بحوث فی الملل و النحل - الجزء الثالث (الماتريدية، والمرجئية)

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی جعفر، - 1308 عنوان و نام پديدآور : بحوث فی الملل و النحل : دراسه موضوعیه مقارنه للمذاهب الاسلامیه تالیف جعفر السبحانی مشخصات نشر : قم اداره الحوزه العلمیه بقم الجماعه المدرسین فی الحوزه العلمیه بقم موسسه النشر الاسلامی 1414ق = - 1372. فروست : (موسسه النشر الاسلامی جامعه المدرسین بقم 720، 721، 722، 723، 725: مرکز مدیریت حوزه علمیه قم 1، 26) شابک : بها:3400ریال ج 1)بهای هرجلدمتفاوت ؛ بها:3400ریال ج 1)بهای هرجلدمتفاوت ؛ بها:3400ریال ج 1)بهای هرجلدمتفاوت ؛ بها:3400ریال ج 1)بهای هرجلدمتفاوت وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی يادداشت : ج 1 (چاپ دوم 1371)؛ بها: 1800 ریال يادداشت : جلد اول و چاپ دوم 1415ق = 1373؛ بها: 4000 ریال جلد پنجم (چاپ دوم 1415ق = 1373)؛ بها: 5500 ریال (موسسه النشر الاسلامی جامعه مدرسین بقم )724 يادداشت : جلد اول (چاپ چهارم 1416ق = 1374؛ بها: 6500 ریال يادداشت : ج 4(چاپ پنجم 1417ق = 1375)؛ 7600 ریال يادداشت : ج 7(چاپ اول 1416ق = 1374)؛ 10000 ریال يادداشت : ج 8(چاپ اول موسسه الامام الصادق 1418ق = 1376)؛ 10000 ریال يادداشت : ج 1412 5ق = 2500 :1371 ریال يادداشت : ج 6 (چاپ چهارم 1424ق = 1382): 34000 ریال یادداشت : کتابنامه مندرجات : ج 1. تاریخ عقائد اهل الحدیث و الحنابله و السلفیه

.-- ج 2. تاریخ الامام الاشعری و انصاره و عقائدهم .-- ج 3. و یتناول تاریخ و عقائد الماتریدیه و المرجئه .-- ج 4. حیاه ابن تیمیه و ابن عبدالوهاب و عقائدهما .-- ج 6. تاریخ الشیعه نشاتهم عقائدهم و شخصیاتهم .-- ج 7. یتناول شخصیه و حیاه الامام الثائر زیدبن علی و تاریخ الزیدیه و عقائدهه -- ج 8. الاسماعیلیه و فرق الفطیحه ...-- موضوع : اسلام -- فرقه ها شناسه افزوده : جامعه مدرسین حوزه علمیه قم دفتر انتشارات اسلامی شناسه افزوده : حوزه علمیه قم مرکز مدیریت رده بندی کنگره : BP236 /س 2ب 3 1372 رده بندی دیویی : 297/5 شماره کتابشناسی ملی : م 73-2155

مقدمة

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد، فهذا هو الجزء الثّالث من كتابنا «بحوث في الملل والنحل» نقدّمه للقرّاء الكرام ونبحث فيه عن المدرستين المعروفتين «الماتريديّة» و«المعتزلة»، والمدرسة الاُولى مشتقّة من منهج أهل الحديث من الحشويّة والحنابلة، كاشتقاق المنهج الأشعريّ منه، والفرعان يشتركان في كثير من الاُصول ويختلفان في بعضها الآخر، وستوافيك الفوارق الموجودة بينهما.

وأمّا المدرسة الثّانية _ أعني مدرسة الاعتزال _ فهي منهج عقليّ لا يمتّ لمنهج أهل الحديث بصلة، والمدرستان تتحرّكان على محورين متخالفين، ونرجو منه سبحانه أن يوفّقنا لتحرير عقائد الطائفتين متحرّرين من كلّ نزعة، وتعصّب، ورأي مسبّق لا دليل عليه، ولنقدّم تحرير منهج الطائفة «الماتريديّة» على «المعتزلة» للصّلة التامّة بينه وبين المنهج الأشعري الذي سبق عنه البحث مفصّلاً في الجزء الثّاني.

ولقد نجمت في القرنين الأوّلين مناهج كلاميّة لها صلة بالمدرستين، فلإكمال الفائدة نبحث قبل تبيين منهج الإعتزال عن الفرق التالية:

المرجئة، القدريّة، الجهميّة، الكرّاميّة والظاهريّة. فالمرجوّ منه

سبحانه، التّوفيق لبيان الحقّ والحقيقة والقضاء، بعيداً عن التعصّب والانحياز الممقوت. إنّه وليّ التوفيق.

الماتريدية

اشاره

1- الماتريدية

الماتريدية

الماتريدية

قد تعرّفت على جذور الاختلاف في عصر الرّسالة وبعدها، كما تعرّفت على حوافز الاختلاف ودوافعه في عصر الخلفاء، وخرجنا بالنّتيجة التالية وهي: أنّ أهل البحث والنّقاش من المسلمين قد تفرّقوا على فرقتين مختلفتين في كثير من المبادئ والاُصول وإن اشتركتا في كثير منها أيضاً:

1_ فرقة أهل الحديث الّتي يعبّر عنها بالحشويّة تارة، والحنابلة اُخرى، والسلفيّة ثالثة وكانوا يتّسمون بسمة الاقتفاء لكتاب الله، وسنّة رسوله، ولا يقيمون للعقل والبرهان وزناً، كما لا يتفحّصون عن مصادر الحديث تفحّصاً يكشف عن صحته، بل ويقبلون كلّ حديث وصل إليهم عن كل من هبّ ودبّ، ويجعلون في حزمتهم كلّ رطب ويابس، ولأجل هذا التّساهل ظهرت فيهم آراء وعقائد تشبه آراء أهل الكتاب، كالتشبيه، والتجسيم،والجبر، وسيادة القضاء والقدر على الإنسان كإله حاكم،لا يُغيّر ولا يُبدّل، ولا يقدر الإنسان على تغيير مصيره إلى غير ذلك من البدع ولا يقصر عمّا ذكرناه القول بالرؤية تبعاً للعهدين، وكون القرآن قديماً غير مخلوق، مضاهياً لقول اليهود بقدم التّوراة، أو النّصارى بقدم المسيح، وقد أوضحنا الحال في هذه المباحث في الجزأين الماضيين.

2 _ فرقة المعتزلة التي تعتمد على العقل أكثر مما يستحقّه، وتزعم أنّ ظواهر بعض

( 8 )

النّصوص الواردة في الكتاب والسنّة، مخالفة لما يوحي إليهم عقلهم وفكرتهم، فيبادرون إلى تأويلها تأويلاً واهياً يسلب عن الكلام بلاغته، فينحطّ من ذروته إلى الحضيض، وهؤلاء هم المعروفون بالمعتزلة، وفي ألسن خصومهم ب_(القدريّة).

وقد كان الجدال بين الطّائفتين قائماً على قدم وساق بغلبة الاُولى على الثّانية تارة، وانتصار الثانية على الاُولى اُخرى، وقد كان لأصحاب السّياسة والبلاط دور واضح في إشعال نار الإختلاف بإعلاء إحداهما، وحطّ الاُخرى، حسب مصالحهم الوقتية، والغايات المنشودة لهم.

الداعيان إلى منهج أهل الحديث متعاصران

الداعيان إلى منهج أهل الحديث متعاصران

كان النزاع

يعلو تارة، وينخفض اُخرى، إلى أن دخل القرن الرابع الهجري، فأعلن الشيخ أبو الحسن الأشعري، في أوائل ذلك القرن، رجوعه عن الاعتزال الذي عاش عليه أربعين سنة، وجنح إلى أهل الحديث، وفي مقدّمتهم منهج إمام الحنابلة «أحمد بن حنبل»، لكن لا بمعنى اقتفاء منهجه حرفيّاً بلا تصرّف ولا تعديل فيه، بل قبوله لكن بتعديل فيه على وجه يجعله مقبولاً لكلّ من يريد الجمع بين النّقل والعقل، والحديث والبرهان، وقد أسّس في ضوء هذا منهجاً معتدلاً بين المنهجين وتصرّف في المذهب الاُمّ، تصرّفاً جوهرياً وقد أسعفه حسن الحظّ ونصره رجال في الأجيال المتأخرة، حيث نضّجوا منهجه، حتى صار مذهباً عامّاً لأهل السنّة في الاُصول، كما صارت المذاهب الأربعة مذاهب رسمية في الفروع.

وفي الوقت الّذي ظهر مذهب الأشعري بطابع الفرعية لمذهب أهل الحديث، ظهر مذهب آخر بهذا اللون والشكل لغاية نصرة السنّة وأهلها، وإقصاء المعتزلة عن السّاحة الإسلاميّة.

كلّ ذلك بالتصرف في المذهب وتعديله، وذلك المذهب الآخر هو مذهب

( 9 )

الماتريديّة للامام محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي السمرقندي (المتوفّى عام 333 ه_) أي بعد ثلاثة أو تسعة(1) أعوام من وفاة الإمام الأشعري.

والداعيان كانا في عصر واحد، ويعملان على صعيد واحد، ولم تكن بينهما أيّة صلة، فهذا يكافح الاعتزال ويناصر السنّة في العراق متقلّداً مذهب الشافعي في الفقه، وذاك يناضل المعتزلة في شرق المحيط الإسلامي (ما وراءالنّهر)، متقلّداً مذهب الإمام أبي حنيفة في الفقه، وكانت المناظرات والتيّارات الكلامية رائجة في كلا القطرين. فكانت البصرة _ يوم ذاك _ بندر الأهواء والعقائد، ومعقلها، كما كانت أرض خراسان مأوى أهل الحديث ومهبطهم، وكانت منبتَ الكرّامية وغيرهم أيضاً، نعم كانت المعتزلة بعيدة عن شرق المحيط الإسلامي، ولكن وصلت أمواج منهجهم الى

تلك الديار عن طريق اختلاف العلماء بين العراق وخراسان.

ولأجل انتماء الداعيين إلى المذهبين المختلفين نرى اهتمام الشافعية بترجمة الأشعري في طبقاتهم، واهتمام علماء الأحناف _ أعني المتكلّمين منهم _ بالماتريدي وإن قصروا في ترجمته في طبقاتهم، ولم يؤدّوا حقّه في كتبهم.

نعم انتماء الماتريدي للإمام أبي حنيفة في الفقهين (الأكبر والأصغر)(2) أمر واضح، فإنّه حنفيّ، كلاماً وفقهاً، وأكثر من نصره، بل جميعهم، من الأحناف، مثل فخر الاسلام أبي اليسر محمد بن عبد الكريم البزدوي (المتوفّى عام 493 ه_) والإمام النّسفي (المتوفّى عام 573 ه_) وسعد الدّين التّفتازاني (المتوفّى عام 791 ه_) وغيرهم كإبن الهمام والبياضي كما سيوافيك في تراجمهم، بخلاف انتماء الأشعري للامام الشافعي فإنّه ليس بهذا الحدّ من الوضوح.

______________________

1 . على اختلاف في تاريخ وفاته بين كونه في 330 أو 324 .

2 . سمّى أبو حنيفة الكلام بالفقه الأكبر، وعلم الشريعة بالفقه الأصغر، وقد سمّى بعض رسائله بهذين الاسمين كما سيوافيك.

( 10 )

منهج الماتريدي موروث من أبي حنيفة

منهج الماتريدي موروث من أبي حنيفة

المنهج الذي اختاره الماتريدي، وأرسى قواعده، وأوضح براهينه، هو المنهج الموروث من أبي حنيفة (م 150 ه_) في العقائد، والكلام، والفقه ومبادئه، والتاريخ يحدّثنا عن كون أبي حنيفة صاحب حلقة في الكلام قبل تفرّغه لعلم الفقه، وقبل اتّصاله بحماد بن أبي سليمان الذي أخذ عنه الفقه.

وليس الماتريدي نسيج وحده في هذا الأمر، بل معاصره أبو جعفر الطّحاوي صاحب «العقيدة الطحاوية» (م 321 ه_ ) مقتف أثر أبي حنيفة حتّى عنون وصدّر رسالته المعروفة بالعقيدة الطّحاوية بقوله «بيان عقيدة فقهاء الملّة: أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّدبن الحسن»(1).

ويذكر عبد القاهر البغدادي صاحب كتاب «الفَرْق بين الفِرَقِ» في كتابه الآخر «اُصول الدين» أنّ أبا حنيفة له كتاب في الرد

على القدرية سمّاه «الفقه الأكبر»، وله رسالة أملاها في نصرة قول أهل السنّة: أنّ الاستطاعة مع الفعل... وعلى هذا قوم من أصحابنا(2)، والرسائل الموروثة من أبي حنيفة أكثر ممّا ذكره البغدادي(3).

ولمّا كانت المسائل الكلامية في ثنايا هذه الرسائل، غير مرتّبة قام أحد الماتريديّة في القرن الحادي عشر، أعني به كمال الدين أحمد البياضي الحنفي، باخراج المسائل الكلامية عن هذه الرسائل من غير تصرّف في عبارات أبي حنيفة وأسماه «إشارات المرام من عبارات الامام» ويقول فيه: «جمعتها من نصوص كتبه التي أملاها على أصحابه من الفقه الأكبر، والرسالة، والفقه الأبسط، وكتاب العالم والمتعلّم، والوصيّة، برواية من الإمام حمّاد بن أبي حنيفة، وأبي يوسف الأنصاري، وأبي مطيع الحكم بن عبد الله

______________________

1 . شرح العقيدة الطحاوية: ص 25، والشرح للشيخ عبد الغني الميداني الدمشقي (المتوفى سنة 1298 ه_).

2 . اُصول الدين: ص 308 .

3 . وسيوافيك فهرس الرسائل الموروثة من أبي حنيفة، وقد طبع قسم كبير منها .

( 11 )

البلخي، وأبي مقاتل حفص بن مسلم السمرقندي.

وروى عن هؤلاء، إسماعيل بن حمّاد، ومحمّد بن مقاتل الرازي، ومحمد بن سماعة التميمي، ونصير بن يحيى البلخي، وشداد بن الحكيم البلخي، وغيرهم.

ثمّ قال: إنّ الامام أبا منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي روى عن الطّبقة الثانية، أعني نصير بن يحيى، ومحمّد بن مقاتل الرازي، وحقّق تلك الاُصول في كتبه بقواطع الأدلّة، وأتقن التّفاريع بلوامع البراهين اليقينيّة»(1).

هذه جذور منهجه واُسس مدرسته الكلامية.

لمحة عن حياة الماتريدي

لمحة عن حياة الماتريدي

من المؤسف جدّاً إهمال كثير من المؤرخين، وكتب التراجم، ذكر الامام الماتريدي، وتبيين خصوصيات حياته، بل ربّما أهملوا الإشارة إليه عندما يجب ذكره أو الإشارة إليه، فإنّ الرجل من أئمة المتكلّمين، وأقطاب التفسير في عصره فكان الإلمام

بحياته عند ذكر طبقات المتكلّمين والمفسرين لازماً، وهذا خلاف ما نجده من العناية المؤكّدة بذكر الأشعري، وتبيين حياته، والإشارة إلى خصوصياتها، حتّى رُؤاه، وأحلامه، وغلّة ضيعته، ولعلّ إحدى الدوافع إلى هذا، هي أنّ الأشعري استوطن في مركز العالم الاسلامي (العراق)، وشهر سيف بيانه وقلمه على الاعتزال في مركز قدرتهم، وموضع سلطتهم، فصار ذلك سبباً لأن تمدّ إليه الأعين، وتشرئب(2)نحوه الأعناق،فيذكره الصديق والعدو في كتبهم بمناسبات شتّى، وأمّا عديله وقرينه فكان بعيداً عنه، مستوطناً في نقطة يغلب فيها أهل الحديث وفكرتهم، وكانت السلطة في مجالي العلم والعمل لهم، فجهل قدره،ولم تعلم قيمة نضاله مع خصومهم، فقلّت العناية به،

______________________

1 . إشارات المرام من عبارات الامام للبياضي: ص 21 _ 22، وهذا الكتاب من المصادر الموثقة في تبيين المنهج الماتريدى بعد كتابيه «التوحيد» و «التفسير». ومثله كتاب «أصول الدين» للامام البزدوي.

2 . إشْرَأبّ إليه وله: مدّ عنقه أو ارتفع لينظر إليه.

( 12 )

وبعلومه، وأفكاره، والإشارة إليه.

ولأجل ذلك نرى ابن النديم (م 389) لم يترجمه في فهرسته، وفي الوقت نفسه ترجم الشيخَ الأشعري (م33ه_)، والامام الطحاوي شيخ الأحناف في مصر (م321ه_) مؤلّف «عقائد الطحاوي » المسمى ببيان السنّة والجماعة الذي اعتنى به عدّة من الأعلام بالشرح والتعليق.

هذا وقد أهمله جمع من المتأخّرين، فلم يترجمه أحمد بن محمد بن خلكان (م681ه_) في «وفيات الأعيان» مع أنّه ترجم للطحاوي، ولا صلاح الدين الصفدي (م764ه_) في «الوافي بالوفيات»، ولا محمد بن شاكر الكتبي (م764ه_) في «فوات الوفيات»، ولا تقي الدين محمد بن رافع السّلامي (م 774ه_) في «الوفيات»، ولم يذكره ابن خلدون (م808) في مقدمته في الفصل الذي خصّه بعلم الكلام، ولا جلال الدين السيوطي (م911ه_) في «طبقات المفسرين» مع كونه أحد

المفسرين في أوائل القرن الرابع، إلى غير ذلك من المعنيّين بتراجم الأعيان والشخصيات، ولم تصل أيديهم إليه، وإلى كتبه، ونشاطاته العلمية، ونضالاته مع خصوم أهل السنّة.

حتى إنّ من ذكره وعنونه، لم يذكر سوى عدة كليات في حقه، لا تلقي ضوءاً على حياته، ولا تبيّن شيئاً من خصوصياته، هذا والمعلومات التي وصلت إلينا بعد الفحص عن مظانّها عبارة عن الاُمور التالية:

1_ ميلاده:

اتّفق المترجمون له على أنّه توفّي عام (م333ه_)، ولم يعيّنوا ميلاده، ولكن نتمكّن من تعيينه على وجه التقريب من جانب مشايخه الّذين تخرّج عليهم في الحديث، والفقه، والكلام، فإنّ أحد مشايخه كما سيوافيك، هو نصير بن يحيى البلخي (المتوفّى عام 268ه_) فلو تلقّى عنه العلم وهو ابن عشرين يكون هو من مواليد عام (248ه_)، أو ما يقاربه، فيكون أكبر سنّاً من الأشعري بسنين تزيد على عشر.

( 13 )

2_ موطنه:

قد اشتهر الامام، بالماتريدي (بضم التاء) و«ماتريد» قرية من قرى سمرقند في بلاد ما وراء النّهر (جيحون)(1).

ويوصف بالماتريدي تارة، والسمرقندي اُخرى، ويلقب ب_ «علم الهدى» لكونه في خطّ الدفاع عن السنّة.

3 _ نسبه

ينتهي نسبه إلى أبي أيّوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري، مضيف النّبي الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم في دار الهجرة، وقد وصفه بذلك البياضي في «إشارات المرام»(2).

4 _ مشايخه وأساتذته:

قد أخذ العلم عن عدّة من المشايخ هم:

1 _ أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني.

2 _ أبو نصر أحمد بن العياضي.

3 _ نصير بن يحيى، تلميذ حفص بن سالم (أبي مقاتل).

4 _ محمد بن مقاتل الرازي(3).

قال الزبيدي: تخرّج الماتريدي على الإمام أبي نصر العياضي.. ومن شيوخه الامام أبو بكر أحمد بن إسحاق بن صالح الجوزجاني صاحب الفرق، والتمييز.. ومن

مشايخه محمّد ابن مقاتل الرازي قاضي الريّ.

______________________

1 . أحد الأنهار الكبيرة المعروفة كالنيل ودجلة والفرات.

2 . اشارات المرام: ص 23.

3 . المصدر نفسه.

( 14 )

والأوّلان من تلاميذ أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني، وهو من تلاميذ أبي يوسف، ومحمّد بن الحسن الشيباني.

وأمّا شيخه الرابع أعني محمّد بن مقاتل، فقد تخرّج على تلميذ أبي حنيفة مباشرة، وعلى ذلك فالماتريدي يتّصل بإمامه تارة بثلاث وسائط، واُخرى بواسطتين. فعن طريق الأوّلين بوسائط ثلاث، وعن طريق الثالث(بن مقاتل) بواسطتين(1).

5 _ ثقافته:

إنّ ثقافته و آراءه في الفقهين، الأكبر والأصغر، ينتهي إلى إمام مذهبه «أبي حنيفة». فإنّ مشايخه الّذين أخذ عنهم العلم، عكفوا على رواية الكتب المنسوبة إليه ودراستها، وقد نقل الشيخ الكوثري أسانيد الكتب المرويّة عن أبي حنيفة عن النسخ الخطّيّة الموجودة في دار الكتب المصرية وغيرها، وفيها مشايخ الماتريدي. قال:

«ومن الكتب المتوارثة عن أبي حنيفة، كتاب الفقه الأكبر رواية عليّ بن أحمد الفارسي، عن نصير بن يحيى، عن أبي مقاتل (حفص بن سالم)، وعن عصام بن يوسف، عن حمّاد بن أبي حنيفة، عن أبيه، وتمام السند في النسخة المحفوظة ضمن المجموعة الرقم (226) بمكتبة شيخ الاسلام بالمدينة المنوّرة.

ونصير بن يحيى أحد مشايخ الماتريدي كما عرفت.

ومن هذه الكتب «الفقه الأبسط» رواية أبي زكريا يحيى بن مطرف بطريق «نصير بن يحيى» عن أبي مطيع، عن أبي حنيفة، وتمام السند في المجموعتين (24 و215 م) بدار الكتب المصريّة.

ومن هذه الكتب «العالم والمتعلّم» رواية أبي الفضل أحمد بن علي البيكندي الحافظ، عن حاتم بن عقيل، عن الفتح بن أبي علوان، ومحمّد بن يزيد، عن الحسن بن

______________________

1 . لاحظ: اتحاف السادة المتقين، ج 2 ص 5 .

( 15 )

صالح، عن أبي مقاتل حفص

بن سالم السمرقندي، عن أبي حنيفة، ويرويه أبو منصور الماتريدي عن أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني عن محمد بن مقاتل الرازي، عن أبي مقاتل، عنه، وتمام الأسانيد في مناقب الموفّق والتّأنيب (73 و85).

ومن تلك الرسائل رسالة أبي حنيفة إلى البتّي، رواية نصير بن يحيى، عن محمّد بن مقاتل الرازي، عن أبي مقاتل، عنه، وتمام الأسانيد في مناقب الموفق والتّأنيب (73 و85).

ومن تلك الرسائل رسالة أبي حنيفة إلى البتّي رواية نصير بن يحيى، عن محمّد بن سماعة، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، وبهذا السند رواية الوصيّة أيضاً، وتمام الأسانيد في نسخ دار الكتب المصرية _ إلى أن قال: فبنور تلك الرسائل سعى أصحاب أبي حنيفة وأصحاب أصحابه في إبانة الحقّ في المعتقد .. إلى أن جاء إمام السنّة في ماوراء النهر، أبو منصور محمّد بن محمّد الماتريدي المعروف ب_ (امام الهدى) فتفرّغ لتحقيق مسائلها، وتدقيق دلائلها، فأرضى بمؤلّفاته جانبي العقل والنقل في آن واحد»، ثمّ ذكر مؤلفاته(1).

ترى أنّ أسناد هذه الكتب والرسائل تنتهي إلى أحد مشايخ الماتريدي وقد طبع منها: «الفقه الأكبر، الرسالة، العالم والمتعلّم، والوصيّة» في مطبعة حيدرآباد عام (1321ه_).

وهذه المؤلّفات لا تتجاوز عن كونها بياناً للعقيدة وما يصحّ الإعتقاد به، من دون أن تقترن بالدليل والبرهان، ولكنّها تحوّلت من عقيدة إلى علم، على يد (الماتريدي) فهو قد حقّق الاُصول في كتبه، فكان هو متكلّم مدرسة أبي حنيفة ورئيس أهل السنّة في بلاد ماوراء النّهر، ولذلك سمّيت المدرسة باسمه، وأصبح المتكلّمون على مذهب الإمام أبي حنيفة في بلاد ماوراء النّهر، يسمّون بالماتريديّين، واقتصر إطلاق اسم أبي حنيفة على

______________________

1 . مقدمة اشارات المرام: ص 5 _ 6 .

( 16 )

الأحناف المتخصّصين في مذهبه الفقهي(1).

وفي

(مفتاح السعادة) : «إنّ رئيس أهل السنّة والجماعة في علم الكلام رجلان: أحدهما حنفيّ، والآخر شافعي، أمّا الحنفي: فهو أبو منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي، وأمّا الآخر الشافعي: فهو شيخ السنّة أبوالحسن الأشعري البصري»(2).

وفي حاشية الكستلي(3) على شرح العقائد النسفية(4) للتفتازاني: «المشهور من أهل السنّة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار، هم الأشاعرة، وفي ديار ماوراءالنهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياضي، تلميذ أبي بكر الجرجاني، تلميذ محمّد بن الحسن الشيباني من أصحاب الإمام أبي حنيفة»(5).

ويقول الزبيدي: «إذا اُطلق أهل السنّة والجماعة، فالمراد هم الأشاعرة والماتريدية»(6).

6_ المتخرّجون عليه:

تخرّج عليه عدّة من العلماء منهم:

أ _ أبو القاسم إسحاق بن محمّد بن إسماعيل الشهير بالحكيم السمرقندي (ت340 ه_)

______________________

1 . مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 5 بقلم الدكتور فتح اللّه خليفة _ ط 1392 ه_ -، وهو المراد من «التوحيد» كلما اطلق في هذا الفصل.

2 . مفتاح السعادة ومصباح السيادة: ج 2 ص 22_23 طبعة حيدر آباد على ما في مقدمة محقق كتاب التوحيد للماتريدي.

3 . هو مصلح الدين مصطفى القسطلاني (م 902).

4 . وهذا الكتاب محور الدراسة في الأزهر وغيره، وما زال كذلك إلى يومنا هذا، وهو بمنزلة «شرح الباب الحادي عشر» عند الامامية، يعرض عقائد أهل السنة على مذهب الامام «الماتريدي» بشكل واضح.

5 . بهامش شرح العقائد النسفية: ص 17.

6 . اتحاف الس__ادة المتقين بشرح أس__رار اح__ياء علوم الدين:تأليف محمد بن محمد بن الحسيني، طبع القاهرة ج2 ص8.

( 17 )

ب _ الإمام أبواللّيث البخاري.

ج _ الامام أبومحمّد عبد الكريم بن موسى البزدوي، جدّ محمّد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوي مؤلّف (اُصول الدين).

يقول حفيده: «ووجدت للشيخ الامام

الزاهد «أبي منصور الماتريدي السمرقندي» كتاباً في علم التوحيد على مذهب أهل السنّة، وكان من رؤساء أهل السنّة. حكى لي الشيخ الامام والدي _ رحمه الله _ عن جده الشيخ الامام الزاهد «عبد الكريم بن موسى» _ رحمه الله _ كراماته. فإنّ جدّنا كان أخذ معاني كتب أصحابنا، وكتاب التوحيد، وكتاب التأويلات من خلق(1) عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي _ رحمه الله _ إلا أنّ في كتاب التوحيد الذي صنّفه الشيخ أبو منصور قليل انغلاق و تطويل، و في ترتيبه نوع تعسير لولا ذلك لاكتفينا به(2).

7 _ أنصار مذهبه في الأجيال اللاحقة:

إنّ للمنهج الكلاميّ الموروث من أبي منصور الماتريدي، أنصاراً وأعواناً قاموا بإنضاج المذهب ونصرته، ونشره وإشاعته، وإن لم يصل إلى ما وصل إليه مذهب الأشعري من الانتشار وكثرة الإقتفاء، وإليك ذكر بعض أنصاره:

1 _ القاضي الإمام أبو اليسر محمّد بن محمّد بن الحسين عبد الكريم البزدوي (المولود عام 421 ه_، والمتوفّى في «بخارى» عام 478 ه_) وقد عرفت كلامه في حقّ الماتريدي، وسيوافيك بعض كلامه عند البحث عن فوارق المنهجين، وقد ألّف كتاب اُصول الدين على غرار هذا المنهج، وسيوافيك الإيعاز إليه.

2 _ أبوالمعين النسفي (م502 ه_) وهو من أعاظم أنصار ذلك المذهب فهو

______________________

1 . (كذا في النسخة).

2 . اُصول الدين للبزدوي: ص 3و 155_ 158.

( 18 )

عند الماتريديّة كالباقلاّني بين الأشاعرة، مؤلّف كتاب «تبصرة الأدلّة» الذي مازال مخطوطاً حتّى الآن، ويعدّ الينبوع الثاني بعد كتاب «التوحيد» للماتريدية الّذين جاءوا بعده(1).

3 _ الشيخ نجم الدّين أبو حفص عمر بن محمّد (م 537 ه_) مؤلف «عقائد النّسفي» ويقال إنّه بمنزلة الفهرس لكتاب «تبصرة الأدلّة» ومع ذلك ما زال هذا الكتاب محور الدّراسة في

الأزهر، وغيره، إلى يومنا هذا، كما تقدّم.

4 _ الشيخ مسعود بن عمر التفتازاني أحد المتضلّعين في العلوم العربيّة، والمنطق، والكلام، وهو شارح «عقائد النسفي» الّذي أُلّف على منهاج الإمام الماتريدي، ولكن لم يتحقّق لي كونه ماتريديّاً، بل الظاهر من شرح مقاصده كونه أشعريّاً. خصوصاً في مسألة خلق الأعمال، وكونه سبحانه خالقاً، والعبد كاسباً.

5 _ الشيخ كمال الدين محمد بن همام الدين الشهير بابن الهمام (المتوفّى عام 861 ه_) صاحب كتاب «المسايرة» في علم الكلام. نشره وشرحه محمّد محيي الدين عبد الحميد وطبع بالقاهرة.

6 _ العلامة كمال الدين أحمد البياضي الحنفي مؤلف كتاب «إشارات المرام من عبارات الإمام» أحد العلماء في القرن الحادي عشر وكتابه هذا أحد المصادر للماتريديّة.

7 _ وأخيراً الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري المصري وكيل المشيخة الإسلاميّة في الخلافة العثمانيّة، أحد الخبراء في الحديث، والتاريخ، والملل، والنحل. له خدمات صادقة في نشر الثقافة الإسلاميّة ومكافحة الحشوية والوهابيّة، ولكنّ الحنابلة يبغضونه وما هذا إلاّ لأنّ عقليّته لا تخضع لقبول كلّ ما ينقل باسم الحديث ولا سيّما فيما يرجع إلى الصفات الخبرية لله سبحانه الذي لا يفترق عن القول بالتشبيه والتجسيم قدر شعرة.

______________________

1 . مقدمة التوحيد: ص 5 .

( 19 )

8 _ مؤلّفاته و آثاره العلميّة:

سجّل المترجمون للماتريدي كتباً له تعرب عن ولعه بالكتابة والتدوين والامعان والتّحقيق، غير أنّ الحوادث لعبت بها، ولم يبق منها إلاّ ثلاثة، وقد طبع منها اثنان:

1 _ «كتاب التوحيد» وهو المصدر الأوّل لطلاّب المدرسة الماتريدية وشيوخها الّذين جاءوا بعد الماتريدي، واعتنقوا مذهبه، وهو يستمدّ في دعم آرائه من الكتاب، والسنّة، والعقل، ويعطي للعقل سلطاناً أكبر من النقل، وقد قام بتحقيق نصوصه ونشره الدكتور فتح اللّه خليف (عام 1970 م

، 1390 ه_) وطبع الكتاب في مطابع بيروت مع فهارسه في (412) صفحة وقد عرفت من البزدوي مؤلف «اُصول الدين» أنّ الكتاب لا يخلو من انغلاق في التّعبير، وهو لائح منه لمن سبره.

2 _ «تأويلات أهل السنّة» في تفسير القرآن الكريم، وهو تفسير في نطاق العقيدة السنيّة، وقد مزجه بآرائه الفقهية والاُصولية وآراء اُستاذه الإمام أبي حنيفة، فصار بذلك تفسيراً عقيدياً فقهيّاً، وهو تفسير عامّ لجميع السور، والجزء الأخير منه يفسّر سورة المنافقين، إلى آخر القرآن، وقد وقفنا من المطبوع منه على الجزء الأوّل وينتهي إلى تفسير الآية (114) من سورة البقرة. حقّقه الدكتور إبراهيم عوضين والسيد عوضين، وطبع في القاهرة عام (390ه_)، والمقارنة بين الكتابين تعرب عن وحدتهما في المنبع، والتعبير، والتركيب، فمثلاً ما ذكره في تفسير قوله: (رَبِّ أَرِني أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) من الاستدلال على جواز الرؤية، هو نفس ما ذكره في كتاب التوحيد، إلى غير ذلك من المواضيع المشتركة بين الكتابين، ولكنّ التفسير أسهل تناولاً، وأوضح تعبيراً.

وأمّا كتبه الاُخر فإليك بيانها:

3 _ المقالات: حكى محقّق كتاب (التوحيد) وجود نسخة مخطوطة منه في المكتبات الغربيّة.

4_ مأخذ الشرايع، 5_ الجدل في اُصول الفقه، 6_ بيان وهم المعتزلة، 7_ ردّ كتاب

( 20 )

الاُصول الخمسة للباهلي، 8_ كتاب ردّ الإمامة لبعض الروافض، 9_ الردّ على اُصول القرامطة، 10_ كتاب ردّ تهذيب الجدل للكعبي، 11_ رد وعيد الفسّاق للكعبي أيضاً، 12_ رد أوائل الأدلّة له أيضاً.

9_ الفرق بين المنهجين: الأشعرية والماتريدية:

لا شكّ أنّ الإمامين، الأشعري والماتريدي كانا يتحرّكان في فلك واحد وكانت الغاية هي الدفاع عن عقيدة أهل السنّة، والوقوف في وجه المعتزلة و _ مع ذلك _ لايمكن أن يتّفقا في جميع المسائل الرئيسية، فضلاً

عن التّفاريع، وذلك لأنّ الأشعري اختار منهج الإمام أحمد، وطابع منهجه هو الجمود على الظّواهر، وقلّة العناية بالعقل والبرهان، والشيخ الأشعري وإن تصرّف فيه وعدّله، ولكن لمّا كان رائده هو الفكرة الحنبليّة فقد عرقلت نطاق عقله عن التوسّع، ولو تجاوز عنها فإنّما يتجاوز مع التحفّظ على اُصولها.

وأمّا الماتريديّ فقد تربّى في منهج تلامذة الإمام أبي حنيفة، ويعلو على ذلك المنهج، الطّابع العقلي والإستدلال، كيف ومن اُسس منهجه الفقهي، هوالعمل بالمقاييس والاستحسانات، وعلى ضوء هذا فلا يمكن أن يكون التلميذان متوافقين في الاُصول، فضلاً عن الفروع، وأن يقع الحافر على الحافر في جميع المجالات، وقد أشغل هذا الموضوع بالَ المحقّقين، وحاولوا تبيين أنّ أيّاً من الداعيين أعطى للعقل سلطاناً أكبر، وتفرّقوا في ذلك إلى أقوال نذكرها:

1_ قال أحمد أمين المصري: «لقد اتّفق الماتريدي والأشعري على كثير من المسائل الأساسية، وقد أُلِّفت كتب كثيرة وملخّصات، بعضها يشرح مذهب الماتريدي ك_(العقائد النسفية) لنجم الدين النسفي، وبعضها يشرح عقيدة الأشعري ك_(السنوسية) و(الجوهرة)، وقد أُلِّفت كتب في حصر المسائل الّتي اختلف فيها الماتريدي والأشعري، ربّما أوصلها بعضهم إلى أربعين مسألة_ ثمّ قال: إنّ لون الإعتزال

( 21 )

أظهر في الأشعريّة بحكم تتلمذ الأشعري للمعتزلة عهداً طويلاً، واستشهد على ذلك بأنّ الأشعري يقول بوجوب المعرفة عقلاً قبل بعث الأنبياء دون الماتريدي»(1).

والظّاهر أنّ ما ذكره الكاتب من هفو القلم وسهوالفكر، إذ مضافاً إلى أنّ كتابي الماتريدي «التوحيد والتفسير» و آراء تلاميذه تشهد على خلاف ما ذكر. إنّ ما استشهد به على ما تبنّاه خلاف الواقع، فالأشعري يقول بوجوب المعرفة سمعاً لا عقلاً، والماتريدي على العكس كما ستوافيك نصوص القوم عند عرض المذهب، والعجب أنّه قد سجّل نظرية الإمامين قبيل هذا، على خلاف ما

ذكره هنا وقال: يقول الماتريدية: إنّه تعالى لو لم يبعث للناس رسولاً لوجب عليهم بعقولهم معرفته تعالى، ومعرفة وحدانيّته، واتّصافه بما يليق، وكونه محدثاً للعالم، كما روي ذلك عن أبي حنيفة، وذهب مشايخ الأشاعرة إلى أنّه لا يجب إيمان، ولا يحرم كفر قبل البعث.

فإذا(2) كان أحمد أمين قائلاً بغلبة لون الإعتزال على الأشعري، فهناك من ذهب إلى خلافه، وإليك البيان:

2_ قال أبو زهرة: «إنّ منهاج الماتريدية للعقل سلطان كبير فيه من غير أيّ شطط أو إسراف، والأشاعرة يتقيّدون بالنّقل ويؤيِّدونه بالعقل، حتّى إنّه يكاد الباحث يقرّر أنّ الأشاعرة في خطّ بين الإعتزال وأهل الفقه والحديث، والماتريديّة في خطّ بين المعتزلة والأشاعرة، فإذا كان الميدان الّذي تسير فيه هذه الفرق الإسلاميّة الأربع، والّتي لا خلاف بين المسلمين في أنّها جميعاً من أهل الإيمان، ذا أقسام أربعة، فعلى طرف منه المعتزلة، وعلى الطرف الآخر أهل الحديث، وفي الربع الّذي يلي المعتزلة، الماتريديّة، وفي الربع الّذي يلي المحدّثين، الأشاعرة»(3).

يلاحظ عليه: أنّه كيف جعل أبو زهرة هؤلاء كلّهم من أهل الايمان، مع أنّ بين

______________________

1 . ظهر الاسلام: ج 4 ص 91 _ 95.

2 . المصدر نفسه.

3 . تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 1 ص 199.

( 22 )

أهل الحديث طوائف المشبِّهة، والمجسِّمة، والقائلين بالجبر المستلزم للغوية التكليف وبعث الأنبياء، فهل يصحّ أن يعدّ من يصوّر بعث الأنبياء لغواً، وإنزال الكتب عبثاً، من أهل الإيمان؟ والحال أنّه لا تقصر عقيدة هؤلاء عن عقيدة أهل الجاهليّة الاُولى الّذين وصفهم الإمام علي (عليه السلام) في خطبة بقوله «وأهل الأرض يومئذ (يوم بعث النّبي الأكرم) ملل متفرِّقة، وأهواء منتشرة، وطوائف متشتّتة، بين مشبِّه للّه بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير به إلى غيره»(1).

ويا للعجب!

إذا قسّم أبو زهرة ساحة الإيمان كلّها لهذه الطوائف الأربع، فأين يقع مكان أئمّة أهل البيت في هذه الساحة وليس لأحد إنكار فضيلتهم، لأنّهم الّذين أوجب الله سبحانه مودّتهم في القرآن وجعلها أجر رسالته وقال: ( قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَودَّةَ في القُرْبى) . (الشورى/23)؟!! وعرّفهم رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم بأنّهم أعدال الكتاب وقرناؤه، وقال: «إنّي تارك فيكم الثّقلين: كتاب الله وعترتي»(2).

وقد عرف الأبكم والأصمّ _ فضلاً عن غيرهما _ أنّ أئمّة أهل البيت لم يكونوا في أحد هذه المذاهب، ولا كانوا مقتفين لأحد هذه المناهج، بل كان لهم منهج خاصّ لا يفترق عن الكتاب، والسنّة، والعقل السليم، فما معنى هذا التقسيم؟ «ما هكذا تورد يا سعد الإبل» و«تلك إذاً قسمة ضيزى»، «أهم يقسمون رحمة ربّك ...».

3_ قال الشّيخ محمّد زاهد الكوثري: «الماتريديّة هم الوسط بين الأشاعرة والمعتزلة، وقلّما يوجد بينهم متصوّف، فالأشعريّ والماتريدي هما إماما أهل السنّة والجماعة في مشارق الأرض ومغاربها، لهم كتب لا تحصى، وغالب ما وقع بين هذين الإمامين من الخلاف من قبيل اللّفظي»(3).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّ الماتريديّة بين الأشاعرة والمعتزلة وإن كان متيناً،

______________________

1 . نهج البلاغة: الخطّبة 1 طبعة عبده ص 25.

2 . حديث متفق عليه رواه الفريقان.

3 . مقدمة تبيين كذب المفتري: ص19.

( 23 )

كما سيأتي عند عرض مذهبهم، لكن كون الخلاف بين الإمامين لفظيّاً واضح البطلان، إذ كيف يكون النّزاع في التحسين والتقبيح العقليّين، أمراً لفظيّاً، مع أنّه تترتّب على الإثبات والإنكار مسائل كلاميّة كثيرة؟ أو كيف يكون الاختلاف في كون فعل الانسان فعلاً له حقيقة أو مجازاً من الاختلاف اللّفظي؟.

4_ قال محقّق كتاب «التّوحيد» للماتريدي، في مقدّمته: «إنّ

شيخيّ السنّة يلتقيان على منهج واحد ومذهب واحد، في أهمّ مسائل علم الكلام الّتي وقع فيها الخلاف بين فرق المتكلّمين»(1).

ولعلّه لا يرى الخلاف في التّحسين والتّقبيح، وكون فعل الانسان فعلاً له حقيقة، أو مجازاً، اختلافاً جوهريّاً، كما لا يرى الاختلاف في كون صفاته عين ذاته، أو زائدة عليه، أو جواز التّكليف بما لايطاق، وعدمه كذلك. فاللازم عرض مذهبه عن طريق نصوصه الواردة في توحيده، وتفسيره، وكتب أنصاره، حتى يعلم مدى اتّفاق الداعيين، واختلافهما.

وقبل ذلك نختم البحث بكلمة الامام البزدوي، أحد أنصار الماتريديّة في القرن الخامس، وكان جدّ والده أحد تلاميذه. قال:

«وأبو الحسن الأشعري و جميع توابعه يقولون إنّهم من أهل السنّة والجماعة، وعلى مذهب الأشعري عامّة أصحاب الشافعي، وليس بيننا وبينهم خلاف إلاّ في مسائل معدودة قد أخطأوا فيها»(2) وذكر بعد ذلك، تلك المسائل المعدودة وهي لا تتجاوز عن ثلاث، وسيوافيك نصّه! ولأجل وجود الإختلاف الجوهري بين المذهبين قام جماعة من المعنيّين بتبيين الفروق الموجودة فيهما، بين موجز في الكلام، ومسهب فيه، وربّما ألّفوا كتباً ورسائل، وإليك ما وقفنا عليه في هذا المجال:

أ _ اُصول الدين للامام البزدوي، قال فيه تحت عنوان «ما خالف أبو الحسن

______________________

1 . مقدمة التوحيد، بقلم محققه الدكتور فتح اللّه خليف: ص 18.

2 . اُصول الدين للامام محمد بن محمد بن عبد الكريم البزدوي: ص 242.

( 24 )

الأشعري عامّة أهل السنّة والجماعة».

1 _ قال أهل السنّة والجماعة: إنّ للّه تعالى أفعالاً، وهي الخلق، والرزق، والرحمة، واللّه تعالى قديم بأفعاله كلّها، وأفعال اللّه ليست بحادثة، ولامحدثة، ولا ذات الله، ولا غير الله تعالى، كسائر الصِّفات.

وأبوالحسن الأشعري أنكر أن يكون للّه تعالى فعل، وقال: الفعل والمفعول واحد، ووافق في هذا القدريّة والجهميّة، وعليه

عامّة أصحابه، وهو خطأ محض(1).

2_ وقال أهل السنّة والجماعة: المعاصي والكفر ليست برضى اللّه، ولا محبّته، و إنّما هي بمشيئة اللّه تعالى.

وأبوالحسن قال: إنّ اللّه تعالى يرضى بالكفر والمعاصي، ويحبّها، وهو خطأ محض أيضاً.

3_ وقال أهل السنّة والجماعة: إنّ الايمان هو التّصديق والإعتقاد بالقلب، والإقرار باللّسان، وقال أبو الحسن: إنّ الايمان هو التّصديق بالقلب، والإقرار بالّلسان فرض من الفروض، وهو خطأ أيضاً. وشرّ مسائله مسألة الأفعال.

وذكر أبوالحسن في كتاب «المقالات» مذهب أهل الحديث، ثمّ قال: وبه نأخذ، ومذهب أهل الحديث في هذه المسائل الثّلاث مثل مذهب أهل السنّة والجماعة. فهذا القول يدلّ على أنّه كان يقول مثل ما قال أهل السنّة والجماعة في هذه المسائل، ولكن ذكر في الموجز الكبير كما ذكرنا هنا، فكان حبّه(2) في هذه المسائل قولان، فكأنّه رجع عن هذه المسائل الثّلاث.

وكان يقول: كلّ مجتهد مصيب في الفروع، وعامّة أهل السنّة والجماعة قالت: يخطىء ويصيب(3).

______________________

1 . سيوافيك عند عرض مذهب الماتريديّة توضيح مرامهم.

2 . كذا في الأصل وضبطه المحقق بضم الباء.

3 . اُصول الدين للبزدوي: ص 245 _ 246.

( 25 )

ب _ «إشارات المرام من عبارات الامام» تأليف كمال الدين البياضي الحنفيّ من علماء القرن الحادي عشر، فقد طرح النّقاط الخلافيّة بين الإمامين فبلغ إلى خمسين مسألة(1).

ج: نظم الفرائد وجمع الفوائد في بيان المسائل الّتي وقع فيها الاختلاف بين الماتريديّة والأشعريّة تأليف عبد الرحيم بن علي المعروف ب_ «شيخ زاده» طبع في القاهرة (عام1317 ه_).

د: الروضة البهيّة في ما بين الأشعريّة والماتريديّة تأليف أبي عذبة، طبع في حيدرآباد (عام 1332 ه_).

ه_: خلافيّات الحكماء مع المتكلّمين، وخلافيّات الأشاعرة مع الماتريديّة، تأليف عبدالله بن عثمان بن موسى مخطوطة دار الكتب المصريّة (بالرقم 3441ج)(2).

و: قصيدة

في الخلاف بين الأشعريّة والماتريديّة تأليف تاج الدين السبكي، مؤلّف (طبقات الشافعيّة الكبرى) المطبوعة بمصر (عام 1324 ه_) مخطوطة الجامعة العربيّة الرقم (202) المصوّرة عن مخطوطة جامع الشيخ بالاسكندرية(3).

وهذه العناية المؤكّدة في طول الأجيال تعرب عن كون الفرق أو الفوارق جوهريّاً، لا لفظيّاً، وإلاّ فلا وجه لتأليف الكتب والرسائل لبيان الفوارق اللّفظية أو الجزئيّة، الموجودة بين المنهجين، وسيظهر الحقّ في البحث التالي.

10 _ عرض مذهب الماتريدي:

ولا نهدف في هذا الفصل إلى عرض كلّ ما يعتقد به الماتريدي في مجال العقائد والاُصول، فإنّ قسماً من عقائده هو عين عقيدة أهل الحديث والأشعري، وقد عرضنا

______________________

1 . اشارات المرام: ص 53 _ 56.

2 . انظر مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 25.

3 . انظر مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 25.

( 26 )

عقائدهم في الجزء الأول من هذه السلسلة، وإنّما نقوم ببيان الاُصول المهمّة الّتي افترق فيها عن الأشعري، مع الاعتراف بأنّ الماتريدي يتدرّع في بعض الموارد بنفس ما يتدرّع به الأشعري، ومن هذا الباب تصحيح القول بالرؤية، فإنّ القول برؤيته في النشأة الآخرة ملازم لكونه سبحانه محاطاً وواقعاً في جهة ومكان، ومن أجل ذلك قام العلمان في دفع الإشكال على نمط واحد، وهو أنّ الرؤية تقع «بلا كيف» أو ما يفيد ذلك، حتّى يُرضيا بذلك أهل النقل والعقل.

قال ابن عساكر: «قالت الحشويّة المشبِّهة: إنّ اللّه سبحانه وتعالى يرى مكيّفاً محدوداً كسائر المرئيات، وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية: إنّه سبحانه لا يرى بحال من الأحوال فسلك الأشعري طريقاً بينهما فقال: يرى من غير حلول، ولا حدود، ولا تكييف، كما يرانا هو سبحانه وتعالى، وهو غير محدود، ولا مكيّف»(1).

وقد نقلنا نصوص نفس الأشعري في موضع الرؤية عند عرض عقائده(2).

وقال الماتريدي في

ذلك البحث: «فإن قيل: كيف يرى؟ قيل: بلا كيف، إذ الكيفيّة تكون لذي صورة، بل يرى بلا وصف قيام وقعود، واتّكاء وتعلّق، واتّصال وانفصال، ومقابلة ومدابرة، وقصير وطويل، ونور وظلمة، وساكن ومتحرِّك، ومماسّ ومباين، وخارج وداخل، ولا معنى يأخذه الوهم، أو يقدره العقل، لتعاليه عن ذلك»(3).

يلاحظ عليه: أنّ الرؤية بهذه الخصوصيّات إنكار لها، وأشبه بالأسد بلا ذنب، ولارأس.

والّذي تبيّن لي بعد التأمّل في آرائه في كثير من المسائل الكلاميّة، أنّ منهجه كان يتمتّع بسمات ثلاث:

1_ الماتريدي أعطى للعقل سلطاناً أكبر، ومجالاً أوسع، وذلك هو الحجر الأساس

______________________

1 . تبيين كذب المفتري لابن عساكر: ص 149 _ 150.

2 . لاحظ الجزء الثاني: ص 201.

3 . التوحيد للماتريدي: ص 85.

( 27 )

للسمتين الأخيرتين.

2_ إنّ منهج الماتريدي أبعد من التّشبيه والتّجسيم من الأشعري، وأقرب إلى التّنزيه.

3_ إنّه وإن كان يحمل حملة عنيفة على المعتزلة، ولكنّه إلى منهجهم أقرب من الإمام الأشعري.

وتظهر حقيقة هذا الأمر إذا عرض مذهبه في مختلف المسائل، ولمعرفة جملة من مواضع الاختلاف ودراسة نقاط القوّة والضّعف، نذكر موارد عشرة ونترك الباقي روماً للإختصار.

1 _ استيلاؤه على العرش:

1 _ استيلاؤه على العرش:

اتّفق الداعيان على أنّه يجب الإيمان بما جاء في القرآن من الصِّفات للّه تبارك وتعالى، ومنها استيلاؤه على العرش، والأشعري يفسّره على نحو الإثبات ويؤمن بظاهره بلا تفويض ولا تأويل، وأنّ الله حقيقةً مستو على العرش لكن استيلاءً مناسباً له، ويقول: «إنّ الله مستو على العرش الّذي فوق السّماوات» ولأجل دفع توهّم التجسيم يقول: «يستوي على عرشه كما قال، يليق به من غير طول الإستقرار» ويستشهد بما روي عن رسول الله: إذا بقي ثلث الليل ينزل اللّه تبارك وتعالى، فيقول: من ذا الّذي يدعوني فأستجيب له(1).

وعلى ضوء هذا فالأشعري

ممّن يثبت الصفات الخبريّة للّه بلا تفويض معناها إليه، غاية الأمر يتدرّع بلفظة «على نحو يليق به» أو «بلا كيف» كما في الموارد الاُخر، ولكنّ الماتريدي مع توصيفه سبحانه بالصفات الخبريّة، يفوِّض مفاد الآية إليه سبحانه، فهو يفارق الأشعري في التّفويض وعدمه، ويخالف المعتزلة في التّأويل وعدمه، فالأشعري من المثبتة بلا تفويض وتأويل، وهو من المثبتة مع التّفويض، كما أنّ المعتزلة

______________________

1 . الابانة: ص 85 .

( 28 )

من المؤوِّلة، وبذلك يتّضح كونه بين الأشعري والمعتزليّ، وإليك نصّه في مورد استوائه على العرش:

قال: «وأمّا الأصل عندنا في ذلك أنّ اللّه تعالى قال ليس كمثله شيء» فنفى عن نفسه شبه خلقه، وقد بيّنا أنّه في فعله وصفته متعال عن الأشباه، فيجب القول ب_(الرّحمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوى) على ما جاء به التنزيل، وثبت ذلك في العقل، ثمّ لا نقطع تأويله على شيء، لاحتماله غيره مما ذكرنا، واحتماله أيضاً ما لم يبلغنا ممّا يعلم أنّه غير محتمل شبه الخلق، ونؤمن بما أراد اللّه به، وكذلك في كلّ أمر ثبت التنزيل فيه، نحو الرؤية وغير ذلك، يجب نفي الشبه عنه، والإيمان بما أراده من غير تحقيق على شيء دون شيء ، واللّه الموفِّق » (1).

2_ معرفته سبحانه واجبة عقلاً:

2_ معرفته سبحانه واجبة عقلاً:

اتّفق الداعيان على وجوب معرفة الله، واختلفا في طريق ثبوت هذا الوجوب، فالأشعري وأتباعه على أنّه سمعيّ، والمعتزلة على أنّه عقليّ، قال العضدي في المواقف: النّظر إلى معرفة اللّه واجب إجماعاً، واختلف في طريق ثبوته، فهو عند أصحابنا السمع، وعند المعتزلة العقل. أمّا أصحابنا فلهم مسلكان:

الأوّل: الاستدلال بالظّواهر مثل قوله تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذا فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ)إلى آخره(2).

ولا يخفى وهن النّظرية، لاستلزامها الدور، لأنّ معرفة الإيجاب تتوقّف على معرفة الموجِب، فإنّ

من لا نعرفه بوجه من الوجوه، كيف نعرف أنّه أوجب؟ فلو استفيدت معرفة الموجِب من معرفة الإيجاب، لزم الدور.

وأيضاً: لو كانت المعرفة تجب بالأمر، فهو إمّا متوجّه إلى العارف باللّه أو غيره،

______________________

1 . التوحيد للماتريدي: ص 74.

2 . المواقف: ص 28 وشرحها ج 1 ص 124و الآية 101 من سورة يونس.

( 29 )

فالأوّل تحصيل للحاصل، وأمّا الثاني، فهو باطل، لاستحالة خطاب الغافل، إذ كيف يصحّ الأمر بالغافل المطلق بأنّ الله قد أمره بالنّظر والمعرفة، وأنّ امتثال أمره واجب إلاّ إذا خصّ الوجوب بالشّاك.

هذا ما عليه الأشاعرة، وأمّا الماتريديّة فتقول بوجوبها عقلاً مثل المعتزلة. قال البياضي: «ويجب بمجرّد العقل في مدة الاستدلال، معرفة وجوده، ووحدته، وعلمه، وقدرته، وكلامه، وإرادته، وحدوث العالم، ودلالة المعجزة على صدق الرّسول، ويجب تصديقه، ويحرم الكفر، والتّكذيب به، لا من البعثة وبلوغ الدعوة»(1).

القول بوجوب هذه الاُمور من جانب العقل من قبل أن يجيء الشرع دفعاً لمحذور الدور يعرب عن كون الداعي، أعطى للعقل سلطاناً أكبر مما أعطاه الأشعري له.

3_ الاعتراف بالتحسين والتقبيح العقليين:

3_ الاعتراف بالتحسين والتقبيح العقليين:

إنّ لمسألة التحسين والتقبيح العقليين دوراً مؤثّراً في المسائل الكلامية، فالأشاعرة على إنكارهما زاعمين أنّ القول باستطاعة العقل على دركهما، يستلزم نفي حرّية المشيئة الإلهيّة والتزامها بقيد وشرط، وقد أوضحنا حال هذه النّظرية عند عرض عقائد الأشاعرة(2). وأمّا المعتزلة فهم على جانب مخالف، وأمّا الماتريديّة فيعترفون بالتحسين والتقبيح ببعض مراتبهما.

قال البياضي: والحسن بمعنى استحقاق المدح والثّواب، والقبح بمعنى استحقاق الذمّ والعقاب على التكذيب عنده (أبي منصور الماتريدي) إجمالاً عقلي، أي يعلم به حكم الصانع في مدّة الاستدلال في هذه العشرة(3). كما في التوضيح وغيره، لا بإيجاب العقل للحسن والقبح، ولا مطلقاً كما زعمته المعتزلة، أمّا كيفيّة الثّواب وكونه

______________________

1

. اشارات المرام: فصل الخلافيات بين جمهور الماتريدية والأشعرية ص 53.

2 . لاحظ الجزء الثاني: ص 310 _ 332.

3 . اشارة إلى ما ذكره من المسائل العشر خلال البحث في وجوب المعرفة عقلاً.

( 30 )

بالجنّة، وكيفيّة العقاب وكونه بالنّار، فشرعي، واختار ذلك الامام القفّال الشاشي، والصيرفي، وأبو بكر الفارسي، والقاضي أبو حامد، وكثير من متقدّميهم، كما في القواطع للامام أبي المظفّر السمعاني الشافعي والكشف الكبير، وهو مختار الامام القلانسي ومن تبعه كما في (التبصرة البغدادية). ولا يجوز نسخ مالا يقبل حسنه أو قبحه السقوط كوجوب الايمان، وحرمة الكفر واختاره المذكورون _ إلى أن قال:_ ويستحيل عقلاً اتّصافه تعالى بالجور وما لا ينبغي، فلا يجوز تعذيب المطيع، ولا العفو عن الكفر، عقلاً، لمنافاته للحكمة، فيجزم العقل بعدم جوازه، كما في التنزيهات(1).

وغير خفيّ على النابه أنّ الشيخ الماتريدي قد اعترف بما هو المهمّ في باب التحسين والتقبيح العقليين وإليك الاشارة إليه:

1_ استقلال العقل بالمدح والذمّ في بعض الأفعال، وهذا هو محلّ النزاع في بابهما بأن يجد العقل من صميم ذاته أنّ هنا فعلين مختلفين يستحقّ فاعل أحدهما المدحَ، وفاعل الآخر الذمَّ، سواء أكان الفاعل بشراً، أم انساناً، أم ملكاً، أم غيرهما، وتبتنى عليه اُصول كثيرة كلاميّة أوعزنا إليها عند عرض عقائد الأشعري و آرائه.

2_ استقلال العقل بكونه سبحانه عادلاً، فلا يجوز عليه تعذيب المطيع، وأين هو ممّا يقول به الأشعري من أنّه يجوز للّه سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة وهو عادل إن فعله(2).

3 _ نعم أنكر الشيخ إيجاب العقل للحسن والقبح، ولكنّه لو كان واقفاً على مغزى إيجاب العقل لم يعترض عليه، إذ لا يوجد في أديم الأرض إنسان عاقل عارف بمقام الربّ والخلق، يجعل العقل

موجِباً ومكلِّفاً _ بالكسر _ واللّه سبحانه موجَباً ومكلَّفاً _بالفتح _، لأنّ شأن العقل هو الادراك، ومعنى إيجابه القيام بالحسن، والاجتناب عن ضدّه، هو استكشافه لزوم القيام بالأوّل وامتناع القيام بالثّاني بالنّظر إلى

______________________

1 . اشارات المرام: فصل الخلافيات بين الماترديّة والأشاعرة، ص 54 .

2 . اللمع: ص 116 .

( 31 )

المبادىء الموجودة في الفاعل الحكيم، فالمتّصف بكلّ الكمال، والمبرّأ عن كلّ سوء، لايصدر منه إلاّ الحسن لوجود الصارف عن غيره، ويمتنع صدور غيره عنه، وليس هذا الامتناع امتناعاً ذاتيّاً بمعنى تحديد قدرته ومشيئته، بل قدرته ومشيئته مطلقتان بالذّات غير محدودتين، فهو سبحانه قادر على كلا القسمين من الفعل أعني الحسن والقبح، لكن بالنّظر إلى أنّه عالم واقف على قبح الأفعال، وغنىُّ عن فعل القبح، يترك القبيح ولا يفعله، واللّه الحكيم كتب على نفسه أن لا يخلّ بالحسن ولا يفعل القبيح، وليس دور العقل إلاّ دور الكشف والتبيين، والتعبير بالإيجاب بملاك الوقوف على المبادئ الكماليّة الموجودة في المبدأ كقولك: يجب أن تكون زوايا المثلّث متساوية مع زاويتين قائمتين، فإنّ الخصوصيّة التكوينيّة الكامنة فيه مبدأ ذلك الإيجاب، والعقل كاشفه، ومع ذلك ربّما يعبّر عن ذلك بالإيجاب.

4_ اختار الماتريدي قصور العقل عن تعيين كيفيّة الثواب وكونه بالجنّة، وكيفيّة العقاب وكونه بالنار وهو الحقّ، فإنّ أقصى ما يستقلّ به العقل هو لزوم مثوبة المطيع ومجازاة العاصي، وأمّا الكيفيّة فلا يستقلّ العقل بشيء منها (على فرض كون الثّواب بالاستحقاق). نعم ما ذكره من أنّه ليس للّه العفو عن الكفر عقلاً، فالظّاهر أنّه تحديد رحمته وقد سبقت غضبه، والتّعذيب حقُّ له، وله الإعمال وله العفو كعصيان المؤمن الفاسق. نعم أخبر المولى سبحانه بأنّه لا يغفر الشرك، ويغفر ما دون ذلك.

4_ التكليف بما لا يطاق غير جائز:

4_ التكليف بما لا يطاق غير جائز:

ذهب الأشعري إلى جواز التكليف بما لايطاق وقال: «والدليل على جواز تكليف ما لا يطاق من القرآن قوله تعالى للملائكة: (أَنْبِؤُني بِأسْماءِ هؤلاءِ) (البقرة /31) يعني أسماء الخلق، وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.... إلى غير ذلك من الآيات الّتي عرفت مفادها في محلّها (1).

______________________

1 . لاحظ الجزء الثاني من هذا الكتاب: 185 .

( 32 )

والماتريدي مخالف صنوه الداعي ويقول: «ولا يجوز التكليف بما لا يطاق لعدم القدرة أو الشرط، واختاره الاُستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني كما في (التبصرة) وأبوحامد الاسفرائيني كما في شرح السبكي لعقيدة أبي منصور»(1).

هذا ما نقله البياضي عن الماتريديّة، وأمّا نفس أبي منصور فقد فصّل في كتابه «التوحيد» بين مضيِّع القدرة فيجوز تكليفه، وبين غيره فلا يجوز. قال: «إنّ تكليف من مُنع عن الطاقة فاسد في العقل، وأمّا من ضيّع القوّة فهو حقّ أن يكلّف مثله، ولو كان لا يكلّف مثله لكان لا يكلّف إلاّ من يطيع» (2).

يلاحظ عليه:

1_ أنّ من الاُصول المسلّمة عند العقل، كون الامتناع بالإختيار غير مناف للإختيار، فمن ألقى نفسه من شاهق عن اختيار فقد قتل نفسه اختياراً، فالقتل بعد الإلقاء وإن كان خارجاً عن الاختيار، ولكنّه لمّا كان الإلقاء _ الّذي يُعدّ من مبادئ القتل _ في اختياره، يعدّ القتل فعلاً اختياريّاً لا اضطراريّاً.

2_ أنّ من فقد القدرة، وعجز عن القيام بالعمل، سواء أكان بعامل اختياريّ أم غيره، لا يصحّ تكليفه به عن جدّ، لأنّ فاقد القدرة والجماد في هذه الجهة سواسية، فلا تظهر الارادة الجدّية في صقع الذهن، ولو خوطب العاجز فإنّما يخاطب بملاكات أُخر من التقريع، والتنديد، وغيرهما.

وفي ضوء هذين الأمرين يستنتج أنّ من ضيّع قدرته يُعذَّب،

لما تقرّر من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، ولكن لا يصحّ تكليفه بعد الضياع، للغويّة الخطاب واستهجانه، وبذلك يظهر وهن برهان المفصّل من أنّه لو لم يصحّ تكليف المضيِّع للقدرة لاختصّ التكليف بالمطيع، لما عرفت من أنّ سقوط التكليف والخطاب

______________________

1 . اشارات المرام: ص 54 في فصل الخلافيات بين جمهور الماتريدية والأشعرية.

2 . التوحيد: ص 266 .

( 33 )

بالتضييع، لايستلزم سقوط العقاب والمؤاخذة، وقد اشتهر بين القوم أنّ الامتناع بالاختيار، لاينافي الاختيار عقاباً لا خطاباً، ولو كان الماتريدي واقفاً على أنّ القائلين بامتناع التكليف بما لايطاق، قائلون بصحّة عقوبة من ضيّع القدرة، وجعل نفسه في عداد العجزة، لما فصّل بين من مُنع منه الطّاقة، ومن ضيّعها، ولما ضرب الجميع بسهم واحد.

5_ أفعال اللّه سبحانه معلّلة بالغايات:

5_ أفعال اللّه سبحانه معلّلة بالغايات:

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ أفعاله سبحانه ليست معلّلة بالأغراض، وأنّه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح عليه شيء، واستدلّوا على ذلك بما يلي:

1_ لو كان فعله تعالى لغرض، لكان ناقصاً لذاته، مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه، وهو معنى الكمال(1).

وقالت الماتريديّة: أفعاله تعالى معلّلة بالمصالح والحكم تفضّلاً على العباد، فلا يلزم الاستكمال ولا وجوب الأصلح واختاره صاحب المقاصد(2).

هل الغاية، غاية للفاعل أو للفعل؟

إنّ الأشعري خلط بين الغرض الراجع إلى الفاعل، والغرض الراجع إلى فعله، فالاستكمال موجود في الأوّل دون الثاني، والقائل بكون أفعاله معلّلة بالأغراض، والغايات، والدواعي، والمصالح، إنّما يعني بها الثاني دون الأوّل، والغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنيّاً بالذات، وغنيّاً في الصِّفات، وغنيّاً في الأفعال، والغرض بالمعنى الثاني يوجب خروج فعله عن كونه عبثاً ولغواً، وكونه سبحانه عابثاً ولاغياً، فالجمع بين كونه غنيّاً غير محتاج

إلى شيء، وكونه حكيماً منزّهاً عن العبث واللّغو، يتحقّق بالقول باشتمال أفعاله على مصالح وحِكم ترجع إلى العباد والنظام، لا إلى وجوده وذاته، كما لا يخفى.

______________________

1 . المواقف: ص 331 .

2 . اشارات المرام: ص 54 .

( 34 )

تفسير العلة الغائية:

العلّة الغائيّة الّتي هي إحدى أجزاء العلّة التامّة، يراد منها في مصطلح الحكماء، ما تُخرج الفاعلَ من القوّة إلى الفعل،ومن الامكان إلى الوجوب، ويكون مقدّمة صورة وذهناً، ومؤخّرة وجوداً وتحققاً، فهي السبب لخروج الفاعل عن كونه فاعلاً بالقوّة إلى كونه فاعلاً بالفعل، مثلاً النجّار لا يقوم بصنع الكرسيّ إلاّ لغاية مطلوبة مترتّبة عليه، ولولا تصوّر تلك الغاية لما خرج عن كونه فاعلاً بالقوّة، إلى ساحة كونه فاعلاً بالفعل، وعلى هذا فللعلّة الغائيّة دور في تحقّق المعلول، وخروجه من الإمكان إلى الفعليّة، لأجل تحريك الفاعل نحو الفعل، وسوقه إلى العمل.

ولا نتصوّر العلّة الغائيّة بهذا المعنى في ساحته سبحانه لغناه المطلق في مقام الذات، والوصف، والفعل، فكما أنّه تامّ في مقام الوجود، تامّ في مقام الفعل، فلا يحتاج في الإيجاد إلى شيء وراء ذاته، وإلاّ فلو كانت فاعليّة الحقّ كفاعليّة الانسان، الذي لايقوم بالايجاد والخلق، إلاّ لأجل الغاية المترتّبة عليه، لكان ناقصاً في مقام الفاعليّة، مستكملاً بشيء وراء ذاته وهو لا يجتمع مع غناه المطلق.

هذا ما ذكره الحكماء، وهو حقّ لا غبار عليه، وقد استغلّته الأشاعرة في غير موضعه واتّخذوه حجّة لتوصيف فعله عارياً عن أيّة غاية وغرض، وجعلوا فعله كفعل العابثين واللاعبين، يفعل (العياذ باللّه) بلا غاية، ويعمل بلا غرض، ولكنّ الاحتجاج بما ذكره الحكماء لإثبات ما رامته الأشاعرة واضح البطلان، لأنّ إنكار العلّة الغائيّة بهذا المعنى، لا يلازم أن لا يترتّب على فعله مصالح

وحكم ينتفع بها العباد، وينتظم بها النظام، وإن لم تكن مؤثّرة في فاعليّة الحقّ وعليّته، وذلك لأنّه سبحانه فاعل حكيم، والفاعل الحكيم لا يختار من الأفعال الممكنة إلاّ ما يناسب ذلك، ولا يصدر منه ما يضادّه ويخالفه.

( 35 )

وبعبارة ثانية، لا نعني من ذلك أنّه قادر لواحد من الفعلين دون الآخر وأنّه في مقام الفاعليّة يستكمل بالغاية، فيقوم بهذا دون ذاك، بل هو سبحانه قادر على كلا الأمرين، لا يختار منهما إلاّ ما يوافق شأنه، ويناسب حكمته، وهذا كالقول بأنّه سبحانه يعدل ولا يجور، فليس يعنى من ذلك أنّه تامّ الفاعليّة بالنسبة إلى العدل دون الجور، بل يعنى أنّه تام القادريّة لكلا العملين، لكن عدله، وحكمته، ورأفته، ورحمته، تقتضي أن يختار هذا دون ذلك مع سعة قدرته لكليهما.

هذا هي حقيقة القول بأنّ أفعال اللّه لا تعلّل بالأغراض والغايات المصطلحة، مع كون أفعاله غير خالية عن المصالح والحكم من دون أن يكون هناك استكمال.

دليل ثان للأشاعرة:

ثمّ إنّ أئمّة الأشاعرة لمّا وقفوا على منطق العدليّة في المقام، وأنّ المصالح والحكم ليست غايات للفاعل بل غايات للفعل، وأنّها غير راجعة إلى الفاعل، بل إلى العباد والنّظام، طرحوه على بساط البحث فأجابوا عنه وإليك نصّ كلامهم:

1_ «فان قيل: لانسلّم الملازمة، فإنّما الغرض قد يكون عائداً إلى غيره.

قيل له: نفع غيره والاحسان إليه إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه، جاء الالزام، لأنّه تعالى يستفيد حينئذ بذلك النّفع والاحسان ما هو أولى به وأصلح، وإن لم يكن أولى بل كان مساوياً، أو مرجوحاً، لم يصلح أن يكون غرضاً له»(1).

وقد جاء بنفس هذا البيان «الفضل بن روزبهان» في ردّه على «نهج الحقّ» للعلاّمة الحلّي وقال:

«إنّه لا يصلح غرضاً

للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه، وذلك لأنّ ما يستوي وجوده وعدمه بالنّظر إلى الفاعل، أو كان وجوده مرجوحاً بالقياس إليه، لا يكون باعثاً

______________________

1 . المواقف: ص 332 .

( 36 )

على الفعل، وسبباً لإقدامه عليه بالضّرورة، فكلّ ما يكون غرضاً وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل، وأليق به من عدمه، فهو معنى الكمال، فإذن يكون الفاعل مستكملاً بوجوده، ناقصاً بدونه»(1).

يلاحظ عليه: أنّ المراد من الأصلح والأولى به، ما يناسب شؤونه، فالحكيم لايقوم إلاّ بما يناسب شأنه، كما أنّ كلّ فاعل غيره يقوم بما يناسب المبادئ الموجودة فيه، فتفسير الأصلح والأولى بما يفيده ويكمِّله، تفسير في غير موضعه.

ومعنى أنّه لا يختار إلاّ الأصلح والأولى، ليس أنّ هناك عاملاً خارجاً عن ذاته، يحدِّد قدرته ومشيئته ويفرض عليه إيجاد الأصلح والأولى، بل مقتضى كماله وحكمته، هو أن لا يخلق إلاّ الأصلح والأولى، ويترك اللّغو والعبث، فهو سبحانه لمّا كان جامعاً للصّفات الكماليّة ومن أبرزها كونه حكيماً، صار مقتضى ذلك الوصف، إيجاد ما يناسبه وترك ما يضادّه، فأين هو من حديث الاستكمال، والاستفادة، والالزام، والافراض، كلّ ذلك يعرب عن أنّ المسائل الكلاميّة طرحت في جوّ غير هادئ وأنّ الخصم لم يقف على منطق الطّرف الآخر.

والحاصل، أنّ ذاته سبحانه تامة الفاعليّة بالنسبة إلى كلا الفعلين: الفعل المقترن مع الحكمة، والخالي عنها، وذلك لعموم قدرته سبحانه للحسن والقبيح، ولكن كونه حكيماً يصدّه عن ايجاد الثاني ويخصّ فعله بالأوّل، وهذا صادق في كلّ فعل له قسمان: حسن وقبيح. مثلاً، اللّه سبحانه قادر على إنعام المؤمن وتعذيبه، وتامّ الفاعليّة بالنّسبة إلى الكلّ، ولكن لا يصدر منه إلاّ القسم الحسن منهما لا القبيح، فكما لا يستلزم القول بصدور خصوص الحسن دون القبيح

(على القول بهما) كونه ناقصاً في الفاعليّة، فهكذا القول بصدور الفعل المقترن بالمصلحة دون المجرّد عنها، وإنعام المؤمن ليس مرجوحاً ولا مساوياً مع تعذيبه بل أولى به وأصلح، لكن معنى صلاحه وأولويّته لا يهدف إلى استكماله أو استفادته منه، بل يهدف إلى أنّه المناسب لذاته الجامعة للصفات الكماليّة،

______________________

1 . دلائل الصدق: ج 1 ص 233 .

( 37 )

المنزهة عن خلافها، فجماله وكماله، وترفّعه عن ارتكاب القبيح، يطلب الفعل المناسب له، وهو المقارن للحكمة، والتجنّب عن مخالفتها.

والحاصل أنّ الله سبحانه فعل أم لم يفعل فهو كامل بلانهاية، لكن لو فعل لاختار المناسب للحكمة و أين هو من الاستكمال.

دليل ثالث للأشاعرة:

وهناك دليل ثالث لهم حاصله: أنّ غرض الفعل خارج عنه، يحصل تبعاً له وبتوسّطه، وبما أنّه تعالى فاعل لجميع الأشياء ابتداءً، فلا يكون شيء من الكائنات إلاّ فعلاً له، لا غرضاً لفعل آخر لا يحصل إلاّ به، ليصلح غرضاً لذلك الفعل، وليس جعل البعض غرضاً أولى من البعض(1).

وكان عليه أن يقرّر الدليل بصورة كاملة ويقول: لو كان البعض غاية للبعض فإمّا أن ينتهي إلى فعل لا غاية له فقد ثبت المطلوب، أو لا فيتسلسل وهو محال.

يلاحظ عليه:_ أنّه لايشكّ من أطلّ بنظره إلى الكون، أنّ بعض الأشياء بما فيها من الآثار خلق لأشياء اُخر، فالغاية من ايجاد الموجودات الدانية كونها في خدمة العالية منها، وأمّا الغاية في خلق العالية هي إبلاغها إلى حدّ تكون مظاهر ومجالي لصفات ربِّه، وكمال بارئه.

إذا نظرنا إلى الكون بالنظر التجزيئي نرى هناك أوائل الأفعال، وثوانيها، وثوالثها و... فيقع الداني في خدمة العالي، ويكون الغرض من إيجاد العالي إيصاله إلى كماله الممكن الّذي هو أمر جميل بالذات، ولا يطلب إيجاد الجميل بالذات

غاية سوى وجوده لأنّ الغاية منطوية في وجوده.

هذا إذا نظرنا إلى الكون بالنظر التجزيئي. وأمّا إذا نظرنا إلى الكون بالنظر

______________________

1 . المواقف: ص 322 .

( 38 )

الجملي، فالغاية للنّظام الجملي ليس أمراً خارجاً عن وجود النظام حتّى يسأل عنها بالنحو الوارد في الدليل، بل هي عبارة عن الخصوصيّات الموجودة فيه وهي بلوغ النظام بأبعاضه وأجزائه إلى الكمال الممكن، والكمال الممكن المتوخّى من الإيجاد خصوصيّة موجودة في نفس النظام، ويعدّ صورة فعليّة له، فالله سبحانه خلق النظام، وأوجد فعله المطلق، حتّى يبلغ ما يصدق عليه فعله كلاًّ أو بعضاً إلى الكمال الّذي يمكن أن يصل إليه. فليست الغاية شيئاً مفصولاً عن النظام، حتّى يقال ما هي الغاية لهذه الغاية حتّى تتسلسل، أو تصل إلى موجود لا غاية له.

وبما أنّ إيصال كلّ ممكن إلى كماله، غاية ذاتيّة، لأنّه عمل جميل بالذات، فيسقط السؤال عن أنّه لماذا قام بهذا، لأنّه حين أوصل كلّ موجود إلى كماله الممكن، فالسؤال يسقط إذا انتهى إلى السؤال عن الأمر الجميل بالذات.

فلو سئلنا عن الغاية لأصل الايجاد وإبداع النظام، لقلنا: بأنّ الغرض من الإيجاد عبارة عن إيصال كلّ ممكن إلى كماله الممكن. ثمّ إذا طرح السؤال عن الهدف من إيصال كلِّ ممكن إلى كماله الممكن، لكان السؤال جزافياً ساقطاً، لأنّ العمل الحسن بالذات، يليق أن يفعل، والغاية نفس وجوده.

فالايجاد فيض من الواجب إلى الممكن، وإبلاغه إلى كماله فيض آخر، يتمّ به الفيض الأوّل، فالمجموع فيض من الفيّاض تعالى إلى الفقير المحتاج، ولا ينقص من خزائنه شيء، فأيّ كمال أحسن وأبدع من هذا؟ وأىُّ غاية أظهر من ذلك، حتّى تحتاج إلى غاية اُخرى؟ وهذا بمثابة أن يسأل لماذا يفعل اللّه الأفعال الحسنة بالذات؟ فإنّ

الجواب، مستتر في نفس السؤال وهو أنّه فعله لأنّه حسن بالذات، وما هو حسن بالذات نفسه الغاية، ولا يحتاج إلى غاية اُخرى.

ولأجل تقريب الأمر إلى الذهن نأتي بمثال: إذا سألنا الشابّ الساعي في التّحصيل وقلنا له: لماذا تبذل الجهود في طريق تحصيلك؟ فيجيب: لنيل الشهادة العلمية. فإذا أعدنا السؤال عليه وقلنا: ما هي الغاية من تحصيلها؟ يجيبنا: للاشتغال في

( 39 )

إحدى المراكز الصناعية، أو العلميّة، أو الاداريّة. فإذا أعدنا السؤال عليه وقلنا: ماهي الغاية من الاشتغال فيها؟ يقول: لتأمين وسائل العيش مع الأهل والعيال. فلو سألناه بعدها عن الغاية من طلب الرفاه وتأمين سبل العيش، لوجدنا السؤال جزافياً. لأنّ ما تقدّم من الغايات وأجاب عنها، غايات عرضية لهذه الغاية المطلوبة بالذات، فإذا وصل الكلام إلى الأخيرة يسقط السؤال.

القرآن وأفعاله سبحانه الحكيمة:

والعجب عن غفلة الأشاعرة من النصوص الصريحة في هذا المجال. يقول سبحانه (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون /115) وقال عزّ من قائل: (وما خَلَقْنَا السَّمواتِ والأرضَ وما بَيْنَهُما لاعِبين) (الدخان /38).

وقال سبحانه: (وَ مَا خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الأرضَ وَ مَا بَيْنَهُما بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ) (ص /27) وقال سبحانه: (وَ مَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الإِنسَ إلاّ لِيَعْبُدُون) (الذاريات /56) إلى غير ذلك من الآيات الّتي تنفي العبث عن فعله، وتصرّح باقترانها بالحكمة والغرض.

وأهل الحديث وبعدهم الأشاعرة الّذين اشتهروا بالتعبّد بظواهر النصوص تعبّداً حرفيّاً غير مفوّضين معانيها إلى الله سبحانه ولا مؤوّليها، لا مناص لهم إلاّ تناسي الآيات الماضية، أو تأويلها، وهم يفرّون منه، وينسبونه إلى مخالفيهم.

عطف مذهب الحكماء على مذهب الأشاعرة:

ومن الخطأ الواضح، عطف مذهب الحكماء على مذهب الأشاعرة، وتصوير أنّ الطّائفتين يقولون

بأنّ أفعال اللّه سبحانه غير معلّلة بالأغراض، وهو خطأ محض. كيف وهذا صدر المتألهين يخطِّئ الأشاعرة ويقول: «إنّ من المعطِّلة قوماً جعلوا فعل اللّه تعالى خالياً عن الحكمة والمصلحة، مع أنّك قد علمت أنّ للطّبيعة غايات»(1) وقال أيضاً:

______________________

1 . الأسفار: ج 2، ص 59 .

( 40 )

«إنّ الحكماء ما نفوا الغاية والغرض عن شيء من أفعاله مطلقاً، بل إنّما نفوا عن فعله المطلق (إذا لوحظ الوجود الإمكاني جملة واحدة)وفي فعله الأوّل غرضاً زائداً على ذاته تعالى، وأمّا ثواني الأفعال والأفعال المخصوصة، والمقيّدة، فأثبتوا لكلّ منها غاية مخصوصة. كيف وكتبهم مشحونة بالبحث عن غايات الموجودات ومنافعها كما يعلم من مباحث الفلكيّات، ومباحث الأمزجة، والمركّبات، وعلم التشريح، وعلم الأدوية، وغيرها»(1).

وعلى ذلك فنظريّة الحكماء تتلخّص في أمرين:

1_ إنّ أفعاله سبحانه غير متّصفة بالعبث واللّغو، وإنّ هنا مصالح وحِكَماً تترتّب على فعله، يستفيد بها العباد، ويقوم بها النّظام.

2_ إذا لوحظ الوجود الإمكاني على وجه الإطلاق، فليس لفعله غرض خارج عن ذاته، لأنّ المفروض ملاحظة الوجود الإمكاني جملة واحدة، والغرض الخارج عن الذّات لو كان أمراً موجوداً فهو داخل في الوجود الإمكاني، وليس شيء وراءه، وعند ذاك فليس الغرض شيئاً خارجاً عن الذات وإنّما الغرض نفس ذاته، لئلاّ يكون ناقص الفاعليّة، لأنّ الحاجة إلى شيء خارج عن ذاته في القيام بالفعل، آية كونه ناقصاً في الفاعليّة، والمفروض أنّه سبحانه تامّ في فاعليّته، غنيّ في ذاته وفعله عن كل شيء سوى ذاته.

ثمّ إنّ لهم بياناً فلسفيّاً ممزوجاً بالدليل العرفاني، يهدف إلى كون الغرض من الخلق هو ذاته سبحانه، وبه فسّروا قوله سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ) وقوله في الحديث القدسي: «كنت كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعرفَ، فخلقت الخلقَ

لكي أُعرف» والله سبحانه هو غاية الغايات، ومن أراد الوقوف على برهانهم فليرجع إلى أسفارهم(2).

______________________

1 . الأسفار: ج 7، ص 84 .

2 . الأسفار: ج 2 ص 263 .

( 41 )

6 _ الماتريدية والصفات الخبرية:

6 _ الماتريدية والصفات الخبرية:

إنّ تفسير الصفات الخبرية أوجد اختلافاً عميقاً بين المتكلّمين وجعلهم فرقاً متضادّة، وبما أنّ أهل الحديث والأشاعرة من المثبتين لها، اشتهروا بالصفاتيّة في مقابل المعتزلة الّذين يؤوِّلونها ولا يثبتونها بما يتبادر منها من ظواهرها، ولأجل أن نقف على نظريّة الماتريديّة في هذا المقام، ننقل كلام الامامين الأشعري والماتريدي ليعلم مدى الاختلاف بين المدرستين، وإليك كلام الأشعري أوّلاً، ثمّ كلام الماتريدي ثانياً:

أ _ كلام الامام الأشعري:

إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إنّ الله عزّ وجلّ يستوي على عرشه كما قال، يليق به من غير طول الاستقرار كما قال: (الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى) (طه /5) وقد قال اللّه عزّ وجلّ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمَ الطَّيِّبُ)(فاطر/10) وقال (بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ) (النساء /158) وقال عزّ وجلّ: (يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيهِ) (السجدة/5). وقال حكايةً عن فرعون: ( يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمواتِ فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِباً)(غافر/36 _ 37) فكذّب فرعون نبيّ الله موسى _ عليه السلام _ في قوله «إنّ الله عَزّ وجلّ فوق السماوات والأرض» وقال عزّ وجلّ: (ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يخسِفَ بِكُمُ الأَرضَ)(الملك/16) فالسماوات فوقها العرش، فلمّا كان العرش فوق السماوات قال: (ءأمنتم من في السماء) لأنّه مستو على العرش الّذي فوق السّماوات، وكلّ ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات. وليس إذا قال: (ءأمنتم من في السماء)يعني جميع السماوات،

وإنّما أراد العرش الّذي هو أعلى السماوات. ألاترى أنّ الله عزّ وجلّ ذكر السماوات فقال: (وجعل القمر فيهنّ نوراً)(نوح/16) ولم يرد أنّ القمر يملأهنّ جميعاً، وأنّه فيهنّ جميعاً، ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السّماء لأنّ الله مستو على

( 42 )

العرش الّذي هو فوق السماوات. فلولا أنّ الله عزّ وجلّ على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطّونها إذا دعوا إلى الأرض(1).

ومن تأمّل في ظواهر كلماته ودلائله لا يشكّ في أنّ الشيخ يعتقد بكونه سبحانه على العرش فوق السّماوات، وأيّ كلام أصرح من قوله «فلولا أنّ الله عزّ وجلّ على العرش» فلو صحّت نسبة النسخة من (الابانة) إلى الشّيخ، وكانت مصونة عن دسّ الحشويّة والحنابلة(2)، فهو من المشبّهة قطعاً، غير أنّه لدفع عار التشبيه والتجسيم عن نفسه، يتدرّع بلفظة «بلا كيف أو «على نحو يليق به» أو «من غير طول الاستقرار» وقد أوضحنا حال هذه الألفاظ في الجزء الثاني.

والعجب أنّ الشيخ يفسّر الرفع الوارد في الآيات تصريحاً، أو تلويحاً، بالرفع الحسّي. مع أنّ في نفس الآيات _ لدى التدبّر _ قرائن تدلّ على كون الرفع، هو الرفع المعنوي لا الحسّي والصعود المادّي.

وأعجب منه أنّه نسب إلى الكليم _ عليه السلام _ أنّه قال لفرعون: إنّ الله سبحانه فوق السماوات، فصار فرعون بصدد تكذيبه إذ قال لهامان: «ابن لي صرحاً لعلّي أطّلع إلى إله موسى» مع أنّه أشبه بالرجم بالغيب، إذ من الممكن أن يكون المصدر لاعتقاده بكون إله موسى في السماء، هو اجتهاده الشخصي الخاطئ، بأنّه إذا لم يكن إله موسى في الأرض كسائر الآلهة، فلا محالة هو في السماء، ولأجل ذلك طلب من هامان بناء

______________________

1 . الابانة: ص 85 _

86.

2 . إنّ الشيخ محمد زاهد الكوثري الماتريدي لا يرى للكتب المطبوعة باسم الأشعري أصالة لأنّها بحرفيتها نفس عقائد الحشوية مع أنّ المعروف أنّهم أعداء له.

يقول: وطبع كتاب (الابانة) لم يكن من أصل وثيق، وفي (المقالات) المنشور باسمه وقفة، لأنّ جميع النسخ الموجودة اليوم من أصل وحيد كان في حيازة أحد كبار الحشوية ممن لا يؤتمن لا على الاسم، ولا على المسمّى، بل لو صحّ الكتابان عنه على وضعهما الحاضر، لما بقي وجه لمناصبة الحشوية العداء له على الوجه المعروف، على أنّه لا تخلو آراؤه من بعض ابتعاد عن النّقل مرّة، وعن العقل مرة اُخرى، في حسبان بعض النظار كقوله في التحسين والتعليل، وفيما يفيده الدليل النقلي (مقدمة اشارات المرام: ص 7). أقول: إنّ الاعتزال عن العقل، وإعلان الالتحاق بأهل الحديث الّذين أعدموا العقل، والإلتجاء إلى كل ما سمي حديثاً لا ينتج إلاّ ما جاء في الكتابين، فلا وجه للتشكيك في مضامينهما.

( 43 )

الصرح.

ثمّ إنّ نقد كلام الشّيخ وتفسير الآيات الّتي استدلّ بها على كونه سبحانه في العرش،يحتاج إلى بسط في الكلام،وسوف نقوم بها عند عرض عقائد المعتزلة إن شاء الله.

إنّ الصفات المتشابهة الواردة في الكتاب والسنّة، لا تتجاوز عن سبع عشرة، منها اليمين، والساق، والأعين، والجنب، والإستواء، والغضب، والرضى، والنور، على ما ورد في الآيات، والكفّ والاصبعان، والقدم، والنزول، والضحك، وصورة الرحمان، على ما ورد في الأحاديث الّتي لم تثبت صحّة أسنادها، وقد أرسلتها الحشويّة والحنابلة إرسال المسلّمات، وعلى أيّ حال فنظريّة الأشاعرة في هذه الصفات هي الإثبات متدرعّة بلفظة «بلا كيف»، أو «بلا تشبيه» أو ما يقرب ذلك.

ب _ كلام الماتريدي :

ما ذكره أبو منصور في (توحيده) يعرب بوضوح عن كون منهجه

هو التنزيه ظاهراً وباطناً، فهو بعدما نقل الآراء المختلفة صار بصدد تفسير الآية (الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى)فقال: إنّ الله سبحانه كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة، وبقاؤه على ما كان،فهو على ما كان، وكان على ما عليه الآن. جلّ عن التغيّر والزوال، والاستحالة والبطلان، إذ ذلك أمارات الحدث الّتي بها عرف حدث العالم.

ثمّ ردّ على القائلين بكونه سبحانه على العرش، بأنّه ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من مكان للجلوس أو القيام شرف ولا علوّ، ولا وصف بالعظمة والكبرياء كمن يعلو السطوح والجبال أنّه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر، فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه مع ما فيها ذكر العظمة والجلال، إذ ذكر في قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرْضَ) (الأعراف / 54) فدلّك على تعظيم العرش(1).

______________________

1 . التوحيد: ص 69 و 70 .

( 44 )

ولأجل اختلاف المفسّرين في مفاد الآية، التجأ هو إلى «تفويض معناها إلى الله»، وقال: «وأمّا الأصل عندنا في ذلك أنّ الله تعالى قال: (ليس كمثله شيء)فنفى عن نفسه، شبه خلقه، وقد بيّنا أنّه في فعله وصفته متعال عن الأشباه، فيجب القول بأنّ الرحمن على العرش استوى على ما جاء به التنزيل، وثبت ذلك في العقل. ثمّ لا نقطع تأويله على شيء لاحتمال غيره ممّا ذكرنا»(1).

فالماتريدي ينفي بتاتاً كونه سبحانه على العرش، حتّى على النّحو اللائق به الّذي ملأ كتب الأشاعرة وينزّهه عن تلك الوصمة، ولكن لّما كانت المعاني الأُخرى متساوية عنده، لم يجزم بشيء منه، وفوّض المراد إليه سبحانه، ولأجل ذلك لخّص البياضي نظريّة الامام الماتريدي وقال: «ولا يؤوّل المتشابهات ويفوِّض علمها إلى الله مع التنزيه عن إرادة ظواهرها»(2). ومراده من «المتشابهات»

هوالصفات الخبريّة الواردة في الكتاب والسنّة.

وأمّا البزدوي _ أحد أئمّة الماتريدية في القرن الخامس _ فيظهر منه الجنوح إلى إمكان الوقوف على مقاصد الكتاب في هذه الصفات. قال في مسألة «أنّ الله لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء»: فإن قالوا قد وجد دلائل الاجسام فإنّه يوصف بالاتيان قال الله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَل مِنَ الغَمَامِ) (البقرة/210) وقال (وَ جَاءَ رَبُّكَ وَ المَلِكُ صَفّاً صَفّاً)(الفجر / 22) ويوصف بالاستواء على العرش قال الله تعالى ( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ ) (يونس /3). والاتيان والاستواء على المكان من صفات الجسم، وكذلك يوصف بأنّ له أيدياً وأعيناً، قال الله تعالى (ممّا عَمِلَتْ أيْدِينا أنْعَاما) (يس/71) (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)(الطور/48) وهذا من أمارات الأجسام.

ثمّ أجاب عن كلّ واحد بأنّا نصفه بذلك كما وصف اللّه تعالى به نفسه وهو

______________________

1 . التوحيد: ص 69 و 74 .

2 . اشارات المرام: ص 54 .

( 45 )

الصحيح من مذهب السنّة، فلا بدّ من الوصف بما وصف اللّه نفسه به، ولكن هذه الصِّفات ليست من صفات الأجسام، فإنّ الاتيان يذكر ويراد منه الظُّهور. قال الله تعالى: (فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ القَواعِدِ) (النحل/26) وقال (فَأتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَم يَحتَسِبُوا) (الحشر/2) معناه _ واللّه أعلم _ ظهرت آثار سخطه في بنيانهم، وظهرت آثار قدرته وقهره فيهم _ إلى أن قال:_ وكذا الاستواء ليس من صفات الأجسام فإنّ الاستواء هو الاستيلاء على الشّيء والقهر عليه. قال اللّه تعالى: ( ولمّا بَلَغَ أشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وعِلْماً) (القصص/14) معناه _ والله أعلم _ تقوّى حاله بتمام البِنية. واستوى أمر فلان: إذا تناهى، ومنه المستوي على الكرسي وهو القاعد عليه، عبارة عن

الاستيلاء. فإنّه (لا) يقال: استوى على الكرسي ما لم يجلس مستقرّاً عليه، فالمستقرّ على العرش مستو، فكان معنى قوله: (ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرشِ الرَّحمن)(الفرقان/59) _ والله أعلم _ أى استوى عليه بعد خلقه، والله تعالى مستول على جميع العالم، إلاّ أنّه خصّ العرش بالذّكر لأنّه أعظم الأشياء وأشرفها، ثمّ ذكر تفسير سائر الصفات الخبرية من اليد والعين(1).

وكلّ من كلامي الاُستاذ والتّلميذ يعربان بوضوح عن اختلاف منهجهما مع منهج الامام الأشعري، فهو يثبت جميع هذه الصِّفات الخبريّة الظاهرة من كونه سبحانه جسماً وذا أعضاء، ولا يتحرّج من الإثبات، غاية الأمر يتدرّع بما عرفت، وهذا بخلاف الدّاعي الآخر وتلاميذ منهجه، فإنّهم لايخرجون من خطّ التنزيه، لكن بين مفوِّض غير قاطع بمراد الآية، أو مفسِّر لها مثل تفسير العدليّة الّذين سمّتهم الأشاعرة بالمؤوِّلة.

ثمّ إنّ الشيخ البزدوي أفاض الكلام في نقد ما استدلّ به الأشعري من كونه سبحانه على العرش من الآيات والرِّوايات في كتابه، ومن أراد الوقوف فليرجع إلى المسألة (14) من كتابه(2).

______________________

1 . اُصول الدين: ص 25 _ 28 .

2 . اُصول الدين: ص 28 _ 31 .

( 46 )

وفي خاتمة المطاف نلفت نظر القارئ إلى ما ذكره الكاتب المصري (أحمد أمين) حول عقيدة الأشاعرة في الصِّفات الخبرية، قال:«وأمّا الأشاعرة فقالوا إنّها مجازات عن معان ظاهرة، فاليد مجاز عن القدرة، والوجه عن الوجود، والعين عن البصر، والاستواء عن الاستيلاء، واليدان عن كمال القدرة،والنّزول عن البرد والعطاء،والضحك عن عفوه»(1).

وما ذكره هو نفس عقيدة المعتزلة لا الأشاعرة ولا الماتريديّة. فالمعتزلة هم المؤوّلة، يؤوّلون الصِّفات بما ذكره، والأشاعرة من المثبتة لكن بقيد «بلا كيف» والماتريديّة هم المفوِّضة، يفوِّضون معانيها إلى قائلها.

وكم لهذا الكاتب المصري من هفوات في بيان الطّوائف الاسلاميّة.

فقد كتب عقيدة الشيعة في كتابيه: «فجر الاسلام» و«ضحى الاسلام» وبين التقريرين في الكتابين بون بعيد. واللّه الحاكم. والعجب أنّه لم يعتمد على مصدر شيعيّ فيهما، وأعجب منه أنّه لم يشر إلى واحد من النّقود الّتي وجّهها علماء الشيعة إلى كتابه «فجر الاسلام»، مع أنّ بعضها طبع في نفس القاهرة عاصمة مصر ك_ «أصل الشيعة واُصولها». حيّا اللّه الحريّة في القضاء، والأمانة في النّقل.

7_ الاستطاعة قبل الفعل أو بعده:

7_ الاستطاعة قبل الفعل أو بعده:

اتّفق الإلهيّون على أنّ استطاعة الواجب سبحانه متقدّمة على الفعل، فهو سبحانه يوصف بالقدرة قبل إيجاد الأشياء، كما يوصف بها معه وبعده.

إنّما الكلام في استطاعة الإنسان على الفعل، فذهب الأشعريّ إلى كونها مقارنة للفعل ببيان عقليّ ذكره في اللّمع(2).

والماتريدي يفصِّل في المسألة بين العلّة النّاقصة الّتي يعبّر عنها باستطاعة

______________________

1 . ظهر الإسلام: ج 4 ص 94، الطبعة الثالثة عام 1964 .

2 . اللمع: ص 93 _ 94 .

( 47 )

الأسباب والآلات، وبين العلّة التامّة الّتي يعبّر عنها باستطاعة الفعل، وإليك نصّ عبارته في «التّوحيد»:

«الأصل عندنا في المسمّى باسم القدرة أنّها على قسمين: أحدهما: «سلامة الأسباب وصحّة الآلات» وهي تتقدّم الأفعال، وحقيقتها ليست بمجعولة للأفعال، وإن كانت الأفعال لا تقوم إلاّ بها، لكنّها نعم من الله أكرم بها من شاء، والثاني: معنى لا يقدر على تبيّن حدِّه بشيء يصار إليه، سوى أنّه ليس إلاّ للفعل لا يجوز وجوده بحال إلاّ ويقع به الفعل عندما يقع معه».

ثمّ حاول تفسير كثير من الآيات الّتي استدلّوا بها على تقدّم الاستطاعة على الفعل، بأنّ الاستطاعة الواردة فيها، هي استطاعة الأسباب والأحوال لا استطاعة الفعل(1).

8_ القدرة صالحة للضدّين:

8_ القدرة صالحة للضدّين:

القدرة في مقابل «الايجاب». فالثّاني لايصلح إلاّ للتعلّق بشيء واحد، كالنّار بالنسبة إلى الإحراق، وهذا بخلاف قدرة الانسان فإنّها يصحّ أن تتعلّق بالجلوس تارة، والقيام اُخرى.

وما ذكره من التفصيل في تقدّم الاستطاعة على الفعل، أو كونها معه، يأتي في المقام أيضاً. فالقدرة الناقصة الّتي يعبّر عنها بقابليّة الفاعل واستعداده، والّتي يعبِّر عنها الماتريدي بصحّة الأسباب والآلات، صالحة للضدّين.

وأمّا إذا وصل إلى حدّ وجب معه الفعل، فحينئذ تكون القدرة أحديّة التعلّق، لاتصلح إلاّ بشيء واحد. وقد نقل شارح

(المواقف) كلاماً عن الرازي يعرب عن كون النزاع بين الطرفين لفظيّا(2). وهو خيرة الماتريدي أيضاً حيث قال : «ثمّ اختلف أهل

______________________

1 . التوحيد: ص 256 _ 257 .

2 . شرح المواقف: ج 8 ص 154 .

( 48 )

هذا القول في قوّة الطّاعة، أهي تصلح للمعصية أم لا؟ قال جماعة: هي تصلح للأمرين جميعاً وهو قول أبي حنيفة وجماعته، وهذا القول أثبته جميع أهل الاعتزال». واستدلّ على ذلك بقوله «وأصل هذا أنّه لما كان سبب من أسباب القول يصلح للشيء وضدّه، فكذلك القدرة، مع ما في نفي أن يصلح للأمرين، فوت القدرة على فعل ضدّ الّذي جاء به، وقد يؤمر به وينهى عنه في وقته، فيلزم القول بالقدرة على الشّيء وضدِّه ليكون الأمر والنّهي على الوسع والقوّة»(1).

وقال البياضي: «والاستطاعة صالحة للضدّين على البدل، واختاره الإمام القلانسي، وابن شريح البغدادي كما في «التبصرة» لعبد القاهر البغدادي، وكثير منهم كما في (شرح المواقف»(2).

9_ الماتريدي وأفعال العباد:

9_ الماتريدي وأفعال العباد:

اتّفق المسلمون على أنّه لا خالق إلاّ اللّه واختلفوا في تفسيره في أفعال العباد و آثار الموجودات فذهب أهل السنّة إلى أنّه لا صلة بين الطبائع وآثارها. والطبائع وآثارها من صنع الخالق مباشرة من دون دخالة للطّبيعة ولو بنحو الشرط، والمعدّ في سطوعها على الطبيعة وقد اشتهر بين الأزهريّين قول القائل:

ومن يقل بالطّبع أو بالعلّة * فذاك كفر عن_د أه_ل الملّة

هذا كلّه في غير أفعال العباد، وأمّا فيها فذهبت الجهميّة أتباع جهم بن صفوان إلى أنّ العبد لا يقدر على إحداث شيء، ولا على كسب شيء، وهذه النظرية هي نظرية الجبريّة الخالصة، ولازم ذلك لغويّة بعث الرسل، وإنزال الكتب، وإغلاق باب المناهج التربويّة في العالم.

______________________

1 . التوحيد: ص 263 .

2 .

اشارات المرام: ص 55 .

( 49 )

وأهل الدقّة من أهل السنّة حاولوا الجمع بين حصر الخلق في اللّه سبحانه، وصحّة تكليف العباد، فقالوا إنّ الله هو الخالق، والعبد هو الكاسب، والتكليف، والأمر، والنهي، والثواب، والعقاب، بالملاك الثّاني دون الأوّل، وقد أخذوا مصطلح الكسب من الذّكر الحكيم. قال سبحانه (لهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا ما اكْتسبَتْ)(البقرة/286) لكنّهم اختلفوا في تفسير حقيقة الكسب إلى حدّ صارت النظرية إحدى الألغاز إلاّ ما نقل عن الماتريدي وإمام الحرمين من الأشاعرة، فقد استطاعوا من توضيحها إلى حدّ معقول ومقبول.

ولا يعلم مدى الاختلاف بين المدرستين في تفسير الكسب إلاّ بنقل نصوصهما في هذا المجال.

معنى الكسب عند الأشعري:

قال الفاضل القوشجي وهو من أئمّة الأشاعرة: «المراد بكسبه إيّاه، مقارنته لقدرته وإرادته، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاله»(1). وحاصله أنّه ليس للعبد دور في خلق الفعل وإيجاده، غير كونه ظرفاً ومحلا لخلق اللّه وإيجاده، غاية الأمر إنّ شرط إيجاده سبحانه هو قصد العبد وعزمه، فإذا قصد وعزم وحدثت فيه القدرة غير المؤثِّرة، خلق الله الفعل وأوجده، من دون أن يكون لقدرة العبد دور وتأثير، وهذه النظرية قد شغلت بال أئمّة الأشاعرة طوال قرون، وقد بذلوا الجهود لتبيينها فما أتوا بشيء يسكن إليه القلب.

إذ لقائل أن يسأل ويقول:

1_ إذا كان الخالق للفعل هو اللّه سبحانه مباشرة، ولم يكن لقدرة العبد دور فيه، فلماذا صار الإنسان هو المسؤول عن فعله دون الله سبحانه، مع أنّ الفعل فعله، لا فعل الإنسان.

______________________

1 . شرح التجريد للقوشجي: ص 444 _ 445 .

( 50 )

2_ إذا كانت القدرة الحادثة في العبد، غير مؤثِّرة في الإيجاد والتكوين، فما هو الغاية في إحداثها في

العبد، وإقداره على العمل، أليس هذا عملاً لغواً غير مناسب لساحة الفاعل الحكيم؟

3_ إذا كان قصد العبد وعزمه شرطاً لإيجاده سبحانه الفعل بعده، فيسأل عن نفس ذاك القصد فمن خالقه؟ فهل هو مخلوق للقاصد، أو للّه سبحانه؟ فعلى الأوّل تنتقض القاعدة « لا خالق إلاّ اللّه» ويثبت في صحيفة الكون، فعل مخلوق للعبد دونه سبحانه، وعلى الثاني تتّحد النظرية مع نظريّة الجهميّة الّتي عرّفوها بالجبريّة الخالصة، فإذا كان وجود العبد وقصده وقدرته غير المؤثرة فعلاً مخلوقاً للّه سبحانه فبأيّ ذنب يدخل العاصي النّار؟ وبأيّ عمل حسن، يثاب المطيع ويدخل الجنّة.؟

والحاصل، إنّ تفسير الكسب بإيجاده سبحانه فعل العبد عند عزمه وقصده، يدور أمره بين نقض القاعدة، أو ثبوت الجبر الخالص.

ولو تدبّر القوم في آيات الذّكر الحكيم خصوصاً في الآيات الناصّة على أنّه لا خالق إلاّ الله، لوقفوا على المعنى الصحيح من الآيات والمراد منها، وذلك لأنّ المراد من حصر الخالقيّة هو حصرها بالمعنى المناسب لشأنه سبحانه، وليس اللاّئق بشأنه إلاّ القيام بالايجاد مستقلاً من دون استعانة من أحد، وعليه فلا مانع من حصر الخالقيّة في اللّه سبحانه، وفي الوقت نفسه أن يكون العبد موجداً لفعله، بقدرة مكتسبة من اللّه وإذن منه سبحانه، وحصر الخالقيّة المستقلّة، غير المعتمدة على غيره، في اللّه سبحانه، لا ينافي نسبة الخالقيّة إلى بعض الممكنات، لكن خالقيّة مستندة إلى القدرة المكتسبة والمعتمدة إليه، وبالوقوف على اختلاف الخالقيّة المنسوبة إلى اللّه، مع الخالقيّة المنسوبة إلى عبده، يتحرّر المفسِّر من مشكلة الجبر وعقدته، وقد أوضحنا الحال في الجزء الثاني عند عرض عقائد الأشعري(1).

______________________

1 . الجزء الثاني، ص 128 _ 158 .

( 51 )

نظريّة أبي حنيفة (شيخ الماتريدي) في الكسب:

إذا كان هذا معنى الكسب لدى

الشّيخ الأشعري فما معناه لدى الماتريدي؟!

أقول: يعلم مذهبه في هذا المجال مما روى عن شيخه أبي حنيفة، كيف وهو مؤسِّس منهجه واُستاذ مدرسته. قال في الفقه الأكبر: «لم يجبر أحداً من خلقه على الكفر ولا على الايمان، ولا خلقه مؤمناً ولا كافراً ولكن خلقهم أشخاصاً، والايمان والكفر فعل العباد، وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون،كسبهم على الحقيقة، واللّه خالقها»(1).

وقال في الفقه الأبسط (على ما في بعض نسخه): «والعبد معاقب في صرف الاستطاعة الّتي أحدثها اللّه فيه، وأمر بأن يستعملها في الطاعة دون المعصية في المعصية»(2).

ولو صحّت هذه الكلمات من شيخ الماتريدي، فالكسب عنده هو صرف العبد القدرة في طريق الطاعة والمعصية عن اختيار، وهو نفس قول العدليّة جمعاء وأين هو من الكسب عند الأشاعرة المفسّر بإيجاد الفعل من اللّه سبحانه مباشرة، من دون أن يكون للعبد وقدرته الحادثة فيه دور في تحقّق الفعل غير كونه ظرفاً ومحلاًّ، وكون ظهور القصد في ضميره شرطاً لإيجاده سبحانه.

كلام الماتريدي في أفعال العباد:

هذا كلام أبي حنيفة شيخ الماتريدي، وإليك كلام الماتريدي نفسه في هذا المجال. قال: اختلف منتحلو الاسلام في أفعال العباد، فمنهم من جعلها لهم مجازاً وحقيقتها للّه لوجوه:

1 _ وجوب إضافتها إلى اللّه، على ما أُضيف إليه خلق كل شيء في الجملة، فلم

______________________

1 . اشارات المرام: ص 254 .

2 . المصدر نفسه .

( 52 )

يجز أن تكون الإضافة إلى اللّه مجازاً.

2 _ إنّ بتحقيق الفعل لغيره تشابهاً في الفعل، وقد نفى الله ذلك بقوله: (أَمْ جَعَلُوا للّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِم) (الرعد/16).

قال الشيخ (الماتريدي نفسه): وعندنا لازم تحقيق الفعل لهم (العباد) بالسمع والعقل والضرورة الّتي يصير دافع ذلك مكابراً. فأمّا السمع فله وجهان: الأمر

به والنهي عنه، والثاني الوعيد فيه والوعد له. على تسمية ذلك في كلّ هذا فعلاً، من نحو قوله: (وَاعْمَلُوا ما شِئْتُم)(فصّلت/40) وقوله: (افعَلُوا الخَيرَ)(الحج/77) وفي الجزاء (يُرِيهِمُ اللهُ أعْمالَهمْ حَسَرات عَلَيهِمْ) (البقرة/167) وقوله: (جزاءً بما كانوا يَعمَلون) (الواقعة/24) وقوله: (فَمَن يَعمَلْ مِثقالَ ذَرّة)(الزلزلة/7) وغير ذلك مما أثبت لهم أسماء العمّال، ولفعلهم أسماء الفعل بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وليس في الإضافة إلى الله سبحانه نفي ذلك، بل هي للّه، بأن خلقها على ما هي عليه، وأوجدها بعد أن لم تكن، وللخلق على ما كسبوها وفعلوها. على أنّ الله تعالى إذا أمر ونهى، ومحال الأمر بما لا فعل للمأمور أو المنهي. قال اللّه تعالى: (إنّ اللّهَ يأْمُرُ بِالعَدلِ والإحْسان) ولو جاز الأمر بذلك بلا معنى الفعل في الحقيقة، لجاز اليوم الأمر بشيء يكون لأمس، أو للعام الأول أو بإنشاء الخلائق، وإن كان لا معنى لذلك في أمر الخلق. ثمّ في العقل قبيح إن انضاف إلى اللّه الطاعة والمعصية، وارتكاب الفواحش والمناكير وأنّه المأمور، والمنهى، والمثاب، والمعاقب، فبطل أن يكون الفعل من هذه الوجوه له، ولا قوّة إلا باللّه.

وأيضاً إنّ الله تعالى إنّما وعد الثّواب لمن أطاعه في الدُّنيا، والعقاب لمن عصاه، فإذا كان الأمران فعله فإذاً هو المُجزَى بما ذكر، وإذا كان الثّواب والعقاب حقيقة، فالائتمار والانتهاء كذلك، ولا قوّة إلاّ باللّه.

وكذلك في أنّه محال أن يأمر أحد نفسه، أو يطيعها، أو يعصيها، ومحال تسمية الله عبداً، ذليلاً، مطيعاً، عاصياً، سفيهاً، جائراً، وقد سمّى اللهُ تعالى بهذا كلِّه اُولئك الّذين أمرهم ونهاهم، فإذا صارت هذه الأسماء في التحقيق له، فيكون هو الربّ، وهو

( 53 )

العبد، وهو الخالق والمخلوق، ولا غير ثمّة، وذلك مدفوع في السمع والعقل، ولا

قوّة إلاّ باللّه.

وأيضاً إنّ كلّ أحد يعلم من نفسه أنّه مختار لما يفعله، وأنّه فاعل كاسب _ إلى آخر ما أفاده..(1).

هذا كلام الماتريدي، ولا أظنُّ أحداً يتأمّل في أطراف كلامه، فيتصوّره موافقاً مع الشيخ الأشعري، بل هما يتحرّكان في فلكين مختلفين، كيف ومن جاء بعده من الماتريديّة جعل كلامه في مقابل كلام الأشعري. هذا الإمام البزدوي جعل قول أهل السنّة والجماعة (يعني الماتريديّة المتّصلة إلى الامام أبي حنيفة) في مقابل قول الأشعري(2). وهو يترجم مذهبه بما يلي: «قال أهل السنّة والجماعة: أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى ومفعوله، واللّه هو موجدها ومحدثها، ومنشئها، والعبد فاعل على الحقيقة، وهو ما يحصل منه باختيار وقدرة حادثين، وهذا هو فعل العبد، وفعله غير فعل اللّه تعالى» ثمّ يعرض عقائد سائر الطّوائف من المجبِّرة، والجهميّة، والقدريّة، والأشعريّة، ويستدلّ على مختاره بالنصوص القرآنيّة ويقول: «فدلّتنا هذه النصوص على أنّ الأفعال منّا بقدرة حديثة منّا، وهي مخلوقة الله تعالى، فكانت هذه النّصوص حجّة على الخصوم أجمع (حتّى الأشعرية). واللّه تعالى أضاف الأفعال إلينا في كتابه في مواضع كثيرة. قال الله تعالى: (جَزاءً بما كانُوا يَعْمَلُون) (السجدة /17) (وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها) (البقرة/72) وقال: (إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ) (المائدة/6). وكذلك نهانا عن أفعال كثيرة وأمرنا بأفعال كثيرة، فلا بدّ أن يكون لنا فعل، ويجب أن يكون ذلك بهدايته، ومشيئته، وارادته»(3).

ولقد رسّم البياضي الماتريدي عقيدة شيخه في كتاب «إشارات المرام» وبيّنه على نحو يتّحد مع ما يعتقده الإماميّة من أنّه لا جبر ولا قدر (تفويض) بل أمر بين الأمرين،

______________________

1 . التوحيد: ص 225 _ 226 .

2 . اُصول الدين: ص 101 .

3 . اُصول الدين ص 99 و 104 _ 105 .

( 54

)

فقال: «وقال قوم من العلماء: إنّ المؤثّر مجموع القدرة وقدرة العبد، وهذا المذهب وسط بين الجبر والقدر، وهو أقرب إلى الحقّ وإليه أشار (أبوحنيفة) بقوله كسبهم على الحقيقة والله خالقها»(1).

ويقول في فصل الخلافيّات بين جمهور الماتريديّة والأشاعرة: «واختيار العبد مؤثّر في الاتّصاف دون الإيجاد، فالقدرتان المؤثِّرتان في محلّين وهو الكسب لا مقارنة الاختيار بلا تأثير أصلاً، واختاره الباقلاّني كما في (المواقف،) وهو مذهب السلف كما في الطريقة للمحقّق البركوي، واختاره الاُستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني وإمام الحرمين في قوله الأخير: إنّ اختياره مؤثّر في الإيجاد بمعاونة قدرة اللّه تعالى، فلا تجتمع القدرتان المؤثِّرتان بالاستقلال، ولا يلزم تماثل القدرتين»(2).

10_ صفاته عين ذاته:

10_ صفاته عين ذاته:

اتّفق المسلمون على إثبات صفات ذاتيّة للّه سبحانه مثل العلم، والقدرة، والحياة. ولكن اختلفوا في كيفيّة الإثبات، فالإماميّة من العدليّة على أنّ صفاته سبحانه ليست زائدة على ذاته، لا بمعنى سلبها عن ذاته، كما هو القول المنسوب إلى الزّنادقة، ولا بمعنى نيابة الذّات مناب الصِّفات، ولم تكن واقعيّاتها متحقّقة في الذات، بل بمعنى أنّها نفس العلم، والقدرة، والحياة، لا أنّ لها العلم، والقدرة، والحياة، فالصفات على القول الأوّل نفس الذّات وأنّه بلغ من الكمال والجمال رتبة صارت الذات نفس الانكشاف والاستطاعة، كما أنّها على الثاني اُمور زائدة على الذّات قائمة معها، قديمة كقدمها.

فالشيخ الأشعري يصرّ على النظريّة الثانية، ويستدلّ عليها بوجوه طرحناها على

______________________

1 . اشارات المرام: ص 256 و 257. لاحظ بقية كلامه، فهو ينقل عن الامام الباقر _ عليه السلام _ قوله: لا جبر ولاتفويض الخ .

2 . اشارات المرام: ص 55.

( 55 )

بساط البحث في محلّه، ولكنّ الظاهر من الماتريدي حسبما ينقله النسفي هو القول بالعينيّة. يقول النّسفي: «ثمّ اعلم إنّ عبارة

متكلّمي أهل الحديث في هذه المسألة أن يقال: إنّ اللّه تعالى عالم بعلم، وكذا فيما وراء ذلك من الصّفات، وأكثر مشايخنا امتنعوا عن هذه العبارة احترازاً عما توهّم أنّ العلم آلة وأداة فيقولون: إنّ اللّه تعالى، عالم، وله علم، وكذا فيما وراء ذلك من الصِّفات. والشيخ أبو منصور الماتريدي _ رحمه الله _ يقول: إنّ اللّه عالم بذاته، حيّ بذاته، قادر بذاته، ولا يريد منه نفي الصِّفات، لأنّه أثبت الصّفات في جميع مصنّفاته، وأتى بالدّلائل لإثباتها، ودفع شبهاتهم على وجه لا محيص للخصوم عن ذلك، غير أنّه أراد بذلك دفع وهم المغايرة، وأنّ ذاته يستحيل أن لايكون عالماً (1).

حصيلة البحث:

هذه المسائل العشر الّتي اختلف فيها الماتريدي والأشعري تميط السّتر عن وجه المنهجين، وتوقفنا على الاختلاف الهائل السائد عليهما، وتكشف عن أنّ منهج الماتريدي منهج يعلو عليه سلطان العقل، وعلى ضوء هذا لا يصحّ لمحقّق كتاب «التّوحيد» للماتريدي أن يقول: «إنّ توسّط الماتريدي (بين أهل الحديث والمعتزلة) هو بعينه توسّط الأشعري، وإنّ شيخي السنّة يلتقيان على منهج واحد، ومذهب واحد، في أهمّ مسائل الكلام الّتي وقع فيها الخلاف بين فرق المتكلّمين»(2).

لا شكّ أنّ الشيخين يلتقيان في عدّة من المسائل، كجواز رؤيته سبحانه في الآخرة، وأنّه متكلّم بالكلام النّفسي الّذي هو صفة له قديمة بذاته، وهو ليس من جنس الحروف والأصوات، إلى غير ذلك من الاُصول.

لكنّ الاتّفاق فيهما، وفي بعض الاُصول الاُخر الّتي اتّفق عليها أكثر المسلمين، لا يضفي لون الوحدة للمنهجين.

______________________

1 . العقائد النسفية: ص 76 .

2 . مقدمة التوحيد: ص 17 _ 18 .

( 56 )

نعم هناك مسائل اختلف الداعيان فيها، ولا يعدّ الاختلاف فيها جذريّاً، ونحن نشير إلى قسم منها:

1_ الوجود نفس الماهية أو

غيرها؟

نقل البياضي في «إشارات المرام» أنّ المختار لدى الماتريديّة هو المغايرة، ولدى الأشعري هو الوحدة.

والظّاهر كون الاختلاف لفظياً، والمراد هو الوحدة في عالم العين والتحقّق، والمغايرة في عالم التصور والذهن(1).

2_ البقاء هو الوجود المستمر أو وصف زائد؟

البقاء لدى الماتريدي نفس الوجود المستمرّ وليس شيئاً زائداً على وجود الذات في الزمان الثّاني، خلافاً للأشعري حيث إنّ البقاء عنده صفة زائدة على الذّات مثل سائر الصفات حتّى في البارئ عزّ اسمه(2).

يلاحَظ عليه: أنّ البقاء وصف انتزاعيّ من استمرار وجود الشيء الزّماني: وليست له واقعيّة وراء استمراره.

وأمّا الوجود الخارج عن إطار الزّمان كالمجرّدات، فإطلاق الباقي عليه بملاك آخر، ليس هنا محلّ بيانه.

3 _ القدرة غير التكوين، والتكوين غير المكوِّن:

وممّا اختلف فيه الدّاعيان، هو أنّ القدرة نفس التّكوين كما عليه الأشاعرة، أو غيره كما عليه الماتريديّة.

______________________

1 . اشارات المرام: ص 53 و 94 .

2 . لاحظ شرح المنظومة بحث اصالة الوجود ص 13 .

( 57 )

قالت الأشاعرة: إنّ الشأنيّ من الاستطاعة (إن شاء فعل) هو القدرة، والفعليّ منها (إذا شاء فعل) هو التّكوين، فليست هنا صفتان مختلفتان، بل وصف واحد بمعنى القدرة، له حالتان تحصلان باقتران المشيئة وعدمها، فالقدرة قديمة، والتّكوين حادث، وأمّا الماتريديّة فتتلقّاهما وصفين ذاتيّين مختلفين، والصفات الفعليّة من الخلق، والرّزق، والرّحمة، والمغفرة، تجتمع تحت وصف التكوين دون القدرة.

وعلى أيّ تقدير فهما يختلفان في مسألة اُخرى أيضاً، وهو كون التكوين بالمعنى المصدر، هل هو نفس المكوَّن (اسم المصدر) كما عليه الأشاعرة، أو غيره كما عليه الماتريديّة، فهناك فعل بمعنى الخلق والتكوين، وهناك مخلوق ومكوّن في الخارج، والمسألتان واردتان في كلام البزدوي وغيره.

قال البزدوي: قال أهل السنّة والجماعة: إنّ التكوين والإيجاد صفة الله تعالى غير حادث، بل

هو أزلي كالعلم والقدرة (المسألة الاُولى) والمكوّن والموجود غير التكوين، وكذا التخليق والخلق صفة الله تعالى غير حادث بل أزليّ وهو غير المخلوق (المسألة الثّانية) وكذا الرحمة والإحسان وكذا الرزق والمغفرة، وجميع صفات الفعل للّه.

وقالت الأشعرية: إنّ هذه الصفات ليست بصفات الله تعالى، والفعل والمفعول واحد، وقالوا في صفات الذّات كالعلم والحياة مثل قولنا(1).

وقال البياضي: وصفات الأفعال راجعة إلى صفة ذاتيّة هي التكوين، أي مبدأ الإخراج من العدم إلى الوجود(2)، وليس بمعنى المكوّن(3).

والإمعان في هذه العبارات وأمثالها، يدلّ على أنّ صفات الفعل كالاحسان والرزق و.. عند الماتريديّة يجمعها وصف التكوين، فالكلّ واقع تحته، لا تحت القدرة، لأنّه يكفي فيها صحّة التعليق(إن شاء فعل) وإن لم يفعل، وهذا بخلاف وصف التكوين،

______________________

1 . اُصول الدين للبزدوي ص 69. لاحظ «إشارات المرام» ص 69 .

2 . اسارة إلى المسألة الاُولى .

3 . اسارة إلى المسألة الثانية ص 53 .

( 58 )

وهو لا يصدق إلاّ مع وجود الفعل، وبما أنّ التكوين غير المكوّن، والأوّل قائم بذاته، بخلاف المكوّن والمخلوق إذ هو موجود منفصل عنه سبحانه، يكون التكوين أو الخلق وصفاً أزليّاً، بخلاف المكوّن والمخلوق فإنّهما حادثان بحدوث الموجودات.

يلاحظ عليه:

1_ أنّ التكوين والخلق ليس إلاّ إعمال القدرة عند تحقّق المشيئة، فلا يكون وصفاً وراء ظهورها وشأنيّة التعلّق في القدرة، وفعليّته في التكوين، لا تجعلانهما شيئين مختلفين، بل أقصى الأمر وحدتهما جوهراً، واختلافهما مرتبة.

وعلى ذلك فتكون جميع الصفات الفعليّة مجتمعة تحت القدرة إذا انضمّت إليها المشيئة والإرادة.

2 _ لو كان التكوين وصفاً ذاتيّاً أزليّاً، لاستلزمت أزليّته، أزليةَ بعض المكوّنات وقدمتها، إذ لا يفارق وصف التكوين وجوداً عن وجود المكوّن، وهو ينافي اُصول التوحيد، ولو فسّر بشأنية التكوين، يكون بمعنى القدرة

لا شيئاً غيرها، وهو بصدد تصوير المغايرة.

وقد تفطّن البزدوي لهذا الإشكال، ونقله عن بعض مخالفيه وقال: «ربّما يقال: إنّ الايجاد بلا موجود مستحيل، كالكسر بلا مكسور، والضرب بلا مضروب، فلو قلنا بقدم الايجاد (التكوين) صرنا قائلين بقدم الموجودات، وذلك مناف للتّوحيد فلم يمكن القول بقدم الإيجاد».

لكنّه تخلّص عنه بقوله: «انّ للّه تعالى فعلاً واحداً غير حادث، بذلك الفعل يوجِد الأشياء في أوقاتها، كما أنّ لله تعالى قدرة واحدة، بتلك القدرة يقدر على إيجاد الأشياء في أوقاتها» (1).

______________________

1 . اُصول الدين ص 73 .

( 59 )

يلاحظ عليه: أنّ الالتزام بقدم فعل الله سبحانه ولو واحداً، يخالف التوحيد ويضادّه، لأنّ قدم الشيء يلازم استغناءه عن الفاعل والموجد، والمستغنى عن العلّة واجب، كذات الواجب، وهل هذا إلاّ الشّرك الصّريح.

وأنا أجلّ البزدوي عن الاعتقاد بما ذكره، وإلاّ فأيّ فرق بين ذاك القول والثنويّة، ولكنّ الإصرار على تصحيح المنهج، والرأي المسبق، أقحمه في مهالك الضلال. قال الامام علي عليه السلام: « ألا وإنّ الخطايا خيل شُمُس حُمل عليها أهلها، وخُلعَت لجمها، فتقحّمت بهم في النّار»(1).

3_ جعل التكوين غير المكوّن، والخلق غير المخلوق مبنيّ على التغاير الجوهريّ بين المصدر واسمه، فالايجاد هو المصدر، والموجود هو نتيجته، ولا أظنّ أن يقول به الماتريدي في سائر الموارد. فإذا ضرب زيد عمراً، فالصّادر من زيد، يسمّى بالمصدر، والواقع على عمرو يسمى باسمه، فهل يصحّ لنا أن نعتقد أنّ هنا أمرين، أمر قائم بالفاعل، وأمر قائم بالمفعول وهكذا غيره، أو أنّ هنا شيئاً واحداً إذا نسب إلى الفاعل يسمّى مصدرا.ً وإذا نسب إلى المفعول يصير اسم المصدر، وهذا هو الفرق بين الايجاد والموجود أيضاً.

4_ الكلام النفسي لا يسمع:

الكلام النّفسي الّذي هو غير الحروف والأصوات

لا يسمع خلافاً للأشعري. قال في «اشارات المرام»: «ولا يسمع الكلام النّفسي بل الدالّ عليه، واختاره الاُستاذ ومن تبعه كما في «التبصرة» للامام أبي المعين النسفي»(2).

وقد استند الأشعري في جواز السماع على الدّليل الّذي استند عليه في جواز

______________________

1 . نهج البلاغة الخطبة 15 ص 44 .

2 . إشارات المرام ص 55 .

( 60 )

رؤيته سبحانه، وجعل الملاك للسماع هو الوجود، كما جعل الملاك لوقوع الرؤية هو كون الشيء موجوداً.

وقد عرفت في الجزء الثاني عند عرض عقيدة الأشعري أنّ الكلام النفسي ليس شيئاً وراء العلم في الإخبار، وليس وراء الإرادة والكراهة في الإنشاء، والقائل به يريد أن يثبت وصفاً مغايراً للعلم والارادة.

كما عرفت بطلان كون المصحِّح للرؤية هو كون الشيء موجوداً، وأنّ كلّ موجود يرى. هذا، وإنّ ملاك السّماع ليس هو الوجود حتّى يستنتج منه أنّ كلّ موجود يسمع، وهذا واضح لمن له أدنى إلمام بالعلوم الطّبيعيّة.

هذا هو عرض إجمالي لمذهب الامام الماتريدي، وقد وقفت على مشخِّصات المنهج، وعرفت الاُصول الّتي اختلف فيها الداعيان، والاُصول الّتي اتّفقا فيها.

