سلسله المسائل الفقهیه التقيّة مفهومها، حدّها، دليلها المجلد 23

اشارة

سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور:سلسله المسائل الفقهیه / تالیف جعفر السبحانی.

مشخصات نشر:قم: موسسه الامام صادق (ع)، 1430ق.= 1388.

مشخصات ظاهری:26 ج

فروست:سلسله المسائل الفقهیه؛ 1.

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ دوم.

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس.

موضوع:احکام فقهی

موضوع:فقه تطبیقی

شناسه افزوده:موسسه امام صادق (ع)

ص: 1

التقيّة مفهومها، حدّها، دليلها

ص: 2

ص: 3

ص: 4

[23. التقيّة مفهومها، حدّها، دليلها ]

مقدمة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على أفضل خلقه و خاتم رسله محمّد و على آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيبة علمه و حفظة سننه.

أمّا بعد، فانّ الإسلام عقيدة و شريعة، فالعقيدة هي الإيمان باللّه و رسله و اليوم الآخر، و الشريعة هي الأحكام الإلهية التي تكفل للبشرية الحياة الفضلى و تحقّق لها السعادة الدنيوية و الأُخروية.

و قد امتازت الشريعة الإسلامية بالشمول، و وضع الحلول لكافّة المشاكل التي تعتري الإنسان في جميع جوانب الحياة قال سبحانه: (اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ).(1)

ص: 5


1- المائدة: 3.

غير أنّ هناك مسائل فرعية اختلف فيها الفقهاء لاختلافهم فيما أثر عن مبلّغ الرسالة النبي الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم)، الأمر الّذي أدّى إلى اختلاف كلمتهم فيها، و بما أنّ الحقيقة بنت البحث فقد حاولنا في هذه الدراسات المتسلسلة أن نطرحها على طاولة البحث، عسى أن تكون وسيلة لتوحيد الكلمة و تقريب الخطى في هذا الحقل، فالخلاف فيها ليس خلافاً في جوهر الدين و أُصوله حتّى يستوجب العداء و البغضاء، و إنّما هو خلاف فيما روي عنه (صلى الله عليه و آله و سلم)، و هو أمر يسير في مقابل المسائل الكثيرة المتّفق عليها بين المذاهب الإسلامية.

و رائدنا في هذا السبيل قوله سبحانه: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ).(1)

جعفر السبحاني قم مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)3.

ص: 6


1- آل عمران: 103.

التقيّة من المفاهيم الإسلامية السامية تُعدّ التقية من المفاهيم الإسلامية الأصيلة، المنسجمة مع حكم العقل، و روح الإسلام، و مرونة الشريعة المقدسة و سماحتها، و ضرورات العمل الإسلامي، و قد وردت في القرآن الكريم، و أكّدتها السنة الشريفة، و آمن بمشروعيتها علماء المسلمين.

و لا ريب في أنّ الشيعة و بحكم الظروف العصيبة التي حاقت بهم على امتداد فترات تاريخية طويلة اشتهروا بالعمل بالتقية، و اللّياذ بظلها كلما اشتدت عليهم وطأة القهر و الظلم.

و قد سعى الصائدون في الماء العكر من حُكّام الجور و المغرضين و المتعصّبين إلى استغلال هذا الأمر، و ذرّ الرماد في العيون من خلال إيجاد تصوّرات و أوهام باطلة، و غرسها في أذهان

ص: 7

الناس، بدعوى أنّ التقية عند الشيعة ضرب من النفاق و الخداع و التمويه، و أنّها تجعل منهم منظّمة سرية غايتها الالتفاف على الإسلام و تشويه صورته و تهديم أركانه.

إنّ العمل بالتقية و الاحتراز عن الإفصاح عن المبادئ و الأفكار لا يعنيان أبداً أنّ للشيعة أسراراً و طلاسم يتداولونها بينهم، و لا يتيحون للآخرين فرصة الاطلاع عليها و معرفتها، و لا يعنيان أيضاً أنّ لهم نوايا عدوانية ضدّ الإسلام و أهله، و إنّما يتعلّق الأمر كلّه بإرهاب فكري و سياسي مُورس ضدهم، و جرائم وحشية ارتكبت بحقهم، ألجأتهم إلى اتخاذ التكتّم و الاحتراز أسلوباً لصيانة النفوس و الأعراض و المحافظة عليها. و نحن إذا نظرنا إليهم في بعض العهود التي استطاعوا أن يتنفسوا فيها نسائم الحرية، نجد كيف أنّهم بادروا و بنشاط إلى نشر أفكارهم و آرائهم و بثّ مبادئهم و تعاليمهم، و كيف أنّهم ساهموا مع إخوانهم من سائر المذاهب و الطوائف في صنع حضارة الإسلام الخالدة.

و إذا كان الانصاف يدعو إلى تبرير موقف ضحايا القمع و الاستبداد بالالتجاء إلى حمى التقية لضمان السلامة و التوقّي من

ص: 8

الشر المستطير... و إذا كان الضمير الحي يدعو إلى مواساة هؤلاء المظلومين الذين تُحصى عليهم أنفاسهم و يعانون أفانين الضغط و الإكراه، و أشكال التضييق و المحاربة، فإنّ شيئاً من هذا و لا ذاك لم يحصل، بل حصل العكس، إذ عمد الكثير من أهل السنّة و الجماعة و مع الأسف إلى الإغضاء عن الجزّارين أو معاضدتهم، و إلى التنديد بالضحايا و التشهير بهم!! و أخيراً، نحن نعتقد أنّ العمل بالتقية أمر لا مفرّ منه، و أنّ مجانبتها تماماً و في كلّ الأحوال و العصور أمر لا واقع و لا حقيقة له. و أنت إذا رميت ببصرك إلى بعض الشعوب التي تحكمها أنظمة قمعية استبدادية، لوجدت أنّها و فيها من هم من أهل السنّة تتجنّب الإعلان عن آرائها و أهدافها جهرةً، و تسكت عمّا يُمارس بين ظهرانيها من أعمال منافية للإسلام، و ما ذلك إلاّ خوفاً من البطش و القتل و الأذى الذي سيصيبها لو أنّها نطقت بما يخالف إرادة المستبدين.

و هذه الرسالة المتواضعة، ستميط الستر عن وجه الحقيقة و تثبت، انّ التقية ثمرة البيئة التي صودرت فيها الحريات، و لو كان

ص: 9

هناك لومٌ و انتقاد، فالأجدر أن نتوجه بهما إلى من حمل المستضعفين على التقية، لا أنفسهم.

و ستتضح للقارئ في غضون هذه الرسالة، انّ التقيّة من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم، و في تلك الآيات إشارات واضحة إلى الموارد التي يلجأ فيها المؤمن إلى استخدام هذا المسلك الشرعي خلال حياته أثناء الظروف العصيبة، ليصون بها نفسه و عرضه و ماله، أو نفسَ من يمتُّ إليه بصلة و عرضَه و مالَه، كما استعملها مؤمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل و التنكيل(1) و لاذ بها عمّار عند ما أُخذ و أُسِر و هُدِّد بالقتل(2) ، إلى غير ذلك من الموارد الواردة في الكتاب و السنّة، فمن المحتّم علينا أن نتعرّف عليها، مفهوماً (لغة و اصطلاحاً)، و تاريخاً و غايةً و دليلاً و حدّاً، حتى نتجنَّب الافراط و التفريط في مقام القضاء و التطبيق.

و تحقيق المسألة يتم ببيان أُمور:6.

ص: 10


1- . القصص: 20.
2- . النحل: 106.

و تحقيق المسألة يتم ببيان أُمور:

1 التقية لغة

التقية اسم مصدر ل «اتقى يتقي» و أصل اتقى: اوتقى فقلبت الواو ياءً للكسرة قبلها، ثمّ أُبدلت تاءً و ادغمت و قد تكرر ذكر الاتقاء في الحديث و منه حديث علي: «كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول اللّه»، أي جعلناه وقاية لنا من العدو.(1)

و قد أخذ «اتقى» من وقي الشيء، يقيه إذا صانه، قال اللّه تعالى: (فَوَقاهُ اللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ) (2) أي حماة منهم فلم يضرّه مكرهم.

و ربما تستعمل مكان التقية لفظة «التُّقاة» قال سبحانه: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ

ص: 11


1- . النهاية: مادة وقي.
2- . غافر: 45.

اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ).(1)

قرأ الأكثر «تقاة» إلاّ يعقوب فقرأ «تقيّة» و كلاهما مصدر لفعل اتقى «فتقاة، أصله «وقية» أبدلت الواو تاءً كما أبدلوها في تُجاه و تكاة و انقلبت الياء الفاً لتحركها و انفتاح ما قبلها، و هو مصدر على وزن فُعل كتؤدة و تخمة.(2)3.

ص: 12


1- . آل عمران: 28.
2- . عن تعليق أحمد محمد شاكر على دائرة المعارف الإسلامية: 5/423.

2 التقية اصطلاحاً

التقية كما عرّفها السرخسي هي أن يقي الإنسان نفسه بما يظهره و إن كان ما يضمر خلافه.(1)

و قال ابن حجر: التقية: الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد و غيره للغير.(2)

و عرفها صاحب المنار بأنّها ما يقال أو يفعل مخالفاً للحقّ لأجل توقّي الضرر.(3)

و عرفها الشيخ محمد أبو زهرة بأنّها أن يخفي الشخص ما يعتقد دفعاً للأذى.(4)

ص: 13


1- . المبسوط للسرخسي: 25/45.
2- . فتح الباري: 12/314، ط المكتبة السلفية.
3- . تفسير المنار: 3/280.
4- . محمد أبو زهرة: الإمام الصادق: 255.

و التعريف الثالث أشمل من الرابع لاختصاص الأخير بالعقيدة و عمومية الآخر لها و للفعل.

و أمّا الشيعة فقد عرّفها الشيخ المفيد بقوله: التقية كتمان الحقّ و ستر الاعتقاد فيه، و مكاتمة المخالفين و ترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين أو الدنيا.

و فُرض ذلك، إذا علم بالضرورة أو قوي في الظن، فمتى لم يعلم ضرراً بإظهار الحقّ و لا قوي في الظن ذلك لم يجب فرض التقية.(1)

و عرفها الشيخ الأنصاري بقوله: التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ.(2)7.

ص: 14


1- . شرح عقائد الصدوق: 66، ط تبريز.
2- . رسالة التقية للشيخ الأنصاري: 37.

