دراسات تاريخية من القرآن الكريم- المجلد3

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: مهران محمدبيومي

عنوان واسم المؤلف: دراسات تاريخية من القرآن الكريم محمدبيومي مهران

تفاصيل المنشور: بيروت : دارالنهضة العربيه ، ق 1408 = .م 1988 = .1367.

خصائص المظهر: ج 4

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة : كتابنامه مندرجات : ج 1. بلاد العرب --.ج 2. مصر --.ج 3. في بلاد الشام -- .ج 4. في العراق

موضوع : قرآن -- قصه ها

ترتيب الكونجرس: BP88/م86د4 1367

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-8979

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

[الجزء الثالث]

تقديم

بسم اللّه الرحمن الرحيم و الصّلاة و السّلام على المبعوث رحمه للعالمين سيّدنا محمّد و آله تحدثنا في الجزء الأول من هذه الدراسات عن النبوات في بلاد العرب، و من ثم فقد قدمنا دراسة تاريخية عن أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام و كذا عن هود و صالح و شعيب عليهم السلام، هذا إلى جانب دراسة أحداث تاريخية جاء ذكرها في القرآن الكريم، كقصة سيل العرم و أصحاب الأخدود و أصحاب الفيل.

ثم خصصنا الجزء الثاني من هذه السلسلة «دراسات تاريخية من القرآن الكريم» لدراسة تاريخ النبوات في أرض الكنانة، و من ثم فقد قدمنا دراسة عامة عن النبوة و النبوات، ثم دراسة مفصلة عن تاريخ النبيّين الكريمين يوسف و موسى عليهما السلام، فضلا عن تاريخ بني إسرائيل في مصر.

و في هذا الجزء الثالث من هذه السلسلة نتحدث عن تاريخ النبوات في

ص: 5

بلاد الشام، و من ثم فإن حديثنا في هذا الجزء إنما سيكون عن الأنبياء الكرام: داود و سليمان، ثم أيوب و إلياس و اليسع و زكريا و يحيى، ثم ختمنا هذا الجزء الثالث بسيرة المسيح عيسى بن مريم رسول اللّه، صلوات اللّه عليهم أجمعين.

و إني لكبير الأمل في اللّه تعالى أن يكون في هذه الدراسة بأجزائها الثلاثة بعض النفع، و اللّه من وراء القصد، و هو الهادي إلى سواء السبيل.

«و ما توفيقي إلّا باللّه عليه توكلت و إليه أنيب».

الإسكندرية في 12 ربيع الأول عام 1408 ه.

4 نوفمبر عام 1987 م.

ص: 6

الكتاب الرابع داود و سليمان عليهما السّلام

اشارة

ص: 7

ص: 8

الباب الأول سيرة داود عليه السّلام

اشارة

ص: 9

ص: 10

الفصل الأول بنو إسرائيل فيما بين عهدي و داود عليهما السّلام
[1] دخول بني إسرائيل كنعان:

آل أمر بني إسرائيل بعد موت موسى عليه السلام إلى يوشع بن نون خادم موسى و فتاه (1)، و منذ تلك اللحظة بدأ كتبة التوراة يضعوه في مكانة لا تقل عن مكانة موسى نفسه (2)، فكما كلم الزب موسى من قبل، كلم يوشع من بعد (3)؛ و كما آثر موسى بمعجزة انفلاق البحر في مصر، فقد آثر يوشع بمعجزة شق الأردن في كنعان، هذا فضلا عن معجزة أخرى يتعطل فيها مسير الأفلاك بإشارة من يوشع، فإذا الشمس تتوقف عن مغيبها عند «جبعون»، و إذا القمر لا يبزغ في حينه على وادي أيلون (4).

ص: 11


1- خروج: 24/ 13، عدد: 27/ 12- 23، تثنية: 1/ 28.
2- يذهب بعض المفسرين إلى أن يوشع قد بعث بعد موسى نبيا (انظر تفسير الطبري: 10/ 192، تفسير الطبري: 6/ 70، تفسير ابن كثير: 2/ 74، تفسير الكشاف: 1/ 622) و بديهي أن هذا من اجتهادات المفسرين، و لكن الذي يلزمنا هنا هو كلام اللّه عز و جل، و ليس ما درج المفسرون أن يقدموا فإنما هو اجتهاد، و فوق كل ذي علم عليم، و ليس في كتاب اللّه نص صريح على نبوة يوشع أو يشوع هذا.
3- يشوع: 1/ 1- 2.
4- خروج: 14/ 21، يشوع: 3/ 14- 17، 10/ 12- 14، مختصر تفسير ابن كثير: 1/ 504، محمد بيومي مهران: إسرائيل: 2/ 601، 610، و كذا. , Y. N, ygolohtyM nretsaE raeN nI, learsI, yarG. J 111. p، 1969

و قد بدأ يشوع بخطط لغز و كنعان، و بدأ بمدينة أريحا، و من ثم فقد عبر بنو إسرائيل الأردن في «مقابل أريحا» (1)، و هي المخاضة المعروفة بالمغطس أو الحجلة، على مبعدة ميلين جنوبي كوبري النبي، و يبدو أن العبور كان في الربيع عند ما كان النهر ضحلا كما يفهم من بعض نصوص التوراة، و إن ذهب نص آخر إلى أن «المياه المنحدرة من فوق وقفت، و قامت ندا واحدا، بعيدا جدا عن أدام المدينة» (2)، فسار القوم في الأرض الجافة، و أما مدينة «أدام» هذه فيمكن أن توجد «بتل الدامية»، على مبعدة ميل واحد جنوبي اتصال يبوق بالأردن، و هناك يوجد جرف من الحجر الجيري يكوّن عند الزلزال شقا في النهر يسدّه تماما لفترة ما و يمنع تدفق مياه الأردن لمدة تزيد عن عشرين ساعة، الأمر الذي حدث مثيل له في عام 1937 م (3).

و أيا ما كان الأمر، فلقد عبر بنو إسرائيل الأردن، و عسكروا في «الجلجال» عند تخم أريحا الشرقي (4)، ثم سرعان ما تقدموا نحو المدينة الحصينة، ذات الأسوار العالية، و طبقا لرواية التوراة، فلقد دار القوم حول أريحا مرة كل يوم، على مدى سبعة أيام، و في اليوم السابع يدور القوم دورتهم السابعة، و يضرب الكهنة بالأبواق، و تسقط أسوار أريحا، و تحرق المدينة و كل من فيها و ما فيها «من رجل و امرأة و طفل و شيخ، حتى البقر و الغنم و الحمير»، ما عدا «الذهب و الفضة و آنية النحاس فقد جعلوها في خزانة بيت الرب»، و أما «رحاب» الزانية التي خانت قومها و وطنها، و أخفت

ص: 12


1- يشوع: 3/ 16.
2- يشوع: 3/ 15- 16.
3- .p ,tic .P ,nageniF .J .elbiB fo snoitadnuaF ehT ,segduJ ,auhsaJ ,gnatsraG .J 155 و كذا F, nodnoL, yrotsiH 136. p، 1931
4- يشوع: 4/ 19، 24.

جواسيس يشوع في بيتها و سهلت مهمتهم، فقد كافأها بنو إسرائيل بأن أبقوا عليها، هي و بيت أبيها، كما أسكنوها في وسط إسرائيل، و لم يكتف يشوع بكل ما فعله بأريحا، و إنما هو يصب اللعنات على من يعيد بناء المدينة، و إلّا «فببكره يؤسسها، و بصغيره ينصب أبوابها» (1)، هذا و يذهب الكثير من العلماء إلى أن سقوط أريحا لم يكن بسبب ضرب كهنة يهود بأبواقهم، ثم الدوران حول المدينة طيلة أيام سبعة، و إنما بسبب زلازل وقعت في المدينة (2).

و كانت الضربة التالية من نصيب «عاي» التي سقطت عن طريق خدعة يهودية، ثم «ضربوهم حتى لم يبق منهم شارد و لا منقلب» (3) و إن كان البعض يعتبر ذلك مجرد خيال يهودي لأنه لم تكن هناك مدينة وقت ذاك باسم «عاي»، و أن حضائر «مدام جوديت ماركيت كروز» في موقع عاي، و هي التل الحالية على مبعدة 13 ميلا شمال غرب أريحا، تشير إلى بقايا مدينة من عصر البرونز المبكر قد دمرت تماما حوالى عام 2200 قبل الميلاد، كما أن اسم «عاي» يعني الخراب، و من هنا يرى العلماء أن التفسير المحتمل لرواية التوراة هو الخلط بين عاي و بيت إيل (بيتين) على مبعدة ميل من عاي (4)، و على أية حال، و طبقا لرواية التوراة، فلقد امتد هذا المد الإسرائيلي سعيرا، فأحرق بالنار المدن الكنعانية، و قتل أهلها برمتهم، من رجال و نساء و أطفال، بل و في حمى لا واعية، انطلق هذا المد مجنونا، فلم يسلم من يده

ص: 13


1- يشوع: 6/ 1- 27.
2- . P, tiC. pO, nageniF. J 158. و كذا dlroW tneicnA, revolG. R. T 134. p، 1968
3- يشوع: 7/ 3، 8/ 13- 29.
4- , A J A, thgirblA. F. W 158. p، 40, R O S A B dna 31. p، 118 و كذا, (llet- te) yA ed selluoV seL, esuarK- teuqraM htiduJ 1949 slov 2، 1935- 1944 و كذا. P, tiC- pO, nageniF. J 160- 159

شي ء، حتى السائمة لم يستبق يشوع من البهائم واحدة، البقر و الغنم و الحمير أحرقها يشوع أباد يشوع كل شي ء باستثناء المعادن و سبائك الفضة و الذهب.

و تقدم يشوع فاستولى على جبعون (الجيب الحالية، 8 أميال شمال غرب القدس) و لبنه (تل بورناط شمالي غرب بيت جيرين أو تل الصافية) و لخيش (تل الدوير) و جازر (تل الجزر، 17 ميلا جنوب شرق حيفا) و عجلون (خربة عجلا قرب أربد) و حبرون (مدينة الخليل، 19 ميلا جنوب غرب القدس) و دبير (تل بيت مرسيم، 12 ميلا جنوب غرب الخليل) و حاصور (تل القدح، 9 أميال شمال بحر الجليل)، ثم تزعم التوراة بعد ذلك أن يشوع استولى على أملاك 31 ملكا في كنعان، و أنه أخذ كل الأرض حسب ما كلم الرب موسى و أعطاها ملكا لبني إسرائيل (1)، على أن الباحثين إنما يكادون يجمعون الآن على أن غزو كنعان إنما كان بعيدا عن التمام على أيام يشوع، ذلك لأن هناك كثيرا من المدن الحصينة في طول البلاد و عرضها و لم تخضع لبني إسرائيل، فضلا عن مجموعات من القبائل، بل إن احتلال كنعان حين تم، إنما تم عن طريق جهود كل سبط في الدفاع عن منطقته، و أن ذلك استغرق فترة تزيد عن القرن من الزمان، و من هنا فليس صحيحا ما روته توراة يهود من أن الغزو قد تم في جيل واحد أو في خمسة أو سبعة أعوام، و إنما استمر طوال عهد القضاة، و حتى بداية عصر الملوك الأول، حيث تم الاستيلاء على أورشليم و مجدو و تعناك و بيت شان و منطقة دور و جارز، بل إن أورشليم لم يتم الاستيلاء عليها إلا على أيام داود، و جازر على أيام سليمان و بقوات مصرية (2).

ص: 14


1- يشوع: 9/ 3- 7، 10/ 1- 11، 11/ 23، 12/ 1- 24، محمد بيومي مهران، إسرائيل: 2/ 612- 622، و كذا. P, tic- P, sdoL. A 332 و كذا. P, tiC. pO, nageniF. J 164- 160 و كذا،, AB, drahctirP. B. J 75- 65. p، 1956، 19, BMU dna 24، 12. p، 1958، 26- 3. p، 1957، 21
2- يشوع: 14/ 10- 11، صموئيل ثان: 5/ 6- 9، ملوك أول: 9/ 16، و كذا. P, tiC. pO 242. 33. P, tiC. pO, nietdPE. I و كذا, xuoR O

و هكذا يمكننا القول إن ما تمتلئ به صفحات سفر يشوع من غزوات لا تعد و ما اعتاده الرحل أن يمارسوه من غارات قبلية على السكان المستقرين الآمنين في كنعان، و الذين كانوا يعيشون في تلك الفترة شيعا و أحزابا، لا تربطهم رابطة و لا يجمعهم حلف واحد، فإذا أضفنا إلى ذلك حروب رعمسيس الثالث ضد شعوب البحر، و انشغال مصر بتلك الحروب، فضلا عن ضياع دولة الحيثيين على أيدي شعوب البحر، هذا إلى جانب ما كان يمر به العراق القديم من فترة ضعف تشبه تلك التي كانت تمر بها مصر في أخريات أيام الأسرة العشرين، و هكذا كانت الظروف التي كانت تمر بها دول الشرق الأدنى القديم و شعوبه، و التخلخل الموجود في سورية و فلسطين في أعقاب غزوات شعوب البحر، الأمر الذي أعطى بنو إسرائيل فرصة شن بعض الغارات البربرية الناجحة في بعض مدن شرق فلسطين بدرجة تكفي لأن يبدأ يشوع من تنظيم حياة قومه السياسية و الدينية، و أن يقسم الأرض المحتلة بين الأسباط طبقا لعدد كل سبط، و أن يشيد في شيلوه (سيلون الحالية، 17 ميلا شمال القدس) محرابا مركزيا يتخذه مركزا للتابوت الذي كان يستخدم كرمز لوحدة القوم السياسية و الدينية (1).

[2] عصر القضاة:

يبدأ عصر القضاة بموت يشوع بن نون و ينتهي بقيام الملكية على يد طالوت (شاؤل في التوراة) و تستغرق هذه المرحلة من تاريخ بني إسرائيل ما بين أربعة قرون و قرن واحد من الزمان، على اختلاف في الرأي (2)، و الرأي

ص: 15


1- . 33. P, tiC- pO, nietspE. I
2- أعمال الرسل: 13/ 20، شاهين مكاريوس: المرجع السابق ص: 8، فيليب حتى: المرجع السابق ص: 195، باروخ سبينوزا: المرجع السابق ص: 29- 294، و كذا, traP, II, HAC nI. segduJ ehT FdoireP ehT, tdlefssiE. O 553. p، 1975، 2 و كذا. P, tic. pO, yorG 112 .egdirbmaC ,learsI ni segduJ ehT fo doirep ylraE ehT .notwoB .B .M . 1965 و كذا.

عندي أنها لا تعدو القرن و نصف القرن، إذا اعتمدنا على الرأي الذي يرجح الخروج على أيام مرنبتاح حوالي عام 1214 ق. م، و قيام ملكية طالوت حوالي عام 1020 ق. م، آخذين في الاعتبار فترة التيه و عهد يشوع بن نون.