والتأمّل فيما ذكرناه من النصوص من نفس الماتريدي وتلاميذ منهاجه، يدفع الإنسان إلى القول بأنّ الشيخين الأشعري والماتريدي كانا في سبيل واحد من الدّعوة، وهو نصرة السنّة ومكافحة الاعتزال، ومع ذلك كلّه فلكلّ واحد اُسلوب خاصّ، والقول بوحدة المنهاجين وكون الاختلاف جزئيّاً، وأنّه في حلبة الدعوة إلى السنّة يقع الحافر على الحافر، مداهنة جدّاً وإخفاء للحقيقة، وإسدال الستر على وجهها.

أنصاره وأتباعه في الأجيال المتأخِّرة:

أنصاره وأتباعه في الأجيال المتأخِّرة:

قد انتشر مذهب الأشعري في كثير من الحواضر الاسلاميّة لأنّه ظهر في مركز العالم الاسلامي، وكثرت أنصاره وأعوانه، بين مبيِّن مقاصده، إلى ذابّ عن براهينه ودلائله، إلى مكمِّل لاُصوله وقواعده، وأمّا مذهب الماتريدي فقد

نبت في نقطة بعيدة عن الحواضر، فقلّت العناية بنقله وشرحه.

وهناك وجه آخر لقلّة انتشاره، وهو أنّ لمذهب الماتريدي مع كونه بصدد نصر

( 61 )

السنّة، طابع التعقّل، وقد كثرت الدعاية في عصر ظهوره، على ضدّ أهل التعقّل والتفكّر، وصار العكوف على النقل المحض، وترك التعقّل والبرهنة آية القداسة، والإمام بما أنّه أعطى للعقل سلطاناً أكبر ممّا أعطاه الأشعري، ووافق في عدّة من الاُصول، منهاج المعتزلة، فصار هذا وذاك سببين لقلّة انتشاره، وندرة أنصاره.

ومع ذلك فقد شاع مذهبه بين علماء ماوراءالنهر فقاموا بنشر دعوته ومعاضدته، فألّفوا حول منهاجه، كتباً ورسائل منشورة وغير منشورة.

ولأجل ايقاف القارئ على أعلام الماتريديّين نأتي بترجمة عدّة منهم:

1_ أبواليسر محمّد البزدوي (421 _ 493ه_)

إنّ أرباب المعاجم من الأحناف وغيرهم قد قصّروا ولم يؤدّوا حقّ الماتريدي في كتبهم، فإذا كان هذا حال الاُستاذ فما ظنّك بحال التلامذة والأتباع، ولأجل ذلك نجد أنفسنا أمام ظلام دامس يلفّ حياة البزدوي، وأحسن مرجع للوقوف على حياته هو نفس كتابه «اُصول الدّين» الّذي حقّقه وقدّم له الدكتور «هانز بيتر لنس» ونشرته عام (1383ه_) دار إحياء الكتب العربية في القاهرة، ونقل محقّق الكتاب أنّه وجد عن طريق المصادفة في هامش كتاب خطّي لابن قطلوبغة «طبقات الحنفيّة» بجانب مَلْزَمة عن حياة البزدوي: روى السمعاني أنّه _ أي البزدوي _ ولد في عام (421ه_).

ويظهر من غير واحد من مواضع كتابه أنّه تلقّى العلوم على يد أبيه. يقول في مسألة: «هل الايمان مخلوق أو غير مخلوق، ولا يجوز الاطلاق بأنّ الإيمان مخلوق» ونحن نختار هذا القول، فإنّ هذا مذهب أبي حنيفة، وهو ما رواه نوح بن أبي مريم الجامع، عن «أبي حنيفة» روى لنا والدنا الشيخ الامام أبوالحسن محمّد بن الحسين

بن عبد الكريم _رحمة الله عليه _ هذا الحديث عن نوح بن أبي مريم(1).

______________________

1 . اُصول الدين ص 155 _ 158 .

( 62 )

وقال في مسألة أنّ البعث حق: «وقد روى لنا الشيخ الامام محمد بن الحسين بن عبد الكريم حديثاً متّصلاً إلى رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم» (1).

ولم يكتف في تلقّي العلم بوالده، ويظهر من موضع من كتابه أنّه أخذ العلم عن غير واحد من أعلام عصره، ومنهم أبوالخطّاب. قال في مسألة (75): هكذا سمعت الشيخ أبا الخطّاب(2).

ثق_افت__ه:

ينتسب البزدوي إلى مدرسة الإمام أبي حنيفة، وهو يعترف بالصّراحة بانتمائه إلى المذهب الحنفي، كما ينتسب في العقيدة إلى مدرسة الماتريدي، وهو اُستاذ جدّ أبيه «عبد الكريم»(3) الّذي تلقّى العلوم بدوره عن الماتريدي.

ويظهر من مقدّمة كتاب اُصول الدّين أنّه قرأ أكثر الكتب المؤلّفة في ذلك العصر في الفلسفة والكلام، لا سيّما للمعتزلة والأشاعرة. قال: «نظرت في الكتب الّتي صنّفها المتقدّمون في علم التوحيد فوجدت بعضها للفلاسفة مثل «إسحاق الكندي» و«الاسفزاري» وأمثالهما، وذلك كلّه خارج عن الطريق المستقيم،زائغ عن الدّين القويم.

ووجدت أيضاً تصانيف كثيرة في هذا الفن من العلم «للمعتزلة» مثل «عبد الجبّار الرازي» و«الجبّائي» و«الكعبي» و«النظّام» وغيرهم.

وكذلك «المجسّمة» صنّفوا كتباً في هذا الفنّ مثل «محمّد بن هيصم» وأمثاله، ولا يحلّ النّظر في تلك الكتب، وقد وجدت لأبي الحسن الأشعري كتباً وغيره (غيرها ظ) في هذا الفنّ من العلم، وهي قريب من مائتي كتاب، والموجز الكبير يأتي على عامّة ما في

______________________

1 . اُصول الدين ص 156 .

2 . اُصول الدين ص 28 .

3 . نسبه هكذا: محمد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم .

( 63 )

جميع كتبه، وقد صنّف الأشعري كتباً كثيرة

لتصحيح مذهب «المعتزلة»، فإنّه كان يعتقد مذهب الاعتزال في الابتداء، ثمّ إنّ اللّه تعالى بيّن له ضلالة «المعتزلة» فتاب عمّا اعتقد من مذاهبهم، وصنّف كتاباً ناقضاً لما صنّف للمعتزلة. وقد أخذ علمه أصحاب الشافعي بما استقرّ عليه «أبو الحسن الأشعري» وقد صنّف أصحاب الشافعي كتباً كثيرة على وفق ما ذهب إليه الأشعري إلاّ أنّ أصحابنا من أهل السنّة والجماعة خطّأوا أبا الحسن في بعض المسائل مثل قوله: «التكوين والمكوّن واحد» ونحوه على ما نبيّن في خلال المسائل إن شاءالله فمن وقف على المسائل الّتي أخطأ فيها أبوالحسن الأشعري، وعرف خطأه، فلا بأس بالنّظر في كتبه وإمساكها، وقد أمسك كتبه كثير من أصحابنا ونظروا فيها، الّذين هم رؤساء أهل السنّة والجماعة.

وقد صنّف أبومحمّد عبدالله بن سعيد بن كلاب القطّان (1) ، كتباً كثيرة في هذا النّوع من العلم وهو أقدم من أبي الحسن الأشعري، فلم يقع في يدي شيء من كتبه، وعامّة أقاويله توافق أقاويل أهل السنّة والجماعة إلاّ مسائل قلائل لاتبلغ عشرة مسائل، فإنّه خالف فيها أهل السنّة والجماعة، وقد أخطأ فيها على ما نبيّن في خلال المسائل إن شاء الله تعالى فلا بأس من إمساك كتبه، والنظر فيها لمن وقف على ما أخطأ من المسائل.

وقد وجدت للشيخ الامام الزاهد «أبي منصور الماتريدي السمرقندي» كتاباً في علم التوحيد على مذهب أهل السنّة والجماعة، وكان من رؤساء أهل السنّة والجماعة(2).

وهذا يعرب عن عكوفه على دراسة الكتب للفرق الكلاميّة وعرضها على الاُصول الّتي تلقّاها أنّها اُصول السنّة والجماعة.

تلامي__ذه:

قد تلقّى عنه عدّة من أكابر علماء الحنفيّة أشهرهم نجم الدين عمر بن محمّد

______________________

1 . توفي عبد الله بن سعيد عام 245 ه_.

2 . اُصول الدين 1 _ 3 وقد

عرفت ذيل كلامه في ما سبق .

( 64 )

النسفي (460-537ه_) وهو يقول في حقّ اُستاذه: «كان أبواليسر شيخ أقراننا في بلاد ماوراءالنهر، وكان إمام الأئمّة، وكان يفد عليه الناس من كل فجّ وقد ملأ الشرق والغرب بمؤلفاته في الاُصول والفروع»(1).

مؤلف____اته:

له مؤلفات منها:

1 _ تعليقة على كتاب الجامع الصغير للشيباني.

2 _ الواقعات.

3 _ المبسوط في بعض الفروع(2).

4_ اصول الدين المطبوع.

* * *

2 _ النسفي ميمون بن محمّد ( 418 _ 508 ه_)

ميمون بن محمّد بن معبد بن مكحول، أبو المعين النسفي الحنفي، أحد المتكلّمين البارعين على منهاج الماتريدي كان بسمرقند سكن «بخارى».

تآليفه: «بحر الكلام» وهو مطبوع، و«تبصرة الأدلة» مخطوط ويقال إنّه الأصل للعقائد النسفية لأبي حفص النسفي، توجد نسخة منه في القاهرة وغيرهما من الكتب.

وقد ترجم في الجواهر المضيئة ج 2: 189، وفي الأعلام لخير الدين الزركلي ج 7: 341، و ريحانة الأدب للمدرسي ج 6 ص 174، وذكر تآليفه الكاتب الجلبي في كشف الظنون.

______________________

1 . مقدمة اُصول الدين نقلاً من طبقات الحنفية لابن قطوبغة، المخطوطة.

2 . نفس المصدر .

( 65 )

3_ النسفي عمر بن محمّد (460 _ 537ه_):

عمر بن محمّد بن أحمد بن إسماعيل، أبو حفص المعروف ب_ «نجم الدين النسفي»، ولد ب_ «نسف» وتوفّي بسمرقند، وكتابه المعروف «عقائد النسفي» من الكتب المشهورة الّتي يدور عليه رحى الدراسة منذ قرون إلى يومنا هذا. ولأجل ذلك كتبت عليه الشروح والتعليقات، وهو على منهاج الماتريدي. وشرحه التفتازاني، وله ترجمة في «الفوائد البهية في تراجم الحنفية» لمحمّد بن عبد الحي ،ص: 149 طبع في القاهرة عام 1324ه_. والجواهر المضيئة ج 1: ص 394، ولسان الميزان ج4: ص 327، والأعلام لخير الدين الزركلي ج 5: ص60 و

ريحانة الأدب للمدرسي ،ج 6:ص173، وقد تقدّم تتلمذه على البزدويّ.

4_ ابن الهمام: محمد بن عبد الواحد (790 _ 816 ه_):

محمّد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السيواسي ثمّ الاسكندري، كمال الدين المعروف بابن الهمام، متكلّم حنفي، له تآليف في الكلام والفقه، وقد ألّف «المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة»، في الكلام، وهو مطبوع. حقّقه محمّد محي الدين عبد الحميد. ومن كتبه «فتح القدير» في شرح الهداية، ثمانية مجلّدات في فقه الحنفية، كما ألّف «التحرير» في اُصول الفقه وقد طبعا. له ترجمة في الفوائد البهية ص: 18، والجواهر المضيئة ،ج 2:ص 86، وشذرات الذهب ج7:ص 289 والأعلام للزركلي ج 2:ص 255، وغيرها.

5_ البياضي: كمال الدين أحمد بن حسن الرومي الحنفي _ (القرن 11):

هو من بيت قضاء، وفقه، وعلم، أخذ العلم ببلاده عن والده، والعلامة يحيى المنقاري، وغيرهما من أفاضلهم، وقد أُسند إليه منصب القضاء بحاضرة حلب الشهباء سنة 1077ه_، كما تولّى قضاء مكّة عام 1083ه_، ومن تآليفه «إشارات المرام من

( 66 )

عبارات الامام» الّذي طبع بتقديم محمّد زاهد بن الحسن الكوثري، الذي هو من دعاة الماتريديّة في العصر الحاضر وبتحقيق يوسف عبد الرزاق سنة 1368ه_، وقد وقفت على خصوصيات الكتاب في خلال الأبحاث السابقة.

هذا خلاصة القول في الفرقة الماتريدية الّتي انحسرت دعوتها عن الجامعات الإسلاميّة، وقلّت الدعاة إليها، ومنهاجها منهاج مزيج من منهاج أهل الحديث والمعتزلة، بل قلّ الاهتمام بهم ودراسة منهاجهم، والحقّ أنّها مدرسة فكريّة نبتت في المحيط الشرقي وترعرعت زمناً، ثمّ تراجعت إلى حدّ لا نجد داعياً إليها في العصر الحاضر، غير الشيخ الكوثري وأترابه، ولا مناص لطلاّب الحريّة من شباب أهل السنّة من دراستها واعتناق اُصولها، لكونها منهاجاً وسطاً

بين العقليّة المحضة، والنّقلية الخاصّة.

إنّ الظروف والشرائط المفروضة عليهم، وإن كانت لا تسمح لهم الاجتهاد المطلق في الاُصول والعقائد، ودراسة كلّ أصل في جوّ هادئ من دون أن يتقلّدوا رأي انسان غير معصوم من سنّة أو شيعة، لكن في وسعهم الإجتهاد في المذاهب المنسوبة إلى أهل السنّة والجماعة، فعلى طلاب الحريّة، السعي والإجتهاد، للتعرّف على الحقّ، وإزهاق الباطل، ولو في إطار المذاهب العقيديّة الرسميّة.

بيان لقادة الفكر في الأمة:

إنّ الغزو الفكري الّذي يشنّه أعداء الإسلام كلّ يوم من المعسكرين: الشرق والغرب، لاجتياح العقيدة الاسلاميّة وإقصاء الشباب عن ساحة الإيمان، وبالتّالي إفساد عقيدتهم وإحلالهم عن الدين، وعن التفاني دونه _ إنّ هذا الغزو _ يفرض علينا الخروج عن إطار الجمود في تحليل العقائد وتقييمها، وعدم الاقتصار على الروايات المنقولة عن «كعب الأحبار»، و«تميم الداري» وأضرابهما، وفتح باب التفكر بمصراعيه في وجه الناشئ وتدريبه وتمرينه بالبرهنة والاستدلال، على مايعتنقه من العقائد، لأنّه يضفي

( 67 )

لاُصول الاسلام ثباتاً ودواماً وللشباب صموداً أمام الهجمات العنيفة، الّتي توجّه إليهم كلّ يوم من المدارس الفكرية المادية المهزوزة وغيرها، فإنّ في حرمان المسلم المستعدّ عن التفكر الصحيح، مظنة جعله فريسة للمناهج الضالّة، المتدرّعة بالسلاح العلمي المادي الفاتك.

ولا نهدف بذلك إلى دمج الدّين بالفلسفة اليونانيّة أو الغربيّة بل الغرض هو استخدام العقل السليم الفطري _ الذي به عرفنا ربّنا ودعا إليه كتابه _ لدرك الدين والدفاع عنه في المجالات الّتي للعقل إليها سبيل.

ولا شكّ أنّ بعض المشايخ لا يعرفون التوسّط في الحياة، ولا الاعتدال في الرأي، فهم بين غارق في العقليّات، غير مقيم للنّقل وزناً في مجال العقيدة، وبين متزمّت لا يعرف في أوضح الواضحات سوى رواية أحمد عن فلان، وإن كان على

خلاف الحسّ والعقل.

هذا وذاك كلاهما مرفوضان جدّاً، وإنّما المأمول هو تقدير التعقّل، واحترام حريّة الفكر، وهذا أمر يجب علينا أن نروّض أنفسنا عليه.

ثمّ إنّ هنا كلاماً لبعض قادة الفكر، يلقي ضوءاً على ما نتوخّاه ونطلبه بحماس من حاملي لواء الفكر الاسلامي، ونخصُّ بالذكر أساتذة الجامعات الإسلاميّة حيث يقول:

«ممّا لا نرتاب فيه إنّ الحياة الانسانيّة حياة فكريّة لا تتمّ له إلاّ بالادراك الّذي نسمّيه فكراً، وكان من لوازم ابتناء الحياة على الفكر، إنّ الفكر كلّما كان أصحّ وأتمّ، كانت الحياة أقوم، فالحياة القيّمة _ بأيّة سنّة من السنن أخذ الإنسان، وفي أيّ طريق من الطرق المسلوكة وغير المسلوكة سلك الإنسان _ ترتبط بالفكر القيّم وتبتني عليه، وبقدر حظّها منه يكون حظّها من الاستقامة.

وقد ذكره اللّه سبحانه في كتابه العزيز بطرق مختلفة وأساليب متنوّعة كقوله:(أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في النّاس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)(الأنعام /122). وقوله: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا

( 68 )

يَعْلَمُونَ) (الزمر/9) وقوله: (يَرْفَعُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ اُوتُوا العِلْمَ دَرَجَات)(المجادلة 11) وقوله: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ اُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ وَ اُولئِكَ هُمُ اُولُوا الألْبَاب) (الزمر/17 و18) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الّتي لا تحتاج إلى العرض، فأمر القرآن في الدعوة إلى الفكر الصحيح، وترويج طريق العلم، ممّا لا ريب فيه.

ولم يعيّن في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيّم الذّي يندب إليه، إلاّ أنّه أحال فيه إلى مايعرفه الناس بحسب عقولهم الفطريّة، وإدراكهم المركوز في نفوسهم.

إنّك لو تتبّعت الكتاب الإلهي، ثمّ تدبّرت في آياته، وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكر والتذكر والتعقّل،

وتلقين النّبي _ صلىّ الله عليه وآله _ الحجّة لإثبات حقّ، أو لإبطال باطل، كقوله: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيئاً إنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ اُمَّهُ) (المائدة/17) أو تحكي الحجّة عن أنبيائه وأوليائه، كنوح وإبراهيم وموسى، وسائر الأنبياء العظام، ولقمان ومؤمن آل فرعون وغيرهما عليهم السلام كقوله: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمواتِ وَالأرْضِ) (إبراهيم/10) وقوله: (وَ إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ( لقمان/13) وقوله: (وَ قَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَ قَدْ جَاءَكُمْ بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)(غافر/28) وقوله حكاية عن سحرة فرعون: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض إِنَّمَا تَقْضِي هذِهِ الحَيَاءَ الدُّنْيَا)(طه/72) إلى آخر ما احتجّوا به.

ولم يأمر اللّه تعالى عباده في كتابه، ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به، أو بشيء ممّا هو من عنده، أو يسلكوا سبيلاً على العمياء، وهم لا يشعرون، حتّى إنّه علّل الشرايع والأحكام الّتي جعلها لهم ممّا لا سبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته باُمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله: (إِنَّ الصَّلوةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَ المُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَر) (العنكبوت/45) وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ

( 69 )

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/183) وقوله في آية الوضوء: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نَعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(المائدة/6) إلى غير ذلك من الآيات(1).

يا اُمّه اثكليه(2):

قد بلغ إقصاء العقل عن ساحة العقائد، والاكتفاء بالمرويّات الضعاف إلى حدّ استطاع أحد الشيوخ من الحنابلة أن يصعد منبر التوحيد، وهو يرى أنّ لله

نزولاً كنزول الإنسان، وحركة وسكوناً كحركته وسكونه.

يعزّ على الاسلام أن يسمع قائلاً متسنّماً منصّة القيادة الروحية، في جامع دمشق يهتف: أنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا _ ثمّ نزل درجة من درج المنبر _ وإن كنت في شكّ مما نقول فاستمع إلى ما ينقل الرحالة ابن بطوطة فهو ينقل في رحلته ويقول: «وكان بدمشق من كبار الفقهاء تقي بن تيمية كبير الشام يتكلّم في الفنون إلاّ أنّ في عقله شيئاً.. فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكِّرهم، فكان من جملة كلامه: إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء. وأنكر ما تكلّم به، فقامت العامّة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتّى سقطت عمامته(3).

اُنظر إلى الوهابيّة كيف اتّخذت هذا القائل شيخاً لإسلامهم وسنداً لمذهبهم، ومعلّماً لتوحيدهم، وإليه يرحلون، وعن فتياه يصدرون، وكأنّه صار صنماً يُعبد، ويدور الحقّ مداره، وهؤلاء لا يجوِّزون لأنفسهم الخروج عن خطوطه قدر شعرة، كأنّه تدرّع بالعصمة والمصونيّة عن الخطأ والزّلل.

______________________

1 . الميزان ج 5 ص 273 _ 275.

2 . مثل يضرب عند الدعاء على الانسان. لاحظ مجمع الأمثال ج 2 ص 426 حرف الياء.

3 . رحلة ابن بطوطة ط دار صادر، بيروت ص 95.

( 70 )

بالله عليكم أيّها السادة! يا قادة الفكر في الاُمّة! يا أصحاب رسالة هداية الشباب في العصر الحاضر! إذا كان الشابّ المسلم الجامعي لا يملك من العقيدة الاسلاميّة إلاّ ما تعلّمه من نظريّات ابن تيميّة، فهل يستطيع أن يرفع رأسه ويدافع عن عقيدته، وكيان نحلته، في وجه هجمات الفلسفة الماديّة الخدّاعة الّتي رفعت عقيرتها بأنّ اُصولها مستمدّة من النظريات

العلميّة الّتي فرضها العلم وأثبتتها التجربة.

فإذا دار الأمر في تفسير الكون وتبيين خلق العالم، بين ما يثيره أبناء الحنابلة وأصحاب الحديث في انتهاء العوالم الوجوديّة إلى موجود كائن في العرش عال على السماوات والأرض، لا ينفكّ عن الحركة والسكون، وعن الجهة والمكان وغير ذلك من لوازم الجسم والجسمانيات، وبين القول بقدم المادّة وانطوائها تحت سنن وقوانين نابعة عن ذاتها، إمّا عن طريق الصدفة أو عن طريق آخر، فهل يمكن لمفكّر أن يرجّح الأول على الثاني؟ أو أنّ العقول النيّرة الممارسة للعلوم الطبيعية والحسية لا ينظرون إلى الأول إلاّ بنظر الاستهزاء والسخرية؟

وليس ابن تيميّة أوّل بادئ بهذه المهزلة المحزنة، بل سبقه أبناء لهذا المذهب كما لحقه أنصار.

ولأجل ايقاف القارئ على تطرّف الحنابلة في أقوالهم وآرائهم تطرّفاً أدّى بهم إلى التجسيم والتشبيه نأتي بأبيات لأحد شعرائهم في هذا المجال:

فإن كان تجسيماً ثبوت استوائه * على عرشه إنّي إذاً لمجسِّم

وإن كان تشبيهاً ثبوت صفاته * فمن ذلك التشبيه لا أتكتّم

وإن كان تنزيهاً جحود استوائه * وأوصافه أو كونه يتكلّم

فعن ذلك التنزيه نزّهت ربّنا * بتوفيقه والله أعلى وأعظم(1)

______________________

1 . الصواعق المرسلة ج 1 ص 170 كما في المعتزلة ص 252 .

( 71 )

وليس هذا الشاعر وحيداً في هذا المجال. بل الحنابلة يتشدّقون بالتجسيم ويفتخرون به بلا مبالاة وإليك القصيدة التالية الّتي نظمها حنبلي آخر أيّام محنة ابن حنبل في السجن:

علا في السماوات العلى فوق عرشه * إلى خلقه في البرّ والبحر ينظر

يداه بنا مبسوطتان كلاهما * يسحّان والأيدي من الخلق تقتر

نهينا عن التفتيش والبحث رحمة * لنا وطريق البحث يردي ويخسر

ولم نر كالتسليم حرزاً وموئلا * لمن كان يرجو أن يثاب ويحذر

وإنّ وليّ الله في دار خلده *

إلى ربِّه ذي الكبرياء سينظر

ولم يحمد الله الجدال وأهله * وكان رسول الله عن ذاك يزجر

وسنّتنا ترك الكلام وأهله * ومن دينه تشديقه والتقعّر(1)

ومن أراد أن يقف على كلمات هؤلاء حول التجسيم والتشبيه فعليه بمراجعة كتاب «علاقة الاثبات والتفويض» تأليف رضا بن نعسان معطى بتقديم عبد العزيز بن باز.

فقد حشا فيه كلمات أبناء الحنابلة وغيرهم في مجال الصفات، وادّعى أنّهم يقولون بكونه سبحانه فوق السماوات. وهؤلاء لغاية دفع عار التجسيم يتدرّعون بكلمة بلا كيف وتشبيه، وهو بلا شبهة واجهة اتّخذتها أبناء التجسيم لستر ما يعاب بهم.

وهذه التوالي وليدة إقصاء العقل عن ساحة العقائد، وإحلال النقل على وجه الاطلاق مكانه، وإلاّ فالنقل الصحيح لا يكافح العقل أبداً.

تم الكلام في الماتريدية

والحمد لله ربّ العالمين.

______________________

1 . مناقب الإمام أحمد بن حنبل لأبي الفرج ابن الجوزي ص 425 _ 426 ط مصر، الطبعة الأولى .

( 72 )

المرجئة

المرجئة

المرجئة على وزن المرجعة بصيغة الفاعل من أرجأ الأمر: أخّره. وترك الهمزة لغة. قال في اللِّسان: أرجأت الأمر وأرجيته: إذا أخّرته. وقرئ أرجه، وأرجئه قال تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) (الأحزاب /51) و«الإرجاء» التأخير، والمرجئة صنف من المسلمين والنّسبة إليه مرجئيّ مثال مرجعي(1).

وقال ابن الأثير في (النِّهاية): المرجئة تهمز، ولاتهمز وكلاهما بمعنى التّأخير، يقال: أرجأته وأرجيته: إذا أخّرته فنقول من الهمز رجل مرجئي، وهم المرجئة وفي النسب: مرجئي مثال مرجع ومرجعة ومرجعيّ، وإذا لم تهمز قلت: رجل مرج ومرجية ومرجيّ مثل معط ومعطية ومعطيّ(2).

وظاهر كلامهما أنّها مأخوذة من الإرجاء بمعنى التّأخير، ويحتمل أن يكون مأخوذاً من الرجاء أي الأمل. والمشهور هو الأوّل. وسرّ تسميتهم بالمرجئة بمعنى المؤخِّرة أحد الوجهين:

1_ طال التشاجر في معنى

الإيمان في العصر الأوّل، وحدثت آراء وأقوال حول حقيقته بين الخوارج والمعتزلة، فذهبت المرجئة إلى أنّه عبارة عن مجرّد الإقرار بالقول

______________________

1 . لسان العرب مادة «رجأ».

2 . النهاية ج 2 ص 206 نفس المادة.

( 74 )

والّلسان وإن لم يكن مصاحباً للعمل، فأخذوا من الإيمان جانب القول، وطردوا جانب العمل، فكأنّهم قدّموا الأوّل وأخّروا الثاني واشتهروا بمقولتهم: «لاتضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة».

وعلى هذا، فهم والخوارج في هذه المسألة على جانبي نقيض، فالمرجئة لا تشترط العمل في حقيقة الايمان، وترى العاصي ومرتكب الذُّنوب، صغيرها وكبيرها، مؤمناً حتّى تارك الصلاة والصوم، وشارب الخمر، ومقترف الفحشاء.. والخوارج يضيّقون الأمر فيرون مرتكب الكبيرة كافراً، ولأجل ذلك قاموا بتكفير عثمان للأحداث الّتي انجرّت إلى قتله وتكفير علي _ عليه السلام _ لقبوله التحكيم وإن كان عن اضطرار.

ويقابلهما المعتزلة أيضاً القائلون بأنّ مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا فاسق بل في منزلة بين الأمرين فزعمت أنّها أخذت بالقول الوسط بين المرجئة والخوارج.

والقول المشهور بين السنّة والشيعة أنّه مؤمن فاسق، وسيوافيك القول في حقيقة الإيمان عند البحث عن عقائد المعتزلة والخوارج.

ولعلّه إلى ذلك الوجه أيضاً يرجع ما ذكره ابن الاثير في نهايته بأنّهم سمّوا مرجئة لاعتقادهم بأنّ الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي، أي أخّر عنهم.

يلاحظ على هذا الوجه: أنّ القوم وإن أخّروا العمل وأخرجوه عن كونه مقوّماً للايمان أو بعضه، ولم يعتبروه جزءاً و شرطاً، ولكن لم يتّفقوا على تفسيره بالقول المجرّد، والاقرار باللّسان، بل لهم آراء في ذلك.

فاليونسيّة منهم (أتباع يونس بن عون) زعمت أنّ الإيمان في القلب واللسان. وإنّه هو المعرفة بالله، والمحبّة، والخضوع له بالقلب، والإقرار باللّسان، أنّه واحد ليس كمثله شيء(1).

والغسّانية (أتباع غسّان المرجئ) زعمت

أنّ الإيمان هو الاقرار أو المحبّة لله تعالى،

______________________

1 . الفرق بين الفرق ص 202 ط مصر.

( 75 )

فاكتفت بأحد الأمرين من الإقرار أو المحبّة لله(1). إلى غير ذلك من الأقوال والآراء لهم في حقيقة الإيمان(2).

وعلى ضوء هذا لا يصحّ أن يقال إنّ المرجئة هم الّذين قدّموا القول وأخّروا العمل. بل أخّروا العمل جميعاً و أمّا غيره فقد اكتفوا في تحقّق الايمان تارة بالاذعان القلبي، وأُخرى بالاقرار باللسان، هذه ملاحظة بسيطة حول هذه النظرية. وهناك ملاحظة أُخرى ربّما تبطل أصلها وهي:

أنّ التّاريخ يدلّ على أنّ أوّل من قال بالإرجاء هو الحسن بن محمّد بن الحنفيّة، لا بمعنى تقديم القول أو الاذعان القلبي وتأخير العمل، بل المراد تقديم القول في الشيخين وتصديقهما، وتأخير القول في حقّ عثمان وعليّ وطلحة والزبير وإرجاء أمرهم إلى الله سبحانه، والتوقّف فيهم. وإليك النّصوص التاريخيّة الّتي تدلّنا على أنّ أساس الإرجاء هوالتوقّف في حق الخليفتين الأخيرين والمقاتلين لهما.

قال ابن سعد: «كان الحسن بن محمّد بن الحنفيّة أوّل من تكلّم بالإرجاء وعن زاذان وميسرة أنّهما دخلا على الحسن بن محمّد بن عليّ، فلاماه على الكتاب الّذي وضعه على الإرجاء. فقال لزاذان: «يا أبا عمرو لوددت أنّي كنت مِتُّ ولم أكتبه» وتوفّي في خلافة عمر بن عبد العزيز» ! (3).

وقال ابن كثير في ترجمة الحسن: «وكان عالماً فقيهاً عارفاً بالاختلاف والفقه. وقال أيّوب السختياني وغيره: كان أوّل من تكلّم في الإرجاء، وكتب في ذلك رسالة، ثمّ ندم عليها. وقال غيرهم: كان يتوقّف في عثمان وطلحة والزّبير، فلا يتولاّهم، ولا يذمّهم. فلمّا بلغ ذلك أباه محمّد بن الحنفيّة ضربه فشجّه وقال: ويحك ألاّ تتولّى أباك عليّاً. وق_ال أبوعب__يد: توفّي س__نة خمس وتسع_ين. وقال خلي_فة: توفّي

أيّام ع_مر بن عب_د الع_زي_ز

______________________

1 . الفرق بين الفرق ص 202 ط مصر.

2 . فصل الأشعري في المقالات اختلافهم في الايمان، وجعلهم اثنتا عشرة فرقة لاحظ ص 135 _ 136.

3 . الطبقات الكبرى ج 5 ص 328.

( 76 )

والله أعلم»(1).

وقال ابن عساكر في تاريخه: «قال عثمان بن إبراهيم بن حاطب: أوّل من تكلّم في الإرجاء هو الحسن بن محمّد. كنت حاضراً يوم تكلّم، وكنت مع عمّي في حلقته، وكان في الحلقة جحدب وقوم معه. فتكلّموا في عليّ وعثمان وطلحة والزبير، فأكثروا، والحسن ساكت، ثمّ تكلّم فقال: قد سمعت مقالكم. أرى أن يرجأ عليّ وعثمان وطلحة والزبير فلا يتولّى ولايتبرّأ منهم. ثمّ قال: فقمنا، فقال لي عمر: يا بنيّ ليتخذنّ هؤلاء هذا الكلام إماماً. فبلغ أباه محمّد بن الحنفيّة ما قال، فضربه بعصا فشجّه وقال: ألاّ تتولّى أباك عليّاً. ودخل ميسرة عليه فلامه على الكتاب الّذي وضعه في الإرجاء، فقال: لوددت أنّي كنت مِتّ ولم أكتبه»(2).

وقال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمة الحسن ما هذا خلاصته:

«قال ابن حبان: كان الحسن من علماء الناس بالاختلاف وقال سلام بن أبي مطيع عن أيّوب: أنّا أتبرّأ من الإرجاء. إنّ أوّل من تكلّم فيه رجل من أهل المدينة يقال له الحسن بن محمّد. وقال عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة أنّهما دخلا على الحسن بن محمّد فلاماه على الكتاب الّذي وضعه في الإرجاء، فقال لزاذان: يا أبا عمرو لوددت أنّي كنت مِتُّ ولم أكتبه. قلت (ابن حجر): المراد بالإرجاء الّذي تكلّم الحسن بن محمّد فيه، غير الارجاء الّذي يعيبه أهل السنّة المتعلّق بالايمان، وذلك أنّي وقفت على كتاب الحسن بن محمّد المذكور، أخرجه ابن أبي عمر العدني في كتاب

الايمان له في آخره قال: حدّثنا إبراهيم بن عيينة عن عبد الواحد بن أعين قال: كان الحسن بن محمّد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على النّاس: أما بعد، فإنا نوصيكم بتقوى الله. فذكر كلاماً في الموعظة والوصيّة لكتاب الله واتّباع ما فيه وذكر اعتقاده _ ثمّ قال في آخره: ونوالي أبا بكر وعمر _رضي الله عنهما _ ونجاهد فيهما، لأنّهما لم تقاتل عليهما الأمّة ولم نشكّ في أمرهما، ونرجئ من

______________________

1 . البداية والنهاية ج 9 ص 140.

2 . تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 246 طبع دمشق 1332 ه_.

( 77 )

بعدهما ممّن دخل الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله _ إلى آخر الكلام. فمعنى الّذي تكلّم فيه الحسن أنّه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئاً أو مصيباً وكان يرى أنّه يرجئ الأمر فيهما، وأمّا الإرجاء الّذي يتعلّق بالايمان فلم يعرج عليه فلا يلحقه بذلك عاب»(1).

هذا التاريخ المتضافر يدلّنا على اُمور:

1_ إذا كان الحسن بن محمّد الحنفيّة هو الأصل في الإرجاء فيرجع أصل الارجاء وتاريخه إلى الربع الأخير من القرن الأوّل للهجرة، وقد توفّي محمّد بن الحنفيّة والد المؤسِّس عام ثمانين أو إحدى وثمانين، عن عمر يناهز خمساً وستين سنة، وقد توفّي ولده الحسن (أصل الارجاء) عام تسعة وتسعين أو قبله أو بعده بقليل، وعليه يعود ظهور الإرجاء إلى حوالي عام سبعين من الهجرة، أو ما يقاربه.

2_ إنّ الحسن بن محمّد هو وليد البيت الهاشمي العريق في الولاء والمحبّة لأميرالمؤمنين وشيعته ومحبّيه وأصحابه، وعند ذاك كيف يكون مثل هذا الشخص أساساً للإرجاء بهذا المعنى، ولعلّه أظهر هذه الفكرة في بداية الأمر (وإن ندم عليه في أواخر عمره وتمنّى الموت قبل كتابة

ما كتبه) لغاية توحيد الكلمة، وإيقاف الهجمة على جدّه أمير المؤمنين _ عليه السلام _ حيث كان الخطباء و وعّاظ السلاطين يسبّونه على صهوات المنابر أعواماً مديدة، فأراد وليد البيت الهاشمي إيقاف السبّ بهذه الفكرة، وإلاّ فمن البعيد جدّاً أن لا يطّلع الحسن بن الحنفيّة على انحراف النّاكثين والقاسطين والمارقين الّذين ابتزّوا أمر الخلافة، وتطلّعوا إلى أمر، هم أقصر منه فحاول لنيل غايته بالقول بأنّا نتكلّم في الشيخين ولا نتكلّم في غيرهما ممّن جاءوا بعدهما بشيء من المدح والقدح.

والرجل وإن كان حسن النيّة لكنّه كان سيّىء العمل لما ترتّبت على هذا العمل من التوالي الفاسدة، ولعلّ ندامته في آخر العمر لأجل ما رأى من المفاسد الّتي ترتّبت

______________________

1 . تهذيب التهذيب: ج 2، ص 320 _ 321.

( 78 )

على هذه الفكرة.

3_ لو كان الحسن بن محمّد بن الحنفيّة هو الأصل في الإرجاء، فقد عرفت تاريخ حياته وأنّه قام بزرعه في الربع الأخير من القرن الأول، وعلى ذلك لايصحّ ما نقله أحمد أمين المصري عن ابن عساكر: «أنّهم هم الشكّاك الّذين شكّوا وكانوا في المغازي، فلمّا قدموا المدينة بعد قتل عثمان وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد، ليس بينهم اختلاف قالوا: تركناكم وأمركم واحد ليس بينكم اختلاف، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون فبعضكم يقول: قتل عثمان مظلوماً، وكان أولى بالعدل أصحابه، وبعضكم يقول: كان عليّ أولى بالحقّ، وأصحابه كلّهم ثقة وعندنا مصدّق، فنحن لا نتبرّأ منهما، ولا نلعنهما، ولا نشهد عليهما، ونرجئ أمرهما إلى الله حتّى يكون الله هو الذي يحكم بينهما»(1).

يلاحظ عليه: أنّه قتل عثمان أواخر عام (35) من الهجرة، واستشهد الامام أميرالمؤمنين في شهر رمضان عام (40ه_)، ومقتضى ما ذكره الدكتور، تكوّن الإرجاء في العقد الرابع من

القرن الأوّل. وهذا لايتّفق مع ذلك التاريخ المتضافر في أنّ أصل الإرجاء هو الحسن بن محمّد بن الحنفيّة لتأخّر عصره، وقد كان لوالده محمّد بن الحنفية يوم قتل عثمان من العمر خمس عشرة ويوم استشهد الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ عشرون سنة، وكان الحسن بن محمّد في أصلاب الآباء و أرحام الاُمّهات، وغاية ما يمكن أن يوجّه به هذا النقل، هو أنّ _ الأحوال الحاضرة بعد قتل الخليفتين وقدوم المسلمين الغزاة، أوجدت أرضيّة لتكوّن هذه الفكرة، ولكنّها كانت خاملة تدور في الذاكرة، وأوّل من أظهرها و طرحها بصورة علميّة وكتب فيها رسالة هو الحسن بن محمّد ولذلك قال عمّ عثمان بن ابراهيم بن حاطب لابن أخيه:يا بنيّ: ليتخذنّ هؤلاء هذا الكلام إماماً.

4_ وأبعد من هذا الكلام ما ذكره ذلك الكاتب حيث قال:إنّ نواة هذه الطائفة كانت موجودة في الصحابة في الصدر الأوّل، بحجّة أنّنا نرى أنّ جماعة من

______________________

1 . فجر الاسلام: ص 279، نقلاً عن تاريخ ابن عساكر.

( 79 )

أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان مثل «أبي بكرة» و«عبدالله بن عمر» و«عمران بن حصين» وروى أبوبكرة أنّ رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي..»(1).

5_ قد عرفت أنّ من المحتمل أن يكون الحافز لمؤسّس هذه الفكرة، هو إيقاف الهجمة على جدّه أمير المؤمنين _ عليه السلام _، ولكنّ العامل المؤثّر في نشوء هذه البذرة ونموّها هو اشتداد الدعاية من جانب الأمويين لتبرئة عثمان من الأحداث المؤلمة المنسوبة إليه، وتنزيه الناكثين ومن انضمّت إليهم من اُمّهات المؤمنين في نقض البيعة،

والخروج على الإمام المفترض الطاعة، وإكثار الوقيعة في الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _، وقد أثّرت تلك الدّعايات والروايات الّتي كذبوا بها على لسان رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في بسطاء القوم وسذّاجهم بحيث أخذت تلك الأكاذيب صورة الحجاج، فلم يكن لهم بدُّ أمام هذه الدعايات من أحد أمرين: إمّا الإجتهاد، وخرق الحجب، وشهود الحقائق بعين الفكر والعقل. وإمّا الوقوف على الرأي الوسط والتوقّف عن التكلّم في حقّ هؤلاء، وإرجاء الأمر إلى الله، والفرض الأوّل كان أمراً غير ميسور لبساطة الفهم وسذاجته، فصار الثاني متعيّناً.

يقول أحد المصريين حول الدعايات الفارغة بعد عهد عثمان: «ومن هنا وهناك تألّفت سلسلة الموضوعات والخرافات والأساطير الّتي ابتلى بها المسلمون، وانتشرت بينهم التلبيسات الملتوية والشبه، فشوّهت جمال الشريعة المطهّرة، حتى أصبحت وبالاً على الدّين، وشرّاً على المسلمين، وحائلاً دون نهضتهم وتقدّمهم، وعائقاً أمام الوصول إلى كثير من الحقائق التاريخيّة والعلميّة والدينية»(2).

6_ يعتقد الكاتب المصري «أحمد أمين» أنّ المرجئة تكوّنت، بصورة حزب سياسي لا يريد أن يغمس يده في الفتن ولايريق دماء حزب، بل ولا يحكم بتخطئة فريق

______________________

1 . فجر الاسلام ص 280.

2 . عثمان بن عفان للاُستاذ صادق إبراهيم عرجون ص 41 ، كما في الغدير ، ج 8.

( 80 )

وتصويب آخر.

وما ذكره حدس لا أساس له، ولقد استنتجه ممّا نقلناه عنه سابقاً من أنّ فكرة الإرجاء ترجع إلى الغزاة القادمين إلى المدينة بعد قتل الخليفتين.. وعرفت أنّه لا ينطبق مع ما تضافر في التاريخ.

والظاهر أنّ فكرة الإرجاء نشأت في أحضان الدعايات الأمويّة، والفضائل المفتعلة لجملة من أصحاب النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فغشيت وجه الحقيقة، وعاقت البسطاء عن الخوض في الأبحاث

الخطيرة، واقتحام المعارك المدلهمّة، ممّا نقم به على هؤلاء من الطامّات والأحداث وما قيل في براءتهم، فتخيّل لهم أنّ الأصلح والرأي الأوسط هو عدم الجنوح إلى جانب دون آخر. وهؤلاء وإن كانوا غير معذورين في هذا الأمر، لكنّهم _ في زعمهم _ أخذوا جانب الإحتياط في مقابل الناقمين.

7_ إنّ أصل الإرجاء هو التوقّف وترك الكلام في حقّ بعض الصحابة. لكنّ هذا الأصل قد نسي في الآونة اللاحقة، وأخذ أصل آخر مكانه، بحيث لم يبق من الأصل الأوّل أثر بين المرجئة اللاحقة وفرقهم المختلفة، وهو البحث عن تحديد الإيمان والكفر، والمؤمن والكافر.

فصار تحديد الإيمان بالاقرار دون العمل، أو المعرفة القلبيّة دون القيام بالأركان، ركناً ركيناً لهذه الطائفة بحيث كلّما أطلقت المرجئة، لا يتبادر من هذه الكلمة إلاّ من تبنّى هذا المعنى.

وقد أنهاهم أبو الحسن الأشعري في «مقالات الإسلاميين» في فصل خاصّ إلى اثنتي عشرة طائفة اختلفوا في حقيقة الإيمان بعد اتّفاقهم على إبعاد العمل عن ساحته وحقيقته.

وهذا يوضح صحّة ما قلناه من أنّ الإرجاء _ يوم تكوُّنه _ لم يظهر بصورة حزب سياسيّ. بل ظهر بصورة منهج فكري دينيّ التجأ إليه أصحابه، خضوعاً للدعايات

( 81 )

الفارغة، وتسليماً لها، وبما أنّ الإرجاء على كلا الأصلين كان لصالح السلطة من الأمويين، كانت السلطة يومذاك تؤيّدهم لأنّ في تبنّي كل من الأصلين، صلاحهم ودعم عروشهم.

فالأصل الأوّل يدعو إلى أنّ الإنسان قاصر عن تشخيص المصيب والمخطئ، بل يترك أمر المخطئين إلى الله، وهذا التسليم هو نفس ما يطلبه أصحاب السلطة، حتّى يجتنب الناس عن القضاء في يزيد الخمور، وعبد الملك السفّاك، وعامله الحجّاج بن يوسف الثقفي، ممّن عاشوا قبل الفكرة أو بعدها، وسوّدوا صحيفة تاريخهم.

والأصل الثاني يعرب عن أنّ الشهادة

اللّفظية بالتوحيد أو المعرفة القلبيّة يكفي في دخول الإنسان في عداد المؤمنين، فيحرم قتاله ونضاله بل يكون نفسه وماله مصونين من الإعتداء، وهذا أيضا كان اُمنية الأمويين، إذ على ضوء ذلك، يكون يزيد الخمور والحجّاج الظلوم من المؤمنين، ويكون دمهما ومالهما مصونين من الإعتداء.

عقيدة المرج_ئة:

لا تجد للمرجئة رأياً خاصّاً في أبواب المعارف والعقائد سوى باب الايمان والكفر، فكلامهم يدور حول هذين الموضوعين وأُسّ نظريّتهم أنّ الايمان هوالتصديق بالقلب، أو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، أو ما يقرب من ذلك، فأخرجوا العمل من حقيقة الايمان، واكتفوا بالتصديق القلبي ونحوه ويترتّب على ذلك الأصل اُمور:

1_ إنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأنّ أمر التصديق دائر بين الوجود والعدم، ومثله تفسير الإيمان بالإقرار باللسان، فهو أيضاً كذلك وليس العمل داخلاً في حقيقته حتّى يقال: إنّ العمل يكثر ويقلّ وسيوافيك نظرنا فيه.

2_ إنّ مرتكب الكبيرة مؤمن حقيقة، لكفاية التصديق القلبي أو الإقرار باللسان في الإتصاف بالايمان، وهؤلاء في هذه العقيدة يخالفون الخوارج والمعتزلة. أمّا الاُولى:

( 82 )

فلأنّهم يعدّون العمل عنصراً مؤثراً في الايمان بحيث يكون تارك العمل كافراً، وقد اشتهر عنهم بأنّ مرتكب الكبائر كافر، وليس المؤمن إلاّ من تحرّز من الكبائر.

وأماّ الثانية: فلأنهّم يعتقدون أنّ مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر. والمعتزلة أخفّ وطأة من الخوارج، وإن كانت الطائفتان مشتركتين في إدخال العمل في حقيقة الايمان.

3_ إنّ مرتكب الكبيرة لا يخلّد في النار وإن لم يتب، ولا يحكم عليه بالوعيد والعذاب قطعاً لاحتمال شمول عفوه سبحانه له، خلافاً للمعتزلة الّذين يرون أنّ صاحب الكبيرة يستحقّ العقوبة إذا لم يتب وإنّ من مات بلا توبة يدخل النّار، وقد كتبه الله على نفسه فلا يعفو(1).

هذه عقيدة

المرجئة عرضناها على وجه الإجمال. وقد تأثّر أهل السنّة ببعض هذه الفروع كالقول بعدم تخليد عصاة المؤمنين في النار، وجواز تخلّف الوعيد دون الوعد.

وهيهنا سؤال وهو أنّه إذا كانت حقيقة الإرجاء هو الاكتفاء في الحكم بالايمان بالتصديق القلبي، أو الإقرار باللسان، فما هو الوجه في لعنهم والتبرّي منهم، اذ ليست هذه النظرية بمجرّدها سبباً للّعن والتحاشي والتبرّي بهذه الدرجة.

والإجابة عنه: هي إنّ التبرّي منهم ليس لأجل هذه النّظرية، بل لأجل أنهّم جرّدوا الأعمال من الايمان ولم يعتقدوها من الفرائض(2) ولم يتقيّدوا بها في مجال الفعل والترك،ولأجل ذلك أصبح الايمان عندهم يتلخّص في التصديق القلبي،والإقرار اللّفظي.

ولا يخفى أنّ هذه العقيدة خاطئة جدّاً، إذ لو صحّت فعندئذ لا يتجاوز الايمان عن التصديق القلبي أو الإقرار باللسان، فما أسهل الإسلام وأيسره لكلّ من انتسب إليه ولو انتساباً شكليّاً.

______________________

1 . ذكر الشيخ الأشعري فروعاً آخر لهم في هذا المجال. لاحظ مقالات الإسلاميين ص 126 _ 147.

2 . كنز الفوائد ص 125 ط بيروت.

( 83 )

قال الصاحب بن عبّاد: ادّعت المرجئة أنّ قاتل النفس بغير الحقّ، وسارق المال، ومخيف السبل ومرتكب الزنا، وشارب الخمر، لايقطع أنّهم من أهل النار، وإن ماتوا مصرّين. وقالت العدليّة: بل هم من أهل النار مخلّدون لا يجدون عنها حولاً، لأنّ الله أخبر ( وَ إِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيم) (الانفطار/14) ولم يخصّ فاجراً عن فاجر، فقال عزّ وجلّ: (إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيم * وَإِنَّ الفُجّارَ لَفِي جَحِيمٌ *يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّين * وَ مَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) (الانفطار/13 _ 16) وقال تعالى: (وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)(النساء/93)

فإن قالوا فقد قال الله تعالى:

(إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذِلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء/48) فالجواب أنّه تعالى قال في هذه الآية: « لمن يشاء» والمشيئة مغيّبة عنّا، إلى أن نعرفها بالأدلّة، وقد بيّن «من يشاء» بقوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (النساء/31) فهو يكفّر الصغائر بتجنّب الكبائر، والكبائر بالتوبة، قال سبحانه : (وَ أَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (الزمر/54)(1).

وهنا وجه آخر للعنهم وهو يرجع إلى قولهم بالإرجاء بالمعنى الأوّل أعني التوقّف في أمر الامام عليّ أمير المؤمنين _ عليه السلام _ وعدم الحكم بشيء فيه من الإيمان وضدّه. وأيّ مصيبة أعظم من التوقّف في ايمان أخي رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وصنوه ووزيره، وهو الصدّيق الأكبر، وأوّل المؤمنين. قال _ صلوات الله عليه _: «ولقد كنت أتّبعه (الرسول) اتّباع الفصيل أثر اُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كلّ سنة ب_(حراء)، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوّة»(2).

______________________

1 . الابانة عن مذهب أهل العدل بحجج القرآن والعقل للصاحب (385ه_) ص 23 المطبوع ضمن نفائس المخطوطات.

2 . نهج البلاغة: الخطبة القاصعة ج 3 ص 161 _ 182 بالرقم 187.

( 84 )

أفي مثله يتوقّف الإنسان المنصف في الحكم بإيمانه؟

فإن كنت لاتدري فتلك مصيبة * وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تبيين حقيقة الإيمان وتحديده لغةً وكتاباً وسنّةً.

آراء ونظريات حول الإيمان:

اختلف العلماء في ماهيّة

الإيمان ولهم أقوال أربعة نعرضها مع التحليل:

1_ الايمان هو معرفة الله بالقلب فقط، وإن أظهر اليهوديّة، والنصرانية، وسائر أنواع الكفر بلسانه، فإذا عرف الله بقلبه فهو مؤمن. نسب إلى الجهم بن صفوان وغيره.

2_ إنّ الايمان هو إقرار باللّسان بالله تعالى وشريعته، وإن اعتقد الكفر بقلبه، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن، وهو قول محمد بن كرّام السجستاني.

3_ الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وأنّ الأعمال ليست إيماناً، ولكنّها شرائع الايمان، وهو قول جماعة من الفقهاء وهو الأقوى كما سيوافيك.

4_ الايمان هو المعرفة بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، وأنّ كلّ طاعة واجبة، بل الأعمّ منها ومن النافلة فهي إيمان وكلّما ازداد الإنسان عملاً إزداد ايماناً، وكلّما نقص نقص إيمانه(1).

وإليك تحليل الآراء والأقوال:

ما هوالايمان لغةً وكتاباً:

إنّ الإيمان لغة هو التصديق، وهو على وزن «إفعال» من الأمن بمعنى سكون النفس واطمئنانها لعدم وجود سبب الخوف، فحقيقة قوله «آمن به» : أذعن به، وسكنت نفسه، واطمأنّت بقبوله فيؤول «الباء» في الحقيقة إلى السببية، وهو تارة يتعدّى

______________________

1 . الفصل ج 3 ص 188، ونسب إلى محمد بن زياد الحريري الكوفي قول خامس ساقط جداً، ومن شاء فليرجع إليه.

( 85 )

بالباء كما في قوله تعالى: (آمنّا بما أنْزَلْت) «آل عمران/53) واُخرى باللام كقوله سبحانه: (وما أنتَ بِمُؤْمِن لَنا)(يوسف/17) وقوله تعالى: (فآمَنَ لَهُ لُوطٌ)(العنكبوت/26).

فإذا كان الإيمان بمعنى التّصديق لغة، فهل يكفي التصديق لساناً فقط، أو جناناً فقط، أو لا يكفي هذا ولا ذاك، بل يشترط الجمع، والظّاهر من الكتاب العزيز هو الأخير. فالإيمان بمقتضى الآيات عبارة عن التّصديق بالقلب، الظّاهر باللسان، أو ما يقوم مقامه، ولا يكفي واحد منهما وحده. أمّا عدم كفاية التصديق القلبي فلقوله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُم ظُلْماً وَ

عُلُوّاً) (النمل/14) وقوله سبحانه: (فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (البقرة/89) فأثبت لليهود المعرفة وفي الوقت نفسه الكفر. وهذا يعرب عن أنّ الاستيقان النفساني لا بدّ له من مظهر كالإقرار باللسان، أو الكتابة، أو الإشارة كما في الأخرس.

ويمكن أن يقال إنّه يكفي التّصديق القلبي، ولكنّ الإنكار باللسان مانع، فلو علم أنّه مذعن قلباً، ولم ينكره لساناً، لكفى في الحكم بالايمان، كما كفى في تحقّقه واقعاً.

وأمّا عدم كفاية التّصديق اللّساني فلقوله تعالى : (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلوبِكُمْ) (الحجرات/14) والأعراب صدّقوا بألسنتهم، وأنكروه بقلوبهم أو شكّوا فيه. وهؤلاء جروا في توصيف أنفسهم بالايمان على مقتضى اللّغة، وادّعوا أنّهم مصدّقون قلباً وجناناً، فردّ الله عليهم بأنّهم مصدّقون لساناً، لا جناناً، وأسماهم مسلمين، ونفى كونهم مؤمنين.

وعلى ضوء هذه الآيات يتبيّن فساد القولين الأولين وتظهر قوةّ القول الثالث وهو كون الايمان لغة: هو التّصديق القلبي، لكنّ الكتاب العزيز دلّ على عدم كفاية التصديق القلبي وأنّه يشترط أن يكون معه إقرار أو ما يقوم مقامه من الكتابة والإشارة يدلّ على التسليم الباطني، وقد عرفت ما احتملناه أخيراً.

وأمّا الأثر المترتّب على الإيمان بهذا المعنى في الدنيا فهو حرمة دمه وعرضه وماله

( 86 )

إلاّ أن يرتكب قتلاً أو يأتي بفاحشة.وأمّا الأثر المترتّب عليه في الآخرة فهو صحّة أعماله واستحقاق الثواب عليها _ لو قام بها _ وعدم الخلود في النار، واستحقاق العفو والشفاعة.

وأمّا السّعادة الاُخرويّة فهي رهن العمل كما يأتي بيانه. فمن صدّق لساناً وجناناً، ولكن تجرّد عن العمل والامتثال، فهو مؤمن فاسق، وليس بكافر (خلافاً للخوارج) ولا هو في منزلة بين المنزلتين أي بين الايمان والكفر (خلافاً للمعتزلة) ولا يكفي في

النّجاة، بل _ إن لم يتب _ يدخل النار ويعذّب فيها.

وهذه هي النقطة الّتي يفترق فيها أهل الحقّ عن المرجئة، فإنّهم يقولون إنّ التصديق لساناً أو جناناً أو معاً، يكفي في النجاة من النار و دخول الجنّة، ويثيرون في العصاة روح الطغيان على المُثل والأخلاق، اعتماداً على أنّهم مؤمنين وإن فعلوا الكبائر وارتكبوا الموبقات. هذا هو الحقّ القراح، وإليك تحليل أدلّة سائر الأقوال على ضوء الأقوال الّتي سردناها في صدر البحث.

هل الايمان هو التصديق القلبي؟

استدلّ القائل بأنّ الإيمان هو التّصديق القلبي مضافاً إلى ما مرّ من الآيات في صدر البحث(1) بأنّ القرآن نزل بلسان عربيّ مبين، وخاطبنا الله بلغة العرب، وهو في اللغة التصديق، والعمل بالجوارح لايسمّى ايماناً.

يلاحظ عليه: أنّه يكفي في إثبات خروج العمل عن حقيقة الايمان، وأمّا كون التصديق بالقلب كافياً في صدق الايمان فلا يثبته، كيف وقد دلّت الآية على أنّ الجحد لساناً أو بغيره، والاستيقان قلباً يوجب دخول الجاحد في عداد الكفّار. قال سبحانه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا ظُلْماً وَعُلُوّاً) (النمل/14).

______________________

1 . (وما أنت بمؤمن لنا) (يوسف / 17) (ف آمن له لوط) (العنكبوت / 26).

( 87 )

غاية ما يمكن أن يقال ما عرفت من أنّ التصديق القلبي كاف في تحقّق الايمان، والجحد لساناً مانع، فلو تحقّق التصديق القلبي ولم يقترن بالجحد عناداً لكفى في كون الرجل مؤمناً ثبوتاً وواقعاً، وأمّا الحكم بكونه مؤمناً إثباتاً فيحتاج إلى إظهاره باللسان، أو بالعمل، أو العلم بكونه معتقداً بطريق من الطّرق.

ثمّ إنّ ابن حزم الظاهري (ت456ه_) أورد على هذا القول بوجهين:

الأوّل: أنّ الإيمان في اللغة ليس هو التصديق، لأنّه لا يسمّي التصديق بالقلب دون التصديق باللسان ايماناً في لغة العرب، وما قال قطّ عربيّ

إنّ من صدّق شيئاً بقلبه فأعلن التكذيب بلسانه، أنّه يسمّى مصدّقاً به ولا مؤمناً به. وكذلك ما سمّى قطّ التصديق باللسان دون التصديق بالقلب إيماناً في لغة العرب أصلاً.

الثاني: لو كان ما قالوه صحيحاً لوجب أن يطلق إسم الايمان لكلّ من صدّق بشيء ما، ولكان من صدّق بإلهيّة الحلاّج والمسيح والأوثان مؤمنين، لأنّهم مصدّقون بما صدّقوابه(1).

يلاحظ عليه: أنّ الوجه الأوّل صحيح لو رجع إلى ما ذكرنا من كون الإنكار باللسان مانعاً وإلاّ فلو صدّق قلباً ولم ينكره بلسانه فهو مؤمن لغةً وقرآناً. غير أنّ الحكم في مقام الإثبات يحتاج إلى الدليل من الإقرار باللسان، أو الكتابة باليد، أو الإشارة بالجوارح.

وأمّا الوجه الثّاني، فهو من الوهن بمكان لا يحتاج إلى البيان وكم لهذا الرجل من كلمات واهية. أضف إليه ما في كتابه من بذاءة في الكلام وتحرّش بالسباب وتحكّك بالوقيعة.

هل الايمان هو الإقرار باللسان؟

إنّ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وأصحابه ومن بعدهم، اتّفقوا على أنّ من أعلن بلسانه بشهادة

______________________

1 . الفصل: ج 3، ص 190

( 88 )

الإسلام فإنّه عندهم مسلم محكوم له بحكم الإسلام.

أضف إليه قول رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في السوداء «اعتقها فإنّها مؤمنة»(1)

يلاحظ عليه: أنّ الحكم لهم بالايمان كان بحسب الظّاهر لا الحكم بأنّه مؤمن عند الله واقعاً، ولذلك لو علم عدم مطابقة اللّسان مع الجنان يحكم عليه بالنفاق. قال سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَ بِاليَوْمِ الآخِرِ وَ مَا هُمْ بِمُؤمِنِينَ)(البقرة/8). ولمّا كان الرسول وأصحابه مأمورين بالحكم بحسب الظاهر قال رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «أُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله الاّ الله ويؤمنوا بما اُرسلت به،

فإذا عصموا منّي دماءُهم وأموالهم إلاّ بحقّها، وحسابهم على الله» وبذلك يظهر وجه حكمهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم في السوداء «بأنّها مؤمنة».

روى ابن حزم عن خالد بن الوليد أنّه قال: ربّ رجل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: إنّي لم اُبعث لأشقّ عن قلوب الناس.

إلى هنا تبيّن فساد القولين الأوّلين، وأنّ الحقّ هو القول الثالث، وعرفت الأثر المترتّب عليه، إنّما المهم هو نقد القول الرابع الّذي يجعل العمل جزءاً من الإيمان وإليك البحثفيه:

ليس العمل جزءاً من الايمان:

إذا كانت المرجئة في جانب التّفريط، فالخوارج المكفّرة لمرتكبي الكبائر، والمعتزلة القائلة بأنّ من فقد العمل، فهو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، في جانب الإفراط. فإنّ الذكر الحكيم _ مع الدعوة المؤكّدة إلى العمل _ لايرى العمل جزءاً من الإيمان بل يعطفه عليه، ويراه كمالاً له، لا عنصراً دخيلاً فيه. ويكفي في ذلك الآيات التالية:

______________________

1 . نفس المصدر ، ص 206.

( 89 )

1_ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحَاتِ) (البقرة/277) فالعطف يقتضي المغايرة، فلو كان العمل داخلاً فيه لزم التكرار، واحتمال كون المقام من قبيل ذكر الخاص بعد العام يحتاج الى وجود نكتة لذكره بعده، إلاّ أن يقال: إنّ الصالحات جمع معرّف يشمل الفرض والنفل، والقائل بكون العمل جزءاً من الإيمان يريد بها خصوص فعل الواجبات واجتناب المحرّمات، فحينئذ يصحّ عطف الخاص على العام لحصول المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.

نعم، الآية تصلح دليلاً على ردّ مقالة من جعل مطلق العمل _ فرضاً كان أو نفلاً _ جزءاً من الإيمان.

2_ (وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ) (طه/112) والجملة حالية والمقصود: عمل صالحاً حال كونه

مؤمناً، وهذا يقتضي المغايرة.

3_ (وَ إِنْ طِائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إْحْدَاهُمَا عَلَى الاُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ) (الحجرات/9) فأطلق المؤمن على الطائفة العاصية وقال ما هذا معناه: «فان بغت احدى الطائفتين من المؤمنين على الطائفة الاُخرى منهم» إلاّ أن يقال: إنّ اطلاق المؤمن بلحاظ حال التلبّس أي بما أنّهم كانوا مؤمنين قبل القتال، لا بلحاظ حال الجري والتكلّم.

4_ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ) (التوبة/ 119). فأمر الموصوفين بالايمان، بالتقوى، أي الاتيان بالطاعات والاجتناب عن المحرّمات، فدلّ على أنّ الايمان يجتمع مع عدم التقوى وإلاّ كان الأمربه لغواً وتحصيلاً للحاصل، إلاّ أن يحمل الأمر على الإستدامة فيخرج عن كونه تحصيلاً للحاصل.

5_ الآيات الدالّة على كون القلب محلاّ ً للايمان.

منها قوله تعالى: (اُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ) (المجادلة /22). ولو كان العمل جزءاً منه لما كان القلب محلا لجميعه. وقوله سبحانه : (وَلمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي

( 90 )

قُلُوبِكُمْ)(الحجرات/14) وقوله تعالى: (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإيمَانِ)(النحل/106).

6 _ آيات الطّبع والختم، فإنّها تشعر بأنّ محلّ الإيمان هو القلب، ولأجل ذلك من طبع أو ختم على قلبه لا يؤمن أبداً.

قال تعالى: (اُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِم) (النحل/108) وقال سبحانه: (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ)(الجاثية/23).

فإن قلت: دلّ الكتاب على أنّ الايمان عبارة عن التصديق الظّاهر بالإقرار باللّسان أو نحوه. فعندئذ كيف يكون محلّه هو القلب مع أنّ جزءاً منه الإظهار باللّسان ونحوه.

قلت: قد عرفت أنّ الايمان لغة هو التّصديق قلباً، غاية الأمر دلّ الدّليل على عدم كفايته إذا أنكره وجحده باللّسان وإن أذعن به في القلب. بل يمكن أن يقال: إنّ

الايمان هو التّصديق المورث للسكون والسكينة والتسليم. والجاحد بلسانه لا تحصل له تلك الحالة وإن حصل له العلم، لكن ليس كلّ علم ملازماً للإيمان بل هو أخصّ منه. ولأجل ذلك قال سبحانه: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(النساء/65) فالايمان هو المعرفة المورثة للسكون، الباعثة إلى التسليم، ولا تحصل تلك الحالة للجاحد الحاقد.

هذا هو مقتضى الكتاب، ويؤيّده الإجماع حيث جعلوا الإيمان شرطاً لصحّة العبادات، ولا يكون الشيء شرطاً لصحّة جزئه.

وأمّا السنّة فهناك روايات تدلّ على أنّ الإقرار المقترن بالعرفان، ايمان. وإليك بعضها:

روى الصدوق بسند صحيح عن جعفر الكناسي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً؟ قال: يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده و

( 91 )

رسوله، ويقرّ بالطّاعة، ويعرف إمام زمانه، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن(1).

ومثله غيره.

وأمّا زيادة الايمان ونقصانه، فالظّاهر من المتكلّمين أنّ الإيمان لو كان هو التّصديق فلا يزيد ولا ينقص، بخلاف ما لو جعلنا العمل جزءاً منه فهو يزيد وينقص بزيادته ونقصانه.

والتّحقيق _ كما سيأتي _ خلافه، فهو على كلا القولين يزيد وينقص، لأنّ التصديق ذو مراتب، والتسليم مثله ذو درجات، وليس تسليم الرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم لله، ولأحكامه، ولفروضه، ولسننه، أو معرفتهم، وإذعانهم كتسليم ومعرفة سائر الناس، ومن أنكر ذلك فإنّما ينكره بلسانه ولكن قلبه مطمئنّ ببطلانه.

هل العمل جزء من الايمان؟

احتجّ القائل بأنّ العمل جزء من الإيمان بآيات:

1 _ قوله سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيماناً مَعَ إِيْمَانِهِمْ) (الفتح/4). ولو كانت حقيقة الايمان هي التّصديق، لما قبل الزيادة والنقيصة، لأنّ

التصديق أمره دائر بين الوجود والعدم. وهذا بخلاف ما لو كان العمل جزءاً من الايمان. فعندئذ يزيد وينقص حسب زيادة العمل ونقيصته. والزيادة لا تكون إلاّ في كمّية عدد لا في ما سواه، ولا عدد للاعتقاد ولا كمّية له (2).

يلاحظ عليه: أنّ الايمان بمعنى الإذعان أمر مقول بالتّشكيك. فلليقين مراتب، فيقين الإنسان بأنّ الإثنين نصف الأربع، يفارق يقينه في الشدّة والظهور، بأنّ نور القمر مستفاد من الشّمس، كما أنّ يقينه الثاني، يختلف عن يقينه بأنّ كلّ ممكن فهو زوج

______________________

1 . البحار (ج 66: ص 16) كتاب الايمان والكفر نقلاً عن (معاني الاخبار).

2 . الفصل ج 3 ص 194.

( 92 )

تركيبي له ماهيّة ووجود، وهكذا يتنزّل اليقين من القوّة إلى الضّعف، إلى أن يصل إلى أضعف مراتبه الّذي لو تجاوز عنه لزال وصف اليقين، ووصل إلى حدّ الظنّ، وله أيضاً مثل اليقين درجات ومراتب، ويقين الإنسان بالقيامة ومشاهدها في هذه النشأة ليس كيقينه بعد الحشر والنشر، ومشاهدتها بأُمّ العين. قال سبحانه: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَة مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَدِيد) (ق/22) فمن ادّعى بأنّ أمر الايمان بمعنى التّصديق والإذعان، دائر بين الوجود والعدم، فقد غفل عن حقيقته ومراتبه. فهل يصحّ لنا أن ندّعي أنّ ايمان الأنبياء بعالم الغيب، كإيمان الانسان العادي، مع أنّ مصونيّتهم من العصيان والعدوان رهن علمهم بآثار المعاصي وعواقبه، الّذي يصدّهم عن اقتراف المعاصي وارتكاب الموبقات. فلو كان إذعانهم كإذعان سائر الناس، لما تميّزوا بالعصمة عن المعصية. وما ذكره من أنّ الزيادة تستعمل في كمّية العدد منقوض بآيات كثيرة استعملت الزيادة فيها في غير زيادة الكمّية. قال سبحانه: (وَ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)(الاسراء /109). وقال: (وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا

فِي هَذَا القُرآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مَا يَزِيدُهُمْ إلاّ نُفُوراً)(الاسراء/41). والمراد شدّة خشوعهم ونفورهم، لا كثرة عددهما، إلى غير ذلك من الآيات الّتي استعمل فيها ذلك اللّفظ في القوّة والشدّة لا الكثرة العدديّة.

2 _ قوله سبحانه: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) (البقرة/143) وإنّما عنى بذلك صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن تنسخ بالصّلاة إلى الكعبة.

يلاحظ عليه: أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة، ولا نشكّ في أنّ العمل أثر للاذعان وردّ فعل له، ومن الممكن أن يطلق السبب ويراد به المسبّب. إنّما الكلام في أنّ الإيمان لغةً وكتاباً موضوع لشيء جزؤه العمل وهذا ممّا لا يثبته الإستعمال. أضف إليه أنّه لو أخذنا بظاهرها الحرفي، لزم أن يكون العمل نفس الايمان لا جزءاً منه، ولم يقل به أحد.

3_ قوله سبحانه: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء/65). أقسم سبحانه

( 93 )

بنفسه أنّهم لا يؤمنون إلاّ بتحكيم النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم والتسليم بالقلب وعدم وجدان الحرج في قضائه. والتحكيم غير التصديق والتسليم، بل هو عمل خارجي.

يلاحظ عليه: أنّ المنافقين _ كما ورد في شأن نزول الآية _ كانوا يتركون النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ويرجعون في دعاويهم إلى الأحبار و _ مع ذلك _ كانوا يدّعون الايمان بمعنى الإذعان والتسليم للنّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم، فنزلت الآية بأنّه لايقبل منهم ذلك الإدّعاء حتّى يرى أثره في حياتهم وهو تحكيم النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في المرافعات، والتسليم العملي أمام قضائه، وعدم إحساسهم بالحرج ممّا قضى. وهذا ظاهر متبادر من الآية وشأن نزولها. فمعنى

قوله سبحانه: (فلا وربّك لا يؤمنون)، أنّه لا يقبل ادّعاء الايمان منهم إلاّ عن ذلك الطّريق.وبعبارة ثانية; إنّ الآية وردت في سياق الآيات الآمرة بإطاعة النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ)(النساء/64) والمنافقون كانوا يدّعون الايمان، وفي الوقت نفسه كانوا يتحاكمون إلى الطّاغوت. فنزلت الآية، وأعلنت أنّ مجرّد التصديق لساناً ليس إيماناً. بل الايمان تسليم تامّ باطني وظاهري.فلا يستكشف ذلك التسليم التامّ، إلاّ بالتسليم للرّسول ظاهراً، وعدم التحرّج من حكم الرّسول باطناً، وآية ذلك ترك الرُّجوع إلى الطّاغوت ورفع النزاع إلى النّبي، وقبول حكمه بلا حرج. فأين هو من كون نفس التحكيم جزءاً من الإيمان؟

4_ قوله سبحانه: (وَللّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) (آل عمران/97) سمّى سبحانه تارك الحجّ كافراً.

يلاحظ عليه: أنّ المراد إمّا كفران النّعمة وأنّ ترك المأمور به كفران لنعمة الأمر، أو كفر الملة لأجل جحد وجوبه.

5_ قوله سبحانه: (وَمَا اُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلوةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكَوةَ وَ ذَلِكَ دِينُ القَيِّمَة) (البيّنة/5). والمشار اليه بلفظة «ذلك» جميع ما جاء بعد «إلاّ» من إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة، فدلّت هذه الآية على دخول العبادات في ماهية الدين.

( 94 )

والمراد من الدّين، هو الإسلام لقوله سبحانه (إنّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسلام)(آل عمران/19).

وعلى ضوء هذا، فالعبادات داخلة في الدّين حسب الآية الاُولى، والمراد من الدين هو الإسلام حسب الآية الثانية، فيثبت أنّ العبادات داخلة في الإسلام، وقد دلّ الدّليل على وحدة الإسلام والإيمان وذلك بوجوه:

الف _ الإسلام هو المبتغى لقوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)(آلعمران /

85) والايمان أيضاً هو المبتغى، فيكون الإسلام والايمان متّحدين.

ب _ قوله سبحانه: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات / 17) فجعل الاسلام مرادفاً للايمان.

ج _ قوله سبحانه: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ المؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْت مِنَ المُسْلِمِينَ) (الذاريات / 35 _ 36) وقد اُريد من المؤمنين والمسلمين معنى واحداً، فهذه الآيات تدل على وحدة الإسلام والايمان. فإذا كانت الطّاعات داخلة في الإسلام فتكون داخلة في الإيمان أيضاً لحديث الوحدة(1).

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه من المحتمل قوياً أن يكون المشار إليه في قوله (وذلك دين القيّمة) هو الجملة الاُولى بعد «إلاّ» أعني (ليعبدوا الله مخلصين له الدّين) لا جميع ما وقع بعدها من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والمراد من قوله (ليعبدوا الله مخلصين له الدين) هو إخلاص العبادة لله، كإخلاص الطّاعة(2) له، والشّاهد على ذلك قوله سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ الناسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذِلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(الروم / 30). فإنّ وزان قوله (ذلك الدّين القيّم) وزان قوله (ذلك دين القيّمة)والمشار إليه في الجملة الاُولى هو

______________________

1 . الفصل: ج 3 ص 234 ، والبحار: ج 66 ص 16 _ 17.

2 . المراد من الدين في قوله «مخلصين له الدين» هو الطاعة.

( 95 )

الدّين الحنيف الخالص عن الشرك، بإخلاص العبادة والطّاعة له سبحانه.

ثانياً : يمنع كون العبادات داخلة في الإسلام حتّى في قوله سبحانه: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسلام) وقوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلامِ دِيناً...) لأنّ المراد منه هو التّسليم أمام الله وتشريعاته، بإخلاص العبادة والطّاعة له في

مقام العمل دون غيره من الأوثان والأصنام، وبهذا المعنى سمّي إبراهيم «مسلماً» في قوله تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً ولانَصْرانِياً وَلكِنْ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ)(آل عمران / 67) وبهذا المعنى طلب يوسف من ربّه أن يميته مسلماً قال سبحانه حكاية عنه: (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ) (يوسف / 101) إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول إخلاص العبادة له، والتجنّب من الشّرك، فلو فرض أنّ العبادة داخلة في مفهوم الدّين،فلا دليل على دخولها في مفهوم الإسلام.

ثالثاً: نمنع كون الإسلام والايمان بمعنى واحد، فالظّاهر من الذّكر الحكيم اختلافهما مفهوماً. قال سبحانه: (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلِكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لمّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلوبِكُمْ) (الحجرات / 13) فلو استعمل الإسلام أو المسلمين وأُريد منهما الإيمان والمؤمنين في مورد أو موردين، فهو لوجود قرينة تدلّ على أنّ المراد من العامّ هو الخاصّ.

إلى غير ذلك من الآيات الّتي جمعها ابن حزم في «الفصل»(1) ولا دلالة فيها على ما يرتئيه، والإستدلال بهذه الآيات يدلّ على أنّ الرّجل ظاهريّ المذهب إلى النّهاية يتعبّد بحرفيّة الظواهر، ولا يتأمّل في القرائن الحافّة بالكلام وأسباب النّزول.

نعم هناك روايات عن أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ تعرب عن كون العمل جزءاً من الإيمان وإليك بعضها:

1 _ روى الكراجكي عن الصّادق أنّه قال: «ملعون ملعون من قال: الإيمان قول

______________________

1 . الفصل: بكسر الفاء وفتح الصاد بمعنى النخلة المنقولة من محلّها الى محلّ آخر لتثمر، كقصعة وقصع.

( 96 )

بلا عمل»(1).

2 _ روى الكليني عن أبي جعفر الباقر _ عليه السلام _ قال: «قيل لأمير المؤمنين _ عليه السلام_: من شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله كان مؤمناً؟

قال: فأين فرائض الله؟ قال: وسمعته يقول: كان عليّ _ عليه السلام _ يقول: لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم، ولا صلاة، ولا حلال، ولا حرام، قال: وقلت لأبي جعفر _ عليه السلام _: إنّ عندنا قوماً يقولون: إذا شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله فهو مؤمن قال: فلم يضربون الحدود؟ ولم تقطع أيديهم؟ وما خلق الله عزّ وجلّ خلقاً أكرم على الله عزّ وجلّ من المؤمن، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين وأنّ جوار الله للمؤمنين، وأنّ الجنّة للمؤمنين، وأنّ الحور العين للمؤمنين، ثمّ قال: فما بال من جحد الفرائض كان كافراً»(2).

والمراد من «جحد الفرائض» تركها عمداً بلا عذر، لا جحدها قلباً وإلاّ لما صلح للاستدلال.

3 _ روى الكليني عن محمّد بن حكيم قال: قلت لأبي الحسن _ عليه السلام _: الكبائر تخرج من الايمان؟ فقال: نعم وما دون الكبائر، قال رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن(3).

4 _ وروى أيضاً عن عبيد بن زرارة قال: دخل ابن قيس الماصر وعمر بن ذرّ _ وأظنّ معهما أبو حنيفة _ على أبي جعفر عليه السلام، فتكلّم ابن قيس الماصر فقال: إنّا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملّتنا من الايمان في المعاصي والذنوب. قال: فقال له أبو جعفر _ عليه السلام _: يا ابن قيس أمّا رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فقد قال: لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن، فاذهب أنت وأصحابك حيث شئت(4).

______________________

1 . البحار ج 69 ص 19، الحديث 1.

2 . الكافي ج 2 ص 33، الحديث 2، والبحار ج 66

ص 19، الحديث 2.

3 . الكافي ج 2 ص 284 _ 285، الحديث 21.

4 . الكافي ج 2 ص 285، الحديث 22.

( 97 )

5 _ وعن الرضا عن آبائه _ صلوات الله عليهم _ قال: قال رسول الله _ صلى الله عليه وآله _: الايمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان وعمل بالأركان(1).

إلى غير ذلك من الرّوايات الّتي جمعها العلاّمة المجلسي _ قدس سره _ في بحاره، باب«الايمان مبثوث على الجوارح»(2).

أقول: الظّاهر أنّها وردت لغاية ردّ المرجئة الّتي تكتفي في الحياة الدينية بالقول والمعرفة، وتؤخّر العمل وترجو رحمته وغفرانه مع عدم القيام بالوظائف، وقد تضافر عن أئمّة أهل البيت _ عليه السلام _ لعن المرجئة.

روى الكليني عن الصادق _ عليه السلام _ أنّه قال: لعن الله القدريّة، لعن الله الخوارج، لعن الله المرجئة، لعن الله المرجئة، فقلت: لعنت هؤلاء مرّة مرّة ولعنت هؤلاء مرّتين قال: إنّ هؤلاء يقولون: إنّ قَتَلَتَنا مؤمنون، فدماؤنا متلطّخة بثيابهم إلى يوم القيامة. إنّ الله حكى عن قوم في كتابه: (ألاّ نُؤْمِنُ لِرَسُول حَتّى يَأْتِينَا بِقُرْبَان تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُموهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)قال: كان بين القاتلين والقائلين خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم ما فعلوا(3).

وروى أيضاً عن أبي مسروق قال:سألني أبو عبدالله _ عليه السلام _ عن أهل البصرة ما هم؟ فقلت: مرجئة وقدريّة وحروريّة، قال: لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة الّتي لا تعبد الله على شيء(4).

إلى غير ذلك من الرِّوايات الواردة في ذمّ هذه الفرقة الّتي كانت تثير روح العصيان والتمرّد على الأخلاق والمثل بين الشباب، وتحرّضهم على اقتراف الذنوب والمعاصي رجاء المغفرة.

______________________

1 . عيون أخبار الرضا ج 1 ص 226.

2 .

بحار الأنوار ج 69 الباب 30 من كتاب الكفر والايمان ص 18 _ 149.

3 . الكافي ج 2، ص 409، الحديث 1.

4 . الكافي، ج 2، ص 409، الحديث 2. والآية 183 من سورة آل عمران.

( 98 )

والّذي يظهر من ملاحظة مجموع الأدلّة، هو أنّ الايمان ذو مراتب ودرجات، ولكل أثره الخاصّ.

1 _ مجرّد التصديق بالعقائد الحقّة، وقد عرفت ثمرته وهي حرمة دمه وعرضه وماله، وبه يناط صحّة الأعمال واستحقاق الثّواب، وعدم الخلود في النار، واستحقاق العفو والشفاعة.

2 _ التصديق بها مع الاتيان بالفرائض الّتي ثبت وجوبها بالدّليل القطعي كالقرآن، وترك الكبائر الّتي أوعد الله عليها النّار، وبهذا المعنى أطلق الكافر على تارك الصلاة، ومانع الزّكاة، وتارك الحجّ، وعليه ورد قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم «لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن» وثمرة هذا الايمان عدم استحقاق الإذلال والإهانة والعذاب في الدنيا والآخرة.

3 _ التصديق بها مع القيام بفعل جميع الواجبات وترك جميع المحرّمات. وثمرته اللّحوق بالمقرّبين، والحشر مع الصّديقين وتضاعف المثوبات، ورفع الدّرجات.

4 _ نفس ما ذكر في الدّرجة الثالثة لكن بإضافة القيام بفعل المندوبات، وترك المكروهات، بل بعض المباحات، وهذا يختصّ بالأنبياء والأوصياء(1).

ويعرب عن كون الإيمان ذا درجات ومراتب، ما رواه الكليني عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبدالله _ عليه السلام _ في حديث قال: «قلت: ألا تخبرني عن الإيمان؟ أقولهو وعمل، أم قول بلا عمل؟ فقال: الايمان عمل كلّه، والقول بعض ذلك العمل، بفرض من الله بيّن في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجّته، يشهد له به الكتاب، ويدعوه إليه، قال: قلت: صفه لي جعلت فداك حتّى أفهمه، قال: الايمان حالات ودرجات وطبقات، ومنازل: فمنه التامّ

المنتهى تمامه، ومنه النّاقص البيّن نقصانه، ومنه الراجح الزائد رجحانه.

______________________

1 . البحار ج 69 ص 126 _ 127.

( 99 )

قلت:إن الايمان ليتمّ وينقص ويزيد؟ قال: نعم، قلت: كيف ذلك؟ قال: لأنّ الله تبارك وتعالى فرض الايمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها، فليس من جوارحه جارحة إلاّ وقد وكلت من الايمان بغير ما وكلت به اُختها... الخ»(1).

ويعرب عنه أيضاً ما رواه الصدوق عن أبي عبدالله _ عليه السلام _ قال: قال رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: ليس الايمان بالتحلّي، ولا بالتمنّي، ولكنّ الإيمان ما خلص في القلب، وصدّقه الأعمال(2).

والمراد بالتحلّي التزيّن بالأعمال من غير يقين بالقلب، كما أنّ المراد من التمنّي هو تمنّي النجاة بمحض العقائد من غير عمل.

وفي ما رواه النّعماني في كتاب القرآن عن أمير المؤمنين _ عليه السلام _ شواهد على ذلك التقسيم(3).

خاتمة المطاف

إنّ البحث في أنّ العمل هل هو داخل في الإيمان أم لا، وإن كان مهمّاً قابلاً للمعالجة في ضوء الكتاب والسنّة، كما عالجناه، إلاّ أنّ للبحث وجهاً آخر لا تقلّ أهميته عن الوجه الأول وهو تحديد موضوع ما نطلبه من الآثار. فإذا دلّ الدليل على أنّ الموضوع لهذا الأثر أو لهذه الآثار هو نفس الاعتقاد الجازم، أو هو مع العمل، يجب علينا أن نتّبعه سواء أصدق الإيمان على المجرّد أم لا ؟ سواء كان العمل عنصراً مقوّماً أم لا ؟

مثلاً; إنّ حقن الدماء وحرمة الأعراض والأموال يترتّب على الإقرار باللسان سواء أكان مذعناً في القلب أم لا، ما لم تعلم مخالفة اللسان مع الجنان. ولأجل ذلك نرى أنّ كلّ عربيّ وعجميّ وأعرابيّ وقرويّ أقرّ بالشهادتين عند الرسول الأكرم صلَّى الله عليه و آله

و سلَّم حكم عليه

______________________

1 . البحار ج 69 ص 23 _ 24 لاحظ تمام الرواية وقد شرحها العلامة المجلسي.

2 . البحار ج 69 ص 72 نقلاً عن معاني الاخبار ص 187.

3 . البحار ج 69 ص 73 _ 74 نقلاً عن تفسير النعماني.

( 100 )

بحقن دمه واحترام ماله. قال أمير المؤمنين _ عليه السلام _: «اُمرت أن أُقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها فقد حرم عليّ دماؤهم وأموالهم»(1).

فهذه الآثار لا تتطلّب أزيد من الإقرار باللّسان ما لم تعلم مخالفته للجنان، سواء أصحّ كونه مؤمناً أم لا.

وأمّا غير هذه من الآثار التي نعبّر عنه بالسعادة الأُخروية فلا شكّ أنّها رهن العمل، وأنّ مجرّد الاعتقاد والإقرار باللسان لا يسمن ولا يغنى من جوع. وهذا يظهر بالرجوع إلى الكتاب والسنّة. قال سبحانه: (إِنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ)(الحجرات /15). نرى أنّه ينفي الايمان عن غير العامل. وما هذا إلاّ لأنّ المراد منه، الإيمان المؤثّر في السعادة الأخرويّة، وقال أمير المؤمنين _ عليه السلام _: «لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء والأداء هو العمل»(2).

فالإمام _ عليه السلام _ بصدد بيان الإسلام الناجع في الحياة الاُخروية، ولأجل ذلك فسّره نهايةً بالعمل. ولكنّ الاسلام الّذي ينسلك به الانسان في عداد المسلمين، ويحكم له وعليه ظاهراً ما يحكم للسائرين من المسلمين، تكفي فيه الشهادة باللّفظ ما لم تعلم المخالفة بالقلب، وعلى ذلك جرت سيرة النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وأصحابه.

فلو أوصلَنا السبر والدقّة إلى تحديد الايمان

فهو المطلوب، وإلاّ فالمهمّ هو النّظر إلى الآثار المطلوبة وتحديد موضوعاتها حسب الأدلة سواء أصدق عليه الايمان أم لا،سواء أدخل العمل في حقيقته أم لا كما تقدّم. هذا ما ذكرناه هنا عجالة، وسوف نميط السّتر عن وجه الحقيقة عند البحث عن عقيدة الطائفتين _ المعتزلة والخوارج _ في مورد مرتكب الكبيرة، ونحدّد مفهوم الايمان في ضوء الكتاب والسنّة.

______________________

1 . بحار الأنوار : ج 68 ص 242.

2 . نهج البلاغة : قسم الحكم ، الرقم 125.

( 101 )

المرجئة والفرق الاُخرى:

الانسان يتصوّر بادئ بدء أنّ المرجئة كسائر الطّوائف لهم آراء في جميع المجالات الكلاميّة، خاصّة بهم، يفترقون بها عن غيرهم، ولكن سرعان ما يتبيّن له أنّ الأصل المقوّم للمرجئة هو مسألة تحديد الإيمان والكفر. وأمّا الموضوعات الاُخرى فليس لهم فيها رأي خاصّ. ولأجل ذلك تفرّقوا في آخر أمرهم إلى فرق متبدّدة ومتضادّة. فترى مرجئياً يتّبع منهج الخوارج، ومرجئياً آخر يقتفي أثر القدريّة، وثالثاً يشايع الجبريّة. وما هذا إلاّ لأنّ الإرجاء قام على أصل واحد وهو تحديد الايمان بالإقرار او باللسان أو المعرفة القلبية. وأمّا الاُصول الاُخرى فليس لهم فيها رأي خاصّ قطّ. وصار هذا سبباً لذوبانهم في الفرق الاخرى وتفرّقوا على الفرق التالية:

1 _ مرجئة الخوارج، 2 _ مرجئة القدرية، 3 _ مرجئة الجبرية، 4 _ المرجئة الخالصة.

وهذه الطّوائف بعضها بالنسبة إلى بعض على نقيض، فمرجئة القدريّة تقول بالاختيار والحريّة للانسان، ومرجئة الجبريّة تنكره. ومع ذلك كلّه فالطائفتان تستظلاّن تحت سقف واحد، وهو الإرجاء، وإن اختلفوا في سائر المسائل. نعم يوجد هناك مرجئة خالصة لم يتكلّموا بشيء في بقيّة المسائل وذكر الشهرستاني لهم طوائف ستّ وهي:

1 _ اليونسيّة 2 _ العبيديّة 3 _ الغسّانيّة 4 _ الشعبانيّة

5 _ التومينية 6 _ الصالحيّة.

وهؤلاء لم يتكلّموا إلاّ في الارجاء واختلفوا في تحديد الايمان بعد إخراج العمل منه، وتركوا البحث عن سائر الموضوعات، بخلاف الطّوائف الثلاث المتقدّمة. فإنّهم اشتركوا في الإرجاء واختلفوا في سائر الموضوعات. فمن مرجئيّ سلك مسلك الخوارج، يبغض عثماناً وعليّاً، ويناضل ضدّ الحكّام، إلى آخر يتفيّأ بفيء القدريّة يحترم الخلفاء الأربع، ويرى الانسان فاعلاً مختاراً وفعله متعلّقاً بنفسه. إلى ثالث يركب مطيّة الجبر ويرى الإنسان أداة طيّعة للقضاء والقدر.

( 102 )

شعراء المرجئة:

قد وجد بين المرجئة شعراء عبّروا عن عقيدتهم في قصائدهم ونذكر هنا شاعرين:

1 _ ثابت بن قطنة. كان في صحابة يزيد بن المهلّب يولّيه أعمالاً من أعمال الثغور، وقد روى أبو الفرج الإصفهاني قصيدة له في أغانيه مستهلّها:

يا هند فاستمعي لي أنّ سيرتنا * أن نعبد الله لم نشرك به أحداً

نرجى الاُمور إذا كانت مشبهة * و نصدق القول فيمن جار أو عندا

المسلمون على الاسلام كلّهموا * والمشركون استووا في دينهم قددا

و لا أرى أنّ ذنباً بالغ أحداً * مِ النّاس شركا إذا ما وحّدوا الصمدا

لانسفك الدم إلاّ أن يراد بنا * سفك الدماء طريقا واحداً جددا

من يتّق الله في الدنيا فإنّ له * أجر التقيّ إذا وفّى الحساب غدا

و ماقضى الله من أمر فليس له * ردّ و مايقض من شيء يكن رشدا

كلّ الخوارج مُخط فى مقالته * ولو تعبّد فيما قال و اجتهدا

أمّا عليّ و عثمان فانّهما * عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا

و كان بينهما شغب وقد شهدا * شقّ العصا و بعين الله ما شهدا

يجزى عليّاً و عثماناً بسعيهما * و لست أدري بحق آيةً وردا

الله يعلم ماذا يحضران به * وكلّ عبد سيلقى الله منفردا(1)

2

_ عون بن عبدالله بن علقبة بن مسعود: وقد وصف بكونه من أهل الفقه والأدب وكان يقول بالإرجاء ثم عدل عنه وقال مخطئاً ما اعتقده:

فأوّل ما أُفارق غير شكّ * أُفارق ما يقول المرجئونا

وقالوا مؤمن من آل جور * وليس المؤمنون بجائرينا

وقالوا مؤمن دمه حلال * وقد حرمت دماء المؤمنينا(2)

______________________

1 . فجر الاسلام ص 281 _ 282 نقلاً عن الأغاني ج 4 ص 204.

2 . نفس المصدر:ص 282، نقلاً عن الأغاني ج 8 ص 92.

( 103 )

خطر المرجئة على أخلاق المجتمع:

قد عرفت التطوّر في فكرة الإرجاء وأنّه استقرّ رأي المرجئة أخيراً على أنّ الايمان عبارة عن الإقرار باللّسان أو الإذعان بالقلب، وهذا يكفي في اتّصاف الانسان بالإيمان. ولو صحّ ما نسب إليهم في شرح المواقف «من عدم العقاب على المعاصي» (1) فالمصيبة أعظم.

وهذه الفكرة فكرة خاطئة تسير بالمجتمع _ وخصوصاً الشباب _ إلى الخلاعة والإنحلال الأخلاقي وترك القيم، بحجّة أنّه يكفي في اتّصاف الانسان بالايمان، وانسلاكه في سلك المؤمنين، الإقرار باللّسان أو الإذعان بالقلب، ولا نحتاج وراء ذلك إلى شيء من الصوم والصلاة، ولا يضرّه شرب الخمر وفعل الميسر، ويجتمع مع حفظ العفاف وتركه.

ولو قدر لهذه الفكرة أن تسود في المجتمع، لم يبق من الإسلام إلاّ رسمه، ومن الدين إلاّ اسمه. ويكون المتديّن بهذه الفكرة كافراً واقعياً، اتّخذ هذه الفكرة واجهة لما يكنّ في ضميره.

ولقد شعر أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ بخطورة الموقف، وعلموا بأن إشاعة هذه الفكرة عند المسلمين عامّة، والشيعة خاصّة، سترجعهم إلى الجاهليّة، فقاموا بتحذير الشيعة وأولادهم من خطر المرجئة فقالوا:

«بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة» (2).

______________________

1 . شرح المقاصد للتفتازاني ج 2، ص 229 و 238.

2 .

الكافي ج 6 ص 47، الحديث 5. قال المجلسي في المرآة عند شرح هذا الحديث: «أي علموهم في شرخ شبابهم بل في أوائل إدراكهم وبلوغهم التميز من الحديث ما يهتدون به الى معرفة الأئمة _ عليهم السلام _ والتشيع قبل أن يغويهم المخالفون ويدخلوهم في ضلالتهم، فيعسر بعد ذلك صرفهم عن ذلك. والمرجئة في مقابلة الشيعة من الإرجاء بمعنى التأخير، لتأخيرهم عليّاً عليه السلام عن مرتبته، وقد يطلق في مقابلة الوعيديّة إلاّ أن الأول هو المراد هنا».

ويحتمل أن يكون المراد هو الثاني بقرينة «أولادكم» فإنّ فكرة الإرجاء بالمعنى الأول تضرّ الكلّ، وبالمعنى الثاني تضر الشباب الّذين تهددهم الغرائز الجامحة كما أوعزنا إليه في المتن.

( 104 )

وفكرة الإرجاء فكرة خاطئة تضرّ بالمجتمع عامّة. وإنّما خصّص الإمام منهم الشباب لكونهم سريعي التقبّل لهذه الفكرة، لما فيها من إعطاء الضوء الأخضر للشباب لاقتراف الذنوب والانحلال الأخلاقي والانكباب وراء الشهوات مع كونهم مؤمنين.

ولو صحّ ما ادّعته المرجئة من الايمان والمعرفة القلبيّة، والمحبّة لإله العالم، لوجب أن تكون لتلك المحبّة القلبيّة مظاهر في الحياة، فإنّها رائدة الانسان وراسمة حياته، والانسان أسير الحبّ وسجين العشق، فلو كان عارفاً بالله، محبّاً له، لاتّبع أوامره ونواهيه، وتجنّب ما يسخطه ويتّبع ما يرضيه، فما معنى هذه المحبّة للخالق وليس لها أثر في حياة المحبِّ.

ولقد وردت الإشارة إلى التأثير الذي يتركه الحبّ والودّ في نفس المحبّ في كلام الإمام الصادق _ عليه السلام _ حيث قال: «ما أحبّ الله عزّ وجلّ من عصاه» ثم أنشد الامام _ عليه السلام _ قائلاً:

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه * هذا محالٌ في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقاً لأطعته * إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع(1)

إنّ للامام الصادق _ عليه

السلام _ احتجاجاً على المرجئة، علّمه لأحد أصحابه وأبطل فيه حجّة القائل بكفاية الاقرار بالايمان قياساً على كفاية الانكار باللسان في الكفر، وإليك الحديث:روى محمّد بن حفص بن خارجة قال: سمعت أبا عبدالله _ عليه السلام _ يقول: وسأله رجل عن قول المرجئة في الكفر والايمان وقال: إنّهم يحتجّون علينا ويقولون: كما أنّ الكافر عندنا هو الكافر عند الله، فكذلك نجد المؤمن إذا أقرّ بإ يمانه أنّه عند الله مؤمن، فقال: سبحان الله; وكيف يستوي هذان، والكفر إقرار من العبد فلا يكلّف بعد اقراره ببيّنة، والايمان دعوى لا يجوز إلاّ ببيّنة، وبيّنته عمله ونيّته، فإذا اتّفقا فالعبد عند الله مؤمن، والكفر موجود بكلّ جهة من هذه الجهات الثلاث، من نيّة، أو

______________________

1 . سفينة البحار: ج 1 ص 199 مادة «حبب».

( 105 )

قول، أو عمل. والأحكام تجري على القول والعمل، فما أكثر من يشهد له المؤمنون بالايمان، ويجري عليه أحكام المؤمنين، وهو عند الله كافر، وقد أصاب من أجرى عليه أحكام المؤمنين بظاهر قوله وعمله (1).

توضيح الرواية; أنّ الامام _ عليه السلام _ شبّه الاقرار الظاهري بالدعوة كسائر الدعاوي، كما أنّ الدعوة في الدعاوي لا تقبل إلاّ ببيّنة، فكذا جعل الله تعالى هذه الدعوة غير مقبولة إلاّ بشاهدين من قلبه وجوارحه فلا يثبت إلاّ بهما.

المرجئة وعلماء الشيعة

إنّ علماء الشّيعة الإماميّة تبعاً لأئمتهم، قاموا في وجه المرجئة وحذّروا الاُمّة من ألوان خداعهم، علماً منهم بأنّ في نفوذ فكرة الارجاء، مسخ الإسلام ومحوه من أديم الأرض، وإليك كلمة قيّمة لفضل بن شاذان الأزدي النيسابوري (المتوفّى عام 260ه_) من أصحاب الأئمة الثلاثة: _ الجواد والهادي والعسكري _ عليهم السلام _ ذكرها في كتابه (الايضاح ص 20) قال: «ومنهم

المرجئة الّذين يروي منهم أعلامهم مثل إبراهيم النخعي، وإبراهيم بن يزيد التيمي، ومن دونهما مثل سفيان الثوري، وابن المبارك ووكيع، وهشام، وعلي بن عاصم عن رجالهم أنّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: صنفان من اُمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب; القدريّة والمرجئة. فقيل لهم: ما المرجئة؟ قالوا: الّذين يقولون: الايمان قول بلا عمل. وأصل ما هم عليه أنّهم يدينون بأنّ أحدهم لو ذبح أباه واُمّه وابنه وبنته وأخاه واُخته، وأحرقهم بالنار، أو زنى، أو سرق، أوقتل النّفس الّتي حرّم الله، أو أحرق المصاحف، أو هدم الكعبة، أو نبش القبور، أو أتى أيّ كبيرة نهى الله عنها، إنّ ذلك لا يفسد عليه ايمانه، ولا يخرجه منه، وأنّه إذا أقرّ بلسانه بالشهادتين إنّه مستكمل الايمان، إيمانه كإيمان جبرئيل وميكائيل _ صلّى الله عليهما _ فعل ما فعل، وارتكب ما ارتكب ممّا نهى الله عنه، ويحتجّون بأنّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: اُمرنا أن نقاتل النّاس حتّى يقولوا:

______________________

1 . الكافى: ج 2 ص 39 _ 40، الحديث 8.

( 106 )

لا إله إلا الله، وهذا قبل أن يفرض سائر الفرائض وهو منسوخ.

وقد روى محمد بن الفضل، عن أبيه، عن المغيرة بن سعيد، عن أبيه، عن مقسم، عن سعيد بن جبير قال: المرجئة يهود هذه الاُمّة. وقد نسخ احتجاجهم قول النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم حين قال: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحجّ البيت، وصوم شهر رمضان(1) .

وله _ رحمه الله _ احتجاج و مناشدة مع المرجئة في كتابه فمن أراد فليرجع إليه(2).

هل كان أبو حنيفة

مرجئياً؟

إنّ المشهور بين أرباب الملل والنحل أنّ الامام أبا حنيفة كان مرجئيّاً، وممن نقل ذلك، الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتابه «مقالات الإسلاميين» فقال: «الفرقة التاسعة من المرجئة أبو حنيفة وأصحابه يزعمون أنّ الإيمان المعرفة بالله، والإقرار بالله والمعرفة بالرّسول والإقرار بما جاء به من عند الله في الجملة دون التفصيل».

ثمّ ينقل عن غسّان وأكثر أصحاب أبي حنيفة أنّهم ينقلون عن أسلافهم أنّ الايمان هو الاقرار والمحبّة لله والتعظيم له والهيبة منه، وترك الاستخفاف بحقّه، وأنّه يزيد ولا ينقص(3).

والظّاهر هو الأوّل لتنصيصه في كتاب «العالم والمتعلّم» الذي أملاه وكتبه ت لاميذه على ذلك وإليك النصّ:

قال العالم _ رضي الله عنه _: الايمان هو التصديق والمعرفة واليقين والاقرار والاسلام. والناس في التصديق على ثلاث منازل:

فمنهم: من يصدِّق بالله وبما جاء منه بقلبه ولسانه.

______________________

1 . الايضاح: ص 20 _ 21.

2 . الايضاح :ص 47 _ 66.

3 . مقالات الاسلاميين: ص 132.

( 107 )

ومنهم: من يصدِّق بلسانه ويكذّب بقلبه.

ومنهم: من يصدّق بقلبه ويكذّب بلسانه.

قال المتعلّم _ رحمه الله _: لقد فتحت لي باب مسألة لم أهتد إليه، فأخبرني عن أهل هذه المنازل الثّلاث أهم عند الله مؤمنون؟

قال العالم _ رضي الله عنه _: من صدّق بالله وبما جاء من عند الله بقلبه ولسانه فهو عند الله وعند الناس مؤمن.

ومن صدّق بلسانه وكذّب بقلبه كان عند الله كافراً وعند الناس مؤمناً، لأنّ الناس لا يعلمون ما في قلبه. وعليه يسمّونه. مؤمناً بما ظهر لهم من الإقرار بهذه الشهادة وليس لهم أن يتكلفوا علم ما في القلوب.

ومنهم من يكون عند الله مؤمناً وعند الناس كافراً وذلك بأنّ الرّجل يكون مؤمناً بالله وبما جاء عنه. ويظهر الكفر بلسانه في حال التقيّة

أي الإكراه فيسمّيه من لا يعرف أنّه يتّقي، كافراً، وهو عند الله مؤمن(1).

وفي الفقه الأكبر المنسوب له ما هذا نصّه: «الإيمان هو الإقرار والتصديق» وجاء فيه: «ويستوي المؤمنون كلّهم في المعرفة واليقين والتوكّل والمحبّة والرضا والرجاء ويتفاوتون فيما دون الايمان في ذلك كلّه». وجاء فيه: «الله متفضّل على عباده عادل قد يعطي في الثّواب أضعاف ما يستوجبه العبد، تفضّلاً منه وقد يعاقب على الذّنب عدلاً منه وقد يعفو فضلاً منه»، وجاء فيه: «ولا نكفّر أحداً بذنب ولا ننفي أحداً عن الايمان»(2).

أقول: إنّ القول بأنّ الايمان هو التصديق القلبي فقط، لا يُدخل القائل في عداد المرجئة إذا كان مهتمّاً بالعمل ويرى النجاة والسعادة فيه، وأنّه لولاه لكان خاسراً غير

______________________

1 . العالم والمتعلم للإمام أبي حنيفة، تحقيق عمر رواس قلعة جى وعبد الوهاب الهندي الندوي، ص 52 _ 53.

2 . ضحى الإسلام: ج 3 ص 321.

( 108 )

رابح. فالمرجئة هم الّذين يهتمّون بالعقيدة ولا يهتمّون بالعمل ولا يعدّونه عنصراً مؤثراً في الحياة الاُخرويّة، ويعيشون على أساس العفو والرجاء وبالجملة يهتمّون بالرغب دون الرهب والله سبحانه يقول: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً) (الأنبياء / 90).

وعلى ذلك; فرمي كلّ من قال بأنّ الايمان هو التصديق بالإرجاء، رمي في غير محلّه، فإذا كان المرميّ ذا عناية خاصّة بالعمل بالأركان، والقيام بالجوارح، وكان شعاره قوله سبحانه: (إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْر * إلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصالِحَاتِ وَ تَواصَوْا بِالحَقّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ)فهو على طرف النقيض منهم، خصوصاً على ما نقله شارح المواقف من المرجئة بأنّهم ينفون العقاب على الكبائر إذا كان المرتكب مؤمناً على مذهبهم.

هذا إجمال القول في عقيدة المرجئة وما يترتّب عليها من المفاسد،

ولأئمّة أهل البيت _عليهم السلام _ كلمات في حقّهم حذّروا المجتمع فيها من تلك الطائفة يجدها المتتبّع في محلّه(1) . ويظهر من الأمير نشوان الحميري (المتوفّى عام 573ه_) شيوع المرجئة في عصره في الأوساط الإسلاميّة قال: «وليس كورة من كور الاسلام إلاّ والمرجئة غالبون عليها إلاّ القليل»(2) _ أعاذنا الله من شرّ الأبالسة.

إكمال :

قد عرفت التطوّر في استعمال لفظ «المرجئة» وأنّها تستعمل تارة في تأخير القول في عثمان وعليّ، وعدم القضاء في حقّهما بشيء، وإرجاع أمرهما إلى الله. وأُخرى في تقديم القول على العمل وتأخيره عنه قائلاً بأنّه لا تضرّ مع الايمان المعصية، كما لا تنفع مع

______________________

1 . بحار الأنوار: ج 18 ص 392 فصل المعراج، وغيره.

2 . شرح الحور العين ص 203، كما في «بحوث مع أهل السنة».

( 109 )

الكفر الطاعة، والحسن بن محمّد بن الحنفيّة مبدع الإرجاء بالمعنى الأوّل، لا الثاني. وإطلاقها على المعنيين لاشتراكهما في التأخير.

غير أنّ الدكتور جلال محمّد عبد الحميد موسى نسب الإرجاء بالمعنى الثاني الى الحسن وقال: «إنّنا نجد بذور هذا المذهب عند الحسن بن محمّد الحنفيّة (ت 101ه_) وهو عالم من علماء أهل البيت، قد تصدّى للردّ على الخوارج حين نشروا مبدأهم الخطير «لا عقد بدون عمل» وهو يستلزم تكفير مرتكب الكبيرة واستحلال قتله، فأعلن «الحسن» أنّه لا يضرّ مع الايمان معصية وأنّ الطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الايمان، حتى يزول الايمان بزوالها»(1).

وما ذكره خلط بين معنيي الارجاء فلاحظ، وقد تقدّم في كلام ابن حجر التصريح بذلك(2).

تمّ الكلام في المرجئة

______________________

1 . نشأة الأشعرية وتطورها: ص 20.

2 . تهذيب التهذيب: ج 2، ص 321.

( 110 )

( 111 )

القدريّة

القدريّة

القدريّة أسلاف المعتزلة

خرج المسلمون من الجزيرة العربيّة بدافع

نشر الاسلام وبسط نفوذه، فلمّا استولوا على البلاد واستتبّ لهم الأمر، تفاجأوا بثقافات وحضارات، وشرائع وديانات، لم يكن لهم بها عهد، ففرضت الظُّروف عليهم الاختلاط والتعايش مع غير المسلمين، وربّما انتهى الأمر إلى التفاعل والتأثير بمبادئهم وأفكارهم، فوقفوا على اُصول ومبادئ تخالف دينهم، فأوجد ذلك اضطراباً فكريّا بين الأوساط الإسلاميّة. كيف لا، وقد كان الخصم متدرّعاً بالسلاح العلمي، ومجهّزاً بأساليب كلاميّة، والمسلمون الغزاة بسطاء غير مجيدين كيفيّة البرهنة، والمجادلة العلميّة مع خصمائهم، فصار ذلك سبباً لطرح أسئلة ونموّ اشكالات في أذهان المسلمين خارج الجزيرة العربيّة وداخلها، وقد كان الغزاة ينقلون ما سمعوا أو ما تأثّروا به في حلّهم وترحالهم داخل المدن وخارجها.

وهذا التلاقح الفكري بين المسلمين وغيرهم أدّى إلى افتراق الاُمّة الاسلاميّة إلى طائفتين:

الطائفة الاُولى: وهم يشكّلون الأكثريّة الساحقة في المسلمين، جنحت إلى الجانب السلبي وأراحت نفسها من الخوض في تلك المباحث، وإن كانت لها صلة بصميم الدين كالقضاء والقدر، وعينيّة الصفات للذات أو زيادتها عليها، كيفيّة

( 112 )

الحشر والنشر، ووجود الشرّ في العالم، مع كون خالقه حكيماً إلى غير ذلك ممّا لا يمكن فصلها عن الدين، وأقصى ما كان لدى هؤلاء المتزمّتين، دعوة المسلمين إلى التعبّد بما جاء من النصوص في القرآن والسنّة، وقد تصدّر هذه الطائفة الفقهاء وأهل الحديث ولقد أثر عنهم قول وعمل يعرِّفان موقفهم في هذه التيّارات، ويرجع مغزى ذلك إلى الأخذ بالجانب السّلبي وترك الكلام الّذي هو أسهل الأمرين، ولأجل ذلك قامت تلك الطّائفة بتحريم علم الكلام والمنطق والفلسفة، وإن كان يهدف إلى تقرير العقائد الإسلاميّة عن طريق العقل والبرهان.

وإليك نماذج من أقوالهم في هذا المضمار:

1 _ عن أبي يوسف القاضي (م 192): طلب علم الكلام هو الجهل، والجهل بالكلام

هو العلم(1).

2 _ وعن الشافعي: لأن يلقى الله تبارك وتعالى بكلّ ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام(2).

3 _ وهذا الإمام مالك (م 179) لمّا سئل عن كيفيّة الاستواء على العرش؟ فقال: الاستواء معقول والكيف مجهول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة(3).

فهؤلاء صوّروا البحث عن قوانين الكون، وصحيفة الوجود جهلاً، والجهل بها علماً، والبرهنة على وجوده سبحانه أمراً مذموماً، والسؤال عن مفاد الآية ومرماها بدعة.فكأنّ القرآن أُنزل للتلاوة والقراءة دون الفهم والتدبّر، وكأنّ القرآن لم يأمر النّاس بالسؤال من أهل الذكر إذا كانوا جاهلين. فإذا كان هذا حال قادة الاُمّة وفقهائها، فكيف حال من يَقتدي بهم؟

4 _ سأل رجل عن مالك وقال: ينزل الله سماء الدنيا؟ قال: نعم. قال: نزوله بعلمه أم بماذا؟ فصاح مالك: اسكت عن هذا وغضب غضباً شديدا (4).

5 _ قد بلغ تطرّف إمام الحنابلة إلى حدّ أنّ أبا ثور (م 240) فسّر حديث رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «إنّ الله خلق آدم على صورته» على وجه لا يستلزم التجسيم والتشبيه بإرجاع الضمير إلى آدم حتّى يتخلّص من مغبّتهما، فهجره أحمد، فأتاه أبو ثور، فقال أحمد: أيّ صورة كانت لآدم يخلق عليها، كيف تصنع بقوله: (خلق آدم على صورة الرحمان) فاعتذر أبو ثور

______________________

1 . تاريخ بغداد ج 14 ص 253.

2 . حياة الحيوان للدميري ج 1 ص 11، كما في كتاب «المعتزلة» ص 242.

3 . طبقات الشافعية: ج 3 ص 126.

4 . الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزي، طبع مكة المكرمة، عام 1348 ج 2 ص 251، كما في «المعتزلة» ص 245.

( 113 )

وتاب بين يديه(1).

فالدواء عنده لكلّ داء هو الدّعوة

إلى التعبّد بالنّصوص تعبّداً حرفياً من غير تحليل ولا تفسير.

6 _ إنّ أحد أصحابه، الحارث المحاسبي (م 243) ألّف كتاباً في الردّ على المعتزلة، فأنكره أحمد وهجره. ولمّا اعترض عليه المحاسبي بأنّ الردّ على البدعة فرض، أجاب أحمد بقوله: إنّك حكيت شبهتهم أوّلاً ثمّ أجبت عنها فلم تأمن أطالع الشّبهة ولا ألتفت إلى الجواب أو أنظر إلى الجواب ولا أفهم كنهها(2).

يلاحظ عليه: أنّه لا شكّ في أنّ الردود على أصحاب البدع والضلالات، يجب أن تكون بشكل تهدي الاُمّة ولا تضلّها، وتقمع الإشكال ولا ترسّخه. فمن كانت له تلك الصلاحية فعليه القيام بالردّ والنقد. فهذا هو القرآن الكريم الأسوة المباركة، ينقل آراء المشركين ثمّ ينقضها ويدمِّرها، وإلاّ فمعنى ذلك أن يفسح المعنيّون من علماء الإسلام للأبالسة أن يهاجموا الإسلام و يضعضعوا أركانه، ويتّخذوا الأحداث والشبّان فريسة لأفكارهم يفتكون بهم، ويكون الغيارى من المسلمين القادرون على دفع هجومهم، متفرّجين في مقابل جرأة العاصي وحملة الماجن «ما هكذا تورد يا سعد الإبل». وكيف يرضى الشارع الّذي جعل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فريضة على المسلمين بهذه

______________________

1 . نفح الطيب ج 3 ص 153، كما في كتاب «المعتزلة».

2 . المنقذ من الضلال ص 45 راجع كتاب المعتزلة ص 245 _ 251.

( 114 )

النكسة.

هذا حال الطائفة الاُولى وإليك نبذة عن وضع الطائفة الاُخرى.

الطائفة الثانية: وهم الأقليّة من أصحاب الفكر، وقد عاينوا المشاكل عن كثب وحاولوا حلّها بالدراسة والتحليل. فلأجل تلك الغاية تدرّعوا بمنطق الخصم وأساليبه الكلاميّة، فقلعوا بها الشبه وصانوا دينهم وايمان أحداثهم عن زيغ المبطلين. كلّ ذلك بدافع الذبّ عن حريم الدّين وصيانته، وتجسيداً للأصل الأصيل في الكتاب والسنّة _الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر _ واسوةً بالنبي الأكرم صلَّى

الله عليه و آله و سلَّم الّذي كان يدافع عن دين الله بسيفه وسنانه، وبنانه وبيانه، وكتبه ورسائله.

وقد نجم بين الاُمّة في هذه الطّائفة علماء أخيار اشتروا رضا الله سبحانه بغضب المخلوق، فكانوا يحمون جسد الإسلام من النّبال المرشوقة والموجّهة من السلطة الحاكمة إليه، تحت ستار الدفاع عن الدّين ومكافحة المضلّين، وقد أساء لهم التاريخ فأسماهم بالقدريّة، حطّاً من شأنهم، وإدخالاً لهم تحت الحديث المرويّ عن الرسول الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم «القدريّة مجوس هذه الاُمّة» وكان العصر الأموي (من الوقت الّذي استولى فيه معاوية على عرش الملك إلى آخر من تولّى منهم)، يسوده القول بالجبر، الّذي يصوِّر الانسان والمجتمع أنّهما مسيّران لا مخيّران، وأنّ كلّ ما يجري في الكون من صلاح وفساد، وسعة وضيق، وجوع وكظّة، وصلح وقتال بين الناس أمر حتمي قضى به عليهم، وليس للبشر فيه أيّ صنع وتصرّف.

وقد اتّخذت الطغمة الأمويّة هذه الفكرة غطاءً لأفعالهم الشنيعة حتّى يسدّوا بذلك باب الاعتراض على أفعالهم بحجّة أنّ الاعتراض عليهم إعتراض على صنعه سبحانه وقضائه وقدره، وأنّ الله سبحانه فرض على الانسان حكم ابن آكلة الأكباد وابنه السكّير . وأبناء البيت الاموي الخبيث يعيشون عيشة رغد ورخاء وترف، ويعيش الآخرون على بطون غرثى وأكباد حرّى.

وقد كانت هذه الفكرة تروّج بالخطباء ووعّاظ السلاطين مرتزقة البلاط الاموي.

( 115 )

ففي هذه الظروف نهض رجال ذووا بصيرة لا يستسيغون هذه الفكرة، بل يرونها من حبائل الشيطان،اُلقيت لاصطياد المستضعفين، وسلب حرّياتهم ونهب إمكانيّاتهم، فثاروا على الفكرة وأصحابها وناضلوا من أجل ذلك بصمود وحماس، وكان عملهم هذا انتفاضة في وجه المجبّرة تنزيهاً لساحته سبحانه عمّا وصفه به الجاهلون، وسكت عنه الآخرون رهباً أو رغباً، فكان جزاؤهم القتل والصّلب

والتنكيل بعد الحكم بتكفيرهم من جانب قضاة الجور، بدعوى مروقهم عن الدّين وخروجهم على أمير المؤمنين!! عبد الملك بن مروان!! وسيفه الشاهر الحجّاج بن يوسف.

ونقدّم إليك لمحات من حياتهم ونضالهم في طريق عقيدتهم،وأنّهم لم يكونوا يدينون بشيء ممّا رموا به إلاّ القول بأنّ الانسان مختار في حياته، وأنّه ليس له إلاّ ما سعى، ولم تكن عندهم فكرة التفويض التّي تعادل الشرك الخفيّ، وإنّما حدثت فكرة التفويض بعدهم بين المعتزلة. وعلى ذلك فهؤلاء المسمّون بالقدريّة ظلماً وعدوانا، أسلاف المعتزلة في الدعوة إلى حريّة الانسان، لا في الدعوة إلى التفويض البغيض.

واستغلّت الأشاعرة ومؤلّفو الملل والنّحل لفظ «القدريّة»، فاستعملوها في مخالفيهم تبعاً لأهل الحديث في هذه الظّروف، فأطلقوها على كلِّ من ادّعى للانسان حريّة في العمل واختياراً في الفعل الّذي هو مناط صحّة التكليف، ومدار بعث الرسل، فدعاة الحريّة عندهم قدرية إمّا لاتّهامهم _ كذباً وزوراً _ بانكار تقدير الله وقضائه، من باب إطلاق الشيء (القدريّة) وإرادة نقيضه (انكار القدر ونفيه)، أو لاتّهامهم بأنّهم يقولون نحن نقدّر أعمالنا وأفعالنا و... وسيوافيك بحث حول هذه اللفظة عند خاتمة البحث.

دعاة الحرية

1 _ معبد بن عبدالله الجهني البصري (م 80): أوّل من قال بالقدر في البصرة. سمع الحديث من ابن عبّاس، وعمران بن حصين وغيرهما وحضر يوم التحكيم، وانتقل من البصرة إلى المدينة فنشر فيها مذهبه، وكان صدوقاً ثقة في الحديث ومن التّابعين،

( 116 )

وخرج مع ابن الأشعث على الحجّاج بن يوسف، فخرج وأقام بمكّة فقتله الحجّاج صبراً بعد أن عذّبه، وقيل صلبه عبد الملك بن مروان في دمشق على القول بالقدر ثمّ قتله(1).

وقال المقريزي في خططه: «أوّل من قال بالقدر في الإسلام معبد بن خالد الجهني وكان يجالس الحسن بن

الحسين البصري، فتكلّم بالقدر في البصرة، وسلك أهل البصرة مسلكه لمّا رأوا عمرو بن عبيد ينتحله، وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له أبو يونس سنسويه ويعرف بالأسواري، فلمّا عظمت الفتنة به عذّبه الحجّاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان، سنة ثمانين من الهجرة _ إلى أن قال: وكان عطاء بن يسار قاضياً يرى القدر وكان يأتي هو ومعبد الجهني إلى الحسن البصري، فيقولان له إنّ هؤلاء يسفكون الدّماء ويقولون إنّما تجري أعمالنا على قدر الله فقال: كذب أعداء الله فطعن عليه بهذا»(2).

2 _ غيلان بن مسلم الدمشقي: وهو ثاني من تكلّم بالقدر ودعا إليه ولم يسبقه سوى معبد الجهني. قال الشهرستاني في «الملل والنحل»: «كان غيلان يقول بالقدر خيره وشرّه من العبد، وقيل تاب عن القول بالقدر على يد عمر بن عبد العزيز، فلمّا مات عمر جاهر بمذهبه فطلبه هشام بن عبد الملك وأحضر الأوزاعي لمناظرته. فأفتى الأوزاعي بقتله، فصلب على باب كيسان بدمشق وقتل عام (105)(3).

قال القاضي عبد الجبّار: «ومنهم (الطبقة الرابعة من المعتزلة) غيلان بن مسلم، أخذ العلم عن الحسن بن محمّد بن الحنفيّة»(4).

وقال ابن المرتضى نقلاً عن الحاكم: «أخذ غيلان الدمشقي المذهب عن الحسن بن محمّد بن الحنفيّة ولم تكن مخالفته (الحسن) لأبيه ولأخيه إلاّ في شيء من الإرجاء. روى

______________________

1 . الأعلام للزركلي ج 8 ص 177 ناقلاً عن تهذيب التهذيب ج 10 ص 225، وميزان الاعتدال ج 3 ص 183، وشذرات الذهب ج 1 ص 88، والبداية والنهاية ج 9 ص 34.

2 . الخطط المقريزية: ج 2 ص 356. سيوافيك نظرنا في كلامه فانتظر .

3 . الملل والنحل: ج 1 ص 47 ولسان الميزان ج 4 ص

424. والأعلام للزركلي ج 5 ص 320.

4 . طبقات المعتزلة: ص 229 ولكلامه ذيل يجيء عن ابن المرتضى عند البحث عن جذور الإعتزال.

( 117 )

أنّ الحسن كان يقول _ إذا رأى غيلان في الموسم _: أترون هذا، هو حجّة الله على أهل الشام، ولكنّ الفتى مقتول، وكان وحيد دهره في العلم والزهد والدعاء إلى الله وتوحيده وعدله، قتله هشام بن عبد الملك وقتل صاحبه. وسبب قتله أنّ غيلان كتب إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً يحذِّره فيه من انطفاء السنّة وظهور البدعة(1). فلمّا وصلت الرسالة إلى عمر بن عبد العزيز دعاه وقال: أعنّي على ما أنا فيه. فقال غيلان: ولّني بيع الخزائن وردّ المظالم فولاّه فكان يبيعها وينادي عليها ويقول: تعالوا إلى متاع الخونة، تعالوا إلى متاع الظّلمة، تعالوا إلى متاع من خلَف الرسول في أمّته بغير سنّته وسيرته، وكان فيما نادي عليه جوارب خزّ فبلغ ثلاثين ألف درهم، وقد أتكل بعضها. فقال غيلان: من يعذرني ممّن يزعم أنّ هؤلاء كانوا أئّمة هدى وهكذا يأتكل والناس يموتون من الجوع. فمرّ به هشام بن عبد الملك قال: أرى هذا يعيبني ويعيب آبائي وإن ظفرت به لاُقطّعنّ يديه ورجليه فلمّا ولى هشام قتله على النّحو الّذي وعده»(2).

وما ذكرناه من النُّصوص يوقفنا على اُمور:

1 _ إنّ القول بكون الإنسان مخيّراً لا مسيّراً يتّصل جذورها بالبيت الهاشمي. فقد عرفت أنّ معبداً الجهني كان تلميذاً لابن عبّاس، وغيلان الدمشقي تتلمذ للحسن بن محمّد بن الحنفيّة. فما ذكره المقريزي من أنّه أخذ ذلك الرأي من أبي يونس سنسويه لا يركن إليه، بعد ثبوت تتلمذهما لقادة الفكر من البيت الهاشمي،ولعمران بن حصين الصحابي الجليل ومن أعلام أصحاب علي _ عليه السلام _.

2

_ إنّ نضال الرّجلين في العهد الأموي كان ضدّ ولاة الجور الّذين كانوا يسفكون الدماء وينسبونه إلى قضاء الله وقدره، فهؤلاء الأحرار قاموا في وجههم وأنكروا القدر بالمعنى الّذي استغلّته السلطة وبرّرت به أعمالها الشنيعة، وإلاّ فمن البعيد جدّاً من مسلم واع أن ينكر القضاء والقدر الواردين في الكتاب والسنّة على وجه لا يسلب الحريّة من الإنسان ولا يجعله مكتوف الأيدي.

______________________

1 . ستوافيك رسالته فانتظر.

2 . المنية والأمل: ص 26.

( 118 )

3 _ إنّ هذا التاريخ يدلنا على أنّ رجال العيث والفساد إذا أرادوا إخفاء دعوة الصالحين اتّهموهم بالكفر والزندقة ومخالفة الكتاب والسنّة.

4 _ إنّ صلب معبد الجهني بيد الحجّاج السفّاك بأمر عبد الملك أوضح دليل على أنّ الرجل كان من دعاة الإصلاح، ولكن ثقل أمره على الطغمة الأمويّة فاستفزّوه من أديم الأرض وقطعوا جذوره بالصّلب والقتل، كما أنّ قيام غيلان في وجه هشام بن عبد الملك يعرب عن صموده في سبيل الحقّ وإزهاق الباطل وقتله به يدلّ على قداسة ما كان يذهب إليه.

وعلى أيّ تقدير; فهذان الرجلان، في الطّليعة من دعاة الحريّة و الاختيار، ويعدّان أسلافاً للاعتزال ولا يمتّان له بصلة غير الإشتراك في نفي الجبر و التسيير.

5_ إنّ هؤلاء الأحرار و إن رُموا بالقدرية بمعنى إنكار القضاء و القدر، ولكنّهم كانوا بصدد إثبات الاختيار و الحريّة للإنسان في مقابل الجبر و إغلال الأيدي الّذي كانت السلطة تشجّعه، والاختيار هو الّذي بُنيت عليه الشرائع و عليه شرّعت التكاليف، فإنكاره إنكار للأمر الضّروري.

ولكنّ السلطة لأجل إخماد ثورتهم اتّهمتهم بالقدريّة حتّى تطعن بهم أنّهم خالفوا الكتاب و السنّة الدالّين على تقدير الأشياء من جانبه سبحانه و قضائه عليها، و أين هذه التهمة ممّا تمسّك به القوم

من الدعوة إلى الاختيار و الحريّة؟

وأمّا تفسير القدريّة في حقّ هؤلاء بتفويض الإنسان إلى نفسه و أفعاله، أنّه ليس لله سبحانه أي صنع في فعله فهو تفسير جديد حدث بعد هؤلاء، و به رُميت المعتزلة كما سيأتي الكلام فيه.

و في الحقيقة كانت دعوة هؤلاء ردّ فعل لاسطورة الجبر الّتي كانت ذائعة في الصدر الأوّل عن طريق أهل الكتاب الّذين تلبّسوا بالإسلام، و كانت الأكثريّة الساحقة من المسلمين يؤمنون بالقدر على وجه يجعل الإنسان مغلول اليدين. و قد قال

( 119 )

أحد رجّاز ذلك الزمان معبّراً عن تلك العقيدة:

يا أيهّا المضمِر همّاً لا تهَُم * إنّك إن تُقْدَر لك الحمّى تُحَم

ولو علوت شاهقاً من العلم * كيف توقِّيك و قد جفّ القلم(1)

فإذا كان الرأي العام عند المسلمين هذا، فعلى العالم أن يظهر علمه. فلأجل ذلك نرى أنّ معبداً الجهني و غيلان الدمشقي و القاضي عطاء بن يسار و غيرهم كعمر المقصوص (م/80) الّذي ظهر بدمشق و كان اُستاذاً للخليفة معاوية بن يزيد بن معاوية و قتله الأمويّون بتهمة إفساد الخليفة(2) انتفضوا ضدّ هذه الفكرة الفاسدة فلقوا ما لقوا من القتل و التنكيل، و قد أدّوا رسالتهم.

