سلسله المسائل الفقهیه الإسلام و متطلّبات العصر أو دور الزمان و المكان في الاستنباط المجلد 24

اشارة

سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور:سلسله المسائل الفقهیه / تالیف جعفر السبحانی.

مشخصات نشر:قم: موسسه الامام صادق (ع)، 1430ق.= 1388.

مشخصات ظاهری:26 ج

فروست:سلسله المسائل الفقهیه؛ 1.

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ دوم.

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس.

موضوع:احکام فقهی

موضوع:فقه تطبیقی

شناسه افزوده:موسسه امام صادق (ع)

ص: 1

الإسلام و متطلّبات العصر أو دور الزمان و المكان في الاستنباط

ص: 2

[24. الإسلام و متطلّبات العصر أو دور الزمان و المكان في الاستنباط ]

مقدمة

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على أفضل خلقه و خاتم رسله محمّد و على آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيبة علمه و حفظة سننه.

أمّا بعد، فانّ الإسلام عقيدة و شريعة، فالعقيدة هي الإيمان باللّه و رسله و اليوم الآخر، و الشريعة هي الأحكام الإلهية التي تكفل للبشرية الحياة الفضلى و تحقّق لها السعادة الدنيوية و الأُخروية.

و قد امتازت الشريعة الإسلامية بالشمول، و وضع الحلول لكافّة المشاكل التي تعتري الإنسان في جميع جوانب الحياة قال سبحانه:

(اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ).(1)

ص: 3


1- المائدة: 3.

غير أنّ هناك مسائل فرعية اختلف فيها الفقهاء لاختلافهم فيما أثر عن مبلّغ الرسالة النبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم، الأمر الّذي أدّى إلى اختلاف كلمتهم فيها، و بما أنّ الحقيقة بنت البحث فقد حاولنا في هذه الدراسات المتسلسلة أن نطرحها على طاولة البحث، عسى أن تكون وسيلة لتوحيد الكلمة و تقريب الخطى في هذا الحقل، فالخلاف فيها ليس خلافاً في جوهر الدين و أُصوله حتّى يستوجب العداء و البغضاء، و إنّما هو خلاف فيما روي عنه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم، و هو أمر يسير في مقابل المسائل الكثيرة المتّفق عليها بين المذاهب الإسلامية.

و رائدنا في هذا السبيل قوله سبحانه: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ).(1)

جعفر السبحاني قم مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)3.

ص: 4


1- آل عمران: 103.

قال الإمام الصادق عليه السَّلام:

«العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»

(الكافي: 27/1)

تقديم

دلّت الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية و اتّفاق المسلمين على أنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم هو النبي الخاتم، و كتابه خاتم الكتب، و شريعته خاتمة الشرائع، و نبوته خاتمة النبوات، فما جاء على صعيد التشريع من قوانين و سنن تعدّ من صميم ثوابت هذا الدين لا تتطاول عليها يد التغيير، فأحكامه في العبادات و المعاملات و في العقود و الإيقاعات، و القضاء و السياسات أُصول خالدة مدى الدهر إلى يوم القيامة و قد تضافرت عليها الروايات:

1. روى أبو جعفر الباقر عليه السَّلام قال: قال جدي رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «أيّها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة، و حرامي

ص: 5

حرام إلى يوم القيامة، ألا و قد بيّنهما اللّه عزّ و جلّ في الكتاب و بيّنتهما لكم في سنتي و سيرتي».(1)

2. كما روى زرارة عن الإمام الصادق عليه السَّلام و الحرام، فقال: «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيرَه و لا يجيء بعده».(2)

و الروايات في هذا الصدد عن النبي الأعظم و طائفة منها في كتابنا مفاهيم القرآن فبلغت 135 حديثاً، و بما انّ خلود شريعته أمر لم يشكّ فيه أحد من المسلمين، و هو من ضروريات الدين نقتصر على ذلك المقدار، و نطرح السؤال التالي:

إذا كانت الحياة الاجتماعية على وتيرة واحدة لصحّ أن يديرها تشريع خالد و دائم، و أمّا إذا كانت متغيرة تسودها التحوّلات و التغييرات الطارئة، فكيف يصحّ لقانون ثابت أن1.

ص: 6


1- الوسائل: 124/18.
2- الكافي: 57/1.

يسود جميع الظروف مهما اختلفت و تباينت؟

إنّ الحياة الاجتماعية التي يسودها الطابع البدوي و العشائري كيف تلتقي مع حياة بلغ التقدم العلمي فيها درجة هائلة، فكلّ ذلك شاهد على لزوم تغيير التشريع حسب تغيير الظروف؟

هذا السؤال كثيراً ما يثار في الأوساط العلمية و يراد من ورائه أمر آخر، و هو التخلص من قيود الدين و القيم الأخلاقية، مع الغفلة انّ تغير ألوان الحياة لا يصادم ثبات التشريع و خلوده على النحو الذي بيّنه المحقّقون من علماء الإسلام.

و ذلك لأنّ السائل قد قصّر النظر على ما يحيط به من الظروف المختلفة المتبدلة، و ذهل عن أنّ للإنسان خُلقاً و غرائز ثابتة قد فطر عليها و هي لا تنفك عنه ما دام الإنسان إنساناً، و هذه الغرائز الثابتة تستدعي لنفسها تشريعاً ثابتاً يدوم بدوامها، و يثبت بثباتها عبر القرون و الأجيال، و إليك نماذج منها:

ص: 7

1. انّ الإنسان بما هو موجود اجتماعي يحتاج لحفظ نسله إلى الحياة العائلية، و هذه حقيقة ثابتة في حياة الإنسان و جاء التشريع وفقاً لها، يقول سبحانه: (وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ )(1).

2. العدالة الاجتماعية توفّر مصل للإنسان في حياته الاجتماعية إلاّ السير وفق نهج العدل و الابتعاد عن الظلم، قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )(2).

3. انّ الفوارق الرئيسية بين الرجل و المرأة أمر طبيعي محسوس، فهما يختلفان السخيفة التي تبغي إزالة كلّ تفاوت بينهما، و بما انّ هذا النوع من الاختلاف ثابت لا يتغيّر بمرور الزمان فهو يقتضي تشريعاً0.

ص: 8


1- النور: 32.
2- النحل: 90.

ثابتاً على شاكلة موضوعه، يقول سبحانه: (اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ )(1).

4. الروابط العائلية هي روابط طبيعية، فالأحكام المنسِّقة لهذه الروابط من التوارث و ثابتة لا تتغير بتغير الزمان، يقول سبحانه: (وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ ) (2) و المراد من الأولوية هي الأقربية. شكّ فيه انّ الخمر و الميسر و الإباحة الجنسية تقوِّض أركان الأخلاق، فالخمر يزيل العقل، و الميسر يورث العداء في المجتمع، و الإباحة الجنسية تفسد النسل و الحرث فتتبعها أحكامها في الثبات و الدوام.

هذه نماذج استعرضناها للحياة الاجتماعية التي لا تمسّها يد التغير، و هي ثابتة، فإذا كان التشريع على وفق5.

ص: 9


1- النساء: 34.
2- الأنفال: 75.

الفطرة، و كان نظام التشريع قد وضع وفق ملاكات واقعية، فالموضوعات تلازم أحكامها، ملازمة العلة لمعلولها، و الأحكام تتبع موضوعاتها تبعيّة المعاليل لعللها.

هذا جواب إجمالي، و أمّا الجواب التفصيلي فهو رهن الوقوف على الدور الذي يلعبه الزمان و المكان في مرونة الأحكام الشرعية، و تطبيع الأحكام على متطلبات العصر، و هذا هو الذي سنقوم بدراسته.

دور الزمان و المكان في الاستنباط

اشارة

قد يطلق الزمان و المكان و يراد منها المعنى الفلسفي، فيفسر الأوّل بمقدار الحركة، و الثاني بالبعد الذي يملأه الجسم، و الزمان و المكان بهذا المعنى خارج عن محط البحث، بل المراد هو المعنى الكنائي لهما، أعني: تطور أساليب الحياة و الظروف الاجتماعية حسب تقدم الزمان و توسع شبكة الاتصالات. و هذا المعنى هو الذي يهمّنا في هذا البحث، و دراسته تتم في ضمن فصول خمسة:

ص: 10

الأوّل: دراسة الروايات الواردة في ذلك المضمار.

الثاني: نقل مقتطفات من كلمات الفقهاء.

الثالث: تطبيقات عملية.

الرّابع: دور الزمان و المكان في الأحكام الحكوميّة.

الخامس: في دراسة العصرين في الفقه السني.

و إليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر.

ص: 11

الفصل الأوّل استعراض الروايات الواردة في ذلك المضمار

قد أُشير في غير واحد من الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام إلى أنّ للزمان و المكان دوراً في تغير الأحكام إمّا لتبدّل موضوعه بتبدّل الزمان، أو لتغير ملاك الحكم إلى ملاك آخر، أو لكشف ملاك أوسع من الملاك الموجود في عصر التشريع أو غير ذلك ممّا سيوافيك تفسيره عند البحث في التطبيقات.

و أمّا ما وقفنا عليه في ذلك المجال من الأخبار، فنذكره على الترتيب التالي:

ص: 12

1. سئل علي عليه السَّلام عن قول الرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «غيّروا الشيبَ و لا تشبَّهوا باليهود».

فقال عليه السَّلام: «إنّما قال صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ذلك و الدين قلّ، فأمّا الآن و قد اتسع نطاقه و ضرب بجرانه فامرؤ و ما اختار».(1)

فأشار الإمام بقوله: إنّ عنوان التشبه من المسلمين شيبته و كانوا في أقلية صار عملهم تشبهاً باليهود و تقوية لهم، و أمّا بعد انتشار الإسلام في أقطار الأرض على نحو صارت اليهود هم الأقلية فلا يصدق التشبّه بهم إذا ترك الخضاب.

2. روى محمد بن مسلم و زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السَّلام انّهما سألاه عن أكل لحوم الحمُر الأهلية، فقال: «نهى رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عن أكلها يوم خيبر، و إنّما نهى عن أكلها في ذلك الوقت لأنّها كانت حمولة الناس، و إنّما الحرام ما حرّم اللّه في القرآن».(2)1.

ص: 13


1- نهج البلاغة، قسم الحكم، رقم 17.
2- وسائل الشيعة: 16، الباب 4 من كتاب الأطعمة و الأشربة، الحديث 1.

و الحديث يشير إلى أنّ نهي رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عن أكل لحومها كان لأجل انّ ذبحها في ذلك الوقت يورث الحرج و المشقة، لأنّها كانت سبباً لحمل الناس و الأمتعة من مكان إلى آخر، فإذا ارتفعت الحاجة في الزمان الآخر ارتفع ملاك الحرمة.

3. روى محمد بن سنان، أنّ الرضا عليه السَّلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: «كره أكل لحوم البغال و الحمر الأهلية لحاجة الناس إلى ظهورها و استعمالها و الخوف من فنائها و قلّتها لا لقذر خلقها و لا قذر غذائها».(1)

4. روى عبد الرحمن بن حجاج، عمّن سمعه، عن الإمام الصادق عليه السَّلام قال: سألته عن الزكاة ما يأخذ منها الرجل؟ و قلت له: إنّه بلغنا أنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: أيّما رجل ترك دينارين فهما كيّ بين عينيه، قال: فقال: «أُولئك قوم كانوا أضيافاً على رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فإذا أمسى، قال: يا فلان اذهب8.

ص: 14


1- وسائل الشيعة: 16، الباب 4 من كتاب الأطعمة و الأشربة، الحديث 8.

فعشّ هذا، فإذا أصبح قال: يا فلان اذهب فغدّ هذا، فلم يكونا يخافون أن يصبحوا بغير غذاء و لا بغير عشاء، فجمع الرّجل منهم دينارين، فقال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فيه هذه المقالة، فانّ الناس إنما يُعطَون من السنة إلى السنة فللرّجل أن يأخذ ما يكفيه و يكفي عياله من السنة إلى السنة».(1)

5. روى حماد بن عثمان، قال: كنت حاضراً عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام إذ قال له رجل: أصلحك اللّه، ذكرت أنت علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم و ما أشبه ذلك، و نرى عليك اللباس الجيّد، قال: فقال له: «إنّ علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه كان يلبس ذلك في زمان لا يُنكر، و لو لبس مثل ذلك اليوم لشُهِّر به، فخير لباس كلّ زمان، لباس أهله».(2)

6. روى مسعدة بن صدقة: دخل سفيان الثوري على أبي عبد اللّه عليه السَّلام فرأى عليه ثياب بيض كأنّها غرقئ البيض،7.

ص: 15


1- معاني الأخبار: 152، باب معنى قول النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) «أيما رجل ترك دينارين».
2- الوسائل: 3، الباب 7 من أبواب أحكام الملابس، الحديث 7.

فقال: إنّ هذا اللباس ليس من لباسك، فقال الإمام بعد كلام: «إنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم كان في زمان مُقْفر جدْب، فأمّا إذا أقبلت الدنيا فأحقّ أهلها بها أبرارها لا فجّارها، و مؤمنوها لا منافقوها، و مسلموها لا كفّارها».(1)

7. روى عبد اللّه بن سنان، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السَّلام يقول: «بينا أنا في الطواف و إذا برجل يجذب ثوبي، و إذا هو عباد بن كثير البصري»، فقال: يا جعفر ابن محمد تلبس مثل هذه الثياب و أنت في هذا الموضع مع المكان الذي أنت فيه من علي عليه السَّلام؟! فقلتُ: «فرقبيّ اشتريته بدينار، و كان علي عليه السَّلام في زمان يستقيم له ما ليس فيه، و لو لبستُ مثل ذلك اللباس في زماننا لقال الناس هذا مراء مثل عباد».(2)

8. روى المعلى بن خنيس، عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: إنّ عليّاً كان عندكم فأتى بني ديوان و اشترى ثلاثة أثواب بدينار، القميص إلى فوق الكعب و الإزار إلى نصف الساق، و3.

ص: 16


1- الوسائل: 3، الباب 7 من أبواب أحكام الملابس، الحديث 10.
2- الوسائل: 3، الباب 7 من أبواب أحكام الملابس، الحديث 3.

الرداء من بين يديه إلى ثدييه و من خلفه إلى أليتيه، و قال: هذا اللباس الذي ينبغي للمسلمين أن يلبسوه، قال أبو عبد اللّه: «و لكن لا تقدرون أن تلبسوا هذا اليوم، و لو فعلناه لقالوا مجنون، و لقالوا مرائيّ».(1)

9. روى أبو بكر الحضرميّ، قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السَّلام يقول: «لسيرة علي عليه السَّلام في أهل البصرة كانت خيراً لشيعته ممّا طلعت عليه الشمس انّه علم انّ للقوم دولة، فلو سباهم تُسب شيعته».(2)

10. روى السراد، عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام، قال: قلت له: أبيع السلاح، قال: «لا تبعه في فتنة».(3)

11. روى المعلى بن خنيس إذا جاء حديث عن أوّلكم و حديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ فقال: «خذوا به حتى يبلغكم عن الحي، فخذوا بقوله، أما و اللّه لا ندخلكم إلاّ فيمام.

ص: 17


1- الكافي: 6، باب تشمير الثياب من كتاب الزي و التجمل، الحديث 2.
2- الكافي: 5، كتاب الجهاد: 33 باب (لم يذكر عنوان الباب) الحديث 4.
3- الكافي: 5، باب بيع السلاح منهم الحديث 4 و في الباب ما له صلة بالمقام.

يسعكم».(1) فإنّ الحكم الثاني المخالف لما روى سابقاً رهن حدوث تغير في جانب الموضوع أو تبدل الملاك أو غير ذلك من العناوين المؤثرة لتبدّل الحكم.

12. روى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: قال: «إنّ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم نهى أن تحبس لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام من أجل الحاجة، فأمّا اليوم فلا بأس به».(2)

13. روى محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: سألته عن إخراج لحوم الأضاحي من منى؟ فقال: «كنّا نقول: لا يخرج منها بشيء لحاجة الناس إليه، و أمّا اليوم فقد كثر الناس فلا بأس بإخراجه».(3)

14. روى الحكم بن عتيبة، عن أبي جعفر عليه السَّلام، قال: قلت له: إنّ الديات إنّما كانت تؤخذ قبل اليوم من الإبل و البقر و الغنم، قال: فقال: «إنّما كان ذلك في البوادي قبل5.

ص: 18


1- الكافي: 1، باب اختلاف الحديث، الحديث 9.
2- الوسائل: 10، الباب 41 من أبواب الذبح، الحديث 3.
3- الوسائل: 10، الباب 42 من أبواب الذبح، الحديث 5.

الإسلام، فلمّا ظهر الإسلام و كثرت الورق في الناس قسّمها أمير المؤمنين عليه السَّلام على الورق» قال الحكم: قلت: أ رأيت من كان اليوم من أهل البوادي، ما الذي يؤخذ منهم في الدية اليوم؟ إبل؟ أم ورق؟ فقال: «الإبل اليوم مثل الورق بل هي أفضل من الورق في الدية، انّهم كانوا يأخذون منهم في دية الخطأ مائة من الإبل يحسب لكلّ بعير، مائة درهم، فذلك عشرة آلاف».

قلت له: فما أسنان المائة بعير؟ فقال: «ما حال عليه الحول ذُكْران كلّها».(1)

إنّ المشكلة في المقرر من الديات الست من وجوه:

الأوّل: عدم وجود التعادل و التساوي بين الأُمور الست في بدء الأمر، الواردة في بعض الأحاديث.

