سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -
عنوان و نام پديدآور:سلسله المسائل الفقهیه / تالیف جعفر السبحانی.
مشخصات نشر:قم: موسسه الامام صادق (ع)، 1430ق.= 1388.
مشخصات ظاهری:26 ج
فروست:سلسله المسائل الفقهیه؛ 1.
يادداشت:عربی.
يادداشت:چاپ دوم.
یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس.
موضوع:احکام فقهی
موضوع:فقه تطبیقی
شناسه افزوده:موسسه امام صادق (ع)
ص: 1
ص: 2
[7. الجمع بين الصلاتين على ضوء الكتاب و السنّة ]
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على أفضل خلقه و خاتم رسله محمّد و على آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيبة علمه و حفظة سننه.
أمّا بعد، فانّ الإسلام عقيدة و شريعة، فالعقيدة هي الإيمان باللّه و رسله و اليوم الآخر، و الشريعة هي الأحكام الإلهية التي تكفل للبشرية الحياة الفضلى و تحقّق لها السعادة الدنيوية و الأُخروية.
و قد امتازت الشريعة الإسلامية بالشمول، و وضع الحلول لكافّة المشاكل التي تعتري الإنسان في جميع جوانب الحياة قال سبحانه: (اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ).(1)
ص: 3
غير أنّ هناك مسائل فرعية اختلف فيها الفقهاء لاختلافهم فيما أثر عن مبلّغ الرسالة النبي الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم)، الأمر الذي أدّى إلى اختلاف كلمتهم فيها، و بما أنّ الحقيقة بنت البحث فقد حاولنا في هذه الدراسات المتسلسلة أن نطرحها على طاولة البحث، عسى أن تكون وسيلة لتوحيد الكلمة و تقريب الخطى في هذا الحقل، فالخلاف فيها ليس خلافاً في جوهر الدين و أُصوله حتّى يستوجب العداء و البغضاء، و إنّما هو خلاف فيما روي عنه (صلى الله عليه و آله و سلم)، و هو أمر يسير في مقابل المسائل الكثيرة المتّفق عليها بين المذاهب الإسلامية.
و رائدنا في هذا السبيل قوله سبحانه: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً... ).(1)
جعفر السبحاني قم مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)3.
ص: 4
اعلم أنّ للجمع بين الصلاتين صوراً مختلفة:
1. الجمع بين الصلاتين في المزدلفة و عرفة.
2. الجمع بين الصلاتين في السفر.
3. الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل الأعذار كالمطر و الوحل.
4. الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً بلا عذر.
فالذي يعدّ من أحكام السفر هو الصورتان الأُوليان دون الصورتين الأخيرتين، و قد اتّفقت كلمة الفقهاء على الجمع في المزدلفة و عرفة و اختلفت في غيرهما، فها نحن نأخذ كلّ واحدة بالبحث مع ذكر الأقوال و المصادر بوجه موجز.
ص: 5
اتّفقت كلمة الفقهاء على رجحان الجمع بين الصلاتين في المزدلفة و عرفة من غير خلاف بينهم، قال القرطبي: أجمعوا على أنّ الجمع بين الظهر و العصر في وقت الظهر بعرفة و بين المغرب و العشاء بالمزدلفة أيضاً في وقت العشاء سنّة أيضاً، و إنّما اختلفوا في الجمع في غير هذين المكانين.(1)
و قال ابن قدامة: قال الحسن و ابن سيرين و أصحاب الرأي لا يجوز الجمع إلاّ في يوم عرفة بعرفة و ليلة المزدلفة بها.(2)
أخرج مسلم عن جابر بن عبد اللّه انّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم)
ص: 6
مكث تسع سنين لم يحج ثمّ أذن في الناس في العاشرة انّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) حاجّ، فقدم المدينة بشر كثير كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) و يعمل مثل عمله إلى أن قال:
حتّى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي و خطب الناس إلى أن قال: ثمّ أذّن ثمّ أقام فصلّى الظهر، ثمّ أقام فصلّى العصر و لم يصل بينهما شيئاً إلى أن قال: حتّى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب و العشاء بأذان واحد و إقامتين و لم يسبح بينهما شيئاً.(1)
و بما انّ المسألة مورد اتّفاق بين المسلمين نقتصر على هذا المقدار.).
ص: 7
ذهب معظم الفقهاء غير الحسن و النخعي و أبي حنيفة و صاحبيه إلى جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، فيجوز عند الجمهور غير هؤلاء، الجمعُ بين الظهر و العصر تقديماً في وقت الأُولى و تأخيراً في وقت الثانية، و بين المغرب و العشاء تقديماً و تأخيراً أيضاً، فالصلوات التي تجمع هي: الظهر و العصر، المغرب و العشاء في وقت إحداهما، و يسمّى الجمع في وقت الصلوات الأُولى جمع التقديم، و الجمع في وقت الصلوات الثانية جمع التأخير. و قد ذكر الشوكاني الأقوال بالنحو التالي:
1. ذهب إلى جواز الجمع في السفر مطلقاً تقديماً و تأخيراً، كثير من الصحابة و التابعين، و من الفقهاء:
الثوري و الشافعي و أحمد و إسحاق و الشهبي.
ص: 8
2. و قال قوم: لا يجوز الجمع مطلقاً إلاّ بعرفة و مزدلفة. و هو قول الحسن و النخعي و أبي حنيفة و صاحبيه.
3. و قال الليث: و هو المشهور عن مالك انّ الجمع يختص بمن جدّ به السير.
4. و قال ابن حبيب: يختص بالسائر.
5. و قال الأوزاعي: إنّ الجمع في السفر يختصّ بمن له عذر.
6. و قال أحمد: و اختاره ابن حزم، و هو مروي عن مالك انّه يجوز جمع التأخير دون التقديم.
هذه هي الأقوال الستة:
فإذا كانت المسألة على وجه الإجمال مورد اتّفاق الجمهور إلاّ من عرفت، فلا بدّ من البحث في مقامين:
1. هل الجمع مختصّ بمن جدّ به السير؟ 2. هل الجواز يختصّ بجمع التأخير و لا يعمّ
ص: 9
التقديم؟ أمّا المقام الأوّل فنقول:
إنّ الأخبار الحاكية لفعل النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) على صنفين:
صنف يصرح بأنّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يجمع إذا جدّ به السير أو أعجله السير في السفر.
1. أخرج مسلم عن نافع، عن ابن عمر انّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب و العشاء.(1)
2. أخرج مسلم عن سالم، عن أبيه: رأيت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يجمع بين المغرب و العشاء إذا جدَّ به السير.(2)
3. أخرج مسلم عن سالم بن عبد اللّه انّ أباه قال: رأيت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) إذا أعجله السير في السفر يؤخّر صلاة المغرب حتّى يجمع بينها و بين صلاة العشاء.(3)
4. أخرج مسلم عن أنس، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) إذا عجَّلة.
ص: 10
عليه السفر يؤخّر الظهر إلى أوّل وقت العصر فيجمع بينهما، و يؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها و بين العشاء حين يغيب الشفق.(1)
و صنف آخر يحكي فعل رسول اللّه بلا قيد (إذا جدّ به السير).
1. أخرج مسلم عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخَّر الظهر إلى وقت العصر ثمّ نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلّى الظهر ثمّ ركب.(2)
2. أخرج مسلم عن أنس قال: كان النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخّر الظهر حتّى يدخل أوّل وقت العصر ثمّ يجمع بينهما.(3)ة.
ص: 11
3. أخرج أبو داود و الترمذي عن معاذ بن جبل: انّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر حتّى يجمعها إلى العصر يصلّيهما جميعاً، و إذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلّى الظهر و العصر جميعاً ثمّ سار، و كان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتّى يصلّيها مع العشاء، و كان إذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاّها مع المغرب.(1)
4. أخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس) (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) كان في السفر إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر و العصر قبل أن يركب، فإذا لم تزغ له في منزله، سار حتّى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر و العصر، و إذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها و بين العشاء، و إذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء0.
ص: 12
نزل فجمع بينهما.(1)
و قال الشوكاني بعد نقله الرواية عن مسند أحمد: و رواه الشافعي في مسنده بنحوه و قال فيه: و إذا سار قبل أن تزول الشمس أخّر الظهر حتّى يجمع بينها و بين العصر في وقت العصر.(2)
أقول: إنّ مقتضى القاعدة هو حمل المطلق على المقيد و تقييد الروايات المطلقة بما في المقيدة، حتّى أنّ أنس بن مالك نقل فعل النبي تارة على وجه الإطلاق، و أُخرى على وجه التقييد.(3)
أضف إلى ذلك: أنّ الروايات الحاكية لفعل الرسول دليل لبّي لا لسان له، و ما كان هذا شأنه لا ينعقد فيه الإطلاق، لأنّ الإطلاق شأن اللفظ، و ليس هناك4.
