سلسله المسائل الفقهیه الإشهاد على الطلاق المجلد 14-15

اشارة

سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور:سلسله المسائل الفقهیه / تالیف جعفر السبحانی.

مشخصات نشر:قم: موسسه الامام صادق (ع)، 1430ق.= 1388.

مشخصات ظاهری:26 ج

فروست:سلسله المسائل الفقهیه؛ 1.

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ دوم.

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس.

موضوع:احکام فقهی

موضوع:فقه تطبیقی

شناسه افزوده:موسسه امام صادق (ع)

ص: 1

الإشهاد على الطلاق

ص: 2

[14. الإشهاد على الطلاق ]

مقدمة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على أفضل خلقه و خاتم رسله محمّد و على آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيبة علمه و حفظة سننه.

أمّا بعد، فانّ الإسلام عقيدة و شريعة، فالعقيدة هي الإيمان باللّه و رسله و اليوم الآخر، و الشريعة هي الأحكام الإلهية التي تكفل للبشرية الحياة الفضلى و تحقّق لها السعادة الدنيوية و الأُخروية.

و قد امتازت الشريعة الإسلامية بالشمول، و وضع الحلول لكافّة المشاكل التي تعتري الإنسان في جميع جوانب الحياة قال سبحانه: (اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ).(1)

ص: 3


1- المائدة: 3.

غير أنّ هناك مسائل فرعية اختلف فيها الفقهاء لاختلافهم فيما أثر عن مبلّغ الرسالة النبي الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم)، الأمر الّذي أدّى إلى اختلاف كلمتهم فيها، و بما أنّ الحقيقة بنت البحث فقد حاولنا في هذه الدراسات المتسلسلة أن نطرحها على طاولة البحث، عسى أن تكون وسيلة لتوحيد الكلمة و تقريب الخطى في هذا الحقل، فالخلاف فيها ليس خلافاً في جوهر الدين و أُصوله حتّى يستوجب العداء و البغضاء، و إنّما هو خلاف فيما روي عنه (صلى الله عليه و آله و سلم)، و هو أمر يسير في مقابل المسائل الكثيرة المتّفق عليها بين المذاهب الإسلامية.

و رائدنا في هذا السبيل قوله سبحانه: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ).(1)

جعفر السبحاني قم مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)3.

ص: 4


1- آل عمران: 103.

13

الإشهاد على الطلاق

و ممّا انفردت به الإماميّة، القول: بأنّ شهادة عدلين شرط في وقوع الطلاق، و متى فُقِد لم يقع الطلاق، و خالف باقي الفقهاء في ذلك.(1)

و قال الشيخ الطوسي: كلّ طلاق لم يحضره شاهدان مسلمان عدلان و إن تكاملت سائر الشروط، فإنّه لا يقع. و خالف جميع الفقهاء و لم يعتبر أحد منهم الشهادة.(2)

قال سيد سائق: ذهب جمهور الفقهاء من السلف و الخلف إلى انّ الطلاق يقع بدون إشهاد لانّ الطلاق من حقوق الرجل و لا يحتاج إلى بيّنة كي يباشر حقّه و لم يرد عن

ص: 5


1- الانتصار: 127 128.
2- الخلاف: 2، كتاب الطلاق المسألة 5.

النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) و لا عن الصحابة ما يدلّ على مشروعية الإشهاد، و خالف في ذلك فقهاء الشيعة الإمامية... و ممّن ذهب إلى وجوب الإشهاد و اشتراطه لصحته من الصحابة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب و عمر ان بن حصين رضي اللّه عنهما و من التابعين الإمام محمّد الباقر و الإمام جعفر الصادق، و بنوهما أئمّة أهل البيت رضوان اللّه عليهم، و كذلك عطاء و ابن جُريج و ابن سيرين.(1)

و لا يخفى ما في كلامه من التهافت فأين قوله «و لم يرد عن النبي و لا عن الصحابة ما يدلّ على مشروعية الإشهاد»، من قوله: «و ممن ذهب إلى وجوب الإشهاد و اشتراطه لصحّته من الصحابة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب و عمران بن حصين» أو ليسا من الصحابة العدول.

و لا نعثر على عنوان للموضوع في الكتب الفقهية لأهل السنّة و انّما تقف على آرائهم في كتب التفسير عند تفسير قوله سبحانه: (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ0.

ص: 6


1- فقه السنة: 2/230.

فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ )(1). و هم بين من يجعله قيداً للطلاق و الرجعة، و من يخصّه قيداً للرجعة المستفادة من قوله: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ).

روى الطبري عن السدّي أنّه فسّر قوله سبحانه: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) تارة بالرجعة و قال:

أشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهنّ و ذلك هو الرجعة، و أُخرى بها و بالطلاق، و قال: عند الطلاق و عند المراجعة.

و نقل عن ابن عباس: أنّه فسّرها بالطلاق و الرجعة.(2)

و قال السيوطي: أخرج عبد الرزاق عن عطاء قال: النكاح بالشهود، و الطلاق بالشهود، و المراجعة بالشهود.

و سئل عمران بن حصين عن رجل طلّق و لم يشهد، و راجع و لم يشهد؟ قال: بئس ما صنع طلّق في بدعة و ارتجع في غير سنّة، فليشهد على طلاقه و مراجعته و ليستغفر اللّه.(3)).

ص: 7


1- الطلاق: 2.
2- جامع البيان: 28/88.
3- الدر المنثور: 6/232، و عمران بن حصين من كبار أصحاب الإمام عليّ (عليه السلام).

قال القرطبي: قوله تعالى: (وَ أَشْهِدُوا ) أمرنا بالإشهاد على الطلاق، و قيل: على الرجعة، و الظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. ثمّ الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كقوله: (وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) و عند الشافعي واجب في الرجعة.(1)

و قال الآلوسي: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة إن اخترتموها تبرّياً عن الريبة.(2)

تدلّ الآية تدلّ بوضوح على لزوم الإشهاد في صحّة الطلاق و تقرير الدلالة، انّ قوله تعالى: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) إمّا أن يكون راجعاً إلى الطلاق، كأنّه قال: «إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهنّ و أشهدوا، أو أن يكون راجعاً إلى الفرقة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ )، أو إلى الرجعة التي عبر تعالى عنها بالإمساك (فَأَمْسِكُوهُنَّ ).

و لا يجوز أن يرجع ذلك إلى الفرقة [الثاني] لأنّها ليست4.

ص: 8


1- الجامع لأحكام القرآن: 18/157.
2- روح المعاني: 28/134.

هاهنا شيئاً يوقع و يفعل، و إنّما هو العدول عن الرجعة، و إنّما يكون مفارقاً لها بأن لا يراجعها فتبين بالطلاق السابق، على أنّ أحداً لا يوجب في هذه الفرقة الشهادة و ظاهر الأمر يقتضي الوجوب، و لا يجوز أن يرجع الأمر بالشهادة إلى الرجعة، لأنّ أحداً لا يوجب فيها الإشهاد و إنّما هو مستحب فيها، فثبت انّ الأمر بالإشهاد راجع إلى الطلاق.(1)

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في تفسير الآية.

و ممّن أصحر بالحقيقة عالمان جليلان، و هما: أحمد محمد شاكر القاضي المصري، و الشيخ أبو زهرة.

قال الأوّل بعد ما نقل الآيتين من أوّل سورة الطلاق: «و الظاهر من سياق الآيتين أنّ قوله:

(وَ أَشْهِدُوا ) راجع إلى الطلاق و إلى الرجعة معاً، و الأمر للوجوب، لأنّه مدلوله الحقيقي، و لا ينصرف إلى غير الوجوب كالندب إلاّ بقرينة، و لا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب، بل القرائن هنا تؤيّد حمله على الوجوب إلى أن قال: فمن أشهد على طلاقه، فقد أتى0.

ص: 9


1- الانتصار: 300.

بالطلاق على الوجه المأمور به، و من أشهد على الرجعة فكذلك، و من لم يفعل فقد تعدّى حدود اللّه الذي حدّه له فوقع عمله باطلاً، لا يترتّب عليه أيُّ أثر من آثاره إلى أن قال: و ذهب الشيعة إلى وجوب الإشهاد في الطلاق و أنّه ركن من أركانه، و لم يوجبوه في الرجعة و التفريق بينهما غريب لا دليل عليه.(1)

و قال أبو زهرة: قال فقهاء الشيعة الإمامية الاثنا عشرية و الإسماعيلية: إنّ الطلاق لا يقع من غير إشهاد عدلين، لقوله تعالى في أحكام الطلاق و إنشائه في سورة الطلاق: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) فهذا الأمر بالشهادة جاء بعد ذكر إنشاء الطلاق و جواز الرجعة، فكان المناسب أن يكون راجعاً إليه، و إنّ تعليل الإشهاد بأنّه يوعظ به من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر يرشّح ذلك و يقوّيه، لأنّ حضور9.

ص: 10


1- نظام الطلاق في الإسلام: 118 119.

الشهود العدول لا يخلو من موعظة حسنة يزجونها إلى الزوجين، فيكون لهما مخرج من الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى اللّه سبحانه و تعالى.

و أنّه لو كان لنا أن نختار للمعمول به في مصر لاخترنا هذا الرأي، فيشترط لوقوع الطلاق حضور شاهدين عدلين.(1)

و هذه النصوص تعرب عن كون القوم بين من يقول برجوع الإشهاد إلى الرجعة وحدها، و بين من يقول برجوعه إليها و إلى الطلاق، و لم يقل أحد من السنّة برجوعه إلى الطلاق وحده إلاّ ما عرفته من كلام أبي زهرة. و على ذلك فاللازم علينا بعد نقل النص، التدبّر و الاهتداء بكتاب اللّه إلى حكمه.

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).

ص: 11


1- الأحوال الشخصية: 365، كما في الفقه على المذاهب الخمسة: 131 (و الآية: 32 من سورة الطلاق).

وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً * فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ).(1)

إنّ المراد من بلوغهنّ أجلهنّ: اقترابهنّ من آخر زمان العدة و إشرافهنّ عليه. و المراد بإمساكهنّ: الرجوع على سبيل الاستعارة، كما أنّ المراد بمفارقتهنّ: تركهنّ ليخرجن من العدّة و يبنّ.

لا شك أنّ قوله: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ ) ظاهر في الوجوب كسائر الأوامر الواردة في الشرع و لا يعدل عنه إلى غيره إلاّ بدليل، إنّما الكلام في متعلّقه. فهناك احتمالات ثلاثة:

1. أن يكون قيداً لقوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ).

2. أن يكون قيداً لقوله: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ).

3. أن يكون قيداً لقوله: (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ).1.

ص: 12


1- الطلاق: 21.

لم يقل أحد برجوع القيد إلى الأخير فالأمر يدور بين رجوعه إلى الأوّل أو الثاني، و الظاهر رجوعه إلى الأوّل، و ذلك لأنّ السورة بصدد بيان أحكام الطلاق و قد افتتحت بقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) فذكرت للطلاق عدّة أحكام:

1. أن يكون الطلاق لعدّتهنّ.

2. إحصاء العدّة.

3. عدم خروجهنّ من بيوتهنّ.

4. خيار الزوج بين الإمساك و المفارقة عند اقتراب عدّتهنّ من الانتهاء.

5. إشهاد ذوَي عدل منكم.

6. عدّة المسترابة.

7. عدّة من لا تحيض و هي في سن من تحيض.

8. عدّة أُولات الأحمال.

و إذا لاحظت مجموع آيات السورة من أوّلها إلى الآية

ص: 13

السابعة تجد أنّها بصدد بيان أحكام الطلاق، لأنّه المقصود الأصلي، لا الرجوع المستفاد من قوله:

(فَأَمْسِكُوهُنَّ ) و قد ذكر تبعا.

و هذا هو المرويّ عن أئمتنا (عليهم السلام). روى محمد بن مسلم قال: قدم رجل إلى أمير المؤمنين بالكوفة فقال: إنّي طلّقت امرأتي بعد ما طهرت من محيضها قبل أن أُجامعها، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أشهدت رجلين ذوَي عدل كما أمرك اللّه؟ فقال: لا، فقال: اذهب فانّ طلاقك ليس بشيء.(1)

و روى بكير بن أعين عن الصادقين (عليهما السلام) أنّهما قالا: «و إن طلّقها في استقبال عدّتها طاهراً من غير جماع، و لم يشهد على ذلك رجلين عدلين، فليس طلاقه إيّاها بطلاق».(2)

و روى الفضلاء من أصحاب الإمام الباقر الصادق كزرارة و محمد بن مسلم، و بريد، و فضيل عنهما (عليهما السلام) في حديث انّهما قالا: و إن طلقها في استقبال عدتها طاهراً من غير جماعب.

ص: 14


1- الوسائل: ج 15 الباب 10 من أبواب مقدّمات الطلاق، الحديث 7 و 3 و لاحظ بقية أحاديث الباب.
2- الوسائل: ج 15 الباب 10 من أبواب مقدّمات الطلاق، الحديث 7 و 3 و لاحظ بقية أحاديث الباب.

و لم يشهد على ذلك رجلين عدلين فليس طلاقه إياها بطلاق.(1)

و روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام) أنّه قال لأبي يوسف: إنّ الدين ليس بقياس كقياسك و قياس أصحابك، إنّ اللّه أمر في كتابه بالطلاق و أكّد فيه بشاهدين و لم يرض بهما إلاّ عدلين، و أمر في كتابه التزويج و أهمله بلا شهود، فأتيتم بشاهدين فيما أبطل اللّه، و أبطلتم شاهدين فيما أكّد اللّه عزّ و جلّ، و أجزتم طلاق المجنون و السكران، ثمّ ذكر حكم تظليل المحرم.(2)

قال الطبرسي: قال المفسرون: أُمروا أن يشهدوا عند الطلاق و عند الرجعة شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدّة و لا الرجل الطلاق. و قيل: معناه و أشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم، و هو المروي عنب.

