دراسات تاريخية من القرآن الكريم- المجلد4

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: مهران محمدبيومي

عنوان واسم المؤلف: دراسات تاريخية من القرآن الكريم محمدبيومي مهران

تفاصيل المنشور: بيروت : دارالنهضة العربيه ، ق 1408 = .م 1988 = .1367.

خصائص المظهر: ج 4

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة : كتابنامه مندرجات : ج 1. بلاد العرب --.ج 2. مصر --.ج 3. في بلاد الشام -- .ج 4. في العراق

موضوع : قرآن -- قصه ها

ترتيب الكونجرس: BP88/م86د4 1367

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-8979

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الثانية

١٤٠٨ ه_ - ١٩٨٨ م

دار النهضة العربية

للطباعة والنشر

بروت - ص.ب ١١٠٧٤٩

الإدارة : بيروت، شارع مدحت باشا بناية

كريدية، تلفون: 303816

312213 /309830

برقياً : دانهضة ، ص . ب ٧٤٩-١١

تلکس : NAHDA 40290 LE

29354 LE

المكتبة : شارع البستاني، بناية اسكندراني

رقم ٣ غربي الجامعة العربية،

تلفون : ٣١٦٢٠٢

المستودع : بشر حسن ، تلفون : 833180

ص: 2

ص: 3

ص: 4

[الجزء الرابع]

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على المبعوث رحمه للعالمين سيدنا محمد واله بفضل الله ونعمته نقدم هذا الجزء الرابع من سلسلة دراسات تاريخية من القرآن الكريم وقد خصصناه للأحداث التاريخية التي جاء ذكرها من القرآن الكريم وكان مجالها أرض العراق الطيبة.

وقد تحدثنا في الباب الأول منه عن سيرة سيدنا نوح عليه السلام وعن قصة الطوفان المشهورة كما جاءت في آثار بلاد الرافدين فضلاً عن التوارة والقرآن الكريم.

هذا وقد خصصنا الباب الثاني لسيرة أبي الانبياء سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في العراق بعد ان تحدثنا عن سيرة الخليل العطرة صلوات الله وسلامه عليه في الشام ومصر والحجاز في بعض فصول الأجزاء السابقة.

وكان الباب الثالث مخصصاً لسيرة سيدنا يونس عليه السلام والذي

ص: 5

تذهب المراجع إلى أنه أرسل هادياً وبشيراً لأهل نينوى من أرض الموصل بالعراق.

والله تعالى أسأل أن يكون في هذه الدراسة بأجزائها الاربعة بعض النفع وأن بتقبلها وأن بتقبلها سبحانه وتعالى خالصة لوجهه الكريم.

(وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)

الاسكندرية في ١٥ ربيع الاخر عام ١٤٠٨ ه_

٧ ديسمبر عام ١٩٨٧ م.

ص: 6

الباب الأوّل سيرة نوح عليه السّلام

اشارة

ص: 7

ص: 8

الفصل الأول دعوة نوح عليه السّلام

[1] نوح عليه السلام:-

نوح عليه السلام نبي اللّه و رسوله، شيخ المرسلين، و أول رسل اللّه إلى الأرض، و أطول الأنبياء عمرا، و أكثرهم جهادا، و أحد أولى العزم الخمسة المنصوص على أسمائهم تخصيصا من بين سائر الأنبياء في آيتين من القرآن الكريم، و هما قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (1)، و قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (2).

و قال الإمام البيضاوي في تفسيره: خصّهم اللّه (أي أولى العزم الخمسة) بالذكر، لأنهم أولو العزم، و مشاهير أرباب الشرائع، و قدّم نبينا صلى اللّه عليه و سلّم

ص: 9


1- سورة الأحزاب: آية 7.
2- سورة الشورى: آية 13، و انظر: تفسير القرطبي ص 5829- 5830، تفسير ابن كثير 7/ 182- 183، تفسير النسفي 4/ 102.

(في آية الأحزاب) تعظيما له، و تكريما لشأنه (1)، و روى أبو بكر البزار عن أبي هريرة قال: خيار ولد آدم خمسة: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد، صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، و خيّرهم محمد، صلى اللّه عليه و سلّم (2).

هذا و قد وردت قصة نوح عليه السلام في القرآن الكريم في ثلاثة و أربعين موضحا، و إن ذكرت بشي ء من التفصيل في سورة الأعراف و هود و المؤمنون و الشعراء و القمر و نوح (3).

هذا و قد لبث نوح في قومه- بنص القرآن الكريم- ألف سنة إلا خمسين عاما، قال تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً، فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (4).

و قد اختلف المفسرون في مبلغ عمر نوح عليه السلام، فقيل مبلغ عمره ما ذكره اللّه تعالى في كتابه، قال قتادة: لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة، و دعاهم ثلاثمائة سنة، و لبث بعد الطوفان ثلاثمائة و خمسين سنة، و قال ابن عباس: بعث نوح لأربعين سنة، و لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، و عاش بعد الغرق ستين سنة، حتى كثر الناس و فشوا، و عنه أيضا: أنه بعث و هو ابن

ص: 10


1- تفسير البيضاوي 1/ 114.
2- تفسير ابن كثير 3/ 748 (ط بيروت 1986).
3- انظر: سورة آل عمران. و النساء (آية 163) الأنعام (84) و الأعراف (59، 69) و التوبة (70) و يونس (71- 73) و هود (25- 48) و إبراهيم (9) و الإسراء (3، 17) و مريم (58) و الأنبياء (76- 77) و الحج (42) و المؤمنون (23- 30) و الفرقان (37) و الشعراء (105- 122) و العنكبوت (14- 15) و الأحزاب (7) و الصافات (75- 16) و الحديد (26) و التحريم (10) و كذا سورة نوح.
4- سورة العنكبوت: آية 14، و يقول الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير (25/ 42) و في قوله تعالى: وَ هُمْ ظالِمُونَ إشارة لطيفة، و هي أن اللّه لا يعذب على مجرد وجود الظلم، و إنما يعذب على الإصرار على الظلم، و لهذا قال تعالى: وَ هُمْ ظالِمُونَ يعني أهلكم و هم على ظلمهم.

مائتين و خمسين سنة، و لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين، و عاش بعد الطوفان مائتي سنة، و قال وهب: عمّر نوح ألفا و أربعمائة سنة، و قال كروب الأحبار: لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، و عاش بعد الطوفان سبعين عاما، فكان مبلغ عمره ألف سنة و عشرين عاما، و قال عون بن أبي شداد: بعث نوح، و هو ابن خمسين و ثلاثمائة سنة، و لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، و عاش بعد الطوفان ثلاثمائة سنة و خمسين سنة، فكان مبلغ عمره ألف سنة و ستمائة و خمسين سنة، و نحوه عن الحسن (أي الحسن البصري) (1).

[2] معبودات قوم نوح:-

تعرض القرآن الكريم لمعبودات قوم نوح في قوله تعالى: وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً (2)، و هكذا يبيّن لنا القرآن الكريم أن الأصنام التي كان يعبدها قوم نوح، هي ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر، و هي من أقدم الأصنام (3) التي عبدت قاطبة، إن لم تكن أقدمها على الإطلاق، و أن ذلك

ص: 11


1- تفسير القرطبي ص (5048- 5049) (ط الشعب- القاهرة 1970).
2- سورة نوح: آية 23.
3- يرى علماء اللغة أن كلمة «الأصنام» ليست عربية أصيلة، و إنما هي معربة من كلمة «شنم»، و رغم أنهم لم يذكروا لنا اسم اللغة التي عربت منها، فربما كانت من الآرامية «صلموا» أو العبرية «صلم»، و على أية حال، فإن الكلمة قد وردت في النصوص العربية الجنوبية تحت اسم «صلمو»، بمعنى «صنم» و «تمثال»، و في الكتابات العربية الشمالية من أعالي الحجاز، تحت اسم «صلم» كاسم لإله علم ازدهرت عبادته في «تيماء» حوالي عام 600 ق. م، هذا و يبدو أن العرب كانوا يغرقون بين الأصنام و الأوثان، فالصنم، فيما يرى علماء اللغة، هو ما اتخذ إلها من دون اللّه، و ما كان له صورة كالتمثال، و عمل من خشب أو ذهب أو فضة أو و عرّف بعضهم الصنم بأنه ما كان له جسم أو صورة، فإن لم يكن له جسم أو صورة فهو «وثن»، و أما «ابن الكلبي» فالتمثال عنده إذا كان معمولا من خشب أو ذهب أو فضة أو غيرها من جواهر الأرض في صورة الإنسان فهو «صنم»، و إذا كان من حجارة فهو «وثن» و أما النصب فهي حجارة غفل ليست على صورة معينة تجرى عليه قبيلة من القبائل أوضاع العبادة لما تزعمه من أصلها السماوي، إن كانت حجرا بركانيا أو ما يشبهه، و لعل أدق الأصنام صنعا ما كان لأهل اليمن، و لا عجب، فخطهم من الحضارة لم يعرفه أهل الحجاز، و لا عرفه أهل نجد و كندة. انظر: القاموس المحيط 4/ 141، 274، اللسان 12/ 349، 15/ 141، تاج العروس 8/ 371، ابن الكلبي: كتاب الأصنام- القاهرة 1965 ص 53، محمد عبد المعيد خان: الأساطير العربية قبل الإسلام- القاهرة 1936 ص 113، السهيلي: المروض الأنف- القاهرة 1971- الجزء الأول ص 62، محمد حسين هيكل: حياة محمد- القاهرة 1970 ص 99، محمد مبروك نافع: عصر ما قبل الإسلام- القاهرة 1952 ص 163، و كذا: . 67. P, 1934, ebliB eht dna aibarA, yremogtnoM. A. J و كذا: .80 -79 .P ,1927 ,nodnol ,setimes eht fo noigiler eht no serutceL ,htimS .R .W و كذا. 196- 195. P, 1964, 17, BE, arymlaP, kooC. A. G)

يرجع إلى ما قبل طوفان نوح، و ذلك حين صوّر القوم بعض الصالحين منهم، ثم وضعوا لهم الصور و التماثيل لإحياء ذكراهم و الاقتداء بهم، ثم بعد ذلك عبدوا هذه الصور، و تلك التماثيل (1).

هذا و يحاول بعض الباحثين إيجاد صلة بين المعبودين الوثنيين، «ود» العربي، و «إيروس» اليوناني، و أن الأول مستورد من بلاد اليونان، إلا أن هناك في الوقت نفسه من يعارض هذا الاتجاه، لانتفاء التشابه بينهما (2)، كما أن «ود» هذا هو إله «معين» الكبير، فضلا عن أنه قد عرف منذ ما قبل الطوفان، كما أشار القرآن الكريم، بين قوم نوح عليه السلام.

و على أية حال، فالذي لا شك فيه أن هذه الأصنام إنما كان يعبدها قوم نوح عليه السلام، روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال:

صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب (3)، أما ود كانت لكلب ).

ص: 12


1- انظر: تفسير المنار 7/ 454، 8/ 436، تفسير البيضاوي 2/ 508، تفسير الألوسي 29/ 77، تفسير الطبري 29/ 71، تفسير النسفي 4/ 297، تفسير ابن كثير 4/ 666- 667.
2- انظر:. 17. P, 1927. nilreB. smutnedieH nehcsibarA etseR, nesuahleW. J و كذا. 180 P, 8, ERE, sgnitsaH. J
3- انظر: عن عبادة هذه الأصنام في بلاد العرب (محمد بيومي مهران: الديانة العربية القديمة- الإسكندرية 1978 ص (44- 47)، (93- 99).

بدومة الجندل، و أما سواع كانت لهذيل، و أما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف في الجوف عند سبأ، و أما يعوق فكانت لهمدان، و أما نسر فكانت لحمير، لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا و سموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك و تنسخ العلم عبدت (1).

و هكذا يبيّن لنا عبد اللّه بن عباس، حبر الأمة و ترجمان القرآن، في هذا الحديث أن هذه الأسماء كانت لرجال صالحين من قوم نوح، و أنهم لما ماتوا سوّل الشيطان لقومهم و زيّن لهم أن ينصبوا لهم صورا، و يسموها بأسمائهم حتى ينشطوا في العبادة إذا رأوهم و لم يعبدوهم آنذاك حتى إذا هلك أولئك القوم الذين نصبوا تلك الأنصاب و عمّ الجهل فيمن خلفهم عبدوهم من دون اللّه تعالى.

و ذكر ابن عباس في هذا الحديث أن الأوثان صارت في العرب بعد ذلك، و أن «ودا» كان لقبيلة كلب في دومة الجندل، و «سواعا» لقبيلة هذيل، و «يغوث» لقبيلة مراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، و «يعوق» لقبيلة همدان، و «نسرا» لقبيلة حمير (2).

هذا و قد جاء في تفسير القرطبي: قال عروة بن الزبير و غيره: اشتكى آدم عليه السلام، و عنده بنوه، ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر، و كان ود أكبرهم و أبرهم به، قال محمد بن كعب: كان لآدم عليه السلام خمس بنين:

ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر، و كانوا عبادا فمات واحد منهم فحزنوا ).

ص: 13


1- صحيح البخاري 6/ 199.
2- تفسير ابن عباس و مروياته في التفسير من كتب السنة- الجزء الثاني- الرياض 1987 ص 910- 911 (نشر جامعة أم القرى بمكة المكرمة).

عليه. فقال الشيطان أنا أصور لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه، قالوا افعل فصوّره في المسجد من صفر و رصاص، ثم مات آخر، فصوره، حتى ماتوا كلهم فصوّرهم، و تنقصت الأشياء كما تنتقص اليوم إلى أن تركوا عبادة اللّه تعالى بعد حين، فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئا، قالوا و ما نعبد، قال: آلهتكم و آلهة آبائكم، أ لا ترون في مصلاكم، فعبدوها من دون اللّه، حتى بعث اللّه نوحا فقالوا: «لا تذرن آلهتكم و لا تذرن ودا و لا سواعا و لا يغوث و يعوق و نسرا، و قال محمد بن كعب و محمد بن قيس أيضا: بل كانوا قوما صالحين من آدم و نوح، و كان لهم تبع يقتدون بهم، فلما ماتوا زيّن لهم إبليس أن يصوروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم، و ليتسلوا بالنظر إليها، فصوروهم، فلما ماتوا هم و جاء آخرون قالوا: ليت شعرنا، هذه الصور ما كان آباؤنا يصنعون بها، فجاءهم الشيطان فقال: كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم و تسقيهم المطر، فعبدوها، فابتدئ عبادة الأوثان من ذلك الوقت.

و يقول الإمام القرطبي: و بهذا المعنى فسر ما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة: أن أم حبيبة و أم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة تسمى مارية فيها تصاوير لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم: «إن أولئك كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا، و صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة» (1).

و من أجل هذا كله، جاءت الشريعة الإسلامية الغراء تحظر التصوير باليد لكل ذي روح، و تحرم اتخاذ التماثيل أيا كان الغرض منها، روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس عن أبي طلحة رضي اللّه ).

ص: 14


1- تفسير القرطبي ص (6786- 8687)، تفسير ابن كثير (4/ 666- 667)، تفسير النسفي 4/ 297، صفوة التفاسير 3/ 454، تفسير جزء تبارك ض (135- 137).

عنهم قال: قال النبي صلى اللّه عليه و سلّم: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب و لا تصاوير» (1)، و روى البخاري أيضا في صحيحه عن الأعمش عن مسلم قال: كنا مع مسروق في دار يسار بن نمير، فرأى في صفته تماثيل، فقال: سمعت عبد اللّه، قال سمعت النبي صلى اللّه عليه و سلّم يقول: «إن أشد الناس عذابا عند اللّه يوم القيامة المصورون»، و روى أيضا عن نافع أن عبد اللّه بن عمر، رضي اللّه عنهما، أخبره أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم قال: «إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم احيوا ما خلقتم، و في رواية «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، و يقال لهم احيوا ما خلقتم»، و روى أيضا عن ابن عباس قال: سمعت محمدا صلى اللّه عليه و سلّم يقول: «من صوّر صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، و ليس بنافخ» (2).

[3] دعوة نوح عليه السلام:-

كانت دعوة نوح عليه السلام- كما يقول صاحب تفسير جزء تبارك- مؤسسة على ثلاثة أركان كما جاء في قوله تعالى:

أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (3): الركن الأول: ترك عبادة الأصنام (ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر) التي كان يعبدها أهل ذلك الزمان من دون اللّه، فكان نوح يأمرهم بخلعها، و عبادة اللّه وحده، و هذا معنى قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، و الركن الثاني: تقوى اللّه و اجتناب المعاصي و الذنوب و الفواحش التي تفسد عليهم صحتهم و أخلاقهم و آدابهم، و تفكك روابط الألفة و عرا النظام بينهم، و هذا معنى قوله تعالى: وَ اتَّقُوهُ، و الركن الثالث: إطاعة ولي الأمر فيهم، و هو نوح عليه السلام نفسه، و هذا معنى قوله تعالى: وَ أَطِيعُونِ.

ص: 15


1- صحيح البخاري 7/ 214- 215 (دار الجيل- بيروت 1986). و انظر: صحيح مسلم 14/ 81- 86 (بيروت 1981).
2- صحيح البخاري 7/ 214- 217، و انظر: صحيح مسلم 14- 90- 94.
3- سورة نوح: آية 3.

فالدعوة السماوية التي هي أول ما أنزل على البشر، و بلغ إليهم، هي مطوية في ثلاث كلمات فقط: إيمان و تقوى و طاعة، بالإيمان ينتظم أمر عقائد الأمة فتسلم من الخرافات و الأوهام، و بالتقوى ينتظم أمر أخلاقها و آدابها فتسلم من السقوط و الفساد، و بالطاعة ينتظم أمر اتحاد كلمتها و علو شأنها، فتسلم من الانحلال و الضياع، و ما زالت الأمم على سلم هذه الأركان السماوية تعلو في الحياة الاجتماعية و تسقط، و ترقى في العزة و الغلبة و تهبط، و آية ذلك التاريخ، فهو الشاهد العدل، و إليه في هذه المسألة القول الفصل (1).

و هكذا أرسل اللّه تعالى نوحا إلى قومه، فدعاهم إلى عبادة اللّه وحده، و إفراده بالشكر و الضراعة، و ترك ما هم عليه من عبادة الموروثات الباطلة، و أفرغ عليهم من طيب كلامه ليستميلهم إليه، و يذعنوا لدعوته، و يؤمنوا بها، و كان نوح عليه السلام، رجلا فتيق اللسان، عظيم الأناة، صابرا على الجدل، بصيرا بمسالك الإقناع، قادرا على تصريف الحجج، لكن روح الضلال و التقليد المتسلطة على المعاندين المستكبرين من قومه أبت عليهم أن يعرفوا طريق الهداية، و تحجرت قلوبهم فلم تلن لدعوته، و لم تنقد لرجائه، كان، عليه السلام، كلما دعاهم إلى اللّه أعرضوا، و إذا أنذرهم بالعذاب و الويل عموا و صموا، و إذا رغبهم في ثواب اللّه و رضائه استهانوا و سخروا منه و استكبروا و وضعوا أصابعهم في آذانهم (2)، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً، وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (3).

ص: 16


1- عبد القادر المغربي: تفسير جزء تبارك- المطبعة الأميرية- القاهرة 1947 ص 122.
2- سعد صادق: من قصص الأنبياء في القرآن- القاهرة 1969 ص 37.
3- سورة نوح: آية 5- 7. و انظر: تفسير القرطبي ص (6779- 7780)، تفسير ابن كثير 4/ 664- 665، تفسير النسفي 4/ 294- 295، تفسير جزء تبارك ص 123- 125.

و رغم ذلك كله، فقد صابرهم و طاولهم، و مدّ لهم في حبل صبره و أناته، و ناضلهم و أخذ يفنن في الدعوة، من غير يأس و لا ملل، دعاهم ليلا و نهارا، و سرا و علانية، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (1).

كان نوح عليه السلام يتكتم في أول الأمر في عرض الدعوة على قومه، فكان يدلي لهم بالمناصحة سرا، مستغرقا في ذلك جميع وقته، ليله و نهاره، كما هو شأن الداعي الحريص على بث دعوته، الحاذق في أدائها، العالم بطرق تبليغها، يتحين لها الفرص، و يختار لها الأوثق فالأوثق من الرجال، و لا يتسرع في إفشائها خشية أن يكاد لها، و تقام العواثير دونها، و مع كل ذلك لم تنجح دعوة نوح عليه السلام في القوم لفرط عتوهم، و تحجر العناد في نفوسهم، و هذا ما حمل نوحا على سلوك طريق آخر في الدعوة، و هو مصارحتهم بها، و تبليغهم إياها جهارا، من دون تكتم و لا خوف و لا تقية، و هو معنى قوله تعالى: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً، إذ ربما فرط تكتمه في أمره، و استخفائه بدعوته، يجعلهم يظنونها باطلة، و إلا فما الذي يمنعه من الجهر بها؟ أو يظنون أنه عاجز جبان عن تبليغها فهو يكتمها خشية إيقاعهم به، و هذا مما يزيدهم نفورا و عنادا، و من ثم قام نوح عليه السلام يصدعهم بدعوته صدعا، شأن الواثق من صدقها، المعتمد على ربه في حياطته و حياطتها، كأنه يقول: «هاكم دعوتي أبلغكموها على رءوس الأشهاد، فإن كان لكم سلطان بيّن على بطلانها فهاتوه، أو كنتم تريدون قتلى و صدى بالقوة فافعلوه (2).

ص: 17


1- سورة نوح: آية 8- 9.
2- عبد القادر المغربي: تفسير جزء تبارك ص 125.

غير أن القوم لجوا في عنادهم، و أجابوه بأربع حجج، ظنوا كذبا أنها داحضة، الأولى: أنه بشر مثلهم، فساووه بأنفسهم في الجملة، و هذا يدل على أنه عليه السلام كان من طبقتهم أو ما يقرب منها في بيته و في شخصه، و هكذا كان كل رسول من وسط قومه (1)، و وجه الجواب: أن المسألة تنافي دعوى تفوق أحد المتساويين على الآخر، بجعل أحدهما تابعا طائعا، و الآخر متبوعا مطاعا، لأنه ترجيح بغير مرجح.

و الثانية: أنه لم يتبعه منهم إلا أرذلهم في الطبقة و المكانة الاجتماعية «بادي الرأي» لا بديل من العقل و العلم، و بهذا تنتفي المساواة فينزل هو عن ).

ص: 18


1- من المعروف أنه من فضل اللّه تعالى على رسله و أنبيائه، و سنته في اصطفائهم أن يختارهم من أكرم البيوت و أشرف الظهور، و أطهر البطون و أبعدها عن الدنايا، و ألصقها بمكارم الأخلاق، على ما يقوله اللّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، و على ما يقول جل شأنه: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ. و قد بيّن سيدنا و ملانا و جدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم، هذا المعنى بقوله الشريف، فيما رواه مسلم و الترمذي، «إن اللّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، و اصطفى قريشا من كنانة، و اصطفى من قريش بني هاشم، و اصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار»، و أخرج ابن مردوية عن أنس أنه قال: «قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم، «لقد جاءكم من أنفسكم، بفتح الفاء»، و قال: «أنا أنفسكم نسبا و صهرا و حسبا»، و روى الحاكم و البيهقي عن عائشة إنها قالت، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم: قال لي جبريل قلبت الأرض من مشارقها و مغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد، و قلبت الأرض من مشارقها و مغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم (و رواه أيضا الطبراني في الأوسط و ابن عساكر). و في الواقع فلقد كان بنو هاشم في ميزان المجتمع العربي سادته و قادته و أشرافه، و كانوا في ميزان القيم أجود الناس كفا، و أوفاهم ذمة، و أنداهم عطاء، و أكثرهم في سبيل الخير بلاء، و أحماهم للذمار، و بكلمة واحدة هم في قومهم و زمانهم ضمير أولئك القوم و ذلك الزمان، و هكذا كان بنو هاشم، كما يقول ابن تيمية، أفضل قريش، و قريش أفضل العرب، و العرب أفضل بني آدم، و هكذا كان منبت النبي صلى اللّه عليه و سلّم، كما يقول الأستاذ الغزالي، في أسرة لها شأنها، بعض ما أعده اللّه لرسالته من نجاح، و لعل هذا كله يبيّن لنا الحكمة في اختيار الرسل من أواسط أقوامهم، و من الجبهة القوية فيهم، حتى يكونوا لهم سندا و عضدا، ضد سفاهة السفهاء و بغي الباغين، (انظر التفصيلات: محمد بيومي مهران: في رحاب النبي و آل البيت الطاهرين- الجزء الأول- السيرة النبوية الشريفة- الكتاب الأول).

رتبة الطبقة العليا إلى رتبة من اتبعه من الطبقات السفلى، و هذا مرجح لرد دعوته و التولي عنه، و الثالثة: عدم رؤية فضل له مع جماعته هؤلاء عليهم من قوة عصبية أو كثرة غالبة، أو غير هذا من المزايا التي ترفع الأرذال من مقعدهم من السفلة، فيهون على الأشراف مساواتهم في اتباعه.

و الرابعة: أنهم بعد الإضراب أو صرف النظر عما ذكروا من التنافي و التعارض، يرجحون الحكم عليه و عليهم بالكذب في هذه الدعوى، و هذا هو المرجح الأقوى لرد الدعوة، و قد أخروه في الذكر لأنهم لو قدموه لما بقي لذكر تلك العلل الأخرى وجه، و هي وجيهة في نظرهم لا بد لهم من بيانها، و هذه الأخيرة طعن لهم على نوح عليه السلام أشركوه فيه مع اتباعه، و لم يجابهوه به وحده، و لم يجزموا به، كما أنهم لم يجعلوه في طبقتهم من الرذالة (1).

و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا (2)، وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ، وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ، بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (3).

و كان رد نوح عليه السلام على قومه، كما جاء في القرآن الكريم:

قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ، وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا، إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ، ).

ص: 19


1- تفسير المنار 12/ 53 (الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة 1975).
2- كرر القوم هذا الكلام مع نوح عليه السلام كما جاء في سورة المؤمنين (آية 24)، كما كرره فرعون مع موسى و هارون عليهما السلام، كما جاء في الآيات 45- 48 من نفس سورة المؤمنين.
3- سورة هود: آية 27، و انظر: تفسير المنار 12/ 5- 54، تفسير القرطبي ص 3250- 3252، تفسير ابن كثير 2/ 685- 686، تفسير النسفي 2/ 185، تفسير الطبري 15/ 295- 297 (دار المعارف- القاهرة 1960).

وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا، إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ، وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ، وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً، اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ، إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (1).

و مع ذلك كله، فلم ينته القوم عن غيّهم، و لم يؤمنوا بنبيّهم، و إنما تمادوا في الكفر و العصيان و التطاول على النبي الكريم صلى اللّه عليه و سلّم، فاتهموه بالسفه و الضلال، قال تعالى: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ، وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (2)، ثم اتهموه بالجنون، قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَ قالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ (3)، و قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (4).

ثم اتهموه بكثرة الجدل و الافتراء على اللّه، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (5)، و لم تكف كل هذه الاتهامات الكذوب، في نظر هؤلاء اللئام، فإذا بهم يسخرون من النبي الكريم و يستهزءون، قال تعالى:

وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ، وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ، قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا،

ص: 20


1- سورة هود: آية 28- 31، و انظر: تفسير القرطبي ص 3253- 3255، تفسير الطبري 15/ 297- 303، تفسير المنار 12/ 54- 58، تفسير النسفي 2/ 185- 186، تفسير ابن كثير 2/ 686- 687 (بيروت 1986)، صفوة التفاسير 2/ 14- 15، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 3/ 195- 197 (مكة المكرمة 1398 ه).
2- سورة الأعراف: آية 60- 62.
3- سورة القمر: آية 9.
4- سورة المؤمنون: آية 25.
5- سورة هود: آية 32.

فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (1).

و هكذا كانت حياة نوح عليه السلام، حياة شاقة مريرة، و محنته مع قومه محنة شريدة أليمة، فقد قام بينهم قرونا و دهورا، بذل فيها أقصى جهده لكي يؤمن قومه باللّه تعالى، و أن يذروا عبادة الأصنام، و طال الزمن و هو يدعو قومه في السر و العلانية، و يضرب لهم الأمثال، و يوجه نظرهم إلى صنع اللّه بخلقهم أطوارا مختلفة، و عنايته بهم في حياتهم الجنينية، و حياتهم في الدنيا، و خلقه السماوات و الأرض، و أن من بدأهم قادر على إعادتهم، ذلك أن من خلق لهم الأرض و متعهم بما خلق فيها، قادر على إعاداتهم و مجازاتهم (2).

و رغم ذلك كله، فإن نوحا عليه السلام، لم ير من قومه إلا آذانا صماء، و قلوبا غلفا، و عقولا متحجرة، لقد كانت نفوسهم أيبس من الصخر، و أفئدتهم أقسى من الحديد، لم ينفعهم نصح أو تذكير، و لم يزجرهم وعيد أو تحذير، و كلما ازداد لهم نصحا، ازدادوا في طريق الضلال سائرين، لا يلتفتون إلى دعوة نوح، و لا يبالون بتحذيره و إنذاره و قد أقام بينهم تسعمائة و خمسين عاما داعيا و مذكرا و ناصحا، و سلك جميع الطرق الحكيمة لإنقاذهم، و إبعادهم عن عبادة الأصنام و الأوثان، فلم يفلح معهم أبدا، و كانت دعوته لهم ليلا و نهارا، و سرا و جهارا، و مع ذلك لم تلن قلوبهم، بل قابلوا الإحسان بالشدة، و مالوا عليه بالضرب و الأذى، و هو لا يفتأ يقول:

اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

روى المفسرون أن نوحا عليه السلام كان يأتي قومه فيدعوهم إلى

ص: 21


1- سورة هود: آية 38، و انظر: تفسير المنار 12/ 61- 62، تفسير القرطبي ص 3258- 3259، تفسير الطبري 15/ 310- 317، تفسير ابن كثير 2/ 688- 669، تفسير النسفي 2/ 187.
2- محمود الشرقاوي: الأنبياء في القرآن الكريم- القاهرة 1970 ص 133- 134.

اللّه، فيجتمعون عليه و يضربونه الضرب المبرح، و يخنقونه حتى يغشى عليه ثم يلفونه في حصير و يرمون به في الطريق، و يقولون إنه سيموت بعد هذا اليوم، فيعيد اللّه سبحانه و تعالى إليه قوته فيرجع إليهم و يدعوهم إلى اللّه، فيفعلون به مثل ذلك (1).

و قال مجاهد و عبيد بن عمير: كانوا يضربونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».

و قال ابن عباس، رضي اللّه عنه، إن نوحا كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه مات، ثم يخرج فيدعوهم، حتى إذا يئس من إيمان قومه، جاءه رجل و معه ابنه و هو يتوكأ على عصا، فقال: يا بني انظر هذا الشيخ لا يغرنك، قال: يا أبت أمكني من العصا، فأخذ العصا، ثم قال:

ضعني في الأرض فوضعه، فمشى إليه بالعصا فضربه فشجه شجة موضحة في رأسه، و سالت الدماء، فقال نوح: «رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك خير فاهدهم، و إن يك غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم و أنت خير الحاكمين» (2).

و هكذا بقي النبي الكريم يؤذى و يعذب، و هو مع ذلك صابر، لا يدعو على قومه بالعذاب، و إنما كان يؤمل فيهم أو في أبنائهم الخير و الصلاح، و يقول: لعل اللّه يخرج من أصلابهم من يستجيب لدعوتي و يؤمن باللّه، و لكن مع هذه المدة الطويلة لم يؤمن معه إلا القليل منهم، و كان كلما انقرض جيل جاء من بعده جيل أخبث و ألعن، فلقد كان القوم يوصون أولادهم بعدم الإيمان به، و كان الوالد يقول لولده إذا بلغ و عقل: يا بني احذر هذا لا يغرنك عن دينك و ألهتك (3).

ص: 22


1- محمد علي الصابوني: النبوة و الأنبياء- بيروت 1970 ص 150.
2- تفسير القرطبي ص 3271.
3- محمد علي الصابوني: المرجع السابق ص 150- 151.

و أوحى اللّه تعالى إلى نبيه نوح إنه لن يؤمن من هؤلاء القوم الكافرين أحد بعد ذلك، بل إنه لم يبق في أصلاب الرجال، و لا في أرحام النساء مؤمن (1)، قال تعالى: وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (2)، قال الضحاك: فدعا عليهم لما أخبر بذلك فقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً»، و قيل إن رجلا من قوم نوح حمل ابنه على كتفه، فلما رأى الصبي نوحا قال لأبيه: أعطني حجرا، و رمى به نوحا عليه السلام فأدماه، فأوحى اللّه تعالى إليه: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ، فدعا عليهم، فكان الطوفان الذي أغرقهم جميعا (3).

[4] قضية ابن نوح:-

اختلف المفسرون في ابن نوح الذي غرق في الطوفان من دون أهله، و قد أشار القرآن الكريم إلى قصته في قوله تعالى:

وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ، قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ، وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ، قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (4).

ص: 23


1- تفسير القرطبي ص 3271.
2- سورة هود: آية 36.
3- سورة نوح: آية 26- 27، تفسير القرطبي ص 3257، 3271، و انظر: تفسير الطبري 15/ 306- 307.
4- سورة هود: آية 42- 47، و انظر: تفسير ابن كثير 2/ 690- 694، تفسير القرطبي ص 3264 3276، تفسير الطبري 15/ 331- 352، تفسير النسفي 2/ 188- 192، تفسير المنار 12/ 65- 84، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 3/ 200- 201، صفوة التفاسير 2/ 16- 19، التسهيل 2/ 106- 107.

و قد انقسم المفسرون في ابن نوح هذا إلى فرق، ففريق يرى أنه ولد على فراشه و لم يكن ابنه، قال قتادة: سألت الحسن (أي الحسن البصري) عنه فقال:

و اللّه ما كان ابنه، قلت إن اللّه أخبر عن نوح إنه قال: «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي»، فقال: لم يقل مني، و هذه إشارة إلى أنه كان ابن امرأته من زوج آخر، فقلت له: إن اللّه حكى عنه إنه قال: «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» و «وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ»، و لا يختلف أهل الكتاب إنه ابنه، فقال الحسن: و من يأخذ دينه عن أهل الكتاب، إنهم يكذبون، و قرأ «فخانتاهما»، و قال ابن جريج: ناداه و هو يحسب أنه ابنه، و كان ولد على فراشه، و كانت امرأته خانته فيه، و لهذا قال:

«فخانتاهما» (1).

هذا و قد استهجن كثير من علماء السلف و الخلف هذا الإتجاه، فقال ابن عباس- حبر الأمة و ترجمان القرآن- «ما بغت امرأة نبي قط»، و قال الإمام الرازي في التفسير الكبير: و القائلون بهذا القول (أي أنه ولد على فراشه لغير رشده) فقد احتجوا بقوله تعالى في امرأة نوح و امرأة لوط «فخانتاهما» فليس فيه أن تلك الخيانة إنما حصلت بالسبب الذي ذكروه، قيل لابن عباس، رضي اللّه عنه، ما كانت تلك الخيانة؟ فقال: كانت امرأة نوح تقول: زوجي مجنون، و امرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا، و في تفسير الطبري:

عن سليمان بن قتة قال: سمعت ابن عباس يسأل، و هو إلى جنب الكعبة، عن قوله تعالى: فَخانَتاهُما، قال: أما إنه لم يكن بالزنا، و لكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون، و كانت هذه تدل على الأضياف، ثم قرأ «إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ»، ثم الدليل القاطع على فساد هذا المذهب، قوله تعالى:

ص: 24


1- تفسير القرطبي ص 3274.

الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ، وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ، وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ، و قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (1).

و قال الألوسي في روح المعاني: و ما يقال من أنه كان لغير رشده لقوله سبحانه و تعالى: فَخانَتاهُما، فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها، فإن اللّه قد طهر الأنبياء عليهم السلام عما هو دون ذلك من النقص بمراحل، فحاشاهم ثم حاشاهم أن يشار إليهم بإصبع الطعن، و إنما المراد بالخيانة في الدين، و نسبة هذا القول إلى الحسن و مجاهد كذب صريح.

و قال أبو السعود في بحره المحيط: و ما يقال إنه كان لغير رشده لقوله «فخانتاهما»، فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها فإن جناب الأنبياء، صلوات اللّه و سلامه عليهم، أرفع من أن يشار إليهم بإصبع الطعن، و إنما المراد بالخيانة الخيانة في الدين، و قال البيضاوي: و كان لغير رشده لقوله تعالى:

فَخانَتاهُما، و هو خطأ، إذ أن الأنبياء عصمت من ذلك، و المراد بالخيانة الخيانة في الدين.

و أما ما استند إليه البعض في عدم استبعاد أن تكون امرأة النبي زانية من القياس على الكفر، الذي هو أشد ذنبا من الزنا، و امرأة نوح كانت كافرة، و قد ضربها اللّه مثلا في الكفر، و من أتى الذنب الأكبر يهون عليه الإتيان بالأصغر، فواضح البطلان، لأن كفر المرأة، و إن كان من أكبر الكبائر لا يعود ضرره إلا عليها، و لا يلحق الزوج منه عار و لا فضيحة بين الناس، و لذلك أباح اللّه للمسلم أن يتزوج من الكتابيات، بخلاف زناها، فإنه، و إن كان أصغر من الكفر، لا يقصر ضرره عليها وحدها، بل يلحق الزوج أيضا

ص: 25


1- سورة النور: آية 3، 26، تفسير الطبري 15/ 343، تفسير القرطبي ص 3274، عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء- القاهرة 1966 ص 41.

بسببه عار و فضيحة بين الناس في مطرد العادة، بحيث يكون بحالة لا يستطيع معها مجالسة الناس، و من ثم، فقد نص، كما يقول ابن كثير، غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه، و إنما كان ابن زانية (1).

و هناك وجه آخر للنظر يذهب إلى أنه كان ابن امرأته، قاله الحسن و مجاهد و عبيد بن عمير و أبي جعفر الباقر و ابن جريج (2)، و في تفسير القرطبي، قرأ عروة بن الزبير: «و نادى نوح ابنها» يريد ابن امرأته، يقول القرطبي: إلا أنها قراءة شاذة، فلا نترك المتفق عليه لها، و اللّه أعلم (3).

على أن هناك وجها ثالثا للنظر، يذهب إلى أنه ابنه من صلبه، و هذا ما نؤمن به الإيمان كل الإيمان، و إنه كان ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره و مخالفته أباه نبيّ اللّه نوحا عليه السلام، قال ابن عباس: «ما بغت امرأة بني قط، و أنه كان ابنه لصلبه، و كذلك قال الضحاك و عكرمة و سعيد بن جبير و ميمون بن مهران و غيرهم، و إنه كان ابنه لصلبه، و قيل لسعيد بن جبير يقول نوح: «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» أ كان من أهله؟ أ كان ابنه؟ فسبح اللّه طويلا ثم قال: لا إله إلا اللّه، يحدث اللّه محمدا صلى اللّه عليه و سلّم، إنه ابنه، و تقول إنه ليس ابنه، نعم كان ابنه، و لكن كان مخالفا في النية و العمل و الدين، و لهذا قال اللّه تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ (4).

و يقول القرطبي: و هو الصحيح في الباب إن شاء اللّه تعالى لجلالة من قال به، و إن قوله «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» ليس مما ينفي عنه أنه ابنه، و قوله «فخانتاهما»، يعني في الدين، لا في الفراش، و ذلك أن هذه كانت تخبر

ص: 26


1- انظر: عبد الوهاب النجار: المرجع السابق ص 41- 45.
2- تفسير ابن كثير 2/ 693.
3- تفسير القرطبي ص 3275.
4- تفسير القرطبي ص 3274.

الناس أنه مجنون، و ذلك أنها قالت له: أما ينصرك ربك؟ فقال لها نعم، قالت فمتى، قال: إذا فار التنور، فخرجت تقول لقومها: يا قوم و اللّه إنه مجنون، يزعم أنه لا ينصره اللّه إلا أن يفور هذا التنور، فهذه خيانتها، و خيانة الأخرى إنها كانت تدل على الأضياف (1).

و روى الطبري في تفسيره عن فضالة بن الفضل الكومي قال قال بزيغ: سأل رجل الضحاك عن ابن نوح، فقال: أ لا تعجبون إلى هذا الأحمق، يسألني عن ابن نوح، و هو ابن نوح، كما قال اللّه تعالى: (قال نوح لابنه)، و عن جويبر عن الضحاك قال: هو و اللّه ابنه لصلبه، و روى الطبري أيضا عن الضحاك إنه قرأ «وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ»، و قوله «لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ»، قال يقول: ليس هو من أهلك، قال يقول: ليس هو من أهل ولايتك، و لا ممن وعدتك أن أنجي من أهلك «إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ»، قال يقول: «كان عمله في شرك» (2).

و روى النسفي في تفسيره، قال الشيخ أبو منصور رحمه اللّه، كان عند نوح عليه السلام أن ابنه كان على دينه لأنه كان ينافق، و إلا لا يحتمل أن يقول ابني من أهلي، و يسأله نجاته، و قد سبق منه النهي عن سؤال مثله بقوله: وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ، فكان يسأله على الظاهر الذي عنده، كما كان أهل النفاق يظهرون الموافقة لنبينا عليه الصلاة و السلام، و يضمرون الخلاف له، و لم يعلم بذلك حتى أطلعه اللّه عليه، و قوله: لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي من الذين و عدت النجاة لهم، و هم المؤمنون حقيقة في السر و الظاهر (3).

ص: 27


1- تفسير القرطبي ص 3275.
2- تفسير الطبري 5/ 345.
3- تفسير النسفي 2/ 191- 192.

و أولى الأقوال بالصواب، عند الإمام الطبري، قول من قال: تأويل ذلك، إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، لأنه كان لدينك مخالفا، و بي كافرا، و كان ابنه، لأن اللّه تعالى ذكره، قد أخبر نبيه محمدا صلى اللّه عليه و سلّم، أنه ابنه، فقال: «وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ»، و غير جائز أن يخبر أنه ابنه، فيكون بخلاف ما أخبر، و ليس في قوله «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» دلالة على إنه ليس بابنه، إذ كان قوله «لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» محتملا من المعين ما ذكرنا، و محتملا «إنه ليس من أهل دينك»، ثم يحذف الدين، فيقال: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ»، كما قيل «وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها» (1).

ص: 28


1- تفسير الطبري 15/ 346 (دار المعارف- القاهرة 1960.

الفصل الثّاني قصّة الطّوفان بين الآثار و التّوراة

اشارة

من المعروف منذ زمن طويل أن قصص الطوفان الكبير الذي هلك فيه كل الناس على وجه التقريب، تنتشر انتشارا واسعا في جميع أنحاء العالم، فهناك قصص عن الطوفان، في بعض مجتمعات الشرق الأدنى القديم، و في الهند و بورما و الصين و الملايو و استراليا و جزر المحيط الهادي، و في مجتمعات الهنود الحمر (1).

و قد قدم لنا «السير جيمس فريزر rezarF semaJ ris» دراسة عن قصص «الطوفان الكبير» في أساطير الأمم المختلفة، نستنتج منها أنها كانت منتشرة في قارة آسيا و في استراليا و في أمريكا الشمالية و الوسطى و الجنوبية- فيما قبل العهد الأوربي- و لكنها قليلة نسبيا في قارة أوربا، و أقل منها في إفريقيا (2).

و لعل من الأهمية بمكان أن نشير إلى أنه رغم كثرة قصص الطوفان و انتشارها، فإنها تختلف فيما بينها اختلافات كثيرة، كما أن قسما منها أساطير وضعت وضعا لتفسير بعض العوارض الأرضية كالمنخفضات الواسعة في البلاد التي وضعت فيها تلك الأساطير (3) أضف إلى ذلك أنه ليست هناك رواية واحدة أصيلة عن الطوفان الكبير دونت في إفريقيا، فمثلا لم يكتشف أثر لهذه الحكاية في الأدب المصري القديم- و هو دون شك أهم الآداب الأفريقية و أكثرها أصالة دون منازع- أما عن رواية الطوفان التي تنسب

ص: 29


1- 11. P,, 1962, noodnol, dooiF ehT. E. redrelloS
2- جيمس فريزر، الفلكلور في العهد القديم، ترجمة نبيلة إبراهيم، مراجعة حسن ظاظا، ص 91- 219
3- طه باقر: مقدمة في تاريخ الحضارة القديمة- الجزء الأول- العراق، ص 460.

إلى «غينيا الشمالية» فهي أسطورة أكثر منها قصة، اختلطت فيها الخرافات بالمعجزات حتى بات من الصعب علينا مقارنتها بغيرها من قصص الطوفان، هذا إلى أنها نقلت إلينا عن طريق المبشرين الأوربيين، حتى أصبحنا لا نستطيع الحكم عليها و إرجاعها إلى أصل غيني أو أوربي، أضف إلى ذلك أن هناك رواية أخرى تذهب إلى أن الرجال قد تحولوا بعد الطوفان إلى قرود، كما تحولت النساء إلى سحالي، و أن ذيل القرد هو بندقية الرجل، مما يدل بوضوح على مدى التأثير الأوربي الحديث في هذه الأسطورة الأفريقية عن الطوفان، كما أن الروايات التي اكتشفها الكتاب الألمان عن الطوفان الكبير بين سكان إفريقيا الشرقية ليست سوى روايات مختلفة لقصة الطوفان في الكتاب المقدس (التوراة و الإنجيل) و التي تسربت إلى هؤلاء البدائيين عن طريق المسيحيين (1).

و بديهي أننا لن نناقش هنا كل القصص و الأساطير التي دارت حول الطوفان الكبير الذي أغرق العالم، و لكننا سوف نقتصر على دراسة قصة الطوفان في منطقة الشرق الأدنى القديم، سواء تلك القصص التي روتها المصادر التاريخية، أو تلك التي تحدثت عنها الكتب المقدسة- التوراة و الإنجيل و القرآن العظيم- و كلها- دون استثناء- أنزلت على أرض هذا الشرق القديم، كما أنه ليس واحدا من أصحابها- صلوات اللّه و سلامه عليهم- إلا و كان من هذا الشرق الخالد.

و لعل الذي دفعني إلى دراسة هذا الموضوع إحساس عميق بأن تنال الموضوعات التاريخية المتصلة بالكتب المقدسة قسطا وافرا من المؤرخين المسلمين، بعد أن ظل الميدان في العصر الحديث يكاد يكون مقصورا على الغربيين من يهود و نصارى، و ساعدني على هذه المحاولة تخصصي في التاريخ القديم، فضلا عن دراسات إسلامية قضيت فيها الشطر المبكر من حياتي العلمية، و إن كنت لا أزعم لنفسي فيها- بحال من الأحوال- مكانة تعدو مكانة عامة المسلمين الذين تعلموا من أمور دينهم القدر الذي يتعرفون به عليه، و إن كان مما لا ريب فيه أنه لا يصل بهم إلى مكانة الخاصة من المتخصصين في دراسات القرآن الكريم و الحديث الشريف و علومهما، ثم كان لوجودي بين أعضاء

ص: 30


1- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 201- 202.

هيئة التدريس بقسم التاريخ في كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية سبب آخر للقيام بهذه الدراسة.

أولا: قصة الطوفان السومرية:

كان الناس يعتقدون حتى أواخر القرن الماضي أن التوراة هي أقدم مصدر لقصة الطوفان، و لكن الاكتشافات الحديثة أثبتت أن ذلك مجرد و هم، حيث عثر في عام 1853 م على نسخة من رواية الطوفان البابلية، و في الفترة ما بين عامي 1889، 1900 م، اكتشفت أول بعثة أمريكية قامت بالحفر في العراق اللوح الطيني الذي يحتوي على القصة السومرية للطوفان في مدينة «نيبور» (نفر)، و كان «أرنو بوبل» أول من قام بنشره في عام 1914 م، ثم تبعه آخرون (1)، و إن كانت ترجمة «بوبل» هي الأساس الذي ما يزال يعتمد عليه الباحثون.

و يبدو من طابع الكتابة التي كتبت بها القصة السومرية أنها ترجع إلى ما يقرب من عهد الملك البابلي الشهير «حمورابي» (1728- 1686 ق. م)، على أنه من المؤكد أن القصة نفسها، إنما ترجع إلى عصر أقدم من ذلك بكثير، ذلك لأنه في هذا الوقت الذي كتب فيه اللوح لم يكن هناك وجود للسومريين، بوصفهم عنصرا مستقلا، إذ كانوا قد ذابوا في الشعب السامي، كما أن لغتهم الأصلية كانت قد أصبحت من قبل لغة ميتة، و ذلك على الرغم من أن الكهنة و الكتاب الساميين كانوا لا يزالون يدرسون الأدب القديم و النصوص المقدسة المحفوظة في ثنايا تلك الآداب، و يعيدون كتابتها، و من ثم فإن اكتشاف رواية قصة الطوفان السومرية يدعو إلى افتراض أنها إنما ترجع إلى زمن سابق على احتلال الساميين لوادي الفرات، و أن هؤلاء الساميين قد أخذوا هذه

ص: 31


1- «أ». 70- 9. P. I. tP, VI, ni, lebeoP onrA «ب» .1914 noitidarT worbeH ot noitaleR ni tpygE dna nolybaB fo sdnegeL ,gniK .W .L «ح». 98- 97. p. 1944. aihpledalihP, ygolohtyM nairemuS, remarK. N. S و كذلك. 44/ 42. P, TENA

لقصة- فيما يبدو- بعد هجرتهم إلى وادي الفرات عن السومريين (1) الذين سكنوا المنطقة قبلهم (2).

و أما سبب الفيضان، فلا يعسر علينا إدراكه، و لا سيما في بلد تكثر فيه الفيضانات الفجائية كالقسم الجنوبي من العراق، و لكن طوفانا كبيرا كالذي تحدثت عنه المصادر لسومرية و البابلية هو دون شك حدث عظيم وقع قبيل تغلب الإنسان على الأنهار، بما أنشأه من السدود و أعمال الإرواء، و أن هطول الأمطار كان مصحوبا بعواصف مدمرة (3).

و تتضمن قصة الطوفان السومرية عدة وقائع هامة، يتعلق أول ما يمكن قراءته من سطورها بخلق الإنسان و النبات و الحيوان، و بأصل الملكية السماوي، فضلا عن خمس مدن ترجع إلى ما قبل فترة الطوفان، و من أسف أن من بين اللوحات التي تتناول القصة لم تبق سوى لوحة واحدة، و حتى هذه فإن ما بقي منها لا يعدو ثلثها الأخير فحسب، و قد فقدت المقدمة و النهاية الخاصة بذلك النص، و من ثم فإنه غامض في أكثر نواحيه، هذا و يقدر عدد الأسطر التي يتكون منها النص في جملته بحوالي ثلاثمائة سطر، لم يعثر إلا على حوالي المائة منها، و رغم ذلك فانها تقدم لنا الخطوط الرئيسية للنص.

ص: 32


1- السومريون: يتفق المؤرخون على أن السومريين جنس غير سامي، و أن لغتهم غريبة لا تشبه اللغات السامية، و لا يعلم زمن مجيئهم إلى وادي الرافدين، و إن رأى البعض أن ذلك ربما كان في فترة مبكرة من الألف الرابعة ق. م.، (64- 156. p، 1948، 52، AJA) و قد اختلفت الآراء في موطنهم الأصلي، فقد ذكرت أساطيرهم أنهم جاءوا من الجنوب، و من ثم ذهب رأي إلى أنهم مهاجرون من منطقة ما تقع فيما بين شمال الهند و بين أفغانستان و بلوجستان عن طريق الخليج العربي و جزيرة البحرين بعد أن استقروا في غربي إيران فترة ما (عبد العزيز صالح: الشرق الأدنى القديم ج 1 ص 838)،) deveiver melborP nairemuS ehT, resiepS. A. E (و ذهب رأي ثان إلى اعتبارهم بدوا مما وراء القوقاز أو مما وراء بحر قزوين، و يرى «روتزني» أنهم جاءوا من آسيا الصغرى، بينما رأى آخرون أنهم جاءوا من السند (أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم ص 28) بل لقد ذهب طه باقر (المرجع السابق ص 89- 90) إلى أنهم من الأقوام التي قطنت العراق في عصور ما قبل التاريخ، و أن حضارتهم أصيلة في العراق، بل و يمكن تسمية أهل حضارة «العبيد» بالسومريين، على الرغم من أننا لا نعرف اللغة التي تكلم بها أهل حضارة العبيد.
2- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 103.
3- مجلة سومر- المجلد السابع 1951 م- العدد الأول.