ص: 13
للرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) لفظ بل صدر منه عمل، نقله الراوي و لعلّ عمله كان مقارناً لما جدّ به السير و لم يذكره الراوي لعدم احتمال دخله في الحكم.
و على ضوء هذا لا يجمع إلاّ إذا جدّ به السير. و لعلّه إلى هذا يشير ابن رشد: و الجمع إنّما نقل فعلاً فقط.(1)
و الذي يمكن أن يدعم القول الآخر (عدم الاشتراط) هو انّ القيد الوارد في الروايات (إذا جدّ به السير) من القيود الغالبيّة التي تفقد المفهوم نظير قوله سبحانه: (وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) (2) فان الربيبة محرمة، سواء أ كانت في حُجر الرجل أم لا، لكن الغالب انّ المرأة إذا تزوّجت اصطحبت ابنتها معها إلى بيت الزوج الثاني. و لأجل ذلك حكموا على حرمة الربيبة مطلقاً، سواء كانت في حجر الزوج أو لا.3.
ص: 14
المشهور هو جواز الجمع بين المغرب و العشاء لعذر خلافاً للحنفية حيث لم يجوّزوا الجمع مطلقاً إلاّ في الحج بعرفة و المزدلفة.
و أمّا القائلون بالجمع فقد اختلفوا من وجوه:
الأوّل: هل يختص الجواز بالمطر، أو يعمّه و غيره؟ الثاني: هل يختص الجواز بالمغرب و العشاء، أو يعمّ الظهر و العصر؟ الثالث: هل يختص الجواز بجمع التقديم أو يعمّ جمع التأخير؟(1) و إليك نقل كلماتهم في الوجوه الثلاثة.
ص: 15
أمّا الأوّل، فالظاهر من الشافعية هو اختصاص الجواز بالمطر.
قال الشيرازي: يجوز الجمع بين الصلاتين في المطر، و أمّا الوحل و الريح و الظلمة و المرض فلا يجوز الجمع لأجلها.(1)
و قال ابن رشد: أمّا الجمع في الحضر لعذر المطر فأجازه الشافعي إلى أن قال: و أمّا الجمع في الحضر للمريض، فأمّا مالكاً أباحه له إذا خاف أن يغمى عليه أو كان به بطن، و منع ذلك الشافعي.(2)
و قال في الشرح الكبير: و هل يجوز ذلك وراء المطر لأجل الوحل و الريح الشديدة الباردة، أو لمن يصلّي في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط على وجهين.(3)
و أمّا الثاني، أي هل يختص الجواز بالمغرب و العشاءل.
ص: 16
أو يعمّ الظهرين؟ فقال ابن رشد: و أمّا الجمع في الحضر لعذر المطر فأجازه الشافعي ليلاً كان أو نهاراً، و منعه مالك في النهار و أجازه في الليل.(1)
و قال النووي: قال الشافعي و الأصحاب يجوز الجمع بين الظهر و العصر و بين المغرب و العشاء في المطر، و حكى إمام الحرمين قولاً إنّه يجوز بين المغرب و العشاء في وقت المغرب و لا يجوز بين الظهر و العصر، و هو مذهب مالك، و قال المزني: لا يجوز مطلقاً. و المذهب الأوّل هو المعروف من نصوص الشافعي قديماً و جديداً.(2)
و أمّا الثالث، أي اختصاص الجواز بجمع التقديم دون جمع التأخير.
فقال الشيرازي: يجوز الجمع بين الصلاتين في المطر0.
ص: 17
في الوقت الأولة منهما، و هل يجوز أن يجمعهما في وقت الثانية؟ فيه قولان:
قال [الشافعي] في «الإملاء»: يجوز، لأنّه عذر يجوز الجمع به في وقت الأُولى فجاز الجمع في وقت الثانية كالجمع في السفر.
و قال في «الأُمّ»: لا يجوز، لأنّه إذا أخّر ربما انقطع المطر فجمع من غير عذر.(1)
هذا إجمال الأقوال في النقاط الثلاث، و لهم اختلافات في مواضع أُخر لا حاجة لذكرها.
إذا عرفت ذلك، فالمهمّ هو وجود الدليل على جواز الجمع في الحضر لعذر.
و قد استدلّوا بحديثين:
1. ما دلّ على جواز الجمع في الحضر على وجه الإطلاق حيث حملوه على صورة المطر أو صورة8.
ص: 18
العذر المطلق.
أخرج البخاري عن ابن عباس) (رضي الله عنه) انّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) صلّى بالمدينة سبعاً و ثمانياً الظهر و العصر، المغرب و العشاء.(1)
قال ابن رشد: و أمّا الجمع في الحضر لغير عذر، فانّ مالكاً و أكثر الفقهاء لا يجيزونه و أجاز ذلك جماعة من أهل الظاهر و أشهب من أصحاب مالك، و سبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم حديث ابن عباس، فمنهم من تأوّله على أنّه كان في مطر كما قال مالك، و منهم من أخذ بعمومه مطلقاً.
2. ما رواه ابن عباس) (رضي الله عنه) انّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) جمع بين الظهر و العصر و بين المغرب و العشاء بالمدينة من غير خوف و لا سفر و لا مطر، قيل لابن عباس: ما أراد بذلك،ع.
ص: 19
قال: أراد أن لا يحرج أُمّته.(1)
فظاهر الحديث يعطي انّ الجمع في المطر كان أمراً مسلماً، و لذلك حاول ابن عباس أن يبيّن بأنّ هذا الجمع لم يكن لغاية المطر أو سائر الاعذار، بل عفواً لغاية عدم إحراج أُمّته.
فلو جاز الجمع في الحضر لأجل العذر يكون الجمع في السفر اختياراً من أحكام السفر، لأنّ المسافر يجمع فيه بين الصلاتين بلا عذر و أمّا الحاضر فإنّما يجمع لعذر أو غيره. و أمّا إذا قلنا بالجواز في الحضر اختياراً كما سيوافيك فلا يكون الجمع بين الصلاتين من أحكام السفر.
إلى هنا تم الكلام في الصورة الثالثة، بقي الكلام في الصورة الرابعة.ع.
ص: 20
اتّفقت الإمامية على أنّه يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً و إن كان التفريق أفضل.
يقول الشيخ الطوسي: يجوز الجمع بين الصلاتين، بين الظهر و العصر و بين المغرب و عشاء الآخرة، في السفر و الحضر و على كلّ حال، و لا فرق بين أن يجمع بينهما في وقت الأولة منهما أو وقت الثانية، لأنّ الوقت مشترك بعد الزوال و بعد المغرب على ما بيّناه.(1)
إنّ الجمع بين الصلاتين على مذهب الإمامية ليس
ص: 21
بمعنى إتيان الصلاة في غير وقتها الشرعي، بل المراد الإتيان في غير وقت الفضيلة، و إليك تفصيل المذهب.
قالت الإمامية تبعاً للنصوص الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) إنّه إذا زالت الشمس دخل الوقتان أي وقت الظهر و العصر إلاّ أنّ صلاة الظهر يُؤتى بها قبل العصر، و على ذلك فالوقت بين الظهر و الغروب وقت مشترك بين الصلاتين، غير انّه يختص مقدار أربع ركعات من الزوال بالظهر و مقدار أربع ركعات من الآخر للعصر و ما بينهما وقت مشترك، فلو صلّى الظهر و العصر في أي جزء من بين الزوال و الغروب فقد أتى بهما في وقتهما، و ذلك لأنّ الوقت مشترك بينهما، غير انّه يختص بالظهر مقدار أربع ركعات من أوّل الوقت و لا يصحّ فيه العصر و يختص بالعصر بمقدار أربع ركعات من آخر الوقت و لا يصحّ إتيان الظهر فيه.
هذا هو واقع المذهب، و لأجل ذلك فالجامع بين
ص: 22
الصلاتين في غير الوقت المختص به آت بالفريضة في وقتها فصلاته أداء لا قضاءً.
و مع ذلك فلكلّ من الصلاتين وراء وقت الاجزاء وقت فضيلة.
فوقت فضيلة الظهر من الزوال إلى بلوغ ظل الشاخص الحادث بعد الانعدام أو بعد الانتهاء مثله، و وقت فضيلة العصر من المثل إلى المثلين عند المشهور.
و بذلك يعلم وقت المغرب و العشاء، فإذا غربت الشمس دخل الوقتان إلى نصف الليل، و يختص المغرب بأوّله بمقدار أدائه و العشاء ب آخره كذلك و ما بينهما وقت مشترك، و مع ذلك انّ لكلّ من الصلاتين وقت فضيلة، فوقت فضيلة صلاة المغرب من المغرب إلى ذهاب الشفق و هي الحمرة المغربية، و وقت فضيلة العشاء من ذهاب الشفق إلى ثلث الليل.(1)ة.