و أيا ما كان الأمر، فلقد كانت القبيلة أو السبط هي أساس النظام الاجتماعي عند بني إسرائيل، و طبقا لرواية التوراة فقد كانت الأرض المفتوحة تقسم على إحدى عشرة قبيلة، بينما وزعت القبيلة الاثني عشر، و هي قبيلة لاوي رهط موسى، على القبائل الأخرى للخدمة الدينية، و هذه القبائل كانت بدورها تقسم إلى عشائر، و لكنها تتجمع حول هيكل مركزي في «شيلوه» الأمر الذي دفع بعض العلماء إلى أن يقارن هذا النظام القبلي العبراني بمجلس «الأمفكتيون» اليوناني (ynoytcihpmA) و الذي يقوم على مبدأ مماثل من المركزية الدينية، و كانت سلطة الكاهن الأكبر عظيمة، و لكن من المبالغة أن نزعم وجود حكومة «ثيوقراطية» فإن سلطته لم تكن سياسية، و إنما كان يتصدر القوم أثناء الأزمات الأزمات زعماء محليون هم «القضاة» الذين حكموا بني إسرائيل طوال القرن و نصف القرن التاليين لدخولهم فلسطين، و كانت سلطة القضاة عارضة محدودة المدى و المدة، و هي في هذا النظام تذكرنا بسلطة زعماء النظام البدوي الذي تتميز به الحياة السامية في مراحلها الأقدم عهدا (1).

و لم يكن القضاة قضاة بالمعنى المفهوم، و لم يكونوا مشرعين بالمعنى القديم، و إنما كانوا طبقة من الأبطال المحاربين و المنقذين أقامهم الرب «ليخلصوهم من يد ناهبيهم»، و لم يكونوا خلفاء لبعضهم البعض، بل إننا

ص: 16


1- يشوع: 8/ 1، 8، 10، موسكاتي: الحضارات السامية القديمة ص: 14- 141، و كذا regnU. F. M و كذا, slearsI emmeatS flowZ red metsyS saD, htoN. M 60- 39. p، 1930. P, tiC- pO. 1015

لنشهد أكثر من واحد في وقت واحد، و لم يكن في إسرائيل ملوك في تلك الأيام، حتى إذا كانوا من الكهنة، و كان الواحد من هؤلاء القضاة يطلق عليه أحيانا لقب ملك أو قاض (1)، و الحق أنك لا تجد واحدا من القضاة استطاع أن يبسط سلطانه على جميع بني إسرائيل، فكل واحد من هؤلاء الحكام و الشيوخ كان يتسلم قيادة زمرة واحدة، عند ما تهدد هذه الزمرة تهديدا مباشرا، و هو إذا ما كتب له النصر، لم يحتفظ حتى بقيادة تلك الزمرة (2)، هذا و تفيد روايات التوراة عنهم أنها تختلف بينها بدرجة كبيرة، فبينما يبدوا بعضها ذو أهمية تاريخية مثل شعر انتصار «دبورة» أو قصة «أبيمالك»، يبدو بعضها الآخر ذو صفة أسطورية لا أقل و لا أكثر، و أما أبطال هذه القصص فلا يظهرون أبدا كمصلحين دينيين، بل إن «شمعون» لم يكن حتى زعيما، كما أن هذه الروايات مستقلة تماما إحداها عن الأخرى، و لم يعد ممكنا أن نقول بالتأكيد ما هو الترتيب التاريخي للأحداث المسجلة (3) من عصر القضاة، و الذين بلغ عددهم خمسة عشر قاضيا، أولهم «عثنيئيل» و آخرهم صموئيل النبي (4).

و من حوالي منتصف القرن الحادي عشر قبل الميلاد، أصبح «عالي» الكاهن قاضيا لإسرائيل في «شيلوه» و لمدة 40 سنة، لم يستطع فيها بنو إسرائيل أن يوقفوا قوة الفلسطينيين (5)، و كان أولى المعارك بينهما في أفيق ).

ص: 17


1- نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص: 325.
2- جوستاف لوبون: المرجع السابق ص: 35.
3- . P, tiC- P, sdoL. A 335.
4- انظر: محمد بيومي مهران إسرائيل: 2/ 630- 657.
5- الفلسطينيون هم: «برست» (بلستي) أحد شعوب البحر، و قد اختلف العلماء في مواطنهم الأصلي، فمن قائل أنهم شعب هندي أو ربي أتى من كريت، و لكنه لم ينشأ بها أصلا، و من قائل إن موطنهم الأصلي كريت، و من قائل إنهم ساميون، و لكن الإسرائيليون يشيرون إلى أنهم قوم لا يختنون، و هذا ينأى بهم عن الساميين و المصريين، و من قائل إنهم ينتسبون إلى القومية الإليرية، و من قائل إنهم يتشابهون مع البلاسجيين و أن لغتهم لهجة لوية، و من قائل إنهم من آسيا الصغرى من منطقة سيليسيا الغربية، و الأكثر احتمالا، المنطقة أعلى و أسفل نهر كاليكادنوس في الجزء الشرقي، و من قائل غير ذلك، و يبدو لي أن الذين يرجعون بهم إلى آسيا الصغرى أقرب الآراء إلى الاحتمال، لأن أغلب شعوب البحر من هذه المنطقة، و لأن الأدلة العلمية في صالح هذا الرأي أكثر من غيره، و قد اشترك الفلسطينيون مع غيرهم من شعوب البحر في غزو الامبراطورية المصرية و مصر نفسها على أيام رعمسيس الثالث، و قد هزموا هزيمة منكرة في معركتين، بحرية و برية، و قد صورت المناظر المصرية رؤساءهم ملتحين، و جنودهم دون لحى، و بأغطية رأس ذات ريش، و سيوف طويلة عريضة و خناجر و حراب مثلثة و تروس مستديرة و حراب، و قد سمح لهم الفرعون بعد هزيمتهم بالاستقرار في ساحل فلسطين فيما بين يافا و غزة، و كانت أهم مدنهم غزوة و عسقلان و أشدود و عقرون و جت، و قد نظمت بشكل ممالك أو دويلات مدن، و لكنها كانت تشكل جميعا اتحاد تحت زعامة أشدود، و قد احتفظ التاريخ باسمهم على فلسطين، لا لأنهم أصبحوا غالبية السكان فيها و لأنهم بسطوا نفوذهم عليها جميعا، و لكن ربما لأنهم آخر من نزلها و لكثرة ترديد التوراة لاسمهم بسبب تهديدهم ليهود و غلبتهم عليهم، و قد بلغوا ذروة قوتهم عليهم جميعا، و لكن ربما لأنهم آخر من نزلها و لكثرة ترديد التوراة لاسمهم بسبب تهديدهم لليهود و غلبتهم عليهم، و قد بلغوا ذروة قوتهم في النصف الثاني من القرن الحادي عشر قبل الميلاد (انظر عن التفصيلات و المراجع: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 587- 596).

(تل المخمر، أكيلا شرقي حيفا) فلقد تجمع الإسرائيليون في «أبنزير» على حافة الجبال في مواجهة أفيق، و أحضروا معهم التابوت المقدس من شيلوه ليضمنوا وجود ربهم بينهم، و لكن المعركة انتهت بهزيمتهم، و سقط من بني إسرائيل ثلاثون ألف رجل، و أخذ التابوت، و مات ابنا عالي الكاهن، مما أثار في نفوس بني إسرائيل التشاؤم و الذعر، و لما وصل الخبر إلى عالي سقط عن الكرسي فانكسرت رقبته و مات (1).

و قد كانت نتيجة الهزيمة مروعة، فلقد دمر الفلسطينيون المعبد الرئيسي في شيلوه، و الذي كان يجمع القبائل الإسرائيلية جميعا، فضلا عن إخضاع

ص: 18


1- صموئيل أول: 4/ 4- 1، و كذا. P,. tiC. PO, htoR. C 14 و كذا. P,. tiC. pO, htoN. M 166- 165 ,eromitlaB ,learsI fo noigiler eht dna ygoloeahcrA ,thgirblA .F .W 188- 104. p، 1953 و كذا

قبائل بني إسرائيل نفسها لسلطانهم، و إقامة الثكنات العسكرية الفلسطينية في المناطق الإسرائيلية، و احتلال الجبال الرئيسية في غرب الأردن، و إقامة النصب التذكارية لنصرهم في «جبعة بنياوين» (تل الفول، 5 كيلا شمالي القدس)، و أخيرا فلقد نزعوا سلاح إسرائيل حين منعوهم من صناعة أسلحة جديدة، و هكذا قوى الفلسطينيون امتيازاتهم السياسية عن طريق تفوقهم في السلاح، و ضعف أعدائهم فيه، بل منعه عنهم، فضلا عن القضاة على فكرة الثورة بين بني إسرائيل ضدهم (1).

[3] قيام ملكية طالوت:

يذهب الباحثون إلى أنه من أخريات القرن الحادي عشر قبل الميلاد، و بعد هزيمة أفيق المروعة تجمعت كل العوامل الضرورية لإنهاء نظام حكم القضاة و قيام الحكم الملكي عند بني إسرائيل، و التي كان منها (أولا) ضغط الفلسطينيين على الإسرائيليين، و الذي كان أقوى العوامل لتجميع قوى بني إسرائيل و إنشاء مملكة، بل ربما كان الأصح أن تهديد الفلسطينيين للكيان الإسرائيلي من أساسه هو السبب في قيام الملكية الإسرائيلية، و منها (ثانيا) أن بني إسرائيل كانوا يعيشون بين أقوام يحكمون بملوك، فالآدميون و العمونيون و المؤابيون كان لهم ملوك و الفلسطينيون كان لهم أقطاب أشبه بالملوك، كما كان للفينيقيين ممالك مدن، مما دفع بني إسرائيل إلى المطالبة بملك يحارب حروبهم، و يكون لهم قاضيا كذلك، و منها (ثالثا) أن الكهنوت الإسرائيلي كانت قد تسلمته أياد ضعيفة منذ أيام «فيخاض» و مما

ص: 19


1- صموئيل أول: 10/ 5، 13/ 3- 22،. p, tiC. pO dlefssiE. O 572- 571 و كذا. P, tiC. pO htoN. M 167- 166 olihS fo noitavaxE ehT, reajK. H و كذا F. P, tiC. pO thgirblA: F. W 103 و كذا, soP J nI 1930، 10،. lacilbiB, thgirW. E. G

يؤيد هذا أن «عالي» الكاهن لم يكن من بيت «العازار» الابن الأكبر لسيدنا هارون عليه السلام، و الذي يجب أن تستمر الخلافة في نسله، و إنما كان من بيت الابن الأصغر «إيثمار) و منها (رابعا) أن ولدي عالي الكاهن (حفني و فيخاض) لم يكتفيا بطمعهما الجشع، بل كانا يرتكبان أقذر أنواع العبادة الوثنية وسط كروم شيلوه، حتى أنهما، رغم أنهما متزوجين، لم يترددا عن إفساد النسوة اللاتي كن يترددن على المعبد للقيام بالخدمات التي كانت تتطلب عملا لا يليق بالنساء (1).

و منها (خامسا) أن هناك نصا في التوراة يجعل الحكم في إسرائيل ملكيا (2)، و منها (سادسا) التهديد العموني لحدود إسرائيل الشرقية، و لعل هذا السبب، بجانب التهديد الفلسطيني و تدمير للكثير من مدن إسرائيل، كان السبب المباشر لقيام الملكية الإسرائيلية (3)، و هكذا أدى التهديد الخارجي، و الاضطراب الداخلي إلى أن يضطر شيوخ إسرائيل إلى الاجتماع و المطالبة بتتويج ملك على شعب إسرائيل، و هكذا اختار لهم «صموئيل النبي» ملكا على إسرائيل هو «شاؤل بن قيس» من سبط بنيامين، و مع ذلك، فإن رواية التوراة إنما تشير إلى أنه تردد كثيرا في إجابة شيوخ إسرائيل إلى ما يطلبون، بل (4) لقد ساء الأمر في عيني صموئيل»، و حذر قومه من غضب الرب، إن هو رضي فملك عليهم ملكا، و لكن احتجاج صموئيل كان عديم الجدوى، إذ أصرّ شيوخ إسرائيل على رأيهم، و مع ذلك فما كان عند صموئيل النية في إقامة ملك مستقل حقيقة، بل كان كل ما يرجوه أن يكون قائدا حربيا و زعيما

ص: 20


1- صموئيل أول: 2/ 22- 25، ف. ب. ماير: حياة صموئيل النبي- القاهرة 1967 ص 35، 65 (مترجم).
2- تثنية 17/ 14- 15.
3- انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 661- 667.
4- تثنية 17/ 14- 15.

و سندا لكل الشعب يخلصهم من سيطرة الفلسطينيين ثم بعد ذلك يخضع لصموئيل طوال حياته (1).

على أن الاتجاه القرآني، كما بين ذلك بشي ء من التفصيل فيما بعد، يذهب إلى أن الملأ من بني إسرائيل قد طلبوا من نبيهم أن يختار لهم ملكا يقاتلون معه عدوهم، فحذرهم نبيهم من أن السوابق التاريخية تفيد أنهم ليس لهم صبر على القتال، و لا شجاعة يقفون بها أمام أعدائهم، و مع ذلك فقد أعلمهم أن اللّه تعالى قد اختار لهم طالوت ملكا.

هذا و قد وصف طالوت في التوراة بأنه «شاب حسن، و لم يكن في بني إسرائيل أحسن منه، من كتفه فما فوقه، كان أطول من كل الشعب»، و في الواقع فإن اختيار شخص بالذات ليكون ملكا على إسرائيل، ليس امرا سهلا، لأن اختياره من إحدى القبائل القوية فيه ما فيه من مساس بقدر القبائل الأخرى، و قد يثير حربا أهلية، كما أن المعارك الأخيرة بين بني إسرائيل و الفلسطينيين قد حطمت من قوة «أفرايم» و هي التي كانت سيادتها على القبائل الأخرى حتى ذلك الوقت أمرا لا نزاع عليه، و من ثم فإن اختيار طالوت «شاؤل في التوراة» كان موفقا، فبالإضافة إلى مميزاته الجسمانية، و كذا العلمية كما جاء في القرآن الكريم، فقد كان من سبط «بنيامين» أضعف الأسباط الإسرائيلية، الأمر الذي كان لا يسبب له حقدا من الأسباط الأخرى، هذا إلى أن خيامه إنما كانت تقع بين أفرايم و يهوذا، أي أنها تقع في مكان وسط إلى حد ما بين القبائل الشمالية و الجنوبية (2).

ص: 21


1- صموئيل أول: 8/ 1- 22، حسن ظاظا: الفكر الدين الإسرائيلي ص 40، و كذا. P, tiC. pO, llaH. R. H. 292 و كذا. P, tiC. pO, sdoL. 395.
2- صموئيل أول: 9/ 1- 2، محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 668- 674 و كذا yrotsiH saelbiB eTT, elleK. W 179. p، 1967.