و على أى حال، فبعد 37 سطرا، نلتقي بمعبود يشير إلى أنه سوف ينقذ البشر من الهلاك و أن الإنسان سوف يبني المدن و المعابد، و يلي ذلك ثلاثة سطور غامضة، ربما كانت تتضمن ما سوف يبذله المعبود في هذا السبيل، ثم الحديث عن خلق الإنسان و الحيوان و ربما النبات ... ثم 37 سطرا ضائعة، نعرف بعدها أن الملكية هبطت من السماء، و أن خمس مدائن أسست ... ثم 37 سطرا ضائعة ... ربما تشير إلى إصرار الآلهة على الإتيان بالفيضان و تدمير البشر، و حين يصبح النص مقروءا نجد بعض الآلهة غير راضين، و تجتاحهم التعاسة بسبب القرار القاسي .... ثم نلتقي ببطل القصة «زيوسودرا ardusuiZ» الذي يوصف بالتقوى، و بأنه ملك يخاف الإله، و يكب على خدمته في تواضع و خشوع، و يطيل النظر إلى المكان المقدس، و هو يقيم بجوار حائط يستمع منه إلى صوت معبوده أنكى الذي أخبره بالقرار الذي اتخذه مجمع الآلهة بإرسال الطوفان «لإهلاك بذرة الجنس البشري».

و لعل من المؤكد أن ما يلي ذلك تعليمات مسهبة إلى «زيوسودرا» ببناء سفينة هائلة لينقذ نفسه من الهلاك، غير أن هذا كله ناقص لوجود كسر كبير في اللوحة، ربما كان يشغل 40 سطرا، و من ثم فنحن ننتقل فجأة من موضوع تحذير الإله للإنسان إلى موضوع الطوفان، فيصف اللوح العاصفة و الأمطار و قد ثارت جميعا، ثم تستمر الرواية فتقول «و بعد أن هبت العاصفة الممطرة على الأرض سبعة أيام و سبع ليال يكتسح الفيضان فيها الأرض، و يدفع الفلك قدما على المياه المضطربة، ثم يظهر بعد ذلك إله الشمس «أوتو» و هو يكسب الضوء على السماء و الأرض، و عند ما تخترق أشعة الشمس السفينة، و يرى «زيوسودرا» نور ربه، و يعلم بصفحة، يخرج من الفلك و يسجد للرب مضحيا له بفحل و شاة».

و يلي ذلك كسر يشغل 39 سطرا، ثم تصف الأسطر الباقية كيف نفث الإله روح الخلود في «زيوسودرا»، مستقرا بأرض دلمون، حيث تشرق الشمس، أي حيث القوة القاهرة للموت (1)، دلمون التي هي مركز الخلق في الأساطير السومرية، جنة الخلد، .E

ص: 33


1- .247 .p ,1960 ,siraP ,neicnA tneieO -ehcorP el snsd setiR te sehtyM ,semaJ .O .E

«أرض دلمون مكان طاهر، أرض دلمون مكان مقدس (1)»، ثم يوصف «زيوسودرا» بعد ذلك بأنه «الشخص الذي حافظ على سلامة الجنس البشري» (2).

و يحتمل من سياق لوح صغير أن «زيوسودرا» كان قد تلقى الحكمة عن أبيه «شورباك» بن «و بار- توتو» أحد ملوك ما قبل الطوفان، و قد كرر في وصاياه لولده أن يتقبل نصائحه و أن يعمل بها، و ألا يحيد عنها (3) و هاك ترجمة للنص السومري لقصة الطوفان- كما هو موجود الآن (4).

37 سطرا على وجه التقريب مهشمة في بداية النص، ثم يلي ذلك:

إن البشر عبادي، و عن الهلاك المحيق بهم سأعمل ... إلى نينتو ... سأعيد مخلوقاتي.

سأعيد القوم إلى مواطنهم، أما المدن، فحقا سوف يبنون فيها لأنفسهم أماكن للشرائع الإلهية، و سأجعل ظلالها في سلام، و أما عن بيوتنا (ربما يعني أماكن الشرائع الإلهية) فحقا سوف يضعون آجرها في أماكن طاهرة، و هو (أي الإله) قد وجه ... الخاص بالحرم، و أكمل الشعائر، و الشرائع الإلهية المبجلة، و على الأرض ... قد وضع ...

هناك، و بعد أن خلق آتو وانليل وانكى و نينهو رساج البشر «ذوي الرءوس السود (5)»،

ص: 34


1- 59- 58. p, 1965, sirap, eimatoposeM aL, dranyA. M. J te loryaguoM. J
2- «أ» صمويل نوح كريمر: أساطير العالم القديم، ترجمة د. أحمد عبد الحميد يوسف، مراجعة د. عبد المنعم أبو بكر، ص 97، «ب» جيمس فريزر: المرجع السابق ص 103- 105، «ج» نجيب ميخائيل: مصر و الشرق الأدنى القديم ج 6 ص 264- 265، «د» رشيد الناضوري: جنوب غربي آسيا و شمال إفريقيا- الكتاب الأول ص 222- 224، و كذلك. 44- 42. P, 1966, TENA ni, eguleD ehT, remarK haoN leumaS
3- . F 92. P, 1960, drofxO, erutaretiL modsiW nainolybaB, trebmaL. G. W و كذا عبد العزيز صالح: المرجع السابق ص 439.
4- «أ» محمد عبد القادر محمد: قصة الطوفان في أدب بلاد الرافدين ص 110- 114. «ب». 31- 30. P, 1969, tsap tneicnA eht morf thgiL, nageniF kcaJ «ج». F 97. P, ygolohtyM nairemuS dna, 44- 42. P, TENA ni, remarK. N. S «د». 8- 206. P, 1931, ygolohtyM citimeS, nodgnaL. S و كذلك كريمر: من ألواح سومر ص 252- 259.
5- أصحاب الرءوس السوداء: أرضهم سومر، و هم ليسوا ساميين و لا آريين، و لغتهم ليست سامية أو هندو أوروبية (انظر، p .532 ,n .2( ,tneirO tneicnA eht fo erutcetihcrA dna trA eht ,trofknarF .H و ربما كانت كتابة الوركاء التصويرية سومرية، و من ثم فإن هؤلاء القوم ربما كانوا في ميزوبوتاميا على الأقل منذ الفترة الأخيرة من عصر الوركاء، و ربما منذ فترة مبكرة من الألف الرابعة ق. م (انظر،) 29. p, tic- po, nageniF. J على أن هذا التعبير، و إن كان يعني السومريين، فربما يعني كذلك سكان سومر و اكد معا، و ربما يشير في هذا النص إلى البشر عامة.

و ازدهر الزرع في الأرض، و أخرجت الحيوانات و مخلوقات السهول ذوات الأربع إلى الوجود بحكمة ... ثم نجابه بحوالي 37 سطرا مهشمة ... و بعد أن أنزلت الملكية من السماء، و بعد أن أنزل «تيارا» المعظم، عرش الملك من السماء ... أكمل الشعائر و الشرائع الإلهية المبجلة، و أسس المدن الخمس في ... مواضع طاهرة، و سماها بأسمائها و جعلها مراكز للعبادة، و كانت أولى هذه المدن «أريدو» فأعطاها إلى «نوديمو» القائد، و الثانية «بادتيبيرا» و أعطاها إلى ...، و كانت الثالثة «لاراك» و أعطاها إلى أندو بيلهور ساج، و أعطى الرابعة «سيبار» للبطل «أوتو»، و أما الخامسة ف «شورباك» و قد أعطاها ل «سود»، و حين سمى هذه المدن و جعلها مراكز للعبادة، فإنه أحضر ...

ثم قرر تطهير الأنهار الصغيرة ... ثم حوالي 37 سطرا مهشمة ...

الطوفان ... هكذا حلّ ب ... ثم بكت نينتو مثل ... و ناحت «أنانا» الطاهرة من أجل أناسها، ثم قام زيوسودرا، الملك، الباشيشو (لقب كهنوتي) و بنى ... ضخما، مطيعا متواضعا في احترام ... حاضرا كل يوم دائما ... محضرا كل أنواع الاحترام ...

ناطقا اسمي السماء و الأرض ... الآلهة حائط ... و كان زيوسودرا واقفا إلى جانبه، و قد سمع ... قف عند الحائط إلى جانبي الأيسر، و عند الحائط سوف ألقي إليك كلمته ... أصغ إلى تعليماتي، بقضائنا ... طوفانا سوف يكتسح مراكز العبادة، و يقضي على بذرة البشر، ذلك قرار، إنها كلمة مجلس الآلهة، بناء على الكلمة التي أمر بها «أنو» و «إنليل» ... و سوف ينتهي ملكها و حكمها ... (حوالي 40 سطرا مهشمة).

وهبت جميع الزوابع بعنف و ضراوة كقوة واحدة، و بعد ذلك و لمدة سبعة أيام و سبع ليال، اكتسح الطوفان الأرض (1) فيها، و تقاذفت الأعاصير السفينة الضخمة فوق المياه (

ص: 35


1- المقصود أرض سومر، و ليس الكرة الأرضية.) 43. P, TENA (

الضخمة، و ظهر «أوتو» الذي يضي ء السماء و الأرض، و فتح زيوسودرا كوة (نافذة) في الفلك العظيم، و أنفذ البطل «أوتو» أشعته في الفلك العظيم، و سجد زيوسودرا الملك أمام أوتو العظيم، و في نفس الوقت اكتسح الطوفان مراكز العبادة، و ضحى الملك بفحل و شاة ... (حوالي 39 سطرا مهشمة) تنطق أنت «نسمة السماء» و «نسمة الأرض» حقا، و تبسط نفسها عنه ... و نادى آنو و أنليل نسمة السماء و نسمة الأرض ب ... فبسطت نفسها ... و ازدهر الزرع الذي ينبت من الأرض، و سجد زيوسودرا أمام أنو و إنليل، و رضي أنو و إنليل عن زيوسودرا، الملك، الذي حافظ على اسم الزرع و بذرة البشر، و في أرض دلمون، أرض العبور، حيث تشرق الشمس أسكناه هناك، ... أما بقية اللوح (39 سطرا) فهي مكسورة، و لهذا لا نعرف ما ذا حدث لزيوسودرا بعد ذلك.

و لكن أين أرض دلمون هذه؟

إن العلماء مختلفون في موقع دلمون السومرية هذه، فذهب بعضهم إلى أنها في الجهة الجنوبية الغربية من بلاد فارس (الجزء الشرقي من ساحل الخليج العربي) (1)، و منهم من رأى أنها منطقة وادي السند (2)، و منهم من رأى أنها سهول العراق الكائنة إلى جنوب غرب بابل (3)، و هناك من رأى أنها إنما تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب بين مجان و بيت نبسانو (4)، إلا أن غالبية العلماء يكادون يتفقون على أن موقع دلمون، إنما هو جزيرة البحرين الحالية، أو جزيرة البحرين و الساحل المقابل لها (5).

و سؤال البداهة الآن: هل هناك من الأدلة الأثرية في العراق ما يثبت قصة الطوفان السومرية هذه؟. J

ص: 36


1- ..28 -18 .P ,1944 ,96 ,RoSAB ,gniviL eht fo dnal eht ,numliD ,remarK .N .S
2- ..45 .P ,1946 ,aihpledalihP ,noitidepxE dnaL esidaraP nairemuS eht ,numliD dna noitaziliviC sudnI eht ,remarK .N .S
3- جون ألدر: الأحجار تتكلم- ترجمة عزت زكي- ص 30.
4- .. 250. S, I, ssirdnurG, lemmoH. F
5- ., numliD fo noitacoL eht nO, llewnroC. B. P و كذلك. 11- 3. P, 1946, 103, ROSAB 32. P,. tic- po, nageniF. J

لقد عثر «سير ليونارد و ولي (1)» في حفائره في «أور» عام 1929 م على طبقة من الغرين السميك الذي يقدر بحوالي ثمانية أقدام و الذي اعتبره دليلا ماديا على الطوفان السومري نظرا لكثافة تلك الطبقة الغرينية و توافقها الزمني إلى حد كبير مع النصوص السومرية، هذا مع ملاحظة أن تلك الطبقة الغرينية تقع فوق و تحت آثار تنتمي إلى عصر حضارة العبيد، و التي تمثل عصر ما قبل الأسرات الأول في جنوب العراق، ثم اتجه «و ولي» بعد ذلك إلى الحفر في موقع بعيد عن «أور» بحوالي ثلاثمائة ياردة من ناحية الشمال الغربي للبحث عن مدى امتداد تلك الطبقة الغرينية، و كانت نتيجة الحفر إيجابية، مما أدى إلى القول بوجهة نظره المشهورة في ارتباط تلك الطبقة الغرينية السميكة بالطوفان الذي ذكرته الكتب المقدسة (2).

و لكن أستاذنا الدكتور رشيد الناضوري يرى أنه لا ينبغي الجزم بصورة حاسمة في هذا الشأن، ذلك لأن جنوب العراق القديم قد واجه الكثير من الفيضانات و الطوفان، فهناك أدلة غرينية على فيضان أو طوفان كبير في شورباك يرجع إلى نهاية عصر «جمدة نصر»، و آخر في «كيش» يرجع إلى فترة لاحقة للفيضان السابق، و هكذا بات من الصعب علينا المقارنة بين تلك الفيضانات، و أيها هو الذي يتفق مع قائمة الملوك السومرية، و لعل فيضان «شورباك» أكثر قربا منها على أساس أن تلك القائمة قد أشارت إلى المدينة الأخيرة، كآخر مدينة قبل حادث الطوفان، و لكن في نفس الوقت علينا ألا نستبعد كلية طوفان «أور» ذي الطبقة السميكة للغاية، أضف إلى ذلك أن عدم العثور على الطبقة الغرينية الموازية في كافة المدن السومرية يدفع إلى الاتجاه باحتمال كون الطبقة الغرينية التي عثر عليها «و ولي» في أور، إنما هي مجرد ترسيب محلي، ليس له الصفة الشاملة (3). .H

ص: 37


1- .36 -26 .P ,ru ta snoitavacxE ,29 -22 .P ,1950 ,nodnoL ,seedlahC eht fo ru ,yellooW .L .C
2- رشيد الناضوري: المرجع السابق ص 225.
3- نفس المرجع السابق ص 225- 226، و انظر كذلك 24. P, tic po, nageniF. J. و كذلك .35 -34 .P ,etontoof ,1962 ,nodnoL ,nolybaB saw taht ssentaerG eht ,sggaS .F .W .H

و هناك من الأدلة كذلك قائمة الملوك السومرية. و المكتوبة بالخط المسماري بعد عام 2000 ق. م (1)، أو في فترة لا تتأخر كثيرا عن منتصف عهد أسره أور الثالثة (حوالي 2112- 2015 ق. م)، و ربما قبيل عهد «أوتوحيجال» من أسرة الوركاء الخامسة، و إن كان يبدو أنها نسخت عن قوائم قديمة ربما ترجع إلى أخريات العهد الأكدي، و على أى حال، فإنها تحتوي على معلومات تاريخية ترجع إلى بداية العصر التاريخي في العراق القديم، و ربما إلى أقدم من ذلك (2).

و تبدأ الوثيقة بالقول أنه «عند ما أنزلت الملكية من السماء كانت في مدينة «أريدو»، ثم تذكر القائمة ثمانية ملوك حكموا قبل الطوفان في خمس مدن هي: أريدو، بادتيبيرا (تل المدائن قرب تللو) لارك (الوركاء: قرب كوت العمارة)، سيبار (أبو حبة) و شورباك (تل فارة)، و أن هؤلاء الملوك قد حكموا 200، 241 سنة، و أن آخر هؤلاء الملوك كان «وبار- توتو» و أنه قد حكم في مدينة شورباك لمدة 600، 18 سنة، ثم جاء من بعدهم الطوفان الذي أغرق الأرض، و بعد زوال الطوفان هبطت الملكية ثانية من السماء إلى «كيش»- و هي تل الأحيمر الآن قرب الحلة- ثم الوركاء (إرك في التوراة)، و هنا تعود القائمة مرة أخرى إلى ذكر أسماء المدن التي حكمت العراق القديم بعد ذلك (3).

و رغم الأرقام الأسطورية التي قدمتها الوثيقة كفترة حكم لملوكها، حتى بات من الصعب علينا أن نعرف منها متى انتهى العصر الأسطوري و متى بدأ العصر التاريخي؟، إلا أن الوثيقة- دون شك- تحمل بين طياتها كثيرا من المعلومات التاريخية الصحيحة، و مع ذلك، فما يهمنا هنا في الدرجة الأولى، أن الوثيقة تتحدث بوضوح عن طوفان يفصل بين فترتي حكم، الأولى سابقة له، و الثانية تالية له، تبدأ بنزول الملكية مرة ثانية .G

ص: 38


1- . 14. P, 1963, nodnoL, rU tA snoitavacxE, yellooW. L. S
2- . 29. P,. tic. po, nage niF. J و كذلك 14. P,. dibI
3- 30- 29. P,. tic- po, nage niF. J و كذلك, 15- 14. P,. tic. po, yellooW. L. S و كذلك 67- 265. P, TENA ni, miehneppO. L. A و كذلك 1939 ,ogacihC ,11 ,seidutS nairyssA ,tsiL gniK nairemuS eht ,nosbocaJ dlikrohT و كذلك .F 346 .P ,dakkA dna remuS fo snoitpircsnI layoR eht ,notraB .A .G

من السماء إلى كيش ثم الوركاء فأور، و لعل في هذا دليلا واضحا على أن قائمة الملوك السومرية إنما تعتبر حادث الطوفان الخطير بمثابة كسر في عملية استمرار تاريخ العراق القديم، و من ثم فهو حد فاصل بين عصور ما قبل التاريخ و العصر التاريخي.

و من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الأدلة الأثرية التي عثر عليها في طبقات مدينتي أريدو و الوركاء لتثبت حقيقة ما نصت عليه وثيقة قائمة الملوك السومرية من حيث انتقال السيادة السياسية في جنوب العراق القديم بين تلك المدن (1).

و يتجه «yellooW dranoeL riS» إلى اعتبار هذا الطوفان- موضوع الحديث- طوفانا كبيرا لا مثيل له في أي عصر لاحق من تاريخ العراق القديم، صحيح أن هناك في أور، و في مواضع أخرى من ميزوبوتاميا، أدلة على فيضانات مؤقتة و محلية حدثت في أوقات مختلفة من تاريخ العراق القديم، و في بعض الأحايين لم يكن أكثر من نتيجة أمطار هطلت في منطقة محدودة، و لكن صحيح كذلك أن الطوفان الذي وضع نهاية لحضارة «العبيد» إنما يتفق في توقيته مع التاريخ السومري الذي وصل إلينا عن طريق التقاليد، و أنه بعينه الطوفان الذي تحدثت عنه قائمة الملوك السومرية، و هو الطوفان الذي روته التوراة في سفر التكوين، على أنه يجب ألا يفهم أن القصة بحذافيرها صحيحة، صحيح أن الخلفية حقيقة تاريخية، و لكن التفاصيل قد زخرفها المؤلف السومري و العبري ببيانات و أوصاف تتفق و هدف كل منهما من كتابتها، فمثلا تقول التوراة إن الماء قد ارتفع 26 قدما، و هذا ما يبدو صحيحا إلى حد كبير، كما أن القصة السومرية تصف إنسان ما قبل الطوفان بأنه كان يعيش في أكواخ من بوص، و هذا أمر أثبتته الحفائر في العبيد و في أور، و أن نوحا قد بنى فلكه من خشب خفيف لا ينفذ منه الماء و لا يؤثر فيه، و أنه قد طلاه من داخل و من خارج، و هو أمر قد أثبتته الحفائر (2).

و هناك من الأدلة كذلك ما حدثنا عنه «سير ليونارد و ولي» من أنه قد وجد في أمور iS

ص: 39


1- رشيد الناضوري: المرجع السابق ص 247.
2- . 36- 34. P,. tic. po, yellooW dranoeL riS

أسفل طبقة المباني السومرية طبقة طينية مليئة بقدور من الفخار الملون، مختلط بها أدوات من الصوان و الزجاج البركاني، و كان سمك هذه الطبقة حوالي 16 قدما (3 أمتار تقريبا) أسفل المباني الطينية التي يمكن تأريخها بحوالي عام 2700 ق. م، و أن أور قد عاشت أسفل هذه الطبقة في عصر ما قبل الطوفان، و لم تجر حتى الآن أي حفائر على نطاق واسع في هذه المنطقة، و كل ما أمكن إثباته هو وجود مدينة قبل الطوفان ... و أن الفخار الملون قد اختفى، و يستنتج «و ولي» أن سبب اختفاء هذا الفخار الملون الذي كان منتشرا في جنوب بلاد الرافدين قبل الطوفان اختفاء تاما مرة واحدة، هو أن الطوفان قد قضى قضاء تاما على سكان هذه البلاد، و حتى من بقي منهم حيا فقد فقد القدرة على الإنتاج، فجاء شعب جديد، هم السومريون، إلى تلك البلاد الخالية، و أسسوا حضارة جديدة، و كان فخارهم مصنوعا على دولاب الفخار، بدلا من الفخار المصنوع باليد الذي كان سائدا في عصور ما قبل الطوفان، كما استعملوا الأدوات المعدنية بدلا من الصوان (1).

و لعل سائلا يتساءل، و هل كان الطوفان السومري هذا طوفانا عاما أغرق الدنيا كلها، أم أنه كان مقصورا على جنوب العراق؟.

و يجيب «و ولي» بأن الطوفان لم يكن طوفانا عالميا عمّ الكون بأسره، و إنما كان مقصورا على الحوض الأسفل لنهري الدجلة و الفرات، و أنه قد أغرق المنطقة الصالحة للسكنى هناك بين الجبال و الصحراء،- و التي هي بالنسبة إلى السكان الذين يعيشون فيها بمثابة العالم كله- و أن المساحة التي شملها الطوفان ربما كانت 400 ميل طولا، في 100 ميل عرضا، و أن الغالبية العظمى من السكان قد أغرقهم الطوفان، و أن القوم قد رأوا أن هذه الكارثة بمثابة عقاب من الإله بسبب آثام الناس و خطاياهم، و أن قلة نادرة قد نجت، و أن رأس هذه القلة قد نظر إليه كبطل للقصة، و هو هنا «زيوسودرا» (2). iS

ص: 40


1- محمد عبد القادر: المرجع السابق ص 96- 97.
2- , yrotsiH sA biB eht, relleK renreW و كذلك. 15- 50. P, 1967, nodnoL. 36. P,. tic. po, yellooW dranoeL riS
ثانيا: قصص الطوفان البابلية
1- ملحمة جلجاميش:

لقد ظل العالم لا يعرف شيئا عن قصة الطوفان البابلية إلا من خلال رواية «بيروسوس» التي كتبت باللغة اليونانية- و التي سوف نتحدث عنها فيما بعد- إلى أن عثر «ه. رسام massaR. H» في عام 1853 م على نسخة من رواية الطوفان البابلية في مكتبة «آشور بانيبال» (668- 626 ق. م) الشهيرة في العاصمة الآشورية «نينوى» ترجع إلى القرن السابع ق. م.

و في الثالث من ديسمبر 1872 م أعلن «سيدني سمث» نجاحه في جمع القطع المتناثرة من ملحمة جلجاميش بعضها إلى بعض، مكتوبة في اثني عشر نشيدا، أو بالأحرى لوحا، و محتوية على قصة الطوفان في لوحها الحادي عشر (1).

و أما «جلجاميش» هذا فهو واحد من الملوك الذين ورد اسمهم في ثبت ملوك الوركاء في عهد أسرتها الأولى التي لا نعرف عنها شيئا سوى أسماء ملوكها، و قد صار بعضهم- مثل جلجاميش- موضوعا لقصص و ملاحم شعرية، و يرجح العلماء الآن أن هؤلاء الملوك قد حكموا في العراق- في مدينة الوركاء- قبل عصور فجر الأسرات أو في بدايته (2)، على أننا نستطيع أن نعين تاريخا تقريبيا لعهد «جلجاميش» هذا عن طريق قطعة من المرمر موجودة بالمتحف العراقي- و إن كانت مجهولة الأصل- كتب عليها «مي- براج- سي» ملك كيش، و قد ثبت أنه الملك الثاني و العشرين من أسرة كيش الأولى «إن مي- براج- سي» هو في نفس الوقت والد «أجا» ملك كيش الذي حارب ضد «جلجاميش» خامس ملوك الوركاء- كما تحدثنا أسطورة جلجاميش و أجا السومرية (3)- و يرى «جورج روكس» أن «إن- مي- براج- سي» هو أقدم حاكم

ص: 41


1- . 371. P, yranoitciD elbiB s'regnU, regnU. F. M و كذا: جيمس فريزر: المرجع السابق ص 96- 97.
2- طه باقر: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ج 1 ص 459.
3- . 47- 44. p, TENA ni, remarK. N. S و كذا نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص 265- 267.

سومري معروف لنا، و إذا ما اعتبرنا أن «سرجون الأكدي» كان يعيش في الفترة (2371- 2316 ق. م)، فإنه من الممكن تقدير تاريخ حكم «إن- مي- براج- سي» هذا بحوالي عام 2700 ق. م، كما يمكن اعتبار ذلك التاريخ بداية للعصر التاريخي في العراق القديم (1)، و من ثم فإن جلجاميش كان يعيش بعد هذا التاريخ بفترة ليست بعيدة على أي حال.

و قد اشتهر جلجاميش في آداب العراق القديم منذ أقدم عصور التاريخ، و صار موضوعا لعدة ملاحم سومرية و بابلية، تدور حول مغامراته و أعماله البطولية، حتى صار أشبه ما يكون بأبطال اليونان في عهد الأشعار الهومرية، و هرقل و الإسكندر في المآثر العربية، و نمرود الوارد في التوراة (2)، و إن كانت ملحمته المشهورة بقصة جلجاميش، و التي يؤلف خبر الطوفان جزءا منها، أشهر ما عرف عنه من قصص و ملاحم.

و هاك ملخصا لها:

تبدأ قصة الطوفان بعد أن ينتهي جلجاميش من قصته التي فقد في أخرياتها صديقه «أنكيدو»، ذلك أن جلجاميش كان ملكا حكيما واسع المعرفة، شجاعا جريئا، و لكنه كان ظالما مستبدا، و من ثم فإن الآلهة قد خلقت له «أنكيدو» ليدافع عن الناس ضد ظلمه، إلا أن الصراع بينهما لم يحسم في مصلحة واحد منهما، و من ثم فقد تمّ الصلح بينهما، و قام الاثنان بمغامرات كثيرة، ثم مات أنكيدو فجأة، فحزن جلجاميش لفقده، ثم أسلمه الحزن إلى المرض، و ظل خائفا يترقب مصيره المحتوم، و إن كان في الوقت نفسه بدأ يفكر في وسيلة يتقي بها غائلة الموت، و هكذا هداه تفكيره إلى البحث عن جده «أوتنابيشتم» بن «وبار- توتو» ليسأله عن كيفية إمكان أن يكون الإنسان الفاني مخلدا، إذ كان على يقين من أن «أوتنابيشتم» على علم بهذا الأمر، ذلك لأن الآلهة قد رفعته إلى مصافها، و جعلته يسكن بعيدا في مكان ما متمتعا بنعمة الخلود.

و يتحمل جلجاميش من أجل بغيته هذه رحلة مضنية خطيرة، يلتقي في أثنائها

ص: 42


1- محمد أبو المحاسن عصفور: معالم تاريخ الشرق الأدنى القديم ص 349- 350. و كذا. 120- 119. P, 1966,) skooB niugneP (, qarI tneicnA, xuoR egroeG و كذا. 14. P,. tic. po, yellooW dranoeL riS
2- طه باقر: المرجع السابق ص 459.

برجل و امرأة في شكل ثعبانين يحرسان جبلا، كما يخترق طريقا مفزعا مظلما لم تطأه قدما إنسان فان من قبل، ثم يعبر بحرا مترامي الأطراف، و أخيرا يلتقي بإحدى الإلهات فيطلب منها أن تدله على مكان جده «أوتنابيشتم»، و لكنها- و قد علمت هدفه- تسدي إليه النصح قائلة: إلى أين تسعى يا جلجاميش؟ إن الحياة التي تبغي لن تجدها، ذلك لأن الآلهة لما خلقت البشر جعلت الموت من نصيبهم، و استأثرت هي بالخلود ...

لتكن مبتهجا ليل نهار، و لتجعل كل يوم من حياتك يوم فرح و حبور ... دلّل الطفل الذي يمسك بيدك، أدخل السرور إلى قلب المرأة التي في أحضانك ... فهذا هو نصيب البشرية»، و مع ذلك فإن جلجاميش يصر على سؤاله، فلا تجد الإلهة إلا أن تجيبه إلى ما يريد.

و يلتقي جلجاميش بجده «أوتنابيشتم» فيطرح سؤاله عن كيفية حصول الإنسان على الخلود، و هنا يجيبه «أوتنابيشتم»: هل بنينا بيتا يقوم إلى الأبد؟ هل عقدنا عهدا على أن نستمر إلى أبد الآبدين؟ لم يكن هناك خلود منذ القدم، ما أعظم الشبه بين الميت و النائم، أ لا تظهر على وجهيهما هيبة الموت؟ و هكذا مصير السيد و العبد حتى ينتهي أجلهما في هذه الدنيا ... و حين يتعجب جلجاميش من هذه الإجابة من شخص كان هو نفسه إنسانا فانيا ثم أصبح مخلدا فيما بعد، كان على «أوتنابيشتم» أن يشرح له كيف استطاع هو نفسه أن يهرب من المصير المحتوم لكل إنسان، فقص عليه قصة الطوفان الكبير التي تجرى على النحو التالي.

و هاك ترجمة (1) لها: E

ص: 43


1- . 99- 72. P, TENA ni, hsemagliG fo cipE ehT, resiepS. A. E و كذلك محمد عبد القادر: المرجع السابق ص 98- 110، و كذلك طه باقر: المرجع السابق ص 467- 470، و كذا نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص 347- 359، و كذلك: جيمس فريزر: المرجع السابق ص 97- 101. و كذلك. 63- 33. P,. tic. po, nageniF. J و كذلك. 51- 48. P, ygolohtyM nretsaE raeN, yarG. J و كذا 23- 210 P, ygolohtyM citimeS, nodgnaL. S و كذلك .1949 ,slellaraP tnematseT dlO dna cipE hsemagliG ehT ,ledieH rednaxelA و كذلك 1920 ,hsemagliG fo cipE eht dna eguleD eht fo yrots nainolybaB eht ,egduB sillaW .A .E و كذلك. F 40. P, AENA و كذا 1930, hsemagliG fo cipE eht, nospmohT llebpmaC. E

قال أوتنابيشتم له، لجلجاميش، سأكشف لك يا جلجاميش عما خفي من الأمر، سوف أخبرك بسر الآلهة، شورباك مدينة أنت تعرفها على ضفاف الفرات، و هي مدينة قديمة قدم الآلهة التي بها، عند ما انتوت الآلهة إحداث الطوفان، كان من بينهم «آنو» أبوهم، و «انليل» الشجاع مستشارهم، و «نينورتا» مساعدهم، و «إينوجي» مفتش الترع، و «نينجيكو- أيا» كان حاضرا معهم، و أعاد قولهم إلى كوخ القصب (ربما مسكن أوتنابيشتم): يا كوخ القصب، يا حائط، يا حائط، اصغ يا كوخ القصب، استمع يا حائط، يا رجل شورياك، يا ابن «وبار- توتو».

اهدم هذا البيت، و ابن فلكا، دع الأملاك و أنقذ حياتك، اهجر المتاع ودع الروح حية، و احمل على ظهر الفلك بذرة كل شي ء حي، و الفلك التي ستبنيها ستكون أبعادها حسب هذا المقياس، عرضها مثل طولها، و اجعل سقفها كسقف الأيسو (العالم السفلي). ففهمت و قلت لمولاي «إيا»: نعم يا مولاي، إن ما تأمر به يشرفني أن أنفذه، لكن بم أجيب المدينة: الناس و الشيوخ.

ففتح «إيا» فاه و أجاب قائلا لخادمه، لي أنا، قل لهم: علمت أن إنليل يعاديني، و من ثم فلا أستطيع أن أقيم في مدينتكم أو أضع قدمي في أملاك أنليل، و لذا فسوف أنزل إلى الأعماق، و أسكن مع مولاي «إيا»، و أما أنتم فسوف ينزل عليكم مطرا مدرارا ... خير الطيور و أندر الأسماك، و سوف تمتلئ الأرض بمحاصيل وفيرة، و مع انبثاق الفجر تجمعت الأرض من حوالي ... النص مهشم، و حمل الصغار القار، و جاء البالغون بكل ما احتجنا إليه.

و في اليوم الخامس أقمت هيكلها (أي السفينة)، و كانت أرضيتها فدانا كاملا، و كان ارتفاع كل حائط من حوائطها 120 ذراعا، و طول كل ضلع من السطح 120 ذراعا، و بنيت هيكل جوانبها و ربطتها إلى بعضها، و جعلت فيها ستة أسطح، قسمتها إلى سبعة طوابق، و قسمت أرضيتها تسعة أجزاء، و دققت سدادات المياه بها، و جهزتها بما نحتاج إليه من المؤن، و صببت في الفرن ست سار (السار- 800 جالون) من القار، كما صببت كذلك ثلاثة سار من الأسفلت، (فضلا) عن ثلاثة سار من الزيت نقله

ص: 44

حاملو السلال، و سار من الزيت استهلكته القلفطة، كما خزن الملاح سارين من الزيت، و ذبحت ثيرانا للناس، و نحرت ماشية كل يوم، و أعطيت العمال عصير فواكه، و نبيذا أحمر و آخر أبيض، و كأنه مياه النهر، ليشربوا و كأنهم في يوم عيد رأس السنة، و فتحت ... الدهون، لوضعها على يدي.

و اكتمل الفلك في اليوم السابع، و كان إنزاله إلى الماء بالغ المشقة، حتى إنهم اضطروا لدفع ألواح الأرضية من أعلى و من أسفل، حتى أمكن إنزال ثلثي هيكله إلى الماء، و حملتها بكل ما عندي، حملتها بكل ما لذي من فضة، حلمتها بكل ما لدي من ذهب، حمّلتها بكل ما أملك من الكائنات الحية و كل عائلتي و ذوي قرباي، أركبتهم الفلك، و كذا حيوان الحقل و وحوش الحقل، و كل الصناع أركبتهم معي.

و قد حدّد لي «شمس» (شماس) وقتا معينا، عند ما ينزل الموكل بالزوابع ليلا مطرا مهلكا، أصعد إلى الفلك و أوصد بابه. و جاء اليوم الموعود، و أنزل الموكل بالزوابع ليلا مطرا مهلكا، و أخذت أرقب وجه السماء، و كان منظر العاصفة مخيفا يثير الرعب، فصعدت إلى الفلك و أوصدت بابه، و عهدت إلى النوتي «بوزور- أمورى» بقيادة الفلك، و بسد جميع منافذه.

و مع انبثاق الفجر، ظهرت في السماء غمامة سوداء، و أرعد «أداد» من داخلها، و تقدمها «شولات» و «هانيش» كنذيرين فوق التل و السهل، و نزع «إيرجال» (نرجال إله العالم السفلي) الأعمدة (أي الأعمدة الخاصة بسد العالم)، و جاءت «نينورتا» و جعلت السدود تفيض، و حمل «أنوناكي» المشاعل و جعلوا الأرض تشتعل نارا، و وصل الذعر من «أداد» إلى عنان السماء، فأحال النور إلى ظلمة، و انصدعت الأرض الواسعة، و كأنها جرة، وهبت عاصفة الجنوب يوما كاملا بسرعة عنيفة حتى أخفت الجبال، و حلت بالناس و كأنها حرب، فلا يرى الأخ أخاه، و لم يعد الناس يعرفون من في السماء، و خشي الآلهة الطوفان فأجفلوا و صعدوا إلى سماء «أنو» (أعلى سماء في النظرية العالمية عند الأكديين) حيث ربضوا كالكلاب على الأسوار الخارجية، و صرخت عشتار و كأنها امرأة جاءها المخاض، و ناحت سيدة الآلهة ذات الصوت الشجي

ص: 45

بصوت عال: وا حسرتاه!، لقد تحولت الأيام الخوالي إلى طمي، لأني لعنت الناس في مجمع الآلهة، و لكن: كيف ألعن الناس في مجلس الآلهة، و أعلن حربا لفناء الناس، بينما أنا التي وهبتهم الحياة، إنهم يملئون البحر كبيض السمك، و بكى آلهة «أنوناكي» معها و جلس الآلهة جميعا يبكون في ذلة، و قد التصقت شفاههم بعضها ببعض، و استمرت ريح الفيضان تهب ستة أيام و ست ليال، و عاصفة الجنوب تكتسح الأرض.

و في اليوم السابع سكنت عاصفة الجنوب عن الحرب التي شنتها و كأنها جيش من الخيالة، و هدأ البحر، و سكنت العاصفة و توقف الطوفان، و تطلعت إلى الجو، فإذا السكون شامل، و إذا الناس و قد تحولوا إلى طين، و إذا الأرض قد تشققت و كأنها جرة، ففتحت كوة و سقط الضوء على وجهي، فجلست و بكيت و سالت دموعي على وجهي، و تطلعت إلى الدنيا في عرض البحر، و في كل من الأقاليم الأربعة عشر، (الاثني عشر) طلع نجم.

و استوت الفلك على جبل نيصير (1)، و أمسك جبل نيصير بالفلك و لم يدعها تتحرك، و يوم ثم يوم آخر، و جبل نيصير يستمسك بالسفين فلا تحير حراكا، و يوم ثالث و رابع، و جبل نيصير يستمسك بالسفين فلا تحير حراكا و يوم خامس ثم يوم سادس و جبل نيصير يستمسك بالسفين فلا تحير حراكا، فلما كان اليوم السابع أطلقت حمامة فذهبت و عادت و عزّ عليها أن تجد مكانا ظاهرا تحط عليه، ثم أطلقت «سنونو»، إلا أنه عاد، إذ لم يكن ثمة مكان ظاهر يحط عليه، ثم أطلقت غرابا فذهب و رأى الماء يتناقص فأكل و عبّ و دار و لم يعد، ثم أطلقت الجميع إلى الرياح الأربعة، و ضحيت و أرقت سكيبة على قمة الجبل، و نصبت 4 أقدار، و على صحاف قوائمها كومت القصب و خشب الأرز و الآس. فشمت الآلهة الرائحة الزكية، و تكأكأت حول الأضاحي، و عند ما وصلت سيدة الآلهة (عشتار) نزعت المجوهرات العظيمة التي صاغها لها «أنو» ).

ص: 46


1- تصف النصوص المسمارية البابلية القديمة موقع جبل نيصير (نيزير) بأنه بين الدجلة و الزاب الأسفل و حيث سلسلة جبال كردستان في شرق الدجلة، و على أى حال فهو يمكن توحيده بجبل بئر عمر جدرون (انظر 57,. tic. po, relleK و كذا. 35. P,. tic. po, nageniF و كذا. 18- 17, 7. P, 27- 1926, 8, ROSAA, reziepS و محمد عبد القادر: قصة الطوفان في أدب بلاد الرافدين).

طبقا لمشتهاها، و قالت: أيتها الآلهة، كما أنني سوف لا أنسى حقا عقد اللازورد الذي في عنقي، فسوف أذكر هذه الأيام و لن أنساها، ليتقدم الآلهة إلى القربان، إلا أنليل، فإنه لا يتقدم، لأنه أحدث الطوفان دون روية، وقاد شعبي إلى التهلكة.

و لما جاء أنليل و رأى الفلك عزّ عليه ذلك، و امتلأ غضبا على آلهة «أجيجي» (آلهة السماء) و قال: هل نجت روح، ما كان للبشر أن يبقى، ففتح «نينورتا» فاه و قال: من غير «إيا» يفشي الخطط، فإنه، يا أنليل الباسل، يعلم كل شي ء. و فتح «إيا» فاه و قال لأنليل البطل: أنت يا أحكم الآلهة، أيها البطل، كيف تحدث الطوفان دون روية، على الآثم وزر إثمه، و على المعتدي وزر اعتدائه، كن رحيما و إلا قطع ... كن صبورا و إلا أقضي ...

ليت أسدا هب و قلل من بني الإنسان، بدلا من أن تأتي بالطوفان، ليت ذئبا هب و قلل من بني الإنسان، بدلا من إحداث الطوفان، ليت مجاعة هبت و قللت من بني الإنسان بدلا من إحداث الطوفان، ليت طاعونا هب و قلل من بني الإنسان بدلا من إحداث الطوفان.

لست أنا الذي أفشيت سر الآلهة العظام، بل جعلت «أتراخاسيس» (حكيم الحكماء- أوتنابيشتم) يرى حلما كشف فيه سر الآلهة، فاقض فيه ما أنت قاض، و حينئذ صعد أنليل إلى ظهر السفين و أمسك بيدي و أخذني إلى ظهرها و أخذ زوجتي و جعلها تركع بجانبي و وقف بيننا ليباركنا و قال: لم يعد أوتنابيشتم بشرا، سيكون هو و زوجته أشبه بنا معشر الأرباب، و على ذلك أخذوني و أسكنوني بعيدا عند مصاب الأنهار، و لكن أنت يا جلجاميش من يجمع لك مجمع الآلهة ليهبوا لك الحياة التي تريد؟ ..

2- قصة بيروسوس:

في النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد، و على أيام الملك «أنتيوخوس الأول» (280- 261 ق. م)، كان هناك أحد كهنة الإله «مردوك» البابلي، و يدعى «بيروسوس sossoreB» قد كتب تاريخ بلاده باللغة اليونانية في ثلاثة أجزاء، و من

ص: 47

أسف أن هذه الكتابات- شأنها في ذلك شأن كتابات الكاهن المؤرخ المصري مانيتو من نفس الفترة- و التي تقدم وجهة النظر القومية حينئذ عن تاريخ العراق القديم لم تصل إلينا كاملة، و كل ما وصلنا منها مقتطفات حفظها لنا المؤرخون المتأخرون من الأغارقة، و من حسن الحظ أن هذه المقتطفات كانت تحتوي على قصة الطوفان البابلية التي تجري أحداثها على النحو التالي:

في عهد الملك «أكسيسوثروس»، و في ليلة ما، رأى هذا الملك فيما يرى النائم أن الإله «كرونوس» يحذره من طوفان سوف يغمر الأرض و يهلك الحرث و النسل، في اليوم الخامس عشر من شهر «دايسيوس»- و هو الشهر الثامن من السنة المقدونية- و من ثم فإن عليه أن يكتب تاريخ البشرية منذ بدايتها، و أن يدفن ما يكتبه في مدينة سيبار، بلد الشمس، حتى لا يضيع في طوفان سوف يدمر كل شي ء، كما أمره كذلك أن يبني فلكا يأوي إليه.

و يسأل «أكسيسوثروس» ربه عن المكان الذي يبحر إليه بفلكه هذا، فإذا به يجيبه «إلى الآلهة، و لكن بعد أن تصلي من أجل خير الناس»، و يصدع الملك بأمر إلهه، و يبني فلكا طوله مائة و ألف ياردة، و عرضه أربعمائة و أربعون ياردة، يجمع فيه كل أقربائه و أصحابه، و يختزن فيه زادا من اللحم و الشراب، فضلا عن الكائنات الحية من الطيور و ذوات الأربع.

و يغرق الطوفان الأرض، و عند ما ينحسر عنها يطلق الملك سراح بعض الطيور التي تعود إليه ثانية، ثم يطلقها بعد أيام، فإذا بها تعود و أرجلها ملوثة بالطين، و حين يكرر الأمر مرة ثالثة لا تعود الطيور إلى الفلك، و يعلم الملك أن الماء قد انحسر عن الأرض، و ينظر من كوة في السفين فيرى الشاطئ الذي يتجه إليه، و هناك تستقر الفلك عند جبل، حيث ينزل الملك و زوجته و ابنته و قائد الدفة.

و يسجد الملك لربه و يقدم له القرابين، ثم يختفي هو و من معه، و يبحث الذين ما يزالون في الفلك عن الملك و رفاقه، و لكنهم لا يجدون لهم أثرا، و حين يجدّون في البحث عن المختفين يسمعون صوتا يدوي في الهواء، و يطلب منهم أن يتقوا الآلهة و يكفوا عن

ص: 48

البحث عن المختفين، لأن الآلهة قد اختارتهم لكي يسكنوا إلى جوارها، ثم يأمرهم الصوت بالعودة إلى بابل و البحث عن الكتابات المدفونة هناك، و أن يوزعوها فيما بينهم، كما أخبرهم الصوت أن الأرض التي يقفون عليها، إنما هي أرض أرمينيا، و هكذا عاد القوم- دون المختفين- إلى بابل، و استخرجوا الكتابات المدفونة في سيبار، و شيدوا مدنا كثيرة، و أعادوا الأرض المقدسة و عمروا بابل بنسلهم (1).

و هناك رواية أخرى لأسطورة الطوفان قديمة كل القدم، اكتشفت في مدينة «نيبور» (2) في أثناء عمليات الحفر التي قامت بها جامعة بنسيلفانيا، و هذه الرواية مدونة على كسرة من الفخار غير المحترق، و قد رأى الأستاذ «ه. و. هيلبرخت» مرتكزا على أسلوب كتابتها، و على المكان الذي عثر عليها فيه، أن هذه الرواية لم تدون بعد عام 2100 ق. م، و قد ورد في هذه الرواية أن الإله ظهر ليذيع نبأ حدوث طوفان سيكتسح الجنس البشري في الحال، و حذر من هذا الطوفان شخصا بعينه، فطلب منه أن يبني فلكا كبيرا، ذا سقف قوي، لينجو فيها بحياته، و أن يأخذ معه فيها صنوف الحيوان الأليفة و طيور السماء (3).

و هكذا فإن هناك الكثير من الشواهد الأثرية لقصة الطوفان البابلية، تؤيدها كتابات على لوح مهشم اكتشف في مدينة «سيبار» أثناء عملية الحفر التي قامت بها الحكومة التركية، و يرجع إلى حوالي عام 1966 ق. م، نستطيع أن نستخلص منه اسم «أثرخاسيس» (أترام خاسيس)، فضلا عن إشارات إلى المطر الغزير، و إلى السفين

ص: 49


1- سير جيمس فريزر: الفلكور في العهد القديم- ترجمة نبيلة إبراهيم- مراجعة حسن ظاظا- ج 1- ص 94- 95.
2- نيبور: و تقع على مبعدة مائة ميل إلى الجنوب من بغداد، و في منتصف المسافة تقريبا بين كيش و شورباك، و تعتبر نيبور أهم المراكز الثقافية السومرية في العراق القديم، كما أنها أكبر مدينة مقدسة، و ربما أكبر مركز ديني في بابل، كما أن «انليل» إله المدينة كان رئيس مجمع الآلهة البابلي، و قد أمدتنا المدينة بالآلاف من اللوحات المكتوبة و الجذاذات التي صنفت في الألف الثالثة و الثانية ق. م، و التي تدل بوضوح على مدى انتشار الثقافة السومرية (انظر 277. P, STFK) و كذلك .1897 ,.slov 2 ,setahpuE eht no snoitarolpxE ro ,ruppiN ,sreteP .P .J و كذك FF 289 .P ,1903 ,ainolybaB dna aieyssA ni snoitavacxE eht ,thcepliH .W .H
3- جيمس فريزر: المرجع السابق- ص 102.

الذي أمر الملك التقي في «شورباك» ببنائه، و إلى الأفراد الذين أنقذوا من الطوفان بواسطة الفلك (1).

هذه هي أهم الروايات لقصة الطوفان في العراق القديم، و قبل أن نعقد مقارنة بين القصص السومرية و البابلية، نودّ أن نشير إلى أنه قد عثر في أرشيف «بوغازكوي» العاصمة الحيثية على نسخة ترجع إلى الألف الثاني ق. م، فضلا عن ترجمة للقصة باللغة الحيثية، و أخرى بالحورية على جزء من لوحة حورية.

يرى «جيمس فريزر (2)» أن قصة الطوفان السومرية تتفق في ملامحها الأساسية مع قصة الطوفان كما جاءت في ملحمة جلجاميش التي تتميز عن أختها السومرية بطولها و كثرة حوادثها، ففي كلتا القصتين قرر إله كبير أن يهلك الجنس البشري عن طريق إغراق الأرض بالأمطار، و في كليتهما حذر إله آخر رجلا من حدوث الكارثة، و قد أنقذ هذا الرجل و من معه عن طريق سفينة أمر ببنائها، و في كلتا الحكايتين بلغ الفيضان ذروته في اليوم السابع، و في كلتا الحكايتين قدم الإنسان ضحيته للآلهة بعد أن انتهى الطوفان، ثم رفعته الآلهة بعد ذلك إلى مصافها.

أما الاختلاف الجوهري الوحيد بين الروايتين، فيتمثل في اسم البطل فيهما، فهو «زيوسودرا» في الرواية السومرية، و هو «أوتنابيشتم» أو «أثرخاسيس» في الرواية السامية.

ثالثا: قصة الطوفان اليهودية كما ترويها التوراة:
اشارة

وردت هذه القصة في الإصحاحات من السادس إلى التاسع من سفر التكوين، و تجري أحداثها على النحو التالي- كما يصورها النص العربي للتوراة-:

بدأ الناس يتكاثرون على الأرض، و يلدون بنات، و هنا رأى أبناء اللّه أن بنات الناس حسناوات، و من ثم فقد اتخذوا منهن لأنفسهم نساء، و سرعان ما أنجبت النسوة من بنات الناس، أبناء للرجال من أبناء اللّه، «و هم الجبابرة منذ الدهر».

ص: 50


1- جيمس فريزر: المرجع السابق- ص 102. و كذا F 24. P, doolF ehT, regreblloS. E و كذا f 24. p, doolf eht, regrebllos. e
2- جيمس فريزر: المرجع السابق- ص 105.

و هنا رأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، فحزن أنه عمل الإنسان في الأرض و تأسف في قلبه، و عزم على أن يمحو الإنسان و البهائم و الدواب و الطيور عن وجه الأرض، و إن استثنى من ذلك نوحا، لأنه «كان رجلا بارا كاملا في أجياله، و سار نوح مع اللّه».

و تزداد شرور الناس، و تمتلئ الأرض ظلما، و يقرر الرب نهاية البشرية، إذ تحدرت إلى شر و غواية، و يحيط نوحا علما بما انتواه، آمرا إياه بأن يصنع فلكا ضخما، «ثلاثمائة ذراع يكون طول الفلك و خمسين ذراعا عرضه، و ثلاثين ذراعا ارتفاعه»، و أن يكون طلاؤها بالقار و القطران من داخل و من خارج، حتى لا يتسرب إليها الماء، و أن يدخل فيها اثنين من كل ذى جسد حي، ذكرا و أنثى، فضلا عن امرأته و بنيه و نساء بنيه، هذا إلى جانب طعام يكفي من في الفلك و ما فيه (1).