ص: 23
و أكثر من يستغرب جمع الشيعة الإمامية بين الصلاتين لأجل انّه يتصور انّ الجامع يصلّي إحدى الصلاتين في غير وقتها، و لكنّه غرب عن باله أنّه يأتي بالصلاة في غير وقت الفضيلة و لكنّه يأتي بها في وقت الإجزاء، و لا غرو أن يكون للصلاة أوقاتاً ثلاثة.
أ. وقت الاختصاص كما في أربع ركعات من أوّل الوقت و آخره، أو ثلاث ركعات بعد المغرب و أربع ركعات قبل نصف الليل.
ب. وقت الفضيلة، و قد عرفت تفصيله في الظهرين و العشاءين.
ج. وقت الإجزاء، و هو مطلق ما بين الحدّين إلاّ ما يختصّ بإحدى الصلاتين، فيكون وقت الإجزاء أعمّ من وقت الفضيلة و خارجه.
و قد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت انّه إذا زالت الشمس دخل الوقتان إلاّ أنّ هذه قبل هذه.
ص: 24
روى الصدوق باسناده عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا زالت الشمس دخل الوقتان:
الظهر و العصر، و إذا غابت الشمس دخل الوقتان: المغرب و العشاء الآخرة».(1)
روى الشيخ الطوسي باسناده عن عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن وقت الظهر و العصر؟ فقال: «إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر و العصر، إلاّ انّ هذه قبل هذه ثمّ أنت في وقت منهما جميعاً حتى تغيب الشمس».(2)
و الروايات بهذا المضمون متوافرة اقتصرنا على هذا المقدار.
فإذا كانت الصلوات تتمتع بأوقات ثلاثة كما بيّناه يتبيّن انّ الجمع ليس بأمر مشكل و إنّما يفوت به فضيلة6.
ص: 25
الوقت لا أصل الوقت، و لأجل ذلك ورد عن أئمّة أهل البيت أنّ التفريق أفضل من الجمع، فنذكر في المقام بعض ما يصرح بجواز الجمع تيمّناً و تبرّكاً، و إلاّ فالمسألة من ضروريات الفقه الإمامي.
1. روى الصدوق باسناده عن عبد اللّه بن سنان، عن الصادق (عليه السلام) انّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) جمع بين الظهر و العصر بأذان و إقامتين، و جمع بين المغرب و العشاء في الحضر من غير علّة بأذان واحد و إقامتين».(1)
2. و روى أيضاً باسناده عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) صلّى الظهر و العصر في مكان واحد من غير علة و لا سبب، فقال له عمر و كان أجرأ القوم عليه: أحدث في الصلاة شيء؟ قال: لا و لكن أردت أن أوسع على أُمّتي».(2)1.
ص: 26
3. أخرج الكليني باسناده عن زرارة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «صلّى رسول اللّه بالناس الظهر و العصر حين زالت الشمس في جماعة من غير علّة، و صلّى بهم المغرب و العشاء الآخرة قبل سقوط الشفق من غير علّة في جماعة، و إنّما فعل رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ليتسع الوقت على أُمّته».(1)
إلى غير ذلك من الروايات المتوفرة التي جمعها الشيخ الحر العاملي في وسائل الشيعة.(2)
إلى هنا تبيّن نظرية الشيعة في الجمع بين الصلاتين.
***
و ربما يتصوّر من لا خبرة له أنّ هذا التنويع في الوقت من خصائص الفقه الإمامي، فانّ تنويع الوقت إلى
ص: 27
أوقات ثلاثة يوجد في كلا الفقهين و إن كان بينهما اختلاف في الكمية.
قال النووي في شرح المهذب: فرع: للظهر ثلاثة أوقات: وقت فضيلة، و وقت اختيار، و وقت عذر.
فوقت الفضيلة أوّله، و وقت الاختيار ما بعد وقت الفضيلة، إلى آخر الوقت، و وقت العذر وقت العصر في حقّ من يجمع بسفر أو مطر.
ثمّ قال: و قال القاضي حسين: لها أربعة أوقات: وقت فضيلة، و وقت اختيار، و وقت جواز، و وقت عذر. فوقت الفضيلة إذا صار ظل الشيء مثل ربعه، و الاختيار إذا صار مثل نصفه، و الجواز إذا صار ظله مثله و هو آخر الوقت، و العذر وقت العصر لمن جمع بسفر أو مطر.(1)
كما أنّ هناك من يقول ببعض ما ذهبت إليه
ص: 28
الإمامية، نقله النووي و قال: قال عطاء و طاووس: إذا صار ظل الشيء مثله دخل وقت العصر و ما بعده وقت للظهر و العصر على سبيل الاشتراك حتى تغرب الشمس.
فهذا القول يخص صيرورة ظل الشيء مثله للظهر، ثمّ يجعل الباقي مشتركاً بينهما حتى تغرب الشمس، و هو قريب ممّا ذهب إليه الإمامية.
و قال مالك: إذا صار ظله مثله فهو آخر وقت الظهر و أوّل وقت العصر بالاشتراك، فإذا زاد على المثل زيادة بيّنة خرج وقت الظهر.(1)
و هذا القول يجعل قسماً من الوقت أعني: بعد صيرورة الظل مثله إلى زيادة الظل عنه زيادة بيّنة وقتاً مشتركاً بين الظهر و العصر.
ثمّ نقل عنه أيضاً انّ وقت الظهر يمتد إلى غروب4.
ص: 29
الشمس.(1) إلى غير ذلك من الأقوال التي فيها نوع موافقة للفقه الإمامي.
و الجمع بين الصلاتين اختياراً و إن كان من ضروريات الفقه الإمامي، و ليست الإماميّة متفردة فيه بل وافقهم لفيف من فقهاء السنّة.
قال ابن رشد: و أمّا الجمع في الحضر لغير عذر فإن مالكاً و أكثر الفقهاء لا يجيزونه، و أجاز ذلك جماعة من أهل الظاهر، و أشهب من أصحاب مالك.
و سبب اختلافهم، اختلافهم في مفهوم حديث ابن عباس، فمنهم من تأوّله على أنّه كان من سفر.
و منهم من أخذ بعمومه مطلقاً، و قد خرّج مسلم زيادة في حديثه و هو قوله: من غير خوف و لا سفر و لا
ص: 30
مطر، و بهذا تمسّك أهل الظاهر.(1)
قال النووي: فرع في مذاهبهم من الجمع بلا خوف و لا سفر، و لا مطر و لا مرض، مذهبنا (الشافعي) و مذهب أبي حنيفة و مالك و أحمد و الجمهور انّه لا يجوز، و حكى ابن المنذر عن طائفة جوازه بلا سبب، قال:
و جوّزه ابن سيرين لحاجة أو ما لم يتّخذه عادة.(2)
و على كل تقدير فالمهم هو الدليل لا الأقوال، فإن وافقت الدليل فهو، و إلاّ فالمرجع هو الدليل.
قال سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ).(3)
ص: 31
إنّ الآية متكفّلة لبيان أوقات الصلوات الخمسة، فلو قلنا بأنّ المراد من غسق الليل هو انتصافه، فيكون ما بين الدلوك و غسق الليل أوقاتاً للصلوات الأربع، غير أنّ الدليل دلّ على خروج وقت الظهرين بغروب الشمس، فيكون ما بين الدلوك و الغروب وقتاً مشتركاً للظهرين كما يكون ما بين الغروب و غسق الليل وقتاً مشتركاً للمغرب و العشاء.
و ربما يفسر الغسق بغروب الشمس، فعندئذ تتكفل الآية لبيان وقت الظهرين و صلاة الفجر دون المغرب و العشاء، و المعروف هو التفسير الأوّل.
قال الطبرسي: و في الآية دلالة على أنّ وقت صلاة الظهر موسّع إلى آخر النهار، لأنّ اللّه سبحانه جعل من دلوك الشمس الذي هو الزوال إلى غسق الليل وقتاً للصلوات الأربع إلاّ انّ الظهر و العصر اشتركا في الوقت من الزوال إلى الغروب، و المغرب و العشاء الآخرة اشتركا
ص: 32
في الوقت من الغروب إلى الغسق و أفرد صلاة الفجر بالذكر في قوله: (وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ ) ففي الآية بيان وجوب الصلوات الخمس و بيان أوقاتها.(1)
و ما ذكرناه هو الذي نصّ عليه الإمام الباقر (عليه السلام) حيث قال: «قال اللّه تعالى لنبيّه (صلى الله عليه و آله و سلم) (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ )، أربع صلوات سمّاهن اللّه و بيّنهن و وقّتهن، و غسق الليل هو انتصافه، ثمّ قال تبارك و تعالى: (وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) فهذه الخامسة».(2)
و قال الصادق (عليه السلام): «منها صلاتان أوّل وقتهما من زوال الشمس إلاّ أنّ هذه قبل هذه، و منها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلاّ أنّ هذه قبل هذه».(3)7.