15. روى عبد الرحمن بن الحجاج دية النفس بالشكل التالي:

أ: مائة إبل كانت في الجاهلية و أقرّها رسول اللّه.8.

ص: 19


1- الوسائل: 19، الباب 2 من أبواب ديات النفس، الحديث 8.

ب: مائتا بقر على أهل البقر.

ج: ألف شاة ثنيّة على أهل الشاة.

د: ألف دينار على أهل الذهب.

ه: عشرة آلاف درهم على أهل الورق.

و: مائتا حلّة على أهل اليمن.(1)

فأين قيمة مائتي حلة من قيمة مائة إبل أو غيرها؟! فقد أوجد ذلك مشكلة في أداء الدية خصوصاً إذا قلنا بما هو المشهور من أنّ اختيار أي واحد منها بيد القاتل، فإذاً كيف يتصور التخيير بين الأقل و الأكثر؟!

و الجواب: انّه من المحتمل أن تكون جميع هذه الموارد متقاربة القيمة، لأنّ الحلل اليمانية و إن كانت زهيدة الثمن إلاّ انّ صعوبة اقتنائها حال دون انخفاض قيمتها.

و على فرض انخفاض قيمتها لما كان للجاني اختيار الحلل أخذاً بالمتيقن من مورد النص للجاني.1.

ص: 20


1- الوسائل: 19، الباب 1 من أبواب دية النفس، الحديث 1.

الثاني: المراد من الورق الوارد في النصوص هو الدينار و الدرهم المسكوكين الرائجين، و هذا غير متوفر في غالب البلدان، لأنّ المعاملات تتم بالعملة الرائجة في كلّ بلد، و هي غير النقدين، و على فرض وجود النقدين في الأعصار السابقة، فليسا رائجين.

الثالث: لم ترد في النصوص الاجتزاء بالعملة الرائجة فما ورد من الدينار و الدرهم فغير رائجين و ما هو الرائج اليوم كالعملة الورقية فلم يرد فيها نصّ.

و الجواب عن الأخيرين هو انّ تقويم دية النفس بالأنعام أو الحلل، لم يكن لخصوصية فيها دون غيرها، بل لأجل انّ قلّة وجود النقدين كانت سبباً لتعامل الناس بالأجناس فكان الثمن أيضاً جنساً كالمثمن و لما كثر الورق، قسّمها الإمام على الورق.

و هذا يعرب عن أنّ الدية الواقعية هو قيمة هذه الأنعام و الحلل، لا أنفسها بما هي هي، بنحو لو أدى قيمتها لما أدّى الدية الواقعية.

ص: 21

و لو صحّ ذلك فلا فرق عندئذ بين النقدين و العملة الرائجة في البلاد هذه الأيام، إذ الغرض أداء قيمة النفس بأشكالها المختلفة.

16. روى الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: سألت عن الوبا يكون في ناحية المصر فيتحول الرجل إلى ناحية أُخرى، أو يكون في مصر فيخرج منه إلى غيره.

فقال: «لا بأس إنّما نهى رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عن ذلك لمكان ربيئة كانت بحيال العدو فوقع فيهم الوبا فهربوا منه، فقال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: الفارّ منه كالفار من الزحف كراهية أن يخلو مراكزهم».(1)

فدلّ الحديث على أنّ النهي كان بملاك خاص، و هو انّ الخروج كان سبباً لضعف النظام الإسلامي و إلاّ فلا مانع من أن يخرجوا منه بغية السلامة.

17. روى علي بن المغيرة، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السَّلام: القوم يكونون في البلد فيقع فيه الموت، ألهم أن يتحوّلوا عنها1.

ص: 22


1- الوسائل: 2، الباب 20 من أبواب الاحتضار، الحديث 1.

إلى غيرها، قال: «نعم»، قلت: بلغنا انّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عاب قوماً بذلك، فقال: «أُولئك كانوا ربيئة بازاء العدو فأمرهم رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلَّم أن يثبتوا في موضعهم و لا يتحولوا عنه إلى غيره، فلما وقع فيهم الموت تحولوا من ذلك المكان إلى غيره، فكان تحويلهم عن ذلك المكان إلى غيره كالفرار من الزحف».(1)

18. روى عبد اللّه بن بكير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: لا ينبغي أن يتزوج الرجل الحرّ المملوكةَ اليوم، إنّما كان ذلك حيث قال اللّه عزّ و جلّ: (وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً ) و الطول المهر، و مهر الحرة اليوم مثل مهر الأمة أو أقل.(2)

فالحديث يهدف إلى تفسير قوله سبحانه:

(وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ )(3).5.

ص: 23


1- الوسائل: 2، الباب 20 من أبواب الاحتضار، الحديث 2.
2- الوسائل: 14، الباب 45 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الحديث 5.
3- النساء: 25.

فالآية تعلّق جواز تزويج الأمة بعدم الاستطاعة على نكاح الحرة، لأجل غلاء مهرها بخلاف مهر الأمة فانّها كانت زهيدة الثمن.

فإذا عاد الزمان إلى غير هذا الوضع و صار مهر الأمة و الحرة على حدّ سواء، بل كان مهر الحرة أقل فلا ينبغي أن يتزوج المملوكة فقد غيّرت الظروف جواز الحكم إلى كراهته أو تحريمه.

19. روى بكير بن محمد، عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال سأله رجل و أنا حاضر، فقال: يكون لي غلام فيشرب الخمر و يدخل في هذه الأُمور المكروهة فأُريد عتقه، فهل أُعتقه أحبّ إليك أم أبيعه و أتصدق بثمنه؟ فقال: «إنّ العتق في بعض الزمان أفضل، و في بعض الزمان الصدقة أفضل، فإن كان الناس حسنة حالُهم، فالعتق أفضل، و إذا كانوا شديدة حالُهم فالصدقة أفضل، و بيع هذا أحبّ إليّ إذا كان بهذه الحال».(1)1.

ص: 24


1- الوسائل: 16، الباب 27 من أبواب العتق، الحديث 1.

20. روى محمد بن سنان، عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السَّلام في حديث: «ليس بين الحلال و الحرام إلاّ شيء يسير، يحوله من شيء إلى شيء فيصير حلالاً و حراماً».(1)

هذه بعض ما وقفنا عليه، و لعلّ الباحث في غضون الجوامع الحديثيّة يقف على أكثر من ذلك.

حصيلة الروايات

إنّ الإمعان في مضامين هذه الروايات يثبت انّ تغير الحكم إنّما كان لإحدى الجهات التالية:

1. كان الحكم، حكماً حكومياً و ولائياً نابعاً من ولاية النبي على إدارة المجتمع و حفظ مصالحه، و مثل هذا الحكم لا يكون حكماً شرعياً إلهياً نزل به أمين الوحي عن ربّ العالمين، بل حكماً مؤقّتاً يدور مدار المصالح و المفاسد التي أوجبت تشريع هذا النوع من الأحكام.

و من هذا القبيل النهي عن إخراج اللحم من منى قبلم.

ص: 25


1- بحار الأنوار: 94/6، الحديث 1، باب علل الشرائع و الأحكام.

ثلاثة أيّام، أو النهي عن أكل لحوم الحمير، و لذلك قال الإمام بعد تبيين علّة النهي إنّما الحرام ما حرّم اللّه في القرآن، مشيراً إلى أنّه لم يكن هذا النهي كسائر النواهي النابعة من المصالح و المفاسد، الذاتية كالخمر و الميسر، بل نجم عن مصالح و مفاسد مؤقتة.

و نظيرهما النهي من الخروج عن مكان ظهر فيه الطاعون، حيث إنّ النهي كان لأجل انّ تحوّلهم من ذلك المكان كان أشبه بالفرار من الزحف فوافاهم النهي، فإذا انتفى هذا القيد فلا مانع حينئذ من خروجهم.

2. انّ تبدل الحكم كان لأجل انعدام الملاك السابق، و ظهور ملاك مباين، كما هو الحال في حديث الدينارين بخلاف عصر الإمام الصادق حيث كان يعطون من السنة إلى السنة.

و مثله جواز نكاح الأمة مع القدرة على الحرة، لأنّ ملاك الجواز هو غلاء مهر الحرة، و قد انتفى في ذلك العصر،

ص: 26

بل صار الأمر على العكس كما في نفس الرواية.

3. عروض عنوان محرم عليه، ككونه لباس الشهرة أو رمي اللابس بالجنون كما في أحاديث الألبسة، كما يمكن أن يكون من قبيل تبدّل الملاك، فقد ورد النهي في عصر مقفر، جدب، و أين هو من عصر الخصب و الرخاء؟!

4. كون الملاك أوسع كما هو الحال بالاكتفاء بالدرهم و الدينار في دية النفس، في عصر الإمام علي عليه السَّلام فانّ الملاك توفّر ما يقوّم به دم المجني عليه، ففي أهل الإبل الإبل، و في أهل البقر و الغنم بهما، و في أهل الدرهم و الدينار بهما.

ص: 27

الفصل الثاني نقل مقتطفات من كلمات الفقهاء

إنّ تأثير الظروف في تفسير الروايات و الفتاوى في كلام الفقهاء أمر غير عزيز، و قد وقفوا على ذلك منذ أمد بعيد، و نذكر هنا مقتطفات من كلامهم:

1. الصدوق (306-381 ه)

1. روى الصدوق في الفقيه عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال: «الفرق بين المسلمين و المشركين التلحي بالعمائم».

ثمّ قال الصدوق في شرح الحديث: ذلك في أوّل الإسلام و ابتدائه، و قد نقل عنه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أيضاً انّه أمر بالتلحّي

ص: 28

و نهى عن الاقتعاط.(1)

قال الفيض الكاشاني بعد نقل الحديث: التلحّي إدارة العمامة تحت الحنك، و الاقتعاط شدُّها من غير إدارة، و سُنّة التلحّي متروكة اليوم في أكثر بلاد الإسلام كقصر الثياب في زمان الأئمة، فصارت من لباس الشهرة المنهي عنها.(2)

2. العلاّمة الحلّي (648-726 ه)

قال في مبحث تجويز النسخ: الأحكام منوطة بالمصالح، و المصالح تتغير بتغير الأوقات، و تختلف باختلاف المكلّفين، فجاز أن يكون الحكم المعين مصلحة لقوم في زمان فيؤمر به، و مفسدة لقوم في زمان آخر فينهى عنه.(3)م.

ص: 29


1- الفقيه: 260/1 برقم 821.
2- الوافي: 745/20.
3- كشف المراد: 173، ط مؤسسة الإمام الصادق عليه السَّلام.

3. الشيخ الشهيد محمد بن مكي العاملي (المتوفّى عام 86 ه)

قال: يجوز تغيير الأحكام بتغير العادات كما في النقود المتعاورة(1) و الأوزان المتداولة، و نفقات الزوجات و الأقارب فانّها تتبع عادة ذلك الزمان الذي وقعت فيه، و كذا تقدير العواري بالعوائد.

و منه الاختلاف بعد الدخول في قبض الصداق، فالمروي تقديم قول الزوج، عملاً بما كان عليه السلف من تقديم المهر على الدخول.

و منه: إذا قدّم بشيء قبل الدخول كان مهراً إذا لم يسم غيره، تبعاً لتلك العادة فالآن ينبغي تقديم قول الزوجة، و احتساب ذلك من مهر المثل.(2)

فقد أشار بقوله «ينبغي تقديم قول الزوجة» إلى مسألة التنازع بينهما فيما إذا ادّعت الزوجة بعد الدخول بعدم تسلمف.

ص: 30


1- المتعاورة أي المتداولة.
2- القواعد و الفوائد: 152/1، القاعدة الخامسة، ط النجف الأشرف.

المهر، و ادّعى الرجل تسليمه إليها، فقد روى الحسن بن زياد، قال: إذا دخل الرجل بامرأته، ثمّ ادّعت المهر و قال: قد أعطيتك فعليها البيّنة و عليه اليمين.(1)

غير انّ لفيفاً من الفقهاء حملوا الرواية على ما إذا كانت العادة الإقباض قبل الدخول و إلاّ فالبيّنة على الزوج.

قال صاحب الجواهر: الظاهر انّ مبنى هذه النصوص على ما إذا كانت العادة الإقباض قبل الدخول، بل قيل إنّ الأمر كذلك كان قديماً، فيكون حينئذ ذلك من ترجيح الظاهر على الأصل.(2)

4. المحقّق الأردبيلي (المتوفّى 993 ه)

قال: و لا يمكن القول بكلية شيء بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيات و الأحوال و الأزمان و الأمكنة و الأشخاص و هو ظاهر، و باستخراج هذه الاختلافات1.

ص: 31


1- الوسائل: الجزء 15، الباب 8 من أبواب المهور، الحديث 7.
2- الجواهر: 133/31.

و الانطباق على الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف، امتياز أهل العلم و الفقهاء، شكر اللّه سعيهم و رفع درجاتهم.(1)

5. صاحب الجواهر (المتوفّى 1266 ه)

قال في مسألة بيع الموزون مكيلاً و بالعكس: إنّ الأقوى اعتبار التعارف في ذلك و هو مختلف باختلاف الأزمنة و الأمكنة.(2)

6. الشيخ الأنصاري (1214-1281 ه)

و قال الشيخ الأنصاري في بحث ضمان المثلي و القيمي: بقي الكلام في أنّه هل يعد من تعذر المثل خروجه عن القيمة كالماء على الشاطئ إذا أتلفه في مفازة و الجمد في الشتاء إذا أتلفه في الصيف أم لا؟ الأقوى بل المتعيّن هو الأوّل بل حكي عن بعض نسبته إلى الأصحاب و غيرهم و المصرح به في محكي3.

ص: 32


1- مجمع الفائدة و البرهان: 436/3.
2- الجواهر: 375/23.

التذكرة و الإيضاح و الدروس قيمة المثل في تلك المفازة و يحتمل آخر مكان أو زمان يخرج المثل فيه عن المالية.(1)

7. الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (1294-1373 ه)

قال في تحرير المجلة في ذيل المادة 39: «لا ينكر تغيير الأحكام بتغير الأزمان» قد عرفت أنّ من أُصول مذهب الإمامية عدم تغيير الأحكام إلاّ بتغيير الموضوعات امّا بالزمان و المكان و الأشخاص، فلا يتغير الحكم و دين اللّه واحد في حقّ الجميع لا تجد لسنّة اللّه تبديلاً، و حلال محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم حلال إلى يوم القيامة و حرامه كذلك.

نعم يختلف الحكم في حقّ الشخص الواحد باختلاف حالاته من بلوغ و رشد و حضر و سفر و فقر و غنى و ما إلى ذلك من الحالات المختلفة، و كلّها ترجع إلى تغيير الموضوع فيتغير الحكم، فتدبر و لا يشتبه عليك الأمر.(2)1.

ص: 33


1- المكاسب: 110.
2- تحرير المجلة: 34/1.

الظاهر انّه يريد من قوله: «امّا بالزمان و المكان و الأشخاص فلا يتغير الحكم» أنّ مرور الزمان لا يوجب تغيير الحكم الشرعي بنفسه، و أمّا إذا كان مرور الزمان سبباً لطروء عناوين موجبة لتغير الموضوع فلا شكّ انّه يوجب تغير الحكم و قد أشار إليه في ذيل كلامه.

8. السيد الإمام الخميني (1320-1409 ه)

قال: إنّي على اعتقاد بالفقه الدارج بين فقهائنا و بالاجتهاد على النهج الجواهري، و هذا أمر لا بدّ منه، لكن لا يعني ذلك انّ الفقه الإسلامي لا يواكب حاجات العصر، بل انّ لعنصري الزمان و المكان تأثيراً في الاجتهاد، فقد يكون لواقعة حكم لكنّها تتخذ حكماً آخر على ضوء الأُصول الحاكمة على المجتمع و سياسته و اقتصاده.(1)

و قد طرح هذه المسألة غير واحد من أعلام السنّة، منهم:1.

ص: 34


1- صحيفة النور: 98/21.

1. ابن قيم الجوزية (المتوفّى 751 ه) فقد عقد في كتابه فصلاً تحت عنوان «تغيّر الفتوى و اختلافها بحسب تغيّر الأزمنة و الأمكنة و الأموال و النيات و العوائد».

يقول في ذيل هذا الفصل:

هذا فصل عظيم النفع، و وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج و المشقة، و تكليفِ ما لا سبيل إليه، ما يعلم انّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فانّ الشريعة مبناها و أساسها على الحِكَم و مصالح العباد في المعاش و المعاد، و هي عدل كلّها، و رحمة كلّها، و مصالح كلّها، و حكمة كلّها، فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، و عن الرحمة إلى ضدها، و عن المصلحة إلى المفسدة، و عن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة.(1)

2. أبو إسحاق الشاطبي (المتوفّى 790 ه) في «الموافقات» قال: المسألة العاشرة: إنّا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد و الأحكام العادية تدور معه حيثما دار، فترىة.

ص: 35


1- اعلام الموقعين: 14/3 و قد استغرق بحثه في هذا الكتاب 56 صفحة.

الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة فإذا كان فيه مصلحة جاز.(1)

و قال في موضع آخر: النظر في م آلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، و ذلك انّ المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلّفين بالإقدام أو بالإحجام إلاّ بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل.(2)

3. العلاّمة محمد أمين أفندي الشهير ب «ابن عابدين» مؤلف كتاب «مجموعة رسائل» قال ما هذا نصّه:

اعلم أنّ المسائل الفقهية إمّا أن تكون ثابتة بصريح النص، و إمّا أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد و رأي، و كثيراً منها ما يبينه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أوّلاً، و لهذا قالوا فيد.