و يكرر الرب أوامره لنوح في الإصحاح التالي، فيأمره أن يدخل الفلك و من معه، «و من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة ذكرا و أنثى، و من البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكرا و أنثى، و من طيور السماء أيضا سبعة سبعة ذكرا و أنثى لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض»، ذلك لأن الرب قرر أن يغرق الأرض و من عليها و ما عليها بعد سبعة أيام عن طريق مطر يسقط على الأرض أربعين يوما و أربعين ليلة، و يصدع نوح بأمر ربه فيأوي إلى السفين و معه أهله و اثنين من البهائم الطاهرة و غير الطاهرة، فضلا عن الطيور و كل ما يدب على الأرض.

و في اليوم السابع عشر من الشهر الثاني من عام ستمائة من حياة نوح بدأ الطوفان، «و انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم و انفتحت طاقات السماء، و استمر الطوفان أربعين يوما على الأرض»، و تكاثرت المياه و رفعت الفلك عن الأرض و تغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء، خمس عشرة ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه، و مات كل جسد كان يدب على الأرض، من الناس، و الطيور و البهائم و الوحوش و كل

ص: 51


1- تكوين 6: 1- 22.

الزحافات، و بقي نوح و الذين معه في الفلك فحسب (1).

و مضت مائة و خمسون يوما نقصت من بعدها المياه، حتى إذا ما كان اليوم السابع عشر من الشهر السابع استقرت الفلك على جبل أراراط، ثم ظهرت رءوس الجبال في اليوم الأول من الشهر العاشر، ثم تمضي أربعون يوما، و بعدها يرسل نوح غرابا ثم حمامة تعود بعد فترة، «لأنها لم تجد مقرا لرجلها»، ثم يعود نوح فيرسلها ثانية بعد سبعة أيام أخر، فتعود و معها ورقة زيتون خضراء، و يكرر نوح المحاولة بعد سبعة أيام أخر، فلا تعود إليه الحمامة.

و في أول الشهر الأول من السنة الواحدة بعد الستمائة من حياة نوح «فإذا وجه الأرض قد نشفت»، و أمر نوحا أن يخرج من السفين، و كذا من معه و كل الحيوانات و الدواب و الطيور، و يبني نوح مذبحا للرب و يصعد له محرقة، «فتنسم الرب رائحة الرضا، و قال الرب في قلبه لا أعود ألعن الأرض من أجل الإنسان .. و لا أعود أميت كل حي كما فعلت» (2).

«و بارك اللّه نوحا و بنيه و قال لهم أثمروا و اكثروا و املئوا الأرض، و لتكن خشيتكم و رهبتكم على كل حيوانات الأرض و طيور السماء»، ثم حرم عليهم قتل بعضهم البعض الآخر، لأن «سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه، لأن اللّه على صورته عمل الإنسان»، ثم يقيم اللّه ميثاقه مع نوح و بنيه و مع نسلهم من بعدهم، فضلا عن الطيور و البهائم و كل وحوش الأرض، على ألا يكون هناك طوفان بعد اليوم، ذلك لأن الرب قد وضع قوسه في السحاب كعلامة ميثاق بينه و بين كل ذي جسد على الأرض، و أنه متى نشر السحاب على الأرض و ظهر القوس، تذكر الرب ميثاقه، فلا يكون طوفان يهلك كل ذي جسد على الأرض (3).

و تختم التوراة قصة الطوفان برواية دنيئة كاذبة مؤداها أن نوحا قد شرب مرة بعد

ص: 52


1- تكوين 7: 1- 23.
2- تكوين 7: 1- 21.
3- تكوين 9: 1- 17.

نجاته من الطوفان نبيذ العنب الذي غرس كرمه بيده، ففقد وعيه و انكشفت سوأته، فرآه ابنه حام على هذه الصورة فسخر منه و حمل الخبر إلى أخويه سام و يافث، و لكن هذين كانا أكثر منه أدبا، فحملا رداء و سارا به القهقرى نحو أبيهما و سترا عورته دون أن يبصراها، فلما أفاق نوح من خمره، و بان له ما فعله به حام، لعن كنعان و دعا على نسله أن يكونوا عبيدا لعبيد أولاد سام و يافث (1).

و عاش نوح بعد الطوفان ثلاثمائة و خمسين سنة، فكانت كل أيام نوح تسع مائة و خمسين سنة و مات (2).

1- مناقشة قصة التوراة عن الطوفان:

يجمع نقاد التوراة (العهد القديم) (3)، على أن أسطورة الطوفان العبرية كما هي مدونة في سفر التكوين تجمع بين قصتين متميزتين في أصلهما، و متناقضتين تناقضا جزئيا، و قد مزج المؤلف بين القصتين لكي يكون منهما قصة واحدة متجانسة من ناحية الشكل، و مع ذلك فقد مزج المؤلف بينهما بطريقة فجة للغاية، بحيث لا يفوت القارئ ما فيهما من تكرار و تناقض، حتى و إن كان القارئ غير مدقق في قراءته (4).

و أما هذان المصدران اللذان أخذ سفر التكوين قصة الطوفان عنهما، فأولهما:

المصدر اليهوي «tnemucoD citsivhaJ» و يرمز له بالحرف «J»، و ربما ألف حوالي عام 850 ق. م في يهوذا، و سمي كذلك لأنه يستعمل اسم العلم «يهوه»، و أما ثانيهما فهو المصدر الكهنوتي «tnemucoD yltseirP» و يرمز له بالحرف

ص: 53


1- تكوين 9: 20- 27 و كذلك علي عبد الواحد وافي: الأسفار المقدسة ص 32.
2- تكوين 9: 28، 29.
3- التوراة: كلمة عبرانية تعني الهداية و الإرشاد، و يقصد بها الأسفار الخمسة الأولى (التكوين و الخروج و اللاويين و العدد و التثنية) و التي تنسب إلى موسى- عليه السلام- و هي جزء من العهد القديم، و الذي يطلق عليه تجاوزا اسم «التوراة» من باب اطلاق الجزء على الكل، أو لأهمية التوراة و نسبتها إلى موسى- و التوراة، أو العهد القديم- تمييزا له عن العهد الجديد (كتاب المسيحيين المقدس)- هو كتاب اليهود الذي يضم إلى جانب تاريخهم، عقائدهم و شرائعهم، و يقسمه أحبار اليهود إلى ثلاثة أقسام: الناموس و الأنبياء و الكتابات (راجع كتابنا إسرائيل ص 19 و ما بعدها).
4- جيمس فريزر: المرجع السابق، ص 106.

«P»، و هو حواشي الكهنة التي أضافوها إلى نص التوراة على عهد عزرا و نحميا، و قد أدمج في مصادر التوراة (1) الأخرى حوالي نهاية القرن الخامس، و ربما الرابع ق. م، و ليس من شك أن كلا المصدرين يختلف عن الآخر اختلافا بيّنا في أسلوبه و صيغته، كما أنهما ينتميان إلى عصور مختلفة، كما رأينا، هذا إلى جانب أن الرواية «اليهوية» تنبض بحيوية و خيال، بينا النص «الكهنوتي»، و إن كان جافا بالقياس، فهو يتميز بدقة و تدبر (2).

و تتميز العناصر التفصيلية التي تتألف منها قصة الطوفان في سفر التكوين بعضها عن بعض من حيث اللفظ و المادة (3)، فإذا بدأنا بوجوه الاختلاف الشكلية، فإن أول ما يلفت النظر هو اختلاف اسم الرب في كلا المصدرين فهو في المصدر اليهوي «يهوه»، و هو في المصدر الكهنوتي «إلوهيم»، و كلا الاسمين نقلتهما «الترجمة الإنجليزية المعتمدة» إلى كلمتي «السيد» و «الرب» على التوالي (4)، و أما الترجمة العربية للتوراة، فانها تستعمل كلمة «الرب» و «اللّه» بدلا من «يهوه» و «إلوهيم».

على أن الاختلافات المادية بين الحكايتين- اليهوية و الكهنوتية- لا تزال تلفت النظر إلى أكثر من ذلك، و حيث إن هذه الاختلافات تصل في بعض الحالات إلى حد التناقض القاطع، فإن إثبات أن هذه الحكايات مستمدة من مصدرين منفصلين يصل إلى حد اليقين، و لنقرأ ما جاء في سفر التكوين (5)، من أن اللّه أمر نوحا أن يأخذ «من جميع البهائم الطاهرة سبعة سبعة ذكرا و أنثى، و من البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكرا و أنثى، و من طيور السماء أيضا سبعة ذكرا و أنثى»، ثم نقرأ بعد ذلك في نفس السفر- بل و في نفس الإصحاح- «و من البهائم الطاهرة و البهائم التي ليست

ص: 54


1- راجع عن «مصادر التوراة» كتابنا إسرائيل ص 45- 48.
2- .14 .P ,1961 ,siraP ,freC ud .dE )melasu reJ ed euqilbiB elocE( elbiB etniaS aL و انظر التعليق في الهامش، و كذلك: حسين ذو الفقار صبري: توراة اليهود، المجلة، العدد 157، يناير 1970 م.
3- راجع «التناقضات في التوراة» في كتابنا إسرائيل، ص 97- 109.
4- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 110.
5- تكوين 7: 2- 3.

بطاهرة و من الطيور و كل ما يدب على الأرض، دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكرا و أنثى، كما أمر اللّه نوحا» (1)، فهل أمر اللّه نوحا أن يأخذ «سبعة سبعة» أم «اثنين اثنين»؟ أم أن نوحا- و حاشا نبي اللّه أن يكون كذلك- قد عصى أمر ربه؟

أم أن هذا كان خطأ من الكاتب؟ و إذا كان ذلك كذلك، ففي أي النصين كان الخطأ، أ في نص الأمر، أم في نص التنفيذ؟ علما بأن نص التنفيذ قد تكرر مرة ثانية في التكوين «و دخلت إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة» (2)، كما أن الواضح من نص التكوين هذا أنه يضغط على أن ما أمر به الرب «اثنين اثنين»، و لكنه في التكوين (7: 2) يختلف عن ذلك كثيرا.

و لعل السبب في هذا التناقض- فيما يرى جيمس فريزر (3)- أن الحكاية اليهوية عن الطوفان تميز بين الحيوانات الطاهرة و الحيوانات النجسة، فبينما أخذ نوح معه في الفلك سبعة من كل صنف من صنوف الحيوان الطاهر، لم يأخذ معه سوى زوج من كل صنف من صنوف الحيوان النجس، أما الكاتب الكهنوتي فلم يميز بين صنوف الحيوان على هذا النحو، بل جعلها تدخل الفلك و هي على قدم المساواة مع بعضها البعض، و إن قصر عددها بدون تحيز على زوج من كل صنف، و السبب في هذا الاختلاف البين، هو أن الكاتب الكهنوتي لم يفرق بين ما هو طاهر من الحيوان و ما هو نجس، على أساس أن هذه التفرقة قد أوحى بها الرب لموسى لأول مرة، و من ثم فإن نوحا لم يكن يعرفها، أما الكاتب الكهنوتي فقد رأى أن التفرقة بين صنوف الحيوان على أساس الطهارة و النجاسة كانت معروفة لدى الجنس البشري منذ العصور الأولى.

و مرة أخرى تناقض التوراة نفسها في سبب الطوفان، ففي الرواية اليهوية يعزو «يهوه» القضاء على البشرية، إذ تحدرت إلى شر و غواية (4)، أما في الرواية الكهنوتية، فإن اللّه (إلوهيم)- لاحظ مرة أخرى الاختلاف بين «يهوه» هناك، و بين «إلوهيم»

ص: 55


1- تكوين 7: 8- 9.
2- تكوين 7: 15- 16.
3- جيمس فريزر: المرجع السابق. ص 112.
4- تكوين 6: 5- 7. كذلك: حسين ذو الفقار صبري. توراة اليهود، المجلة، العدد 157 يناير 1970 ص 11.

(اللّه) هنا- إنما يتخذ قراره! إذ يرى الأرض قد فسدت جميعا ... كل من و ما عليها من حي» (1).

و الأمر كذلك بالنسبة إلى مصدر الطوفان، فبينما يعزوه النص اليهوي إلى مطر عارم يتهاطل على الأرض أربعين يوما بلياليها دون انقطاع (2)، يعزوه النص الكهنوتي ليس إلى المطر وحده، و إنما تنفجر أيضا ينابيع الغمر العظيم من أسفل كما من فوق، فكأن قد انهار «الجلد» الذي نصبه الإله عند بدء الخليقة فاصلا بين المياه السفلية و التي في السماء، كما تحدثنا التوراة (3).

ثم إن هناك اختلافا جوهريا آخر بين الكاتبين يتعلق بدوام مدة الطوفان، فقد ظلت الأمطار تهطل في قصة الكاتب اليهوي مدة أربعين يوما و أربعين ليلة (4)، ثم ظل نوح في فلكه بعد ذلك مدة ثلاثة أسابيع قبل أن ينحسر الماء بمقدار يمكنه من الرسو بسفينته، و وفقا لهذا الحساب فإن الفيضان يكون قد دام واحدا و ستين يوما، أما في الحكاية الكهنوتية فقد أخذ الطوفان يهطل مدة مائة و خمسين يوما (5)، و بعده أخذت المياه في الانخفاض، أما مدة الطوفان في العموم فقد استغرقت اثني عشر شهرا و عشرة أيام، و حيث إن الشهور العبرية كانت شهورا قمرية، فإن الاثني عشر تقدر بثلاثمائة و أربعة و خمسين يوما، و إذا أضفنا إلى هذا الرقم عشرة أيام أخرى، فإن المدة تكون حينئذ سنة شمسية كاملة، أي ثلاثمائة و أربعة و ستين يوما، و حيث إن الكاتب الكهنوتي قد حسب مدة الفيضان بما يساوي سنة شمسية، فإنه يمكننا أن ندعي- و نحن مطمئنون- أن هذا الكاتب قد عاش في الزمن الذي استطاع فيه اليهود أن يصححوا الخطأ الكبير في التقويم القمري عن طريق مراقبتهم للشمس (6).

و أخيرا فإن الكاتب اليهوي- كما يقول جيمس فريزر (7)- عن بناء نوح للهيكل

ص: 56


1- تكوين 6: 11- 13 و كذلك: حسين ذو الفقار: المرجع السابق ص 11.
2- تكوين 7: 4، 12.
3- تكوين 1: 6- 7 و كذلك حسين ذو الفقار: المرجع السابق ص 11.
4- تكوين 7: 5، 13، 17.
5- تكوين 7: 24، 8: 3.
6- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 112.
7- نفس المرجع السابق ص 113.

و تقديمه الضحية للرب شكرا له على إنقاذه من الطوفان، في حين أن الكاتب الكهنوتي لا يذكر شيئا عن بناء الهيكل أو تقديم الضحية، و سبب هذا بدون شك هو أنه لم يكن هناك هيكل سوى هيكل أورشليم من وجهة نظر القانون «اللاوي» الذي انشغل به الكاتب الكهنوتي، كما أن تقديم الضحية من قبل رجل عادي مثل نوح يعد عملا غير لائق لم يحدث من قبل، كما يعد تعدّيا كبيرا على حقوق رجال الدين لم يفكر الكاتب الكهنوتي لحظة في أن ينسبه إلى الشيخ المبجل.

و بناء على ذلك فإن الموازنة بين الحكايتين تؤكد بصورة واضحة النتيجة التي توصل إليها النقاد، و هي أنهما كانتا في الأصل مستقلتين، و أن الحكاية اليهوية تعد بحق أقدم من الحكاية الكهنوتية، ثم مزج كاتب النص الحالي في التوراة بينهما بطريقة فجة للغاية.

ثم يزعمون بعد ذلك- و يا للعجب- أن هذا تنزيل من عليّ قدير، «كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا» (1). فإن كتابا من عند اللّه لا تتضارب نصوصه بعضها مع بعض «أ فلا يتدبّرون القرآن و لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا» (2).

بقيت نقطة أخيرة في قصة الطوفان- كما قدمتها التوراة- تتصل بوجهة نظر جديدة في الحقيقة، ذلك لأنه نظرا لما تتمتع به الأساطير الطوفانية من دلالات خاصة في كافة الديانات، فإنما ترمز إلى إعادة خلق (3)، أو إلى تكرار عملية التكوين الأولى، فتتأكد فيه بالنسبة للمكان قدسية «المركز الكوني»، و إنا لنجد إيحاءات بذلك في الكتابات الحاخامية، تقريرا بأن «العالم خلق إلى وجود ابتداء من صهيون»، و أن آدم إنما «سوّي في أورشليم» (4)، ثم الادعاء بأن أرض فلسطين متسامقة عن غيرها، لم تغمرها مياه الطوفان، مع التركيز في نصوص أخرى على أن مدينة أورشليم و جبل صهيون بالذات، هما اللذان أفلتا من الغمر العظيم (5).

ص: 57


1- سورة الكهف: آية 5.
2- سورة النساء: آية 82.
3- .182 .P ,1964 ,siraP ,snoigileR sed eriortsiH'd etiarT ,edailE aecriM
4- . 18- 16. P, 1959, kroY weN, yrotsiH dna somsoC, edailE aecriM
5- . 15- 13. P,. dibI، و كذلك حسين ذو الفقار: إله موسى في توراة اليهود: المجلة- العدد 163 يوليو 1970 ص 15.

فلو كانت العقيدة اليهودية صادقة مع نفسها، لما انحط فلك نوح على جبل «أراراط»، و إنما على جبل صهيون، الذي انعقدت من بعد نصوص التوراة على تجسيده في صورة من تفرد قدسي، من حول معبد سليمان، مما حدا بالحاخامات أن يدونوا ما دونوا- و سبق الإشارة إليه- من أنها منطقة متسامقة قصر عن أن يغمرها الطوفان، في تحد سافر لما تقرره النصوص القديمة (1) من أن قد «تعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض، فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت السماء»، و من هنا، فهو إذن صهيون، و ليس أراراط، الجبل الذي انحط عليه فلك نوح، إلا أن نكون أمام حقيقة تاريخية- فهو «الجودي» استوت عليه سفينة نوح، إذ «غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ» (2)، و لكن من أدرانا أن «لجودي» كان قمة من جبال أراراط، حتى نسلم أننا أمام حقيقة تاريخية، إنما هو افتراض لا يستقيم مع المنطق- نستخلصه من الدراسات المقارنة- الذي خضعت له في جوهرها أساطير الأولين- بل و حتى تحبيرات الحاخامات، بعد ذلك بقرون- حريصة كل الحرص على قدسية المكان، من حيث مركزية تكوين، و بالضرورة، من حيث إعادة خلق، أو إعادة توالد و تكاثر من صلب ذرية مصطفاة، و قد أبيدت أسباب الحياة جميعا (3).

إننا بصدد أسطورة أجمع النقاد على أنها استعيرت من أصول سابقة- سومرية أو بابلية فيما قيل- استنادا إلى النصوص التي تمّ الكشف عنها، و لكن ليس حتما و بالضرورة، فقد كانت شائعة ذائعة فيما بين الشعوب القديمة، فمن يدرينا أن لم تستق عناصرها عند العبريين من روايات أخرى، ضاعت أصولها فيما ضاع، أو ربما هي بعد في طي الغيب، لم تتهيأ ظروف الكشف عنها، كما كان الحال بالنسبة للرواية السومرية قبل عام 1914 م (4).

و لعل الذي يدفعنا إلى هذا التساؤل، إنما هو كلمة «أراراط» استوقفتنا فنحار

ص: 58


1- تكوين 7: 19.
2- سورة هود آية: 44.
3- حسين ذو الفقار: المرجع السابق ص 15.
4- نفس المرجع السابق ص 15، و كذلك, nodnoL, ygolohtyM nretsaE elddiM, ekooH. H. S 16. P، 1963.

كيف أمكنها التسلل إلى نصوص التوراة ... لا تفسير إلا أن الأسطورة هنا مستقاة من أصول تداولها أقوام استوطنوا وقتا ما هضاب أرمينيا، تلك المنطقة الجبلية، حرية بأن تكون قد أورثتهم عبادة إله ما، بركاني الصفات و السمات، يطلقون عليه من بعد- إذ يستقر بهم المقام في أرض كنعان- تحريفا أو تبديلا، أسماء سامية أو قريبة في مخارجها على الأقل من اللغات السامية، مثل «أداد» و «شداي». و إل وه ربما كان هو الاسم العتيق للإله «يهوه» إله القينيين منذ الأزل ... بل إن بعض الثقات يرجعون أسطورة الطوفان- كما في التوراة- إلى أصول «حورية» من الذين استقروا بأرض فلسطين في عصر إبراهيم (تك 14: 6) تعثر بنقوشهم متناثرة فيما بين تل الحريري (ماري القديمة) و رأس شمرا (أوجاريت)، و لكن أقدمها، تلك التي في «بوغازكوي» عاصمة الحيثيين القديمة بقلب الأناضول، اشتملت على مقاطع من ملحمة جلجاميش، و لغتهم- أو لهجة متفرعة عنها- هي التي كانت سائدة في مملكة «أورارتو utrarU»- أرمينيا القديمة- إليها تنسب جبال «أرارات» أو «أراراط» كما في التوراة (1)، و مع ذلك فإننا نميل إلى أن قصة الطوفان، كما جاءت في التوراة، إنما تعتمد في الدرجة الأولى على أساطير طوفانية- سومرية أو بابلية- من العراق القديم، الأمر الذي سوف نوضحه فيما بعد.

و لكن: لعل من الأفضل قبل ذلك، أن نشير إلى الدور الذي لعبه الخيال اليهودي في العصور المتأخرة بحكاية الطوفان- كما روتها التوراة- فأضافوا إليها تفاصيل جديدة تميل إلى المغالاة أحيانا، و إلى الزخارف الرخيصة أحيانا أخرى، و إلى تشويه القصة في غالب الأحايين، و كأن هؤلاء اليهود لم يكفهم ما فعله أسلاف لهم في عصور خلت من مسخ القصة الحقيقية- كما أنزلها اللّه على كليمه موسى عليه السلام- فخلطوا بينها و بين ما وجدوه في العراق القديم- على أيام السبي البابلي- من قصص عن طوفان يروي السومريون، و البابليون من بعدهم أنه أغرق أرضهم. nA

ص: 59


1- حسين ذو الفقار: المرجع السابق ص 15، 16 و كذلك: : 124- 123. P, 1969,) skooB niugneP (setittiH eht, yenruG. R. O و في الترجمة العربية للدكتور محمد عبد القادر ص 171، و كذلك. .92 .P ,1963 ,sirap ,egnaG ua eenarretideM al ed seigolohtyM ni xuatnediccO setimeS seD seigolohtyM ,touqaC erdnA

و من بين الزخارف الرخيصة أو الإضافات الغريبة التي أضيفت إلى الأسطورة القديمة، تصوير الناس و هم يعيشون في دعة قبل أن يحدث الطوفان، فقد كانوا من زراعة واحدة يجنون محصولا يكفي حاجاتهم طيلة أربعين عاما، كما كانوا بفنونهم السحرية يسخرون الشمس و القمر لخدمتهم، و لم تكن الأجنة تمكث في بطون أمهاتها سوى بضعة أيام بدلا من تسعة شهور، و بمجرد أن يولد الأطفال يكونون قادرين على الكلام و السير على الأقدام، بل إنهم يتحدون الشياطين و يستهزءون بهم. و إن هذه الحياة السهلة المرفهة كانت هي السبب فيما وصل إليه الناس من ضلالة، كما كانت دافعا لهم إلى ارتكاب الآثام، و بخاصة الفسق و السلب، الأمر الذي أثار غضب الرب و جعله يقرر أن يقضي على العاصين بأن يغرقهم في الطوفان.

و مع ذلك فقد أمهلهم الرب و أمر نوحا بأن يعظهم حتى يرجعوا عن هذه الطريق، و هددهم بأن الرب سيغرقهم في الطوفان جزاء جورهم، و قد أخذ نوح يعظهم طيلة مائة و عشرين عاما، بل إن الرب منحهم مهلة أسبوع آخر في نهاية هذه المدة، و في هذا الأسبوع جعل الرب الشمس تشرق كل صباح من المغرب، و تغرب في المساء في المشرق، و لكن هذا كله لم يحرك هؤلاء العاصين للرجوع إلى التوبة، بل على العكس أخذوا يسخرون من نوح الورع، و يستهزءون به عند ما أبصروه يبني الفلك، و كان نوح قد تعلم بناءه عن طريق كتاب مقدس كان قد سلمه الملاك «رزائيل» إلى آدم، و كان يحتوي بين ثناياه على العلم الديني و الدنيوي معا، و قد كان هذا الكتاب من الياقوت الأزرق، و قد وضعه نوح في صندوق ذهبي أحكم إغلاقه و أخذه معه في الفلك، فقام مقام الساعة في التمييز بين الليل و النهار في أثناء فترة الفيضان التي لم تكن تسطع فيها الشمس أو يبزغ فيها القمر، أما الطوفان فقد تسبب عن التقاء المياه المذكرة التي هطلت من السماء بالمياه الأنثوية التي تدفقت من الأرض، و قد تدفقت مياه السماء من تجاويف صنعها الرب بأن انتزع نجمين من برج الثريا فتركا مكانهما تجويفا، و عند ما شاء الرب بعد ذلك أن يسكت الأمطار الهاطلة من السماء عاد فسد التجويفين بنجمين أخذهما من برج الدب، و هذا هو السبب في أن برج الدب ما زال يلاحق برج الثريا حتى اليوم مطالبا بأولاده و لكنه لن يحصل عليهم إلى الأبد.

و منها كذلك أن هناك حيوانا ضخما هو «الريم» لم يجد له مكانا في الفلك لضخامته،

ص: 60

و لهذا فقد قيده نوح بحبل طويل ربطه في الفلك، و أخذ الحيوان يخب من ورائها، و بالمثل كان المارد «عوج بن عنق» ملك باشان من الضخامة بحيث لم يجد مكانا في الفلك، فجلس على ظهره و بذلك أنقذ، أما عن الناس الذين كانوا مع نوح في الفلك فهم زوجته «نعمة» ابنة «أنوش» و أولاده الثلاثة و زوجاتهم.

على أن مشكلة المشاكل التي كان على نوح أن يواجهها هي مشكلة توزيع المؤن، إذ كان عليه أن يطعم حيوان النهار نهارا، و حيوان الليل ليلا، كما كان عليه أن يقدم الطعام للمارد «عوج» من خلال ثقب في سقف السفينة، و رغم أنه كان يقضي ليله و نهاره صاعدا هابطا في السفينة لإطعام ما فيها و من فيها، فإنه لم يسلم من الأذى، ذلك أن الأسد الذي كان هادئا نسبيا لإصابته بالحمى طوال الوقت كان فظا للغاية، و ذات مرة لم يقدم له نوح الغذاء الكافي، فما كان منه إلا أن ضرب نوحا بكفه ضربة أصابته بالعرج سائر أيام حياته (1).

و هناك رواية لكاتب مسيحي- ربما عاش في فترة الفتح الإسلامي- عثر عليها من بين مخطوطات دير سانت كاترين في سيناء، تقدم لنا تفصيلات مثيرة عن نظام الفلك الداخلي، فالقطعان و الوحوش قد سكنت جوف السفينة، كما سكنت الطيور الدور الأوسط منها، و خص نوح سطح النزهة في السفينة له و لأسرته بعد أن عزل الرجال عن النساء، فأقام نوح و أولاده في الجانب الشرقي من هذا السطح، كما أقامت الزوجات مع أطفالهن في الطرف الغربي منه، و كان الحاجز بين هؤلاء و أولئك جثة آدم التي كانت قد انتشلت من قبر غمرته المياه، كما تخبرنا الرواية بعد ذلك بأبعاد السفينة على وجه التحديد بالذراع و عن اليوم و الشهر الذي ركب فيه الركاب الفلك (2).

2- قصة الطوفان: بين التوراة و قصص السومريين و البابليين:

يكاد يتفق العلماء- من أمثال ليوناردو ولي (3)، و أدولف لودز (4)، و ستانلي

ص: 61


1- راجع عن هذه الصور الغريبة و أمثالها: جيمس فريزر: المرجع السابق ص 116- 119.
2- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 119.
3- . 34. P, rU tA snoitavacxE, yellooW dranoeL riS
4- .486 .P ,yrutneC thgiE ehtfo elddiM eht ot sgninnigeB sti morf ,learsI ,sdoL ehplodA

كوك (1)، و جورج بارتون (2)، و جاك فينجان (3)، و يونجر (4)، و ول ديورانت (5)، و جيمس فريزر (6)- على أن قصة الطوفان، كما جاءت في التوراة، ليست قصة عبرية أصيلة، و إنما أخذها الإسرائيليون من ميزوبوتاميا، و لكن القصة لم تنقل بطريقة عمياء، و إنما تصرفوا فيها بطريقة تتفق و أهداف كتابهم المقدس، ذلك لأن القصة التوراتية هي نفس القصة التي وجدت على ألواح مكتوبة منذ فترة ترجع إلى ما قبل عصر إبراهيم- عليه السلام (7)- بل إن الرواية البابلية أقدم من الرواية العبرية بما يقرب من أحد عشر أو اثني عشر قرنا، فضلا عن أن الحكاية العبرية في جوهرها- كما لاحظ تسيمرن- تقضي بأن يكون البلد المشار إليه قابلا لحدوث الفيضان مثل بابل، الأمر الذي لا يدع مجالا للشك في أن الحكاية نشأت أصلا في بابل، ثم انتقلت بعد ذلك إلى فلسطين، فإذا أضفنا إلى ذلك أن القصتين تتفقان لا في الأحداث الأساسية فحسب، بل إن وجوه الاتفاق بين القصتين تتعدد حتى تشمل التفصيلات الجزئية، بحيث لا يمكننا أن نرجع ذلك إلى محض الصدفة (8)، أو حتى إلى توارد الأفكار، يتبين لنا إلى أي حد اعتمدت قصة الطوفان في التوراة على قصص سومر و بابل الخاص بالطوفان.

و لعل سؤال البداهة الآن: إذا كان ذلك كذلك، و إذا كانت قصة الطوفان في التوراة تعتمد على قصص الطوفان في بلاد النهرين، فمتى و كيف تمّ ذلك؟

يقول (ه. ج. ويلز): إنه من الراجح أن العهد القديم (التوراة) قد جمع لأول مرة

ص: 62


1- .481 .P ,1965 ,egdirbmaC ,III ,yrotsiH tneicnA egdirbmaC eht ni ,kooC .A .S
2- . 320. P, 1937, elbiB eht dna ygoloeahcrA, notraB. A egroeG
3- .30 .P ,1969 ,notecnirP ,ytinaitsirhC dna msiaduJ fo dnuorgkcaB lacigoloeahcrA eht ,tsap tneicnA eht morf thgiL ,nageniF kcaJ
4- . 372. P, 1970, ogacihC, yranoitciD elbiB s'regnU, regnU. F. llirreM
5- ول ديورانت: قصة الحضارة- الجزء الثاني- ترجمة محمد بدران- القاهرة 1961 ص 368.
6- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 113- 119.
7- . 34. P,. tic. po, yellooW dranoeL riS
8- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 113/، 115.

في بابل، ثم ظهر في التاريخ في القرن الخامس أو الرابع قبل الميلاد، ذلك لأن اليهود قد جمعوا هناك أثناء السبي البابلي تاريخهم بعضه إلى بعض، و طوروا تقاليدهم و نموها، و من ثم فقد أصبح الذين آبوا إلى أورشليم بأمر كيروش الثاني (558- 529 ق. م) شعبا يختلف اختلافا عظيما في الروح و المعارف عن ذلك الشعب الذي خرج منها مأسورا، و ذلك لأنهم تعلموا الحضارة هناك من البابليين (1).

و يقدم العلماء الكثير من الأدلة على تأثير الأدب البابلي في التوراة، و إن كانوا يختلفون على وقت هذا التأثير و طريقته، فهناك من يرى أن ذلك إنما كان على أيام الأسر البابلي (2) (586- 539 ق. م)، بينما يذهب رأي آخر إلى أن ذلك ربما كان في القرن الثامن و السابع ق. م، أثناء فترة اتصال الإسرائيليين الفعلي بالآشوريين، ذلك لأن قصة الطوفان هذه- على ما يبدو- لم تكن موجودة في الروايتين المبكرتين في المصدر «اليهوي»، ذلك لأن واحدة منهما تعتبر أبناء «لامك» الثلاثة من زوجتيه «عادة» و «صلة» أساسا لتقسيمات الجنس البشري، و أما الأخرى، فإن اختراع النبيذ- فيما ترى هذه الرواية- لهو أبرز حادث في حياة نوح (3).

و هناك رأي ثالث يذهب إلى أن الروايتين- السومرية و البابلية- إنما تسربت إلى بني إسرائيل منذ زمن طويل عن طريق مصادر سومرية و سامية كانت منتشرة في جميع بلاد الشرق الأدنى القديم (4)، لدرجة أن أصبحت معها في متناول الأقوام جميعا ينتحلها هذا أو ذاك، فيأخذ عنها الرواة كل على هواه، تمجيدا لذكرى أسلاف، و قد تكون- في أغلب الأحايين- لا تمت إلى بني إسرائيل أو إلى بني يهوذا أصلا، إلا أنها صارت بمرور الزمن شائعة مشتركة بين شعوب المنطقة جميعا (5)، فقد مضى الزمن الذي كانت تعالج فيه الأصول الإسرائيلية بعزلة عما كان يتحوطها من مؤثرات، و إنما تداخلت مع غيرها، نهبا لتفاعلات اجتاحت المنطقة كلها، فرسمت مسار التاريخ A

ص: 63


1- .78 ,73 .P ,1965 ,)kooB nacileP( dlroW eht fO yrotsiH trohS A ,slleW .G .H
2- . 481. P,. tic. po, kooC. A. S
3- . 486. P,. tic. po, sdoL. A و كذا تكوين. 92: 5, 22- 02: 4
4- ول ديورانت: المرجع السابق ص 368.
5- 161- 160. P, tic- po, sdoL. A

في الشرق القديم جميعا (1)، بخاصة في الفترة التي كتب اليهود فيها توراتهم (2).

و هكذا يمكننا القول أن كتاب التوراة قد تعرفوا على التراث البابلي- عن طريق الروايات الشفوية أو المدونة- و ذلك إبان قيام دولتهم في كنعان، و ربما أثناء السبي البابلي أو بعده، و يحق لنا أن نفترض أن العلاقة الوثيقة بين البلدين التي مهد لها الغزو البابلي في فلسطين، ربما أدت على نحو ما إلى انتشار الأدب البابلي في فلسطين، كما أدى السبي إلى انتشار الأدب اليهودي في بابل، و بناء على وجهة النظر هذه، فإن بعض التفصيلات التي تختلف فيها الرواية الكهنوتية عن الرواية اليهوية، و تتفق فيها مع الرواية البابلية، ربما نقلها الكتاب الكهنوتيون مباشرة عن المصادر البابلية، و هذه التفصيلات تتعلق ببناء السفينة و طلائها بالقار أو القطران اللذين يعدان بصفة خاصة من منتجات بابل، على أن احتمال معرفة العبريين لحكاية الطوفان الكبير قبل أن يؤخذوا في الأسر بزمن طويل، و قرب حكايتهم في شكلها من الحكاية البابلية، هذا الاحتمال تؤيده كل التأييد الحكاية اليهوية في سفر التكوين التي يمكن أن ترجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد و التي لا يمكن أن تتأخر بحال من الأحوال عن القرن الثامن ق. م (3).

و أيا ما كان الأمر، فهناك إجماع بين العلماء على أن هناك تأثيرات بابلية في التوراة- فضلا عن التأثيرات المصرية الواضحة (4)- كما أن الأساطير البابلية مثل قصة الطوفان قد وجدت في بابل قبل أن توجد في التوراة، و لكنها لم تنقل بطريقة عمياء (5).

و ربما كانت المقارنة السطحية بين الحكايتين اليهودية و البابلية كافية لأن تؤكد لنا أن كلتا الحكايتين لم تنشأ في الأصل مستقلة، بل من المؤكد أن إحداهما قد اعتمدت S

ص: 64


1- .35 .P )23 .n div( tsaE raeN .tneicnA eht dna elbiB eht ni noitisnarT ni yrotsiH lacilbiB ,llahnedneM egroeG
2- راجع مراحل كتابة التوراة في كتابنا إسرائيل ص 24- 45.
3- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 115، 116.
4- راجع أمثلة لهذه التأثيرات في كتابنا إسرائيل ص 151- 159.
5- 104. P,. tic. po, yarG. J و كذلك 481. P,. tic. po, kooC. A. S

على الأخرى، ذلك لأنه من الجلي أن بين الرواية العبرية و البابلية عناصر مشتركة كثيرة، و ربما رجعا كلاهما إلى مصدر واحد (1).

و إذا ما أردنا أن نقدم أدلة على ذلك، وجدنا عدة مقابلات بين قصة الطوفان في التوراة، و بينها في الأدب الميزوبوتامي القديم، فمن ذلك (أولا) أن الطوفان هنا و هناك بسبب إلهي، و ذلك حين قررت القوى الإلهية أن تقضي على الجنس البشري عن طريق طوفان عظيم، و منها (ثانيا) أن البطل هنا و هناك ينال تحذيرا مما هو مؤكد أن يكون، فيبني فلكا للخلاص، و هذا الفلك يطليه بالقار حتى لا ينفذ إليه الماء، و يحضر معه حيوانات و طيور و يدخلها إلى الفلك، فينقذ نفسه و ينقذ معه صنوف الكائنات الحية جميعا، و منها (ثالثا) أن الطوفان هنا و هناك كان لأن القوم قد فسدوا، و أن الشر قد انتشر بينهم، و أن المبادئ الخلقية قد لطخت تماما، و من ثم فالطوفان للقضاء على بذرة البشر (2).

و منها (رابعا) أن بطل القصة هنا و هناك كان رجلا كريم الخلق، نقي السريرة ف «زيوسودرا» في القصة السومرية يوصف بالتقوى، و بأنه ملك متواضع يخشى الإله، و الأمر كذلك بالنسبة إلى نوح التوراة، فقد كان «رجلا بارا كاملا في أجياله، و سار مع اللّه» (3)، و منها (خامسا) أن الأمطار الغزيرة قد هطلت هنا و هناك، و من ثم فقد تجمع الطوفان بمقدار كبير، و دام أياما يختلف عددها قلة أو كثرة، و كان في كلتا الحالتين بأسباب طبيعية، ريح عاتية و أمطار مستمرة، و عواصف مرعبة في القصة البابلية، و «انفجار كل ينابيع الغمر العظيم، و انفتاح طاقات السماء» في القصة التوراتية، و منها (سادسا) أن البطل هنا و هناك قد أنقذ هو و عائلته، و كذا الحيوانات التي صاحبته في السفين، و إن كان عدد الناجين في القصة البابلية، أكثر منه في القصة التوراتية، و منها (سابعا) أن السفينة الضخمة- و المكونة من عدة طوابق- تظهر هنا

ص: 65


1- قاموس الكتاب المقدس- ج 2- ص 584.
2- . 372. P,. tic. po, regnU. F. M
3- راجع كتابنا اسرائيل ص 145.

و هناك، و إن كانت السفينة البابلية قد احتاجت في تحريكها إلى خمسة أمثال ما احتاجته سفينة التوراة (1).

و منها (ثامنا) أن الفلك يستقر على قمة جبل- نيزير (نيصير) في القصة البابلية، و «أراراط» في التوراة- و منها (تاسعا) أن البطل هنا و هناك يرسل طيورا لاستكشاف حالة الجو، و لمعرفة مدى انحسار مياه الطوفان عن الأرض، و في كلتيهما عادت الحمامة إلى السفين، لأنها لم تجد مكانا تستقر فيه، أما الغراب فلم يعد في كلتا الحالتين، و منها (عاشرا) أن البطل هنا و هناك يقدم تقدمة بعد خروجه من السفين شكرا على إنقاذه، و في كلتا الحالتين اشتمت الآلهة رائحة الشواء الطيبة، فسكن غضبها، و تنسمت رائحة الرضا (2).

و منها (حادي عشر) أن البطل هنا و هناك ينال البركات بعد الكارثة، فضلا عن الأمان في المستقبل، ففي القصة السومرية، ينفث الإله في «زيوسودرا» روح الخلود، و يستقر في دلمون، حيث تشرق الشمس، أي حيث القوة القاهرة للموت (3)، و في القصة البابلية يصبح «أوتنابيشتم» و زوجته مخلدين، و يعيشان بعيدا عند مصاب الأنهار، و في التوراة يبارك اللّه نوحا و بنيه و يعقد معهم ميثاقا و يمنحهم خشية و رهبة على كل الحيوانات و الطيور (4).

و منها (ثاني عشر) أن الإله هنا و هناك يندم على إهلاك البشر بالطوفان، ففي القصة البابلية يندم أنليل لأنه «أحدث الطوفان دون روية، و قاد الناس إلى التهلكة»، بل إن الآلهة نفسها قد لامته على ذلك، و تمنت لو أرسل أسدا أو ذئبا أو مجاعة أو طاعونا، فأهلك بني البشر الآثمين، «فعلى الآثم وزر إثمه، و على المعتدي وزر

ص: 66


1- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 114 و كذا. 372. P,. tic. po, regnU. F. M
2- . 372. P،.، و كذا جيمس فريزر: المرجع السابق ص 114.
3- ..247 .P ,1960 ,siraP ,neicnA tneirO -ehcorP el snad setiR te sehtyM ,semaJ .O .E
4- تكوين 9: 1- 2، 11.

اعتدائه» (1)، و في التوراة يندم الرب كذلك على إحداث الطوفان و يعزم على ألا يلعن الأرض من أجل الإنسان أبدا، و ألا يميت بعد اليوم كل حي، بل و يقطع الرب على نفسه ميثاقا «لا يكون طوفان ليخرب الأرض»، و يضع للميثاق علامة، هي «القوس في السماء، فيذكر وعده و لا يأتي بطوفان يغرق الأرض أبدا» (2).

و منها (ثالث عشر) التركيز على الشخص العاشر فيما قبل الطوفان، ففي القصة البابلية- وفقا لرواية بيروسوس- أن البطل الذي أنقذ من الطوفان، إنما كان ملك بابل العاشر، و في قصة التوراة إنما هو «نوح» الرجل العاشر في سلسلة العشرة الرؤساء الآباء من آدم إلى نوح (3)- عليهما السلام-.

و هكذا تتعدد وجوه الشبه بين الحكايتين البابلية و العبرية في مجموعهما، فإذا شئنا بعد ذلك أن نتعمق التفصيلات، فإننا نجد أن الحكاية البابلية أقرب إلى الحكاية اليهوية منها إلى الكهنوتية، فكل من الرواية البابلية و اليهوية تعطي أهمية للعدد سبعة، فقد حذر نوح في الرواية اليهوية من حدوث الطوفان سبعة أيام على التوالي، كما أخذ معه في السفينة سبعا من كل صنف من صنوف الحيوانات الطاهرة ثم إن المدة الزمنية بين إطلاقه طائرا و آخر كانت سبعة أيام، و بالمثل دام الطوفان في الرواية البابلية حتى بلغ قمته سبعة أيام، كما أن البطل فيها وضع مجموعات أوعية التضحية فوق الجبل، و كانت كل مجموعة تكون من سبعة أوعية. على أننا نجد من ناحية أخرى أن الحكاية الكهنوتية في سفر التكوين تقترب من الحكاية البابلية في بعض التفصيلات المحددة، أكثر من اقتراب الرواية اليهوية منها، ففي كل من الروايتين، أصدرت الآلهة تعليمات محددة إلى البطل لبناء السفينة، و من ثم فقد بنيت السفينة في كل منهما من عدة طوابق و قسم كل طابق إلى عدة حجرات، كما أنها طليت في كل منهما بالقار أو القطران و رست J

ص: 67


1- انظر في هذا المجال ما جاء في القرآن الكريم في سورة الأنعام «وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى و ما جاء في سورة الزلزلة «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»، ثم انظر ما جاء في التوراة «أنا الرب إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث و الرابع من مبغضي» (خروج 20: 5- 6).
2- تكوين 9: 8- 17.
3- رشيد الناضوري: المرجع السابق ص 249 و كذا 320. P,. tic. po, notraB. A. G و كذا. 3. P,. tic. po, nageniF. J

كل منهما على جبل، و استقبل البطلان بركة الإله عند خروجهما (1).

و لعل أفضل ما نختم به أوجه الشبه بين الروايتين البابلية و التوراتية لقصة الطوفان، أن نقدم نصوصا من الروايتين جنبا إلى جنب (2)، ثم نترك للقارئ الحكم في أمر هذه الشبه.

الصورة

ص: 68


1- جيمس فريزر: المرجع السابق ص 114، 115.
2- انظر كذلك.. 57- 53. P,. tic. po, relleK. W

الصورة

و يقدم لنا «الدكتور جون إلدر» خلافات بين القصتين، ففي التوراة يحدث الطوفان كعقاب من اللّه لمحو الأشرار، و في القصة البابلية يحدث الطوفان لهوى في نفس

ص: 69

الآلهة القساة، و في التوراة يخلص نوح من معه لأنه إنسان بار، و في القصة البابلية ينال البطل النجاة لأن له نصيرا من بين الآلهة الكثيرة، فقصة التوراة تقدم لنا ديانة توحيدية، و لكن البابليين يقدمون لنا أحط دركات الديانات التي تنادي بتعدد الآلهة، و هكذا نرى الفارق العظيم بين فكرة الوحي السامية في قصة التوراة، و بين الفكرة الخرافية المليئة بالخيالات و الأوهام و المتناقضات في القصة البابلية، مع أنها خلاصة أرقى ما وصل إليه الفكر البشري في دولة ساميّة متحضرة (1).

و الحق أن ما يقوله الدكتور «جون إلدر» ليس هو الحق كل الحق، ذلك لأن الطوفان كان في القصتين عقابا من الإله لمحو الأشرار، فكما أخبر نوح بأن الطوفان كان لأن الرب أراد أن يمحو الإنسان الذي خلقه لأن شره كثر في الأرض (2)، فكذلك أخبر «زيوسودرا» أن الآلهة أرادت بالطوفان أن «تقضي على بذرة الشر»، و كما أن نوحا قد أنجي لأنه إنسان بار، فالأمر كذلك بالنسبة إلى «زيوسودرا»، لأنه كان ملكا صالحا تقيا، يخشى الإله، كما كان يتلهف شوقا إلى الاتصال بالوحي الإلهي في الأحلام و في تلاوة التعاويذ و الأدعية- و هي صفات لو كان الدكتور إلدر غير متعصب في حكمه، لعرف أن التوراة لم تسبغها على نوح، الأمر الذي لم يظهر بما يتفق و مكانة النبي الكريم في غير القرآن الكريم- بخاصة إذا علمنا أن القصة السومرية- و ليست قصة التوراة- هي التي تقدم لنا بطل الطوفان (زيوسودرا) و هو يجلس إلى جانب حائط، يستمع إلى صوت وحي إلهه، و هو يبلغه القرار بإهلاك البشر (3).

و أما أن قصة التوراة تقدم لنا ديانة توحيدية، و أن الأخرى ليست كذلك، فذلك أمر نتفق فيه معه بحذر، كما أن أحدا لم يقل- بل حتى لم يفكر- في أن ديانة السومريين-- و البابليين من بعدهم- كانت ديانة توحيدية، و مع ذلك ألا يرى «الدكتور جون إلدر» أن قصة التوراة لا تقدم لنا ديانة توحيدية- كما نعرف التوحيد الآن-. صحيح أن ديانة السومريين و البابليين ديانة وثنية، بل و مغرقة في الوثنية كذلك، و لكن صحيح

ص: 70


1- جون إلدر: الأحجار تتكلم: ص 34، 35 و انظر كذلك.. 373- 372. P,. tic. po, regnU. F. M
2- تكوين 6: 5- 12.
3- صمويل نوح كريمر: من ألواح سومر- ترجمة طه باقر ص 254- 256، القاهرة 1957.

كذلك- رغم أن دعوة موسى عليه السلام كانت دعوة توحيد، و أن كليم اللّه دعا إلى عبادة اللّه الواحد الأحد- أن توراة اليهود المتداولة اليوم، لا تقدم لنا بين صفحاتها ما يتفق و دعوة الوحدانية، و تنزيه اللّه- جل و علا- عن صفات البشر (1).

و إلا فهل من التوحيد- الذي يريد لنا الدكتور إلدر أن نفهمه من توراة اليهود- أن يوصف اللّه- جل و علا- بالحزن و الأسف لخلقه الإنسان، كما جاء في سفر التكوين (2) (6: 6- 7)، و هل من التوحيد أن يكون للّه- جل جلاله- أولاد منذ بدء الخليقة، و أنهم قد فتنوا بجمال بنات الناس، «فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا»، ثم تحدر من هؤلاء و أولئك نسل رزقه اللّه بسطة في الجسيم، و هم الجبابرة الذين سكنوا في الأرض قبل الطوفان (3)، و هل من التوحيد أن تكون قوس قزح (4) التي تظهر في الأفق غبّ المطر، أنشأها اللّه لتكون تذكرة له بألا يعود إلى إغراق الأرض أبدا (5)، و هل من التوحيد أن يوصف اللّه- سبحانه و تعالى- في التوراة (6)، بأن نفسه ترتاح من رائحة الدخان المتصاعد من المحرقات، و أنه يغضب كل الغضب إذا لم تقدم له في الصورة التي يرتضيها (7). ).

ص: 71


1- راجع في ذلك صفات اللّه- سبحانه و تعالى- كما تقدمها التوراة (كتابنا إسرائيل ص 57- 69).
2- لبيان أمثلة كثيرة ترددت في التوراة في هذا الصدد انظر كتابنا «اسرائيل» ص 64- 65.
3- تكوين 6: 1- 5.
4- و «قزح» هذا من أسماء الشيطان، و لهذا فقد نهى الحبيب المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه- عن هذه التسمية، مؤثرا تسميتها بقوس اللّه (راجع ص 41 من كتاب محنة التوراة على أيدي اليهود لمؤلفه عصام حفني ناصف).
5- تكوين 9: 13- 15.
6- تكوين 8: 20- 21، لاويون 1: 1- 9، 10: 1- 2، و كذلك إبراهيم خليل: إسرائيل و التلمود ص 86، 87.
7- و يرد القرآن الكريم على مزاعمهم هذه بقوله تعالى: «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها، وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ، كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» (الحج: آية 37) و إذ يقول عز و جل في هدي الحج من الأنعام: «فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ» (الحج: آية 28).

ص: 72

الفصل الثّالث قصّة الطّوفان في القرآن الكريم

يزخر القرآن الكريم بالكثير من القصص الذي ساقه اللّه لتأكيد قيم دينية شتى فهو يحارب الوثنية و يدعو إلى الوحدانية، و يؤكد المعاني الخلقية السامية، و يضرب الأمثال، ثم هو يطمئن صاحب الرسالة- صلوات اللّه و سلامه عليه- و يواسيه في الشدائد، مذكرا إياه بما لاقه إخوة كرام له من عنت الضالين و بغي الكافرين، فما وهنوا و ما استكانوا، و ما ضعفوا و ما تخاذلوا، و لكنهم صبروا و صابروا، و من هنا يخاطب اللّه رسوله الكريم في كتابه الكريم، «وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (1)».

و القرآن الكريم في كل ما جاء به من قصص- و إن لم يكن كتاب تاريخ يقدم لنا تفصيلات عن الأحداث التي يتعرض لها، إلا في عرض القصة حيث يقتضيه السياق- تعليم للمصلحين، و تربية للهداة، و لكنه في كل ذلك «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» (2) ثم «إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ» (3) و «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (4).

و إن في القرآن الكريم لقصصا شتى من غير قصص الدعوة، أو قصص الجهاد في تبليغ الرسالة، و لكنها تراد كذلك لعبرتها، و لا تراد لأخبارها التاريخية، و منها قصة

ص: 73


1- سورة هود: آية 120.
2- سورة فصلت: آية 42.
3- سورة آل عمران: آية 62.
4- سورة يوسف: آية 111.