ص: 33
و قال القرطبي: و قد ذهب قوم إلى أنّ صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب، لأنّ اللّه سبحانه علّق وجوبها على الدلوك و هذا دلوك كلّه; قاله الأوزاعي و أبو حنيفة في تفصيل، و أشار إليه مالك و الشافعي في حالة الضرورة.(1)
و قال الرازي: إن فسرنا الغسق بظهور أوّل الظلمة و حكاه عن ابن عبّاس و عطاء و النضر بن شمّيل كان الغسقُ عبارة عن أوّل المغرب، و على هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات: وقت الزوال، و وقت أوّل المغرب، و وقت الفجر.
قال: و هذا يقتضي أن يكون الزوال وقتاً للظهر و العصر فيكون هذا الوقت مشتركاً بين هاتين الصلاتين، و أن يكون أوّل المغرب وقتاً للمغرب و العشاء فيكون هذا4.
ص: 34
الوقت مشتركاً أيضاً بين هاتين الصلاتين، فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر و العصر و المغرب و العشاء مطلقاً، إلاّ أنّه دلّ الدليل على أنّ الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز، فوجَبَ أن يكون الجمع جائزاً لعذر السفر و عند المطر و غيره.(1)
و ما حقّقه الرازي في المقام، حقّ ليس وراءه شيء، لكن عدوله عنه، بحجّة «انّ الجمع في السفر من غير عذر لا يجوز لوجود الدليل» رجم بالغيب، إذ أىّ دليل قام على عدم الجواز بلا عذر، فهل الدليل هو الكتاب؟ و الكتاب حسب تحقيقه يدلّ على الجواز، أو السنّة و سيوافيك تضافر النصوص على الجواز، أو الإجماع فليس عدم الجواز موضع إجماع و قد عرفت القول بالجواز أيضاً من أهل السنّة، مضافاً إلى إطباق أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) على7.
ص: 35
الجواز; و ليس وراء الكتاب و السنّة و الإجماع حجّة، كما ليس وراء عبادان قرية.(1)
السنّة و الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً قد تضافرت الروايات عن الصادع بالحق على جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً رواها أصحاب الصحاح و السنن و المسانيد، فلنقدم ما رواه مسلم بالسند و المتن ثمّ نذكر ما نقله غيره.
1. حدّثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:
صلّىا.
ص: 36
رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) الظهر و العصر جميعاً و المغرب و العشاء جميعاً في غير خوف و لا سفر.
2. و حدّثنا أحمد بن يونس و عون بن سلام جميعاً عن زهير، قال ابن يونس: حدّثنا زهير، حدّثنا أبو الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: صلّى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) الظهر و العصر جميعاً بالمدينة في غير خوف و لا سفر. قال أبو الزبير: فسألت سعيداً: لِمَ فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يحرج أحداً من أُمّته.
3. و حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة و أبو كريب قالا: حدّثنا أبو معاوية; و حدّثنا أبو كريب و أبو سعيد الأشج و اللفظ لأبي كريب قالا: حدّثنا وكيع كلاهما عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جمع رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) بين الظهر و العصر و المغرب و العشاء بالمدينة في غير خوف و لا مطر «في
ص: 37
حديث وكيع» قال: قلت لابن عباس: لِمَ فعل ذلك؟ قال: كي لا يُحرج أُمّته. و في حديث أبي معاوية قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أُمّته.
4. و حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: صلّيت مع النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) ثمانياً جميعاً و سبعاً جميعاً، قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخّر الظهر و عجّل العصر و أخّر المغرب و عجّل العشاء، قال: و أنا أظن ذاك.(1)
ما ظنه لو رجع إلى الجمع الصوري كما سيوافيك لا يغني من الحقّ شيئاً، و سيوافيك الكلام فيه.
5. حدّثنا أبو الربيع الزهراني، حدّثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عبّاس أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) صلّى بالمدينة سبعاً و ثمانياً(2) الظهر و العصر و المغرب و العشاء.ً.
ص: 38
6. و حدّثني أبو الربيع الزهراني، حدّثنا حماد، عن الزبير بن الخريت، عن عبد اللّه بن شقيق قال:
خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتّى غربت الشمس و بدت النجوم، و جعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر و لا ينثني: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أ تعلّمني بالسنّة لا أُمَّ لك، ثمّ قال: رأيت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) جمع بين الظهر و العصر، و المغرب و العشاء. قال عبد اللّه بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته، فصدّق مقالته.
7. و حدّثنا ابن أبي عمر، حدّثنا وكيع، حدّثنا عمران بن حدير، عن عبد اللّه بن شقيق العقيلي قال: قال رجل لابن عباس: الصلاة، فسكت; ثمّ قال: الصلاة، فسكت; ثمّ قال: الصلاة، فسكت، ثمّ قال: لا أُمّ لك أ تعلّمنا بالصلاة و كنّا نجمع بين الصلاتين على عهد
ص: 39
رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم).(1)
هذا ما نقله مسلم في صحيحه، و إليك ما نقله غيره.
8. أخرج البخاري عن ابن عباس: انّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) صلّى بالمدينة سبعاً و ثمانياً: الظهر و العصر، و المغرب و العشاء، فقال أيوب: لعلّه في ليلة مطيرة؟ قال: عسى.(2)
9. أخرج البخاري عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: صلّى النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) سبعاً جميعاً و ثمانياً جميعاً.(3)
10. أخرج البخاري بإرسال عن ابن عمر و أبية.
ص: 40
أيّوب و ابن عباس، صلّى النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) المغرب و العشاء.(1)
11. أخرج الترمذي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جمع رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) بين الظهر و العصر و بين المغرب و العشاء بالمدينة من غير خوف و لا مطر، قال: فقيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أُمّته.
قال الترمذي بعد نقل الحديث: حديث ابن عباس قد روي عنه من غير وجه، رواه جابر بن زيد و سعيد بن جبير و عبد اللّه بن شقيق العقيلي.(2)
12. أخرج الإمام أحمد عن قتادة قال: سمعت جابر ابن زيد، عن ابن عباس قال: جمع رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) بينه.
ص: 41
الظهر و العصر، و المغرب و العشاء بالمدينة في غير خوف و لا مطر، قيل لابن عباس: و ما أراد لغير ذلك؟ قال: أراد ألاّ يحرج أُمّته.(1)
13. أخرج الإمام أحمد عن سفيان، قال عمر: و أخبرني جابر بن زيد انّه سمع ابن عباس يقول:
صلّيت مع رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ثمانياً جميعاً و سبعاً جميعاً، قلت له: يا أبا الشعثاء أظنّه أخّر الظهر و عجل العصر، و أخّر المغرب و عجّل العشاء، قال: و أظن ذلك.(2)
14. أخرج الإمام أحمد عن عبد اللّه بن شقيق، قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتّى غربت الشمس و بدت النجوم و علق الناس ينادونه الصلاة و في القوم رجل من بني تميم فجعل يقول: الصلاة الصلاة، فغضب،ً.
ص: 42
قال: أ تعلّمني بالسنّة شهدت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) جمع بين الظهر و العصر و المغرب و العشاء، قال عبد اللّه: فوجدت في نفسي من ذلك شيئا فلقيت أبا هريرة فسألته فوافقه.(1)
15. أخرج مالك عن سعيد بن جبير، عن عبد اللّه ابن عباس انّه قال: صلّى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) الظهر و العصر جميعاً و المغرب و العشاء جميعاً في غير خوف و لا سفر.(2)
16. أخرج أبو داود عن سعيد بن جبير، عن عبد اللّه بن عباس، قال: صلّى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) الظهر و العصر جميعاً، و المغرب و العشاء جميعاً في غير خوف و لا سفر.
قال مالك: أرى ذلك كان في مطر.(3)
17. أخرج أبو داود عن جابر بن زيد، عن ابنث.
ص: 43
عباس، قال: صلّى بنا رسول اللّه بالمدينة ثمانياً و سبعاً الظهر و العصر، و المغرب و العشاء.
قال أبو داود: و رواه صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس قال: في غير مطر.(1)
18. أخرج النسائي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: صلّى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) الظهر و العصر جميعاً و المغرب و العشاء جميعاً من غير خوف و لا سفر.(2)
19. أخرج النسائي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس انّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) كان يصلّي بالمدينة يجمع بين الصلاتين بين الظهر و العصر و المغرب و العشاء من غير خوف و لا مطر، قيل له: لِمَ ؟ قال: لئلاّ يكون على أُمّته حرج.(3)ر.