ص: 36


1- الموافقات: 305/2، ط دار المعرفة.
2- الموافقات: 140/4، ط دار الكتب العلمية، و العبارة الأُولى أصرح في المقصود.

شروط الاجتهاد انّه لا بدّ فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغيّر عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أوّلاً للزم منه المشقة و الضرر بالناس، و لخالف قواعد الشريعة المبنيّة على التخفيف و التيسير و دفع الضرر و الفساد لبقاء العالم على أتم مقام و أحسن أحكام، و لهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنّه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً في قواعد مذهبه.(1)

4. الفقيه الأُستاذ أحمد مصطفى الزرقاء في كتابه «المدخل الفقهي العام»، قال:

الحقيقة انّ الأحكام الشرعية التي تتبدّل بتبدّل الموضوعات مهما تغيرت باختلاف الزمان، فانّ المبدأ الشرعي فيها واحد و ليس تبدّل الأحكام إلاّ تبدّل الوسائل و الأساليب الموصلة إلى غاية الشارع، فانّ تلك الوسائل و الأساليب في2.

ص: 37


1- رسائل ابن عابدين: 123/2.

الغالب لم تحدّد في الشريعة الإسلامية بل تركتها مطلقة لكي يختار منها في كلّ زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجاً و أنجح في التقويم علاجاً.

ثمّ إنّ الأُستاذ جعل المنشأ لتغيير الأحكام أحد أمرين:

أ: فساد الأخلاق و فقدان الورع و ضعف الوازع، و أسماه بفساد الزمان.

ب: حدوث أوضاع تنظيمية و وسائل فرضية و أساليب اقتصادية.

ثمّ إنّه مثّل لكلّ من النوعين بأمثلة مختلفة اقتبس بعضها من رسالة «نشر العرف» للشيخ ابن عابدين، و لكنّه صاغ الأمثلة في ثوب جديد.(1)

5. الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه «أُصول الفقه الإسلامي» فقد لخص ما ذكره الأُستاذ السابق و قال في صدر البحث: تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان.

إنّ الأحكام قد تتغيّر بسبب تغيّر العرف، أو تغيّر2.

ص: 38


1- المدخل الفقهي العام: 924/2.

مصالح الناس، أو لمراعاة الضرورة، أو لفساد الأخلاق و ضعف الوازع الديني، أو لتطور الزمن و تنظيماته المستحدثة، فيجب تغيّر الحكم الشرعي لتحقيق المصلحة و دفع المفسدة و إحقاق الحق و الخير، و هذا يجعل مبدأ تغير الأحكام أقرب إلى نظرية المصالح المرسلة منها إلى نظرية العرف.(1)

و قبل تطبيق هذا الأصل على موارده نود أن نشير إلى أُمور يتبين بها حدّ هذا الأصل:

[هنا أُمور يتبين بها حدّ هذا الأصل ]

الأوّل: حصر التشريع في اللّه سبحانه

دلّت الآيات القرآنية على حصر التشريع في اللّه سبحانه و انّه ليس مشرع سواه، قال سبحانه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ )(2).

و المراد من الحكم هو الحكم التشريعي بقرينة قوله:0.

ص: 39


1- أُصول الفقه الإسلامي: 1116/2.
2- يوسف: 40.

(أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ) و هذا أمر أوضحنا حاله في موسوعتنا «مفاهيم القرآن».

و ينبغي التأكيد على نكتة و هي انّ تغيّر الحكم وفق الزمان و المكان يجب أن لا يتنافى مع حصر التشريع باللّه سبحانه.

الثاني: خلود الشريعة

دلّ القرآن و السنّة على خلود الشريعة الإسلامية و انّ الرسول خاتم الأنبياء، و كتابه خاتم الكتب، و شريعته خاتمة الشرائع، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة، و بذلك تضافرت الآيات و الروايات و قد تقدّم.

فاللازم أيضاً أن لا يكون أيّ تناف بين خلود الشريعة و تأثير الزمان و المكان على الاستنباط.

و من حسن الحظ انّ الأُستاذ أحمد مصطفى الزرقاء قد صرح بهذا الشرط، و هو انّ عنصري الزمان و المكان لا تمسان كرامة الأحكام المنصوصة في الشريعة، و إنّما يؤثران في الأحكام

ص: 40

المستنبطة عن طريق القياس و المصالح المرسلة و الاستحسان و قال ما هذا نصّه:

قد اتّفقت كلمة فقهاء المذاهب على أنّ الأحكام التي تتبدّل بتبدّل الزمان و أخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية و مصلحية، أي التي قررها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة، و هي المقصودة من القاعدة المقررة «تغيير الأحكام بتغيّر الزمان».

أمّا الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها و توطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة، الناهية كحرمة المحرمات المطلقة و كوجوب التراضي في العقود، و التزام الإنسان بعقده، و ضمان الضرر الذي يلحقه بغيره و سريان إقراره على نفسه دون غيره، و وجوب منع الأذى و قمع الاجرام، وسد الذرائع إلى الفساد و حماية الحقوق المكتسبة، و مسئولية كلّ مكلّف عن عمله و تقصيره، و عدم مؤاخذة بريء بذنب غيره، إلى غير ذلك من الأحكام و المبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها و مقاومة خلافها، فهذه لا تتبدل

ص: 41

بتبدل الأزمان، بل هي الأُصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان و الأجيال، و لكن وسائل تحقيقها و أساليب تطبيقها قد تتبدل باختلاف الأزمنة المحدثة.(1)

و كلامه صريح في أنّ المتغير عندهم هو الأحكام الاجتهادية لا الأحكام المنصوصة، و يريد من الأحكام الاجتهادية ما استنبطه المجتهد من القواعد الخاصة، كالقياس و المصالح المرسلة، و قد صرّح بذلك الدكتور وهبة الزحيلي حيث قال: و ذلك كائن بالنسبة للأحكام الاجتهادية القياسية أو المصلحية المتعلقة بالمعاملات أو الأحوال المدنية من كلّ ما له صلة بشئون الدنيا و حاجات التجارة و الاقتصاد و تغير الأحكام فيها في حدود المبدأ الشرعي، و هو إحقاق الحق و جلب المصالح و درء المفاسد.

أمّا الأحكام التعبدية و المقدرات الشرعية و أُصول الشريعة الدائمة، فلا تقبل التبديل مطلقاً، مهما تبدل المكان و تغير الزمان، كحرمة المحارم، و وجوب التراضي في العقود، و2.

ص: 42


1- المدخل الفقهي العام: 925924/2.

ضمان الضرر الذي يلحقه الإنسان بغيره، و سريان إقراره على نفسه، و عدم مؤاخذة بريء بذنب غيره.

نعم،(1) نقل تقديم بعض الأحكام الاجتهادية على النص عن أحمد بن إدريس المالكي، و نجم الدين أبو ربيع المعروف بالطوفي، و بما انّا لم نقف على نصوص كلامهم نتوقف عن القضاء في حقّهم.

و على أي تقدير يجب على من يقول بتأثير العاملين على استنباط الحكم الشرعي أن يحددهما بشكل لا تمس الأصلين المتقدمين أي نحترز أولاً عن تشريع الحكم، و ثانياً عن مس كرامة تأبيد الأحكام، و على ذلك فلا فرق بين الأحكام الاجتهادية و المنصوصة إذا كان الأصلان محفوظين.

الثالث: انّ المراد من تأثير الزمان و المكان على الاستنباط، هو أن يكون تغير الوضع موجباً لتبدل الحكم

من دون أن يكون في النص إشارة إلى هذا النوع من التغيير، و إلاّ فلو كان التشريع الأوّل متضمناً لتغير الحكم في الزمان الثاني2.

ص: 43


1- أُصول الفقه: 1116/2.

فهو خارج عن موضوع بحثنا و إن كان يمكن الاستئناس به، و على ذلك تخرج الموارد التالية عن موضوع البحث.

أ: اختلاف الحكم الشرعي في دار الحرب مع غيرها، مثلاً لو ارتكب المسلم فعلاً يستتبع الحد فلا يقام عليه في دار الحرب، بخلاف ما لو كان في دار الإسلام.

قال أمير المؤمنين عليه السَّلام: «لا يقام على أحد حدّ بدار العدو».(1)

ب: من زنى في شهر رمضان نهاراً كان أو ليلاً عوقب على الحد لانتهاكه الحرمة، و كذا لو كان في مكان شريف أو زمان شريف.(2)

ج: اختلاف المجاهدين و المنفقين قبل الفتح و بعده، يقول سبحانه: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِة.

ص: 44


1- الوسائل: 18، الباب 10 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1. لاحظ الخلاف: 522/5 قال ابن قدامة في المغني: 538/10. قال أبو حنيفة: لا حدّ و لا قصاص في دار الحرب و لا إذا رجع.
2- الشرائع: 941/4، كتاب الحدود، المسألة العاشرة.

وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا وَ كُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )(1).

د: نسخ الحكم في الزمان الثاني، كما في قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) (2) فقد نسخ بقوله سبحانه: (أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ... )(3).

ه: تغير الأحكام بطروء العناوين الثانوية كالضرر و الحرج و تقديم الأهم على المهم، و النذر و العهد و اليمين و ما أشبه ذلك.

و حصيلة الكلام: أنّ محور البحث هو انّ الظروف المختلفة هي العامل الوحيد لتغير الأحكام بعد التشريع3.

ص: 45


1- الحديد: 10.
2- المجادلة: 12.
3- المجادلة: 13.

الأوّل، و هذه هي التي تبعث الفقيه على الإمعان في بقاء التشريع الأوّل أو زواله، و أمّا إذا قام الشارع بنفسه ببيان اختلاف الحكمين في الظرفين فهو خارج عن محط البحث و إن كان ربما يقرّب فكرة التأثير، و يستأنس بها المجتهد. أو كان التغيير لأجل طروء عناوين ثانوية كالاضطرار و الحرج فهو خارج عن محط البحث و بذلك يعلم انّ استناد بعض من نقلنا نصوصهم من أعلام السنّة إلى تلك العناوين، خروج عن مصب البحث.

الرابع: إذا قلنا بتأثير الزمان و المكان على الاستنباط، فالحكم المستنبط عندئذ حكم واقعي

و ليس حكماً ظاهرياً كما هو معلوم، لعدم أخذ عنوان الشكّ في موضوعه و لا حكماً واقعيّاً ثانوياً الذي يعتمد على عنواني الضرر و الحرج أو غير ذلك من العناوين الثانوية، فالمجتهد يبذل جهده في فهم الكتاب و السنّة لاستنباط الحكم الشرعي الواقعي في هذه الظروف، و يكون حكمه كسائر الأحكام التي يستنبطها

ص: 46

المجتهد في غير هذا المقام، فالحكم بجواز بيع الدم أو المني أو سائر الأعيان النجسة التي ينتفع بها في هذه الأيام ليس حكماً ظاهرياً و لا مستخرجاً من باب الضرر و الحرج، و إنّما هو حكم واقعي كسابقه (أي التحريم) غير انّ الحكم السابق كان مبنياً على عدم الانتفاع بالأعيان النجسة انتفاعاً معتداً به، و هذا الحكم مبني على تبدل الموضوع.

و إن شئت قلت بتبدل مصداق الموضوع إلى مصداق موضوع آخر، تكون الحرمة و الجواز كلاهما حكمين شرعيين واقعيين.

ص: 47

الفصل الثالث تطبيقات عملية

إذا وقفت على الروايات الواردة حول تأثير الزمان و المكان، و على كلمات المحقّقين من الفريقين في ذلك المضمار فآن الأوان للبحث في التطبيقات و الفروع المستنبطة على ضوء ذلك الأصل، و بما انّ تأثير الزمان و المكان على الاستنباط ليس تأثيراً عشوائياً، بل هو خاضع لمنهاج خاص يسير على ضوئه، فلذلك نذكر الأمثلة تحت ضوابط معينة لئلاّ تقع ذريعة إلى إنكار ثبات الأحكام و دوامها:

الأوّل: تأثيرهما في تطبيق الموضوعات على مواردها

لا شكّ انّ هناك أُموراً وقعت موضوعاً لأحكام شرعية نظير:

ص: 48

1. الاستطاعة: قال سبحانه: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(1).

2. الفقر: قال سبحانه: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ ... وَ ابْنِ السَّبِيلِ )(2).

3. الغنى: قال سبحانه: (وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ )(3).

4. بذل النفقة للزوجة: قال سبحانه: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ )(4).

5. إمساك الزوجة بالمعروف: قال سبحانه: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ )(5).

و من الواضح انّ مصاديق هذه الموضوعات تتغير1.

ص: 49


1- آل عمران: 97.
2- التوبة: 60.
3- النساء: 6.
4- الطلاق: 6.
5- البقرة: 231.

حسب تغير أساليب الحياة، فالإنسان المستطيع بالأمس للحجّ، لا يعد مستطيعاً اليوم، لكثرة حاجات الإنسان في الزمان الثاني دون الأوّل، و بذلك يتضح حال الفقر و الغنى، فربّ غني بالأمس فقير اليوم.

كما أنّ نفقة الزوجة في السابق كانت منحصرة في الملبس و المأكل و المسكن، و أمّا اليوم فقد ازدادت حاجاتها على نحو لو لم يقم الرجل ببعض تلك الحاجات يعد عمله بخساً لحقها، و امتناعاً من بذل نفقتها.

إنّ المثلي و القيمي و المكيل و الموزون موضوعات للأحكام الشرعية، مثلاً: لا تجوز معاوضة المتماثلين إذا كان مكيلاً أو موزوناً إلاّ بمثله قدراً و وزناً، دون المعدود و الموزون، فيجوز تبديلهما بأكثر منهما فالمثلي يضمن بالمثلي، و القيمي بالقيمي، و قد عُرِّف المثلي بكثرة المماثل، و القيمي بقلّته، و لذلك عُدت الثياب و الأواني من القيميات، لكن صارا اليوم بفضل الصناعة الحديثة، مثليين.

ثمّ إنّ المتبع في كون شيء مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً

ص: 50

هو عرف البلد الذي يتعامل فيه و هو يختلف حسب اختلاف الزمان و المكان.

و بذلك اتضح انّ عنصري الزمان و المكان يؤثران في صدق المفاهيم في زمان دون زمان.

الثاني: تأثيرهما في تغير الحكم بتغيّر مناطه

لا شكّ انّ الأحكام الشرعية تابعة للملاكات و المصالح و المفاسد، فربما يكون مناط الحكم مجهولاً و مبهماً، و أُخرى يكون معلوماً بتصريح من قبل الشارع، و القسم الأوّل خارج عن محلّ البحث، و أمّا القسم الثاني فالحكم دائر مدار مناطه و ملاكه.

فلو كان المناط باقياً فالحكم ثابت، و أمّا إذا تغيّر المناط حسب تغير الظروف فيتغير الحكم قطعاً، مثلاً:

1. لا خلاف في حرمة بيع الدم بملاك عدم وجود منفعة محلّلة فيه، و لم يزل حكم الدم كذلك حتى اكتشف العلم له منفعة محلّلة تقوم عليها رحى الحياة، و أصبح التبرع

ص: 51

بالدم إلى المرضى كإهداء الحياة لهم، و بذلك حاز الدم على ملاك آخر فحلّ بيعه و شراؤه.

قال السيد الإمام الخميني: الأقوى جواز الانتفاع بالدم في غير الأكل و جواز بيعه لذلك.(1) و على ذلك تعارف من بيع الدم من المرضى و غيرهم لا مانع منه فضلاً عمّا إذا صالح عليه أو نقل حق الاختصاص و يجوز نقل الدم من بدن إنسان إلى آخر، و أخذ ثمنه بعد تعيين وزنه بالآلات الحديثة، و مع الجهل لا مانع من الصلح عليه، و الأحوط أخذ المبلغ للتمكين على أخذ دمه مطلقاً، لا مقابل الدم و لا يترك الاحتياط ما أمكن.

2. انّ قطع أعضاء الميت أمر محرّم في الإسلام، قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «إيّاكم و المثلة و لو بالكلب العقور».(2) و من الواضح انّ ملاك التحريم هو قطع الأعضاء لغاية الانتقام و التشفّي، و لم يكن يومذاك أي فائدة تترتّب على قطع أعضاء7.

ص: 52


1- المكاسب المحرّمة: 57/1.
2- لاحظ نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 47.

الميت سوى تلبية للرغبة النفسية الانتقام و لكن اليوم ظهرت فوائد جمّة من وراء قطع أعضاء الميت، حيث صارت عملية زرع الأعضاء أمراً ضرورياً يستفاد منها لنجاة حياة المشرفين على الموت. و يمكن أن يكون من هذه المقولة المثال التالي:

3. لا شكّ انّ التوالد و التناسل أمر مرغوب في الشرع. روى محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام، قال: إنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأُمم غداً يوم القيامة».(1)

و روى جابر، عن أبي جعفر عليه السَّلام، قال: «قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: ما يمنع المؤمن أن ينفذ أهلاً لعل اللّه يرزقه نسمة تثقل الأرض بلا إله إلاّ اللّه».(2)

حتى أنّه سبحانه يمن على عباده بكثرة المال و البنين، و يقول: (اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ3.

ص: 53


1- الوسائل: 14، الباب الأوّل من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 2 و 3.
2- الوسائل: 14، الباب الأوّل من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 2 و 3.

عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ ).(1)

إلى غير ذلك من الآيات و الروايات الحاثّة على تكثير النسل، لكن ربما تعتري البلاد أزمة اقتصادية و ثقافية خانقة لا تتمكن من توفير الخدمات اللازمة لمواطنيها نتيجة كثافة سُكّانها، فعند ذلك ينقلب ملاك الحكم الاستحبابي إلى غيره، لأنّ هدف الشارع من تكثير النسل هو توفير العزّة و المنعة، فإذا تعسّر فحينها يكون تحديد النسل هو الحل المطلوب.

و هناك أمثلة أُخرى لم نستعرضها لعدم ثبوت تغيير الملاك عندنا، كصناعة التماثيل فربما يتصور انّ الملاك في التحريم هو كون صناعة التماثيل ذريعة لعبادة أصحابها، و أمّا اليوم فقد انتفى ذلك الملاك و عادت من الفنون الجميلة.

هذا بالنظر إلى البلاد الإسلامية، و أمّا بالنظر إلى دول جنوب آسيا فالتجسيم هناك رمز العبادة و الشرك و ذريعة إليه فهل يكفي في الحلية خلو العمل من الملاك في بلد خاص، أو0.

ص: 54


1- نوح: 1210.

يجب أن يكون كذلك في كافة البلدان أو أغلبها، و الثاني هو المتعيّن.

الثالث: تأثيرهما في كشف مصاديق جديدة للموضوع

إنّ الزمان و المكان كما يؤثران في تغيّر الملاك و تبدّله، كذلك يؤثران في إسراء الحكم إلى موضوع لم يكن موجوداً في عصر التشريع و ذلك بفضل الملاك المعلوم، و لنذكر هنا أمثلة:

1. انّ السبق و الرماية من التمارين العسكرية التي يكتسب بها المهارة اللازمة للدفاع عن النفس و للقتال و الظاهر من بعض الروايات حصرها في أُمور ثلاثة.

روى حفص بن غياث، عن الإمام الصادق عليه السَّلام قال: «لا سبق إلاّ في خف أو حافر أو نصل يعني: النضال».(1)

و روى عبد اللّه بن سنان عنه عليه السَّلام قال: سمعته يقول: «لا سبق إلاّ في خف أو حافر أو نصل يعني النضال».(2)

و روى الإمام الصادق عليه السَّلام عن رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه كان2.

ص: 55


1- الوسائل 13، الباب 3 من أبواب السبق و الرماية، الحديث 1، 2.
2- الوسائل 13، الباب 3 من أبواب السبق و الرماية، الحديث 1، 2.

يقول: «إنّ الملائكة تحضر الرهان في الخف و الحافر و الريش و ما سوى ذلك فهو قمار حرام».(1)

و من المعلوم أنّ المناط للسبق بهذه الأُمور هو تقوية البنية الدفاعية، فتحصيل هذا الملاك في هذه الأعصار لا يقتصر على السبق بهذه الأُمور الثلاثة، بل يتطلب لنفسه وسائل أُخرى أكثر تطوراً.

قال الشهيد الثاني في «المسالك»: لا خلاف بين المسلمين في شرعية هذا العقد، بل أمر به النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في عدّة مواطن لما فيه من الفائدة المذكورة هي من أهمّ الفوائد الدينية لما يحصل بها من غلبة العدو في الجهاد لأعداء اللّه تعالى، الذي هو أعظم أركان الإسلام و لهذه الفائدة يخرج عن اللهو و اللعب المنهي عن المعاملة عليهما.(2)

فإذا كانت الغاية من تشريعها الاستعداد للقتال و التدرب للجهاد، فلا يفرق عندئذ بين الدارج في زمن النبي6.

ص: 56


1- الوسائل 13، الباب 3 من أبواب السبق و الرماية، الحديث 3، 5.
2- المسالك: 69/6.

صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و غيره أخذاً بالملاك المتيقن.

و على ذلك فالحصر ناظر إلى السبق فيما يعد لهواً كاللعب بالحمام كما في رواية عن رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال: «كلّ لهو... باطل إلاّ في ثلاث: في تأديبه الفرس، و رميه عن قوسه، و ملاعبته امرأته فانّهن حقّ».(1)

2. الدفاع عن بيضة الإسلام قانون ثابت لا يتغير، و إليه يرشد قوله سبحانه: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ )(2) ، فكان الدفاع في الصور السابقة بالسهم و النصل و السيف و ما أشبه ذلك.

و أمّا اليوم و في ظل التقدم العلمي الهائل، فقد أصبحت المعدات الحربية تدور حول الدبابات و المدرعات و الحافلات و الطائرات المقاتلة و البوارج البحريّة.

3. أمر الإسلام بنشر الثقافة و التعليم و التربية و كانت0.

ص: 57


1- الوسائل: 13، الباب 1 من أحكام السبق و الرماية، الحديث 5.
2- الأنفال: 60.

الوسائل المستخدمة في هذا الصدد يوم ذاك لا تتعدى أُموراً بسيطة كالمداد و الدواة، و لكن اليوم في ظل التقدم العلمي فقد أصبحت وسائل التعليم متطورة للغاية حتى شملت الكامبيوتر و التلفزة و الاذاعة و شبكة المعلومات «الانترنت».

4. لقد ذهب المشهور إلى تخصيص الاحتكار بأجناس معدودة.

روى السكوني، عن الإمام الصادق عن آبائه عليهم السَّلام عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «الحكرة في ستة أشياء: في الحنطة و الشعير و التمر و الزيت و السمن و الزبيب».(1)

و روى غياث، عن الإمام الصادق عليه السَّلام، قال: «ليس الحكرة إلاّ في الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و السمن».(2)

و قد ذهب الشيخ الطوسي في النهاية بعد عدها إلى أنّه لا يكون الاحتكار في سوى هذه الأجناس و تبعه لفيف من الفقهاء.(3)

و ثمة احتمال آخر و هو انّ الأجناس الضرورية يومذاك8.

ص: 58


1- الوسائل 12، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 10 و 4.
2- الوسائل 12، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 10 و 4.
3- الحدائق الناضرة: 62/18.

كانت منحصرة بما ورد في الروايات على نحو ينجم عن احتكارها أزمة في المجتمع الإسلامي، دون سائر الأجناس، و أمّا اليوم فلا شكّ انّه اتسعت الحاجات و تغيرت فعاد ما لم يكن ضرورياً في الماضي أمراً ضرورياً في عصرنا هذا، فلو أوجد الحكرة في غير هذه الأجناس نفس الأزمة، يكون الجميع على حد سواء، خصوصاً و انّ الحلبي روى عن الإمام الصادق عليه السَّلام أنّه قال: سألته عن الرجل يحتكر الطعام و يتربص به، هل يصلح ذلك؟ ثمّ قال: «إن كان الطعام كثيراً يسع الناس فلا بأس به و إن كان الطعام قليلاً لا يسع الناس فانّه يكره أن يحتكر الطعام و يترك الناس ليس لهم طعام».

فإذا(1) كان الميزان هو توفير السعة على الناس و عدمه، فلا فرق بين الطعام و غيره فلا يبعد أن تعم حرمة الحكرة إلى غيره.

إنّ من المعلوم أنّ الأحكام الشرعية تابعة للملاكات2.

ص: 59


1- وسائل الشيعة: 12، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2.

فانّها شرعت على أساس المصالح و المفاسد، و هذا يقتضي استيعاب الحكرة لغير ما نصّ عليه، و قد عرفت أنّ الروايات الحاصرة ناظرة إلى عمدة ما يحتاج إليه الناس في العصور الماضية.

و هذا هو خيرة صاحب الجواهر فانّه قال: بل هو كذلك في كلّ حبس لكلّ ما تحتاجه النفوس المحترمة و يضطرون إليه و لا مندوحة لهم عنه من مأكول أو مشروب أو ملبوس أو غيرها، من غير تقييد بزمان دون زمان، و لا أعيان دون أعيان، و لا انتقال بعقد، و لا تحديد بحدّ، بعد فرض حصول الاضطرار... بل لا يبعد حرمة قصد الاضطرار بحصول الغلاء و لو مع عدم حاجة الناس و وفور الأشياء، بل قد يقال بالتحريم بمجرد قصد الغلاء و حبه و إن لم يقصد الإضرار، و يمكن تنزيل القول بالتحريم على بعض ذلك.(1)

و قال أيضاً: لو اعتاد الناس طعاماً في أيّام القحط مبتدعاً جرى فيه الحكم لو بني فيه على العلة و في الأخبار ما2.

ص: 60


1- جواهر الكلام: 481/22.

ينادي بأنّ المدار على الاحتياج و هو مؤيد للتنزيل على المثال، و إن كان فيه ما لا يخفى.(1)

و إلى ذلك ذهب فقيه عصره السيد الاصفهاني، قال: الاحتكار و هو حبس الطعام و جمعه يتربص به الغلاء حرام مع ضرورة المسلمين و حاجتهم و عدم وجود من يبذلهم قدر كفاية... و إنّما يتحقّق الاحتكار بحبس الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و الدهن، و كذا الزيت و الملح على الأحوط لو لم يكن الأقوى، بل لا يبعد تحقّقه في كلّ ما يحتاج إليه عامة أهالي البلد من الأطعمة كالأرز و الذرّة بالنسبة إلى بعض البلاد.(2)

و قال المحقّق الحائري: إذا فرض الاحتياج إلى غير الطعام من الأُمور الضرورية للمسلمين كالدواء و الوقود في الشتاء بحيث استلزم من احتكارها الحرج و الضرر على المسلمين فمقتضى أدلة الحرج و الضرر حرمته و إن لم يصدق عليه لغة الاحتكار.

و يمكن التمسّك بالتذييل الذي هو في مقام التعليل2.

ص: 61


1- جواهر الكلام: 483/22.
2- وسيلة النجاة: 8/2.

بحسب الظاهر المتقدم في معتبر الحلبي، بناء على أنّه إذا كان الظاهر أنّ التعليل بأمر ارتكازي فيحكم بإلغاء قيد الطعام، لأنّه ليس بحسب الارتكاز إلاّ من جهة توقّف حفظ النفس عليه، فإذا وجد الملاك المذكور في الدواء مثلاً فلا ريب انّه بحكمه عرفاً، و هذا يوجب إلغاء الخصوصية المأخوذة في التعليل.(1)

أقول: إنّ صاحب الجواهر و المحقّق الحائري حكما بتحريم الاحتكار لأجل الاضطرار، فصارت الحرمة حكماً ثانوياً.

و لكن الحقّ انّ الحرمة حكم أوّلي لما عرفت من أنّ الملاك هو كون الناس في السعة و الضيق فيجوز الأوّل، و يحرم في الثاني، و لا أظن انّ الضيق الناجم عن احتكار الدواء للمرضى و الجرحى أقل وطأة من حكر الملح و السمن و الزيت.(2)5.

ص: 62


1- ابتغاء الفضيلة في شرح الوسيلة: 197/1.
2- و راجع في حكم الاحتكار: مفتاح الكرامة: 107/4; مصباح الفقاهة: 498/5.

الرابع: تأثيرهما في تغير أساليب تنفيذ الحكم

1. تضافرت النصوص على حلّية الأنفال للناس، و من الأنفال: الآجام و الأراضي الموات، و قد كان انتفاع الناس بها في الأزمنة الماضية لا يورث مشكلة في المجتمع، و ذلك لبساطة الأدوات التي تستخدم في الاستفادة المحدودة من الأنفال. فلم يكن هناك أيّ ملزم للحد من انتفاع الناس من الأنفال، و أمّا اليوم فقد تطورت أساليبُ الانتفاع من الأنفال و ازداد جشع الإنسان حيالها، فدعت الضرورة إلى وقف الاستغلال الجشع لهذه الأنفال من خلال وضع قوانين كفيلة بتحديد هذا الانتفاع صيانة للبيئة.

2. اتّفق الفقهاء على أنّ الغنائم الحربية تقسّم بين المقاتلين على نسق خاص بعد إخراج خمسها لأصحابها، لكن الغنائم الحربية في عصر صدور الروايات كانت تدور حول السيف و الرمح و السهم و الفرس و غير ذلك، و من المعلوم أنّ تقسيمها بين المقاتلين كان أمراً ميسراً آنذاك، و أمّا اليوم

ص: 63

و في ظل التقدم العلمي الهائل فقد أصبحت الغنائم الحربية تدور حول الدبابات و المدرّعات و الحافلات و الطائرات المقاتلة و البوارج البحريّة، و من الواضح عدم إمكان تقسيمها بين المقاتلين بل هو أمر متعسّر، فعلى الفقيه أن يتخذ أُسلوباً في كيفية تطبيق الحكم على صعيد العمل ليجمع فيها بين العمل بأصل الحكم و الابتعاد عن المضاعفات الناجمة عنها.

3. انّ الناظر في فتاوى الفقهاء السابقين فيما يرجع إلى الحج من الطواف حول البيت و السعي بين الصفا و المروة و رمي الجمار و الذبح في منى يحس حرجاً شديداً في تطبيق عمل الحج على هذه الفتاوى، و لكن تزايد وفود حجاج بيت اللّه عبر الزمان يوماً بعد يوم أعطى للفقهاء رئي وسيعة في تنفيذ تلك الأحكام على موضوعاتها، فأفتوا بجواز التوسع في الموضوع لا من باب الضرورة و الحرج، بل لانفتاح آفاق جديدة أمامهم في الاستنباط.

كانت الفتاوى في الأعصار السابقة على تحديد المطاف ب 26 ذراعاً، و من المعلوم أنّ هذا التحديد كان يرجع فيما إذا

ص: 64

كان عدد الحجاج لا يزيد على 100 ألف حاج، و أمّا اليوم فعدد الطائفين تجاوز عن هذا الحد بكثير حتى بلغ عددهم في هذه الأعصار إلى مليوني حاج بل أزيد، فإذا خوطب هؤلاء بالطواف على البيت فهل يفهم منه انّه يجب عليهم الطواف بين الحدين؟ إذ معنى ذلك أن يحرم الكثير من هذه الفريضة، أو يفهم إيجاد التناوب بين الطائفين حتى لا يطوف حاج طوافاً ندبياً إلى أن يفرغ الحجاج عن الفريضة، أو يفهم منه ما فهمه الآخرون من أنّهم يطوفون بالبيت بالأقرب فالأقرب؟ و إلى تينك الحالتين تشير الروايتان التاليتان(1):

1. فقد روى محمد بن مسلم مضمراً، قال: سألته عن حدّ الطواف بالبيت الذي من خرج عنه لم يكن طائفاً بالبيت؟ قال: «كان النّاس على عهد رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم يطوفون بالبيت و المقام و أنتم اليوم تطوفون ما بين المقام و بين البيت، فكان الحدّ موضع المقام اليوم، فمن جازه فليس بطائف، و الحدّ قبل اليوم و اليوم واحد قدر ما بين المقام و بين البيت من نواحي2.

ص: 65


1- الوسائل: الجزء 9، الباب 28 من أبواب الطواف، ح 1 2.

البيت كلّها، فمن طاف فتباعد من نواحيه أبعد من مقدار ذلك كان طائفاً بغير البيت بمنزلة من طاف بالمسجد لأنّه طاف في غير حدّ و لا طواف له».

2. محمّد بن علي الحلبيّ قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن الطواف خلف المقام؟ قال: «ما أحبّ ذلك و ما أرى به بأساً، فلا تفعله إلاّ أن لا تجد منه بداً».

و الأُولى ناظرة إلى الحالة التي يتمكن الحاج من الطواف بين الحدين بلا مشقة كثيرة، و لعلّ الإمام المروي عنه هو أبو جعفر الباقر عليه السَّلام، و لم يكن يوم ذاك زحام كثير; و الثانية منهما ناظرة إلى عصر الزحام بحيث يعسر للحاج أن يراعي ذلك الحدّ.

3. أفتى القدماء بأنّ الإنسان يملك المعادن المركوزة في أرضه تبعاً لها دون أي قيد أو شرط، و كان الداعي من وراء تلك الفتوى هو بساطة الوسائل المستخدمة لذلك، و لم يكن بمقدور الإنسان الانتفاع إلاّ بمقدار ما يعد تبعاً لأرضه، و لكن مع تطور الوسائل المستخدمة للاستخراج، استطاع أن

ص: 66

يتسلط على أوسع مما يعدّ تبعاً لأرضه، فعلى ضوئه لا مجال للإفتاء بأنّ صاحب الأرض يملك المعدن المركوز تبعاً لأرضه بلا قيد أو شرط، بل يحدد بما يعد تبعاً لها عرفاً، و أمّا الخارج عنها فهو إمّا من الأنفال أو من المباحات التي يتوقف تملّكها على إجازة الإمام.

نعم لا ينبغي التأمل في قيام السيرة العقلائية بل و كذا الشرعية و إن انتهت إليها على دخولها في ملك صاحب الأرض بتبع ملكه للأرض فتلحق الطبقة السافلة بالعالية و الباطنة بمحتوياتها بالظاهرة أخذاً بقانون التبعية و إن لم يتم هذا الإلحاق من ناحية الإحياء حسبما عرفت و من ثمّ لو باع ملكه فاستخرج المشتري منه معدناً ملكه و ليس للبائع مطالبته بذلك، لأنّه باعه الأرض بتوابعها.