يوسف، و كذا قصة إسماعيل عليها السلام، فقصة يوسف قصة إنسان قد تمرس منذ طفولته بآفات الطبائع البشرية، من حسد الإخوة إلى غواية المرأة إلى ظلم السجن، إلي تكاليف الولاية و تدبير المصالح في إبان الشدة و المجاعة، و قصة إسماعيل تتخللها هذه التجارب الإنسانية من عهد الطفولة كذلك، فيصاب بالغربة المنقطعة عن العشيرة و عن الزاد و الماء، و إن كان الأخطر من ذلك كله أن تكتب عليه التجارب الإنسانية ضريبة الفداء، و هي في مفترق الطرق بين الهمجية التي كانت- في معظم مجتمعات الشرق القديم- لا تتورع عن الذبائح البشرية، و بين الإنسانية المهذبة التي لا تأبى الفداء بالحياة، و لكنها تتورع عن ذبح الإنسان، ثم يكتب لهذا الغلام الوحيد بواد غير ذي زرع عند البيت المحرم، أن تنمي إليه أمة ذات شعوب و قبائل تتحول على يديها تواريخ العالم على مدى الأيام (1).

على أن أبرز قصص الأنبياء في القرآن الكريم قصتان مسهبتان في أجزائه لأنهما ترويان نبأ الرسالة بين أعرق أمم الحضارة الإنسانية، و هما أمة وادي النهرين و أمة وادي النيل، و من أجل ذلك كانت قصة إبراهيم و موسى عليهما السلام أو فى القصص بين جميع قصص الأنبياء، و كانت الثورة فيهما على ضلال العقل في العبادة جامعة لأكثر العبادات المستنكرة في الزمن القديم (2).

و في قصة نوح- عليه السلام- نرى كيف ينقاد الجهلاء للأمر و السطوة، و لا ينقادون للحجة و الدليل، و يريدون من صاحب الدعوة أن يكون ملكا، أو تكون عنده خزائن الأرض، و يقولون له «قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين» (3)، كما نرى كذلك أن المسيطرين على أقدار القوم يكرهون التغيير، و يتشبثون بالقديم، و يأخذون على النبي الكريم أن يتبعه أناس من غير ذوي السيادة و الجاه «و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، و ما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين» (4).

ص: 74


1- عباس العقاد: الإسلام دعوة عالمية- القاهرة 1970 ص 218- 219، و انظر كذلك قصة التضحية البشرية في كتابنا إسرائيل ص 207- 209، قصة يوسف في مصر ص 225- 245.
2- عباس العقاد: المرجع السابق ص 218.
3- سورة هود: آية 32.
4- سورة هود: آية 27.

و أما الطوفان- موضوع هذا الفصل- فلقد تحدث القرآن الكريم عنه، حين تعرض لقصة نوح عليه السلام، في سور كثيرة منها سورة الأعراف (59- 64) و يونس (71- 73) و هود (25- 49) و الأنبياء (76- 77) و المؤمنون (23- 30) و الشعراء (105- 122) و العنكبوت (14- 15) و الصافات (75- 82) و القمر (9- 17) ثم سورة كاملة، هي سورة نوح، فضلا عن ذكره في مواضع متفرقة من القرآن الكريم، كما في سورة النساء و الأنعام و التوبة و إبراهيم و الإسراء و الأحزاب و «ص» و غافر و الشورى و «ق» و الذاريات و النجم و الحديد و التحريم.

و في كل هذه السور الكريمة، كان نوح- شأنه في ذلك شأن غيره من المصطفين الأخيار- يدعو قومه إلى عبادة اللّه الواحد القهار، «و كان قومه قد صوروا بعض الصالحين منهم، ثم وضعوا لهم الصور و التماثيل لإحياء ذكرهم و الاقتداء بهم، ثم عبدوا صورهم و تماثيلهم» (1)، و استمر نوح في دعوته، يحثهم ليل نهار على عبادة اللّه تعالى وحده، إلا أن القوم «جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» (2)، إذ كبر عليهم أن يكون داعي الهدى، و حامل لواء التوحيد، واحدا منهم، لا يمتاز عليهم بإمارة، و لا يفضلهم بغنى أو ثروة، كما أنفوا أن ينضموا إلى جماعة المهتدين من الضعفاء.

و يبذل النبي الكريم الجهد كل الجهد، بغية أن يؤمن القوم بربهم، و أن يكفوا عن عبادة الأصنام، و يطول الزمن، و نوح يغاديهم بالنصح و يراوحهم بالعظة سرا و علانية، و مع ذلك كله، فالذين أجابوا الدعوة، إنما كانوا قلة نادرة، فيشتكي نوح إلى ربه عجزه و قلة حيلته، و ما يلاقيه على أيدي السفهاء من قومه من عنت و هوان، فيناديه ربه «لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» (3)، و يدعو نوح ربه «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (4).

ص: 75


1- محمد رشيد رضا: تفسير المنار، الجزء السابع ص 454 و ما بعدها، الجزء الثامن ص 436، القاهرة القاهرة 1974 (طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب)، و كذلك: صحيح البخاري.
2- سورة نوح: آية 7.
3- سورة هود: آية 36.
4- سورة نوح: آية 27، 28.

و يجيب العليّ القدير دعوة النبي الكريم، فيأمره أن يصنع الفلك «حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ، قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» (1)، و هكذا أنقذ اللّه نوحا و من آمن معه، و أهلك الكافرين من قومه «وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ، وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (2) ثم أمر اللّه نوحا أن «اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» (3).

هذه هي الخطوط الرئيسية بإيجاز شديد لقصة نوح عليه السلام- كما أخبر عنها ربي جلّ جلاله في القرآن الكريم- و هي هنا إذا ما قورنت بغيرها من القصص الذي تعرض لقصة الطوفان، سواء أ كان ذلك من القصص الإنساني أو السماوي، لبان لنا بوضوح الفرق الشاسع- بغير حدود- بين ما أنزله اللّه على مولانا و سيدنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- و بين ما كتبته أقلام ناقصة معرفة أحيانا، و متعصبة أحيانا أخرى، و ساذجة في أغلب الأحايين، و إن كان بعضها يزعم لها أصحابها ما يزعمون من قداسة.

و القرآن الكريم حين تناول قصة الطوفان تناولها بما يتفق و أغراض القصص القرآني، دونما حاجة إلى تفصيلات لا يقتضيها سياق القصة، ثم جاء المفسرون و المؤرخون الإسلاميون و حاولوا تفسير هذه القصة بإسهاب و تفصيل، إلا أن هذا التفصيل لعبت فيه الإسرائيليات دورا عكّر صفوها في كثير من الأحايين، فيرون مثلا أن اللّه أمر نوحا أن يغرس شجرا ليصنع منه السفينة، و أن النبي الكريم قد غرس هذا الشجر، ثم انتظره مائة عام، ثم نجره في مائة أخرى على رواية، و في أربعين على رواية أخرى (4)، و لست أدري من أين جاءوا بهذا الأرقام، و ما هو المصدر الذي اعتمدوا عليه.

و الأمر كذلك بالنسبة إلى طول السفينة، فهي ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين ).

ص: 76


1- سورة هود: آية 40.
2- سورة هود: آية 44.
3- سورة هود: آية 48.
4- الإمام أبو الفداء إسماعيل بن كثير:- البداية و النهاية في التاريخ ج 1 (القاهرة 1932) ص 110، و كذلك الإمام القرطبي: الجامع لأحكام القرآن- دار الشعب 1970- ص 3259، و كذلك الإمام الطبري: تاريخ الرسل و الملوك ج 1 ص 181 (حيث يذكر رواية ثالثة تذهب إلى أنها أربعمائة عام).

ذراعا- فيما ترى التوراة على رأي، و فيما يرى ابن عباس على رأي آخر- و هي ستمائة ذراع في عرض ثلاثمائة، فيما يرى الحسن البصري، و هي ألف و مائتا ذراع في عرض ستمائة، فيما يرى ابن عباس، و هي ثمانون ذراعا في عرض خمسين على رواية رابعة، و هي ألفا ذراع في عرض مائة ذراع على رواية خامسة، بل و ذهبت رواية سادسة إلى أنها سفينة عظيمة لم يكن لها نظير من قبل، و لن يكون لها نظير من بعد، هذا فضلا عن أن الرواية قد تنسب أحيانا إلى شخص معين، بينما تنسب في مرة ثانية إلى شخص آخر، و إن كانت الروايات جميعا تكاد تتفق على أن ارتفاع السفينة إنما كان ثلاثين ذراعا- و هو رأي التوراة- إلا واحدة تنسب إلى الكلبي و قتادة و عكرمة رأت أنها ثلاثمائة ذراع (1)، و هكذا بات من الصعب علينا أن نصل إلى رأي نطمئن إلى أنه القول الفصل، ذلك لأن هذه الروايات لا تقدم لنا دليلا على صحتها و ضعف غيرها حتى نستطيع أن نختار الأقوى حجة منها.

و هناك رواية تنسب إلى ابن عباس- رضي اللّه عنه- تقسم السفين إلى ثلاثة بطون، الأسفل للوحوش و السباع و الدواب، و الأوسط للطعام و الشراب، و الأعلى لنوح و من معه، فضلا عن جسد آدم معترضا بين الرجال و النساء- و الذي دفنه بعد ذلك في بيت المقدس- كما كان معهم إبليس في الكوثل (مؤخر السفينة) (2).

و اختلف المؤرخون الإسلاميون كذلك في أمر التنور، فهناك من يذهب إلى أنه «وجه الأرض» أي صارت الأرض عيونا تفور، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار (3)، و هناك من ذهب إلى أنه تنور الخبز، و كان من حجارة لحواء حتى صار لنوح، بينما ذهب رأي ثالث إلى أنه مسجد الكوفة، و ذهب رأي رابع- ينسب

ص: 77


1- ابن كثير: البداية و النهاية ص 109، 110، و كذلك الطبري: المرجع السابق ص 180- 184، و كذلك القرطبي المرجع السابق ص 3259، و كذلك ابن الأثير: الكامل في التاريخ ج 1 (بيروت 1965) ص 70.
2- القرطبي: المرجع السابق ص 326، و كذلك محمد بن سعد كاتب الواقدي- الطبقات الكبرى ج 1 (دار التحرير- القاهرة 1968) ص 17.
3- ابن كثير: البداية و النهاية ص 111، تفسير القرآن العظيم ج 4 (دار الشعب- القاهرة 1971) ص 254.

إلى الإمام علي رضي اللّه عنه- إلى أنه فلق الصبح و تنوير الفجر- أي إشراقة و ضياؤه- و رغم أن هذه الرواية- فيما يرى ابن كثير- غريبة، فإنها الرواية الأكثر قبولا، فيما نظن، فضلا عن أنها الرواية الوحيدة التي تتفق إلى حد ما مع النصوص القديمة، و أما مكان التنور، فهو موضوع خلاف كذلك، فهناك من يراه في الهند، و هناك من يراه في الكوفة، بينما ذهب رأي ثالث إلى أنه في الجزيرة، بل و يتجه رأي رابع إلى أن هذه الآراء جميعا ليست بمتناقضة، لأن اللّه عز و جل أخبرنا أن الماء جاء من الأرض و من السماء «ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، و فجرنا الأرض عيونا» فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة (1).

و مما هو جدير بالذكر أن «ابن بطوطة» يذكر أن بالكوفة مسجدا صغيرا محلقا عليه أيضا بأعواد الساج، يذكر أنه الموضع الذي فار منه التنور، إيذانا بطوفان نوح عليه السلام، و في ظهره خارج المسجد بيت يزعمون أنه بيت نوح عليه السلام، و إزاءه بيت يزعمون أنه متعبد إدريس عليه السلام، و يتصل بذلك فضاء متصل بالجدار القبلي يقال إنه موضع إنشاء سفينة نوح عليه السلام، هذا و يذكر «ستون لويد»- و هو من كبار علماء الآثار الآشورية- أنه بالجامع الكبير بالكوفة مقصورة في باطن الأرض تعرف باسم السفينة حيث يعتقد المسلمون أن الفلك قد استقر بها، و يرى أن موقعها على صخرة مطلة على ساحل البحر القديم أفضل مكان بلا شك لرسو السفينة من قمة جبل «أرارات»، و يرى الدكتور محمد عبد القادر، أننا إذا نظرنا إلى خريطة العراق، لوجدنا أن الكوفة تتوسط المنطقة التي حدث بها الطوفان، و الممتدة تقريبا من أبو حبة (سيبار) في الشمال إلى أبو شهرين (أريدو) في الجنوب، كما أنها قريبة نسبيا من فارة (شورباك) المذكورة في القصة السومرية و التي كانت يوما ما على الفرات، فالقصة المتواترة في الكوفة و التي رواها ابن بطوطة و غيره من الرحالة- و كانوا لا يعلمون عند ما كتبوا بالقصص السومري و الأكدي القديم- كان لها أساس قوي من الصحة (2). eS

ص: 78


1- ابن كثير: البداية و النهاية ص 111، تفسير القرآن العظيم ص 254، و كذلك الطبري: المرجع السابق ص 186- 187. و كذلك ابن الأثير: المرجع السابق ص 70.
2- محمد عبد القادر: المرجع السابق ص 97، و كذلك. 30. P, 1955) nacileP (tsuR eht ni snoitsdnuoF, dyoiL noteS

و قد اختلف المؤرخون الإسلاميون كذلك في عدد من ركب الفلك، فذهب رأي إلى أنهم ثمانون نفسا (1)، و ذهب رأي آخر إلى أنهم اثنان و سبعون نفسا، بينما ذهب رأي ثالث إلى أنهم كانوا ثلاثة عشرة، و ذهب رأي رابع إلى أنهم كانوا عشرة فقط، بينما ذهب رأي خامس إلى أنهم كانوا ثمانية- نوح و امرأته و بنوه الثلاثة و نساؤهم- و أخيرا ذهب رأي سادس إلى أنهم سبعة فقط (2).

و الأمر كذلك بالنسبة إلى مدى ارتفاع الماء على أعلى جبل في الأرض، فذهب رأي إلى أن ذلك إنما كان خمسة عشر ذراعا، و ذهب رأي آخر إلى أنها ثمانون ذراعا، و أنه لم يبق من الأحياء عين تطرف إلا نوح و من معه في الفلك، و إلا عوج بن عنق، فيما يزعم أهل التوراة (3)، و في الواقع إن هذه رواية متأخرة ليست في التوراة، فضلا عن أنها تتعارض مع رأي هؤلاء العلماء في أن الطوفان عام، كما أن طول عوج بن عنق- إن كان هناك من يسمى عوج بن عنق- يتعارض مع ما جاء في الصحيحين عن المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه- من «أن اللّه خلق آدم و طوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن» و قوله- صلى اللّه عليه و سلم- «لو رحم اللّه من قوم نوح أحدا، لرحم أم الصبي».

و يذهب المفسرون إلى أن الطوفان قد غطى كل بقاع الأرض إلا الكعبة الشريفة، ذلك لأن سفينة نوح- فيما يرون- قد طافت بالأرض كلها في ستة أشهر لا تستقر على شي ء، حتى أتت الحرم فلم تدخله و دارت بالحرم أسبوعا، و رفع اللّه البيت الذي بناه آدم عليه السلام- و هو البيت المعمور و الحجر الأسود- على جبل أبي قبيس (4)،

ص: 79


1- راجع رواية ياقوت الحموي (معجم البلدان 3: 23) عن قرية الثمانين و أنها عند جبل الجودي قرب جزيرة ابن عمر التغلبي فوق الموصل.
2- ابن كثير: البداية و النهاية ص 111- 112، تفسير القرآن العظيم ص 255 و كذلك القرطبي ص 3263، و كذلك الطبري ص 187- 189، و كذلك الطبقات الكبرى ص 18، و كذلك ابن الأثير ص 70.
3- ابن كثير: البداية و النهاية ص 112، و كذلك الطبري ص 185، و كذلك الطبقات ص 17، و كذلك ابن الأثير ص 70.
4- الطبري ص 185، و كذلك الطبقات ص 17.

و ذهب رأي آخر إلى أن اللّه أمر جبريل فرفع الكعبة إلى السماء الرابعة، و خبأ الحجر الأسود بجبل أبي قبيس، فبقي فيه إلى أن بنى إبراهيم البيت فأخذه فجعله في موضعه (1)، بينما ذهب رأي ثالث إلى أن البيت لم يجي ء في خبر صحيح عن المعصوم أنه كان مبنيا قبل أيام الخليل، و أن الروايات التي ذهبت إلى أن آدم قد نصب عليه قبّة، و أن الملائكة قالوا قد طفنا قبلك بهذا البيت، و أن السفينة قد طافت به أربعين يوما (أو أسبوعا)، كل هذه الأخبار مأخوذة عن بني إسرائيل (2).

و الواقع أن هناك خلافا على وقت بناء الكعبة، فهناك رواية تنسب بناءها إلى الملائكة قبل أن يبرأ اللّه عز و جل الأرض، و قبل أن يخلق آدم بألفي سنة (3)، و هناك رواية أخرى تنسب بناءها إلى آدم عليه السلام (4)، بينما ينسب ابن قتيبة- في رواية ثالثة- بناء الكعبة إلى شيث بن آدم (5)، و ليس في كل هذا خبر صحيح يعول عليه و إنما اقتبسوه من مجمل الآية «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ»، فظاهر التعبير أن القواعد كانت موجودة، و أن كل عمل إبراهيم و إسماعيل إنما كان رفعها و ليس تأسيسها، و ليس في لغة العرب ما يمنع من أن يراد برفع القواعد ابتداء بناء البيت، على ضرب من التوسع في التعبير (6).

و أما الرواية الرابعة- و هي ما نميل إليه و نرجحه، فهي رواية للطبري (7)- عن سعيد بن جبير عن ابن عباس- تقول إن إبراهيم جاء فوجد إسماعيل يصلح نبلا له من وراء زمزم، فقال إبراهيم: يا إسماعيل إن ربك قد أمرني أن أبني له بيتا، فقال له إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك، فقال إبراهيم: قد أمرك أن تعينني عليه، قال:

إذا أفعل، فقام معه، فجعل إبراهيم يبنيه و إسماعيل يناوله الحجارة، و يقولان

ص: 80


1- ابن الأثير: المرجع السابق ص 70.
2- ابن كثير: البداية و النهاية ص 163.
3- العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار ج 1 ص 93 (طبعة دار الكتب 1924 م).
4- نفس المرجع السابق ص 93، و راجع: علي حسني الخربوطلي: الكعبة على مر العصور ص 7، القاهرة 1967.
5- ابن قتيبة: المعارف ص 10 (المطبعة الحسينية، 1934).
6- أحمد حسن الباقوري: مع القرآن- القاهرة 1970 ص 47.
7- الطبري: المرجع السابق ص 259- 260.

«رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (1)، فلما ارتفع البنيان و ضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر- و هو مقام إبراهيم- فجعل يناوله و يقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، فلما فرغ إبراهيم من بناء البيت الذي أمره اللّه عز و جل ببنائه، أمره اللّه أن يؤذن في الناس بالحج، فقال له «وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (2)، و هكذا بنى إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام «الكعبة المشرفة» بيتا للّه تعالى، ليكون رمزا إلى الحقيقة الكبرى في الوجود، حقيقة التوحيد، توحيد التوجه إلى اللّه الواحد الأحد، و تضرع خليل اللّه و دعا ربه، و أمن إسماعيل، أن يجعل اللّه أفئدة من الناس تهوي إلى ذريته في جوار هذا البيت المحرم (3)، «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (4).

و إذا كان صحيحا ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أن إسماعيل- عليه السلام- كان في الثلاثين من عمره يوم أمر اللّه عز و جل إبراهيم ببناء الكعبة (5)، فإن بناء الكعبة حينئذ يكون في حوالي عام 1824 ق. م، على أساس أن إسماعيل قد ولد في عام 1854 ق. م، (و توفي عام 1717 ق. م) على أساس أنه ولد لإبراهيم و هو في السادسة و الثمانين من عمره، و أن إبراهيم قد عاش في الفترة (1940- 1765 ق. م) (6)، و هو تاريخ متأخر جدا عن طوفان نوح عليه السلام.

هناك روايات كثيرة عن دخول الحيوانات و الطيور إلى السفين، و من أسف أنها روايات أشبه بالأساطير منها بحقائق التاريخ، و من أمثلة ذلك دخول إبليس إلى السفينة في ذيل الحمار (7)، بناء على كلمة صدرت من النبي الكريم دون أن يقصد منها ما

ص: 81


1- سورة البقرة: آية 127.
2- سورة الحج: آية 27.
3- محمد الصادق عرجون: محمد صلى اللّه عليه و سلم من نبعته إلى بعثته- القاهرة 1971 ص 17.
4- سورة إبراهيم: آية 37.
5- علي حسني الخربوطلي: المرجع السابق ص 16.
6- راجع في ذلك كتابنا إسرائيل ص 177، 202، و انظر كذلك تكوين 12: 4، 16: 16، 25: 7، 17.
7- الطبري: المرجع السابق ص 184.

حدث، و الرواية التي تذهب إلى أن «عوج بن عنق» لم يغرق في طوفان نوح، و أنه قد عاش من قبل عهد نوح، و إلى أيام موسى، و أنه كان جبارا عنيدا، كافرا متمردا، و أن أمه عنق بنت آدم قد ولدته من زنا، و أنه كان طويلا بدرجة لا يمكن أن تحدث، حتى إنه كان يأخذ السمكة من قرار البحار ثم يشويها في عين الشمس، و أن طوله كان 3/ 1 3333 ذراعا، و أنه كان يستهزئ بسفينة نوح و بصاحبها و أنه كان يسميها القصيعة، و الواقع أن هذه الأسطورة لا تستحق حتى أن تناقش، و لكني أتساءل مع ابن كثير، إذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن يقبل العقل أن يهلك ابن نوح، و لا يرحم من أمته حتى صبيانها، ثم يترك هذا الجبار الباغي ابن الزنى، ثم كيف تتفق هذه الخرافة مع الآيات الكريمة التي استخلصوا منها أن الطوفان كان قد قضى على كل ما و من في الدنيا، ثم حديث سيدنا و مولانا الحبيب المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه- عن طول آدم، و أنه كان 60 ذراعا، و أن الناس من بعده كانوا أقل منه طولا (1).

و من هذا النوع من الروايات كذلك، رواية تذهب إلى أن السيد المسيح- عليه السلام- بناء على رغبة الحواريين، قد أعاد «حام بن نوح» إلى الحياة، ثم سأله عن فلك نوح، فأخبر أن طولها كان ألف ذراع و مائتي ذراع، و أن عرضها ستمائة ذراع، و من هذا النوع كذلك رواية تذهب إلى أنه لم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر و لا بحر، و أن مياه البحار إنما هي من بقية الطوفان، و من هذا النوع كذلك رواية تذهب إلى أن القوم بعد أن استوت بهم السفينة على الجودي هبطوا إلى أسفله و ابتنوا قرية سموها ثمانين، و أنهم قد أصبحوا ذات يوم، و قد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة- إحداها اللسان العربي- فكان بعضهم لا يفهم كلام بعض، و كان نوح عليه السلام يعبر عنهم (2).

و ليس هناك باحث منصف يستطيع أن ينكر أثر الإسرائيليات في هذه الروايات التي تجنح إلى الخيال أحيانا و إلى منافاتها للعقيدة الإسلامية الصحيحة أحيانا أخرى،

ص: 82


1- ابن كثير: البداية و النهاية ص 114.
2- نفس المرجع السابق ص 116، تفسير القرآن العظيم ص 254- 257، و كذلك القرطبي المرجع السابق ص 3259- 3266.

و إلى تعارض بعضها مع بعضها الآخر في أحايين كثيرة، و إذا ما أردنا أن نقدم الدليل على ذلك، و أخذنا على سبيل المثال قصة تبلبل ألسنة الناجين من الطوفان، لوجدنا أثر التوراة واضحا فيها- إن لم تكن منقولة عنها أو تكاد- ذلك أن التوراة حاولت أن تقدم تفسيرا ساذجا غير علمي لاختلاف اللغات و الأجناس، فروت أن الناجين من الطوفان أرادوا أن يبنوا برجا عاليا، بغية الصعود إلى اللّه- عز و جل- في علياء سمائه، إذ كانوا يحسبون السماء أشبه شي ء بلوح زجاجي يعلو على الأرض بضع مئات من الأمتار، فخشي اللّه شرهم و احتاط لنفسه فهبط إلي الأرض و بلبل ألسنتهم فتفرقوا شذر مذر، و من ثم فقد سميت المدينة «بابل» لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض (1).

و لعل سؤال البداهة الآن: هل عمّ الطوفان الأرض كلها، أم كان طوفانا خاصا بقوم نوح دون سواهم من العالمين؟

يكاد يتجه غالبية المؤرخين الإسلاميين و علماء التفسير إلى أن طوفان نوح كان طوفانا عاما، و أنه أهلك كل من و ما على وجه الأرض، و لم يبق عليها إلا نوح و من معه، و إلا عوج بن عنق، و أن السفينة طافت بالأرض كلها لا تستقر، حتى أتت الحرم فلم تدخله، ثم انتهت آخر الأمر إلى الجودي، فاستوت عليه (2).

و يحتجون على ذلك بالآيات الكريمة «وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (3)، و قوله تعالى: «قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» (4)، و قوله تعالى «وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» (5).

و قوله تعالى: «فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ» (6) و قول الحبيب المصطفى، سيدنا و مولانا رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- «أول رسول أرسل

ص: 83


1- تكوين 11: 1- 9 و كذلك كتابنا إسرائيل ص 117 و كذلك. 104. P,. tic. po, yarG. J و كذلك عصام حفني: المرجع السابق ص 42.
2- ابن كثير: البداية و النهاية ص 163، و كذلك ابن الأثير: المرجع السابق ص 72.
3- سورة نوح: آية 26، 27.
4- سورة هود: آية 40.
5- سورة الصافات: آية 77.
6- سورة الشعراء: آية 119، 120.

نوح، و أرسل إلى جميع أهل الأرض، فلذلك لما كفروا أغرق اللّه أهل الأرض جميعا» (1).

و هناك رأي آخر يتجه إلى أن الطوفان كان محليا في المنطقة التي كان يعيش فيها نوح و قومه، و أما بقية بقاع الأرض فلم يعمها هذا الطوفان (2).

و إنني لأظن- و ليس كل الظن إثما- أن الطوفان كان خاصا بقوم نوح دون سواهم من العالمين، معتمدا في ذلك على أدلة كثيرة، منها (أولا) أن كل آيات القرآن الكريم تنص- دونما لبس أو غموض- على أن نوحا إنما أرسل إلى قومه خاصة، و من ذلك قوله تعالى «لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ، أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (3)، و قوله تعالى: «أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ وَ الْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (4)، و قوله تعالى: «وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ» (5) و قوله تعالى: «وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ، فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ، قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ، وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا

ص: 84


1- القرطبي: المرجع السابق ص 6777.
2- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص 36.
3- سورة الأعراف: آيات 59- 63.
4- سورة التوبة: آية 70.
5- سورة يونس آية 71.

رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ، وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ» (1) و قوله تعالى: «وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» (2)، و قوله تعالى: «أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» (3)، و قوله تعالى: «وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ، فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ، وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» (4)، و قوله تعالى:

«كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ» (5)، و قوله تعالى:

«قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (6) و قوله تعالى: «وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ» (7)، و قوله تعالى: «وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» (8)، و قوله تعالى: «وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغى (9)، و قوله تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَ قالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ» (10)، و قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ، أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» (11)، و قوله تعالى: «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً» (12) ... إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تؤكد كل التأكيد أن دعوة نوح إنما كانت لقومه خاصة- شأنه في ذلك شأن غيره من المصطفين الأخيار، غير الحبيب المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه-.

ص: 85


1- سورة هود: آيات 25- 30.
2- سورة هود: آية 36.
3- سورة إبراهيم: آية 9.
4- سورة المؤمنون: آية 23، 24.
5- سورة الشعراء: آية 105، 106.
6- سورة الشعراء: آية 117، 118.
7- سورة العنكبوت: آية 14.
8- سورة الذاريات: آية 46.
9- سورة النجم: آية 52.
10- سورة القمر: آية 9.
11- سورة نوح: آية 1، 2.
12- سورة نوح: آية 5.

و منها (ثانيا) أن هناك اتفاقا عاما على أن الرسل جميعا قد أرسلوا إلى قومهم خاصة، باستثناء حبيب اللّه محمد- صلى اللّه عليه و سلم- و هكذا يحكي القرآن الكريم عن رسالات الأنبياء السابقين على سيدنا محمد- عليه الصلاة و السلام- بعنوان القومية الخاصة، يقول اللّه سبحانه و تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ، وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ» (1)، و قوله تعالى: «مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ» (2)، و قوله تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ، وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوانُ لُوطٍ، وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ» (3)، و قوله تعالى: «وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» (4)، و قوله تعالى: «وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ» (5)، و قوله تعالى: «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ، وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» (6)، و قوله تعالى: «وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» (7)، و قوله تعالى عن عيسى عليه السلام:

«وَ رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ» (8).

و منها (ثالثا) أن النبي الوحيد من بين الأنبياء جميعا الذي قد أرسله اللّه إلى الناس كافة هو سيدنا و مولانا محمد- صلى اللّه عليه و سلم- و قد دلّ القرآن على عالمية الدعوة

ص: 86


1- سورة ص: آيات 12- 14.
2- سورة غافر: آية 31.
3- سورة ق آيات 12- 14.
4- سورة الأعراف: آية 73.
5- سورة الأعراف: آية 80.
6- سورة الأعراف: آية 103، 104.
7- سورة إبراهيم: آية 5، 6.
8- سورة آل عمران: آية 49.

المحمدية بأساليب متعددة في نصوص واضحة (1)، بل إن هناك أكثر من أربعين آية في القرآن الكريم يذكر فيها اللّه سبحانه و تعالى باسم رب العالمين، هذا عدا الآيات التي ذكر فيها بالنص الواضح أنه- صلوات اللّه عليه و سلامه عليه- قد أرسل إلى الناس كافة، و أن القرآن قد تنزل عليه ليقرأه على الناس كافة» (2)، و من ذلك قوله تعالى: «وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (3)، و قوله تعالى: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» (4)، و قوله تعالى: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (5)، و قوله تعالى: «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» (6)، و قوله تعالى: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» (7)، و قوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» (8)، و قوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» (9)، و قوله تعالى: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ» (10)، و قوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» (11)، ثم هناك قوله تعالى: «قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ، وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ» (12)، فمن يقرأ وصف هؤلاء العباد الذين سخر لهم

ص: 87


1- راجع في ذلك البحث الرائع لفضيلة الشيخ مناع القطان تحت عنوان «الإسلام شريعة اللّه الخالدة إلى البشرية كافة» في مجلة كلية الشريعة العدد الخامس ص 11- 40.
2- انظر المجلة الإنجليزية (yadoT yrotsiH) يونية 1961، و كذا عباس العقاد: المرجع السابق ص 157.
3- سورة النساء: آية 49.
4- سورة الأنبياء: آية 107.
5- سورة سبأ: آية 28.
6- سورة إبراهيم: آية 1.
7- سورة الفرقان: آية 1.
8- سورة الأعراف: آية 158.
9- سورة الحج: آية 49.
10- سورة إبراهيم: آية 52.
11- سورة ص: آية 87.
12- سورة إبراهيم: آيات 31- 33.

البحر و سخر لهم الأنهار و سخر لهم الليل و النهار، لا يخطر له لحظة أنهم أبناء الجزيرة العربية دون غيرهم من بني الإنسان في جميع البلدان (1)، و أخيرا فليس هناك من يشك أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- هو خاتم النبيين «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ» (2)، و بالتالي فإن دعوته لن تكون- بحال من الأحوال- مقصورة على قوم دون آخرين، و من ثم كانت عالمية الدعوة الإسلامية.

و منها (رابعا) أن السنة الشريفة تتفق مع القرآن الكريم على عالمية الدعوة المحمدية، و أن تلك ميزة الحبيب المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه- على غيره من أنبياء اللّه الكرام الذين كانت دعواتهم مقصورة على أقوامهم دون غيرهم من العالمين، يقول- صلى اللّه عليه و سلم- كما جاء في الصحيحين «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، و أحلت لي الغنائم و لم تحل لأحد قبلي، و أعطيت الشفاعة، و كان النبي يبعث إلى قومه خاصة و بعثت إلى الناس عامة»، و عن أبي موسى الأشعري أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- قال: «و الذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي و لا نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار»، و يذهب سعيد بن جبير إلى أن تصديق ذلك في كتاب اللّه تعالى: «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ» (3).

و منها (خامسا) أن قول أهل الموقف لنوح- كما في حديث الشفاعة- أنت أول رسول إلى أهل الأرض، ليس المراد به عموم بعثه، بل إثبات أولية إرساله (4)، و من ثم فإن نوحا- عليه السلام- هو أول رسول أرسله اللّه تعالى إلى قوم مشركين، هم قومه (5).

ص: 88


1- عباس العقاد: المرجع السابق ص 160.
2- سورة الأحزاب: آية 40.
3- راجع في ذلك: مجموعة فتاوي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: الجزء الرابع ص 203- 208، ج 11 ص 169- 170، ج 19، ص 9- 12، 101، 103، الرياض 1381- 1382 ه، و كذلك مناع القطان: المرجع السابق ص 20- 21، و كذلك صحيح البخاري.
4- محمد رشيد رضا: تفسير المنار ج 7 ص 503.
5- نفس المرجع السابق ج 8، ص 436.

و منها (سادسا) أن مبلغ علمي- و أنا واحد من عامة المسلمين لم يكتب له شرف التخصص في الدراسات القرآنية- أن القاعدة الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم هي إلا يعذب اللّه قوما إلا إذا أرسل إليهم رسولا يهديهم سواء السبيل، تصديقا لقوله تعالى:

«وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (1)، فإذا افترضنا أن نوحا- عليه السلام- كان في جنوب العراق- كما هو المتواتر، أو الذى يميل إليه أغلب الباحثين على الأقل فكيف يعذب اللّه- و هو أعدل العادلين- المصريين أو السوريين أو سكان الجزيرة العربية، على سبيل المثال، بسبب كفر العراقيين بنوح و بدينه القويم بخاصة و أن القرآن الكريم يقول «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً» (2)، و هذا يعني أن الذين أغرقوا، إنما بسبب خطيئتهم في حق نوح و كفرهم بدعوته، بل إن القرآن الكريم ليصرح- دونما لبس أو غموض- بأنهم قد عصوا نوحا حقيقة، يقول اللّه سبحانه و تعالى: «قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي»، و أنهم لم يتركوا وثنيتهم الضالة المضلة إلى عبادة اللّه الواحد القهار، فإذا كان الطوفان عاما، فلا بد أن تكون دعوة نوح بالتالي عامة، و هذا يتعارض مع مبادئ الإسلام الأساسية، فضلا عن معارضته لآيات من القرآن الكريم، و من ثم فلا بد أن تكون الدعوة خاصة، و أن الذين أغرقوا كانوا من الخاطئين، أو كما يقول ابن كثير «اجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم و فجورهم و دعوة نبيهم عليهم»، ثم هناك قوله تعالى: «وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» (3)، أ ليس في هذه الآية الكريمة دليل على أن الكافرين، إنما كانوا من قوم نوح فحسب، و أن الفلك التي ستبنى إنما هي لإنقاذ المؤمنين من قومه، و إغراق الكافرين منهم، ثم أ ليس في قوله تعالى: «وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ، قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ» (4) دليل على أن الساخرين من نوح كانوا من قومه، و أنهم هم أنفسهم الكافرون به، و الأمر كذلك بالنسبة إلى قوله تعالى: «قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» (5)، و قوله تعالى:

ص: 89


1- سورة الإسراء: آية 15.
2- سورة نوح: آية 25.
3- سورة هود: آية 36.
4- سورة هود: آية 38.
5- سورة المؤمنون: آية 26.

«فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (1)، و قوله تعالى: «فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ»، (2) و كل هذه الآيات و غيرها تضغط بشدة على أن الذين أغرقوا إنما كانوا من المكذبين لسيدنا نوح عليه السلام، بل إن الآية الأخيرة لتشير بوضوح إلى أن ما حدث لهم كان بعد إنذارهم «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» تصديقا لقوله تعالى «وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا». (3)

و منها (سابعا) أن اللّه سبحانه و تعالى رحمة منه بالعالمين، أنه ما من أمة إلا و جاء أهلها رسول من عند اللّه العليّ القدير، «وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا» (4)، بل إنه لمن أصول العقائد الإسلامية أنه يجب الإيمان بأن اللّه أرسل في كل الأمم رسلا (5)، يقول سبحانه و تعالى: «وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» (6)، و يقول: «وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ» (7)، «مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ» (8)، «وَ رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ» (9)، و من هنا كان الخلاف على عدد الأنبياء عليهم السلام، فمن قائل إنهم مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا، و من قائل إنهم ثمانية آلاف نبي، و من قائل إنهم ثلاثة آلاف ... إلخ (10).

و منها (ثامنا) أن حديث الرسول عليه الصلاة و السلام، الذي يحتج به على أن اللّه

ص: 90


1- سورة المؤمنون: آية 28.
2- سورة يونس: آية 73.
3- سورة الإسراء: آية 15.
4- سورة النحل: آية 36.
5- محمد رشيد رضا: تفسير المنار ج 7، ص 500.
6- سورة فاطر: آية 24.
7- سورة الزخرف: آية 6.
8- سورة غافر: آية 78.
9- سورة النساء: آية 164.
10- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم ج 2 ص 422- 428، و كذلك القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ص 2014- 2015، و كذلك محمود الشرقاوي: الأنبياء في القرآن الكريم، و كذلك كتابنا إسرائيل ص 288- 289.

ثم يرحم أحدا من طوفان نوح حتى الأطفال، أنه نفسه- فيما أظن- دليل على أن الغارقين إنما كانوا من قوم نوح، و ليس من كل بقاع الأرض، و لنقرأ الحديث الشريف- حيث التركيز على كلمة قوم- «فلو رحم اللّه من قوم نوح أحدا لرحم أم الصبي».

و منها (تاسعا) أن الذين ينادون بعالمية الطوفان (1) هم أنفسهم الذين يرون أن الفترة ما بين آدم و نوح عليهما السلام، تقارب عشرة قرون، فإذا كان المراد بالقرن مائة سنة- كما هو معروف- فبينهما ألف سنة، و إن كان المراد بالقرن الجيل من الناس، فقد كان الجيل قبل نوح يعمرون الدهور الطويلة، فعلى هذا يكون بين آدم و نوح ألوف من السنين، بل إن بعضهم يذهب إلى أنه ما كان في زمن نوح شبر من الأرض إلا و هناك إنسان يدعيه، و هناك رواية تنسب إلى الإمام مالك- عن زيد بن أسلم- أن أهل ذلك الزمان قد ملئوا السهل و الجبل، فهل يتفق ذلك مع رأي آخر لهم هو أن العالم كان في تلك الفترة قليل السكان بدرجة يستطيع أن يبلغ فيها دعوته للناس كافة، و بالتالي فإن الكافرين به قد انتشروا في كل أنحاء المعمورة، مما يستدعي أن يكون الطوفان عاما، ثم ما علاقة ذلك بفكرة العشرة الأجيال، أو رؤساء الآباء، ما بين آدم و نوح التي جاءت في التوراة (2)، بل ما علاقة الأخيرة بالعشرة الحكام الذين سبقوا الطوفان، كما يقدمهم المؤرخ البابلي بيروسوس (3)؟

و منها (عاشرا) أن الرواية التي تذهب إلى أن الطوفان قد حدث في العام الستمائة من حياة نوح- و تلك للعلم منقولة عن التوراة (4)- و في عام 2256 بعد هبوط آدم

ص: 91


1- القرطبي: المرجع السابق ص 3259، و كذلك الطبري: المرجع السابق ص 178، 190، و كذلك ابن كثير: البداية و النهاية ص 101.
2- تكوين 5: 5- 32، و هم كالآتي: آدم و عاش 930 سنة، و شيث و عاش 912 سنة، و أنوش و عاش 905 سنة، و قينان و عاش 910 سنة، و مهلائيل و عاش 895 سنة، و يارد و عاش 962 سنة، و أخنوخ و عاش 365 سنة، و متوشالح و عاش 969 سنة، و لامك و عاش 595 سنة، و نوح و عاش 950 سنة.
3- . 30. p,. tic. po, nagenif. j و كذا. 320. P,. tic. po, notaB. A. G
4- تكوين 7: 6.

إلى الأرض، أ لا تكفي كل هذه السنين لإيجاد أقوام غير قوم نوح في هذه الدنيا؟

أم أن الأمر كان مقصورا على قوم نوح؟

و إذا كان طوفان نوح قد حدث في الفترة التي تسبق بداية العصر التاريخي في العراق القديم، و التي يرى علماء الآثار أنها قد حدثت في حوالي عام 2700 ق. م (1)، فإن عصور ما قبل الطوفان تزيد بآلاف السنين عما قدره علماء التوراة، و نقله عنهم أصحاب هذه الروايات.

و منها (حادي عشر) أن اللّه سبحانه و تعالى يقول في القرآن الكريم «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» (2)، أ لا يفهم من قوله تعالى «أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ، وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» أن هناك آخرين لم يشملهم طوفان نوح، و أن اللّه سبحانه و تعالى سيمتعهم إلى حين، ثم يمسهم عذاب أليم؟.

و منها (ثاني عشر) أن المفسرين و المؤرخين الإسلاميين أنفسهم يكادون يجمعون على أن الطوفان إنما بدأ و انتهى في العراق القديم، فهناك رواية مجاهد و الشعبي التي تذهب إلى أن التنور إنما كان بأرض الكوفة، و رواية قتادة من أنه كان بأرض الجزيرة، فضلا عن رواية ثالثة تذهب إلى أن سفينة نوح قد بدأت رحلتها من «عين وردة»، و عين وردة هذه- كما يقول ياقوت الحموي- رأس عين المدينة المشهورة في الجزيرة (3)، فإذا أضفنا إلى ذلك ما جاء في القرآن الكريم من أن سفينة نوح قد استوت على الجودي- و الجودي جبل يقع شرق جزيرة ابن عمر إلى جانب دجلة عند الموصل- فإذا كانت كل هذه الأماكن التي ذكرت إنما تقع في العراق، فمن البدهي أن رحلة سفينة نوح إنما بدأت و انتهت في العراق.

ص: 92


1- . 120- 119. P, 1966, qarI tneicnA, xuoR. G و كذلك-. 16. P, rU tA snoita vacxE, yellooW dranoeL riS
2- سورة هود: آية 48.
3- ابن كثير: البداية و النهاية ص 111، و كذلك ابن الأثير: المرجع السابق ص 70 و كذلك الطبري: المرجع السابق ص 190.

و منها (ثالث عشر) أن صاحب «تفسير جزء تبارك» يتجه إلى أن مسألة شمول الطوفان لجميع أقسام الأرض، و عدم شموله لم يرد عنها في الكتاب نص قطعي، و كلمة لأرض في قوله تعالى: «وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ» ليست نصا في الدلالة على جميع أجزاء سطح الأرض، و إنما هي تستعمل أحيانا كثيرة استعمالا فصيحا في الجهة الواحدة من جهات الأرض، ففي سورة يوسف «قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ»، «وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ»، و المراد بالأرض في الموضعين «أرض مصر»، لا الكرة الأرضية كلها، و ليس هذا مماراة منا في قدرة اللّه أن يعم سطح الأرض كلها بالطوفان، و إنما يجب أن نقف في العقائد خاصة على ما جاء في صحيح النقل و ارتاح إليه العقل (1).

و منها (رابع عشر) أن صاحبي «تفسير الجلالين» يتجهان في تفسيرهما لقوله تعالى: «وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ» (2) إلى أن الأرض هنا هي أرض مصر (3).

و منها (خامس عشر) أن صاحب «تفسير جزء تبارك» يتجه في تفسير قوله تعالى:

«رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» (4) إلى أن نوحا عليه السلام ختم دعاءه بالدعاء للمؤمنين و المؤمنات جملة واحدة، يومئ هذا من طرف خفي إلى أن هناك مؤمنين و مؤمنات غير جماعة بيته الذين نجو معه في السفينة، و على هذا فالطوفان لم يعم الأرض كلها، و يكون في بعض جهاتها البعيدة مؤمنون و مؤمنات لم يغرقوا، و قد دعا لهم نوح مع أهل بيته المذكورين (5).

و منها (سادس عشر) أن هناك جماعة من أهل فارس و الهند- كما يروي المؤرخون الإسلاميون- يرون أن الطوفان كان خاصا، و أنه كان ببابل و مجاوراتها، و لم يصل إليهم، و أن تاريخ الملك عندهم يمتد في الماضي إلى تاريخ أبعد من الذي قدرته التوراة

ص: 93


1- عبد القادر المغربي: تفسير جزء تبارك، المطبعة الأميرية- القاهرة 1947 م ص 139.
2- سورة يونس: آية 83.
3- جلال الدين المحلي، و جلال الدين السيوطي: تفسير الجلالين، دار الشعب- القاهرة 1970 ص 193.
4- سورة نوح: آية 28.
5- عبد القادر المغربي: تفسير جزء تبارك. ص 143.

لطوفان نوح، و أن عمرانهم متصل من أعمق أجيال التاريخ إلى اليوم (1).

و منها (سابع عشر) أن الآثار تثبت، دونما ريب، أن هناك طوفانا- بل طوفانات- حدثت في العراق القديم، و من ثم فإن الأثريين يكادون يتفقون- و على رأسهم سير وليم ويلكوكس، و سير ليونارد و ولي- على أن الطوفان لم يشمل الكرة الأرضية كلها، و إنما كان طوفانا كبيرا على وادي دجلة و الفرات أغرق كل الأرض الصالحة للسكنى في هذه المنطقة بين الجبال و الصحراء، و التي هي في نظر سكان المنطقة- و بخاصة في تلك الفترة المبكرة- بمثابة العالم كله، و تقدر المساحة التي شملها الطوفان- في نظر بعض علماء الآثار- بحوالي 400 ميل طولا (حوالي 650 كيلومترا) في 100 ميل عرضا (حوالي 150 كيلومتر)، و كان ذلك كافيا لأن يغمر الوادي كله، إذ بلغ 40 ألف ميل مربع، و رغم أن أحدا لم يستطع حتى الآن أن يحدد زمن الطوفان تحديدا تاما، إلا أن هناك من يرى أنه ربما يرجع إلى قرب نهاية «عصر جمدة نصر»، أي قبيل بداية الألف الثالثة ق. م (2).

و منها (ثامن عشر) أنه من المعروف في كلام الأنبياء و الأقوام و في أخبارهم أن تذكر «الأرض»، و يراد بها أرضهم و وطنهم، كقوله تعالى حكاية عن خطاب فرعون لموسى و هارون «وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ» (3)، يعني أرض مصر، و قوله تعالى: وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها (4) فالمراد بالأرض هنا مكة المكرمة، و قوله تعالى: وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي

ص: 94


1- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص 36 و كذلك ابن كثير: البداية و النهاية ص 118-، و كذلك ابن الأثير: المرجع السابق ص 73، و كذلك الطبري: المرجع السابق ص 192.
2- F 22 P ,1950 ,seedlahC eht fo rU ,36 .P ,rU tA snoitavacxE ,yellooW .L .S و كذلك. 51- 50. P,. tic. po, relleK. W و كذلك محمد عبد القادر: المرجع السابق ص 95، و كذلك عبد الحميد زائد: الشرق الخالد ص 12.
3- سورة يونس: آية 78.
4- سورة الإسراء: آية 76.

الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ» (1)، و المراد بها الأرض التي كانوا يعيشون فيها، أي فلسطين.

و لعل من الأفضل هنا أن ننقل فتوى الأستاذ الإمام محمد عبده في طوفان نوح، كما جاءت في تفسير المنار، ردا على سؤال الشيخ عبد اللّه القدومي بمدينة نابلس.

يقول الأستاذ الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية:

وصلنا مكتوبكم المؤرخ في 4 شوال سنة 1317 ه، الذي أنهيتم به أنه ظهر قبلكم نش ء جديد من الطلبة ديدنهم البحث في العلوم و الرياضة و الخوض في توهين الأدلة القرآنية، و قد سمع من مقالتهم الآن: أن الطوفان لم يكن عاما لأنحاء الأرض، بل هو خاص بالأرض التي كان بها قوم نوح عليه السلام، و أنه بقي ناس في أرض الصين لم يصبهم الغرق، و أن دعاء نوح عليه السلام بهلاك الكافرين لم يكن عاما بل هو خاص بكفار قومه، لأنه لم يكن مرسلا إلى قومه، بدليل ما صح «و كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، و بعثت إلى الناس كافة».

فإذا قيل لهم: إن الآيات الكريمة ناطقة بخلاف ذلك، كقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً»، و قوله تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، قالوا هي قابلة للتأويل و لا حجة فيها، و إذا قيل لهم: إن جهابذة المحدثين أجابوا بأنه صح في أحاديث الشفاعة أن نوحا عليه السلام أول رسول بعثه اللّه إلى أهل الأرض، و أنه يتعين أن يكون قومه أهل الأرض، و يكون عموم بعثته أمرا اتفاقيا لعدم وجود أحد غير قومه، و لو وجد غيره لم يكن مرسلا إليهم، سخروا من المحدثين، و استندوا إلى حكايات منسوبة إلى أهل الصين، و رغبتهم منا بذلك المكتوب كشف الغطاء عن سر هذا الحادث العظيم، و رغبتم منا

ص: 95


1- سورة الإسراء: آية 4.

يقتضيه الحق، و يطمئن إليه القلب.

و الجواب على ذلك و الحمد للّه، أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على عموم الطوفان، و لا على عموم رسالة نوح عليه السلام، و ما ورد من الأحاديث، على فرض صحة سنده، فهو آحاد لا يوجب اليقين، و المطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين، لا الظن، إذا عدّ اعتقادها من عقائد الدين.

و أما المؤرخ و مريد الاطلاع، فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ أو صاحب الرأي، و ما يذكره المؤرخون و المفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها، و لا تتخذ دليلا قطعيا على معتقد ديني.

و أما مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، و أهل النظر في طبقات الأرض، و موضوع خلاف بين مؤرخي الأمم، أما أهل الكتاب و علماء الأمة الإسلامية فعلى أن الطوفان كان عاما لكل الأرض، و وافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، و احتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف و الأسماك المتحجرة في أعالي الجبال، لأن هذه الأشياء مما لا تكون إلا في البحر، فظهورها في رءوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات، و لن يكون ذلك حتى يكون قد عمّ الأرض، و يزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عاما، و لهم على ذلك شواهد يطول شرحها، غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاما لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز، بل على كل من يعتقد بالدين ألا ينفي شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات و الأحاديث التي صح سندها، و ينصرف عنها إلى التأويل، إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير المراد، و الوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج

ص: 96

إلى بحث طويل، و عناء شديد، و علم غزير في طبقات الأرض و ما تحتوي عليه، و ذلك يتوقف على علوم شتى عقلية و نقلية، و من هذى برأيه بدون علم يقيني فهو مجازف لا يسمع له قول، و لا يسمح له ببث جهالاته، و اللّه سبحانه و تعالى أعلم.

و يقول السيد محمد رشيد رضا: و خلاصة هذه الفتوى أن ظواهر القرآن و الأحاديث أن الطوفان كان عاما، شاملا لقوم نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم، فيجب اعتقاده، و لكنه لا يقتضي أن يكون عاما للأرض، إذ لا دليل على أنهم كانوا يملئون الأرض، و كذلك وجود الأصداف و الحيوانات البحرية في قمم الجبال لا يدل على أنها من أثر ذلك الطوفان، بل الأقرب أنه كان من أثر تكوين الجبال و غيرها من اليابسة في الماء، فإن صعود الماء إلى الجبال أياما معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر منها، و كما قلنا فإن هذه المسائل التاريخية ليست من مقاصد القرآن، و لذلك لم يبيّنها بنص قطعي، فنحن نقول بما تقدم إنه ظاهر النصوص، و لا نتخذه عقيدة دينية قطعية، فإن أثبت علماء الجيولوجية خلافه لا يضرنا، لأنه لا ينقض نصا قطعيا عندنا.