ص: 15


1- الوسائل: 15، الباب 10 من أبواب مقدّمات الطلاق و شرائطه، الحديث 3.
2- الوسائل: ج 15 الباب 10 من أبواب مقدّمات الطلاق، الحديث 12 و لاحظ بقية أحاديث الباب.

أئمتنا (عليهم السلام) و هذا أليق بالظاهر، لأنّا إذا حملناه على الطلاق كان أمراً يقتضي الوجوب و هو من شرائط الطلاق، و من قال: إنّ ذلك راجع إلى المراجعة، حمله على الندب.(1)

و من عجيب الأمر حمل الأمر على الإشهاد في الآية على الندب قال الآلوسي: و أشهدوا ذوي عدل منكم عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) إن اخترتموها تبرياً عن الريبة و قطعاً للنزاع، و هذا أمر ندب كما في قوله تعالى: (وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) و قال الشافعي في القديم: إنّه للوجوب في الرجعة.(2)

يلاحظ عليه: بأنّ المتبادر من الأمر هو الوجوب، و قد قلنا في محلّه: إنّ الأصل المقرر عند العقلاء الذي أنفذه الشارع هو «انّ أمر المولى لا يترك بلا جواب» و الجواب إمّا العمل بالأمر أو قيام الدليل على كونه مندوباً، و على ضوء ذلك فالأمر في المقام للوجوب خصوصاً بالنسبة إلى حكمة التشريع الذي ذكره و هو قوله تبرياً عن الريبة و قطعاً للنزاع.4.

ص: 16


1- مجمع البيان: 5/306.
2- روح المعاني: 28/134.

و أمّا قوله سبحانه: (وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) فقد اتّفقت الأُمّة على كون الإشهاد عند البيع أمراً مندوباً.

ثمّ إنّ الشيخ أحمد محمد شاكر، القاضي الشرعي بمصر كتب كتاباً حول «نظام الطلاق في الإسلام» و أهدى نسخة منه مشفوعة برسالة إلى العلامة الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء و كتب إليه: إنّني ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق، و إنّه إذا حصل الطلاق في غير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقاً و لم يعتد به، و هذا القول و إن كان مخالفاً للمذاهب الأربعة المعروفة إلاّ أنّه يؤيّده الدليل و يوافق مذهب أئمّة أهل البيت و الشيعة الإمامية.

و ذهبتُ أيضاً إلى اشتراط حضور شاهدين حين المراجعة، و هو يوافق أحد القولين للإمام الشافعي و يخالف مذهب أهل البيت و الشيعة، و استغربت(1) من قولهم أن يفرقوا بينهما و الدليل له: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) واحد فيها.ب.

ص: 17


1- مرّ نصّ كلامه حيث قال: و التفريق بينهما غريب.

و بعث إليه العلاّمة كاشف الغطاء برسالة جوابية بيّن فيها وجه التفريق بينهما، و إليك نص ما يهمنا من الرسالة:

قال بعد كلام له: و كأنّك أنار اللّه برهانك لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة كما هي عادتك من الإمعان في غير هذا المقام، و إلاّ لما كان يخفى عليك أنّ السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق و أحكامه حتى أنّها قد سمّيت بسورة الطلاق، و ابتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى: (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) ثمّ ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدّة أي لا يكون في طهر المواقعة، و لا في الحيض، و لزوم إحصاء العدّة، و عدم إخراجهنّ من البيوت، ثمّ استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق حيث قال عزّ شأنه: (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) أي إذا أشرفن على الخروج من العدّة، فلكم إمساكهنّ بالرجعة أو تركهنّ على المفارقة. ثمّ عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) أي في الطلاق الذي سيق الكلام كلّه لبيان أحكامه و يستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلاّ تبعاً و استطراداً،

ص: 18

أ لا ترى لو قال القائل: إذا جاءك العالم وجب عليك احترامه و اكرامه و أن تستقبله سواء جاء وحده أو مع خادمه أو رفيقه، و يجب المشايعة و حسن الموادعة، فانّك لا تفهم من هذا الكلام إلاّ وجوب المشايعة و الموادعة للعالم لا له و لخادمه و رفيقه، و إن تأخّرا عنه، و هذا لعمري حسب القواعد العربية و الذوق السليم جلي واضح لم يكن ليخفى عليك و أنت خريت العربية لو لا الغفلة (و للغفلات تعرض للأريب)، هذا من حيث لفظ الدليل و سياق الآية الكريمة.

و هنالك ما هو أدقّ و أحقّ بالاعتبار من حيث الحكمة الشرعية و الفلسفة الإسلامية و شموخ مقامها و بعد نظرها في أحكامها. و هو أنّ من المعلوم أنّه ما من حلال أبغض إلى اللّه سبحانه من الطلاق، و دين الإسلام كما تعلمون جمعي اجتماعي لا يرغب في أي نوع من أنواع الفرقة لا سيما في العائلة و الأُسرة، و على الأخص في الزيجة بعد ما أفضى كل منهما إلى الآخر بما أفضى.

فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق

ص: 19

و الفرقة، فكثّر قيوده و شروطه على القاعدة المعروفة من أنّ الشيء إذا كثرت قيوده، عزّ أو قلّ وجوده، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أوّلاً و للتأخير و الأناة ثانياً، و عسى إلى أن يحضر الشاهدان أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحصل الندم و يعودان إلى الألفة كما أُشير إليه بقوله تعالى: (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) و هذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين، لا شكّ أنّها ملحوظة للشارع الحكيم مضافاً إلى الفوائد الأُخر، و هذا كلّه بعكس قضية الرجوع فإنّ الشارع يريد التعجيل به، و لعلّ للتأخير آفات فلم يوجب في الرجعة أيّ شرط من الشروط.

و تصح عندنا معشر الإمامية بكلّ ما دلّ عليها من قول أو فعل أو إشارة و لا يشترط فيها صيغة خاصة كما يشترط في الطلاق; كل ذلك تسهيلاً لوقوع هذا الأمر المحبوب للشارع الرحيم بعباده و الرغبة الأكيدة في ألفتهم و عدم تفرّقهم، و كيف لا يكفي في الرجعة حتى الإشارة و لمسها و وضع يده عليها بقصد الرجوع و هي أي المطلّقة الرجعية

ص: 20

عندنا معشر الإمامية لا تزال زوجة إلى أن تخرج من العدّة، و لذا ترثه و يرثها، و تغسّله و يغسّلها، و تجب عليه نفقتها، و لا يجوز أن يتزوّج بأُختها، و بالخامسة، إلى غير ذلك من أحكام الزوجية.(1)ة.

ص: 21


1- أصل الشيعة و أُصولها: 163 165، الطبعة الثانية.

ص: 22

ص: 23

ص: 24

[15. الطلاق ثلاثاً بصيغة أو ثلاث صيغ في مجلس واحد ]

الطلاق ثلاثاً بصيغة أو ثلاث صيغ في مجلس واحد من المسائل التي أوجبت انغلاقاً و عنفاً في الحياة، و أدّت إلى تمزيق الأُسر و تقطيع صلات الأرحام في كثير من البلاد، مسألة تصحيح الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة، بأن يقول: أنت طالق ثلاثاً، أو يكرّره ثلاث دفعات و يقول في مجلس واحد: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق. حيث تحسب ثلاث تطليقات حقيقية و تحرم المطلّقة على زوجها حتى تنكح زوجاً غيره.

إنّ الطلاق عند أكثر أهل السنّة غير مشروط بشروط عائقة عن التسرّع إلى الطلاق، ككونها غير حائض، أو في غير طهر المواقعة، أو لزوم حضور العدلين. فربّما يتغلّب الغيظ

ص: 25

على الزوج و يمتلكه الغضب فيطلّقها ثلاثاً في مجلس واحد، ثمّ يندم على عمله ندامة شديدة فتضيق عليه الأرض بما رحبت و يتطلّب المَخْلَص من أثره السيّئ، و لا يجد عند أئمّة المذاهب الأربعة و الدعاة إليها مخلصاً فيقعد ملوماً محسوراً، و لا يزيده السؤال و الفحص إلاّ نفوراً من الفقه و الفتوى.

إنّ إغلاق باب الاجتهاد و إقفاله بوجه الأُمّة، و منع المفكرين من استنباط الأحكام من الكتاب و السنّة دون التزام برأي إمام خاص، أثار مشاكل كثيرة في مسائل لها صلة بالأُسرة، يقول الكاتب محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية: إنّ رابطة الأُسرة التي وثّقها اللّه برباط الزوجية وهَتْ و كادت أن تنفصم عروتها، بلى قد انفصمت في كثير من الطبقات و كان منشأ ذلك، ما استنّه الناس في الزواج من سنن سيئة و ما شدّد الفقهاء قديماً و حديثاً في الطلاق حتّى جعلوه أشبه بالعبث و اللعب(1) أو بالآصارج.

ص: 26


1- يقف على صدق هذا، من طالع مبحث الحلف بالطلاق في الكتب الفقهية التي تعبر عنه بالطلاق غير المعتبر، حيث أصبح الطلاق أُلعوبة بيد الزوج.

و الأغلال، و كم لمست فيما عرض لي في حياتي الوعظية، شقاء كثير من الأزواج الذين أوقعهم سوء حظهم في مشكل من مشاكل الطلاق فيطلبون حلها عند أحد أُولئك الجامدين فلا يزيدها إلاّ تعقيداً.(1)

و ليس الفقّي هو المشتكي الوحيد من إغلاق باب الاجتهاد، و التعبّد بحرفية المذاهب الأربعة، بل هو أحد مَن ضم صوته إلى صوت أحمد محمد شاكر عضو المحكمة العليا الشرعية حيث لمس خطورة الموقف، التي سبّبت إحلال القوانين الوضعية مكان الأحكام الإسلامية.

قال: كان والدي: الشيخ محمد شاكر كاتب الفتوى لدى شيخه الشيخ محمد العباس المهدي مفتي الديار المصرية رحمه اللّه فجاءت امرأة شابة، حُكم على زوجها بالسجن مدّة طويلة، و هي تخشى الفتنة و تريد عرض أمرها على المفتي يرى لها رأياً في الطلاق من زوجها لتتزوج من غيره، و ليس في مذهب الإمام أبي حنيفة حلٌّ لمثل هذه المعضلة إلاّ الصبر و6.

ص: 27


1- مقدّمة «نظام الطلاق في الإسلام»: 6.

الانتظار فصرفها الوالد معتذراً آسفاً متألِّماً.

ثمّ عرض الأمر على شيخه المفتي، و اقترح عليه اقتباس بعض الأحكام من مذهب الإمام مالك في مثل هذه المشاكل، فأبى الشيخ كلّ الإباء و استنكر هذا الرأي أشدّ استنكار، و كان بين الأُستاذ و تلميذه جدال جادّ في هذا الشأن لم يؤثر على ما كان بينهما من مودة و عطف، و ما زال الأُستاذ الوالد حفظه اللّه... برأيه، معتقداً صحّته و فائدته للناس.(1)

و لو كان والد الشيخ أحمد (محمد شاكر) مطلعاً على فقه أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) و انّ لهم في هذه المشاكل المستعصية حلولاً واضحة مأخوذة من الكتاب و السنّة، لاقترح على أُستاذه الرجوعَ إليه.

كيف و الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أبو الفقهاء، و قد تتلمذ على يده الأئمّة الأربعة إمّا مباشرة أو بالواسطة.

إنّ أغلب المشاكل التي واجهت الشيخ في المحاكم هي إعسار الزوج، و إضراره بالزوجة، و غيبته الطويلة9.

ص: 28


1- نظام الطلاق في الإسلام: 109.

و ما ضاهاها، و لم يكن في فقه الإمام أبي حنيفة حلولاً لها، مع أنّ هذه المشاكل مطروحة في الفقه الإمامي بأوضح الوجوه.

و كان الأولى بوالد الشيخ أن يقترح كسر طوق التقليد و الرجوع إلى الكتاب و السنّة لاستنباط الأحكام الشرعية من دون التزام برأي إمام دون إمام، و هذا هو الحجر الأساس لحلّ هذه المعضلات، و لم يزل الفقه الإمامي منادياً بهذا الأصل عبر القرون.

نحن نعلم علماً قاطعاً بأنّ الإسلام دين سهل و سمح، و ليس فيه حرج و هذا يدفع الدعاة المخلصين إلى دراسة المسألة من جديد دراسة حرّة بعيدة عن أبحاث الجامدين الذين أغلقوا باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية أمام وجوههم، و عن أبحاث أصحاب الهوى الهدّامين الذين يريدون تجريد الأُمم من الإسلام، حتى ينظروا إلى المسألة و يتطلبوا حكمها من الكتاب و السنّة، متجرّدين عن كلّ رأي مسبق فلعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمراً، و ربّما تفك العقدة و يجد المفتي مَخلصاً من هذا المضيق الذي أوجده تقليد المذاهب.

ص: 29

و إليك نقل الأقوال:

قال الشيخ الطوسي: إذا طلّقها ثلاثاً بلفظ واحد، كان مبدعاً و وقعت واحدة عند تكامل الشروط عند أكثر أصحابنا، و فيهم من قال: لا يقع شيء أصلاً و به قال علي (عليه السلام) و أهل الظاهر، و حكى الطحاوي عن محمد بن إسحاق أنّه تقع واحدة كما قلناه، و رُوي أنّ ابن عباس و طاوساً كانا يذهبان إلى ما يقوله الإمامية.

و قال الشافعي: فإن طلّقها ثنتين أو ثلاثاً في طهر لم يجامعها فيه، دفعة أو متفرّقة كان ذلك مباحاً غير محذور و وقع. و به قال في الصحابة عبد الرحمن بن عوف، و رووه عن الحسن بن علي (عليهما السلام)، و في التابعين ابن سيرين، و في الفقهاء أحمد و إسحاق و أبو ثور.

