ الشکّ فی المقام یرجع إلی الشکّ فی الإطلاق و التقیید، لدوران الأمر بین وجوب قدر الجامع و بین وجوب الفرد الخاصّ بخصوصیّته و المرجع فیه هی البراءة، هذا.

و الأقوی هو الوجه الأوّل، لثبوت الفرق بین المقام و بین الشکّ فی الإطلاق و التقیید، لأنّ الجامع بما هو جامع لا یکون معلوم الوجوب و القید مشکوکاً فیه، لأنّه لو کان الوجوب تعیینیّاً لا یکون متعلّقه الجامع أصلاً، بخلاف المطلق و المقیّد، فإنّ المطلق معلوم الوجوب و القید مشکوک فیه.

نعم هنا شیء، و هو أنّه لو کان الوجوب تخییریّاً یکون الأمر المتعلّق ببعض الأطراف إرشاداً إلی وجوب الجامع و القدر المشترک، لعدم إمکان تعلّق الوجوب بجمیعها بناءً علی هذا القول، و لو کان الوجوب تعیینیّاً یکون الأمر المتعلّق بالبعض أمراً مولویّاً، فمرجع الشکّ فی التعیینیّة و التخییریّة إلی الشکّ فی کون الأمر المعلوم هل یکون إرشادیاً لا یترتّب علی مخالفته عقاب، أو مولویّاً یترتّب علی مخالفته العقاب فلا یکون الحجّة علی خصوصیة الفرد تامّة بحیث یستحقّ العبد العقاب علی مخالفتها، فتجری البراءة، فتدبّر.

هذا، و لو قیل فی کیفیة تصویر الواجب التخییری بالوجه الرابع الذی اختاره المحقّق العراقی علی ما فی التقریرات فهل الأصل الجاری هی البراءة أو الاشتغال؟

قال فیها - بعد تفسیر الواجب التخییری بذلک و الإشکال بالوجه الأوّل

ص:51

بأنّ لازمه هو عدم تحقّق الامتثال بالواجب التخییری عند الإتیان بهما معاً، و هو کما تری لا یمکن الالتزام به - ما لفظه: و علی ذلک - یعنی علی مختاره فی تصویر الواجب التخییری - نقول: إنّ مرجع الشکّ فی کون الشیء واجباً تعیینیّاً أو تخییریّاً حینئذٍ إلی العلم الإجمالی إمّا بوجوب الإتیان بخصوص الذی علم بوجوبه فی الجملة و حرمة ترکه مطلقاً حتّی فی ظرف الإتیان بما احتمل کونه عدلاً له، و إمّا بحرمة ترک الآخر المحتمل کونه عدلاً له فی ظرف عدم الإتیان بذلک، و لازم هذا العلم الإجمالی إنّما هو الاحتیاط بتحصیل الفراغ الیقینی بإتیان خصوص ما علم وجوبه فی الجملة و وجوب الإتیان بما احتمل کونه عدلاً له عند عدم التمکّن من الإتیان بما علم وجوبه لاضطرار و نحوه(1) ، انتهی.

و یرد علی مجموع ما ذکره فی هذا المقام امور:

الأوّل: أنّ ما أفاده فی تصویر الواجب التخییری هو بعینه ما اختاره المحقّق النائینی(2) من الوجه الأوّل الذی عرفت بلا فرق بینهما فی الحقیقة أصلاً، فإنّ کون الواجب التخییری عبارة عن الشیء الذی کان متعلّقاً لطلب ناقص علی نحو لا یقتضی إلاّ المنع عن بعض أنحاء عدمه و هو العدم فی حال عدم العدل عبارة اخری عن اشتراط مطلوبیّته بحال عدم وجود العدل، فإنّ تضییق دائرة النهی و تخصیصه بخصوص العدم فی حال عدم العدل یوجب التضییق فی ناحیة الأمر الذی تولّد منه النهی و تخصیصاً له بحال عدم وجود العدل، ضرورة عدم إمکان التوسعة فی الأمر مع التضییق فی ناحیة النهی

ص:52


1- (1) - نهایة الأفکار 288:3-289.
2- (2) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 417:3.

المتولّد منه، فرجع الکلام إلی اشتراط الطلب إلی حال عدم وجود العدل و هو بعینه ما ذکره المحقّق النائینی، فالإشکال الذی أورده علیه و هو عدم تحقّق الامتثال عند الإتیان بهما معاً وارد علی نفسه أیضاً، فتدبّر.

الثانی: أنّ ما ذکره من إیجاب الطلب المتعلّق بالشیء للنهی عن النقیض ممّا لا یتمّ، فإنّ مقتضی ظاهره هو استلزام الأمر بالشیء للنهی عن نقیضه، بحیث لو خالف الأمر و لم یأت بمتعلّقه فقد خالف الأمر و النهی معاً، فاستحقّ علی ذلک عقوبتین. و من الواضح عدم إمکان الالتزام به، و قد عرفت ذلک فی مبحثه فی باب مباحث الألفاظ، فراجع.

الثالث: إنّ التمسّک للاحتیاط بالعلم الإجمالی المذکور فی کلامه مصادرة واضحة، فإنّ هذا العلم الإجمالی عبارة اخری عن العلم الإجمالی بکون الشیء واجباً تعیینیّاً أو تخییراً فالاستدلال لوجوب الاحتیاط فی صورة العلم الإجمالی بکون الشیء إمّا واجباً تعییناً و إمّا واجباً تخییراً بنفس هذا العلم الإجمالی ممّا لا سبیل إلیه، کما هو واضح.

الرابع: أنّ ما ذکره فی تقریر العلم الإجمالی محلّ نظر؛ فإنّ مرجع العلم الإجمالی بکون الشیء إمّا واجباً تعییناً و إمّا واجباً تخییراً إلی العلم الإجمالی إمّا بوجوب الإتیان بخصوص الطرف الذی علم بوجوبه فی الجملة و حرمة ترکه مطلقاً حتّی فی ظرف الإتیان بما احتمل کونه عدلاً له، و إمّا بوجوبه و حرمة ترکه فی حال عدم العدل و وجوب الشیء الآخر المحتمل کونه عدلاً له، و حرمة ترکه فی ظرف عدم الإتیان بما علم وجوبه فی الجملة، و قد أسقط احتمال وجوبه و حرمة ترکه فی حال عدم الإتیان بالعدل، مع أنّه هو العمدة؛ لأنّه بعد الإتیان بالشیء الذی یحتمل کونه عدلاً لا یبقی مجال للعلم

ص:53

بوجوب ما علم وجوبه فی الجملة لا تفصیلاً و لا إجمالاً، و لأجله تجری البراءة کما عرفت بناءً علی الوجه الأوّل، هذا.

و لکن الإنصاف: عدم ورود هذا الإیراد علیه، لأنّ وجوب خصوص الذی علم بوجوبه فی ظرف عدم الإتیان بالشیء المحتمل کونه عدلاً له معلوم تفصیلاً، لأنّه لو کان واجباً تعییناً یکون واجباً فی هذا الظرف لا محالة، و لو کان واجباً تخییراً یکون واجباً فی ذاک الظرف أیضاً بناءً علی هذا القول، فوجوبه فی ظرف عدم الإتیان بالعدل معلوم تفصیلاً و خارج عن أطراف العلم الإجمالی، و ما هو معلوم إجمالاً إنّما هو وجوبه مطلقاً حتّی فی ظرف الإتیان بالآخر و وجوب الآخر و حرمة ترکه فی خصوص صورة عدم الإتیان بذلک، فمقتضی قاعدة العلم الإجمالی الاحتیاط بالنحو الذی أفاده، و من هذا یظهر عدم ورود الإیراد الثالث علیه أیضاً فتدبّر، هذا.

و لو قیل فی کیفیة تصویر الواجب التخییری بالوجه الثالث الذی اخترناه، و مرجعه إلی کون الواجب التخییری سنخاً آخر من الوجوب، فهل المرجع هی قاعدة البراءة أو أصالة الاشتغال؟ فیه وجهان:

من جهة أنّ الحجّة من قبل المولی لم تتمّ بالنسبة إلی الخصوصیّة، بل ما قامت به الحجّة هو التکلیف المردّد بین التعیینیّة و التخییریّة، فتعلّق الطلب بصلاة الجمعة مثلاً معلوم، إلاّ أن کیفیته و أنّه هل علی نحو التعیین المقتضی للإتیان بخصوصها و عدم جواز الاجتزاء بصلاة الظهر أو علی نحو التخییر المقتضی لجواز الاجتزاء بها مجهول، فترک الصلاتین معاً ممّا لا یجوز قطعاً، و أمّا ترک صلاة الجمعة و الإتیان بصلاة الظهر فلم یعلم عدم جوازه، فالعقل

ص:54

یحکم بالبراءة، نظراً إلی عدم تمامیة الحجّة بالنسبة إلیه، کما لا یخفی.

و من جهة أنّ الملاک فی جریان قاعدة الاشتغال - علی ما عرفت فی بعض المقدّمات - هو ما إذا کان الشکّ فی سقوط التکلیف الذی علم ثبوته، و هو هنا موجود، ضرورة أنّ تعلّق الطلب بصلاة الجمعة معلوم و إن کان کیفیّته و خصوصیّته مجهولة. و مع الإتیان بصلاة الظهر یشکّ فی سقوط التکلیف المتعلّق بصلاة الجمعة، فلا مجال للاکتفاء بها عنها، لعدم کونه معذوراً بحکم العقل. و الظاهر هو الوجه الثانی کما لا یخفی.

هذا کلّه فیما لو کان الشکّ فی التعیین و التخییر علی الوجه الأوّل من الوجوه الثلاثة المتقدّمة المتصوّرة فی الشکّ فیهما.

الوجه الثانی:

و أمّا لو کان علی الوجه الثانی الذی مرجعه إلی أنّه یعلم بتعلّق التکلیف بکلّ من الشیئین، و لکن یشکّ فی أنّ کلاًّ منهما واجب عیناً فیجب الإتیان بکلیهما، أو تخییراً فلا یجب إلاّ الإتیان بواحد منهما، فالکلام فیه هو الکلام فی الوجه الأوّل بعینه من جریان البراءة علی القول برجوع الواجب التخییری إلی الواجب المشروط، و کذا علی القول بوجوب الجامع تعییناً، لما عرفت من دوران الأمر المتعلّق بکلّ منهما بین أن یکون مولویّاً أو إرشادیّاً و جریان قاعدة الاشتغال بناءً علی المختار فی معنی الواجب التخییری(1).

ص:55


1- (1) - تقدّم فی الجزء الأوّل: 153.
الوجه الثالث:

و أمّا لو کان الشکّ فی التعیین و التخییر علی الوجه الأخیر و هو ما إذا علم تعلّق الوجوب بواحد معیّن من الشیئین، و یعلم بأنّ الإتیان بالشیء الآخر مسقط للوجوب المتعلّق بالشیء الأوّل، و لکن یشکّ فی أنّ إسقاطه له هل هو لکونه عدلاً له فیحصل الغرض من الإتیان به أیضاً، أو أنّه یوجب تفویت موضوعه، إمّا لکونه مانعاً عن استیفاء الملاک، أو لکون عدمه شرطاً فی حصول أصل الملاک، و علی کلا التقدیرین یکون عدمه شرطاً لوجوب الواجب، و لا یمکن أن یکون أحد فردی الواجب المخیّر.

فقد أفاد المحقّق النائینی علی ما فی التقریرات: أنّه مع التمکّن من الإتیان بما علم تعلّق التکلیف به لا یترتّب علی الوجهین أثر حتّی یبحث عن الوظیفة فی حال الشکّ، إلاّ من حیث العصیان و عدمه، فإنّه عند ترک المکلّف ما علم تعلّق التکلیف به و الاکتفاء بالشیء الآخر مع أنّه یمکن أن یکون فی الواقع ممّا لم یتعلّق به التکلیف و کان مسقطیّته لمکان کونه مفوّتاً لملاک الآخر و مانعاً عن استیفائه، یستحقّ العقوبة، و أمّا مع عدم التمکّن من الإتیان بما علم تعلّق التکلیف به فیظهر بین الوجهین أثر عملی، فإنّه لو کان الشیء الآخر من أفراد الواجب التخییری یتعیّن الإتیان به بعد تعذّر الآخر، و إن لم یکن من أفراد الواجب التخییری فلا یجب الإتیان به، فتجری البراءة عن التکلیف به، للشکّ فی تعلّقه به، کما هو واضح(1) ، انتهی ملخّصاً، هذا.

ص:56


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 430:3.

و لا یخفی: أنّه بناءً علی ما ذکره من رجوع الواجب التخییری إلی الواجب المشروط یصیر احتمال الوجوب المشروط أیضاً أحد الاحتمالات.

و من الواضح أنّه لو دار الأمر بین کون الوجوب مطلقاً أو مشروطاً تجری البراءة من الوجوب عند عدم حصول الشرط، فإذا أتی بالشیء الآخر الذی یکون عدم الإتیان به شرطاً علی تقدیر کون الواجب الآخر واجباً تخییریّاً یشکّ فی أصل ثبوت التکلیف بالنسبة إلی الشیء الأوّل، کما لا یخفی، و هو مجری البراءة.

و مجرّد احتمال کون مسقطیته للتکلیف المتعلّق بالشیء الأوّل من جهة کونه مانعاً عن استیفاء ملاکه أو کون عدمه شرطاً فی حصول أصل الملاک لا یوجب استحقاق العقوبة بعد عدم ثبوت کون الوجوب مطلقاً غیر مشروط، فلا وجه لاستحقاق العقوبة أصلاً کما فی صورة عدم التمکّن من الإتیان به، فلا فرق بین الصورتین.

نعم بناءً علی المذهب المختار فی کیفیّة الواجب التخییری و أنّه سنخ آخر من الوجوب تجری قاعدة الاشتغال، لأنّ تعلّق التکلیف بالشیء الأوّل معلوم و إن کان کیفیته و خصوصیته مجهولة، و سقوطه بالإتیان بالشیء الثانی مجهول، فیجب الفراغ عن عهدة التکلیف المعلوم بالإتیان بمتعلّقه، کما لا یخفی.

هذا کلّه فیما یتعلّق بالقسم الأوّل من الأقسام الثلاثة المتقدّمة للواجب التخییری.

و أمّا إذا کان الشکّ فی التعیین و التخییر فی القسم الثانی من تلک الأقسام و هو ما کان التخییر فیه لأجل التزاحم بأن احتمل کون الملاک فی أحدهما أقوی، کما لو فرض کونه مأموراً بإنقاذ الغریقین اللذین أحدهما هاشمی، و احتمل اهمّیة إنقاذه لأجل أقوائیة ملاکه، فهل الأصل یقتضی البراءة أو الاشتغال؟

ص:57

قال المحقّق النائینی علی ما فی التقریرات: إنّه بناءً علی المسلک المختار فی باب التزاحم - و هو کون التخییر لأجل تقیید الإطلاق - یرجع الشکّ إلی الشکّ فی تقیید إطلاق محتمل الأهمّیة فی مرحلة البقاء و الامتثال مع العلم بتقیید الإطلاق فی الطرف الآخر، و لا إشکال فی أنّ الأصل عند الشکّ فی تقیید الإطلاق فی مرحلة البقاء یقتضی الاشتغال لا البراءة للشکّ فی سقوط التکلیف عن محتمل الأهمّیة بعد العلم بتعلّق التکلیف به(1) ، انتهی.

و فیه - مضافاً إلی ما عرفت من عدم معقولیّة التقیید فی مرحلة البقاء، فإنّ التکلیف إمّا أن یکون من أوّل حدوثه مشروطاً أو مطلقاً، و لا یعقل استحالة التکلیف المطلق مشروطاً و کذا العکس - أنّه لا معنی للشکّ فی السقوط هنا، فإنّ الشکّ فیه إمّا أن یکون قبل إنقاذ واحد منهما، و إمّا أن یکون بعد إنقاذ غیر الهاشمی، ففی الأوّل نعلم ببقاء التکلیف قطعاً، کما أنّه فی الثانی نعلم بارتفاعه یقیناً، إذ لا معنی حینئذٍ للشکّ فی سقوط التکلیف عن محتمل الأهمّیة بعد فرض کونهما متزاحمین و لا یقدر المکلّف علی الإتیان بهما معاً، کما لا یخفی.

فالإنصاف أنّه بناءً علی هذا المسلک لا بدّ من الالتزام بجریان البراءة، للشکّ فی کون محتمل الأهمّیة هل یکون واجباً مطلقاً أو مشروطاً، و قد مرّ غیر مرّة أنّه إذا دار الأمر بینهما فالأصل الجاری هی البراءة، هذا.

و أمّا بناءً علی المسلک المختار فی باب التزاحم من کون التکلیف المتعلّق بکلّ واحد من المتزاحمین باقیاً علی إطلاقه و فعلیّته، لأنّ التکلیف و الحکم المتوجّه إلیهما لیس ناظراً إلی حال الامتثال، فضلاً عن حال الاجتماع

ص:58


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 433:3.

و المعارضة، فضلاً عن علاجه، غایة الأمر أنّه حیث لا یکون المکلّف قادراً علی امتثالهما یکون معذوراً بحکم العقل لعدم القدرة من دون أن یوجب ذلک تقیید الحکم بصورة القدرة، فإنّ الحکم مطلق و العجز عذر عقلی، و حینئذٍ فإن کان المتزاحمان متساویین یحکم العقل بالتخییر، و إن کان الملاک فی أحدهما أقوی من الآخر یحکم بتعیّنه، و إن احتمل الأقوائیة - کما هو المفروض فی المقام - فالظاهر أنّ مجرّد الاحتمال لا یعیّن محتمل الأقوائیة بحیث لو أتی بالمهمّ یکون مستحقّاً للعقوبة لأجل ترک محتمل الأهمّیة، مع أنّه لم یقم حجّة من المولی علی تعیّنه، فتدبّر جیّداً.

هذا کلّه لو کان الشکّ فی التعیین و التخییر فی القسم الثانی من أقسام الواجب التخییری.

و أمّا لو کان الشکّ فیهما فی القسم الثالث من أقسامه، و هو ما لو کان التخییر ناش عن تعارض الحجّتین، فبناء علی الطریقیة - کما هو الحقّ - یکون مقتضی القاعدة هو الاشتغال و الأخذ بخصوص ما له مزیّة محتملة، لأنّه بعد التعارض و التساقط یجب الرجوع إلی الأدلّة الشرعیّة فی الأخذ بالمرجّحات، و مع عدمها فالتخییر، و حینئذٍ فالشکّ فی التعیین و التخییر الذی یکون ناشئاً من احتمال المزیّة فی أحدهما المعیّن یوجب الشکّ فی حجّیة الحجّة التی لیس فیها احتمال المزیّة، لأنّ حجّیتها إنّما هو علی تقدیر عدم المزیّة فی الآخر، و إلّا فعلی تقدیر وجودها لا تکون حجّة، فحجّیة محتمل المزیّة معلومة علی التقدیرین، و حجّیة غیرها مشکوکة، و قد عرفت أنّ مقتضی الأدلّة عدم حجّیة الأمارة التی شکّ فی حجّیتها کما لا یخفی.

ص:59

المسألة الثانیة
اشارة

فی دوران الواجب بین أن یکون عینیّاً أو کفائیّاً

فهل الأصل یقتضی الأوّل، فلا یسقط الوجوب بفعل الغیر، أو یقتضی الثانی فیسقط بفعله؟

و لیعلم أنّه لیس المقصود إثبات کونه عینیّاً أو کفائیاً بعنوانهما، بل المقصود مجرّد إحراز وظیفة المکلّف و أنّه هل یجب علیه الإتیان بالواجب بعد إتیان الغیر به من باب حکم العقل بالاحتیاط أم لا؟ کما أنّه لم یکن المقصود فی المسألة الاُولی إثبات عنوان التعیینیّة أو التخییریّة.

تصویرات الواجب الکفائی

و کیف کان فجریان البراءة أو الاشتغال مبنی علی کیفیّة تشریع الواجب الکفائی و تصویره، فاعلم أنّ فی تصویره وجوهاً:

الأوّل: أن یکون التکلیف متوجّهاً إلی جمیع المکلّفین کما فی الواجبات العینیّة. غایة الأمر أنّه هنا مشروط بعدم سبق الغیر بالفعل، فینحلّ الخطاب إلی خطابات عدیدة حسب تعدّد المکلّفین، کلّ واحد منها مشروط بعدم سبق الغیر بالفعل.

الثانی: أن یکون المخاطب هو النوع، و لمکان انطباق النوع علی الآحاد یکون کلّ فرد من أفراد المکلّفین مخاطباً بذلک الخطاب الواحد، فلو أشغل أحد

ص:60

المکلّفین صفحة الوجود بالفعل سقط الخطاب عن الباقی، لأنّ الخطاب الواحد لا یکون له إلّا امتثال واحد، و هذان الوجهان ذکرهما المحقّق النائینی علی ما فی التقریرات(1)

. الثالث: أن یکون التکلیف متوجّهاً إلی کلّ واحد من المکلّفین کما فی الواجب العینی، و الاختلاف بینهما إنّما هو فی المکلّف به، فالتکلیف فی الواجب العینی إنّما تعلّق بالطبیعة المتقیّدة بصدورها من کلّ فرد من أفراد المکلّفین، و فی الواجب الکفائی إنّما تعلّق بنفس الطبیعة لترتّب الغرض علی مجرّد حصولها، فإذا أوجدها بعض من المکلّفین یحصل الغرض، فیسقط التکلیف عن الباقین.

الرابع: أن یقال بثبوت الاختلاف بینهما فی المکلّف به فقط، کما فی الوجه الثالث، غایة الأمر أنّ المکلّف به فی الواجب الکفائی هو صرف الوجود و ناقض العدم الذی لا یعرض له التکرار، و فی الواجب العینی هی الطبیعة القابلة للتکرار.

الخامس: أن یقال بأنّ المکلّف فی الواجب الکفائی هو واحد من المکلّفین و فی الواجب العینی هو کلّ فرد من الأفراد، فالاختلاف بینهما إنّما هو فی المکلّف.

السادس: أن یقال بثبوت التخییر فی الواجب الکفائی بین المکلّفین کثبوته فی الواجب التخییری بین متعلّق الوجوب و التکلیف، و ثبوت التعیین فی الواجب العینی بالنسبة إلی الجمیع کما فی الواجب التعیینی بالنسبة إلی متعلّق التکلیف.

ص:61


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 437:3.
اختلاف الأصل باختلاف الوجوه فی الکفائی

إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّه بناءً علی الوجه الأوّل لا بدّ من القول بجریان البراءة؛ لما مرّ من أنّه إذا دار الأمر بین کون التکلیف مشروطاً أو مطلقاً تجری البراءة عن التکلیف ما دام لم یحصل شرطه. و المفروض فی المقام هو عدم حصول الشرط، لأنّ الشرط عبارة عن عدم سبق الغیر بالفعل، و لیس المراد به هو عدم سبقه به فی الجملة و لو فی بعض الوقت. کیف و لازمه صیرورة جمیع الواجبات الکفائیة عینیّة بعد مضی مقدار من الوقت یمکن الإتیان بها فیه، کما أنّه لیس المراد عدم سبقه به إلی آخر الوقت، کیف و لازمه ثبوت التکلیف بعد خروج وقته، و هو لا یجتمع مع التوقیت، کما لا یخفی، بل المراد به هو عدم سبق الغیر بالفعل إلی زمان صیرورة وقت الواجب مضیّقاً بحیث یفوت لو لم یشتغل به.

و حینئذٍ: فإذا سبق الغیر بذلک قبل تضیّق الوقت یشکّ فی ثبوت التکلیف لاحتمال کونه مشروطاً بشرط فرض انتفائه، و هو مجری البراءة.

و أمّا ما أفاده المحقّق النائینی من أنّ الشکّ فی ذلک یرجع إلی الشکّ فی تقیید الإطلاق فی مرحلة البقاء و الامتثال و هو یقتضی الاشتغال لا البراءة(1) ، فقد عرفت ما فیه من عدم معقولیة الاشتراط فی مرحلة البقاء إلاّ علی وجه، و ذلک الوجه أیضاً مجری البراءة کما عرفت.

هذا کلّه بناءً علی الوجه الأوّل.

ص:62


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 437:3.

و أمّا بناءً علی الوجه الثانی: فالظاهر أنّه یجب الاحتیاط بالإتیان به و لو بعد سبق الغیر به؛ لأنّ الشکّ فی کون الواجب عینیّاً أو کفائیّاً و إن کان مرجعه إلی الشکّ فی تعلّق التکلیف بالجامع أو الأفراد بناءً علی هذا الوجه، إلاّ أنّ کون کلّ واحد من المکلّفین مکلّفاً بذلک معلوم إمّا لأجل انطباق الجامع علیه، و إمّا لأجل کونه مکلّفاً بخصوصه، و حینئذٍ یشکّ فی سقوط هذا التکلیف بإتیان الغیر به، و الشکّ فی السقوط هو تمام المناط لجریان قاعدة الاشتغال کما عرفت.

و أمّا بناءً علی الوجه الثالث: فالظاهر أیضاً وجوب الاحتیاط؛ لأنّه و إن کان شاکّاً فی کون الواجب هل هی نفس الطبیعة حتّی یسقط الوجوب بإیجاد الغیر أو الطبیعة المتقیّدة بصدورها عن کلّ فرد من المکلّفین، إلاّ أنّه یعلم إجمالاً بکونه مکلّفاً بذلک و یشکّ بعد إیجاد الغیر فی سقوط التکلیف المتوجّه إلیه قطعاً، و هو مجری قاعدة الاشتغال.

و منه یظهر الفرق بین المقام و بین ما إذا شکّ فی کونه قادراً علی امتثال التکلیف المتوجّه إلیه، فإنّه لو قلنا بأنّ القدرة من شرائط التکلیف - خلافاً لما هو الحقّ و المحقّق من عدم کون القدرة شرطاً، بل العجز عذر عقلی کما مرّ فی بعض المباحث السابقة - یکون الشکّ فیها راجعاً إلی الشکّ فی حصول شرط الوجوب و مع الشکّ فی الشرط یشکّ فی أصل ثبوت المشروط، فمرجع الشکّ فی القدرة إلی الشکّ فی أصل ثبوت التکلیف، و هو مجری البراءة. و هذا بخلاف المقام، فإنّ الشکّ فی خصوصیّة التکلیف من حیث المتعلّق لا یوجب الشکّ فی أصل ثبوته، کما هو واضح.

ص:63

نعم، ما ذکرنا من اقتضاء العلم الإجمالی للاحتیاط إنّما هو فیما إذا حصل العلم قبل سبق الغیر بإیجاد الطبیعة، و أمّا إذا حصل بعده فمرجع الشکّ فی کونه عینیّاً أو کفائیّاً حینئذٍ إلی الشکّ فی أصل ثبوت التکلیف؛ لأنّه لو کان متعلّقه هو نفس الطبیعة لسقط بإیجاد الغیر قطعاً، هذا.

و أمّا بناءً علی الوجه الرابع: فمقتضی القاعدة أیضاً وجوب الاحتیاط؛ لعین ما ذکر فی الوجه الثالث، کما أنّه فی الوجه الخامس یجری عین ما ذکر فی الوجه الثانی.

و أمّا بناءً علی الوجه السادس فیبتنی الحکم علی ما ذکر فی کیفیّة تصویر الواجب التخییری، فإن قلنا: بأنّ مرجع الواجبات التخییریّة إلی الاشتراط الذی مرجعه فی المقام إلی کون ثبوت التکلیف بالنسبة إلی کلّ مکلّف مشروطاً بعدم سبق الغیر بفعل متعلّق التکلیف، فالمرجع هی أصالة البراءة، و إن قلنا بغیر ذلک و أنّها سنخ آخر فالمرجع هی أصالة الاشتغال، فتدبّر.

ص:64

القول: فی أصل التخییر

اشارة

فی أصل التخییر

ص:65

ص:66

دوران الأمر

بین المحذورین

فصل فی دوران التکلیف بین الوجوب و الحرمة بأن علم إجمالاً بوجوب شیء معیّن أو حرمته.

و لیعلم أنّ دوران التکلیف بینهما فی فعل واحد تارة یکون مع وحدة الواقعة، کما لو فرض العلم الإجمالی بوجوب صوم یوم معیّن أو حرمته، و اخری مع تعدّد الواقعة، کما لو فرض دوران الأمر فی صلاة الجمعة فی حال الغیبة بین الوجوب و الحرمة، فلو کانت الواقعة واحدة لا یمکن المخالفة القطعیة کما لا یمکن الموافقة القطعیة.

نعم لو کان شیء من الوجوب و الحرمة تعبّدیاً یتمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة، کما أنّه لو کانت الواقعة متعدّدة یتمکّن أیضاً من المخالفة القطعیة، کما لا یخفی.

و علی أیّ تقدیر فقد یکون الفعل أو الترک معلوم الأهمّیة فی نظر العقل، کما لو تردّد أمر الشخص بین أن یکون نبیّاً یجب حفظه أو سابّ نبی مهدور الدم، و إمّا أن یکون محتمل الأهمّیة، و إمّا أن یعلم تساویهما.

ص:67

تساوی المحذورین من حیث الأهمّیة مع وحدة الواقعة

إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّه لو کانت الواقعة واحدة، و لم یتمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة، و لم یکن شیء من الفعل أو الترک معلوم الأهمّیة أو محتملها فی نظر العقل، فهل یحکم العقل بالتخییر و أنّ المکلّف مخیّر فی تعیین أیّهما شاء؟

فی جریان الأصل العقلی

الظاهر نعم؛ لأنّ معنی حکم العقل بذلک عبارة عن مجرّد إدراکه هذا المعنی لا جعله التخییر. و من الواضح ثبوت حکمه فی المقام، فإنّه بعد ملاحظة استواء العلم الإجمالی بالنسبة إلی الطرفین، و عدم کون المکلّف قادراً علی الامتثال بالنسبة إلی کلا التکلیفین، و عدم ثبوت مزیّة محقّقة أو محتملة لأحد الطرفین، یدرک أنّ المکلّف مخیّر فی الفعل و الترک، و هذا هو معنی التخییر العقلی، و لا ینافی ذلک عدم خلوّ المکلّف بحسب الخلقة من الفعل أو الترک، کما لا یخفی.

و أمّا ما أفاده المحقّق النائینی قدس سره - علی ما فی التقریرات - من عدم ثبوت الوظیفة العقلیّة هنا، لأنّ التخییر العقلی إنّما هو فیما إذا کان فی طرفی التخییر ملاک یلزم استیفائه، و لم یتمکّن المکلّف من الجمع بین الطرفین کالتخییر الذی یحکم به فی باب التزاحم، و فی دوران الأمر بین المحذورین لیس کذلک، لعدم ثبوت الملاک فی کلّ من طرفی الفعل و الترک(1)

. ففیه - مضافاً إلی أنّ ذلک مجرّد دعوی لا یساعده بیّنة و لا برهان، لعدم

ص:68


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 444:3.

نهوض دلیل علی اختصاص مورد التخییر العقلی بذلک - أنّ هذا منقوض بما إذا اضطرّ المکلّف إلی طرف غیر معیّن من أطراف العلم الإجمالی بخمریّة هذا المائع أو مائع آخر مورد للابتلاء مثلاً، فإنّه لا خفاء فی أنّ العقل یحکم بالتخییر لرفع الاضطرار مع عدم ثبوت الملاک فی جمیع الأطراف، فتدبّر.

و ممّا ذکرنا یظهر الخلل فیما أفاده المحقّق العراقی - علی ما فی التقریرات - من أنّ الحکم التخییری شرعیّاً کان کما فی باب الخصال، أو عقلیّاً کما فی المتزاحمین إنّما یکون فی مورد یکون المکلّف قادراً علی المخالفة بترک کلا طرفی التخییر فکان الأمر التخییری باعثاً علی الإتیان بأحدهما و عدم ترکهما معاً، لا فی مثل المقام الذی هو من التخییر بین النقیضین(1)

. وجه ذلک: أنّ مرجع هذا الکلام إلی دعوی کون مورد التخییر هو غیر مورد دوران الأمر بین المحذورین، و هو مصادرة واضحة، کما لا یخفی.

هذا کلّه بالنسبة إلی أصالة التخییر، و قد عرفت جریانها فی المقام.

و أمّا البراءة العقلیّة: فالظاهر أیضاً جریانها، لأنّ جنس التکلیف و هو الإلزام و إن کان معلوماً تفصیلاً، إلاّ أنّ خصوصیّة الوجوب و التحریم مجهولة، فیقبح العقاب علیها بعد عدم ثبوت حجّة علی الخصوصیة من قبل المولی، فالعقاب علی نوع التکلیف قبیح؛ لحکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، و علی جنسه أیضاً قبیح؛ لعدم القدرة علی الامتثال، هذا.

و یظهر من جماعة من المحقّقین عدم جریان البراءة العقلیّة لوجوه:

منها: ما أفاده المحقّق الخراسانی فی الکفایة من أنّه لا مجال هاهنا

ص:69


1- (1) - نهایة الأفکار 293:3.

لقاعدة قبح العقاب بلا بیان، فإنّه لا قصور فیه هاهنا، و إنّما یکون عدم تنجّز التکلیف لعدم التمکّن من الموافقة القطعیة کمخالفتها، و الموافقة الاحتمالیة حاصلة لا محالة، کما لا یخفی(1)

. و منها: ما فی التقریرات المنسوبة إلی المحقّق النائینی قدس سره من أنّ مدرک البراءة العقلیّة قبح العقاب بلا بیان، و فی باب دوران الأمر بین المحذورین یقطع بعدم العقاب لأنّ وجود العلم الإجمالی کعدمه لا یقتضی التنجیز و التأثیر، فالقطع بالمؤمّن حاصل بنفسه بلا حاجة إلی حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان(2)

. و منها: ما أفاده المحقّق العراقی علی ما فی تقریراته ممّا ملخّصه: أنّ مع حصول الترخیص فی الرتبة السابقة عن جریان البراءة بحکم العقل بالتخییر بین الفعل و الترک لا یبقی مجال لجریان أدلّة البراءة العقلیّة و الشرعیّة، هذا(3)

. و لا یخفی ما فی جمیع هذه الوجوه من الخلل و الضعف.

أمّا الوجه الأوّل: فلأنّ المراد بعدم قصور فی البیان إن کان هو عدم القصور بالنسبة إلی جنس التکلیف فواضح، و نحن أیضاً نقول به، و لکن ذلک لا ینافی قصوره بالنسبة إلی نوع التکلیف. و إن کان المراد به هو عدم القصور بملاحظة النوع أیضاً فنحن نمنع ذلک، کیف و خصوصیّة الوجوب و الحرمة مجهولة، فالحکم بنفی العقاب علیها متوقّف علی إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بیان، و بدونها لا مجال لهذا الحکم أصلاً، کما لا یخفی.

ص:70


1- (1) - کفایة الاُصول: 405.
2- (2) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 448:3.
3- (3) - نهایة الأفکار 293:3.

و أمّا الوجه الثانی: فلأنّ القطع بعدم العقاب و بوجود المؤمّن ممّا لا یحصل لو اغمض النظر عن حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، و مجرّد سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز و التأثیر و صیرورة وجوده کعدمه لا یجدی ما لم ینضمّ إلیه القاعدة، کیف و لو فرض جواز العقوبة علی خصوصیّة الوجوب مثلاً و لو کانت مجهولة فمن أین یقطع بعدم العقاب و وجود المؤمّن حینئذٍ، فهذا القطع إنّما هو بملاحظة هذه القاعدة.

و أمّا الوجه الثالث: فلأنّ الحکم بتأخّر رتبة أدلّة البراءة عن حکم العقل بالتخییر بین الفعل و الترک ممنوع جدّاً، فإنّ الحکم بالتخییر إنّما هو بعد ثبوت قبح العقاب علی خصوصیّة الوجوب و الحرمة، لأنّه لو فرض إمکان العقوبة علی التکلیف الوجوبی مثلاً و إن کان مجهولاً لا یحکم العقل بالتخییر، فحکمه به إنّما هو بعد ملاحظة عدم ثبوت البیان علی الخصوصیة و عدم جواز العقوبة علیها کما عرفت، هذا.

فی جریان الأصل الشرعی

و أمّا البراءة الشرعیّة: فالظاهر بملاحظة ما ذکرنا فی وجه جریان البراءة العقلیّة جریانها أیضاً، لأنّ التکلیف بنوعه مجهول، فیشمله مثل حدیث الرفع.

و لکن المحقّق النائینی نفی جریانها، نظراً إلی أنّ مدرکها قوله صلی الله علیه و آله و سلم:

«رفع ما لا یعلمون» (1). و الرفع فرع إمکان الوضع، و فی المقام لا یمکن وضع

ص:71


1- (1) - التوحید: 24/353، الخصال: 9/417، وسائل الشیعة 369:5، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحدیث 1.

الوجوب و الحرمة کلیهما لا علی سبیل التعیین و لا علی سبیل التخییر، و مع عدم إمکان الوضع لا یعقل الرفع، فأدلّة البراءة الشرعیّة لا تعمّ المقام أیضاً(1) ، هذا.

و یرد علیه: أنّ فی مورد دوران الأمر بین المحذورین یتمسّک بحدیث الرفع مرّتین، تارة لرفع الوجوب المجهول، و اخری لرفع الحرمة المجهولة، و من الواضح أنّ وضع الوجوب بنفسه ممّا یمکن، کما أنّ وضع الحرمة لا استحالة فیه. نعم ما لا یمکن وضعه هو مجموع الوجوب و الحرمة، و هو لا یکون مفاد حدیث الرفع، فما یمکن وضعه یشمله الحدیث، و ما لا یشمله لا یمکن وضعه.

و أمّا أصالة الإباحة فمحصّل ما أفاده فی وجه عدم جریانها امور:

الأوّل: عدم شمول دلیلها لصورة دوران الأمر بین المحذورین، فإنّه یختصّ بما إذا کان طرف الحرمة الحلّ، کما هو الظاهر من قوله علیه السلام:

«کلّ شیء فیه حلال و حرام فهو لک حلال» (2). و لیس فی هذا الباب احتمال الإباحة و الحلّ، بل الطرف هو الوجوب.

الثانی: أنّ دلیل أصالة الحلّ یختصّ بالشبهات الموضوعیة و لا یعمّ الشبهات الحکمیّة.

الثالث: أنّ جعل الإباحة الظاهریّة مع العلم بجنس الإلزام لا یمکن، فإنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقی تنافی المعلوم بالإجمال، لأنّ مفاد أصالة

ص:72


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 448:3.
2- (2) - الفقیه 1002/216:3، وسائل الشیعة 87:17، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 1.

الإباحة الرخصة فی الفعل و الترک، و هذا یناقض العلم بالإلزام و إن لم یکن لهذا العلم أثر عملی و کان وجوده کعدمه لا یقتضی التنجیز، إلاّ أنّه حاصل بالوجدان و لا یجتمع مع جعل الإباحة و لو ظاهراً(1) ، انتهی.

و یرد علیه امور:

الأوّل: منع ما ذکره فی الأمر الثانی من اختصاص دلیل أصالة الحلّ بالشبهات الموضوعیة، فإنّه قد مرّ عدم الاختصاص.

الثانی: أنّ ظاهر کلامه هو کون أصالة الحلّ متّحداً مع أصالة الإباحة، مع أنّ معنی الإباحة هو تساوی الفعل و الترک، و معنی الحلّیة هو عدم کون فعله محرّماً و ممنوعاً، فالحلّیة تغایر الإباحة، و ما دلّ علیه النصوص و الروایات(2) هی أصالة الحلّیة لا الإباحة، فإنّه لم یرد فی شیء منها الحکم بإباحة مشکوک الحرمة أصلاً کما لا یخفی.

الثالث: أنّ مقتضی ما ذکره أوّلاً من عدم شمول دلیل أصالة الإباحة لصورة دوران الأمر بین المحذورین ینافی ما ذکره أخیراً من أنّ مفاد أصالة الإباحة هو الترخیص فی الفعل و الترک. بیان ذلک: أنّ الترخیص فی الفعل لا یعقل بعد کون الترخیص فیه معلوماً، فإذا شکّ فی وجوب الدعاء عند رؤیة الهلال - مثلاً - فما یمکن أن یدلّ علیه أدلّة البراءة بالنسبة إلی الدعاء عندها هو الترخیص فی ترکه، و أمّا الترخیص فی الفعل فلا یدلّ علیه أدلّة البراءة؛ لکونه

ص:73


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 445:3.
2- (2) - وسائل الشیعة 87:17، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 1 و 3، و 117:25، کتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحدیث 1 و 7.

معلوماً، فالترخیص فی الفعل إنّما یعقل إذا کان الفعل مشکوک الحرمة، کما أنّ الترخیص فی الترک إنّما یمکن إذا کان الفعل مشکوک الوجوب، و لا یعقل الترخیص فی الترک فی الأوّل و فی الفعل فی الثانی. و حینئذٍ: فمقتضی ما ذکره أخیراً من أنّ مفاد أصالة الإباحة هو الترخیص فی الفعل و الترک هو أن یکون الفعل مشکوک الحرمة و الوجوب، إذ لا یعقل الترخیص فی الفعل مع العلم بعدم الحرمة و لا فی الترک مع العلم بعدم الوجوب، فالترخیص فیهما معاً إنّما هو إذا لم یعلم عدم الحرمة و لا عدم الوجوب، بل دار الأمر بینهما، کما فی المقام، فمفاد کلامه الأخیر هو اختصاص مورد أصالة الإباحة التی مرجعها إلی الترخیص فی الفعل و الترک بصورة دوران الأمر بین المحذورین، إذ لا یعقل الترخیص فیهما معاً فی غیرها، و مقتضی کلامه الأوّل هو اختصاص موردها بغیر صورة الدوران بین المحذورین، و هذا تهافت فاحش، فتدبّر.

الرابع: أنّ ما ذکره من منافاة أصالة الإباحة بمدلولها المطابقی مع المعلوم بالإجمال محلّ نظر، بل منع؛ لأنّ ذلک مبنی علی أن یکون مفاده هو الرخصة فی الفعل و الترک معاً، مع أنّ مثل قوله: «کلّ شیء حلال حتّی تعرف أنّه حرام» إنّما یدلّ علی مجرّد الترخیص فی الفعل فی مقابل الحرمة، و لا یدلّ علی الترخیص فی الفعل و الترک معاً حتّی ینافی المعلوم بالإجمال. فمفاد أصالة الإباحة بمقتضی دلیلها هو مجرّد نفی الحرمة و جعل الترخیص الظاهری بالنسبة إلی الفعل، و هذا لا ینافی الوجوب، کما هو واضح.

هذا مضافاً إلی أنّه علی فرض التنافی و المناقضة لا بأس بذلک، لأنّه کالمناقضة بین الأحکام الظاهریّة و الأحکام الواقعیة، فما قیل فی الجمع بینهما یقال هنا أیضاً. هذا کلّه فی أصالة الإباحة.

ص:74

و أمّا الاستصحاب: فمحصّل ما أفاده قدس سره فی وجه عدم جریانه أیضاً أنّه لمّا کان الاستصحاب من الاُصول التنزیلیة فلا یمکن الجمع بین مؤدّاه و العلم الإجمالی، فإنّ البناء علی عدم وجوب الفعل و عدم حرمته واقعاً - کما هو مفاد الاستصحابین - لا یجتمع مع العلم بوجوب الفعل أو حرمته.

و إن شئت قلت: إنّ البناء علی مؤدّی الاستصحابین ینافی الموافقة الالتزامیة فإنّ التصدیق بأنّ للّه تعالی فی هذه الواقعة حکماً إلزامیاً لا یجتمع مع البناء علی عدم الوجوب و الحرمة واقعاً(1) ، انتهی.

و فیه: منع کون الاستصحاب من الاُصول التنزیلیة بهذا المعنی، فإنّه لیس فی شیء من أدلّته ما یدلّ أو یشعر بذلک إلاّ ما فی صحیحة زرارة الثالثة من قوله علیه السلام:

«فیبنی علیه» (2) و لکن لا یخفی أنّ المراد بالبناء علی المتیقّن هو البناء العملی لا البناء القلبی علی أنّ الواقع أیضاً کذلک حتّی ینافی الموافقة الالتزامیة علی تقدیر تسلیم لزومها فلا بأس بجریان الاستصحابین و البناء العملی علی طبقهما، و لا منافاة بینهما و بین العلم الإجمالی بالوجوب أو الحرمة أصلاً، لما مرّ فی أصالة الإباحة فراجع. إلاّ أن یکون الوجه فی عدم جریان الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی هو التناقض فی أدلّة الاُصول، فإنّه حینئذٍ لا مجال لجریان الاستصحابین، کما لا یخفی.

هذا کلّه مع کون الطرفین مساویین من حیث المزیّة و الترجیح.

ص:75


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 449:3.
2- (2) - الکافی 3/351:3، وسائل الشیعة 216:8، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 10، الحدیث 3.

اختلاف المحذورین من حیث الأهمّیة مع وحدة الواقعة

أمّا لو کان لأحد الطرفین مزیّة محتملة أو محقّقة فلا إشکال فی وجوب الأخذ به لو کانت المزیّة و الأهمّیة بمثابة تمنع من جریان البراءة حتّی فی الشبهات البدویّة، کما فی المثال المتقدّم من دوران الأمر بین کون الشخص الموجود فی البین نبیّاً أو شخصاً آخر یجب قتله، و کما فی دوران امرأته بین زوجته التی حلف علی وطئها أو امّه، و کما فی غیرها من الموارد.

و أمّا لو لم تکن المزیّة بهذه المثابة فهل یستقلّ العقل بتعیّنه، کما هو الحال فی دوران الأمر بین التعیین و التخییر فی غیر المقام - کما نفی عنه البعد فی الکفایة(1) - أو لا یستقلّ بذلک، بل یحکم بالتخییر أیضاً؟ الظاهر هو الثانی، لأنّ مورد دوران الأمر بین التعیین و التخییر هو ما إذا کان التکلیف بنوعه معلوماً. غایة الأمر أنّه شکّ فی خصوصیاته و أنّه علی نحو التعیین أو علی سبیل التخییر، و حینئذٍ فیمکن أن یقال: بأنّ مقتضی الشکّ فی السقوط بعد الإتیان بالعدل هو وجوب الاحتیاط بالإتیان بما یحتمل تعیّنه.

و أمّا فی المقام فلا یکون التکلیف بمنجّز أصلاً، فلیس هنا تکلیف شکّ فی سقوطه حتّی یکون مقتضی قاعدة الاشتغال بقائه و وجوب الخروج عن عهدته و مع عدم التکلیف لا یبقی مجال لوجوب الأخذ بذی المزیّة المحتملة أو المحقّقة، کما لا یخفی.

هذا کلّه إذا کانت الواقعة واحدة.

ص:76


1- (1) - کفایة الاُصول: 406.

فی تعدّد الوقائع المقتضی لتعدّد التکلیف

و أمّا إذا کانت متعدّدة فلا إشکال فیها أیضاً فی ثبوت التخییر، لکن هل التخییر بدوی أو استمراری؟

و منشأ الخلاف: أنّ العلم الإجمالی فی کلّ واقعة من الوقائع المتعدّدة و إن لم یمکن مخالفته قطعاً و لا موافقته کذلک، و لذا یحکم العقل بالتخییر، إلاّ أنّ هنا علمین إجمالیین آخرین لهما موافقة قطعیة و مخالفة کذلک، فإنّ العلم الإجمالی بوجوب صلاة الجمعة أو حرمتها و إن لم یکن فی خصوص یوم واحد له موافقة و لا مخالفة، إلاّ أنّه یتولّد منه علم إجمالی بوجوب صلاة الجمعة فی هذه الجمعة أو حرمتها فی جمعة اخری، و کذا علم إجمالی بحرمتها فی هذه الجمعة و وجوبها فی اخری، فإنّ من یعلم إجمالاً بوجوب صلاة الجمعة فی کلّ جمعة أو حرمتها فیه یعلم أیضاً إجمالاً بوجوبها فی هذه الجمعة أو حرمتها فی الاُخری، و کذا بحرمتها فیها أو وجوبها فی الاُخری، و هذان العلمان لهما موافقة قطعیة و مخالفة قطعیة.

غایة الأمر: أنّ الموافقة القطعیة فی إحداهما هی عین المخالفة القطعیة بالنسبة إلی الآخر، فإنّ من یصلّی الجمعة فی جمعة و یترکها فی جمعة اخری وافق العلم الإجمالی الأوّل قطعاً، و خالف الثانی أیضاً کذلک.

و حینئذٍ: فإن قلنا بثبوت الترجیح و أنّ المخالفة القطعیة لها مزیّة علی الموافقة القطعیة یکون التخییر بدویّاً؛ لئلّا یلزم المخالفة القطعیة بالنسبة إلی العلمین الإجمالیین الآخرین، و إن قلنا بعدم ثبوت الترجیح و أنّه لا فرق

ص:77

بینهما، یکون التخییر استمراریّاً، و هذا هو الظاهر؛ لعدم الدلیل علی ترجیحها.

و ما حکی من کون المخالفة القطعیة علّة تامّة للحرمة و الموافقة القطعیة مقتضیة للوجوب فلیس إلاّ مجرّد دعوی بلا بیّنة و برهان.

و ممّا ذکرنا ینقدح الخلل فیما أفاده المحقّق النائینی قدس سره ممّا ملخّصه: أنّ المخالفة القطعیّة لم یتعلّق بها التکلیف التحریمی شرعاً، بل قبحها کحسن الطاعة من المستقلّات التی لا تستتبع الخطاب المولوی، و حکم العقل بقبح المخالفة القطعیة فرع تنجّز التکلیف، و إلّا فنفس المخالفة بما هی مخالفة لا یحکم العقل بقبحها ما لم یتنجّز التکلیف، فمخالفة التکلیف المنجّز قبیحة عقلاً.

و أمّا مخالفة التکلیف الغیر المنجّز فلا قبح فیها، و فی المقام یکون الأمر کذلک؛ لأنّه فی کلّ واقعة یدور الأمر بین المحذورین فکون الواقعة ممّا تتکرّر لا یوجب تبدّل المعلوم بالإجمال و لا خروج المورد عن کونه من دوران الأمر بین المحذورین(1) ، انتهی.

وجه الخلل: أنّ المراد بالمخالفة القطعیة إن کان هی المخالفة القطعیة بالنسبة إلی العلم الإجمالی الأوّل - و هو العلم الإجمالی بوجوب صلاة الجمعة مطلقاً أو حرمتها کذلک - فمن الواضح أنّه لا یکون له مخالفة قطعیة بعد کون التکلیف فی کلّ واقعة تکلیفاً مستقلاًّ، و لا فرق من هذه الجهة بین وحدة الواقعة و تعدّدها، فکما أنّه لا یکون له مخالفة قطعیة فی صورة الوحدة، کذلک لا یکون له تلک فی صورة التعدّد.

و إن کان المراد بها هی المخالفة القطعیة بالنسبة إلی العلمین

ص:78


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 453:3-454.

الإجمالیین الآخرین فلا وجه للحکم بعدم قبحها بعد تنجّز التکلیف. غایة الأمر أنّک عرفت أنّه حیث تکون المخالفة القطعیة بالنسبة إلی أحدهما ملازمة للموافقة القطعیة بالنسبة إلی الآخر و لا دلیل علی ترجیح الاُولی علی الثانیة، یحکم العقل بالتخییر مستمرّاً. فالوجه فی ذلک ما ذکرنا، لا ما أفاده قدس سره.

تنبیه: فی دوران الأمر بین المحذورین فی التعبدیّات

قد مرّت الإشارة إلی أنّ دوران الأمر بین الوجوب و الحرمة إنّما یکون من قبیل دوران الأمر بین المحذورین إذا کان کلّ من الوجوب و الحرمة توصّلیاً. و أمّا إذا کان کلاهما تعبّدیین فلا إشکال فی عدم کون الدوران بینهما من ذلک القبیل لإمکان المخالفة القطعیة بالفعل مع عدم قصد التقرّب، أو بالترک کذلک و إن لم یکن الموافقة القطعیة، و حینئذٍ فیجب علیه الموافقة الاحتمالیة بالإتیان بأحد الطرفین من الفعل أو الترک بقصد التقرّب، هذا.

و لو کان أحدهما المعیّن تعبّدیاً فیمکن المخالفة القطعیة بالإتیان بالطرف التعبّدی لا مع قصد التقرّب، و لا یمکن الموافقة القطعیة، فیجب علیه ترک المخالفة القطعیة إمّا بالإتیان بالطرف التعبّدی مع قصد التقرّب، و إمّا الإتیان بالطرف الآخر، هذا.

و لو کان أحدهما الغیر المعیّن تعبّدیاً و الآخر الغیر المعیّن توصّلیاً فلا یمکن المخالفة القطعیة، فیصیر أیضاً من قبیل الدوران بین المحذورین، کما هو واضح.

ص:79

ص:80

القول: فی أصل الاشتغال

اشارة

فی أصل الاشتغال

و یقع الکلام فی مقامین:

ص:81

ص:82

المقام الأوّل: فی تردّد المکلّف به بین أمرین متباینین أو امور متباینة

اشارة

فی تردّد المکلّف به بین أمرین متباینین أو امور متباینة

و قبل الخوض فی ذلک لا بدّ من تقدیم أمرین:

ملاک حکم العقل لجریان قاعدة الاشتغال

الأوّل: أنّ تمام الملاک لجریان قاعدة الاشتغال التی یحکم بها العقل هو أن یکون الشکّ فی المکلّف به مع العلم بأصل التکلیف، و أن یکون الاحتیاط ممکناً. و إذا تحقّق هذان الأمران یحکم العقل بالاشتغال و وجوب الاحتیاط، بلا فرق بین أن یکون التکلیف المعلوم الذی شکّ فی متعلّقه تکلیفاً وجوبیاً أو تحریمیاً، و بلا فرق بین أن یکون التکلیف المعلوم هو نوع التکلیف، کما إذا علم بأنّه مکلّف بتکلیف وجوبی بعد الزوال من یوم الجمعة و شکّ فی أنّ الواجب هل هی الجمعة أو الظهر، أو جنس التکلیف، کما إذا علم أنّه مکلّف بتکلیف إلزامی، و لکنّه لا یعلم هل هو وجوب هذا أو حرمة ذاک.

ص:83

و بلا فرق أیضاً بین أن یکون الشبهة موضوعیّة و الشکّ مستنداً إلی الاشتباه فی الاُمور الخارجیة، أو کانت الشبهة حکمیّة منشؤها فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه.

إمکان الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی

الثانی: أنّ تردّد المکلّف به قد یکون مع العلم الجازم بالتکلیف الواقعی الفعلی بحیث تعلّقت الإرادة الحتمیّة من المولی بذلک، ففی مثل ذلک لا فرق بین الشبهة المحصورة و غیرها فی عدم إمکان الترخیص و لو فی بعض الأطراف، ضرورة مناقضة الترخیص و لو کذلک مع الإرادة الجدّیة الواقعیة و لا یمکن اجتماعهما، فالمولی إذا أراد حفظ ولده جدّاً بحیث لم یرض بقتله أصلاً کیف یمکن له حینئذٍ أن یرخّص فی قتل فرد مشتبه و لو کانت الشبهة غیر محصورة، فضلاً عمّا إذا کانت الشبهة محصورة، سیّما إذا رخّص فی جمیع الأطراف.

و بالجملة: لا ینبغی الارتیاب فی أنّ مع العلم بالتکلیف الفعلی الواقعی الناشئ عن الإرادة الجدّیة الحتمیّة لا یعقل الترخیص من المولی أصلاً، فیحرم مخالفته القطعیة، کما أنّه یجب موافقته القطعیة، و لا أظنّ بأن یخالف فی ذلک أحد، و مخالفة العلمین المحقّقین الخوانساری و القمی 0 فی حرمة المخالفة القطعیة إنّما هو فی غیر هذه الصورة، إذ وضوح ما ذکرنا بمکان لا یظنّ بأحد من العلماء فضلاً مثلهما أن یتوهّم المخالفة، کما لا یخفی و إن وقع الخلاف و الاشتباه فی بعض الکلمات، هذا.

ص:84

و قد یکون تردّد المکلّف به مع العلم القطعی لا بالتکلیف الفعلی الواقعی، بل بقیام حجّة معتبرة شرعیّة علیه کشمول عموم أو إطلاق أو قیام أمارة کخبر الواحد و شهادة العدلین و نحوهما، فهو علی قسمین، فإنّه قد یعلم بأنّه مع مصادفة الحجّة المعتبرة للواقع یکون الواقع مطلوباً للمولی و مراداً له بحیث لم یرفع یده عنه أصلاً، و قد لا یعلم ذلک.

ففی القسم الأوّل لا معنی للترخیص؛ لأنّ الترخیص و لو فی بعض الأطراف لا یجتمع مع إرادة المولی الواقع علی تقدیر المطابقة، و إرادة المولی و إن لم تکن معلومة لعدم العلم بالمطابقة ضرورةً، إلاّ أنّ احتمال المصادفة مع العلم بالترخیص مرجعه إلی احتمال اجتماع النقیضین و هو - کالقطع به - مستحیل بداهة.

و أمّا القسم الثانی الذی مرجعه إلی العلم بقیام الحجّة المعتبرة و عدم العلم بکون الواقع مراداً علی تقدیر المصادفة، فهو یمکن أن یقع فیه الترخیص، و لا تلزم المناقضة أصلاً؛ ضرورة أنّ مع عدم المصادفة لا یلزم مناقضة، لعدم ورود الترخیص علی مورد الحکم الواقعی، و مع المصادفة یکون مرجع الترخیص إلی رفع الید عن الحکم الواقعی لمصلحة أهمّ من مصلحة درک الواقع، کما هو الشأن فی الشبهات البدویّة، فإنّ الترخیص فی مطلقها مع ثبوت الحکم الواقعی فی بعض مواردها إنّما هو لأجل أنّه رفع الید عن الحکم الواقعی لمصلحة أهمّ.

نعم فی المقام قبل ورود الترخیص یحکم العقل بلزوم المشی علی طبق

ص:85

الأمارة و وجوب الاحتیاط، و لا فرق فی نظره من هذه الحیثیة بین العلم التفصیلی و العلم الإجمالی، فکما أنّ العالم تفصیلاً بحجّة معتبرة شرعیّة لا یکون معذوراً لو خالفها و صادف الواقع، فکذلک العالم إجمالاً بها لا یکون معذوراً لو خالفها و لو بإتیان بعض الأطراف، و یجب علیه الاحتیاط بإتیان الجمیع فی الشبهات الوجوبیة و بترکه فی الشبهات التحریمیة.

و ممّا ذکرنا ظهر: أنّ الترخیص و الإذن فی الارتکاب لا یکون ترخیصاً فی المعصیة التی هی قبیحة عند العقل، فیلزم من ذلک مضافاً إلی الترخیص فیما هو قبیح عند العقل - و هو لا یصدر من الحکیم - المناقضة، لعدم إمکان اجتماع المعصیة مع الترخیص فیها بعد کونها متوقّفة علی تکلیف المولی، کما لا یخفی، و ذلک لأنّ المعصیة القبیحة التی یستحقّ بها العبد العقوبة هی مخالفة المولی فی بعثه و زجره، و إلّا فمن الواضح أنّ مخالفة الأمارة التی هی طریق إلی الواقع لا تکون معصیة، و الترخیص فی جمیع الأطراف إنّما یرجع إلی الترخیص فی مخالفة الأمارة و عدم المشی علی طبقها، و هی لا تکون بنفسها قبیحة موجبة لاستحقاق العقوبة.

و إن شئت قلت: إنّ القبیح و الموجب لاستحقاق العقوبة هی مخالفة التکلیف الواقعی الذی کان مطلوباً للمولی و لم یرفع یده عنه لمصلحة اخری أهمّ، و أمّا مخالفة التکلیف الواقعی الذی یکون قد رفع الید عنه لها فلا تکون قبیحة و لا موجبة لاستحقاق العقوبة أصلاً.

فانقدح من جمیع ما ذکرنا: الخلل فیما أفاده بعض الأعلام من أنّ الترخیص فی جمیع الأطراف یوجب الترخیص فی المعصیة و هو مستلزم

ص:86

للتناقض(1). و بالجملة: فالعقل قبل ورود الترخیص و إن کان یحکم بلزوم العمل علی طبق الحجّة الإجمالیة و وجوب المشی معها بالاحتیاط، إلاّ أنّه لا مانع عنده من ورود الترخیص و لو فی جمیع الأطراف.

و حینئذٍ: فلا بدّ من ملاحظة أنّه هل یکون هنا مانع من جهة اخری، أم لا، و علی تقدیر عدم المانع فهل هنا ما یدلّ علی الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی أم لا.

و لیعلم أنّه علی تقدیر عدم المانع و وجود الترخیص لا یکون الأدلّة المرخّصة مقیّدة للإطلاق أو العموم الشاملین لحال العلم الإجمالی بصورة العلم التفصیلی بالموضوع أو الحکم، فإنّه - مضافاً إلی الاستحالة فی قسم - یکون مقتضی التقیید عدم وجوب التعلیم و التعلّم حینئذٍ، کما لا یخفی.

مع أنّ من الواضح وجوبهما علی العالم و الجاهل، و کذا لا ندّعی کونها مقیّدة لحجّیة الأمارة بصورة العلم التفصیلی بقیامها، بل نقول بأنّ فی جمیع ذلک یکون الإطلاق أو العموم أو الأمارة بحاله، غایة الأمر أنّ المولی لمراعاة مصلحة أهمّ اضطرّ إلی رفع الید عنه و جعل الترخیص.

ص:87


1- (1) - أجود التقریرات 241:2.

الکلام فی المخالفة القطعیة

الروایات الدالّة علی الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی

إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّ ما یدلّ بظاهره من الروایات علی الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی کثیر.

منها:

مرسلة معاویة بن عمّار عن رجل من أصحابنا قال: کنت عند أبی جعفر علیه السلام فسأله رجل عن الجبن، فقال أبو جعفر علیه السلام: «إنّه لطعام یعجبنی، سأخبرک عن الجبن و غیره، کلّ شیء فیه الحلال و الحرام فهو لک حلال حتّی تعرف الحرام فتدعه بعینه» (1)

.

و قد وردت هذه الکلّیة فی روایة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: «کلّ شیء فیه حلال و حرام فهو لک حلال أبداً حتّی تعرف الحرام منه بعینه فتدعه» (2)

. و الاحتمالات الجاریة فی صدر الروایتین مع قطع النظر عن الغایة المذکورة فیهما ثلاثة:

أحدها: أن یکون المراد بالشیء هی الطبیعة الواحدة التی یوجد فیها

ص:88


1- (1) - المحاسن: 601/496، وسائل الشیعة 119:25، کتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحدیث 7.
2- (2) - الفقیه 1002/216:3، وسائل الشیعة 87:17، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 1.

الحلال باعتبار بعض أنواعه و الحرام باعتبار بعضها الآخر، و حینئذٍ فیصیر المراد أنّ هذه الطبیعة الواحدة لک حلال حتّی تعرف نوعها الحرام بعینه، و حینئذٍ فیختصّ بالشبهات البدویّة، و لا یشمل صورة العلم الإجمالی و الشبهات المحصورة.

ثانیها: أن یکون المراد بالشیء مجموع الشیئین أو الأشیاء التی یعلم بوجود الحرام بینهما أو بینها إجمالاً، و حینئذٍ فینحصر موردها بأطراف العلم الإجمالی.

ثالثها: أن یکون المراد به أعمّ من القسم الأوّل و الثانی، فتشمل الروایتان الشبهات البدویّة و المحصورة جمیعاً، هذا.

و أمّا ذیل الروایتین: فإن کان المراد بالشیء هو الاحتمال الأوّل فیمکن أن یکون المراد بالمعرفة أعمّ من المعرفة التفصیلیة و الإجمالیة، لکن هذا الاحتمال أبعد الاحتمالات الثلاثة.

و لو کان المراد به هو الاحتمال الثانی فاللازم أن یکون المراد بالمعرفة، المعرفة التفصیلیة.

کما أنّه بناء علی الاحتمال الثالث لا بدّ أن یکون المراد بها هذه المعرفة، لاستهجان جعل الغایة للشبهة البدویّة أعمّ من المعرفة الإجمالیّة، مع أنّ المغیّی شامل لصورة العلم الإجمالی أیضاً التی لا بدّ أن یکون المراد من الغایة بالنسبة إلیها المعرفة التفصیلیة، کما هو واضح.

و کیف کان: فالروایتان بناءً علی الاحتمالین الأخیرین تدلاّن علی جعل الحلّیة فی أطراف الشبهة المحصورة.

و مثلهما فی الدلالة علی ذلک

روایة مسعدة بن صدقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: سمعته یقول: «کلّ شیء هو لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام

ص:89

بعینه فتدعه من قبل نفسک، و ذلک مثل الثوب یکون علیک قد اشتریته و هو سرقة، و المملوک عندک و لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبیع قهراً، أو امرأة تحتک و هی اختک أو رضیعتک، و الأشیاء کلّها علی هذا حتّی یستبین لک غیر ذلک أو تقوم به البیّنة» (1)

. فإنّ المراد بالشیء هو کلّ ما شکّ فی حلّیته و حرمته، و الغایة هو العلم بحرمة نفس ذلک الشیء المشکوک، فتشمل الشبهة المحصورة، کما هو واضح، هذا.

و لکن لا یخفی أنّ روایة معاویة بن عمّار مرسلة لا یجوز الاعتماد علیها.

و مثلها فی عدم جواز الاعتماد روایة عبد اللّه بن سلیمان(2) الواردة فی الجبن المشتملة علی هذه القاعدة الکلّیة، و ذلک لأنّ عبد اللّه بن سلیمان مجهول، مضافاً إلی أنّ موردها الجبن، و منشأ احتمال التحریم فیه هو أنّه قد توضع فیه الأنفحة من المیتة، و صار ذلک موجباً لتقسیم الجبن إلی قسمین حلال و حرام، مع أنّ الجبن بحسب مذهب أهل الحقّ حلال کلّه حتّی الجبن الذی علم تفصیلاً بأنّه وضعت فیه الأنفحة من المیتة فلا یکون منقسماً علی قسمین.

و حینئذٍ فیقوی فی النظر صدور الروایتین تقیة؛ للحکم فیهما بجواز أکل الجبن من جهة الاشتباه لا فی نفسه، مع أنّ الواقع لیس کذلک.

ص:90


1- (1) - الکافی 40/313:5، وسائل الشیعة 89:17، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 4.
2- (2) - الکافی 1/339:6، وسائل الشیعة 117:25، کتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحدیث 1.

و أمّا روایة مسعدة فهی أیضاً غیر قابلة للاعتماد، لأنّ الأمثلة المذکورة فیها لا تکون الحلّیة فیها مستندة إلی قاعدة الحلّیة المجعولة فی الصدر، بل الحلّیة فیها لأجل وجود بعض الأمارات أو الاُصول المتقدّمة علی قاعدة الحلّیة فی موردها مثل الید و إقرار العقلاء علی أنفسهم و استصحاب عدم کونها رضیعة له و کذا استصحاب عدم کونها اختاً له بناءً علی جریانه علی خلاف ما هو الحق.

و بالجملة: فجعل قاعدة کلّیة ثمّ إیراد أمثلة لها خارجة عنها داخلة فی قواعد اخر مستهجن لا یصدر من مثل الإمام علیه السلام، فالروایة من هذه الجهة موهونة جدّاً. فلم یبق فی البین إلاّ روایة عبد اللّه بن سنان المتقدّمة، و هی صحیحة من حیث السند تامّة من حیث الدلالة، خالیة عن احتمال الصدور تقیة، لعدم مورد لها.

و قد عرفت: أنّ العقل لا یأبی من الترخیص فی جمیع أطراف الشبهة المحصورة، لعدم کون الترخیص فیه ترخیصاً فی المعصیة بنظره، إلاّ أنّه حیث یکون المتفاهم من مثل هذه الروایة عند العرف و العقلاء هو الترخیص فی المعصیة - و هو مضافاً إلی قبحه غیر معقول؛ لاستلزامه التناقض کما عرفت سابقاً - فلا بدّ من رفع الید عنها و لا یجوز الأخذ بمضمونها و الحکم بالحلّیة، و یؤیّده ما حکی عن صاحب الجواهر من ندور العامل بمثل هذه الروایة و الأخذ بمضمونها(1)

. فانقدح من جمیع ما ذکرنا: أنّ أصالة الحلّیة لا تجری فی موارد الشبهة

ص:91


1- (1) - جواهر الکلام 294:1-298.

المحصورة، و کذا أدلّة أصالة البراءة؛ لأنّ مفادها هو جعل التوسعة للناس و عدم التضییق علیهم فی موارد الجعل و عدم العلم، و الحکم فی الشبهة المحصورة معلوم لا خفاء فیه. و بعبارة اخری: لا یجتمع الترخیص فی جمیع الأطراف مع العلم بعدم الرخصة فی بعضها إجمالاً بعد کون مورد الترخیص هو صورة الجهل و عدم العلم، هذا.

مقالة الشیخ فی وجه عدم جریان الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی

و قد اختلفت کلمات الشیخ قدس سره فی وجه عدم جریان الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی، فظاهر کلامه فی مبحث الاشتغال(1) و صریحه فی أواخر الاستصحاب(2) أنّ المانع من جریان الاُصول هو لزوم التناقض من جریانها علی فرض الشمول، لأنّ قوله:

«لا تنقض الیقین بالشکّ و لکن تنقضه بیقین آخر» - مثلاً - یدلّ علی حرمة النقض بالشکّ و وجوب النقض بالیقین، فإذا فرض الیقین بارتفاع الحالة السابقة فی أحد المستصحبین فلا یجوز إبقاء کلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشکّ، لأنّه مستلزم لطرح الحکم بنقض الیقین بمثله، فالمانع عنده حینئذٍ هو جهة الإثبات و عدم شمول الأدلّة، و لکنّ الذی یظهر من کلامه فی بحث القطع(3)

. و فی بعض المواضع الاُخر أنّ المانع هو لزوم المخالفة العملیّة، و حینئذٍ

ص:92


1- (1) - فرائد الاُصول 404:2.
2- (2) - نفس المصدر 744:2-745.
3- (3) - نفس المصدر 27:1.

فالمانع هو عدم إمکان الجعل ثبوتاً.

و کیف کان: فلو کان المانع عنده هو جهة الإثبات و قصور الأدلّة عن الشمول یرد علیه: أنّ المراد بالیقین المأخوذ فی قوله:

«لا تنقض الیقین بالشکّ...» هل هو الیقین الوجدانی أو الحجّة المعتبرة، یقینیّا کانت أو غیره؟

فعلی الأوّل نقول: إنّ الحکم بحرمة نقض الیقین الوجدانی بالشکّ و إن کان قابلاً للجعل، إلاّ أنّ الحکم بوجوب نقض الیقین بیقین آخر مثله لا یکون قابلاً للجعل بعد کون حجّیة القطع غیر قابلة للإثبات و لا للنفی کما تقدّم فی مبحث القطع. فقوله: «و لکن تنقضه بیقین آخر» لا یکون بصدد جعل حکم آخر حتّی یتحقّق التناقض بینه و بین الحکم الأوّل علی تقدیر جریانه فی أطراف العلم الإجمالی، بل بصدد التحدید للحکم المجعول أوّلاً، و أنّ حرمة النقض بالشکّ تکون ثابتة إلی أن یجیء یقین آخر، فظهر أنّه بناءً علی هذا الاحتمال لا تکون الروایة مشتملة علی حکمین حتّی یتحقّق مورد التناقض و عدمه.

و من هنا ظهر: أنّه بناءً علی الاحتمال الثانی أیضاً لا تکون الروایة کذلک؛ لأنّ الحکم بوجوب نقض الحجّة المعتبرة غیر القطع بحجّة اخری و إن کان قابلاً للجعل و التشریع، إلاّ أنّه باعتبار کون القطع أیضاً من أفراد الحجّة المعتبرة لا یمکن هذا التشریع، و جعل الحکم بالنسبة إلی بعض أفراد الحجّة و بیان التحدید بالنسبة إلی بعضها الآخر ممّا لا یکون لهما جامع حتّی یمکن فی استعمال واحد، کما هو واضح.

هذا کلّه مضافاً إلی أنّه لو سلّم جمیع ذلک نقول: ظاهر سیاق الروایة أنّ

ص:93

المراد بالیقین فی قوله: «و لکن تنقضه بیقین آخر» هو الیقین بما تعلّق به الیقین و الشکّ فی قوله: «و لا تنقض الیقین بالشکّ» لا الیقین بأمر آخر، ضرورة عدم وجوب النقض بالیقین المتعلّق بشیء آخر، کما هو واضح.

و حینئذٍ نقول: إنّ فی موارد العلم الإجمالی لا یکون العلم الإجمالی متعلّقاً بنفس ما تعلّق به الیقین السابق، فلا یجب نقضه به.

أ لا تری أنّه لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائین اللذین علم بطهارتهما سابقاً لا یکون العلم الإجمالی متعلّقاً بنفس ما تعلّق به الیقین السابق، ضرورة أنّ الیقین السابق إنّما تعلّق بطهارة هذا الإناء بالخصوص و بطهارة ذاک الإناء کذلک، و لم یتحقّق بعد یقین بنجاسة واحد معیّن منهما حتّی یجب نقض الیقین السابق بالیقین اللاحق، بل الموجود هو الیقین بنجاسة أحدهما المردّد، و هو لم یکن مسبوقاً بالیقین بالطهارة، فمتعلّق الیقین السابق و اللاحق مختلف، فلا یجب النقض به.

فانقدح: أنّ أدلّة الاستصحاب تجری فی المقام و لا یلزم التناقض أصلاً، فلو کان هناک مانع فإنّما هو من جهة الثبوت کما اختاره فی مواضع اخر، فتأمّل جیّداً.

تفصیل المحقّق النائینی فی جریان الاُصول

ثمّ إنّ بعض الأعاظم من المعاصرین فصّل علی ما فی التقریرات بین أصالة الإباحة و غیرها فی دوران الأمر بین المحذورین، و کذا بین الاستصحاب و غیره فی المقام، فجعل المحذور فی جریان أصالة الإباحة هناک غیر ما هو

ص:94

المحذور فی جریان غیرها من الاُصول(1). و قد عرفت ذلک الجواب عنه سابقاً.

و أمّا هنا فحکم بعدم جریان مثل الاستصحاب من الاُصول التنزیلیة فی أطراف العلم الإجمالی مطلقاً من غیر فرق بین أن یلزم من جریان الاستصحابین مخالفة عملیّة أم لا، و بعدم جریان غیرها من الاُصول کأصالة الإباحة و الطهارة و غیرهما إذا لزم من جریانها مخالفة عملیة قطعیة للتکلیف المعلوم فی البین.

قال فی وجه ذلک ما ملخّصه: إنّ المجعول فی الاُصول التنزیلیة إنّما هو البناء العملی و الأخذ بأحد طرفی الشکّ علی أنّه هو الواقع، و إلغاء الطرف الآخر، و جعل الشکّ کالعدم فی عالم التشریع، فإنّ ظاهر قوله علیه السلام:

«لا تنقض الیقین بالشکّ» (2) هو البناء العملی علی بقاء المتیقّن و تنزیل حال الشکّ منزلة حال الیقین، و هذا المعنی لا یمکن جعله بالنسبة إلی جمیع الأطراف فی العلم الإجمالی، للعلم بانتقاض الحالة السابقة فی بعض الأطراف، فإنّ الإحراز التعبّدی لا یجتمع مع الإحراز الوجدانی بالخلاف، و هذا لا فرق فیه بین أن یلزم من جریان الاستصحابین مخالفة عملیّة أم لا، لعدم إمکان الجعل ثبوتاً، و أمّا الاُصول الغیر التنزیلیة فلا مانع من جریانها إلاّ المخالفة العملیّة للتکلیف المعلوم فی البین، فهی لا تجری إن لزم من جریانها ذلک، و تجری إن لم یلزم(3). انتهی ملخّصاً.

ص:95


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 445:3-449.
2- (2) - الکافی 3/351:3، وسائل الشیعة 216:8، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 10، الحدیث 3.
3- (3) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 14:4-17.

و یرد علیه أوّلاً: أنّ کون الاستصحاب من الاُصول التنزیلیة بالمعنی الذی أفاده محلّ نظر، بل منع؛ فإنّ الکبری المجعولة فی أدلّته لیست إلاّ حرمة نقض الیقین بالشکّ، و ظاهرها هو وجوب ترتیب آثار المتیقّن فی طرف الشکّ و تطبیق عمله علی عمل المتیقّن.

و أمّا البناء علی أنّه هو الواقع و إلغاء الطرف الآخر و جعل الشکّ کالعدم فلا یستفاد من شیء من الأخبار الواردة فی الاستصحاب. کیف و اعتبار إلغاء الشکّ و جعله کالعدم فی عالم التشریع لا یجتمع مع اعتباره فی الصغری بقوله علیه السلام:

«لأنّک کنت علی یقین من طهارتک فشککت» (1) فتأمّل.

و بالجملة: فلا یظهر من أخبار الاستصحاب إلاّ مجرّد ترتیب آثار الواقع فی مقام العمل، لا الأخذ بالطرف الموافق للحالة السابقة بما أنّه هو الواقع، کما لا یخفی.

و ثانیاً: لو سلّم کون الاستصحاب من الاُصول التنزیلیة، فلا نسلّم عدم جریانها فی أطراف العلم الإجمالی؛ فإنّ کلاًّ منها مشکوک فیه مسبوق بالحالة السابقة، فلا مانع من جریان الاستصحاب فیه.

و ما أفاده من أنّ الإحراز التعبّدی لا یجتمع مع الإحراز الوجدانی بالخلاف محلّ منع؛ لعدم الدلیل علی عدم إمکان الاجتماع، فإنّ للشارع فی عالم التشریع أن یتعبّدنا بترتیب آثار الوجود علی ما لیس بموجود أو بالعکس، کما فی المرتدّ الفطری، و بالتفکیک بین المتلازمین.

ص:96


1- (1) - تهذیب الأحکام 1335/421:1، وسائل الشیعة 466:3، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحدیث 1.

و العجب أنّه قدس سره قد تنبّه لورود هذا الإشکال علیه، فذکر فی آخر بحث الاستصحاب فی مسألة تعارض الاستصحابین ما ملخّصه: إنّه ربّما یناقش فیما ذکرناه - من عدم جریان الاُصول المحرزة فی أطراف العلم الإجمالی مطلقاً و إن لم یلزم منها مخالفة عملیة - بأنّه یلزم علی هذا عدم جواز التفکیک بین المتلازمین الشرعیین کطهارة البدن و بقاء الحدث عند الوضوء بمائع مردّد بین البول و الماء؛ لأنّ استصحاب بقاء الحدث و طهارة البدن ینافی العلم الإجمالی بعدم بقاء الواقع فی أحدهما، لأنّه إن کان المائع ماءً فقد ارتفع الحدث، و إن کان بولاً فقد تنجّس البدن، فالتعبّد بالجمع بینهما لا یمکن. بل یلزم عدم جواز التفکیک بین المتلازمین العقلیین أو العادیین، فإنّ استصحاب حیاة زید و عدم نبات لحیته ینافی العلم العادی بعدم الواقع فی أحدهما، للملازمة بین الحیاة و النبات، و کذا التعبّد ببقاء الکلّی و عدم حدوث الفرد و نحو ذلک من الأمثلة.

و أجاب عن هذه الشبهة بما ملخّصه: إنّه تارة یلزم من التعبّد بمؤدّی الأصلین العلم التفصیلی بکذب ما یؤدّیان إلیه؛ لأنّهما یتّفقان علی نفی ما یعلم تفصیلاً ثبوته، أو علی ثبوت ما یعلم تفصیلاً نفیه، کما فی استصحاب نجاسة الإنائین أو طهارتهما مع العلم بطهارة أحدهما أو نجاسته، فإنّ الاستصحابین یتوافقان فی نفی ما یعلم تفصیلاً من طهارة أحدهما أو نجاسته.

و اخری لا یلزم من التعبّد بمؤدّی الأصلین العلم التفصیلی بکذب ما یؤدّیان إلیه، بل یعلم إجمالاً بعدم مطابقة أحد الأصلین للواقع من دون أن یتوافقا فی ثبوت ما علم تفصیلاً نفیه، أو نفی ما علم تفصیلاً ثبوته. بل لا یحصل من التعبّد بمؤدّی الأصلین إلاّ العلم بمخالفة أحدهما للواقع، کما فی الاُصول الجاریة فی

ص:97

الموارد التی یلزم منها التفکیک بین المتلازمین الشرعیین أو العقلیین أو العادیین. و الفرق بین القسمین ممّا لا یکاد یخفی، و الذی منعنا عن جریانه فی أطراف العلم الإجمالی هو الأوّل. و أمّا الثانی فلا محذور فیه أصلاً؛ لأنّ التلازم بحسب الواقع لا یلازم التلازم بحسب الظاهر(1) ، انتهی.

و لا یخفی عدم وضوح الفرق بین القسمین؛ لأنّ جریان الاستصحاب فی القسم الأوّل فی کلّ واحد من الإنائین لا ینافی العلم بالطهارة أو النجاسة، و لا یکون المجموع من حیث هو مجموع مورداً لجریان الاستصحاب حتّی یکون منافیاً للعلم التفصیلی بالخلاف، بل مورده هو کلّ واحد منهما بالخصوص، و لا ینافی شیء من الأصلین للعلم الإجمالی. غایة الأمر أنّه بعد جریانهما یقطع بکذب أحدهما، للعلم الإجمالی بالطهارة أو النجاسة، فلم یظهر فرق بینه و بین القسم الثانی، و مجرّد توافق الأصلین فی الأوّل و تخالفهما فی الثانی لا یوجب الفرق بینهما بعد کون الأوّل أیضاً مصداقین لحرمة النقض بالشکّ لا مصداقاً واحداً.

هذا مضافاً إلی أنّ اللازم من ذلک التفصیل فی جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی، لأنّه قد تکون الأصلان متخالفین کما فیما لو علم بجنس التکلیف، و دار الأمر بین وجوب شیء و حرمة شیء آخر، مع کونهما مسبوقین بالعدم، فإنّ أصل عدم الوجوب یخالف مع أصالة عدم الحرمة و لا یکون بینهما توافق، کما هو واضح، و حینئذٍ فیصیر من قبیل القسم الثانی، مع أنّه لا یلتزم بالجریان فی هذه الصورة أیضاً.

ص:98


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 694:4-695.

فانقدح من جمیع ما ذکرنا أنّ المانع من جریان الاُصول فی أطراف الشبهة المحصورة لیس إلاّ لزوم المخالفة العملیّة للتکلیف المعلوم فی البین، و حیث إنّ الاستلزام و اللزوم إنّما هو فیما لو وقع الترخیص فی جمیع الأطراف، و أمّا الترخیص فی بعضها فلا محذور فیه من هذه الجهة، فحینئذٍ یقع الکلام فی أنّه هل هنا شیء یمکن أن یستفاد منه الترخیص فی بعضها أم لا؟

الکلام فی الموافقة القطعیّة

اشارة

فنقول: لا بدّ أوّلاً من بیان أنّ العلم الإجمالی هل یکون علّة تامّة بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیة أم لا، بل لا یکون فیه إلاّ مجرّد الاقتضاء، ثمّ علی فرض الاقتضاء لا بدّ من ملاحظة الأدلّة العامّة المرخّصة و أنّه هل یستفاد منها الترخیص بالنسبة إلی بعض الأطراف أم لا؟ و أمّا علی القول بالعلیّة فلا مجال لهذا البحث، لأنّه لو فرض دلالتها علی الترخیص فیه فلا بدّ من رفع الید عنها، للحکم العقلی القطعی بخلافها.

إذا ظهر لک ذلک نقول: قد عرفت أنّ العلم الإجمالی قد یکون متعلّقه هو التکلیف الفعلی الواقعی الذی لا یرضی المولی بمخالفته أصلاً، و قد یکون هو التکلیف الثابت بإطلاق الدلیل أو عمومه أو بقیام أمارة معتبرة و حجّة شرعیّة.

ففی الأوّل لا مجال للترخیص و لو کان بالنسبة إلی بعض الأطراف من غیر فرق بین الشبهة المحصورة و غیرها. و فی الثانی لا محذور فی الترخیص أصلاً و لو بالنسبة إلی جمیع الأطراف و لا تلزم مناقضته أصلاً.

أمّا علی تقدیر عدم مصادفة الأمارة و عدم کون الإطلاق أو العموم مراداً

ص:99

جدّاً فواضح، و أمّا علی تقدیر المطابقة و تعلّق الإرادة الجدّیة بالإطلاق أو العموم فلا بأس أیضاً؛ لأنّ مرجع الترخیص إلی رفع الید عن الحکم الواقعی لمصلحة أهمّ من مصلحة درک الواقع، کما أنّه لا بدّ من الالتزام بذلک فی الترخیص فی مطلق الشبهات البدویّة مع ثبوت الحکم الواقعی فی بعض مواردها. هذا بحسب نظر العقل.

و أمّا العقلاء الذین هم المرجع و المتّبع فی فهم الکلمات الصادرة عن الشارع فقد عرفت أنّ الترخیص فی جمیع الأطراف عندهم یکون ترخیصاً فی المعصیة و إذناً فیها، و هو مع قبحه غیر معقول، فلذا لا یعتمدون علی ما ظاهره الترخیص فی الجمیع و یرفعون الید عنه. و أمّا الترخیص فی البعض فالظاهر أنّه لا بأس به عندهم و لا یعدّونه ترخیصاً فی المعصیة و إذناً فی ارتکاب الخمر فیما إذا تردّد بین المائعین، و لا یکون عندهم المنافاة بین تحریم الخمر مطلقاً و الترخیص فی محتمل الخمریّة؛ لاختلاف متعلّق الحکمین؛ لأنّ أحدهما الخمر و الآخر مشتبه الخمریّة.

و حینئذٍ: فلا یکون عندهم مانع من شمول أدلّة الحلّ و أصالة البراءة و الاستصحاب و غیرهما لبعض الأطراف لو قیل بعدم خروج أطراف العلم الإجمالی عن مورد أدلّتها؛ نظراً إلی أنّ موضوعها صورة الشکّ و عدم العلم، و هو یغایر صورة العلم و تردّد المعلوم بین هذا و ذاک.

و بالجملة: فرق بین ما إذا لم یعلم بالخمریّة و احتمل عدمها، و بین ما إذا علم بها و تردّد موصوفها بین شیئین، فالصورة الاُولی یکون مورداً لتلک الأدلّة قطعاً، و أمّا الصورة الثانیة فلا تکون عند العرف من موارد الشکّ و عدم العلم حتّی تشملها تلک الأدلّة و إن کانت منها بنظر العقل، لأنّ کلّ واحد من

ص:100

المائعین مشکوک الخمریّة حقیقة، کما هو واضح.

و حینئذٍ فلو قلنا بخروج العلم الإجمالی عن مورد تلک الأدلّة لم یبق مجال للبحث فی دلالتها علی الترخیص بالنسبة إلی بعض الأطراف، و أمّا لو قلنا بعدم خروجه، کما هو الظاهر فیقع الکلام فی دلالتها علی ذلک و عدمها.

فنقول: قد عرفت أنّ ما یمکن الاستدلال به للترخیص هی خصوص صحیحة عبد اللّه بن سنان المتقدّمة(1) ، و أمّا غیرها من الروایات فلا یجوز الاعتماد علیها بعد وجود الخلل فی متنها أو فی سندها، و أمّا صحیحة عبد اللّه بن سنان فهی صحیحة من حیث السند، تامّة من حیث الدلالة، و قد عرفت أنّها تشمل صورة العلم الإجمالی قطعاً، و أنّ شمولها مبنی علی أن یکون المراد من الشیء المأخوذ فیها هو مجموع الشیئین اللذین أحدهما حلال و الآخر حرام، فهی تدلّ علی حلّیة ذلک الشیء؛ أی المجموع. و حیث إنّه غیر قابل للأخذ بمضمونه، لدلالته علی الإذن فی المعصیة بحسب متفاهم العرف و العقلاء فلا بدّ من رفع الید عنه، و لیس هنا شیء آخر یدلّ علی حلّیة بعض الأطراف.

نعم لو کان الدلیل دالاًّ علی حلّیة کلّ مشتبه لکان للبحث فی دلالته علی الترخیص فی بعض الأطراف مجال، و لکنّه لم یدلّ دلیل معتبر علی ذلک عدا روایة مسعدة بن صدقة المتقدّمة(2) التی عرفت عدم جواز الاعتماد علیها، لاغتشاشها و عدم تطابق القاعدة مع الأمثلة المذکورة فیها.

ثمّ إنّه لو فرض دلالة الدلیل علی حلّیة کلّ مشتبه لکان الظاهر منها هو

ص:101


1- (1) - تقدّمت فی الصفحة 88.
2- (2) - تقدّمت فی الصفحة 89.

حلّیة کلّ مشتبه معیّن، و لا یمکن الأخذ به فی المقام، لأنّ إجراء هذه القاعدة فی المجموع مستلزم للإذن فی المعصیة، و فی البعض المعیّن ترجیح من غیر مرجّح، و فی البعض الغیر المعیّن موجب للخروج عن الدلیل الدالّ علی اعتبارها، لأنّه لم یدلّ إلاّ علی حلّیة کلّ مشتبه معیّن. و إن شئت قلت: إنّ البعض الغیر المعیّن لا یکون من أفراد العامّ أصلاً، و الدلیل یتضمّن حلّیة جمیع أفراد العامّ.

و یمکن الذبّ عنه بوجوه:

منها: أن یقال: إنّ الدلیل اللفظی و إن لم یدلّ علی الترخیص فی البعض الغیر المعیّن، إلاّ أنّه یمکن استکشاف هذا الترخیص من الدلیل اللفظی بضمیمة حکم العقل، لأنّ القضیة المشتملة علی حکم متعلّق بعنوان علی سبیل الإطلاق أو العموم یفهم منها أمران:

أحدهما: ثبوت ذلک الحکم لتمام أفراد عنوان الموضوع.

ثانیهما: وجود الملاک فی کلّ فرد منها، ثمّ إن ثبت قید یرجع إلی مادّة القضیة فمقتضاه التضییق فی ناحیة الحکم و الملاک معاً، فإذا ورد أکرم العلماء، ثمّ ورد قوله: لا تکرم الفسّاق من العلماء، یفهم من ذلک التقیید و التخصیص اختصاص الحکم و الملاک بما عدا مورد المخصّص، و إن ثبت قید یرجع إلی الإطلاق الهیئة دون المادّة فلا بدّ من رفع الید عن إطلاق الطلب دون المادّة.

کما إذا ورد خطاب دالّ علی وجوب إنقاذ الغریق، ثمّ وجد الغریقان، فإنّ ذلک الخطاب و إن کان غیر شامل لهما بحکم العقل؛ لقبح التکلیف بما لا یطاق، إلاّ أنّه یحکم بإطلاق المادّة بوجود ملاک الوجوب فی کلیهما، و لهذا یستکشف العقل وجوباً تخییریّاً مع عدم وجود الأهمّ فی البین.

ص:102

و فی المقام نقول: إنّ الأدلّة المرخّصة و إن اختصّ حکمها بغیر صورة العلم الإجمالی بحکم العقل الحاکم بقبح الإذن فی المعصیة، إلاّ أنّ وجود ملاک الإباحة فی کلّ مشتبه یستکشف من إطلاق المادّة، و بعد تعذّر الجری علی طبق الملاک فی کلّ من الأطراف یستکشف أنّ البعض علی سبیل التخییر مرخّص فیه حیث لا ترجیح للبعض المعیّن(1) ، انتهی.

و یرد علیه ما أورد علیه المحقّق المعاصر فی کتاب الدرر من أنّ حکم العقل بذلک إنّما یکون فیما یقطع بأنّ الجری علی طبق أحد الاقتضائین لا مانع منه، کما فی مثال الغریقین، و أمّا فیما نحن فیه فکما أنّ الشکّ یقتضی الترخیص کذلک العلم الإجمالی یوجب مراعاة الواقع و یقتضی الاحتیاط، و لعلّ اقتضاء العلم یکون أقوی فی نظر الشارع، فلا یقطع العقل بالترخیص، کما هو واضح(2)

. و منها: ما أورده علی نفسه المحقّق النائینی بعد الحکم بسقوط الاُصول بالنسبة إلی جمیع الأطراف بقوله: «إن قلت» و ملخّصه: أنّ نسبة الاُصول إلی کلّ واحد من الأطراف و إن کانت علی حدّ سواء إلاّ أنّ ذلک لا یقتضی سقوطها جمیعاً، بل غایة ما یقتضیه هو التخییر فی إجراء أحد الأصلین المتعارضین، لأنّه بناءً علی شمول أدلّة الاُصول لأطراف العلم الإجمالی یکون حال الاُصول العملیة حال الأمارات علی القول بالسببیّة، و التخییر فی باب الأمارات المتعارضة إنّما هو کالتخییر فی باب المتزاحمین.

و حینئذٍ: لا بدّ إمّا من تقیید إطلاق الأمر بالعمل بمؤدّی کلّ من الأمارتین

ص:103


1- (1) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 458-459.
2- (2) - نفس المصدر: 459.

بحال عدم العمل بالأخری إن لم یکن أحد المؤدّیین أهمّ، و إمّا من سقوط الأمرین و استکشاف العقل حکماً تخییریّاً لأجل وجود الملاک التامّ فی متعلّق کلّ من الأمارتین علی المسلکین فی باب التزاحم، و الظاهر هو المسلک الأوّل، لأنّ منشأ التزاحم إنّما هو عدم القدرة علی الجمع بینهما، و المقتضی لإیجاب الجمع إنّما هو إطلاق کلّ من الخطابین، فلا بدّ من رفع الید عنه، لأنّه الذی أوجب التزاحم، و الضرورات تتقدّر بقدرها.

و نقول فی المقام: إنّ حجّیة کلّ أصل عملی إنّما تکون مطلقة بالنسبة إلی ما عداه من سائر الاُصول، لإطلاق دلیل اعتباره، و هذا الإطلاق محفوظ فی الشبهات البدویّة و المقرونة بالعلم الإجمالی إذا لم یلزم من جریان الاُصول فی الأطراف مخالفة عملیة.

و أمّا إذا لزم فلا یمکن بقاء إطلاق الحجّیة لکلّ من الاُصول الجاریة فی جمیع الأطراف، لأنّ بقاء الإطلاق یقتضی صحّة جریانها فی جمیع الأطراف و المفروض أنّه یستلزم المخالفة العملیّة فلا بدّ من رفع الید عن إطلاق الحجّیة، و لا یلزم أن تسقط الحجّیة، و نتیجة التقیید هو التخییر فی إجراء أحد الأصلین لا سقوطهما رأساً کما لا یخفی(1)

. أقول: قد عرفت أنّ ما یمکن الاستدلال به للترخیص فی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی هی صحیحة عبد اللّه بن سنان المتقدّمة(2) الدالّة علی أنّ

«کلّ شیء فیه حلال و حرام فهو لک حلال أبداً حتّی تعرف الحرام منه

ص:104


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 25:4-27.
2- (2) - تقدّمت فی الصفحة 88.

بعینه» و عرفت أنّ التمسّک بها للمقام مبنی علی أن یکون المراد من الشیء هو المجموع من الحلال و الحرام و المختلط منهما، إذ لیس کلّ واحد من الأطراف فیه الحلال و الحرام، بل ما فیه الحلال و الحرام هو مجموع المشتبهین أو المشتبهات و المختلط منهما أو منها، فأصالة الحلّیة الجاریة بمقتضی هذه الصحیحة إنّما تجری فی مجموع الأطراف، لا فی کلّ واحد منها، لعدم کون کلّ واحد منها مصداقاً و مورداً لها، کما لا یخفی.

و حینئذٍ فلا دلیل علی جریانها فی کلّ واحد من الأطراف حتّی یقیّد إطلاق حجّیتها بما إذا لم تجر فی الطرف الآخر، لاستلزام بقاء الإطلاق المحذور المتقدّم.

و إن شئت قلت: إنّ المحذور - و هو لزوم المخالفة العملیة - إنّما یلزم من جریانها مطلقاً، سواء کان إطلاقها بالنسبة إلی الأفراد الاُخر التی هی عبارة عن الشبهات الاُخر المقرونة بالعلم الإجمالی محفوظاً أم غیر محفوظ، ضرورة أنّ جریانها و لو فی شبهة واحدة مقرونة بالعلم الإجمالی یوجب المخالفة العملیة و الإذن فی المعصیة، کما هو واضح.

و بالجملة: موارد جریان أصل الحلّیة هو کلّ مشتبه بالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی، أی المختلط من الحلال و الحرام، و لا بدّ من أن یلاحظ الإطلاق بالنسبة إلیه، و قد عرفت أنّ تقیید الإطلاق أیضاً لا یوجب رفع المحذور، کما لا یخفی، هذا.

و أمّا أدلّة الاستصحاب فهی و إن کانت مقتضاها جریانه فی کلّ واحد من الأطراف، لوجود الیقین السابق و الشکّ اللاحق فیه، إلاّ أنّ ذلک مبنی علی أن یکون المراد من الیقین المأخوذ فی أدلّته و کذا الشکّ هو الیقین و الشکّ

ص:105

الوجدانیین، مع أنّا سنمنع ذلک فی بحث الاستصحاب و نقول: إنّ ظاهرها هو کون المراد بالیقین هی الحجّة المعتبرة، و بالشکّ هو عدم الحجّة، و من الواضح وجود الحجّة فی أطراف العلم الإجمالی، فلا یکون من نقض الحجّة بغیرها، کما لا یخفی.

ثمّ إنّه أجاب المحقّق النائینی عن هذا الوجه الذی أورده علی نفسه بکلام طویل، و ملخّصه: أنّ الموارد التی یحکم فیها بالتخییر مع عدم قیام دلیل علیه بالخصوص لا تخلو عن أحد أمرین:

أحدهما: اقتضاء الکاشف و الدلیل الدالّ علی الحکم التخییر فی العمل.

و ثانیهما: اقتضاء المنکشف و المدلول ذلک و إن کان الدلیل یقتضی التعیینیّة.

فمن الأوّل: ما إذا ورد عامّ کقوله: «أکرم العلماء»، و علم بخروج زید و عمرو عن العامّ، و لکن شکّ فی أنّ خروجهما هل هو علی نحو الإطلاق، أو أنّ خروج کلّ منهما مشروط بحال عدم إکرام الآخر.

و بعبارة اخری: دار الأمر بین أن یکون التخصیص أفرادیّاً و أحوالیّاً معاً أو أحوالیّاً فقط، و الوظیفة فی هذا الفرض هو التخییر فی إکرام أحدهما، لأنّ مرجع الشکّ إلی الشکّ فی مقدار الخارج عن عموم وجوب إکرام العلماء، و لا بدّ من الاقتصار علی المتیقّن خروجه و هو التخصیص الأحوالی فقط، فلا محیص عن القول بالتخییر، إلاّ أنّ منشأه هو اجتماع دلیل العامّ و إجمال دلیل الخاصّ بضمیمة وجوب الاقتصار علی القدر المتیقّن، و لیس التخییر فیه لأجل اقتضاء المجعول له، بل المجعول فی کلّ من العامّ و الخاصّ هو الحکم التعیینی، فالتخییر إنّما نشأ من ناحیة الدلیل.

ص:106

و من الثانی: المتزاحمان فی مقام الامتثال؛ فإنّ التخییر فیهما إنّما هو لأجل أنّ المجعول فی باب التکالیف معنی یقتضی التخییر فی امتثال أحد المتزاحمین، لأنّه یعتبر عقلاً فیها القدرة علی الامتثال، و حیث لا تکون القدرة محفوظة فی کلیهما فالعقل یستقلّ بالتخییر، و الفرق بین التخییر فی هذا القسم و التخییر فی القسم الأوّل أنّ التخییر هناک ظاهری و هنا واقعی.

إذا عرفت ذلک نقول: إنّ القول بالتخییر فی باب الاُصول لا شاهد علیه لا من ناحیة الدلیل و الکاشف، و لا من ناحیة المدلول و المنکشف.

أمّا انتفاء الأوّل: فواضح، فإنّ دلیل اعتبار کلّ أصل من الاُصول العملیّة إنّما یقتضی جریانه عیناً، سواء عارضه أصل آخر أو لم یعارضه.

و أمّا انتفاء الثانی: فلأنّ المجعول فی باب الاُصول العملیة لیس إلاّ الحکم بتطبیق العمل علی مؤدّی الأصل بما أنّه الواقع أولا بما أنّه کذلک علی اختلاف الاُصول، و لکنّ الحکم بذلک لیس علی إطلاقه، بل مع انحفاظ رتبة الحکم الظاهری باجتماع القیود الثلاثة، و هی الجهل بالواقع، و إمکان الحکم علی المؤدّی بما أنّه الواقع، و عدم لزوم المخالفة العملیة، و حیث إنّه یلزم من جریان الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی مخالفة عملیّة فلا یمکن جعلها جمعاً، و کون المجعول أحدها تخییراً و إن کان بمکان من الإمکان، إلاّ أنّه لا دلیل علیه لا من ناحیة أدلّة الاُصول و لا من ناحیة المجعول فیها(1) ، انتهی.

و فی هذا الکلام وجوه من النظر:

منها: أنّ ما ذکره - من أنّ التخییر فی القسم الأوّل إنّما هو من ناحیة

ص:107


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 28:4-31.

الدلیل و الکاشف لا المجعول و المنکشف، لأنّ المجعول فی کلّ من العامّ و الخاصّ هو الحکم التعیینی - محلّ نظر، بل منع. ضرورة أنّه لو کان الحکم المجعول فی الخاصّ حکماً تعیینیّاً و علم ذلک لم یکن مجال للتخییر، لأنّه مساوق للعلم بکون التخصیص أفرادیّاً و أحوالیّاً معاً، لوضوح أنّه لو کان التخصیص أحوالیّاً فقط و کان خروج کلّ من الفردین مشروطاً بدخول الآخر یکون الحکم المجعول حکماً تخییریّاً.

و بالجملة: فالذی أوجب الحکم بالتخییر هو تردّد المجعول فی الخاصّ بین کونه تعیینیّاً أو تخییریّاً بضمیمة وجوب الاقتصار فی التخصیص علی القدر المتیقّن، فالتخییر إنّما هو مقتضی تردّد المجعول بضمیمة ما ذکر، کما لا یخفی، و لا یکون ناشئاً من الدلیل.

و منها: أنّ ما ذکره من أنّ التخییر فی القسم الثانی إنّما هو من ناحیة المدلول و المنکشف، محلّ منع، بل التخییر فیه إنّما هو کالتخییر فی القسم الأوّل؛ لأنّ التخییر فیه إنّما یکون منشؤه إطلاق مثل قوله: «انقذ کلّ غریق» بضمیمة التخصیص بالنسبة إلی صورة العجز عن الإنقاذ بالإضافة إلی الغریقین، مع لزوم الاقتصار فی مقام التخصیص علی القدر المتیقّن، و هو خروج الأحوالی فقط الذی مرجعه إلی رفع الید عن الإطلاق، لا الأفرادی و الأحوالی معاً الذی مرجعه إلی رفع الید عن العموم.

و بالجملة: فلا فرق بین القسمین إلاّ فی أنّ الحاکم بالتخصیص فی القسم الأوّل هو الدلیل اللفظی، و فی القسم الثانی هو الدلیل العقلی، و هو لا یوجب الفرق بین التخییرین من حیث المقتضی، کما لا یخفی.

و منها: أنّه لو سلّم جمیع ما ذکر فنمنع ما ذکره من عدم کون التخییر فی

ص:108

باب الاُصول العملیة من ناحیة الدلیل و الکاشف، لأنّ لنا أن نقول بکون التخییر فیها من جهة الدلیل و الکاشف، لأنّ أدلّة أصالة الحلّ تشمل بعمومها لأطراف العلم الإجمالی أیضاً.

غایة الأمر: أنّها خصّصت بالنسبة إلیها قطعاً، و لکن أمر المخصّص دائر بین أن یکون مقتضاه خروج الأطراف مطلقاً حتّی یلزم الخروج الأفرادی و الأحوالی معاً، و بین أن یکون مقتضیاً لخروج کلّ واحد منها مشروطاً بدخول الآخر، فهذا الإجمال بضمیمة لزوم الاقتصار علی القدر المتیقّن فی مقام التخصیص أوجب التخییر، کما هو واضح.

و منها: و هو العمدة، أنّ ما ذکره من عدم کون التخییر فی باب الاُصول من مقتضیات المجعول و المنکشف ممنوع جدّاً، ضرورة أنّ المقام إنّما هو من قبیل المتزاحمین، کما أنّ فیهما یکون الملاک فی کلّ فرد موجوداً، فکذلک الملاک لجریان أصل الإباحة فی کلّ من الأطراف موجود قطعاً، و کما أنّ المانع العقلی هناک بضمیمة اقتضاء کلّ من المتزاحمین صرف القدرة إلی نفسه یوجب الحکم بالتخییر إمّا لتقیید الإطلاق، و إمّا لسقوط الخطابین و استکشاف العقل حکماً تخییریّاً، کذلک المانع العقلی هنا و هو لزوم المخالفة القطعیة بضمیمة اقتضاء کلّ من الأصلین لإثبات حکم متعلّقه یوجب التخییر قطعاً.

فالعمدة فی الجواب ما ذکرنا من أنّه لیس هنا ما یدلّ علی جریان أصل الحلّیة فی کلّ واحد من الأطراف، بل مجراه هو مجموعها الذی هو المختلط من الحلال و الحرام، و جریانه فیه مستلزم للمخالفة القطعیة کما مرّ، فتأمّل فی المقام فإنّه من مزالّ الأقدام کما یظهر بمراجعة کلمات الأعلام.

ص:109

تبصرة

و هی أنّ المحقّق النائینی قدس سره بعد الحکم بعدم جواز الإذن فی جمیع الأطراف؛ لأنّه إذن فی المعصیة و العقل یستقلّ بقبحها، قال علی ما فی التقریرات: و أمّا الإذن فی البعض فهو ممّا لا مانع عنه، فإنّ ذلک یرجع فی الحقیقة إلی جعل الشارع الطرف الغیر المأذون فیه بدلاً عن الواقع و الاکتفاء بترکه عنه لو فرض أنّه صادف المأذون فیه للواقع، و کان هو الحرام المعلوم فی البین، و دعوی أنّه لیس للشارع الاکتفاء عن الواقع ببدله ممّا لا شاهد علیه، و إلی ذلک یرجع ما تکرّر فی کلمات الشیخ قدس سره من إمکان جعل بعض الأطراف بدلاً عن الواقع، فإنّه لیس المراد تنصیص الشارع بالبدلیّة، بل نفس الإذن فی البعض یستلزم بدلیّة الآخر قهراً(1) ، انتهی.

و أنت خبیر بأنّ جعل البدلیّة یتوقّف علی کون المجعول بدلاً ممّا یصلح لأن یکون بدلاً، بأن یکون واجداً لملاک البدلیّة و صالحا لأن یقوم مقام المبدل، و فی المقام لا یکون کذلک؛ لأنّ المفروض هنا هو دوران الأمر بین الحرمة و غیر الوجوب من الأحکام الثلاثة الاُخر.

و من المعلوم أنّ المستحبّ - مثلاً - الذی تکون فیه مصلحة راجحة کیف یعقل أن یکون بدلاً عن المحرّم الذی لا یکون فیه إلاّ مفسدة تامّة، فالإذن فی ارتکاب المحرّم و جعل المستحبّ - مثلاً - بدلاً عنه و الاکتفاء بترکه عن ترک المحرّم ممّا لا نتصوّره أصلاً بعد کون المستحبّ ذا مصلحة راجحة و المحرّم ذا

ص:110


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 35:4.

مفسدة ملزمة. و کذا الحکم فی المکروه و المباح، فإنّه لا یعقل جعل شیء منهما بدلاً عن الحرام بعد خلوّ المباح عن المفسدة و عدم بلوغ مفسدة المکروه إلی حدّ التمام الموجب للإلزام. فإذن ینقدح بطلان ما ذکره من أنّ «دعوی أنّه لیس للشارع...» إلی آخره؛ لما عرفت من عدم معقولیّة البدلیّة المقتضیة لکون البدل واجداً لملاکها، کما لا یخفی.

فلو ثبت الإذن فی بعض الأطراف فاللازم أن یقال بأنّ فی صورة مصادفة المأذون فیه للمحرّم الواقعی أنّ الشارع قد رفع الید عن حکمه الموجود فی البین لمصلحة أهمّ من مصلحة الواقع، و هی مصلحة التسهیل و مفسدة التضییق الموجبة لأن تکون الشریعة سمحة سهلة حتّی یرغب الناس فیها، کما هو الشأن فی الترخیص فی مطلق الشبهات البدویّة مع ثبوت الحکم الواقعی فی بعض مواردها کما مرّ مراراً فتدبّر.

و لا بدّ من التنبیه علی امور:

اشارة

ص:111

الأمر الأوّل

تنجیز العلم الإجمالی فی التدریجیات

لو کان أطراف العلم الإجمالی ممّا یوجد تدریجاً فهل یجب الاحتیاط أیضاً بالإتیان بجمیعها فی الشبهات الوجوبیّة و بترکه فی الشبهات التحریمیّة أم لا؟

الظاهر الوجوب؛ لأنّ التکلیف و لو کان مشروطاً بأمر استقبالی بحیث لم یکن متحقّقاً قبل تحقّق الشرط، کما هو الشأن فی جمیع الواجبات المشروطة، إلاّ أنّه لو فرض کونه معلوماً بالتفصیل لکان اللازم علی المکلّف الإتیان بمقدّمات المکلّف به التی لا یقدر علیها بعد ثبوت التکلیف. و لا یکون المکلّف معذوراً لو لم یفعلها؛ نظراً إلی أنّ التکلیف لم یکن ثابتاً قبل تحقّق الشرط، فکیف یجب علی المکلّف تحصیل مقدّماته. و بعده و إن تحقّق التکلیف إلاّ أنّه معذور فی المخالفة، لأجل عدم القدرة علی فعل متعلّقه، لأنّ المفروض عدم القدرة علی المقدّمات بعد تحقّق الشرط.

وجه عدم المعذوریّة: أنّ العقل یحکم بلزوم تحصیل هذه المقدّمات مع العلم بعدم القدرة علیها بعد ثبوت التکلیف و إن لم یکن التکلیف متحقّقاً بعد، فإذا کان الأمر کذلک فیما لو کان الواجب المشروط معلوماً بالتفصیل فکیف إذا دار الأمر بین کون الوجوب مطلقاً أو مشروطاً؟

و بالجملة: لا ینبغی الإشکال فی وجوب الاحتیاط فی التدریجیات من

ص:112

دون فرق بین أن یکون الأمر دائراً بین المعلّق و المنجّز، و بین أن یکون دائراً بین المطلق و المشروط.

أمّا فی الأوّل: فواضح بعد ما عرفت من کون التکلیف فی الواجب المعلّق یکون ثابتاً قبل وجود المعلّق علیه أیضاً، فهو عالم إجمالاً بتعلّق تکلیف فعلی حالی.