و من عجب أن يزعم الحاخام «أبشتين» أن اختيار شاؤل (طالوت) ملكا على إسرائيل إنما يعتبر أول ملك دستوري في التاريخ، لأنه تم برضى عام من بني إسرائيل (1)، و الحق أن الأحداث التاريخية لا تتفق و مزاعم «أبشتين»، فالنبي صموئيل و ليس بنو إسرائيل، هو الذي اختار شاؤل ملكا، اعتمادا على سلطته الدينية، حيث فرضه عليهم كممثل معتمد لرب إسرائيل هذا إلى أن القوم لم يقبلوه جميعا، فلقد رفضه «بنو بليعال» الذين ازدروه و قالوا: كيف يخلصنا هذا فاحتقروه، و لم يقدموا له هدية فكان كأصم، «على حد تعبير التوراة» (2)، و كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم (3)، كما أن اختياره كان تجنبا لحرب أهلية يمكن أن تنشب، لو وقع الاختيار على واحد من أبناء القبائل القوية دون الأخرى، و من هنا كان اختياره من أضعف أسباط بني إسرائيل.

و أما أنه كان أول ملك دستوري في التاريخ، فيكذبه، أننا حتى لو صدقنا ذلك، فإن شاؤل قد اختير ملكا قبيل بداية الألف الأولى قبل الميلاد بأعوام قلائل، بينما نعرف أن هناك ما يدل على تواجد التفكير الديمقراطي منذ الألف الثالثة قبل الميلاد في العراق القديم، و أن انتخاب الحاكم الذي كان يرأس حكومة المدينة إنما كان يتم بناء على قرارات الجمعية العمومية، و التي تتكون من جميع المواطنين، و ربما بما فيهم النساء كذلك (4)، هذا فضلا عن أن مصر الفرعونية قد عرفت منذ النصف الثاني من الألف الثالثة قبل الميلاد، إنما لها من الديمقراطية و من العدالة الاجتماعية على أيام الثورة الاجتماعية الأولى، حتى أصبح الملك يوصف بأنه ليس أكثر من «ابن امرأة

ص: 22


1- ., msiaduJ nietspE. I 35. p، 1970.
2- صموئيل أول 10/ 11- 27.
3- سورة البقرة آية 247.
4- . ,II ,SENJ ,simatoposeM tneicnA ni ycarcomeD evitimirP ,nosilocaJ .T 165. p، 1943.

من تاتسي، طفل من نخن» مرة، و بأنه «ابن الإنسان» مرة أخرى، لإقناع القوم بأن حاكمهم ليس من بيوت الإمارة و الملك، و إنما هو من الشعب و ربيب الشعب و صديق الشعب، ثم هو قبل ذلك و بعده، رجل يخدم مصالح الدولة و يرعى شئونها، و يعمل على وحدتها، و يمتلئ قلبه بحب رعاياه، و الرغبة في العمل من أجل مصالحهم (1)، و هكذا يبدو واضحا أن ما ادعاه الحاخام «أبشتين» من تمجيد لقومه اليهود، إنما كان ادعاء عريضا إلى حد كبير.

هذا و قد اختلف المؤرخون في فترة حكم طالوت (شاؤل) فهناك من يرى أنها في الفترة (1030- 1004 ق. م.) و من يرى أنها في الفترة (1025- 1013 ق. م.) و من يرى أنها في الفترة (1020- 1004 ق. م.)

و من يرى أنها في الفترة (1020- 1000 ق. م.) و من يرى أنها في الفترة (1000- 985 ق. م.) (2) و أما قصة طالوت في القرآن الكريم فقد جاءت في سورة البقرة، قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا، قالُوا وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ

ص: 23


1- محمد بيومي مهران: الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراعنة ص: 200- 210، أحمد بدوي: في موكب الشمس: 2/ 120، و كذا, nosliW. A. J و كذا. P, tic-. pO renidraG. A 120. P,- tic. pO 116- 115, TENA, 415. p، 1960.
2- محمد بيومي مهران: إسرائيل: 2/ 673- 674، و كذا. p, tic- pO, relleK. W fo ygoloeahcrA ehT, thgirblA. W 181 و كذا, Y. N, dnaL yloH ehT FsaltA lacirotsiH 415. p، 1959 و كذا. P, enitelaP 120. P, tiC. pO, nietspE. I 35 و كذا. Ptic. pO, dlefssiE. O 575 و كذا.

اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ، وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1).

و قد اختلف المفسرون في نبيّ إسرائيل الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا، فروي عن قتادة أنه يوشع بن نون، قال ابن كثير في تفسيره: هو بعيد لأن هذا كان بعد موسى بزمن طويل، و كان ذلك في زمن داود عليه السلام، و قد كان بين داود و موسى ما يزيد على ألف سنة، و قول ابن كثير صحيح، لكنه بالغ كثيرا في تقديره الفترة بين موسى و داود، و هي التي يحددها الباحثون المحدثون ما بين أربعة قرون و قرن و نصف، و قد رجحنا من قبل أنها تقارب القرنين من الزمان، و قال السدّى إنه شمعون، و قال مجاهد و غيره إنه شمويل (2) (صموئيل) و هو الأرجح، هذا و قد ذهب بعض المفسرين إلى أن سبب تنصيب ملك على بني إسرائيل أن جالوت رأس العمالقة و ملكهم، و هو جبار من أولاد عمليق، أو ملك الكنعانيين على رأي آخر، و كان قومه يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر و فلسطين، قد ظهروا على بني إسرائيل و سبوا أولادهم و أسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة و أربعين نفسا، و ضربوا عليهم الجزية و أخذوا توراتهم، فلما كتب على بني إسرائيل القتال تولوا،

ص: 24


1- سورة البقرة آية: 246- 248، و انظر تفسير الطبري: 5/ 291- 328، تفسير النسفي: 1/ 124- 125، تفسير روح المعاني: 2/ 166- 168، تفسير الكشاف: 1/ 378- 379، تفسير الفخر الرازي: 6/ 181- 193، تفسير القرطبي ص: 1051- 1058، تفسير الطبرسي: 3/ 275- 284، تفسير القاسمي: 2/ 641- 674، في ظلال القرآن: 2/ 266- 269، تفسير المنار: 2/ 372- 373، تفسير ابن كثير: 1/ 449- 452 (دار الكتب العلمية- بيروت 1986) تفسير الجلالين ص: 43- 44، صفوة التفاسير: 1/ 156- 158.
2- تفسير ابن كثير: 1/ 449 (ط 1986)، تفسير البحر المحيط: 1/ 370، تفسير النسفي: 1/ 124.

إلا ثلاثمائة و ثلاثة عشر، بعدد أهل بدر، و قد رفض بنو إسرائيل طالوت ملكا لأنه من سبط بنيامين، و النبوة كانت عندهم في سبط لاوي، و الملكية في سبط يهوذا، و لكن اختياره إنما كان بسبب علمه ليتمكن من معرفة أمور السياسة، و جسامة بدنه ليعظم خطره في القلوب، و يقدر على مقاومة الأعداء و مكابدة الحرب (1).

و أما آية ملكه أن يأتيهم التابوت فيه سكينة من ربهم و بقية مما ترك آل موسى و آل هارون، قال النسفي: هي رضاض الألواح و عصا موسى و ثيابه و شي ء من التوراة و نعلا موسى و شمامة هارون عليهما السلام، تحمله الملائكة قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء و الأرض حتى وضعته بين يدي طالوت و الناس ينظرون، و قال السدي:

أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون و أطاعوا طالوت، و قال عبد الرزاق عن بعض أشياخه: جاءت به الملائكة تسوقه على عجلة على بقرة، و قيل على بقرتين، و ذكر غيره أن التابوت كان بأريحا، و كان المشركون لما أخذوه وضعوه في بيت آلهتهم تحت صنمهم الكبير، فأصبح التابوت على رأس الصنم فأنزلوه فوضعوه تحته، فأصبح كذلك فسمروه تحته، فأصبح الصنم مكسور القوائم ملقى بعيدا، فعلموا أن هذا أمر من اللّه

ص: 25


1- تفسير البحر المحيط: 1/ 371- 372، و نلاحظ على هذا الرأي عدة أمور، منها (أولا) أن جالوت هو ملك الفلسطينيين، و ليس العماليق أو الكنعانيين، و منها ثانيا أن بحر الروم و هو البحر الأبيض المتوسط لم يكن يسمى في تلك الفترة «بحر الروم» بل إن الروم حتى ذلك الوقت لم يكونوا قد ظهروا في العالم كقوة لها كيان يسمى باسمها البحر المتوسط، و على أي حال، فقد كان المصريون يسمون البحر المتوسط باسم «الأخضر العظيم» (وأج- ور: و في الدولة الوسطى سموه «واج ور إن حاونبو» و في الدولة الحديثة «بايم خاروه»، و منها ثالثا أن الكهانة، و ليس النبوة، هي التي كانت في سبط لاوي فقط، بل أن صموئيل النبي الذي أختار طالوت ملكا من سبط أفرايم، كما أن الملك لم يكن بعد في يهوذا، فالقضاة لم يكونوا جميعا من يهوذا إن أول ملك لإسرائيل كان من سبط بنيامين و هو طالوت.

لا قبل لهم به، فأخرجوا التابوت من بلدهم، فوضعوه في بعض القرى، فأصاب أهلها داء في رقابهم، فأمرتهم جارية من سبي بني إسرائيل أن يردوه إلى بني إسرائيل حتى يخلصوا من هذا الداء، فحملوه على بقرتين فسارتا به، لا يقر به أحد إلا مات، حتى اقتربتا من بلد بني إسرائيل، فكسرتا النيرين و رجعتا، و جاء بنو إسرائيل فأخذوه، فقيل إنه تسلمه داود عليه السلام و أنه لما قام إليهما حجل من فرحه بذلك، و قيل شابان منهم فاللّه أعلم، و قيل كان التابوت بقرية من قرى فلسطين يقال لها «أذدوه» (1).

[4] حروب طالوت و ظهور داود:

بدأ طالوت يعد العدة لقتال أعدائه الفلسطينيين الذين كانوا يسيطرون على البلاد، منذ انتصارهم في معركة أفيق، و استيلائهم على التابوت (2)، و تجريدهم من السلاح، فضلا عن إقامة القلاع في أماكن مختلفة من البلاد

ص: 26


1- تفسير ابن كثير: 1/ 451 (ط 1986).
2- التابوت: و تطلق عليه التوراة تابوت العهد أو تابوت الشهادة أو التابوت المقدس أو تابوت إله إسرائيل أو تابوت يهوه، و هو عبارة عن صندوق صنعه موسى بأمر ربه من خشب السنط، طوله ذراعان و نصف و عرضه ذراع و نصف، و ارتفاعه ذراع و نصف، و مغشى بذهب نقي من الداخل و الخارج، و عليه إكليل من ذهب و أربع حلقات ذهبية، و له عصوان من السنط مغشيان بالذهب لحمل التابوت، و كانت مسئولية حراسته لبني فهات من اللاويين رهط موسى، و يذهب البعض إلى أن فكرة التابوت مستعارة من المصريين، بينما يرى آخرون أنها مستعارة من الكنعانيين، و على آية حال، فلقد كان للتابوت مكانة ممتازة عند بني إسرائيل، و طبقا للتقاليد الإسرائيلية فقد كانوا يحملونه معهم أثناء المعارك الحربية، حتى عصر داود، على الأقل، و كان يستقبل بالتهليل و التكبير ليتحقق النصر، و يقع الذعر في قلوب الأعداء الذين كانوا يخافون منه و يقولون «جاء اللّه إلى المحلة»، و في أوقات الهدنة كان التابوت يودع في أحد أماكن العبادة أو في خيمة، في بيت إيل و شيلوه و بيت شمس و يعاريم و أورشليم، و طبقا لوجهة نظر سفر التثنية، فإن قدسية التابوت كانت في كونه يحمل ألواح الشريعة، و من ثم سمي «تابوت العهد أو تابوت الشريعة أو الشهادة»، و طبقا لرواية التوراة فهو عرش يهوه، و كان التابوت على رأس الإسرائيليين عند ما دخلوا كنعان بقيادة يوشع بن نون، و أنهم حملوه عند ما عبروا الأردن، فانشق تيار النهر فوق المياه المنحدرة، و عبر الشعب على اليابسة، ثم بقي مدة في خيمة في الجلجال ثم في شيلوه، حيث بقي فيها أكثر من ثلاثة قرون، ثم وقع في أيدي الفلسطينيين في موقعة أفيق، و عند ما أعاده الفلسطينيون لهم بقي في قرية يعاريم، ثم نقل منها على أيام داود إلى القدس، ثم وضع في هيكل سليمان بعد بنائه حتى أزاله «منسى» و وضع بدله تمثالا، ثم أعاده «يوشيا» و بقي حتى مرحلة السبي البابلي عام 586 ق. م، ثم اختفى، و لا يعلم أحد هل أخذه البابليون أم أن اليهود أخفوه في مكان ما ثم ضاع، و هناك تقاليد أثيوبية تذهب إلى أنه نقل إلى أكسوم في أثيوبيا، و ليس هناك دليل على صحة تلك التقاليد (انظر عن التفصيلات و المراجع، محمد بيومي مهران إسرائيل: 4/ 124- 133).

للسيطرة عليها تماما، و التي كان من أهمها تلك التي عند «بيت شان» (بيسان) للسيطرة على الطريق الموصل بين نهر الأردن و وادي يزرعيل، و التي عند «مخماس» و «جبعة» بين جبل أفرايم و أورشليم، و التي في جنوب القدس عند «بيت لحم» هذا فضلا عن تعيين موظفين فلسطينيين لجمع الضرائب المفروضة على شعب بني إسرائيل المهزوم، كما كانوا يراقبونهم من مراكز المراقبة الثابتة (1)، و على أية حال، فلقد بدأ طالوت في أعداد العدة، فجهز جيشا كثيفا، بالغ المفسرون و المؤرخون في تقدير اعداده حتى وصلوا به إلى ثمانين ألفا (2)، غير أن طالوت إنما أجرى لهم اختبارا، كان من نتيجته أن ترك الجيش و تقاعس عن القتال جميع رجال إسرائيل، إلا أقل القليل ممن عصم اللّه، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، وَ مَنْ لَمْ ).

ص: 27


1- . P, tic- P, llaH. R. H 423.
2- تذهب رواية التوراة إلى أن هذا الحدث كان مع جدعون أحد قضاة إسرائيل، و ليس مع طالوت، و أن عدد جنوده كانوا اثنين و ثلاثين ألفا، بقي منهم على العهد ثلاثمائة، و أن الحرب كانت ضد المدينيين، و ليس الفلسطينيين، و أن المدينيين كانوا قد أذاقوا الإسرائيليين العذاب ألوانا، حتى اضطروهم إلى ترك قراهم و منهم إلى الكهوف و المغاور و الحصون، و مع ذلك فإن جدعون استطاع بمئاته، الثلاث أن يقتل من أعدائه في الجولة الأولى 120 ألف، و في الجولة الثانية 15 ألف، و بدهي أن هذا من تحريفات التوراة (انظر محمد بيومي مهران: إسرائيل: 2/ 635- 640، قضاة: 6/ 7- 8/ 21).

يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي، إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ، قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (1).