و لكن السيرة لا إطلاق لها و المتيقن من موردها ما يعد عرفاً من توابع الأرض و ملحقاتها، كالسرداب و البئر و ما يكون عمقه بهذه المقادير التي لا تتجاوز عن حدود الصدق العرفي، فما يوجد أو يتكون و يستخرج من خلال ذلك فهو ملك

ص: 67

لصاحب الأرض بالتبعية كما ذكر.

و أمّا الخارج عن نطاق هذا الصدق غير المعدود من التوابع كآبار النفط العميقة جداً و ربما تبلغ الفرسخ أو الفرسخين، أو الآبار العميقة المستحدثة أخيراً لاستخراج المياه من عروق الأرض البالغة في العمق و البعد نحو ما ذكر أو أكثر، فلا سيرة في مثله و لا تبعية، و معه لا دليل على إلحاق نفس الأرض السافلة بالعالية في الملكية فضلاً عن محتوياتها من المعادن و نحوها.

نعم في خصوص المسجد الحرام ورد أنّ الكعبة من تخوم الأرض إلى عنان السماء. و لكن الرواية ضعيفة السند. و من ثمّ ذكرنا في محله لزوم استقبال عين الكعبة لجميع الأقطار لا ما يسامتها من شيء من الجانبين.

5. انّ روح القضاء الإسلامي هو حماية الحقوق و صيانتها، و كان الأُسلوب المتبع في العصور السابقة هو أُسلوب القاضي الفرد، و قضاؤه على درجة واحدة قطعية،

ص: 68

و كان هذا النوع من القضاء مؤمّناً لهدف القضاء، و لكن اليوم لما دبّ الفساد في المحاكم، و قلّ الورع اقتضى الزمان أن يتبدل أُسلوب القضاء إلى أُسلوب محكمة القضاة الجمع، و تعدّد درجات المحاكم حسب المصلحة الزمانية التي أصبحت تقتضي زيادة الاحتياط.

الخامس: تأثيرهما في بلورة موضوعات جديدة

إنّ التطور الصناعي و العلمي أسفر عن موضوعات جديدة لم يكن لها وجود من ذي قبل، فعلى الفقيه دراسة هذه الموضوعات بدقة و إمعان و لو بالاستعانة بأهل الخبرة و التخصص في ذلك المجال، و ها نحن نشير إلى بعض العناوين المستجدة:

1. التأمين بكافة أقسامه، فهناك من يريد دراسة هذا الموضوع تحت أحد العناوين المعروفة في الفقه كالصلح و الضمان و غيره، مع أنّه عقد مستقل بين العقلاء، فعلى الفقيه دراسة ذلك العنوان كالموجود بين العقلاء.

ص: 69

2. لقد ظهرت حقوق عقلائية مستجدّة لم تكن مطروحة بين العقلاء، كحقّ التأليف، و حقّ براءة الاختراع، و حق الطبع، و حق النشر، و غيرها من الآثار الخلاّقة، و هذا ما يعبر عنه بالملكية الفكرية، و قد أقرّ بها الغرب و اعترف بها رسمياً، و يعدّ المتجاوز على هذه الحقوق متعدياً.

3. المسائل المستجدّة في عالم الطب كثيرة من التلقيح الصناعي، و زرع الأعضاء و بيعها، و الاستنساخ البشري، و التشريح، و تغيير الجنسية إلى غير ذلك من المسائل.

4. الشركات التجارية هي من المستجدات و التي تقوم بدور أساسي في الحياة الاقتصادية، و هي بين شركات الأشخاص و شركات الأموال.

أمّا الأُولى فهي عبارة عن شركة التضامن، و شركة التوصية، و شركة الخاصة.

و أمّا الثانية فأهم أقسامها هي شركة المساهمة، فعلى الفقيه استنباط حكم هذه الشركات على ضوء النصوص و القواعد.

ص: 70

إلى هنا تبين انّ تغيير الأحكام من خلال تبدّل الظروف خاضع لأُصول صحيحة لا تتنافى مع سائر الأُصول و ليس التغيير في ضوئها مصادماً لحصر التشريع أو لتأييد الأحكام أو سائر الأُصول.

السادس: تأثيرهما في تفسير القرآن الكريم

لا ينحصر تأثير الزمان و المكان على الاستنباط بل تعدّاه إلى حقل التفسير أيضاً، فإنّ للقرآن الكريم آفاقاً لا متناهية، يظهر واحد تلو الآخر، و هو كما قال الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السَّلام عند ما سأله سائل بقوله: ما بال القرآن لا يزداد عند النشر و الدرس إلاّ غضاضة؟

فأجاب عليه السَّلام: «إنّ اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان، و لا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد و عند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة.(1)

نرى أنّ الإمام الرضا عليه السَّلام لا يشير في هذا الحديث إلى1.

ص: 71


1- البرهان في تفسير القرآن: 28/1.

موضوع خلود القرآن فقط، بل يشير أيضاً إلى سرّ خلوده و بقائه غضاً جديداً لا يتطرق إليه البلى و الذبول.

فكأنّ القرآن هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الواسع الأطراف الذي لا يزيد البحث فيه و الكشف عن حقائقه و أسراره، إلاّ إذعان الإنسان بأنّه في الخطوات الأُولى من التوصل إلى مكامنه الخفية في أغواره، فانّ كتاب اللّه تعالى كذلك لا يتوصل إلى كلّ ما فيه من الحقائق و الأسرار، لأنّه منزل من عند اللّه الذي لا تتصور له نهاية، و لا يمكن تحديده بحدود و أبعاد، فيجب أن تكون في كتابه لمعة من لمعاته، و يُثبت بنفسه أنّه من عنده، و يتوفر فيه ما يدلّ على أنّه كتاب سماوي ليس من صنع البشر، و هو خالد إلى ما شاء اللّه تعالى.

إنّ نبي الإسلام صلَّى الله عليه و آله و سلَّم هو أوّل من لفت الأنظار إلى تلكم المزية و انّ هذه المزية من أهم خصائصه، حيث يقول في وصفه للقرآن: «له ظهر و بطن، و ظاهره حكم و باطنه علم، ظاهره أنيق و باطنه عميق، له تخوم و على تخومه تخوم، لا

ص: 72

تحصى عجائبه و لا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى و منار الحكمة».(1)

فلنستعرض مثالاً نبين فيه دور الزمان في كشف اللثام عن مفهوم الآية.

إنّه سبحانه يصف عامة الموجودات بالزوجية من دون فرق بين ذي حياة و غيره، يقول: (وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )(2).

و قد شغلت الآية بال المفسرين و فسّروه بما وصلت إليه علومهم، قال الراغب في تفسير الآية: «و في الآية تنبيه على أنّ الأشياء كلّها مركبة من جوهر و عرض، و مادة و صورة، و ان لا شيء يتعرّى من تركيب يقتضي كونه مصنوعاً و أنّه لا بدّ له من صانع، تنبيهاً على أنّه تعالى هو الفرد، فبيّن أنّ كلّ ما في العالم زوج، حيث إنّ له ضداً أو مثلاً ما، أو تركيباً ما، بل لا ينفك بوجه من تركيب و إنّما ذكرها هنا زوجين، تنبيهاً على9.

ص: 73


1- الكافي: 599/2، كتاب القرآن.
2- الذاريات: 49.

أنّ الشيء و إن لم يكن له ضد و لا مثل، فانّه لا ينفك من تركيب جوهر و عرض، و ذلك زوجان.(1)

غير انّ الزمان فسّر حقيقة هذه الزوجية العامة، بتركيب الذرّة (أتُم) من جزءين معروفين.

و قد عبّر القرآن عن هذين الجزءين الحاملين للشحنتين المختلفتين، بالزوجية، حتى لا يقع موقع التكذيب و الردّ، إلى أن يكشف الزمان مغزى الآية و مفادها.

و بذلك يعلم سرّ ما روي عن ابن عباس انّه قال: إنّ القرآن يفسره الزمان.(2)

فكما أنّ الزمان يفسر الحقائق الكونية الواردة في القرآن الكريم فكذلك يفسر إتقان تشريعه في مجال الفرد و المجتمع، كما هو أيضاً يفسر أخباره الغيبية الواردة فيه، و على ذلك فللزمان دور في الإفصاح عن معاني الآيات كدوره في استنباط الأحكام.ن.

ص: 74


1- مفردات الراغب، مادة زوج، ص 216.
2- راجع النبات في حقل الحياة، تأليف نقي الموصلي، الشيخ العبيدين.

السابع: تأثيرهما في تفسير السنّة

ربما يرى الباحث اختلافاً في السنة المروية عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و أهل بيته الطاهرين، فيعود إلى رفع الاختلاف بوجوه مختلفة مذكورة في الكتب الأُصولية، و لكن ثمة حل لطائفة من هذه السنن المتخالفة، و هو انّ لكلّ من الحكمين ظرفاً زمانياً خاصاً يستدعي الحكم على وفاقه فلو حارب النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قريشاً في بدر و أُحد فلمصلحة ملزمة في ذلك الزمان، و لو أظهر المرونة و تصالح معهم في الحديبية فلمصلحة ملزمة في ذلك و لم يصغ إلى مقالة من قال: «أ نعطي الدنيّة في ديننا» و تصور انّ في الصلح تنازلاً عن الرسالة الإلهية و الأهداف السامية و غفل عن آثاره البنّاءة التي كشف عنها سير الزمان كما هو مذكور في تاريخ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم.

التفسير الخاطئ لتأثير الزمان و المكان

لا شكّ انّ الأحكام الشرعية تابعة لمصالح و مفاسد في

ص: 75

متعلقاتها، فلا واجب إلاّ لمصلحة في فعله، و لا حرام إلاّ لمفسدة في اقترافه، انّ للتشريع الإسلامي نظاماً لا تعتريه الفوضى، و هذا الأصل و إن خالف فيه بعض المتكلّمين، غير أنّ نظرهم محجوج بكتاب اللّه و سنّة نبيّه و نصوص خلفائه عليهم السَّلام.

ترى أنّه سبحانه يعلل حرمة الخمر و الميسر بقوله:

(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ )(1).

و يستدل على وجوب الصلاة بقوله سبحانه: (وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ) (2) إلى غير ذلك من الفرائض و المناهي التي أُشير إلى ملاكات تشريعهما في الذكر الحكيم.

و قد قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا عليهما السَّلام: «إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يبح أكلاً و لا شرباً إلاّ لما فيه المنفعة5.

ص: 76


1- المائدة: 91.
2- العنكبوت: 45.

و الصلاح، و لم يحرّم إلاّ ما فيه الضرر و التلف و الفساد».(1)

و الآيات القرآنية تشهد بوضوح على ما قاله ذلك الإمام الطاهر حيث إنّها تعلّل تشريع الجهاد بقوله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) (2) كما تعلّل القصاص بقوله: (وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )(3).

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على ذلك بوضوح، و مع أنّ المعروف من الإمام الأشعري هو عدم تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد بزعم انّ في القول بذلك تضييقاً للإرادة الإلهية، و لكن المحقّقين من أهل السنة على خلاف ذلك منهم الشاطبي في موافقاته قال:

و قد ثبت انّ الشريعة موضوعة لتحقيق مصالح الناس عاجلاً أم آجلاً، إمّا بجلب النفع لهم، أو لدفع الضرر و الفساد عنهم، كما دلّ عليه الاستقراء و تتبع مراد الأحكام.(4)2.

ص: 77


1- مستدرك الوسائل: 71/3.
2- الحج: 39.
3- البقرة: 179.
4- الموافقات: 6/2.

و على ضوء ذلك فالمصالح المستكشفة عبر الزمان إذا كانت مصالح عامة أو مفاسد كذلك و لم يرد في موردها أمر و لا نهي، فللفقيه أن يستكشف من المصلحة الملزمة أو المفسدة كون الشيء واجباً أم حراماً، و ذلك كتعاطي المخدرات في مورد المفاسد، و تزريق الأمصال فيما إذا انتشر الداء في المجتمع الذي لا ينقذه إلاّ التزريق، ففي هذه الموارد التي ليس للإسلام حكم إلزامي يمكن أن يستكشف الوجوب أو الحرمة ببركة إدراك العقل للمصلحة النوعية أو المفسدة كذلك.

إنّ استكشاف العقل المصالح و المفاسد إنّما يقع ذريعة للتشريع إذا كان المورد من قبيل «منطقة الفراغ» أي لم يكن للشارع هناك حكم بالإلزام بالفعل أو الترك، و أمّا إذا كان هناك حكم شرعي قطعي فلا يصح للمستنبط تغيير الحكم بالمصالح و المفاسد المزعومة، فانّه يكون من قبيل تقديم المصلحة على النص، و هو أمر غير جائز، و قد عرفت في صدر البحث انّ تأثير الزمان و المكان إنّما هو في الأحكام الاجتهادية

ص: 78

دون الأحكام المنصوصة.

و الحاصل انّه إذا كان هناك نص من الشارع و لم يكن الموضوع من قبيل (منطقة الفراغ) فلا معنى لتقديم المصلحة على النص، فانّه تشريع محرّم يكون ذريعة للتخلص من الالتزام بالأحكام الشرعية.

و بذلك يعلم أنّ ما صدر من بعض السلف في بعض الموارد من تقديم المصالح على النصوص قد جانب الصواب بلا شكّ كالمثال التالي:

دلّ الكتاب و السنّة على بطلان الطلاق ثلاثاً، من دون أن يتخلّل بينها رجوع أو نكاح، فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة أو كرّر الصيغة فلا يحتسب إلاّ طلاقاً واحداً. و قد جرى عليه رسول اللّه و الخليفة الأوّل و كان صلَّى الله عليه و آله و سلَّم لا يمضي من الطلقات الثلاث إلاّ واحدة منها، و كان الأمر على هذا المنوال إلى سنتين من خلافة الخليفة الثاني، و سرعان ما عدل عن ذلك، قائلاً: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو

ص: 79

أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم.

إنّ من(1) المعلوم أنّ إعمال الرأي فيما فيه نصّ من كتاب أو سنّة، أمر خاطئ، و لو صحّ إعماله فإنّما هو فيما لا نصّ فيه، و مع ذلك جاء الآخرون يبرّرونه بتغيّر الأحكام بالمصالح و المفاسد، لا سيما ابن قيم الجوزية، فقال: لمّا رأى الخليفة الثاني انّ مفسدة تتابع النصّ في إيقاع الطلاق لا تندفع إلاّ بإمضائها على الناس، و رأى مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الإيقاع، أمضى عمل الناس، و جعل الطلاق ثلاثاً، ثلاثاً.(2)

يلاحظ عليه: أنّ إبطال الشريعة أمر محرّم لا يستباح بأي عنوان، فلا يصحّ لنا تغيير الشريعة بالمعايير الاجتماعية من الصلاح و الفساد، و أمّا مفسدة تتابع النص في إيقاع الطلاق الثلاث فيجب أن تدفع عن طريق آخر، لا عن طريق إمضاء ما ليس بمشروع مشروعاً.3.

ص: 80


1- مسلم: الصحيح: 183/4، باب الطلاق الثلاث، الحديث 1.
2- أعلام الموقعين: 48/3.

و العجب انّ ابن قيم التفت إلى ذلك، و قال: كان أسهل من ذلك (تصويب الطلقات ثلاثاً) أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث، و يحرّمه عليهم، و يعاقب بالضرب و التأديب من فعله لئلاّ يقع المحذور الذي يترتّب عليه، ثمّ نقل عن عمر بن الخطاب ندامته على التصويب، قال: قال الخليفة الثاني: ما ندمت على شيء مثل ندامتي على ثلاث.(1)

و هنا كلمة للشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر حول عدّ الاجتهاد من مصادر التشريع حيث قال:

و يشمل الاجتهاد أيضاً، النظر في تعرف حكم الحادثة عن طريق القواعد العامة و روح التشريع، التي عرفت من جزئيات الكتاب و تعرفات الرسول، و أخذتْ في نظر الشريعة مكانة النصوص القطعية التي يرجع إليها في تعرف الحكم للحوادث الجديدة.1.

ص: 81


1- أعلام الموقعين: 36/3، و أشار إليه في كتابه الآخر إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: 336/1.

و هذا النوع هو المعروف بالاجتهاد عن طريق الرأي و تقدير المصالح. و قد رفع الإسلام بهذا الوضع جماعة المسلمين عن أن يخضعوا في أحكامهم و تصرفاتهم لغير اللّه، و منحهم حق التفكير و النظر و الترجيح و اختيار الأصلح في دائرة ما رسمه من الأُصول التشريعية، فلم يترك العقل وراء الأهواء و الرغبات، و لم يقيده في كلّ شيء بمنصوص قد لا يتفق مع ما يجدّ من شئون الحياة، كما لم يلزم أهل أي عصر باجتهاد أهل عصر سابق دفعتهم اعتبارات خاصة إلى اختيار ما اختاروا.(1)

ما ذكره حقّ ليس وراءه شيء إلاّ انّي لا أوافق قوله: «و لم يقيده في كلّ شيء بمنصوص قد لا يتفق مع ما يجدّ من شئون الحياة» فانّه هفوة من الأُستاذ، إذ أي أصل و حكم شرعي منصوص لا يتفق مع ما يجدّ من شئون الحياة. و ليس ما ذكره إلاّ من قبيل تقديم المصلحة على النص، و هو تشريع محرم، و تقدّم على اللّه و رسوله، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ5.

ص: 82


1- رسالة الإسلام، السنة الرابعة، العدد الأوّل، ص 5.

آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ ).(1)

فالواجب على كلّ مسلم التجنب عن هذا النوع من الاستصلاح، نعم للاستصلاح صور متنوعة ذكرناها في الجزء الأوّل من تقديمنا على «موسوعة طبقات الفقهاء».(2)5.