ص: 44
20. أخرج النسائي عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس قال: صلّيت وراء رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ثمانياً جميعاً و سبعاً جميعاً.(1)
21. أخرج النسائي عن جابر بن زيد، عن ابن عباس انّه صلّى بالبصرة الأُولى و العصر ليس بينهما شيء، و المغرب و العشاء ليس بينهما شيء فعل ذلك من شغل، و زعم ابن عباس انّه صلّى مع رسول اللّه بالمدينة، الأُولى و العصر ثمان سجدات ليس بينهما شيء.(2)
22. أخرج الحافظ عبد الرزاق عن داود بن قيس، عن صالح مولى التوأمة انّه سمع ابن عباس يقول:
جمع رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) بين الظهر و العصر، و المغرب و العشاء بالمدينة في غير سفر و لا مطر، قال قلت لابن عباس: لمت.
ص: 45
تراه فعل ذلك؟ قال: أراه للتوسعة على أُمّته.(1)
23. أخرج عبد الرزاق عن ابن عباس قال: جمع رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) بين الظهر و العصر، بالمدينة في غير سفر و لا خوف، قال: قلت لابن عباس: و لِمَ تراه فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحداً من أُمّته.(2)
24. أخرج عبد الرزاق عن عمرو بن دينار انّ أبا الشعثاء أخبره انّ ابن عباس أخبره، قال: صلّيت وراء رسول اللّه ثمانياً جميعاً و سبعاً جميعاً بالمدينة، قال ابن جريج، فقلت لأبي الشعثاء: أنّي لأظن النبي أخّر من الظهر قليلاً و قدّم من العصر قليلاً، قال أبو الشعثاء: و أنا أظن ذلك.(3)
قلت: ما ظنّه ابن جريج و صدّقه أبو الشعثاء ظن لا يغني من الحقّ شيئاً، و حاصله: انّ الجمع كان صورياً6.
ص: 46
لا حقيقياً. و سيوافيك ضعف هذا الحمل و انّ الجمع الصوري يوجب الإحراج أكثر من التفريق فانّ معرفة أواخر الوقت من الصلاة الأُولى و أوائله من الصلاة الثانية أشكل من الجمع.
25. أخرج عبد الرزاق عن عمرو بن شعيب، عن عبد اللّه بن عمر قال: جمع لنا رسول اللّه مقيماً غير مسافر بين الظهر و العصر فقال رجل لابن عمر: لِمَ ترى النبي فعل ذلك؟ قال: لأن لا يُحرج أُمّته إن جمع رجل.(1)
26. أخرج الطحاوي في «معاني الآثار» بسنده عن جابر بن عبد اللّه قال: جمع رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) بين الظهر و العصر و المغرب و العشاء في المدينة للرخص من غير خوف و لا علّة.(2)
27. أخرج الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد اللّه1.
ص: 47
الاصفهاني (المتوفّى عام 430 ه) عن جابر بن زيد انّ ابن عباس جمع بين الظهر و العصر، و زعم انّه صلّى مع رسول اللّه بالمدينة الظهر و العصر.(1)
28. أخرج أبو نعيم عن عمرو بن دينار قال: سمعت أبا الشعثاء يقول: قال ابن عباس) (رضي الله عنه):
صلّى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ثماني ركعات جميعاً و سبع ركعات جميعاً من غير مرض و لا علّة.(2)
29. أخرج البزار في مسنده عن أبي هريرة قال: جمع رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) بين الصلاتين في المدينة من غير خوف.(3)
30. أخرج الطبراني في الأوسط و الكبير بسنده عن عبد اللّه بن مسعود قال: جمع رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يعني بالمدينة بين الظهر و العصر و المغرب و العشاء، فقيل له في ذلك،1.
ص: 48
فقال: صنعت ذلك لئلاّ تحرج أُمّتي.(1)
هذه ثلاثون حديثاً جمعناها من الصحاح و السنن و المسانيد، و بسطنا الكلام في النقل، ليقف القارئ على أنّها أحاديث اعتنى بنقلها حفّاظ المحدّثين و أكابرهم و لا يمكن لأحد أن يتناكرها أو يرفضها، و هناك روايات مبثوثة في كتب الحديث أعرضنا عن ذكرها لأجل الاختصار.(2)
و هذه الأسانيد المتوفرة تنتهي إلى الأشخاص التالية أسماؤهم:
1. عبد اللّه بن عباس حبر الأُمّة.
2. عبد اللّه بن عمر.
3. أبو أيّوب الأنصاري مضيف النبي (صلى الله عليه و آله و سلم).
4. أبو هريرة الدوسي.
5. جابر بن عبد اللّه الأنصاري.8.
ص: 49
6. عبد اللّه بن مسعود.
و الروايات صريحة في أنّ الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) جمع بالمدينة بين الصلاتين من غير خوف و لا مطر و لا علّة، جمع لبيان جواز الجمع و مشروعيته لئلاّ يتوهّم متوهّم بأنّ التفريق فريضة لما كان (صلى الله عليه و آله و سلم) يستمر على التوقيت و الإتيان في وقت الفضيلة، و لكنّه بعمله أثبت انّ الجمع جائز و إن كان التوقيت أفضل.
و لما كان مضمون الروايات مخالفاً للمذاهب الفقهية الرائجة حاول غير واحد من المحدّثين و أهل الفتيا إخضاع الروايات على فتوى الأئمّة مكان أخذها مقياساً لتمييز الحقّ عن الباطل، فترك كثير منهم العمل بهذه الروايات، غير انّ لفيفاً منهم عملوا بها و أفتوا على ضوئها، ذكر أسماءهم ابن رشد في «بداية المجتهد» و النووي في «المجموع» على ما مرّ، و إليك الأعذار التي التجأ إليها المخالف و هي أوهن من بيت العنكبوت.
ص: 50
إنّ ممّا يؤخذ على هذه الروايات ترك الجمهور للعمل بها، و هو يوجب سقوط الاستدلال بها.
يقول الترمذي بعد ذكر أحاديث الجمع: و العمل على هذا عند أهل العلم: أن لا يجمع بين الصلاتين إلاّ في السفر أو بعرفة.(1)
و قد ردّ عليه غير واحد من المحقّقين.
أ. يقول النووي: هذه الروايات الثابتة في مسلم كما تراها و للعلماء فيها تأويلات و مذاهب، و قد قال الترمذي في آخر كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأُمّة على ترك العمل به إلاّ حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف و لا مطر. و حديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة.(2)
ص: 51
و هذا الذي قاله الترمذي في حديث شارب الخمر هو كما قاله فهو حديث منسوخ دلّ الإجماع على نسخه، و أمّا حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به بل لهم أقوال، ثمّ ذكر بعض التأويلات التي نشير إليها.(1)
ب. و قال الشوكاني رداً على الترمذي: و لا يخفاك انّ الحديث صحيح، و ترك الجمهور للعمل به لا يقدح في صحته و لا يوجب سقوط الاستدلال به، و قد أخذ به بعض أهل العلم كما سلف و إن كان ظاهر كلام الترمذي انّه لم يأخذ به و لكن قد أثبت ذلك غيره، و المثبت مقدّم.(2)
ج. و قال الآلوسي: مذهب جماعة من الأئمة جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذ عادة; و هو قول ابن سيرين، و أشهب من أصحاب مالك، و حكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الإمام الشافعي، و عنه.
ص: 52
أبي إسحاق المروزي و عن جماعة من أصحاب الحديث، و اختاره ابن المنذر، و يؤيده ظاهر ما صحّ عن ابن عباس، و رواه مسلم أيضاً، انّه لما قال: جمع رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) بين الظهر و العصر، و المغرب و العشاء بالمدينة في غير خوف و لا مطر: قيل له: لِمَ فعل ذلك؟ فقال: أراد أن لا يحرج أحداً من أُمّته.
و هو من الحرج بمعنى المشقة فلم يعلّله بمرض و لا غيره.
و يعلم ممّا ذكرنا أنّ قول الترمذي في آخر كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأُمّة على ترك العمل به إلاّ حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف و لا مطر و حديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، ناشئ من عدم التتبع، نعم ما قاله في الحديث الثاني صحيح فقد صرحوا بأنّه حديث منسوخ دلّ الإجماع على نسخه.(1)).
ص: 53
د. و بهذه النقود ظهر انّه ليس هناك إعراض عن العمل بهذه الأحاديث، و لعلّ عدم إفتاء الجمهور بمضمون هذه الأحاديث هو كون التوقيت و التفريق أحوط.
لكن هذا الاحتياط يخالف مع احتياط آخر، و هو انّ التفريق في أعصارنا هذا أدى بكثير من أهل الأشغال إلى ترك الصلاة كما شاهدناه عياناً بخلاف الجمع فانّه أقرب إلى المحافظة على أدائها، و بهذا ينقلب الاحتياط إلى ضده، و يكون الأحوط للفقهاء أن يفتوا العامة بالجمع و أن ييسّروا و لا يعسّروا (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (1)(وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2) و الدليل على جواز الجمع مطلقاً موجود و الحمد للّه سنة صحيحة صريحة كما سمعت بل كتاباً محكماً مبيّناً.(3)9.