ولو أنّ علماء الإسلام في السنّة والجماعة قاموا بواجبهم في تلك الحقبة التأريخيّة وما هابوا السلطة، لما ظهرت الحركات الرجعيّة بين الاُمّة الإسلاميّة في أوائل القرن الثاني، الّتي كانت تدعو إلى الجاهليّة الاُولى، ولأجل إيقاف القارئ على هذه الحركات ومبادئها سنعرض عليه بعض الحركات الرجعية الّتي ظهرت في القرن الثاني و الثالث بعد إكمال البحث في المقام فانتظر.

رسالة غيلان إلى عمر بن عبدالعزيز

الرسالة الّتي بعث بها غيلان إلى عمر بن عبدالعزيز توقفنا:

أوّلاً: على مكانته من الصمود في وجه المخالفين، ومّما جاء في

تلك الرسالة : «أبصرت يا عمر ..... و ماكدت أعلم يا عمر، أنّك أدركت من الإسلام خلقاً بالياً، و رسماً عافياً، فيا ميّت بين الأموات، لا ترى أثراً فتتبع، ولا تسمع صوتاً فتنتفع، طفئ أمر السنّة، وظهرت البدعة، اُخيف العالم فلا يتكلّم، ولا يعطى الجاهل فيسأل، و ربّما نجحت الاُمة بالإمام، و ربّما هلكت بالإمام، فانظر أيّ الإمامين أنت، فإنّه تعالى يقول :

______________________

1 . تأويل مختلف الحديث: ص 28 ط بيروت دار الجيل.

2 . مختصر الدول لابن العبري: ص 151. لاحظ كتاب المعتزلة ص 91.

( 120 )

(وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) فهذا إمام هدى، ومن اتّبعه شريكان، وأمّا الآخر: فقال تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّار وَ يَوْمَ القِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ)(القصص:41) ولن تجد داعياً يقول : تعالوا إلى النار _ إذاً لا يتبعه أحد _ ولكنّ الدعاة إلى النار هم الدعاة إلى معاصي الله، فهل وجدت يا عمر حكيماً يعيب ما يصنع، أو يصنع ما يعيب، أو يعذّب على ماقضى، أو يقضي ما يعذّب عليه، أم هل وجدت رشيداً يدعو إلى الهدى ثمّ يضل عنه، أم هل وجدت رحيماً يكلّف العباد فوق الطاقة، أو يعذّبهم على الطاعة، أم هل وجدت عدلاً يحمل الناس على الظلم و التظالم، و هل وجدت صادقاً يحمل الناس على الكذب أو التكاذب بينهم؟ كفى ببيان هذا بياناً، و بالعمى عنه عمى»(1) .

و هذه الرسالة الّتي نقلها ابن المرتضى تعرب أوّلاًَ : عن أنّ الرّجل كان ذا همّة قعساء، و غيرة لا يرضى معها بتدهور الاُمور في المجتمع و رجوعه القهقرى، أنّه بلغ من الإصحار بالحقيقة أن خاطب خليفة الزمان بما جاء في هذه الرسالة.. وأين كلامه هذا «اُنظر أيّ الإمامين

أنت» من كلام مرتزقة البلاط الأموي من حيث تقريظهم للخلفاء والثناء على أعمالهم القبيحة، ووصفهم بالسير على خطى الرسول محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم. هذا هو جرير بن عطية الخطفي يمدح بني اُميّة بقوله:

ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح

و هذه ليلى الأخيلية تمدح الحجّاج بن يوسف بقولها :

إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة * تتبّع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الّذي بها * غلام إذا هزّ القناة سقاها

وقال الآخر:

رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً * شديداً بأعباء الخلافة كاهله

______________________

1 . المنية والامل ص 25 _ 26.

( 121 )

إلى غيرهم من الشعراء والاُدباء الّذين يمدحون الطغاة بشعرهم لابشعورهم ونثرهم لا بعقولهم.

ثانياً : إنّ المتبادر من قوله «أو يعذّب على ما قضى ... الخ» إنمّا هو انكار القضاء الدارج في ألسن الأمويين من غلّ الأيدي و جعل الإنسان كالريشة في مهبّ الريح، وأمّا القضاء بمعنى العلم الأزلي بالأشياء و الحوادث فلم يعرف إنكاره له.

محاكمة غيلان

و من العجب «وما عشت أراك الدهر عجباً» أنّ هشام بن عبدالملك قبض على غيلان الدمشقي فقال له :قد كثر كلام الناس فيك، فبعث إلى الأوزاعي، فلمّا حضر قال له هشام : يا أبا عمر ناظر لنا هذا القدريّ، فقال الأوزاعي مخاطباً غيلان : اختر إن شئت ثلاث كلمات و إن شئت أربع كلمات و إن شئت واحدة. فقال غيلان : بل ثلاث كلمات.

فقال الأوزاعي : أخبرني عن الله عزّ و جلّ هل قضى على مانهى؟

فقال غيلان : ليس عندي في هذا شيء.

فقال الأوزاعي : هذه واحدة. ثمّ قال : أخبرني عن الله عزّ و جلّ أحال دون ماأمر؟

فقال غيلان : هذه أشدّ من الاُولى، ما عندي

في هذا شيء.

فقال الأوزاعي : هذه اثنتان يا أمير الموٌمنين ثمّ قال : أخبرني عن الله عزّ و جلّ هل أعان على ما حرّم؟

فقال غيلان : هذه أشدّ من الاُولى و الثانية، ما عندي في هذا شيء.

فقال الأوزاعي : هذه ثلاث كلمات. فأمر هشام فضربت عنقه(1).

ثمّ إنّ هشاماً طلب من الأوزاعيّ أن يفسّر له هذه الكلمات الثلاث. فقال

______________________

1 . لا تنس أن هشاماً قد يمّم قتله قبل القاء القبض عليه وقبل هذه المناظرة المسرحيّة.

( 122 )

الأوزاعي: أمّا الأوّل فإنّ الله تعالى قضى على ما نهى، نهى آدم عن الأكل من الشجرة ثمّ قضى عليه بأكلها. أمّا الثاني فإنّ الله تعالى حال دون ما أمر، أمرإبليس بالسجود لآدم ثمّ حال بينه و بين السجود، و أمّا الثالث، فإنّ الله تعالى أعان على ما حرّم، حرّم الميتة و الدم و لحم الخنزير، ثمّ أعان عليها بالاضطرار...(1).

يلاحظ على هذه المناظرة:

أوّلاً: أنّ الجهل بهذه الأسئلة الثلاثة لوكان مبرّراً لضرب العنق، فهشام بن عبدالملك خليفة الزمان أولى بهذا، لأنّه كان أيضاً جاهلاً بها بدليل استفساره عنها من الأوزاعي. فلماذا لا تضرب عنقه أيضاً؟ وهذا يعرب عن أنّ الحكم بالإعدام كان صادراً قبل المناظرة، و إنّما كانت المناظرة بين يدي الأوزاعي تبريراً للإعدام حتّى لا يقال إنّ الحكم صدر إعتباطاً.

ثانياً : ما سأله الأوزاعي عنه ثمّ أجاب عنه، يدل على أنّه كان يمشي على خطّ الجبر، و أنّه كان معتقداً بأنّ قضاء الله يسلب عن الإنسان الحريّة و الإختيار. فكان أكل آدم من الشجرة بقضاء من الله و ما كان له محيص عن الأكل، كما أنّ تخلّف إبليس عن السجود كان بقضاء الله و لم يكن له مفرّ عن المعصية. وقد

حال سبحانه بينه و بين السجود على آدم، ومن المعلوم أنّ غيلان الدمشقي و كلّ موحّد يعتقد بصحّة بعث الرّسل و صحّة التكليف ... لا يراه صحيحاً.

ثالثاً : إنّ المناظرة لم تكن مبنيّة على اُصولها. فإنّ من أدب المناظرة أن يطرح السؤال أو الإشكال على وجه واضح، حتى يتدبّر الآخر فيما يرتئيه المناظر من الجواب، وأمّا الأسئلة الّتي طرحها الفقيه الأوزاعي فإنّها أشبه بالأحاجى واللّغز، لا يستفاد منها إلاّ في مواضع خاصّة لاختبار ذكاء الإنسان، ولم يكن المقام إلاّ مقام السيف والدم لا الإختبار للذكاء.

______________________

1 . تاريخ المذاهب الاسلاميّة ج 1 ص 127 _ 128 نقلاً عن العقد الفريد وشرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون.

( 123 )

وفي حدسي أنّ غيلان الدمشقي قد وقف على نيّة الأوزاعي و أنّه يريد أن يأخذ منه الإعتراف بأحد الأمرين إمّا بالجبر إذا أجاب بمثل ما يريد، و عندئذ يكون مناقضاً لعقيدته.

وإمّا بالاختيار و الحريّة فيكون محكوماً بالإعدام و ضرب العنق. فاختار السكوت و عدم الإجابة حتّى يتخلّص من كلتا المغبّتين. وما كان المسكين عارفاً بأنّ الحكم بالإعدام قد سبق السؤال والجواب، وهذه المناظرة مناظرة مسرحيّة رُتّبت لتبرير إراقة دمه تحت غطاء السؤال و الجواب.

هذا وقد قام بعض المعنيّين بالملل والنحل، بنشر ما وصل إليه من الوثائق عن بدايات علم الكلام في الاسلام، فنشر ضمن مجموعةِ رسالتين : رسالة الحسن بن محمّد ابن الحنفيّة في القدر، و رسالة عمر بن عبدالعزيز فيه أيضاً. وسيوافيك الكلام حولهما في آخر المطاف.

وللكتاب ملحق يهدف إلى تبيان بعض القضايا المتعلّقة بشخصيّة من شخصيات القدريّة المفكّرين وهو غيلان الدمشقي، وخاصة تلك القضايا المتعلّقة بحياته وإعدامه في زمن خلافة هشام بن عبدالملك (125).

قال محقّق الكتاب

: وتدلّ معظم الروايات على أنّها أقاصيص موضوعة اختلقتها رواتها ليبرهنوا على أنّ غيلان كان خارجاً عن الجماعة، و أنّ حججه كانت غير مقنعة، وأنّ السلطة السياسيّة كانت على حقّ عندما أعدمته. و هذا كلّه مما يجعل استخلاص ما حدث على وجه الدقّة أمراً صعباً، على أنّني حاولت توضيح الأمر بمعلومات استقيتها من كتاب «أنساب الأشراف» للبلاذري، بالاضافة إلى المصادر الاُخرى(1).

______________________

1 . بدايات علم الكلام في الاسلام: رسالتان في الرد على القدرية مع ملحق في أخبار غيلان الدمشقي حققها وترجمها وعلّق عليها يوسف فان اسّ نشرها المعهد الالمائي للأبحاث الشرقية في بيروت. وقد وقفنا على تصوير الرسالتين الاوليين دون الملحق واكتفينا ببيان كلام المحقّق.

( 124 )

خاتمة المطاف

قد تكرّر لفظ «القدريّة» في كلمات أهل الحديث و المتكلّمين و مؤلّفي الفرق والملل والنحل، ورويت حولها أحاديث وهي إحدى المصطلحات الدارجة بينهم، وتحاول كلّ طائفة أن تتبّرأ منها وتتّهم مخالفها بها. ولأجل إكمال البحث نتحدّث عن سند الحديث أوّلاً، ودلالته ثانياً على وجه الإجمال، وإليك متن الحديث بصوره:

1- روى أبو داود عن عبدالله بن عمر أنّ رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال : «القدريّة مجوس هذه الاُمّة إن مرضوا فلا تعودوهم و إن ماتوا فلا تشهدوهم».

2- وروى أيضاً عن عبدالله بن عبّاس(1) أنّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم».

3- روى الترمذي عن عبدالله بن عبّاس قال : قال رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم:

«صنفان من اُمّتي ليس لهم في الإسلام نصيب: المرجئة، و القدرية»(2).

إذا عرفت متن الحديث فإنّ الكلام يقع في موردين:

الأوّل: في سند الحديث. فهل روي بسند صحيح يمكن الاحتجاج به أو لا؟

الثاني:

فما هو المقصود من القدريّة على فرض صحّته؟

أمّا من ناحية السند، فيكفي في ضعف الأوّل ما قاله المنذري: «إنّه منقطع لأنّه يرويه سلمة بن دينار عن ابن عمر، ولم يدركه، وقد روى عن ابن عمر من طرق لا يثبت منها شيء».

و يكفي في ضعف سند الثاني وجود «حكم بن شريك الهذلي البصري» فيه وهو مجهول لم يعرف.

______________________

1 . كذا في جامع الاُصول ولكن في سنن أبي داود، «عمر بن الخطاب» مكان «عبد الله بن عباس»، لاحظ: ج 4، ص228، الحديث 4710.

2 . جامع الاُصول: ج 10 ص 526.

( 125 )

و في ضعف سند الثالث وجود «محمّد بن فضيل بن غزوان» وهو ضعيف(1).

أضف إلى ذلك أنّ جمعاً من الحفّاظ عدّوا أصل الحديث من الموضوعات. منهم سراج الدين القزويني قال: إنّه موضوع و تعقّبه ابن حجر(2).

و قال أبوحاتم: «هذا الحديث باطل»، وقال النسائي: «هذا الحديث باطل كذب»،وقال ابن الجوزي: «حديث لعن القدريّة لا شكّ في وضعه»(3).

هذا وضع السند، وأمّا الدلالة، فقد اختلف النّظر في مفاده، كلّ من المجبّرة والعدليّة يتبرّأ منه، ويريد تطبيقه على خصمه. فأهل الحديث و الحشويّة والسلفيّة والأشعريّة الّذين يتّسمون بسمة الجبرالجليّ أو الخفيّ، يفسّرون القدريّة بنفاة القدر، من باب إطلاق الشيء و إرادة نقيضه، والمعتزلة و أسلافهم، أعني دعاة الحريّة و الاختيار يتّهمون الجبرية بالقدريّة، لأنّهم قائلون بالقدر و التقدير، وأنّ كل شيء يتحقّق بتقدير من الله سبحانه و لا محيص عمّا قدّر وقُضي.

وهناك كلمة للعلاّمة محمّد بن علي الكراجكي (م 449) من تلاميذ الشيخ المفيد لا بأس بنقلها، قال : «ولم نجد في أسماء الفرق ما ينكره أصحابه و يتبرّأ منه سوى القدرية».

فأهل العدل يقولون لأهل الجبر : أنتم «القدريّة»، وأهل الجبر

يقولون لأهل العدل: «أنتم القدريّة»،و إنّما تبرّأ الجميع من ذلك لأنّهم رووا _ من طريق أبي هريرة _ عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه لعن القدرية وقال : «إنّهم مجوس هذه الاُمّة إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم»(4).

وقد حاول الأشعري تطبيق الحديث على المعتزلة وقال : «زعمت القدريّة _ يريد بها المعتزلة وأسلافهم _ أنّا نستحقّ اسم القدر، لأنّا نقول: إنّ الله عزّ و جلّ قدّر الشرّ

______________________

1 . جامع الاُصول: ج 10 ص 526.

2 . جامع الاُصول: ج 10 ص 526.

3 . الموضوعات لابن الجوزي: ج 1 ص 275 _ 276 واللئالي المصنوعة للسيوطي، ج 1، ص 258.

4 . كنز الفوائد: ج 1 ص 123 ط بيروت.

( 126 )

والكفر، فمن يثبت القدر كان قدريّاً دون من لم يثبته».

ثمّ أجاب عن استدلال المعتزلة وقال : «القدريّ من يثبت القدر لنفسه دون ربّه عزّ و جلّ، وأنّه يقدّر أفعاله دون خالقه، وكذلك هو في اللّغة، لأنّ الصائغ هو من زعم أنّه يصوغ دون من يقول إنّه يصاغ له، فلمّا كانت المعتزلة تزعم أنّهم يقدّرون أعمالهم ويفعلونها دون ربّهم، وجب أن يكونوا قدريّة، ولم نكن نحن قدريّة لأنّا لم نضف الأعمال إلى أنفسنا دون ربّنا ولم نقل : إنّا نقدّرها دونه. قلنا إنّك تقدّر لنا»(1).

يلاحظ عليه: أنّ القضاء و القدر من الكلمات الواردة في الكتاب والسنّة بكثرة. والفاعل في الجميع هو الله سبحانه و تعالى، لا الإنسان قال تعالى : (والّذي قدّر فهدى)(الأعلى-3) وقال : (إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر) (القمر/49). فلو أطلق «القدريّة» يراد به المعتقد لما جاء في المصدرين من قضاء الله و قدره، لا المعتقد بأنّ الإنسان هو الّذي

يقدّر أفعاله و أعماله.

وأعجب من ذلك قياسه اسم الفاعل على المصادر المنسوبة، فالأوّل كالصائغ يراد منه الفاعل أي من يصوغ، دون الثانية. بل يراد منها المعتقد بالمصدر الّذي نسب إليه، كالجبريّة : من يعتقد بالجبر، والعدليّة : من يعتقد بالعدل، وهكذا.

ثمّ إنّ هنا محاولات اُخرى لأجل تطبيق الحديث على عقيدة دعاة الحريّة والاختيار غير ما عرفته من كلام الأشعري من أنّ الإنسان هو المقدّر لأعماله، كما عرفت ضعفه وإليك بيانها:

1- القدريّة منسوبة إلى «القدرة» بمعنى الاستطاعة، فمن قال بتأثير قدرة الإنسان في فعله و أنّها المصدر له، فهو قدريّ.

يلاحظ عليه: أنّه لو صحّ هذا الوجه لوجب ضمّ الفاء دون فتحها، والمشهور هو الأوّل ولم يسمع الثاني.

______________________

1 . الابانة: ص 146.

( 127 )

أضف إليه أنّ المناسب على هذا الوجه هو التعبير «بالقادرية» لا «القدرية» بضمّ الفاء الّذي هو غير مأنوس للأذهان و الأفهام.

2_ إنّ الحديث من باب إطلاق الشيء و إرادة نقيضه، أي نفاة القدر و منكروه، وسيأتي في حديث أحمد ما يوافق ذلك.

يلاحظ عليه: أنّه لم ير مثله في أمثالها، فلا تطلق الجبريّة، ولا العدليّة على نفاة الجبر والعدل.

أضف إليه أنّه لم يظهر من هؤلاء _ أعني معبداً الجهني ولا غيلان الدمشقي _ إنكار التقدير بالمعنى الصحيح، غير المنافي للحريّة والاختيار، فإذا أردنا أن نعرف مذهبهم في مجال القضاء و القدر، فيلزم علينا الرجوع إلى مذهب خصومهم، فإنّ الاُمور تعرف بأضدادها، و حاشا أن يكون المسلم الواعي منكراً للقضاء والقدر الواردين في الكتاب و السنّة، غير السالبين للاختيار و الحريّة، غير المنافيين لصحّة التكليف و بعث الرسل. و إنّما أنكروا القدر بالمعنى الّذي كان البلاط و مرتزقته ينتحلونه لتبرير أعمالهم الإجراميّة، ولا يرون للإنسان ولا

لأنفسهم أيّة مسؤوليّة فيها، و يرفعون عقيرتهم بأنّ كلّ ما في الكون من خير و شرّ، وكظّة وسغب، إنّما يرجع إلى إرادته سبحانه. فلايصحّ الاعتراض على جوع المظلوم و شبع الظالم. وهؤلاء الأحرار قد قاموا في وجهالأمويين وأنكروا القدر بهذا المعنى الّذي يعرّف الإنسان كالريشة في مهبّ الريح.ونفي القدر بهذا المعنى، غير نفيه بالمعنى الصّحيح سواء فسّر بالعلم والارادة الأزليين، أم بتقدير الأشياء و القضاء على وجودها و تقدير الإنسان بينهما موجوداً مختاراً مسؤولاً عن فعله، والقضاء على ما يصدر منه بهذه الصورة على ما أوضحناه في محلّه.

3_ ما نقله الشيخ أبو زهرة عن الشيخ مصطفى الصبري شيخ إسلام (تركيا) السابق وهو مقاربة رأيهم بعض عقائد المجوس، فالمجوس ينسبون الخير إلى الله والشرّ إلى الشيطان و كذلك هؤلاء القدريّة يفرقون بين الخير و الشر فيسندون الخير إلى الله

( 128 )

والشرّ إلى الشيطان(1).

يلاحظ عليه: أنّ نسبة الثنوية بالمعنى الّذي ذكره شيخ إسلام تركيا إلى المعتزلة رجم بالغيب، فإنّ المعروف من مذهب المعتزلة فضلاً عن أسلافهم هو نسبة الخير و الشرّ إلى الإنسان نفسه لا التّفريق بينهما.

وهذا كلام قاضي القضاة عبد الجبّار، يمنع بتاتاً عن انتساب فعل الإنسان إلى الله خيره و شرّه و يقول : «إنّ أفعال العباد لا يجوز أن توصف بأنّها من الله و من عنده و من قبله، وذلك واضح، فإنّ أفعالهم حدثت من جهتهم و حصلت بدواعيهم و قصودهم، واستحقّوا عليها المدح و الذّم، والثواب و العقاب فلو كانت من جهته تعالى أو من عنده أو من قبله لما جاز ذلك ...»(2).

هذا بعض الكلام حول الحديث و مفاده و من أراد البسط والاستيعاب فعليه المراجعة إلى «شرح الاُصول الخمسة ص 772 _

778، وشرح التجريد للعلاّمة الحلّي، ص 196، ط صيدا و شرح المقاصد للتفتازاني ج 2، ص 122 والتمهيد للباقلاني الفصل الثامن والعشرين».

ولو أنّ الرّسول يعدّ القدريّة في هذا الحديث مجوس هذه الاُمّة، ففي بعض ما روي عن ابن عمر عن الرسولصلَّى الله عليه و آله و سلَّم عدّت نفاة القدر مجوس الاُمّة، وإليك نزراً منه:

روى أحمد في مسنده عن ابن عمر عن النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال : «لكلّ أُمّة مجوس، ومجوس أُمّتي الّذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم و إن ماتوا فلا تشهدوهم»(3).

وروى الترمذي و أبو داود عن نافع مولى ابن عمر أنّ رجلاً جاء ابن عمر فقال: «إنّ فلاناً يقرأ عليك السلام، فقال ابن عمر : بلغني أنّه قد أحدث التكذيب بالقدر،

______________________

1 . تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 1 ص 124.

2 . شرح الاُصول الخمسة: ص 778.

3 . مسند أحمد: ج 2 ص 86.

( 129 )

فإن كان قد أحدث فلا تقرأ مني السّلام فإنّي سمعت رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقول : «ويكون في هذه الأُمّة، أو في أمّتي _ الشكّ منه _ خسف و مسخ و ذلك بالمكذّبين بالقدر»(1).

ولا يخفى وجود التعارض الصّريح بين كون القدريّة مجوس الاُمّة، و كون نافي القدر مجوسها. و تفسير الأوّل بنفاة القدر تفسير بلا دليل، بل تفسير على خلاف اللّغة والعرف.

و يكفي في ضعف الحديث الثاني أنّه وقع التكذيب و صدر الشك في القدر في العصور الماضية، ولم يعمّ الخسف والمسخ للمكذّبين و الشاكّين فيه.

إنّ السابر في كتب الحديث والتاريخ والملل والنحل يرى العناية التامّة من أصحاب الحديث و غيره لمسألة القدر. و قد كانت تحتلّ في

تلك العصور، المكانة العليا بين المسائل العقيديّة حتّى كان مدار الإيمان و الكفر فكان المثبت مؤمناً و النافي كافراً.

هذا مع أنّ الرسول الأعظمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم كان يقبل إسلام آلاف القائلين بالشهادتين من دون أن يسألهم ولو في مورد عن القضاء والقدر، وأنّه هل يعتقد القائل، بأنّ الله سبحانه يقدّر أفعال الإنسان و أعماله، فيحكم عليه بالإسلام أو لا، فيحكم عليه بالكفر.

إذن فما معنى هذه العناية الحادثة بعد رحلة الرسولصلَّى الله عليه و آله و سلَّم بهذه المسألة؟

أليس هذا يدفع الإنسان إلى القول بأنّها كانت مسألة مستوردة، زرعها الأحبار والرّهبان، وغذّتها السلطة الأموية و ... وبالتالي شقّ بها عصا المسلمين و صاروا يكفّر بعضهم بعضاً.

هذا و إنّ الشيخ البخاري يروي عن رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال : «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلاّ الله و أنّ محمّداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزّكاة والحجّ وصوم رمضان»(2).

______________________

1 . جامع الاُصول: ج 10 ص 526 _ 527.

2 . صحيح البخاري: ج 1 ص 7 من كتاب الايمان.

( 130 )

وروى عبادة بن الصامت و كان شهد بدراً و هو أحد النقباء ليلة العقبة: أنّ رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال _ وحوله عصابة من أصحابه _ : «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً و لا تسرقوا و لا تزنوا و لا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم و أرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله و من أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدّنيا فهو كفّارة له، و من أصاب من ذلك شيئاً ثمّ ستره الله، فهو

إلى الله إن شاء عفا عنه و إن شاء عاقبه» فبايعناه على ذلك(1).

فلو كان للاعتقاد بالقدر، تلك المكانة العظمى، فلماذا لم يذكره رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّمولو في مورد، ولماذا تركه سبحانه عند أمره رسوله بأخذ البيعة عن النساء؟(2)

كلّ ذلك يشرف الإنسان على القطع بأنّ البحث عن القدر و المغالاة فيه، كان بحثاً سياسياً وراء ه غاية سياسية لأصحاب السلطة و الإدارة. و إلاّ فلا وجه لأن يتركه الوحي في أخذ البيعة عن النساء. ولا الرسول الاكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم في عرض الإسلام و تبيينه وقبوله من الآلاف المؤلفة من المتشرفين بالإسلام.

رسائل ثلاث حول القدر

ولو طلب القارئ الكريم التعرّف على التشاجر الّذي كان قائماً على قدم و ساق في بيان معنى القدر و أنّه ماذا كان يراد منه، وأنّه هل كان الاعتقاد به يوم ذاك ملازماً للجبر أو لا؟ فعليه بدراسة ثلاث رسائل في هذا المجال، تعدّ من بدايات علم الكلام في الإسلام وقد نشرت تلك الرسائل حديثاً وهي:

1- الرسالة المنسوبة إلى الحسن بن محمّد بن الحنفيّة، والرسالة كتبت بايحاء من الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان (م 86 ه_) و يرجع تأريخ تأليفها إلى عام 73 ه_ فيكون أقدم رسالة في هذا المجال إن صحّت النسبة إليه.

______________________

1 . صحيح البخاري: ج 1 ص 8 _ 9 من كتاب الايمان.

2 . الممتحنة / 12.

( 131 )

2- ما كتبه الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز (م 101 ه_) إلى بعض القدريّة المجهول الهوية وقد جاء القدر في الرسالتين مساوقاً للجبر. وقد فرض الحاكم الأموي قدريّاً ينكر علمه سبحانه الأزلي بالأشياء و أفعال العباد، فيردّ عليه بحماس على نحو يستنتج منه الجبر،

والرسالة جديرة بالقراءة حتّى يعلم أنّ الأمويين من صالحهم إلى طالحهم كيف شوّهوا الإسلام، وصاروا أصدق موضوع لقول القائل «ولولاكم لعمّ الإسلام العالم كلّه».

وقدنشرت هذه الرسالة بصورة مستقلّة. وطبعت ضمن ترجمة عمر بن عبدالعزيز في كتاب حلية الأولياء ج 5 ص 346-353.

3- ما كتبه الحسن بن يسار المعروف بالحسن البصري (م 110 ه_) حيث إنّ الحجّاج بن يوسف كتب إلى الحسن: «بلغنا عنك في القدر شيء» فكتب إليه رسالة طويلة ذكر أطرافاً منها ابن المرتضى في المنية و الأمل ص 13-14.

قال الشهر ستاني : «ورأيت رسالة(1) نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبدالملك ابن مروان و قد سأله عن القول بالقدر والجبر. فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدريّة واستدلّ فيها بآيات من الكتاب و دلائل من العقل. وقال: ولعلّها لواصل بن عطاء فما كان الحسن ممّن يخالف السلف في أنّ القدر خيره و شرّه من الله تعالى. فإنّ هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم. والعجب أنّه حمل هذا اللّفظ الوارد في الخبر على البلاء و العافية، والشدّة والرخاء، والمرض والشفاء، والموت والحياة، إلى غير ذلك من أفعال الله تعالى دون الخير والشرّ، والحسن والقبيح، الصادرين من اكتساب العباد. وكذلك أورده جماعة من المعتزلة في المقالات عن أصحابهم»(2).

ولا وجه لما احتمله من كون الرسالة لواصل، إلاّ تصلّبه في مذهب الأشعري و أنّ فاعل الخير والشر مطلقاً _ حتّى الصادر من العبد _ هو الله سبحانه دون العبد، ومن

______________________

1 . نقل القاضي عبد الجبار نصّ الرسالة في كتابه «فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة» ص 215 _ 223.

2 . الملل والنحل ج 1 ص 47، لاحظ نصّ الرسالة في الجزء الأوّل من هذه الموسوعات ثمّ اقض.

( 132 )

كان هذا مذهبه،

يستبعد أن ينسب ما في الرسالة إلى الحسن البصري _ ذلك الإمام المقدّم عند أهل السنّة _.

وأمّا على المذهب الحقّ من أنّ الفاعل الحقيقي لأفعال الإنسان هو نفسه، لا على وجه التفويض من الله إليه، بل بقدرة مفاضة منه إليه في كلّ حين، واختيار كُوِّنت ذاته به، و حريّة فطرت بها فالفعل فعل الإنسان، وفي الوقت نفسه فعل الله تسبيباً، بل أدقّ وأرقّ منه كما حقّق في محلّه.

وأخيراً نلفت نظر القارئ إلى ما كتبه كافي الكفاة الصاحب إسماعيل بن عبّاد (ت: 326 _ م _ 385) في الردّ على القدريّة أسماها «الابانة عن مذهب أهل العدل بحجج القرآن والعقل».

وبما أنّ هذه الرّسالة طريفة في بابها نأتي بنصّ ما يخصّ بردّ القدريّة، ويريد من هذه اللّفظة القائلين بالقدر على وجه يستلزم الجبر و إليك نصّها:

رسالة الصاحب في الرد على القدريّة (المجبّرة)

زعمت المجبّرة القدريّة : أنّ الله يريد الظلم والفساد، ويحبُّ الكفر والعدوان، ويشاء أن يشرك به ولا يعبد، ويرضى أن يجحد و يسبّ و يشتم، وقالت العدليّة : بل الله لا يرضى إلاّ الصّلاح و لا يريد إلاّ الاستقامة والسّداد، وكيف يريد الفساد و قد نهى عنه و توعّد، وكيف لا يريد الصّلاح و قد أمر به ودعا إليه، ولو لم يفعل العباد إلاّ ما أراد الله تعالى لكان كلّهم مطيعاً لله تعالى، فإن كان الكافر قد فعل ما أراد منه مولاه فليس بعاص، وأطوع ما يكون العبد لمولاه إذا فعل ما يريده، وأيضاً فليس بحكيم من أراد أن يشتم، ولم يرد أن يعظّم، ورضى أن تجحد نعمه، وأحبّ أن لا تشكر مننه، قال الله تعالى : (وَمَا اللّهُ يُريدُ ظُلماً لِلْعِبادِ)(1) وقال تعالى :

(ولا يَرضى لِعبَادِهِ الكُفْرَ(2))

______________________

1 . المؤمن / 31.

2 . الزمر / 9.

( 133 )

وقال تعالى : (وَاللّهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ)(1) وقال تعالى في تكذيب من زعم أنّ الكفّار كفروا بمشيئة الله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَ لاآبَاؤُنَا وَ لا حَرَّمْنَا مِنْ شَيء كَذَلِكَ _ إلى قوله _ و إِنْ أَنْتُمْ إلاّ تَخْرُصُونَ) (2) أي تكذبون.

فإن قالوا : وقال الله (وَمَا تَشَاءُونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ) (3) فقل: هذه الآية وردت على الخير دون الشرّ. وقال تعالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ(4) )وقال تعالى في سورة اُخرى: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَ مَا تَشَاءُونَ إلاّ أنْ يَشَاءَ اللّهُ) (5).

فإن قالوا : لو أراد من العبد شيئاً ولم يفعل لكان العبد قد غلبه، فهذا ينقلب في الأمر، لأنّه قد خولف ولم يكن مغلوباً، وكذلك الارادة. ألا ترى إلى من قال و أراد من مملوك شيئاً ولم يفعله، وأمر آخر بفعل فخالف لكان المخالف في الأمر أعظم في النفوس عصيانا، كلاّ...بل هو الغالب، و إنّما أمهل العصاة حلماً ولم يجبرهم على الإيمان، لأنّ المكره لا يستحقّ ثواباً، بل أزاح عللهم، وأقدرهم و أمكنهم، فمن أحسن فإلى ثوابه، ومن أساء فإلى عقابه، ولو شاء لأكرههم على الإيمان أجمعين كما قال تعالى: (وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنينَ)(6) وكقوله تعالى: (وَلَو شِئْنَا لاََتَيْنَا كُلَّ نَفْس هُداهَا _ إلى قوله _ أَجْمَعِينَ)(7) وقال تعالى: (لاإِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ)(8).

وزعمت القدريّة: أنّ الله تعالى خالق الكفر و فاعله، و منشئ الزنا و مخترعه ومتولّي

القيادة و موجدها، ومبتدع السرقة و محدثها، و كلّ قبائح العباد من صنعته، وكلّ تفاوت فمن عنده، وكلّ فساد فمن تقديره، وكلّ خطأ فمن تدبيره.

فإن قالوا على سبب التلبيس : إنّ العبد يكتسب ذلك، فإذا طولبوا بمعنى

______________________

1 . البقرة / 205.

2 . الأنعام / 148 .

3 . الدهر / 30.

4 . التكوير / 28 _ 29 .

5 . الدهر / 29 _ 30.

6 . يونس / 99 .

7 . السجدة / 13.

8 . البقرة / 256 .

( 134 )

الكسب لم يأتوا بشيء معقول، وقالت العدليّة: معاذالله أن يكون فعله إلاّ حكمة و حقّاً، وصواباً وعدلاً، فالزنا فعل الزاني انفرد بفعله، فكلّ قبيح منسوب إلى المذموم به، و إنّما تولّى المذمّة العاصي، إذ باع الآخرة بالدُّنيا، ولم يعلم أنّ ما عندالله خير وأبقى، ولو كان قد خلق أعمال العباد لما جاز أن يأمر بها وينهاهم عنها كما لم يجز أن يأمرهم بتطويل جوارحهم و تقصيرها، إذ خلقها على ما خلقها، ولو خلق الكفر لما جاز أن يعيب ما خلق، ولو كان فاعل الكفر لما جاز أن يذمّ و يعيب ما خلق و يذمّ مافعل، ولو كان مخترعَ الفساد لما جاز أن يعاقب على ما اخترع، ولا تنفكّ القبائح من أن تكون من الله تعالى فلا حجّه على العبد، أو من الله و من العبد فمن الظلم أن يفرده بعقاب ما شارك في فعله، أو من العبد فهو يستحقّ العقاب، وقال تعالى : (يَلْوون أَلْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ _إلى قوله _ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ(1) )فلو كان لوي ألسنتهم من خلق الله تعالى لما قال: (وما هو من عند الله )(2).

وبعد، فالكفر قبيح و أفعال الله حسنة، فعلمنا أنّ الكفر

ليس منها، و هكذا أخبر تعالى بقوله : (الّذي أحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ)(3) وقوله تعالى: (صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء(4) ).

فإن سألوا عن قوله تعالى: (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ) (5) فقل: هذه الآية لو تلوتم صدرها لعلمتم أن لا حجّة لكم فيها، لأنّه تعالى أراد بالأعمال هيهنا الأصنام، والأصنام أجساد، وليس من مذهبنا أنّا خلقنا الأصنام، بل الله خلقها، ألا ترى أنّه قال تعالى : (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ *وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ)(6) .

فإن قالوا: (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْأَلُونَ)(7) فقل: إنّه أدلّ على العدل، لأنّ العباد يُسألون عن أفعالهم لما كان فيها العبث و الظلم والقبيح، والله تعالى لمّا كانت أفعاله كلّها حسنة لا قبيح فيها، وعدلاً لا ظلم معها، تنزّه عن أن يسأل، ولم يرد بهذا ما

______________________

1 . آل عمران / 78.

2 . آل عمران / 78.

3 . السجدة / 7 .

4 . النمل / 88.

5 . الصافات / 96 .

6 . الصافات / 95 _ 96.

7 . الأنبياء / 23 .

( 135 )

تريده الفراعنة إذ قالت لرعيّتها: وقد سألناكم فلا تسألونا لم أظلمكم وأفسقكم (كذا)، كلاّ ... فإنّه تعالى لم يدع للسؤال موضعاً بإحسانه الشامل، وعدله الفائض، ولولا ذلك لم يقل: (لئلا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرسل)(1) فنحن نقول: إنّ أفعالنا الصالحة من الله ليس بمعنى أنّه فعلها، وكيف يفعلها و فيها خضوع وطاعة، والله تعالى لا يكون خاضعاً ولا مطيعاً، بل نقول: إنّها منه، بمعنى أنّه مكّن منها، ودعا إليها وأمر بها و حرّض عليها، و نقول: إنّ القبائح ليست منه لأنّه نهى عنها، وزجر وتوعّد عليها، وخوّف منها و أنذر، ونقول: إنّها من الشيطان

بمعنى أنّه دعا إليها و أغوى، و مَنّى في الغرور (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّم لِلْعَبِيدِ(2) ) (أنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَ الإحْسَانِ _ إلى قوله _ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (3) و قال تعالى في صفة الشيطان: (يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاّ غُرُوراً) (4).

فإن قالوا: فقد قال تعالى: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ) (5) قلنا: معنى الآية غير ما قدّرت ولو قدّرتها كما نقدّر لعلمت أن لا حجّة فيها لك، لأنّه تعالى يقول: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هِذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ _ إلى قوله _ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ)(6) فإنّما هذا في الكفّار حيث تطيّروا بنبيّ الله _ عليه السلام _ وكانوا إذا أتاهم الخصب يقولون هذا من عندالله و إذا أتاهم الجدب يقولون: هذا من عندك، كما قال تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةً يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ _ إلى قوله _ لا يَعْلَمُونَ) (7)فبيّن الله تعالى أنّ ذلك كلّه _ يعني الخصب والجدب _ من عنده،إلاّ أنّه لم يقل: و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندنا على ما تذكره المجبّرة وقد دلّ الله على بطلان قولهم: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللّهِ وَ مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسِكَ) (8) .

وزعمت المجبّرة القدريّة أنّ الله خلق أكثر العباد للنّار، وخلقهم أشقياء بلا ذنب

______________________

1 . النساء / 165.

2 . فصلت / 46 .

3 . النحل / 90.

4 . النساء / 120 .

5 . النساء / 78.

6 . النساء / 78.

7 . الاعراف / 131 .

8 . النساء / 79.

( 136 )

ولا جرم، وغضب عليهم و هو حليم من غير أن يغضبوه، وخذلهم من قبل أن يعصوه، وأضلّهم عن الطّريق الواضح من غير أن خالفوه، وقالت

العدليّة: خلق الله الخلق لطاعته، ولم يخلقهم لمخالفته، وأوضح الدّلالة والرّسل لصلاح الجماعة، ولم يضلّ عن دينه و سبيله.

وكذا أخبر بقوله تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُون ) (1) وكيف يمنع إبليس من السّجدة ثمّ يقول: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ )(2).

فإن سألوا عن قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنَّ وَ الإنْسِ ) (3) قيل: «لام العاقبة» معناها أنّ مصيرهم إلى النار، كما قال تعالى: (فَالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَ حَزَناً ) (4) و إن كانوا التقطوه ليكون لهم قرّة عين، وقد بيّن ذلك بقوله تعالى: (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَونَ قُرَّتُ عَيْن لِي وَلَكَ ) _ إلى(5) آخره _ وكذلك الجواب بقوله تعالى: (أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إثْماً ) (6).

وزعمت المجبّرة القدريّة أنّ الله يضلّ أكثر عباده من دينه، فأنّه ما هدى أحداً من العصاة إلى ما أمرهم به، وأنّ الأنبياء _ عليهم السلام _ أراد الله ببعثهم الزيادة في عمى الكافرين، و قالت العدليّة: أنّ الله لا يضلّ عن دينه أحداً، ولم يمنع أحداً الهدى الّذي هو الدلالة، وقد هدى ومن لم يهتد فبسوء اختياره غوى. قال الله تعالى: (وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى )(7) على أنّا نقول أنّ الله يضلّ من شاء ويهدي، و أنّه يضلّ الظالمين عن ثوابه وجنّاته، وذلك جزاء على سيئاتهم، وعقاب على جرمهم، قال الله تعالى: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلاّ الفَاسِقِينَ _ إلى قوله _ أُولئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ)(8) فأمّا الضلال عن الدين فهو فعل

شياطين الجنّ والإنس، ألا ترى أنّ الله تعالى ذمّ عليهم فقال: (وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ )(9)وقد حكى عن أهل النّار أنّم يقولون:

______________________

1 . الذاريات / 56.

2 . ص /

75 .

3 . الأعراف / 179 .

4 . القصص / 8.

5 . القصص / 9 .

6 . آل عمران / 178 .

7 . فصلت / 16.

8 . البقرة / 26 _ 27 .

9 . طه / 85 .

( 137 )

(وَمَا أَضَلَّنَا إلاّ المُجْرِمُونَ) (1) وما يقولون: وما أضلّنا إلاّ ربّ العالمين.

وقالت المجبّرة القدريّة: أنّ الله كلّف العباد ما لا يطيقون، وذلك بادّعائها أنّ الله خلق الكفر في الكفّار، ولا يُقدرهم على الإيمان ثمّ يأمرهم به، فإذا لم يفعلوا الإيمان الّّذي لم يُقدره عليهم، وفعلوا الكفر الّذي خلقه فيهم، وأراده منهم، وقضاه عليهم، عاقبهم عذاباً دائماً.

وقالت الع_دلي_ّ_ة :معاذالله! إنّ الله لايكلّف العباد ما لايتّسعون له (الوسع: دون الطاقة) إذ تكليف ما لا يطاق ظلم و عبث، و أنّه لا يظلم ولا يعبث ولو جاز أن يكلّف من لا يُقدره على الإيمان لجاز أن يكلّف من لا مال له باخراج الزّكاة، وأن يكلّف المُقعد بالمشي والعدو وقال تعالى: (لايكلّف الله نفساً إلاّ وسعها) (2) فهو لايكلّف من لا يستطيع قبل الفعل أن يفعل، قال تعالى: (ولله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليهِ سبِيلاً ) _ إلى آخره(3) _ فهو يأمر بالحجّ قبل الحجّ، فكذلك استطاعته قبل أن يحجّ، ولو لم يستطيعوا الإيمان لم يقل لهم: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)(4) ولو نصرهم على الإفك لم يقل: (فَأَنّى يُؤْفَكُونَ) (5).

و ادّعت المجبّرة أنّ الأقدار المذمومة حتم من الله، ونفيناها عنه سبحانه، لأنّ تقديره لا يكون باطلاً ولا متناقضاً، فلمّا وجدنا الأشياء المتناقضة الباطلة علمنا أنّه لا يقدّرها و كفى القدريّة إذا أثبتوا ما تنازعنا فيه و نفيناه، ولو جاز لجاز أن يكون من ينفي التنصّر نصرانيّاً، ومن ينفي التهوّد يهوديّاً.

فإن

قالوا: إنّكم أثبتّم ذلك لأنفسكم، ومثبت الشيء لنفسه أولى ممّن ينسبه إليه، فالجواب: أنّ التنازع بيننا لم يقع في كوننا قادرين، فأنّما تنازعنا في أنّ الأقدار المذمومة تثبت لله سبحانه و تعالى أوينزّه عنها، فأثبتوها إن كنتم قدريّة.

______________________

1 . البقرة / 286 .

2 . الشعراء / 99.

3 . آل عمران / 97.

4 . التكوير / 26 .

5 . العنكبوت / 61.

( 138 )

وبعد: فلوكان من أثبتها لنفسه قدريّاً لكان على زعمكم قد أثبته الله لنفسه فهو قدريّ و بعد هذا القول، فلو كان هذا اسم ذمّ فهو لكم أليق، لأنّكم فعلتم القبائح وأضفتموها إلى الله تعالى البريء منها، وقد قال عزّ من قائل : (وَمَنْ يَكْسِبُ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمَاً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَريئاً ) _ إلى آخرها _ (1).

تمّ الكلام في الق__دريّة

______________________

1 . النساء / 112.

( 139 )

الجهميّة

الجهميّة

الحركات الرجعية

الحركات الرجعية ونعني بها الحركات الفكرية الّتي ظهرت بين المسلمين بين القرنين الثاني والثالث، وهي ترمي إلى إرجاع الاُمّة إلى العقائد السائدة في العصر الجاهلي بين المشركين وأهل الكتاب، من القول بالجبر والتجسيم إلى غير ذلك من البضائع الفكريّة المستوردة منهم إلى أوساط المسلمين .

ولأجل إيقاف القارىء على نماذج من هذه الحركات، نبحث عن عدّة مناهج زرعت شروراً في المجتمع الإسلامي، وبقيت آثارها إلى العصر الحاضر لكن بتغيير الاسم والعنوان، وتحت غطاء مخدع. والسبب الوحيد لبثّ هذه السموم هو إقصاء العقل عن ساحة العقائد وإخضاعه لكلّ رطب ويابس يتّسم بسمة الحديث، وليس بحديث، بل يعدّ من مرويات العهدين وأقاصيص الأحبار والرهبان. وإليك بيان هذه الحركات واحدة تلو الاُخرى:

الجهميّة وسماتها: الجبر والتعطيل

مؤسّسها جهم بن صفوان السمرقندي(ت 128 ه_). قال الذهبي: «جهم بن صفوان، أبو محرز

السمرقندي الضالّ المبتدع، رأس الجهميّة، هلك في زمان

( 140 )

صغارالتّابعين، و ما علمته روى شيئاً، لكنّه زرع شرّاً عظيماً » (1).

قال المقريزي: «الجهميّة أتباع جهم بن صفوان التّرمذي مولى راسب، و قتل في آخر دولة بني أُميّة، و هو:

1- ينفي الصفات الإلهية كلّها، ويقول: لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خلقه.

2- أنّ الإنسان لا يقدر على شيء و لا يوصف بالقدرة، ولا الإستطاعة.

3- أنّ الجنّة و النار يفنيان، و تنقطع حركات أهلهما.

4- أنّ من عرف اللّه ولم ينطق بالإيمان لم يكفر، لأنّ العلم لا يزول بالصمت، و هو مؤمن مع ذلك.

وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة. وكفّره أهل السنّة بنفي الصفات و خلق القرآن ونفي الرؤية.

5- وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر.

6- وزعم أنّ علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره(2).

وقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة (128ه_) كيفيّة قتله بيد نصر بن سيّار، ومن أراد فليرجع إليه(3).

وقد نسب إليه عبد القاهر البغدادي، أُصولاً تقرب ممّا نسب إليه المقريزي في خططه على ما عرفت.

وقال : «وكان جهم مع ضلالاته الّتي ذكرناها يحمل السّلاح و يقاتل السلطان

______________________

1 . ميزان الاعتدال: ج 1 ص 426 رقم الترجمة 1584.

2 . الخطط المقريزية: ج 3، ص 349 ولاحظ ص 351.

3 . الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 342 _ 345.

( 141 )

وخرج مع السريج بن حارث(1) على نصر بن سيّار و قتله سلم بن أحوز المازني في آخر زمان بني مروان، وأتباعه اليوم ب_(نهاوند)، وخرج إليهم في زماننا إسماعيل بن إبراهيم بن كبوس الشيرازي الديلمي، فدعاهم إلى مذهب شيخنا أبي الحسن الأشعري، فأجابه قوم منهم وصاروا مع أهل ا(2)لسنّة.

وقد نسب إليه الشهرستاني عدّة أُمور نذكر منها

أمرين:

1- إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالإستطاعة و إنّما هو مجبور على أفعاله لا قدرة له، والله هو الّذي يخلق الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وتنسب إليه الأفعال مجازاً كما تنسب إلى الجمادات، كما يقال أثمرت الشّجرة، وجرى الماء، و تحرّك الحجر، وطلعت الشّمس و غربت، و تغيّمت السماء و أمطرت، واهتزّت الأرض و أنبتت، إلى غير ذلك، والثّواب و العقاب جبر. كما أنّ الأفعال كلّها جبر. قال : وإذا ثبت الجبر فالتكليف إذاً جبر.

2- إنّ حركات أهل الخلدين تنقطع، و الجنّة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما، وتلذّذ أهل الجنّة بنعيمها، وتألّم أهل النار بجحيمها، إذ لا تتصوّر حركات لا تتناهى آخراً، كما لا تتصوّر حركات لا تتناهى أوّلاً. وحمل قوله تعالى (خالدين فيها) على المبالغة و التأكيد دون الحقيقة في التخليد. كما يقال خلد الله ملك فلان، واستشهد على الانقطاع بقوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمواتُ وَالأرضُ إلاّ ما شاءَ رَبُّكَ) (هود / 107) فالآية اشتملت على شريطة واستثناء، والخلود و التأبيد لا شرط فيه ولااستثناء(3).

وقد نقل الشهرستاني عنه أُموراً أُخر، مضى بعضها في كلام غيره.

أقول: قاعدة مذهبه أمران:

______________________

1 . في تاريخ الطبري: الحارث بن سريج وهو الصحيح.

2 . الفرق بين الفرق: ص 212.

3 . الملل والنحل: ج 1، ص 87 _ 88.

( 142 )

الأوّل: الجبر ونفي الاستطاعة و القدرة، فالجهم بن صفوان رأس الجبر و أساسه، ويطلق عليه و على أتباعه الجبريّة الخالصة في مقابل غير الخالص منها.

قال الشهرستاني: «الجبر هو نفي الفعل حقيقة عن العبد و إضافته إلى الربّ تعالى، والجبريّة أصناف، فالجبرية الخالصة هي الّتي لا تثبت للعبد فعلاً و لا قدرة

على الفعل أصلاً. والجبريّة المتوسطة هي الّتي تثبت للعبد قدرة غير مؤثّرة أصلاً. فأمّا من أثبت للقدرة الحادثة أثراً مّا في الفعل وسمّى ذلك كسباً فليس بجبري»(1).

يلاحظ عليه: أنّ الفرق الثلاث كلّهم جبريّون من غير فرق بين نافي القدرة والاستطاعة كما عليه «الجهم» أو مثبتها، لكن قدرة غير مؤثّرة، بل مقارنة لإيجاده سبحانه فعل العبد وعمله، أو مؤثّرة في اتّصاف الفاعل بكونه كاسباً و الفعل كسباً، لما عرفت من أنّ القول بالكسب نظريّة مبهمة جدّاً لا ترجع إلى أصل صحيح، وأنّ القول بأنّه سبحانه هو الخالق المباشر لكلّ شيء لا يترك لنظريّة الكسب مجالاً للصحّة، لأنّ الكسب لو كان أمراً وجوديّاً فالله هو خالقه و موجده (أخذاً بانحصار الخلق في الله)، وإن كان أمراً عدميّاً اعتبارياً، فلا يخرج الفاعل من كونه فاعلاً مجبوراً(2).

وعلى أيّ تقدير، فالقول بالجبر و إذاعته بين الناس وانقيادهم له كان حركة رجعيّة إلى العصر الجاهلي، وقدكان الجبر سائداً على مشركي العرب و غيرهم(3).

الثاني: تعطيل ذاته سبحانه عن التوصيف بصفات الكمال و الجمال ومن هنا نجمت المعطّلة. ولكنّه لم يتبيّن لي صدق ما نسبه إليه البغداديّ والشهرستاني من أنّه قال : لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه، لأنّ ذلك يقتضي تشبيهاً، فنفى كونه حيّاً عالماً و أثبت كونه قادراً، فاعلاً، خالقاً، لأنّه لا يوصف شيء من خلقه بالقدرة والفعل والخلق(4).

______________________

1 . الملل والنحل: ج 1، ص 86.

2 . راجع: الجزء الثاني من كتابنا هذا ص 130 _ 153.

3 . راجع: الجزء الأول ص 232.

4 . الملل والنحل: ج 1 ص 86.

( 143 )

وأظنّ أنّ مراده من قوله «بصفة يوصف بها خلقه» هي الصفات الخبرية، كاليد، والعين، والرجل، وما

أشبهها، مما أصرّ أهل الحديث والحشوية على توصيفه سبحانه بها، بالمعنى اللغوي الملازم للتجسيم و التشبيه.

هاتان قاعدتا مذهب الجهم، وأمّا غيرهما ممّا نسب إليه، فمشكوك جدّاً، وبما أنّه استدلّ لمذهبه في مورد عدم الخلود في الجنّة والنار بما عرفت من الآية، فنرجع إلى توضيح الآية فنقول:

جعل الجهم الاستثناء في الآية دليلاً على عدم الخلود.

يلاحظ عليه: أنّه استدلّ بالآية على عدم الخلود بوجهين:

الأوّل: تحديد الخلود بمدّة دوام السماوات والأرض وهما غير مؤبّدتين بالضّرورة قال سبحانه: (مَا خَلَقْنَا السَّمواتِ وَالأرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إلاّ بِالحقِّ وَ أَجَلٌ مُسَمَّى) (الأحقاف/3) وقال تعالى: (وَالسَّمواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (الزمر / 67).

الثاني: الاستثناء الوارد في الآية من الخلود بقوله: (إلاّ ما شاء ربّك) في كلا الموردين: نعيم الجنّة و عذاب الجحيم.

أمّا الأوّل: فالإجابة عنه واضحة، لأنّ المراد من السماوات والأرض فيها، ليس سماء الدنيا و أرضها، بل سماء الآخرة و أرضها، والاُوليتان فانيتان، والاُخريتان باقيتان والله سبحانه يذكر للنظام الآخر أرضاً و سماءً غير ما في الدنيا. قال تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمواتُ وَبَرَزُوا للّهِ الوَاحِدِ القَهّارِ)(إبراهيم/48) وقال حاكياً عن أهل الجنّة: (وَقَالُوا الحَمْدُ للّهِ الّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) (الزمر/74) فللآخرة سماء وأرض، كما أنّ فيها جنّة وناراً ولهما أهل، وتحديد بقاء الجنّة والنار وأهلها بمدّة دوام السماوات والأرض راجع إلى سماء الآخرة و أرضها وهما مؤبّدتان غير فانيتين، و إنّما تفنى سماء الدنيا و أرضها، وأمّا السماوات الّتي تظلّل الجنّة مثلاً و الأرض الّتي تقلّها وقد أشرقت بنور ربّها فهما ثابتتان غير زائلتين.

( 144 )

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه وصف الجنّه بأنّها عنده وقال: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللّهِ بَاق) (النحل/96)

فالجنّة باقية غير فانية، ولا يفترق عنها الجحيم ونارها.

وأمّا الإشكال الثاني فالجواب عنه في مورد الجنّة أوضح من الآخر، لأنّه يذكر فيها قوله (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ) الظّاهر في دوام النعمة وعدم تحقّق المشيئة.

توضيح ذلك أنّه سبحانه يقول في مورد أهل النار:

(فَأَمّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمواتُ وَالأَرْضُ إلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِمَا يُريدُ) (هود 106-107).

و يقول في أهل الجنّة:

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمواتُ وَالأرْضُ إلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ) (هود / 108).

ترى أنّه سبحانه يذيّل المشيئة في آية الجنّة بقوله: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ)(1) الدالّ على عدم انقطاع النعمة، وأنّ تلك المشيئة أي مشيئة الخروج لا تتحقّق.

وعلى كلّ تقدير، فالجواب عن الاستثناء في الآيتين هو أنّ الاستثناء مسوق لاثبات قدرة الله المطلقة، وأنّ قدرة الله سبحانه لا تنقطع عنهم بإدخالهم الجنّة والنار، وملكه لا يزول ولا يبطل، وأنّ قدرته على الاخراج باقية، فله تعالى أن يخرجهم من الجنّة و إن وعد لهم البقاء فيها دائماً، لكنّة سبحانه لا يخرجهم لمكان وعده، و الله لا يخلف الميعاد.

نعم قوله سبحانه في آية النّار (إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِمَا يُريدُ) يشير إلى تحقّق المشيئة في جانب النار كما في المسلمين العصاة دون المشركين و الكفار.

التطوير في لفظ «الجهمي»

لمّا كان نفي الصفات عن الله، والقول بخلق القرآن ونفي الروٌية، ممّا نسب إلى

______________________

1 . مقالات الاسلاميين: ج 2 ص 494 ، والفرق بين الفرق ص 211.

( 145 )

منهج الجهم وقد عرفت أساس مذهبه فيما مرّ، صار لفظ «الجهميّ» رمزاً لكلّ من قال بأحد هذه الاُمور، وإن كان غير قائل بالجبر ونفي القدر.

ولأجل ذلك ربّما تطلق الجهميّة و يراد منها المعتزلة أو القدريّة، وعلى هذا الأساس يقول أحمد بن حنبل:

«والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله و وقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن و تلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهميّ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم»(1).

نعم، القوم و إن نسبوا إلى الجهم كون القرآن مخلوقاً، لكنّه بعيد جدّاً، لأنّه مات في آخر دولة الأمويين ولم تكن المسألة معنونة في تلك الأيّام، وإنّما طرحت في العصر العبّاسي خصوصاً في عصر المأمون.

وقد ألّف البخاري والإمام أحمد(2) كتابين في الردّ على الجهمية وعنيا بهم المعتزلة. والمعتزلة يتبرّأون من هذا الاسم. ويتبرّأ بشر بن المعتمر _ أحد رؤساء المعتزلة _ من الجهميّة في ارجوزته إذ يقول:

ننفيهم عنّا ولسنا منهم * ولا هم منّا ولا نرضاهم

إمامهم جهم وما لجهم * وصحب عمرو ذي التقى والعلم(3)

ويريد عمرو بن عبيد الرئيس الثاني للمعتزلة بعد واصل بن عطاء.

وعلى كلِّ تقدير، فعدُّ المعتزلة «جهميّة» ظلم و اعتساف، ولم يذكر أحد منم الجهم من رجالهم، وقد أرسل واصل بن عطاء، حفص بن سالم إلى خراسان، وأمره

______________________

1 . السنّة لأحمد بن حنبل: ص 49.

2 . طبع مع كتاب السنّة له.

3 . فجر الاسلام: ص 287 _ 288.

( 146 )

بلقائه فمناظرته و إنّه لقيه في مسجد «ترفد» حتّى قطعه(1).

* * *

مقاتل بن سليمان المجسِّم

إنّ القضاء على العقل في ساحة العقائد، والاعتماد على النّقل المحض _ الّذي انقطع أثره بعد رحلة رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم إلى عصر أبي

جعفر المنصور _ إلاّ شيئاً لا يذكر أيّد هذه الحركات الرجعيّة لو لم نقل إنّة أنتجها.

ومن رافع ألوية التشبيه والتجسيم، وناقل أقاصيص الأحبار والرهبان في القرن الثاني، هو مقاتل بن سليمان الذي كان هو و جهم بن صفوان في مسألة التنزيه والتشبيه على طرفي نقيض، فالأوّل غلا في التنزيه حتى عطّل، وذاك غلا في الاثبات حتى شبّه فهذا معطّل وذاك مشبّه، وقد مُلئت كتب التفاسير بأقوال مقاتل و آرائه فليعرف القارئ مكانه في الوثاقة وتنزيه الربّ عن صفات الخلق.

قال ابن حبّان: «كان يأخذ من اليهود والنصارى في علم القرآن الّذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوقات، و كان يكذب في الحديث».

قال أبو حنيفة: «أفرط جهم في نفي التشبيه، حتّى قال إنّه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الاثبات حتّى جعله مثل خلقه».

وقال وكيع: «كان كذّاباً».

وقال البخاري: «قال سفيان بن عيينة: سمعت مقاتلاً يقول: إن لم يخرج الدجّال في سنة خمسين و مائة فاعلموا أنّي كذّاب»(2).

______________________

1 . طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار: 97 _ 163.

2 . لم يخرج الدجال في هذه السنة ولا بعدها، فهل يبقى الشك في أنه كذّاب؟ نعم، مات هو في تلك السنة فبموته مات الدجل والكذب القائم به.

( 147 )

وقال النسائي: «كان مقاتل يكذب».

وقال الجوزجاني: «كان دجّالاً جسوراً. سمعت أبا اليمان يقول: قدم هيهنا فلمّا أن صلّى الإمام أسند ظهره إلى القبلة وقال: سلوني عمّا دون العرش، وحدّثت أنّه قال مثلها بمكّة، فقام إليه رجل، فقال: أخبرني عن النّملة أين أمعاؤها؟ تم الكلام في الجهمية

( 148 )

( 149 )

الكراميّة

الكراميّة

الحركات الرجعيّة

وهذه الفرقة منسوبة إلى محمّد بن كرّام السجستاني شيخ الكرامية (م 255).

قال الذهبي: «ساقط الحديث على بدعته، أكثر عن أحمد

الجويباري ومحمّد بن تميم السعدي وكانا كذّابين».

قال ابن حبّان: «خذل، حتّى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها...وجعل الإيمان قولاً بلا معرفة».

و قال ابن حزم: «قال ابن كرّام: الإيمان قول باللسان، و إن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن. ومن بدع الكرّاميّة قولهم في المعبود تعالى إنّه جسم لا كالأجسام و قد سُقت أخبار ابن كرّام في تأريخي الكبير. وله أتباع و مريدون وقد سجن في نيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام، ثم أخرج وسار إلى بيت المقدس، ومات بالشام سنة 255 ه_.»(1).

يلاحظ عليه: أنّ ما أسماه مؤمناً سمّاه القرآن منافقاً. قال سبحانه ( إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)(المنافقون/1).

______________________

1 . ميزان الاعتدال: ج 4 ص 21.

( 150 )

وقاعدة مذهبه التجسيم، وتوصيف الواجب باُمور حادثة، وكلّ ما يذكره أصحاب الملل والنحل يرجع إلى هذا الأصل، وأمّا أصنافهم فقد ذكر البغدادي أنّ للكرّامية بخراسان ثلاثة أصناف:حقائقية، والطزائقية و اسحاقية(1) وذكر الشهرستاني لها اثنتي عشرة فرقة و أنّ اُصولها ستّة.

وكانت الحركة الكرّامية، حركة رجعية بحتة حيث دعا أتباعه إلى تجسيم معبوده، وأنّه جسم له حدّ ونهاية من تحت والجهة الّتي منها يلاقي عرشه. وقال البغدادي: وهذا شبيه بقول الثنوية: إنّ معبودهم الّذي سمّوه نوراً، يتناهى من الجهة التي تُلاقي الظلام وإن لم يتناه من خمس جهات.

ومن عقائده: أنّ معبودهم محلّ للحوادث و زعموا أنّ أقواله و إراداته، و إدراكاته للمرئيات، وإدراكاته للمسموعات، وملاقاته للصفحة العليا من العالم، أعراض حادثة فيه، وهو محلّ لتلك الحوادث الحادثة فيه(2).

ومن غرائب آرائه أنّه وصف معبوده بالثِّقل و ذلك أنّه قال في كتاب «عذاب القبر» في تفسير قول الله عزّ وجلّ: ( إذا

السماء انفطرت ) : أنّها انفطرت من ثقل الرحمان عليها.

إلى غير ذلك من المضحكات والمبكيات في الاُصول والفقه. وقد ذكر البغدادي آراءه الفقهيّة أيضاً و ذكر فيه قصّة عجيبة من أرادها فليرجع إليه(3).

إنّ للكرّامية نظريات في موضوعات اُخر، ذكرها البغدادي، وقد بلغت جرأتهم في باب النبوّة حتّى قال بعضهم: إنّ النّبيّ أخطأ في تبليغ قوله «ومناة الثالثة الاُخرى» حتّى قال بعده: «تلك الغرانيق العلى، وإنّ شفاعتها ترتجى»(4).

______________________

1 . الفرق بين الفرق: ص 215.

2 . الملل والنحل: ج 1 ص 108.

3 . الفرق بين الفرق: ص 218 _ 225.

4 . الفرق بين الفرق: ص 222.

( 151 )

مع أنّ قصّة الغرانيق اقصوصة ابتدعها قوم من أهل الضلالة وقد أوضحنا حالها في محاضراتنا باسم سيّد المرسلين صلَّى الله عليه و آله و سلَّم» فلاحظ.

ونكتفي بهذا النزر في بيان عقائدهم وكلّها وليد إقصاء العقل والمنطق عن ساحة العقائد والاكتفاء بالروايات، مع ما فيها من أباطيل و ترّهات وضعها الأعداء، واختلقتها الأهواء فهي من أسوأ الحركات الرجعية، الظاهرة في أواسط القرن الثالث.

تم الكلام في الكرّامية

( 152 )

( 153 )

الظاهرية (1)

الظاهرية (1)

الحركات الرجعية

وهذا المسلك الفقهي منسوب إلى داود بن علي الاصفهاني الظاهري (ت 200 _ م 270) وسمع من سليمان بن حرب و أبي ثور.

قال الخطيب: «كان إماماً ورعاً، زاهداً ناسكاً، وفي كتبه حديث كثير لكنّ الرواية عنه عزيزة جدّاً»(2).

وقال ابن خلّكان: «كان من أكثر النّاس تعصّباً للإمام الشافعي وصنّف في فضائله والثناء عليه كتابين، وكان صاحب مذهب مستقلّ و تبعه جمع كثير _ يعرفون بالظّاهرية _ وكان ولده _ أبوبكر محمّد _ على مذهبه، وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد»(3).

وقد بسط الخطيب الكلام في تأريخه ونقل بعض ما

رواه وأشار إلى جوانب من حياته (4).

______________________

1 . التعرّض للمذهب الظاهري في المقام مع أنّه مذهب فقهي لا كلامي، لاشتراكه مع الحركات الرجعية الكلامية في طرد العقل والتفكير عن ساحة العلم، وقد ظهر ذلك المذهب في نفس الوقت الذي ظهرت فيه سائر المناهج الفكرية الكلامية والكل يحمل طابعاً واحداً وهو اعدام العقل واقصاؤه عن الأوساط العلمية فناسب ذكره في المقام.

2 . ميزان الاعتدال ج 2 ص 15.

3 . وفيات الأعيان ج 2 ص 255.

4 . تاريخ بغداد للخطيب ج 8 ص 369.

( 154 )

وما أسّسه من المذهب يرتبط بالفروع و الأحكام، لا العقائد والاُصول فالمصدر الفقهي عنده هو النّصوص، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع، فهم يأخذون بالنصوص وحدها و إذا لم يكن النصّ أخذوا بالاباحة الأصليّة.

أقول: إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى، لأنّ أساسه هو التعبّد بالنصوص، وعدم الافتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة، لكنّ الجمود على حرفيّة النصوص شيء والتعبّد بالنصوص و عدم الافتاء في مورد لا يوجد فيه أصل و دلالة في المصدرين الرئيسيين شيء آخر. فالظاهرية على الأوّل، والفقهاء على الثّاني، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين:

1 _ إنّ الشكل الأوّل من الأشكال الأربعة ضروريّ الإنتاج من غير فرق بين الاُمور التكوينيّة أو الأحكام الشرعيّة، فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتميّة لقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث، فهكذا الحكم بحرمة كلّ مسكر، نتيجة قطعيّة لقولنا: الفقاع مسكر، وكلّ مسكر حرام، فالفقاع حرام. لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين و لكن لا يفتي بالنتيجة بحجّة أنّها غير مذكورة في النصوص.

2 _ ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب و إن كان شيئاً غير مذكور في

نفس الخطاب، لكنّه من اللوازم البيِّنة له، بحيث يتبادر إلى الذّهن من سماعه، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله: (فَلا تَقُلْ لَهُما اُفّ) (الإسراء/ 23) يتوجّه الذهن إلى حرمة ضربهما و شتمهما بطريق أولى، ولكنّ الفقيه الظّاهري يأبى عن الأخذ به بحجّة كونه غير منصوص.

قال سبحانه: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يَغْفِرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأوَّلِينَ) (الأنفال / 38) فالموضوع للحكم «مغفرة ما سلف عند الانتهاء» و إن كان هو الكافر، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر لازم لهذا الحكم بالضّرورة و هو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد. ولكنّ الظّاهري يتركه بحجّة أنَّه غير مذكور في النصّ.

( 155 )

وهذا النوع من الجمود يجعل النُّصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع و التقنين، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتمية نبوّة نبيّنا محمدصلَّى الله عليه و آله و سلَّم وكتابه وسنتّه و....

وهؤلاء بين السنّة كالاخباريين بين الشيعة، غير أنّ الظاهرية ظهرت في القرن الثالث وقد عمل فيما لا نصّ فيه بالإباحة الأصليّة، والأخباريّة ظهرت في الشيعة في القرن العاشر وهم يعملون فيما لانصّ فيه بالاحتياط.

إنّ الاكتفاء بظاهر الشريعة وأخذ الأحكام من ظواهر النصوص له تفسيران; أحدهما صحيح جدّاً، والآخر باطل، فإن اُريد منه نفي الظنون الّتي لم يدلّ على صحّة الاحتجاج بها دليل، فهو نفس نصّ الكتاب العزيز. قال سبحانه: (قُلْ ءَاللّهُ أذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ)(يونس/59)، فالشيعة الإماميّة بفضل النصوص الوافرة عن أئمّة أهل البيت المتصلة أسنادها إلى الرسول الإكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم استطاعت أن تستخرج أحكام الحوادث والموضوعات الكثيرة منها، وامتنعت

عن العمل بالقياس والاستحسان وغيرهما من الأدلّة الظنّية الّتي لم يقم الدليل القطعي على صحّة الاحتجاج بها، بل قام الدّليل على حرمة العمل على بعضها كالقياس وقد ورد فى نصوص أئمّتهم _ عليهم السلام _ : «و إنّ السنّة إذا قيست محق الدين»(1).

و إن اُريد بها لوازم الخطاب أي ما يكون في نظر العقلاء كالمذكور أخذاً بقولهم: «الكناية أبلغ من التصريح» ويكون التفكيك بينهما أمراً غير صحيح، فليس ذلك عملاً بغير النصوص. نعم ليس عملاً بالظّاهر الحرفي، ولكنّه عمل بها بما يفهمه المخاطبون بها.

وعلى ذلك الأساس يكون لوازم الخطاب حجّة إذا كانت الملازمة ثابتة بيّنة في نظر العقلاء الّذين هم المعنيّون بهذه الخطابات، كادّعائها بين وجوب الشيء و وجوب

______________________

1 . الوسائل ج 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.

( 156 )

مقدّمته، أو حرمة ضدّه، أو امتناع اجتماع وجوبه مع حرمته، إلى غير ذلك من المداليل الالتزامية كمفاهيم الجمل الشرطية أو الوصفيّة أو المغيّاة بغاية.

ولأجل كون هذه المداليل على فرض ثبوت الملازمة، بحكم المنطوق، ذهب المحقّقون في باب «المفاهيم» إلى أنّ النزاع في باب «حجّية المفاهيم» صغروي، أي في ثبوت أصل المفهوم والملازمة، وأنّه إذا قال المولى: إن سلّم زيد فأكرمه، هل يتبادر منه إلى الأذهان الصافية وجوب الاكرام عند التسليم، وارتفاعه عند انتفائه أو لا؟ لا كبروي، بمعنى البحث عن حجّية هذه الملازمة بعد ثبوتها، إذ لا كلام في الحجية بعد ثبوتها.

وبذلك يتبيّن الحقّ الصراح في مسألة «تبعية النصوص الشرعية» و عدم الخروج عن إطارها، وأنّ أهل السنّة فيها بين مفرط و مفرّط. والطريق الوسطى هي الجادة(1).

فأصحاب القياس والاستحسان مفرطون في الخروج عن النُّصوص الشرعيّة، ويعملون بما لم يدلّ على الاحتجاج به دليل.

كما

أنّ الظاهرية مفرِّطة فى عدم الخروج عن ظواهر النصوص بحرفيتها، وإن كان العقلاء على خلافهم في محاوراتهم العرفيّة، ومن المعلوم أنّه ليست للشارع طريقة للمفاهمة غير الطريقة الدارجة.

تلاميذه ومدى سلطان مذهبه

قال الخطيب في تأريخه: «روى عنه ابنه محمّد، وزكريّا بن يحيى الساجي، ويوسف بن يعقوب بن مهران الداودي، والعباس بن أحمد المذكّر، وهؤلاء رووا عنه و انتحلوا مذهبه» (2).

______________________

1 . اقتباس من كلام الامام علي عليه السلام في النهج قال: اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة. نهج البلاغة قسم الخطب الرقم 15 ط عبده.

2 . تاريخ بغداد ج 8 ص 370.

( 157 )

«ولكن عامّة الفقهاء والمحدّثين تركوا الرّواية عنه كما تركوا مذهبه، وكثرت المعارضة، وقلّ التأييد، ولم يكن لمذهبه سلطان إلاّ في بلاد الشرق (نيسابور وضواحيها) في القرنين الثالث والرابع. و نقل عن صاحب «أحسن التقاسيم» أنّه كان رابع مذهب في القرن الرابع في الشرق، وكان الثّلاثة الّتي هو رابعها:مذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة، ومالك، فكأنّه كان في الشرق أكثر انتشاراً أو تابعاً من مذهب أحمد إمام السنّة في القرن الرابع الهجري، ولكن في القرن الخامس جاء أبو يعلى وجعل المذهب الحنبلي مكانه، و بذلك زحزح المذهب الظاهري و حلّ محلّه»(1).

ابن حزم (ت 384_ م 458) آخر تلميذ فكري لداود الظاهري

قد عرفت أنّ أبا يعلى الحنبلي (م 458) قد زحزح المذهب الظاهري، وأحلّ محلّه مذهب إمامه أحمد في أواسط القرن الخامس و بذلك خبا ضوءه وانحسر عن المدارس الفقهيّة، ولم يبق له وجود إلاّ في ثنايا الكتب، لولا أنّ عليّ بن أحمد بن حزم الأندلسي أعاد ذكره بلسانه و قلمه، وألّف حول ذلك المذهب كتباً و رسائل و انتقل المذهب الظاهري من

الشرق إلى الغرب، ودخل الأندلس وقد حمل العبء وحده وخدم المذهب الظاهري بتأليفه:

1 _ الاحكام في اُصول الأحكام: بيّن فيه اُصول المذهب الظاهري.

2 _ النبذ: وهو خلاصة ذلك الكتاب.

3 _ المحلّى: وهو كتاب كبير انتشر في عشرة أجزاء، جمع أحاديث الأحكام وفقه علماء الأمصار. طبع في بيروت، بتحقيق أحمد محمّد شاكر.

نزر من آرائه الشاذّة

1 _ أفتى ببطلان الاجتهاد في استخراج الأحكام الفقهيّة مستدلاً بقوله سبحانه:

______________________

1 . تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 2 ص 351 نقلاً عن مقدمة «النبذ» للشيخ الكوثري.

( 158 )

(مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيء) (الأنعام/38) ولو كان ثمّة موضع للرأي لكان الكتاب قد فرّط في شيء، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ اُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيء فَرُدُّوه إلى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ) (النساء/59)(1).

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال بهاتين الآيتين يعرب عن كون ابن حزم فقيهاً ظاهريّاً بحتاً، ينظر إلى الظّواهر بحرفيّتها ولا يتأمّل حتّى في القرائن الموجودة في نفس الآيات.

أمّا الآية الاُولى; فالمراد من الكتاب فيها، هو صحيفة الكون لقوله سبحانه في صدرها: (وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الأرْضِ وَلا طَائِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْء ثُمَّ...) (الأنعام/38). لأنّ التفريط في المقام بمعنى التضييع و التقصير، والمعنى أنّ الدوابّ والطيور ل_مّا كانت أُمماً أمثال الإنسان، فما قصّر سبحانه في حقّهم من إعطاء الكمال بمقدار ما لها من اللّياقة والشأن.

وأقصى ما يمكن أن يقال: إنّ المراد منه، هو اللّوح المحفوظ الّذي يسمّيه سبحانه في موارد من كلامه كتاباً مكتوباً فيه كلّ شيء، وأمّا تفسيره بالقرآن فضعيف لا يركن إليه بعد ملاحظة جمل الآية.

وأمّا الآية الثانية; فهي راجعة إلى القضاء في

المنازعات و المرافعات فالمرجع هو الله سبحانه و رسوله، ولا صلة للآية بحصر المصادر في الكتاب والسنّة.

ولأجل ذلك لم يذكر فيه الإجماع الّذي هو حجّة عند ابن حزم و مؤٌسّس منهجه، وما هذا إلاّ أنّ الآية وردت في مجال القضاء في المرافعات، دون الافتاء في الأحكام الكلّية.

توضيح ذلك: أنّ القضاء في المنازعات يشترك مع الاجتهاد في الأحكام الشرعيّة في أنّ كلاّ ً من القاضي والمجتهد يسعى لكسح الجهل و رفع الشبهة، غير أنّ الشّبهة في

______________________

1 . تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 2 ص 388.

( 159 )

مجال القضاء، موضوعيّة على الأغلب مع كون الحكم الكلّي معلوماً، كاختلاف الناس في الأموال والديون، بخلاف الشبهة في مجال الاجتهاد فإنّ الحكم الكلّي مشتبه غير معلوم، والمجتهد يسعى بكلّ حول وقوّة رفع الشبهة، و إراءة مُحيّا الحقيقة.

والآية كما هو صريح سياقها، ناظرة إلى المقام الأوّل، ولا صلة لها بالمقام الثاني. يقول سبحانه بعد هذه الآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء/60) وقد ورد في أسباب نزولها ما يؤيّد ما ذكرناه فلاحظ.

2 _ يجوز للجنب مسُّ المصحف

قال في المحلّى: «وأمّا مسّ المصحف، فإنّ الآثار الّتي احتجّ بها من لم يجز للجنب مسّه، فإنّه لا يصحّ منها شيء، لأنّها إمّا مرسلة، وإمّا ضعيفة لا تسند، وإمّا عن مجهول... فإن ذكروا قول الله: (فِي كِتَاب مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرُونَ)(الواقعة/78 _ 79). فهذا لا حجّة لهم فيه، لأنّه ليس أمراً، وإنّما هو خبره والله تعالى لا يقول إلاّ حقّاً، ولا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى

الأمر إلاّ بنصّ جلي أو إجماع متيقّن. فلمّا رأينا المصحف يمسّه الطّاهر و غير الطّاهر علمنا أنّه عزّوجلّ لم يعن المصحف و إنّما عنى به كتاباً آخر»(1).

واستدلّ على الجواز بعمل النّبي و أنّه كتب كتاباً إلى عظيم «بصرى» ليدفعه إلى هرقل وفيه قوله سبحانه: (قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سَواءٌ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيئاً) (آل عمران/64). وقد أيقن أنّهم يمسّون ذلك الكتاب(2).

______________________

1 . المحلى: ج 1 ص 83.

2 . الدر المنثور: ج 1 ص 40.

( 160 )

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ قوله (في كِتاب مَكْنُون) وصف ثان للقرآن في قوله: (بَل هوَ قُرآنٌ مجِيدٌ) والمراد أنّ القرآن في كتاب محفوظ من التّغيير و التبديل، والمراد من الكتاب هو اللّوح المحفوظ بشهادة قوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْح مَحْفُوظ) (البروج/21 _ 22). وليس المراد منه المصحف، لاستلزامه وحدة الظرف و المظروف.

وثانياً: أنّ الظّاهر من ابن حزم الظاهري، أنّ الاستدلال على حرمة مسّ المصحف للجنب مبنيّ على تعيين المراد من الكتاب في قوله: (في كِتاب مَكْنُون)فهل المراد منه هو المصحف أو غيره؟ فعلى الأوّل يثبت حرمة مسّ المصحف لغير المتطهّر بخلاف الثاني.

فرجّح كون المراد منه هو غيره، لما ذكر من الدّليل ولكن خفى عليه أنّ الاستدلال ليس مبنيّاً على ما ذكره، بل الاستدلال مبنيّ على كون الضمير في قوله: (لا يمسّه) هل هو عائد إلى القرآن، أو إلى الكتاب، المتقدّمين عليه في الآية؟ فإن قلنا بالأوّل يكون المراد من المسّ هو مسّ كتابة القرآن، ومن التّطهير هو الطهارة من الخبث والحدث. ولا مناص عندئذ من حمل النّفي على النّهي لصيانة كلامه عن الكذب نظير قوله سبحانه:

(فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَ لا جِدَالَ فِي الحَجِّ)(البقرة/197). وقولهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «لا ضرر ولا ضرار» على القول الحق(1).

وإن قلنا بالثّاني، يكون المراد من المسّ، هو العلم به ويكون المراد من المطهّرين، من طهّر الله نفوسهم من أرجاس المعاصي و أقذار الذنوب.

وأمّا تعيين أحد الاحتمالين فخارج عن موضوع البحث، وإنّما الهدف إراءة نماذج من تفكير ابن حزم.

أمّا الاستدلال بكتابة الآية و بعثها إلى عظيم «بصرى» والنبيّ يعلم أنّ الكافر سيمسّها.

______________________

1 . لاحظ محاضرات المؤلف باسم «قاعدتان فقهيتان» تقف على اسناد الحديث ومضمونه.

( 161 )

فيلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الاستدلال مبنيّ على كون الكفّار مكلّفين بالفروع كما هم مكلّفون بالاُصول وهو بعدُ أمر متنازع فيه.

وثانياً: أنّ التسبيب إنّما يحرم إذا كان مؤدّياً إلى مسّ الجاهل القاصر، كما إذا وضع الإنسان يد غير المتطهّر على كتابة القرآن وهو جاهل أو غافل، لا ما إذا كان غير معذور كعظيم «بصرى» و غيره من الطغاة غير المعذورين في ترك الاُصول و مخالفة الفروع، إذ في وسعهم أن يعتنقوا الإسلام و يدخلوا تحت السلم و يتعرّفوا على اُصوله و يعملوا بفروعه ويجتنبوا محرّماته. وهذا الجواب سائد في تمكين الكافرين من الكتب الّتي فيها أسماؤه سبحانه بعد إتمام الحجّة عليهم وإن كان في جريانه في المقام خفاء.

وثالثاً: أنّ المصالح الكبرى الّتي تتبلور في بثّ الدّعوة الإسلاميّة في المناطق المعمورة و إنقاذ الأجيال عن الوثنيّة و عبادة الطغاة ربّما ترخّص للرسول أن يقوم بعمل ربّما ينتهي إلى مسّ غير المتطهّر آية من الكتاب العزيز وله نظائر في الشّريعة الإسلاميّة.

3 _ قاتل الإمام عليّ _ عليه السلام _ كان مجتهدا

وهذا هو النموذج الثالث من آراء الرّجل نأتي بنصّه من

كتاب المحلّى، فقال: «مسألة، مقتول كان في أوليائه غائب أو صغير أو مجنون اختلف الناس في هذا: فقال أبو حنيفة: إذا كان للمقتول بنون وفيهم واحد كبير وغيرهم صغار، أنّ للكبير أن يقتل ولا ينتظر بلوغ الصغار. ثمّ أورد على الشافعيّة القائلة بعدم الجواز بأنّ الحسن بن عليّ_عليهما السلام _ قد قتل عبدالرحمن بن ملجم، ولعليّ بنون صغار. ثمّ قال: هذه القصة (يعني قتل ابن ملجم) عائدة على الحنفيّين بمثل ما شنّعوا على الشافعيين سواء سواء، لأنّهم والمالكيّين لا يختلفون في أنّ من قتل آخر على تأويل فلا قود في ذلك، ولا خلاف بين أحد من الاُمّة في أنّ عبدالرحمن بن ملجم لم يقتل عليّاً _ رضي الله عنه _ إلاّ متأوّلاً مجتهداً مقدّراً أنّة على صواب و في ذلك يقول عمران بن حطّان شاعر الصفرية:

( 162 )

يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّي لأذكره حيناً فأحسبه * أوفى البريّة عندالله ميزانا

أي لاُفكّر فيه ثمّ أحسبه، فقد حصل الحنفيّون من خلاف الحسن بن عليّ على مثل ما شنّعوا به على الشافعيّين و ما ينقلون أبداً في رجوع سهامهم عليهم، ومن الوقوع فيما حفروه(1).

يلاحظ عليه: أنّ الفقيه الأندلسي قد خرج في فتياه هذه عن مسلكه وهو التقيّد بالنصوص الشرعية تعبّداً حرفيّاً غير معتمد على العقل والاجتهاد، مع أنّه هو طرح النصّ ولجأ إلى الاجتهاد الخاطئ. فهذا هو النّبيّ الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقول لعليّ: ألا أخبرك بأشدّ الناس عذاباً يوم القيامة؟ قال: أخبرني يا رسول الله قال: فإنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة عاقر ناقة ثمود و خاضب لحيتك بدم رأسك(2).

وقد وصف النبيّ صلَّى الله عليه

و آله و سلَّم قاتل عليّ في غير واحد من أحاديثه بأنّه أشقى الآخرين وأشقى هذه الاُمّة(3).... إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا السياق.

والحقّ أنّ الاجتهاد الّذي يؤدّي إلى وجوب قتل الإمام المفترض طاعته بالنصّ، اجتهاد يهتزّ منه العرش ونحن أيضاً نصافق ابن حزم واُستاذه داود الاصفهاني في ردّ هذا القسم من الاجتهاد الّذي تكون نتيجته نجاح الخوارج المارقين عن الدين، وما ذكره من الشعر هو لعمران بن حطّان رأس الخوارج في عصره وقد أجابه معاصره القاضي أبوالطيب طاهر بن عبدالله الشافعي قائلاً:

يا ضربة من شقي ما أراد بها * إلاّ ليهدم للاسلام أركاناً

إنّي لأذكره يوما فألعنه * ديناً وألعن عمراناً و حطّاناً

______________________

1 . المحلى: ج 10 ص 482 _ 484.

2 . العقد الفريد: ج 2 ص 298.

3 . مسند أحمد: ج 4 ص 263.

( 163 )

عليه ثم عليه الدّهر متّصلا * لعائن الله إسراراً و إعلانا

فأنتما من كلاب الدّهر * جاء به نصّ الشريعة برهاناً وتبيانا(1)

وله في كتابه «الفصل» كلام يشبه ما ذكره في قاتل الإمام حيث عدّ فيه قاتل عمّار وهو أبو الغادية يسار بن سبع السلمي متأوّلاً مجتهداً مخطئاً مأجوراً بأجر واحد، وعدّ عمّاراً الثائر على الخليفة فاسقاً محارباً سافكاً دماً حراماً عمداً بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان (2).

وما تلك المذاهب إلاّ نتيجة تقاعس العلماء الأخيار عن وظيفتهم، ونتيجة طرد العقل الصحيح الفطري عن مناهج الحياة.

ولا أظنّ أنّ إنساناً منصفاً يفكّر في هذه المناهج والمسالك، يعدّ دعاة الحرية والاختيار والتعقّل ضلاّلاً كفّارا، ودعاة الجبرية والتشبية والتجسيم والجمود الفكري علماء وعاة.

(وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَاب فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْم هُدًى وَ رَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ)(الأعراف/52).

تمّ الكلام حول الحركات الرجعية الثلاث

______________________

1 . مروج الذهب: ج

2 ص 415.

2 . الفصل: ج 4 ص 161.

المعتزلة

اشاره

7 _ المعتزلة

المعتزلة

المعتزلة

المعتزلة بين المدارس الكلاميّة المختلفة، مدرسة فكريّة عقليّة، أعطت للعقل القسط الأوفر والسّهم الأكبر حتّى فيما لا سبيل له للقضاء فيه، ولها من نتائج الفكر والمعرفة ما شهد له التأريخ، ودلّت عليه كتب القوم و رسائلهم الباقية. وما نقله عنهم خصومهم و أعداؤهم. وباختصار، إنّه مذهب فكري كبير يزخر بمعارف حول المبدأ والمعاد، وبأنظار عقليّة أو تجريبيّة حول صحيفة الكون.

ومن المؤسف جدّاً أنّ هوى العصبيّة بل يد الخيانة و الجناية لعبت بكثير من مخلّفاتهم الفكريّة و أطاحت به فأضاعتها بالخرق و المزق و إن كان فيما بقى و ما كشفت عنه بعثة وزارة المعارف المصريّة إلى اليمن و نشرتها(1) كفاية لمن أراد التعرّف على المذهب عن لسان شيوخهم، ثمّ دراستها، وسنتلو عليك قائمة الكتب الباقية أو المنشورة في هذه الآونة الأخيرة عنهم، وبالنّظر إليها يعلم أنّ الباقي يشكل طفيفاً من الكثير المضاع _ ومع ذلك _ فهو يستطيع أن يرسم لنا معالم هذا المذهب بوضوح بحيث يغني عن المراجعة إلى كتب خصومهم و أعدائهم.

إنّ ضياع كتب المعتزلة في القرون السابقة وعدم تمكّن الباحثين عنها، ألجأهم في

______________________

1 . أصدرت دار الكتب المصرية عام 1967 قائمة المخطوطات العربية المصوّرة بالميكروفيلم من الجمهورية العربية اليمنية. كما قامت بنشر كتب القاضي عبد الجبار رئيس الاعتزال في اوائل القرن الخامس فطبعت منها كتاب شرح الاُصول الخمسة وكتاب المغني له أيضاً في أربعة عشر جزءاً وغيرهما.

( 166 )

كتابة عقائدهم و تحليل اُصولهم إلى الاعتماد على كتب الأشاعرة في مجال علم الكلام والملل و النحل، ومن الواضح جدّاً أنّ كثيراً من الخصوم ليسوا بمنصفين و موضوعيين وقد نسبوا إليهم ما لا يوافق الاُصول الموثوق بها(1).

إنّ الدّراسة الموضوعيّة الهادفة

تكلّف الباحث الرجوع إلى الكتب المؤلفة بيد أعلام المذاهب و خبرائه المعروفين بالحذق والوثاقة، والاعتماد على كتب الخصوم خارج عن أدب الجدل و رسم التحقيق.

بيد أنّنا نرى كثيراً من الكتّاب المعاصرين يعتمدون في تحليل عقائد الطّوائف الإسلاميّة على «مقالات الإسلاميّين» للشيخ الأشعري و «الفرق بين الفرق» لعبد القادر البغدادي و «الملل و النحل» للشهرستاني، وهؤلاء كلّهم من أعلام الأشاعرة و يرجع إليهم في الوقوف على التفكير الأشعري، وأمّا في غيره فلا يكون قولهم و نقلهم حجّة في حقّهم، إلاّ إذا طابق الأصل، فإنّ الكاتب مهما يكون أميناً _ إذا كان في موقف الجدال والنِّقاش وحاول إثبات مقاله و تدمير مقالة الخصم _ لا يصحّ الرُّكون إلى نقله، إلاّ إذا أتى بنصّ عبارة الخصم بلا تصرّف ولا تبديل. ومن المعلوم أنّ الكتب المؤلّفة في العصور الماضية لا تسير على هذا المنهاج، كما هو واضح لمن سبر.

إنّ من الظّلم البارز الاعتماد في تحليل عقائد الطّوائف الإسلاميّة على كتب ابن حزم الأندلسي (المتوفّى عام 456 ه_) وابن خلدون المغربي (المتوفّى عام 808 ه_) وغيرهما خصوصاً فيما كتبوه حول الشّيعة لبعدهم عن البيئة الشيعيّة و مؤلّفاتهم، ولذلك ترى فيها الخبط والخطاء...وهذا مبلغ علم الشهرستاني و اطّلاعه عنهم حيث يذكر الأئمّة الاثني عشر ويقول: إنّ عليّ بن محمّد النقي مشهده بقم(2) ويكفيك فيما ذكرناه ما قاله أحد معاصريه (أبو محمّد الخوارزمي) قال بعد ذكر مشايخه في الفقه

______________________

1 . مثلاً نسب إليهم أنّهم لا يقولون بعذاب القبر مع أنّ القاضي في شرح الاُصول الخمسة ص 732 يقول: إنّ المعتزلة تقول بعذاب القبر ولا تنكره قال: وأمّا فائدة عذاب القبر وكونه مصلحة للمكلّفين فإنّهم متى علموا أنّهم إن أقدموا على المقبحات وأخلوا

بالواجبات عذِّبوا في القبر... وسيأتي البحث عنه في محلّه.

2 . الملل والنحل: ج 1 ص 169.

( 167 )

واُصوله والحديث: «ولولا تخبّطه في الاعتقاد وميله إلى الالحاد لكان هو الإمام، وكثيراً ما كنّا نتعجّب في وفور فضله وكمال عقله و كيف مال إلى شيء لا أصل له و اختار أمراً لا دليل عليه لا معقولاً ولا منقولاً ونعوذ بالله من الخذلان والحرمان من نور الإيمان»(1).

اهتمام المستشرقين بتراث المعتزلة

اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال وما فيه من الخطوط والاُصول في الكون وحياة الإنسان و اختياره و حرّيتة، ولقد أعجبتهم فكرتهم في أفعال العباد وصار ذلك سبباً لاهتمام الجدد من أهل السنّة و بالأخص المصريّين منهم إلى دراسة مذهبهم و نشر كتبهم و تقدير فكرتهم و الدّفاع عنهم قدر الامكان وردّ الاعتبار إليهم.

ولأجل ذلك نشرت في العهد القريب كتب تتناول البحث عن ذلك المذهب مثل:

1 _ تأريخ الجهمية والمعتزلة: لجمال الدين القاسمي الدمشقي، طبع في القاهرة عام 1331 ه_.

2 _ المعتزلة: تأليف زهدي حسن جار اللّهطبع في القاهرة عام 1366 ه_، وهي رسالة تبحث في تأريخ المعتزلة و عقائدهم و أثرهم في تطوّر الفكر الإسلامي. قدّمها مؤلّفها إلى دائرة التأريخ العربي في كلّية العلوم والآداب بجامعة بيروت الأمريكيّة. ونال عليه رتبة اُستاذ في العلوم وله في الكتاب مواقف موضوعيّة.

3 _ فجر الإسلام: لأحمد أمين المصري، الفصل الرابع، ص 283 _ 303.

4 _ ضحى الإسلام: له أيضاً، الفصل الأوّل ص 21 _ 107.

5 _ تأريخ المذاهب الإسلاميّة: تأليف محمّد أبو زهرة فصل القدريّة، ص123 _ 179.

______________________

1 . معجم البلدان: ج 3 ص 377 ط بيروت دار احياء التراث العربي مادة شهرستان.

( 168 )

6 _ فضل الاعتزال

و طبقات المعتزلة: تحقيق فؤاد السيّد، نشرته الدار التونسيّة للنشر، عام 1406 ه_، الطبعة الثّانية، وهو يضمّ كتباً ثلاثة لأئمّة الاعتزال: أبي القاسم البلخي، والقاضي عبد الجبّار، و الحاكم الجشمي، والكتاب مزدان بتحقيقات نافعة.

وهذه العناية الكبيرة المؤكّدة من أبناء الأشاعرة لبيان تأريخ المعتزلة و عقائدهم وإظهار الأسف و الأسى لذهاب ثروتهم العلميّة، و إنشاء بعثة علميّة لأخذ الصّور من مخلّفاتهم الخطّية المبعثرة في بلاد اليمن والقيام بنشرها، عمل مبارك وجهد مقدّر، لكن أثاره أبناء الاستشراق في نفوس هؤلاء. هذا هو (آلفرد جيوم) اُستاذ الدراسات الشّرقية في جامعة لندن يقول :

«إنّ ما انتهى إلينا من كتابات رجال الاعتزال قليل جدّاً إلى حدّ أنّنا مضطرّون إلى أن نعتمد على ما يقوله مخالفوهم عنهم، وقد كانوا يحملون لهم ذكريات مريرة لما قام به المعتزلة من أعمال تعسّفيّة لذلك، فإنّ أملنا لكبير، إذا كانت مكتبات الشيعة في اليمن أو في غير اليمن تحوي مخطوطات من أصل معتزلي أن نقوم بنشرها. هذا، وإنّ اُولئك الّذين يرغبون في الوقوف على نتاج العقل العربي في عصور الخلافة الذّهبية، يحسنون صنعاً إذا أقدموا على درس هذه الرسالة اللمّاعة في تأريخ حركة عظيمة في حركات الفكر العربي»(1).

وهذا «شتيز» المستشرق وصفهم بأنّهم المفكِّرون الأحرار في الاسلام، وألّف كتاباً بهذا الاسم.

ووصفهم «آدم ميت» و«هاملتون» بأنّهم دعاة الحريّة الفكرية والاستنارة (2).

وقال «جولد تسيهر»: «إنّ المعتزلة وسّعوا معين المعرفة الدينية بأن أدخلوا فيها عنصراً مهمّاً آخر قيّماً وهو العقل الّذي كان حتّى ذلك الحين مبعداً بشدّة عن هذه

______________________

1 . من مقدمة كتاب المعتزلة، تأليف زهدي حسن جار الله، قدّم له «آلفرد جيوم» اُستاذ الدراسات الشرقية في جامعة لندن. عام 1947 م = 1366 ه_.

2 . أدب المعتزلة: ص

172.

( 169 )

الناحية»(1).

وربّما يرد على الأخير بأنّه تجاسر على قلب الحقائق مسقطاً الواقع الّذي يثبت اجتهاد الرّسول و الصّحابة والتابعين... وكتب السنّة و السيرة والتّاريخ والفقه والخلاف والمقارنات الفقهيّة حافلة بما يؤيِّد اجتهادهم وتعويلهم على العقل.

يلاحظ عليه: أنّ كلام هذا الرادّ أقرب إلى قلب الواقع ممّا ذكره «جولد تسيهر» ذلك المستشرق الحاقد على الإسلام و نبيّه، وذلك لأنّ أهل الحديث والحنابلة ينكرون الحسن والقبح العقليّين، وإنكار ذلك مساوق لإنكارّ كثير من المعارف الدينيّة، والمعارف الدينيّة عندهم قائمة على السنّة فقط، و أحيانا على الكتاب. وأمّا العقل فهو محكوم عندهم بالاعدام، حتّى أنّ طريق الإمام أبي الحسن الأشعري غير مقبول لدى أهل الحديث والحنابلة ولأجل ذلك ما ذكروه في طبقاتهم، قائلين بأنّ الشيخ الأشعري يستدلّ على العقائد، مكان أن يعتمد فيها على الحديث والسنّة.

وأمّا الاعتماد على العقل في الفقه، فلو اُريد منه القياس والاستحسان فهو من قبيل العقل الظنّي الذي لا يغني من الحقّ شيئاً، و إن اُريد منه الحكم القطعي من العقل، فهو مبنيّ على التّحسين والتقبيح العقليين، وأهل الحديث والحنابلة حتّى الأشاعرة ينكرون إمكان هذا الادراك العقلي.

هذا وللمستشرقين كلمات اُخر في تحسين منهج الاعتزال ضربنا عنها صفحاً.

أحمد أمين و مدرسة الاعتزال

إنّ أحمد أمين (الكاتب الشهير المصري) مع أنّه لم يقف من كتب المعتزلة إلاّ على الأقل القليل كالانتصار لأبي الحسين الخيّاط (م 311)، والكشّاف للزمخشري(م538)، وبعض كتب الجاحظ (م 255) وقد اعتمد في نقل عقائد المعتزلة

______________________

1 . المعتزلة بين العمل والفكر:ص 103، تأليف: علي الشابي، أبو لبابة حسن، عبد المجيد النجار. طبع الشركة التونسية.

( 170 )

على كتب الأشاعرة كمقالات الإسلاميين للشيخ الأشعري (م 324)، ونهاية الاقدام للشهرستاني (م 548)، والاقتصاد للغزالي (م 505)،

والمواقف للعضدي (م 775) إلى غير ذلك، وهؤلاء كلّهم أعداء المعتزلة ولا يستطيعون تقرير مواقف خصومهم في المسائل مجرّدين عن كلّ انحياز، _ مع أنّه لم يقف _ تأثّر كثيراً بمنهج الاعتزال تبعاً لأساتذته الغربيّين، ولولاهم لما خرج الاُستاذ أحمد أمين عمّا حاكت عليه البيئة المصريّة الأشعريّة من الشباك الفكري قدر أنملة، ولا بأس بنقل جمل من إطرائه للمعتزلة في فصول مختلفة.

1 _ يقول حول توحيد المعتزلة و تنزيههم: «وقد كانت نظرتهم في توحيد الله نظرة في غاية السموّ والرفعة، فطبّقوا قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) أبدع تطبيق، وفصّلوه خير تفصيل وحاربوا الأنظار الوضعيّة من مثل أنظار الّذين جعلوا الله تعالى جسماً»(1).

2 _ يقول حول نظريّتهم في حرّية العباد: «وقالت المع_تزلة بحرّية الإرادة وغلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان إرادته حتّى جعلوه كالريشة في مهبّ الريح أو كالخش_بة في إليمّ. وعندي أنّ الخطأ في القول بسلطان العقل و حرّية الإرادة والغلوّ فيهما خير من الغلوّ في أضدادهما، وفي رأيي أنّه لو سادت تعاليم المعتزلة إلى إليوم لكان للمسلمين موقف آخر في التأريخ غير موقفهم الحالي وقد أعجزهم التسليم وشلّهم الجبر وقعد بهم التّواكل»(2).

3 _ يقول في حقّ إبراهيم بن سيّار المعروف بالنظّام، الشخصيّة الرابعة بين المعتزلة بعد واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبي الهذيل العلاف، اُستاذ الجاحظ وقد توفّي عام 231: «أمّا ناحيته العقليّة ففيها الركنان الأساسيّان اللّذان سبّبا النهضة الحديثة في أروبا وهما الشكّ والتجربة، وأمّا الشكّ فقد كان يعتبره النظّام أساساً للبحث فكان يقول: الشاكّ أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قطّ حتّى صار فيه شكّ، ولم

______________________

1 . ضحى الاسلام: ج 3، ص 68.

2 . نفس المصدر : ج 3، ص

70.

( 171 )

ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتّى يكون بينهما حال شك.

وأمّا التجربة فقد استخدمها كما يستخدمها الطبيعي أو الكيمياوي اليوم في معمله»(1).

وقال أحمد أمين في مقال خاصّ تحت عنوان «المعتزلة والمحدثون»:

كان للمعتزلة منهج خاصّ أشبه ما يكون بمنهج من يسمّيهم الإفرنج العقليين، عمادهم الشكّ أوّلاً والتجربة ثانياً، والحكم أخيراً. وللجاحظ فى كتابه «الحيوان» مبحث طريف عن الشكّ، وكانوا وفق هذا المنهج لا يقبلون الحديث إلاّ إذا أقرّه العقل، ويؤوّلون الآيات حسب ما يتّفق والعقل كما فعل الزمخشري في الكشّاف، ولا يؤمنون برؤية الإنسان للجنّ لأنّ الله تعالى يقول: (إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) ويهزأون بمن يخاف من الجنّ، ولا يؤمنون بالخرافات والأوهام، و يؤسّسون دعوتهم إلى الإسلام حسب مقتضيات العقل و فلسفة اليونان، ولهم في ذلك باع طويل، ولا يؤمنون بأقوال أرسطو لأنّه أرسطو، بل نرى في « الحيوان » أنّ الجاحظ يفضّل أحياناً قول أعرابيّ جاهلي بدويّ على قول أرسطو الفيلسوف الكبير.

هكذا كان منهجهم، وهو منهج لا يناسب إلاّ الخاصّة، ولذلك لم يعتنق الاعتزال إلاّ خاصّة المثقّفين، أمّا العوام فكانوا يكرهونه.

ويقابل هذا المنهج منهج المحدِّثين، وهو منهج يعتمد على الرواية لا على الدراية، ولذلك كان نقدهم للحديث نقد سند لا متن، ومتى صحّ السند صحّ المتن ولو خالف العقل، وقلّ أن نجد حديثاً نُقد من ناحية المتن عندهم، و إذا عُرض عليهم أمر رجعوا إلى الحديث ولو كان ظاهره لا يتّفق والعقل، كما يتجلّى ذلك في مذهب الحنابلة.

وكان من سوء الحظّ أن تدخل المعتزلة في السياسة ولم يقتصروا على

______________________

1 . ضحى الاسلام: ج 3، ص 112.

( 172 )

الدين، والسياسة دائماً شائكة، فنصرهم على ذلك المأمون والواثق والمعتصم، وامتحنوا

النّاس وأكرهوهم على الاعتزال، فكرههم العامّة واستبطلوا الإمام ابن حنبل الّذي وقف في وجههم، فلمّا جاء المتوكّل انتصر للرأي العام ضدّهم، وانتصر للإمام أحمد بن حنبل على الجاحظ وابن أبي دوآد وأمثالهما، و نكّل بهم تنكيلاً شديداً، فبعد أن كان يتظاهر الرجل بأنّه معتزلي، كان الرجل يعتزل ويختفي حتّى عدّ جريئاً كلّ الجراءة الزمخشري الّذي كان يتظاهر بالاعتزال و يؤلّف فيه، ولم يكن له كلّ هذا الفضل، لأنّه أتى بعد هدوء الفورة الّتي حدثت ضدّ الاعتزال.

فلنتصوّر الآن ماذا كان لو سار المسلمون على منهج الاعتزال إلى اليوم؟. أظنّ أنّ مذهب الشكّ و التجربة وإليقين بعدهما كان يكون قد ربى و ترعرع و نضج في غضون الألف سنة الّتي مرّت عليه، وكنّا نفضّل الأروبيّين في فخفختهم و طنطنتهم بالشكّ و التجربة الّتي ينسبانها إلى «بيكن» مع أنّه لم يعمل أكثر من بسط مذهب المعتزلة. وكان هذا الشكّ و هذه التّجربة مما يؤدّي حتماً إلى الاختراع و بدل تأخّر الاختراع إلى ما بعد بيكن وديكارت، كان يتقدم مئات من السنين، وكان العالم قد وصل إلى ما لم يصل إليه إلى اليوم، وكان وصوله على يد المسلمين لا على يد الغربيّين، وكان لا يموت خلق الابتكار في الشرق و يقتصر على الغرب.

فقد عهدنا المسلمين بفضل منهج المحدِّثين يقتصرون على جمع متفرّق أو تفريق مجتمع، وقلّ أن نجد مبتكراً كابن خلدون الّذي كانت له مدرسة خاصّة، تلاميذها الغربيّون لا الشرقيون.

فالحقّ أن خسارة المسلمين بإزالة المعتزلة من الوجود كانت خسارة كبرى لاتعوّض.

ثمّ بدأ المسلمون ينهجون منهج الحضارة الغربيّة تقليداً من الخارج لا بعثاً من الداخل، وشتّان ما بينهما، فالتقليد للخارج بثّ فيهم ما يسمّيه علماء النفس مركب النقص، فهم يرون

أنّهم عالة على الغربيّين في منهجهم، ولو كان من أنفسهم لاعتزّوا به

( 173 )

وافتخروا، ولكن ما قُدّر لا بدّ أن يكون، ولله في خلقه شؤون»(1).

هذا بعض ما تأثّر به الاُستاذ المصري بمنهج الاعتزال فأطلق قلمه بمدحهم، ولكن ل_مّا وقف في غضون التأريخ على أنّ المعتزلة تربّت في أحضان البيت العلوي و أنّ واصل بن عطاء مؤسّس المنهج تتلمذ على أبي هاشم بن محمّد الحنفيّة، وأنّهم أخذوا التوحيد والعدل من الاُصول الخمسة من خطب الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ ثارت ثورته وثقل عليه البحث لما يكنّه في نفسه من عداء وحقد للشيعة وأئمّتهم فانبرى لتحريف التأريخ و إسدال الستر على الحقيقة و إنكار كون الأصل لبعض اُصول المعتزلة هو البيت العلوي. ولنا معه في ذلك الفصل بحث ضاف فانتظر. هذا والكلام حول هذه الطائفة يأتي في فصول:

______________________

1 . رسالة الإسلام التي تصدرها «دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة» بالقاهرة: العدد الثالث من السنة الثالثة.

( 174 )

الفصل الأوّل

الفصل الأوّل

سبب تسميتهم بالمعتزلة

لقد شغل بال الباحثين من المسلمين و المستشرقين سبب تسمية هذه الطّائفة بالمعتزلة، فاختار كلّ مذهباً، ونحن نأتي بجميع الآراء أو أكثرها على وجه الاجمال، مع التّحليل والقضاء بينها.

1 _ اعتزالهم عن علي _ عليه السلام _ في محاربته لمخالفيه

قال أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختي من أعلام القرن الثالث في كتابه «فرق الشيعة» عندالبحث عن الأحداث الواقعة بعد قتل عثمان: «فلمّا قُتِل بايع الناس عليّاً فسمّوا الجماعة، ثمّ افترقوا بعد ذلك و صاروا ثلاث فرق: فرقة أقامت على ولايته _ عليه السلام _، وفرقة خالفت عليّاً وهم طلحة والزبير و عائشة، وفرقة اعتزلت مع سعد بن مالك وهو سعدبن أبي وقّاص،

وعبدالله بن عمر بن الخطّاب، ومحمّد بن مسلمة الأنصاري، واُسامة بن زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم فإنّ هؤلاء اعتزلوا عن علي _عليه السلام_ وامتنعوا عن محاربته والمحاربة معه بعد دخولهم في بيعته والرضا به. فسمّوا المعتزلة، وصاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد، وقالوا: لا يحلّ قتال عليّ ولاالقتال معه.

وذكر بعض أهل العلم أنّ الأحنف بن قيس التميمي اعتزل بعد ذلك في خاصّة

( 175 )

قومه من بني تميم لا على التديّن بالاعتزال. ولكن على طلب السلامة في القتل و ذهاب المال وقال لقومه: اعتزلوا الفتنة أصلح لكم».

وذكر(1) نصر بن مزاحم المنقري أنّ المغيرة بن شعبة كان مقيماً بالطّائف لم يشهد صفّين. فقال معاوية: يا مغيرة: ما ترى؟ قال: يا معاوية لو وسعني أن أنصرك لنصرتك، ولكن عليّ أن آتيك بأمر الرجلين (أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص) فركب حتّى أتى دومة الجندل، فدخل على أبي موسى كأنّه زائر له، فقال: يا أبا موسى! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر و كره الدماء؟ قال: اُولئك خيار الناس خفّت ظهورهم من دمائهم و خمصت بطونهم من أموالهم.

ثمّ أتى عمراً فقال: يا أبا عبدالله ! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟

فقال: اُولئك شرّ الناس لم يعرفوا حقّاً ولم ينكروا باطلا(2).

غير أنّ شيوخ المعتزلة يردّون هذه الرواية ولا يقيمون لها وزناً. بل يقول البلخي: «ومن الناس من يقول سمّوا معتزلة لاعتزالهم عليّ بن أبي طالب في حروبه، وليس كذلك، لأنّ جمهور المعتزلة بل أكثرهم إلاّ القليل الشاذّ منهم يقولون إنّ عليّاً _عليه السلام_ كان على صواب، وإنّ من حاربه فهو ضالّ و تبرّأوا ممّن لم يتب عن محاربته ولا يتولّون

أحداً ممّن حاربه إلاّ من صحّت عندهم توبته منهم، و من كان بهذه الصفة فليس بمعتزل عنه _عليه السلام_ ولا يجوز أن يسمّى بهذا الاسم»(3).

أقول: لولا أنّ النوبختي ذكر بعد نقل هذه الرواية قوله: «وأنّهم صاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد» لأمكن المناقشة في كونه وجه التسّمية، و أنّ الاعتزال بالطابع الفكري والعقلي كان استمراراً للاعتزال بطابعه السياسي. إذ من الممكن أن تستعمل كلمة واحدة في طائفتين يجمعهما جامع وهو العزلة وترك الجماعة. فهؤلاء الّذين خذلوا

______________________

1 . فرق الشيعة: ص 5 طبع النجف عام 1355 ه_.

2 . وقعة صفين ص 620 _ 621 طبع مصر.

3 . فضل الاعتزال ص 13 _ 14.

( 176 )

عليّاً بترك البيعة والحرب معه ضدّ الناكثين والقاسطين معتزلون، كما أنّ واصل بن عطاء و تلاميذه معتزلون لأجل تركهم مجلس درس اُستاذه و تلاميذه كما يأتي في الرواية الاُخرى. واطلاق كلمة واحدة على الطائفتين اللّتين لهما طابعان مختلفان لا يدلّ على أنّ الطائفة الثانية هي استمرار للاُولى. و إنّما يمنعنا عن ردّ هذه النّظرية على وجه القطع هو صراحة كلام النوبختي في ذلك.

2 _ اعتزالهم عن الحسن بن علي _ عليهماالسلام _

وهناك رواية اُخرى تدلّ على أنّ تسميتهم بهذا اللّقب لاعتزالهم عن الحسن بن عليّ و معاوية، نقله الملطي (المتوفّى عام 373) في «التنبيه والردّ» واستحسنه الكوثري(1) وحسب أنّه وقف على أمر بديع. يقول الملطي: «وهم سمّوا أنفسهم معتزلة وذلك عندما بايع الحسن بن عليّ _ عليهما السلام _ معاوية وسلّم إليه الأمر اعتزلوا الحسن بن علي و معاوية و جميع الناس، وذلك أنّهم كانوا من أصحاب علي ولزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا نشتغل بالعلم والعبادة و سمّوا بذلك معتزلة»(2).

أقول: هذا الرأي قريب

من جهة، لأنّ المعتزلة أخذوا تعاليمهم في التوحيد والعدل عن عليّ _عليه السلام_ كما سيأتي، فليس ببعيد أن يرجع وجه التسمية إلى زمن تصالح الإمام الحسن _ عليه السلام _ مع معاوية.

ومع ذلك كلّه، يمكن أن يقال فيه مثل ما قلناه في النظرية السابقة، وهو أنّه كانت طائفتان مختلفتان لا صلة بينهما سوى الاشتراك الاسمي، ظهرت إحداهما بعد صلح الحسن _عليه السلام_ وكان لها طابع سياسي، وظهرت الاُخرى في زمن الحسن البصري عند اعتزال واصل عن حلقة بحثه كما سيأتي بيانه، لها طابع عقلي.

وهناك إشكال آخر يتوجّه على رواية الملطي حيث قال: «وهم سمّوا أنفسهم

______________________

1 . تعليق «تبيين كذب المفتري» ص 10.

2 . التنبيه والرد ص 26.

( 177 )

معتزلة» وهو أنّ لفظ الاعتزال ليس لفظاً يعرب عن المنهج حتّى يطلقوا هذا الاسم على أنفسهم، إن لم يكن فيه دلالة على ذمّ ما.

3 _ اعتزال عامر عن مجلس الحسن البصري

وهناك رواية ثالثة رواها ابن دريد يتحدّث عن بني العنبر قال: «ومن رجالهم في الإسلام عامر بن عبدالله يقال له عامر بن عبد قيس، وكان عثمان بن عفّان كتب إلى عبدالله بن عامر أن يسيّره إلى الشام، لأنّه يطعن عليهم وكان من خيار المسلمين وله كلام في التوحيد كثير، وهو الّذي اعتزل الحسن البصري فسمّوا المعتزلة»(1).

وروى أبو نعيم بالإسناد عن الحسن البصري أنّه قال: «كان لعامر بن عبدالله بن عبد قيس مجلس في المسجد فتركه حتّى ظننّا أنّه قد ضارع أصحاب الأهواء، قال: فأتيناه فقلنا له: كان لك مجلس في المسجد فتركته؟ قال: أجل، إنّه مجلس كثير اللغط والتّخليط، قال: فأيقّنا أنّه قد ضارع أصحاب الأهواء، فقلنا: ما تقول فيهم؟ قال: وما عسى أن أقول فيهم ...

الخ» ، ونقل أبو نعيم الاصفهاني أيضاً أنّه عتب أبو موسى الأشعري(2) عامربن عبد قيس اعتزاله مجلسه الّذي اعتاده في المسجد، فكتب إليه قائلاً:

«فإنّي عهدتك على أمر وبلغني أنّك تغيّرت فاتّق الله و عد»(3).

وقال المعلِّق على كتاب «فضل الاعتزال»: إذا كان ابن دريد و أبو نعيم لم يحدّدا لنا زمن اعتزال عامر بن عبد قيس، فمن الممكن أن نستنتج أنّه تمّ في خلال تسع سنوات من سنة 35 وهو تأريخ اعتزال جماعة سعد بن أبي وقّاص إذ عناهم الحسن البصري في حديثه، إلى سنة 44 وهو تأريخ وفاة أبي موسى الأشعري إذ أفاد أبو نعيم أنّه عاتب عامر لاعتزاله مجلسه».

______________________

1 . الاشتقاق ج 1 ص 213 كما في تعاليق «فضل الاعتزال» ص 15.

2 . كان أبو موسى والي الكوفة أواخر خلافة عثمان إلى عام 36، حتّى عزله علي _ عليه السلام _ لأجل قعوده عن نصرة الامام.

3 . حلية الأولياء: ج 2 ص 93 _ 95.

( 178 )

يلاحظ عليه: أنّ الحسن البصري ولد بالمدينة عام (21)، ثمّ سكن البصرة وتوفّي عام (110)، فمن البعيد أن يكون له مجلس بحث في المسجد وهو من أبناء العشرين أو دونه، فلو صحّ ما حدّده المعلّق من زمن الاعتزال يلزم أن يكون له مجلس بحث في المسجد بين أعوام 35 _ 44، ويكون عامر بن عبدالله الشخصيّة المعروفة أحد حضّار بحثه، وقد قدّر الزركلي في كتابه «الأعلام» وفاة عامر نحو سنة (55)(1).

ثمّ إنّ عتب أبي موسى لا يصحّ أن يكون في خلال تسع سنوات بين أعوام 35 _ 44 لأنّه عزل عن الولاية عام 36 و غادر الكوفة ولم يرجع إليها، ول_مّا أصدر حكمه الجائر في دومة الجندل ضدّ

عليّ _ عليه السلام _ خاف من انتفاضة الناس و ثورتهم عليه، وغادرها إلى مكّة المكرّمة ومات بها عام 43 أو 44. ولو صحّ عتابه لكان قبل سنة 36، وهذا يستلزم أن تكون للحسن حلقة بحث في أوان البلوغ، وهو بعيد، مع وجود وجوه الصّحابة وأكابر التّابعين في الكوفة.

ثمّ لو صحّت الرواية لما صحّ أن يكون عامر بن عبدالله، المؤسّس الأوّل لمذهب الاعتزال و إن استعمل في حقّه كلمة الاعتزال، لأنّ كلمة الاعتزال في تلك العصور كانت رمزاً للتخلّف عن الفكرة السائدة على المجتمع، فمن خالف الفكرة و انحاز عنها، أطلق على فعله الاعتزال و على نفسه المعتزل، ازدراءً به، وتلك الكلمة بمنزلة الرجعية في أعصارنا هذه، و ما جاء في تلك الروايات إشارة إلى أنّ هؤلاء اعتزلوا عن السياسة السائدة على المجتمع كما في اعتزال سعدبن أبي وقّاص و نظائره. أو اعتزال جماعة عن الحسن بن عليّ _ عليهما السلام _ أو عن الفكرة الدينيّة كما في الرواية الثالثة. والحقّ في التسمية ما نذكره في القول الرابع وقد تواتر نقله.

4 _ اعتزال واصل عن مجلس الحسن البصري

قد عرفت أنّ حكم مرتكب الكبيرة قد أوجد ضجّة كبيرة في الأوساط الإسلاميّة

______________________

1 . الأعلام: ج 4 ، ص 21.

( 179 )

في عصر عليّ _ عليه السلام _ وبعده، حيث عدّ الخوارج مرتكب الكبيرة كافراً، كما عدّه غيرهم مؤمناً فاسقاً، وعدّت المرجئة من شهد بالتوحيد والرسالة لساناً أو جناناً مؤمناً. وقد أخذت المسألة لنفسها مجالاً خاصّاً للبحث عدّة قرون. وكان للمسألة في زمن الحسن البصري دويّ خاصّ.

نقل الشهرستاني أنّه دخل واحد على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين! لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم

لا تضرّ مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، ولا يضرّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة وهم مرجئة الاُمّة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك و قبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن و لا كافر. ثمّ قام و اعتزل إلى اسطوانة المسجد يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة(1).

و ربّما نسبت هذه الواقعة بشكل آخر إلى «عمرو بن عبيد». قال ابن خلّكان في ترجمة قتادة السدوسي: «كان قتادة من أنسب الناس كان قد أدرك ذعفلاً و كان يدور البصرة أعلاها و أسفلها بغير قائد فدخل مسجد البصرة، فإذا بعمرو بن عبيد و نفر معه قد اعتزلوا من حلقة الحسن البصري و حلّقوا و ارتفعت أصواتهم، فأمّهم وهو يظن أنّها حلقة الحسن، فلمّا صار معهم عرف أنّها ليست هي. فقال: إنّما هؤلاء المعتزلة، ثمّ قام عنهم فمذ يومئذ سمّوا المعتزلة»(2).

وتظهر تلك النّظرية من الشيخ المفيد في «أوائل المقالات» حيث قال: «وأمّا المعتزلة وما وسمت به من اسم الاعتزال، فهو لقب حدث لها عند القول بالمنزلة بين المنزلتين، وما أحدثه واصل بن العطاء من المذهب في ذلك ونصب من الاحتجاج له،

______________________

1 . الفرق بين الفرق: ص 21، وفي ذيل عبارته ما يدل على أنّ تسميتهم بها لأمر آخر سيوافيك بيانه.

2 . وفيات الأعيان ج 4 ص 85 رقم الترجمة 541.

( 180 )

فتابعه عمرو بن عبيد، ووافقه على التديّن به من قال بها و من اتّبعهما عليه،

إلى اعتزال الحسن البصري و أصحابه والتحيّز عن مجلسه فسمّاهم الناس المعتزلة لاعتزالهم مجلس الحسن بعد أن كانوا من أهله و تفرّدهم بما ذهبوا إليه من هذه المسألة من جميع الاُمّة وسائر العلماء ولم يكن قبل ذلك يعرف الاعتزال ولا كان علماً على فريق من الناس»(1).

ولولا قوله: «وتفرّدهم بما ذهبوا إليه في هذه المسألة من جميع الاُمّة و سائر العلماء» لكان نصّاً في هذه النظرية، إلاّ أنّ هذا الذيل يمكن أن يكون إشارة إلى النظرية الأخرى الّتي ستبيّن.

قد نقل اعتزال واصل حلقة الحسن جماعة كثيرة، فنقلها المرتضى في أماليه ج 1 ص 167، والبغدادي في الفرق بين الفرق ص 118، والشهرستاني في الملل و النحل ج 1 ص 48، وابن خلكان في وفيات الأعيان ج 6 ص 8، والمقريزي في خططه ج 2 ص346.

وعلى كلّ تقدير فقد ناقش الدكتور «نيبريج» المستشرق هذه النظرّية بأنّه وردت تسمية هذه المدرسة بأهل الاعتزال بمن قال بالاعتزال، ولو كان معنى الكلمة ما زعموه لما جاز مثل هذه التسمية، ثم إنّ لها عدّة نظائر في عرف ذلك الزمان كالمرجئة يرادفها أهل الارجاء وهم الّذين قالوا بالإرجاء، والرافضة يرادفها أهل الرفض ومن قال بالرفض(2).

ولعلّ المناقشة في محلّها كما سيظهر مما ننقله عن المسعودي في النّظرية السادسة.

5 _ الاعتزال عن القولين السائدين في ذلك العصر

وهناك رأي خامس في تسميتهم بالاعتزال يظهر من شيخ المعتزلة أبي القاسم البلخي (م 317) يقول: «والسبب الّذي له سمّيت المعتزلة بالاعتزال; أنّ الاختلاف

______________________

1 . أوائل المقالات ص 5 _ 6.

2 . مقدمة كتاب الانتصار لأبي الحسين الخياط ص 54.

( 181 )

وقع في أسماء مرتكبي الكبائر من أهل الصّلاة، فقالت الخوارج: إنّهم كفّار مشركون وهم مع ذلك فسّاق،

وقال بعض المرجئة: إنّهم مؤمنون لإقرارهم بالله و رسوله و بكتابه و بما جاء به رسوله وإن لم يعملوا به، فاعتزلت المعتزلة جميع ما اختلف فيه هؤلاء وقالوا نأخذ بما اجتمعوا عليه من تسميتهم بالفسق وندع ما اختلفوا فيه من تسميتهم بالكفر والإيمان والنفاق و الشّرك، قالوا: لأنّ المؤمن وليّ الله، والله يجبّ تعظيمه و تكريمه وليس الفاسق كذلك، والكافر والمشرك و المنافق يجب قتل بعضهم و أخذ الجزية من بعض، وبعضهم يعبد في السرّ إلهاً غير الله، وليس الفاسق بهذه الصفة.

قالوا: فلمّا خرج من هذه الأحكام، خرج من أن يكون مسمّى بأسماء أهلها وهذا هو القول بالمنزلة بين المنزلتين أي الفسق منزلة بين الكفر والإيمان»(1).

و يظهر هذا من البغدادي أيضاً قال: «ومنها اتّفاقهم على دعواهم في الفاسق من اُمّة الإسلام بالمنزلة بين المنزلتين وهي أنّه فاسق لا مؤمن ولا كافر، ولأجل هذا سمّاهم المسلمون «معتزلة» لاعتزالهم قول الاُمّة بأسرها»(2) وفي الوقت نفسه نقل البغدادي، قصّة اعتزال «واصل» حلقة الحسن بنحو يوهم كون وجه التسمية هو اعتزال واصل مجلس الحسن. لاحظ ص 118.

ويظهر من ابن المرتضى تأييده. قال في ذيل كلامه: «سمّي و أصحابه معتزلة لاعتزالهم كلّ الأقوال المحدّثة و المجبّرة». ثمّ ردّ على من زعم أنّ إطلاق المعتزلة لمخالفتهم الاجماع بقوله: «لم يخالفوا الإجماع، بل عملوا بالمجمع عليه في الصدر الأوّل ورفضوا المحدثات المبتدعة»(3).

ويظهر هذا أيضاً من نشوان بن سعيد اليمني حيث قال:

«وسمّيت المعتزلة معتزلة لقولهم بالمنزلة بين المنزلتين وذلك أنّ المسلمين اختلفوا

______________________

1 . باب ذكر المعتزلة من مقالات الاسلاميين للبلخي ص 115.

2 . الفرق بين الفرق: ص 21 و 115، ط دار المعرفة.

3 . المنية والأمل: لأحمد بن يحيى المرتضى ص 4 طبع

دار صادر .

( 182 )

في أهل الكبائر فقالت الخوارج: هم كفّار مشركون، وقال بعض المرجئة: إنّهم مؤمنون، وقالت المعتزلة: لا نسمّيهم بالكفر و لا بالإيمان، ولا نقول إنّهم مشركون ولا مؤمنون بل فسّاق، فاعتزلوا القولين جميعاً و قالوا بالمنزلة بين المنزلتين فسمّوا بالمعتزلة»(1).

6 _ جعل الفاسق معتزلاً عن الإيمان والكفر

وهذه النظرية غير النظرية الماضية، فإنّ الاعتزال فيها كان وصفاً لنفس المعتزلة فهم اعتزلوا عن جميع ما اختلفت فيه من الآراء و أخذوا بالمتّفق عليه، ولكنّه في هذه النظرية وصف لمورد الخلاف، أعني الفاسق، فجعلوه معتزلاً عن الإيمان والكفر، فلا هو مؤٌمن ولا كافر، وتظهر تلك النّظرية من المسعودي في مروجه، قال في بيان الأصل الرابع من الاُصول الخمسة: «وأمّا القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو الأصل الرابع، فهو أنّ الفاسق المرتكب للكبائر ليس بمؤمن ولا كافر، بل يسمّى فاسقاً على حسب ما ورد التّوقيف بتسميته وأجمع أهل الصّلاة على فسوقه».

قال المسعودي: «وبهذا الباب سمّيت المعتزلة، وهو الاعتزال، وهو الموصوف بالأسماء والأحكام مع ما تقدّم من الوعيد في الفاسق من الخلود في النار»(2).

وقال أيضاً: «مات واصل بن عطاء _ ويكنّى بأبي حذيفة _ في سنة إحدى و ثلاثين و مائة وهو شيخ المعتزلة و قديمها، وأوّل من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو أنّ الفاسق من أهل الملّة ليس بمؤمن ولا كافر وبه سمّيت المعتزلة وهو الاعتزال»(3).

والدقّة في قوله: «وبه سمّيت...» (أي بعزل الفاسق عن الإيمان والكفر) تعطي أنّ وجه التسمية يعود إلى جعل الفاسق منعزلاً عنهما.

______________________

1 . شرح رسالة الحور العين: ص 204 _ 205.

2 . مروج الذهب: ج 3، ص 222، ط بيروت دار الأندلس.