و قال قوم: إذا طلّقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثاً دفعة واحدة، أو متفرقة، فعل محرّماً و عصى و أثم، ذهب إليه في الصحابة علي (عليه السلام)، و عمر، و ابن عمر، و ابن مسعود، و ابن عباس، و في الفقهاء أبو حنيفة و أصحابه و مالك، قالوا: إلاّ أنّ

ص: 30

ذلك واقع.(1)

قال ابن رشد: جمهور فقهاء الأمصار على أنّ الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة، و قال أهل الظاهر و جماعة: حكمه حكم الواحدة و لا تأثير للفظ في ذلك.(2)

و قال عبد الرحمن الجزيري: يملك الرجل الحرُّ ثلاث طلقات، فإذا طلّق الرجل زوجته ثلاثاً دفعة واحدة، بأن قال لها: أنت طالق ثلاثاً، لزمه ما نطق به من العدد في المذاهب الأربعة و هو رأي الجمهور، و خالفهم في ذلك بعض المجتهدين: كطاوس و عكرمة و ابن إسحاق و على رأسهم ابن عباس رضي اللّه عنهم.(3)

و قد بين فتاوى الجمهور، الفقيه المعاصر «وهبة الزحيلي» و قال: اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة و الظاهرية على1.

ص: 31


1- الخلاف: 2 كتاب الطلاق، المسألة 3. و على ما ذكره، نقل عن الإمام عليّ رأيان متناقضان: عدم الوقوع و الوقوع مع الإثم.
2- بداية المجتهد: 2/61، ط بيروت.
3- الفقه على المذاهب الأربعة: 4/341.

أنّه إذا قال الرجل لغير المدخول بها: «أنت طالق ثلاثاً» وقع الثلاث، لأنّ الجميع صادف الزوجية، فوقع الجميع، كما لو قال ذلك للمدخول بها.

و اتّفقوا أيضاً على أنّه إن قال الزوج لامرأته: «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق» و تخلل فصل بينها، وقعت الثلاث سواء أقصد التأكيد أم لا، لأنّه خلاف الظاهر، و إن قال: قصدت التأكيد صدق ديانة، لا قضاء.

و إن لم يتخلل فصل، فإن قصد تأكيد الطلقة الأُولى بالأخيرتين، فتقع واحدة، لأنّ التأكيد في الكلام معهود لغة و شرعاً، و إن قصد استئنافاً أو أطلق (بأن لم يقصد تأكيداً و لا استئنافاً) تقع الثلاث عملاً بظاهر اللفظ.

و كذا تُطلَّق ثلاثاً إن قال: أنت طالق، ثمّ طالق، ثمّ طالق، أو عطف بالواو أو بالفاء.(1)

هذه هي آراء جمهور فقهاء السنّة، و قد خالفهم جماعة من الصحابة و التابعين ذكر أسماء غير واحد منهم الشوكاني في1.

ص: 32


1- الفقه الإسلامي و أدلّته: 3927/391.

«نيل الأوطار» و قال:

ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنّ الطلاق لا يتبع الطلاق بل يقع واحدة فقط. و قد حكى ذلك صاحب البحر عن أبي موسى و رواية عن علي (عليه السلام) و ابن عباس و طاوس و عطاء و جابر بن زيد و الهادي و القاسم و الباقر و الناصر و أحمد بن عيسى، و عبد اللّه بن موسى بن عبد اللّه.

و رواية عن زيد بن علي و إليه ذهب جماعة من المتأخرين منهم ابن تيمية و ابن القيم و جماعة من المحقّقين ، و قد نقله ابن مغيث في كتاب الوثائق عن محمد بن وضاح، و نُقل الفتوى بذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن بقي و محمد بن عبد السلام و غيرهما، و نقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء و طاووس و عمر بن دينار و حكاه ابن مغيث أيضاً في ذلك الكتاب عن علي) (رضي اللّه عنه) و ابن مسعود و عبد الرحمن بن عوف و الزبير.(1)1.

ص: 33


1- نيل الأوطار: 6/231.

إلى غير ذلك من نظائر تلك الكلمات التي تعرب عن اتّفاق جمهور الفقهاء بعد عصر التابعين على نفوذ ذلك الطلاق محتجّين بما تسمع، و رائدهم في ذلك تنفيذ عمر بن الخطاب، الطلاق الثلاث بمرأى و مسمع من الصحابة، و لكن لو دلّ الكتاب و السنّة على خلافه فالأخذ بما دلّ متعيّن.

و تبيين الحق يتم ضمن أُمور:

ص: 34

دراسة الآيات الواردة في المقام

اشارة

قال سبحانه:

(وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ).(1)

قوله سبحانه: (وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) كلمة جامعة لا يُؤدَّى حقّها إلاّ بمقال، و هي صريحة في أنّ الحقوق بينهما متبادلة، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلاّ و على الرجل عمل يقابله، فهما في حقل المعاشرة متماثلان في الحقوق و الأعمال، فلا تسعد الحياة إلاّ باحترام كل من

ص: 35


1- البقرة: 228.

الزوجين للآخر، و قيام كلّ منهما بواجباته، فعلى المرأة القيام بتدبير المنزل و إنجاز الأعمال فيه، و على الرجل السعي و الكسب خارجه، هذا هو الأصل الثابت في حياة الزوجين و الذي تؤيدها الفطرة، و قد قسّم النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) الأُمور بين ابنته فاطمة و زوجها علي (عليه السلام) على النحو الذي ذكرناه.

(اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ).(1)

كان للعرب في الجاهلية طلاق و عدّة مقدرة للمطلقة، و رجعة للمطلِّق أثناء العدة، و لكن لم يكن للطلاق عدد معيّن، فربما طلّق الرجل امرأته مائة مرة و راجعها، و تكون المرأة بذلك أُلعوبة بيد الرجل يضارّها بالطلاق و الرجوع متى شاء.

و جاء في بعض الروايات: انّ رجلاً قال لامرأته: لا9.

ص: 36


1- البقرة: 229.

أقربك أبداً، و مع ذلك تبقين في عصمتي، و لا تستطيعين الزواج من غيري، قالت له: كيف ذلك؟ قال:

أُطلّقك، حتى إذا قرب انقضاء العدة راجعتُكِ، ثمّ طلقتُكِ، و هكذا أبداً، فشكته إلى النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)، فأنزل سبحانه: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ ). (1) أي أنّ الطلاق الذي شرع اللّه فيه الرجوع هو الطلاق الأوّل و الثاني فقط و أمّا الطلاق الثالث فلا يحلّ الرجوع بعده حتّى تنكح زوجاً غير المطلق، فعندئذ لو طلّقها فيحلّ للأوّل نكاحها، هذا هو مفهوم الآية:

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ).(2)

(وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا0.

ص: 37


1- مجمع البيان: 1/328; تفسير البغوي: 1/328; تفسير البغوي: 1/304; روح المعاني: 2/135; الكاشف: 1/346.
2- البقرة: 230.

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ... ).(1)

جئنا بمجموع الآيات الأربع مع أنّ موضع الاستدلال هو الآية الثانية للاستشهاد بها في ثنايا البحث و قبل الخوض في الاستدلال نشير إلى نكات في الآيات:

«المرّة» بمعنى الدفعة للدلالة على الواحد في الفعل، و «الإمساك» خلاف الإطلاق.

و «التسريح» في قوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) مأخوذ من السرح و هو الإطلاق، يقال: سرّح الماشية في المرعى: إذا أطلقها لترعى. و المراد من الإمساك هو إرجاعها إلى عصمة الزوجية.

تفسير قوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ )

أنّ المقصود من «التسريح» عدم التعرّض لها لتنقضي عدتها في كل طلاق أو الطلاق الثالث الذي هو أيضاً نوع من التسريح. على اختلاف في معنى الجملة.

ص: 38


1- البقرة: 231.

و ذلك لانّ التسريح الذي هو خلاف الإمساك قابل للانطباق على الأمرين:

1. عدم التعرض لها حتّى تنقضي عدّتها.

2. أن يرجع إليها ثمّ يطلقها طلقة ثالثة.

و في ضوء ذلك للمفسّرين في تفسير قوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) رأيان:

الأوّل: انّه ناظر إلى عدم التعرض لها حتّى تنقضي عدّتها، و يمكن تقريب هذا القول بالوجوه التالية:

أ. إنّ التسريح بالمعروف في الآية 231 أُريد به ترك الرجعة، قال سبحانه: (وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ).

فالأولى حمل الثانية أيضاً على ترك الرجعة و إن اختلفا في التعبير حيث إنّ التعبير في المقام هو (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) و في الآية الأُخرى: (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ )، و لعلّ المعروف و الإحسان بمعنى واحد، كما عبّر عن ترك الرجعة

ص: 39

بلفظة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) (1) فالأولى تفسير الجميع بترك الرجعة.

ب. انّ التطليقة الثالثة مذكورة بعد هذه الجملة (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ )، حيث قال سبحانه: (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ )، و عندئذ فلا محيص من تفسير الجملة بترك الرجعة، حتّى لا يلزم التكرار.

ج. لا يجوز أن يفسّر قوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) بالطلاق الثالث و إلاّ يلزم أن يكون قوله: (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ ) طلاقاً رابعاً و لا طلاق رابع في الإسلام.(2)

الثاني: إنّ المراد بقوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ )، هو الطلاق الثالث لا ترك الرجعة بعد الطلاق الثاني، و معنى الآية انّ الزوج بعد ما طلّق زوجته مرّتين يجب أن يفكر في أمر زوجته أكثر ممّا مضى حتّى يقف على أنّه ليس له بعد الطلقتين إلاّ أحد أمرين:

أمّا الإمساك بمعروف و الاستمرار معها، أو التسريح9.

ص: 40


1- الطلاق: 2.
2- هذه الوجوه ذكرها الجصّاص في تفسيره: 1/389.

بإحسان بالتطليقة الثالثة التي لا رجوع بعدها أبداً إلاّ في ظرف خاص أشار إليه في الآية التالية بقوله:

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ).

و عندئذ يكون قوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) إشارة إلى التطليق الثالث الذي لا رجوع فيه و يكون التسريح بالمقام متحقّقاً في الطلاق الثالث على هذا القول لا بترك الرجعة كما على القول الآخر.

هذا ما ذكرناه هو عصارة القولين و لكلّ قائل.

و أمّا الوجوه التي ذكرت تأييداً للقول الأوّل فالثاني و الثالث قابلان للدفع، أمّا الثاني فلأنّه لا مانع من ذكر الشيء أوّلاً بالإجمال (أو تسريح بإحسان) ثمّ التفصيل ثانياً بقوله: (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ )، فهو بيان تفصيلي للتسريح بعد البيان الإجمالي، و التفصيل مشتمل على ما لم يشتمل عليه الإجمال من تحريمها عليه حتّى تنكح زوجاً غيره، فلو طلّقها الزوج الثاني باختياره فلا جناح عليهما بالعقد الجديد ان ظنّا أن يقيما حدود اللّه، فأين هذه التفاصيل من قوله (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ )؟!

ص: 41

و بذلك يعلم دفع الوجه الثالث، لأنّ حمل قوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) على الطلقة الثالثة لا يلزم أن يكون قوله: (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ... ) طلاقاً رابعاً، بل يكون تفسيراً له.

أضف إلى ذلك انّ روايات الفريقين تؤيد المعنى الثاني.

روى أبو رزين قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) فقال: يا رسول اللّه، أ رأيت قول اللّه تعالى: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) فأين الثالثة؟ فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ).

و رواه الثوري و غيره عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مثله.(1)

و قد عزا الطبرسي القول الأوّل إلى أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) مع أنّه روى السيد البحراني في تفسير البرهان روايات ست عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) تؤيّد القول الثاني.

و على كلّ تقدير فالوجه الثاني و الثالث قابل للإجابة،8.

ص: 42


1- تفسير القرطبي: 3/128.

و أمّا الوجه الأوّل، فالإجابة عنه واضحة، و ذلك لأنّ التسريح في الموارد الثلاثة بمعنى الإطلاق و إنّما الاختلاف في المصداق فلا مانع من أن يكون المحقّق له في المقام هو الطلاق و في الآيتين هو ترك الرجعة و الاختلاف في المصداق لا يوجب اختلافاً في المفهوم.

إلى هنا تمّ تفسير قوله سبحانه: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ).

و إليك تفسير ما بقي من الآية، أعني قوله: (وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ).(1)

و هذه الفقرة من الآية ناظرة إلى بيان أمرين:

الأوّل: انّه لا يحلّ للزوج أن يأخذ من الزوجة شيئاً ممّا آتاها إذا أراد طلاقها قال سبحانه: (وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً )، و في آية أُخرى (وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ9.

ص: 43


1- البقرة: 229.

مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ).(1)

الثاني: انّه سبحانه استثنى من عدم جواز الأخذ صورة خاصة، و هي أنّ تكون الزوجة كارهة للزوج و لا تُطيق عشرته بحيث يؤدي نفورها منه إلى معصية اللّه في التقصير بحقوق الزوج و قد يخاف الزوج أيضاً أن يقابلها بالإساءة أكثر ممّا تستحقّ، ففي هذه الحال يجوز لها أن تطلب الطلاق من الزوج و تعوضه عنه بما يرضيه، كما يجوز له أن يأخذ ما افتدت به نفسها، و إليه يشير قوله سبحانه: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ... ) إلى هنا تمّ تفسير الآية 229، و إليك تفسير الآية 230.

*** (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ).(2)0.

ص: 44


1- النساء: 20.
2- البقرة: 230.

و محصل الآية انّ من طلّق زوجته ثلاث مرات فلا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً، ثمّ إذا فارقها بموت أو طلاق و انقضت عدّتها جاز للأوّل أن يعقد عليها ثانياً.

ثمّ إنّ للمحلل شروطاً مذكورة في كتب الفقه.

و أمّا الآية الرابعة، أعني قوله: (وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ )، فإنّها واضحة المفهوم.