3 التقية تاريخيّاً

ربما يتصوّر لأول وهلة انّ للتقية مبدأً تاريخياً ظهر في المجتمع الإنساني، و لكن هذا التصور يجانب الحقّ، فظاهرةُ التقية زامنت وجود الإنسان على هذا الكوكب يوم برز بين البشر القويّ و الضعيف، و صادر الأوّل حريات الثاني و لم يسمح له بإبداء ما يضمره عن طريق القول و الفعل.

فظهور التقية في المجتمع البشري إذن، كان تعبيراً عن مصادرة الحريات، و سلاحاً لم يجد الضعيف بدّاً من اللجوء إليه للدفاع عن نفسه و عرضه و ماله.

1. التقيّة في عصر الكليم

و أظهر مورد تبنّاه القرآن الكريم في هذا الصدد هو

ص: 15

مؤمن آل فرعون، يقول اللّه تعالى:

(وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ ).(1)

و كانت عاقبة أمره أن (فَوَقاهُ اللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ ).(2)

و ما كان ذلك إلاّ لأنّه بتعميته، استطاع أن ينجّي نبيَّ اللّه من القتل كما يحكيه سبحانه عنه و يقول: (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ ).(3)

نقل الثعلبي عن السدي و مقاتل انّ مؤمن آل فرعون كان ابن عم فرعون و هو الذي أخبر اللّه تعالى عنه فقال: (وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى ).(4)0.

ص: 16


1- . غافر: 28.
2- . غافر: 45.
3- . القصص: 20.
4- . القصص: 20.

و قال آخرون: كان إسرائيلياً، و مجاز الآية: «و قال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعونْ، و اختلفوا أيضاً في اسمه.

فقال ابن عباس و أكثر العلماء: اسمه حزبيل.

و قال وهب بن منبه: اسمه حزيقال.

و قال ابن إسحاق: خبر ل.(1)

2. التقية في عصر الرسول

هناك حوادث تاريخية تدلّ على شرعية التقية في عصر الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) نكتفي بهذين النموذجين:

1. يقول سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ).(2)

قال المفسرون: قد نزلت الآية في جماعة أُكْرِهُوا على الكفر، و هم عمّار و أبوه ياسر و أُمّه سُميّة، و قُتل الأبوان لأنّهما لم يُظهرا الكفر و لم ينالا من النبي، و أعطاهم عمّارُ ما أرادوا6.

ص: 17


1- . تفسير الثعلبي: 8/273.
2- . النحل: 106.

منه فأطلقوه، ثمّ أخبر بذلك رسول اللّه، و انتشر خبره بين المسلمين، فقال قوم: كفر عمار، فقال الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم): «كلاّ انّ عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، و اختلط الإيمان بلحمه و دمه».

و في ذلك نزلت الآية السابقة، و كان عمّار يبكي، فجعل رسول اللّه يَمْسَحَ عينيه، و يقول: «إن عادُوا لك فعُد لهم بما قلت».(1)

2. أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن، انّ مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) فقال لأحدهما:

أتشهد انّ محمّداً رسول اللّه؟ قال: نعم، قال: أ فتشهد أنّي رسول اللّه؟ قال: نعم، ثمّ دعا بالآخر فقال: أتشهد أنّ محمّداً رسول اللّه؟ قال: نعم، فقال له: أ فتشهد انّي رسول اللّه؟ قال: إنّي أصمّ. قالها ثلاثاً، كل ذلك يجيبه بمثل الأوّل، فضرب عُنقُه، فبلغ ذلك رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) فقال: أمّا ذلك المقتول فقد88

ص: 18


1- . مجمع البيان: 3/388

مضى على صدقه و يقينه، و أخذ بفضله، فهنيئاً له.

و أمّا الآخر فقبلَ رخصة اللّه فلا تبعةَ عليه.(1)

3. التقية بعد رحيل الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم)

قد استغل الأمويُّون مسألة القضاء و القدر و ركّزوا على أنّ كلّ ما يجري في المجتمع الإسلامي بقضاء و قدر من اللّه سبحانه و ليس لأحد فيه الاختيار و لا الاعتراض، و على ذلك فالفقر المدقع السائد بين أكثر المسلمين تقدير من اللّه، و الترف الذي يعيشه الأمويون، و الظلم الذي يُلحقونه بالمسلمين تقدير من اللّه.

و لما كانت تلك المزعمة مخالفة لضرورة الدين و بعثة الأنبياء، قام غير واحد بوجه هذه الفكرة، و سكت كثيرون خوفاً من بطش الأمويين، فكتموا عقيدتهم و سلكوا مسلكة.

ص: 19


1- . مسند ابن أبي شيبة: 12/358، ط السلفية; التبيان: 2/453، و قد علق الطوسي على الرواية و قال: و على هذا التقية رخصة، و الافصاح بالحق فضيلة، و ظاهر أخبارنا يدلّ على انّها واجبة، و خلافها خطأ و سيوافيك أنّها على أقسام خمسة.

التقيّة.

1. هذا هو ابن سعد يروي عن الحسن البصري بانّه كان يخالف الأمويين في القدر بالمعنى الذي تتبنّاه السلطة آنذاك فلما خوّفه بعض أصدقائه من السلطان، وعد أن لا يعود.

روى ابن سعد في طبقاته عن أيوب قال: نازلت الحسن في القدر غير مرة حتّى خوّفته من السلطان، فقال:

لا أعود بعد اليوم.(1)

2. كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة في بغداد أن يُشخص إليه سبعة نفر من المحدثين منهم:

1. محمد بن سعد كاتب الواقدي، 2. أبو مسلم، مستملي يزيد بن هارون، 3. يحيى بن معين، 4. زهير بن حرب أبو خثيمة، 5. إسماعيل بن داود، 6. إسماعيل بن أبي مسعود، 7. أحمد بن الدورقي فامتحنهم المأمون و سألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعاً انّ القرآن مخلوق فأشخصهم إلى مدينةت.

ص: 20


1- . طبقات ابن سعد: 7/167، ط بيروت.

السلام، و أحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره فشهّر أمرهم و قولهم بحضرة الفقهاء و المشايخ من أهل الحديث فأقرّوا بمثل ما أجابوا به المأمون فخلّى سبيلهم. و قد فعل إسحاق بن إبراهيم ذلك بأمر المأمون.

يذكر أن الرأي الذي كان سائداً بين المحدّثين هو قدم القرآن أو عدم حدوثه و لكنّهم اتّقوا و اعترفوا بخلق القرآن، و هذا هو نفس التقية التي يعمل بها الشيعة، و قد مارسها المحدِّثون في عصر المأمون.

و هناك رسالة أُخرى للمأمون إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة، و ممّا جاء فيها: و ليس يَرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة (القرآن ليس بمخلوق) حظاً في الدين و لا نصيباً من الإيمان....

فلما جاءت الرسالة إلى إسحاق بن إبراهيم أحضر لفيفاً من المحدّثين ربما يبلغ عددهم إلى 26 فقرأ عليهم رسالة المأمون مرتين حتّى فهموها ثمّ انّ إسحاق دعا بهم رجلاً رجلاً فأجاب القوم كلّهم و اعترفوا بانّ القرآن مخلوق إلاّ أربعة نفر منهم:

ص: 21

أحمد بن حنبل، و سجادة، و القواريري، و محمد بن نوح المضروب، فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشُدُّوا في الحديد، فلما كان من الغد دعا بهم جميعاً يساقون في الحديد فأعاد عليهم المحنة فأجابه سجادة إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده و خلّى سبيله و أصرّ الآخرون على قولهم.

فلما كان من بعد الغد عاودهم أيضاً فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريري بأنّ القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده و خلّى سبيله، و أصرّ أحمد بن حنبل و محمد بن نوح على قولهما و لم يرجعا فشدّا جميعاً في الحديد و وُجِّها إلى طرسوس و كتب معهما كتاباً بإشخاصهما.

ثمّ لما اعتُرض على الراجعين عن عقيدتهم، برّروا عملهم بعمل عمار بن ياسر حيث أكره على الشرك و قلبه مطمئن بالإيمان.(1)

كلّ ذلك يدلّ على انّ التقية أصل مشروع التزم بها المسلمون عند الشعور بالضعف أمام السلطة الغاشمة..

ص: 22


1- . لاحظ تاريخ الطبري: 7/197، حوادث 218 ه.

و بذلك يظهر انّ اتهام الشيعة بتفرّدها بالقول بالتقية يضادُّ الذكر الحكيم و السنة النبوية و سيرة المسلمين عبر التاريخ.

إنّ التقية سلاح الضعيف، سلاح من صُودرتْ حقوقه و حرّياته من قبل سلطة غاشمة، قاهرة، لا تُبدي أية مرونة في مواقفها، و هذا هو حكم العقل و هو دفع الضرر عن النفس و النفيس بإظهار الموافقة لساناً و عملاً حتّى يرتفع الضرر ثمّ يعود الإنسان إلى ما كان عليه.

و مثل هذا لا يمكن أن يختص بفرقة دون أُخرى.

ص: 23

4 محنة الشيعة في عصر الأمويين و العباسيين

اشتهرت الشيعة بالتقيّة أكثر من سائر الفرق، و لكونهم أكثر من غيرهم من حيث التعرّض للضغط، و مصادرة الحريّات، بالظنّة، و التشريد و قتل تحت كلّ حجر و مدر.

إنّ الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين إخوانهم و أبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة، فلو لم يكن هناك في غابر القرون من عصر الأمويين ثمّ العباسيين و العثمانيين أيُّ ضغط على الشيعة، و لم تكن بلادهم و عُقر دارهم مخضّبة بدمائهم (و التاريخ خير شاهد على ذلك)، لأصبح من المعقول أن تَنْسى الشيعة كلمة التقية و أن تحذفها

ص: 24

من قاموس حياتها، و لكن يا للأسف إنّ كثيراً من إخوانهم كانوا أداة طيّعة بيد الأمويين و العباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم، فكانوا يؤلِّبون العامة من أهل السنّة على الشيعة يقتلونهم و يضطهدونهم و ينكلون بهم، و لذا و نتيجة لتلك الظروف الصعبة، لم يكن للشيعة، بل لكل من يملك شيئاً من العقل وسيلة إلاّ اللجوء إلى التقية أو رفع اليد عن المبادئ المقدّسة التي هي أغلى عنده من نفسه و ماله.

و الشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى أو أن تعدَّ، إلاّ أنّا سنستعرض جانباً مختصراً منها: فمن ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان باستباحة دماء الشيعة أينما كانوا و كيفما كانوا، و إليك نص ما ذكرته المصادر عن هذه الواقعة لتدرك محنة الشيعة:

محنة الشيعة في العصر الأموي

روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب «الأحداث» قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عُمّاله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من

ص: 25

فضل أبي تراب و أهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة، و على كل منبر، يلعنون علياً و يتبرءون منه و يقعون فيه و في أهل بيته، و كان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة، لكثرة مَن بها من شيعة علي (عليه السلام) فاستعمل عليها زياد بن سمية، و ضم إليه البصرة، فكان يتتبّع الشيعة و هو بهم عارف، لأنّه كان منهم أيام علي (عليه السلام)، فقتلهم تحت كل حجر و مدر، و أخافهم، و قطع الأيدي و الأرجل، و سَمَلَ العيون، و صلبهم على جذوع النخل، و طردهم و شرَّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم، و كتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق: ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي و أهل بيته شهادة.

ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً و أهل بيته، فامحوه من الديوان، و أسقطوا عطاءه و رزقه، و شفع ذلك بنسخة أُخرى: مَن اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكّلوا به، و اهدموا داره. فلم يكن البلاء أشد و لا أكثر منه بالعراق، و لا سيّما بالكوفة حتّى أنّ الرجل من شيعة علي (عليه السلام) ليأتيه من يثق به،

ص: 26

فيدخل بيته، فيُلقي إليه سرّه، و يخاف من خادمه و مملوكه، و لا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة، ليكتمنَّ عليه.

و أضاف ابن أبي الحديد: فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي (عليهما السلام)، فازداد البلاء و الفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ و هو خائف على دمه، أو طريد في الأرض.

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين (عليه السلام)، و ولي عبد الملك بن مروان، فاشتد على الشيعة، و ولّى عليهم الحجاج بن يوسف، فتقرَّب إليه أهل النسك و الصلاح و الدين ببغض علي و موالاة أعدائه، و موالاة من يدعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم و سوابقهم و مناقبهم، و أكثروا من البغض من علي (عليه السلام) و عيبه، و الطعن فيه، و الشنآن له، حتى أنّ إنساناً وقف للحجاج و يقال إنّه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب فصاح به: أيّها الأمير إنّ أهلي عقوني فسمّوني علياً، و إنّي فقير و بائس و أنا إلى صلة الأمير محتاج، فتضاحك له الحجاج، و قال: للطف ما توسّلتَ به، قد ولّيتك

ص: 27

موضع كذا.(1)

و استمر الحزب الأموي في الإرهاب و سفك الدماء على امتداد مراحل وجوده في السلطة، حيث سجّل لنا التاريخ حوادث أُخرى تحكي أبشع صور الإرهاب و الاستخفاف بقيم الحق و العدل أيام عبد الملك بن مروان و قتله سعيد بن جبير. و قد جاء في كتاب عبد الملك بن مروان الذي ولّى فيه خالد بن عبد اللّه القسري:

أمّا بعد، فانّي ولّيت عليكم خالد بن عبد اللّه القسري، فاسمعوا له و أطيعوا، و لا يجعلن امرؤ على نفسه سبيلاً، فإنّما هو القتل لا غير، و قد برئت الذمة من رجل آوى سعيد بن جبير، و السلام. ثمّ التفت إليهم خالد، و قال:

و الذي نحلف به، و نحجُّ إليه، لا أجده في دار أحد إلاّ قتلته و هدمت داره و دار كلّ من جاوره و استبحت حرمته، و قد أجّلت لكم فيه ثلاثة أيّام.(2)ر.

ص: 28


1- . شرح نهج البلاغة: 4611/44.
2- . الإمامة و السياسة: 2/47، ط مصر.

ثمّ يُلقى القبض على سعيد بن جبير الذي كان من طلائع الموالين لآل البيت النبوي، و يُسلَّم إلى الحجاج السفّاح الشهير في تاريخ الإسلام الذي قتل عشرات الآلاف من معارضي السلطة، فيقتله.

و هذا هو الإمام الباقر (عليه السلام) يصف بيئته و المجتمع الذي كان يعيش فيه حيث قال لبعض أصحابه: يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيانا، و تظاهرهم علينا، و ما لقي شيعتنا و محبونا من الناس... إلى أن قال ثمّ لم نزل أهلَ البيت نُستذل و نُستضام، و نُقصى و نُمتهن، و نُحرم و نُقتل، و نخاف و لا نأمن على دمائنا و دماء أوليائنا، و وجد الكاذبون الجاحدون، لكذبهم و جحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم، و قضاة السوء و عمال السوء في كلّ بلدة، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة و رووا عنّا ما لم نقله و ما لم نفعله، ليبغّضونا إلى الناس، و كان عُظم ذلك و كبره زمن معاوية بعد موت الحسن (عليه السلام) فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة، و قطعت الأيدي و الأرجل على الظنة، و كان من يذكر بحبنا

ص: 29

و الانقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله، أو هدمت داره، ثمّ لم يزل البلاء يشتد و يزداد إلى زمان عبيد اللّه بن زياد قاتل الحسين (عليه السلام) ثمّ جاء الحجاج فقتلهم كلّ قتلة و أخذهم بكلّ ظنة و تهمة، حتّى انّ الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال شيعة علي.(1)

محنة الشيعة في العصر العباسي

لقد مارست السلطة العباسية سياسة البطش و القتل و التشريد كنظيرتها السلطة الأموية بل كانت أكثر بطشاً و تنكيلاً، و هذا هو أبو الفرج الاصفهاني يقول في حقّ المتوكل:

كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً في جماعتهم، شديد الغيظ و الحقد عليهم، و سوء الظن و التهمة لهم... و استعمل على المدينة و مكة عمر بن الفرج الرخجي، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس3.

ص: 30


1- . شرح ابن أبي الحديد: 4411/43.

و منع الناس من البرّ بهم، و كان لا يبلغه انّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء، و إن قل إلاّ أنهكه عقوبة، و اثقله غرماً، حتّى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ثمّ يرقعنه، و يجلسن على مغازلهن عواري حاسرات.(1)

هكذا شاء أمير المؤمنين المتوكل على اللّه، أن تقبع العلويات في بيوتهن عاريات يتبادلن القميص المرقع عند الصلاة، و ان تختال الفاجرات العاهرات بالحلي و حلل الديباج بين الاماء و العبيد... لقد أرسل الرشيد إلى بنات الرسول من يسلب الثياب عن أبدانهن، أمّا المتوكّل فقد شدد و ضيق عليهن، حتّى ألجأهن إلى العري، و هكذا تتطور الفلسفات و المناهج مع الزمن على أيدي القرشيين العرب أبناء الأمجاد و الأشراف! لقد تفرق العلويون أيام المتوكل، فمنهم من توارى فمات في حال تواريه كأحمد بن عيسى الحسين و عبد اللّه بن6.

ص: 31


1- . مقاتل الطالبيين: 395 396.

موسى الحسيني، و منهم من ثار على القهر و الجور كمحمد بن صالح و محمد بن جعفر.

و لم يكتف المتوكل بالتنكيل بالأحياء، حتّى اعتدى على قبور الأموات فهدم قبر الحسين (عليه السلام) و ما حوله من المنازل و الدور، و منَع الناس من زيارته و نادى مناديه من وجدناه عند قبر الحسين (عليه السلام) حبسناه في المطبق سجن تحت الأرض فقال الشاعر:

تاللّه إن كانت أمية قد أتت قتل ابن بنت نبيها مظلوماً

فلقد أتاه بنو أبيه مثلها هذا لعمرك قبره مهدوماً

أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا في قتله فتَتبعوه رميماً(1)0.

ص: 32


1- . الشيعة و الحاكمون: 169 170.

نعم كانت التقية بين الشيعة تزداد تارة و تتضاءل أُخرى، حسب قوّة الضغط و ضآلته، فشتّان بين عصر المأمون الذي يجيز مادحي أهل البيت، و يكرم العلويين، و بين عصر المتوكل الذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة.

فهذا ابن السكيت أحد أعلام الأدب في زمن المتوكل، و قد اختاره معلّماً لولديه فسأله يوماً: أيّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أم الحسن و الحسين؟ قال ابن السكيت: و اللّه إنّ قنبر خادم علي (عليه السلام) خير منك و من ابنيك. فقال المتوكل: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك به فمات. و لما مات سيَّر المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم و قال:

هذه دية والدك!!(1) و هذا ابن الرومي الشاعر العبقري يقول في قصيدته التي يرثي بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي:6.

ص: 33


1- . ابن خلكان: وفيات الأعيان: 3/33. الذهبي: سير أعلام النبلاء: 12/16.

أ كلّ أوان للنبيّ محمّد قتيل زكيّ بالدماء مضرَّجُ

بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم لبلواكم عمّا قليل مفرِّجُ

أبعد المكنّى بالحسين شهيدكم تضيء مصابيح السماء فتسرجُ(1)

و كان العباسيون أشدّ كرهاً للعلويين من الأمويين، و أعظم بغضاً فأمعنوا فيهم قتلاً و حرقاً و اضطهاداً و تعذيباً، فهذا هو المنصور يُحمل إليه من المدينة كلّ من كان فيها من العلويين مقيدين بالسلاسل و الأغلال، و لما وصلوا إليه حبسهم في سجن مظلم لا يعرف فيه ليل من نهار، و كان إذا مات أحدهم تُرك معهم و أخيراً أمر بهدم السجن عليهم، و في ذلك يقول أحد شعراء الشيعة:3.

ص: 34


1- . ديوان ابن الرومي: 2/243.

و اللّه ما فعلت أمية فيهم معشار ما فعلت بنو العباس

و قال آخر:

يا ليت جور بني مروان دام لنا وليت عدل بني العباس في النار(1)

و قال أبو فراس:

ما نال منهم بنو حرب و إن عظمت تلك الجرائم إلاّ دون نيلكم

و قال الشريف الرضي:

ألا ليس فعل الأولين و إن علا على قبح فعل الآخرين بزائد

و قال الشيخ الطوسي الذي كان يعيش في عصر ازدهار الخلافة العباسية، و هو يصف حال الشيعة:

لم تلق فرقة و لا بُلي أهل مذهب بما بُليت به الشيعة، حتّى إنّا لا نكاد نعرف زماناً تقدّم سلمت فيه الشيعة مني.

ص: 35


1- . الشعر لأبي عطاء السندي.

الخوف و لزوم التقية، و لا حالاً عريت فيه من قصد السلطان و عصبيته و ميله و انحرافه.(1)

هذه لمحة خاطفة لمحنة الشيعة في العصر العباسي و قد دام الأمر على هذه الوتيرة في العصور المتأخرة لا سيما في عصر الأيوبيين و العثمانيين.