و قال ابن عباس: من اغترف بيده روى، و من شرب منه لم يرو، و قال السدي: كان الجيش ثمانين ألفا، فشرب منه ستة و سبعون ألفا، و تبقى معه (أي طالوت) أربعة ألاف، على أن هناك روايات أخرى تذهب إلى أن من بقي على العهد مع طالوت ثلاثمائة و بضعة عشر نفرا، قيل ثلاثمائة و تسعة عشر، أو ثلاثمائة و ثلاثة عشر، عدة أهل بدر، روى البراء بن عازب: كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم الذين كانوا معه يوم بدر ثلاثمائة و بضعة عشر، عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، و ما جاوزه معه إلا مؤمن، و أما النهر ففي رواية عن ابن عباس أنه نهر بين الأردن و فلسطين، يعني نهر الشريعة المشهور (2).

و على أية حال فلقد دارت رحى الحرب بين بني إسرائيل و الفلسطينيين، و كادت الهزيمة تحقيق بالأولين، لو لا نصر اللّه و شجاعة داود عليه السلام الذي قتل جالوت قائد الفلسطينيين، و طبقا لرواية التوراة فلقد كان جالوت (جليات) يخرج إلى الميدان صباح مساء طيلة أربعين يوما دون أن يجرؤ واحد من بني إسرائيل على منازلته، حتى اضطر طالوت أن ينادي بين قومه «إن من يقتل هذا الرجل يغنيه الملك غنى جزيلا، و يعطيه بنته

ص: 28


1- سورة البقرة آية: 249.
2- تفسير الكشاف: 1/ 294- 296، تفسير الطبري: 5/ 246- 248، تاريخ الطبري: 1/ 467- 472، تفسير القرطبي ص: 1062- 1063، تفسير المنار: 2/ 382- 389، تفسير النسفي: 1/ 125- 126، تفسير ابن كثير: 1/ 452 (بيروت 1986)، صحيح البخاري: 8/ 228، مسند الإمام أحمد: 4/ 290، تاريخ ابن الأثير: 1/ 123.

و يجعل بيت أبيه حرا في إسرائيل» و من ثم فقد خرج له داود بن يسى، و هو ما يزال بعد غلاما، و يتغلب على جالوت «فتمكن داود من الفلسطينيين بالمقلاع و الحجر، و ضرب الفلسطيني و قتله و لم يكن سيف بيد داود» (1)، و يشير القرآن الكريم إلى هذا الحادث في قوله تعالى: وَ لَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ، وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (2).

و هكذا استطاع داود عليه السلام بمقلاعه، و هو ما يزال بعد غلاما، أن يقتل بطل الفلسطينيين جالوت (3)، و أن يكون سببا في انتصار قومه على الفلسطينيين، ).

ص: 29


1- صموئيل أول: 17/ 1- 54، محمد بيومي مهران إسرائيل: 2/ 680- 687، ثم قارن: 2/ 635- 640.
2- سورة البقرة آية: 250- 251، و انظر تفسير الطبري: 5/ 354- 376، تفسير الطبرسي: 2/ 289- 292، تفسير الكشاف: 1/ 296- 297، تفسير روح المعاني: 2/ 172- 174، الجواهر في تفسير القرآن الكريم: 1/ 229- 230، محمد جواد مغنية: التفسير الكاشف: 2/ 382- 383، تفسير المنار: 2/ 389- 394، تفسير القرطبي ص: 1064- 1069، الدر المنثور في التفسير بالمأثور: 1/ 318- 319، تفسير النسفي: 1/ 125- 126، تفسير ابن كثير: 1/ 452- 454، هذا و روى في تفسير قوله تعالى وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أخرج ابن جرير عن ابن عمر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «إن اللّه ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء» و أخرج ابن مردوية عن عبادة بن الصامت مرفوعا قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «الأبدال في أمتي ثلاثون، بهم ترزقون، و بهم تمطرون، و بهم تنصرون»، قال قتادة: إني لأرجو أن يكون الحسن منهم (تفسير ابن كثير: 1/ 453- 454).
3- يروي تاريخ النبوة الشريف حادثا يشبه ذلك، فبينما كان المسلمون محاصرين في غزوة الأحزاب (5 ه- 1627 م) و قد و جاءتهم جنود من فوقهم و من أسفلهم، حتى زاغت الأبصار، و بلغت القلوب الخناجر، و ظن الناس باللّه الظنون، و زلزل المؤمنون زلزالا شديدا، و بدأ فريق من المنافقين يستأذنون النبي صلى اللّه عليه و سلم في العودة إلى بيوتهم لأنها عورة، و ما هي بعورة، و لكنهم يريدون الفرار من المعركة، في هذا الجو الملي ء بالخوف و الفزع، اقتحم عمرو بن ود، و كان أشجع قريش، و يحسب نفسه كفؤا لألف رجل، اقتحم الخندق بجواده مع مجموعة من فرسان قريش، فركز رمحه في للأرض، و أخذ يصول و يجول، و يطلب المبارزة، فما برز له أحد، فقد كان مقاتلا غادرا فاتكا و بطلا مغوار، لم يبارز أحد إلا صرعه، و هكذا أخذ ينادي من يبارز، فلا يتقدم أحد غير الإمام علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه، قائلا: أنا لها يا رسول اللّه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: اجلس إنه عمرو، ثم نادى عمرو: أ لا رجل يبرز، ثم جعل يؤنبهم فيقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها، أ فلا تبرزون إليّ رجلا، فقام علي فقال: أنا يا رسول اللّه، فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم: إنه عمر، ثم نادى الثالثة فقام على كرم اللّه وجهه في الجنة، فقال يا رسول اللّه أنا، فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم: إنه عمرو، فقال علي: و إن كان عمرا، فأذن له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قال له: أدن مني فعمّمه صلى اللّه عليه و سلم بيده الشريفة، و قال: اللهم احفظه من بين يديه و من خلفه، و عن يمينه و عن شماله، ثم رفع صلى اللّه عليه و سلم يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه و قال: «اللهم إنك أخذت مني حمزة يوم أحد، و عبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم عليا، رب لا تذرني فردا و أنت خير الوارثين»، و برز الإمام علي لعمر، فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم: «الآن برز الإيمان كله للشرك كله»، فقال عمرو لعلي: من أنت، قال علي بن أبي طالب، فقال عمرو، و قد أعرض عن الإمام علي استخفافا به، إن أباك كان صديقي و نديمي، و إني و اللّه ما أحب أن أقتلك، فقال الإمام: لكني و اللّه ما أكره أن أقتلك، ثم قال يا عمرو: قد كنت تعاهد اللّه لقريش، ألا يدعوك رجل إلى واحدة من ثلاث إلا قبلتها، قال أجل، قال: فإني أدعوك إلى اللّه عز و جل و إلى رسوله و الإسلام فتشهد أن لا إله إلا اللّه، و أن محمدا رسول اللّه، فقال عمرو: لا حاجة لي في ذلك، هات الثانية، قال الإمام: فترجع إلى بلادك، فإن يك محمدا صادقا كنت أسعد الناس به، و إن يك كاذبا كان الذي تريد، قال عمرو: إذن تتحدث عني نساء قريش أنني جبنت و خنت قوما رأسوني عليهم، هات الثالثة، قال الإمام: الحرب، قال عمرو: هذه خصلة ما كنت أظن أن أحدا من العرب يروّعني بها، فقال الإمام: كيف أقاتلك و أنت فارس، و أنا راجل، فاقتحم عن فرسه و عقره و سل سيفه كأنه شعلة نار، ثم اندفع نحو الإمام علي مغضبا، و استقبله عليّ برقبته فضربه في الدرقة فشقها و أثبت فيها السيف، و ضربه الإمام علي كرم اللّه وجهه في الجنة، على حبل العاتق فسقط عمرو، و ثار العجاج و بانت سوأة عمرو، و سمع سيدنا و مولانا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم التكبير، فعرف أن عليا قتل عمرا، و أقبل الإمام علي رضي اللّه عنه على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و وجهه يتهلل، فعانقه النبي صلى اللّه عليه و سلم و دعا له، فقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه لعلي: هلا سلبته درعه، فإن ليس في العرب درع خير منها، فقال الإمام علي: إني حين ضربته استقبلني بسوأته و استحيت ابن عمي أن استلبه، على أن رواية أخرى تذهب إلى أن الإمام علي ضرب عمرا على ساقيه فقطعهما جميعا، فسقط على الأرض فأخذ علي بلحيته فذبحه و أخذ رأسه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فألقاها بين يديه، فقام أبو بكر و عمر فقبلا رأس علي، و روى أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال في قتل علي لعمرو: لضربة علي يوم الخندق أفضل من عمل الثقلين، و روى أن حذيفة بن اليمان قال: لو قسمت فضيلة علي بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين أجمعهم لو سعتهم، و قال ابن عباس في قوله تعالى: وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، و قال: بعلي بن أبي طالب (سورة الأحزاب آية: 9- 27، تفسير القرطبي ص: 5210- 5244، ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 202- 207، ابن هشام: سيرة النبي ص: 224- 226، تاريخ الطبري: 2/ 573- 574، الواقدي: المغازي: 2/ 470- 472، البلاذري: أنساب الأشراف: 1/ 345، ابن سعد: الطبقات الكبرى: 2/ 49، السهيلي الروض الأنف: 6/ 316- 320، عماد الدين خليل: دراسة في السيرة ص: 212- 213، السيرة النبوية للندوي ص: 287- 288).

ص: 30

و من ثم فقد أخذ يملأ أعين الناس و آذانهم و قلوبهم، ثم يصبح ذا مكانة عالية بين قومه الإسرائيليين، مما أثار عليه حقد طالوت و أخذ يسعى إلى قتله، بينما هو في مسيس الحاجة إليه و إلى أمثاله من الرجال الشجعان، و لم تشفع له صداقته لولده ناثان و إصهاره للملك، و على أي حال، فما أن يمضي حين من الدهر، حتى يقتل طالوت و أولاده الثلاثة في معركة جبل جلبوع (حوالي عام 1000 ق. م) (1) و يصبح داود عليه السلام ملكا على بني إسرائيل.

و أما متى كانت سنوات حكم داود، فذلك موضع خلاف بين المؤرخين، فهناك من يرى أنها كانت في الفترة (1010- 955 ق. م) و من يرى أنها في الفترة (1004- 962 ق. م) و من يرى أنها في الفترة (985- 963 ق. م) و من يرى أنها في الفترة (1012- 972 ق. م) و من يرى أنها في الفترة (1000- 960 ق. م) و هذا ما نميل إليه و نأخذ به (2).

ص: 31


1- صموئيل أول: 28/ 3- 25، 31/ 7- 12، جيمس فريزر المرجع السابق ص: 43- 51، محمد بيومي مهران إسرائيل: 2/ 687- 689، و كذا. P, tic-. pO, htoN. M 178- 177. و كذا. P, tic- P, llaH. R. H 359.
2- فيليب حتى: المرجع السابق ص 303. lacilbiB ehT, thgirblA. F. W و كذا, Y. N, dnaL yloH ehT fo saltA lacirotsiH 81. p، 1959 و كذا, qarI tneicnA, xuaR. G 454. p، 1966 و كذا. Y. N, arzE omaharbA morF doireP 122- 120. p، 1963, msiaduJ, nitspE. I 35. p، 1970 و كذا

ص: 32

الفصل الثّاني داود الرّسول النّبيّ
اشارة

لمع اسم داود عليه السلام، كما رأينا من قبل، و سطع نجمه، و تعلق الشعب به و التفوا حوله، و تنادوا بزعامته، و أصبح مل ء أسماع الناس و أبصارهم، و هم عن طالوت منصرفون، و ما أن يمضي حين من الدهر حتى يقتل طالوت و ولداه و يصبح داود ملكا على بني إسرائيل (1)، ثم تمضي فترة لا ندري مداها على وجه اليقين، يختار اللّه تعالى بعدها عبده داود رسولا نبيا (2)،

ص: 33


1- تروي التوراة أن داود كان ابن ثلاثين سنة حين ملك، و ملك أربعين سنة، في حبرون ملك على يهوذا سبع سنين و ستة أشهر، و في أورشليم ثلاثا و ثلاثين سنة على جميع إسرائيل و يهوذا (صموئيل ثان: 5/ 4- 5).
2- هناك فروق بين النبوة و الملك، منها أن النبوة لا تكون بالإرث، فولد النبي لا يكون نبيا بطريق الإرث عن أبيه، بل هي بمحض الفضل الإلهي و الاصطفاء الرباني، و منها أن النبوة لا تعطي لكافر أبدا، و إنما تعطي لمؤمن فحسب، بخلاف الملك فقد يعطي لغير المؤمن، و منها أن النبوة خاصة بالرجال، و لا تكون للنساء، لقوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ و إن كان ابن خزم يرى أن هذه الآية الكريمة خاصة بالرسل دون الأنبياء، و من ثم فلم يدع أحد أن اللّه تعالى قد أرسل امرأة، و أما النبوة و هي لفظة مأخوذة من الإنباء و هو الإعلام، فمن أعلمه اللّه عز و جل بما يكون قبل أن يكون، أو أوحى إليه منبئا بأمر ما فهو نبي بلا شك، فأمرها مختلف، و قد جاء في القرآن الكريم بأن اللّه تعالى قد أرسل ملائكة إلى نساء فأخبرهن بوحي حق من اللّه تعالى، كما حدث مع أم إسحاق و أم موسى و أم المسيح عليهم السلام، و منها أن النبوة مجالها الدعوة إلى الإيمان باللّه و اليوم الآخر و العمل الصالح، و الملك قد يتعارض مع هذه الدعوة لأنه مظهر من مظاهر العظمة الدنيوية التي جاءت بالتزهيد عنها الأنبياء عليهم السلام، و لكن قد يجمع اللّه النبوة و الملك لرجل واحد، كما حدث مع داود و سليمان عليهما السلام (انظر ابن حزم: الفصل في الملك و الأهواء و النحل: 5/ 87، محمد بيومي مهران: النبوة و الأنبياء عند بني إسرائيل ص: 71- 77، محمد علي الصابوني: النبوة و الأنبياء ص: 10- 11).

و كان قد بلغ سن الكمال أربعين سنة (1) و أنزل عليه الزبور، فيه مواعظ و أذكار، و آتاه اللّه الحكمة و فصل الخطاب، و هكذا أسس داود، و كذا ولده سليمان من بعده، مملكة التوحيد، تؤمن باللّه ربا، و بالإسلام دينا، وسط عالم مشرك، و لم يجتمع النبوة و الملك لأحد قبلهما أو بعدهما من بني إسرائيل، هذا و قد ذكرت قصتهما في القرآن الكريم مطولة أحيانا (2)، و مختصرة أحيانا أخرى، و أحيانا يذكران معا، و أحيانا يفرد أحدهما عن الآخر، ففي سورة البقرة يحكي اللّه تعالى أن داود كان في جيش طالوت، و أنه قتل جالوت، و أن اللّه آتاه من أجل ذلك الكتاب و الحكمة و علمه مما يشاء (3)، و في سورتي النساء و الأنعام يذكران معا على أنهما من الأنبياء الذين أوحى اللّه إليهم و أنهما من نسل إبراهيم عليه الصلاة و السلام (4).