ص: 54
قال القاضي شرف الدين الحسين بن محمد المغربي في كتابه «البدر التمام في شرح بلوغ المرام»: إنّ حديث ابن عباس لا يصح الاحتجاج به، لأنّه غير معيِّن لجمع التقديم و التأخير كما هو ظاهر رواية مسلم و تعيين واحد منها تحكم، فوجب العدول إلى ما هو واجب من البقاء على العموم في حديث الأوقات للمعذور و غيره و تخصيص المسافر بثبوت المخصص.(1)
يلاحظ عليه: أنّ ابن عباس لم ينقل كيفية الجمع لوضوحها فانّ الجمع في الحضر كالجمع في السفر، فكما أنّه يجوز في السفر بكلتا الصورتين جمع التقديم و جمع التأخير كما مرّ التنصيص به فيما سبق.(2) فكذلك في الحضر،
ص: 55
و سكوت ابن عباس و عدم سؤال الرواة عن الكيفية يعرب عن أنّهم فهموا من كلامه عدم الخصوصية لواحدة من الصورتين و إلاّ كان عليهم السؤال ثانياً من أنّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) جمع على نحو جمع التقديم أو جمع التأخير.
و يؤيد ذلك وحدة التعليل في كلام ابن عباس في الموردين.
أخرج مسلم عن ابن عباس انّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك فجمع بين الظهر و العصر و المغرب و العشاء، قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أُمّته.(1)
و يؤيد الإطلاق و عدم الفرق بين الصورتين هو عموم العلة و هو عدم الإحراج على الأُمّة و رفع الحرج منه، فالإحراج في الالتزام بالتفريق بين الصلاتين و رفعه يحصل1.
ص: 56
بكلّ واحدة من الصورتين، سواء أ كانت جمع تقديم أو جمع تفريق.
أضف إلى ذلك انّ ابن عباس عمل بالحديث بصورة جمع التأخير، فقد مرّ انّ ابن عباس خطب يوماً بعد العصر حتّى غربت الشمس و بدت النجوم و جعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، فجاء رجل من بني تميم لا يفتر و لا ينثني و يقول: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أ تعلّمني بالسنّة لا أُمّ لك إلى آخر ما مرّ من الحديث.
و لعمر القارئ انّ المخالف لمّا وقف أمام هذه الروايات الهائلة الدالة على تجويز الجمع مقابل التفريق و رأى أنّ فقه الجمهور على الخلاف، عمد إلى التشكيك بها، و لذلك أتى بهذه الشبهة و هي أشبه بسؤال بني إسرائيل موسى بن عمران عن سن البقرة و لونها.(1)7.
ص: 57
إنّ غير واحد ممّن تعرض لحلّ هذه الأحاديث التجأ إلى أنّ الجمع لم يكن جمعاً حقيقياً كما في الجمع في السفر، بل كان جمعاً صورياً، بمعنى انّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أخّر الظهر إلى حد بقي من وقتها مقدار أربع ركعات فصلّى الظهر و بإتمامها دخل وقت العصر و صلّى العصر فكان جمعاً بين الصلاتين مع أنّ كلّ واحدة من الصلاتين أُتي بها في وقتها. و هذا هو الظاهر في غير واحد من شراح الحديث، و إليك كلماتهم.
1. قال النووي: و منهم من تأوّله على تأخير الأُولى إلى آخر وقتها فصلاّها فيه فلمّا فرغ منها دخلت الثانية فصلاّها فصارت صلاته صورة جمع.
ثمّ رده و قال: و هذا أيضاً ضعيف أو باطل، لأنّه مخالف للظاهر مخالفة لا تُحتمل، و فعل ابن عباس الذي ذكرناه حين خطب، و استدلاله بالحديث لتصويب فعله
ص: 58
و تصديق أبي هريرة له و عدم إنكاره، صريح في ردّ هذا التأويل.(1)
و كان على النووي أن يرد عليه بما ذكرناه، و هو انّ الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) جمع بين الصلاتين بغية رفع الحرج عن الأُمّة، و الجمع بالنحو المذكور أكثر حرجاً من التفريق.
قال ابن قدامة: إنّ الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أشد ضيقاً و أعظم حرجاً من الإتيان بكلّ صلاة في وقتها، لأنّ الإتيان بكلّ صلاة في وقتها أوسع من مراعاة طرفي الوقتين بحيث لا يبقى من وقت الأُولى إلاّ قدر فعلها.
ثمّ لو كان الجمع هكذا، لجاز الجمع بين العصر و المغرب، و العشاء و الصبح و لا خلاف بين الأُمّة في تحريم ذلك و العمل بالخبر على الوجه السابق إلى الفهم منه أولى5.
ص: 59
من هذا التكلّف.(1)
كما أنّ المقدسي في الشرح الكبير(2) ردّ على هذا التأويل بنفس ما ذكره ابن قدامة، و اللفظ في كلا الكتابين واحد و لذلك اقتصرنا بلفظ ابن قدامة.
نعم انّهما ردّا بما نقلناه عنهما على من فسّر جواز الجمع بين الصلاتين للمسافر بالجمع الصوري، و لمّا كان ملاك الجمع في كلا المقامين (المسافر و الحاضر) واحداً، و هو رفع الحرج و المشقة عن الأُمّة، و كان الجمع الصوري مُحرجاً على نحو أشد، أثبتنا كلامهما في المقام أيضاً.
و لأجل ما ذكرنا حمل الخطّابي الجمع في الرواية على الجمع الحقيقي دون الصوري، فقال:
ظاهر اسم «الجمع» عرفاً لا يقع على من أخّر5.
ص: 60
الظهر حتّى صلاّها في آخر وقتها و عجّل العصر فصلاّها في أوّل وقتها، لأنّ هذا قد صلّى كلّ صلاة منهما في وقتها الخاصّ بها.
قال: و إنّما الجمع المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معاً في وقت إحداهما، أ لا ترى أنّ الجمع بعرفة بينهما و مزدلفة كذلك.(1)
ثمّ إنّ الشوكاني ممّن يؤيّد تفسير الجمع بالجمع الصوري، و أيّده بوجوه ثلاثة:
الأوّل: ما أخرجه مالك في الموطّأ و البخاري و أبو داود و النسائي عن ابن مسعود، قال: ما رأيت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) صلّى صلاة لغير ميقاتها إلاّ صلاتين جمع بين المغرب و العشاء بالمزدلفة و صلّى الفجر يومئذ قبل ميقاتها.
ص: 61
قال الشوكاني: نفى ابن مسعود مطلقَ الجمع و حصره في جمع المزدلفة، مع أنّه ممّن روى حديث الجمع بالمدينة كما تقدّم، و هو يدلّ على أنّ الجمع الواقع بالمدينة جمع صوري، و لو كان جمعاً حقيقياً لتعارض روايتاه و الجمع ما أمكن المسير إليه هو الواجب.(1)
يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه لا يحتجّ به، لأنّه حصر الجمع في المزدلفة مع تضافر الروايات على أنّه (صلى الله عليه و آله و سلم) جمع في المزدلفة و عرفة، فالحديث متروك الظاهر لا يعرّج عليه، و لا يصحّ قرينة على المراد من الجمع في روايات المقام.
و ثانياً: انّ ابن مسعود نفسه روى جمع الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) بين الصلاتين في المدينة و قال:
جمع رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) بين الظهر و العصر و المغرب و العشاء فقيل له في ذلك، فقال: صنعت ذلك لئلاّ تحرج أُمّتي.(2)0.
ص: 62
و قد عرفت أنّ الجمع الصوري أشدّ حرجاً من الجمع الحقيقي، فانّ معرفة أواخر الأوقات و أوائلها على وجه الضبط كان مشكلاً في الأعصار السابقة، فلا محيص من تفسير الجمع بالجمع الحقيقي، و هذا دليل على أنّ رواية الحصر في المزدلفة متروكة لا يحتجّ بها.
الثاني: ما أخرجه ابن جرير عن ابن عمر قال: خرج علينا رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) فكان يؤخّر الظهر و يعجّل العصر فيجمع بينهما، و يؤخر المغرب و يعجّل العشاء فيجمع بينهما، و هذا هو الجمع الصوري.(1)
يلاحظ عليه: أنّ الحديث و إن كان مشعراً بالجمع الصوري و لكنّه لا يؤخذ به، و ذلك لإجمال المراد منه، فإن أراد أنّ النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) فعل ذلك في السفر، فقد تقدّم أنّ جمع الرسول بين الصلاتين في السفر، كان جمعاً حقيقياً.
روى مسلم عن أنس بن مالك أنّه قال: كان رسول7.