3 . نفس المصدر : ج 4 ص 22، ط بيروت

دار الأندلس.

( 183 )

وهناك نظريّة سابعة ذكرها أحمد أمين المصري في فجر الإسلام ص 344، ولكنّها من الوهن بمكان لم يرتضها هو نفسه في كتبه اللاحقة فلنضرب عنها صفحاً.

إلى هنا خرجنا بهذه النّتيجة أنّه لو كان أساس الاعتزال هو واصل بن عطاء أو عمرو بن عبيد، فتسميتهم بالمعتزلة، إمّا لاعتزال المؤسّس عن مجلس البحث أو باعتزاله عن الرأيين السائدين، أو لاعتقادهم بكون الفاسق منعزلاً عن الكفر والإيمان، وخروج مرتكب الكبيرة عن عداد المؤمنين والكافرين.

والعجب أنّ اُستاذ واصل كان يذهب إلى أنّه منافق، وأراد بذلك تخفيف أمره بالنسبة إلى الكافر، مع أنّ جزاء المنافق في الآخرة لو لم يكن أشدّ من الكافر ليس بأقلّمنه.

أرى أنّ إفاضة الكلام في تحقيق وجه التسمية أزيد من هذا خروج عن وضع الرسالة فلنرجع إلى سائر أسمائهم.

سائر ألقاب المعتزلة

فقد ذكر ابن المرتضى لهم أسماء اُخر.

1 _ العدليّة: لقولهم بعدل الله و حكمته.

2 _ الموحّدة: لقولهم لا قديم مع الله (1).

ولأجل هذا يطلق على هذه الطّائفة أهل العدل و التوحيد، ولعلّهم يعنون بالعدل مضافاً إلى ما ذكر ابن المرتضى نفي القدر بالمعنى المستلزم للجبر، أو يريدون بذلك نفي كونه سبحانه خالقاً لأفعال العباد، إذ فيه الظلم والقبيح والجور، وأمّا التّوحيد فإنّهم يريدون منه نفي الصفات الزائدة القديمة، فإنّ في الاعتقاد بزيادة الصفات اعتراف بقدماء معه سبحانه، وتنزيهه سبحانه عن التشبيه و التجسيم،

______________________

1 . المنية و الأمل ص 1.

( 184 )

وسيأتي أنّ هذين الأصلّين اللّذين يعدّان الرّكنين الأساسيين لمدرسة الاعتزال مأخوذان من خطب الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _.

3 _ أهل الحق: المعتزلة يعتبرون أنفسهم أهل الحقّ، والفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة، وقد فرغنا الكلام عن هذا الحديث و تعيين الفرقة

الناجية في الجزء الأوّل.

4 _ القدرية: يعبّر عن المعتزلة في الكتب الكلاميّة بالقدريّة. والمعتزلة يطلقونها على خصمائهم، وذلك لما روي عن النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: أنّ القدريّة مجوس هذه الاُمّة. فلو قلنا بأنّ القدريّة منسوبة إلى القدر عِدْل القضاء، فتنطبق على خصماء المعتزلة القائلين بالقدر السالب للاختيار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة، أي القائلين بتأثير قدرة الإنسان في فعله واختياره و تمكّنه في إيجاده، فتنطبق _ على زعم الخصماء _ على المعتزلة لقولهم بتأثير قدرة الإنسان في فعله. وقد طال الكلام بين المتكلّمين في تفسير الحديث و ذكر كلّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها(1).

والحقّ أنّ المتبادر من الحديث هو القدريّة المنسوبة إلى القدر الّذي هو بمعنى التقدير، و إطلاقه على مثبت القدر كأهل الحديث والحنابلة متعيّن، إذ لا يطلق الشيء و يراد منه ضدّه.

فلو كان المراد منه المعتزلة يجب أن يراد منها نفي القدر. وقد روي عن زيد بن عليّ أنّه قال _ حين سأله أبو الخطّاب عمّا يذهب إليه _ : «أبرأ من القدريّة الّذين حملوا ذنوبهم على الله ومن المرجئة الّذين أطمعوا الفسّاق». هذا، ولقد أوضحنا المراد من الحديث في محلّه(2).

5 _ الثنوية: المعتزلة يدعون بالثنوية و لعلّ وجهه ما يتراءى من بعضهم لقولهم

______________________

1 . لاحظ في الوقوف على هذه الوجوه كشف المراد للعلامة الحلي ص 195، وشرح المقاصد للتفتازاني ج 2 ص 143، وقد مضى الكلام في سند الحديث ودلالته في فصل القدرية من هذا الجزء فلاحظ.

2 . لاحظ الجزء الأول من الملل والنحل للمؤلف ص 103 _ 109 ولاحظ الالهيات في ضوء الكتاب والسنة والعقل: محاضراتنا الكلامية بقلم الفاضل الشيخ حسن مكي.

( 185 )

الخير من الله

والشرّ من العبد.

وهناك وجه آخر لتسميتهم بالثنويّة، أو المجوسيّة، وهو أنّ المعتزلة قالت باستقلال الإنسان في ايجاد فعله، بل نقل عن بعضهم القول بحاجة الموجود في حدوثه إلى الواجب دون بقائه و استمراره، فصيّروا الإنسان كأنّه مستقلّ فى فعله، بل صيّروا الممكنات كواجب غنىّ عن العلّة في بقائه و استمراره، دون حدوثه.

ولكنّ النسبة غير صحيحة، إلاّ إلى بعض المتأخّرين من المعتزلة، ولم يظهر لنا أنّ المتقدّمين منهم كانوا على هذا الرأي.

6 _ الوعيديّة: و إنّما اُطلقت عليهم هذه الكلمة لقولهم بالوعد والوعيد، وأنّ الله صادق في وعده، كما هو صادق في وعيده و أنّه لا يغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة، فلو مات بدونها يكون معذّباً قطعاً ولا يغفر له جزماً و يخلّد في النار و يعذّب عذاباً أضعف من عذاب الكافر.

7 _ المعطّلة: أي تعطيل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتية، وهذا اُلصق بالجهميّة الّذين يعدّون في الرعيل الأوّل فى نفي الصفات.وأمّا المعتزلة فلهم في الصفات مذهبان:

1 _ القول بالنيابة، أي خلوّ الذات عن الصفات ولكن تنوب الذات مكان الصفات في الآثار المطلوبة منها، وقد اشتهر قولهم «خذ الغايات واترك المبادئ»، وهذا مخالف لكتاب الله و السنّة والعقل. فإنّ النقل يدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الكماليّة، وأمّا العقل، فحدث عنه ولا حرج، لأنّ الكمال يساوق الوجود وكلّما كان الوجود أعلى و أشرف يكون الكمالات فيه آكد.

2 _ عينيّة الصفات مع الذات و اشتمالها على حقائقها. من دون أن يكون ذات وصفة، بل الذات بلغت في الكمال إلى درجة صار نفس العلم والقدرة.

وهذا هو الظاهر من خطب الإمام أمير المؤمنين _عليه السلام_ ، وتعضده البراهين

( 186 )

العقليّة و إطلاق المعطّلة على هذه الطائفة لا يخلو من

تجنّ وافتراء.

والأولى بهذا الاسم أهل الحديث و الحنابلة، فإنّهم المعطِّلة حقيقة، إذ عطّلوا العقول عن معرفة الله و أسمائه و صفاته و أفعاله، ومنعوا الخوض فى المسائل العقليّة، وكأنّ العقل خلق لا لغاية إلاّ للسعي وراء الحياة الماديّة.

8 _ الجهميّة:(1) وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم، فكلّما يقول: قالت الجهميّة، أو يصف القائل بأنّه جهمي يريد به المعتزلة لما وجد من موافقتهم الجهميّة في بعض المسائل، و إن كانت الجهمية متقدّمة على المعتزلة، لكنّها على زعمهم مهّدوا السّبيل للمعتزلة ، مع أنّك عرفت أنّ واصلاً أرسل أحد تلاميذه إلى معارضته و أنّهم لا يعدّون الجهم من رجالهم أو طبقاتهم لاختلافهم معه في بعض المسائل الجوهرية، فإنّ الجهم جبريّ والمعتزلة قائلة بالاختيار، ولعلّ بعض هذه التسميات من مصاديق قوله سبحانه (ولا تنابزوا بالألقاب)(الحجرات/11).

9_ المفنية:

10 _ اللفظيّة:

وهذان اللقبان ذكرهما المقريزي وقال: أنّهم يوصفون بالمفنية لما نسب إلى أبى الهذيل من فناء حركات أهل الجنّة و النار، واللّفظيّة لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة والقبريّة لانكارهم عذاب القبر(2).

______________________

1 . نسبة إلى الجهم بن صفوان، وقد عرفت القول في عقائده وآرائه وأنّ المهم منه أمران: نفي الرؤية والجبر.

2 . الخطط للمقريزي: ج 4، ص 169.

( 187 )

الفصل الثاني

الفصل الثاني

المبادئ الفكرية للاعتزال

و خطب الإمام عليّ _ عليه السلام _

قد تعرّفت فيما مضى على تأريخ ظهور المعتزلة و أنّ الاعتزال بعنوان المنهج الفكري العلمي لا السياسي يرجع إلى أوائل القرن الثاني، وذلك عندما اعتزل واصل بن عطاء عن حلقة الحسن البصري و شكّل حلقة دراسية فكريّة في مقابل اُستاذه، والقرائن القطعيّة تؤكّد بظهوره في أوائل ذلك القرن، فإنّ واصل بن عطاء من مواليد عام 80 من الهجرة، وقد توفّي اُستاذه الحسن البصري

عام 110، فمن البعيد أن يستطيع إنسان على تشكيل حلقة دراسيّة قابلة للذكر في مقابل الخطيب الحسن البصري، وله من العمر دون العشرين. وهذا يؤكّد على أنّ الاعتزال ظهر في أوائل القرن الثاني.

ثمّ إنّ القول بالمنزلة بين المنزلتين و إن كان يعدُّ منطلق الاعتزال، ومغرس بذره، ولكن حقيقة الاعتزال لا تقوم بهذا الأصل، ولا يعدّ الدرجة الاُولى من اُصوله، فإنّ الأصلين التوحيد والعدل يعدّان حجر الأساس لهذا المنهج، وسائر الاُصول في الدرجة الثانية.

وفي ضوء هذا يقف القارئ بفضل النصوص الآتية على أنّ الاعتزال أخذ ذينك الأصلين من البيت العلويّ عامّة، ومن خطب الإمام عليّ _عليه السلام_ وكلماته خاصّة، ولأجل ذلك يجب أن يعترف بأنّ الاعتزال أخذ الاُصول الأصليّة لمنهجه من بيت الولاية.

ولأجل ايقاف القارئ هذا الاستنتاج، نضع أمامه شواهد من التأريخ والاعترافات الّتي أجهر بها شيوخ المعتزلة:

1 _ هذا هو الكعبي إمام المعتزلة في أوائل القرن الرابع يقول: «والمعتزلة يقال إنّ لها و لمذهبها أسناداً تتّصل بالنبيّ وليس لأحد من فرق الاُمّة مثلها، وليس يمكن لخصومهم دفعهم

( 188 )

عنه، وهو أنّ خصومهم يقرّون بأنّ مذهبهم يسند إلى واصل بن عطاء، وأنّ واصلاً يسند إلى محمّد بن عليّ بن أبي طالب و ابنه أبي هاشم عبدالله بن محمد بن علي، وأنّ محمّداً أخذ عن أبيه علىّ و أنّ علياً عن رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم(1).

2 _ كان واصل بن عطاء من أهل المدينة ربّاه محمّد بن عليّ بن أبي طالب و علّمه، وكان مع ابنه أبي هاشم عبدالله بن محمّد في الكتاب، ثمّ صحبه بعد موت أبيه صحبة طويلة، وحكي عن بعض السّلف أنّه قيل له: كيف كان علم محمّد بن عليّ؟ فقال:

إذا أردت أن تعلم ذلك فانظر إلى أثره في واصل. ثمّ انتقل واصل إلى البصرة فلزم الحسن ابن أبي الحسن (2).

3 _ وقال القاضي عبد الجبّار في «طبقات المعتزلة»: «وأخذ واصل العلم عن محمّد بن الحنفيّة وكان خالاً لأبي هاشم وكان يلازم مجلس الحسن»(3).

وما ذكره القاضي لا ينطبق على الحقيقة، فإنّ واصل بن عطاء الغزّال ولد بالمدينة سنة ثمانين، وقد مات محمّد بن الحنفيّة عام 80 أو 81، فلا يصحّ أخذ العلم منه، والصّحيح أن يقال أخذ واصل العلم من أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة، وقد نقل المحقّق أنّ في حاشية الأصل «من أبي هاشم».

والصّحيح ما في عبارته التالية، قال:

4 _ وقال: «إنّ أبا الهذيل قد أخذ هذا العلم عن عثمان الطّويل، وأخذ هو عن

______________________

1 . ذكر المعتزلة من مقالات الاسلاميين للبلخي: ص 68.

2 . ذكر المعتزلة للكعبي: ص 64.

3 . طبقات المعتزلة: ص 234.

( 189 )

واصل بن عطاء و عمرو بن عبيد، وأخذ واصل و عمرو عن أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة، وأخذ أبو هاشم عن أبيه محمّد بن الحنفيّة، وأخذ محمّد عن أبيه عليّ بن أبي طالب _عليه السلام_ وأخذ عليّ عن النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم»(1).

وقد تنبّه الشريف المرتضى لما ذكرنا. قال: «وذكر أبو الحسين الخيّاط أنّ واصلاً كان من أهل مدينة الرسولصلَّى الله عليه و آله و سلَّم ومولده سنة ثمانين و مات سنة إحدى و ثلاثين و مائة. وكان واصل ممّن لقى أبا هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة وصحبه، و أخذ عنه و قال قوم إنّه لقى أباه محمّداً و ذلك غلط، لأنّ محمّداً توفّي سنة ثمانين أو إحدى و ثمانين و واصل ولد

في سنة ثمانين»(2).

5 _ وقال القاضي أيضاً: «فأمّا أبو هاشم عبدالله بن محمّد بن عليّ، فلو لم يظهر علمه و فضله إلاّ بما ظهر عن واصل بن عطاء لكفى، وكان يأخذ العلم عن أبيه.

فكان واصل بما أظهر بمنزلة كتاب مصنّفه أبو هاشم، وذكر قوله فيه. وكذلك أخوه، فإنّ غيلان يقال إنّه أخذ العلم من الحسن بن محمّد بن الحنفيّة أخي أبي هاشم»(3).

6 _ وقال الشهرستاني: «يقال أخذ واصل عن أبي هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة»(4).

7 _ وقال ابن المرتضى: «وسند المعتزلة لمذهبهم أوضح من الفلق، إذ يتّصل إلى واصل و عمرو اتّصالاً شاهراً ظاهراً. وهما أخذا عن محمّد بن علي بن أبي طالب وابنه أبي هاشم عبدالله بن محمد، ومحمّد هو الذي ربّى واصلاً و علّمه حتّى تخرّج واستحكم. ومحمّد أخذ عن أبيه عليّ بن أبي طالب _عليه السلام_ عن رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم».

______________________

1 . المصدر نفسه: ص 164.

2 . أمالي المرتضى: ج 1، ص 164 _ 165.

3 . طبقات المعتزلة: ص 226.

4 . الملل والنحل: ج 1 ص 49.

( 190 )

8 _ وقال أيضاً: «ومن أولاد عليّ _عليه السلام_ أبو هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة وهو الّذي أخذ عنه واصل وكان معه في المكتب فأخذ عنه و عن أبيه، وكذلك أخوه الحسن بن محمّد اُستاذ غيلان و يميل إلى الإرجاء»(1).

9 _ وقال ابن أبي الحديد: «إنّ أشرف العلوم هوالعلم الإلهي، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم و معلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم و من كلامه (عليّ عليه السلام) اقتبس و عنه نقل، ومنه ابتدأ وإليه انتهى. فإنّ المعتزلة _ الّذين هم أهل التوحيد والعدل و أرباب النظر،

ومنهم تعلّم الناس هذا الفنّ _ تلامذته و أصحابه، لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة. وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه عليه السلام»(2).

10 _ وقال المرتضى في أماليه: «اعلم أنّ اُصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين _ صلوات الله عليه _ و خطبه، فإنّها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه ولا غاية وراءه، و من تأمّل المأثور في ذلك من كلامه، علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعد في تصنيفه و جمعه، إنّما هو تفصيل لتلك الجمل و شرح لتلك الاُصول، وروي عن الأئمّة (من أبنائه _ عليهم السلام _) من ذلك ما يكاد لا يحاط به كثرة، ومن أحبّ الوقوف عليه و طلبه من مظانّه أصاب منه الكثير الغزير الّذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة، ونتاج للعقول العقيمة»(3).

11 _ وقال القاضي عبدالجبّار: «وهذا المذهب _ أعني صاحب الكبيرة لايكون مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً بل يكون فاسقاً _ أخذه واصل بن عطاء عن أبي هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة وكان من أصحابه»(4).

______________________

1 . المنية والأمل: ص 5 _ 6 وص 11.

2 . الشرح الحديدي: ج 1 ص 17.

3 . أمالي المرتضى: ج 1 ص 148.

4 . شرح الاُصول الخمسة: ص 138

( 191 )

12 _ وقال الدكتور حسن إبراهيم حسن: «فقد نسبت المعتزلة عقائدها إلى عليّ ابن أبي طالب، و قلّما نجد كتاباً من كتبهم و على الأخصّ كتب المت_أخّرين منهم إلاّادّعوا ف_يه أنّهُ ليس ثمّة مؤسّس لمذهب الاع_تزال و علم الك_لام غير الإمام عليّ _ عليه السلام _ »(1).

13 _ يقول محقّق كتاب شرح الاُصول الخمسة: «ويؤكّد المعتزلة أنّهم تلقّوا هذه الاُصول

عن الرسول _ عليه الصلاة والسلام _ ويذكرون سندهم في ذلك و نحن نثبت فيما يلي هذاالسند _ كما على أوّل ورقة من شرح الاُصول(2) _ تعليق الفرزاذي .

يقول:أخذهذه الاُصول من الفقيه الإمام الأوحد نجم الدين أحمد بن أبي الحسين الكني، وهو عنالفقيه الإمام الأجلّ محمّد بن أحمد الفرزاذي، وهو عن عمّه الشيخ السعيد البارع إسماعيل بن عليّ الفرزاذي، وهو عن محمّد بن مزدك، وهو عن أبي محمّد بن متّويه، وهو عن الشيخ أبي رشيد النيسابوري، وهو عن قاضي القضاة عماد الدين عبد الجبار بن أحمد _ رحمه الله _ وهو عن الشيخ المرشد أبي عبدالله البصري، و هو عن الشيخ أبي علي ابن خلاّد، و هو عن الشيخ أبي هاشم و هو عن أبيه الشيخ أبي علي الجبائي وهو عن أبي يعقوب الشحام، وهو عن عثمان الطّويل، وهو عن الشيخ أبي الهذيل، وهو عن واصل ابن عطاء، وهو عن أبي هاشم (3)محمّد بن الحنفية، وهو عن أبيه أمير المؤمنين عليّ _عليه السلام_ وهو عن خير الأوّلين والآخرين و خاتم النبيّين محمد المصطفى _ صلوات اللّهعليه _ وهو عن جبرئيل _عليه السلام_ وهو عن الله تعالى وليس لأحد من أرباب المذاهب مثل هذا الإس(4)ناد. أفبعد هذه التصريحات يبقى شكّ في أنّ المعتزلة في اُصولهم عالة لعلوم أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ .

______________________

1 . تاريخ الاسلام: ج 2، ص 156، الطبعة السابعة.

2 . النسخة المخطوطة.

3 . وفي العبارة سقط والصحيح: «عبدالله بن محمد عن أبيه».

4 . مقدمة شرح الاُصول الخمسة ص 24.

( 192 )

وسيوافيك التصريح من القاضي عبد الجبّار أنّ اُصول الاعتزال ترجع إلى أصلين : التوحيد والعدل، وأمّا الاُصول الثّلاثة فهي داخلة تحت

الأصلين وقد عرفت أنّ المعتزلة أخذت الأصلين من أئمّة أهل البيت _عليهم السلام _.

14_ وقال أبو سعيد بن نشوان الحميري(ت573) إنّ لمذهب المعتزلة أسانيد تتصل بالنبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و ليس لأحد من فرق الاُمة مثلهم، و لا يمكن لحضومهم دفعه و ذلك ان مذهبهم مستند إلى واصل بن عطاء و ان واصلا يستند إلى محمد بن علي بن أبي طالب و هو ابن الحنفيه، و إلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي و ان محمد يسند إلى ابنه علي بن أبي طالب _ رضى الله عنه _ و إن علياً يسند إلى النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم (1) .

15_ و قال بن المرتضى: و سند مذهبهم أصح أسانيد أهل القبلة إذ يتصل إلى واصل و عمرو... عن عبد الله بن محمد عن أبيه محمد بن علي بن الحنفيه عن أبيه علي _عليه السلام _ عنه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و ما ينطق عن الهوى (2) .

(كَلاّ إِنَّهَا تَذْكِرَةً * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَه)

______________________

1 . الحور العين: 206.

2 . البحر الزخار 1: 44.

الفصل الثالث

الفصل الثالث

الشيعة والمعتزلة أيّتهما أصل للآخر

إنّ بعض المتسرِّعين من الكتّاب المتأخّرين كأحمد أمين المصريّ ومن حذا حذوه، يصرّون على أنّ الشيعة أخذت منهجها الفكري في الاُصول والعقائد من المعتزلة، لما رأوا من وحدة العقيدة في القول بالتوحيد والعدل، وإنكار الرؤية و إثبات الحسن والقبح العقليين، وقدرة العبد و اختياره في أفعاله إلى غير ذلك من المبادئ المشتركة بين الطّائفتين.

نظريّة أحمد أمين و مناقشتها

يقول أحمد أمين : «ولقد قرأت كتاب الياقوت لأبي إسحاق إبراهيم من قدماء متكلّمي الشيعة

الإماميّة، فكنت كأنّي أقرأ كتاباً من كتب اُصول المعتزلة إلاّ في مسائل معدودة كالفصل الأخير في الإمامة ولكن أيّهما أخذ من الآخر؟

أمّا بعض الشيعة فيزعم أنّ المعتزلة أخذوا عنهم، وأنّ واصل بن عطاء تتلمذ على جعفراً الصّادق _ عليه السلام _ وإنّي اُرجّح أنّ الشيعة أخذوا من المعتزلة تعاليمهم، ونشوء مذهب الاعتزال يدلّ على ذلك».

استدلّ أحمد أمين على ما يرتئيه بأنّ زيد بن عليّ زعيم الفرقة الشيعيّة الزيديّة تتلمذ لواصل بن عطاء.

وكان جعفر الصادق _عليه السلام_ يتّصل بعمّه زيد. ويقول أبو الفرج في «مقاتل

( 194 )

الطالبيّين» : «كان جعفر بن محمّد يمسك لزيد بن عليّ بالركاب، ويسوي ثيابه على السرج» فإذا صحّ ما ذكره الشهرستاني و غيره من تتلمذ زيد لواصل، فلا يعقل كثيراً أنيتتلمذ واصل لجعفر، وكثير من المعتزلة كان يتشيّع، فالظّاهر أنّه عن طريق هؤلاء تسرّبت اُصول المعتزلة إلى الشيعة»(1).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره الكاتب المصري اجتهاد في مقابل تنصيص أئمّة المعتزلة أنفسهم بأنّهم أخذوا اُصولهم من أبي هاشم ابن محمّد الحنفيّة، وأخذ هو عن أبيه محمّد، وهو أخذ من عليّ بن أبي طالب ومع هذا التنصيص من نفس المعتزلة فما معنى هذا الاجتهاد؟

ترى ابن المرتضى يعدّ عليّاً من الطبقة الاُولى للمعتزلة، كما يعدّ الحسنين اللّذين اشتهر منهما القول بالتوحيد والعدل من الطبقة الثانية. وهكذا يذكر عدّة من علماء أهل البيت كالنفس الزكيّة وغيره من الطّبقة الثالثة. وقد نقل في كتابه هذا كلمات أئمّة أهل البيت وعلمائهم في الاُصول والعقائد(2).

ومع هذا كيف يصحّ أن تكون الشيعة عالة على المعتزلة؟!

ونظير ذلك ما ذكره القاضي عبد الجبّار المعتزلي في «فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة»(3).

أفبعد هذا التنصيص منهم يصحّ الاجتهاد في مقابل النصّ ؟!

وأمّا ما استند

إليه أحمد أمين، فالحقّ أنّه لم يثبت أوّلاً تتلمذ واصل للإمام الصادق _عليه السلام _ حتّى يثبت قوله: إنّ الصادق كان يمسك الركاب لتلميذ واصل وهو زيد، ولميدّع أحد من المحقّقين تتلمذه للصّادق. كما أنّه لم يثبت تتلمذ زيد بن عليّ لواصل.

______________________

1 . ضحى الاسلام: ج 3، ص 267 _ 268، الطبعة الثالثة.

2 . المنية والأمل: ص 7 _ 10.

3 . فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 214.

( 195 )

ومن سبر تأريخ أئمّة أهل البيت و ذرّيتهم الطيّبة وقف على أنّهم لم يدقّوا باب أحد من الناس، بل تلقّوا ما تلقّوه عن نفس الأئمّة، على أنّ زيد بن عليّ قد صلب عام 121 وله من العمر في ذلك الوقت 42. فيكون من مواليد عام 79 أو 80، وكان واصل من مواليد عام 80، فمن البعيد أن يكون وليد البيت العلويّ تلميذاً لمن هو أصغر منه سنّاً أو مثله، وقد عدّه الرجاليون من أصحاب أبيه عليّ السجاد _عليه السلام_ (م 94) وأخيه الإمام الباقر _عليه السلام_ (م 114) والإمام الصادق _عليه السلام_ الّذي استشهد زيد في حياته.

نظريّة بعض المستشرقين و مناقشتها

وهناك رجال آخرون قد وقعوا في نفس هذه الشبهة، وأرسلوها إرسال المسلّمات، إمّا مجرّدة عن الدّليل أو مقرونة بتلفيقات غير منتجة. فمن الطائفة الاُولى المستشرق «آدم متز» يقول:

«لم يكن للشيعة حتّى ذلك الوقت (عام 334) مذهب كلامي خاصّ بهم، فاقتبسوا عن المعتزلة اُصول الكلام و أساليبه... حتّى إنّ ابن بابويه أكبر علماء الشيعة في القرن الرابع الهجري اتّبع في كتابه «العلل» طريقة علماء المعتزلة الّذين كانوا يبحثون عن علل كلّ شيء _ إلى أن قال _: إنّ الشيعة من حيث العقيدة و المذهب هم ورثة المعتزلة»(1).

يلاحظ عليه

أوّلاً : أنّ ما ذكره يعرب عن قلّة اطّلاع المستشرق على الثّقافة الشيعية، وعدم تعرّفه على المتكلمين البارزين فيهم قبل السنة المذكورة. ويكفي في ذلك مراجعة كتاب «تأسيس الشيعة الكرام لعلوم الإسلام» للسيد حسن الصدر ص353 _ 402. لقد كان للشيعة متكلّمون بارعون في الجدل و المناظرة في أبواب العقائد في القرون الثلاثة الاُول. وها نحن نأتي بأسماء نماذج من أبرع متكلّمي الشيعة في

______________________

1 . الحضارة الاسلاميّة في القرن الرابع الهجري لآدم متز: ج 1 ص 102.

( 196 )

القرن الثاني، ونترك البحث عن غيرهم من السابقين واللاحقين إلى محلّه.

1 _ عيسى بن روضة

يعرّفه النجاشي بقوله: «عيسى بن روضة حاجب المنصور كان متكلّماً جيّد الكلام، وله كتاب في الإمامة وقد وصفه أحمد بن أبي طاهر في كتاب بغداد، وذكر أنّه رأى الكتاب، وقال بعض أصحابنا رحمهم الله: إنّه رأى هذا الكتاب. وقرأت في بعض الكتب أنّ المنصور لما كان بالحيرة تسمّع على عيسى بن روضة وكان مولاه وهو يتكلّم في الإمامة فاُعجب به واستجاد كلامه»(1).

2 _ علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار البغداديّ

يقول ابن النديم: «أوّل من تكلّم في مذهب الإمامة: علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار، وميثم من جلّة أصحاب عليّ _ عليه السلام _ ولعليّ من الكتب كتاب الإمامة وكتاب الاستحقاق»(2).

وقال النجاشي: «عليّ بن إسماعيل ...كوفيّ سكن البصرة، وكان من وجوه المتكلّمين من أصحابنا، كلّم أبا الهذيل والنظام، له مجالس و كتب منها كتاب الإمامة...وكتاب مجالس هشام بن الحكم»(3).

3 _ أبو جعفر محمّد بن عليّ بن النعمان الملقّب بمؤمن الطاق

قال النجاشي: «وأمّا منزلته في العلم وحسن الخاطر فأشهر،...وله كتاب إفعل لا تفعل...كتاب كبير حسن...وله كتاب الاحتجاج في إمامة أمير المؤمنين _ عليه السلام _

وكتاب كلامه على الخوارج وكتاب مجالسه مع أبي حنيفة و المرجئة....الخ»(4).

______________________

1 . فهرست النجاشي: رقم الترجمة 796.

2 . فهرست ابن النديم: الفن الثاني من المقالة الخامسة ص 223.

3 . فهرست النجاشي: رقم الترجمة 661.

4 . فهرست النجاشي: رقم الترجمة 886.

( 197 )

وقال ابن النديم: «كان حسن الاعتقاد والهدى حاذقاً في صناعة الكلام، سريع الحاضر والجواب، وله مع أبي حنيفة مناظرات . ثمّ ذكر مناظرته مع أبي حنيفة في المتعة و الرجعة»(1).

4 _ هشام بن الحكم

يقول ابن النديم: «هو من جلّة أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق _عليهما السلام _ وهو من متكلّمي الشيعة الإماميّة و بطائنهم وهو الّذي فتق الكلام في الإمامة، وهذّب المذهب، وسهّل طريق الحجاج فيه، وكان حاذقاً بصناعة الكلام حاضر الجواب. وكان أوّلاً من أصحاب الجهم بن صفوان، ثمّ انتقل إلى القول بالإمامة بالدّلائل والنظر»(2).

يقول أحمد أمين: «أمّا هشام بن الحكم فيظهر أنّه أكبر شخصيّة شيعيّة في علم الكلام ... جدلاً، قويّ الحجّة، ناظر المعتزلة و ناظروه، ونقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرّقة تدلّ على حضور بديهته وقوة حجّته قد ناظر أبا الهذيل العلاّف المعتزلي»(3).

أفبعد هذه الشخصيات البارزة (4) في علم الكلام يصحّ قول هذا المستشرق الحاقد إنّه لم يكن للشيعة مذهب كلامي خاصّ بهم؟

وثانياً : إنّ الاستدلال على تأثّر الشيعة بالمعتزلة بتأليف الشيخ الصدوق «علل الشرائع» على غرار كتب المعتزلة الّذين يبحثون عن علل كلّ شيء، يكشف عن أنّ المستشرق لم يرجع إلى نفس الكتاب رجوعاً دقيقاً، فإنّ الكتاب فسّر علل الشرائع والأحكام، بالأحاديث المرويّة عن النّبيّ والوصيّ والأئمّة من بعدهما _ عليهم السلام _ وليس

______________________

1 . فهرست ابن النديم: الفن الثاني من المقالة الخامسة، ص 264.

2 .

نفس المصدر .

3 . ضحى الاسلام: ج 3 ص 268.

4 . هذا قليل من كثير وقدجئنا بأسماء لفيف من متكلمي الشيعة في القرون الثلاثة في رسالتنا «الشيعة و علم الكلام عبر القرون الأربعة».

( 198 )

الكتاب تفسيراً للأحكام من نفس المؤلّف حتّى يقال إنّه ألّفه على غرار كتب المعتزلة.

وثالثاً : إنّ المناظرات الّتي دارت بين الشيعة و المعتزلة من عصر الإمام الباقر _عليه السلام_ إلى العصر الّذي ارتمت فيه المعتزلة في أحضان آل بويه أدلّ دليل على أنّ النظام الفكري للشيعة لا يتّفق مع المعتزلة من لدن تكوّن المذهبين، ومن أراد الوقوف على تلك المساجلات فعليه الرجوع إلى المصادر(1).

وهذا محمّد بن عبدالرحمان بن قبة (المتوفّى قبل سنة 317) له كتاب الردّ على الجبّائي. ونقل النّجاشي عن أبي الحسين السوسنجردي، أنّه قال: «مضيت إلى أبي القاسم البلخي إلى بلخ بعد زيارتي الرضا _عليه السلام_ بطوس فسلّمت عليه وكان عارفاً بي و معي كتاب أبي جعفر ابن قبة في الإمامة المعروف بالانصاف فوقف عليه و نقضه ب_«المسترش_د في الإمام_ة» فعدت إلى الريّ فدفعت الكتاب إلى ابن قبة فنقضه ب_«المستثبت في الإمامة» فحملته إلى أبي القاسم فنقضه ب_ «نقض المستثبت» فعدت إلى الري فوجدت أبا جعفر قد مات _ رحمه الله _ »(2).

وهذا الحسن بن موسى النوبختي من أكابر متكلّمي الشيعة له ردود على المعتزلة:

1 _ الردّ على الجبّائي 2 _ الرد على أبي الهذيل العلاّف في أنّ نعيم الجنّة منقطع 3_النقض على أبي الهذيل في المعرفة 4 _ النقض على جعفر بن حرب 5 _ الردّ على أصحاب المنزلة بين المنزلتين(3).

وقد قام الشيخ المفيد (ت 336 _ م 413) بنقض كثير من كتب المعتزلة، فله الكتب التالية و

كلّها ردود عليهم.

1 _ الردّ على الجاحظ العثمانية 2 _ نقض المروانيّة له أيضاً 3 _ نقض فضيلة المعتزلة له أيضاً 4 _ النقض على ابن عبّاد في الإمامة 5 _ النقض على عليّ بن عيسى

______________________

1 . لاحظ: الفصول المختارة من العيون والمحاسن، للشيخ المفيد (م 413) وكنز الفوائد، للعلامة الكراجكي (م / 449) ومناظرات هشام ومؤمن الطاق وغيرهم الواردة في بحار الأنوار.

2 . رجال النجاشي: رقم 1023.

3 . رجال النجاشي: رقم 146.

( 199 )

الرماني 6_النقض على أبي عبدالله البصري في المتعة 7 _ نقض الخمس عشرة مسألة للبلخي 8_ نقض الإمامة على جعفر بن حرب 9 _ الكلام على الجبائي في المعدوم 10 _ نقض كتاب الأصمّ في الإمامة 11 _ كتاب الردّ على الجبّائي في التفسير 12 _ عمد مختصرة على المعتزلة في الوعيد. إلى غير ذلك من كتبه حول الإمامة الّتي أكثر ردودها على ما ألّفته المعتزلة في هذا المجال(1).

كما أنّ تلميذه السيّد المرتضى (ت 355 _ م 436) نقض بعض كتب المعتزلة، فألّف الشافي ردّاً على الجزء العشرين من كتاب المغني للقاضي عبد الجبّار (م 415)(2).

كلّ ذلك يعرّف موقف الطّائفتين في المسائل الكلاميّة و أنّهما و إن اجتمعتا في مسائل، اختلفتا في مسائل كثيّرة أخرى.

نظرية مؤلف كتاب «المعتزلة» و مناقشتها

إنّ هنا وجوهاً اُخر لفّقها مؤلف كتاب «المعتزلة» تبعاً لأحمد أمين ربّما يستظهر منها عيلولة الشيعة في العقائد على المعتزلة و إليك تحليلها:

1 _ إنّ المقدّسي نظر في كتب الفاطميّين الشيعة فى شمال أفريقيا فوجد أنّهم يوافقون المعتزلة في أكثر الاُصول (3) .

يلاحظ عليه: أنّه وجد الشيعة في بلاد العجم يقولون بالتوحيد والعدل كما تقول به المعتزلة، وهو لا يدلّ على أنّ

الشيعة أخذتهما من المعتزلة لو لم نقل بالعكس.

نعم، إنّ المعتزلة بعد النكبة وطرق النّكسة في حياتهم لجأوا الى اُمراء آل بويه في أوائل القرن الرابع لما وجدوا فيهم من سعة الصدر، واستعادوا في ظلّ حكمهم شيئاً من القوّة والسيطرة، ولعلّنا نتحدّث عنه في محلّه، ولم تكن تلك الالفة موجودة قبل النّكبة. كيف ومن قرأ تأريخ المعتزلة يقف على أنّهم كانوا خصماء الشيعة في العصور السابقة،

______________________

1 . رجال النجاشي: رقم 1067 .

2 . المصدر نفسه: رقم 708.

3 . يأتي سائر الوجوه ص 216 فانتظر .

( 200 )

فكانت الطّائفتان تتصارعان صراع الأقران و ربّما يقتتلان قتال موت وحياة، فكيف يمكن أنّ تكون الشّيعة عالة على المعتزلة في عقائدهم. فمن نسب ذلك إلى الشيعة فقد جهل تأريخ علم الكلام. فأين مبادئ الشيعة من مبادئ الاعتزال؟ فهما و إنّ كانا يشتركان في التوحيد والعدل ونفى الرؤية و التجسيم و القول بالتحسين و التقبيح العقليّين، ولكن يفترق

أنّ في كثير من الاُصول و تكفي في ذلك المراجعة لكتاب «أوائل المقالات»(1) للشيخ المفيد، فقد عنون فيه بعض الفوارق الموجودة بين عقيدة الشيعة وسائر الفرق و منهم المعتزلة.

الفوارق الفكرية بين الشيعة والمعتزلة

إنّ بين المنهجين الكلاميين مشتركات ومعترقات، وقد تعرفت على قسم من المشتركات، فها نحن نلمح إلى الفوارق بينهما، الّتي جعلهما منهجين كلاميين مختلفين لكّل ميزة وخصوصيّة، وإليك رؤوسها على وجهه الإجمال:

1_ عينية الصفات مع الذات :

اتفقت الطاتئفتان على أنّ صفاته الذاتية ليست زائدة على الذات، بمعنى أنّ تكون هناك ذات، وصقة وراءها، كما في المكنات فإنّ الإنسان له ذات وله علم وقدرة، هذا ممّا اتّفقتا عليه، ولكنّهما اختلفتا في تفسير ذلك، فالعيشة الإميّة ذهبت إلى أنّ الوجود في مقام الواجب بالغ من

الكمال على حدّ يعد نفس العلم والضابطة الكلية حتى في مقام الواجب بل الموصوف هناك لأجلّ الكمال المفرط نفس الصفة، ولا مانع من كون العلم في درجة، قائماً بالذات، وفي اُخرى نفس الذات، وما هذا إلاَ لأنَ زيادة الوصف على الذات توجب حاجتها إلى شيء وراءها، وهو ينافي وجوب

______________________

1 . اوائل المقالات: ص 8 _ 16.

( 201 )

الوجود والغناء المطلق. هذه هي نظرية الشيعة مقرونة بالدليل الإجمالي، وقد اقتفوا في ذلك مارسمه علي _ عليه السلام _ فقال:«وكمال الإخلاص له نفي الصفات (الزائدة) عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله (بوصف زائد على ذاته) فقد قرنه (قرن ذاته بشيء غيرها) ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله(1)

وقال الإمام الصادق: «لم يزل الله جلّ وعزّ، ربّنا والعلم ذاته، ولا معلوم، والسمع ذاته، ولا مسموع والبصر ذاته ولا مبصر، و القدرة ذاته ولا مقدور»(2)

هذا ما لدى الشيعة، وأمّا المعتزلة فقد اضطرب كلامهم في المقام، فالقول المشهور عندهم هي نظرية نيابة الذات عن الصفات، من دون أنّ تكون هناك صفة، وذلك لأنّهم رأواأنّ الاّمر في أوصافه سبحانه يدور بين محذورين .

1_ لو قلنا بأنّ له سبحانه صفات كالعلم، وجب الاعتراف بالتعدد و الإثنينية، لأنّ واقع الصفات هو المغايرة للموصوف .

2_ إنّ نفي العلم والقدرة و سائر الصفات الكمالية يستلزم النقص في ذاته أولاً ويكذبه اتقان آثاره وأفعاله ثانياً.

فالمخلَص والفر من هذين المحذورين يتلخّص عندهم في انتخاب نظرية النيابة، وهي القول بأنّ الذات نائبة مناب الصفات، و إنّ لم تكن هناك واقعية للصفات وراء الذات، فما يترقب من الذات المقرونة بالصفة، يترتب على تلك الذات

النائبة مقامها، هذا هو المشهور عن المعتزلة وإليك نصّ كلام عباد بن سليمان في ذلك المجال قال:«هو عالم قادر، حىّ، ولاأثبت له علماً، ولاقدرةً، ولا حياةً، ولا أثبت سمعاً، ولا أثبت بصراً وأقول هو عالم لابعلم، قادر لابقدرة، حىّ لا بحياة، وسميع لا بسمع، وكذلك سائر مايسمّى من الأسماء الّتي يسمّى بها(3)

يلاحظ: أنّ نظرية النياية المشهورة عن المعتزلة، مبنية على تخيّل كون الشيء وصفاً ملازم للزيادة دائماً، فوقعوا بين المحذورين وتخلّصوا بالنيابة، ومن المعلوم أنّ موجع النيابة إلى خلو الذات عن الكمال أولاً، وكون الذات الفاقدة للعلم، نائبة عن الذات المقرونة بها أشبه باللغز.

نعم، بعض المعتزلة كأبي هذيل العلاف (130_235)ذهب إلى نفس ماذهب الشيعة إليه، وقد ذكرنا كلامه في الجزء الثاني(4)

______________________

1 .الرضي: نهج البلاغة: الخطبة (1)

2 . الصدوق: الاتوحيد: 139.

3 . الأشعري: مقالات الإسلاميين 1: 335.

4 . لاحظ بحوث في الملل والنحل 2:84 نقلا عن شرح الاُصل الخمسة للقاضي عبدالجبار: 183، ومقالات الإسلاميين: 225.

( 202 )

2_ إحباط الأعمال الصالحة بالطالحة

الإحباط في عرف المتكلمين عبارة عن بطلان الحسنة، وعدم ترتب مايتوقع منها عليها، ويقابله التفكير وهو إسقاط السيئة بعدم جريان مقتضاها عليها فهو في المعصية نقيض الإحباط في الطاعة، والمعروف عن الإماميّة والأشاعرة هو أنّه لاتحابط بين المعاصي والطاعات والثواب والعقاب، والمعروف من المعتزلة هو التحاط(1)، ثمّ إنهم اختلفوا في كيفيته فمنهم من قال :من أنّ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنات القليلة وتمحوها بالكلية من دون أنّ يكون لها تأثير في تقليل الإساءة وهو المحكي عن أبي علي الجبائي.

ومنهم من قال: بأنّ الإحسان القليل يسقط بالإساءة الكثيرة ولكنه يقلل في تأثير الإساءة فينقص الإحسان من الإساءة فيجري العبد بالمقدار الباقي بعد التنقيص، وهو المنسوب إلى أبي هاشم.

ومنهم

من قال :إنّ الإساءة المتأخرة تحبط جميع الطاعات وإنّ كانت الإساءة أقل منها، حتى قيل :إنّ الجمهور من المعتزلة ذهبوا إلى أنّ الكبيرة الواحدة، تحبط ثواب

______________________

1 . المفيد: أوائل المقالات: 57. وسيوافيك نصوص المعتزلة في محلها.

( 203 )

جميع العبادات (1)

هذا على قول المعتزلة. وأمّا على قول نفاة الإحباط فالمطيع والعاصي يستحق الثواب والعقاب معاً فيعاقب مدّة ثم يخرج من النار فيثاب بالجنّة.

نعم، ثبت الإحباط في موارد نادرة، كالإرتداد بعد الإسلام، والشرك المقارن للعمل، والصدّ عن سبيل الله، ومجادلة الرسول ومشاقته، وقتل الأنبياء، وقتل الآمرين بالقسط، وإساءة الأدب مع النبي، والنفاق، وغير ذلك ممّا شرحناه في الإلهيات (2).

3_ خلود مرتكب الكبيرة في النار

اتّفقت الإماميّة على أنّ الوعيد بالخلود في النار متوجّه إلى الكفّار خاصّة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلات، و وافقهم على هذا القول كافة المرجئة سوى محمد بن شبيب وأصحاب الحديث قاطبة، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، وزعموا أنّ الوعيد بالخلود في النار عامّ في الكفار و جميع فساد أهل الصلاة .

ويظهر من العلاّمة الحلي أنّ الخلود ليس هو مذهب جميع المعتزلة حيث قال :أجمع المسلمون كافة على أنّ عذاب الكافر مؤبّد لاينقطع، وأمّا أصحاب الكبائر من المسلمين، فالوعيدية على أنّه كذلك. وذهبت الإماميّة وطائفة كثيرة من المعتزلة والأشاعره إلى أنّ عذاب منقطع (3).

والظاهر من القاضي عبد الجبار هو الخلود، واستدل بقوله سبحانه: (وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ ورسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا) (النساء/14). فالله تعالى

______________________

1 . التفتازاني: شرح المقاصد 2: 232، القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: 625.

2 . حسن مكي العاملي: الإلهيات 1: 870 _ 874.

3 . العلامة الحلي: كشف المراد:265.

( 204 )

أخير أنّ

العصاة يعذّبون بالنار ويخلدون فيها، والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر جميعاً فيجب حمله عليها لأنّه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينة فلمّا لم يبيّنه دلّ على ما ذكرناه.

فإن قيل: إنّماأراد الله تعالى بالآية الكافر دون الفاسق، ألاترى إلى قوله تعالى: (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) وذلك لايصيوّر إلاّفي الكفرة إلاّفالفاسق لابتعدى حدود الله تعالى أجمع. ثم أجاب عنه فلاحظ كلامه(1)

4 _ لزوم العمل بالوعيد وعدمه

المشهور عن المعتزلة أنّهم لا يجوّزون العفو عن المسيء لاستلزامه الخلف، وأنّه يجب العمل بالوعيد كالعمل بالوعيد، والظاهر من القاضي أنها نظرية البغدادين من المعتزلة قال: اعلم أنّ البغدادية من أصحابنا أوجبت على الله أنّ يفعل بالعصاة ما يستحقونه لا محال، وقالت: لايجوز أنّ يعفو عنهم، فصار العقاب عندهم أعلى حالاً في الوجوب من الثواب، فإن الثواب عندهم لايجب إلامن حيث الجود، وليس هذا قولهم في العقاب فإنّه يجب فعله بكل حال (2).

وذهبت الإماميّة إلى جواز العفو عن المسيء إذا مات بلاتوبة، واستدل الشريف المرتضى بقوله سبحانه:(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبِلِهمُ المَثُلتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة للنَّاسِ َعلَى ظُلْمِهِمْ َوإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الِعقَابِ) (الرعد /6).وقال: في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة لإنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين لأنّ قوله:(على ظلمهم) جملة حالية إشارة إلى الحال الّتي يكونون عليها ظالمين، ويجري ذلك مجرى قول القائل:

______________________

1 . القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: 675.

2 . القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة:644.

( 205 )

«أنا أودّ فلانا على غدره (و) وأصله على هجره» (1).

وقد أوضحنا الحال في دلالة الآية وأجبنا عن إشكال القاضي على دلالتها في الإلهيات (2).

5 _ الشفاعة حطّ الذنوب أوترفيع الدرجة :

لما ذهبت

المعتزلة إلى خلود مرتكب الكبيرة في النار، وإلى لزوم العمل بالوعيد، ورأت أنّ آيات الشفاعة الفسّاق الّذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا تتنزّل منزلة الشفاعة لمن قتل ولد الغير وترصّد للآخر حتى يقتله، فكما أنّ ذلك يقبح فكذلك هاهنا(3).

فالشفاعة عندهم عبارة عن ترفيع الدرجة، فخصوها بالتائبين من المؤمنين وصار أثرها عندهم ترفيع المقام لا الإنقاذ من العذاب أو الخروج منه، قال القاضي: إنّ فائدة الشفاعة رفع مرتبة الشفيع والدلالة على منزلة من المشفوع (4).

وأمّا عند الشيعة الإماميّة فهو عبارة عن إسقاط العذاب، قال الشيخ المفيد: اتفقت الإماميّة على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من اُمته، وأنّ أمير المؤمنين _ عليه السلام _ يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته وأنّ أئمة آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)يشفعون كذلك وينجي الله بشفاعنهم كثيراً من الخاطئين، و وافقهم على شفاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)المرجئة سوى ابن شبيب وجماعة من أصحاب الحديث، وأجمعت المعتزلة على خلاف وزعمت أنّ شفاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)للمطيعين دون العاصين

______________________

1 . الطبرسي 3: 287.

2 . حسن مكي العاملي: الإلهيات 1: 910.

3 . القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة :688.

4 . القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: 689.

( 206 )

وأنّه لايشفع في مستحقي العقاب من الخلق أجمعين (1).

6 _ مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر

إنّ مقترف الكبيرة عند الشيعة والأشاعرة مؤمن فاسق خرج عن طاعة الله. وهو عند الخوارج، كافر كفر ملة عند جميع فرقهم إلاّ الأباضية فهو عند كافر كفر النعمة، وأمّا المعتزلة فهو عندهم في منزلة بين المنزلتين قال القاضي: إنّ صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين، وحكم بين الحكمين لايكون

اسمه اسم الكافر، ولا اسم المؤمن فلا يكون حكمه حكم الكافر ولاحكم المؤمن بل يفرد له حكم ثالث. وهذا الحكم الّذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين، قال صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان (2).

وهذا أحد الاُصول الخمسة الّتي عليها يدور رمى الاعتزال ومن أنكر واحداً منها فليس بمعتزلي(3).

7 _ النسخ جائزٌ ممتنع عند المعتزلة

اتفق المسلمون على جواز النسخ خلافاً لليهود، واختلفوا في البداء، ذهبت الشيعة إلى إمكانه و وقوعه، خلافاً لغيرهم فقالوا بالامتناع .

ثم إنّ الّذي صار سبباً للتفريق عند القاضي هو أنّه اشترط في النسخ اُموراً أهمها: أنّ النسخ لايتعلّق بعين ما كان ثابتاً، بل يتعلّق بمثل ما كان ثابتاً أشار إليها بقوله : النسخ إزالة مثل الحكم الثابت بدلالة شرعية، بدليل آخر شرعي على وجه لولاه لثبت، ولم يزل مع تراخيه عنه.

______________________

1 . المفيد: أوئل المقالات: 14 _ 15.

2 . القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: 697.

3 . الخياط: الانصار / 126، ومروج الذهب 3 / 222.

( 207 )

قال: فاعتبرنا أنّ يكون إزالة مثل الحكم الثابت لأنه لو زال عين ما كان ثابتاً من قبل لم يكن نسخاً بل كان نقضاً، وهذا بخلاف البداء فإنه يتعلّق بعين ما كان ثابتاً. ومثاله أنّ يقول أحدنا لغلامه: إذا زالت الشمس و دخلت السوق فاشتر اللحم. ثم يقول له: إذا زالت الشمس ودخلت السوق فلا تشتر اللحم، وهذا هو البدء وإنما سمي به لأنه يقتضي أنّه قد ظهر له من حال اشتراء اللحم ما كان خايفاً عليه كم قبل (1).

وقال أيضاً: الّذي يدل على البداء، أنّ يأمر الله جلّ وعزّ بنفس مانهى عنه في وقت واحد على وجه واحد وهذا محال لانجيزه البتة

(2).

نحن لانحوم حول البداء وما هو الفرق بينه وبين النسخ، فقد أشبعنا الكلام فيه في نحوثنا الكلامية(3).غير أنّ الّذي يتوجّه على كلام القاضي أنّ ما أحاله هو أيضاً من أقسام النسج لا من أقسام البداء المصطلح فإنه على قسمين:

1_ النسخ بعد حضور وقت العمل .

2_ النسخ قبل حضور وقت العمل.

والّذي أحاله هو القسم الثاني، وأمّا الوجه الّذي اعتمد عليه فموهون بأنه ربّما تترتّب المصلحة على نفس إنشاء الحكم وإنّ لم يكن العمل به مراداً جدياً كما هو الحال في أمر إبراهيم بذبح ولده، والأوامر الامتحانية كلها من هذا القبيل فإذا شوهد من الإنسان القيام بمقدّمات الواجب، ينسخ الحكم، وعلى كل تقدير فما سماه بداء، ليس هو محل النزاع بين الإماميّة وغيرهم.

والبداء عندهم عبارة عن تغيير المصير الأعمال الصالحة أو الطاعة وهو شيء

______________________

1 . القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: ص 584، 585.

2 . رسائل العدل والتوحيد 1، رسالة القاضي عبد الجبار / 241.

3 . لاحظ الالهيات :ج 1،ص 565.

( 208 )

اتفق عليه المسلمون، ورد به النص في القرآن و النسنة.

هذه هي حقيقة البداء في عالم الثبوت، وله أثر في عالم الإثبات وهو أنّه

ربّما يقف النبي على مقتضي المصير ولايقف على مايغيره، فيخير به على حسب العلم بالمقتضى ولكن لا يتحقّق لأجلّ تحقّق ما يغيّره، فيقال هنا: بدا لله والمقصود بداء من الله للعباد كما هو الحال في إخبار يونس عن تعذيب القوم وغير ذلك، وقد وردت جملة «بدا لله» في صحيح البخاري (1).

قال الشيخ المفيد: أقول في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله من الإفقار بعد الإغناء، والأمراض بعد الإعفاء وما يذهب إليه أهل العدل خاصّة من الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها

بالأعمال وأمّا إطلاق لفظ البداء، فإنّما صرت إليه لأجلّ السمع الوارد عن الوسائط بين العباد وبين الله _

عزّ وجلّ _ وليس بيني وبين كافة المسلمين في هذا الباب خلاف، وإنّما خالف من خالفهم في اللفظ دون ما سواه (2).

وهذا يعرب عن أنّ القوم لم يقفوا على مصطلح الإماميّة في البداء وإلاّ لأصفقوا على جوازه.

8 _ الواسطة بين الوجود والعدم

اتفق المفكرون من الفلاسفة و المتكلمين على أنه لاواسطة بين الوجود والعدم كما لا واسطة بين الموجود والعدم، وإنّ الماهيات قبل اتصفاها بالوجود معدومات حقيقة، غير أنّ المعتزلة ذهبت إلى انها في حال العدم غير موجود ولا معدوم، بل متوسط بينهما و هذا هو العروف منهم بالقول بألأحوال .

قال الشيخ المفيد: المعدوم هو المنفي العين، الخارج عن صفحة الموجود، ولا

______________________

1 . البخاري: الصحيح 4 / 172 باب حديث «أبرص وأعمى وأاقرع في بني إسرائيل».

2 . المفيد: أوائل المقالات، ص 53 .

( 209 )

أقول: إنّه جسم ولاجوهر ولا عرض، ولا شيء على الحقيقة، وإنّ سميته بشيء من هذه الأسماء، فإنما تسميه به مجازا وهذا مذهب جماعة من بغدادية المعتزلة وأصحاب المخلوق )كذا(، والبلخي يزعم أنّه شيء ولا يسميه بجسم ولا جوهر ولا عرض، والجبائي وابنه يزرعان أنّ المعدوم شيء وجوهر وعرض، والخياط يزعم أنّه شيء وعرض وجسم (1).

وبما أنّه المسألة واضحة جداً لانحوم حولها.

9 _ التوفيض في الأفعال

ذهبت المعتزلة الا من شذ كالنجار و أبي الحسين البصري (2)إلى أنّ أفعال العباد واقعة بقدرتهم وحدها على سبيل الاستقلال ايجاب (3) بل باختيار .

قال القاضي: أفعل العباد لايجوز أنّ توصف بأنها من الله تعالى ومن عنده و من قبله 000(4).

قال السيد الشريف إنّ المعتزلة اسدلوا بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر

واحد وهو أنّه لو لا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار، لبطل التكليف وبطل التأديب الّذي ورد به الشرع وارتفع المدح والذم إذليس للفعل استناد إلى العبد أصلا، ولم يبق للبعثة فائدة لأن العباد ليسوا موحدين أفعالهم، فمن أين لهم استحقاق الثواب والعقاب (5).

______________________

1 . المفيد: أوائل المقالات / 79.

2 . لاحظ حاشية شرح المواقف لعبد الحليم السيالكوتي، ج 2، ص 156.

3 . ولعل قولهم بلا إيجاد اشارة إلى أنّ حال الصدور لايتصف بالوجوب أيضاً. والقاعدة الفلسفية «الشيء مالم يجب لم يوجد» غير مقبولة عندهم .

4 . القاضي عبدالجبار: شرح الأصول الخمسة 778، وفي ذيله ما ربّما يوهم خلاف ما هو المشهور غنهم .

5 . السيد الشريف الجرجاني (ت 886): شرح المواقف، ج 8، ص 156.

( 210 )

ثم إنّ نظريتهم في استقلال العبد في الفعل مبنية على مسألة فليسفسة وهو أنّ حاجة الممكن إلى العلّة تنصر في حدوثه، لافيه وفي بقائه، وعلى ضوء ذلك قالوا با ستقلال العبد في مقام الإيجاد.

والمبنى والبناء كلاهما باطلان. أما الافتقار حدوثاً فقط، فهو لا يجتمع مع كون الإمكان من لوازم الماهية وهي محفوظة حدوثاً وبقاء، فكيف يجوز الغناء عن الفاعل بقاء.

قال الحكيم الشيخ محمد حسين الإصفهاني:

والافتقار لازم الإمكان * من دون حاجة إلى البرهان

لافرق مابين الحدوث والبقاء * في لازم الذات ولن يفترقا

هذا كله حول المبنى في التخلص عن الجبر استناد الفعل إلى الفاعل والخالق معاً، لكن يكون قدرة المخلوق في طول قدرة الخلق، ومنشعبة عنها، وهذا يكفي في الاستناد وصحة الامر والنهي والتأديب والتثويب، فالجبر والتوفيض باطلان، والامر بين الامرين هو الحق الصراح، وقد تواتر عن أئمة أهل

البيت قولهم :لاجبر وتفويض لكن أمر بين الأمرين (1).

ثم إنّ الدافع

إلى القول بالتفويض هو صيانة عدله سبحانه فزعموا أنّ الصيانه لها رهن ما ذهبت إليه الإماميّة، ثم انهم و إنّ نزهوا العبد عن الظلم ولكن صورواله شريكا في الايجاد، ولأجل ذلك قال الامام الرضا _ عليه السلام:

«مساكين القدرية أرادوا أنّ يصفوا الله _ عزّ وجلّ _ بعدله، فأخرجوه من قدرته وسلطانه (2).

______________________

1 . الصدق: التوحيث 8، ولاحظ الأحاديث الاُخرى .

2 . نفس المصدر، ص 54، الحديث 93.

( 211 )

10 _ قبول التوبة واجب على الله أو تفضّل منه ؟ اتفق المسلمون على أنّ التوبة تسقط العقاب، وإنّما الخلاف في أنّه هل يجب على الله قبولها فلو عاقب بعد التوبة كان ظالماَ أو هو تفضل منه سبحانه ؟فالمعتزلة على الأوّل، والأشاعره والإماميّة على الثاني(1).

قال المفيد:

«اتفقت الإماميّة على أنّ قول التوبة بفضل من الله عزّ وجلّ، وليس بواجب في العقول اسقاطها لما سلف من استحقاق العقاب، ولولا أنّ السمع ورد بإسقاطها لجاز في العقول بقاء التائبين على شرط الإستحقاق، و وافقهم على ذلك أصحاب الحديث، وأجمعت المعتزلة على خلافهم و زعموا أنّ التوبة مسقطة لما سلف من العقاب على الواجب (2).

و لقد أحسن _ قدّس الله سره _ حيث جعل محور المسألة قبول التوبة وعدمه بما هو هو لابلحاظ آخر كما في صورة الأخبار بقبول التوبة قال سبحانه:(يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) (التوبة / 104). إذ عندئذ يجب قبول التوبة عقلا وإلالزم الخلف في الوعد. قال الطبرسي في تفسير قوله سبحانه:(إلاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فاُولئكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوّاُب الرَّحِيمُ) ( البقوة / 160). وصفحه بالرحيم عقيب التوّاب يدل على أنّ إسقاط العقاب بعد التوبة تفضل منه سبحانه ورحمة من جهته، على ما قاله أصحابنا، وأنّه

غير واجب عقلاً على خلاف ماذهب إليه المعتزلة (3).

ومن أراد أنّ يقف على دلائل المعتزلة في المقام فليرجع إلى كشف المراد شرح المقاصد.

______________________

1 . لاحظ: التفتازاني: شرح المقاصد، ج 2، 242، العلامة الحلّي: كشف المراد، ص 268، القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة، ص 798 .

2 . المفيد: أوئل المقالات ص 15.

3 . الطبرسي: ومجمع البيان 1 / 242.

( 212 )

11 _ عصمة الأنبياء قبل البعثة و بعدها اتفقت الإمامية على أنّ جميع أنبياء الله _ صلوات الله عليهم أجمعين _ معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها، وممّا يستخف فاعله من الصغائر وأما ماكان من صغير لا يستخف فاعله فجائز و قوعة منهم قبل النبوة وعلى غير تعمد وممتنع منهم بعدها، على كل حال هذا مذهب جمهور الإمامية والمعتزلة بأسرها تخالف فيه (1).

والمقول عن أبي علي الجبائي التفصيل في الكبائر بين قبل البعثة وبعدها فيجوز في الأول دون الثاني، والمختار عند القاضي في الكبائر عدم الجواز مطلقاً وأمّا المفرات فاتفقوا على عدم جواز(2).

12_ وجوب الأمر بالمعروف عقلاًوعدمه

اتفقت الاُمّة على و جوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا استثناء غير أنهم اختلفوا في وجوبه عقلاً وسمعاً، أو سمعاً فقط، فالمعتزلة على الأوّل والاماميّة على الثاني .

قال المفيد: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان فرض على الكفاية بشرط الحاجة إليه لقيام الحجة على من لايعلم لديه إلأبذكره أو حصول العلم بالمصلحة به أو غلبه الظن وبذلك (3).

ثم إنّ المحقق الطوسي ذكر في متن التريد دلائل العتزلة على وجوبهما عقلاً، ثم عقب عليها بنقد وتحليل (4).

______________________

1 . المفيد: أوائل المقالات / 30.

2 . القاضي عبدالجبار :شرح الاُصول الخمسة: 573.

3 . المفيد: أوائل المقالات / 98، وبذلك يظهر وهن ما

ذكره القاضي في شرح الاُصول الخمسة من نسبة عدم الوجوب على الإطلاق إلى الإماميّة لاحظ ص 741.

4 . العلامة الحلّي: المراد / 271 طبع صيدا.

( 213 )

13 _ آباء رسول الله كلهم موحّدون اتفقت الإماميّة على أنّ آباء رسول الله من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطلب مؤمنون بالله عزّ وجلّ _ موحّدون له، وخالفهم على هذا القول جميع الفرق (1).

14 _ تفضيل الأنبياء على الملائكة

اتفقت الإماميّة على ذلك أنّ أنبياء الله عزّ وجلّ ورسله من البشر أفضل من الملائكة و وافقهم على ذلك أصحاب الحديث، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك و زعم الجمهور منهم أنّ الملائكة أفضل من الأنبياء والرسول (2).

15_ الرجعة: إمكانها و وقوعها قضية الرجعة الّتي تحدثت عنها بعض الآيات القرآنية و الأحاديث المروية عن أهل بيت الرسالة ممّا تعتقد به الشيعة من بين الامة الإسلاميّة قال الشيخ المفيد: إنّ الله يحشر قوماً من اُمّةُ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)بعد موتهم قبل يوم القيامة وهذا مذهب

يختص به آله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن شاهد به (3).

وخالفت المعتزلة والأشاعرة وأهل الحديث في ذلك.

16_ الجنّة والنار مخلوقتان أو لا؟

إنّ الله سبحانه وعد المتقين بالجنّة أو عد العصاة بالنار فهل هما مخلوقتان أو لا؟

والمسألة نقلية محضة فالإماميّة إلاّمن شذ، ذهب إلى أنّ الجنّة والنار في هذا الوقت مخلوقتان قال الشيخ المفيد: وبذلك جاءت الأخبار وعليه إجماع أهل الشرع

______________________

1 . المفيد: أوائل المقالات، ص 12.

2 . المفيد: أوائل المقالات، ص 16.

3 . المجلسي: البحار شرح 53 / 36، نقلاالمسائل السرورية للشيخ المفيد.

( 214 )

والآثار(1).

وقال التفتازاني: «جمهور المسلمين على أنّ الجنّة والنار مخلوقتان الآن خلافاً لأبي هاشم والقاضي عبدالجبار ومن يجري مجراهما

من المعتزلة حيث زعموا أنهما إنما يخلقان يوم الجزاء »(2).

والظاهر من السيد الرضي من الشيعة (359 _ 406) أنهما غير مخلوقتين الآن حيث قال: الصحيح أنهما إنما تخلقان بعده (3).

17_ تأويل النصوص اعتماداً على القواعد العقلية:

إنّ الاصول الخمسة عند المعتزل توصف بالصحة والاتقان على درجة تقدم على النصوص الشرعية الواردة في القرآن الكريم والسنّة، فقد أعطوا للعقل أكثر ممّا يستحقه، فقالوا: إنّ المراد في الشفاعة هو ترفيع الدرجة لا رفع العقاب وقس على ذلك سائر تأويلاتهم في الكتاب والسنّة .

إنّ النص الوارد في القرآن الكريم دليل قطعي لايعادله شيء فعند ذلك تجب تخطئة العقل لاتأويل القرآن، والتعارض بين القطعيين غير معقول، وتأويل النص القطعي كرفضه، نعم لو كان النص ظني السند أو كان الدليل الشرعي ظنّي الدلالة فللتأويل مجال، هذا وللبحث صلة تطلب في مجالها.

18_ الإمامة بالتنصيص أو بالشورى:

اتفقت الإماميّة على أنّ الامامه بالتنصيص خلافاً للأشاعرة والمعتزلة وقالوا

______________________

1 . المفيد: أوائل المقلات / 102 .

2 . التفتازاني: شرح المقاصد /2 318 ولاحظ شرح التجريد للقوشجي / 507 وعبارة الأخيرين واحدة.

3 . تارضي: حقائق التأويل 5 / 245 .

( 215 )

بالشورى وغيرها، ويتفرع على ذلك أمر آخر وهو: أنّ النبي نص على خليفة بالذات عند الإمامية، وقال الآخرون: سكت وترك الأمر شورى بين المسلمين.

قال القاضي عند البحث عن طرق الإمامة (عند المعتزلة): إنها العقد والاختيار (1).

19 _ هل يشرط في الإمام كونه معضوماً

اتقضت الإمامية على أنّ الامام يجب أنّ يكون معصوماً عن الخطأ والمعصية خلافاً للمعتزلة حيث اكتفت أنه يجب أنّ يكون مبرزاً في العلم مجتهداً ذا ورع شديد، يوثق بقوله ويؤمن منه ويعتمد عليه (2).

قال المفيد: إنّ الئمة القائمين مقام الأنبياء في تنفيذ الاحكام، وإقامة

الحدود، وحفظ الشرائع، وتأديب الأنام، معصومون كعصمة الأنبياء، وانهم لايجوز منهم صغيرة إلأ ما قدّمت ذكر جوازه على الأنبياء، وانه لايجوز منه سهو في شيء في الدين و الاينسون شيئأ من الأحكام، و على هذا مذهب سائر الإماميّة إلأمن شذّ منهم وتعلّق بظاهر روايات لها تأويلات على خلاف ظنّه الفاسد في الباب، والمعتزلة بأسرها تخالف في ذلك ويجوّزون من الأئمّة وقوع الكبائر والردّه عن إسلام (3).

20 _ حكم محارب الإمام علي أمير المؤمنين:

اتفقت الإمامية على أنّ الناكثين والقاسطين من أهل البصرة والشام أجمعين كفار ضلاّل ملعونون بحربهم أمير المؤمنين _ عليه السلام _ وانّهم بذلك في النار مخلدون وأجمعيت المعتزلة سوى الغزال منهم وابن باب، والمرجئة والحشوية من أصحاب

______________________

1 . القاضي عبدالجبار شرح الاُصول الخمسة: 753.

2 . نفس المصدر: 754.

3 . الشيخ المفيد: أوائل المقلات: 35 .

( 216 )

الحديث على خلاف ذلك، فزعمت المعتزلة كافّة إلاّ من سمّيناه وجماعة من المرجئة وطائفة من أصحاب الحديث، انّهم فسّاق ليسوا بكفار، وقطعت المعتزلة من بينهم على أنّهم لفسقهم في النار خالدون (1).

هذه جملة من الاُصول الّتي يختلف فيها المنهجان وبقيت هناك اُصول اُخرى تضاربت فيها آراء الفريقين لم نذكرها روماً للإختصار.

ولنعد إلى تحليل سائر الوجوه لمؤلف كتاب المعتزلة.

2 _ قال الذّهبي: «وجد الرفض والاعتزال في زمانه متصادقين مت آخيين»(2).

3 _ وقال المقريزي: «قلّما يوجد معتزلي إلاّ وهو رافضي»(3).

4 _ يقول الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي (م 1331): «إنّ المعتزلة اليوم كفرقة أهل السنّة والجماعة، من أعظم الفرق رجالاً و أكثرها تابعاً، لأنّ شيعة العراق على الإطلاق معتزلة. وكذلك شيعة الأقطار الهندية و الفارسية و الشامية، ومثلهم الشيعة الزيديّة باليمن»(4).

إنّ هذه الكلمات لا تدلّ على عيلولة الشيعة في

عقائدهم على المعتزلة، فإنّ الشيعة الإماميّة تقتدي فى اُصولها و فروعها بأئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ الّذين جعلهم الرسول الأعظمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم عدلاً للقرآن الكريم و قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي»، ولا ترجع إلى غيرهما. ولم نر شيعيّاً إمّاميّا أخذ عقيدته من عالم معتزلي.

ومع هذين المصدرين الصحيحين لا حاجة للرجوع إلى غيرهما.

والمعتزلة كما أقرّ أعلامهم اقتفوا في التّوحيد والعدل أثر خطب الإمام أمير

______________________

1 . نفس المصدر: 10 .

2 . ميزان الاعتدال: ج 2 ص 235، كما في «المعتزلة»، ص 218.

3 . الخطط: ج 4 ص 169، كما في المصدر نفسه، ص 218.

4 . تاريخ الجهمية والمعتزلة: ص 42، كما في المصدر نفسه، ص 219.

( 217 )

المؤمنين _عليه السلام _ وتتلمذوا على حفيده أبي هاشم ابن محمّد بن الحنفيّة.

وما ذكره القاسمي الدمشقي من أنّ شيعة العراق على الإطلاق معتزلة، صحيحة إنّ أراد أنّ شيعة العراق بل الشيعة في جميع الأقطار قائلون بالتوحيد والعدل، اقتفاءً لأثر الكتاب والسنّة الصحيحة المرويّة عن أئمّة أهل البيت لا سيّما خطب الإمام عليّ _عليه السلام _ ، كما أنّ المعتزلة أيضاً قائلون بهما مقتفين أثر ما أخذوه من البيت العلوي.

نعم إنّ المعتزلة أقرب إلى الشيعة من الحنابلة والأشاعرة، فإنّ ولاء كثير منهم لأهل البيت لا ينكر، كما أنّ تمسّكهم بالاُصول العقلية المبرهنة، ورفض الآخرين لها، جعلهم متّحدين في كثير من الاُصول مع الشيعة، ومع ذلك فإنّ لجميع الطّوائف الإسلاميّة، اُصولاً مشتركة، واُصولاً يتميّز بها بعضهم عن بعض فلكلّ طائفة إسلاميّة مشتركات ومميّزات.

رمي الاعتزال بالتشيّع

إنّ من عجائب الدّهر _ وما عشت أراك الدّهر عجباً _ رمي المعتزلة بالتشيّع، وترى تلك النسبة في كتب

الأشاعرة والحنابلة، خصوصاً الرجاليّين منهم، فلم تكن الشيعة وحدها متّهمة بالاعتزال، بل صارت المعتزلة متّهمة بنظيرتها، غير أنّ رمي الشيعة بالاعتزال لايختصّ بقوم دون قوم، حتّى إنّ أصحاب الطبقات من المعتزلة عدّوا أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ وكبار علماء الشيعة من المعتزلة، حتّى قالوا: إنّ الحسن بن موسى النوبختي من المعتزلة، ولم يكتفوا بذلك،بل عدّوا المرتضى والرضي منهم(1).

وقد عرفت مدى صدق هذه النسبة، و أنّ كثيراً من أعلام الشيعة نقدوا كتب المعتزلة، حتّى إنّ الشّيخ المفيد نقض كتاب «فضيلة المعتزلة» للجاحظ.

إنّما الكلام في التهمة الاُخرى، وهو رمي الاعتزال بالتشيّع، والحقّ

أنّه لو فسِّر التشيّع بحبّ عليّ وأهل بيته _ عليهم السلام _ فأعلام السنّة من الأشاعرة والمعتزلة والحنابلة

______________________

1 . طبقات المعتزلة: أحمد بن يحيى المرتضى، ص 9 و 15 و 117، الطبعة الثانية (1407).

( 218 )

كلّهم شيعة إلاّ من له هوى العثمانيّة، الّذين يكثرون من الوقيعة في عليّ وأولاده _ عليهم السلام _ . أمّا لو فسّر بتقديم عليّ على سائر الخلفاء في العلم والزهد و سائر المثل الأخلاقيّة، فمعتزلة بغداد إلاّ من شذّ شيعة، فإنّهم و إن اعترفوا بخلافة الخلفاء، لكن يعترفون بفضل عليّ _ عليه السلام _ وتقدّمه على أقرانه، وهذا هو الّذي صار سبباً لجرح كثير من الرواة العدول، وما ذنبهم إلاّ تقديم عليّ على غيره فى الفضائل، أخذاً بنصوص الآيات والروايات فى حقّه.

نعم، لو فسّر التشيع بالاعتراف بخلافة عليّ بتنصيب من النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وأمر منه سبحانه فالشيعة تنحصر بمن يعتقد بهذا المبدأ، والمعتزلة كلّهم يخالفون ولا يعترفون به.

والّذي أوقع جمعاً من مؤلّفي المقالات في الوهم الأوّل هوالتقاء التشيّع مع الاعتزال في بعض المواضع والنقاط

كالتوحيد والعدل، ولو صار ذلك سبباً لرمي الشيعة بالاعتزال، صحّ عدّ الأشاعرة منهم لالتقائهم معهم في عدّة من الاُصول.

وأمّا الّذي أوقعهم في الوهم الثّاني هو انحيازهم إلى عليّ في كثير من المبادئ خصوصاً التوحيد والعدل.

وعلى أيّ تقدير، فلفظ التشيع قد تطوّر من جهة المعنى بعد ما كان معناه في اليوم الأوّل، بعد رحلة الرسول، هو من شايع عليّاً دون غيره، وقال بخلافته دون سائر الخلفاء، فأطلق على من أحبّ عليّاً و أولاده، وناضل العثمانيّة و أهوائها، وعلى من قدّم عليّاً في الفضائل والمناقب، لا في الخلافة، فلأجلّ هذا التطوّر فربّما يشتبه المراد منه في كلمات الرّجاليين و أصحاب المقالات، وربّما تعدّ اُناس شيعةً بالمعنى الأوّل، مع أنّهم شيعة بالمعنيين الأخيرين، فلاحظ، وسيوافيك التوضيح عن البحث عن عقائد الشيعة الزيدية والاسماعيليّة و الإماميّة.

«رزقهم الله توحيد الكلمة كما رزقهم كلمة التوحيد»

«وبنى الإسلام على دعامتين»

«كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة»

الفصل الرابع

الفصل الرابع

أئمّة المعتزلة

دلّت النّصوص التأريخيّة على أنّ «واصل بن عطاء» هو المؤسّس الأوّل لمنهج الاعتزال، وقد طرح اُصولاً نضجت و تكاملت بأيدي تلامذته و مقتفي منهجه عبر العصور والقرون.

ومن أراد أنّ يكتب تأريخ المعتزلة و طبقاتهم، فعليه أنّ يجعل «واصلاً» رأس مخروط الاعتزال إلى أنّ يصل بالتدريج إلى قاعدته.

وأمّا من تقدّم عليه من الصحابة و التابعين حتّى القدريّة المتبلورة في «معبد الجهني» و «غيلان الدمشقي» وغيرهم...فلا يمتّون للاعتزال بصلة، و إنّ اتّفقوا مع المعتزلة في القول بالتوحيد والعدل، وحريّة الإنسان و استطاعته على الفعل والترك. وذلك لأنّ التوحيد والعدل، كان شعار المسلمين من عصر النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم إلى الزمان الّذي طلع فيه منهج الإعتزال، كما أنّ القول بالحريّة و استطاعة الإنسان على أحد

الطّرفين قول بأمر فطري جبل عليه الإنسان طوال القرون والأدوار قبل الإسلام و بعده، فلا يعدّ الاعتقاد به إحداثاً للمنهج و تأسيساً له.

نعم، القول بكون الإنسان مسيّراً لا مخيّراً، و أنّ فاعل الخير والشرّ هو الله سبحانه، و أنّ كلّ إنسان خلق لما قدّر له في علمه الأزلي، و أنّ التقدير كاله، لا يتغيّر حكمه وقضاؤه، إحداث منهج جديد رغم أنّ العقلاء و نصوص الكتّاب على خلافه في جميع

( 220 )

الأدوار.

وعلى ضوء هذا، فلا يصحّ عدّ كلّ من قال بواحد من هذه الاُصول سلفاً للاعتزال، وشيخاً للمعتزلة، و إنّ اتّفق معهم فيها.

وعلى هذا الخطّ الّذي رسمناه مشى أبو القاسم البلخي (م 317) في كتابه «مقالات الإسلاميين _ باب ذكر المعتزلة» فابتدأ في ذكر طبقاتهم ب__ «واصل بن عطاء» و «عمروبن عبيد» وانتهى إلى أعلامهم في عصره وقال: «وفي زماننا هذا شيخنا أبوالحسين الخيّاط عبدالرحيم بن محمّد (م 311) و أحمد بن الشنطوي»(1).

نعم، خالفه القاضي عبدالجبّار (م 415)فعدّ للمعتزلة طبقات قبل واصل، فعدّ الخلفاء من الطّبقة الاُولى، والحسن والحسين _ عليهما السلام _ ومحمّد (بن الحنفيّة) بن عليّ من الطبقة الثانية، وأبا هاشم عبدالله بن محمّد (بن الحنفيّة) بن عليّ و أخاه الحسن بن محمّد والحسن البصري وابن سيرين ومن في طبقتهم ممّن حكي العدل عنه من الطّبقة الثالثة، وعدّ غيلان بن مسلم و واصل بن عطاء و عمرو بن عبيد من الطبقة الرابعة إلى أنّ أنهاهم إلى عشر طبقات(2).

وقد كتب الحاكم الجشمي اليمني الزيدي (ت413 _ م494) ذيلاً له فأضاف إليها طبقتين اُخريين وهو جزء من كتابه «شرح العيون»(3).

وأمّا أحمد بن يحيى بن المرتضى، فقد مشى على ضوء القاضي فأعاد ما ذكره هو وغيره في

باب خاصّ، أسماه «باب ذكر المعتزلة» وهو جزء من كتابه «المنية والأمل» في شرح كتاب الملل والنحل، وقد طبع منه خصوص ذلك الباب كراراً، فنحن ننقل عن النسخة الّتي حقّقها المستشرق «توما أرنلد» طبع دار صادر بيروت.

______________________

1 . مقالات الاسلاميين: باب ذكر المعتزلة ص 64 _ 74 وقد طبع من المقالات خصوص هذا الباب بتحقيق فؤاد سيد، ط.تونس.

2 . فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 214 _ 333.

3 . طبع هذا الجزء مع كتاب فضل الاعتزال بتحقيق فؤاد سيد.

( 221 )

ولقد أجاد أبوالحسين الخيّاط، حيث جعل الاعتقاد بالاُصول الخمسة ملاكاً لصدق الاعتزال وكون المعتقد معتزلياً. قال: «الاعتزال قائم على أصول خمسة عامّة، من اعتقد بها جميعاً كان معتزلياً، ومن نقص منها أو زاد عليها ولو أصلاً و احداً لم يستحقّ اسم الاعتزال، وتلك الاُصول مرتّبة حسب أهميتها وهي:

1 _ التوحيد، 2 _ العدل، 3 _ الوعد والوعيد، 4 _ المنزلة بين المنزلتين، 5 _ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1).

إنّ عدّ أمثال الشريف المرتضى من المعتزلة بحجّة قوله بالتوحيد والعدل، يستلزم أنّ يعدّ شيخه كالمفيد و تلميذه كالطوسي منهم. مع أنّ موقف هؤلاء من تلك الطّائفة موقف النقد والردّ. وقد ردّ الشيخ المفيد (م 413) في أكثر كتبه عليهم، لا سيمّا في كتابه «أوائل المقالات» كما نقد الشريف المرتضى (م 436) خصوص الجزء العشرين من «المغني» للقاضي عبد الجبّار وأسماه «الشّافي» واختصره تلميذه شيخ الطّائفة الطوسي (م 460) وأسماه «تلخيص الشافي» وقد انتشر الجميع بطباعة قديمة و حديثة، ومن طالع تلك الكتب يقف على أنّ موقف الشيعة الإماميّة من المعتزلة موقف الموافقة في بعض الاُصول والمخالفة في البعض الآخر، كشأنهم مع الأشاعرة وغيرهم من الطّوائف الإسلاميّة.

والعجب أنّ

أكثر من كتب عن المعتزلة من المتأخّرين اشتبه عليهم الأمر، وربّما عدّوا أعلام الإماميّة من مشايخ الاعتزال و روّاد منهجه، والشيعة الإماميّة بفضل علوم أئمّتهم ونصوص رواياتهم في غنى عن كلّ منهج لا يمتّ بالكتاب والعترة (أعداله وقرنائه) بصلة.

وهذا الفصل الّذي نقدّمه للقرّاء يختص بتعريف أئمّة المعتزلة و مشايخهم الكبار، الّذين نضج المذهب بأفكارهم و آرائهم و وصل إلى القمّة في الكمال.

وأمّا أعلام الطّائفة الّذين كان لهم دور في تبنّي هذا الخطّ من دون أنّ يتركوا أثراً

______________________

1 . الانتصار: ص 5، ومقالات الاسلاميين للأشعري: ج 1، ص 278.

( 222 )

يستحقّ الذّكر، في الأصول الخمسة نذكرهم في فصل لاحق حتّى تتميّزالطّافتان.

نعم، انطفأء دعوة الاعتزال وضعفت شوكتهم بعد سادس القرون أو سابعها، فلا تسمع لهم ذكراً في الأجيال اللاّحقة فلا إمام ولا علم ولا فقد انقرضوا بسيف السلطة و قسوة الحنابلة والأشاعرة، وتركوا آثاراً وكتباً عبث بها الزمان، فلم يبق إلاّ النّزر اليسير. ولكن آثارهم 000

إنّ آثارنا تدلّ علينا * فانظروا بعدنا إلى الآثار

1 _ واصل بن عطاء (ت 80 _ م 131 )

أبو حذيفة واصل بن عطاء مؤسس الاعتزال، المعروف بالغزّال. يقول ابن خلّكان: «كان واصل أحد الأعاجيب ذلك أنّه كان ألثغ، قبح اللثغة في الرّاء فكان يخلّص كلامه من الرّاء ولايُفطَن لذلك، لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق يمدحه بإطالة الخطب واجتنابه الرّاء على كثرة تردّدها في الكلام حتّى كأنها ليست فيه

عليم بإبدال الحروف وقامع * لكلّ خطيب يغلب الحقّ باطله

وقال الآخر:

ويجعل البرّ فمحاً في تصرّفه * وخالف الرّاء حتّى احتال للشعر

ولم يطق مطراً والقول يعجله * فعاذ بالغيث اشفاقاً من المطر

قد ذكر عنده بشّر بن برد (المتّهم بالزندقة) فقال: «أما

لهذا الأعمى المكنّى بأبي معاذ من يقتله؟ أما والله لولا أنّ الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثمّ لا يكون إلاّ سذوسياً أو عقيليّاً»

فلاحظ أنّه قال: «هذا الأعمى» ولم يقل: بشّار ولا ابن برد، ولا الضرير. وقال: «من أخلاق الغالية» ولم يقل: المغيرية ولا المنصورية، وقال: «لبعثت» ولم يقل: لأرسلت، وقال: «على مضجعه» ولم يقل: على مرقده ولا على فراشه، وقال: «يبعج» ولمق

يقل: يبقر (1)

يقول ابن العماد الحنبلي: «كان واصل ألثغ يبدل الرّاء غيناً في كلامه وكان يخلِّص كلامه بحيث لا تسمع منه الرّاء حتّى يظنّ خواصّ جلسائه أنّه غير ألثغ، حتّى يقال: إنّه دفعت إليه رقعة مضمونها: أمر أمير الاُمراء الكرام أنّ يحفر بئراً على قارعة الطريق، فيشرب منه الصادر والوارد. فقرأ على الفور: حكم حاكم الحكّام الفخام، أنّ ينبش جُبّاً على جادّة الممشي فيسقى منه الصادي والغادي. فغيّر كلّ لفظ برديفه وهذا من عجيب الإقتدار، وقد أشارت الشعراء إلى عدم تكلّمه بالرّاء. من ذلك قول بعضهم:

______________________

1 . وفيات الأعيان: ج 6 ص 8 وأمالي المرتضى: ج 1 ص 139 _ 140.

( 223 )

نعم تجنّب لا يوم العطاء كما * تجنّب ابن عطاء لفظة الرّاء(1)

وقد كانت بينه وبين بشّار بن برد قبل اظهاره ما يخالف عقيدة واصل أواصر الصداقة وقد ذكر بشّار خطبته الّتي ألقى فيها الرّاء وقال:

تكلّف القول والأقوام قد حلفوا * وحب__ّروا خ_طب_اً ن_اهي_ك من خطب

وق__ال مرتج__لاً تغ__لى ب__داهت__ه * كمرج_لّ الق_ين لم__ا حفّ بالل__ّه_ب

وجانب الرّاء ولم يشعر به أحد * قبل التصفّح والإغراق في الطلب

ول_مّا تبرّأ منه واصل لما ظهر منه ما لا يرضيه، هجاه بشّار وقال:

مالي اُشايع غزّالاً له عنق * كنِقْنِق الدَوّ إنّ

ولّي و إنّ مَثلا

عنق الزرافة ما بالي و بالكم * ت_ُ_كفّرون رج__الاً كفّروا رج_لا(2)

بثّ الدعاة في البلاد

كان واصل صموداً في عقيدته، ول_مّا تمكّن من إنفاذ الدعاة إلى الآفاق، فرّق

______________________

1 . شذرات الذهب: ج 1 ص 182 و 183 حوادث عام 131 ه_.

2 . المنية والأمل: ص 19 طبع دار صادر.

( 224 )

أصحابه في البلاد حتّى يكونوا دعاة إلى طريقه. فبعث عبدالله بن الحارث إلى المغرب، فأجابه خلق كثير، وبعث إلى خراسان حفص بن سالم، فدخل «ترمذ» ولزم المسجد حتّى اشتهر، ثمّ ناظر جهماً فقطعه، وبعث القاسم إلى اليمن، وبعث أيّوب إلى الجزيرة، وبعث الحسن بن ذكوان إلى الكوفة، وعثمان الطّويل إلى أرمينية(1) .

يقول صاحب كتاب «المعتزلة»:

«درج أصحاب الواصل و تلاميذه من بعده على هذه الخطة (المناظرة) في الردّ على المخالفين، فكان عمرو بن عبيد حيث التقى بأحدهم لا يتركه حتّى يناظره. ناظر جريربن حازم الأزدي السمني في البصرة وقطعه، واشترك مع واصل بن عطاء في مناظرة بشاربن برد، وصالح بن عبد القدوس، وكلاهما من الثنوية المعروفين فقطعاهما، وتناظر عمرو بن عبيد مع مجوسي على ظهر سفينة فقطعه المجوسيّ. [كذا] قال له عمرو: لما لا تسلم؟ فقال: لأنّ الله لم يرد إسلامي، فإذا أرادالله إسلامي أسلمت. قال عمرو: إنّ الله تعالى يريد إسلامك ولكنّ الشياطين لا يتركونك.

فأجاب المجوسي: فأنا أكون مع الشّريك الأغلب!»(2)

يلاحظ عليه: أنّه كان اللازم على عمرو أنّ يقول: إنّ الله تعالى أراد إسلامك ولكن بحرّية واختيار، لا بإلجاء و اضطرار. فلو أسلمت كان إسلامك على طبق ما يريد، وإنّ كفرت لم يكن كفرك آية غلبتك عليه و قد أوضحنا كيفيّة تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد.

من آرائه و مناظراته

إنّ واصل هو أوّل من أظهر

المنزلة بين المنزلتين، لأنّ الناس كانوا في أسماء أهل الكبائر من أهل الصلاة على أقوال. كانت الخوارج تسمّيهم بالكفر والشرك. والمرجئة

______________________

1 . المنية والأمل: ص 19 _ 20.

2 . كتاب المعتزلة: ص 39 _ 40.

( 225 )

تسمّيهم بالإيمان. وكان الحسن و أصحابه يسمّونهم بالنفاق.

1 _ رأيه في مرتكب الكبيرة

ذهب واصل بن عطاء إلى القول بأنّهم فسّاق غير مؤمنين، لا كفّار ولا منافقون. واستدلّ على ذلك بما نقله المرتضى عنه في أماليه من أنّنا نجد أهل الفرق على اختلافهم يسمّون صاحب الكبيرة فاسقاً، ويختلفون في ما عدا ذلك من أسمائه، لأنّ الخوارج تسمّيه مشركاً فاسقاً، والشيعة الزيدية تسميه كافر نعمة فاسقاً، والحسن يسمّيه منافقاً فاسقاً، والمرجئة تسميه مؤمناً فاسقاً. فاجتمعوا على تسميته بالفسق. واختلفوا فيما عدا ذلك من أسمائه فالواجب أنّ يسمّى بالاسم الّذي اتّفق عليه وهو الفسق. ولا يسمّى بما عدا ذلك من الأسماء الّتي اختلف فيها. فيكون صاحب الكبيرة فاسقاً، ولا يقال فيه إنّه مؤمن ولا منافق ولا مشرك، ولا كافر نعمة، فهذا أشبه بأهل الدّين(1).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره لا يثبت أزيد من أنّ المسلمين اتّفقوا على كون مرتكب الكبيرة فاسقاً ولم يتّفقوا على غيره من سائر الأسماء. لكن عدم اتّفاقهم على شيء منها لا يدلّ على أنّه ليس منها أبداً، كما هو ظاهر قوله «ولا يقال فيه إنّه مؤمن...» فإنّ عدم وجود الإجماع على واحدة من تلك الأسماء لا يلازم عدم وجود دليل آخر على وجود واحد منها فيه. فكان اللاّزم على واصل أنّ يقيم الدّليل على أنّه لا يسمّى بواحد منها.

و إلى ما ذكرنا ينظر قول السيّد المرتضى في أماليه حيث قال: «إنّ الإجماع

وإنّ لم يوجد في تسمية صاحب الكبيرة بالنّفاق،

ولا في غيره من الأسماء، كما وجد في تسميته بالفسق، ولكنّه غير ممتنع أنّ يسمّى بذلك لدليل غير الإجماع، ووجود الإجماع في الشيء، وإنّ كان دليلاً على صحّته لكن ليس فقده دليلاً على فساده»(2).

وقد اعترض ابن المرتضى صاحب «المنية و الأمل» على كلام السيّد المرتضى

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1 ص 161.

2 . أمالي المرتضى: ج 1 ص 167 ولكلامه ذيل فراجع.

( 226 )

بكلام واه، يشبه كلام الهازل حيث قال: «يصحّ الاستدلال بالإجماع المركّب و صورته هنا أنّه أجمعوا على تسميته فاسقاً واختلفوا فيما عداه، وهو حكم شرعي فلا يثبت إلاّ بدليل ولا دليل على ما عدا المجمع عليه هيهنا»(1).

يلاحظ عليه: أنّه اشتبه عليه معنى الإجماع المركّب، لأنّ معناه أنّه إذا كانت المسألة بين الأمة ذات قولين ، مثلاً قالت طائفة من الفقهاء: الحبوة للولد الأكبر، وقالت الاُخرى: الحبوة لجميع الورثة، فيقال: لا يجوز إحداث قول ثالث، أخذاً بالإجماع المركّب، لأنّ الاُمّة اتّفقت على نفي الثّالث. وأين هو في المقام؟ إذ لم تتّفق الاُمّة على نفي هذه الأسماء، بل اختلفوا على أقوال، فالرجل غير عارف بمصطلح الاُصوليين فاستعمله في غير محلّه.

2 _ مناظرته مع عمرو في مرتكب الكبيرة

إنّ عمرو بن عبيد كان من أصحاب الحسن و تلاميذه. فجمع بينه و بين واصل ليناظره فيما أظهر من القول بالمنزلة بين المنزلتين، فلمّا وقفوا على الاجتماع ذكر أنّ واصلاً أقبل ومعه جماعة من أصحابه إلى حلقة الحسن، وفيها عمروبن عبيد جالس. فلمّا نظر إلى واصل وكان في عنقه طول واعوجاج، قال: أرى عنقاً لا يفلح صاحبها، فسمع ذلك واصل فلمّا سلّم عليه قال له: يابن أخي إنّ من عاب الصنعة عاب الصانع، فقال له عمرو بن عبيد:

يا أبا حذيفة قد وعظت فأحسنت ولن أعود إلى مثل الّذي كان منّي.

وجلس واصل في الحلقة وسأل أنّ يكلّم عمراً، فقال واصل لعمرو: لم قلت: إنّ من أتى كبيرة من أهل الصّلاة استحقّ اسم النفاق؟ فقال عمرو: لقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَ اُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) (النور/4) ثمّ قال في موضع آخر: (إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ)(التوبة/67) فكان كلّ فاسق منافقاً. إذ كانت ألف ولام

______________________

1 . المنية والأمل: ص 24.

( 227 )

المعرفة موجودتين في الفاسق.

فقال له واصل: أليس قد وجدت الله تعالى يقول: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَاُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ) (المائدة/45) وأجمع أهل العلم على أنّ صاحب الكبيرة يستحقّ اسم الظالم، كما يستحق اسم الفاسق، فألاّ كفّرت صاحب الكبيرة من أهل الصلاة بقول الله تعالى: (وَالكَافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ) (البقرة/254) فعرّف بألف و لام التعريف(1).

يلاحظ عليه: أنّ «واصلاً» دفع دليل خصمه بالنقض ولأجل ذلك يقول السيّد المرتضى في حقّه: «أمّا ما ألزمه واصل بن عطاء لعمرو بن عبيد فسديد لازم» ولكن كان في وسعه الإجابة عنه بشكل جلّي، وهو أنّ ما استدلّ به «عمرو » من الآيات غير كاف في إثبات ما يرتئيه. لأنّ آية النور وإنّ حكمت بفسق مرتكب الكبيرة، ولكن آية التوبة لم تحكم بأنّ كلّ فاسق منافق، وإنّما حكم بأنّ كلّ منافق فاسق، وبعبارة واضحة حصرت الآية، المنافقين بالفاسقين ولا العكس. ومن المحتمل أنّ يكون المنافق أخصّ من الفاسق. والفاسق أعمّ منه فيكون استدلاله عقيماً. قال سبحانه: ( إنّ المنافقين هم الفاسقون ) ولم يقل: إنّ الفاسقين هم المنافقون.

وبذلك تقف على مغزى ما نقض به واصل دليل عمرو،

فإنّه صحيح إذا كان الهدف إفحام الخصم بالجواب النقضي.

وأمّا إذا كانت الإجابة على الوجه الحلّي فهي ساقطة جدّاً، لأنّه سبحانه حصر الكافرين في الظالمين لا العكس. فقال: (والكافرون هم الظالمون) فمن الممكن أنّ يكون كلّ كافر ظالماً ولا العكس. وصاحب الكبيرة وإنّ استحقّ اسم الظالم، كما استحقّ اسم الفاسق، ولكنّه لا يستحقّ اسم الكافر بحجّة أنّه سبحانه قال: (والكافِرونَ هُمُ الظّالمون ) ، و لم يقل: (والظالمون هم الكافرون).

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1 ص 166 ولكلامه ذيل لا حاجة لنقله، وربّما أوجد تشويشاً في الاستدلال وقد نقله ابن المرتضى في المنية والأمل بصورة واضحة ص 23.

( 228 )

3 _ من لطائف تفسيره للقرآن

حكي أنّ واصلاً كان يقول: «أراد الله من العباد أنّ يعرفوه ثمّ يعملوا ثمّ يعلّموا. قال الله تعالى (يا مُوسى إنّي أَنَا اللّهُ) فعرّفه نفسه، ثمّ قال: ( اخلَعْ نَعْلَيْكَ)(طه/12) فبعد أنّ عرّفه نفسه أمره بالعمل قال: والدّليل على ذلك قوله تعالى: (وَالعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْر * إلاّ الَّذِينَ آمَنُوا _ يعني صدقوا _ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ تَواصَوْا بِالحقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) علموا و عملوا و علّموا(1).

يلاحظ عليه: أنّ الآية الاُولى دلّت على تقدّم العلم على العمل، وأمّا تقدّم العمل على تعليم الغير فهي ساكتة عنها. نعم الآية الثالثة ربّما تكون ظاهرة فيما يدّعيه بحجّة النظم والترتيب في الذكر، وإنّ كانت واو العاطفة لا تدلّ على الترتيب.

4 _ من نوادر حكاياته

روى المبرّد قال : حُدّثتُ أنّ واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحسّوا بالخوارج، وكانوا قد أشرفوا على العطب. فقال واصل لأهل الرفقة : إنّ هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني و إيّاهم، فقالوا : شأنك. فقال الخوارج له

: ما أنت و أصحابك؟ قال : مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله، ويقيموا حدوده فقالوا : قد أجرناكم، قال : فعلّمونا أحكامه، فجعلوا يعلّمونه أحكامهم، وجعل يقول : قد قبلت أنا ومن معي، قالوا: فامضوا مصاحبين فإنّكم إخواننا، قال لهم : ليس ذلك لكم. قال الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ )(التوبة/6) فأبلغونا مأمننا فساروا بأجمعهم حتّى بلغوا الأمن(2).

5 _ تهجّده ولقبه بالغزّال

ينقل ابن المرتضى عن اُخت «عمرو بن عبيد» _ وكانت زوجة واصل _ أنّها قالت

______________________

1 . أمالي المرتضى ج 1 ص 168.

2 . المصدر نفسه .

( 229 )

: «كان واصل إذا جنّه اللّيل صفّى قدميه يصلّي ولوح ودواة موضوعان، فإذا مرّت به آية فيه حجّة على مخالف، جلس فكتبها ثمّ عاد في صلاته.

ونقل أيضاً: أنّ واصلاً كان يلزم أبا عبدالله الغزّال _ وكان صديقاً له _ ليعرف المتعفّفات من النّساء فيجعل صدقته لهنّ وكان يعجبه ذلك، وقال الجاحظ: لم يشكّ أصحابنا أنّ واصلاً لم يقبض ديناراً ولا درهماً، وفي ذلك قال بعضهم في مرثيته:

ولا مسّ ديناراً ولا مسّ درهماً * ولا عرف الثّوب الّذي هو قاطعه(1)

وأمّا مولده فقد اتّفقوا على أنّ ولادته كانت سنة 80 للهجرة في مدينة الرسولصلَّى الله عليه و آله و سلَّم وتوفّي عام 131 ه_(2).

مؤلّفاته

ذكر ابن النديم في الفهرست _ و تبعه ابن خلّكان _ أنّ لواصل التّصانيف التالية:

1 _ كتاب أصناف المرجئة.

2 _ كتاب التّوبة.

3 _ كتاب المنزلة بين المنزلتين.

4 _ كتاب خطبته الّتي أخرج منها الرّاء. وقد نشرت هذه الخطبة عام 1951 في المجموعة الثانية من نوادر المخطوطات بتحقيق عبدالسلام هارون.

5 _ كتاب معاني القرآن.

6 _ كتاب

الخطب في التّوحيد والعدل.

ومن المحتمل أنّه قام بجمع خطب الإمام عليّ _ عليه السلام _ في التّوحيد والعدل

______________________

1 . المنية والأمل: ص 18.

2 . وفيات الأعيان: ج 6 ص 11، والمنية والأمل: ص 18.

( 230 )

فأفرده تأليفاً.

7 _ كتاب ما جرى بينه و بين عمرو بن عبيد.

8 _ كتاب السّبيل إلى معرفة الحقّ.

9 _ كتاب في الدعوة.

10 _ كتاب طبقات أهل العلم والجهل(1). وغيرذلك.

القواعد الأربع لواصل بن عطاء

إنّ الاعتزال مذهب عقلي اُلقيت نواته في أوائل القرن الثاني بيد واصل بن عطاء، ثمّ نمت عبر العصور، فكلّما تقدّم الاعتزال إلى الإمام، و ربّى في أحضانه ذوي الحصافة، والأدمغة الكبيرة، أخذ يتكامل في ضوء البحث والنّقاش، وكان الاعتزال في زمن المؤسّس يدور على أربع قواعد فقط، وهي بالنسبة إلى ما تركنه المعتزلة من التراث الكلامي إلى فترة الانقراض شيء قليل، وأين هو من الاعتزال الّذي تريه لنا كتب القاضي عبد الجبّار في كتاب المغني أو غيره من البسط في تلك القواعد، وتأسيس اُصول و قواعد اُخر، لم تخطر ببال المؤسّس.

قال الشهرستاني: «الواصليّة هم أصحاب واصل بن عطاء واعتزالهم يدور على أربع قواعد:

القاعدة الاُولى: القول بنفي صفات الباري من العلم والقدرة والإرادة والحياة، وكانت هذه المقالة في بدئها غير نضيجة، وكان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر، وهو الاتّفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليّين(2) قال: ومن أثبت معنى، وصفة قديمة فقد أثبت إلهين.

______________________

1 . فهرست ابن النديم: الفن الأول من المقالة الخامسة، ص 203.

2 . وهذا يعرب بوضوح عن أنّ الداعي لتأسيس هذه القاعدة ليس انكار صفاته سبحانه كالملاحدة المنكرين لكونه عالماً قادراً، بل الداعي هو تنزيه الرب عن وجود قديم مثله، وما نسب

إليه الأشعري في كتاب الإبانة ص 107 من الداعي ليس في محله.

( 231 )

القاعدة الثانية: القول بالقدر، وحاصلها أنّ العبد هو الفاعل للخير والشرّ والإيمان والكفر والطاعة والمعصية، والربّ أقدره على ذلك.

القاعدة الثالثة: المنزلة بين المنزلتين، وأنّ مرتكب الكبيرة ليس كافراً ولا مؤمناً، بل فاسق مخلّد في النّار إنّ لم يتب.

القاعدة الرابعة: قوله في الفريقين من أصحاب الجمل وصفّين، أنّ أحدهما مخطئ لا بعينه، وكذلك قوله في عثمان وخاذليه، أنّ أحد الفريقين فاسق لا محالة، كما أنّ أحد المتلاعنين فاسق لا محالة، لكن لا بعينه».

ثمّ رتّب الشّهرستاني على تلك القاعدة وقال: «وقد عرفت قوله في الفاسق وأقلّ درجات الفريقين أنّه لا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين، فلم يجوِّز شهادة عليّ و طلحة والزبير على باقة بقل، وجوّز أنّ يكون عثمان وعليّ على الخطأ»(1).

أقول: إنّ القاعدة الاُولى إشارة إلى الأصل الأوّل من الاُصول الخمسة، أعني التّوحيد، وهذا الأصل عندهم رمز إلى تنزيهه سبحانه عن التشبيه والتجسيم، كما أنّ القاعدة الثانية من فروع الأصل الثاني، أعني القول بالعدل، فتوصيفه سبحانه به يقتضي القول بالقدر، أي إنّ الانسان يفعل بقدرته واستطاعته المكتسبة، ولا معنى لأن يكون خالق الفعل هو الله سبحانه، ويكون العبد هو المسؤول. نعم دائرة الأصل الثاني (العدل) أوسع من هذه القاعدة.

والقاعدة الثالثة نفس أحد الاُصول الخمسة، وبقي منها أصلان _ الوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر _ ولم يأت ذكر منهما في كلام «واصل».

وأمّا القاعدة الرابعة فقد خالف فيها واصل وتلميذه عمرو بن عبيد جمهور المعتزلة.

قال ابن حزم: «اختلف الناس في تلك الحرب على ثلاث فرق:

______________________

1 . الملل والنحل: ج 1 ص 49.

( 232 )

1 _ فقال جميع الشيعة وبعض المرجئة و

جمهور المعتزلة وبعض أهل السنّة: إنّ عليّاً كان هو المصيب فى حربه، وكلّ من خالفه على خطأ. وقال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد و أبوالهذيل و طوائف من المعتزلة:

إنّ عليّاً مصيب في قتاله مع معاوية و أهل النهروان، ووقفوا في قتاله مع أهل الجمل، وقالوا: إحدى الطّائفتين مخطئة ولا نعرف أيّهما هي، وقالت الخوارج: عليّ المصيب في قتال أهل الجمل و أهل صفّين وهو مخطىء في قتاله أهل النهر(1).

ولا يخفى وجود الاختلاف بين النّقلين، فعلى ما نقله الشهرستاني كانت الواصليّة متوقّفة في محاربي الإمام في وقعتي «الجمل وصفّين» وعلى ما نقله ابن حزم يختصّ التوقّف بمحاربيه في وقعة «الجمل» ويوافق ابن حزم عبد القاهر البغدادي، وقال: «ثمّ إنّ واصلاً فارق السّلف ببدعة ثالثة، وذلك أنّه وجد أهل عصره مختلفين في عليّ وأصحابه، وفي طلحة والزبير وعائشة، وسائر أصحاب الجمل _ إلى ما ذكره»(2).

ويوافقهما نقل المفيد حيث قال ما هذا خلاصته:

« اتّفقت الإماميّة و الزيديّة والخوارج، على أنّ الناكثين والقاسطين من أهل البصرة والشام كفّار ضلاّل، ملعونون بحربهم أمير المؤمنين. وزعمت المعتزلة كلّهم أنّهم فسّاق ليسوا بكفّار، وقطعت المعتزلة من بينهم على أنّهم لفسقهم في النار خالدون، وزعم واصل الغزّال و عمرو بن عبيد بن باب من بين كافّة المعتزلة أنّ طلحة و الزبير و عائشة ومن كان فى حربهم، من عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين و محمّد ومن كان في حزبهم كعمّار بن ياسر وغيره من المهاجرين، و وجوه الأنصار وبقايا أهل بيعة الرضوان، كانوا في اختلافهم كالمتلاعنين وأنّ إحدى الطّائفتين فسّاق ضلاّل مستحقّون للخلود في النّار إلاّ أنّه لم يقم دليل عليها»(3).

______________________

1 . الفصل في الملل والأهواء والنحل: ج 4 ص 153.

2

. الفرق بين الفرق: ص 119.

3 . أوائل المقالات: ص 10 _ 11.

( 233 )

نقد النظرية

إنّ واصل بن عطاء ومن لفّ لفّه في هذا الباب، يلوكون في أشداقهم ما يضادّ نصّ رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم فقد أخبر عليّاً بأنّه يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وقد عهد به الرّسول و أمره بقتالهم.

روى أبو سعيد الخدري قال: «أمرنا رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم بقتال الناكثين و القاسطين والمارقين.

قلنا: يا رسول الله أمرتنا بقتال هؤلاء فمع من؟ قال: مع عليّ بن أبى طالب _عليهالسلام _ ».

روى أبو اليقظان عمّار بن ياسر قال: «أمرني رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين».

وقد رواه الحفاظ من أهل الحديث و أرباب المعاجم والتأريخ، ومن أراد الوقوف على تفصيله فعليه الرجوع إلى «الغدير: ج 3 ص 192 _ 195».

ويكفي في ذلك ما نقله ابن عساكر في تأريخه عن أبي صادق أنّه قال: قدم أبو أيّوب الأنصاري العراق، فأهدت له الأزد «جزراً» فبعثوا بها معي فدخلت فسلّمت إليه و قلت له: قد أكرمك الله بصحبة نبيّه و نزوله عليك، فمالي أراك تستقبل الناس تقاتلهم؟ تستقبل هؤلاء مرّة وهؤلاء مرّة؟ فقال: إنّ رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم عهد إلينا أنّ نقاتل مع عليّ الناكثين، فقد قاتلناهم، وعهد إلينا أنّ نقاتل معه القاسطين فهذا وجهنا إليهم _يعني معاوية و أصحابه _ ، وعهد إلينا أنّ نقاتل مع عليّ المارقين فلم أرهم بعد(1).

وقد تجاهل واصل وأتباعه و عرفوا الحقّ وأنكروه، فإنّ حكم الخارج على الإمام المفترض طاعته ليس أمراً مخفياً على رئيس المعتزلة، ولا أرى باغياً أخسر من الزبير، ولاأشقى من طلحة، غير

ابن آكلة الأكباد حزب الشيطان.

______________________

1 . الغدير: ج 3 ص 192.

( 234 )

(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوّاً فانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ)(1).

و في نهاية المطاف نقول: إنّه من مواليد عام الثمانين في المدينة وتوفّي في البصرة عام 131، كما أرّخه المسعودي و غيره.

2 _ عمرو بن عبيد (ت 80 _ م 143) (2)

الشخصيّة الثانية للمعتزلة بعد واصل بن عطاء هو عمرو بن عبيد وكان من أعضاء حلقة الحسن، مثل واصل، لكنّه التحق به بعد مناظرة جرت بينهما في مرتكب الكبيرة كما نقلناها.

يقول السيّد المرتضى في أماليه: «يكنّى أبا عثمان مولى لبني العدوية من بني تميم. قال الجاحظ: وهو عمرو بن عبيد بن باب. و«باب» نفسه من سبي كابل من سبي عبدالرحمان بن سمرة، وكان باب مولى لبني العدوية قال: وكان عبيد شرطيّاً، وكان عمرو متزهّداً، فكان إذا اجتازا معاً على الناس قالوا هذا أشرّ الناس، أبو خير الناس، فيقول عبيد: صدقتم هذا إبراهيم وأنا تارخ».

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره عبيد من التشبيه إنّما يتمُّ على عقيدة أهل السنّة، بأنّ أبا إبراهيم كان وثنيّاً، وأمّا على عقيدة الشيعة، وهي الّتي تؤيّدها الآيات القرآنية، أنّ أباه كان مؤمناً موحّداً وأنّ «آزر» كان عمّه لا والده(3) فلا يتمّ.

وقد روى السيّد في أماليه و غيره من أرباب المعاجم قصصاً في زهده وورعه غير أنّ قسماً منها يعدّ مغالاة في الفضائل و إليك نموذجاً منها:

روى ابن المرتضى عن الجاحظ أنّه قال: صلّى عمرو أربعين عاماً صلاة الفجر

______________________

1 . النحل/14.

2 . فهرس ابن النديم: الفن الأول من المقالة الخامسة، ص 203.

3 . مجمع البيان: ج 3 ص 319 ط صيدا في تفسير قوله (ربنا اغفر لي ولوالدي) إبراهيم /

41).

( 235 )

بوضوء المغرب. وحجّ أربعين حجّة ماشياً، وبعيره موقوف على من أحصر، وكان يحيي اللّيل بركعة واحدة، ويرجِّع آية واحدة(1).

وقد روى نظيره في حقّ الشيخ أبي الحسن الأشعري، وقد قلنا إنّه من المغالاة في الفضائل، إذ قلّما يتّفق لإنسان ألاّ يكون مريضاً ولا مسافراً ولا معذوراً طيلة أربعين سنة، حتّى يصلّي فيها صلاة الصبح بوضوء العتمة.

ما اثر عنه في مجالي التفسير والعقيدة

1 _ روى المرتضى في أماليه أنّ ابن لهيعة أتى عمرو بن عبيد في المسجد الحرام فسلّم عليه و جلس إليه وقال له: يا أبا عثمان ما تقول في قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) (النساء/129) فقال: ذلك في محبّة القلوب الّتي لا يستطيعها العبد ولم يكلّفها، فأمّا العدل بينهنّ في القسمة من النفس والكسوة والنفقة، فهو مطيق لذلك، وقد كلّفه بقوله تعالى: (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيلِ)فيما تطيقون (فَتَذَرُوها كَالمُعَلَّقَةِ ) بمنزلة من ليست أيّماً ولا ذات زوج. فقال ابن لهيعة: هذا والله هو الحق(2).

أقول: ما سأله ابن لهيعة كان سؤالاً دارجاً في ذلك العصر، وقد طرحه بعض الزنادقة، كابن أبي العوجاء في البصرة _ بندر الأهواء والآراء _ ليوهم أنّ في القرآن تناقضاً. ولأجل ذلك سأل عنها هشام بن الحكم تارة و أبا جعفر الأحول، مؤمن الطّاق، اُخرى، فغادر الرجلان البصرة، لزيارة الإمام الصادق _عليه السلام_ في المدينة في غير موسم الحجّ والعمرة للتعرّف على الجواب وقد عرضا السؤال عليه، فأجاب بنفس الجواب الّذي مرّ في كلام عمرو بن عبيد، فلمّا سمع ابن أبي العوجاء الجواب قال: هذا ما حملته الإبل من الحجاز(3).

______________________

1 . المنية والأمل: ص 22. لاحظ الجزء الثاني من كتابنا ص 24.

2 . أمالي

المرتضى: ج 1 ص 170 _ 171.

3 . البرهان في تفسير القرآن: ج 1 ص 420، الحديث 2 _ 3.

( 236 )

ولعلّ ما أجاب الإمام _ عليه السلام _ كان منتشراً في البصرة من جانب تلميذيه، وانتهى إلى عمرو بن عبيد، فأجاب بنفس ما أجاب به الإمام، ويظهر من كلام ابن أبي العوجاء، تقدّم إجابة الإمام على جواب عمرو بن عبيد زماناً وإلاّ لما صحّ أنّ يقال «هذا ما حملته الإبل من الحجاز» بل كان له أنّ يحتمل أنّ الجواب اُخذ من عمرو بن عبيد، عميد الاعتزال.

نعم يحتمل أنّ تكون الإجابتان من قبيل توارد الخاطر و مجيئهما على سبيل الاتّفاق، بلا أخذ أحدهما من الآخر.

2 _ روى السيّد المرتضى في أماليه و قال: « إنّ هشام بن الحكم قدم البصرة فأتى حلقة عمرو بن عبيد فجلس فيها و عمرو لا يعرفه فقال لعمرو: أليس قد جعل الله لك عينين؟ قال: بلى، قال: ولم؟ قال: لأنظر بهما في ملكوت السماوات والأرض فأعتبر، قال: وجعل لك فماً؟ قال: نعم، قال: ولِمَ؟ قال: لأذوق الطعوم واُجيب الداعي، ثمّ عدّد عليه الحواسّ كلّها، ثمّ قال: وجعل لك قلباً؟ قال: نعم، قال: ولِمَ؟ قال لتؤدّي إليه الحواسّ ما أدركته فيميّز بينها. قال: فأنت لم يرض لك ربّك تعالى إذ خلق لك خمس حواسّ حتّى جعل لها إماماً ترجع إليه، أترضى لهذا الخلق الّذين جشأ بهم العالم ألاّ يجعل لهم إماماً يرجعون إليه؟ فقال له عمرو: ارتفع حتّى ننظر في مسألتك وعرفه. ثم دار هشام في حلق البصرة فما أمسى حتّى اختلفوا»(1).

أقول: ما أجاب به عمرو بن عبيد هشام بن الحكم، يدلّ على دماثة في الخلق وسماحة في المناظرة مع أنّه

طعن في السنّ، وهشام بن الحكم كان يعدّ في ذلك اليوم من الأحداث، وقد استمهل حتّى يتأمّل في مسألته ولم يرفع عليه صوته وعقيرته بالشتم والسبّ، كما هو عادة أكثر المتعصّبين، ولم يرمه بالخروج عن المذهب.

3 _ قال الجاحظ: «نازع رجل عمرو بن عبيد في القدر فقال له عمرو: إنّ الله تعالى قال في كتابه ما يزيل الشك عن قلوب المؤمنين في القضاء والقدر قال تعالى:

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1 ص 176 _ 177.

( 237 )

(فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الحجر / 92 و 93). ولم يقل لنسألنّهم عمّا قضيت عليهم، أو قدّرته فيهم، أو أردته منهم، أو شئته لهم، وليس بعد هذا الأمر، إلاّ الإقرار بالعدل، أو السكوت عن الجور الّذي لا يجوز على الله تعالى»(1).

أقول: روي نظير ذلك من الإمام جعفر الصادق _ عليه السلام _ وقد سئل عن القدر؟ فقال: «ما استطعت أنّ تلوم العبد عليه فهو فعله، وما لم تستطع فهو فعل الله، يقول الله للعبد: لم كفرت ولا يقول لم مرضت»(2).

و أخيراً روى السيّد المرتضى أنّ أبا جعفر المنصور مرّ على قبره بمرّان _ وهو موضع على ليال من مكّة على طريق البصرة _ فأنشأ يقول:

صلّى الإله عليك من متوسّد * قب___راً مررت ب___ه ع_لى مَرّان

قبراً تضمّن مؤمناً متخشّعاً * عب___د الإل___ه ودان ب__ال_فرقان

وإذا الرّجال تنازعوا في شبهة * فصل الخطاب بحكمة وبيان

فلو أنّ هذا الدهر أبقى صالحاً * أب_قى لنا عمراً أبا عثمان(3)

4 _ قال الخطيب: «كان عمرو يسكن البصرة، وجالس الحسن البصري، وحفظ عنه، واشتهر بصحبته، ثمّ أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنّة فقال بالقدر ودعا إليه، واعتزل أصحاب الحسن وكان له سمعة

و إظهار زهد _ ثمّ نقل بعض ما يدلّ على زهده أو إظهاره»(4).

ما ذكره الخطيب من تخصيص أهل السنّة باتّباع مذهبه تخصيص بلا دليل، فإنّ الفرق الإسلاميّة يحترمون السنّة الصّحيحة، والكلّ بهذا المعنى أهل السنّة. ولو كان وجه إزالته عنهم قوله بالقدر،فقد سبقه أستاذه الحسن إلى هذا القول، كما تدلّ عليه رسالته

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1 ص 177.

2 . المنية والأمل: ص 21 ط دار صادر.

3 . أمالي المرتضى: ج 1 ص 178، ووفيات الأعيان: ج 2 ص 462.

4 . تاريخ بغداد: ج 12، ص 166، رقم الترجمة 6652.

( 238 )

إلى عمر بن عبدالعزيز، الّتي أتى بنصّها القاضي عبدالجبّار في «فضل الإعتزال وطبقات المعتزلة»(1) فلو خرج عمرو بالقول بالقدر عن مذهب أهل السنّة، فهذه شنشنة أعرفها من عبد القاهر في كتابه «الفرق بين الفرق»، والخطيب في تأريخه، وغيرهما من الكتّاب المتعصّبين الّذين يفتحون أبواب الجنّة على مصاريعها على وجوه أصحابهم، ويقفلونها بإحكام أمام الفرق الاُخرى.

نعم، تطرّف من قال: «إنّ تسمية جمهرة المسلمين بأهل السنّة، تسمية متأخِّرة يرجع تأريخها إلى حوالي القرن السّابع الهجري، إلى بعد عصر آخر الأئمّة المشهورين وهو ابن حنبل بحوالي أربعة قرون»(2).

فإنّ أهل الحديث كانوا يسمّونهم أهل السنّة، وهذا أحمد بن حنبل يقول في ديباجة كتابه «السنّة»:«هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنّة المتمسّكين بعروتها المعروفين بها»(3). وهذا الشيخ الأشعري يعرض عقائد أهل الحديث باسم أهل السنّة(4).

إنّما الاشكال في احتكار هذا الإسم في طائفة خاصّة من المسلمين، مشعراً به إلى أنّ غيرهم رفضوا السنّة و عملوا بالبدعة.

نعم، لم تكن هذه التسمية في عصر النّبي، ولا الخلفاء، ولا في أوائل القرن الثاني، وإنّما حدثت في أواسطه.

5 _ نقل الخطيب بسنده عن

معاذ قال: سمعت عمرو بن عبيد يقول: «إنّ كانت (تَبَّتْ يدا أَبِى لَهَب) في اللّوح المحفوظ، فما على أبى لهب من لوم».

و ينقله أيضاً عن معاذ بصورة اُخرى قال: «كنت جالساً عند عمرو بن عبيد،

______________________

1 . طبقات المعتزلة: ص 215 _ 223. مرّ نصّ الرسالة في الجزء الأول ص 282 _ 291.

2 . الاباضية بين القرون الاسلاميّة: ج 2، ص 128 تأليف علي يحيى معمر.

3 . السنّة: ص 44.

4 . مقالات الإسلاميين: ص 290.

( 239 )

فأتاه رجل يقال له عثمان أخو السمري فقال: يا أبا عثمان! سمعت والله اليوم بالكفر فقال: لا تعجل بالكفر، وما سمعت؟ قال: سمعت هاشماً الأوقصي يقول: إنّ (تَبَّتْ يدا أَبِى لَهَب)وقوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) و: (سَأُصْلِيهِ سَقَر)إنّ هذا ليس في اُمّ الكتاب، والله تعالى يقول: (حم * وَالكِتَابِ المُبِين * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَ إِنَّهُ فِي أُمِ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌ حَكِيمٌ) فما الكفر إلاّ هذا يا أبا عثمان. فسكت عمرو هنيئة، ثمّ أقبل عليّ فقال: والله لو كان القول كما يقول، ما كان على أبي لهب من لوم، ولا على الوحيد من لوم. قال: يقول عثمان ذاك؟ هذا والله الدين يا أبا عثمان. قال معاذ: فدخل بالاسلام وخرج بالكفر»(1).

ثمّ ينقل عن معاذ أنّه نقل مقالة عمرو لوكيع بن الجرّاح فقال: «من قال هذا القول استتيب، فإن تاب وإلاّ ضربت عنقه».

يلاحظ عليه: أنّ تأريخ بغداد عيبة الأعاجيب والموضوعات. إنّه يروي في بداية ترجمة «عمرو بن عبيد» قصصاً في زهده و تمرّده على الطّواغيت، كأبي جعفر المنصور العبّاسي على وجه يليق أنّ تنسب إلى الأنبياء و الأولياء، ولا يلبث فيأتي بهذه الأعاجيب الّتي لا يليق أنّ ينسب

إلى مسلم عادي، فضلاً عن شيخ الكلام في عصره. لأنّ المعتزلة وفي مقدّمهم الشيخان، اعترفوا بأنّ علمه سبحانه بالأشياء والحوادث أزلي لا حادث(2) و معه كيف يمكن لمثل عمرو شيخ المنهج أنّ ينكر علمه سبحانه بما يصدر من الوليد ابن المغيرة، أو أبي لهب من الأفعال و الأقوال؟ وكيف يمكن لمسلم أنّ ينكر كون القرآن موجوداً في الكتاب (لدينا لعليّ حكيم) مع وروده فيه على وجه الصّراحة. كلّ ذلك يعرب عن أنّ ما نسب إليه من السفاسف أخيراً، وليد العداء والبغضاء. فالمسلم الّذي يأخذ عقائده و آراءه من الكتاب والسنّة الصّحيحة والعقل السليم، يعترف بأنّ كلّ

______________________

1 . تاريخ بغداد: ج 12 ص 170 _ 172.

2 . قال القاضي عبد الجبار (م 415): فاعلم أنّ تلك الصفة التي يقع بها الخلاف والوفاق (عالم، لا عالم) يستحقها لذاته وهذه الصفات الأربع التي هي كونه قادراً عالماً حياً موجوداً لما هو عليه في ذاته... إلى آخر ما ذكر في شرح الاُصول الخمسة: ص 129.

( 240 )

شيء معلوم لله سبحانه في الأزل. غير أنّ علمه الأزلي لا يصيِّر الإنسان مسيّراً مكتوف الأيدي، لأنّ علمه سبحانه لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن الإنسان على الإطلاق و بأيّ وجه كان، وإنّما تعلّق بصدوره منه في ظلّ المبادئ الموجودة فيه، ومنها الإرادة والاختيار و الحريّة والانتخاب و باختصار; علمه سبحانه تعلّق بأنّ الإنسان فاعل مختار يفعل كلّ شيء بإرادته ومثل هذا العلم لو لم يؤكّد الاختيار لما كان سبباً للجبر.

وقد أوضحنا هذا الجواب عند البحث عن عموم مشيئته سبحانه و علمه في الجزء الثاني من هذه الموسوعة:

نعم، عمرو بن عبيد وكلّ من يعتقد بعدله سبحانه لا يجنح إلى روايات القدر الّتي تعرِّف

الإنسان كالريشة في مهبِّ الريح. ولقد ذكرنا نزراً من تلك الأحاديث في كتابنا هذا.

وفود عمرو على الإمام الباقر _ عليه السلام _

روي أنّ عمرو بن عبيد وفد على محمّد بن عليّ الباقر _ عليه السلام _ لامتحانه بالسؤال عن بعض الآيات، فقال له: «جعلت فداك، ما معنى قوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمواتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) (الانبياء/30) ما هذا الرّتق والفتق؟ فقال أبو جعفر _عليه السلام _: كانت السّماء رتقاً لا ينزل القطر وكانت الأرض رتقاً لا تخرج النّبات، ففتق الله السّماء بالقطر، وفتق الأرض بالنبات». فانطلق عمرو ولم يجد اعتراضاً و مضى.

ثمّ عاد إليه فقال: أخبرني جعلت فداك عن قوله تعالى: (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) (طه/81) ما غضب الله؟ فقال له أبو جعفر _ عليه السلام _: «غضب الله تعالى عقابه يا عمرو. من ظنّ أنّ الله يغيّره شيء فقد كفر»(1).

______________________

1 . بحار الأنوار: ج 46، ص 354 نقلاً عن المناقب لابن شهر آشوب. وغيره.

( 241 )

وفود عمرو على الإمام الصادق _ عليه السلام _

روى الطّبرسي في «الاحتجاج» عن عبدالكريم بن عتبة الهاشمي قال: كنت عند أبي عبداللّه_ عليه السلام _ بمكّة إذ دخل عليه أناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيدوواصل ابن عطاء و حفص بن سالم، وأناس من رؤسائهم وذلك حين قتل الوليد(1) واختلف أهل الشّام بينهم فتكلّموا و أكثروا، وخطبوا فأطالوا فقال لهم أبوعبدالله _عليه السلام _: «إنّكم قد أكثرتم عليّ و أطلتم فأسندوا أمركم إلى رجل منكم فليتكلّم بحجّتكم و ليوجز، فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد فأبلغ و أطال، فكان فيما قال: قتل أهل الشام خليفتهم، وضرب الله بعضهم ببعض، وتشتّت أمرهم.

فنظرنا فوجدنا رجلاً له دين و عقل و مروّة ومعدن للخلافة وهو محمّد بن عبدالله بن الحسن(2) فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه ثمّ نظهر أمرنا معه، وندعو الناس إليه، فمن بايعه كنّا معه وكان معنا...إلى آخر ما قال. فلّما تمّ كلامه أجابه الإمام بكلام مسهب. وفي آخر كلامه: «اتّق الله يا عمرو وأنتم أيّها الرّهط، فاتّقوا الله، فإنّ أبي حدّثني و كان خير أهل الأرض و أعلمهم بكتاب الله و سنّة رسوله أنّ رسول الله قال: من ضرب النّاس بسيفه و دعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلِّف(3).

روى الصّدوق في عيونه عن عليّ الرضا _ عليه السلام _ عن أبيه، عن جدّه _ عليهم السلام_ قال: «دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبدالله، فلّما سلّم وجلس عنده تلا هذه الآية: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ)(الشورى/37) ثمّ سأل عن الكبائر فأجابه _ عليه السلام _ فخرج عمرو بن عبيد وله صراخ من بكائه وهو يقول: هلك والله من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم»(4).

______________________

1 . الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان. قتل في جمادى الآخرة عام 126 وكان فاسقاً شرّيباً للخمر.

2 . الملقّب بالنفس الزكية، قتل بالمدينة في خلافة المنصور عام 145.

3 . بحار الأنوار: ج 47، ص 213 _ 215 .

4 . بحار الأنوار: ج 47، باب مكارم أخلاقه، ص 19، الحديث 13.