محنة الشيعة في العصرين: الأيوبي و العثماني

ما إن انتزع صلاح الدين الأيوبي الملك من الفاطميين حتّى قام بعزل القضاة الشيعة و استناب عنهم قضاة شافعية، و أبطل من الأذان «حي على خير العمل» و تظاهر الناس بمذهب مالك و الشافعي، و اختفى مذهب التشيع إلى أن نسي من مصر، و كان يحمل الناس على التسنن و عقيدة الأشعري، و من خالف ضربت عنقه، و أمر أن لا تقبل شهادة أحد و لا يقدم للخطابة و لا للتدريس إلاّ إذا كان مقلداً لأحد المذاهب الأربعة، قال الخفاجي في9.

ص: 36


1- . الطوسي: تلخيص الشافي: 2/59.

كتابه «الأزهر في ألف عام»(1) ما نصه: فقد غالى الأيوبيون في القضاء على كلّ أثر للشيعة.

و أمّا في العصر العثماني فقد تولى السلطان سليم زعامة السنة و استحصل على فتوى من شيوخ السوء بأنّ الشيعة خارجون على الدين يجب قتلهم و لذلك أمر بقتل كلّ من كان معروفاً بالتشيع داخل بلاده.

و بهذا الأمر قُتل في الاناضول وحدها أربعون ألفاً و قيل سبعون، لا لشيء إلاّ لأنّهم شيعة. و جاء في «الفصول المهمة» للسيد شرف الدين انّ الشيخ نوح الحنفي أفتى بكفر الشيعة و وجوب قتلهم، فقتل من جراء هذه الفتوى عشرات الألوف من شيعة حلب حتّى لم يبق فيها شيعي واحد و كان التشيّع فيها راسخاً و منتشراً منذ كانت حلب عاصمة الدولة الحمدانية، و قد نشأ في حلب منذ القديم العديد من كبار العلماء و أئمة الفقه كبني زهرة و آل أبي جرادة و غيرهم ممن جاء ذكرهم في كتب السير و التراجم خاصة كتاب «أمل8.

ص: 37


1- . الأزهر في ألف عام: 1/58.

الآمل».(1)

و قتل العثمانيون الشهيد الثاني المشهور بفضله و ورعه و كتبه العلمية الجليلة التي يدرس بعضها حتّى اليوم في جامعة النجف و قم، و فعل الجزار والي عكا بجبل عامل ما فَعل الحجاج في العراق.

و انتهب الجزار أموال العامليين و مكتباتهم، و كان في مكتبة آل خاتون خمسة آلاف مجلد و بقيت أفران عكا توقد أسبوعاً كاملاً من كتب العامليين، و لم يسلم من ظلم الجزار إلاّ من استطاع الفرار، و في عهده هاجر علماء جبل عامل مشردين في الأقطار، و من هؤلاء الشاعر الشيعي إبراهيم يحيى الذي هرب إلى دمشق، و في نفسه لوعة و حسرة، و ذكرى فظائع الجزار لا تفارقه بحال و قد صورها و هو شاهد عيان في قصائد تدمي الأفئدة و القلوب منها قصيدة طويلة، يقول فيها:ة.

ص: 38


1- . راجع الفصول المهمة: 206، الفصل التاسع; غنية النزوع: 11، المقدمة.

يعز علينا أن نروح و مصرنا لفرعون مغنى، يصطفيه و مغنم

منازل أهل العدل منهم خليّة و فيها لأهل الجور جيش عرمرم

هذه لمحة خاطفة لمحنة الشيعة في العصر العثماني، و على الرغم من شيوع الحرية في عصرنا الراهن فلم تزل الشيعة في أكثر نقاط العالم تمارس التقية، و إلاّ يضيق عليها الخناق.

يقول العلاّمة السيّد هبة الدين الشهرستاني: إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية. إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها لأنّها مُنيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أُمّة أُخرى، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأموية كلّه، و في عهد العباسيين على طوله، و في أكثر أيام الدولة العثمانية، و لأجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أيّ قوم، و لما كانت الشيعة، تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في أُصول الدين و في كثير من

ص: 39

الأحكام الفقهيّة، و المخالفة تستجلب بالطبع رقابة و تصدقه التجارب، لذلك أضحت شيعة الأئمّة من آل البيت مضطرّة في أكثر الأحيان إلى كتمان ما تختص به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك، تبتغي بهذا الكتمان، صيانةَ النفس و النفيس، و المحافظة على الوداد و الاخوة مع سائر اخوانهم المسلمين، لئلاّ تنشق عصا الطاعة، و لكي لا يحسّ الكفّار بوجود اختلاف ما في المجتمع الإسلامي فيوسع الخلاف بين الأُمّة المحمدية.

لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقية و تحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الاُخرى، متبعة في ذلك سيرة الأئمّة من آل محمد و أحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل: «التقية ديني و دين آبائي»، إذ أنّ دين اللّه يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية، دلّت على ذلك آيات من القرآن العظيم.(1)

روي عن صادق آل البيت (عليهم السلام) في الأثر الصحيح:

«التقية ديني و دين آبائي».6.

ص: 40


1- . غافر: 28; النحل: 106.

لقد كانت التقية شعاراً لآل البيت (عليهم السلام) دفعاً للضرر عنهم، و عن أتباعهم، و حقناً لدمائهم، و استصلاحاً لحال المسلمين، و جمعاً لكلمتهم، و لمّاً لشعثهم، و ما زالت سمة تُعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف و الأُمم. و كل إنسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه، أو ماله بسبب نشر معتقده، أو التظاهر به لا بد أن يتكتم و يتقي مواضع الخطر. و هذا أمر تقتضيه فطرة العقول.

من المعلوم أنّ الإمامية و أئمّتهم لاقوا من ضروب المحن، و صنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة، أو أُمّة أُخرى، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم، و ترك مظاهرتهم، و ستر عقائدهم، و أعمالهم المختصة بهم عنهم، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا.

و لهذا السبب امتازوا بالتقية و عرفوا بها

ص: 41

دون سواهم.(1)

حصيلة البحث

فحصيلة البحث انّ أوساط الشيعة شهدت مجازر بشعه على يد السلطات الغاشمة، فقتل الآلاف منهم، و أمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرض إلى شتى صنوف التنكيل و الارهاب و التخويف، و الحقّ يقال: انّ من الأُمور العجيبة أن يبقى لهذه الطائفة باقية رغم كلّ ذلك الظلم الكبير و القتل الذريع بل العجب العجاب أن تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوة و عدة و أقامت دولاً و شيّدت حضارات و برز منها الكثير من العلماء و المفكرين.

فلو كان الأخ السني يرى التقية أمراً محرماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي و أن لا يضيق عليه في الحرية التي سمح بها الإسلام لأبنائه، و ليعذره في عقيدته و عمله كما عذَرَ أُناساً كثيرين خالفوا الكتاب و السنّة و أراقوا الدماء و نهبوا الديار فكيف بطائفة تدين بدينه و تتفق معه في كثير من معتقداته، و إذا كان معاوية و أبناء بيته و العباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم و إراقة دماء مخالفيهم فما ذا يمنعه6.

ص: 42


1- . مجلة المرشد: 3/252، 253 و لاحظ تعاليق اوائل المقالات ص 96.

عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين.

و إذا كانوا يقولون و ذاك هو العجيب انّ الخروج على الإمام علي (عليه السلام) غير مضرّ بعدالة الخارجين و الثائرين عليه، و في مقدمتهم طلحة و الزبير و أُمّ المؤمنين عائشة، و إنّ إثارة الفتن في صفّين التي انتهت إلى قتل كثير من الصحابة و التابعين و إراقة دماء الآلاف من العراقيين و الشاميين لا تنقص شيئاً من ورع المحاربين!! و هم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد و أخطأ، فَلِمَ لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم و لا يذهب إلى أنّهم معذورون و مثابون!!

ص: 43

5 الغاية من تشريع التقية

الغاية من التقية: هي صيانة النفس و العرض و المال، و ذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحق صريحاً خوفاً من أن تترتّب على ذلك مضار و تهلكة من قوى ظالمة غاشمة تمارس الارهابَ، و التشريد و النفي، و القتل و التنكيل، و مصادرة الأموال، و سلب الحقوق الحقة، و عندئذ لا يجد صاحبُ العقيدة الذي يرى نفسه محقاً محيصاً عن إبطانها، و التظاهر بما يوافق هوى الحاكم و توجّهاته حتى يسلم من الاضطهاد و التنكيل و القتل، إلى أن يُحدِث اللّه أمراً.

إنّ التقية سلاح الضعيف في مقابل القوي الغاشم، سلاح من يُبتلى بمن لا يحترم دمه و عرضه و ماله، لا لشيء إلاّ

ص: 44

لأنّه لا يتفق معه في بعض المبادئ و الأفكار.

إنّما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول و العمل، و الرأي و العقيدة فلا ينجو المخالف إلاّ بالصمت و السكوت مُرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة و أفكارها، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لا بد منها من أجل اغاثة الملهوف المضطهد و المستضعف الذي لا حول له و لا قوة، فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولاً إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي حكاه سبحانه في الذكر الحكيم.

إنّ أكثر من يَعيبُ التقية على مستعملها، يتصوّر أو يصوِّر أنّ الغاية منها هو تشكيل جماعات سرية هدفها الهدم و التخريب، كما هو المعروف من الباطنيين و الأحزاب الإلحادية السرية، و هو تصوّر خاطئ ذهب إليه أُولئك جهلاً أو عمداً دون أن يرتكزوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يُذكر، و لو لم تستبد الظروف القاهرة و الأحكام المتعسفة بهذه الجموع المستضعفة

ص: 45

من المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية، و لما تحمّلوا عبء إخفاء معتقداتهم و لَدَعوا الناس إليها علناً و دون تردّد.

أين العمل الدفاعي بصورة بدائية من الأعمال التي يرتكبها أصحاب الجماعات السرية للإطاحة بالسلطة و امتطاء منصّة الحكم؟ و هي أعمال كلها تخطيطات مدبّرة لغايات ساقطة.

و هؤلاء هم الذين يحملون شعار «الغايات تبرّر الوسائل» فكل قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشئومة.

إنّ القول بالتشابه بين هؤلاء و بين من يتخذ التقية غطاءً، و سلاحاً دفاعياً ليسلم من شر الغير، حتى لا يُقْتَل و لا يُستأصل، و لا تُنهب داره و ماله، إلى أن يُحدث اللّه أمراً، من قبيل عطف المبائن على مثله.