غایة الأمر أنّ المکلّف به مردّد بین أن یکون حالیّاً أو استقبالیاً، و العقل یحکم بلزوم الاحتیاط، لعدم الفرق بینه و بین الموجودات فعلاً.

و أمّا فی الثانی: فلما عرفت من أنّ حکم العقل بلزوم تحصیل غرض المولی لا یتوقّف علی صدور أمر فعلی من ناحیته، بل یحکم بذلک و لو کان التکلیف استقبالیّاً، بل قد عرفت فی بعض المباحث السابقة أنّ العقل یحکم بلزوم تحصیل الغرض و لو لم یکن فی البین أمر أصلاً، کما لا یخفی.

ص:113

الأمر الثانی

حکم الاضطرار إلی أحد أطراف العلم الإجمالی

لو اضطرّ إلی أحد الأطراف فتارة یکون الاضطرار إلی طرف معیّن، و اخری یکون إلی واحد من الأطراف غیر معیّن، و علی التقدیرین قد یکون الاضطرار قبل تعلّق التکلیف و العلم به، و قد یکون بعدهما، و قد یکون بعد واحد منهما و قبل الآخر، و قد یکون مقارناً لهما أو لأحدهما، فهاهنا صور:

فنقول: أمّا لو کان الاضطرار إلی طرف معیّن و کان الاضطرار قبل تعلّق التکلیف أو بعده و قبل العلم فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر، سواء قلنا بأنّ الاضطرار من حدود التکلیف و قیوده بحیث لا یکون فعلیّاً مع الاضطرار و یکون مشروطاً بعدمه، أو قلنا بأنّ الاضطرار و کذا سائر الأعذار أعذار عقلیّة و التکلیف ثابت فعلی مطلقاً. غایة الأمر أنّه لا یصحّ للمولی الاحتجاج به مع وجود مثل الجهل و العجز و الاضطرار و نحوها من الأعذار، کما هو الحقّ و قد مرّ تحقیقه فی مواضع متعدّدة و لعلّه یأتی أیضاً فیما بعد.

أمّا علی القول الأوّل: فلأنّه یشترط فی منجزیّة العلم الإجمالی أن یکون متعلّقه التکلیف الفعلی الثابت علی أیّ تقدیر، بحیث لو تبدّل إلی العلم التفصیلی بثبوته فی کلّ واحد من الأطراف لکان منجّزاً، و هنا لیس کذلک، لأنّه یحتمل أن یکون المضطرّ إلیه هو الشیء الذی تعلّق به التکلیف فلم یکن حینئذٍ فعلیّاً، لاشتراط فعلیّته علی الفرض بعدم عروض الاضطرار بالنسبة إلی المکلّف به.

و حینئذٍ فلا یعلم بثبوت التکلیف الفعلی علی أیّ تقدیر، کما هو واضح.

ص:114

و أمّا علی القول الثانی: فلأنّ الاضطرار و إن لم یکن من قیود التکلیف الفعلی، إلاّ أنّه من قیود التکلیف الفعلی الصالح للاحتجاج، و لا بدّ فی تأثیر العلم الإجمالی من أن یکون متعلّقه هو التکلیف الفعلی الصالح للاحتجاج علی أیّ تقدیر، و من الواضح أنّه لیس هنا کذلک؛ لأنّه یحتمل أن یکون المضطرّ إلیه هو المکلّف به، فلا یکون التکلیف حینئذٍ صالحاً للاحتجاج و إن کان باقیاً علی الفعلیّة. و مجرّد البقاء علی الفعلیّة لا یجدی ما لم ینضمّ إلیه القابلیّة، و لذا لا یکون العلم الإجمالی مؤثّراً لو حصل له الاضطرار إلی جمیع الأطراف، کما هو واضح.

إن قلت: لازم ما ذکرت هو جواز القعود عن تکلیف المولی فیما لو شکّ فی کونه قادراً علی إتیان متعلّقه؛ لأنّ مقتضی ما ذکرت هو کفایة مجرّد احتمال کون المضطرّ إلیه هو المکلّف به، فإذا کان مجرّد احتمال الاضطرار بالنسبة إلی متعلّق التکلیف کافیاً فی عدم قابلیّته للاحتجاج، فکذلک مجرّد احتمال عدم القدرة و العجز عن إتیان المکلّف به یکون کافیاً، ضرورة أنّه لا فرق بین الاضطرار و العجز من هذه الحیثیّة أصلاً، و بطلان اللازم واضح کما یظهر بمراجعة العقل و العقلاء، لأنّه لا یکون العبد الشاکّ فی القدرة معذوراً عندهم فی المخالفة، و حینئذٍ فلا بدّ من الالتزام بذلک فی الاضطرار کما فی المقام.

قلت: الفرق بین المقام و بین مسألة الشکّ فی القدرة التی لا یکون العبد فیها معذوراً فی المخالفة هو أنّ فی المقام یکون الاضطرار معلوماً و لا یکون المکلّف المضطرّ شاکّاً فیه أصلاً، غایة الأمر أنّه یشکّ فی انطباقه علی مورد التکلیف، و یحتمل أن یکون المضطرّ إلیه هو المکلّف به، أو أن یکون غیره، و حینئذٍ فأمره دائر بین أن یکون عروض الاضطرار بالنسبة إلی المکلّف به، فلا

ص:115

یکون التکلیف بالنسبة إلیه صالحاً للاحتجاج، و بین أن یکون المضطرّ إلیه هو غیر المکلّف به، فیکون التکلیف بالنسبة إلیه قابلاً له، فلا یعلم بثبوت التکلیف الفعلی الصالح للاحتجاج علی أیّ تقدیر، و قد عرفت أنّه شرط فی تأثیر العلم الإجمالی، فتأمّل، هذا.

و أمّا لو کان الاضطرار إلی المعیّن بعد تعلّق التکلیف و العلم به، فالظاهر هنا وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر، لأنّ مقتضی العلم الإجمالی بالتکلیف الفعلی الصالح للاحتجاج علی أیّ تقدیر هو لزوم الاحتیاط و تحصیل الموافقة القطعیّة، فإذا عرض له الاضطرار المانع عن ذلک فلا یری العقل المکلّف معذوراً فی ترک الموافقة الاحتمالیة، کما لا یخفی.

هذا کلّه فیما لو کان الاضطرار إلی واحد معیّن من الأطراف.

و أمّا لو کان إلی واحد غیر معیّن منها فالظاهر وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر مطلقاً؛ لعدم کون الاضطرار عارضاً للمکلّف به حتّی یخرج التکلیف الفعلی المتعلّق به عن الصالحیّة للاحتجاج؛ لأنّ الاضطرار إنّما عرض بالنسبة إلی واحد غیر معیّن من الأطراف، فالعلم بالتکلیف الفعلی الصالح للاحتجاج علی أیّ تقدیر موجود، ضرورة أنّه لو تبدّل إلی العلم التفصیلی بثبوته فی کلّ واحد من الأطراف لکان اللازم رفع الاضطرار بارتکاب الطرف الآخر، و احتمال کون ما یختاره المکلّف هو المکلّف به لا یضرّ بذلک بعد کون ذلک ناشئاً عن جهل المکلّف بالواقع.

و بالجملة: لا مزاحمة بین ثبوت التکلیف بالوصف المذکور و بین الاضطرار إلی بعض الأطراف بحسب الواقع، و لذا لو علم المکلّف به تفصیلاً لکان اللازم علیه امتثاله و رفع الاضطرار بالطرف الآخر، و إنّما المزاحمة بینهما

ص:116

وقع فی بعض الأوقات فی مقام العمل، لجهل المکلّف بالواقع، و هذا هو الفارق بین الاضطرار إلی المعیّن و الاضطرار إلی غیره، لأنّه فی الأوّل لا تکون المزاحمة مستندة إلی الجهل، بل المزاحمة علی تقدیر کون المضطرّ إلیه هو المکلّف به ثابتة مطلقاً مع العلم و الجهل، بخلاف الثانی.

و إن شئت قلت: إنّ الاضطرار لم یعرّض المکلّف به هنا له أصلاً، بخلاف الاضطرار إلی المعیّن، فإنّه فی أحد الوجهین یکون عارضاً للمکلّف به، کما لا یخفی.

و دعوی: أنّ بعد اختیار بعض الأطراف لا یکون العلم بالتکلیف موجوداً، فلا وجه للاحتیاط.

مدفوعة: بأنّ مقتضی ذلک عدم وجوب الاحتیاط فیما لو فقد بعض الأطراف أیضاً، و لا یقول به أحد.

و من جمیع ما ذکرنا یظهر: الخلل فیما أفاده المحقّق الخراسانی فی الکفایة، حیث إنّه قدس سره ذهب إلی عدم الفرق بین الاضطرار إلی واحد معیّن و بین الاضطرار إلی واحد غیر معیّن، و کذا نفی الفرق بین أن یکون الاضطرار سابقاً علی حدوث العلم أو لاحقاً؛ و اختار الفرق بین الاضطرار و فقد بعض الأطراف، نظراً إلی أنّ الاضطرار من حدود التکلیف بخلاف الفقدان.

و قال فی هامش الکفایة ما هذا لفظه: لا یخفی أنّ ذلک إنّما یتمّ فیما کان الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه، و أمّا لو کان إلی أحدهما المعیّن فلا یکون بمانع عن تأثیر العلم للتنجّز، لعدم منعه عن العلم بفعلیّة التکلیف المعلوم إجمالاً المردّد بین أن یکون التکلیف المحدود فی هذا الطرف أو المطلق فی الطرف الآخر، ضرورة عدم ما یوجب عدم فعلیّة مثل هذا المعلوم أصلاً، و عروض

ص:117

الاضطرار إنّما یمنع عن فعلیّة التکلیف لو کان فی طرف معروضه بعد عروضه، لا عن فعلیّة المعلوم بالإجمال المردّد بین التکلیف المحدود فی طرف المعروض و المطلق فی الآخر بعد العروض، و هذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه، فإنّه یمنع عن فعلیّة التکلیف فی البین مطلقاً، فافهم و تأمّل(1) ، انتهی.

و الخلل فی مجموع ما ذکره من وجوه:

أحدها: أنّ الاضطرار لا یکون من قیود التکلیف الفعلی و حدوده، بل التکلیف فعلی أیضاً مع وجود الاضطرار، غایة الأمر أنّه لا یکون صالحاً للاحتجاج، کما مرّ و یأتی.

ثانیها: أنّ الحکم بعدم الفرق بین صورتی الاضطرار کما فی المتن، أو بالفرق بالقول بتأثیر العلم إجمالی فی الاضطرار إلی غیر المعیّن دون الاضطرار إلی المعیّن کما فی الهامش ممنوع؛ لما عرفت من ثبوت الفرق بینهما بعکس ما ذکره فی الهامش، کما أنّ نفی الفرق بین سبق العلم و لحوقه قد عرفت منعه فی الاضطرار إلی المعیّن.

ثالثها: منع الفرق بین الاضطرار و فقدان بعض الأطراف، لأنّه کما لا یکون التکلیف الواقعی مؤثّراً مع وجود الاضطرار إلی متعلّقه، کذلک لا یکون بمؤثّر مع فقد المتعلّق، نعم فرق بین ما إذا کان الفقدان قبل تعلّق التکلیف و العلم به، و بین ما إذا کان بعدهما، کما أنّ هذا الفرق ثابت فی الاضطرار أیضاً، فتدبّر.

ص:118


1- (1) - کفایة الاُصول: 409، الهامش 1.
الأمر الثالث
اشارة

فی شرطیة الابتلاء لتنجیز العلم الإجمالی

ربّما یقال - کما هو المعروف بین المتأخّرین - بأنّه یشترط فی تنجیز العلم الإجمالی أیضاً أن تکون الأطراف ممّا یمکن ابتلاء المکلّف بها عادةً، نظراً إلی أنّ النهی عمّا لا یکون مورداً لابتلاء المکلّف بحسب العادة مستهجن عرفاً؛ لأنّه کما یعتبر فی عدم کون النهی قبیحاً عند العقل أن یکون المکلّف قادراً بالقدرة العقلیّة علی إتیان متعلّقه، کذلک یعتبر فی عدم کونه مستهجناً عند العرف أن یکون متعلّقه مقدوراً للمکلّف بالقدرة العادیّة، و هی مفقودة مع عدم الابتلاء بها عادةً.

و الوجه فی هذا الاعتبار أنّ الغرض من النهی إنّما هو إیجاد الداعی للمکلّف إلی ترک المنهی عنه لاشتماله علی المفسدة، و هذا الغرض حاصل بدون النهی فیما لو کان المنهی عنه متروکاً عادةً، کما أنّ الغرض من الأمر هو إیجاد الداعی له إلی فعل المأمور به لاشتماله علی المصلحة الملزمة، و مع ثبوته للمکلّف بدونه لا مجال للأمر أصلاً، لکونه مستهجناً عرفاً.

و ممّا ذکر یظهر: أنّ الرافع للاستهجان هو إمکان ثبوت الداعی إلی الفعل فی النهی و إلی الترک فی الأمر بحسب العادة، فلو فرض عدم هذا الداعی إمّا لعدم القدرة العادیّة علی الفعل فی الأوّل، و علی الترک فی الثانی، و إمّا لعدم حصول الداعی اتّفاقاً و إن کان مقدوراً عادة یستهجن التکلیف.

هذا غایة ما یمکن أن یقال فی توجیه هذا المقال.

ص:119

الفرق بین الخطابات القانونیة و الخطابات الشخصیة

و لا یخفی أنّ ذلک مبنی علی القول بانحلال الخطابات الشرعیّة إلی الخطابات المتعدّدة حسب تعدّد المکلّفین، فإنّه حینئذٍ لا بدّ من ملاحظة المکلّف المتوجّه إلیه الخطاب الشخصی و أنّه هل یکون مستهجناً بالنسبة إلیه، لأجل الاضطرار أو عدم القدرة العقلیّة أو العادیّة أو عدم انصراف إرادته، أو لا یکون کذلک، لفقدان هذه الاُمور، و لا یخفی أنّ الالتزام بذلک یوجب محذورات کثیرة:

منها: أنّ لازمه عدم صحّة تکلیف العاصی الذی لا یحتمل المولی الآمر أن یؤثّر أمره فیه، فیخرج عن کونه عاصیاً، و کذا الکافر بطریق أولی.

و منها: أنّ لازمه تعمیم ذلک بالنسبة إلی الأحکام الوضعیة أیضاً، فإنّه کما یستهجن التکلیف بحرمة الخمر الموجود فی البلاد البعیدة و النهی عن شربه، کذلک یکون جعل النجاسة له أیضاً مستهجناً بعد وضوح أنّ مثل هذا الجعل إنّما هو لغرض ترتیب الآثار، و لا معنی له بعد عدم الابتلاء به عادةً.

و حینئذٍ فیلزم أن یکون الخمر الواحد نجساً بالنسبة إلی من کان مبتلی به، و غیر نجس بالنسبة إلی غیر المبتلی، و هذا ممّا لا یمکن أن یلتزم به فقیه.

و بالجملة: فلا فرق فی الاستهجان بین کون المکلّف غیر قادر علی إتیان متعلّقه بالقدرة العادیّة، و بین کونه عاصیاً لا یحتمل أن یتأثّر من الأمر.

و دعوی: أنّ المصحّح للبعث و التحریک إنّما هو إمکان الانبعاث من المکلّف، و هو متحقّق فی العاصی و إن علم بعدم تأثیر الأمر فیه، لأنّه لا ینافی العلم بعدم التأثیر خارجاً مع إمکان الانبعاث ذاتاً.

ص:120

مدفوعة: بأنّ البعث لا یمکن أن یصدر إلاّ مع تحقّق مبادیه التی منها ترتّب الغایة و الغرض علیه، و بعد العلم بعدم ترتّب هذه الغایة علیه لأجل العلم بعدم انبعاث المکلّف و عدم تأثیر البعث فیه لا تکون المبادئ بأجمعها متحقّقة، و بدونها لا یعقل أن ینقدح فی نفس المولی إرادة البعث، کما هو واضح.

و التحقیق فی المقام أن یقال: إنّ الخطابات الشرعیّة خطابات کلّیة متوجّهة إلی عامّة المکلّفین، بحیث یکون الخطاب فی کلّ واحد منها واحداً و المخاطب متعدّداً حسب تعدّد المکلّفین، و المصحّح لهذا النحو من الخطاب العامّ إنّما هو ملاحظة حال نوع المخاطبین دون کلّ واحد منهم، فإن کانوا بحسب النوع قادرین بالقدرة العقلیّة و العادیّة یصحّ الخطاب إلی الجمیع بخطاب واحد، و لا یکون عجز البعض عقلاً أو عادةً موجباً لاستهجان الخطاب العامّ بعد عدم خصوصیة ممیّزة للعاجز، و هکذا بالنسبة إلی العاصی و الکافر، فإنّ المصحّح لتوجیه الخطاب العامّ الشامل للعاصی و الکافر أیضاً إنّما هو احتمال التأثیر بالنسبة إلی النوع و إن علم بعدم تأثیره بالنسبة إلی بعض المخاطبین.

و بالجملة: لا وجه للقول بانحلال الخطابات الشرعیّة إلی خطابات متعدّدة حسب تعدّد المخاطبین المکلّفین، خصوصاً بعد کون مقتضی ظواهرها هو وحدة الخطاب و تعدّد المخاطب، بل اللازم إبقائها علی ظاهرها، و به یندفع الإشکالات المتقدّمة، کما أنّه به یظهر الوجه فی وجوب الاحتیاط فی صورة الشکّ فی القدرة الذی هو مورد للاتّفاق.

و هذا بخلاف القول بالانحلال، فإنّه حینئذٍ یشکل الوجه فی ذلک، لأنّه بعد اختصاص الخطاب و التکلیف بالقادرین یکون مرجع الشکّ فی القدرة إلی الشکّ فی أصل التکلیف و هو مجری البراءة، کما هو واضح.

ص:121

إذا ظهر لک ذلک: تعرف أنّه لو کان بعض الأطراف فی الشبهة المحصورة خارجاً عن محلّ الابتلاء غیر مقدور بالقدرة العادیّة لا یکون ذلک موجباً لعدم تنجّز التکلیف المعلوم إجمالاً، لأنّ التکلیف یکون ثابتاً و لو کان متعلّقه خارجاً عن محلّ الابتلاء، لأنّ الخروج عن محلّ ابتلاء بعض المکلّفین لا یوجب استهجان الخطاب العامّ و التکلیف بنحو العموم، بل الملاک فی الاستهجان ما عرفت من خروجه عن محلّ ابتلاء عامّة المکلّفین أو أکثرهم. و حینئذٍ فلا بدّ من الاحتیاط بترک ما هو محلّ للابتلاء أیضاً، هذا مع العلم بالخروج عن محلّ الابتلاء. و أمّا مع الشکّ فی ذلک فالأمر أوضح.

کلام المحقّق النائینی فیما لو شکّ فی الخروج عن محلّ الابتلاء

ثمّ إنّ المحقّق المعاصر قدس سره بعد ذهابه إلی جریان البراءة فیما لو کان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء، اختار الاحتیاط فیما لو شکّ فی ذلک، لا من جهة الاُمور الخارجیّة، بل من جهة إجمال ما هو خارج عن موارد التکلیف الفعلی، حیث قال فی کتاب الدرر فی وجهه ما لفظه:

إنّ البیان المصحّح للعقاب عند العقل - و هو العلم بوجود مبغوض المولی بین أمور - حاصل، و إن شکّ فی الخطاب الفعلی من جهة الشکّ فی حسن التکلیف و عدمه.

و هذا المقدار یکفی حجّة علیه، نظیر ما إذا شکّ فی قدرته علی إتیان المأمور به و عدمها بعد إحراز کون ذلک الفعل موافقاً لغرض المولی و مطلوباً له ذاتاً، و هل له أن لا یقدم علی الفعل بمجرّد الشکّ فی الخطاب الفعلی الناشئ من

ص:122

الشکّ فی قدرته؟ و الحاصل أنّ العقل بعد إحراز المطلوب الواقعی للمولی أو مبغوضه لا یری عذراً للعبد فی ترک الامتثال(1) ، انتهی.

و المحقّق النائینی أیضاً تمسّک بهذا الوجه لوجوب الاحتیاط علی ما فی التقریرات(2) ، و لکن الفاضل المقرّر ذکر فی الحاشیة أنّه أورد علی شیخه الاُستاذ النقض بما لو علم بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء، لأنّ المفروض أنّه لا دخل للابتلاء و عدمه فی الملاک، فلو کان العلم بثبوت الملاک یقتضی وجوب الاجتناب عن أحد الطرفین مع الشکّ فی خروج الآخر عن مورد الابتلاء فلیقتض ذلک أیضاً مع العلم بخروج أحدهما عن مورد الابتلاء، و ذکر أنّه بعد النقض علیه: أسقط هذا الوجه عن الاعتبار(3)

. و کیف کان: فبناء علی مبناهم من کون الاضطرار و العجز و نحوهما من حدود التکلیف الفعلی و قیده لا مجال للقول بوجوب الاحتیاط مع الشکّ فی الخروج عن مورد الابتلاء؛ لأنّ کشف الملاک إنّما هو من طریق تعلّق التکلیف بناءً علی مذهب العدلیّة من تبعیّة الأحکام للمصالح و المفاسد النفس الأمریّة، و إلّا فمع عدمه کیف یستکشف الملاک؟

و حینئذٍ: فمع العلم بالخروج عن محلّ الابتلاء لا یکون العلم الإجمالی بمنجّز أصلاً؛ لأنّه لو کان الخارج عن محلّ الابتلاء هو متعلّق التکلیف لم یکن التکلیف المتعلّق إلیه فعلیّاً، لأنّ المفروض أنّه من حدود التکلیف الفعلی، و أمّا

ص:123


1- (1) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 465.
2- (2) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 55:4.
3- (3) - نفس المصدر: 57، الهامش 1.

مع الشکّ فی ذلک فالأمر أیضاً کذلک، لأنّ مرجع الشکّ فی الخروج إلی الشکّ فی ثبوت التکلیف الفعلی و هو مجری البراءة. و قد عرفت أنّ مقتضی کلامهم جریان البراءة فی صورة الشکّ فی القدرة، مع أنّهم لا یلتزمون به.

و بالجملة: لو علم بثبوت الملاک من غیر طریق الخطاب لکان لما ذکروه وجه، و لکنّ الظاهر أنّ مرادهم استکشافه من طریق التکلیف، و مع تقیید إطلاق الهیئة علی ما هو المفروض یکون إطلاق المادّة أیضاً المستکشف منه الملاک فی کلّ مورد أیضاً مقیّداً، لأنّ الخطاب المتوجّه إلی صنف خاصّ إنّما یستفاد منه ثبوت الملاک فی متعلّقه بالنسبة إلی ذلک الصنف فقط، و لا یکون طریقاً إلی ثبوته مطلقاً کما هو واضح، فلا وجه للاحتیاط مع الشکّ فضلاً عن صورة العلم.

و أمّا بناءً علی ما هو التحقیق فقد عرفت أنّ اللازم هو الاجتناب عن الطرف الآخر الذی هو مورد للابتلاء مطلقاً، فتأمّل جیّداً.

ثمّ إنّه استدلّ المحقّق النائینی قدس سره لوجوب الاحتیاط مع الشکّ فی الخروج عن مورد الابتلاء بوجه آخر أفاده الشیخ قدس سره و هو التمسّک بإطلاقات أدلّة المحرّمات، فقال فی تقریب الاستدلال به ما ملخّصه: أنّه لا إشکال فی إطلاق ما دلّ علی حرمة الخمر مثلاً و شموله لکلتا صورتی الابتلاء و عدمه، و القدر الثابت من التقیید عقلاً هو ما إذا کان الخمر خارجاً عن مورد الابتلاء بحیث یلزم استهجان النهی عنه بنظر العرف، فإذا شکّ فی استهجان النهی و عدمه لأجل الشکّ فی إمکان الابتلاء و عدمه فالمرجع هو الإطلاق، لأنّ التخصیص بالمجمل مفهوماً المردّد بین الأقلّ و الأکثر لا یمنع عن التمسّک بالعامّ فیما عدا القدر المتیقّن، بل الجواز فی المقام أولی من غیره، لأنّ المقیّد فیما نحن فیه هو حکم العقل، و فی المقیّدات اللبیّة یجوز التمسّک بالعامّ فی الشبهات

ص:124

المصداقیّة فضلاً عن الشبهات المفهومیة إذا کان التردید بین الأقلّ و الأکثر، کما فی المقام.

و بالجملة: لا ینبغی التأمّل فی جواز التمسّک بإطلاق أدلّة المحرّمات الواردة فی الکتاب و السنّة.

فإن قلت: المخصّص المجمل المتّصل بالعامّ یسری إجماله إلی العامّ و لا ینعقد له ظهور فی جمیع ما یحتمل انطباق مفهوم المخصّص علیه إذا کان المخصّص لفظیاً أو عقلیاً ضروریاً، سواء کان إجماله لأجل تردّده بین المتباینین أو بین الأقلّ و الأکثر، و التفصیل بینهما إنّما هو فی المخصّص اللفظی المنفصل أو ما بحکمه من العقل النظری، و أمّا العقل الضروری فحکمه حکم المتّصل، لأنّ المخصّص إذا کان ضروریّاً فبمجرّد صدور العامّ من المتکلّم ینتقل الذهن إلیه و یکون کالقرینة المحتفّة بالکلام یسری إجماله إلیه. و هذا بخلاف العقل النظری، فإنّه لا ینتقل الذهن إلیه إلاّ بعد الالتفات إلی المبادئ التی أوجبت حکم العقل، و قد لا تکون المبادئ حاضرة، فلا یمنع عن انعقاد الظهور للعامّ و لا یسری إجماله إلیه، و من المعلوم أنّ المخصّص فی المقام إنّما یکون من الأحکام العقلیّة الضروریّة، لأنّ ضرورة العقل قاضیة باستهجان النهی عمّا لا یمکن الابتلاء به، کما لا یخفی.

قلت أوّلاً: یمکننا منع کون المخصّص فی المقام من الضروریات العقلیّة المرتکزة فی أذهان العرف و العقلاء.

و ثانیاً: أنّ سرایة إجمال المخصّص اللفظی المتّصل أو العقلی الضروری إلی العامّ إنّما هو فیما إذا کان الخارج عن العموم عنواناً واقعیّاً غیر مختلف المراتب و تردّد مفهومه بین الأقلّ و الأکثر، کما لو تردّد مفهوم «الفاسق» الخارج

ص:125

عن عموم «أکرم العلماء» بین أن یکون خصوص مرتکب الکبیرة أو الأعمّ منه و من مرتکب الصغیرة، و أمّا إذا کان الخارج عنواناً ذا مراتب مختلفة و علم بخروج بعض مراتبه عن العامّ و شکّ فی خروج بعض آخر فإجماله لا یسری إلی العامّ، لأنّ الشکّ فی مثل هذا یرجع إلی الشکّ فی ورود مخصّص آخر للعامّ غیر ما علم التخصیص به فتأمّل(1). انتهی ملخّص موضع الحاجة من کلامه علی ما فی التقریرات.

و یرد علیه وجوه:

منها: أنّ ما أفاده من جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهات المصداقیّة للمقیّدات اللبّیّة محلّ نظر، بل منع؛ لأنّ مبنی ذلک إنّما هو دعوی أنّ العقل یخرج الأفراد و الخصوصیات، فمرجع الشکّ فی کون شیء مصداقاً للمخصّص إلی الشکّ فی التخصیص الزائد، و هذا المبنی بمکان من البطلان. ضرورة أنّ حکم العقل عبارة عن الکبریات الکلّیة الثابتة فی مواردها، و حکم العقل بخروج الأفراد إنّما هو لملاک واحد مشترک بینهما، فلا فرق بین قیام الدلیل اللفظی علی التخصیص و حکم العقل بذلک أصلاً، فکما لا یجوز التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصّص فی المخصّصات اللفظیة فکذلک لا یجوز فی اللبّیّات أیضاً.

و منها: أنّ الفرق بین العقل الضروری و النظری محلّ منع، بل الظاهر عدم الفرق بینهما من حیث کونهما کالمخصّص المتّصل؛ لأنّ العقل النظری و إن کان لا ینتقل الذهن إلیه إلاّ بعد الالتفات إلی المبادئ الموجبة لذلک، إلاّ أنّه

ص:126


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 57:4-60.

بعد الانتقال یعلم بعدم کون الظهور المنعقد للعامّ قبل الالتفات إلی تلک المبادئ ظهوراً حقیقیّاً و أنّه أخطأ فی توهّمه انعقاد الظهور للعامّ؛ لأنّه بعد الانتقال یعلم بکون دائرة العامّ من أوّل صدوره من المولی کانت أضیق ممّا کان یتوهّمه سابقاً.

و هذا بخلاف المخصّص اللفظی المنفصل، فإنّ العامّ کان منعقداً ظهوره فی العموم و لا یجوز رفع الید عنه إلاّ بالمقدار الذی یکون المخصّص فیه حجّة، و هو الأقلّ، ضرورة أنّ رفع الید بالنسبة إلی الأکثر یکون من قبیل رفع الید عن الحجّة بغیر الحجّة.

و أمّا فی المقام فبعد استکشاف حکم العقل یعلم بعدم انعقاد ظهور له فی العموم أصلاً کالعقل الضروری. و توهّم الانعقاد لا یوجب التفکیک، فکما یسری الإجمال إلی العامّ فی العقل الضروری فکذلک یسری إلیه فی العقل النظری، فلا یجوز التمسّک به فی کلتا الصورتین فتدبّر.

و منها: أنّ ما أفاده من الجواب الثانی عن الإشکال الذی أورده علی نفسه یرد علیه: - مضافاً إلی عدم الفرق بین مثال الفاسق و بین المقام؛ لأنّ الفاسق أیضاً ذو مراتب، للفرق بین الفسق الناشئ من التصرّف فی مال الغیر مثلاً و بین الفسق الناشئ من قتل النفس المحترمة عمداً، کما هو واضح.

و حینئذٍ فلو ثبت أنّ عنوان الفاسق یصدق أیضاً علی مرتکب الصغیرة تکون هذه المرتبة من الفسق من المراتب النازلة لعنوان الفسق - أنّ الفرق بین ما إذا کان عنوان المخصّص عنواناً واقعیّاً غیر مختلف المراتب، و ما إذا کان عنواناً ذا مراتب مختلفة فی عدم جواز التمسّک بالعامّ فی الأوّل دون الثانی، ممّا لا یکون له وجه؛ لأنّ المخصّص و لو کان عنواناً ذا مراتب إذا کان متّصلاً بالعامّ سواء کان

ص:127

لفظیاً أو عقلیاً ضروریّاً یسری إجماله إلی العامّ لا محالة و یمنع عن انعقاد ظهور للعامّ فی العموم، و لیس هنا حجّة علی العموم حتّی یتمسّک بها فی المقدار الذی لا یکون المخصّص حجّة بالنسبة إلیه.

و بالجملة: اتّصال المخصّص بالعامّ مانع عن کون ظهوره متّبعاً و قابلاً للاحتجاج؛ لأنّ الکلام ما دام کون المتکلِّم مشتغلاً به لا ینعقد له ظهور متّبع حتّی إذا فرغ المتکلّم منه، و هذا واضح جدّاً.

و حینئذٍ: فلا فرق من هذه الحیثیّة بین کون المخصّص ذا مراتب أو غیره، فمرجع التمسّک بالعامّ حینئذٍ إلی التمسّک به فی الشبهة المصداقیّة لنفس العامّ، و هو ممّا لا یجوز قطعاً.

و ما ذکره من أنّ الشکّ فی مثل هذا یرجع إلی الشکّ فی ورود مخصّص آخر خروج عن محلّ النزاع؛ لأنّ الکلام فی الشبهة المفهومیّة التی هی عبارة عن کون مفهوم المخصّص مجملاً و لا یعلم انطباقه علی بعض المصادیق.

و حینئذٍ فلا یلزم من دخول بعض المراتب أو خروجه تخصیص زائد أصلاً.

نعم لو علم بکون المفهوم ذا مراتب و شکّ مع ذلک فی خروج بعض المراتب و عدمه یکون ذلک من قبیل إجمال المراد، و لا یکون من قبیل الشبهة المفهومیّة أصلاً.

ثمّ إنّه أورد المحقّق الخراسانی قدس سره فی الکفایة علی هذا الوجه الذی أفاده الشیخ و تابعه المحقّق النائینی بما لفظه: إنّه لو شکّ فی ذلک - یعنی فی صحّة انقداح الداعی إلی الفعل فی نفس العبد - کان المرجع هو البراءة، لعدم القطع بالاشتغال، لا إطلاق الخطاب، ضرورة أنّه لا مجال للتشبّث به إلاّ فیما إذا شکّ فی التقیید بشیء بعد الفراغ عن صحّة الإطلاق بدونه، لا فیما شکّ فی

ص:128

اعتباره فی صحّته(1). و قال فی هامشها: نعم لو کان الإطلاق فی مقام یقتضی بیان التقیید بالابتلاء - لو لم یکن هناک ابتلاء مصحّح للتکلیف - کان الإطلاق و عدم بیان التقیید دالاًّ علی فعلیته و وجود الابتلاء المصحّح لها، کما لا یخفی فافهم(2) ، انتهی.

و أجاب عنه المحقّق النائینی - علی ما فی التقریرات - بما ملخّصه: إنّ إطلاق الکاشف بنفسه یکشف عن إمکان إطلاق النفس الأمری، و لو کان التمسّک بالمطلقات مشروطاً بإحراز إمکان الإطلاق لانسدّ باب التمسّک بالمطلقات بالکلّیة، إذ ما من مورد یشکّ فی التقیید إلاّ و یرجع إلی الشکّ فی إمکان الإطلاق، خصوصاً علی مذهب العدلیّة من تبعیّة الأحکام للمصالح و المفاسد النفس الأمریّة، لأنّ الشکّ فی کلّ قید یلازم الشکّ فی ثبوت المصلحة الموجبة للتقیید.

و بالجملة: الإطلاق اللفظی یکشف عن ثبوت الإطلاق النفس الأمری، کما أنّ الخطاب اللفظی یکشف عن ثبوت الملاک و المناط، و حینئذٍ فیؤخذ بظاهر الإطلاق فی الموارد المشکوکة و یستکشف منه إنّاً عدم استهجان التکلیف فی مورد الشکّ، کما یستکشف من إطلاق قوله علیه السلام: «اللهمّ العن بنی امیّة قاطبة» عدم إیمان من شکّ فی إیمانه من هذه الطائفة الخبیثة، مع أنّ حکم العقل بقبح لعن المؤمن لا ینقص عن حکمه بقبح تکلیف من لا یتمکّن عادة(3) ، انتهی.

ص:129


1- (1) - کفایة الاُصول: 410.
2- (2) - نفس المصدر: 410، الهامش 4.
3- (3) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 61:4-62.

و فیه: وضوح الفرق بین المقام و بین المقیّدات الاُخر؛ لأنّ استهجان الخطاب مع عدم الابتلاء ممّا یکون بدیهیّاً عند العامّة، بخلاف قضیّة المصلحة و المفسدة التی ذهب إلیها جمع من العلماء لنهوض الدلیل علیها و تکون مغفولاً عنها عند العرف و العقلاء، فإذا ورد «أکرم العلماء» مثلاً، یکون المتفاهم منه بنظر العرف هو وجوب إکرام الجمیع من غیر توجّه إلی ثبوت المصلحة فی إکرام الجمیع، و یکون العموم حجّة لا یرفعون الید عنها فی موارد الشکّ فی التخصیص. و هذا بخلاف المقام الذی لا یکون الخطاب مطلقاً بنظرهم و شاملاً لکلتا صورتی الابتلاء و عدمه، بل یکون مقیّداً من أوّل الأمر بصورة الابتلاء.

و حینئذٍ فلا یجوز التمسّک به مع الشکّ فی الابتلاء و عدمه، کما هو واضح.

ص:130

الأمر الرابع
اشارة

فی الشبهة الغیر المحصورة

و لا بدّ من جعل البحث فیها فیما إذا کان الحکم الموجود بین الأطراف الغیر المحصورة ثابتاً من إطلاق أو عموم أو قیام أمارة، ضرورة أنّه لو کان معلوماً بالعلم الوجدانی فقد عرفت فی أوّل مبحث الاشتغال أنّه یحرم مخالفته، و یجب موافقته قطعاً، و لا یعقل الترخیص و لو فی بعض الأطراف لعدم اجتماع الفعلیّة علی أیّ تقدیر مع الإذن فی البعض فضلاً عن الکلّ.

کما أنّه لا بدّ من تمحیض الکلام فی خصوص الشبهة الغیر المحصورة و أنّ کثرة الأطراف بنفسها هل یوجب الاجتناب عن الجمیع أم لا؟ مع قطع النظر عن العسر أو الاضطرار أو عدم الابتلاء، فإنّ هذه الاُمور نافیة للاحتیاط حتّی فی الشبهة المحصورة.

فمحلّ النزاع فی الشبهة الغیر المحصورة هو ما لو کانت الشبهة محصورة لوجب الاحتیاط فیها.

و ممّا ذکرنا یظهر أنّه لا وجه للتمسّک فی المقام بالعسر أو عدم الابتلاء، کما صنعه الشیخ فی الرسالة(1) و غیره فی غیرها فتدبّر.

ص:131


1- (1) - فرائد الاُصول 430:2-431.
فیما یدلّ علی عدم وجوب الاحتیاط فی الشبهة غیر المحصورة

ثمّ إنّه تدلّ علی عدم وجوب الاحتیاط فیها وجوه:

منها: دعوی الإجماع بل الضرورة من غیر واحد من الأعلام قدس سرهم(1)

. و منها: الأخبار الکثیرة الدالّة علی عدم وجوب الاحتیاط فی مطلق الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی أو خصوص الغیر المحصورة منها،

کصحیحة عبد اللّه بن سنان المتقدّمة(2) عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: «کلّ شیء فیه حلال و حرام فهو لک حلال أبداً حتّی تعرف الحرام منه بعینه».

و قد عرفت ظهورها فی الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی، و هی و إن کانت شاملة للمحصورة أیضاً، إلاّ أنّه لا بدّ من تقییدها و حملها علی غیر المحصور.

و دعوی أنّ ذلک حمل علی الفرد النادر مدفوعة جدّاً؛ لمنع کون الشبهة الغیر المحصورة قلیلة نادرة بالنسبة إلی المحصورة لو لم نقل بکونها أکثر، کما یظهر لمن تدبّر فی أحوال العرف.

و منه یظهر الخلل فیما أفاده الشیخ الأنصاری فی الرسالة فی مقام الجواب عن الاستدلال بالأخبار الدالّة علی حلّیة کلّ ما لم یعلم حرمته من أنّ هذه الأخبار نصّ فی الشبهة البدویّة، و أخبار الاجتناب نصّ فی الشبهة المحصورة، و کلا الطرفین ظاهران فی الشبهة الغیر المحصورة، فإخراجها عن

ص:132


1- (1) - جامع المقاصد 166:2، روض الجنان: 224 /السطر 21، الفوائد الحائریة: 247.
2- (2) - تقدّمت فی الصفحة 88.

أحدهما و إدخالها فی الآخر لیس جمعاً بل ترجیحاً بلا مرجّح(1)

. وجه الخلل: ما عرفت من ظهور مثل الصحیحة فی خصوص الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی، لأنّ الشیء الذی فیه الحلال و الحرام هو عبارة عن المختلط بهما و الشبهة البدویّة لا تکون کذلک.

و حینئذٍ: فبعد إخراج الشبهة المحصورة - لحکم العقلاء باستلزام الإذن فی الارتکاب فیها للإذن فی المعصیة، و هو مضافاً إلی قبحه غیر معقول کما عرفت - تبقی الشبهة الغیر المحصورة باقیة تحتها. هذا مضافاً إلی أنّه لو سلّمنا الشمول للشبهة البدویّة فکونها نصّاً فیها و ظاهراً فی الشبهة الغیر المحصورة محلّ نظر، بل منع، کما لا یخفی.

و یدلّ علی ما ذکرنا أیضاً

ما رواه البرقی فی محکی المحاسن عن أبی الجارود قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن الجبن فقلت: أخبرنی من رأی أنّه یجعل فیه المیتة، فقال: «أ من أجل مکان واحد یجعل فیه المیتة حرم جمیع ما فی الأرض؟! إذا علمت أنّه میتة فلا تأکله، و ما لم تعلم فاشتر و بِع و کُل، و اللّه إنّی لأعترض السوق فأشتری اللحم و السمن و الجبن، و اللّه ما أظنّ کلّهم یسمّون، هذه البربر و هذه السودان» (2). فإنّه لو اغمض النظر عن المناقشة فی السند و کذا فی المضمون من جهة صدورها تقیّة - لما عرفت سابقاً من عدم حرمة الجبن الذی علم تفصیلاً بوضع الأنفحة من المیتة فیه عند علمائنا

ص:133


1- (1) - فرائد الاُصول 432:2.
2- (2) - المحاسن: 597/495، وسائل الشیعة 119:25، کتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحدیث 5.

الإمامیّة رضوان اللّه علیهم، خلافاً للعامّة العمیاء، و الروایة مقرّرة لهذا الحکم - تکون دلالتها علی عدم وجوب الاجتناب فی الشبهة الغیر المحصورة واضحة.

و ما ادّعاه الشیخ قدس سره فی الرسالة من أنّ المراد أنّ جعل المیتة فی الجبن فی مکان واحد لا یوجب الاجتناب عن جبن غیره من الأماکن، و لا کلام فی ذلک، لا أنّه لا یوجب الاجتناب عن کلّ جبن یحتمل أن یکون من ذلک المکان، فلا دخل له بالمدّعی(1) فیه نظر واضح؛ لأنّ الحکم بعدم وجوب الاجتناب عن الجبن فی مکان مع العلم بعدم کونه من الأمکنة التی توضع فیها المیتة فی الجبن ممّا لا ینبغی أن یصدر من الإمام علیه السلام، و لا أن یقع مورداً للشکّ، کما هو واضح.

بل الظاهر أنّ المراد أنّ مجرّد احتمال کون الجبن موضوعاً فیه المیتة و أنّه من الجبن المنقولة من الأمکنة التی یوضع فیها المیتة فی الجبن لا یوجب الاجتناب عن کلّ جبن، و هذا هو المطلوب فی باب الشبهة الغیر المحصورة، کما أنّ قوله علیه السلام

: «ما أظنّ کلّهم یسمّون»، ظاهر فی أنّ العلم بعدم تسمیة جماعة حین الذبح کالبربر و السودان لا یوجب الاجتناب عن جمیع اللحوم. و دعوی أنّ المراد منه عدم وجوب الظنّ أو القطع بالحلّیة، بل یکفی أخذها من سوق المسلمین - کما فی الرسالة(2) - غریبة جدّاً و مخالفة للظاهر قطعاً.

ص:134


1- (1) - فرائد الاُصول 433:2.
2- (2) - نفس المصدر.

ثمّ إنّه یدلّ علی عدم وجوب الاجتناب فی الشبهة الغیر المحصورة الروایات الکثیرة الاُخر التی جمعها المحقّق الطباطبائی فی حاشیته علی المتاجر فی باب جوائز السلطان، مثل

صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

«أتی رجل أبی علیه السلام، فقال: إنّی ورثت مالاً و قد علمت أنّ صاحبه الذی ورثته منه قد کان یربی، و قد أعرف أنّ فیه رباً و أستیقن ذلک و لیس یطیب لی حلاله، لحال علمی فیه... إلی أن قال: فقال أبو جعفر علیه السلام: إن کنت تعلم بأنّ فیه مالاً معروفاً رباً و تعرف أهله فخذ رأس مالک و ردّ ما سوی ذلک، و إن کان مختلطاً فکله هنیئاً، فإنّ المال مالک» (1). و غیرها من الروایات الاُخر من أراد الاطّلاع علیها فلیراجع الحاشیة(2)

. و منها: ما أفاده المحقّق المعاصر فی کتاب الدرر(3) ، و توضیحه: أنّ تنجّز التکلیف عند العقلاء عبارة عن کونه بحیث یصحّ للمولی الاحتجاج به علی العبد و المؤاخذة علی مخالفته، و هذا المعنی غیر متحقّق فی الشبهة الغیر المحصورة، لأنّ احتمال الحرام قد بلغ من الضعف إلی حدّ لا یکون مورداً لاعتناء العقلاء و اعتمادهم علیه، بل ربّما یعدّون من ترتّب الأثر علی هذا النحو من الاحتمال سفیهاً خارجاً عن الطریقة العقلائیّة، أ لا تری أنّ من کان له ولد فی بلد عظیم کثیر الأهل، فسمع وقوع حادثة فی ذلک البلد منتهیة إلی قتل واحد من أهله، لو

ص:135


1- (1) - الکافی 5/145:5، وسائل الشیعة 129:18، کتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 5، الحدیث 3.
2- (2) - حاشیة المکاسب، المحقّق الیزدی 33:1.
3- (3) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 471.

ترتّب الأثر علی مجرّد احتمال کون المقتول هو ولده فأقام بالتعزیة و التضرّع یعدّ مذموماً عند العقلاء مورداً لطعنهم، بل لو کان مثل هذا الاحتمال سبباً لترتیب الأثر علیه لانسدّ باب المعیشة و سائر الأعمال، کما هو واضح.

و بالجملة: فالتکلیف و إن کان معلوماً لدلالة الإطلاق علیه أو نهوض أمارة شرعیّة علی ثبوته، إلاّ أنّ فی کل واحد من الأطراف أمارة عقلائیة علی عدم کونه هو المحرّم الواقعی، لأنّ احتماله مستهلک فی ضمن الاحتمالات الکثیرة علی حسب کثرة الأطراف، و مع بلوغه إلی هذا الحدّ یکون عند العقلاء بحیث لا یکون قابلاً للاعتناء أصلاً. و حینئذٍ فیجوز ارتکاب جمیع الأطراف مع وجود هذه الأمارة العقلائیّة بالنسبة إلی الجمیع، هذا.

و لکنّ المحقّق المزبور بعد توجیهه جواز الارتکاب بما یرجع إلی ذلک قال: و لکن فیما ذکرنا أیضاً تأمّل، فإنّ الاطمئنان بعدم الحرام فی کلّ واحد واحد بالخصوص کیف یجتمع مع العلم بوجود الحرام بینها و عدم خروجه عنها، و هل یمکن اجتماع العلم بالموجبة الجزئیة مع الظنّ بالسلب الکلّی؟(1) انتهی.

و لکن لا یخفی أنّ هذه الشبهة إنّما تتمّ لو کان متعلّق الاطمئنان متّحداً مع متعلّق العلم، و لکنّه لیس کذلک، لأنّ المعلوم هو وجود الحرام بین هذه الأطراف، و متعلّق الاطمئنان هو خروج کلّ واحد منها بالقیاس إلی غیرها، فحصل الاختلاف بین المتعلّقین. کیف و لو لم یمکن اجتماعهما لأجل التنافی یلزم ذلک فی الشبهة المحصورة أیضاً، فإنّه کیف یجتمع العلم بوجود الحرام بین الإنائین مع الشکّ فی کلّ واحد منهما أنّه هو المحرّم، و من المعلوم ثبوت التنافی بین العلم

ص:136


1- (1) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 471.

بالموجبة الجزئیة و الشکّ فی السلب الکلّی، و السرّ فی ذلک ما عرفت من اختلاف المتعلّقین، فتدبّر، هذا.

و یمکن إبداء شبهة اخری، و هو أنّ الأمارة مطلقاً عقلیّة کانت أو شرعیّة إنّما تکون معتبرة مع عدم العلم بکونها مخالفة للواقع، سواء کان العلم تفصیلیّاً أو إجمالیّاً، و فی المقام نعلم إجمالاً بأنّ واحداً من هذه الأمارات العقلیّة المتکثّرة القائمة علی خروج کلّ واحد من الأطراف بالقیاس إلی غیرها مخالف للواقع قطعاً، للعلم الإجمالی بوجود الحرام بینها.

و لکن یدفع الشبهة: أنّه کما کانت الأمارة قائمة علی عدم کون کلّ واحد من الأطراف بالقیاس إلی غیره هو المحرّم الواقعی، کذلک هنا أمارة عقلائیّة علی عدم کون کلّ أمارة بالقیاس إلی غیرها هی الأمارة المخالفة للواقع، لأنّ الشبهة فیه أیضاً غیر محصورة، فتأمّل.

ضابط الشبهة الغیر المحصورة

ثمّ إنّ ضابط الشبهة الغیر المحصورة یختلف حسب اختلاف الوجوه التی استدلّ بها لعدم الوجوب؛ أی الاحتیاط فیها، فلو تمسّک فیها بالإجماع فالواجب الرجوع إلی العرف فی تعیین مفهومها. و قد اختلف کلماتهم فی تحدید المعنی العرفی، فعن الشهید و المحقّق الثانیین(1) و بعض آخر(2) أنّه عبارة عمّا یعسر

ص:137


1- (1) - انظر فرائد الاُصول 436:2، جامع المقاصد 166:2، روض الجنان: 224 /السطر 20.
2- (2) - مدارک الأحکام 253:3.

عدّه مطلقاً، أو فی زمان قصیر کما عن المحقّق الثانی، و حکی عن غیرهم امور اخر لعلّه یأتی بعضها.

و لکن حیث إنّ الإجماع ممّا لا یجوز التمسّک به، لاختلاف العلل الموجبة للحکم بعدم وجوب الاحتیاط، کما هو المحتمل قویّاً فلا یکشف عن رأی المعصوم علیه السلام فلا طائل تحت النزاع فی موضوعه و تحقیق ما هو الحقّ.

و لکنّه علی تقدیر ثبوته لا یقتضی إلاّ عدم وجوب الموافقة القطعیة، لأنّه القدر المتیقّن منه، و أمّا جواز المخالفة القطعیة بارتکاب الجمیع فلا یستفید منه بعد عدم تیقّن کونه معقد الإجماع أیضاً، هذا.

و أمّا لو استند فی الحکم إلی الروایات المتقدّمة و نظائرها فلیس هنا عنوان الشبهة الغیر المحصورة حتّی ینازع فی تعیین معناها و بیان مفهومها؛ لأنّها لا تدلّ إلاّ علی حلّیة الشیء المختلط من الحلال و الحرام، و هی و إن کانت مخصّصة بالنسبة إلی الشبهة المحصورة، إلاّ أنّ عنوان المخصّص لیس أیضاً هو عنوانها، بل مورد المخصّص هو ما إذا کان الترخیص فی ارتکاب الجمیع مستلزماً للإذن فی المعصیة بنظر العقل أو العقلاء، ففی غیر هذا المورد یتمسّک بالعموم و یحکم بالترخیص.

و ممّا ذکرنا یظهر أیضاً أنّه بناءً علی هذا الوجه کما لا تکون الموافقة القطعیة واجبة، کذلک لا تکون المخالفة القطعیة بمحرّمة أصلاً؛ لدلالة الروایات علی حلّیة مجموع الشیء المختلط من الحلال و الحرام. و قد عرفت فیما سبق أنّ مرجع ذلک إلی رفع الید عن التکلیف التحریمی الموجود فی البین لمصلحة أقوی، و حینئذٍ فلو کان من أوّل الأمر قاصداً لارتکاب الجمیع لوجود الخمر بین الأطراف و لا یتحقّق العلم بارتکابه إلاّ بعد ارتکاب الجمیع لا یکون

ص:138

عاصیاً، بل و لا متجرّیاً؛ لعدم کون الخمر الموجود بینها بمحرّم أصلاً بعد حصول الاختلاط، هذا.

و لو استند فی الباب إلی الوجه الأخیر(1) الذی أفاده فی کتاب الدرر فالضابط هو بلوغ کثرة الأطراف إلی حدّ یکون احتمال کون کلّ واحد منها هو المحرّم الواقعی ضعیفاً، بحیث لم یکن معتنی به عند العقلاء أصلاً، فکلّما بلغت الکثرة إلی هذا الحدّ تصیر الشبهة غیر محصورة.

و مقتضی هذا الوجه أیضاً جواز ارتکاب الجمیع؛ لأنّ المفروض أنّ فی کلّ واحد من الأطراف أمارة عقلائیّة علی عدم کونه هو المحرّم الواقعی حتّی فیما إذا بقی طرف واحد، فإنّ الأمارة أیضاً قائمة علی عدم کونه هو المحرّم، بل المحرّم کان فی ضمن ما ارتکبه.

نعم لو کان قصده من أوّل الأمر ارتکاب المحرّم الواقعی بارتکاب الجمیع و ارتکب واحداً منها و اتّفق مصادفته للمحرّم الواقعی تصحّ عقوبته علیه، کما لا یخفی.

بیان المحقّق النائینی فی ضابط الشبهة الغیر المحصورة

ثمّ إنّ المحقّق النائینی قدس سره أفاد فی بیان ضابط الشبهة الغیر المحصورة ما ملخّصه: إنّ ضابط الشبهة الغیر المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهة حدّاً لا یمکن عادةً جمعها فی الاستعمال من أکل أو شرب أو نحوهما لأجل الکثرة. فلا بدّ فی الشبهة الغیر المحصورة من اجتماع کلا الأمرین: کثرة العدد، و عدم التمکّن

ص:139


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 135.

من جمعه فی الاستعمال، فالعلم بنجاسة حبّة من الحنطة فی ضمن حقّة منها لا یکون من قبیل الشبهة الغیر المحصورة، لإمکان استعمال الحقّة من الحنطة بطحن و خبز و أکل، مع أنّ نسبة الحبّة إلی الحقّة تزید عن نسبة الواحد إلی الألف، کما أنّ مجرّد عدم التمکّن العادی من جمع الأطراف فی الاستعمال فقط لا یوجب أن تکون الشبهة غیر محصورة، إذ ربّما لا یتمکّن عادة من ذلک مع کون الشبهة فیه أیضاً محصورة، کما لو کان بعض الأطراف فی أقصی بلاد المغرب، فلا بدّ فیها من اجتماع کلا الأمرین.

و منه یظهر عدم حرمة المخالفة القطعیّة؛ لأنّ المفروض عدم التمکّن العادی منها، و کذا عدم وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ وجوبها فرع حرمة المخالفة القطعیّة، لأنّ الوجوب یتوقّف علی تعارض الاُصول فی الأطراف، و تعارضها یتوقّف علی حرمة المخالفة القطعیة، لیلزم من جریانها مخالفة عملیة للتکلیف المعلوم فی البین، فإذا لم تحرم - کما هو المفروض - لم یقع التعارض، و مع عدمه لا یجب الموافقة القطعیة(1) ، انتهی.

و فیه وجوه من النظر:

الأوّل: أنّ المراد بالتمکّن العادی من الجمع فی الاستعمال إن کان هو الإمکان دفعةً؛ أی فی أکل واحد أو شرب واحد أو لبس کذلک و هکذا، فهذا یوجب دخول أکثر الشبهات المحصورة فی هذا الضابط، لأنّ کثیراً منها ممّا لا یمکن عادةً جمعها فی استعمال واحد، لأجل کثرة أطرافه المحصورة. و إن کان المراد هو الإمکان و لو تدریجاً بحسب مرور الأیّام و الشهور و السنین فلازمه خروج أکثر

ص:140


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 117:4-119.

الشبهات الغیر المحصورة؛ لإمکان جمعها فی الاستعمال تدریجاً، کما هو واضح.

الثانی: أنّک عرفت فیما تقدّم مراراً أنّ التکالیف الفعلیة ثابتة بالنسبة إلی جمیع المخاطبین، و لا تکون مشروطة بالعلم و القدرة و نظائرهما، غایة الأمر أنّ الجاهل و العاجز معذوران فی المخالفة؛ لأنّ الملاک فی حسن الخطاب بنحو العموم و استهجانه غیر ما هو المناط فیهما بالنسبة إلی الخطاب الشخصی، فلو لم یکن الشخص قادراً علی ترک المنهی عنه یکون معذوراً، کما أنّه لو لم یکن قادراً علی إتیان المأمور به یکون کذلک. فالموجب للمعذوریّة إنّما هو عدم القدرة علی الترک فی الأوّل، و علی الفعل فی الثانی لتحقّق المخالفة، و أمّا لو لم یکن قادراً علی الفعل فی الأوّل و علی الترک فی الثانی فلا معنی للعذر هنا، لعدم حصول المخالفة منه أصلاً، کما لا یخفی.

و حینئذٍ: فما أفاده من أنّ عدم التمکّن العادی من المخالفة القطعیة یوجب أن لا تکون محرّمة، ممنوع؛ لأنّ عدم التمکّن لا یوجب تحقّق المنهی عنه حتّی یرتفع حکمه أو یصیر معذوراً، فتدبّر.

الثالث: أنّه لو سلّم ما ذکر فنقول: إنّ ما تعلّق به التکلیف التحریمی هو الخمر الموجود فی البین، فلا بدّ من ملاحظة عدم التمکّن بالنسبة إلیه، و أمّا الجمع بین الأطراف الذی هو عبارة اخری عن المخالفة القطعیّة فلا یکون مورداً لتعلّق التکلیف حتّی یکون عدم التمکّن العادی من المکلّف به موجباً لرفع التکلیف المتعلّق به.

و بالجملة: ما هو مورد لتعلّق التکلیف - و هو الخمر الموجود بین الأطراف المتکثّرة - یکون متمکّناً من استعماله فی نفسه؛ لأنّه لا یکون إلاّ فی إناء واحد مثلاً، و ما لا یتمکّن من استعماله - و هو الجمع بین الأطراف - لا یکون متعلّقاً

ص:141

لحکم تحریمی أصلاً. نعم یحکم العقل بلزوم ترکه فی أطراف الشبهة المحصورة أو غیرها أیضاً بناءً علی بعض الوجوه، کما عرفت.

مقتضی القاعدة عند الشکّ فی کون شبهة محصورة أو غیر محصورة

ثمّ إنّه لو شکّ فی کون شبهة محصورة أو غیرها من جهة المفهوم أو المصداق فهل القاعدة تقتضی الاحتیاط أم لا؟

و لنتکلّم فی ذلک بناءً علی الوجهین الأخیرین اللذین یمکن الاستدلال بهما لنفی وجوب الاجتناب فی الشبهة الغیر المحصورة، و إن کان الاستناد إلی کلّ واحد مستقلاًّ، لا یخلو عن الإیراد؛ لعدم وفاء الروایات بتمام المقصود، لأنّها لا تشمل الشبهة الغیر المحصورة الوجوبیة، بل یختصّ بالتحریمیة منها، و عدم خلوّ الوجه الأخیر من المناقشة؛ لأنّه لو فرض بعد العلم الإجمالی بوجود الحرام بین الأطراف الغیر المحصورة أنّه ظنّ بالظنّ الغیر المعتبر أنّ الحرام إنّما هو بین أطراف محصورة منها، کما لو ظنّ بوجود الحرام بین عشرة معیّنة من الألف الذی یعلم إجمالاً بأنّ واحداً منه حرام واقعاً، لم یکن حینئذٍ أمارة عقلائیّة علی عدم کون کلّ واحد من الأطراف هو الحرام الواقعی بالقیاس إلی غیره؛ لعدم اجتماع الظنّ بوجوده بینها مع الأمارة العقلائیة علی الخلاف فی کلّ واحد منها، کما لا یخفی.

هذا، و لکنّ الاستناد إلی مجموع الوجهین و جعلهما دلیلاً واحداً خال عن المناقشة و الإیراد.

و کیف کان: فبناءً علی کون الدلیل فی المقام هی الروایات الدالّة علی

ص:142

حلّیة المختلط من الحلال و الحرام مطلقاً، فإن قلنا: بأنّها قد خصّصت بالإجماع علی وجوب الاجتناب فی الشبهة المحصورة بعنوانها، فإن کانت الشبهة مفهومیّة دائرة بین الأقلّ و الأکثر، یجب الرجوع فی مورد الشکّ إلی الروایات الدالّة علی الحلّیة، کما هو الشأن فی نظائر المقام ممّا کان الشکّ من جهة المفهوم و تردّده بین الأقلّ و الأکثر.

و إن کانت الشبهة مصداقیّة کما إذا علم بأنّ الألف یکون من الشبهة الغیر المحصورة و نصفه من المحصورة، و لکن شکّ فی أنّ أطراف هذه الشبهة الخارجیّة هل تبلغ الألف أو لا تتجاوز عن نصفه فلا مجال من الرجوع إلی الإجماع بعد عدم إحراز موضوعه، و لا من الرجوع إلی الروایات؛ لأنّه من قبیل التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة للمخصّص، و قد حقّق سابقاً عدم الجواز، بل اللازم الرجوع إلی أدلّة التکالیف الأوّلیة و الحکم بوجوب الاجتناب؛ لعدم ثبوت المرخّص، کما هو واضح.

هذا کلّه لو کان المخصّص للروایات هو الإجماع علی خروج عنوان الشبهة المحصورة، و أمّا لو کان المخصّص هو حکم عقل العرف بلزوم رفع الید عن العموم فی ما یوجب الإذن فی المعصیة فاللازم بناءً علی ما ذکرنا سابقاً من أنّ الدلیل العقلی إنّما یکون کالمخصّص المتّصل ضروریّاً کان أو نظریّاً، یکون العامّ من أوّل الأمر مقیّداً بغیر صورة یستلزم الإذن فی المعصیة الذی هو قبیح، فلا یجوز التمسّک به فی مورد الشکّ؛ لأنّه من قبیل التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة لنفسه، و هو لا یجوز اتّفاقاً، هذا.

و أمّا لو کان الدلیل هو الوجه الأخیر، فإن کانت الشبهة مصداقیّة فالظاهر أنّه لا یجب الاجتناب؛ لأنّ العلم الإجمالی بوجود الحرام الواقعی فی

ص:143

البین و إن کان موجباً للاحتیاط، إلاّ أنّه إذا خرج من ذلک ما إذا قامت الأمارة العقلائیة علی عدم کون کلّ واحد من الأطراف هو الحرام الواقعی بالقیاس إلی غیره فهو نظیر ما إذا دلّ الدلیل الشرعی علی ذلک، فالتمسّک بدلیل التکلیف الواقعی فی مورد الشکّ من قبیل التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة، و حینئذٍ فلا یبقی وجه لوجوب الاجتناب.

و أمّا لو کانت الشبهة مفهومیّة فالواجب الرجوع إلی دلیل التکلیف الواقعی و الحکم بوجوب الاجتناب؛ لعدم ثبوت کون مورد الشکّ خارجاً، نظیر ما إذا کان المخصّص اللفظی مجملاً مفهوماً مردّداً بین الأقلّ و الأکثر، کما لا یخفی.

تنبیهان:

الأوّل: أنّه بعد الحکم بعدم تأثیر العلم الإجمالی فی الشبهة الغیر المحصورة هل تکون الأطراف محکومة بالحکم المترتّب علی الشکّ البدوی، فلا یجوز التوضّی بالمائع المشتبه بین الماء و البول بالشبهة الغیر المحصورة - کما هو الشأن فی المشتبه بالشبهة البدویّة - ضرورة لزوم إحراز کون ما یتوضّأ به ماءً مطلقاً، أو تسقط الأطراف عن حکم الشکّ البدوی أیضاً، فیجوز الوضوء بالمائع المردّد بین الماء و البول فی المثال؟

وجهان: مبنیّان علی الوجهین السابقین اللذین استند إلیهما لنفی وجوب الاحتیاط فی الشبهة الغیر المحصورة.

فإن کان المستند فی ذلک هی روایات الحلّ فلا یجوز التوضّی به فی المثال؛ لأنّ مدلولها مجرّد الحلّیة فی مقابل الحرمة، و أمّا إثبات الموضوع و أنّ

ص:144

الحلال هو الماء فلا تدلّ علیه أصلاً، کما هو الشأن فی الشکّ البدوی، کما لا یخفی.

و أمّا لو کان المستند هو الوجه الأخیر الذی مرجعه إلی وجود أمارة عقلائیّة فی کلّ واحد من الأطراف فتسقط عن حکم الشکّ البدوی أیضاً؛ لأنّ الأمارة قائمة علی عدم کون کلّ واحد منها هو البول و المفروض اعتبار هذه الأمارة شرعاً، فکلّ واحد من الأطراف محکوم شرعاً بعدم کونه بولاً، فیجوز التوضّی به، هذا.

و لا یخفی: أنّه بناءً علی ما أفاده المحقّق النائینی(1) من الوجه لعدم وجوب الاحتیاط فی الشبهة الغیر المحصورة - و هو أنّه لا تکون المخالفة القطعیة بمحرّمة، لعدم القدرة علیها، و وجوب الموافقة القطعیّة فرع حرمة المخالفة، فإذا فرض عدمها لا تکون الموافقة أیضاً واجبة - لا بدّ من الالتزام بکون حکم کلّ واحد من الأطراف هو حکم الشکّ البدوی، کما هو واضح، مع أنّه ذکر الفاضل المقرّر أنّه کان شیخه الاُستاذ مائلاً إلی سقوط حکم الشبهة أیضاً(2) فتدبّر.

الثانی: أنّک عرفت(3) أنّ روایات الحلّ لا تشمل الشبهة الغیر المحصورة الوجوبیّة، لانحصار موضوعها بالمختلط من الحلال و الحرام. نعم الوجه الأخیر یشمل الصورتین معاً. و حینئذٍ فلو نذر أن یشرب من إناء معیّن و اشتبه بین

ص:145


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 140.
2- (2) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 119:4.
3- (3) - تقدّم فی الصفحة 88-89.

الأوانی الغیر المحصورة و خرج جمیع الأطراف عن محلّ الابتلاء و بقی واحد منها فقط فلا یجب الشرب من الإناء الذی هو محلّ للابتلاء؛ لقیام الأمارة العقلائیة علی عدم کونه هو الإناء الذی نذر أن یشرب منه، بعد کون احتمال أنّه هو ذلک الإناء ضعیفاً لا یعتنی به عند العقلاء.

نعم لو کان متمکّناً من الشرب من الأوانی الکثیرة التی نسبتها إلی مجموع الأوانی الغیر المحصورة نسبة المحصور یجب الاحتیاط بالشرب من جمیع ما یتمکّن من شربه، و السرّ أنّ ترک الشرب من مجموع ما یتمکّن من شربه لا بدّ و أن یکون مستنداً إلی الأمارة العقلائیّة، ضرورة أنّ العلم الإجمالی یقتضی الموافقة القطعیة مع القدرة، و الاحتمالیة مع عدمها، و المفروض أنّ الأمارة العقلائیّة لا تکون قائمة علی عدم کون الإناء المعیّن الذی نذر الشرب منه فی جملة الأوانی التی یتمکّن من شربها؛ لأنّ نسبة هذه الأوانی إلی الجمیع نسبة المحصور، و الأمارة لا تکون قائمة إلاّ فی غیر المحصور، کما لا یخفی.

ص:146

الأمر الخامس
اشارة

فی حکم الملاقی لأحد أطراف العلم الإجمالی بوجود النجس

و تنقیح الکلام فی هذا المقام یتمّ برسم امور:

فی صور العلم بالملاقاة

الأوّل: أنّ العلم بالملاقاة قد یکون متقدّماً علی العلم الإجمالی بوجود النجس فی البین، و قد یکون متأخّراً عنه، و قد یکون مقارناً معه، و علی أیّ تقدیر فقد یکون الملاقی - بالفتح - مورداً للابتلاء، و قد یکون خارجاً عنه مطلقاً أو حین العلم الإجمالی بالنجس.

ثمّ إنّه قد یعلم أوّلاً بنجاسة الملاقی و الطرف، و قد یعلم أوّلاً نجاسة الملاقی و الطرف، و قد یعلم نجاسة الملاقی و الملاقی أو الطرف.

فی أنّ ملاقی النجس نجس بعنوانه

الثانی: أنّ الظاهر أنّ نجاسة ملاقی النجس إنّما هی حکم وضعی تعبّدی ثابت لموضوعه، و لا تکون من آثار النجس بحیث کان معنی الاجتناب عن النجس راجعاً إلی الاجتناب عنه و عمّا یلاقیه.

نعم یمکن أن یقال بأنّ تنجیس النجس الراجع إلی سببیّته لنجاسة الملاقی یکون مجعولاً شرعاً، بناءً علی ما هو الحقّ من إمکان جعل السببیّة، و أمّا السرایة التکوینیّة فقد لا تکون متحقّقة، کما لا یخفی.

ص:147

و بالجملة: فظاهر مثل قوله: «الماء إذا بلغ قدر کرّ لم ینجّسه شیء»(1) هو کون النجس منجّساً للماء الغیر البالغ حدّ الکرّ و موجباً لنجاسته، و مرجع ذلک إلی تأثیره شرعاً فی نجاسة ملاقیه، و أمّا الحکم بأنّ معنی الاجتناب عن النجس هو الاجتناب عنه و عمّا یلاقیه فلا وجه له و إن کان قد یستدلّ لذلک بقوله تعالی: «وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ» (2) لأنّ التهجر عن النجاسات لا یتحقّق إلاّ بالتهجّر عن ملاقیها، و

بروایة جابر الجعفی عن أبی جعفر علیه السلام أنّه أتاه رجل فقال له: وقعت فأرة فی خابیة فیها سمن أو زیت، فما تری فی أکله؟ فقال أبو جعفر علیه السلام: «لا تأکله»، فقال الرجل: الفأرة أهون علی من أن أترک طعامی من أجلها، فقال أبو جعفر علیه السلام: «إنّک لم تستخفّ بالفأرة، و إنّما استخففت بدینک، إنّ اللّه حرّم المیتة من کلّ شیء» (3)

. وجه الدلالة أنّه علیه السلام جعل ترک الاجتناب عن الطعام استخفافاً بتحریم المیتة، و لو لا استلزامه لتحریم ملاقیه لم یکن أکل الطعام استخفافاً بتحریم المیتة، فوجوب الاجتناب عن شیء یستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقیه.

أقول: أمّا قوله تعالی: «وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ» فنمنع أوّلاً أن یکون المراد بالرجز هی الأعیان النجسة، و ثانیاً کون المراد بالتهجّر هو التهجّر عنه و عمّا یلاقیه.

ص:148


1- (1) - راجع وسائل الشیعة 158:1-159، کتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحدیث 1 و 2 و 5 و 6.
2- (2) - المدثّر (74):5.
3- (3) - تهذیب الأحکام 1327/420:1، وسائل الشیعة 206:1، کتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحدیث 2.

و أمّا الروایة - فمضافاً إلی ضعف سندها - یرد علی الاستدلال بها أنّه یحتمل قویّاً أن یکون مورد السؤال هو وقوع الفأرة فی الطعام بحیث تفسّخت فیه و انبثّت أجزاؤها، فحرمة أکل الطعام إنّما هو من حیث إنّه مستلزم لأکل المیتة، و الدلیل علی ذلک التعلیل الواقع فی الذیل الدالّ علی أنّ ترک الاجتناب عن الطعام استخفاف بتحریم المیتة، ضرورة أنّه لم یقل أحد بأنّ حرمة شیء تستلزم حرمة ما یلاقیه. و حمل الحرمة فی الروایة علی النجاسة مضافاً إلی أنّه خلاف الظاهر لا بینة علیه أصلاً.

و دعوی أنّ الطباع تتنفّر من أکل الطعام الکذائی الذی صارت أجزاء المیتة مخلوطة بأجزائه فلا ینبغی حمل مورد السؤال علیه، مدفوعة بقول السائل: «الفأرة أهون علی من أن أترک طعامی من أجلها» خصوصاً بعد ملاحظة حال الأعراب فی صدر الإسلام، بل فی الأزمنة المتأخّرة، کما لا یخفی.

فانقدح ممّا ذکرنا: أنّه ما لم یقم الدلیل علی نجاسة ملاقی النجس لم یفهم أحد من نفس الأدلّة الدالّة علی نجاسة الأعیان النجسة نجاسة ما یلاقیها من سائر الأشیاء أیضاً، بل لا بدّ من قیام الدلیل علی ذلک، و قد عرفت أنّ ظاهره جعل السببیّة الشرعیّة الراجعة إلی تأثیر النجس شرعاً فی نجاسة ملاقیه، فتدبّر.

مقتضی الأصل العقلی فی صور الملاقاة

الثالث: یعتبر فی تأثیر العلم و کذا غیره من الأمارات المعتبرة أن یکون متّصفاً بالکاشفیّة الفعلیّة و مؤثراً فی التنجیز فعلاً و صالحا للاحتجاج به کذلک، فلو حصل له من طریق أمارة معتبرة الحکم الواقعی ثمّ قامت أمارة

ص:149

اخری علی وفق الأمارة الاُولی فلا تکون الأمارة الاُخری بمؤثّرة أصلاً، و یکون وجودها بمنزلة العدم، لعدم اتّصافها بالکاشفیّة الفعلیّة بعد حصول الکشف بسبب الأمارة الاُولی، و عدم إمکان تحقّق الکشفین بالنسبة إلی شیء واحد، و کذا لا تکون مؤثّرة فی التنجیز و قابلة للاحتجاج به فعلاً، لعدم إمکان التنجّز مرّتین و استحالة تمامیّة الحجّة ثانیاً بعد إتمامها أوّلاً، و کذا بالنسبة إلی العلم.

إذا عرفت ذلک فنقول: إنّ العلم الإجمالی بالنجس المردّد بین الملاقی و الطرف قد أثّر فی التنجّز بمجرّد تحقّقه، بمعنی أنّه صار موجباً للاجتناب علی أیّ تقدیر، فالواقع صار مکشوفاً بهذا النحو من الکشف، و بعد ذلک نقول: إنّ العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی - بالکسر - أو الطرف لا یکون کاشفاً فعلیّاً علی تقدیر کون النجس هو الطرف الآخر؛ لأنّه صار مکشوفاً بالعلم الإجمالی الأوّل، و قد عرفت أنّه لا یعقل عروض الکشف علی الکشف و تحقّقه مرّتین، کما أنّه لا یکون هذا العلم الإجمالی مؤثّراً فی التنجّز فعلاً بعد کونه مسبوقاً بما أثّر فیه، و حینئذٍ فلا أثر له أصلاً، فالشکّ فی نجاسة الملاقی شکّ بدوی. هذا إذا کان العلم الإجمالی بالنجس متقدّماً علی العلم بالملاقاة.

و أمّا لو علم أوّلاً بنجاسة الملاقی - بالکسر - أو الطرف، ثمّ حصل العلم بالملاقاة و العلم بنجاسة الملاقی - بالفتح - أو الطرف فذهب المحقّق الخراسانی فی الکفایة إلی عدم وجوب الاجتناب حینئذٍ عن الملاقی - بالفتح - لأنّ حکم الملاقی فی هذه الصورة حکم الملاقی فی الصورة السابقة بلا فرق بینهما أصلاً، فکما أنّ الملاقی هناک لم یکن طرفاً للعلم الإجمالی بالنجاسة، کذلک الملاقی هنا لا یکون طرفاً له، کما هو المفروض.

ص:150

و ذهب أیضاً إلی عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی - بالفتح - فیما إذا علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالی، و لکن کان الملاقی خارجاً عن محلّ الابتلاء فی حال حدوثه و صار مبتلی به بعده، و إلی وجوب الاجتناب عن الملاقی و الملاقی معاً فیما لو حصل العلم الإجمالی بعد العلم بالملاقاة مستدلا بقوله: ضرورة أنّه حینئذٍ نعلم إجمالاً إمّا بنجاسة الملاقی و الملاقی أو بنجاسة الآخر، فیتنجّز التکلیف بالاجتناب عن النجس فی البین و هو الواحد أو الاثنین(1) ، انتهی.

أقول: و التحقیق أیضاً یوافق هذا التفصیل، لما مرّ من الوجه فی الصورة الاولی، فإنّه بعد ما علم إجمالاً بنجاسة الملاقی - بالکسر - أو الطرف صار مقتضی هذا العلم تنجّز التکلیف بوجوب الاجتناب علی أیّ تقدیر، فلو کان النجس هو الطرف لکان منکشفاً بهذا العلم و تنجّز التکلیف المتعلّق به بسببه، و بعد ذلک لا معنی لتأثیر العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی - بالفتح - أو الطرف، إذ لا یعقل الانکشاف مرّتین و تنجّز التکلیف مرّة بعد اخری، کما لا یخفی. فهذا العلم الإجمالی لا یکون واجداً لشرط التأثیر و هو التنجیز علی أیّ تقدیر، فالشکّ فی نجاسة الملاقی - بالفتح - شکّ بدوی کالملاقی فی الصورة السابقة.

و ممّا ذکرنا ظهر: أنّ الإشکال إنّما هو من ناحیة الطرف لا الملاقی و الملاقی، لعدم إمکان انکشافه مرّتین و تنجّز التکلیف به کذلک، و حینئذٍ فلا وقع لما أورده المحقّق النائینی(2) علی هذا التفصیل من أنّه لا بدّ من

ص:151


1- (1) - کفایة الاُصول: 412.
2- (2) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 86:4.

ملاحظة حال المعلوم و المنکشف من حیث التقدّم و التأخّر بحسب الرتبة، و فی الصورة الثانیة یکون رتبة العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی - بالفتح - أو الطرف متقدّمة علی العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی - بالکسر - أو الطرف و إن کان حدوثه متأخّراً عن حدوثه، لأنّ التکلیف بالملاقی إنّما جاء من قبل التکلیف بالملاقی. و ذلک - أی وجه عدم الورود - ما عرفت من أنّ الإشکال إنّما هو من ناحیة الطرف، لا من ناحیة تقدّم أحد العلمین علی الآخر حدوثاً حتّی یورد علیه بما ذکر.

هذا مضافاً إلی أنّ هذا الإیراد فاسد من أصله، و المثال الذی ذکره لا یرتبط بالمقام أصلاً، حیث قال: لو علم بوقوع قطرة من الدم فی أحد الإنائین، ثمّ بعد ذلک علم بوقوع قطرة اخری من الدم فی أحد هذین الإنائین أو فی الإناء الثالث، و لکن ظرف وقوع القطرة المعلومة ثانیاً أسبق من ظرف وقوع القطرة المعلومة أوّلاً، فلا ینبغی التأمّل فی أنّ العلم الإجمالی الثانی یوجب انحلال الأوّل لسبق معلومه علیه(1) ، انتهی.

وجه عدم الارتباط أنّ فی المثال بعد العلم الإجمالی بوقوع القطرة فی أحدهما أو فی الإناء الثالث یعلم أنّ العلم الإجمالی الحادث أوّلاً لم یکن واجداً لشرط التنجیز، لأنّه لم یکن متعلّقاً بالتکلیف، لثبوته قبله المنکشف بالعلم الإجمالی الثانی.

و بالجملة: فالعلم الإجمالی الأوّل و إن کان حین حدوثه متعلّقاً بالتکلیف و مؤثّراً فی تنجیزه بنظر العالم، إلاّ أنّه بعد استکشاف ثبوته قبله

ص:152


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 87:4.

بالعلم الثانی یعلم عدم تعلّقه بالتکلیف و عدم کونه مؤثّراً فی تنجیزه، کما لا یخفی.

و هذا بخلاف المقام، فإنّ العلمین حیث تعلّق أحدهما بوجوب الاجتناب عن الملاقی أو الطرف، و الآخر بوجوب الاجتناب عن الملاقی أو الطرف لا إشکال فی تأثیرهما فی تنجیز متعلّقهما من حیث هو. نعم قد عرفت الإشکال فی تأثیر العلم الثانی من ناحیة الطرف لا المتلاقیین، فمن حیث التقدّم و التأخّر من جهة الرتبة لا إشکال فی تأثیرهما أصلاً، کما لا یخفی.

فانقدح بذلک وضوح الفرق بین المثال و المقام، فإنّ هنا لا یکون شیء من العلمین فاقداً لشرط التأثیر فی التنجیز، لأنّ کلاًّ منهما تعلّق بتکلیف فعلی، و التقدّم و التأخّر من جهة الرتبة لا یمنع من ذلک، و هناک لا یکون العلم الإجمالی الحادث أوّلاً متعلّقاً بتکلیف فعلی بحسب الواقع و إن کان کذلک بنظر العالم ما لم یحدث له العلم الإجمالی الثانی.

و السرّ فیما ذکرنا من عدم مدخلیّة التقدّم و التأخّر بحسب الرتبة أنّ المنجزیّة من آثار العلم بوجوده الخارجی، لأنّه ما لم یوجد فی الخارج لا یؤثّر فی التنجیز کما هو واضح، و التقدّم و التأخّر إنّما هو من أوصاف العلمین عند العقل، ضرورة أنّ العلّة و المعلول مقارنان بحسب الوجود الخارجی، و تقدّمها علیه و تأخّره عنها إنّما هو بحسب الرتبة و فی نظر العقل، ففی ظرف ثبوت وصف التقدّم و التأخّر لا یکون العلم بمنجّز، و فی وعاء التنجیز لا معنی للتقدّم و التأخّر.

و المفروض فی المقام فی الصورة الثانیة حدوث العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی - بالکسر - أو الطرف قبل العلم بنجاسة الملاقی - بالفتح - أو الطرف.

فهو - أی الحادث - أوّلاً یؤثّر فی التنجیز بمجرّد حدوثه، لأنّ التنجیز من آثار

ص:153

وجوده الخارجی کما عرفت. و مع التأثیر فی التنجیز لا مجال لتأثیر العلم الثانی بعد عدم کونه واجداً لشرطه، لعدم إمکان التأثیر بالنسبة إلی الطرف، لأنّه لو کان التکلیف متعلّقاً به لتنجّز بالعلم الأوّل، و لا معنی للتنجّز مرّتین کما مرّ.

و ممّا ذکرنا یظهر الوجه فی وجوب الاجتناب عن المتلاقیین و الطرف فی الصورة الثالثة المفروضة فی کلام المحقّق الخراسانی قدس سره(1) لأنّه علم إجمالاً بنجاستهما أو الطرف، و لم یکن هذا العلم مسبوقاً بالعلم بنجاسة الملاقی - بالفتح - أو الطرف حتّی لا یجب الاجتناب عن الملاقی، و لا بالعلم بنجاسة الملاقی - بالکسر - أو الطرف حتّی لا یجب الاجتناب عن الملاقی، بل حدث من حین حدوثه هکذا - أی مردّداً بین المتلاقیین و الطرف - فیؤثّر فی التنجیز علی أیّ تقدیر، فافهم و اغتنم.

إزاحة شبهة

ربما یقال: بأنّه ما المانع من أن یؤثّر العلمین بجامعهما فی تنجیز التکلیف بالنسبة إلی الطرف، و یستقلّ أحدهما بالتأثیر فی التنجیز بالنسبة إلی الملاقی - بالفتح - و الآخر بالنسبة إلی الملاقی - بالکسر - و حینئذٍ فیجب الاجتناب عن الجمیع فی الصورتین الاُولیین أیضاً، فإنّ العلم الإجمالی الحادث أوّلاً و إن أثّر فی التنجیز بالنسبة إلی الطرف، إلاّ أنّ استقلاله فی هذا التأثیر ما دام لم یحدث العلم الآخر، فإذا حدث یؤثّران بجامعهما فی التنجّز بالنسبة إلی الطرف، کما هو الشأن فی أمثال ذلک.

ص:154


1- (1) - کفایة الاُصول: 412.

فإنّ الماء الواقع فی محاذاة الشمس تکون العلّة المؤثّرة فی الحرارة الحادثة فیه هی الشمس، فإذا انضمّ إلیه النار أیضاً تکون العلّة حینئذٍ هو الجامع بین العلّتین، لاستحالة تأثیر علّتین مستقلّتین فی معلول واحد، لأنّ الواحد لا یصدر إلاّ من الواحد، فلا یعقل أن یکون شیء واحد معلولاً لعلّتین مع وصف التعدّد، هذا.

و لکن لا یخفی أنّ استعمال هذه القاعدة - أی قاعدة الواحد لا یصدر إلاّ من الواحد - و کذا العکس فی مثل المقام، استعمال للشیء فی غیر محلّه، و قد صدر ممّن لا یکون له کثیر اطّلاع من العلوم العقلیّة و القواعد الحِکَمیة، فإنّ مورد هذه القاعدة کما قد حقّق فی محلّه هو ما إذا کانت العلّة التی هی المصدر علّة إلهیّة، و کان هناک مصدر و صادر حقیقة، فلا تشمل القاعدة الفواعل الطبیعیة التی لا تکون مصدراً حقیقة و مؤثّراً واقعاً، و قد وقع هذا الخلط و الاشتباه فی کثیر من الموارد کما یظهر بالتتبّع.

و حینئذٍ: فالعلم الإجمالی الحادث أوّلاً یؤثّر فی التنجیز مستقلاًّ، و بعد حدوث الثانی لا مجال له للتأثیر فی ذلک، لعدم معقولیّة التنجّز مرّتین، کما عرفت. هذا کلّه فیما یقتضیه حکم العقل.

مقتضی الأصل الشرعی فی صور الملاقاة

و أمّا مقتضی الاُصول الشرعیّة فقد یقال - کما قیل - بأنّه لا مانع من جریان أصالة الطهارة فی الملاقی؛ لأنّ طهارة الملاقی و نجاسته مسبّبة عن طهارة الملاقی و نجاسته، و الأصل الجاری فی السبب و إن کان حاکماً علی

ص:155

الأصل الجاری فی المسبّب، إلاّ أنّه حیث لا یجری الأصل فی السبب، لأنّه یسقط بالمعارضة مع الأصل الجاری فی الطرف الآخر، فلا مانع من جریان الأصل فی المسبّب، فیکون الملاقی - بالکسر - محکوماً شرعاً بالطهارة و الحلّیة، هذا.

و لا یخفی أنّه لم یرد آیة و لا روایة علی ما ذکروه من أنّ مع جریان الأصل فی السبب لا مجال لجریانه فی المسبّب، بل المستند فی ذلک هو أنّه مع جریان الأصل فی السبب یرتفع الشکّ فی ناحیة المسبّب تعبّداً، و مع ارتفاعه فی عالم التشریع لا مجال لجریان الأصل فیه أیضاً.

و لکن لا یخفی أنّ هذا لا یتمّ بإطلاقه، بل إنّما یصحّ فیما إذا کان الشکّ فی ناحیة المسبّب فی الأثر الشرعی المترتّب علی السبب شرعاً، کالشکّ فی نجاسة الثوب المغسول بالماء المشکوک الکرّیة، فإنّ مقتضی استصحاب الکرّیة تحقّق موضوع الدلیل الشرعی الذی یدلّ علی أنّ الکرّ مطهّر مثلاً.

و السرّ فی ذلک: أنّ معنی الاستصحاب الجاری فی الموضوعات هو الحکم بإبقاء الموضوع تعبّداً فی زمان الشکّ، و حیث إنّه لا معنی لذلک فیما لو لم یکن الموضوع مترتّباً علیه أثر شرعی فلا بدّ من أن یکون الموضوع المستصحب موضوعاً لأثر شرعی، و من هنا یکون الاستصحاب الجاری فی الموضوعات حاکماً علی الأدلّة الواقعیّة، لأنّه ینقّح به موضوعاتها، و تفصیل الکلام یأتی فی مبحث الاستصحاب إن شاء اللّه تعالی.

إذا عرفت ذلک: فاعلم أنّ نجاسة الملاقی و إن کانت من الآثار الشرعیّة لنجاسة الملاقی، إلاّ أنّ طهارة الملاقی لم تجعل فی شیء من الأدلّة الشرعیّة

ص:156

من آثار طهارة الملاقی، و إنّما هو حکم عقلی، کما هو واضح، فما أفادوه من أنّ الشکّ فی طهارة الملاقی مسبّب عن الشکّ فی طهارة الملاقی، و مع جریان الأصل فیها لا یبقی مجال لجریانه فی المسبّب، ممنوع جدّاً.

شبهة المحقّق الحائری فی المقام و جوابها

ثمّ إنّ هنا شبهة لبعض المحقّقین من المعاصرین، و هی أنّه لا إشکال فی أنّ الحلّیة مترتّبة علی الطهارة، بمعنی أنّ الشکّ فی الاُولی مسبّب عن الشکّ فی الثانیة، کما أنّ الشکّ فی طهارة الملاقی مسبّب عن الشکّ فی طهارة الملاقی، فالشکّ فی طهارة الملاقی یکون فی مرتبة الشکّ فی حلّیة الملاقی، بمعنی أنّ کلیهما مسبّبان عن الشکّ فی طهارته.

و حینئذٍ نقول: هنا ستة اصول فی الأطراف الثلاثة، ثلاثة منها أصالة الطهارة و ثلاثة أصالة الحلّیة، و الاثنان منها و هی أصالة الطهارة فی الملاقی و أصالة الطهارة فی الطرف یسقطان أوّلاً، لأنّهما فی رتبة واحدة، و ثلاث منها و هی أصالة الحلّیة فیهما و أصالة الطهارة فی الملاقی فی رتبة ثانیة، فمع سقوط أصالتی الحلّیة، کما هو المفروض یسقط أصالة طهارة الملاقی أیضاً، و لم یبق فی البین إلاّ أصالة الحلّیة فی الملاقی، و هی واقعة فی رتبة ثالثة، و لا وجه لسقوطها، لسلامتها عن المعارض، و المفروض أنّه لا یکون أصل حاکم علیها، لأنّ الأصل الحاکم غیر جارٍ، لأجل المعارضة.

و حینئذٍ فلا یجب الاجتناب عن الملاقی بالنسبة إلی الأکل و نظائره، و لا یکون محکوماً بالطهارة شرعاً، فلا یجوز التوضّی به، هذا.

ص:157

و یمکن الجواب عن الشبهة مضافاً إلی ما عرفت سابقاً(1) بأنّ أصالة الحلّیة فی مطلق الشبهات ممّا لم یدلّ علیها دلیل، لأنّ ما یتوهّم أن یکون مستنداً لها هی روایة مسعدة بن صدقة المتقدّمة(2) و قد عرفت الإشکال فیها بحیث لا یجوز الاعتماد علیها، و أمّا مثل قوله علیه السلام:

«کلّ شیء فیه حلال و حرام...» إلی آخره، کما فی صحیحة عبد اللّه بن سنان(3) فقد ظهر لک أنّ ذلک یختصّ بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی، و مقتضی عمومها و إن کان الشمول للشبهة المحصورة أیضاً، إلاّ أنّ الدلیل العقلی أو العقلائی قد خصّصه، فانحصر مورده بالشبهة الغیر المحصورة.

و أمّا التمسّک فی نفی الحرمة المجهولة بأدلّة البراءة فهو و إن کان صحیحاً، إلاّ أنّک عرفت عدم شمول أدلّة البراءة لأطراف العلم الإجمالی.

و بالجملة: فلیس هنا ما یحکم بالحلّیة و عدم الحرمة أصلاً.

و کیف کان: فلو سلّم ذلک فیمکن الجواب بما عرفت من أنّ الأصل الجاری فی السبب إنّما یکون حاکماً علی الأصل الجاری فی المسبّب إذا کان المسبّب من الآثار الشرعیّة المترتّبة علی السبب، و المقام لا یکون کذلک، فإنّ حلّیة کلّ واحد من الأطراف لا تکون من الآثار الشرعیّة لطهارته؛ لأنّه لم یدلّ دلیل علی أنّ کلّ طاهرٍ حلال، بل الحلّیة الواقعیة إنّما تکون موضوعها الأشیاء التی هی حلال بعناوینها الواقعیّة، کما هو واضح.

ص:158


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 91.
2- (2) - تقدّمت فی الصفحة 89.
3- (3) - تقدّمت فی الصفحة 88.

کما أنّک عرفت أنّ طهارة الملاقی أیضاً لا تکون من الآثار الشرعیّة المترتّبة علی طهارة الملاقی.

و حینئذٍ: فلا بدّ من ملاحظة طرفی العلم الإجمالی الحادث أوّلاً المؤثّر فی التنجیز، و الحکم بعدم جریان الاُصول فی طرفیه؛ للزوم المخالفة العملیّة.

و أمّا ما هو خارج عنهما فلا مانع من جریان أصالتی الطهارة و الحلّیة فیه أصلاً. و حینئذٍ فیصیر مقتضی الأصل الشرعی موافقاً مع حکم العقل الحاکم بالتفصیل بین الصور الثلاثة المتقدّمة فی کلام المحقّق الخراسانی قدس سره(1) فتأمّل جیّداً.

هذا کلّه بناءً علی ما هو مقتضی التحقیق.

و أمّا بناءً علی مسلک القوم من اعتبار أصالة الحلّیة فی مطلق الشبهات و ترتّب الحلّیة علی الطهارة، و کذا ترتّب طهارة الملاقی - بالکسر - علی طهارة الملاقی - بالفتح - و کون الشکّ فی الأوّل مسبّباً عن الشکّ فی الثانی بحیث لم یکن مجال لجریان الأصل فیه بعد جریانه فی السبب، فلا بدّ من التفصیل بین الصور الثلاثة من حیث ورود الشبهة و عدمه.

فنقول فی توضیح ذلک: إنّ عدم جریان الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی إنّما هو فیما إذا لزم من جریانها مخالفة عملیّة للتکلیف المنجّز، و أمّا إذا لم یلزم من ذلک مخالفة عملیّة أصلاً أو لزم و لکن لم یکن مخالفة عملیّة للتکلیف المنجّز فلا مانع من جریان الاُصول؛ لأنّ التعارض بینهما تعارض عرضی حاصل

ص:159


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 150-151.

بسبب العلم الإجمالی بکذب أحدها، لا ذاتی ناشٍ عن عدم إمکان اجتماع مؤدّاها، ضرورة عدم المنافاة حقیقة بین حلّیة هذا الإناء و حلّیة ذاک الإناء و لو علم إجمالاً بحرمة واحد منهما، کما لا یخفی.

و حینئذٍ: فلو علم إجمالاً بنجاسة هذا الإناء أو ذاک الإناء، ثمّ علم إجمالاً بنجاسة الإناء الثانی أو إناء ثالث فقد عرفت أنّ العلم الإجمالی الحادث ثانیاً لا یعقل أن یکون منجّزاً بعد اشتراکه مع العلم الإجمالی الأوّل فی بعض الأطراف، و حینئذٍ فلا مانع من جریان أصالة الطهارة فی طرفی العلم الثانی؛ لأنّه و إن یلزم من جریانها مخالفة عملیّة للمعلوم الإجمالی، إلاّ أنّ المحذور فی المخالفة العملیّة للتکلیف المنجّز، لا فی مطلق المخالفة العملیّة، و المفروض أنّ العلم الثانی لم یؤثّر فی التنجیز أصلاً.

إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّ فی الصورة الاُولی من الصور الثلاثة المفروضة فی کلام المحقّق الخراسانی قدس سره(1) لا بدّ من الالتزام بجریان أصالتی الطهارة و الحلّیة معاً فی الملاقی - بالکسر - لأنّ طهارته و إن کانت مترتّبة علی طهارة الملاقی - بالفتح - و واقعة فی عرض أصالتی الحلّیة الجاریتین فی الملاقی و الطرف، إلاّ أنّ الملاقی خارج من طرفی العلم الإجمالی الأوّل، و العلم الإجمالی الثانی لا یکون مؤثّراً فی التنجیز حتّی یلزم من جریان الأصل فیه أیضاً مخالفة عملیّة للتکلیف المنجّز، کما هو واضح.

و أمّا الصورة الثالثة فالظاهر ورود الشبهة فیها بناءً علی مبنی القوم، کما هو المفروض؛ لما ذکروه فی وجهه ممّا تقدّم.

ص:160


1- (1) - کفایة الاُصول: 411-412.

بقی الکلام فی أمرین:

الأوّل: أنّک عرفت فی کلام المحقّق الخراسانی أنّه قدس سره حکم بوجوب الاجتناب عن الملاقی - بالکسر - دون الملاقی - بالفتح - فی موردین:

أحدهما: ما لو علم أوّلاً بنجاسة الملاقی - بالکسر - أو الطرف، ثمّ حصل العلم بالملاقاة و بنجاسة الملاقی - بالفتح - أو الطرف.

ثانیهما: ما إذا علم بالملاقاة، ثمّ حدث العلم الإجمالی، و لکن کان الملاقی - بالفتح - خارجاً عن محلّ الابتلاء فی حال حدوثه و صار مبتلی به بعده.

و قد عرفت منّا المتابعة له قدس سره فی المورد الأوّل، و أمّا المورد الثانی فالظاهر فیه وجوب الاجتناب عن الملاقی أیضاً.

أمّا بناءً علی ما حقّقناه سابقاً - من عدم اشتراط تأثیر العلم الإجمالی فی تنجیز التکلیف بکون أطرافه مورداً للابتلاء، لأنّ ذلک مبنی علی انحلال الخطابات إلی الخطابات الشخصیّة، و هو ممنوع للمحذورات المتقدّمة - فواضح؛ لأنّ الخروج عن محلّ الابتلاء لا یؤثّر شیئاً، فلا موقع لجریان الأصل فی الملاقی - بالفتح - أصلاً.

و أمّا بناءً علی مسلک المتأخّرین من اشتراط تأثیر العلم الإجمالی بعدم خروج شیء من أطرافه عن محلّ الابتلاء فالظاهر عدم جریان الأصل فی الملاقی هنا و إن خرج عن محلّ الابتلاء؛ لأنّ الخروج عنه إنّما یمنع من العدم لو لم یکن للخارج أثر مبتلی به، و إلّا فمع وجود أثر له مورد للابتلاء یجری الأصل فیه فی غیر أطراف العلم الإجمالی، و لا یجری فیها، للزوم المخالفة

ص:161

العملیّة، و هنا یکون للملاقی - بالفتح - الخارج عن مورد الابتلاء أثر مبتلی به و هو نجاسة الملاقی - بالکسر - لو کان نجساً، کما لا یخفی.

الثانی: قد عرفت أنّ نجاسة الملاقی - بالکسر - لیست من آثار نجاسة الأعیان النجسة بحیث یکون مرجع وجوب الاجتناب عن النجس إلی وجوب الاجتناب عنه و عن ملاقیه، فلا یحتاج جعل النجاسة له إلی تعبّد خاصّ، بل هو مجعول بتبع جعل النجاسة للملاقی - بالفتح - و کذا لا تکون نجاسة الملاقی - بالکسر - لأجل حکم العقل بسرایة النجاسة منه إلیه و تأثیره فیه خارجاً، بل هی حکم وضعی مجعول بجعل مستقلّ مرجعه إلی تأثیر النجس شرعاً فی تنجیس ملاقیه، فهو سبب شرعاً له، هذا.

و لو اغمض عمّا ذکرنا و فرض کون نجاسته بنحو الأوّل أو الثانی فالظاهر وجوب الاجتناب عن المتلاقیین و الطرف فی جمیع الصور الثلاثة المتقدّمة؛ لأنّ المفروض أنّه لیس هنا حکم آخر یتعلّق به العلم الإجمالی الآخر حتّی یکون اشتراکه مع العلم الإجمالی الأوّل فی بعض الأطراف مانعاً عن تأثیره فی التنجیز، فلم یکن مانع من جریان الأصل فی الطرف الآخر. بل هنا لیس إلاّ حکم واحد متعلّق بالطرف أو بالمتلاقیین؛ لأنّ المفروض أنّه لو کان النجس هو الملاقی - بالفتح - لا یتحقّق الاجتناب عنه إلاّ بالاجتناب عن الملاقی - بالکسر - أیضاً، فمع تنجّز التکلیف بتعلّق العلم الإجمالی به یکون مقتضی حکم العقل الاجتناب عن الجمیع، کما هو واضح.

هذا کلّه مع إحراز کون نجاسة الملاقی من قبیل أحد الأوّلین أو من قبیل الثالث.

ص:162

و أمّا لو شکّ فی ذلک و احتمل أن یکون علی نحو أحد الأوّلین، أو علی نحو الثالث فقد یقال: بأنّ مقتضی القاعدة فی المقام وجوب الاجتناب عن الملاقی لأحد أطراف العلم الإجمالی أیضاً.

و لکنّ التحقیق یقتضی البراءة؛ لأنّ مرجع الشکّ فی ذلک إلی أنّ نجاسة الملاقی هل تکون مجعولة بالنحو الأوّل أو الثانی حتّی تکون مقتضاه وجوب الاجتناب عنه فی المقام؛ لتأثیر العلم الإجمالی فی تنجیز التکلیف بوجوب الاجتناب علی أیّ تقدیر، و لا یحصل القطع بموافقته إلاّ مع الاجتناب عن الجمیع؛ لأنّه لو لم یجتنب عن الملاقی - بالکسر - لم یجتنب عن النجس لو کان هو الملاقی - بالفتح - أو أنّها مجعولة علی النحو الثالث الذی مرجعه إلی کونها حکماً وضعیّاً مستقلاًّ فی قبال النجاسة المجعولة للأعیان النجسة حتّی یکون مقتضاه عدم وجوب الاجتناب عنه فی بعض الصور؛ لعدم قابلیّة العلم الإجمالی الثانی للتنجیز.

و بعبارة اخری: مرجع الشکّ فی ذلک إلی الشکّ فی أنّ العلم الإجمالی الثانی هل یکون قابلاً للتأثیر فی التنجیز، لأجل عدم تعلّقه بحکم آخر، أو لا یکون قابلاً له، لأجل کون معلومه حکماً آخر، و مع الشکّ فی ذلک لا یعلم بوجوب الاجتناب عن الملاقی، و هو مورد لجریان البراءة العقلیّة و النقلیة. ففی الحقیقة یصیر المقام من قبیل دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر الارتباطیین الذی یکون الأصل الجاری فیه هو البراءة کما سنحقّقه؛ لأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی - بالفتح - معلوم، إمّا لکونه هو النجس، و إمّا لوقوعه طرفاً للعلم الإجمالی بالنجس، و وجوب الاجتناب عن الملاقی - بالکسر - مشکوک، لأنّه

ص:163

یحتمل أن یکون حکماً مستقلاًّ، و معه لا یکون العلم الإجمالی الثانی قابلاً للمنجّزیّة أصلاً، فیجری فیه الأصل.

و بالتأمّل فیما ذکرناه تعرف الخلل فیما أفاده العَلمان النائینی(1) و العراقی 0(2) فی هذا المقام، و لعلّ مرجع کلامهما إلی أمر واحد و إن کان الأوّل قد أتعب نفسه الشریفة بإیراد مقدّمة لیس لها کثیر ارتباط بالمقام، مضافاً إلی عدم خلوّها من المناقشة، بل المناقشات، فتأمّل جیّداً.

ص:164


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 89:4-93.
2- (2) - نهایة الأفکار 365:3.
تنبیهات

ثمّ إنّه أورد الشیخ المحقّق الأنصاری فی ذیل هذا المقام تنبیهات(1) و تبعه المحقّق النائینی(2) ، و لا بأس بالتعرّض لبعضها فنقول:

التنبیه الأوّل: فی التفصیل بین الشرائط و الموانع فی وجوب الاحتیاط

لا فرق فی وجوب الاحتیاط فی أطراف الشبهة المحصورة بین الشبهة الحکمیّة و الموضوعیّة، و لا فی الموضوعیّة بین التکالیف النفسیّة و الغیریّة، و لا فی الثانی بین الشرائط و الموانع، فیجب تکرار الصلاة إلی أربع جهات مع اشتباه القبلة بینها، و فی الثوبین المشتبهین بالنجس.

و ربّما یقال بعدم وجوب الاحتیاط فی مورد الشبهة الموضوعیّة فی الشرائط و الموانع، کما هو المحکی عن الحلّی فی السرائر حیث ذهب إلی وجوب الصلاة عاریاً فی مثال الثوبین(3) ، و لعلّه لدعوی سقوط الشرط و المانع عن الشرطیّة و المانعیّة، و لکن هذه الدعوی ممنوعة، لأنّها بلا بیّنة و برهان، هذا.

و حکی عن المحقّق القمّی(4) التفصیل بین ما یستفاد من مثل قوله علیه السلام:

ص:165


1- (1) - فرائد الاُصول 454:2.
2- (2) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 134:4.
3- (3) - السرائر 184:1-185.
4- (4) - الظاهر من عبارة القوانین خلاف ذلک. راجع قوانین الاُصول 38:2 /السطر 19.

«لا تصلِّ فی ما لا یؤکل» (1) و بین ما یستفاد من مثل قوله:

«لا صلاة إلّا بطهور» (2) ، فذهب إلی السقوط فی موارد الاشتباه فی الأوّل دون الثانی، هذا.

و الوجه فی ذلک هو أنّ أطراف العلم الإجمالی عند هذا المحقّق تکون محکومة بحکم الشکّ البدوی؛ لأنّ مذهبه عدم منجّزیة العلم الإجمالی(3)

. و حینئذٍ فیتّجه التفصیل بین الشرائط و الموانع، کما هو الشأن فی موارد الشکّ البدوی، لأنّ الشرط یجب إحرازه لتوقّف إحراز المشروط علیه، و أمّا المانع فیکفی فیه مجرّد الشکّ فی تحقّقه، و لا یلزم إحراز عدمه، هذا.

و احتمل المحقّق النائینی - علی ما فی التقریرات - أن یکون الوجه فی هذا التفصیل قیاس باب العلم و الجهل بالموضوع بباب القدرة و العجز، ثمّ أورد علیه بأنّ هذا القیاس لیس علی ما ینبغی، فإنّ القدرة من الشرائط لثبوت التکلیف، و العلم بالموضوع أو الحکم من الشرائط لتنجّز التکلیف، و المفروض أنّه قد علم بحصول الشرط بین الأطراف، فلا موجب لسقوطه(4) ، هذا. و لا یخفی فساد أصل الاحتمال و کذا الإیراد.

أمّا الاحتمال، فلأنّ هذا القیاس لا یقتضی التفصیل بین الشرائط و الموانع، لأنّه لو کان الجهل بالموضوع کالعجز فلا وجه لثبوت التکلیف مطلقاً، شرطاً

ص:166


1- (1) - راجع وسائل الشیعة 346:4، کتاب الصلاة، أبواب لباس المصلی، الباب 2، الحدیث 6 و 7.
2- (2) - تهذیب الأحکام 144/49:1، وسائل الشیعة 365:1، کتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 1، الحدیث 1.
3- (3) - قوانین الاُصول 25:2 /السطر 3.
4- (4) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 135:4.

کان أو مانعاً، و لو لم یکن کذلک فلا وجه لسقوطه کذلک.

و أمّا الإیراد، فلما مرّ غیر مرّة من أنّ القدرة لا تکون من شرائط ثبوت التکلیف، بل العجز عذر عقلی، و هکذا الجهل و غیره، لعدم انحلال الخطابات بنحو العموم إلی الخطابات الشخصیّة حتّی لا یعقل توجیهها إلی غیر القادر و الجاهل و نحوهما. فالوجه فی تفصیل المحقّق المزبور ما عرفت، فتدبّر.

التنبیه الثانی: فی کیفیة النیّة لو کان المعلوم بالإجمال من العبادات

لو کان المعلوم بالإجمال من العبادات کالمثالین المتقدّمین فی التنبیه السابق فقد وقع الخلاف فی کیفیة نیّته، فیظهر من الشیخ قدس سره أنّه لا بدّ من قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال علی کلّ تقدیر، و ذلک یتوقّف علی أن یکون المکلّف حال الإتیان بأحد المحتملین قاصداً للإتیان بالمحتمل الآخر، إذ مع عدمه لا یتحقّق قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال علی کلّ تقدیر، بل یکون قاصداً لامتثال الأمر علی تقدیر تعلّقه بما ینطبق علی المأتی به. و هذا لا یکفی فی تحقّق الإطاعة مع العلم بالأمر.

نعم یکفی فی الشبهة البدویّة مجرّد قصد احتمال الأمر و المحبوبیة، لأنّ هذا هو الذی یمکن فی حقّه، بخلاف المقام(1)

. و أورد علیه المحقّق النائینی بما حاصله: أنّ العلم بتعلّق الأمر بأحد المحتملین لا یوجب فرقاً فی کیفیة النیّة فی الشبهات، فإنّ الطاعة و الامتثال فی کل من المحتملین لیست إلاّ احتمالیة، کما فی الشبهة البدویّة، إذ المکلّف

ص:167


1- (1) - فرائد الاُصول 455:2.

لا یمکنه أزید من قصد امتثال الأمر الاحتمالی عند الإتیان بکلّ من المحتملین، لأنّهما لیسا بمنزلة فعل واحد مرتبط الأجزاء حتّی یقال: العلم بتعلّق التکلیف بالفعل الواحد یقتضی قصد امتثال الأمر المعلوم. و حینئذٍ فلو أتی بأحد المحتملین من دون أن یکون قاصداً للإتیان بالمحتمل الآخر یحصل الامتثال و یصحّ العمل علی تقدیر تعلّق الأمر بذلک المحتمل.

نعم یکون متجرّیاً فی قصده، و لکن ذلک لا دخل له فی تحقّق الإطاعة علی تقدیر مصادفة المأتی به للواقع(1) ، هذا.

و لا یخفی أنّه لا ینبغی الإشکال فی أنّ الداعی فی الشبهات البدویّة هو احتمال الأمر فقط، لأنّه لا یمکن فی حقّه غیره، و أمّا فی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی فالداعی هو الأمر المعلوم تعلّقه بما ینطبق علی أحد المحتملین، لا احتمال الأمر. غایة الأمر أنّه ینشأ من هذا الداعی إرادة الإتیان بکلّ من المحتملین، لتوقّف الإتیان بالمأمور به علیه.

و حینئذٍ فقد یکون المکلّف بمثابة ینبعث من الأمر المعلوم بحیث یحصل له الداعی إلی الإتیان بالمحتملین معاً؛ لأنّه لا یرضی إلاّ بالموافقة القطعیّة التی لا تحصل إلاّ بالإتیان بهما. و قد یکون بحیث ینبعث من الأمر المعلوم بمقدار لا یحصل له إلاّ الداعی إلی الإتیان بأحد المحتملین؛ لأنّه یخاف من المخالفة القطعیّة الحاصلة بترک کلا المحتملین معاً.

و بالجملة: فرق بین الآتی بالشبهة البدویّة و بین من یأتی بأحد المحتملین فی الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی و بین من یأتی بکلیهما معاً.

ص:168


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 136:4.

فالأوّل لا یکون الداعی له إلاّ مجرّد الاحتمال، و الأخیران یشترکان فی أنّ الداعی الأوّلی لهما هو العلم بالأمر، غایة الأمر أنّ انبعاث الثانی بمقدار لا یکون مستلزماً للموافقة القطعیة، بخلاف الأخیر. و حینئذٍ فلو أتی بأحدهما و صادف الواقع یکون ممتثلاً، لا لما أفاده المحقّق النائینی من کفایة الإتیان باحتمال الأمر و عدم الفرق بین الشبهات، بل لأجل أنّ الداعی له هو قصد الامتثال بالنسبة إلی الأمر المعلوم، کما لا یخفی.