( 242 )

3 _ أبو الهذيل العلاّف (ت 135 _ م 235)

أبو الهذيل محمّد بن الهذيل العبدي _ نسبة إلى عبدالقيس _ وكان مولاهم وكان يلقّب بالعلاّف، لأنّ داره في البصرة كانت في العلاّفين(1).

قال ابن النّديم: «:كان شيخ البصريّين في الاعتزال و من أكبر علمائهم وهو

صاحب المقالات في مذهبهم و مجالس و مناظرات.

نقل ابن المرتضى عن صاحب المصابيح أنّه كان نسيج وحده وعالم دهره ولم يتقدّمه أحد من الموافقين ولا من المخالفين. كان إبراهيم النظّام من أصحابه، ثمّ انقطع عنه مدّة و نظر في شيء من كتب الفلاسفة، فلمّا ورد البصرة كان يرى أنّه قد أورد من لطيف الكلام ما لم يسبق إلى أبي الهذيل. قال إبراهيم: فناظرت أبا الهذيل في ذلك فخيّل إليّ أنّه لم يكن متشاغلاً إلاّ به لتصرّفه فيه وحذقه في المناظرة فيه(2).

قال القاضي:«ومناظراته مع المجوس والثنويّة و غيرهم طويلة ممدودة وكان يقطع الخصم بأقلّ كلام. يقال إنّه أسلم على يده زيادة على 3000 رجل».

قال المبِّرد: «ما رأيت أفصح من أبي الهذيل والجاحظ، وكان أبو الهذيل أحسن مناظرة. شهدته في مجلس وقد استشهد في جملة كلامه بثلاثمائة بيت...وفي مجلس المأمون استشهد في عرض كلامه بسبعمائة بيت»(3).

وما ناظر به المخالفين دليل على نبوغه المبكر وتضلّعه في هذا الفن، فلنذكر بعضه:

1 _ مات ابن لصالح بن عبد القدّوس الّذي يرمى بالزندقة، فجزع عليه، فقال له أبو الهذيل: «لا أعرف لجزعك عليه وجهاً، إذ كان الناس عندك كالزّرع فقال صالح:

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1، ص 178، وفيات الأعيان: ج 4، ص 265 _ 267 رقم الترجمة 606 وقد قيل في تاريخ وفاته غير هذا نقله المرتضى في أماليه.

2 . فهرست ابن النديم: ص 225 _ 226.

3 . المنية والأمل: ص 26 _ 27.

( 243 )

يا أبا الهذيل إنّما أجزع عليه لأنّه لم يقرأ كتاب «الشكوك». فقال: ما هذا الكتاب يا صالح؟

قال: هو كتاب قد وضعته، من قرأه يشك ّ فيما كان حتّى يتوهّم أنّه لم يكن، ويشكّ فيما لم

يكن حتّى يتوهّم أنّه قد كان. فقال له أبو الهذيل: فشكّ أنت في موت ابنك، واعمل على أنّه لم يمت و إن كان قد مات. وشكّ أيضاً في قراءته كتاب «الشكوك» وإن كان لم يقرأه»(1).

2 _ بلغ أبا الهذيل في حداثة سنّه أنّ رجلاً يهوديّاً قدم البصرة و قطع جماعة من متكلّميها، فقال لعمّه: «يا عمّ امض بي إلى هذا اليهودي حتّى اُكلّمه. فقال له عمّه: يا بنيّ كيف تكلّمه وقد عرفت خبره، وأنّه قطع مشايخ المتكلّمين! فقال: لا بدّ من أن تمضي بي إليه. فمضى به.قال: فوجدته يقرّر الناس على نبوّة موسى _ عليه السلام _، فإذا اعترفوا له بها قال: نحن على ما اتّفقنا عليه إلى أن نجمع على ما تدّعونه، فتقدّمت إليه، فقلت: أسألك أم تسألني؟ فقال: بل أسألك، فقلت: ذاك إليك، فقال لي: أتعترف بأنّ موسى نبيّ صادق أم تنكر ذلك فتخالف صاحبك؟ فقلت له: إن كان موسى الّذي تسألني عنه هو الّذي بشّر بنبيّي _ عليه السلام _ وشهد بنبوّته وصدّقه فهو نبيّ صادق، وإن كان غير من وصفت، فذلك شيطان لا أعترف بنبوّته; فورد عليه ما لم يكن في حسابه، ثمّ قال لي: أتقول إنّ التوراة حقّ؟ فقلت: هذه المسألة تجري مجرى الاُولى، إن كانت هذه التوراة الّتي تسألني عنها هي الّتي تتضمّن البشارة بنبيّي _ عليه السلام _ فتلك حقّ، وإن لم تكن كذلك فليست بحقّ، ولا أقرّ بها.

فبهت و اُفحم ولم يدر ما يقول. ثمّ قال لي: أحتاج أن أقول لك شيئاً بيني و بينك، فظننت أنّه يقول شيئاً من الخير، فتقدّمت إليه فسارّني فقال لي: اُمّك كذا وكذا واُمّ من علّمك، لا يكنّي، وقدّر أنّي أثب

به، فيقول: وثبوا بي وشغبوا عليّ، فأقبلت على من كان في المجلس فقلت: أعزّكم الله، ألستم قد وقفتم على سؤاله إيّاي وعلى جوابي

______________________

1 . الفهرست لابن النديم: الفن الأوّل من المقالة الخامسة ص 204 _ وفيات الأعيان: ج 4، ص 265 _ 266.

( 244 )

إيّاه؟ قالوا:بلى، قلت: أفليس عليه أن يردّ جوابي أيضاً؟ قالوا: بلى، قلت لهم: فإنّه ل_مّا سارّني شتمني بالشتم الّذي يوجب الحدّ، وشتم من علّمني، وإنّما قدّر أنّني أثب عليه، فيدّعي أنّنا واثبناه وشغبنا عليه، وقد عرّفتكم شأنه بعد الانقطاع فانصروني، فأخذته الأيدي من كلّ جهة فخرج هارباً من البصرة»(1).

أقول: إنّ ما طرحه الرجل اليهودي من الشبهة كانت شبهة دارجة لأهل الكتاب يتمسّكون بها كلّ منهم من غير فرق بين اليهودي و المسيحي. وقد سأل الجاثليق النصراني الإمام عليّ بن موسى الرضا _ عليه السلام _ في مجلس المأمون عن هذه الشبهة، فقال الجاثليق: ما تقول في نبوّة عيسى و كتابه هل تنكر منهما شيئاً؟ قال الرضا _ عليه السلام _ : «أنا مقرّ بنبوّة عيسى و كتابه...وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وكتابه ولم يبشّر به اُمّته»(2).

إنّ الإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا _ عليه السلام _ قدم خراسان عام 199، وتوفّي بها عام 203 ه_، وكانت المناظرات خلال هذه السنوات دائرة و مجالسها بالعلماء و الاُدباء حافلة، فنقلوا ما دار بين الإمام والجاثليق إلى العواصم الإسلاميّة. فليس من البعيد أن يكون أبو الهذيل قد اقتبس كلامه من الإمام _ عليه السلام _ ، كما أنّ من المحتمل أن يكون من باب توارد الخاطر.

3 _ أتى إليه رجل فقال: «اُشكل عليّ أشياء

من القرآن فقصدت هذا البلد فلم أجد عند أحد ممّن سألته شفاء لما أردته، فلمّا خرجت في هذا الوقت قال لي قائل: إنّ بغيتك عند هذا الرّجل فاتّق الله و أفدني، فقال أبو الهذيل ماذا أشكل عليك؟ قال: آيات من القرآن توهمني أنّها متناقضة و آيات توهمني أنّها ملحونة. قال: فماذا أحبّ إليك، اُجيبك بالجملة أو تسألني عن آية آية؟ قال: بل تجيبني بالجملة، فقال أبو الهذيل: هل تعلم أنّ محمّداً كان من أوساط العرب و غير مطعون عليه في لغته، وأنّه

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1، ص 178 _ 179.

2 . الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج 2، ص 202 وللمناظرة صلة، من أراد فليراجع.

( 245 )

كان عند قومه من أعقل العرب فلم يكن مطعوناً عليه؟ فقال: اللّهمّ نعم، قال أبو الهذيل: فهل تعلم أنّ العرب كانوا أهل جدل؟ قال: اللّهمّ نعم، قال: فهل اجتهدوا عليه بالمناقضة واللّحن؟ قال: اللّهمّ لا، قال أبو الهذيل: فتدع قولهم على علمهم باللّغة وتأخذ بقول رجل من الأوساط؟ قال: فأشهد أن لا إله إلاّ الله و أنّ محمّداً رسول الله، قال: كفاني هذا و انصرف و تفقّه في الدين»(1).

تآليف__ه

بينما لم يذكر ابن النّديم أيّ تأليف لأبي الهذيل يحكي ابن المرتضى عن يحيى بن بشر أنّ لأبي الهذيل ستّين كتاباً في الرّدّ على المخالفين في دقيق الكلام(2).

نعم، ذكر ابن النّديم في باب الكتب المؤلّفة في متشابه القرآن أنّ لأبي الهذيل العلاّف كتاباً في ذلك الفن(3).

قال ابن خلّكان:«ولأبي الهذيل كتاب يعرف بالميلاس و كان «ميلاس» رجلاً مجوسياً و أسلم، وكان سبب إسلامه أنّه جمع بين أبي الهذيل وبين جماعة من الثنويّة، فقطعهم أبو الهذيل فأسلم ميلاس عند ذلك»(4).

وذكر البغدادي كتابين لأبي الهذيل

هما «الحجج» و «القوالب» والثاني ردُّ على الدهريّة(5).

أقول: إنّ من سبر كتاب «الفرق بين الفرق» لعبد القاهر البغدادي يعرف حقده على المعتزلة وعلى ذوي الفكر و لذلك ترجمه بصورة تكشف عن عمق غيظ له، فقال: «كان مولى لعبد القيس وقد جرى على منهاج أبناء السبايا لظهور أكثر البدع منهم، وفضائحه تترى تكفِّره فيها سائر فرق الاُمّة من أصحابه في الاعتزال ومن غيرهم،

______________________

1 . طبقات المعتزلة للقاضي: ص 254.

2 . المنية والأمل: ص 25.

3 . الفهرست لابن النديم: الفن الثالث من المقالة الاُولى ص 39.

4 . وفيات الأعيان: ج 4 ص 266.

5 . الفرق بين الفرق: ص 124.

( 246 )

وللمعروف بالمزدار من المعتزلة كتاب كبير فيه فضائح أبي الهذيل، وفي تكفيره بما انفرد به من ضلالته. وللجبّائي أيضاً كتاب في الردّ على أبي الهذيل في المخلوق، يكفّره فيه، ولجعفر بن حرب المشهور في زعماء المعتزلة أيضاً كتاب سمّاه «توبيخ أبي الهذيل» وأشار بتكفير أبي الهذيل، وذكر فيه أنّ قوله يجرّ إلى قول الدهريّة»(1).

تشيّعه

قال ابن المرتضى: «ذكروا أنّه صلّى عليه أحمد بن أبي دؤاد القاضي فكبّر عليه خمساً، ثمّ ل_مّا مات هشام بن عمرو فكبّر عليه أربعاً،فقيل له في ذلك (ما وجه ذلك)؟ فقال: «إنّ أبا الهذيل كان يتشيع لبني هاشم فصلّيت عليه صلاتهم» وأبو الهذيل كان يفضّل عليّاً على عثمان. وكان الشيعي في ذلك الزمان من يفضّل عليّاً على عثمان» (2).

وهذا يكشف عن أنّ التشيّع ربّما يستعمل في تفضيل الإمام _ عليه السلام _ على خليفة أو على الخلفاء الثلاث فقط، ولا يلازم التشيّع القول بكون عليّ هو خليفة رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم بلافصل. فإنّ هذا هو التشيّع بالمعنى الأخصّ.

قال ابن

أبي الحديد: «سئل شيخنا أبو الهذيل أيّما أعظم منزلة عند الله: عليّ _ عليه السلام _ أم أبوبكر؟ فقال: والله لمبارزة عليّ عمرواً يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين والأنصار و طاعاتهم كلّها، فضلاً عن أبي بكر»(3).

وفاته

إذا كانت ولادة أبي الهذيل 135 و وفاته 235 فقد توفّى الرجل عن عمر يناهز المائة.

ويقول ابن خلّكان: «وكان قد كفّ بصره، وخرف في آخر عمره إلاّ أنّه كان لا

______________________

1 . الفرق بين الفرق: ص 121 _ 122.

2 . المنية والأمل: ص 28.

3 . شرح نهج البلاغة: ج 19 ص 60.

( 247 )

يذهب عليه شيء من الأصول، لكنّه ضعف عن مناهضة المناظرين و حجاج المخالفين و ضعف خاطره»(1).

و جرى ابن قتيبة في كتابه «تأويل مختلف الحديث» على ذمّ مشايخ المعتزلة ورميهم بقصص خرافيّة، فنقل أوّلاً عن بعض أصدقاء أبي الهذيل أنّه بذل مائة ألف درهم على الإخوان. ثمّ قال ردّاً على هذه القصّة: «وكان أبو الهذيل أهدى دجاجة إلى موسى بن عمران فجعلها تأريخاً لكلّ شيء، فكان يقول: فعلت كذا وكذا قبل أن أهدي إليك تلك الدّجاجة أو بعد أن أهديت إليك تلك الدّجاجة». ثمّ فرّع على ذلك وقال: «هذا نظر من لا يقسم على الاخوان عشرة أفلس فضلاً عن مائة ألف»(2).

«اللّهمّ لا تجعل في قلوبنا غلاّ للذين آمنوا».

كلمة بذيئة

عنون الخطيب شيخ المعتزلة محمّداً أبا الهذيل، ولكنّه جرى فيه كعادته فيهم بتسليط لسانه عليهم فقال: «شيخ المعتزلة»، ومصنّف الكتب في مذاهبهم وهو من أهل البصرة. ورد بغداد وكان خبيث القول. فارق إجماع المسلمين وردّ نصّ كتاب الله عزّوجلّ إذ زعم أنّ أهل الجنّة تنقطع حركاتهم فيها، حتّى لا ينطقوا نطقة ولا يتكلّموا بكلمة، فلزمه القول بانقطاع نعيم الجنّة عنهم والله

تعالى يقول: (اُكلّها دائم).

وجحد صفات الله الّتي وصف بها نفسه، وزعم أنّ علم الله هو الله، و قدرة الله هي الله. فجعل الله علماً و قدرة _ تعالى الله عمّا وصفه به علوّاً كبيراً _ »(3).

يلاحظ عليه: أنّ النسبة الاُولى لم تثبت بعد، وهؤلاء هم الأشاعرة ينقلونه عن أبي الهذيل و أتباعه، وقد اعتذر أبو الحسين الخيّاط عن هذه النسبة في كتابه «الانتصار» وبما

______________________

1 . وفيات الأعيان: ج 4 ص 267.

2 . تأويل مختلف الحديث: ص 43.

3 . تاريخ بغداد: ج 3، ص 366.

( 248 )

أنّ كتب الرجل قد ضاعت و عبث بها الزمان فلا يصحّ في منطق العقل الجزم بذلك إلاّ إذا تواتر النّقل وهو مفقود.

وأمّا النسبة الثانية فقد غفل عن مغزاها الخطيب فتصوّره أمراً شنيعاً مع أنّ أبا الهذيل يقصد بذلك الوصول إلى قمّة التوحيد، وهو نفي كون صفاته سبحانه زائدة على ذاته. لأنّ القول بالزيادة يستلزم التركيب (تركيب ذاته مع صفاته السبع الكماليّة) وقد أوضحناه في الجزء الثاني من كتابنا فراجع(1).

والّذي يندي الجبين أن يقذف الشيخ بأمر شنيع. نقل الخطيب عن أبي حذيفة: كان أبو الهذيل يشرب عند ابن لعثمان بن عبدالوهاب، قال: فراود غلاماً في الكنيف ... إلى آخر ما ذكره في الوقيعة به الّتي يجب أن يحدّ القاذف و يبرء المرمىّ بها، ولكنّ الطائفيّة البغيضة دفعت الخطيب إلى نقل القصّة بلا اكتراث.

(إنّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةَ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

4 _ النظّام (ت 160ه_ _ م 231 ه_)(2)

إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام

النظّام: هو الشخصيّة الثالثة للمعتزلة ومن متخرّجي مدرسة البصرة للاعتزال.

قال ابن النديم: يكنّى أبا إسحاق، كان متكلّماً

شاعراً أديباً وكان يتعنّف أبا نؤاس وله فيه عدّة مقطّعات و إيّاه عنى أبو نؤاس بقوله:

فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة * حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

لا تحظر العفو إن كنت امرءاً حرجاً * ف___انّ ح__ظركه ب__ال_دين إزراء(3)

______________________

1 . ص 78 _ 79 وسيوافيك بيانه في الفصل المختص ببيان الاُصول الخمسة للمعتزلة.

2 . في ميلاده ووفاته أقوال اُخر وما ذكرناه هو المؤيد بالقرائن.

3 . فهرست ابن النديم: الفن الأوّل من المقالة الخامسة ص 205 _ 206 .

( 249 )

وذكره الكعبي في «ذكر المعتزلة» وقال: «هو من أهل البصرة ثمّ نقل آراءه الّتي تفرّد بها»(1).

وقال الشريف المرتضى: «كان مقدّماً في علم الكلام، حسن الخاطر، شديد التدقيق والغوص على المعاني، وإنّما أدّاه إلى المذاهب الباطلة الّتي تفرّد بها واستشنعت منه، تدقيقه وتغلغله وقيل: إنّه مولى الزياديين من ولد العبيد و إنّ الرّق جرى على أحد آبائه»(2).

وذكره القاضي عبدالجبّار في «طبقات المعتزلة» وقال: «إنّه من أصحاب أبي الهذيل و خالفه في أشياء»(3).

ذكاؤه المتوقّد

1 _ روى الشّريف المرتضى أنّ أبا النظّام جاء به وهو حدث إلى الخليل بن أحمد (م170 ه_) ليعلِّمه فقال له الخليل يوماً يمتحنه _ وفي يده قدح زجاج _: يا بني، صف لي هذه الزّجاجة، فقال: أبمدح أم بذمّ؟ قال: بمدح، قال: نعم، تريك القذى، لا تقبل الأذى، ولا تستر ما وراء، قال: فذمّها، قال: سريع كسرها، بطيء جبرها، قال: فصف هذه النّخلة، و أومأ إلى نخلة في داره، فقال: أبمدح أم بذم؟ قال: بمدح، قال: هي حلو مجتناها، باسق منتهاها، ناظر أعلاها، قال: فذمّها، قال: هي صعبة المرتقى، بعيدة المجتنى، محفوفة بالأذى، فقال الخليل: با بنيّ، نحن إلى التعلم منك أحوج.

قال الشّريف المرتضى بعد

نقل هذه القصّة: «وهذه بلاغة من النظّام حسنة، لأنّ البلاغة هي وصف الشيء ذمّاً أو مدحاً بأقصى ما يقال فيه»(4).

2 _ قال أبوعبيدة: «ما ينبغي أن يكون فى الدّنيا مثله، فإنّي امتحنته فقلت: ما

______________________

1 . فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 70.

2 . أمالي المرتضى: ج 1، ص 187.

3 . فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 264.

4 . أمالي المرتضى: ج 1، ص 189.

( 250 )

عيب الزجاج؟ فقال على البديهة: يسرع إليه الكسر ولا يقبل الجبر»(1).

3 _ روي أنّه كان لا يكتب ولا يقرأ وقد حفظ القرآن والتوراة والانجيل والزبور وتفسيرها مع كثرة حفظه الأشعار والأخبار واختلاف النّاس في الفتيا(2).

4 _ قال الجاحظ: «الأوائل يقولون: في كلّ ألف سنة رجل لا نظير له. فان كان ذلك صحيحاً فهو: أبو إسحاق النظّام»(3).

ولو صحّ ما نقلناه في حقّه، فهو يحكي عن كون المترجم له ذا نبوغ مبكر، و ذكاء وقّاد، وقابليّة كبيرة،ومثل هذا لو وقع تحت رعاية صحيحة و تربّى على يدي اُستاذ بارع يتجلّى نبوغه بأحسن ما يمكن و تتفجّر طاقاته لصالح الحقائق، و إدراك الواقعيّات، وإذا فقد مثل ذلك الاُستاذ البارع وهو على ما ذكرناه من المواهب والقابليّات انحرف انحرافاً شديداً، و تحرّكت طاقاته في اتّجاه الجناية على الحقائق و ظلم الواقعيات.

ولعلّ ما يحكى عن النظام من بعض الأفكار المنحرفة _ إن صحّت _ فذلك نتيجة النبوغ غير الموجّه، والقابليّة غير الخاضعة للارشاد والهداية.

وسيوافيك بعض أفكاره غير الصّحيحة، غير أنّ أكثر مصادرها هي كتب الأشاعرة ك_ «مقالات الإسلاميين» للأشعري، و«الفرق بين الفرق» و غيرهما من كتب الأشاعرة الّذين ينظرون إلى المعتزلة بعين العداء و مخالفي السنّة.

نعم هجوم الأشاعرة عليه، وردّ بعض المعتزلة عليه(4) يعرب عن شذوذ في

منهجه، وانحراف في فكره.

5 _ روى القاضي أنّه كان يقول عندما يجود بنفسه: «اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي لم اُقصّر في نصرة توحيدك ولم أعتقد مذهباً إلاّ سنده التوحيد، اللّهمّ إن كنت تعلم ذلك فاغفر لي ذنوبي و سهِّل عليّ سكرات الموت». قال: فمات من ساعته(5).

______________________

1 . المنية والأمل، لابن المرتضى: ص 29.

2 . المنية والأمل، لابن المرتضى: ص 29.

3 . المنية والأمل، لابن المرتضى: ص 29.

4 . لاحظ الفرق بين الفرق ص 132 ترى ردود المعتزلة عليه. فقد ذكر أنّ لأبي الهذيل والجبائي والاسكافي وجعفر بن حرب ردوداً عليه.

5 . فضل الاعتزال للقاضي: ص 264 _ المنية والأمل ص 29 _ 30.

( 251 )

ولو صحّ هذا فلا يصحّ ما ينسب إليه البغدادي من أنّ النظّام كان أفسق خلق الله عزّوجلّ و أجرأهم على الذنوب العظام و على إدمان شرب المسكر. وقد ذكر عبدالله بن قتيبة في كتاب «مختلف الحديث» أنّ النظّام كان يغدو على مسكر و يروح على مسكر وأنشد قوله في المسكر:

ما زلت آخذ روح الزقّ في لطف * وأستبيح دماً من غير مذبوح

حتّى انثنيت ولي روحان في بدن * والزقّ م___طّرح جس__م بلا روح

ثمّ أخذ البغدادي في ذمِّه بكلمات رديئة لا تصلح للنقل، وقد عدّ البغدادي له أزيد من عشرين فضيحة و جعل بعضها سبباً لكفره، غير أنّ بعضها ليس بفضيحة و بعضها الآخر لا يوجب الكفر(1) و البغداديّ في هذه التّهم و النّسب _ كما قال _ تبع شيخ أصحاب الحديث ابن قتيبة حيث قال: «وجدنا النظّام شاطراً من الشطّار يغدو على سكر و يروح على سكر و يبيت على جرائرها و يدخل في الأدناس و يرتكب الفواحش والشائنات» ثمّ ذكر

البيتين(2).

أفي ميزان النّصفة الاعتماد على قول الخصم عند القضاء عليه؟.

وذكر الشهرستاني له مسائل انفرد بها وأنهاها إلى ثلاث عشرة مسألة(3) و في قلمه نزاهة قابلة للتقدير بخلاف البغدادي في الفرق و نذكر نموذجين من هذه الفضائح المزمومة:

1 _ قوله بانقسام كلِّ جزء لا إلى نهاية. فزعم البغدادي أنّ نتيجة ذلك القول إحالة كون الله تعالى محيطاً بأجزاء العالم، عالماً بها، وذلك قول الله تعالى: (وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصَى كُلَّ شَيْء عَدَداً) (الجن/28)(4).

______________________

1 . الفرق بين الفرق: ص 131 _ 150.

2 . تأويل مختلف الحديث: ص 17 و 18.

3 . الملل والنحل: ج 1 ص 54 _ 58.

4 . الفرق بين الفرق: ص 139.

( 252 )

يلاحظ عليه : أنّ القائل ببطلان تركّب الجسم من أجزاء لا يتجزّأ، وأنّ كلّ جزء مفروض ينقسم إلى ما لا نهاية له، لا يعنى به انقسام كلِّ جزء إلى ما لا نهاية له بالفعل، بحيث يكون في كلِّ ذرة أجزاء فعليّة مترتبة متسلسلة، بل المراد هو الانقسام بالقوّة، بمعنى أنّ الانقسام لا ينتهي إلى جزء لا يمكن تقسيمه عقلاً، لأنّ ما نفرضه جزءاً غير متجزّئ، شرقه غير غربه، فيكون منقسماً بهذا الشّكل إلى ما لا نهاية له، وإن كان ينتهي إلى جزء لا يمكن تقسيمه حسّاً لأجل ضعف أدوات التّقسيم، ولكن هذا لا يصدّ التقسيم العقلي و لا يمنع منه.

وهذا واضح لمن أمعن النّظر في أدلّة القائلين ببطلان الجزء الّذي لا يتجزّأ. فالبغدادي خلط بين مسألة أجزاء غير متناهية بالفعل و مسألة أجزاء غير متناهية بالقوّة، وما فرضه إشكالاً _ على فرض صحّته في نفسه _ إنّما يترتّب على الأوّل دون الثّاني، لأنّ العالم على الفرض الثّاني يكون متناهياً

بالفعل، ويكون سبحانه محيطاً بأجزاء العالم، عالماً به، وإن كان غير متناه بالقوّة، لكن مناط العلم هو الأوّل لا الثّاني.

و ثانياً: نفرض أنّ العالم له أجزاء غير متناهية، ولكنّه سبحانه أيضاً موجود غير متناه، على ما برهن عليه في محلّه، فلا يشذّ عن حيطة وجوده شيء، نعم من خصّ وجوده سبحانه بالعرش فوق السّماوات لا محيص له عن توصيفه بالتّناهي والله سبحانه منزّه عن التّناهي وأحكام الممكنات.

2 _ قوله بأنّ الإنسان هو الروح و هو جسم لطيف تداخل بهذا الجسم، ثمّ رتّب عليه على زعمه إشكالات: منها; أنّ الإنسان على هذا لا يرى على الحقيقة و إنّما يرى الجسد الّذي فيه الإنسان.

ومنها; أنّه يوجب أنّ الصّحابة ما رأوا رسول الله و إنّما رأوا قالباً فيه الرّسول، إلى غير ذلك من الاشكالات الواهية.

أقول: لايظهر من القرآن كون الروح هو الجسم اللّطيف المتداخل في البدن، ولكنّه يظهر منه كون حقيقة الإنسان هي روحه، وأنّ واقعيَّته و شخصيّته بروحه لا

( 253 )

بجسده. قال سبحانه: (قُلْ يَتَوَفَّيكُمْ مَلَكُ المَوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون)(السجدة/11). إنّ كلمة «التوفّي» لا تعني الاماتة كما هو معروف، بل تعني الأخذ و القبض، فقوله سبحانه (يتوفّاكم) بمعنى يأخذكم و يقبضكم، فالآية ظاهرة في أنّ ملك الموت يأخذ الإنسان كلّه، ويكون محفوظاً عند ربّه، وهذا إنّما يتمّ ولو كان حقيقة الإنسان هو روحه و نفسه، لا روحه و جسمه، وإلاّ يكون المأخوذ بعض الإنسان و جزئه، لوضوح أنّ ملك الموت يأخذ أحد الجزأين وهو الرّوح و يترك الجزء الآخر وهو يودع في القبر الّذي لا علاقة لملك الموت به.

وما رتّب البغدادي على نظريّة النظّام من الاشكالات لا يستحقّ الردّ والنّقد.

إذا عرفت هذين النموذجين

الّذين عدّهما البغدادي من فضائح النظّام _ وليسا منها _ فعند ذا يتبيّن وجوب دراسة آراء ذلك الرجل في جوّ هادىء بعيد عن الحقد والبغض حتّى يتّضح الحقّ عن الباطل، مع أنّه لا مصدر لنسبة هذه الآراء إلاّ كتب الأشاعرة و بصورة ناقصة «الانتصار» لأبي الحسين الخيّاط، وليس كتابنا هذا كتاباً كلاميّاً و إنّما هو كتاب تأريخ العقائد ولأجل ذلك نكتفي بهذا المقدار، غير أنّه نرى من الواجب التعرّض لعقيدة منسوبة إليه في إعجاز القرآن المعروفة بمذهب الصِّرفة.

النظّام و مذهب الصرفة في إعجاز القرآن

من الآراء الباطلة الّتي نسبت إلى النظّام، هو حصر إعجاز القرآن في الاخبار عن المغيبات، وأمّا التأليف والنّظم فقد كان يجوِّز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنع(1). وقد نقل عنه البغدادي في «الفرق» بقوله: «إنّه أنكر إعجاز القرآن فى(2) نظمه».

وقال الشهرستاني: «قوله في إعجاز القرآن إنّه من حيث الاخبار عن الاُمور الماضية والآتية ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة، ومنع العرب عن الاهتمام به

______________________

1 . مقالات الاسلاميين: ص 225.

2 . الفرق بين الفرق: ص 132.

( 254 )

جبراً وتعجيزاً، حتّى لو خلاّهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة و فصاحة و نظماً»(1).

أقول: لا شكّ أنّ مذهب الصرفة في إعجاز القرآن مذهب مردود بنصّ القرآن وإجماع الاُمّة، لأنّ مذهب الصرف يرجع إلى أنّ القرآن لم يبلغ في مجال الفصاحة والبلاغة حدّ الإعجاز، حتّى لا يتمكّن الإنسان العادي من مباراته و مقابلته، بل هو في هذه الجهة لا يختلف عن كلام الفصحاء و البلغاء، ولكنّه سبحانه يحول بينهم وبين الإتيان بمثله، إمّا بصرف دواعيهم عن المعارضة، أو بسلب قدرتهم عند المقابلة.

ومن المعلوم أنّ تفسير إعجاز القرآن بمثل هذا باطل

جدّاً لأنّ القرآن عند المسلمين معجز لكونه خارق للعادة لما فيه من ضروب الإعجاز في الجوانب الأربعة: 1 _ الفصاحة القصوى 2 _ البلاغة العليا 3 _ النظم المخصوص 4 _ الاُسلوب البديع. فقد تجاوز عن حدِّ الكلام البشري و وصل إلى حدّ لا تكفي في الاتيان بمثله القدرةُ البشريّة.

يقول الطّبرسى في تفسير قوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَ الجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً) (الإسراء/88) «معناه قل يا محمد لهؤلاء الكفّار: لئن اجتمعت الإنس و الجنّ متعاونين متعاضدين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن من فصاحته و بلاغته و نظمه على الوجوه الّتي هو عليها من كونه في الطبقة العليا من البلاغة و الدرجة القصوى من حسن النظم وجودة المعاني و تهذيب العبارة.. لعجزوا عن ذلك ولم يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً»(2).

إنّ مذهب الصرفة كمذهب الصّدفة لدى المادِّيين في الوهن و البطلان، فإنّه سبحانه أرفع شأناً من أن يأمر الإنسان والجنّ بأن يباروا القرآن، ويرضى منهم بمباراة بعضه لو تعذّر عليهم الكلّ، ثمّ يعترض سبيلهم و يصرف منهم القوّة والهمّة و يمنعهم

______________________

1 . الملل والنحل: ج 1 ص 56 _ 57.

2 . مجمع البيان: ج 6 ص 676.

( 255 )

من أن يأتوا بما أراد منهم مع قدرتهم عليه قبل عزم المباراة والمقابلة.

ولو صحّ وجه إعجازه في الصّرفة، فيتمّ حتّى مع كونه كلاماً مغسولاً من الفصاحة، ومبذولاً مرذولاً للغاية، وكلّما حاول الإنسان أن يقابله، صرفت دواعيه وسلبت قدرته عن الاتيان بمثله، هوكما ترى(1).

مؤلّفات_ه

مع أنّه كثر اللّغط والصّياح حول آراء النظّام(2) فطبع الحال يقتضي أن يكون له عشرات المؤلّفات، غير أنّه لم يصل من أسماء

مؤلّفاته إلينا أزيد ممّا يلي:

1 _ التّوحيد2 _ العالم(3) 3 _ الجزء (4) 4 _ كتاب الردّ على الثنويّة(5).

ومن أراد أن يرجع إلى متفرِّداته _ إن صحّت النّسبة _ فليرجع إلى «الملل والنحل» للشهرستاني، فإنّه جمعها تحت ثلاث عشرة مسألة، مع النزاهة و رعاية أدب البحث، خلافاً للبغدادي، فإنّ كلامه بعيد عن الأدب.

5 _ أبو علي محمّد بن عبدالوهّاب الجبّائي (ت 235 _ م 303)

هو أحد أئمّة المعتزلة في عصره، وإماماً في كلامه و يعرّفه ابن النديم في فهرسته بقوله: «هو من معتزلة البصرة، ذلّل الكلام و سهّله و يسّر ما صعب منه، وإليه انتهت رئاسة البصريّين في زمانه، لا يدافع في ذلك. وأخذ عن أبي يعقوب الشحّام. ورد البصرة

______________________

1 . ومن أراد البحث حول تلك النظرية فعليه الرجوع إلى المصادر التالية: أوائل المقالات للشيخ المفيد ص 31، بحار الأنوار: ج 12، ص 1 _ 32. المعجزة الخالدة للعلامة الشهرستاني ص 92 _ 93. مقال للكاتب الفكيكي في مجلّة رسالة الإسلام، العدد الثالث من السنة الثالثة، والعدد الأول من السنة الرابعة. الجزء الثاني من الإلهيات من محاضراتنا الكلامية التي قام بتحريرها الشيخ الفاضل حسن مكي العاملي.

2 . ألّف محمد عبد الهادي أبو ريدة كتاباً مستقلاً حول آراء النظام وأسماه «إبراهيم بن سيار النظام» وطبع عام 1365 بالقاهرة وقد جمع آراءه عن مصادر مطبوعة ومخطوطة.

3 . ذكرهما أبو الحسين الخياط (م 311) في الانتصار ص 14 _ 172.

4 . مقالات الاسلاميين: ج 2 ص 316.

5 . الفرق بين الفرق: ص 134.

( 256 )

و تكلّم مع من بها من المتكلّمين، وصار إلى بغداد، فحضر مجلس أبي...الضّرير و تكلّم فتبيّن فضله و علمه، وعاد إلى العسكر ومولده سنة

235 ه_ وتوفّي سنة 303 ه_ »(1).

وقال ابن خلّكان: «إنّه أحد أئمّة المعتزلة، كان إماماً في علم الكلام، وأخذ هذا العلم عن أبي يوسف يعقوب بن عبدالله الشحّام البصري رئيس المعتزلة بالبصرة في عصره. له في مذهب الاعتزال مقالات مشهورة و عنه أخذ الشيخ أبو الحسن الأشعري علم الكلام وله معه مناظرة روتها العلماء»(2).

قال الياقوت: «الجبّائي منسوب إلى «جبّا» بضمّ الجيم و تشديد الباء: بلد أو كورة من خوزستان، و من الناس من جعل عبّادان من هذه الكورة و هي في طرف من البصرة و الأهواز، حتّى جعل من لا خبرة له «جبّا» من أعمال البصرة و ليس الأمر كذلك _ إلى أن قال _: «جبّا» في الأصل عجمي وكان القياس أن ينسب إليها جُبّوي، فنسبوا إليها جبّائي على غير قياس مثل نسبتهم إلى الممدود، وليس فى كلام العجم ممدود، وجبّا أيضاً من أعمال النّهروان»(3).

وقد أثنى عليه ابن المرتضى في «المنية والأمل» بما لا مزيد عليه فقال: «وهو الّذي سهّل علم الكلام و يسّره و ذلّله وكان مع ذلك فقيهاً ورعاً زاهداً جليلاً نبيلاً، ولم يتّفق لأحد من إذعان سائر طبقات المعتزلة له بالتقدّم و الرئاسة بعد أبي الهذيل مثله، بل ما اتّفق له هو أشهر أمراً و أظهر أثراً، وكان شيخه أبا يعقوب الشحّام، ولقى غيره من متكلّمي زمانه و كان على حداثة سنّه معروفاً بقوّة الجدل»(4).

مناظراته

1 _ حضر من علماء المجبِّرة رجل يقال له صقر. فإذا غلام أبيض الوجه زجّ

______________________

1 . فهرست ابن النديم الفن الأول من المقالة الخامسة ص 217 _ 218.

2 . لاحظ الجزء الثاني من كتابنا هذا ص 18.

3 . معجم البلدان: ج 2 ص 96 _ 97 طبع التراث

العربي.

4 . المنية والأمل: ص 45.

( 257 )

نفسه في صدر صقر و قال له: أسألك؟ فنظر إليه الحاضرون و تعجّبوا من جرأته مع صغر سنّه. فقال له: سل، فقال: هل الله تعالى يفعل العدل؟ قال: نعم، قال: أفتسمّيه بفعله العدل عادلاً ؟ قال: نعم، قال: فهل يفعل الجور؟ قال: نعم، قال: أفتسمّيه جائراً؟ قال: لا، قال: فيلزم أن لا تسمّيه بفعله العدل عادلاً، فانقطع صقر، وجعل الناس يسألون من هذا الصّبي؟ فقيل: هو غلام من جبّاء(1).

يلاحظ على تلك المناظرة: أنّه في وسع المجبِّر أن يقول: إن أسماءه سبحانه توقيفيّة ولا يصحّ لنا تسميته بما لا يسمّي به نفسه.

2 _ روى ابن المرتضى أنّ أبا عليّ ناظر بعضهم في الإرجاء و أبو حنيفة و الزبير حاضران، فقال أبو حنيفة: إنّ أبا عمرو بن العلاء لقي عمرو بن عبيد، فقال له: يا أبا عثمان إنّك أعجميّ ولست بأعجميّ اللّسان و لكنّك أعجميّ الفهم. إنّ العرب إذا وعدت أنجزت، وإذا أوعدت أخلفت و أنشد شعراً:

إنّ_ي و إن أوعدت_ه و وعدت__ه * لمخلف إيعادي، ومنجز موعدي

فقال أبو عليّ: إنّ أبا عثمان أجابه بالمسكت وقال له: إنّ الشاعر قد يكذب وقد يصدق، ولكن حدّثني عن قول الله عزّ و جلّ: (لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(هود/119، السجدة/13) إن ملأها أتقول صدق؟ قال: نعم، وإن لم يملأها أفتقول صدق ؟ فسكت أبو حنيفة.

يلاحظ عليه: أنّه سبحانه إنّما يخلف بما أوعده إذا عفا عن الكافر والمشرك والمسلم جميعاً، وأمّا إذا عفا عن المسلمين خاصّة فلا يلزم الكذب، لأنّه لا يستلزم خلف الايعاد الوارد في الآية المباركة، ولا يلزم خلوّ جهنّم من الجنّة و النّاس الّذي أشار الله إليه بقوله: (لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ

الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، لأنّ من يجري عليه العفو أقلّ ممّن يكون محكوماً بدخول الجحيم، وليس القائل بالعفو يقول بأنّ العفو يعمّ كلّ

______________________

1 . المنية والأمل: ص 46.

( 258 )

كافر و مشرك ومسلم، وإنّما يتحقّق في إطار محدود و مضيّق. كيف وقد وعد سبحانه على وجه الجزم و القطع بقوله: (إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ) (النساء/48) وليس المراد من الغفران هو المغفرة لأجل التّوبة، لأنّ الغفران بعد التوبة يعمّ المشرك و غيره، وإنّما المراد هو الغفران و المغفرة بلا توبة و إنابة، والمشرك و المنافق لا يعمّهما العفو أبداً و يكفي ذلك في تحقّق وعيد الربّ و صدق إخباره(لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ).

وخلاصة القول: أنّ القائل بالعفو في مورد الايعاد يدّعي قضيّة جزئيّة لا قضيّة كلّيّة استيعابيّة، وللبحث صلة تمرّ عليك عند البحث عن اُصول المعتزلة فارتقب.

ثمّ إنّ في وسع أبي عليّ أن يقابل شعر المناظر بشعر شاعر آخر وينشد قوله:

إنّ أبا ثابت لمجتمع الرأي * ش___ري_____ف الآب___اء و ال_بيت

لا يخلف الوعد والوعيد ولا * يبيت من ثاره على فوت(1)

تأليفات_ه

يظهر ممّا نقله ابن المرتضى أنّه غزير الإنتاج. قال: قال أبو الحسين:«وكان أصحابنا يقولون: إنّهم حرّروا ما أملاه أبو عليّ فوجدوه مائة ألف و خمسين ألف ورقة، قال: وما رأيته ينظر في كتاب إلاّ يوماً نظر في زيج الخوارزمي، ورأيته يوماً أخذ بيده جزءاً من الجامع الكبير لمحمّد بن الحسن و كان يقول: إنّ الكلام أسهل شيء، لأنّ العقل يدلّ عليه»(2) .

يلاحظ عليه: أنّ علم الكلام كما يستمدّ من العقل، يستمدّ من الكتاب و السنّة الصّحيحة خصوصاً فيما يرجع إلى ما بعد الموت، وأنّ الاستبداد بالعقل الشخصي من دون المراجعة لآراء من سبق

من الأعاظم لا ينتج شيئاً ناضجاً. فكما أنّ التقاء الأسلاك

______________________

1 . المنية والأمل: ص 48.

2 . نفس المصدر : ص 47.

( 259 )

الكهربائيّة يوجب تفجّر النور والطاقة، فهكذا التقاء الأفكار والآراء يوجب اكتساح ظلمات الجهل عن أمام المفكّر.

ويظهر من ابن المرتضى في ترجمة الأصمّ أنّ لأبي عليّ تفسيراً، قال: «وكان أبو عليّ لا يذكر أحداً في تفسيره إلاّ الأصمّ»(1) ومن المحتمل أن يكون المقصود أنّه لا يذكر من آراء الرجال في التفسير شيئاً إلاّ عن الأصمّ.

ويظهر أيضاً منه _ في ترجمة أبي محمّد عبدالله بن العبّاس الرامهرمزي تلميذه _ أنّ لأبي عليّ كتباً في الردّ على أهل النجوم، ويذكر أنّ كثيراً منها يجري مجرى الأمارات الّتي يغلب الظنّ عندها(2).

كما يظهر منه _ في ترجمة الخراسانيّين الثّلاثة الّذين خرّجوا على أبي عليّ و أخذوا عنه_ أنّ أبا عليّ أملى كتاب «اللّطيف» لأبي الفضل الخجندي، ثالث الخراسانيّين(3).

ونقل ابن عساكر في «تبيين كذب المفتري» عن الشيخ الأشعري أنّ له كتاباً في الردّ على كتاب «الاُصول» لاُستاذه أبي عليّ الجبّائي(4).

إلى غير ذلك ممّا أهمل أرباب التراجم ذكره في ترجمته.

لمحة من أحواله

روى ابن المرتضى وقال: قال أبو الحسن: «وكان من أحسن الناس وجهاً وتواضعاً _ إلى أنّ قال _: وكان إذا روى عن النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال لعليّ والحسن والحسين وفاطمة: «أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم» يقول: العجب من هؤلاء النوابت(5)يروون هذا الحديث ثمّ يقولون بمعاوية»(6).

وروى عن عليّ _ عليه السلام _ أنّ رجلين أتياه فقالا: ائذن لنا أن نصير إلى معاوية

______________________

1 . المنية والأمل: ص 33.

2 . نفس المصدر : ص 58.

3 . نفس المصدر : ص 65.

4 . تبيين كذب

المفتري: ص 130.

5 . تطلق على الحشوية ومن لفّ لفّهم.

6 . المنية والأمل: ص 47.

( 260 )

فنستحلّه من دماء من قتلنا من أصحابه. فقال عليّ _ عليه السلام _ : «أما إنّ الله قد أحبط عملكما بندمكما على ما فعلتما»(1).

قال أبو الحسن: «والرافضة لجهلهم بأبي عليّ و مذهبه يرمونه بالنّصب و كيف وقد نقض كتاب عبّاد في تفضيل أبي بكر، ولم ينقض كتاب الاسكافي المسمّى «المعيار والموازنة في تفضيل عليّ على أبي بكر»(2).

إنّ العالم العابد رضي الدين بن طاووس (المتوفّى سنة 664) نقل كثيراً من آرائه في كتاب «سعد السعود» و نقضه، ولو صحّت نسبة تلك الآراء إليه فهو مبغض للشيعة وقد أنكر كثيراً من الحقائق التأريخية فراجعه.

5 _ أبو هاشم الجبائي (ت 277 _ م 321)

عبدالسلام بن محمّد بن عبدالوهّاب بن أبي عليّ الجبائي، قال الخطيب: «شيخ المعتزلة و مصنّف الكتب على مذاهبهم. سكن بغداد إلى حين وفاته»(3).

وقال ابن خلّكان: «المتكّلم المشهور، العالم بن العالم، كان هو وأبوه من كبار المعتزلة ولهما مقالات على مذهب الاعتزال، وكتب الكلام مشحونة بمذاهبهما واعتقادهما. وكان له ولد يسمّى أبا عليّ و كان عامّياً لا يعرف شيئاً. فدخل يوماً على الصاحب بن عبّاد فظنّه عالماً فأكرمه ورفع مرتبته. ثمّ سأله عن مسألة، فقال: «لا أعرف نصف العلم»، فقال له الصاحب: «صدقت يا ولدي، إلاّ أنّ أباك تقدّم بالنصف الآخر»(4).

وقد حكى الخطيب عنه تأريخ ولادته، أنّه قال: «ولدت سنة سبع و سبعين ومائتين و ولد أبي أبو عليّ سنة خمس و ثلاثين و مائتين و مات في شعبان سنة ثلاث

______________________

1 . المنية والأمل: ص 47.

2 . المنية والأمل: ص 47.

3 . تاريخ بغداد: ج 11، ص 55.

4 . وفيات

الأعيان: ج 3، ص 183.

( 261 )

وثلاثمائة». قال أبو الحسن: ومات أبو هاشم في رجب سنة إحدى و عشرين و ثلاثمائة ببغداد و تولّيت دفنه في مقابر باب البستان من الجانب الشرقي، وقد توفّي في اليوم الّذي توفّي أبو بكر بن دريد. وعن الحسن بن سهل القاضي: بينا نحن ندفن أبا هاشم إذ حملت جنازة اُخرى ومعها جُميعَة عرفتهم بالأدب. فقلت لهم: جنازة من هذه؟ فقالوا: جنازة أبي بكر ابن دريد، فذكرت حديث الرشيد لمّا دفن محمّد بن الحسن و الكسائي بالري في يوم واحد. قال: وكان هذا في سنة ثلاث و عشرين وثلاثمائة، فأخبرت أصحابنا بالخبر، وبكينا على الكلام والعربيّة طويلاً ثم افترقنا.

وعلّق عليه الخطيب: «الصّحيح أنّ أبا هاشم مات في ليلة السبت الثالث والعشرين من رجب سنة إحدى و عشرين، قال: وكان عمره ستّاً و أربعين سنة وثمانية أشهر وإحدى وعشرين يوماً»(1).

وقال القاضي نقلاً عن أبي الحسن بن فرزويه أنّه بلغ من العلم ما لم يبلغه رؤساء علم الكلام. وذكر أنّه كان من حرصه يسأل أبا عليّ (والده) حتّى يتأذّى منه، فسمعت أبا عليّ في بعض الأوقات يسير معه لحاجة وهو يقول لا تؤذنا و يزيد فوق هذا الكلام.

وكان يسأله طول نهاره ما قدر على ذلك، فاذا جاء اللّيل سبق إلى موضع مبيته لئلاّ يغلق أبو عليّ دونه الباب، فيستلقي أبو عليّ على سريره، ويقف أبو هاشم بين يديه قائماً يسأله حتّى يضجره، فيحوّل وجهه عنه، فيتحوّل إلى وجهه، ولا يزال كذلك حتّى ينام، وربّما سبق أبو عليّ فأغلق الباب دونه. قال: ومن هذا حرصه على ما اختصّ به من الذكاء، لم يتعجّب من تقدّمه(2).

كان أبو هاشم أحسن الناس أخلاقاً و أطلقهم وجهاً،

واستنكر بعض الناس خلافه مع أبيه (في المسائل الكلاميّة) وليس خلاف التابع للمتبوع في دقيق الفروع بمستنكر، فقد خالف أصحاب أبي حنيفة إياه. وقال أبو الحسن بن فرزويه في ذلك

______________________

1 . تاريخ بغداد: ج 11، ص 56.

2 . طبقات المعتزلة للقاضي: ص 304.

( 262 )

شعراً وهو قوله:

يقولون بين أبي هاشم * وبين أبيه خلاف كبير

فقلت وهل ذاك من ضائر * وهل كان ذلك ممّا يضير

فخلّوا عن الشيخ لا تعرضوا * لبحر تضايق عنه البحور

فان أبا هاشم تلوه * إلى حيث دار أبوه يدور

ولكن جرى في لطيف الكلام(1) * كلام خفي وعلم غزير

فإيّاك إيّاك من مظلم * ولا تعد عن واضح مستنير(2)

تأليفاته

ذكر ابن النديم لأبي هاشم كتباً، و قال: «أبو هاشم عبدالسلام بن محمّد الجبّائي، قدم مدينة السّلام سنة 314 وكان ذكيّاً حسن الفهم، ثابت الفطنة، صانعاً للكلام، مقتدراً عليه، قيّماً به، وتوفّي سنة 321 وله من الكتب:

1 _ الجامع الكبير، 2 _ كتاب الأبواب الكبير، 3 _ كتاب الأبواب الصغير، 4 _ الجامع الصغير، 5 _ كتاب الإنسان، 6 _ كتاب العوض، 7 _ كتاب المسائل العسكريات، 8 _ النقض على أرسطو طاليس في الكون والفساد، 9 _ كتاب الطبايع والنقض على القائلين بها، 10 _ كتاب الاجتهاد كلام (3).

انتشار مذهبه

يظهر من البغدادي أنّ مذهبه كان منتشراً في أوائل القرن الخامس في بغداد وقد سمّى أتباعه بالبهشميّة وقال: هؤلاء أتباع أبي هاشم الجبّائي، وأكثر معتزلة عصرنا على

______________________

1 . المراد من لطيف الكلام، المباحث التي لها صلة لاثبات بعض العقائد الاسلاميّة وليست منها، كالبحث عن الجوهر والعرض والأكوان والأفلاك وفي الحقيقة كان البحث عنها تبعاً للفلاسفة.

2 . طبقات المعتزلة للقاضي: ص 305.

3 . فهرست ابن النديم:

الفن الأوّل من المقالة الخامسة ص 222.

( 263 )

مذهبه، لدعوة ابن عبّاد وزير آل بويه إليه(1).

تلاميذه

قد ذكر ابن المرتضى أبا هاشم في الطبقة التاسعة، وذكر تلاميذه في الطبقة العاشرة، وقال:«اعلم أنّ هذه الطّبقة تشتمل على من أخذ عن أبي هاشم وعمّن هو في طبقته مع اختلاف درجاتهم وتفاوت أحوالهم وقدّمنا أصحاب أبي هاشم لكثرتهم وبراعتهم». ثمّ ذكر أسماء تلاميذه، فمن أراد فليرجع إليه.

7 _ قاضي القضاة عبد الجبّار (ت نحو 324 _ م 415 أو 416)

هو عبدالجبّار بن أحمد بن عبدالجبّار الهمداني الأسدآبادي، الملقّب بقاضي القضاة ولا يطلق ذلك اللّقب على غيره.

قال الخطيب: «كان ينتحل مذهب الشافعي في الفروع و مذاهب المعتزلة في الاُصول، وله في ذلك مصنّفات و ولي قضاء القضاة بالري و ورد بغداد حاجّاً وحدّثبها.

وقال: مات عبدالجبّار بن أحمد قبل دخولي الري في رحلتي إلى خراسان و ذلك في سنة 415»(2).

وترجمه الحاكم الجشمي (المتوفّى عام 494 ه_) في كتاب «شرح عيون المسائل» وعدّه من الطبقة الحادية عشرة من طبقات المعتزلة وقال: «يعدّ من معتزلة، البصرة من أصحاب أبي هاشم لنصرته مذهبه».

قرأ على أبي إسحاق بن عيّاش أوّلاً، ثمّ على الشيخ أبي عبدالله البصري(3).

______________________

1 . تاريخ بغداد: ج 11، ص 113.

2 . المصدر نفسه.

3 . كلاهما من الطبقة العاشرة من طبقات المعتزلة.

( 264 )

وليست تحضرني عبارة تنبئ عن محلِّه في الفضل وعلوّ منزلته في العلم، فإنّه الّذي فتق الكلام و نشره و وضع فيه الكتب الجليلة الّتي سارت بها الركبان و بلغ المشرق والمغرب، وضمّنها من دقيق الكلام و جليله ما لم يتّفق لأحد قبله، وطال عمره مواظباً على التّدريس والاملاء حتّى طبّق الأرض بكتبه و أصحابه. وبَعُدَ صوته وعظم قدره وإليه

انتهت الرئاسة في المعتزلة حتّى صار شيخها و عالمها غير مدافع، وصار الاعتماد على كتبه و مسائله حتّى نسخ كتب من تقدّم من المشايخ و قرب عهده، و شهرة حاله تغني عن الاطناب من وصفه. وفيه يقول أبو الأسعد الآبي في قصيدة له في التوحيد والعدل:

ويعدّ من مشايخ أهل العدل.

أم لكم مثل إمام الاُمّة * قاضي القضاة سيّد الأئمّة

من بثّ دين الله في الآفاق * وبتّ حبل الكفر والنفاق

وأصله من أسدآباد همدان، ثمّ خرج إلى البصرة و اختلف إلى مجالس العلماء وكان يذهب في الاُصول مذهب الأشعريّة وفي الفروع مذهب الشافعي، ولما حضر المجالس و ناظر ونظر عرف الحقّ، وانقاد وانتقل إلى أبي إسحاق بن عيّاش فقرأ عليه مدّة ثمّ رحل إلى بغداد وأقام عند الشيخ أبي عبدالله مدّة مديدة حتّى فاق الأقران وخرج واحد دهره وفريد زمانه، وصنّف وهو بحضرته كتباً كثيرة وكان ربّما يدرس بها وبالعسكر(1) ورامهرمز(2) .

وابتدأ بها إملاء «المغني» في مسجد عبدالله بن عبّاس متبرّكاً به. فلمّا قدم الريّ سألوه أن يجعله باسم بعض الكبار فأبى و استدعاه الصاحب إلى الريّ بعد سنة ستّين و ثلاثمائة فبقى بها مواظباً على التدريس إلى أن توفّي سنة 415 أو 416 فكان يدرس ويملي وكثر الانتفاع به و طار ذكره في الآفاق.

______________________

1 . عسكر مكرم بلد مشهور من نواحي خوزستان.

2 . مدينة من بلاد خوزستان.

( 265 )

وروي أنّه كان في التفضيل بمذهب الشيخين(1) في التوقف، ثمّ رجع في آخر عمره إلى تفضيل أمير المؤمنين _ عليه السلام _ وهو المذكور في كتبه.

وكان الصاحب يقول فيه مرّة: هو أفضل أهل الأرض، واُخرى: هو أعلم أهل الأرض(2) .

اسلوبه في الكتابة

يظهر من ترجمة حياته أنّ كتابه الكبير

«المغني» الّذي يقع في عشرين جزءاً ممّا أملاه على تلاميذه ولم يكتبه ببنانه. يقول الحاكم: كان _ رحمه الله _ يختصر في الاملاء و يبسط في الدرس على ضدّ ما كان يفعله الشيخ أبو عبدالله (3) فكان من حسن طريقته ترك الناس كتب من تقدّم. ولما فرغ من كتاب «المغني» بعث به إلى (الصاحب) فكتب (الصاحب) إليه كتاباً هذه صورته:

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أتمّ الله على قاضي القضاة نعمته، وأجزل لديه منّته،لقد أتمّ من كتاب «المغني» ذخيرة للموحّد، وشجى للملحد، وعتاداً للحق، وسداداً للباطل، وإنّه كتاب تفخر به شرعتنا على الشرع، و نحلتنا على النحل، واُمّتنا على الاُمم و ملّتنا على الملل، وفّقه الله له حين نامت الخواطر وكلّت الأوهام و ظنّ الظانّون بالله أنّ العلم قد قبض ونخاعه قد ضعف، وأنّ شيوخه الأعلون (كذا) قد شالت نعامتهم و خفّت بضاعتهم، ووهن كاهلهم، ودرج أفاضلهم، ولم يدروا أنّ في سرّ الغيب إن كان آخراً بالاضافة إليهم، إنّه الأوّل بالامامة عليهم، كذلك يفعل الله ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون. فليقرّ قاضي القضاة _ أدام الله تمكينه _ عيناً بما قدّم لنفسه و أخّر و اكتسب لغده و ذخر،

______________________

1 . هما الجبائيان أبو علي وأبو هاشم.

2 . مقدّمة فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 131.

3 . هو الشيخ أبو عبدالله الحسين بن علي البصري من الطبقة العاشرة.

( 266 )

وليرينّ في ميزانه _ إن شاء الله _ من ثواب ما دأب فيه و احتسب و سهر ليله و انتصب، صابراً على كدّ الخواطر و معانياً برد الأصايل إلى حرّ الهواجر، أثقل من أحد و أرزن، وأوفى من الرمل و أوزن (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْس مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْر

مُحْضَراً)و ورد محمّد ولدنا بالنباء العظيم و الصّراط المستقيم من الجزء الأخير من كتاب «المغني» فقلت يا بشراي، هذا زاد المسافر، وكفاية الحاضر و تحفة المرتاد و طفقت أنشئ و أقول:

ولو أنشر الشيخان عمرو و واصل * لقالا جوزيت الخير عنّا و أنعما

فأتمّ على قاضي القضاة نعمه، كما أورد علينا ديمه و السلام(1) .

ثمّ إنّ الحاكم بسط الكلام في أسماء تآليفه، و قال: «إنّ له 400 ألف ورقة ممّا صنّف في كلّ فنًّ و كان موفّقاً في التصنيف والتدريس، وكتبه تتنوّع أنواعاً فله كتب في الكلام لم يسبق إلى تصنيف مثلها في ذلك الباب.

ثمّ سرد أسماء كتبه البالغة إلى ثلاثة و أربعين، نأتي بها ملخّصاً:

1 _ الدواعي و الصوارف،2 _ الخلاف و الوفاق، 3 _ الخاطر، 4 _ الاعتماد، 5 _ المنع والتمانع، 6 _ كتاب ما يجوز فيه التزايد وما لا يجوز، 7 _ المغني، 8 _ الفعل والفاعل، 9 _ المبسوط، 10 _ المحيط، 11 _ الحكمة والحكيم، 12 _ شرح الاُصول الخمسة، 13 _ شرح الجامعين، 14 _ شرح الاُصول، 15 _ شرح المقالات، 16 _ شرح الأعراض وهذا كلّه في الكلام.

ومنها في اُصول الفقه:

17 _ النهاية، 18 _ العمدة، 19 _ شرحها.

وهناك كتب في النّقض على المخالفين:20 _ نقض اللمع، 21 _ نقض الامامة.

وهناك جوابات مسائل وردت عليه من الآفاق: 22 _ الرازيات، 23_العسكريات، 24 _ القاشانيات، 25 _ الخوارزميات، 26 _ النيسابوريات.

______________________

1 . الطبقتان 11 و 12 من كتاب شرح العيون ص 369 _ 371 للحاكم الجشمي.

( 267 )

وهناك كتب في الخلاف والمواعظ:

27 _ الخلاف بين الشيخين، 28 _ نصيحة المتفقّهة.

وله كتب تكلّم فيها على أهل الأهواء الخارجين عن الإسلام

و غيرهم أوضح فيها الحقّ: 29 _ شرح الآراء.

وله كتب في علوم القرآن:

30 _ المحيط، 31 _ الأدلّة، 32 _ التنزيه، 33 _ المتشابه، 34 _ شهادات القرآن».

ثمّ قال الحاكم: «له كتب في كلّ فنّ بلغني اسمه أو لم يبلغ، أحسن فيها غاية الاحسان، نحو كتابه:

35 _ التجريد، 36 _ المكّيات، 37 _ الكوفيات، 38 _ الجمل، 39 _ العهود، 40 _ المقدّمات، 41 _ الجدل، 42 _ الحدود، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده، وذكر جميع مصنّفاته يتعذّر»(1) .

ومن حسن حظّ القاضي دون سائر المعتزلة أنّه قد طبعت كميّة هائلة من كتبه في الآونة الأخيرة، وهذه الكتب رفعت الستار عن وجه عقائد المعتزلة و أغنتنا عن الرجوع إلى كتب خصومهم، فنذكر ما طبع:

1 _ «تنزيه القرآن عن المطاعن»: طبع في بيروت طبع دار النّهضة الحديثة.

واسمه يحكي عن محتواه و يجيب فيه عن كثير من الأسئلة الّتي تدور حول الآيات.

قال في ديباجته: «فقد أملينا كتاباً يفصِّل بين المحكم والمتشابه. عرضنا فيه سور القرآن على ترتيبها و بينّا معاني ما تشابه من آياتها، مع بيان وجه خطأ فريق من الناس في تأويلها، ليكون النفع به أعظم».

______________________

1 . الطبقتان 11 و 12 من شرح العيون ص 267 _ 269. للحاكم الجشمي تحقيق فؤاد سيّد. ط تونس.

( 268 )

وطبع أيضاً في القاهرة سنة 1326.

2 _ «طبقات المعتزلة»: وهو أساس «طبقات المعتزلة» لابن المرتضى. نشره فؤاد سيّد، و أسماه «فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة» مع كتاب «ذكر المعتزلة» للكعبي و«الطبقات الحادية عشرة و الثانية عشرة من شرح العيون» للحاكم الجشمي طبع سنة 1406.

3 _ «شرح الاُصول الخمسة»: نشره عبدالكريم عثمان في القاهرة سنة 196 م_1384 ه_.

وهو كتاب مختصر جامع

يعرض عقائد المعتزلة عامّة و عقيدة القاضي خاصّة، وهو أحسن كتاب لمن أراد أن يطّلع على عقائدهم، وقد أملاه على تلاميذه.

4 _ «المغني»: وهو من الكتب المبسوطة في عقائد المعتزلة. اكتشفته البعثة المصريّة في اليمن عام 1952 وقد عثر منه حتّى الآن على 14 جزءاً. والكتاب يقع في عشرين جزءاً و إليك الأجزاء المطبوعة 4 _ 5 _ 6 _ 7 _ 8 _ 9 _ 11 _ 12 _ 13 _ 14 _ 15 _ 16 17 _ 20 والجزء الأخير يختصّ بالإمامة وهو الّذي نقضه السيّد المرتضى و أسماه «الشافي» وطبع في مجلّد كبير، ولخّصه الشيخ الطوسي و أسماه «تلخيص الشافي» وطبع في جزأين.

5 _ «المحيط بالتكليف»: تحقيق السيّد عزمي، طبع الدار المصريّة للتأليف، جمعه الحسن بن أحمدبن متّويه(ت683). لاحظ مقدّمة المحقّق.

6 _ «متشابه القرآن»: تحقيق عدنان محمّد زر زور، طبع دار التراث في القاهرة في جزأين.

تلاميذه

وقد فصّل الكلام ابن المرتضى في تلاميذه وجعلهم من الطّبقة 12 و أسماهم واحداً بعد آخر، منهم أبو رشيد سعيد بن محمّد النيسابوري والشريف المرتضى

( 269 )

أبوالقاسم عليّ بن الحسين الموسوي. أخذ عن قاضي القضاة عند انصرافه من الحجّ، إلى غير ذلك من تلاميذه(1) .

وقال الرضي في «شرح المجازات النبويّة» عند البحث عن حديث الرؤية: «ترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر» قال: «وممّا علّقته عن قاضي القضاة أبي الحسن عبد الجبّار بن أحمد عند بلوغي في القراءة عليه إلى الكلام في الرؤية أنّ من شروط قبول خبر الواحد أن يكون راويه عدلاً، وراوي هذا الخبر: قيس بن أبي حازم عن جرير ابن عبدالله البجلي، وكان منحرفاً عن أمير المؤمنين عليّ _عليه السلام_ ويقال إنّه

كان من الخوارج، وذلك يقدح في عدالته و يوجب تهمته في روايته، وأيضاً فقد كان رمي في عقله قبل موته وكان مع ذلك يكثر الرواية، فلا يعلم هل روى هذا الخبر في الحال الّتي كان فيها سالم التمييز أو في الحال الّتي كان فيها فاسد المعقول، وكلّ ذلك يمنع من قبول خبره، وبوجب إطراحه. ثمّ قال: وأقول أنا: ومن شرط قبول خبر الواحد أيضاً مع ما ذكره قاضي القضاة من اعتبار كون راويه عدلاً، أن يعرى الخبر المرويّ من نكير السّلف، وقد نقل نكير جماعة من السّلف على راوي هذا الخبر. منهم العرباض بن سارية السلمي وهو من مختصّي الصّحابة، روى عنه أنّه قال: من قال: إنّ محمّداً رأى ربّه فقد كذب. وروى أيضاً عن بعض أزواج النبيّ _ عليه الصلاة والسلام _ أنّها قالت: من زعم أنّ محمّداً رأى ربّه فقد أعظم الفرية على الله.

وقالت ذلك عند ذهاب بعض الناس إلى أنّ قوله تعالى (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) إنّما اُريد بها رؤية الله سبحانه لا رؤية جبرائيل كما يقوله أهل العدل. وأيضاً ففي هذا الخبر كاف التّشبيه، لأنّه قال: «ترونه كما ترون القمر» الّذي هو في جهة مخصوصة وعلى صفة معلومة. وإذا كان الأمر كما قلنا لم يكن للخبر ظاهر واحتجنا إلى تأويله كما احتجنا إلى ذلك في غيره»(2).

______________________

1 . المنية والأمل: ص 69 _ 71.

2 . المجازات النبوية تحقيق طه محمد ص 48 _ 49.

( 270 )

وقال أيضاً في تفسير قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم «قيّدوا العلم بالكتاب»: «وذكر لي قاضي القضاة أبو الحسن عبدالجبّار بن أحمد عند قراءتي عليه ما قرأته من كتابه الموسوم بالعمد في اُصول الفقه: إنّ

هذه العلوم المخصوصة (العلوم العقليّة العمليّة كالتّحسين والتّقبيح العقليّين) إنّما سمّيت عقلاً، لأنّها تعقل من فعل المقبّحات، لأنّ العلم بها إذا دعته نفسه إلى ارتكاب شيء من المقبّحات، منعه علمه بقبحه من ارتكابه والاقدام على طرق بابه، تشبيهاً بعقال الناقة المانع لها من الشرود، والحائل بينها وبين النهوض. ولهذا المعنى لم يوصف القديم تعالى بأنّه عاقل، لأنّ هذه العلوم غير حاصلة له، إذ هو عالم بالمعلومات كلّها لذاته.

قال: وقيل أيضاً إنّما سمِّيت هذه العلوم المخصوصة عقلاً، لأنّ ما سواها من العلوم يثبت بثباتها و يستقرّ باستقرارها تشبيهاً بعقال الناقة الّذي به تثبت في مكانها، ولمثل ذلك قيل معقل الجبل للمكان الذي يلجأ إليه و يعتصم به، وله سمّيت المرأة عقيلة، وهي الّتي يمنعها شرف بيتها و كرم أهلها وقوّة حزمها من الإقدام على ما يشينها، والتعرّض لما يعيبها. والكلام في تفصيل هذه العلوم وبيان ما لأجله احتيج إلى كلّ واحد منها يطول وليس هذا الكتاب من مظانّ ذكره و مواضع شرحه»(1).

______________________

1 . المجازات النبوية للشريف الرضي تحقيق طه محمد طه ص 180 _ 181.

الفصل الخامس

الفصل الخامس

أعلام المعتزلة

قد تعرّفت على أئمّة المعتزلة الّذين رسموا معالم المذهب. وهناك شخصيّات لامعة شاركوا الأئمّة في نضج المذهب و نشره، ولكنّهم دون الأئمّة في العلم والتفكير. ولأجل إيقاف القارئ على حياتهم و آرائهم و آثارهم نورد ترجمة قسم قليل منهم:

1 _ أبوسهل بشر بن المعتمر (م 210) مؤسّس مدرسة اعتزال بغداد

قال الشريف المرتضى: «هو من وجوه أهل الكلام ويقال: إنّ جميع المعتزلة بعده من مستجيبيه.

وقال أبو القاسم البلخي : إنّه من أهل بغداد وقيل من أهل الكوفة...وله أشعار كثيرة يحتجّ فيها على أهل المقالات»(1).

وقال القاضي : «إنّه زعيم

البغداديين من المعتزلة وله قصيدة طويلة يقال إنّها أربعون ألف بيت، ردّ فيها على جميع المخالفين، ويقال إنّ الرّشيد حبسه حين قيل له : إنّه رافضيّ. فقال في السجن أبياتاً بعثها إليه فأفرج عنه»(2). توفّي عام 210 كما أرّخه الذّهبي في «لسان الميزان».

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1، ص 186 _ 187.

2 . فضل الاعتزال للقاضي: ص 265.

( 272 )

2_ معمّر بن عبّاد السلمي (م 215) خريج مدرسة البصرة

يكنّى أبا عمرو وكان عالماً عدلاً و تفرّد بمذاهب وكان بشر بن المعتمر وهشام بن عمرو وأبو الحسين المدائني من تلامذته.

قال القاضي عبدالجبّار: «لمّا منع الرّشيد من الجدال في الدين و حبس أهل علم الكلام، كتب إليه ملك السند: إنّك رئيس قوم لا ينصفون و يقلِّدون الرجال و يغلبون بالسيف، فإن كنت على ثقة من دينك فوجّه إليّ من اُناظره، فإن كان الحقّ معك تبعناك، وإن كان معي تبعتني. فوجّه إليه قاضياً، و كان عند الملك رجل من السمنية وهو الّذي حمله على هذه المكاتبة، فلمّا وصل القاضي إليه أكرمه ورفع مجلسه، فسأله السمني فقال: أخبرني عن معبودك هل هو القادر؟ قال: نعم، قال: أفهو قادر على أن يخلق مثله؟ فقال القاضي: هذه المسألة من علم الكلام وهو بدعة، وأصحابنا ينكرونه.

فقعال السمني: من أصحابك؟ فقال: فلان وفلان وعدّ جماعة من الفقهاء، فقال السمني للملك: قد كنت أعلمتك دينهم وأخبرتك بجهلهم و تقليدهم و غلبتهم بالسيف، قال: فأمر ذلك الملك القاضي بالانصراف، وكتب معه إلى الرشيد: إنّي كنت بدأتك بالكتاب وأنا على غير يقين ممّا حكي لي عنكم، فالآن قد تيقّنت ذلك بحضور هذا القاضي _ وحكى له في الكتاب ما جرى.

فلمّا ورد الكتاب على الرّشيد قامت قيامته،

وضاق صدره، وقال: أليس لهذا الدين من يناضل عنه؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين، هم الّذين نهيتهم عن الجدال في الدين و جماعة منهم في الحبس. فقال: أحضروهم، فلمّا حضروا قال: ما تقولون في هذه المسألة؟ فقال صبي من بينهم: هذا السؤال محال، لأنّ المخلوق لا يكون إلاّ محدثاً، والمحدث لا يكون مثل القديم، فقد استحال أن يقال: يقدر على أن يخلق مثله أو لا يقدر، كما استحال أن يقال: يقدر أن يكون عاجزاً أو جاهلاً، فقال الرشيد: وجّهوا بهذا الصبي إلى السند حتّى يناظرهم. فقالوا: إنّه لا يؤمّن أن يسألوه عن غير هذا، فيجب أن توجّه من يفي بالمناظرة في كلّ العلم. قال الرشيد: فمن لهم ؟ فوقع اختيارهم على

( 273 )

معمر، فلمّا قرب من السند بلغ خبره ملك السند فخاف السمني أن يفتضح على يديه وقد كان عرفه من قبل، فدسّ من سمّه في الطّريق فقتله»(1).

أقول: ما أجاب به الصّبي صحيح، غير أنّ العبارة غير وافية، والمقصود: ما سألته (خلق المثل) محال لا نفس السؤال محال.

قال صاحب كتاب «المعتزلة»: «فلئن صحّت هذه القصّة فإنّها تعني أنّ الرشيد لم يجد في مملكته الواسعة من يدافع عن الإسلام غير المعتزلة.

والواقع أنّ المعتزلة تحمّسوا لهذه القضية كثيراً، فلم يكتفوا بالردّ على المخالفين وتقطيعهم بل تعدّوا ذلك إلى التبشير بالدين الإسلامي و حمل الناس على اعتناقه فكانوا لا ينفكّون يرسلون وفودهم لهذا الغرض إلى البلاد الّتي يكثر فيها المجوس أو غيرهم من الوثنيين»(2).

ويقول صفوان الأنصاري شاعر المعتزلة في مدح واصل وصحبه ما يظهر حقيقة الجهود الّتي بذلوها في سبيل الدفاع عن حوزة الدين و التبشير به:

رجال دعاة لا يفلّ عزيمهم * تحكّم جبّار ولا كيد ساحر

إذا قال

مرّوا في الشتاء تطاوعوا * وإن كان صيفاً لم يخف شهر ناجر(3)

3- ثمامة بن الأشرس النميري (م213) خرّيج مدرسة بغداد

قال ابن النّديم: «نبيه من جلّة المتكلّمين المعتزلة، كاتب بليغ، بلغ من المأمون منزلة جليلة وأراده على الوزارة فامتنع »(4).

______________________

1 . ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل، ص 31 و 32.

2 . المعتزلة: ص 44.

3 . البيان والتبيين: ج 1، ص 37، نقلاً عن «المعتزلة» ص 45. والناجر: أشدّ أشهر الصيف حرّاً.

4 . الفهرست لابن النديم، الفن الاول من المقالة الخامسة: ص 207.

( 274 )

قال البغدادي: «كان زعيم القدريّة في زمن المأمون والمعتصم والواثق، وقيل: إنّه هو الّذي دعا المأمون إلى الاعتزال»(1).

وقال ابن المرتضى: «ثمامة ابن الأشرس، يكنّى أبا معن النّميري وكان واحد دهره في العلم والأدب، وكان جدلاً حاذفاً. قال أبو القاسم: قال ثمامة يوماً للمأمون: أنا اُبيّن لك القدر بحرفين و أزيد حرفاً للضّعيف. قال: ومن الضّعيف؟ قال: يحيى بن أكثم،قال: هات، قال:لا تخلو أفعال العباد من ثلاثة أوجه: إمّا كلّها من الله ولا فعل لهم، لم يستحقُّوا ثواباً ولا عقاباً ولا مدحاً ولا ذمّاً. أو تكون منهم ومن الله، وجب المدح والذمّ لهم جميعاً أو منهم فقط، كان لهم الثّواب والعقاب والمدح والذّم. قال: صدقت(2).

أقول: ذهب عليه أنّ استناد الفعل إلى الله و العبد إنّما يقتضي الاشراك في الثّواب والعقاب أو المدح والذّم إذا كانا فاعلين بالسّويّة في جميع المراحل، حتّى في مرحلة الجزء الأخير من العلّة التامّة للفعل كما إذا اشترك الفاعلان معاً في إنقاذ غريق أو قتل إنسان، وأمّا إذا كان أحدهما هو الجزء المؤثّر دون الآخر فيكون هو المسؤول، وعليه الثّواب والعقاب، وهذا هو الأمر بين الأمرين، والعبد غير مجبور

ولا مفوّض، والتّفصيل في محله.

روى المرتضى أنّه سأل مجبر بشر بن المعتمر وقال له: «أنتم تحمدون الله على إيمانكم؟ قال: نعم، فقال له: فكأنّه (الله)يحبُّ أن يحمد على ما لم يفعل وقد ذمّ ذلك في كتابه. فقال له: إنّما ذمّ من أحبّ أن يحمد على ما لم يفعل ممّن لم يعن عليه، ولم يدع إليه. وهو يشغب إذ أقبل ثمامة بن أشرس، فقال بشر للمجبر: قد سألت القوم وأجابوك، وهذا أبو معن فاسأله عن المسألة، فقال له: هل يجب عليك أن تحمد الله على الإيمان؟ فقال: لا، بل هو يحمدني عليه، لأنّه أمرني به ففعلته، وأنا أحمده على الأمر به، والتّقوية

______________________

1 . الفرق بين الفرق: ص 172.

2 . المنية والأمل: ص 35.

( 275 )

عليه، والدعاء إليه، فانقطع المجبر، فقال بشر: شنُعتْ فسهُلت»(1).

وقال يوماً للمأمون: «إذا وقف العبد بين يدي الله تعالى يوم القيامة فقال الله تعالى: ما حملك على معصيتي؟ فيقول على مذهب الجبر: يا ربِّ أنت خلقتني كافراً وأمرتني بما لم أقدر عليه، وحلت بيني وبين ما أمرتني به ونهيتني عمّا قضيته عليّ وحملتني عليه أليس هو بصادق؟ قال: بلى، قال: فإنّ الله تعالى يقول: (يوم ينفع الصّادقين صدقهم) أفينفعه هذا الصّدق؟ فقال بعض الهاشميّين: ومن يدعه يقول هذا أو يحتجّ (به). فقال ثمامة: أليس إذا منعه الكلام والحجّة يعلم أنّه قد منعه من إبانة عذره، وأنّه لو تركه لأبأنّ عذره؟ فانقطع»(2).

وقد ترجم له الخطيب في تأريخه، ومن ظريف ما نقل عنه أنّه قال: شهدت رجلاً يوماً من الأيّام وقد قدّم خصماً إلى بعض الولاة فقال: أصلحك الله ناصبيّ رافضيّ جهمىُّ مشبِّه مجبّر قدريّ يشتم الحجّاج بن الزبير الّذي هدم الكعبة على عليّ بن

أبي سفيان و يلعن معاوية بن أبي طالب. فقال له الوالي: ما أدري ممّا أتعجّب؟ من علمك بالأنساب أو من معرفتك بالمقالات؟ فقال: أصلحك الله ما خرجت من الكتاب حتّى تعلّمت هذا كلّه»(3).

وقال الذّهبي: «من كبار المعتزلة ومن رؤوس الضّلالة، كان له اتّصال بالرّشيد، ثمّ بالمأمون وكان ذا نوادر وملح»(4).

ومن أراد الوقوف على نوادره فعليه الرجوع إلى «المنية والأمل» و «فضل الاعتزال» وقد اتّفقا على أنّ وجه اتّصاله بالخلفاء صار سبباً لوجود بعض الهزل في كلامه وقد اتّخذه طريقاً إلى ميلهم إليه ليتوصّل به إلى المعونة في الدين.

______________________

1 . أمالي المرتضى: ج 1، ص 186. فضل الاعتزال: ص 273 وفي المصدر الأخير: «سهّلت بعد ما صعبت».

2 . فضل الاعتزال: ص 273. المنية والأمل: ص 35 و 36.

3 . تاريخ بغداد: ج 7، ص 146.

4 . ميزان الاعتدال: ج 1، ص 371.

( 276 )

4- أبوبكر عبدالرحمن بن كيسان الأصمّ (م قريباً من 225) خرّيج مدرسة البصرة

قال القاضي:«كان من أفصح النّاس و أفقههم و أورعهم. لكنّه ينفي الأعراض وله تفسير عجيب، وكان جليل القدر يكاتبه السلطان، وعنه أخذ ابن عليّة(1) العلم، والّذي نقم عليه أصحابنا بعد نفي الأعراض، ازوراره عن عليّ _ عليه السلام _ وكان أصحابنا يقولون: بلى بمناظرة هشام بن الحكم فيعلوه هذا ويعلوه ه(2)ذا».

5- أبو موسى عيسى بن صبيح المردار (م226).

قال القاضي: «كان متكلّماً عالماً زاهداً وكان يسمّى راهب المعتزلة لعبادته، ويقال: إنّ أبا الهذيل حضر مجلسه و سمع قصصه بالعدل وحسن بيانه على الله تعالى و عدله وتفضّله، فقال: هكذا شهدت أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء، و أبي عثمان عمرو، وله كتب في الجليّ من الكلام و لمّا حضرته الوفاة ذكر أنّ

ما كان في يديه من المال شبهة لم يدر ما حكمها، فأخرجها إلى المساكين تحرّزاً و إشفاقاً، وقيل فيه شعر:

لكنّ من جمع المحاسن كلّها * كهلٌ يقال لشيخه المردار(3)

تلاميذه

ذكر القاضي أنّ من تلاميذه الجعفرين و المراد: جعفر بن حرب و جعفر بن مبشر وذكر ترجمتهما في الطّبقة السابعة.

تأثير كلامه

إنّ جعفر بن حرب كان من الجند وكان في جنديّته (ن خ حداثته) يمرّ على

______________________

1 . إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي، توفي 193 أو 194.

2 . فضل الاعتزال: ص 267.

3 . المصدر نفسه: ص 277 و 278.

( 277 )

أصحاب أبي موسى و يعبث بهم ويؤذيهم، فشكوا إلى أبي موسى فقال: تعهّدوا إلى أن يصير إلى مجلسي، فلمّا صار إلى مجلسه وسمع كلامه و وعظه مرّ (ظ خرج) حتى دخل الماء عارياً من ثيابه، وبعث إلى أبي موسى أن يبعث له ثياباً ليلبسها ففعل، ثمّ لزمه فخرج في العلم ما عرف به.

وكان أبو الوليد بشر بن وليد بن خالد الكندي قاضياً على مدينة للخليفة المأمون، وكان شديد القسوة على أبي موسى وأصحابه، فدخل إبراهيم بن أبي محمّد اليزيدي وهو رضيع المأمون عليه فأنشد هذه الأبيات:

يا أيّها الملك الموحِّد ربّه * قاضيك بشر بن الوليد(1) حمار

ينفي شهادة من يبثّ بما به * نطق الكتاب وجاءت الآثار

فالنفي للتشبيه عن ربِّ العلا * سبحانه وتقْدس الجبّار

ويعدّ عدلاً من يدين بأنّه * شيخ تحيط بجمسه الأقطار

إنّ المشبِّه كافر في دينه * والدائنون بدينه كفّار

فاعزله واختر للرعية قاضياً * فلعلّ من يرضي ومن يختار

عند المريسى (2) اليقين بربِّه * لو لم يشب توحيده اجبار

والدين بالارجاء مبنى أصله * جهل وليس له به استبشار

لكن من جمع المحاسن كلّها * كهل يقال لشيخه المزدار(3)

6-

أبو جعفر محمّد بن عبدالله الاسكافي (م240)

قال الخطيب:«محمد بن عبدالله أبو جعفر المعروف بالاسكافي أحد المتكلّمين من

______________________

1 . هو أبو الوليد، بشر بن الوليد بن خالد الكندي قاضي مدينة منصور كما عرفت. توفي سنة 238. لاحظ تاريخ بغداد: ج 7، ص 80.

2 . هو بشر بن غياث المريسي العدوي، كان يسكن بغداد وأخذ الفقه عن أبي يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة وكان الشافعي من أصدقائه مدّة اقامته ببغداد. توفي سنة 219، لاحظ تاريخ بغداد: ج 7 ص 56.

3 . وقد ضبطه بعض المحققين بالزاء وبعده الدال. راجع فضل الاعتزال: ص 277 _ 279.

( 278 )

معتزلة البغداديّين، له تصانيف معروفة، وكان الحسين بن عليّ بن يزيد الكرابيسي صاحب الشافعي يتكلّم معه و يناظره و بلغني أنّه مات في سنة أربعين ومائتين»(1).

وقال ابن أبي الحديد: «كان شيخنا أبو جعفر الاسكافي _ رحمه الله _ من المتحقّقين بموالاة عليّ _ عليه السلام _ والمبالغين في تفضيله، وإن كان القول بالتفصيل عامّاً شائعاً في البغداديّين من أصحابنا كافّة إلاّ أنّ أبا جعفر أشدُّهم في ذلك قولاً و أخلصهم فيه اعتقاداً»(2).

وقال أيضاً: «وأمّا أبو جعفر الاسكافي وهو شيخنا محمّد بن عبدالله الاسكافي، عدّه قاضي القضاة في الطّبقة السابعة من طبقات المعتزلة، مع عبّاد بن سليمان الصيمري، ومع زرقان، ومع عيسى بن الهيثم الصوفي، وجعل أوّل الطّبقة ثمامة بن أشرس أبا معن، ثمّ أبا عثمان الجاحظ، ثمّ أبا موسى عيسى بن صبيح المردار، ثمّ أبا عمران يونس بن عمران... إلى أن قال: كان أبو جعفر فاضلاً عالماً صنّف سبعين كتاباً في علم الكلام»(3).

وهو الّذي نقض كتاب «العثمانيّة» على أبي عثمان الجاحظ في حياته، ودخل الجاحظ الورّاقين ببغداد، فقال: من هذا الغلام

السواري الّذي بلغنا أنّه يعرض لنقض كتبنا والاسكافي جالس، فاختفى حتّى لم يره»(4).

وكان أبو جعفر يقول بالتفضيل على قاعدة معتزلة بغداد و يبالغ في ذلك وكان علوي الرأي، محقّقاً منصفاً، قليل العصبيّة(5).

______________________

1 . تاريخ بغداد: ج 5، ص 416.

2 . شرح ابن أبي الحديد: ج 4، ص 63 ولكلامه ذيل نافع ولكنّه خارج عن موضوع البحث.

3 . لم نجد هذا النص في ترجمته في طبقات القاضي المطبوع والذي حققه «فؤاد سيد». وهذا يعرب عن كون المطبوع ناقصاً محرّفاً. نعم ما بعد هذا النص موجود فيها.

4 . فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 276.

5 . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد; ج 17، ص 133.

( 279 )

وظاهر نصّ القاضي أنّه ألّف تسعين كتاباً في علم الكلام(1).

وهذه صورة بعض كتبه: كتاب اللّطيف، كتاب البدل، كتاب الردّ على النظّام في أنّ الطّبعين المختلفين يفعل بهما فعلاً واحداً، كتاب المقامات في تفضيل عليّ _ عليه السلام _، كتاب إثبات خلق القرآن، كتاب الردّ على المشبّهة، كتاب المخلوق على المجبِّرة، كتاب بيان المشكل على برغوث، كتاب التمويه نقض كتاب حفص، كتاب النّقض لكتاب أبي الحسين النجّار، كتاب الردّ على من أنكر خلق القرآن، كتاب الشّرح لأقاويل المجبِّرة، كتاب إبطال قول من قال بتعذيب الأطفال، كتاب جمل قول أهل الحقّ، كتاب النّعيم، كتاب ما اختلف فيه المتكلّمون، كتاب الردّ على أبي حسين في الاستطاعة، كتاب فضائل عليّ _ عليه السلام _ ، كتاب الأشربة، كتاب العطب، كتاب الردّ على هشام، كتاب نقض كتاب أبي شبيب في الوعيد(2).

وقداشتهر من بين كتبه كتاب «النقض على العثمانيّة» للجاحظ، وهذا يدلّ على أنّ الرّجل كان مبدئياً متحمّساً حيث قام بالمحاماة عن أكبر شخصيّة إسلامّة من أهل

بيتالرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في العصر الّذي استفحل الانحراف عن أهل البيت، وشاع التكالب على الدُّنيا بين الناس، وراج التقرّب إلى أرباب السلطة من بني العبّاس أعداء أهل البيت.

ولكن هذا الكتاب لم يصل لحدّ الآن إلى أيدي المحقّقين في عصرنا هذا، غير ما نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، وقد استقصى محمّد هارون المصري محقِّق كتاب العثمانيّة للجاحظ ما رواه ابن أبي الحديد عن كتاب النّقض في شرحه، فجمعه وطبعه في آخر كتاب «العثمانيّة».

هذا، وقد نقل المقريزي في خططه آراء خاصّة عنه وهي ساقطة وضعها أعداؤه عليه. قال: «الاسكافيّة أتباع أبي جعفر محمّد بن عبدالله الاسكافي، ومن قوله: إنّ الله

______________________

1 . فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: ص 285.

2 . المعيار والموازنة: المقدّمة، ص 2.

( 280 )

تعالى لا يقدر على ظلم العقلاء، ويقدر على ظلم الأطفال والمجانين ... الخ»(1).

7- أحمد بن أبي دؤاد (ت 160_ م 240 ه_) خريج مدرسة بغداد

قال ابن النّديم: «هو من أفاضل المعتزلة وممّن جرّد في إظهار المذهب و الذّب عن أهله والعناية به، وهو من صنايع يحيى بن أكثم و به اتّصل بالمأمون، ومن جهة المأمون اتّصل بالمعتصم ولم ير في أبناء جنسه أكرم منه ولا أنبل ولا أسخى»(2).

قال الذّهبي: «أحمد بن أبي دؤاد القاضي جهمي بغيض، هلك سنة 240. قلّ ما روى»(3).

في «العبر» أنّه قال: «قاضي القضاة كان فصيحاً مفوّهاً شاعراً جواداً وكان مع ذلك رأساً من رؤوس الجهميّة والمعتزلة، وهو الّذي شغب على إمام أهل السنّة أحمد بن حنبل وأفتى بقتله، وقد غضب عليه وعلى آله المتوكّل العبّاسي سنة 237 فصادرهم وأخذ منهم ستّة عشر ألف ألف درهم وحبسه ومرض بالفالج ومات سنة 240

ه_»(4).

بذل القاضي أحمد بن دؤاد أقصى جهده في نشر الاعتزال واستغلّ السلطة الّتي جعلت له في ذلك السبيل بالتّرغيب تارة و بالترهيب اُخرى. والحنابلة والأشاعرة يواجهونه بالسّبِّ والشتم، لأنّه هو الّذي حاكم الإمام أحمد في قوله بقدم القرآن أو كونه غير مخلوق فأفحمه.

وقد استخرج مؤلّف كتاب «المعتزلة» صورة المحاكمة من «الفصول المختارة» المطبوعة بهامش «الكامل» للمبرّد وإليك بيانه:

ابن أبي دؤاد: أليس لا شيء إلاّ قديم أو حديث؟

ابن حنبل: نعم.

ابن أبي دؤاد: أو ليس القرآن شيئاً؟

ابن حنبل: نعم.

ابن أبي دؤاد: أو ليس لا قديم إلاّ الله؟

ابن حنبل: نعم.

ابن أبي دؤاد: القرآن إذاً حديث.

ابن حنبل: لست أنا بمتكلّم(5).

______________________

1 . الخطط المقريزيّة: ج 2، ص 246.

2 . الفهرست لابن النديم: الفنّ الأوّل من المقالة الخامسة، ص 212.

3 . ميزان الاعتدال: ج 1، ص 97، رقم الترجمة: 374.

4 . العبر في خبر من غبر: ج1، ص339.

5 . المعتزلة: ص 175.

( 281 )

وهذه إحدى صور المحاكمة ولها صور اُخر طوينا الكلام عن ذكرها وتأتى عند البحث عن محنة أحمد وهذا يعرب عن براعة الرّجل في مقام قطع الطّريق على الخصم، وهذا وأشباهه ممّا دفع الحنابلة والأشاعرة على التّحامل والازدراء بالرّجل، وسيوافيك أنّ أكثر ما نقل في محنة الإمام من التشديد والتغليظ عليه، ودوسه بالأقدام و سحبه، يرجع إلى أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي المتعصّب لإمامه وليس له مصدر في التأريخ سواه.

وقد نقل البغدادي حول و فاته قصّة أشبه بالاسطورة(1) وكم له في كتابه «الفرق بين الفرق» من نظائر.

8 - أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (م 255)

قال القاضي نقلاً عن «المصابيح»: «إنّه نسيج وحده في العلوم، لأنّه جمع إلى علم الكلام والفصاحة، العلم بالأخبار والأشعار والفقه و تأويل الكلام

وهو متقدّم في الجدّ والهزل، وله كتب في التوحيد و إثبات النبوّة ونظم القرآن و حدثه، وفي فضائل المعتزلة»(2).

أقول: كتابه الأخير هو كتاب «فضيلة المعتزلة» الّذي ردّ عليه ابن الراوندي في

______________________

1 . الفرق بين الفرق: ص 174 _ 175.

2 . فضل الاعتزال: ص 275.

( 282 )

كتاب خاصّ أسماه «فضيحة المعتزلة» ثمّ إنّ أبا الحسين الخيّاط (م 311) ألّف كتاب «الانتصار» وانتصر فيه للجاحظ وقد طبع الانتصار لأوّل مرّة في القاهرة عام 1925.

ومن أحسن تصانيفه و أمتنها كتاب «الحيوان» في أربعة أجزاء، و«البيان والتبيين» في جزأين، و«البخلاء»، و «مجموع الرسائل»، وأردأها كتاب «العثمانيّة». وقد كتبت عن الجاحظ دراسات كثيرة بأقلام المستشرقين والعرب ومن أراد فليرجع إلى:

كتاب: «الجاحظ معلّم العقل والأدب» لشفيق جبري.

وكتاب: «أدب الجاحظ» لحسن السندوبي.

وكتاب: «الجاحظ» لفؤاد أفرام البستاني...و غيرها.

وإنّ أدب الرّجل و اطّلاعه الوسيع شيء لا ينكر وتشهد عليه آثاره المطبوعة. ولكنّ الكلام في ورعه وتقاه و نفسيّته و روحيّته، فلا يشكّ من سبر حياته في طيّات المعاجم والكتب أنّه لم يكن رجلاً مبدئيّاً أبداً، بل كان متقرّباً لفراعنة عصره، وكفى أنّه كان ملازماً لمحمّد بن عبدالملك المعروف بالوزير الزيّات. يقول ابن خلّكان: «كان محمّد المذكور شديد القسوة، صعب العريكة، لا يرقّ لأحد ولا يرحمه، وكان يقول: الرحمة خور في الطّبيعة. ووقع يوماً على رقعة رجل توسّل إليه بقرب الجوار منه، فقال: الجوار للحيطان والتعطّف للنسوان.

فلمّا أراد المتوكّل قتله أحضره و أحضر تنّورَ خشب فيه مسامير من حديد، أطرافها إلى داخل التنور تمنع من يكون فيه من الحركة، كان محمّد اتّخذه ليعذّب فيه من يطالبه _وهو أوّل من عمل ذلك وعذّب فيه ابن أسباط المصري _ وقال: أجرينا فيك حكمك في الناس.

فأجلس فيه. فمات

بعد ثلاث و ذلك في سنة ثلاث و ثلاثين ومائتين، وقيل: إنّه كتب في التنّور بفحمة:

من له عهد بنوم * يرشد الصبَّ إليه

رحم الله رحيماً * دلّ عينيَّ عليه

( 283 )

ودفن ولم يعمق قبره فنبشته الكلاب و أكلته»(1).

هذا حال صديق الرّجل و زميله، فاعرف حاله من حاله. فإنّ الرجل على دين جليسه.

تلوّن الرجل في حياته

تدلّ آثاره على أنّ الرجل كان متلوّناً في حياته غير جانح إلى فئة، بل كان كالريشة في مهبّ الريح يميل مع كلّ ريح، فتارة يكون عثماني الهوى و يؤلّف كتاباً في ذلك ويدعمه بكتاب آخر في إمامة المروانيّة و خلافة الشجرة الملعونة في القرآن، واُخرى علويّاً يجمع الكلم القصار لعليّ _ عليه السلام _ يفضّل عليّاً على غيره. قال ابن قتيبة في شأنه: «تجده يحتجّ مرّة للعثمانيّة على الرافضة، ومرّة للزيديّة على العثمانيّة و أهل السنّة، ومرّة يفضّل عليّاً _ رضي الله عنه _ ومرّة يؤخّره...إلى أن قال: ويعمل كتاباً يذكر فيه حجج النّصارى على المسلمين، فإذا صار إلى الردّ عليهم تجوّز في الحجّة كأنّه انما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون و تشكيك الضعفة من المسلمين. وتجده يقصد في كتبه المضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث و شرّاب النّبيذ.

ويستهزئ من الحديث استهزاءً لا يخفى على أهل العلم كذكره كبد الحوت و قرن الشيطان و ذكر الحجر الأسود و أنّه كان أبيض فسوّده المشركون، وقدكان يجب أن يبيّضه المسلمون حين أسلموا و يذكر الصّحيفة الّتي كان فيها المنزل في الرضاع تحت سرير عائشة فأكلتها الشاة.

وهو مع هذا من أكذب الاُمّة و أوضعهم للحديث و أنصرهم للباطل»(2).

وقال المسعودي في «مروج الذّهب» عند ذكر الدّولة العبّاسية: «وقد صنّف الجاحظ كتاباً استقصى فيه الحجاج

عند نفسه، و أيّده بالبراهين وعضده بالأدلّة فيما تصوّره من عقله و ترجمه بكتاب «العثمانيّة» يحلّ فيه عند نفسه فضائل عليّ _ عليه السلام _

______________________

1 . وفيات الأعيان ج 5 ص 102، ط دار صادر.

2 . تأويل مختلف الحديث: ص 59 _ 60.

( 284 )

ومناقبه، ويحتجّ فيه لغيره طلباً لاماتة الحقّ و مضادّة لأهله والله متمّ نوره ولو كره الكافرون.

ثمّ لم يرض بهذا الكتاب المترجم بكتاب «العثمانيّة» حتّى أعقبه بتصنيف كتاب آخر في إمامة المروانيّة و أقوال شيعتهم، و رأيته مترجماً بكتاب إمامة أمير المؤمنين معاوية في الانتصار له من عليّ بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ وشيعته الرافضة، يذكر فيه رجال المروانيّة و يؤيّد فيه إمامة بني اُميّة و غيرهم.

ثمّ صنّف كتاباً آخر ترجمه بكتاب «مسائل العثمانيّة» يذكر فيه ما فاته ذكره و نقضه عند نفسه من فضائل أمير المؤمنين عليّ _ عليه السلام _ ومناقبه فيما ذكرنا. وقد نقضت عليه ما ذكرنا من كتبه لكتاب العثمانيّة و غيره.

وقد نقضها جماعة من متكلّمي الشيعة كأبي عيسى الورّاق والحسن بن موسى النّخعي(1) و غيرهما من الشيعة ممّن ذكر ذلك في كتبه في الإمامة مجتمعة و متفرّقة»(2).

ومن أراد أن يقف على ضعف الرجل في مجال العفاف والورع فعليه أن يرجع إلى ما نقله عنه ابن خلّكان في «وفيات الأعيان»(3).

9- أبو الحسين عبدالرّحيم بن محمّد المعروف بالخيّاط (م _ 311) خريج مدرسة بغداد

ترجمه القاضي في «فضل الاعتزال» وقال: «كان عالماً فاضلاً من أصحاب جعفر(4) وله كتب كثيرة في النقوض على ابن الراوندي و غيره. وهو اُستاذ أبي القاسم البلخي_رحمه الله _ وذكر أنّه لمّا أراد العود إلى خراسان من عنده أراد أن يجعل طريقه

______________________

1 .

كذا في النسخة والصحيح: النوبختي.

2 . مروج الذهب: ج 3، ص 237 _ 238 طبع دار الأندلس.

3 . وفيات الأعيان: ج 3 ص 471 _ 473.

4 . يريد: جعفر بن مبشر بن أحمد بن محمد أبو محمد الثقفي المتكلم (المتوفى سنة 234) من معتزلة بغداد له ترجمة في تاريخ بغداد: ج 7، ص 162، ولسان الميزان: ج 2، ص 121.

( 285 )

على أبي عليّ (الجبّائي) فسأله أبو الحسين بحقّ الصحبة أن لا يفعل ذلك، لأنّه خاف أن ينسب إلى أبي عليّ وهو من أحفظ الناس باختلاف المعتزلة في الكلام و أعرفهم بأقاويلهم.

وقدكان الشيخ أبو القاسم يكاتبه بعد العود من عنده حالاً بعد حال فيعرف من جهته ما خفى عليه»(1).

ومن أشهر كتبه: «الانتصار» ردّ فيه على كتاب «فضيحة المعتزلة» لابن الراوندي وطبع بالقاهرة _ 1925 م.

وسأل أبو العبّاس الحلبي أبا الحسين الخيّاط فقال: «أخبرني عن إبليس هل أراد أن يكفر فرعون؟ قال: نعم، قال الحلبي: فقد غلب إبليس إرادة الله؟ قال أبو الحسين: هذا لا يجب فإنّ الله تعالى قال: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالفْحْشَاءِ وَ اللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً) وهذا لا يوجب أن يكون أمر إبليس غلب أمر الله، فكذلك الإرادة و ذلك لأنّ الله تعالى لو أراد أن يؤمن فرعون كرهاً لآمن(2).

وبعبارة واضحة، إنّ إرادة كلّ منهما (الله سبحانه و إبليس المطرود) ليست إرادة تكوينيّة قاهرة سالبة للاختيار، بل إرادة أشبه بإرادة تشريعيّة يتراءى أنّها تعلّقت بفعل الغير، وهو مختار في فعله و عمله و تطبيقه على كلّ من الطّلبين، فليس في موافقته أو مخالفته أيّ غلبة من المريدين على الآخر. نعم لو كانت إرادة كلّ منهما إرادة تكوينيّة تعلّقت واحدة

بإيمان فرعون والاُخرى بكفره فكفر ولم يؤمن لزمت غلبة إرادة إبليس على إرادة الله تعالى.

وسئل عن أفضل الصّحابة فقال: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب _ عليه السلام_ لأنّ الخصال الّتي فضّل الناس بها متفرّقة في الناس وهي مجتمعة فيه، وعدّ الفضائل فقيل فما منع الناس من العقد له بالإمامة؟ فقال: هذا باب لا علم لي به إلاّ بما فعل

______________________

1 . فضل الاعتزال: ص 29.

2 . المنية والأمل: ص 49.

( 286 )

الناس وتسليمه الأمر على ما أمضاه عليه الصّحابة، لأنّي لمّا وجدت الناس قد عملوا ولم أره أنكر ذلك ولا خالف، علمت صحّة ما فعلوا»(1).

يلاحظ عليه: إذا أثبت كونه أفضل الصحابة، فتقدّم المفضول على الفاضل قبيح عقلاً، وبه ردّ سبحانه اعتراض بني إسرائيل على جعل طالوت ملكاً. قال سبحانه: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَ زَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَ الجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَ اللّهُ وَاسِعٌ عَليمٌ) (البقرة/247).

وأمّا تسليم الإمام لعمل الصّحابة فهو غير صحيح، فقد اعترض على عملهم مرّة بعد مرّة و يكفي في ذلك خطبه وقصار حكمه وما نقله عنه المؤرّخون(2).

هذا و أشباهه قابل للاغماض، وإنّما الكلام فيما نسب إلى الشيعة من النسب المفتعلة والأكاذيب الشائنة و إليك نماذج من قذائفه و طامّاته في كتاب «الانتصار»:

1- الرافضة تعتقد أنّ ربّها ذو هيئة و صورة يتحرّك ويسكن و يزول و ينتقل، وأنّه كان غير عالم فعلم...إلى أن قال: هذا توحيد الرافضة بأسرها إلاّ نفراً منهم يسيراً صحبوا المعتزلة و اعتقدوا التوحيد، فنفتهم الرافضة عنهم و

تبرّأت منهم. فأمّا جملتهم و مشايخهم مثل هشام بن سالم، وشيطان الطاق، وعليّ بن ميثم، وهشام بن الحكم بن منصور، والسكاك فقولهم ما حكيت عنهم.

2- فهل على وجه الأرض رافضي إلاّ وهو يقول: إنّ لله صورة، ويروى في ذلك الروايات و يحتجّ فيه بالأحاديث عن أئمّتهم، إلاّ من صحب المعتزلة منهم قديماً، فقال بالتوحيد فنفته الرافضة عنها ولم تقربه.

3- يرون الرافضة أن يطأ المرأة الواحدة في اليوم الواحد مائة رجل من غير

______________________

1 . المنية والأمل: تصحيح توما أرنلد، ص 49 و 50.

2 . لاحظ: الامامة والسياسة، ص 11 لابن قتبية وغيرها.

( 287 )

استبراء ولا قضاء عدّة وهذا خلاف ما عليه اُمّة محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم (1).

نحن لا نعلّق على تلك الأساطير شيئاً و إنّما نمرّ عليها كراماً.

10- أبو القاسم البلخي الكعبي (ت 273 - م 317 أو 319) خريج مدرسة بغداد

عبدالله بن أحمد بن محمود أبو القاسم البلخي. قال الخطيب: من متكلّمي المعتزلة البغداديين، صنّف في الكلام كتباً كثيرة و أقام ببغداد مدّة طويلة و انتشرت بها كتبه، ثمّ عاد إلى بلخ فأقام بها إلى حين وفاته. أخبرني القاضي أبو عبدالله الصيمري، (حدّثنا) أبو عبدالله محمّد بن عمران المرزباني، قال: كانت بيننا وبين أبي القاسم البلخي صداقة قديمة وكيدة وكان إذا ورد مدينة السلام قصد أبي وكثر عنده، وإذا رجع إلى بلده لم تنقطع كتبه عنّا، وتوفّي أبو القاسم ببلخ في أوّل شعبان سنة تسع عشرة وثلاثمائة»(2).

وقال ابن خلّكان: «العالم المشهور كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم «الكعبيّة» وهو صاحب مقالات، ومن مقالته: أنّ الله سبحانه وتعالى ليست له إرادة، وأنّ جميع أفعاله واقعة منه بغير إرادة ولا مشيئة منه

لها، وكان من كبار المتكلّمين، وله اختيارات في علم الكلام، توفّي مستهلّ شعبان سنة سبع عشرة و ثلاثمائة. والكعبي نسبة إلى بني كعب، والبلخي نسبة إلى بلخ إحدى مدن خراسان»(3).

وقد خفي على الخطيب وابن خلّكان ما يهدف إليه الكعبي من نفي الإرادة والمشيئة عنه سبحانه، وقد اختار من أنظاره تلك النظريّة للازدراء عليه، ولكنّهما غفلا عن أنّ الكعبي لا يهدف إلى نفي الإرادة عن الله سبحانه حتّى يعرّفه كالفواعل

______________________

1 . لاحظ: الانتصار ص 8، 144، 89.

2 . تاريخ بغداد: ج 9، ص 384.

3 . وفيات الاعيان: ج 3، ص 45 رقم الترجمة 330.

( 288 )

الطبيعية، بل له هناك هدف سام لا يقف عليه إلاّ العارف بالاُصول الكلاميّة، وهو أنّ الارادة أو المشيئة حسب طبعها من الأمور الحديثة الجديدة المسبوقة بالعدم فلا تتصوّر مثل هذه الإرادة لله، أي الارادة الحادثة القائمة بذاته.

وبعبارة واضحة: إنّ حقيقة الارادة تلازم التجدّد والحدوث والتجزي والتقضي، ومثل ذلك لا يليق بساحته سبحانه. فلأجل ذلك يرى الكعبي تنزيهه سبحانه عن وصمة الحدوث والتجدّد. ومع ذلك لا يسلب عنه ما يعدّ كمالاً للإرادة، فإنّ الإرادة من الصفات العالية الكماليّة بما أنّها رمز للاختيار، وآية الحرّيّة، وهذا غير منفيّ عن الله سبحانه عند البلخي. ويدلّ على ذلك ما نقله ابن شاكر الكتبي في «عيون التواريخ» ما هذا لفظه، قال: «كان الكعبي تلميذ أبي الحسين الخيّاط وقد وافقه في اعتقاداته جميعاً، وانفرد عنه بمسائل. منها قوله: إنّ إرادة الرّبّ تعالى ليست قائمة بذاته، ولا هو يريد إرادته و (لا) إرادته حادثة في محلّ، بل إذا أطلق عليه: إنّه يريد، فمعناه أنّه عالم قادر غير مكره في فعله ولا كاره. وإذا قيل: إنّه مريد لأفعاله، فالمراد

أنّه خالق لها على وفق علمه، وإذا قيل إنّه مريد لأفعال عباده، فالمراد أنّه راض بما أمر به»(1).

مؤلفّات_ه

قال ابن حجر في «لسان الميزان»: «عبدالله بن أحمد بن محمود البلخي أبو القاسم الكعبي من كبار المعتزلة وله تصانيف في الطّعن على المحدِّثين تدلّ على كثرة اطّلاعه وتعصّبه»(2).

غير أنّ أكثر هذه الكتب قد بطش بها الزمان و أضاعها كما أضاع أكثر كتب المعتزلة وقد استقصى فؤاد سيّد في مقدّمته على كتاب «ذكر المعتزلة» لأبي القاسم

______________________

1 . باب ذكر المعتزلة من مقالات الاسلاميين، لأبي القاسم البلخي، المقدمة ص 44، نقلاً عن عيون التواريخ ج 7، ص 106 مخطوطة دار الكتب.

2 . لسان الميزان: ج 3 ص 252.

( 289 )

البلخي أسماء كتبه و أنهاها إلى ستّة و أربعين كتاباً.

وقال النّجاشي في ترجمة محمّد بن عبدالرحمان بن قبة: «وأخذ عنه ابن بطّة و ذكره في فهرسه وقال: وسمعت من محمّد بن عبدالرحمان بن قبة، له كتاب الانصاف في الإمامة وكتاب المستثبت نقض كتاب أبي القاسم البلخي» ثمّ قال:«سمعت أبا الحسين المهلوس العلوي الموسوي _ رضي الله عنه _ يقول في مجلس الرّضي أبي الحسن محمّد بن الحسين بن موسى و هناك شيخنا أبو عبدالله محمّد بن محمّد بن النعمان _ رحمهم الله أجمعين _: سمعت أبا الحسين السوسنجردي _ رحمه الله _ وكان من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلّمين وله كتاب في الإمامة معروف به وكان قد حجّ على قدميه خمسين حجّة-يقول: مضيت إلى أبي القاسم البلخي إلى بلخ بعد زيارتي الرضا _ عليه السلام _ بطوس فسلّمت عليه وكان عارفاً، ومعي كتاب أبي جعفر ابن قبة في الإمامة المعروف بالانصاف، فوقف عليه ونقضه ب_ «المسترشد في الإمامة» فعدت إلى الري،

فدفعت الكتاب إلى ابن قبة فنقضه ب__«المستثبت في الإمامة» فحملته إلى أبي القاسم فنقضه ب_«نقض المستثبت» فعدت إلى الري فوجدت أبا جعفر قدمات-رحمه الله-»(1).

مناظرته مع رجل سوفسطائي

حكى في كتابه «مقالات أبي القاسم» أنّه وصل إليه رجل من السوفسطائية راكباً على بغل، فدخل عليه فجعل ينكر الضّروريات و يلحقها بالخيالات، فلمّا لم يتمكّن من حجّة يقطعه قام من المجلس موهماً أنّه قام في بعض حوائجه، فأخذ البغل و ذهب به إلى مكان آخر ثمّ رجع لتمام الحديث، فلمّا نهض السوفسطائي للذهاب ولم يكن قد انقطع بحجّة عنده طلب البغل حيث تركه فلم يجده، فرجع إلى أبي القاسم وقال: إنّي لم أجد البغل، فقال أبوالقاسم: لعلّك تركته في غير هذا الموضع الّذي طلبته فيه، وخيِّل لك أنّك وضعته في غيره، بل لعلّك لم تأت راكباً على بغل و إنّما خيِّل اليك تخييلاً وجاءه

______________________

1 . فهرس النجاشي: الرقم 1023.

( 290 )

بأنواع من هذا الكلام، فأظن أنّه ذكر أنّ ذلك كان سبباً في رجوع السوفسطائي عن مذهبه وتوبته عنه(1).

تلك عشرة كاملة من أعلام المعتزلة و فطاحلهم. ولعلّ هذا المقدار في ترجمة أئمّتهم و مشايخهم يوقفنا على موقفهم في الفضل و الفضيلة و هذا البحث الضافي يوقفك على أنّ تدمير تلك الطائفة _ مع ما فيها، ما فيها _ كانت خسارة لا تجبر.

______________________

1 . المنية والامل: ص 51.

( 291 )

الفصل السادس

الفصل السادس

في طبقات المعتزلة و مدارسهم

المعتزلة تنقسم تارة بحسب الطّبقات و اُخرى بحسب المدارس. أمّا الأوّل، فقد قسمها القاضي عبدالجبّار (م 415) إلى طبقات عشر. ثمّ جاء بعده الحاكم(1) فأضاف عليها طبقتين فصارت اثنتي عشرة طبقة.

وقد أدرجها ابن المرتضى في كتابه «المنية و الأمل» الّذي طبع منه

هذا القسم فقط. ولأجل رفع الاشتباه في الاسم نعبّر عن كتاب القاضي بالطّبقات، وعن هذا القسم باسم كلِّ الكتاب: المنية والأمل.

إنّ ملاك التقسيم في ترتيب الطّبقات هو التسلسل الزّمني و الترتيب التأريخي. فالأساتذة في طبقة والتلامذة في طبقة بعدها. ومن أراد الوقوف على أسمائهم وحياتهم فعليه المراجعة إلى المصادر السابقة باضافة «ذكر المعتزلة» للكعبي. وبما أنّ الاكتفاء بذكر الأسماء وحده لا يفيد شيئاً والتّفصيل خارج عن موضوع البحث، فنحيل القارئ إلى الكتب المذكورة و نكتفي بذكر مدارس الاعتزال و بعض الفروق الموجودة بينها.

______________________

1 . المراد منه المتكلم المعتزلي الزيدي أبو سعد المحسن بن محمد كرامة الجشمي البيهقي صاحب المؤلفات توفي مقتولاً بمكة في شهر رجب سنة 465، أو 445. وتوهمت المستشرقة سوسنه « ديفلد ملزر» أنّ المراد منه هو المحدث المشهور محمد بن عبداللّه الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك المتوفى عام 405 وهو وهم.

( 292 )

مدارس الاعتزال

إنّ مدارس الاعتزال لا تتجاوز مدرستين: مدرسة البصرة، ومدرسة بغداد. والاُولى منهما مهد الاعتزال ومغرسه، وفيها برز واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبو الهذيل العلاّف والنظّام.

غير أنّه تأسّست في أواخر القرن الثاني مدرسة اُخرى في عاصمة الخلافة العبّاسيّة «بغداد» بمهاجرة أحد خرّيجي مدرسة البصرة إليها وهو بشر بن المعتمر (م210).فظهر هناك رجال مفكّرون على منهج الاعتزال، وأثار التعدّد و البعد المكاني خلافات بين خرّيجي المدرستين في كثير من المسائل الفرعيّة بعد الاتفاق على المسائل الرئيسيّة.

ولكلّ من المدرستين مميّزات و مشخّصات يقف عليها من تدبّر في أفكار أصحابها وآرائهم. ولبعض المعتزلة رسائل مخصوصة في هذا المضمار.

غير أنّ الناظر فيما ينقل ابن أبي الحديد المعتزلي من مشايخه البغداديّين أنّهم يوافقون الشيعة أكثر من معتزلة البصرة. وقد ألّف الشيخ المفيد (م 413)

رسالة باسم «المقنعة» في وفاق البغداديين من المعتزلة لما روى عن الأئمّة _ عليهم السلام _(1).

و للتعرّف على بعض مشايخ المدرستين نأتي بهذا الجدول:

مشايخ مدرسة البصرة

1- واصل بن عطاء (م 131).

2- عمرو بن عبيد (م 143).

3- أبو الهذيل العلاّف (م 235).

______________________

1 . أوائل المقالات: ص 25. وهذا الكتاب غير كتابه الآخر بهذا الاسم في الفقه.

( 293 )

4- إبراهيم بن سيّار النظّام (م 231).

5- عليّ الأسوار (المتوفّى حوالى المائتين).

6- معمر بن عباد السلمي (م 220).

7- عبّاد بن سليمان (م 220).

8- هشام الفوطي (م 246).

9- عمرو بن بحر الجاحظ (م 255).

10- أبو يعقوب الشحّام (م 230).

11- أبو عليّ الجبّائي (م 303).

12- أبو هاشم الجبّائي (م 321).

13- أبو عبدالله الحسين بن عليّ البصري (م 367).

14- أبو إسحاق بن عياش (شيخ القاضي).

15- القاضي عبد الجبّار (م 415).

مشايخ مدرسة بغداد

1- بشر بن المعتمر (م 210)، مؤسّس المدرسة.

2- ثمامة بن الأشرس (م 234).

3- جعفر بن المبشر (م 234).

4- جعفر بن حرب (م 236).

5- أحمد بن أبي دؤاد (م 240).

6- محمّد الاسكافي (م 240).

7- أبو الحسين الخيّاط (م 311).

( 294 )

8- أبوالقاسم البلخي الكعبي ( م 317).

من أراد أن يقف على بعض آرائهم الّتي يخالفون فيها مشايخهم البصريّين فعليه بمطالعة شرح النهج لابن أبي الحديد، فإنّه يعرض آراءهم في شرحه في

مجالات مختلفة.

الفصل السابع

الفصل السابع

في الاُصول الخمسة عند المعتزلة

اشتهرت المعتزلة باُصولها الخمسة، فمن دان بها فهو معتزلي ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم. وتلك الاُصول المرتّبة حسب أهمّيتها، عبارة عن : التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فمن دان بها ثمّ خالف بقيّة المعتزلة في تفاصيلها أو في فروع اُخر لم يخرج بذلك عنهم.

قال

الخيّاط : «فليس يستحقّ أحد منهم الاعتزال حتى يجمع القول بالاُصول الخمسة : التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا اكملت في الإنسان هذه الخصال الخمس فهو معتزلي»(1).

قال المسعودي (م 345) بعد سرد الاُصول الخمسة حسب ما سمعت منّا :«فهذا ما اجتمعت عليه المعتزلة ومن اعتقد ما ذكرناه من الاُصول الخمسة، كان معتزليّاً، فان اعتقد الأكثر أو الأقلّ لم يستحقّ اسم الاعتزال، فلا يستحقّه إلا باعتقاد هذه الاُصول الخمسة. وقد تنوزع فيما عدا ذلك من فروعهم»(2).

والعجب من ابن حزم (م 456) حيث زعم أنّ الاُصول الخمسة عبارة عن القول بخلق القرآن، ونفي الرؤية، والتشبيه ونفي القدر، والقول بالمنزلة بين المنزلتين، ونفي

______________________

1 . الانتصار للخيّاط: ص 126.

2 . مروج الذهب: ج 3، ص 222.

( 296 )

الصفات(1).

فقد ذكر من الاُصول ثلاثة، حيث إنّ نفي القدر و خلق القرآن إيعاز إلى العدل(2) كما أنّ نفي الصفات والرؤية إشارة إلى التوحيد أي تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق، وأهمل اثنتين منها أعني الوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا كان هذا مبلغ علم الرجل بأصول الاعتزال الّذي هو أقرب إليه من الشيعة، فما ظنّك بعلمه بطوائف أخرى كمعتقدات الشّيعة الّذين يعيشون في بيئة بعيدة منه، ولأجل ذلك رماهم بنسب مفتعلة.

إيعاز إلى الاُصول الخمسة

وقبل كلّ شيء نطرح هذه الاُصول على وجه الاجمال حتّى يعلم ماذا يريد منها المعتزلة، ثمّ نأخذ بشرحها واحداً بعد واحد فنقول:

1- التوحيد: ويراد منه العلم بأنّ الله واحد لا يشاركه غيره فيما يستحقُّ من الصفات نفياً و إثباتا على الحدّ الّذي يستحقّه. وسيوافيك تفصيله فيما بعد، والتوحيد عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الامكان ووهم المثليّة و غيرهما ممّا يجب

تنزيه ساحته عنه كالتجسيم والتشبيه و إمكان الرؤية و طروء الحوادث عليه، غير أنّ المهمّ في هذا الأصل هو الوقوف على كيفيّة جريان صفاته عليه سبحانه ونفي الروية، وغيرهما يقع في الدّرجة الثانية من الأهمية في هذا الأصل، لأنّ كثيراً منها لم يختلف المسلمون فيه إلاّ القليل منهم.

2- العدل: إذا قيل إنّه تعالى عادل، فالمراد أنّ أفعاله كلّها حسنة، وأنّه لا يفعل القبيح، وأنّه لا يخلّ بما هو واجب عليه. وعلى ضوء هذا لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا يُظهر المعجزة على أيدي

______________________

1 . الفصل: ج 2، ص 113.

2 . سيأتي في الأصل الثاني أنّ القاضي أدخل البحث عن خلق القرآن تحت ذلك. و إن كان غير صحيح.

( 297 )

الكذّابين، ولا يكلِّف العباد ما لا يطيقون، وما لا يعلمون، بل يقدرهم على ما كلّفهم، ويعلِّمهم صفة ما كلّفهم، ويدلّهم على ذلك ويبيّن لهم (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة) (1) و أنّه إذا كلّف المكلّف و أتى بما كلّف على الوجه الّذي كلف فإنّه يثيبه لا محالة، وأنّه سبحانه إذا آلم و أسقم فإنّما فعله لصلاحه و منافعه و إلاّ كان مخلاّ ً بواجب...

3- الوعد و الوعيد: والمراد منه أنّ الله وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة. ولا يجوز الخلف لأنّه يستلزم الكذب. فإذا أخبر عن الفعل ثمّ تركه يكون كذباً، ولو أخبر عن العزم، فبما أنّه محال عليه كان معناه الإخبار عن نفس الفعل، فيكون الخلف كذباً، وعلى ضوء هذا الأصل حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار إذا مات بلا توبة.

4- المنزلة

بين المنزلتين: وتلقّب بمسألة الأسماء و الأحكام، وهي أنّ صاحب الكبيرة ليس بكافر كما عليه الخوارج، ولا منافق كما عليه الحسن البصري، ولا مؤمن كما عليه بعضهم، بل فاسق لا يحكم عليه بالكفر ولا بالإيمان.

5- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: والمعروف كلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه، والمنكر كلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه، ولا خلاف بين المسلمين في وجوبهما، إنّما الخلاف في أنّه هل يعلم عقلاً أو لا يعلم إلاّ سمعاً؟ ذهب أبو عليّ (م303) إلى أنّه يعلم عقلاً وسمعاً، وأبو هاشم (م 321) إلى أنّه يعلم سمعاً، ولوجوبه شروط تذكر في محلّها، ومنها أن لا يؤدّي إلى مضرّة في ماله أو نفسه إلاّ أن يكون في تحمّله لتلك المذلّة إعزاز للدّين.

قال القاضي: «وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن عليّ _ عليهما السلام _ لما كان في صبره على ما صبر إعزاز لدين الله عزّوجلّ ولهذا نباهي به سائر الاُمم فنقول: لم يبق من ولد الرّسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم إلاّ سبط واحد، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى

______________________

1 . الأنفال/42.

( 298 )

قتل دون ذلك»(1).

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضربين:

أحدهما: إقامة ما لا يقوم به إلاّ الأئمّة كإقامة الحدود و حفظ بيضة الإسلام وسدّ الثغور و إنفاذ الجيوش و نصب القضاة والاُمراء وما أشبه ذلك.

والثاني: ما يقوم به كافة الناس، وفي المسلمين-كالإماميّة-من يقول بأنّ بعض المراتب منه كالجهاد الابتدائي مع الكفّار مشروط بوجود إمام معصوم مفترض الطاعة.

وهذا إلماع إلى معرفة الاُصول الخمسة الّتي يدور عليها فلك الاعتزال وقد أخذناها من شرح الاُصول الخمسة وقد أتى بها في الفصل الّذي عقده

لبيان اُصول المعتزلة على وجه الاختصار. ثمّ أخذ بالتفصيل في ضمن فصول.

والمعتزلة قد اتّفقوا على هذه الاُصول و إن اختلفوا في تفاصيلها. نعم، إنّ هناك اختلافات فيها بين أصحاب المدرستين: أصحاب مدرسة البصرة وعلى رأسهم واصل ابن عطاء، وعمرو بن عبيد، والنظّام والجبائيان والقاضي، وأصحاب مدرسة بغداد وفي مقدّمهم بشر بن المعتمر، وأبو الحسين الخيّاط، وأبو القاسم البلخي، وقد عرفت في الفصول السابقة ترجمة حياتهم.

هذه الاُصول الخمسة الّتي بها يناط دخول الرجل في سلك المعتزلة.

وقد ذكر الشهرستاني الاُصول الّتي اتّفقت المعتزلة عليها، من دون أن يفرّق بين ما يدخل في الاُصول الخمسة وما هو خارج عنها، وإليك نصّه:

«القول بأنّ الله تعالى قديم، والقدم أخصّ وصف ذاته، ونفوا الصفات القديمة أصلاً فقالوا: هو عالم بذاته، قادر بذاته، حيّ بذاته، لا بعلم وقدرة وحياة. هي صفات قديمة، ومعان قائمة به، لأنّه لو شاركته الصفات في القدم الّذي هو أخصّ الوصف،

______________________

1 . الاُصول الخمسة ص 142.

( 299 )

لشاركته في الإلهيّة.

واتّفقوا على أنّ كلامه محدث مخلوق في محلِّ، وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه. فإنّ ما وجد في المحلّ عرض قد فني في الحال. واتّفقوا على أنّ الإرادة والسمع والبصر ليست معاني قائمة بذاته، لكن اختلفوا في وجوه وجودها، ومحامل معانيها كما سيأتي.

واتّفقوا على نفي روية الله تعالى بالأبصار في دار القرار، ونفي التشبيه عنه من كلّ وجه: جهة، ومكاناً، وصورة و جسماً، وتحيّزاً، وانتقالاً، وزوالاً و تغيّراً و تأثّراً. وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها، وسمّوا هذا النّمط توحيداً.

واتّفقوا على أنّ العبد قادر خالق لأفعاله خيرها و شرّها مستحقّ على ما يفعله ثواباً و عقاباً في الدار الآخرة. والربّ تعالى منزّه أن يضاف إليه شرّ وظلم،

وفعل هو كفر ومعصية، لأنّه لو خلق الظّلم كان ظالماً، كما لو خلق العدل كان عادلاً.

واتّفقوا على أنّ الله تعالى لا يفعل إلاّ الصّلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد، وأمّا الأصلح واللّطف ففي وجوبه عندهم خلاف. وسمّوا هذا النّمط عدلاً.

واتّفقوا على أنّ المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة و توبة، استحقّ الثّواب والعوض. والتّفضل معنى آخر وراء الثّواب و إذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها، استحقّ الخلود في النار، لكن يكون عقابه أخفّ من عقاب الكفّار و سمّوا هذا النمط وعداً و وعيداً.

واتّفقوا على أنّ اُصول المعرفة، وشكر النعمة واجبة قبل ورود السّمع، والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل، واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك وورود التّكاليف ألطاف للبارىء تعالى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء _ عليهم السلام _ امتحاناً واختباراً (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة)(الانفال/42).

واختلفوا في الإمامة، والقول فيها نصّاً و اختياراً، كما سيأتي عند مقالة كلّ

( 300 )

طائفة»(1).

يلاحظ عليه: أنّ المعتزلة لم تقل في الإمامة بالنصّ، وإنّما يقولون بالاختيار. ونسبة نظرية النصّ إليهم مبنيّ على عدّ الشيعة القائلين بالنص منهم، وهو خطأ.

ولا يخفى على القارئ بعد الاحاطة بما حقّقنا حول الاُصول الخمسة تفكيك الاُصول عمّا يترتب عليها من الأحكام، وقد خلط هو وقبله الأشعري بين المبني و ما يترتب عليه من البناء وغيرهما من الاُصول.

***

وتحقيق الحقّ حول هذه الاُصول يستدعي رسم اُمور تلقي ضوءاً على الأبحاث التالية:

1- أصلان أو اُصول خمسة؟

إنّ القاضي عبدالجبّار ليس أوّل من ألّف في عقائد المعتزلة باسم الاُصول الخمسة بل سبق في ذلك شخصان آخران من خرّيجي المدرستين، أحدهما: أبو الهذيل العلاّف البصري، والثاني: جعفر بن حرب البغدادي.

قال النّسفي

في «بحر الكلام»: «خرج أبو الهذيل فصنّف لهم كتابين و بيّن مذهبهم، وجمع علومهم، وسمّى ذلك: «الخمسة الاُصول»، وكلّما رأوا رجلاً قالوا له:هل قرأت «الاُصول الخمسة» فإن قال: نعم، عرفوا أنّه على مذهبهم»(2).

وقال ابن المرتضى: «ومنهم جعفر بن حرب (م 236) الّذي عدّه المرتضى من الطّبقة السابعة فقال: له الاُصول الخمسة»(3).

والظاهر أنّ القاضي أملى شرح الاُصول الخمسة على غرار الكتابين الماضيين وكتبه عدد من تلاميذه، وقد اختلفت كلمة القاضي في عدّ الاُصول، فجعلها في شرح

______________________

1 . الملل والنحل: ج 1، ص 44 _ 46، طبعة دار المعرفة.