إنّ المسلمين القاطنين في الاتحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب و المحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها

ص: 46

و لا أن تتصورها، فإنّ الشيوعيّين طيلة تسلّطهم على المناطق الإسلامية قلبوا لهم ظهر المِجَنّ، فصادروا أموالهم و أراضيهم، و مساكنهم، و مساجدهم، و مدارسهم، و أحرقوا مكتباتهم، و قتلوا كثيراً منهم قتلاً ذريعاً و وحشياً، فلم ينج منهم إلاّ من اتقاهم بشيء من التظاهر بالمرونة، و إخفاء المراسيم الدينية، و العمل على إقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم اللّه سبحانه بانحلال تلك القوة الكافرة، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد، فملكوا أرضهم و ديارهم، و أخذوا يستعيدون مجدهم و كرامتهم شيئاً فشيئاً، و ما هذا إلاّ ثمرة من ثمار التقية المشروعة التي أباحها اللّه تعالى لعباده بفضله و كرمه سبحانه على المستضعفين.

فإذا كان هذا معنى التقية و مفهومها، و كانت هذه غايتَها و هدفَها، فهي أمر فطريّ، يسوق الإنسان إليها قبل كل شيء عقلُه و لبُّه، و تدعوه إليها فطرته، و لأجل ذلك يلوذ بها كل من ابتُلي بالملوك و الساسة الذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم و فكرتهم و مطامعهم و سلطتهم و لا يترددون عن التنكيل بكل

ص: 47

من يعارضهم في ذلك، من غير فرق بين المسلم شيعياً كان أم سنيّاً و غيره، و من هنا تظهر جدوى التقية و عمق فائدتها.

و لأجل دعم هذا الأصل الحيويّ، ندرس دليله من القرآن و السنّة.

ص: 48

6 التقية في الكتاب العزيز

شرّعت التقية بنص القرآن الكريم، حيث وردت فيها جملة من الآيات الكريمة(1) سنحاول استعراضها في الصفحات التالية:

الآية الأُولى:

قال سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ).(2)

ص: 49


1- . غافر: الآية 28 و 45، و القصص: الآية 20، و ستوافيك نصوص الآيات في ثنايا البحث.
2- . النحل: 106.

ترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً و مجاراةً للكافرين خوفاً منهم، بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان، و صرّح بذلك لفيف من المفسرين القدامى و الجُدد، سنحاول أن نستعرض كلمات البعض منهم تجنّباً عن الإطالة و الاسهاب، و لمن يبتغي المزيد فعليه مراجعة كتب التفسير المختلفة:

1. قال الطبرسي: قد نزلت الآية في جماعة أُكرهوا على الكفر، و هم عمّار و أبوه ياسر و أُمّه سمية، و قُتلَ الأبوان لأنّهما لم يظهرا الكفر و لم ينالا من النبيّ، و أعطاهم عمّار ما أرادوا منه، فأطلقوه، ثمّ أخبر عمّار بذلك رسول اللّه، و انتشر خبره بين المسلمين، فقال قوم: كفر عمّار، فقال الرسول: «كلاّ إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، و اختلط الإيمان بلحمه و دمه».

و في ذلك نزلت الآية السابقة، و كان عمّار يبكي، فجعل رسول اللّه يمسح عينيه و يقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت».(1)8.

ص: 50


1- . مجمع البيان: 3/388.

2. و قال الزمخشري: روي أنّ أُناساً من أهل مكّة فُتِنُوا فارتدّوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، و كان فيهم من أُكره و أجرى كلمة الكفر على لسانه و هو معتقد للإيمان، منهم عمّار بن ياسر و أبواه: ياسر و سمية، و صهيب و بلال و خبّاب.

أمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً....(1)

3. و قال الحافظ ابن ماجة: و الايتاء: معناه الاعطاء أن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية، و التقية في مثل هذه الحال جائزة، لقوله تعالى: (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ).(2)

4. و قال القرطبي: قال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة ثمّ قال: أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشى على نفسه القتل إنّه لا إثم عليه إن كفر و قلبه مطمئن بالإيمان و لا تَبين منه زوجته و لا يُحكم عليه0.

ص: 51


1- . الكشاف عن حقائق التنزيل: 2/430.
2- . ابن ماجة: السنن: 1/53، شرح حديث رقم 150.

بالكفر، هذا قول مالك و الكوفيين و الشافعي.(1)

5. قال الخازن: التقية لا تكون إلاّ مع خوف القتل مع سلامة النيّة، قال اللّه تعالى: (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) ثمّ هذه التقية رخصة.(2)

6. قال الخطيب الشربيني: (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ ) أي على التلفّظ به (وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) فلا شيء عليه لأنّ محل الإيمان هو القلب.(3)

7. و قال إسماعيل حقّي: (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ ) أُجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه... لأنّ الكفر اعتقاد، و الإكراه على القول دون الاعتقاد، و المعنى: «و لكن المكره على الكفر باللسان»، (وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) لا تتغير عقيدته، و فيه دليل على أنّ الإيمان المنجي المعتبر عند اللّه، هو التصديق بالقلب.(4)4.

ص: 52


1- . الجامع لأحكام القرآن: 4/57.
2- . تفسير الخازن: 1/277.
3- . السراج المنير. في تفسير الآية.
4- . تفسير روح البيان: 5/84.

الآية الثانية:

قال سبحانه: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ).(1)

و كلمات المفسّرين حول الآية تغنينا عن أي توضيح:

1. قال الطبري: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ): قال أبو العالية: التقية باللسان، و ليس بالعمل، حُدّثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ قال: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحّاك يقول في قوله تعالى: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) قال: التقيّة باللسان من حُمِلَ على أمر يتكلّم به و هو للّه معصية فتكلم مخافة نفسه (وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) فلا إثم عليه، إنّما التقية باللسان.(2)

2. و قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ): رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، و المراد3.

ص: 53


1- . آل عمران: 28.
2- . جامع البيان: 3/153.

بتلك الموالاة: مخالفة و معاشرة ظاهرة، و القلب مطمئن بالعداوة و البغضاء و انتظار زوال المانع.(1)

3. قال الرازي في تفسير قوله تعالى: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ): المسألة الرابعة: اعلم: أنّ للتقية أحكاماً كثيرة، و نحن نذكر بعضها:

ألف: إنّ التقيّة إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار، و يخاف منهم على نفسه، و ماله، فيداريهم باللسان، و ذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة و الموالاة، و لكن بشرط أن يضمر خلافه و أن يعرض في كل ما يقول، فإنّ للتقيّة تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.

ب: التقيّة جائزة لصون النفس، و هل هي جائزة: لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز، لقوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «حرمة مال المسلم كحرمة دمه»، و لقوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «من قتل دون ماله فهو شهيد».(2)3.

ص: 54


1- . الكشاف: 1/422.
2- . مفاتيح الغيب: 8/13.

4. و قال النسفي: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) إلاّ أن تخافوا جهتهم أمراً يجب اتّقاؤه، أي ألاّ يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك و مالك فحينئذ يجوز لك اظهار الموالاة و إبطان المعاداة.(1)

5. و قال الآلوسي: و في الآية دليل على مشروعية التقية و عرَّفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء. و العدو قسمان:

الأوّل: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين، كالكافر و المسلم.

الثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية، كالمال و المتاع و الملك و الامارة.(2)

6. و قال جمال الدين القاسمي: و من هذه الآية: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) استنبط الأئمّة مشروعية التقية عند الخوف، و قد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى1.

ص: 55


1- . تفسير النسفي بهامش تفسير الخازن: 1/277.
2- . روح المعاني: 3/121.

اليماني في كتابه (إيثار الحق على الخلق).(1)

7. و فسّر المراغي قوله تعالى: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) بقوله: أي انّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلاّ في حال الخوف من شيء تتّقونه منهم، فلكم حينئذ أن تتّقوهم بقدر ما يتقى ذلك الشيء، إذ القاعدة الشرعية: «إنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح».

و إذا جازت موالاتهم لاتّقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين، إذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة، لفائدة تعود إلى الأُولى، إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة، و ليس لها أن تواليها في شيء يضر المسلمين، و لا تختص هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كل وقت.

و قد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق، لأجل التوقّي من ضرر يعود من الأعداء إلى النفس، أو العرض، أو المال.2.

ص: 56


1- . محاسن التأويل: 4/82.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك، و قلبه مطمئن بالإيمان، لا يكون كافراً بل يُعذر كما فعل عمّار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً و قلبه مطمئن بالإيمان، و فيه نزلت الآية:

(مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ).(1)

هذه الجمل الوافية و العبارات المستفيضة لا تدع لقائل مقالاً إلاّ أن يحكم بشرعية التقيّة بالمعنى الذي عرفته، بل قد لا يجد أحد مفسّراً أو فقيهاً وقف على مفهومها و غايتها، و هو يتردد في الحكم بجوازها، كما أنّك أخي القارئ لا تجد إنساناً واعياً لا يستعملها في ظروف عصيبة، ما لم تترتّب عليها مفسدة عظيمة، كما سيوافيك بيانها عند البحث عن حدودها.

و إنّما المعارض لجوازها أو المغالط في مشروعيتها، فإنّما6.

ص: 57


1- . تفسير المراغي: 3/136.

يفسّرها بالتقية الرائجة بين أصحاب التنظيمات السرية و المذاهب الهدّامة كالباطنية و أمثالهم، إلاّ أنّ المسلمين جميعاً بريئون من هذه التقية الهدّامة لكل فضيلة رابية.

الآية الثالثة:

قوله سبحانه: (وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ ).(1)

و كانت عاقبة أمره أن: (فَوَقاهُ اللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ ).(2)

و ما كان ذلك إلاّ لأنّه بتقيّته استطاع أن ينجي نبيّ اللّه5.

ص: 58


1- . غافر: 28.
2- . غافر: 45.

من الموت: (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ ).(1)

و هذه الآيات تدل على جواز التقية لإنقاذ المؤمن من شرّ عدوّه الكافر.0.

ص: 59


1- . القصص: 20.

7 التقيّة في السنّة النبويّة

دلّت الروايات على أنّ الوجوب و الحرمة ترتفع عند طروء الاضطرار، الذي تعدّ التقية من مصاديقه و أوضح دليل على ذلك هو حديث الرفع الذي رواه الفريقان.

1. روى الصدوق بسند صحيح في خصاله عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «رفع عن أُمّتي تسعة: الخطأ، و النسيان، و ما أُكرهوا عليه، و ما لا يطيقون، و ما لا يعلمون، و ما اضطروا إليه، و الحسد، و الطيرة، و التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة».(1)

إنّ للحديث دوراً في مبحث البراءة و الاشتغال في علم الأُصول، و قد فصلنا الكلام حوله في بحوثنا الأُصولية.(2)

ص: 60


1- . الخصال: 417.
2- . لاحظ إرشاد العقول: 3641/347.