ص: 83


1- الحجرات: 1.
2- طبقات الفقهاء، المقدمة: القسم الأوّل: 265.

الفصل الرابع دور الزمان و المكان في الأحكام الحكومية

ثمّ إنّ ما ذكرناه يرجع إلى دور الزمان و المكان في عملية الاجتهاد و الإفتاء، و أمّا دورهما في الأحكام الحكومية التي تدور مدار المصالح و المفاسد و ليست من قبيل الأحكام الواقعية و لا الظاهرية، فلها باب واسع نأتي بكلام موجز فيه.

إنّ تقدّم العناوين الثانوية على الأوّلية يحلّ العُقَد و المشاكل في مقامين:

الأوّل: إذا كان هناك تزاحم بين الحكم الواقعيّ الأوّلي و الحكم الثانوي، فيقدّم الثاني على الأوّل، إمّا من باب الحكومة أو من باب التوفيق العرفيّ، كتقدّم لا ضرر و لا حرج

ص: 84

على الأحكام الضررية و الحرجية، و هذا النوع من التقدّم يرجع إلى باب الإفتاء و الاستنباط.

الثاني: إذا كان هناك تزاحم بين نفس الأحكام الواقعيّة بعضها مع بعض بحيث لو لم يُتدخَّل في فك العُقَد، و حفظ الحقوق لحصلت مفاسد، و هنا يأتي دور الحاكم و الفقيه الجامع للشرائط، المتصدي لمنصب الولاء، بتقديم بعض الأحكام الواقعيّة على بعض بمعنى تعيين أنّ المورد من صغريات أيّ واحد من الحكمين الواقعيين، و لا يحكم الحاكم في المقام إلاّ بعد دقة و إمعان و دراسة للظروف الزمانية و المكانية و مشاورة العقلاء و الخبراء.

و بعبارة أُخرى: إذا وقع التزاحم بين الأحكام الأوليّة فيقدّم بعضها على بعض في ظلّ هذه العناوين الثانوية(1) ،ة.

ص: 85


1- العناوين الثانوية عبارة عن: 1. الضرورة و الاضطرار. 2. الضرر و الضرار. 3. العسر و الحرج. 4. الأهم فالأهم. 5. التقيّة. 6. الذرائع للواجبات و المحرمات. 7. المصالح العامّة للمسلمين. و هذه العناوين أدوات بيد الحاكم، يحل بها مشكلة التزاحم بين الأحكام الواقعية و الأزمات الاجتماعية.

و يقوم الحاكم الإسلاميّ بهذه المهام بفضل الولاية المعطاة له، فتصير هذه العناوين مفاتيح بيد الحاكم، يرفع بها التزاحم و التنافي، فمعنى مدخليّة الزمان و المكان في حكم الحاكم عبارة عن تأثيرهما في تعيين أنّ المقام صغرى لأي كبرى من الكبريات، و أيّ حكم من الأحكام الواقعية، فيكون حكمه بتقديم إحدى الكبريين شكلاً إجرائيّاً للأحكام الواقعية و مراعاة لحفظ الأهمّ و تخطيطاً لحفظ النظام و عدم اختلاله.

و بذلك يظهر أنّ حكم الحاكم الإسلامي يتمتّع بميزتين:

الأُولى: إنّ حكمه بتقديم إحدى الكبريين، ليس حكماً مستنبطاً من الكتاب و السنّة مباشرة و إن كان أساس الولاية و أصلها مستنبطاً و مستخرجاً منهما، إلاّ أنّ الحاكم لمّا اعتلى منصّة الحكم و وقف على أنّ المقام من صغريات ذلك الحكم الواقعيّ دون الآخر للمقاييس التي عرفتها، يصير حكمه حكوميّاً و ولائياً في طول الأحكام الأوّلية و الثانوية و ليس الهدف من وراء تسويغ الحكم له إلاّ الحفاظ على الأحكام

ص: 86

الواقعيّة برفع التزاحم، و لذلك سمّيناه حكماً إجرائيّاً، ولائيّاً حكوميّاً لا شرعيّاً، لما عرفت من أنّ حكمه علاجيّ يعالج به تزاحم الأحكام الواقعية في ظلّ العناوين الثانوية، و ما يعالج به حكم لا من سنخ المعالَج، و لو جعلناه في عرض الحكمين لزم انخرام توحيد التقنين و التشريع.

الثانية: إنّ حكم الحاكم لمّا كان نابعاً عن المصالح العامّة و صيانة القوانين الإسلامية لا يخرج حكمه عن إطار الأحكام الأوّليّة و الثانويّة، و لأجل ذلك قلنا إنّه يعالج التزاحم فيها، في ظلّ العناوين الثانويّة.

و بالجملة الفقيه الحاكم بفضل الولاية الإلهية يرفع جميع المشاكل الماثلة في حياتنا، فإنّ العناوين الثانوية التي تلوناها عليك أدوات بيد الفقيه يسد بها كل فراغ حاصل في المجتمع، و هي في الوقت نفسه تغيّر الصغريات و لا تمس كرامة الكبريات.

و لأجل توضيح المقام، نأتي بأمثلة نبيّن فيها مدخليّة

ص: 87

المصالح الزمانية و المكانية في حكم الحاكم وراء دخالتهما في فتوى المفتي.

الأوّل: لا شكّ أنّ تقوية الإسلام و المسلمين من الوظائف الهامّة، و تضعيف و كسر شوكتهم من المحرّمات الموبقة، هذا من جانب، و من جانب آخر أنّ بيع و شراء التنباك أمر محلّل في الشرع، و الحكمان من الأحكام الأوّلية و لم يكن أيّ تزاحم بينهما إلاّ في فترة خاصة عند ما أعطى الحاكم العرفيّ امتيازاً للشركة الأجنبية، فصار بيعه و شراؤه بيدها، و لمّا أحسّ الحاكم الشرعي آنذاك السيد الميرزا الشيرازي قدَّس سرَّه انّ استعماله يوجب انشباب أظفار الكفّار في جسد المجتمع الإسلامي، حكم قدَّس سرَّه بأنّ استعماله بجميع أنواع الاستعمال كمحاربة وليّ العصر عليه السَّلام(1) فلم يكن حكمه نابعاً إلاّ من تقديم الأهمّ على المهمّ أو من نظائره، و لم يكن الهدف من».

ص: 88


1- عام 1891 م و حكمه كالتالي: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: «اليوم استعمال التنباك و التتن، بأي نحو كان، بمثابة محاربة إمام الزمان عجل اللّه تعالى فرجه الشريف».

الحكم إلاّ بيان أنّ المورد من صغريات حفظ مصالح الإسلام و استقلال البلاد، و لا يحصل إلاّ بترك استعمال التنباك بيعاً و شراءً و تدخيناً و غيرها، فاضطرت الشركة حينئذ إلى فسخ العقد.

الثاني: إنّ حفظ النفوس من الأُمور الواجبة، و تسلّط الناس على أموالهم و حرمة التصرّف في أموالهم أمر مسلّم في الإسلام أيضاً، إلاّ أنّه على سبيل المثال ربّما يتوقّف فتح الشوارع في داخل البلاد و خارجها على التصرّف في الأراضي و الأملاك، فلو استعدّ مالكها بطيب نفس منه فهو، و إلاّ فللحاكم ملاحظة الأهمّ بتقديمه على المهمّ، و يحكم بجواز التصرّف بلا إذن، غاية الأمر يضمن لصاحب الأراضي قيمتها السوقية.

الثالث: إنّ إشاعة القسط و العدل ممّا ندب إليه الإسلام و جعله غاية لبعث الرسل، قال سبحانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ

ص: 89

اَلنّاسُ بِالْقِسْطِ ).(1)

و من جانب إنّ الناس مسلّطون على أموالهم يتقلّبون فيها كيفما شاءوا، فإذا كان هناك تزاحم بين الحكمين الواقعيين، كما في احتكار المحتكر أيّام الغلاء أو إجحاف أصحاب الحرف و الصنعة و غيرهم، فللحاكم الإسلامي حسب الولاية الإلهيّة الإمعان و الدقة و الاستشارة و المشورة في حلّ الأزمة الاجتماعية حتى يتبيّن له أنّ المقام من صغريات أيّ حكم من الحكمين، فلو لم تحلّ العقد بالوعظ و النصيحة، فآخر الدواء الكيّ، أي: فتح المخازن و بيع ما احتكر بقيمة عادلة و تسعير الأجناس و غير ذلك.

الرابع: لا شكّ أنّ الناس أحرار في تجاراتهم مع الشركات الداخلية و الخارجية، إلاّ أنّ إجراء ذلك، إن كان موجباً لخلل في النظام الاقتصاديّ أو ضعف في البنية الماليّة للمسلمين، فللحاكم تقديم أهمّ الحكمين على الآخر حسب5.

ص: 90


1- الحديد: 25.

ما يرى من المصالح.

الخامس: لو رأى الحاكمُ أنّ بيع العنب إلى جماعة لا يستعملونه إلاّ لصنع الخمر و توزيعه بالخفاء، أورث فساداً عند بعض أفراد المجتمع و انحلالاً في شخصيّتهم، فله أن يمنع من بيع العنب إلى هؤلاء.

إلى غير ذلك من المواضع الكثيرة التي لا يمكن للفقيه الحاكم غضّ النظر عن الظروف المحيطة به، حتى يتضح له أنّ المجال مناسب لتقديم أي الحكمين على الآخر و تشخيص الصغرى كما لا يخفى.

هذا كلّه حول مدخلية الزمان و المكان في الاجتهاد في مقام الإفتاء أوّلاً و منصة الحكم ثانياً، و أمّا سائر ما يرجع إلى ولاية الفقيه فنتركه إلى محلّه.

ص: 91

الفصل الخامس دراسة في تأثير الزمان و المكان في الفقه السنّي

طرحت هذه المسألة من قبل بعض فقهاء السنّة قديماً و حديثاً، و إليك التنويه بأسمائهم و ببعض كلماتهم:

1. ابن القيم الحنبلي (المتوفّى 751 ه)

يقول في فصل «تغيّر الفتوى و اختلافها بحسب تغيّر الأزمنة و الأمكنة و الأحوال و النيّات و العوائد»:

هذا فصل عظيم النفع، و قد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج و المشقّة، و تكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أنّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب

ص: 92

المصالح لا تأتي به، فإنّ الشريعة مبناها و أساسها على الحِكَم و مصالح العباد في المعاش و المعاد، و هي عدل كلّها، و رحمة كلّها، و مصالح كلّها، و حكمة كلّها، فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، و عن الرحمة إلى ضدها، و عن المصلحة إلى المفسدة، و عن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة.(1)

2. السيد محمد أمين أفندي الشهير ب «ابن عابدين»

(2) مؤلّف كتاب «مجموعة رسائل» قال ما نصّه:

اعلم أنّ المسائل الفقهية إمّا أن تكون ثابتة بصريح النص، و إمّا أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد و رأي، و كثيراً منها ما يُبيّنه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أوّلاً، و لهذا قالوا في شروط الاجتهاد انّه لا بدّ فيه من معرفة عادات الناس، فكثيرة.

ص: 93


1- اعلام الموقعين: 14/3 ط دار الفكر و قد استغرق بحثه 56 صفحة، فلاحظ.
2- هو محمد أمين الدمشقي، فقيه الديار الشامية و إمام الحنفية في عصره، ولد عام 1198 ه و توفي عام 1252 ه، له من الآثار «مجموعة رسائل» مطبوعة.

من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغيّر عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أوّلاً، للزم منه المشقة و الضرر بالناس، و لخالف قواعدَ الشريعة المبنيّة على التخفيف و التيسير و دفع الضرر و الفساد لبقاء العالم على أتم نظام و أحسن أحكام، و لهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نصّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمِهم بأنّه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً في قواعد مذهبه.

ثمّ إنّ ابن عابدين ذكر أمثلة كثيرة لما ذكره من الكبرى تستغرق عدّة صحائف(1) و لنذكر بعض الأمثلة:

أ. افتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن و نحوه لانقطاع عطايا المعلِّمين التي كانت في الصدر الأوّل، و لو اشتغل المعلِّمون بالتعليم بلا أُجرة يلزم ضياعهم و ضياع عيالهم، و لو اشتغلوا بالاكتساب في حرفة و صناعة، يلزم ضياع القرآن و الدين، فأفتوا بأخذ الأُجرة على التعليم و كذا على2.

ص: 94


1- انظر رسائل ابن عابدين: 145123/2.

الإمامة و الأذان كذلك، مع أنّ ذلك مخالف لما اتّفق عليه أبو حنيفة و أبو يوسف و محمد بن الحسن الشيباني من عدم جواز الاستئجار و أخذ الأُجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم و الصلاة و الحج و قراءة القرآن و نحو ذلك.

ب. قول الإمامين(1) بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفته لما نصّ عليه أبو حنيفة بناء على ما كان في زمنه من غلبة العدالة، لأنّه كان في الزمن الذي شهد له رسول اللّه بالخيريّة، و هما أدركا الزمن الذي فشا فيه الكذب، و قد نصّ العلماء على أنّ هذا الاختلاف اختلاف عصر و أوان، لا اختلاف حجّة و برهان.

ج. تحقّق الإكراه من غير السلطان مع مخالفته لقولة.

ص: 95


1- الظاهر انّه يريد تلميذي أبي حنيفة: أبي يوسف و محمد بن الحسن الشيباني و لم يكن الفصل بين الإمام أبي حنيفة و بينهم طويلاً، فقد توفّي أبو حنيفة عام 150 هو توفّي أبو يوسف عام 182 هو توفّي الشيباني عام 189 ه، و إذا كان كذلك فلما ذا يعدّون القرون الثلاثة الأُولى خير القرون، و الحقّ انّ بين السلف و الخلف رجالاً صالحين و أشخاصاً طالحين، و لم يكن السلف خيراً من الخلف، و لا الخلف أكثر شرّاً من السلف و إنّما هي دعايات فارغة فقد شهد القرن الأوّل وقعة الطفّ و الحرّة في المدينة.

الإمام «أبي حنيفة» بناء على ما كان في زمنه من أنّ غير السلطان لا يمكنه الإكراه ثمّ كثر الفساد فصار يتحقّق الإكراه من غيره، فقال محمد (ابن الحسن الشيباني) باعتباره، و أفتى به المتأخّرون لذلك.

و قد ساق الأمثلة على هذا النمط إلى آخر الرسالة.

3. و قد طرق هذا البحث أيضاً الأُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء

في كتابه القيّم «المدخل الفقهي العام» و قال ما نصّه:

الحقيقة انّ الأحكام الشرعية التي تتبدّل بتبدّل الموضوعات مهما تغيرت باختلاف الزمن، فإنّ المبدأ الشرعي فيها واحد و ليس تبدّل الأحكام إلاّ تبدّل الوسائل و الأساليب الموصلة إلى غاية الشارع، فإنّ تلك الوسائل و الأساليب في الغالب لم تُحدَّد من الشريعة الإسلامية بل تركتها مطلقة لكي يُختار منها في كلّ زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجاً و أنجح في التقويم علاجاً.

ثمّ إنّ الأُستاذ جعل المنشأ لتغير الأحكام أحد أمرين:

أ. فساد الأخلاق، و فقدان الورع و ضعف الوازع،

ص: 96

و أسماه بفساد الزمان.

ب. حدوث أوضاع تنظيمية، و وسائل فرضية، و أساليب اقتصادية.

ثمّ إنّه مثّل لكل من النوعين بأمثلة مختلفة اقتبس بعضها من رسالة «نشر العرف» للشيخ ابن عابدين، و لكنّه صاغ الأمثلة في ثوب جديد، و لنذكر كلا الأمرين و أمثلتهما.

أ. تغيير الأحكام الاجتهادية لفساد الزمان

1. من المقرر في أصل المذهب الحنفي انّ المدين تنفذ تصرفاته في أمواله بالهبة و الوقف و سائر وجوه التبرّع، و لو كانت ديونه مستغرقة أمواله كلّها، باعتبار انّ الديون تتعلّق بذمّته فتبقى أعيان أمواله حرة، فينفذ فيها تصرّفه، و هذا مقتضى القواعد القياسية.

ثمّ لما فسدت ذمم الناس و كثر الطمع و قلّ الورعُ و أصبح المدينون يعمدون إلى تهريب أموالهم من وجه الدائنين عن طريق وقفها، أو هبتها لمن يثقون به من قريب أو صديق،

ص: 97

أفتى المتأخرون من فقهاء المذهبين الحنبلي و الحنفي بعدم نفاذ هذه التصرفات من المدين إلاّ فيما يزيد عن وفاء الدين من أمواله»(1).

هذا في الفقه السنّي، و لكن في الفقه الإمامي ليس هناك أي مشكلة حتى نتوسل بعنصر الزمان و نلتزم بتغيّر الأحكام في ظلّه، لأنّ للمحجور حالتين:

الأُولى: إذا حجر عليه الحاكم و حكم بإفلاسه فعند ذاك يتعلّق حقّ الغرماء بأمواله لا بذمَّته، نظير تعلّق حقّ المرتهن بالعين المرهونة فلا يجوز له التصرف فيها بعوض كالبيع و الإجارة، و بغير عوض كالوقف و الهبة إلاّ بإذنهم و إجازتهم.

الثانية: إذا لم يُحجر عليه فتصرفاته على قسمين: قسم لا يريد الفرار من أداء الديون و لا يلازم حرمان الديّان، فيجوز له التصرّف بأمواله كيفما شاء، و القسم الآخر يريد من الصلح أو الهبة الفرار من أداء الديون، فالحكم بصحة تصرفاته فيما3.