ص: 63
اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر، ثمّ نزل فجمع بينهما.(1)
و في رواية أُخرى عنه: أنّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) إذا عجّل عليه السفر يؤخر الظهر إلى أوّل وقت العصر فيجمع بينهما، و يؤخّر المغرب حتى يجمع بينها و بين العشاء حتّى يغيب الشفق.(2)
و إن أراد أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) جمع بين الصلاتين بالجمع الصوري في الحضر، فقد عرفت تضافر الروايات على الجمع الحقيقي، حيث إنّ حديث ابن عباس و غيره صريح فيه و قرينة على حمل سائر الروايات على الحقيقي فلا يمكن أن يطرح حديث حبر الأُمّة و عمله بحديث مجمل لابن عمر.
الثالث: ما أخرجه النسائي عن ابن عباس: صلّيت مع النبي الظهر و العصر جميعاً و المغرب و العشاء جميعاً،8.
ص: 64
«أخّر الظهر و عجّل العصر و أخّر المغرب و عجّل العشاء»، و هذا ابن عباس راوي حديث الباب قد صرّح بأنّ ما رواه من الجمع المذكور هو الجمع الصوري.(1)
يلاحظ عليه: بأنّ التفسير أعني قوله: أخّر الظهر و عجّل العصر و أخّر المغرب و عجّل العشاء ليس من ابن عباس، بل من جابر بن زيد، بقرينة ما أخرجه الإمام أحمد عن جابر بن زيد أنّه سمع ابن عباس يقول: صلّيت مع رسول اللّه ثمانياً جميعاً و سبعاً جميعاً، قلت له: يا أبا الشعثاء أظنّه أخّر الظهر و عجّل العصر و أخّر المغرب و عجّل العشاء قال: و أنا أظن ذلك.(2)
و هذا دليل واضح على أنّ التفسير من أبي الشعثاء و أضرابه، و ما أوّلوه إلاّ لأنّهم اعتادوا على التوقيت و التفريق بين الصلوات، فزعموا أنّ التوقيت فرض لا يُترك، و لمّا1.
ص: 65
وقفوا على هذه الروايات الهائلة تحيّروا في مفاد الرواية و اتخذ كلّ منهم مهرباً، و فسّره أبو الشعثاء بالجمع الصوري.
هذا هو التأويل الثالث الذي لجأ إليه من لم يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً.
قال النووي: منهم من تأوّله على أنّه جمع بعذر المطر، و هذا مشهور عن جماعة من الكبار المتقدّمين، ثمّ رد عليه بأنّه ضعيف بالرواية الأُخرى من غير خوف و لا مطر.(1)
إنّ السبب لهذا النوع من التأويل هو تطبيق الرواية على فتوى الجمهور و إلاّ فالروايات صريحة في أنّ هذا الجمع كان بلا عذر و لو استقرأت نصوص الروايات التي نقلناها عن ابن عباس و غيره لوقفت على أنّ الجمع لم يكن
ص: 66
لعذر بل كان لأجل رفع الحرج عن الأُمة.
ففي بعضها: في غير خوف و لا سفر (لاحظ الرواية رقم 1، 2، 15، 16، 18 و 23).
و في بعض آخر: في غير خوف و لا مطر (لاحظ الرواية برقم 3، 4، 11، 12 و 19).
و في بعضها: في غير سفر و لا مطر (لاحظ الرواية 22).
و في بعضها: من غير خوف و لا علة (لاحظ الرواية 26).
و في بعضها: من غير مرض و لا علة (لاحظ الرواية 28).
أضف إلى ذلك التعليل الوارد في الروايات الذي يرد هذا الاحتمال بوضوح، و إليك نصها:
فقد عُلّل في بعض الروايات بقوله: (أراد ان لا يُحرج أحداً من أُمّته) (لاحظ الرواية برقم 2 و 3 و 11 و 12 و 23).
ص: 67
و في بعض آخر: لئلا يكون على أُمته حرج (لاحظ الرواية 19).
و في بعض آخر: أراه للتوسعة على أُمّته (لاحظ الرواية 22).
و في بعض آخر: لأن لا يحرج أُمّته ان جمع رجل (لاحظ الرواية 25).
و في بعض آخر: لئلا تحرج أُمّتي (لاحظ الرواية 30).
فالناظر في هذه الروايات يذعن بأنّ الجمع لم يكن لعذر المطر و السفر و الخوف و لا لعلة أُخرى و انّ الصادع بالحق جمع بين الصلاتين في المدينة بلا أىّ عذر بأمر من اللّه سبحانه ليتسع الأمر على أُمّته و لئلا يتوهم متوهم ان التوقيت فرض لا يمكن التخلّف عنه بل هو فضيلة لا تنكر، و مع ذلك لكلّ واحد من آحاد الأُمّة الجمع بين الصلاتين بلا توقيت.
ص: 68
و منهم من تأوّله على أنّه كان غيم فصلى الظهر ثمّ انكشف الغيم و بان انّ وقت العصر دخل فصلاها.
و هذا الاحتمال من الوهن بمكان و كفى في وهنه ما ذكره النووي حيث قال: إنّه و إن كان فيه أدنى احتمال في الظهر و العصر و لكن لا احتمال فيه في المغرب و العشاء مع أنّ الجمع لم يكن مختصاً بالظهرين بل جمع بين المغرب و العشاء حتّى انّ ابن عباس أخّر المغرب إلى وقت العشاء.(1)
أضف إلى ذلك انّه لو كان الجمع في هذه الحالة كان على الرواة التصريح بذلك أ فيحتمل انّ حبر الأُمة غفل عن القيد أو تذكر و لم ينقل و هكذا غيره نظراء أبي هريرة و عبد اللّه بن عمر و عبد اللّه بن مسعود.
ص: 69
و قد أوّله بعض من لا يروقه الجمع بين الصلاتين و قال بأنّ الرواية محمولة على الجمع بعذر المرض أو نحوه، نقله النووي عن أحمد بن حنبل و القاضي حسين من الشافعية و اختاره الخطابي و التولي و الروياني من الشافعية. و اختاره النووي و قال: و هو المختار في تأويله لظاهر الحديث و لفعل ابن عباس و موافقة أبي هريرة، و لأنّ المشقة فيه أشدّ من المطر.(1)
يلاحظ عليه: بأنّه أيضاً كسائر التأويلات في الوهن و السقوط، و قد ورد في بعض الروايات من غير خوف و لا علة، و في البعض الآخر من غير مرض و لا علّة.
و الذي يبطل ذلك هو انّ ابن عباس جمع بين المغرب و العشاء و لم يكن هناك مرض و لا مريض، بل كان يخطب الناس و طال كلامه حتى مضى وقت الفضيلة
ص: 70
للمغرب فصلّى المغرب مع العشاء في وقت واحد.
على أنّه لو كان التأخير للمرض، فيجوز لخصوص المريض لا لمن لم يكن مريضاً مع أنّ النبي جمع بين الصلاتين مع عامة أصحابه، و احتمال انّ المرض عمّ الجميع بعيد غاية البعد.(1)
و بما ذكرنا صرّح الحافظ ابن حجر العسقلاني فقال: لو كان جمعه (صلى الله عليه و آله و سلم) بين الصلاتين لعارض المرض لما صلّى معه إلاّ من به نحو ذلك العذر، و الظاهر أنّه صلّى بأصحابه، و قد صرّح بذلك ابن عباس في روايته.(2)
و هذا هو الخطابي يحكي في معالمه عن ابن المنذر انّه قال: و لا معنى لحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار، لأنّ ابن عباس قد أخبر بالعلة فيه و هو قوله: «أراد أن لا تحرج أُمّته» و حكي عن ابن سيرين انّه كان لا يرى بأساً أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شيء4.
ص: 71
ما لم يتّخذه عادة.(1)
و قال المحقّق لسنن الترمذي بعد نقل كلام الخطابي: و هذا هو الصحيح الذي يؤخذ من الحديث، و أمّا التأوّل بالمرض أو العذر أو غيره فانّه تكلّف لا دليل عليه، و في الأخذ بهذا رفع كثير من الحرج عن أُناس قد تضطرهم أعمالهم أو ظروف قاهرة إلى الجمع بين الصلاتين و يتأثّمون من ذلك و يتحرّجون و في هذا ترفيه لهم و إعانة على الطاعة ما لم يتّخذه عادة كما قال ابن سيرين.(2)
و ما ذكره هو الحقّ و لكنّه تضييق أيضاً لما وسّعه النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)، فحصر الجمع بمن له حاجة مع أنّ النبي بإذن من اللّه وسّع على وجه الإطلاق سواء أ كانت هناك علة أو لا.
نعم لا شكّ انّ التوقيت أفضل و من أتى بكلّ صلاة في وقتها (وقت الفضيلة) أفضل من إتيانها فير.
ص: 72
الوقت المشترك، و مع ذلك فمجال الإتيان في الشريعة أوسع.
لما كان تعيين العذر المسوِّغ للجمع، أمراً مشكلاً سلك بعضهم مسلك الإبهام و الإجمال و انّ الجمع كان لأحد الأعذار المسوِّغة، من دون تعيين.