و على كلّ تقدير فالحديث صريح في أنّ الاضطرار يبيح المحظور.

2. روى الكليني بسند صحيح عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «التقية في كلّ ضرورة، و صاحبها أعلم بها حين تنزل به».(1)

3. روى الكليني عن محمد بن مسلم و زرارة قالوا: سمعنا أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «التقية في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّه له».(2)

4. و عن الإمام الصادق (عليه السلام) انّه قال: «و كلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدي إلى الفساد في الدين فانّه جائز».(3)

5. و عنه (عليه السلام) انّه قال: «و لا حنث و لا كفّارة على من حلف تقية يدفع بذلك ظلماً عن نفسه».(4)7.

ص: 61


1- . الوسائل: 11، الباب 25 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.
2- . الوسائل: 11، الباب 25 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.
3- . الكافي: 2/168.
4- . الخصال: 607.

6. و عنه (عليه السلام) قال: «و انّ التقية لأوسع ممّا بين السماء و الأرض».(1)

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا الموضوع.

و لك أن تضيف إلى ذلك الاستدلال بالآيات التي رخصت عند الاضطرار، قال تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (2) و مورد الآية و إن كان الاضطرار لأجل الجوع، و لكن الموضوع هو الاضطرار، سواء أ كان العامل داخلياً كاضطراره إلى أكل الميتة، أو خارجياً قاهراً مُلْزِماً على العمل بالخلاف على نحو لو لم يفعله لأدّى إلى إلحاق الضرر بنفسه و نفيسه.

التقية في كلمات العلماء

1. قال ابن عباس: التقيّة باللسان و القلب مطمئن بالإيمان و لا يبسط يده للقتل.(3)9.

ص: 62


1- . بحار الأنوار: 75/412.
2- . البقرة: 173.
3- . فتح الباري: 12/279.

2. قال الحسن البصري: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة إلاّ في قتل النفس.(1)

3. و قال الرازي: تجوز التقية لصون المال على الأصح كما يجوز صون النفس.(2)

4. و قال السيوطي: يجوز أكل الميتة في المخمصة و إساغة اللقمة في الخمر، و التلفظ بكلمة الكفر، و لو عمّ الحرام قطراً بحيث لا يوجد فيه حلال إلاّ نادراً فانّه يجوز استعمال ما يحتاج إليه.(3)

و قد أنكر الشاطبي على الخوارج إنكارهم التقية في القول و الفعل، و عدّها من جملة مخالفاتهم للكليات الشرعية أصلية أو عملية.(4)

5. و قال الطوسي: و التقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس، و قد روي رخصة في جواز الإفصاح بالحق0.

ص: 63


1- . تفسير النيسابوري في هامش الطبري: 3/178.
2- . التفسير الكبير: 8/13.
3- . الأشباه و النظائر: 76.
4- . الموافقات: 4/180.

عنده.(1)

6. و قال العلاّمة الطباطبائي: الكتاب و السنّة متطابقان في جوازها في الجملة، و الاعتبار العقلي يؤيده، إذ لا بغية للدين و لا همَّ لشارعه إلاّ ظهور الحقّ و حياته، و ربما يترتّب على التقية و المجاراة مع أعداء الدين و مخالفي الحقّ حفظ مصلحة الدين و حياة الحق ما لا يترتب على تركها و إنكار ذلك مكابرة و تعسف.(2)

مجال التقية هو الأُمور الشخصية

عُرِفَتِ الشيعة بالتقية و أنّهم يتّقون في أقوالهم و أفعالهم، فصار ذلك مبدأ لوهم عَلِقَ بأذهان بعض السطحيين و المغالطين، فقالوا: بما أنّ التقية من مبادئ التشيّع فلا يصح الاعتماد على كلّ ما يقولون و يكتبون و ينشرون، إذ من المحتمل جداً أن تكون هذه الكتب دعايات و الواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرّة، و يكرّره الكاتب الباكستاني3.

ص: 64


1- . التبيان: 2/435.
2- . الميزان: 3/153.

«إحسان إلهي ظهير» في كتبه السقيمة التي يتحامل بها على الشيعة.

و لكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ مجال التقية إنّما هو في حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس و النفيس، فإذا دلّت القرائن على أنّ في إظهار العقيدة أو تطبيق العمل على مذهب أهل البيت ما يُلحق بالمؤمن الضرر، يُصبح هذا المورد من مواردها، و يحكم العقل و الشرع بلزوم الاتقاء حتى يصون بذلك نفسه و نفيسه عن الخطر. و أمّا الأُمور الكلّية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصوّر فيها التقية، و الكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في هذا النوع الأخير، إذ لا خوف هناك حتى يكتب خلاف ما يعتقد، حيث ليس هناك أيُّ مُلْزم للكتابة أصلاً في هذه الأحوال فله أن يسكت و لا يكتب شيئاً.

فما يدعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناشئ عن قلّة معرفتهم بحقيقة التقية عند الشيعة.

و الحاصل: أنّ الشيعة إنّما كانت تتّقي في عصر لم تكن

ص: 65

لهم دولة تحميهم، و لا قدرة و لا منعة تدفع عنهم الأخطار. و أمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ و لا مبرّر للتقية إلاّ في موارد جزئيّة خاصة.

إنّ الشيعة كما ذكرنا لم تلجأ إلى التقية إلاّ بعد أن اضطرّت إلى ذلك، و هو حق لا أعتقد أنّ أحداً ينظر إلى الاُمور بلبّه لا بعواطفه يخالفها فيه، إلاّ أنّ من الأُمور المسلّمة في تاريخ التشيّع، كثرة التقية على مستوى الفتاوى، و أمّا على المستوى العمليّ فالشيعة من أكثر الناس تضحية، و بوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف رجال الشيعة مع معاوية و غيره من الحكّام الأمويين، و الحكام العباسيين، أمثال حجر بن عدي، و ميثم التمار، و رشيد الهجري، و كميل بن زياد، و مئات من غيرهم، و كمواقف العلويين على امتداد التاريخ و ثوراتهم المتتالية و قد مرّ تفصيله في بعض الفصول.

ص: 66

8 أقسام التقية

تنقسم التقية حسب انقسام الأحكام إلى خمسة، و المهم هو الإشارة إلى الأقسام الثلاثة:

1. التقية الواجبة: و هي ما كانت لدفع الخوف على نفس أو عرض محترمين، أو ضرر لا يتحمل عن نفسه أو غيره من المؤمنين.

2. التقية المندوبة: و هي ما كانت لدفع ما يرجح دفعه من ضرر يسير يتحمّل عادة، سواء تعلق بنفسه أو بغيره.

3. التقية المحرمة و هي ما يترتّب عليها مفسدة أعظم، كهدم الدين و خفاء الحقيقة على الأجيال الآتية، و تسلّط الأعداء على شئون المسلمين و حرماتهم و معابدهم، و لأجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشيعة رفضوا التقية في بعض

ص: 67

الأحيان و قدّموا أنفسهم و أرواحهم أضاحي من أجل الدين، فللتقية مواضع معينة، كما أنّ للقسم المحرم منها مواضع خاصة أيضاً.

إنّ التقية في جوهرها كتم ما يحذر من إظهاره حتى يزول الخطر، فهي أفضل السبل للخلاص من البطش، و لكن ذلك لا يعني أنّ الشيعي جبان خائر العزيمة، خائف متردّد الخطوات يملأ حناياه الذل، كلاّ إنّ للتقية حدوداً لا تتعداها، فكما هي واجبة في حين، هي حرام في حين آخر، فالتقية أمام الحاكم الجائر كيزيد بن معاوية مثلاً محرّمة، إذ فيها الذل و الهوان و نسيان المُثُل و الرجوع إلى الوراء، فليست التقية في جوازها و منعها تابعة للقوّة و الضعف، و إنّما تحددها جوازاً و منعاً مصالح الإسلام و المسلمين.

إنّ للإمام الخميني (قدس سره) كلاماً في المقام ننقله بنصّه حتى يقف القارئ على أنّ للتقية أحكاماً خاصة و ربّما تحرم لمصالح عالية. قال (قدس سره):

تحرم التقية في بعض المحرّمات و الواجبات التي تمثّل

ص: 68

في نظر الشارع و المتشرّعة مكانة بالغة، مثل هدم الكعبة، و المشاهد المشرّفة، و الرد على الإسلام و القرآن و التفسير بما يفسد المذهب و يطابق الإلحاد و غيرها من عظائم المحرّمات، و لا تعمّها أدلة التقية و لا الاضطرار و لا الإكراه.

و تدلّ على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة و فيها: «فكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز».(1)

و من هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن و أهمية في نظر الخلق، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرّمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهناً للمذهب و هاتكاً لحرمه، كما لو أُكره على شرب المسكر و الزنا مثلاً، فإنّ جواز التقية في مثله متمسّكاً بحكومة دليل الرفع(2) و أدلّة التقية مشكل بل ممنوع، و أولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية، ما لو كان أصل من أُصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من1.

ص: 69


1- . الوسائل: 10، الباب 25 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 8.
2- . الوسائل: 10، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.

ضروريات الدين في معرض الزوال و الهدم و التغيير، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الإرث و الطلاق و الصلاة و الحج و غيرها من أُصول الأحكام فضلاً عن أُصول الدين أو المذهب، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة، ضرورة أنّ تشريعها لبقاء المذهب و حفظ الاُصول و جمع شتات المسلمين لإقامة الدين و أُصوله، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية، و هو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة.(1)

و على ضوء ما تقدّم، نخرج بالنتائج التالية:

1. إنّ التقية أصل قرآني مدعم بالسنّة النبوية، و قد عمل بها في عصر الرسالة من ابتلي من الصحابة، لصيانة نفسه، فلم يعارضه الرسول، بل أيّده بالنص القرآني كما في قضية عمّار بن ياسر، حيث أمره (صلى الله عليه و آله و سلم) بالعودة إذا عادوا.

2. انّ التقيّة ليست بمعنى تشكيل جماعات سرية لغاية التخريب و الهدم، و هذا لا يمت إلى التقية بصلة.ة.

ص: 70


1- . رسالة في التقية مطبوعة ضمن الرسائل العشر: 14، باب حول موارد استثنيت من الأدلّة.

3. اتّفق المفسّرون عند التعرّض لتفسير الآيات الواردة في التقية على ما ذهبت إليه الشيعة من إباحتها للتقية.