معجزات داود عليه السلام

هذا و قد خص اللّه تعالى داود عليه السلام بكثير من المعجزات، منها (أولا) تسخير الجبال معه يسبحن بكرة و عشيا قال تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ (5)، و منها (ثانيا) ترجيع الطير معه كلما قرأ

ص: 34


1- يكاد يجمع العلماء على أن النبوة لا تكون إلا بعد بلوغ سن الأربعين، و قد أبطل ابن قيم الجوزية ما ذهب إليه البعض من أن عيسى بعث و هو في الثلاثين من عمره، و أما قوله تعالى في حق يحيى: وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا فالمراد الفهم و الفقه في الدين كما فسره ابن عباس، و هو غير الحكمة المفسرة بالنبوة في آية البقرة: 251، و سنعود للموضوع ثانية عند الحديث عن يحيى و عيسى (زاد المعاد: 1/ 21، تفسير الكشاف: 2/ 504، عويد المطرفي: داود و سليمان في القرآن و السنة- مكة المكرمة: 1979 ص: 33).
2- سورة الأنبياء آية: 78- 82، النمل آية: 15- 44، سبأ آية: 10- 14، ص آية: 17- 26.
3- سورة البقرة آية: 249- 251.
4- سورة النساء آية: 163- 164، الأنعام آية: 84.
5- سورة ص آية: 18.

الزبور، قال تعالى: وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (1)، و قال تعالى:

وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنَّا فاعِلِينَ (2)، و يقول المفسرون عن هذه الآية إن اللّه تعالى قد وهب داود من الصوت ما لم يهبه لأحد، حتى أنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه الزبور يقف الطير في الهواء يرجع بترجيعه، و يسبح بتسبيحه، و كذا الجبال تجيبه و تسبح معه كلما سبح بكرة و عشيا، و في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سمع صوت أبي موسى الأشعري يقرأ من الليل، فوقف فاستمع لقراءته ثم قال صلى اللّه عليه و سلم: «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» (3).

و يقول الأستاذ سيد قطب، طيب اللّه ثراه كان داود عليه السلام أوابا رجاعا إلى ربه بالطاعة و العبادة و الذكر و الاستغفار، و قد آتاه اللّه من فضله مع النبوة و الملك، قلبا ذاكرا، و صوتا رخيما يرجع به تراتيله التي يمجد فيها ربه، و بلغ من قوة استغراقه في الذكرى، و من حسن حظه في الترتيل، أن تزول الحواجز بين كيانه و كيان هذا الكون، و تتصل حقيقته بحقيقة الجبال و الطير في صلتها كلها ببارئها، و تمجيدها له و عبادتها، فإذا الجبال تسبح معه، و إذا الطير مجموعة عليه، تسبح معه لو ملاها و مولاه إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ، وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ، و لقد يقف الناس مدهوشين أمام هذا النبأ: الجبال الجامدة تسبح مع داود بالعشى و الإشراق، حينما يخلو إلى ربه يرتل تراتيله في تمجيده و ذكره، و الطير تتجمع على نغماته لتسمع له و ترجع معه أناشيده، لقد يقف الناس مدهوشين للنبإ، إذ يخالف مألوفهم، و يخالف ما اعتادوا أن يحسوه من العزلة بين

ص: 35


1- سورة ص آية: 19.
2- سورة الأنبياء آية: 79.
3- صحيح البخاري: 9/ 241، صحيح مسلم: 2/ 192.

جنس الإنسان و جنس الطير، و جنس الجبال، و لكن فيم الدهش؟ و فيم العجب؟ إن لهذه الخلائق كلها حقيقة واحدة وراء تميز الأجناس و الأشكال و الصفات و السمات، حقيقة واحدة يجتمعون فيها ببارئ الوجود كله، أحيائه و أشيائه جميعا، و حين تصل صلة الإنسان بربه إلى درجة الخلوص و الإشراق و الصفاء، فإن تلك الحواجز تنزاح، و تنساح الحقيقة المجردة لكل منهم، فتتصل من وراء حواجز الجنس و الشكل و الصفة و السمة التي تميزهم و تعزلهم في مألوف الحياة، و قد وهب اللّه عبده داود هذه الخاصية، و سخر الجبال معه يسبحن بالعشى و الإشراق، و حشر عليه الطير ترجع مع ترانيمه تسبيحا للّه، و كانت هذه هبة فوق الملك و السلطان، مع النبوة و الاستخلاص (1)، قال ابن عباس: كانت الطير تسبح معه إذا سبح، و كان إذا قرأ لم تبق دابة إلا استمعت لقراءته، و بكت لبكائه (2).

و منها (ثالثا) إلانة الحديد له، فكان بين يديه كالعجين أو كالطين المعجون يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار، و لا ضرب بمطرقة، و قيل لان الحديد في يده لما أوتي من شدة القوة (3)، قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ، وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ، وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)، و في قوله تعالى وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ قال الحسن البصري و قتادة و الأعمش و غيرهم: كان اللّه تعالى قد ألان الحديد لداود حتى كان يفتله بيديه لا يحتاج إلى نار و لا مطرقة، و قال الإمام الفخر الرازي: ألان اللّه لداود الحديد حتى كان في يده كالشمع و هو في قدرة اللّه يسير، فإنه يلين بالنار حتى يصبح كالمداد الذي يكتب به، فأي عاقل يستبعد

ص: 36


1- في ظلال القرآن: 5/ 3017 (بيروت 1982).
2- زاد المسير: 6/ 436.
3- تفسير النسفي: 3/ 319.
4- سورة سبأ: آية: 10- 11.

ذلك على قدرة اللّه، قال قتادة: فكان أول من عمل الدروع من زرد، و إنما كانت قبل ذلك من صفائح، و في سياق الآية العاشرة من سورة سبأ، التي ابتدأها اللّه تعالى بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا، ثم ذكر في آخرها وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، ما يشعر بأن اللّه تعالى قد ألان الحديد تفضلا منه و كرما، و آية على الإعجاز من الآيات التي يمنحها اللّه لأنبيائه، و لو أن إلانة الحديد بالنار، كما يقع للناس جميعا، لما ذكرها اللّه في سياق الامتنان على داود، و لما جعلها اللّه نعمة يختصه بها، و قد يقال إنه أول من اهتدى إلى أثر النار في إلانة الحديد، و لم يكن ذلك معروفا قبل داود، فكان هذا من نعم اللّه على داود أولا، ثم أصبح من سنن الطبيعة ثانيا أو بعد ذلك، و لكننا لا نذهب كما يقول الدكتور النجار، لمثل هذا المذهب ما دام فضل اللّه على أنبيائه بالمعجزات الخارقة أمرا مقررا لهم، و واجبا في حقهم (1).

و من ثم يذهب العلامة سيد قطب إلى أنه في ظل هذا السياق يبدو أن الأمر كان خارقة ليست من مألوف البشر، فلم يكن الأمر أمر تسخين الحديد حتى يلين و يصبح قابلا للطرق، إنما كان و اللّه أعلم معجزة يلين بها الحديد من غير وسيلة اللين المعهودة، و إن كان مجرد الهداية لإلانة الحديد بالتسخين يعد فضلا من اللّه يذكر، و لكننا إنما نتأثر بجو السياق و ظلاله، و هو جو معجزات، و هي ظلال خوارق خارقة على المألوف، ثم يقول تعالى:

أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ و السابغات الدروع، روى أنها كانت تعمل قبل داود عليه السلام صفائح، الدرع صفيحة واحدة فكانت تصلب الجسم و تثقله، فألهم اللّه داود أن يصنعها رقائق متداخلة متموجة لينة يسهل تشكيلها و تحريكها بحركة الجسم، و أمر بتضيق تداخل هذه الرقائق لتكون

ص: 37


1- تفسير ابن كثير: 3/ 838- 839، تفسير الفخر الرازي: 25/ 245، تفسير النسفي: 3/ 319- 320، تفسير القرطبي: 14/ 266، محمد الطيب النجار تاريخ الأنبياء في ضوء القرآن الكريم و السنة النبوية- الرياض 1983 ص: 234- 235.

محكمة لا تنفذ فيها الرماح، و هو التقدير في السرد، و كان الأمر كله إلهاما و تعليما من اللّه (1).

هذا و قد روى الحافظ ابن عساكر عن وهب بن منبه أن داود عليه السلام كان يخرج متنكرا، فيسأل الركبان عنه و عن سيرته، فلا يسأل أحدا إلا أثنى عليه خيرا في عبادته و سيرته و عدله، قال وهب: حتى بعث اللّه ملكا في صورة رجل فلقيه داود عليه السلام، فسأل كما كان يسأل غيره، فقال: هو خير الناس لنفسه و لأمته، إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه لكان كاملا، قال:

ما هي، قال: يأكل و يطعم عياله من مال المسلمين، يعني بيت المال، فعند ذلك نصب داود إلى ربه عز و جل في الدعاء أن يعلمه عملا بيده يستغني به و يغني به عياله، فألان اللّه عز و جل له الحديد، و علمه صنعة الدروع، فعمل الدروع و هو أول من عملها، فقال اللّه تعالى: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ، يعني مسامير الحلق، قال: و كان يعمل الدرع فإذا ارتفع من عمله درع باعها، فتصدق بثلثها، و اشترى بثلثها ما يكفيه و عياله، و أمسك الثلث يتصدق به يوما بيوم إلى أن يعمل غيرها (2).

هذا و قد كشفت حفريات «سير فلندرز بتري» عن مناجم للحديد في جمة و عصيون جابر (3)، على مقربة من خليج العقبة، ترجع إلى أيام داود و سليمان عليهما السلام، و يبدو أن داود قد استولى عليها من الآدوميين بعد هزيمته إياهم.

ص: 38


1- في ظلال القرآن: 5/ 2897- 2898.
2- تفسير ابن كثير: 3/ 839.
3- وليم أولبرايت: آثار فلسطين- ترجمة زكي اسكندر و محمد عبد القادر، القاهرة 1971 م ص: 128، و كذا, yrotsiH sa elbiB ehT, relleK. W 199- 198. p، 1967.

و منها رابعا قوّى اللّه تعالى ملكه و جعله منصورا على أعدائه، مهابا في قومه، قال تعالى: وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ، و يذهب بعض المفسرين في معنى الآية الكريمة أن اللّه قواه و جعله منصورا على جميع أعدائه و مناوئيه، فكان لا يقوم له معارض إلا غلبه، قال مجاهد: كان أشد أهل الدنيا سلطانا، و قال السّدي: كان يحرسه كل يوم أربعة آلاف، و قال بعض السلف بلغني أنه كان يحرسه في كل ليلة ثلاثة و ثلاثون ألفا، و قال غيره أربعون ألفا، و قد ذكر ابن جرير و ابن أبي حاتم رواية عن ابن عباس أن نفرين من بني إسرائيل استعدى أحدهما على الآخر إلى داود عليه الصلاة و السلام أنه اغتصبه بقرا، فأنكر الآخر و لم يكن للمدعي بيّنة فأرجأ أمرهما، فلما كان الليل أمر داود عليه السلام في المنام بقتل المدعي، فلما كان النهار طلبهما و أمر بقتل المدعي، فقال يا نبيّ اللّه علام تقتلني و قد اغتصب هذا بقري، فقال له إن اللّه تعالى أمرني بقتلك فأنا قاتلك لا محالة، فقال و اللّه يا نبي اللّه إن اللّه لم يأمرك بقتلي لأجل هذا الذي ادعيت عليه، و إني لصادق فيما ادعيت، و لكني كنت قد اغتلت أباه و قتلته و لم يشعر بذلك أحد، فأمر به داود عليه السلام فقتل، قال ابن عباس: فاشتدت هيبته في بني إسرائيل، و هو الذي يقول اللّه عز و جل: وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ (1)، و على أي حال فإن التاريخ يحدثنا أن اللّه تعالى كتب له النصر المبين على الفلسطينيين أقوى أعدائه و أكثرهم أهمية، و أشدهم خطرا كما كتب له نجحا بعيد المدى في طردهم من مناطق بني إسرائيل، بل إنه وصل إلى مدنهم ذاتها، كما كتب له نصرا مؤزرا على ممالك مؤاب و عمون و أدوم، فضلا عن الآراميين (2)، كما سنفصل ذلك في الفصل التالي. ).

ص: 39


1- تفسير ابن كثير: 4/ 46- 47 (دار الكتب العلمية- بيروت 1986)، تفسير النسفي: 4/ 36 (ط دار الفكر).
2- انظر التفصيلات عن دولة داود عليه السلام (محمد بيومي مهران إسرائيل: 2/ 693- 734).

و منها خامسا أن اللّه تعالى آتاه الحكمة و فصل الخطاب، و الحكمة، فيما يرى كثير من المفسرين النبوة (1) أو هي في رأي آخر، الزبور و علم الشرائع أو هي كل كلام وافق الحق فهو حكمة (2)، و أما فصل الخطاب فهو الحكم في القضايا التي تقع بين الناس في عهده، و قد بيّنه اللّه تعالى في قوله جل ثناؤه: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ (3)، و قال مجاهد و السّدي: هي إصابة القضاء و فهم ذلك، و قال مجاهد أيضا: هي الفصل في الكلام و في الحكم و هذا يشتمل كل ذلك، و هو المراد، و قد اختاره ابن جرير، و قيل فصل الخطاب قطعه و الجزم فيه برأي لا تردد فيه، و ذلك مع الحكمة و مع القوة غاية في الكلام و السلطان في عالم الإنسان، و عن أبي موسى أول من قال: «أما بعد» داود عليه السلام و هو فصل الخطاب، و كذا قال الشعبي: فصل الخطاب «أما بعد»، فإن من تكلم في الأمر الذي له شأن، يفتتح بذكر اللّه و تمجيده فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له فصل بينه و بين ذكر اللّه بقوله (أما بعد) (4).

قصة الخصمين

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى الآيات الكريمة من سورة «ص» (21- 25) و التي ثار جدل حول تفسيرها، يقول تعالى: وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ، إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها

ص: 40


1- انظر تفسير ابن كثير: 4/ 47، تفسير روح المعاني: 2/ 173، تفسير أبي السعود: 1/ 186، فتح القدير للشوكاني: 1/ 266، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 300، الراغب الأصفهاني المفردات في غريب القرآن ص: 128.
2- تفسير النسفي: 4/ 36- 37.
3- سورة ص آية: 26.
4- تفسير ابن كثير: 4/ 47، تفسير النسفي: 4/ 37، في ظلال القرآن: 5/ 3017، عويد المطرفي المرجع السابق ص: 50.

وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ، قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ، وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ، فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (1).