و بعد: فهذه قصة الطوفان، كما قدمتها الآثار و التوراة، و كذا القرآن الكريم، و لعل مما يلفت النظر أنها جميعا تتفق على أن القوم قد انحرفوا عن سواء السبيل، و من ثم فقد كان قضاء اللّه العادل في صورة طوفان أهلك الحرث و النسل، و لم تكتب النجاة من عقاب اللّه لأحد، إلا بطل القصة و الذين آمنوا معه، و هو الذي اتفقت الروايات جميعا على أنه كان بارا تقيا ورعا، و لكن هناك خلافات جوهرية بين النص القرآني و بين غيره من النصوص- سواء كانت تلك النصوص بشرية كنص سومر و بابل، أو نصوصا يزعم لها أصحابها ما يزعمون من قداسة، كنص التوراة.

و من هذه الاختلافات (أولا) أن النص القرآني كان هو النص الوحيد الذي

ص: 97

حدثنا أن نوحا كان رسولا من رب العالمين، و أنه قضى من الزمن ما شاء اللّه له أن يقضي في دعوة قومه إلى عبادة اللّه الواحد القهار، و أن اللّه- جل و علا- لم يأت بالطوفان إلا بعد أن تحمل النبي الكريم في دعوته كل صنوف الأذى و الاضطهاد، و إلا بعد أن جرّب نبي الكريم كل سبل الإقناع، دونما أية نتيجة، «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً، وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» (1)، و إلا بعد أن يئس النبي الكريم من أن يؤمن به قومه، فدعا «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (2)، و إلا بعد أن أوحى اللّه إليه «أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» (3)، و هكذا اتبع نبي اللّه الكريم كل ما يمكن اتباعه تصديقا لقوله تعالى: «وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (4).

و منها (ثانيا) أن الناجين من الطوفان في القصة القرآنية، إنما نجو لأنهم آمنوا باللّه العزيز الحكيم، و صدقوا بدعوة نوح عليه السلام، بعكس النصوص الأخرى التي جعلت نجاتهم، إنما ترجع إلى أنهم من أهل بطل القصة و ذوي قرباه، و يزيد القرآن الكريم الأمر وضوحا في هذه النقطة بالذات، فيقص علينا- من بين ما يقص من أحداث- ما حدث مع ابن نوح، و كيف كان من الغارقين، ثم كيف «نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ، قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ» (5). و هكذا يبدو واضحا المبدأ القرآني العظيم «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»، «وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (6).

ص: 98


1- سورة نوح: آيات 5- 10.
2- سورة نوح: آية 26، 27.
3- سورة هود: آية 36.
4- سورة الإسراء: آية 15.
5- سورة هود: آيات 45- 47.
6- سورة الزلزلة: آية 7، 8.

و منها (ثالثا) أن زوجة بطل القصة في النصوص السومرية و البابلية- و كذا في نص التوراة- تنجو من الطوفان مع الناجين، و لكن القرآن الكريم كان وحده هو الذي أخبرنا أن زوج النبي الكريم لم تكن من المؤمنين به «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» (1)، و لا شأن لنا بروايات ذهبت إلى غير ما ذهب إليه النص القرآني الكريم، فإنما هي اجتهادات على مسئولية أصحابها، و هي قبل ذلك باطلة لمخالفتها للقرآن الكريم.

و منها (رابعا) أن النص القرآني هو النص الوحيد الذي يتفق إلى حد كبير- مع الفارق الشاسع بين ما أنزله اللّه و ما كتبته أيدي البشر- مع أقدم نصوص قصة الطوفان في أن الطوفان إنما بدأ و انتهى- أو على الأقل انتهى- في العراق، و ذلك حين «غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ».

و منها (خامسا) أن النص القرآني هو النص الوحيد الذي تسامى عن مهاوي الشرك و ضلال الوثنية، فهو في صراحة تامة يذكر أن القوم قد حادوا عن عبادة ربهم و انصرفوا إلى عبادة الأوثان، و في كل هذا يقدم لنا وصفا للّه سبحانه و تعالى- بما يتفق و مقام الذات العلية- فلا يتنزل إلى الدرك الأسفل من التفكير الوثني في قصص العراق القديم، أو يصف اللّه سبحانه و تعالى بما وصفته التوراة من أوصاف لا يرتضيها عقل و لا يقرها منطق، بل هي أوصاف لا يرتضيها عقلاء الناس لأنفسهم في كثير من الأحيان.

و منها (سادسا) أن النص القرآني الكريم هو النص الوحيد الذي تنزه عن التناقض الذي ساد قصة التوراة مثلا.

و منها (سابعا) أن النص القرآني هو الوحيد الذي نزّه اللّه سبحانه و تعالى عن الندم على إحداث الطوفان، بعكس النصوص الأخرى التي ذهبت إلى ندم اللّه- أو الآلهة في النصوص البابلية- على الإتيان بالطوفان، بل ذهبت التوراة إلى أبعد من ذلك، حين زعمت أن اللّه- تعالى عن ذلك علوا كبيرا- قد عزم ألا يحدث طوفانا بعد ذلك،

ص: 99


1- سورة التحريم: آية 10.

و أنه قد وضع علامة هي القوس في السماء، ليتذكر وعده، فلا يكون طوفان يغرق الأرض أبدا.

و منها (ثامنا) أن النص القرآني هو النص الوحيد الذي تنزه عن الماديات، ذلك أن كلا من النصين- البابلي و التوراتي- يضحي فيه البطل بالأضاحي، فتشم الآلهة في القصة البابلية، و يشم الرب في قصة التوراة، رائحة الشواء فيسكن غضبه و يتنسم رائحة الرضا، بل إن القرآن الكريم ليرد على فحش يهود هذا- و هم يزعمون أنهم موحدون و أن كتابهم هذا تنزيل من عليّ قدير- بقوله تعالى «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها، وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» (1) و يقول: «فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ» (2).

و منها (تاسعا) أن النص القرآني هو الوحيد الذي لا تجد فيه نصا قطعيا على أن الطوفان قد شمل الأرض كلها- الأمر الذي ناقشناه من قبل- و إن كانت النصوص السومرية و البابلية، إنما عنت بالأرض المنطقة التي يسكنها أصحاب الطوفان، ثم جاءت يهود، و نقلت ما نقلت من المصادر البابلية، ثم مزجت ذلك كله بما أنزله اللّه على موسى عليه السلام، ثم أخرجت لنا التوراة الحالية التي لا تمثل وحيا من عند اللّه، كما أنها لا تمثل الكتابات الإنسانية، و إنما هي خليط من هذا و ذاك، و من ثم كانت روايتها أكثر الروايات تعرضا للخطأ، فضلا عن أنها لا تقدم لنا رواية سماوية مقدسة تماما، و لا وجهة النظر الإنسانية التي فيها ما في الإنسان نفسه من خطأ و صواب، و إنما هي بين بين.

و منها (عاشرا) أن النص القرآني هو النص الوحيد الذي لم يعتمد على غيره من المصادر القديمة، ذلك أن السومريين بعد أن كتبوا روايتهم عن الطوفان، جاء البابليون من بعدهم، و أخذوا منها ما أخذوا، ثم جاءت يهود و نقلت ما نقلت عن الاثنين، و هكذا كانت كل رواية طوفانية تعتمد على رواية سبقت في التدوين- و لكن الأمر جد مختلف بالنسبة إلى القصة القرآنية، و التي هي وحي من رب العالمين، ذلك أنه في القرن السابع الميلادي، و في مكة المكرمة، و في غار حراء بدأ نزول الوحي على مولانا و سيدنا

ص: 100


1- سورة الحج: آية 37.
2- سورة الحج: آية 28.

رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- بالقرآن الكريم، و لم يكن رسول اللّه- عليه الصلاة و السلام- و لا قومه، على دراية بقصة الطوفان هذه، و إلى هذا يشير القرآن الكريم «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» (1).

ثم أ ليس كل ما جاء في هذه الدراسة يدل بوضوح على هيمنة القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية- فما بالك بالكتابات الإنسانية- مصداقا لقوله تعالى، مخاطبا الحبيب المصطفى- صلوات اللّه و سلامه عليه- «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ، بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (2)، ثم أ ليس هو الذي «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» (3).

ص: 101


1- سورة هود: آية 49.
2- سورة المائدة: آية 47.
3- سورة فصلت آية 42.

ص: 102

الباب الثاني سيرة إبراهيم الخليل عليه السّلام في العراق

اشارة

ص: 103

ص: 104

الفصل الأول معبودات قوم إبراهيم

لعل من الأفضل أن نشير هنا، و قبل الحديث عن معبودات قوم إبراهيم، إلى أننا قدمنا في الجزء الأول من هذه السلسلة و غيرها، دراسات مفصلة عن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة و السلام، عن: نسبه و عصره، فضلا عن موطنه الأصلي، و هجراته في بلاد الشام و مصر و الحجاز (1)، و من ثم فلسنا في حاجة إلى تكرار ذلك في هذا الجزء الرابع من سلسلة «دراسات تاريخية من القرآن الكريم»، و الذي سوف تقتصر الدراسة فيه عن دعوة أبي الأنبياء، إبراهيم الخليل، عليه السلام، في موطنه الأصلي، في العراق القديم.

معبودات قوم إبراهيم:- من الحقائق المتفق عليها في تاريخ أبي الأنبياء، عليه السلام، أنه ولد و نشأ في العراق، كما أنه تلقى وحي ربه و بلّغ رسالاته، أول ما بلغها، في العراق كذلك، و أن قومه إنما كانوا يعبدون الأصنام، فضلا عن عبادة الكواكب.

هذا و يكاد يتفق المؤرخون أن أهل بلاد الرافدين (بلاد النهرين- ميزوبوتاميا- بارابوتاميا) قد نسبوا إلى معبوداتهم صفات البشر، و التي لا تختلف عنها إلا أنها أكثر تجريدا و كمالا، كما كانت ثياب الآلهة كثياب البشر،

ص: 105


1- قدم المؤلف دراسة مفصلة عن سيدنا إبراهيم عليه السلام شملت الموضوعات التالية (1- إبراهيم بين التوراة و القرآن الكريم 2- اسم الخليل و نسبه 3- موطن الخليل 4- عصر الخليل 5- هجرات الخليل 6- الرحلة إلى مصر 7- رحلة الخليل إلى الحجاز 9- قصة الذبيح 10- زوجات الخليل)، و ذلك في كتابين لنا. (انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل- الجزء الأول- الإسكندرية 1978 ص (49- 184)، دراسات تاريخية من القرآن الكريم- الجزء الأول- في بلاد العرب- الرياض 1980 ص (113- 183).

و لكن ثياب الآلهة أبهى من ثياب الأمراء، و يصدر عنها بريق يخطف الأبصار، و للآلهة أسر و أسلحة، و صراعها كصراع الناس، و لكنه بالطبع على نطاق أعظم و أهول، و مع ذلك فقد ميّز القوم آلهتهم عن البشر بالخلود، و بأنهم كانوا خيرين دائما، و لم يكن الشر من عملهم، بل من أرواح خبيثة تفوق البشر، و لكنها دون الآلهة.

و كان الثالون الأعظم بين معبودات بلاد النهرين يتكون من: آنو و إنليل و إيا.

(1) آنو:- اعتبر القوم منذ أقدم العصور معبودهم «آنو» (و أصله من السومرية آن) بمثابة الإله الأعظم، و كان دائما يتصدر قوائم الآلهة، و يلقب خاصة بملك السماوات، إلى جانب لقبيه إله السماوات و أبي السماوات، و عرشه في قمة قبة السماء، و له السلطة العليا، يخضع له آلهة السماء و آلهة الأرض معا، و هو الذي يخوّل لملوك الأرض السلطة التي يحكمون بها، و نظيره «زيوس» لدى اليونان، و امرأته هي الإلهة «أنتم»، و اسمها مأخوذ من اسمه، بزيادة تاء التأنيث.

و كانت مدينة «أوروك» (و هي أونوك في السومرية، و إرك في التوراة، و الوركاء في الوقت الحاضر) هي المركز الرئيسي في العصور القديمة لعبادتهما، و عند ما انتقل مركز الثقل السياسي من سومر إلى بابل، أصبح «مردوك» إله بابل، سيد الآلهة، و بالتالي فقد حل محل «آنو»، و مع ذلك فقد أطلق الملك البابلي الشهير «حمورابي» (1728- 1686 ق. م) على «آنو» لقب الإله العظيم في استهلال قانونه.

هذا و تشير أساطير القوم إلى أن «آنو» إنما كان يسكن قمة قبة السماء (سماء آنو)، و كان يحرس بوابته معبودان هما: تموز و جيزيدا، و كان يوضع أمامه: الصولج و العصا و التاج و عصا القيادة، قبل نشوء الملكية على وجه الأرض، و حين كان الآلهة في خوف من الطوفان هربوا و صعدوا إلى سماء

ص: 106

آنو، و جثوا، كما يفعل الكلب على الحائط، و رقدوا هناك حتى اشتموا الرائحة الجميلة للضحية.

(2) إنليل:- و هو أكبر معبودات السومريين (و معنى اسمه المركب «إن- ليل» سيد الريح) و لما كانت الريح تهب، في اعتقادهم، من الجبل، فقد سمى «الجبل الكبير»، و لما كان رمز الجبل في السومرية هو رمز بلد في الأكدية، فقد لقب إنليل أيضا بسيد البلاد، و هو لقب حملة من أقدم النصوص السومرية، و احتفظ به من نقوش بابل و آشور التاريخية و الدينية، و هكذا صار إله الجبل إله الأرض.

و من ثم فقد فرض إنليل قانونه على سكان الأرض، و هو قانون، فيما يزعم القوم، مكتوب في ألواح القدر، كما أن إنليل لم يكن يكتف بتحديد مصائر الناس، و إنما كان أيضا يشرف بنفسه على تنفيذ أحكامه، و هو أيضا محارب عنيف يلقب بالثور الوحشي، و هو مستشار الآلهة، كما أنه هو الذي أحدث الطوفان.

و كانت زوجته «ننليل»، و اسمها مأخوذ من اسمه، و ذلك بوضع (nin) سيدة، موضع () سيد، و كانت مدينته «نيبور»، و هي «نفر» الآن (سوم- نيبور) في بلاد بابل، مركز عبادتهما.

(3) إنكي:- كان إنكي هو اسم ثالث إله من الثالوث، و هو نفسه الإله السامي «إيا» بمعنى «بيت الماء» و إنكي في السومرية بمعنى «سيد الأرض»، حيث كان القوم يعتقدون، فيما تروى أساطيرهم، أن هناك ثلاث أرضين، الأرض العليا حيث يحكم إنليل، و الأرض السفلى حيث يهيمن المعبود «نرجل»، و الأرض الوسطى التي تقع بين سطح الأرض و الأرض السفلى، و هي مملكة «إنكي» أو «إيا»، و هو يلقب في النصوص القديمة بملك «إبسو» أي ملك المياه العذبة، فقد كان السومريون و الأكديون يعتقدون أنه يوجد تحت أرضنا، عند مشارف الأرض الوسطى، سطح كبير من المياه العذبة

ص: 107

تطفو عليه أرضنا، و هو الحوض الذي تتدفق منه منابع الجداول و الأنهار.

و كان «إيا» (انكي) هو إله السحر و المعوّذ بين الآلهة، و لا غرو فالماء كان يستعمل في التطهير و القضاء و التنبؤ، و كان ماء «إبسو» المقدس في معبد مدينة «أريدو» (أبو شهرين الحالين على مبعدة سبعة أميال جنوب غرب مدينة أور) يستخدم كثيرا في طقوس السحر للشفاء أو الوقاية من الأمراض.

و كان «إيا» كذلك إلها للحكمة، خلق الإنسان من كتلة من الطين (الطمي)، ثم نفخ فيها نسمة الحياة، و هو الذي أنقذ البشر من الفناء في زمن الطوفان؟) و علمهم مختلف الصناعات، و منح الذكاء للملوك، و هو الذي أقام عبادة الآلهة على الأرض.

و كانت زوجته «ننكي»، و معنى اسمها في السومرية «سيدة الأرض»، و قد سميت فيما بعد «دمكينا»، و كانت مدينة «أريدو» المركز الرئيسي لعبادتهما.

هذا و قد عرف القوم كذلك عبادة الكواكب، و من ثم فقد كان هناك ثالوث آخر من أجرام سماوية هي: الشمس و القمر و كوكب الزهرة (1) (نجم الصباح)، و كان إله القمر يعدّ أقدم آلهة هذا الثالوث، و يعتبر أبا لإله الشمس و كوكب الزهرة، و على هذا كان إله الشمس أخا للزهرة، و كانت الزهرة أختا ).

ص: 108


1- سادت جنوب بلاد العرب عبادة ثالوث من الكواكب هي القمر و الشمس و الزهرة، و يمثل القمر في هذا الثالوث دور الأب، كما تمثل الشمس دور الأم، بينما تمثل الزهرة دور الابن، و ربما كان العرب الجنوبيون متأثرين في هذا الثالوث ببلاد النهرين، حيث يحتل هذا الثالوث فيها مكانة ممتازة، و إن كنت أميل إلى أن عبادة التثليث هذه كانت أمرا مشاعا بين سكان المنطقة العربية كلها، و من ثم فقد رأيناه في بلاد الرافدين و سورية و فينيقيا، و إلى حد ما في مصر، بل إن الرمز الذي اتخذه أهل بابل و آشور و سورية و آسيا الصغرى، لإله الشمس، و هو قرص ذو جناحين، إنما هو رمز الشمس في مصر، و مع ذلك فربما كان تأثير بلاد الرافدين الديني على جنوب بلاد العرب، أكبر من تأثير غيرهم من الساميين (محمد بيومي مهران: الديانة العربية القديمة ص 19).

له، و إله الشمس ذكر كأبيه إله القمر، أما كوكب الزهرة (عشتر)، و هي تارة نجمة الصباح، و تارة نجمة المساء، فقد كان يكتنفها الغموض، فكانت تارة ذكرا، و تارة أنثى، و لكن غلب الجانب الأنثوي، و قضى على التعارض بين الذكورة و الأنوثة بأن اتحدت في شخصها إلهة الحرب (جانب الذكورة) و إلهة الحب (جانب الأنوثة).

(1) إله القمر:- يأتي إله القمر عند القوم، في المرتبة التي تلي «إنكي» (إيا)، و قد أطلق السومريون و الأكديون عليه اسم «سين» و هو اسم سومري نقله الأكديون عن السومريين، و نظائره السامية هي «ود» لدى عرب الجنوب (1)، و «سهر» لدى الآراميين، و «رخ» أو «يرخ» لدى الأموريين،».

ص: 109


1- اعتبر عرب الجنوب القمر أبا في الثالوث الكوكبي، و من ثم فقد صارت له منزلة خاصة عندهم، فهو المقدم على غيره، و هو كبير الآلهة، و هو الذي ينفرد بالكثرة المطلقة من الأسماء، و الألقاب في الأساطير و الطقوس و أسماء الأعلام و غيرها، و هكذا أصبح الإله القمر مهيمنا على سائر مناحي الحياة، هيمنة أشبه ما تكون بهيمنة الشمس في الديانات السامية الشمالية، حتى قيل إن الديانة العربية الجنوبية ديانة قمرية، و ذلك بسبب العوامل الجغرافية و المناخية، حتى أصبحنا نرى في العربية «القمران» كتعبير يدل على الشمس و القمر. هذا و يعرف الإله القمر بالإله «ود» عدن المعنيين، و «المقة» عند السبيئيين، و «عمّ» في قتبان، و «سين» في حضرموت، فأما «ود» فهو في طليعة الآلهة المدونة في نصوص المسند، و هو إله «معين» الكبير، فضلا عن قبائل عربية أخرى، كثمود و لحيان، كما كان من الأصنام الكبرى في الحجاز عند ظهور الإسلام، و قد حكى القرآن الكريم عنه بأنه إله جاهلي قديم، وجد قبل زمن الطوفان، و قد عبده قوم نبي اللّه نوح عليه السلام، كما كان المعبود القومي لدويلة أوسان، و كان معبده الرئيسي في وادي نعمان. و أما «المقه» إله سبأ الكبير، و يتكون اسمه من «إل»، و هو اسم الإله «إيل» الشهير عند الساميين، و من «مقهو» بمعنى قوي، و من ثم يصبح معنى الإسم «إيل قوي» بمعنى «اللّه قوي» و قد اتخذ القوم الثور رمزا للإله «المقه»، و هو من الرموز الدالة على الإله القمر عند الساميين القدامى. و أما الإسم «عم» فهو من الأسماء السامية الواسعة الانتشار، و التي كانت من أوصاف الآلهة، ثم صارت علما على إله قتبان، و أما «سين» إله حضرموت، فهو اسم سومري، و ليس ساميا، نقله الأكديون عن السومريين، و يبدو أن الآلهة القمرية كانت أكثر من ذلك، فهناك في النقوش العربية الجنوبية «و رخن»، و الظاهر أنه كان يدل على الهلال، فقد استعملت في اللغات السامية كلها تقريبا ألفاظ مشابهة لهذه اللفظة لمعايير متصلة بالهلال، منها «يرخ» بالعبرية، و «يرخا» بالسريانية و الآرامية، و «أرخو» بالآشورية، و «أرخ» بالبابلية، و «رخ» بالعربية اليمنية و بالحبشية، و كلها بمعاني الهلال و القمر و الشهر، و منها جاء الفعل «أرخ» من العربية الفصحى، أي حسب الأيام و الشهور على دورة القمر، و الإسم «التاريخ» و أخيرا، فهناك من يرى أن اسم «سيناء لا بد و أن يكون له علاقة بإله القمر «سين».

و لإله القمر عند السومريين اسم آخر هو «ننا» بمعنى رجل السماء، و قد حرفه الأكديون الساميون إلى «ننر» بمعنى المنير، و يرمز إليه في كثير من الأحيان بالهلال، و بجانبه قرص الشمس، رمزا لإله الشمس، و نجمة في وسط دائرة، رمزا لكوكب الزهرة.

و الإله «سين» هو سيد الشهر، ينظم أيام الشهر و السنة، و من ثم فهو الذي يقيس الزمن، و هو الذي ينهى الأيام و الشهور و السنين للملوك المذنبين بالدموع و التأوهات، و كان رمزه الهلال، هذا و كانت لحركات القمر دور هام في التنبؤ، و كان خسوف القمر أهول الظواهر و أشدها روعا، و كان ينسب إلى هجوم محل الإله «سين» من سبع أرواح شريرة في السماء، و كانت صورة الكارثة تختلف حسب الشهر الذي يقع فيه الخسوف فكانت ترسل الدعوات إلى الإله، و تقدم إليه القرابين، و أخيرا يولد من جديد أشد بهاء من ذي قبل منتصرا على الظلمات و الموت، و ذلك عن طريق القوس التي يدافع بها عن نفسه ضد القوى التي تعترض مجراه، أو تحاول حجب نوره.

و كانت زوجته «ننجل» بمعنى السيدة الكبيرة، و إلى هذا الإسم يرجع الإسم «نكل» الذي يطلقه عليها كل من الآراميين و أهل أوجاريت (تل شمرا)، و قد أنجبا الإله شمس و الإلهة عشتر، و يعتبر «نسكو» إله النار، في بعض الأحيان، ابنا لهما.

و كانت مدينة «أور» (تل المقير، على مبعدة 120 ميلا شمال مدينة البصرة) مركز عبادة «سين» و زوجته «ننجل» و ولدهما «نسكو» (سدرننا)، ثم

ص: 110

انتقلت عبادتهم جميعا إلى الشمال في «حران» (حاران، و تقع على نهر بلخ، على مبعدة 60 ميلا من اتصاله بالفرات)، و قد انتشرت عبادة القمر من أور إلى كل أرجاء بابل، و من «حران» إلى كل من سورية و فينيقيا، و كان البدو الآراميون و العرب يعبدون إله القمر، و لا يستبعد أن يكون لاسم «شبه جزيرة سيناء» علاقة بإله القمر «سين».

(2) إله الشمس:- يأتي إله الشمس (شمش) في المرتبة الثانية بعد أبيه إله القمر، و كان السومريون يسمونه «أوتو» و يسمون الشمس «ببر» و هي تشرق، أما الساميون فقد أطلقوا على الإله الأكدي اسم الشمس نفسها (شمش) و كان العبرانيون و الآراميون ينطقون «شمش»، و العرب «شمس» (1)، و أهل أوجاريت «شبش، و كان عرب الجنوب و الأوجاريتيون يعتبرونها إلهة مؤنثة، بينما كان السومريون و الأكديون يعتبرونها إلها ذكرا، و كان الحيثيون يميزون بين إمله للشمس، و إلهة للشمس يسمونها «أرنا».

و كان يرمز لإله الشمس في بابل و آشور و سورية و آسيا الصغرى بقرص ذي جناحين، أي بصورة الشمس في مصر، و من ألقابه في بلاد الرافدين «نور العالم»، هذا و كان إله الشمس، في نظر القوم، هو القاضي الأعظم الذي أملى قوانين العدالة على الملوك، و كانت مدينة «لارسا» في سومر، ».

ص: 111


1- عبدت الشمس في قتبان و حضرموت و سبأ تحت اسم شمس، و غالبا ما كانت أسماء الشمس في بلاد العرب الجنوبية تبدأ ب «ذات»، و كانت إلهة الشمس تسمى عند المعينيين «نكرح»، و ربما بمعنى «ذات حميم»، كما كانت تسمى عند السبئيين «ذات غضرن» و «ذات حميم»، بمعنى ذات حرارة في الغالب، و هذا المعنى قريب من «آل حمون» و «بعل حمون» في العبرية، و إن فسر البعض «ذات حميم» بمعنى ذات الحمى، و الحمى الموضع الذي يحمى، و يخصص للإله أو المعبد أو الملك أو سيد القبيلة، فيكون حرما آمنا لا يجوز لأحد انتهاكه أو التعدي عليه، و أما في النقوش القتبانية فهي «ذات صهرن» «ذات رحبن»، فضلا عن اسم آخر للشمس ذكرته الكتابات القتبانية، و أعنى «إ ث ر ت»، و هو بعينه اللفظ العبراني «أشرت»، و يرجح «هومل»، و يؤيده نقش جلازر رقم 1600، أن هذا الإسم القتباني إنما يشير عادة إلى آلهة الشمس، و إلى زوج الإله «ود».

و مدينة «سبر» من أكبر، مركزين لعبادة شمش منذ أقدم الأزمان، و أما زوجته فهي «أيا».

(3) الإلهة الزهرة:- كانت الإلهة الزهرة (عشتر- عشتار) أهم إلهة في سومر و أكبر، و كان السومريون يسمونها «أنينا» بمعنى سيدة السماء، و «عشتر» هو الإسم الأكدي السامي، و نظيره «عشتار» لدى الفينيقيين و العبريين، إلهة أنثى، و «عنتر» لدى العرب الجنوبيين إله ذكر (1)، و هي تأتي في المرتبة بعد «سين» أبيها، و «شمش» أخيها مباشرة، و هي أخت «أرشكيجل» إلهة العالم السفلى.

و كان يرمز إليها بنجمة ذات ثمانية أشعة أو ستة عشر شعاعا، منقوشة داخل دائرة، و هي التي ترشد النجوم إلى طريقها، و هي نجمة الصباح تارة، و المساء تارة، و هي إلهة الحب و اللذة حين تكون إلهة المساء، ترفع إلى عرش الملك من تهواه من البشر، و قد مجدها الآشوريون كإلهة محاربة، سلاحها المفضل هو القوس، و حيوانها الأثير هو الأسد، نراها واقفة على ظهره في أغلب الصور التي تمثلها، و قد انتشرت عبادتها في سومر و أكد، ثم انتقلت من أكد إلى آشور، ثم امتدت غربا و شمالا و شرقا مع جيوش آشور الفاتحة.

هذا، و إلى جانب هذه المعبودات الوثنية، كانت كل قوى الطبيعة، و كل قوى الخير، تؤله عند السومريين و البابليين، كما كان لكل مدينة معبودات، حتى أصبح عدد المعبودات كثيرا جدا، غير أن أهمها جميعا، إنما كان مردوك و آشور.

ص: 112


1- كان الإله العربي «عشتر» ذكرا، بينما كانت نظائره في جميع الأديان السامية الأخرى مؤنثة، و هكذا رأينا الشعر العربي يذكر الزهرة مذكرة، و حتى عند العرب الذين عرفهم «نيلوس» كان هذا النجم مذكرا، و لما كانت العادة أن يقدم القربان من جنس المقرب إليه، إن كان ذكرا فذكر، و إن كان أنثى فأنثى، و حيث نظر للقمر كشيخ كان قربانه رجلا هرما ما ممتلئ الوجه، و أما هنا فكان ينظر إلى الزهرة كطفل صغير يتفق و مكانته بين العائلة المقدسة، كابن لإله القمر، و أمه إلهة الشمس.

(1) مردوك:- بلغ هذا المعبود الوثني من الشهرة مبلغا ربما بم يبلغه إله وثني آخر من تاريخ الشرق الأدنى القديم، و قد ارتبط مصيره بمصير مدينة بابل، و التي كان لها شأن عظيم في التاريخ القديم، سياسيا و عسكريا و دينيا و اجتماعيا، و يدل على هذه الصلة الوثيقة بين مردوك و بابل قول إرميا، النبي العبراني، «قولوا أخذت بابل، خزي بيل، تضعضع مردوخ» و ذلك عند سقوط بابل عام 539 ق. م.

و كان مردوك، في نظر القوم، هو ابن انكى البكر، و من ثم فقد ورث عنه العلم و السحر، و صار مثله المعوذين الآلهة، و كان الساحر عند ما يمارس مهنته إنما يعمل باسم مردوك، كما يعمل باسم أبيه «أيا»، و في الأمور المستعصية كان مردوك يلجأ إلى أبيه انكى طلبا للمعونة، و كما كان «أيا» إله الحكمة، كان مردوك أحكم الحكماء، و الخبير بين الآلهة.

هذا، و كما تبيّن لنا مقدمة قانون حمورابي المكانة العليا التي وصل إليها مردوك في الإمبراطورية البابلية، تبين لنا قصيدة الخلق البابلية مكانته السامية أيضا، حيث أسبغت عليه خمسين اسما أو لقبا، مما جعل «دورم» يزعم أنه في نسبة هذه الأوصاف جميعا إلى إله واحد، اتجاها إلى التوحيد، و هو يجد هذا الاتجاه أيضا في عصر الدولة الكلدانية، إذا صارت الآلهة المختلفة مجرد جوانب من شخص مردوك.

و كانت «صبريانيتم» بمعنى الفضية أو اللامعة كالفضة، زوجة لمردوك، و كان الاثنان يبجلان حينما تعلو مكانة بابل، و عند ما فتح ملوك آشور أرض بابل أبدوا ولاءهم لآلهتها، و هي في مقدمتها مردوخ و زوجته، و كذا في أيام الكلدانيين و الفرس، بل ظلا موضع الاجلال بعد ذلك أيام السلوقيين، سواء في الحياة الخاصة أو الاحتفالات الرحية.

(2) آشور:- و هو الإله القومي للآشوريين، و كبير آلهتهم الوثنية،

ص: 113

و كانوا ينطقون اسمه «أسور» (بسين مشددة) و قد حل في قصيدة الخلق الآشوري محل مردوك، كما حل مردوك لدى البابليين محل أنليل إله السومريين من قبل، مما يشير إلى أن الدين كان عونا للسياسة، و صدى لمصالح المدن و الشهوب و الملوك.

و كان معبد الإله الوثني آشور، و تقع على الضفة الغربية لنهر الدجلة، على مبعدة 40 ميلا، جنوب الزاب الأعلى، و كان معبده يسمى «اشرا»، و يقيم فيه مع زوجته «ننليل» (ملكة اشرا)، و التي كانت في الأصل زوجا لإنليل، فجعلها الآشوريون زوجا لإلههم آشور كذلك، و كان لآشور معبد آخر خارج المدينة يسمى «أكستو».

و قد أطلق القوم على إلههم لقب «الجبل الكبير»، و هو، فيما يزعم القوم، خالق الآلهة و منجبها و سيدها و ملكها، و منه يستمد الملوك الصولجان و التاج و العرش، و هو ملك الآلهة، و هو يرأس في معبده مجتمع الآلهة التي تقرر أقدار البشر، و هو الذي يأمر بخروج ملوك آشور إلى الحرب، و يكتب لهم النصر، و إليه يساق المغلوبون من أعدائهم خاضعين، و يؤتى بتماثيل آلهتهم إلى معبده (1). yM

ص: 114


1- انظر عن هذا الفصل (محمد بيومي مهران: الديانة العربية القديمة- الاسكندرية 1978 ص 19- 28، ول ديورانت قصة الحضارة- الجزء الثاني- ترجمة محمد بدران- القاهرة 1961 ص 211- 225، سبنيتو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة- ترجمه و زاد عليه يعقوب بكر- القاهرة 1968 ص 73- 76، 252- 265، ل. ديلابورت: بلاد ما بين النهرين: ترجمه محرم كمال- القاهرة ص 165- 175، ليو أوينهام: بلاد ما بين النهرين- ترجمه سعدي فيضي- بغداد 1981، محمد أبو المحاسن عصفور: معالم حضارات الشرق القديم- الاسكندرية 1969 ص 216- 223، و كذا .102 -68 ,67 -22 .P ,1930 ,sirap ,seuqitimeS serutirce te seugnaL emrohD .P و كذا .59 -56 .P ,1927 ,nodnoL ,setimeS eht fo noigileR eht no serutceL ,htimS .R .W و كذا nretsaE raeN yraG. J A و كذا .F 882 .P ,I ,ERE ,sgnitsaH .J F 60 .P ,1951 ,ogacihC ,siseneG nainoylaB ehT ,ledieH و كذا. 51- 17. P, 1969, nodnoL, ygolohtyM

الفصل الثّاني دعوة إبراهيم عليه السّلام

اشارة

أشرنا آنفا إلى أن قوم إبراهيم إنما كانوا يمارسون عبادة الأصنام، فضلا عن عبادة الكواكب، و من ثم فمن الأفضل هنا أن نناقش موقف أبي الأنبياء عليه الصلاة و السلام من ممارسات قومه الوثنية في شتين، الواحد:

موقف إبراهيم من عبادة الكواكب، و الثاني: موقفه من عبادة الأصنام.

[1] موقف إبراهيم من عبادة الكواكب:-

قدم لنا القرآن الكريم تلك المناظرة التي دارت بين إبراهيم عليه السلام و بين قومه من عبدة الكواكب في الآيات الكريمة من سورة الأنعام، يقول عز من قال: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ، وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ، وَ تِلْكَ

ص: 115

حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (1).

و الآيات الكريمة تفيد أن إبراهيم، صلوات اللّه و سلامه عليه، تطلع إلى السماء فرأى كوكبا يعبده القوم (و لعله كوكب الزهرة) فيما يعبدون، فقال: «هذا ربي، ثم اصطبر قليلا حتى أفل الكوكب، فقال: لا أحب الآفلين»، أي أنه لا يحب الآلهة المتغيرة المتحولة التي لا تبقى في مكان واحد، و لا تستقر على حال.

ثم تطلع بعد ذلك إلى السماء، فرأى القمر ساطعا يأخذ نوره بالأبصار، فقال: هذا ربي، لكنه لم يلبث إلا يسيرا، ثم أفل و احتجب نوره، فقال إبراهيم: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين.

ثم رأى الشمس في كبد السماء بعد ذلك، يعم نورها الأرجاء، تملأ أشعتها الكون دفئا و ضياء، ثم ما لبث أن رآها تأفل، كما أفل الكوكب، و كما أفل القمر، من قبل، فقال: يا قوم إني بري ء مما تشركون (2).

هذا و قد اختلف المفسرون من وقت هذه الرؤية؟ و في وقت هذا القول من عمر إبراهيم عليه السلام؟ و هل كان ذلك في مقام النظر و الاستدلال لنفسه؟ أم كان في مقام المناظرة و الحجاج لقومه؟.

و هكذا ذهب فريق إلى أن ذلك الوقت اعتبار، و لا يترتب عليه حكم، لأن الأحكام إنما تثبت بعد البلوغ.

ص: 116


1- سورة الأنعام: آية 75- 83، و انظر: تفسير الطبري 11/ 470- 506، في ظلال القرآن 2/ 1135- 1143، تفسير النسفي 2/ 19- 21، تفسير الجلالين ص 174- 176، تفسير ابن كثير 2/ 240- 247، صفوة التفاسير 1/ 401- 403، تفسير البحر المحيط 4/ 165- 169، تفسير الكشاف 2/ 30- 33، تفسير القرطبي ص 2459- 2467، تفسير المنار 7/ 444- 486.
2- محمد حسني عبد الحميد: أبو الأنبياء إبراهيم الخليل- القاهرة 1947 ص 39.

و قد اعتمد أصحاب هذا الاتجاه على ما روي في التفسير بالمأثور من عبادته، عليه السلام، لهذه الكواكب في صغره اتباعا لقومه، حتى أراه اللّه تعالى بعد كمال التمييز حجته على بطلان عبادتها، و الاستدلال بأفولها و تعددها و غير ذلك من صفاتها على توحيد خالقها، و أن ذلك كله كان قبل النبوة و دعوتها، و منه قصة طويلة مروية عن محمد بن إسحاق فيها أن إبراهيم عليه السلام، ولدته أمه في مغارة أخفته فيها خوفا عليه من ملكهم «نمرود بن كنعان» أن يقتله، إذ كان قد أخبره المنجمون بأنه سيولد في قريته غلام يفارق دينهم، و يكسر أصنامهم فشرع يذبح كل غلام ولد في الشهر الذي وصف أصحاب النجوم من السنة التي عينوا، و فيها أن إبراهيم كان يشب في اليوم، كما يشب غيره في شهر، و في الشهر كما يشب غيره في سنة، و أنه طلب من أمه بعد خمسة عشر يوما من ولادته، أن تخرجه من المغارة، فأخرجته فنظر و تفكر في خلق السماوات و الأرض، و ذكر رؤيته للكواكب فالقمر فالشمس (1).

و كان اللّه تعالى قد خصّه بالعقل الكامل و النظرة السليمة، و من ثم فقد تفكر في نفسه و قال: لا بد لهذا الخلق من خالق، و هو إله الخلق، ثم نظر حال تفكره، فرأى الكوكب و قد ازدهر فقال: هذا ربي على ما سبق إلى و همه، و ذلك في حالة طفولته، و قبل استحكام النظر في معرفة الرب سبحانه و تعالى، و قد استدل أصحاب هذا القول على صحته بقوله: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، و هذا يدل على نوع من التحيّر، و ذلك لا يكون إلا في حالة الصغر، و قبل البلوغ و قيام الحجة (2).

ص: 117


1- تفسير المنار 11/ 464، و انظر: تفسير النسفي 2/ 20، تفسير الطبري 11/ 481- 482، تفسير القرطبي ص 246، محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم ح- 1- ص 116- 117، إسرائيل ح 1- ص 280.
2- محمد حسني: المرجع السابق ص 40.

و ليس هناك إلى سبيل من شك في أن هذا القول غير صحيح تماما، لأسباب كثيرة، منها أن رواية ابن إسحاق و أمثالها، إنما هي موضوعة لهذه المسألة، و قد أخذها ابن إسحاق عن بعض اليهود الذي كانوا يلقنون المسلمين أمثال هذه القصص، ليلبسوا عليهم دينهم، فتبطل ثقة يهود و غيرهم (1)، و منها أن الأنبياء، صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، معصومون في كل حال من الأحوال، و لا يجوز أن يكون للّه عز و جل رسول يأت عليه وقت من الأوقات، إلا و هو باللّه عارف، و له موحد، و من كل منقصة منزه، و من كل معبود سواه، سبحانه و تعالى، بري ء، و إن هذا القول لينقصنه تماما كون اللّه تعالى قد أتى إبراهيم رشده من قبل، و أطلعه على أسرار الكون، و ملكوت السماوات و الأرض، قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ (2)، و قال تعالى: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (3).

و قال أبو حيان في بحره المحيط: لما أوضح لهم أن الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون ربا، ارتقب ما هو أنور منه و أضوأ، فرأى القمر أول طلوعه، ثم لما غاب ارتقب الشمس إذ كانت أنور من القمر و أضوأ، و أكبر جرما، و أعم نفعا، فقال ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم، و بيّن أنها مساوية للنجم من صفة الحدوث (4)، و روى ابن جريج عن القاسم عن إبراهيم النخعي قال: فرجت له السماوات السبع فنظر إليهن حتى انتهى إلى العرش، و فرجت له الأرضون فنظر إليهن، و رأى مكانه في الجنة، فذلك قوله تعالى:

وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا (5).

ص: 118


1- تفسير المنار 11/ 464.
2- سورة الأنبياء: آية 51.
3- سورة الأنعام: آية 75.
4- تفسير البحر المحيط 4/ 167.
5- تفسير القرطبي ص 2459- 2460.

و هكذا استحق إبراهيم عليه السلام، بصفاء فطرته و خلوصها للحق، أن يكشف اللّه لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون، و الدلائل الموحية بالهدى في الوجود، قال تعالى: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، و بمثل هذه الفطرة السليمة، و هذه البصيرة المفتوحة، و على هذا النحو من الخلوص للحق، و من إنكار الباطل في قوة، نرى إبراهيم حقيقة هذا الملك، ملك السماوات و الأرض، و نطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون، و نكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود، و نصل بين قلبه و فطرته و موحيات الإيمان و دلائل الهدى في هذا الكون العجيب، لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة، إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق (1).

و بديهي أن من يكن هذا مقامه، لا يعقل بحال من الأحوال، أن يرى الكوكب فيقول: هذا ربي، عن عقيدة، فإبراهيم الخليل لأرشد من أن يعتقد ذلك، قال الزجاج: هذا الجواب عندي خطأ و غلط ممن قاله، و قد أخبر اللّه تعالى عن إبراهيم أنه قال: «وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ»، و قال عز و جل: بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي لم يشرك قط، قال: و الجواب عندي أنه قال «هذا ربي» على قولكم، لأنهم كانوا يعبدون الأصنام و الشمس و القمر، و نظير هذا قوله تعالى: أَيْنَ شُرَكائِيَ، و هو جلا و علا واحد لا شريك له، و المعنى:

أين شركائي على قولكم (2).

و من العجيب، كما يقول صاحب تفسير المنار، أن ابن جرير اختار هذا القول، مع تقريره القول المقابل له على أحسن وجه، و هو الذي جزم به الجمهور، من أنه كان مناظرا لقومه (3)، و قد احتج ابن جرير أولا بالرواية،

ص: 119


1- في ظلال القرآن 2/ 1139.
2- تفسير القرطبي ص 2461.
3- قال أبو جعفر في تفسيره (11/ 483- 484): و أنكر من غير أهل الرواية هذا القول الذي روي عن ابن عباس و عمن روى عنه، من أن إبراهيم قال للكوكب أو القمر: هذا ربي، و قالوا: غير جائز أن يكون للّه نبي ابتعثه بالرسالة، أتى عليه وقت من الأوقات و هو بالغ، إلا هو للّه موحد، و به عارف، و من كل ما يعبد من دونه بري ء، قالوا: و لو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الأوقات و هو به كافر، لم يجز أن يختصه بالرسالة، لأنه لا معنى فيه إلا و في غيره من أهل الكفر به مثله، و ليس بين اللّه و بين أحد من خلقه مناسبة، فيحابيه باختصاصه بالكرامة، قالوا: و إنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه، فأثابه لاستحقاقه الثواب بما أثابه من الكرامة، و زعموا أن خبر اللّه عن قيل إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو الشمس أو القمر «هذا ربي» لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربه، و إنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه، و على العيب لقومه في عبادتهم الأصنام، إذ كان الكوكب و القمر و الشمس أضوأ و أحسن و أبهج من الأصنام، لوم تكن مع ذلك معبودة، و كانت آفلة زائلة غير دائمة، فالأصنام التي هي دونها في الحسن و أصغر منها في الجسم، أحق أن لا تكون معبودة و لا آلهة، قالوا: و إنما قال ذلك لهم، معارضة.

و هي، كما يقول صاحب تفسير المنار، لا تصلح حجة على دعوى شرك الخليل، عليه الصلاة و السلام، و لو في الصغر، على أنها مطلقة، و ثانيا:

بالعبارة التي قالها بعد أفول القمر، يعني قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (1).

و هناك وجه آخر للنظر، و هو الذي جزم به الجمهور (2)، من أن ذلك كان في مقام المناظرة و الحجاج لقومه، و أن هذه الرؤية، و هذا القول إنما كانا بعد بلوغ إبراهيم عليه السلام، و حين شرفه اللّه بالنبوة، و أكرمه بالرسالة، و قد حدث بين أصحاب هذا الرأي خلاف في تفسير الآية و تأويلها و ما تحمل من معان، فذكروا فيها وجوها:

الوجه الأول: أن إبراهيم عليه الصلاة و السلام أراد أن يستدرج قومه بهذا القول، و يعرفهم جهلهم و خطأهم في تعظيم النجوم و عبادتها، لأنهم

ص: 120


1- سورة الأنعام: آية 77، تفسير المنار 7/ 465.
2- انظر: تفسير ابن كثير 2/ 242، تفسير القرطبي ص 2461 تفسير الكشاف 2/ 31، تفسير البحر المحيط 4/ 167، تفسير الفخر الرازي 13/ 47، تفسير المنار 11/ 465.

كانوا يرون أن الأمر كله إليها، لا إلى اللّه خالقهم، فأراهم إبراهيم تعظيمه ما يعظمون، فلما أفل الكوكب، و أفل القمر، و أفل الشمس، أراهم النقص الداخل على النجوم بسبب الغيبوبة و الأفول، ليثبت خطأ ما كانوا يعتقدون فيها من الألوهية (1)، و يقول الأستاذ النجار: و يرى فريق من الناس أنها تدرج في تكوين العقيدة، ذلك أن القوم كانوا يعبدون الأصنام ينحتونها على أسماء الكواكب كالشمس و القمر و نحوهما، فأراد أن يلزمهم أن الكواكب و الشمس و القمر لا تصلح لأن تكون آلهة، و إنما الإله هو الذي خلقهن و خلق السماوات و الأرض، و بيده ملكوت كل ما فيهما، و أن التماس الصحة و العافية و الرزق من غيره تعالى باطل (2).

و يقول الإمام ابن كثير: و الحق أن إبراهيم عليه الصلاة و السلام، كان في هذا المقام مناظرا لقومه، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل و الأصنام، فبيّن في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم، الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، و إنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرزق و النصر، و غير ذلك مما يحتاجون إليه، و بيّن في المقام خطأهم و ضلالهم في عبادة الهياكل، و هي الكواكب السيارة السبعة المتحيّرة، و هي القمر و عطارد و الشمس و المريخ و المشتري و زحل، و أشدهم إضاءة و أشرفهن عندهم: الشمس ثم القمر ثم الزهرة، فبيّن أولا صلوات اللّه و سلامه عليه، أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين، لا تزيغ عنه يمينا و لا شمالا، و لا تملك لنفسها تصرفا، بل هي جرم من الأجرام خلقها اللّه منيرة، لماله في ذلك من الحكم العظيمة، و هي تطلع من الشرق ثم تسير فيما بينه و بين المغرب حتى تغيب عن

ص: 121


1- محمد حسنى: المرجع السابق ص 40- 41.
2- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء- القاهرة ص 80.

الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال، و مثل هذه لا تصلح للإلهية، ثم انتقل إلى القمر فبيّن فيه مثل ما بيّن في النجم، ثم انتقل إلى الشمس كذلك، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، و تحقق ذلك بالدليل القاطع: «قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» أي أنا بري ء من عبادتهن و موالاتهن، فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»، أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء و مخترعها و مسخرها و مقدرها و مدبرها، الذي بيده ملكوت كل شي ء، و خالق كل شي ء، و ربه و مليكه و إلهه، كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (1).

و قال الإمام الزمخشري: كان أبوه و قومه يعبدون الأصنام و الكواكب، فأراد أن ينبههم على ضلالهم و يرشدهم إلى الحق من طريق النظر و الاستدلال، و يعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى ألا يكون شي ء منها إلها، و أن وراءها محدثا أحدثها، و مدبرا دبر طلوعها و أفولها و انتقالها و مسيرها، و قوله: «هذا ربي» قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه، لأن ذلك أدعى إلى الحق، ثم يكر عليه فيبطله بالحجة (2)، و قال أبو حيان في بحره: لما أوضح لكم أن هذا الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون ربا، ارتقب ما هو أنور منه و أضوأ، فرأى القمر أول طلوعه، ثم لما غاب ارتقب الشمس إذ كانت أنور من القمر و أضوأ، و أكبر

ص: 122


1- تفسير ابن كثير 2/ 242- 243.
2- تفسير الكشاف 2/ 31.

جرما و أعم نفعا، فقال ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم، و بيّن أنها مساوية للنجم في صفة الحدوث (1).

و أما الوجه الثاني: فإن إبراهيم عليه الصلاة و السلام، قال هذا على سبيل الاستفهام الإنكاري و التوبيخ للقوم، و تقديره أ هذا ربي الذي تزعمون، و قد جرى العرف على إسقاط حرف الاستفهام، و هو كثير في كلامهم، و من هذا القبيل، قوله تعالى: أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ، يعني أفهم الخالدون، و المعنى فيما نحن بصدده، أ يكون هذا ربا، و دلائل النقص فيه ظاهرة. و يقول الإمام النسفي: كان أبوه و قومه يعبدون الأصنام و الشمس و القمر و الكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم، و أن يرشدهم إلى طريق النظر و الاستدلال، و يعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى شيئا منها ليس بإله، لقيام دليل الحدوث فيها، و لأن محدثا أحدثها، و مدبرا دبر طلوعها و أفولها و انتقالها و مسيرها و سائر أحوالها، فلما رأى الكوكب الذي كانوا يعبدونه قال: «هذا ربي» أي قال لهم: هذا ربي في زعمكم، أو المراد أ هذا استهزائهم، و إنكار عليهم، و العرب تكتفي عن حرف الاستفهام بنغمة الصوت، و الصحيح أن هذا قول من ينصف خصمه، مع علمه أنه مبطل، فيحكي قوله، كما هو، غير متعصب لمذهبه لأنه أدعى إلى الحوار، و أنجى من الشعب، ثم يكر عليه بعد حكايته، فيبطله بالحجة، فلما أفل قال:

«لا أحب الآفلين» أي لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين عن حال إلى حال، لأن ذلك من صفات الأجسام، «فلما رأى القمر بازغا قال: هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين»، نبه قومه على أن من اتخذ القمر إلها، فهو ضال، و إنما احتج عليهم بالأفول دون البزوغ، و كلاهما انتقال من حال إلى حال، لأن الاحتجاج به أظهر، لأنه انتقال مع

ص: 123


1- تفسير البحر المحيط 4/ 167.

خفاء و احتجاب، فلما رأى الشمس بازغة قال: «هذا ربي»، و إنما ذكره لأنه أراد الطالع، أو لأنه جعل المبتدأ مثل الخبر، لأنهما شي ء واحد معني، و فيه صيانة الرب عن شبهة التأنيث، و لهذا قالوا: في صفات اللّه تعالى علام، و لم يقولوا علامة، و إن كان الثاني أبلغ، تفاديا من علامة التأنيث، «فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ»، أي من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها (1).

و أما الوجه الثالث: لو كان إلها، كما تزعمون، لما غاب، فهو كقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، يعني عند نفسك و بزعمك، و قد جرى العرب على إضمار القول، و منه قوله تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا.

و أما الوجه الرابع: أن في هذه الآية إضمارا تقديره: يقولون: هذا ربي، أي يقولان: ربنا تقبل منا (2).