ص: 98


1- المدخل الفقهي العام: 2، برقم 543.

إذا لم يرج حصول مال آخر له باكتساب و نحوه مشكل.(1) وجهه: انّ الحكم بلزوم تنفيذها حكم ضرري يلحق بأصحاب الديون فلا يكون نافذاً، أضف إلى ذلك انصراف عمومات الصلح و الهبة و سائر العقود عن مثل هذه العقود. و على ذلك فلا داعي لتبنّي تغير الحكم الشرعي بالعنصرين. بل الحكم الشرعي السائر مع الزمان موجود في أصل الشرع بلا حاجة إلى التوسل بعنصر «فساد الزمان».

2. في أصل المذهب الحنفي انّ الغاصب لا يضمن قيمة منافع المغصوب في مدة الغصب بل يضمن العين فقط إذا هلكت أو تعيَّبت، لأنّ المنافع عندهم ليست متقوّمة في ذاتها و إنّما تقوم بعقد الإجارة و لا عقد في الغصب.

و لكن المتأخرين من فقهاء المذهب الحنفي نظروا تجرّؤ الناس على الغصب و ضعف الوازع الديني في نفوسهم، فأفتوا بتضمين الغاصب أُجرة المثل عن منافع المغصوب إذا2.

ص: 99


1- لاحظ وسيلة النجاة: 133، كتاب الحجر، المسألة الأُولى; تحرير الوسيلة: 16/2.

كان المغصوب مال وقف أو مال يتيم أو معداً للاستغلال على خلاف الأصل القياسي في المذهب زجراً للناس عن العدوان لفساد الزمان.

ثمّ أضاف إليها في التعليقة بأنّ الأئمّة الثلاثة ذهبوا إلى عكس ما ذهب إليه الاجتهاد الحنفي، فاعتبروا المنافع متقوّمة في ذاتها، كالأعيان، و أوجبوا تضمين الغاصب أُجرة المثل عن المال المغصوب مدة الغصب، سواء استعرض الغاصب منافعه أو عطّلها ثمّ قال: و هذا الاجتهاد أوجه و أصلح.(1)

أقول: إنّ القول بعدم ضمان الغاصب المنافع المستوفاة مستند إلى ما تفرّد بنقله عروة بن الزبير عن عائشة أنّ رسول اللّه قضى أنّ الخراج بالضمان.(2)

فزعمت الحنفية انّ ضمان قيمة المغصوب لا يجتمع مع ضمان المنافع، و ذلك لأنّ ضمان العين في مقابل كون الخراجن.

ص: 100


1- المدخل الفقهي العام: 2، برقم 544.
2- مسند أحمد بن حنبل: 49/6; سنن الترمذي: 3، كتاب البيوع برقم 1286; سنن النسائي: 254/7، باب الخراج بالضمان.

له، و لكن الاجتهاد غير صحيح جداً، لأنّ الحديث ناظر إلى البيوع الصحيحة، مثلاً: إذا اشترى عبداً أو غيره فيستغلّه زماناً ثمّ يعثر منه على عيب كان فيه عند البائع، فله ردّ العين المبيعة و أخذ الثمن، و يكون للمشتري ما استغله، لأنّ المبيع لو تلف في يده لكان في ضمانه و لم يكن له على البائع شيء، و الباء في قوله بالضمان متعلّق بمحذوف تقديره: الخراج مستحق بالضمان، أي في مقابلة الضمان، أي منافع المبيع بعد القبض تبقى للمشتري في مقابلة الضمان اللازم عليه بطرف المبيع.

هذا هو معنى الحديث، و عليه شرّاح الحديث(1) و لا صلة للحديث بغصب الغاصب مال الغير و استغلال منافعه.

و الذي يفسّر الحديث وراء فهم الشرّاح انّ عروة بن الزبير نقل عن عائشة أنّ رجلاً اشترى عبداً، فاستغلّه ثمّه.

ص: 101


1- لاحظ شرح الحافظ جلال الدين السيوطي، و حاشية الإمام السندي على سنن النسائي و غيره.

وجد به عيباً فردّه، فقال: يا رسول اللّه إنّه قد استغلّ غلامي، فقال رسول اللّه: «الخراج بالضمان».(1)

و قد ورد من طرقنا أنّ الإمام الصادق عليه السَّلام لمّا سمع فتوى أبي حنيفة بعدم ضمان الغاصب قيمة المنافع التي استوفاها، قال: «في مثل هذا القضاء و شبهه تحبس السماء ماءَها و تمنع الأرضُ بركتها».(2)

ثمّ إنّه يدل على ضمان المنافع المستوفاة عموم قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «لا يحل مال امرئ مسلم لأخيه إلاّ عن طيب نفسه» و المنافع مال، و لأجل ذلك يجعل ثمناً في البيع و صداقاً في النكاح، مضافاً إلى السيرة العقلائية في تضمين الغاصب المنافع المستوفاة، و على ذلك فليس هاهنا مشكلة حتى تعالج بعنصر الزمان، و لم يكن الحكم المزعوم حكماً شرعيّاً حتى يتغير لأجل فساد أهل الزمان.ة.

ص: 102


1- سنن ابن ماجة: 2، برقم 2243.
2- وسائل الشيعة: الجزء 13، الباب 17 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث 1 و الحديث طويل جدير بالمطالعة.

3. في أصل المذهب الحنفي انّ الزوجة إذا قبضت مؤجّل مهرها تُلْزم بمتابعة زوجها حيث شاء، و لكنّ المتأخّرين لحظوا انقلاب الأخلاق و غلبة الجور، و انّ كثيراً من الرجال يسافرون بزوجاتهم إلى بلاد نائية ليس لهنّ فيها أهل و لا نصير، فيسيئون معاملتهنّ و يجورون عليهنّ، فأفتى المتأخرون بأنّ المرأة لو قبضت مؤجل مهرها لا تجبر على متابعة زوجها، إلى مكان إلاّ إذا كان وطناً لها و قد جرى فيه عقد الزواج بينهما، و ذلك لفساد الزمان و أخلاق الناس، و على هذا استقرت الفتوى و القضاء في المذهب.(1)

أقول: إنّ لحلّ هذا النوع من المشاكل طريقاً شرعياً في باب النكاح، و هو اشتراط عدم إخراجها من وطنها أو أن يسكنها في بلد خاص، أو منزل مخصوص في عقد النكاح، فيجب على الزوج الالتزام به. و ليس مثل هذا الاشتراط مخالفاً للكتاب و السنّة.

و لو افترضنا غفلة أولياء العقد عن الاشتراط و أراد6.

ص: 103


1- المدخل الفقهي العام: 2، برقم 546.

الزوج إخراجها إلى بلاد نائية يصعب عليها العيش فيها و يعد حرجيّاً لها، فللزوجة رفع الشكوى إلى الحاكم بغية عدم إخراجها من وطنها، فيحكم بعد تبيّن الحال بعدم الإخراج نتيجة طروء العناوين الثانوية كالحرج و الضرر، فليس للزمان هنا أي مدخلية في تغيير الحكم، بل يكمن الحكم الشرعي في نفس الشرع.

4. في أصل المذهب الحنفي و غيره انّ القاضي يقضي بعلمه الشخصي في الحوادث، أي أنّ علمه بالوقائع المتنازع فيها يصح مستنداً لقضائه، و يغني المدّعي عن إثبات مدّعاه بالبيّنة، فيكون علم القاضي بواقع الحال هو البيّنة، و في ذلك أقضية مأثورة عن عمر و غيره، و لكن لوحظ فيما بعد انّ القضاة قد غلب عليهم الفساد و السوء و أخذ الرشا، و لم يعد يختار للقضاء الأوفر ثقة و عفة و كفاية بل الأكثر تزلّفاً إلى الولاة و سعياً في استرضائهم و إلحافاً في الطلب.

لذلك أفتى المتأخّرون بأنّه لا يصحّ أن يقضي القاضي بعلمه الشخصي في الوقائع، بل لا بدّ أن يستند قضاؤه إلى

ص: 104

البيّنات المثبتة في مجلس القضاء حتى لو شاهد القاضي بنفسه عقداً أو قرضاً أو واقعة ما بين اثنين خارج مجلس القضاء ثمّ ادّعى به أحدهما و جحدها الآخر، فليس للقاضي أن يقضي للمدّعي بلا بيّنة، إذ لو ساغ ذلك بعد ما فسدت ذمم كثير من القضاة، لزعموا العلم بالوقائع زوراً، و ميلاً إلى الأقوى وسيلة من الخصمين، فهذا المنع و إن أضاع بعض الحقوق لفقدان الإثبات، يدفع باطلاً كثيراً، و هكذا استقر عمل المتأخرين على عدم نفاذ قضاء القاضي بعلمه.

على أنّ للقاضي أن يعتمد على علمه في غير القضاء من أُمور الحسبة و التدابير الإدارية الاحتياطية، كما لو علم ببينونة امرأة مع استمرار الخلطة بينها و بين زوجها، أو علم بغصب مال; فإنّ له أن يحول بين الرجل و مطلقته، و أن يضع المال المغصوب عند أمين إلى حين الإثبات.(1)

أقول: يشترط المذهب الإمامي في القاضي: العدالة و الاجتهاد المطلق، فالقاضي الجائر لا يستحق القضاء و لا6.

ص: 105


1- المدخل الفقهي العام: 2، برقم 546.

ينفذ حكمه.

و على ضوء ذلك فلا يترتب على عمل القاضي بعلمه أي فساد، لأنّ العدالة تصدّه عن ارتكاب الآثام.

و لو افترضنا إشغال منصة القضاء بالفرد الجائر فليس للقاضي العمل بعلمه في حقوق اللّه سبحانه، كما إذا علم أنّ زيداً زنى أو شرب الخمر أو غير ذلك، فلا يصحّ له إقامة الدعوى و إجراء الحدود لاستلزامه وحدة القاضي و المدعي من غير فرق بين كونه عادلاً أو غيره.

و أمّا العمل بعلمه في حقوق الناس فلا يعمل بعلم غير قابل للانتقال إلى الغير بل يقتصر في العمل بعلمه بنحو لو طولب بالدليل لعرضه و إلاّ فلا يجوز، و قد حقّق ذلك في كتاب القضاء.

5. من المبادئ المقرّرة في أصل المذهب انّ العمل الواجب على شخص شرعاً لا يصحّ استئجاره فيه و لا يجوز له أخذ أُجرة عليه، و من فروع هذا المذهب الفقهي انّ القيام بالعبادات و الأعمال الدينية الواجبة كالإمامة و خطبة الجمعة

ص: 106

و تعليم القرآن و العلم لا يجوز أخذ الأُجرة عليه في أصل المذهب، بل على المقتدر أن يقوم بذلك مجاناً، لأنّه واجب ديني.

غير انّ المتأخّرين من فقهاء المذهب لحظوا قعود الهمم عن هذه الواجبات، و انقطاع الجرايات من بيت المال عن العلماء ممّا اضطرهم إلى التماس الكسب، حتى أصبح القيام بهذه الواجبات غير مضمون إلاّ بالأجر، و لذلك أفتى المتأخّرون بجواز أخذ الأُجور عليها حرصاً على تعليم القرآن و نشر العلم و إقامة الشعائر الدينية بين الناس.(1)

أمّا الفقه الإمامي، فالمشكلة فيه مرتفعة بوجهين:

الأوّل: إذا كان هناك بيت مال معدّاً لهذه الأغراض لا تبذل الأُجرة في مقابل العمل، بل الحاكم يؤمّن له وسائل الحياة حتى يتفرّغ للواجب.

الثاني: امّا إذا لم يكن هناك بيت مال فإذا كان أخذ الأُجرة حراماً منصوصاً عليه و كان من صلب الشريعة فلا7.

ص: 107


1- المدخل الفقهي العام: 2، برقم 547.

يمسّه عنصر الزمان و لكن يمكن الجمع بين الأمرين و تحليله عن طريق آخر، و هو أن يجتمع أولياء الصبيان أو غيرهم ممّن لهم حاجة إلى إقامة القضاء و الأذان و الإفتاء فيشاركون في سد حاجة المفتي و القاضي و المؤذن و المعلم حتى يتفرّغوا لأعمالهم العبادية بلا هوادة و تقاعس، على أنّ ما يبذلون لا يعد أُجرة لهم و إنّما هو لتحسين وضعهم المعاشي.

و بعبارة أُخرى: القاضي و المفتي و المؤذّن و المعلم يمارس كلّ أعماله للّه سبحانه، و لكن بما انّ الاشتغال بهذه المهمة يتوقّف على سد عيلتهم و رفع حاجتهم فالمعنيّون من المؤمنين يسدّون عيلتهم حتى يقوموا بواجبهم و إلاّ فكما أنّ الإفتاء واجب، فكذلك تحصيل الضروريات لهم و لعيالهم أيضاً واجب. و عند التزاحم يقدّم الثاني على الأوّل إذ في خلافه، خوف هلاك النفوس و انحلال الأُسرة، و لكن يمكن الجمع بين الحكمين على الطريق الذي أشرنا إليه.

6. انّ الشهود الذين يقضى بشهادتهم في الحوادث يجب أن يكونوا عدولاً، أي ثقاتاً، و هم المحافظون على

ص: 108

الواجبات الدينية المعروفون بالسرّ و الأمانة، و انّ عدالة الشهود شريطة اشترطها القرآن لقبول شهادتهم و أيّدتها السنّة و أجمع عليها فقهاء الإسلام.

غير أنّ المتأخّرين من فقهائنا لحظوا ندرة العدالة الكاملة التي فسّرت بها النصوص لفساد الزمن و ضعف الذمم و فتور الحس الديني الوازع، فإذا تطلب القضاة دائماً نصاب العدالة الشرعية في الشهود ضاعت الحقوق لامتناع الإثبات، فلذا أفتوا بقبول شهادة الأمثل فالأمثل من القوم حيث تقلّ العدالة الكاملة.

و معنى الأمثل فالأمثل: الأحسن فالأحسن حالاً بين الموجودين، و لو كان في ذاته غير كامل العدالة بحدها الشرعي، أي أنّهم تنازلوا عن اشتراط العدالة المطلقة إلى العدالة النسبية.(1)

أقول: إنّ القرآن كما تفضّل به الكاتب صريح في شريطة العدالة في تنفيذ شهادته، يقول سبحانه: (وَ لْيَكْتُبْ1.

ص: 109


1- المدخل الفقهي العام: 934933/2 برقم 551.

بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) (1) و قال سبحانه: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ )(2).

مضافاً إلى الروايات الواردة في ذلك المضمار، فتنفيذ شهادة غير العدل تنفيذ بلا دليل أو مخالف لصريح الكتاب، و لكن يمكن للقاضي تحصيل القرائن و الشواهد التي منها شهادة الأمثل فالأمثل التي تثبت أحد الطرفين على وجه يفيد العلم للقاضي، و يكون علمه قابلاً للانتقال إلى الآخرين من دون حاجة إلى العمل بقول الأمثل فالأمثل.

ثمّ إنّ ترك العمل بشهادة غير العدول كما هو مظنّة إضاعة الحقوق، فكذلك هو مظنّة الإضرار على المحكوم عليه لعدم وجود العدالة في الشاهد حتّى تصونه عن الكذب عليه، فالأمر يدور بين المحذورين.

لو فسّر القائل العدالة بالتحرّز عن الكذب و إن كان فاسقاً في سائر الجوارح لكان أحسن من تفسيره بالعدالة2.

ص: 110


1- البقرة: 282.
2- الطلاق: 2.

المطلقة ثمّ العدول عنها لأجل فساد الزمان.

7. أفتى المتأخّرون في إثبات الأهلّة لصيام رمضان و للعيدين بقبول رؤية شخصين، و لو لم يكن في السماء علّة تمنع الرؤية من غيم أو ضباب أو غبار بعد أن كان في أصل المذهب الحنفي، لا يثبت إهلال الهلال عند صفاء السماء إلاّ برؤية جمع عظيم، لأنّ معظم الناس يلتمسون الرؤية، فانفراد اثنين بادّعاء الرؤية مظنّة الغلط أو الشبهة.

و قد علّل المتأخّرون قبول رؤية الاثنين بقعود الناس عن التماس رؤية الهلال، فلم تبق رؤية اثنين منهم مظنّة الغلط إذا لم يكن في شهادتهما شبهة أو تهمة تدعو إلى الشك و الريبة.(1)

و أمّا في الفقه الإمامي، فلا يعتبر قول العدلين عند الصحو و عدم العلّة في السماء إذا اجتمع الناس للرؤية و حصل الخلاف و التكاذب بينهم بحيث يقوى احتمال اشتباه العدلين.9.

ص: 111


1- المدخل الفقهي العام: 934/2 برقم 549.

و أمّا إذا لم يكن هناك اجتماع للرؤية كما هو مورد نظر الكاتب، حيث قال: لقعود الناس عن التماس رؤية الهلال فقبول قول العدلين على وفاق القاعدة لا على خلافها، فليس للزمان هناك تأثير في الحكم الشرعي.

و بعبارة أُخرى: ليس في المقام دليل شرعي على وجه الإطلاق يدل على عدم قول العدلين في الصحو و عدم العلّة في السماء حتّى يؤخذ بإطلاقه في كلتا الصورتين: كان هناك اجتماع للرؤية أم لم يكن، بل حجّية دليل البيّنة منصرف عن بعض الصور، و هو ما إذا كان هناك اجتماع من الناس للرؤية و حصل الخلاف و التكاذب بحيث قوى احتمال الاشتباه في العدلين، و أمّا في غير هذه الصورة فإطلاق حجّية أدلّة البيّنة باق بحالها، و منها ما إذا ادّعى العدلان و لم يكن اجتماع و لا تكاذب و لا مظنّة اشتباه.