هذا ما ارتأينا ذكره بشأن تفسير الآيات، و نرجع الآن إلى صلب البحث و هو حكم الطلاق ثلاثاً، فنقول:

إذا تعرّفت على مفاد الآية، فاعلم أنّ الكتاب و السنّة يدلاّن على بطلان الطلاق ثلاثاً، و أنّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأُخرى، يتخلّل بينهما رجوع أو نكاح، فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة، أو كرّر الصيغة فلا يقع الثلاث. و أمّا احتسابها طلاقاً واحداً، فهو و إن كان حقّاً، لكنّه خارج عن موضوع بحثنا، و إليك الاستدلال عن طريق الكتاب أوّلاً و السنّة ثانياً:

ص: 45

أدلة بطلان الطلاق ثلاثا

أوّلاً: الاستدلال عن طريق الكتاب بوجوه:

1. قوله سبحانه: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ ).

إنّ قوله سبحانه: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ ): ظاهر في:

1. إنّ هذا الحكم يشمل كافّة أقسام الطلاق و انّ التفريق بين الطلقات ليس من خصيصة طلاق دون طلاق، بل طبيعة الطلاق تلازم ذلك الطلاق، لأنّ الألف و اللام إذا لم يكونا للمعهود أفاد الاستغراق، فصار تقدير الآية: كلّ الطلاق مرّتان، و مرّة ثالثة، و لو قال هكذا لأفاد انّ الطلاق المشروع متفرّق، لأنّ المرّات لا تكون إلاّ بعد تفرّق بالإجماع.(1)

2. انّ قوله: مرّتان ظاهر في لزوم وقوعه مرّة بعد أُخرى لا دفعة واحدة و إلاّ يصير مرّة و دفعة، و لأجل ذلك عبّر سبحانه بلفظ «المرّة» ليدلّ على كيفية الفعل و انّه الواحد منه، كما أنّ الدفعة و الكرّة و النزلة، مثل المرّة، وزناً و معنى و اعتباراً.

ص: 46


1- التفسير الكبير: 6/103.

و على ما ذكرنا فلو قال المطلِّق: أنت طالق ثلاثاً، لم يطلِّق زوجته مرة بعد أُخرى، و لم يطلّق مرّتين، بل هو طلاق واحد، و أمّا قوله «ثلاثاً» فلا يصير سبباً لتكرّره، و تشهد بذلك فروع فقهية لم يقل أحد من الفقهاء فيها بالتكرار بضم عدد فوق الواحد. مثلاً اعتبر في اللعان شهادات أربع، فلا تجزي عنها شهادة واحدة مشفوعة بقوله «أربعا». و فصول الأذان المأخوذة فيها التثنية، لا يتأتّى التكرار فيها بقراءة واحدة و إردافها بقوله «مرتين»، و لو حلف في القسامة و قال: «أُقسم باللّه خمسين يميناً أنّ هذا قاتله» كان هذا يميناً واحداً، و لو قال المقرّ بالزنا: «أنا أُقرّ أربع مرّات أنّي زنيت» كان إقراراً واحداً، و يحتاج إلى إقرارات ثلاث، إلى غير ذلك من الموارد التي لا يكفي فيها العدد عن التكرار.

هذا هو المقياس الكلي في كلّ مورد اعتبر فيه العدد كرمي الجمرات السبع فلا يجزي عنه رمي الحصيات مرة واحدة، و كتكبيرات صلاة العيدين الخمس أو السبع المتوالية عند القوم قبل القراءة لا تتأتى بتكبيرة واحدة بعدها قول

ص: 47

المصلي خمساً أو سبعاً، و كصلاة التسبيح(1) و قد أخذ في تسبيحاتها العدد عشراً و خمسة عشر فلا تجزي عنها تسبيحة واحدة مردوفة بقوله عشراً أو خمسة عشر، و هذه كلّها ممّا لا خلاف فيها.

و لم أر من تردّد في ذلك غير ابن حزم، فزعم انّه ربما يستعمل في غير ذلك المعنى حيث قال: و أمّا قولهم: معنى قوله (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ ) انّ معناه مرّة بعد مرّة فخطأ، بل هذه الآية كقوله تعالى: (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ ) أي مضاعفاً معاً، و هذه الآية أيضاً تعليم لما دون الثلاث من الطلاق.(2)

يلاحظ على ما ذكره، أنّ استعمال «مرّتين» في هذه الآية بمعنى مضاعفاً، لأجل وجود القرينة و لولاها لحمل على المعنى الحقيقي، و ذلك لأنّه سبحانه يخاطب نساء النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بخطابين:

الأوّل: قوله: (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ8.

ص: 48


1- المراد صلاة جعفر الطيّار.
2- المحلى: 10/168.

مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً ).

الثاني: (وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ).(1)

فقوله في الآية الأُولى: (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ) قرينة على أنّ المراد من قوله: (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ ) إيتاء الأجر المضاعف لا الأجر بعد الأجر، فلا يكون استعماله مرّتين في المضاعف فيها دليلاً على سائر المقامات.

قال الجصاص: و الدليل على أنّ المقصد في قوله: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ ) الأمر بتفريق الطلاق و بيان حكم ما يتعلّق بإيقاع ما دون الثلاث من الرجعة انّه قال: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ )، و ذلك يقتضي التفريق لا محالة، لأنّه لو طلّق اثنتين معاً لما جاز أن يقال: طلّقها مرّتين، و كذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين، حتى يفرق الدفع، فحينئذ يطلق عليه، و إذا كان هذا هكذا، فلو كان الحكم0.

ص: 49


1- الأحزاب: 3130.

المقصود باللفظ هو ما تعلّق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدّى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرّتين، إذ كان هذا الحكم ثابتاً في المرة الواحدة إذا طلّق اثنتين، فثبت بذلك أنّ ذكر المرتين إنّما هو أمر بإيقاعه مرتين، و نهي عن الجمع بينهما في مرّة واحدة.(1)

و قد قال (صلى الله عليه و آله و سلم): «لا طلاق إلاّ بعد نكاح»، و قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «لا طلاق قبل نكاح»، و قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «لا طلاق لمن لا يملك».(2)

فلا نكاح بعد الصيغة الأُولى حتّى يطلق.

هذا كلّه إذا عبّر عن التطليق ثلاثاً بصيغة واحدة، أمّا إذا كرّر الصيغة كما عرفت، فربّما يغتر به البسطاء و يزعمون أنّ تكرار الصيغة ينطبق على الآية، لكنّه مردود من جهة أُخرى و هي:

أنّ الصيغة الثانية و الثالثة تقعان باطلتين لعدم الموضوع للطلاق، فإنّ الطلاق إنّما هو لقطع علقة الزوجية، فلا زوجيةة.

ص: 50


1- أحكام القرآن: 3791/378.
2- السنن الكبرى: 3217/318; المستدرك للحاكم: 2/24، و غيرهما من المصادر المتوفرة.

بعد الصيغة الأُولى حتى تقطع، و لا رابطة قانونية حتى تصرم.

و ربّما يقال: إنّ المطلقة ما زالت في حبالة الرجل و حكمها حكم الزوجة، فعندئذ يكون للصيغة الثانية و الثالثة تأثير بحكم هذه الضابطة.

يلاحظ عليه: أنّه ما ذا يريد من قوله: «انّها بحكم الزوجة»؟ فإن أراد به انّ للزوج حقّ الرجوع إليها، فهو صحيح و لذلك يقال: الرجعية بحكم الزوجة، أو هي زوجة باعتبار انّ للزوج إعادة البناء الذي هدمه بالطلاق، فلا حاجة إلى النكاح الجديد، و هذا غير المدّعى.

و إن أراد انّها زوجة بمعنى انّ صيغة الطلاق لم تؤثر شيئاً و لم تهدم بناء الزوجية و انّ حالها قبل الطلاق و بعده سيان، فهو على خلاف الأُصول الصحيحة، إذ كيف تكون حالها قبله و بعده سيّان، مع أنّها لو تركت حتّى تنقضي عدّتها، تصير أجنبية و بائنة بالتمام.

و كونها قابلة للطلاق الثاني قبل الرجوع مبنيّ على

ص: 51

الوجه الثاني الذي عرفت مخالفته للأُصول، لا على الوجه الأوّل.

و بعبارة واضحة: إنّ الطلاق هو أن يقطع الزوج علقة الزوجيّة بينه و بين امرأته و يطلق سراحها من قيدها، و هو لا يتحقّق بدون وجود تلك العلقة الاعتبارية الاجتماعية، و من المعلوم أنّ المطلّقة لا تطلق، و المسرَّحة لا تسرح.

على أنّ هناك إشكالاً يختص بهذه الصورة (إنشاء الطلاق الثلاث بلا تكرير للصيغة).

و تقريره: انّ الطلاق أمر اعتباري يتحقّق بإنشاء المطلّق، و ليس له واقع وراء الاعتبار، مقابل الأمر التكويني الذي له واقع وراء الذهن و الاعتبار.

فإذا كان الانشاء واحداً فيكون المنشأ أيضاً كذلك، فتعدّد الطلاق رهن تعدّد الإنشاء و المفروض وحدته.

نعم لا يتطرّق هذا الإشكال إلى ما إذا تعدّدت الصيغة كأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق.

و الحاصل: أنّه لا يحصل بهذا النحو من التطليقات

ص: 52

الثلاث، العدد الخاص الذي هو الموضوع للآية التالية، أعني قوله سبحانه: (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ )، لأنّ تعدد الطلاق رهن تخلّل عقدة الزواج بين الطلاقين، و لو بالرجوع، و إذا لم تتخلّل يكون التكلّم أشبه بالتكلّم بكلام لغو.

قال سماك من عنده: إنّما النكاح عقدة تعقد، و الطلاق يحلّها، و كيف تحل عقدة قبل أن تعقد؟!(1) و الحاصل انّه إذا قال: أنت طالق، فكأنّه قال لها: حللت العقدة بيني و بينك، فسخت هذا العقد، قطعت هذا الرباط الذي يربط كلاً منّا بصاحبه; فإذا فسخ العقد الذي كان بينهما، أو حلّت العقدة أو قطع الرباط فمن أين يملك الرجل فسخ العقد أو حل العقدة أو قطع الرباط مرة أُخرى أو ثالثة؟ و في أي عقد من العقود في هذه الشريعة المطهرة أو في غيرها من الشرائع و القوانين، يمكن فسخ العقد الواحد مرّتين أو ثلاثاً، و هو عقد واحد، إلاّ أن يتجدد العقد فيتجدد1.

ص: 53


1- السنن الكبرى: 7/321.

إمكان الفسخ، و يكون فسخاً لعقد آخر.(1)

2. قوله سبحانه: (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ )

تقدّم أنّ في تفسير هذه الفقرة من الآية قولين مختلفين، و المفسّرون بين من يجعلونها ناظرة إلى الفقرة المتقدّمة، أعني قوله: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ... ) و من يجعلونها ناظرة إلى التطليق الثالث الذي جاء في الآية التالية، و قد عرفت ما هو الحق، فتلك الفقرة تدل على بطلان الطلاق الثلاث على كل التقادير.

أمّا على التقدير الأوّل، فواضح، لأنّ معناها أنّ كلّ مرّة من المرّتين يجب أن يتبعها أحد أمرين: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان.

قال ابن كثير: أي إذا طلّقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخيّر فيها ما دامت عدّتها باقية، بين أن تردّها إليك ناوياً2.

ص: 54


1- نظام الطلاق في الإسلام: 72.

الإصلاح و الإحسان و بين أن تتركها حتى تنقضي عدتها، فتبين منك، و تطلق سراحها محسناً إليها، لا تظلمها من حقّها شيئاً و لا تضارّ بها.(1)

و أين هذا من الطلاق ثلاثاً بلا تخلّل واحد من الأمرين الإمساك أو تركها حتى ينقضي أجلها سواء طلّقها بلفظ: أنت طالق ثلاثاً، أو: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق.

قال الشوكاني: يشترط في وقوع الثالثة أن تكون في حال يصح من الزوج فيها الإمساك قبل الطلاق الثالث و إذا لم يصحّ الإمساك إلاّ بعد المراجعة لم تصحّ الثالثة إلاّ بعدها لذلك، و إذا لزم في الثالثة، لزم في الثانية.(2)

و أمّا على التقدير الثاني، فإنّ تلك الفقرة و إن كانت ناظرة لحال الطلاق الثالث، و ساكتة عن حال الطلاقين الأوّلين، لكن قلنا: إنّ بعض الآيات، تدلّ على أنّ مضمونها من خصيصة مطلق الطلاق، من غير فرق بين الأوّلين و الثالث، فالمطلّق يجب أن يُتبعَ طلاقه بأحد أمرين:4.

ص: 55


1- تفسير ابن كثير: 1/53.
2- نيل الأوطار: 6/234.

قال سبحانه: (وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ).(1)

1. الإمساك بمعروف.

2. التسريح بإحسان.

فالمحصّل من المجموع هو كون إتباع الطلاق بأحد أمرين من لوازم طبيعة الطلاق الذي يصلح للرجوع.

و يظهر ذلك بوضوح إذا وقفنا على أنّ قوله: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ) من القيود الغالبية، و إلاّ فالواجب منذ أن يطلّق زوجته، هو القيام بأحد الأمرين، لكن تخصيصه بزمن خاص و هو بلوغ آجالهن، هو لأجل أنّ المطلّق الطاغي عليه غضبه و غيظه، لا تنطفئ سورة غضبه فوراً حتى تمضي عليه مدّة من الزمن تصلح فيها لأن يتفكّر في أمر زوجته و يخاطب بأحد الأمرين، و إلاّ فطبيعة الحكم الشرعي: (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) تقتضي أن يكون حكماً سائداً على جميع الأزمنة من لدن أن يتفوّه بصيغة الطلاق إلى آخر لحظة تنتهي1.

ص: 56


1- البقرة: 231.

معها العدّة.

و على ضوء ما ذكرنا تدلّ الفقرة على بطلان الطلاق الثلاث و أنّه يخالف الكيفية المشروعة في الطلاق، غير أنّ دلالتها على القول الأوّل بنفسها، و على القول الثاني بمعونة الآيات الأُخر.