التنبیه الثالث: حکم ما لو کان المعلوم بالإجمال أمرین مترتّبین شرعاً

لو کان المعلوم بالإجمال أمرین مترتّبین کالظهر و العصر المردّدین بین أربع، لاشتباه القبلة، فقد وقع الخلاف فی جواز الإتیان ببعض محتملات الثانیة إلی الجهة التی أتی ببعض محتملات الاُولی إلیها، و عدم الجواز حتّی یأتی بجمیع محتملات الاُولی، بعد الاتّفاق علی عدم جواز الإتیان بجمیع محتملات الثانیة قبل استیفاء محتملات الاُولی، و علی عدم جواز الإتیان ببعض محتملات العصر - مثلاً - إلی جهة مغایرة للجهة التی أتی ببعض محتملات الظهر إلیها؛ للعلم ببطلان العصر - أی المأتی بها ثانیاً - فی الصورتین، إمّا لکونها فاقدة للترتیب المعتبر فیها علی المفروض، و إمّا لعدم وقوعها إلی القبلة.

و کیف کان فالخلاف فی المقام مبنی أوّلاً علی تقدّم رتبة الامتثال العلمی التفصیلی علی الامتثال العلمی الإجمالی و عدمه، و ثانیاً علی الفرق بین المقام و بین ما إذا أتی بمحتملات العصر بعد الإتیان بجمیع محتملات الظهر الذی هو جائز بلا ریب.

ص:169

و التحقیق عدم تقدّم رتبة الأوّل علی الثانی، و عدم الفرق بین المقامین علی تقدیر تسلیم التقدّم و ثبوت المراتب للامتثال.

أمّا الأوّل الذی هو بمنزلة الکبری، فقد مرّت الإشارة إلیه، و لعلّه سیأتی مفصّلاً.

و إجماله أنّ الأمر المتعلّق بشیء لا یدعو إلاّ إلی نفس متعلّقه و لا یحرّک العبد إلاّ نحوه. فکلّ شیء اخذ فی المتعلّق، یکون الأمر داعیاً إلیه و محرّکاً نحوه، و أمّا ما هو خارج عنه سواء أمکن أخذه فیه أم لم یمکن فلا یدعو إلیه، بل لا یعقل ذلک أصلاً و لذا قد حقّقنا(1) فی مبحث التعبّدی و التوصّلی أنّ القاعدة تقتضی التوصّلیّة و إن کان أخذ قصد التقرّب و امتثال الأمر فی المتعلّق بمکان من الإمکان، إلاّ أنّه ما لم یدلّ علیه دلیل لا یصار إلیه أصلاً، بل یحکم بعدم اعتباره. و حینئذٍ فإذا أتی بالطبیعة المأمور بها لا مجال لبقاء الأمر، سواء علم بها تفصیلاً أم إجمالاً، إذ الأمر لا یدعو إلاّ إلی إیجادها فی الخارج، و المفروض وجودها، و أمّا اعتبار العلم بها تفصیلاً فلم یدلّ علیه دلیل، فلا فرق بینه و بین العلم الإجمالی بإیجادها أصلاً، فتقدّم الأوّل علی الثانی ممّا لا نری له وجهاً.

و أمّا الثانی الذی هو بمنزلة الصغری، فنقول: لو سلم ثبوت المراتب للامتثال و تقدّم الامتثال العلمی التفصیلی علی الامتثال العلمی الإجمالی فلا نسلم الفرق بین المقامین أصلاً، ضرورة أنّ فی الصورة الثانیة التی هی جائزة بالاتّفاق لا یعلم بحصول الترتیب تفصیلاً کما فی الصورة الاُولی، ضرورة أنّ تحقّق

ص:170


1- (1) - مناهج الوصول إلی علم الاُصول 274:1.

عنوان الترتیب مع العلم به کذلک یتوقّف علی العلم بأُمور ثلاثة: أحدها: وقوع الظهر، و الثانی: وقوع العصر، و الثالث: ترتّب العصر علی الظهر و تأخّرها عنها.

فالعلم التفصیلی بالترتیب لا یتحقّق إلاّ مع العلم تفصیلاً بأنّ ما یأتی به هو العصر مع العلم بوقوع الظهر قبله، و لا یعقل تحقّقه مع الشکّ فی ذلک و إن علم إجمالاً بالإتیان بالعصر.

و کیف کان فالترتیب من الاُمور الإضافیة المتقوّمة بالطرفین، و لا یعقل العلم به مع الشکّ فی أحد الطرفین، و حینئذٍ فکیف یمکن أن یدّعی العلم به فی الصورة الثانیة مع اشتباه العصر بین الصلوات الأربع.

و ممّا ذکرنا یظهر الخلل فیما أفاده المحقّق النائینی فی هذا المقام، فراجع التقریرات المنسوبة إلیه(1).

ص:171


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 137:4-141.

ص:172

المقام الثانی: فی الدوران بین الأقلّ و الأکثر

اشارة

فی الدوران بین الأقلّ و الأکثر

و قبل الخوض فی المقصود لا بدّ من تقدیم أمرین هما بمنزلة تحریر محلّ النزاع:

الأوّل: أنّ المراد بالأقلّ و الأکثر فی هذا المقام هو الأقلّ و الأکثر الارتباطی، لا الاستقلالی. و الفرق بینهما أنّ الأوّل عبارة عن عدّة امور لوحظ مجموعها أمراً واحداً و شیئاً فارداً، لأنّه یترتّب علیها غرض واحد و تؤثّر بنعت الاجتماع فی حصوله، بحیث یکون فقدان بعضها کعدم جمیعها فی عدم حصول الغرض بوجه، و من هنا لا یتعلّق بها إلاّ أمر واحد أو نهی فارد؛ لأنّ اجتماعها دخیل فی حصول الغرض أو ترتّب المفسدة علیها، و أمّا کلّ واحد منها من حیث هو یکون وجوده بمنزلة العدم.

أ لا تری أنّ الصلاة الفاقدة للرکوع - مثلاً - إنّما هی فی عدم حصول الآثار المترتّبة علیها کترکها رأساً.

و أمّا الأقلّ و الأکثر الاستقلالی فلیس کذلک، بل لا یکون من قبیل الأقلّ و الأکثر أصلاً، فإنّ تردّد قضاء الصلوات الفائتة بین أن تکون عشرین أو ثلاثین

ص:173

إنّما هو من قبیل التردّد بینهما بعد ملاحظة المکلّف المقدار المشکوک مع المقدار المعلوم و ضمّه إلیه، و إلّا ففی الحقیقة لا یکون من هذا القبیل، فإنّ الأمر لم یتوجّه إلاّ إلی قضاء کلّ صلاة، و الغرض یترتّب علیه، سواء أتی بقضاء صلاة فائتة اخری أم لم یأت، فکما أنّ أداء صلاة الظهر لا یکون أقلّ بالنسبة إلی مجموع أداء الظهرین فکذلک قضائهما.

و بالجملة: فالاستقلالی من الأقلّ و الأکثر خارج عن هذا العنوان حقیقة، و إنّما یحصل بعد ملاحظتهما و ضمّ کلّ واحد إلی الآخر. و من هذا البیان تظهر لک أنّه لیس فیه علم إجمالی أصلاً حتّی یقال بانحلاله إلی علم تفصیلی و شکّ بدوی، بل الأقلّ من أوّل الأمر معلوم تفصیلاً و الأکثر مشکوک، فتجری فیه البراءة بلا ریب.

ثمّ لا یخفی أنّ مورد النزاع هو ما إذا کان الأقلّ مأخوذاً لا بشرط من جهة الزیادة، و أمّا لو کان مأخوذاً بشرط لا و دار الأمر بینه و بین الأکثر، کما إذا تردّد السورة بین أن تکون جزءاً أو مانعاً، فهو خارج عن محلّ البحث و داخل فی المقام الأوّل، للمباینة المتحقّقة بین الأقلّ بشرط لا و الأکثر الذی هو عبارة عن الأقلّ بشرط شیء، ضرورة ثبوت المضادّة بین البشرط شیء و البشرطلا، کما لا یخفی.

الثانی: یدخل فی مورد النزاع جمیع أقسام الأقلّ و الأکثر، سواء کان فی نفس المأمور به أو فی الموضوع الخارجی الذی تعلّق التکلیف بفعله أو ترکه، أو فی الأسباب مطلقاً، و سواء کان من قبیل الجزء و الکلّ، أو من قبیل الشرط و المشروط، أو من قبیل الجنس و النوع، أو الطبیعة و الحصّة، و سواء کانت الشبهة وجوبیّة، أو تحریمیة و سواء کانت حکمیّة أو موضوعیّة.

ص:174

و أمّا ما أفاده المحقّق العراقی - علی ما فی التقریرات المنسوبة إلیه - من خروج الطبیعی و الحصّة عن مرکز هذا النزاع، لأنّ الطبیعی باعتبار قابلیّته للانطباق علی حصّة اخری منه المباینة مع الحصّة المتحقّقة فی ضمن زید لا تکون محفوظاً بمعناه الإطلاقی فی ضمن الأکثر، فیدخل فی التعیین و التخییر الراجع إلی المتباینین(1)

. ففیه: أنّه لا فرق بین الطبیعی و الحصّة و بین الجنس و النوع، فإنّ الملاک فی الجمیع هو کون الأقلّ القدر المشترک مأخوذاً فی التکلیف علی أیّ تقدیر، و هذا الملاک موجود فی الطبیعی و الحصّة.

نعم، المثال الذی ذکره - و هو الإنسان و زید - خارج عن موضوع البحث، کما أنّ أخذ النوع لو کان بعنوان واحد یکون أیضاً خارجاً. نعم لو کان بنحو أخذ الجنس أیضاً یکون داخلاً، کما أنّ الطبیعی و الحصّة أیضاً کذلک.

و بالجملة: لو کانت الحصّة و کذا النوع مأخوذاً بعنوان واحد لا یکون الطبیعی أو الجنس فی ضمنه، لما کان وجه لجریان البراءة أصلاً، و لو لم یکن علی هذا النحو یکون داخلاً فی مورد النزاع، فتدبّر.

ثمّ أنّا نتکلّم من تلک الأقسام الکثیرة المتقدّمة فی مهمّاتها، و هی الأقلّ و الأکثر الذی کان من قبیل الکلّ و الجزء، و ما کان من قبیل الشرط و المشروط، و ما کان فی الأسباب و المحصّلات و الأقلّ و الأکثر فی الشبهة الموضوعیة، فهنا مطالب:

ص:175


1- (1) - نهایة الأفکار 373:3.

المطلب الأوّل: فی الأقلّ و الأکثر الذی کان من قبیل الکلّ و الجزء

اشارة

فی الأقلّ و الأکثر الذی کان من قبیل الکلّ و الجزء

و هو معرکة للآراء؛ فمن قائل بجریان البراءة فیه مطلقاً، و من قائل بعدم جریانه مطلقاً، و من قائل بالتفصیل بین البراءة الشرعیّة و العقلیّة بجریان الاُولی دون الثانیة، کما اختاره المحقّق الخراسانی(1) و تبعه بعض من أجلّاء تلامذته(2). مقتضی التحقیق هو الوجه الأوّل.

فی جریان البراءة العقلیة

و تنقیحه یتمّ برسم امور:

الأوّل: أنّ المرکّبات الاعتباریّة فی عالم الاعتبار و اللحاظ یکون کالمرکّبات الخارجیّة الحقیقیّة فی الخارج، فکما أنّ الترکیب الحقیقی إنّما یحصل بالکسر و الانکسار الحاصل بین الأجزاء بحیث صار موجباً لانخلاع صورة کلّ واحد منها و حصول صورة اخری للمجموع، کذلک المرکّب الاعتباری فی عالم الاعتبار لا یکون ملحوظاً إلاّ شیئاً واحداً و أمراً فارداً یکون له صورة واحدة اعتباراً، فکأنّه لا یکون له إلاّ وجود واحد هو وجود المجموع، و الأجزاء لا یکون لها وجود مستقل، بل هی فانیة فی المرکّب.

ص:176


1- (1) - کفایة الاُصول: 413-416.
2- (2) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 162:4.

الثانی: أنّ المأمور الذی امر بإیجاد مرکّب اعتباری إذا قصد امتثال الأمر و الإتیان بالمأمور به، یتعلّق إرادته أوّلاً بنفس المرکّب الذی هو أمر واحد، و ربّما لا یکون الأجزاء حینئذٍ ملحوظة له و متوجّهاً إلیها أصلاً، ثمّ بعد ما یتوجّه إلی تلک الأجزاء التی یتحصّل المرکّب منها یتعلّق إرادة اخری بإیجادها فی الخارج حتّی یتحقّق المجموع، هذا فی المأمور.

و أمّا الآمر، فالأمر فیه بالعکس، فإنّه یتصوّر أوّلاً الأجزاء و الشرائط کلّ واحد منها مستقلاًّ، ثمّ یلاحظ أنّ الغرض و المصلحة یترتّب علی مجموعها بحیث یکون اجتماعها مؤثّراً فی حصول الغرض، فیلاحظها أمراً واحداً و تعلّق أمره به و یحرّک المکلّف نحو إتیانه، فهو ینتهی من الکثرة إلی الوحدة، کما أنّ المأمور ینتهی من الوحدة إلی الکثرة.

الثالث: الأمر المتعلّق بالمرکّب الاعتباری لا یکون إلاّ أمراً واحداً متعلّقاً بأمر واحد، و الأجزاء لا تکون مأموراً بها أصلاً، لعدم کونها ملحوظة إلاّ فانیة فی المرکّب بحیث لا یکون لها وجود استقلالی. غایة الأمر أنّ کلّ جزء مقدّمة مستقلّة لتحقّق المأمور به، غایة الأمر أنّها مقدّمة داخلیّة فی مقابل المقدّمة الخارجیة.

و الفرق بین قسمی المقدّمة: أنّ المقدّمة الخارجیّة یکون الداعی إلی إتیانهما أمر آخر ناشٍ من الأمر بذی المقدّمة، بناءً علی وجوب المقدّمة، أو اللزوم العقلی بناءً علی عدم الوجوب، و المقدّمات الداخلیّة یکون الداعی إلیها هو نفس الأمر المتعلّق بذی المقدّمة لعدم کون المرکّب مغایراً لها، لأنّه إجمالها و صورتها الوحدانیّة، و هی تفصیله و تحلیله، و هو لا ینافی مقدّمیة الأجزاء، لأنّ المقدّمة إنّما هو کلّ جزء مستقلاًّ لا مجموع الأجزاء. و بالجملة، فالأمر

ص:177

المتعلّق بالمرکّب یدعو بعینه إلی الأجزاء، و لا یلزم من ذلک أن یکون الأمر داعیاً إلی غیر متعلّقه، لأنّ الأجزاء هی نفس المرکّب، و الفرق بینهما بالإجمال و التفصیل و البساطة و التحلیل.

الرابع: أنّک عرفت فی الأمر الثالث أنّ الأمر یدعو إلی الأجزاء بعین دعوته إلی المرکّب، و یترتّب علی ذلک أنّ الحجّة علی الأجزاء إنّما هی بعینها الحجّة علی المرکّب لکن مع تعیین الأجزاء التی ینحلّ إلیها، و أمّا مع عدم قیام الحجّة علی بعض ما یحتمل جزئیّته فلا یمکن أن یکون الأمر المتعلّق بالمرکّب داعیاً إلی ذلک الجزء المشکوک أیضاً بعد عدم إحراز انحلال المأمور به إلیه.

و بالجملة: فالأمر المتعلّق بالمرکّب إنّما یدعو إلی ما علم انحلاله إلیه من الأجزاء، و أمّا الجزء المشکوک فلا یعلم بتعلّق الأمر بما ینحلّ إلیه حتّی یدعو الأمر إلیه أیضاً.

و بالجملة: فتمامیة الحجّة تتوقّف علی إحراز الصغری و الکبری معاً، و إلّا فمع الشکّ فی إحداهما لا معنی لتمامیّتها، فاللازم العلم بتعلّق الأمر بالمرکّب و بأجزائه التحلیلیّة أیضاً، و بدون ذلک تجری البراءة عقلاً الراجعة إلی قبح العقاب بلا بیان و المؤاخذة بلا برهان.

و دعوی: أنّ مع ترک الجزء المشکوک لا یعلم بتحقّق عنوان المرکّب، و من الواضح لزوم تحصیله.

مدفوعة: بأنّ مرجع ذلک إلی کون أسامی العبادات موضوعة للصحیحة منها، و الکلام إنّما هو بناءً علی القول الأعمّی الذی مرجعه إلی صدق الاسم مع الإخلال بالجزء المشکوک.

و کیف کان: فتعلّق الأمر بالمرکّب الذی هو أمر وجدانی معلوم تفصیلاً لا

ص:178

خفاء فیه، و عدم کون الأجزاء متعلّقة للأمر بوجه أیضاً معلومة کذلک، إلاّ أنّ ذلک الأمر المعلوم إنّما یکون حجّة بالنسبة إلی ما قامت الحجّة علی انحلال المرکّب به، و أمّا ما لم یدلّ علی جزئیّته له فلا یکون الأمر بالمرکّب حجّة بالنسبة إلیه و لا یحرّک العبد نحوه. و لسنا نقول بأنّ متعلّق الأمر معلوم إجمالاً، و هذا العلم الإجمالی ینحلّ إلی العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ و الشکّ البدوی فی وجوب الأکثر. کیف و قد عرفت أنّ متعلّق الأمر هو الأمر المرکّب، و تعلّقه به معلوم تفصیلاً، و الشکّ إنّما هو فی أجزاء المرکّب، و هی غیر مأمور بها أصلاً، سواء فیه الأقلّ و الأکثر، غایة الأمر أنّ هذا الأمر لا یکاد یدعو إلاّ إلی ما علم بترکیب المرکّب منه، کما عرفت. فتحصّل من جمیع ما ذکرنا أنّ الحقّ جریان البراءة العقلیّة.

الإشکالات الثمانیة علی جریان البراءة العقلیّة عن الأکثر و دفعها

ثمّ إنّ هنا إشکالات علی ذلک لا بدّ من ذکرها و الجواب عنها فنقول:

منها: أنّ الأمر فی باب الأقلّ و الأکثر أیضاً دائر بین المتباینین، لأنّ المرکّب من الأقلّ الذی هو الأمر الوحدانی الحاصل من ملاحظة أجزائه شیئاً واحداً یغایر المرکّب من الأکثر الذی مرجعه إلی ملاحظة الوحدة بین أجزائه، فالمرکّب من الأقلّ له صورة مغایرة للمرکّب من الأکثر، فإذا دار الأمر بینهما یجب الاحتیاط بإتیان الأکثر.

و یظهر جواب هذا الإشکال من ملاحظة ما ذکرنا، فإنّ المرکّب من الأقلّ لیس له صورة تغایر نفس الأجزاء المرکّبة منه بحیث کان هنا أمران: الأجزاء التی یتحصّل منها المرکّب، و الصورة الحاصلة منها، بل لیس هنا إلاّ أمر واحد

ص:179

و هو نفس الأجزاء، و لذا ذکرنا أنّ الأمر یدعو إلی الأجزاء بعین داعویّته إلی المرکّب، لعدم التغایر بینهما. و هکذا المرکّب من الأکثر لیس له صورة مغایرة للأجزاء، بل هو نفسها، و حینئذٍ فلا یکون فی البین إلاّ الأجزاء التی دار أمرها بین الأقلّ و الأکثر. فالمقام لا یکون من قبیل دوران الأمر بین المتباینین، مضافاً إلی أنّه لو کان من ذلک القبیل لکان مقتضاه الجمع بین الإتیان بالمرکّب من الأقلّ مرّة و بالمرکب من الأکثر اخری، و لا یجوز الاکتفاء بالثانی، کما أنّه لا یجوز الاکتفاء بالأوّل.

و منها: ما نسب إلی المحقّق صاحب الحاشیة - و إن کانت عبارتها لا تنطبق علیه، بل هی ظاهرة فی وجه آخر سیأتی التعرّض له - من أنّ العلم بوجوب الأقلّ لا ینحلّ به العلم الإجمالی، لتردّد وجوبه بین المتباینین، فإنّه لا إشکال فی مباینة الماهیّة بشرط شیء للماهیّة لا بشرط، لأنّ أحدهما قسیم الآخر، فلو کان متعلّق التکلیف هو الأقلّ فالتکلیف به إنّما یکون لا بشرط عن الزیادة، و لو کان متعلّق التکلیف هو الأکثر فالتکلیف بالأقلّ إنّما یکون بشرط انضمامه مع الزیادة، فوجوب الأقلّ یکون مردّداً بین المتباینین باعتبار اختلاف سنخی الوجوب الملحوظ لا بشرط أو بشرط شیء. کما أنّ امتثال التکلیف المتعلّق بالأقلّ یختلف حسب اختلاف الوجوب المتعلّق به، فإنّ امتثاله إنّما یکون بانضمام الزائد إلیه إذا کان التکلیف به ملحوظاً بشرط شیء، بخلاف ما إذا کان ملحوظاً لا بشرط، فإنّه لا یتوقّف امتثاله علی انضمام الزائد إلیه، فیرجع الشکّ فی الأقلّ و الأکثر الارتباطی إلی الشکّ بین المتباینین تکلیفاً و امتثالا(1) ، انتهی.

ص:180


1- (1) - هدایة المسترشدین: 441.

و یرد علیه مضافاً إلی ما وقع فی کلامه من سوء التعبیر، لأنّ الموصوف باللابشرطیة و البشرط شیئیة لیس إلاّ متعلّق التکلیف و هو الأقلّ، فإنّه علی تقدیر تعلّق التکلیف به فقط یکون ملحوظاً لا بشرط، و علی تقدیر تعلّقه بالأکثر یکون ملحوظاً بشرط شیء، و أمّا التکلیف الذی هو عبارة عن البعث إلی المکلّف به أو الزجر عن المتعلّق فلا یکون موصوفاً لهذین الوصفین. ثمّ إنّ اتّصاف المتعلّق بهما أیضاً محلّ نظر؛ لأنّ مرکز البحث هو ما إذا کان الأقلّ و الأکثر من قبیل الجزء و الکلّ لا الشرط و المشروط، فالأکثر علی تقدیر کونه متعلّقاً للتکلیف یکون بجمیع أجزائه کذلک، لا أنّ المتعلّق هو الأقلّ بشرط الزیادة علی أن یکون الزائد شرطاً.

و بالجملة: فمورد النزاع هنا أنّ الزائد علی تقدیر ثبوته کان جزءاً للمرکّب المأمور به و التعبیر بشرط شیء ظاهر فی أنّ الزائد شرط لا جزء.

و کیف کان فیرد علیه - بعد الغضّ عمّا ذکر - منع ما نفی الإشکال عنه من مباینة الماهیّة بشرط شیء للماهیّة اللابشرط، فإنّ ما یباین الماهیّة بشرط شیء هو الماهیّة اللابشرط القسمی، و هی التی اعتبر معها عدم الاشتراط بوجود شیء أو نفیه، و أمّا الماهیّة اللابشرط المقسمی - و هی الماهیّة بذاتها من دون لحاظ شیء معها حتّی لحاظ عدم لحاظ شیء الذی یحتاج إلی لحاظ آخر غیر لحاظ الماهیّة - فلا تباین الماهیّة بشرط شیء. کیف و هی قسم لها، و لا یعقل التنافی بین المقسم و القسم، و المقام من هذا القبیل، فإنّ الأقلّ علی تقدیر تعلّق التکلیف به کان الملحوظ هو نفسه من دون لحاظ شیء آخر حتّی لحاظ عدم لحاظ شیء آخر. و قد عرفت أنّه لا تنافی بینه و بین الماهیّة بشرط شیء.

ص:181

ثمّ لو فرض التنافی فاللازم الجمع بینهما فی مقام الامتثال و الإتیان بالأقلّ من دون زیادة مرّة و به معها اخری، و لا یظنّ بالقائل الالتزام به، کما لا یخفی.

ثمّ إنّه أجاب المحقّق النائینی قدس سره عن هذه الشبهة بما حاصله: إنّ الماهیّة لا بشرط و الماهیّة بشرط شیء لیسا من المتباینین الذین لا جامع بینهما، لأنّ التقابل بینهما تقابل العدم و الملکة لا التضادّ، فإنّ الماهیّة لا بشرط لیس معناها لحاظ عدم انضمام شیء معها بحیث یؤخذ العدم قیداً فی الماهیّة، و إلّا ترجع إلی الماهیّة بشرط لا، و یلزم تداخل أقسام الماهیّة، بل الماهیّة لا بشرط معناها عدم لحاظ شیء معها، و من هنا قلنا: إنّ الإطلاق لیس أمراً وجودیاً، بل هو عبارة عن عدم ذکر القید، خلافاً لما ینسب إلی المشهور، فالماهیّة لا بشرط لیست مباینة للماهیّة بشرط شیء بحیث لا یوجد بینهما جامع، بل یجمعهما نفس الماهیّة، و التقابل بینهما إنّما یکون بمجرّد الاعتبار و اللحاظ، و فی المقام یکون الأقلّ متیقّن الاعتبار علی کلّ حال، سواء لوحظ الواجب لا بشرط أو بشرط شیء، و التغایر الاعتباری لا یوجب خروج الأقلّ عن کونه متیقّن الاعتبار(1) ، انتهی.

و یرد علیه أوّلاً: أنّ الماهیّة اللابشرط کما اعترف به هو نفس الماهیّة من دون أن یلحظ معها شیء آخر بنحو السلب البسیط لا الإیجاب العدولی، و حینئذٍ فلا وجه لما ذکره من أنّ الجامع بینها و بین الماهیّة بشرط شیء هو نفس الماهیّة، لأنّ نفس الماهیّة عبارة اخری عن الماهیّة اللابشرط، إذ المراد بها

ص:182


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 154:4.

هی الماهیّة اللابشرط المقسمی، و لا یعقل الجامع بین القسم و المقسم هنا، کما هو واضح.

نعم نفس الماهیّة جامعة للماهیّة بشرط شیء و الماهیّة اللابشرط القسمی و هی التی لوحظت متقیّدة باللابشرطیة.

ثمّ إنّ تسلیم عدم ثبوت الجامع لو کان بین الماهیّة لا بشرط و الماهیّة بشرط شیء نسبة التضادّ، لا تقابل العدم و الملکة محلّ منع، فإنّ المتقابلین بالتضادّ أیضاً بینهما جامع جنسی کالسواد و البیاض، فإنّه یجمعهما جنسهما الذی هو اللون، کما هو واضح.

ثمّ إنّ کون التقابل بین الماهیّة اللابشرط و الماهیّة البشرط شیء تقابل العدم و الملکة لا یوجب نفی وجوب الاحتیاط، أ لا تری أنّه لو دار الأمر بین إکرام بصیر أو أعمی أو بین إکرام کوسج أو ملتح یجب الاحتیاط بإکرام کلیهما، مع أنّ التقابل بینهما تقابل العدم و الملکة، کما هو واضح.

و منها: أنّ وجوب الأقلّ دائر بین کونه نفسیّاً یترتّب علی مخالفة الأمر المتعلّق به العقاب، و بین کونه غیریّاً لا یترتّب علی مخالفته شیء، لأنّ العقاب إنّما هو علی ترک الواجب النفسی لا الغیری. و حینئذٍ فلا یعلم بلزوم الإتیان بالأقلّ علی أیّ تقدیر حتّی ینحلّ به العلم الإجمالی بوجوب الأقلّ أو الأکثر، فالعلم الإجمالی باقٍ علی حاله، و مقتضاه وجوب الاحتیاط بإتیان الأکثر.

و یرد علیه أوّلاً: أنّ المرکّب کما أنّه لیس له إلاّ وجود واحد هو عین وجود الأجزاء، کذلک لا یکون له إلاّ عدم واحد؛ لأنّ نقیض الواحد لا یکون إلاّ واحداً، و إلّا یلزم ارتفاع النقیضین، و حینئذٍ فنقیض المرکّب إنّما هو عدم ذلک الوجود الواحد، غایة الأمر أنّ عدمه تارة بعدم جمیع أجزائها، و اخری بعدم

ص:183

بعضها، لوضوح اشتراک تارک الصلاة رأساً مع تارک رکوعها - مثلاً - فی عدم إتیان واحد منهما بالمرکّب الذی هو الصلاة.

و حینئذٍ نقول: ترک الأقلّ یعلم بترتّب العقاب علیه؛ إمّا من جهة کونه هو تمام المأمور به، و إمّا من جهة کون ترکه هو عین ترک المأمور به الذی یترتّب علیه العقاب، فیترتّب العقاب علی ترکه قطعاً، و به ینحلّ العلم الإجمالی.

نعم لو کان الواجب فی الواقع هو الأکثر و لم یأت المکلّف إلاّ بالأقلّ اعتماداً علی حکم العقل بالبراءة فهو و إن کان تارکاً للمأمور به، لأنّ ترکه بعین ترک الجزء الزائد أیضاً إلاّ أنّ ترک المأمور به هنا إنّما هو لعذر، بخلاف ترکه بعدم الإتیان بالأقلّ، فإنّه لا یکون لعذر، فهما مشترکان فی عدم إتیانهما بالمأمور به، لکن بینهما فرق من حیث العذر و عدمه، نظیر ما لو علم المکلّف بوجوب إنقاذ أحد الغریقین علی سبیل التخییر مع کون الواجب فی الواقع واحداً معیّناً منهما، فإنّه تارة یعصی المولی بعدم إنقاذ واحد منهما و اخری ینقذ غیر من یجب إنقاذه بحسب الواقع. ففی الصورتین و إن کان المأمور به قد ترک و لم یأت المکلّف به، إلاّ أنّه فی الصورة الثانیة معذور فی المخالفة دون الصورة الاُولی.

و ثانیاً: لو سلّم دوران أمر الأقلّ بین کونه نفسیّاً یترتّب علی مخالفته العقاب أو غیریّاً لا یترتّب علیه، کدوران شیء بین الواجب و المستحبّ، إلاّ أنّا نقول: إنّ الملاک فی جریان حکم العقل بالبراءة المستند إلی قبح العقاب بلا بیان هل هو عدم البیان علی التکلیف، أو عدم البیان علی العقوبة؟ لا سبیل إلی الثانی؛ لأنّه تصحّ العقوبة فیما لو بیّن المولی التکلیف، و إن لم یبیّن العقوبة علیه. أ لا تری أنّه لو ارتکب المکلّف واحداً من المحرّمات بتخیّل ضعف العقاب

ص:184

المترتّب علی ارتکابه لا إشکال فی صحّة عقوبته المترتّبة علیه فی الواقع و إن کان من الشدّة بمکان.

و بالجملة: فمستند حکم العقل بالبراءة لیس عدم البیان علی العقاب، بل عدم البیان علی التکلیف، و البیان علیه موجود بالنسبة إلی الأقلّ قطعاً، و لذا لا یجوز ترکه. و حینئذٍ فدوران أمر الأقلّ بین ترتّب العقاب علیه لو کان نفسیّاً و عدم ترتّبه لو کان غیریّاً لا یوجب أن لا یکون وجوبه معلوماً، و مع العلم بالوجوب لا یحکم العقل بالبراءة قطعاً، فلزوم الإتیان به معلوم علی أیّ تقدیر، و به ینحلّ العلم الإجمالی، کما لا یخفی.

و منها: ما ذکره المحقّق النائینی - علی ما فی التقریرات المنسوبة إلیه - و هو ینحلّ إلی وجهین:

أحدهما: ما ذکره فی صدر کلامه و ملخّصه: إنّ العقل یستقلّ بعدم کفایة الامتثال الاحتمالی للتکلیف القطعی، ضرورة أنّ الامتثال الاحتمالی إنّما یقتضیه التکلیف الاحتمالی، و أمّا التکلیف القطعی فمقتضاه الامتثال القطعی، لأنّ العلم باشتغال الذمّة یستدعی العلم بالفراغ عقلاً، و لا یکفی احتمال الفراغ، ففی المقام لا یجوز الاقتصار علی الأقلّ عقلاً، لأنّه یشکّ فی الامتثال و الخروج عن عهدة التکلیف المعلوم فی البین، و لا یحصل العلم بالامتثال إلاّ بعد ضمّ الخصوصیّة الزائدة المشکوکة. و العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ المردّد بین کونه لا بشرط أو بشرط شیء هو عین العلم الإجمالی بالتکلیف المردّد بین الأقلّ و الأکثر، و مثل هذا العلم التفصیلی لا یعقل أن یوجب الانحلال، لأنّه یلزم أن یکون العلم الإجمالی موجباً لانحلال نفسه.

ثانیهما: ما ذکره فی ذیل کلامه و حاصله: إنّ الشکّ فی تعلّق التکلیف

ص:185

بالخصوصیة الزائدة المشکوکة من الجزء أو الشرط و إن کان عقلاً لا یقتضی التنجّز و استحقاق العقاب علی مخالفته من حیث هو، للجهل بتعلّق التکلیف به، إلاّ أنّ هناک جهة اخری تقتضی التنجیز و الاستحقاق علی تقدیر تعلّق التکلیف بها، و هی احتمال الارتباطیّة و قیدیّة الزائد للأقل، فإنّ هذا الاحتمال بضمیمة العلم الإجمالی یقتضی التنجیز و استحقاق العقاب عقلاً. فإنّه لا رافع لهذا الاحتمال، و لیس من وظیفة العقل وضع القیدیّة أو رفعها، بل ذلک من وظیفة الشارع، و لا حکم للعقل من هذه الجهة فیبقی حکمه بلزوم الخروج عن عهدة التکلیف المعلوم علی حاله، فلا بدّ من ضمّ الخصوصیّة الزائدة(1)

. هذا، و یرد علی التقریب الأوّل: أنّ الاشتغال الیقینی و إن کان مستدعیاً للبراءة الیقینیّة، إلاّ أنّ ذلک بمقدار ثبت الاشتغال به و قامت الحجّة علیه، و أمّا ما لم تقم الحجّة علیه فلم یثبت الاشتغال به حتّی یستدعی البراءة الیقینیّة عنه، کما لا یخفی.

و ما ذکره من أنّ العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ المردّد بین کونه لا بشرط أو بشرط شیء هو عین العلم الإجمالی محلّ منع، لما عرفت من أنّ المراد باللابشرط فی المقام هو اللابشرط المقسمی الذی هو عبارة عن نفس الماهیّة من دون أن یلحظ معها شیء علی نحو السلب البسیط لا الإیجاب العدولی. و من المعلوم أنّ اللابشرط المقسمی لا یغایر مع البشرط شیء أصلاً، لأنّ اللابشرط یجتمع مع ألف شرط.

و حینئذٍ فالأقلّ المردّد بین کونه لا بشرط أو بشرط شیء یعلم تفصیلاً

ص:186


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 159:4-161.

بوجوبه بحیث لا إجمال فی ذلک عند العقل و لا یکون متردّداً فیه أصلاً، و الخصوصیّة الزائدة مشکوکة بالشکّ البدوی.

و بالجملة، فالعلم الإجمالی إذا لوحظ طرفاه أو أطرافه یکون کلّ واحد منهما أو منها مشکوکاً من حیث هو، و فی المقام لا یکون کذلک، لأنّ العقل لا یری إجمالاً بالنسبة إلی وجوب الأقلّ أصلاً، و الأمر الزائد لا یکون إلاّ مشکوکاً بالشکّ البدوی.

و العجب أنّه قدس سره أجاب عن الإشکال الذی نسبه إلی صاحب الحاشیة کما عرفت بعدم مباینة الماهیّة اللابشرط مع الماهیّة بشرط شیء و قال: إنّ الأقلّ متیقّن الاعتبار علی کلّ حال، سواء لوحظ لا بشرط أو بشرط الجزء الزائد(1) ، و هنا أنکر الانحلال الذی مرجعه إلی العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ علی کلّ حال و الشکّ البدوی فی الزائد، و لعمری أنّه تنافر واضح و تهافت فاحش، هذا.

و یرد علی التقریب الثانی: أنّه کما أنّ تعلّق التکلیف بالخصوصیّة الزائدة مشکوک و هو لا یقتضی التنجیز و استحقاق العقاب علی مخالفته من حیث هو، کذلک احتمال الارتباطیّة و قیدیّة الزائد مورد لجریان البراءة بعد عدم قیام الحجّة علیها، لعدم الفرق بین نفس الجزء الزائد و حیثیته الارتباطیة أصلاً، لوجود ملاک جریان البراءة العقلیّة و هو الجهل و عدم ثبوت البیان فیهما، و لا یکون مقتضی جریانها هو رفع القیدیّة حتّی یقال بأنّه لیس من وظیفة العقل وضع القیدیّة و لا رفعها، بل معنی جریانها هو قبح العقاب علی ترک المأمور به

ص:187


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 182.

من جهة الإخلال بالخصوصیّة الزائدة المشکوکة بعد عدم ورود بیان علی ثبوتها و کونها دخیلاً فی المأمور به.

و من جمیع ما ذکرنا یظهر الجواب عن تقریب آخر للاحتیاط، و هو أنّ تعلّق التکلیف بالأقلّ معلوم ضرورة، و الاشتغال الیقینی بذلک یقتضی البراءة الیقینیّة، و هی لا تحصل إلاّ بضمّ الجزء الزائد المشکوک، ضرورة أنّه مع دخالته فی المأمور به لا یکون الإتیان بالأقلّ بمجد أصلاً.

و الجواب: أنّ الشکّ فی حصول البراءة إنّما هو من جهة مدخلیّة الخصوصیّة الزائدة، و حیث إنّ دخالتها مشکوکة و لم یرد من المولی بیان بالنسبة إلیها فالعقاب علی ترک المأمور به من جهة الإخلال بتلک الخصوصیة لا یکون إلاّ عقاباً من دون بیان و مؤاخذة بلا برهان.

و بالجملة: ما علم الاشتغال به یقیناً یحصل البراءة بالإتیان به کذلک، و ما لم یعلم الاشتغال به تجری البراءة العقلیّة بالنسبة إلیه، کما عرفت.

و منها: ما أفاده الشیخ المحقّق صاحب الحاشیة الکبیرة علی المعالم، و ملخّصه: أنّ الأمر دائر بین تعلّق الوجوب بالأقلّ أو بالأکثر، و علی تقدیر تعلّقه بالأکثر لا یکون الأقلّ بواجب؛ لأنّ ما هو فی ضمن الأکثر إنّما هو الأجزاء التی ینحلّ إلیها الأقلّ لا نفس الأقلّ، فإنّه لا یکون فی ضمن الأکثر أصلاً؛ لأنّ له صورة مغایرة لصورة الأکثر. و مع هذا التغایر لو کان الأقلّ و الأکثر غیر ارتباطیین لکنّا نحکم بالبراءة بالنسبة إلی الزائد المشکوک، لعدم توقّف حصول الغرض علی ضمّ الزائد، بل الأقلّ یترتّب علیه الغرض فی الجملة و لو لم یکن متعلّقاً للتکلیف. و هذا بخلاف المقام، فإنّه لو کان الأمر متعلّقاً فی نفس الأمر بالأکثر لکان وجود الأقلّ کعدمه فی عدم ترتّب شیء علیه و عدم تأثیره فی حصول

ص:188

الغرض أصلاً. و حینئذٍ فمقتضی العلم الإجمالی بوجود التکلیف فی البین هو لزوم الإتیان بالأکثر تحصیلاً للبراءة الیقینیّة(1) ، انتهی.

و یرد علیه ما أجبنا به عن الإشکال الأوّل المتقدّم(2) من أنّ المرکّب من الأقلّ لا یکون له صورة مغایرة للمرکّب من الأکثر، لأنّ الترکیب الاعتباری لیس إلاّ ملاحظة أشیاء متعدّدة شیئاً واحداً، بحیث تکون الأجزاء فانیة غیر ملحوظة بنفسها، و لا یکون هنا صورة اخری ما عدا الأجزاء حتّی یقال بأنّها مغایرة للصورة الحاصلة من المرکّب من الأکثر.

و بالجملة: فلیس هنا إلاّ نفس الأجزاء التی دار أمرها بین القلّة و الکثرة، و حینئذٍ فیظهر أنّ تعلّق الوجوب بالأقلّ معلوم تفصیلاً، لما عرفت من أنّ الأمر المتعلّق بالمرکّب یدعو إلی أجزائه بعین داعویّته إلی المرکّب، و حینئذٍ فلو کان الأکثر متعلّقاً للتکلیف یکون الأقلّ أیضاً واجباً، بمعنی أنّ الأمر یدعو إلیه، کما أنّه لو کان الأقلّ کذلک یکون واجباً حینئذٍ، فوجوب الأقلّ معلوم تفصیلاً، و الشکّ بالنسبة إلی الزائد شکّ بدوی یجری فیه البراءة، کما عرفت.

و منها: ما أفاده المحقّق الخراسانی قدس سره فی الکفایة من أنّ الانحلال مستلزم للخلف أو المحال الذی هو عبارة عن استلزام وجود الشیء لعدمه(3)

. أمّا الخلف، فلأنّه یتوقّف لزوم الأقلّ فعلاً إمّا لنفسه أو لغیره علی تنجّز التکلیف مطلقاً و لو کان متعلّقاً بالأکثر، ضرورة أنّه لو لم یتنجّز علی تقدیر تعلّقه به

ص:189


1- (1) - هدایة المسترشدین: 441.
2- (2) - تقدّم فی الصفحة 179.
3- (3) - کفایة الاُصول: 413.

لم یکن الأقلّ واجباً بالوجوب الغیری، لأنّه تابع لوجوب ذی المقدّمة، و مع عدمه لا مجال له، کما أنّه لو لم یتنجّز علی تقدیر تعلّقه بالأقلّ لم یکن واجباً بالوجوب النفسی، فوجوبه الأعمّ من النفسی و الغیری یتوقّف علی تنجّز التکلیف علی أیّ تقدیر، فلو کان لزومه کذلک موجباً لعدم تنجّز التکلیف إلاّ علی تقدیر تعلّقه بالأقلّ یلزم الخلف.

و أمّا استلزام وجوده للعدم، فلأنّ لزوم الأقلّ علی الفرض یستلزم عدم تنجّز التکلیف علی کلّ حال، و هو یستلزم لعدم لزوم الأقلّ مطلقاً، و هو یستلزم عدم الانحلال، فلزم من وجود الانحلال عدمه، و ما یلزم من وجوده عدمه فهو محال، هذا.

و یمکن هنا تقریب ثالث زائد علی التقریبین المذکورین فی کلام المحقّق الخراسانی، و هو أنّ العلم التفصیلی لو تولّد من العلم الإجمالی بحیث کان معلولاً له و مسبّباً عنه لا یعقل أن یوجب انحلال ذاک العلم الإجمالی، و هل یمکن أن یؤثّر المعلول فی عدم علّته؟

و المقام من هذا القبیل، فإنّ العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ إمّا لنفسه أو لغیره إنّما نشأ من العلم الإجمالی بوجوب الأقلّ أو الأکثر، کما هو واضح، نظیر ما إذا تردّد أمر الوضوء مثلاً بین کون وجوبه نفسیّاً أو غیریّاً ناشئاً من الوجوب المتعلّق بما یکون الوضوء مقدّمة له، و لکن کان وجوب ذی المقدّمة مشکوکاً، فإنّه لا یعقل أن یصیر العلم التفصیلی بوجوب الوضوء علی أیّ تقدیر موجباً لانحلال العلم الإجمالی بوجوب الوضوء نفسیّاً أو بوجوب ما یکون هو مقدّمة له، لأنّ مع الانحلال و إجراء البراءة بالنسبة إلی وجوب ذی المقدّمة لا یکون العلم التفصیلی باقیاً علی حاله، فالعلم التفصیلی المسبّب عن العلم الإجمالی

ص:190

یستحیل أن یؤثّر فی انحلاله، هذا.

و لکن هذه التقریبات الثلاثة إنّما یتمّ بناءً علی مبنی فاسد، و هو القول بکون الأجزاء فی المرکّبات واجبة بالوجوب الغیری کالمقدّمات الخارجیّة، و نحن و إن أنکرنا وجوب المقدّمة و الملازمة بینه و بین وجوب ذیها رأساً، کما مرّ تحقیقه فی مبحث مقدّمة الواجب من مباحث الألفاظ (1) ، إلاّ أنّه لو سلّمنا ذلک فی المقدّمات الخارجیّة فلا نسلّم فی المقدّمات الداخلیة أصلاً، بل قد عرفت أنّ الأجزاء واجبة بعین وجوب الکلّ، و الأمر المتعلّق به یدعو إلیها بعین دعوته إلیه، إذ لا مغایرة بینها و بینه أصلاً، لأنّ المرکّب لیس أمراً وراءها بل هو نفسها. و حینئذٍ فالأقلّ واجب بالوجوب الأصلی النفسی تفصیلاً و لا یکون هذا العلم التفصیلی مسبّباً عن العلم الإجمالی، فلا مانع من التأثیر فی الانحلال، بل قد عرفت أنّه لیس هنا إلاّ علم تفصیلی و شکّ بدوی، کما لا یخفی.

و منها: ما أورده علی نفسه الشیخ المحقّق الأنصاری فی الرسالة(2) بقوله: «إن قلت» و تقریره: أنّ الأوامر و النواهی الشرعیّة تابعة للمصالح و المفاسد النفس الأمریّة، کما اشتهر ذلک بین العدلیّة، حیث یقولون: إنّ الواجبات الشرعیّة إنّما وجبت لکونها ألطافاً فی الواجبات العقلیّة، فاللطف و المصلحة النفس الأمریّة إمّا هو المأمور به حقیقةً، و الأوامر المتعلّقة بمثل الصلاة و الصوم و نظائرهما أوامر إرشادیّة و الغرض منها الإرشاد إلی عدم حصول المأمور به حقیقة إلاّ بمثلها، و إمّا أنّه غرض للآمر. و علی کلا التقدیرین فیجب

ص:191


1- (1) - تقدّم فی الجزء الأوّل: 16-17.
2- (2) - فرائد الاُصول 461:2.

تحصیل العلم بحصول اللطف لعدم العلم بإتیان المأمور به علی الأوّل و بحصول الغرض علی الثانی مع الاقتصار علی الأقلّ فی مقام الامتثال. و من الواضح عند العقول لزوم العلم بإتیان المأمور به و بحصول الغرض، أمّا الأوّل فبدیهی، و أمّا الثانی فلأنّ الغرض إنّما هو العلّة و الداعی للأمر، و مع الشکّ فی حصوله یشکّ فی سقوط الأمر. فمرجع الشکّ فیه إلی الشکّ فی الإتیان بالمأمور به المسقط للأمر، و قد عرفت أنّ لزوم العلم بإتیانه من الواضحات عند العقول، هذا.

و لا یخفی أنّ المحقّق الخراسانی قدس سره اعتمد فی الکفایة(1) علی هذا الکلام و ردّ ما أجاب به عنه الشیخ قدس سره فی الرسالة، هذا.

و التحقیق فی الجواب عن هذا الإشکال أن یقال: إنّ هذه المسألة - و هی أنّ الأوامر و النواهی الشرعیّة هل هی تابعة للمصالح و المفاسد النفس الأمریّة أم لا - مسألة کلامیّة، و منشأ البحث فیها مسألة اخری کلامیّة أیضاً، و هی أنّه هل یمتنع علی اللّه الإرادة الجزافیّة، فلا یجوز علیه الفعل من دون غرض کما علیه العدلیّة، أو أنّه لا یمتنع علیه تعالی ذلک، بل یجوز منه الإرادة الجزافیّة و الفعل من دون غرض و مصلحة، کما علیه الأشاعرة.

فظهر أنّه بناءً علی مذهب العدلیّة لا بدّ من الالتزام بعدم کون الأفعال الاختیاریّة الصادرة من اللّه تعالی خالیاً من الغرض و المصلحة، أمّا أنّه لا بدّ من أن یکون المأمور به حقیقة هو نفس تلک المصلحة و الغرض، أو یکون الغرض أمراً آخر مترتّباً علی المأمور به فلا یستفاد من ذلک، بل اللازم هو أن یقال بعدم کون إرادته تعالی المتعلّقة بإتیان المأمور به إرادة جزافیّة غیر

ص:192


1- (1) - کفایة الاُصول: 414.

ناشئة من المصلحة فی المراد. و هو کما یتحقّق بأحد الأمرین المذکورین، کذلک یتحقّق بأن یکون المأمور به الذی هو عبارة عن مثل الصلاة و الصوم و الحجّ بنفسه مصلحةً و محبوباً؛ لأنّه لا فرق فی عدم کون الإرادة جزافیّة بین أن تکون الصلاة مؤثِّرة فی حصول غرض و مصلحة و هی معراج المؤمن کما قیل، أو أن تکون بنفسها محبوبة و مصلحة، لاشتمالها علی التهلیل و التکبیر و التسبیح مثلاً، کما أنّه یتحقّق ذلک بأن تکون المصلحة فی نفس الأمر لا فی المأمور به.

و بالجملة: فمقتضی مذهب العدلیّة أنّه لا بدّ أن یکون فی البین غرض و غایة و مصلحة و لطف، أمّا لزوم أن یکون هو متعلّق الأمر بحیث کانت الأوامر المتعلّقة بمثل الصلاة و الصوم إرشاداً إلیه أو أن یکون أمراً آخر وراء المأمور به فلا، فمن المحتمل أن یکون نفس المأمور به محبوباً بذاته و غایة بنفسه، أو یکون الغرض فی نفس الأمر، و علی هذین التقدیرین لا وجه للاحتیاط بالإتیان بالأکثر.

أمّا علی التقدیر الأوّل: فلأنّ محبوبیة الأقلّ معلومة، و لم یقم دلیل علی محبوبیة الخصوصیّة الزائدة، و العقل یحکم بعدم جواز العقوبة علیها مع عدم قیام الحجّة علیها، کما أنّه علی التقدیر الثانی حصل الغرض بمجرّد الأمر و البعث و لا یکون المکلّف مأخوذاً بأزید ممّا قام الدلیل علی لزوم الإتیان به.

هذا کلّه مضافاً إلی أنّه لو فرض کون الغرض مترتّباً علی المأمور به نمنع لزوم العلم بحصوله، لأنّ المکلّف إنّما هو مأخوذ بالمقدار الذی ورد البیان من قبل المولی علی دخالته فی المأمور به، و مع الإتیان به لا معنی لعقوبته و إن کان شاکّاً فی حصول الغرض، لأنّ الأمر لم یتعلّق بتحصیل الغرض بل تعلّق بالأجزاء التی یعلم بانحلال المرکّب إلیها، و تعلّقه بالزائد مشکوک یحکم العقل

ص:193

بالبراءة عنه. کیف و لو کان اللازم العلم بحصول الغرض لم یحصل العلم بامتثال کثیر من المرکّبات الشرعیّة، إذ ما من مرکّب إلاّ و نحتمل دخالة أمر آخر فیه شطراً أو شرطاً واقعاً و إن لم یصل إلینا دلیله، کما هو واضح، فاللازم بحسب نظر العقل هو العلم بإتیان المأمور به الذی قامت الحجّة علیه و هو یحصل بإتیان الأقلّ، فتدبّر.

و منها: ما یختصّ بالواجبات التعبّدیة و لا یجری فی التوصّلیات، و هو أنّه لا بدّ فیها من قصد التقرّب، و هو لا یکون إلاّ بالواجب النفسی، لأنّ الواجب الغیری لا یکون مقرّباً، و حینئذٍ فمع الاقتصار علی الأقلّ لا یکاد یمکن قصد التقرّب، لأنّه یحتمل أن یکون الواجب فی الواقع هو الأکثر و کان الأقلّ واجباً غیریّاً، و هذا بخلاف ما إذا أتی بالأکثر، فإنّه یقطع بکونه مقرّباً إمّا بنفسه، و إمّا بالأقلّ المتحقّق فی ضمنه.

و التحقیق فی الجواب أن یقال: أمّا أوّلاً، فلأنّ المعتبر فی العبادات أن لا یکون الإتیان بها بداع نفسانی، بل بداع إلهی اخروی. و من المعلوم أنّه لا فرق فی ذلک بین الإتیان بالأقلّ أو بالأکثر، ضرورة أنّ الآتی بالأقلّ لا یکون الداعی له إلی الإتیان به إلاّ أمر إلهی. نعم لا یعلم بکون المأتی به هو المأمور به، کما أنّ الآتی بالأکثر أیضاً لا یعلم بذلک.

و بالجملة: لا فرق بین الإتیان بالأقلّ أو بالأکثر فی إمکان قصد التقرّب الذی مرجعه إلی الإتیان بالعمل لا لداع نفسانی من ریاء و غیره، و کذا فی عدم العلم بکون ما یأتی به هو المأمور به.

و أمّا ثانیاً: فلأنّ مبنی الإشکال علی کون الأقلّ واجباً بالوجوب الغیری علی تقدیر کون متعلّق التکلیف هو الأکثر، و قد عرفت غیر مرّة منع ذلک و أنّ

ص:194

الأجزاء واجبة بعین وجوب المرکّب، و الأمر المتعلّق به یدعو إلی الأجزاء بعین دعوته إلیه، و حینئذٍ فالأقلّ واجب بالوجوب النفسی علی التقدیرین.

و بالجملة: لا فرق فی الداعی بین القائل بالبراءة و القائل بالاشتغال، فإنّ الداعی بالنسبة إلیهما هو الأمر المتعلّق بإقامة الصلاة لدلوک الشمس إلی غسق اللیل. غایة الأمر أنّه لا یصلح للداعویّة فی نظر القائل بالبراءة إلاّ بالنسبة إلی ما علم انحلال الصلاة إلیه من الأجزاء، کما أنّه فی نظر القائل بالاشتغال یدعو إلی جمیع ما تنحلّ إلیه واقعاً و لو کان هو الأکثر، و لذا لا یتحقّق العلم بامتثاله إلاّ بالإتیان به. فلا اختلاف للداعی بالنسبة إلیهما، فیجوز الإتیان بالأقلّ بداعی الأمر المتعلّق بالصلاة بلا ریب و لا یوجب ذلک قدحاً فی عبادیّتها أصلاً، کما هو واضح لا یخفی.

هذا کلّه فی البراءة العقلیّة، و قد عرفت جریانها و عدم ورود شیء من الإشکالات الثمانیة المتقدّمة علیها.

فی جریان البراءة الشرعیّة فی المقام

و أمّا البراءة الشرعیّة: فالظاهر أنّه لا مانع من جریانها بناءً علی ما هو مقتضی التحقیق من انحلال العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ و الشکّ فی وجوب الأکثر، کما عرفت. و ذلک لأنّ الأقلّ معلوم وجوبه النفسی تفصیلاً و الأکثر مشکوک، فیکون مرفوعاً بمثل حدیث الرفع(1) ، و لا فرق فی ذلک

ص:195


1- (1) - الخصال: 9/417، وسائل الشیعة 369:15، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحدیث 1.

بین أن یقال بدلالة الحدیث علی رفع الجزئیّة المجهولة بناءً علی إمکان رفعها لکونها قابلة للوضع، أو یقال بدلالته علی رفع الوجوب النفسی المتعلّق بالأکثر بناءً علی عدم إمکان رفع الجزئیة. و کیف کان فلا مانع من جریانها بالنسبة إلی الأکثر بناءً علی الانحلال.

و أمّا بناءً علی عدم الانحلال الموجب لعدم جریان البراءة العقلیّة فهل تجری البراءة الشرعیّة مطلقاً، أو لا تجری کذلک، أو یفصّل بین ما إذا کان العلم الإجمالی مقتضیاً لوجوب الموافقة القطعیّة فتجری، و بین ما إذا قیل بکونه علّة تامّة له فلا تجری؟ وجوه بل أقوال ذهب إلی الأوّل المحقّق الخراسانی(1) و إلی الأخیر المحقّق العراقی علی ما فی تقریرات بحثه(2)

. و الحقّ هو الوجه الثانی، لأنّه لو کان مجری البراءة هو الوجوب النفسی المتعلّق بالأکثر المجهول فالأصل و إن کان یجری بالنسبة إلیه لکونه مشکوکاً، إلاّ أنّه معارض بالأصل الجاری فی الأقلّ، لأنّ وجوبه النفسی أیضاً مشکوک بناءً علی ما هو المفروض من عدم انحلال العلم الإجمالی، لأنّه یلزم من جریانهما مخالفة عملیّة للتکلیف المعلوم المتحقّق فی البین المردّد بین الأقلّ و الأکثر.

و دعوی: أنّ طبیعة الوجوب بالنسبة إلی الأقلّ معلومة بالتفصیل، فلا تجری أصالة البراءة بالنسبة إلیه، و أمّا الأکثر فأصل تعلّق الوجوب به مشکوک، فلا مانع من جریان الأصل فیه.

ص:196


1- (1) - کفایة الاُصول: 416.
2- (2) - نهایة الأفکار 389:3.

مدفوعة: بأنّ الأمر المشترک بین الوجوب النفسی و الغیری أمر انتزاعی لا یکون قابلاً للجعل، ضرورة أنّ المجعول إمّا هو الوجوب النفسی، و إمّا هو الوجوب الغیری، غایة الأمر أنّ العقل بعد ملاحظتهما ینتزع منهما أمراً واحداً و هو أصل الوجوب و الإلزام.

کما أنّ دعوی عدم جریان الأصل فی الأقلّ بالنسبة إلی وجوبه النفسی، لعدم ترتّب أثر علیه بعد لزوم الإتیان به علی أیّ تقدیر کان واجباً نفسیّاً أو غیریّاً فلا معارض للأصل الجاری فی الأکثر.

تندفع بأنّه یکفی فی جریان الأصل ترتّب الأثر علیه و لو فی بعض الموارد، و هنا یکون کذلک، فإنّ جریان أصل البراءة عن الوجوب النفسی المجهول المتعلّق بالأقلّ یترتّب علیه الأثر فیما لو سقط الجزء المشکوک عن الجزئیة لتعذّر و غیره، فإنّ مقتضی أصالة البراءة عن وجوب الأقلّ عدم لزوم الإتیان به أصلاً.

و بالجملة: فلو کان مجری البراءة هو الوجوب النفسی المتعلّق بالأکثر لکان الأصل الجاری فیه معارضاً بالأصل الجاری فی الأقلّ. و أمّا لو کان مجراها هی جزئیّة الجزء المشکوک فعلی مختار الأعاظم من عدم کون الجزئیّة قابلة للوضع و لا للرفع، بل کلّ واحد منهما یتعلّق بمنشإ انتزاعه و هو الوجوب النفسی المتعلّق بالمرکّب من الجزء المشکوک و سائر الأجزاء فیقع التعارض حینئذٍ بین الأصل الجاری فی منشأ انتزاعه و بین الأصل الجاری فی الأقلّ کما فی الصورة السابقة.

و من هنا ینقدح الخلل فیما أفاده المحقّق العراقی بعد تسلیم ثبوت التعارض بین الأصل الجاری فی الأکثر فی وجوبه النفسی و الأصل الجاری فی الأقلّ، من

ص:197

أنّه یکفی فی جریان الأصل فی جزئیّة المشکوک مجرّد کونها ممّا أمر رفعه و وضعه بید الشارع و لو بتوسّط منشائه و هو التکلیف، فإنّ للشارع رفع الجزئیّة عن المشکوک برفع الید عن فعلیّة التکلیف المتعلّق بالأکثر(1)

. وجه الخلل ما عرفت من أنّ منشأ انتزاع الجزئیّة هو الوجوب النفسی المتعلّق بالمرکّب، و الأصل الجاری فی المرکّب من الجزء المشکوک معارض بالأصل الجاری فی المرکّب من غیره، کما اعترف به.

و أمّا لو کان مجری البراءة هو الوجوب المتعلّق بالجزء المشکوک فالظاهر أیضاً عدم جریان الأصل فیه للمعارضة، لأنّ الوجوب المتعلّق بالجزء المشکوک و إن کان وجوباً شرعیاً بناءً علی القول بوجوب المقدّمة علی خلاف ما هو الحقّ و المحقّق فی محلّه(2) ، إلاّ أنّ الملازمة بینه و بین وجوب ذی المقدّمة ملازمة عقلیّة، فالشکّ فیه و إن کان مسبّباً عن الشکّ فی وجوب الأکثر، إلاّ أنّه لا یرتفع بالأصل الجاری فی السبب بعد عدم کون المسبّب من الآثار الشرعیّة المترتّبة علیه، فکما أنّه یجری الأصل فی السبب یجری فی المسبّب أیضاً.

و حینئذٍ فیقع التعارض بین الأصل الجاری فیهما و الجاری فی الأقلّ.

نعم لو قلنا بکون وجوب المقدّمة من الآثار الشرعیّة المترتّبة علی وجوب ذیها لکان الأصل الجاری فی السبب معارضاً بالأصل الجاری فی الأقلّ، و یبقی الأصل الجاری فی المسبّب سلیماً عن المعارض، و لکن هذا بمکان من البطلان، لأنّ مسألة وجوب المقدّمة مسألة عقلیّة، کما هو المسلّم بینهم.

ص:198


1- (1) - نهایة الأفکار 390:3.
2- (2) - تقدّم فی الجزء الأوّل: 15.

فانقدح من جمیع ما ذکرنا: أنّه بناءً علی عدم انحلال العلم الإجمالی لا یجری أصالة البراءة بالنسبة إلی الأکثر لا فی وجوبه النفسی المتعلّق به، و لا فی جزئیة الجزء المشکوک، و لا فی الوجوب المتعلّق به.

و هذا لا فرق فیه بین أن نقول باقتضاء العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة، و بین أن نقول بکونه علّة تامّة له، فالتفکیک بین البراءة الشرعیّة و العقلیّة ممّا لا وجه له أصلاً.

ثمّ إنّ المحقّق العراقی المفصّل بین القول بالاقتضاء و العلّیة أفاد فی وجه عدم جریان الأصل النافی - بناءً علی العلّیة و لو فی بعض أطرافه بلا معارض - أنّه بعد انتهاء الأمر إلی حکم العقل بوجوب الاحتیاط و لزوم تحصیل الجزم بالفراغ و لو جعلیّاً لا مجال لجریان الاُصول النافیة و لو فی فرض کونها بلا معارض، إلاّ علی فرض اقتضاء جریانها لإثبات أنّ الواجب الفعلی هو الأقلّ و لو ظاهراً، کی ببرکة إثباته ذلک یکون الإتیان به فراغاً جعلیاً عمّا ثبت فی العهدة. و هو أیضاً فی محلّ المنع؛ لمنع اقتضاء مجرّد نفی وجوب الأکثر و الخصوصیّة الزائدة لإثبات هذه الجهة إلاّ علی القول بالمثبت الذی لا نقول به.

نعم قد یتوهّم تکفّل مثل حدیث الرفع لإثبات ذلک بتقریبات ثلاثة:

أحدها: أنّ الحدیث ناظر إلی إطلاقات أدلّة الجزئیة واقعاً بتقیید مفاد فعلیّتها بحال العلم بها، و أنّه برفع فعلیّة التکلیف عن المشکوک واقعاً مع ضمیمة ظهور بقیة الأجزاء فی الفعلیة یرتفع الإجمال من البین و یتعیّن کون متعلّق التکلیف الفعلی هو الأقلّ، و بالإتیان به یتحقّق الفراغ و الخروج عن عهدة التکلیف.

ص:199

و أجاب عن هذا التقریب بما ملخّصه: منع صلاحیّة حدیث الرفع لأن یکون ناظراً إلی نفی فعلیّة التکلیف عن المشکوک واقعاً، إذ مفاد الرفع فیه إنّما هو مجرّد الرفع الظاهری الثابت فی المرتبة المتأخّرة عن الجهل بالواقع، و مثله غیر صالح لتقیید إطلاق الجزئیّة الواقعیّة المحفوظة حتّی بمرتبة فعلیّتها فی المرتبة السابقة عن تعلّق الجهل بها؛ لاستحالة ورود الرفع فی ظرف الجهل بشیء علی الشیء الملحوظ کونه فی المرتبة السابقة علی الجهل بنفسه، و لأنّ رفع کلّ شیء عبارة عن نقیضه و بدیله، فلا یمکن أن یکون الرفع فی هذه المرتبة نقیضاً لما هو فی المرتبة السابقة؛ لأنّ وحدة الرتبة بین النقیضین من الوحدات الثمان التی تعتبر فی التناقض و التضادّ.

و حینئذٍ فلو کانت مقتضیات الفعلیّة فی المرتبة السابقة علی الجهل متحقّقة لا یکاد یصلح مثل هذا الحدیث للمانعیّة عنها، و معه یبقی العلم الإجمالی علی حاله.

و توهّم: أنّ الحکم الظاهری و إن لم یکن فی مرتبة الحکم الواقعی، إلاّ أنّ الحکم الواقعی و لو بنتیجة الإطلاق یکون فی مرتبة الحکم الظاهری، و بذلک أمکن تعلّق الرفع فی تلک المرتبة بفعلیّة الحکم الواقعی.

مدفوع: بأنّه مع الاعتراف بکون الحکم الظاهری فی طول الحکم الواقعی کیف یمکن توهّم کون الحکم الواقعی فی عرض الحکم الظاهری و فی مرتبته.

نعم الحکم الواقعی یجتمع مع الحکم الظاهری زماناً، و لکنّه لا یقتضی اجتماعهما رتبة(1) ، انتهی.

ص:200


1- (1) - نهایة الأفکار 390:3-392.

و أنت خبیر بعدم تمامیّة هذا الجواب، لأنّه - مضافاً إلی منع کون الجهل بشیء و الشکّ فیه متأخّراً عن نفس ذلک الشیء و إلّا لزم انقلابه علماً، کما هو واضح - یرد علیه أنّ معنی الإطلاق لیس هو لحاظ السریان و الشمول حتّی یقتصر فیه علی الحالات التی کانت فی عرض الواقع من حیث الرتبة، بل هو عبارة عن مجرّد عدم أخذ القید فی نفس الحکم أو متعلّقه مع کونه بصدد البیان، و حینئذٍ فلا مانع من شمول إطلاق الواقع لمرتبة الجهل به، فلا استحالة فی ورود الرفع فی ظرف الجهل علی الواقع الشامل لمرتبة الجهل أیضاً.

و من هنا یظهر: أنّ الحکم الواقعی یکون فی مرتبة الحکم الظاهری و محفوظاً معه، کما تقدّم تحقیقه فی مبحث اجتماع الحکم الظاهری مع الواقعی.

هذا تمام الکلام فیما لو کان الأقلّ و الأکثر من قبیل الأجزاء.

ص:201

المطلب الثانی: فیما لو کان الأقلّ و الأکثر من قبیل

فیما لو کان الأقلّ و الأکثر من قبیل

المطلق و المشروط أو الجنس و النوع، أو الطبیعی و الفرد

کما إذا دار الأمر بین کون الواجب مطلق الصلاة أو هی مشروطة بالطهارة مثلاً، أو دار الأمر بین وجوب إطعام مطلق الحیوان أو الإنسان، أو وجوب إکرام الإنسان أو خصوص زید، ففی جریان البراءة العقلیّة مطلقاً أو عدمه کذلک، أو التفصیل بین المطلق و المشروط و غیره بالجریان فی الأوّل دون غیره وجوه، بل أقوال.

و لیعلم: أنّ الشرط قد یکون متّحداً مع المشروط فی الوجود الخارجی، کالإیمان فی الرقبة، و قد یکون مغایراً معه فی الوجود کالطهارة بالنسبة إلی الصلاة، و لا فرق بینهما فی المقام. کما أنّه لا فرق فی المرکّبات التحلیلیة بین أن تکون بسائط فی الخارج أم لم تکن، کذلک لا فرق بین أن تکون الخصوصیّة الزائدة محتاجة إلی مئونة زائدة فی مقام الإثبات، کبعض الألوان التی لم یوضع بإزائها لفظ مستقلّ، بل تعرف بإضافة لفظ اللون إلی شیء آخر، أو لم تکن کذلک.

و کیف کان: فذهب المحقّق الخراسانی فی الکفایة إلی عدم جریان البراءة العقلیّة هنا مطلقاً، و أنّه أظهر من عدم الجریان فی الأقلّ و الأکثر فی الأجزاء.

قال فی وجهه ما نصّه: فإنّ الانحلال المتوهّم فی الأقلّ و الأکثر لا یکاد یتوهّم هاهنا، بداهة أنّ الأجزاء التحلیلیّة لا تکاد تتّصف باللزوم من باب المقدّمة عقلاً، فالصلاة - مثلاً - فی ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصّة

ص:202

موجودة بعین وجودها و فی ضمن صلاة اخری فاقدة لشرطها أو خصوصیّتها تکون متباینة للمأمور بها، کما لا یخفی(1) ، انتهی.

و توضیح عدم جریان البراءة فی المقام یتوقّف علی بیان مقدّمتین:

الاُولی: أنّه لا بدّ فی الانحلال الموجب لجریان البراءة فی المشکوک أن یرجع العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی بأحد الطرفین و الشکّ البدوی فی الآخر. و بعبارة اخری: کان فی البین قدر متیقّن تفصیلاً و وقع الشکّ فی الزائد علی ذلک المقدار، ضرورة أنّ بدون ذلک لا وجه للانحلال.

الثانیة: أنّ الطبیعی فی المتواطیات یتحصّص إلی حصص متعدّدة و آباء کذلک بعدد الأفراد، بحیث کان المتحقّق فی ضمن کلّ فرد حصّة و أب خاصّ من الطبیعی المطلق غیر الحصّة و الأب المتحقّق فی ضمن فرد آخر، کالحیوانیّة الموجودة فی ضمن الإنسان بالإضافة إلی الحیوانیة الموجودة فی ضمن نوع آخر کالبقر و الغنم، و کالإنسانیة المتحقّقة فی ضمن زید بالقیاس إلی الإنسانیة المتحقّقة فی ضمن بکر و خالد. فلا محالة فی مفروض المقام لا یکاد یکون الطبیعی المطلق بما هو جامع الحصص و الآباء القابل للانطباق علی حصّة اخری محفوظاً فی ضمن زید؛ لأنّ ما هو محفوظ فی ضمنه إنّما هی الحصّة الخاصّة من الطبیعی، و مع تغایر هذه الحصّة مع الحصّة الاُخری المحفوظة فی ضمن فرد آخر کیف یمکن دعوی اندراج البحث فی الأقلّ و الأکثر و لو بحسب التحلیل.

بل الأمر فی مثل المقام ینتهی إلی العلم الإجمالی بتعلّق التکلیف إمّا

ص:203


1- (1) - کفایة الاُصول: 417.

بخصوص حصّة خاصة، أو بجامع الحصص و الطبیعی علی الإطلاق بما هو قابل الانطباق علی حصّة اخری غیرها، فیرجع الأمر إلی الدوران بین المتباینین، فیجب فیه الاحتیاط بإطعام خصوص زید مثلاً، هذا.

و یرد علی هذه المقدّمة: أنّ التحقیق فی باب الکلّی الطبیعی هو کونه موجوداً فی الخارج بوصف الکثرة، فإنّ زیداً إنسان و عمراً أیضاً إنسان، و زید و عمرو إنسانان؛ لأنّ الکلّی الطبیعی لیس إلاّ نفس الماهیّة، و هی بذاتها لا تکون واحدة و لا کثیرة. و حیث إنّها لا تکون بنفسها کذلک یجتمع مع الواحد و مع الکثیر؛ لأنّها لو کانت واحدة لم یکن یمکن أن تجتمع مع الکثیر، و لو کانت کثیرة لا یکاد یمکن أن تجتمع مع الواحد، فحیث لا تکون کثیرة بذاتها و لا واحدة بنفسها لا یأبی من الاجتماع معهما.

و بالجملة: کلّ فرد من أفراد الإنسان - مثلاً - هو نفس ماهیّته مع خصوصیّة زائدة، فزید حیوان ناطق، کما أنّ عمراً أیضاً کذلک، و لا تکون الماهیّة المتحقّقة فی ضمن زید مغایرة للماهیّة المتحقّقة فی ضمن عمرو أصلاً، فجمیع أفراد الإنسان یشترک فی هذه الجهة، و لا مباینة بینها من هذه الحیثیة أصلاً، و الطبیعی الجامع بینها یتّحد فی الخارج مع کلّ واحد منها، و لا یکون واحداً بالوحدة العددیّة کما زعمه الرجل الهمدانی الذی صادفه الشیخ الرئیس فی بلدة همدان، حیث إنّه تخیّل أنّ الطبیعی الجامع موجود فی الخارج بوصف الوحدة(1) ، کما أنّ ما ذکر فی المقدّمة الثانیة من تحصّصه بحصص متباینة

ص:204


1- (1) - راجع رسائل ابن سینا: 463، الحکمة المتعالیة 273:1-274، شرح المنظومة، قسم الحکمة: 99.

و کونها آباء متعدّدة ممّا لا یکاد یتصوّر و إن أذعن به بعض الأعلام(1) ، مضافاً إلی أنّه خلاف ما صرّح به الفلاسفة العظام، و تعبیرهم بأنّ الطبیعی مع الأفراد کالآباء مع الأولاد إنّما یریدون به نفی ما زعمه الرجل الهمدانی من کونه أباً واحداً خارجاً و له أولاد متکثّرة، لا کونه ذا حصص متباینة.

إذا عرفت ذلک یظهر لک وجود القدر المتیقّن فی مثل المقام، فإنّه لو دار الأمر بین وجوب إکرام مطلق الإنسان أو خصوص زید، یکون إکرام طبیعة الإنسان التی هی عبارة عن الحیوان الناطق مع قطع النظر عن الخصوصیّات المقارنة معه فی الوجود الخارجی معلوماً تفصیلاً، و الشکّ إنّما هو فی الخصوصیّة الزائدة. کما أنّه لو دار الأمر بین عتق مطلق الرقبة أو خصوص الرقبة المؤمنة یکون وجوب عتق مطلق الرقبة معلوماً تفصیلاً، و الشکّ إنّما هو فی وجوب الخصوصیّة الزائدة و هی کونها مؤمنة، ضرورة أنّ الرقبة الکافرة تشترک مع الرقبة المؤمنة فی أصل المصداقیة لمطلق الرقبة. نعم بینهما افتراق من جهات اخری لا ترتبط بالطبیعی.

و حینئذٍ: فلا فرق بین هذه الموارد و بین الأقلّ و الأکثر أصلاً. نعم بین تلک الموارد فرق من جهة وضوح ذلک و خفائه، فإنّ الدوران بین المطلق و المشروط مع کون الشرط مغایراً فی الوجود الخارجی مع المشروط کالوضوء بالنسبة إلی الصلاة من أوضح تلک الموارد من جهة احتیاجه فی عالم الجعل و الثبوت إلی لحاظ آخر، کاحتیاجه فی عالم الایصال و الإثبات إلی مئونة زائدة، بخلاف غیره من سائر الموارد.

ص:205


1- (1) - نهایة الأفکار 397:3.

و أمّا من جهة أصل وجود ما هو المناط فی جریان البراءة من ثبوت القدر المتیقّن فلا فرق بینها أصلاً.

و أمّا ما أفاده المحقّق النائینی من وجوب الاحتیاط فیما إذا کان الأقلّ و الأکثر من قبیل الجنس و النوع، لأنّ التردید بینهما و إن کان یرجع بالتحلیل العقلی إلی الأقلّ و الأکثر، إلاّ أنّه خارجاً بنظر العرف یکون من التردید بین المتباینین؛ لأنّ الإنسان بما له من المعنی المرتکز فی الذهن مباین للحیوان عرفاً، فلو علم إجمالاً بوجوب إطعام الإنسان أو الحیوان فاللازم هو الاحتیاط بإطعام خصوص الإنسان؛ لأنّ ذلک جمع بین الأمرین، فإنّ إطعام الإنسان یستلزم إطعام الحیوان أیضاً(1)

. فیرد علیه أوّلاً: أنّ التنافی بین الحیوان و الإنسان بنظر العرف لو سلّم لا یوجب تعمیم الحکم لمطلق ما إذا دار الأمر بین الجنس و النوع، فمن الممکن أن لا یکون بعض الأنواع منافیاً لجنسه بنظر العرف أیضاً.

و ثانیاً: لو سلّم التنافی فمقتضی القاعدة الحاکمة بوجوب الاحتیاط الجمع بین الجنس و النوع بإطعام الحیوان و الإنسان معاً فی المثال، لا الاقتصار علی إطعام الإنسان فقط. و ما أفاده من أنّ إطعام الإنسان یستلزم إطعام الحیوان أیضاً رجوع عمّا ذکره أوّلاً من المباینة بینهما بنظر العرف، فإنّ استلزامه لذلک إنّما هو بملاحظة التحلیل العقلی لا النظر العرفی، کما لا یخفی.

ثمّ إنّک عرفت ممّا تقدّم أنّ تمام المناط لجریان البراءة هو وجود القدر المتیقّن فی البین، بلا فرق بین أن تکون الخصوصیّة المشکوکة من قبیل

ص:206


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 208:4.

الخصوصیّات المنوّعة أو المفرّدة، أو من الخصوصیّات العرضیّة، بل قد عرفت أوضحیّة الجریان فی القسم الثانی.

کما أنّه لا فرق فیه - أی فی القسم الثانی - بین أن یکون القید المشکوک فیه بحیث یمکن اتّصاف کلّ فرد من أفراد الطبیعی به کالقیام و القعود و الإیمان و العدالة، و بین ما لم یکن کذلک کالهاشمیّة و نحوها.

کما أنّه لا فرق أیضاً بین أن یکون النوع المأخوذ متعلّقاً للتکلیف بنحو کان الجنس مأخوذاً فی ضمنه أیضاً کالحیوان الناطق أو لم یکن کذلک کالإنسان.

و السرّ فی الجریان فی الجمیع اشتراکه فیما هو المناط.

و أمّا ما أفاده المحقّق العراقی من التفصیل فی الخصوصیّات العرضیّة بین قسمیها لجریان البراءة فی القسم الأوّل دون الثانی(1) ، فإنّما هو مبنی علی الأصل الذی زعمه من الاختلاف بین الحصص و کون الحصّة الواجدة لخصوصیّة الهاشمیّة مغایرة للحصّة الفاقدة لها، فدوران الأمر بین خصوص تلک الحصّة و الجامع بینها و بین الفاقد من قبیل الدوران بین التعیین و التخییر، و لکن عرفت أنّ ذلک بمکان من البطلان.

فتحصّل من جمیع ما ذکرناه فی المطلبین أنّ الحقّ جریان البراءة فی جمیع موارد الدوران بین الأقلّ و الأکثر.

ص:207


1- (1) - نهایة الأفکار 399:3.

المطلب الثالث: فی دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر فی الأسباب و المحصّلات

فی دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر فی الأسباب و المحصّلات

و فی جریان البراءة فیها مطلقاً، و عدم جریانها کذلک، و التفصیل بین ما لو کانت الأسباب عادیّة أو عقلیّة، و بین ما لو کانت شرعیّة، أو بین ما لو قیل بکون العلم الإجمالی مقتضیاً فتجری، أو علّة تامّة فلا تجری، أو بین أن یکون العنوان البسیط الذی هو المأمور به ذا مراتب متفاوتة متدرّج الحصول و التحقّق، و بین ما إذا کان دفعی الحصول و التحقّق عند تحقّق الجزء الأخیر من علّته، بالجریان فی الصورة الاُولی و عدمه فی الصورة الثانیة، وجوه بل أقوال خمسة.

و لیعلم أوّلاً: أنّ مرکز البحث و مورد النزاع بینهم هو ما إذا کان المسبّب الذی هو مورد تعلّق الأمر معلوماً بجمیع خصوصیّاته بحیث لم یکن فیه تردید أصلاً، بل کان التردید فی السبب المحقّق له من حیث مدخلیّة جزء أو شرط فی سببیّته و ترتّب المسبّب علیه. و أمّا لو کان المسبّب أیضاً مشکوکاً بحیث دار أمره بین السعة و الضیق فهو خارج عن البحث فی هذا المقام و داخل فی المباحث المتقدّمة.

و حینئذٍ فیظهر أنّ الوجه الأخیر الذی اختاره المحقّق العراقی - علی ما فی تقریرات بعض تلامذته(1) - الراجع إلی التفصیل بین ما لو کان المسبّب عنواناً بسیطاً ذا مراتب متفاوتة و متدرّج الحصول و بین ما إذا کان دفعی الحصول، خارج

ص:208


1- (1) - نهایة الأفکار 401:3.

عن مورد البحث. فإنّه لو کان العنوان البسیط ذا مراتب متفاوتة، فتارة یکون الشکّ فی مدخلیّة خصوصیّة فی تحقّق ذلک الأمر البسیط، کما لو فرض الشکّ فی اعتبار النیّة فی غسل البدن الذی یؤثّر فی حصول الطهارة المأمور بها، و اخری یکون الشکّ فی نفس ذلک الأمر البسیط و أنّه بأیّة مرتبة تعلّق به الأمر، فعلی الأوّل لا فرق بینه و بین ما إذا کان دفعی الحصول أصلاً. و علی الثانی و إن کان بین الصورتین فرق من حیث جریان البراءة و عدمه، إلاّ أنّ الصورة الاُولی بناءً علی هذا لا تکون داخلة فی محلّ البحث، کما عرفت.

إذا ظهر لک ذلک فاعلم: أنّ الأقوی وجوب الاحتیاط مطلقاً؛ لأنّه بعد تنجّز التکلیف و عدم کون المکلّف معذوراً فی مخالفته من جهة العلم به و بمتعلّقه یحکم العقل حکماً بتّیاً بلزوم العلم بالفراغ عن عهدته بالإتیان بکلّ ما یحتمل دخله فی سببیّة السبب و ترتّب المسبّب علیه جزءاً أو شرطاً، و لیس الاقتصار علی الأقلّ - الذی لا یوجب الإتیان به إلاّ مجرّد احتمال تحقّق الامتثال و الإتیان بالمأمور به - إلاّ کالاقتصار علی احتمال الإتیان بالمأمور به فیما لو احتمل أنّه لم یأت بشیء من أجزائه و شرائطه أصلاً.

و من المعلوم أنّ مقتضی حکم العقل فیه لزوم إحراز الامتثال، أ لا تری أنّه لا یکفی لمن احتمل أنّه لم یصلّ أصلاً مجرّد احتمال أنّه صلّی. نعم بعد خروج الوقت دلّ الدلیل النقلی علی عدم الاعتناء بهذا الاحتمال فی خصوص الصلاة.

و دعوی: أنّه بعد الإتیان بما علم مدخلیّته فی السبب لا یعلم ببقاء الأمر حینئذٍ حتّی یجب علیه الإتیان بالقید المشکوک، ضرورة أنّه یحتمل أن یکون المأتی به تمام السبب.

مدفوعة بأنّ هذا الاحتمال متحقّق فی جمیع موارد قاعدة الاشتغال، کما

ص:209

هو واضح. و المناط فی جریانها هو العلم بتعلّق الأمر و کون المتعلّق معلوماً أیضاً و شکّ فی فراغ ذمّته عنه.

و بالجملة: بعد ما علّق الأمر مخلبه و قامت الحجّة من المولی علی ثبوته و علی تعیین المکلّف به، لا یکون مفرّ من لزوم العلم بتحقّقه و حصول الامتثال، و هو یقتضی وجوب الاحتیاط؛ بلا فرق بین أن تکون الأسباب عادیّة أو عقلیّة أو شرعیّة، و کذا بین أن نقول باقتضاء العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة أو بکونه علّة تامّة، و لا بین أن نقول بإمکان جعل السببیّة و کذا الجزئیة و الشرطیة، أو لا نقول بذلک.

و لا فرق أیضاً فیما ذکرنا بین أن نقول بأنّ عدم المأمور به المنهی عنه حسب اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن النقیض متکثّر حسب تکثّر أجزاء محقّقة، لأنّه ینعدم بانعدام کلّ واحد منها، أو نقول بأنّه لیس للمأمور به إلاّ عدم واحد، إذ کما أنّه لا یکون له إلاّ وجود واحد کذلک لا یکون له إلاّ عدم واحد، و قد مرّت الإشارة إلی ذلک فی بعض المقدّمات التی مهّدناها لجریان البراءة فی الأقلّ و الأکثر فی الأجزاء، فراجع(1)

. أمّا علی القول الثانی: فواضح، لأنّ المنهی عنه إنّما هو عدم واحد، و لا یعلم بترکه و حصول الامتثال إلاّ بالإتیان بکلّ ما یحتمل دخله فی المحقّق - بالکسر - شطراً أو شرطاً، إذ مع الاقتصار علی المقدار المعلوم لا یعلم بتحقّق المأمور به حتّی یعلم بامتثال النهی بترک المنهی عنه.

و أمّا علی القول الأوّل: فقد یقال بأنّه لا مانع حینئذٍ من جریان البراءة،

ص:210


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 176.

لأنّ الأمر ینتهی فی ظرف حرمة الترک إلی الأقلّ و الأکثر، حیث إنّ ترک المأمور به الناشئ من قبل ترک الأقلّ ممّا یعلم تفصیلاً حرمته و استحقاق العقوبة علیه، للعلم بإفضائه إلی ترک المأمور به، و أمّا الترک الناشئ من قبل الجزء أو الشرط المشکوک فلا یعلم حرمته، لعدم العلم بأدائه إلی ترک المأمور به، فیشکّ فی تعلّق النهی عنه فتجری فیه أدلّة البراءة العقلیّة و النقلیّة.

و لکنّه لا یخفی: أنّه بناءً علی ذلک أیضاً لا مجال لجریان البراءة، لأنّ هذه النواهی المتعلّقة بأعدام المأمور به حیث إنّها لا تکون إلاّ ناشئة من الأمر المتعلّق به، ضرورة أنّها لا تکون نواهی مستقلّة، لأنّ مبادیها إنّما هی المبادئ الموجبة للأمر فلا محالة تکون فی السعة و الضیق تابعة للأمر، فلا مجال لإجراء البراءة فیها مع عدم جریانها فیه، مضافاً إلی أنّه لو فرض کونها نواهی مستقلّة فجریان البراءة فیها لا یوجب جواز الاقتصار علی الأقلّ بعد کون الأمر حجّة تامّة و الاشتغال به یقینی، و مقتضی حکم العقل لزوم إحراز الامتثال و العلم بإتیان المأمور به، و هو لا یحصل إلاّ بضمّ القید المشکوک إلی السبب.

و ممّا ذکرنا ینقدح الخلل فیما أفاده المحقّق العراقی من تسلیم جریان البراءة لو کان إضافة أجزاء المحقّق - بالکسر - إلی المحقّق - بالفتح - من قبیل الجهات التقییدیّة الموجبة لتکثّر أعدام المأمور به بالإضافة إلیها، حیث إنّه بتعدّد أجزاء المحقّق حینئذٍ یتعدّد الإضافات و التقیّدات، و بذلک یتکثّر الأعدام أیضاً، فینتهی الأمر من جهة حرمة الترک إلی الأقلّ و الأکثر(1) ، هذا.

و لکنّک عرفت: عدم الفرق بین المسلکین هنا و عدم ترتّب أثر علیهما فی هذا المقام، فتدبّر.

ص:211


1- (1) - نهایة الأفکار 403:3.

ثمّ إنّک عرفت أنّه لا فرق فی عدم جریان البراءة فی الأسباب و المحقّقات بین کونها عقلیّة، کما إذا أمر بقتل زید مثلاً و تردّد محقّقه بین أن یکون ضربة أو ضربتین، أو عادیّة، کما إذا أمر بتنظیف المسجد و تردّد محصّله بین أن یکون مجرّد الکنس أو مع إضافة رشّ الماء، و بین کونها شرعیّة کما إذا فرض أنّ المأمور به حقیقة فی باب الغسل - مثلاً - هی الطهارة الحاصلة منه، و تردّد أمر الغسل بین أن یکون الترتیب بین الأجزاء أو بین الجانبین - مثلاً - معتبراً فیه أم لا.

و لتوضیح عدم الجریان فی الأسباب و المحصّلات الشرعیّة نقول: إنّ جعل الأسباب و المحصّلات الشرعیّة و کذا الاُمور الاعتباریة العقلائیة کالبیع و نحوه لا یکون معناه کون الأسباب مؤثّرة فی حصول المسبّبات تکویناً، بحیث لم یکن قبل تحقّق الأسباب شیء منها، و بعد تحقّقها صارت موجودة فی عالم التکوین، و هذا واضح جدّاً.

و کذلک لیس معناه کون الأسباب بعد حصولها مؤثّرة فی تحقّق الاعتبار إمّا من الشرع أو من العقلاء، بحیث کان إیجاد «بعتُ» مثلاً و التکلّم بهذه اللفظة بقصد إنشاء البیع علّة مؤثّرة فی تحقّق اعتبار العقلاء، ضرورة أنّ لاعتبارهم مبادئ مخصوصة و أسباب معیّنة، و لا یعقل أن یکون قول «بعت» مؤثّراً فی نفوس العقلاء بحیث کانوا مجبورین بمجرّد صدوره من المنشئ فی اعتبار البیع، کما هو أوضح من أن یخفی.

بل التحقیق: أنّ العقلاء فی الأزمنة المتقدّمة بعد ما رأوا توقّف معاشهم علی مثل البیع و أحرزوا الاحتیاج إلیه اعتبروا ذلک علی سبیل الکلّیة، فإذا تحقّق فی الخارج بیع، یتحقّق حینئذٍ موضوع اعتبار العقلاء بخروج المبیع عن ملک البائع و انتقاله إلی ملک المشتری، و کذا الثمن، لا أن یکون تحقّق البیع فی الخارج

ص:212

مؤثّراً فی أصل اعتبار العقلاء؛ لما عرفت من أنّ الاعتبار لأسباب و مبادئ خاصّة، بل تحقّقه یوجب تحقّق الموضوع لاعتبارهم، هذا فی الاُمور الاعتباریّة العقلائیّة.

و أمّا فی المجعولات الشرعیّة فهی علی قسمین:

أحدهما: أن یکون المسبّب من الاُمور الاعتباریة العقلائیة المتعارفة عندهم. غایة الأمر أنّ الشارع یتصرّف فی الأسباب فیردع عن بعضها و إن کان عند العقلاء موضوعاً للاعتبار، أو یزید علیها سبباً آخر فی عرض سائر الأسباب.

و بالجملة: فتصرّفه حینئذٍ مقصور علی الأسباب إمّا بخلع بعضها عن السببیّة، و إمّا بتوسعة دائرتها بإضافة بعض ما لم یکن عند العقلاء سبباً.

مثلاً حقیقة النکاح و الطلاق من الاُمور المعتبرة عند العقلاء، و الشارع أیضاً تبعهم فی ذلک و لکن تصرّف فی أسباب حصولهما، فردع عن بعضها و لم یرتّب الأثر علیه.

ثانیهما: أن یکون المسبّب أیضاً ممّا لم یکن معتبراً عند العقلاء، بل کان من المجعولات الشرعیّة و المخترعات التی لم تکن لها سابقة عند العقلاء. و فی هذا القسم لا بدّ و أن یکون السبب أیضاً مجعولاً کالمسبّب؛ لأنّ المفروض أنّ المسبّب من المخترعات الشرعیّة، و لا یعقل أن یکون لمثل ذلک أسباب عقلیّة أو عادیّة، بل أسبابها لا بدّ و أن تکون مجعولة شرعاً، و لا یغنی جعل واحد منهما عن الآخر، أمّا جعل المسبّب فلما عرفت من أنّ المفروض کونه من المجعولات الشرعیّة و أسبابها لا بدّ و أن تکون شرعیّة. فمجرّد کون الطهارة المأمور بها أمراً اعتباریاً شرعیاً لا یغنی عن جعل الوضوء و الغسل سبباً لحصولها، کما أنّ جعل السبب بالجعل البسیط لا بالجعل المرکّب الذی مرجعه إلی جعل السبب سبباً لا یغنی عن جعل المسبّب.

ص:213

و بالجملة: لا بدّ فی المجعولات الشرعیّة من أن یتعلّق الجعل بالأسباب و المسبّبات معاً و لا یغنی جعل واحد منهما عن الآخر.

إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّه لا مجال لجریان البراءة العقلیّة فی الأسباب و المحصّلات الشرعیّة؛ لأنّ اعتبارها و إن کان بید الشارع، إلاّ أنّه حیث یکون المأمور به هو المسبّبات و هی مبیّنة لا خفاء فیها فمقتضی اشتغال الیقینی بها لزوم العلم بتحقّقها، و هو یتوقّف علی ضمّ القید المشکوک أیضاً.

و أمّا البراءة الشرعیّة فقد یقال بجریانها، لأنّ الشکّ فی حصول المسبّب و هی الطهارة أو النقل و الانتقال - مثلاً - مسبّب عن الشکّ فی الأسباب، و أنّه هل الترتیب بین الأجزاء - مثلاً - معتبر فی الوضوء، أو العربیّة و الماضویّة معتبرة فی الصیغة عند الشارع أم لا؟ و بعد کون الأسباب من المجعولات الشرعیّة لا مانع من جریان حدیث الرفع(1) و نفی القید الزائد المشکوک به، و إذا ارتفع الشکّ عن السبب بسبب حدیث الرفع یرتفع الشکّ عن المسبّب أیضاً، و لا یلزم أن یکون الأصل مثبتاً بعد کون المفروض أنّ المسبّب من الآثار الشرعیّة المترتّبة علی السبب.

و لکن لا یخفی: أنّ مثل حدیث الرفع و إن کان یرفع اعتبار الزیادة المشکوکة لکونها مجهولة غیر مبیّنة، إلاّ أنّ رفعها لا یستلزم رفع الشکّ عن حصول المسبّب، لأنّه یتوقّف علی أن یکون ما عدا الزیادة تمام السبب و تمام المؤثّر، إذ بدونه لا یرتفع الشکّ عن المسبّب، و کونه تمام السبب لا یثبت برفع اعتبار الزیادة المشکوکة إلاّ علی القول بالأصل المثبت، و نحن لا نقول به.

ص:214


1- (1) - الخصال: 9/417، وسائل الشیعة 369:15، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحدیث 1.

المطلب الرابع: فی دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر الارتباطی

اشارة

فی دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر الارتباطی

من جهة الاشتباه فی الاُمور الخارجیة و کون الشبهة موضوعیّة

و لا بدّ قبل الخوض فی المقصود من بیان المراد من دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر الارتباطی فی الشبهة الموضوعیة و الفرق بینه و بین الشکّ فی الأسباب و المحصّلات، فنقول:

قد عرفت أنّ المراد بالشکّ فی المحصّل أنّ الأمر قد تعلّق بشیء مبیّن معلوم، غایة الأمر أنّ تحقّقه فی الواقع أو فی عالم الاعتبار یحتاج إلی مسبّب و محصّل، و هو قد یکون عقلیّاً أو عادیّاً و قد یکون شرعیّاً، فذاک السبب و المحصّل لا یکون مأموراً به بوجه، بل المأمور به إنّما هو الأمر المتحصّل منه. فإنّ الضربة أو الضربتین اللتین تؤثّران فی قتل من امر بقتله لا تکونان مأموراً بهما أصلاً، و هذا واضح لا یخفی.

و أمّا الشبهة الموضوعیة فی دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر الارتباطی فالشکّ فیها إنّما هو فی نفس تحقّق المأمور به و کون المأتی به مصداقاً له، لا فی سبب تحقّقه و علّة تحصّله کما فی الشکّ فی المحصّل، فلو أمر المولی بإکرام العلماء علی سبیل العامّ المجموعی، و دار أمرهم بین مائة أو أزید للشکّ فی عالمیة زید - مثلاً - فمرجع الشکّ حقیقةً إلی الشکّ فی کون إکرام مجموع العلماء الذی أمر به هل یتحقّق فی الخارج بالاقتصار علی إکرام المائة، أو لا بدّ من ضمّ

ص:215

إکرام زید المشکوک کونه عالماً، و لیس إکرام مجموع العلماء أمراً آخر متحصّلاً من إکرام المائة أو مع إضافة الفرد المشکوک، بل هو عینه، فالشکّ فی الشبهة الموضوعیة إنّما هو فی نفس تحقّق المأمور به و انطباق عنوانه علی المأتی به فی الخارج، غایة الأمر أنّ منشأ الشکّ هو الاشتباه فی الاُمور الخارجیة.

و ممّا ذکرنا من الفرق بین الشکّ فی المحصّل و الشبهة الموضوعیة یظهر أنّ المثالین اللذین أوردهما الشیخ المحقّق الأنصاری قدس سره مثالاً للشبهة الموضوعیة لا غبار علیهما أصلاً حیث قال: و منه - یعنی من جملة ما إذا أمر بمفهوم مبیّن مردّد مصداقه بین الأقلّ و الأکثر - ما إذا وجب صوم شهر هلالی - و هو ما بین الهلالین - فشکّ فی أنّه ثلاثون أو ناقص، و مثل ما أمر بالطهور لأجل الصلاة - أعنی الفعل الرافع للحدث أو المبیح للصلاة - فشکّ فی جزئیة شیء للوضوء أو الغسل الرافعین(1) ، انتهی.

ضرورة أنّ دوران الأمر بین کون الشهر تامّاً أو ناقصاً لا یکون من قبیل التردید فی سبب المأمور به و محصّله، بل إنّما یکون التردید فی نفس تحقّق المأمور به - و هو صوم شهر هلالی - و أنّه هل یتحقّق بالاقتصار علی الأقلّ أم لا و منشأ الشکّ فیه إنّما هو الاشتباه فی الاُمور الخارجیة.

و أمّا المثال الثانی فالمراد منه کما یقتضیه التدبّر فی العبارة لیس أن یکون المأمور به هو الطهور الذی هو ضدّ الحدث و یتحقّق بالوضوء أو الغسل

ص:216


1- (1) - فرائد الاُصول 478:2.

حتّی یقال بأنّه من قبیل الشکّ فی المحصّل، کما فی تقریرات العَلمین النائینی(1) و العراقی 0(2) بل المراد به هو کون المأمور به نفس الوضوء أو الغسل بما أنّهما رافعان للحدث أو مبیحان للصلاة، و الشکّ إنّما هو فی نفس تحقّق المأمور به فی الخارج لا فی سببه و محصّله، لأنّ الوضوء و کذا الغسل لا یکون له سبب و محصّل.

نظیر ذلک ما إذا أمر المولی بالضرب القاتل لزید، فتردّد الضرب الواقع فی الخارج بین أن یکون متّصفاً بهذا الوصف أم لم یکن، فإنّ هذا التردید لا یکون راجعاً إلاّ إلی نفس تحقّق المأمور به فی الخارج، لا إلی سببه، ضرورة أنّه لا یکون له سبب، بل الذی له سبب إنّما هو القتل، و المفروض أنّه لا یکون مأموراً به، بل المأمور به هو الضرب القاتل، و تحقّقه بنفسه مردّد فی الخارج.

فالإنصاف أنّ المناقشة فی هذا المثال ناشئة من عدم ملاحظة العبارة بتمامها و قصر النظر علی کلمة الطهور و تخیّل کون المراد به هو الأمر المتحقّق بسبب الوضوء أو الغسل مع الغفلة عن أنّه قدس سره فسّره بالفعل الرافع أو المبیح، و هو الوضوء أو الغسل.

إذا تقرّر ما ذکرنا من عدم رجوع الشبهة الموضوعیة إلی الشکّ فی المحصّل فنقول بعد توسعة دائرة البحث فی مطلق الشبهات الموضوعیة أعمّ من الاستقلالی و الارتباطی: إنّ متعلّق التکلیف قد لا یکون له ارتباط

ص:217


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 200:4.
2- (2) - نهایة الأفکار 408:3.

بالموضوعات الخارجیة کالصلاة و نحوها، و قد یکون له ارتباط بها بأن کان له أیضاً متعلّق کإکرام العلماء حیث إنّه أمر یرتبط بهم، و علی التقدیرین قد یکون التکلیف أمراً، و قد یکون نهیاً و علی التقادیر قد یکون متعلّق التکلیف أو متعلّقه العموم بنحو الاستغراق أو بنحو العامّ المجموعی أو نفس الطبیعة أو صرف وجودها.

و علی أیّ تقدیر قد تکون الشبهة حکمیّة أو موضوعیة، و علی أیّ حال قد یکون الشکّ فی أصل التکلیف و قد یکون فی الجزء أو فی الشرط أو فی المانع أو فی القاطع. و الظاهر إمکان تصویر الشبهة الموضوعیّة فی الجمیع حتّی فی الأجزاء، فإنّه یمکن الشکّ بعد تعلّق الأمر بالصلاة مع السورة فی کون السورة الفلانیّة من القرآن أم لا؟

و کیف کان فقد عرفت حکم الشبهة الحکمیة.

و أمّا الشبهة الموضوعیّة فهل تجری فیها البراءة مطلقاً، أو لا تجری مطلقاً، أو یفصّل بین الموارد؟ وجوه.

ذهب المحقّق العراقی علی ما فی التقریرات(1) إلی جریان البراءة فیها، سواء کانت الشبهة من الأقلّ و الأکثر الاستقلالی، أو من الأقلّ و الأکثر الارتباطی، نظراً إلی أنّه علی کلّ تقدیر یرجع الشکّ فی الموضوع الخارجی فی اتّصافه بعنوان موضوع الکبری إلی الشکّ فی سعة الحکم و ضیقه من ناحیة الخطاب، و المرجع فی مثله هی البراءة.

و قد یقال بعدم جریانها مطلقاً، نظراً إلی أنّ وظیفة الشارع لیس إلاّ بیان

ص:218


1- (1) - نهایة الأفکار 409:3.

الکبریات فقط لا الصغریات أیضاً، مثلاً إذا قال: أکرم العلماء، أو لا تشرب الخمر فقد تمّ بیانه بالنسبة إلی وجوب إکرام کلّ عالم واقعی و بالنسبة إلی حرمة شرب جمیع أفراد الخمر الواقعی. و لا یلزم مع ذلک أن یبیّن للمکلّفین أفراد طبیعة العالم و أنّ زیداً - مثلاً - عالم أم لا، و کذا لا یلزم علیه تعیین الأفراد الواقعیّة للخمر، کما هو واضح.

و حینئذٍ: فبیان المولی قد تمّ بالنسبة إلی جمیع الأفراد الواقعیّة لموضوع الکبری، ففی موارد الشکّ یلزم الاحتیاط بحکم العقل، خروجاً من المخالفة الاحتمالیة الغیر الجائزة بعد تمامیة الحجّة و وصول البیان بالنسبة إلی ما کان علی المولی بیانه، هذا.

و التحقیق: التفصیل بین الاستقلالی و الارتباطی، فتجری البراءة فی مثل أکرم العلماء، إذا أخذ العامّ علی سبیل العام الاُصولی أی الاستغراقی، و لا تجری إذا أخذ بنحو العامّ المجموعی.

و السرّ فیه: أنّ المأمور به فی مثل أکرم کلّ عالم إنّما هو إکرام کلّ واحد من أفراد طبیعة العالم بحیث کان إکرام کلّ واحد منها مأموراً به مستقلاًّ، فهو بمنزلة أکرم زیداً العالم و أکرم عمراً العالم و أکرم بکراً العالم و هکذا. غایة الأمر أنّ الأمر توصّل إلی إفادة ذلک بأخذ مثل کلمة «کلّ» فی خطابه، و إلّا فعنوان الکلّ لا یکون مطلوباً و مترتّباً علیه الغرض، بل هو عنوان مشیر إلی أفراد ما یلیه من العالم و غیره، و قد حقّقنا ذلک فی مبحث العموم و الخصوص من مباحث الألفاظ (1).

ص:219


1- (1) - تقدّم فی الجزء الأوّل: 263.

و حینئذٍ: فلو شکّ فی فرد أنّه عالم أم لا، یکون مرجع هذا الشکّ إلی الشکّ فی أنّه هل یجب إکرامه أم لا؟ و وظیفة المولی و إن لم تکن إلاّ بیان الکبریات، إلاّ أنّها بمجرّدها لا تکون حجّة ما لم ینضمّ إلیه العلم بالصغری وجداناً أو بطریق معتبر شرعی أو عقلی، فقوله: أکرم کلّ عالم، و إن کان مفیداً لوجوب إکرام کلّ عالم واقعی، إلاّ أنّه لا یکون حجّة بالنسبة إلی الفرد المشکوک، و المفروض أیضاً أنّ المأمور به لا یکون له عنوان شکّ فی تحقّقه مع الإخلال بإکرام الفرد المشکوک، لما عرفت من أنّ عنوان الکلّ عنوان مشیر إلی أفراد ما یلیه من غیر أن یجب علینا تحصیله.

و هذا بخلاف العامّ المجموعی، فإنّ المأمور به فیه إنّما هو المجموع بما هو مجموع، لکون الغرض مترتّباً علیه، و مع عدم إکرام الفرد المشکوک، یشکّ فی تحقّق عنوان المأمور به؛ لعدم العلم حینئذٍ بإکرام المجموع. و المفروض أنّ هذا العنوان مورد تعلّق الغرض و الأمر، و بعد العلم بأصل الاشتغال لا یکون مفرّ من إحراز حصول المأمور به، و هو لا یتحقّق إلاّ بضمّ الفرد المشکوک، و الإخلال به إنّما هو کالاقتصار علی مجرّد احتمال إکرام بعض من کان عالماً قطعاً، فکما أنّ هذا الاحتمال لا یجدی فی نظر العقل بعد إحراز کونه عالماً، کذلک مجرّد احتمال عدم کونه عالماً لا ینفع فی عدم لزوم إکرامه.

و ممّا ذکرنا یظهر: أنّ الأقوی فی المثالین المتقدّمین(1) اللذین أوردهما الشیخ قدس سره هو لزوم الاحتیاط؛ لأنّه إذا کان الواجب علی المکلّف هو عنوان صوم بین الهلالین فاللازم علیه تحصیله و عدم الاقتصار علی الأقلّ باحتمال کون

ص:220


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 216.

الشهر ناقصاً، و کذا إذا وجب علیه الطهور - بمعنی الفعل الرافع أو المبیح - فالواجب علیه العلم بحصول عنوانه، و هو موقوف علی ضمّ القید المشکوک، إذ بدونه لا یعلم بتحقّق الوضوء أو الغسل الرافعین أو المبیحین.

إن قلت: ما الفرق بین هذا المقام الذی أوجبت فیه الاحتیاط و بین ما تقدّم(1) من دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر فی الأجزاء فی الشبهة الحکمیة، حیث أجریت فیه البراءة؟

قلت: الفرق بینهما أنّ هناک مع الاقتصار علی الأقلّ لا یتحقّق خلل فی عنوان المأمور به کالصلاة و نحوها، فإنّ ترک جلسة الاستراحة مع احتمال وجوبها لا یوجب خللاً فی حصول عنوان الصلاة.

نعم لو کان الجزء المشکوک بحیث یشکّ مع الإخلال به فی حصول عنوان المأمور به لنحکم بلزوم الإتیان به أیضاً، کما فی المقام.

فالمناط و المیزان لجریان البراءة هو أن لا یکون الإخلال بالفرد المشکوک موجباً للشکّ فی تحقّق المأمور به أو العلم بتحقّق المنهی عنه، و قد تقدّم تحقیق ذلک و أنّ مقتضی الاُصول العملیّة فی الشبهات الموضوعیّة فی الأوامر و النواهی حسب اختلاف متعلّقاتهما من کونها نفس الطبیعة أو صرف الوجود أو العامّ الاستغراقی أو المجموعی ما ذا.

و لکن ذلک کلّه فی التکالیف الاستقلالیّة، و أمّا التکالیف الغیریّة ففی الأجزاء و الشرائط یکون الحکم فیهما هو الحکم فی التکالیف النفسیّة الوجوبیّة من عدم جواز الاکتفاء بالفرد المشکوک فیما لو کان الجزء هو نفس

ص:221


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 176-179.

الطبیعة أو صرف وجودها، و عدم وجوب الإتیان به فیما لو کان بنحو العامّ الاستغراقی، و عدم جواز الإخلال به فیما لو کان بنحو العامّ المجموعی.

و أمّا الموانع و القواطع فاعلم أوّلاً: أنّه قد یقال فی الفرق بینهما هو أنّ المانع ما یکون عدمه معتبراً فی نفس المأمور به، و القاطع ما یکون موجباً لانقطاع الهیئة الاتصالیّة المعتبرة فی المأمور به، کانفصام الحبل الرابط بین أجزاء السبحة. و نحن نقول: الأمر فی القاطع کما ذکر، و أمّا المانع فنمنع کون عدمه معتبراً فی المأمور به، بل وجوده مضادّ له و مانع عن تحقّقه، نظیر الموانع فی الاُمور التکوینیة، فإنّ مانعیة الرطوبة عن الإحراق مرجعها إلی کونها بوجودها مضادّة لتحقّقه، لا کون عدمها شرطاً فیه.

و کیف کان: فلو کان المانع عبارة عمّا یکون عدمه معتبراً فمرجعه حینئذٍ إلی الشرط، و یجری فیه ما یجری فیه.

نعم حیث یکون الشرط حینئذٍ هو العدم فلا بدّ من إحرازه، و هو لا یتحقّق إلاّ بترک جمیع أفراد الطبیعة لو کان المانع هو نفس الطبیعة، أو صرف وجودها، أو بنحو العامّ المجموعی، و لا یجوز الإتیان بالفرد المشکوک. نعم لو کان علی نحو العموم الاستغراقی لا بأس بالإتیان به، لجریان البراءة بالنسبة إلیه، کما عرفت.

و أمّا لو کان المانع عبارة عمّا یکون وجوده مضادّاً للمأمور به و مانعاً عن تحقّقه فالتکلیف المتعلّق به حینئذٍ هو التکلیف التحریمی الغیری.

فلو کان متعلّقه هو نفس الطبیعة أو صرف وجودها أو العامّ الاستغراقی فلا بأس بالإتیان بما یشکّ فی کونه مانعاً للاشتباه فی الاُمور الخارجیة، و لا یجوز الإتیان بشیء من الأفراد المعلومة.

ص:222

و أمّا لو کان متعلّقه هو العامّ المجموعی فیجوز الإتیان بجمیع الأفراد المعلومة و الاقتصار علی ترک الفرد المشکوک، لعدم العلم حینئذٍ بتحقّق المنهی عنه، و لا یلزم فی النهی أن یعلم بعدم تحقّقه، بل اللازم هو أن لا یعلم بتحقّقه، و هذا بخلاف الأمر، فإنّ اللازم فیه هو العلم بتحقّق المأمور به، للزوم الامتثال، و هو لا یتحقّق بدون إحرازه، کما هو واضح.

و ممّا ذکرنا ظهر أنّ مسألة الصلاة فی اللباس المشکوک کونه من مأکول اللحم لا تبتنی علی النزاع فی المراد من المانع و أنّه عبارة عمّا یکون عدمه معتبراً أو ما یکون وجوده مضادّاً؛ لما عرفت من جریان البراءة بناءً علی الأوّل أیضاً لو کان بنحو العموم الاستغراقی، بل لا بدّ مع ذلک من ملاحظة کیفیّة اعتبار غیر المأکول مانعاً، فتدبّر جیّداً.