2 . نقله محقق شرح الاُصول الخمسة للقاضي، ص 26، عن مخطوط دار الكتب المصرية لبحر الكلام، ورقة 57.

3 . المنية والامل: ص 41. والصحيح «الخمسة».

( 301 )

الاُصول خمسة على الوجه الّذي عرفت، وجعلها في «المغني»(1) اثنين: التوحيد والعدل. وجعل غيرهما داخلاً في ذينك الأصلين. وجعلها في كتاب «مختصر الحسنى»، أربعة: التوحيد والعدل والنبوّات والشرائع، وأدخل الوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشرائع. ويظهر من كلمات تلاميذه الّذين أملى لهم القاضي كتاب «الاُصول الخمسة» أنّ ما فعله في «المغني» هو الأرجح، قالوا:

إنّ النبوّات والشرائع داخلان في العدل، لأنّه كلام في أنّه تعالى إذا علم أنّ صلاحنافي بعثة الرُّسل و أن نتعبّد بالشريعة، وجب أن يبعث ونتعبّد، ومن العدل أن لا يُخلّ بما هو واجب عليه. وكذلك الوعد والوعيد داخل في العدل. لأنّه كلام في أنّه تعالى إذا وعد المطيعين بالثّواب، وتوعّد العصاة بالعقاب فلا بدّ من أن يفعل ولا يخلف في وعده ولا في وعيده، ومن العدل أن لا يُخلف ولا يكذب، وكذلك المنزلة بين المنزلتين داخل في باب العدل، لأنّه كلام في أنّ

الله تعالى إذا علم أنّ صلاحنا في أن يتعبّدنا بإجراء أسماء و أحكام على المكلّفين وجب أن يتعبّدنا به، ومن العدل أن لا يُخلّ بالواجب وكذا الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأولى أن يقتصر على ما أورده «في المغني»(2).

يلاحظ عليه:أوّلاً: _ أنّه لو صحّ إدخال المنزلة بين المنزلتين في باب العدل، حسب البيان الّذي سمعت، لصحّ إدخال المعارف العقليّة كلّها تحته بنفس البيان، بأن يقال إنّ الله تعالى إذا علم أنّ صلاحنا أن يتعبّدنا بالمعارف وجب أن يتعبّدنا بها، ومن العدل أن لا يُخلّ بالواجب، ولا أرى أنّ واحداً من المعتزلة يقبل ذلك.

وثانياً _ إنّ الاُصول الاعتقاديّة على قسمين:

قسم يجب الاعتقاد به بنفس عنوانه ولا يكفي الاعتقاد بالجامع البعيد الّذي يشمله، وذلك كالاعتقاد بنبوّة النّبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وعموميّة رسالته وخاتميتها، فالكلّ ممّا

______________________

1 . من أبسط كتب القاضي وأهمها، يقع في عشرين جزءاً، طبع منه أربعة عشر جزءاً ولم يعثر على الباقي.

2 . شرح الاُصول الخمسة: ص 123.

( 302 )

تجب معرفته بنفس عنوانه ولا يكفي في معرفته عرفان عدله سبحانه، بحجّة أنّ النبوّات والشرائع داخلة تحته، فمن عرف الله سبحانه بالعدل كفى في معرفة ما يقع تحته.

ولعلّ المعارف العقليّة الّتي يستقلّ العقل بعنوانها من مقولة القسم الأوّل.

وقسم آخر يكفي فيه الاعتقاد بالعنوان البعيد ولا يلزم الاعتقاد بشخصه، كالاعتقاد ببعض الخصوصيّات الواردة في الحياة البرزخيّة والأخروية.

***

2-ما يلزم المكلّف عرفانه من اُصول الدين

عرّف المتكلّمون اُصول الدين ب__«ما يجب الاعتقاد به على وجه التفصيل أو الاجمال» ويقابلها الفروع فهي ما يجب العمل به. ويظهر من القاضي أنّه يجب على كلّ مسلم، عالماً كان أو غيره، الاعتقاد بالاُصول الخمسة أمّا التوحيد و

العدل فذلك لوجهين:

1- إنّ في ترك الاعتقاد بالتوحيد والعدل مظنّة الضرر ويخاف الإنسان من تركه.

2- إنّهُ لطف في أداء الواجبات واجتناب المقبّحات.

وأمّا الاُصول الاُخر فيجب الاعتقاد بها، لأنّ العلم بكمال التوحيد والعدل موقوف على ذلك، ألا ترى أنّ من جوّز على الله تعالى في وعده و وعيده الخلف والاخلال بما يجب عليه من إزاحة علّة المكلّفين و غيره فإنّه لا يتكامل له العلم بالعدل، ولا فرق في ذلك بين من يسلك طريقة العلماء وبين من لا يكون كذلك، لأنّ العامي أيضاً يلزمه معرفة هذه الاُصول على سبيل الجملة، وإن لم يلزمه معرفتها على سبيل التّفصيل، لأنّ من لم يعرف هذه الاُصول، لا على الجملة، ولا على التّفصيل، لم يتكامل علمه بالتوحيد والعدل(1).

يلاحظ عليه أوّلاً : - أنّ القول بلزوم معرفة الاُصول الخمسة على النّحو الّذي

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 123 _ 124.

( 303 )

تسرده المعتزلة قول بلا دليل. كيف والنّبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم كان يقبل إسلام من شهد الشهادتين وإن لم يشهد على بعض هذه الاُصول، ومعنى الشهادة الثانية هو التصديق بكلّ ما جاء به وهذا يكفي في تسمية الشاهد مسلماً إذا اعترف بلسانه، ومؤمناً إذا اعترف بقلبه. وعلى ضوء ذلك فلا يلزم عرفان هذه الاُصول، لا على وجه التفصيل أي بالبرهنة والاستدلال، ولا على وجه الاجمال أي تلقّيها اُصولاً مسلّمة.

وثانياً: أنّه لو صحّ ما ذكره من البيان بطل الاقتصار على الاُصول الخمسة، لأنّ الاعتقاد بالنبوّات والشرائع والمعاد وحشر الأجساد ممّا يتكامل به العلم بالعدل، فمن لم يعرفها، لا على وجه الجملة ولا على وجه التفصيل، لم يتكامل اعتقاده بالتوحيد والعدل، وقس عليه سائر الاُصول.

والّذي يمكن أن يقال في

المقام أنّ ما يجب تحصيله من هذه الاُصول الخمسة هو وجوب معرفة و حدانيّته على الوجه اللائق به، وأمّا الاُصول الأربعة فلا دليل على وجوب عرفانها بعينها استدلالاً أو تعبّداً.

***

3- سبب الاقتصار على الاُصول الخمسة

قد تعرّفت على أنّه لا وجه للاقتصار على الاُصول الخمسة، لما مرّ من أنّ أمر النبوّات والشرائع والمعاد أولى بأن يعدّ من الاُصول، غير أنّ القاضي حاول أن يبيّن وجه الاقتصار على الخمسة فقال: «إنّ المخالف في هذه الاُصول ربّما كفر و ربّما فسق و ربّما كان مخطئاً.

أمّا من خالف في التّوحيد ونفى عن الله تعالى ما يجب إثباته، وأثبت ما يجب نفيه عنه، فإنّه يكون كافراً.

وأمّا من خالف في العدل و أضاف إلى الله تعالى القبائح كلّها من الظّلم والكذب و إظهار المعجزات على الكذّابين و تعذيب أطفال المشركين بذنوب آبائهم

( 304 )

والإخلال بالواجب، فإنّه يكفّر أيضاً.

وأمّا من خالف في الوعد والوعيد وقال: إنّه تعالى ما وعد المطيعين بالثّواب، ولاتوعّد العاصين بالعقاب البتّة، فإنّه يكون كافراً، لأنّه ردّ ما هو معلوم ضرورة من دين النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم.

وكذا لو قال: إنّه تعالى وعد وتوعّد ولكن يجوز أن يخلف في وعيده، لأنّ الخلف في الوعيد كرم، فإنّه يكون كافراً لاضافة القبيح إلى الله تعالى.

فان قال: إنّ الله تعالى وعد و توعّد، ولا يجوز أن يخلف في وعده و وعيده، ولكن يجوز أن يكون في عمومات الوعيد شرط أو استثناء لم يبيّنه الله تعالى، فإنّه يكون مخطئاً.

وأمّا من خالف في المنزلة بين المنزلتين، فقال: إنّ حكم صاحب الكبيرة حكم عبدة الأوثان والمجوس و غيرهم فإنّه يكون كافراً، لأنّا نعلم خلافه من دين النّبيّ والاُمّة ضرورة.

فان قال: حكمه حكم

المؤمن في التعظيم والموالاة في الله تعالى، فإنّه يكون فاسقاً، لأنّه خرق إجماعاً مصرّحاً به على معنى أنّه أنكر ما يعلم ضرورة من دين الاُمّة.

فان قال: ليس حكمه حكم المؤمن ولا حكم الكافر ولكن اُسمّيه مؤمناً، فإنّه يكون مخطئاً.

وأمّا من خالف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً، وقال: إنّ الله تعالى لميكلّف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً، فإنّه يكون كافراً، لأنّه ردّ ما هو معلوم ضرورة من دين النّبىّّ و دين الاُمّة.

فان قال: إنّ ذلك ممّا ورد به التّكليف، ولكنّه مشروط بوجود الإمام فإنّه يكون مخطئاً»(1).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الوجوه الثلاثة من الكفر والفسق والخطاء، لاتختصّ

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة، ص 125 _ 126، يريد من العبارة الأخيرة الشيعة الامامية القائلين بأنّ بعض المراتب من الأمر بالمعروف مشروط بوجود الامام المعصوم مع بسط اليد.

( 305 )

بهذه الخمسة، فهناك اُصول حالها حال الخمسة.فإنّ منكر نبوّة النّبيّ الأعظمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم أو عالميّة رسالته أو خاتميّتها كافر. ومنكر عصمته بلا شبفاسق، ومعها مخطىء.

وهناك وجه آخر لتخصيص الخمسة من الاُصول بالذكر أشار إليه القاضي في كلامه وقال:«إنّ خلاف المخالفين لنا لا يعدو أحد هذه الاُصول. ألا ترى أنّ خلاف الملحدة والمعطّلة والدهرية والمشبّهة قد دخل في التوحيد. وخلاف المجبّرة بأسرهم دخل في باب العدل. وخلاف المرجئة دخل في باب الوعد والوعيد. وخلاف الخوارج دخل تحت المنزلة بين المنزلتين. وخلاف الإماميّة دخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(1).

وهذا الوجه وإن صحّح سبب الاقتصار على الخمسة، لكنّه يدلّنا على شيء آخر غريب في باب العقائد والاُصول، وهو أن السابر في كتب الحنابلة و الأشاعرة والمعتزلة يقف بوضوح على أنّ أكثر الاُصول الّتي

اتخّذتها الطوائف الإسلاميّة اُصولاً عقائدية ليست إلاّ اُصولاً كلاميّة ناتجة من المعارك العلمية، وليست اُصولاً للدين أعني ما يجب على كلِّ مؤمن الإيمان به بالتفصيل والبرهنة أو بالاجمال وإن لم يقترن بالبرهان.

والاُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة مؤلّفة من اُمور تعدُّ من اُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه، ومن اُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش، وأقحموها في الاُصول لغاية ردّ الفرق المخالفة الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلاميّة.

وعند ذاك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الاُصول، وجعلته في صدر آرائها ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإمامية و غيرهم من الفرق على نحو لولا تلكم الفرق لما سمعت من هذه الاُصول ذكراً، «وليس هذه أوّل قارورة كسرت في الإسلام»، فإنّ السلفيّين و أهل الحديث والحنابلة وبعدهم الأشاعرة ذهبوا هذا المذهب فقاموا بتنظيم قائمة بيّنوا فيها «قولهم

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة، ص 124.

( 306 )

الّذي يقولون به، وديانتهم الّتي يدينون بها»(1). و بيّنوا «مذاهب أهل العلم و أصحاب الأثر و أهل السنّة، فمن خالف شيئاً منها في هذه المذاهب أو طعن فيها، أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة، زائل عن منهج أهل السنّة وسبيل ا(2)لحقّ».

وفي الوقت نفسه إنّ أكثر ما جاء في قائمتي الشيخين اُصول كلاميّة نتجت من البحث والنزاع، و صفت لدى الشيخين بعد عراك، ومن تلك الاُصول القول بقدم القرآن و كونه غير مخلوق، مع تصريح أئمّة الحديث بعدم ورود نصّ في ذلك من الرسول ومنها كون خير الاُمّة الخلفاء الراشدين و يتفاضلون بحسب تقدّم تصدّيهم للخلافة، فالأوّل منهم هو الأفضل ثمّ الثاني ... ومعنى هذا أنّ الاُصول الّتي يدين بها أهل السنّة

لم تكن منتظمة ولا مرتّبة في عصر الرسول والصحابة ولا التابعين، وإنّما انتظمت بعد احتكاك الآراء و اختلاف الأفكار حتّى أنتج البحث والنقاش هذه الاُصول والكلّيات. وإنّ ذا من العجب.

إنّ الاُصول الّتي يدين بها أهل الحديث والأشاعرة هي الّتي مزّقت الاُمّة الواحدة تمزيقاً، وصيّرتها فرقاً شتى، وما هذا إلاّ لأجل إصرارهم على أنّ هذه الاُصول اُصول الديانة، والزائل عنها خارج عن الجماعة. وكان في وسعهم التفريق بين الاُصول العقائدية الّتي لا منتدح لمسلم عن عرفانها والإيمان بها إجمالاً أو تفصيلاً، والاُصول الكلاميّة الّتي وصل إليها البحث الكلامي بفضل النقاش في ضوء الكتاب والسنّة والبرهان العقلي القائم على اُصول موضوعية مبرهنة.

وعند ذلك تتجلّى عندك حقيقة ناصعة وهي أنّ أكثر الفرق الّتي عدّها أصحاب الملل والنحل والمقالات فرقاً إسلاميّة، فإنّما هي فرق كلامية وليست فرقاً دينية إسلاميّة داخلة في الثلاث والسبعين فرقة بحيث تكون الواحدة منها ناجية والبواقي هلكى، لأنّ الإذعان بحكم مرتكب الكبيرة ليس ملاكاً للنجاة والهلاك حتّى تكون فرقة منهم من

______________________

1 . هذه نفس عبارة الشيخ الأشعري في «الابانة» الباب الثاني، ص 17.

2 . وهذه نفس عبارة إمام الحنابلة في كتابه «السنة»، ص 44.

( 307 )

أهل النجاة و غيرهم من أهل النار، ويكون الإيمان منوطاً بالإذعان به، وعدم الإيمان موجباً للخروج عنها، بل أقصى ما يقال في حقّ هذه الاُصول أنّها اُصول حقّة صحيحة دلّ على صحّتها الدليل، ولكن ليس كلّ حقّ ممّا يجب الإذعان به أو يؤاخذ على عدم الاعتقاد به.

هذا هو الشيخ أبو جعفر الطحاوي المصري (م 321) كتب رسالة حول عقيدة أهل السنّة تشتمل على مائة و خمسة اُصول زعم أنّها عقيدة الجماعة والسنّة على مذهب فقهاء الاُمّة: أبي حنيفة، وأبي يوسف

يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبدالله محمّد ابن الحسن الشيباني(1)وقد كتب على هذه الرسالة شروح و تعاليق، واحتلّت مكانها _بعد زمن _ «العقائد النسفية». واللأسف أنّ كلّ أصل من الكتابين ردّ على فرقة وملّة. فصارت الاُصول الإسلاميّة عبارة عن عدّة اُصول يرد بكلِّ أصل ملّة و نحلة، كالملاحدة والمجبِّرة والقدرية والرافضة من الفرق الكلامية الّتي أنجبتها الأبحاث والتيّارات الفكرية.

ثم إنّي وقفت بعد ما حرّرته على ما نقلته المستشرقة «سوسنه ديفلد» محقّقة كتاب «طبقات المعتزلة» لابن المرتضى عن الاُستاذ «ه_.ريتر»: «من أراد أن يفهم إحدى العقائد السنّية فعليه أن يستحضر في خاطره أنّ كلّ جملة منها إنّما هي ردّ على إحدى الفرق المخالفة لها من الشيعة والخوارج والمرجئة والجهمية والمعتزلة، ولقد تشكّلت عقيدة أهل السنّة بردّ الفرق الضاّلة الّتي لم تسمّ «ضالّة» إلاّ بعد غلبة أصحاب السنّة والجماعة»(2).

فواجب على الباحث المنصف الّذي يبتغي الحقيقة، التفكيك بين اُصول الدين والاُصول الكلامية. وعند ذلك تحصل الوحدة بين الاُمّة أو تقرّب الخطى بين الفرق، ويقلّ التشاحّ والنزاع المؤدّي إلى الهلاك.

إذا عرفت هذه الاُمور فلنأخذ بتفصيل الاُصول الخمسة واحداً بعد آخر:

______________________

1 . شرح العقائد الطحاوية: ص 25.

2 . طبقات المعتزلة لابن المرتضى: المقدمة. ط بيروت.

( 308 )

الأصل الأوّل التوحيد

الأصل الأوّل التوحيد

عرِّف التوحيد في مصطلح المتكلّمين بأنّه العلم بأنّ الله سبحانه واحد لا يشاركه غيره في الذات والصفات و الأفعال والعبادة وبالجملة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء)(الشورى/11). والّذي يصلح للبحث عنه في هذا الأصل عبارة عن الاُمور التالية:

1-إثبات وجوده سبحانه في مقابل الدهريّة والماديّة القائلين بأصالة المادّة وقدمها و غناها في الفعل والانفعال و إيجاد الأنواع عن قدرة خارجة عن نطاقها.

2- إنّه سبحانه واحد لا ثاني له، بسيط لا جزء له، فهو

الواحد الأحد، خلافاً للثنويّة والمانويّة في الواحديّة، وللنّصارى في الأحديّة.

3- عرفان صفاته سبحانه سواء أكانت من صفات الذات ككونه عالماً قادراً حيّاً سميعاً بصيراً مدركاً، أم من صفات الأفعال ككونه خالقاً رازقاً غافراً.

4- كيفيّة استحقاقه لهذه الصّفات وتبيّن وجه حملها عليه سبحانه، فهل تحمل عليه كحملها على سائر الممكنات أو لا؟

5- تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق به كالحاجة وكونه جسماً أو جسمانيّاً، عرضاً أو جوهراً أو غير ذلك.

6- تنزيهه سبحانه عن إمكان الرؤية الّتي يتبنّاها أهل الحديث والأشاعرة

( 309 )

بحماس.

فمع أنّ هذه الأبحاث الستّة صالحة للبحث في هذا الأصل، لكن نرى أنّ المعتزلة يركّزون على البحث عن الرابع والسادس أكثر من غيرهما، و يمرّون على الأبحاث الباقية مروراً إجمالياً. وما هذا إلاّ لأنّ أهل الحديث والأشاعرة متّفقون معهم فيها. وهذا أيضاً يؤيّد ما ذكرنا من أنّ الاُصول العقائدية إنّما رتّبت ونظمت بين كلّ فرقة لأجل الردّ على مخالفيها لا لبيان الاُصول الّتي يناط بها الإسلام والإيمان في عصر النّبيّ والصحابة.

و لأجل ذلك صار التوحيد عند المعتزلة رمزاً للتنزيه، فكلّما أطلقت هذه الكلمة، انصرفت أذهانهم إلى تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق به في باب الصّفات و مجال الروية.

وبما أنّهم ينفون الصفات الزائدة على ذاته سبحانه، وتثبته الأشاعرة و قبلهم أهل الحديث، صارت الصفاتية شعاراً لهذه الفرقة.

إذا وقفت على ذلك فلنركّز على النّقاط الّتي يرجى تبيينها في زاوية فكر الاعتزال ونطوي الكلام عن غيرها لعدم الخلاف، فنقول:

إنّ البحث عن صفاته سبحانه يتمركز على نقاط ثلاث:

الاُولى: تبيين كيفيّة استحقاقه سبحانه لصفاته الكماليّة وحملها عليه، فهل هذه الصّفات حادثة أو قديمة، زائدة على الذات أم لا؟

الثانية: تبيين كيفية حمل الصفات الخبرية عليه الواردة في الذكر الحكيم من اليد والوجه

والعين، فهل تحمل على الله سبحانه بظواهرها الحرفيّة كما عليه السّلفية والأشاعرة، أو تحمل عليه بظواهرها التصديقيّة، أو لا هذا ولا ذاك بل تؤوّل لقرائن عقليّة؟

الثالثة: نفي الرؤية الحسية الّتي يدّعيها أهل الحديث.

فلنرجع إلى تبيين النقطة الاُولى أعني تبيين كيفيّة حمل الصّفات عليه.

( 310 )

أ - نفي الصفات الزائدة على ذاته

اتّفق أهل الحديث والكلابيّة وتبعهم الشيخ الأشعري على أنّ لله سبحانه صفات ذات كماليّة قديمة، زائدة على ذاته.

قال القاضي: «وعند الكلابيّة إنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزليّة، وأراد بالأزلي القديم، إلاّ أنّه لمّا رأى المسلمين متّفقين على أنّه لا قديم مع الله تعالى لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك، ثمّ نبغ الأشعري و أطلق القول بأنّه تعالى يستحقُّ هذه الصّفات لمعان قديمة لوقاحته و قلّة مبالاته بالإسلام والمسلمين»(1) ورائدهم في هذه العقيدة هو الظّواهر القرآنية. قال سبحانه: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (النساء/166)، وقال تعالى: (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إلاّ بِعِلْمِهِ)(فاطر/11). وقال عزّ من قائل: (ذو القوّة المتين) (الذاريات/58).

قالوا: إنّ ظواهر هذه الآيات تعرب عن أنّ هنا ذاتاً ولها علم ولها قدرة كلاهما يغايران ذاته. ولو كانا نفس ذاته لما صحّ التعبير بقوله (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أو (ذُو القوة المتين) ومثلها سائر الآيات الظاهرة في مغايرة الصّفات للذات(2).

هذا دليل أهل الحديث و الكلابيّة و الأشاعرة و نرجع إلى تبيين مفاد الآيات بعد الفراغ من دليل المعتزلة.

تثنية القديم في نظريّة أهل الحديث

إنّ هذه النظريّة الّتي يتبنّاها أهل الحديث اغتراراً بظواهر النّصوص، تؤدّي إلى تعدّد القديم المنتهي إلى تعدّد الواجب حسب عدد الصفات، وأيّ ثنويّة أسوأ من هذه؟ فلو قالت الثنويّة بأصلين أزليّين هما النور و الظلمة، وقالت المانويّة بأنّ العالم مركّب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر

ظلمة، أو قالت النّصارى بالأقانيم

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 183.

2 . لاحظ: الابانة للشيخ الأشعري: ص 107.

( 311 )

الثّلاثة فقد قال هؤلاء الأشاعرة بقدماء كثيرين بحسب تعدّد الصفات.

وبذلك تقف على أنّ الحافز على التركيز على نفي الصّفات الزائدة، هو التحفّظ على التوحيد و وحدانيّة الواجب والقديم، ونفي المثيل و النّظير له أخذاً بقوله سبحانه (ليس كمثله شيء) و (قل هو الله أحد).

فمن المحتمل عند البعض أنّ المعتزلة أرادوا بهذا، الردّ على فكرة الأقانيم لدى النّصارى، فإنّ القول بأنّ الذات الإلهيّة جوهر يتقوّم بأقانيم أي صفات هي الوجود والعلم والحياة، قد أدى إلى الاعتقاد باستقلال الأقانيم عن الجوهر، وإلى اعتبار الصّفات أشخاصاً، وإلى تجسّد «الاقنوم الثاني» _ اقنوم العلم _ في الابن. فلموا جهة هذا الاعتقاد نفى المعتزلة وصف الله بأنّه جوهر واعتبروا الصّفات هي الذات غير مغايرة لها، فصفات الله ليست حقائق مستقلّة و إنّما هي اعتبارات ذهنيّة، ويمكن أن تختلف وجوه الاعتبارات في النظر إلى الشيء الواحد دون أن يلزم من ذلك التعدّد في ذاته، فيقال عالم و نعني إثبات علم هو ذاته، ونفي الجهل عن ذاته، ويقال: قادر ونعني إثبات ذاته ونفي العجز، فالله حيّ عالم قادر بذاته لا بحياة وعلم وقدرة زائدة على ذاته(1).

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يصح لو كانت الصّفات الذاتيّة منحصرة في الثلاث: العلم والقدرة و الحياة حتّى يقال إنّ الهدف من القول بالعينيّة نفي توهّم التثليث، بل الصفات الذاتية أكثر من ذلك.

أضف إلى ذلك أنّ تفسير عقيدة المعتزلة في باب الصّفات بأنّها ليست حقائق مستقلّة و إنّما هي اعتبارات ذهنيّة، غير تامّة ناشئة من تفسير خصومهم بما ذكر، بل الحقُّ أنّ مرادهم هو أنّ واقعيّة خارجيّة بسيطة تجمع

هذه الواقعيات ببساطتها و وحدتها، لا أنّها اعتبارات ذهنيّة، و ليست للصفات واقعيّة خارجية، فإنّه لا ينطبق إلاّ على القول بالنيابة.

______________________

1 . نهاية الاقدام في علم الكلام للشهرستاني: ص 192 _ 194، و «في علم الكلام» قسم المعتزلة للدكتور أحمد محمود صبحي، ص 123.

( 312 )

محاولة الأشاعرة لتصحيح تثنية القديم

لمّا كان ما استند إليه أهل الاعتزال من البرهان في نفي الصفات الزائدة برهاناًدامغاً قاطعاً للنزاع، حاول أهل التفكير من الأشاعرة نقده، ولكن أتوا بالعجب العجاب. فهذا هو القاضي عضد الدين الإيجي يجيب عن البرهان في مواقفه بقوله: «إنّ الكفر إثبات ذوات قديمة لا ذات وصفات»(1) وقد أقرّه شارحه الشريف الجرجاني.

وهو من الوهن بمكان، إذ هو أشبه بتخصيص القاعدة العقليّة، والقاعدة العقليّة لا تخصّص. إذ لسائل أن يسأل: أيّ فرق بين الذات والوصف حتّى يكون القول بتعدّد الأوّل موجباً للكفر دون الثاني، مع أنّ ملاك الكفر موجود في كلا الموضعين، فإنّ القول بتعدّد القدماء قول بتعدّد الواجب، قول بتعدد الغنيّ بالذات المستغني عن غيره، قول بتعدّد من يكون وجوده عن ذاته لا عن غيره، وهذا كلّه من صفات الباري عزّ اسمه، فلو كانت صفاته غير ذاته و كانت قديمة، تكون واجبة غنيّة عن كلّ شيء، واجدة لوجودها.

وهناك محاولة ثانية للتخلّص عن تعدّد القدماء وهي القول بأنّ الصفات لا هو ولا غيره(2) وهذا أشبه باللّغز مع أنّ العقائد الإسلاميّة تتّسم بسمة الوضوح والسهولة، لا التعقيد والغموض الّذي ربّما ينتهي في المقام إلى رفع النقيضين.

ولو قال بحدوث الصفات _ ولن يقول أبداً _ يكون الفساد أفحش، والمصيبة أعظم، لأنّ اتّصافه بالقدرة الحادثة مثلاً إمّا بالاختيار وإمّا بالإيجاب. والأوّل محال لاستلزامه محذور التسلسل في صفاته، لأنّ الكلام ينتقل إلى

القدرة الثانية. فهل اتّصافه بها عن اختيار أو بايجاب؟ فعلى الأول يعود السؤال فيلزم التسلسل. وعلى الثاني يلزم أن يكون فاعلاً موجباً بالذات، وأىُّ نقص أعظم من تصوير مبدأ الكمال والجمال وخالق

______________________

1 . المواقف: ص 280.

2 . أوائل المقالات: ص 17.

( 313 )

القدرة والاختيار في الإنسان، فاعلاً موجباً في اتّصافه بصفاته، فلو صحّ كونه موجباً في مورد، فليصحّ في سائر الموارد ككونه فاعلاً موجباً بالقياس إلى مصنوعاته.

وهذه الاُمور هي الحوافز الحقيقية الّتي دعت المعتزلة إلى القول بالتوحيد والتنزيه في باب الصفات ونفي الصفات الزائدة والمعاني القائمة بذاته، ولم يكن الحافز إلاّ الفرار عن الثنويّة و توابعها.

ومن الجسارة الواضحة بل الظلم الفاحش اتّهام هذه الفرقة بما كتبهم عنه أهل الملل والمقالات. فهذا الأشعري يتّهمهم بقوله «أرادت المعتزلة أن تنفي أنّ الله عالم قادر حيّ سميع بصير، فمنعهم خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك، فأتوا بمعناه، لأنّهم إذا قالوا: لا علم لله ولا قدرة له، فقد قالوا: إنّه ليس بعالم ولا قادر و وجب ذلك عليهم، وهذا إنّما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل، لأنّ الزنادقة قال كثير منهم إنّ الله ليس بعالم ولا قادر ولا حيّ ولا سميع ولا بصير، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه و قالت: إنّ الله عالم قادر حيّ سميع بصير من طريق التسمية (الكتاب والسنّة) من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم والقدرة والسّمع والبصر.

وحاصل (1)تحليل الشيخ أنّ المعتزلة كانت بصدد نفي الأسماء والصفات وفاقاً للزنادقة، فلم يقدروا عليه خوفاً من السلطة، ولكنّهم نفوا العلم والقدرة والحياة حتّى يتسنّى لهم نفي الأسماء والصفات (العالم والقادر) بالملازمة، فمثلهم كمثل من خرج من الباب موهماً للانصراف ثمّ دخل من النافذة.

تلك والله جرأة

في الدين و جسارة بلا مبرّر، والآثار الباقية من المعتزلة تبيّن لنا جهة إصرارهم على نفي الصفات الزائدة على الذات. وليست الغاية نفي أسمائه وصفاته وتصوير كونه سبحانه غير عالم ولا قادر، بل الغاية نفي الثنويّة وتعدُّد الواجب.

قال القاضي: «لو كان عالماً بعلم، لكان لا يخلو إمّا أن يكون موجوداً أو معدوماً،

______________________

1 . الابانة: ص 107 _ 108.

( 314 )

لا يجوز أن يكون معدوماً، وإن كان موجوداً فلا يخلو إمّا أن يكون قديماً أو محدثاً، والأقسام كلُّها باطلة، فلم يبق إلاّ أن يكون عالماً بذاته على ما نقوله»(1).

وقال أيضاً: «لو كان يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة، وجب أن تكون هذه المعاني مثلاً لله تعالى...إلى آخر ما أفاده»(2).

كلّ ذلك يعرب عن أنّ الداعي لنفي الصفات الأزليّة هو تنزيهه سبحانه عن المثل بل الأمثال. تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

نعم هناك حافزان آخران صارا سببين لنفي الصفات الزائدة على الذات نشير إليهما:

1- تركيب الذات مع الصّفات، فإنّه سبحانه كما هو واحد لا نظير له ولا مثيل فهو عزّ وجلّ «أحد» بسيط لا جزء له، والتركيب حليف الامكان، لأنّ المركّب متقوّم بالأجزاء، والمتقوّم لا يكون واجباً ولا غنياً.

2- استلزام القول بالصفات الزائدة على الذات كونه سبحانه ناقصاً مستكملاً بالخارج عن ذاته و حيطة وجوده، مع أنّه سبحانه كلّ الجمال والكمال، لا يشذُّ كمال عن حيطة وجوده، ولاجمال عن حدِّ ذاته.

ولأجل هذين الأمرين مع ما تقدّم من حديث تعدّد القدماء اشتهرت المعتزلة بنفاة الصفات «الصفات الزائدة على الذات» كما اشتهرت الأشاعرة بالصفاتية، متظاهرين بأنّ هناك ذاتاً و وصفاً، والذات غير الوصف، وكلاهما قديمان.

إذا عرفت موقف المعتزلة في نفي الصفات الزائدة على الذات، فهلمّ معي نقرأ بحثاً آخر من هذا

المقام وهو تبيين كيفيّة حمل الصّفات على ذاته سبحانه على مذهبهم، إذ كيف يمكن توصيفه سبحانه بأنّه عالم و قادر مع القول بعدم الصفات الزائدة على

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 183.

2 . المصدر نفسه: ص 195، ولاحظ ص 197. ولاحظ الملل والنحل: ج 1 ص 46 في تبيين القاعدة الأولى من القواعد الأربع الّتي اختارها واصل بن عطاء، ترى فيها التصريح منه بأنّ الغاية لنفي الصفات هو التنزيه.

( 315 )

الذات أي عدم العلم والقدرة المغايرين لها.

وهذا هو البحث المهمّ في المقام، فنقول: إنّ لهم في تبيين كيفيّة الحمل آراء مختلفة بين صحيح و زائف و إليك الاشارة إلى عناوين مذاهبهم إلى أن نأخذ بالتّفصيل.

أ - مذهب أبي الهذيل: إنّه عالم بعلم هو هو.

ب - مذهب أبي عليّ الجبّائي: إنّه يستحقُّ هذه الصفات الأربع الّتي هي كونه قادراً، عالماً، حيّاً، موجوداً لذاته.

ج - مذهب أبي هاشم: إنّه يستحقّها لما هو عليه في ذاته(1).

هذه هي مذاهبهم الثلاثة في تبيين كيفيّة الحمل، وقد حاق بها الابهام، وإليك التوضيح:

توضيح مذهب أبي الهذيل

إنّ أبا الهذيل من كبار رجال الاعتزال و أحد شيوخ مدرسة البصرة، توفّي سنة 235 ه_، و يعتبر أوّل من نظم قواعد الاعتزال و وضع اُصوله، ولكنّ الزّمان عبث بكتبه، ولأجل ذلك طرأ على مذهبه الابهام حتّى إنّ القاضي عبدالجبّار أرجعه إلى مذهب أبي عليّ الجبّائي و قال: «أراد أبو الهذيل ما ذكره الشيخ أبو عليّ إلاّ أنّه لم تتلخّص له العبارة»(2).

لكن ما نقل عنه حول مذهبه في علم الباري يدفعنا إلى القول بأنّ مذهبه في باب الصفات يغاير مختار الجبّائي و إليك هذه الكلمات:

قال الشيخ الأشعري: «والفرقة الهذيليّة يزعمون أنّ لله علماً هو هو، وقدرة هي

هو، وحياة هي هو، وسمعاً هو هو، وكذلك قالوا في سائر صفات الذات»(3).

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 182.

2 . المصدر نفسه: ص 183.

3 . مقالات الاسلاميين: ص 179.

( 316 )

قال الشهرستاني: «انفرد أبو الهذيل بعشر قواعد، الاُولى: إنّ الباري تعالى عالم بعلم و علمه ذاته، قادر بقدرة و قدرته ذاته، حيّ بحياة و حياته ذاته، وإنّما اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الّذين اعتقدوا أنّ ذاته واحدة لا كثرة فيها بوجه، وإنّما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته بل هي ذاته»(1).

ولو صحّ نقل هذه الكلمات عن أبي الهذيل فهو لا يهدف إلى إنكار أسمائه كالعالم و القادر والحيّ، ولا إلى إنكار صفاته من العلم و القدرة والحياة، بل يعترف بهما معاً، غير أنّه يقول باتّحاد الصفات مع الذات وجوداً و عينيّة، وتغايرهما مفهوماً دفعاً للاشكالات المتوجّهة إلى القول بالزيادة.

ولأجل إيقاف القارئ على مرام الشيخ أبي الهذيل نأتي بالتوضيح التالي:

إنّ المتبادر من قولنا «عالم، قادر، حيّ» في نظر أهل اللّسان هو الذات الموصوفة بالعلم والقدرة و الحياة، بمعنى أنّه يتبادر مفهوم بسيط ينحلّ إلى ذلك المركّب م آلاً. فتكون هناك اثنينيّة باعتبار أنّ هناك موصوفاً و معروضاً و وصفاً و عرضاً.

هذا هو المتبادر في الاستعمالات العرفيّة، ولا يمكن إنكار ذلك أبداً. ولكنّه بهذا المعنى لا يصحّ إطلاقه على الله، لاستلزامه تثنية الواجب أوّلاً، وتركّبه من شيئين ثانياً، واستكماله بغيره ثالثاً. فلأجل ذلك يجب أن يصار في توصيفه سبحانه إلى فرض آخر يحفظ معه أمران:كونه سبحانه واجداً لحقيقة العلم والقدرة و الحياة حتّى لا يلزم التّعطيل، وكونه واحداً بسيطاً غير مركّب من شيء و شيء حتّى لا ترد الاشكالات الثلاثة الماضية، والتحفّظ على هذين الأمرين لا

يحصل إلاّ بالقول بأنّ أوصافه سبحانه و نعوته كلّها موجودة بوجود واحد وهو وجود الذات، وهي بمفردها مصداق لهذه النعوت، و يكفي نفس وجودها في حمل هذه الصفات الكماليّة عليها بلا طروء تعدُّد في مرحلة الذات. ولأجل تقريب المطلب وأنّه يمكن أن تحمل صفات كثيرة على شيء

______________________

1 . الملل والنحل: ج 1، ص 49 _ 50.

( 317 )

واحد، وينتزع منه مفاهيم عديدة، نأتي بمثال و إن كان الفرق بين المثل والممثّل عظيماً، ولكنّ الهدف هو التقريب لا التشبيه.

إذا تصوّرنا الإنسان الخارجي و فرضنا له ماهيّة، فلها ذاتيات _ كالحيوان والناطق_ يعدّان من الاُمور الذاتية بالنسبة إلى ماهيته، فهذه الذاتيات موجودة بوجود واحد شخصي من دون أن تكون حيثيّة الحيوان في الخارج غير حيثيّة الناطق، بل الإنسان الخارجي كلّه بوحدته مصداق للحيوان، كما هو كلّه مصداق للناطق.

فهنا شيء واحد و هو الشخصية الخارجية الّتي هي مصداق الإنسان، يصحّ أن ينتزع منه مفاهيم كثيرة من دون أن تنثلم وحدته.

وعلى ضوء هذا المثال نقول : إنّ ذاته سبحانه بوحدتها و بساطتها، مصداق لكونه عالماً وقادراً و حيّاً، وليست حقيقة العلم في ذاته تغاير واقعيّة القدرة فيه. كما أنّ كليهما لا يغايران حقيقة الحياة. بل الذات الواحدة بما أنّها موجود بسيط، مصداق لهذه الكمالات من دون أن تضمّ إلى الذات ضميمة أو تطرأ كثرة.

وبهذا البيان تحفظ على بساطته، كما تحفظ على كونه واجداً لحقيقة الصفات الكماليّة. ولا يهدف هذا البيان إلى إخلاء الذات عن حقيقة هذه الصّفات، ولا تعطيلها عن الاتّصاف بها، بل يريد أنّ الذات لأجل كونها كلّ الكمال و كلّ الجمال، وليس فوقها موجود أكمل و أجمل، بوحدتها و بساطتها واجدة لحقيقة هذه الصفات. والفرق بين كونه

سبحانه عالماً و كون زيد عالماً، بعد اشتراكهما في كونهما واجدين لحقيقة هذا الوصف، هو أنّه سبحانه ببساطته واجد لهذا الكمال، وذاته مصداق للعلم، ولكنّ زيداً بذاته غير واجد لهذا الكمال و إنّما وصل إليه في مرتبة بعدها.

نعم، كونه سبحانه عالماً بهذا المعنى يخالف ما هو المتبادر منه لفظ «العالم» وأشباهه، فإنّ المتبادر منه هو الذات المتّصفة بالمبدأ لا الذات البسيطة المتحقّق فيها المبدأ، والقسم الثاني مصداق جديد لم يتعرّف عليه العرف كما لم يتعرّف عليه الواضع، وإنّما هو مصداق كشف عنه العقل بدقّته و غفل عنه العرف لمسامحته، ولكنّه لا يضر

( 318 )

بالاطلاق، لأنّ العرف لا يتوجّه إلى هذه الدّقائق، وأهل الدقّة غير غافلين عن هذا الفرق، وارتكاب خلاف الظواهر بهذا المقدار فراراً عن الاشكالات العقليّة كثير النظير(1).

ثمّ إنّ القائلين بوحدة الصّفات مع الذات لا يعنون منها الوحدة من حيث المفهوم والموضوع له، بداهة أنّ ما يفهم من لفظ الجلالة في قولنا «الله عالم» غير ما يفهم من المحمول كلفظ «العالم» و إنّما يعنون بها الوحدة من حيث العينيّة والتحقّق، بمعنى أنّ ما هو المصداق للفظ الجلالة هو المصداق للفظ العالم، وهكذا سائر الصفات.

برهان بديع لاثبات الوحدة

ثمّ إنّ لأهل التّحقيق في إثبات الوحدة العينيّة براهين دقيقة نكتفي بذكر واحد منها:

«إنّ بديهة العقل حاكمة بأنّ ذاتاً ما إذا كان لها من الكمال ما هو بحسب نفس ذاتها، فهي أفضل و أكمل من ذات لها كمال زائد على ذاتها، لأنّ تجمّل الاُولى بذاتها، وتجمّل الثانية بصفاتها. وما تجمّل بذاته أشرف ممّا يتجمّل بغير ذاته، وإن كان ذلك الغير صفاته. وواجب الوجود يجب أن يكون في أعلى ما يتصوّر من البهاء و الشّرف والجمال، لأنّ ذاته مبدأ

سلسلة الوجودات و واهب كلّ الخيرات و الكمالات، والواهب المفيض لا محالة أكرم و أمجد من الموهوب المفاض عليه، فلو لم يكن كماله بنفس حقيقته المقدّسة، بل مع اللّواحق لكان المجموع من الذات و اللّواحق أشرف من الذات المجرّدة، والمجموع معلول فيلزم أن يكون المعلول أشرف و أكمل من علّته وهو محال بيّن الاستحالة»(2).

هذا هو واقع النّظرية و حقيقتها، وأنت إذا لاحظت دليلها وما أوضحناها به

______________________

1 . قال سبحانه (الآن خفف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً) (الانفال / 66) فهل يمكن الأخذ بظاهره البدئي في أنّه لم يكن عالماً قبله.

2 . الاسفار: ج 6، ص 134 _ 135.

( 319 )

تقف على أنّ ما ردّ به تلك النظرية ناش عن عدم الوقوف على مراد القائل، ولو أنّهم كانوا واقفين على مصدر هذه النظريّة لما وجّهوا إليها سهامهم المرقوشة، وإليك تلك الردود واحداً بعد الآخر.

1- قال الأشعري: «وألزم أبو الهذيل فقيل له: إذا قلت إنّ علم الله هو الله فقل: يا علم الله اغفر لي و ارحمني فأبى ذلك، فلزمته المناقضة».

2- وقال: «إنّ من قال عالم ولا علم، كان مناقضاً، كما أنّ من قال علم ولا عالم كان مناقضاً»(1).

يلاحظ عليه: أمّا أوّلاً: فإنّ أبا الهذيل لم يقل بالوحدة من حيث المفهوم و إنّما قال بالوحدة من حيث التحقق و العينيّة وما ذكره من النّقض إنّما يرد على الوجه الأوّل لا على الوجه الثاني. فلا يصحّ أن يقال «يا علم الله اغفرلي»، لأنّ المفهوم من لفظ علم الله غير المفهوم من لفظ الجلالة، فلا يصحّ أن يوضع «علم الله» من حيث المفهوم مكان لفظ «الله» و يدعى بمفهوم غيره، ولأجل ذلك لا يصحّ أن يقال يا موجود،

ويقصد به الله سبحانه، بحجّة أنّ ماهيّته إنيّته، ووجوده نفس ماهيّته.

وأمّا ثانياً: فبأنّ الشيخ الأشعري خلط بين نظريّة أبي الهذيل و نظرية الجبّائي الّذي تتلمذ عليه الشيخ الأشعري سنين متمادية إلى أن رفضه و رفض مذهبه، وانسلك في عداد الحنابلة. فتصوّر أنّ مذهب أبي عليّ نفس مذهب أبي الهذيل. ففي مذهب أبي عليّ، الذات خالية من الصّفات الحقيقيّة، غير أنّها نائبة منابها، ولأجل هذه النيابة يصحّ الحمل، ويجيء توضيحه عمّا قريب، بخلافه على مذهب أبي الهذيل.

3- قال البغدادي: «الفضيحة الرابعة من فضائحه (أبي الهذيل) قوله بأنّ علم الله سبحانه و تعالى هو الله و قدرته هي هو، ويلزمه على هذا القول أن يكون الله تعالى علماً و قدرة، ولو كان هو علماً وقدرة لاستحال أن يكون عالماً قادراً، لأنّ العلم لا يكون

______________________

1 . الابانة: ص 108.

( 320 )

عالماً والقدرة لا تكون قادرة»(1).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الاشكال مبنىُّ على اقتناص المعارف الإلهية من اللّغة والعرف، أو من باب مقايسة الواجب بالممكن، فيما أنّ العلم والقدرة في الإنسان عرض والإنسان معروض لهما، تخيّل أنّ العلم والقدرة في جميع المراتب أعراض لا تخرج عن حدِّها، ولكنّه غفل عن أنّ للعلم والقدرة والحياة مراتب و درجات. فالعلم منه عرض كعلمنا بالأشياء الخارجيّة، و منه جوهر كعلمنا بذاتنا و حضور ذاتنا لدى ذاتنا، ومنه واجب قائم بنفسه كعلم الله سبحانه بذاته. فعند ذلك لا مانع من أن يكون هناك علم قائم بالذات و قدرة مثلها و حياة كذلك.

وهناك كلمة قيّمة للحكيم الفارابي حيث يقول: «يجب أن يكون في الوجود وجود بالذات، وفي العلم علم بالذات، وفي القدرة قدرة بالذات، وفي الارادة إرادة بالذات، حتّى تكون هذه الاُمور في

غيره لا بالذات».

ومصدر ه(2)ذه الكلمات العجيبة هو مقايسة الغائب بالشاهد و تصوّر أنّ علمه سبحانه أو قدرته و حياته كعلم الممكنات و قدرتها و حياتها. فذلك هو التشبيه الّذي هو الأساس لمذهب أهل الحديث ومن لفّ لفّهم.

4- ذكر الشهرستاني أنّ أبا الهذيل اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الّذين اعتقدوا أنّ ذاته واحدة لا كثرة فيها بوجه(3).

يلاحظ عليه: أنّه رجم بالغيب ومن الممكن أنّه وصل إليه من خطب الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ كما سيوافيك كلامه، وقد عرفت أنّ المعتزلة في التوحيد والعدل عالة على خطب الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ .

5- قال القاضي الايجي: «لو كان مفهوم كونه عالماً حيّاً قادراً نفس ذاته، لم يفد

______________________

1 . الفرق بين الفرق: ص 127.

2 . تعاليق الاسفار: ج 6، ص 135.

3 . الملل والنحل: ج 1، ص 50.

( 321 )

حملها على ذاته، وكان قولنا:«الله الواجب» بمثابة حمل الشيء على نفسه».

6- وقال أيضاً: «لو كان العلم نفس الذات والقدرة نفس الذات لكان العلم نفس القدرة فكان المفهوم من العلم والقدرة واحداً»(1).

يلاحظ عليه: أنّ الاشكالين من الوهن بمكان، حتّى إنّ المستشكل لم يقبله. وأساس الاشكال هو الخلط بين الوحدة المفهوميّة والوحدة المصداقيّة، والقائل يقول بالثاني لا بالأوّل. ولأجل ذلك يقول الايجي في دفع الاشكال الأوّل: «وفيه نظر، فإنّه لا يفيد إلاّ زيادة هذا المفهوم على مفهوم الذات، وأمّا زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا».

وعند ذلك يصحّ لشيخ الاعتزال أن يتمثّل و يقول:

وكم من عائب قولاً صحيحاً * وآفت_ه م_ن الفه_م السقي__م

كلام الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ في عينيّة الصفات مع الذات

قد ورد في خطب الإمام _ عليه السلام _ ما

يدلّ على نفي زيادة الصفات لله تعالى بأبلغ وجه و آكده حيث قال في خطبة من خطبه المشهورة: «أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي الصِّفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصِّفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن قال فيم فقد ضمّنه، ومن قال علام فقد أخلى منه»(2).

وتوضيح هذه الجمل الدّريّة تدفعنا إلى البسط في الكلام ولكنّ المقام لا يقتضيه وإنّما نشير إلى بعضها.

______________________

1 . المواقف: ص 280.

2 . نهج البلاغة: الخطبة الاُولى.

( 322 )

قال _ عليه السلام _ : «وكمال توحيده الاخلاص له»، يريد تخليصه سبحانه من الزوائد والثواني حتّى لا يكون خليطاً مع غيره، ثمّ فرّع على ذلك قوله: «وكمال الاخلاص له نفي الصّفات عنه» يريد نفي الصّفات الّتي وجودها غير وجود الذات لا نفي حقائقها عن ذاته، فإنّ ذاته بذاته مصداق لجميع النعوت الكماليّة و الأوصاف الإلهيّة من دون قيام أمر زائد على ذاته، فعلمه وقدرته و .... كلُّها موجودة بوجود ذاته الأحديّة مع أنّ مفاهيمها متغايرة.

وقال _ عليه السلام _: «لشهادة كلِّ صفة أنّها غير الموصوف ... الخ» إشارة إلى برهان نفي الصفات العارضة، سواء فرضت قديمة كما عليه الكلابيّة و الأشاعرة أو حادثة. فإنّ الصفة إذا كانت عارضة كانت مغايرة للموصوف بها.

فعندئذ يترتّب عليه قول: «فمن وصفه فقد قرنه» أي من وصفه بصفة زائدة فقد قرنه بغيره، فان كان ذلك الغير مستقلاّ ً في

الوجود يلزم أن يكون له ثان في الوجود، وإن كان غير مستقلّ فبما أنّه جزء له فقد جعله مركّباً ذا جزأين و إليه يشير بقوله: «ومن ثنّاه فقد جزّأه» ومن المعلوم أنّ من جزّأه فقد جهله، ولم يعرفه على ما هو عليه. ومن جهله بهذا المعنى فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، لأنّ الاشارة إلى الشيء حسّيّة كانت أو عقليّة تستلزم جعله محدوداً بحدّ خاصّ، ومن حدّه بحد معيّن فقد جعله واحداً بالعدد _ إلى آخر ما أفاده.

هذا هو توضيح نظريّة أبي الهذيل وهو المختار لدى الإماميّة وعليه خطب الإمام وكلمات أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ وعندئذ يحين وقت إيضاح النظرية الثانية المنسوبة إلى أبي علي الجبّائي.

توضيح مذهب أبي عليّ الجبّائي

إنّ أبا عليّ الجبّائي يقول: إنّه تعالى يستحقّ هذه الصّفات الأربع الّتي هي كونه قادراً عالماً حيّاً موجوداً لذاته. فهو يهدف إلى نظريّة اُخرى يليق أن يتّهم معها

( 323 )

بالتعطي_ل.

وقد أوضح الشهرستاني الفرق بين هذه النظرية و النظرية السابقة بقوله: «والفرق بين قول القائل: «عالم بذاته لا بعلم» وبين قول القائل: «عالم بعلم هو ذاته»، أنّ الأوّل هو نفي الصفة، والثاني إثبات ذات هو بعينه صفة، أو إثبات صفة هي بعينها ذات»(1).

ولقد أحسن في التّوضيح و أصاب الغرض. فعلى هذا القول ليست الذات واجدة لواقعيات الصّفات، غير أنّ ما يترقّب من الذات المتصفة بها، يترتّب على ذاته سبحانه و إن لم تكن هناك تلك الصفات. مثلاً أثر الذات الموصوفة بالعلم هو إتقان الفعل وهو يترتّب على ذاته سبحانه بلا وجود وصف العلم فيه، وقد اشتهر عندهم «خذ الغايات واترك المبادئ».

وصاحب النظريّة توفّق في الجمع بين الأمرين الخطيرين. فمن جانب اتّفقت الشرائع

السماويّة على أنّه سبحانه عالم حيّ قادر. ومن جانب آخر واقعية الصفة لا تنفكّ عن القيام بالغير بحيث لو لم تكن قائمة به لما صدق عليه الوصف. فعندئذ يدور الأمر بين الاُمور التالية:

1- نفي كونه عالماً قادراً حيّاً .... وهذا يكذّبه اتّفاق الشرائع السماوية ووجود آثار الصفات في أفعاله من الإتقان والنظم البارزين.

2- كون صفاته زائدة على ذاته وهو يستلزم المفاسد السابقة من تعدّد القدماء وغيره.

3- كون صفاته عين ذاته كما عليه شيخ المعتزلة في عصره «أبي الهذيل» وهو لا يتّفق مع واقعيّة الصِّفات، فإنّ واقعيّتها نفس قيامها بالغير لا صيرورتها نفسه، فتعيّن القول التالي:

4- كون ذاته نائبة مناب الصّفات وإن لم تكن هناك واقعيّتها. وممّن اختار هذا

______________________

1 . الملل والنحل: ج 1 ص 50.

( 324 )

القول قبل الجبّائي هو عبّاد بن سليمان المعتزلي. قال: «هو عالم، قادر، حيّ، ولا أثبت له علماً، ولا قدرة، ولا حياة ولا أثبت سمعاً ولا أثبت بصراً. وأقول: هو عالم لا بعلم، وقادر لا بقدرة، وحىُّ لا بحياة، وسميع لا بسمع، وكذلك سائر ما يسمّى به من الأسماء الّتي يسمّى بها»(1).

تقييم نظريّة النيابة

إنّ هذه النظريّة من الوهن بمكان، فإنّ أبا عليّ لو تأمّل في واقعيّة الصفات الكماليّة لما أصرّ على أنّ واقعيّتها في جميع المجالات و المراحل، واقعية القيام بالغير. وإنّما هي واقعيتها في بعض المراتب كعلم الإنسان و قدرته و حياته، وليس في جميع المراتب كذلك. وذلك لأنّ الكمالات ترجع إلى الوجود، وله شؤون و عرض عريض. فكما أنّ منه وجوداً رابطاً و رابطيّاً و جوهراً، فكذا العلم. فمنه عرض قائم بالغير، ومنه جوهر قائم في نفسه كعلم الإنسان المدرك بذاته، ومنه ممكن ومنه واجب، وهكذا سائر الصفِّات.

وعلى ذلك فالاصرار على واقعيّة واحدة تجمع شتات العلم، إصرار في غير محلِّه. فإنّ للعلم و كلّ كمال مثله، إطارات و قوالب و مظاهر و مجالات تختلف حسب اختلاف المراتب.

إذا وقفت على مذهب الوالد (أبي عليّ) فهلمّ معي ندرس مذهب الولد في باب حمل الصفِّات الذاتية عليه سبحانه.

مذهب أبي هاشم

إنّ لأبي هاشم في كيفيّة استحقاق الصفِّات مذهباً خاصّاً عبّر عنه القاضي بقوله: «وعند أبي هاشم يستحقّها لما هو عليه في ذاته» وعبّر عن نظرية أبيه بقوله: «إنّه

______________________

1 . مقالات الاسلاميين: ج 1، ص 225. نعم نقل القاضي في شرح الاُصول الخمسة ص 183 رأياً آخر لسليمان بن جرير وهو غير عباد بن سليمان فلا يختلط عليك الأمر.

( 325 )

يستحقّها القديم تعالى لذاته»(1).

وقد حاول البغدادي تبيين الفرق بقوله: «إنّ أبا عليّ جعل نفس الباري علّة لكونه عالماً و قادراً، وخالف أبو هاشم أباه و زعم أنّ الله عالم لكونه على حال، قادر لكونه على حال وزعم أنّ له في كلِّ معلوم حالاً مخصوصاً، وفي كلِّ مقدور حالاً مخصوصاً. وزعم أنّ الأحوال لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا أشياء»(2).

و أوضحه الشهرستاني بقوله: «قال الجبّائي: عالم لذاته، قادر حيّ لذاته، ومعنى قوله:«لذاته» أي لا يقتضي كونه عالماً، صفة هي علم أو حال توجب كونه عالماً، وعند أبي هاشم: «هو عالم لذاته» بمعنى أنّه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتاً موجوداً، وإنّما تعلم الصِّفة على الذات، لا بانفرادها. فأثبت أحوالاً هي صفات لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، أي هي على حيالها لا تعرف كذلك بل مع الذّات»(3).

وأنت تعلم أنّ هذه المحاولات تزيد في الغموض، وقد أصبحت نظريّته لغزاً من الألغاز لم يقف عليه

أحد. قال الشريف المرتضى: «سمعت الشيخ المفيد يقول: ثلاثة أشياء لا تعقل وقد اجتهد المتكلّمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلِّ حيلة، فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات يناقض المعنى فيها مفهوم الكلام: اتّحاد النّصرانية (التثليت مع ادّعاء الوحدة)، وكسب النّجارية و أحوال البهشميّة»(4).

ممّا يقال ولا حقيقة عنده * معقولة تدنو إلى الأفهام

الكسب عند الأشعري والحال * عند البهشمي وطفرة النظام(5)

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 129.

2 . اُصول الدين للبغدادي: ص 92.

3 . الملل والنحل: ج 1، ص 82.

4 . الفصول المختارة: ص 128.

5 . القضاء والقدر، لعبد الكريم الخطيب: ص 185.

( 326 )

وبما أنّ تحقيق نظريته مبنيّ على تحقيق «الأحوال» الّتي يتبنّاها أبو هاشم فلنكتف بهذا المقدار.

هذا كلّه حول المسألة الاُولى الّتي تركِّز المعتزلة عليها عند البحث عن الأصل الأوّل (التوحيد) وإليك البحث في المسألة الثانية الّتي يركّزون عليها في إطار هذا الأصل، وهي تبيين كيفيّة حمل الصفّات الخبريّة عليه سبحانه.

***

ب - المعتزلة وحمل الصفات الخبريّة (1)

قسّم الباحثون صفاته سبحانه إلى صفات ذاتيّة و صفات خبريّة، فتوصيفه سبحانه بالعلم والقدرة توصيف بصفات ذاتيّة، كما أنّ توصيفه بما دلّ عليه ظواهر الآيات والأحاديث كالوجه واليدين صفات خبريّة.

وأمّا عقيدة المعتزلة في هذه الصفِّات، فقد وصفها الشيخ الأشعري فى كتابه بأحسن وجه. وإليك نصّ كلامه:

«أجمعت المعتزلة على أنّ الله واحد ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير، وليس بجسم، ولا شبح، ولا جثّة، ولا صورة لحم ولا دم، ولا شخص ولا جوهر ولا عرض، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسّة، ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة، ولا طول ولا عرض ولا عمق، ولا اجتماع ولا افتراق. ولا يتحرّك ولا يسكن ولا يتبعّض،

ولا بذي أبعاض و أجزاء و جوارح وأعضاء، وليس بذي جهات ولا بذي يمين و شمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا تجوز عليه المماسّة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم، ولا يوصف بأنّه متناه، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه

______________________

1 . هذه هي النقطة الثانية التي تركّز عليها المعتزلة في هذا الأصل.

( 327 )

الحواسّ ولا يقاس بالناس، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه ولا تجري عليه الآفات، ولا تحلّ به العاهات، وكلّ ما خطر بالبال، وتصوّر بالوهم فغير مشبه له. لم يزل أوّلاً، سابقاً، متقدّما للمحدثات، موجوداً قبل المخلوقات، ولم يزل عالماً قادراً حيّاً ولا يزال كذلك. لا تراه العيون، ولا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأوهام، ولا يسمع بالأسماع، شيء لا كالأشياء، عالم قادر حيّ لا كالعلماء القادرين الأحياء. وإنّه القديم وحده ولا قديم غيره ولا إله سواه، ولا شريك له في ملكه، ولا وزير له في سلطانه ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق. لم يخلق الخلق على مثال سبق، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه، ولا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضارّ، ولا يناله السرور واللذات، ولا يصل إليه الأذى و الآلام، ليس بذي غاية فيتناهى، ولا يجوز عليه الفناء، ولا يلحقه العجز والنقص، تقدّس عن ملامسة النساء، وعن اتّخاذ الصاحبة والأبناء، قال: فهذه جملة قولهم في التّوحيد»(1).

والسابر في نهج البلاغة يقف على أنّ المعتزلة أخذت جلّ هذه الكلمات

من خطب الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ لكن باختلاف في التعبير والألفاظ.

وقد ذكرت المعتزلة وغيرهم دليلاً عقليّاً على تنزيهه سبحانه عن هذه الصفِّات، خلاصته: أنّه سبحانه ليس مادّة ولا ماديّاً ولا مركّباً منهما، وما ليس كذلك يمتنع عليه هذه الصفات. فمن يُثبت له حركة أو سكوناً أو يداً أو رجلاً فلا منتدح له عن القول بكونه جسماً أو جسمانياً.

هذا هو الحقّ القراح الّذي لا يشكّ فيه مسلم واع. إنّما الكلام في تفسير ما ورد من النُّصوص المشتملة بظواهرها على هذه الصفِّات. وهذه النقطة هي المخمصة الكبرى للمعتزلة. فلابدّ لهم من الجمع ما بين العقل والنّقل بوجه يقبله العقل، ولا

______________________

1 . مقالات الاسلاميين للاشعري: ص 155 _ 156. وقد كتب أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي (م 449) قائمة تشتمل على اُصول التنزيه على مذهب الامامية أسماها «البيان عن جمل اعتقاد أهل الايمان» فمن أراد فليرجع إلى كنز الفوائد، ج 1، ص 240 ط بيروت.

( 328 )

يكذّبه النقل.

ثمّ إنّ للباحثين من المتكلِّمين و أهل الحديث في المقام طرقاً نشير إليها:

الأوّل : الإثبات مع التّشبيه والتّكييف.

الثّاني : الإثبات بلا تشبيه ولا تكييف.

الثالث : التفويض.

الرابع : التّأويل.

وقد بحثنا عن الوجوه الثّلاثة الاُول في الجزء الثاني، وهي خيرة أهل الحديث والأشاعرة. والأمر الرابع هو خيرة المعتزلة. ولأجل ذلك يسمّون المؤوّلة، فيؤوّلون الآيات المشتملة على اليد والوجه والاستيلاء وغير ذلك، ولنا هنا كلمة موجزة وهي:

إنّ التأويل على قسمين: قسم يرفضه الكتاب ولا يرضى به العقل وهو تأويل النصوص القرآنيّة والأحاديث المتواترة بحجّة أنّها تخالف العقل الصّريح فقط، وهذا رأي عازب، بل فكرة خاطئة. فإنّ ظواهر الكتاب والنصوص الصحيحة لا يمكن أن تكون مخالفة للعقل.

ولقد كذب من قال من

المؤوّلة: إنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنّة من اُصول الكفر أو إنّ التمسّك في اُصول العقائد بمجّرد ظواهر الكتاب والسنّة من غير بصيرة في العقل هو أصل ضلالة الحشوية(1).

فإنّ هؤلاء لم يعرفوا موقف الكتاب والسنّة الصحيحة، فإنّ من الممتنع أن يشتمل الكتاب الهادي على ما يضادّ العقل الصحيح. وهو القائل (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا)(محمد/24).

وقسم يراد منه تمييز الظاهر التصديقي عن الظاهر الحرفي، وتمييز الظاهر البدوي عن الظاهر الاستمراري (ما يستقرّ في الذهن بعد التدبّر) ومثل هذا لا يتحقّق إلاّ

______________________

1 . علاقة الاثبات والتفويض: ص 67، نقلاً عن الصاوي على تفسير الجلالين ج 3، ص 10 وغيره.

( 329 )

بالتأمّل في نفس الآية الكريمة و ما احتفّ بها من القرائن اللفظية أو ما جاء في الآيات الأخر. وهذا القسم لو صحّت تسميته بالتأويل، تأويل مقبول. كيف وهو ليس بتأويل بمعنى صرف الكلام عن ظاهره والأخذ بخلاف الظاهر، بل واقعيته تحديد ظاهر الكلام، وتعيينه. وهذا من خواصّ كلِّ كلام مشتمل على نكات بديعة و معاني رفيعة ألقي لهداية الناس باختلاف طبقاتهم و تعدّد ثقافاتهم. ومثل هذا لو صحّ عليه أنّه أخذ بخلاف الظاهر فإنّما هو أخذ بخلاف الظاهر الحرفي و رفض لظاهره الابتدائي. وأمّا الظاهر التصديقي والاستمراري فهو عين الأخذ به. ونمثِّل لك مثالاً:

إذا قال القائل في تبيين سماحة شخص وجوده: «فلان كثير الرّماد» فهناك ظاهر حرفي و ظاهر تصديقي، كما أنّ هناك ظاهراً بدئياً و ظاهراً استمراريّاً.

فالأوّل مرفوض جدّاً، فإنّ كثرة الرّماد في البيت لو لم يكن ذمّاً لا يكون مدحاً، مع أنّ القائل بصدد المدح.

والثاني مقبول عند العقلاء وعليه يدور رحى الفصاحة والبلاغة و إلقاء الخطب الرنانّة و إنشاء الكلم اللّذيذة على الأسماع.

المعتزلة بين

التأويل المرفوض و المقبول

إنّ المعتزلة في تفسير الآيات الواردة في مجال الصفِّات بين تأويل مرفوض، وتأويل مقبول. فتارة يؤوّلون الكلام بحجّة أنّه يخالف العقل ولا يذكرون للتّأويل قرينة مقاليّة أو شاهداً من سائر الآيات. وهذا يعرب عن أنّ الغاية منه هو التخلّص من مخالفة النقل مع العقل، وهذا هو التأويل المرفوض، فحاشا أن يكون النقل مخالفاً للعقل. بل المخالفة تتراءى إمّا لعدم تشخيص حقيقة النّقل و تخيّل ما ليس بظاهرها ظاهراً، أو لاشتباه العقل فيما يحكم و يبرم.

وأخرى يؤوّلون معتمدين على القرائن و الشّواهد الّتي تثبت الظهور التصديقي وتوقفنا على أنّ الظهور البدائي أو التصوّري ليس بمراد. وهذا هو التّأويل المقبول،

( 330 )

وإليه الاستناد في تأويل المتشابهات بالمحكمات و تعيين الظهور التصديقي.

ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من التأويلين نأتي بمثالين:

1- قول سبحانه: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ اسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العَالِينَ) (ص/75).

ترى أنّ القاضي يبادر إلى تأويل الآية بأنّ اليد هنا بمعنى القوّة(1).

يلاحظ عليه: أنّ اليد و إن كانت تستعمل في القوّة والنعمة ، قال سبحانه (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُد ذَا الأيدِ إِنَّهُ أَوّاب)(ص/17) فإنّ اليد في هذه الآية مردّدة ابتداء بين النعمة والقوّة والعضو المخصوص، إلاّ أنّ القرينة في الآيات تدلُّ على أنّها كناية عن النعمة أو القوّة، والقرينة عليه ورودها في قصّة داود المشهورة في القرآن. فقد كان ذا نعمة و قوّة، أشار إليهما سبحانه في تلك ا لسورة وقال: (إنّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ...) (ص/19-29) و هذه الآيات قرينة على أنّ اليد إنّما كنّى بها عن النّعمة والقوّة. إلاّ أنّ الآية السابقة تفارق هذه الآية و ليس مثلها وذلك لأجل أمرين:

أوّلاً: إنّ من المعلوم أنّ الخالق لا يخلق

شيئاً إلاّ عن قوّة، فلا معنى لذكرها إلاّ أن تكون هنا نكتة، مثل دفع توهّم العجز في المتكلّم و ليس المقام كذلك كما سيأتي في قوله سبحانه (وَالسَّماءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْد).

وثانياً : أنّه لو كان المراد منها هو القوّة، فما هو وجه التثنية؟

فلأجل ذلك كان اللاّزم على القاضي و أمثاله، الامعان في الآية حتّى يقفوا على الظهور التصديقي، ليستغنوا به عن مخالفة العقل. فنقول:

إنّ اليد في الآية استعملت في العضو المخصوص، ولكنّها كنّى بها عن الاهتمام بخلقة آدم حتّى يتسنّى بذلك ذمّ إبليس على ترك السجود لآدم. فقوله سبحانه: (مَامَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) كناية عن أنّ آدم لم يكن مخلوقاً لغيري حتّى

______________________

1 . شرح الاصول الخمسة: ص 228.

( 331 )

يصحّ لك يا شيطان التجنّب عن السجود له، بحجّة أنّه لا صلة له بي، مع أنّه موجود خلقته بنفسي، ونفخت فيه من روحي. فهو مصنوعي و مخلوقي الّذي قمت بخلقه، فمع ذلك تمرّدت عن السجود له.

فاُطلقت الخلقة باليد و كنّى بها عن قيامه سبحانه بخلقه، وعنايته بايجاده، وتعليمه إيّاه أسماءه، لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد، يقول: هذا ما بنيته بيدي، أو ما صنعته بيدي، أو ربّيته بيدي و يراد من الكل هو القيام المباشري بالعمل، و ربّما استعان فيه بعينه و سمعه و غيرهما من الأعضاء، لكنّه لا يذكرها و يكتفي باليد. وكأنّه سبحانه يندِّد بالشيطان بأنّك تركت السجود لموجود اهتممت بخلقه و صنعه.

و نظير ذلك قوله سبحانه: (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) (يس/71) فالأيدي كناية عن تفرّده تعالى بخلقها، لم يشركه أحد فيه. فهي مصنوعة لله تعالى والناس يتصرّفون فيها تصرف

المّلاك كأنّها مصنوعة لهم، فبدل أن يشكروا يكفرون بنعمته. وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقف على أنّ المقصود هو المعنى الكنائي، والمدار في الموافقة والمخالفة هو الظهور التّصديقي لا التصوّري.

قال الشريف المرتضى: «قوله تعالى:( لما خلقت بيديّ)» جار مجرى قوله «لما خلقت أنا» و ذلك مشهور في لغة العرب. يقول أحدهم: هذا ما كسبت يداك، وما جرت عليك يداك. و إذا أرادوا نفي الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضّرب من الكلام فيقولون: فلان لا تمشي قدمه، ولا ينطق لسانه، ولا تكتب يده، وكذلك في الاثبات، ولا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة بل الفائدة فيه النفي عن الفاعل»(1).

وأمّا قوله سبحانه (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْد وَ إِنَّا لَمُوسعونَ) (لذاريات/47)، فالمراد من الأيدي هو القوّة و الإحكام، والقرينة عليه قوله: (لموسعون) وكأنّه سبحانه

______________________

1 . امالي المرتضى: ج 1، ص 565.

( 332 )

يقول: والسماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها و إنّا لذو سعة في القدرة لا يعجزها شيء، أو بنيناها بقدرة عظيمة و نوسعها في الخلقة. ومن أراد أن يقف على تأويل غير مقبول في تفسير الآية فعليه أن يرجع إلى كلام الزمخشري في هذاالباب، فإنّ تأويله أردأ من تأويل القاضي، وهو من ذلك العالم البارع الأديب بعيد جدّا(1).

هذا نموذج من التّأويل المردود، وأمّا التأويل المقبول فحدّث عنه ولا حرج، وإليك نموذجاً منه:

2- قوله سبحانه: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيع إلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(يونس/3).

وقوله سبحانه: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ

مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ) (الأعراف/54).

وقد شغل بال المفسّرين و أهل الكلام استواؤه سبحانه على العرش، فأقصى ما عند أهل التنزيه من الأشاعرة أنّه سبحانه مستو على عرشه (جالس أو مستقرّ عليه) ولكن من غير كيف(2).

وأمّا المشبّهة فهم يقولون بالجلوس على العرش على الكيف والتّشبيه.

ولو أنّ القوم تدبّروا في نفس الآيتين الماضيتين والآيات الاُخر(3) التّي ورد فيها قوله سبحانه: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ)، لوقفوا على أنّ الظهور التصوّري وهو كونه سبحانه ذا سرير متربّعاً عليه، غير مراد قطعاً، إذ لا مناسبة لهذا المعنى مع ما جاء في الآيات من بيان عظمة قدرته وسعة ملكه و تدبيره، وإنّه لا يشذّ عن علمه شيء، بل

______________________

1 . لاحظ الكشاف: ج 3 ص 21.

2 . الابانة: باب ذكر الاستواء على العرش، ص 85.

3 . الرعد / 2، الفرقان / 59، السجدة / 5، الحديد / 5، غافر / 15، طه / 8 باختلاف يسير .

( 333 )

المراد هو الظهور التصديقي، وأنّ الاستواء بمعنى التمكّن والاستيلاء التام، لا الجلوس ولا الاستقرار بعد التزلزل، كما أنّ المراد من العرش، عرش التدبير و عرش الملك لا الّذي يجلس عليه الملوك. وليس هذا شيئاً غير موجود في الأدب العربي بل هو مملوء من هذه المعاني.

أمّا الاستواء بمعنى الاستيلاء فقد قال الأخطل يمدح بشراً أخا عبدالملك بن مروان حين ولى إمرة العراقين:

قد است_وى بشر على العراق * من غي_ر سي_ف ودم مه_راق

فالحمد للمهيمن الخلاّق

فليس المراد من الاستواء الجلوس أو الاستقرار، بل التمكّن والاستيلاء التام والسيطرة على العراقين وكسح كلِّ مزاحم ومخالف.

وقال الطرمّاح بن حكيم:

طال على رس_م مه_دد أب_ده * وعف__ى واست__وى ب_ه بل__ده

والمراد استقام له الأمر واستتبّ.

وقال آخر:

فلمّا علونا

و استوينا عليهم * تركناهم صرعى لنسر و كاسر

هذا حول الاستواء. وأمّا العرش، فالمتبادر منه تصوّراً هو السرير يجلس عليه الملوك، و يدبّرون منه ملكهم و يصدرون الأوامر والنواهي. غير أنّه هناك كناية عن الملك والسّلطة. يقال: ثلّ عرش بني فلان، إذا زال ملكهم. يقول الشاعر:

إذا ما بنو مروان ثلّت عروشهم * وأودت كما أودت أي_اد وحمي_ر

فليس المراد تهدّم العروش الّتي كانوا يجلسون عليها، بل كناية عن زوال الملك والسيطرة وانقطاع سلطتهم. والدقة في الآيات الّتي ورد فيها استيلاؤه سبحانه على العرش يثبت بوضوح أنّ المراد من الآية هو السيطرة والتمكّن على صحيفة الكون

( 334 )

والخلقة، وأنّها بعد الخلقة في قبضة قدرته و حوزة سلطنته لم تفوّض لغيره، ولأجل ذلك يذكر في سورة يونس بعد هذه الجملة قوله: (يدبِّر الأمر ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه) معرباً عن أنّه المدبِّر لأمر الخلقة، وذلك لاستيلائه على عرش ملكه. فمن استولى على عرش ملكه يقوم بتدبيره، ومن ثلّ عرشه أو زال ملكه أو انقطع عنه لا يقدر على التدبير. كما أنّه سبحانه يذكر بعد هذه الجملة في سورة الأعراف كيفيّة التدبير و يقول: >>ِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ) فهذه الجمل تعابير عن تدبيره صحيفة الكون. وكونه مصدراً لهذه التدبيرات الشامخة، دليل على أنّه مستول على ملكه، مهيمن عليه، مسيطر على ما خلق ولم يخرج الكون عن حوزة قدرته، ومثله سائر الآيات الواردة فيها تلك الجملة، فإنّك ترى أنّه جاء في ضمن بيان فعل من أفعاله سبحانه. ففيها دلالات على «التوحيد في التدبير» الّذي هو أحد مراتبه.

وأمّا إذا فسّرنا الاستواء بالجلوس والاستقرار، والعرش بالكرسي الّذي يتربّع

عليه الملوك، يكون المعنى غير مرتبط بما ورد في الآية من المفاهيم، إذ أيّ مناسبة بين التربّع على الكرسي المادي والقيام بهذه التدابير الرفيعة. فإن المصحِّح للتدبير هو السيطرة والهيمنة على الملك وهو لا يحتاج إلى التربّع والجلوس على الكرسي، بل يتوقّف على سعة ملكه و نفوذ سلطته.

وقد قام القاضي بتأويل الآية بمثل ما ذكرنا-بعبارات قليلة-وهو نموذج واضح للتأويل المقبول.

وإذا وقفت على هذا المقياس تقدر على تمييز المقبول عن الزائف في الصفات الخبريّة، وعليك بالآيات الوارد فيها الألفاظ التالية:

الوجه، العين، الساق، مجيئه سبحانه.

وفي الأحاديث المرويّة عن طرق ضعاف ورد: الرجل، والقدم.

فالمعتزلة بل العدليّة عامّة يصفونه سبحانه بكلِّ ما وصف نفسه به. ولكنّ

( 335 )

الاختلاف في تمييز المراد الجدّي عن الصّوري، والظاهر التصديقي عن الظاهر الحرفي. فالمشبِّهة والأشاعرة مصّرون على الأخذ بالأوّل مع أنّ سيرة العقلاء العارفين بالكلام وأساليب البلاغة على الثاني. وعند ذلك لا تجد أيّ مخالفة بين العقل والنّقل الصحيح كالقرآن الكريم. وأمّا الروايات فأكثرها إسرائيليات دسّت في الأحاديث الإسلاميّة من طريق الأحبار والرهبان و نقلها السذّج من أصحاب الحديث زاعمين أنّها حقائق راهنة يلزم الأخذ بها، وقد استوفينا الكلام فيها عند البحث عن عقائد أهل الحديث.

***

ج- نفي الرؤية الحسية

هذه هي النقطة الثالثة الّتي تركز عليها المعتزلة عند البحث عن التوحيد، وقد عرفت أنّ التوحيد رمز للتنزيه، أي تنزيهه سبحانه عن الجسم والجسمانيّات و أحكامها. وقد شغلت هذه المسألة بال المفسِّرين و المتكلِّمين وقد بحث عنها القاضي في كتابيه «شرح الاُصول الخمسة»، و «المغني» على وجه البسط.

يقول القاضي: «وممّا يجب نفيه عن الله تعالى الرؤية، وهذه مسألة خلاف بين الناس، وفي الحقيقة الخلاف في هذه المسألة إنّما يتحقّق بيننا وبين هؤلاء الأشاعرة الّذين لا

يكيّفون الرؤية. وأمّا المجسّمة فهم يسلِّمون أنّ الله تعالى لو لم يكن جسماً لم صحّ أن يرى، ونحن نسلِّم لهم أنّ الله تعالى لو كان جسماً لصحّ أن يرى والكلام معهم في هذه المسألة لغو».

وبما أنّا استوفينا دراسة أدلّة المجوّزين للرؤية في الجزء الثاني، فلنكتف في المقام بدراسة أدلّة النافين على وجه الإجمال. فنقول:

استدلّت المعتزلة على نفي الرؤية بالأدلّة العقليّة والسّمعية. أمّا العقلية، فهي ما أثبتها الحسّ والعلوم الطبيعية من أنّ الرائي بالحاسّة لا يرى الشيء إلاّ إذا كان مقابلاً أو حاّلاً في المقابل أو في حكم المقابل. وقد ثبت أنّ الله تعالى لا يجوز أن يكون كذلك، لأنّ المقابلة من أحكام الأجسام والأعراض وهو سبحانه فوق الممكنات والمادّيات.

( 336 )

هذا ما استدلّ به القاضي تبعاً لمشايخه. ثمّ أجاب عمّا ربّما يتمسّك به المجوّز من أنّه يمكن أن نرى القديم تعالى بحاسّة سادسة من دون الحاجة إلى المقابلة. وقال: إنّه لو جاز أن يرى القديم بحاسّة سادسة لجاز أن يذاق بحاسّة سابعة، وأن يلمس بحاسّة ثامنة، وأن يشمّ بحاسّة تاسعة، ويسمع بحاسّة عاشرة. تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً(1).

أقول: كان على القاضي أن يعترض أيضاً بأنّ الرؤية بحاسّة سادسة مضافاً إلى أنّه رجم بالغيب، خروج عن الموضوع.

وأمّا السمعيّة: فقد استدلّ القاضي بقوله تعالى: (لاتُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير)(الأنعام/103).

قال: «وجه الدّلالة في الآية هو ما قد ثبت من أنّ الإدراك إذا قرن بالبصر، لا يحتمل إلاّ الرؤية. وثبت أنّه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر، ونجد في ذلك تمدّحاً راجعاً إلى ذاته. وما كان نفيه تمدّحاً راجعاً إلى ذاته كان إثباته نقصاً، والنقائص غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال.

ثمّ

قال: فإن قيل: أليس يقولون: «أدركت ببصري حرارة الميل» فكيف يصحّ قولكم إنّ الادراك إذا قرن بالبصر لا يحتمل إلاّ الرؤية؟ اُجيب بأنّ هذا ليس من اللّغة في شيء، و إنّما اخترعه ابن أبي بشر الأشعري ليصحّح مذهبه به، إذ لم يرد في كلامهم لا المنظوم ولا المنثور».

أقول: إنّ العرب في هذا المجال تقول: «أحسست ببصري حرارة الميل» على أنّ الباء إنّما تدخل على الآلة كقولهم: «مشيت برجلي و كتبت بقلمي» والبصر ليس بآلة في إدراك الحرارة، بل يستوي فيه البصر والسّمع، فلو اُطلق البصر فلا يراد منه إلاّ العضو الحاسّ لا العضو الّذي يرى به.

ثمّ إنّ القاضي أفاض الكلام في دلالة الآية وردّ ما اُثير حولها من الشبهات بوجه

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 248 _ 253.

( 337 )

ممتاز، فمن أراد فليرجع إليه(1).

ومن لطيف ما أفاده في المقام، هو الاجابة عن احتجاج المثبتين بما رووه عن النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر»(2). فأجاب عن الاستدلال بوجوه:

الأوّل: إنّ الأخذ بظاهر الخبر يستلزم أن نرى الله سبحانه مثلما نرى القمر، فإنّا لا نرى القمر إلاّ مدوّراً عالياً منوّراً، والله سبحانه أعلى من هذه الصفات.

يلاحظ عليه: أنّ وجه الشّبه هو الرؤية الحسيّة اليقينيّة. فكما أنّ الإنسان لا يشكّ _ بعد ما رأى القمر _ أنّه رآه، فهكذا فيه سبحانه لاتمام الخصوصيات.

الثاني: أنّ هذا الخبر يروى عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبدالله البجلي، عن النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم. وقيس هذا مطعون فيه من وجهين:

أحدهما: أنّه كان يرى رأى الخوارج. يروى أنّه قال: «منذ سمعت عليّاً على منبر الكوفة

يقول: انفروا إلى بقيّة الأحزاب _ يعني النّهروان _، دخل بغضه على قلبي» ومن دخل بغض أمير المؤمنين _ عليه السلام _ قلبه فأقلّ أحواله أن لا يعتمد على قوله، ولا يحتجّ بخبره.

وثانيهما: قيل إنّه خولط في عقله آخر عمره، والكتبة يكتبون عنه على عادتهم في حال عدم التّمييز، ولا ندري أنّ هذا الخبر رواه وهو صحيح العقل أو مختلطه.

الثالث: إن صحّ هذا الخبر فأكبر ما فيه أن يكون خبراً من أخبار الآحاد. وخبر الواحد ممّا لا يقتضي العلم. ومسألتنا طريقها القطع والثبات.

ثمّ إنّ هذا الخبر معارض بأخبار رويت. ثمّ ذكر بعض الأخبار(3).

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 248 _ 253.

2 . صحيح البخاري، كتاب المواقيت، الباب 16، الحديث 26 ج 1 ص 111، وباب الاذان وغيره.

3 . شرح الاُصول الخمسة: ص 269.

( 338 )

الاجابة عن الشّبه الثلاث

إنّ للمثبتين، شبهاً ثلاثاً أشبه ما تكون بشبهات الأحداث:

الأولى:إنّ القديم تعالى عندكم راء لذاته، فيجب أن يرى نفسه فيما لم يزل. وكلّ من قال إنّه يرى نفسه، قال إنّه يراه غيره.

يلاحظ عليه: أنّ الصغرى والكبرى ممنوعتان. فإن اُريد من رؤيته لذاته حضور ذاته لذاته وعدم غيبوبتها عنها، فهو صحيح ولا صلة له بالرؤية الحسّيّة، وإن اُريد الرؤية بالبصر فالصغرى ممنوعة. وأمّا الكبرى فزعم المستدلّ أنّ المسألة مسألة فقهيّة لا يصحّ التفكيك بينهما.

الثانية:إنّ مصحِّح الرؤية هو الوجود، بدليل أنّ الشيء متى كان موجوداً كان مرئياً. ومتى لم يكن كذلك لم يكن مرئيّاً.

يلاحظ عليه: أنّ الوجود شرط الرؤية لا العلّة التامّة. ولأجل ذلك لا يرى الإنسان الارادات والكراهات ولا غير ذلك. فللرؤية شرائط قد حقِّقت في العلوم الطّبيعية.

الثالثة:إنّ إثبات الرؤية للّه تعالى لا تؤدّي إلى حدوثه، ولا إلى حدوث معنى

فيه، ولا إلى تشبيهه بخلقه.

وأجاب القاضي أنّ إثبات الرؤية تؤدّي إلى تشبيهه بخلقه، لأنّ الشّيء إنّما يرى إذا كان مقابلاً، أو حالاً في المقابل، وهذه من صفات الأجسام، فيجب أن يكون تعالى جسماً، وإذا كان جسماً يجب أن يكون محدثاً (1).

______________________

1 . كان على القاضي و غيره البحث عن حدوث كلامه سبحانه أو قدمه في المقام، لأنّ نفي قدمه من شئون توحيده، ولكنه غفل عن ذلك.

الأصل الثاني العدل

العدل

العدل

هذا هو الأصل الثّاني من الاُصول الخمسة، والأصل الأوّل يهدف إلى تنزيه ذاته سبحانه عمّا لا يجوز حمله عليه، وتمييزه عمّا يجوز، و هذا يهدف إلى أفعاله سبحانه و تمييز ما يجوز عليه عمّا لا يجوز، فإذا وصفنا القديم تعالى بأنّه عدل حكيم، فالمراد به أنّه لا يفعل القبيح أو لا يختاره ولا يخلّ بما هو واجب عليه وإنّ أفعاله كلّها حسنة. وخالفتهم المجبِّرة و أضافت إلى الله تعالى كلّ قبيح، وقد تعرّفت على تعريف القاضي لهذا الأصل في مدخل البحث عن الاُصول الخمسة.

وخلاصة هذا الأصل عند العدليّة من غير فرق بين المعتزلة والإماميّة، هو أنّ الله عزّوجلّ عدل كريم، خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وعمّهم بهدايته، بدأهم بالنِّعم و تفضّل عليهم بالاحسان. لم يكلِّف أحداً إلاّ دون الطاقة، ولم يأمره إلاّ بما جعل له عليه الاستطاعة. لا عبث في صنعه ولا قبيح في فعله. جلّ عن مشاركة عباده في الأفعال، وتعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال لا يعذِّب أحداً إلاّ على ذنب فعله، ولا يلوم عبداً إلاّ على قبيح صنعه. لا يظلم مثقال ذرّة، وإن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجراً عظيماً.

ثمّ إنّ لهذا الأصل دوراً كبيراً في تطوير المسائل الكلاميّة، وهو الحجر

الأساس لكثير من آراء المعتزلة كما نشير إليها. وهو يبتنى على التّحسين والتّقبيح العقليّين، فلو ثبتا بالبرهان العقلي، يثبت العدل كما ثبت كلّ ما بنى عليه من المسائل، وإلاّ يصبح الأساس والبناء خاليين من البرهان. وترى ما ذكرنا في نصّ القاضي، يقول:

( 340 )

«إنّ العَدْل مصدر عَدَلَ يَعْدلُ عَدْلاً، ثمّ قد يذكر و يراد به الفعل، وقد يذكر و يراد به الفاعل، فإذا وصف به الفعل، فالمراد به كلّ فعل حسن يفعله الفاعل لينفع به غيره أو ليضرّه.

فأمّا إذا وصف به الفاعل، فعلى طريق المبالغة كقولهم للصائم:صوم، ونحن إذا وصفنا القديم تعالى بأنّه عدل حكيم، فالمراد به أنّه لا يفعل القبيح، أو لا يختاره، ولا يخلّ بما هو واجب عليه، وأنّ أفعاله كلّها حسنة، وقد خالفنا في ذلك المجبِّرة وأضافت إلى الله تعالى كلّ قبيح»(1).

إنّ إثبات عدله سبحانه مبنيّ على ثبوت اُمور ثلاثة:

الأوّل: إنّ هناك أفعالاً تتّصف بذاتها بالحسن والقبح.

الثاني: إنّ الله تعالى عالم بحسن الأشياء و قبحها.

الثّالث: إنّه سبحانه لا يصدر منه القبيح.

أمّا الأوّل: فقد برهنوا عليه بوجوه مختلفة، أوضحها ما أشار إليه أبو عبدالله البصري في عبارة مختصرة و قال: «إنّ كلّ عاقل يستحسن بكمال عقله التّفرقة بين المحسن والمسيء، وإنّما تفرق بينهما الحسنة و إلاّ فلا نفع في ذلك ولا دفع ضرر».

قال القاضي عبدالجبّار: «ومعرفة حسن الأفعال أو قبحها كمعرفة حسن الصِّدق وقبح الكذب، إنّما يعلم ببداهة العقول. أمّا استنباط وجوه الحسن أو القبح في فعل معيّن فذلك يحتاج الى تفكير و استدلال، ومن ثمّ لا تختلف العقول في التّمييز بين حسن الأفعال وقبحها على وجه الجملة، كمعرفة قبح الظّلم، ولكنّها تختلف في الحكم على الإفعال تفصيلاً، فيستحسن الخوارج قتل مخالفيهم بينما

تستقبح ذلك معظم فرق المسلمين»(2).

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 301.

2 . المغني: ج 6، ص 20.

( 341 )

توضيحه إنّ في الحكمة النّظريّة قضايا نظريّة تنتهي إلى قضايا بديهيّة، ولولا ذلك لعقمت القياسات و صارت غير منتجة، ومثلها الحكمة العمليّة، ففيها قضايا غير معلومة لا تعرف إلاّ بالانتهاء إلى قضايا ضروريّة، وإلاّ لما عرف الإنسان شيئاً من قضايا الحكمة العمليّة. فكما أنّ العقل يدرك القضايا البديهيّة في الحكمة النظريّة من صميم ذاتها، فهكذا يدرك بديهيّات القضايا في الحكمة العمليّة من صميم ذاتها بلا حاجة إلى تصوّر شيء آخر.

مثلاً، إنّ كلّ القضايا النظريّة يجب أن تنتهي إلى قضيّة امتناع اجتماع النّقيضين وارتفاعهما، بحيث لو ارتفع التّصديق بهما لما أمكن التّصديق بشيء من القضايا ولذا تسمّى ب_ «أمّ القضايا» فلا يحصل اليقين بأنّ زوايا المثلّث مثلاً تساوي قائمتين، إلاّ إذا حصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضيّة، أي عدم مساواتها لهما. وإلاّ فلو احتمل صدق النّقيض لما حصل اليقين بالنّسبة، ولأجل ذلك اتّفقت كلمة الحكماء على أنّ إقامة البرهان على المسائل النّظريّة إنّما تتمّ إذا انتهى البرهان إلى أُمّ القضايا الّتي قد عرفت.

وعلى ضوء هذا البيان نقول: كما أنّ للقضايا النّظرية في العقل النّظري قضايا بديهيّة أو قضايا أوّليّة تنتهي إليها، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي يجب أن تنتهي إلى قضايا أوّليّة و واضحة عند ذلك العقل، بحيث لو ارتفع التّصديق بهذه القضايا في الحكمة العمليّة لما صحّ التّصديق بقضيّة من القضايا فيها.

فمن تلك القضايا البديهيّة في العقل العملي مسألة التّحسين والتّقبيح العقليّين الثابتين لجملة من القضايا مثل قولنا: «العدل حسن» و «الظّلم قبيح» و «جزاء الإحسان بالإحسان حسن» و «جزاء الإحسان بالإساءة قبيح». فهذه

القضايا قضايا أوّلية في الحكمة العمليّة، والعقل العملي يدركها من ملاحظة القضيّة بنفسها وفي ضوئها يحكم بما ورد في مجال العقل العملي من الأحكام المربوطة بالأخلاق أوّلاً، وتدبير المنزل ثانياً، وسياسة المدن ثالثاً، الّتي يبحث عنها في العقل العملي. وليس استقلال

( 342 )

العقل في تلك القضايا الأوّلية الراجعة إلى العقل العملي إلاّ لأجل أنّه يجدها إمّا ملائمة للجانب العالي من الإنسانيّة، المشترك بين جميع أفراد الإنسان، أو منافرة له. وبذلك تصبح قضيّة التّحسين والتّقبيح في قسم من الأفعال، قضيّة كلّية لا تختصّ بزمان دون زمان، ولا جيل دون جيل. بل لا تختصّ _ في كونها كمالاً أو نقصاً _ بالإنسان بل تعمّ الموجود الحيّ المدرك المختار، لأنّ العقل يدركها بصورة قضيّة عامّة شاملة لكلّ من يمكن أن يتّصف بهذه الأفعال كالعدل والظلم، فهو يدرك أنّ الأوّل حسن عند الجميع ومن الجميع، والثاني قبيح كذلك، وليس للانسان خصوصيّة في ذلك القضاء.

وبذلك يصبح المدّعي للتّحسين والتّقبيح العقليّين الذاتيّين في غنى عن البرهنة لما يتبنّاه، كما أنّ المدّعي لامتناع اجتماع النقيضين و ارتفاعهما كذلك.

والعجب أنّ الحكماء والمتكلّمين اتّفقوا على أنّه يجب انتهاء القضايا النّظريّة في العقل النظري إلى قضايا بديهيّة، و إلاّ عقمت الأقيسة ولزم التّسلسل في مقام الاستنتاج، ولكنّهم غفلوا عن إجراء ذلك الأصل في جانب العقل العملي ولم يقسّموا القضايا العمليّة إلى فكرية و بديهيّة، أو نظريّة و ضروريّة. كيف والاستنتاج والجزم بالقضايا الواردة في مجال العقل لا يتمّ إلاّ إذا انتهى العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال.

فالمسائل المطروحة في الأخلاق ممّا يجب الاتّصاف به أو التنزّه عنه، أو المطروحة في القضايا البيتيّة و العائليّة الّتي يعبّر عنها بتدبير المنزل، أو القضايا المبحوث عنها في

علم السياسة و تدبير المدن، ليست في الوضوح على نمط واحد، بل لها درجات ومراتب.

فلا ينال العقل الجزم بكلّ القضايا العمليّة إلاّ إذا كانت هناك قضايا بديهيّة واضحة تبتنى عليها القضايا المجهولة العمليّة حتّى يحصل الجزم بها و يرتفع الابهام عن وجهها. ولأجل ذلك فالقائل بالتّحسين والتّقبيح العقليّين في غنى عن التوسّع في طرح أدلّة القائلين بهما.

( 343 )

وبهذا البيان يستغني الإنسان عن كثير من الأدلّة الّتي أقامها القائلون بالحسن والقبح، سواء أكانت صحيحة أم لا. نظير ما ربّ_ما يقال من أنّ أحدنا لو خيّر بين الصّدق و الكذب وكان النّفع في أحدهما كالنّفع في الآخر وقيل له: إن كذبت أعطيناك درهماً و إن صدقت أعطيناك درهماً، فإنّه قطُّ لا يختار الكذب على الصدق. ليس ذلك إلاّ لعلمه بقبحه و بغناه عنه(1).

يلاحظ عليه: أنّ اختيار الصِّدق على الكذب يمكن أن يكون مستنداً إلى أمر آخر، وهو كون الصِّدق مطابقاً للفطرة و الكذب على خلافها. ولأجل ذلك لا يختار الصبي إلاّ الصِّدق وليس ذلك لأجل العلم بقبح الكذب. هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني: أعني كونه سبحانه عالماً بحسن الأشياء وقبحها، فقد استدلّ عليه القاضي بأنّه تعالى عالم لذاته، ومن حقِّ العالم لذاته _ أن يعلم جميع المعلومات على الوجوه الّتي يصح أن تعلم عليها. ومن الوجوه الّتي يصحّ أن يعلم المعلوم عليه قبح القبائح، فيجب أن يكون القديم تعالى عالماً به(2).

يلاحظ عليه: أنّ كلامه مجمل و لعلّه يريد أنّ ذاته سبحانه علّة الأشياء و علّة لصفاتها، والعلم بالعلّة، علم بالمعاليل. فهو سبحانه بما أنّه عالم لذاته، عالم بمعاليله من الذوات والصفات.

ولكن التقرير عليل من وجهين:

الأوّل:إنّ الحسن والقبح من صفات الأفعال لا من صفات الأشياء

الخارجية من الجواهر والاعراض القائمة بها، وأفعال الإنسان ليست مخلوقة له سبحانه عند المعتزلة فلا تكون معلولة لذاته حتّى يلزم من العلم بالذات، العلم بها.

الثاني: إنّ الحسن والقبح، بمعنى يجب أَنْ يفعل أو لا يفعل، من الأحكام العقلية وليست من الصفات الخارجية للأفعال و الأشياء، حتّى يكونا مخلوقين له سبحانه،

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 303.

2 . المصدر السابق: ص 302.

( 344 )

وحتى يقال بأنّ خالق القبيح والحسن خالق لقبحه أو حسنه. فالطريق الأوسط، الاستدلال على علمه بالحسن والقبيح بعلم الإنسان بهما، والله سبحانه عالم بما خلق، وبما ينطوي عليه مخلوقه من التصورات والتّصديقات.

فاذا كان حسن الأشياء وقبحها بذاتها معلومة للإنسان المخلوق، فهي معلومة له بالضرورة، لانتهاء ما في الكون إلى الله سبحانه. قال تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو الّلطيف الخبير) (الملك/14) وقد تعرّفت في البيان الّذي أوضحنا به دليل أبي عبدالله البصري أنّ العقل يدرك أن هنا شيئاً حسناً لدى الكلّ وقبيحاً كذلك. فلا يختصّ قبح الأشياء ولا حسنها بشخص دون آخر.

وأماّ الأمر الثالث: فقد استدلّوا عليه بما ورد في الكتب الكلاميّة من أنّ القبيح لا يختاره إلاّ الجاهل بالقبح أو المحتاج إليه، وكلاهما منفيّان عنه تعالى، ولأجل ذلك إنّ الظّلمة والفسقة لا يرتكبون القبائح إلاّ لجهلهم بقبحها أو لاعتقادهم أنّهم سيحتاجون إليها في المستقبل، كما في غصب الأموال.

يلاحظ عليه: أنّ هذا الدّليل مبنيّ على كون فاعليّة الواجب بالدّاعي الزائد على ذاته، وهو خلاف التّحقيق لكونه تامّاً في الفاعليّة. فلا يكون في الايجاد محتاجاً إلى شيء وراء ذاته.

والأولى أن يقرّر بأنّ مقتضى التّحسين والتّقبيح العقليّين-على ما عرفت-هو أنّ العقل بما هو هو، يدرك أنّ هذا الشيء بما هو هو، حسن أو قبيح، وأنّ

أحد هذين الوصفين ثابت للشيء بما هو هو، من دون دخالة ظرف من الظروف أو قيد من القيود، ومن دون دخالة درك مدرك خاصّ.

وعلى ذلك فالعقل في تحسينه و تقبيحه يدرك واقعيّة عامّة و متساوية بالنسبة إلى جميع المدركين والفاعلين، من غير فرق بين الممكن والواجب. فالعدل حسن يمدح فاعله عند الجميع، والظّلم قبيح يذمّ فاعله عند الجميع، وعلى هذا الأساس فالله سبحانه، المدرك للفعل ووصفه _ أعني استحقاق الفاعل للمدح أو الذمّ من غير

( 345 )

خصوصيّة للفاعل _ كيف يقوم بفعل ما يحكم بأنّ فاعله مستحقّ للذّم، أو يقوم بفعل مايحكم بأنّه يجب التنزّه عنه؟!

وعلى ذلك فالله سبحانه عادل، لأنّ الظلم قبيح و ممّا يجب التنزّه عنه، ولا يصدر القبيح من الحكيم، والعدل حسن وممّا ينبغي الاتّصاف به، فيكون الاتّصاف بالعدل من شؤون كونه حكيماً منزّهاً عمّا لا ينبغي.

وإن شئت قلت: إنّ الإنسان يدرك أنّ القيام بالعدل كمال لكلّ أحد، وارتكاب الظّلم نقص لكلّ أحد. وهو كذلك حسب إدراك العقل، عنده سبحانه. ومعه كيف يجوز أن يرتكب الواجب خلاف الكمال، ويقوم بما يجرّ النّقص إليه؟!

ما يتفرّع على العدل من المسائل

قد عرفت أنّ الحسن والقبح أساس القول بالعدل، وعنه تتفرّع عدّة مسائل تفترق فيها مدرسة الاعتزال عن مدرسة أهل الحديث و الأشاعرة. ونحن نشير إلى عناوينها، ثمّ نبحث عن كلّ واحد تلو الآخر وهي عبارة عن:

1- الله قادر على القبيح.

2- أفعال العباد غير مخلوقة فيهم و أنّهم المحدثون لها.

3- الاستطاعة متقدِّمة على الفعل.

4- قبح التّكليف بما لايطاق.

5- الله تعالى لا يكون مريداً للمعاصي.

6- اللّطف واجب على الله سبحانه.

7- حكم القرآن الكريم من حيث الحدوث والقدم.

8- ما يتعلّق بالنبوّات والشرائع و معاجز الأنبياء.

هذه هي المسائل

المبنيّة على العدل، ونحن نأخذ بالبحث عنها على منهج الاعتزال، وسيوافيك أنّ ثمرات التّحسين والتّقبيح العقليّين أوسع مما ذكر.

( 346 )

المسألة الاُولى: قدرته سبحانه على القبيح

المسألة الاُولى: قدرته سبحانه على القبيح

قد عرفت أنّ القاضي قد رتّب على القول بالعدل عدّة مسائل، ولأجل التعرّف على منهج الاعتزال نطرح هذه المسائل مكتفين على ما جاء به القاضي في (شرح الاُصول الخمسة) فهو رائدنا في هذه المباحث، ومن أراد التبسّط فعليه المراجعة بكتابه الآخر: «المغني» وقد طبع منه أربعة عشر جزءاً، وعلى كلّ حال فكتب القاضي هي الممثّلة لرأي المعتزلة في أعصارهم. والمسألة الاُولى في قدرته سبحانه على القبيح وإنّما عنونها في هذا الفصل لأدنى مناسبة، مع أنّ عنوانها في عموم القدرة أولى من عنوانها في مسألة التّحسين والتّقبيح، والمخالف فيها عدّة من المعتزلة منهم النظّام وعليّ الأسواري والجاحظ، حيث ذهبوا إلى أنّه تعالى غير موصوف بالقدرة على ما لو فعله لكان قبيحاً، وقد ردّ عليه القاضي بقوله «إنّه تعالى قادر على أن يخلق فينا العلم كما هو قادر على أن يخلق بدله الجهل، وأيضاً قادر على أن يخلق الشّهوة في أهل الجنّة كما هو قادر على أن يخلق فيهم النّفرة»(1).

أقول: إنّ التّفصيل بين القدرة على الحسن والقدرة على القبيح، موهون جدّاً، وناش عن عدم التعرّف على مفهوم القدرة، فإنّها تستعمل فيما إذا كان الفاعل بالنّسبة إلى الفعل والتّرك متساوياً، وإلاّ لما وصف بالقدرة، بل بالايجاب. فلو كان قادراً على إدخال المطيع إلى الجنّة، ولم يكن قادراً على إدخاله في النار لما وصف بالقادر، بل كان فاعلاً موجباً، وبذلك يعلم حال عدّة من المسائل الّتي اختلف فيها المعتزلة، وإليك عناوينها:

1- ذهب عبّاد بن سليمان إلى عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه، قائلاً

بأنّ ما علم وقوعه يقع قطعاً، فهو واجب الوقوع، وما علم عدم وقوعه لا يقع قطعاً، فهو ممتنع

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 314.

( 347 )

الوقوع.

يلاحظ عليه: أنّ معناه نفي القدرة و توصيفه سبحانه بالايجاب أوّلاً، وأن تعلّق العلم بوقوعه لا يخرجه عن الاختيار ثانياً، لأنّه تعلّق بصدوره عنه سبحانه اختياراً لا اضطراراً وإيجاباً وقد قلنا نظير ذلك في تعلّق علمه سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم. فلاحظ(1).

2- ذهب البلخي إلى عدم قدرته تعالى على مثل مقدور العبد، لأنّه إمّا طاعة، أو معصية، أو عبث. وهو منزّه عن أن يكون مطيعاً، أو عاصياً، أو عابثاً.

وقد غفل عن أنّ الاطاعة والمعصية، ليستا من الاُمور الحقيقيّة الدّخيلة في ماهيّة العمل، فلو قام إنسان كالخليل لبناء بيت امتثالاً لأمره سبحانه، فالله سبحانه يقدر على إيجاد بيت مثله، والفعلان متّحدان ماهيّة و هيئة، وإن كان الأوّل مصداقاً للاطاعة دون الآخر.

وبعبارة أُخرى: أنّ الاطاعة أمر انتزاعيّ ينتزعه العقل من مطابقة المأتي به لما أمر به المولى، وعلى هذا فهناك واقعيّتان: الأوّل: الأمر، الثاني، المأتيّ به، وأمّا الموافقة والمخالفة فهما أمران ذهنيّان يتواردان على الذّهن من ملاحظتهما، فإن وجد بينهما المشابهة أو المخالفة يعبّر عن الاُولى بالطّاعة، وعن الثانية بالعصيان، وليس لهما واقعيّة وراء الذهن، فلا تكون الحقيقة الخارجيّة سواء صدرت عن الله سبحانه، أو عن عباده، أمرين متباينين.

3- ذهب الجبّائيان إلى عدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين إذا أراده الله و كرهه العبد، أو بالعكس.

يلاحظ عليه: أنّه كان على القائل الاستدلال بوجه آخر، وهو أنّه يلزم حينئذ اجتماع العلّتين على معلول واحد. ومع ذلك كلّه، فما جاء في الاستدلال نشأ من فكرة ثنويّة ناشئة عن مبادئ

الاعتزال، فتخيّل أنّ فعل العبد يجب أن يكون مخلوقاً للعبد

______________________

1 . لاحظ الجزء الثاني: ص 301 _ 307.

( 348 )

وحده ولا يكون للّه سبحانه فيه شأن، لما أنّ هناك فاعلين مستقلّين: «الله» و «الإنسان»، ولكلِّ مجاله الخاص. وعند ذلك لا يرتبط مقدور العبد بالله سبحانه كما لا يرتبط مقدوره بعباده، ولكنّه باطل، لما عرفت من أنّ العلّتين ليستا عرضيّتين بل طوليّتين، فالعلل الامكانيّة في طول العلّة الواجبة، وبما أنّه تنتهي العلل إلى الواجب، يكون مخلوق العبد مخلوقه سبحانه.

المسألة الثانية: في أنّ أفعال العباد، ليست

المسألة الثانية:

في أنّ أفعال العباد، ليست مخلوقة للّه سبحانه

من فروع القول بالعدل كون فعل الإنسان فعله، لا فعل خالقه.

توضيحه: أنّ أهل الحديث و الأشاعرة يعتقدون بكون أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه، وعندئذ يلزم على أصول الاعتزال كونه سبحانه موصوفاً بفعل القبيح، وذلك لأنّ أفعال العباد بين حسن وقبيح، فلو كان هو الفاعل يلزم أن يكون فاعل القبيح. ثمّ الجزاء على القبيح قبيح مع كون الفاعل هو الله سبحانه.

ويفصّل القاضي الأقوال في المسألة على النّحو التالي:

1- العباد هم المحدثون لأفعالهم، ويقابلهم الجبريّة كالجهميّة القائلون بأنّ أفعالهم مخلوقة للّه ولا تعلّق لها بالعباد.

2- من ذهب إلى كونها مخلوقة للّه ولكن لها تعلّق بهم من جهة الكسب.

3- من سوّى في هذه القضيّة بين المباشر و المتولّد، وقال: كلاهما مخلوق للّه سبحانه ومتعلّق بنا من جهة الكسب، وينسب هذا إلى ضرار بن عمرو.

4- ومنهم من فصل بين المباشر والمتولّد، فقال: إنّ المباشر خلق الله تعالى فينا متعلّق بنا من حيث الكسب، وأمّا المتولّد كالاحراق بعد الالقاء فالله تعالى متفرّد بخلقه.

وبما أنّا استوفينا الكلام في عقيدة الأشاعرة و مفهوم الكسب في الجزء الثاني،

--------------------------------------------------------------------------------

( 349 )

نركّز البحث هنا على عقيدة المعتزلة.

فالمنقول عنهم تفويض، أفعال العباد إلى أنفسهم وأنّهلا شأن للّه سبحانه في أفعال عباده، فذواتهم مخلوقة للّه و أفعالهم مفوّضة إلى أنفسهم.

وبعبارة ثانية: العباد في ذواتهم محتاجون إلى الواجب لا في أفعالهم و حركاتهم وسكناتهم. فالمعتزلة في كتب الأشاعرة والشّيعة الإماميّة، مرميّة بهذه العقيدة، وإليك نقل ما يعرب عن مذهبهم:

1- قال الأشعري: «زعمت المعتزلة أنّ الله تعالى لم يخلق الكفر والمعاصي ولا شيئاً من أفعال غيره. وأنّ الله خلق الكافر لا كافراً، ثمّ إنّه كفر وكذلك المؤمن، واختلفت في الإنسان يخلق فعله أم لا، على ثلاث مقالات:

فزعم بعضهم أنّ معنى فاعل و خالق واحد، وأنّا لا نطلق ذلك في الإنسان لأنّا مُنعنا منه.

وقال بعضهم: هو الفعل لا بآلة ولا بجارحة، وهذا يستحيل منه.

وقال بعضهم: معنى خالق: أنّه وقع منه الفعل مقدّراً، فكلّ من وقع فعله مقدّراً فهو خالق، قديماً كان أم محدثاً»(1).

وحاصله أنّهم لم يقولوا بكون أفعال العباد مخلوقة للِّه، وأمّا كونها مخلوقة لأنفسهم فمن فسّر الخلق بالايجاد لا بآلة ولا بجارحة، فمنع عن الاطلاق. وأمّا من فسّر الخلق بالتّقدير فقد جوّزه، وسيوافيك التصريح من أبي بكر الأنباري و غيره أنّ الخلق ربّما يستعمل في التّقدير.

2- وقال البغدادي: «وقالت المعتزلة: إنّ الله تعالى غير خالق لأكساب الناس، ولا لشيء من أعمال الحيوانات، وقد زعموا أنّ الناس هم الّذين يقدرون على أكسابهم و أنّه ليس للّه عزّوجلّ في أكسابهم ولا في أعمال سائر الحيوانات صنع و تقدير»(2).

______________________

1 . مقالات الاسلاميين: ص 295 ط 2.

2 . الفرق بين الفرق: ص 114 _ 115.

--------------------------------------------------------------------------------

( 350 )

3- وقال القاضي عبدالجبّار: «ذكر شيخنا أبو عليّ _ رحمه اللِّه _: اتّفق كلّ أهل العدل على أنّ أفعال العباد من تصرّفهم و

قيامهم و قعودهم، حادثة من جهتهم، وأنّ الله عزّوجلّ أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأنّ من قال إنّ الله سبحانه خالقها ومحدثها، فقد عظم خطاؤه، وأحالوا حدوث فعل من فاعلين»(1).

4- وقال أيضاً: «نحن نبيّن أنّ العبد إنّما يقدر على إحداث و إيجاد، وأنّ القدرة لا تتعلّق بالشّيء إلاّ على طريق الحدوث، وأنّه يستحيل أن يفعل الشيء من وجهين، ويستحيل تعلّق الفعل بفاعلين محدثين، أو قديم ومحدث.... و نبيِّن من بعد إبطال قول من أضاف أفعال العباد إلى الله تعالى. ونذكر ما يلزمهم على قوده من الفساد، والخروج عن الدّين، والتزام جحد الضروريات»(2).

5- قال صدر المتألّهين: «ذهبت جماعة إلى أنّ الله أوجد العباد و أقدرهم على بعض الأفعال، وفوّض إليهم الاختيار، فهم مستقلّون بايجادها على وفق مشيئتهم و طبق إرادتهم»(3).

وهذه النصوص الخمسة من أكابر الأشاعرة والمعتزلة والإماميّة، تحاول أن ترميهم بالتّفويض و إن لم تكن في الصّراحة بمكان يجزم الإنسان معها بصحّة النّسبة. ولأجل ذلك يلزم المزيد من التتبّع في كتبهم الّتي قصرت أيدينا عنها. ولأجل التّوضيح نبحث عن اُمور:

1- لا شكّ في وجود القول بالتّفويض في عصر الإمام الباقر _ عليه السلام _ كيف وقد طلب عبدالملك بن مروان (ت86ه_)، من عامله في المدينة، أن يوجّه محمّد بن علي الباقر إلى الشام حتّى يناظر قدريّاً أعيى الشاميين جميعاً. فبعث الإمام ولده جعفراً الصادق _ عليه السلام _ . فلمّا ورد الشام واجتمع مع القدري، فقال للإمام: سل عمّا شئت. فقال: إقرأ سورة الحمد. قال: فقرأها... حتّى بلغ قول الله تبارك و تعالى: (إيّاك نَعْبُدُ وَ

______________________

1 . المغني: ج 6، الارادة ص 41 و ج 8، ص 1.

2 . المغني: ج

6، الارادة ص 41 و ج 8، ص 1.

3 . رسالة خلق الأعمال.

--------------------------------------------------------------------------------

( 351 )

إِيَّاكَ نَسْتَعِين) فقال له جعفر _ عليه السلام _: قف. من تستعين؟ ما حاجتك إلى المعونة؟ إنّ الأمر إليك. فبهت القدري(1).

2- تضافر عنهم _ عليهم السلام _ التّنديد بالجبر والتّفويض بمضامين مختلفة، نأتي بواحد منها حتّى تقف على ما يشابهه:

سأل محمّد بن عجلان الصّادق _ عليه السلام _ أنّه هل فوّض الله الأمر إلى العباد؟ قال: «الله أكرم من أن يفوّض إليهم. قال: فأجبرهم على أفعالهم؟ فقال: الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثمّ يعذّبه عليه»(2).

3- تضافر عن أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ قولهم: «لا جبر ولا تفويض» وذلك يدفعنا إلى القول بوجود المفوِّضة في زمن صدور هذه الروايات بين الأُمة الإسلاميّة، ويرجع صدورها إلى أواخر القرن الأوّل، وأواسط القرن الثاني.

4- إنّما الكلام في أنّ المعتزلة هل هم المعنيّون في هذه الأخبار، أو هم غيرهم، وهذا هو الّذي يحتاج إلى دراسة عميقة بالغور في الآثار الباقية من المعتزلة.

أمّا ما نقلناه من «المغني» فهو محتمل الوجهين، فيمكن أن يكون إشارة إلى استقلال العباد في أفعالهم و أعمالهم كما نسب إليهم صدر المتألّهين. كما أنّه يمكن أن يكون قوله: «لا فاعل لأفعال العباد ولا محدث لها سواهم»، هو نفي كونها مخلوقة للّه سبحانه مباشرة وبلا واسطة. والشاهد عليه قوله فيما بعد: «وأنّ من قال إنّ الله سبحانه خالقها و محدثها، فقد عظم خطاؤه و أحالوا حدوث فعل من فاعلين».

فالعبارة بصدد نفي كون فعل العباد مخلوقاً للّه مباشرة على النّحو الّذي يذهب إليه أهل الحديث و الأشاعرة. وهذا غير القول باستقلال العباد في أفعالهم و غناهم عن الواجب في أعمالهم.

______________________

1

. بحار الأنوار: ج 5، ص 55 _ 56.

2 . المصدر نفسه: ص 51.

--------------------------------------------------------------------------------

( 352 )

وبعبارة ثانية: كان المذهب في أفعال العباد أحد أمرين: كون أفعالهم مخلوقة للّه مباشرة و بلا واسطة، أو كون أفعالهم مخلوقة للعبد كذلك. فأهل الحديث والأشاعرة على الأوّل، والمعتزلة على الثاني. لكنّ القول بالثاني ليس بمعنى انقطاع عمل العباد عن الله سبحانه، وعدم انتهاء سلسلة العلل إلى الحقّ عزّ اسمه.

نعم، لم يكن الأمر بين الأمرين شيئاً مفهوماً لديهم حتّى يعتقدوا به، لأنّه من الكنوز العلميّة الّتي ظهرت من معادن العلم و أهل بيت النبوّة. ولكن عدم الوقوف على هذا المذهب غير الاعتقاد على التّفويض و الاذعان بالمعنى الباطل الّذي لا يفارق الشّرك.

5- إنّ ما استدلّ به القاضي على مذهبه لا يثبت سوى نفي الجبر و كون أفعال العباد غير مخلوقة للّه سبحانه. وأمّا التّفويض الّذي اتّهم به، فلا تثبته أدلّته، وإليك بعض ما استدلّ به على ردّ الخصم على وجه الاجمال:

الأوّل : قال: «والّذي يدلّ على ذلك أن نفصل بين المحسن والمسيء، وبين حسن الوجه وقبيحه. فنحمد المحسن على إحسانه و نذمّ المسيء على إساءته. ولا تجوز هذه الطّريقة في حسن الوجه وقبيحه. فلولا أنّ أحدهما متعلّق بنا بخلاف الآخر، لما وجب هذا الفصل»(1).

الثاني : قال: «لو صحّ الجبر لزمهم التّسوية بين الرسول و إبليس، لأنّ الرسول يدعوهم إلى خلاف ما أراد الله تعالى منهم، كما أنّ إبليس يدعوهم إلى ذلك، بل يلزمهم أن يكون حال الرسول أسوأ من حال إبليس»(2).

الثالث : قال: «يلزم قبح مجاهدة الكفّار، لأنّ للكفرة أن يقولوا لماذا تجاهدونا؟ فإن كان جهادكم إيّانا على ما لا يريده الله تعالى منّا ولا يحبّه، فالجهاد لكم أولى و

أوجب، وإن كان الجهاد لنا على ما خلق فينا...فذلك جهاد لا معنى له»(3).

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: الصفحات 333 و 335 و 336.

2 . شرح الاُصول الخمسة: الصفحات 333 و 335 و 336.

3 . شرح الاُصول الخمسة: الصفحات 336.

--------------------------------------------------------------------------------

( 353 )

إلى غير ذلك من الأدلّة الّتي أقامها القاضي على نفي الجبر، فلا يجد الإنسان في كتابه ما يثبت به التّفويض ولو بصورة الدّليل.

6- إنّ فكرة التّفويض فكرة ثنويّة لا يعرج عليها مسلم واع، عارف بالكتاب والسنّة وبدايات الفلسفة الإلهيّة، ولا ينطق بها من وقف على موقف الممكن من الواجب، وواقعيّة العلل و المعاليل الامكانيّة بالنّسبة إلى الواجب المكوِّن لها بأسرها، فإنّ صفحة الوجود الامكاني صفحة فقيرة متدلّية بالذات قائمة بالغير، ذاتاً كان أم فعلاً. ونسبة الوجود الامكاني إلى الوجود الواجبي، كنسبة الوجود الحرفي إلى الاسمي. وعندئذ كيف يعقل لموجود امكاني الاستقلال في التّأثير والفعل من دون أن يستند إلى الواجب و يعتمد عليه.

وبعبارة ثانية: كما أنّه ليس للمعنى الحرفي الخروج عن إطار المعنى الاسمي في المراحل الثلاث: التصور، والدلالة، والتحقّق في الخارج، فهكذا المعلول الامكاني بهويّته و أفعاله، فليس له الخروج عن إطار العلّة الواجبة في حال من الحالات.

هذا، وقد أوضحنا بطلان التّفويض كتاباً و عقلاً في أبحاثنا الكلاميّة(1).

7- هنا مسألتان:

الاُولى: هل أفعال العباد مفوّضة إليهم أنفسهم أو لا؟

الثانية: هل الذّوات الامكانيّة محتاجة إلى الواجب في حدوثهم فقط، أو في حدوثهم و بقائهم؟ فمن قال بالأوّل وجب له القول بالتّفويض في الأفعال بوجه أولى، لأنّ الذات إذا كانت غنيّة عن الواجب في بقائه، فأولى أن يكون كذلك في أفعالها.

قال الشيخ الرئيس في إشاراته: «وقد يقولون إنّه إذا أوجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل، حتّى

إنّه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجوداً كما يشاهدونه من فقدان البنّاء و قوام البناء، وحتّى إنّ كثيراً منهم لا يتحاشى أن يقول: لو جاز على الباري تعالى

______________________

1 . لاحظ «الالهيات في الكتاب والعقل والسنة» الجزء الثاني 321_ 331.

--------------------------------------------------------------------------------

( 354 )

العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم، لأنّ العالم عندهم إنّما احتاج إلى الباري تعالى في أن أوجده أي أخرجه من العدم إلى الوجود، حتّى كان بذلك فاعلاً. فإذا قد فعل و حصل له الوجود عن العدم، فكيف يخرج بعد ذلك إلى الوجود عن العدم حتّى يحتاج إلى الفاعل»(1).

أقول: ما نقله الشيخ عنهم مبنيّ على أنّ مناط حاجة الممكن إلى العلّة هل هو إمكانه أو حدوثه، فمن قال بالثاني، صوّر الممكن غنياً في بقائه _ فضلاً عن فعله _ عن الواجب. ومن قال بالأوّل، أظهر الممكن محتاجاً في كلِّ حال من الأحوال إلى الواجب حدوثاً و بقاءً و ذاتاً و فعلاً. وبما أنّ التّحقيق كون مناط الحاجة هو الامكان، فإذاً يصبح التّفويض أمراً باطلاً لا يحتاج إلى التّدليل أكثر من ذلك.

ولأجل ذلك نأتي ببعض الدّلائل المتقنة على أنّ مناط الحاجة هو الامكان، و هو لا يزول عن الممكن أبداً. فذاته تتعلّق به دائماً، فكيف بأفعاله، فانتظر.

8- الظّاهر من الشيخ المفيد موافقة المعتزلة للإماميّة في مسألة أفعال العباد. قال: «إنّ الله عدل كريم _ إلى أن قال: _ جلّ عن مشاركة عباده في الأفعال، و تعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال. لا يعذّب أحداً إلاّ على ذنب فعله، ولا يلوم عبداً إلاّ على قبيح صنعه. لا يظلم مثقال ذرّة، فإن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجراً عظيماً.

وعلى هذا القول جمهور أهل الإمامة، وبه تواترت

الآثار عن آل محمّد _ عليهم السلام _ وإليه يذهب المعتزلة بأسرها إلاّ ضراراً منها و أتباعه. وهو قول كثير من المرجئة، وجماعة من الزيديّة والمحكّمة، و نفر من أصحاب الحديث، وخالف فيه جمهور العامّة و بقايا ممّن عددناه»(2).

وماذكره الشيخ المفيد يعرب عن أنّ المعتزلة في ذلك العصر لم تكن معتقدة بالتّفويض، وإلاّ لم يعدّها الشيخ متّحدة مع الإماميّة القائلة بنفي الجبر و التفويض

______________________

1 . الاشارات، للشيخ الرئيس: ج 3، ص 68.

2 . أوائل المقالات: ص 24 _ 25.

--------------------------------------------------------------------------------

( 355 )

معاً.

9- يظهر من المفيد أنّ المراد من التّفويض الوارد في الروايات غير ما هو المصطلح بيننا حيث قال: «الجبر هو الحمل على الفعل و الاضطرار إليه بالقهر و الغلبة. وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق من غير أن يكون له قدرة على دفعه، والامتناع من وجوده فيه.... والتّفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال، والاباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال. وهذا قول الزّنادقة و أصحاب الاباحات. والواسطة بين هذين القولين أنّ الله أقدر الخلق على أفعالهم، ومكّنهم من أعمالهم، وحدّ لهم الحدود في ذلك... إلى آخر ما أفاده»(1).

10- هل يصحّ إطلاق «الخلق» في مورد فعل الإنسان، أو يختصّ «الخلق» بفعل الله سبحانه؟

لا شكّ أنّ الله سبحانه هو الخالق، وأنّه خلق السّموات و الأرض بجواهرها وأعراضها. إنّما الكلام في أنّه هل يصحُّ استعمال كلمة الخلق في مورد فعل الإنسان، فإذا قام أو قعد يصحّ لنا أن نقول: «خلق القيام والقعود» أو إذا أكل و شرب هل يصحّ لنا أن نقول: «خلق الأكل و الشرب» أو لا يجوز ذلك إلاّ في مورد يكون هناك عناية في استعمال هذه اللّفظة.

والرائج في مصطلح القرآن هو التّعبير

بالكسب والفعل. قال سبحانه: (لها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)(البقرة/286).

وقال تعالى: (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (النمل/33).

وقال سبحانه: (لمَ تَقُولُونَ مَالا تَفْعَلُونَ) (الصف/2).

فالتّعبير الرائج عن أفعال الإنسان بصورة عامّة هو الكسب و الفعل، وبصورة خاصّة هو الأفعال المخصوصة من الأكل و الشرب.

______________________

1 . شرح عقائد الصدوق، ص 14 _ 15.

--------------------------------------------------------------------------------

( 356 )

وأمّا استعمال كلمة الخلق في مورد الفعل بأن يقال: «خلق الفعل و العمل» فليس بمعهود، وإنّما هو اصطلاح تسرّب إلى كلمات المحدِّثين والمتكلِّمين في نهاية القرن الأوّل وأوائل الثاني، حتّى قام البخاري بتأليف أسماه «خلق الأعمال».

قال الشيخ المفيد: «إنّ الخلق يفعلون، و يحدثون، ويخترعون، ويصنعون، ويكتسبون، ولا أطلق القول عليهم بأنّهم يخلقون ولا لهم خالقون، ولا أتعدّى ذكر ذلك فيما ذكر الله تعالى، ولا أتجاوز به مواضعه من القرآن، وعلى هذا القول إجماع الإماميّة، والزيديّة، والبغداديّين من المعتزلة، وأكثر المرجئة، وأصحاب الحديث، وخالف فيه البصريّون من المعتزلة، و أطلقوا على العباد أنّهم خالقون، فخرجوا بذلك من إجماع المسلمين»(1).

أمّا القرآن فلم يصف فعل الإنسان بما هو فعله من دون أن يحدث هيئة أو تركيباً بالخلق إلاّ في مورد واحد، قال سبحانه: (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً و تَخْلُقُونَ إِفْكاً)(العنكبوت/17) مع أنّه يحتمل أن يكون الخلق فيه بمعنى الكذب.

قال في اللّسان: «الخلق: الكذب. وخلق الكذب والإفك: افتراه، ابتدعه. ومنه قوله سبحانه: (وتخلقون إفكا) و منه أيضاً قوله سبحانه: (إنْ هَذَا إِلاّ خُلُقُ الأوّلين) أي كذب الأوّلين(2).

نعم، وصف القرآن عمل المسيح بالخلق، لكن في مورد خاصّ وهو إحداث صورة وهيئة وتركيب في الخارج. فعندما جعل من الطّين كهيئة الطّير، خاطبه سبحانه بقوله: (وإذْ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتكونُ طَيراً بِإِذْنِي) (المائدة/110)

وعليه يحمل قوله سبحانه: (فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ خَالِقِينَ)(المؤمنون/14).

وأمّا في غير هذه الصورة، كالفعل المجرّد عن إحداث شيء مثل المشي و القعود،

______________________

1 . اوائل المقالات: ص 25.

2 . لسان العرب: مادة خلق.

--------------------------------------------------------------------------------

( 357 )

فلم يعهد توصيفه بالخلق، وإنّما حدث هذا الاصطلاح (أي خلق الأفعال و الأعمال) في أواخر القرن الأوّل و أوائل الثاني. ولأجل ذلك تنصرف الاطلاقات الواردة في القرآن الكريم من أنّه خالق كلّ شيء إلى غير أفعاله.

هذا من حيث القرآن. وأما اللّغة، فالظاهر من «اللّسان» التفريق بين الخلق بمعنى الانشاء على مثال أبدعه، والخلق بمعنى التّقدير، والأوّل يختصّ بالله سبحانه، والثاني يعمّه و غيره، وعليه حملوا قوله سبحانه: (أحسن الخالقين) (أي المقدّرين).

قال في اللّسان: «الخلق بمعنى التقدير، وخلق الأديم يخلقه خلقاً: قدّره لما يريد قبل القطع، وقاسه ليقطع منه»(1).

ولأجل ذلك، فالأولى في عنوان البحث مكان خلق الأعمال أن يقال: هل أفعال العباد مستندة إلى الله سبحانه فقط، أو إلى العباد فقط، أو إليهما معاً، أو ما يشبه ذلك؟

11- إنّ الأبحاث العقليّة لا تدور مدار صحّة التّسمية. فسواء أصحّ توصيف أفعال العباد بالخلق أم لا، ففعل الإنسان بما أنّه من الموجودات الامكانيّة، لا يخرج من كتم العدم إلى حيِّز الوجود إلاّ بعلّة واجبة أو ممكنة منتهية إلى الواجب. فعلى الأوّل يكون فعلاً مباشرياً له، وعلى الثاني يكون فعلاً تسبّبياً له.