3. قوله سبحانه: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)

إنّ قوله سبحانه: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ ) وارد في الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع(1) ، و من جانب آخر دلّ قوله سبحانه: (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ )(2). على أنّ الواجب في حقّ هؤلاء هو الاعتداد و إحصاء العدّة، من غير فرق بين أن نقول أنّ «اللام» في (عدتهن) للظرفية بمعنى «في عدّتهنّ» أو بمعنى الغاية، و المراد لغاية أن يعتددن، إذ على كلّ تقدير يدلّ على أنّ من خصائص الطلاق1.

ص: 57


1- فخرج الطلاق البائن كطلاق غير المدخولة، و طلاق اليائسة من المحيض الطاعنة في السن و غيرهما.
2- الطلاق: 1.

الذي يجوز فيه الرجوع، هو الاعتداد و إحصاء العدّة، و هو لا يتحقّق إلاّ بفصل الأوّل عن الثاني، و إلاّ يكون الطلاق الأوّل بلا عدّة و إحصاء لو طلّق اثنتين مرّة. و لو طلّق ثلاثاً يكون الأوّل و الثاني كذلك.

و قد استدلّ بعض أئمّة أهل البيت بهذه الآية على بطلان الطلاق الثلاث.

روى صفوان الجمّال عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): أنّ رجلاً قال له: إنّي طلّقت امرأتي ثلاثاً في مجلس واحد؟ قال: «ليس بشيء»، ثمّ قال: «أما تقرأ كتاب اللّه: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ إلى قوله سبحانه: لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) ثمّ قال: كلّما خالف كتاب اللّه و السنّة فهو يرد إلى كتاب اللّه و السنّة».(1)

4. قوله سبحانه: (لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً )

أنّه لو صحّ التطليق ثلاثاً فلا يبقى لقوله سبحانه:5.

ص: 58


1- قرب الاسناد: 30; و رواه الحر العاملي في وسائل الشيعة ج 15، الباب 29 من أبواب مقدّمات الطلاق، الحديث 25.

(لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) فائدة، لأنّه يكون بائناً و يبلغ الأمر إلى ما لا تحمد عقباه، و لا تحل العقدة إلاّ بنكاح رجل آخر و طلاقه، مع أنّ الظاهر أنّ المقصود حلّ المشكل من طريق الرجوع أو العقد في العدّة.

ثانياً: الاستدلال عن طريق السنّة

قد تعرّفت على قضاء الكتاب في المسألة، و أمّا حكم السنّة، فهي تعرب عن أنّ الرسول كان يعدّ مثل هذا الطلاق لعباً بالكتاب.

1. أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال: أُخبر رسول اللّه عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبان ثمّ قال: أ يلعب بكتاب اللّه و أنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل و قال: يا رسول اللّه أ لا أقتله؟(1) و محمود بن لبيد صحابي صغير و له سماع، روى أحمد باسناد صحيح عنه قال: أتانا رسول اللّه فصلّى بنا المغرب

ص: 59


1- سنن النسائي: 6/142; الدر المنثور: 1/283.

في مسجدنا، فلما سلّم منها، قال: اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم، للسبحة بعد المغرب.(1)

و هذا دليل على سماعه من الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم)، و قد نقله الحافظ ابن حجر في «الإصابة».(2)

و لعلّ هذا الرجل الذي طلّق امرأته ثلاث تطليقات هو (ركانة) الذي يأتي الكلام عنه في الحديث الثاني.

ثمّ نرى أنّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) يصف هذا النوع من الطلاق: باللعب بكتاب اللّه، و تظهر آثار الغضب في وجهه أ فيمكن القول بصحّته بعد ما كان هذا منزلته؟! و لو سلمنا عدم سماعه كما يدّعيه ابن حجر في فتح الباري(3) فهو صحابي و مراسيل الصحابة حجة بلا كلام عندد.

ص: 60


1- مسند أحمد: 5/427.
2- لاحظ: 6/67.
3- فتح الباري: 9/315. و مع ذلك قال: رجاله ثقات، و قال في كتابه الآخر «بلوغ المرام»: 224: رواته موثّقون; و نقل الشوكاني في نيل الأوطار: 6/227، عن ابن كثير أنّه قال: اسناده جيد.

الفقهاء، أخذاً بعدالتهم أجمعين.

2. روى ابن إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: طلّق ركانة زوجته ثلاثاً في مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله رسول اللّه: كيف طلّقتها؟ قال: طلقتها ثلاثاً في مجلس واحد. قال: إنّما تلك طلقة واحدة فارتجعها.(1)

و السائل هو ركانة بن عبد يزيد. روى الإمام أحمد باسناد صحيح عن ابن عباس قال: طلّق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، قال: فسأله رسول اللّه: كيف طلّقتها؟ قال: طلّقتها ثلاثاً. قال، فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم. قال: فإنّما تلك واحدة فأرجعها إن شئت. قال:

فأرجعها، فكان ابن عباس يرى إنّما الطلاق عند كلّ طهر.(2)5.

ص: 61


1- بداية المجتهد: 2/61. و رواه آخرون كابن قيم في إغاثة اللهفان: 156، و السيوطي في الدر المنثور: 1/279 و غيرهم.
2- مسند أحمد: 1/265.

أدلّة القائل بصحّة الطلاق ثلاثاً

اشارة

استدلّ القائل بجواز إرسال الثلاث دفعة أو مفرقة بالكتاب تارة و السنّة أُخرى و الإجماع ثالثة.

أمّا الكتاب فبالآيات التالية:

1. انّ قوله سبحانه: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) يعمّ إيقاع الطلاق الثلاث دفعة.

2. و قوله: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ).

3. و قوله: (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ).

4. و قوله تعالى: (وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ).

و لم يفرق في هذه الآيات بين إيقاع الواحدة و الثنتين و الثلاث.

و قد أُجيب عن الاستدلال بأنّ هذه عمومات مخصّصة

ص: 62

و إطلاقات مقيّدة بما ثبت من الأدلة الدالّة على المنع من وقوع فوق الواحدة.(1)

و الأولى أن يجاب بأنّ شرط التمسّك بالإطلاق كون المتكلّم في مقام البيان لا في مقام الإجمال و الإهمال، مثلاً: لو كان المتكلّم في مقام بيان حكم الطبيعة بما هي هي بأن يقول: الغنم حلال، و الخنزير حرام فلا يمكن أن يستدلّ بهما على حلية الغنم و إن كان جلاّلاً أو مغصوباً تمسّكاً بإطلاقه، و قد قرر في علم الأُصول انّ التمسّك بالإطلاق رهن شروط ثلاثة، أوّلها: كون المتكلّم في مقام بيان الحيثية التي نحن بصدد استنباط حكمها، فإذا سكت يتمسّك بالإطلاق، و أمّا إذا لم يكن في مقام بيان تلك الحيثية، فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق، و هذه الآيات من هذا القبيل فانّها في مقام بيان أُمور أُخرى، فالأولى منها في مقام بيان كون المطلقة محرمة أبداً حتّى تنكح زوجاً غيره، و الثانية في مقام بيان حكم المطلقة قبل المس و مثلها الثالثة و الرابعة في مقام بيان انّ للمطلقة حقّاً خاصاً2.

ص: 63


1- نيل الأوطار: 6/232.

باسم المتاع، فأين هذه الموضوعات من تجويز الطلاق ثلاثاً.

و الحقّ انّ إغلاق باب الاجتهاد من أواسط القرن السابع إلى يومنا هذا صار سبباً لتدهور الاستنباط، و إلاّ فلا يخفى ضعف هذا النوع من الاستدلال على المستنبط الملمّ بالأُصول.

الاستدلال بالسنّة

استدلّ القائل بصحّة الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد بالسنّة:

1. خبر فاطمة بنت قيس

روى ابن حزم من طريق يحيى بن أبي كثير: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أنّ فاطمة بنت قيس أخبرته انّ زوجَها ابن حفص بن المغيرة المخزومي طلّقها ثلاثاً، ثمّ انطلق إلى اليمن، فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) في بيت ميمونة أُمّ المؤمنين فقالوا: انّ ابن حفص طلّق امرأته ثلاثاً

ص: 64

فهل لها من نفقة؟ فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «ليس لها نفقة، و عليها العدّة».(1)

فلو كانت التطليق ثلاثاً أمراً منكراً لأنكره النبي (صلى الله عليه و آله و سلم).

يلاحظ عليه: أنّ ابن حزم نقل الرواية على غير وجهها، فقد روى أحمد في مسنده بسنده عن فاطمة بنت قيس، قالت: كنت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، و كان قد طلّقني تطليقتين، ثمّ إنّه سار مع علي إلى اليمن حين بعثه رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) فبعث بتطليقتي الثالثة.(2)

و في سنن الدارقطني بسنده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس أنّها أخبرته أنّها كانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فطلّقها آخر ثلاث تطليقات، فزعمت أنّها جاءت رسول اللّه فاستفته في خروجها من بيتها.(3)0.

ص: 65


1- المحلى: 10/172.
2- مسند أحمد: 7/563، حديث 26789.
3- سنن الدارقطني: 4/29، كتاب الطلاق، الحديث 80.

و ما نقله المحدثان دليل على أنّ التطليقات كانت متفرقة لا مجتمعة، غير أنّ ابن حزم تغافل عن ذكر نص الحديث.

2. حديث عائشة

روى ابن حزم عن طريق البخاري عن عائشة أُمّ المؤمنين قالت: إنّ رجلاً طلّق امرأته ثلاثاً فتزوجت فطلق(1) ، فسئل رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أ تحلّ للأوّل؟ قال: «لا حتّى يذوق عسيلتها كما ذاق الأوّل»، فلم ينكر عليه الصلاة و السلام هذا السؤال، و لو كان لا يجوز لأخبر بذلك.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الرواية غير ظاهرة في أنّ التطليقات كانت مجتمعة لو لم نقل انّها ظاهرة في المتفرقة، بشهادة وقوع الطلاق في عصر رسول اللّه، و قد كان الطلاق على عهد رسول اللّه و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة.(3)5.

ص: 66


1- أي طلّقها الزوج الثاني.
2- المحلى: 10/171.
3- صحيح مسلم: 2، باب الطلاق الثلاث، الحديث 15.

3. حديث سهل

روى سهل بن سعد الساعدي قال: لاعن رسول اللّه بين الزبير العجلاني و زوجته، فلمّا تلاعنا، قال الزوج: إن أمسكتها فقد كذبت عليها، فهي طالق ثلاثاً، فقال النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): لا سبيل لك عليها .(1)

وجه الاستدلال: انّ العجلاني كان قد طلق في وقت لم يكن له أن يطلق فيه، فطلق ثلاثاً فبين له النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) حكم الوقت، و انّه ليس له أن يطلق فيه و لم يبين له حكم العدد، و لو كان ذلك العدد محرماً و بدعة لبيّنه.

يلاحظ عليه: بأنّه من غرائب الاستدلال فانّ الزوج إذا لاعن زوجته تحرم عليه مؤبداً.(2) فلا موضوع للنكاح و الطلاق، و لمّا كان الرجل جاهلاً بحكم الإسلام و أنّها بانت عنه باللعان من دون حاجة إلى الطلاق، طلّقها ثلاثاً بزعم).

ص: 67


1- سنن البيهقي: 7/328.
2- اتّفقت فقهاء المذاهب الأربع على أنّ اللعان يحرم مؤبداً فلا تحلّ له أبداً حتّى و إن أكذب نفسه، نعم قالت الحنفية بالحرمة المؤبدة إلاّ إذا أكذب نفسه.) الفقه الإسلامي و أدلّته: 7/177).

انّها زوجته على رسم الجاهلية.

و أمّا النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) فليس في كلامه انّه انّه صحّح قوله بعد اللعان فهي طالق ثلاثاً، بل أشار إلى الحرمة الأبدية و انّها صارت محرمة على الزوج، و قال: «لا سبيل لك عليها»، و أين هذا من تصحيح النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) حكم العدد.

الاستدلال بالإجماع

استدلّ القائل بالصحّة بالإجماع و انّ الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ، فقال العيني في «عمدة القارئ»:

فإن قلت: ما وجه هذا النسخ و عمر لا ينسخ؟ و كيف يكون النسخ بعد النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)؟ قلت: لما خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار صار إجماعاً، و النسخ بالإجماع جوّزه بعض مشايخنا بطريق أنّ الإجماع موجب علم اليقين كالنصّ، فيجوز أن يثبت النسخ به، و الإجماع في كونه حجّة أقوى من الخبر المشهور، فإذا كان النسخ جائزاً بالخبر المشهور فجوازه بالإجماع أولى.

فإن قلت: هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم،

ص: 68

فلا يجوز ذلك في حقّهم.

قلت: يحتمل أن يكون ظهر لهم نصّ أوجب النسخ، و لم ينقل إلينا ذلك.(1)

يلاحظ عليه: كيف يدّعي الإجماع و قد تواتر النصّ على أنّه كان على عهد رسول اللّه و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحداً، و مع ذلك كيف يدّعي الإجماع مع تحقّق الخلاف في المسألة و ذهاب كثير من الصحابة و التابعين إلى عدم صحّة الطلاق ثلاثاً؟! و أمّا التمسّك بسكوت الناس، فهو لا يكشف عن وجود نصّ يدلّ على النسخ، إذ لو كان هناك نص لأظهروه، و يصل من السلف إلى الخلف قطعاً، لأنّ المسألة ممّا يعمّ بها الابتلاء.

و لو افترضنا وجود النصّ فكيف خفي في عصر رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) و عصر الخليفة الأوّل و سنتين من عصر الخليفة الثاني؟!2.

ص: 69


1- عمدة القارئ: 20/222.

الاجتهاد تجاه النص

التحق النبيّ الأكرم بالرفيق الأعلى و قد برز بين المسلمين اتّجاهان مختلفان، و فكران متباينان، فعليّ و سائر أئمّة أهل البيت، كانوا يتعرّفون على الحكم الشرعي من خلال النصّ الشرعي آية أو رواية، و لا يعملون برأيهم بتاتاً، و في قبالهم لفيف من الصحابة يستخدمون الرأي للتوصّل إلى الحكم الشرعي من خلال التعرّف على المصلحة و وضع الحكم وفق متطلّباتها.