و لا بدّ من التنبیه علی أمرین:

ص:223

الأمر الأوّل: الشکّ فی الجزئیة أو الشرطیة فی حال السهو
اشارة

الشکّ فی الجزئیة أو الشرطیة فی حال السهو

إذا ثبت جزئیة شیء فی الجملة فهل الأصل العقلی أو الشرعی فی طرفی النقیصة و الزیادة یقتضی البطلان مع الإخلال به أو زیادته فی حال السهو، أم لا؟ و الکلام فیه یقع فی مقامات:

المقام الأوّل: فیما یقتضیه الأصل العقلی بالنسبة إلی النقیصة السهویّة
اشارة

فیما یقتضیه الأصل العقلی بالنسبة إلی النقیصة السهویّة

و أنّه هل یقتضی البطلان و وجوب الإعادة، أم کان مقتضاه الاکتفاء بالناقص؟

إشکال الشیخ الأعظم فی المقام

و قد صرّح الشیخ فی الرسالة بالأوّل، محتجّاً بأنّ ما کان جزءاً فی حال العمد کان جزءاً فی حال الغفلة، فإذا انتفی، انتفی المرکّب، فلم یکن المأتی به موافقاً للمأمور به و هو معنی فساده. أمّا عموم جزئیّته لحال الغفلة، فلأنّ الغفلة لا یوجب تغییر المأمور به. فإنّ المخاطب بالصلاة مع السورة إذا غفل عن السورة فی الأثناء لم یتغیّر الأمر المتوجّه إلیه قبل الغفلة، و لم یحدث بالنسبة إلیه من الشارع أمر آخر حین الغفلة، لأنّه غافل عن غفلته، فالصلاة

ص:224

المأتی بها من غیر سورة غیر مأمور بها بأمر أصلاً. غایة الأمر عدم استمرار الأمر الفعلی بالصلاة مع السورة إلیه، لاستحالة تکلیف الغافل، فالتکلیف ساقط عنه ما دام الغفلة، نظیر من غفل عن الصلاة رأساً أو نام عنها، فإذا التفت إلیها و الوقت باق وجب علیه الإتیان به بمقتضی الأمر الأوّل(1) ، انتهی موضع الحاجة من نقل کلامه، زید فی علوّ مقامه.

و اجیب عنه بوجوه کثیرة.

و لکنّ التحقیق فی الجواب أن یقال: إنّه یمکن القول بجریان البراءة عن الجزئیّة فی حال السهو مع عدم الالتزام باختصاص الغافل بخطاب آخر خاصّ به، بل مع الالتزام بلغویّة ذلک الخطاب علی تقدیر إمکانه و عدم استحالته.

توضیحه: أنّه لو فرض ثبوت الفرق بین العالم و العامد و بین غیرهما فی الواقع و نفس الأمر، بحیث کان المأمور به فی حقّ العامد هو المرکّب التام المشتمل علی السورة، و فی حقّ الساهی هو المرکّب الناقص الغیر المشتمل علیها، بحیث کانت السورة غیر مقتضیة للجزئیّة مطلقاً، بل اقتضاؤها لها إنّما هو فی خصوص صورة العمد فقط.

فنقول: بأنّه یمکن للمولی أن یتوصّل إلی مطلوبه بتوجیه الأمر بطبیعة الصلاة إلی جمیع المکلّفین بقوله مثلاً «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَّیْلِ» (2) غایة الأمر أنّ هذا الأمر إنّما یحرّک العامد نحو الصلاة المشتملة علی السورة، لالتفاته إلی کونها جزءاً لها، و لا ینبعث منه الساهی إلاّ بمقدار التفاته،

ص:225


1- (1) - فرائد الاُصول 483:2.
2- (2) - الإسراء (17):78.

و هو ما عدا الجزء المنسی، فمع فرض انحصار الملاک فی المرکّب التامّ إلی حال العمد و ثبوت الملاک فی المرکّب الناقص فی حال السهو لا یلزم علی المولی أن یوجّه خطاباً آخر إلی النساة، بل یکفی فی الوصول إلی غرضه مجرّد توجیه الأمر بطبیعة الصلاة إلی جمیع المکلّفین، بل نقول بلغویّة الخطاب الآخر بعد کون الخطاب الأوّل وافیاً بجمیع المقصود.

فإذا ثبت جواز الاکتفاء بأمر واحد متوجّه إلی الجمیع مع فرض اشتمال المأتی به لکلّ من العامد و الساهی علی الملاک و المصلحة. فنقول: لو شکّ فی ذلک و أنّ المرکّب الناقص هل یکون تمام المأمور به فی حال السهو أم لا، فیجب الإعادة و الإتیان بالمرکّب الناقص، فمرجع ذلک الشکّ إلی الشکّ فی کون السورة جزءاً فی حال النسیان أم لا، فمع عدم إطلاق دلیل جزئیتها، کما هو المفروض لا مانع من جریان البراءة فی حقّ الساهی، لعین ما ذکر فی الأقلّ و الأکثر فی الأجزاء، و لا فرق بین المقامین أصلاً.

و هنا وجوه اخر فی الجواب عن الإشکال الذی ذکره الشیخ قدس سره:

منها: ما حکی عن السیّد الأجلّ المیرزا الشیرازی قدس سره(1) من عدم کون الغافل مخاطباً بخطاب و مأموراً بأمر، لا بالمرکّب التامّ و لا بالمرکّب الناقص؛ لعدم کونه قادراً علی الإتیان بالمرکّب التامّ مع الغفلة و الذهول، و التکلیف مشروط بالقدرة. و عدم إمکان توجیه خطاب آخر إلیه علی ما هو المفروض من استحالة تخصیصه بخطاب آخر، ففی حال الغفلة لا یکون مأموراً بشیء أصلاً. و أمّا بعد زوالها فنشکّ فی ثبوت التکلیف بالنسبة إلیه، و المرجع

ص:226


1- (1) - انظر درر الفوائد، المحقّق الحائری: 491.

عند الشکّ فی أصل التکلیف هی البراءة.

نعم لو لم یأت فی حال الغفلة بشیء أصلاً فمع ارتفاعها نقطع بثبوت التکلیف و إنّما الشکّ مع الإتیان بالمرکّب الناقص، کما هو المفروض، إذ معه لانقطع بثبوت الاقتضاء و الملاک بالنسبة إلی المرکّب التامّ، لأنّا نحتمل اختصاص جزئیّة الجزء المنسی بحال العمد، کما لا یخفی.

و هذا الجواب و إن کان تامّاً من حیث دفع إشکال الشیخ قدس سره لکن یرد علیه ما عرفت من منع استحالة کون الغافل مأموراً بالمرکّب الناقص، إذ لا یلزم فی ذلک توجیه خطاب آخر خاصّ به، بل یکفی فیه مجرّد الأمر بإقامة الصلاة التی هی طبیعة مشترکة بین التامّ و الناقص، لأنّه یدعو الذاکر إلی جمیع أجزائها، و الناسی إلی ما عدا الجزء المنسی منها، کما لا یخفی.

و منها: ما حکاه المحقّق النائینی عن تقریرات بعض الأجلّة لبحث الشیخ قدس سره فی مسائل الخلل، و محصّله یرجع إلی إمکان أخذ الناسی عنواناً للمکلّف و تکلیفه بما عدا الجزء المنسی، لأنّ المانع من ذلک لیس إلاّ توهّم کون الناسی لا یلتفت إلی نسیانه فی ذلک الحال، فلا یمکنه امتثال الأمر المتوجّه إلیه، لأنّه فرع الالتفات إلی ما اخذ عنواناً للمکلّف(1)

. و لکن یمکن أن یقال: بأنّ امتثال الأمر لا یتوقّف علی أن یکون المکلّف ملتفتاً إلی ما اخذ عنواناً له بخصوصه، بل یمکن الالتفات إلی ما ینطبق علیه من العنوان و لو کان من باب الخطأ فی التطبیق، فیقصد الأمر المتوجّه إلیه بالعنوان الذی یعتقد أنّه واجد له و إن أخطأ فی اعتقاده، و الناسی للجزء حیث

ص:227


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 211:4.

لم یلتفت إلی نسیانه، بل یری نفسه ذاکراً فیقصد الأمر المتوجّه إلیه بتخیّل أنّه أمر الذاکر، فیؤول إلی الخطأ فی التطبیق، نظیر الأمر بالأداء و القضاء فی مکان الآخر.

هذا، و أجاب عنه المحقّق المتقدّم بما حاصله: أنّه یعتبر فی صحّة البعث أن یکون قابلاً للانبعاث عنه، بحیث یمکن أن یصیر داعیاً لانقداح الإرادة و حرکة العضلات نحو المأمور به و لو فی الجملة، و أمّا التکلیف الذی لا یصلح لأن یصیر داعیاً و محرّکاً للإرادة فی وقت من الأوقات فهو قبیح مستهجن.

و من المعلوم أنّ التکلیف بعنوان الناسی غیر قابل لأن یصیر داعیاً لانقداح الإرادة، لأنّ الناسی لا یلتفت إلی نسیانه فی جمیع الموارد، فیلزم أن یکون التکلیف بما یکون امتثاله دائماً من باب الخطأ فی التطبیق، و هو کما تری ممّا لا یمکن الالتزام به، و هذا بخلاف الأمر بالقضاء و الأداء، فإنّ الأمر قابل لأن یصیر داعیاً و محرِّکاً للإرادة بعنوان الأداء أو القضاء، لإمکان الالتفات إلی کونه أداءً أو قضاءً.

نعم قد یتّفق الخطأ فی التطبیق، و أین هذا من التکلیف بما یکون امتثاله دائماً من باب الخطأ فی التطبیق کما فیما نحن فیه، فقیاس المقام بالأمر بالأداء أو القضاء لیس علی ما ینبغی(1) ، انتهی.

هذا و لکن یرد علی هذا الجواب: أنّه بعد تسلیم کون الباعث و المحرِّک للناسی دائماً إنّما هو الأمر الواقعی المتعلّق بالناسی لا مجال لما ذکره، لعدم المانع من کون الخطأ فی التطبیق أمراً دائمیاً، إذ الملاک هو الانبعاث من البعث

ص:228


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 211:4-212.

المتوجّه إلیه و المفروض تحقّقه، لعدم کونه منبعثاً إلاّ عن الأمر الواقعی المتعلّق بخصوص الناسی، فمع تسلیم باعثیّة ذلک الأمر لا موقع لهذا الإشکال، کما هو واضح.

نعم یرد علی هذا البعض المجیب عن إشکال الشیخ: منع کون المحرّک للناسی هو الأمر الواقعی المتعلّق بعنوانه، بل المحرّک له إنّما هو الأمر المتوجّه إلی الذاکر، لکونه لا یری نفسه إلاّ ذاکراً، ضرورة أنّه لو فرض عدم ذلک الأمر فی الواقع لکان الناسی أیضاً متحرّکاً، فوجود ذلک الأمر و عدمه سواء، و هذا دلیل علی أنّ المحرّک له إنّما هو الأمر المحرّک للذاکر الواقعی بلا فرق بینهما من هذه الجهة أصلاً.

نعم قد عرفت: أنّ تکلیفه بما عدا الجزء المنسی لا یتوقّف علی أخذ الناسی عنواناً للمکلّف بتکلیف آخر خاصّ به، بل یمکن التوصّل إلی هذا المطلوب بالأمر الواحد المتعلّق بطبیعة الصلاة المشترکة بین التامّ و الناقص کما مرّ، فتدبّر جیّداً.

ردّ تفصیل المحقّق النائینی بین استیعاب النسیان لجمیع الوقت و عدمه

ثمّ إنّه قد مرّت الإشارة إلی أنّ محلّ الکلام فی جریان البراءة العقلیّة فی المقام هو ما إذا لم یکن لشیء من دلیلی المرکّب و الأجزاء إطلاق، و إلّا فلا مجال لها أصلاً، کما هو واضح. و مع عدم ثبوت الإطلاق لا فرق فی جریانها بین کون النسیان مستوعباً لجمیع الوقت أو لم یکن کذلک، خلافاً لما صرّح به المحقّق النائینی من التفصیل، بین الصورتین حیث إنّه بعد اختیار جریان البراءة قال ما ملخّصه:

ص:229

إنّ أقصی ما تقتضیه أصالة البراءة هو رفع الجزئیة فی حال النسیان فقط، و لا تقتضی رفعها فی تمام الوقت إلاّ مع استیعاب النسیان لتمام الوقت، فلو تذکّر فی أثنائه بمقدار یمکنه إیجاد الطبیعة بتمام ما لها من الأجزاء فأصالة البراءة عن الجزء المنسی فی حال النسیان لا تقتضی عدم وجوب الفرد التامّ فی ظرف التذکّر، بل مقتضی إطلاق الأدلّة وجوبه، لأنّ المأمور به هو صرف وجود الطبیعة التامّة الأجزاء و الشرائط فی مجموع الوقت، و یکفی فی وجوب ذلک التمکّن من إیجادها کذلک و لو فی جزء من الوقت، و لا یعتبر التمکّن من ذلک فی جمیع الآنات.

و الحاصل أنّ رفع الجزئیّة فی حال النسیان لا یلازم رفعها فی ظرف التذکر، لأنّ الشکّ فی الأوّل یرجع إلی ثبوت الجزئیّة فی حال النسیان، و فی الثانی یرجع إلی سقوط التکلیف بالجزء فی حال الذکر، و الأوّل مجری البراءة، و الثانی مجری الاشتغال. هذا إذا لم یکن ذاکراً فی أوّل الوقت ثمّ عرض له النسیان فی الأثناء، و إلّا فیجری استصحاب التکلیف الثابت علیه فی أوّل الوقت، للشکّ فی سقوطه بسبب النسیان الطارئ الزائل فی الوقت(1) ، انتهی.

و فیه: أنّک عرفت أنّ محلّ الکلام هو ما إذا لم یکن للدلیل المثبت للجزئیة إطلاق، و إلّا فلا مجال لأصالة البراءة العقلیّة مطلقاً، و مع عدم الإطلاق، کما هو المفروض نقول: لا موقع لهذا التفصیل، لأنّ الناسی فی حال النسیان لا إشکال فی عدم کونه مکلّفاً بالمرکّب التامّ المشتمل علی الجزء

ص:230


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 220:4-221.

المنسی، لعدم کونه قادراً علیه، بل إمّا أن نقول بعدم کونه مأموراً بالمرکّب الناقص أیضاً، کما حکی عن السیّد المحقّق المیرزا الشیرازی قدس سره. و إمّا أن نقول بکونه مکلّفاً بما عدا الجزء المنسی، کما حکی عن تقریرات بعض الأجلّة لبحث الشیخ، و إمّا أن نقول بما أفاده المحقّق الخراسانی(1) الذی ارتضاه المحقّق النائینی(2) من کون المکلّف به أوّلاً فی خصوص الذاکر و الناسی هو خصوص ما عدا الجزء المنسی، و یختصّ الذاکر بخطاب یخصّه بالنسبة إلی الجزء المنسی. و علی التقادیر الثلاثة تجری البراءة مطلقاً.

أمّا علی التقدیر الأوّل، فلأنّه بعد الإتیان بالفرد الناقص فی حال النسیان یشکّ فی أصل ثبوت التکلیف، لاحتمال اختصاص اقتضاء الجزء المنسی بحال العمد، و کذا علی التقدیر الثانی، فإنّه بعد الإتیان بما هو المأمور به بالنسبة إلیه یشکّ فی توجّه الأمر بالمرکّب التامّ، و هو مجری البراءة، کما أنّه بناءً علی التقدیر الثالث یشکّ فی کونه مشمولاً للخطاب الآخر المختصّ بالذاکرین، و المرجع فیه لیس إلاّ البراءة.

و بالجملة: لا مجال للإشکال فی سقوط الجزء عن الجزئیّة فی حال النسیان و بعده یرجع الشکّ إلی الشکّ فی توجّه الأمر المتعلّق بالفرد التامّ.

نعم قد عرفت: أنّه لو لم یأت بالمأمور به أصلاً فی حال النسیان لا یبقی شکّ فی عدم سقوط الأمر، و هذا واضح، و أمّا مع الإتیان بالفرد الناقص - کما هو المفروض - لا یعلم ببقاء الأمر و توجّهه إلیه.

ص:231


1- (1) - کفایة الاُصول: 418.
2- (2) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 213:4-214.

و أمّا ما ذکره من الاستصحاب فیما إذا کان ذاکراً فی أوّل الوقت ثمّ عرض له النسیان، ففیه أنّه فی حال النسیان نقطع بارتفاعه، و نشکّ بعد الإتیان بالفرد الناقص و زوال النسیان فی عوده، و الأصل یقتضی البراءة، کما هو واضح.

تتمّة: فی ثبوت الإطلاق لدلیل الجزء و المرکّب

قد عرفت أنّ مرکز البحث فی جریان البراءة العقلیّة هو ما إذا لم یکن للدلیل المثبت للجزئیة إطلاق یقتضی الشمول لحال النسیان أیضاً، و کذا ما إذا لم یکن لدلیل المرکّب إطلاق یؤخذ به و یحکم بعدم کون المنسی جزءاً فی حال النسیان، اقتصاراً فی تقیید إطلاقه بخصوص حال الذکر. فالآن نتکلّم فی قیام الدلیل و ثبوت الإطلاق لشیء من الدلیلین و عدمه و إن کان خارجاً عن بحث الاُصولی، فنقول:

قد أفاد المحقّق العراقی فی هذا المقام ما ملخّصه: أنّ دعوی ثبوت الإطلاق لدلیل المرکّب مثل قوله تعالی: «أَقِیمُوا الصَّلاةَ» (1) ساقطة عن الاعتبار، لوضوح أنّ مثل هذه الخطابات إنّما کانت مسوقة لبیان مجرّد التشریع بنحو الإجمال.

و أمّا الدلیل المثبت للجزئیة فلا یبعد هذه الدعوی فیه، لقوّة ظهوره فی الإطلاق من غیر فرق بین أن یکون بلسان الوضع کقوله:

«لا صلاة إلّا بفاتحة الکتاب» (2) و بین أن یکون بلسان الأمر کقوله: ارکع فی الصلاة، مثلاً.

ص:232


1- (1) - البقرة (2):43.
2- (2) - عوالی اللآلی 2/196:1، مستدرک الوسائل 158:4، کتاب الصلاة، أبواب القراءة فی الصلاة، الباب 1، الحدیث 5.

نعم لو کان دلیل اعتبار الجزء هو الإجماع یمکن تخصیص الجزئیّة المستفادة منه بحال الذکر، لأنّه القدر المتیقّن، بخلاف ما لو کان الدلیل غیره، فإنّ إطلاقه مثبت لعموم الجزئیة لحال النسیان.

لا یقال: إنّ ذلک یتمّ إذا کان الدلیل بلسان الوضع، و أمّا إذا کان بلسان الأمر فلا، لأنّ الجزئیة حینئذٍ تتبع الحکم التکلیفی، فإذا کان مختصّاً بحکم العقل بحال الذکر فالجزئیة أیضاً تختص بحال الذکر.

فإنّه یقال: إنّه لو تمّ ذلک فإنّما هو علی فرض ظهور تلک الأوامر فی المولویّة النفسیة أو الغیریّة، و إلّا فعلی ما هو التحقیق من کونها إرشاداً إلی جزئیة متعلّقاتها فلا یستقیم ذلک، إذ لا یکون حینئذٍ محذور عقلی، مع أنّه علی فرض المولویّة و لو بدعوی کونها بحسب اللب عبارة عن قطعات ذلک الأمر النفسی المتعلّق بالمرکّب غیر أنّها صارت مستقلّة فی مقام البیان نقول: إنّ المنع المزبور إنّما یتّجه لو کان حکم العقل بقبح تکلیف الناسی من الأحکام الضروریّة المرتکزة فی الأذهان بحیث یکون کالقرینة المختصّة بالکلام مانعاً عن انعقاد الظهور، مع أنّه ممنوع، لأنّه من العقلیّات التی لا ینتقل الذهن إلیها إلاّ بعد الالتفات و التأمّل فی المبادئ التی أوجبت حکم العقل، فیصیر حینئذٍ من القرائن المنفصلة المانعة عن حجّیة الظهور لا عن أصل الظهور.

و علیه یمکن أن یقال: إنّ غایة ما یقتضیه الحکم العقلی إنّما هو المنع عن حجّیة ظهور تلک الأوامر فی الإطلاق بالنسبة إلی الحکم التکلیفی، و أمّا بالنسبة إلی الحکم الوضعی و هو الجزئیة و إطلاقها لحال النسیان فحیث لا

ص:233

قرینة علی الخلاف من هذه الجهة یؤخذ بظهورها فی ذلک.

و علی فرض الإغماض عن ذلک أیضاً یمکن التمسّک بإطلاق المادّة لدخل الجزء فی الملاک و المصلحة حتّی فی حال النسیان، فلا فرق حینئذٍ فی صحّة التمسّک بالإطلاق بین کون الدلیل بلسان الحکم التکلیفی أو بلسان الوضع(1) ، انتهی.

و فی جمیع الأجوبة الثلاثة التی أجاب بها عن التفصیل الذی ذکره بقوله: «لا یقال» نظر.

أمّا الجواب الأوّل الذی یرجع إلی تسلیم التفصیل مع فرض ظهور تلک الأوامر فی المولویّة و عدم استقامته مع کونها إرشاداً إلی جزئیة متعلّقاتها، فیرد علیه: أنّ الأوامر الإرشادیّة لا تکون مستعملة فی غیر ما وضع له هیئة الأمر و هو البعث و التحریک إلی طبیعة المادّة، بحیث کان مدلولها الأوّلی هو جزئیة المادّة للمرکّب المأمور بها فی المقام، فکأنّ قوله: اسجد فی الصلاة، عبارة اخری عن کون السجود جزءاً لها. بل الأوامر الإرشادیّة أیضاً تدلّ علی البعث و التحریک، فإنّ قوله: اسجد فی الصلاة، معناه الحقیقی هو البعث إلی إیجاد سجدة فیها. غایة الأمر أنّ المأمور به بهذا الأمر لا یکون مترتّباً علیه غرض نفسی، بل الغرض من هذا البعث إفهام کون المادّة جزءاً و أنّ الصلاة لا تتحقّق بدونها.

و بالجملة: فالأمر الإرشادی لیس بحیث لم یکن مستعملاً فی المعنی الحقیقی لهیئة الأمر، بل الظاهر کونه کالأمر المولوی مستعملاً فی البعث

ص:234


1- (1) - نهایة الأفکار 423:3-424.

و التحریک. فإذا کان الحکم التکلیفی مختصّاً بحال الذکر لکان الجزئیة أیضاً مختصّة به، من غیر فرق بین کون الدلیل بلسان الأمر المولوی أو یکون بلسان الأمر الإرشادی.

و أمّا الجواب الثانی فیرد علیه أوّلاً: ما عرفت سابقاً من أنّه لا فرق فیما لو کان المخصّص عقلیّاً بین کون ذلک الحکم العقلی من العقلیات الضروریّة، أو من العقلیات التی لا ینتقل الذهن إلیها إلاّ بعد الالتفات و التأمّل فی المبادئ الموجبة له، فإنّ فی کلتا الصورتین یکون المخصّص کالقرینة المختصّة بالکلام مانعاً عن انعقاد الظهور.

و ثانیاً: أنّه لو سلّم ذلک فی العقلیّات الغیر الضروریّة، و أنّها من قبیل القرائن المنفصلة المانعة عن حجّیة الظهور لا عن أصله فنقول: إنّ ما ذکره من التفصیل بین حجّیة ظهور الأوامر فی الإطلاق بالنسبة إلی الحکم التکلیفی و بین حجّیتها فیه بالنسبة إلی الحکم الوضعی، فالحکم العقلی مانع عن الأوّل دون الثانی، ممنوع، فإنّ الحکم الوضعی إذا کان منتزعاً عن الحکم التکلیفی و تابعاً له یکون فی السعة و الضیق مثله، و لا یمکن أن یکون الحکم التکلیفی مختصّاً بحال الذکر، و الحکم الوضعی المستفاد منه مطلقاً و شاملاً لحالی الذکر و عدمه، إذ لیس الظهوران و هما الظهور فی الإطلاق بالنسبة إلی الحکم التکلیفی و الظهور فیه بالنسبة إلی الحکم الوضعی فی عرض واحد حتّی لا یکون رفع الید عن أحدهما مستلزماً لرفع الید عن الآخر، بل الظهور الثانی فی طول الظهور الأوّل و لا مجال لحجّیته مع رفع الید عنه.

فالمقام نظیر لازم الأمارتین المتعارضتین، کما إذا قامت أمارة علی الوجوب و أمارة اخری علی الحرمة، فإنّ لازمهما هو عدم کونه مباحاً، إلاّ أنّ

ص:235

الأخذ بهذا اللازم بعد سقوطهما عن الحجّیة لأجل التعارض ممّا لا مجال معه، لأنّه فرع حجّیتهما و قد فرضنا خلافه، هذا.

و لو قلنا بجواز الأخذ بمثل هذا اللازم فی الأمارتین المتعارضتین یمکن القول بعدم جواز التفکیک بین الحکم التکلیفی و الوضعی فی المقام، لأنّ کلّ واحد من الأمارتین حجّة مع قطع النظر عن معارضة الآخر. غایة الأمر أنّه سقط من الحجّیة لأجلها، و هذا بخلاف المقام، فإنّ الحکم التکلیفی من أوّل الأمر مقیّد بحال الذکر، و المفروض أنّه المنشأ للحکم الوضعی، فلا یمکن التفرقة بینهما فی الإطلاق و التقیید.

و أمّا الجواب الثالث فیرد علیه: أنّ استفادة الملاک و المصلحة إنّما هو بملاحظة تعلّق الأمر، بناءً علی ما ذکره العدلیّة من أنّ الأوامر الواقعیّة تابعة للمصالح النفس الأمریّة، و إلّا فمع قطع النظر عن تعلّق الأمر لا سبیل لنا إلی استفادة المصلحة أصلاً.

و حینئذٍ فنقول: بعد ما ثبت کون إطلاق الهیئة مقیّداً بحال الذکر لا مجال لاستفادة الملاک و المصلحة مطلقاً حتّی فی غیر حال الذکر، و تعلّق الأمر بالسجود - مثلاً - إنّما یکشف عن کونه ذا مصلحة بالمقدار الذی ثبت کونه مأموراً به، و لا مجال لاستفادة کونه ذا مصلحة حتّی فیما لم یکن مأموراً به، کما فی حال النسیان علی ما هو المفروض بعد کون هذه الاستفادة مبتنیة علی مذهب العدلیّة، و هو لا یقتضی ذلک إلاّ فی موارد ثبوت الأمر، کما هو واضح.

فالإنصاف أنّ هذا الجواب کسابقیه ممّا لا یدفع به الإیراد و لا ینهض للجواب عن القول بالتفصیل، بل لا محیص عن هذا القول بناءً علی مذهبهم من عدم إمکان کون الناسی مکلّفاً و عدم شمول إطلاق الهیئة له، و أمّا بناءً علی ما حقّقناه

ص:236

من عدم انحلال الخطابات حسب تعدّد المخاطبین فلا مانع من کونه مکلّفاً کالجاهل و غیر القادر و غیرهما من المکلّفین المعذورین، و حینئذٍ فلا یبقی فرق بین کون الأدلّة المتضمّنة لبیان الأجزاء بلسان الوضع أو بلسان الأمر، کما لا یخفی.

المقام الثانی: فیما یقتضیه الأصل الشرعی فی النقیصة السهویّة

و اعلم أنّ مورد البحث فی هذا المقام ما إذا کان للدلیل المثبت للجزئیة إطلاق یشمل حال النسیان أیضاً، بحیث لو لم یکن مثل حدیث الرفع(1) فی البین لکان نحکم بعدم الاکتفاء بالمرکّب الناقص المأتی به فی حال النسیان، لکونه فاقداً للجزء المعتبر فیه مطلقاً. غایة الأمر أنّ محل البحث هنا أنّه هل یمکن تقیید إطلاقات أدلّة الأجزاء بمثل حدیث الرفع المشتمل علی رفع النسیان حتّی یکون مقتضاه اختصاص الجزئیّة بحال الذکر و کون المرکّب الناقص مصداقاً للمأمور به أم لا؟ و لا یخفی أنّه لا بدّ فی إثبات أجزاء المرکّب الناقص أوّلاً: من الالتزام بکون حدیث الرفع قابلاً لتقیید إطلاقات أدلّة الأجزاء، و ثانیاً: من إثبات کون الباقی مصداقاً للمأمور به، لأنّه تمامه. و تنقیحه لیظهر ما هو الحقّ یتمّ برسم امور:

الأوّل: أنّک قد عرفت فی إحدی مقدّمات الأقلّ و الأکثر فی الأجزاء أنّ المرکّبات الاعتباریّة عبارة عن الأشیاء المتخالفة الحقائق. غایة الأمر أنّه لوحظ کونها شیئاً واحداً و أمراً فارداً لترتّب غرض واحد علی مجموعها، و عرفت

ص:237


1- (1) - الخصال: 9/417، وسائل الشیعة 369:15، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحدیث 1.

أیضاً أنّ الأمر المتعلّق بالمرکّب الاعتباری أمر واحد. غایة الأمر أنّه یدعو إلی کلّ واحد من الأجزاء بعین دعوته إلی المرکّب، لأنّها هو بعینه، و لا تغایر بینهما إلاّ بالاعتبار، و لا یتوقّف دعوته إلی جزء علی کون الجزء الآخر أیضاً مدعوّاً، بل دعوته إلی کلّ واحد من الأجزاء فی عرض دعوته إلی الآخر، و لا تکون مرتبطة بها، کما لا یخفی.

الثانی: أنّ تقیید إطلاقات أدلّة الأجزاء بمثل حدیث الرفع یکون مرجعه إلی أنّ الإرادة الاستعمالیة فی تلک الأدلّة و إن کانت مطلقة شاملة لحال النسیان أیضاً إلاّ أنّ حدیث الرفع یکشف عن قصر الإرادة الجدّیة علی غیر حال النسیان. و لیس معنی رفع الجزئیة فیه أنّ الجزئیة المطلقة المطابقة للإرادة الجدّیة صارت مرفوعة فی حال النسیان، فإنّ ذلک من قبیل النسخ المستحیل، بل معنی الرفع هو رفع ما ثبت بالقانون العامّ الکلّی المطابق للإرادة الاستعمالیة، و ضمّ ذلک القانون إلی حدیث الرفع ینتج أنّ الإرادة الجدّیة من أوّل الأمر کانت مقصورة بغیر صورة النسیان، و هذا هو الشأن فی جمیع الأدلّة الثانویّة بالقیاس إلی الأدلّة الأوّلیة.

فنفی الحکم الحرجی بقوله تعالی: «وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» (1) مرجعه إلی کون ذلک کاشفاً عن انحصار مقتضی الأدلّة الأوّلیة بغیر صورة الحرج.

غایة الأمر أنّها القیت بصورة الإطلاق قانوناً، کما هو کذلک فی القوانین الموضوعة عند العقلاء، و قد تقدّم فی مباحث العموم و الخصوص شطر من

ص:238


1- (1) - الحجّ (22):78.

الکلام علی ذلک(1) و أنّ معنی التخصیص یرجع إلی التخصیص بالنسبة إلی الإرادة الاستعمالیة لا الجدّیة، فإنّها من أوّل الأمر لم تکن متعلّقة بما یشمل مورد المخصّص أیضاً، کما لا یخفی.

الثالث: أنّ معنی رفع النسیان لیس راجعاً إلی رفع نفس النسیان التی هی صفة منقدحة فی النفس، و لا إلی رفع الآثار المترتّبة علیها، بل معناه هو رفع المنسی بما له من الآثار المترتّبة علیه. فقد وقع فی ذلک ادّعاءان:

أحدهما: أنّ المنسی هو النسیان.

ثانیهما: ادّعاء أنّ المنسی إذا لم یترتّب علیه أثر فی الشریعة یکون کأنّه لم یوجد فی عالم التشریع. و قد عرفت سابقاً أنّ المصحّح لهذا الادّعاء هو رفع جمیع الآثار المترتّبة علیه، و أمّا رفع بعض الآثار فلا یلائم رفع الموضوع الذی یترتّب علیه الأثر، کما هو واضح.

الرابع: أنّ النسیان المتعلّق بشیء الموجب لعدم تحقّقه فی الخارج هل هو متعلّق بنفس طبیعة ذلک الشیء من غیر مدخلیّة الوجود أو العدم، أو یتعلّق بوجود تلک الطبیعة، أو یتعلّق بعدمها؟ وجوه، و الظاهر هو الأوّل، فإنّ الموجب لعدم تحقّق الطبیعة فی الخارج هو الغفلة و الذهول عن نفس الطبیعة، لا الغفلة عن وجودها، کیف و المفروض أنّه لم یوجد حتّی یتعلّق بوجوده النسیان، و لا الغفلة عن عدمها، کیف و لا یعقل أن یصیر الغفلة عن العدم موجباً له، کما هو واضح.

ص:239


1- (1) - تقدّم فی الجزء الأوّل: 282.

إذا تمهّد لک هذه الاُمور تعرف: أنّ مقایسة حدیث الرفع المشتمل علی رفع النسیان مع الأدلّة الأوّلیة المطلقة الدالّة علی جزئیة الجزء المنسی مطلقاً، یقتضی کون المرکّب الناقص المأتی به فی حال النسیان تمام المأمور به؛ لأنّ المفروض کونه معنوناً بعنوان الصلاة التی هی متعلّق الأمر. و قد عرفت أنّ الأمر الذی یدعو إلیها داعٍ إلی جمیع أجزائها، و لا یتوقّف دعوته إلی جزء علی کون الجزء الآخر أیضاً مدعوّاً.

و قد عرفت أیضاً أنّ مقتضی حدیث الرفع تقیید تلک الأدلّة بحال الذکر و کون السورة المنسیّة - مثلاً - معتبرة فی الصلاة فی خصوص هذا الحال، فالصلاة الفاقدة للسورة المنسیّة تمام المأمور به بالأمر المتعلّق بطبیعة الصلاة المشترکة بین التامّ و الناقص.

و من جمیع ما ذکرنا ینقدح الخلل فیما أفاده العَلَمان النائینی(1) و العراقی 0 فی هذا المقام فی بیان عدم دلالة الحدیث علی رفع الجزئیّة فی حال النسیان.

و محصّل ما أفاده المحقّق العراقی یرجع إلی وجوه ثلاثة:

أحدها: أنّ الحدیث علی تقدیر کون المرفوع فیه هو المنسی لا یمکن التمسّک به لإثبات الاجتزاء بالمأتی به فی حال النسیان، لأنّ أثر وجود الجزء لا یکون إلاّ الصحّة لا الجزئیّة، لأنّها من آثار طبیعة الجزء لا من آثار وجود الجزء المنسی، و رفع الصحّة یقتضی البطلان و وجوب الإعادة.

ثانیها: أنّه إن ارید برفع الجزئیّة و الشرطیّة رفعهما عن الجزء و الشرط

ص:240


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 223:4-228.

المنسیّین فی مقام الدخل فی الملاک و المصلحة فلا شبهة فی أنّ هذا الدخل أمر تکوینی غیر قابل لأن یتعلّق به الرفع التشریعی.

و إن ارید رفعهما بلحاظ انتزاعهما عن التکلیف الضمنی المتعلّق بالجزء و التقیّد بالشرط، فیرد علیه ما تقدّم من اختصاص الرفع فی الحدیث برفع ما لولاه یکون قابلاً للثبوت تکلیفاً أو وضعاً و عدم شموله للتکالیف المتعلّقة بالمنسی فی حال النسیان، لارتفاعها بمحض تعلّق النسیان، بملاک استحالة التکلیف بما لا یطاق.

ثالثها: أنّه علی تقدیر تسلیم دلالة الحدیث فغایة ما یقتضیه إنّما هو رفع إبقاء الأمر الفعلی و الجزئیّة الفعلیة عن الجزء المنسی فی حال النسیان الملازم بمقتضی ارتباطیة التکلیف لسقوط الأمر الفعلی عن البقیّة أیضاً ما دام النسیان، و أمّا اقتضاؤه لسقوط المنسی عن الجزئیة و الشرطیة فی حال النسیان لطبیعة الصلاة المأمور بها رأساً علی نحو یستتبع تحدید دائرة الطبیعة فی حال النسیان بالبقیّة و یقتضی الأمر بإتیانها، فلا؛ بداهة خروج ذلک عن عهدة حدیث الرفع، لعدم تکفّل الحدیث لإثبات الوضع و التکلیف، لأنّ شأنه إنّما هو التکفّل للرفع محضاً(1) ، انتهی ملخّصاً.

و یرد علی الوجه الأوّل: ما عرفت من أنّ المرفوع فی باب الأجزاء هو المنسی و هو طبیعة الأجزاء مع قطع النظر عن الوجود و العدم. و معنی رفع الطبیعة هو رفع الأثر الشرعی المترتّب علیها و هی الجزئیة، و لیس المنسی هو وجود الطبیعة حتّی یقال: إنّ أثر وجود الجزء هی الصحّة لا الجزئیة. هذا

ص:241


1- (1) - نهایة الأفکار 428:3-429.

مضافاً إلی أنّه یمکن منع ذلک أیضاً، فإنّ أثر الجزء الموجود أیضاً هی الجزئیة لا الصحّة، لأنّها من الآثار العقلیّة المنتزعة عن مطابقة المأتی به مع المأمور به، و أمّا الأثر الشرعی فلیس إلاّ الجزئیّة، کما لا یخفی.

و علی الوجه الثانی: أنّ ما ذکره فی الشقّ الثانی من التردید مخالف لما حقّقه سابقاً من عدم الفرق فی إطلاق أدلّة الأجزاء و شمولها لحال النسیان بین کونها بلسان الوضع أو بلسان الأمر بالتقریب المتقدّم فی کلامه و إن کان هذا التقریب محلّ نظر من وجوه، کما عرفت.

و علی الوجه الثالث: ما حقّقناه من الاُمور المتقدّمة التی نتیجتها أنّ حدیث الرفع کالاستثناء بالنسبة إلی الأدلّة الأوّلیة الدالّة علی الأجزاء، حیث إنّه یخصّصها و یقیّدها بحال الذکر، و لازم ذلک کون المأمور به فی حقّ الناسی هی الطبیعة المنطبقة علی الناقصة، و مع الإتیان بالمأمور به لا معنی لعدم الإجزاء، کما هو واضح من أن یخفی.

فانقدح من جمیع ما ذکرنا: أنّ مقتضی الأصل الشرعی کالأصل العقلی هو الاجتزاء بالمرکّب الناقص و عدم لزوم الإعادة، سواء کان النسیان مستوعباً للوقت أم لم یکن.

و قد عرفت أیضاً: أنّ قیاس المقام بما إذا لم یأت بالمأمور به رأساً فی النسیان الغیر المستوعب، حیث إنّه یجب الإتیان به بعد زوال النسیان قطعاً، قیاس مع الفارق، لأنّ فی المقام قد أتی بما هو المأمور به واقعاً.

غایة الأمر أنّ دائرته محدودة فی حال النسیان بالبقیّة، و هذا بخلاف ما إذا لم یأت به أصلاً، فإنّه لم یأت بشیء حتّی نحکم بالإجزاء، کما هو واضح.

ص:242

المقام الثالث: فی حال الزیادة العمدیّة أو السهویّة
اشارة

و لیعلم أنّ تحقّق زیادة الجزء فی المأمور به بما هو المأمور به ممّا لا یتصوّر بنظر العقل و لیست الزیادة کالنقیصة، لأنّک قد عرفت(1) سابقاً أنّ الجزئیة إنّما تنتزع من تعلّق أمر واحد بالمجموع المرکّب من عدّة أشیاء ملحوظة أمراً واحداً، کما أنّ منشأ انتزاع الکلّیة أیضاً هذا المعنی، لأنّ الکلّیة و الجزئیّة من الاُمور المتضایفة التی لا یعقل تحقّق واحد منها بدون الآخر. و حینئذٍ فنقول:

فی تصویر وقوع الزیادة فی الأجزاء

إنّ معنی نقیصة الجزء عبارة عن عدم کون المرکّب الواقع فی الخارج واجداً له، و أمّا معنی زیادته فلا یتحقّق إلاّ بکون الزائد أیضاً جزءاً للمأمور به، و مع کونه جزءاً له أیضاً، کما هو المفروض لا یتحقّق الزیادة، بل المأتی به هو عین المأمور به.

و بالجملة: فلا یجتمع عنوان الزیادة مع کون الزائد أیضاً جزءاً للمأمور به، لأنّه علی تقدیر کونه جزءاً له لا یکون زائداً. و علی تقدیر کونه زائداً لا یکون جزءاً فزیادة الجزء بما هو جزء فی المأمور به ممّا لا یتصوّره العقل.

نعم یتحقّق عنوان الزیادة بنظر العرف فیما إذا کان الجزء مأخوذاً لا بشرط

ص:243


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 177.

من الزیادة، و أمّا علی تقدیر کونه بشرط لا من جهة الزیادة فقد یقال - کما قیل - بأنّ مرجع الزیادة حینئذٍ إلی النقیصة، لأنّ الجزء المتّصف بالجزئیّة هی الطبیعة المتقیّدة بقید الوحدة، فهی بدونها لا تکون جزءاً للمرکّب، فهو حینئذٍ یصیر فاقداً للجزء و لا یکون مشتملاً علی الزیادة.

و لکن لا یخفی: أنّ الجزء فی هذا الحال أیضاً هی ذات الطبیعة، و قید الوحدة شرط للجزء، فإیجاد الطبیعة مرّتین مرجعه إلی إیجاد ذات الجزء کذلک، فذات الجزء قد زید و إن کان هذه الزیادة راجعة إلی النقیصة أیضاً من جهة فقدان شرط الجزء، فالإتیان بالحمد - مثلاً - ثانیاً زیادة لذات الجزء و موجباً لنقصان شرطه، فتحقّق به الزیادة و النقیصة معاً. و حینئذٍ فلا وجه لما ذکروه من رجوع الزیادة حینئذٍ إلی النقیصة، کما عرفت.

کلام المحقّق العراقی فی تصویر وقوع الزیادة الحقیقیّة

ثمّ إنّ المحقّق العراقی قدس سره أفاد فی تصویر وقوع الزیادة الحقیقیّة فی الأجزاء و الشرائط کلاماً أوضحه بما مهّده من امور ثلاثة:

الأوّل: لا شبهة فی أنّه یعتبر فی صدق الزیادة الحقیقیة فی الشیء أن یکون الزائد من سنخ المزید علیه، و بدونه لا یکاد یصدق هذا العنوان، و لذا لا یصدق علی الدهن الذی اضیف إلیه مقدار من الدبس أنّه زاد فیه إلاّ علی نحو من العنایة. نعم الصادق إنّما هو عنوان الزیادة علی ما فی الظرف بعنوان کونه مظروفاً، لا بعنوان کونه دهناً، فقوام الزیادة حینئذٍ فی المرکّبات إنّما هو بکون الزائد من سنخ ما اعتبر جزءاً أو شرطاً لها. فإذا کان المرکّب بنفسه من

ص:244

العناوین القصدیّة کالصلاة - مثلاً - علی ما هو التحقیق یحتاج فی صدق عنوان الزیادة فیها إلی قصد عنوان الصلاتیة بالجزء المأتی به أیضاً، و إلّا لا یکون المأتی به حقیقة من سنخ الصلاة، فلا یصدق عنوان الزیادة.

الثانی: یعتبر أیضاً فی صدق عنوان الزیادة فی الشیء أن یکون المزید فیه مشتملاً علی حدّ مخصوص و لو اعتباراً حتّی یصدق بالإضافة إلیه عنوان الزیادة و عدمها، کما فی ماء النهر مثلاً، فإنّه لا بدّ فی صدق هذا العنوان من أن یفرض للماء حدّ مخصوص ککونه بالغاً إلی نقطة کذا لیکون الزائد موجباً لانقلاب حدّه الخاصّ إلی حدّ آخر، و إلّا فبدون ذلک لا یصدق علیه هذا العنوان، و کذلک الأمر فی المرکّبات، ففیها أیضاً لا بدّ من اعتبار حدّ خاصّ فیما اعتبر جزء لها فی مقام اختراع المرکّب.

الثالث: أنّ أخذ الجزء أو الشرط فی المرکّب فی مقام اعتباره و اختراعه یتصوّر علی وجوه ثلاثة:

أحدها: اعتبار کونه جزءاً أو شرطاً علی نحو «بشرط لا» من جهة الزیادة فی مقام الوجود و التحقّق.

ثانیها: اعتبار کونه جزءاً علی نحو «لا بشرط» من طرف الزیادة، علی معنی أنّه لو زید علیه لکان الزائد خارجاً عن ماهیّة المرکّب باعتبار عدم تعلّق اللحاظ بالزائد فی مقام اعتباره جزءاً للمرکّب، کما لو فرض أنّه اعتبر فی جعل ماهیّة الصلاة الرکوع الواحد لا مقیّداً کونه بشرط عدم الزیادة و لا طبیعة الرکوع، فإنّ فی مثله یکون الوجود الثانی من الرکوع خارجاً عن حقیقة الصلاة، لعدم تعلّق اللحاظ به فی مقام جعل ماهیّة الصلاة.

ثالثها: اعتبار کونه جزءاً علی نحو «لا بشرط» بنحو لو زید علیه لکان

ص:245

الزائد أیضاً من المرکّب، و داخلاً فیه لا خارجاً عنه، کما لو اعتبر فی جعل ماهیّة الصلاة طبیعة الرکوع فی کلّ رکعة منها الجامعة بین الواحد و المتعدّد.

و بعد ما عرفت ذلک نقول: إنّه علی الاعتبار الأوّل لا شبهة فی أنّه لا مجال لتصوّر تحقّق الزیادة، فإنّه من جهة اشتراطه بعدم الزیادة فی مقام اعتباره جزءاً للمرکّب تکون الزیادة فیه موجبة للإخلال بقیده، فترجع إلی النقیصة.

و کذلک الأمر علی الاعتبار الثانی، فإنّه و إن لم ترجع الزیادة فیه إلی النقیصة، إلاّ أنّ عدم تصوّر الزیادة الحقیقیّة إنّما هو لمکان عدم کون الزائد من سنخ المزید علیه، فإنّه بعد خروج الوجود الثانی عن دائرة اللحاظ فی مقام جعل ماهیّة الصلاة یستحیل اتّصاف الوجود الثانی بالصلاتیة، فلا یرتبط حینئذٍ بالصلاة حتّی یصدق علیه عنوان الزیادة.

و أمّا علی الاعتبار الثالث فالظاهر أنّه لا قصور فی تصوّر الزیادة الحقیقیّة، فإنّ المدار فی زیادة الشیء فی الشیء علی ما عرفت إنّما هو بکون الزائد من سنخ المزید فیه مع کونه موجباً لقلب حدّ إلی حدّ آخر، و هذا لا فرق فیه بین أن یکون الجزء مأخوذاً فی مقام الأمر و الطلب بشرط لا، أو علی نحو لا بشرط بالمعنی الأوّل، أو اللابشرط بالمعنی الثانی.

و ذلک علی الأوّلین ظاهر، فإنّ الوجود الثانی من طبیعة الجزء ممّا یصدق علیه عنوان الزیادة بالنسبة إلی ما اعتبر فی المأمور به من تحدید الجزء بالوجود الواحد، حیث إنّه بتعلّق الأمر بالصلاة المشتملة علی رکوع واحد یتحدّد طبیعة الصلاة بالقیاس إلی دائرة المأمور به منها بحدّ یکون الوجود الثانی بالقیاس إلی ذلک الحدّ من الزیادة فی الصلاة الموجب لقلب حدّه إلی

ص:246

حدّ آخر و إن لم یصدق علیه عنوان الزیادة بالنسبة إلی المأمور به بما هو مأمور به. غایة ما هناک أنّه علی الأوّل یکون الوجود الثانی من الزیادات المضرّة بالمأمور به من جهة رجوعه إلی الإخلال به من جهة النقیصة، بخلافه علی الثانی، فإنّه لا یکون من الزیادات المبطلة، و إنّما غایته کونه لغواً.

و کذلک الأمر علی الأخیر، إذ بانطباق صرف الطبیعی علی الوجود الأوّل فی الوجودات المتعاقبة یتحدّد دائرة المرکّب و المأمور به قهراً، بحدّ یکون الوجود الثانی بالقیاس إلیه من الزیادة فی المرکّب و المأمور به فتأمّل(1) ، انتهی ملخّصاً.

و یرد علیه - مضافاً إلی عدم معقولیّة الوجه الثانی من الوجوه الثلاثة التی صوّرها فی مقام أخذ الجزء أو الشرط فی المرکّب فی مقام اعتباره، فإنّه کیف یمکن الجمع بین کون المعتبر فی جعل ماهیّة الصلاة الرکوع المتّصف بوصف الوحدة و بین کونه علی نحو لا بشرط من جهة الزیادة. فإنّه لو کان قید الوحدة معتبراً لکان الرکوع المعتبر، بشرط لا من جهة الزیادة، فیرجع إلی الوجه الأوّل، و إن لم یکن فمرجعه إلی الوجه الثالث، فلا یکون الوجه الثانی وجهاً فی حیالهما. و مضافاً إلی أنّ مقتضی الوجه الثالث لیس کون الزائد أیضاً داخلاً فی المرکّب لأنّه لو فرض کون المعتبر فی المرکّب هی طبیعة الرکوع بما هی هی لکان مقتضی ذلک هو صیرورة الوجود الأوّل جزءاً، و اتصاف الوجود الثانی بالجزئیّة موقوف علی اعتبار شیء آخر مع الطبیعة، و المفروض عدمه -

ص:247


1- (1) - نهایة الأفکار 436:3-438.

أنّ الزیادة التی هی مورد للبحث هی الزیادة فی المکتوبة أی المأمور به، و حینئذٍ فلا بدّ من ملاحظة مقام الأمر و الطلب، و مجرّد تصویر الزیادة بناءً علی الاعتبار الثالث فی مقام التحدید و الاعتبار لا یجدی بالنسبة إلی مقام الأمر و الطلب، کما هو واضح.

فلو کان فی هذا المقام قد اخذ الجزء بشرط لا أو لا بشرط بالمعنی الأوّل لا یمکن تحقّق الزیادة بناءً علی ما ذکره من عدم تصوّرها فی الوجهین الأوّلین، مضافاً إلی أنّه لو کان الأمر مطابقاً للاعتبار الثالث الذی تصوّر فیه الزیادة لا یکون أیضاً من الزیادة فی المکتوبة بما أنّها مکتوبة، لأنّ الزائد إن اتّصف بوصف الجزئیّة لا یکون حینئذٍ زائداً علی المکتوبة، و إن لم یتّصف به فلا یکون جزءاً، و لا یتحقّق زیادة الجزء بناءً علی ما ذکره فی الأمر الأوّل من أنّه یعتبر فی صدق عنوان الزیادة کون الزائد من سنخ المزید فیه، کما لا یخفی.

فالإنصاف: أنّه لا یمکن تصوّر الزیادة الحقیقیّة أصلاً، بل المتصوّر منها إنّما هی الزیادة بنظر العرف، هذا بحسب الموضوع.

مقتضی الأصل فی الزیادة

و أمّا الحکم المتعلّق بالزیادة فاعلم: أنّ الأصل الأوّلی فی الزیادة یقتضی عدم بطلان العمل بسببها، سواء کانت عمدیّة أو سهویّة، لأنّ المعتبر فی مقام الامتثال کون المأتی به مطابقاً للمأمور به، و البطلان إنّما ینتزع من عدم تطابقه معه، و المفروض أنّ الزیادة غیر دخیلة فی المأمور به.

نعم یمکن الشکّ فی اعتبار عدمهما فی الواجب. و حینئذٍ یرجع إلی الشکّ فی النقیصة، و قد مرّ حکمها.

ص:248

و بالجملة: فالزیادة بما أنّها زیادة لا توجب الفساد و البطلان، بخلاف النقیصة التی عرفت أنّ الأصل الأوّلی فیها هو الفساد و البطلان.

ثمّ إنّه ربّما یتمسّک لصحّة العمل مع الزیادة بالاستصحاب، و تقریره من وجوه:

أحدها: استصحاب عدم مانعیّة الزیادة و عدم کونها مضادّة للمأمور به، بتقریب أنّ ماهیّة الزائد قبل تحقّقها فی الخارج لم تکن مانعة و قاطعة، و بعد وجودها فیه نشکّ فی اتّصافها بهذا الوصف، فمقتضی الاستصحاب عدمه، و أنّ الماهیّة الآن کما کانت قبل وجودها، هذا.

و قد عرفت فیما سبق غیر مرّة: أنّ مثل هذا الاستصحاب لا یجری بناءً علی ما هو التحقیق - کاستصحاب عدم قرشیة المرأة و عدم التذکیة فی الحیوان و نظائرهما - لعدم اتّحاد القضیّة المشکوکة مع القضیّة المتیقّنة، لأنّ القضیّة المتیقّنة هی السالبة الصادقة مع انتفاء الموضوع، و هی الآن متیقّنة أیضاً، و القضیة المشکوکة هی السالبة مع وجود الموضوع، و هی کانت فی السابق أیضاً مشکوکة، کما هو واضح.

ثانیها: استصحاب عدم وقوع المانع فی الصلاة، لأنّها قبل إیجاد الزیادة لم یقع المانع فیها، و الآن نشکّ بسبب إیجاد الزیادة فی وقوعه فیها، و مقتضی الاستصحاب العدم.

و لو نوقش فی هذا الاستصحاب بتقریب أنّ عدم وقوع المانع فی الصلاة لا یثبت اتّصاف الصلاة بعدم اشتمالها علی المانع، و الأثر إنّما یترتّب علی ذلک لا علی عدم وقوع المانع فی الصلاة، نظیر استصحاب العدالة لزید، فإنّه لا یثبت الموضوع للحکم الشرعی، و هو کون زید عادلاً، فیمکن الجواب عنه:

ص:249

بأنّا نستصحب الصلاة المتقیّدة بعدم وقوع المانع فیها لا مجرّد عدم وقوعه فیها، کما أنّه یستصحب فی المثال کون زید عادلاً، لا عدالته حتّی یکون الأصل مثبتاً، هذا.

و لکن یرد علی هذا التقریر من الاستصحاب: أنّه أخصّ من المدّعی، لأنّ مورده ما إذا حدث ما یشکّ فی مانعیّته فی أثناء الصلاة، و أمّا لو کان مقارناً لها من أوّل الشروع فیها فلا یجری، لعدم الحالة السابقة المتیقّنة، کما هو واضح.

ثمّ إنّه قد یقال: بأنّ استصحاب الصلاة المتّصفة بخلوّها عن المانع إنّما یتمّ بناءً علی أن یکون المانع عبارة عمّا یکون عدمه معتبراً فی المأمور به، و أمّا لو کان المانع عبارة عمّا یکون وجوده مضادّاً للمأمور به و مانعاً عن تحقّقه فلا یتمّ، لأنّ استصحاب أحد الضدّین لا یثبت عدم الضدّ الآخر، و کذا استصحاب عدم المانع لا یثبت وجود الضدّ الآخر الذی هو الصلاة، هذا.

و لکن لا یخفی: أنّ المضادّة بین الحدث - مثلاً - و بین الصلاة التی هی مرکّبة من التکبیر و القراءة و نحوهما من الأقوال و الأفعال التی هی من الاُمور التکوینیة ممّا لا نتصوّرها، لأنّ معنی المضادّة هو کون وجود أحد الضدّین مانعاً عن تحقّق الضدّ الآخر کما فی الاُمور التکوینیّة، فإنّ تحقّق الرطوبة مانع عن تحقّق الإحراق، و هذا المعنی مفقود فی مثل المقام. ضرورة أنّ الصلاة یمکن أن تتحقّق مع الحدث و بدونه، لأنّها لیست إلاّ عبارة عن بعض الأقوال و الأفعال التی هی من الاُمور التکوینیة، فعدم تحقّقها مع الحدث لا بدّ و أن یکون مستنداً إلی ثبوت قید فی الصلاة تمنع تحقّقه معه، و إلّا مع عدم تقیّدها به لا مجال لعدم تحقّقها معه.

ص:250

فمانعیّة الحدث - مثلاً - إنّما هی باعتبار کون الصلاة متقیّدة بعدمه، و إلّا فلا یتصوّر أن یکون مانعاً أصلاً، و لا یلزم من ذلک أن یکون العدم مؤثّراً حتّی یقال بأنّ الاعدام لا تکون مؤثّرة و لا متأثّرة، لأنّا لا ندّعی تأثیر العدم، بل نقول:

إنّ المأمور به محدود بحدّ لا یتحقّق إلاّ مع عدم المانع، و لا یترتّب علیه الأثر إلاّ معه.

أ لا تری أنّه لو أمر المولی بمعجون مرکّب من عدّة أجزاء التی من جملتها مقدار خاصّ من السمّ، بحیث کان الزائد علی ذلک المقدار موجباً لعدم تأثیر المعجون، بل مهلکاً، فالزائد علی ذلک المقدار مانع عن تحقّقه، و مرجعه إلی کونه مقیّداً بعدمه، و من الواضح أنّ المؤثّر فی تحقّق المعجون لیس هو ذلک المقدار مع عدم الزائد، بل لیس المؤثّر إلاّ ذلک المقدار الخاصّ، و الزائد مضادّ لتحقّقه من دون أن یکون عدمه مؤثّراً، کما هو واضح.

فانقدح: أنّه لا ملازمة بین کون دائرة المأمور به مضیّقة و محدودة بحدّ لا یتحقّق إلاّ مع عدم المانع، و بین کون عدمه مؤثّراً فی تحقّقه، کما هو واضح.

إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّه بناءً علی کون المانع عبارة عمّا یکون وجوده مضادّاً للممنوع و مانعاً عن تحقّقه لا مانع من جریان استصحاب الصلاة، لأنّها متقیّدة بعدمها و هذا المقیّد کان موجودا، و بعد الإتیان بما یشکّ فی مانعیّته نشکّ فی بقائه، و الأصل یقتضی البقاء و لا یکون الأصل مثبتاً.

و من هنا یظهر أنّه لا مانع من استصحاب الهیئة الاتّصالیة مع الشکّ فی قاطعیة الأمر الموجود، إذ مرجع القاطعیّة إلی تقیّد الهیئة الاتّصالیة بعدم القاطع، و إلّا فلو فرض عدم التقیّد لا وجه لکونه قاطعاً لها.

و حینئذٍ فیستصحب هذا الأمر المقیّد. نعم بناءً علی القول بعدم رجوع المانع

ص:251

إلی تقیید فی الممنوع بعدمه لا مجال للاستصحاب، لأنّ استصحاب عدم الضدّ لا یثبت وجود الضدّ الآخر و کذا العکس.

ثالثها: استصحاب الصحّة التأهلیّة للأجزاء السابقة، بتقریب أنّ الأجزاء السابقة کانت صحیحة تأهّلاً و قابلة للحوق الأجزاء الاُخر إلیها، و بعد تحقّق ما یشکّ فی مانعیّته نشکّ فی بقاء صحّتها و قابلیّتها، فمقتضی الاستصحاب بقائها.

و أورد علی هذا التقریر الشیخ قدس سره فی الرسالة بأنّ المستصحب إن کان صحّة مجموع الصلاة فلم تتحقّق بعد، و إن کان صحّة الأجزاء السابقة فهی غیر مجدیّة، لأنّ صحّة تلک الأجزاء إمّا عبارة عن مطابقتها للأمر المتعلّق بها، و إمّا ترتّب الأثر علیها، و المراد بالأثر المترتّب علیها حصول المرکّب بها منضمّة مع باقی الأجزاء و الشرائط.

و لا یخفی أنّ الصحّة بکلا المعنیین ثابتة للأجزاء السابقة، لأنّها بعد وقوعها مطابقة للأمر المتعلّق بها لا تنقلب عمّا وقعت علیه، و هی بعد علی وجه لو انضمّ إلیها تمام ما یعتبر فی الکلّ حصل الکلّ، فعدم حصوله لعدم انضمام تمام ما یعتبر فی الکلّ إلی تلک الأجزاء لا یخلّ بصحّتها(1) ، انتهی.

و یمکن دفع ذلک بأنّه لا دلیل علی کون إیجاد المانع فی الصلاة مانعاً عن قابلیة لحوق الأجزاء اللاحقة إلی السابقة من دون أن یکون له تأثیر فی الأجزاء السابقة أیضاً، بل یمکن أن یقال: بأنّ المانع کما یخرج الأجزاء اللاحقة عن اللحوق إلی السابقة، کذلک یخرج الأجزاء السابقة عن قابلیّة

ص:252


1- (1) - فرائد الاُصول 488:2.

اللحوق بها، فالمانع کالقاطع للحبل الرابط بین أجزاء السبحة یمنع عن القابلیة فی جمیع الأجزاء.

و حینئذٍ فمع تحقّق ما یشکّ فی مانعیّته لا مانع من استصحاب التأهلیّة الثابتة للأجزاء السابقة قبل وجوده یقیناً، فتدبّر.

المقام الرابع: فیما تقتضیه القواعد الثانویّة فی الزیادة و النقیصة
اشارة

قد عرفت أنّ مقتضی الأصل العقلی فی باب النقیصة هو البطلان و فی باب الزیادة هو العدم، إلاّ أنّه قد ورد فی الزیادة فی خصوص الصلاة روایات ظاهرة فی أنّها توجب الإعادة، و بإزائها حدیث

«لا تعاد» الدالّ علی أنّ الصلاة

«لا تعاد» من غیر الاُمور الخمسة المذکورة فی عقد المستثنی، فلا بدّ أوّلاً من بیان مدلول روایات الزیادة الدالّة علی وجوب الإعادة، ثمّ بیان مدلول حدیث

«لا تعاد»، ثمّ ملاحظة النسبة بینهما، کلّ ذلک علی سبیل الإجمال، و التفصیل موکول إلی محلّه.

مقتضی الروایات الواردة فی الزیادة

فنقول: إنّ الروایات الواردة فی الزیادة کثیرة، و أشملها من حیث الدلالة

روایة أبی بصیر قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام: «من زاد فی صلاته فعلیه الإعادة» (1).

ص:253


1- (1) - تهذیب الأحکام 764/194:2، وسائل الشیعة 231:8، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 19، الحدیث 2.

و لا یخفی أنّ عنوان الزیادة لا یتحقّق إلاّ مع قصد کون الزائد من الصلاة، و إلّا فبدون ذلک القصد یکون الزائد کالأجنبی، فاللعب بالأصابع فی أثناء الصلاة لا یکون زیادة فیها، و لا یشترط أن یکون الزائد رکعة لا أقلّ، کما أنّه لا یعتبر أن یکون من سنخ الصلاة، بل کلّ ما یؤتی به بعنوان الصلاة ممّا یکون خارجاً عنها یکون زیادة فیها، سواء کان رکعة أو جزءاً أو أمراً خارجاً کالتأمین و التکفیر و نحوهما.

و ما أفاده بعض الأعاظم من المعاصرین فی کتاب صلاته(1) فی وجه عدم دلالة الحدیث علی زیادة غیر الرکعة من أنّ الظاهر کون الزیادة فی الصلاة من قبیل الزیادة فی العمر فی قولک: «زاد اللّه فی عمرک» فیکون المقدّر الذی جعلت الصلاة ظرفاً له هو الصلاة، فینحصر المورد بما کان الزائد مقداراً یطلق علیه الصلاة مستقلاًّ.

لا یخلو عن نظر، بل منع؛ لأنّ العمر أمر بسیط لا یکون له أجزاء، و لا یعقل أن یکون الزائد من غیره کالزمان و بعض الزمانیات و کالماء و نحوه، و هذا بخلاف المرکّب، فإنّ الزیادة فیه إنّما تتحقّق بإضافة أمر إلی أجزائه و إن لم یکن من سنخها.

أ لا تری أنّه لو أمر المولی بمعجونٍ مرکّب من عدّة أجزاء معیّنة، فزاد علیه العبد شیئاً آخر من سنخها أو من غیرها یطلق علیه الزیادة بنظر العرف قطعاً.

ص:254


1- (1) - الصلاة، المحقّق الحائری: 312.

و بالجملة: فلا ینبغی الارتیاب فی أنّ النظر العرفی لا یساعد علی ما أفاده قدس سره و أنّ عنوان الزیادة عامّ شامل فی المقام لزیادة الرکعة و غیرها.

نعم یبقی علی ما ذکرنا من اعتبار القصد فی تحقّق عنوان الزیادة فی الصلاة، أنّ ذلک مخالف لظاهر صحیحة زرارة(1) الناهیة عن قراءة شیء من سور العزائم فی الصلاة، المعلّلة بأنّ السجود - أی السجود الواجب بسبب قراءة آیة السجدة - زیادة فی المکتوبة؛ لأنّها تدلّ علی أنّ السجود زیادة، مع أنّه لم یؤت به بعنوان الصلاة و أنّه منها، کما هو واضح، هذا.

و لکن لا بدّ من توجیه الروایة إمّا بکون المراد هو الإلحاق بالزیادة فی الحکم المترتّب علیها، و إمّا بوجه آخر. و قد تخلّص عن هذا الإشکال المحقّق المتقدّم بأنّ الزیادة عبارة عمّا منع الشارع إیجاده فی الصلاة، فالمرجع فی تشخیص موضوعها هو الشرع لا العرف(2)

. و لکن یرد علیه بأنّ ذلک یستلزم جواز إطلاق الزیادة علی جمیع موانع الصلاة کالحدث و الاستدبار و التکلّم و القهقهة و نحوها، مع أنّه لا یعهد من أحد هذا الإطلاق، کما هو غیر خفی.

هذا فیما یتعلّق بأخبار الزیادة.

ص:255


1- (1) - تهذیب الأحکام 361/96:2، وسائل الشیعة 105:6، کتاب الصلاة، أبواب القراءة فی الصلاة، الباب 40، الحدیث 1.
2- (2) - الصلاة، المحقّق الحائری: 314.
مقتضی حدیث «لا تعاد»
اشارة

و أمّا حدیث «لا تعاد» (1) فیقع الکلام فی مدلوله من جهات:

الاُولی: فی شموله لحال العمد و عدمه

فاعلم: أنّ شموله لهذا الحال ممّا لا محذور فیه عقلاً، و لا یلزم منه کون أدلّة الأجزاء و الشرائط غیر الخمسة المذکورة فی الحدیث و اعتبارهما لغواً خالیاً عن الفائدة، لإمکان أن تکون الصلاة المشتملة علی تلک الخمسة سبباً لحصول مرتبة من المصلحة ناقصة، بحیث لا یبقی معه مجال لاستیفائها بالمرتبة التامّة ثانیاً.

فالمصلّی إذا ترک بعض الأجزاء الغیر الرکنیّة عمداً یکون الإتیان بمثل هذه الصلاة موجباً لاستیفاء مرتبة ناقصة من المصلحة، و لا یتمکّن من إعادة الصلاة المشتملة علی تلک الأجزاء لاستیفاء جمیع مراتب المصلحة، و مع ذلک یعاقب علی عدم استیفاء المصلحة بمرتبتها الکاملة، لأنّ المفروض أنّ فوات تلک المرتبة کان بسوء اختیاره. و هذا - أی عدم استیفاء المرتبة العلیا من المصلحة و جواز عقوبته علی ذلک - هو نتیجة اعتبار تلک الأجزاء الغیر

ص:256


1- (1) - عن زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة، و الرکوع، و السجود...» إلی آخره.تهذیب الأحکام 597/152:2، وسائل الشیعة 234:7، کتاب الصلاة، أبواب قواطع الصلاة، الباب 1، الحدیث 4.

الرکنیّة فی الصلاة، فلم یکن شمول الحدیث لصورة العمد منافیاً مع اعتبار الأجزاء الغیر الرکنیّة، إلاّ أنّ الإنصاف انصراف الحدیث عن هذه الصورة و اختصاصه بغیرها.

الثانیة: فی شموله للجهل أو النسیان مطلقاً فی الحکم أو الموضوع

فاعلم: أنّ المحقّق المتقدّم نفی البعد فی کتاب صلاته عن دعوی انصراف الحدیث إلی الفعل الحاصل بالسهو و النسیان فی الموضوع. و قال فی بیانه ما ملخّصه: إنّ ذلک یبتنی علی مقدّمتین:

إحداهما: أنّ ظاهر قوله علیه السلام:

«لا تعاد» هو الصحّة الواقعیّة و کون الناقص مصداقاً واقعیّاً لامتثال أمر الصلاة، و یؤیّده الأخبار(1) الواردة فی نسیان الحمد حتّی رکع، فإنّها حاکمة بتمامیّة الصلاة.

ثانیتهما: أنّ الظاهر من الصحیحة أنّ الحکم إنّما یکون بعد الفراغ من الصلاة، و إن أبیت من ذلک فلا بدّ من اختصاصها بصورة لا یمکن تدارک المتروک، کمن نسی القراءة و لم یذکر حتّی رکع، فلا یمکن أن یکون مستنداً لجواز الدخول فی الصلاة، بل یکون مستنداً لمن دخل فی الصلاة و قصد امتثال الأمر الواقعی باعتقاده ثمّ تبیّن الخلل فی شیء من الأجزاء و الشرائط. فالعامد الملتفت خارج عن مصبّ الروایة کالشاکّ فی وجوب جزء أو شرط أو الشاکّ فی وجود شرط بعد الفراغ عن شرطیّته، فإنّ مرجع ذلک کلّه إلی قواعد اخر لا بدّ أن یراعیها حتّی یجوز له الدخول فی الصلاة.

ص:257


1- (1) - راجع وسائل الشیعة 90:6، کتاب الصلاة، أبواب القراءة فی الصلاة، الباب 29.

نعم لو اعتقد عدم وجوب شیء أو عدم شرطیة شیء أو کان ناسیاً لحکم شیء من الجزئیّة و الشرطیّة یمکن توهّم شمول الصحیحة.

لکن یدفعه ما ذکرنا فی المقدّمة الاُولی، فإنّه لا یعقل أن یقیّد الجزئیّة و الشرطیّة بالعلم بهما بحیث لو صار عالماً بعدمهما بالجهل المرکّب، لما کان الجزء جزءاً و لا الشرط شرطاً.

نعم یمکن علی نحو التصویب الذی ادّعی الإجماع علی خلافه، بمعنی أنّ المجعول الواقعی و هو المرکّب التامّ یکون ثابتاً لکلّ أحد، و لکن نسیان الحکم أو الغفلة عنه أو القطع بعدمه بالجهل المرکّب صار سبباً لحدوث مصلحة فی المرکّب الناقص علی حدّ المصلحة فی التامّ، فیکون الإتیان به فی تلک الحالة مجزیاً عن الواقع، فیصحّ إطلاق التمامیّة فی مقام الامتثال علی الناقص المأتی به، و هذا الاحتمال مضافاً إلی ظهور کونه خلاف الإجماع ینافیه بعض الأخبار أیضاً.

فتحصّل ممّا ذکرنا أنّ الأقسام المتوهّم دخولها فی عموم الصحیحة بعضها خارج عن مصبّ الروایة و بعضها خارج من جهة اخری، و لا یبقی فیه إلاّ السهو و النسیان و الجهل المرکّب بالنسبة إلی الموضوع(1) ، انتهی ملخّص موضع الحاجة من کلامه، زید فی علوّ مقامه.

و یرد علی ما ذکره فی المقدّمة الاُولی: منع ظهور الحدیث فی الصحّة الواقعیّة و کون الناقص مصداقاً واقعیّاً للصلاة المأمور بها، و ذلک لاشتمال الحدیث علی التعلیل بأنّ القراءة سنّة، و التشهّد سنّة، و السنّة لا تنقض

ص:258


1- (1) - الصلاة، المحقّق الحائری: 316-317.

الفریضة، و هذا التعلیل ظاهر فی أنّ الصلاة الفاقدة لمثل القراءة و التشهّد و إن کانت ناقصة من جهة فقدانها لبعض السنن المعتبرة فیها أو جمیعها، إلاّ أنّه لا یجب إعادتها مع ذلک، لأنّ السنّة لا تصلح لنقض الفریضة، فهی مع کونها ناقصة إلاّ أنّه لا یمکن إعادتها تامّة.

و حینئذٍ فلا یلزم من شمول الحدیث للجاهل أو الناسی بالحکم التصویب الغیر المعقول و لا التصویب الذی أجمع علی خلافه، لأنّ المفروض کون صلاتهما ناقصة فاقدة لبعض الأجزاء المعتبرة فیها فی جمیع الحالات.

نعم ما أفاده فی المقدّمة الثانیة من عدم شمول الحدیث للعامد الملتفت و عدم إمکان کونه مستنداً لجواز الدخول فی الصلاة حقّ لا غبار علیه.

و بالجملة، فالظاهر أنّه لا مانع من شمول الحدیث لجمیع الأقسام بالنسبة إلی من دخل فی الصلاة علی وفق القواعد الاُخر التی جوّزت له الدخول فی الصلاة.

نعم قد ادّعی الإجماع علی خروج الجاهل المقصّر فی الحکم، و لکن لم یثبت الإجماع، فالظاهر دخوله أیضاً فی الحدیث، فتدبّر.

الثالثة: فی شمول الحدیث للزیادة أو اختصاصه بالنقیصة

و الاحتمالات البدویّة المتصوّرة فی الحدیث ثلاثة:

أحدها: شمول الحدیث للزیادة و النقیصة معاً فی جملة المستثنی و کذا المستثنی منه.

ثانیها: اختصاصه بالنقیصة فی کلتا الجملتین.

ص:259

ثالثها: عموم المستثنی منه للزیادة و النقیصة، و اختصاص المستثنی بخصوص النقیصة، هذا.

و قد یقال بإمکان أن یدخل الزیادة فی المستثنی منه، لأنّها نقیصة فی الصلاة من جهة اعتبار عدمها فیها، فمرجعه إلی أنّ کلّ نقیصة تدخل فی الصلاة سواء کان من جهة عدم الإتیان بجزء أم قید، وجودی أو عدمی فلا یضرّ بالصلاة إلاّ من نقص الخمسة المذکورة، فیکون زیادة الرکوع و السجود داخلة فی المستثنی منه، هذا.

و لکن لا یخفی: أنّ المتفاهم بنظر العرف هو دخول الزیادة فی کلتا الجملتین و کون مرجع إخلال الزیادة إلی النقصان المأمور به بسببها لا یوجب أن یکون کذلک بنظر العرف أیضاً و إن کان کذلک عند العقل، فالزیادة فی نظر العرف مضرّة بما أنّها زیادة، لا بما أنّ مرجعها إلی النقیصة. فالإنصاف شمول الحدیث للزیادة فی کلتا الجملتین.

و دعوی: أنّ مثل الوقت و القبلة المذکورین فی جملة الاُمور الخمسة لا یعقل فیه الزیادة، فلا بدّ من کون المراد من الحدیث هی صورة النقیصة.

مدفوعة: بأنّ عدم تعقّل الزیادة فی مثلهما لا یوجب اختصاص الحدیث بصورة النقیصة بعد کون الظاهر منه عند العرف هو عدم وجوب الإعادة من قبل شیء من الأجزاء و الشرائط زیادةً أو نقصاناً إلاّ من قبل تلک الاُمور الخمسة کذلک، کما هو غیر خفی.

فانقدح من جمیع ما ذکرنا: أنّ الحدیث لا یشمل العمد، و لا یختصّ بناسی الموضوع و لا بالنقیصة.

ص:260

النسبة بین حدیثی «لا تعاد» و «من زاد»

إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّ النسبة بین حدیث

«لا تعاد» - بناءً علی ما ذکرنا فی بیان مدلوله - و بین قوله علیه السلام فی روایة أبی بصیر المتقدّمة:

«من زاد فی صلاته فعلیه الإعادة» (1) هی العموم من وجه، لو قلنا بأنّ المستثنی و المستثنی منه فی الحدیث جملتان مستقلّتان لا بدّ من ملاحظة کلّ واحد منهما مع غیره، لأنّه یصیر المستثنی منه بعد ورود الاستثناء علیه مختصّاً بغیر الاُمور الخمسة المذکورة فی المستثنی، فمقتضاه حینئذٍ عدم الإعادة من ناحیة غیر تلک الاُمور، بلا فرق بین الزیادة و النقصان. و قوله:

«من زاد فی صلاته» و إن کان منحصراً بخصوص الزیادة، إلاّ أنّه یشمل زیادة الرکن و غیره عمداً أو سهواً، و یجتمعان فی زیادة غیر الرکن سهواً أو جهلاً مرکّباً و یفترقان فی نقیصة غیر الرکن و فی زیادة غیر الرکن عمداً أو زیادة الرکن سهواً، هذا.

و لو قلنا بأنّ المستثنی و المستثنی منه مرجعهما إلی جملة واحدة و قضیّة مردّدة المحمول أو ذات محمولین فیصیر النسبة بین الحدیث و بین قوله:

«من زاد» العموم من وجه أیضاً، لأنّ

«من زاد» یشمل العمد و السهو معاً و یختصّ بالزیادة، و الحدیث یختصّ بصورة السهو و نحوه، و یشمل الزیادة و النقیصة معاً، فیجتمعان فی الزیادة السهویّة و یفترقان فی الزیادة العمدیّة و فی النقیصة السهویّة.

هذا بناءً علی شمول

«من زاد» لصورة العمد أیضاً.

ص:261


1- (1) - تقدّمت فی الصفحة 253.

و أمّا لو قلنا بعدم شموله لها، إمّا للانصراف، و إمّا لعدم تعقّل الزیادة التی یعتبر فیها أن یؤتی بالزائد بعنوان کونه من المکتوبة مع العلم و الالتفات بعدم کونه منها، کما لا یخفی تصیر النسبة بینهما العموم مطلقاً، لأنّ

«من زاد» یختص بالزیادة السهویّة، و الحدیث یشمل النقیصة السهویّة أیضاً، و مقتضی القاعدة حینئذٍ تخصیص

«لا تعاد» بصورة النقیصة و الالتزام بأنّ الزیادة توجب الإعادة.

و کیف کان فبناءً علی أحد الوجهین الأوّلین اللذین تکون النسبة بینهما هو العموم من وجه فهل اللازم إعمال قواعد التعارض، أو أنّ أحدهما أرجح فی شمول مورد التعارض.

فنقول: ذکر الشیخ المحقّق الأنصاری قدس سره: أنّ الظاهر حکومة قوله:

«لا تعاد» علی أخبار الزیادة، لأنّها کأدلّة سائر ما یخلّ فعله أو ترکه بالصلاة، کالحدث و التکلّم و ترک الفاتحة. و قوله:

«لا تعاد» یفید أنّ الإخلال بما دلّ الدلیل علی عدم جواز الإخلال به إذا وقع سهواً لا یوجب الإعادة و إن کان من حقّه أن یوجبها(1) ، انتهی.

و تبعه علی ذلک جمع من المحقّقین المتأخّرین عنه(2) ، و لکن قال شیخ استاذنا المحقّق المعاصر فی کتاب صلاته: إنّ حکومة الدلیل الدالّ علی نفی الإعادة علی الدلیل الدالّ علی وجوب الإعادة لا یتصوّر لها وجه. نعم لو کان الدلیل الدالّ علی مبطلیّة الزیادة دالاًّ علی النهی عنها کالتکلّم مثلاً

ص:262


1- (1) - فرائد الاُصول 495:2.
2- (2) - أوثق الوسائل: 384 /السطر 35، نهایة الدرایة 374:4-375، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 238:4-239، نهایة الأفکار 442:3.

صحّت الحکومة(1) ، انتهی.

و ما أفاده فی غایة المتانة.

و توضیحه: أنّ قوام الحکومة إنّما هو بأن یکون الدلیل بلسانه متعرّضاً لحال الدلیل الآخر بحیث تصرّف فی الدلیل المحکوم بنحو من التصرّف إمّا فی موضوعه، و إمّا فی محموله، و إمّا فی سلسلة علله، و إمّا فی معلولاته. و أمّا لو کان الدلیلان بحیث أثبت أحدهما ما ینفیه الآخر و وضع أحدهما ما رفعه الآخر فلا یکون بینهما حکومة أصلاً. و فی المقام یکون الأمر کذلک، فإنّ قوله:

«من زاد» مثبت لوجوب الإعادة، و قوله:

«لا تعاد» رافع له.

نعم النسبة بین حدیث

«لا تعاد» و بین أدلّة سائر الأجزاء و الشرائط هو الحکومة، لأنّها تدلّ علی الجزئیّة و الشرطیّة اللتین لازمهما وجوب الإعادة مع الإخلال بهما، و حدیث

«لا تعاد» یرفع هذا التلازم من دون أن ینفی أصل الجزئیّة و الشرطیة، فقیاس أخبار الزیادة بأدلّة سائر ما یخلّ فعله أو ترکه بالصلاة کما عرفت فی کلام الشیخ قیاس مع الفارق.

نعم یمکن أن یقال: بأنّ حدیث

«لا تعاد» أقوی ظهوراً من قوله: «من زاد»، إمّا لاشتماله علی الاستثناء الذی یوجب قوّة الظهور بالنسبة إلی المستثنی منه، و إمّا لاشتماله علی التعلیل المذکور فی ذیله بأنّ

«القراءة سنّة، و التشهّد سنّة، و لا تنقض السنّة الفریضة» فإنّ التعلیل یکون آبیاً عن التقیید، و یمنع عن تقیید الحکم المعلّل به، بل یمکن أن یقال: بأنّ قوله:

«و لا تنقض السنّة الفریضة» له حکومة علی دلیل الزیادة من جهة أنّه یتصرّف فی علّة

ص:263


1- (1) - الصلاة، المحقّق الحائری: 320.

وجوب الإعادة و یحکم بعدم انتقاض الفریضة بسبب السنّة، و دلیل الزیادة متعرّض للحکم و هو وجوب الإعادة.

فانقدح أنّ مقتضی القواعد تقدیم حدیث

«لا تعاد» فی مورد الاجتماع، و لکن یبقی فی البین إشکال، و هو: أنّه یلزم من تقدیم حدیث

«لا تعاد» اختصاص مورد دلیل الزیادة بالزیادة العمدیّة، و من المعلوم ندرتها بل قد عرفت(1) أنّه یمکن أن یقال بعدم تعقّلها، و حینئذٍ فیصیر الدلیل لغواً، فاللازم إدخال مورد الاجتماع تحته و الحکم بأنّ الزیادة مطلقاً توجب الإعادة، خصوصاً مع أنّ شمول حدیث «لا تعاد» لصورة الزیادة لا یخلو عن خفاء، و لذا أنکره بعض من المحقّقین(2) ، هذا.

و یمکن أن یقال باختصاص دلیل الزیادة بزیادة الرکعة بالتقریب الذی أفاده المحقّق المعاصر و قد مرّ سابقاً(3). و حینئذٍ فلا معارضة بینه و بین الحدیث، کما هو واضح، هذا.

و یمکن أیضاً منع ندرة الزیادة العمدیّة کما نراه بالوجدان من المتشرّعین الغیر المبالین بالأحکام الشرعیّة المتسامحین بالنسبة إلیها.

هذا کلّه فیما یتعلّق بملاحظة الحدیث مع روایة أبی بصیر.

النسبة بین «لا تعاد» و قوله علیه السلام: «إذا استیقن...»

ص:264


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 260.
2- (2) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 495.
3- (3) - تقدّم فی الصفحة 254.

و أمّا النسبة بینه و بین قول أبی جعفر علیه السلام:

«إذا استیقن أنّه زاد فی صلاته المکتوبة...» (1) إلی آخره.

فاعلم أوّلاً: أنّ هذه الروایة رواها فی الکافی فی موضعین: أحدهما باب السهو فی الرکوع، و قد أنهی فیه السند إلی زرارة فقط، و یکون المتن مشتملاً علی کلمة «رکعة»(2) ، و الآخر باب من سها فی الأربع و الخمس و لم یدر زاد أو نقص أو استیقن أنّه زاد، مع انتهاء السند فیه إلی زرارة و بکیر ابنی أعین مع حذف کلمة «رکعة»(3)

. و کیف کان: فالروایتان ظاهرتان فی کونهما روایة واحدة، و حینئذٍ فلا یعلم بأنّ الصادر من الإمام علیه السلام هل هو المشتمل علی کلمة الرکعة أو الخالی عنها، فلا یجوز الاستناد إلیها بالنسبة إلی زیادة غیر الرکعة، خصوصاً مع ترجیح احتمال النقیصة علی احتمال الزیادة لو دار الأمر بینهما.

و کیف کان: فلو کانت الروایة مشتملة علی کلمة «الرکعة» فلا معارضة بینها و بین عقد المستثنی منه فی حدیث «لا تعاد»(4) ، و أمّا لو فرض خلوّها عنها فالنسبة بینها و بینه نسبة العموم من وجه، و مورد الاجتماع هو زیادة غیر

ص:265


1- (1) - وسائل الشیعة 231:8، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 19، الحدیث 1.
2- (2) - الکافی 3/348:3.
3- (3) - الکافی 2/354:3.
4- (4) - تهذیب الأحکام 597/152:2، وسائل الشیعة 234:7، کتاب الصلاة، أبواب قواطع الصلاة، الباب 1، الحدیث 4.

الأرکان سهواً، فالروایة تدلّ علی عدم الاعتداد بتلک الصلاة التی وقعت فیها هذه الزیادة، و الحدیث یدلّ علی عدم الإعادة بسببها، و مورد الافتراق من جانب الروایة هو زیادة الأرکان سهواً، لأنّها لا تشمل صورة العمد باعتبار قوله: «إذا استیقن» الظاهر فی أنّ الزیادة وقعت لعذر، و من جانب الحدیث هو النقیصة السهویّة، و لا بدّ من تقدیم الحدیث فی مورد الاجتماع و الحکم بعدم وجوب الإعادة فیه، لأنّه لو قدّمت الروایة و حکم فی مورد الاجتماع بوجوب الإعادة لکان اللازم بملاحظة الإجماع علی أنّ زیادة الشیء إذا کانت موجبة للإعادة فنقیصتها أیضاً کذلک، الحکم بوجوب الإعادة فی النقیصة أیضاً.

و حینئذٍ یبقی الحدیث بلا مورد، و هذا بخلاف ما لو قدّم الحدیث فی مورد الاجتماع و حکم بعدم وجوب الإعادة فیه، فإنّه یبقی زیادة الرکن سهواً تحت الروایة و لا تصیر بلا مورد، کما هو واضح.

تنبیه: فی تحقّق معنی الزیادة

لا یخفی أنّ المحقّق النائینی قدس سره أفاد فی مقام بیان النسبة بین حدیث

«لا تعاد» و بین قوله علیه السلام:

«إذا استیقن» کلاماً فساده بیّن لکلّ من لاحظه، فراجع. و أعجب منه ما قرّره الفاضل المقرّر فی ذیل التکملة.

و محصّل ما أفاده فیه: أنّه لا إشکال فی عدم تحقّق معنی الزیادة بفعل ما لا یکون من سنخ أجزاء المرکّب قولاً و فعلاً کحرکة الید فی الصلاة إذا لم یؤت بها بقصد الجزئیّة. و أمّا لو قصد بها الجزئیّة فالأقوی البطلان، لصدق الزیادة علی

ص:266

ذلک. هذا إذا لم تکن الزیادة من سنخ الأجزاء، و إن کانت من سنخها فإن کانت من سنخ الأقوال فیعتبر فی صدق الزیادة علیها قصد الجزئیة بها، و إلّا کان ذلک من الذکر و القرآن الغیر المبطل، و إن کان من سنخ الأفعال فالظاهر أنّه لا یعتبر فی صدق الزیادة علیها قصد الجزئیّة، فإنّ السجود الثالث یکون زیادة فی العدد المعتبر من السجود فی الصلاة فی کلّ رکعة و لو لم یقصد بالسجود الثالث الجزئیّة.

نعم لا یبعد عدم صدق الزیادة مع قصد الخلاف، کما إذا قصد به سجدة العزیمة أو الشکر.

هذا، و لکن یظهر من التعلیل الوارد فی بعض الأخبار الناهیة عن قراءة العزیمة فی الصلاة من أنّ السجود زیادة فی المکتوبة(1) أنّه لا یعتبر فی صدق الزیادة عدم قصد الخلاف، بل الإتیان بمطلق ما کان من سنخ أفعال الصلاة یکون زیادة فی المکتوبة، فیکون المنهی عنه فی باب الزیادة معنی أعمّ من الزیادة العرفیّة.

و لکن یمکن أن یقال: إنّ المقدار الذی یستفاد من التعلیل هو صدق الزیادة علی الفعل الذی لا یکون له حافظ وحدة و لم یکن بنفسه من العناوین المستقلّة، و أمّا إذا کان من العناوین المستقلّة - کما إذا أتی المکلّف بصلاة اخری فی أثناء صلاة الظهر - فالظاهر أنّه لا یندرج فی التعلیل، لأنّ السجود و الرکوع المأتی بهما لصلاة اخری لا دخل لهما بصلاة الظهر، و یؤیّد ذلک بل یدلّ علیه ما ورد فی بعض الأخبار من أنّه لو ضاق وقت صلاة الآیات و خاف المکلّف أنّه لو

ص:267


1- (1) - راجع وسائل الشیعة 107:6، کتاب الصلاة، أبواب القراءة فی الصلاة، الباب 41.

أخّرها إلی أن یفرغ من الصلاة الیومیّة یفوت وقتها، صلّی الآیات فی أثناء صلاة الیومیة، و بعد الفراغ یبنی علیها و یتمّها(1) ، و لیس ذلک إلاّ من جهة عدم کون ذلک زیادة فی الصلاة الیومیة.

و حینئذٍ: یمکن التعدّی عن مورد النصّ إلی عکس المسألة، و هو ما إذا تضیّق وقت صلاة الیومیّة فی أثناء صلاة الآیات. فیمکن أن یقال: أنّه یأتی بالیومیة فی أثناء صلاة الآیات و لا تبطل بذلک، فإنّ بطلان صلاة الآیات إمّا أن یکون لأجل الزیادة، و إمّا لأجل فوات الموالاة. أمّا الزیادة: فالمفروض عدم صدقها علی ما کان له عنوان مستقلّ. و أمّا فوات الموالاة: فلا ضیر فیه إذا کان ذلک لأجل تحصیل واجب أهمّ. و علی ذلک یبتنی جواز الإتیان بسجدتی السهو من صلاة فی أثناء صلاة اخری إذا سها المکلّف عنهما فی محلّهما و تذکّر بعد ما شرع فی صلاة اخری بناءً علی وجوب سجود السهو فوراً(2) ، انتهی.

و یرد علیه أوّلاً: أنّ ما ذکره من توقّف صدق عنوان الزیادة علی أن لا یکون الزائد بنفسه من العناوین المستقلّة مجرّد ادّعاء بلا بیّنة و برهان، لأنّه لا فرق فی نظر العرف فی صدق هذا العنوان بین الإتیان فی أثناء صلاة بسجدة ثالثة، أو بصلاة اخری مستقلّة و مشتملة علی أربع سجدات لا محالة لو لم نقل بأوضحیّة الصدق فی الثانی، کما هو واضح.

ص:268


1- (1) - راجع وسائل الشیعة 490:7، کتاب الصلاة، أبواب صلاة الکسوف و الآیات، الباب 5.
2- (2) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 240:4-243.

نعم قد عرفت(1) أنّه یعتبر فی صدق الزیادة أن یکون الإتیان بالزائد بقصد الجزئیّة، و أنّ التعلیل الوارد فی بعض الأخبار الناهیة عن قراءة العزیمة فی الصلاة الدالّ علی أنّ السجود زیادة مع أنّه لم یقصد به الجزئیّة، لا بدّ من تأویله.

و ثانیاً: سلّمنا اعتبار کون عدم الزائد من العناوین المستقلّة، و لکن نقول بأنّ سجدة العزیمة أیضاً لها عنوان مستقلّ غیر مرتبط بالصلاة التی هی فیه، و لا فرق بینها و بین الإتیان بصلاة اخری مستقلّة أصلاً.

نعم لا ننکر أنّها وجبت بسبب قراءة آیة السجدة التی هی جزء من السورة التی هی جزء للصلاة.

و لکن نقول: إنّ قراءة آیة السجدة سبب لوجوبها و المسبّب مغایر للسبب و له عنوان مستقلّ، کما هو واضح.

و ثالثا: أنّه لو سلّمنا الفرق بین سجدة العزیمة و بین صلاة اخری مستقلّة فلا نسلّم الفرق بینها و بین سجدتی السهو، حیث یجوز الإتیان بهما فی أثناء صلاة اخری دونها مستنداً إلی عدم کونهما من الزیادة بخلاف السجدة.

و رابعاً: أنّ ما أفاده من أنّه ورد فی بعض الأخبار... إلی آخره، فهو اشتباه محض، لأنّ بعض الأخبار إنّما ورد فی عکس المسألة الذی احتمل إمکان التعدّی عن مورد النصّ إلیه، و هو ما إذا تضیّق وقت صلاة الیومیة فی أثناء صلاة الآیات، فإنّه قد ورد أنّه یجوز رفع الید عن صلاة الآیات و الإتیان بالیومیّة فی

ص:269


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 254.

أثنائها، ثمّ البناء علی ما مضی من صلاة الآیات. و لکن لا یخفی أنّه لا یجوز التعدّی عن مورد النصّ بعد احتمال أن یکون لصلاة الآیات خصوصیّة موجبة لجواز الإتیان بالفریضة الیومیّة فی أثنائها.

و کیف کان: فهذه الاشتباهات التی یترتّب علیها امور عظیمة إنّما منشؤها الاعتماد علی الحافظة الموجب لعدم المراجعة إلی کتب الأخبار و مثلها.

و من هنا تری أنّ حدیثاً واحداً صار منقولاً فی الکتب الفقهیّة بوجوه مختلفة و عبارات متشتّتة، و لیس منشؤها إلاّ مجرّد الاعتماد علی الحفظ، مع أنّه منشأ لفهم حکم اللّه، فیختلف الفتاوی بسببه و یقع جمع کثیر فی الخطأ و الاشتباه، فاللازم علی المحصّل الطالب للوصول إلی الحقّ أن لا یعتمد فی استنباط الحکم الشرعی علی خلفه، بل یراجع مظانّه کرّة بعد کرّة حتّی لا یقع فی الخطأ و النسیان الذی لا یخلو منه الإنسان، و نسأل اللّه أن لا یؤاخذنا بما أخطأنا أو نسینا.

ص:270

الأمر الثانی: فی تعذّر الجزء و الشرط
اشارة

فی تعذّر الجزء و الشرط

لو علم بجزئیّة شیء أو شرطیّته أو مانعیّته أو قاطعیّته فی الجملة، و شکّ فی أنّ اعتباره فی المأمور به وجوداً أو عدماً هل یختصّ بصورة التمکّن من فعله أو ترکه، أو أنّه یعتبر فیه مطلقاً، و یترتّب علی ذلک وجوب الإتیان بالباقی علی الأوّل و سقوط الأمر بالمرکّب علی الثانی فی صورة الاضطرار، فهل القاعدة تقتضی أیّاً منهما؟

تحریر محلّ النزاع

و لیعلم: أنّ محلّ الکلام ما إذا لم یکن لدلیل اعتبار ذلک الشیء جزءاً أو شرطاً إطلاق، و إلّا فلا إشکال فی أنّ مقتضاه سقوط الأمر بالمرکّب مع الاضطرار إلی ترک ذلک الشیء، و کذا ما إذا لم یکن لدلیل المرکّب إطلاق، و إلّا فلا إشکال فی أنّه یقتضی الإتیان به و لو مع الاضطرار إلی ترک بعض أجزائه أو شرائطه بناءً علی ما هو التحقیق من کون الماهیات المأمور بها موضوعة للأعمّ من الصحیح، کما تقدّم فی مبحث الصحیح و الأعمّ (1)

. و أمّا لو کان لکلا الدلیلین إطلاق، فتارةً یکون لأحدهما تحکیم علی الآخر، و اخری یکونان متعارضین، فعلی الأوّل إن کان التقدّم لإطلاق دلیل المرکّب

ص:271


1- (1) - راجع مناهج الوصول 140:1-174.

فحکمه حکم ما إذا کان له إطلاق، دون دلیل الجزء و الشرط، و إن کان التقدّم لإطلاق دلیل الجزء و الشرط فحکمه حکم ما إذا کان له إطلاق دون دلیل المرکّب.

و لا یخفی: أنّه لا یکون التقدّم من أحد الجانبین کلّیاً، لما عرفت و ستعرف من أنّ الحکومة متقوّمة بلسان الدلیل، و لسان دلیل المرکّب قد یکون متعرّضاً لحال دلیل الجزء أو الشرط کما إذا کان دلیل المرکّب مثل قوله: «لا تترک الصلاة بحال» مثلاً، و دلیل اعتبار الجزء أو الشرط مثل قوله: «ارکع فی الصلاة» أو «اسجد فیها».

و قد یکون دلیل اعتبار الجزء متعرّضاً لحال دلیل المرکّب و حاکماً علیه کما إذا کان دلیل الجزء مثل قوله:

«لا صلاة إلّا بفاتحة الکتاب» (1) ، أو

«لا صلاة إلّا بطهور» (2) ، و دلیل المرکّب مثل قوله: «أقیموا الصلاة» فإنّه حینئذٍ لا إشکال فی تقدّم دلیل الجزء فی هذه الصورة؛ لأنّه إنّما یدلّ بظاهره علی عدم تحقّق عنوان الصلاة مع کونها فاقدة لفاتحة الکتاب، و دلیل المرکّب إنّما یدلّ علی وجوب إقامة الصلاة، کما أنّه فی الصورة الاُولی یکون الترجیح مع دلیل المرکّب، لأنّ مقتضاه أنّه لا یجوز ترکه بحال، و مقتضی دلیل الجزء مجرّد الأمر بالرکوع و السجود فی الصلاة مثلاً.

ص:272


1- (1) - عوالی اللآلی 2/196:1، مستدرک الوسائل 158:4، کتاب الصلاة، أبواب القراءة فی الصلاة، الباب 1، الحدیث 5.
2- (2) - تهذیب الأحکام 144/49:1، وسائل الشیعة 365:1، کتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 1، الحدیث 1.

و بالجملة: لا بدّ من ملاحظة الدلیلین، فقد یکون التقدّم لإطلاق دلیل المرکّب و قد یکون لإطلاق دلیل الجزء.

و أمّا ما أفاده المحقّق النائینی علی ما فی التقریرات من أنّ إطلاق دلیل القید حاکم علی إطلاق دلیل المقیّد کحکومة إطلاق القرینة علی ذیها(1)

. فیرد علیه أوّلاً: أنّ ترجیح القرینة علی ذیها لیس لحکومتها علیه، و إلّا فیمکن ادّعاء العکس و أنّ ذا القرینة حاکم علیها، بل ترجیحها علیه إنّما هو من باب ترجیح الأظهر علی الظاهر.

و ثانیاً: ما عرفت(2) من منع حکومة إطلاق دلیل القید علی إطلاق دلیل المقیّد مطلقاً، بل قد عرفت أنّه قد یکون الأمر بالعکس.

و ثالثا: وضوح الفرق بین المقام و بین باب القرینة، فإنّ هنا یکون فی البین دلیلان مستقلّان، بخلاف باب القرینة.

و کیف کان: فقد نسب إلی الوحید البهبهانی قدس سره التفصیل فیما لو کان لدلیل القید إطلاق بین ما إذا کانت القیود مستفادة من مثل قوله:

«لا صلاة إلّا بفاتحة الکتاب»، و

«لا صلاة إلّا بطهور»، و بین القیود المستفادة من مثل قوله: «اسجد فی الصلاة» أو «ارکع فیها»، أو «لا تلبس الحریر فیها» مثلاً و أمثال ذلک من الأوامر و النواهی الغیریّة، فحکم بسقوط الأمر بالمقیّد عند تعذّر القید فی الأوّل دون الثانی(3) ، هذا.

ص:273


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 250:4.
2- (2) - تقدّم فی الجزء الأوّل: 356-366.
3- (3) - انظر فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 251:4.

و لعلّ مرجع هذا الکلام إلی ما ذکرنا من أنّ لسان دلیل الجزء أو الشرط قد یکون بنحو الحکومة علی دلیل المرکّب کما فی الصورة الاُولی، و قد یکون الأمر بالعکس کما فی الصورة الثانیة.

و لکن وجّهه المحقّق النائینی بما ملخّصه: أنّ الأمر الغیری المتعلّق بالجزء أو الشرط مقصورة بصورة التمکّن لاشتراط کلّ خطاب بالقدرة علی متعلّقه، فلا بدّ من سقوط الأمر بالقید عند تعذّره، و یبقی الأمر بالباقی. و هذا بخلاف ما لو کان القید مستفاداً من مثل قوله:

«لا صلاة إلّا بفاتحة الکتاب»، فإنّه لم یتعلّق أمر بالفاتحة حتّی یشترط فیه القدرة علیها، بل إنّما افید ذلک بلسان الوضع لا التکلیف، و لازم ذلک سقوط الأمر بالصلاة عند تعذّر الفاتحة، لعدم التمکّن من إیجاد الصلاة الصحیحة عند عدم تمکّنه من الفاتحة.

و أجاب عنه بأنّ القدرة إنّما تعتبر فی متعلّقات التکالیف النفسیّة، لکونها طلباً مولویّاً و بعثاً فعلیّاً نحو المتعلّق، و العقل یستقلّ بقبح تکلیف العاجز، و هذا بخلاف الخطابات الغیریّة، فإنّه یمکن أن یقال: إنّ مفادها لیس إلاّ الإرشاد و بیان دخل متعلّقاتها فی متعلّقات الخطابات النفسیة، و فی الحقیقة الخطابات الغیریّة فی باب التکالیف و فی باب الوضع تکون بمنزلة الإخبار من دون أن یکون فیها بعث و تحریک حتّی تقتضی القدرة علی متعلّقه.

ثمّ إنّه لو سلّم الفرق بین الخطابات الغیریّة فی باب متعلّقات التکالیف و فی باب الوضعیّات و أنّها فی التکالیف تتضمّن البعث و التحریک، فلا إشکال فی أنّه لیس فی آحاد الخطابات الغیریّة ملاک البعث المولوی، و إلّا لخرجت عن کونها غیریّة، بل ملاک البعث المولوی قائم بالمجموع، فالقدرة إنّما تعتبر أیضاً فی المجموع لا فی الآحاد، و تعذّر البعض یوجب سلب القدرة عن المجموع، و لازم

ص:274

ذلک سقوط الأمر منه لا من خصوص ذلک البعض(1) ، انتهی.

و یرد علیه أوّلاً: أنّ ما أفاده من أنّ الخطابات الغیریّة فی باب التکالیف و فی باب الوضع تکون بمنزلة الإخبار من دون أن یکون فیها بعث و تحریک فممنوع جدّاً، ضرورة أنّ الأوامر مطلقاً نفسیّة کانت أو غیریّة، مولویّة کانت أو إرشادیّة إنّما تکون للبعث و التحریک کما مرّت الإشارة إلی ذلک سابقاً.

غایة الأمر: أنّ الاختلاف بینهما إنّما هو باختلاف الأغراض و الدواعی، و أمّا من جهة البعث و التحریک فلا فرق بینهما أصلاً، و حینئذٍ فیشترط فیه عقلاً القدرة علی متعلّقه، و حیث إنّه لا قدرة فی البین، کما هو المفروض فاللازم سقوطه و بقاء الأمر بالباقی، بخلاف ما لو کان بمثل قوله: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب»، ممّا لا یکون فیه بعث و تحریک أصلاً، فإنّ ظاهره اشتراط الصلاة بالفاتحة و عدم تحقّقها بدونها، فمع عدم القدرة علیها یسقط الأمر المتعلّق بها، و حینئذٍ فیتمّ ما أفاده الوحید قدس سره.

و ثانیاً: منع ما ذکره من اعتبار القدرة فی المجموع لقیام ملاک البعث المولوی به، لأنّ البعث مطلقاً مولویّاً کان أو غیریّاً مشروط بالقدرة، و کون المتعلّق فی البعث الغیری دخیلاً فی المطلوب الذاتی جزءاً أو شرطاً لا نفس المطلوب الذاتی لا یوجب نفی اعتبار القدرة علیه، لأنّ اعتبارها إنّما هو لأجل نفس البعث و التحریک، کما هو واضح.

فالإنصاف بطلان هذا الجواب، و کذا فساد أصل التوجیه. و الظاهر أنّ مرجع کلام الوحید قدس سره إلی ما ذکرناه فتدبّر.

ص:275


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 251:4-253.

و کیف کان: فانقدح أنّ مرکز البحث إنّما هو فیما لو لم یکن لشیء من دلیلی المرکّب و الجزء و الشرط إطلاق أو کان لهما إطلاق مع عدم حکومة أحد الإطلاقین علی الآخر. إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ الکلام یقع فی مقامین:

أحدهما: فیما تقتضیه القواعد الأوّلیة.

و ثانیهما: فیما تقتضیه القواعد الثانویّة.

مقتضی القواعد الأولیّة فی المقام
فی جریان البراءة العقلیّة

أمّا الکلام فی المقام الأوّل، فمحصّله: أنّ الظاهر جریان البراءة العقلیّة، لأنّ مرجع الشکّ فی اعتبار الشیء فی المأمور به شطراً أو شرطاً مطلقاً، أو اختصاصه بصورة التمکّن منه إلی الشکّ فی ثبوت الأمر مع العجز عنه، و هو مورد لجریان البراءة، کما هو واضح.

و هذا لا فرق فیه بین ما لو کان العجز من أوّل البلوغ الذی هو أوّل زمان ثبوت التکلیف کالأخرس الذی لا یقدر علی القراءة، و بین ما لو کان طارئاً فی واقعة واحدة، کمن عرض له العجز فی أثناء الوقت بعد أن کان متمکّناً فی أوّل الوقت، و بین ما لو کان طارئاً فی واقعتین، کمن کان قادراً فی الأمس و صار عاجزاً فی الیوم من أوّل الوقت إلی آخره.

و ذلک - أی وجه عدم الفرق - أنّ مرجع الشکّ فی الجمیع إلی الشکّ فی أصل ثبوت التکلیف، و القاعدة فیه تقتضی البراءة.

أمّا الصورة الاُولی فرجوع الشکّ فیها إلی الشکّ فی أصل التکلیف واضح،

ص:276

و کذا الصورة الثالثة، لأنّ ثبوت التکلیف فی الواقعة الاُولی لا دلالة علی ثبوته فی الواقعة الثانیة أیضاً، فالتکلیف فیها مشکوک.

و أمّا الصورة الثانیة فلأنّ المکلّف و إن کان عالماً فی أوّل الوقت بتوجّه التکلیف إلیه، إلاّ أنّه حیث کان قادراً علی المأمور به بجمیع أجزائه و شرائطه یکون المکلّف به فی حقّه هو المأمور به مع جمیع الأجزاء و الشرائط، فتعلّق التکلیف بالمرکّب التامّ کان معلوماً مع القدرة إلیه.

و أمّا مع العجز عن بعض الأجزاء أو الشرائط فلم یکن أصل ثبوت التکلیف بمعلوم، فما علم ثبوته قد سقط بسبب العجز، و ما یحتمل ثبوته فعلاً کان من أوّل الأمر مشکوکاً، فلا مانع من جریان البراءة فیه.

و لکن قد یتوهّم أنّ المقام نظیر الشکّ فی القدرة، و القاعدة فیه تقتضی الاحتیاط بحکم العقل، و لا یخفی أنّ التنظیر غیر صحیح، لأنّ فی مسألة الشکّ فی القدرة یکون أصل ثبوت التکلیف معلوماً بلا ریب. غایة الأمر أنّه یشکّ فی سقوطه لأجل احتمال العجز عن إتیان متعلّقه.

و أمّا فی المقام یکون أصل ثبوت التکلیف مجهولاً، لما عرفت من أنّ التکلیف بالمرکّب التامّ قد علم سقوطه بسبب العجز، و بالمرکب الناقص یکون مشکوکاً من أوّل الأمر، فالتنظیر فی غیر محلّه.

کما أنّ قیاس المقام بالعلم الإجمالی الذی طرأ الاضطرار علی بعض أطرافه، حیث یحکم العقل بحرمة المخالفة القطعیّة مع العجز عن الموافقة القطعیّة - کما یظهر من الدرر(1) ، حیث اختار وجوب الإتیان بالمقدور عقلاً

ص:277


1- (1) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 498.

فیما لو کان العجز طارئاً علیه فی واقعة واحدة، لأنّه یعلم بتوجّه التکلیف إلیه، فإن لم یأت بالمقدور لزم المخالفة القطعیة - ممّا لا یتمّ أیضاً، لعدم ثبوت العلم الإجمالی فی المقام، بل الثابت هو العلم التفصیلی بالتکلیف المتعلّق بالمرکّب التامّ الساقط بسبب العجز عنه و الشکّ البدوی فی ثبوت التکلیف بالباقی المقدور. فالحقّ جریان البراءة العقلیّة فی جمیع الصور الثلاثة.

فی جریان البراءة الشرعیّة

و أمّا البراءة الشرعیّة التی یدلّ علیها حدیث الرفع فالظاهر عدم جریانها فیما لو یکن لشیء من الدلیلین إطلاق، لا لما ذکره المحقّق الخراسانی(1) من أنّ الحدیث فی مقام الامتنان و لا منّة فی إیجاب الباقی المقدور بل لأنّ غایة مدلول الحدیث هو رفع الجزئیة و الشرطیة فی حال العجز، و هو لا یدلّ علی ثبوت التکلیف بالباقی.

و إن شئت قلت: إنّ مدلول الحدیث لیس إلاّ الرفع و لا دلالة له علی الوضع. و من المعلوم أنّه فی رفعه امتنان لیس إلاّ، کما لا یخفی.

و أمّا لو کان لکلا الدلیلین إطلاق مع عدم تقدّم أحدهما علی الآخر فیمکن التمسّک بالحدیث لرفع الجزئیة أو الشرطیة فی حال العجز و یکون مقتضی إطلاق دلیل المرکّب حینئذٍ وجوب الإتیان بالباقی المقدور لأنّ حدیث الرفع بمنزلة المخصّص بالنسبة إلی إطلاق دلیل الجزء أو الشرط فلا یکون له مع ملاحظة حدیث الرفع تعارض مع إطلاق دلیل المرکّب، کما لا یخفی.

ص:278


1- (1) - کفایة الاُصول: 420.
مقتضی القواعد الثانویة فی المقام
التمسّک بالاستصحاب لإثبات وجوب باقی الأجزاء

و أمّا الکلام فی المقام الثانی: فقد یتمسّک لوجوب الباقی المقدور بالاستصحاب و تقریره من وجوه:

الأوّل: استصحاب الوجوب الجامع بین الوجوب النفسی و الغیری بأن یقال: إنّ البقیّة کانت واجبة بالوجوب الغیری فی حال وجوب الکلّ بالوجوب النفسی، و قد علم بارتفاع ذلک الوجوب عند تعذّر بعض الأجزاء أو الشرائط للعلم بارتفاع وجوب الکلّ، و لکن شکّ فی حدوث الوجوب النفسی بالنسبة إلی البقیّة مقارناً لزوال الوجوب الغیری عنها، فیقال: إنّ الجامع بین الوجوبین کان متیقّناً و الآن یشکّ فی ارتفاعه بعد ارتفاع بعض مصادیقه، فهو من قبیل القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلّی.

و یمکن أن یقرّر هذا الوجه بنحو آخر، و هو أنّ البقیّة کانت واجبة بالوجوب النفسی الضمنی، و قد علم بارتفاعه، و شکّ فی حدوث الوجوب النفسی الاستقلالی، فأصل الوجوب الجامع بین الضمنی و الاستقلالی کان متیقّناً، و الآن شکّ فی ارتفاعه بعد ارتفاع بعض مصادیقه لأجل احتمال حدوث مصداق آخر، هذا.