4. تنقسم التقية حسب انقسام الأحكام إلى أقسام خمسة، فبينما هي واجبة في موضع، تجدها محرّمة في موضع آخر.

5. إنّ مجال التقية لا يتجاوز القضايا الشخصية، و هي فيما إذا كان الخوف قائماً، و أمّا إذا ارتفع الخوف و الضغط، فلا مجال للتقية.

و في ختام هذا البحث نقول:

نفترض أنّ التقية جريمة يرتكبها المتقي لصيانة دمه و عرضه و ماله، و لكنّها في الحقيقة ترجع إلى السبب الذي يفرض التقيّة على الشيعي المسلم و يدفعه إلى أن يتظاهر بشيء من القول و الفعل الذي لا يعتقد به، فعلى من يعيب التقية للمسلم المضطهد، أن يسمح له بالحرية في مجال الحياة و يتركه بحاله، و أقصى ما يصح في منطق العقل، أن يسأله عن دليل عقيدته و مصدر عمله، فإن كان على حجّة بيّنة

ص: 71

يتبعه، و إن كان على خلافها يعذره في اجتهاده و جهاده العلمي و الفكري.

نحن ندعو المسلمين للتأمّل في الدواعي التي دفعت بالشيعة إلى التقية، و أن يعملوا قدر الإمكان على فسح المجال لإخوانهم في الدين فإنّ لكل فقيه مسلم، رأيَه و نظرَه، و جهدَه و طاقتَه.

إنّ الشيعة يقتفون أثر أئمّة أهل البيت في العقيدة و الشريعة، و يرون رأيهم، لأنّهم هم الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً، و أحد الثقلين اللّذين أمر الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) بالتمسّك بهما في مجالي العقيدة و الشريعة، و هذه عقائدهم لا تخفى على أحد، و هي حجّة على الجميع.

نسأل اللّه سبحانه، أن يصون دماء المسلمين و أعراضهم عن تعرض أي متعرض، و يوحّد صفوفهم، و يؤلّف بين قلوبهم، و يجمع شملهم، و يجعلهم صفّاً واحداً في وجه الأعداء، إنّه على ذلك قدير و بالإجابة جدير.

ص: 72

9 شبهات حول التقية

لقد تعرفت على حقيقة التقية: لغة و اصطلاحاً و تاريخاً، كما تعرفت على أدلّتها من الكتاب و السنّة و ظهر انّ سيرة المسلمين جرت على ممارسة التقية عند الشدة، و بقيت ثَمّة شبهات تدور حول التقية، نطرحها على طاولة البحث.

الشبهة الأُولى: التقية من شعب النفاق

إذا كانت التقية إظهارَ ما يُضمر القلبُ خلافَه أو ارتكاب عمل يخالف العقيدة، فهي إذن شعبة من شعب النفاق، لأجل انّ النفاق عبارة عن التظاهر بشيء على خلاف العقيدة.

و الجواب عنها واضح: لأنّ مفهوم التقية في الكتاب

ص: 73

و السنّة هو إظهار الكفر و إبطان الايمان، أو التظاهر بالباطل و إخفاء الحق، و إذا كان هذا مفهومها، فهي تقابل النفاق، تقابلَ الإيمان و الكفر، فانّ النفاق ضدها و خلافها، فهو عبارة عن إظهار الإيمان و إبطان الكفر، و التظاهر بالحق و إخفاء الباطل، و مع وجود هذا التباين بينهما فلا يصحّ عدّها من فروع النفاق.

و بعبارة أُخرى: انّ النفاق في الدين ستر الكفر بالقلب، و إظهار الإيمان باللسان، و أين هذا من التقية التي هي على العكس تماماً (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) فهي إظهار الكفر و إخفاء الإيمان و ستره بالقلب، و أمّا تقية الشيعة فهي تَكْمُنُ في إخفاء الاعتقاد بالإمامة و الولاية لأهل البيت (عليهم السلام) يعني ستر التشيع مع التظاهر بموافقة الآخرين في عقيدتهم تجاه الإمامة و في الوقت نفسه يشاركون المسلمين في الشهادتين و الإيمان بالقيامة، و يمارسون العبادات و يعملون بالفروع و يعتقدون ذلك بقلوبهم و يعيشون هذه العقيدة بوجدانهم و بأرواحهم .

ص: 74

نعم من فسر النفاق بمطلق مخالفة الظاهر للباطن و به صوّر التقية الواردة في الكتاب و السنّة من فروعه، فقد فسره بمفهوم أوسع ممّا هو عليه في القرآن، فانّه يعرف المنافقين بالمتظاهرين بالإيمان و المبطنين للكفر بقوله تعالى: (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَ اللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ) (1) فإذا كان هذا حدّ المنافق فكيف يعمّ من يستعمل التقية تجاه الكفار و العصاة فيُخفي إيمانه أو عقيدته في ولاء أهل البيت و يظهر الموافقة لغاية صيانة النفس و النفيس و العرض و المال من التعرض؟! و يظهر صدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الإسلامي، و لو كانت من قسم النفاق، لكان ذلك أمراً بالقبيح و يستحيل على الحكيم أن يأمر به (قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ).(2)8.

ص: 75


1- . المنافقون: 1.
2- . الأعراف: 28.

الشبهة الثانية: لما ذا عُدَّت التقية من أُصول الدين؟

قد نقل عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) انّهم قالوا: التقية ديني و دين آبائي، و لا دين لمن لا تقية له.(1)

و ظاهر هذه الروايات انّ الاعتقاد بالتقية و تطبيق العمل على ضوئها من أُصول الدين فمن لم يتق فقد خرج عن الدين و ليس له من الإيمان نصيب.

يلاحظ عليه: بأنّ التقية من الموضوعات الفقهية، تخضع كسائر الموضوعات للأحكام الخمسة، فتارة تجب و أُخرى تحرم، و ثالثة...، و معه كيف يمكن أن تكون من أُصول الدين، و قد ذكرها فقهاء الشيعة في باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و أمّا الروايات التي عدتها من الدين فهي من باب الاستعارة و غايتها التأكيد على أهميتها و تطبيقها في الحياة لصيانة النفس و النفيس، و بما انّ بعض الشيعة كانوا يجاهرون2.

ص: 76


1- . الوسائل: 10، الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 3، 22.

بعقائدهم و شعائرهم، الأمر الذي يؤدّي إلى إلقاء القبض عليهم و تعذيبهم و إراقة دمائهم، فالإمام و للحيلولة دون وقوع ذلك يقول بأنّ (التقية ديني و دين آبائي) لحثّهم على الاقتداء بهم، و أمّا ما ورد في الحديث «لا دين لمن لا تقيّة له» فالغاية التأكيد على الالتزام بالتقيّة، نظير قوله: لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد.

و بعبارة أُخرى: ليس المراد من الدين هو الأُصول العامة كالتوحيد و النبوة و المعاد التي بالاعتقاد بها يرد إلى حظيرة الإسلام و بإنكارها أو إنكار واحد منها أو إنكار ما يلازم إنكار أحد الأُصول الثلاثة يخرج عنها، و إنّما المراد به هو الشأن الذي يتعبد به الإمام و يعمل بدين اللّه، فقوله: «التقية ديني و دين آبائي» أي هو من شئوننا أهل البيت (عليهم السلام) فاقتدوا بنا، و أمّا من يتصور انّ التقية تمس كرامته فهو إنسان جاهل خارج عن هذا الشأن الذي عليه تدين الأئمة به.

الشبهة الثالثة: التقية تؤدي إلى محق الدين

إذا مارست جماعةٌ التقية فترة طويلة في أُصول الدين

ص: 77

و فروعه، ربما يتجلى للجيل المقبل بأنّ ما مارسه آباؤهم من صميم الدين و واقعه، فعند ذلك تنتهي التقية إلى محق الدين و اندثاره.

يلاحظ عليه: أنّ الظروف مختلفة و ليست على منوال واحد، فربما يشتد الضغط فلا يجد المحقّ مجالاً للإعراب عن رأيه و عقيدته و شريعته، و قد تتبدّل الظروف إلى ظروف مناسبة تسمح بممارسة الشعائر بكلّ حرية، و قد عاشت الشيعة بين الحين و الآخر في هذه الظروف المختلفة، و بذلك صانت أُصولها و فروعها و ثقافتها و اللّه سبحانه هو المعين لحفظ الدين و شريعته.

و بعبارة أُخرى: انّ للتقية سيطرة على الظاهر دون الباطن، فالأقلّية التي صودرت حرياتها يمارسونها في الظاهر، و أمّا في المجالس الخاصة فيقومون بواجبهم على ما هو عليه و يربّون أولادهم على وفق التعاليم التي ورثوها عن آبائهم عن أئمتهم.

و لو افترضنا انّ مراعاة التقية فترة طويلة تنتهي إلى محق

ص: 78

الدين فالتقية عندئذ تكون محرمة يجب الاجتناب عنها. و قد مرّ انّ التقية لها أحكام خمسة، فالتقية المنتهية إلى محق الدين محظورة.

الشبهة الرابعة: التقية تؤدي إلى تعطيل الأمر بالمعروف

إنّ التقية فكرة تحوّل المسلم إلى إنسان يتعايش مع الأمر الواقع على ما فيه من ظلم و فساد و انحراف، فتعود إلى الرضا بكلّ ما يحيط بها من الظلم و الفساد و الانحراف.

يلاحظ عليه: أنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مشروط بالتمكن منه، فمرتبة منه وظيفة الفرد و هو الأمر بالمعروف بكراهية القلب و اللسان، و مرتبة منه وظيفة المجتمع و على رأسه الدولة صاحبة القدرة و المنعة، فالممارس للتقية يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر حسب مقدرته و لو لا القدرة فلا حكم عليه، لأنّ اللّه سبحانه لا يكلف نفساً إلاّ وسعها.

و مع ذلك فالممارس للتقية يتحيّن الفرص للانقضاض

ص: 79

على الواقع الفاسد و تغييره، فلو ساعدته الظروف على هذا التغيير فحينها يتخلّى عن التقية و يجاهر بالحقّ قولاً و عملاً.

الشبهة الخامسة: التقية من المسلم من البدع

ربما يتصور انّ التقية من اختلاقات الشيعة و انّها لا دليل عليها من الكتاب و السنّة، و ذلك لأنّ الآيات الواردة في التقية ترجع إلى اتّقاء المسلم من الكافر، و أمّا اتّقاء المسلم من المسلم فهذا ما لا دليل عليه من الكتاب و السنة.