وبذلك يظهر بطلان كلا المذهبين، أمّا الجبر _ وهو تصوير أنّ العلّة التامّة للفعل هو الواجب _ فيلزم من كون الفعل الصادر من العبد فعلاً مباشريّاً للواجب، وكيف يمكن أن يكون الأكل، والشرب، والمشي، والقعود أفعالاً له مع انّ ماهيات هذه الأفعال واقعة بأعمال الجوارح من الإنسان.

وأمّا التفويض _ وهو تصوير استقلال العبد في مقام الفعل

والعمل _ فلازمه كون الإنسان فاعلاً واجباً في مقام الفعل غير محتاج إلى الواجب في عمله، ومرجعه إلى الثّنويّة في الاعتقاد، والشرك في الفاعليّة.

______________________

1 . لسان العرب: مادة خلق.

--------------------------------------------------------------------------------

( 358 )

فلا مناص من رفض القولين واختيار مذهب بين المذهبين الّذي يدعمه العقل، والكتاب، وأحاديث العترة الطاهرة. ومن أراد الوقوف على حقيقته فعليه بالمؤلفات الكلامية لأصحابنا الإماميّة.

12- إنّ الجنوح إلى التّفويض لأحد أمرين أو كليهما :

ألف - كون الحادث في حدوثه محتاجاً إلى الواجب لا في بقائه. فإذا كان هذا حال الذات فيكون الفعل الصادر عنها غير مستند إليه بوجه أولى؟!

ب - لو كان الفعل مستنداً إلى خالق العبد ونفسه يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد. ولأجل إيضاح حال كلا الدّليلين نبحث عن كلّ منهما مستقلاّ ً.

مناط الحاجة إلى العلّة هو الامكان لا الحدوث

إنّ هذا الأصل (كون مناط الحاجة إلى العلّة هو الحدوث لا الامكان) الّذي بنت عليها المفوِّضة نظريّتهم في أفعال العباد، بل و آثار كلِّ الكائنات، باطل من وجوه:

الوجه الأوّل: إنّ مناط حاجة المعلول إلى العلّة هو الامكان أي عدم كون وجوده نابعاً من ذاته، أو كون الوجود والعدم بالنّسبة إلى ذاته متساويين،وهذا الملاك موجود في حالتي البدء والبقاء. وأمّا الحدوث فليس ملاكاً للحاجة فإنّه عبارة عن تحقّق الشّيء بعد عدمه و مثل هذا، أمر انتزاعيّ ينتزع بعد اتّصاف الماهيّة بالوجود، وملاك الحاجة يجب أن يكون قبل الوجود لا بعده.

إنّ الحدوث أمر منتزع من الشّيء بعد تحقّقه، و يقع في الدرجة الخامسة من محلّ حاجة الممكن إلى العلّة، وذلك لأنّ الشيء يحتاج أوّلاً، ثمّ تقترنه العلّة ثانياً، فتوجده ثالثاً، فيتحقّق الوجود رابعاً، فينتزع منه وصف الحدوث خامساً. فكيف يكون الحدوث مناط

الحاجة الّذي يجب أن يكون في المرتبة الاُولى، وقد اشتهر قولهم : الشيء قرّر (تصوّر)، فاحتاج، فأُوجد، فوجد، فحدث.

--------------------------------------------------------------------------------

( 359 )

وبعبارة ثانية : ذهب الحكماء إلى أنّ مناط الحاجة هو كون الشّيء (الماهيّة) متساوي النّسبة إلى الوجود والعدم، وأنّه بذاته لا يقتضي شيئاً واحداً من الطّرفين، ولا يخرج عن حدِّ الاستواء إلاّ بعلّة قاهرة تجرّه إلى أحد الطّرفين و تخرجه عن حالة اللاّاقتضاء إلى حالة الاقتضاء.

فإذا كان مناط الحاجة هو ذاك (إنّ الشيء بالنّظر إلى ذاته لا يقتضي شيئاً) فهو موجود في حالتي الحدوث و البقاء، والقول باستغناء الكون في بقائه عن العلّة، دون حدوثه، تخصيص للقاعدة العقليّة الّتي تقول: إنّ كلّ ممكن ما دام ممكناً، بمعنى ما دام كون الوجود غير نابع من ذاته، يحتاج إلى علّة، وتخصيص القاعدة العقليّة مرفوض جدّاً.

ويشير الحكيم المتألّه الشيخ محمد حسين الاصفهاني(1296 _ 1361) في منظومته إلى هذا الوجه بقوله :

والافتقار لازم الامكان * من دون حاجة إلى البرهان

لا فرق ما بين الحدوث والبقا * في لازم الذّات ولن يفترقا

الوجه الثاني : إنّ القول بأنّ العالم المادّي بحاجة إلى العلّة في الحدوث دون البقاء، يشبه القول بأنّ بعض أبعاد الجسم بحاجة إلى العلّة دون الأبعاد الاُخرى. فإنّ لكلِّ جسم بعدين، بعداً مكانياً و بعداً زمانياً، فامتداد الجسم في أبعاده الثّلاثة، يشكّل بعده المكاني. كما أنّ بقاءه في عمود الزّمان يشكّل بعده الزماني. فالجسم باعتبار أبعاضه ذو أبعاد مكانيّة وباعتبار استمرار وجوده مدى الساعات والأيّام ذو أبعاد زمانيّة، فكما أنّ حاجة الجسم إلى العلّة لا تختصّ ببعض أجزائه و أبعاضه، بل الجسم في كلِّ بعد من الأبعاد المكانيّة محتاج إلى العلّة، فكذا هو محتاج إليها في جميع أبعاده الزّمانيّة،

حدوثاً وبقاء من غير فرق بين آن الحدوث و آن البقاء و الآنات المتتالية، فالتّفريق بين الحدوث و البقاء يشبه القول باستغناء الجسم في بعض أبعاضه عن العلّة. فالبعد الزّماني والمكاني وجهان لعملة واحدة، وبعدان لشيء واحد فلا يمكن التّفكيك بينهما.

وتظهر حقيقة هذا الوجه إذا وقفنا على أنّ العالم في ظلّ الحركة الجوهريّة، في تبدّل

--------------------------------------------------------------------------------

( 360 )

مستمرّ و تغيّر دائم، نافذين في جوهر الأشياء و طبيعة العالم المادّي، فذوات الأشياء في تجدّد دائم وانتثار متواصل والعالم حسب هذه النظريّة أشبه بنهر جار تنعكس فيه صورة القمر، فالنّاظر الساذج يتصوّر أنّ هناك صورة منعكسة على الماء وهي باقية ثابتة والنّاظر الدقيق يقضي على أنّ الصّور تتبدّل حسب جريان الماء و سيلانه، فهناك صور مستمرّة.

وعلى ضوء هذه النظرية، العالم المادّي أشبه بعين نابعة من دون توقّف حتّى لحظة واحدة، فإذا كان هذا حال العالم المادّي، فكيف يصحّ لعاقل أن يقول إنّ العالم، ومنه الإنسان، إنّما يحتاج إلى العلّة في حدوثه دون بقائه، مع أنّه ليس هنا أيّ بقاء و ثبات، بل العالم في حدوث بعد حدوث و زوال بعد زوال، على وجه الاتصال و الاستمرار بحيث يحسبه الساذج بقاء وهو في حال الزّوال و التبدّل والسيلان (وتَرى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ)(النمل/88)(1).

الوجه الثالث : إنّ القول بحاجة الممكن إلى العلّة في حدوثه دون بقائه غفلة عن واقعيّة المعلول و نسبته إلى علّته، فإنّ وزانه إليها وزان المعنى الحرفي بالنّسبة إلى المعنى الاسمي، فكما أنّه ليس للأوّل الخروج عن إطار الثاني في المراحل الثلاث: التصوّر، والدّلالة، والتّحقق، فهكذا المعلول ليس له الخروج عن إطار العلّة في حال من الحالين الحدوث والبقاء.

فإذا كان هذا حال المقيس عليه

فاستوضح منه حال المقيس. فإنّ المفاض منه سبحانه هو الوجود، وهو لا يخلو عن إحدى حالتين: إمّا وجود واجب، أو ممكن، والأوّل خلف لأنّ المفروض كونه معلولاً، فثبت الثاني، وما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمّا هو عليه (أي الامكان). فكما هو ممكن حدوثاً ممكن بقاء، ومثل ذلك لا يستغني عن الواجب في حال من الحالات. لأنّ الاستغناء آية انقلابه عن الامكان إلى الوجوب وعن الفقر إلى الغنى.

______________________

1 . البحث عن الحركة الجوهرية طويل الذيل. لاحظ كتاب (الله خالق الكون: ص 514 _ 560) تجد فيه بغيتك.

--------------------------------------------------------------------------------

( 361 )

نعم، ما ذكرنا من النّسبة إنّما يجري في العلل والمعاليل الإلهيّة لا الفواعل الطّبيعيّة، فالمعلول الإلهي بالنّسبة إلى علّته هو ما ذكرنا، والمراد من العلّة الإلهيّة مفيض الوجود ومعطيه، كالنّفس بالنسبة إلى الصّور الّتي تخلقها في ضميرها، والارادة الّتي توجدها في موطنها، ففي مثل هذه المعاليل تكون نسبة المعلول إلى العلّة كنسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي.

وأمّا الفاعل الطّبيعي، كالنّار بالنّسبة إلى الاحراق، فخارج عن إطار بحثنا، إذ ليس هناك علّيّة حقيقيّة، بل حديث العلّيّة هناك لا يتجاوز عن تبديل أجزاء النّار إلى الحرارة، وذلك كما هو الحال في العلل الفيزيائيّة و الكيميائيّة، فالعلّيّة هناك تبدّل عنصر إلى عنصر في ظلّ شرائط و خصوصيات توجب التبدّل، و ليس هناك حديث عن الايجاد و الاعطاء.

وعلى ذلك فالتّفويض-أي استقلال الفاعل في الفعل-يستلزم انقلاب الممكن وصيرورته واجباً في جهتين:

الاُولى: الاستغناء في جانب الذات من حيث البقاء.

الثانية: الاستغناء في جانب نفس الفعل مع أنّ الفعل ممكن مثل الذّات.

الوجه الرابع: إنّ القول بالتّفويض يستلزم الشّرك، أي الاعتقاد بوجود خالقين مستقلّين أحدهما العلّة العليا الّتي أحدثت الموجودات والكائنات والإنسان، والاُخرى الإنسان بل كلّ

الكائنات، فإنّها تستقلّ بعد الخلقة والحدوث في بقائها أوّلاً، وتأثيراتها ثانياً.

فلو قالت المعتزلة بالتّفصيل بين الكائنات والإنسان و نسبت آثار الكائنات إلى الواجب، فهو لأجل أنّها لا تزاحم العدل دون الإنسان، وعلى ما ذكرنا يكون التفصيل بلا دليل.

ثمّ إنّ القوم استدلّوا على المسألة العقليّة (غناء الممكن في بقائه عن العلّة)، بالأمثلة المحسوسة، منها: بقاء البناء والمصنوعات بعد موت البنّاء والصانع، ولكنّ

--------------------------------------------------------------------------------

( 362 )

التّمثيل في غير محلّه، لأنّ البنّاء والصانع فاعلان للحركة أي ضمّ بعض الأجزاء إلى بعض والحركة تنتهي بانتهاء عملهما فضلاً عن موتهما. وأمّا بقاء البناء والمصنوعات فهو مرهون للنّظم السائد فيهما، فإنّ البناء يبقى بفضل القوى الطبيعيّة الكامنة فيه، الّتي أودعها الله سبحانه في صميم الأشياء فليس للبنّاء والصانع فيها صنع، وأمّا الهيئة والشّكل فهما نتيجة اجتماع أجزاء صغيرة، فتحصّل من المجموع هيئة خاصّة وليس لهما فيها أيضاً صنع.

تمثيلان لإيضاح الحقيقة

الحقّ إنّ قياس المعقول بالمحسوس الّذي ارتكبته المعتزلة _ لو صحّت النسبة _ قياس غير تامّ، ولو أراد المحقّق القياس والتّمثيل فعليه أن يتمسّك بالمثالين التّاليين:

الأوّل: إنّ مثل الموجودات الإمكانيّة بالنسبة إلى الواجب، كمثل المصباح الكهربائي المضيء، فالحسّ الخاطئ يزعم أنّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضّوء الأوّل، ويتصوّر أنّ المصباح إنّما يحتاج إلى المولِّد الكهربائي في حدوث الضّوء دون استمراره. والحال إنّ المصباح فاقد للاضاءة في مقام الذّات، محتاج في حصولها إلى ذلك المولِّد في كلِّ لحظة، لأنّ الضوء المتلألئ من المصباح إنّما هو استضاءة بعد استضاءة واستنارة بعد استنارة، من المولّد الكهربائي، أفلا ينطفئ المصباح إذا انقطع الاتّصال بينه وبين المولّد؟ فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماماً، فهو لكونه فاقداً للوجود الذّاتي يحتاج إلى العلّة في حدوثه وبقائه،

لأنّه يأخذ الوجود آناً بعد آن، وزماناً بعد زمان.

الثاني: نفترض منطقة حارّة جافّة تطلع عليها الشمس بأشعّتها المحرقة الشديدة. فإذا أردنا أن تكون تلك المنطقة رطبة دائماً بتقطير الماء عليها، وإفاضته بما يشبه الرذاذ(1)، فإنّ هذا الأمر يتوقّف على استمرار تقاطر الماء عليها، ولو انقطع لحظة ساد

______________________

1 . المطر الضعيف

--------------------------------------------------------------------------------

( 363 )

عليها الجفاف، وصارت يابسة.

فمثل الممكن يتّصف بالوجود باستمرار، مثل هذه الأرض المتّصفة بالرطوبة دائماً، فكما أنّ الثاني رهن استمرار إفاضة قطرات الماء عليها آناً بعد آن، فهكذا الأوّل لا يتحقّق إلاّ باستمرار إفاضة الوجود عليه آناً بعد آن، ولو انقطع الفيض والصِّلة بينه وبين المفيض لانعدم ولم يبق منه أثر.

تعلّق مقدور واحد بقادرين أو قدرتين

قد سبق أن القاضي اعتمد على هذا الوجه (1) في نفي صلة فعل العبد بالله سبحانه، وزعم أنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقه للّه سبحانه يستلزم تعلّق المقدور الواحد بقادرين أو بقدرتين، وهذا أمر محال سواء أكانا حادثين أم قديمين، أم كان أحدهما حادثاً والآخر قديماً.

وقد خصّص القاضي الجزء الثّامن من أجزاء موسوعته «المغني» بالجبر والاختيار، وأسماه «المخلوق» ويشتمل على عشرين فصلاً، عرض فيها آراء المعتزلة المتنوِّعة في خلق الأفعال وناقش خصومهم، وردّ على شبهاتهم.

وقد عقد فصلاً خاصّا(2) لهذا الأمر، واستدلّ على الامتناع بأدلّة عشر أو أزيد، وهو أبسط الفصول وأوسعها من بينها، وقد فات على القاضي تحرير محلِّ النّزاع، وأنّ المراد من القدرتين ما هو. فهل المراد القدرتان العرضيّتان أو الطوّليتان؟

فإن كان المراد هو الاُولى فاستحالة اجتماع قدرتين تامّتين عرضيّتين على مقدور واحد لا يحتاج إلى الاطناب الّذي ارتكبه القاضي، لأنّه ينتهي إلى خلف الفرض، وتخرج العلّة التامّة عن كونها علّة تامّة، وتصير علّة ناقصة.

لأنّ المقدور بعد التحقّق

إمّا أن ينسب إلى كلتا القدرتين، بحيث يكون لكلِّ منهما تأثير و دخالة، فتعود العلّة التامّة إلى العلّة الناقصة، والقادر التامّ إلى القادر غير

______________________

1 . لاحظ ص350 من هذا الجزء.

2 . المغني: الجزء 8، ص 109 _ 161.

--------------------------------------------------------------------------------

( 364 )

التامّ وهو خلف الفرض، وهذا كما إذا اشترك رجلان في رفع الصّخرة، مع قدرة كلِّ منهما على الرّفع وحده. فعند ذاك لا يعدّ كل منهما علّة تامّة في مقام الرفع.

وإمّا أن ينسب إلى واحدة منهما دون الاُخرى، وهذا هو المطلوب.

وإمّا أن لا ينسب إلى واحدة منهما، فكيف خرج عن كتم العدم، مع أنّ حاجة الحادث إلى العلّة أمر واضح.

وأمّا اجتماع قدرتين عرضيّتين لكن ناقصتين على مقدور واحد، فلا يترتّب عليه محذور أبداً.

واللائق بالبحث غير هاتين الصورتين، فإنّ قدرة الله سبحانه و قدرة العبد ليستا في عرض واحد، بل الثانية في طول الاُخرى، فهو الّذي خلق العبد، وحباه القدرة، وأقدره على الايجاد وهو في كلِّ آن و حين يستمدُّ من مواهب ربّه. فالعبد وكلّ ما في الكون من علل وأسباب، جنوده و قواه، بين فاعل بالاختيار، ومؤثّر بالاضطرار. فللفعل صلة بقدرة العبد، كما أنّ له صلة بالله سبحانه و قدرته. وبوجه بعيد كالرؤية والسّماع، فهما فعلان للأجهزة الظاهريّة من العين والسمع، وفي الوقت نفسه فعلان للنفس القاهرة على قواه الباطنيّة والظاهريّة. فاجتماع قدرتين مثل هاتين لا يستلزم شيئاً من الاشكالات.

إنّ المعتزلة لم تجد في حلِّ مشكلة فعل الإنسان إلاّ سلوك أحد الطّريقين و زعمت أنّه لا طريق غيرهما ينتهي أحدهما إلى الجبر، والآخرى إلى التفويض.

1- صلة الفعل بالله سبحانه و انقطاعه عن العبد، فعند ذاك يقال: فعلام يحاسَب العبد ويعاقب؟

2- نسبة الفعل إلى العبد و انقطاعه

عن بارئه، فيسأل: هل هناك أفعال تجاوز قدرة الله وهل يصدر في ملكه ما لا يريد؟

فالأشاعرة استسهلوا الاشكال الأوّل ونسبوا الفعل إلى الله سبحانه و صوّروا العبد محلاً لارادته و قدرته سبحانه، من دون أن يقميوا لإرادة العبد و قدرته و زناً وقيمة.

--------------------------------------------------------------------------------

( 365 )

والمعتزلة اختارت الثاني واستسهلت وقوع ظاهرة خارجة عن سلطانه سبحانه.

ولو أنّ القوم وقفوا على الطّريق الثالث الّذي يتنزّه عن فساد المسلكين و يجمع مزيّتهما، لأعرضوا عنهما والتجأوا إلى الحقّ اللاّحب وهو القول بالأمر بين الأمرين، فللفعل صلة لخالق العبد، كما أنّ له صلة لفاعل الفعل، ولكنّ المسؤولية متوجّهة على العبد، إذ هو الّذي يصرف القدرة الموهوبة عن اختيار فيما يختاره من الأفعال و يعمل من الأعمال. وسوف تقف على حقيقة الحال عند بيان عقائد الإماميّة فانتظر.

المسألة الثالثة: في تقدّم الاستطاعة على الفعل

المسألة الثالثة: في تقدّم الاستطاعة على الفعل

اختلفت المعتزلة والأشاعرة في تقدّم القدرة على المقدور، فالطّائفة الاُولى على لزوم تقدُّمها عليه والثانية على لزوم المقارنة بينهما.

وكان الأولى البحث عن هذه المسألة فى باب القدرة. غير أنّ القاضي طرحه في باب العدل و قال: «ووجه اتّصاله به أنّه يلزم على القول بمقارنتها للمقدور، تكليف ما لا يطاق و ذلك قبيح، ومن العدل أن لا يفعل القبيح».

ثمّ استدلّ على مذهبه بوجهين:

الأوّل: لو كانت القدرة مقارنة لمقدورها لوجب أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق، إذ لو أطاقه لوقع منه، فلمّا لم يقع دلّ على أنّه كان غير قادر عليه. وتكليف ما لا يطاق قبيح.

الثّاني: إنّ القدرة صالحة للضدّين، فلو كانت مقارنة لهما لوجب بوجودها وجود الضّدّين، فيجب في الكافر وقد كلّف بالإيمان، أن يكون كافراً مؤمناً دفعة واحدة، وذلك محال(1).

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 396.

(

366 )

يلاحظ على الاستدلال الأوّل: أنّه مبنيّ على تفسير القدرة بالعلّة التامّة الّتي يكون الفعل معها ضروريّ الوجود فيصحّ كلّ ما جاء فيه. وذلك لأنّ التّكليف مشروط بالقدرة، والقدرة المفسّرة بالعلّة التامّة لا تنفكّ عن المقدور. فيستكشف عند عدم اعتناقه له بعد التّكليف، فقدان القدرة والطّاقة، إذ لو كانت لآمنت، لاستحالة انفكاك العلّة التامّة عن معلولها. فيلزم تكليف ما لا يطاق وهو قبيح.

هذا، ولكنّ المستدلّ غفل عن أنّ المراد من القدرة هو الاستعداد للفعل بحيث لو أراد وقع، ومثل هذا لا يستلزم وجود المقدور، ولا يستكشف من عدمه عدمه، لأنّ الاستعداد للفعل ليس علّة تامّة للمقدور.

فللأشعري أن يلتزم باقتران القدرة للفعل في تكليف أبي جهل، ولا يترتّب عليه أيّ تال فاسد عند امتناعه.

ويلاحظ على الثاني: أنّه فسِّرت القدرة فيه على خلاف ما فسّرت به في الدّليل الأوّل. ومبنى استدلاله في هذا الدّليل هو تفسير القدرة بالعلّة الناقصة والاستعداد، لوضوح أنّ القدرة بهذا المعنى صالحة للضدّين، لا القدرة بمعنى العلّة التامّة، فلو قلنا باقترانها بالمقدور يصحّ أن نقول: إنّ القدرة صالحة للضدّين ولكن لا يلزم منه أن يكون مؤمناً و كافراً.

وبالجملة: كونها صالحة للضدّين مبنيّ على كونها علّة ناقصة، ولزوم كون الإنسان مؤمناً وكافراً معاً، مبنيّ على كونها علّة تامّة. فالاستدلال الواحد مبنيّ على مبنيين مختلفين.

والحقّ إنّ المسألة غير منقّحة في كلام الطّائفتين، إذ لم ينقّح موضوع البحث، ولا المراد من القدرة. فالحقّ هو التّفصيل بين القدرة بمعنى الاقتضاء فهي مقدّمة على الفعل، والعلّة التامّة فمقارنة له(1).

______________________

1 . لاحظ الجزء الثاني من كتابنا هذا: ص 172.

المسألة الرابعة: في قبح التكليف بما لا يطاق

المسألة الرابعة: في قبح التكليف بما لا يطاق

القول بجواز التّكليف بما لا يطاق نشأ من المسألة السابقة. ولو كانت السابقة

منقّحة من حيث الموضوع والحكم، لما اندفعت الأشاعرة إلى اختيار الجواز في هذه المسألة الّتي يشهد العقل السّليم بقبحه أوّلاً وعدم إمكانه ثبوتاً ثانياً، إذ كيف يريد الإنسان بالارادة الجدّيّة الركض من الفالج، والنّكاح من الطّفل الرضيع؟

ولكنّهم لمّا فسّروا القدرة بالعلّة التامّة من جانب، واعتقدوا بلزوم اقترانها بالمقدور من جانب آخر، واستنتجوا من عدم الاعتناق عدم القدرة، فلزمهم عند تكليف الكفّار بالإيمان وعدم اعتناقهم، القول بجواز التّكليف بما لا يطاق، وإنّه كان هناك تكليف للكافر، ولم تكن له طاقة، وذلك لأنّه لو كانت له طاقة لآمن قطعاً. فبقاؤه على الكفر يكشف عن عدم قدرته، إذ لو كانت لآمن قطعاً لحديث امتناع الانفكاك. فينتج أنّ التّكليف كان موجوداً ولم يكن هناك قدرة.

غير أنّ الأشعري ومن قبله ومن بعده، لو فسّروا القدرة الّتي هي من شرائط التّكليف بمعنى العلّة الناقصة والاقتضاء، لما لزمهم الالتزام بهذه النّتيجة الفاسدة، حتّى ولو قالوا بلزوم الاقتران. ففي مورد أبي جهل و أبي لهب كان هناك تكليف أوّلاً، وطاقة بمعنى الاستعداد والاستطاعة على نحو لو أراد كلّ لآمن ثانياً، وكانت القدرة بهذا المعنى مقارنة للتّكليف ثالثاً. ولكن عدم إيمانه و إصراره على الكفر، لايكشفعنفقدان الشّرط، لأنّ الاستطاعة بمعنى الاقتضاء أعمّ من تحقّق المعلول معها وعدمه.

والعجب أنّ هؤلاء استدلّوا بآيات على ما يتبنّونه من جواز التّكليف بالقبيح. وبذلك عرّفوا الإسلام والقرآن مناقضين للفطرة و حكم العقل و إدراك العقلاء-أعاذنا الله من سوء الموقف.

( 368 )

وبما أنّ الاجابة عن الاستدلال بالآيات واضحة، طوينا الكلام عن استدلالاتهم، روماً للاختصار ولما سبق منّا في الجزء الثاني في تحليل عقائد الأشعري(1).

--------

1 . لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة: ص 193.

المسألة الخامسة: في أنّ الله لا يريد المعاصي

المسألة الخامسة: في أنّ الله لا يريد

المعاصي

ذهبت المعتزلة إلى أنّه لا يجوز أن يكون سبحانه مريداً للمعاصي. وأوضح القاضي وجه صلة هذا البحث بباب العدل بأنّ الارادة فعل من الأفعال، ومتى تعلّقت بالقبيح كانت واجبة لا محالة، وكونه تعالى عدلاً يقتضي أن تنفى عنه هذه الارادة(2).

المعتزلة ينظرون إلى المسألة من زاوية التّنزيه فيتصوّرون أنّ تنزيه الرّبِّ يتحقق بعدم تعلّق إرادته بالقبائح، لأنّ من أراد القبيح يتّصف فعله بالقبح و يسري إلى الفاعل، بينما يريد الأشعري تعظيم الرّبّ، وأنّه لا يكون في ملكه ما لا يريد ويذهب إلى سعة إرادته.

وقد نقل التفتازاني في «شرح المقاصد» أنّه دخل القاضي عبد الجبّار (ت415ه_) دار الصاحب بن عبّاد (ت385ه_) فرأى الاُستاذ أبا إسحاق الإسفرائيني (ت413ه_)، فقال القاضي: «سبحان من تنزّه عن الفحشاء» (مزدرياً بالاسفرائيني بأنّه لأجل القول بسعة إرادته يصفه سبحانه بالفحشاء) فأجابه الاسفرائيني بقوله: «سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء» إيماءً بأنّ القاضي لأجل قوله بضيق إرادته سبحانه، يعتقد بأنّ هناك أشياء تقع في سلطانه ومملكته خارجة عن مشيئته»(3).

لكنّ القولين بين الافراط والتّفريط. وما يتبنّيانه من الغاية (التّنزيه و التّعظيم) يحصل برفض القولين، والاعتناق بالقول الثّالث الّذي هو مذهب بين المذهبين، وأمر

______________________

1 . لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة: ص 193.

2 . شرح الاُصول الخمسة: ص 431.

3 . انظر شرح المقاصد: ج 2، ص 145.

( 369 )

بين الأمرين.

وهذا المذهب هو المرويّ عن أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ ويوافقه العقل و تؤيّده نصوص الكتاب، وهو جامع بين المزيّتين و منزّهٌ عن شناعة القولين.

فالمعتزلة، وإن أصابوا في تنزيه الرّبّ عن القبائح، لكنّهم أخطأوا في تحديد سلطنته بإخراج أفعال عباده عن إحاطة إرادته و سلطنته وملكه، فصوّروا الإنسان فاعلاً يفعل بارادته، ويعمل

بمشيئته مستقلاً بلا استمداد من ارادته ومشيئته سبحانه.

والأشاعرة، وإن أصابوا في إدخال أفعال العباد في ملكه و سلطنته، لكنّهم أخطأوا في جعل أفعال العباد مرادة للّه بالارادة المباشريّة. فصار هناك مريد واحد وهو الله سبحانه و غيره من الفواعل مظاهر إرادته. وهذا يستلزم كونه سبحانه هو المسؤول عن القبائح لكونه الفاعل لها.

وأمّا القول الثالث فهو عبارة عن سعة إرادته لكلِّ ظاهرة امكانيّة، لكن لا بمعنى كونه سبحانه هو المصدر المباشر لكلِّ شيء، بل بمعنى أنّه تعلّقت إرادته على صدور كلِّ فعل عن فاعله بما فيه من الخصوصيّات، فلو صدر عنه بلا هذه الخصوصيّات لزم تخلّف مراده عن إرادته، فتعلّقت ارادته سبحانه على كون النّار مصدراً للحرارة بلا علم و شعور، بل عن جبر واضطرار. كما تعلّقت إرادته على صدور فعل الإنسان عنه باختيار ذاتيّ و حرّيّة فطريّة.

وباختصار، شاء أن يكون الإنسان مختاراً في فعله و عمله. فإذا اختار و فعل فقد فعل بارادته، كما فعل بارادة الله سبحانه. وليست الارادة الأزليّة منافية لحرّيّته و اختياره، وقد أوضحنا ذلك في أبحاثنا الكلاميّة(1). فلاحظ.

وهناك كلام للشّهيد الأجلّ محمّد بن مكّي (المتوفى عام 786ه_) عند بحثه عن تضافر الأخبار على أنّ صلة الأرحام تزيد في العمر، يقرب ممّا ذكرناه، قال (قدّس سرّه):

______________________

1 . لاحظ: الالهيات على ضوء الكتاب والسنة والعقل، ص 632، والجزء الثاني من هذه الموسوعة، ص 302.

( 370 )

«أُشكل هذا بأنّ المقدّرات في الأزل، والمكتوبات في اللّوح المحفوظ لا تتغيّر بالزيادة والنقصان لاستحالة خلاف معلوم الله تعالى، وقد سبق العلم بوجود كلِّ ممكن أراد وجوده و بعدم كلِّ ممكن أراد بقاءه على حالة العدم أو إعدامه بعد ايجاده، فكيف يمكن الحكم بزيادة العمر و نقصانه بسبب

من الأسباب؟».

ثمّ أجاب وقال: «إنّ الله تعالى كما علم كميّة العمر، علم ارتباطه بسببه المخصوص، وكما علم من زيد دخول الجنّة، جعله مرتبطاً بأسبابه المخصوصة، من إيجاده، وخلق العقل له، وبعث الأنبياء و نصب الألطاف، وحسن الاختيار، والعمل بموجب الشّرع، فالواجب على كلِّ مكلّف الاتيان بما أُمر به، ولا يتّكل على العلم، فإنّه مهما صدر منه فهو المعلوم بعينه.

وبالجملة: جميع ما يحدث في العالم، معلوم للّه تعالى على ما هو عليه واقع، من شرط أو سبب وليس نصب صلة الرحم زيادة في العمر إلاّ كنصب الإيمان سبباً في دخول الجنّة»(1).

ولو أمعنت فى أطراف كلامه تجد أنّه (قدّس الله سرّه) يشير إلى نفس الجواب الّذي بيّناه خصوصاً قوله «جعله مرتبطاً بأسبابه المخصوصة من إيجاده .. وحسن الاختيار» وقوله: «جميع ما يحدث في العالم معلوم للّه تعالى على ما هو عليه ...».

المسألة السادسة: في وجوب اللّطف

المسألة السادسة: في وجوب اللّطف

اشتهرت العدليّة بوجوب اللّطف(2) على الله سبحانه، وخالفتهم الأشعريّة وبشر

______________________

1 . القواعد والفوائد: ج 2، ص 56، القاعدة 163.

2 . المراد من الوجوب كونه مقتضى الحكمة، أو الجود والكرم، لا الوجوب بالمعنى المتبادر في أوساط الناس من حاكمية العباد على الله، وكون تركه مستلزماً للذم واللوم أو العقاب، وعلى ذلك فالحكم مستكشف العقل باعتبار ملاحظة أوصافه الجميلة. وعلى أيّ تقدير فمن قال به فإنما قال به من باب الحكمة، تحصيلاً لهدف الخلقة، أو هدف التكليف، أو من باب الجود والكرم، وأما إيجابه من باب العدل فلم يعلم له معنى محصل.

( 371 )

ابن المعتمر من معتزلة بغداد، وإيضاح الحقّ يستدعي البحث عن أُمور:

الأوّل : تعريف اللّطف و بيان حقيقته و أقسامه.

إنّ اللّطف، في اصطلاح المتكلّمين، يوصف بوصفين:

1- اللّطف المُحَصِّل.

2- اللّطف المُقَرِّب.

وهناك مسائل

تترتّب على اللّطف بالمعنى الأوّل، ومسائل أُخرى تترتّب على اللّطف بالمعنى الثاني، وربّما يؤدّي عدم التّمييز بين المعنيين إلى خلط ما يترتّب على الأوّل بما يترتّب على الثاني .. ولأجل الاحتراز عن ذلك نبحث عن كلّ منهما بنحو مستقل.

1-اللُّطف المحصِّل

اللُّطف المحصِّل: عبارة عن القيام بالمبادئ والمقدّمات الّتي يتوقّف عليها تحقّق غرض الخلقة، وصونها عن العبث واللّغو، بحيث لولا القيام بهذه المبادئ والمقدّمات من جانبه سبحانه، لصار فعله فارغاً عن الغاية، وناقَضَ حكمته الّتي تستلزم التحرّز عن العبث، وذلك كبيان تكاليف الإنسان و إعطائه القدرة على امتثالها.

ومن هذا الباب بعث الرّسل لتبيين طريق السّعادة، وتيسير سلوكها. وقد عرفت في الأدلّة السابقة، أنّ الإنسان أقصر من أن ينال المعارف الحقّة، أو يهتدي إلى طريق السّعادة في الحياة بالاعتماد على عقله، والاستغناء عن التّعليم السماوي.

و وجوب اللّطف بهذا المعنى، ليس موضع مناقشة لدى القائلين بحكمته سبحانه، وتنزيهه عن الفعل العبثي الّذي اتّفق عليه العقل والنقل(1). وإنّما الكلام في «اللّطف المقرِّب»، وإليك البيان فيه:

______________________

1 . لاحظ سورة الذاريات: الآية 56 وسورة المؤمنون: الآية 115.

( 372 )

2_ اللُّطف المقرِّب

اللّطف المقرِّب: عبارة عن القيام بما يكون محصِّلا لغرض التّكليف بحيث لولاه لما حصل الغرض منه و ذلك كالوعد والوعيد، والتّرغيب و التّرهيب، الّتي تستتبع رغبة العبد إلى العمل، وبعده عن المعصية(1).

وهذا النّوع من اللّطف ليس دخيلاً في تمكين العبد من الطّاعة، بل هو قادر على الطّاعة وترك المخالفة سواء أكان هناك وعد أم لا، فإنّ القدرة على الإمتثال رهن التعرّف على التّكليف عن طريق الأنبياء، مضافاً إلى إعطاء الطّاقات الماديّة، والمفروض حصول هذه المبادئ والمقدّمات، غير أنّ كثيراً من النّاس لا يقومون بواجبهم بمجرّد الوقوف على التّكليف ما لم يكن هناك

وعد و وعيد و ترغيب و ترهيب، فهذا النوع من اللّطف قد وقع موقع النِّقاش بين المتكلِّمين.

والحقّ هو القول بوجوب اللّطف إذا كان غرض التّكليف (لا غرض الخلقة) موقوفاً عليه عند الأكثريّة الساحقة من المكلّفين.

مثلاً لو فرضنا أنّ غالب المكلّفين، لا يقومون بتكاليفهم بمجرّد سماعها من الرّسل _ وان كانوا قادرين عليها _ إلاّ إذا كانت مقرونة بالوعد والوعيد، والتّرغيب والتّرهيب، وجب على المكلِّف القيام بذلك، صوناً للتّكليف عن اللّغوية، ولو أهملها المكلِّف ترتّب عليه بطلان غرضه من التّكليف، وبالتالي بطلان غرضه من الخلقة.

وفي الكتاب والسنّة إشارات إلى هذا النوّع من اللّطف. يقول سبحانه:

______________________

1 . عرّف اللطف المقرب بأنه هيئة مقربة الى الطاعة ومبعدة عن المعصية، من دون أن يكون له حظّ في التمكين وحصول القدرة، ولا يبلغ حدّ الالجاء.

فخرج بالقيد الأوّل (لم يكن له حظ...) اللطف المحصّل، فإنّ له دخالة في تمكين المكلّف من الفعل بحيث لولاه لانتفت القدرة.

وخرج بالقيد الثاني (لا يبلغ حدّ الإلجاء) الإكراه والإلزام على الطاعة والاجتناب عن المعصية، فإنّ ذلك ينافي التكليف الذي يتطلب الحرية والاختيار في المكلف (لاحظ: كشف المراد، ص 201، ط صيدا).

وقال القاضي عبد الجبار: «اللطف هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح، أو ما يكون عنده أقرب إمّا إلى اختيار الواجب أو ترك القبيح» (شرح الاصول الخمسة: ص 519).

( 373 )

(وَبَلَوناهُم بالحَسَناتِ والسّيئاتِ لعلَّهُم يَرجِعون)(سوره الأعراف/168)

والمراد من الحسنات والسّيئات، نعماء الدّنيا و ضرّاؤها، و كأنّ الهدف من ابتلائهم بهما هو رجوعهم إلى الحقّ والطّاعة.

و يقول سبحانه: (وما أرسَلْنَا في قَرْيَة مِن نَبِىّ إلاّ أخَذْنا أهلَها بالبَأْساءِ و الضََّرّاءِ لَعَلَّهُم يَضّرّعُون)(سوره الأعراف/94) وفي الآية إشارة إلى كلا القسمين من اللّطف، ومفاد الآية أنّ الله تعالى

أرسل رسله لإِبلاغ تكاليفه إلى العباد و إرشادهم إلى طريق الكمال (اللّطف المحصِّل)، غير أنّ الرّفاه و الرّخاء و التوغّل في النّعم المادّية، ربّما يسبِّب الطّغيان وغفلة الإِنسان عن هدف الخلقة وإجابة دعوة الأنبياء، فاقتضت حكمته تعالى أخذهم بالبأساء والضرّاء، لعلّهم يَضّرّعون ويبتهلون إلى الله تعالى.

ولأجل ذلك نشهد أنّ الأنبياء لم يكتفوا باقامة الحجّة والبرهان، والإتيان بالمعاجز، بل كانوا _ مضافاً إلى ذلك _ مبشِّرين و منذرين، وكان التّرغيب والتّرهيب من شؤون رسالتهم، قال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرين و مُنذِرينَ)(سورة النساء/165) و الإنذار والتّبشير دخيلان في رغبة النّاس بالطّاعة و ابتعادهم عن المعصية.

وفي كلام الإِمام عليّ _ عليه السلام _ إشارة إلى هذا:

قال _ عليه السلام _: «أيّها الناس، إنّ الله تبارك و تعالى لمّا خلق خلقَه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة و أخلاق شريفة، فعلم أنّهم لم يكونوا كذلك إلاّ بأن يعرّفهم ما لهم و ما عليهم، والتّعريف لا يكون إلاّ بالأمر والنّهي(1)، والأمر والنّهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد، والوعد لا يكون إلاّ بالتّرغيب، والوعيد لا يكون إلاّ بالتّرهيب، والتّرغيب لايكون إلاّ بما تشتهيه أنفسهم و تلذّه أعينهم، والتّرهيب لا يكون إلاّ بضدّ ذلك ... الخ»(2).

وقوله _ عليه السلام _: «والأمر والنّهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد» إشارة إلى أنّ

______________________

1 . هذا إشارة إلى اللطف المحصل.

2 . بحار الأنوار، ج 5، كتاب العدل والمعاد، الباب الخامس عشر، الحديث 13، ص 316.

( 374 )

امتثال الأمر و النّهي و نفوذهما في نفوس النّاس، يتوقّف على الثّواب والعقاب، فلولاهما لما كان هناك حركة إيجابيّة نحو التّكليف إلاّ من العارفين الّذين يعبدون الله تعالى، لا رغبة ولا رهبة، بل لكونه مستحقّاً للعبادة.

فتحصّل من ذلك أنّ ما هو

دخيل في تحقّق الرّغبة بالطّاعة، والابتعاد عن المعصية في نفوس الأكثريّة الساحقة من البشر، يجب على الله سبحانه القيام به صوناً للتّكليف عن اللّغو، وبالتالي صوناً للخلقة عن العبث.

نعم، إذا كانت هذه المبادئ كافية في تحريك الأكثريّة نحو الطّاعة، ولكنّ القليل منهم لا يمتثلون إلاّ في ظروف خاصّة كاليسار في الرزق، أو كثرة الرفاه، فهل هو واجب على الله سبحانه؟ الظّاهر لا، إلاّ من باب الجود والتّفضّل.

وبذلك يعلم أنّ اللّطف المقرِّب إذا كان مؤثّراً في رغبة الأكثريّة بالطّاعة و ترك المعصية يجب من باب الحكمة، وأمّا إذا كان مؤثّراً في آحادهم المعدودين، فالقيام به من باب الفضل والكرم. وبذلك تقف على مدى صحّة ما استدلّ به بعضهم على اللّطف في المقام، أو سقمه.

استدلّ القاضي عبد الجبّار على وجوب اللّطف بقوله: «إنّه تعالى كلّف المكلّف، وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثّواب، وعلم أنّ في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب، واجتنب القبيح، فلا بدّ من أن يفعل به ذلك الفعل و إلاّ عاد بالنّقض على غرضه، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذ أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتّخذه، وعلم من حاله أنّه لا يجيبه، إلاّ إذا بعث إليه بعض أعزّته من ولد أو غيره، فإنّه يجب عليه أن يبعث، حتّى إذا لم يفعل عاد بالنّقض على غرضه و كذلك هيهنا»(1).

قال الشّهرستاني: «اللّطف عبارة عن كلِّ ما يوصل الإنسان إلى الطّاعة و يبعِّده عن المعصية، ولمّا كان الله عادلاً في حكمه، رؤوفاً بخلقه، ناظراً لعباده، لا يرضى لعباده

______________________

1 . شرح الاصول الخمسة: ص 521.

( 375 )

الكفر، ولا يريد ظلماً للعالمين، فهو لم يدّخر عنهم شيئاً ممّا يعلم أنّه إذا

فعل بهم، أتوا بالطّاعة والصّلاح»(1).

وقال العلاّمة الحلي: «إنّ المكلِّف _ بالكسر _ إذا علم أن المكلّف _ بالفتح _ لايطيع إلاّ باللّطف، فلو كلّفه من دونه، كان ناقضاً لغرضه، كمن دعا غيره إلى طعام، وهو يعلم أنّه لا يجيبه إلاّ أن يستعمل معه نوعاً من التّأدّب، فإن لم يفعل الداعي ذلك النّوع من التأدّب كان ناقضاً لغرضه، فوجوب اللّطف يستلزم تحصيل الغرض»(2).

وقال الفاضل المقداد: «إنّا بيّنّا أنّه تعالى مريد للطّاعة و كاره للمعصية، فإذا علم أنّ المكلّف لا يختار الطّاعة، أو لا يترك المعصية، أو لا يكون أقرب إلى ذلك إلاّ عند فعل يفعله به، وذلك الفعل ليس فيه مشقّة ولا غضاضة، فإنّه يجب في حكمته أن يفعله، إذ لو لم يفعله لكشف ذلك، إمّا عن عدم إرادته لذلك الفعل، وهو باطل لما تقدّم، أو عن نقض غرضه إذا كان مريداً له، لكن ثبت كونه مريداً له فيكون ناقضاً لغرضه.

ويجري ذلك في الشّاهد مجرى من أراد حضور شخص إلى وليمة، وعرف أو غلب على ظنِّه أنّ ذلك الشّخص لا يحضر إلاّ مع فعل يفعله، من إرسال رسول، أو نوع، أدب، أو بشاشة، أو غير ذلك من الأفعال، ولا غضاضة عليه في فعل ذلك، فمتى لم يفعل عُدّ ناقضاً لغرضه، ونقض الغرض باطل، لأنّه نقص، والنّقص عليه تعالى محال، ولأنّ العقلاء يعدّونه سَفَهاً وهو ينافي الحكمة»(3).

وهذه البيانات تدلّ على أنّ اللّطف واجب من باب الحكمة.

هذا كلام القائلين بوجوب اللّطف، وهو على إطلاقه غير تامّ، بل الحقّ هو التّفصيل بين ما يكون مؤثِّراً في تحقّق التّكليف بشكل عامّ بين المكلّفين، فيجب من

______________________

1 . الملل والنحل: ج 1، ص 107.

2 . كشف المراد: الفصل الثاني، المسألة الثانية عشرة،

ص 325، ط قم 1407.

3 . ارشاد الطالبين: ص 277 _ 278.

( 376 )

باب الحكمة، وإلاّ فيرجع إلى جوده و تفضّله من دون إيجاب عليه.

واستدلّ القائل بعدم وجوبه بقوله: «لو وجب اللّطف على الله تعالى لكان لا يوجد في العالم عاص، لأنّه ما من مكلّف إلاّ وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب و اجتنب القبيح، فلمّا وجدنا في المكلّفين من أطاع وفيهم من عصى، تبيّن أنّ الألطاف غير واجبة على الله تعالى»(1).

يلاحظ عليه: أنّ هذا المستدلّ لم يقف على حقيقة اللّطف، ولذلك استدلّ بوجود العصاة على عدم وجوبه، فهو تصوّر أنّ اللّطف عبارة عمّا لا يتخلّف معه المكلّف عن الإتيان بالطّاعة وترك المعصية، فنتيجته كون وجود العصيان دليلاً على عدم وجوبه، وعدم وجوده دليلاً على وجوبه، مع أنّك قد عرفت في أدلّة القائلين به بأنّه ما يكون مقرِّباً إلى الطّاعة و مبعِّداً عن المعصية من دون أن يبلغ حدّ الإلجاء.

يقول القاضي عبد الجبّار: «إنّ العباد على قسمين، فإنّ فيهم من يعلم الله تعالى من حاله أنّه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب و يتجنّب القبيح، أو يكون أقرب إلى ذلك، وفيهم من هو خلافه حتّى إن فعل به كلّ ما فعل لم يختر عنده واجباً ولا اجتنب قبيحاً»(2).

ويؤيِّده ما ورد في الذِّكر الحكيم من أنّ هناك أُناساً لا يؤمنون أبداً ولو جاءهم نبيّهم بكلِّ أنواع الآيات والمعاجز.

قال سبحانه: (وما تُغني الآياتُ و النُذُرُ عَن قول لا يُؤْمنون)(3).

وقال سبحانه: (ولَئِن أَتَيْتَ الّذين أُوتُوا الكِتابَ بكلِّ آية ما تَبِعوا قِبلَتَك)(4).

وفي الختام نقول: إنّ اللُّطف سواء أكان المراد منه اللّطف المحصِّل أم اللّطف المقرِّب، من شؤون الحكمة،

فمن وصفه سبحانه بالحكمة والتنزّه عن اللّغو والعبث، لامناص له عن الاعتقاد بهذه القاعدة، غير أنّ القول بوجوب اللّطف في المحصِّل

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 523.

2 . شرح الاُصول الخمسة: ص 520.

3 . سورة يونس: الآية 101.

4 . سورة البقرة: الآية 145.

( 377 )

أوضح من القول به في المقرِّب.

ولكن يظهر من الشّيخ المفيد أنّ وجوب اللّطف من باب الجود والكرم، قال: «إنّ ماأوجبه أصحاب اللّطف من اللّطف، إنّما وجب من جهة الجود والكرم، لا من حيث ظنّوا أنّ العدل أوجبه، وأنّه لو لم يفعل لكان ظالماً»(1).

يلاحظ عليه: أنّ إيجابه من باب الجود والكرم يختّص باللّطف الراجع إلى آحاد المكلّفين، لا ما يرجع إلى تجسيد غرض الخلقة، أو غرض التّكليف، عند الأكثريّة الساحقة من المكلّفين، كما عرفت.

ثمّ إنّ المراد من وجوب اللّطف على الله سبحانه ليس ما يتبادر إلى أذهان السطحيّين من الناس، من حاكميّة العباد على الله، مع أنّ له الحكم والفصل، بل المراد استكشاف الوجوب من أوصافه تعالى، فإنّ أفعاله مظاهر لأوصافه تعالى، كما أنّ أوصافه مظاهر لذاته تبارك وتعالى. فإذا علمنا-بدليل عقليّ قاطع-أنّه تعالى حكيم، استتبع ذلك واستلزم العلم بأنّه لطيف بعباده، حيثما يَبطل غرض الخلقة أو غرض التّكليف لولا اللّطف.

المسألة السابعة: في حدوث كلامه تعالى

المسألة السابعة: في حدوث كلامه تعالى

من المسائل الّتي أثارت ضجّة كبرى بين العلماء وانتهت إلى محنة تعرف في التأريخ بمحنة الإمام أحمد بن حنبل، هي البحث عن حدوث القرآن و قدمه، وعن كونه مخلوقاً أو لا. فالمعتزلة على حدوث القرآن و نفي قدمه تنزيهاً له سبحانه عن المثل القديم و غير المخلوق، وأصحاب الحديث و الحنابلة و بعدهم الأشاعرة على ضدّهم و أنّه قديم أو ليس بمخلوق فراراً عن سمة الحدوث

الطارئ على صفاته مثل التكلّم.

ولمّا وصلت المعتزلة في عصر المأمون و بعده في عصر الواثق إلى قمّة القدرة و

______________________

1 . أوائل المقالات: ص 25 _ 26.

( 378 )

كانت الخلافة العبّاسية تؤازرهم و تؤيّدهم، خرجوا عن منهجهم السّابق _ منهج الحرّيّة في الرأي والتفكّر _ وسلكوا في هذه المسألة مسلك الضّغط. فطفقوا يحملون النّاس على عقيدتهم (خلق القرآن) بالقوّة والاكراه، فمن خالفهم ولم يقرّ به يحكم عليه بالحبس تارة والضّرب أُخرى. وأوجد ذلك في حياتهم العلميّة نقطة سوداء، وسيوافيك تفصيل حمل الناس على اعتناق عقيدتهم في هذا المجال في فصل خاصّ.

هذا من جانب و من جانب آخر، لمّا أخذ أحمد بن حنبل في هذا المجال موقف الصّمود والثّبات في عقيدته صار بطلاً في حياته، و بعدها يضرب به المثل في الصّمود على العقيدة، و قد استبطلته المعتزلة و صار إماماً في عقائد أهل السنّة بصموده في طريق عقيدته. و لإيضاح الحقّ نرسم اُموراً:

1- مسلك أهل الحديث

إنّ مسلك أهل الحديث في اتّخاذ العقيدة في مسائل الدّين هو اقتفاء كتاب الله وسنّة رسوله. فما جاء فيها يؤخذ به و ما لم يجئ فيها يسكت عنه ولا يبحث فيه، ولأجل ذلك كان أهل الحديث يحرِّمون علم الكلام، ويمنعون البحث عن كلِّ ما ليس وارداً في الكتاب والسنّة.

وعلى ضوء هذا كان اللازم على أهل الحديث السّكوت وعدم النّبس ببنت شفة في هذه المسألة، لأنّ البحث فيها حرام على اُصولهم، سواء أكان الموقف هو قدم القرآن أم حدوثه، لأنّه لم يرد فيه نصّ عن رسول الله، ولا عن أصحابه، ومع الأسف كان موقفهم _وفي مقدّمهم أحمد بن حنبل _ موقف الايجاب وتكفير المخالف.

يقول الإمام أحمد بن حنبل في كتاب «السنّة»:

«والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهميّ كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن و تلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام اللّه، فهو جهميّ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو

( 379 )

مثلهم»(1).

إنّ السّلفيين و حتّى أتباعهم في هذه الأيّام يتحرّجون من القول بأنّ الله ليس بجسم، قائلين بأنّه لم يرد نصّ فيه في الشّريعة، ولكن يتشدّقون بقدم القرآن وعدم حدوثه، بلا اكتراث سالفهم و لاحقهم حتّى جعلوه أصلاً يدور عليه إسلام المرء وكفره.

2- النّصارى و قدم الكلمة

إنّ القول بقدم القرآن تسرّب إلى أوساط المسلمين من المسيحيّين، حيث كانوا يقولون بقدم الكلمة. وقد صرّح بذلك الخليفة العبّاسي في كتابه الّذي بعثه من الرقّة إلى رئيس شرطة بغداد إسحاق بن إبراهيم يقول : «وضاهوا به قول النّصارى في ادّعائهم في عيسى بن مريم أنّه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله»(2).

قال أبو العبّاس البغوي: «دخلنا على «فثيون» النّصراني وكان في دار الروم بالجانب الغربي، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب (الّذي كان يقول بأنّ كلام الله هو الله) فقال: «رحم الله عبدالله كان يجيء فيجلس إلى تلك الزّاوية و أشار إلى ناحية من البيعة وعنى أخذ هذا القول (كلام الله هو الله) ولو عاش لنصّرنا المسلمين قال البغوي: وسأله محمّد بن إسحاق الطّالقاني، فقال: ما تقول في المسيح؟ قال: ما يقوله أهل السنّة من المسلمين في القرآن»(3).

قال أبو زهرة: «إنّ النّصارى الّذين كانوا في حاشية البيت الأموي وعلى رأسهم يوحنّا الدمشقي و غيرهم، كانوا يبثّون الشّكوك بين المسلمين. فقد جاء في القرآن أنّ عيس

بن مريم كلمة الله ألقاها إلى مريم. فكان يبثّ بين المسلمين أنّ كلمة الله قديمة فيسألهم: أ كلمته قديمة أم لا؟ فان قالوا:لا، فقد قالوا: إنّ كلامه مخلوق. وإن قالوا:

______________________

1 . كتاب السنّة: ص 49.

2 . تاريخ الطبري: ج 7، ص 198، حوادث سنة 218.

3 . فهرست ابن النديم: الفن الثالث من المقالة الخامسة ص 230.

( 380 )

قديمة، ادّعى أنّ عيسى قديم»(1).

وبعد ذلك لا يعبأ بما قاله مؤلّف كتاب «المعتزلة» من أنّ القول بخلق القرآن جاء من اليهود، وأنّ أوّل من نشرها منهم لبيد بن الأعصم عدوّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم اللّدود الّذي كان يقول بخلق القرآن، ثمّ أخذ ابن اُخته طالوت هذه المقالة عنه، وصنّف في خلق القرآن(2).

هذا، وإنّ المشهور بين اليهود هو قدم التّوراة(3).

وعلى كلِّ تقدير، فالمسألة مستوردة وليست نابتة من صميم الدّين و اُصوله. وقد طرحت في أواخر القرن الثّاني في عصر المأمون، وامتدّت إلى عصر المتوكّل ومن بعده الّذين يضغطون على المعتزلة وينكِّلون بهم.

إنّ تأريخ البحث يعرب عن أمرين:

أ-إنّ المسألة طرحت في جوّ غير هادئ و مشحون بالعداء، ولم يكن البحث لكشف الحقيقة وابتداعها، بل كلُّ يصرّ على إثبات مدّعاه.

ب- لم يكن موضوع البحث منقّحاً حتّى يتوارد عليه النّفي والاثبات، وأنّهم لماذا يفرّون من القول بحدوث القرآن ولماذا يكفّرون القائل به. أهم يريدون من قدم القرآن، قدم الآيات الّتي يتلوها القارئ، أو النّبي الأكرم، أو أمين الوحي. أم يريدون قدم معانيه والمفاهيم الواردة فيه. أو يريدون قدم علمه، سبحانه إلى غير ذلك من الاحتمالات الّتي لم يركّز البحث على واحد منها.

يقول القاضي: «ذهبت الحشويّة من الحنابلة إلى أنّ هذا القرآن المتلوّ في المحاريب والمكتوب في المصاحف، غير

مخلوق ولا محدث، بل قديم مع الله تعالى».

وقال ابن قتيبة: «اتّفقوا على أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق و إنّما اختلفوا في

______________________

1 . تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 2، ص 394.

2 . المعتزلة: ص 22، زهدي حسن جار الله.

3 . اليهودية: ص 222، تأليف أحمد شلبي، كما في بحوث مع أهل السنة والسلفية ص 153.

( 381 )

اللّفظ بالقرآن لغموض وقع في ذلك وكلّهم يجمعون على أنّ القرآن بكلّ حال _ مقروءاً و مكتوباً ومسموعاً و محفوظاً _ غير مخلوق»(1).

وذهبت الكلابيّة(2) إلى أنّ كلام الله تعالى هو معنى أزليّ قائم بذاته مع أنّه شيء واحد.

وأمّا مذهبنا في ذلك فهو أنّ القرآن كلام الله تعالى و وحيه وهو مخلوق محدث أنزله الله على نبيِّه ليكون علماً و دالاً على نبوّته، و جعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال و الحرام واستوجب منّا بذلك الحمد و الشّكر والتّحميد والتّقديس، واذن هو الّذي نسمعه اليوم ونتلوه و إن لم يكن محدثاً من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة، وإن لم يكن مُحدِثاً لها من جهته الآن(3).

3- استدلالهم على حدوث القرآن

إذا كان محلّ النزاع هو القرآن المتلوّ كما يظهر من كلام القاضي فحدوثه أمر واضح، فإنّ الكلام هو الحروف المنظومة الّتي تظهر بالأصوات المقطّعة وليس حدوثه شيئاً يحتاج إلى دليل ولو احتاج حدوث مثل هذا إلى دليل إذاً احتاج النّهار إلى دليل. كيف وإنّ ترتيب حروف الكلمات والجمل يستلزم الحدوث، لأنّ تحقّق كلمة بسم الله يتوقّف على حدوث الباء وانعدامها، ثمّ حدوث السين كذلك، ثمّ حدوث الميم وهكذا إلى آخر البسملة. فالحدوث ثمّ الانعدام لا يفارقان

مفردات الحروف. وفي ضوء هذا توجد الكلمة فكيف يمكن أن يكون مثل هذا قديماً أزليّاً مع الله تعالى؟.

وهذا الاستدلال متين لا مفرّ منه.

______________________

1 . تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: ص 16 طبع دار الجيل، .

2 . المؤسس هو عبدالله بن محمد بن كلاب، وله مع عباد بن سليمان مناظرات، وكان يقول: إنّ كلام الله هو الله، وكان عباد يقول: إنّه نصراني بهذا القول: فلاحظ فهرست ابن النديم الفن الثالث من المقالة الخامسة ص 230.

3 . شرح الاُصول الخمسة: ص 528.

( 382 )

ثمّ إنّ القاضي استدلّ على حدوث القرآن بآيات:

1- (وَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَث)(الأنبياء/2) والذِّكر هو القرآن بدليل قوله: (إنّا نَحْنُ نَزَّلنا الذِّكْرَ و إنَّا لَهُ لَحَافِظُون). فقد وصفه بأنّه محدث، ووصفه بأنّه منزّل، والمنزّل لا يكون إلاّ محدثاً. وفيه دلالة على حدوثه من وجه آخر، لأنّه قال: (وإنّا له لحافظون) فلو كان قديماً لما احتاج إلى حافظ يحفظه.

2-(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُه ثُمَّ فُصِّلَتْ)(هود/1).

بيّن كونه مركّباً من هذه الحروف وذلك دلالة حدوثه، ثمّ وصفه بأنّه كتاب، أي مجتمع من كتب، ومنه سمّيت الكتيبة كتيبة، وما كان مجتمعاً لا يجوز أن يكون قديماً.

3- (اللّهُ نزَّل أحْسَنَ الحديثِ كِتاباً مُتشابِهاً مَثانِيَ)(الزمر/23).

وصفه بأنّه «منزّل» أوّلاً، ثمّ قال: «أحسن الحديث». وصفه بالحسن، والحسن من صفات الأفعال. ووصفه بأنّه «حديث» وهو والمحدث واحد. فهذا صريح ما ادّعيناه. وسمّاه «كتاباً»، وذلك يدلّ على حدوثه كما تقدّم. وقال: «متشابهاً» أي يشبه بعضه بعضاً في الاعجاز والدّلالة على صدق من ظهر عليه. وما هذا حاله لا بدّ من أن يكون محدثاً(1).

4- محاولة بعض الحنابلة لإثبات القدم

ولمّا كانت العقيدة بقدم القرآن منافية لتوحيده سبحانه، حاول ابن تيميّة تصحيح عقيدة الحنابلة _

الّتي صارت متروكة و مندرسة بعد ثورة الإمام الأشعري على الطّائفتين_ بالتّفريق بين القدم و عدم المخلوقيّة و قال:

«وكما لم يقل أحد من السّلف إنّ كلام الله مخلوق، فلم يقل أحد منهم إنّه قديم، ولم يقل واحداً من القولين أحد من الصّحابة، ولا التّابعين لهم بإحسان، ولا من بعدهم من الأئمّة الأربعة ولا غيرهم. وأوّل من عرف أنّه قال «هو قديم»، عبدالله بن سعيد بن

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 532.

( 383 )

كلاب»(1).

ولا يخفى أنّ التّفريق بين عدم الخلقة و القدم، كالتّفريق بين المترادفين مثل «الإنسان» و«البشر» فكما لا يصحّ أن يقال: هذا بشر لا إنسان، فهكذا لا يصحّ أن يقال: «القرآن غير مخلوق و لكن ليس بقديم» لأنّ الشّيء إذا لم يكن مخلوقاً يكون وجوده لذاته، وما كان كذلك لا يكون مسبوقاً بالعدم فيكون قديماً.

أضف إلى ذلك أنّ ابن الجوزي صرّح بأنّ الأئمّة المعتمد عليهم قالوا: إنّ القرآن كلام الله قديم(2).

فكما أنّ هذه المحاولة فاشلة، فهكذا محاولته الثّانية الّتي لا يليق بها أن تسطر. وهي القول بقدم حروف المعجم الّتي هي موادّ كلمة الله، حيث قال: «وما تكلّم الله به فهو قائم به، ليس مخلوقاً منفصلاً عنه، فلا تكون الحروف التي هي مباني أسماء الله سبحانه وكتبه المنزلة مخلوقة، فقول القائل بأنّ الحروف قديمة، أو حروف المعجم قديمة، فإن أراد جنسها فهذا صحيح. وإن أراد الحرف المعيّن فقد أخطأ»(3).

إنّ القول بقدم موادِّ القرآن _ أعني حروف المعجم _ أشبه بالقول بقدم الماهيّات المنفكّة عن الوجود. وهذه الحروف بجنسها، كما أنّ الماهيّات بنوعها، ليست إلاّ مفاهيم بحتة معدومة و إنّما تتشخّص بالوجود، وتتحقّق بالكينونة، ولا يكون ذلك إلاّ فرداً و هو حادث قطعاً حسب ما

اعترف به.

هذه المسائل صارت سبباً لسقوط عقيدة الحنابلة في أعين المفكِّرين والمحقّقين من علماء الإسلام. ولأجل ذلك التجأ الأشعري لتصحيح العقيدة إلى الكلام النّفسي القائم بذاته سبحانه. وقد عرفت في تبيين عقيدة الأشعري أنّ مرجع الكلام النّفسي إلى العلم، وليس شيئاً غيره.

______________________

1 . مجموعة الرسائل: ج 3 ص 20.

2 . المنتظم في ترجمة الأشعري، ج 6، ص 332.

3 . مجموعة الرسائل: ج 3، ص 45.

( 384 )

ثمّ إنّ هيهنا أدلّة سمعيّة للحنابلة في إثبات قدم القرآن نأتي بها على وجه الاجمال، وقد طرحها القاضي في كتبه وقام بتحليلها.

5- نقد أدلّة القائلين بالقدم

إنّ القاضي يذكر أدلّة القائلين بقدم القرآن و يقول: «وللمخالف في قدم القرآن شبه، من جملتها:

الشبهة الأولى: قولهم: قد ثبت أنّ القرآن مشتمل على أسماء الله تعالى والاسم والمسمّى واحد، فيجب في القرآن أن يكون قديماً مثل: الله تعالى. قالوا: والّذي يدلّ على أنّ الاسم والمسمّى واحد، هو أنّ أحدنا عند الحلف يقول: تالله و والله. وهكذا يقول: بسم الله. ولا يكون كذلك إلاّ و الأمر على ما قلناه. وكذلك فقد قال لبيد:

إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما * ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

أي السّلام عليكما.

وهكذا فإنّ أحدنا إذا قال: طلّقت زينب، كان الطّلاق واقعاً عليها. فلو لم يكن الاسم والمسمّى واحداً لا يكون كذلك».

وأجاب عنه القاضي بأنّ الاسم غير المسمّى و إلاّ فمن قال: ناراً، يجب أن يحترق فمه.

وعلى هذا قال بعضهم:

لو كان من قال ناراً أُحرقت فمه * لما تف_وّه باس__م النّ__ار مخل__وق

فكيف يكون الاسم و المسمّى واحداً، مع أنّ الاسم عرض و المسمّى جسم؟.

أقول: يجب إلفات نظر القارئ إلى اُمور:

1- إنّ اتّحاد الاسم مع المسمّى صحيح على وجه و باطل

على وجه آخر. فإن أرادوا اتّحاد واقعيّة العالم مع ذاته سبحانه فذلك صحيح، لما قلنا من أنّ ذاته سبحانه

( 385 )

بلا ضمّ ضميمة مصداق للعالم، وليست ذاته شيئاً و عالميّته شيئاً آخر، ولأجل ذلك، الاسم هو واقعيّة العالميّة، ولفظ (العالم) إسم للاسم.

وإن أرادوا اتّحاد لفظ (العالم) الّذي حدوثه ذاتيّ، و تدرّجه عين تحقّقه، مع المسمّى فذلك من البطلان بمكان.

2- إنّ المعارف الإلهيّة لا تبتنى على المسائل الفقهيّة، فإنّ لكلِّ علم منهجاً خاصّاً لتحليل مسائله. فالمعارف الإلهيّة مسائل حقيقيّة تطرح على بساط البحث، و ينظر إليها من زاوية البرهان العقلي. وأمّا المسائل الفقهيّة فهي مسائل اعتباريّة، اعتبرها الشّارع موضوعاً لأمره ونهيه و طاعته و عصيانه، فلا يصحّ الاستدلال عليها إلاّ من زاوية العلوم الاعتباريّة.

فالعالم كلُّ العالم من يحلِّل كلّ مسألة بمنهجها الخاصّ، ولا يخلط هذا بذاك. ولكنّ الحنابلة طفقوا يستدلّون على اتّحاد الاسم مع المسمّى بمسألة فقهيّة، وهذا مثل من أنكر كرويّة الأرض بحجّة أنّ كرويّتها لا توافق كون ليلة القدر ليلة واحدة، بل تستلزم أن تكون ليلتين. وقد أوضحنا حال هذه الشّبهة في أبحاثنا الفقهيّة.

3- إنّ الحلف في قول «تالله» و «والله»، واقع على الاسم لا على المسمّى، لوضوح أنّ المقسم به هو لفظ الجلالة لا مصداقه، غاية الأمر اللّفظ طريق و مرآة إلى المسمّى، ومع ذلك فالمحلوف به لفظه واسمه، لا مصداقه و ذاته مباشرة، فأين للإنسان النّاقص شهود ذاته حتّى يحلف بها. فلو تصعّد و تصوّب لا يكون حلفه خارجاً عن الحلف باللّفظ. فإذا كان الحلف هنا على الاسم، يكون الحلف في قوله «باسم الله» أيضاً على الاسم بحجّة أنّ الاضافة بيانيّة، بمعنى أحلف على الاسم الّذي هو الله. ففي كلا القسمين الحلف

واقع على الاسم، دون المسمّى، وليس الحلف في الأوّل على المسمّى حتّى يستدلّ بصحّة الحلف في الثّاني المشتمل على لفظ الاسم، على أنّ الاسم هو المسمّى و يستنتج من قدم المسمّى قدم الاسم و منه قدم القرآن لاشتماله على أسمائه.

إنّ اتّحاد الاسم مع المسمّى من الأفكار الباطلة الّتي شطب العلم، والفكر

( 386 )

الصحيح، عليها طيلة قرون. ومع الأسف إنّ الشّيخ الأشعري جعله من جملة عقائد أصحاب الحديث و أهل السنّة، وقال في قائمة عقائد تلك الطّائفة: «إنّ أسماء الله لا يقال إنّها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج»(1).

يحكى أنّ بعض الحنابلة ناظر أبا الهذيل في هذه المسألة فأخذ لوحاً و كتب عليه «الله». قال: أفتنكر أن يكون هذا هو الله و تدفع المحسوس؟ فأخذ أبو الهذيل اللّوح من يده و كتب بجنبه: «الله» آخر. فقال للحنبليّ: أيّهما الله إذن؟-فانقطع المدبر(2).

فلو صحّت هذه الوحدة لوجب تعدّد الآلهة حسب تعدُّد أسمائه و كثرتها في لغة العرب وسائر اللّغات.

الشبهة الثانية: إنّ القوم تعلّقوا بآيات من القرآن في إثبات قدمه. منها قوله تعالى: (ألا لَهُ الخَلْقُ وَ الأمْرُ) (الاعراف/54) قالوا: إنّه تعالى فصّل بين الخلق والأمر، وفي ذلك دلالة على أنّ الأمر غير مخلوق(3). والقرآن مشتمل على الأمر فيكون غير مخلوق.

وأجاب عنه القاضي بأنّ ذلك من قبيل عطف الخاصِّ على العامّ، مثل قوله سبحانه: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ)(الرحمن/68).

ويمكن أن يجاب بالنّقض والحلّ.

أمّا نقضاً فبقوله سبحانه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي)(الإسراء/85).

فلو كان الأمر غير مخلوق يلزم أن يكون الروح الّذي من الأمر غير مخلوق و قديماً.

وأمّا حلاّ ً فبوجهين:

أ _ المراد من الخلق هنا هو التّقدير، قال في اللّسان: «الخلق: التقدير، وخلَق الأديم يخلقه خلقاً:

قدّره لما يريد قبل القطع. قال زهير يمدح رجلاً:

______________________

1 . المقالات: ص 290. وفي هذا المصدر تكلّم عن أصحاب الحديث حول اتحاد الاسم مع المسمى، فراجعه.

2 . شرح الاصول الخمسة: ص 544.

3 . المصدر نفسه

( 387 )

ولأن__ت تَف__ري م__ا خلق__تَ * و بعض القوم يَخلق ثمّ لا يفري(1).

والمراد من الأمر هو الايجاد، لقوله سبحانه: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذْا أَرَادَ شَيْئَاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون)(يس/82). وعلى ذلك يعود معنى الآية إلى أنّ التقدير والايجاد في عالم الكون من السّماوات و الأرض و ما بينهما له سبحانه. ويشهد عليه ملاحظة نفس الآية: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ، يُغْشِى الَّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثيثاً و الشَّمسَ والقَمَرَ و النُّجومَ مُسَخّرات بِأَمْرِهِ، ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِين)(الأعراف/54).

فخلق العالم من الذّرّة إلى المجرّة، رهن التّقدير و الايجاد، ولا شريك له سبحانه في واحد من هذين الأمرين، و عندئذ لا صلة لكلمة الأمر، بالأوامر الشّرعية الواردة في القرآن الكريم حتّى يستدلّ من حديث المقابلة أنّ الأمر غير الخلق.

ب- المراد من الخلق هو الايجاد، كما هو الشائع، والمراد من الأمر السنن السائدة على العالم، الحاكمة عليه والوسيلة للتدبير. و يشهد له قوله قبل ذلك: (مسخّرات بأمره) أي مسخّرات بسننه و قوانينه سبحانه. فيعود معنى الآية أيضاً إلى أنّ الخلق و التّدبير بالسنن له سبحانه، لا يشاركه فيهما شيء.

ويظهر ذلك إذا علمنا أنّ «الألف واللام» في «له الأمر» إشارة إلى الأمر الوارد قبله أي: (مسخّرات بأمره) ومن المعلوم أنّ التّسخير قائم بوضع سنن و قوانين على عالم الخلق.

الشبهة الثالثة: إنّ توصيف القرآن بأنّه مخلوق ربّما يوهم وصف القرآن بالكذب والاختلاق، ولهذا

يقال: قصيدة مخلوقة و مختلقة، إذا كانت مشتملة على أكاذيب وأباطيل.

قال سبحانه: (إن هذا إلاّ خلق الأوّلين) (الشعراء/137).

وقال سبحانه: (إن هذا إلاّ اختلاق) (ص/7).

والإجابة عنه واضحة، فإنّ المراد من كونه مخلوقاً، كونه مخلوقاً لله سبحانه.

______________________

1 . لسان العرب: مادة «خلق».

( 388 )

ويشهد له أنّه سبحانه وصفه ب_ «أنزله»، و «جعله»، وغيرذلك من الأفعال الدالّة على انتسابه إلى الله سبحانه.

واستغلال الملحد لهذه الكلمة بتفسيرها بالكذب و الاختلاق لا يغيِّر الواقع، فالمراد أنّ القرآن المتلوّ على لسان النّبي والصّحابة و التّابعين والمسلمين، شيء موجود و لا بدّ له من محدث و خالق، و خالقه هو الله سبحانه.

قال المفيد _ رحمه الله _: «إنّ كلام الله تعالى محدث، وبذلك جاءت الآثار عن آل محمّد _ عليهم السلام _ والمراد أنّ القرآن كلام الله و وحيه و أنّه محدث كما وصفه الله تعالى. وأمنع من إطلاق القول عليه بأنّه مخلوق. وبهذا جاءت الآثار عن الصّادقين، وعليه كافّة الإماميّة إلاّ من شذّ»(1).

والحاصل إنّ إطلاق لفظة «الخلق» على القرآن، لم_ّا كان موهماً لكونه كذباً و مختلقاً، منع من إطلاقه في هذا المقام، وأجيز إطلاق ما لا يوهم مثل هذا المعنى. كلفظ «محدث». وأنّه كلام الله و كتابه و تنزيله، مما يفيد أنه غير أزليّ، وليس بقديم. فإذن، يكون من قبيل:

عباراتنا شتّى' و حسنك واحد * وكلّ إلى ذاك الجمال يشير

وقد وردت الروايات في النّهي عن إطلاق الخلق على القرآن _ لصدّ استغلال الملاحدة _ في (توحيد الصّدوق)(2).

هذا، وقد أشار القاضي عبد الجبّار إلى هذا الوجه و قال:

«فان قيل: أليس قوله تعالى' «و تخلقون إفكاً» أريد به كونه كذباً فما أنكرتم، أليس من أنّ القرآن لا يوصف بذلك من إيهام كونه كذباً...

أليس يقولون قصيدة مخلوقة مختلقة يعني أنّها كذب، و على هذا الوجه يقول القائل: خلقت حديثاً و اختلقته»(3).

______________________

1 . اوائل المقالات: ص 18 _ 19.

2 . لاحظ: توحيد الصدوق، باب القرآن، الأحاديث 2 و 3 و 4 و 5، ص 221 _ 222.

3 . المغنى: أبواب التوحيد والعدل، ج 7، ص 216 _ 217.

( 389 )

ولكنّ الإجابة عنه واضحة، لما عرفت من أنّه يمكن التّعبير عنه بوجه لا يستلزم ذلك الوهم ككونه محدثاً، أو إنّه غير قديم.

والظّاهر أنّ الوجه في عدم توصيفه بكونه مخلوقاً هو تصوّر الملازمة بين كونه مخلوقاً وكون علمه سبحانه حادثاً.

وهناك وجه آخر لعدم التزامهم بكونه مخلوقاً وهو تصوّر أنّ كلِّ مخلوق فان، فيلزم فناء القرآن و موته مع أنّه سبحانه يقول: (إنّا نحن نزّلنا الذِّكر و إنّا له لحافظون)(1).

الشّبهة الرابعة: إنّ الله سبحانه خلق العالم بلفظ «كن»، يقول: (إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) (يس/74) و يقولون لو لم يكن هذا ال_ «كن» قديماً، لوجب أن يكون محدثاً. فكان لا يحدث إلاّ ب_ «كن» آخر. والكلام في ذلك ال_ «كن» كالكلام فيه، فيتسلسل إلى ما لا نهاية له(2).

وأجاب عنه القاضي: ليس المراد من هذه اللّفظة هو المركّب من الكاف و النّون، إذ لا شكّ في حدوثه، فيجب أن يكون المراد هو الارادة(3).

ثمّ قال: «والغرض من هذه الآية و ما جرى مجراها إنّما هو الدّلالة على سرعة استجابة الأشياء له من غير امتناع، نظيرها قوله تعالى: (وقال لها و للأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً)(فصلت/11). ومنه قول الشاعر:

و قالت له العينان سمعاً و طاعة * وحدرت__ا كال_دُّرّ لم_ّا يثقّ__ب

والّذي يدلّ على أنّ المراد هنا ليس لفظة «كن»، أنّه ليس

في المقام مخاطب ذو سمع يسمع الخطاب فيوجد به، وعندئذ تصير الآية تمثيلاً لحقيقة فلسفيّة، وهي أنّ إفاضته سبحانه وجود الشّيء لا تتوقّف على شيء وراء ذاته المتعالية. فمشيئته سبحانه

______________________

1 . المغنى: ج 7، ص 121 وهو أيضاً كما ترى.

2 . شرح الاصول الخمسة: ص 560.

3 . المصدر السابق. ولمّا كان القول بالارادة الحادثة في ذاته مستلزماً لحدوث الذات، التجأ القاضي وأتباعه إلى أنّ للّه سبحانه إرادة غير قائمة بذاته، وهو كما ترى.

( 390 )

مساوقة لوجود الشّىء بلا تخلّف. وأمّا حقيقة إرادته فلبيانها مقام آخر.

وفي نفس الآيات إشارات لطيفة إلى هذا المعنى.

قال سبحانه: (وما أمرنا إلاّ واحدة كلمح بالبصر) (القمر/50) فيكون الهدف من الآية ونظائرها بيان أنّ إرادته و مشيئته المتعلِّقة بتحقّق الشيء يساوق وجوده و ليست كارادة الإنسان. فإنّ الارادة والمشيئة فيه لا تساوق وجود الشّيء، بل يحتاج إلى مقدّمات و أسباب.

المسألة الثامنة: ما تتعلّق بالنبوّات و الشّرائع و

المسألة الثامنة: ما تتعلّق بالنبوّات و الشّرائع و معاجز الأنبياء

إنّ القاضي رتّب على القول بالعدل عدّة مسائل زعم أنّها من نتائج القول به، وبما أنّ الاختلاف فيها بين المعتزلة و غيرهم بسيط، نكتفي بإيرادها إجمالاً:

1- بعث الأنبياء: قال: «ووجه اتّصاله بباب العدل هو أنّه سبحانه إذا علم أنّ صلاحنا يتعلّق بالشّرعيات، فلا بدّ من أن يعرِّفناها، لكي لا يكون مُخلاًّ بما هو واجب عليه، ومن العدل أن لا يخلّ بما هو واجب عليه».

2- لزوم اقتران النبوّة بالمعجز: قال: «إذا بعث إلينا رسولاً ليعرِّفنا المصالح، فلا بدّ من أن يدّعي النبوّة و يظهر عليه العلم المعجز الدّالّ على صدقه عقيب دعواه النُّبوة».

ثمّ فصّل حقيقة المعجز.

يلاحظ عليه: إنّ مقتضى العدل بعث الأنبياء بالدّلائل و البيّنات المثبتة لدعواهم النّبوّة، ولا تنحصر البيّنات بالمعجزات، بل المعجز

إحدى الطّرق إلى التعرّف على صدق النّبي. وهناك طريقان آخران نشير إلى عنوانيهما:

أ-تصديق النبّيّ السابق (الّذي ثبتت نبوّته قطعيّاً) نبوّة النّبىِّ اللاّحق.

( 391 )

ب- جمع القرائن والشّواهد الّتي تدلّ على صدق دعواه صدقاً قطعيا(1).

3- صفات النّبي: يقول: «الرّسول لا بدّ أن يكون منزّهاً عن المنفِّرات جملة، كبيرة أو صغيرة، لأنّ الغرض من البعثة ليس إلاّ لطف العباد و مصالحهم. فلا بدّ من أن يكون مقبولاً للمكلّف.

ثمّ جوّز صدور الصّغائر عن الأنبياء الّتي لا حظّ لها إلاّ في تقليل الثّواب دون التنفير...، لأنّ قلّة الثّواب ممّا لا يقدح في صدق الرُّسل ولا في القبول منهم»(2).

يلاحظ عليه: أنّ صدور الذّنب من النّبي يوجب زوال الثّقة بصدق قوله، فيقال: لو كان صادقاً فيما يرويه فلماذا يتخلّف عنه.

4- نسخ الشرائع: فقد ذكر جملة من الأدلّة على جواز النّسخ في الشّرائع وطرح القول بالبداء و بيّن الفرق بينه و بين النّسخ.

5- نبوّة نبيّ الإسلام و دلائل نبوّته وأنّ القرآن معجز: ثمّ بسط الكلام في إعجاز القرآن إلى أن وصل بحثه إلى القول بالتّحريف في القرآن.

ومن أعجب ما أتى به قوله إنّ الإماميّة جوّزوا فى القرآن الزّيادة و النّقصان حتّى قالوا: إنّ سورة الاحزاب كانت بحمل جمل، وإنّه قد زيد فيها، ونقص، وغيِّر و حرِّف(3).

أقول: غاب عن القاضي أنّ الإماميّة على بكرة أبيهم لم يصدر منهم هذا الكلام الرّكيك.

نعم، روى القرطبي عند تفسيره سورة الأحزاب من عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم مائتي آية، فلمّا كتب المصحف لم يقدر منها إلاّ على ما هي الآن(4).

تمّ الكلام حول الأصل الثّاني والفروع الّتي تترتّب عليه.

______________________

1 . قد فصلنا تلك الطرق في بحوثنا

الكلامية لاحظ الالهيات ج3 ص 61_114.

2 . شرح الاصول الخمسة: ص 574 _ 575.

3 . شرح الاصول الخمسة: ص 601.

4 . تفسير القرطبي: ج 14، ص 113.

الأصل الثّالث الوعد والوعيد

الأصل الثّالث الوعد والوعيد

هذا هو الأصل الثّالث من الاُصول الّتي بني عليها الاعتزال، والمراد من الوعد هو المدح والثّواب على الطّاعات، و من الوعيد الذّمّ والعقاب على المعاصي.

والمسائل المبتنية على الوعد والوعيد في الكتاب والسنّة والعقل كثيرة طرحها المتكلِّمون و المفسِّرون في كتبهم الكلاميّة والتفسيريّة. وليست المعتزلة متفرِّدة بالرأي في هذه المسائل وإنّما تفرّدوا في بعض الفروع و لأجل ذلك نذكر عناوين المسائل الكليّة، ثمّ نركِّز على متفرِّدات المعتزلة، وإليك البيان:

1 _ الكلام في المستحَقّ بالأفعال (الطّاعة والعصيان) فهو إمّا المدح والذّمّ، أو الثّواب والعقاب.

2 _ الكلام في الشروط الّتي معها تستحقّ هذه الأحكام.

3 _ هل الثّواب على وجه التفضّل كما هو المشهور لدى الشّيعة و جماعة من أهل السنّة، أو من باب الاستحقاق، كما هو المشهور لدى معتزلة البصرة؟

4 _ هل استحقاق العقاب عقليّ و سمعيّ، أو سمعيّ فقط؟

5 _ هل الطّاعات مؤثِّرة في سقوط العقاب، والمعاصي مؤثِّرة في سقوط الثّواب، فيعبّر عن الأوّل بالتّكفير، وعن الثاني بالإحباط؟

6 _ تقسيم المعاصي إلى الكبائر والصّغائر.

( 393 )

هذه هي المسائل الّتي اختلفت فيها كلمة المتكلّمين من غير فرق بين المعتزليّ وغيره ولا نركّز البحث على هذه المسائل، وإنّما نبحث في المسائل الآتية الّتي تعدّ من متفرّدات المعتزلة.

أ _ هل يحسن من الله تعالى عقلاً أن يعفو عن العصاة و أن لا يعاقبهم إذا ماتو بلا توبة، أو إنّه ليس له إسقاطه؟

ب _ هل الفاسق (مرتكب الكبائر) مخلّد في العذاب أو لا؟ سواء أكان العذاب بالنّار أم بغيرها.

ج

_ إذا كان التّخليد في العذاب أمراً محقّقا، فما معنى الشّفاعة الّتي تضافر عليها الكتاب والسنّة المفسّرة بخروج الفسّاق من النّار بشفاعة الرّسول و غيره؟

د _ هل القائلون بجواز العفو أو عدم الخلود مرجئة أم راجية؟

ه_ _ هل الطّاعات مؤثِّرة في سقوط العقاب، والمعاصي مؤثرة في سقوط الثّواب؟

هذه هي المسائل الّتي تفرّدت بها المعتزلة، واشتركت معهم فئة الخوارج في تخليد الفسّاق في العذاب، لقولهم بكفر المرتكب للكبيرة، وهذا الأصل _ أي الوعد والوعيد _ رمز إلى هذه المسائل الخمس الأخيرة.

أ _ هل يحسن العفو عن العصاة من الله أو لا؟

اختلفت مدارس الاعتزال فيها، فالبصريّون و منهم القاضي عبدالجبّار على الجواز، والبغداديّون على المنع، حتّى قالوا: يجب عليه أن يعاقب المستحقّ للعقوبة، ولا يجوز أن يعفو عنه، حتّى صار العقاب عندهم أعلى حالاً في الوجوب من الثّواب. فإنّ الثّواب عندهم لا يجب إلاّ من حيث الجود. وليس هذا قولهم في العقاب فإنّه يجب فعله على كلِّ حال.

( 394 )

احتجّ القاضي على الجواز بأنّ العقاب حقّ الله تعالى على العبد، وليس في إسقاطه إسقاط حقّ ليس من توابعه، وإليه استبقاؤه فله إسقاطه، كالدّين فإنّه لمّا كان حقّاً لصاحب الدّين خالصا، ولم يتضمّن إسقاط حقّ ليس من توابعه وكان إليه استبقاؤه، كان له أن يسقط كما أنّ له أن يستوفيه.

استدلّ البغداديّون بوجوه:

الأوّل: إنّ العقاب لطف من جهة الله تعالى واللُّطف يجب أن يكون مفعولاً بالمكلّف على أبلغ الوجوه، ولن يكون كذلك إلاّ والعقاب واجب على الله تعالى. فمعلوم أنّ المكلّف متى علم أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلِّ وجه، كان أقرب إلى أداء الواجبات و اجتناب الكبائر(1).

يلاحظ عليه: أنّ اللُّطف عبارة عمّا يقرِّب الإنسان

من الطّاعة و يبعِّده عن المعصية، وهذا لا يتصوّر إلاّ في دار التّكليف لا دار الجزاء، ففي الاُولى العمل والسّعي، وفي الاُخرى الحساب والاجتناء.

وأمّا ما ذكروه أخيراً من أنّه لو علم المكلّف أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلِّ وجه كان أقرب إلى أداء الواجبات و اجتناب الكبائر فيلاحظ عليه: أنّه لو تمّ لوجب سدّ باب التّوبة، لإمكان أن يقال إنّ المكلّف لو علم أنّه لا تقبل توبته، كان أقرب إلى الطّاعة، وأبعد من المعصية.

أضف إلى ذلك إنّ للرجاء آثاراً بنّاءة في حياة الإنسان، ولليأس آثاراً سلبيّة في الادامة على الموبقات، ولأجل ذلك يشتمل الذِّكر الحكيم على آيات التّرغيب كما يشتمل على آيات التّرهيب.

وأخيراً نقول: إنّ القول بجواز العفو، غير القول بحتميّته. و الأثر السّلبي _ لو سلّمنا _ يترتّب على الثاني دون الأوّل، والكلام في جواز العفو لا في وجوبه و حتميّته.

______________________

1 . شرح الاُصول الخمسة: ص 646 و 647.

( 395 )

الثّاني: مانقله عنهم العلاّمة الدوّاني في (شرح العقائد)، قال: «المعتزلة والخوارج أوجبوا عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة، و حرّموا عليه العفو. واستدلّوا عليه بأنّ الله أوعد مرتكب الكبيرة بالعقاب، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعده والكذب في خبره، وهما محالان»(1).

واُجيب عنه بأنّ الوعد والوعيد مشروطان بقيود و شروط معلومة من النّصوص، فيجوز التخلّف بسبب انتفاء بعض تلك الشّروط(2).

وربّما اُجيب بوجه آخر وهو أنّ الخلف في الوعيد جائز على الله تعالى و إن كان لا يجوز أن يخلف الوعد. وروي عن أنس بن مالك أنّ رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «من وعده الله على عمله ثواباً فهو منجز له، ومن أوعده على عمله عقاباً

فهو في الخيار»(3).

وروي أنّ عمرو بن عبيد (رئيس المعتزلة بعد واصل) جاء إلى أبي عمرو بن العلاء وقال: يا أبا عمرو، يخلف الله ما وعده؟ قال: لا. قال: أفرأيت من أوعده الله على عمل عقاباً، أيخلف الله وعيده فيه؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت يا أبا عثمان، إنّ الوعد غير الوعيد. إنّ العرب لا يَعدّ عيباً ولا خلفاً، أن يعد شرّاً ثمّ لم يفعل، بل يرى ذلك كرماً و فضلاً، وإنّما الخلف أن يعد خيراً ثمّ لم يفعل. قال (عمرو بن عبيد) فأوجدني هذا العرب. قال:نعم، أما سمعت قول الشاعر:

وإنّي إذا أوعدت_ه أو وعدت_ه * لمخلف إيعادي و منجز موعدي

وذكر الشاعر الآخر:

إذا وعد السرّاء أنجز وعده * وإن أوعد الضرّاء فالعفو مانع(4)

______________________

1 . شرح العقائد العضدية: ج 2 ص 194 _ 198. المطبوع مع حاشية اسماعيل الكلنبوي عام 1319 في الاستانة.

2 . شرح العقائد العضدية: ج 2 ص 194 _ 198. المطبوع مع حاشية اسماعيل الكلنبوي عام 1319 في الاستانة.

3 . شرح العقائد العضدية ج 2 ص 194 _ 199 والمتن للقاضي الايجي (المتوفى عام 756) والشرح لجلال الدين الدواني (المتوفى عام 908، أو 909ه_) طبعا مع حواشي الشيخ اسماعيل الكلنبوي المتوفى (عام 1205ه_) في استنبول (عام 1317ه_).

4 . المعتزلة: ص 157، والظاهر منه أنّه نقله عن الجويني في كتابه «الارشاد الى قواطع الأدلّة إلى صحيح الاعتقاد».

( 396 )

يلاحظ على الجواب الأوّل أنّه احتمال محض يثبت به الامكان لا الوقوع، ويرتفع به الاستحالة. ولعلّ الغاية هي اثبات الامكان.

وأمّا الجواب الثّاني فظاهره أشبه بالبحث اللّفظي و الأدبي، مع أنّ المسألة عقليّة، ولعلّ المجيب يريد شيئاً آخر أشار إليه شيخنا المفيد في كتاب «العيون والمحاسن» وهو

التّفصيل بين الوعد والوعيد، وأنّ الخلف في الأوّل قبيح عقلاً والخلف في الثّاني ليس بقبيح عقلاً. والدّليل على ذلك أنّ كلّ عاقل يستحسن العفو بعد الوعيد في ظروف خاصّة، ولا يعلِّقون بصاحبه ذمّاً. فلو كان العفو من الله تعالى مع الوعيد قبيحاً، يجب أن يكون كذلك عند كلِّ عاقل.

ولعلّ وجه ذلك أنّ الخلف في الوعد إسقاط لحقّ الغير و إمساك عن أداء ما عليه من الحقّ، وأمّا الوعيد فإنّ م آل الخلف إلى إسقاط حقّ نفسه، ومثل ذلك يعدّ مستحسناً لا قبيحاً إذا وقع الخلف في موقعه.

الثالث : إنّ في جواز ذلك إغراء للمكلّف بفعل القبيح اتّكالاً منه على عفو الله، فالعقاب ضروري، لأنّه زاجر عن ارتكاب القبائح، كما أنّ في العفو تسوية بين المطيع والعاصي و ذلك ما لا يتّفق مع العدل(1).

يلاحظ عليه: أنّ الاغراء لازم القول بالعفو قطعاً كما عليه المرجئة، لا القول به احتمالاً كما عليه الراجئة، ولو صحّ ما ذكر، لبطل الوعد بالتّوبة والشفاعة، وأمّا حديث التّسوية، فهو يرتفع باثابة المطيع دون العاصي و إنّما يلزم بتسويتهما في الثواب أيضاً.

إلى هنا تمّ الكلام في المسألة الاُولى و ثبت أنّ العفو عن العصاة من المسلمين جائز. ولأجل ذلك يقول الصّدوق في تبيين عقائد الإماميّة:

اعتقادنا في الوعد والوعيد هو أنّ من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه، ومن وعده على عمل عقاباً فهو بالخيار إن عذّبه فبعدله، وإن عفا عنه فبفضله (ومَا رَبُّكَ

______________________

1 . المعتزلة: ص 157، والظاهر منه أنّه نقله عن الجويني في كتابه «الارشاد الى قواطع الأدلّة إلى صحيح الاعتقاد».

( 397 )

بِظَلاّم لِلْعَبِيد) وقال عزّوجلّ: (إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ و يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(1).

هذا هو

موجز الكلام في المسألة الأولى، وإليك البحث في مسألة التّخليد.

ب _ هل الفاسق مخلد في العذاب أو لا ؟

هذا هو البحث المهمّ في هذا الأصل، ويعدّ بيت القصيد في فروعه. لا شكّ أنّ الله تعالى أوعد المجرمين التّخليد في العذاب، فهل هو مختصّ بالمشركين والمنافقين أو يعمّ مرتكب الكبائر؟ ذهبت المعتزلة إلى عمومها و صار القول بالتّخليد شارة الاعتزال وسمته، وخالفوا في ذلك جمهور المسلمين. قال المفيد: «اتّفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في النّار متوجّه إلى الكفّار خاصّة، دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى و الاقرار بفرائضه من أهل الصّلاة، و وافقهم على هذا القول كافّة المرجئة سوى محمّد بن شبيب و أصحاب الحديث قاطبة. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك و زعموا أنّ الوعيد بالخلود في النّار عامّ في الكفّار، وجميع فسّاق أهل الصّلاة»(2).

ثمّ إنّ المعتزلة استدلّت على خلود الفاسق في النّار بالسّمع وهو عدّة آيات، استظهرت من إطلاقها أنّ الخلود يعمّ الكافر و المنافق والفاسق، و إليك هذه الآيات واحدة بعد الاُخرى:

الآية الأولى: قوله سبحانه: (وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النساء/14) (3).

ولا شكّ أنّ الفاسق ممّن عصى الله و رسوله بترك الفرائض و ارتكاب المعاصي.

______________________

1 . أوائل المقالات: ص 14. والآيتان من سورتي فصّلت46 والنساء 48.

2 . أوائل المقالات: ص 14.

3 . وأمّا قوله سبحانه: (ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم خالدين فيها) (الجن 23). فهو راجع الى الكفار، كما هو واضح لمن لاحظ آيات السورة.

( 398 )

يلاحظ عليه: أوّلاً : إنّ دلالة الآية على خلود الفاسق في النّار لا يتجاوز حدّ الاطلاق، والمطلق قابل للتّقييد، وقد

خرج عن هذه الآية باتّفاق المسلمين، الفاسق التائب. فلو دلّ دليل هنا على أنّ المسلم الفاسق ربّما تشمله عناية الله و رحمته، ويخرج عن العذاب، لكان المطلق مقيّداً بقيد آخر وراء التّائب. فيبقى تحت الآية، المشرك والمنافق.

وثانياً: إنّ الموضوع في الآية ليس مطلق العصيان، بل العصيان المنضمّ إليه تعدّي حدود الله، ومن المحتمل جدّاً أنّ المراد من التعدّي هو رفض أحكامه سبحانه، وطردها، وعدم قبولها. كيف، وقد وردت الآية بعد بيان أحكام الفرائض.

يقول سبحانه: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنْثَيَيَنِ...)(النساء/11).

ويقول سبحانه: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ...)(النساء/12).

ويقول سبحانه: (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ...)(النساء/13).

ثمّ يقول سبحانه: (وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ...)(النساء/14).

وقوله: (ويتعدّ حدوده) وإن لم يكن ظاهراً في رفض التّشريع، لكنّه يحتمله، بل ليس الحمل عليه بعيداً بشهادة الآيات الاُخرى الدالّة على شمول غفرانه لكلِّ ذنب دون الشّرك، أو شمول رحمته للناس على ظلمهم إلى غير ذلك من الآيات الواردة في حقّ الفاسق غير التائب كما سيوافيك.

يقول الطّبرسي _ رحمه الله _ : «إنّ قوله: (ويتعدّ حدوده) ظاهر في تعدّي جميع حدود الله، وهذه صفة الكفّار. ولأنّ صاحب الصّغيرة بلا خلاف خارج عن عموم الآية وإن كان فاعلاً للمعصية، ومتعدّياً حدّاً من حدود الله. وإذا جاز إخراجه بدليل، جاز لغيره أن يخرج من عمومها من يشفع له النّبي، أو يتفضّل الله عليه بالعفو، بدليل آخر. وأيضاً فإنّ التائب لا بدّ من إخراجه من عموم الآية لقيام الدّليل على وجوب قبول

( 399 )

التّوبة. وكذلك يجب إخراج من يتفضّل الله بإسقاط عقابه منها لقيام الدّلالة على جواز وقوع التفضّل بالعفو»(1).

الآية الثّانية: قوله سبحانه: (وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ

خَالِداً فِيهَا وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)(النساء/93).

قال القاضي: «وجه الاستدلال هو أنّه تعالى بيّن أنّ من قتل مؤمناً عمداً جازاه، وعاقبه، وغضب عليه، ولعنه وأخلده في جهنّم»(2).

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ دلالة الآية بالاطلاق، فكما خرج منه القاتل الكافر إذا أسلم، والمسلم القاتل إذا تاب، فليكن كذلك من مات بلا توبة ولكن اقتضت الحكمة الالهيّة أن يتفضّل عليه بالعفو. فليس التّخصيص أمراً مشكلاً.

وثانياً: إنّ المحتمل أن يكون المراد القاتل المستحلّ لقتل المؤمن، أو قتله لإيمانه. وهذا غير بعيد لمن لاحظ سياق الآيات.

لاحظ قوله سبحانه: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَومَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً)(النساء/91).

ثمّ ذكر سبحانه بعد هذه الآية حكم قتل المؤمن خطأً و تعمّداً، وفي ضوء هذا يمكن أن يستظهر أنّ الآية ناظرة إلى القتل العمديّ الّذي يقوم به القاتل لعداء دينيّ لاغير، فيكون ناظراً إلى غير المسلم.

الآية الثّالثة: قوله سبحانه: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولِئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(البقرة/81).

______________________

1 . مجمع البيان: ج 2، ص 20، طبعة صيدا.

2 . شرح الاصول الخمسة: ص 659.

( 400 )

والاستدلال بهذه الآية إنّما يصحّ مع غضِّ النّظر عن سياقها، وأمّا مع النّظر إليه فإنّها واردة في حقِّ اليهود، أضف إليه أنّ قوله سبحانه: (وأحاطت به خطيئته)لايهدف إلاّ إلى الكافر، فإنّ المسلم المؤمن مهما كان عاصياً لا تحيط به خطيئة، ففي قلبهنقاط بيضاء يشعّ عليها إيمانه و اعتقاده بالله سبحانه و أنبيائه و كتبه على أنّ دلالة الآية بالاطلاق، فلو ثبت ما

تقوله جمهرة المسلمين، يخرج الفاسق من الآية بالدّليل.

الآية الرابعة:قوله سبحانه:(إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَاب جَهَنَّمَ خَالدُونَ* لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فَيْهِ مُبْلِسُون * وما ظَلَمْنَاهُمْ ولكِنْ كَانُوا هُمُ الظّالمين) (الزخرف/74 _ 76).

إنّ دلالة الآية بالإطلاق فهي قابلة للتّقييد أوّلاً. وسياق الآية في حقِّ الكفّار ثانياً، بشهادة قوله سبحانه قبل هذه الآية : ( الَّذِينَ آمَنُوا بِ آيَاتِنَا وَ كَانُوا مُسْلِمِين *ادخُلُوا الجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) (الزخرف/69_ 70).

ثمّ يقول : (إنّ المجرمين في عذاب جهنّم خالدون)» ف_ «المجرمين» في مقابل «الّذين آمنوا» فلايعمّ المسلم.

هذه هي الآيات الّتي استدلّت بها المعتزلة على تخليد الفاسق في النّار. وقد عرفت أنّ دلالتها بالاطلاق لا بالصِّراحة، وتقييد المطلق أمر سهل، مثل تخصيص العام، مضافاً إلى انصراف أكثرها أو جميعها إلى الكافر والمنافق. وهناك آيات(1) أظهر ممّا سبق تدلّ على شمول الرّحمة الإلهيّة للفسّاق غير التّائبين، وإليك بيانها:

1 _ قوله سبحانه: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ وَإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة للنّاس عَلَى ظُلمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ)(الرعد/6).

قال الشريف المرتضى: «في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة، لأنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين. لأنّ قوله: (على ظلمهم)

______________________

1 . كما تدلّ هذه الآيات على عدم الخلود في النار، تدلّ على جواز العفو عن الفاسق من بدء الأمر، وأنّه يعفى عنه ولا يعذّب من رأس، فهذا الصنف من الآيات كما تحتجُّ بها في هذه المسألة، تحتج بها في المسألة السالفة أيضاً فلاحظ.

( 401 )

إشارة إلى الحال الّتي يكونون عليها ظالمين، ويجري ذلك مجرى قول القائل: أنا أودّ فلاناً على غدره، وأصِلُه على هجره»(1).

وقد قرّر القاضي دلالة الآية و أجاب عنه بأنّ الأخذ

بظاهر الآية ممّا لا يجوز بالاتّفاق، لأنّه يقتضي الاغراء على الظّلم، وذلك ممّا لا يجوز على الله تعالى، فلا بدّ من أن يؤوّل، وتأويله هو أنّه يغفر للظّالم على ظلمه إذا تاب(2).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الإشكال، جار في صورة التّوبة أيضاً، فإنّ الوعد بالمغفرة مع التّوبة يوجب تمادي العاصي في المعصية برجاء أنّه يتوب. فلو كان القول بعدم خلود المؤمن موجباً للاغراء، فليكن الوعد بالغفران مع التّوبة كذلك.

والّذي يدلّ على أنّ الحكم عامّ للتّائب و غيره هو التّعبير بلفظ «الناس» مكان «المؤمنين». فلو كان المراد هو التّائب لكان المناسب أن يقول سبحانه: «وإنّ ربّك لذو مغفرة للمؤمنين على ظلمهم» مكان قوله للناس. وهذا يدلّ على أنّ الحكم عامّ يعمّ التائب و غيره.

وفي الختام، إنّ الآية تعد المغفرة للنّاس ولا تذكر حدودها و شرائطها، فلا يصحّ عند العقل الاعتماد على هذا الوعد و ارتكاب الكبائر. فإنّه وعد إجماليّ غير مبيّن من حيث الشّروط و القيود.

2 _ قوله سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُشْرِك بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً)(النساء/48).

وجه الاستدلال بهذه الآية على أنّ رحمته تشمل غير التّائب من الذنوب، أنّه سبحانه نفى غفران الشِّرك دون غيره من الذٌّنوب، وبما أنّ الشرك يغفر مع التّوبة فتكون الجملتان ناظرتين إلى غير التائب، فمعنى قوله: «إنّ اللّهَ لا يغفِرُ أن يشركَ» أنّه لا يغفر إذا مات بلا توبة، كما أنّ معنى قوله: «و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء» أنّه يغفر ما دون

______________________

1 . مجمع البيان: ج 3، ص 278.

2 . شرح الاُصول الخمسة: ص 684.

( 402 )

الشِّرك من الذنوب بغير توبة لمن يشاء من المذنبين.

ولو كانت سائر الذنوب مثل الشِّرك غير مغفورة إلاّ بالتّوبة، لما حسن التّفصيل بينهما، مع وضوح الآية في التّفصيل(1).

وقد أوضح القاضي دلالة الآية على ما يتبنّاه الجمهور بوجه رائع، ولكنّه تأثّراً بعقيدته الخاصّة في الفاسق قال: «إنّ الآية مجملة مفتقرة إلى البيان لأنّه قال: «و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء» ولم يبيِّن من الّذي يغفر له. فاحتمل أن يكون المراد به أصحاب الصغائر، واحتمل أن يكون المراد به أصحاب الكبائر. فسقط احتجاجهم بالآية(2).

أقول: عزب عن القاضي أنّ الآية مطلقة تعمّ كلا القسمين، فأيّ إجمال في الآية حتّى نتوقّف. والعجب أنّه يتمسّك بإطلاق الطّائفة الاُولى من الآيات، ولكنّه يتوقّف في إطلاق هذا الصِّنف.

نعم، دفعاً للاغراء، وقطعاً لعذر الجاهل، قيّد سبحانه غفرانه بقوله: «لمن يشاء» حتّى يصدّه عن الإرتماء في أحضان المعصية بحجّة أنّه سبحانه وعد له بالمغفرة.

ثمّ إنّ القاسم بن محمّد بن عليّ الزّيدي العلويّ المعتزلي تبع القاضي في تحديد مداليل هذه الآيات وقال: آيات الوعيد لا إجمال فيها، وهذه الآيات و نحوها مجملة فيجب حملها على قوله تعالى (وإني لغفّارٌ لمن تابَ و آمَنَ و عَمِلَ صَالحاً ثُمَّ اهْتَدى)(طه/82) ثمّ ساق بعض الآيات الواردة في غفران العباد في مجال التّوبة(3).

ويظهر النّظر في كلامه ممّا قدّمناه في نقد كلام القاضي فلا نعيد.

إلى غير ذلك من الآيات الّتي استدلّ بها جمهور المسلمين على شمول مغفرته سبحانه لعصاة المسلمين، وعدم تعذيبهم، أو إخراجهم من العذاب، بعد فترة خاصّة.

هذا، والبحث أشبه بالبحث التّفسيري منه بالكلامي. ومن أراد الاستقصاء في هذا المجال فعليه جمع الآيات الواردة حول الذّنوب والغفران، حتّى يتّضح الحال فيها، ويتّخذ موضعاً حاسماً بإزاء اختلافاتها الأوّليّة.

______________________

1 . مجمع البيان: ج 2 ص 57 بتلخيص.

2 . شرح

الاُصول الخمسة: ص 678.

3 . الأساس لعقائد الأكياس: ص 198.

( 403 )

ج _ هل الشّفاعة للتائبين من المؤمنين أو للفسّاق منهم؟

إنّ هذه المسألة مبنيّة على المختار في المسألة السابقة، ولمّا كان المختار عند جمهور المسلمين جواز العفو عن الفاسق، أو عدم تخليده بعد تعذيبه مدّة، قالوا بأنّ الشّفاعة للفسّاق وأنّ شفاعة الشّفعاء تجلب عفوه سبحانه إليهم، فيعفو عنهم من بدء الأمر، أو بعد ما يعذِّبهم فترة.

وأمّا المعتزلة، فلمّا كان المختار عندهم في المسألة السابقة خلود الفاسق في العذاب، خصّوا الشّفاعة بالتّائبين من المؤمنين، وصار أثرها عندهم ترفيع المقام لا الانقاذ من العذاب، أو الخروج منه.

وهذه هي النّقطة الحسّاسة في الأبحاث الكلاميّة الّتي لها صلة بكتاب الله و سنّته. فالمعتزلة في المقام أوّلوا صريح القرآن و الروايات وقالوا: إنّ شفاعة الفسّاق الّذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا، يتنزّل منزلة الشّفاعة لمن قتل ولد الغير و ترصّد للآخر حتّى يقتله;، فكما أنّ ذلك يقبح فكذلك هيهنا(1).

والخطأ في تفسير آيات الشّفاعة، و رفض الروايات المتواترة، حدث من الخطأ في المسألة السّابقة. وهكذا شيمة الخطأ و خاصّته فلا يقف عند حد، قال أمير المؤمنين _ عليه السلام _ : «ألا و إنّ الخطايا خيل شمس، حمل عليها أهلها، و خلعت لجمها»(2).

وما ذكره القاضي غفلة عن شروط الشّفاعة، المحرّرة في محلِّها، فإنّ بعض الذّنوب الكبيرة ربّما تقطع العلائق الإيمانيّة بالله سبحانه، كما تقطع الأواصر الروحيّة مع النّبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فأمثال هؤلاء العصاة لا تشملهم الشّفاعة، وقد وردت الروايات الإسلاميّة حول شروط الشّفاعة، و في حرمان طوائف من الناس منها.

والعجب أنّ القاضي يستدلّ على أنّ العقوبة على طريق الدّوام، ولا يخرج الفاسق

______________________

1 . شرح الاُصول

الخمسة: ص 688.

2 . نهج البلاغة: الخطبة 61.

( 404 )

من النّار بشفاعة النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم بقوله سبحانه: (واتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفُسٌ عَنْ نَفْس شيئاً) (البقرة/48)، وقوله سبحانه: (ما للظّالمين من حميم ولا شَفِيع يُطَاعُ)(غافر/18)(1).

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الاُسلوب الصّحيح لتفسير القرآن الكريم هو تجريد المفسِّر نفسه عن كلِّ رأي سابق أوّلاً، وجمع الآيات المربوطة بموضوع واحد ثانياً. فعند ذلك يقدر على فهم المراد. والقاضي نظر إلى الآيات بمنظار الاعتزال أوّلاً، ولم يجمع الآيات الراجعة إلى الشّفاعة ثانياً، مع أنّ الآيات الراجعة إلى الشّفاعة على سبعة أصناف(2) فأخذ صنفاً واحداً و ترك الأصناف الاُخر.

ثانياً: ما ذكره من الآيتين في نفي الشفاعة راجعتان الى الكفّار. فالآية الاُولى ناظرة إلى نفي الشّفاعة الّتي كانت اليهود يتبنّونها كما هو صريح سياقها، والآية الثانية الّتي وردت في السّورة المكّية ناظرة إلى الشّفاعة الّتي كان المشركون يعتقدون بها. قال سبحانه حاكياً عنهم: (إذ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العالمين* وما أَضَلَّنَا إلاّ المُجْرِمُون * فَما لَنَا مِن شَافِعِين* ولا صَدِيق حَمِيم)(الشعراء/98 _ 101).

وقال سبحانه: (وكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتَينَا اليَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشّافِعِين)(المدثر/46 _ 48).

ثالثاً: أنّ مسألة الشّفاعة لم تكن فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها، بل كانت فكرة رائجة بين أمم العالم من قبل، و خاصّة الوثنيّين واليهود، والإسلام طرحها مهذّبة من الخرافات، و ممّا نسج حولها من الأوهام، و قرّرها على اُسلوب يوافق اُصول العدل والعقل، وصحّحها تحت شرائط في الشّافع والمشفوع له، و هي الّتي تجرّ العصاة إلى الطّهارة من الذّنوب، وكفّ اليد عن الآثام والمعاصي، ولا توجد فيهم جرأة وجسارة على هتك السّتر.

و من امعن النظر في آراء اليهود والوثنيّين في

أمر الشّفاعة أنّ الشّفاعة تقف على

______________________

1 . الاصول الخمسة: ص 689.

2 . لاحظ في الوقوف على هذه الأصناف الجزء الرابع من مفاهيم القرآن 177 _ 199.

( 405 )

الدّارجة بينهم، خصوصاً اليهود، كانت مبنيّة على رجائهم لشفاعة أنبيائهم و آبائهم في حطِّ ذنوبهم، وغفران آثامهم. ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي، ويرتكبون الذّنوب تعويلاً على ذلك الرّجاء.

وفي هذا الموقف يقول سبحانه ردّاً على تلك العقيدة الباعثة على الجرأة: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإِذْنِهِ)(البقرة/55)، ويقول أيضاً رفضاً لتلك الشّفاعة المحرّرة من كلِّ قيد: (ولا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى) (الأنبياء/28).

وحاصل الآيتين أنّ أصل الشّفاعة الّتي تدّعيها اليهود و يلوذ بها الوثنيّون حقّ ثابت في الشّريعة السماويّة، غير أنّ لها شروطاً أهمّها إذنه سبحانه للشّافع، و رضاه للمشفوع له.

وعلى ذلك فكيف يصحّ لنا تخصيص الآيات بقسم خاصّ من الشّفاعة و هي شفاعة الأولياء لرفع الدّرجة و زيادة الثّواب.

وأوضح دليل على عموميّة الشّفاعة ما أصفق على نقله المحدِّثون من قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم : «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي». والقاضي رمى هذا الحديث بأنّه خبر واحد لا يصحّ به الاحتجاج في باب العقائد. وما ذكره يعرب عن قصور باعه في مجال الحديث. فقد رواه من أئمّة الحديث أبو داود في سننه، والتّرمذي في صحيحه، وابن حنبل في مسنده، وابن ماجة في صحيحه (1) .

وليس حديث الشّفاعة الدالّ على شمولها لأصحاب الكبائر منحصراً به، بل أحاديث الشّفاعة في هذا المجال متواترة، وقد جمعنا ما رواه السنّة والشيعة في هذا المجال في كتابنا «مفاهيم القرآن»(2).

______________________

1 . راجع سنن ابي داود، ج 4، ص 236. وصحيح الترمذي، ج 4، ص 45. وصحيح ابن ماجة، ج 2،

ص 144. ومسند احمد، ج 3 ص 213.

2 . لاحظ: ج 4، فصل الشفاعة في الأحاديث الاسلاميّة، ص 289 _ 311. فتجد في تلك الصحائف (112) حديثاً عن النبي وعترته. وقد قام العلامة المجلسي بجمع احاديث الشفاعة في موسوعته بحار الانوار (ج 8،ص 29 _ 63) وروى بعضها الآخر في سائر أجزائه. كما روى علاء الدين المتقي احاديث الشفاعة في كنز العمال ج 14ص 628_640.

( 406 )

د _ القائلون بجواز العفو أو عدم الخلود، مرجئة أو راجية؟

قد تعرّفت على عقيدة المرجئة في الفصول السّابقة و أنّ شعارهم أنّه لا تضرّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الشِّرك طاعة. وقد عرّفناك منهجهم و أنّ هؤلاء بهذا الشعار يغرّون الجهّال بالمعصية واقتراف الذنوب ولا يعتنون بالعمل بحجّة أنّهم مؤمنون في كلِّ حال، ويعيشون في جميع الأحوال بإرجاء العمل و يقولون: إنّ إيمان واحد منّا يعدل إيمان جبرائيل والنّبيّ الأكرم. هذه هي المرجئة.

وأمّا جمهرة المسلمين القائلون بجواز العفو وعدم الخلود، فهم راجية، يعتقدون بالعقاب والثّواب، يدعون ربّهم رغباً و رهباً، ولا يتّكلون في حياتهم على العفو و الرجاء من دون عمل، غير أنّهم يبثّون بذور الرجاء في قلوب العباد لما فيه من آثار تربويّة. وقد ذكرنا في محلِّه أنّ في القول بالعفو عن العصاة و خروجهم من النّار بالشّفاعة و غيرها، بصيص من الرجاء، و نافذة من الأمل فتحه القرآن في وجه العصاة حتّى لا ييأسوا من روح الله و رحمته، ولئلاّ يغلبهم الشّعور بالحرمان من عفوه، فيتمادوا في العصيان.

فالمرجئة من قدّموا الإيمان و أخّروا العمل، بخلاف الراجية، فإنّهم جعلوا الإيمان غير منفكّ عن العمل و ينادون بأعلى أصواتهم أنّ الإيمان بلا عمل كشجرة بلا ثمر، لا

يغني ولا يسمن من جوع، ويخافون ربّهم بالغيب، ومع ذلك يرجون رحمته. فلا ينفكّ الخوف عن الرجاء، والرّهبة عن الرغبة.

ه_ _ هل الطاعات مؤثِّرة في سقوط العقاب، والمعاصي مؤثِّرة في سقوط الثّواب، و هذا ما يعبّر عنه بالإحباط و التكفير.

الاحباط في اللّغة بمعنى: الإبطال، يقال: أحبط الله عمل الكافر. أي أبطله(1).

والكفر بمعنى «السّتر» و «التّغطية»، يقال لمن غطّى درعه بثوب: قد كفر درعه،

______________________

1 . المقاييس: ج 2، مادة حبط، ص 129.

( 407 )

والمكفّر: الرّجل المتغطّي بسلاحه، ويقال للزّارع: كافر، لأنّه يغطي الحَبّ بتراب الأرض، قال الله تعالى: (كمثلِ غيث أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ)(سورة الحديد، الآية 20). والكفر ضدّ الإيمان، سمّي بذلك لأنّه تغطية الحقّ(1).

والمراد من الحبط هو: سقوط ثواب العمل الصالح المتقدَّم، بالذّنوب المتأخّرة، كما أنّ المراد من التّكفير هو سقوط الذّنوب المتقدَّمة، بالطّاعة المتأخِّرة.

وبعبارة اُخرى: إنّ الاحباط في عرف المتكلّمين: عبارة عن إبطال الحسنة بعدم ترتّب ما يتوقّع منها عليها، ويقابله التّكفير وهو: إسقاط السيّئة بعدم جريان مقتضاها عليها، فهو في المعصية نقيض الاحباط في الطّاعة و لنقدّم الكلام في الإحباط أوّلاً.

1 _ الاحباط

المعروف عن المعتزلة هو القول بالإحباط، كما أنّ المعروف عن الاماميّة و الأشاعرة هو أنّه لا تحابط بين المعاصي و الطّاعات والثّواب والعقاب(2).

قال القاضي عبد الجبّار: «إنّ المكلّف لا يخلو إمّا أن تخلص طاعاته و معاصيه، أو يكون قد جمع بينهما، فلا يخلو إمّا أن تتساوى طاعاته و معاصيه، أو يزيد أحدهما على الآخر، فإنّه لا بدّ من أن يسقط الأقلّ بالأكثر....وهذا هو القول بالإحباط و التّكفير على ما قاله المشايخ، وقد خالفنا في ذلك المرجئة، وعبّادبن سليمان الصّيمري»(3).

قال التفتازاني: «لا خلاف في أنّ من آمن بعد الكفر والمعاصي فهو من أهل

الجنّة بمنزلة من لا معصية له، ومن كفر بعد الإيمان والعمل الصّالح، فهو من أهل النّار بمنزلة من لا حسنة له. وإنّما الكلام فيمن آمن و عمل صالحاً و آخر سيّئاً، واستمرّ على

______________________

1 . المقاييس: ج 5، مادة كفر، ص 91.

2 . أوائل المقالات: ص 57.

3 . الأصول الخمسة: ص 624، وقد ذهب القاضي إلى عدم جواز استحقاق المكلّف الثواب والعقاب إذا كانا مساويين، فانحصر الأمر في المطيع المحض والعاصي كذلك ومن خلط أحدهما بالآخر على وجه لا يتساويان، وهذا القسم هو مورد نظريّة الإحباط والتكفير. فلاحظ.

( 408 )

الطّاعات والكبائر، كما يشاهد من النّاس، فعندنا م آله إلى الجنّة ولو بعد النّار، واستحقاقه للثّواب والعقاب، بمقتضى الوعد والوعيد من غير حبوط. والمشهور من مذهب المعتزلة أنّه من أهل الخلود في النّار إذا مات قبل التّوبة، فأشكل عليهم الأمر في إيمانه و طاعته و ما يثبت من استحقاقاته، أين طارت؟ وكيف زالت؟ فقالوا بحبوط الطّاعات، ومالوا إلى أنّ السيّئات يذهبن الحسنات»(1).

أقول: اشتهر بين المتكلّمين أنّ المعتزلة يقولون بالإحباط و التّكفير، وأمّا الأشاعرة والإماميّة فهم يذهبون إلى خلافهم. غير أنّ هنا مشكلة وهي أنّ نفيهما على الاطلاق يخالف ما هو مسلّم عند المسلمين من أنّ الإيمان يُكفِّر الكفر، ويُدخل المؤمن الجنّة خالداً فيها، و أنّ الكفر يُحبط الإيمان و يخلِّد الكافر في النار. وهذا النّوع من الإحباط و التّكفير ممّا أصفقت عليه الاُمّة، ومع ذلك كيف يمكن نفيهما في مذهب الأشاعرة و الإماميّة؟ ولأجل ذلك، يجب الدقّة في فهم مرادهما من نفيهما على الاطلاق، وسوف يتبيّن الحال في هذين المجالين. هذا، وإنّ القائلين بالإحباط اختلفوا في كيفيّته، فمنهم من قال بأنّ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنات القليلة، وتمحوها

بالكليّة، من دون أن يكون لها تأثير في تقليل الإساءة، وهو المحكيّ عن أبي عليّ الجبّائي.

ومنهم من قال بأنّ الإحسان القليل يسقط بالإساءة الكثيرة، ولكنّه يؤثّر في تقليل الإساءة فينقص الإحسان من الاساءة، فيجزى العبد بالمقدار الباقي بعد التّنقيص، وهو المنسوب إلى أبي هاشم.

وهناك قول آخر في الإحباط وهو عجيب جدّاً، حكاه التّفتازاني في «شرح المقاصد» وهو أنّ الإساءة المتأخِّرة تحبط جميع الطّاعات و إن كانت الإساءة أقلّ منها قال: حتّى ذهب الجمهور منهم إلى أنّ الكبيرة الواحدة تحبط ثواب جميع العبادات.

وعلى هذا(2) ففي الإحباط أقوال ثلاثة:

______________________

1 . شرح المقاصد: ج 2، ص 232.

2 . شرح المقاصد: ج 2، ص 232.

( 409 )

1 _ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة من دون تأثير في تقليل الإساءة.

2 _ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة، مع تأثير الإحسان في تقليل الإساءة.

3 _ إنّ الإساءة المتأخِّرة عن الطّاعات، تبطل جميع الطّاعات من دون ملاحظة القلّة والكثرة.

إذا عرفت موضع النّزاع في كلام القوم، فلننقل أدلّة الطّرفين:

أدلّة نفاة الإحباط

استدلّ النافون بوجهين: عقليّ و نقليّ.

أمّا الوجه العقليّ: فهو أَنّ القول بالإِحباط يستلزم الظّلم، لأنّ من أساء و أطاع و كانت إساءته أكثر، يكون بمنزلة من لم يُحسن. وإن كان إحسانه أَكثر، يكون بمنزلة من لم يسىء. وإن تساويا يكون مساوياً لمن يصدر عنه أحدهما، وهو نفس الظّلم(1).

يلاحظ عليه: أنّ الإِحباط إنّما يعدّ ظلماً، و يشمُلُه هذا الدّليل، إذا كان الأكثر من الإِساءة مؤثِّراً في سقوط الأقلّ من الطّاعة بالكلّية، من دون أن تؤثّر الطّاعة القليلة في تقليل الإساءة الكثيرة، كما عليه أبو عليّ الجبّائي. وأمّا على القول بالموازنة، كما هو المحكيّ عن ابنه أبي هاشم، فلا يلزم الظّلم، وصورته أن يأتي المكلّف بطاعة

استحقّ عليها عشرة أجزاء من الثّواب، وبمعصية استحقّ عليها عشرين جزءً من العقاب، فلو قلنا بأنّه يَحسُن من الله سبحانه أَن يفعل به عشرين جزءً من العقاب، ولا يكون لما استحقّه من الطّاعة أيّ تأثير للزم منه الظّلم. وأَمّا إذا قلنا بأنّه يقبح من الله تعالى ذلك، ولا يحسن منه أَن يفعل به من العقاب إلاّ عشرة أجزاء، وأَمّا العشرة الاُخرى فإنّها تسقط بالثّواب الّذي استحقّه على ما أتى به من الطّاعة، فلا يلزم ذلك.

يقول القاضي عبدالجبّار بعد نقل مذهب أبي هاشم: «وَ لَعَمري إنّه القول اللاّئق بالله تعالى. دون ما يقوله أبو عليّ و الّذي يدلّ على صحّته هو أَنّ المكلّف أتى

______________________

1 . كشف المراد: ص 260.

( 410 )

بالطاعات على الحدّ الذي أُمر به، وعلى الحدّ الّذي لو أتى به منفرداً عن المعصية لكان يستحقّ عليها الثّواب، فيجب أن يستحقّ عليها الثّواب وإن دَنّسها بالمعصية، إلاّ أَنّه لا يمكن والحالة هذه أَن يوفّر عليه، على الحدّ الّذي يستحقّه، لاستحالته، فلا مانع من أَن يزول من العقاب بمقداره، لأنّ دفع الضّرر كالنّفع في أنّه مما يعدّ من المنافع.

ثمّ قال: فأَمّا على مذهب أبي عليّ فيلزم أن لا يكون قد رأى صاحب الكبيرة شيئاً ممّا أتى به من الطّاعات. وقد نصّ الله تعالى على خلافه»(1).

والأولى أن يستدلّ على بطلان الإحباط بأَنّه يستلزم خُلف الوعد إذا كان الوعد منجّزاً، كما هو في محلّ النّزاع، وأمّا إذا كان مشروطاً بعدم لحوق العصيان به، فهو خارج عن محلِّ البحث هذا، من غير فرق بين قول الوالد والولد.

وأمّا الوجه النّقلي، فقوله سبحانه: (فَمَن يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ)(سورة الزلزلة: الآية 7).

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال بالآية إنّما يتمّ على القولين الأوّل

والثّالث، حيث لا يكون للإحسان القليل دور، وأمّا على القول الثّاني، فالآية قابلة للانطباق عليه، لأنّه إِذا كان للإحسان القليل، تأثير في تقليل الإِساءة الكثيرة، فهو نحو رؤية له، لأنّ دفع المضرّة كالنّفع في أنّه مما يُعَدّ منفعة. وهذا كما إذا ربح إنسان في تجارة قليلاً، وخسر في تجارة أُخرى أكثر فأَدّى بعض ديونه من الرِّبح القليل.

نعم الظّاهر من الآية رؤية جزاء الخير،وهو بالقول بعدم الإِحباط اَلصق و اَطبق.

سؤال و إجابة

السؤال: لو كان القول بالاحباط مستلزماً للظّلم، أو كان مستلزماً لخلف الوعد، فما هو المخلص فيما يدلّ على حبط العمل، في غير مورد من الآيات الّتي ورد فيها أنّ

______________________

1 . شرح الأصول الخمسة: ص 629.

( 411 )

الكفر والارتداد والشرك و الإِساءة إلى النّبي و غير ذلك ممّا يحبط الحسنات(1). ما هو الجواب عن هذه الآيات؟ وما هو تفسيرها؟

الجواب: إنّ القائلين ببطلان الإحباط يفسِّرون الآيات بأنّ الاستحقاق في مواردها كان مشروطاً بعدم لحوق العصيان بالطّاعات، فإذا عصى الإِنسان ولم يحقِّق الشرط، انكشف عدم الاستحقاق.

ويمكن أن يقال بأنّ الإستحقاق في بدء صدور الطّاعات لم يكن مشروطاً بعدم لحوق العصيان، بل كان استقرار الإستحقاق في مستقبل الأيّام، هو المشروط بعدم لحوق المعصية، فإن فُقِد الشرط فُقِد استقرار الاستحقاق و استمراره.

يقول الشيخ الطّوسي في تفسير قوله سبحانه: (وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ، فأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعمالُهُمْ في الدّنيا والآخرةِ و أُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيْهَا خالِدُونَ)(2)«معناه أنّها صارت بمنزلة ما لم يكن، لإيقاعهم إيّاها على خلاف الوجه المأمور به، وليس المراد أنّهم استحقّوا عليها الثّواب ثمّ انحبطت، لأنّ الإحباطَ _ عندنا باطلُ على هذا ال(3)وجه».

ويقول الطّبرسي في تفسير قوله سبحانه: (وَمَنْ يَكْفُر بالإِيمانِ فَقَدْ

حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُو في الآخِرةِ مِنَ الخاسِرينَ)(المائدة: الآية 5). «وفي قوله: (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)هنا دلالة على أنّ حبوط الأعمال لا يترتّب على ثبوت الثّواب. فإنّ الكافر لا يكون له عمل قد ثبت عليه ثواب، وإنّما يكون له عمل في الظّاهر لو لا كفره لكان يستحقّ الثّواب عليه، فعبّر سبحانه عن هذا العمل بأنّه حبط، فهو حقيقة معناه»(4).