و یرد علی هذا الوجه مضافاً إلی منع کون الأجزاء واجبة بالوجوب الغیری أو النفسی الضمنی، بل قد عرفت(1) أنّها واجبة بعین وجوب الکلّ.

ص:279


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 176-178.

أوّلاً: أنّه یعتبر فی جریان الاستصحاب أن یکون المستصحب إمّا حکماً مجعولاً شرعاً، و إمّا موضوعاً ذا أثر شرعی، و الجامع بین الوجوب النفسی و الغیری و کذا بین الضمنی و الاستقلالی لا یکون شیئاً منهما، أمّا عدم کونه موضوعاً ذا أثر شرعی فواضح، و أمّا عدم کونه حکماً مجعولاً، فلأنّ الحکم المجعول هو کلّ واحد من الوجوبین.

و بعبارة اخری: المجعول هو حقیقة الوجوب، و هی ما یکون بالحمل الشائع وجوباً، و أمّا الجامع فهو یکون أمراً انتزاعیّاً غیر مجعول، و العقل بعد ملاحظة حکم الشارع بوجوب فعل و کذا حکمه بوجوب فعل آخر ینتزع عنهما أمراً مشترکاً جامعاً من دون أن یکون ذلک الأمر الانتزاعی مجعولاً، بل لا یعقل الجامع بین الوجوبین لو افید الوجوب بمثل هیئة «افعل» التی یکون الموضوع له فیها خاصّاً، کما هو الشأن فی جمیع الحروف علی ما حقّقناه فی مبحث الألفاظ (1). و بالجملة: لا مجال لاستصحاب الجامع أصلاً.

و ثانیاً: أنّه لو قطع النظر عن ذلک نقول: إنّ ما ذکر إنّما یتمّ لو کان مجموع البقیّة متعلّقاً للوجوب الغیری فیقال: إنّه کان واجباً به، و شکّ بعد ارتفاعه فی حدوث الوجوب النفسی لها، مع أنّه ممنوع جدّاً، ضرورة أنّ الوجوب الغیری إنّما هو بملاک المقدّمیّة، و الموصوف بهذا الوصف إنّما هو کلّ واحد من الأجزاء لا المجموع بعنوانه فالوجوب الغیری إنّما تعلّق بکلّ واحد من الأجزاء الغیر المتعذّرة، و المدّعی إنّما هو إثبات وجوب نفسی واحد متعلّق بمجموع البقیّة.

ص:280


1- (1) - مناهج الوصول 84:1.

و بعبارة اخری: القضیّة المشکوکة هو وجوب واحد متعلّق بالباقی المقدور، و القضیة المتیقّنة هی الوجوبات المتعدّدة المتعلّق کلّ واحد منها بکلّ واحد من الأجزاء، فلا تتّحدان.

الثانی: استصحاب الوجوب النفسی الاستقلالی المتعلّق بالمرکّب، و تعذّر بعض أجزائه أو شرائطه لا یضرّ بعد ثبوت المسامحة العرفیّة فی موضوع الاستصحاب، کما لو فرض أنّ زیداً کان واجب الإکرام، ثمّ شکّ فی وجوب إکرامه بعد تغیّره بمثل قطع الید أو الرجل مثلاً، فإنّه لا إشکال فی جریان هذا الاستصحاب، لبقاء الشخصیة و عدم ارتفاعها بمثل ذلک التغیّر، و کما فی استصحاب الکرّیة.

و یرد علیه أوّلاً: أنّ قیاس العناوین الکلّیة بالموجودات الخارجیة قیاس مع الفارق، لأنّ تغیّر الحالات و تبدّل الخصوصیّات فی الخارجیّات لا یوجب اختلاف الشخصیّة و ارتفاع الهذیّة. و هذا بخلاف العناوین الکلّیة، فإنّ الاختلاف بینها یتحقّق بمجرّد اختلافها و لو فی بعض القیود، فإنّ عنوان الإنسان الأبیض - مثلاً - مغایر لعنوان الإنسان الغیر الأبیض، و کذا الإنسان العالم بالنسبة إلی الإنسان الغیر العالم، فإذا کان من یجب إکرامه هو الإنسان العالم - مثلاً - فاستصحاب وجوب إکرامه لا یفید وجوب إکرام الإنسان الغیر العالم أیضاً، کما هو أوضح من أن یخفی.

و حینئذٍ نقول: إنّ الواجب فی المقام هی الصلاة المتقیّدة بالسورة مثلاً، و المفروض سقوط هذا الوجوب بمجرّد عروض التعذّر بالنسبة إلی السورة، و الصلاة الخالیة عنها عنوان آخر مغایر للصلاة مع السورة، فالقضیّة المتیقّنة و المشکوکة متغایرتان.

ص:281

و ثانیاً: أنّ تبدّل الحالات إنّما لا یضرّ بجریان الاستصحاب إذا کان الحکم متعلّقاً بعنوان شکّ فی مدخلیّة ذلک العنوان بقاءً، کما أنّه دخیل فیه حدوثاً.

و بعبارة اخری شکّ فی کونه واسطة فی العروض أو واسطة فی الثبوت، نظیر الحکم علی الماء المتغیّر بالنجاسة، فإنّ منشأ الشکّ فی بقاء النجاسة بعد زوال التغیّر إنّما هو الشکّ فی کون عنوان التغیّر هل له دخل فیه حدوثاً و بقاءً أو حدوثاً فقط. و أمّا إذا علم مدخلیّة العنوان فی الحکم مطلقاً فلا معنی لجریان الاستصحاب، و المقام من هذا القبیل، ضرورة أنّا نعلم بمدخلیة السورة المتعذّرة - مثلاً - فی الأمر المتعلّق بالمرکّب، و إلّا لا تکون جزءاً له، ففرض الجزئیّة الراجعة إلی کونه مقوّماً للمرکّب بحیث لا یتحقّق بدونه لا یجتمع مع الشکّ فی مدخلیّته فیه و أنّ شخص ذلک الأمر المتعلّق بالمرکّب هل هو باق أو مرتفع، ضرورة ارتفاع ذلک الشخص بمجرّد نقصان الجزء الراجع إلی عدم تحقّق المرکّب، کما هو غیر خفی.

الثالث: استصحاب الوجوب النفسی الشخصی، بتقریب أنّ البقیّة کانت واجبة بالوجوب النفسی لانبساط الوجوب المتعلّق بالمرکّب علی جمیع أجزائه، فإذا زال الانبساط عن الجزء المتعذّر بسبب التعذّر یشکّ فی ارتفاع الوجوب عن باقی الأجزاء، فیستصحب و یحکم ببقائه کما کان من انبساط الوجوب علیه.

و یرد علیه أوّلاً: أنّ دعوی الانبساط فی الأمر المتعلّق بالمرکّب ممّا لا وجه لها بعد کون الإرادة أمراً بسیطاً غیر قابل للتجزئة، و کون المرکّب أیضاً ملحوظاً شیئاً واحداً و أمراً فارداً، لما عرفت سابقاً من أنّه عبارة عن ملاحظة الأشیاء المتعدّدة و الحقائق المتکثّرة شیئاً واحداً بحیث کانت الأجزاء فانیة فیه

ص:282

غیر ملحوظة، فتعلّق الإرادة به إنّما هو کتعلّقها بأمر بسیط، و لا معنی لانبساطها علیه، و هکذا الکلام فی الوجوب و البعث الناشئ من الإرادة، فإنّه أیضاً أمر بسیط لا یقبل التکثّر و التعدّد.

و ثانیاً: أنّه علی فرض تسلیم الانبساط نقول: إنّ ذلک متفرّع علی تعلّق الوجوب بالمجموع المرکّب، ضرورة أنّه نشأ من الأمر المتعلّق بالمجموع، و بعد زواله یقیناً، کما هو المفروض لا معنی لبقائه منبسطاً علی الباقی، فالقضیّة المتیقّنة قد زالت فی الزمان اللاحق قطعاً، فلا مجال حینئذٍ للاستصحاب.

فانقدح من جمیع ما ذکرنا: أنّ التمسّک بالاستصحاب لا یتمّ علی شیء من تقریراته المتقدّمة.

التمسّک بقاعدة المیسور لإثبات وجوب باقی الأجزاء

ثمّ إنّه قد یتمسّک لإثبات وجوب الباقی أیضاً بقاعدة المیسور التی یدلّ علیها النبوی المعروف:

«إذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم»، و العلویان المعروفان:

«ما لا یدرک کلّه لا یترک کلّه» (1) ، و

«المیسور لا یسقط بالمعسور» (2)

. و قد اشتهر التمسّک بها فی ألسنة المتأخّرین و لم یعلم ذکرها فی کلمات المتقدّمین، فما ادّعی من أنّ شهرتها تغنی عن التکلّم فی سندها، غفلةٌ عن أنّ الشهرة الجابرة لضعف الروایة هی الشهرة بین القدماء من الأصحاب و هی مفقودة فی المقام.

ص:283


1- (1) - عوالی اللآلی 207/58:4.
2- (2) - عوالی اللآلی 205/58:4، و فیه: «لا یترک المیسور بالمعسور».
الکلام فی مفاد النبوی

و کیف کان

فقد روی النبوی مرسلاً فی الکفایة(1) مصدّراً بهذا الصدر و هو: أنّه خطب رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم فقال: «إنّ اللّه کتب علیکم الحجّ» فقام عکاشة - و یروی سراقة بن ما - فقال: فی کلّ عام یا رسول اللّه؟ فأعرض عنه حتّی أعاد مرّتین أو ثلاثاً، فقال: «ویحک و ما یؤمنک أن أقول: نعم، و اللّه لو قلت: نعم لوجب، و لو وجب ما استطعتم، و لو ترکتم، لکفرتم فاترکونی ما ترکتم و إنّما هلک من کان قبلکم بکثرة سؤالهم و اختلافهم إلی أنبیائهم، فإذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم، و إذا نهیتکم عن شیء فاجتنبوه» (2) ، هذا.

و قد رواه فی محکی العوالی من دون هذا الصدر(3) ، کما أنّه قد روی الصدر من دون هذا القول مع اختلاف یسیر.

و کیف کان: فالکلام قد یقع فیها مع قطع النظر عن هذا الصدر، و قد یقع مع ملاحظته.

أمّا الأوّل: فالظاهر أنّ المراد بکلمة «الشیء» ما هو معناها الظاهر الذی هو أعمّ من الطبیعة التی لها أفراد و مصادیق و من الطبیعة المرکّبة من الأجزاء.

کما أنّ الأظهر أن تکون کلمة «من» بمعنی التبعیض، و هذا لا ینافی أعمّیة معنی

ص:284


1- (1) - کفایة الاُصول: 421.
2- (2) - مجمع البیان 386:3، بحار الأنوار 31:22، صحیح مسلم 1337/149:3، سنن النسائی 110:5.
3- (3) - عوالی اللآلی 206/58:4.

«الشیء» بدعوی أنّ التبعیض ظاهر فی الطبیعة المرکّبة، فإنّا نمنع أن تکون کلمة «من» مرادفاً للتبعیض بحیث تستعمل مکانه، بل الظاهر أنّ معناها هو الذی یعبَّر عنه بالفارسیة ب (از).

نعم لا مجال للإشکال فی اعتبار نحو من الاقتطاع فی معناها، و لکن ذلک لا ینافی صحّة استعمالها فی الطبیعة بالنسبة إلی الأفراد و المصادیق، فإنّها بنظر العرف کأنّها جزء من الطبیعة منشعبٌ منها، کما لا یخفی.

و أمّا کلمة «ما» فاستعمالها موصولة و إن کان شائعاً بل أکثر، إلاّ أنّ الظاهر کونها فی المقام زمانیّة، و لکن ذلک بملاحظة الصدر، کما أنّ بملاحظته یکون الظاهر من کلمة «الشیء» هو الأفراد لا الأجزاء، لأنّ الظاهر أنّ إعراضه عن عکاشة أو سراقة إنّما هو لأجل أنّ مقتضی حکم العقل لزوم الإتیان بالطبیعة المأمور بها مرّة واحدة لحصولها بفرد واحد، و حینئذٍ فلا مجال معه للسؤال أصلاً.

و حینئذٍ فقوله:

«إذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم» بیان لهذه القاعدة العقلیّة و مرجعه إلی أنّه إذا أمرتکم بطبیعة ذات أفراد فأتوا منها زمان استطاعتکم، و لا تکون کلمة «ما» موصولة حتّی یکون الحدیث بصدد إیجاب جمیع المصادیق التی هی مورد للاستطاعة و القدرة، کما لا یخفی.

و بالجملة: فسیاق الحدیث یشهد بأنّ قوله:

«إذا أمرتکم...» إلی آخره، لا یدلّ علی أزید ممّا یستفاد من نفس الأمر بطبیعة ذات أفرادٍ، و هو لزوم إیجادها فی الخارج المتحقّق بإیجاد فرد واحد منها، و لا یستفاد منه لزوم الإتیان بالمقدار المستطاع من أفراد الطبیعة حتّی یکون ذلک لأجل السؤال عن وجوبه فی کلّ

ص:285

عام فأثّر السؤال فی هذا الإیجاب الذی هو خلاف ما تقتضیه القاعدة العقلیّة.

و ممّا ذکرنا ظهر اختصاص هذا القول بالطبیعة ذات الأفراد و المصادیق، فلا مجال للاستدلال به للمقام.

و ظهر أیضاً اندفاع توهّم أنّ المورد و إن کان هی الطبیعة ذات الأفراد، إلاّ أنّه لا مانع من کون مفاد القاعدة أعمّ منها و من الطبیعة المرکّبة، لأنّ ذلک یتمّ فیما لم یکن المورد قرینة لما یستفاد من القاعدة کما فی المقام، حیث عرفت أنّ الظاهر منها بیان لما هو مقتضی حکم العقل و لا تکون بصدد إفادة مطلب آخر أصلاً.

ثمّ لو قطع النظر عن ذلک فدفعه بأنّ وجود القدر المتیقّن فی مقام التخاطب یمنع عن الظهور فی الإطلاق، لا یتمّ بعد ما حقّقنا فی مبحث المطلق و المقیّد من عدم اشتراط ظهور المطلق فی الإطلاق بعدم وجود القدر المتیقّن فی مقام التخاطب فراجع(1). هذا کلّه فی النبوی.

الکلام فی مفاد العلوی الأوّل

و أمّا قوله علیه السلام فی العلوی:

«المیسور لا یسقط بالمعسور» فیجری فی مفادها احتمالات:

منها: أن یکون المراد أنّ نفس المیسور لا یسقط عن عهدة المکلّف بسبب المعسور.

و منها: أنّ المیسور لا یسقط حکمه و الطلب المتعلّق به بالمعسور.

ص:286


1- (1) - تقدّم فی الجزء الأوّل: 352.

و منها: أنّ المیسور لا یسقط عن موضوعیّته للحکم بالمعسور.

و منها: أنّ المیسور لا یسقط حکمه عن موضوعه بالمعسور.

و لا یخفی أنّه یعتبر فی معنی السقوط بعد ملاحظة موارد استعماله أمران:

أحدهما: أن یکون الساقط ثابتاً و متحقّقاً قبل عروض السقوط.

ثانیهما: أن یکون السقوط من مکان مرتفع و محلّ عالٍ.

و حینئذٍ فنقول: إنّ حمل الحدیث علی الاحتمال الأوّل لا یوجب الإخلال بشیء من هذین الأمرین المعتبرین فی مفهوم السقوط، لأنّ المیسور من الطبیعة یکون ثابتاً علی عهدة المکلّف بواسطة تعلّق الأمر به، و یدلّ علیه مضافاً إلی مساعدة العرف التعبیر فی بعض الروایات عن الصلاة بأنّها دین اللّه(1) و عن الحجّ بأنّه حقّ للّه علی المستطیع(2)

. و بالجملة: فمتعلّق التکلیف أمر ثابت علی عهدة المکلّف، و ذمّته مشغولة به، مع أنّ الذمّة و العهدة کأنّها مکان مرتفع یکون المکلّف به ثابتاً فیه و محمولاً علیه. و حینئذٍ فالظاهر من الحدیث أنّ المیسور من أفراد الطبیعة أو من أجزائها لا یسقط نفس ذلک المیسور بالمعسور. و من المعلوم أنّه لا یلزم تقدیر أصلاً.

نعم هنا شیء، و هو أنّ الثابت علی العهدة کان هو الأمر المعسور، و المفروض سقوطه عن العهدة یقیناً. و أمّا المیسور فلم یکن بنفسه ثابتاً علی

ص:287


1- (1) - راجع وسائل الشیعة 282:8، کتاب الصلاة، أبواب قضاء الصلوات، الباب 12، الحدیث 26.
2- (2) - راجع وسائل الشیعة 67:11، کتاب الحجّ، أبواب وجوب الحجّ و شرائطه، الباب 25، الحدیث 4، 5.

العهدة، بل کان ثبوته بتبع ثبوت المعسور، فإذا سقط یسقط المیسور بتبعه، فلم یکن المیسور ثابتاً حتّی ینسب إلیه عدم السقوط.

و لکن لا یخفی: أنّه یکفی فی نسبة عدم السقوط مجرّد بقاء المیسور علی العهدة و لو بأمر آخر و طلب ثان متحقّق بمجرّد السقوط عن المعسور، فالاختلاف إنّما هو فی جهة ثبوت الأمر.

و أمّا أصله فهو باق، غایة الأمر أنّه فی الابتداء کان بتبع المعسور و بعد تحقّق العسر تعلّق به أمر آخر مستقلّ، فأصل الثبوت علی العهدة الذی هو الملاک للتعبیر بعدم السقوط کان متحقّقاً من الأوّل و لم یعرض له سقوط أصلاً، کما لا یخفی.

و هذا نظیر اختلاف الدعامة التی بها کان السقف محفوظاً علی حاله، فإنّ تبدیلها و تغییرها لا یوجب سقوط السقف و إن کان الجهة لعدم السقوط مستندة فی السابق إلی الدعامة الاُولی و فی اللاحق إلی الدعامة الثانیة.

و بالجملة: فمحلّ الحدیث علی هذا الاحتمال لا یکون فیه مخالفة للظاهر أصلاً.

و أمّا سائر الاحتمالات - فمضافاً إلی أنّها کلّها خلاف الظاهر، لأنّ اللازم فیها أن لا یکون مرجع الضمیر فی قوله: «لا یسقط»، هو نفس المیسور، أو أن لا یکون المراد بالسقوط هو السقوط عن عهدة المکلّف، و هما خلاف الظاهر، لأنّ الظاهر هو کون الأمر الغیر الساقط هو نفس المیسور و کون المراد هو عدم سقوطه عن عهدة المکلّف، کما لا یخفی - یکون بعضها غیر معقول کالاحتمال الثانی الذی مرجعه إلی عدم سقوط حکم المیسور أو المیسور بما له من الحکم، ضرورة أنّ الحکم الأوّل الثابت قبل التعذّر قد ارتفع بسبب التعذّر، و لا یعقل بقاء

ص:288

شخص ذلک الحکم مع کون متعلّقه أمراً آخر مغایراً للأمر الأوّل، لأنّ تشخّص الإرادة إنّما هو بالمراد، و لا یعقل تعدّده مع وحدتها، کما أنّه لا یعقل وحدته مع تعدّدها، و لا یلزم ذلک بناءً علی الاحتمال الأوّل، لأنّ الباقی إنّما هو نفس المیسور و إن کانت علّة البقاء هو تعلّق أمر آخر به.

و من هنا یظهر الخلل فیما أفاده المحقّق الخراسانی(1) و تبعه الأعاظم(2) من تلامذته من أنّ المراد من الحدیث هو عدم سقوط المیسور بما له من الحکم، کما فی مثل «لا ضرر و لا ضرار» حیث إنّ ظاهره نفی ما له من تکلیف أو وضع.

وجه الخلل ما عرفت من عدم معقولیّة بقاء شخص ذلک الحکم بعد اختلاف متعلّقه.

فالإنصاف: أنّه لا مجال للإشکال فی ظهور الحدیث فیما ذکرنا، و علیه فیتمّ الاستدلال به للمقام، لعدم اختصاصه بالمیسور من أفراد العامّ، بل الظاهر کونه أعمّ منه و من المیسور من أجزاء الطبیعة المأمور بها.

نعم یبقی الکلام فی اختصاصه بالواجبات أو شموله للمستحبّات أیضاً، و الظاهر هو الأوّل، لأنّ اعتبار الثبوت علی العهدة و اشتغال الذمّة ینافی مع کونه مستحبّاً، کما لا یخفی.

نعم لو قلنا بشموله للمستحبّات لا یبقی مجال للاستدلال به حینئذٍ، لأنّه یصیر عدم السقوط أعمّ من الثبوت بنحو اللزوم، فیحتمل أن یکون الثابت فی الواجبات أیضاً هو الثبوت و لو بنحو الاستحباب، کما هو غیر خفی.

ص:289


1- (1) - کفایة الاُصول: 421.
2- (2) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 255:4، نهایة الأفکار 457:3.

نعم لو کان المراد من الحدیث هو عدم سقوط المیسور بما له من الحکم تمّ الاستدلال به حینئذٍ و لو قلنا بشموله للمستحبّات، و لکن قد عرفت فساد هذا الاحتمال، هذا.

الکلام فی مفاد العلوی الثانی

و أمّا العلوی الثانی و هو قوله علیه السلام:

«ما لا یدرک کلّه لا یترک کلّه»، فلا یخفی أنّ الظاهر من کلمة «الکلّ» هو الکلّ المجموعی الذی له أجزاء. کما أنّ ظاهر کلمة الموصول هو مطلق الأفعال الراجحة واجبة کانت أو مستحبّة، لکن یعارضه ظهور قوله: «لا یترک» فی حرمة الترک، و هی غیر متحقّقة فی المستحبّات، فیختصّ بالواجبات بناءً علی ترجیح ظهور الذیل و کون «لا یترک» أظهر فی مفاده من الموصول فی العموم، کما أنّه لا یدلّ إلاّ علی مرجوحیّة الترک لو قلنا بترجیح ظهور الصدر، فالأمر یدور بین ترجیح أحد الظهورین علی الآخر.

و ما أفاده الشیخ المحقّق الأنصاری قدس سره من أنّ قوله: «لا یترک» کما أنّه یصیر قرینة علی تخصیص الصدر بغیر المباحات و المکروهات و المحرّمات، کذلک لا مانع من أن یصیر قرینة علی إخراج المستحبّات أیضاً، لعدم الفرق بینها(1) ، محلّ نظر، بل منع؛ لأنّ اختصاص الموصول بغیر المباحات و اختیها إنّما هو بواسطة قوله: «لا یدرک کلّه» لأنّ التعبیر بالإدراک إنّما هو فیما کان الشیء أمراً راجحاً یحصل الداعی إلی إتیانه لذلک، و لا یقال فی مثل المحرّمات

ص:290


1- (1) - فرائد الاُصول 498:2-499.

و المکروهات، بل و کذا المباحات، کما یظهر من تتبّع موارد استعماله، فلم یکن تخصیص الموصول بغیرها لأجل قوله: «لا یترک» حتّی لا یفرق بینها و بین المستحبّات، فالظاهر دوران الأمر بین ترجیح أحد الظهورین.

فیمکن أن یقال بترجیح ظهور الذیل، لأجل ترجیح ظهور الحکم علی ظهور الموضوع کما قد قیل.

و یمکن أن یقال بترجیح ظهور الصدر، لأنّه بعد انعقاد الظهور له و توجّه المکلّف إلیه یمنع ذلک من انعقاد الظهور؛ للذیل. فظهور الصدر مانع عن أصل انعقاد الظهور بالنسبة إلی الذیل، و ظهور الذیل لا بدّ و أن یکون رافعاً لظهور الصدر، فیدور الأمر حینئذٍ بین الرفع و الدفع، و الثانی أهون من الأوّل، فتدبّر.

ثمّ إنّ المراد بکلمة «کلّ» فی الموضعین یحتمل أن یکون هو الکلّ المجموعی، و یحتمل أن یکون کلّ جزء من أجزاء المجموع و یحتمل أن یکون المراد بها فی الموضع الأوّل هو المعنی الأوّل و فی الموضع الثانی هو المعنی الثانی، و یحتمل العکس فهذه أربعة احتمالات متصوّرة بحسب بادئ النظر.

و لکن التأمّل یقضی بأنّه لا سبیل إلی حمل کلمة «کلّ» فی الموضع الثانی علی الکلّ المجموعی، لأنّ معنی درک المجموع هو الإتیان به، و عدم درکه قد یتحقّق بعدم درک شیء منه، و قد یتحقّق بعدم درک بعض الأجزاء فقط، ضرورة أنّه یصدق عدم إدراک المجموع مع عدم إدراک جزء منه. و أمّا ترک المجموع فهو کعدم درکه، و عدم ترکه کدرکه، فمعنی عدم ترک المجموع هو إدراکه و الإتیان به بجمیع أجزائه.

و حینئذٍ فلو حمل الکلّ فی الموضع الثانی علی الکلّ المجموعی

ص:291

یصیر مضمون الروایة هکذا: ما لا یدرک مجموعه أو کلّ جزء منه لا یترک مجموعه و یجب الإتیان به، و هذا بیّن الفساد، فیسقط من الاحتمالات الأربعة احتمالان.

و أمّا الاحتمالان الآخران المشترکان فی کون المراد بکلمة «کلّ» فی الموضع الثانی هو کلّ جزء من أجزاء المجموع فلا مانع منهما، لأنّه یصیر المراد من الروایة علی أحد الاحتمالین هکذا: ما لا یدرک مجموعه لا یترک کلّ جزء من أجزائه، و علی الاحتمال الآخر: ما لا یدرک کلّ جزء من أجزائه لا یترک کلّ جزء منها، و هذا أیضاً کالمعنی الأوّل معنی صحیح، لأنّ عدم درک کلّ جزء یصدق بدرک بعض الأجزاء، کما أنّ عدم ترک کلّ جزء یتحقّق بالإتیان بالبعض.

فالمستفاد منه أنّه مع عدم إدراک جمیع الأجزاء و درک البعض یجب الإتیان بالبعض و لا یجوز ترک الکلّ.

نعم ذکر الشیخ المحقّق الأنصاری قدس سره أنّه لا بدّ من حمل کلمة «کلّ» فی قوله: «ما لا یدرک کلّه» علی الکلّ المجموعی لا الأفرادی، إذ لو حمل علی الأفرادی کان المراد:

«ما لا یدرک شیء منها، لا یترک شیء منها» و لا معنی له(1)

. و لا یخفی: أنّ ما أفاده الشیخ هنا من فروع النزاع المعروف بینه(2) و بین المحقّق صاحب الحاشیة(3) فی باب المفاهیم، و هو أنّه إذا کان الحکم فی

ص:292


1- (1) - فرائد الاُصول 499:2.
2- (2) - الطهارة، الشیخ الأنصاری: 49 /السطر 26، مطارح الأنظار: 174 /السطر 31.
3- (3) - هدایة المسترشدین: 291.

المنطوق حکماً عامّاً فهل المنفی فی المفهوم نفی ذلک الحکم بنحو العموم، أو نفی العموم الغیر المنافی لثبوت البعض، مثلاً قوله علیه السلام: «الماء إذا بلغ قدر کرّ لا ینجّسه شیء»(1) ، هل یکون مفهومه أنّه إذا لم یبلغ ذلک المقدار ینجّسه جمیع الأشیاء النجسة، أو أنّ مفهومه تنجّسه بشیء منها الغیر المنافی لعدم تنجّسه ببعض النجاسات.

و الحقّ مع صاحب الحاشیة، لأنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الحکم فی المنطوق عند انتفاء الشرط، لا ثبوت حکم نقیض للحکم فی المنطوق، و قد حقّقنا ذلک فی باب المفاهیم من مباحث الألفاظ (2)

. و حینئذٍ: فالمراد ب «ما لا یدرک کلّه» فی المقام بناءً علی هذا الاحتمال:

ما لا یدرک و لو بعض أجزائه، لا ما لا یدرک شیء منها، کما لا یخفی، هذا. و لکنّ الظاهر أنّ المراد به هو الکلّ المجموعی فی الموضع الأوّل. و أمّا الموضع الثانی فقد عرفت أنّه لا بدّ من حمله علی الکلّ الأفرادی.

تتمّة: فی اعتبار صدق المیسور فی جریان القاعدة

قد اشتهر بینهم أنّه لا بدّ فی جریان قاعدة المیسور من صدق المیسور علی الباقی عرفاً، و لا بدّ من ملاحظة أدلّتها لیظهر حال هذا الشرط.

فنقول: أمّا قوله صلی الله علیه و آله و سلم:

«إذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم»

ص:293


1- (1) - راجع وسائل الشیعة 158:1، کتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحدیث 1 و 2 و 5 و 6.
2- (2) - تقدّم فی الجزء الأوّل: 255.

فدلالته علی ذلک تتوقّف علی أن یکون المراد منه: إذا أمرتکم بطبیعة لها أفراد و مصادیق فأتوا من تلک الطبیعة - أی من أفرادها - ما یکون مستطاعاً لکم، و حینئذٍ فالفرد المستطاع أیضاً فرد للطبیعة صادق علیه عنوانها کالصلاة و الوضوء و نحوهما. و حینئذٍ فلو لم یکن عنوانها صادقاً علی الفاقد للأجزاء المعسورة لا یمکن إثبات وجوبه بهذا الحدیث، لأنّه لا بدّ أن یکون مصداقاً لها، غایة الأمر أنّه مصداق ناقص و المعسور فرد کامل.

و أمّا بناءً علی ما استظهرنا من الحدیث من کون المراد منه هو الإتیان بالطبیعة المأمور بها زمان الاستطاعة و القدرة، فلا یستفاد منه هذا الشرط، کما هو واضح.

و أمّا قوله علیه السلام:

«المیسور لا یسقط بالمعسور»، ففیه احتمالات أربعة:

أحدها: أن یکون المراد: المیسور من أفراد الطبیعة المأمور بها لا یسقط بالمعسور.

ثانیها: أن یکون المراد: المیسور من أجزاء الطبیعة المأمور بها لا یسقط بالمعسور من تلک الأجزاء.

ثالثها: أن یکون المراد: المیسور من أفراد الطبیعة المأمور بها لا یسقط بالمعسور من أجزائها.

رابعها: عکس الثالث و هو: أنّ المیسور من أجزاء الطبیعة المرکّبة المأمور بها لا یسقط بالمعسور من أفرادها.

و دلالة هذا الحدیث علی الشرط المذکور مبنیّة علی الاحتمال الأوّل و الثالث، و أمّا بناءً علی الاحتمال الثانی و الرابع فلا دلالة له علی ذلک. و لا یخفی أنّه لیس فی البین ما یرجّح أحد الاحتمالین بعد سقوط الاحتمال الثالث و الرابع، لکونهما مخالفاً للظاهر، و القدر المتیقّن هی صورة وجدان الشرط و کون

ص:294

الباقی صادقاً علیه أنّه میسور المأمور به، کما هو غیر خفی.

و أمّا قوله علیه السلام:

«ما لا یدرک کلّه لا یترک کلّه» فیحتمل أن یکون المراد به أنّ المرکّب الذی لا یدرک کلّه لا یترک ذلک المرکّب بکلّیته، و معناه حینئذٍ لزوم الإتیان بالمرکّب الناقص بعد تعذّر درک التامّ.

و یحتمل أن یکون المراد به أنّ المرکّب الذی لا یدرک کلّه لا یترک کلّ ذلک المرکّب؛ أی لا یترک کلّ جزء من أجزائه. فعلی الأوّل یدلّ علی کون الباقی لا بدّ و أن یکون مصداقاً للطبیعة المأمور بها، و علی الثانی لا دلالة له علی ذلک، و الظاهر هو المعنی الثانی.

المرجع فی تعیین المیسور

ثمّ إنّ المرجع فی تعیین المیسور هل هو العرف أو الشرع؟ وجهان مبنیّان علی أنّ المراد من قوله علیه السلام:

«المیسور لا یسقط بالمعسور»، هل هو أنّ المیسور من المصلحة الکائنة فی الطبیعة المأمور بها لا یسقط بالمعسور منها، أو أنّ المراد أنّ المیسور من نفس الطبیعة المأمور بها لا یسقط بالمعسور منها؟

فعلی الأوّل یکون المرجع هو الشرع، لعدم اطّلاع العرف علی قیام الباقی المقدور ببعض المصلحة، لاحتماله أن تکون المصلحة متقوّمة بالمجموع، و علی الثانی یکون المرجع هو العرف، کما هو واضح. و هذا هو الظاهر.

و حینئذٍ فکلّ مورد حکم العرف فیه بأنّ الباقی فی المقدور میسور للطبیعة المأمور بها یحکم فیه بلزوم الإتیان به.

ص:295

و دعوی: أنّ ذلک مستلزم لتخصیصٍ کثیر، بل الخارج منه أکثر من الباقی بمراتب.

مدفوعة: بمنع استلزامه لتخصیص الأکثر، کیف و قد حکموا به فی مثل الصلاة و الوضوء و الحجّ و نظائرها، و کثیر من الموارد التی لم یجروا فیها القاعدة فإنّما هو لخروجها عنها موضوعاً کالصوم مثلاً، فإنّ عدم حکمهم بوجوب الصوم علی من قدر علی الصیام بمقدار لا یبلغ مجموع النهار - مثلاً - إنّما هو لکون الصوم أمراً بسیطاً لا یکون له أجزاء، و مورد القاعدة إنّما هو المرکّبات، کما هو واضح، هذا.

و لکنّ الخطب سهل بعد ما عرفت من ضعف أسناد الروایات الثلاث التی هی مدرک للقاعدة و عرفت(1) أیضاً أنّه لا جابر لضعفها، فتدبّر.

ص:296


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 283.

خاتمة

اشارة

فی شرائط الاُصول

حسن الاحتیاط مطلقاً

اعلم أنّه لا یعتبر فی حسن الاحتیاط عقلاً شیء زائد علی تحقّق موضوعه و عنوانه.

نعم هنا إشکالات لا بدّ من التعرّض لها و الجواب عنها.

بعضها یرجع إلی مطلق الاحتیاط و لو کان فی الشبهات البدویّة.

و بعضها إلی الاحتیاط فی خصوص الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی.

و بعضها إلی الاحتیاط فیما إذا قامت الحجّة المعتبرة علی خلافه.

أمّا الإشکال الراجع إلی مطلق الاحتیاط، فهو أنّ الاحتیاط یعتبر فیه أن یکون الإتیان بالعمل بانبعاث من بعث المولی، و لیس الاحتیاط عبارة عن مجرّد الإتیان بالعمل مطلقاً، لعدم صدق الإطاعة مع عدم الانبعاث، لأنّ حقیقة الطاعة أن تکون إرادة العبد تبعاً لإرادة المولی بانبعاثه عن بعثه و تحرّکه عن تحریکه، و هذا یتوقّف علی العلم بتعلّق البعث و التحریک نحو العمل، و لا یمکن الانبعاث بلا توسیط البعث الواصل إلی المکلّف.

ص:297

و حینئذٍ فمع کون الأمر مجهولاً للمکلّف لا یعقل أن ینبعث منه، و بدون تحقّق الانبعاث لا یتحقّق الإطاعة، و احتمال الأمر و إن کان محرّکاً باعثاً، إلاّ أنّه لا یکفی؛ لأنّه لا بدّ من کون الانبعاث مسبّباً عن نفس بعث المولی و تحریکه، و الاحتمال یغایر البعث الواقعی.

و دعوی: أنّ الانبعاث إنّما هو عن الأمر المحتمل لا احتمال الأمر.

مدفوعة: بأنّ الانبعاث عن الأمر المحتمل مستحیل، لأنّه لا بدّ من إحراز ذلک و إحراز وجود الأمر لا یجتمع مع توصیفه بکونه محتملاً، فمع الاحتمال لا یکون الأمر بمحرزٍ، و مع إحرازه لا یکون الأمر محتملاً، فلا یعقل الانبعاث عن الأمر بوصف کونه محتملاً، هذا.

و یمکن توسعة دائرة هذا الإشکال بالقول بأنّ الانبعاث لا یکون عن البعث و لو فی موارد العلم بالبعث، لأنّ المحرّک و الباعث لیس هو البعث بوجوده الواقعی، و إلّا لکان اللازم ثبوت الملازمة بینهما و عدم انفکاک أحدهما عن الآخر، مع أنّ الضرورة قاضیة بخلافه؛ لأنّه کثیراً ما لا یتحقّق الانبعاث مع تحقّق البعث فی الواقع و نفس الأمر، و کثیراً ما ینبعث المکلّف مع عدم وجود البعث فی الواقع، فهذا دلیل علی أنّ المحرّک و الباعث لیس هو نفس البعث، بل الصورة الذهنیة الحاکیة عنه باعتقاد المکلّف، فوجود البعث و عدمه سواء.

و هذا لا یختصّ بالبعث، بل یجری فی جمیع أفعال الإنسان و حرکاته، ضرورة أنّ المؤثّر فی الإخافة و الفرار لیس هو الأسد بوجوده الواقعی، بل صورته الذهنیة المعلومة بالذات المنکشفة لدی النفس. و لا فرق فی تأثیرها بین کونها حاکیة عن الواقع واقعاً و بین عدم کونها کذلک؛ لعدم الفرق فی حصول

ص:298

الخوف بین العالم بوجود الأسد الغیر الموجود، و بین العالم بوجود الأسد الموجود.

و بعبارة اخری: لا فرق بین العالم و بین الجاهل بالجهل المرکّب، و لو کان المؤثّر هو الأسد بوجود الواقعی لکان اللازم عدم تحقّق الخوف بالنسبة إلی الجاهل، مع أنّ الوجدان یشهد بخلافه.

فانقدح ممّا ذکر: أنّ الانبعاث عن بعث المولی لا یتوقّف علی وجوده فی الواقع، بل یتحقّق فی صورة الجهل المرکّب به. و السرّ أنّ الانبعاث إنّما هو عن البعث بصورته الذهنیة المعلومة بالذات، و إلّا یلزم عدم انفکاک الانبعاث عن البعث، فلا یتحقّق الانبعاث بدونه، و لا البعث بدون الانبعاث، و لازمه عدم تحقّق العصیان أصلاً، کما لا یخفی.

و حینئذٍ: یظهر عدم إمکان تحقّق الإطاعة أصلاً و لو فی صورة العلم بعد کون المعتبر فی حقیقتها هو کون الانبعاث مستنداً إلی نفس البعث بوجوده الواقعی.

و یمکن تصویر ذلک بصورة البرهان بنحو الشکل الأوّل الذی هو بدیهی الانتاج بأن یقال: إنّ الإطاعة هو الانبعاث ببعث المولی، و لا شیء من الانبعاث ببعث المولی بممکن التحقّق، ینتج: فلا شیء من الإطاعة بممکن.

و الجواب عن هذا الإشکال أوّلاً: أنّه لا یعتبر فی تحقّق الإطاعة بنظر العرف و العقلاء إلاّ وجود البعث و العلم به، فإذا تحقّق البعث و صار موجوداً واقعاً و علم به المکلّف بتوسّط صورته الذهنیة ففعل بداعی ذلک یتحقّق حینئذٍ عنوان الإطاعة.

و دعوی: أنّ الانبعاث لم یکن مسبّباً عن البعث، مدفوعة: بأنّ الصورة

ص:299

الذهنیّة حیث کانت کاشفة عن الواقع و حاکیة له یکون الانبعاث معها مستنداً إلی الواقع، و هی وسیلة إلی النیل به و الوصول إلیه، فالباعث فی الحقیقة هو نفس البعث لا الصورة الذهنیّة. کیف و هذه الصورة مغفولة عنها غیر متوجّه إلیها، لأنّ العالم بالبعث لا یری إلاّ نفس البعث، و لا یتوجّه إلی صورته المعلومة بالذات أصلاً، کما لا یخفی.

و ثانیاً: أنّ المراد بکون الإطاعة هو الانبعاث ببعث المولی، هل هو لزوم کون الانبعاث مستنداً إلی البعث من دون واسطة، أو لزوم کون الانبعاث مستنداً إلیه و لو بالعرض؟ فعلی الأوّل نمنع الصغری، لعدم الدلیل علی کون الإطاعة عبارة عن الانبعاث عن البعث بالذات، و علی الثانی نمنع الکبری، لوضوح إمکان الانبعاث ببعث المولی بالعرض، بل قد عرفت أنّه فی صورة العلم دائماً یکون الانبعاث مستنداً إلی البعث تبعاً.

و ثالثا: أنّ ما ذکر فی الإشکال مبنی علی لزوم عنوان الإطاعة، مع أنّه لا دلیل علیه. و الإطاعة المأمور بها فی قوله تعالی: «أَطِیعُوا اللّهَ...» (1) إلی آخره لیس المراد بها إلاّ مجرّد الموافقة و عدم المخالفة، و الدلیل علیه أنّ إطاعة الرسول و اولی الأمر لا بدّ و أن یکون المراد منها ذلک، کما لا یخفی. فاتّحاد السیاق یقضی بکون المراد من إطاعة اللّه أیضاً لیس إلاّ مجرّد الموافقة فتدبّر.

هذا کلّه فی الإشکال علی مطلق الاحتیاط.

و أمّا الإشکال الذی یختصّ بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی، فتارة من جهة التکرار، و اخری من أجل اعتبار قصد القربة و الوجه و نظائرهما فی العبادة.

ص:300


1- (1) - النساء (4):58.

أمّا من الجهة الاُولی فمحصّله: أنّ تکرار العبادة مع إمکان تحصیل العلم التفصیلی یعدّ لعباً بأمر المولی، و اللعب و العبث ینافی العبودیّة التی هی غایة الفعل العبادی، بل نقول: إنّ حصول اللعب بالتکرار لا یختصّ بالعبادة، بل یجری فی غیرها.

أ لا تری أنّه لو علم عبد بأنّ المولی طلب منه شیئاً مردّداً بین امور مختلفة و کان قادراً علی تحصیل العلم التفصیلی بمطلوب المولی، و لکن اکتفی بالامتثال الإجمالی، فأحضر عدّة من العلماء و عملة المولی و جماعة من الصنوف المختلفة یعدّ لاعباً بأمر المولی و أنّه فی مقام الاستهزاء و السخریّة.

فیستفاد منه أنّ التکرار لعب بأمر المولی فلا یجوز.

و الجواب أمّا أوّلاً: أنّ المدّعی هو کون التکرار مطلقاً لعباً بأمر المولی، و هو لا یثبت بکونه لعباً فی بعض الموارد کما فی مثل المثال، لأنّ کثیراً من موارد التکرار لا یکون فیه لعب أصلاً.

أ لا تری أنّه لو کان له ثوبان أحدهما طاهر و الآخر نجس، و کان قادراً علی غسل أحدهما، و لکن کان ذلک متوقّفاً علی تحمّل مشقّة و صرف وقت کثیر، فصلّی فیهما معاً هل یعدّ هذا الشخص لاعباً و لاغیاً؟ و کذا لو دار الواجب فی یوم الجمعة بین الظهر و صلاة الجمعة و کان قادراً علی السؤال عن الفقیه - مثلاً - لکن کان له محذور عرفی فی السؤال إمّا من ناحیته، أو من ناحیة الفقیه، فجمع بینهما هل یعدّ لاعباً؟ کلاّ. و بالجملة فالمدّعی لا یثبت بما ذکره.

و أمّا ثانیاً: لو فرض کون التکرار لعباً و عبثاً، لکن نقول: إنّ المعتبر فی صحّة العبادة أن یکون أصل الإتیان بها بداعی تعلّق الأمر بها من المولی، و أمّا الخصوصیات الخارجة عن حقیقة العبادة کالمکان و الزمان و نحوهما فی مثل

ص:301

الصلاة فلا یعتبر أن یکون الإتیان بها بداعی الأمر، بل لا وجه له بعد کونها خارجة عن متعلّق الأمر. کیف و لو اعتبر الاخلاص فیها یلزم عدم صحّة شیء من العبادات، کما هو واضح. هذا مع أنّ التکرار لا یکون من الخصوصیّات أصلاً، ضرورة أنّ الإتیان بالصلاة فی ثوبین لا یکون شیء من الصلاتین من خصوصیات الصلاة الاُخری ککونها واقعة فی مکان کذا أو زمان کذا، بل کلّ منهما أمر مستقلّ، کما لا یخفی.

و بالجملة: فالمراد بکون التکرار لعباً إن کان هو اللعب بأمر المولی فنمنع ذلک جدّاً؛ لأنّه لیس لعباً إلاّ فی کیفیّة الإطاعة، و إن کان هو اللعب و لو فی خصوصیّات العمل، فنمنع کون هذا اللعب مؤثّراً فی البطلان.

و أمّا من الجهة الثانیة فمحصّله: أنّه یعتبر فی العبادة قصد القربة و الوجه و التمییز و الجزم بالنیّة، و لا یتحقّق ذلک إلاّ مع العلم التفصیلی بالمأمور به.

و الجواب - مضافاً إلی منع توقّف قصد القربة و الوجه و التمییز علی العلم التفصیلی، بل یتحقّق فی الامتثال الإجمالی أیضاً بداهةً. نعم الجزم بالنیّة لا یتحقّق إلاّ مع العلم التفصیلی - أنّه لا دلیل علی اعتبار ذلک فی العبادة، لعدم الدلیل علیه لا عقلاً و لا شرعاً.

أمّا عقلاً فواضح، و أمّا شرعاً فلخلوّ النصوص عن الدلالة علی اعتبارها، و من الواضح أنّ الأمر بالشیء لا یقتضی إلاّ مجرّد الإتیان به فی الخارج، فإطلاق دلیل الأمر دلیل علی العدم، بناءً علی ما حقّقنا فی مباحث الألفاظ من إمکان أخذ ذلک کلّه فی متعلّق الأمر، و علی تقدیر القول بعدم الإمکان فحیث إنّه لا سبیل للعقل إلی تشخیص کونها معتبرة، بل اللازم أن یبیّنه الشارع، و المفروض عدم دلیل شرعی علی اعتبارها، فلا وجه للقول به.

ص:302

نعم قد یستدلّ بالإجماع علی ذلک، کما ادّعاه السیّد الرضی(1) علی بطلان صلاة من صلّی و لا یعلم أحکامها، کما أنّه قد ادّعی الإجماع علی بطلان عبادة تارک طریقی الاجتهاد و التقلید و الأخذ بالاحتیاط، و لکن کلّ ذلک ممّا لم یثبت.

نعم القدر المتیقّن أنّه یعتبر فی صحّة العبادة أن لا یکون الداعی لها أمراً دنیویاً بل أمراً مرتبطاً باللّه جلّ شأنه، و الزائد علی ذلک مشکوک مورد لجریان البراءة علی ما عرفت سابقاً(2) من أنّ مقتضی التحقیق هو جریان البراءة فی الأقلّ و الأکثر.

و الفرق بین نیّة الوجه و بین سائر الشروط من حیث جریان البراءة کما ذکره الشیخ فی الرسالة(3) ممّا لا یتمّ. کما أنّ دعوی کون المقام من صغریات مسألة التعیین و التخییر لا مسألة الأقلّ و الأکثر ممنوعة جدّاً.

و بالجملة: فالظاهر صحّة عبادة المحتاط، هذا کلّه فی الإشکال فی الاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی.

و أمّا الإشکال الراجع إلی الاحتیاط فیما إذا کان علی خلافه حجّة شرعیّة، فهو ما ذکره المحقّق النائینی علی ما فی التقریرات، و محصّله: أنّه یعتبر فی حسن الاحتیاط إذا کان علی خلافه حجّة شرعیّة أن یعمل المکلّف أوّلاً بمؤدّی الحجّة، ثمّ یعقّبه بالعمل علی خلاف ما اقتضته الحجّة إحرازاً للواقع، و لیس للمکلّف أن یعمل بالعکس إلاّ إذا لم یستلزم الاحتیاط استئناف

ص:303


1- (1) - انظر ذکری الشیعة 325:4، فرائد الاُصول 508:2.
2- (2) - تقدّم فی الصفحة 176 و 195.
3- (3) - فرائد الاُصول 507:2.

جملة العمل و تکراره. و السرّ فی ذلک أنّ معنی اعتبار الطریق إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملاً و عدم الاعتناء به، و العمل أوّلاً برعایة احتمال مخالفة الطریق للواقع ینافی إلقاء احتمال الخلاف، فإنّ ذلک عین الاعتناء باحتمال الخلاف، و هذا بخلاف ما إذا قدّم العمل بمؤدّی الطریق، فإنّه حیث قد أدّی المکلّف ما هو الوظیفة و عمل بما یقتضیه الطریق فالعقل یستقلّ بحسن الاحتیاط لرعایة إصابة الواقع، هذا مضافاً إلی أنّه یعتبر فی حسن الطاعة الاحتمالیّة عدم التمکّن من الطاعة التفصیلیّة، و بعد قیام الطریق المعتبر یکون المکلّف متمکّناً من الامتثال التفصیلی بمؤدّی الطریق، فلا یحسن منه الامتثال الاحتمالی(1) ، انتهی.

و یرد علیه أوّلاً: أنّ معنی حجّیة الأمارة و اعتبارها لیس إلاّ مجرّد وجوب العمل علی طبقها و ترتیب آثار الواقع علیها فی مقام العمل، و أمّا دلالة دلیل الحجّیة علی لزوم إلقاء احتمال الخلاف فلم نعرف لها وجهاً. و بالجملة:

فحجّیة الأمارة معناها مجرّد عدم جواز ترک العمل بها و هذا لا ینافی الإتیان علی طبق الاحتمال المخالف من باب الاحتیاط، کما هو واضح.

و ثانیاً: أنّ تقدّم رتبة الامتثال التفصیلی علی الامتثال الاحتمالی ممنوع، بل الظاهر کونهما فی عرض واحد و رتبة واحدة، فمع التمکّن مع تحصیل العلم یجوز له الاقتصار علی الامتثال الاحتمالی. و السرّ أنّه لا یعتبر فی تحقّق الإطاعة أزید من الإتیان بالمأمور به مع جمیع القیود المعتبرة فیه و لو بداعی احتمال الأمر، و لا فرق بینهما فی نظر العقل أصلاً.

ص:304


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 265:4.

فانقدح من جمیع ما ذکرنا: أنّه لا یعتبر فی حسن الاحتیاط شیء زائد علی تحقّق موضوعه و هو احتمال التکلیف. هذا کلّه فی الاحتیاط.

اعتبار الفحص فی جریان البراءة

اشارة

و أمّا أصالة البراءة فیعتبر فی جریانها فی الشبهات الحکمیة الفحص.

و الکلام فیه تارة: یقع فی أصل اعتبار الفحص و وجوبه، و اخری: فی مقداره، و ثالثة: فیما یترتّب علی العمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة و الأحکام.

أمّا الکلام فی أصل اعتبار الفحص و وجوبه فقد یقع فی البراءة العقلیّة و قد یقع فی البراءة الشرعیّة.

ادلّة وجوب الفحص

أمّا البراءة العقلیّة التی مدرکها قبح العقاب بلا بیان و المؤاخذة بلا برهان فلا إشکال فی اعتبار الفحص فیها، لأنّها متفرّعة علی عدم البیان، و المراد به و إن کان هو البیان الواصل إلی المکلّف جزماً، إلاّ أنّ مناط الوصول لیس هو أن یُعلم المولی کلّ واحد من المکلّفین بحیث یسمعه کلّ واحد منهم، بل وصوله یختلف حسب اختلاف الموالی و العبید.

فالمولی المقنّن للقوانین العامّة الثابتة علی جمیع المکلّفین یکون إیصاله للأحکام من الأوامر و النواهی إنّما هو بإرسال الرسل و إنزال الکتب ثمّ الأحادیث المرویّة عن أنبیائه و أوصیائهم المحفوظة فی الکتب التی بأیدی المکلّفین، بحیث یتمکّن کلّ واحد منهم من المراجعة إلیها و الاطّلاع علی

ص:305

أحکام اللّه جلّ شأنه. و حینئذٍ: فالملاک فی تحقّق البیان الذی لا یقبح العقاب و المؤاخذة معه هو أنّ أمر اللّه تعالی رسوله بتبلیغه و قد بلّغه الرسول علی نحو المتعارف و صار مضبوطاً فی الکتب المعدّة له، و مع فقدان أحد هذه الشروط یصدق عدم البیان و یقبح العقاب معه. و حینئذٍ فمع احتمال المکلّف ثبوت التکلیف المبیّن الواصل بحیث لو فحص لظفر به لا یجوز الاعتماد علی البراءة التی مدرکها قبح العقاب بلا بیان، کما أنّ العبد العرفی لو وصل إلیه مکتوب من ناحیة مولاه و احتمل أن یکون المکتوب متضمّناً لبعض التکالیف لا یجوز له القعود عنه بعد عدم المراجعة إلیه استناداً إلی أنّ المولی لم یبیّن حکمه، و لا یکون مثل هذا العبد معذوراً عند العقلاء جزماً، کما هو غیر خفی.

ثمّ إنّه قد یستشکل فی وجوب الفحص و عدم جریان البراءة قبله بأنّ الحکم ما لم یتّصف بوصف المعلومیّة لا یکون باعثاً و محرِّکاً، ضرورة أنّ البعث بوجوده الواقعی لا یصلح للمحرّکیة، و إلّا لکان اللازم تحقّق الانبعاث بالنسبة إلی الجاهل به المعتقد عدمه، بل قد عرفت سابقاً(1) أنّه لا یعقل أن یکون الانبعاث مسبّباً عن البعث الواقعی، بل الانبعاث دائماً مسبّب عن البعث بوجوده العلمی الذی هی الصورة الذهنیة الکاشفة عنه، و الأوامر إنّما تتّصف بالباعثیّة و المحرّکیة بالعرض، کما أنّ اتّصافها بوصف المعلومیة أیضاً کذلک، ضرورة أنّ المعلوم بالذات، إنّما هی نفس الصورة الحاضرة عند النفس، کما حقّق فی محلّه.

ص:306


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 298.

و بالجملة: فالبعث الواقعی لا یکون باعثاً ما لم یصر مکشوفاً، و الکاشف عنه إنّما هو العلم و نحوه. و أمّا الاحتمال فلا یعقل أن یکون کاشفاً، و إلّا لکان اللازم أن یکشف عن طرفی الوجود و العدم، کما هو واضح. فمع الاحتمال لا یکون البعث الواقعی باعثاً و محرّکاً، و بدون الباعثیّة لا یمکن أن یکون منجّزاً، و مع عدم التنجّز لا وجه لاستحقاق العقوبة علی مخالفته، و هذا بلا فرق بین کون المکلّف قادراً علی الفحص و عدمه.

و یرد علیه أوّلاً: النقض بما إذا قامت الحجّة المعتبرة من قبل المولی علی ثبوت التکلیف و فرض عدم إفادتها الظنّ، بل کان التکلیف مع قیام الأمارة أیضاً مشکوکاً أو مظنون الخلاف، فإنّه یجری فیه هذا الإشکال، و مقتضاه حینئذٍ عدم ثبوت العقاب علی مخالفته علی تقدیر ثبوته فی الواقع، مع أنّه واضح البطلان، و إلّا یلزم لغویّة اعتبار الأمارة، کما هو واضح، مضافاً إلی أنّه لا یلتزم به المستشکل أیضاً.

و ثانیاً: الحلّ بأنّه لا نسلّم أن یکون المنجّزیّة متفرّعة علی الباعثیّة، لأنّ المنجّزیة الراجعة إلی صحّة عقوبة المولی علی المخالفة و العصیان حکم عقلی، و قد عرفت أنّ العقل یحکم بعدم المعذوریّة و بصحّة العقوبة لو بیّن المولی التکلیف بنحو المتعارف، بحیث کان العبد متمکّناً من الاطّلاع علیه بالمراجعة إلی مظانّ ثبوته و لم یراجع، فخالف اعتماداً علی البراءة کما عرفت فی مثال المکتوب الواصل من المولی إلی العبد و یحتمل اشتماله علی بعض التکالیف، و الظاهر أنّ هذا من الوضوح بمکان، فلا موقع لهذا الإشکال.

ثمّ إنّه قد یقرّر وجوب الفحص بوجه آخر، و محصّله: أنّ ارتکاب التحریم قبل الفحص و المراجعة إلی مظانّ ثبوته ظلم علی المولی، و الظلم خصوصاً

ص:307

علی المولی قبیح محرّم، فلو اقتحم فی المشتبه قبل الفحص یستحقّ العقوبة لأجل الظلم علی المولی، کما أنّه فی موارد التجرّی یستحقّ العقوبة علیه و إن کان لا یستحقّ العقوبة علی مخالفة الواقع فی المقامین.

و یرد علیه: أنّ تحقّق عنوان الظلم فی المقام لیس إلاّ من جهة احتمال حصول المخالفة بالاقتحام فی المشتبه، ضرورة أنّه مع العلم بعدم وجود التکلیف فی البین لا یکون مجرّد ترک الفحص من مصادیق ذلک العنوان، فترک الفحص و ارتکاب محتمل التحریم إنّما یکون ظلماً لأجل احتمال تحقّق المخالفة التی هی قبیحة موجبة لاستحقاق العقوبة.

و حینئذٍ نقول: بعد جریان حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان و لو قبل ترک الفحص - کما هو المفروض - لا یبقی مجال لاحتمال تحقّق المخالفة القبیحة أصلاً و مع انتفاء هذا الاحتمال یخرج المقام عن تحت عنوان الظلم علی المولی، کما هو واضح.

و من هنا یظهر الفرق بین المقام و بین مسألة التجرّی: فإنّ الموضوع للحکم بالقبح و الحرمة هناک علی تقدیر ثبوته إنّما هو نفس عنوان التجرّی، الراجع إلی الطغیان علی المولی و الخروج عن رسم الرقیّة و العبودیّة، و هذا لا یتوقّف تحقّقه علی ثبوت التکلیف، بل یصدق علی کلا التقدیرین، بخلاف المقام.

فإنّ تحقّق عنوان الظلم یتوقّف علی عدم حکم العقل بقبح العقاب و لو قبل الفحص، و المفروض حکمه بذلک مطلقاً، فتدبّر، هذا.

و قد یقرّر حکم العقل بوجوب الفحص بوجه ثالث و هو: أنّ کلّ من التفت إلی المبدإ و الشریعة یعلم إجمالاً بثبوت أحکام فیها، و مقتضی العلم الإجمالی هو الفحص عن تلک الأحکام.

ص:308

و لا یخفی ضعف هذا الوجه، لأنّ الکلام إنّما هو فی شرائط جریان أصل البراءة بعد کون المورد المفروض مجری لها، و قد عرفت أنّ مجریها هو الشکّ فی أصل التکلیف و عدم العلم به لا إجمالاً و لا تفصیلاً. فلو فرض ثبوت العلم الإجمالی یخرج المورد عن مجریها، فالتمسّک لاعتبار وجوب الفحص فی جریانها بالعلم الإجمالی لا یبقی له موقع أصلاً، کما هو أظهر من أن یخفی. و لکن حیث إنّه وقع مورداً للنقض و الإبرام بین الأعلام فلا مانع من التعرّض لحاله بما یسعه المقام، فنقول:

قد نوقش فی الاستدلال بالعلم الإجمالی لوجوب الفحص تارةً: بأنّه أخصّ من المدّعی، لأنّ المدّعی هو وجوب الفحص و الاستعلام فی کلّ مسألة تعمّ بها البلوی، و هذا الاستدلال إنّما یوجب الفحص قبل استعلام جملة من الأحکام بمقدار یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیه، لانحلال العلم الإجمالی بذلک.

و اخری: بأنّه أعمّ من المدّعی، لأنّ المدّعی هو الفحص عن الأحکام فی خصوص ما بأیدینا من الکتب، و المعلوم بالإجمال معنی أعمّ من ذلک، لأنّ متعلّق العلم هی الأحکام الثابتة فی الشریعة واقعاً، لا خصوص ما بأیدینا، و الفحص فیما بأیدینا من الکتب لا یرفع أثر العلم الإجمالی، بل العلم باق علی حاله و لو بعد الفحص التامّ عمّا بأیدینا، هذا.

و أجاب المحقّق النائینی قدس سره - علی ما فی التقریرات - عن المناقشة الاُولی بأنّ استعلام مقدار من الأحکام یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیها لا یوجب انحلال العلم الإجمالی، لأنّ متعلّق العلم تارة: یتردّد من أوّل الأمر بین الأقلّ و الأکثر، کما لو علم بأنّ فی هذا القطیع من الغنم موطوء و تردّد بین کونه عشرة أو

ص:309

عشرین. و اخری: یکون المتعلّق عنواناً لیس بنفسه مردّداً بین الأقلّ و الأکثر من أوّل الأمر، بل المعلوم بالإجمال هو العنوان بما له فی الواقع من الأفراد، کما لو علم بموطوئیّة البیض من هذا القطیع و تردّدت البیض بین کونها عشراً أو عشرین، ففی الأوّل ینحلّ العلم الإجمالی، و فی الثانی لا ینحلّ، بل لا بدّ من الفحص التامّ عن کلّ ما یحتمل انطباق العنوان المعلوم بالإجمال علیه، لأنّ العلم الإجمالی یوجب تنجیز متعلّقه بما له من العنوان.

ففی المثال: العلم الإجمالی تعلّق بعنوان البیض بما له من الأفراد فی الواقع، فکلّ ما کان من أفراد البیض واقعاً قد تنجّز التکلیف به، و لازم ذلک هو الاجتناب عن کلّ ما یحتمل کونه من أفراد البیض، و المقام من هذا القبیل، لأنّ المعلوم بالإجمال هی الأحکام الموجودة فیما بأیدینا من الکتب، فقد تنجّزت بسبب هذا العلم الإجمالی جمیع الأحکام المثبتة فی الکتب، و لازم ذلک هو الفحص التامّ عن جمیع الکتب التی بأیدینا، و لا ینحلّ العلم الإجمالی باستعلام جملة من الأحکام یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیها.

أ لا تری أنّه لیس للمکلّف الأخذ بالأقل لو علم باشتغال ذمّته لزید بما فی الطومار و تردّد ما فی الطومار بین الأقلّ و الأکثر، بل لا بدّ له من الفحص التامّ فی جمیع صفحات الطومار، کما علیه بناء العرف و العقلاء، و ما نحن فیه یکون بعینه من هذا القبیل.

و عن المناقشة الثانیة بأنّه و إن علم إجمالاً بوجود أحکام فی الشریعة أعمّ ممّا بأیدینا من الکتب، إلاّ أنّه یعلم إجمالاً أیضاً بأنّ فیما بأیدینا من الکتب أدلّة مثبتة للأحکام مصادفة للواقع بمقدار یحتمل انطباق ما فی الشریعة علیها، فینحلّ العلم الإجمالی العامّ بالعلم الإجمالی الخاصّ، و یرتفع الإشکال بحذافیره

ص:310

و یتمّ الاستدلال لوجوب الفحص، فتدبّر جیّداً(1) ، انتهی.

و یرد علیه أوّلاً: أنّ ما ذکره من الفرق فی الانحلال و عدمه بین ما لو کان متعلّق العلم الإجمالی بنفسه مردّداً بین الأقلّ و الأکثر، و بین ما کان عنواناً لیس مردّداً بینهما من أوّل الأمر إنّما یتمّ لو کان متعلّق العلم الإجمالی فی القسم الثانی نسبته إلی المعنون کنسبة المحصِّل إلی المحصَّل، و أمّا لو لم یکن من هذا القبیل کما فی المثال الذی ذکره فلا وجه لعدم الانحلال، لانحلال التکلیف إلی التکالیف المتعدّدة المستقلّة حسب تعدّد المعنونات و تکثّرها، و حینئذٍ فلا یبقی فرق بین القسمین.

و ثانیاً: لو قطع النظر عن ذلک نقول: إنّ تعلّق العلم الإجمالی بعنوان یوجب تنجیز متعلّقه إذا کان متعلّقه موضوعاً للحکم الشرعی، و أمّا إذا لم یکن ممّا یترتّب علیه الحکم فی الشریعة فلا أثر له بالنسبة إلیه، کما فی المثال الذی ذکره. فإنّ الموضوع للحکم بالحرمة و وجوب نفی البلد - مثلاً - إنّما هو الحیوان الموطوء بما أنّه موطوء، و أمّا کونه أبیض أو أسود فلا دخل له فی ترتّب الحکم و حینئذٍ فالعلم الإجمالی بموطوئیّة البیض من هذا القطیع لا یؤثّر إلاّ بالنسبة إلی ما علم کونه موطوءاً، لکونه الموضوع للأثر الشرعی.

و کذا المقام، فإنّا إنّما نکون مأخوذین بالأحکام الواقعیة الثابتة فی الشریعة، و أمّا عنوان کونها مضبوطة فی الکتب التی بأیدینا فهو ممّا لا ارتباط له بذلک أصلاً، کما هو واضح.

و من المعلوم أنّ العلم الإجمالی بتلک الأحکام الثابتة فی الشریعة یکون

ص:311


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 279:4-280.

من أوّل الأمر متردّداً بین الأقلّ و الأکثر، کما أنّ فی مثال البیض یکون العلم الإجمالی بالعنوان الموضوع للحکم الشرعی مردّداً بین الأقلّ و الأکثر بنفسه و من أوّل الأمر.

و حینئذٍ نقول: لو صحّ ما ادّعاه من أنّ تعلّق العلم الإجمالی بعنوانٍ یوجب التنجّز بالنسبة إلی جمیع الأفراد الواقعیة لذلک العنوان یصیر القسم الأوّل أیضاً کالقسم الثانی فی عدم الانحلال، بل أولی منه، لأنّ العنوان فیه یکون متعلّقاً للحکم الشرعی بخلاف القسم الثانی.

و ثالثا: أنّ ما أجاب به عن المناقشة الثانیة لا یتمّ بناءً علی مذهبه من أنّ المقام من قبیل القسم الثانی من العلم الإجمالی، لأنّ العلم الإجمالی العامّ تعلّق بعنوان «ما فی الکتب» أعمّ من الکتب التی بأیدینا أو بعنوان «ما فی الشریعة»، و قد فرض أنّ تعلّقه به یوجب تنجّزه بجمیع أفراده الواقعیة، و لا یعرض له الانحلال و إن تردّد بین الأقلّ و الأکثر، کما هو غیر خفی.

ثمّ إنّ مثال الطومار الذی ذکره لا یکون مرتبطاً بالمقام، لأنّ وجوب الفحص التامّ فی جمیع صفحات الطومار لیس من آثار العلم الإجمالی باشتغال ذمّتة لزید، بل یجب الفحص فیها و لو بدون العلم الإجمالی و کون الشبهة بدویّة، کما سیأتی أنّ هذا المحقّق یلتزم بوجوب الفحص فی مثل المثال و لو مع عدم العلم الإجمالی، فتدبّر جیّداً.

ثمّ إنّه أجاب المحقّق العراقی قدس سره - علی ما فی التقریر - عن المناقشة الاُولی المتقدّمة بأنّها إنّما تتّجه لو کان متعلّق العلم الإجمالی مطلقاً أو کان مقیّداً بالظفر به علی تقدیر الفحص، و لکن کان تقریب العلم الإجمالی هو کونه بمقدار من الأحکام علی وجه لو تفحّص و لو فی مقدار من المسائل لظفر به.

ص:312

و أمّا لو کان تقریبه بما ذکرناه من العلم بمقدار من الأحکام فی مجموع من المسائل المحرّرة علی وجه لو تفحّص فی کلّ مسألة تکون مظانّ وجود محتملة لظفر به. فلا یرد إشکال، فإنّه علی هذا التقریب یترتّب علیه النتیجة المزبورة، و هی عدم جواز الرجوع إلی البراءة قبل الفحص، و لا یجدی فی رفع أثر العلم مجرّد الظفر بمقدار المعلوم بالإجمال فی جملة من المسائل لیکون الشکّ بدویاً فی البقیّة، کما أنّه یترتّب علیه جواز الرجوع إلی البراءة فی کلّ مسألة بعد الفحص و عدم الظفر فیها بالدلیل علی التکلیف، فإنّه بمقتضی التقیید المزبور یستکشف من عدم الظفر بالدلیل فیها عن خروجها عن دائرة المعلوم بالإجمال من أوّل الأمر(1) ، انتهی.

و یرد علیه: أنّ تقریب العلم الإجمالی بالوجه الأوّل أو الثانی لیس أمراً موکولاً إلی اختیارنا حتّی لو قرّبناه علی الوجه الثانی ترتّب علیه النتیجة و اندفع الإشکال و المناقشة، بل لا بدّ من ملاحظة الواقع و أنّ العلم الإجمالی الحاصل لمن التفت إلی المبدأ و الشریعة هل هو علی النحو الأوّل أو الثانی.

و حینئذٍ نقول: إنّ المراجعة إلی الوجدان تشهد بکونه إنّما هو علی النحو الأوّل بل نقول: إنّ لازم تقریبه بالنحو الثانی هو العلم بوجود حکم إلزامی فی کلّ مسألة، ضرورة أنّه مع عدم هذا العلم لا یبقی مجال لوجوب الفحص بعد الظفر بمقدار یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیه.

و من الواضح أنّه لا یمکن هذه الدعوی الراجعة إلی ثبوت حکم إلزامی فی کلّ مسألة، کما لا یخفی.

ص:313


1- (1) - نهایة الأفکار 471:3-472.

و کیف کان: فالعمدة ما ذکرنا فی مقام الجواب عن الاستدلال لوجوب الفحص بالعلم الإجمالی و أنّه خروج عن فرض کون المورد مجری للبراءة، فتدبّر.

و الصحیح الاستدلال لذلک بحکم العقل بوجوب الفحص و عدم حکمه بقبح العقاب قبل المراجعة إلی مظانّ ثبوت التکلیف و بیانه، و مع ذلک لا مجال لدعوی الإجماع القطعی علی وجوبه، ضرورة أنّه علی تقدیر ثبوته لا یکون حجّة بعد قوّة احتمال أن یکون مستند المجمعین هو هذا الحکم العقلی الضروری، کما أنّ التمسّک بالکتاب و السنّة لذلک نظراً إلی اشتمالهما علی الأمر بالتفقّه و التعلّم و نظائرهما ممّا لا یخلو من مناقشة، لأنّه من البعید أن یکون المقصود منهما هو بیان حکم تأسیسی تعبّدی، بل الظاهر أنّها إرشاد إلی حکم العقل بذلک.

فالدلیل فی المقام ینحصر فی حکم العقل بعدم جواز القعود عن تکالیف المولی اعتماداً علی البراءة قبل الرجوع إلی مظانّ ثبوته، هذا فی الشبهة الحکمیة.

و أمّا الشبهة الموضوعیة فعلی تقدیر جریان البراءة العقلیّة فیها - کما هو الحقّ و المحقّق - فهل یجب فیها الفحص مطلقاً، أو لا یجب مطلقاً، أو یفصّل بین ما إذا توقّف امتثال التکلیف غالباً علی الفحص - کما إذا کان موضوع التکلیف من الموضوعات التی لا یحصل العلم بها إلاّ بالفحص عنه کالاستطاعة فی الحجّ و النصاب فی الزکاة - فیجب الفحص، و بین غیره فلا یجب، أو یفصّل بین ما إذا کان تحصیل العلم غیر متوقّف إلاّ علی مجرّد النظر فی المقدّمات الحاصلة، فیجب، و بین غیره، فلا یجب؟ وجوه بل أقوال.

ص:314

و الظاهر هو وجوب الفحص مطلقاً؛ لأنّ العقل الحاکم بجریان البراءة العقلیّة فیها الراجعة إلی قبح العقاب من قبل المولی قبل ثبوت الوظیفة بإحراز الصغری و الکبری معاً، لا یحکم بذلک إلاّ بعد الفحص و الیأس عن إحراز الصغری، و الدلیل علی ذلک مراجعة العقلاء فی امورهم. أ لا تری أنّه لو أمر المولی عبده بإکرام ضیفه و تردّد بین کون زید ضیفه أم غیره، و کان قادراً علی السؤال عن المولی و العلم بذلک هل یکون معذوراً فی المخالفة مع عدم الإکرام؟ کلاّ، فاللازم بحکم العقل، الفحص و التتبّع فی الشبهات الموضوعیّة أیضاً.

هذا کلّه فیما یتعلّق بأصل اعتبار الفحص.

فی بیان مقدار الفحص

و أمّا مقداره فالظاهر أنّه یجب إلی حدّ الیأس عن الظفر بالدلیل، و هو یتحقّق بالمراجعة إلی المحالّ التی یذکر فیها أدلّة الحکم غالباً، و لا یجب التفحّص فی جمیع الأبواب و إن کان قد یتّفق ذکر دلیل مسألة فی ضمن مسألة اخری لمناسبة، إلاّ أنّ ذلک لندوره لا یوجب الفحص فی جمیع المسائل لأجل الاطّلاع علی دلیل مسألة منها، کما لا یخفی.

ص:315

ص:316

التعادل و الترجیح

و قبل الورود فی المقصد لا بدّ من ذکر فصول:

اشارة

ص:317

ص:318

الفصل الأوّل

اشارة

عدم تعارض العامّ و الخاصّ

لا إشکال فی أنّ البحث عن التعادل و الترجیح من أهم المباحث الاُصولیّة، بل هو العمدة العلیا و المطلب الأقصی، کما لا یخفی.

اختصاص الکلام فی هذا الباب بتعارض الأخبار

و موضوعه هو الدلیلان المتعارضان مطلقاً من غیر اختصاص بخصوص الأخبار المتعارضة، لکن حیث کانت الأخبار أهمّ الأدلّة فی باب الفقه مضافاً إلی أنّ الروایات الدالّة علی الترجیح واردة فی خصوص الخبرین المتعارضین، فلذا اختصّ الکلام بخصوص تعارض الروایتین و بیان المرجّحات المنصوصة و غیرها. فلا بدّ أوّلاً من بیان ما به یتحقّق التعارض ثمّ النظر فی المرجّحات.

فنقول: الروایات الواردة فی باب الترجیح إذا لاحظتها بعد التتبّع تعرف أنّه قد اخذ فی موضوع بعضها عنوان التعارض کالمقبولة الآتیة(1) و فی موضوع

ص:319


1- (1) - یأتی تخریجه فی الصفحة 338.

أکثرها عنوان الاختلاف. و الظاهر أنّه لا فرق بینهما عند العرف الذی یکون هو المرجع فی تشخیص مثل هذه الاُمور الواقعة فی موضوعات الأحکام.

فکما أنّ تشخیص الماء و الخمر و الکلب و غیرها من العناوین المأخوذة فی الموضوعات راجع إلی العرف و لا مدخلیة للشارع بما هو شارع فیها، فکذلک تشخیص عنوان التعارض و الاختلاف الواقع بین الدلیلین أو الأدلّة راجع إلیه أیضاً، لعدم الفرق بین الموارد أصلاً.

نعم یقع الکلام فی تعیین مورد التشخیص و أنّه فی أیّ مورد یحکم بالتعارض فنقول: لا خفاء فی أنّ السالبة الکلّیة تناقض الموجبة الجزئیّة، و کذا فی أنّ الموجبة الکلّیة تناقض السالبة الجزئیة، و قد بیّن ذلک فی علم المیزان، و مع ذلک نری أنّ العرف لا یحکم بالتناقض بینهما فی بعض الموارد. أ لا تری أنّ العرف و العقلاء لا یحکم بتعارض الخاصّ و العامّ، مع أنّ أمرهما غالباً لا یخلو عن السالبة الکلّیة و الموجبة الجزئیة أو العکس.

و الدلیل علی عدم حکمهم بتعارضهما - مضافاً إلی الوجدان - اشتمال القرآن علی مثل ذلک مع تصریحه بعدم الاختلاف فیه، و أنّه «لَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً» (1) و لو کان مثل ذلک من قبیل الدلیلین المتعارضین عند العقلاء لما کان لاعتصامهم بحبل القرآن مع اشتماله علی ذلک مجال أصلاً، کما هو أوضح من أن یخفی، هذا.

و لکن الظاهر أنّ الحکم بعدم تعارضهما لیس مطلقاً و فی جمیع الموارد، لأنّا نراهم أیضاً یحکمون بالمعارضة فیما لو وقعا فی کلام متکلّم عادی، أو فی تصنیف

ص:320


1- (1) - النساء (4):81.

مصنّف کذلک، فإنّه لو وقع فی مورد من الرسالة العملیّة لفقیه: أنّه یجب الوفاء بجمیع العقود مثلاً، و فی مورد آخر منها: أنّه لا یجب الوفاء بالعقد الربوی، یرون التعارض بینهما، مع أنّهم لا یرونه بالنسبة إلی القرآن الدالّ علی ذلک بقوله تعالی: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (1) و قوله تعالی: «وَ حَرَّمَ الرِّبا» (2)

. و السرّ فی ذلک مغایرة محیط التقنین و جعل الأحکام الکلّیة و القوانین العامّة لمحیط غیره، کما هو الشأن فی القوانین الموضوعة عند العقلاء، فإنّ بنائهم أوّلاً علی جعل القانون علی سبیل العموم ثمّ تخصیص بعض الموارد بعنوان التبصرة و غیره مثلاً.

و مرجع ذلک إلی أنّ أصالة العموم بالنسبة إلی العموم القانونی لا تبلغ من القوّة حدّ مثلها الجاری فی غیر العموم القانونی، فإنّه فی غیره یعتمد علیها من دون لزوم فحص عن مخصّص، بل قد عرفت(3) أنّه علی تقدیر ثبوت المخصّص لا یرونه إلاّ معارضاً له یعملون معهما معاملة المتعارضین، و هذا بخلاف أصالة العموم الجاریة فی العمومات القانونیة، فإنّها ضعیفة غیر جاریة قبل الفحص عن المخصّص، و بعد الفحص أیضاً مع الظفر به، لکونه مقدّماً علیه عندهم و لا یکون معارضاً له.

ص:321


1- (1) - المائدة (5):1.
2- (2) - البقرة (2):275.
3- (3) - تقدّم فی الجزء الأوّل: 302.
الکلام فی وجه تقدّم الخاصّ علی العامّ
اشارة

فانقدح: أنّ الوجه فی تقدّم الخاصّ علی العامّ هو اختلاف المحیطین و تغایرهما و أنّ عدم تعارضهما إنّما هو فی خصوص محیط التقنین دون غیره.

ثمّ إنّ ما ذکرنا إنّما هو فی غیر ما إذا کان الخاصّ قطعیّاً من حیث السند و الدلالة معاً، و أمّا لو کان کذلک لا یبقی معه مجال لجریان أصالة العموم فی العامّ، ضرورة أنّ مورده الشکّ و عدم العلم بالتخصیص و مع العلم به لا یبقی لها مورد، کما لا یخفی.

ثمّ إنّه قد ذکر فی وجه تقدیم الخاصّ علی العامّ وجوه اخر لا بأس بذکرها و ما یرد علیها:

کلام الشیخ الأنصاری و ما یرد علیه

أحدها: ما أفاده الشیخ قدس سره فی رسائله حیث قال بعد تفسیر الورود و الحکومة و الفرق بین الحکومة و التخصیص ما ملخّصه: إنّ ما ذکرنا من الورود و الحکومة جارٍ فی الاُصول اللفظیة أیضاً، فإنّ أصالة الحقیقة أو العموم معتبرة إذا لم یعلم هناک قرینة علی المجاز فإن کان المخصّص دلیلاً علمیاً کان وارداً علی الأصل المذکور، و إن کان ظنّیاً معتبراً کان حاکماً علی الأصل، لأنّ معنی حجّیة الظنّ جعل احتمال مخالفة مؤدّاه للواقع بمنزلة العدم فی عدم ترتّب ما کان یترتّب علیه من الأثر لو لا حجّیة هذه الأمارة، و هو وجوب العمل بالعموم عند وجود المخصّص و عدمه، فعدم العبرة باحتمال عدم التخصیص إلغاء للعمل بالعموم، فثبت أنّ النصّ وارد علی أصالة الحقیقة إذا کان قطعیّاً من جمیع

ص:322

الجهات و حاکم علیه إذا کان ظنّیاً فی الجملة کالخاصّ الظنّی السند مثلاً، و یحتمل أن یکون الظنّ أیضاً وارداً بناءً علی کون العمل بالظاهر عرفاً و شرعاً معلّقاً علی عدم التعبّد بالتخصیص، فحالها حال الاُصول العقلیّة، فتأمّل. هذا علی تقدیر کون أصالة الظهور من حیث أصالة عدم القرینة.

و أمّا إذا کان من جهة الظنّ النوعی الحاصل بإرادة الحقیقة الحاصل من الغلبة أو غیرها فالظاهر أنّ النصّ وارد علیه مطلقاً و إن کان النصّ ظنّیاً، لأنّ الظاهر أنّ دلیل حجّیة هذا الظنّ مقیّد بصورة عدم وجود ظنّ معتبر علی خلافه، فإذا وجد ارتفع موضوع ذلک الدلیل، و یشهد له أنّا لم نجد و لا نجد من أنفسنا مورداً یقدّم فیه العامّ من حیث هو علی الخاصّ و إن فرض کونه أضعف الظنون المعتبرة. نعم لو فرض الخاصّ ظاهراً خرج عن النصّ و صار من باب تعارض الظاهرین، فربّما یقدّم العامّ (1) ، انتهی.

و فیه مواقع للنظر:

منها: أنّ الحکم بورود النصّ علی أصالة الحقیقة إذا کان قطعیّاً من جمیع الجهات خلاف ما جری علیه الاصطلاح، بل الظاهر أنّ مفاده خارج عن أصالة الظهور بالتخصّص، لأنّ ورود أحد الدلیلین علی الآخر إنّما یکون بمعونة التعبّد بأحدهما، و النصّ القطعی السند لا یحتاج إلی التعبّد، بل الورود إنّما هو فی مثل تقدّم الأمارات علی أصل البراءة - مثلاً - بناءً علی أن یکون المراد ب

«ما لا یعلمون» فی حدیث الرفع هو مطلق ما لا حجّة فیه، لا خصوص ما لا علم به، کما اخترناه سابقاً فی مبحث البراءة، فإنّه حینئذٍ یکون قیام الأمارة المعتبرة شرعاً رافعاً لموضوع الأصل لأجل کونها حجّة شرعیّة، کما لا یخفی.

ص:323


1- (1) - فرائد الاُصول 751:2-752.

و منها: أنّ ما أفاده علی سبیل الاحتمال و أمر فی ذیله بالتأمل و هو مشعر ببطلانه من أن یکون الظنّ وارداً علی أصالة الظهور - بناءً علی کون العمل بالظاهر معلّقاً علی عدم التعبّد بالتخصیص - حقّ لا محیص عنه، فإنّه لو کان مستند أصالة الظهور هی أصالة عدم القرینة - کما هو المفروض - یکون التعبّد بالظنّ و اعتباره تعبّداً بوجود القرینة، و مع وجودها بحکم التعبّد یکون الظنّ وارداً علیها قطعاً، لخروج مؤدّاه عنها بمعونة التعبّد بوجود القرینة، کما هو غیر خفی.

و منها: أنّ الحکم بورود النصّ الظنّی علی أصالة الظهور التی مستندها الظنّ النوعی بإرادته الحاصل من الغلبة أو من غیرها، لکون دلیل حجّیة هذا الظنّ مقیّد بصورة عدم وجود ظنّ معتبر علی خلافه، غیر تامّ؛ لأنّ الطرفین حینئذٍ ثابتان ببناء العقلاء، ضرورة أنّ حجّیة الظواهر لا مستند لها إلاّ بناء العقلاء، کما أنّه المستند الفرد لاعتبار خبر الواحد - بناءً علی ما هو التحقیق علی ما مرّ فی بحث خبر الواحد - و لا معنی لورود أحدهما علی الآخر، کما أنّه لا معنی لحکومة الثانی علی الأوّل بناءً علی کون أصالة الظهور من حیث أصالة عدم القرینة علی ما صرّح به فی أوّل کلامه، لأنّ الحکومة و الورود من أحوال الدلیل اللفظی کما اعترف به فی تفسیر الحکومة حیث قال: ضابطها أن یکون أحد الدلیلین بمدلوله اللفظی متعرّضاً لحال الدلیل الآخر... إلی آخره(1)

. و أمّا ما استشهد به لما أفاده من أنّا لم نجد و لا نجد من أنفسنا مورداً یقدّم فیه العامّ علی الخاصّ... إلی آخره، فغایة ذلک هو تقدّم الخاص علی العامّ.

ص:324


1- (1) - فرائد الاُصول 750:2.

و أمّا کون الوجه فی ذلک ما أفاده فلا دلالة علی ذلک، بل نحن ندّعی أنّ الوجه فی ذلک ما ذکرناه من اختلاف محیط جعل القانون لغیره.

و منها: أنّ الحکم بتعارضهما لو کان الخاصّ ظاهراً و بأنّه ربّما یقدّم العامّ حینئذٍ خلاف ما علیه بناء العقلاء، فإنّه لم یوجد مورد یقدّم فیه العامّ علی الخاصّ و إن کان ظاهراً، فلا محیص حینئذٍ عمّا ذکرنا، فتأمّل جیّداً.

کلام المحقّق الخراسانی و نقده

ثانیها: ما أفاده المحقّق الخراسانی قدس سره من أنّ الوجه فی تقدّم الخاصّ علی العامّ و المقیّد علی المطلق هو کون أحدهما قرینة علی التصرّف فی الآخر، لکونه النصّ أو الأظهر و الآخر ظاهر دائماً، و بناء العرف علی کون النصّ أو الأظهر قرینة علی التصرّف فی الظاهر، و بهذا ترتفع المعارضة من بینهما و إن کانت متنافیة بحسب مدلولاتها، لعدم تنافیهما فی الدلالة و فی مقام الإثبات بحیث تبقی أبناء المحاورة متحیّرة، و لا فرق فی ذلک بین أن یکون السند فیهما قطعیّاً أو ظنّیاً أو مختلفاً، فیقدّم النصّ أو الأظهر و إن کان بحسب السند ظنّیاً علی الظاهر و إن کان بحسبه قطعیّاً(1) ، انتهی.

و یرد علیه: أنّه لو فرض کون العامّ و الخاصّ من قبیل: أکرم کلّ عالم و أهن کلّ عالم فاسق، فلا ترجیح لظهور أحدهما علی الآخر، ضرورة أنّ دلالة کلّ منهما علی الوجوب إنّما هو لأجل صیغة الأمر الظاهرة فی الوجوب، کما أنّ دلالة کلّ منهما علی العموم إنّما هو لأجل الإتیان بکلمة «کلّ» الظاهرة فی

ص:325


1- (1) - کفایة الاُصول: 498.

العموم حسب ما مرّ فی مبحثه(1) و مدخولها فی کلّ منهما هو المشتقّ الموضوع بالوضع العامّ و الموضوع له کذلک. و من المعلوم أنّه لا یکون لمجموع الجملة وضع آخر ما عدا وضع مفرداتها، و علی تقدیره لا فرق بین الجملتین، کما هو واضح.

و دعوی: أنّ الأظهریّة إنّما هی باعتبار أنّ دلالة کلّ عالم علی أفراده الفاسقین أضعف من دلالة کلّ فاسق منهم علی تلک الأفراد، لأنّ الدلالة الاُولی إنّما هی الدلالة بالعرض، و الثانیة إنّما هی بالذّات، و من المعلوم أظهریّتها بالنسبة إلی الاُولی، کما لا یخفی.

مدفوعة: بمنع دلالة العامّ علی الأفراد بخصوصیّاتها، بل امتناعها، ضرورة أنّ شموله لمثل زید و عمرو و بکر و غیرهم من أفراد العلماء إنّما هو لأجل کونهم عالمین، لا لأجل تشخّصهم بتلک الخصوصیات، کما أنّ دلالة کلّ فاسق منهم علی الأفراد أیضاً کذلک.

نعم تبقی دعوی الاختلاف فی الانطباق، لأنّ انطباق العامّ علی أفراد الخاصّ لیس بمثابة انطباق الخاصّ علی أفراده.

و لکنّه یرد علیها: أنّ الانطباق أمر لا ربط له بمقام الدلالة و الإثبات و الظهور و أخواه من حالات الدلالة، کما هو واضح. فانقدح أنّ التحلیل یقضی بعدم استلزام الخاصّ لکونه نصّاً أو أظهر، بل ربّما یتساوی الظهوران، بل قد یکون ظهوره أضعف من ظهور العامّ، و من المعلوم الذی لا یشوبه ریب أنّ تقدیم الخاصّ علی العامّ عند العرف و العقلاء لا یکون دائراً مدار قوّة ظهوره، بل لا بدّ من الالتزام بما ذکرنا، فتدبّر جیّداً.

ص:326


1- (1) - تقدّم فی الجزء الأوّل: 263-264.
کلام المحقّق الحائری و ما یرد علیه

ثالثها: ما أفاده شیخنا المحقّق الحائری قدس سره فی کتاب الدرر و إن رجع عنه فی مجلس الدرس علی ما حکاه سیّدنا الاُستاذ دام بقاءه، و محصّله: أنّ وجه تقدیم الخاصّ الظنّی من حیث السند علی العامّ أنّ دلیل اعتبار السند یجعل ظهور العموم فی الخاصّ بمنزلة معلوم الخلاف، فإنّ الأخذ بسند الخاصّ الذی لا احتمال فیه بعد الأخذ به سوی معناه الذی هو فی مقابل العامّ مرجعه إلی جعل هذا المضمون بمنزلة المعلوم، فتحصل غایة حجّیة الظواهر بنفس دلیل اعتبار السند، بخلاف دلیل حجّیة الظاهر، فإنّه لیس معناه ابتداءً جعل الغایة لحجّیة الخبر الواحد، بل مقتضاه ابتداءً هو العمل بالظاهر و کونه مراداً من العامّ.

نعم لازمه عدم صدور الخبر الدالّ علی خلافه من الإمام علیه السلام، لأنّ المفروض کونه نصّاً من جمیع الجهات، فدلیل حجّیة السند موضوعه محقّق فی رتبة تعلّقها به بخلاف دلیل حجّیة الظاهر، فإنّه یرد معه ما یرفع موضوع الحجّیة.

و بعبارة اخری دلیل حجّیة السند یرفع موضوع حجّیة الظاهر بنفس وجوده بخلاف العکس.

نعم دلیل حجّیة الظواهر یرفع موضوع حجّیة السند فی الرتبة المتأخّرة عن مجیء الحکم، ففی المرتبة الاُولی لا مانع من مجیء دلیل اعتبار السند لتحقّق موضوعه فی هذه الرتبة، و به یرتفع موضوع ذلک الدلیل(1) ، انتهی.

ص:327


1- (1) - درر الفوائد، المحقّق الحائری 639:2-640.

و یرد علیه:

أوّلاً: منع تقدّم سند الخاصّ علی دلالته، فضلاً عن ظهور غیره، ضرورة أنّ المراد بالتقدّم لا بدّ و أن یکون هو التقدّم الطبعی، ضرورة أنّ التقدّم المتصوّر هنا ما عدا التقدّم الطبعی هو التقدّم الذکری الراجع إلی التقدّم الزمانی. و من المعلوم أنّه لا یوجب الترجیح، و إلّا لکان اللازم تقدیم العامّ إذا کان صدوره سابقاً علی الخاصّ من حیث الزمان، مع أنّه لا فرق عند العرف و العقلاء فی تقدیم الخاصّ علی العامّ بین الموارد أصلاً. فالمراد بالتقدّم لا محالة هو التقدّم الطبعی، و دعواه فی المقام أیضاً ممنوعة، ضرورة أنّ الملاک فی التقدّم الطبعی هو کون المتقدّم علّة للمتأخّر أو جزء من أجزاء علّته، أو کان کتقدّم أجزاء الماهیّة علیها.

و من الواضح انتفاء ملاکه فی المقام، لعدم کون السند علّة للمتن، فضلاً عن دلالته و لا جزء علّة منه، فدعوی التقدّم الطبعی فی مثل ما نحن فیه تحکم صرف و باطلة محضة.

و ثانیاً: أنّه لو سلّم ذلک و أنّ السند متقدّم علی المتن بالتقدّم الطبعی الراجع إلی منشئیة المتقدّم للمتأخّر و کونه ناشئاً منه بحیث یصدق أنّه وجد فوجد، لکن لا نسلّم أنّ من آثاره أن یکون مجیء دلیل اعتباره أوّلاً قبل مجیء دلیل اعتبار الظاهر کما حقّقنا ذلک فی باب الشکّ السببی و المسبّبی من مبحث الاستصحاب و ذکرنا هناک أنّ العلّة فی جریان الاستصحاب فی الشکّ السببی لیس کونه متقدّماً فی الرتبة علی الشکّ المسبّبی لکونه ناشئاً منه، بل العلّة أمر آخر ذکرناه فی ذلک الباب مفصّلاً(1) و الفرض الآن الإشارة إلی عدم

ص:328


1- (1) - الاستصحاب، الإمام الخمینی قدس سره: 243-250.

اقتضاء التقدّم الرتبی لتقدّم مجیء دلیل اعتباره.

و ثالثا: أنّه لو سلّم جمیع ذلک و أنّ التقدّم الرتبی یقتضی التقدّم بحسب مجیء دلیل الاعتبار، لکن نقول: غایة ذلک هو تقدّم دلیل اعتبار السند علی دلیل اعتبار ظاهر متن ذلک السند، لا تقدّمه علی دلیل اعتبار ظاهر أمر آخر، و هو العامّ فی المقام، لأنّ ملاک التقدّم مفقود بالنسبة إلیه. و ما اشتهر من أنّ ما مع المتقدّم فی الرتبة یکون متقدّماً فی الرتبة، و ما مع المتأخّر فیها یکون متأخّراً فیها، فهو من الأغالیط المشهورة، لما مرّ غیر مرّة من أنّ التقدّم الرتبی یتقوّم بملاکه و هو کون المتقدّم علّة أو جزء علّة، و مجرّد تحقّق المعیّة مع المتقدّم لا یوجب اشتمال المصاحب علی ملاک التقدّم أیضاً، و کذا بالنسبة إلی المتأخّر.

فانقدح من جمیع ما ذکرنا: الخلل فیما أفاده، و لعلّه لما ذکرنا رجع عنه فی مجلس الدرس علی ما حکی.

کلام المحقّق النائینی و نقده

رابعها: ما أفاده المحقّق النائینی - علی ما فی التقریرات - من أنّ أصالة الظهور فی طرف الخاصّ تکون حاکمة علی أصالة الظهور فی طرف العامّ، لأنّ الخاصّ یکون بمنزلة القرینة علی التصرّف فی العامّ، کما یتّضح ذلک بفرض وقوعهما معاً فی مجلس واحد من متکلّم واحد، و لا یکاد یشکّ فی حکومة أصالة الظهور فی القرینة علی أصالة الظهور فی ذی القرینة و لو کان ظهور القرینة أضعف من ظهور ذیها، کما یظهر ذلک من قیاس ظهور «یرمی» فی قولک: «رأیت أسداً یرمی» فی رمی النبل علی ظهور «أسد» فی الحیوان

ص:329

المفترس، فإنّه لا إشکال فی کون ظهور «أسد» فی الحیوان المفترس أقوی من ظهور «یرمی» فی رمی النبل، لأنّه بالوضع، و ذلک بالإطلاق، و الظهور الوضعی أقوی من الظهور الإطلاقی، و مع ذلک لم یتأمل أحد فی تقدیمه علیه، و لیس ذلک إلاّ لأجل کونه قرینة علیه و أنّ أصالة الظهور فی القرینة حاکمة علی أصالة الظهور فی ذیها(1) ، انتهی.

و ما أفاده ینحلّ إلی دعویین:

إحداهما: دعوی کون الخاصّ قرینة علی العامّ ککون «یرمی» قرینة علی أنّ المراد من الأسد لیس هو الحیوان المفترس، بل الرجل الشجاع.

ثانیتهما: دعوی کون أصالة الظهور فی القرینة حاکمة علی أصالة الظهور فی ذی القرینة و لو کان ظهورها أضعف من ظهور ذیها.

و یرد علی الدعوی الثانیة: أنّه إن کان تقدیم أصالة الظهور فی القرینة علی أصالة الظهور فی ذیها لأجل الحکومة بعد تشخیص القرینة و تمیّزها عن ذیها کتشخیص أنّ القرینة فی المثال المذکور هو «یرمی» لا «الأسد»، حیث إنّه یحتمل أن تکون القرینة هو «الأسد» لا «یرمی»، لأنّه کما یحتمل أن یکون «یرمی» قرینة علی التصرّف فی «الأسد»، و أنّ المراد منه هو الرجل الشجاع، کذلک یحتمل أن یکون «الأسد» قرینة علی التصرّف فی «یرمی» و أنّ المراد منه هو الرمی بالمخلب لا بالنبل، بل هذا الاحتمال أقوی بملاحظة ما اعترف به من أنّ ظهور «یرمی» فی الرمی بالنبل إطلاقی، و ظهور «أسد» فی معناه ظهور وضعی.

ص:330


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 720:4-721.

و کیف کان: فإن کان التقدیم بعد إحراز القرینة، فمن المعلوم أنّه بعد تشخیصها عن غیرها لا تصل النوبة إلی تقدیم أحد الأصلین علی الآخر، بل یعلم بعدم کون الظهور فی طرف ذی القرینة مراداً أصلاً، و إن کان التقدیم قبل إحراز القرینة فمن الواضح أنّه لا مجال لهذا التقدیم إلاّ بالنسبة إلی ما کان ظهوره أقوی.

و من ذلک یظهر بطلان الدعوی الاُولی أیضاً و أنّ الخاصّ لا یکون قرینة علی العامّ أصلاً، بل تقدیمه علیه لأجل ما ذکرنا، لا لأجل کونه قرینة و کون الأصل فیها حاکماً علی الأصل فی ذیها.

تحقیق فی الاُصول اللفظیة

و مرجع ما ذکرنا إلی أنّ أصالة تطابق الإرادة الجدّیة و الإرادة الاستعمالیة التی لا بدّ من الرجوع إلیها لتشخیص مراد المتکلّم بعد الاطّلاع علی ظهور کلامه إنّما تجری بالنسبة إلی العامّ فیما إذا لم یکن صادراً علی سبیل القانون، أو فیما إذا کان کذلک لکن بعد الفحص عن المخصّص و الیأس عن الظفر به، و إلّا فلا تجری فی العموم القانونی، لبناء العرف و العقلاء علیه، و مرجع هذا الأصل إلی أصالة عدم الخطأ و الاشتباه الجاریة عند العقلاء فی أفعالهم و أقوالهم، و هو الأصل الوحید و الأمر الفرید لتشخیص مراد المتکلّم.

و أمّا أصالة العموم و أصالة الظهور و أصالة الحقیقة و أصالة عدم القرینة و غیرها من الاُصول المتداولة فی ألسنة الاُصولیین فمرجع جمیعها إلی أصالة عدم الخطأ و الاشتباه، و لیست اصولاً متعدّدة جاریة فی مجاری مختلفة،

ص:331

ضرورة أنّه إن کان المراد بأصالة الظهور هو کون المعنی الفلانی ظاهراً من اللفظ الفلانی، فمن المعلوم - مضافاً إلی أنّه لیس مرادهم منه ذلک - أنّه لا معنی لجعل أصل لتشخیص الظاهر عن غیره، و إن کان المراد بهما هو کون المعنی الظاهر مراداً للمتکلّم فهو راجع إلی أصالة الجدّ الراجعة إلی أصالة عدم الخطأ و الاشتباه، و کذا الحال فی غیرها من الاُصول.

ثمّ إنّ جریان هذا الأصل لا یختصّ بالاستعمالات الحقیقیّة، بل الظاهر جریانها فی الاستعمالات المجازیّة، فإنّه لو قال: «رأیت أسداً یرمی» یکون استکشاف مراده متوقّفاً علی إجراء أصالة عدم الخطأ و أنّ ذکر یرمی لا یکون من باب الاشتباه، بل له دخل فی إفادة المراد.

و من هنا یظهر: أنّ ما وقع فی عباراتهم من احتمال استناد أصالة الظهور إلی أصالة عدم القرینة فاسد جدّاً، ضرورة أنّه فی المثال تجری أصالة الظهور الراجعة إلی کون الظهور مراداً للمتکلّم.

غایة الأمر أنّ الظهور المنعقد إنّما هو الظهور الحاصل من مجموع الکلام المشتمل علی القرینة و ذیها، مع أنّه من الواضح أنّه لا مجال لجریان أصالة عدم القرینة، لأنّ المفروض اشتمال الکلام علیها، فافهم و اغتنم.

ص:332

الفصل الثانی

اشارة

عدم شمول أخبار العلاج للعامّ و الخاصّ

قد عرفت(1) أنّ الروایات الواردة فی علاج الأخبار المتعارضة مشتملة علی التعرّض لحکم عنوانین:

أحدهما: عنوان المتعارضین، کما وقع فی بعضها.

ثانیهما: عنوان الخبرین المختلفین. کما ورد فی أکثرها.

و عرفت أیضاً أنّ اللازم فی تشخیص موضوع التعارض و الاختلاف الرجوع إلی العرف الذی هو المحکّم فی مثل ذلک، و أنّ العرف لا یری العامّ و الخاصّ متعارضین فیما إذا وقعا فی محیط التقنین و بیان الأحکام علی سبیل العموم أوّلاً، ثمّ بیان دائرة المراد الجدّی و أنّها أضیق من المراد الاستعمالی.

فالروایات الواردة فی علاج المتعارضین من الخبرین لا یشمل العامّ و الخاصّ من رأس؛ لعدم التعارض الراجع إلی التحیّر فی مقام استکشاف المراد، هذا.

حول کلام المحقّق الخراسانی و العلّامة الحائری

و یظهر المخالفة فیما ذکرنا من المحقّقین العلمین الخراسانی و الحائری 0 فی کتابی الکفایة و الدرر.

قال فی الأوّل - بعد توجیه قول المشهور بما یرجع إلی ما ذکرنا -: و یشکل

ص:333


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 319-320.

بأنّ مساعدة العرف علی الجمع و التوفیق و ارتکازه فی أذهانهم علی وجه وثیق لا یوجب اختصاص السؤالات بغیر موارد الجمع، لصحّة السؤال بملاحظة التحیّر فی الحال، لأجل ما یتراءی من المعارضة و إن کان یزول عرفاً بحسب المآل، أو للتحیّر فی الحکم واقعاً و إن لم یتحیّر فیه ظاهراً، و هو کاف فی صحّته قطعاً، مع إمکان أن یکون لاحتمال الردع شرعاً عن هذه الطریقة المتعارفة بین أبناء المحاورة، و جلّ العناوین المأخوذة فی الأسئلة لو لا کلّها یعمّها، کما لا یخفی(1)

. و قال فی الثانی ما یقرب من ذلک، حیث ذکر: أنّ المرتکزات العرفیّة لا یلزم أن تکون مشروحة و مفصّلة عند کلّ أحد حتّی یری السائل فی هذه الأخبار عدم احتیاجه إلی السؤال عن حکم العامّ و الخاصّ المنفصل و أمثاله، إذ ربّ نزاع بین العلماء یقع فی الأحکام العرفیّة، مع أنّهم من أهل العرف، سلّمنا التفات کلّ الناس إلی هذا الحکم حتّی لا یحتمل عدم التفات السائلین فی تلک الأخبار، فمن الممکن السؤال أیضاً، لاحتمال عدم إمضاء الشارع هذه الطریقة، و علی هذا یجب أن یؤخذ بإطلاق الأخبار.

و قد أیّد ما أفاده بروایتین:

إحداهما:

ما ورد فی روایة الحمیری عن الحجّة - صلوات اللّه و سلامه علیه - من قوله علیه السلام فی جواب مکاتبته: «فی ذلک حدیثان، أمّا أحدهما: فإذا انتقل من حالة إلی اخری فعلیه التکبیر، و أمّا الآخر: فإنّه روی أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانیة و کبّر ثمّ جلس ثمّ قام فلیس علیه فی القیام بعد

ص:334


1- (1) - کفایة الاُصول: 511.

القعود تکبیر، و کذلک التشهّد الأوّل یجری هذا المجری، و بأیّهما أخذت من باب التسلیم کان صواباً» (1) ، فإنّه علیه السلام أمر بجواز الأخذ بکلّ من الخبرین، مع أنّ الثانی أخصّ مطلقاً من الأوّل.

ثانیتهما:

روایة علی بن مهزیار قال: قرأت فی کتاب لعبد اللّه بن محمّد إلی أبی الحسن علیه السلام: اختلف أصحابنا فی روایاتهم عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی رکعتی الفجر فی السفر، فروی بعضهم: صلّها فی المحمل. و روی بعضهم: لا تصلّها إلاّ علی الأرض؟

فوقّع علیه السلام: «موسّع علیک بأیّة عملت» (2). فإنّه علیه السلام أمر بجواز الأخذ لکلّ من الخبرین، مع أنّهما من قبیل النصّ و الظاهر، لأنّ الاُولی نصّ فی الجواز، و الثانیة ظاهرة فی عدمه، لإمکان حملها علی أنّ إیقاعها علی الأرض أفضل، مع أنّه علیه السلام أمر بالتخییر(3) ، انتهی.

و یرد علیهما: أنّ التحیّر الابتدائی الزائل بمجرّد التأمّل و التوجّه الثانوی لا یوجب السؤال عن حکم العامّ و الخاصّ، خصوصاً بعد عدم کون السؤال عن خصوص مورد تکون النسبة فیه بین الدلیلین الواردین فیه العموم و الخصوص، بل کان السؤال عن مطلق الخبرین المتعارضین المنصرف هذا العنوان إلی ما یکون متعارضاً عند عامّة الناس و عرف أهل السوق.

ص:335


1- (1) - الاحتجاج 596:2، وسائل الشیعة 121:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 39.
2- (2) - تهذیب الأحکام: 583/228:3، وسائل الشیعة 122:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 44.
3- (3) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 679-680.

و بالجملة: لا یکون مورد السؤال هو خصوص مصداق من مصادیق العامّ و الخاصّ حتّی یوجّه بأنّ المرتکزات العرفیّة لا یلزم أن تکون مشروحة و مفصّلة عند کل أحد... إلی آخره، بل مورده هو کلّ مورد یصدق علیه عنوان المتعارضین أو المختلفین، و لا بدّ من حمل ذلک علی ما یراه العرف کذلک. و من المعلوم کما اعترفا به أنّ العامّ و الخاصّ لا یکون عند العرف کذلک.

و أمّا السؤال بملاحظة التحیّر فی الحکم الواقعی فهو و إن کان أمراً معقولاً، إلاّ أنّه إنّما یمکن فیما إذا کان مورد السؤال هو خصوص مورد یکون تعارض دلیلیه من هذا القبیل.

و أمّا السؤال عن الحکم الواقعی فی جمیع الموارد التی تکون کذلک فلا وجه له، کما أنّه لا یمکن الجواب عنه بما فی الروایات العلاجیّة، کما هو واضح، لأنّه لا یعقل بیان الحکم الواقعی فی جمیع الموارد بمثل ذلک.

و أمّا السؤال عن ذلک لاحتمال ردع الشارع عن الطریقة المستمرّة بین العقلاء الثابتة عندهم، فهو و إن کان سؤالاً تامّاً، إلاّ أنّه یغایر السؤال الواقع فی تلک الروایات، فإنّه لیس فی شیء منها الإشعار فضلاً عن الدلالة بأنّ المسئول عنه هو الردع أو عدمه، کما أنّ الروایتین اللتین أیّد بهما المحقّق الحائری ما أفاده لا ارتباط لهما بالمقام.

أمّا الروایة الاُولی، فمضافاً إلی ضعف سندها، لأنّه لم یثبت لنا إلی الحال حال مکاتبات الحمیری، نقول: لو کان موردها من مصادیق المتعارضین لما کان الجواب بأنّ کلاًّ منهما صواب، بصواب؛ فإنّه لا یعقل أن یکون کلّ من المتعارضین مطابقاً للواقع و منطبقاً علیه عنوان الصواب، فالحکم بجواز الأخذ بکلّ منهما الراجع إلی أنّ المکلّف مختار فی الفعل و الترک إنّما هو لأجل عدم

ص:336

وجوب التکبیر عند القیام بعد القعود من السجدة الثانیة، و کذلک التشهّد الأوّل، فمرجعه إلی ترجیح الخاصّ علی العامّ، فلیس فیها دلالة علی التخییر بین العامّ و الخاصّ لأجل کونهما من مصادیق المتعارضین.

و أمّا الروایة الثانیة فهی أیضاً لا تؤیّد ما رامه، لأنّ الحکم بالتوسعة فی العمل بأیّتهما، مرجعه إلی التخییر فی مقام العمل بین صلاة الرکعتین فی المحمل و بینها علی الأرض، و التخییر فی مقام العمل معناه نفی لزوم صلاتهما علی الأرض، و هو یرجع إلی ترجیح النصّ علی الظاهر، فلا دلالة فیها علی التخییر بین العامّ و الخاصّ لأجل کونهما من المتعارضین.

هذا مضافاً إلی أنّ الروایتین موهونتان من جهة أنّ السؤال عن الحکم الواقعی لا یلائمه الجواب بمثل ما ذکر فیهما، لأنّه لا یکون مورد السؤال هو مطلق الخبرین المتعارضین حتّی یلائمه الجواب بالتخییر، کما لا یخفی.

فانقدح من جمیع ما ذکرنا عدم کون العامّ و الخاصّ مشمولاً لأخبار العلاج وفاقاً للمشهور.

ص:337

الفصل الثالث

فی القاعدة المشهورة و هی:

أنّ الجمع بین الدلیلین مهما أمکن أولی من الطرح

و ظاهرها الإطلاق من حیث وجود المرجّح و عدمه، فیکون الجمع مع وجود المرجّح أولی من الترجیح و مع التعادل أولی من التخییر، و قد ادّعی علیها الإجماع.

قال الشیخ ابن أبی جمهور الأحسائی فی محکی عوالی اللآلی: إنّ کلّ حدیثین ظاهرهما التعارض یجب علیک أوّلاً البحث عن معناهما و کیفیّة دلالة ألفاظهما، فإن أمکنک التوفیق بینهما بالحمل علی جهات التأویل و الدلالات فأحرص علیه و اجتهد فی تحصیله، فإنّ العمل بالدلیلین مهما أمکن خیر من ترک أحدهما و تعطیله بإجماع العلماء، فإذا لم تتمکّن من ذلک و لم یظهر لک وجه فارجع إلی العمل بهذا الحدیث(1) ، انتهی.

و أشار بهذا إلی مقبولة عمر بن حنظلة(2). هذا، و لکن الظاهر أنّ مراده من الجمع بین الدلیلین هو الجمع العقلائی فی الموارد التی لا تکون الأدلّة فیها متعارضة کالعامّ و الخاصّ و المطلق و المقیّد، و الدلیل علی ذلک أمران:

أحدهما: دعواه الإجماع علی ذلک، مع أنّه لا إجماع فی غیر تلک الموارد

ص:338


1- (1) - عوالی اللآلی 136:4.
2- (2) - الکافی: 10/54:1، وسائل الشیعة 106:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 1.