الجواب

إنّ مورد الآيات و إن كان هو اتّقاء المسلم من الكافر، و لكن المورد ليس بمخصّص لحكم الآية فقط، إذ ليس الغرض من تشريع التقية عند الابتلاء بالكفار إلاّ صيانة النفس و النفيس من الشر، فإذا ابتُلي المسلم بأخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع و لا يتردد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر، كأن ينكل به أو ينهب أمواله أو يقتله،

ص: 80

ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة النفس و النفيس عن طريق كتمان العقيدة و استعمال التقية، و لو كان هناك وزر فإنّما يحمله من يُتّقى منه لا المتّقي. و نحن نعتقد أنّه إذا سادت الحرية جميع الفرق الإسلامية، و تحمّلت كل فرقة آراء الفرقة الأُخرى لوقفت على أنّ الرأي الآخر هو نتيجة اجتهادها، و عندها لا يضطر أحد من المسلمين إلى استخدام التقية، و لساد الوئام مكان النزاع.

و قد فهم ذلك لفيف من العلماء و صرّحوا به، و إليك نصوص بعضهم:

1. قال الشافعي: تجوز التقية بين المسلمين كما تجوز بين الكافرين محاماة عن النفس.(1)

2. يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ): ظاهر الآية يدل على أنّ التقية إنّما تحل مع الكفّار الغالبين، إلاّ أنّ مذهب الشافعي) (رضي الله عنه): أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين8.

ص: 81


1- . تفسير النيسابوري في هامش تفسير الطبري: 3/178.

و الكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس، و قال: التقية جائزة لصون النفس، و هل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «حرمة مال المسلم كحرمة دمه»، و قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «من قتل دون ماله فهو شهيد».(1)

3. ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه «إيثار الحق على الخلق» ما نصّه:

و زاد الحق غموضاً و خفاءً أمران: أحدهما: خوف العارفين مع قلّتهم من علماء السوء و سلاطين الجور و شياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن، و إجماع أهل الإسلام، و ما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق، و لا برح المحق عدوّاً لأكثر الخلق، و قد صحّ عن أبي هريرة) (رضي الله عنه) أنّه قال في ذلك العصر الأوّل: حفظت من رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس، و أمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم.(2)2.

ص: 82


1- . مفاتيح الغيب: 8/13 في تفسير الآية.
2- . محاسن التأويل: 4/82.

4. و قال المراغي في تفسير قوله سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ): و يدخل في التقية مداراة الكفرة و الظلمة و الفسقة، و إلانة الكلام لهم، و التبسّم في وجوههم، و بذل المال لهم، لكف أذاهم و صيانة العرض منهم، و لا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة».(1)

إنّ الشيعة تتقي الكفّار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لأجلها يتّقيهم السنّي، غير أنّ الشيعي و لأسباب لا تخفى، يلجأ إلى اتّقاء أخيه المسلم لا لتقصير في الشيعي، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك، لأنّه يدرك أنّ الفتك و القتل مصيره إذا صرّح بمعتقده الذي هو عنده موافق لاُصول الشرع الإسلامي و عقائده، نعم كان الشيعي و إلى وقت قريب يتحاشى أن يقول: إنّ اللّه ليس له جهة، أو أنّه تعالى لا يُرى يوم القيامة، و إنّ المرجعية العلمية و السياسية لأهل البيت بعد6.

ص: 83


1- . تفسير المراغي: 3/136.

رحلة النبي الأكرم، أو أنّ حكم المتعة غير منسوخ. إنّ الشيعي إذا صرّح بهذه الحقائق التي استنبطت من الكتاب و السنّة سوف يُعرّض نفسه و نفيسه للمهالك و المخاطر. و قد مرّ عليك كلام الرازي و جمال الدين القاسمي و المراغي الصريح في جواز هذا النوع من التقية، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب، جمود على ظاهر الآية وسد لباب الفهم، و رفض للملاك الذي شُرّعت لأجله التقية، و إعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الأهم إذا عارض المهم.

و قد مرّ الكلام عن لجوء جملة من كبار المحدّثين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تؤدي بحياتهم و بما يملكون، و خير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه(1) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة و المحدّثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً و قد علموا انّ إنكاره يستعقب قتل الجميع دون رحمة، و لما أبصر أُولئك المحدّثون لَمَعان، حد السيف عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه و أسرّوا معتقدهم5.

ص: 84


1- . تاريخ الطبري: 2067/195.

في صدورهم، و لمّا عُوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون برّروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حين أُكره على الشرك و قلبه مطمئن بالإيمان، و القصّة شهيرة و صريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض بالتشنيع فيها على الشيعة و كأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد و أُصول إسلامية ثابتة و معلومة.

ص: 85

10 الآثار البنّاءة للتقية

إذا ساد الاستبداد المجتمع الإنساني و صودرت فيه الحريات و هُضمت فيه الحقوق و أُخمدت فيه أصوات الأحرار، فحينئذ لا تجد الأقلية المهضومة، حيلة سوى اللجوء إلى التقية و التعايش مع الأمر الواقع، و هذا الأمر و ان يتلقّاه البعض أمراً مرغوباً عنه، و لكن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كما سيوافيك كلامه يصفه بأنّه رخصة من اللّه تفضّل اللّه بها على المؤمنين. كيف و قد يترتّب على ممارسة التقية آثار بنّاءة تتلخّص في الأُمور التالية:

1. حفظ النفس و النفيس

إنّ ممارسة التقية و المداراة مع الظالم المستبد يصون

ص: 86

الأقلية من البطش و الكبت و القتل و مصادرة الأموال بخلاف عدم ممارستها فانّه يعرِّضها للقتل و الفناء، و لذلك يعبر عنها بالترس و الجُنّة، قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ التقية ترس المؤمن، و لا إيمان لمن لا تقية له».(1)

و قال (عليه السلام): «كان أبي يقول: و أي شيء أقرّ لعيني من التقية، انّ التقية جُنّة المؤمن».(2)

روى شيخنا المفيد قال: كتب علي بن يقطين (الوزير الشيعي للرشيد) إلى الإمام الكاظم (عليه السلام) يسأله عن الوضوء؟ فكتب إليه أبو الحسن (عليه السلام): «فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء، و الذي آمرك به في ذلك أن تمضمض ثلاثاً، و تستنشق ثلاثاً، و تغسل وجهك ثلاثاً، و تخلّل شعر لحيتك، و تغسل يديك من أصابعك إلى المرفقين ثلاثاً، و تمسح رأسك كلّه، و تمسح ظاهر أُذنيك و باطنهما، و تغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً، و لا تخالف ذلك إلى غيره.

فلمّا وصل الكتاب إلى علي بن يقطين تعجب مما رسم6.

ص: 87


1- . الوسائل: 11، الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 4 و 6.
2- . الوسائل: 11، الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 4 و 6.

له أبو الحسن (عليه السلام) فيه ممّا أجمع العصابة على خلافه، ثمّ قال: مولاي أعلم بما قال: و أنا أمتثل أمره، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد، و يخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالاً لأمر أبي الحسن (عليه السلام) ، و سُعِيَ بعلي بن يقطين إلى الرشيد، و قيل: إنّه رافضي، فامتحنه الرشيد من حيث لا يشعر، فلمّا نظر إلى وضوئه ناداه: كذب يا علي بن يقطين من زعم أنّك من الرافضة، و صلحت حاله عنده، و ورد عليه كتاب أبي الحسن (عليه السلام): «ابتدأ من الآن يا علي بن يقطين و توضّأ كما أمرك اللّه تعالى، اغسل وجهك مرة فريضة و أُخرى إسباغاً و اغسل يديك من المرفقين كذلك، و امسح بمقدم رأسك و ظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كنّا نخاف منه عليك، و السلام».(1)

ترى أنّ الإمام أنقذ علي بن يقطين من الموت من خلال أمره بالتقية و كم له في التاريخ من نظير، و كفى شاهداً قصة عمّار و أبيه و أُمّه المتقدّمة.3.

ص: 88


1- . الوسائل: 1، الباب 32 من أبواب الوضوء، الحديث 3.

2. حفظ وحدة الأُمّة

لا شكّ انّ وحدة الكلمة هي مصدر قوة الأُمّة و ازدهارها، و هي حبل اللّه الوثيق الذي لا بدّ من الاعتصام به، حيث قال في محكم كتابه: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا ).(1)

فقد عدّ سبحانه التفريق و التشرذم و التشتت عذاباً يستأصل الأُمّة و يستنفد قواها، قال سبحانه: (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ).(2)

إلى غير ذلك من الآيات الحاثّة على الوحدة و المحذِّرة من التفرق و التبدد.

و تشريع التقية يعين على الوحدة و يمسك الأُمة عن التبدد، فلذلك يصفها الإمام بأنّها «رخصة تفضّل بها اللّه على المؤمنين رحمة لهم».5.

ص: 89


1- . آل عمران: 103.
2- . الأنعام: 65.

و هذا لا يعني الإفراط في ممارسة التقية حتّى إذا توفرت الفرص المناسبة للتعبير عن رأيه و منهجه، فعند ذلك تحرم التقية، لأنّه يترتب عليها طمس الدين و كتمان الحقيقة.

3. الحفاظ على القوى من الاستنزاف

إنّ الجماعة المهضومة، بممارسة التقية تحمي قواها و طاقاتها من الاستنزاف، و بالتالي تربّي جماعة واعية لأهدافها، فإذا هبّ على مجتمعها نسيم الحرية فيتيسّر عندها أن تُجاهر بأفكارها و آرائها دون أي خوف أو وجل و تطالب بحقوقها، و هذا من آثار التقية حيث صانت الجماعة الضعيفة من استنزاف قواها.

و بما انّ هذه الآثار البنّاءة تعبير واضح للرحمة، التي أشار إليها الإمام أمير المؤمنين، نأتي بنص كلمته:

روى الشريف المرتضى في رسالة «المحكم و المتشابه» نقلاً عن «تفسير النعماني» عن علي (عليه السلام) أنّه قال: «و انّ اللّه منّ على المؤمن بإطلاق الرخصة له عند التقية في الظاهر، أن

ص: 90

يصوم بصيامه و يفطر بإفطاره و يصلّي بصلاته و يعمل بعمله و يظهر له استعمال ذلك، موسعاً عليه فيه، و عليه أن يدين اللّه تعالى في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين المستولين على الأُمّة، فهذه رخصة تفضّل اللّه بها على المؤمنين رحمة لهم ليستعملوها عند التقية في الظاهر».(1)

و الحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات1.

ص: 91


1- . الوسائل: 1، الباب 25 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 1.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.