إنّ استخدام الرأي فيما لا نصّ فيه، و وضع الحكم وفق المصلحة أمر قابل للبحث و النقاش، إنّما الكلام في استخدامه فيما فيه نص، فالطائفة الثانية كانت تستخدم رأيها تجاه النص، لا في خصوص ما لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة بل حتى فيما كان فيه نصّ و دلالة.

يقول أحمد أمين المصري: ظهر لي أنّ عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه، و ذلك

ص: 70

أنّ ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب و لا سنّة، و لكنّا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة التي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، و هو أقرب شيء إلى ما يعبّر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته.(1)

إنّ الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر، و نبذ النص و العمل بالرأي أمر آخر، و لكن الطائفة الثانية كانت تنبذ النص و تعمل بالرأي، و ما روي عن الخليفة في هذه المسألة، من هذا القبيل. و إن كنتَ في ريب من ذلك، فنحن نتلو عليك ما وقفنا عليه:

1. روى مسلم عن طاوس عن ابن عباس، قال: كان الطلاق على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلوب.

ص: 71


1- فجر الإسلام: 238، نشر دار الكتاب.

أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم.(1)

2. و روى مسلم عن ابن طاوس عن أبيه: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و أبي بكر و ثلاثاً من (خلافة) عمر؟ فقال: نعم.(2)

3. و روى مسلم عن طاوس أيضاً: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، أ لم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللّه و أبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك فلمّا كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه عليهم.(3)

و ربما يقال: انّ هذه الرواية تخالف ما روي عن ابن عباس أنّه أفتى بوقوع الثلاث. قال أحمد بن حنبل:

كلّ أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما رواه طاوس في هذه المسألة، أعني بهم: سعيد بن جبير و مجاهد و نافع.

قال أبو داود في سننه: صار قول ابن عباس فيما حدثنار.

ص: 72


1- صحيح مسلم: 4/184 باب الطلاق الثلاث، الحديث 31. التتايع: بمعنى التتابع في الشر.
2- صحيح مسلم: 4/184 باب الطلاق الثلاث، الحديث 31. التتايع: بمعنى التتابع في الشر.
3- صحيح مسلم: 4/184 باب الطلاق الثلاث، الحديث 31. التتايع: بمعنى التتابع في الشر.

أحمد بن صالح، قال: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، و محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس انّ ابن عباس و أبا هريرة و عبد اللّه بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثاً فكلّهم، قال: لا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ المعتبر إنّما هو رواية ابن عباس و هي على بطلان الطلاق ثلاثاً، و أمّا ما نقل عنه من الرأي و هو حجّة عليه لا على غيره، و لو صحّ انّه أفتى على خلاف الرواية، فلا يكون دليلاً على ضعف الرواية، لأنّ الاحتمالات المسوّغة لترك الرواية و العدول إلى الرأي، كثيرة منها النسيان و نظائره.

ثمّ إنّ الشوكاني بعد ما ذكر هذا الجواب قال: إنّ القائلين بالتتابع (صحّة الطلاق ثلاثاً) قد استكثروا من الأجوبة على حديث ابن عباس كلّها غير خارجة عن دائرة التعسف، و الحقّ أحقّ بالاتّباع.(2)4.

ص: 73


1- نيل الأوطار: 6/233.
2- نيل الأوطار: 6/234.

4. روى البيهقي، قال: كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أنّ الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدة على عهد النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و أبي بكر رضى اللّه عنه و صدراً من إمارة عمر رضى اللّه عنه فلمّا رأى الناس قد تتابعوا فيها، قال:

أجيزوهن عليهم.(1)

5. أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنّه قال: لمّا كان زمن عمر رضى اللّه عنه قال: يا أيّها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة و إنّه من تعجل أناة اللّه في الطلاق ألزمناه إياه.(2)

6. عن طاوس قال: قال عمر بن الخطاب: قد كان لكم في الطلاق أناة فاستعجلتم أناتكم، و قد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك.(3)3.

ص: 74


1- سنن البيهقي: 7/339; الدر المنثور: 1/279.
2- عمدة القارئ: 9/537، و قال: اسناده صحيح.
3- كنز العمال: 9/676، برقم 27943.

7. عن الحسن: أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري: لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة، و لكنّ أقواماً جعلوا على أنفسهم، فألزِمُ كلّ نفس ما ألزَمَ نفسه؟ من قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، فهي حرام; و من قال لامرأته: أنت بائنة، فهي بائنة; و من قال: أنت طالق ثلاثاً، فهي ثلاث.(1)

هذه النصوص تدلّ على أنّ عمل الخليفة لم يكن من الاجتهاد فيما لا نصّ فيه، و لا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط و إسراء الحكم الشرعي إلى المواضع التي تشارك النصوص في المسألة، كما إذا قال: الخمر حرام، فيسري حكمه إلى كلّ مسكر أخذاً بروح القانون، و هو أنّ علّة التحريم هي الإسكار الموجود في المنصوص و غير المنصوص، و انّما كان عمله من نوع ثالث و هو الاجتهاد تجاه النص و نبذ الدليل الشرعي، و السير وراء رأيه و فكره و تشخيصه، و قد ذكروا هنا تبريرات لحكم الخليفة نذكرها تباعاً:3.

ص: 75


1- كنز العمال: 9/676، برقم 27943.

تبريرات لحكم الخليفة

اشارة

لمّا كان الحكم الصادر عن الخليفة يخالف نصّ القرآن أو ظاهره، حاول بعض المحقّقين تبرير عمل الخليفة ببعض الوجوه حتّى يبرّر حكمه و يصحّحه و يخرجه عن مجال الاجتهاد تجاه النص، بل يكون صادراً عن دليل شرعي، و إليك بيانه:

1. نسخ الكتاب بالإجماع الكاشف عن النص

إنّ الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ.

فان قلت: ما وجه هذا النسخ و عمر رضى اللّه عنه لا ينسخ، و كيف يكون النسخ بعد النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)؟ قلت: لمّا خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار، صار إجماعاً، و النسخ بالإجماع جوّزه بعض مشايخنا، بطريق أنّ الإجماع موجب علم اليقين كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به، و الإجماع في كونه حجّة أقوى من الخبر المشهور.

فان قلت: هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم فلا

ص: 76

يجوز ذلك في حقّهم.

قلت: يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ و لم ينقل إلينا.(1)

يلاحظ عليه أولاً: أنّ المسألة يوم أفتى بها الخليفة، كانت ذات قولين بين نفس الصحابة، فكيف انعقد الإجماع على قول واحد؟! و قد عرفت الأقوال في صدر المسألة. و لأجل ذلك نرى البعض الآخر ينفي انعقاد الإجماع البتة و يقول: و قد أجمع الصحابة إلى السنة الثانية من خلافة عمر على أنّ الثلاث بلفظ واحد، واحدة، و لم ينقض هذا الإجماع بخلافه، بل لا يزال في الأُمّة من يفتي به قرناً بعد قرن إلى يومنا هذا.(2)

و ثانياً: أنّ هذا البيان يخالف ما برّر به الخليفة عمله حيث قال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم، و لو كان هناك نص عند الخليفة، لكان التبرير به هو المتعيّن.2.

ص: 77


1- العيني: عمدة القارئ: 9/537.
2- تيسير الوصول: 3/162.

و في الختام نقول: أين ما ذكره صاحب العمدة ممّا ذكره الشيخ صالح بن محمد العمري (المتوفّى 1298 ه) حيث قال: إنّ المعروف عند الصحابة و التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، و عند سائر العلماء المسلمين: أنّ حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نصّ كتاب اللّه تعالى أو سنّة رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) وجب نقضه و منع نفوذه، و لا يُعارض نصّ الكتاب و السنّة بالاحتمالات العقليّة و الخيالات النفسية، و العصبيّة الشيطانية بأن يقال: لعلّ هذا المجتهد قد اطّلع على هذا النصّ و تركه لعلّة ظهرت له، أو أنّه اطّلع على دليل آخر، و نحو هذا ممّا لهج به فرق الفقهاء المتعصّبين و أطبق عليه جهلة المقلّدين.(1)

2. تعزيرهم على ما تعدّوا به حدود اللّه

لم يكن الهدف من تنفيذ الطلاق ثلاثاً في مجلس، إلاّ عقابهم من جنس عملهم، و تعزيرهم على ما تعدّوا حدود اللّه، فاستشار أُولي الرأي، و أُولي الأمر و قال: إنّ الناس قد

ص: 78


1- إيقاظ همم أُولي الأبصار: 9.

استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟ فلمّا وافقوه على ما اعتزم أمضاه عليهم و قال:

أيّها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة و أنّه من تعجّل أناة اللّه ألزمناه إيّاه.(1)

لم أجد نصّاً فيما فحصت في مشاورة عمر أُولي الرأي و الأمر، غير ما كتبه إلى أبي موسى الأشعري بقوله: لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة....(2) و هو يُعرب عن عزمه و همّه لا عن استشارته له، و لو كان بصدد الاستشارة، فالأجدر به أن يستشير الصحابة من المهاجرين و الأنصار القاطنين في المدينة و على رأسهم علي بن أبي طالب، و قد كان يستشيره في مواقف خطيرة و يقتفي رأيه.

و لا يكون استعجال الناس، مبرّراً لمخالفة الكتاب و السنّة، بل كان عليه ردع الناس عن عملهم السيّئ بقوّة4.

ص: 79


1- مسند أحمد: 1/314، برقم 2877.
2- كنز العمال: 9/676، برقم 27944.

و منعة، و كيف تصحّ مؤاخذتهم بموافقتهم في عمل أسماه رسول اللّه لعباً بكتاب اللّه؟!(1) ثمّ إنّ أحمد محمد شاكر مؤلف كتاب «نظام الطلاق في الإسلام» و إن أبدى شجاعة في هذه المسألة و أفتى ببطلان الطلاق الثلاث مطلقاً و استنبط حكم المسألة من الكتاب و السنة بوجه جدير بالاهتمام، لكنّه برّر عمل الخليفة بوجه لا يخلو من التعسّف، و قد صدر عمّا أجاب به ابن قيم الجوزية كما سيوافيك كلامه يقول:

«و لم يكن هذا الإلزام من عمر تغييراً للحكم الظاهر من القرآن، و الثابت عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) انّ الطلاق لا يلحق الطلاق، و انّ الطلقة الأُولى ليس للمطلق بعدها إلاّ الرجعة أو الفراق، و كذلك الثانية بعد رجعة أو زواج، و إنّما كان إلزاماً بحكم السياسة الشرعية في النظر إلى المصالح. ممّا جعل اللّه للحكام بعد استشارة أُولي الأمر، و هم العلماء و زعماء الناس و عرفاؤهم، فقد أراد عمر و الصحابة أن يمنعوا الناس من3.

ص: 80


1- الدر المنثور: 1/283.

الاسترسال في الطلاق، و من التعجل إلى بت الفراق، فألزموا المطلق ثلاث مرات في عدّة واحدة ما ظنّه أو ما رغب فيه من أنّها بانت منه بمرة، فمنعوه من رجعتها بإرادته و من تزويجها بعقد آخر حتّى تنكح زوجاً غيره، و لذلك قال عمر: انّه من تعجل أناة اللّه في الطلاق الزمناه إياه، فجعله إلزاماً من الإمام و من أُولي الأمر. و لم يجعله حكماً بوقوع الطلاق الذي لم يقع، لأنّ الأحكام الثابتة بالكتاب و السنّة صريحاً لا يملك أحد تغييرها أو الخيار بينها و بين غيرها، سواء أ كان فرداً أم كان أُمّة مجتمعة».(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ للحاكم الإسلامي اتّخاذ سياسة مناسبة من أجل دفع المجتمع إلى ما فيه صلاحه و زجره عمّا فيه فساده.

فالتعزيرات الشرعية معظمها من هذا الباب و يشترط فيها قبل كلّ شيء أن تكون أمراً حلالاً لا حراماً، فلا يصحّ تعزير الناس بأمر لم يشرِّعه الشارع.0.

ص: 81


1- نظام الطلاق في الإسلام: 80.

و على ضوء ذلك فلا يمكن أن يعد إمضاء عمر للتطليقات الثلاث سياسة شرعية، لأنّه من قبيل دفع الناس إلى ما نهاهم الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) عنه و حذّرهم منه و عدّه لعباً بكتاب اللّه حيث قال غاضباً: «أ يلعب بكتاب اللّه و أنا بين أظهركم؟!» و ثانياً: أنّ الصحابة و التابعين و من تلاهم تلقوه تشريعاً قام به الخليفة لا حكماً تأديبياً، و لذلك أخذوا به عبر القرون إلى يومنا هذا، و ما خالفه إلاّ النادر من أهل السنّة، كابن تيمية في «الفتاوى الكبرى»، و ابن القيم في «اعلام الموقعين» و «إغاثة اللهفان».

و الحقّ أن يقال: انّ إمضاء هذا النوع من الطلاق من قبل الخليفة بأيّ داع كان، قد جرّ الويل و الويلات على الأُسر و العائلات، فصار سبباً لانفصام عُقَد الزوجية في عوائل كثيرة.