هذه هي المسائل التي طرحها الأُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء مثالاً لتغيّر الآراء الفقهية و الفتاوى لأجل فساد الزمان، و قد عرفت أنّه لا حاجة لنا في العدول عن الحكم الشرعي،

ص: 112

و ذلك لأحد الأمرين:

أ. إمّا لعدم ثبوت الحكم الأوّلي كما في عدم ضمان الغاصب للمنافع المستوفاة.

ب. أو لعدم الحاجة إلى العدول عن الحكم الشرعي، بل يمكن حل المشكل عن طريق آخر مع صيانة الحكم الأوّلي، كما في الأمثلة الباقية.

***

ب. تغيير الأحكام الاجتهادية لتطوّر الوسائل و الأوضاع

قد سبق من هذا الكاتب انّ عوامل التغيير على قسمين:

أحدهما: ما يكون ناشئاً من فساد الأخلاق، و فقدان الورع، و ضعف الوازع، و أسماه بفساد الزمان، و قد مرّ عليك أمثلته كما مرّت مناقشاتنا.

و الآخر: ما يكون ناشئاً عن أوضاع تنظيمية، و وسائل

ص: 113

زمنية جديدة من أوامر قانونية مصلحية و ترتيبات إدارية، و أساليب اقتصادية و نحو ذلك، و هذا النوع عند الكاتب كالأوّل موجب لتغيير الأحكام الفقهية الاجتهادية المقرّرة قبله إذا أصبحت لا تتلاءم معه، لأنّها تصبح عندئذ عبثاً أو ضرراً، و الشريعة منزّهة عن ذلك، و قد قال الإمام الشاطبي (المتوفى 790 ه) في الموافقات: لا عبث في الشريعة.

ثمّ طرح لها أمثلة و إليك بيانها:

1. ثبت عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه نهى عن كتابة أحاديثه، و قال لأصحابه: «من كتب عني غير القرآن فليمحه» و استمر الصحابة و التابعون يتناقلون السنّة النبوية حفظاً و شفاهاً لا يكتبونها حتى آخر القرن الهجري الأوّل عملاً بهذا النهي.

ثمّ انصرف العلماء في مطلع القرن الثاني بأمر من الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، إلى تدوين السنّة النبوية، لأنّهم خافوا ضياعها بموت حفظتها و رأوا أنّ سبب نهي النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عن كتابتها إنّما هو خشية أن تختلط بالقرآن، إذ كان الصحابة يكتبون ما ينزل منه على رقاع، فلمّا عمَّ القرآن و شاع

ص: 114

حفظاً و كتابة، و لم يبق هناك خشية من اختلاطه بالحديث النبوي، لم يبق موجب لعدم كتابة السنّة، بل أصبحت كتابتها واجبة لأنّها الطريقة الوحيدة لصيانتها من الضياع.(1)

أقول: إنّ ما ذكره من أنّ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم نهى عن كتابة حديثه غير صحيح من وجوه:

أوّلاً: روى البخاري أنّ رجلاً من أهل اليمن طلب من النبي أن يكتب له خطبته فقال: اكتب لي يا رسول اللّه، فقال: اكتبوا لأبي فلان، إلى أن قال: كتبت له هذه الخطبة.(2)

أضف إلى ذلك أنّ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أمر في غير واحد من الموارد كتابة حديثه، يجدها المتفحص في مصادرها.(3)

و مع هذه الموارد الكثيرة التي رخّص النبيّ فيها كتابة3.

ص: 115


1- المدخل الفقهي العام: 933/2، و في الطبعة العاشرة في ترقيم الصفحات في المقام تصحيف.
2- البخاري: الصحيح: 29/1، باب كتابة العلم.
3- سنن الترمذي: 39/5، باب كتابة العلم، الحديث 2666; سنن الدارمي: 125/1، باب من رخص في كتابة العلم; سنن أبي داود: 318/2، باب في كتابة العلم; مسند أحمد: 215/2 و ج 162/3.

الحديث، و العمل به، لا يبقى أيُّ شك في موضوعية ما روي عنه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «من كتب عنّي غير القرآن فليمحه».

ثانياً: هل يصحّ أن يأمر اللّه سبحانه بكتابة الدين حفظاً له، و احتياطاً عليه، و في الوقت نفسه ينهى نبيّه عن كتابة الحديث الذي يعادل القرآن في الحجّية؟!

ثالثاً: العجب من الأُستاذ أنّه سلّم وجه المنع، و هو أن لا يختلط الحديث بالقرآن، و قد نحته الخطيب البغدادي(1) في كتاب «تقييد العلم»(2) مع أنّه غير تام، لأنّ القرآن الكريم في أُسلوبه و بلاغته يغاير أُسلوب الحديث و بلاغته، فلا يخاف على القرآن الاختلاط بغيره مهما بلغ من الفصاحة و البلاغة، فقبول هذا التبرير يلازم إبطال إعجاز القرآن الكريم، و هدم أُصوله.

و الكلمة الفصل أنّ المنع عن كتابة الحديث كان منعاً7.

ص: 116


1- أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (463392 ه) مؤلّف تاريخ بغداد.
2- تقييد العلم: 57.

سياسيّاً صدر عن الخلفاء لغايات و أهداف خاصّة، و الخسارة التي مُني الإسلام و المسلمون بها من جرّاء هذا المنع لا تجبر أبداً، و قد فصلنا الكلام في فصل خاص من كتابنا «بحوث في الملل و النحل».(1)

2. قبل إنشاء السجلات العقارية الرسميّة التي تحدد العقارات، و تعطي كلاً منها رقماً خاصّاً، كان التعاقد على العقار الغائب عن مجلس العقد لا بدّ لصحّته من ذكر حدود العقار، أي ما يلاصقه من الجهات الأربع ليُتميّز العقار المعقود عليه عن غيره، وفقاً لما تقضي به القواعد العامة من معلومية محل العقد.

و لكن بعد إنشاء السجلات العقارية في كثير من الممالك و البلدان أصبح يكتفى قانوناً في العقود بذكر رقم محضر العقار، دون ذكر حدوده، و هذا ما يوجبه فقه الشريعة، لأنّ الأوضاع و التنظيمات الزمنية أوجدت وسيلة جديدة أسهل و أتم تعييناً و تمييزاً للعقار من ذكر الحدود في العقود0.

ص: 117


1- لاحظ: الجزء الأوّل من الكتاب المذكور: 7660.

العقارية، فأصبح اشتراط ذكر الحدود عبثاً، و قد قدّمنا أنّه لا عبث في الشريعة.

أقول: إنّ الحكم الشرعي الأوّلي هو معلومية المبيع، و هذا هو لُبُّ الشريعة، و أمّا الباقي فهو ثوب يتغير بتغير الأزمان، فلا تحديد العقارات من الجهات الأربع حكم أصلي، و لا ذكر رقم محضر العقار، فالجميع طريق إلى الحكم الشرعي و هو معلومية المبيع و خروجه عن كونه مجهولاً، و الشرط يحصل بكلا الوجهين و تغيير الثوب ليس له صلة بتغيير الحكم.

3. كذلك كان تسليم العقار المبيع إلى المشتري لا يتم إلاّ بتفريغ العقار و تسليمه فعلاً إلى المشتري، أو تمكينه منه بتسليم مفتاحه و نحو ذلك، فإذا لم يتمّ هذا التسليم يبقى العقار معتبراً في يد البائع، فيكون هلاكه على ضمانه هو و مسئوليته، وفقاً للأحكام الفقهية العامّة في ضمان المبيع قبل التسليم.

و لكن بعد وجود الأحكام القانونية التي تخضع العقود العقارية للتسجيل في السجل العقاري. استقر الاجتهاد

ص: 118

القضائي أخيراً لدينا على اعتبار التسليم حاصلاً بمجرد تسجيل العقد في السجلّ العقاري، و من تاريخ التسجيل ينتقل ضمان هلاك المبيع من عهدة البائع إلى عهدة المشتري، لأنّ تسجيل المبيع فيه تمكين للمشتري أكثر ممّا في التسليم الفعلي، إذ العبرة في الملكية العقارية قانوناً، لقيود السجلّ العقاري، لا للأيدي و التصرفات، و بتسجيل المبيع لم يبق البائع متمكناً أن يتصرف في العقار المبيع بعقد آخر استناداً إلى وجوده في يده، و جميع الحقوق و الدعاوي المتفرعة عن الملكية، كطلب نزع اليد، و طلب الأُجرة، و غير ذلك تنتقل إلى المشتري بمجرّد التسجيل.

فبناء على ذلك يصبح من الضروري في فقه الشريعة أن يعتبر لتسجيل العقد العقاري حكم التسليم الفعلي للعقار في ظل هذه الأوضاع القانونية التنظيمية الجديدة.(1)

أقول: اتّفق الفقهاء على أنّه إذا تلف المبيع الشخصي قبل قبضه ب آفة سماوية فهو من مال بائعه، و الدليل عليه من2.

ص: 119


1- المدخل الفقهي العام: 931/2.

طرقنا هو قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه».(1)

و روى عقبة بن خالد عن الإمام الصادق عليه السَّلام في رجل اشترى متاعاً من رجل و أوجبه غير أنّه ترك المتاع عنده و لم يقبضه، قال: آتيك غداً إن شاء اللّه فسرق المتاع، من مال من يكون؟ قال: «من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يُقبض المتاع و يخرجه من بيته، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقّه حتى يرد ماله إليه».(2)

و أمّا من طرق أهل السنّة، روى البيهقي عن محمد بن عبيد اللّه الثقفي أنّه اشترى من رجل سلعة فنقده بعض الثمن و بقي بعض، فقال: ادفعها إليّ فأبى البائع، فانطلق المشتري و تعجّل له بقية الثمن فدفعه إليه، فقال: ادخل و اقبض سلعتك، فوجدها ميتة، فقال له: رد عليَّ مالي، فأبى، فاختصما إلى شريح، فقال شريح: رد على الرجل ماله و ارجع1.

ص: 120


1- مستدرك الوسائل: 13، الباب 1 من أبواب الخيار، الحديث 1.
2- الوسائل: 12، الباب 10 من أبواب الخيار، الحديث 1.

إلى جيفتك فادفنها.(1)

و على هذا فالميزان في رفع الضمان على البائع هو تسليم المبيع و تسليم كلّ شيء بحسبه، و الجامع هو رفع المانع من تسليط المشتري على المبيع و إن كان مشغولاً بأموال البائع أيضاً، إذ لم يكن هنا أي مانع من الاستيلاء و الاستغلال.

و على ضوء ذلك فتسليم البيت و الحانوت مثلاً بإعطاء مفتاحهما، و أمّا جعل مجرّد تسجيل العقد في السجل العقاري رافعاً للضمان بحجة انّ تسجيل البيع فيه تمكين للمشتري أكثر ممّا للتسليم الفعلي اجتهاد في مقابل النص بلا ضرورة، ما لم يكن تسجيل العقد في السجل العقاري متزامناً مع رفع الموانع من تسلّط المشتري على المبيع، إذ في وسع المتبايعين تأخير التسجيل إلى رفع الموانع.

و بعبارة أُخرى: الميزان في رفع الضمان هو تحقّق التسليم بالمعنى العرفي، و هو قد يزامن التسجيل في السجل العقاري و قد لا يزامن، كما لو سجل العقد في السجل و لكنض.

ص: 121


1- البيهقي: السنن: 334/5، باب المبيع يتلف في يد البائع قبل القبض.

البائع أوجد موانع عاقت المشتري عن التسلّط على المبيع، فما لم يكن هناك إمكان التسلّط فلا يصدق التسليم.

على أنّ المشتري بالتسجيل و إن كان يستطيع أن يبيع العقار و لكنّه يعجز عن الانتفاع بالمبيع الذي هو المهم له ما لم يكن هناك تسليم فعلي.

4. أوجب الشرع الإسلامي على كلّ زوجة تطلّق من زوجها عدّة تعتدها، و هي أن تمكث مدة معيّنة يمنع فيها زواجها برجل آخر، و ذلك لمقاصد شرعية تعتبر من النظام العام في الإسلام، أهمها، تحقّق فراغ رحمها من الحمل منعاً لاختلاط الأنساب.

و كان في الحالات التي يقضي فيها القاضي بالتطليق أو بفسخ النكاح، تعتبر المرأة داخلة في العدّة، و يُبدأ حساب عدّتها من فور قضاء القاضي بالفرقة، لأنّ حكم القاضي في الماضي كان يصدر مبرماً واجبَ التنفيذ فوراً، لأنّ القضاء كان مؤسساً شرعاً على درجة واحدة، و ليس فوق القاضي أحد له حق النظر في قضائه.

ص: 122

لكن اليوم قد أصبح النظام القضائي لدينا يجعل قضاء القاضي خاضعاً للطعن بطريق الاستئناف، أو بطريق النقض، أو بكليهما. و هذا التنظيم القضائي الجديد لا ينافي الشرع، لأنّه من الأُمور الاستصلاحية الخاضعة لقاعدة المصالح المرسلة، فإذا قضى القاضي اليوم بالفرقة بين الزوجين وجب أن لا تدخل المرأة في العدّة إلاّ بعد أن يصبح قضاؤه مبرماً غير خاضع لطريق من طرق الطعن القضائي. و ذلك إمّا بانقضاء المهل القانونية دون طعن من الخصم، أو بإبرام الحكم المطعون فيه لدى المحكمة المطعون لديها و رفضها للطعن حين ترى الحكم موافقاً للأُصول.

فمن هذا الوقت يجب اليوم أن تدخل المرأة في العدة و يبدأ حسابها لا من وقت صدور الحكم الابتدائي، لأنّها لو اعتدت منذ صدور الحكم الابتدائي لربما تنقضي عدتها و تتحرّر من آثار الزوجية قبل الفصل في الطعن المرفوع على حكم القاضي الأوّل بانحلال الزوجية ثمّ ينقض هذا الحكم لخلل تراه المحكمة العليا فيه، و هذا النقض يرفع الحكم

ص: 123

السابق و يوجب عودة الزوجية.(1)

أقول: إنّ الحكم الأوّلي في الإسلام هو انّ الطلاق بيد من أخذ بالساق(2) ، فللزوج أن يطلّق على الشروط المقرّرة قال سبحانه: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللّهَ رَبَّكُمْ )(3).

نعم لو اشترط الزوجان في سجل العقد أن يكون الطلاق بيد المحكمة بمعنى انّه إذا أدركت انّ الطلاق لصالح الزوجين فله أن يحكم بالفرقة و الانفصال، و المراد من الحكم بالفرقة أمران:

أوّلاً: انّ الطلاق لصالح الزوجين.

ثانياً: تولّي إجراء صيغة الطلاق.

فلو كان قضاء القاضي بالفرقة على درجة واحدة، و ليس فوقه أحد له حقّ النظر في قضائه فيقوم بكلا الأمرين:1.

ص: 124


1- المدخل الفقهي العام: 932/2.
2- مجمع الزوائد: 334/4، باب لا طلاق قبل النكاح.
3- الطلاق: 1.

حق الانفصال و تنفيذه بإجراء صيغة الطلاق و يكون الحكم بالفرقة مبدأً للاعتداد.

و لو كان النظام القضائي يجعل قضاء القاضي خاضعاً للطعن بطريق الاستئناف، أو بطريق النقض أو بكليهما، فلأجل الاجتناب عن بعض المضاعفات التي أُشير إليها تقتصر المحكمة الأُولى على الأمر الأوّل إنّ الطلاق لصالح الزوجين و يؤخر الأمر الثاني إلى إبرامه، فعند ذلك تجرى صيغة الطلاق من قبل المحكمة الثانية و تدخل المرأة في العدة و يبدأ حسابها.

و بذلك يعلم أنّ ما ضرب من الأمثلة لتأثير الزمان و المكان بعيدة عمّا يروم إليه، سواء كان العامل للتأثير هو فساد الأخلاق و فقدان الورع و ضعف الوازع، أو حدوث أوضاع تنظيمية و وسائل زمنية، فليس لنا في هذه الأمثلة أيُّ حافز من العدول عمّا عليه الشرع.

و حصيلة الكلام: أنّ الأُستاذ قد صرّح بأنّ العاملين الانحلال الأخلاقي و الاختلاف في وسائل التنظيم يجعلان

ص: 125

من الأحكام التي أسّسها الاجتهاد في ظروف مختلفة خاضعة للتغيير، لأنّها صدرت في ظروف تختلف عن الظروف الجديدة.

و لكنّه في أثناء التطبيق تعدّى تارة إلى التصرّف في الأحكام الأساسية المؤبدة التي لا يصحّ للفقيه الاجتهاد فيها، و لا أن يحدث بها أيَّ خدشة، و أُخرى ضرب أمثلة لم يكن للزمان أيُّ تأثير في تغيير الحكم المستنبط.

هذا بعض الكلام في تأثير عنصري الزمان و المكان في الاستنباط.

تمّت الرسالة بيد مؤلّفها العبد الفقير جعفر السبحاني

في صبيحة يوم الجمعة المصادف يوم العشرين

من رجب المرجب من شهور عام 1418 ه

حامداً مصلّياً على النبي و آله

في مدينة قم المقدسة

ص: 126

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.