لو لم نقل بثبوت الإجماع علی خلافه، من حیث إنّ علماء الإسلام من زمن الصحابة إلی یومنا هذا لم یزالوا یستعملون المرجّحات فی الأخبار المتعارضة بظواهرها، ثمّ اختیار أحدهما و طرح الآخر من دون تأویلهما معاً لأجل الجمع.

ثانیهما: الاستدلال علی هذه القاعدة بأنّ دلالة اللفظ علی تمام معناه أصلیّة، و علی جزئه تبعیّة، و علی تقدیر الجمع یلزم إهمال دلالة تبعیّة، و هو أولی ممّا یلزم علی تقدیر عدم الجمع و هو إهمال دلالة أصلیة. فإنّ هذا الدلیل یناسب مع ما إذا کان الجمع مستلزماً للتصرّف فی جزء مدلول الآخر، و هو یتحقّق بالنسبة إلی العامّ و الخاصّ، فإنّ الجمع بینهما یقتضی إهمال الدلالة التبعیّة الثابتة للعامّ، کما هو واضح.

و کیف کان: فإن کان المراد من القاعدة ما ذکرنا فلا بأس بها، لما عرفت(1) فی العامّ و الخاصّ.

و إن کان المراد منها ما هو ظاهرها من أنّ الجمع بین الدلیلین و لو کانا متعارضین عند العقلاء مهما أمکن و لو بالحمل علی جهات التأویل أولی من الطرح، فیرد علیها عدم الدلیل علی إثباته من إجماع أو غیره، کدعوی أنّ الأصل فی الدلیلین الإعمال، فیجب الجمع بینهما مهما أمکن، لاستحالة الترجیح من غیر مرجّح.

و قد فصّل الکلام فی هذا المقام الشیخ المحقّق الأنصاری قدس سره(2) فی الرسائل، بل أتعب نفسه الشریفة لإثبات عدم ثبوت مستند للقاعدة و إن کان

ص:339


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 319-321.
2- (2) - فرائد الاُصول 754:2-755.

لا یخلو بعض مواقع کلامه عن النظر، کدعواه أنّه لا إشکال و لا خلاف فی أنّه إذا وقع التعارض بین ظاهری مقطوعی الصدور کآیتین أو متواترین وجب تأویلهما و العمل بخلاف ظاهرهما، لأنّ القطع بصدورهما عن المعصوم قرینة صارفة لتأویل کلّ من الظاهرین.

فإنّه یرد علیه: أنّ القطع بالصدور لا یوجب التصرّف فی الظاهر، بمعنی أنّه لا ینحصر طریق دفع التعارض بذلک، بل یمکن التصرّف فی جهة صدور واحد منهما بدعوی عدم کونه صادراً لأجل بیان الحکم الواقعی، کما لا یخفی.

و بالجملة: فالقاعدة بالمعنی المذکور لم یدلّ علیه دلیل أصلاً.

ص:340

الفصل الرابع

کلام الشیخ فی الفرق بین النصّ و الظاهر و الأظهر و الظاهر

ثمّ إنّه یستفاد من الشیخ قدس سره(1) فی المقام الرابع المعقود لبیان المرجّحات من کتاب التعادل و الترجیح ثبوت الفرق بین النصّ و الظاهر و الأظهر و الظاهر من جهتین:

إحداهما: کون النصّ و الظاهر خارجاً عن موضوع الأخبار العلاجیّة التی موضوعها الخبران المتعارضان أو المختلفان، بمعنی عدم شمولها له موضوعاً، و أمّا الأظهر و الظاهر فهو خارج عنها حکماً، بمعنی شمول تلک الأخبار له، و لکن لا ینظر فیه إلی المرجّحات السندیّة، بل یقدّم الأظهر علی الظاهر الذی مرجعه إلی الجمع الدلالی.

ثانیتهما: أنّ تقدیم النصّ علی الظاهر ثابت مطلقاً و لا یکون مشروطاً بشرط، و هذا بخلاف تقدیم الأظهر علی الظاهر، فإنّه مشروط بکونه مقبولاً عند العقلاء مطبوعاً لدیهم، هذا.

و فی کلیهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ المراد بالتعارض الموجب لشمول أخبار العلاج للدلیلین إن کان هو التعارض الابتدائی فمن الواضح تحقّقه فی النصّ و الظاهر أیضاً، کما فی الأظهر و الظاهر، فلا وجه لدعوی خروجه عنها موضوعاً.

ص:341


1- (1) - فرائد الاُصول 788:2.

و إن کان هو التعارض المستقرّ الغیر الزائل بالتأمل و التوجّه فمن المعلوم عدم تحقّقه فی الأظهر و الظاهر أیضاً، فلا وجه لدعوی دخوله فیها موضوعاً، مع أنّه علی تقدیر دخوله فیها لا وجه لدعوی الخروج الحکمی، فإنّه لیس فی شیء من الأخبار العلاجیّة الإشعار بالجمع الدلالی و کونه متقدّماً علی إعمال المرجّحات السندیّة، کما هو واضح.

و أمّا الثانی: فلأنّ تقدیم النصّ علی الظاهر أیضاً مشروط بکونه مورداً لقبول العقلاء، أ لا تری أنّهم لا یقدّمون قوله: صلِّ فی الحمام - مثلاً - علی قوله: لا تصلِّ فی الحمام کذلک.

مع أنّ الأوّل نصّ فی الجواز، و الثانی ظاهر فی عدمه، بل یعاملون معهما معاملة المتعارضین، کما یظهر بالمراجعة إلیهم.

فانقدح من ذلک: عدم الفرق بین النصّ و الظاهر و الأظهر و الظاهر، و أنّه لا بدّ فی الحکم بتقدیم النصّ أو الأظهر من مساعدة العقلاء، ثمّ الحکم بالخروج من أخبار العلاج موضوعاً، و لیس فی البین خروج حکمی، بل الأمر یدور بین الدخول فی الموضوع و ترتّب الآثار المترتّبة علیه و خروجه عنه، کما عرفت.

ص:342

الفصل الخامس

اشارة

فی الموارد التی قیل أو یمکن أن یقال

باندراجها فی النصّ و الظاهر، أو فی الأظهر و الظاهر

و هی و إن کانت غیر منضبطة، لاختلافها باختلاف المقامات، إلاّ أنّه یمکن ضبط کلّیاتها غالباً، و حیث إنّ کلام المحقّق النائینی قدس سره فی هذا المقام أحسن و أشمل من حیث التعرّض لأکثر الموارد فنحن أیضاً نقتفی أثره و نتعرّض للموارد التی تعرّض لها مع ما أفاده فیها، و نضمّ إلیه ما عندنا من الإیراد علیه لو کان.

فی الموارد التی ادّعی اندراجها فی النصّ و الظاهر
اشارة

فنقول:

قال:

وجود قدر المتیقّن فی مقام التخاطب

من جملة الموارد المندرجة فی النصوصیّة: ما إذا کان لأحد الدلیلین قدر متیقّن فی مقام التخاطب، فإنّ القدر المتیقّن فی مقام التخاطب و إن کان لا ینفع فی مقام تقیید الإطلاق ما لم یصل إلی حدّ یوجب انصراف المطلق إلی المقیّد - کما تقدّم تفصیله فی مبحث المطلق و المقیّد - إلاّ أنّ وجود القدر المتیقّن ینفع فی مقام رفع التعارض عن الدلیلین، فإنّ الدلیل یکون کالنصّ فی القدر المتیقّن، فیصلح لأن یکون قرینة علی التصرّف فی الدلیل الآخر.

ص:343

مثلاً لو کان مفاد أحد الدلیلین وجوب إکرام العلماء، و کان مفاد الآخر حرمة إکرام الفسّاق، و علم من حال الآمر أنّه یبغض العالم الفاسق و یکرهه أشدّ کراهة من الفاسق الغیر العالم، فالعالم الفاسق متیقّن الاندراج فی عموم قوله: «لا تکرم الفسّاق» و یکون بمنزلة التصریح بحرمة إکرام العالم الفاسق، فلا بدّ من تخصیص قوله: «أکرم العلماء» بما عدا الفسّاق منهم(1) ، انتهی.

و یرد علیه:

أوّلاً: أنّ القدر المتیقّن الذی یوجب أن یکون الدلیل نصّاً بالنسبة إلیه هو ما یوجب الانصراف، و لیس له فردان، فرد موجب للانصراف، و فرد غیر موجب له و مع وجود الانصراف لا تعارض بین الدلیلین أصلاً، بل یصیران من قبیل العامّ و الخاصّ المطلق الذی عرفت(2) أنّه لا یصدق علیهما عنوان التعارض أصلاً.

و ثانیاً: أنّه علی تقدیر تسلیم کون القدر المتیقّن مطلقاً موجباً لصیرورة الدلیل نصّاً بالنسبة إلیه نقول: تخصیص ذلک بخصوص ما إذا کان هنا قدر متیقّن فی مقام التخاطب لا وجه له، فإنّ النصوصیّة علی تقدیرها ثابتة بالنسبة إلی مطلق القدر المتیقّن، سواء کان فی مقام التخاطب أو فی غیر هذا المقام.

و ثالثا - و هو العمدة فی الجواب -: أنّ المراد بالقدر المتیقّن إن کان هو المقدار الذی علم حکمه بحیث لم یکن فی الحکم المتعلّق به ریب و لا شبهة،

ص:344


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 728:4.
2- (2) - تقدّم فی الصفحة 319-321.

مثلاً علم فی المثال أنّ العالم الفاسق محرّم الإکرام، فمع وجود هذا العلم یتحقّق الانصراف بالنسبة إلی الدلیل الآخر الدالّ بظاهره علی وجوب إکرام العلماء عموماً، فإنّه مع العلم بعدم وجوب إکرام العالم الفاسق بل حرمته کیف یبقی شکّ فی مقدار دلالة ذلک الدلیل و إن کان ظاهره العموم؟

و إن کان المراد به أنّ ذلک المقدار متیقّن علی تقدیر ثبوت الحکم بالنسبة إلی غیره، مثلاً لو کان الجاهل الفاسق محرّم الإکرام لکان العالم الفاسق کذلک قطعاً بحیث کان المعلوم هو الملازمة بین الأمرین، بل ثبوت الحکم فی القدر المتیقّن بطریق أولی، فمن المعلوم أنّ ذلک لا یوجب کون الدلیل الظاهر فی حرمة إکرام مطلق الفسّاق نصّاً بالنسبة إلی العالم الفاسق، بل غایته عدم إمکان التفکیک و إدراج مورد الاجتماع فی الدلیل الآخر، و أمّا تقدیمه علی ذلک الدلیل فلا، فلِمَ لا یعمل معهما معاملة المتعارضین؟

و بعبارة اخری: اللازم ممّا ذکر عدم جواز تقدیم الدلیل الآخر علی هذا الدلیل، لاستلزام التقدیم الانفکاک الذی یکون معلوم الخلاف، و أمّا لزوم تقدیم هذا الدلیل و الحکم بحرمة إکرام جمیع الفسّاق لأجل ما ذکر فلا دلیل علیه، بل یمکن معهما معاملة المتعارضین، لأنّها أیضاً لا یوجب الانفکاک، فتدبّر جیّداً.

لزوم استهجان التخصیص

و منها: ما إذا کانت أفراد أحد من العامّین من وجه بمرتبة من القلّة بحیث لو خصّص بما عدا مورد الاجتماع مع العامّ الآخر یلزم التخصیص المستهجن، فیجمع بین الدلیلین بتخصیص ما لا یلزم منه التخصیص المستهجن و إبقاء ما یلزم

ص:345

منه ذلک علی حاله، لأنّ العامّ یکون نصّاً فی المقدار الذی یلزم من خروجه عنه التخصیص المستهجن، و لا عبرة بقلّة أحد أفراد العامین و کثرتها، بل العبرة باستلزام التخصیص المستهجن(1) ، انتهی.

و یرد علیه - مضافاً إلی أنّ النصوصیّة إنّما هی من حالات الدلالة، و استلزام التخصیص للاستهجان لا یغیّر حال الدلالة أصلاً، کما لا یخفی - أنّ استلزام تقدیم العامّ الآخر للتخصیص المستهجن إنّما یمنع عن التقدیم، و لا یوجب تقدیم ما یلزم من تخصیصه ذلک، فیمکن المعاملة معهما معاملة المتعارضین.

و بالجملة: الدلیل لا ینطبق علی المدّعی، فإنّ المدّعی هو تقدیم ما یلزم من تخصیصه الاستهجان، و الدلیل لا یدلّ إلاّ علی المنع من تقدیم العامّ الآخر الذی لا یوجب تخصیصه ذلک.

ورود أحد الدلیلین مورد التحدیدات و الأوزان و المقادیر

و منها: ما إذا کان أحد الدلیلین وارداً مورد التحدیدات و الأوزان و المقادیر و المسافة و نحو ذلک، فإنّ وروده فی هذه الموارد یوجب قوّة الظهور فی المدلول بحیث یلحقه بالنصّ، فیقدّم علی غیره عند التعارض(2) ، انتهی.

و یرد علیه: أنّ الورود فی تلک الموارد لا یقتضی ذلک، فإنّ التحدیدات و المقادیر و الأوزان الواقعة فی لسان الشارع لا یراد بها إلاّ العرفی منها لا العقلی الدقیق، و المراد من العرفی لیس المتسامحی منه بحیث کان التشخیص بید

ص:346


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 728:4.
2- (2) - نفس المصدر.

العرف المتسامح، بل المراد به هو العرفی الدقیق، و لا محالة یکون متسامحیّاً عند العقل، و قد ذکرنا هذا المطلب مراراً.

لزوم إخراج المورد

و منها: ما إذا کان أحد العامّین من وجه وارداً فی مورد الاجتماع مع العامّ الآخر، کما إذا ورد قوله: «کلّ مسکر حرام» جواباً عن سؤال حکم الخمر، و ورد أیضاً ابتداءً قوله: «لا بأس بالماء المتّخذ من التمر» فإنّ النسبة بین الدلیلین و إن کانت هی العموم من وجه، إلاّ أنّه لا یمکن تخصیص قوله: «کلّ مسکر حرام» بما عدا الخمر، فإنّه لا یجوز إخراج المورد، لأنّ الدلیل یکون نصّاً فیه، فلا بدّ من تخصیص قوله: «لا بأس بالماء المتّخذ من التمر» بما عدا الخمر(1) ، انتهی.

و هذا إنّما یتمّ فیما لو کانت النسبة بین المورد و الدلیل الآخر العموم و الخصوص مطلقاً کما فی المثال، حیث إنّ النسبة بین الخمر و بین قوله:

«لا بأس بالماء المتّخذ من التمر» هو العموم المطلق، بناءً علی إطلاق لفظ الخمر علی المسکر من الماء المتّخذ من التمر، کما هو المفروض، ضرورة أنّه بدونه لا تعارض بین الدلیلین.

و أمّا لو کانت النسبة بین المورد و الدلیل الآخر هو العموم من وجه فلا وجه لهذا التقدیم، کما هو غیر خفی. هذا کلّه فی الموارد المندرجة فی النصّ و الظاهر.

ص:347


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 729:4.
الموارد التی ادّعی اندراجها فی الأظهر و الظاهر
اشارة

و أمّا الموارد التی ادّعی اندراجها فی الأظهر و الظاهر:

تعارض العموم و الإطلاق

فمنها: ما إذا تعارض العامّ الاُصولی و المطلق الشمولی علی اصطلاحهم، و دار الأمر بین تقیید المطلق و تخصیص العامّ کقوله: «أکرم العلماء» و «لا تکرم الفاسق». فالشیخ قدس سره ذهب فی الرسائل إلی ترجیح التقیید علی التخصیص(1) ، و تبعه علی ذلک المحقّق النائینی قدس سره(2) و لکنّه خالف فی ذلک المحقّق الخراسانی(3) و تبعه المحقّق الحائری(4)

. و محصّل ما أفاده المحقّقان الأوّلان یرجع إلی أنّ شمول العامّ لمورد الاجتماع أظهر من شمول المطلق له، لأنّ شمول العامّ لمادّة الاجتماع یکون بالوضع، و شمول المطلق یکون بمقدّمات الحکمة، و من جملتها عدم ورود ما یصلح أن یکون بیاناً للقید، و العامّ الاُصولی یصلح لأن یکون بیاناً لذلک، فلا تتمّ مقدّمات الحکمة فی المطلق الشمولی، فلا بدّ من تقدیم العامّ علیه.

أقول: لا بدّ أوّلاً من بیان أنّ محلّ النزاع ممحّض فی ما إذا کان التعارض بین

ص:348


1- (1) - فرائد الاُصول 792:2.
2- (2) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 729:4-730.
3- (3) - کفایة الاُصول: 513.
4- (4) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 680.

العامّ و المطلق مع اجتماع شرائطهما فی أنفسهما، بحیث کانت أصالة العموم فی العامّ جاریة مع قطع النظر عن المطلق، و کذا أصالة الإطلاق فی المطلق مع قطع النظر عن العامّ بأن کان المتکلّم ممّن لا یکون بناؤه علی إیراد الحکم علی سبیل العموم ثمّ بیان المخصّصات، بأن لا یکون فی مقام التقنین و جعل الأحکام الکلّیة کأکثر المتکلّمین، أو کان المخاطب قد فحص عن المخصّص أو المقیّد فلم یظفر به.

فدعوی أنّ الإطلاق معلّق علی عدم البیان بخلاف العموم، مدفوعة بأنّ العموم أیضاً معلّق علی عدم المخصّص، فلا فرق بینهما من هذه الجهة أصلاً، فمورد البحث متمحّض فی مجرّد التعارض بین العامّ و المطلق من دون فرق بینهما من جهة الفحص و عدمه.

و نقول بعد ذلک: إنّ نسبة المخصّص مع العامّ و إن کانت تغایر نسبة المقیّد مع المطلق، إلاّ أنّ ذلک لا یوجب ترجیحاً لأحدهما علی الآخر.

توضیح ذلک: أنّ التعاند الواقع بین العامّ و الخاصّ تعاند دلالی، فإنّ العامّ یدلّ علی جمیع الأفراد بالدلالة الإجمالیّة، فإنّ قوله: «أکرم کلّ عالم»، یدلّ علی وجوب إکرام کلّ واحد من أفراد هذه الطبیعة بما أنّه فرد لها، ضرورة أنّ عالماً موضوع لنفس الطبیعة المطلقة، و الکلّ یدلّ علی تکثیرها المتحقّق بالإشارة إلی أفرادها لا بجمیع خصوصیاتها، بل بما أنّها من أفرادها، کما حقّقناه مراراً، فهذا القول دالّ بالدلالة اللفظیة علی وجوب إکرام الجمیع، و الخاصّ یعانده من حیث الدلالة بالنسبة إلی المقدار الذی خصّص العامّ به، فهما متنافیان من حیث الدلالة اللفظیة. غایة الأمر تقدّم الخاصّ علی العامّ، إمّا لما ذکرنا سابقاً(1) أو لغیره.

ص:349


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 319-321.

و أمّا المطلق فدلالته علی الإطلاق لیست دلالة لفظیّة، ضرورة أنّ اللفظ الدالّ علیه لا یکاد یتخطّی عن المعنی الذی وضع له، سواء بقی علی إطلاقه أو قیّد، بل الإطلاق إنّما ینشأ من عدم الإشارة إلی القید مع کون المطلق بصدد البیان، و التقیید إنّما ینافیه من حیث إنّه یذکر القید و یأتی به.

فاحتجاج العبد علی المولی فی باب المطلقات إنّما یرجع إلی أنّه لم یقیّد موضوع حکمه مع کونه فاعلاً مختاراً، و فی باب العمومات یرجع إلی أنّه لم یقل بخلاف العامّ، إلاّ أنّ هذا الاختلاف لا یوجب الفرق بینهما فی مقام تعارض العامّ و المطلق بحیث یکون العامّ أقوی من حیث الدلالة، کما لا یخفی.

نعم قد ذکرنا(1) غیر مرّة أنّ اللفظ المطلق لا یدلّ إلاّ علی مجرّد نفس الطبیعة، و انطباقها فی الخارج علی کلّ واحد من أفرادها لا یوجب دلالة اللفظ الموضوع لنفس الطبیعة علی الأفراد و الکثرات أیضاً، فإنّ للدلالة مقاماً و للانطباق مقاماً آخر و لا ربط بینهما، فماهیّة الإنسان و طبیعتها و إن کانت تنطبق علی زید و عمرو و غیرهما من مصادیق هذه الحقیقة، إلاّ أنّ لفظ الإنسان الموضوع لتلک الماهیّة لا دلالة له علی هذه الکثرات أصلاً، و لعمری أنّ هذا واضح جدّاً.

و لا فرق فی ذلک بین ما إذا تمّت مقدّمات الحکمة المنتجة لثبوت الإطلاق، و بین ما إذا لم تتمّ، لعدم کون المولی فی مقام البیان مثلاً، بل کان فی مقام الإهمال و الإجمال، فإنّ الإطلاق و ضدّه إنّما یلاحظان بالنسبة إلی

ص:350


1- (1) - تقدّم فی الجزء الأوّل: 339.

الموضوعیّة للحکم، و لا ربط لهما بمقام الدلالة، فإنّ الإنسان المأخوذ فی الموضوع - مثلاً - لا دلالة له إلاّ علی نفس ماهیّة الإنسان التی هی حیوان ناطق، سواء کان مطلقاً من حیث الموضوعیّة بأن کان تمام الموضوع هو نفسها أم لم یکن کذلک.

و منه یظهر: أنّ إدراج تعارض المطلق و العامّ فی تعارض الأظهر و الظاهر بالنسبة إلی مورد الاجتماع لیس فی محلّه، من حیث إنّ الأظهریّة و الظاهریّة إنّما هما من أوصاف الدلالة و حالاتها، و المطلق لا دلالة له علی مورد الاجتماع حتّی تتصف بالظهور، لأنّک عرفت أنّه لا دلالة له إلاّ علی مجرّد نفس الطبیعة و الکثرات المتّحدة فی الخارج معها خارجة عن مدلوله.

کما أنّه ظهر ممّا ذکرنا: أنّ تسمیة هذا المطلق بالمطلق الشمولی ممّا لا وجه له، لأنّ الشمول فرع الدلالة علی الأفراد، و المطلق أجنبی عن الدلالة علیها.

فانقدح: أنّ المطلق غیر ناظر إلی الموجودات المتّحدة معها فی الخارج أصلاً، لکن الاحتجاج به یستمرّ إلی أن یأتی من المولی ما یدلّ علی خلافه.

فالبیان المتأخّر قاطع للاحتجاج، لا أنّ الإطلاق معلّق من أوّل الأمر علیه. و من المعلوم أنّ العامّ لأجل تعرّضه بالدلالة اللفظیة للأفراد و الکثرات - لأجل تعدّد الدالّ و المدلول، ضرورة أنّه یدلّ تالی مثل لفظ الکلّ علی نفس الطبیعة. غایة الأمر أنّ إضافة الکلّ الموضوع لإفادة الکثرة إلیه توجب الدلالة علی الأفراد و الإشارة إلیها لا بجمیع خصوصیاتها، بل بما أنّها مصادیق لتلک الطبیعة - یصلح لأن یکون بیاناً قاطعاً للاحتجاج.

ص:351

فظهر أنّ العامّ مقدّم علی المطلق بهذا الوجه الذی ذکرنا، و لعلّه إلیه یرجع ما أفاده الشیخ قدس سره(1) فی وجهه و إن کان ربّما لا یساعده ظاهر العبارة فارجع إلیها.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذکرنا من عدم الفرق بین المطلقات فیما یرجع إلی معنی الإطلاق، و أنّ تسمیة المطلق بالشمولی فی بعض الموارد و بالبدلی فی البعض الآخر لا وجه لها أصلاً، أنّه عند تعارض الإطلاق الشمولی و الإطلاق البدلی علی حسب اصطلاحهم الغیر التامّ لا وجه لتقدیم تقیید الثانی علی تقیید الأوّل، نظراً إلی أنّ الإطلاق الشمولی یمنع عن کون الأفراد فی الإطلاق البدلی متساویة الإقدام فی حصول الامتثال بأیّ منها، و ذلک لما عرفت من اتّحادهما فیما یرجع إلی معنی الإطلاق، و لا دلالة لشیء منهما علی الأفراد شمولاً أو بدلیّاً، فلا ترجیح لواحد منهما علی الآخر، کما لا یخفی.

کما أنّه ظهر ممّا ذکرنا: أنّه عند تعارض بعض المفاهیم مع البعض الآخر لا ترجیح لواحد منهما علی الآخر لو کان ثبوت کلّ منهما بضمیمة مقدّمات الحکمة، کما فی مفهوم الشرط و مفهوم الوصف.

نعم لو کان أحد المتعارضین ممّا ثبت بالدلالة اللفظیة کما لا یبعد دعوی ذلک بالنسبة إلی مفهوم الغایة و کذا مفهوم الحصر، فالظاهر أنّه حینئذٍ لا بدّ من ترجیحه علی الآخر، لما مرّ من ترجیح العامّ علی المطلق الراجع إلی تقدیم التقیید علی التخصیص.

ص:352


1- (1) - فرائد الاُصول 792:2.
دوران الأمر بین النسخ و التخصیص

و منها: ما إذا دار الأمر بین التخصیص و النسخ، و حیث إنّ النسخ مشروط بحضور وقت العمل بالمنسوخ و التخصیص بوروده قبل حضور وقت العمل بالعامّ، فلذلک وقع الإشکال فی التخصیصات الواردة عن الأئمّة علیهم السلام بعد حضور وقت العمل بالعامّ، فإنّه ربّ عامّ نبوی و خاصّ عسکری، و قد احتمل الشیخ قدس سره(1) فی الرسائل فی ذلک ثلاثة احتمالات:

أحدها: أن تکون ناسخة لحکم العمومات.

ثانیها: أن تکون کاشفة عن اتّصال کلّ عامّ بمخصّصه و قد خفیت علینا المخصّصات المتصلة و وصلت إلینا منفصلة.

ثالثها: أن تکون هی المخصّصات حقیقة، و لا یضرّ تأخّرها عن وقت العمل بالعامّ، لأنّ العمومات المتقدّمة لم یکن مفادها الحکم الواقعی، بل الحکم الواقعی هو الذی تکفّل المخصّص المنفصل بیانه، و إنّما تأخّر بیانه لمصلحة کانت هناک فی التأخیر، و إنّما تقدّم العموم لیعمل به ظاهراً إلی أن یرد المخصّص، فیکون مفاد العموم حکماً ظاهریّاً، و لا محذور فی ذلک، فإنّ المحذور إنّما هو تأخّر الخاصّ عن وقت العمل بالعامّ إذا کان مفاد العامّ حکماً واقعیّاً لا حکماً ظاهریّاً، هذا.

و قد قرّب الشیخ(2) الاحتمال الثالث و استبعد الاحتمال الأوّل، لاستلزامه کثرة النسخ، و کذا الاحتمال الثانی، لکثرة الدواعی إلی ضبط القرائن المتصلة

ص:353


1- (1) - فرائد الاُصول 791:2.
2- (2) - نفس المصدر.

و اهتمام الرواة إلی حفظها، و لکنّه قرّب هذا الاحتمال المحقّق النائینی(1) علی ما فی التقریرات نظراً إلی أنّ کثیراً من المخصّصات المنفصلة المرویّة عن طرقنا عن الأئمّة علیهم السلام مرویّة عن العامّة بطرقهم عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم فیکشف ذلک عن اختفاء المخصّصات المتّصلة علینا بل احتمل استحالة الوجه الثالث بما أفاده فیها، هذا.

و لکنّ الظاهر عدم تمامیّة شیء من الاحتمالات الثلاثة، بل الظاهر أنّ جمیع الأحکام الإلهیّة و القوانین الشرعیّة من العموم و الخصوص، و المطلق و المقیّد، و الناسخ و المنسوخ قد صدر تبلیغها من الرسول الأکرم و بیّنها للناس فی مدّة نبوّته التی تبلغ ثلاث و عشرین سنة، و إلیه ینظر ما ذکره صلی الله علیه و آله و سلم فی خطبة حجّة الوداع ممّا یدلّ علی أنّه نهی الناس عن کلّ شیء یقرّبهم إلی النار و یبعِّدهم عن الجنّة، و أمرهم بکلّ شیء یقرّبهم إلی الجنّة و یباعدهم عن النار(2) ، و هذا ممّا لا إشکال فیه، و لا فی أنّ الأحکام التی بلغها الرسول صلی الله علیه و آله و سلم قد ضبطها و جمعها أمیر المؤمنین صلوات اللّه و سلامه علیه فی صحیفته، و أعلم الناس بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم بذلک، لکنّهم أعرضوا عنه و زعموا استغنائهم بکتاب اللّه لأجل استیلاء الشیاطین علی أمورهم و تبعیّتهم لهم.

و دعوی: أنّه مع تبلیغ الرسول جمیع الأحکام کیف لم ینقلها الصحابة بأجمعها مع کثرتهم و شدّة مصاحبتهم، بل ما نقلوه و حدّثوه علی تلامذتهم قلیل من کثیر لا مناسبة بینهما.

ص:354


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 737:4.
2- (2) - وسائل الشیعة 45:17، کتاب التجارة، أبواب مقدّماتها، الباب 12، الحدیث 2.

مدفوعة: بما أفاده أمیر المؤمنین علیه السلام فی جواب سلیم بن قیس من تقسیم الصحابة إلی أربع طوائف، و تفصیل القضیّة:

أنّه حکی أبان عن سلیم قال: قلت یا أمیر المؤمنین إنّی سمعت من سلمان و المقداد و أبی ذر شیئاً من تفسیر القرآن، و من الروایة عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم ثمّ سمعت منک تصدیق ما سمعت منهم و رأیت فی أیدی الناس أشیاء کثیرة من تفسیر القرآن، و من الأحادیث عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم تخالف الذی سمعته منکم، و أنتم تزعمون أنّ ذلک باطل، أ فتری الناس یکذبون علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم متعمّدین و یفسّرون القرآن برأیهم؟ قال: فأقبل علی علیه السلام فقال لی: «یا سلیم قد سألت فافهم الجواب: إنّ فی أیدی الناس حقّاً و باطلاً و صدقاً و کذباً و ناسخاً و منسوخاً و خاصّاً و عامّاً و محکماً و متشابهاً و حفظاً و وهماً، و قد کذب علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم علی عهده حتّی قام خطیباً فقال: أیّها الناس قد کثرت علیَّ الکذّابة، فمن کذب علیَّ متعمّداً فلیتبوّأ مقعده من النار، ثمّ کذب علیه من بعده حتّی توفّی رحمة اللّه علی نبیّ الرحمة و صلّی اللّه علیه و آله، و إنّما یأتیک بالحدیث أربعة نفر لیس لهم خامس:

رجل منافق مظهر للإیمان متصنّع بالإسلام لا یتأثمّ و لا یتحرّج أن یکذب علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم متعمّداً، فلو علم المسلمون أنّه منافق کذّاب لم یقبلوا منه و لم یصدّقوه، و لکنّهم قالوا: هذا صاحب رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم رآه و سمع منه، و هو لا یکذب و لا یستحلّ الکذب علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم و قد أخبر اللّه عن المنافقین بما أخبر و وصفهم، بما وصفهم فقال اللّه عزّ و جلّ:«وَ إِذا رَأَیْتَهُمْ تُعْجِبُکَ أَجْسامُهُمْ وَ إِنْ یَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ» (1) ثمّ بقوا بعده و تقرّبوا إلی أئمّة

ص:355


1- (1) - المنافقون (63):4.

الضلال و الدعاة إلی النار بالزور و الکذب و النفاق و البهتان، فولّوهم الأعمال و حملوهم علی رقاب الناس و أکلوا بهم من الدنیا، و إنّما الناس مع الملوک فی الدنیا إلّا من عصم اللّه، فهذا أوّل الأربعة.

و رجل سمع من رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم فلم یحفظه علی وجهه و وهم فیه و لم یتعمّد کذباً و هو فی یده یرویه و یعمل به و یقول: أنا سمعته من رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم، فلو علم المسلمون أنّه وهم لم یقبلوا، و لو علم هو أنّه و هم فیه لرفضه.

و رجل ثالث سمع من رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم شیئاً أمر به ثمّ نهی عنه و هو لا یعلم، أو سمعه نهی عن شیء ثمّ أمر به و هو لا یعلم، حفظ المنسوخ و لم یحفظ الناسخ فلو علم أنّه منسوخ لرفضه، و لو علم المسلمون أنّه منسوخ إذ سمعوه لرفضوه.

و رجل رابع لم یکذب علی اللّه و لا علی رسول اللّه بغضاً للکذب و تخوّفاً من اللّه و تعظیماً لرسوله صلی الله علیه و آله و سلم و لم یوهم، بل حفظ ما سمع علی وجهه فجاء به کما سمعه و لم یزد فیه و لم ینقص، و حفظ الناسخ من المنسوخ فعمل بالناسخ و رفض المنسوخ، و أنّ أمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم و نهیه مثل القرآن ناسخ و منسوخ و عامّ و خاصّ و محکم و متشابه، و قد کان یکون من رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم الکلام له وجهان: کلام خاصّ و کلام عامّ مثل القرآن یسمعه من لا یعرف ما عنی اللّه به و ما عنی به رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم و لیس کلّ أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم کان یسأله فیفهم، و کان منهم من یسأله و لا یستفهم حتّی أن کانوا یحبّون أن یجیء الطارئ (أی الغریب الذی أتاه عن قریب من غیر انس به و بکلامه) و الأعرابی فیسأل رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم حتّی یسمعوا منه، و کنت أدخل

ص:356

علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم کلّ یوم دخلة و کلّ لیلة دخله، فیخلّینی فیها أدور معه حیث دار و قد علم أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم أنّه لم یکن یصنع ذلک بأحد من الناس غیری، و ربّما کان ذلک فی منزلی یأتینی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم، فإذا دخلت علیه فی بعض منازله خلا بی و أقام نساءه، فلم یبق غیری و غیره، و إذا أتانی للخلوة فی بیتی لم تقم من عندنا فاطمة و لا أحد من ابنی و إذا سألته أجابنی، و إذا سکت أو نفدت مسائلی ابتدأنی، فما نزلت علیه آیة من القرآن إلّا أقرأنیها و أملاها علی فکتبتها بخطّی، و دعا اللّه أن یفهمنی إیّاها و یحفظنی، فما نسیت آیة من کتاب اللّه منذ حفظتها و علّمنی تأویلها فحفظته و أملاه علیَّ فکتبته، و ما ترک شیئاً علّمه اللّه من حلال و حرام أو أمر و نهی أو طاعة و معصیة کان أو یکون إلی یوم القیامة إلّا و قد علّمنیه و حفظته، و لم أنس منه حرفاً واحداً...» (1) إلی آخر الحدیث.

و قد انقدح ممّا ذکرنا: أنّ ما نراه من المخصّصات المنفصلة الصادرة عن الأئمّة المعصومین علیهم السلام کلّها قد صدرت عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم و کانت مضبوطة محفوظة عند أمیر المؤمنین علیه السلام. غایة الأمر أنّ إعراض الناس و عدم مساعدة المحیط أوجب تأخیر بیانه الثانوی.

أضف إلی ما ذکرنا: أنّه یمکن أن یقال باستفادة أحکام جمیع الفروع من الأحکام الکلّیة التی بلّغها الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، غایة الأمر اختلاف الناس فی الاستفادة و عدمها، و ما بیّنه الأئمة المعصومون - صلوات اللّه علیهم أجمعین - هو ما فهموه من تلک الخطابات الصادرة عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم. غایة الأمر قصور

ص:357


1- (1) - کتاب سلیم بن قیس الکوفی: 181.

أفهام الناس عن الوصول إلیها و إدراکها.

و کیف کان: فلا ینبغی الارتیاب فیما ذکرنا من صدور جمیع الأحکام عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم و تبلیغه صلی الله علیه و آله و سلم لها إلی الناس، و حینئذٍ فلا یلزم من الالتزام بالتخصیص فی تلک المخصّصات الکثیرة تأخیر البیان عن وقت العمل أصلاً، فتدبّر جیّداً.

إذا عرفت ذلک: یقع الکلام فیما إذا دار الأمر بین التخصیص و النسخ فی ترجیح الأوّل علی الثانی أو العکس، و قد ذهب إلی کلّ فریق، و لا بدّ قبل الورد فی المطلب من بیان أنّ محلّ الکلام یختص بمجرّد دوران الأمر بینهما مع قطع النظر عن وجود ما یدلّ بظاهره علی ترجیح أحد الأمرین.

فما أفاده المحقّق النائینی - من تقدّم التخصیص علی النسخ نظراً إلی أنّ النسخ یتوقّف علی ثبوت حکم العامّ لما تحت الخاصّ من الأفراد، و مقتضی حکومة أصالة الظهور فی طرف الخاصّ علی أصالة الظهور فی طرف العامّ هو عدم ثبوت حکم العامّ لأفراد الخاصّ، فیرتفع موضوع النسخ(1) - کأنه خروج عن محلّ البحث، إذ حکومة أصالة الظهور فی طرف الخاصّ علی أصالة الظهور فی طرف العامّ متفرّعة علی ثبوت کون المشکوک فی المقام خاصّاً لا نسخاً، ضرورة أنّه مع کونه نسخاً لا یبقی مجال لهذه الدعوی، مع أنّه أوّل الکلام.

و بالجملة: فلیس الکلام فی تقدّم الخاصّ علی العامّ حتّی یدفع بما ذکر، بل الکلام فی تقدّم التخصیص علی النسخ و تأخّره عنه، و ما أفاده لا یفید کونه خاصّاً لا نسخاً، کما لا یخفی.

ص:358


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 738:4.
وجوه ورود العامّ و الخاصّ و الدوران بین النسخ و التخصیص

و کیف کان فصور الدوران ثلاث:

إحداها: ما إذا کان العامّ متقدّماً، و دار أمر المتأخّر بین کونه نسخاً أو تخصیصاً لاحتمال کون العموم حکماً ظاهریّاً و الخاصّ حکماً واقعیاً، فلا محذور فی تأخیر بیانه عن وقت العمل.

ثانیتها: ما إذا کان الخاصّ متقدّماً و العامّ متأخّراً، و دار الأمر بین تخصیصه و کونه ناسخاً للخاصّ.

ثالثتها: ما إذا ورد عامّ و خاصّ و لم یعلم المتقدّم منهما عن المتأخّر، و دار الأمر بین النسخ و التخصیص.

ثمّ إنّ استمرار الحکم زماناً قد یستفاد من إطلاق الدلیل، و قد یستفاد من عمومه الراجع إلی کلّ ما وجد و کان فرداً له، و هو الذی یعبّر عنه بالقضیّة الحقیقیّة، و قد یستفاد من الدلیل اللفظی کقوله علیه السلام:

«حلال محمّد صلی الله علیه و آله و سلم حلال إلی یوم القیامة و حرامه صلی الله علیه و آله و سلم حرام إلی یوم القیامة» (1). و قوله صلی الله علیه و آله و سلم:

«حکمی علی الأوّلین حکمی علی الآخرین» (2). و نظائرهما.

إذا عرفت ذلک فنقول: إذا کانت صورة الدوران بین النسخ و التخصیص من قبیل الصورة الاُولی من الصور الثلاثة المتقدّمة التی هی عبارة عن تقدّم العامّ و دوران الأمر فی المتأخّر بینهما، و فرض استفادة الاستمرار الزمانی من إطلاق

ص:359


1- (1) - الکافی 19/58:1.
2- (2) - انظر الکافی 1/18:5، و فیه: «لأنّ حکم اللّه فی الأوّلین و الآخرین... سواء».

الدلیل، فقد یقال فیها: بأنّ مرجع هذا الدوران إلی الدوران بین التخصیص و التقیید، و حیث قد رجّح الثانی علی الأوّل هناک فلا بدّ من الالتزام هنا أیضاً بتقدیم النسخ علی التخصیص.

و لکنّه یرد علیه بأنّ ترجیح التقیید علی التخصیص فیما سبق إنّما هو فیما إذا کان العامّ و المطلق متنافیین بأنفسهما و لم یکن فی البین دلیل ثالث، بل کان الأمر دائراً بین ترجیح العامّ و تقیید المطلق و بین العکس کقوله: «أکرم العلماء»، مع قوله: «لا تکرم الفاسق». و هنا لا منافاة بین العامّ و المطلق أصلاً، بل التعاند بینهما إنّما نشأ من أجل دلیل ثالث لا یخلو أمره من أحد أمرین: کونه مخصّصاً للعامّ، و مقیّداً للمطلق، و لا دلیل علی ترجیح شیء منهما علی الآخر بعد کون کلّ واحد منهما دلیلاً تامّاً، بخلاف ما هناک، فإنّ التعارض من أوّل الأمر کان بین العامّ الذی هو ذو لسان، و بین المطلق الذی هو ألکن، و من الواضح أنّه لا یمکنه أن یقاوم ذا اللسان، کما لا یخفی.

ثمّ إنّه قد یقال: بأنّ الأمر فی المقام دائر بین التخصیص و التقیید معاً و بین التقیید فقط، ضرورة أنّه مع التخصیص لا بدّ من الالتزام بتقیید الإطلاق المقامی الدالّ علی الاستمرار الزمانی أیضاً، و هذا بخلاف العکس.

و من الواضح أنّه مع کون الأمر هکذا لا مجال للإشکال فی ترجیح التقیید، کما هو واضح، هذا.

و یرد علیه: منع کون التخصیص مستلزماً للتقیید أیضاً، ضرورة أنّه بالتخصیص یستکشف عدم کون مورد الخاصّ مراداً من أوّل الأمر، و معه لا یکون الدلیل الدالّ علی الاستمرار الزمانی شاملاً له من رأس، لعدم کونه موضوعاً له، ضرورة أنّ موضوعه هو الحکم الثابت فی زمان، کما لا یخفی، هذا.

ص:360

و قد یقال فی المقام أیضاً: بأنّ العلم الإجمالی بالتخصیص أو النسخ یرجع إلی دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر، لأنّ عدم ثبوت حکم العامّ بالنسبة إلی مورد الخاصّ بعد ورود الخاصّ متیقّن علی أیّ تقدیر، سواء کان علی نحو التخصیص أو النسخ، و ثبوته بالنسبة إلی مورده قبل وروده مشکوک، لأنّها تتفرّع علی کونه نسخاً و هو غیر معلوم، فالأمر یدور بین الأقلّ المتیقّن و الأکثر المشکوک، و به ینحلّ العلم الإجمالی، و مقتضی جریان البراءة فی المشکوک عدم کونه محکوماً بحکم العامّ، و حینئذٍ تتحقّق نتیجة التخصیص.

و بعبارة اخری: مقتضی العلم الإجمالی بالتخصیص أو النسخ هو ترجیح الأوّل علی الثانی، لما عرفت، هذا.

و یدفعه ما أشرنا إلیه مراراً من أنّ ما یکون مقوّماً للعلم الإجمالی من الاحتمالین لا یمکن أن یکون العلم الإجمالی الذی قوامه به سبباً لإفنائه.

و بعبارة اخری: لا یمکن أن یصیر العلم الإجمالی سبباً لارتفاعه و انقلابه إلی العلم التفصیلی و الشکّ البدوی، ضرورة أنّه لا یعقل أن یکون الشیء سبباً لارتفاع نفسه. فدعوی أنّ العلم الإجمالی بالتخصیص و النسخ یتولّد منه تعیّن التخصیص ممّا لا ینبغی الإصغاء إلیه.

هذا کلّه إذا کان الاستمرار الزمانی مستفاداً من الإطلاق المقامی، و أمّا لو فرض کونه مدلولاً علیه بالعموم الراجع إلی القضیّة الحقیقیّة، و دار الأمر بین تخصیصه و تخصیص العموم، فالظاهر ترجیح تخصیص العموم المستفاد منه الاستمرار الزمانی، لأنّ الأمر و إن کان دائراً بین التخصیصین، إلاّ أنّه لمّا کان النسخ الذی مرجعه إلی تخصیص العموم الدالّ علی الاستمرار الزمانی مستلزماً لقلّة التخصیص، بخلاف تخصیص العموم، فالترجیح معه، کما هو ظاهر.

ص:361

کما أنّه لو کان الاستمرار الزمانی مستفاداً من الدلیل اللفظی فإن قلنا بدلالته علی العموم نظراً إلی أنّ المفرد المضاف یفید العموم، فحکمه حکم الصورة السابقة التی یستفاد الاستمرار الزمانی فیها من العموم، و إن لم نقل بذلک فحکمه حکم الصورة التی یستفاد الاستمرار من الإطلاق، کما لا یخفی.

هذا کلّه فیما إذا کان العامّ متقدّماً و الخاصّ المردّد متأخّراً.

و أمّا فی الصورة الثانیة التی هی عکس هذه الصورة، فإن کان الاستمرار مستفاداً من الإطلاق فالظاهر ترجیح التخصیص علی النسخ، لأنّ النسخ و إن کان مرجعه حینئذٍ إلی تقیید الإطلاق المقامی الدالّ علی استمرار الزمان، و قد قلنا:

إنّ التقیید مقدّم علی التخصیص، إلاّ أنّ ذلک إنّما هو فیما إذا کان النسبة بین الدلیلین العموم من وجه کقوله: «أکرم العلماء» و «لا تکرم الفاسق».

و أمّا لو کانت النسبة بین الدلیلین العموم مطلقاً - کما هنا - فالظاهر ترجیح التخصیص علی التقیید، لأنّه لا یلاحظ فی العامّ و الخاصّ قوّة الدلالة و ضعفها کما عرفت مقتضی التحقیق من أنّ بناء العقلاء علی تقدیم الخاصّ علی العامّ من دون فرق بین کونه متقدّماً علیه أو متأخّراً عنه.

و أمّا لو کان الاستمرار مستفاداً من العموم الثابت للخاصّ لکونه قضیّة حقیقیّة، فلا إشکال هنا فی التخصیص أصلاً، لقوّة دلالة الخاصّ علی ثبوت الحکم لمورده حتّی بعد ورود العامّ، فلا بدّ من أن یکون مخصّصاً له، کما لا یخفی.

کما أنّه لو کان الاستمرار مستفاداً من الدلیل اللفظی لا بدّ من ترجیح التخصیص، لأنّ الخاصّ و إن لم یکن قویّاً من حیث هو، إلاّ أنّه یتقوّی بذلک الدلیل اللفظی الذی یدلّ علی استمرار حکمه حتّی بعد ورود العامّ، و معه یخصّص العامّ لا محالة، هذا فی الصورة الثانیة.

ص:362

و أمّا فی الصورة الثالثة التی دار الأمر بین النسخ و التخصیص و لم یعلم المتقدّم من العامّ و الخاصّ عن المتأخّر، فالظاهر فیها ترجیح التخصیص أیضاً، لغلبته و ندرة النسخ.

و دعوی أنّ هذه الغلبة لا تصلح للترجیح، مدفوعة بمنع ذلک و استلزامه لعدم کون الغلبة مرجّحة فی شیء من الموارد، لأنّ هذه الغلبة من الأفراد الظاهرة لها، کیف و ندرة النسخ تجد لا یکاد یتعدّی عن الموارد القلیلة المحصورة، و أمّا التخصیص فشیوعه إلی حدّ قیل: «ما من عامّ إلاّ و قد خصّ»، و احتمال النسخ بعد تحقّق هذه الغلبة أضعف من الاحتمال الذی لا یعتنی به العقلاء فی الشبهة غیر المحصورة، فعدم اعتنائهم به أولی، کما لا یخفی.

دوران الأمر بین تقیید الإطلاق و حمل الأمر علی الاستحباب

و من الموارد التی قیل باندراجها فی الأظهر و الظاهر ما إذا دار الأمر بین تقیید المطلق و حمل الأمر فی الطرف الآخر علی الاستحباب و کون المأمور به أفضل الأفراد، أو حمل النهی فیه علی الکراهة و کون المنهی أخسّ الأفراد و أنقصها.

کما إذا دار الأمر بین تقیید قوله: «إن ظاهرت فاعتق رقبة»، و بین حمل قوله:

«إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة» علی الاستحباب، و کون عتق الرقبة المؤمنة أفضل، أو حمل قوله: «إن ظاهرت فلا تعتق رقبة کافرة» علی الکراهة، و کون عتق الرقبة الکافرة أبغض.

فالذی حکاه سیّدنا الاُستاذ دام بقاءه عن شیخه المحقّق الحائری قدس سره فی هذا الفرض أنّه قال: و ممّا یصعب علی حمل المطلقات الواردة فی مقام البیان

ص:363

علی المقیّد و تقییدها بدلیله مع اشتهار استعمال الأوامر فی الاستحباب، و النواهی فی الکراهة، خصوصاً بملاحظة ما أفاده صاحب المعالم(1) فی باب شیوع استعمال الأوامر فی المستحبّات، هذا.

و لکن ذکر الاُستاذ أنّ المطلقات علی قسمین: قسم ورد فی مقابل من یسأل عن حکم المسألة و الواقعة لأجل ابتلائه بها، و منظوره السؤال عن حکمها ثمّ العمل علی طبق الحکم الصادر عن المعصوم علیه السلام فی تلک الواقعة، و قسم آخر یصدر لغرض الضبط، کما إذا کان السائل مثل زرارة ممّن کان غرضه من السؤال استفادة حکم الواقعة لأجل ضبطه لمن یأتی بعده ممّن لا یکاد تصل یده إلی منبع العلم و معدن الوحی. و ما أفاده المحقّق الحائری قدس سره إنّما یتمّ فی خصوص القسم الأوّل، و أمّا فی القسم الثانی فلا، کما لا یخفی.

هذا کلّه إنّما هو بالنسبة إلی الدلیلین اللذین کان أحدهما نصّاً أو أظهر و الآخر ظاهراً.

ص:364


1- (1) - معا لم الدین: 53.
القول
اشارة

فیما إذا کان التعارض بین أکثر من دلیلین

إذا ورد عامّ و خاصّان بینهما التباین

و أمّا إذا کان التعارض بین أزید من دلیلین، بأن کان هنا عامّ مثلاً و خاصّان کقوله: أکرم العلماء، و لا تکرم النحویین منهم، و لا تکرم الصرفیین منهم، فإنّ النسبة بین کلّ من الأخیرین مع الأوّل هو العموم و الخصوص مطلقاً، و الکلام فیه یقع فی مقامین:

أحدهما: أنّه هل العامّ یلاحظ مع کلّ من المخصّصین قبل تخصیصه بالآخر بحیث یکون الخاصّان فی عرض واحد، أو أنّه یخصّص بواحد منهما ثمّ تلاحظ النسبة بعد التخصیص بینه و بین الخاصّ الآخر؟ و ربّما تنقلب النسبة من العموم المطلق إلی العموم من وجه کما فی المثال، فإنّ قوله: «أکرم العلماء» بعد تخصیصه بقوله: «لا تکرم الصرفیّین منهم»، یرجع إلی وجوب إکرام العالم الغیر الصرفی. و من المعلوم أنّ النسبة بین العالم الغیر الصرفی و بین العالم النحوی عموم من وجه، لأنّه قد یکون النحوی صرفیّاً، و قد لا یکون العالم الصرفی نحویاً، و قد یکون النحوی غیر صرفی، و مورد الاجتماع العالم الصرفی النحوی.

ثانیهما: أنّه لو فرض کون الخاصّان فی عرض واحد، و لکن کان تخصیص العامّ بهما مستهجناً أو مستلزماً للاستیعاب و بقاء العامّ بلا مورد، فهل المعارضة

ص:365

حینئذٍ بین العامّ و مجموع الخاصّین کما اختاره الشیخ(1) و تبعه غیر واحد من المحققین المتأخّرین عنه(2) ، أو أنّ المعارضة بین نفس الخاصّین، کما هو الأقوی لما یأتی؟

أمّا الکلام فی المقام الأوّل: فمحصّله أنّه لا مجال لتوهّم تقدیم أحد الخاصّین علی الآخر بعد اتّحادهما فی النسبة مع العامّ، خصوصاً إذا لم یعلم المتقدّم منهما صدوراً عن المتأخّر، کما هو الغالب، و لا ینبغی توهّم الخلاف فیما إذا کان الخاصّان دلیلین لفظیّین، لأنّه لا وجه لتقدیم ملاحظة العامّ مع أحدهما علی ملاحظته مع الآخر.

نعم لو کان أحدهما دلیلاً لبّیاً کالدلیل العقلی الذی یکون کالقرینة المتصلة بالکلام، بحیث لم یکن یستفاد من العامّ عند صدوره من المتکلّم إلاّ العموم المحدود بما دلّ علیه العقل، کما أنّه لو فرض أنّه لا یستفاد عند العقلاء من قوله: «أکرم العلماء» إلاّ وجوب إکرام العدول منهم، فلا شبهة حینئذٍ فی أنّه لا بدّ من ملاحظته بعد التخصیص بدلیل العقل مع الخاصّ الآخر، بل لا یصدق علیه التخصیص و انقلاب النسبة، کما لا یخفی، هذا.

و لو لم یکن الدلیل اللبّی کالقرینة المتّصلة کالإجماع و نحوه، فلا ترجیح له علی الخاصّ اللفظی أصلاً، لعین ما ذکر فی الدلیلین اللفظیین.

نعم حکی سیّدنا الاُستاذ دام بقاءه عن شیخه المحقّق الحائری قدس سره أنّه بعد اختیاره فی کتاب الدرر ما ذکرنا(3) عدل عنه فی مجلس الدرس و فصّل بین

ص:366


1- (1) - فرائد الاُصول 794:2-795.
2- (2) - کفایة الاُصول: 516، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 743:4.
3- (3) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 682.

المخصّص اللفظی و اللبّی مطلقاً، و قدّم التخصیص باللبّی کذلک علی التخصیص باللفظی، نظراً إلی أنّ المخصّص اللفظی مانع عن حجّیة ظهور العامّ، و المخصّص اللبّی من تتمّة المقتضی، لا أنّه مانع، هذا.

و لکنّه یرد علیه: عدم الفرق بینهما أصلاً؛ لا فی أنّه بعد ملاحظة الخاصّ یستکشف تضییق دائرة المراد الجدّی من أوّل الأمر و أنّ صدور العامّ کان بنحو التقنین و إفادة الحکم علی النحو الکلّی، و لا فی أنّه قبل العثور علی المخصّص لفظیاً کان أو لبّیاً تکون أصالة العموم متّبعة، و بعد الظفر علیه یرفع الید عنه، فلا فرق بینهما أصلاً، کما لا یخفی.

و أمّا الکلام فی المقام الثانی: فقد عرفت(1) أنّه ذهب الشیخ إلی وقوع التعارض مع مجموع الخاصّین، نظراً إلی أنّ تخصیص العامّ بهما یوجب الاستهجان أو الاستیعاب، و لکنّه لا وجه له، لأنّ مجموع الخاصّین لا یکون أمراً ورائهما، و المفروض أنّه لا معارضة لشیء منهما مع العامّ، فلا وجه لترتیب أحکام المتعارضین علیه و علیهما.

غایة الأمر أنّه حیث لا یمکن تخصیص العامّ بمجموعهما یرجع ذلک إلی عدم إمکان الجمع بین الخاصّین، لا من حیث أنفسهما، بل من جهة تخصیص العامّ بهما، فیقع التعارض بینهما تعارضاً عرضیاً، و لا بدّ من المعاملة مع الخاصّین حینئذٍ معاملة المتعارضین.

و حینئذٍ: فإن قلنا بعدم اختصاص الأخبار العلاجیّة بالتعارض الذاتی و شمولهما للتعارض العرضی أیضاً، فلا بدّ من الرجوع إلی المرجّحات المذکورة

ص:367


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 365-366.

فیها، و إن قلنا بعدم شمولها له، فلا بدّ من الرجوع إلی ما تقتضیه القاعدة فی المتعارضین مع قطع النظر عن تلک الأخبار من السقوط علی ما هو التحقیق، أو التخییر کما سیأتی.

ثمّ إنّ هذا الذی ذکرنا من وقوع التعارض بین الخاصّین إنّما هو فیما لو لم یعلم بثبوت الملازمة بینهما.

و أمّا مع العلم بها فتارةً یعلم بعدم اختلاف موردهما من حیث الحکم و ثبوت الملازمة بین موردهما فقط، کما إذا علم فی المثال المتقدّم بأنّه لو کان إکرام النحویّین من العلماء حراماً لکان إکرام الصرفیّین منهم أیضاً کذلک.

و اخری یعلم بعدم الاختلاف بین جمیع أفراد العامّ من حیث الحکم أصلاً، کما إذا علم بأنّ حکم إکرام جمیع أفراد العلماء واحد و أنّه إن کان الإکرام واجباً فهو واجب فی الجمیع، و إن کان حراماً کذلک، و هکذا.

ففی الأوّل یقع التعارض بین العامّ و بین کلّ واحد منهما.

و فی الثانی یقع التعارض بین الجمیع، العامّ مع کلّ واحد منهما، و هو مع الآخر، کما لا یخفی.

هذا کلّه إذا کانت النسبة بین الخاصّین التباین کما فیما عرفت من المثال و إن کان لا یخلو عن المنع.

إذا ورد عامّ و خاصّان بینهما عموم و خصوص مطلق

و أمّا لو کانت النسبة بین الخاصّین أیضاً العموم و الخصوص مطلقاً، کالنسبة بین کلّ واحد منهما مع العامّ کقوله: أکرم العلماء، و لا تکرم النحویین منهم، و لا تکرم الکوفیّین من النحویین، فقد ذکر المحقّق النائینی قدس سره علی ما فی

ص:368

التقریرات أنّ حکم هذا القسم حکم القسم السابق من وجوب تخصیص العامّ بکلّ من الخاصّین إن لم یلزم التخصیص المستهجن أو بقاء العامّ بلا مورد، و إلّا فیعامل مع العامّ و مجموع الخاصّین معاملة المتعارضین(1)

. و التحقیق أن یقال: إنّ لهذا الفرض صوراً متعدّدة، فإنّه قد یکون الخاصّان متوافقین من حیث الحکم إثباتاً أو نفیاً، و قد یکونان متخالفین، و علی التقدیرین قد یلزم من تخصیص العامّ بکلّ منهما التخصیص المستهجن بمعنی استلزام التخصیص بکلّ ذلک، و قد لا یلزم التخصیص المستهجن إلاّ من التخصیص بالخاصّ دون الأخصّ، و قد لا یلزم من شیء منهما، و مرجعه إلی عدم لزوم التخصیص المستهجن من التخصیص بالخاصّ، ضرورة أنّه مع عدم استلزامه ذلک یکون عدم استلزامه من التخصیص بالأخصّ بطریق أولی، ثمّ إنّه فی صورة اختلاف الخاصّین من حیث الحکم قد یلزم من تخصیص الخاصّ بالأخصّ الاستهجان، و قد لا یلزم.

و تفصیل حکم هذه الصور أن یقال: إذا کان الخاصّان متوافقین من حیث الحکم و لم یلزم من تخصیص العامّ بکلّ منهما الاستهجان، فلا محیص عن تخصیص العامّ بهما، فیقال فی المثال المذکور بوجوب إکرام العلماء غیر النحویّین مطلقاً؛ کوفیّین کانوا أو بصریّین مثلاً.

و إن لزم منه الاستهجان فتارةً یلزم الاستهجان من التخصیص بالخاصّ فقط دون الأخصّ، فاللازم حینئذٍ تخصیص الخاصّ بالأخصّ ثمّ تخصیص العامّ بالخاصّ المخصّص، لأنّه الطریق المنحصر لرفع الاستهجان، و مع إمکان ذلک لا

ص:369


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 743:4.

وجه لطرح الخاصّ، فإنّ الطرح إنّما هو مع عدم إمکان الجمع المقبول عند العقلاء، و ما ذکرنا مورد لقبولهم، کما لا یخفی.

و اخری یلزم الاستهجان من التخصیص بکلّ منهما، غایة الأمر أنّ التخصیص بالأخصّ أقلّ استهجاناً من التخصیص بالخاصّ، فالعامّ حینئذٍ یعارض مع کلّ واحد منهما، و لا بدّ من الرجوع إلی المرجّحات المذکورة فی الأخبار العلاجیّة.

هذا کلّه مع عدم إحراز اتّحاد الحکم فی الخاصّین من اتّحاد السبب أو من غیره.

و أمّا مع إحرازه فلا محالة یکون الأخصّ مخصّصاً للخاصّ، و هو بعد تخصیصه به یخصّص العامّ الفوقانی من دون فرق بین عدم لزوم الاستهجان من تخصیصه به قبل تخصیصه بالأخصّ أو لزومه، کما لا یخفی. هذا فی المتوافقین.

و أمّا الخاصّان المتخالفان من حیث الحکم کقوله: أکرم العلماء و لا تکرم النحویین منهم، و یستحبّ إکرام الکوفیین من النحویین، فإن لم یلزم من تخصیص الخاصّ بالأخصّ الاستهجان فاللازم تخصیصه به، ثمّ تخصیص العامّ الفوقانی بالخاصّ المخصّص به، و إن لزم الاستهجان من تخصیصه به فیقع التعارض بین الخاصّین، و بعد إعمال قواعد التعارض و ترجیح أحد الخاصّین یخصّص العامّ بما رجّح إن لم یلزم من تخصیصه به الاستهجان، و إلّا فیقع التعارض بین مجموع الأدلّة العامّ و کلّ واحد من الخاصّین، و لا بدّ معها من معاملة المتعارضات، کما لا یخفی.

فانقدح ممّا ذکرنا من اختلاف حکم الصور أنّ ما أطلقه المحقّق النائینی علی ما عرفت لیس بإطلاقه صحیحاً.

ص:370

إذا ورد عامّ و خاصّان بینهما عموم من وجه

و أمّا إذا کانت النسبة بین الخاصّین العموم و الخصوص من وجه، کقوله:

أکرم العلماء، و لا تکرم النحویین من العلماء، و لا تکرم الفسّاق منهم، فإن کان الخاصّان متوافقین من حیث الحکم إیجاباً و سلباً کما فی المثال، فلا شبهة فی تخصیص العامّ بکلیهما إن لم یلزم من تخصیصه بهما الاستهجان، و إلّا فیقع التعارض بین الخاصّین علی حسب ما اخترناه فی الصورة الاُولی.

و إن کانا مختلفین من حیث الإیجاب و السلب، کما إذا کان الخاصّ الثانی هو قوله: یستحب إکرام الفسّاق من العلماء، فهنا أدلّة ثلاث، بعضها یدلّ علی وجوب إکرام جمیع العلماء، و ثانیها علی حرمة إکرام النحویین منهم، و ثالثها علی استحباب إکرام الفسّاق من العلماء.

و لا ریب فی لزوم تخصیص العامّ بکلّ منهما بالنسبة إلی مورد افتراقهما، فإنّه لا شبهة فی تخصیص العامّ بالنحوی العادل، و کذا بالفاسق الغیر النحوی، و إنّما الإشکال فی النحوی الفاسق حیث یدلّ العامّ علی وجوب إکرامه، و أحد الخاصّین علی حرمته، و الآخر علی استحبابه، و لا بدّ من رعایة قواعد التعارض بین الجمیع فی النحوی الفاسق، لأنّ العامّ و إن کانت نسبته مع کلا الخاصّین العموم المطلق، إلاّ أنّه بعد تخصیصه بمورد الافتراق من کلّ من الخاصّین تصیر نسبته مع الخاصّ الآخر العموم من وجه، فإنّه بعد تخصیصه بالنحوی العادل تصیر النسبة بین العامّ حینئذٍ و بین قوله: لا تکرم الفسّاق منهم العموم من وجه، کما أنّه بعد تخصیصه بالفاسق الغیر النحوی تصیر النسبة بین العامّ

ص:371

و بین قوله: لا تکرم النحویین من العلماء العموم من وجه أیضاً، کما لا یخفی.

هذا کلّه فیما إذا ورد عامّ و خاصّان، و قد عرفت أنّ صوره ثلاث.

إذا ورد عامّان من وجه و خاصّ

و أمّا الصورة الرابعة: فهو ما إذا ورد عامّان من وجه و خاصّ، فإن کان مفاد الخاصّ إخراج مورد افتراق أحد العامّین تنقلب النسبة إلی العموم المطلق، کما إذا ورد بعد قوله: أکرم النحویّین، و لا تکرم الصرفیین، قوله: و یستحبّ إکرام النحوی غیر الصرفی، فإنّه حینئذٍ یختصّ قوله: لا تکرم النحویّین بالنحویّین، من الصرفیین فتنقلب النسبة بینه و بین قوله: لا تکرم الصرفیّین إلی العموم المطلق، و إن کان مفاد الخاصّ إخراج مورد الاجتماع تنقلب النسبة بین العامّین إلی التباین، کما هو واضح.

إذا ورد عامّان متباینان و خاصّ

و الصورة الخامسة: ما إذا ورد دلیلان متعارضان بالتباین، فقد یرد دلیل یوجب انقلاب النسبة من التباین إلی العموم المطلق، و قد یوجب انقلابهما إلی العموم من وجه.

فالأوّل کقوله: أکرم العلماء، و قوله: لا تکرم العلماء، ثمّ ورد دلیل ثالث و خرج عدول العلماء عن قوله: لا تکرمهم، فإنّه حینئذٍ تنقلب النسبة إلی العموم المطلق.

و الثانی: کما إذا ورد فی المثال دلیل رابع و خصّ قوله: أکرم العلماء، بالفقهاء، فإنّ النسبة بینه بعد تخصیصه بالفقهاء و بین قوله: لا تکرم العلماء بعد تخصیصه بما عدا العدول هو العموم من وجه، کما هو واضح.

ص:372

الفصل السادس

اشارة

فی عدم شمول أخبار العلاج للعامّین من وجه

قد عرفت(1) أنّ موضوع البحث فی المقام هو الخبران المتعارضان، و أنّ الروایات الواردة فی هذا الباب موردها هو المتعارضان أو المختلفان عنواناً أو مصداقاً، بمعنی أنّه ورد فی بعضها عنوان الاختلاف و المختلفین، و فی بعضها مصداق هذا العنوان، مثل ما ورد فی بعضها من قول السائل فی بیان الخبرین الواردین:

«أحدهما یأمر و الآخر ینهی» (2)

. و لا إشکال فی تحقّق هذین العنوانین فی الدلیلین المتعارضین، مثل ما إذا دلّ أحدهما علی وجوب إکرام جمیع العلماء، و الآخر علی حرمة إکرام جمیعهم.

کما أنّه لا إشکال فی عدم تحقّقهما فی مثل: أکرم العلماء، و لا تکرم الجهّال، و لا فی عدمه فی العموم و الخصوص المطلق إذا کان بینهما جمع عقلائی بحیث لم یکن تخصیصه به مستهجناً و لم یعدّ عندهم من المتعارضین.

إنّما الإشکال فی العامّ و الخاصّ المطلق مع عدم کون الجمع بینهما مقبولاً عند العقلاء، و کذا فی العموم و الخصوص من وجه، و کذا فی المتعارضین بالعرض، کما فی الدلیلین اللذین علم بکذب أحدهما من غیر أن یکونا بأنفسهما متناقضین، کما إذا دلّ دلیل علی وجوب صلاة الجمعة، یوم الجمعة و دلیل آخر

ص:373


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 319.
2- (2) - وسائل الشیعة 108:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 5.

علی وجوب صلاة الظهر ذلک الیوم، و علم بعدم کون الواجب منهما إلاّ واحداً، و کما فیما إذا ورد عامّ و خاصّان متباینان مثلاً و کان تخصیصه بکلیهما مستلزماً للاستهجان، فإنّک عرفت فی الفصل المتقدّم أنّ التعارض إنّما هو بین الخاصّین لا بینهما و بین العامّ.

غایة الأمر أنّ التعارض بینهما تعارض عرضی، لعدم تناقضهما فی حدّ نفسهما أصلاً، و کذا الإشکال فی المتعارضین بلازمهما بأن لم یکن الدلیلان متعارضین أصلاً إلاّ من حیث لازم مدلولهما.

إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّ الظاهر شمول تلک الأخبار الواردة فی المتعارضین أو المختلفین للعامّ و الخاصّ المطلق اللذین لم یکن بینهما جمع عقلائی مقبول عندهم، و ذلک لأنّه بعد ما لم یکن الجمع بینهما مقبولاً عند العقلاء فلا محالة یکونان عندهم متعارضین، و قد عرفت سابقاً(1) أنّ المرجع فی تشخیص هذا العنوان کسائر العناوین المأخوذة موضوعاً للأحکام الشرعیّة هو العرف و العقلاء، و المفروض أنّهم یرونهما متعارضین.

و أمّا العامّان من وجه فالظاهر عدم شمول تلک الأخبار لهما، لعدم کونهما متعارضین عند العقلاء بعد کونهما عنوانین متغایرین متعلّقین للحکم. غایة الأمر أنّه اتّفق اجتماع ذلکما العنوانین فی بعض الموارد.

هذا مضافاً إلی أنّ الجواب الوارد فیها بطرح ما خالف الکتاب، أو ما وافق العامّة یشهد بخروج العامّین من وجه، لأنّه لا وجه لطرح شیء منهما.

غایة الأمر إخراج مورد الاجتماع عن تحت واحد منهما لا طرحه بالکلّیة،

ص:374


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 333.

و إذا لم یکن العامّان من غیر وجه مشمولاً لتلک الأخبار فعدم شمولهما للمتعارضین بالعرض بکلا قسمیه و کذا للمتعارضین باللازم بطریق أولی، کما لا یخفی.

ثمّ إنّه یظهر من تقریرات المحقّق النائینی قدس سره فی آخر هذا الباب أنّه التزم بشمول الأخبار العلاجیّة للعامّین من وجه أیضاً، و لکنّ الفاضل المقرّر ذکر قبل ذلک فی الحاشیة أنّ عنوان المخالفة ظاهر فی المخالفة بالتباین، و لا یشمل العامّین من وجه(1) ، فإن کان هذا أیضاً تقریراً لشیخه قدس سره و لم یکن من عند نفسه یلزم التهافت و المناقضة فی کلامه قدس سره، کما لا یخفی.

هل المرجّحات جاریة فی العامّین من وجه أم لا؟

و کیف کان: فعلی تقدیر الشمول فهل یجری فیه جمیع المرجّحات الصدوریّة و الجهتیّة و المضمونیّة، أو یختصّ بخصوص الأخیرتین و لا یجوز الرجوع فیهما إلی المرجّحات الصدوریّة؟ صرّح المحقّق النائینی بالثانی، و استدلّ علیه: بأنّ التعارض فی العامّین من وجه إنّما یکون فی بعض مدلولهما و هو مادّة الاجتماع فقط. و مع هذا الفرض لا وجه للرجوع إلی المرجّحات الصدوریّة، لأنّه إن ارید من الرجوع إلیها طرح ما یکون راویه غیر أعدل أو غیر أصدق مثلاً، فهو ممّا لا وجه له، لأنّه لا معارض له فی مادّة الافتراق، و إن ارید طرحه فی خصوص مادّة الاجتماع فهو غیر ممکن، لأنّ الخبر الواحد لا یقبل التبعیض من حیث الصدور.

ص:375


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 793:4، الهامش 1.

و دعوی أنّ الخبر الواحد ینحلّ إلی أخبار متعدّدة حسب تعدّد أفراد الموضوع - کما هو الشأن فی جمیع القضایا الحقیقیّة واضحة الفساد؛ لأنّ الانحلال فی تلک القضایا لا یقتضی تعدّد الروایة بل لیس فی البین إلاّ روایة واحدة، کما لا یخفی(1) ، انتهی ملخّص ما أفاده علی ما فی التقریرات.

و یرد علیه: أنّ دعوی عدم إمکان التبعیض إن کان المراد منها عدم إمکانه عقلاً فهی ممنوعة فی محیط التشریع و التعبّد، ضرورة أنّه لا مانع فی ذلک المحیط من التعبّد بمثل ذلک.

أ لا تری أنّه من المسلّم عندهم عدم حجّیة الاُصول المثبتة، و مرجعها إلی عدم ثبوت اللوازم و الملزومات العقلیّة و العادیّة، مع أنّ التفکیک بینهما فی عالم التکوین مخالف مع فرض اللزوم، و کذا التعبّد بأحد المتلازمین لا یستلزم التعبّد بالآخر و إن کانا متلازمین فی الواقع، فالتعبّد بصدور الخبر الواحد من جهة دون اخری لا مانع منه فی محیط التشریع و إن کان بحسب الواقع إمّا صادراً بتمامه و إمّا غیر صادر کذلک.

و إن کان المراد منها عدم إمکانه عرفاً و مرجعه إلی کونه خلاف ظاهر الأخبار العلاجیة الدالّة علی طرح الخبر المرجوح، لأنّ المنسبق إلی الذهن منها هو طرح الخبر المرجوح فی تمام مدلوله، فنقول: لا نسلّم کون الترجیح فی المتعارضین بالعموم و الخصوص من وجه مرجعه إلی ذلک، لأنّ الأخذ بالراجح منهما لا یلازم الحکم بعدم صدور الآخر، بل یمکن أن یکون صادراً.

ص:376


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 792:4-794.

غایة الأمر أنّ الراوی لم یتحفّظ قیده المخرج له عن المعارضة مع الآخر، و الدلیل علیه هو أنّ المرجّح هو مثل الأوثقیّة، فإنّ هذه الصفة تقتضی کون المتّصف بها متحفّظاً فی مقام أخذ الحکم الصادر عن الإمام علیه السلام بحیث لم یغب عن ذهنه الخصوصیّات المأخوذة و القیود المذکورة. فترجیح مثل قوله:

«أکرم العلماء» مرجعه إلی کون من یجب إکرامه هو العالم بدون خصوصیة اخری، فقوله: «لا تکرم الفسّاق» حینئذٍ یکون علی تقدیر الصدور مشتملاً علی قید، و هو عدم کونهم من العلماء، فترجیح الأوّل علیه لا یقتضی الحکم بعدم صدوره من رأس، کما لا یخفی.

ثمّ إنّ الفصول التی عقدناها إلی هنا کلّها تحوم حول تشخیص عنوان المتعارضین الذی هو الموضوع فی هذا الکتاب، و بعدها لا بدّ من الورود فی المباحث و المقاصد و نقول: یقع الکلام فیما یتعلّق بذلک العنوان من الأحکام فی ضمن مقصدین:

ص:377

ص:378

المقصد الأوّل: فی الخبرین المتعارضین المتکافئین

اشارة

فی الخبرین المتعارضین المتکافئین

بحیث لم تکن مزیّة و ترجیح فی البین

و الکلام فی ذلک قد یقع فی حکمهما فی نظر العقل، و قد یقع فیما یستفاد من الأخبار الواردة فی هذا الباب بالنسبة إلی المتکافئین، و علی التقدیر الأوّل تارةً یبحث فیهما بناءً علی کون الوجه فی اعتبار الخبر هو بناء العقلاء کما عرفت أنّه الموافق للتحقیق، و اخری یبحث فی حکمهما بناءً علی دلالة الدلیل الشرعی علی اعتبار خبر الواحد، و علی التقدیرین تارة یتکلّم فی ذلک بناءً علی الطریقیّة و الکاشفیّة، و اخری بناءً علی الموضوعیّة و السببیّة.

مقتضی الأصل بناءً علی الطریقیّة

فنقول: لو کان الوجه فی اعتبار الخبر هو سیرة العقلاء و بنائهم عملاً علی الاعتماد علی قول المخبر إذا کان موثوقاً و مورداً للاطمئنان، فمع التعارض و عدم المزیّة لا محیص عن القول بتساقطهما و عدم حجّیة واحد منهما فی مدلوله المطابقی، و ذلک لوجهین:

ص:379

أحدهما: أنّه لا خفاء فی أنّ اعتبار الخبر عند العقلاء إنّما هو لأجل کاشفیّته عن الواقع و إراءته له و أماریّته بالنسبة إلیه. و من الواضح أنّ الإراءة و الکشف إنّما هو مع عدم ابتلائه بمعارض مماثل أو أقوی، ضرورة أنّه مع هذا الابتلاء یتردّد الطریق و الکاشف بینهما، إذ لا یعقل کون کلّ واحد منهما مع وجود الآخر کاشفاً، و إلّا لزم الخروج عن حدّ التعارض، و مع تردّد الطریق و الکاشف و عدم وجود مرجّح فی البین اللازم منه الترجیح من غیر مرجّح لا بدّ من التوقّف، ضرورة أنّ الأخذ بالمجموع ممّا لا یمکن، و بواحد ترجیح من غیر مرجّح.

و هذا نظیر ما لو أخبر مخبر واحد بخبرین متعارضین، فکما أنّه لا یکون شیء من الخبرین هناک بکاشف و لا طریق، کذلک لا یکون شیء من الخبرین هنا بکاشف، کما لا یخفی.

ثانیهما: أنّ معنی حجّیة الخبر إنّما هو عبارة عن صحّة احتجاج المولی به علی العبد. و من المعلوم أنّ ذلک إنّما هو مع عدم کون الأمارة مجهولة للعبد، ضرورة أنّه لو کانت کذلک لا یبقی للمولی حقّ المؤاخذة و الاعتراض، فإذا کانت صلاة الجمعة واجبة واقعاً و کانت الأمارة الدالّة علی ذلک غیر واصلة إلی المکلّف، بل کان الموجود عنده هو الأمارة الضعیفة الدالّة علی التحریم، لا یجوز للمولی المؤاخذة و الاعتراض لأجل الترک، ضرورة أنّ البیان الذی به یسدّ باب البراءة العقلیّة الراجعة إلی عدم استحقاق العقوبة مع عدم وصول التکلیف إنّما یکون المراد به هو البیان الواصل إلی المکلّف، و مع الجهل به لا مخرج للمورد عن البراءة. هذا، و من الواضح أنّ مع ابتلاء البیان الواصل بمعارض مماثل لا یصحّ للمولی الاحتجاج أصلاً، و هذا ممّا لا ینبغی الارتیاب فیه.

ص:380

فانقدح: أنّ الخبرین المتکافئین لا یکون شیء منهما حجّة بالنسبة إلی مدلولهما المطابقی.

و أمّا بالنسبة إلی المدلول الالتزامی الذی یشترک فیه الخبران و لا معارضة بینهما فیه، کعدم الاستحباب و الکراهة، و الإباحة فی ما إذا قام أحد الخبرین علی الوجوب و الآخر علی التحریم، فلا شبهة فی حجّیتهما بالنسبة إلیه، إنّما الإشکال فی أنّ الحجّة بالنسبة إلیه هل هو کلا الخبرین أو واحد منهما معیّن بحسب الواقع و هو الخبر الذی لم یعلم کذبه؟

قد یقال بالأوّل، کما أفاده المحقّق النائینی قدس سره علی ما فی التقریرات، حیث دفع توهّم سقوط المتعارضین عن الحجّیة بالنسبة إلی نفی الثالث أیضاً، نظراً إلی أنّ الدلالة الالتزامیّة فرع الدلالة المطابقیّة، و بعد سقوط المتعارضین فی المدلول المطابقی لا مجال لبقاء الدلالة الالتزامیّة لهما فی نفی الثالث؛ فإنّ الدلالة الالتزامیّة إنّما تکون فرع الدلالة المطابقیّة فی الوجود لا فی الحجّیة، ثمّ قال: و بعبارة أوضح: الدلالة الالتزامیّة للکلام تتوقّف علی دلالته التصدیقیّة؛ أی دلالته علی المؤدّی، و أمّا کون المؤدّی مراداً فهو ممّا لا یتوقّف علیه الدلالة الالتزامیّة، فسقوط المتعارضین عن الحجّیة فی المؤدّی لا یلازم سقوطهما عن الحجّیة فی نفی الثالث(1) ، انتهی.

و یرد علیه: أنّه مع العلم بکذب أحدهما واقعاً بالنسبة إلی المدلول المطابقی کیف یکون مع ذلک حجّة بالنسبة إلی المدلول الالتزامی، أ لا تری أنّه لو کان هنا خبر واحد فقط مع عدم الابتلاء بالمعارض و علم من الخارج

ص:381


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 755:4-756.

بکذبه، فهل یرضی مع ذلک أحد بکون العلم بالکذب یوجب سقوطه فی خصوص مدلوله المطابقی، و أمّا المدلول الالتزامی فهو بالنسبة إلیه حجّة، و کذلک المقام، فإنّا لا نتعقّل مع العلم بکذب واحد من الخبرین أن یکونا معاً حجّة بالنسبة إلی نفی الثالث الذی هو من اللوازم العقلیّة للمدلول المطابقی.

و ما أفاده من التفکیک بین الوجود و الحجّیة ممّا لم یظهر وجهه لنا، فإنّه إذا کان حجّة یکون مدلوله المطابقی موجوداً، و مع الوجود لا مجال للتفکیک بین المدلولین و لیست الدلالة الالتزامیة من الدلالات اللفظیة حتّی لا یکون دلالة اللفظ علیها متوقّفة علی دلالته علی المدلول المطابقی و إن عدّت هذه الدلالة فی المنطق من جملة تلک الدلالات، و ذلک لأنّ دلالة اللفظ علی أمر خارج عمّا وضع له مع عدم کونه مجازاً ممّا لا یتصوّر، بل قد عرفت أنّ فی المجازات أیضاً لا یکون اللفظ دالاًّ إلاّ علی المعنی الحقیقی.

و کیف کان: فمع العلم بکذب أحد الخبرین بالنسبة إلی مدلوله المطابقی لا وجه لتوهّم حجّیته بالنسبة إلی المدلول الالتزامی.

فالحقّ فی هذا الباب ما اختاره المحقّق الخراسانی قدس سره من کون الحجّة علی نفی الثالث هو أحدهما الغیر المعیّن الذی هو الخبر الذی لم یعلم کذبه، لا الخبرین معاً(1) ، فتأمّل جیّداً.

هذا کلّه بناءً علی کون الوجه فی اعتبار الخبر هو بناء العقلاء علی العمل به فی جمیع أمورهم کما أنّه هو الوجه.

ص:382


1- (1) - کفایة الاُصول: 499.

و أمّا بناءً علی کون الدلیل هی الآیات و الروایات التی استدلّ بها علی ذلک:

فتارةً یقال بکونها مهملة غیر شاملة لحال التعارض.

و اخری بکونها مطلقة. و علی هذا التقدیر قد یراد بالإطلاق الإطلاق الشمولی اللحاظی، و قد یراد به الإطلاق الذاتی، فإن کانت الأدلّة مهملة غیر شاملة لحال التعارض فواضح حکم صورة التعارض، لأنّه لا دلیل حینئذٍ علی حجّیة واحد من الخبرین، فیسقطان عن الاعتبار الذی کان ثابتاً لهما فی حال عدم المعارضة، و إن کانت مطلقة بالإطلاق الشمولی اللحاظی فاللازم أن یقال بثبوت التخییر فی حال التعارض، و إلّا تلزم اللغویّة، کما لا یخفی.

و إن کان المراد به هو الإطلاق الذاتی و هو الذی اخترناه و حقّقناه فی باب المطلق و المقیّد فقد یقال: بأنّ اللازم حینئذٍ التخییر أیضاً، نظراً إلی أنّ الدلیل علی اعتبار الخبر له عموم و إطلاق، أمّا العموم فباعتبار شموله بجمیع الأخبار، و أمّا الإطلاق فباعتبار عدم کونه مقیّداً بحال عدم المعارض.

و حینئذٍ: فإذا ورد خبران متعارضان یدور الأمر بین رفع الید عن العموم و الحکم بعدم حجّیة شیء منهما، و بین حفظ العموم علی حاله و رفع الید عن الإطلاق و القول بحجّیة کلّ واحد منهما مع رفع الید عن الآخر، و هذا هو الذی ینبغی أن یختار، لأنّ التصرّفات فی الدلیل تتقدّر بقدر الضرورة، و مع إمکان التصرّف القلیل لا مسوغ للتصرّف الکثیر، و هذا نظیر المتزاحمین، حیث إنّ العقل یحکم فیهما بالتخییر، لأجل عدم إمکان امتثالهما، هذا.

و یرد علیه: أمّا بناءً علی کون المستفاد من النقل هو الحجّیة من باب الطریقیّة: أنّ قیاس المقام بباب المتزاحمین قیاس مع الفارق، لأنّه هناک کان

ص:383

المکلّف متوجّهاً إلیه تکلیفان نفسیّان تعلّق کلّ واحد منهما بمتعلّق خاص، و حیث لا یکون قادراً علی جمعهما فی مقام الامتثال و لا مرجّح فی البین یحکم العقل بالتخییر.

و أمّا هنا فالتکلیف المتعلّق بتصدیق العادل تکلیف طریقی، و مرجعه إلی لزوم متابعة الخبر لکونه طریقاً و کاشفاً عن الواقع، و لا معنی للحکم بالتخییر بین الطریقین اللذین کانت حجّیتهما لأجل الطریقیّة، و العقل یحکم بتساقطهما لامتناع ثبوت الکاشفیة لهما، ضرورة أنّه لا معنی للتخییر بین الخبرین بکون کلّ واحد منهما کاشفاً مع عدم العمل بالآخر، کما لا یخفی، هذا.

و أمّا بناءً علی کون المستفاد من النقل هو الحجّیة من باب السببیة فالأمر و إن کان یدور بین رفع الید عن العموم و تقیید الإطلاق، إلاّ أنّک عرفت فیما تقدّم أنّ ترجیح التقیید علی التخصیص إنّما هو فیما إذا کان الأمر دائراً بین التصرّف فی دلیل بالتخصیص و التصرّف فی ذلک الدلیل بالتقیید.

هذا کلّه بناءً علی الطریقیّة.

مقتضی الأصل بناءً علی السببیّة

و أمّا بناءً علی السببیة فتارة یقال: بکون الدلیل هو العقل، و اخری:

بأنّه هو النقل.

فعلی الأوّل قد یقال بخلوّ الواقع عن الأحکام و أنّها تابعة لقیام الأمارة، و بدونها لا حکم و لا تکلیف، و قد یقال بثبوت الأحکام الواقعیّة المشترکة بین العالم و الجاهل، کما انعقد علیه الإجماع و تواتر به الأخبار.

ص:384

فعلی الأوّل تارةً یقال: بأنّ قیام الأمارة علی تعلّق الحکم بشیء یوجب أن یکون ذلک الشیء محکوماً بذلک الحکم بعنوانه، و اخری: بأنّ قیام الأمارة علیه یوجب أن یکون متعلّق الحکم هو مؤدّی الأمارة بما أنّه مؤدّاها.

فعلی الأوّل یکون مرجع قیام الأمارة علی وجوب صلاة الجمعة و أمارة اخری علی حرمتها، إلی اشتمال صلاة الجمعة علی المصلحة الملزمة و المفسدة کذلک. و من المعلوم ارتفاع ذلک، فاللازم حینئذٍ الالتزام بتساقط الخبرین بعد عدم وجود مرجّح فی البین.

و علی الثانی الذی مرجعه إلی أنّ قیام الأمارة یوجب أن یکون متعلّق الحکم هو المؤدّی له بوصف أنّه المؤدّی له یکون مرجع الأمارتین و الخبرین إلی اشتمال مؤدّی خبر زرارة - مثلاً - علی المصلحة بما أنّه مؤدّی له، و کذا مؤدّی خبر محمّد بن مسلم، فإن قلنا بتغایر هذین العنوانین و کفایته فی تعدّد الحکم فلا معارضة بین الخبرین حینئذٍ، بل یصیر کعنوانی الصلاة و التصرّف فی مال الغیر، کما لا یخفی.

و إلّا یلزم التعارض و التساقط، هذا بناءً علی خلوّ الواقع عن الحکم المشترک بین العالم و الجاهل.

و أمّا بناءً علی ثبوت ذلک فلا بدّ أن تکون الأمارة المخالفة مشتملة علی مصلحة غیر ناقصة عن مصلحة الواقع، و حینئذٍ فحیث لا یکون المخالف المشتمل علی المصلحة غیر معلوم فاللازم أن یقال بالتخییر، لأجل عدم وجود المرجّح.

ص:385

مقتضی الأخبار الواردة فی المتکافئین

اشارة

هذا کلّه ما تقتضیه القاعدة فی المتعارضین المتکافئین، لکنّه قد ادّعی الإجماع علی عدم التساقط، و وردت روایات دالّة علیه، لکنّها مختلفة:

فطائفة منها تدلّ علی التخییر.

و طائفة علی التوقّف.

و قد ادّعی الشیخ قدس سره فی الرسائل تواتر الروایات الدالّة علی التخییر(1) ، و لکنّها حسبما تتبّعنا فی مظانّها التی هی الباب التاسع من کتاب قضاء الوسائل(2) و کذا الباب التاسع من مستدرکه(3) لا تتجاوز عن سبعة قاصرة من حیث السند و الدلالة، و قد مرّ بعضها، و هو روایتا الحمیری و علی بن مهزیار المتقدّمتان(4) فی فصل تعارض العامّ و الخاصّ، و هکذا أخبار التوقّف المذکورة فی الباب التاسع من الکتابین.

ما قیل فی وجه الجمع بین هاتین الطائفتین من الأخبار

و قد وقع الاختلاف فی الجمع بین هاتین الطائفتین و ما قیل فی ذلک وجوه:

منها: ما أفاده المحقّق النائینی فی التقریرات - بعد ذکر أنّ فی هذا الباب

ص:386


1- (1) - فرائد الاُصول 762:2.
2- (2) - وسائل الشیعة 106:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9.
3- (3) - مستدرک الوسائل 302:17، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9.
4- (4) - تقدّمتا فی الصفحة 334-335.

طوائف أربع من الروایات، لدلالة طائفة ثالثة علی التخییر فی خصوص زمان الحضور، و رابعة علی التوقّف فی خصوص ذلک الزمان - من أنّ مقتضی التحقیق فی الجمع بینها هو أنّ النسبة بین ما دلّ علی التخییر فی زمان الحضور و بین ما دلّ علی التخییر المطلق و إن کانت هی العموم و الخصوص، و کذا بین روایات التوقّف، إلاّ أنّه لا تعارض بینهما، لعدم المنافاة بین التوقّف المطلق و التوقّف فی زمان الحضور، و کذا بین التخییرین، فالتعارض بین ما دلّ علی التخییر و بین ما دلّ علی التوقّف، غایته أنّ التعارض بین ما دلّ علی التوقّف و التخییر مطلقاً یکون بالعموم من وجه، و بین ما دلّ علی التوقّف و التخییر فی زمان الحضور یکون بالتباین، و لا یهمّنا البحث فی الثانی، فإنّه لا أثر له، فالحری رفع التعارض فی الأوّل، و قد عرفت أنّ النسبة بینهما العموم من وجه، لکن نسبة ما دلّ علی التخییر مطلقاً مع ما دلّ علی التوقّف فی زمان الحضور هی العموم و الخصوص، فلا بدّ من تقیید إطلاق التخییر به، و به یتحقّق انقلاب النسبة من العموم من وجه إلی العموم المطلق، و مقتضی الصناعة حمل أخبار التوقّف علی زمان الحضور و التمکّن من ملاقاة الإمام علیه السلام، فتصیر النتیجة هی التخییر فی زمان الغیبة کما علیه المشهور(1) ، انتهی ملخّصاً.

و یرد علیه: - مضافاً إلی أنّه لم یظهر لنا أنّ النسبة بین ما دلّ علی التخییر مطلقاً و بین ما دلّ علی التوقّف کذلک کیف تکون بالعموم من وجه بعد شمول کلّ منهما لحالتی الظهور و الغیبة، بل النسبة بین الدلیلین هی التباین کالنسبة بین أدلّة التوقّف و التخییر فی زمان الحضور، کما لا یخفی. و مضافاً إلی

ص:387


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 764:4-765.

ما أورده الفاضل المقرّر فی الهامش من أنّه لا وجه لملاحظة دلیل التخییر مطلقاً مع دلیل التوقّف فی زمان الحضور حتّی یختصّ دلیل التخییر بحال الغیبة و صار مخصّصاً لدلیل التوقّف المطلق بعد ما کانت النسبة بینهما هی العموم من وجه، علی حسب ما أفاده، فإنّه لیس بأولی من العکس و ملاحظة دلیل التوقّف مطلقاً مع دلیل التخییر فی زمان الحضور و تخصیصه بحال الغیبة ثمّ جعله مخصّصاً لدلیل التخییر مطلقاً، کما لا یخفی - أنّه لا وجه لملاحظة دلیل التخییر مطلقاً مع دلیل التوقّف فی زمان الحضور بعد کونه مبتلی بالمعارض علی ما هو المفروض، و هو دلیل التخییر فی زمان الحضور الذی ذکر أنّ النسبة بینهما التباین.

و بالجملة: فهذا النحو من الجمع ممّا لا وجه له.

و به ینقدح الخلل فی الجمع الذی أفاده الشیخ قدس سره فی الرسائل(1) و هو حمل أخبار التوقّف علی صورة التمکّن من الوصول إلی الإمام علیه السلام، فإنّه لا وجه له بعد اختلاف الأخبار بالنحو الذی عرفت، مضافاً إلی أنّ المراد بالتمکّن إن کان هو التمکّن الذی کان الشخص معه قادراً علی الرجوع إلی الإمام فوراً کما إذا کان معه فی مدینة واحدة، فمن الواضح إباء أخبار التوقف عن الحمل علی خصوص هذه الصورة، و إن کان المراد به هو التمکّن بمعنی مجرّد القدرة علی الوصول إلی محضره و لو مع تحمّل مشقّة السفر، فمن الواضح أنّ حمل أخبار التخییر علی صورة عدم التمکّن بهذا المعنی بعید جدّاً، کما لا یخفی، خصوصاً مع کون الغایة فی بعض الروایات ملاقاة من یخبره، و من المعلوم أنّ المخبر أعمّ من الإمام علیه السلام.

ص:388


1- (1) - فرائد الاُصول 763:2.

و منها: ما أفاده المحقّق الحائری قدس سره فی کتاب الدرر(1) فی مقام الجمع، من حمل أخبار التوقّف علی التوقّف فی مقام الرأی و الإفتاء، و أخبار التخییر علی التخییر فی العمل.

و یرد علیه: أنّه کما یستفاد من أدلّة التخییر جواز العمل بکل واحد من الخبرین، کذلک یوجد فی أخبار التوقّف ما ظاهره النهی عن العمل بشیء منهما لا النهی عن الرأی و الإفتاء، فراجع، فهذا الجمع أیضاً ممّا لا شاهد له.

و الذی یمکن أن یقال فی مقام الجمع: إنّ أدلّة التخییر صریحة فی جواز الأخذ بکلّ من الخبرین، فإنّ قوله علیه السلام:

«فموسّع علیک بأیّهما أخذت» (2) ، صریح فی التوسعة و جواز الأخذ بکلّ منهما. و أمّا أخبار التوقّف فلیس فیها ما کان نصّاً فی ذلک، بل غایته الظهور فی التوقّف و عدم الأخذ بشیء منهما، و الظاهر لا یقاوم النصّ، فیحمل أخبار التوقّف علی الاستحباب، لصراحة أخبار التخییر فی الجواز.

و هنا وجوه اخر من الجمع، مثل حمل أخبار التخییر علی العبادات و أخبار الإرجاء علی المعاملات، أو حمل أخبار الإرجاء علی صورة عدم الاضطرار إلی العمل بأحدهما، و أخبار التخییر علی ما إذا لم یکن له بدّ من العمل بأحدهما، و ذکر أکثر هذه الوجوه العلّامة المجلسی قدس سره فی کتاب مرآة العقول(3).

ص:389


1- (1) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 657.
2- (2) - الاحتجاج 233/264:2، وسائل الشیعة 121:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 40.
3- (3) - مرآة العقول 218:1-219.

و قد استدلّ لبعض هذه الوجوه بروایة المیثمی الطویلة التی أوردها فی الوسائل فی الباب التاسع من أبواب کتاب القضاء(1) و لکنّها لا دلالة لها علی التخییر الذی هو المقصود فی المقام، لأنّه حکم ظاهری و التخییر الذی یدلّ علیه هذه الروایة هو التخییر الواقعی، لأنّ مورده النهی التنزیهی مع دلیل الرخصة أو الأمر غیر الإلزامی مع ذلک الدلیل.

و من المعلوم أنّ التخییر فی مثل هذه الموارد تخییر واقعی، کما هو واضح.

نعم ذیلها یدلّ علی التوقّف و التثبّت حتّی یأتی البیان من ناحیتهم، فهذه الروایة أیضاً من أخبار التوقّف، و لا بدّ من علاج التعارض بینها و بین أخبار التخییر فتأمّل جیّداً.

تنبیهات

اشارة

و ینبغی التنبیه علی امور:

التنبیه الأوّل: فی معنی التخییر فی المسألة الاُصولیة

لا ینبغی الارتیاب فی أنّ المستفاد من أخبار التخییر هو التخییر فی المسألة الاُصولیة، و مرجعه إلی کون المتحیّر مخیّراً فی الأخذ بأحد الخبرین و المعاملة معه معاملة الحجّة، کما لو کان بلا معارض، إنّما الإشکال فی

ص:390


1- (1) - وسائل الشیعة 113:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 21.

ما یرجع إلیه حقیقة التخییر بعد ما عرفت(1) من کون مقتضی القاعدة العقلائیة فی مقام التعارض تساقط الخبرین و سقوط الحجّتین و الطریقین.

قد یقال بأنّ مرجع جعل التخییر إلی جعل الطریقیّة عند التعارض.

و یرد علیه - مضافاً إلی أنّ أصل جعل الطریقیّة و الکاشفیة و لو مع عدم التعارض غیر معقول، لأنّ الکاشفیّة من الاُمور التکوینیّة و اللوازم العقلیّة للکاشف و لا یعقل تعلّق الجعل الشرعی بها - أنّه إن کان المراد جعل الطریقیّة لکلا الخبرین فهو مستحیل بعد فرض التعارض و عدم إمکان الاجتماع، ضرورة أنّه لو لم یکن مستحیلاً لما کان العقل یحکم بالتساقط، کما هو واضح.

و إن کان المراد جعل الطریقیّة لأحد الخبرین بالخصوص، فمضافاً إلی أنّه لا مرجّح فی البین، مناف لمقتضی الأدلّة، حیث إنّها تدلّ علی التخییر لا الأخذ بخصوص واحد منهما، و إن کان المراد جعلها لأحدهما غیر المعیّن فمن الواضح أنّ أحدهما لا علی سبیل التعیین لیس شیئاً وراء کلا الخبرین، ضرورة أنّه لیس هنا أمر آخر فی البین، و قد عرفت استحالة جعل الطریقیة لکلیهما أو واحد معیّن منهما، هذا.

و قد یقال بأنّ التخییر المجعول فی الخبرین المتکافئین هو حکم ظاهری مجعول عند الشکّ و فی مورد التحیّر، و یؤیّده ما فی بعض الروایات المتقدّمة من ترتیب الحکم بالتوسعة علی ما إذا لم یعلم، فهو أیضاً کسائر الاُصول المعتبرة فی موارد الشکّ.

و لازم هذا القول الاقتصار فی مقام الأخذ بأحد الخبرین علی مجرّد

ص:391


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 379.

مدلوله المطابقی دون لازمه، لعدم حجّیة اللوازم و لا الملزومات فی باب الاُصول، کما عرفت.

و التحقیق فی المقام أن یقال: إنّ الحکم بالتخییر فی المتعارضین لیس حکماً ثانویّاً وراء الحکم بحجّیة کلّ واحد من الخبرین إمضاءً لحکم العقلاء و بنائهم علی العمل بخبر الواحد.

غایة الأمر أنّ مرجعه إلی تخطئة العقلاء فی حکمهم بالتساقط مع التعارض، و مرجعه إلی أنّه کما کان الواجب علیکم الأخذ بالخبر و التعبّد بمضمونه و جعله حجّة و طریقاً إلی الواقع مع عدم التعارض مع الخبر الآخر، کذلک یجب علیکم فی مقام التعارض أیضاً الأخذ. غایة الأمر أنّه حیث لا یکون ترجیح فی البین یتخیّر المکلّف فی الأخذ بکلّ واحد منهما، فهذا الأخذ لا یکون مغایراً للأخذ بالخبر مع عدم المعارضة أصلاً، و حینئذٍ لا فرق بینهما من جهة حجّیة اللوازم و الملزومات.

و الدلیل علی ما ذکرنا: أنّ الظاهر عدم الفرق فیما یرجع إلی معنی الأخذ بین المتکافئین و المتعارضین مع ثبوت المزیّة لأحدهما، فکما أنّ الأمر بأخذ ذی المزیّة لیس حکماً آخر وراء الحکم بحجّیة الخبر، فکذلک الأمر بأخذ أحد الخبرین مع التکافؤ، فإنّه لیس أیضاً حکماً آخر ناظراً إلی جعل الطریقیّة و جعل حکم ظاهری، کما هو واضح.

و یرد علیه: أنّ تخطئة حکم العقلاء و إن کان بمکان من الإمکان، و لکن لا مجال لتخطئة حکم العقل. و قد عرفت(1) أنّ التساقط مقتضی حکم العقل

ص:392


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 379.

أیضاً، و علیه فیبقی الإشکال بحاله. و الظاهر أنّ الالتزام بالحکم الظاهری و الأصل العملی لا مانع منه و اقتضائه عدم الأخذ بغیر المدلول المطابقی و عدم حجّیة اللوازم، و مثلها ممنوع بعد کون التخییر هو الأصل العملی و المخیّر فیه هو الأخذ بکلّ واحد من الخبرین بجمیع مدالیله و لوازمه و مثلها، و لا مانع من عدم حجّیة المثبت و کون المخیّر فیه مطلق الأخذ.

التنبیه الثانی: فی حکم تخییر القاضی و المفتی فی عمله و عمل مقلّدیه

إنّه بعد ما عرفت من کون التخییر الذی یدلّ علیه أخباره هو التخییر فی المسألة الاُصولیّة، فهل یجوز للمجتهد الفتوی بالتخییر فی المسألة الفرعیّة الراجع إلی کون المقلّد مخیّراً فی مقام العمل، أم التخییر ینحصر بالمجتهد و یجب علیه الأخذ بمضمون أحد الخبرین و الفتوی علی طبقه؟ وجهان.

قد یقال: بانحصار الخطابات الواردة فی المسائل الاُصولیّة بخصوص المجتهد نظراً إلی أنّه هو الذی یتحقّق عنده موضوع تلک الخطابات، لأنّه هو الذی یشکّ فی الحکم الفلانی بالشبهة الحکمیّة، و هو الذی یجیء عنده الخبران المتعارضان، و غیر ذلک من الموضوعات، و مع انحصار تحقّق الموضوع به لا تکون تلک الخطابات شاملة لغیره، هذا.

و لکن الظاهر خلافه، لأنّ مجرّد کون المقلّد غیر مشخّص لموضوعات تلک الخطابات لا یوجب انحصارها بالمجتهد، بل یمکن أن یقال: بأنّ المجتهد یشخّص الموضوع للمقلّد و یفتی بمضمون تلک الخطابات. فبالنتیجة یکون جریانها فی ذلک الموضوع عند المقلّد، فالمجتهد یعلّم المقلّد بأنّ صلاة الجمعة کانت واجبة

ص:393

فی عصر ظهور أئمّة النور علیهم السلام و الآن مشکوک الوجوب، و یفتی بأنّ کلّ شیء کذلک یحرم نقض الیقین فیه بالشکّ علی ما هو مدلول خطابات الاستصحاب، فالمقلّد حینئذٍ یتمسّک بالاستصحاب و یحکم بوجوبها فی هذه الأعصار أیضاً و إن کانت الشبهة حکمیّة.

و إن شئت قلت: إنّ مورد الاستصحاب لا یختصّ بما إذا کان یقین وجدانی، بل مورده أعمّ منه و ممّا إذا قامت أمارة معتبرة، و إلّا لکان مورده فی غایة القلّة خصوصاً بالنسبة إلی الشبهات الحکمیّة. و من الواضح أنّ فتوی المجتهد من الأمارات المعتبرة، فإذا علم المقلّد بوجوب صلاة الجمعة فی عصر الظهور و الشکّ فی هذه الأعصار یحصل للمقلّد أمارة معتبرة علیه و الشکّ، فیتحقّق عنده موضوع الاستصحاب و یحکم بجریانه علی تقدیر کون المجتهد ممّن یقول باعتباره. فدعوی انحصار الخطابات الواردة فی المسائل الاُصولیّة بالمجتهد ممنوعة جدّاً.

و ممّا ذکرنا یظهر: أنّ المجتهد عند تعارض الخبرین عنده یتخیّر بین الأخذ بمضمون أحد الخبرین و الفتوی علی طبقه، لأنّک عرفت أنّه لیس المراد بالأخذ هو الأخذ بالنسبة إلی العمل فقط، بل الأخذ مطلقاً کالأخذ بالخبر مع عدم المعارض له، و بین إعلام المقلّد بالحال و أنّ هذا المورد ممّا ورد فیه الخبران المتعارضان و حکمه التخییر فی الأخذ، و بین الفتوی بالتخییر فی مقام العمل من دون إعلامه بالحال.

أمّا الأوّل و الثانی فواضحان، و أمّا الثالث، فلأنّ التخییر علی ما عرفت حکم طریقی، و مرجعه إلی جواز أخذ کلّ من الخبرین طریقاً و أمارة، فلا مانع من الفتوی بالتخییر، فتأمّل جیّداً.

ص:394

التنبیه الثالث: فی أنّ التخییر بدوی أو استمراری

هل التخییر بدوی مطلقاً، أو استمراری کذلک، أو تفصیل فیه بین ما إذا کان فی المسألة الاُصولیّة فبدوی و بین ما إذا کان فی المسألة الفقهیّة فاستمراری، أو تفصیل فیه بعد فرض کونه فی المسألة الاُصولیّة بین ما إذا قیل باختصاص الخطابات الواردة فی المسائل الاُصولیّة بالمجتهد، فالتخییر بدوی، و بین ما إذا قیل بعدم الاختصاص فاستمراری؟

وجوه و احتمالات أربعة، و المستند هو الأخبار الواردة فی التخییر و مع قصورها فالاستصحاب، و توضیح الحال: أنّه أفاد الشیخ قدس سره فی الرسالة أنّ مستند التخییر إن کان هو الأخبار الدالّة علیه فالظاهر أنّها مسوقة لبیان وظیفة المتحیّر فی ابتداء الأمر، فلا إطلاق فیها بالنسبة إلی حال المتحیّر بعد الالتزام بأحدهما(1) ، انتهی.

و یمکن تقریبه بأنّ هنا أمران:

أحدهما: وظیفة المتحیّر عند مجیء الخبرین المتعارضین عنده.

و ثانیهما: وظیفته بعد الأخذ بأحدهما، و السؤال عن هذه الوظیفة إنّما یصحّ مع ثبوت أصل وظیفة المتحیّر فی ابتداء الأمر و وضوحه عند السائل. و من المعلوم کما نراه أنّ الروایات الواردة فی التخییر لیس فیها إلاّ سؤال و جواب واحد، و هو السؤال عن أصل وظیفة المتحیّر ابتداءً و الجواب عنه، أو بیان أمر واحد و حکم فارد، هذا.

ص:395


1- (1) - فرائد الاُصول 764:2.

و یرد علیه: أنّه یمکن أن یستفاد من کثیر من الأخبار الواردة فی التخییر کونه استمراریّاً، و العمدة من ذلک روایتان:

إحداهما:

ما رواه الحسن بن جهم عن الرضا علیه السلام قلت: یجیئنا الرجلان - و کلاهما ثقة - بحدیثین مختلفین و لا نعلم أیّهما الحقّ؟

قال علیه السلام: «فإذا لم تعلم فموسّع علیک بأیّهما أخذت» (1) ، فإنّ تعلیق الحکم بالتوسعة علی مجرّد الجهل و عدم العلم خصوصاً مع إعادته فی الجواب مع کونه مذکوراً فی السؤال یدلّ علی أنّ تمام الموضوع للحکم بالتوسعة هو مجرّد الجهل بالواقع و عدم العلم و التردّد الناشئ من مجیء الحدیثین المختلفین. و من الواضح بقاء التردّد بعد الأخذ بأحدهما، لأنّ الأخذ به لا یوجب العلم بالواقع أو قیام أمارة علیه التی لا بدّ من الأخذ بها.

و قد عرفت أنّ التخییر وظیفة مجعولة فی مقام الشکّ و التحیّر، و لیس مرجعه إلی کون المأخوذ من الخبرین أمارة تعبّدیة فی صورة التعارض حتّی یکون قیام الأمارة رافعاً لموضوع الحکم بالتوسعة تعبّداً، بل التحقیق أنّه مع التخییر و الأخذ بأحد الخبرین لا یرتفع التحیّر و التردّد من البین، و المفروض أنّه الموضوع الفرید للحکم بالتوسعة و جواز الأخذ بما شاء من الخبرین.

ثانیتهما:

روایة الحرث بن المغیرة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال علیه السلام: «إذا سمعت من أصحابک الحدیث - و کلّهم ثقة - فموسّع علیک حتّی تری القائم علیه السلام فتردّ إلیه (2).

ص:396


1- (1) - الاحتجاج 233/264:2، وسائل الشیعة 121:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 40.
2- (2) - الاحتجاج 234/264:2، وسائل الشیعة 122:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 41.

و هذه الروایة و إن کان ربّما یناقش فی دلالتها علی التخییر فی المتعارضین، لعدم التعرّض لهما فی الموضوع، بل موضوع الحکم بالتوسعة مطلق الحدیث، إلاّ أنّ التمسّک بها لمکان کونها من أدلّة التخییر عند الشیخ قدس سره القائل بهذه المقالة، و هی قصور أدلّة التخییر عن الدلالة لحال المتحیّر بعد الالتزام بأحدهما، هذا.

مضافاً إلی أنّه یمکن أن یستفاد من التعبیر بالتوسعة المستعملة فی سائر روایات التخییر کون الموضوع هو المتعارضین، و إلی أنّ إطلاقه لهما یکفی لنا، کما لا یخفی.

و کیف کان: فدلالتها علی استمرار التخییر أوضح من الروایة السابقة، لأنّه جعل الغایة للحکم بالتوسعة هی رؤیة القائم علیه السلام و الردّ إلیه، فتدلّ علی بقائه مع عدم حصول الغایة، سواء کان فی ابتداء الأمر أو بعد الأخذ بأحد الخبرین، کما لا یخفی. فانقدح: أنّه لا مجال لدعوی الإهمال فی جمیع الروایات الواردة فی باب التخییر.

و أمّا الاستصحاب فنقول: الشکّ فی الاستمرار قد یکون مع فرض اختصاص التخییر بخصوص المسألة الاُصولیّة، و قد یکون لأجل الشکّ فی أنّ التخییر فی المسألة الاُصولیّة أو فی المسألة الفرعیّة، و قد یکون لأجل الشکّ فی أنّه مع کون التخییر فی المسألة الاُصولیّة هل الخطابات الواردة فیها مختصة بالمجتهد أو تعمّ المقلّد؟

فعلی الأوّل لا بدّ من ملاحظة ما جعل فی الأخبار موضوعاً للحکم بالتخییر، فنقول: یحتمل فیه وجوه أربعة:

ص:397

أحدها: أن یکون الموضوع هو شخص المکلّف فیما إذا لم یعلم بما هو الحقّ من الخبرین المتعارضین.