و ممّا ذكرنا يظهر ضعف تبرير ابن قيم الجوزية عمل الخليفة بقوله: إنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب و السنّة و القياس و الإجماع القديم، و لم يأت بعده إجماع يبطله،

ص: 82

و لكن رأى أمير المؤمنين عمر رضى اللّه عنه أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق و كثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ليعلموا أنّ أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة، و حرّمت عليه، حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة، يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإذا علموا ذلك كفّوا عن الطلاق المحرَّم، فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه، و رأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النبيّ و عهد الصديق، و صدراً من خلافته كان الأليق بهم، لأنّهم لم يتابعوا فيه و كانوا يتّقون اللّه في الطلاق، و قد جعل اللّه لكلّ من اتّقاه مخرجاً، فلمّا تركوا تقوى اللّه و تلاعبوا بكتاب اللّه و طلّقوا على غير ما شرّعه اللّه ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم فإنّ اللّه شرّع الطلاق مرّة بعد مرّة، و لم يشرّعه كلّه مرّة واحدة.(1)

و بما ذكرنا حول كلام أحمد محمد شاكر يعلم ضعفه فلا نعيد.6.

ص: 83


1- اعلام الموقعين: 3/36.

3. تنفيذ الطلاق ثلاثاً للحد من الكذب

و ربما يقال في تبرير فعل الخليفة الثاني هو وجود الفرق بين عصر رسول اللّه و عصر الخليفة، ففي عصر رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) كان الناس في صلاح و فلاح، و إذا قالوا: أردنا من قولنا: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، التكرير يؤخذ بقولهم، بخلاف عصر الخليفة، فقد فشا في عصره الفساد و الكذب فكانوا يعتذرون بنفس ما كانت الصحابة يعتذرون به، و بما انّ قسماً كثيراً منهم يكذبون في قولهم، بالتأكيد لم يجد الخليفة بداً من الأخذ بظاهر كلامهم و هو الطلاق ثلاثاً.

و هذا الوجه نقله الشوكاني، فقال: إنّ الناس كانوا في عهد رسول اللّه و عهد أبي بكر على صدقهم و سلامتهم و قصدهم في الغالب الفضيلة و الاختيار لم يظهر فيهم خبّ و لا خداع، و كانوا يصدقون في إرادة التوكيد، فلمّا رأى عمر في زمانه أُموراً ظهرت و أحوالاً تغيرت و فشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل ألزمهم الثلاث في صورة التكرير، إذ

ص: 84

صار الغالب عليهم قصدها، و قد أشار إليه بقوله: «إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة».

ثمّ إنّ الشوكاني ردّه بعد نقله حيث قال: و قد ارتضى هذا الجواب القرطبي، و قال النووي: إنّه أصحّ الأجوبة، و لا يخفى انّ ما جاء بلفظ يحتمل التأكيد و ادعى انّه نواه يُصدَّق في دعواه و لو في آخر الدهر فكيف بزمن خير القرون و من يليهم؟! و إن جاء بلفظ لا يحتمل التأكيد لم يصدق إذا ادّعى التأكيد من غير فرق بين عصر و عصر.(1)

أقول: إنّ هذا التبرير بالإضافة إلى ما ذكره الشوكاني من قبيل دفع الفاسد بالأفسد، و قد زاد في الطين بلّة، حيث إنّ المجيب حاول أن يبرر عمل الخليفة و يبرّئه من الخطأ و لو على حساب كرامة قسم من الصحابة و التابعين، حيث إنّ كثيراً منهم كان يرجع إلى الخليفة، فكيف يرميهم3.

ص: 85


1- نيل الأوطار: 6/233.

بالكذب و الخداع؟! و في الختام نأتي بكلمة قيمة للشوكاني، فانّه بعد ما ذكر أدلّة القائلين بوقوع الطلاق ثلاثاً، و تأويل رواية ابن عباس، و تبرير عمل الخليفة، قال: فإن كانت تلك المماشاة لأجل مذاهب الأسلاف فهي أحقر و أقل من أن تُؤثَر على السنّة المطهرة، و إن كانت لأجل عمر بن الخطاب فأين يقع المسكين من رسول اللّه، فأيُّ مسلم من المسلمين يستحسن عقله و علمه ترجيح قول صحابي على قول المصطفى؟!(1) نعم بعض علماء أهل السنّة في هذه العصور فنّد هذا النوع من الطلاق، و لأجل ذلك تغيّر قانون محاكم مصر الشرعية و خالف مذهب الحنفية بعد استقلالها و تحرّرها عن سلطنة الدولة العثمانية. كما أنّ عدداً من مفتي أهل السنّة عمِد إلى تفنيد هذا النوع من الطلاق، في هذا الإطار يقول مؤلّف المنار بعد البحث الضافي حول المسألة: ليس المراد مجادلة المقلّدين أو إرجاع القضاة و المفتين عن مذاهبهم، فإنّ4.

ص: 86


1- نيل الأوطار: 6/234.

أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث و غيرها و لا يبالي بها، لأنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب اللّه و سنّة رسوله.(1)

4. تغيّر الأحكام بالمصالح

و لابن قيم الجوزية كلام مسهب في تحليل إمضاء عمر الطلاق ثلاثاً، و هو يعتمد على تغيّر الأحكام بالمصالح، و يخلط الصحيح بالسقيم، و إليك ملخّص كلامه:

قال: الأحكام نوعان:

نوع لا يتغيّر عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة و لا الأمكنة و لا اجتهاد الأئمّة، كوجوب الواجبات و تحريم المحرّمات و الحدود المقدرة بالشرع على الجرائم.

و النوع الثاني: ما يتغيّر بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً و مكاناً و حالاً، كمقادير التعزيرات و أجناسها و صفاتها ثمّ أتى بأمثلة كثيرة في باب التعزيرات و قال: و من ذلك أنّه

ص: 87


1- تفسير المنار: 2/386، الطبعة الثالثة 1376 ه.

رضى اللّه عنه يريد عمر بن الخطاب لمّا رأى الناس قد أكثروا في الطلاق، رأى أنّهم لا ينتهون عنه إلاّ بعقوبة، فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم ليكفّوا عنها، و ذلك:

إمّا من التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة كما كان يضرب في الخمر ثمانين و يحلق فيها الرأس.

و إمّا ظنّاً أنّ جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط و قد زال.

و إمّا لقيام مانع قام في زمنه منع من جعل الثلاث واحدة.

إلى أن قال: فلمّا رأى أمير المؤمنين أنّ اللّه سبحانه عاقب المطلِّق ثلاثاً، بأن حال بينه و بين زوجه و حرّمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره، علم أنّ ذلك لكراهة الطلاق المحرّم، و بغضه له، فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلّق ثلاثاً بأن ألزمه بها و أمضاها عليه. و قال:

فإن قيل: كان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث، و يحرمه عليهم و يعاقب بالضرب و التأديب من

ص: 88

فعله لئلاّ يقع المحذور الذي يترتّب عليه.

قيل: نعم، لعمر اللّه كان يمكنه ذلك، و لذا ندم في آخر أيامه و ودَّ أنّه كان فعله، قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في مسند عمر: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب: ما ندمت على شيء مثل ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرّمت الطلاق، و على أن لا أكون أنكحت الموالي، و على أن لا أكون قتلت النوائح.

و ليس مراده من الطلاق الذي حرّمه، الطلاق الرجعيّ الذي أباحه اللّه تعالى و علم من دين رسول اللّه جوازه، و لا الطلاق المحرّم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض و الطهر المجامع فيه، و لا الطلاق قبل الدخول، فتبيّن قطعاً أنّه أراد تحريم الطلاق الثلاث إلى أن قال: و رأى عمر أنّ المفسدة تندفع بإلزامهم به فلمّا تبيّن أنّ المفسدة لم تندفع بذلك و ما زاد الأمر إلاّ شدّة، أخبر أنّ الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها،

ص: 89

و اندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) و أبي بكر و أوّل خلافة عمر.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من تقسيم الأحكام إلى نوعين، صحيح. و لكن من أين علم أنّ حكم الطلاق الثلاث من النوع الثاني، فأيّ فرق بين حكم الواجبات و المحرّمات و قوله سبحانه: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ ) و كيف يتغيّر حكم وصفَ رسول اللّه خلافه لعباً بالدين؟ و أمّا ما ذكره من الاحتمالات الثلاثة، فالاحتمال الأوّل هو المتعيّن و هو الموافق لكلام الخليفة نفسه، و أمّا الاحتمالان الأخيران أي جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط و قد زال، أو قام مانع عن إمضائه فلا يعتمد عليهما، و يبدو أن الدافع إلى تصوّر هذين الاحتمالين هو الخضوع للعاطفة و تبرير عمل الخليفة بأي نحو كان.6.

ص: 90


1- إعلام الموقعين: 3/36، و أشار إليه أيضاً في كتابه «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان»: 1/336.

5. تغيّر الأحكام حسب مقتضيات الزمان

إنّ الأحكام التي تتغيّر بتغيّر الزمان و تبدّل الظروف، عبارة عن الأحكام التي حُدّد جوهرها برعاية المصالح، و تركت خصوصياتها و أشكالها إلى رأي الحاكم الإسلامي، فهذا النوع من الأحكام يتعرّض للتغيّر دون ما قام الشارع بتحديد جوهره و شكله و كيفيته، و لم يترك للحاكم الإسلامي أيّ تدخّل فيه، و الأحكام الواردة في الأحوال الشخصية من هذا القبيل، فليس للحاكم التدخل في أحكام النسب و المصاهرة و الرضاع و العدد، فليس له أن يحرّم ما أحلّ اللّه عقوبة للخاطئ و بالعكس، و إنّما هي أحكام ثابتة لا تخضع لرأي حاكم و غيره.

و أمّا ما يجوز للحاكم التدخل فيه فهو عبارة عن الأحكام التي تركت خصوصياتها و أشكالها إلى الحاكم، ليصون مصالح الإسلام و المسلمين، بما تقتضيه الظروف السائدة، و إليك نزراً يسيراً منها، لئلاّ يخلط أحدهما بالآخر:

1. في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية: يجب على

ص: 91

الدولة الإسلامية أن تراعي مصالح الإسلام و المسلمين، فهذا أصل ثابت و قاعدة عامة، و أمّا كيفية تلك الرعاية، فتختلف باختلاف الظروف الزمانية و المكانية، فتارة تقتضي المصلحة، السلام و المهادنة و الصلح مع العدو، و أُخرى تقتضي ضد ذلك.

و هكذا تختلف المقررات و الأحكام الخاصّة في هذا المجال، باختلاف الظروف، و لكنّها لا تخرج عن نطاق القانون العام الذي هو رعاية مصالح المسلمين، كقوله سبحانه:

(وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ).(1)

و قوله سبحانه: (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ1.

ص: 92


1- النساء: 141.

وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ).

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ).(1)

2. العلاقات الدولية التجارية: فقد تقتضي المصلحة عقد اتّفاقيات اقتصادية و إنشاء شركات تجارية أو مؤسّسات صناعية، مشتركة بين المسلمين و غيرهم، و قد تقتضي المصلحة غير ذلك. و من هذا الباب حكم الإمام المغفور له، الفقيه المجدّد السيد الشيرازي بتحريم التدخين ليمنع من تنفيذ الاتّفاقية الاقتصادية التي عقدت في زمانه بين إيران و انجلترا، إذ كانت مجحفة بحقوق الأُمّة المسلمة الإيرانية، لأنّها خوّلت لانجلترا حقّ احتكار التنباك الإيراني.

3. الدفاع عن بيضة الإسلام و حفظ استقلال البلاد و صيانة حدودها من الأعداء، قانون ثابت لا يتغيّر، فالمقصد الأسنى لمشرّع الإسلام، إنّما هو صيانة السيادة من خطر الأعداء و أضرارهم، و لأجل ذلك أوجب تحصيل قوة ضاربة، و إعداد جيش عارم جرّار، ضدّ الأعداء كما يقول سبحانه:8.

ص: 93


1- الممتحنة: 98.

(وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ )(1) ، فهذا هو الأصل الثابت في الإسلام الذي يؤيده العقل و الفطرة، أمّا كيفيّة الدفاع و تكتيكه و نوع السلاح، أو لزوم الخدمة العسكرية و عدمه، فكلّها موكولة إلى مقتضيات الزمان، تتغيّر بتغيّره، و لكن في إطار القوانين العامة، فليس هناك في الإسلام أصل ثابت، حتى مسألة لزوم التجنيد الإجباري، الذي أصبح من الأُمور الأصلية في غالب البلاد.

و ما نرى في الكتب الفقهية من تبويب باب أو وضع كتاب خاص، لأحكام السبق و الرماية، و غيرها من أنواع الفروسية التي كانت متعارفة في الأزمنة الغابرة، و نقل أحاديث في ذلك الباب عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) و أئمّة الإسلام فليست أحكامها أصلية ثابتة في الإسلام، دعا إليها الشارع بصورة أساسية ثابتة، بل كانت نوعاً من أنواع التطبيق لذلك الحكم، الغرض منه تحصيل القوّة الكافية تجاه العدو في تلك العصور، و أمّا الأحكام التي ينبغي أن تطبّق في العصر الحاضر، فإنّها0.

ص: 94


1- الأنفال: 60.

تخضع تفرضها لمقتضيات العصر نفسه.(1)

فعلى الحاكم الإسلامي تقوية جيشه و قواته المسلحة بالطرق التي يقدر معها على صيانة الإسلام و معتنقيه عن الخطر، و يصدّ كلّ مؤامرة عليه من جانب الأعداء حسب إمكانيات الوقت.

و المقنّن الذي يتوخّى ثبات قانونه و دوامه و سيادة نظامه الذي جاء به، لا يجب عليه التعرّض إلى تفاصيل الأُمور و جزئياتها، بل الذي يجب عليه هو وضع الكليات و الأُصول ليساير قانونه جميع الأزمنة بأشكالها و صورها المختلفة، و لون.

ص: 95


1- قال المحقق في «الشرائع»: 152: و فائدة السبق و الرماية: بعث النفس على الاستعداد للقتال و الهداية لممارسة النضال و هي معاملة صحيحة. و قال الشهيد الثاني: في «المسالك» في شرح عبارة المحقّق: لا خلاف بين المسلمين في شرعية هذا العقد، بل أمر به النبي في عدّة مواطن لما فيه من الفائدة المذكورة و هي من أهم الفوائد الدينية لما يحصل بها من غلبة العدو في الجهاد لأعداء اللّه تعالى. الذي هو أعظم أركان الإسلام و لهذه الفائدة يخرج عن اللهو و اللعب المنهى عن المعاملة عليهما. فإذا كانت الغاية من تشريعها الاستعداد للقتال و التدرّب للجهاد، فلا يفرق عندئذ بين الدارج في زمن النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) و غيره أخذاً بالملاك المتيقّن.