و ممّن عرّج على هذا الاحتمال مفتي السعودية السابق عبد العزيز بن باز في تعليقة مختصرة له على «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» فهو لمّا ضعّف مختار ابن حجر في تفسير الجمع (الجمع الصوري) بقوله هذا الجمع ضعيف، قال:
الصواب حمل الحديث المذكور على أنّه (صلى الله عليه و آله و سلم) جمع بين الصلوات المذكورة لمشقّة عارضة ذلك اليوم من مرض غالب أو برد شديد أو وحل و نحو ذلك، و يدلّ على ذلك قول ابن عباس، لمّا سئل عن علّة هذا الجمع، قال: لئلاّ
ص: 73
يحرج أُمّته ثمّ استحسن هذا الجمع و قال: و هو جواب عظيم سديد شاف.(1)
يلاحظ عليه: أنّ هذا الجمع كالجمع الذي ضعّفه في الضعف و الوهن سواء، و ذلك لأنّه يخالف رواية ابن عباس و عمله، فانّه جمع بين الصلاتين في البصرة من دون أن يكون هناك مرض غالب أو برد شديد أو وحل.
أضف إلى ذلك إطلاق التعليل، أعني: رفع الحرج عن الأُمّة، فانّ الحرج لا يختصّ بصور الأعذار، بل يعمّ إلزام الناس بالتفريق بين الصلوات على وجه الإيجاب عبر الحياة.
إنّ لابن الصدّيق في تأليفه المنيف المسمّى ب «إزالة الحظر عمّن جمع بين الصلاتين في الحضر» هنا كلاماً لا بأس بإيراده هنا:ز.
ص: 74
قال: إنّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) صرّح بأنّه فعل ذلك ليرفع الحرج عن أُمّته و بيّن لهم جواز الجمع إذا احتاجوا إليه. فحمله على المطر بعد هذا التصريح من النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و الصحابة الذين رووه، تعسف ظاهر، بل تكذيب للرواة و معارضة للّه و الرسول، لأنّه لو فعل ذلك للمطر لما صرّح النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) بخلافه، و لما عدل الرواة عن التعليل به، إلى التعليل بنفي الحرج، كما رووا عنه (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه كان يأمر المنادي أن ينادي في الليلة المطيرة: «أ لا صلّوا في الرحال» و لم يذكروا ذلك في الجمع فكيف و قد صرّحوا بنفي المطر؟! و أضاف أيضاً و قال: إنّ ابن عباس الراوي لهذا الحديث أخّر الصلاة و جمع لأجل انشغاله بالخطبة، ثمّ احتجّ بجمع النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و لا يجوز أن يحتجّ بجمع النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) للمطر و هو عذر بيّن ظاهر على الجمع لمجرّد الخطبة أو الدرس الذي في إمكانه أن يقطعه للصلاة ثمّ يعود إليه أو ينتهي منه عند وقت الصلاة و لا يلحقه فيه ضرر و لا
ص: 75
مشقة كما يلحق الإنسان في الخروج في حالة المطر و الوحل.(1)
حصيلة الكلام: انّ هذا التشريع من الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) بأمر من اللّه سبحانه أضفى للشريعة مرونة قابلة للتطبيق على مرّ العصور و على كافة أصعدة الحياة المتطورة مهما تطورت.
فمن ألقى نظرة فاحصة على الحياة المتطورة في الغرب الصناعي يقف على أنّ التفريق بين الصلاتين خصوصاً الظهر و العصر أمر شاق على المسلمين خاصة العمال و الموظفين بنحو ينتهي الأمر، إمّا إلى تحمل المشقة الكبيرة، أو ترك الصلاة من رأس، و ربما ينجر الأمر إلى الإعراض عن الفريضة.
إنّ لفقهاء السنّة الواعين أن يأخذوا بنظر الاعتبار السماحة التي نادى بها الإسلام، في اجتهاداتهم، و السعة0.
ص: 76
التي جاءت بها الأخبار في حساباتهم، و أن يعلنوا للملإ بصراحة انّ الجمع بين الظهرين و العشاءين أمر مسموح به موافق للشريعة و إن كان التوقيت أفضل، فمن فرّق فله فضل التوقيت، و من جمع فقد أدّى الفريضة.
ص: 77
ثمّ إنّ من لم يجوّز الجمع بين الصلاتين، اعترض على الاحتجاج برواية ابن عباس و غيره بوجوه نذكرها مع تحليلها.
أخبار الجمع يعارضها ما أخرجه الترمذي عن حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر.(1)
أقول: كفى في ضعفه انّ في سنده حَنَش، و هو لقب حسين بن قيس الرحبي الواسطي و هو ضعيف للغاية.
قال أحمد: متروك، و قال البخاري: أحاديثه منكرة
ص: 78
و لا يكتب حديثه.
و قال أبو زرعة و ابن معين: ضعيف، و قال النسائي: ليس بثقة.
و قال مرة: متروك. و قال السعدي: أحاديثه منكرة جداً، و قال الدارقطني: متروك و عدّ الذهبي من مناكيره هذا الحديث.(1)
و قال العقيلي في حديثه: «من جمع بين صلاتين فقد أتى باباً من الكبائر» لا يُتابع عليه و لا يعرف إلاّ به، و لا أصل له، و قد صحّ عن ابن عباس انّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) جمع بين الظهر و العصر.(2)
أضف إلى ذلك انّ في سنده أيضاً عِكْرمة، و هو ضعيف لا يحتج بحديثه.8.
ص: 79
و ربّما تتوهّم المعارضة بين ما دلّ على جواز الجمع بين الصلاتين جمعاً حقيقياً و ما رواه مسلم من حديث ليلة التعريس نقله الآلوسي في تفسيره عن ابن الهمام بقوله: قال ابن الهمام: إنّ حديث ابن عباس معارض بما في مسلم في حديث ليلة التعريس أنّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: ليس في النوم تفريط و إنّما التفريط في اليقظة أن يؤخّر الصلاة حتّى يدخل وقت صلاة أُخرى».
قال الآلوسي بعد نقل كلام ابن الهمام: و للبحث في ذلك مجالٌ.(1)
و في الاستدلال كما ذكره الآلوسي مجال للبحث بل للرّدّ.
أوّلاً: إنّ حديث التعريس لا يشمل جمع التقديم،
ص: 80
بل يختصّ بجمع التأخير حيث قال: «يؤخّر الصلاة حتّى يدخل وقت صلاة أُخرى».
ثانياً: إنّ فعل ابن عباس) (رضي اللّه عنه) حاك عن أنّ جمع النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بين الصلاتين كان جمع تأخير على ما رواه مسلم كما مرّ، و فيه: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتّى غربت الشمس و بدت النجوم و جعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر و لا ينثني: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أ تعلّمني بالسنة لا أُمّ لك، ثمّ قال: رأيت رسول اللّه جمع الظهر و العصر و المغرب و العشاء، فقال عبد اللّه بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة، فسألته فصدّق مقالته».(1)
فأي الحديثين أولى بالأخذ؟ و الحديث محمول على تأخير صلاة العشاء حتّى6.
ص: 81
يدخل وقت صلاة الفجر و يؤيّده ورود الرواية في ليلة التعريس الّتي ينشغل فيها الإنسان بأُمور حتى يدخل وقت صلاة الفجر.
إنّ الرواية الثالثة التي أخرجها مسلم، ورد في سندها حبيب بن أبي ثابت قال في حقّه الخطابي في معالم السّنن: هذا حديث لا يقول به أكثر الفقهاء، و اسناده جيّد إلاّ ما تكلّموا من أمر حبيب.(1)
يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره من أنّ الحديث لا يقول به أكثر الفقهاء حق، و لكن يقول به كثير من الفقهاء و من يؤخذ عنه الفتوى و قد مرّت أسماؤهم، و أمّا عدم أخذ الأكثر به فقد عرفت أنّ الوجه في عدم الأخذ إمّا لكون التفريق موافقاً للاحتياط أو كونه مخالفاً لما استمرّ
ص: 82
عليه النبي (صلى الله عليه و آله و سلم).
امّا الاحتياط فقد مرّ أنّ الإفتاء بلزوم التفريق في ظروفنا هذه على خلاف الاحتياط، لأنّه ربما ينتهي الأمر بسببه إلى ترك الصلاة رأساً.
و أمّا فعل النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) فقد عرفت أنّه جمع أيضاً، ليفهم الأُمّة على أنّ استمراره على التفريق سنّة مؤكّدة و ليست بفرض.
و أمّا ما ذكر من أنّهم تكلّموا في حبيب بن أبي ثابت، فهو يخالف ما ذكره الذهبي في «ميزان الاعتدال»، حيث قال: احتجّ به كلّ من أفراد الصحاح بلا تردّد و قال: وثّقه يحيى بن معين و جماعة.(1)
على أنّ الرواية في أحد الصحيحين اللّذين اتّفق الجمهور على صحّة أحاديثهما و العمل بما ورد فيهما.
و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين0.
ص: 83