ثانیها: أن یکون الموضوع هو من لم یعلم حقیّة واحد منهما.

ثالثها: أن یکون الموضوع هو المتحیّر بما هو المتحیّر.

رابعها: أن یکون الموضوع خصوص من لم یختر أحد الخبرین، کما یظهر من الشیخ قدس سره(1)

. فعلی الأوّلین لا مانع من الاستصحاب، لبقاء الموضوع المأخوذ فی الدلیل بعد الأخذ أیضاً، و علی الأخیرین أیضاً لا مانع منه، لأنّه بعد ما صار الشخص الخارجی مورداً للحکم بالتخییر نقول: هذا الشخص کان مخیّراً و الآن نشکّ فی بقاء تخییره، فهو بعد باق علیه، نظیر الاستصحاب الجاری فی الماء المتغیّر بعد زوال تغیّره من قبل نفسه، کما أومأنا إلیه مراراً. و علی الثانی و الثالث یصیر هذا الاستصحاب من أفراد القسم الثانی من الأقسام الثلاثة من استصحاب الکلّی، کما لا یخفی.

فانقدح من جمیع ما ذکرنا دلالة الأدلّة من الأخبار و الاستصحاب علی کون التخییر استمراریّاً.

ثمّ إنّه قد یناقش فی جریان الاستصحاب بناءً علی الوجه الثانی و کذا الثالث، نظراً إلی ما ذکرناه فی باب الاستصحاب الکلّی من أنّ استصحاب الکلّی إنّما یجری إذا کان ذلک الکلّی مجعولاً شرعیّاً أو موضوعاً لترتّب أثر شرعی.

فیقال حینئذٍ: إنّ التخییر الجامع بین البدوی و الاستمراری لا یکون أمراً مجعولاً من الشارع، لأنّ المجعول الشرعی إمّا خصوص التخییر البدوی، و إمّا

ص:398


1- (1) - فرائد الاُصول 764:2.

خصوص التخییر الاستمراری، و الجامع بینهما أمر انتزاعی غیر مجعول أصلاً، نظیر القدر الجامع بین الوجوب و الاستحباب مثلاً، فلا یجری فی شیء منهما الاستصحاب أصلاً.

إلاّ أن یقال: بأنّ هذا الإشکال إنّما یجری فیما لو ارید استصحاب التخییر الکائن بالکون الناقص، بأن یکون المستصحب عبارة عن جملة «کان التخییر ثابتاً للمکلّف» و أمّا لو ارید استصحاب جملة «کان المکلّف مخیّراً» فلا مانع من جریانه. أو یقال بالفرق بین المقام و بین المثال المزبور، و هو القدر الجامع بین الوجوب و الاستحباب بأنّه لا یعقل جعل القدر الجامع هناک، و أمّا أصل التوسعة فیمکن تعلّق الجعل به بقوله علیه السلام:

«فموسّع علیک» و شبهه، فتأمّل.

و کیف کان: فنحن لا نحتاج إلی هذا الاستصحاب حتّی یورد علیه بما ذکر، لما عرفت من دلالة الروایات علی استمرار التخییر، مضافاً إلی أنّ الشکّ فیه علی تقدیره إنّما هو بعد الفراغ عن ثبوته فی خصوص المسألة الاُصولیّة و عدم اختصاص الخطابات الواردة فیها بالمجتهد، و قد عرفت(1) أنّه علی هذا التقدیر یجری الاستصحاب بلا کلام.

التنبیه الرابع: فی شمول أخبار التخییر لجمیع صور الخبرین المختلفین

إنّه لا إشکال فی تحقّق الموضوع المأخوذ فی أخبار التخییر - و هو مجیء الرجلین بحدیثین مختلفین - فیما إذا کان سند الروایتین مختلفین جمیعاً فی الإخبار مع الواسطة بأن لم یشترکا أصلاً حتّی فی واحد، إنّما الإشکال فیما إذا اشترکا فی منتهی السلسلة، سواء اشترکا فی غیره أیضاً أم لا، کما إذا روی

ص:399


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 393-394.

الکلینی بإسناده حدیثاً عن زرارة دالاًّ علی وجوب شیء، و روی الشیخ بإسناده حدیثاً عنه أیضاً دالاًّ علی حرمة ذلک الشیء، أو روی الکلینی عنه أیضاً ذلک الحدیث، فإنّه ربّما یمکن أن یقال بعدم کون هذا المورد مشمولاً لأخبار التخییر أصلاً، نظراً إلی أنّ المورد هو مجیء الرجلین بحدیثین مختلفین، و هنا کان الجائی بهما شخصاً واحداً و هو زرارة فقط، فلا یشمله أدلّة التخییر، هذا.

و یرد علیه: أنّ الظاهر عدم دخالة مجیء الرجلین بما هما رجلان، و لذا لو أتی بحدیثین غیر رجلین بل امرأتان أو مرء و مرأة لا خفاء فی دخوله فی موردها، مضافاً إلی أنّه یستفاد من أدلّة التخییر أنّ الشارع لم یرض برفع الید عن المتعارضین مع کون القاعدة تقتضی التساقط، فخلافه یوجب عدم رفع الید فی المقام أیضاً، کما لا یخفی، هذا.

و لو کان الحدیث المنقول فی الجوامع المتأخّرة مختلفاً من حیث النقل عن الجوامع الأوّلیّة، مثل ما إذا روی الکلینی فی الکافی حدیثاً عن کتاب حسین بن سعید الأهوازی، و روی الشیخ فی التهذیب - مثلاً - ما یغایره عن ذلک الکتاب أیضاً فالظاهر أیضاً شموله فی أخبار التخییر أیضاً إذا لم یعلم بکون الاختلاف مستنداً إلی اختلاف نسخ ذلک الکتاب، لأنّ الظاهر أنّ مثل الکلینی و الشیخ لم یکن فی أخذ الحدیث معتمداً علی ما هو المنقول فی الکتب، بل کان دأبهم علی الأخذ من الشیوخ إمّا بالقراءة علیهم أو بقراءتهم علیه، فهذا الاختلاف دلیل علی اختلاف الشیوخ النقلة لهذا الحدیث.

نعم لو کان الاختلاف فی نسخ الاُصول المتأخّرة و الجوامع الموجودة بأیدینا، کما إذا اختلفت نسخ الکافی - مثلاً - فی حدیث، فالظاهر عدم کونه مشمولاً لأخبار التخییر أصلاً، لأنّ هذا الاختلاف یکون مستنداً إلی الکتاب لا محالة، فلا یصدق مجیء الرجلین بحدیثین مختلفین، کما هو واضح.

ص:400

المقصد الثانی: فی الخبرین المتعارضین مع عدم التکافؤ

اشارة

فی الخبرین المتعارضین مع عدم التکافؤ

و الکلام فیه أیضاً یقع فی مقامین:

المقام الأوّل: فیما یحکم به العقل فی هذا الباب

فنقول: البحث فی حکم العقل فیه قد یقع بناءً علی اعتبار الخبر من باب الطریقیّة، و قد یقع بناءً علی السببیّة. و لیعلم أنّ التکلّم فی حکم العقل إنّما هو بعد الفراغ عن عدم کون الحکم فی المتکافئین هو التساقط و طرح الخبرین، بل بعد ثبوت کون الحکم فیهما هو التخییر.

و حینئذٍ نقول: أمّا بناءً علی اعتبار الخبر من باب الطریقیة، فإن قلنا: بأنّ المجعول عند التعارض هی الطریقیّة و الکاشفیّة، فلا ینبغی الارتیاب فی المقام فی أنّه لا بدّ من الأخذ بذی المزیّة أو بما یحتمل اشتماله علیها، لأنّه یدور الأمر بین أن یکون الطریق المجعول بعد التعارض هو خصوص الخبر الراجح أو أحدهما تخییراً، فحجّیة الخبر الراجح متیقّنة لا ریب فیها، و أمّا الخبر غیر الراجح فیشکّ فی طریقیّته و کاشفیّته عند التعارض، لأنّه یحتمل اعتبار الشارع بالمزیّة الموجودة فی الآخر، و الشکّ فی باب الحجّة و الطریق مساوق للقطع

ص:401

بعدم حجّیته، لأنّها ترجع إلی صحّة الاحتجاج للمولی علی العبد و کذا العکس، و لا یصحّ الاحتجاج مع الشکّ قطعاً.

و إن لم نقل بأنّ المجعول فی مورد التعارض هی الطریقیّة و الکاشفیة، بل قلنا بأنّ المجعول إنّما هو حکم وجوبی و وظیفة للمکلّف المتحیّر عند تعارض الطریقین عنده، نظراً إلی استحالة کون الطریقیّة مجعولة، أمّا مطلقاً، لأنّها من الاُمور التکوینیّة غیر القابلة لتعلّق الجعل بها، أو فی خصوص المقام، لاستحالة جعل الطریقیة للمتناقضین کما عرفت(1). فالأمر یدور بین التعیین و التخییر، لأنّه یحتمل تعلّق التکلیف الوجوبی بالأخذ بخصوص الخبر الراجح، و یحتمل تعلّقه علی سبیل الوجوب التخییری بکلا الخبرین، و الحکم فیه هو البراءة أو الاشتغال علی خلاف ما عرفت فی بابه.

هذا کلّه بناءً علی اعتبار الخبر من باب الطریقیّة.

و أمّا بناءً علی السببیّة فقد اطلق القول فیها بصیرورة المقام من صغریات باب التزاحم مع احتمال رجحان أحد المتزاحمین، و لکن التحقیق عدم تمامیّة الإطلاق، بل إنّما یتمّ علی بعض الوجوه.

توضیح ذلک: أنّ السببیة إن کانت علی النحو الذی یقول به الأشاعرة من خلوّ الواقع عن الأحکام الواقعیّة و کون الحکم الواقعی تابعاً لقیام الأمارة، فلا معنی حینئذٍ لدعوی کون المقام من صغریات باب التزاحم، لأنّه لو فرض قیام أمارة علی وجوب صلاة الجمعة، و أمارة اخری علی حرمتها، فلا یمکن أن یکون فی صلاة الجمعة مصلحة ملزمة و فی ترکها أیضاً مصلحة ملزمة، أو فی فعلها

ص:402


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 384.

مفسدة ملزمة، و باب المتزاحمین ینحصر بما إذا اشتمل کلّ منهما علی تمام المصلحة الموجبة للحکم.

و کذا لو کانت السببیّة علی النحو الذی یقول به المعتزلة من ثبوت الأحکام الواقعیة فی الواقع، غایة الأمر أنّ مع قیام الأمارة علی خلافه لا یکون الحکم الفعلی إلاّ ما یطابق مدلول الأمارة، بمعنی أنّ فیه مصلحة غالبة علی مصلحة الواقع، فإنّه حینئذٍ لا یکون من ذلک الباب، لعدم إمکان امتثال کلّ من الفعل و الترک علی مصلحة ملزمة، کما هو واضح.

نعم لو کانت السببیّة بالمعنی المعقول غیر المستحیل، و هی الذی یرجع إلی اشتمال سلوک الطریق و التطرّق به علی المصلحة، فیصیر المقام من صغریات ذلک الباب، لأنّ المفروض أنّ سلوک کلّ من الأمارتین و التعبّد بکل من الخبرین مشتمل علی المصلحة، و لا یمکن الجمع بین المصلحتین، فیصیر من باب المتزاحمین، و حکمه أنّه مع احتمال اشتمال واحد منهما علی المزیّة یدور الأمر بین التعیین و التخییر، و الحکم فیه البراءة أو الاشتغال علی الخلاف المتقدّم فی بابه.

المقام الثانی

اشارة

فی مقتضی الأخبار الواردة فی هذا الباب

و أنّه هل هو وجوب الأخذ بذی المزیّة أم لا، و أنّ المزیّة المرجّحة ما ذا؟

فنقول: قد یقال بعدم وجوب الترجیح بالمرجّحات المنصوصة و لا بغیرها نظراً إلی أنّ ظاهر الأخبار الواردة فیه و إن کان هو الوجوب، إلاّ

ص:403

أنّ مقتضی الجمع بینها و بین أخبار التخییر مطلقاً هو حملها علی الاستحباب، لاستلزام إبقائه علی ظاهره و تقیید أخبار التخییر بصورة عدم ثبوت شیء من المرجّحات حمل أخبار التخییر علی الفرد النادر و إخراج أکثر الأفراد منها، و هو قبیح، أو إلی أنّ اختلاف الأخبار الواردة فی الترجیح فی المرجّحات من حیث اشتمال کلّ منها علی بعض ممّا لم یشتمل علیه الآخر أو من حیث الاختلاف فی الترتیب بین المرجّحات دلیل علی عدم وجوب الترجیح، کاختلاف الأخبار الواردة فی البئر و منزوحاته حیث استکشف منه الاستحباب، نظراً إلی أنّ الاختلاف خصوصاً مع کثرته لا یجتمع مع الحکم الإیجابی، بل هو دلیل علی أصل الرجحان، و الاختلاف محمول علی مراتبه من الشدّة و الضعف(1)

. و نحن نقول: لا بدّ من ملاحظة أخبار الترجیح و التکلّم فی مفادها حتّی یظهر أنّ المرجّح لإحدی الروایتین علی ما هو المجعول شرعاً المدلول علیه الأخبار لیس إلاّ واحداً أو اثنین.

و تقیید أخبار التخییر به لا یوجب إخراج أکثر الأفراد، و لا مانع منه أصلاً، خصوصاً بعد ما عرفت(2) من أنّه لیس فی الروایات التی ادّعی کونها دلیلاً علی التخییر إلاّ روایة واحدة دالّة علیه، و قد تقدّمت، و غیرها قاصر من حیث الدلالة جدّاً.

ص:404


1- (1) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 665-667.
2- (2) - تقدّم فی الصفحة 386.
انحصار المرجّح المنصوص فی موافقة الکتاب و مخالفة العامّة

فنقول: إنّ العمدة فی هذا الباب هی المقبولة(1) و المرفوعة(2) ، أمّا المرفوعة فهی قاصرة من حیث السند، لعدم کونها منقولة إلاّ فی کتاب عوالی اللآلی الذی طعن فیه و فی مؤلّفه صاحب الحدائق فی مقدّماته(3)

. و أمّا المقبولة فالتأمّل فیها یقضی بأن أکثر المرجّحات المذکورة فیها لیس مرجّحاً للروایة، بل إنّما هی مرجّحات لأحد الحکمین، فإنّ الأصدقیّة و الأورعیّة و الأعدلیّة المذکورة فیها إنّما جعلت مرجّحة لأحد الحکمین، و لا ارتباط لها بباب الروایة أصلاً، و أمّا الشهرة الفتوائیة التی جعلت وصفاً لإحدی الروایتین فالظاهر أنّها أیضاً من مرجّحات باب الحکم و أنّ الحکم الذی کان مستنده مشهوراً من حیث الفتوی راجح علی الآخر من غیر نظر إلی نفس المستندین.

و إن أبیت إلاّ عن دلالة المقبولة علی مرجّحیّة الشهرة لإحدی الروایتین مع قطع النظر عن کونهما مستندین للحکمین فنقول: إنّ جعل الشهرة من المرجّحات حینئذٍ ممنوعة، لأنّ الظاهر من المقبولة أنّ الروایة المطابقة

ص:405


1- (1) - الکافی 10/54:1، وسائل الشیعة 106:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 1.
2- (2) - عوالی اللآلی 229/133:4، مستدرک الوسائل 303:17، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 2.
3- (3) - الحدائق الناضرة 99:1.

للمشهور من مصادیق بیّن الرشد الذی یجب أن یتّبع، و غیر المشهور الذی هو الشاذّ النادر هو من أفراد بیّن الغی الذی یجب أن یُترک و یدع، لا من مصادیق الأمر المشکل الذی یجب أن یردّ إلی اللّه و الرسول، و حینئذٍ فالشهرة تمیّز الحجّة عن اللاحجّة، لا أنّها مرجّحة لإحدی الحجّتین علی الاُخری.

فانقدح: أنّ المرجّح فی مقام الفتوی الذی یدلّ علیه المقبولة لیس إلاّ موافقة الکتاب و مخالفة العامّة.

و من المعلوم أنّ تقیید ما یدلّ علی التخییر - الذی عرفت انحصاره فی خبر الحسن بن الجهم المتقدّم(1) - بالمقبولة مع عدم دلالتها إلاّ علی أنّ المرجّح للروایة أمران لیس تقییداً مستهجناً، کما هو واضح. فالإشکال الأوّل حینئذٍ لا یبقی له مجال.

و أمّا الإشکال الثانی الذی مرجعه إلی أنّ اختلاف الأخبار الواردة فی باب المرجّحات دلیل علی عدم لزوم الترجیح و عدم وجوبه، فالجواب عنه یتوقّف علی التکلّم فی مقامین:

حال الأخبار الواردة فی موافقة الکتاب

المقام الأوّل: فی الأخبار الواردة فیما یتعلّق بمخالف الکتاب من الروایات المرویّة عنهم علیهم السلام و هی علی طائفتین:

الطائفة الاُولی: ما تدلّ علی أنّ الخبر المخالف للکتاب ممّا لم یصدر عنهم علیهم السلام أصلاً، سواء کان له معارض أم لا، کما یقتضیه إطلاقها، و قد أورد جملة

ص:406


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 396.

منها فی الوسائل فی الباب التاسع من أبواب کتاب القضاء کخبر السکونی(1)

. و خبر أیّوب بن راشد(2) و هو ضعیف من حیث السند، لکنّه لا بأس به من حیث الدلالة، لأنّ الظاهر عرفاً من عدم الموافقة هو المخالفة و إن کان مفهوماً أعمّ، کما لا یخفی. و خبر أیّوب بن الحرّ، و صحیحة هشام بن الحکم، و مرسلة ابن بکیر(3) لکنّه لیس لها کثیر ربط بالمقام، و غیر ذلک ممّا أورده فی المستدرک(4) فی ذلک الکتاب.

و الطائفة الثانیة: ما وردت فی خصوص المتعارضین و ترجیح الموافق للکتاب علی المخالف کخبر ابن أبی یعفور(5) ، و لکن الظاهر أنّه من جملة الطائفة الاُولی، کما لا یخفی، و روایة الطبرسی(6) ، و هی أیضاً کالسابقة، و روایة العیّاشی(7) ، و هی أیضاً کسابقتیها، و روایة المیثمی الطویلة، و قد مرّت(8) هذه الروایة و التکلّم فیها، و

مصحّحة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه، قال: قال الصادق علیه السلام: «إذا ورد علیکم حدیثان مختلفان فاعرضوهما علی کتاب اللّه، فما

ص:407


1- (1) - وسائل الشیعة 109:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 10.
2- (2) - وسائل الشیعة 110:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 12.
3- (3) - وسائل الشیعة 111:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 14، 15، 18.
4- (4) - مستدرک الوسائل 302:17، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9.
5- (5) - وسائل الشیعة 110:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 11.
6- (6) - وسائل الشیعة 121:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 40.
7- (7) - وسائل الشیعة 123:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 47.
8- (8) - تقدّمت فی الصفحة 390.

وافق کتاب اللّه فخذوه، و ما خالف کتاب اللّه فردّوه، فإن لم تجدوهما فی کتاب اللّه فاعرضوهما علی أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، و ما خالف أخبارهم فخذوه» (1) ، هذا.

و قد جمع بین الطائفتین بحمل المخالفة فی الطائفة الاُولی علی المخالفة بالتباین الکلّی، و فی الطائفة الثانیة علی المخالفة بغیره، سواء کان بالعموم و الخصوص المطلق أو من وجه، و هذا الجمع و إن کان یبعّده اتّحاد التعبیرات الواقعة فی الطائفتین من أنّ المخالف زخرف أو باطل، أو لم نقله، أو اضربه علی الجدار، أو غیر ذلک من التعبیرات، إلاّ أنّ التحقیق یقتضی المسیر إلیه.

و توضیحه: أنّ إطلاق المخالفة فی الطائفة الاُولی یشمل جمیع أنحاء المخالفات بالتباین أو بالعموم و الخصوص بقسمیه، ضرورة أنّک عرفت(2) فی أوّل هذا الکتاب أنّ السالبة الکلّیة تناقض الموجبة الجزئیة و کذا العکس، لکنّک عرفت(3) أنّه فی محیط التقنین و جعل الأحکام علی سبیل العموم لا یعدّ مثل العامّ و الخاصّ مخالفین أصلاً و لا یحکمون بتساقطهما فی مورد التعارض أو الرجوع إلی المرجّح، فبهذه القرینة العقلائیّة ترفع الید عن إطلاق الطائفة الاُولی.

ص:408


1- (1) - وسائل الشیعة 118:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 29.
2- (2) - تقدّم فی الصفحة 320.
3- (3) - تقدّم فی الصفحة 321.

و أمّا الطائفة الثانیة الواردة فی خصوص المتعارضین، فلا قرینة علی رفع الید عن إطلاق المخالفة الواردة فیها، فمقتضاها أنّ فی الخبرین المتعارضین یردّ الخبر المخالف للکتاب، سواء کان مخالفته بنحو التباین أو بنحو العموم و الخصوص بقسمیه، و هذا لا ینافی وجوب ردّ الخبر المخالف للکتاب بالمخالفة بنحو التباین و لو لم یکن له معارض، کما هو مقتضی الطائفة الاُولی، کما لا یخفی.

ثمّ إنّه قد یقال: بأنّه لا ثمرة للنزاع فی کون موافقة الکتاب من المرجّحات، لأنّه علی أیّ تقدیر یجب الحکم علی وفق ما یدلّ علیه الکتاب، سواء کانت موافقته من المرجّحات أو لم تکن، و لکن کان الکتاب مرجعاً علی تقدیر تساقط الخبرین بعد تعارضهما.

و لکن یرد علیه بأنّه یمکن فرض مورد تترتّب الثمرة علی ذلک، و ذلک کما لو فرض دلالة الکتاب علی وجوب عتق الرقبة مطلقاً، من غیر تقیید بخصوص المؤمنة بعد إیقاع الظهار من الزوج، و وردت روایة دالّة علی أنّه: إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة. و روایة اخری دالّة علی أنّه: إن ظاهرت فلا تعتق رقبة مؤمنة، فإنّه علی تقدیر القول بالتساقط و الرجوع إلی الکتاب لا بدّ من الحکم بکفایة عتق مطلق الرقبة فی کفّارة الظهار و لو لم تکن مؤمنة، کما هو مدلول ظاهر الکتاب علی ما هو المفروض.

و أمّا علی تقدیر القول بترجیح الروایة الموافقة یردّ الروایة المخالفة، و یجب حینئذٍ ملاحظة الکتاب مع الروایة الموافقة له، و هما و إن کانا مثبتین، إلاّ أنّه حیث تکون وحدة السبب دلیلاً علی وحدة الحکم لا بدّ من تقیید الکتاب بالروایة الموافقة له و الحکم بتعیّن عتق خصوص الرقبة المؤمنة فی کفّارة الظهار.

ص:409

لا یقال: إنّه لا مجال فی المورد المفروض لإعمال المرجّح الذی هو موافقة الکتاب، ضرورة أنّ کلا الخبرین مخالفان للکتاب بالإطلاق و التقیید.

غایة الأمر الاختلاف بینهما إنّما هو من حیث النفی و الإثبات، کما لا یخفی.

لأنّا نقول: إعمال المرجّح إنّما هو فی ظرف وجود المعارض للخبر الموافق، و فی هذا الظرف لا یکون الخبر الموافق مخالفاً أصلاً، و المخالفة إنّما تتحقّق بعد إسقاط المعارض بالمخالفة، ففی ظرف التعارض لا یکون الخبر الموافق مخالفاً، و بعد سقوط المعارض لا مانع من تقدیمه علی الکتاب، لأجل اختلافهما بالإطلاق و التقیید، کما لا یخفی، هذا.

و تظهر الثمرة أیضاً بین المرجعیّة و المرجّحیّة أیضاً فیما إذا کان التعارض بین الخبرین بالعموم و الخصوص من وجه، و لکن قام الدلیل علی عدم إمکان التفکیک بین مورد الاجتماع و مورد الافتراق من حیث الحکم و کان الکتاب موافقاً لأحد الخبرین من حیث مادّة الاجتماع، فإن قلنا بالتساقط و الرجوع إلی الکتاب فیسقط الخبر الموافق بتمام مضمونه فی مادتی الاجتماع و الافتراق مع خبر الآخر و یرجع إلی الکتاب. و إن قلنا بأنّه مرجّح یؤخذ بالخبر الموافق فی تمام مضمونه.

و تظهر الثمرة بینهما أیضاً فیما إذا رتّب حکم آخر علی الحکم الذی یدلّ علیه الخبر الموافق للکتاب فی نفس ذلک الخبر، کما فیما لو فرض أنّ الکتاب یدلّ علی النهی عن شرب الخمر مثلاً، و الخبر الموافق دالّ علی النهی عن شربه و عن الصلاة فیه، بحیث لو علم أنّ الحکم الثانی مترتّب علی الأوّل و کان هنا خبر یدلّ علی جواز شرب الخمر، فإن قلنا بمرجعیة الکتاب بعد تساقط الخبرین یلزم أن لا یکون فی البین إلاّ کون شرب الخمر منهیّاً عنه فقط، و إن قلنا بمرجّحیّته للخبر الموافق یلزم ثبوت حکمین: حرمة الشرب، و عدم جواز الصلاة فیه، کما لا یخفی.

ص:410

حال الأخبار الواردة فی مخالفة العامّة

المقام الثانی: فی الأخبار الواردة فیما یتعلّق بمخالفة العامّة فی الروایات الواردة عنهم علیهم السلام و هی أیضاً علی طائفتین:

الطائفة الاُولی: ما یدلّ علی أنّ الخبر الموافق لهم ممّا لم یصدر أصلاً، سواء کان له معارض أم لا، کما هو مقتضی إطلاقها.

و الطائفة الثانیة: ما وردت فی خصوص المتعارضین و أنّه یرجّح الخبر المخالف لهم علی الموافق، معلّلاً فی بعضها بأنّ الرشد فی خلافهم، و لا بدّ إمّا من حمل الطائفة الاُولی علی مورد الطائفة الثانیة و القول باختصاص ذلک بالمتعارضین، و إمّا من طرح تلک الطائفة، لعدم إمکان الالتزام بوجوب ردّ مطلق الخبر الموافق للعامّة و إن لم یکن له معارض. فانقدح أنّ المستفاد من جمیع الأخبار الواردة فی المقامین أنّ هنا مرجّحان:

أحدهما: موافقة الکتاب.

و الآخر: مخالفة العامّة.

و تقیید أخبار التخییر بذلک لا یوجب الاستهجان أصلاً، خصوصاً بعد ما عرفت(1) من أنّه لا یکون هذا إلاّ خبر واحد دالّ علی التخییر. نعم یبقی الکلام فی أمرین:

أحدهما: أنّ مقتضی إطلاق الروایات الواردة فی موافقة الکتاب وجوب الترجیح بها، سواء کان أحد الخبرین مخالفاً للعامّة أم لم یکن، و کذا مقتضی

ص:411


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 386-387.

إطلاق الروایات الواردة فی الترجیح بمخالفة العامّة وجوب الأخذ بالخبر المخالف لهم، سواء کان موافقاً للکتاب أم لا، و من المعلوم عدم إمکان الجمع بین المقتضیین، فیحصل الشکّ فی ما هو المقدّم من المرجّحین. هذا، و لکن مصحّحة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه المتقدّمة(1) ترفع هذا الشکّ، لصراحتها فی تقدّم الترجیح بموافقة الکتاب علی الترجیح بمخالفة العامّة، کما هو واضح.

ثانیهما: أنّه ربّما یستفاد من بعض الروایات الترجیح بالأحدثیّة و بما صدر من الحی و بغیرهما من التعبیرات، و لکن التأمّل فیها یقضی بعدم کون المراد الترجیح بها فی مثل زماننا زمان الغیبة، بل المراد بها ظاهراً هو مثل ما وقع لعلی بن یقطین، حیث أمره علیه السلام ابتداءً بالوضوء علی وفق العامّة، ثمّ أمره به علی وفق ما یقول به الخاصّة، فإنّه لا إشکال فی أنّه یجب الأخذ بعد صدور المتأخّر بخصوص ذلک المتأخّر، کما لا یخفی.

تتمّة: فی التعدّی عن المرجّحات المنصوصة إلی غیرها

هل اللازم فی باب الترجیح الاقتصار علی خصوص المرجّحات المنصوصة التی قد عرفت أنّها لا تتجاوز عن اثنین علی ما یقتضیه التأمّل و التدقیق فی الروایات الواردة فی هذا الباب، أو أنّه یتعدّی عنها إلی کلّ ما یمکن أن یکون مرجّحاً، کما حکی عن جمهور المجتهدین الذاهب إلیه، بل ادّعی بعضهم ظهور الإجماع و عدم ظهور الخلاف علی وجوب العمل بالراجح من الدلیلین بعد أن حکی الإجماع علیه من جماعة.

ص:412


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 407.

و لا یخفی: أنّه لو قلنا بعدم ثبوت الإطلاق للروایات الدالّة علی التخییر، أو قلنا بأنّ مستند التخییر لیس إلاّ الإجماع، فاللازم القول بالتعدّی عن المرجّحات المنصوصة، لأنّه حینئذٍ لا بدّ أن یقتصر فی التخییر علی القدر المتیقّن، و هی صورة فقد المرجّحات جمیعاً، کما لا یخفی.

فیما استدلّ بها الشیخ الأعظم للتعدّی عن المرجّحات المنصوصة

و کیف کان فذکر الشیخ قدس سره فی الرسالة أنّ ما یمکن استفادة هذا المطلب منه فقرات من الروایات، و نحن نتعرّض لتلک الفقرات مع تقریب الاستدلال بها علی ما أفاده قدس سره و نجیب عن جمیعها، فنقول:

قال قدس سره: منها الترجیح بالأصدقیّة فی المقبولة، و بالأوثقیة فی المرفوعة، فإنّ اعتبار هاتین الصفتین لیس إلاّ لترجیح الأقرب إلی مطابقة الواقع فی نظر الناظر فی المتعارضین من حیث إنّه أقرب، من غیر مدخلیّة خصوصیّة سبب، و لیستا کالأعدلیّة و الأفقهیّة تحتملان لاعتبار الأقربیة الحاصلة من السبب الخاصّ، و حینئذٍ فإذا کان أحد الراویین أضبط من الآخر، أو أعرف بنقل الحدیث بالمعنی، أو شبه ذلک فیکون أصدق و أوثق من الراوی الآخر، و نتعدّی من صفات الراوی المرجّحة إلی صفات الروایة الموجبة لأقربیّة صدورها... إلی أن قال: و یؤیّد ما ذکرنا أنّ الراوی بعد سماع الترجیح بمجموع الصفات لم یسأل عن صورة وجود بعضها و تخالفها فی الروایتین، و إنّما سأل عن حکم صورة تساوی الراویین فی الصفات المذکورة و غیرها حتّی قال:

«لا یفضل أحدهما علی صاحبه» یعنی بمزیّة من المزایا أصلاً، فلو لا فهمه أنّ کلّ واحد من هذه الصفات و ما یشبهها مزیّة مستقلّة لم یکن وقع للسؤال عن

ص:413

صورة عدم المزیّة فیهما رأساً، بل ناسبه السؤال عن حکم عدم اجتماع الصفات فافهم(1) ، انتهی.

و یرد علیه - مضافاً إلی عدم وضوح الفرق بین الأصدقیّة و الأوثقیّة و بین الأعدلیّة و الأفقهیّة و شبههما من حیث الأقربیة إلی الواقع أصلاً - أنّ ظاهر الروایة هو کون المرجّح المجموع من حیث المجموع من الصفات، و لا دلیل علی رفع الید عن هذا الظهور، و ما ذکره تأییداً یؤیّد بل یدلّ علی ما ذکرنا، فإنّ عدم سؤال الراوی عن صورة وجود بعضها إنّما هو لأجل فهمه کون المرجّح هو المجموع، و لا یترتّب علی بعضها أثر أصلاً، و معنی قوله: لا یفضل أحدهما علی صاحبه، أنّ ما جعل مرجّحاً لا یکون فی خصوص أحدهما، بل کانا متساویین لأجل عدم اتّصاف واحد منهما بالمجموع الذی هو المرجّح، کما لا یخفی.

و منها: تعلیله علیه السلام الأخذ بالمشهور بقوله:

«فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه». توضیح ذلک: أنّ معنی کون الروایة مشهورة کونها معروفة عند الکلّ، کما یدلّ علیه فرض السائل کلیهما مشهورین. و المراد بالشاذّ ما لا یعرفه إلاّ القلیل.

و لا ریب أنّ المشهور بهذا المعنی لیس قطعیّاً من جمیع الجهات قطعی المتن و الدلالة حتّی یصیر ممّا لا ریب فیه، و إلّا لم یمکن فرضهما مشهورین، و لا الرجوع إلی صفات الراوی قبل ملاحظة الشهرة، و لا الحکم بالرجوع مع شهرتهما إلی المرجّحات الاُخر، فالمراد بنفی الریب نفیه بالإضافة إلی الشاذ، و معناه أنّ الریب المحتمل فی الشاذ غیر محتمل فیه، فیصیر حاصل التعلیل ترجیح المشهور علی الشاذّ بأنّ فی الشاذّ احتمالا لا یوجد فی المشهور. و مقتضی

ص:414


1- (1) - فرائد الاُصول 781:2.

التعدّی عن مورد النصّ فی العلّة وجوب الترجیح بکلّ ما یوجب کون أحد الخبرین أقلّ احتمالا لمخالفة الواقع(1) ، انتهی.

و یرد علیه: أنّ الظاهر کون المراد بعدم الریب فی المجمع علیه هو عدم الریب فیه حقیقة، و مقابله حینئذٍ ممّا لا ریب فی بطلانه، فالمجمع علیه داخل فی الأمر الذی بیّن رشده، و الشاذّ فی الأمر البیّن الغی.

و قد عرفت أنّ الشهرة لیست من المرجّحات، بل إنّما هی لتمییز الحجّة عن اللاحجّة لا لترجیح إحدی الحجّتین علی الاُخری، و الرجوع إلی صفات الحاکم قبل ملاحظة الشهرة التی هی دلیل قطعی یحتمل أن یکون لعدم صلاحیّة غیر الواجد لتلک الصفات الأربع مع وجود الواجد لها لمقام القضاوة و الحکومة أصلاً و لو کان قاضی التحکیم کما ذهب إلیه بعض، بل لعلّه کان مشهوراً، فالترجیح بتلک الصفات إنّما هو لأجل تمییز الصالح للحکومة عن غیره، و بعد فرض الراوی صلاحیتهما للحکومة لأجل عدم کون واحد منهما له فضل علی الآخر أوجب الإمام علیه السلام الرجوع إلی المستند الذی کان مشهوراً لأجل کونه قطعیّاً، کما لا یخفی.

و منها: تعلیلهم علیهم السلام لتقدیم الخبر المخالف للعامّة بأنّ الحق و الرشد فی خلافهم و أنّ ما وافقهم فیه التقیة، فإنّ هذه کلّها قضایا غالبیّة لا دائمیة، فیدلّ بحکم التعلیل علی وجوب ترجیح کلّ ما کان معه امارة الحقّ و الرشد، و ترک ما فیه مظنّة خلاف الحقّ و الرشد، بل الإنصاف أنّ مقتضی هذا التعلیل کسابقه وجوب الترجیح بما هو أبعد عن الباطل عن الآخر و إن لم یکن علیه أمارة

ص:415


1- (1) - فرائد الاُصول 781:2.

المطابقة، کما یدلّ علیه قوله علیه السلام:

«ما جاءکم عنّا من حدیثین مختلفین فقسهما علی کتاب اللّه و أحادیثنا، فإن أشبههما فهو حقّ، و إن لم یشبههما فهو باطل» (1) ، فإنّه لا توجیه لهاتین القضیّتین إلاّ ما ذکرنا من إرادة الأبعدیّة عن الباطل و الأقربیّة إلیه(2) ، انتهی.

و یرد علیه - مضافاً إلی عدم ظهور الروایات الواردة فی الترجیح بمخالفة العامّة فی کون الأخذ به معلّلاً بما ذکر، فانظر إلی المقبولة، یقول علیه السلام فیها:

«ما خالف العامّة ففیه الرشد» (3) ، فإنّه لیس بحسب العبارة تعلیلاً أصلاً، و إلی عدم وضوح الفرق بین الأقربیّة إلی الواقع و الأبعدیّة عن الباطل - أنّه مع تسلیمه یستفاد منه، أنّ مخالفة العامّة تکون بمرتبة من الإصابة، حتّی یکون الحقّ و الرشد فیها، و هو لا یدلّ علی أنّ کلّ ما کان بنظرنا أقرب إلی الواقع، یکون فیه الرشد و لو نوعاً و غالبیاً.

و بالجملة ما لم یحرز کون مزیّة بمرتبة مخالفة العامّة فی الإیصال إلی الحق، لا یجوز الأخذ بها، و أنّی لنا بإثباته؟

و منها: قوله علیه السلام:

«دع ما یریبک إلی ما لا یریبک» (4) دلّ علی أنّه إذا دار

ص:416


1- (1) - تفسیر العیاشی 7/9:1، وسائل الشیعة 123:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 48.
2- (2) - فرائد الاُصول 781:2-782.
3- (3) - الکافی 10/54:1، وسائل الشیعة 106:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 1.
4- (4) - راجع وسائل الشیعة 167:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 43 و 54.

الأمر بین الأمرین فی أحدهما ریب لیس فی الآخر ذلک الریب یجب الأخذ به، و لیس المراد نفی مطلق الریب، کما لا یخفی(1) ، انتهی.

و یرد علیه أنّ الظاهر عدم کون هذه الروایة ناظرة إلی باب المتعارضین أصلاً، بل الظاهر أنّها ناظرة إلی أنّ الأمر المشتبه بالشبهة الابتدائیّة ینبغی ترکه، نظراً إلی ما لا یکون فیه ریب من الثواب المترتّب علی ترکه، فهی أجنبیّة عن المقام. فانقدح ممّا ذکرنا: أنّه لم ینهض شیء ممّا تمسّک به الشیخ قدس سره لإفادة جواز التعدّی عن المرجّحات المنصوصة.

نعم یمکن التمسّک لإثبات ذلک إلی أنّ المستند لثبوت التخییر فی المتعارضین هو الإجماع، و لم یعلم کون مستند المجمعین هو الروایات الواردة فی التخییر، بل یمکن أن یقال بالعدم، نظراً إلی أنّ روایة التخییر ظاهرة فی جوازه و هم قائلون بوجوب الأخذ بأحدهما مخیّراً فتأمّل.

و إلی أنّه لو کان مستندهم فی ذلک هی الروایات الدالّة علی التخییر یلزم أن تکون محمولة علی الفرد النادر، لما عرفت(2) من ادّعاء بعضهم الإجماع علی وجوب العمل بالراجح من الدلیلین مطلقاً، و هذا یؤیّد بل یدلّ علی عدم کون استنادهم فی الحکم بالتخییر إلی الروایات أصلاً، و إلّا یلزم ما ذکر من حملها علی المورد النادر، فالمستند فی التخییر هو نفس الإجماع، و القدر المتیقّن منه إنّما هو صورة فقد المرجّح رأساً، و مع وجود شیء من المرجّحات یدور الأمر بین التعیین و التخییر، و عند دوران الأمر بینهما لا بدّ من الأخذ بالمعیّن کما تقدّم.

ص:417


1- (1) - فرائد الاُصول 782:2.
2- (2) - تقدّم فی الصفحة 412.
هل المرجّحات المنصوصة مرجّحات أصل الصدور أو جهة الصدور؟

بقی الکلام فی أنّ المرجّحات المنصوصة التی ذکرنا أنّها لا تتجاوز عن اثنین هل تکون مرجّحات أصل الصدور، أو جهة الصدور، أو المضمون؟

فنقول: أمّا بحسب الثبوت فکلّ محتمل، لأنّه یحتمل عدم کون الخبر الموافق للعامّة مثلاً صادراً أصلاً، و یحتمل عدم کون صدوره لبیان الحکم الواقعی.

و أمّا بحسب الإثبات فظاهر الروایات الدالّة علی مرجّحیّة موافقة الکتاب و مخالفة العامّة أنّ الخبر المخالف للکتاب أو الموافق للناس ممّا لم یصدر عنهم علیهم السلام أصلاً، فمقتضی القاعدة حینئذٍ عدم تقدّم واحد منهما علی الآخر، لکن قد عرفت(1) صراحة مصحّحة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه المتقدّمة فی تقدّم الترجیح بموافقة الکتاب علی الترجیح بمخالفة العامّة، فما فی التقریرات من تقدّم مرجّحات أصل الصدور علی مرجّحات جهة الصدور، و تقدّم هذه علی مرجّحات المضمون، و أنّ مخالفة العامّة من مرجّحات جهة الصدور و موافقة الکتاب من مرجّحات المضمون، فهی مؤخّرة عن الترجیح بمخالفة العامة لتقدّم جهة الصدور علی المضمون کتقدّم أصل الصدور علی جهة الصدور، ممنوع، لأنّ المستند فی هذا التقدیم إن کان هو العقل فقد عرفت أنّ حکمه فی المتعارضین هو السقوط رأساً، و إن کان هو النقل فهو صریح فی

ص:418


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 412.

تقدّم الترجیح بموافقة الکتاب علی الترجیح بمخالفة العامّة کما عرفت فی المصحّحة التصریح به. و العجب منه قدس سره أنّه قال علی ما فی التقریرات: إنّ العمل بهذا الصحیح مشکل(1)

. و کیف کان فلا ینبغی الإشکال فی لزوم مراعاة الترتیب بین هذین المرجّحین و فی أنّه مع فقدهما یرجع إلی سائر المرجّحات بناءً علی التعدّی کما عرفت(2) أنّه لا بدّ من المصیر إلیه.

إلی هنا انتهی الکلام فیما یتعلّق بمباحث التعادل و الترجیح، و بذلک ینتهی و یتمّ البحث فی المسائل الاُصولیّة، و الحمد للّه أوّلاً و آخراً و ظاهراً و باطناً.

و کان الفراغ من تسوید ذلک لیلة الجمعة المصادفة للیلة ولادة الإمام التاسع و النور الساطع محمّد بن علی الجواد سلام اللّه و صلواته علیه و علی آبائه الطاهرین و أولاده المنتجبین. 10 رجب 1377 ه. ق.

ص:419


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 784:4.
2- (2) - تقدّم فی الصفحة 412.

ص:420

الاجتهاد و التقلید

اشارة

و نحن نقتصر علی مباحثهما الهامّة و نترک غیرها، فنقول:

ص:421

ص:422

ذکر شئون الفقیه

اشارة

إنّ هنا عناوین ستّة مختلفة من حیث الآثار و الأحکام نذکرها فی ضمن امور:

الأوّل: من لا یجوز له الرجوع إلی الغیر

و هو من حصلت له قوّة الاستنباط و إن کان جاهلاً بالأحکام الشرعیّة فعلاً، إذ لا دلیل علی جواز رجوع الجاهل مطلقاً إلی العالم، بل الدلیل الفرید فی هذا الباب کما سیجیء هو بناء العقلاء و سیرتهم علی رجوع الجاهل فی کلّ فنّ و صنعة إلی العالم.

و من المعلوم عدم تحقّق هذا البناء فی الجاهل الذی یکون الفصل بین جهله و علمه هو المراجعة إلی المدارک و صرف ساعة أو ساعتین مثلاً، فإنّ مثله و إن کان جاهلاً قبل الرجوع، إلاّ أنّ الظاهر أنّه یلزم علیه المراجعة إلی المدارک لاستنباط الأحکام، خصوصاً بعد اختلاف أنظار المجتهدین و آراء المستنبطین، لعدم کون المسائل حسّیة بل نظریّة تختلف حسب اختلاف الأنظار.

ص:423

و بالجملة: فالظاهر أنّه لا ریب فی عدم جواز رجوع مثل هذا الشخص إلی مجتهد آخر، إمّا لعدم بناء العقلاء علی الرجوع إلی العالم فی مثل هذا المورد کما لا یبعد دعواه، و إمّا لعدم إحراز بنائهم علیه، کما أنّه لا مجال لإنکاره أصلاً، کما لا یخفی. و هذا لا فرق فیه بین المطلق و المتجزی بالنسبة إلی المسائل التی حصل له قوّة استنباط أحکامها.

الثانی: من یجوز له العمل بفتوی نفسه

و هو من بلغ رتبة الاجتهاد و حصلت له قوّة الاستنباط و کان قد استنبط الأحکام من مدارکها.

و لا یخفی: أنّ البلوغ إلی هذه المرتبة مشروط بشرائط، و هی الاطّلاع علی قوانین النحو و الصرف و لو بتحصیل قوّة بها یقدر علی الرجوع إلی الکتب المشتملة علیها و الاطّلاع علی القواعد المذکورة فیها.

و الاطّلاع علی کیفیّة المحاورات العرفیّة التی بهذه الطریقة القیت الأحکام الشرعیّة خصوصاً الفرعیّة، و هذا أمر مهمّ ربّما تقع الغفلة عنه لأجل کثرة المجانسة مع المطالب العقلیّة و شدّة الممارسة مع الاُمور العلمیّة، مع أنّه لا بدّ من إلقاء الروایات فی محیط عرف أهل السوق و حملها علی ما یفهمونه منها، لأنّ الراوی فی کثیر منها بل أکثرها کان من الأشخاص العادیّة و لم یکن مطّلعاً علی المطالب العلمیة بحیث یکون لفظ واحد عنده محتملاً لاحتمالات کثیرة موجبة لإجماله و عدم ظهوره فی شیء منها، کما نراه من بعض الفقهاء فی کثیر من المسائل الفقهیّة حیث یخرج الروایة الظاهرة فی معنی عن الظهور إلی

ص:424

الإجمال لأجل تکثیر الاحتمال.

و لا بدّ أیضاً من الاطّلاع علی أکثر قوانین المنطق، و الاطّلاع علی بعض مسائل علم الکلام، کمسألة التحسین و التقبیح علی ما ادّعاه الفرید البهبهانی، و من الاطّلاع علی علم الرجال، و کذا اللغة و لو بالرجوع إلی کتبهما و استنباط معنی اللغة و حال الراوی من کونه ثقة أو غیر ثقة، و من الاطّلاع علی علم الاُصول، لا علی جمیع مسائلها التی یبحث عنها فی هذه الأعصار، بل علی المسائل التی لها دخل فی استنباط حکم من الأحکام، کما لا یخفی.

الثالث: من یجوز له التصدّی لمقام الإفتاء

و هو من جاز له العمل برأی نفسه لأجل بلوغه رتبة الاجتهاد و حصول قوّة الاستنباط له، و مخالفة بعض الأخباریین مع الاُصولیین فی جواز الاجتهاد لعلّها کانت لأجل توهّمهم کون الاجتهاد عندهم هو الاجتهاد المعمول عند العامّة من العمل بالقیاس و الاستحسان عند فقد الدلیل الشرعی، و إلّا فالاجتهاد بالمعنی المعروف عند الإمامیّة ممّا لا محیص عنه للأخباری أیضاً، و ذلک لعدم إنکاره حجّیة قول الإمام علیه السلام و عدم تعدّی الاُصولی عنه، لأنّ دعواه مثل الإجماع و الاستدلال به إنّما هی لأجل کونه مشتملاً علی قول المعصوم أو کاشفاً عنه مثلاً.

و حینئذٍ یقوی فی النظر کون النزاع بینهما لفظیّاً، لأنّ ما یقول به الاُصولی لا محیص للأخباری من الالتزام به، و ما ینکره الأخباری لا یقول به الاُصولی أیضاً، کما لا یخفی.

ص:425

الرابع و الخامس: من یجوز له التصدّی لمقام القضاوة و الحکومة

اشارة

اعلم أنّ مقتضی حکم العقل مع قطع النظر عن الشرع أنّه لا ترجیح لأحد علی الآخر فی نفوذ حکمه علیه و عدم جواز مخالفة حکمه، لأنّ الناس فی ذلک شرعٌ سواء و إن کانوا مختلفین فی العلم و العدالة و غیرهما من سائر الجهات، إلاّ أنّ هذا الاختلاف بنفسه لا یوجب اختصاص بعضهم بالتصدّی لمقام القضاوة بحیث کان حکمه نافذاً علی الباقین و لم یجز لهم التخطّی عنه، فالعقل لا یری فضیلة لأحد علی الآخر من هذه الجهة.

نعم هو یحکم بثبوت حکم اللّه تبارک و تعالی و نفوذه فی حقّ جمیع الخلائق، لکونهم مملوکین له، و المملوک لا یقدر علی شیء.

و أمّا مع ملاحظة الشرع فنعلم بأنّ الشارع المبیّن لجمیع الأحکام حتّی أرش الخدش، و لجمیع الآداب و المستحبّات حتّی آداب بیت الخلاء لم یهمل هذا الأمر، بل جعل هذا المنصب لبعض من أفراد الناس یقیناً لأجل اختلال النظام و لزوم الحرج، و القدر المتیقّن من هذا البعض هو العلماء، لأنّهم امناء الرسل و ورثة الأنبیاء و رواة أحادیثهم و معدن أسرارهم، و القدر المتیقّن من العلماء هو الرجل العادل الحرّ البالغ، و بالجملة الجامع لجمیع الشرائط.

ثمّ لا یخفی أنّ استلزام عدم نفوذ حکم أحد علی الآخر، من حیث هو فی نظر العقل للاختلال و الحرج، لا یوجب أن یحکم العقل بثبوت هذه الفضیلة لبعض من الناس مع قطع النظر عن الشرع، لأجل أنّ تساوی جمیع الأفراد یستلزم ذلک، و کما أنّ اختلال النظام أمر سدّ الشارع سبیله، کذلک العقل یحکم بسدّ هذا

ص:426

الباب، و ذلک لأنّ غایة الأمر حکم العقل بأنّه لا بدّ من تحفّظ النظام و لزوم الاجتناب عمّا یوجب اختلاله.

و من الواضح أنّ هذا المعنی یغایر ثبوت فضیلة لبعض الناس علی الآخر و کون حکمه نافذاً علیه و لو کان مخالفاً للواقع، کما لا یخفی.

و کیف کان: فلا بدّ فی هذا الباب من ملاحظة الشرع، و قد عرفت أنّ مقتضی الدلیل الإجمالی فی هذا الباب کون المنصوب من جانب الشارع لهذا المنصب هو الفقیه الجامع لجمیع الصفات المذکورة.

الأخبار الدالّة علی ثبوت منصب الحکومة و القضاء للفقیه

و أمّا الدلیل التفصیلی فهی الروایات الواردة فی هذا الباب:

منها: - و هی العمدة - مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة(1) ، و هی تدلّ علی أنّ التحاکم إلی مثل السلطان أو القاضی الموجودین فی زمانهم فی حقّ أو باطلٍ تحاکم إلی الطاغوت، و أنّ ما یأخذه بحکمه إنّما یکون سحتاً و إن کان حقّه ثابتاً، لأنّه أخذ بحکم الطاغوت، و إنّما أمر اللّه أن یکفر به، و تدلّ علی أنّه لا بدّ من النظر فی ذلک إلی من کان منکم، أی من الإمامیّة الاثنی عشریّة ممّن قد روی حدیثنا و نظر فی حلالنا و حرامنا و عرف أحکامنا.

و الظاهر أنّ المراد بروایة الحدیث لیس مجرّد روایة حدیث و لو کان حدیثاً واحداً، بل المراد هو کونه راویة الحدیث و من کان شأنه النقل له و لو بصورة الفتوی، کما هو المعمول فی هذه الأعصار، و أنّ المراد من النظر فی

ص:427


1- (1) - تقدّم تخریجها فی الصفحة 416.

حلالهم و حرامهم و معرفة أحکامهم هو النظر و الاجتهاد و معرفة الأحکام عن دلیل تفصیلی، کما هو شأن الفقیه، فالمستفاد من الروایة وجوب الرجوع فی المنازعات و المحاکمات إلی الفقیه و المجتهد، لأنّه منصوب للحکومة و مجعول لها من قبل الصادق علیه السلام بقوله:

«فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً».

نعم، یقع الکلام فی أنّ المراد من الحکومة هل هو مجرّد منصب القضاوة، أو الأعمّ منه و من الحکومة و السلطنة، بحیث کان للفقیه السلطنة التامّة بالنسبة إلی جمیع الاُمور و کان واجداً لمقامین: مقام القضاوة، و مقام الولایة و الحکومة؟

و الظاهر هو الوجه الثانی بقرینیة صدر الروایة و سؤال السائل، فإنّ قوله: فی رجلین من الأصحاب کان بینهما منازعة فی دین أو میراث فتحاکما إلی السلطان أو إلی القضاة، یدلّ علی أنّ مراد السائل أعمّ من المنازعات التی یرجع فیها إلی القاضی لأجل فصل الخصومة و هی المنازعات المشتملة علی المدّعی و المنکر و أمثالها، و من المنازعات التی یرجع فیها إلی الوالی و الحاکم کالمنازعات الواقعة بین الناس غیر ما یشتمل منها علی المدّعی و المنکر و شبهه، فإنّ رفع ید الغاصب مثلاً أمر لا یرجع فیه إلاّ إلی الوالی، و لا شأن للقاضی فی مثل هذه الاُمور أصلاً. فتعمیم السائل التحاکم و تصریحه بالسلطان و القاضی معاً مع أنّ لکلّ منهما شأناً یغایر شأن الآخر دلیل علی أنّ المراد من المنازعة مطلق المنازعات.

و حینئذٍ فقوله بعد ذلک: «قلت: فکیف یصنعان؟» مرجعه إلی أنّه بعد حرمة التحاکم إلی السلطان و القاضی الجائرین ما وظیفة أصحابنا فی مطلق المنازعات؟ فحکم الإمام علیه السلام بالرجوع إلی الفقیه. فقوله علیه السلام: «

فإنّی قد

ص:428

جعلته علیکم حاکماً» بملاحظة صدر الروایة ظاهر فی أنّ المراد من الحکومة أعمّ من القضاوة و السلطنة.

فثبت أنّ الفقیه ثابت له ما کان ثابتاً للإمام علیه السلام من التصدّی لأمر القضاء و نفوذ حکمه علی الناس فی جمیع الاُمور.

و یدلّ علیه أیضاً أنّه علیه السلام جعل التحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل تحاکماً إلی الطاغوت الذی أمر اللّه أن یُکفر به، مع أنّ انطباق عنوان الطاغوت علی سلطان الجور الذی یرجع إلیه فی بعض المنازعات أولی من انطباقه علی القاضی من قبلهم، فهو و إن کان جائراً و طاغوتاً، إلاّ أنّه من شئون الوالی و السلطان، و هو الأصل فی الطغیان و رأس الضلال کما فسّر به الطاغوت فی اللغة.

و من ذلک یظهر أنّ عمدة النظر فی إرجاع الناس إلی الفقیه من الإمامیّة إلی المنازعات التی کان یرجع فیها إلی السلطان.

نعم لا محیص عن الاعتراف بالدلالة علی ثبوت منصب القضاوة له أیضاً، إلاّ أنّه لا تنحصر دلالة المقبولة بذلک، و سؤال السائل بعد ذلک لا یدلّ علیه بعد عدم کون فهمه حجّة، مضافاً إلی احتمال کون السؤال عن بعض الفروع، أ لا تری أنّه لا إشکال فی دلالة المقبولة علی جواز الرجوع إلی الفقیه الواحد مع عدم کونه مورداً لسؤال السائل أیضاً.

و کیف کان فلا إشکال فی أنّه یستفاد من المقبولة جواز دخالة الفقیه فی کلّ ما للقاضی و الوالی من الشئون.

و یدلّ علیه أیضاً

روایة أبی خدیجة قال: بعثنی أبو عبد اللّه علیه السلام إلی أصحابنا فقال: «قل لهم: إیّاکم إذا وقعت بینکم خصومة أو تداری فی شیء من الأخذ و العطاء أن تحاکموا إلی أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بینکم رجلاً قد

ص:429

عرف حلالنا و حرامنا، فإنّی قد جعلته علیکم قاضیاً، و إیّاکم أن یخاصم بعضکم بعضاً إلی السلطان الجائر» (1). لأنّ المراد بالقاضی إنّما هو معناه اللغوی الذی ینطبق علی الحکومة أیضاً، مضافاً إلی أنّ ذکر السلطان الجائر فی الذیل مع أنّه لم یکن الرجوع إلیه إلاّ فی بعض المنازعات قرینة علی عدم کون المراد بالقاضی خصوص المتصدّی لمنصب القضاوة، کما لا یخفی.

و یدلّ علیه أیضاً غیرها من بعض الروایات الاُخر:

و منها:

روایة أبی البختری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: «إنّ العلماء ورثة الأنبیاء و ذاک أنّ الأنبیاء لم یورّثوا درهماً و لا دیناراً، و إنّما أورثوا أحادیث من أحادیثهم، فمن أخذ بشیء منها فقد أخذ حظّاً وافراً...» (2) ، الحدیث.

و تقریب الاستدلال بها أنّ قوله علیه السلام:

«العلماء ورثة الأنبیاء» إن کان فی مقام الإنشاء و بصدد جعل الوراثة للعلماء فلا خفاء فی أنّ مقتضی إطلاق الوراثة کونهم وارثین للأنبیاء فی جمیع شئونهم و مناصبهم ما عدا منصب النبوّة.

و من الواضح ثبوت کلا المنصبین القضاوة و الحکومة للأنبیاء. و إن کان فی مقام الإخبار، کما یؤیّده بعض الأخبار، حیث ذکر هذه الجملة فی سیاق الجمل الخبریّة، فتدلّ أیضاً علی الإطلاق لکن لا بوضوح الإنشاء و الجعل، کما لا یخفی.

ص:430


1- (1) - تهذیب الأحکام 846/303:6، وسائل الشیعة 139:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 6.
2- (2) - الکافی 2/32:1، وسائل الشیعة 78:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 8، الحدیث 2.

و منها:

مرسلة الصدوق قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم: اللهمّ ارحم خلفائی، قیل: یا رسول اللّه و مَن خلفاؤک؟ قال:

الذین یأتون من بعدی و یروون حدیثی و سنّتی» (1). و رواه فی المجالس بزیادة:

«ثمّ یعلّمونها» (2) فإنّ إطلاق الخلیفة علی الفقهاء من دون تقییدها بجهة خاصّة یدلّ علی ثبوت منصبی القضاوة و الحکومة معاً لهم.

و منها:

روایة الفقه الرضوی علیه السلام أنّه قال: «منزلة الفقیه فی هذا الوقت کمنزلة الأنبیاء فی بنی إسرائیل» (3)

. و منها:

روایة إسماعیل بن جابر عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال:

«العلماء امناء» (4)

. و منها: غیر ذلک ممّا یستفاد منه توسعة دائرة ولایة الفقیه و ثبوت جمیع المناصب لهم.

و منها: غیر ذلک ممّا یمکن أن یستفاد منه ذلک.

هل یکون منصب القضاوة و مقام الحکومة للمتجزّی أم لا؟

ثمّ إنّه یقع الکلام بعد ذلک فی المتجزّی و أنّه هل یکون منصب القضاوة و مقام الحکومة ثابتین له أم لا؟

ص:431


1- (1) - الفقیه 915/302:4، وسائل الشیعة 139:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 7.
2- (2) - الأمالی، الصدوق: 4/152.
3- (3) - الفقه المنسوب إلی الإمام الرضا علیه السلام: 338.
4- (4) - الکافی 5/33:1.

و نقول: ظاهر المقبولة أنّ المجعول له الحکومة بالمعنی الأعمّ هو الراویة لأحادیثهم الناظر فی حلالهم و حرامهم و العارف لأحکامهم. و حیث إنّ المصدر المضاف و کذا الجمع المضاف یفیدان العموم فمقتضی ذلک انحصار هذا المنصب بالناظر فی جمیع الأحکام العارف لها بأجمعها فعلاً، فالجمود علی ظاهر العبارة و الاقتصار علیه یعطی أنّ غیر العارف بجمیع الأحکام سواء کانت مَلَکة استنباط الجمیع موجودة له أم لم تکن لا یصلح للحکومة و القضاوة، لعدم کونه عارفاً بجمیع الأحکام فعلاً علی ما یقتضیه ظهور العبارة.

و حینئذٍ یشکل ذلک بأنّ حصول هذه الصفة و تحقّقها فی غایة الندرة - لو لم نقل بامتناعه عادة - نظراً إلی أنّه کیف یمکن أن یکون الشخص عارفاً بجمیع الأحکام بحیث إذا سئل کان مستحضراً للجواب و لم یکن یحتاج إلی المراجعة، و قوّة الاستنباط و الوصول إلی الحکم بعد المراجعة لا تسمّی عرفاناً أصلاً، کما هو أوضح من أن یخفی.

و علی تقدیر إمکان حصول هذه الصفة لبعض الأشخاص فالاطّلاع علیه متعسّر، بل متعذّر، فکیف یمکن جعل هذا المنصب له مع شدّة الاحتیاج إلی شخص المجعول له هذا المنصب و کثرة المراجعة إلیه فی فصل الخصومة و رفع التنازع؟

فاللازم أن یقال بأنّ المراد بالعارف بأحکامهم هو الذی یکون عند العرف عارفاً بأحکامهم و لو کان عارفاً بأکثر تلک الأحکام، فی قبال العارف بأحکام غیرهم من الأحکام الناشئة عن الاُمور غیر الصالحة للدلیلیة، کالقیاس و الاستحسان و غیرهما.

نعم لا بدّ من أن یکون عارفاً بأحکام القضاء، و هذه اللابدیة تستفاد من

ص:432

مناسبة الحکم و الموضوع، فإنّه لا معنی لجعل منصب القضاوة لمن لا یکون عالماً بأحکامها، خصوصاً بعد کون القضاء له أحکام خاصّة لیس لها کثیر ارتباط بسائر أبواب الفقه.

فانقدح أنّ المجتهد المتجزّی الذی لا یسمّی عارفاً عُرفاً بأحکام الأئمّة و آراء العترة - صلوات اللّه علیهم أجمعین - لا یکون له حظّ من هذه المناصب الشریفة.

نعم قد عرفت أنّه لا یلزم أن یکون عارفاً بجمیع الأحکام فعلاً و عن استحضار کما هو مقتضی ظاهر المقبولة التی هی العمدة فی هذا الباب علی ما عرفت(1).

و هاهنا فروع:

الأوّل: أنّه هل یجوز للعامّی التصدّی للحکم و القضاء مستقلاًّ أم لا؟ فیه قولان: حکی عن الجواهر(2) أنّه استدلّ لنفوذ حکم العامّی و جواز قضائه بعدّة من الآیات و الروایات و کذا بغیرهما من الوجوه و الاعتبارات.

و لکن لا یخفی علی المتأمل فیها أنّه لا یستفاد من شیء منها ذلک، و لا ینهض شیء من تلک الوجوه و الاعتبارات لإفادة الجواز، فراجع تلک الأدلّة و تأمّل فیها تجدها غیر ناهضة لما رامه قدس سره مضافاً إلی أنّک عرفت ظهور المقبولة المتقدّمة فی أنّ المجعول له الحکومة هو الواجد للخصوصیّات المذکورة فیها. و کیف کان فلا ینبغی الارتیاب فی ذلک أصلاً.

ص:433


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 427.
2- (2) - جواهر الکلام 15:40.

الثانی: أنّه هل یجوز للمجتهد أن یأذن للعامّی و ینصبه للتصدّی للحکم و القضاء أم لیس له هذا الحقّ؟ و لا یخفی أنّ جواز ذلک للمجتهد متفرّع أوّلاً علی ملاحظة أنّه هل کان للنبی صلی الله علیه و آله و سلم و الأئمّة علیهم السلام هذا الحقّ الذی یرجع إلی جعل منصب القضاء و الحکم لشخص عامّی أم لا؟

و ثانیاً: علی ملاحظة أنّه لو فرض ثبوت هذا الحقّ لهم فهل یکون فی البین دلیل علی ثبوت هذا الحقّ للمجتهد أم لا؟

إذا عرفت ذلک فنقول: أمّا المقدّمة الاُولی الراجعة إلی ثبوت هذا الحقّ للنبی و الأئمّة علیهم السلام فالظاهر خلافه، لأنّه علی تقدیر تحقّق مثل هذا النصب لم یکن بدّ من الالتزام بالجواز، و لکنّ الظاهر عدم تحقّقه، و أمّا علی تقدیر عدم تحقّقه فنحن نعلم بأنّ العامّی لم یکن له أهلیّة، و مع عدمها کیف یمکن جعل هذا المنصب له، مضافاً إلی أنّ الشکّ فی ثبوت هذا الحقّ لهم یکفی فی عدم ثبوته للمجتهد، کما هو واضح.

و أمّا المقدّمة الثانیة فالظاهر ثبوتها.

و دعوی: أنّ الالتزام بعموم المنزلة و ثبوت جمیع ما للنبی و الأئمّة - صلوات اللّه علیهم أجمعین - للمجتهد الفقیه یوجب تخصیص الأکثر، لأنّه کان للنبی صلی الله علیه و آله و سلم خصائص ربّما تبلغ سبعین کما ذکره العلّامة فی کتاب التذکرة(1) و لم یکن شیء من تلک الخصائص ثابتاً للأئمّة علیهم السلام فضلاً عن الفقیه، و کذلک کان للأئمّة علیهم السلام بعض الخصائص التی نعلم بأنّه لا یتجاوز عنهم و لا یثبت للمجتهد.

فکیف یمکن حینئذٍ دعوی عموم المنزلة و إطلاق الوراثة؟

ص:434


1- (1) - تذکرة الفقهاء 565:2 /السطر 29 (ط - حجری).

مدفوعة: بأنّ الکبری الکلّیة التی نحن ندّعیها هو ثبوت جمیع ما کان للنبی و الأئمّة من حیث ثبوت الحکومة لهم لا جمیع ما ثبت لهم و لو من جهة النبوّة و الإمامة، و حینئذٍ لا یلزم تخصیص الأکثر بوجه، فالمقدّمة الثانیة لا مجال لإنکارها. نعم قد عرفت عدم تمامیّة المقدّمة الاُولی، و هو یکفی فی عدم الجواز کما هو واضح.

الثالث: هل یجوز للفقیه توکیل العامّی فی الحکم و القضاء من غیر أن ینصبه لذلک، أم لا یجوز التوکیل أیضاً؟ و دعوی الجواز مبتنیة علی ثبوت الإطلاق لأدلّة الوکالة، أو دعوی ثبوت بناء العقلاء علی التوکیل فی مثل هذه الاُمور، بضمیمة عدم الردع عنه، و کلتا الدعویین ممنوعتان.

أمّا دعوی الإطلاق لأدلّة الوکالة، فنقول: إنّ ما یمکن و توهّم دلالته علی الإطلاق من الروایات الواردة فی الباب روایتان:

إحداهما:

روایة معاویة بن وهب و جابر بن زید جمیعاً عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال: «من وکّل رجلاً علی إمضاء أمرٍ من الاُمور، فالوکالة ثابتة أبداً حتّی یعلمه بالخروج منها کما أعلمه بالدخول فیها» (1)

. ثانیتهما: روایة اخری مثل الروایة الاُولی(2) ، و من الواضح عدم دلالة شیء منهما علی الإطلاق، بل هما بصدد بیان أمر آخر مثل افتقار العزل إلی الإعلام بالخروج، کما لا یخفی.

و أمّا دعوی بناء العقلاء - فمضافاً إلی عدم ثبوت هذا البناء مع التفاتهم إلی

ص:435


1- (1) - الفقیه 166/47:3، وسائل الشیعة 161:19، کتاب الوکالة، الباب 1، الحدیث 1.
2- (2) - الفقیه 170/49:3، وسائل الشیعة 162:19، کتاب الوکالة، الباب 2، الحدیث 1.

أهمّیة المنصب - نقول: لم یثبت عدم الردع، لأنّ ثبوته یحتاج إلی دعوی ثبوت هذا البناء فی زمن الشارع، و هو لم یردع عنه، مع أنّه لم یکن هذا البناء فی ذلک الزمان أصلاً حتّی یردع عنه أو لم یردع.

فانقدح: أنّه کما لا یجوز للفقیه جعل هذا المنصب للعامّی کذلک لا یجوز له توکیله فی ذلک، بل لا بدّ له من المباشرة بنفسه.

هذا تمام الکلام فیما یتعلّق بمن یجوز له التصدّی للقضاء من الجهة التی ترتبط بالمقام، و إلّا فللقاضی شرائط اخر مذکورة فی الفقه.

السادس: من یجوز الرجوع إلیه

و لا شکّ فی اعتبار اجتهاده و عدم اجتهاد الراجع، لأنّ المستند فی هذا الباب هو رجوع الجاهل إلی العالم، و هو یقتضی ذلک، و هذا ممّا لا إشکال فیه، إنّما الإشکال فیما إذا وجد العالم و الأعلم معاً و أنّه هل یتعیّن الرجوع إلی الأعلم، أو یتخیّر بین الرجوع إلیه و الرجوع إلی العالم؟

مقتضی الأصل الأوّلی: وجوب تقلید الأعلم

اشارة

و ربّما یستدلّ علی تعیّن الرجوع إلی الأعلم تارةً: بأنّ جواز الرجوع إلیه إجماعی، و جواز الرجوع إلی غیره مع وجوده مشکوک فیه، فیتعیّن الرجوع إلیه، لأنّ جواز الرجوع إلی الغیر و الأخذ بقوله فی مقام العمل یحتاج إلی الدلیل، و لا دلیل علیه بالنسبة إلی غیر الأعلم معه.

و اخری: بأنّه یدور الأمر بین التعیین و التخییر، و لا بدّ هنا من الأخذ

ص:436

بخصوص المعیّن و إن قلنا بجریان البراءة عند دوران الأمر بینهما فی سائر الموارد، لأنّ مورد الدوران هنا هو الطریق و الحجّة، لأنّ فتوی العالم طریق للجاهل و حجّة بالنسبة إلیه، فالأمر دائر بین کون الحجّة هو خصوص فتوی الأعلم و کان فتوی العالم أیضاً طریقاً، فالأمر یرجع إلی الشکّ فی طریقیّة قول العالم مع وجود الأعلم، و لا ریب فی أنّ الطریقیّة و الحجّیة تحتاج إلی الدلیل، و لا دلیل بالنسبة إلیه، کما لا یخفی.

و ثالثة: بدلیل الانسداد بتقریب أنّ الرجوع إلی العلم التفصیلی فی کلّ مسألة متعذّر بالنسبة إلی الناس، و الامتثال العلمی الإجمالی الراجع إلی الاحتیاط التامّ غیر جائز أو غیر واجب، و الرجوع إلی المفضول عند وجود الفاضل ترجیح للمرجوح علی الراجح، فیتعیّن الرجوع إلی الفاضل.

و یرد علی هذا الدلیل أنّه لا مانع من التبعیض فی الاحتیاط، و لا یکون الرجوع إلی المفضول ترجیحاً للمرجوح علی الراجح مطلقاً، لأنّه قد یکون فتوی المفضول مطابقاً للأفضل من الفاضل الموجود، کما لا یخفی، هذا.

و ربّما استدلّ علی عدم تعیّن الفاضل بالاستصحاب؛ أی: استصحاب التخییر الثابت فیما إذا کانا متساویین فی العلم أوّلاً ثمّ فضل أحدهما علی الآخر، فإنّ زوال ذلک التخییر بحدوث الفضل فی أحدهما غیر معلوم، فیستصحب.

و قد ردّ علیهم هذا الاستدلال بالاستصحاب من الطرف الآخر، و تقریبه أنّه إذا لم یکن فی البین إلاّ مجتهد واحد، ثمّ وجد آخر مفضول، فإنّه مع وجوده یشکّ فی زوال تعیّن الرجوع إلی الأوّل الثابت قبل وجود الآخر.

و لا بدّ لنا من التکلّم فی مثل هذه الاستصحابات و نقول: قد أجاب الشیخ قدس سره

ص:437

عن استصحاب التخییر - علی ما فی تقریرات بحثه - بأنّ التخییر الثابت فی حال التساوی إنّما کان باعتبار القطع بعدم ترجیح أحدهما علی الآخر فی العلم و نحوه ممّا یشکّ فی کونه مرجّحاً فحیث زال القطع المزبور بحدوث ما یحتمل کونه مرجّحاً، أعنی الفضل فی أحدهما امتنع الاستصحاب(1) ، هذا.

و ربّما یجاب عنه أیضاً: بأنّ التخییر المستصحب حکم عقلی، و لا یجوز استصحاب الأحکام العقلیّة.

و لکنّه یندفع بأنّ المستصحب هو التخییر الشرعی المستکشف من التخییر العقلی بقاعدة الملازمة، و لکنّه مع ذلک لا مجال لاستصحابه، لأنّ الأحکام الشرعیّة المنکشفة من الأحکام العقلیّة بقاعدة الملازمة تتبع فی السعة و الضیق مناط تلک الأحکام العقلیّة، و لا یعقل أن تکون ثابتة بملاک آخر، فإذا کان الملاک للحکم بالتخییر هو القطع بعدم ترجیح أحدهما علی الآخر فی العلم و نحوه فکیف یمکن أن یکون الحکم الشرعی ثابتاً مع وجود ما یحتمل کونه مرجّحاً أعنی الفضل فی أحدهما، مع أنّه تابع للحکم العقلی مستکشفاً منه، فالتخییر المستصحب ممّا یقطع بعدمه مع تحقق الفضل فی أحدهما، و التخییر فی زمان الشکّ علی تقدیره کان حکماً آخر حادثاً فی ذلک الزمان و لا یکون مستتبعاً للحکم العقلی، و الجامع بین التخییرین لا یکون مجعولاً شرعاً و لا مترتّباً علیه أثر شرعی کما ذکرناه مراراً، فلا موقع لاستصحابه.

ص:438


1- (1) - مطارح الانظار: 273 /السطر 23.

حول الاستدلال ببناء العقلاء للتقلید

و لا بدّ بعد ذلک من الرجوع إلی أصل ما یدلّ علی التقلید من الدلیل، ثمّ التکلّم فی أنّ مقتضاه هل هو التخییر أو تعیّن الرجوع إلی الأعلم فنقول: الدلیل علیه هو بناء العقلاء علی رجوع الجاهل فی کلّ صنعة إلی العالم بها، و لا إشکال فی أصل ثبوت هذا البناء، فلا مجال للمناقشة فیه.

شبهة عدم وجود هذا البناء فی زمن الأئمّة علیهم السلام

إنّما الإشکال فی أنّ بناء العقلاء علی شیء بمجرّده لا یکون دلیلاً علی ذلک الشیء ما لم یکن مورداً لإمضاء الشارع و لو بعدم الردع عنه.

مع أنّه قد یقال فی المقام: إنّ بناء العقلاء علی رجوع الجاهل بالأحکام الشرعیّة إلی المجتهد المستنبط لها، و بعبارة اخری: بناء العقلاء علی التقلید، أمر حادث بعد الغیبة الکبری، و لم یکن ثابتاً فی زمان النبی و الأئمّة - صلوات اللّه علیهم أجمعین - بوجه حتّی یکون عدم الردع عنه کاشفاً عن کونه مرضیّاً للشارع، کما هو الشأن فی جمیع الاُمور التی کان بناء العقلاء علیها حادثاً فی الأزمنة المتأخّرة، فإنّه لا یکون شیء منها بثابت عند الشارع، لعدم ثبوته فی زمانه حتّی دلّ عدم ردعه علی رضایته، فاللازم علی من یجوّز التقلید مستنداً إلی بناء العقلاء علیه إمّا إثبات کون التقلید و الرجوع إلی المجتهد بهذا النحو المعمول فی هذه الأزمنة ثابتاً فی زمان المعصومین علیهم السلام أیضاً، و إمّا إثبات کون حدوثه فی هذه الأزمنة مع عدم ردع الشارع فی ذلک الزمان أیضاً کاشف عن

ص:439

رضی الشارع به، و بدون إثبات أحد الأمرین لا مجال لتجویز التقلید أصلاً.

هذا غایة ما یمکن أن یقال فی مقام الإشکال علی الاستدلال للتقلید ببناء العقلاء.

الجواب الأوّل: ثبوت الاجتهاد و التقلید بهذا النحو فی زمن الأئمّة علیهم السلام

و یرد علیه أوّلاً: أنّ الظاهر ثبوت التقلید و الاجتهاد بهذا النحو فی زمن الأئمّة علیهم السلام و لنا علی ذلک شواهد کثیرة من الروایات الواردة عنهم علیهم السلام و هی علی طائفتین یکفی إثبات مضمون إحداهما علی سبیل منع الخلوّ.

الطائفة الاُولی: ما یستفاد منه جواز الاجتهاد و الاستنباط:

منها:

ما رواه ابن إدریس فی آخر السرائر نقلاً من کتاب هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: «إنّما علینا أن نلقی إلیکم الاُصول و علیکم أن تفرّعوا» (1).

و نقل من کتاب أحمد بن محمد بن أبی نصر عن الرضا علیه السلام قال: «علینا إلقاء الاُصول و علیکم التفریع» (2) ، و هل الاجتهاد إلاّ التفریع علی الاُصول المأخوذة عنهم و القواعد المسموعة منهم؟ أ لا تری أنّ جمیع المباحث المذکورة فی باب الاستصحاب التی ربّما تبلغ إلی کتاب مستقل یدور حول «لا تنقض الیقین بالشکّ» الذی هو أصل من الاُصول الصادرة عنهم؟ و هکذا سائر التفریعات.

ص:440


1- (1) - السرائر 575:3، وسائل الشیعة 61:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 6، الحدیث 51.
2- (2) - السرائر 575:3، وسائل الشیعة 62:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 6، الحدیث 52.

و بالجملة: لا مجال للمناقشة فی أنّ الاجتهاد عند الإمامیّة - رضوان اللّه علیهم - هو التفریع علی خصوص القواعد المتلقّاة عنهم فی قبال الجمهور الذین یعملون بالقیاس و الاستحسان مع عدم کونهما من الدین، بل یوجبان محقه، کما

ورد فی روایة أبان: «أنّ السنّة إذا قیست محق الدین» (1)

. و منها:

ما رواه أبو حیون مولی الرضا عن الرضا علیه السلام قال: «من ردّ متشابه القرآن إلی محکمه فقد هدی إلی صراط مستقیم» ثمّ قال: «إنّ فی أخبارنا محکماً کمحکم القرآن، و متشابهاً کمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلی محکمها، و لا تتّبعوا متشابهها دون محکمها فتضلّوا» (2)

. فإنّ ردّ المتشابه إلی المحکم لا یتیسّر بدون الاجتهاد، و لا یمکن أن یتحقّق بدون مقدّماته.

و منها:

ما رواه داود بن فرقد قال: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول: «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معانی کلامنا، إنّ الکلمة لتنصرف علی وجوه، فلو شاء إنسان لصرف کلامه کیف شاء و لا یکذب» (3) ، فإنّ تشخیص الوجه المقصود للإمام علیه السلام لا یمکن بدون الاجتهاد.

و منها: الأخبار الدالّة علی حرمة الفتوی بغیر علم الظاهرة فی عدم

ص:441


1- (1) - الکافی 15/46:1، وسائل الشیعة 41:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 6، الحدیث 10.
2- (2) - عیون أخبار الرضا علیه السلام 39/290:1، وسائل الشیعة 115:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 22.
3- (3) - معانی الأخبار: 1/1، وسائل الشیعة 117:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 27.

تحریمها إذا کان بعلم و حجّة(1)

. و منها: الأخبار العلاجیّة(2) الواردة فی علاج تعارض الخبرین و أنّه یؤخذ بموافق الکتاب و مخالف العامّة، فإنّ تشخیص الموافق للکتاب عن غیره و مخالف العامّة عن غیره لا یمکن بدون الاجتهاد، کما هو واضح.

و منها: خصوص المقبولة(3) الواردة فی تعارض الحکمین و اختلافهما لأجل الاختلاف فی مستند حکمهما، فإنّها ظاهرة فی أنّ الحاکم یجوز له استنباط الحکم من الروایات الصادرة عنهم فی الشبهات الحکمیّة و الحکم علی طبقه، کما لا یخفی.

و منها: ما یدلّ علی النهی عن الحکم بغیر ما أنزل اللّه(4) الظاهر فی جواز الحکم بما أنزل اللّه.

و من الواضح أنّ تشخیص ما أنزل اللّه لا یکاد یمکن بدون مراعاة جهات الواقعة، و اختلاف ما ورد فیها من الأدلّة، و تشخیص ما هو الحقّ عن غیره.

و منها:

روایة علی بن أسباط قال: قلت للرضا علیه السلام: یحدث الأمر لا أجد بدّاً من معرفته، و لیس فی البلد الذی أنا فیه أحد أستفتیه من موالیک؟ قال:

فقال: «ائت فقیه البلد فاستفته من أمرک، فإذا أفتاک بشیء فخذ بخلافه، فإنّ

ص:442


1- (1) - راجع وسائل الشیعة 20:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 4.
2- (2) - راجع وسائل الشیعة 106:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9.
3- (3) - الکافی 10/54:1، وسائل الشیعة 106:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 1.
4- (4) - راجع وسائل الشیعة 31:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 5.

الحقّ فیه» (1). و هذا یدلّ علی أنّ الاستفتاء و الرجوع إلی فتوی الفقیه فی زمان الأئمّة علیهم السلام أیضاً کان مفروغاً عنه عندهم و أمراً متداولاً بینهم. غایة الأمر أنّ السائل فی هذه الروایة إنّما یسأل عمّا لو لم یکن فی البلد من یستفتیه من فقهاء الإمامیّة.

و منها:

ما رواه فی المستدرک عن نهج البلاغة قال علیه السلام فیما کتب إلی قثم بن عباس: «و اجلس لهم العصرین فافت للمستفتی و علّم الجاهل و ذاکر العالم» (2)

. و منها: روایة یونس الطویلة(3) الواردة فی الاستحاضة الدالّة علی جواز الاجتهاد، حیث إنّه علیه السلام یستدلّ بکلام النبی صلی الله علیه و آله و سلم و یعلّم طریق الاجتهاد و الاستفادة من الکلمات الصادرة عنهم.

و منها: روایة زرارة(4) الواردة فی باب المسح الدالّة علی سؤاله عن الإمام علیه السلام حیث حکم بأنّ المسح علی بعض الرأس، و جوابه بأنّه لمکان الباء، و لم ینکر علیه طریق الاستفادة من الکتاب، کما هو شأن المجتهد.

ص:443


1- (1) - عیون أخبار الرضا علیه السلام 10/275:1، وسائل الشیعة 115:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 23.
2- (2) - نهج البلاغة: 67/457، مستدرک الوسائل 315:17، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 15.
3- (3) - الکافی 1/83:3، وسائل الشیعة 276:2، کتاب الطهارة، أبواب الحیض، الباب 3، الحدیث 4.
4- (4) - الفقیه 212/56:1، وسائل الشیعة 412:1، کتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23، الحدیث 1.

و منها: روایة عبد الأعلی(1) الواردة فی المسح علی المرارة الدالّة علی أنّ هذا و أشباهه یعرف من کتاب اللّه و لا یحتاج إلی السؤال.

و منها: ما قاله أبو جعفر علیه السلام لأبان بن تغلب ممّا یدلّ علی حبّه علیه السلام لأن یجلس فی المدینة و یبیّن للناس مسائل الحلال و الحرام و یفتی لهم(2)

. و منها: غیر ذلک.

و أمّا الطائفة الثانیة الدالّة علی إرجاع العوام من الناس إلی الخواصّ من أصحابهم فکثیرة جدّاً، کما یظهر بالتتبّع فی مظانّها(3)

. و بالجملة: فالمناقشة فی أصل وجود الاجتهاد و التقلید فی تلک الأزمنة ممّا لا ینبغی الإصغاء إلیها.

الجواب الثانی: کفایة عدم الردع للبناء الفعلی لإحراز رضی الشارع

نعم یقع الإشکال من جهة اخری، و هی أنّه لا شکّ فی أنّ هذه الاختلافات الکثیرة الموجودة بین أهل الفتیا فی مثل هذا الزمان لم تکن فی زمان الأئمّة علیهم السلام قطعاً، و حینئذٍ فکیف یمکن إحراز رضی الشارع و إمضائه لبناء العقلاء الموجود فعلاً، بعد اختلافه مع البناء المتحقّق فی الزمان السابق اختلافاً کثیراً لا یمکن أن یقاس أحدهما بالآخر أصلاً؟ فلا محیص حینئذٍ عن التوسّل بأنّ

ص:444


1- (1) - تهذیب الأحکام 1097/363:1، وسائل الشیعة 464:1، کتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 5.
2- (2) - وسائل الشیعة 291:30، الفائدة الثانیة عشرة.
3- (3) - راجع وسائل الشیعة 136:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11.

عدم الردع للبناء الفعلی یکفی فی إحراز رضی الشارع و تنفیذه له.

توضیحه: أنّه لا شکّ فی أنّه لم یکن بناء الشارع فی تبلیغ الأحکام و هدایة الأنام إلاّ علی التوسّل بالطرق العقلائیّة و الاُمور العادیّة، و لم یکن بناءه فی مقام بیان الأحکام علی الرجوع إلی علمه بالمغیبات و تبلیغ الأحکام حسب ما یعطیه ذلک العلم.

و حینئذٍ: فلیس دعوانا أنّ الشارع کان علیه أن یردع عن هذه الطریقة الفعلیّة لو کانت غیر مرضیّة له راجعة إلی أنّه لأجل کونه عالماً بالمغیبات لا بدّ له الردع أو الإمضاء بالنسبة إلی الاُمور المستقبلة و المتأخّرة عن زمانه، و إذا لم یردع یکشف ذلک عن رضاه بذلک.

بل نقول: إنّ هذه المسألة و هی الاجتهاد و الاستنباط و الرجوع إلی العالم بهذا النحو المعمول المتغایر لما کان متحقّقاً فی الزمان السابق ممّا یقتضی طبع الأمر حدوثها فی هذه الأزمنة، بحیث لم یکن حدوثها مخفیّاً علی العارفین بمسألة الإمامة و أنّه یغیب الثانی عشر من شموس الهدایة مدّة طویلة عن أعین الناس و أنظار العامّة، بحیث لا یکاد یمکن لهم الرجوع إلیه و الاستضاءة من نور الولایة، و فی ذلک الزمان لا بدّ للناس من الرجوع إلی علمائهم و الاستفتاء منهم مع شدّة اختلافهم بحیث قلّما یتّفق اتّحاد فتوی فقیه واحد فی کتبه المختلفة، بل فی جمیع المواضع من کتاب واحد، فضلاً عن اتّحاد فقیهین أو الفقهاء منهم، و کما أنّ أصل غیبة الإمام علیه السلام و اضطرار الناس إلی الرجوع إلی فقهائهم کان معلوماً فی زمان الأئمّة علیهم السلام لخواصّ أصحابهم، فضلاً عن أنفسهم، کذلک وجود هذا الاختلاف الکثیر و شدّة الشقاق و کثرة الآراء و الأقوال فی زمان الغیبة کان معلوماً لدیهم أیضاً، بل یمکن أن یقال - کما هو الظاهر - إنّهم علیهم السلام

ص:445

عمدوا إلی إیجاد هذا الاختلاف و هیّئوا مقدّماته اختیاراً، لغرض بقاء الدین، و صیرورة النظر فی الروایات الصادرة عنهم، و استخراج مراداتهم من الفنون حتّی یهمّ بعض الناس الورود فی هذا الفنّ و صرف أوقاته فیه، و بذلک یتحقّق حزب إلهی فی مقابل سائر الأحزاب، و لو أنّهم کانوا قد جمعوا آرائهم فی رسا واحدة و نشروها بین الاُمّة لیرجع إلیها کلّ من یقتدی بهم من دون تکلّف و مشقّة نعلم قطعاً بأنّه لم یکن یبقی من الدین فی مثل هذه الأزمنة عین و لا أثر، کما هو ظاهر لمن تدبّر.

و بالجملة: فلا ینبغی الشکّ فی أنّ هذا الوضع الفعلی کان معلوماً فی زمان الأئمّة علیهم السلام لا لأجل کونهم مطّلعین علی ما یکون، بل لأجل کون طبع الأمر ینجرّ إلی ذلک، و مع ذلک فلا محیص عن الالتزام بأنّ عدم ردعهم یکشف عن إمضاء الشارع و تنفیذه لنفس هذه الطریقة، فافهم و اغتنم.

إذا عرفت ذلک فنقول:

مناط بناء العقلاء فی رجوع الجاهل إلی العالم و مقتضاه

إنّ رجوع الجاهل إلی العالم یمکن أن یکون لأجل حصول الاطمئنان من قوله، بحیث لا ینقدح فی ذهنه احتمال الخلاف و لا یلتفت إلیه، و علی تقدیر التوجّه و الالتفات لا یعتنی به.

و یمکن أن یکون لأجل انسداد باب العلم علیه و اضطراره من الرجوع إلیه.

و یمکن أن یکون لأجل التبعیّة لأئمّتهم و رؤسائهم الجاعلین لهذا القانون فی الأزمنة السابقة لأغراض منظورة لهم، من دون أن یکون أمراً ارتکازیّاً للناس، بل صار ارتکازیّاً لهم بعد جعل رؤسائهم.

ص:446

فهذه احتمالات متصوّرة فی بادئ النظر، لکن لا سبیل إلی الثانی، لأنّ الانسداد لا ینتج الرجوع إلی العالم و التعبّد بقوله، بل یقتضی الاحتیاط و لو مبعّضاً کما لا یخفی.

و الثالث أیضاً فی غایة البعد بل مستحیل عادةً فإنّا نری أنّ هذا الأمر - و هو رجوع الجاهل إلی العالم - أمر متّفق علیه بین جمیع أهل الأمصار فی جمیع الأعصار و القرون.

فدعوی استناد ذلک إلی جعل الأئمّة و الرؤساء ترجع إلی تصادف اتّفاق جمیع الأئمّة علی جعل هذا الأمر مع کثرة الفصل بین البلاد و عدم الارتباط بین ساکنیها فی تلک الأزمنة أصلاً، فإسناد ذلک إلی مجرّد التصادف مستبعد جدّاً، بل محال عادة، کما عرفت.

فلا محیص عن الالتزام بأنّ الوجه فی رجوع الجاهل إلی العالم هو کون قوله طریقاً موجباً لحصول الاطمئنان بحیث لا یکاد ینقدح فی ذهنهم احتمال الخلاف کما هو الشأن فی مثل قاعدة الید من القواعد العقلیّة المتداولة بین الناس(1). نعم لا یبعد أن یکون للانسداد دخل فی أعمالهم فی جمیع الموارد أو فی بعضها.

لکن یرد علی هذا الوجه: أنّه کیف یمکن أن یدّعی بناء العقلاء علی إلغاء احتمال الخلاف و الخطأ مع هذه الاختلافات الکثیرة المشاهدة من الفقهاء بل من فقیه واحد فی کتبه العدیدة بل فی کتاب واحد. و لهذا لا یبعد أن یکون رجوع

ص:447


1- (1) - من هنا إلی آخر الکتاب عین عبارات سیّدنا الاُستاذ دام بقاءه فی رسالته الموضوعة فی هذا الباب فلا تغفل. [المقرّر حفظه اللّه].

العامّی إلی الفقیه إمّا لتوهّم کون فنّ الفقه - کسائر الفنون - یقلّ الخطأ فیه و کان رجوع المقلّد لمقدّمة باطلة و توهّم خطأ، أو لأمر تعبّدی أخذه الخلف عن السلف، لا لأمر عقلائی و هو أمر آخر غیر بناء العقلاء.

و دعوی قلّة خطأ العلماء بالنسبة إلی صوابهم بحیث یکون احتماله ملغی - و إن کثر - بعد ضمّ الموارد بعضها إلی بعض غیر وجیهة، مع ما نری من الاختلافات الکثیرة فی کلّ باب إلی ما شاء اللّه.

و قد یقال: إنّ المطلوب للعقلاء فی باب الاحتجاجات بین الموالی و العبید قیام الحجّة و سقوط التکلیف و العقاب بأیّ وجه اتّفق، و الرجوع إلی الفقهاء موجب لذلک، لأنّ المجتهدین مع اختلافهم فی الرأی مشترکون فی عدم الخطأ و التقصیر فی الاجتهاد، و لا ینافی ذلک الاختلاف فی الرأی، لإمکان عثور أحدهما علی حجّة فی غیر مظانّها، أو أصل من الاُصول المعتمدة و لم یعثر علیهما الآخر مع فحصه بالمقدار المتعارف، فتمسّک بالأصل العملی أو عمل علی الأمارة التی عنده، فلا یکون واحد منهما مخطئاً فی اجتهاده، و رأی کلّ منهما حجّة فی حقّه و حقّ غیره، فرجوع العقلاء إلیهما لأجل قیام الحجّة و العذر، و هما المطلوب لهم لا إصابة الواقع الأوّلی.

و أوضح من ذلک ما لو قلنا بجعل المماثل فی مؤدّی الأمارة.

و فیه أوّلاً: أنّ تسمیة ذلک «عدم الخطأ» فی غیر محلّه. نعم لا یکون ذلک تقصیراً و إن کان مخطئاً، و مع اختلافهما لا محالة یعلم بخطإ أحدهما، و معه لا یکون البناء علی الرجوع إذا کان الاختلاف کثیراً و لو فی غیر مورد اختلافهما، للاعتداد باحتمال الخطأ حینئذٍ.

ص:448

و ثانیاً: أنّه لو سلّم أنّ نظر العقلاء فی مثل المقام إلی تحصیل الحجّة و العذر، لکنّهما متوقّفان علی إلغاء احتمال خطأ الاجتهاد بالنسبة إلی التکالیف الواقعیة الأولیة، و هو فی المقام ممنوع، و مؤدّی الطرق لو فرض باطلاً کونه حکماً ثانویاً لا یوجب معذوریته بالنسبة إلی الواقعیات إلاّ للمعذور و هو المجتهد، لا للمقلّد الذی یکون مبنی عمله فتواه، و هو لیس معذّراً إلاّ مع کونه کسائر الأمارات العقلائیة قلیل الخطأ لدی العقلاء، و الفرض أنّ کلّ مجتهد یحکم بخطإ أخیه لا بتقصیره، و معه کیف یمکن حجّیة الفتوی.

نعم یمکن أن یقال: إنّ الأمر الثانی من الأمرین المتقدّمین یدفع الإشکال، فإنّ عدم ردع هذا البناء الخارجی دلیل علی رضاء الشارع المقدس بالعمل علی فتاوی الفقهاء مع الاختلاف المشهور.

لکن فی صیرورة ذلک هو البناء العقلائی المعروف و البناء علی أماریّة الفتوی کسائر الأمارات إشکالاً، إلاّ أن یقال؛ إنّ بناء المتشرّعة علی أخذ الفتوی طریقاً إلی الواقع، و العمل علی طبق الأماریّة و السکوت عنه دلیل علی الارتضاء بذلک، و هو ملازم لجعل الأماریّة له، و المسألة تحتاج إلی مزید تأمّل.

ثمّ إنّه بناءً علی أنّ المناط فی رجوع الجاهل إلی العالم هو إلغاء احتمال الخلاف و الخطأ بحیث یکون احتماله موهوماً لا یعتنی به العقلاء لا إشکال فی أنّ هذا المناط موجود عندهم فی تشخیصات أهل الخبرة و أصحاب الفنون، کان الأفضل موجوداً أو لا، و لهذا یعملون علی قوله مع عدم وجود الأفضل، و هذا دلیل قطعی علی تحقّق مناط العمل عندهم فی قول الفاضل، و إلّا فکیف یعقل العمل مع عدم المناط، فیکون المناط موجوداً کان الأفضل موجوداً أولا، اختلف

ص:449

رأیهما أو لا. فلو فرض تقدیمهم قول الأفضل عند الاختلاف فإنّما هو من باب ترجیح إحدی الحجّتین علی الاُخری، لا من باب عدم الملاک فی قول المفضول، لعدم تعقّل تحقّق المناط مع عدم الفاضل و عدمه مع وجوده، فقول المفضول حجّة و أمارة عقلائیّة فی نفسه، لأجل موهومیّة احتمال الخطأ، کما أنّ مناط العمل بقول الأفضل ذلک بعینه.

هل ترجیح قول الأفضل عند العقلاء لزومی أم لا؟

نعم یبقی فی المقام أمر، و هو أنّه هل بناء العقلاء علی ترجیح قول الأفضل لدی العلم بمخالفته مع غیره إجمالاً أو تفصیلاً یکون بنحو الإلزام، أو من باب حسن الاحتیاط و لیس بنحو اللزوم؟

لا یبعد الاحتمال الثانی، لوجود تمام الملاک فی کلیهما، و احتمال أقربیّة قول الأعلم - علی فرض صحّته - لم یکن بمثابة تری العقلاء ترجیحه علیه لزومیّاً، و لهذا تراهم یراجعون إلی المفضول بمجرّد أعذار غیر وجیهة کبعد الطریق و کثرة المراجعین، و مشقّة الرجوع إلیه و لو کانت قلیلة، و أمثال ذلک ممّا یعلم أنّه لو حکم العقل إلزاماً بالترجیح لما تکون تلک الأعذار وجیهة لدی العقل و العقلاء.

هذا مع علمهم إجمالاً بمخالفة أصحاب الفنّ فی الرأی فی الجملة، فلیس ترجیح الأفضل إلاّ ترجیحاً غیر ملزم و احتیاطاً حسناً، و لهذا لو أمکن لأحد تحصیل اجتماع أصحاب فنّ فی أمر و الاستفتاء منهم لَفَعَل، لا لأجل عدم الاعتناء بقول الأفضل أو الفاضل، بل للاحتیاط الراجح الحسن.

ص:450

و بالجملة: المناط کلّ المناط فی رجوعهم هو اعتقادهم بندرة الخطأ و إلغاء احتمال الخلاف، و هو موجود فی کلیهما.

فحینئذٍ مع تعارض قولهما مقتضی القاعدة تساقطهما و الرجوع إلی الاحتیاط مع الإمکان، و إلّا فالتخییر و إن کان ترجیح قول الأفضل حسناً علی أیّ حال، تأمّل.

هذا، و لکن مع ذلک فالذهاب إلی معارضة قول المفضول قول الأفضل مشکل، خصوصاً فی مثل ما نحن فیه - أی باب الاحتجاج بین العبید و الموالی - مع کون المقام من دوران الأمر بین التعیین و التخییر، و الأصل یقتضی التعیین، فالقول بلزوم تقدیم قول الأفضل لعلّه أوجه، مع أنّ الأصحاب أرسلوه إرسال المسلمات و الضروریات(1) ، مضافاً إلی عدم إحراز بناء العقلاء علی العمل بقول المفضول مع العلم التفصیلی بل الإجمالی المنجّز بمخالفته مع الفاضل لو لم یعلم بإحراز عدمه. نعم لا یبعد ذلک مع العلم بأنّ فی أقوالهم اختلافاً، لا مع العلم إجمالاً بأنّ فی هذا المورد أو مورد آخر مثلاً مختلفون.

و بعبارة اخری: إنّ بنائهم علی العمل فی مورد العلم الإجمالی الغیر المنجّز نظیر أطراف الشبهة الغیر المحصورة، هذا حال بناء العقلاء.

و أمّا حال الأدلّة الشرعیّة فلا بدّ من ذکر ما تشبّث به الطرفان و البحث فی أطرافهما.

ص:451


1- (1) - راجع مفاتیح الاُصول: 626 /السطر 12، مطارح الأنظار: 298 /السطر 20.

أدلّة جواز الرجوع إلی المفضول

اشارة

أمّا ما یمکن أن یتمسّک به لجواز الرجوع إلی المفضول مع وجود الأفضل، بل و مخالفة رأیهما امور:

الأوّل: بعض الآیات الشریفة

منها: قوله تعالی فی سورة الأنبیاء: «وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَکَ إِلاّ رِجالاً نُوحِی إِلَیْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (1) بدعوی أنّ إطلاقه یقتضی جواز الرجوع إلی المفضول حتّی مع مخالفة قوله للأفضل، سیّما مع ندرة التساوی بین العلماء و توافقهم فی الآراء.

و فیه - مضافاً إلی ظهور الآیة فی أنّ أهل الذکر هم علماء الیهود و النصاری و إرجاع المشرکین إلیهم، و إلی ورود روایات کثیرة فی أنّ أهل الذکر هم الأئمّة(2) بحیث یظهر منها أنّهم أهله لا غیر - أنّ الشبهة کانت فی اصول العقائد التی یجب فیها تحصیل العلم، فیکون المراد: «اسألوا أهل الذکر حتّی یحصل لکم العلم إن کنتم لا تعلمون» و معلوم أنّ السؤال عن واحد منهم لا یوجب العلم، ففی الآیة إهمال من هذه الجهة، فیکون المراد أنّ طریق تحصیل العلم لکم هو الرجوع إلی أهل الذکر، کما یقال للمریض: إنّ طریق استرجاع الصحّة

ص:452


1- (1) - الأنبیاء (21):7.
2- (2) - راجع الکافی 210:1.

هو الرجوع إلی الطبیب و شرب الدواء، فلیس لها إطلاق یقتضی الرجوع إلی الفاضل أو المفضول مع تعارض قولهما.

و لا یبعد أن یقال: إنّ الآیة بصدد إرجاعهم إلی أمر ارتکازی هو الرجوع إلی العالم، و لا تکون بصدد تحمیل تعبّدی و إیجاب مولوی.

و منها: آیة النفر «وَ ما کانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ» (1)

. و الاستدلال بها للمطلوب یتوقّف علی امور:

منها: استفادة وجوب النفر منها.

و منها: کون التفقّه غایة له.

و منها: کون الإنذار من جنس ما یتفقّه فیه.

و منها: انحصار التفقّه بالفرعیّات.

و منها: کون المنذر - بالکسر - کلّ واحد من النافرین.

و منها: کون المنذَر - بالفتح - کلّ واحد من الطائفة الباقیة.

و منها: کون التحذر عبارة عن العمل بقول المنذر.

و منها: وجوب العمل بقوله، حصل العلم منه أو لا، خالف قول غیره أو لا.

فیصیر مفاد الآیة بعد تسلیم المقدّمات: «یجب علی کلّ واحد من کلّ طائفة من کلّ فرقة النفر لتحصیل الفروع العملیّة، لیبیّنها لکلّ واحد من الباقین، لیعمل المنذر بقوله، حصل العلم منه أو لا، و خالف قول غیره أو لا».

ص:453


1- (1) - التوبة (9):122.

و أنت خبیر بعدم سلامة جمیع المقدّمات لو سلم بعضها، فلک أن تمنع کون التفقّه غایة النفر بأن یقال: إنّ قوله: «وَ ما کانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً» یحتمل أن یکون إخباراً فی مقام الإنشاء، أی لیس لهم النفر العمومی، کما ورد أنّ القوم کانوا ینفرون کافّة للجهاد و بقی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم وحده، فورد النهی عن النفر العمومی و الأمر بنفر طائفة للجهاد.

فحینئذٍ لا یکون التفقّه غایة للنفر إذا کان التفقه لغیر النافرین؛ أی الباقین. لکن الإنصاف أنّ ذلک خلاف ظاهرها، بل ظاهرها أنّ المؤمنین بحسب اشتغالهم بأُمور المعاش و نظم الدنیا ما کانوا لینفروا جمیعاً، أی النفر العمومی لیس میسوراً لهم، و لو لا نفر من کلّ فرقة طائفة منهم للتفقّه؟ و لا إشکال فی أنّ الظاهر منه مع قطع النظر عن قول المفسّرین هو کون التفقّه غایة له.

و أمّا کون الإنذار من سنخ ما یتفقّه فیه؛ أی بیان الأحکام بنحو الإنذار فلیست الآیة ظاهرة فیه، بل الظاهر منها أنّ غایة النفر أمران:

أحدهما: التفقّه فی الدین و فهم الأحکام الدینیّة.

و الآخر: إنذار القوم و موعظتهم. فیکون المراد: یجب علی الفقیه إنذار القوم و إیجاد الخوف من بأس اللّه فی قلوبهم، فإذا خافوا یحکم عقلهم بوجوب تحصیل المؤمِّن، فلا محیص لهم إلاّ العلم بالأحکام مقدّمة للعمل بها، و أمّا وجوب العمل بقول المنذر فلا تدلّ الآیة علیه.

و دعوی أنّ الإنذار لا بدّ و أن یکون من جنس ما یتفقّه فیه، و إلّا فأیّة مناسبة للفقیه معه، ممنوعة، لأنّ الإنذار مناسب للفقیه، لأنّه یعلم حدوده و کیفیّته و شرائط الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر، مع أنّ لکلامه تأثیراً فی القوم ما لا یکون لکلام غیره، لعلوّ مقامه و عظم شأنه لدیهم، و أمّا التفقّه فی

ص:454

الدین فهو أعمّ من الاُصول و الفروع، فلا وجه لاختصاصه بالثانی، و الأخبار الواردة فی تفسیرها تدلّ علی تعمیمه. فحینئذٍ لا یمکن أن یقال بوجوب قبول قوله تعبّداً، لعدم جریانه فی الاُصول.

اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ إطلاقها علی فرضه یقتضی قبول قول الغیر فی الاُصول و الفروع و یقیّد إطلاقها عقلاً فی الاُصول و تبقی الفروع.

و أمّا کون المنذر - بالکسر - کلّ واحد من الطائفة فلا إشکال فی ظهور الآیة فیه، لکنّ الظاهر منها أنّ کل واحد من المنذرین یجب علیه إنذار القوم جمیعاً، و معه لا تدلّ الآیة علی وجوب القبول من کلّ واحد منهم، فإنّه بإنذار کلّ واحد منهم قومهم ربّما یحصل لهم العلم.

و أمّا کون التحذّر بمعنی التحذّر العملی أی قبول قول الغیر و العمل به فهو خلاف ظاهرها، بل التحذّر إمّا بمعنی الخوف، و إمّا بمعنی الاحتراز و هو الترک عن خوف، و الظاهر أنّه بمعنی الخوف الحاصل عن إنذار المنذرین، و هو أمر غیر اختیاری لا یمکن أن یتعلّق بعنوانه الأمر، نعم یمکن تحصیله بمقدّمات اختیاریّة کالحبّ و البغض و أمثالهم، هذا کلّه مع أنّه لا إطلاق للآیة، ضرورة أنّها بصدد بیان کیفیّة النفر و أنّه إذن لا یمکن للناس نفر عمومی، فلِمَ لا ینفر طائفة منهم، فإنّه میسور لهم؟!

و بالجملة: لا یجوز للناس سدّ باب التفقّه و التعلّم بعذر الاشتغال بأُمور الدنیا؛ فإنّ أمر الدین کسائر امورهم یمکن قیام طائفة به، فلا بدّ من التفقّه و الإنذار، و أمّا وجوب قبول السامع بمجرّد السماع فلا إطلاق للآیة یدلّ علیه، فضلاً عن إطلاقها لحال التعارض.

و الإنصاف: أنّ الآیة أجنبیّة عن حجّیة قول المفتی، کما أنّها أجنبیّة عن

ص:455

حجّیة قول المخبر، بل مفادها - و العلم عند اللّه - أنّه یجب علی طائفة من کلّ فرقة أن یتفقّهوا فی الدین و یرجعوا إلی قومهم و ینذروهم بالمواعظ و الإنذارات و البیانات الموجبة لحصول الخوف فی قلوبهم لعلّهم یحذرون، و یحصل فی قلوبهم الخوف قهراً، فإذا حصل الخوف فی قلوبهم یدور رحی الدیانة و یقوم الناس بأمرها قهراً لسوقهم عقلهم نحو القیام بالوظائف.

هذا حالها مع قطع النظر عن الروایات الواردة فی تفسیرها، و مع النظر إلیها أیضاً لا تدلّ علی المطلوب.

لأنّ منها: ما تدلّ علی أنّ الإمام إذا مات لم یکن للناس عذر فی عدم معرفة الإمام الذی بعده، أمّا من فی البلد فلرفع حجّته، و أمّا غیر الحاضر فعلیه النفر إذا بلغه(1)

. و منها: ما دلّ علی أنّ تکلیف الناس بعد الإمام الطلب و أنّ النافرین فی عذر ما داموا فی الطلب، و المنتظرین فی عذر حتّی یرجع إلیهم أصحابهم(2). و معلوم أنّ قول النافرین بمجرّده لیس بحجّة فی باب الإمامة.

و منها: ما وردت فی علّة الحجّ، و فیها: «و لأجل ما فیه من التفقّه و نقل أخبار الأئمّة إلی کلّ صقع و ناحیة»(3)

. و منها: ما دلّ علی أنّه تعالی أمرهم أن ینفروا إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم

ص:456


1- (1) - راجع الکافی 2/378:1 و 3.
2- (2) - راجع الکافی 1/378:1.
3- (3) - راجع وسائل الشیعة 96:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 8، الحدیث 65.

فیتعلّموا، ثمّ یرجعوا إلیهم فیعلّموهم، و هو معنی قوله صلی الله علیه و آله و سلم:

«اختلاف امّتی رحمة» (1). و هذه الطائفة أیضاً لا تدلّ علی وجوب القبول بمجرّد السماع فضلاً عن حال التعارض، هذا حال الآیات الشریفة و الآیات الاُخری التی استدلّ بها أضعف دلالة منها.

الثانی: الأخبار التی استدلّ بها علی حجّیة قول المفضول

و أمّا الأخبار فمنها:

ما عن تفسیر الإمام علیه السلام فی ذیل قوله تعالی:

«وَ مِنْهُمْ أُمِّیُّونَ لا یَعْلَمُونَ الْکِتابَ إِلاّ أَمانِیَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ یَظُنُّونَ» (2) و الحدیث طویل و فیه: «و أمّا من کان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدینه، مخالفاً علی هواه، مطیعاً لأمر مولاه، فللعوام أن یقلّدوه» (3)

. دلّ بإطلاقه علی جواز تقلید المفضول إذا وجد فیه الشرائط و لو مع وجود الأفضل أو مخالفته له فی الرأی.

لکنّه - مع ضعف سنده و إمکان أن یقال إنّه فی مقام بیان حکم آخر، فلا إطلاق له لحال وجود الأفضل فضلاً عن صورة العلم بمخالفة رأیه رأی الأفضل - مخدوش من حیث الدلالة، لأنّ صدره فی بیان تقلید عوام الیهود من

ص:457


1- (1) - راجع وسائل الشیعة 140:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 10.
2- (2) - البقرة (2):78.
3- (3) - التفسیر المنسوب إلی الإمام العسکری علیه السلام: 299، وسائل الشیعة 131:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 10، الحدیث 20.

علمائهم فی الاُصول،

حیث قال: ««وَ إِنْ هُمْ إِلاّ یَظُنُّونَ» ما تقول رؤساؤهم من تکذیب محمّد صلی الله علیه و آله و سلم فی نبوّته و إمامة علی سیّد عترته، و هم یقلّدونهم مع أنّه محرّم علیهم تقلیدهم».