ويقول في تفسير قوله سبحانه: (وَ يَقولُ الّذين آمنوا أهؤلاءِ الّذينَ أقسموا باللّهِ

______________________

1 . سنذكرها في آخر البحث.

2 . سورة البقرة: الآية 217.

3 . التبيان: ج 2، ص 208، ولاحظ: مجمع البيان، ج 1، ص 313.

4 . مجمع البيان: ج 2، ص 163.

( 412 )

جَهْدَ أَيْمانِهِم إنَّهُم لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُم فَأَصْبَحُوا خَاسِرينَ)(سورة المائدة:الآية53). «أي ضاعت أَعمالهم الّتي عملوها لأنّهم أَوقعوها على خلاف الوجه المأمور به، وبَطَلَماأظهروه من الإِيمان، لأنّه لم يوافق باطنُهم ظاهرَهُم، فلم يستحقّوا به الثّواب»(1).

وبما ذكره الطبرسي يظهر جواب سؤال آخر، وهو أنّه إذا كان الاستحقاق مشروطاً بعدم صدور العصيان، فإذا صدر يكشف عن عدم الإستحقاق أبداً، فكيف يطلق عليه الإِحباط، وما الإحباط إلاّ الإِبطال والإسقاط، ولم يكن هناك شيء حتّى يبطل أو يسقط؟

وذلك لأنّ نفس العمل في الظّاهر سبب و مقتض، فالإبطال و الإسقاط كما يصدقان مع وجود العلّة التامّة، فهكذا يصدقان مع وجود جزء العلّة و سببها ومقتضيها، وهذا كمن ملك أَرضاً صالحة للزراعة فأَحدث فيها ما أفقدها هذه الصّلاحيّة.

وبعبارة أُخرى، إنّ الموت على الكفر، وإن كان يُبطل ثواب جميع الأعمال، لكن ليس هذا بالإحباط، بل بشترط الموافاة على الإِيمان في استحقاق الثّواب على القول بالاستحقاق. أو في إنجاز الوعد بالثّواب على القول بعدم الاستحقاق. وهكذا القول في المعاصي الّتي ورد أنّها حابطة لبعض الحسنات

من غير قول بالحبط، بل يكون الإستحقاق أَو الوعد مشروطاً بعدم صدور تلك المعصية.

والّذي يبدو لنا من هذه الكلمات إنّ النّزاع بين نافي الاحباط و مثبته في هذه الموارد الخاصّة، أشبه بنزاع لفظي، لأنّهما متّفقان على النّتيجة وهي عدم ترتّب الثّواب على الإيمان و الأعمال الحسنة إذا لحقها الكفر أو بعض الكبائر، غير أنّ النافي يقول بأنّه لم يكن هناك ثواب فعليّ حتّى يحبطه الكفر أو بعض الكبائر، لأنّ ترتّب الثّواب أو الاستحقاق كان مشروطاً بشرط غير حاصل، والمثبت له يقول بوجوده فعلاً، لكنّه يسقط

______________________

1 . مجمع البيان: ج 2، ص 207.

( 413 )

بهما. وعلى كلّ واحدة من النّظريّتين فالكافر و المرتكب للكبائر، صفر اليد يوم القيامة.

نعم، هذا التّفسير إنّما نحتاج إليه في جانب الاحباط، وأمّا في جانب التّكفير فلا حاجة إليه، بل لنا أَن نقول إنّ التّوبة و الأعمال المكفِّرة يذهبان العقاب المكتوب على المعاصي من دون حاجة إلى القول بكون الإستحقاق مشروطاً بالموافاة على الكفر، لجواز تفضّله سبحانه بالعفو.

هذا، ولا يصحّ القول بالإِحباط و التّكفير في كلِّ المعاصي عند النافي، بل يجب عليه تَتَبُّعُ النّصوص، فكلّ معصية وردت في الكتاب أو في الآثار الصّحيحة إنّها مذهبة لأثر الإيمان و الحسنة نقول بالاحباط فيها على التّفسير الّذي ذكرناه. وهكذا في جانب التّكفير فلا يمكن لنا أَن نقول إِنّ كلّ حسنة تُذهب السيّئة إلاّ بالنّص. وأمّا على قول المثبت فالظاهر أنّه يقول بأنّ كلّ كبيرة توجب الإحباط للأصل الّذي افترضه صحيحاً وهو خلود مرتكب الكبيرة في النّار على الإطلاق.

إلى هنا تمّ بيان دليل النّافين للإحباط على الوجه اللاّئق بكلامهم، والإجابة عليه.

أدلّة مُثبِتي الإِحباط

استدلّ القاضي على ثبوت الإحباط بوجه عقليّ فقال: «قد ثبت أَنّ الثّواب(1) والعقاب

يستحقّان على طريق الدّوام. فلا يخلو المكلّف إمّا أن يستحقّ الثّواب فيثاب، أَو يستحقّ العقاب فيعاقب، أَو لا يستحقّ الثّواب ولا العقاب، فلا يثاب ولا يعاقب، أَو يستحقّ الثّواب والعقاب، فيثاب و يعاقب دفعة واحدة، أَو يؤثّر الأكثر في الأقلّ على ما نقوله:

لا يجوز أن لا يستحقّ الثّواب ولا العقاب، فإنّ ذلك خلاف ما اتّفقت عليه الاُمّة. ولا أَن يستحقّ الثّواب والعقاب معاً فيكون مثاباً و معاقباً دفعة واحدة، لأنّ ذلك

______________________

1 . يكفي في ذلك كونه مستحقاً للعقاب دائماً فقط ولا يتوقف على استحقاقه للثواب كذلك فلاحظ.

( 414 )

مستحيل والمستحيل ممّا لا يستحقّ...

فلا يصحّ إلاّ ما ذكرناه من أنّ الأقلّ يسقط بالأكثر. و هذا هو الّذي يقوله الشّيخان أبو عليّ و أبو هاشم ولا يختلفان فيه، وإنّما الخلاف بينهما في كيفيّة ذلك»(1).

يلاحظ عليه: إنّه مبنيّ على أنّ استحقاق العقاب على وجه الدّوام، وهو مبنيّ على أنّ مرتكب الكبيرة مُخلّد في النّار، وبما أنّ الأساس باطل، فيبطل ما بنى عليه، فلا دليل على دوام استحقاق العقاب، وعلى ذلك فالحصر غير حاصر، وأنّ هنا شقّاً سادساً ترك في كلامه وهو أنّه يستحقّ الثّواب والعقاب معاً لكن لا دفعة واحدة، بل يعاقب مدّة ثمّ يخرج من النّار فيثاب بالجنّة على ما عليه جمهور المسلمين.

وقد نقل القاضي عبدالجبّار وجهاً عقليّاً آخر للإِحباط عن الشّيخ أبي عليّ و أجاب عنه، فلاحظ(2).

تحليل لمسألة الإِحباط

وهيهنا تحليل آخر للمسألة و هو أَنّ في الثّواب والعقاب أقوال:

1 _ الثّواب والعقاب في الآخرة من قبيل الأمور الوضعيّة الجعليّة، كجعل الاُجرة للعامل، والعقاب للمتخلّف في هذه النشأة.

2 _ الثّواب والعقاب في الآخرة مخلوقان لنفس الإنسان حسب الملكات الّتي اكتسبها في هذه الدّنيا، بحيث لا يمكن لصاحب

هذه الملكة، السُّكون والهدوء إلاّ بفعل ما يناسبها.

3 _ الثّواب و العقاب في الآخرة عبارة عن تمثّل العمل في الآخرة و تجلّيه فيها

______________________

1 . شرح الاصول الخمسة: ص 625. وترك تعليل الوجه الأول (وهو أن يستحق الثواب فقط) والثاني (وهو أن يستحق العقاب فقط) لوضوحه.

2 . شرح الاصول الخمسة: ص 630 _ 631، وحاصل هذا الدليل أنّ المكلّف، بارتكاب الكبيرة يخرج نفسه من صلاحيّة استحقاق الثواب. وهو كما ترى دعوى بلا دليل، إذ لا دليل على أنّ كلّ معصية لها هذا الشأن، وليست كلّ معصية كالكفر والارتداد والنفاق.

( 415 )

بوجوده الاُخروي من دون أَن يكون للنّفس دور في تلك الحياة في تجلّي هذه الأعمال بتلك الصور، بل هي من ملازمات وجود الإنسان المحشور.

فلو قلنا بالوجه الأوّل، كان لما نقلناه من نفاة الحبط (من أنّ الاستحقاق أو استمراره مشروط بعدم الإتيان بالمعصية) وجه حسن، لأنّ الاُمور الوضعيّة، رفعها ووضعها و تبسيطها و تضييقها، بيد المقنِّن و المشرع، وعندئذ يُجمع بين حكم العقل بلزوم الوفاء بالوعد، وما دلّ من الآيات على وجود الإحباط في موارد مختلفة، كما سيوافيك.

وقد عرفت حاصل الجمع، وهو أَنّ إطلاق الإحباط ليس لإبطال استحقاق الإنسان الثّواب، بل لم يكن مستحقّاً من رأس لعدم تحقُّق شرط الثّواب، وأمّا مصحِّح تسميته بالإحباط فقد عرفته أَيضاً، وهو أَنّ ظاهر العمل كان يحكي عن الثّواب وكان جزء علّة له.

ولو قلنا بالوجه الثاني، وحاصله أَنّ الملكات الحسنة و السيّئة الّتي تعدّ فعليّات للنّفس، تحصل بسبب الحسنات و السيّئات الّتي كانت تصدر من النّفس. فإذا قامت بفعل الحسنات، تحصل فيها صورة معنويّة مقتضية لخلق الثّواب. كما أَنّه إذا صدر منها سيّئة، تقوم بها صورة معنويّة تصلح لأن تكون مبدأ

لخلق العقاب. وبما أَنّ الإنسان في معرض التّحوّل والتغيّر من حيث الملكات النفسانيّة، حسب ما يفعل من الحسنات والسيّئات، فإنّ من الممكن بُطلان صورة موجودة في النّفس و تبدُّلها إلى صورة غيرها ما دامت تعيش في هذه النشأة الدّنيوية.

نعم، تقف الحركة و يبطل التّحوّل عند موافاة الموت، فعند ذلك تثبت لها الصّور بلا تغيير أصلاً.

فلو قلنا بهذا الوجه، كان الإحباط على وفق القاعدة، لأنّ الجزاء في الآخرة، إِذا كان فعل النّفس و إِيجادها، فهو يتبع الصّورة الأخيرة للنّفس، الّتي اكتسبتها قبل الموت، فإن كانت صورة معنويّة مناسبة للثّواب فالنّفس منعّمة في الثّواب من دون

( 416 )

مقابلة بالعقاب، لأنّ الصّورة المناسبة للعقاب قد بطلت بصورة أُخرى. وإذا انعكست الصّورة انعكس الحُكم.

وأمّا لو قلنا بالوجه الثالث، وهو تَجَسّم الأعمال و تمثّلها في الآخرة بالوجود المماثل لها، فالقول بعدم الاحباط هو الموافق للقاعدة، إذ لا معنى للإِبطال في النشأة الاُخرى.

غير أَنّ الكلام كلّه في انحصار الثّواب والعقاب بهذين الوجهين الأخيرين(1).

عوامل الإحباط و أَسبابه

البحث عن عوامل الإِحباط و أَسبابه، بحثُ نقليّ يتوقّف على السّبر و الفحص في الكتاب والسنّة، ونكتفي في المقام بما جاء في الكتاب العزيز.

1 _ الإرتداد بعد الإِسلام

قال سبحانه: (وَ مَن يرتَدِد مِنكُم عَن دِيِنِه فَيَمُت وَ هُوَ كافِرٌ، فأُولئكَ حَبِطَت أَعْمالُهُم في الدنيا و الآخرة، وَ أُولئكَ أَصحابُ النّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ)(سورة البقرة: الآية 217) .

2 _ الشرك المقارن بالعمل

يقول سبحانه: (ما كانَ للمُشركينَ أَنْ يَعمُرُوا مساجِدَ اللّهِ شاهدينَ على أَنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ أُولئكَ حَبِطَتْ أَعّْمالُهُم و في النّارِ هُمْ خالِدونَ)(سورة التوبة: الآية 17) .

وقدكان المشركون يزعمون أَنّ العمل الصالح بنفسه موجب للثّواب، غير أنّ القرآن شطب على هذه العقيدة، و صرّح بأنّ الثّواب يترتّب على

العمل الصالح، إذا صدر من فاعل مؤمن.

ولأجل ذلك أتبع سبحانه الآية السابقة بقوله: (إنّما يَعْمُرُ مساجِدَ الله مَنْ آمَنَ

______________________

1 . لاحظ: «الالهيات» ج 1، ص 299.

( 417 )

باللّهِ واليَوْمِ الآخِرِ)(سورة التوبة: الآية 18) .

3 _ كراهة ما أنزل الله

قال سبحانه: (وَالّذينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُم وَأَضَلّ أَعّْمالَهُم * ذَلِكَ بأَنّهُمّْ كَرِهُوا ما أَنزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) ( سورة محمد: الآيتان 8 و 9).

4 _ الكُفر

5 _ الصدُّ عن سبيل الله

6 _ مجادلة الرسول و مشاقّته

وقد جاءَت هذه العوامل الثّلاثة في قوله سبحانه: (إنّ الّذينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سبيلِ الله وَ شَاقُّوا الرّسولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدى لَنّْ يَضُرُّوا اللّهَ شَيْئاً وَ سَيُحبِطُ أَعْمالَهُم)(سورة محمد: الآية 32. ولاحظ في عامل الكفر، سورة التوبة: الآية 69).

وهل كلُّ منها عاملٌ مستقلٌٌّ، أَو أَنّ هنا عاملاً واحداً هو الكفر، ويكون حينئذ الصّدُّ عن سبيل الله و مشاقّة الرّسول من آثار الكفر، فهم كفروا، فصّدوا و شاقّوا؟ وجهان.

وتظهر الثّمرة فيما لو صَدّ إنسانٌّ عن سبيل الله لأغراض دنيويّة، أَو شاقّ الرّسولَ لحالة نفسانيّة مع اعتقاده التّام بنبوّة ذاك الرّسول و قبح عمل نفسه. فلو قلنا باستقلال كل منها في الحبط، يحبط عمله، وإلاّ فلا، و بما أَنّ الآية ليست في مقام البيان، بل تحكي عمل قوم كانت لهم هذه الشؤون فلا يمكن استظهار استقلال كلّ منها في الحبط نعم، يمكن القول بالاستقلال من باب الأولويّة، وذلك أنّه إذا كان رفع الصّوت فوق صوت النّبي من عوامل الإحباط كما سيأتي فكيف لا يكون الصدّ و القتل من عوامله؟

7 _ قتل الأنبياء

8 _ قتل الآمرين بالقِسط من الناس

قال سبحانه: (إنّ الّذينَ يَكْفُرونَ بآياتِ اللّهِ، و يَقْتُلونَ النّبِييّنَ بغير حقّ،

( 418 )

وَيَقْتُلُونَ

الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشْرْهُمْ بِعَذَاب أَلِيم* أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرينَ) (آل عمران: الآيتان 21 _ 22).

9 _ إساءة الأدب مع النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم

قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)(سورة الحجرات: الآية 2).

وربّما يُتصوّر أَنّ رفع الصّوت ليس عاملاً مستقلاّ ً فى الإحباط، بل هو كاشف عن كفر الرافع، ولكنّه احتمال ضعيف، لأنّ الآية تخاطب المؤمنين به بقولها: (يا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوُا).

نعم، لا يمكن الالتزام بأنّ كلّ إساءة بالنّسبة إلى النّبي تُحبط الأعمال الصّالحة(1)، إِلاّ إِذا كانت هتكاً في نظر العامّة، و تحقيراً له في أَوساط المسلمين، كما هوالظّاهر من أَسباب نزول الآية.

10 _ الإقبال على الدُنيا و الاعراض عن الاخرة

قال سبحانه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَ هُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ* اُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاّ النَّارُ وَ حَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (سورة هود: الآيتان 15 و 16).

ويمكن أَن يقال إنّ الاقبال على الدّنيا بهذا النّحو الّذي جاء في الآية يساوق الكفر، أَو يساوق ترك الفرائض، والتوغّل في الموبقات، فتكون إِرادة الحياة الدّنيا وزينتها إشارة إلى العامل الواقعي.

______________________

1 . كالغضب في محضره _ صلوات الله عليه وآله.

( 419 )

11 _ إنكار الآخرة

قال سبحانه: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِ آيَاتِنَا وَ لِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)(سورة الأعراف: الآية 147. ولاحظ سورة الكهف: الآية 105).

وهو فرع من فروع الكفر وليس عاملاً مستقلاّ ً.

12 _ النِفاق

قال سبحانه: (قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المَعَوِّقِينَ

مِنْكُمْ وَ القَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إَلَيْنَا وَ لا يَأْتُونَ البَأْسَ إلاّ قَلِيلاً* أُولِئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَ كَانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً) (سورة الاحزاب: الآيتان 18 و 19).

وقوله: «لإخوانهم»، يدلّ على أَنّهم لم يكونوا مؤمنين، بل كانوا منافقين. ويصرّح به قوله: «أُولئك لم يُؤّْمِنوا». وعلى ذلك فيَرجع النّفاق إلى عامل الكفر و عدم الإِيمان، وليس سبباً مستقلاً.

هذه هي أبرز أسباب الإِحباط في الذّكر الحكيم، وقد عرفت إمكان إذعام البعض في البعض، وعلى كلِّ تقدير، فالإحباط هنا هو بطلان أَثر المقتضي، لا إبطال أَثر ثابت بالفعل، كما تقدّم(1).

2 _ التكفير

التّكفير هو إسقاط ذنوب الأفعال المتقدّمة بثواب الطّاعات المتأَخِّرة، وهو لا يعدّ ظلماً، لأنّ العقاب حقّ للمولى، وإسقاط الحقّ ليس ظلماً بل إحسان، وقد عرفت أَنّ خلف الوعيد ليس بقبيح و إنّما القبيح خلف الوعد. فلأجل ذلك لا حاجة إلى تقييد استحقاق العقاب أو استمرار استحقاقه بعدم تعقّب الطّاعات. بل الاستحقاق

______________________

1 . وأمّا بيان عوامل الإحباط في السنّة فهو موكول الى محل آخر.

( 420 )

واستمراره ثابتان، غير أَنّ المولى سبحانه، تَفَضّلاً منه، عفا عن عبده لفعله الطّاعات.

قال سبحانه: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَونَ عَنْهُ نُكَفِّر عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلُكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)(سورة النساء: الآية 31) .

وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَالله ذُو الفَضْلِ العَظِيم)(سورة الأنفال: الآية 29).

وقال سبحانه: (والّذينَ آمَنوُا وَ عَمِلوا الصالحاتِ و آمَنُوا بما نُزِّلَ على مُحَمّد وَ هُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سيِّئاتِهِمْ و أَصْلَحَ باَلُهمْ) (سورة محمد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم الآية 2).

ولا يمكن استفادة الإطلاق من هذه الآيات، و أَنّ كلّ معصية تكفَّر،

لأنّها بصدد بيان تشريع التّكفير، و أمّا شروطه و بيان المعاصي الّتي تكفّر دون غيرها، فلا يستفاد منها، وإنّما الظاهر من الآية الأُولى هو اشتراط تكفير الذنوب الصغيرة باجتناب الكبيرة منها، ومن الآية الثانية، اشتراط تكفير السّيئات بالتّقوى و من الثالثة، تكفير السيّئات للّذين آمنوا وعملوا الصالحات و آمنوا بما نُزِّل على الرّسول الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم .

روى الكراجكي بسنده عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «وإنْ كان عليه فضل، وهو من أَهل التّقوى، ولم يشرك بالله تعالى، واتّقى الشرك به، فهو من أَهل المغفرة، يغفر الله له برحمته إن شاء و يتفضّل عليه بعفوه»(1).

______________________

1 . البحار، ج 5، ص 335.

الأصل الرابع المنزلة بين المنزلتين

الأصل الرابع المنزلة بين المنزلتين

إنّ هذا الأصل يهدف إلى أنّ صاحب الكبيرة لا يسمّى مؤمناً، كما عليه جمهور المسلمين ولا كافراً، كما عليه الخوارج، وإنّما يسمّى فاسقاً. فهو من حيث الإيمان والكفر في منزلة بين المنزلتين.

قال القاضي: «لا يكون اسمه اسم الكافر ولا اسمه اسم المؤمن، وإنّما يسمّى فاسقاً. وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث و هذا الحكم الّذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين. فإنّ صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان، فليست منزلته منزلة الكافر، ولا منزلة المؤمن، بل له منزلة بينهما»(1).

ثمّ إنّه قسّم المكلّف من حيث استحقاق الثّواب والعقاب إلى قسمين: إمّا أن يكون مستحقّاً للثّواب فهو من أولياء الله، وإمّا أن يكون مستحقّاً للعقاب فهو من أعداء الله.

ثمّ الثّاني إمّا أن يكون مستحقّاً للعقاب العظيم فهو الكافر والمنافق والمرتدّ. وإن استحقّ عقاباً دون ذلك سمّي فاسقاً «وهو المرتكب للكبيرة».

ثمّ إنّ الأساس لاخراج الفاسق عن

المؤمن هو جعل العمل جزءاً من الإيمان،

______________________

1 . شرح الأصول الخمسة: ص 697.

( 422 )

وعلى هذا فإذا ترك فريضة أو ارتكب حراماً يخرج من عداد المؤمنين و فيه تشترك المعتزلة والخوارج، ولكن تنشعب المعتزلة عن الخوارج بقولهم إنّه لا مؤمن ولا كافر، بل في منزلة _أو له _ بين المنزلتين، ولكنّه عند الخوارج ليس بمؤمن بل كافر.

ثمّ إنّهم استدلّوا على كونه ليس بمؤمن بوجوه نأتي بها مع تحليلها:

الدّليل الأوّل: ما مرّ في مناظرة واصل بن عطاء مع عمرو بن عبيد من اختلاف المسلمين في سائر الأسماء و اتّفاقهم على كونه فاسقاً، فنأخذ بالمجمع عليه و نطرح ما اختلفوا فيه، حيث إنّهم اختلفوا في كونه مؤمناً أو كافراً أو منافقاً، ولكن اتّفقوا في كونه فاسقاً، فنأخذ بالمتيقّن و نطرح المختلف فيه. وقد عرفت ضعف هذا الدّليل فلا نعيده.

الدّليل الثّاني: ما ذكره القاضي من أنّ «المؤمن» نقل عن معناه اللّغوي إلى معنى آخر وصار بالشّرع اسماً لمن يستحقّ المدح والتّعظيم، والدّليل على ذلك أنّه تعالى لم يذكر اسم المؤمن إلاّ وقد قرن إليه المدح و التّعظيم. ألا ترى إلى قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون) و قوله: (إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم)وقوله: (إنّما المؤمنون الّذين آمنوا بالله و رسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتّى يستأذنوه) إلى غير ذلك من الآيات.

ومثله لفظ المسلم فهومنقول إلى من يستحقّ المدح و التّعظيم.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره ادّعاء محض غير مقترن بالدّليل ناش من خلط الأثر بذي الأثر، ولو صحّ لوجب أن يقول القاضي: إنّ الصّلاة موضوع لمعراج المؤمن، والصّوم للجُنّة من النار، والزّكاة لتنمية المال، لقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم :

«الصّلاة معراج المؤمن» و «الصّوم جُنّة من النار» و «الزّكاة تنمية للمال».

والّذي يدلّ على فساد ما ذكره أنّه لو صحّ لوجب أن يصحّ وضع الممدوح مكان المؤمن في الآيات التّالية، مع أنّه لا يقبله أيّ ذوق سليم.

1 _ قال سبحانه: (ولعبد مؤمن خير من مشرك) (البقرة/221).

( 423 )

2 _ وقال سبحانه: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ) (النساء/92).

3 _ وقال سبحانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة) (الأحزاب/36) إلى غير ذلك من الآيات.

والعجب من القاضي كيف غفل عن الآيات الّتي ذكر فيها متعلّق الإيمان، ومعه لا يمكن حمله إلاّ على أنّه بمعنى الاذعان. قال سبحانه: (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر)(النساء/39).

و قال سبحانه: (والّذين آمنوا بالله و رسله و لم يفرّقوا بين أحد منهم)(النساء/251)

وقال سبحانه:(فأمّا الّذين آمنوا بالله واعتصموا به) (النساء/175).

إلى غير ذلك من الآيات الّتي لا تبقي شكّاً في أنّ الإيمان بمعنى الاذعان مطلقاً، وفي المقام بمعنى الإيمان بالله واليوم الآخر و رسوله.

وأمّا ما ذكر من أنّه سبحانه لم يذكر اسم المؤمن إلاّ وقد قرن إليه المدح و التّعظيم منقوض بقوله سبحانه: (ومن يؤمن بالله و يعمل صالحاً يكفّر عنه سيّئاته)(التغابن/9).

وقال سبحانه: (الّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن)(الأنعام/82) و الظّاهر أنّ القيد «ولم يلبسوا إيمانهم بظلم» احترازيّ لا توضيحيّ.

أضف إليه أنّ الإيمان ذو درجات و مراتب، فالمدح المطلق للدّرجة العليا و المدح النّسبي للدرجات التالية لها.

ثمّ إنّ تقسيم النّاس إلى قسمين: من يستحقّ الثّواب، ومن يستحقّ العقاب، لا يصدقه القرآن، بل هناك قسم ثالث و هو عبارة عمّن يستحقّ كلا الأمرين. قال سبحانه: (وآخرون (من الأعراب) اعترفوا بذنوبهم خلطوا

عملاً صالحاً و آخر سيّئاً عسى الله أن يتوب عليهم إنّ الله غفور رحيم) (التوبة/102) فلأجل كونه ذا عمل

( 424 )

صالح يستحقّ الثّواب قطعاً لقوله: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حيوة طيَّبة و لنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)(النحل/97) ويستحقّ العقاب لكونه ذا عمل سَيّىء.

ثمّ إنّ القاضي عطف على دليله السابق قوله:

1 _ لو كان لفظ المؤمن باقياً على ما كان عليه في اللّغة لكان يجب إذا صدّق المرء غيره أو آمنه من الخوف أن يسمّى مؤمناً و إن كان كافراً.

2 _ ولكان يجب أن لا يسمّى الأخرس مؤمناً.

3 _ ولكان أن لا يجري على النّائِم والسّاهي، لأنّ الانقياد غير مقصود منهما.

4 _ ولكان يجب أن لا يسمّى الآن بهذا الاسم إلاّ المشتغل به دون من سبق منه الإسلام، ولازمه أن لا نسمّي أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم مؤمنين(1).

يلاحظ عليه: أنّ هذه الوجوه عليلة جدّاً لا تليق بمقام القاضي. أمّا الأوّل، فالمؤمن هو المذعن المصدّق، ويختلف متعلّقه بحسب اختلاف الموارد، فإذا أطلق في عرف اللّغة يراد منه نفس المذعن، سواء كان متعلّقه هو الله سبحانه أو غيره. قال سبحانه: (وما أنت بمؤمن لنا)(يوسف/17).

وأمّا في عرف الشّرع والمتشرّعة و مصطلح القرآن و الحديث، فالمراد هو الاذعان بالله واليوم الآخر و رسالة رسوله، فالّذي يصدق شخصاً مؤمن حسب اللّغة، ولا يطلق عليه المؤمن في مصطلح الشّرع و المتشرّعة بهذا الملاك.

وأمّا الأخرس فهو مؤمن لكشف إشاراته عن إذعانه، والنّائم والسّاهي مؤمنان لوجود الاذعان في روحهما، غاية الأمر يكون النّوم و السّهو مانعين عن بروزهما. وأمّا من مات مؤمناً فهو أيضاً مؤمن بلحاظ حال النّسبة، لا حال التكلّم، فالضّارب

والقاتل في اليوم الماضي يطلق عليهما المشتقّ باعتبار زمان النّسبة لا باعتبار زمان التكلّم، والشّجرة

______________________

1 . شرح الاصول الخمسة: ص 703 _ 705.

( 425 )

المثمرة في الشّتاء مثمرة بلحاظ حال النّسبة.

ثمّ إنّ القاضي استدلّ بآيات ربّما يستظهر منها دخول الأعمال في الإيمان، فقد أوضحنا مداليلها عند البحث عن عقائد المرجئة، فلا نطيل.

ثمّ إنّ هناك اختلافاً بين نفس المعتزلة، فذهب أبو الهذيل إلى أنّ الإيمان عبارة عن أداء الطّاعات، الفرائض و النّوافل، واجتناب المقبّحات. وهو أيضاً خيرة القاضي.

واختار الجبّائيان أنّه عبارة عن أداء الطّاعات، الفرائض دون النوافل، واجتناب المقبّحات.

وقد عرفت ضعف الكلّ عند البحث عن المرجئة.

بقي هنا بحث وهو الاجابة عن الاستدلالات الّتي تمسّك بها الخوارج على

أنّ مرتكب الكبائر كافر. ونبحث عنها في الجزء (1) المختصّ بعقائدهم،

فانتظر.

______________________

1 . لاحظ الجزء الخامس من هذه الموسوعة.

( 426 )

الأصل الخامس الأمر بالمعروف و النّهي عن

الأصل الخامس الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر

هذا هو الأصل الخامس من الأُصول الخمسة. والأُصول المتقدّمة تتعلّق بالنّظر والاعتقاد بخلافه، فهو بالعمل ألصق و على هذا الأصل بعث واصل بن عطاء و غيره دعاته إلى الأقطار المختلفة كما عرفته في ترجمته. ويبحث فيه عن المسائل التّالية.

1 _ هل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجب أو لا؟

2 _ هل وجوبهما سمعيّ أو عقلي؟

3 _ ما هي شرائط وجوبهما؟

4 _ هل وجوبهما عيني أو كفائي؟

5 _ مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

أمّا الأُولى، فقد ذكر القاضي أنّه لاخلاف بين الأُمّة في وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلاّ ما يحكى عن شرذمة من الإماميّة لا يقع بهم و بكلامهم اعتداد(1).

يلاحظ عليه: أنّه ماذا يريد من قوله «من الإماميّة»؟ هل كلمة من تبعيضيّة أو بيانيّة؟ فإن كان الأوّل كما هو الظّاهر،

فلا نعرف تلك الشّرذمة من الإماميّة، فإنّهم عن بكرة أبيهم مقتفون للكتاب والسنّة، وصريح الكتاب و أحاديث العترة الطّاهرة على

______________________

1 . شرح الاصول الخمسة: ص 741.

( 427 )

وجوبهما. فمن أراد فليرجع إلى جوامعهم الحديثيّة(1).

ونكتفي برواية واحدة من عشرات الرّوايات. روى جابربن عبدالله الأنصاري عن أبي جعفر الباقر _ عليه السلام _ أنّه قال: «إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر سبيل الأنبياء و منهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض و تؤمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم، و تعمّر الأرض، و ينتصف من الأعداء، و يستقيم الأمر»(2).

وإن كان الثّاني، فهو غير صحيح. وهذه كتب الإماميّة في الكلام والتّفسير والفقه مشحونة بالبحث عن فروع المسألة بعد تسليم و جوبهما.

قال الشّيخ المفيد (م413ه_): «إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر باللّسان فرض على الكفاية بشرط الحاجة إليه، لقيام الحجّة على من لا علم لديه إلاّ بذكره أو حصول العلم بالمصلحة به أو غلبة الظّنّ بذلك»(3).

وهذا المحقّق الطّوسي نصير الدّين (م672ه_) يقول في «تجريد الاعتقاد»: «والأمر بالمعروف واجب، وكذا النّهي عن المنكر. وبالمندوب مندوب»(4).

نعم، بعض مراتب الأمر بالمعروف كالجهاد الابتدائي مع العدوّ الكافر مشروط بوجود الإمام العادل. قال الإمام عليّ بن موسى الرّضا _ عليه السلام _ في كتابه إلى المأمون: «والجهاد واجب مع إمام عادل، ومن قاتل فقتل دون ماله ورحله و نفسه فهو شهيد»(5).

وقد استظهر بعض الفقهاء من هذا الحديث و غيره أنّ المراد هو الإمام المعصوم المنصوص على ولايته من جانب الله سبحانه بواسطة النّبي. غير أنّ في دلالة الرّوايات على هذا الشرط نوع خفاء، بل عموم ولاية الفقيه في زمان الغيبة كاف في تسويغ ذلك

______________________

1 . لاحظ: وسائل الشيعة، ج 11، الباب الأول من أبواب الأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 393.

2 . المصدر السابق، الحديث السابع.

3 . أوائل المقالات: ص 98.

4 . كشف المراد: ص 271، ط صيدا.

5 . الوسائل: ج 11، الباب الثاني عشر من أبواب جهاد العدو، الحديث 10.

( 428 )

للفقيه الجامع للشّرائط(1).

وأمّا سائر مراتب الأمر بالمعروف من الإنكار بالقلب و التّذكير باللّفظ والعمل باليد فسيأتي البحث عنه في المسألة الخامسة.

نعم، كان على القاضي أن يذكر خلاف الحنابلة و الأشاعرة في مجابهة الظّالمومكافحته. قال إمام الحنابلة: «السّمع والطّاعة للأئمّة و أمير المؤمنين البرّ و الفاجر».

وقال الشيخ أبو جعفر الطّحاوي الحنفي: «ولا نرى الخروج على أئمّتنا ولاة أمرنا، وإن جاروا، ولا ندعو على أحد منهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعات الله فريضة علينا ما لم يأمروا بمعصية»(2).

وهؤلاء يرون إطاعة السّلطان الجائر، مع أنّ النّبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «ومن أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»(3).

وروى أبوبكر أنّه سمع رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقول: «إنّ النَاس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه»(4).

ومع ذلك كلّه فقد نسي القاضي أن ينسب عدم وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلى هذه الجماهير، ونسبه إلى الإماميّة وقد عرفت كيفيّة النسبة.

والمسألة من الوضوح بمكان لا تحتاج معه إلى تكثير المصادر.

وامّا الثانية، فقد ذهب أبو عليّ الجبّائي إلى أنّ ذلك يعلم عقلاً. وقال ابنه أبو هاشم: «بل لا يعلم عقلا إلاّ في موضع واحد، وهو أن يرى أحدنا غيره يظلم أحداً فيلحقه بذلك غمّ، فإنّه يجب عليه النّهي و دفعه، دفعاً لذلك الضرر الّذي لحقه من

______________________

1 . جواهر الكلام: ج 21، ص 13 _

14.

2 . قد ذكرنا عبارات القوم في وجوب طاعة السلطان الظالم في الجزء الأول من كتابنا هذا.

3 . صحيح الترمذي، ج 4، كتاب الفتن، الباب 14، ص 471، رقم الحديث 2174.

4 . المصدر السابق، الباب 8، رقم الحديث 2168.

( 429 )

الغمّ عن نفسه. فإمّا فيما عدا هذا الموضع فلا يجب إلاّ شرعاً» وقال القاضي: «وهو الصّحيح من المذهب»(1).

يلاحظ عليه: أنّ أبا هاشم يصوّر حياة الفرد منقطعة عن سائر النّاس، فلأجل ذلك أخذ يستثني صورة واحدة. ولو وقف على كيفيّة حياة الفرد في المجتمع لحكم على الكلّ بحكم واحد، وذلك أنّ أعضاء المجتمع الواحد الّذين يعيشون في بيئة واحدة مشتركون في المصير، فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله، ولو كان هناك شرّ يشمل الجميع أيضاً و لم يختصّ بمرتكبه، ومن هنا يجب أن تحدّد تصرّفات الأفراد في المجتمع و تحدّد حرّياتهم بمصالح الأُمّة ولا تتخطّاها. ولأجل ذلك يشبّه النّبىُّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وحدة المجتمع بركّاب سفينة في عرض البحر إذا تهدّدها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد.

ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه، بحجّة أنّه مكان يختصّ به ولا يرتبط بالآخرين، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ولا يعود إليه خاصّة.

روى البخاري عن النّعمان بن بشير أنّه قال: سمعت عن النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهمّوا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها و بعضهم أسفلها. فكان الّذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما

أرادوا، هلكوا جميعاً و إن أخذوا على أيديهم نجوا و نجوا جميعاً»(2).

وروى الترمذي نظيره في سننه كتاب الفتن:

روى جعفر بن محمّد عن آبائه، عن رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم : «إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم تضرّ إلاّ عاملها فإذا عمل علانية ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامّة» قال جعفر

______________________

1 . شرح الاصول الخمسة: ص 742.

2 . صحيح البخاري: ج 3، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه، ص 139. المطبوع على النسخة الاميرية، ورواه الجاحظ في البيان والتبيين ج 2 ص 49.

( 430 )

بن محمّد _عليهما السلام _ : وذلك أنّه يذلُّ بعمله دين الله و يقتدي به أهل عداوة الله(1) و بهذا يعرف قيمة كلام أبي هاشم حيث إنّه نظر إلى حقيقة المجتمع بنظرة فرديّة، ولأجل ذلك لم يقل بوجوب الأمر بالمعروف عقلاً إلاّ في مورد واحد وهو ما إذا عرضه الغمّ من ظلم أحد أحداً، مع أنّه لو كان هذا هو الملاك لوجب في كثير من الموارد بنفس الملاك، غاية الأمر ربّما يكون الضّرر مشهوداً و ربّما يكون مستوراً.

ثمّ إنّ البحث عن وجوبه سمعيّاً أو عقليّاً بحث كلامي لا صلة له بكتاب تاريخ العقائد، غير أنّا إكمالاً للفائدة نأتي بنكتة وهي: أنّ الظاهر من القول بوجوب اللّطف هو أنّ وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عقليّ، وذلك لأنّ اللُّطف ليس إلاّ تقريب العباد إلى الطّاعة و ابعادهم عن المعصية، ومن أوضح ما يحقّق تلك الغاية هو الأمر بالمعروف بعامّة مراتبه.

غير أنّ المحقّق الطّوسي استشكل على وجوبهما عقلاً وقال: «لو كانا واجبين عقلاً، لزم ما هو خلاف الواقع أو الاخلال بحكمته».

وأوضحه شارح كلامه العلاّمة الحلّي وقال: «إنّهما لو

وجبا عقلاً لوجبا على الله تعالى. فإنّ كلّ واجب عقليّ يجب على كلّ من حصل في حقّه وجه الوجوب، ولو وجبا عليه تعالى لكان إمّا فاعلاً لهما، فكان يلزم وقوع المعروف قطعاً، لأنّه تعالى يحمل المكلّفين عليه، وانتفاء المنكر قطعاً، لأنّه تعالى يمنع المكلّفين منه، وهذا خلاف ما هو الواقع في الخارج. و إمّا غير فاعل لهما فيكون مخلاّ ً بالواجب وذلك محال لما ثبت من حكمته تعالى»(2).

يلاحظ عليه: أنّ وجوبهما عقلاً لا يلازم وجوبهما على الله سبحانه بعامّة مراتبه،لأنّه لو وجب عليه بعامّة مراتبه يلزم إخلال الغرض و إبطال التّكليف. وهذا يصدّ العقل عن إيجابهما على الله سبحانه فيما لو استلزم الإلجاء و الإخلال بالغرض،

______________________

1 . الوسائل: ج 11، كتاب الجهاد، الباب 4 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 1.

2 . كشف المراد: ص 271، ط صيدا.

( 431 )

فيكتفي فيه بالتّبليغ و الانذار و غيرهما ممّا لا ينافي حريّة المكلّف في مجال التّكليف. وإلى ذلك يشير شيخنا الشّهيد الثاني بقوله: «لاستلزام القيام به على هذا الوجه (من وجوبه قولاً و فعلاً) الالجاء الممتنع في التّكليف، ويجوز اختلاف الواجب باختلاف محالّه، خصوصاً مع ظهور المانع، فيكون الواجب في حقّه تعالى الانذار والتّخويف بالمخالفة لئلاّ يبطل التّكليف، والمفروض أنّه قد فعل»(1).

وأمّا الثّالثة، وهي شرائط وجوبهما، فقد فصِّل فيه الكلام المتكلّمون والفقهاء فقالوا: شرائط الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ثلاثة:

الأوّل: علم فاعلهما بالمعروف والمنكر.

الثّاني: تجويز التّأثير، فلو عرف أنّ أمره و نهيه لا يؤثّران لم يجبا.

الثّالث: انتفاء المفسدة، فلو عرف أو غلب على ظنّه حصول مفسدة له أو لبعض إخوانه في أمره و نهيه سقط وجوبهما دفعاً للضرر(2).

وهناك شروط أُخر لم يذكرها العلاّمة في كلامه. منها:

الرابع : تنجّز

التّكليف في حقّ المأمور والمنهيّ، فلو كان مضطرّاً إلى أكل الميتة لا تكون الحرمة في حقّه منجّزة، فلا يكون فعله حراماً ولا منكراً، وإن كان في حقّ الآمر والنّاهي منجّزاً.

وعلى كلّ تقدير فالشّرط الثّالث _ أي عدم المفسدة _ شرط في موارد خاصّة لا مطلقاً. فربّما يجب على الآمر و النّاهي تحمّل المضرّة و عدم ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، كما إذا كان تركه لهما لغاية دفع المفسدة موجباً لخروج النّاس عن الدّين وتزلزلهم و غير ذلك ممّا أوضحنا حاله فى أبحاثنا الفقهيّة(3).

وأمّا الرّابعة، وهي كون وجوبهما عينيّاً أو كفائياً، فالأكثر على أنّه كفائيّ، لأنّ

______________________

1 . الروضة البهية: ج 1، كتاب الجهاد، الفصل الخامس، ص 262، الطبعة الحجرية.

2 . كشف المراد: ص 271، ط صيدا.

3 . لاحظ: رسالتنا الفقهية في التقية. فقد قلنا إنّ التقية ربّما تحرم إذا كان الفساد في تركها أوسع.

( 432 )

الغرض شرعاً وقوع المعروف وارتفاع المنكر، من غير اعتبار مباشر معيّن، فإذا حصلا ارتفع الوجوب وهو معنى الكفائي. والاستدلال على كونه عينيّاً بالعمومات غير كاف كما حقّق في محلّه.

وأمّا الخامسة، أعني مراتبهما، فتبتدئ من القلب، ثمّ اللّسان، ثمّ اليد و تنتهي باجراء الحدود و التّعزيرات. قال الباقر _ عليه السلام _ : «فانكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم»(1).

وعلى هذا يصبح الأمر بالمعروف على قسمين: قسم لا يحتاج إلى جهاز و قدرة، وهذا ما يرجع إلى عامّة الناس. وقسم يحتاج إلى الجهاز والقوّة و يتوقّف على صدور الحكم، وهذا يرجع إلى السّلطة التنفيذيّة القائمة بالدّولة الإسلاميّة بأركانها الثّلاثة.

وقد بسط الفقهاء الكلام في بيان مراتبهما. فمن لاحظ الروايات وكلمات الفقهاء يقف على أنّ بعض المراتب

واجب على الكلّ والبعض الآخر يجب على أصحاب القوّة والسّلطة.

إلى هنا تمّ البحث عن الأُصول الخمسة للمعتزلة، وبقي هنا بحوث نجعلها

خاتمة المطاف.

______________________

1 . الوسائل: ج 11، كتاب الجهاد، الباب الثالث من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 1.

( 433 )

خاتمة المطاف

خاتمة المطاف

الأوّل: تحليل بعض ما رمي به مشايخ المعتزلة من الانحلال الأخلاقي، فإنّ في ذلك توضيحاً للحقّ، بل دفاعاً عنه.

الثاني: تبيين تاريخ المعتزلة من حيث تدرّجهم من القدرة إلى الضّعف، وذلك بحث تاريخيّ يهمّنا من بعض الجهات، وسيظهر في طيّات البحث.

الثالث: الآثار العلميّة الباقية من المعتزلة.

1 _ دفاع عن الحقّ

الاعتزال ظهر في أوساط المسلمين بطابعه العقلي لتحقيق العقائد الإسلاميّة، ودعمها على ضوء الدّليل و البرهان. فكانوا يدافعون عنها حسب طاقاتهم الفكريّة، يشهد بذلك حياة مشايخهم و أئمّتهم و تلاميذهم.

ولعلّ تصلّبهم في المناظرة، وعدم السّكوت في مقابل الملاحدة وأهل الكتاب من اليهود والنّصارى، لأجل عنايتهم بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، حتّى صار ذلك أحد أُصولهم الّتي بها يتميّزون عن غيرهم، وقد عرفت نماذج من مناظراتهم مع المخالفين فلا نعيد.

ولم يكن دفاعهم عن الإسلام منحصراً بالمناقشات اللّفظية، بل كانوا يستعملون القوّة إذا أُتيح لهم ذلك.

مثلاً: إنّ بشّار بن برد كان متّهماً بالالحاد، فهدّده واصل بالقتل، ولم يكتف بذلك حتّى نفاه من البصرة، فذهب إلى حرّان و بقي فيها إلى أن توفّي واصل ثمّ عاد إلى البصرة.

( 434 )

و في ذلك يقول صفوان الأنصاري مخاطباً لبشّار:

كأنّك غضبان على الدّين كلّه * وطالب دخل لا يبيت على حقد

رجعت إلى الأمصار من بعد واصل * وكنت شريراً في التّهائم والنّجد(1)

ومن مظاهر دعمهم لأُصول العقائد الإسلاميّة و مكافحة التّجسيم والتّشبيه هو أنّ واصل بن عطاء بعث تلاميذه إلى الأطراف و

الأكناف لتبليغ رسالة التّنزيه و رفض التّشبيه، وقد أتينا بأسماء المبعوثين في ترجمته(2).

وروى عمر الباهلي أنّه قرأ الجزء الأوّل من كتاب «الألف مسألة في الردّ على المانويّة» لواصل، كان فيها نيّف و ثلاثون مسألة، وهو الّذي أوفد حفص بن سالم إلى خراسان، فناظر جهم بن صفوان و قطعه وجعله يرجع إلى القول الحقّ. وعلى ذلك درج أصحاب واصل و تلاميذه من بعده(3).

وتبع واصلاً و عمرو بن عبيد، أبو الهذيل العلاّف و قد قرأت في ترجمته بعض مناظراته.

ولا تنس ما ذكرناه في ترجمة «معمر بن عباد» وقد بعثه الرّشيد إلى مناظرة السمنى، وهو يدلّ على أنّ المعتزلة كانوا هم المتحمّسين للمناظرة بين أهل السنّة، وأمّا غيرهم فلا يملكون في مقام المناظرة سوى القول بأنّ البحث حرام.

هذا هو القاضي عبد الجبّار قد قام في وجوه الملحدين والشاكّين في إعجاز القرآن، فألّف كتابه «تنزيه القرآن عن المطاعن» و كتاباً آخر في نبوّة النّبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أسماه «تثبيت دلائل نبوّة سيّدنا محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم » قال محقّق كتاب «شرح الأُصول الخمسة» بأنّه أعدّه للطّبع.

______________________

1 . البيان والتبيين: ج 1، ص 25.

2 . المنية والامل: ص 20، ط توماارنلد.

3 . المنية والامل: ص 21.

( 435 )

ونحن إذا قرأنا في حياتهم هذه البطولات الفكريّة و العمليّة، يشكل علينا قبول ما نسبه إليهم أعداؤهم من المجون و الانحلال الأخلاقي.

لا أقول إنّ كلّ عالم معتزلي، عادل لا يعصي ولا يخطأ، غير أنّ الكلام في أنّ تنزيه طائفة خاصّة كالحنابلة و الأشاعرة، ورمى طائفة أُخرى بضدّه، ممّا لا يؤيّده الإنصاف، فلو قلنا إنّما حكمهم حكم سائر الطوائف الإسلاميّة حيث في كلّ طائفة ظالم

لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخير(1) لكان أقرب إلى الواقع والحقيقة.

ولأجل إيقاف القارىء على بعض ما رميت به تلك الطائفة نذكر مايلي:

ما زلت آخذ روح الزقّ في لطف * و أستبيح دماً من غير مجروح

حتّى انثنيت ولي روحان في جسد * و الزق منطرح جسم بلا روح(2)

1 _ روى ابن قتيبة أنّ النّظام كان يغدو على سكر و يروح على سكر و يبيت على حرائرها، ويدخل في الأدناس و يرتكب الفواحش والشائنات، وله في الشّراب شعر.

2 _ نقل البغدادي عن كتاب «المضاحك» للجاحظ، أنّ المأمون ركب يوماً فرأى ثمامة سكران قد وقع على الطّين، فقال المأمون له: ألا تستحيي؟ قال: لا والله. قال: عليك لعنة الله. قال ثمامة: تترى ثمّ تترى(3).

3 _ وذكر أيضاً أنّ أبا هاشم الجبّائي كان أفسق أهل زمانه و كان مصرّاً على شرب الخمر وقيل: إنّه مات في سكره حتّى قال فيه بعض المرجئة:

يعيب القول بالإرجاء حتّى * يرى بعض الرجاء من الجرائر

وأعظم من ذوي الارجاء جرماً * وعيديّ أصرّ على الكبائر(4)

______________________

1 . اقتباس من قوله سبحانه : (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات)(فاطر / 32).

2 . تأويل مختلف الحديث: ص 18.

3 . الفرق بين الفرق: ص 173.

4 . المصدر السابق: ص 191.

( 436 )

يلاحظ عليه: أنّ ابن قتيبة والبغدادي تفرّدا في نقل هذه النّقول والنسب، وأمّا غيرهما من الأشاعرة فنزّهوا أقلامهم عن ذكرها، ولو كانت لهذه النّسب مسحة من الحقّ أو لمسة من الصّدق لما تورّعوا عن ذكرها، على أنّ من سبر كتاب «الفرق بين الفرق» للبغدادي يرى فيه قسوة عجيبة في حقّ الطّوائف الإسلاميّة لا سيّما المعتزلة.

وعلى ذلك، فما أحسن قول القائل إذا تمثّل به في حقّ هذه الطائفة:

حسدوا

الفتى إذ لم ينالوا سعيه * فالكلّ أعداء له و خصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها * حسداً و بغياً إنّه لدميم(1)

(ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سَبَقُونا بالإيمان)(الحشر/10)

المعتزلة من القوّة إلى الضّعف

إنّ فكرة الاعتزال كانت فكرة بدائية، ونبتة غرسها واصل بن عطاء في أوائل القرن الثّاني، وأخذت تتكامل عن طريق تلاميذه و بعض زملائه كعمرو بن عبيد. وقد كان له تأثير في بدء ظهورها إلى أن استطاع أن يستجلب إليه بعض الخلفاء الأمويين المتأخّرين، كيزيد بن وليد بن عبدالملك (م126ه_)، ومروان بن محمّد بن مروان آخر خلفائهم (م132ه_)، حيث اشتهر أنّ الأخير كان يقول بخلق القرآن و نفي القدر(2).

ولمّا اندلعت نيران الثورات ضدّ الأمويين، وقضت على خلافة تلك الطغمة الأثيمة، لمع نجم المعتزلة في عصر أبي جعفر المنصور (136 _ 158ه_) وقد عرفت في ترجمة عمرو بن عبيد وجود الصلة الوثيقة بينه و بين المنصور.

ولمّا هلك المنصور، أخذ المهدي ابنه زمام الحكم، ولم ير للمعتزلة في زمنه أيّ نشاط يذكر، خصوصاً أنّ المهدي كان شديداً على أصحاب الأهواء، حسب ما يقولون.

______________________

1 . الشعر لأبي الأسود الدؤلي صاحب الامام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ راجع ملحق ديوانه.

2 . الكامل لابن الاثير: ج 4، ص 332 قال: «وكان مروان يلقب بالحمار، والجعدي لأنّه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك.

( 437 )

روى الكشّي عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن هشام ... أنّه لمّا كان أيّام المهدي، شدّد على أصحاب الأهواء، وكتب له ابن المفضّل صنوف الفرق، صنفاً صنفاً، ثمّ قرأ الكتاب على النّاس، فقال يونس: «قد سمعت الكتاب يقرأ على النّاس على باب الذّهب بالمدينة، مرّة أُخرى بمدينة الوضّاح»(1).

وبما

أنّ أهل الحديث كانوا يشكّلون الأكثريّة الساحقة، فيكون المراد من أصحاب الأهواء الّذين شدّد عليهم المهدي، غيرهم من سائر الفرق فيعمّ المعتزلة و المرجئة والمحكّمة والشيعة و غيرهم.

ولأجل ذلك لم ير أيّ نشاط للمعتزلة أيّامه، حتّى مضى المهدىُّ لسبيله، و جاء عصر الرّشيد (170 _ 193ه_) فيحكي التّاريخ عن وجود نشاط لهم في أيّامه، حتّى انّه لم يوجد في عصره من يجادل السمنية غيرهم(2) ومع ذلك لم يكن الرّشيد يفسح المجال للمتكلّمين. يقول ابن المرتضى: «وكان الرّشيد نهى عن الكلام، وأمر بحبس المتكلّمين»(3).

نعم ابتسم الدّهر للمعتزلة أيّام المأمون، لأنّه كان متعطّشاً إلى العلم و التعقّل، والبحث والجدال، فنرى في عصره أنّ رجال المعتزلة يتّصلون ببلاطه، وكان لهم تأثير كبير في نفسيّته.

يقول الطّبري: «وفي هذه السّنة (212ه_) أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل عليّ بن أبي طالب _ عليه السلام _ وقال: هو أفضل النّاس بعد رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وذلك في شهر ربيع الأوّل(4) و لمّا استفحلت دعوة المحدّثين إلى قدم القرآن و اشتدّ أمرهم كتب المأمون عام (218ه_) إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة و المحدّثين،

______________________

1 . رجال الكشي: ترجمة هشام بن الحكم، الرقم 131، ص 227. ولعل هذا الكتاب أوّل كتاب أُلِّف في الملل والنحل بين المسلمين.

2 . لاحظ: طبقات المعتزلة، لابن المرتضى، ص 55.

3 . طبقات المعتزلة، لابن المرتضى، ص 56.

4 . تاريخ الطبري: ج 7، ص 188، حوادث سنة 212.

( 438 )

وممّا جاء في تلك الرسالة:

فاجمع من بحضرتك من القضاة، و اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون، و تكشيفهم عمّا يعتقدون في خلق الله القرآن و إحداثه، وأعلمهم أنّ أمير

ألمؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلّده الله و استحفظه من أُمور رعيّته، بمن لا يوثق بدينه و خلوص توحيده و يقينه، فإذا أقرّوا بذلك و وافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنّجاة، فمرهم بنصّ من يحضرهم من الشّهود على الناس، ومسألتهم عن علمهم في القرآن، و ترك إثبات شهادة من لم يقرّ أنّه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع من توقيعها عنده، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك فى مسألتهم و الأمر لهم بمثل ذلك. ثمّ أشرف عليهم و تفقّد آثارهم حتّى لا تنفذ أحكام الله إلاّ بشهادة أهل البصائر في الدّين و الإخلاص للتّوحيد و اكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك إن شاء الله، و كتب في شهر ربيع الأوّل سنة (218ه_)»(1).

رسالة ثانية من المأمون في إشخاص سبعة نفر إليه

ثمّ إنّ المأمون كتب إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة في بغداد أن يشخص إليه سبعة نفر من المحدّثين. منهم:

1 _ محمّد بن سعد كاتب الواقدي 2 _ أبو مسلم، مستملي يزيد بن هارون 3_يحيي بن معين 4 _ زهير بن حرب أبو خثيمة 5 _ إسماعيل بن داود 6 _ إسماعيل بن أبي مسعود 7 _ أحمد بن الدورقي، فامتحنهم المأمون و سألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعاً أنّ القرآن مخلوق فأشخصهم إلى مدينة السّلام و أحضرهم إسحاق بن إبراهيم دارَه فشهّر أمرهم و قولهم بحضرة الفقهاء و المشايخ من أهل الحديث، فأقرّوا بمثل ما

______________________

1 . تاريخ الطبري: ج 7 ص 197، حوادث سنة 218.

( 439 )

أجابوا به المأمون فخلّى سبيلهم. فقد فعل ذلك إسحاق بن إبراهيم بأمر المأمون.

رسالة ثالثة للمأمون إلى

إسحاق بن إبراهيم

ثمّ إنّ المأمون كتب بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم رسالة مفصّلة و ممّا جاء فيه:

«وممّا بيّنه أمير المؤمنين برويّته و طالعه بفكره، فتبيّن عظيم خطره و جليل ما يرجع في الدّين من وكفه و ضرره، ما ينال المسلمون بينهم من القول في القرآن الّذي جعله الله إماماً لهم. و أثراً من رسول الله و صفيّه محمّد _ صلّى الله عليه و آله _ باقياً لهم و اشتباهه على كثير منهم حتّى حسن عندهم و تزيّن في عقولهم أن لا يكون مخلوقاً، فتعرّضوا لذلك لدفع خلق الله الّذي بان به عن خلقه، و تفرّد بجلالته من ابتداع الأشياء كلّها بحكمته، وأنشأها بقدرته، والتقدّم عليها بأوّليّته الّتي لا يبلغ أولاها ولا يدرك مداها، وكان كلّ شيء دونه خلقاً من خلقه و حدثاً هو المحدِث له، وإن كان القرآن ناطقاً به ودالاً عليه و قاطعاً للاختلاف فيه وضاهوا به قول النّصارى في ادّعائهم في عيسى بن مريم أنّه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله.

والله عزّوجلّ يقول: (إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً) و تأويل ذلك أنّا خلقناه كما قال جلّ جلاله: (وجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسكنَ إليها) وقال: (وجَعَلْنا اللّيلَ لباساً و جَعَلْنا النّهارَ معاشاً)و (جَعَلْنا مِنَ الماءِ كلّ شيء حيّ) فسوّى عزّ وجلّ بين القرآن وبين هذه الخلائق الّتي ذكرها في شية الصّنعة و أخبر أنّه جاعله وحده فقال: (إنّه لقرآنٌ مجيدٌ* في لوح محفوظ) فقال ذلك على إحاطة اللّوح بالقرآن ولا يحاط إلاّ بمخلوق، وقال لنبيّه : (لا تُحرِّك بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) وقال: (مَا يَأتِيهم مِن ذِكْر مِن َربِّهِم مُحْدَث) و قال: (ومَن أَظْلَمُ ممّنِ افترى على اللّهِ كذباً أو كذَّب بآياتِه) و أخبر عن

قوم ذمّهم بكذبهم أنّهم قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء، ثمّ أكذبهم على لسان رسوله فقال لرسوله: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكتابَ الّذي جاءَ بهِ موسى)فسمّى الله تعالى القرآن قرآناً

( 440 )

و ذكراً و إيماناً و نوراً و هدىً و مباركاً و عربياً و قصصاً فقال: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القُصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِليكَ هذا القرآن) و قال: (قُلْ لِئنِ اجْتَمَعَت الإنْسُ و الجنُّ على أَن يأْتُوا بِمِثلِ هذا القرآن لا يأَتُونَ بمثلهِ) و قال: (قُلْ فَأْتُوا بعشرِ سِوَر مَثْلهُ مُفْتَريات) وقال: (لا يَأْتيهِ الباطل مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)فجعل له أوّلاً و آخراً، ودلّ عليه أنّه محدود مخلوق، وقد عظّم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثلم في دينهم والحرج في أمانتهم، وسهّلوا السّبيل لعدوّ الإسلام، واعترفوا بالتّبديل والالحاد على قلوبهم حتّى عرّفوا و وصفوا خلق الله و فعله بالصّفة الّتي هي للّه وحده و شبّهوه به، والأشباه أولى بخلقه وليس يرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة حظّاً في الدّين ولا نصيباً من الإيمان واليقين....إلى أن قال: فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبدالرحمن بن إسحاق القاضي كتابَ أمير المؤمنين بما كتب به إليك و انصصهما عن علمهما في القرآن و أعلمهما أنّ أميرالمؤمنين لا يستعين على شيء من أُمور المسلمين إلاّ بمن و ثق بإخلاصه و توحيده، و أنّه لاتوحيد لمن لم يقرّ بأنّ القرآن مخلوق. فإن قالا: بقول أميرالمؤمنين في ذلك فتقدّم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما في الشّهادات على الحقوق و نصّهم عن قولهم في القرآن، فمن لمن يقل منهم إنّه مخلوق أبطلا شهادته ولم يقطعا حكماً بقوله و إن ثبت عفافه بالقصد والسّداد في أمره، وافعل ذلك بمن

في سائر عملك من القضاة و أشرف عليهم إشرافاً يزيد الله به ذا البصيرة في بصيرته و يمنع المرتاب من إغفال دينه واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن شاء الله»(1).

دعوة المحدّثين والقضاة لسماع كتاب الخليفة

ولما جاءت الرسالة الثالثة إلى إسحاق بن إبراهيم، أحضر لفيفاً من المحدّثين منهم 1_ أبو حسّان الزيادي، 2_ وبشر بن وليد الكندي، 3_ وعليّ بن أبي مقاتل،

______________________

1 . تاريخ الطبري: ج 7، ص 198 و 199و 200، حوادث سنة 218.

( 441 )

4_والفضل بن غانم، 5_ والذيال بن الهيثم، 6_ وسجّادة، 7_ والقواريري، 8_ وأحمد بن حنبل، 9_وقتيبة، 10_ وسعدويه الواسطي، 11_ وعليّ بن الجعد، 12_ وإسحاق بن أبي إسرائيل، 13_ وابن الهرش، 14_ وابن عليّة الأكبر، 15_ ويحيى بن عبدالرحمان العمري، 16_ وشيخاً آخر من ولد عمر بن الخطّاب، كان قاضي الرقّة، 17_ وأبو نصر التمّار 18_ وأبو معمر القطيعي، 19_ ومحمّد بن حاتم بن ميمون، 20_ ومحمّدبن نوح المضروب، 21_ وابن الفرخان، 22_ والنّضر بن شميل، 23_ وابن عليّ بن عاصم، 24_وأبو العوام البزاز، 25_ وابن شجاع، 26_ وعبدالرّحمان بن إسحاق.

فقرأ عليهم رسالة المأمون مرّتين حتّى فهموه، ثمّ سأل كلّ واحد عن رأيه في خلق القرآن.

فنجد في الأجوبة عيّاً و غباوة، لا يتطلّبون الحقّ. و إليك نصّ محاورة إسحاق مع بعض هؤلاء.

1 _ إسحاق بن إبراهيم، مخاطباً بشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟

بشر: القرآن كلام الله.

إسحاق: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو، قال الله: (خالق كلّ شيء) ما القرآن شيء؟

بشر: هو شيء.

إسحاق: فمخلوق ؟

بشر: ليس بخالق.

إسحاق: ليس أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟

بشر: ما أُحسن غير ما قلتُ لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين أن لا

أتكلّم فيه، وليس عندي غير ما قلت لك.

محاورته مع عليّ بن أبي مقاتل

إسحاق بن إبراهيم: القرآن مخلوق؟

( 442 )

عليّ بن أبي مقاتل: القرآن كلام الله.

إسحاق: لم أسألك عن هذا.

ابن أبي مقاتل: هو كلام الله.

محاورته مع أبي حسّان الزيادي

إسحاق: القرآن مخلوق هو؟

أبو حسّان: القرآن كلام الله، والله خالق كلّ شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا و بسببه سمعنا عامّة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلّده الله أمرنا، فصار يقيم حجّنا وصلاتنا و نؤدّي إليه زكاة أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته إمامة، وإن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا.

إسحاق: القرآن مخلوق هو؟

أبو حسّان: (أعاد كلامه السابق).

إسحاق: إنّ هذه مقالة أمير المؤمنين.

أبو حسّان: قد تكون مقالة أمير المؤمنين و لا يأمر بها الناس ولا يدعوهم إليها، وإن أخبرتني أنّ أمير المؤمنين أمرك أن أقول، قلت ما أمرتني به، فإنّك الثقة المأمون عليه فيما أبلغتني عنه من شيء فإن أبلغتني عنه بشيء صرت إليه.

إسحاق: ما أمرني أن أبلغك شيئاً.

قال «علي بن أبي مقاتل: قد يكون قوله كاختلاف أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في الفرائض و المواريث، ولم يحملوا النّاس عليها».

أبو حسّان: ما عندي إلاّ السّمع والطاعة، فمرني أئتمر.

إسحاق: ما أمرني أن آمرك و إنّما أمرني أن أمتحنك.

محاورته مع أحمد حنبل إسحاق: ما تقول في القرآن؟

( 443 )

أحمد: هو كلام الله.

إسحاق: أمخلوق هو؟

أحمد: هو كلام الله، لا أزيد عليها.

إسحاق: (قرأ عليه رقعة و فيها: أشهد أن لا إله إلاّ الله أحداً فرداً لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه). فلمّا أتى إسحاق

إلى قوله: «ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير»(1)، وأمسك عن قوله: «لا يشبهه شيء، من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه»، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر(2) فقال: أصلحك الله، إنّه (أحمد) يقول: سميع من اذن، بصير من عين.

فقال إسحاق: ما معنى قوله سميع بصير؟

أحمد: هو كما وصف نفسه.

إسحاق: فما معناه؟

أحمد: لا أدري، هو كما وصف نفسه.

ثمّ إنّ إسحاق دعا بهم رجلاً رجلاً، كلّهم يقولون: القرآن كلام الله إلاّ هؤلاء النفر: قتيبة وعبيد الله بن محمّد بن الحسن، وابن علية الأكبر، وابن البكاء، وعبدالمنعم بن إدريس، والمظفّر بن مرجا، ورجلاً ضريراً ليس من أهل الفقه ولا يعرف بشيء منه إلاّ أنّه دسّ في ذلك الموضع، ورجلاً من ولد عمر بن الخطّاب قاضي الرّقة، وابن الأحمر. فأمّا ابن البكاء الأكبر فإنّه قال: القرآن مجعول لقول الله تعالى: (إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً) والقرآن محدث لقوله: (ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث).

قال له إسحاق: فالمجعول مخلوق؟

قال: نعم.

______________________

1 . سقط قوله: «ليس كمثله شيء وهو السميع البصير» من الرقعة التي نقلها ص200 و لكن نقله ص201.

2 . في المصدر «أصغر» والصحيح ما أثبتناه.

( 444 )

قال إسحاق: فالقرآن مخلوق؟

قال: لا أقول مخلوق، ولكنّه مجعول، فكتب مقالته.

فلمّا فرغ من امتحان القوم و كتبت مقالاتهم رجلاً رجلاً و وجّهت إلى المأمون، فمكث القوم تسعة أيّام ثمّ دعا بهم وقد ورد كتاب المأمون جواب كتاب إسحاق بن إبراهيم في أمر هؤلاء.

الرسالة الرابعة للمأمون إلى إسحاق

كتب المأمون في جواب رسالته كتاباً مفصّلاً نأخذ منها مايلي:

«أمّا بعد فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك، جوابَ كتابه كان إليك فيما ذهب إليه متصنّعة أهل القبلة و ملتمسو الرِّئاسة فيما ليسوا له بأهل من

أهل الملّة من القول في القرآن و أمرك به أمير المؤمنين من امتحانهم و تكشيف أحوالهم و إحلالهم محالّهم».

ثمّ تكلّم المأمون في حقِّ الممتنعين عن الاعتراف بكون القرآن مخلوقاً و الرِّسالة مفصّلة(1) والملفَت للنّظر فيها أمران:

الأوّل: أمر المأمون رئيس الشّرطة بضرب عنق بشر بن الوليد، وإبراهيم المهدي إذا لم يتوبا بعد الاستتابة، وحمل الباقين موثّقين إلى عسكر أمير المؤمنين و تسليمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه لينصّهم أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا و يتوبوا حملهم جميعاً على السّيف.

الثاني: تذكّر بعض أفعال الممتنعين بالاعتراف بخلق القرآن، بوجه يعرب أنّهم لم يكونوا أهل صلاح و فلاح، بل كانوا من مقترفي المعاصي نقتطف منها مايلي:

«وأمّا الذيّال بن الهيثم فأعلمه أنّه كان فى الطّعام الّذي كان يسرقه في الأنبار، وفيما يستوي عليه من أمر مدينة أمير المؤمنين أبي العبّاس ما يشغله و أنّه لو كان مقتفياً

______________________

1 . لاحظ تاريخ الطبري 7: 202_ 203.

( 445 )

آثار سلفه و سالكاً مناهجهم و مهتدياً سبيلهم لما خرج إلى الشرّك بعد إيمانه.

وأمّا أحمد بن حنبل و ما تكتب عنه فاعلمه أنّ أمير المؤمنين قد عرف فحوى تلك المقالة وسبيله فيها و استدلّ على جهله و آفته بها.

وأمّا الفضل بن غانم فأعلمه أنّه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر، وما اكتسب من الأموال في أقلّ من سنة، وما شجر بينه و بين المطّلب بن عبدالله في ذلك، فإنّه من كان شأنُه شأنَه، وكانت رغبته في الدّنيا و الدِّرهم رغبته فليس بمستنكر أن يبيع إيمانه طمعاً فيهما و ايثاراً لعاجل نفعهما.

وأمّا الزّيادي فأعلمه أنّه كان منتحلاً، ولا أوّل دعيّ كان في الإسلام خولف فيه حكم رسول الله وكان جديراً أن يسلك مسلكه.

وأمّا

الفضل بن الفرخان فأعلمه أنّه حاول بالقول الّذي قاله في القرآن أخذ الودائع الّتي أودعها إيّاه عبدالرّحمان بن إسحاق و غيره تربّصاً بمن استودعه و طمعاً في الاستكثار لما صار في يده ولا سبيل عليه عن تقادم عهده و تطاول الأيّام به.

وأمّا محمد بن حاتم وابن نوح والمعروف بأبي معمر فأعلمهم أنّهم مشاغيل بأكل الرّبا عن الوقوف على التوحيد، وإنّ أمير المؤمنين لو لم يستحلّ محاربتهم في الله ومجاهدتهم إلا لإربائهم و ما نزل به كتاب الله في أمثالهم لاستحلّ ذلك، فكيف بهم وقد جمعوا مع الإرباء شركاً و صاروا للنصارى مثلاً».

ثمّ وقّع في الوقيعة في كلّ واحد من الممتنعين ما يشمئزّ القلم من نقله، فلو كانت تلك النّسب على وجهها فويل لهم مما كسبت أيديهم من عظائم المحرّمات و ما كسبت قلوبهم من الشِّرك (1).

فلمّا وصل كتاب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم دعا القوم و قرأ عليهم كتاب المأمون، فأجاب القوم الممتنعون كلّهم، واعترفوا بأنّ القرآن مخلوق إلاّ أربعة نفر منهم

______________________

1 . تاريخ الطبري: 7/ 203_ 204.

( 446 )

أحمد بن حنبل، وسجادة، والقواريري، ومحمّد بن نوح المضروب، فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشدّوا في الحديد. فلمّا كان من الغد دعا بهم جميعاً يساقون في الحديد فأعاد عليهم المحنة فأجابه سجادة إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر باطلاق قيده و خلّى سبيله وأصرّ الآخرون على قولهم.

فلمّا كان من بعد الغد عاودهم أيضاً فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريري إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده و خلّى سبيله، و أصرّ أحمد بن حنبل و محمّد بن نوح على قولهما ولم يرجعا فشدّا جميعاً في الحديد و وجِّها إلى طرسوس و كتب معهما كتاباً بإشخاصهما.

ثمّ لمّا اعترض على

الرّاجعين من عقيدتهم برّروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حيث أكره على الشِّرك و قلبه مطمئنّ بالإيمان(1) و قد كُتب تأويلهم إلى المأمون، فلأجل ذلك ورد كتاب مأمون بأنّه قد فهم أمير المؤمنين ما أجاب القوم إليه، وأنّ بشر بن الوليد تأوّل الآية الّتي أنزل الله تعالى في عمّار بن ياسر وقد أخطأ التّأويل إنّما عني الله عزّوجلّ بهذه الآية من كان معتقد الإيمان مظهر الشرك، فأمّا من كان معتقد الشِّرك مظهر الإيمان فليس هذه له، فأشخصهم جميعاً إلى طرسوس ليقيموا بها إلى خروج أمير المؤمنين من بلاد الرّوم.

فأخذ إسحاق بن إبراهيم من القوم الكفلاء ليوافوا بالعسكر بطرسوس، فأشخص كلّ من ذكرنا أسماءهم، فلمّا صاروا إلى الرّقة بلغتهم وفاة المأمون، فأمر بهم عنبسة بن إسحاق _ وهو والي الرقة _ إلى أن يصيروا إلى الرقة، ثمّ أشخصهم إلى إسحاق بن إبراهيم بمدينة السّلام (بغداد) مع الرّسول المتوجّه بهم إلى أمير المؤمنين، فسلّمهم إليه فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم ثمّ رخّص لهم ذلك في الخروج(2).

وما ذكرناه هو خلاصة محنة أحمد و من كان على فكرته في زمن المأمون وليس فيه

______________________

1 . إشارة الى قوله سبحانه (إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) (النمل / 106).

2 . تاريخ الطبري: ج 7، ص 195 إلى 206 بتلخيص منّا.

( 447 )

إلاّ إشخاص أحمد و محمّد بن نوح موثّقين في الحديد إلى طرسوس و إشخاص غيرهما مطلقين، ولمّا بلغهم وفاة المأمون رجعوا من الرقّة ولم يسيروا إلى طرسوس.

هذا وقد ذكر القصّة اليعقوبي بصورة مختصرة و قال:

«وصار المأمون إلى دمشق سنة (218ه_) و امتحن النّاس في العدل والتّوحيد وكتب في إشخاص الفقهاء من العراق و غيرها فامتحنهم في خلق القرآن و أكفر من

امتنع أن يقول _ : القرآن غير مخلوق، وكتب أن لا تقبل شهادته، فقال كلّ بذلك إلاّ نفراً يسيراً»(1).

هذا تفصيل المحنة أيّام المأمون، وأمّا ما وقع في أيّام الخليفتين: المعتصم والواثق، فسيوافيك بيانه بعد تعليقتنا.

تعليق على محنة خلق القرآن

إنّ هنا أُموراً لا بدّ من الإلفات إليها:

1 _ لم يظهر من كتب الخليفة إلى صاحب الشّرطة وجه إصراره على أخذ الاعتراف من المحدِّثين بخلق القرآن. فهل كان الحافز إخلاصه للتوحيد، وصموده أمام الشِّرك، أو كان هناك مرمى آخر لإثارة هذه المباحث، حتّى ينصرف المفكِّرون بسبب الاشتغال بهذه المباحث عن نقد أفعالهم و انحرافاتهم، وبالتّالي إيقاف الثّورة أو إضمارها. فإنّ القلوب إذا اشتغلت بشيء، منعت عن الاشتغال بشيء آخر.

2 _ لو كانت الرِّسالة مكتوبة بيد الخليفة أو باملائه، فهي تحكي عن عمق تفكيره في المباحث الكلاميّة، وإحاطته بأكثر الايات وقد جاء في المقام بأسدِّ الدّلائل و أتقنها، حيث استدلّ تارة بتعلّق الجعل بالقرآن، وأُخرى باحاطة اللّوح المحفوظ به، ولا يحاط إلاّ بمخلوق، وثالثة بتوصيفه ب_ «محدث»، و رابعة بتوصيفه بصفات كلّها صفات

______________________

1 . تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 468، ط دار صادر.

( 448 )

المخلوق من تعلّق النّزول به ونهي النّبي عن العجلة بقراءته، والدّعوة إلى الاتيان بمثله، وأنّ له أماماً و خلفاً، إلى غير ذلك.

3 _ إنّ الرِّسالة كشفت القناع عن السّبب الّذي أدخل هذه المسألة في أوساط المسلمين، وقال: «إنّ القائلين بقدم القرآن يضاهئون قول النّصارى في أنّ المسيح كلمة وليس بمخلوق»، وهو يعرب عن أنّ الفكرة دخلت إلى أوساط المسلمين بسبب احتكاك المسلمين بهم. وما يقال من أنّ اليهود هم المصدر لدخول هذه الفكرة بينهم غير تامّ والمأمون أعرف بمصدر هذه الفكرة.

4 _ لو

صحّ ما ذكره الطّبري من صورة المحاورة الّتي دارت بين رئيس الشّرطة والمحدِّثين، فإنّه يكشف عن جمود المجيبين و عيّهم في الجواب، فإنّهم اتّفقوا على أنّ القرآن ليس بخالق، ولكنّهم امتنعوا عن الاعتراف بأنّه مخلوق، وبالتّالي جعلوا واسطة بين الخالق والمخلوق أو بين النّفي والاثبات، وهو كما ترى.

ولو كان عذرهم في عدم الاعتراف بأنّ القرآن مخلوق، هو الخوف من أن يكون هذا الاعتراف ذريعة للملاحدة حتّى ينسبوا إلى المسلمين بأنّهم يقولون إنّ القرآن مخلوق أي مختلق و مزوّر أو مخلوق للبشر، فيمكن التخلّص منه بالتّصريح بأنّه مخلوق لله سبحانه لاغير، والله هو خالقه و جاعله ليس غير.

5 _ لا شكّ أنّ عمل الخليفة كان أشبه بعمل محاكم التّفتيش في القرون الوسطى حيث كان البابا والبطارقة والقساوسة، يتحرّون عقائد الناس لا سيّما المكتشفين أمثال غاليلو، وكان ذلك و صمة عار على حياة الخليفة و بالتّالي على المعتزلة الّذين كان الخليفة يلعب بحبالهم، ويلحقهم وزر أعماله، وما يترك في المجتمع من ردّ فعل سيّىء. ومن المعلوم أنّ أخذ الاعتراف بكون القرآن مخلوقاً في جوّ رهيب، لا يوافق تعاليم المعتزلة، كما لا يوافق تعاليم الإسلام، على أنّه لا قيمة لهذا الاعتراف عند العقل و النّقل فكيف رضي القوم بهذا العمل.

6 _ العجب من تلوّن الخليفة في قضائه في حقّ الممتنعين عن الاعتراف بخلق

( 449 )

القرآن، فيرى أنّ بشر بن الوليد، وإبراهيم المهدي مستحقّان لضرب العنق إذا استتيبا ولم يتوبا، والباقين مستحقّون للإشخاص إلى عسكره، مع أنّ الجرم واحد، والكلّ كانوا محدِّثين فهماء، ولم يكن الأوّلان قائدي الشرك، والباقون مقتفيه. فلو كان القول بعدم خلق القرآن أو قدمه موجباً للردّة والرجوع إلى الشرّك فالحكم الإلهي هو القتل وإلاّ فلا،

وهذا يعرب عن أنّ جهاز القضاء كان أداة طيّعة بأيدي الخلفاء، يستغلّونه حسب أهوائهم.

7 _ إنّ محنة القائلين بعدم خلق القرآن، تمّت في زمن الخليفة المأمون بالإشخاص والإبعاد من دار السّلام إلى طرسوس. غير أنّ التأريخ يذكر إشخاص اثنين موثّقين إلى عسكر الخليفة، وإشخاص الباقين بلا قيود ولا ضرب ولا قتل إلى الخليفة. ولم يحدّث التاريخ هنا عن ضرب وقتل.

ولكنّ المحنة لم تنته بموت المأمون، بل استمرّت في خلافة أخيه المعتصم، فالواثق ابنه ولكن بصورة سيّئة، حدث عنها التّاريخ.

قضى المأمون نحبه وجاء بعده أخوه المعتصم (218 _ 227ه_) فضيّق الأمر على القائلين بعدم خلق القرآن.

يقول اليعقوبي: «وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن، فقال أحمد: أنا رجل علمت علماً ولم أعلم فيه بهذا، فأحضر له الفقهاء و ناظره عبدالرّحمان بن إسحاق و غيره، فامتنع أن يقول إنّ القرآن مخلوق، فضرب عدّة سياط. فقال إسحاق بن إبراهيم: ولِّني يا أمير المؤمنين مناظرته فقال: شأنك به.

إسحاق بن ابراهيم: هذا العلم الّذي علمته نزل به عليك ملك أو علمته من الرجال؟

ابن حنبل: علمته من الرِّجال.

إسحاق: علمته شيئاً بعد شيء أو جملة؟

ابن حنبل: علمته شيئاً بعد شيء.

( 450 )

إسحاق: فبقي عليك شيء لم تعلمه؟

ابن حنبل: بقي عليّ.

إسحاق: فهذا ممّا لم تعلمه وقد علّمكه أمير المؤمنين.

ابن حنبل: فإنّي أقول بقول أمير المؤمنين.

إسحاق: في خلق القرآن؟

ابن حنبل: في خلق القرآن.

فأشهد عليه وخلع عليه و أطلقه إلى منزله(1).

هذا ما كتبه ذلك المؤرخ المتوفّى (عام 290ه_).

وأمّا الطبري فلم يذكر في حياة المعتصم ما يرجع إلى مسألة خلق القرآن.

وقال المسعودي: «وفيها (سنة 219ه_) ضرب المعتصم أحمد بن حنبل ثمانية وثلاثين سوطاً ليقول بخلق القرآن»(2).

نعم ذكر الجزري في كامله في حوادث سنة (219ه_) و

قال: «وفيها أحضر المعتصم أحمد بن حنبل و امتحنه بالقرآن، فلم يجب إلى القول بخلقه، فأمر به فجلد جلداً عظيماً حتّى غاب عقله و تقطّع جلده و حبس مقيّداً»(3).

وروى الجاحظ أنّه لم يكن في مجلس الامتحان ضيق، ولا كانت حاله حالاً مؤيساً، ولا كان مثقّلاً بالحديد، ولا خلع قلبه بشدّة الوعيد، ولقد كان ينازع بألين الكلام ويجيب بأغلظ الجواب و يرزنون و يخفّ و يحلمون و يطيش»(4).

هذا ولكن المتحيّزين إلى الحنابلة يذكرون المحنة بشكل فظيع. هذا أبو زهرة قد لخّص مقالهم بقوله:

«وقد تبيّن أنّ أحمد بن حنبل كان مقيّداً مسوقاً عند ما مات المأمون، فأُعيد إلى

______________________

1 . تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 472.

2 . مروج الذهب: 3/464 ط دار الاندلس.

3 . الكامل، ج 5، ص 233.

4 . الفصول المختارة على هامش الكامل للمبرد: ج 2، ص 139.

( 451 )

السجن ببغداد حتّى يصدر في شأنه أمر، ثمّ سيق إلى المعتصم و اتّخذت معه ذرايع الاغراء و الارهاب، فما أجدى في حمله ترغيب و لا ترهيب، فلمّ_ا لم يجد القول رغباً و رهباً، نفّذوا الوعيد فأخذوا يضربونه بالسياط، المرّة بعد الأُخرى، ولم يترك في كلِّ مرّة حتّى يغمى عليه و ينخس بالسيف فلا يحسّ. فتكرّر ذلك مع حبسه نحواً من ثمانية وعشرين شهراً فلمّا استيأسوا منه و ثارت في نفوسهم بعض نوازع الرّحمة أطلقوا سراحه وأعادوه إلى بيته وقد أثخنه الجراح و أثقله الضّرب المبرح المتوالي والالقاء في غيابات السِّجن»(1).

وليس لما ذكره أبو زهرة مصدر سوى «مناقب الامام أحمد بن حنبل» للحافظ أبي الفرج عبدالرّحمان بن الجوزي ومن تبعه مثل الحافظ ابن كثير في «البداية و النهاية»(2).

والنّاظر في هذين الكتابين يرى تحيّزهما لأحمد بن حنبل و أنّهما

يريدان نحت الفضائل له و عند ما قصرت أيديهما عنها لجأوا إلى المنامات، فلا يمكن الاعتماد عليهما فيما يرويان من التّفاصيل في هذه المحنة. وقد عرفت التضارب في التاريخ بين قائل بأنّ أحمد رجع عن رأيه أثناء الضّرب كاليعقوبي، وقائل بأنّه بقي على إنكاره.

محنة خلق القرآن والواثق

قضى المعتصم نحبه و خلفه ابنه الواثق (223 _ 227ه_)(3) وكان للمعتزلة في عصره قوّة و قدرة و نشاط و سيطرة.

قال اليعقوبي: «وامتحن الواثق النّاس في خلق القرآن فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان و أن لا يجيزوا إلاّ شهادة من قال بالتوحيد، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً»(4).

______________________

1 . ابن حنبل _ حياته وعصره _ أبو زهرة، ص 65.

2 . البداية والنهاية، ج 10، ص 230 الى 343.

3 . البداية والنهاية: ج 10، ص 297.

4 . تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 482.

( 452 )

يقول الحافظ ابن كثير:

«وأمر الواثق بامتحان الأسارى الّذين فودوا من أسر الفرنج، بالقول بخلق القرآن و أنّ الله لا يرى في الآخرة، فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأنّ الله لا يرى في الآخرة فودى و إلاّ ترك في أيدي الكفّار. وهذه بدعة صلعاء، شنعاء، عمياء، صمّاء لا مستند لها من كتاب ولا سنّة ولا عقل صحيح»(1).

ولكن تحيّز ابن كثير للحنابلة و أصحاب القول بعدم خلق القرآن واضح في كتابه. فالاعتماد على ما ينقل من المحنة في حقِّ الحنابلة إن لم تؤيّده سائر الآثار مشكل، وبما أنّ في الكتاب، مغالاة في الفضائل، و محاولة لجعله اسطورة في التّأريخ بنقول مختلفة، نكتفي بما يذكره الطبري في المقام.

يقول: «إنّ مالك بن هيثم الخزاعي كان أحد نقباء بني العبّاس، وكان حفيده أحمد بن نصر بن

مالك، يغشاه أصحاب الحديث كيحيى بن معين و ابن الدورقي و ابن خيثمة، وكان يظهر المباينة لمن يقول: القرآن مخلوق، مع منزلة أبيه من السّلطان في دولة بني العبّاس، ويبسط لسانه فيمن يقول ذلك مع غلظة الواثق على من يقول ذلك. فحرّك أصحاب الحديث و كلّ من ينكر القول بخلق القرآن أحمد بن نصر و حملوه على الحركة لانكار القول بخلق القرآن، والغاية من هذه الحركة، الثورة في بغداد على الخليفة الواثق، وخلعه من الخلافة، غير أنّ هذه المحاولة فشلت فأخذوا و حملوا إلى سامراء، الّتي كانت مقرّاً للواثق، فحضر القوم واجتمعوا عنده، فلمّا اُتي بأحمد بن نصر قال له: ياأحمد ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله، قال أفمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله، قال:فما تقول في ربِّك أتراه يوم القيامة؟ قال: يا أمير المؤمنين جاءت الآثار عن رسول الله أنّه قال: ترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فنحن على الخبر.

فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟ فقال عبدالرحمان بن إسحاق: يا أمير

______________________

1 . البداية والنهاية: ج 10، ص 307.

( 453 )

المؤمنين هو حلال الدم. وقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، كافر يستتاب لعلّ به عاهة، أو تغيّر عقليّ، فقال الواثق، إذا رأيتموني قد قمت إليه فلا يقومنّ أحد معي، فإنّي أحتسب خطاي إليه، ودعا بالصمصامة، سيف عمرو بن معديكرب، فمشى إليه وهو في وسط الدّار، ودعا بنطع فصير في وسطه حبل فشدّ رأسه، ومدّ الحبل، فضربه الواثق ضربة، فوقعت على حبل العاتق، ثمّ ضربه أُخرى على رأسه، ثمّ انتضى سيما الدمشقي سيفه، فضرب عنقه و حزّ رأسه»(1).

هذه خلاصة القصّة. ومن المعلوم أنّ هذه القسوة من الخليفة كانت

مبرّرة عنده، لا لأجل قوله بخلق القرآن و رؤية الله، بل لما قام به من الثّورة عليه.

ويقول أيضاً: «أمر الواثق بامتحان أهل الثّغور في القرآن، فقالوا بخلقه جميعاً إلاّ أربعة نفر، فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يقولوه»(2).

وقام الواثق بنفس العمل الّذي قام به أبوه في امتحان أسرى المسلمين، فمن قال إنّ القرآن مخلوق فودي به، ومن أبى ذلك ترك في أيدي الرّوم و أمر لطالب بخمسة آلاف درهم، وأمر أن يعطوا جميع من قال إنّ القرآن مخلوق ممن فودي به ديناراً لكلِّ إنسان من مال حمل معهم(3).

وكانت المحنة مستمرّة، والضيق على أصحاب القول بعدم خلق القرآن متواصلاً إلى أن وافاه الأجل ومات الواثق عام 232.

وقد اتّفقت كلمة أهل السّير على أنّ الخلفاء كانوا يلعبون بحبال عدّة من المعتزلة الّذين كسبوا منزلة عظيمة لدى الخلفاء، وهم ثمامة بن أشرس و أحمد بن أبي دؤاد الزيّات و غيرهم. وبموت الخليفة و تسنّم ابنه المتوكّل على الخلافة، غاب نجم المعتزلة و انحدروا من الأوج إلى الحضيض و من العزِّ إلى الذّلّة، وإليك هذا القسم من التّاريخ.

______________________

1 . تاريخ الطبري: ج 7، حوادث سنة 231، ص 328، 329.

2 . المصدر السابق: ص 331.

3 . المصدر السابق: ص 332.

( 454 )

قصّة المحنة و خلافة المتوكّل

قضى الواثق نحبه و قام مقامه المتوكّل و أمر الناس بترك النظر و البحث والجدال و ترك ما كانوا عليه في أيّام الخلفاء الثلاث: المأمون و المعتصم والواثق، وأمر شيخ المحدِّثين بالتحديث و إظهار السنّة(1).

قال اليعقوبي: «نهى المتوكِّل النّاس عن الكلام في القرآن و أطلق من كان في السّجون من أهل البلدان، ومن أخذ في خلافة الواثق، فخلاّهم جميعاً و كساهم، وكتب إلى الآفاق كتباً

ينهي عن المناظرة و الجدل»(2).

هذه هي الضّربة الأُولى الّتي وجّهها المتوكِّل إلى المعتزلة، وأقفل باب البحث والمناظرة الّذي كان لصالح المعتزلة على ضدِّ أهل الحديث، حيث كان المعتزلة يتفوّقون على خصمائهم في مجال النِّقاش. ومع ذلك كلّه لم يكن ذلك ضربة قاضية لنظام الاعتزال، ولأجل ذلك لم يعزل أحمد بن دؤاد عن قضاء القضاة ولا عن مظالم العسكر، بل أبقاه على منصبه إلى أن عجز عن القيام بالعمل لإصابته بالفالج عام 233 و اختار بعده ولده محمّد بن أحمد.

يقول الخطيب: «فلمّا فلج أحمد بن أبي دؤاد في جمادي الآخرة سنة 233 ... ولّى المتوكِّل ابنه محمّد بن أحمد أبا الوليد القضاء و مظالم العسكر مكان أبيه»(3).

ومن المعلوم أن أحمد بن أبي دؤاد هو العامل المؤثِّر في دعوة الخلفاء على ضدِّ أهل الحديث القائلين بقدم القرآن أو كونه غير مخلوق.

ويظهر من ابن الجوزي في كتاب مناقب الإمام أحمد أنّ المتوكِّل وجّه إلى المعتزلة ضربة ثانية مؤثِّرة في إبعادهم عن ساحة المساجد والمدارس وإشخاص أهل الحديث

______________________

1 . مروج الذهب: ج 4، ص 1.

2 . تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 484 _ 485.

3 . تاريخ بغداد: ج 1، ص 298.

( 455 )

ودعوتهم إليها. يقول: «في سنة 234 أشخص المتوكِّل الفقهاء و المحدِّثين، وأمرهم أن يجلسوا للنّاس و أن يحدِّثوا بالأحاديث فيها الردّ على المعتزلة والجهميّة، وأن يحدِّثوا في الرّؤية، فجلس عثمان بن أبي شيبة فى مدينة المنصور، ووضع له منبر و اجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً من الناس، وجلس أبوبكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة و اجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً»(1).

والتّاريخ يعرب عن شدّة تفاقم أمر المعتزلة سنة بعد سنة وانجذاب المتوكِّل إلى أهل الحديث،

وتخطئة عمل أبيه الواثق، حيث إنّ أباه قتل بسيفه أحمد بن نصر لأجل قوله بعدم خلق القرآن وصلبه و كانت جثّته باقية على الصّليب إلى عام 237، ولكنّ المتوكِّل أمر بإنزال جثّته وهو نوع تخطئة لعمل أبيه أوّلاً، وإمضاء لمنهج أهل الحديث ثانياً.

يقول الطبري: «وقد كان المتوكِّل لمّا أفضت إليه الخلافة، نهى عن الجدال في القرآن وغيره، ونفذت كتبه بذلك إلى الآفاق، وهمّ بإنزال أحمد بن نصر عن خشبته، فاجتمع الغوغاء و الرّعاع إلى موضع تلك الخشبة و كثروا و تكلّموا، فبلغ ذلك المتوكّل، فوجّه إليهم نصربن اللّيث، فأخذ منهم نحواً من عشرين رجلاً فضربهم و حبسهم، وترك إنزال جثّة أحمد بن نصر من خشبته لما بلغه من تكثير العامّة في أمره، وبقي الّذين أُخِذوا بسببه في الحبس حيناً ... فلمّا دفع بدنه إلى أوليائه في الوقت الّذي ذكرت، حمله ابن أخيه موسى إلى (بغداد) وغسل ودفن و ضمّ رأسه إلى بدنه»(2).

ومع ذلك لم يكتف في قطع جذور المعتزلة عن بلاطه و صار بصدد الانتقام من آل ابن أبي دؤاد. يقول الطبري: «وفي سنة 237 غضب المتوكِّل على ابن أبي دؤاد و أمر بالتّوكيل على ضياع أحمد بن أبي دؤاد لخمس بقين من صفر، وحبس يوم السبت لثلاث خلون من شهر ربيع الأوّل ابنه أبا الوليد محمّد بن أحمد بن أبي دؤاد في ديوان الخراج

______________________

1 . مناقب الامام أحمد: ص 375 _ 385.

2 . تاريخ الطبري: ج 7، حوادث سنة 237، ص 368 _ 369.

( 456 )

وحبس إخوته عند عبيد الله بن السريّ خليفة صاحب الشرطة»(1).

والظّاهر من الخطيب في تاريخه أنّ عزل محمّد بن أحمد كان يوم الأربعاء بعشر بقين من صفر سنة 240 وصُدرت

أمواله، ومات أبو الوليد محمّد بن أحمد ببغداد في ذي القعدة سنة 240 ومات أبوه أحمد بعده بعشرين يوماً (2).

ثمّ إنّ إبعاد المعتزلة عن ساحة القدرة فسح للشعب إظهار حقده و إبداء كامل غيظه في مناسبات شتّى. منها ما عرفت عند إنزال جثّة أحمد بن نصر، ومنها ما فعلوه في تشييع جنازة أحمد بن حنبل، فقد شيّعه جماعة كثيرة و إن غالى ابن الجوزي _ كما هو شأنه _ في حقِّ إمامه وقال: «وعن بعض الشهود أنّه مكث طول الأسبوع رجاء أن يصل إلى القبر فلم يتمكّن إلاّ بشقِّ النّفس لكثرة ازدحام النّاس عليه»(3). وأخذ الشعراء يهجون المعتزلة. يقول شاعرهم:

أفلت سعود نجومك ابن دؤاد * و بدتْ نحوسك في جميع إياد

فرحت بمصرعك البريّة كلّها * من كان منها موقتاً بمعاد

كم من كريمة معشر أرملتَها * و محدِّث أوثقتَ بالأقيادِ

كم مجلس لله قد عطّلتَه * كيلا يحدّث فيه بالاسناد

كم من مساجد قد منعتَ قضاتها * من أن يعدّل شاهد برشاد

كم من مصابيح لها أطفأتها * كيما تزلّ عن الطّريق الهادي(4)

وأخذ أهل الحديث يجلسون في المساجد و يروون الأحاديث ضدّ الاعتزال ويكفّرون المعتزلة. سأل أحدهم أحمد بن حنبل عمّن يقول إنّ القرآن مخلوق، فقال: كافر. قال: فابن دؤاد؟ قال كافر بالله العظيم(5).

______________________

1 . تاريخ الطبري: ج 7، حوادث سنة 237، ص 367 _ 368.

2 . تاريخ بغداد: ج 1، ص 298، ولاحظ الكامل لابن الاثير ج 5، حوادث سنة240، ص 294.

3 . مناقب الامام أحمد: ص 418.

4 . تاريخ بغداد: ج 4، ص 155.

5 . تاريخ بغداد: ج 3، ص 285.

( 457 )

عند ذلك شعرت المعتزلة بأنّ الظّروف قاسية و أنّ السّلطة والأكثريّة الساحقة من أهل السنّة

يريدون أن يقضوا عليهم و يشفوا غيظ صدورهم منهم، ومع ذلك كلّه كانت عندهم طاقة يردّون بها عن أنفسهم الّتي رشقوا بها و يتمسّكون بكلِّ طحلب وحشيش.فقام الجاحظ أحد أُدباء المعتزلة فألّف كتاباً باسم «فضيلة المعتزلة» فأثنى عليهم و عدّ فضائلهم وكان الكتاب من حيث الصياغة والتعبير بمكان توجّهت إليه أبصار الخاصة والعامّة، و بالتّالي ظهر عليه ردّ أو ردود، أشهرها ما كتبه أحمد بن يحيى الراوندي (م 345ه_) الّذي كان من المعتزلة، ثمّ رجع عنهم فألّف كتابه «فضيحة المعتزلة» ولم يبرح زمان حتّى جاء أبو الحسين عبدالرحمن بن محمّد بن عثمان الخيّاط فألّف «الانتصار» انتصر فيه للجاحظ على ابن الرّاوندي والموجود من هذه الكتب الثّلاثة هو الأخير.

ثمّ إنّ ممّا أعان على انقراضهم هو تشتّت مذاهبهم و فرقهم، فإنّ القوم تفرّقوا إلى مدرستين، مدرسة معتزلة بغداد و مدرسة معتزلة البصرة، ولم تكن حتّى في نفس كلِّ واحدة منهما وحدة في التّفكير، فصاروا فرقاً ينوف على العشرين و عند ذلك بلغوا الى درجة من الضّعف والانحلال، وإن كان ينجم بينهم رجال مفكّرون كأبي عليّ الجبائي (م303ه_) و ولده أبي هاشم (م321ه_).

وجاءت الضّربة الأخيرة من جانب أبي الحسن الأشعريّ الّذي كان ربيب أبي عليّ الجبّائي و تلميذه، ورجوعه عن الاعتزال بالتحاقه بأهل الحديث، فقد رقى في البصرة يوم الجمعة كرسيّاً و نادى بأعلى صوته: «من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا اعرّفه بنفسي أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأنّ الله لا تراه الأبصار، وأنّ أفعال الشّرّ أنا أفعلها و أنا تائب مقلع، معتقد للردّ على المعتزلة، مخرج لفضائحهم ومعايبهم»(1).

فقد كان لرجوع من كان من أكابر تلاميذ أبي عليّ الجبّائي أثر بارز في النّفوس

______________________

1

. فهرس ابن النديم، الفن الثالث من المقالة الخامسة ص 231، ووفيات الاعيان، ج 3، ص 275.

( 458 )

وبذلك أخذ الدهر يقلب عليهم ظهر المجنّ، تقلّب لجّة البحر بالسفن المشحونة والفلك المصنوعة، بين بالغ إلى ساحل النّجاة و هالك في أمواج الدّهر. هذا هو القادر بالله أحد خلفاء العبّاسيين قام في سنة (408ه_) بنفس العمل الّذي قامت به المعتزلة في عصر المعتصم والواثق. يقول الحافظ ابن كثير: «وفي سنة (408ه_)، استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتزلة فأظهروا الرّجوع و تبرّأوا من الاعتزال و الرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذت خطوطهم بذلك و أنّهم متى خالفوا أحلّ فيهم من النّكال والعقوبة ما يتّعظ به أمثالهم، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك واستنّ بسنّته في أعماله الّتي استخلفه عليها من بلاد خراسان و غيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيليّة والقرامطة والجهميّة والمشبّهة و صلبهم و حبسهم و نفاهم وأمر بلعنهم على المنابر وأبعد جميع طوائف أهل البدع و نفاهم عن ديارهم وصار ذلك سنّة في الإسلام» (1).

قال الخطيب: «وصنّف القادر بالله كتاباً في الأُصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث و أورد في كتابه فضائل عمر بن عبدالعزيز و إكفار المعتزلة و القائلين بخلق القرآن وكان الكتاب يقرأ كلّ جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي و يحضر النّاس سماعه»(2).

أقول: وهذا الكتاب هو المعروف «بالبيان القادري» وصار هذا الكتاب محوراً لتمييز الحقِّ عن الباطل و الصّحيح عن الزّائف.

وقال ابن الجزري في حوادث سنة (420ه_): «ولمّا ملك محمود بن سبكتكين الريّ.. نفى المعتزلة إلى خراسان و أحرق كتب الفلسفة و مذاهب الاعتزال والنّجوم و أخذ من الكتب ما سوى ذلك مائة حمل»(3).

______________________

1 .

البداية والنهاية: ج12 ص6.

2 . تاريخ بغداد: ج 4، ص 37 و 38.

3 . الكامل: ج 7، حوادث سنة 420.

( 459 )

وقال ابن كثير في حوادث سنة (456ه_) ناقلاً عن ابن الجوزي: «وفي يوم الجمعة ثاني عشر شعبان هجم قوم من أصحاب عبدالصمد على أبي عليّ بن الوليد المدرس للمعتزلة فسبّوه وشتموه لامتناعه من الصلاة في الجامع و تدريسه للنّاس بهذا المذهب و أهانوه و جرّوه ولعنت المعتزلة في جامع المنصور و جلس أبو سعيد بن أبي عمامة وجعل يلعن المعتزلة»(1).

وقال في حوادث سنة (477ه_): «إنّ أبا عليّ بن الوليد شيخ المعتزلة كان مدرّساً لهم فأنكر أهل السنّة عليه فلزم بيته خمسين سنة إلى أن توفّي في ذي الحجّة منها».

ويقول أيضاً في حوادث (461ه_): «وفيها نقمت الحنابلة على الشيخ أبي الوفاء عليّ بن عقيل وهو من كبرائهم بتردّده إلى أبي عليّ بن الوليد المتكلّم المعتزلي واتّهموه بالاعتزال»(2).

ويقول في حوادث سنة (465ه_): «وفي يوم الخميس حادي عشر المحرّم حضر إلى الديوان أبو الوفاء عليّ بن محمّد بن عقيل العقيلي الحنبلي وقد كتب على نفسه كتاباً يتضمّن توبته من الاعتزال»(3).

وبذلك حقّق التّاريخ السنّة المعروفة «كما تدين تدان» وأخذت الطّائفتان، الحنابلة والمعتزلة يتصارعان و يقتتلان قتال موت أو حياة، فصارالانتصار لأصحاب الحديث، والهلاك والاضطهاد للمعتزلة، فلم يظهر بعد هذه القرون إلاّ آحاد ينجمون في الفينة بعد الفينة والفترة بعد الفترة لا تجد لهم ذكراً بارزاً في ثنايا التاريخ.

إنّ تكامل الأُمم و بلوغها الذّروة من العظمة، ثمّ انحدارها إلى هاوية الضعف والانحلال سنّة إلهيّة قضى بها على جميع الأُمم، فلم يكن ارتقاء المعتزلة بلا سبب، كما أنّه لم يكن ضعفهم بلا علّة. فيجب على الباحث المتأمِّل في ثنايا القضايا

التّاريخية تحليل هذه الظاهرة تحليلاً علميّاً يوافق الأُصول المسلّمة في تحليل هذه المباحث.

______________________

1 . البداية والنهاية: الجزء 12، ص 91.

2 . المصدر نفسه: ص 98 و 105.

3 . المصدر نفسه: ص 98 و 105.

( 460 )

أقول: إنّ المعتزلة لم يسقطوا سياسيّاً فحسب، بل سقطوا فكريّاً، فلا تسمع بعد أبي هاشم الجبائي (م 321ه_) في القرن الرابع، وبعد القاضي عبدالجبّار (م 415ه_) في القرن الخامس، مفكّراً قويّاً في المسائل الكلاميّة، يوازي المتقدّمين منهم مثل أبي هذيل العلاّف، والنّظام. بل أكثر ما قام به المتأخّرون بعد القاضي لا يتجاوز عن تبيين المذهب و توضيح صياغته من دون تأسيس قاعدة أو أصل في المجالات الكلاميّة.

والظّاهر أنّه لم يكن لسقوطهم سبب واحد، بل يستند انحلالهم إلى أسباب متعدّدة أدّت بهم إلى الهلاك والدمار والانقراض إلاّ في نقاط خاصّة كاليمن و غيرها.

وها إليك بيان الأُمور الّتي سبّبت سقوطهم:

1 _ إنّ مذهب السنّة بمفهومه الحقيقي، يبتني على عدالة الصحابة أجمعين وإجلالهم، بل على تعديل السلف من التّابعين وتابعي التّابعين في الأقوال والأفعال، كيف وهؤلاء عند أهل السنّة عمد المذهب، الّتي قام عليها صرحه. وجرح واحد من الصّحابة أو ترك قوله، إخلال في الأساس، وهو ما لا يقبله المذهب بتاتاً. فلأجل ذلك ترى أنّ أهل السنّة، يقدِّسون السلف و يكسونهم حلية العدالة الّتي لا تقلُّ عن العصمة في حقِّ النّبي الأكرم والعترة الطاهرة _ عليهم السلام _ عندالشيعة. وما هذا إلاّ لأنّ المذهب مبنيّ على تلك الأُسس من أوّل يوم اجتمعوا فيه لاختيار خليفة للرّسول إلى يومنا هذا.

فمع أنّ كثيراً من المفكِّرين منهم يتلون كتاب الله الصّريح في التنديد ببعض الصحابة، و يقرأون الصحاح والمسانيد الصّريحة في ارتداد الكثير منهم بعد رحلة

النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ويقلبون التاريخ ظهر المِجنّ، فيشاهدون فيه موبقات بعض الصحابة وخداعهم و ضلالهم، مع ذلك كلِّه لا ينبسون فيهم ببنت شفة و يحكِّمون الأصل على هذه المعارف الصحيحة. وهذه قاصمة للمذهب السنّي بالمعنى الحقيقي. هذا من جانب.

ومن جانب آخر، إنّ المعتزلة كانوا منتمين لأهل السنّة، وفي الوقت نفسه كانوا

( 461 )

يعطون للعقل قسطاً أوفر و يقدِّمونه على النّصوص الواردة في الصِّحاح والمسانيد عن الصحابة والتابعين. مثلاً إنّ النّصوص النبويّة الّتي يرويها المحدِّثون من أهل السنّة تركِّز على التجسيم والرؤية والتشبيه والجبر وسلب الاختيار عن الإنسان، فمعنى كون الفرقة فرقة سنّية، تكريم هذه الأُصول والأحاديث وعدم الخروج عن خطوطها، ولكنّهم مع الانتماء واجهوا هذه النّصوص بشدّة و قسوة، فأخذوا يردّونها و يضربونها عرض الجدار، وهذان لا يجتمعان.

فكون الإنسان مقتفياً لمذهب أهل السنّة لا ينفكّ عن اقتفاء هذه الآثار و عدم التخطّي عنها، والثورة على هذه النّصوص، إمحاء لمذهب السنّة وهدم لأُسسه، فكيف يجتمعان. فلازم ذلك أنّهم صاروا يتبنّون مبدأين متناقضين يضربون بواحد منهما المبدأ الآخر.

فالحقّ أنّ التسنّن بالمعنى الصحيح هو ما كان عليه أحمد بن حنبل و نظراؤه من الجمود على الظواهر، والأخذ في الصفات الخبريّة بالمعنى الحرفي، و رفض العقل والبرهان في مجالي العقائد والأحكام، وترك التفكير والتعقّل في المعارف، وهذا هو الخطّ السنّي الحقيقيّ الّذي عليه و هّابية اليوم في نجد والحجاز، فمن أراد الانتماء إلى هذا المذهب، يجب أن يسلك هذا الطريق و يترك التفكّر والبرهنة في جميع المجالات، ومن جمع بينهما فقد جمع بين الضدّين والنقيضين.

إنّا نرى أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعريّ بعد ما تاب والتحق بالحنابلة، وحاول إثبات عقائد أهل الحديث بالبرهنة والدليل، قابله

إنكار شديد من قبل الحنابلة، ولأجل ذلك لم يترجموه في طبقاتهم ولا عدّوه من أنفسهم، بل استنكر «البر بهاري» رئيس حنابلة بغداد طريقته بأنّه يتجاوز في طرح الأُصول والعقائد عن النّصوص ويدخل في باب الدليل والبرهان، وقد صار ذلك سبباً لحدوث مخاصمة شديدة بين الحنابلة والأشاعرة على مدى القرون.

وقد عرفت في الجزء الثاني شكوى الأشاعرة من المتوسّمين بالحنبليّة، وما هذا إلاّ

( 462 )

لأنّ خطّ الحنابلة خطّ الرواية عن التّابعين والصحابة والاقتفاء بهم من دون أن يقيموا للعقل وزناً، وهذا على طرف النقيض من كتب الإمام الأشعري (سوى الابانة) وكتب أئمّة الأشاعرة، فإنّها مشحونة بالاستدلال العقليّ على العقائد وإن كان لصالح آراء أهل الحديث.

وفي ضوء ذلك تقف على أنّ موضع المعتزلة من المجتمع السنّي موضع الرقعة من اللّباس، فكانوا من أهل السنّة و يدّعون الانتماء إليهم، غير أنّ أهل السنّة لا يقبلونهم وهذا وحده يكفي في سقوطهم من أعين العامّة و أوساط الناس.

2 _ كان لأصحاب الحديث _ بما أنّهم حفظة السنّة و علماء الدين _ نفاذ عجيب في نفوس العامّة و كان ذلك كافياً في إثارة سخطهم على المعتزلة، لأنّهم ما زالوا يذكرونهم على صهوات المنابر وأندية الوعظ والإرشاد بالالحاد ورفض السنّة و مخالفة الدين، ولم تكن الوقيعة فيهم منحصرة بيوم أو شهر أو سنة، بل امتدّت طوال قرون في العواصم الإسلاميّة حتّى أيقن بسطاء الأُمّة بل علماؤهم بأنّ الاعتزال خروج على الدّين باسم الدّين ومحو للسنّة باسم البرهنة بالعقل. وكفى هذا في إبعاد المعتزلة عن ساحة المجتمع و إسقاطهم عن أعين النّاس والهجوم عليهم وعلى أموالهم إذا أتيحت للنّاس الفرصة و وافقت عليه السّلطة الحاكمة.

3 _ إنّ المعتزلة كانوا يتبنّون عقائد تخدش عواطف العامّة

بخلاف أهل الحديث، فقد كانوا يتبنّون ما يوافق أفكارهم و مصالحهم في الدّنيا و الآخرة، فأهل الحديث كانوا يدّعون بأنّ شفاعة الشّافعين تعمّ العادل والفاسق و أنّ رسول الله ادّخرها للمذنبين من أُمّته و مثل هذا يوجب التفاف عامّة الناس حول رايتهم، وهذا بخلاف ما يتبنّاه المعتزلة، فإنّهم يقولون بأنّها لا تشمل إلاّ صلحاء الأُمّة، والغرض منها رفع الدّرجة لاإمحاء الذّنوب. فأىُّ العقيدتين أولى بأن تتّبع عند عامّة النّاس؟

إنّ أهل الحديث يقولون بأنّ الخلود في النّار يختصّ بالكافر، والمؤمن وإن كان فاسقاً لا يخلّد و إن مات بلا توبة.

( 463 )

وهذا بخلاف ما يقوله المعتزلة من خلود مرتكبي الكبائر في النّار إذا ماتوا بلا توبة. فكان لفكرة أهل الحديث جاذبيّة تضمّ العامّة إليهم و هذا بخلاف ما تقوله المعتزلة.

4 _ إنّ نجم المعتزلة أفل بعد الواثق عند ما تسنّم المتوكِّل منصّة الخلافة، فعند ذلك صارت السلطة الحكوميّة سيفاً مصلتاً فوق رقابهم و شبحاً مرعباً يلاحقهم بعد ما كانت أداة طيّعة لهم، والنّاس على دين ملوكهم وسلاطينهم، ثمّ اشتدّ غضب الخلفاء عليهم على مرِّ الزمن، فصار ذلك سبباً لذبح المعتزلة تحت كلّ حجر و مدر، وقد استغلّ أهل الحديث والحنابلة غضب السّلطة على المعتزلة وقادوهم إلى الحدّ الّذي عرفت من النكاية.

5 _ إنّ المعتزلة قد اشتهروا بالقول بحريّة الفرد في أعماله و كانوا يدافعون عن حريّة الإنسان و احترام العقل، وهذا لا يجتمع مع ما ارتكبوه في أيّام الخلفاء الثلاث، فناقضوا بذلك أنفسهم و عارضوا تعاليمهم و أظهروا أنّهم لا يقدرون العقل حقّ قدره، فإذا كانت الحريّة تفرض على المعتزلة أن يدينوا بخلق القرآن، فهذا بنفسه يفرض عليهم أن لا يسوقوا النّاس بالجبر والحبس والضّرب على

الاعتراف بخلق القرآن، وغاية ما كان على المعتزلة تشكيل أندية الوعظ والارشاد والجدال الصحيح حتّى يتمّوا الحجّة على متحرّي الحقيقة أخذاً بقوله سبحانه: (اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِين)(1).

وأين هذا من الاصرار على تبديل السّرائر والحكومة على الضمائر و فرض العقيدة بالجبر والضّرب؟ «إنّ الحركة الفلسفيّة العلميّة الّتي بدأت تتقوّى و تنتشر بيد المعتزلة وأخذت تلقى أنصاراً و أعواناً، لو تركت تسير في مجراها الطبيعي، لاستطاعت أن تقضي على الرّوح الرجعية في الأُمّة على قوّتها و عنفها. ولكتب لها الفوز والنجاح، ولكنّ

______________________

1 . سورة النحل / 125.

( 464 )

المعتزلة استبقوا الزمن واستعجلوا الأُمور، فأرادوا في زمن دولتهم أن يحقِّقوا ما لا يتحقّق إلا بالاقناع، وأن ينجزوا في برهة و جيزة ما قد يتطلّب قروناً»(1).

6 _ إنّ صمود أحمد بن حنبل في طريق عقيدته أضفى له عند الأُمّة بطولة في طريق حفظ السنّة وجعل منه أُسطورة للدّفاع عن العقائد و قبول الاضطهاد في طريق الدّين ولمّا أفرج عنه التفّ النّاس حوله واندفعوا يحاربون أعداءه و يكيدون لهم، ولم يبرح في الإجهار على ضدّ المعتزلة و إثارة النّاس عليهم.

7 _ إنّ الرجعيّة كانت متأصّلة في نفوس العامّة، متحكّمة في كثير من العلماء وكانوا لا يرغبون في مخالفة السلف قدر شعرة، وهذا أوجب انتصار أهل الحديث على أهل العقل والاستدلال، وكان عمل المعتزلة مثيراً لروح التعصّب فيهم أزيد ممّا كانوا عليه، ولعلّهم كانوا يتقرّبون في ضربهم و شتمهم و قتلهم إلى الله.

8 _ وقد كان للشّيخ أبي الحسن الأشعري دور مؤثّر في تأليب العامّة و الخاصّة على المعتزلة، فإنّه كان معتزليّاً عارفاً

بسلاح العقل والمنطق. فقد رجع عن المعتزلة لأجل أنّه رأى الهوّة السحيقة بين أهل السنّة و أهل الاعتزال، فأراد أن يتّخذ طريقاً وسطاً بين المذهبين، ولكنّه بدلاً من أن يستعمل ذلك السِّلاح في نصرة الدّين قام بمقاومة الاعتزال وهدمه، ولم يفعل ذلك إلاّ مجاراة للرأي العامّ و طمعاً في كسب عطفهم و تأييدهم، وبالتالي خضع للقوى الرجعية إلى حدّ كبير، فأمضى كلّ ما كان عليه الحنابلة من مسألة القدر والرّؤية بحرفيتّها.

9 _ إنّ جنوح السّلطة إلى أصحاب الحديث من عصر المتوكِّل إلى آخر العبّاسيّين وتولّيهم عن المعتزلة دعاة العدل والتّوحيد، لم يكن خالياً عن الأهداف السياسيّة الّتي كانت لمصالح عروشهم وحكومتهم، لأنّ من مبادىء أهل الحديث وجوب إطاعة السّلطان الجائر و حرمة الخروج عليه و وجوب الصلاة خلف كلّ برّ وفاجر إلى غير ذلك من الأحكام الّتي ذكرها إمام الحنابلة في عقيدة أهل الحديث، ومن المعلوم أنّ هذا هو ما تتوخّاه السّلطة، فإنّ في ذلك دعماً لجورها و استبدادها.

وأين هذا من القول بالعدل والدعوة إلى التفكّر و وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و وجوب الخروج على السلطان الجائر و نصب الإمام العادل، إلى غير ذلك من الأُصول الّتي كانت المعتزلة تتبنّاه ولم تكن لصالح الحكومة.

هذا و ذاك صار سبباً لرجوع السّلطة إلى أهل الحديث و تقديمهم على المعتزلة.

10 _ إنّ للّه سبحانه سنّة في الأقوام و الأُمم عبّر عنها في الكتاب العزيز بقوله:

(وتلك الأيّام نداولها بين النّاس) (آل عمران/140) فلا ترى أُمّة في ذروة العزِّ دائماً ولا في حضيض الذلّ كذلك. نعم لتحقّق السنّة و تبلورها في المجتمع أسباب وعلل ربّما يكون ما ذكرنا من الأسباب بعضها.

______________________

1 . المعتزلة لحسن زهدي جار الله: ص

252.

( 465 )

2 _ الآثار الباقية من المعتزلة(1).

كان مشايخ الاعتزال و أئمّتهم ذوي قرائح خصبة، وكفاءات خاصّة في نضد القريض و ارتجال الخطب. فكان إلقاء الكلام على الوجه البليغ، المطابق لمقتضى الحال، أحد أسلحتهم الفتّاكة في باب المناظرة. ومن المحتمل أيضاً أنّ تسمية علم الكلام به لأنّ المعتزلة هم الأُسس لتدوين علم الكلام بين أهل السنّة، وبما أنّهم قد بلغوا الذّروة والسّنام في البلاغة والفصاحة و إلقاء الكلام، سمّيت صناعتهم بأوصافهم و خصوصيّاتهم، فأطلقوا على منهجهم الفكري لفظ الكلام و علمه. ويظهر ذلك من الرّجوع إلى تاريخ حياتهم، وقد عرفت أنّ واصل بن عطاء مع أنّه كان به لثغة بالرّاء ولكن كان يتجنّب عن الراء في خطبه، فيتكلّم بالقمح مكان البُرّ، والغيث مكان المطر. ولم يكن التفوّق في البلاغة مختصّاً به، بل هو الغالب على أئمّة المعتزلة. فلا عجب لأن يتركوا كتباً قيّمةً في مجالات العقيدة والأدب والتفسير، غير أنّ الدهر لعب بكتبهم،

______________________

1 . هذا هو البحث الثاني الذي وعدنا به في صدر خاتمة المطاف.

( 466 )

وأعان على حرقها و إعدامها خصماؤهم، فلم يصل إلينا إلاّ النّزر القليل الّذي حفظته الصدفة. و نذكر من آثار المعتزلة ما طبع و نشر، وأمّا المخطوطة منها الموجودة في المكتبات العالميّة فهي على عاتق الفهارس، ولو قمنا به لطال بنا المقام فنذكر المطبوع حسب التّسلسل التّاريخي للتأليف.

1 _ «المعيار والموازنة» لأبي جعفر الاسكافي (م 240)، في فضائل الإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب _ عليه السلام _ تحقيق محمد باقر المحمودي،طبع في بيروت/1402.

2 _ «درّة التنزيل و غرّة التأويل» له أيضاً طبع في مطبعة السعادة، عام (1326ه_).

3 _ «البيان و التبيين» لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (م

255ه_) في أربعة أجزاء، طبع عدّة مرّات، آخرها طبعة دار الفكر عام 1968.

4 _ «المحاسن والاضداد» له أيضاً طبع في القاهرة (عام 1331ه_).

5 _ «الفصول المختارة من كتب الجاحظ» جمعها الإمام عبيد الله بن حسّان، طبع على هامش «الكامل» للمبّرد في القاهرة، (عام 1324ه_).

6 _ «العثمانيّة» تحقيق محمّد هارون المصري طبع مصر، واستقصى المحقّق ما بثّه ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة من كتاب (نقض العثمانية) لأبي جعفر الاسكافي، فجمعه وطبعه في آخر «العثمانيّة» فجاء الكتاب ونقضه في مجلّد واحد. وتعرّفت على شأن الكتاب في ترجمة الجاحظ.

7 _ «رسائل الجاحظ» في جزءين، تحقيق عبدالسلام هارون، طبع في القاهرة عام (1964م).

8 _ «البخلاء» له أيضاً، تحقيق طه الحاجزي، طبع في مصر.

9 _ «الانتصار» في الردّ على ابن الرّاوندي، تأليف أبي الحسين المعروف بالخيّاط،

( 467 )

طبع مع مقدّمة و تحقيق وتعليق للدكتور نيبرج الاستاذ بجامعة (آبسالة) في (مملكة السويد). وفي آخره قائمة لفهرس الكتب المذكورة في هذا الكتاب أكثرها للمعتزلة يبلغ عددها أربعين كتاباً(1).

10 _ «فضل الاعتزال أو ذكر المعتزلة» لأبي القاسم البلخي (م317 أو319ه_) تحقيق فؤاد سيّد، طبع الدّار التونسية، عام (1406ه_).

11 _ «شرح الأُصول الخمسة» لقاضي القضاة عبدالجبّار بن أحمد (415ه_). حقّقه وقدّم له الدّكتور عبدالكريم عثمان، المطبوع بمصر، عام (1364ه_)، في (804) صفحة وراء الفهارس وهو أجمع كتاب لتبيين الأُصول الخمسة الّتي تتبنّاها المعتزلة في مجال العقائد.

12 _ «المغني» له أيضاً، وهو إملاء القاضي لتلاميذه، وقد طبع منه لحدّ الآن أربعة عشر جزءاً وهو في عشرين جزءاً، وقد اكتشفته البعثة العلميّة المصريّة باليمن، وهو أبسط كتاب للمعتزلة في مجال الكلام، والجزء الأخير منه في الإمامة، الّذي نقضه السيّد المرتضى بكتاب أسماه ب_

«الشافي» ولخّصة الشيخ الطُّوسي، والأصل والملخّص مطبوعان.

13 _ «تنزيه القرآن عن المطاعن» طبع عن النسخة المخطوطة بدار الكتب المصريّة. له أيضاً ما يلي:

14 _ «متشابه القرآن» له في جزءين. طبع في القاهرة، دار التراث، تحقيق الدكتور عدنان زرزور.

15 _ «المجموع المحيط بالتكليف له».

16 _ «المختصر في أُصول الدّين» من رسائل العدل والتوحيد تحقيق محمد عمارة.

______________________

1 . الانتصار: قسم الفهرس، ص 249 _ 252.

( 468 )

17 _ «طبقات المعتزلة» له أيضاً، تحقيق فؤاد سيّد، طبع الدار التونسية، عام (1406ه_).

18 _ «ديوان الأُصول في التوحيد» لأبي رشيد سعيد بن محمّد النيسابوري رئيس المعتزلة بعد القاضي عبدالجبّار، طبع مصر، عام (1968م)، تحقيق محمّد عبدالهادي أبو ريدة، وقد تبعنا في نسبة الكتاب إليه، رأي محقِّق الكتاب.

19 _ «الطبقتان الحادية عشرة والثانية عشرة من طبقات المعتزلة» لأبي السعد المحسن بن محمّد كلام الجشمي البيهقي (م494ه_)، وكأنّه ذيل لكتاب «طبقات المعتزلة» للقاضي حيث ترجم فيه الطبقتين الحادية عشرة والثانية عشرة من المعتزلة، تحقيق فؤاد سيّد، طبع الدّار التونسية، وهو جزء من كتابه «شرح العيون».

20 _ «رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس» له أيضاً، تحقيق حسين المدرسي الطباطبائي، طبع عام (1406)، وقد ألّفه بصورة روائيّة على النهج المعروف اليوم.

21 _ «تفسير الكشّاف» للشّيخ محمود بن عمر بن محمود الزمخشري (م538ه_) وقد طبع عدّة مرّات، وهو أحد التفاسير الّتي يرجع إليها جميع المسلمين في الوقوف على بلاغة القرآن، ولا يزال إلى اليوم ينظر إليه كأحد التفاسير المهمّة، وقد أدرج في تفسيره حسب تناسب الآيات آراء المعتزلة و أخضع الآيات لتلك المبادىء. وله أيضاً ما يلي:

22 _ «أساس البلاغة» في اللّغة، طبع في مصر.

23 _ «أطواق الذهب في المواعظ والخطب» تحتوي مائة مقالة في النصايح،

طبع في مصر و بيروت و استنبول.

24 _ «عجب العجاب في شرح لامية العرب» طبع في القاهرة و استنبول.

25 _ «الانموذج» طبع في ايران مع شرح عبدالغني الأردبيلي.

26 _ «الجبال و الأمكنة والمياه» طبع في ليدن.

27 _ «ربيع الأبرار و نصوص الأخبار».

28 _ «الفائق في غريب الحديث» طبع في حيدرآباد.

( 469 )

29 _ «الكلم النوابغ أو نوابغ الكلم» طبع في القاهرة و بيروت.

30 _ «المفصّل في صناعة الإعراب» طبع في مصر و غيرها.

31 _ «مقدّمة الأدب» في اللّغة، طبع في ليبسيك.

32 _ «شرح نهج البلاغة» لعز الدين عبدالحميد بن أبي الحديد البغدادي المدائني (م655ه_) وهو أعظم الشّروح و أطولها و أشملها بالعلوم والآداب والتّاريخ والمعارف، ألّفه لمؤيّد الدّين محمد بن أحمد بن العلقمي وزير المستعصم بالله آخر الخلفاء والملوك العبّاسيّين، وكان له كتب فيها عشرة آلاف مجلّد من نفاس الكتب(1) طبع في عشرين جزءاً بتحقيق محمّد أبي الفضل إبراهيم في القاهرة.

33 _ «طبقات المعتزلة» لأحمد بن يحيى بن المرتضى أحد أئمّة الزّيدية، ولد عام (م764ه_) وتوفّي بظفار عام (840ه_)، وهو جزء من كتابه الآخر «المنية والأمل» في شرح كتاب الملل والنحل .

34_ البحر الزخّار دورة فقهية على مذهب الإمام زيد طبع في ستة أجزاء.

35 _ «كتاب الأساس لعقائد الأكياس» تأليف القاسم بن محمّد بن علىّ الزيديّ العلويّ (م1029ه_). حقّقه و قدّم له الدكتور البيرنصري نادر، طبع دار الطليعة بيروت، عام1980.

36 _ «العلم الشامخ في إيثار الحقّ على الآباء والمشايخ» للشيخ صالح المقبلي (م1108ه_)، طبع القاهرة عام (1331ه_)(2).

***

هذه هي المعتزلة و تأريخها، هذه تعاليمها و مشايخها و آثارها، فمن أراد الكتابة

______________________

1 . مقدمة نهج البلاغة، بقلم المحقق.

2 . ولعل الفائت منّي أكثر من المذكور، والتكليف على

حدّ المقدور، وقد اكتفينا بذكر ما وقفنا على المطبوع من كتبهم، أمّا المخطوط منها فحدّث عنه ولا حرج، يقف عليها من راجع فهرس مخطوطات المكتبة المتوكلية في جامع صنعاء باليمن، وقد صور أكثرها دار الكتب المصرية ونشر قسماً كبيراً منها.

( 470 )

عن المعتزلة فعليه الرجوع إلى هذه المصادر وإن كانت قليلة، لكنّها تغنيه عن الرجوع إلى كتب خصمائهم ك_ «الفرق بين الفرق» للبغدادي، فإنّه أخذ ما أخذه عن خصمهم ابن الراونديّ فنسب إليهم فى كتابه فضائح لا يمكن الرّكون عليه، فإنّ الخصم لا يصدّق في النّسبة والنقل.

نعم، كان انقراض المعتزلة انهزاماً لدعاة الحرّيّة و انتصاراً للتحجّر و تقوية لقوى الجهل والأُميّة، ولو كانت الحرّيّة سائدة على الأُمّة الإسلاميّة لكان الوضع غير ما نشاهده بين الأُمّة، والحكم لله العليّ القدير.

بلغ الكلام إلى هنا و فرغنا من تأليف هذا الجزء و ترصيفه و تبييضه يوم الجمعة يوم تحرير القدس العالمي التاسع والعشرين من شهر رمضان من شهور عام 1409ه_/ق.

والحمدللّه أوّلاً و آخراً و ظاهراً و باطناً.

قم _ مؤسسة الإمام الصادق _ عليه السلام _

جعفر السبحاني

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.