على أن هناك أخيرا وجها خامسا، يذهب إلى أن اللّه سبحانه و تعالى قال في حق إبراهيم: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، هذا فضلا عن تشبيه إراءة اللّه تعالى إياه هذا الملكوت و ما يترتب عليه من إبطال ربوبية الكواكب بإراءته ضلال أبيه و قومه في عبادة الأصنام، و من إسناد هذه الإراءة إلى اللّه تعالى الدال على تمييز ما رأى بها على ما كان يرى قبلها، و من تعليل الإراءة بما تقدم، و من التعقيب على ذلك بمحاجة قومه، و قوله تعالى إنه آتاه الحجة عليهم (3)، كل هذا و غيره، فضلا عن منزلة إبراهيم العالية عند اللّه تعالى، و اتخاذ إياه خليلا، و أنه كان أمة قانتا للّه

ص: 124


1- تفسير النسفي 2/ 19- 20.
2- محمد حسني: المرجع السابق ص 41.
3- تفسير المنار 7/ 465.

حنيفا، ثم أمر اللّه تعالى لأشرف خلقه سيدنا و مولانا وجدنا محمد، صلى اللّه عليه و آله و سلم، أن اتبع ملة إبراهيم (1)، كل ذلك و غيره من أوصاف إبراهيم من القرآن الكريم، إنما يؤكد، التأكيد كل التأكيد، أنه من المحال، بحال من الأحوال، أن يعبد إبراهيم الكواكب، و يتخذها ربا، و أما قوله: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين»، فإن الأنبياء، عليهم السلام لا يسألون اللّه التثبيت، و منه قوله: «و اجنبني و بنّي أن نعبد الأصنام».

و أخيرا، و كما يقول ابن كثير في تفسيره: كيف يكون إبراهيم ناظرا في هذا المقام، و هو الذي قال اللّه في حقه: وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (2)، و قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة»، و في صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «قال اللّه إني خلقت عبادي حنفاء»، و قال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، و قال تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قالُوا بَلى فإذا كان في حق سائر الخلق، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله اللّه أمة قانتا للّه حنيفا و لم يك من المشركين، ناظرا في هذا المقام، بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، و السجية المستقيمة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، بلا شك و لا ريب، و مما يؤيده أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك، لا ناظرا، قوله تعالى: وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً، وَسِعَ رَبِّي كُلَ

ص: 125


1- انظر: سورة النساء: آية 125، الأنعام: آية 161، هود: آية 75: النحل: آية 120، 123، الأنبياء: آية: 51، الممتحنة: آية 4.
2- سورة الأنبياء: آية 51- 52، و انظر: العمران: آية 95، النساء: آية 95، النساء: آية 125، الأنعام: آية 161، النحل: آية 120- 123.

شَيْ ءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ، وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ، وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (1).

و هكذا يختم القرآن الكريم هذا الفصل من قصة إبراهيم مع قومه وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ يعني ما جرى بين إبراهيم و قومه، و استدل به على حدوث الكواكب و الشمس و القمر بالأفول، و كانت هذه هي الحجة التي ألهمها اللّه تعالى إبراهيم ليدحض بها حجتهم التي جاءوا بها يجادلونه، و لقد كشف لهم عن وهن ما هم عليه من تصورهم أن هذه الآلهة تملك أن تسي ء إليه، و واضح أنهم ما كانوا يجحدون وجود اللّه، و لا أنه صاحب القوة و السلطان في الكون، و لكنهم كانوا يشركون به هذه الآلهة، فلما واجههم إبراهيم بأن من كان يخلص نفسه للّه، لا يخاف من دونه، فأما من يشرك باللّه فهو أحق بالمخافة، لما واجههم بهذه الحجة التي آتاها اللّه له و ألهمه إياها، سقطت حجتهم، و علت حجته، و ارتفع إبراهيم على قومه عقيدة و حجة و منزلة، و هكذا يرفع اللّه من يشاء درجات، متصرفا في هذا بحكمته و علمه إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (2).

و هكذا يبدو واضحا من هذه المناظرة التي دارت بين إبراهيم و قومه، أن الأنبياء، عليهم السلام، قد عمدوا إلى طرق خاصة في الإقناع، و أن أبي الأنبياء، عليه السلام، قد عمد إلى طريقة تدل على صفاء ذهنه، و سرعة بديهته، و هي طريقة المجاراة و التظاهر بالتصديق، ليصل إلى غايته، و هي إظهار فساد تلك العبادات، و كاشفة عابديها بأن آلهتهم غير جديرة بالعبادة أو

ص: 126


1- سورة الأنعام: آية 80- 83، تفسير ابن كثير 2/ 243- 244 (بيروت 1986).
2- في ظلال القرآن 2/ 1142.

التقديس، لأنها آلهة زائفة يقوم دليل الحدوث فيها، ذلك بأن لها محدثا أحدثها، و مدبرا دبر طلوعها و أفولها و انتقالها و مسيرها و سائر أحوالها (1).

[2] موقف إبراهيم من عبادة الأصنام:-
اشارة

كان قوم إبراهيم، كما أشرنا من قبل، يعبدون الأصنام، كما كانوا يعبدون الكواكب و النجوم، و من ثم فقد أرسله اللّه تعالى إلى قومه يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده، قال تعالى:

وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ، يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ، وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ، وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ، وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ، وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ، فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ، وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (2).

ص: 127


1- محمد حسني: المرجع السابق ص 43.
2- سورة العنكبوت: آية 16- 27، و انظر: تفسير النسفي 3/ 252- 256، تفسير القرطبي ص 5051- 5056، صفوة التفاسير 2/ 455- 458، في ظلال القرآن 5/ 2726- 2733، تفسير ابن كثير 3/ 649- 656 (و انظر: عن موقف إبراهيم من عبادة الأصنام: سورة الأنعام: آية 74، مريم: آية 41- 48، الشعراء: آية 69- 89، الصافات: آية 83- 99).

و هكذا تشير هذه الآيات الكريمة بوضوح إلى دعوة أبي الأنبياء، سيدنا إبراهيم صلى اللّه عليه و سلم مرسومة الخطوط واضحة المعالم، بشر فيها و أنذر، غير أن القوم قد تملكهم الغرور، و ركبوا رءوسهم، و قد عزّ عليهم أن يرجعوا إلى الحق أو يثوبوا إلى الرشد، و هم يحسبون أن آلهتهم تنجيهم من عذاب أليم ينتظرهم، و لم تكن تلك الآلهة التي أصموا آذانهم عن كلمة الحق فيها، غير نصب و أوثان من خشب و حجارة لا تنفع و لا تضر، لكنهم كانوا يعظمونها و يقدسونها، و يقدمون لها القرابين، و يركعون أمامها و يسجدون، و من ثم فقد أعدوا عدتهم لمقاومة دعوة إبراهيم، حفاظا على أوثانهم و أصنامهم.

و هنا لعل من الأفضل هنا أن نناقش موقف إبراهيم عليه السلام منهم و من أوثانهم، و كذا موقفهم منه، عليه السلام، في شقين، الأول مع أبيه، و الآخر مع قومه:

(أ) بين إبراهيم و أبيه

:- كان والد إبراهيم في طليعة عابدي الأصنام و صانعيها من الأخشاب، و الداعين لها، و كان يعرضها على الناس ليشتريها منه من يرغب فيها، و قد عزّ على إبراهيم أن يكون والده (1) زعيما من زعماء المشركين، و إماما من أئمة الإفك المبين، و هو أقرب قومه إليه، و أولى الناس بتصديق دعوته، و الإيمان برسالته، فرأى إبراهيم عليه السلام من واجبه أن يبصر والده بأمره، و يحذره عاقبة كفره بما فيه الخير له، برأيه، و حرصا على أن يكون مسلكه سليما، فيتبع الدين القويم و الطريق المستقيم، و قرر أن تكون مفاتحته والده في الأمر بالحسنى، إذ ما كان له أن يرشده إلى الحق بغيرها، و هو المؤمن بما للأبوة من جليل القدر، و رفعة الشأن.

ص: 128


1- انظر الآراء التي دارت حول «آزر» و هل هو والد الخليل أم عمه؟ (محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 53- 61.

و يقص علينا القرآن الكريم، كيف بدأ النبي الكريم دعوته مع أبيه بلهجة تسيل أدبا ورقة، يهديه بها صراطا مستقيما، فأشار إلى الأصنام مبينا أنها لا تنفع و لا تضر، و لا تسمع و لا ترى، و لا تشعر بعابد يعبدها، أو عاص يعصاها، ثم بيّن لأبيه أنه ليس مخترعا للدعوة، و أنها من لدن عليّ قدير، و أنه قد تلقى من العلم ما لم يتلق أبوه، و أنه لا ضرر عليه إذا اتبع ملة ولده أو عمل برأيه، و اختتم نصحه برجاء تقدم به إلى أبيه أن يحذو حذوه، و يسلك سبيله، و إلا فالطريق التي يسلكها غير طريق الهدى، هي طريق ملأى بالأشواك، و هي طريق الشيطان الرجيم، و هو عدو لا يرشد إلى خير، و لا يبتغي إلا إيقاع الناس في الشر و إهلاكهم، فقد عصى ربه فطرده و أبعده عن رحمته، فتوعّد الناس بالإغواء و الضلالة (1).

و لكن «آزر» رفض الدعوة، بل و أصر على عناده، و صمم على كفره، و تجاهل بنوته، و أنكر إشفاقه به، و نصحه له، و هدّده إن لم ينته عن دعوته هذه ليرجمنه، و ليهجرنه مليا، و كان آزر في ذلك مغمضا عينيه عن اعتبارات النبوة، متجاهلا إياها، فاستنكر النصيحة، و سفه الرأي، و سخر من الشرعة الجديدة، فما كان من الخليل، تأدبا مع أبيه و حدبا عليه، إلا أن يدعو له بالمغفرة، و أن ينتظر إجابة دعوته إلى حين.

و لنقرأ هذه الآيات الكريمة من سورة مريم، قال تعالى: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً، يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا، يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا، يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا، قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا، قالَ

ص: 129


1- محمد حسني: المرجع السابق ص 31.

سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا، وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (1).

و هكذا تشير هذه الآيات الكريمة إلى شخصية إبراهيم الرضي الحليم، تبدو وداعته و حلمه في ألفاظه و تعبيراته التي يحكي القرآن الكريم ترجمتها بالعربية، و في تصرفاته و مواجهته للجهالة من أبيه (2)، و يصف اللّه تعالى خليله إبراهيم بأنه كان صديقا نبيّا، فجمع اللّه له بين الصديقية و النبوة، فالصديق كثير الصدق، فهو الصادق في أقواله و أفعاله و أحواله، المصدق بكل ما أمر بالتصديق به، و ذلك يستلزم العمل العظيم الواصل إلى القلب، المؤثر فيه الموجب لليقين، و العمل الصالح الكامل، و لا غرو فإبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام، أفضل الأنبياء و المرسلين قاطبة بعد سيدنا و مولانا محمد صلى اللّه عليه و سلم، و هو الذي جعل اللّه في ذريته النبوة و الكتاب (3).

و قال الإمام الرازي في التفسير الكبير: و إيراد الكلام يلفظ «يا أبت» في كل خطاب، دليل على شدة الحب و الرغبة في صونه عن العقاب، و إرشاده إلى الصواب، و قد رتب إبراهيم الكلام في غاية الحسن، لأنه نبهه أولا إلى بطلان عبادة الأوثان، ثم أمره باتباعه في الاستدلال و ترك التقليد الأعمى، ثم ذكره بأن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول، ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام، مع رعاية الأدب و الرفق، و قوله «إني أخاف» دليل على ).

ص: 130


1- سورة مريم: آية 41- 48، و انظر: تفسير ابن كثير 3/ 198- 200، تفسير القرطبي ص 4149- 4153، تفسير النسفي 3/ 36- 38، تفسير ابن ناصر السعدي 5/ 53- 56، في ظلال القرآن 4/ 2310- 2313، صفوة التفاسير 2/ 218- 219، تفسير الفخر الرازي 21/ 225- 227، تفسير البيضاوي 2/ 16- 18.
2- في ظلال القرآن 4/ 2311.
3- عبد الرحمن بن ناصر السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 5/ 54 (مكة المكرمة 1398 ه).

شدة تعلق قلبه بمصالحه، قضاء لحق الأبوة (1).

غير أن أباه، كما يقول الإمام البيضاوي، قابل استعطافه و لطفه بالفظاظة و غلظة العناد، فناداه باسمه، و لم يقابل قوله «يا أبت» ب «يا ابني» و قدّم الخبر و صدره بالهمزة لانكار نفس الرغبة، كأنها مما لا يرغب عنها عاقل (2).

و هكذا تشير الآيات الكريمة بوضوح، كيف راعى إبراهيم الخليل المجاملة و الرفق و الخلق الحسن كما أمر، ففي الحديث «أوحى إلى إبراهيم إنك خليلي، حسن خلقك و لو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار»، فطلب من أبيه أولا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه و تناهيه، لأن من يعبد أشرف الخلق منزلة، و هم الأنبياء، كان محكوما عليه بالغي المبين، فكيف بمن يعبد حجرا أو شجرا لا يسمع ذكر عابده، و لا يرى هيآت عبادته، و لا يدفع عنه بلاء، و يقضي له حاجة، ثم ثني بدعوته إلى الحق مترفقا به، متلطفا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط، و لا نفسه بالعلم الفائق، و لكنه قال:

إن معي شيئا من العلم ليس معك، و ذلك علم الدلالة على الطريق السّوى، فهب أني و إياك في مسير، و عندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجك من أن تضل و تتيه، ثم ثلث بنهيه عما كان عليه بأن الشيطان الذي عصى الرحمن الذي جميع النعم منه أوقعك في عبادة الصنم و زينها لك، فأنت عابده في الحقيقة، ثم ربع بتخويفه العاقبة و ما يجره ما هو فيه من التبعية و الوبال، مع مراعاة الأدب حيث لم يصرح بأن العقاب لاحق به، و أن العذاب لاحق به، بل قال أخاف أن يمسك عذاب بالتفكير المشعر بالتقليل، كأنه قال إني أخاف أن يصيبك نفيا من عذاب الرحمن، و جعل ولاية الشيطان و دخوله في

ص: 131


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 226.
2- تفسير البيضاوي 2/ 17.

جملة أشياعه و أوليائه أكبر من العذاب، كما أن رضوان اللّه أكبر من الثواب في نفسه، و صدّر كل نصيحة بقوله: يا أبت، توسلا إليه و استعطافا، و إشعارا بوجوب احترام الأب، و إن كان كافرا (1).

غير أن الخلاف بين أبي الأنبياء و أبيه إنما كان عميق الجذور، فإذا أبو إبراهيم يقابل الدعوة بالاستنكار و التهديد و الوعيد، بل و يأمر ولده بالهجرة، ما دام راغبا عن آلهته، حيث لا أمل في اتفاق، و لم يغضب إبراهيم الحليم، و لم يفقد بره و عطفه و أدبه مع أبيه «قال: سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا، و أعتزلكم و ما تدعون من دون اللّه، و أدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا»، و هكذا يرد الخليل عليه السلام على تهديد أبيه «سلام عليك»، فلا جدال و لا أذى، و لا رد للتهديد و الوعيد، سأدعو اللّه أن يغفر لك فلا يعاقبك بالاستمرار في الضلال و تولى الشيطان، بل يرحمك فيرزقك الهدى، و قد عودني ربي أن يكرمني فيجيب دعائي، و إذا كان وجودي إلى جوارك و دعوتي لك إلى الإيمان تؤذيك فسأعتزلك أنت و قومك، و أعتزل ما تدعون من دون اللّه من الآلهة، و أدعو ربي وحده، بسبب دعائي للّه، ألا يجعلني شقيا (2).

و قد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة، و بعد أن هاجر إلى الشام، و بعد أن بنى المسجد الحرام، و بعد أن ولد له إسماعيل و إسحاق عليهما السلام، في قوله «ربنا اغفر لي و لوالدي و للمؤمنين يوم يقوم الحساب» (3).

و لم يجد سيدنا إبراهيم من بين القوم من يؤمن به، إلا ابن أخيه لوط، عليه السلام، يقول سبحانه و تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى

ص: 132


1- تفسير النسفي 3/ 36- 37.
2- في ظلال القرآن 4/ 2312.
3- تفسير ابن كثير 3/ 200.

رَبِّي، إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)، و من ثم فقد اعتزل إبراهيم أهله، و ودع والده، ثم هجره لحكمة هي حرصه على أن لا يكون في إقامته مع أبيه معنى الرضا بعصيانه و كفرانه.

و يكتب اللّه، جل جلاله، لخليله عليه السلام، و كذا لابن أخيه لوط، النجاة من القوم الكافرين، بعد أن أعدوا العدة لإحراقه قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ، وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (2).

و ليس في هذه الآيات الكريمة ما يشير إلى هجرة أبي إبراهيم معه، و لو/ آمن أبوه به، ثم هاجر معه، لكان ذلك حدثا هاما جديرا بالتنصيص عيه، تكريما له و لإبراهيم في نفس الوقت، و لم يكن ابن أخيه لوط أقرب إليه من أبيه، حتى ينال وحده شرف الهجرة، و مثوبة التوحيد (3).

بل إن القرآن الكريم ليشير بصراحة و وضوح إلى أن إبراهيم إنما تبرأ من أبيه، بعد ما تبيّن له أنه عدو للّه قال تعالى: وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (4)، هذا فضلا عن أن القرآن الكريم قد أمر المسلمين أن يقتدوا

ص: 133


1- سورة العنكبوت: آية 26.
2- سورة الأنبياء: آية 68- 71، و انظر: تفسير البيضاوي 2/ 76- 77، تفسير القرطبي ص 4343- 4345، في ظلال القرآن 4/ 2387- 2388، تفسير النسفي 3/ 83- 85، صفوة التفاسير 2/ 267- 269، زاد المسيرة 5/ 367- 369، تفسير ابن كثير 3/ 294- 296.
3- محمود عمارة: اليهود في الكتب المقدسة- القاهرة 1969 ص 12- 13.
4- سورة التوبة: آية 114، و انظر: تفسير الطبري 14/ 511- 536، تفسير القرطبي ص 3112- 3115، تفسير ابن كثير 2/ 610- 614، تفسير المنار 11/ 45- 49، مسند الإمام أحمد 2/ 116 (طبعة دار المعارف)، صفوة التفاسير 1/ 565- 566، في ظلال القرآن 3/ 1721- 1722.

بإبراهيم و الذين معه، إلا من استغفاره، قال تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (1).

و حكمة تحريم الاستغفار للمشركين أن اللّه تعالى لا يغفر الشرك أبدا، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ، و من ثم فطلب الغفران للمشركين معدوم الفائدة، و يوهم أمرا بالملإ، و هو أنه يجوز شرعا أن يغفره، و لما كان هذا الخطر يعارضه استغفار سيدنا إبراهيم لأبيه، و قد كان من الكافرين، و أحكام الأصول لا نسخر فيها، فيشعر استغفاره ذلك بجوازه ببيّن اللّه عذره في ذلك الاستغفار بأنه استغفر لوالده بناء على وعد من الوالد أن يتوب، فلما تبيّن له أنه عدو للّه و لم يتب، تبرأ منه، فليس ما فعله دليلا للجواز، لأنه إنما يكون دليلا إذا استغفر له، و هو يعلم أنه كافر، فالحكم بأن اللّه لا يغفر الشرك و أن طلبه غير جائز لم يتغير، فلا يجوز طلبه، و لا ينبغي للنبي و الذين آمنوا أن يطلبوه، و لو لأقاربهم (2).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أمرين، يختلف القرآن فيهما عن التوراة، الواحد: أن أبا إبراهيم لم يهاجر أبدا مع النبي الكريم، فضلا عن عدم الإيمان به، و الآخر: أن الهجرة إنما كانت «إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين»، و ليست هذه الأرض بحال من الأحوال «حران» (حاران)،

ص: 134


1- سورة الممتحنة: آية 4، و انظر: تفسير الفخر الرازي 29/ 300- 301، تفسير روح المعاني 28/ 69- 73، تفسير الطبري 28/ 62- 63، تفسير الطبرسي 28/ 47- 49، تفسير الزمخشري 4/ 90، تفسير القاسمي 16/ 5765- 5766، تفسير القرطبي ص 6535، تفسير ابن كثير 4/ 543- 54.
2- محمد حسني: المرجع السابق ص.

كما ذهب إلى ذلك كعب الأحبار، و إنما هي موضع خلاف بين المفسرين، فيما بين مكة و بيت المقدس و مصر (1)، و كلها أماكن حط الخليل رحاله فيها بعد هجرته من حاران، موطنه الأصلي، و ليس أور التي في منطقة الفرات الأدنى، و من ثم فقد كانت هجرة الخليل من حاران إلى كنعان، ثم مصر، فكنعان فالحجاز، فكنعان مرة ثالثة، حيث استقر هناك في حبرون (مدينة الخليل الحالية) (2).

(ب) بين إبراهيم و قومه

:- لا ريب في أن جدنا الأكبر، سيدنا إبراهيم عليه الصلاة و السلام، إنما كان عظيما بكل ما وسعته هذه الكلمة من معان، و لم تكن الشدائد التي وقفت في طريقه، و الأهوال التي اعترضت سبيله، لتقل من غربه أو توهن من عزمه، فلقد كان، عليه السلام، في أحرج موقف حيال من بعث بالحق إليهم، ذلك أن قومه و أهله، و على رأسهم أبوه، كل أولئك قد نقم عليه دعوته و ضاق به صدرا و ضاعف من دقة موقفه إزاء المناوءيين، تلك الغلطة التي بدت في لهجة أبيه، و ذلك التهديد الذي قابل به دعوته، و أمره إياه بهجره و إصراره على ما هو فيه من ضلال و عبادة أصنام، كما رأينا من قبل، قد حزت كل هذه الأحداث في نفس إبراهيم، لكنها لم تكن لترجعه القهقري، أو لتدخل على قلبه اليأس، أو لتفقده الأمل في نصر اللّه تعالى، فصمد كالطود الراسخ، و زاده الإصرار من جانب الكفار، قوة على قوة، و إيمانا مع إيمان، فاعتزل أباه، و اعتز باللّه، و مضى في طريقه غير وجل أو هياب، موطنا النفس على تحمل المكاره، مستنصرا بخالقه و باعثه إلى الناس رسولا نبيّا (3).

ص: 135


1- انظر: تفسير القرطبي ص 4345، تفسير البيضاوي 2/ 76- 77، ابن كثير: قصص الأنبياء 1/ 1- 1- 2- 1 (القاهرة 1968)، تفسير ابن كثير 3/ 296.
2- انظر: عن موطن الخليل و هجراته (محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 61- 132).
3- محمد حسني: المرجع السابق ص 48.

و هكذا كانت مواقف إبراهيم مع قومه متعددة، فتارة يحاج والده، و تارة يحاج الجمهور، و تارة يحاج الملك، و تارة يفعل ما يستفزهم إلى محاجته، كتكسير الأصنام ليحاجوه في شأنها، إلى أن أوقدوا النار لتحريقه، فنجاته منها، بعد أن ألقى فيها (1).

و يقص علينا القرآن الكريم، في آيات كريمة من سورة مريم (2)، كيف بدأ إبراهيم الخليل عليه السلام دعوته مع أبيه يهديه بها صراطا مستقيما، كما أشرنا من قبل، و كيف أن أباه قد رفض الدعوة، و هدده إن لم ينته عنها ليرجمنّه و ليهجرنه مليا، فما كان من أبي الأنبياء- تأدبا مع أبيه و حدبا عليه- إلا أن يدعو له بالمغفرة، و إلا أن ينتظر إجابة دعوته إلى حين.

غير أن الأمور سرعان ما بدأت تتأزم بين الخليل و قومه، حين بذل أبو الأنبياء الجهد، كل الجهد، لصرفهم عن عبادة الأوثان، و الاتجاه إلى عبادة اللّه، الواحد القهار، إلا أن القوم ظلوا في طغيانهم يعمهون، مما دفع الخليل إلى أن يجرب معهم وسائل حسنة، و من ثم فقد حطم الأصنام و ترك كبيرهم، لعل القوم يفكرون في هذا الموقف الجديد، أملا في أن يهديهم اللّه سواء السبيل، فيعرفوا أن هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا، و لا تمنع عنها ضرا، فضلا عن أن يكون ذلك للقوم أنفسهم، إلا أن هذه العقول المتحجرة، لم تزد على أن تلجأ إلى العنف لنصرة أصنامها، و لم تجد لها مخرجا من الموقف الجديد، إلا أن تلقي بإبراهيم في نار، ظنوا أنها ستكون القاضية على الخليل، و أنها الحل السعيد لمشكلتهم، مع هذا الذي سفه عقولهم و حطم أصنامهم، دون أن يفكروا مرة في مقابلة الحجة بالحجة، و دون أن يرجعوا إلى الحق ما دام الحق مع إبراهيم، و تلك- ويم اللّه- عادة من طمس اللّه على قلوبهم، و أعمى أبصارهم، في كل زمان و مكان، لا

ص: 136


1- عبد الوهاب النجار: المرجع السابق ص 81.
2- سورة مريم: آية 41- 48.

يعرفون إلا القوة الطاغية ضد العقول المستنيرة، التي تبغي لهم الخير و الفلاح.

و لنقرأ هذه الآيات الكريمة من سورة الأنبياء وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ، قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ، قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ، قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ، فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ، قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ، قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ، فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ، قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ؛ أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ، قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (1).

و تقدم لنا الآيات الكريمة كما يقول صاحب الظلال حلقة من سيرة أبي الأنبياء، صلوات اللّه و سلامه عليه، تبدأ بالإشارة إلى سبق هداية إبراهيم إلى الرشد، و يعني به الهداية إلى التوحيد، فهذا هو الرشد الأكبر الذي تنصرف إليه لفظة «الرشد» في هذا المقام، ثم تشير إلى محاجة إبراهيم قومه «إذ قال

ص: 137


1- سورة الأنبياء: آية 51- 70، و أنظر: تفسير ابن كثير 3/ 291- 29، تفسير القرطبي ص 433- 4345، في ظلال القرآن 4/ 2382- 2388، صفوة التفاسير 2/ 266- 268، تفسير النسفي 3/ 81- 84 تفسير الخازن 3/ 240- 242، تفسير ابن ناصر السعدي 5/ 118- 122، تفسير الجلالين ص 425- 427.

لأبيه و قومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون»، فكانت قولته هذه دليل رشده، فقد سمى تلك الأحجار و الخشب باسمها، فقال «هذه التماثيل»، و لم يقل إنها آلهة و استنكر أن يعكفوا عليها بالعبادة، و كلمة «عاكفون» تفيد الانكباب الدائم المستمر، و هم لا يقضون وقتهم كله في عبادتها، و لكنهم يتعلقون بها، فهو عكوف معنوي لازمني، و هو يسخف هذا التعلق و يبشعه بتصويرهم منكبين أبدا على هذه التماثيل.

و كان جوابهم و حجتهم أن «قالوا إنا وجدنا آباءنا له عابدين»، و هو جواب يدل على التحجر العقلي و النفسي داخل قوالب التقليد الميتة، في مقابل حرية الإيمان، و انطلاق للنظر و التدبر، و تقويم الأشياء و الأوضاع بقيمها الحقيقية لا التقليدية، فالإيمان باللّه طلاقة و تحرر من القداسات الوهمية التقليدية، و الوراثات المتحجرة التي لا تقوم على دليل «قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ»، و ما كانت عبادة الآباء لتكسب هذه التماثيل قيمة ليست لها، و لا لتخلع عليها قداسة لا تستحقها، فالقيم لا تنبع من تقليد الآباء و تقديسهم، إنما تنبع من التقويم المتحرر الطليق.

و عند ما واجههم إبراهيم بهذه الطلاقة في التقدير، و بهذه الصراحة في الحكم، راحوا يسألون: «قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ»، و هو سؤال المزعزع العقيدة الذي لا يطمئن إلى ما هو عليه، لأنه لم يتدبره و لم يتحقق منه، و لكنه كذلك معطل الفكر و الروح بتأثير الوهم و التقليد، فهو لا يدري أي الأقوال حق، و العبادة تقوم على اليقين، لا على الوهم المزعزع الذي لا يستند إلى دليل، و هذا هو هو التيه الذي يخبط فيه من لا يدينون بعقيدة التوحيد الناصعة الواضحة المستقيمة في العقل و الضمير.

فأما خليل الرحمن، صلوات اللّه و سلامه عليه، فهو مستيقن واثق عارف بربه، متمثل له في خاطره و فكره، يقولها كلمة المؤمن المطمئن

ص: 138

لإيمانه «قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ»، فهو رب واحد، رب السموات و الأرضين، ربوبية ناشئة عن كونه الخالق، فهما صفتان لا تنفكان، فهذه هي العقيدة المستقيمة الناصعة، لا كما يعتقد المشركون أن الآلهة أرباب، في الوقت الذي يقرون أنها لا تخلق، و أن الخالق هو اللّه، ثم هم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق و أن الخالق هو اللّه، ثم هم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق شيئا و هم يعلمون.

ثم يعلن إبراهيم عليه السلام لمن كان يواجههم من قومه بهذا الحوار، أنه قد اعتزم في شأن آلهتهم أمرا لا رجعة فيه «وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ»، و يترك ما اعترفه من الكيد للأصنام مبهما لا يفصح عنه، و لا يذكر السياق كيف ردوا عليه، و لعلهم كانوا مطمئنين إلى أنه لن يستطيع لآلهتهم كيدا، فتركوه، «فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ»، و تحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة و الأخشاب المهشمة، إلا كبير الأصنام فقد تركه إبراهيم، لعلهم يسألونه كيف وقعت الواقعة، و هو حاضر، فلم يدفع عن صغار الآلهة، و لعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها، فيرجعون إلى صوابهم، و يدركون منه ما في عبادة هذه الأصنام من سخف و تهافت.

و عاد القوم ليروا آلهتهم جذاذا، إلا ذلك الكبير، و لكنهم لم يرجعوا إليه يسألونه، و لا إلى أنفسهم يسألونها، إن كانت هذه الآلهة فكيف وقع لها ما وقع، دون أن تدافع عن نفسها شيئا، و هذا كبيرهم كيف لم يدفع عنها؟

ذلك لأن الخرافة قد عطلت عقولهم عن التفكير، و لأن التقليد قد غلّ أفكارهم عن التأمل و التدبر، فإذا هم يدعون هذا السؤال الطبيعي لينقموا على من حط آلهتهم، و صنع بها هذا الصنيع «قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ»، و عندئذ تذكر الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه و من معه

ص: 139

عبادة التماثيل، و يتوعدهم أن يكيد لآلهتهم بعد انصرافهم عنها «قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ».

و يبدو من هذا أن إبراهيم عليه السلام كان شابا صغير السن، حينما آتاه اللّه رشده، فاستنكر عبادة الأصنام و حطمها، و لكن أ كان قد أوحى إليه بالرسالة في ذلك الحين؟ أم هو إلهام هداه إلى الحق قبل الرسالة، فدعا إليه أباه، و استنكر على قومه ما هم فيه؟ و هذا هو الأرجح، فيما يرى صاحب الظلال، و هناك احتمال أن يكون قولهم «سمعنا فتى» يقصد به إلى تصغير شأنه، بدليل تجهيلهم لأمرهم في قولهم «يقال له إبراهيم»، للتقليل من أهميته، و إفادة أنه مجهول لا خطر له؟ قد يكون هذا هو المراد، و هذا ما نميل إليه و نرجحه، و لكن الأستاذ سيد قطب، يرجح أنه كان فتى حديث السن في ذلك الحين.

ثم أرادوا التشهير به، و إعلان فعلته على رءوس الأشهاد «قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ»، فهم ما يزالون يصرون على أنها آلهة، و هي جذاذ مهشمة، و من ثم فقد أراد إبراهيم أن يسخر منهم «قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ».

و يبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا، و ردهم إلى شي ء من التدبر و التفكير «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ» و لكنها لم تكن إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام، و إلا خفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ»، و من ثم فإن الخليل عليه السلام يجيبهم بعنف و ضيق، على غير عادته و هو الصبور الحليم، لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم «قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا

ص: 140

تَعْقِلُونَ»، و هي قولة يظهر فيها ضيق الصدر، و غيظ النفس، و العجب من السخف الذي يتجاوز كل مألوف».

و عند ذلك أخذتهم العزة بالإثم «قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ»، فيا لها من آلهة ينصرها عبادها، و هي لا تملك نفعا و لا ضرا، و لا تحاول لها و لا لعبادها نصرا، و لكن كلمة اللّه العليا ردت على كلمتهم «حرقوه»، فأبطلت كل قول، و أحبطت كل كيد، لأن كلمة اللّه العليا لا ترد «قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ».

و أما كيف لم تحرق النار إبراهيم؟ و المشهور المعروف أن النار تحرق الأجسام الحية، فلا نسأل عن ذلك، لأن الذي قال للنار: كوني حارقة، هو الذي قال لها: كوني بردا و سلاما على إبراهيم، و هي الكلمة الواحدة التي تنشئ مدلولها عند قولها كيفما كان هذا المدلول، مألوفا للبشر أو غير مألوف، و عز من قال «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (1).

و من عجب أن يحاول بعض المؤرخين الإسلاميين كما أشرنا في الجزء الأول من هذه السلسلة (2)، أن يقدموا لنا قصصا تدعو إلى العجب في هذه المواقف الجادة، فيرون أن «نمرودا»- و هو الملك المعاصر لإبراهيم فيما يقولون- أمر بجمع الحطب، حتى أن المرأة العجوز كانت تحمل الحطب على ظهرها، و تقول: «اذهب به إلى هذا الذي يذكر آلهتنا»، و حتى أن المرأة لتنذر إن بلغت ما تريد أن تحتطب لنار إبراهيم، و أن أمه نظرت إليه في النار، فطلبت أن تجي ء إليه فيها، على أن يدعو إبراهيم ربه ألا يضرها شي ء من حر النار، ففعل، و هكذا ذهبت إليه فاعتنقته و قبلته، ثم عادت و قد

ص: 141


1- في ظلال القرآن 4/ 2384- 2388.
2- انظر: محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم- الرياض 1980 1/ 129- 134.

اطمأنت على ولدها (1)، و يتسابق البعض الآخر في رواية الأساطير، فيذهب إلى أنها إنما كانت ابنة نمرود، و ليست أم الخليل، هي التي ذهبت إليه في النار، و أن الخليل قد زوجها بعد ذلك من ولده مدين، فحملت منه عشرين بطنا، أكرمهم اللّه بالنبوة (2).

و لست أدري كيف احتاج نمرود، و هو في رأي هذا النفر من المؤرخين قد ملك الدنيا بأسرها، إلى أن تحمل المرأة العجوز ما لا تطيق، و إلى أن ينتظر نذر النساء بجمع الحطب لناره، و هل كان جمع الحطب يحتاج إلى فترة تمضى بين أن يتحقق للمرأة ما طلبت و بين أن توفي بنذرها حطبا للنار التي أعدها النمرود للخليل عليه السلام؟، و أما قصة أم إبراهيم فأمرها عجب، فكيف رأته في النار سليما معافى، ثم اعتنقته و قبلته، ثم كيف سمح لها القوم- و خاصة زوجها- بأن تذهب إليه؟ أم أن أصحابنا المؤرخين أرادوا أن تذهب خلسة، كما وضعته خلسة (3) فيما يزعمون، و إن كان الأعجب من ).

ص: 142


1- تاريخ الطبري 1/ 241، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 98- 99 (بيروت 1965)، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 146 (الرياض 1966).
2- الديار بكري: تاريخ الخميس ص 93- 95 (القاهرة 1302 ه).
3- يروى الأخباريون أن أصحاب النجوم قد أخبروا النمرود أن غلاما يقال له إبراهيم سوف يولد في شهر كذا من سنة كذا من عهده، و أنه سيفارق دين القوم و يحطم أصنامهم، و من ثم فقد أمر النمرود بقتل كل غلام يولد في تلك الفترة، غير أن أم إبراهيم قد أخفت حملها، ثم وضعته سرا في مغارة قريبة من المدينة، و من ثم فقد نجا إبراهيم من القتل، ثم أعلمت زوجها بأن الغلام قد مات على زعم، و أخبرته بالحقيقة على زعم آخر، و على أي حال، و طبقا للرواية، فقد أخذت تتردد على وليدها يوما بعد آخر، و أنها كانت تتعجب كثيرا من أنه كان يشب في اليوم ما يشبه غيره في الشهر (انظر: تاريخ الطبري 1/ 234- 236) الكامل لابن الأثير 1/ 94- 95، المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء 1/ 13، البداية و النهاية لابن كثير 1/ 148، تاريخ الخميس ص 89- 91، 114، كتاب البدء و التأريخ للمقدسي 3/ 45- 48، المحبر ص 392- 394، مروج الذهب 1/ 56)، و في الواقع أن مثل هذه الروايات و الأساطير إنما دارت كذلك عن مولد موسى و المسيح عليهما السلام (تاريخ اليعقوبي 1/ 33، مروج الذهب 1/ 61، تاريخ الطبري 1/ 386- 388، تاريخ ابن كثير 1/ 237- 238، متى 2/ 1- 23).

ذلك أن تكون هذه المرأة بالذات هي بنت النمرود، و أن يزوجها أبو الأنبياء من ولده مدين، و أن تنجب له عشرين بطنا من الأنبياء، و أخيرا ما الهدف من هذا القصص و أمثاله، كقصة الميرة، و قصة جيوش الذباب، و قصة أفراخ النور (1).

و أياما كان الأمر، فليس هناك إلى سبيل من شك في أن حادث إلقاء إبراهيم في النار و نجاته، إنما كان معجزة للخليل عليه السلام حفظه اللّه بها، ورد كيد الكافرين في نحورهم، روى المفسرين أن القوم حين ألقوا إبراهيم عليه السلام في النار مقيدا مغولا، قال: حسبي اللّه و نعم الوكيل، و روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: حسبي اللّه و نعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقى في النار، و قالها محمد عليه السلام، حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا، و قالوا: حسبنا اللّه و نعم الوكيل (2).

و روى أبيّ بن كعب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم «أن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد و لك الملك لا شريك لك»، قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع، فاستقبله جبريل فقال: يا إبراهيم أ لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، فقال جبريل:

فاسأل ربك، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فقال اللّه تعالى، و هو أصدق القائلين «يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ»، قال بعض العلماء:

ص: 143


1- تاريخ الطبري 1/ 288- 290، تاريخ ابن الأثير 1/ 115- 117، تاريخ ابن كثير 1/ 149، تاريخ الخميس ص 95- 96، المقدسي 3/ 56، أخبار الزمان للمسعودي ص 104- 109، تفسير مقاتل 1/ 123- 124.
2- تفسير ابن كثير 3/ 294.

جعل اللّه فيها حرا يمنع بردها، و بردا يمنع حرها، فصارت سلاما عليه، قال أبو العالية: و لو لم يقل «بردا و سلاما»، لكان بردها أشد عليه من حرها، و لو لم يقل «على إبراهيم» لكان بردها باقيا على الأبد (1).

و روى عن الإمام علي و ابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما، لمات إبراهيم من بردها، و لم تبق يومئذ نار إلا أطفئت، ظنت أنها تعني، و عن ابن عباس: لوم لم يقل ذلك لأهلكته ببردها، و المعنى، كما يقول الإمام النسفي، أن اللّه تعالى نزع عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر و الإحراق، و أبقاها على الإضاءة و الإشراق كما كانت، و هو على كل شي ء قدير (2).

و روى الحافظ أبو يعلي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «لما ألقى إبراهيم عليه السلام في النار، قال: اللهم إنك في السماء واحد، و أنا في الأرض واحد أعبدك»، و يروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال: لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد و لك الملك لا شريك لك» (3).

و قال سعيد بن جبير- و يروى أيضا عن ابن عباس- قال: لما ألقى إبراهيم، جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر فأرسله؟ قال: فكان أمر اللّه أسرع منه، قال اللّه: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، قال: لم يبق نار في الأرض إلا طفئت، و قال كعب الأحبار: لم ينتفع أحد يومئذ بنار، و لم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه.

و قال كعب و قتادة و الزهري: و لم تبق يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا الوزغ، فإنها كانت تنفخ عليه، فلذلك أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، بقتلها و سماها فويسقة، و روى ابن أبي حاتم عن مولاة الفاكه بن المغيرة

ص: 144


1- تفسير القرطبي ص 4343- 4344.
2- تفسير القرطبي ص 4344، تفسير النسفي 3/ 84.
3- تفسير ابن كثير 3/ 294، تفسير الدر المنثور 4/ 323، تفسير القرطبي ص 4343.

المخزومي قالت: دخلت على عائشة، فرأيت في بيتها رمحا، فقلت يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح، نقتل به هذه الأوزاغ، إن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «إن إبراهيم حين ألقى في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار، غير الوزغ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم، فأمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بقتله».

ص: 145

ص: 146

الفصل الثّالث بين إبراهيم و الملك

فشا في الناس أمر الدعوة التي أخذ أبو الأنبياء، صلوات اللّه و سلامه عليه، ينشرها و يروج لها، و إذا القوم لا حديث لهم غير إبراهيم و دعوته، و أحس الملك أن خاتمته قد دنت، أو على أن زلزالا يهدد عرشه، و قد يقضي عليه بعد حين من الدهر، و من ثم فقد ازداد غضبه، و كاد يطير منه الصواب، فأمر بدعوة إبراهيم، و قامت بينهما مناظرة، ليس أبلغ من القرآن الكريم في عرضها، يقول عز من قال: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ، أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ، قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ، قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (1).

و تحكى الآيات الكريمة حوارا بين إبراهيم عليه الصلاة و السلام، و ملك في أيامه يجادله في اللّه، لا يذكر السياق باسمه، لأن ذكر اسمه لا يزيد من العبرة التي تمثلها الآية شيئا، و هذا الحوار يعرض على النبي صلى اللّه عليه و سلم، و على الجماعة المسلمة في أسلوب التعجيب من هذا المجادل، الذي حاج

ص: 147


1- سورة البقرة: آية 258، و انظر: تفسير الطبري 5/ 429- 438، تفسير النسفي 1/ 130، تفسير ابن ناصر السعدي 1/ 153- 154، تفسير الحلالين ص 56- 57، تفسير القرطبي ص 1091- 1096، صفوة التفاسير 1/ 165، تفسير ابن كثير 1/ 468- 469، تفسير المنار 11/ 38- 40، في ظلال القرآن 1/ 296- 298.

إبراهيم في ربه، و كأنما مشهد الحوار يعاد عرضه من ثنايا التعبير القرآني العجيب (1).

و جاء في تفسير المنار: قال الأستاذ الإمام (أي الإمام محمد عبده)- و عزاه إلى المحققين، الكلام متصل بما قبله، و شاهد عليه، كأنه يقول: انظروا إلى إبراهيم كيف كان يهتدي بولاية اللّه له إلى الحجج القيمة و الخروج من الشبهات التي تعرض عليه، فيظل على نور من ربه، و إلى الذي حاجه كيف كان بولاية الطاغوت له، يعمى عن نور الحجة و ينتقل من ظلمات الشبه و الشكوك إلى أخرى، قالوا: الاستفهام في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ، للتعجيب من هذه المحاجة و غرور صاحبها و غباوته، مع الإنكار (2).

و يقول صاحب الظلال: إن هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه لم يكن منكرا لوجود اللّه أصلا، إنما كان منكرا لوحدانيته في الألوهية و الربوبية، و لتصريفه للكون و تدبيره لما يجري فيه وحده، كما كان بعض المنحرفين في الجاهلية يعترفون بوجود اللّه، و لكنهم يجعلون له أندادا ينسبون إليها فاعلية و عملا في حياتهم، و كذلك كان منكرا أن الحاكمية للّه وحده، فلا حكم إلا حكمه في شئون الأرض و شريعة المجتمع (3)، على أن الأستاذ النجار إنما يذهب إلى أن قصة إبراهيم المحكية في القرآن إنما تشعرنا أن هؤلاء القوم إنما كانوا يعبدون ملوكهم مع آلهتهم، يدل على ذلك المحاجة التي كانت بين إبراهيم و بين الملك، فأحب الملك أن يرجع إبراهيم عن نحلته الجديدة المخالفة لنحلة قومه، و أن يعبده و آلهته (4).

ص: 148


1- في ظلال القرآن 1/ 297.
2- تفسير المنار 11/ 39.
3- في ظلال القرآن 1/ 297.
4- عبد الوهاب النجار: المرجع السابق ص 81.

و على أية حال، فإن هذا الملك المنكر المتعنت، إنما ينكر و يتعنت للسبب الذي كان ينبغي من أجله أن يؤمن و يشكر، هذا السبب هو «أن آتاه اللّه الملك»، و جعل في يده السلطان (1)، أو كما يقول الأستاذ الإمام محمد عبده: إن الذي حمله على هذه المحاجة هو إيتاء اللّه تعالى الملك له، فكان منشأ إسرافه في غروره، و سبب كبريائه و إعجابه بقدرته (2)، مع أن المفروض أن يشكر و يعترف بنعمة اللّه عليه، لو لا أن الملك يطغى و يبطر من لا يقدرون نعمة اللّه، و لا يدركون مصدر الإنعام، و من ثم يصنعون الكفر في موضع الشكر، و يضلون بالسبب الذي كان ينبغي أن يكونوا مهتدين، فهم حاكمون لأن اللّه حكّمهم، و هو لم يخولهم استعباد الناس بقسرهم على شرائع من عندهم، فهم كالناس عبيد اللّه، يتلقون مثلهم الشريعة من اللّه، و لا يستقلون دونه بحكم و لا تشريع، فهم خلفاء لا أصلاء، و من ثم يعجب اللّه من أمره، و هو يعرضه على نبيه (3).

هذا و يروي المفسرون في سبب هذه المحاجة روايتين، إحداهما:

أنهم خرجوا إلى عيد لهم، فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها، فلما رجعوا قال لهم: أ تعبدون ما تنحتون، فقال: فمن تعبد، قال: أعبد ربي الذي يحيي و يميت، و قال بعضهم أن نمرود كان يحتكر الطعام، فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه، فإذا دخلوا عليه سجدوا له، فدخل إبراهيم فلم يسجد له، فقال: ما لك لا تسجد لي، قال: أنا لا أسجد إلا لربي، فقال له نمرود: من ربك، قال إبراهيم: ربي الذي يحيي و يميت، و ذكر زيد بن أسلم أن النمرود هذا قعد يأمر الناس بالميرة، فكلما جاء قوم يقول: من ربكم و إلهكم، فيقولون أنت، فيقول: ميروهم، و جاء إبراهيم عليه السلام

ص: 149


1- في ظلال القرآن 1/ 297.
2- تفسير المنار 11/ 39، و انظر: تفسير النسفي 1/ 130، صفوة التفاسير 1/ 165، تفسير الطبري 5/ 431.
3- في ظلال القرآن 1/ 7297.

يمتار فقال له: من ربك و إلهك، فقال: ربي الذي يحيي و يميت، فلما سمعها نمرود قال: أنا أحي و أميت، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر، و قال: لا تميروه، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شي ء، فمر على كثيب رمل كالدقيق، فقال في نفسه: لو ملأت غرارتي من هذا، فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهم، فذهب بذلك، فلما بلغ منزله فرح الصبيان و جعلوا يلعبون فوق الغرارتين، و نام هو من الإعياء، فقالت امرأته: لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحواري (الدقيق الأبيض، و هو لباب الدقيق و أجوده و أخلصه) فخبزته، فلما قام وضعته بين يديه فقال: من أين هذا؟، فقالت: من الدقيق الذي سقت، فعلم إبراهيم أن اللّه تعالى يسر لهم ذلك (1).

و أما وقت هذه المحاجة فهو موضع خلاف، فذهب رأي إلى أن ذلك إنما كان بعد أن كسر إبراهيم الأصنام التي كانت تعبد من دون اللّه، و سفه أحلام عابديها (2)، و ذهب رأي آخر إلى أنها كانت بعد خروج إبراهيم من النار، و لم يكن إبراهيم اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم، فجرت بينهما هذه المناظرة (3)، على أنه قد يفهم من رواية ابن الأثير أن ذلك كان قبل تكسيره الأصنام (4).

و أما هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه، فهو، فيما يرى كثير من المفسرين و المؤرخين، «النمرود بن كنعان بن كوش»، و الذي كان، فيما يزعمون، واحدا من ملوك أربعة ملكوا الأرض كلها: نمرود و بختنصر

ص: 150


1- تفسير القرطبي ص 1092- 1093، و انظر: تفسير الطبري 5/ 433- 434، تفسير ابن كثير 1/ 469.
2- تفسير المنار 11/ 39.
3- تفسير ابن كثير 1/ 469.
4- ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 96.

(نبوخذ نصر) و هما كافران، و سليمان بن داود و ذي القرنين، و هما مؤمنان، كما كان نمرود هذا أول جبار تجبر في الأرض، و أول ملك في الأرض، و هو كذلك صاحب الصرح في بابل، و أول من صلب و أول من قطع الأيدي و الأرجل، إلى غير ذلك من صفات أسبغت عليه، و لا يعلم إلا اللّه سبحانه و تعالى، من أين أتى بها مؤرخونا، و كثير منهم ممن يعتد بهم، و لهم مكانة عالية في التاريخ، فضلا عن التفسير (1).

و الواقع أن تلك الأسطورة التي تتردد في المصادر العربية عن الملوك الأربعة الذين حكموا الدنيا بأسرها (2) تتفق و الحقائق التاريخية المتعارف عليها، بحال من الأحوال، فأول هؤلاء الملوك، و هو نمرود، و الذي يهمنا هنا، قد لا يعلم أصحاب هذه الأسطورة أن التاريخ البابلي لا يعرف ملكا بهذا الاسم، حتى الآن على الأقل، و لست أدري من أين جاء به أصحابنا المؤرخون الإسلاميون، و أكبر الظن أنهم أخذوه من مسلمة أهل الكتاب، حيث جاء في توراة يهود «و كوش ولد نمرود الذي ابتدأ يكون جبارا في الأرض ... و كان ابتداء مملكته بابل و أرك و أكد و كأنه في أرض شنعار» (3)، على أن التاريخ يعرف بلدا باسم «نمرود»، على مجرى الزاب الأعلى، و قد كانت عاصمة للامبراطورية الآشورية على أيام الملك «سرجون الثاني» (722- 705 ق. م)، و هي نفسها مدينة «كالح» في التوراة (4)، و التي أسسها «آشور بانيبال الثاني» عام 883 ق. م، و تقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة، و على مبعدة 22 ميلا جنوب الموصل الحالية، و هكذا خلط كاتب سفر التكوين من التوراة بين الملك و المدينة،

ص: 151


1- انظر: تفسير الطبري 5/ 431- 433، تفسير القرطبي ص 1092، تفسير ابن كثير 1/ 468، تاريخ الطبري 1/ 233- 234، تاريخ ابن الأثير 1/ 94، أبو الفداء 1/ 13، المقدسي 3/ 45- 48، تاريخ الخميس ص 89- 91، مروج الذهب 1/ 56، المحبر ص 392- 394، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 148.
2- تكوين 10/ 8- 10.
3- تكوين 10/ 8- 10.
4- تكوين 10/ 711.

ثم جاء مؤرخونا و نقلوا ما في التوراة، و كأنه التاريخ الذي يرقى فوق كل هواتف الريبة و الشك، و هو غير ذلك بكل مقاييس منهج البحث التاريخي و الديني.

هذا فضلا عن مؤرخينا أنفسهم هم الذين يزعمون أن النمرود إنما كان من الأنباط، الذين لم يستقلوا بشبر واحد من الأرض، و من ثم فإن النمرود إنما كان عاملا للضحاك، و هو فارسي، على السواد و ما اتصل به يمنة و يسرة (1)، و ليت هؤلاء الذين كتبوا ذلك كانوا يعرفون أن الأنباط لم يكونوا في العراق، و إنما في شمال غرب الجزيرة العربية، و أن عاصمتهم إنما كانت «البتراء»، و أنهم أقاموا دولة مستقلة، فيما بين القرنين الثاني قبل الميلاد، و أوائل الثاني بعد الميلاد، حيث استولى الرومان على البتراء عام 106 م، على أيام «تراجان (98- 117 م)، و من ثم فالفرق الزمني بين عهد الخليل عليه السلام و بين عهد الأنباط، جهد كبير (2).