سلك غير هذا السبيل لصار حظّه من البقاء قليلاً جدّاً.

4. نشر العلم و الثقافة و استكمال المعارف التي تضمن سيادة المجتمع ماديّاً و معنوياً يعتبر من الفرائض الإسلامية، أمّا تحقيق ذلك و تعيين نوعه و نوع وسائله فلا يتحدّد بحدّ خاص، بل يوكل إلى نظر الحاكم الإسلامي، و اللّجان المقررة لذلك من جانبه حسب الإمكانيات الراهنة في ضوء القوانين الثابتة.

و بالجملة: فقد ألزم الإسلام، رعاة المسلمين، و ولاة الأمر نشر العلم بين أبناء الإنسان و اجتثاث مادة الجهل من بينهم و مكافحة أيّ لون من الأُميّة، و أمّا نوع العلم و خصوصياته، فكل ذلك موكول إلى نظر الحاكم الإسلامي و هو أعلم بحوائج عصره.

فربّ علم، لم يكن لازماً، لعدم الحاجة إليه، في العصور السابقة، و لكنّه أصبح اليوم في طليعة العلوم اللازمة، التي فيها صلاح المجتمع، كالاقتصاد و السياسة.

5. حفظ النظام و تأمين السبل و الطرق، و تنظيم الأُمور

ص: 96

الداخلية و رفع المستوى الاقتصادي و... من الضروريات، فيتبع فيه و أمثاله، مقتضيات الظروف و ليس فيه للإسلام حكم خاص يتبع، بل الذي يتوخّاه الإسلام، هو الوصول إلى هذه الغايات، و تحقيقها بالوسائل الممكنة، دون تحديد و تعيين لنوع هذه الوسائل و إنّما ذلك متروك إلى إمكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر، و كلّها في ضوء القوانين العامة.

6. قد جاء الإسلام بأصل ثابت في مجال الأموال، و هو قوله سبحانه: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ )، و قد فرع الفقهاء على هذا الأصل شرطاً في صحّة عقد البيع أو المعاملة فقالوا: يشترط في صحّة المعاملة وجود فائدة مشروعة و إلاّ فلا تصح المعاملة، و من هنا حرّموا بيع (الدم) و شراءه.

إلاّ أنّ تحريم بيع الدم و شرائه ليس حكماً ثابتاً في الإسلام، بل التحريم كان في الزمان السابق صورة إجرائية لما أفادته الآية من حرمة أكل المال بالباطل، و كان بيع الدم في ذلك الزمان مصداقاً له، فالحكم يدور مدار وجود الفائدة (التي تخرج المعاملة عن كونها أكل المال بالباطل) و عدم تحقّق

ص: 97

الفائدة (التي تخرج المعاملة عن كونها أكل المال بالباطل) فلو ترتّبت فائدة معقولة على بيع الدم أو شرائه فسوف يتبدّل حكم الحرمة إلى الحلّية، و الحكم الثابت هنا هو قوله تعالى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ).

و في هذا المضمار ورد أنّ علياً (عليه السلام) سئل عن قول الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم): غيّروا الشيب و لا تشبّهوا باليهود؟ فقال (عليه السلام): «إنّما قال (صلى الله عليه و آله و سلم) ذلك و الدين قُلٌّ، فأمّا الآن فقد اتّسع نطاقه و ضرب بجرانه فامْرؤٌ و ما اختار».(1)

هذا و لمّا كان الحكم بصحة الطلاق ثلاثاً، مثيراً للفساد، عبر التاريخ، قام ابن قيم مع تبريره عمل الخليفة بما ذكر ببيان ما ترتّب عليه من شماتة أعداء الدين به، و ها نحن ننقل نصّ كلامه:

جزاء الانحراف عن الطريق المهيع

إنّ ابن القيم كما عرفت كان من المدافعين

ص: 98


1- نهج البلاغة، الحكمة رقم 16. لاحظ كتابنا مفاهيم القرآن: 2753/265.

المتحمّسين عن فتيا الخليفة، و قد برّر حكمه بأنّ المصلحة يومذاك كانت تقتضي الأخذ بما التزم به المطلّق على نفسه، و قد عرفت ضآلة دفاعه و وهن كلامه، و لكنّه ذكر في آخر كلامه بأنّ المصلحة في زماننا هذا على عكس ما كان عليه زمن الخليفة، و أنّ تصحيح التطليق الثلاث، جرّ الويلات على المسلمين في أجوائنا و بيئاتنا، و صار سبباً لاستهزاء الأعداء، بالدين و أهله، و أنّه يجب في زماننا هذا الأخذ بمُرّ الكتاب و السنّة، و هو أنّه لا يقع منه إلاّ واحد.

و لكنّه غفل عمّا هو الحق في المقام و أنّ المصلحة في جميع الأزمنة كانت على وتيرة واحدة، و أنّ ما حدّه سبحانه من الحدود، هو المطابق لمصالح العباد و مصائرهم، و أنّ الشناعة و الاستهزاء اللَّتين يذكرهما ابن قيم الجوزية إنّما نجمتا من الانحراف عن الطريق المهيَع و الاجتهاد تجاه النص بلا ضرورة مفضية إلى العدول و من دون أن يكون هناك حرج أو كلفة، و لأجل ذلك نأتي بكلامه حتى يكون عبرة لمن يريد في زماننا هذا أن يتلاعب بالأحكام الشرعية بهذه المصالح المزعومة،

ص: 99

و إليك نصّ كلامه:

هذه المسألة ممّا تغيّرت الفتوى بها بحسب الأزمنة و أمّا في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربّها من مفسدة التحليل، و قبح ما يرتكبه المحلّلون ممّا هو رمد بل عمًى في عين الدين، و شجىً في حلوق المؤمنين، من قبائح تشمّت أعداء الدين بها، و تمنع كثيراً ممّن يريد الدخول فيه بسببه، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، و لا يحصرها كتاب، يراها المؤمنون كلّهم من أقبح القبائح و يعدّونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رسمه، و غيّرت منه اسمه، و ضمخ التيس المستعار فيها المطلّقةَ بنجاسة التحليل، و قد زعم أنّه قد طيّبها للتحليل، فيا للّه العجب! أيّ طيب أعارها هذا التيس الملعون؟! و أيّ مصلحة حصلت لها و لمطلِّقها بهذا الفعل الدون؟! أ ترى وقوف الزوج المطلِّق أو الولي على الباب، و التيس الملعون قد حلّ أزرارها و كشف النقاب، و أخذ في ذلك المرتع، و الزوج أو الولي يناديه: لم يُقدَّم إليك هذا الطعام لتشبع، فقد

ص: 100

علمت أنت و الزوجة و نحن و الشهود و الحاضرون و الملائكة الكاتبون، و ربّ العالمين، أنّك لست معدوداً من الأزواج، و لا للمرأة أو أوليائها بك رضاً و لا فرح و لا ابتهاج، و إنّما أنت بمنزلة التيس المستعار للضراب، الذي لو لا هذه البلوى لما رضينا وقوفك على الباب، فالناس يُظهرون النكاح و يُعلنونه فرحاً و سروراً، و نحن نتواصى بكتمان هذا الداء العضال، و نجعله أمراً مستوراً بلا نثار و لا دف، و لا خوان و لا اعلان، بل التواصي بهس و مس و الاخفاء و الكتمان، فالمرأة تنكح لدينها و حسبها و مالها و جمالها.

و التيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك، فانّه لا يُمسك بعصمتها، بل قد دخل على زوالها، و اللّه تعالى قد جعل كل واحد من الزوجين سكناً لصاحبه، و جعل بينهما مودة و رحمة ليحصل بذلك مقصود هذا العقد العظيم، و تتم بذلك المصلحة التي شرّعه لأجلها العزيز الحكيم.

فسل التيس المستعار: هل له من ذلك نصيب، أو هو من حكمة هذا العقد و مقصوده و مصلحته أجنبي غريب؟!

ص: 101

و سله: هل اتّخذ هذه المصابة حليلة و فراشاً يأوى إليه؟ هل رضيت به قط زوجاً و بعلاً تعول في نوائبها عليه؟! وسل أُولي التمييز و العقول: هل تزوّجت فلانة بفلان؟! و هل يعد هذا نكاحاً في شرع أو عقل أو فطرة إنسان؟ و كيف يلعن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) رجلاً من أُمّته نكح نكاحاً شرعياً صحيحاً، و لم يرتكب في عقده محرماً و لا قبيحاً؟! و كيف يشبهه بالتيس المستعار، و هو من جملة المحسنين الأبرار؟! و كيف تعيّر به المرأة طول دهرها بين أهلها و الجيران، و تظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك التيس بين النسوان؟! وسل التيس المستعار: هل حدّث نفسه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق، بنفقة أو كسوة أو وزن صداق؟! و هل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك، أو حدّثت نفسها به هنالك؟! و هل طلب منها ولداً نجيباً و اتّخذته عشيراً و حبيباً؟! وسل عقول العالمين و فطرهم: هل كان خير هذه الأُمّة أكثرهم تحليلاً، و كان المحلّل الذي لعنه اللّه و رسوله أهداهم سبيلاً؟ وسل التيس المستعار و من ابتليت به: هل تجمّل أحد

ص: 102

منهما لصاحبه كما يتجمّل الرجال بالنساء و النساء بالرجال، أو كان لأحدهما رغبة في صاحبه بحسب أو مال أو جمال؟ وسل المرأة: هل تكره أن يتزوّج عليها هذا التيس المستعار أو يتسرّى، أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أُخرى، أو تسأله عن ماله و صنعته أو حسن عشيرته وسعة نفقته؟! وسل التيس المستعار:

هل سأل قط عمّا يسأله عنه مَن قصد حقيقة النكاح، أو يتوسل إلى بيت أحمائه بالهدية و الحمولة، و النقد الذي يتوسّل به خاطب الملاح؟ و سله: هل هو «أبو يأخذ» أو «أبو يعطي»؟ و هل قوله عند قراءة أبي جاد هذا العقد: خذي نفقة هذا العرس أو حطي؟ و سله: هل تحمّل من كلفة هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطي؟ و سله عن وليمة عرسه، هل أولم و لو بشاة؟ و هل دعا إليها أحداً من أصحابه فقضى حقّه و أتاه؟ و سله: هل تحمّل من كلفة هذا العقد ما يتحمّله المتزوّجون، أم جاءه كما جرت به عادة الناس الأصحاب و المهنئون؟ و هل قيل له بارك الله لكما و عليكما و جمع بينكما في خير و عافية، أم لعن الله المحلِّل

ص: 103

و المحلَّل له لعنة تامة وافية؟(1) يلاحظ عليه: أنّ العار الّذي على زعمه دخل الإسلام رهن تصحيح الطلاق ثلاثاً، و أنّ الطلاق الواحد حقيقة يعد ثلاثاً، و أمّا ما شرّعه الذكر الحكيم من توقّف صحّة النكاح بعد التطليقات الثلاث على المحلّل فهو من أفضل قوانينه المشرقة، و أرسخها و أتقنها فلا يدخل العار من جانبه على الإسلام أبداً، و ذلك:

أوّلاً: أنّه يصد الزوج عن الطلاق الثالث لما يعلم أنّ النكاح بعده يتوقّف على التحليل الّذي لا يتحمّله أكثر الرجال.

و ثانياً: أنّه لا يقوم به إلاّ إذا يئس من التزويج المجدّد، لأنّ التجارب المتكرّرة، أثبتت أنّ الزوجين ليسا على شاكلة واحدة من جانب الأخلاق و الروحيات فلا يُقدِم على الطلاق إلاّ إذا كان آيساً من الزواج المجدّد و قلّما يتّفق تجدد الجنوح إلى بناء البيت بالزوجة الّتي طلّقها ثلاثاً لو لم نقل إنّه يندر جداً2.

ص: 104


1- اعلام الموقّعين: 433/41. و لاحظ إغاثة اللهفان له أيضاً: 1/312.

فعند ذاك تقل الحاجة إلى المحلّل جداً، و هذا بخلاف تصحيح الطلاق الواحد، ثلاثاً، فكثيراً ما يندم الزوج من الطلاق و يريد إعادة بناء البيت الّذي هدمه بالطلاق و هو حسب الفرض يتوقّف على المحلّل الّذي يلصق العار بهما و يترتّب عليه ما ذكره ابن قيم الجوزية في كلامه المسهب.

و في كلامه ملاحظات أُخرى تركناها خصوصاً في تصويره المحلّل كأنّه الأجير للتحليل، و يتزوّج لتلك الغاية، و هو تصوير خاطئ جداً، بل يتزوج بنفس الغاية الّتي يتزوّج لأجلها سائر النساء، غير أنّه لو طلّق الزوجة عن اختيار يصير حلالاً للزوج السابق، و أين ذلك ممّا جاء في كلامه؟! الحمد لله ربّ العالمين

ص: 105

ص: 106

فهرس الرسالة الأُولى

مقدّمة المؤلف أ 3 الإشهاد على الطلاق و نقل كلمات الفقهاء في الموضوع أ 5 وجود التهافت في كلام سيد سائق أ 6 دلالة الآية على لزوم الاشهاد في صحة الطلاق أ 8 تصريح علمين من أهل السنة أعني أحمد محمد شاكر و أبو زهرة على لزوم الاشهاد في صحّة الطلاق أ 9 رجوع الاشهاد في الآية إلى الطلاق دون الرجعة أ 12 رسالة الشيخ أحمد محمد شاكر إلى الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء أ 17

ص: 107

إجابة الشيخ كاشف الغطاء أ 18 مقتضى الحكمة رجوعه إلى الطلاق أ 20

ص: 108

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.