و تفسير الآيات الكريمة أن رجلين يمتلك أحدهما تسعا و تسعين نعجة، و يمتلك الآخر نعجة واحدة، و قد نازعه فيها صاحب التسع و التسعين، و قد دخل الخصمان على داود من غير المدخل المعتاد، فقد دخلا عليه من فوق الجدران، و هي طريقة توحي في أعراف الناس بشر يقع من هذا التسوّر، فما يتسوّر المحراب هكذا مؤمن و لا أمين، كما أن دخولهما كان في غير وقت جلوسه للحكم، و إنما في وقت خلوته إلى نفسه، و اعتزال مجتمعه و أمته في هذا اليوم، إرضاء لرغبة نفسه في حبه لعبادة ربه، فقد كان داود يخصص بعض وقته للتصرف في شئون الملك، و للقضاء بين الناس، و يخصص البعض الآخر للخلوة و العبادة و ترتيل أناشيده تسبيحا للّه في المحراب، و كان إذا دخل المحراب للعبادة و الخلوة لم يدخل إليه أحد حتى يخرج هو إلى الناس، روى عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن الحسن البصري قال: إن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء، يوما لنسائه، و يوما للعبادة، و يوما للقضاء بين بني إسرائيل، و يوما لبني إسرائيل، و روى نحوه عن السّدي فيما أخرجه الحكم في المستدرك و الطبري في التفسير (2).

و من ثم فقد فزع داود من الخصمين ظنا منه أنهما يريدان به شرا، فلما

ص: 41


1- سورة ص آية: 21- 25.
2- انظر تفسير الطبري: 23/ 147- 148، تفسير الدر المنثور: 5/ 301، تفسير الظلال: 5/ 3018، المستدرك للحاكم: 2/ 586، تاريخ الطبري: 1/ 482، عويد المطرفي المرجع السابق ص: 52- 53.

ظهر أنهما جاءا من خصومة ليحكم بينهما فيها، استغفر ربه من هذا الظن و خر ساجدا منيبا إلى اللّه تعالى، فغفر اللّه له ذلك الظن، لأنه ما كان ينبغي من مثله و كما هو معلوم حسنات الأبرار سيئات المقربين، و ربما كان استغفاره لأن انقطاعه للعبادة يوما كاملا عن أمته، و اختلاءه بنفسه ذلك اليوم كله، يؤدي حتما تركه النظر في ذلك اليوم في أمر رعيته و أمته التي استودعه للّه عز و جل رعاية مصالحها، فجاءه مثال من حاجتها إليه في كل وقت ليقوم بإصلاح ذات بينها، و إقرار التراحم و التآخي بين أفرادها حتى يكونوا على هدى من ربهم، كما يدل على ذلك قول الخصمين له «و اهدنا إلى سواء الصراط» ثم بيّن اللّه تعالى لداود عليه السلام مهمته في هذه الحياة الدنيا، باعتباره ملكا على بني إسرائيل، و نبيّا مرسلا، إذ الملك يقتضي خلافته للّه تعالى في الأرض بالنظر في مصالح رعيته و الحكم بينهم بالعدل، و فصل قضاياهم بما يرفع الظلم و البغي عن ضعفائهم، إذا حاوله كبراؤهم و أقوياؤهم (1)، و ذلك لا يتم على الوجه المطلوب إلا إذا وضع نفسه قريبا منهم في كل آن، قال تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (2)، فأخبره أنه جعله خليفة في الأرض و أمره بالحكم بين الناس و الفصل في قضاياهم بالحق، و النبوة تعود الملك و تحرسه عن أن تندبه مطالب الدنيا عن سبيل الحق و العدل، و تسلك به مسالك الطهر و التزام الهدى (3).

على أن رواية أخرى تذهب إلى أن الخطأ الذي وقع من داود أنه سمع

ص: 42


1- جاء في بعض الآثار «السلطان ظل اللّه في أرضه»، و قال الخليفة عثمان بن عفان: «إن اللّه ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» البداية و النهاية: 2/ 10.
2- سورة ص آية: 26.
3- عويد المطرفي المرجع السابق ص: 53- 54.

أحد الخصمين و هو صاحب النعجة الواحدة، و لم يسمع حجة الخصم الآخر و هو صاحب التسع و التسعين نعجة، و تسرع من أجل ذلك في الحكم دون أن يمعن النظر و يرى حجة الخصم الآخر، و من أجل ذلك استغفر ربه من هذا الخطأ الذي وقع فيه نتيجة السهو، و هو خطأ لا يتنافى مع العصمة (1)، و لعل عذر داود عليه السلام، أن القضية كما عرضها أحد الخصمين تحمل ظلما صارخا مثيرا لا يحتمل التأويل، و من ثم اندفع داود يقضي على أثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة، و لم يوجه إلى الخصم الآخر حديثا، و لم يطلب إليه بيانا، و لم يسمع له حجة، و لكنه مضى يحكم «قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه و إن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و قليل ما هم»، و يبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان فقد كانا ملكين جاء للامتحان امتحان النبي الملك الذي ولاه اللّه أمر الناس ليقضي بينهم بالحق و العدل، و ليتبين الحق قبل إصدار الحكم، و قد اختارا أن يعرضا عليه القضية في صورة صارخة مثيرة، و لكن القاضي عليه ألا يستثار، و عليه ألا يتعجل، و عليه ألا يأخذ بظاهر قول واحد قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله و حجته، فقد يتغير وجه المسألة كله أو بعضه، و ينكشف أن ذلك الظاهر كان خادعا أو كاذبا أو ناقضا، و عند هذا تنبه داود إلى أنه الابتلاء، «و ظن داود إنما فتناه»، و هنا أدركته طبيعته إنه أواب «فاستغفر ربه و خر راكعا و أناب» (2).

على أن بعض كتب التفسير قد خاضت مع الإسرائيليات حول هذه الفتنة خوضا كبيرا تتنزه عنه طبيعة النبوة، و لا يتفق إطلاقا مع حقيقتها، حتى الروايات التي حاولت تخفيف تلك الأساطير سارت معها شوطا، و هي لا

ص: 43


1- محمد الطيب النجار المرجع السابق ص: 39.
2- في ظلال القرآن: 5/ 3018.

تصلح للنظر من الأساس، و لا تتفق مع قول اللّه تعالى: وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ، كما أن التعقيب القرآني الذي جاء بعد القصة يكشف كذلك عن طبيعة الفتنة، و يحدد التوجيه المقصود بها من اللّه لعبده الذي ولاه القضاء و الحكم بين الناس يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ، فهي الخلافة في الأرض، و الحكم بين الناس و عدم اتباع الهوى، و اتباع الهوى، فيما يختص بنبي، هو السير مع الانفعال الأول، و عدم التريث و التثبت و التبيّن مما ينتهي إلى الاستطراد فيه إلى الضلال، أما عقب الآية المصور لعاقبة الضلال فهو حكم عام مطلق على نتائج الضلال عن سبيل اللّه، و هو نسيان اللّه و التعرض للعذاب الشديد يوم الحساب (1).

على أن بعض المفسرين و المؤرخين قد أسرفوا على أنفسهم، فذهبوا إلى أن هذين الخصمين اللذين تسوّرا المحراب على داود عليه السلام، إنما هما ملكان أرسلهما اللّه تعالى إليه لينتبه إلى خطئه من محاولة ضم امرأة «أوريا» إليه، و عنده تسع و تسعون امرأة، و من ثم فهم يرون أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فتزوجها إذا أعجبته، و كان لهم عادة في المواساة بذلك، و كان الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك، فاتفق أن داود عليه السلام وقعت عينه على امرأة أوريا فأحبها فسأله النزول له عنها، فاستحى أن يرده ففعل فتزوجها، و هي أم سليمان، فقيل له إنك، مع عظم منزلتك و كثرة نسائك، لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول عنها لك، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك و قهر نفسك و الصبر على ما امتحنت به، على أن رواية

ص: 44


1- في ظلال القرآن 5/ 3018.

أخرى تذهب إلى أوريا خطب تلك المرأة، ثم خطبها داود، فآثره أهلها، فكانت زلته أن خطب على خطبة أخيه المؤمن، مع كثرة نسائه (1)، على أن هناك رواية ثالثة تذهب إلى أن خطئه داود كانت أنه لما بلغه حسن امرأة أوريا، فتمنى أن تكون له حلالا، فاتفق أن أوريا سار إلى الجهاد فقتل، فلم يجد له من الهم ما وجده لغيره (2).

على أن هناك رواية رابعة اندفعت في هذه الحماقة، جريا وراء إسرائيليات باطلة، و قد نسي أصحابها ما في هذا الصنيع من إلصاق تهمة شنيعة برسول كريم، و نبي جليل، تقول هذه الرواية أنه بينما كان داود عليه السلام في خلوة عباده، جاءه الشيطان و قد تمثل في صورة حمامة من ذهب حتى وقع عند رجليه و هو يصلي، فمدّ يده ليأخذه فتنحى فتبعه، فتباعد حتى وقع في كوة، فذهب ليأخذه فطار من الكوة، فنظر أين يقع فيبعث في أثره، فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل النساء خلقا، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به، فزاده ذلك فيها رغبة (و في رواية أخرى، فما زال يتبع الحمامة حتى أشرف على امرأة تغتسل، فأعجبه خلقها و حسنها، فلما رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها فزاده ذلك أيضا إعجابا بها، فسأل عنها فأخبر أن لها زوجا غائبا بمسلحة كذا و كذا، فبعث إلى صاحب المسلحة أن يبعث أوريا (أهريا) إلى عدو كذا و كذا، فبعثه ففتح له، ثم بعثه إلى أخرى حتى قتل في الثالثة، و تزوج داود امرأته (3)، فلما دخلت عليه لم تلبث عنده إلا يسيرا حتى بعث اللّه ملكين في ).

ص: 45


1- تفسير النسفي 4/ 37- 38، تفسير البيضاوي 5/ 17- 19.
2- الكامل لابن الأثير 1/ 126.
3- قال مقاتل بلغنا أنها أم سليمان (تاريخ الطبري 1/ 482) و قال ابن كثير: و كانت لداود مائة امرأة، منهن امرأة أوريا أم سليمان بن داود التي تزوجها بعد الفتنة (البداية و النهاية 2/ 15).

صورة إنسيّين، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسوّرا عليه المحراب، ففزع منهما فقالا: لا تخف خصمان بغي بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق و لا تشطط و اهدنا إلى سواء الصراط، قال قصا على قصتكما، فقال أحدهما: إن هذا أخي له تسع و تسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فهو يريد أن يأخذها ليكمل بها نعاجه مائة، فقال للآخر ما تقول، فقال إن لي تسعا و تسعين نعجة، و لأخي هذا نعجة واحدة، فأنا أريد أن آخذها منه فأكمل بها نعاجي مائة، قال: و هو كاره، قال و هو كاره، قال: إذا لا ندعك و ذاك، قال: ما أنت على ذلك بقادر، قال: إن ذهبت تروم ذلك ضربنا مئات هذا و هذا (الأنف و الجبهة) فقال يا داود، أنت حق أن يضرب منك هذا و هذا حيث لك تسع و تسعون امرأة، و لم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة، فلم تزل به تعرضه للقتل حتى قتل، و تزوجت امرأته، قال فنظر فلم ير شيئا، فعرف ما وقع فيه، و ما ابتلى به، فخر ساجدا فبكى، فمكث يبكى ساجدا أربعين يوما، لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها، حتى أوحى اللّه إليه بعد أربعين يوما، يا داود: ارفع رأسك فقد غفرت لك ...» (1).

و قريب من هذا ما رواه السيوطي في الدر المنثور، و خلاصته أن داود عليه السلام أمر في يوم عبادته ألا يدخل عليه أحد، و بينما هو يقرأ في الزبور، إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون الطير من كل لون، و لما حاول داود عليه السلام الإمساك به طار منه على كوة المحراب، و لما أراد مرة ثانية الإمساك به طار خارج الحجرة، فنظر داود ليراه أي ذهب فإذا به يرى امرأة تستحم عارية، فلما رأت ظله حركت رأسها فغطت كل جسدها، فأرسل إليها و عند ما جاءت علم منها أنها امرأة رجل محارب يدعى أوريا، فأرسل إلى قائد الجيش أن يجعل أوريا من حملة التابوت، الذين كانوا في مقدمة

ص: 46


1- في تاريخ الطبري 1/ 479- 481، و انظر روايات أخرى في: تاريخ الطبري 1/ 481- 484، الكامل لابن الأثير 1/ 125- 126، تاريخ اليعقوبي 1/ 52- 53.

الجيش، و كان من يوضع أمامه لا يرجع حتى يقتل، و لما قتل زوجها و انقضت عدتها خطبها داود لنفسه، و لكنها اشترطت عليه إن ولدت غلاما أن يكون الخليفة من بعده، و كتبت بذلك كتابا أشهدت عليه خمسة من بني إسرائيل، و قد أنجبت له سليمان، فإنما شبّ تسوّر عليه الملكان المحراب، فكان شأنهما ما قص اللّه في كتابه، و خر داود ساجدا، فغفر اللّه له و تاب عليه (1).

و هكذا تابع بعض المؤرخين و المفسرين رواية توراة اليهود المتداولة اليوم، إلى حد ما، حين صورت النبي الأواب الذي آتاه اللّه الحكمة و فصل الخطاب، و هو يتمشى فوق سطح قصره، فيرى امرأة رائعة الجمال، و هي تستحم عارية، فيسأل عنها بعضا من بطانته، و يعرف أنها «بتشبع» امرأة أوريا الحثي، فيرسل إليها من يأتيه بها، ثم ينال منها وطره، و هي مطهرة من طمثها، و سرعان ما تحبل المرأة من فورها، و حين تتأكد من حملها تخبر داود بالأمر، فيرسل إلى زوجها يستدعيه من ميدان القتال، حتى إذا ما ظهر الحمل بعد ذلك على المرأة ظن الناس أنه من زوجها، غير أن أوريا يأبى أن يدخل على امراته، و يصر على العودة إلى ميدان القتال، و من ثم يأمر داود بأن يوضع أوريا في وجه العدو، و أن له مثلا برجل يملك نعجة واحدة، و آخر يملك غنما و بقرا كثيرا، ثم جاء للغني ضيف فأخذ نعجة الرجل الفقير، و هيأ منها طعاما لضيفه، فحكم داود بأن يقتل الرجل الفاعل ذلك، و يرد النعجة أربعة أضعاف فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل (2).

و هكذا تنتهي رواية العهد القديم الكذوب عند هذا الحد المحزن، فهل كان النبي الأواب كذلك؟ و هل هذا الاتهام يتجسم مع ما هو معروف عن

ص: 47


1- الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5/ 300- 306.
2- صموئيل الثاني 11/ 1- 27، 12/ 1- 25، و انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 203- 205.

داود عليه السلام، من خلق كريم منذ حداثة سنه؟ و هل من البر أن يخون الإنسان، أي إنسان، رجالا في أعراضهم في وقت تدق فيه الحرب طبولها، إنه التناقض إذن، و هو لحن يميز اليهود عن سائر البشر، و لا بأس على الذين يقتلون الأنبياء بغير حق (1)، أن يدمروا سمعه من لم يقتلوهم أيضا بغير حق، و كم من حوادث رهيبة تسجلها التوراة من هذا النوع دون تعقيب عليها، مع أن أحداثها تدور في بيوت الأنبياء (2).