و أما أن نمرود هذا إنما كان أول من تجبر في الأرض، فليس هناك من دليل يؤكده، أو حتى يعضده، و الأمر كذلك إلى بنائه لصرح بابل، بل إن هذا الصرح نفسه في حاجة إلى دليل يؤيد وجوده، و أما أنه أول من ملك في الأرض، فمن المعروف تاريخيا أن مصر إنما كانت أول «أمة» في التاريخ نمت فيها عناصر الأمة بمعناها الكامل الصحيح، و بعدها كانت أول «دولة» بالمعنى السياسي المنظم، نجحت في أن تؤسس أول ملكية عرفتها البشرية على طوال تاريخها و بالتالي فإن الملك «مينا» (نعرمر- عحا) مؤسس الأسرة المصرية الأولى، إنما كان أول ملك في التاريخ، و أن ذلك كان حوالى عام

ص: 152


1- انظر عن دولة الأنباط (محمد بيومي مهران: تاريخ العرب القديم- الرياض 1980 ص 493- 523- طبعة ثانية).
2- تاريخ الطبري 1/ 291- 192، الكامل لابن الأثير 1/ 116- 117، تفسير القرطبي ص 1092.

3200 قبل الميلاد، و قبل عهد إبراهيم عليه السلام (1940- 1765 ق. م) و الذي شرفت مصر بزيارته لها على أيام الملك «سنوسرت الثالث (1878- 1843 ق. م) من ملوك الأسرة الثانية عشرة (1991- 1786 ق. م)، بأكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان (1).

و أما أنه أول من صلب و قطع الأيدي و الأرجل، فيعارضه إن ذلك إنما كان فرعون موسى، كما جاء في القرآن الكريم عن فرعون موسى (2)، و كما جاء في تفسير النسفي (3)، هذا إلى وجود تاريخي يصور وسائل التعذيب هذه في زمان فرعون موسى، و قد ورد النص في معبد عمدا، و يرجع إلى السنة الرابعة من عهد الفرعون «مرنبتاح» (1224- 1214 ق. م) و هو الفرعون الذي شاع في الناس أنه فرعون الخروج (4)، و هذا ما نميل إليه من دراساتنا عن فرعون موسى (5).

و على أية حال، فإن بعض المفسرين إنما يذهبون إلى أن الناس كانوا يمتارون من عند هذا الذي آتاه اللّه الملك، الطعام، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار، فإذا مرّ به ناس قال (أي الملك): من ربكم، قالوا أنت، حتى مرّ إبراهيم، قال من ربك، قال: الذي يحيي و يميت (6)، أو كأنه كان قد سأله عن ربه الذي يدعو إلى عبادته، و قد كسر الأصنام التي تعبد من دونه و سفه

ص: 153


1- انظر (محمد بيومي مهران: مصر- الكتاب الأول- الإسكندرية 1988 ص 241- 272- طبعة رابعة، إسرائيل- الكتاب الأول- الإسكندرية 1978 ص 72- 82، 91- 104).
2- انظر: سورة الأعراف: آية 123- 126، طه: آية 71- 76.
3- تفسير النسفي 2/ 70.
4- أحمد عبد الحميد يوسف: مصر في القرآن و السنة- القاهرة 1973 ص 110، و كذا: .F 273 .P ,1964 mIIIV L ,EASA ,adamA ta txeT raey htruof s'hatpnereM ,fessuoY .A
5- محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 351- 439.
6- تفسير الطبري 5/ 433.

أحلام عابديها لأجله، فأجاب بهذا الجواب، فأنكره الملك الطاغية الذي حكي عنه ادعاء الألوهية لنفسه، و قال «أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ»، أحي من أحكم عليه بالإعدام بالعفو عنه، و أميت من شئت إماتته بالأمر بقتله، فدل جوابه هذا على أنه لم يفهم قول إبراهيم صلى اللّه عليه و سلم (1)، ذلك لأن إبراهيم عليه السلام و هو رسول موهوب موهبة ربانية إنما يعني من الاحياء و الاماتة الانشاء، إنشاء هاتين الحقيقتين إنشاء، فذلك عمل الرب المتفرد الذي لا يشاركه فيه أحد من خلقه، و لكن الذي حاج إبراهيم في ربه، رأى في كونه حاكما لقومه، و قادرا على إنفاذ أمره فيهم بالحياة و الموت مظهرا من مظاهر الربوبية، فقال لإبراهيم: أنا سيد هؤلاء القوم، و أنا المتصرف فيهم و في شئونهم، فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له و تسلم بحاكميته (2).

و قال قتادة و ابن إسحاق و السدى و غير واحد: و ذلك أنه أوتي بالرجلين قد استحقا القتل، فأمر بقتل أحدهما، فيقتل، و أمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل، فذلك معنى الإحياء و الإماتة، و الظاهر و اللّه أعلم، أنه ما أراد هذا، لأنه ليس جوابا لما قال إبراهيم، و لا في معناه، لأنه غير مانع لوجود الصانع، و إنما أراد أن يعي لنفسه هذا المقام، عنادا و مكابرة و يوهم أنه الفاعل لذلك، و أنه هو الذي يحيي و يميت، كما اقتدى به فرعون في قوله: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي»، و لهذا قال إبراهيم، لما ادعى هذه المكابرة:

«فإن اللّه يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب» (3).

و قال الأستاذ الإمام محمد عبده: لم يقل «فقال إني أحي و أميت»، لأن جوابه مقطع عن الدليل لا يتصل به بالمرة، فإنه أراد أن يكون سببا للإحياء و الإماتة، و الكلام في الإنشاء و التكوين، لا في اتخاذ الأسباب و التوسل في

ص: 154


1- تفسير المنار 11/ 39.
2- في ظلال القرآن 1/ 298.
3- تفسير ابن كثير 1/ 468.

الشي ء المكون، فالمراد بالذي يحيي و يميت الذي ينشئ الحياة في جميع العوالم الحية من نبات و حيوان و غيرها، و يزيل الحياة بالموت، و عبرب «الذي» الدال على المعهود المعروف صلته دون «من» التي فيها الإبهام، و بالمضارع الدال على التجدد و الاستمرار، الإفادة أن هذا شأنه دائما، كما هو معهود معروف لمن نظر في الأكوان نظر المفكر المستدل، و لما رأى إبراهيم أنه لم يفهم أن مراده بالذي يحيي و يميت مصدر التكوين الذي يحيا كل حيّ بإحيائه، و يموت بقطع إمداده بالحياة «قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ»، فهذا إيضاح لقوله الأول، و إزالة لشبهة الخصم، لا أنه جواب آخر، كما فهم الجلال و غيره، و المعنى إن ربي الذي يعطي الحياة و يسلبها بقدرته و حكمته، هو الذي يطلع الشمس من المشرق، أي هو المكون لهذه الكائنات بهذا النظام و السنن الحكيمة التي نشاهدها عليها، فإن كنت تفعل كما يفعل، فغيّر لنا نظام طلوع الشمس، و ائت بها من الجهة المقابلة للجهة التي جرت سنته تعالى بظهورها منها (1).

و هذا، كما يقول الإمام النسفي، ليس بانتقال من حجة إلى حجة، كما زعم البعض، لأن الحجة الأولى كانت لازمة، و لكن لما عاند اللعين حجة الإحياء، بتخلية واحد و قتل الآخر، كلمة من وجه لا يعاند، و كانوا أهل تنجيم، و حركة الكواكب من المغرب إلى المشرق معلومة لهم، و الحركة الشرقية المحسوسة لنا قسرية، كتحريك الماء النمل على الرحى، إلى غير جهة حركة النمل، فقال إن ربي يحرك الشمس قسرا على غير حركتها، فإن كنت ربا فحركها بحركتها، فهو أهون (2)، «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ»، ذلك لأن التحدي قائم، و الأمر ظاهر، و لا سبيل إلى سوء الفهم أو الجدال أو المراء، و كان التسليم أولى و الإيمان أجدر، و لكن الكبر عن الرجوع إلى الحق

ص: 155


1- تفسير المنار 11/ 39، و انظر: تفسير الجلالين ص 57.
2- تفسير النسفي 1/ 130.

يمسك بالذي كفر، فيبهت و يبلس و يتحير، و لا يهديه اللّه إلى الحق، لأنه لم يلتمس الهداية، و لم يرغب في الحق، و لم يلتزم القصد و العدل «وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (1).

و هذا التنزيل على هذا المعنى، كما يقول الإمام ابن كثير، أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين، أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني، انتقال من دليل إلى أوضح منه، و منهم من قد يطلق عبارة ترديه، و ليس كما قالوه، بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني، و يبيّن بطلان ما ادعاه نمرود في الأول و الثاني (2).

و انطلاقا من كل هذا، فلا محل للشبهة التي يوردها بعض الناس على حجة إبراهيم عليه السلام، و هي أنه كان للنمرود أن يقول له: إذا كان ربك هو الذي يأتي بالشمس من المشرق، و هو قادر على ما طالبتني به من الاتيان بها من المغرب، فليأت بها يوما ما، قال بعض المقلدين: و لا يمكن أن يسأل إبراهيم ربه ذلك، لأن فيه خراب العالم، و قال بعض المرتابين: إنه لو قال له نمرود ذلك لألزمه، و قد فهم نمرود، على طغيانه و غروره، من الحجة ما لا يفهم هؤلاء القائلون، فهم أن مراد إبراهيم أن هذا النظام في سير الشمس لا بد له من فاعل حكيم، إذ لا يكون مثله بالمصادفة و الاتفاق، و إن ربي الذي أعبده هو ذلك الفاعل الحكيم الذي قضت حكمته بأن تكون الشمس على ما نرى، و من فهم هذا لا يمكن أن يقول: اطلب من هذا الحكيم أن يرجع عن حكمته و يبطل سنته، كذلك لا محل لقول بعضهم لم سكت إبراهيم عن كشف شبهته الأولى، إذ زعم أن ترك القتل إحياء، فقد علمت أن مسألة الشمس قد كشفت ذلك انكشافا لا يخفى إلا على من تخفى عليه الشمس (3).

ص: 156


1- في ظلال القرآن 1/ 298.
2- تفسير ابن كثير 1/ 469.
3- تفسير المنار 11/ 40.

الفصل الرّابع سرّ الحياة و الموت

كان سيدنا إبراهيم عليه الصلاة و السلام محبا لربه، خالق الناس جميعا، غاية الحب، محبا للتحدث بما لهذا الرب من قوة، دونها كل قوة، و بما يقدر عليه هذا الرب العظيم، بما لا يقدر عليه مخلوق في الوجود، محبا لإظهار ما خفى من أسرار تلك الوحدانية التي برأت النسم، و خلقت الدنيا من العدم، و تقول للشي ء كن فيكون، و بهذا الشوق إلى اجتلاء أسرار القدرة الإلهية، و التحدث بما للّه من عظمة و قوة، سأل إبراهيم ربه «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى .

قال تعالى: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ، قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1).

يقول الأستاذ الباقوري، طيب اللّه ثراه، «فأول ما ينبغي أن يبدأ به

ص: 157


1- سورة البقرة: آية 260، و انظر: تفسير الطبري 5/ 485- 512، في ظلال القرآن 1/ 297- 298، صفوة التفاسير 1/ 166- 167، تفسير ابن ناصر السعدي 1/ 156، تفسير الجلالين ص 57- 58، تفسير القرطبي ص 1105- 1110، تفسير ابن كثير 1/ 471- 472، تفسير البحر المحيط 2/ 293- 295، تفسير المنار 3/ 44- 49، علي بن أحمد الواحدي: أسباب النزول- القاهرة 1968 ص 53- 55، تفسير النسفي 1/ 132- 133.

الحديث حول هذه الآية الكريمة، هو أن أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام، كان بغير شك مؤمنا بقدرة اللّه على إحياء الموتى، إيمانا لا يرقى إلى سمائه غبار الشكوك و الأوهام، و قد أراد بسؤاله هذا أمرا يزيد إيمانه، و يضاعف يقينه، فأعطاه اللّه تبارك و تعالى مثالا من الحس، تتضح به سورة إحياء الموتى، و المعاني المجردة حين توضع في صور تدركها الحواس، تكون أبيّن و أتم وضوحا.

و الذين يتأملون كتاب اللّه يرونه في مجال إقامة الحجة، يضع المعاني المجردة في صورة حسيّة يزداد بها إيمان المؤمن و تتضح بها لغير المؤمن سبل الإيمان، و هذه الصور الحسية منبثة في القرآن الكريم انبثاثا، لا يستعصى على رائديه فمن ذلك قول اللّه عز و جل في سورة الرعد لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ، إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ، فالمعنى المجرد الذي أشارت إليه هذه الآية هو أن الذين اتخذهم الكافرون أولياء من دون اللّه يفزعون إليهم، لا يقدرون على جلب النفع لهم، و لا دفع الضرر عنهم، و الصورة الحسية لهذه الصورة المعنوية هي أن هؤلاء الكفار في دعائهم آلهتهم هذه، مثلهم كمثل من يبسط كفيه إلى الماء و يريده أن يبلغ فاه، و الماء لا يشعر بمن يبسط إليه كفه طلبا للري، و لا يقدر أن يجيب دعاءه فيبلغ فاه، ذلك هو الفرق بين المعنى يذكر مجردا، و المعنى يذكر في صورة تدركها الحواس.

فإبراهيم عليه السلام كان يطلب صورة حسية تنطوي على المعنى المجرد للإيمان بقدرة اللّه على إحياء الموتى، و قد أعطاه اللّه تعالى هذه الصورة، لا لتغرس الإيمان في نفسه، فإن إيمانه موجود لا شك فيه، و لكن لتزيده قوة و استمساكا، من حيث كانت الصورة الحسية في مجتلى الأعين، تظاهر الصورة المعنوية في أعماق النفوس، و من أجل هذا أجاب اللّه تعالى إبراهيم على دعائه قائلا: أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ فقال عليه السلام: بلى، يعني

ص: 158

آمنت، و لكنني أطلب ذلك ليطمئن قلبي، يعني ليزيد سكونا و طمأنينة بمظاهرة المحسوس للمعقول، فتفضل اللّه عليه بإعطائه الدليل القائم على الحس و العيان، لمظاهرة الدليل القائم على الحجة و البرهان (1).

و يقول صاحب الظلال: إنه التشوف إلى ملامسة سر الصنعة الإلهية، و حين يجي ء هذا التشوف من إبراهيم الأواه الحليم، المؤمن الراضي الخاشع العابد القريب الخليل، فإنه يكشف عما يختلج أحيانا من الشوق و التطلع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية في قلوب أقرب المقربين، إنه تشوف لا يتعلق بوجود الإيمان و ثباته و كماله و استقراره، و ليس طلبا للبرهان أو تقوية الإيمان، إنما هو أمر الشوق الروحي إلى ملابسة السر الإلهي في أثناء وقوعه العملي، و مذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب، و لو كان إيمان إبراهيم الخليل، الذي يقول لربه، و يقول له ربه، و ليس وراء هذا إيمان، و لا برهان للإيمان، و لكنه أراد أن يرى يد القدرة و هي تعمل، ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيتروح بها، و يتنفس في جوها، و يعيش معها، و هي أمر آخر غير الإيمان الذي ليس بعده أيمان (2).

هذا و قد اختلف المفسرون في السبب المباشر لتوجيه الخليل هذا السؤال لربه سبحانه و تعالى، فذهب فريق إلى أن إبراهيم عليه السلام مر على دابة ميتة قد توزعتها دواب البر و البحر، قال: «رب أرني كيف تحيي الموتى»، و قال الحسن و عطاء الخرساني و الضحاك، فيما يروي الواحدي عن سعيد عن قتادة، و ابن جريج: كانت جيفة حمار بساحل البحر (بحيرة طبرية في رواية عطاء) قالوا: فرآها قد توزعتها دواب البر و البحر، فكان إذا مدّ البحر جاءت الحيتان و دواب البحر فأكلت منها، فما وقع منها يقع في

ص: 159


1- أحمد حسن الباقوري: مع القرآن- القاهرة 1970 ص 197- 198.
2- في ظلال القرآن 1/ 301- 302.

الماء، و إذا جذر البحر جاءت السباع فأكلت منها فما وقع منها يصير ترابا، فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها، فما سقط قطعته الريح في الهواء، فلما رأى ذلك إبراهيم تعجب منها و قال: يا رب قد علمت لتجمعنها، فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك.

و قال ابن زيد: مرّ إبراهيم بحوت ميت، نصفه في البر، و نصفه في البحر، فما كان في البحر فدواب البحر تأكله، و ما كان منه في البر فدواب البر تأكله، فقال له إبليس الخبيث: متى يجمع اللّه هذه الأجزاء من بطون هؤلاء، فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى و لكن ليطمئن قلبي، بذهاب وسوسة إبليس منه (1).

و قد أراد الخليل عليه السلام أن يصير له علم اليقين عين اليقين، لأن الخير ليس كالمعاينة فتطلعت نفسه إلى مشاهدة ميت يحييه ربه، و لم يكن إبراهيم عليه السلام، و لن يكون، شاكا في قدرة اللّه تعالى على أحياء الموتى، و لكنه أحب أن يصير له الخبر عيانا، قال الأخفش: لم يرد رؤية القلب و لكن أراد رؤية العين، و قال الحسن البصري و قتادة و سعيد بن جبير و الربيع: سأل ليزداد يقينا على يقينه (2).

على أن هناك وجها آخر للنظر يذهب إلى أن مسألة إبراهيم ربه ذلك المناظرة و المحاجة التي جرت بينه و بين النمرود في ذلك، قال محمد بن إسحاق بن يسار: إن إبراهيم لما احتج على نمرود فقال: ربي الذي يحيي و يميت، و قال النمرود: أنا أحيي و أميت، ثم قتل رجلا و أطلق رجلا، قال: قد أمت هذا، و أحييت هذا، قال له إبراهيم: فإن اللّه يحيي بأن يرد الروح إلى جسد ميت، فقال له نمرود: هل عاينت هذا الذي تقوله، و لم يقدر أن يقول

ص: 160


1- علي بن أحمد الواحدي النيسابوري: أسباب النزول ص 53- 54.
2- تفسير القرطبي ص 1106، و انظر: تفسير الطبري 5/ 485- 486.

نعم رأيته، فتنقل إلى حجة أخرى، ثم سأل ربه أن يريه إحياء الميت لكي يطمئن قلبه عند الاحتجاج، فإنه يكون مخبرا عن مشاهدة و عيان (1).

و ذهب فريق ثالث إلى أن ذلك إنما كان عند البشارة التي أتته من اللّه بأنه اتخذه خليلا، فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلاقة على ذلك، ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا، و يكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيدا (2)، قال ابن عباس و سعيد بن جبير و السدي: لما اتخذ اللّه إبراهيم خليلا، استأذن ملك الموت ربه أن يأتي إبراهيم فيبشره بذلك، فأتاه فقال: جئتك أبشرك بأن اللّه تعالى اتخذك خليلا، فحمد اللّه عز و جل و قال: ما علاقة ذلك، قال: أن يجيب اللّه دعاءك، و تحيي الموتى بسؤالك، ثم انطلق و ذهب، فقال إبراهيم: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أو لم تؤمن، قال بلى، و لكن ليطمئن قلبي بعلمي إنك تجيبني إذا دعوتك، و تعطيني إذا سألتك، إنك اتخذتني خليلا (3).

على أن هناك وجها رابعا للنظر يذهب إلى أن الخليل عليه السلام قال ذلك لربه، لأنه شك في قدرة اللّه على إحياء الموتى، قال عبد الرزاق:

أخبرنا معمر بن أيوب في قوله: «و لكن ليطمئن قلبي»، قال قال ابن عباس:

ما في القرآن آية أرجى عندي منها (4).

و روى ابن أبي حاتم عن ابن المنكدر أنه قال: التقي عبد اللّه بن عباس و عبد اللّه بن عمرو بن العاص، فقال ابن عباس لابن عمرو: أي آية في القرآن أرجى عندك، فقال عبد اللّه بن عمرو «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا

ص: 161


1- تفسير الطبري 5/ 486، الواحدي: المرجع السابق ص 54.
2- تفسير الطبري 5/ 487.
3- الواحدي: المرجع السابق ص 55، تفسير الطبري 5/ 487- 488، تفسير القرطبي ص 1108.
4- تفسير الطبري 5/ 489- 490، تفسير الدر المنثور 1/ 335.

عَلى أَنْفُسِهِمْ» حتى ختم الآية، فقال ابن عباس: لكني أقول قول اللّه عز و جل: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى فرضي من إبراهيم قوله «بلى»، قال فهذا لما يعترض في النفوس و يوسوس به الشيطان، و هكذا رواه الحاكم في المستدرك (1).

و قال أبو جعفر في التفسير: و أولى الأقوال عندي بتأويل الآية، ما صح به الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، أنه قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم، قال:

رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ»، و أن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض في قلبه، ذلك أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر و بعضه في البحر، قد تعاوره دواب البر و دواب البحر و طير الهواء، ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع اللّه هذا من بطون هؤلاء، فسأل إبراهيم ربه حينئذ أن يريه كيف يحيي الموتى ليعاين ذلك عيانا، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي القى فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك، فقال له ربه: أ و لم تؤمن؟.

يقول: أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر، قال بلى يا رب، لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر الشيطان أن يلقى في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت (2).

و الحديث الشريف الذي ذكره الطبري في تفسيره، ورد في صحيح البخاري بسنده عن ابن شهاب عن أبي سلمة و سعيد، عن أبي هريرة، قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «نحن أحق بالشك في إبراهيم، إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ، قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» (3)، و كذا رواه مسلم في صحيحه بسنده عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن

ص: 162


1- تفسير ابن كثير 1/ 471- 482، المستدرك للحاكم 1/ 60.
2- تفسير الطبري 5/ 491- 492.
3- صحيح البخاري 6/ 39، فتح الباري 6/ 293- 394، 8/ 150- 151.

و سعيد المسيب عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ، قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، و يرحم اللّه لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد و لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي» (1).

فالحديث صحيح إذن، ما في ذلك من ريب، و لكن تفسيره بشك إبراهيم في قدرة اللّه على إحياء الموتى تفسير خاطئ فاسد، ما في ذلك من ريب أيضا، و لعل من أحسن و أصح ما نقل المزني و غيره من قول النبي صلى اللّه عليه و سلم، إن الشك مستحيل في حق إبراهيم إذ الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء، لكنت أنا أحق به من إبراهيم، و لقد علمتم أني لم أشك، فاعلموا أن إبراهيم لم يشك، و إنما خص إبراهيم بالذكر لكون الآية قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة أن القصد منها احتمال الشك، فنفي ذلك عنه.

و قال الخطابي: ليس في قوله صلى اللّه عليه و سلم: نحن أحق بالشك من إبراهيم، اعتراف بالشك على نفسه و لا على إبراهيم، لكن فيه نفى الشك عنهما، و معناه: إذا لم أشك أنا في قدرة اللّه تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك، و قد قال صلى اللّه عليه و سلم ذلك على سبيل التواضع، و كذلك قوله: لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي، و فيه الإعلام بأن المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك، لكن من قبيل زيادة العلم بالعيان، و العيان يفيد من المعرفة و الطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال (2).

و قال ابن عطية: و ما ترجم به الطبري عندي مرود (يعني شك إبراهيم في قدرة اللّه على إحياء الموتى)، و ما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول

ص: 163


1- صحيح مسلم 15/ 122- 123 (دار الكتب العلمية- بيروت 1981).
2- محمد حسن عبد الحميد: المرجع السابق ص 45- 46.

ابن عباس «هي أرجى آية»، فمن حيث فيها الإدلال على اللّه تعالى، و سؤال الأحياء في الدنيا، و ليست فطنة ذلك، و يجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله «أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ» أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير و بحث، و أما قول عطاء بن أبي رباح «دخل قلب إبراهيم ما يدخل قلوب الناس» فمعناه من حيث المعاينة على ما تقدم، و أما قول النبي صلى اللّه عليه و سلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»، بمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به، و نحن لا نشك، فإبراهيم عليه السلام، أحرى ألا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم، و الذي روى فيه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «ذلك محض الإيمان» إنما هو في خواطر التي لا تثبت، و أما الشك فهة توقف بين أمرين، لا مزية لأحدهما على الآخر، و ذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام، و إحياء الموتى إنما يثبت بالسمع، و قد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله: «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ»، فالشك يبعد على من تثبت قدمه من الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوة و الخلة، و الأنبياء معصومون من الكبائر، و من الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا.

و إذا تأملت سؤاله عليه السلام و سائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، و ذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شي ء موجود، متقرر الوجود عند السائل و المسئول، نحو قولك «كيف علم زيد» و نحو ذلك، و متى قلت:

كيف زيد، فإنما السؤال عن حال من أحواله و قد تكون «كيف» خبرا عن شي ء، شأنه أن يستفهم عنه بكيف، نحو قولك: كيف شئت فكن، و نحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي، و «كيف» من هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، و الإحياء متقرر و لكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شي ء قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشي ء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشي ء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع:

أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذب له: أرني كيف ترفعه، فهذه طريقة

ص: 164

مجاز في العبارة، و معناها تسليم جدلي، كأن يقول: افرض أنك ترفعه، فارني كيف ترفعه، فلما كانت عبارة الخليل عليه السلام بهذا الاشتراك المجازي، خلص اللّه له ذلك، و حمله على أن بيّن له الحقيقة فقال له:

«أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ، فكمل الأمر و تخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.

و يقول الإمام القرطبي: هذا ما ذكره ابن عطية، و هو بالغ، و لا يجوز على الأنبياء، صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، مثل هذا الشك، فإنه كفر، و الأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث، و قد أخبر اللّه أن أنبياءه و أولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل، فقال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، و قد اللعين: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ و إذا لم يكن له عليهم سلطنة، فكيف يشككهم؟ و إنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها، و إيصال الأعصاب و الجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين، فيقول: أرني كيف، طلب مشاهدة الكيفية (1).

و يقول صاحب تفسير المنار: فهم بعض الناس من سؤال إبراهيم عليه السلام أنه كان قلقا مضطربا في اعتقاده بالبعث و ذلك شك فيه، و ما أبلد أذهانهم و أبعد أفهامهم عن إصابة المرمى، و قد ورد في الصحيحين «نحن أولى بالشك من إبراهيم»، أي أننا نقطع بعدم شكه، كما نقطع بعدم شكنا أو أشد قطعا نعم ليس في الكلام ما يشعر بالشك، فإنه ما من أحد إلا و هو يؤمن بأمور كثيرة إيمانا يقينا، و هو لا يعرف كيفيتها، و يودّ لو يعرفها ... ذلك لأن طلب المزيد من العلم، و الرغبة في إسكانه الحقائق، و التشوق إلى الوقوف على أسرار الخليقة مما فطر اللّه عليه الإنسان، و أكمل الناس علما و فهما أشدهم للعلم طلبا، و للوقوف على المجهولات تشوفا، و لن يصل أحد

ص: 165


1- تفسير القرطبي ص 1106- 1107.

من الخلق إلى الإحاطة بكل شي ء علما، و قتل كل موجود فقها و فهما، و قد كان طلب الخليل عليه الصلاة و السلام رؤية كيفية إحياء الموتى بعينيه من هذا القبيل، فهو طلب للطمأنينة فيما تنزع إليه نفسه القدسية من معرفة خفايا أسرار الربوبية، لا طلب للطمأنينة في أصل عقد الإيمان بالبعث الذي عرفه بالوحي و البرهان، دون المشاهدة و العيان (1).

و في صفوة التفاسير: سؤال الخليل ربه بقوله «كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ، ليس عن شك في قدرة اللّه، و لكنه سؤال عن كيفية الإحياء، و يدل عليه وروده بصيغة «كيف»، و موضوعها السؤال عن الحال، و يؤيد المعنى قول النبي صلى اللّه عليه و سلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» و معناه: و نحن لم نشك فلأن لا يشك إبراهيم أحرى و أولى (2).

و هكذا كان إبراهيم عليه السلام، كما يقول صاحب الظلال، ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد اللّه تعمل، و اطمئنان التذوق للسر المحجب، و هو يجلي و يتكشف، و لقد كان اللّه يعلم إيمان عبده و خليله، و لكنه سؤال الكشف و البيان، و التعريف بهذا الشوق و إعلانه، و التلطف من السيد الكريم الودود الرحيم، مع عبده الأواه الحليم المنيب، و لقد استجاب اللّه لهذا الشوق و التطلع في قلب إبراهيم، و منحه التجربة الذاتية المباشرة قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، و هكذا أمر اللّه إبراهيم أن يختار أربعة من الطير، فيقربهن منه و يميلهن إليه، حتى يتأكد من شياتهن و مميزاتهن التي لا يخطئ معها معرفتهن، و أن يذبحهن و يمزق أجسادهن، و يفرق أجزاءهن على الجبال المحيطة، ثم يدعوهن فتتجمع أجزاءهن مرة أخرى، و ترتد إليهن الحياة، و يعدن إليه ساعيات، و قد كان طبعا.

ص: 166


1- تفسير المنار 11/ 46.
2- صفوة التفاسير 1/ 167.

و رأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه، طيورا فارقتها الحياة، و تفرقت مزقها من أماكن متباعدة، تدب فيها الحياة مرة أخرى، و تعود إليه سعيا، و أما كيف؟ فهذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه، إنه قد يراه كما رآه إبراهيم، و قد يصدق به، كما يصدق به كل مؤمن، و لكنه لا يدرك طبيعته و لا يعرف طريقته، إنه من أمر اللّه، و الناس لا يحيطون بشي ء من علمه إلا بما شاء، و هو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه، لأنه أكبر منهم، و طبيعته غير طبيعتهم، و لا حاجة لهم به في خلافتهم، إنه الشأن الخاص للخالق الذي لا تتطاول إليه أعناق المخلوقين، فإذا تطاولت لم تجد إلا الستر المسدل على السر المحجوب، و ضاعت الجهود سدى، جهود من لا يترك السر المحجوب لعلام الغيوب (1).

و يقول الإمام الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب: أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية قطعهن، و على أن إبراهيم قطع أجزاءها، و روى أنه عليه السلام أمر بذبحها و نتف ريشها، و تقطيعها جزءا جزءا، و خلط دمائها و لحومها، و أن يمسك رءوسها، ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال، على كل جبل ربعا من كل طائر ثم يصيح بها «تعالين بإذن اللّه»، قال الراوي: فأخذ كل جزء يطير إلى الآخر حتى تكاملت الجثث، ثم أقبلت كل جثة إلى رأسها، و انضم كل رأس إلى جثته، و صار الكل أحياء بإذن اللّه تعالى.

هذا و يقول صاحب مفاتيح الغيب أن الاجماع قد انعقد على ما قاله، و لكن الأستاذ الباقوري يقول: إنه لن يستطيع منصف أن يقبل القول بالاجماع على هذه الصورة، و لا هو يستطيع أن يتصور إجماعا بغير أن يكون فيه مثل أبي مسلم الأصفهاني، فكيف و أبو مسلم ينكر هذا الذي قيل،

ص: 167


1- في ظلال القرآن 1/ 302.

فيقول: إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الميت من اللّه تعالى أراه اللّه تعالى مثالا قرب به الأمر عليه، و علينا أن نفهم من الكلمة القرآنية فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ (1) الإمالة و التمرين على الإجابة، يعني جل ثناؤه: خذ أربعة من الطير فمرنها تمرينا تعتاد به إن أنت دعوتها أن تأتيك، فإذا صارت كذلك و اعتادته و قبلت التمرين، فاجعل على كل جبل من هذه الطيور الأربعة واحدا حال حياته، ثم ادع الجميع يأتينك سعيا.

و قال أبو مسلم: و الغرض ذكر مثال محسوس من عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة، و أنكر أبو مسلم أن يكون المراد من كلمة «صرهن»: قطعهن، و مضى يحتج لرأيه هذا بوجوه: أولها: أن كلمة «صر» معناها في اللغة: الإمالة، و أما التقطيع و الذبح فليس في الآية ما يدل عليه، فكان إدراجه في الآية إلحاقا و زيادة بغير دليل، و هذا لا يجوز.

و ثاني الوجوه: أنه لو كان المراد بكلمة صرهن قطعهن، لم يقل إليك، فإن الكلمة حينئذ لا تتعدى بحرف إلى، و إنما يتعدى الفعل بهذا الحرف إذا كان بمعنى الإمالة، فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون في الكلام تقديم و تأخير، و التقدير: فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن يعني فقطعهن، قلنا لهذا القائل: إن التزام التقديم و التأخير من غير دليل ملجئ إلى ذلك التزام بغير ملزم، و هو خلاف الظاهر.

و ثالث الوجوه: أن الضمير في كلمة «ثم ادعهن» عائد إلى الأربعة من الطير، لا إلى الأجزاء، و إن كانت الأجزاء متفرقة متفاصلة، و كان الموضوع (1) انظر عن معنى «فصرهن إليك» تفسير الطبري 5/ 595- 505، معاني القرآن للفراء 1/ 174، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 81، تفسير القرطبي ص 1109- 1110، تفسير الجلالين ص 58، تفسير ابن ناصر السعدي 1/ 156، تفسير النسفي 1/ 132، تفسير ابن كثير 1/ 471، صفوة التفاسير 1/ 166، أبو بكر السجستاني: غريب القرآن ص 41 (القاهرة 1980).

ص: 168

على كل جبل بعض تلك تلك الأجزاء، لا إليها، و هو خلاف الظاهر، و أيضا الضمير في كلمة «يأتينك سعيا» عائد إليها، لا إلى الأجزاء.

و يرى الأستاذ الباقوري أن رأي أبي مسلم أدنى إلى القبول بأيسر كلفة، من حيث كان غير محوج إلى تقدير محذوف لفهم الآية، ثم من حيث كانت اللغة نصيرا له أي نصير، فإن هذه المادة تعطي معنى الميل، كما تقول: إني إليكم لأصول، أي مشتاق مائل، ثم يرى أن معنى قوله سبحانه «فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ» أملهن إليك و وجهن نحوك، كما يقال: صر وجهك إلي، أي أقبل به عليّ (1).

على أن القائلين بالقول المشهور (أي الذبح و ليس الإمالة) قد احتجوا على رأي أبي مسلم بوجوه: الأول: أن كل المفسرين الذي كانوا قبل أبي المسلم أجمعوا على أنه حصل ذبح تلك الطيور و تقطيع أجزائها، فيكون إنكار ذلك إنكارا للإجماع، و الثاني: أن ما ذكره غير مختص بإبراهيم صلى اللّه عليه و سلم، فلا يكون له فيه مزية على الغير، و الثالث: أن إبراهيم أراد أن يريه اللّه كيف يحيى الموتى، و ظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ذلك، و على قول أبي مسلم لا تحصل الإجابة في الحقيقة.

و الرابع: أن قوله تعالى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، يدل على أن تلك الطيور جعلت جزءا جزءا، قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه: إنه أضاف الجزء إلى الأربعة، فيجب أن يكون المراد بالجزء هو الواحد من تلك الأربعة، و الجواب أن ما ذكرته (أي الرازي) و إن كان محتملا، إلا أن حمل الجزء على ما ذكرنا أظهر، و التقدير: فاجعل على جبل من كل واحد منهن جزءا أو بعضا.

و يقول صاحب المنار: و آية فهم الرازي و غيره فيها، خلاف ما فهمه

ص: 169


1- أحمد حسن الباقوري: مع القرآن- القاهرة 1970 ص 198- 200.

جميع المفسرين من قبله، و لم يقل أحد: إن فهم فئة من الناس حجة على فهم الآخرين، على أن ما فهمه أبو مسلم هو المتبادر من عبارة الآية الكريمة، و ما قالوه أخذوه من روايات حكموها في الآية، و لآيات اللّه الحكم الأعلى، و على ما في تلك الرواية هي لا تدل.

و أما قوله: إن ما ذكره أبو مسلم غير مختص بإبراهيم فلا يكون فيه مزية، فهو مردود بأن هذا المثال لكيفية إحياء اللّه للموتى أو لكيفية التكوين، فيه توضيح لها، و تحديد لما يصل إليه علم البشر من أسرار الخليقة، و لا دليل على أن العلم بذلك كان عاما بين الناس، فيقال: إنه لا خصوصية فيه لإبراهيم، على أنه يرد مثل هذا الإيراد على حجة إبراهيم على الذي آتاه اللّه الملك، و حجته على عبدة الكواكب في سورة الأنعام، فإن مثل هذه الحجج التي أيد اللّه تعالى بها إبراهيم، مما يحتج به الرازي و غيره، فهل ينفى ذلك أن تكون هداية من اللّه لإبراهيم، و إخراجا من ظلمات الشبه التي كانت محيطة بأهل زمنه إلى نور الحق (1)، و قد قال اللّه تعالى: وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (2).

و أما قوله: إن إجابة إبراهيم إلى ما سأل لا تحصل بقول أبي مسلم، و إنما تحصل بقول الجمهور، فلأمر بعكسه، و ذلك أن إتيان الطيور بعد تقطيعها و تفريق أجزائها، من الجبال لا يقتضي رؤية كيفية الإحياء، إذ ليس فيها إلا رؤية كيفية الإحياء، إذ ليس فيها إلا رؤية الطيور، كما كانت قبل التقطيع، لأن الإحياء حصل في الجبال البعيدة، و افرض أنك رأيت رجلا قتل و قطع إربا إربا، ثم رأيته حيا فتقول إذن أنك عرفت كيفية إحيائه، هذا ما يدل عليه قولهم.

ص: 170


1- تفسير المنار 11/ 48 (القاهرة 1973).
2- سورة الأنعام: آية 83.

و أما قول أبي مسلم فهو الذي يدل على غاية ما يمكن أن يعرف البشر عن سر التكوين و الإحياء، و هو توضيح معنى قوله تعالى للشي ء «كُنْ فَيَكُونُ»، و لو لا أن اللّه تعالى بين لنا ذلك، بما حكاه عن خليله، لجاز أن يطمح في الوقوف على سر التكوين الطامحون، و لو فهم الرازي هذا لما قال: إنه لا خصوصية لإبراهيم على الغير، و هذا النوع من الجواب قريب من جواب موسى، إذ طلب رؤية اللّه تعالى، و نهى عما زاد على ذلك.

و جملة القول، فيما يرى صاحب تفسير المنار، أن تفسير أبي مسلم للآية هو المتبادر الذي يدل عليه النظم، و هو الذي يجلي الحقيقة في المسألة، فإن كيفية الإحياء هي عين كيفية التكوين في الابتداء، و إنما تكون بتعلق إرادة اللّه تعالى بالشي ء المعبر عنه بكلمة التكوين «كن» فلا يمكن أن يصل البشر إلى كيفية له، إلا إذا أمكن الوقوف على كنه إرادة اللّه تعالى، و كيفية تعلقها بالأشياء، و ظاهر القرآن، و ما هو عليه المسلمون، أن هذا غير ممكن، فصفات اللّه منزهة عن الكيفية، و العجز عن الإدراك فيها، هو الإدراك؛ و هو ما أفاده قول أبي مسلم رحمه اللّه تعالى، و مما يؤيده في النظم المحكم قوله تعالى: ثُمَّ اجْعَلْ فإنه يدل على التراخي الذي يقتضيه إمالة الطيور و تأنيسها على أن لفظ «صرهن» يدل على التأنيس، و لو لا أن هذا هو المراد لقال: فخذ أربعة من الطير فقطعهن، و اجعل على كل جبل منهن جزءا، و لم يذكر لفظ الإمالة إليه، و يعطف جعلها على الجبال ب «ثم»، و يدل عليه أيضا ختم الآية باسم العزيز الحكيم، دون اسم القدير، و العزيز: هو الغالب الذي لا ينال.

و ما صرف جمهور المتقدمين عن هذا المعنى على وضوحه، إلا الرواية بأنه جاء بأربعة طيور من جنس كذا و كذا، و قطعها و فرقها على جبال الدنيا، ثم دعاها فطار كل جزء إلى مناسبه، حتى كانت طيورا تسرع إليه، فأرادوا تطبيق الكلام على هذا، و لو بالتكلف، و أما المتأخرون فهمهم أن يكون في الكلام خصائص للأنبياء من الخوارق الكونية، و إن كان المقام

ص: 171

مقام العلم و البيان و الإخراج من الظلمات إلى النور، و هو أكبر الآيات، و لكل أهل زمن غرام في شي ء من الأشياء يتحكم في عقولهم و أفهامهم، و الواجب على من يريد فهم كتاب اللّه تعالى أن يتجرد من التأثر بكل ما هو خارج عنه، فإنه الحاكم على كل شي ء، و لا يحكم عليه شي ء، و للّه در أبي مسلم ما أدق فهمه، و أشد استقلاله فيه (1).

بقيت الإشارة إلى أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الأربعة من الطيور، فذهب ابن إسحاق و مجاهد و ابن جريج إلى أنها: الديك و الطاوس و الغراب و الحمام، و قال ابن زيد: قال فخذ أربعة من الطير:

قال: فأخذ طاوسا و حماما و غرابا و ديكا، مخالفة أجناسها و ألوانها، و قال ابن عباس: هي الغرنوق و الطاوس و الديك و الحمامة، إلى غير ذلك من آراء، و إن كان لا طائل تحت تعيين هذه الطيور الأربعة، إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن (2).

ص: 172


1- تفسير المنار 11/ 48- 49.
2- تفسير الطبري 5/ 494- 495، تفسير ابن كثير 1/ 471.

الباب الثالث سيرة يونس عليه السّلام

اشارة

ص: 173

ص: 174

يونس عليه السّلام

[1] قصة يونس عليه السلام

:- هو يونس بن متى، و هو اسم أبيه على ما في صحيح البخاري و غيره، و صححه ابن حجر قال: و لم أقف في شي ء عن الأخبار على اتصال نسبه (1)، روى البخاري بسنده عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى، و نسبه إلى أبيه»، و رواه أحمد و مسلم و أبو داود من حديث شعبة به، قال شعبة، فيما حكاه أبو داود عنه، لم يسمع قتادة عن أبي العالية سوى أربعة أحاديث هذا احداها (2)، و قال ابن كثير في التفسير: و في الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى»، و نسبه إلى أمه (3)، و روى الإمام أحمد بسنده عن أبي وائل عن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» (4)، و قال ابن الأثير و غيره: إنه اسم أمه، و لم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه غيره و غير عيسى عليهما السلام (5)، و في العهد القديم دعى «يونان بن

ص: 175


1- تفسير روح المعاني: 17/ 82- 83.
2- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 236.
3- صحيح البخاري: 4/ 193، و صحيح مسلم: 7/ 102، تفسير ابن كثير: 4/ 32.
4- مسند الإمام أحمد: 1/ 390، تفسير ابن كثير: 4/ 639.
5- تفسير روح المعاني: 17/ 83، تاريخ ابن الأثير: 1/ 360.

أمتاي» (1) و قد ذكر في القرآن الكريم بيونس و بذي النون، و النون هو الحوت (السمكة)، و يجمع على «نينان» كما في البحر، و أنوان أيضا، كما في القاموس (2)، و يقول الرازي في التفسير الكبير: إنه لا خلاف في أن ذا النون هو يونس عليه السلام لأن النون هو السمكة، و أن الإسم إذا دار بين أن يكون لقبا محضا، و بين أن يكون مفيدا، فحمله على المفيد أولى، خصوصا إذا علمت الفائدة التي يصلح لها ذلك الوصف (3).

هذا و قد ذكر يونس عليه السلام في القرآن باسمه أربع مرات، في سورة النساء (163) و الأنعام (86) و يونس (98) و الصافات (139)، و ذكر بالوصف في موضعين، حيث لقبه اللّه تعالى «بذي النون» (أي الحوت) في سورة الأنبياء (87)، و بصاحب الحوت في سورة القلم (48) لأن الحوت التقمه ثم نبذه، غير أن ذكر النبي الكريم في سورتي الأنبياء و الصافات إنما فيه شي ء من التفضيل، قال تعالى: وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (4)، و قال تعالى: وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ، فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ،

ص: 176


1- يونان: 1/ 1.
2- تفسير روح المعاني: 17/ 83، القاموس المحيط: 4/ 276.
3- تفسير الفخر الرازي: 22/ 212.
4- سورة الأنبياء: آية 87- 88، و انظر: تفسير الطبري 17/ 76- 82 (بيروت 1984)، تفسير ابن كثير: 3/ 306- 309 (بيروت 1986)، تفسير النسفي: 3/ 87- 88 (دار الفكر- بيروت) تفسير البحر المحيط 6/ 335- 336، تفسير روح المعاني: 17/ 82- 87 (بيروت 1978)، صفوة التفاسير للصابوني 2/ 273 (بيروت 1981)، تفسير الفخر الرازي: 22/ 212- 217، تفسير القرطبي ص 4369- 4375 و انظر: صحيح البخاري: كتاب الأنبياء 4/ 193، صحيح مسلم 7/ 102- 103.

لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ، وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» (1).

و الآيات الكريمة تذكر أن يونس عليه السلام كان مرسلا إلى قوم، غير أنها لا تذكر أين كان قوم يونس عليه السلام، و إن كان المفهوم أنهم كانوا في بقعة قريبة من البحر، على أن الروايات تذهب في الغالب الأعم إلى أنه أرسل إلى أهل «نينوى» (2) من أرض الموصل بالعراق (3)، و في السيرة النبوية الشريفة أن «عداسا»، و هو غلام نصراني لعتبة و شيبة ابني ربيعة، قدم لسيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو في الطائف، طبقا من عنب، ثم قال له: كل، فلما وضع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيه يده، قال: باسم اللّه، ثم أكل، فنظر عداس في وجهه ثم قال:

و اللّه إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: و من أي أهل البلاد أنت يا عداس، و ما دينك؟ قال: نصراني، و أنا رجل من أهل نينوى، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى، فقال

ص: 177


1- سورة الصافات: آية 139- 148، و انظر: تفسير القرطبي 15/ 121- 125 (القاهرة 1967)، تفسير روح المعاني 23/ 142- 144، تفسير الطبرسي 23/ 83- 86 (بيروت 1961)، تفسير الطبري 23/ 98- 106 (بيروت 1984)، تفسير البيضاوي 2/ 299- 300، تفسير الفخر الرازي 26/ 163- 166 (القاهرة 1938)، تفسير ابن كثير 4/ 32- 34، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 231- 237، قصص الأنبياء 1/ 380- 398، تفسير النسفي 4/ 28- 30، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5/ 291- 292، صحيح البخاري- كتاب الأنبياء، باب قول اللّه تعالى: وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 4/ 193، صحيح مسلم 7/ 102- 103- كتاب الفضائل، باب ذكر يونس عليه السلام.
2- نينوى: عاصمة الإمبراطورية الآشورية، و تقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة، على فم رافد صغير يدعى «الخسر» على مبعدة 25 ميلا من التقاء الدجلة بالزاب، قبالة الموصل، و كان العبرانيون يعممون اسم نينوى ليشمل كل المنطقة حول التقاء الزاب بالدجلة (تكوين 10/ 11- 12، يونان 1/ 2، 3/ 2- 7، قاموس الكتاب المقدس 2/ 990).
3- تفسير الفخر الرازي 22/ 213، تفسير ابن كثير 2/ 670، تفسير روح المعاني 17/ 84، البداية و النهاية 1/ 232.

له عداس: و ما يدريك ما يونس بن متى، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: ذاك أخي، كان نبيا، و أنا نبي فأكب عداس على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقبل رأسه و يديه و قدميه (1).

و في تفسير الفخر الرازي عن ابن عباس، رضي اللّه عنهما، أنه قال:

كان يونس عليه السلام و قومه يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك و سبى منهم تسعة أسباط و نصفا، و بقي سبطان و نصف، فأوحى اللّه تعالى إلى شعيب النبي عليه السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك، و قل له حتى يوجه نبيا قويا أمينا، فإني ألقي في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل، فقال له الملك: فمن ترى، و كان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال: يونس بن متى، فإنه قوي و أمين، فدعا الملك بيونس و أمره أن يخرج، فقال يونس:

هل أمرك اللّه بإخراجي، قال: لا، قال: فهل سماني لك، قال: لا، قال:

فههنا أنبياء غيري، فألحوا عليه فخرج مغاضبا للملك و لقومه فأتى بحر الروم فوجد قوما هيئوا سفينة فركب معهم (2).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى عدة أمور في هذا النص، منها (أولا) أن الملك الذي غزا قوم يونس في فلسطين ربما كان، فيما نميل إليه و نرجحه، إنما هو «سرجون الثاني» الآشوري (722- 705 ق. م)، فهو فيما يحدثنا التاريخ، الملك الذي غزا بني إسرائيل و استولى على السامرة، و سبى منهم تسعة أسباط و نصف (3)، كما أن «نينوى» كانت عاصمة آشور وقت ذاك، غير أن «نينوى» لا يمكن الذهاب إليها عن طريق بحر الروم (البحر المتوسط)، إلا إذا صحت تلك الرواية التي تقول إن الحوت التقمه A

ص: 178


1- انظر: السير النبوية لابن هشام 2/ 266- تحقيق أحمد حجازي السقا.
2- تفسير الفخر الرازي 22/ 212، و انظر: تفسير روح المعاني 17/ 83.
3- ملوك أول 11/ 35، محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 884- 886، 940- 1950، و كذا .210 .P ,tic -po ,nageniF .J .6 .P ,salannA ehT ,I ,traP ,II ,nograS fo snoitpircsnI ehT ,eiL .G .A و كذا. 248. P, 1966, TENA, miehneppO. L. A

من ذلك المكان الذي ألقي به فيه من السفينة (و الذي ربما كان شمال أيلة أو إيلات على خليج العقبة) ثم انطلق به من ذلك المكان حتى مرّ به على الأيلة، ثم انطلق به حتى مرّ على دجلة، ثم انطلق به حتى ألقاه في نينوى (1) (أي أنه دار به حول شبه الجزيرة العربية من خليج العقبة، فالبحر الأحمر، فخليج عدن، ثم بحر العرب فخليج عمان ثم الخليج العربي، فنهر دجلة ثم نينوى).

و منها (ثانيا) أن النبي شعيب عليه السلام، ربما لا يقصد به هنا شعيب النبي العربي الذي بعث في مدين، و إنما النبي الإسرائيلي أشعياء، و ذلك لسببين، أحدهما: أن أشعياء كان معاصرا أو قريبا من فترة الغزو الأشوري لإسرائيل حيث كان يعيش في الفترة (734- 680 ق. م)، بينما النبي العربي شعيب كان يعيش حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد، بل إن هناك من يرجح أنه هو نفسه صهر موسى عليه السلام، و ثانيهما: أن الملك حزقيل المذكور في النص هو الملك اليهودي «حزقيال» (715- 687 ق. م).

و أيا كان الأمر، فما أن ركب يونس عليه السلام السفينة، و وصلت إلى وسط اللجة حتى ناوأتها الرياح و الأمواج و كان هذا إيذانا عند القوم بأن من بين الركاب راكبا مغضوبا عليه لأنه ارتكب خطيئة، و أنه لا بد أن يلقى في الماء لكي تنجو السفينة من الغرق، فاقترعوا على من يلقونه من السفينة، فخرج سهم يونس، و كان معروفا عندهم بالصلاح، و لكن سهمه خرج بشكل أكيد، فألقوه في البحر، أو ألقى هو نفسه فالتقمه الحوت و هو مليم (2)، ثم تذهب الرواية بعد ذلك إلى أن اللّه أنجى يونس، ثم أوحى إليه أن يذهب إلى ملك من أرسل إليهم و أن يطلب إليه أن يرسل معه بني إسرائيل، فقالوا له: ما

ص: 179


1- تفسير الطبري 23/ 105.
2- في ظلال القرآن 5/ 2998.