ثمّ بعد ما سأل الرجل عن الفرق بین عوامنا و عوامهم حیث کانوا مقلّدین؟ أجاب بما حاصله: إنّ عوامهم مع علمهم بفسق علمائهم و کذبهم و أکلهم الحرام و الرشا و تغییرهم أحکام اللّه یقلّدونهم، مع أنّ عقلهم یمنعهم عنه، و لو کان عوامهم [عوامنا] کذلک لکانوا مثلهم ثمّ قال:

«و أمّا من کان من الفقهاء...» إلی آخره.

فیظهر منه أنّ الذمّ لم یکن متوجّهاً إلی تقلیدهم فی اصول العقائد کالنبوّة و الإمامة، بل متوجّه إلی تقلید فسّاق العلماء، و أنّ عوامنا لو قلّدوا علمائهم فیما قلَّد الیهود علمائهم لا بأس به إذا کانوا صائنین لأنفسهم حافظین لدینهم... إلی آخره. فإخراج الاُصول منه إخراج للمورد و هو مستهجن.

فلا بدّ من توجیه الروایة بوجه أو ردّ علمها إلی أهلها. و أمّا حملها علی حصول العلم من قول العلماء للعوام لحسن ظنّهم به و عدم انقداح خلاف الواقع من قولهم، بل یکون قول العلماء لدیهم صراح الواقع و عین الحقیقة، فبعید بل غیر ممکن، لتصریحها بأنّهم لم یکونوا إلاّ ظانّین بقول رؤسائهم و أنّ عقلهم کان یحکم بعدم جواز تقلید الفاسق، مع أنّه لو حصل العلم من قولهم للیهود لم یتوجّه إلیهم ذمّ بل لم یسمّ ذلک تقلیداً.

و بالجملة: سوق الروایة إنّما هو فی التقلید الظنّی الذی یمکن ردع قسم منه و الأمر بالعمل بقسم منه، و الالتزام بجواز التقلید فی الاُصول أو فی بعضها کما تری، فالروایة مع ضعفها سنداً و اغتشاشها متناً لا تصلح للحجّیة، و لکن

ص:458

یستفاد منها مع ضعف سندها أمر تاریخی یؤیّد ما نحن بصدده، و هو أنّ التقلید بهذا المفهوم الذی فی زماننا کان شائعاً من زمن قدیم هو زمان الأئمّة، أو قریب منه؛ أی من زمان تدوین «تفسیر الإمام» أو من قبله بزمان طویل.

و منها: إطلاق صدر مقبولة عمر بن حنظلة(1) و إطلاق مشهورة أبی خدیجة(2). و تقریب الدلالة أن یقال: إنّ الظاهر من صدرها و ذیلها شمولها للشبهات الحکمیّة، فیؤخذ بإطلاقها فی غیر مورد واحد متعرّض له و هو صورة اختلاف الحَکَمین، و کذا المشهورة تشملها بإطلاقها، فإذا دلّتا علی نفوذ حکم الفقیه فیها، تدلاّن علی اعتبار فتواه فی باب فصل الخصومات، و إلّا فلا یعقل إنفاذه بدونه، و یفهم نفوذ فتواه و حجّیته فی غیره إمّا بإلغاء الخصوصیة عرفاً، أو بدعوی تنقیح المناط.

أو یقال: إنّ الظاهر من قوله:

«فإذا حکم بحکمنا». إلغاء احتمال الخلاف من فتوی الفقیه، إذ لیس المراد منه «أنّه إذا علمتم أنّه حکم بحکمنا»، بل المراد «أنّه إذا حکم بحکمنا بحسب نظره و رأیه» فجعل نظره طریقاً إلی حکمهم، هذا.

و لکن یرد علیه: أنّ إلغاء الخصوصیّة عرفاً ممنوع، ضرورة تحقّق خصوصیّة زائدة فی باب الحکومة ربّما تکون بنظر العرف دخیلة فیها و هی رفع

ص:459


1- (1) - الکافی 10/67:1، وسائل الشیعة 136:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 1.
2- (2) - تهذیب الأحکام 846/303:6، وسائل الشیعة 139:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 6.

الخصومة بین المتخاصمین، و هو لا یمکن نوعاً إلاّ بحکم الحاکم النافذ، و هذا أمر مرغوب فیه لا یمکن فیه الاحتیاط و لا یتّفق فیه المصالحة نوعاً، و أمّا العمل بقول الفقیه فربّما لا یکون مطلوباً و یکون المطلوب درک الواقع بالاحتیاط أو الأخذ بأحوط الأقوال مع تعذّر الاحتیاط التامّ.

فدعوی أنّ العرف یفهم من المقبولة و أمثالها حجّیة الفتوی لا تخلو من مجازفة، و أوضح فساداً من ذلک دعوی تنقیح المناط القطعی.

و أمّا قوله:

«إذا حکم بحکمنا» لو سلّم إشعاره بإلغاء احتمال الخلاف فإنّما هو فی باب الحکومة، فلا بدّ للسرایة إلی باب الفتوی من دلیل و هو مفقود، فالإنصاف عدم جواز التمسّک بأمثال المقبولة للتقلید رأساً، و کما لا یجوز التمسّک بصدرها علی جواز تقلید المفضول لا یجوز ببعض فقرات ذیلها علی وجوب تقلید الأعلم لدی مخالفة قوله مع غیره.

و منها؛ إطلاق ما فی التوقیع: «

و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فانّهم حجّتی علیکم و أنا حجّة اللّه» (1)

. و تقریبه: أنّ «الحوادث» أعمّ من الشبهات الحکمیّة، و الرجوع إلی رواة الحدیث ظاهر فی أخذ فتواهم لا أخذ نفس الروایة، و رواة الحدیث کانوا من أهل الفتوی و الرأی، کما أنّ قوله:

«فإنّهم حجّتی علیکم»، یدلّ علی أنّ فتوی رواة الحدیث حجّة، کما أنّ فتوی الإمام حجّة، فلا معنی لحجّیة رواة الحدیث إلاّ حجیّة فتاویهم و أقوالهم، و الحمل علی حجّیة الأحادیث المنقولة بتوسّطهم خلاف الظاهر.

ص:460


1- (1) - کمال الدین: 4/484، وسائل الشیعة 140:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 9.

و فیه: بعد ضعف التوقیع سنداً أنّ صدره غیر منقول إلینا، و لعلّه کان مکتنفاً بقرائن لا یفهم منها إلاّ حجّیة حکمهم فی الشبهات الموضوعیّة أو الأعمّ، و کان الإرجاع فی القضاء لا فی الفتوی.

و منها:

ما عن الکشی بسند ضعیف عن أحمد بن حاتم بن ماهویه قال:

کتبت إلیه - یعنی أبا الحسن الثالث علیه السلام - أسأله: عمّن آخذ معا لم دینی، و کتب أخوه أیضاً بذلک، فکتب إلیهما: «فهمت ما ذکرتما فاصمدا فی دینکما علی کلّ مسنّ فی حبّنا و کلّ کثیر القدم فی أمرنا، فإنّهما کافوکما إن شاء اللّه تعالی» (1)

. و فیه: بعد ضعف السند أنّ الظاهر من سؤاله أنّ الرجوع إلی العالم کان مرتکزاً فی ذهنه، و إنّما أراد تعیین الإمام شخصه، فلا یستفاد منه التعبّد، کما أنّ الأمر کذلک فی کثیر من الروایات، بل قاطبتها علی الظاهر.

و منها: روایات کثیرة عن الکشی و غیره، فیها الصحیح و غیره تدلّ علی إرجاع الأئمة إلی أشخاص من فقهاء أصحابهم، یظهر منها أنّ الرجوع إلیهم کان متعارفاً، و مع وجود الأفقه کانوا یرجعون إلی غیره،

کصحیحة ابن أبی یعفور قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام: إنّه لیس کلّ ساعة ألقاک و لا یمکن القدوم، و یجیء الرجل من أصحابنا فیسألنی و لیس عندی کلّ ما یسألنی عنه، فقال: «ما یمنعک من محمّد بن مسلم الثقفی، فإنّه سمع من أبی و کان عنده وجیهاً» (2).

ص:461


1- (1) - اختیار معرفة الرجال: 7/4، وسائل الشیعة 151:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 45.
2- (2) - اختیار معرفة الرجال: 273/161، وسائل الشیعة 144:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 23.

و کروایة علی بن المسیّب(1) ، حیث أرجعه الرضا علیه السلام إلی زکریّا بن آدم، إلی غیر ذلک.

و یستفاد منها أنّ أخذ معا لم الدین الذی هو عبارة اخری عن التقلید کان مرتکزاً فی ذهنهم و متعارفاً فی عصرهم، و یستفاد من صحیحة ابن أبی یعفور تعارف رجوع الشیعة إلی الفقهاء من أصحاب الأئمّة مع وجود الأفقه بینهم، و جواز رجوع الفقیه إلی الأفقه إذا لم یکن له طریق إلی الواقع.

و هذا لیس منافیاً لما ذکرنا فی أوّل الرسالة من أنّ موضوع عدم جواز الرجوع إلی الغیر نفس قوّة الاستنباط، و ذلک لأنّ ما ذکرنا هناک إنّما هو فیمن له طریق إلی الاستنباط مثل زماننا، فإنّ الکتب الراجعة إلیه مدوّنة مکتوبة بین أیدینا، بخلاف ما إذا لم یمکن کذلک، کعصر محمّد بن مسلم، حیث إنّ الأحادیث فیه کانت مضبوطة عنده و عند نظرائه، و لم یکن للجاهل طریق إلیها إلاّ بالرجوع إلیهم، مع إمکان أن یقال: إنّ إرجاع مثل ابن أبی یعفور إنّما هو فی سماع الحدیث ثمّ استنباطه منه حسب اجتهاده، و لا إشکال فی استفادة جواز الرجوع إلی الفقهاء - بل إلی الفقیه مع الأفقه - من تلک الروایات. لکن استفادة ذلک مع العلم الإجمالی أو التفصیلی بمخالفة آرائهما مشکلة، لعدم العلم بذلک فی تلک الأعصار، خصوصاً من مثل اولئک الفقهاء و المحدّثین الذین کانوا من بطانة الأئمّة فالاتّکال علی مثل تلک الأدلّة فی جواز تقلید المفضول مشکل، بل غیر ممکن.

ص:462


1- (1) - اختیار معرفة الرجال: 1112/594، وسائل الشیعة 146:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 27.

فیما استدلّ به علی ترجیح قول الأفضل

و استدلّ علی ترجیح قول الأفضل مع العلم بالمخالفة تارة: بالإجماعات المنقولة، و هو کما تری فی مثل المسألة العقلیّة مع تراکم الأدلّة.

و اخری: بالأخبار کالمقبولة و غیرها، بأن یقال: إنّ الشبهة فرضت حکمیّة فی المقبولة، فنفوذ حکمه تعینیّاً ملازم لنفوذ فتواه کذلک فی تلک المسألة، فتعدّی إلی غیرها بإلغاء الخصوصیة أو القطع بالملاک سیّما مع تناسب الأفقهیّة و الأصدقیّة فی الحدیث لذلک.

و فیه: - مضافاً إلی أنّ ظاهر المقبولة أنّ الأوصاف الأربع مجتمعة توجب التقدیم بمقتضی العطف بالواو، و فرض الراوی صورة التساوی لا یکشف عن کون المراد وجود أحدها - بمنع التلازم هاهنا، لأنّ الملازمة إنّما تکون فی صورة إثبات النفوذ لا سلبه، لأنّ سلب المرکّب أو ما بحکمه بسلب أحد أجزائه، فسلب نفوذ حکمه کما یمکن أن یکون لسلب حجّیة فتواه، یمکن أن یکون لسلب صلاحیّة حکمه للفصل، و عدم جواز الأخذ بالفتوی فی المقام لیس لعدم صلاحیته للحجّیة، بل لعدم کونه فاصلاً، بل فتوی الأعلم أیضاً لیس بفاصل، و التناسب بین الأفقهیّة و ذلک لم یصل إلی حدّ کشف العلّیة التامّة.

هذا کلّه مع أنّ إلغاء الخصوصیّة عرفاً أو القطع بالملاک ممّا لا وجه لهما بعد وضوح الفرق بین المقامین، و لعلّ الشارع لاحظ جانب الاحتیاط فی حقوق الناس، فجعل حکم الأعلم فاصلاً لأقربیّة الواقع بنظره، و لم یلاحظه فی

ص:463

أحکامه توسعة علی الناس، فدعوی إلغاء الخصوصیة مجازفة، و دعوی القطع أشدّ مجازفة.

و ثالثة: بأنّ فتوی الأعلم أقرب إلی الصواب، لأنّ نظره طریق محض إلی الواقع سواء الأوّلیات منه، أو الثانویات، أو الأعذار الشرعیّة و العقلیّة، فحینئذٍ تلازم الأعلمیّة للأقربیة و هو المتعیّن فی مقام الإسقاط و الأعذار، و جواز الرجوع إلی غیره یساوق الموضوعیّة.

و الجواب عن الصغری: بمنع کلّیتها، لأنّ رأی غیر الأعلم قد یوافق رأی الأعلم من الأموات أو الأحیاء إذا لم یجز تقلیدهم لجهة، بل إذا کان رأی غیر الأعلم موافقاً لجمیع الفقهاء و یکون الأعلم منفرداً فی الأحیاء فی الفتوی مع کون مخالفیه کثیراً جدّاً.

و تنظّر بعض أهل النظر فی الصغری بأنّ حجّیة الفتوی لأجل کونه من الظنون الخاصة لا المطلقة، فمطابقة قول غیر الأعلم للأعلم الغیر الصالح للحجّیة غیر مفیدة.

فلا عبرة بقوّته و لا أصله کالظنّ من الأمارات الغیر المعتبرة، و الأقوائیّة بمطابقة قوله لسائر المجتهدین الذین مثله فغیر مسلّم، إذ المطابقة لوحدة الملاک و تقارب الأنظار، فالکلّ فی قوّة نظر واحد، و لا یکشف توافق آرائهم عن قوّة مدرکهم، و إلّا لزم الخلف، لفرض أقوائیّة نظر الأعلم.

و منه یعلم فساد قیاسها بالخبرین المتعارضین المحکی أحدهما بطرق متعدّدة، إذ لیست الحکایات المتعددة بمنزلة حکایة واحدة، فلا محالة یوجب کلّ حکایة ظنّاً بصدور شخص هذا الکلام من غیر لزوم الخلف(1) ، انتهی.

ص:464


1- (1) - نهایة الدرایة 412:6-413.

و فیه ما لا یخفی؛ إذ المنظور فی ردّ الصغری إنکار کلّیة دعوی أقربیّة قول الأعلم، لا دعوی تقدّم قول غیر الأعلم فی مقام الاحتجاج، فما ذکره أجنبی عن المقام، بل المناقشة فیه منحصرة بإنکار الأقربیّة، و هو مسقط لأصل دعواه فی الصغری، إذا إنکاره مساوق لإنکار أقربیّة فتوی الأعلم.

و أمّا إنکار الأقربیّة فی المثال الأخیر فغیر وجیه، لأنّ أنظار المجتهدین کما کانت طریقاً إلی الواقعیّات و الحجج فلا محالة إذا اجتمع جلّ أهل الفنّ علی خطأ الأعلم لا یبقی وثوق بأقربیّة قوله لو لم نقل بالوثوق علی الخلاف. و إن شئت قلت: لا تجری أصالة عدم الغفلة و الخطأ فی اجتهاده، و توهّم کون أنظارهم بمنزلة نظر واحد کتوهّم لزوم الخلف فی غایة السقوط.

و عن الکبری: بأنّ تعیّن الرجوع إلی الأقرب إن کان لأجل إدراک العقل تعیّنه جزماً - بحیث لا یمکن للشارع التعبّد بخلافه، و لو ورد دلیل صریح علی خلافه لا بدّ من طرحه - فهو فاسد، لأنّ الشارع إذا رأی مفسدة فی تعیّن الرجوع إلی الأعلم أو مصلحة فی التوسعة علی المکلّف فلا محالة یرخّص ذلک من غیر الشبهة الموضوعیة کتجویز العمل بخبر الثقة و ترک الاحتیاط.

نعم لو علمنا وجداناً بأنّ الشارع لا یرضی بترک الواقعیات فلا یمکن معه احتمال تجویز العمل بقول العالم و لا بقول الأعلم، بل یحکم العقل بوجوب الاحتیاط و لو مع اختلال النظام فضلاً عن لزوم الجرح، لکنّه خلاف الواقع و خلاف المفروض فی المقام، و لهذا لا أظنّ بأحد ردّ دلیل معتبر قام علی جواز الرجوع بغیر الأعلم، فعلیه کیف یمکن دعوی القطع بلزوم تعیّن الأقرب مع احتمال تعبّد فی المقام و لو ضعیفاً؟!

ص:465

و ممّا ذکرنا یظهر النظر فی کلام بعض أهل النظر، حیث قال ما ملخّصه: إنّ القرب إلی الواقع إن لم یلحظ أصلاً فهو مناف للطریقیّة و إن کان بعض الملاک، و هناک خصوصیّة اخری تعبّدیّة فهو غیر ضائر بالمقصود، لأنّ فتوی الأعلم حینئذٍ مساوٍ لغیره فی جمیع الخصوصیّات، و یزید علیه بالقرب، سواء کانت تلک الخصوصیّة التعبّدیّة جزء المقتضی أو شرط جعله أمارة، فیکون فتوی الأعلم متعیّناً لترجیحه علی غیره بالملاک الذی هو ملاک الحجّیة، و لهذا قیاسه علی البصر و الکتابة مع الفارق، لکونهما غیر دخیلین فی ذلک الملاک، لأنّ معنی الأعلمیّة لیس الأقوائیّة بحسب المعرفة بحیث لا تزول بتشکیک حتّی یقاس علیهما، بل بمعنی أحسنیّة الاستنباط و أجودیّته فی تحصیل الحکم من المدارک، فیکون أکثر إحاطة بالجهات الدخیلة فیه المغفولة عن نظر غیره، فمرجع التسویة بینهما إلی التسویة بین العالم و الجاهل، و هذا وجه آخر لتعیّن الأعلم و لو لم نقل بأقربیة رأیه أو کون الأقربیّة ملاک التقدیم، لأنّ العقل یذعن بأنّ رأیه أوفق بمقتضیات الحجج، و هو المتعیّن فی مقام إبراء الذمّة، و یذعن بأنّ التسویة بینهما کالتسویة بین العالم و الجاهل(1) ، انتهی.

و فیه مواقع للنظر:

منها: أنّ الخصوصیّة التعبّدیة لا یلزم أن تکون جزء المقتضی أو شرط التأثیر، بل یمکن أن تکون مانعة عن تعیّن الأعلم کالخصوصیّة المانعة عن إلزام الاحتیاط الموجبة لجعل الأمارات و الاُصول من غیر لزوم الموضوعیّة.

ص:466


1- (1) - نهایة الدرایة 413:6-414.

و منها: أنّ أحسنیّة الاستنباط و کون الأعلم أقوی نظراً فی تحصیل الحکم من المدارک عبارة اخری عن أقربیّة رأیه إلی الواقع، فلا یخلو کلامه من التناقض و التنافی.

و منها: أنّ إذعان العقل بما ذکره مستلزم لامتناع تجویز العمل علی طبق رأی غیر الأعلم، لقبح التسویة بین العالم و الجاهل، بل امتناعه و هو کما تری، و لا أظنّ التزام أحد به.

و التحقیق: أنّ تجویز العمل بقول غیره لیس لأجل التسویة بینهما، بل لمفسدة التضییق أو مصلحة التوسعة و نحوهما ممّا لا ینافی الطریقیة کما قلنا فی محلّه(1) ، و لیعلم أنّ هذا الدلیل الأخیر غیر أصالة التعیین فی دوران الأمر بین التخییر و التعیین و غیر بناء العقلاء علی تعیّن الأعلم فی مورد الاختلاف، فلا تختلط بینه و بینهما و تدبّر جیّداً.

فالإنصاف: أنّه لا دلیل علی ترجیح قول الأعلم إلاّ الأصل بعد ثبوت کون الاحتیاط مرغوباً عنه و ثبوت حجّیة قول الفقهاء فی الجملة، کما أنّ فی الأصل أیضاً إشکال، لأنّ فتوی غیر الأعلم إذا طابق الأعلم من أعلم من الأموات أو فی المثالین المتقدّمین یصیر المقام من دوران الأمر بین التخییر و التعیین، لا تعیّن الأعلم، و الأصل فیه التخییر.

إلاّ أن یقال: إنّ تعیّن غیر الأعلم حتّی فی مورد الأمثلة مخالف لتسالم الأصحاب و إجماعهم، فدار الأمر بین التعیین و التخییر فی مورد الأمثلة أیضاً، و هو الوجه فی بنائنا علی الأخذ بقول الأعلم احتیاطاً، و أمّا بناء العقلاء

ص:467


1- (1) - تقدّم فی الجزء الأوّل: 417.

فلم یحرز فی مورد الأمثلة المتقدّمة.

هذا فیما إذا علم اختلافهما تفصیلاً، بل أو إجمالاً أیضاً بنحو ما مرّ، و أمّا مع احتماله فلا یبعد القول بجواز الأخذ من غیره أیضاً، لإمکان استفادة ذلک من الأخبار، بل لا یبعد دعوی السیرة علیه، هذا کلّه فی المتفاضلین.

فی حال المجتهدین المتساویین مع اختلاف فتواهما

و أمّا فی المتساویین فالقاعدة و إن اقتضت تساقطهما مع التعارض و الرجوع إلی الاحتیاط لو أمکن، و إلی غیره من القواعد مع عدمه، لکن الظاهر أنّ الاحتیاط مرغوب عنه و أن المسلّم عندهم حجّیة قولهما فی حال التعارض، فلا بدّ من الأخذ بأحدهما و القول بحجیّته التخییریّة.

و قد یقال بدلالة قوله فی مثل روایة أحمد بن حاتم بن ماهویه:

«فاصمدا فی دینکما إلی کلّ مسنٍّ فی حبّنا» (1) و غیرها من الروایات العامّة علی المطلوب، فإنّ إطلاقها شامل لحال التعارض، و الفرق بینها و بین أدلّة حجّیة خبر الثقة حیث أنکرنا إطلاقها لحال التعارض أنّ الطبیعة فی حجّیة خبر الثقة اخذت بنحو الوجود الساری، فکلّ فرد من الأخبار مشمول أدلّة الحجّیة تعییناً و لا یعقل جعل الحجّیة التعیینیّة فی المتعارضین، و لا جعل الحجیّة التعیینیّة فی غیرهما و التخییریّة فیهما بدلیل واحد، فلا مناص إلاّ القول بعدم الإطلاق لحال التعارض.

ص:468


1- (1) - اختیار معرفة الرجال: 7/4، وسائل الشیعة 151:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 45.

و أمّا الطبیعة فی حجّیة قول الفقهاء، اخذت علی نحو صِرف الوجود، ضرورة عدم معنی لجعل حجّیة قول کلّ عالم بنحو الطبیعة الساریة و الوجوب التعیینی حتّی یکون المکلّف فی کلّ واقعة مأموراً بأخذ قول جمیع العلماء، فإنّه واضح البطلان، فالمأمور به هو الوجود الصرف، فإذا اخذ بقول واحد منهم فقد أطاع، فلا مانع حینئذٍ من إطلاق دلیل الحجّیة لحال التعارض.

فقوله:

«و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة أحادیثنا» مفاده جعل حجّیة قول العالم علی نحو البدلیّة أو صرف الوجود، کان مخالفاً لقول غیره أو لا، یعلم مخالفته له تفصیلاً أو لا.

هذا ما أفاده شیخنا العلّامة علی ما فی تقریرات بعض فضلاء بحثه(1)

. و أنت خبیر بأنّ هذا بیان لإمکان الإطلاق علی فرض وجود دلیل مطلق یمکن الاتّکال علیه.

و نحن بعد الفحص الأکید لم نجد دلیلاً یسلم دلالةً و سنداً عن الخدشة، مثلاً قوله فی الروایة المتقدّمة:

«فاصمدا فی دینکما...» إلی آخره، بمناسبة صدرها و هو قوله: «عمّن آخذ معا لم دینی؟» لا یستفاد منه التعبّد، بل الظاهر منه هو الإرجاع إلی الأمر الارتکازی، فإنّ السائل بعد مفروغیّة جواز الرجوع إلی العلماء سأل عن الشخص الذی یجوز التعویل علی قوله. و لعلّه أراد أن یعیّن الإمام شخصاً معیّناً کما عیّن الرضا علیه السلام زکریا بن آدم(2) ، و الصادق علیه السلام

ص:469


1- (1) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 714-717.
2- (2) - وسائل الشیعة 146:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 27.

الأسدی(1) و الثقفی(2) و زرارة(3) فأرجعه إلی من کان کثیر القدم فی أمرهم و مسنّاً فی حبّهم.

و الظاهر من «کثرة القدم فی أمرهم» کونه ذا سابقة طویلة فی أمر الإمامة و المعرفة، و لم یذکر الفقاهة، لکونها أمراً ارتکازیاً معلوماً لدی السائل و المسئول عنه و أشار إلی صفات اخر موجبة للوثوق و الاطمئنان بهم، فلا یستفاد منها إلاّ تقریر الأمر الارتکازی.

و لو سلّم کونه بصدد إعمال التعبّد و الإرجاع إلی الفقهاء فلا إشکال فی عدم إطلاقها لحال التعارض، بل قوله ذلک کقول القائل: «المریض لا بدّ و أن یرجع إلی الطبیب و لیشرب الدواء» و قوله: «إنّ الجاهل بالتقویم لا بدّ و أن یرجع إلی المقوّم».

و معلوم أنّ أمثال ذلک لا إطلاق لها لحال التعارض هذا مع ضعف سندها، و قد عرفت حال التوقیع(4) ، و بالجملة لا إطلاق فی الأدلّة بالنسبة إلی حال التعارض.

ص:470


1- (1) - وسائل الشیعة 142:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 15.
2- (2) - وسائل الشیعة 144:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 23.
3- (3) - وسائل الشیعة 143:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 17، 19.
4- (4) - تقدّم فی الصفحة 460-461.

الاستدلال علی التخییر بین المتساویین بأدلّة العلاج

و قد یتمسّک للتخییر فی المتساویین بأدلّة علاج المتعارضین

کموثّقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: سألته عن رجل اختلف علیه رجلان من أهل دینه فی أمر کلاهما یرویه، أحدهما یأمر بأخذه، و الآخر ینهاه عنه، کیف یصنع؟ قال: «یرجئه حتّی یلقی من یخبره، فهو فی سعة حتّی یلقاه» (1)

. تقریبه: أنّ التخالف بینهما لا یتحقّق بصرف نقل الروایة مع عدم الجزم بمضمونها، و معه مساوق للفتوی، فاختلاف الرجلین إنّما هو فی الفتوی، و یشهد له قوله: «أحدهما یأمر بأخذه و الآخر ینهاه». و هذا لا ینطبق علی صرف الروایة و الحکایة، فلا بدّ من الحمل علی الفتوی، فأجاب علیه السلام بأنّه فی سعة و مخیّر فی الأخذ بأحدهما.

بل یمکن التمسّک بسائر أخبار التخییر فی الحدیثین المختلفین بإلغاء الخصوصیة، فإنّ الفقیه أیضاً یکون فتواه محصّل الأخبار بحسب الجمع و الترجیح، فاختلاف الفتوی یرجع إلی اختلاف الروایة، هذا.

و فیه ما لا یخفی:

أمّا التمسّک بموثّقة سماعة، ففیه أنّ قوله:

«یرجئه حتّی یلقی من یخبره» معناه: یؤخّره و لا یعمل بواحد منهما، کما صرّح به فی روایته الاُخری(2) ، و المظنون أنّهما روایة واحدة، و معنی «الإرجاء» لغةً و عرفاً هو

ص:471


1- (1) - الکافی 7/66:1، وسائل الشیعة 108:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 5.
2- (2) - وسائل الشیعة 122:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 42.

تأخیر الشیء، فقوله بعد ذلک:

«فهو فی سعة». لیس معناه أنّه فی سعة فی الأخذ بأیّهما شاء کما أفاد المستدلّ، بل المراد أنّه فی سعة بالنسبة إلی نفس الواقعة، و محصّله: أنّ الروایتین أو الفتواءین لیستا بحجّة، فلا تعمل بواحدة منهما، و لکنّه فی سعة فی الواقعة، فله العمل علی طبق الاُصول، فهی علی خلاف المطلوب أدلّ.

و أمّا دعوی إلغاء الخصوصیّة و فهم التخییر من الأخبار الواردة فی الخبرین المتعارضین، ففیه: مع الغضّ عن فقدان روایة دالّة علی التخییر جامعة للحجّیة کما مرّ فی باب التعارض، أنّ إلغاء الخصوصیّة عرفاً ممنوع، ضرورة تحقّق الفرق الواضح بین اختلاف الأخبار و اختلاف الآراء الاجتهادیّة، فما أفاد من شمول روایات العلاج لاختلاف الفتاوی محل منع، مع أنّ لازمه إعمال مرجّحات باب التعارض فیها، و هو کما تری.

فتحصّل من جمیع ما ذکرناه: أنّه لیس فی أخبار الباب ما یستفاد منه ترجیح قول الأعلم عند التعارض لغیره، و لا تخییر الأخذ بأحد المتساویین، فلا محیص إلاّ العمل بالأُصول الأوّلیة لو لا تسالم الأصحاب علی عدم وجوب الاحتیاط و مع هذا التسالم لا محیص عن الأخذ بقول الأعلم، لدوران الأمر بین التعیین و التخییر مع کون وجوبه أیضاً مورد تسالمهم، کما أنّ الظاهر تسالمهم علی التخییر بین الأخذ بفتوی أحد المتساویین و عدم وجوب الاحتیاط أو الأخذ بأحوط القولین.

ص:472

فصل: فی اشتراط الحیاة فی المفتی

اشارة

فی اشتراط الحیاة فی المفتی

اختلفوا فی اشتراط الحیاة فی المفتی علی أقوال، ثالثها التفصیل بین البدوی و الاستمراری، لا إشکال فی أنّ الأصل الأوّلی حرمة العمل بما وراء العلم، خرج عنه العمل بفتوی الحی و بقی غیره، فلا بدّ من الخروج عنه من دلیل، و لمّا کان عمدة ما یمکن أن یقول علیه هو الاستصحاب فلا بدّ من تقریره و تحقیقه.

التمسّک بالاستصحاب علی جواز تقلید المیّت

فنقول: قد قرّر الأصل بوجوه:

منها: أنّ المجتهد الفلانی کان جائز التقلید لکلّ مکلّف عامّی فی زمان حیاته، فیستصحب إلی بعد موته.

و منها: أنّ الأخذ بفتوی المجتهد الفلانی کان جائزاً فی زمان حیاته فیستصحب.

و منها: أنّ لکلّ مقلّد جواز الرجوع إلیه فی زمان حیاته و بعدها کما کان، إلی غیر ذلک من الوجوه المتقاربة.

ص:473

و قد یستشکل بأنّ جواز التقلید لکلّ بالغ عاقل إن کان بنحو القضیّة الخارجیّة بمعنی أنّ کلّ مکلّف کان موجوداً جاز له الرجوع إلیه، فهو لا یفید بالنسبة إلی الموجودین بعد حیاته فی الأعصار المتأخّرة. و بعبارة اخری:

الدلیل أخصّ من المدّعی.

و إن کان بنحو القضیّة الحقیقیّة، أی «کلّ من وجد فی الخارج و کان مکلّفاً فی کلّ زمان کان له تقلید المجتهد الفلانی» فإن ارید إجراء الاستصحاب التنجیزی فلا یمکن، لعدم إدراک المتأخّرین زمان حیاته، فلا یقین بالنسبة إلیهم، و إن کان بنحو التعلیق فإجراء الاستصحاب التعلیقی بهذا النحو محلّ منع.

و فیه: أنّ جعل الأحکام علی نحو القضیّة الحقیقیّة لیس معناه أنّ لکلّ فرد من مصادیق العنوان حکماً مجعولاً برأسه، و معنی الانحلال إلی الأحکام لیس ذلک، بل لا یکون فی القضایا الحقیقیّة إلاّ جعل واحد لعنوان واحد، لا جعلات کثیرة بعدد أنفاس المکلّفین، لکن ذاک الجعل الواحد یکون حجّة بحکم العقل و العقلاء علی کلّ من کان مصداقاً للعنوان، مثلاً قوله تعالی: «وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً» (1) لیس إلاّ جعلاً واحداً لعنوان واحد هو «مَنِ اسْتَطاعَ» ، و لکنّه حجّة علی کلّ مکلّف یستطیع.

فحینئذٍ لو علمنا بأنّ الحجّ کان واجباً علی من استطاع إلیه سبیلاً و شککنا فی بقائه من أجل طروّ النسخ مثلاً، فلا إشکال فی جریان استصحاب الحکم المتعلّق بالعنوان لنفس ذلک العنوان، فیصیر بحکم الاستصحاب حجّة علی کلّ من کان مصداقه، و لهذا لا یستشکل أحد فی استصحاب عدم النسخ مع ورود هذا

ص:474


1- (1) - آل عمران (3):97.

الإشکال بعینه علیه، بل علی جمیع الاستصحابات الحکمیة.

و السرّ فیه ما ذکرنا من أنّ الحکم علی العنوان حجّة علی المعنونات، فاستصحاب وجوب الحجّ علی عنوان «المستطیع» جار بلا إشکال کاستصحاب جواز رجوع کلّ مقلّد إلی المجتهد الفلانی، و سیأتی کلام فی هذا الاستصحاب فانتظر.

إشکال عدم بقاء موضوع الاستصحاب و الجواب عنه

فالعمدة فی المقام هو الإشکال المعروف، أی عدم بقاء الموضوع.

و تقریره: أنّه لا بدّ فی الاستصحاب من وحدة القضیّة المتیقّنة و المشکوک فیها، و موضوع القضیّة هو «رأی المجتهد و فتواه» و هو أمر قائم بنفس الحی، و بعد موته لا یتصف بحسب نظر العرف المعتبر فی المقام بعلم و لا ظنّ، و لا رأی له بحسبه و لا فتوی، و لا أقلّ من الشکّ فی ذلک، و معه أیضاً لا مجال للاستصحاب، لأنّ إحراز الموضوع شرط فی جریانه، و لا إشکال فی أنّ مدار الفتوی هو الظنّ الاجتهادی، و لهذا یقع المظنون بما هو کذلک وسطاً فی قیاس الاستنباط، و لا إشکال فی عدم إحراز الموضوع، بل فی عدم بقائه.

و فیه: أنّ مناط عمل العقلاء علی رأی کلّ ذی صنعة فی صنعته هو أماریّته و طریقیّته إلی الواقع، و هو المناط فی فتوی الفقهاء، سواء کان دلیل اعتباره بناء العقلاء المحض أو الأدلّة اللفظیّة، فإنّ مفادها أیضاً کذلک، ففتوی الفقیه بأنّ صلاة الجمعة واجبة طریق إلی الحکم الشرعی و حجّة علیه، و إنّما تتقوّم طریقیّته و طریقیّة کلّ رأی خبیر إلی الواقع إذا أفتی و أخبر بنحو الجزم،

ص:475

لکن الوجود الحدوثی للفتوی بنحو الجزم یوجب کونه طریقاً إلی الواقع أبداً، و لا ینسلخ عنه ذلک إلاّ بتجدّد رأیه أو التردید فیه، و إلّا فهو طریق إلی الواقع، کان صاحب الرأی حیّاً أو میّتاً، فإذا شککنا فی جواز العمل به من حیث احتمال دخالة الحیاة شرعاً فی جوازه فلا إشکال فی جریان الاستصحاب و وحدة القضیّة المتیقّنة و المشکوک فیها، فرأی العلّامة و قوله و کتاب «قواعده» کلٌّ کاشف عن الأحکام الواقعیّة، و وجودها الحدوثی کافٍ فی کونه طریقاً، و هو المناط فی جواز العمل شرعاً و لدی العقلاء.

و إن شئت قلت: جزم العلّامة أو إظهار فتواه جزماً جعل کتابه حجّةً و طریقاً إلی الواقع و جائز العمل فی زمان حیاته، و یشکّ فی جواز العمل علی طبقه بعد موته، فیستصحب.

و العجب من الشیخ الأعظم(1) حیث اعترف بأنّ الفتوی إذا کان عبارة عن نقل الأخبار بالمعنی یتمّ القول بأنّ القول موضوع الحکم و یجری الاستصحاب معه، مع أنّ حجّیة الأخبار و طریقیّتها إلی الواقع أیضاً متقوّمتان بجزم الراوی، فلو أخبر أحد الرواة بیننا و بین المعصوم بنحو التردید، لا یصیر خبره أمارة و حجّة علی الواقع و لا جائز العمل، لکن مع إخباره جزماً یصیر کاشفاً عنه و جائز العمل ما دام کونه کذلک، سواء کان مخبره حیّاً أو میّتاً، مع عدم بقاء جزمه بعد الموت، لکن جزمه حین الإخبار کاف فی جواز العمل و حجّیة قوله دائماً إلاّ إذا رجع عن إخباره الجزمی.

و هذا جار فی الفتوی طابق النعل بالنعل، فقول الفقیه حجّة علی الواقع

ص:476


1- (1) - مطارح الأنظار: 260 /السطر 6.

و طریق إلیه کإخبار المخبر، و هو باق علی طریقیّته بعد الموت، و لو شکّ فی جواز العمل به لأجل احتمال اشتراط الحیاة شرعاً جاز استصحابه و تمّ أرکانه.

و إن شئت قلت: إنّ جزم الفقیه أو إظهاره الفتوی علی سبیل الجزم واسطة فی حدوث جواز العمل بقوله و کتابه، و بعد موته نشکّ فی بقاء الجواز لأجل الشکّ فی کونه واسطة فی العروض أو الثبوت فیستصحب.

و أمّا ما أفاد من کون الوسط فی قیاس الاستنباط هو المظنون بما هو کذلک و أنّ المظنون الحرمة حرام أو مظنون الحکم واجب العمل(1). ففیه: أنّ إطلاق الحجّة علی الأمارات لیس باعتبار وقوعها وسطاً فی الإثبات کالحجّة المنطقیّة، بل المراد منها هی کونها منجّزةً للواقع، بمعنی أنّه إذا قامت الأمارة المعتبرة علی وجوب شیء و کان واجباً بحسب الواقع فترکه المکلّف، تصحّ عقوبته و لا عذر له فی ترکه، و بهذا المعنی تطلق «الحجّة» علی القطع کإطلاقها علی الأمارات، بل تطلق علی بعض الشکوک أیضاً.

و بالجملة: الحجّة فی الفقه لیست هی القیاس المنطقی، و لا یکون الحکم الشرعی مترتّباً علی ما قام علیه الأمارة بما هو کذلک و لا المظنون بما هو مظنون.

فتحصّل من جمیع ما ذکرنا: أنّ استصحاب جواز العمل علی طبق رأی المجتهد و فتواه بمعنی حاصل المصدر و علی طبق کتابه، الکاشفین عن الحکم الواقعی أو الوظیفة الظاهریّة ممّا لا مانع منه.

لا یقال: بناءً علی ما ذکرت یصحّ استصحاب حجّیة ظنّ المجتهد الموجود

ص:477


1- (1) - مطارح الأنظار: 260 /السطر 2.

فی زمان حیاته. فلنا أن نقول: إنّ الحجّیة و الأماریّة ثابتتان له فی موطنه، و یحتمل بقاؤهما إلی الأبد، و مع الشکّ تستصحبان.

فإنّه یقال: هذا غیر معقول، للزوم إثبات الحجّیة و جواز العمل فعلاً لأمر معدوم، و کونه فی زمانه موجوداً لا یکفی فی إثبات الحجّیة الفعلیّة له مع معدومیّته فعلاً.

و إن شئت قلت: إنّ جواز العمل کان ثابتاً للظنّ الموجود، فموضوع القضیّة المتیقّنة هو الظنّ الموجود و هو الآن مفقود. اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ الظنّ فی حال الوجود بنحو القضیّة الحینیّة موضوع للقضیّة لا بنحو القضیّة الوضعیّة و التقییدیّة، و هو عین الموضوع فی القضیة المشکوک فیها. و قد ذکرنا فی باب الاستصحاب أنّ المعتبر فیه وحدة القضیّتین لا إحراز وجود الموضوع فراجع(1)

. و لکن کون الموضوع کذلک فی المقام محلّ إشکال و منع، مع أنّه لا یدفع الإشکال المتقدّم به.

تقریر إشکال آخر علی الاستصحاب

ثمّ إنّ هاهنا إشکالاً قویّاً علی هذا الاستصحاب، و هو أنّه إمّا أن یراد به استصحاب الحجّیة العقلائیة، فهی أمر غیر قابل للاستصحاب، أو الحجّیة الشرعیّة فهی غیر قابلة للجعل.

أو جواز العمل علی طبق قوله، فلا دلیل علی جعل الجواز الشرعی، بل الظاهر من مجموع الأدلّة هو تنفیذ الأمر الارتکازی العقلائی، فلیس فی الباب

ص:478


1- (1) - الاستصحاب، الإمام الخمینی قدس سره: 203.

دلیل جامع لشرائط الحجّیة یدلّ علی تأسیس الشرع جواز العمل أو وجوبه علی رأی المجتهد، فها هی الأدلّة المستدلّ بها للمقصود، فراجعها حتّی تعرف صدق ما ذکرناه.

أو استصحاب الأحکام الواقعیّة، فلا شکّ فی بقائها، لأنّها لو تحقّقت أوّلاً فلا شکّ فی أنّها متحقّقة فی الحال أیضاً، لأنّ الشکّ فی بقائها إمّا لأجل الشکّ فی النسخ، أو الشکّ فی فقدان شرط، کصلاة الجمعة فی زمان الغیبة، أو حدوث مانع، و الفرض أنّه لا شکّ من هذه الجهات.

أو الأحکام الظاهریّة؛ بدعوی کونها مجعولة عقیب رأی المجتهد، بل عقیب سائر الأمارات، فهو أیضاً ممنوع، لعدم الدلیل علی ذلک، بل ظاهر الأدلّة علی خلافها، لأنّ الظاهر منها إمضاء ما هو المرتکز لدی العقلاء، و المرتکز لدیهم هو أماریّة رأی المجتهد للواقع کأماریّة رأی کلّ ذی صنعة إلی الواقع فی صنعته.

و بالجملة: لا بدّ فی جریان الاستصحاب من حکم أو موضوع ذی حکم، و لیس فی المقام شیء قابل له، أمّا الحکم الشرعی فمفقود، لعدم تطرّق جعل و تأسیس من الشارع، و أمّا ما لدی العقلاء من حجّیة قول أهل الخبرة، فلعدم کونه موضوعاً لحکم شرعی، بل هو أمر عقلائی یتنجّز به الواقع بعد عدم ردع الشارع إیّاه، و أمّا إمضاء الشارع و ارتضائه لما هو المرتکز بین العقلاء فلیس حکماً شرعیّاً حتّی یستصحب تأمّل بل لا یستفاد من الأدلّة إلاّ الإرشاد إلی ما هو المرتکز، فلیس جعل و تأسیس، کما لا یخفی.

إن قلت: بناءً علیه ینسدّ باب الاستصحاب فی مطلق مؤدّیات الأمارات، فهل فتوی الفقیه إلاّ إحداها؟! مع أنّه حقّق فی محلّه جریانه فی مؤدّیاتها، فکما یجری فیها لا بدّ و أن یجری فی الحکم المستفاد من فتوی الفقیه.

ص:479

قلت: هذه مغالطة نشأت من خلط الشکّ فی بقاء الحکم، و الشکّ فی بقاء حجّیة الحجّة علیه، فإنّ الأوّل مجری الاستصحاب دون الثانی، فإذا قامت الأمارة أیّة أمارة کانت علی حکم، ثمّ شکّ فی بقائه لأحد أسباب طروّ الشکّ کالشکّ فی النسخ یجری الأصل، لما ذکرنا فی الاستصحاب من شمول أدلّته مؤدّیات الأمارات أیضاً، و أمّا إذا شکّ فی أمارة بعد قیامها علی حکم و حجّیتها فی بقاء الحجّیة لها فی زمان الشکّ فلا یجری فیها، لعدم الشکّ فی بقاء حکم شرعی کما عرفت. فقیاس الاستصحاب فی نفس الأمارة و حکمها، علی الاستصحاب فی مؤدّاها، مع الفارق؛ فإنّ المستصحب فی الثانی هو الحکم الواقعی المحرز بالأمارة دون الأوّل.

إن قلت: بناءً علی عدم استتباع قیام الأمارات - فتوی الفقیه کانت أو غیره - للحکم یلزم عدم تمکّن المکلّف من الجزم فی النیّة و إتیان کثیر من أجزاء العبادات و شرائطها رجاءً و هو باطل، فلا بدّ من الالتزام باستتباعها الحکم لتحصیل الجزم فیها.

قلت أوّلاً: لا دلیل علی لزوم الجزم فیها من إجماع أو غیره، و دعوی الإجماع ممنوعة فی هذه المسألة العقلیّة.

و ثانیاً: إنّ الجزم حاصل لما ذکرنا من أنّ احتمال الخلاف فی الطرق العقلائیّة مغفول عنه غالباً، أ لا تری أنّ جمیع المعاملات الواقعة من ذوی الأیادی تقع علی سبیل الجزم، مع أنّ الطریق إلی ملکیّتهم هو الید التی تکون طریقاً عقلائیّاً، و لیس ذلک إلاّ لعدم انقداح احتمال الخلاف فی النفوس تفصیلاً بحسب الغالب.

و ثالثا: إنّ المقلّدین الآخذین بقول الفقهاء لا یرون فتاویهم إلاّ طریقاً إلی

ص:480

الواقع، فالإتیان علی مقتضی فتاویهم لیس إلاّ بملاحظة طریقیتها إلی الواقع و کاشفیتها عن أحکام اللّه الواقعیّة کعملهم علی طبق رأی کلّ خبرة فیما یرجع إلیه، من دون تفاوت فی نظرهم، و لیس استتباع فتاویهم للحکم الظاهری فی ذهنهم بوجه حتّی یکون الجزم باعتباره. فالحکم الظاهری علی فرض وجوده لیس محصّلاً للجزم؛ ضرورة کون هذا الاستتباع مغفولاً عنه لدی العقلاء العاملین علی قول الفقهاء بما أنّهم عالمون بالأحکام و فتاویهم طریق إلی الواقع.

فتحصّل من جمیع ما ذکرنا: أنّ الاستصحاب غیر جار، لفقدان المستصحب، أی الحکم أو الموضوع الذی له حکم.

و غایة ما یمکن أن یقال فی التفصّی عن هذا الإشکال: أنّ احتیاج الفقیه للفتوی بجواز البقاء علی تقلید المیّت إلی الاستصحاب إنّما یکون فی مورد اختلاف رأیه لرأی المیّت، و أمّا مع توافقهما فیجوز له الإفتاء بالأخذ برأی المیّت، لقیام الدلیل عنده علیه، و عدم الموضوعیّة للفتوی و الأخذ برأی الحی، فلو فرض موافقة رأی فقیه حی لجمیع ما فی رسا فقیه میّت یجوز له الإرجاع إلی رسالته من غیر احتیاج إلی الاستصحاب، بل لقیام الأمارة علی صحّته، فما یحتاج فی الحکم بجواز البقاء إلی الاستصحاب هو موارد اختلافهما.

فحینئذٍ نقول: لو أدرک مکلّف فی زمان بلوغه مجتهدین حیّین متساویین فی العلم مختلفین فی الفتوی، یکون مخیّراً فی الأخذ بأیّهما شاء، و هذا حکم مسلّم بین الفقهاء و أرسلوه إرسال المسلّمات من غیر احتمال إشکال فیه، مع أنّه خلاف القاعدة، فإنّها تقتضی تساقطهما، فالحکم بالتخییر بنحو التسلّم فی هذا المورد المخالف للقاعدة لا یکون إلاّ بدلیل شرعی وصل إلیهم، أو للسیرة

ص:481

المستمرّة إلی زمن الأئمّة علیهم السلام کما هی لیست ببعیدة، فإذا مات أحد المجتهدین یستصحب هذا الحکم التخییری، و هذا الاستصحاب جارٍ فی الابتدائی و الاستمراری.

نعم جریانه فی الابتدائی الذی لم یدرکه المکلّف حیّاً محلّ إشکال، لعدم دلیل یثبت الحکم للعنوان حتّی یستصحب، فما ذکرنا فی التفصّی عن الإشکال الأوّل فی الباب من استصحاب الحکم الثابت للعنوان إنّما هو علی فرض ثبوت الحکم له، و هو فرض محض.

فتحصّل ممّا ذکرنا تفصیل آخر: و هو التفصیل بین الابتدائی الذی لم یدرک المکلّف مجتهده حال بلوغه و بین الابتدائی المدرک کذلک و الاستمراری.

هذا مقتضی الاستصحاب، فلو قام الإجماع علی عدم جواز الابتدائی مطلقاً تصیر النتیجة التفصیل بین الابتدائی و الاستمراری، هذا کلّه حال الاستصحاب.

حال بناء العقلاء فی تقلید المیّت

و أمّا بناء العقلاء فمحصّل الکلام فیه: أنّه لا إشکال فی عدم التفاوت فی ارتکاز العقلاء و حکم العقل بین فتوی الحی و المیّت، ضرورة طریقیّة کلّ منهما إلی الواقع من غیر فرق بینهما، لکن مجرّد ارتکازهم و حکمهم العقلی بعدم الفرق بینهما لا یکفی فی جواز العمل، بل لا بدّ من إثبات بنائهم علی العمل علی طبق فتوی المیّت کالحی، و تعارفه لدیهم حتّی یکون عدم ردع الشارع کاشفاً عن إمضائه، و إلّا فلو فرض عدم جریان العمل علی طبق فتوی المیّت و إن لم یتفاوت فی ارتکازهم مع الحی لا یکون للردع مورد حتّی یکشف عدمه عن إمضاء الشارع.

ص:482

و الحاصل: أنّ جواز الاتّکال علی الأمارات العقلائیّة موقوف علی إمضاء الشارع لفظاً أو کشفه عن عدم الردع، و لیس ما یدلّ لفظاً علیه، و الکشف عن عدم الردع موقوف علی جری العقلاء عملاً علی طبق ارتکازهم، و مع عدمه لا محلّ لردع الشارع و لا یکون سکوته کاشفاً عن رضاه.

فحینئذٍ نقول: لا إشکال فی بناء العقلاء علی العمل برأی الحی، و یمکن دعوی بنائهم علی العمل بما أخذوا من الحی فی زمان حیاته ثمّ مات، ضرورة أنّ الجاهل بعد تعلّم ما یحتاج إلیه من الحی، یری نفسه عالماً، فلا داعی له من الرجوع إلی الآخر، بل یمکن إثبات ذلک من الروایات کروایة علی بن المسیّب المتقدّمة(1)

. فإنّ إرجاعه إلی زکریّا بن آدم - من غیر ذکر حال حیاته و أنّ ما یأخذه منه فی حال الحیاة لا یجوز العمل به بعد موته، مع أنّ فی ارتکازه و ارتکاز کلّ عاقل عدم الفرق بینهما - دلالة علی جواز العمل بما تعلّم منه مطلقاً، فإنّ کون شقّته بعیدة بحیث إنّه بعد رجوعه إلی شقّته کان یصیر منقطعاً عن الإمام علیه السلام فی مثل تلک الأزمنة، کان یوجب علیه بیان الاشتراط لو کانت الحیاة شرطاً.

و احتمال أنّ رجوع علی بن المسیّب إلیه کان فی نقل الروایة، یدفعه ظهور الروایة، و مثلها مکاتبة أحمد بن حاتم و أخیه(2)

. و بالجملة: إرجاع الأئمّة علیهم السلام فی الروایات الکثیرة، شیعتهم إلی العلماء عموماً و خصوصاً - مع خلوّها عن اشتراط الحیاة - کاشف عن ارتضائهم بذلک.

ص:483


1- (1) - تقدّمت فی الصفحة 462.
2- (2) - تقدّمت فی الصفحة 461.

نعم لا یکشف عن الأخذ الابتدائی بفتوی المیّت، فإنّ الدواعی منصرفة عن الرجوع إلی المیّت مع وجود الحی، و لم یکن فی تلک الأزمنة تدوین الکتب الفتوائیة متعارفاً، حتّی یقال: إنّهم کانوا یراجعون الکتب، فإنّ الکتب الموجودة فی تلک الأزمنة کانت منحصرة بکتب الأحادیث، ثمّ بعد أزمنة متطاولة صار بنائهم علی تدوین کتب بنحو متون الأخبار ککتب الصدوقین و من فی طبقتهما أو قریب العصر بهما، ثمّ بعد مرور الأزمنة جرت عادتهم علی تدوین الکتب التفریعیّة و الاستدلالیّة، فلم یکن الأخذ من الأموات ابتداءً ممکناً فی الصدر الأوّل و لا متعارفاً أصلاً.

نعم من أخذ فتوی حی فی زمان حیاته، فقد کان یعمل به علی الظاهر؛ ضرورة عدم الفرق فی ارتکازه بین الحی و المیّت، و لم یرد ردع عن ارتکازهم و بنائهم العملی، بل إطلاق الأدلّة یقتضی الجواز أیضاً.

فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّه لو کان مبنی جواز البقاء علی تقلید المیّت هو بناء العقلاء، فلا بدّ من التفصیل بین ما إذا أخذ فتوی المیّت فی زمان حیاته و غیره، و الإنصاف: أنّ جواز البقاء علی فتوی المیّت بعد الأخذ منه فی الجملة هو الأقوی، و أمّا الأخذ الابتدائی ففیه إشکال، بل الأقوی عدم جوازه.

و أمّا التمسّک بالأدلّة اللفظیة کالکتاب و السنّة فقد عرفت فی المبحث السالف عدم دلالتهما علی تأسیس حکم شرعی فی هذا الباب فراجع.

ص:484

فصل: فی تبدّل الاجتهاد

اشارة

فی تبدّل الاجتهاد

إذا اضمحلّ الاجتهاد السابق و تبدّل رأی المجتهد فلا یخلو إمّا أن یتبدّل من القطع إلی القطع أو إلی الظنّ المعتبر، أو من الظنّ المعتبر إلی القطع أو إلی الظنّ المعتبر.

حال الفتوی المستندة إلی القطع

فإن تبدّل من القطع إلی غیره فلا مجال للقول بالإجزاء؛ ضرورة أنّ الواقع لا یتغیّر عمّا هو علیه بحسب العلم و الجهل، فإذا قطع بعدم کون السورة جزءاً للصلاة، ثمّ قطع بجزئیتها أو قامت الأمارة علیها، أو تبدّل قطعه، یتبیّن له فی الحال الثانی وجداناً أو تعبّداً عدم کون المأتی به مصداقاً للمأمور به، و معه لا وجه للإجزاء. و لا یتعلّق بالقطع جعل حتّی یتکلّم فی دلالة دلیله علی إجزائه عن الواقع أو بدلیّته عنه، و إنّما هو عذر فی صورة ترک المأمور به، فإذا ارتفع العذر یجب علیه الإتیان بالمأمور به فی الوقت و خارجه إن کان له القضاء.

ص:485

حال الفتوی المستندة إلی الأمارات

و إن تبدّل من الظنّ المعتبر فإن کان مستنده الأمارات کخبر الثقة و غیره، فکذلک إذا کانت الأمارة عقلائیّة أمضاها الشارع، ضرورة أنّ العقلاء إنّما یعملون علی ما عندهم کخبر الثقة و الظواهر بما أنّها کاشفة عن الواقع و طریق إلیه و من حیث عدم اعتنائهم باحتمال الخلاف، و إمضاء الشارع هذه الطریقة لا یدلّ علی رفع الید عن الواقعیّات، و تبدیل المصادیق الأوّلیة بالمصادیق الثانویّة أو جعل المصادیق الناقصة منزلة التامّة.

و ربّما یقال: إنّ الشارع إذا أمر بطبیعة کالصلاة، ثمّ أمر بالعمل بقول الثقة أو أجاز المأمور بالعمل به، یکون لازمه الأمر أو الإجازة بإتیان المأمور به علی طبق ما أدّی إلیه قول الثقة، و لازم ذلک هو الإجزاء، ففی مثل قوله:

«أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَّیْلِ» (1) یکون أمر بصلاتین إلی غسق اللیل لا غیر، فإذا أمر بالعمل علی قول الثقة فقد أمر بإتیان المأمور به بالکیفیة التی أدّی إلیها الأمارة، فلا محالة یکون المأتی به مصداقاً للمأمور به عنده، و إلّا لمّا أمر بإتیانه کذلک فلا محیص عن الإجزاء، لتحقّق مصداق المأمور به و سقوط الأمر.

و لکنّک خبیر بأنّ إمضاء طریقة العقلاء لیس إلاّ لأجل تحصیل الواقعیّات، لمطابقة الأمارات العقلائیة نوعاً للواقع، و ضعف احتمال تخلّفها عنه، و فی مثل ذلک لا وجه لسقوط الأمر إذا تخلّف عن الواقع، کما أنّ الأمر کذلک عند العقلاء،

ص:486


1- (1) - الإسراء (17):78.

و الفرض أنّ الشارع لم یأمر تأسیساً. بل و کذا الحال لو أمر الشارع علی أمارة تأسیساً و کان لسان الدلیل هو التحفّظ علی الواقع، فإنّ العرف لا یفهم منه إلاّ تحصیل الواقع لا تبدیله بمؤدّی الأمارة.

و أنت إذا راجعت الأدلّة المستدلّ بها علی حجّیة خبر الثقة، لتری أنّ مفادها لیس إلاّ إیجاب العمل به لأجل الوصول إلی الواقعیات، کالآیات علی فرض دلالتها و کالروایات، فإنّها تنادی بأعلی صوتها بأنّ إیجاب العمل علی قول الثقة إنّما هو لکونه ثقة و غیر کاذب و أنّه موصل إلی الواقع، و فی مثله لا یفهم العرف أنّ الشارع یتصرّف فی الواقعیّات علی نحو أداء الأمارة.

هذا مع أنّ احتمال التأسیس فی باب الأمارات العقلائیة مجرّد فرض، و إلّا فالناظر فیها یقطع بأنّ الشارع لم یکن فی مقام تأسیس و تحکیم، بل فی مقام إرشاد و إمضاء ما لدی العقلاء، و الضرورة قاضیة بأنّ العقلاء لا یعملون علی طبقها إلاّ لتحصیل الواقع، و حدیث تبدیل الواقع بما یکون مؤدّی الأمارة ممّا لا أصل له فی طریقتهم، فالقول بالإجزاء فیها ضعیف غایته.

و أضعف منه التفصیل بین تبدّل الاجتهاد الأوّل بالقطع فلا یجزی، و بین تبدّله باجتهاد آخر فیجزی، بدعوی عدم الفرق بین الاجتهادین الظنّیین و عدم ترجیح الثانی حتّی یبطل الأوّل، و ذلک لأنّ تبدّل الاجتهاد لا یمکن إلاّ مع اضمحلال الاجتهاد الأوّل بالعثور علی دلیل أقوی أو بالتخطئة للاجتهاد الأوّل، و معه لا وجه لاعتباره فضلاً عن مصادمته للثانی.

هذا حال الفتوی المستند إلی الأمارات.

ص:487

حال الفتوی المستندة إلی الاُصول

و أمّا إذا استند إلی الاُصول کأصالتی الطهارة و الحلّیة فی الشبهات الحکمیّة، و کالاستصحاب فیها، و کحدیث الرفع، فالظاهر هو الإجزاء مع اضمحلال الاجتهاد.

أمّا فی أصالتی الطهارة و الحلّیة، فلأنّ الظاهر من دلیلهما هو جعل الوظیفة الظاهریّة لدی الشکّ فی الواقع، فإنّ معنی قوله:

«کلّ شیء نظیف حتّی تعلم أنّه قذر» (1) و

«کلّ شیء حلال حتّی تعرف أنّه حرام بعینه» (2) لیس أنّه طاهر و حلال واقعاً حتّی تکون النجاسة و الحرمة متقیّدتین بحال العلم بهما، ضرورة أنّه التصویب الباطل، و لا معنی لجعل المحرزیّة و الکاشفیة للشکّ مع کونه خلاف أدلّتهما، و لا لجعلهما لأجل التحفّظ علی الواقع، بل الظاهر من أدلّتهما هو جعل الطهارة و الحلّیة الظاهریتین، و لا معنی لهما إلاّ تجویز ترتیب آثار الطهارة و الحلّیة علی المشکوک فیه، و معنی تجویز ترتیب الآثار تجویز إتیان ما اشترط فیه الطهارة و الحلّیة مع المشکوک فیه، فیصیر المأتی به معهما مصداق المأمور به تعبّداً، فیسقط أمره.

فإذا دلّ الدلیل علی لزوم إتیان الصلاة مع طهارة الثوب، ثمّ شکّ فی طهارة

ص:488


1- (1) - تهذیب الأحکام 832/284:1، وسائل الشیعة 467:3، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحدیث 4.
2- (2) - الکافی 40/313:5، وسائل الشیعة 89:17، کتاب التجارة، أبواب ما یکتسب به، الباب 4، الحدیث 4، مع اختلاف یسیر.

ثوبه، دلّ قوله: «کلّ شیء طاهر» - الذی یرجع إلی جواز ترتیب الطهارة علی الثوب المشکوک فیه - علی جواز إتیان الصلاة معه و تحقّق مصداق الصلاة به، فإذا تبدّل شکّه بالعلم لا یکون من قبیل کشف الخلاف کما ذکرنا فی الأمارات(1) ، لأنّها کواشف عن الواقع، فلها واقع تطابقه أو لا تطابقه، بخلاف مؤدّی الأصلین، فإنّ مفاد أدلّتهما ترتیب آثار الطهارة أو الحلّیة بلسان جعلهما، فتبدیل الشکّ بالعلم من قبیل تبدیل الموضوع لا التخلّف عن الواقع، فأدلّتهما حاکمة علی أدلّة جعل الشروط و الموانع فی المرکّبات المأمور بها.

و بالجملة: إذا أمر المولی بإتیان الصلاة مع الطهارة و أجاز الإتیان بها فی ظرف الشکّ مع الثوب المشکوک فیه بلسان جعل الطهارة، و أجاز ترتیب آثار الطهارة الواقعیّة علیه، ینتج جواز إتیان الصلاة المأمور بها مع الطهارة الظاهریّة و معاملة المکلّف معها معاملة الطهارة الواقعیّة، فیفهم العرف من ذلک حصول مصداق المأمور به معها، فیسقط الأمر، و بعد العلم بالنجاسة لا یکون من قبیل کشف الخلاف کما فی الأمارات الکاشفة عن الواقع.

و لا یبعد أن یکون الأمر کذلک فی الاستصحاب، فإنّ الکبری المجعولة فیه و هی قوله:

«لا ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشکّ أبداً» (2) لیس مفادها جعل الیقین أمارة بالنسبة إلی زمان الشکّ، ضرورة عدم کاشفیّته بالنسبة إلیه عقلاً، لامتناع کونه طریقاً إلی غیر متعلّقه، و لا معنی لجعله طریقاً إلی غیره، فلا یکون

ص:489


1- (1) - تقدّم فی الجزء الأوّل: 422-423.
2- (2) - تهذیب الأحکام 1335/421:1، وسائل الشیعة 466:3، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحدیث 1.

الاستصحاب من الأمارات، بل و لا یکون جعله للتحفّظ علی الواقع کإیجاب الاحتیاط فی الشبهة البدویّة فی الأعراض و الدماء، فإنّه أیضاً خلاف مفادها و إن احتملناه بل رجّحناه سابقاً، بل الظاهر منها أنّه لا ینبغی للشاکّ الذی کان علی یقین رفع الید عن آثاره، فیجب علیه ترتیب آثاره، فیرجع إلی وجوب معاملة بقاء الیقین الطریقی معه فی زمان الشکّ، و هو مساوق عرفاً لتجویز إتیان المأمور به المشروط بالطهارة الواقعیّة مثلاً مع الطهارة المستصحبة، و لازم ذلک صیرورة المأتی به معها مصداقاً للمأمور به، فیسقط الأمر المتعلّق به.

و بالجملة: یکون حاله فی هذا الأثر کحال أصالتی الطهارة و الحلّ؛ من حیث کونه أصلاً عملیّاً و وظیفةً فی زمان الشکّ، لا أمارة علی الواقع، و لا أصلاً للتحفّظ علیه حتّی یأتی فیه کشف الخلاف، و یدلّ علی ذلک صحیحة زرارة الثانیة(1) حیث حکم فیها بغسل الثوب و عدم إعادة الصلاة، معلّلاً بأنّه کان علی یقین فی طهارته فشکّ، و لیس ینبغی له أن ینقض الیقین بالشکّ.

و کذا الحال فیما إذا کان المستند حدیث الرفع، فإنّ قوله:

«رفع ما لا یعلمون» (2) - بناءً علی شموله للشبهات الحکمیّة و الموضوعیّة - لسانه رفع الحکم و الموضوع باعتبار الحکم، لکن لا بدّ من رفع الید عن هذا الظاهر حتّی بالنسبة إلی الشبهات الموضوعیة، لأنّ لازمه طهارة ما شکّ فی نجاسته

ص:490


1- (1) - تهذیب الأحکام 1335/421:1، وسائل الشیعة 466:3، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحدیث 1.
2- (2) - الخصال: 9/417، التوحید: 24/353، وسائل الشیعة 369:15، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحدیث 1.

موضوعاً واقعاً، و لا یمکن الالتزام بطهارة ملاقیه فی زمان الشکّ بعد کشف الخلاف، فلا بدّ من الحمل علی البناء العملی علی الرفع و ترتیب آثار الرفع الواقعی، فإذا شکّ فی جزئیة شیء فی الصلاة أو شرطیّته لها أو مانعیّته فحدیث الرفع یدلّ علی رفع الجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة، فحیث لا یمکن الالتزام بالرفع الحقیقی لا مانع من الالتزام بالرفع الظاهری، نظیر الوضع الظاهری فی أصالتی الطهارة و الحلّیة، فیرجع إلی معاملة الرفع فی الظاهر و جواز إتیان المأمور به کذلک، و صیرورة المأتی به مصداقاً للمأمور به بواسطة حکومة دلیل الرفع علی أدلّة الأحکام.

فتحصّل من جمیع ما ذکرنا: أنّ التحقیق هو التفصیل بین الأمارات و الاُصول کما علیه المحقّق الخراسانی رحمه الله(1)

. هذا کلّه بحسب مقام الإثبات و ظهور الأدلّة، و أمّا بحسب مقام الثبوت فلا بدّ من توجیهه بوجه لا یرجع إلی التصویب الباطل.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذکرنا أنّ القائل بالإجزاء لا یلتزم بالتصرّف فی أحکام المحرّمات و النجاسات، و لا یقول بحکومة أدلّة الاُصول علی أدلّة الأحکام الواقعیّة التی هی فی طولها، و لیس محطّ البحث فی باب الإجزاء بأدلّة اصول الطهارة و الحلّیة و الاستصحاب هو التضییق أو التوسعة فی أدلّة النجاسات و المحرّمات حتّی یقال: إنّ الأمارات و الاُصول وقعت فی رتبة إحراز الأحکام الواقعیّة، و الحکومة فیها غیر الحکومة بین الأدلّة الواقعیّة بعضها مع بعض، و إنّ لازم ذلک هو الحکم بطهارة ملاقی النجس الواقعی إذا لاقی فی زمان الشکّ...

ص:491


1- (1) - کفایة الاُصول: 110.

و غیر ذلک ممّا وقع من بعض الأعاظم علی ما فی تقریرات بحثه(1) ، بل محطّ البحث هو أنّ أدلّة الاُصول الثلاثة هل تدلّ بحکومتها علی أدلّة الأحکام علی تحقّق مصداق المأمور به تعبّداً حتّی یقال بالإجزاء أم لا؟

هذا مع بقاء النجاسات و المحرّمات علی ما هی علیها من غیر تصرّف فی أدلّتها، فالشکّ فی الطهارة و الحلّیة بحسب الشبهة الحکمیّة إنّما هو فی طول جعل النجاسات و المحرّمات، لا فی طول جعل الصلاة مشروطةً بطهارة ثوب المصلّی و بکونه من المأکول، و الخلط بین المقامین أوقعه فیما أوقعه، و فی کلامه محالّ أنظار ترکناها مخافة التطویل.

ثمّ إنّ هذا کلّه حال المجتهد بالنسبة إلی تکالیف نفسه.

تکلیف المقلّد مع تبدّل رأی مجتهده

و أمّا تکالیف مقلّدیه فهل هو کالمجتهد فی التفصیل بین کون رأی المقلّد مستنداً إلی الأمارات، و بین کونه مستنداً إلی الاُصول، بأن یقال: إنّ المجتهد یعیّن وظائف العباد مطلقاً واقعاً و ظاهراً، فکما أنّ فی وظائفه الظاهریّة تحکم بالإجزاء بواسطة أدلّة الاُصول و حکومتها علی الأدلّة، فکذا فی تکالیف مقلّدیه طابق النعل بالنعل أو لا؟ بأن یقال: إنّ المقلّد مستنده فی الأحکام مطلقاً هو رأی المجتهد، و هو أمارة إلی تکالیفه بحسب ارتکازه العقلائی، و الشرع أیضاً أمضی هذا الارتکاز و البناء العملی العقلائی، و لیس مستند المقلّدین فی العمل هو

ص:492


1- (1) - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 249:1-251.

أصالة الطهارة أو الحلّیة أو الاستصحاب أو حدیث الرفع فی الشبهات الحکمیّة التی هی مورد بحثنا هاهنا؛ لأنّ العامّی لا یکون مورداً لجریان الاُصول الحکمیّة، فإنّ موضوعها الشکّ بعد الفحص و الیأس من الأدلّة الاجتهادیّة، و العامّی لا یکون کذلک، فلا یجری فی حقّه الاُصول حتّی تحرز مصداق المأمور به، و مجرّد کون مستند المجتهد هو الاُصول و مقتضاها الإجزاء، لا یوجب الإجزاء بالنسبة إلی من لم یکن مستنده إیّاها؛ فإنّ المقلّد لیس مستنده فی العمل هی الاُصول الحکمیّة، بل مستنده الأمارة - و هی رأی المجتهد - علی حکم اللّه تعالی، فإذا تبدّل رأیه فلا دلیل علی الإجزاء.

أمّا دلیل وجوب اتّباع المجتهد، فلأنّه لیس إلاّ بناء العقلاء الممضی، کما یظهر للناظر فی الأدلّة، و إنّما یعمل العقلاء علی رأیه لإلغاء احتمال الخلاف، و إمضاء الشارع لذلک لا یوجب الإجزاء کما تقدّم(1)

. و أمّا أدلّة الاُصول فهی لیست مستنده و لا هو مورد جریانها، لعدم کونه شاکّاً بعد الفحص و الیأس عن الأدلّة، فلا وجه للإجزاء، و هذا هو الأقوی.

فإن قلت: إذا لم یکن المقلّد موضوعاً للأصل و لا یجری فی حقّه، فلم یجوز للمجتهد أن یفتی مستنداً إلی الأصل بالنسبة إلی مقلّدیه، مع أنّ أدلّة الاُصول لا تجری إلاّ للشاکّ بعد الفحص و الیأس و هو المجتهد فقط لا المقلّد؟! و لو قیل: إنّ المجتهد نائب عن مقلّدیه، فمع أنّه لا محصّل له، لازمه الإجزاء.

ص:493


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 486-487.

قلت: قد ذکرنا سابقاً(1) أنّ المجتهد إذا کان عالماً بثبوت الحکم الکلّی المشترک بین العباد ثمّ شکّ فی نسخه مثلاً یصیر شاکّاً فی ثبوت هذا الحکم بینهم، فیجوز له الإفتاء به کما له العمل به، فکما أنّ الأمارة إذا قامت علی حکم مشترک کلّی یجوز له الإفتاء بمقتضاها، کذلک إذا کان مقتضی الاستصحاب فله العمل به و الفتوی بمقتضاه، فإذا أفتی یعمل المقلّدین علی طبق فتواه، لبناء العقلاء علی رجوع الجاهل بالعالم.

فتحصّل من ذلک: أنّ المجتهد له الإفتاء بمقتضی الاُصول الحکمیّة، و مقتضی القاعدة هو الإجزاء بالنسبة إلیه دون مقلّدیه، لاستناده إلی الاُصول المقتضیة للإجزاء و استنادهم إلی رأیه الغیر المقتضی لذلک.

ص:494


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 479.

فصل: فی أنّ تخییر العامّی فی الرجوع

فی أنّ تخییر العامّی فی الرجوع

إلی مجتهدین متساویین بدوی أو استمراری

بعد البناء علی تخییر العامّی فی الرجوع إلی مجتهدین متساویین هل یجوز له العدول بعد تقلید أحدهما؟

اختار شیخنا العلّامة التفصیل بین العدول فی شخص واقعة بعد الأخذ و العمل فیه، کما لو صلّی بلا سورة بفتوی أحدهما، فأراد تکرار الصلاة مع السورة بفتوی الآخر، و بین العدول فی الوقائع المستقبلة التی لم تعمل، أو العدول قبل العمل بعد الالتزام و الأخذ، فذهب إلی عدم الجواز مطلقاً فی الأوّل، و عدم الجواز فی الأخیرین إن قلنا بأنّ التقلید هو الالتزام و الأخذ، و الجواز إن قلنا بأنّه نفس العمل مستنداً إلی الفتوی.

و وجّهه فی الأوّل بأنّه لا مجال له للعدول بعد العمل بالواجب المخیّر، لعدم إمکان تکرار صرف الوجود و امتناع تحصیل الحاصل، و لیس کلّ زمان قیداً للأخذ بالفتوی، حتّی یقال: إنّه لیس باعتبار الزمان المتأخّر تحصیلاً للحاصل، بل الأخذ بالمضمون أمر واحد ممتدّ یکون الزمان ظرفاً له بحسب الأدلّة.

ص:495

نعم یمکن إفادة التخییر فی الأزمنة المتأخّرة بدلیل آخر یفید التخییر فی الاستدامة علی العمل الموجود و رفع الید عنه و الأخذ بالآخر، و إذ هو لیس فلیس. و إفادته بأدلّة التخییر فی إحداث الأخذ بهذا أو ذاک ممتنع، للزوم الجمع بین لحاظین متنافیین، نظیر الجمع بین الاستصحاب و القاعدة بدلیل واحد. و لا یجری الاستصحاب؛ لأنّ التخییر بین الإحداثین غیر ممکن الجرّ إلی الزمان الثانی، و بالنحو الثانی لا حالة سابقة له، و الاستصحاب التعلیقی لفتوی الآخر غیر جار؛ لأنّ الحجّیة المبهمة السابقة صارت معیّنة فی المأخوذ، و زالت قطعاً، کالملکیّة المشاعة إذا صارت مفروزة. و وجه الأخیرین بهذا البیان بعینه إن قلنا: إنّ المأمور به فی مثل قوله:

«فارجعوا فیها إلی رواة أحادیثنا» (1) و غیره هو العمل الجوانحی، أی الالتزام و البناء العقلی، و إن قلنا: بأنّه العمل، فلا إشکال فی بقاء الأمر التخییری فی کلا القسمین بلا محذور، و مع فقد الإطلاق لا مانع من الاستصحاب(2) ، انتهی ملخّصاً من تقریر بحثه.

أقول: ما یمکن البحث عنه فی الصورة الاُولی هو جواز تکرار العمل بعد الإتیان به مطابقاً لفتوی الأوّل، و أمّا البحث عن بقاء التخییر و کذا جواز العدول بعنوانهما، فأمر غیر صحیح؛ ضرورة أنّ التخییر بین الإتیان بما أتی به و العمل بقول الآخر ممّا لا معنی له، و طرح العمل الأوّل و إعدامه غیر معقول بعد

ص:496


1- (1) - کمال الدین: 4/484، وسائل الشیعة 140:27، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 11، الحدیث 9.
2- (2) - درر الفوائد، المحقّق الحائری: 716-717، کتاب البیع، المحقّق الأراکی 471:2-475.

الوجود حتّی یتحقّق ثانیاً موضوع التخییر، و کذا لا یعقل العدول بحقیقته بعد العمل، فلا بدّ و أن یکون البحث ممحّضاً فی جواز العمل بقول الثانی بعد العمل بقول الأوّل.

قد یقال بعدم الجواز؛ لأنّ الإتیان بأحد شقّی الواجب التخییری موجب لسقوط التکلیف جزماً، فالإتیان بعده بداعویّة الأمر الأوّل، أو باحتمال داعویّته، أو بداعویّة المحتمل، غیر معقول، و مع العلم بالسقوط لا معنی لإجراء الاستصحاب، لا استصحاب الواجب التخییری، و هو واضح، و لا جواز العمل علی طبق الثانی، لفرض عدم احتمال أمر آخر غیر التخییری الساقط، و کان الظاهر من تقریرات بحث شیخنا ذلک.

و فیه: إنّ ذلک ناشٍ من الخلط بین التخییر فی المسألة الفرعیّة و المسألة الاُصولیّة فإنّ ما ذکر وجیه فی الأوّل دون الثانی، لأنّ الأمر التخییری فی الثانی لا نفسیّة له، بل لتحصیل الواقع بحسب الإمکان بعد عدم الإلزام بالاحتیاط، فمع الإتیان بأحد شقّی التخییر فیه، یبقی للعمل بالآخر مجال واسع و إن لم یکن المکلّف ملزماً به، تخفیفاً علیه.

نعم لو قلنا بحرمة الاحتیاط أو بالإجزاء فی باب الطرق و لو مع عدم المطابقة، لکان الوجه ما ذکر، لکنّهما خلاف التحقیق.

و بهذا یظهر: أنّ استصحاب جواز الإتیان بما لم یأت به، لا مانع منه لو شکّ فیه.

نعم لا یجری الاستصحاب التعلیقی؛ لأنّ التعلیق لیس بشرعی.

و أمّا الصورتان الأخیرتان بناءً علی کون التقلید الالتزام و العقد القلبی، فقیاسهما علی الصورة الاُولی مع الفارق، لإمکان إبطال الموضوع و إعدامه

ص:497

بالرجوع عن الالتزام و عقد القلب، فصار حینئذٍ موضوعاً للأمر بإحداث الأخذ بأحدهما من غیر ورود الإشکال المتقدّم - من لزوم الجمع بین اللحاظین - علیه، و لیس الکلام هاهنا فی إطلاق الدلیل و إهماله، بل فی إمکانه بعد الفراغ عن فرض الإطلاق.

و ممّا ذکرنا یظهر أنّ ما أفاده رحمه الله من أنّ الالتزام و عقد القلب أمر وجدانی ممتدّ، إذا حصل فی زمان لا یعقل حدوثه ثانیاً، غیر وجیه؛ لأنّ الالتزام بعد انعدام الالتزام الأوّل إحداث لا إبقاء، لامتناع إعادة المعدوم.

هذا مع قطع النظر عن حال الأدلّة إثباتاً، و إلّا فقد مرّ(1) أنّه لا دلیل لفظی فی باب التقلید یمکن الاتّکال علیه فضلاً عن الإطلاق بالنسبة إلی حال التعارض بین فتویین، و إنّما قلنا بالتخییر للشهرة و الإجماع المنقولین و هما معتبران فی مثل تلک المسألة المخالفة للقواعد، و المتیقّن منهما هو التخییر الابتدائی؛ أی التخییر قبل الالتزام.

و التحقیق: عدم جریان استصحاب التخییر و لا الجواز، لاختلاف التخییر الابتدائی و الاستمراری موضوعاً و جعلاً، فلا یجری استصحاب شخص الحکم، و کذا استصحاب الکلّی، لفقدان الأرکان فی الأوّل، و لکون الجامع أمراً انتزاعیّاً لا حکماً شرعیاً و لا موضوعاً ذا أثر شرعی، و ترتیب أثر المصداق علی استصحاب الجامع مثبت، و لا فرق فی ذلک بین استصحاب جامع التخییرین أو جامع الجوازین الآتیین من قبلهما.

ص:498


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 469.

فصل: فی اختلاف الحی و المیّت فی مسألة البقاء

فی اختلاف الحی و المیّت فی مسألة البقاء

إذا قلّد مجتهداً کان یقول بوجوب الرجوع إلی الحی فمات، فإن غفل المقلّد عن الواقعة و لوازمها و رجع عنه بتوهّم جواز تقلیده فی الرجوع فلا کلام إلاّ فی صحّة أعماله و عدمها. و إن تذکّر بعدم جواز تقلیده فی ذلک، فإنّه أیضاً تقلید للمیّت، أو تحیّر و رجع إلی الحی فی هذه المسألة و کان هو قائلاً بوجوب البقاء، فمع تقلیده من الحی فیها یجب علیه البقاء فی سائر المسائل.

و أمّا فی هذه المسألة الاُصولیة، فلا یجوز له البقاء؛ لأنّه قلّد فیها الحی و لا تحیّر له فیها حتّی قلّد عن المیّت، و لا یجوز للمفتی الحی الإفتاء بالبقاء فیها؛ لکون المیّت علی خطأ عنده، فلا یشکّ حتّی یجری الاستصحاب.

و کذا لا یجوز له إجراء الاستصحاب للمقلّد، لکونه غیر شاکّ فیها، لقیام الأمارة لدیه، و هی فتوی الحی، بل لا یجری بالنسبة إلیه و لو مع قطع النظر عن فتوی الحی، لأنّ المجتهد فی الشبهات الحکمیّة یکون مشخصاً لمجاری الاُصول، و أمّا الأحکام - اصولیّةً أو فرعیّة - فلا اختصاص لها بالمجتهد، بل هی مشترکة بین العالم و الجاهل، فحینئذٍ لو رأی خطأ المیّت و قیام الدلیل علی

ص:499

خلافه فلا محالة یری عدم جریان الاستصحاب، لاختلال أرکانه، و هو أمر مشترک بینه و بین جمیع المکلّفین.

و بما ذکرناه تظهر مسألة اخری، و هی أنّه: لو قلّد مجتهداً فی الفروع، فمات، فقلّد مجتهداً یری وجوب الرجوع فرجع إلیه فمات، فقلّد مجتهداً یری وجوب البقاء یجب علیه الرجوع إلی فتوی المجتهد الأوّل، لقیام الأمارة الفعلیّة علی بطلان فتوی الثانی بالرجوع، فیری أنّ رجوعه عن المیّت الأوّل کان باطلاً، فالمیزان علی الحجّة الفعلیّة؛ و هی فتوی الحی.

و القول بجواز البقاء علی رأی الثانی برأی الثالث غیر صحیح؛ لأنّ الثالث یری بطلان رأی الثانی فی المسألة الاُصولیّة، و عدم صحّة رجوع المقلّد عن تقلید الأوّل، فقامت عند المقلّد فعلاً أمارة علی بطلانه، فلا معنی لبقائه فیها.

و أمّا شیخنا العلّامة أعلی اللّه مقامه - بعد نقل کلام شیخنا الأعظم قدس سره من کون المقام إشکالاً و جواباً نظیر ما قیل فی شمول أدلّة حجّیة خبر الثقة لخبر السیّد بعدم حجّیته، و أجاب عنه بمثل ما أجاب فی ذلک المقام، و بعد بیان الفرق بین المقامین بأنّه لم یلزم فی المقام التخصیص المستهجن و اللغز و المعمّی؛ لعدم عموم صادر عن المعصوم فیه - قال ما ملخّصه:

المحقّق فی المقام فتوی: أنّه لا یمکن الأخذ بکلیهما، لأنّ المجتهد بعد ما نزّل نفسه منزلة المقلّد فی کونه شاکّاً رأی هنا طائفتین من الأحکام ثابتتین للمقلّد، إحداهما: فتوی المیّت فی الفروع، و ثانیتهما: الفتوی فی الاُصول الناظرة إلی الفتاوی فی الفروع و المسقطة لها عن الحجّیة، فیری أرکان الاستصحاب فیهما تامّة.

ثمّ قال: لا محیص من الأخذ بالفتوی الاُصولیّة، فإنّه لو ارید فی

ص:500

الفرعیّة استصحاب الأحکام الواقعیّة فالشکّ فی اللاحق موجود دون الیقین السابق؛ أمّا الوجدانی فواضح، و أمّا التعبّدی فلارتفاعه بموت المفتی، فصار کالشکّ الساری، و إن ارید استصحاب الحکم الظاهری الجائی من قبل دلیل اتّباع المیّت، فإن ارید استصحابه مقیّداً بفتوی المیّت فالاستصحاب فی الاُصولیّة حاکم علیه، لأنّ الشکّ فی الفروعیّة مسبّب عن الشکّ فیها، و إن ارید استصحاب ذات الحکم الظاهری و جعل کونه مقول قول المیّت جهة تعلیلیة فاحتمال ثبوته إمّا بسبب سابق، فقد سدّ بابه الاستصحاب الحاکم، أو بسبب لاحق فهو مقطوع العدم، إذ مفروض الکلام صورة مخالفة فتوی المیّت للحی.

نعم، یحتمل بقاء الحکم الواقعی، لکن لا یکفی ذلک فی الاستصحاب، لأنّه مع الحکم الظاهری فی رتبتین و موضوعین، فلا یکون أحدهما بقاءً للآخر، لکن یجری استصحاب الکلّی بناءً علی جریانه فی القسم الثالث.

و إن ارید استصحاب حجّیة فتاوی الفرعیّة فاستصحاب الحجّیة فی الاُصولیّة حاکم علیه، لأنّ شکّه مسبّب عنه، لأنّ عدم حجّیة تلک الفتاوی أثر لحجّیة هذه، و لیس الأصل مثبتاً، لأنّ هذا من الآثار الثابتة لذات الحجّة الأعمّ من الظاهریّة و الواقعیّة.

ثمّ رجع عمّا تقدّم و اختار عدم جریان الاستصحاب فی الاُصولیّة، فإنّ مقتضی جریانه الأخذ بخلاف مدلوله، و مثله غیر مشمول لأدلّة الاستصحاب، فإنّ مقتضی الأخذ باستصحاب هذا الفتوی، سقوط فتاویه عن الحجّیة، و مقتضی سقوطها الرجوع إلی الحی، و هو یفتی بوجوب البقاء، فالأخذ بالاستصحاب فی الاُصولیّة - التی مفادها عدم الأخذ بفتاویه فی الفرعیّات - لازمه الأخذ فی الفرعیّات بها.

ص:501

و هذا باطل، و إن کان اللزوم لأجل الرجوع إلی الحی لا لکون مفاد الاستصحاب ذلک؛ إذ لا فرق فی الفساد بین الاحتمالین.

هذا مضافاً إلی أنّ المسئول عنه فی الفرعیّات المسألة الاُصولیة؛ أعنی من المرجع فیها، فلا ینافی مخالفة الحی للمیّت فی نفس الفروع مع إفتائه بالبقاء فی المسألة الاُصولیّة، و أمّا الفتوی الاُصولیّة فنفسها مسئول عنها و یکون الحی هو المرجع فیها، و فی هذه المسألة لا معنی للاستصحاب بعد أن یری الحی خطأ المیّت، فلا حالة سابقة حتّی تستصحب(1) ، انتهی.

و فیه محالّ للنظر:

منها: أنّ الاستصحاب فی الأحکام الواقعیة فی المقام لا یجری و لو فرض وجود الیقین السابق، لعدم الشکّ فی البقاء، فإنّ الشکّ فیه إمّا ناشٍ من احتمال النسخ أو احتمال فقدان شرط أو وجدان مانع، و الکلّ مفقود. بل الشکّ فیه ممحّض فی حجّیة الفتوی و جواز العمل بها، و إنّما یتصوّر الشکّ فی البقاء إذا قلنا بالسببیّة و التصویب.

و منها: أنّ حکومة الأصل فی المسألة الاُصولیّة علیه فی الفرعیّة ممنوعة؛ لأنّ المجتهد إذا قام مقام المقلّد - کما هو مفروض الکلام - یکون شکّه فی جواز العمل علی فتاوی المیّت فی الاُصول و الفروع، ناشئاً من الشکّ فی اعتبار الحیاة فی المفتی، و جواز العمل فی کلّ من الطائفتین مضادّ للآخر و مقتضی جواز کلٍّ، عدم جواز الآخر.

و لو قیل: إنّ مقتضی إرجاع الحی إیّاه إلی المیّت سببیّة شکّه فی الاُصولیّة.

ص:502


1- (1) - کتاب البیع، المحقّق الأراکی 488:2-493.

قلنا: هذا خلاف المفروض، و إلّا فلا یبقی مجال للشکّ له فی هذه المسألة، ففرض الشکّ فیما لم یقلد عن الحی فیها.

هذا مضافاً إلی أنّ مطلق کون الشکّ مسبّباً عن الآخر، لا یوجب التحکیم، کما قرّرنا فی محلّه(1) مستقصی، و ملخّصه: أنّ وجه تقدّم الأصل السببی أنّ الأصل فی السبب منقّح لموضوع دلیل اجتهادی ینطبق علیه بعد التنقیح، و الدلیل الاجتهادی بلسانه حاکم علی الأصل المسبّبی، فإذا شکّ فی طهارة ثوب غسل بماء شکّ فی کرّیته فاستصحاب الکرّیة ینقّح موضوع الدلیل الاجتهادی الدالّ علی أنّ ما غسل بالکرّ یطهر، و هو حاکم علی الأصل المسبّبی بلسانه.

و إن شئت قلت: إنّه لا مناقضة بین الأصل السببی و المسبّبی، لأنّ موضوعهما مختلفان، و المناقض للأصل المسبّبی إنّما هو الدلیل الاجتهادی بعد تنقیح موضوعه حیث دلّ بضمّ الوجدان و تطبیقه علی الخارج «أنّ هذا الثوب المغسول بهذا الماء طاهر» و الاستصحاب فی المسبّبی مفاده «أنّ هذا الثوب المشکوک فی نجاسته و طهارته نجس» و معلوم أنّ لسان الأوّل حاکم علی الثانی.

و توهّم: أنّ مقتضی الأصل السببی هو ترتیب جمیع آثار الکرّیة علی الماء، و منها ترتیب آثار طهارة الثوب.

مدفوع أوّلاً: بأنّ مفاد الاستصحاب لیس إلاّ عدم نقض الیقین بالشکّ، فإذا شکّ فی کرّیة ماء کان کرّاً لا یکون مقتضی دلیل الاستصحاب إلاّ التعبّد بکون الماء کرّاً، و أمّا لزوم ترتیب الآثار فبدلیل آخر و هو الدلیل الاجتهادی.

ص:503


1- (1) - الاستصحاب، الإمام الخمینی قدس سره: 243-246.

و الشاهد علیه - مضافاً إلی ظهور أدلّته - أنّ لسان أدلّته فی استصحاب الأحکام و الموضوعات واحد، فکما أنّ استصحاب الأحکام لیس إلاّ البناء علی تحقّقها لا ترتیب الآثار، فکذلک استصحاب الموضوعات. نعم لا بدّ فی استصحابها من دلیل اجتهادی ینقّح موضوعه بالاستصحاب.

و ثانیاً: بأنّ لازم ذلک عدم تقدّم السببی علی المسبّبی، فإنّ قوله: «کلّما شککت فی بقاء الکرّ فابنِ علی طهارة الثوب المغسول به» لا یقدّم علی قوله:

«إذا شککت فی طهارة الثوب الکذائی فابنِ علی نجاسته» و لا یراد باستصحاب نجاسة الثوب سلب الکرّیة، حتّی یقال: إنّ استصحاب النجاسة لا یسلبها إلاّ بالأصل المثبت، بل یراد إبقاء النجاسة فی الثوب فقط، و لا یضرّ فی مقام الحکم الظاهری التفکیک بین الآثار، فیحکم ببقاء کرّیة الماء و بقاء نجاسة الثوب المغسول به.

إذا عرفت ذلک اتّضح لک عدم تقدّم الأصل فی المسألة الاُصولیّة علی الفرعیة، لعدم دلیل اجتهادی موجب للتحکیم، و مجرّد کون مفاد المستصحب فی الاُصولیّة «أنّه لا یجوز العمل بفتاوای عند الشکّ» لا یوجب التقدّم علی ما کان مفاده «یجوز العمل بفتاوای الفرعیة لدی الشکّ» فإنّ کلاًّ منهما یدفع الآخر و ینافیه.

و ممّا ذکرناه یظهر النظر فی ما أفاده من حکومة استصحاب حجّیة الفتوی فی المسألة الاُصولیّة علی استصحاب حجّیتها فی المسائل الفرعیّة، فإنّ البیان و الإیراد فیهما واحد لدی التأمّل. هذا مضافاً إلی ما تقدّم(1) من عدم جریان

ص:504


1- (1) - تقدّم فی الصفحة 478.

استصحاب الحجّیة؛ لا العقلائیّة منها و لا الشرعیّة.

و منها: أنّ ما أفاده من تقدیم الأصل فی الفتوی الاُصولیّة و لو ارید استصحاب الحکم الظاهری بجهة تعلیلیّة، غیر وجیه و إن قلنا بتقدیم الأصل السببی فی الفرض المتقدّم علی الأصل المسبّبی؛ لأنّ نفی المعلول باستصحاب نفی العلّة مثبت و إن کانت العلّة شرعیّة، فإنّ ترتّب المسبّب علی السبب عقلی و لو کان السبب شرعیّاً.

نعم لو ورد دلیل علی «أنّه إذا وجد ذا وجد ذاک» لا یکون الأصل مثبتاً، کقوله: «إذا غلی العصیر أو نشّ حرم» و هو فی المقام مفقود.

و منها: أنّ بنائه علی جریان استصحاب الکلّی الجامع بین الحکم الظاهری و الواقعی غیر وجیه:

أمّا أوّلاً: فلما مرّ من عدم الشکّ فی بقاء الحکم الواقعی.

و ثانیاً: أنّه بعد فرض حکومة الأصل السببی علی المسبّبی یسقط الحکم الظاهری، و بسقوطه لا دلیل فعلاً علی ثبوت الحکم الواقعی، لسرایة الشکّ إلی السابق کما مرّ منه قدس سره فلا یقین فعلاً علی الجامع بینهما، فاستصحاب الکلّی إنّما یجری إذا علم بالجامع فعلاً و شکّ فی بقائه، و هو غیر نظیر المقام الذی بانعدام أحد الفردین ینعدم الآخر من الأوّل، إذ ینعدم الدلیل علی ثبوته من الأوّل، هذا مع الغضّ عن الإشکال فی استصحاب الجامع فی الأحکام کما مرّ منّا کراراً.

و منها: أنّ إنکاره جریان الاستصحاب فی المسألة الاُصولیّة، معلّلاً بأنّه یلزم من جریانه الأخذ بخلاف مفاده، و مثله غیر مشمول لأدلّته، غیر وجیه؛ لأنّ مفاد الاستصحاب هو سقوط حجّیة الفتاوی الفرعیّة، و هو غیر

ص:505

اعتبار فتاواه و لا لازمه ذلک و لا الأخذ بفتوی الحی، لإمکان العمل بالاحتیاط بعد سقوطها عن الحجّیة.

و بالجملة: سقوط الفتاوی عن الحجّیة أمر جاء من قبل الاستصحاب، و الرجوع إلی الحی أمر آخر غیر مربوط به و إن کان لازم الرجوع إلیه البقاء علی قول المیّت. و العجب أنّه قدس سره تنبّه علی هذا الإشکال و لم یأت بجواب مقنع.

و لو ادّعی انصراف أدلّة الاستصحاب من مثل المقام لکان انصرافها عن الأصل السببی و عن الأصلین المتعارضین أولی، لأنّ إجراء الاستصحاب للسقوط أسوأ حالاً من إجرائه فی مورد کان المکلّف ملزماً بالأخذ بدلیل آخر مقابل له فی المفاد. و الحلّ فی الکلّ أنّه لا فرق بین ورود دلیل لخصوص مورد من تلک الموارد و بین ما شملها بإطلاقه، و الإشکال متّجه فیها علی الأوّل لا الثانی.

و منها: أنّ ما ذکره أخیراً فی وجه عدم جریان الاستصحاب فی المسألة الاُصولیّة من أنّ المفتی الحی کان یری خطأ المیّت، إنّما یصحّ لو کان المفتی أراد إجراء الاستصحاب لنفسه، و قد فرض فی صدر المبحث أنّه نزّل نفسه منزلة العامّی فی الشکّ فی الواقعة، و التحقیق هو ما عرفت من عدم جریان الأصل - لا بالنسبة إلی المفتی و لا بالنسبة إلی العامّی - فی المسألة الاُصولیّة.

ص:506

فهرس المحتویات

ص:507

ص:508

تنبیهات البراءة

التنبیه الأوّل: اشتراط جریان البراءة بعدم وجود أصل موضوعی... 7

حول أصالة عدم التذکیة... 8

أقسام صور الشکّ فی حلّیة الحیوان... 8

فی معنی التذکیة... 9

حکم ما لو شکّ فی قابلیة حیوان للتذکیة... 10

التنبیه الثانی: فی حسن الاحتیاط شرعاً و عقلاً... 20

تقریر إشکال الاحتیاط فی العبادات و دفعه... 20

تصحیح الاحتیاط فی العبادات بالأمر المتعلّق بنفس الاحتیاط... 22

تصحیح الاحتیاط فی العبادات بأخبار من بلغ... 26

مفاد أخبار من بلغ... 27

التنبیه الثالث: أنحاء متعلّق الأمر و النهی... 32

اختلاف جریان الاُصول العملیة باختلاف متعلّقات الأحکام... 34

حکم ما لو تعلّق الأمر أو النهی بالطبیعة علی نحو العامّ الاستغراقی... 34

حکم ما لو تعلّق الأمر أو النهی بالطبیعة علی نحو العامّ المجموعی... 38

حکم ما لو تعلّق الأمر أو النهی بالطبیعة علی نحو صرف الوجود... 40

ص:509

حکم ما لو تعلّق الأمر و النهی بنفس الطبیعة... 40

مسألتان لم یتعرض لهما صاحب الکفایة:

المسألة الاُولی: فی دوران الأمر بین التعیین و التخییر... 43

لا بدّ قبل الخوض فی ذلک من تقدیم امور:

الأوّل: حقیقة الواجب التخییری... 43

الثانی: أقسام الواجب التخییری... 44

الثالث: حکم الشکّ فی اشتراط التکلیف فی مرحلة البقاء... 46

الرابع: وجوه الشکّ فی التعیین و التخییر... 47

مقتضی الأصل فی الوجوه المذکورة... 48

المسألة الثانیة: فی دوران الواجب بین أن یکون عینیّاً أو کفائیّاً... 60

تصویرات الواجب الکفائی... 60

اختلاف الأصل باختلاف الوجوه فی الکفائی... 62

القول: فی أصل التخییر

دوران الأمر بین المحذورین... 67

تساوی المحذورین من حیث الأهمّیة مع وحدة الواقعة... 68

فی جریان الأصل العقلی... 68

فی جریان الأصل الشرعی... 71

اختلاف المحذورین من حیث الأهمّیة مع وحدة الواقعة... 76

فی تعدّد الوقائع المقتضی لتعدّد التکلیف... 77

تنبیه: فی دوران الأمر بین المحذورین فی التعبدیّات... 79

ص:510

القول: فی أصل الاشتغال

یقع الکلام فی مقامین:

المقام الأوّل: فی تردّد المکلّف به بین أمرین متباینین أو امور متباینة... 83

ملاک حکم العقل لجریان قاعدة الاشتغال... 83

إمکان الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی... 84

الکلام فی المخالفة القطعیة... 88

الروایات الدالّة علی الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی... 88

مقالة الشیخ فی وجه عدم جریان الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی... 92

تفصیل المحقّق النائینی فی جریان الاُصول... 94

الکلام فی الموافقة القطعیّة... 99

لا بدّ من التنبیه علی امور:

الأمر الأوّل: تنجیز العلم الإجمالی فی التدریجیات... 112

الأمر الثانی: حکم الاضطرار إلی أحد أطراف العلم الإجمالی... 114

الأمر الثالث: فی شرطیة الابتلاء لتنجیز العلم الإجمالی... 119

الفرق بین الخطابات القانونیة و الخطابات الشخصیة... 120

کلام المحقّق النائینی فیما لو شکّ فی الخروج عن محلّ الابتلاء... 122

الأمر الرابع: فی الشبهة الغیر المحصورة... 131

فیما یدلّ علی عدم وجوب الاحتیاط فی الشبهة غیر المحصورة... 132

ص:511

ضابط الشبهة الغیر المحصورة... 137

بیان المحقّق النائینی فی ضابط الشبهة الغیر المحصورة... 139

مقتضی القاعدة عند الشکّ فی کون شبهة محصورة أو غیر محصورة... 142

تنبیهان... 144

الأمر الخامس: فی حکم الملاقی لأحد أطراف العلم الإجمالی... 147

فی صور العلم بالملاقاة... 147

فی أنّ ملاقی النجس نجس بعنوانه... 147

مقتضی الأصل العقلی فی صور الملاقاة... 149

مقتضی الأصل الشرعی فی صور الملاقاة... 155

شبهة المحقّق الحائری فی المقام و جوابها... 157

تنبیهات:

التنبیه الأوّل: فی التفصیل بین الشرائط و الموانع فی وجوب الاحتیاط... 165

التنبیه الثانی: فی کیفیة النیّة لو کان المعلوم بالإجمال من العبادات... 167

التنبیه الثالث: حکم ما لو کان المعلوم بالإجمال أمرین مترتّبین شرعاً... 169

المقام الثانی: فی الدوران بین الأقلّ و الأکثر... 173

و فیه مطالب:

المطلب الأوّل: فی الأقلّ و الأکثر الذی کان من قبیل الکلّ و الجزء... 176

فی جریان البراءة العقلیة... 176

الإشکالات الثمانیة علی جریان البراءة العقلیّة عن الأکثر و دفعها... 179

فی جریان البراءة الشرعیّة فی المقام... 195

ص:512

المطلب الثانی: لو کان الأقلّ و الأکثر من قبیل المطلق و المشروط... 202

المطلب الثالث: دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر فی الأسباب و المحصّلات... 208

المطلب الرابع: دوران الأمر بین الأقلّ و الأکثر الارتباطی و کون الشبهة موضوعیّة... 215

لا بدّ من التنبیه علی أمرین:

الأمر الأوّل: الشکّ فی الجزئیة أو الشرطیة فی حال السهو... 224

الکلام فیه یقع فی مقامات:

المقام الأوّل: فیما یقتضیه الأصل العقلی بالنسبة إلی النقیصة السهویّة... 224

إشکال الشیخ الأعظم فی المقام... 224

ردّ تفصیل المحقّق النائینی بین استیعاب النسیان لجمیع الوقت و عدمه... 229

تتمّة: فی ثبوت الإطلاق لدلیل الجزء و المرکّب... 232

المقام الثانی: فیما یقتضیه الأصل الشرعی فی النقیصة السهویّة... 237

المقام الثالث: فی حال الزیادة العمدیّة أو السهویّة... 243

فی تصویر وقوع الزیادة فی الأجزاء... 243

کلام المحقّق العراقی فی تصویر وقوع الزیادة الحقیقیّة... 244

مقتضی الأصل فی الزیادة... 248

المقام الرابع: فیما تقتضیه القواعد الثانویّة فی الزیادة و النقیصة... 253

مقتضی الروایات الواردة فی الزیادة... 253

مقتضی حدیث «لا تعاد»... 256

النسبة بین حدیثی «لا تعاد» و «من زاد»... 261

النسبة بین «لا تعاد» و قوله علیه السلام: «إذا استیقن...»... 265

ص:513

تنبیه: فی تحقّق معنی الزیادة... 266

الأمر الثانی: فی تعذّر الجزء و الشرط... 271

تحریر محلّ النزاع... 271

مقتضی القواعد الأولیّة فی المقام... 276

فی جریان البراءة العقلیّة... 276

فی جریان البراءة الشرعیّة... 278

مقتضی القواعد الثانویة فی المقام... 279

التمسّک بالاستصحاب لإثبات وجوب باقی الأجزاء... 279

التمسّک بقاعدة المیسور لإثبات وجوب باقی الأجزاء... 283

الکلام فی مفاد النبوی... 284

الکلام فی مفاد العلوی الأوّل... 286

الکلام فی مفاد العلوی الثانی... 290

تتمّة: فی اعتبار صدق المیسور فی جریان القاعدة... 293

المرجع فی تعیین المیسور... 295

خاتمة: فی شرائط الاُصول

حسن الاحتیاط مطلقاً... 297

اعتبار الفحص فی جریان البراءة... 305

ادلّة وجوب الفحص... 305

فی بیان مقدار الفحص... 315

ص:514

التعادل و الترجیح

و قبل الورود فی المقصد لا بدّ من ذکر فصول:

الفصل الأوّل: عدم تعارض العامّ و الخاصّ... 319

اختصاص الکلام فی هذا الباب بتعارض الأخبار... 319

الکلام فی وجه تقدّم الخاصّ علی العامّ... 322

کلام الشیخ الأنصاری و ما یرد علیه... 322

کلام المحقّق الخراسانی و نقده... 325

کلام المحقّق الحائری و ما یرد علیه... 327

کلام المحقّق النائینی و نقده... 329

تحقیق فی الاُصول اللفظیة... 331

الفصل الثانی: عدم شمول أخبار العلاج للعامّ و الخاصّ... 333

حول کلام المحقّق الخراسانی و العلّامة الحائری... 333

الفصل الثالث: أنّ الجمع بین الدلیلین مهما أمکن أولی من الطرح... 338

الفصل الرابع: کلام الشیخ فی الفرق بین النصّ و الظاهر و الأظهر و الظاهر... 341

الفصل الخامس: ما قیل باندراجها فی النصّ و الظاهر أو الأظهر و الظاهر... 343

الموارد التی ادّعی اندراجها فی النصّ و الظاهر... 343

وجود قدر المتیقّن فی مقام التخاطب... 343

لزوم استهجان التخصیص... 345

ورود أحد الدلیلین مورد التحدیدات و الأوزان و المقادیر... 346

لزوم إخراج المورد... 347

ص:515

الموارد التی ادّعی اندراجها فی الأظهر و الظاهر... 348

تعارض العموم و الإطلاق... 348

دوران الأمر بین النسخ و التخصیص... 353

وجوه ورود العامّ و الخاصّ و الدوران بین النسخ و التخصیص... 359

دوران الأمر بین تقیید الإطلاق و حمل الأمر علی الاستحباب... 363

القول فیما إذا کان التعارض بین أکثر من دلیلین... 365

یقع الکلام فی خمس صور:

إذا ورد عامّ و خاصّان بینهما التباین... 365

إذا ورد عامّ و خاصّان بینهما عموم و خصوص مطلق... 368

إذا ورد عامّ و خاصّان بینهما عموم من وجه... 371

إذا ورد عامّان من وجه و خاصّ... 372

إذا ورد عامّان متباینان و خاصّ... 372

الفصل السادس: فی عدم شمول أخبار العلاج للعامّین من وجه... 373

هل المرجّحات جاریة فی العامّین من وجه أم لا؟... 375

المقصد الأوّل: فی الخبرین المتعارضین المتکافئین... 379

مقتضی الأصل بناءً علی الطریقیّة... 379

مقتضی الأصل بناءً علی السببیّة... 384

مقتضی الأخبار الواردة فی المتکافئین... 386

ما قیل فی وجه الجمع بین الأخبار... 386

تنبیهات:

التنبیه الأوّل: فی معنی التخییر فی المسألة الاُصولیة... 390

ص:516

التنبیه الثانی: فی حکم تخییر القاضی و المفتی فی عمله و عمل مقلّدیه... 393

التنبیه الثالث: فی أنّ التخییر بدوی أو استمراری... 395

التنبیه الرابع: فی شمول أخبار التخییر لجمیع صور الخبرین المختلفین... 399

المقصد الثانی: فی الخبرین المتعارضین مع عدم التکافؤ... 401

و فیه مقامان:

المقام الأوّل: فیما یحکم به العقل فی هذا الباب... 401

المقام الثانی: فی مقتضی الأخبار الواردة فی هذا الباب... 403

انحصار المرجّح المنصوص فی موافقة الکتاب و مخالفة العامّة... 405

حال الأخبار الواردة فی موافقة الکتاب... 406

حال الأخبار الواردة فی مخالفة العامّة... 411

تتمّة: فی التعدّی عن المرجّحات المنصوصة إلی غیرها... 412

فیما استدلّ بها الشیخ الأعظم للتعدّی عن المرجّحات المنصوصة... 413

هل المرجحات المنصوصة مرجّحات أصل الصدور أو جهة الصدور؟... 418

الاجتهاد و التقلید

ذکر شئون الفقیه... 423

هنا عناوین ستة نذکرها فی ضمن امور:

الأوّل: من لا یجوز له الرجوع إلی الغیر... 423

الثانی: من یجوز له العمل بفتوی نفسه... 424

الثالث: من یجوز له التصدّی لمقام الإفتاء... 425

ص:517

الرابع و الخامس: من یجوز له التصدّی لمقام القضاوة و الحکومة... 426

الأخبار الدالّة علی ثبوت منصب الحکومة و القضاء للفقیه... 427

هل یکون منصب القضاوة و مقام الحکومة للمتجزّی أم لا؟... 431

فروع... 433

السادس: من یجوز الرجوع إلیه... 436

مقتضی الأصل الأوّلی: وجوب تقلید الأعلم... 436

حول الاستدلال ببناء العقلاء للتقلید... 439

شبهة عدم وجود هذا البناء فی زمن الأئمّة:... 439

الجواب الأوّل: ثبوت الاجتهاد و التقلید بهذا النحو فی زمن الأئمّة علیهم السلام... 440

الجواب الثانی: کفایة عدم الردع للبناء الفعلی لإحراز رضی الشارع... 444

مناط بناء العقلاء فی رجوع الجاهل إلی العالم و مقتضاه... 446

هل ترجیح قول الأفضل عند العقلاء لزومی أم لا؟... 450

أدلّة جواز الرجوع إلی المفضول... 452

الأوّل: بعض الآیات الشریفة... 452

الثانی: الأخبار التی استدلّ بها علی حجّیة قول المفضول... 457

فیما استدلّ به علی ترجیح قول الأفضل... 463

فی حال المجتهدین المتساویین مع اختلاف فتواهما... 468

الاستدلال علی التخییر بین المتساویین بأدلّة العلاج... 471

فصل: فی اشتراط الحیاة فی المفتی... 473

التمسّک بالاستصحاب علی جواز تقلید المیّت... 473

إشکال عدم بقاء موضوع الاستصحاب و الجواب عنه... 475

ص:518

تقریر إشکال آخر علی الاستصحاب... 478

حال بناء العقلاء فی تقلید المیّت... 482

فصل: فی تبدّل الاجتهاد... 485

حال الفتوی المستندة إلی القطع... 485

حال الفتوی المستندة إلی الأمارات... 486

حال الفتوی المستندة إلی الاُصول... 488

تکلیف المقلّد مع تبدّل رأی مجتهده... 492

فصل: تخییر العامّی فی الرجوع إلی مجتهدین متساویین بدوی أو استمراری... 495

فصل: فی اختلاف الحی و المیّت فی مسألة البقاء... 499

فهرس المحتویات... 507

ص:519

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.