و من عجب أننا نقرأ في سفر صموئيل الثاني، نفس السفر الذي روي القصة الكذوب، نقرأ على لسان داود عليه السلام «يكافئني الرب حسب بري، حسب طهارة يدي، يرد علي، لأنني حفظت طرق الرب، و لم أعصي إلهي، لأن جميع أحكامه أمامي و فرائضه لا أحيد عنها، و أكون كاملا لديه، و أتحفظ من إثمي، فيرد الرب على كبرى، و كطهارتي أمام عينيه» (3)، هذا فضلا عن نصوص أخرى من التوراة نفسها تصف داود عليه السلام، و كأنه يعمل المستقيم في عيني الرب، و أنه الأسوة الحسنة لغيره (4)، و أنه كان «يجري قضاء و عدلا لكل شعبة» (5)، و أن الرب كان معه حيث توجه (6)، لأنه

ص: 48


1- انظر: سورة البقرة: آية 61، 87، 91، آل عمران: آية 112، المائدة: آية 70، و انظر: تفسير الطبري 2/ 139- 142، 323- 324، 350- 354، 7/ 116- 118، 10/ 447، تفسير ابن كثير 1/ 145- 147، 175- 179، 2/ 77- 86، 3/ 148، تفسير المنار 1/ 273- 276، 311، 317- 318.
2- تكوين 12/ 14- 20، 19/ 30- 38، 20/ 1- 18، 26/ 1- 11، 34/ 1- 30، 35/ 22، 38/ 306، صموئيل ثان 13/ 1- 39، 15/ 1- 16/ 23، و انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل- الكتاب الثالث- التوراة و الأنبياء ص 162- 218.
3- صموئيل ثان 22/ 21- 25.
4- ملوك أول 11/ 38، 15/ 3، ملوك ثان 18/ 3، هوشع 3/ 5.
5- صموئيل ثان 8/ 15.
6- ملوك أول 3/ 3- 6.

كان يسير أمام الرب بأمانة و بر و استقامة، و أنه كان يحفظ فرائضه و وصاياه و يسلك طريقه (1)، و أنه كان الناقل لشريعة الرب لشعبه إسرائيل (2)، هذا إلى أن التوراة إنما تشير بوضوح إلى أن الرب إنما قد اصطفى من شعبه إسرائيل سبط يهودا، و من سبط يهودا بيت داود، ثم اصطفى من بيت داود، داود نفسه، و من أولاد داود ولده سليمان (3)، هذا إلى أن داود عليه السلام إنما هو صاحب المزامير المشهورة في التوراة، و أخيرا فهو، في مقام النبوة عند بني إسرائيل، إنما يأتي مباشرة بعد إبراهيم و موسى عليهما السلام (4).

و أما في القرآن الكريم، فقد وصف داود عليه السلام بأنه نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (5)، وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ (6)، وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (7)، وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (8) وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (9)، وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (10)، و في هذه

ص: 49


1- ملوك أول 3/ 14.
2- إشعياء 55/ 3- 6.
3- أخبار أيام أول 28/ 4- 5.
4- محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 203- 210.
5- سورة ص: آية 30.
6- سورة البقرة: آية 251. و انظر: تفسير الطبري 5/ 371- 372، تفسير المنار 2/ 392- 393، تفسير روح المعاني 2/ 173- 174، الدر المنثور 1/ 319، تفسير الطبرسي 2/ 291- 292، الجواهر في تفسير القرآن الكريم 1/ 230، تفسير ابن كثير 1/ 447، تفسير الكشاف 1/ 296.
7- سورة النساء: آية 163.
8- سورة النمل: آية 15.
9- سورة سبأ: آية 10- 11.
10- سورة ص: آية 17.

الآية يذكر اللّه تعالى عن عبده و رسوله داود عليه الصلاة و السلام أنه كان ذا أيد، و الأيد: القوة في العلم و العمل، قال ابن عباس: الأيد القوة، و قال مجاهد: الأيد القوة في الطاعة، و قال قتادة: أعطى داود عليه السلام قوة في العبادة وفقها في الإسلام، و قد ذكر لنا أنه عليه السلام كان يقوم ثلث الليل، و يصوم نصف الدهر، و هذا ثابت في الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال:

«أحب الصلاة إلى اللّه تعالى صلاة داود، و أحب الصيام إلى اللّه عز و جل صيام داود، كان ينام نصف الليل و يقوم ثلثه و ينام سدسه، و كان يصوم يوما و يفطر يوما، و لا يفر إذا لاقى»، و إنه كان أوابا، و هو الرجاع إلى اللّه عز و جل في جميع أموره و شئونه (1).

و انطلاقا من كل هذا، فالقصة التوراتية و ما سار على نهجها من قصص، عن علاقة داود عليه السلام، بزوجة «أوريا» الحشي، لا يتصور صدق وقائعها من رجل عادي ذي خلق، و فضلا عن نبي كريم و رسول جليل، و من هنا فقد أخطأ بعض المفسرين خطأ كبيرا، إذ فسروا ما جاء في سورة ص عن الخصمين اللذين اختصما إليه على نحو قريب مما جاء في التوراة (2)، مع أن العبارة التي ذكرت بها القصة في القرآن لا تدل على شي ء من ذلك، و من هنا فقد ختمت هذه الآيات الكريمة بقوله تعالى: وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ، و بدهي أنه لا يمكن أن تكون الزلفى و حسن المآب للزناة القتلة، و من هنا رأينا السّدى يروي عن سيدنا الإمام علي بن أبي طالب، كرم اللّه وجهه في الجنة، أنه قال: «لو سمعت رجلا يذكر أن داود عليه السلام قارف من تلك المرأة محرما لجلدته ستين و مائة»، لأن حد قاذف الناس ثمانون، و حد قاذف الأنبياء ستون و مائة، و في رواية النسفي

ص: 50


1- تفسير ابن كثير 4/ 45- 46، تفسير النسفي 4/ 36.
2- انظر: تفسير مقاتل 3/ 1266- 1268.

قال الإمام علي «من حدثكم بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة و ستين»، و هو حد الفرية على الأنبياء، بل إن ابن العربي يرى أن من قال إن نبيّا زنى فقد كفر (1)، كما أنكرت جمهرة المفسرين هذه التهمة الكذوب بالإجماع، كما أن أحدا على الإطلاق لم يقل بأن النبي المعصوم قد قارف من تلك المرأة محرما (2).

و روى النسفي أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز، و عنده رجل من أهل الحق فكذب المحدث به و قال: إن كانت القصة على ما في كتاب اللّه فما ينبغي أن يلتمس خلافها، و أعظم بأن يقال غير ذلك، و إن كانت على ما ذكرت و كف اللّه عنها سترا على نبيّه، فما ينبغي إظهارها عليه، فقال عمر:

لسماعي هذا الكلام أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، و قال النسفي:

و الذي يدل عليه المثل الذي ضربه اللّه بقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب، و إنما جاءت على طريق التمثيل و التعريض دون التصريح لكونهما أبلغ في التوبيخ من قبل أن التأمل إذا أداه إلى الشعور بالمعرض به كان أوقع في نفسه و أشد تمكنا من قلبه و أعظم أثرا فيه، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة (3).

ص: 51


1- تفسير القرطبي ص 5625- 5626، على عبد الواحد وافي: الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام- القاهرة 1964 ص 43- 44.
2- انظر: تفسير ابن كثير 4/ 47- 50، تفسير البحر المحيط 7/ 393، تفسير القاسمي 14/ 5089- 5090، تفسير البيضاوي 2/ 107- 110، تفسير الفخر الرازي 26/ 188- 198، تفسير القرطبي 15/ 166، الدر المنثور 5/ 300- 306، الإكليل للسيوطي ص 185، ابن خرم: المرجع السابق 4/ 18، تفسير النسفي 4/ 37- 39.
3- تفسير النسفي 4/ 38.

ص: 52

الفصل الثّالث داود- ملك بني إسرائيل
1- داود فيما قبل الملكية:

تروي التوراة أن داود كان حامل سلاح شاؤل (طالوت)، كما كان طلق اللسان فصيحا، خفيف الروح، شجاعا بل مقاتلا جبارا، و داود بن يس من سبط يهوذا، موطنه بيت لحم، و نسبه ينتهي إلى يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، و قد أرسله اللّه حين غضب على شاؤل ليكون ملكا على إسرائيل، مختارا إياه من بين أولاد يس الستة على رأي، و السبعة على رأي آخر، بل و الثلاثة عشر، فيما تروي المصادر العربية، و كان أشقر مع حلاوة العينين، و حسن المنظر، و في المصادر العربية عن وهب بن منبه كان قصيرا أزرق قليل الشعر، طاهر القلب نقيّه (1)، و كان قبل اشتراكه في الحرب ضد جالوت و قومه مكلفا بالعناية بأغنام أبيه، و قد أظهر في القيام بهذه المهمة إخلاصا نادرا، و شجاعة فائقة فقد قتل أسدا و دبّا هاجما القطيع (2)، و قد جاء في تاريخ الطبري أنه أتى أباه ذات يوم فقال يا أبتاه: ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرمته، قال أبشر يا بني إن اللّه جعل رزقك

ص: 53


1- صموئيل أول 16/ 1- 17/ 12، أخبار أيام أول 2/ 15، تاريخ الطبري 1/ 472، 476، ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 10، الكامل لابن الأثير 1/ 123.
2- صموئيل أول 17/ 34- 36.

في قذافتك، ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبت عليه و أخذت بأذنيه فلم يهجني، فقال أبشر يا بني، فإن هذا خير يعطيكه اللّه، و كان داود راعيا، و كان أبوه خلّفه يأتي إلى أبيه و إلى أخوته بالطعام (1).

و قد بدأ نجم داود يسطع بين قبائل بني إسرائيل منذ أن قتل جالوت، فقرّت به عين الملك، و وعده بأن يزوجه، ابنته الكبرى «ميرب» و لكنه زوجها إلى «عدريئيل المحولي» و لما أحبته أختها «ميكال» وعده بها على أن يمهره إياها مائة غلفة من الفلسطينيين (2)، و لكن يبدو أن الشعبية التي اكتسبها داود قد جعلت الملك يعدل عن الإصهار إليه، و إن كانت الرواية العربية تذهب إلى أن طالوت رجع فأنكح داود ابنته، و أجرى خاتمه في ملكه، فمال الناس إلى داود و أحبوه (3)، و من ثم فقد بدأ طالوت يخاف داود «و صار شاؤل (طالوت) عدوا لداود لكل الأيام» (4) بل «و كلم، شارل يوناثان ابنه و جميع عبيده أن يقتلوا داود»، و لكنه سرعان ما يعفو عنه نتيجة توسلات ولده يوناثان، صديق داود، غير أنه سرعان ما يغير رأيه مرة أخرى و يفكر في قتل داود، فيطعنه بالرمح و لكنه يخطئه، فيفر داود من أمامه، فيزداد غضب طالوت، و تتأجج نار الغيرة في صدره فيرسل إلى داود من يقتله في بيته «فأخبرت داود ميكال امرأته قائلة إن كنت لا تنجو بنفسك هذه الليلة فإنك تقتل غدا، فأنزلت ميكال داود من الكوة فذهب هاربا و نجا»، و وضعت في مكانه على الفراش الترافيم و لبدة المغري و غطته بثوب (5)، و في الرواية

ص: 54


1- تاريخ الطبري 1/ 472، تاريخ ابن الأثير 1/ 123.
2- صموئيل أول 18/ 7- 29.
3- تاريخ الطبري 1/ 473، تاريخ ابن الأثير 1/ 124.
4- صموئيل أول 18/ 29.
5- صموئيل أول 19/ 1- 17.

العربية أن داود لما علم أن طالوت يريد قتله، جعل في مضجعه زقّ خمر و سجاه، و دخل طالوت إلى منام داود، و قد هرب داود، فضرب الزق ضربة خرقة فوقعت قطرة من الخمر في فيه فقال: يرحم اللّه داود ما كان أكثر شربه الخمر (1)، فلما أصبح طالوت علم أنه لم يصنع شيئا، فخاف داود أن يغتاله فشدّد حجابه و حراسه، ثم إن داود أتاه من المقابلة في بيته و هو نائم، فوضع سهمين عند رأسه و عند رجليه، فلما استيقظ طالوت بصر السهام فقال: يرحم اللّه داود هو خير منى، ظفرت به و أردت قتله و ظفر بي فكف عني، و أذكى عليه العيون فلم يظفروا به، و ركب طالوت يوما فرأى داود فركض في إثره، فهرب داود منه و اختفى في غار في الجبل (2).

و هكذا اضطر داود للفرار من مكان إلى آخر، معرضا حياته للخطر، و مع ذلك فلم يذهب إلى موطنه في بيت لحم (5 أميال جنوب القدس) و إنما ذهب إلى صموئيل النبي في الرامة (رامة اللّه) و من هناك إلى «نوب» (مدينة الكهنة) حيث يعيش «أخيمالك» الكاهن، الذي دفع حياته، و كذا مدينته بما فيها من رجال و نساء و أطفال و ماشية، ثمنا لإيوائه داود (3)، و هكذا ضيق طالوت الخناق على داود، حتى اضطره أن يودع أباه و أمه عند ملك مؤاب، و أن يلجأ هو إلى ملك «جت» الفلسطيني، و حين لم يأمن مكره، لجأ هو، إلى مغارة «عدلام» حيث جمع هناك من حوله أربعمائة رجل من مريدية (4).

ص: 55


1- تاريخ الطبري 1/ 473، تاريخ ابن الأثير 1/ 124.
2- تاريخ الطبري 1/ 473، تاريخ ابن الأثير 1/ 124.
3- صموئيل أول 19/ 18- 22/ 23، قارن: تاريخ الطبري 1/ 273، تاريخ ابن الأثير 1/ 124.
4- صموئيل أول 21/ 10- 15، 22/ 1- 5، و انظر: محمد بيرمي مهران: إسرائيل 2/ 697- 701.
2- اختيار داود ملكا على يهوذا:

سرت الأنباء من كل أرجاء البلاد، كما تسري النار في الهشيم، بأن طالوت قد مات، و أن أولاده الثلاثة (يوناثان و أبيناداب و ملكيشوع) لقوا نفس المصير، و أن الإسرائيليين قد هزموا شر هزيمة في معركة جبل جلبوع (حوالي عام 1000 ق. م) و أن البلاد قد عادت مرة أخرى تحت النيّر الفلسطيني (1)، و قد أدى ذلك إلى قيام صراع مرير بين القبائل الإسرائيلية على السلطة، خاصة و أن صموئيل النبي كان قد مسح داود أثناء حياته خليفة لطالوت، و إن لم يناد به ملكا على إسرائيل، و في نفس الوقت كان «إيشبعل» بن شاؤل (طالوت) قد اعتبر نفسه الخليفة الشرعي لأبيه بعد وفاته، فضلا عن وفاة إخوته الكبار، و كان يسانده في ذلك «أبنير» قائد جيش أبيه، و أحد أمراء بيته، و من ثم فقد نودي به ملكا في «محانيم» (شمالي عجلون بميلين) عاصمة منطقة أفرايم في أرض جلعاد، جنوب يبوق، حيث ذكرى أعمال أبيه شاؤل الجرئية منذ سنوات مضت ما تزال باقية هناك، و على أية حال، فقد شملت ملكية إيشبعل مناطق غير محددة لقبائل الجبال في شرق الأردن و في الجليل و السامرة، و قد أطلق إيشبعل على نفسه، كما فعل أبوه من قبل، لقب، «ملك إسرائيل» و أدعى أنه يحكم كل القبائل الإسرائيلية، و لكن بما أن القبائل الجنوبية قد انفصلت (تحت حكم داود) عن القبائل الأخرى، فإن التصور السياسي لإسرائيل تحت حكم «إيشبعل» إنما كان يشمل فقط الجزء الأكبر من القبائل فحسب (2).