نعرف ما تقول، و لو علمنا أنك صادق لفعلنا، و لقد أتيناكم من دياركم و سبيناكم، فلو كان كما تقول لمنعنا اللّه عنكم، فطاف ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه، فأوحى اللّه تعالى إليه، قل لهم: إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب، فأبلغهم فأبوا، فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يصلبونه فلم يقدروا عليه، ثم ذكروا أمرهم و أمر يونس للعلماء الذين كانوا في دينهم، فقالوا: انظروا و اطلبوه في المدينة، فإن كان فيها فليس مما ذكر من نزول العذاب شي ء و إن كان قد خرج فهو كما قال، فطلبوه فقيل لهم إنه خرج العشي، فلما آيسوا أغلقوا أبواب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم و لا غنمهم، و عزلوا الوالدة عن ولدها و كذا الصبيان و الأمهات، ثم قاموا ينتظرون الصبح، فلما انشق الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم و وضعت الحوامل ما في بطونها، و صاح الصبيان، و ثغت الأغنام و البقر، فرفع اللّه تعالى عنهم العذاب، فبعثوا إلى يونس عليه السلام فآمنوا به، و بعثوا معه بني إسرائيل، فعلى هذا القول، كما يقول الإمام الرازي، كانت رسالة يونس عليه السلام، بعد ما نبذه الحوت، و دليل هذا القول قوله تعالي في الصافات فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ، وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، و في هذا القول رواية أخرى، و هي أن جبريل عليه السلام قال ليونس عليه السلام: انطلق إلى أهل نينوى و أنذرهم أن العذاب قد حضرهم، فقال يونس عليه السلام: التمس دابة، فقال الأمر أعجل من ذلك، فغضب و انطلق إلى السفينة، و باقي الحكاية كما مرت إلى أن التقمه الحوت، فانطلق إلى أن وصل إلى نينوى، فألقاه هناك (1).

على أن هناك وجها آخر للنظر يذهب إلى أن قصة الحوت كانت بعد

ص: 180


1- تفسير الفخر الرازي 22/ 212- 213، تفسير المعاني 17/ 83.

دعائه أهل نينوى و تبليغه رسالة اللّه إليهم، و لكنهم استعصوا عليه، فضاق بهم صدرا، و عاد مغاضبا (1)، و لم يصبر على معاناة الدعوة معهم، ظانا أن اللّه لن يضيّق عليه الأرض، فهي فسيحة، و القرى كثيرة، و الأقوام متعددون، و ما دام هؤلاء يستعصون على الدعوة فسيوجهه اللّه إلى قوم آخرين، ذلك معنى «فظن أن لن نقدر عليه» أي أن لن نضيق عليه (2)، و ذلك لأن يونس عليه السلام ظن، كما يقول الإمام الرازي، أنه مخيّر إن شاء أقام و إن شاء خرج، و أنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره، و كان من المعلوم أن الصلاح في تأخر خروجه، و هذا من اللّه تعالى بيان لما يجري مجرى العذر له من حيث خرج، لا على تعمد المعصية، لكنه لظنه أن الأمر في خروجه موسع يجوز أن يقدم و يؤخر، و كان الصلاح خلاف ذلك (3).

هذا و قد ظن الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان أنه من القدرة، فاستشكل ذلك، إذ لا يظن أحد، فضلا عن النبي عليه السلام، عدم قدرة اللّه تعالى، و فزع إلى ابن عباس في ذلك (4)، «روى أن ابن عباس، رضي اللّه عنهما، دخل يوما على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك، قال: و ما هي يا معاوية، فقرأ الآية فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فقال: أو يظن نبيّ اللّه أن لا يقدر عليه، قال:

ص: 181


1- يقول الألوسي في روح المعاني: و قيل مغاضبا لربه عز و جل، و حكى في هذه المغاضبة كيفيات و تعقب (أبو حيان) ذلك في البحر بأنه يجب إطراح هذا القول، إذ لا يناسب ذلك منصب النبوة، و ينبغي أن يتأول لمن قال ذلك من العلماء كابن مسعود و الحسن و الشعبي و ابن جبير و غيرهم بأن يكون معنى قولهم لربه لأجل ربه تعالى و حمية لدينه، فاللام لام العلة، لا اللام الموصولة للمفعول به (روح المعاني 3/ 83- 84، و انظر أيضا: تفسير البحر المحيط 6/ 335، تفسير الطبري 17/ 76- 1/ 7، تفسير الفخر الرازي 22/ 214).
2- في ظلال القرآن 4/ 2393.
3- تفسير الفخر الرازي 22/ 215.
4- تفسير روح المعاني 17/ 84.

هذا من القدر لا من القدرة (1)، و يقول الرازي في التفسير الكبير (22/ 215): من ظن عجز اللّه تعالى فهو كافر و لا خلاف في أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين، فكيف إلى الأنبياء عليهم السلام.

و على أي حال، و كما أشرنا من قبل، فلقد اتجه يونس عليه السلام إلى شاطئ البحر، فوجد سفينة مشحونة فركب فيها، حتى إذا كانت في اللجة ثقلت، و قال ربانها: إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها في البحر لينجو سائر من فيها من الغرق، فساهموا فجاء السهم على يونس، فألقوه أو القى هو بنفسه، فالتقمه الحوت (2) و هو مليم، لأنه تخلى عن المهمة التي أرسله اللّه بها، و ترك قومه مغاضبا قبل أن يأذن اللّه له، و روى عن عبد اللّه بن رافع مولى أم سلمة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «لما أراد اللّه حبس يونس في بطن الحوت، أوحى اللّه إلى الحوت أن خذه، و لا تخدش له لحما و لا تكسر له عظما، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسّا فقال في نفسه ما هذا، فأوحى اللّه إليه و هو في بطن الحوت إن هذا تسبيح دواب البحر، قال: و سبّح و هو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا:

يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة، قال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه من كل يوم و ليلة عمل صالح، قال: نعم، قال: فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل، كما قال اللّه تعالى «وَ هُوَ سَقِيمٌ»، رواه ابن جرير و رواه البزار في مسنده (3)، و عن عوف الأعرابي قال: لما صار يونس في بطن الحوت، ظن أنه قد مات، ثم حرك رجله، فلما تحركت سجد

ص: 182


1- تفسير النسفي 3/ 87.
2- في ظلال القرآن 4/ 2393.
3- تفسير ابن كثير 3/ 307- 308، تفسير الطبري 17/ 81، 23/ 100، تفسير الفخر الرازي 22/ 216، 26/ 165، تفسير القرطبي ص: 4370- 4371.

مكانه، ثم نادى: يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع ما اتخذه أحد (1)، و في رواية «يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يبلغه أحد من الناس» (2).

هذا و قد اختلف المفسرون في المدة التي لبثها يونس عليه السلام في بطن الحوت، فقال قتادة: ثلاثة أيام (و هذا ما جاء في العهد القديم) (3)، و قال الإمام جعفر الصادق رضوان اللّه عليه: سبعة أيام، و روى ابن أبي حاتم عن أبي مالك أنه بقي أربعين يوما، و عن الضحاك عشرين يوما، و قيل شهرا، و روى مجاهد عن الشعبي قال: التقمه ضحى و لفظه عشية، و قال الحسن: لم يلبث إلا قليلا و أخرج من بطنه بعد الوقت الذي التقمه (4).

و على أية حال، فما أن أحس النبي الكريم بالضيق في بطن الحوت، حتى سبح اللّه و استغفره، «فنادى من الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»، و قد اختلف أهل التأويل في المعنى بهذه الظلمات، فقال بعضهم: عني بها ظلمة الليل و ظلمه البحر و ظلمة بطن الحوت، و قال آخرون: إنما عنى بذلك أنه نادى في ظلمة جوف حوت في جوف حوت آخر، أو لأن الحوت إذا عظم غوصه في قعر البحر كان ما فوقه من البحر في ظلمة، و الصواب من القول، عند الطبري، إن اللّه تعالى أخبر يونس أنه ناداه في الظلمات «أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»، و لا شك أنه قد عنى بإحدى الظلمات بطن الحوت، و بالأخرى ظلمة البحر، و في الثالثة اختلاف: و جائز أن تكون تلك الثالثة ظلمة الليل، و جائز أن تكون

ص: 183


1- تفسير الطبري 17/ 81، 23/ 100.
2- تفسير ابن كثير 3/ 307.
3- يونان 2/ 17.
4- تفسير الطبري 17/ 79، 23/ 101، تفسير روح المعاني 17/ 85 (بيروت 1978)، تفسير ابن كثير 4/ 32 (بيروت 1986)، تفسير الفخر الرازي 26/ 165.

كون الحوت في جوف حوت آخر، و لا دليل يدل على أي ذلك من أي، فلا قول في ذلك أولى بالحق من التسليم لظاهر التنزيل (1)، و أما من قال: إن الحوت الذي ابتلعه غاص في الأرض السابعة، فإن ثبت ذلك بخبر فلا كلام، و إن قيل بذلك لكي يقع نداؤه في الظلمات، فما قدمناه يغني عن ذلك (2).

و إما قوله تعالى لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (3)، فلقد أخرج الإمام أحمد و الترمذي و النسائي، و الحكيم في نوادر الأصول، و الحاكم في المستدرك (و صححه) و البيهقي في الشعب و جماعة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها مسلم ربه في شي ء قط إلا استجاب له» (4)، و في رواية «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له» (5)، و عن الحسن البصري: ما نجاه اللّه تعالى إلا بإقراره عن نفسه بالظلم (6)، و روى ابن أبي حاتم عن كثير بن معبد قال: سألت الحسن فقلت: يا أبا سعيد اسم اللّه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، و إذا سئل به أعطى، قال ابن أخي أما تقرأ القرآن قول اللّه تعالى: وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً- إلى قوله: وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ، ابن أخي، هذا اسم اللّه الأعظم، إذا دعي به أجاب، و إذا سئل به أعطى (7).

ص: 184


1- تفسير الطبري 17/ 80 (بيروت 1984)، و انظر روح المعاني 17/ 84.
2- تفسير الفخر الرازي 22/ 216.
3- سورة الأنبياء: آية 87- 88.
4- تفسير روح المعاني 17/ 85.
5- تفسير النسفي 3/ 87، تفسير الفخر الرازي 22/ 216، و أصل الحديث في سنن أبي داود.
6- تفسير الفخر الرازي 22/ 216، تفسير النسفي 3/ 87.
7- تفسير ابن كثير 3/ 309.

و روى ابن جرير في التفسير بسنده عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن مالك (سعد بن أبي وقاص) يقول: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول:

اسم اللّه الذي إذا دعى به أجاب، و إذا سئل به أعطى، دعوة يونس بن متى قال: فقلت يا رسول اللّه: هي ليونس بن متى خاصة، أم لجماعة المسلمين، قال: هي ليونس بن متى خاصة، و للمؤمنين عامة إذا دعوا بها، أ لم تسمع قول اللّه تبارك و تعالى: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ، فهو شرط اللّه لمن دعا بها (1).

و روى الإمام أحمد بسنده عن إبراهيم بن محمد بن سعد قال: حدثني والدي محمد عن أبيه سعد هو ابن أبي وقاص (رض) قال: مررت بعثمان بن عفان (رض) في المسجد فسلمت عليه، فملأ عينيه مني ثم لم يرد عليّ السلام، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شي ء، مرتين، قال: لا، و ما ذاك، قلت: لا، إلا أنني مررت بعثمان آنفا في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يرد السلام، قال:

فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه فقال: ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام، قال: ما فعلت، قال سعد قلت بلى حتى حلف و حلفت، قال: ثم إن عثمان ذكر، فقال بلى، و استغفر اللّه و أتوب إليه، إنك مررت بي آنفا، و أنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، لا و اللّه ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري و قلبي غشاوة، قال سعد: فأنا أنبئك بها، إن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذكر لنا أول دعوة ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فأتبعته، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله، ضربت بقدمي الأرض فالتفت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال: «من هذا، أبو إسحاق، قال: قلت: نعم يا رسول اللّه، قال

ص: 185


1- تفسير الطبري 17/ 82.

«فمه» قلت، لا و اللّه إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك، قال: «نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شي ء قط، إلا استجاب له» (1)، و رواه الترمذي (2) و النسائي: في اليوم و الليلة، في حديث إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه سعد به (3).

و هكذا استجاب اللّه تعالى لعبده يونس لأنه كان من قبل من المسبحين، «فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (4)، روى ابن جرير عن ميمون بن مهران قال: سمعت الضحاك بن قيس يقول على منبره: اذكروا اللّه في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس كان عبدا للّه ذاكرا، فلما أصابته الشدة دعا اللّه، فقال اللّه: فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فذكره اللّه بما كان منه» (5)، و من ثم فقد استجاب اللّه لدعائه فلفظه الحوت على الشاطئ، و كان سقيما عاريا، قال ابن مسعود: كهيئة الفرخ ليس عليه ريش، و قال ابن عباس و السّدى كهيئة الضبي حين يولد، و هو المنفرش ليس عليه شي ء (6)، و قال ابن زيد: ما لفظه الحوت حتى صار مثل الضبي المنفوس قد نشر اللحم و العظم، فصار مثل الصبي المنفوس، فألقاه في موضع، و أنبت اللّه عليه شجرة من يقطين (7)، و الجمهور على أن شجرة اليقطين هي «القرع»، و فائدته أن الذباب لا يجتمع عنده، و أنه أسرع الأشجار نباتا و امتدادا، قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: إنك لتحب

ص: 186


1- مسند الإمام أحمد 1/ 170.
2- تحفة الأحوذي 9/ 479.
3- تفسير ابن كثير 3/ 308، تفسير روح المعاني 17/ 85.
4- سورة الصافات: آية 143- 144.
5- تفسير الطبري 23/ 100.
6- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 235.
7- تفسير الطبري 23/ 102.

القرع، قال: «أجل هي شجرة أخي يونس» (1)، قال المبرد و الزجاج:

اليقطين كل شجر لا يقوم على ساق، و إنما يمتد على وجه الأرض فهو يقطين، نحو الدّبّاء و الحنظل و البطيخ، و روى عن ابن مسعود و ابن عباس و مجاهد و عكرمة و سعيد بن جبير و وهب بن منبه و هلال بن يساف و عبد اللّه بن طاوس و السّدي و قتادة و الضحاك و عطاء الخراساني و غير واحد قالوا كلهم: اليقطين هو القرع، و عن سعيد بن جبير: اليقطين هو كل شي ء ينبت على وجه الأرض ليس له ساق، و في رواية عنه أيضا: كل شي ء ينبت يموت من عامه (2)، و قد ثبت أن سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يحب الدّبّاء و يتتبعه من حواشي الصفحة (3)، و قال الواحدي: و الآية تقتضي شيئين لم يذكرهما المفسرون، أحدهما: إن هذا اليقطين لم يكن قبل، فأنبته اللّه تعالى لأجله، و الآخر: أن اليقطين كان معروشا ليحصل له ظل، لأنه لو كان منبسطا على الأرض لم يكن أن يستظل (4).

و على أية حال، فما أن استكمل يونس عليه السلام عافيته حتى رده اللّه تعالى إلى قومه الذين تركهم مغاضبا، و كانوا قد خافوا ما أنذرهم به من العذاب بعد خروجه، فآمنوا و استغفروا و طلبوا العفو من اللّه فسمع لهم و لم ينزل بهم عذاب المكذبين فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ و كانوا مائة يزيدون و لا ينقصون، و قد آمنوا أجمعين (5)، و حكى البغوي أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت كانوا مائة ألف أو يزيدون، هذا و قد اختلف المفسرون في عدد زيادة قوم يونس عن المائة ألف، فعن ابن عباس كانوا

ص: 187


1- تفسير النسفي 4/ 29.
2- تفسير الفخر الرازي 26/ 166، تفسير ابن كثير 4/ 34، تفسير الطبري 23/ 104.
3- انظر: صحيح البخاري 7/ 98، 102.
4- تفسير الفخر الرازي 26/ 166.
5- في ظلال القرآن 5/ 2999.

مائة ألف و ثلاثين ألف، و عنه أيضا مائة ألف و بضعة و ثلاثين ألفا، و عنه مائة ألف و بضعة و أربعين ألفا، و عن مكحول إنهم كانوا مائة ألف و عشرة آلاف، و عن سعيد بن جبير يزيدون سبعين ألفا، و عن أبىّ بن كعب أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن قوله تعالى: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال:

يزيدون عشرون ألفا، و عند الرازي أن المعنى أو يزيدون في تقديركم بمعنى إنهم إذا رآهم الرائي قال: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على المائة (1).

و تنتهي قصة يونس عليه السلام بقوله تعالى: فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (2)، أي متع اللّه أهل نينوى في مدينتهم مدة إقامة يونس فيهم و بعده آمنين مطمئنين إلى حين، أي إلى الوقت الذي جعله اللّه تعالى أجلا لكل واحد منهم، كقوله تعالى جلت عظمته: فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها، إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (3).

[2] سفر يونان (يونس عليه السلام)

و كان هذا السفر في العهد القديم بين سفرى عوبديا و ميخا، و هو من أسفار الأنبياء الصغيرة، و يتكون من أربع إصحاحات (48 آية)، و لا يقدم لنا العهد القديم إلا أقل المعلومات عن صاحب سفر يونان (hanoJ) فكل ما جاء عنه في سفر الملوك الأول (14/ 25) إنه النبي «يوناثان بن أمتاي» من «جت حافر»، على مقربة من الناصرة، بأرض الجليل.

هذا و يذهب بعض الباحثين إلى أن يونان إنما كان يعيش في الفترة (785- 745 ق. م)، و إنه كان نبيّا قوميا من أنبياء بني إسرائيل على أيام

ص: 188


1- تفسير ابن كثير 4/ 34، تحفة الأحوذي 9/ 97، تفسير الطبري 23/ 104، تفسير النسفي 4/ 29، تفسير الفخر الرازي 26/ 166.
2- سورة الصافات: آية 148.
3- سورة يونس: آية 98، و انظر: تفسير ابن كثير 4/ 34، تفسير الطبري 23/ 104- 105.

ملك إسرائيل «يربعام الثاني» (786- 746 ق. م)، و إنه أرسل إلى أهل «نينوى» في الفترة (765- 759 ق. م) في أخريات أيام العاهل الآشوري «آشوردان الثالث» (771- 754 ق. م) (1)، و إما أنه كان نبيا قوميا أو عبرانيا، فذلك ما جاء في السفر نفسه (2)، و إما إنه كان على أيام يربعام الثاني فهذا ما يخالف ما ذهبنا إليه من قبل (اعتمادا على رواية ابن عباس) من إنه كان نبيّا إسرائيليا على أيام الملك «حزقيال» (715- 687 ق. م) و النبي أشعياء (734- 680 ق. م)، هذا فضلا عن أن من ذهبوا إلى أن يونان (يونس عليه السلام) كان على أيام يربعام الثاني، لم يقدموا أي دليل يؤيدون به وجهة نظرهم هذه.

و على أي حال، فإن العلماء لا يعرفون حتى الآن من الذي كتب سفر يونان هذا في روايته الحالية، كما جاءت في العهد القديم، و إن كانوا يذهبون إلى أنه كتب ربما حوالي عام 350 قبل الميلاد، و ليس هناك أي دليل يثبت أن يونان هو كاتب هذا السفر الذي يحمل اسمه من بين أسفار العهد القديم (3).

هذا و يختلف الباحثون كذلك في موضوع السفر نفسه، فهناك فريق يذهب إلى أن كاتب السفر لم يقصد أن يروي قصة تاريخية عن نبي عاش قبله بقرون، و إنما أراد أن يكتب موعظة في قالب قصة، معتمدين في ذلك على

ص: 189


1- حبيب سعيد: المرجع السابق ص 127- 129، فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 114- 116، و كذا 1911 ,RCL ,hanoJ fo elcariM eht fo ssenelb snosaeR ehT ,llulmurT .C .H 456 -430 ,298 -280 .P ,16 ,RTP ,hanoJ fo yticitnehtuA ehT ,nosliW .D .R و كذا 21- 20. P, 1969, stehporP tnematseT dlO ehT, notaeH. W. E و كذا. 602- 601. P, tic- po, regnU. M
2- يونان 1/ 9.
3- انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 52- 57.

أسباب منها (أولا): وجود السفر مع الأسفار النبوية، و ليس مع الأسفار التاريخية (1)، و منها (ثانيا): ذكره لمعجزات تختلف عن المعجزات المذكورة في الأسفار التاريخية، و لا سيما النبأ المتعلق بالحوت (2)، و منها (ثالثا): عدم الاتفاق بين ما قيل عن توبة أهل «نينوى»، و ما جاء في سفر «ناحوم» ويل لمدينة الدماء، كلها ملآنة كذبا و خطفا، و «جرحك عديم الشفاء، كل الذين يسمعون خبرك يصفقون بأيديهم عليك» (3)، و من المعروف أن ناحوم عاش بعد يونان أي أن نبوته كانت حوالي عام (650- 625 ق. م)، و منها (رابعا): ما جاء في سفر إرميا، (و الذي عاش في الفترة 626- 580 ق. م) (4)، «أكلني أفناني، نبوخذ نصر ملك بابل، جعلني إناء فارغا، ابتلعني كتنين ... و أخرج من فمه ما ابتلعه» (5)، و هذا القول تشبيه بغير شك، و من ثم فقد ذهب بعض الباحثين المحدثين إلى أن رواية سفر يونان، إنما هي أيضا تشبيه ليس إلا (6).

على أن هناك فريقا من الباحثين من المحافظين من شراح العهد القديم إنما يذهب إلى أن سفر يونان هذا، إنما هو سفر تاريخي كتبه «يونان النبي بن أمتاي» من سبط «زبولون» (أحد أبناء يعقوب الاثني عشر) من «جت حافز»، على مبعدة ثلاثة أميال من الناصرة (قرية المسيح عليه

ص: 190


1- انظر عن أسفار الأنبياء و الأسفار التاريخية (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 33- 60).
2- باروخ سبينوزا: المرجع السابق ص 32، حبيب سعيد: المرجع السابق ص 127، قاموس الكتاب المقدس 2/ 1126- 1127، و كذا. 257. P, 1949, tnemtseT dlO ehT ot noitcudaitnI, gnuoY. J
3- ناحوم 3/ 19.
4- انظر عن سفر إيرميا و عصره (محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 997- 1012، 3/ 44- 47).
5- إرميا 51/ 34، 44.
6- قاموس الكتاب المقدس 2/ 1127.

السلام)، و يؤيد هذا الفريق وجهة نظره هذه بعدة أدلة، منها (أولا): أن السفر لا يقول «صار قول الرب إلى إنسان»، و إنما يقول «صار قول الرب إلى يونان بن أمتاي» (1)، فالخطاب هنا موجه إلى شخص معين بذاته، و منها (ثانيا): ما جاء في كلام السيد المسيح «لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ... رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل و يدينونه، لأنهم تابوا بمناداة يونان و هو ذا الأعظم من يونان هاهنا»، و منها (ثالثا): أن نبأ الحوت ليس من الحكايات التي غايتها أن تثير فضول الناس و دهشتهم، بل غايته الرمز إلى موت المسيح و قيامته، و أما بخصوص توبة أهل نينوى فمن المحتمل إنهم تابوا توبة وقتية فقط، و لعل هذا السفر من عداد الأسفار النبوية، لأن ما ورد فيه إنما يرمز إلى أمور مستقبلية (2).

و الرأي عندي أن «قصة الحوت» التي جاءت في سفر يونان (3) هذا، و التي ثار حولها جدل طويل بين علماء التوراة و شراحها، ليس كما يزعم بعض الباحثين المحدثين، قصة رمزية أو رواية تمثيلية في قالب تاريخي (4)، و إنما هي دونما أي ريب، و بكل يقين المسلم و إيمانه بما جاء في كتاب اللّه (5)، و حديث المعصوم سيدنا و مولانا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم (6) كما رأينا من قبل، إنما هي قصة تاريخية حقيقية، لأنها فيما نعتقد و نؤمن به الإيمان كل

ص: 191


1- يونان 1/ 1.
2- قاموس الكتاب المقدس 2/ 1126- 1127، محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 52- 56.
3- يونان 1/ 1- 2/ 10.
4- قاموس الكتاب المقدس 2/ 1126، حبيب سعيد: المرجع السابق ص 127.
5- انظر: سورة يونس: آية 98، الأنبياء: آية 87- 88، الصافات: آية 139- 148، سورة القلم: آية 48.
6- انظر: تفسير روح المعاني 17/ 85، تفسير النسفي 3/ 87، تفسير الفخر الرازي 22/ 216، تفسير الطبري 17/ 82، تفسير ابن كثير 3/ 308، مسند الإمام أحمد 1/ 170، تحفة الأحوذي 9/ 479.

الإيمان، إنما تمثل معجزة نبيّ، و المعجزة فيما نعلم، قوى إلهية يعجز البشر عن الإتيان بمثلها، و الحصول على نظير لها، و لا تأتي إلا في مقام التحدي و الإعجاز، و هي، كغيرها من معجزات الأنبياء، من عمل سبحانه و تعالى، و لا لأحد فيها سواه، جلّ جلاله، فليس لنبيّ يد في الخوارق التي بهرت الناس، و قهرت الخلق، و قامت أدلة صادقة على صدق من ظهرت على أيديهم في أنهم مبلغون عن اللّه سبحانه و تعالى (1)، و من هذا النوع كانت معجزة الحوت لسيدنا يونس (يونان) عليه السلام كما رأينا من قبل. ).

ص: 192


1- محمد الصادق عرجون: معجزات الأنبياء بين العقل و العلم- الإسكندرية 1955 ص 2، و انظر عن المعجزة و شروطها: تفسير القرطبي ص 70- 72 (القاهرة 1969).

المراجع المختارة

أولا- القرآن الكريم :

المراجع المختارة (1)

1- القرآن الكريم.

ثانيا- كتب الحديث:

2- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (10 أجزاء)، للألباني، بيروت 1979.

3- إرشاد الساري شرح صحيح البخاري، للقسطلاني، بيروت 1323 ه.

4- الجامع الصحيح، للترمذي، المدينة المنورة 1967.

5- الجامع الصغير، للسيوطي، القاهرة 1954.

6- الجامع الكبير، للسيوطي، القاهرة 1969.

7- السنن الكبرى، للبيهقي، حيدرآباد 1347 ه.

8- المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري، حيدرآباد 1335 ه.

9- جامع الأصول في أحاديث الرسول، لابن الأثير، دمشق 1974.

ص: 193


1- هذه المراجع المختارة تختص بالأجزاء: الثاني و الثالث و الرابع، من هذه السلسلة (دراسات تاريخية من القرآن الكريم)، و أما الجزء الأول فقد ذكرت مراجعه في آخره.

10- تهذيب الآثار- مسند عبد اللّه بن عباس (جزءان)، للطبري، القاهرة 1982.

11- تهذيب الآثار- مسند عمر بن الخطاب، للطبري، القاهرة 1983.

12- تهذيب الآثار- مسند علي بن أبي طالب، للطبري، القاهرة 1983.

13- سنن ابن ماجة، القاهرة 1972.

14- سنن أبي داود (جزءان)، القاهرة 1952.

15- سنن النسائي، القاهرة 1964.

16- صحيح البخاري (9 أجزاء)، القاهرة 1386 ه.

17- صحيح مسلم بشرح النووي (18 جزءا)، بيروت 1981.

18- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، القاهرة 1959.

19- كنز العمال في سنن الأقوال و الأفعال، للمتقي الهندي، حلب 1399 ه.

20- مجمع الزوائد و منبع الفوائد، للهيثمي، بيروت 1967.

21- مسند الإمام أحمد بن حنبل، بيروت 1969.

22- موطأ الإمام مالك، القاهرة 1970.

23- المعجم الصغير، للطبراني، المدينة المنورة 1968.

24- المعجم الكبير، للطبراني بغداد 1404 ه.

25- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخبار (8 أجزاء)، للشوكاني، القاهرة 1980.

ثالثا- كتب التفسير:

26- تفسير ابن كثير، (تفسير القرآن العظيم)، (4 أجزاء)، بيروت 1986.

27- تفسير أبي السعود، (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم)، القاهرة 1347 ه.

ص: 194

28- تفسير الألوسي، (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم و السبع المثاني)، بيروت 1978.

29- تفسير البيضاوي، (أنوار التنزيل و أسرار التأويل)، القاهرة 1968.

30- تفسير الخازن، (لباب التأويل في معاني التنزيل)، القاهرة 1955.

31- تفسير الزمخشري (الكشاف عن حقائق عوامل التنزيل و عيون الأقاويل في وجود التأويل)، القاهرة 1966.

32- تفسير الصابوني، (صفوة التفاسير)، بيروت 1981.

33- تفسير الطبرسي، (مجمع البيان في تفسير القرآن)، بيروت 1961.

34- تفسير الطبري، (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، القاهرة 57/ 1960.

35- تفسير السيوطي، (الدر المنثور في التفسير بالمأثور)، طهران 1377 ه.

36- تفسير سيد قطب، (في ظلال القرآن)، بيروت 1400 ه.

37- تفسير الجلالين، بيروت 1402 ه.

38- تفسير الفخر الرازي، (التفسير الكبير)، القاهرة 1938.

39- تفسير القرطبي، (الجامع لأحكام القرآن)، القاهرة 1970.

40- تفسير المنار، (تفسير المنار، (تفسير القرآن الحكيم)، القاهرة 73/ 1975.

41- تفسير القاسمي، (محاسن التأويل)، القاهرة 1957.

42- تفسير طنطاوي جوهري، (الجواهر في تفسير القرآن الكريم)، القاهرة 1974.

43- تفسير ابن حبان، (تفسير البحر المحيط)، بيروت 1983.

44- تفسير ابن ناصر السعدي، (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)، مكة المكرمة 1398 ه.

ص: 195

45- تفسير النسفي، (مدارك التنزيل و حقائق التأويل)، بيروت 1980.

46- تفسير محمد عزة دروزة، (التفسير الحديث)، القاهرة 1963.

47- تفسير ابن عطية، (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)، الرباط 1979.

48- تفسير الرازي، (مفاتيح الغيب)، بيروت 1970.

49- تفسير ابن العربي، (أحكام القرآن)، القاهرة 1957.

50- تفسير النيسابوري، (غرائب القرآن و رغائب الفرقان)، القاهرة 1381 ه.

51- تفسير الجصاص، (أحكام القرآن)، القاهرة 1959.

52- تفسير ابن عباس و مروياته في التفسير في كتب السنة، مكة المكرمة 1986.

رابعا- المراجع العربية:

53- التوراة، طبعة دار الكتاب المقدس، القاهرة 1970.

54- إبراهيم خليل: إسرائيل و التلمود، القاهرة 1967.

55- أبكار السقاف: إسرائيل و عقيدة الأرض الموعودة، القاهرة 1967.

56- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، بيروت 71965 57- ابن تيمية: مجموع فتاوى ابن تيمية، (37 جزءا)، الرياض 1382 ه.

58- ابن تيمية: كتاب النبوات، بيروت 1982.

59- ابن حزم: الفصل في الملل و الأهواء و النحل، القاهرة 1964.

60- ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، بيروت 1971.

61- ابن سعد: الطبقات الكبرى، القاهرة 1968.

62- ابن كثير: البداية و النهاية، بيروت 1966.

63- أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر، القاهرة 1325 ه.

ص: 196

64- أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء و طبقات الأصفياء (10 أجزاء)، بيروت 1985.

65- الدكتور أحمد بدوي: في موكب الشمس (جزءان)، القاهرة 1952.

66- أحمد حسن الباقوري: مع القرآن، القاهرة 1970.

67- الدكتور أحمد شلبي: اليهودية، القاهرة 1967.

68- الدكتور أحمد عبد الحميد يوسف: مصر في القرآن و السنة، القاهرة 1973.

69- الدكتور أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم، القاهرة 1963.

70- الدكتور أحمد فخري: مصر الفرعونية، القاهرة 1971.

71- الدكتور إسرائيل و لفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب، القاهرة 1927.

72- الدكتور إسرائيل و لفنسون: تاريخ اللغات السامية، القاهرة 1929.

73- الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي: أصول الصهيونية في الدين اليهودي، القاهرة 1964.

74- الشهرستاني: الملل و النحل، القاهرة 1968.

75- البكري: معجم ما استعجم من أسماء البلاد و المواضع، القاهرة 45/ 1951.

76- الثعلبي: قصص الأنبياء- المسمى عرائس المجالس، القاهرة.

78- الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، بيروت 1975.

79- الدكتور التهامي نقرة: سيكولوجية القصة في القرآن، تونس 1974.

80- العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، القاهرة 1924.

81- الدكتور السيد يعقوب بكر: أوفير (من كتاب العرب و الملاحة في المحيط الهندي)، القاهرة 1958.

ص: 197

82- الطبري: تاريخ الطبري، (تاريخ الرسل و الملوك)، القاهرة 1967.

83- المسعودي: مروج الذهب و معادن الجوهر، بيروت 1973.

84- المقدسي: كتاب البدء و التأريخ، باريس 3/ 1907.

85- اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، بيروت 1960.

86- باهور لبيب: لمحات من الدراسات المصرية القديمة القاهرة 1947.

87- الدكتور جمال حمدان: شخصية مصر، القاهرة 1970.

88- الدكتور جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، بيروت 68/ 1971.

89- حبيب سعيد: خليل اللّه في اليهودية و المسيحية و الإسلام، القاهرة-.

90- الدكتور حسن ظاظا: القدس مدينة اللّه، أم مدينة داود؟، القاهرة 1970.

91- الدكتور حسن ظاظا: الساميون و لغاتهم، القاهرة سنة 1970.

92- الدكتور حسن ظاظا: الفكر الديني الإسرائيلي، القاهرة 1971.

93- حسين ذو الفقار: توراة اليهود- المجلة العدد 157، القاهرة 1970.

94- حسين ذو الفقار: إله موسى في توراة اليهود- المجلة العدد 163، القاهرة 1970.

95- الدكتور رشيد الناضوري: جنوب غربي آسيا و شمال إفريقيا (جزءان)، بيروت 8/ 1969.

96- الدكتور سليم حسن: مصر القديمة (16 جزءا)، القاهرة 40/ 1960.

97- شاهين مكاريوس: تاريخ الأمة الإسرائيلية، القاهرة 1904.

98- طه باقر: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة (جزءان)، بغداد 1955.

99- عباس محمود العقاد: إبراهيم أبو الأنبياء، القاهرة-.

ص: 198

100- عباس محمود العقاد: حقائق الإسلام و أباطيل خصومه، القاهرة 1965.

101- عباس محمود العقاد: الإسلام دعوة عالمية، القاهرة 1970.

102- الدكتور عبد الحميد زائد: مصر الخالدة، القاهرة 1966.

103- الدكتور عبد الحميد زائد: الشرق الخالد، القاهرة 1966.

104- الدكتور عبد الحميد زائد: القدس الخالدة، القاهرة 1974.

105- عبد الرحيم فودة: في معاني القرآن، القاهرة.

106- الدكتور عبد العزيز صالح: الشرق الأدنى القديم، القاهرة 1967.

107- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء، القاهرة 1966.

108- عصام الدين حفني ناصف: محنة التوراة على أيدي اليهود، القاهرة 1965.

109- الدكتور عويد المطرفي: داود و سليمان في القرآن و السنة، مكة المكرمة 1979.

110- الدكتور محمد أبو المحاسن عصفور: معالم تاريخ الشرق الأدنى القديم، الإسكندرية 1968.

111- الدكتور محمد الطيب النجار: تاريخ الأنبياء في ضوء القرآن الكريم و السنة النبوية، الرياض 1983.

112- الدكتور محمد بيومي مهران: مصر (جزءان)، الإسكندرية 1982.

113- الدكتور محمد بيومي مهران: حركات التحرير في مصر القديمة، القاهرة 1976.

114- الدكتور محمد بيومي مهران: إخناتون، القاهرة 1979.

115- الدكتور محمد بيومي مهران: الحضارة المصرية القديمة، الإسكندرية 1984.

116- الدكتور محمد بيومي مهران: إسرائيل (أربعة أجزاء)، الإسكندرية 1978- 1979.

ص: 199

117- الدكتور محمد بيومي مهران: النبوة و الأنبياء عند بني إسرائيل، الإسكندرية 1979.

118- الدكتور محمد بيومي مهران: تاريخ العرب القديم، الرياض 1977.

119- الدكتور محمد بيومي مهران: الديانة العربية القديمة، الإسكندرية 1978.

120- الدكتور محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم (أربعة أجزاء)، بيروت 1988.

121- الدكتور محمد بيومي مهران: قصة الطوفان بين الآثار و الكتب المقدسة، الرياض 1975.

122- الدكتور محمد بيومي مهران: في رحاب النبي و آل البيت الطاهرين (خمسة أجزاء)، تحت الطبع.

123- محمد حسني عبد الحميد: أبو الأنبياء إبراهيم الخليل، القاهرة 1947.

124- محمد رشيد رضا: تفسير سورة يوسف، القاهرة 1936.

125- الدكتور محمد سيد طنطاوي: بنو إسرائيل في القرآن و السنة (جزءان)، القاهرة 8/ 1969.

126- محمد عزة دروزة: تاريخ بين إسرائيل من أسفارهم، بيروت 1969.

127- محمد علي الصابوني: النبوة و الأنبياء، بيروت 1980.

128- محمد مبروك نافع: عصر ما قبل الإسلام، القاهرة 1952.

129- الشيخ محمد متولي الشعراوي: الفتاوي (10 أجزاء في مجلدين)، بيروت 1981.

130- الدكتور محمود بن الشريف: الأديان في القرآن، جدة 1979.

ص: 200

131- محمود الشرقاوي: الأنبياء في القرآن الكريم، القاهرة 1970.

132- الشيخ محمد شلتوت: الفتاوى- ط ثالثة، القاهرة.

133- مجير الدين الحنبلي: الأنس الجليل بتاريخ القدس و الخليل، النجف 1388 ه.

134- الدكتور مراد كامل: الكتب التاريخية في العهد القديم، القاهرة 1968.

135- الدكتور نجيب ميخائيل: مصر و الشرق الأدنى القديم (6 أجزاء)، الإسكندرية 1966.

136- الدكتور محمد عبد القادر محمد: قصة الطوفان في أدب بلاد الرافدين، القاهرة 1965.

137- ياقوت الحموي: معجم البلدان (5 أجزاء)، بيروت 55/ 1957.

138- قاموس الكتاب المقدس (جزءان)، بيروت 64/ 1967.

139- مجلة سومر- المجلد السابع-، بغداد 1951.

خامسا- المراجع المترجمة:

140- باروخ سبينوزا: رسالة في اللاهوت و السياسة- ترجمة حسن حنفي، القاهرة 1971.

141- جرني: الحيثيون- ترجمة محمد عبد القادر محمد، القاهرة 1963.

142- جون الدر: الأحجار تتكلم- ترجمة عزت زكي، القاهرة 1960.

143- ج. كونتنو: الحضارة الفينيقية- ترجمة محمد عبد الهادي شعيره، القاهرة.

144- جان يويوت: مصر الفرعونية- ترجمة سعد زهران، القاهرة 1966.

145- جورج فضلو حوراني: العرب و الملاحة في المحيط الهندي- ترجمه و زاد عليه: يعقوب بكر، القاهرة 1958.

ص: 201

146- جوستاف لوبون: اليهود في الحضارات القديمة- ترجمة عادل زعيتر، القاهرة 1967.

147- جيمس فريزر: الفلكور في العهد القديمة- ترجمة نبيلة إبراهيم، القاهرة 1972.

148- جيمس هنري برستد: تاريخ مصر- ترجمة حسن كمال، القاهرة 1929.

149- جيمس هنري برستد: فجر الضمير- ترجمة سليم حسن، القاهرة 1956.

150- جيمس هنري برستد: تطور الفكر و الدين في مصر- ترجمة زكي سوسن، القاهرة 1961.

151- سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة- ترجمه و زاد عليه يعقوب بكر، القاهرة 1968.

152- صمويل نوح كريمر: من ألواح سومر- ترجمة طه باقر، القاهرة 1957.

153- صويل نوح كريمر: أساطير العالم القديم- ترجمة أحمد عبد الحميد، القاهرة 1974.

154- فيلب حتى: تاريخ سورية و لبنان و فلسطين- ترجمة جورج حداد و عبد الكريم رافق، بيروت 1958.

155- م. سيجال: حول تاريخ الأنبياء عند بني إسرائيل- ترجمة حسن ظاظا، بيروت 1967.

156- وليم أولبرايت: آثار فلسطين- ترجمة زكي اسكندر و محمد عبد القادر، القاهرة 1971.

157- ول ديورانت: قصة الحضارة- ترجمة محمد بدران، القاهرة 1961.

ص: 202

158- يوسفيوس: تاريخ يوسفيوس، بيروت.

159- دائرة المعارف الإسلامية- دار الشعب، القاهرة 69/ 1972.

سادسا- المراجع الأجنبية:

160. 'Albiright, (W.F), the Archaeology of Palestine, London, 1949.

161. Albiright,(W.F.), the Bible and the Ancient near east, London,1961.

162. Albiright, (W.F.), the Bilblical period from Abraham to Ezra, N.Y.1963.

163. Barton (G.A.), Archaeology and the Bible, 1937.

164. Baron, (S.W.), A social and religious history of the Jews,N.Y.1967.

165. Bulber, (M.), moses, Oxford, 1946.

166. Budge (E.A.), The Babylonian story of the deluge and the epic of Gilgamesh, 1920.

167. Burney (C.F.), Israel's (C.F.), Israel's canaan, London, 1918.

168. Cook (S.A.), in CAH, III, Cambridge, 19653settlement in

169. Davies (A.P.), the ten commandment, N.Y.1965.170. Dhorme (E), La religion des hebreux Nomades, Bruxelles, 1937.

171. Dimont, (M.), Jeuis god and history, N.Y.1956.

172. Eliade (M.), Traite d'histoire des religions, paris, 1964.

173. Eissfeldt (O.) the hebrew kingdom, in CAH,II,Part, 2, 1975.

174. Finegan (J.) light from the ancient past, I, Princeton, 1969.

175. Gray (J.) Near eastern mythology, N.Y.1969.

176. Epstein (R.I.), Judaism, 1970.

177. Freud (S.), moses and monotheism, N.Y.1939.

178. Faster (C.K.), A history of the hebrew people, London, 1940.

179. Gardiner, (A.H.) the geography of the exodus, in JEA,10,1924.

180 Gardiner, (A.H.) Egypt of the Pharaohs, Oxford, 1964.

181. Gastring (J.) Jashua, Judge, the faundations of the bible history London 1031.

182. Glueck (N), the other side of Jardan, New haven, 1945.

ص: 203

183. Glueck (N.) the Excavations of soloman's seaport, Ezian Gaber, STAR, 1941.

184. Guillaume, prophecy and divination among the hebrews and other semeites, London 1938.

185. Hall, (H.) the ancient history of near east, london, 1963. 186. Hastings, (J.), A dictionary of the bible, edinburgh, 1936.

187. Heaton,(E. W.) the old testament prophets, 1969.

188. James (E.O.), mythes et rites dans le proche-orient, Paris 1960.

189. Keller (W) the bible as history, 1967.

190. Kenyon (K.M.), Archaeology in the holy land, London 1970. 191. Kramer (S. A), sumerian mythology, 1944.

192. Krmer (S.A.), The deluge, in ANET, 1966.

193. Lods (A), Israel, from the beginnings to the middle of the eight century, London, 1962.

194. Malamat (A.) the last wars of the kingdom of judah, JNES, 9,1950.

195. Malamat (A.) Aspects of the foreign policies of david and solaman, JNES,22,1963.

196. Montet (P.), L'Egypte et la bible, Neuchatel, 1959.

197. Myres (J.L.), king soloman's temple and other buldings and works of art, PEQ,80,1948.

198. Manille, (E.), the Geography of the exadus, JEA.,I,1924. 199. Noth (m.) the history of Israel, London, 1965.

200. Oesterley (W.O.E.) Egypt and Israel, in the legacy of egypt, Oxford, 1948.

201. Oppenheim, (A.L.), Babyloniam and Assyrian historical texts in ANET, 1966.

202. Parker (J.), A, history of the Jewish people, London, 1964.

203. Petrie (W.F), Egypt and Israel, London 1955.

204. Renan (E.) histoire du peuple d'Israel, Paris, 1887.

205. Rowley (h.), From Joseph to joshua, London, 102T.

206.Raui (G.), Ancient Iraq 1966.

207. Saggs (H. F.), The Creatness that was babylon, London, 1962.

208. Saller (S.L.), the memorial of moses on maunt nebo, 2 vols, London, 1941.

ص: 204

209. Sollberger (E.), The Flood, London, 1962.

210. Unger (M.F.), unger's bible dictionary, chicago, 1970.

211. Waterman (L.), the treasuries of soloman's private chapel, in JNES,6,1947.

212. Woolley (L.), Ur of the chaldees, 1938.

213. Wolley (L.), excavations at ur, London, 1963.

214. Wright (G.E), the bible and the ancient near east, N.Y.1965.

215. Yadin (Y.) new light on Soloman's mejiddo, BA,23,1963.

216. Yeiuin (G.E.), the sepulchers of the kings of the house of david, in JNES,7,1948.

217. Encyclopaedia Biblica. 218. Encyclopaedia Britanica.

219. Encyclopaedia of Islam.

220. Encyclopaedia of religion and Ethics.

221. The Jewish Encyclopaedia, N.Y. 1903.

222. Historical Atlas of the holy land, N.Y.1959.

223. The Westminester historical Atlas to the bible philadelphia,1946.

ص: 205

ص: 206

مؤلّفات الاستاذ الدكتور محمد بيومي مهران أستاذ تاريخ مصر و الشرق القديم و رئيس قسم التاريخ و الآثار المصريّة و الإسلامية كليّة الآداب جامعة الاسكندريّة

أولا- في التاريخ المصري القديم:

1- الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراعنة الاسكندرية 1966.

2- مصر و العالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث الاسكندرية 1969.

3- حركات التحرير في مصر القديمة- دار المعارف القاهرة 1976 (و هو الجزء الثالث من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم) 4- أخناتون: عصره و دعوته الاسكندرية 1979 (و هو الجزء الرابع من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم) 5- مصر الكتاب الأول- التاريخ الاسكندرية 1982.

6- مصر الكتاب الثاني- التاريخ الاسكندرية 1984 و هما الجزءان الأول و الثاني من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم).

7- الحضارة المصرية القديمة الاسكندرية 1984 (و هو الجزء الخامس من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم)

ص: 207

ثانيا- في تاريخ اليهود القديم:

8- دراسات في تاريخ اليهود القديم- التوراة (1)- مجلة الأسطول- العدد 63 الاسكندرية 1970.

9- دراسات في تاريخ اليهود القديم- التوراة (2)- مجلة الأسطول- العدد 64 الاسكندرية 1970.

10- دراسات في تاريخ اليهود القديم- التوراة (3)- مجلة الأسطول- العدد 65 الاسكندرية 1970.

11- قصة أرض الميعاد بين الحقيقة و الأسطورة (1)- مجلة الأسطول- العدد 66 الاسكندرية 1971.

12- قصة أرض الميعاد بين الحقيقة و الأسطورة (2)- مجلة الأسطول- العدد 67 الاسكندرية 1971.

13- النقاوة الجنسية عند اليهود- مجلة الأسطول- العدد 68 الاسكندرية 1971.

14- أخلاقيات الحرب عند اليهود- مجلة الأسطول- العدد 69 الاسكندرية 1971.

15- التلمود- مجلة الأسطول- العدد 70 الاسكندرية 1972.

16- إسرائيل- الكتاب الأول- التاريخ الاسكندرية 1978 (و هو الجزء السابع من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم).

17- إسرائيل- الكتاب الثاني- التاريخ الاسكندرية 1978 (و هو الجزء التاسع من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم).

18- إسرائيل- الكتاب الثالث- الحضارة الاسكندرية 1979 (و هو الجزء التاسع من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم).

19- إسرائيل- الكتاب الرابع- الحضارة (و هو الكتاب العاشر من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم).

ص: 208

20- النبوة و الأنبياء عند بني إسرائيل الاسكندرية 1979.

ثالثا- في تاريخ العرب القديم:

21- الساميون و الآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي مجلة كلية اللغة العربية- العدد الرابع الرياض 1974.

22- العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة مجلة كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- العدد السادس الرياض 1976.

23- مركز المرأة في الحضارة العربية القديمة مجلة كلية اللغة العربية و العلوم الاجتماعية- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد الأول الرياض 1977.

24- دراسات في تاريخ العرب القديم (و هو الجزء السادس من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم. و قد أصدرته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، تحت رقم (1) من المكتبة التاريخية) الرياض 1977.

25- دراسات تاريخية من القرآن الكريم، الجزء الأول، في بلاد العرب (أصدرته جامعة الإمام محمد بن سعو الإسلامية- تحت رقم (2) من الرياض 1981.

26- دراسة حول الديانة العربية القديمة، الإسكندرية 1978.

27- العرب و الفرس في العصور القديمة، الإسكندرية 1978.

28- دراسات في الحضارة العربية القديمة.

29- الفكر الجاهلي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1982 (بحث في كتاب الحضارة الإسلامية على مدى أربعة عشر قرنا).

رابعا: في تاريخ العراق القديم:

30- قصة الطوفان بين الآثار و الكتب المقدسة مجلة كلية اللغة العربية

ص: 209

و العلوم الاجتماعية- العدد الخامس الرياض 1975.

21- قانون حمورابي و أثره في تشريعات التوراة، الإسكندرية 1979.

22- المدخل في تاريخ الشرق الأدنى القديم- (بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور رشيد الناضوري)، (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية).

خامسا: سلسلة «دراسات تاريخية من القرآن الكريم»

33- الجزء الأول- في بلاد العرب، بيروت 1988.

34- الجزء الثاني- في مصر، بيروت 1988.

35- الجزء الثالث- في بلاد الشام، بيروت 1988.

36- الجزء الرابع- في العراق، تحت الطبع.

سادسا: سلسلة «في رحاب النبي و آل البيت الطاهرين»

37- السيرة النبوية- الجزء الأول، تحت الطبع.

38- السيرة النبوية- الجزء الثاني، تحت الطبع.

39- الإمام علي بن أبي طالب، تحت الطبع.

40- الإمام الحسن بن علي، تحت الطبع.

41- الإمام الحسين بن علي، تحت الطبع.

ص: 210

الفهرس

تقديم 5

الباب الأول سيرة نوح عليه السلام الفصل الأول: دعوة نوح عليه السلام 9

(1) نوح عليه السلام 9

(2) معبودات قوم نوح 11

(3) دعوة نوح عليه السلام 15

(4) قضية ابن نوح 23

الفصل الثاني: قصة الطوفان بين الآثار و التوراة 29

أولا: قصة الطوفان السومرية 31

ثانيا: قصص الطوفان البابلية 41

ثالثا: قصة الطوفان اليهودية كما ترويها التوراة 50

الفصل الثالث: قصة الطوفان في القرآن الكريم 73

الباب الثاني سيرة إبراهيم الخليل عليه السلام في العراق الفصل الأول: معبودات قوم إبراهيم 105

الفصل الثاني: دعوة إبراهيم عليه السلام 115

(1) موقف إبراهيم عليه السلام من عبادة الكواكب 115

ص: 211

(2) موقف إبراهيم من عبادة الأصنام 127

الفصل الثالث: بين إبراهيم و الملك 147

الفصل الرابع: سر الحياة و الموت 157

الباب الثالث سيرة يونس عليه السلام (1) قصة يونس عليه السلام 175

(2) سفر يونان (يونس عليه السلام) 188

المراجع المختارة 193

مؤلفات الأستاذ الدكتور محمد بيومي مهران 207

ص: 212

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.