و في نفس الوقت كانت يهوذا قد مسحت داود ملكا على بيت يهوذا في

ص: 56


1- . tsaE raeN eht fo yrotsiH tneicnA ehT. llaH. R. H 359. p، 1963،. III. HAC 426. p، 1965. . p. tic- po. htoN. M 180- 177. و كذا
2- . p. tic- po. htoN. M 184- 181.

حبرون (مدينة الخليل) أو ممرا (1)، و ليس هناك من شك في أن شخصية داود نفسه كان لها دور كبير في إغراء القبائل الجنوبية لاتخاذ هذه الخطوة، فقد كان لتأثيره الشخصي أثر كبير، ما في ذلك ريب، كما أنه كحامل لدرع طالوت قد جعل منه شخصا محبوبا لكل من حوله، و هو بالنسبة للقبائل الجنوبية رجل من دائرتهم، و قد برهن بنفسه، بعد انفصاله عن طالوت، أنه بالتأكيد رجل من القبائل الجنوبية، و إن كان النظام الملكي قد انتهى سريعا، فإن طالوت هو الملام لفشله، و قد ساهم المركز الخاص و الثابت للقبائل الجنوبية بدور أساسي في الموقف دون شك، و قد استغل داود هذا الموقف لصالحه، كما كانت شخصية داود و علاقاته و حاشيته الحربية، هي الأساس في تنصيبه ملكا على كل بيت يهوذا، هذا فضلا عن أن رجال الدين كانوا موالين له، كما أن اختيار النبي صموئيل له من قبل، قد لاقى قبولا حسنا من غالبية القوم (2).

و أما الفلسطينيون، أعداء بني إسرائيل، فكانوا يرقبون الموقف عن كثب، و كان يهمهم في الدرجة الأولى أن تظل فلسطين تحت سيادتهم تماما، و ربما رأوا في قيام مملكتين إسرائيلين منفصلتين مما يحقق أعراضهم، بل ربما كان الفلسطينيون من وراء قيام هاتين المملكتين، الواحدة في حبرون، و على رأسها داود، و الأخرى في الشمال، و على رأسها «إيشبعل» و ربما كانت هذه المملكة الشمالية تحت السيادة الفلسطينية، و في كل الحالات فإن الوضع الجديد كان في مصلحة الفلسطينيين الذين ما كانوا أبدا بكارهين أن يروا أعداءهم الإسرائيليين ضعافا عن طريق الانقسام الداخلي (3)،

ص: 57


1- صموئيل ثان 2/ 4.
2- , egdirbmaC, III. HAC, llaH. R. H 427. p، 1965. و كذا. p, tic- po, htoN. M 183- 182.
3- , dnoL, dnaL yloH eht ni ygoloeahcrA, noyneK. M. K 240. p، 1970. كذا, aidedpolcycnE hsiweJ ehT 452. p، 1903.

و الذي يقضي بالتأكيد على تحالف القبائل الاثني عشر، كوحدة سياسية و حربية، خاصة و أن داود، و من ورائه القبائل الجنوبية كانوا يعملون على استمرار هذا التحالف، و من هنا فقد سكت الفلسطينيون مؤقتا على ما يجري من أحداث، لأنهم لم يجدوا سببا لمساعدة طرف على آخر، كما كانوا قانعين بترك مواليهم من بني إسرائيل يحطم بعضهم البعض الآخر (1).

3- داود و توحيد إسرائيل:

كان طموح داود أعظم و أكبر من أن تكفيه منطقة ضئيلة في أقصى جنوب فلسطين، كالتي اعترفت بسلطانه، فبدأ يرنو بناظرية إلى الشمال، الذي استقل تحت حكم إيشبعل الضعيف، و كان الصدام بين الحزبين المتنافسين أمرا لا مفر منه، و هكذا بدأ داود يعد عدته سياسيا و عسكريا لاستعادة وحدة إسرائيل، و من ثم فإنه لا يكتفي بعلاقاته الودية مع القبائل الجنوبية، و لكنه يمدها إلى شرق الأردن، و من ثم فقد تزوج من ابنة ملك «جشور» الآرامي، لأن مملكته كانت مجاورة ليابيش جلعاد، حيث لجأ إيشبعل و تحصن هناك، كما أنه دخل في حلف مع ملك عمون، ليطبق كماشته على إيشبعل، و نقرأ في التوراة أن داود بدأ يتفاوض مع رجال عدوه و يدفعهم إلى الانضمام إليه، و قد أجابه كثيرون، و هكذا أصبح الموقف العام في يهوذا ضد إسرائيل، بل و بدأت يهوذا تستغل مشاكل إسرائيل لمصلحتها (2).

ثم سرعان ما لبثت يهوذا و إسرائيل، تحت حكم داود و إيشبعل، أن

ص: 58


1- . p, tic- pO, htoN. M 183. و كذا. P. tic- pO, llaH. R. H 427.
2- صموئيل ثان 2/ 8، محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 706- 710، إسماعيل راجي الفاروقي: أصول الصهيونية في الدين اليهودي- القاهرة 1964 ص 44- 45، و كذا, II, HAC, kooC. A. S 373. p، 1931.

غرقتا في اشتباكات عسكرية في منطقة الحدود، و عند ما قرر «جبنير» قائد جيش إيشبعل، غزو مملكة داود الصغيرة، و ضمها لمملكة إسرائيل، فقد هزم في «جبعون» على يد «يوآب» قائد جيش داود (1)، و قد كشفت البعثات الأمريكية عام 1956 م أسوار مدينة «جبعون» (7 أميال شمالي القدس)، كما اكتشفت كذلك مشهد المعركة الدموية في تلك الأيام الخوالي من بداية الألف الأولى قبل الميلاد، و طبقا لرواية التوراة، فلقد حدث قتال عنيف في هذه البقعة يدا بيد بين أعوان المتنافسين (2)، و سرعان ما قتل إيشبعل، و خلص حكم بني إسرائيل لداود وحده، و دانت له الأسباط جميعا (3) و جاء جميع شيوخ إسرائيل إلى الملك، إلى حبرون، فقطع الملك داود معهم عهدا في حبرون أمام الرب، و مسحوا داود ملكا على إسرائيل، و كان داود ابن ثلاثين سنة حين ملك، و ملك أربعين سنة، في حبرون ملك على يهوذا سبع سنين و ستة أشهر، و في أورشليم ملك ثلاثا و ثلاثين سنة على جميع إسرائيل و يهوذا» (4)، و قد أشرنا من قبل إلى الآراء المختلفة التي دارت حول تحديد الفترة التي حكم فيها داود عليه السلام، و ارتضينا أن نأخذ بما ذهب إليه «وليم أولبرايت» من أنها في الفترة (100- 960 ق. م) (5).

4- داود و الفلسطينيون:

لم يتقبل الفلسطينيون عن رضى اتحاد قوى اليهودية و إسرائيل في دولة

ص: 59


1- . P, tic- pO, relleK. W 188.
2- صموئيل ثان 2/ 13- 32، و كذا, AB, drahctirP. B. J 75- 62. p، 1956، 19، BMU. 26- 3. p، 1957. 21. . p. tic- pO, relleK. W 188. و كذا
3- صموئيل ثان 2/ 13- 4/ 12، و كذا. p, tic- po, htoN. M 186 و كذا, aideapolcycnE hsiweJ ehT 461. p، 4.
4- صموئيل ثان 5/ 3.
5- . p. tic- pO. thgirellA. F. W 122- 120.

واحدة، تحت زعامة داود، البطل الجديد، و من ثم فقد بدءوا يفكرون في مقاومة هذه الوحدة، التي كانت، دونما ريب، تمثل تهديدا خطيرا لسيطرتهم على فلسطين (1)، و نقرأ في التوراة «و سمع الفلسطينيون أنهم مسحوا داود ملكا على إسرائيل، فصعد جميع الفلسطينيين ليفتشوا على داود، و احتلوا وادي الرفائيين» (2) (وادي البقاع جنوب غربي القدس على الأرجح) ذلك لأن منطقة القدس هي التي تفصل المناطق التي تحتلها إسرائيل عن تلك التي تحتلها يهوذا، و بهذا قطعوا اتصال داود بالأسباط الشماليين أو على الأقبل عملوا على منع تجميع جيوش المملكتين.

و شرع داود يستعد بفرقته من الجنود المحترفين، و ربما قام بهجوم مفاجئ قرب وادي جبعون، نجح فيه في قهر الفلسطينيين تماما، و هزيمتهم باستخدام أسلوبهم الحربي، فلم يواجههم، كما فعل طالوت، بالجانب الأكبر من قواته، و إنما بفرقة من المحترفين التي ربما كانت قد عززت و تطورت أثناء حكم داود في يهوذا (3)، و كان لديهم الفهم المحترف لفن ».

ص: 60


1- .. p. tic- po, htoN. M 187.
2- صموئيل ثان 5/ 17- 18.
3- كان جيش إسرائيل على أيام داود يتكون من عنصرين هما: (1) السبا (abaS) أي أفراد الحرس الملكي، و هم جماعة من رجال القبائل الأقوياء يستدعون بصوت النفير، و برفع الأعلام أو إشعال النار على التلال، و هي قوات بدون زي موحد كان تجميعها و وضعها تحت السلاح يعتمد على الإرادة الفردية الجيدة، و كان داود يستخدمهم ضد الشعوب المجاورة في شرق الأردن، و كانوا يحملون مع التابوت إلى أرض المعركة، و من الواضح أن داود كان ينظر إلى التابوت بأهمية كبيرة، فهو إلى جانب قيمته الدينية، إنما كان يمثل تحالف القبائل الإسرائيلية جميعا.(2) الجبوريم (mirobbiG) و هي القوات الدائمة و قد تكونت نواتها الأولى من ستمائة مقاتل كانوا قد تجمعوا حول داود عند ما هرب عن طالوت، و كانوا يسمعون «رجال داود الأقوياء» و إن لم يكونوا جميعا من بني إسرائيل، بل إن معظمهم من شعوب أجنبية (و منهم أوريا الحشي) و كانوا ينتمون إلى داود شخصيا، و ليس إلى القبائل الإسرائيلية، و كانوا سلاحه في خطواته الأولى نحو عرش إسرائيل، و قد أحرز بهم انتصارات هامة، كانتصاره على الفلسطينيين و كاحتلاله «دولة المدينة أورشليم».

الحرب، و هكذا هزم داود الفلسطينين بهذا الجهاز السريع الحركة، و بمهارته المنقطعة النظير (1)، و لكن سرعان ما قام الفلسطينيون بمحاولة ثانية، بعد أن قدّروا، نتيجة للجولة السابقة، القوة و المهارة الحربية لداود، و لم يعدوا كل قوتهم لمواجهته، و من ثم فسرعان ما ظهروا في وادي رفائيم، و هزمهم داود مرة أخرى في مكان تصفه التوراة بأنه «مقابل أشجار البكا» (2)، و ربما أطبق داود بقواتهم عليهم من الشمال، من جانب دولة إسرائيل، فجأة، كاحدث من قبل، و على أية حال، فطبقا لرواية التوراة، فلقد قام داود «بضرب الفلسطينين من جبع إلى مدخل جازر» و إن ذهبت رواية أخرى إلى أنه ضربهم» من جبعون إلى جازر، مقتفيا أثرهم حتى حدود بلادهم (3).

و هكذا كتب لداود النصر المبين على أقوى أعدائه، و أكثرهم أهمية، كما كتب له نجما بعيد المدى في طردهم من المناطق الإسرائيلية بل إننا لنسمع عن حرب دقت طبولها عند «جت»، إحدى المدن الخمسة الرئيسية في الاتحاد الفلسطيني، بل و قد أصبحت مدينة «جت» فيما بعد مدينة إسرائيلية تحت حكم داود (4).

غير أن تلك الانتصارات التي حققها داود ضد الفلسطينين، كما جاءت في التوراة، لم تجعل الفلسطينين تابعين لداود سياسيا، صحيح أنها أجبرتهم على الاعتراف بسيادة داود على الجزء الأكبر من فلسطين، و لكنه صحيح كذلك أنهم بقوا في إقليمهم الصغير على ساحل البحر المتوسط، القوة

ص: 61


1- .. p, tic- pO, htoN. M 188- 187.
2- صموئيل ثان 5/ 23.
3- صموئيل ثان 5/ 25، أخبار أيام أول 14/ 16، و كذا:. p, tic- pO, htoN. M 189- 188.
4- .. p, tic- pO, sdoL A 360.

الوحيدة التي لم يقدر لداود أن يخضعها، و لعل السبب في ذلك فيما يرى بعض الباحثين، أن مصر، رغم أنها كانت تمر بفترة ضعف في تلك الآونة، قد أعطت الفلسطينيين من تأييدها، ما يمنع داود من ضمهم إلى نفوذه، بل إن السهل الساحلي الفلسطيني لم يصبح أبدا جزءا من الأملاك الإسرائيلية، هذا فضلا عن أن الفلسطينيين سرعان ما يظهرون مرة أخرى كجماعة مستقلة في القرن الثامن و السابع قبل الميلاد (1).

5- داود و مؤاب و عمون و آرام و أدوم:

كانت مؤاب أول قوة، من أعداء إسرائيل القدامى، هوجمت و هزمت و أصبحت ولاية تابعة لداود عليه السلام، و طبقا لرواية التوراة، فلقد «أصبح المؤابيون عبيدا لداود يقدمون هدايا»، و إن استمر النظام الملكي فيها قائما كما كان من قبل، مع الاعتراف بالتبعية لداود عليه السلام (2).

و كانت عمون هي القوة التالية التي ضربها داود، و لعل السبب المباشر للصدام بين داود و بنحمون إنما هو إساءة العمونيين لرسل داود الذين كانوا في مهمة ودية بمناسبة تغيير السلطة في عمون، حيث قام «حانون» ملك عمون الجديد «فأخذ عبيد داود و حلق أنصاف لحاهم و قص ثيابهم من الوسط إلى أستاههم، ثم أطلقهم» (3)، و من ثم فقد أدرك العمونيون، بعد فعلتهم هذه، أن الحرب مع بني إسرائيل أصبحت أمرا لا مفر منه، و من هنا فقد بدءوا يطلبون معونة جيرانهم الآراميين في «أرام بيت رحوب» و أرام «صوبة» و في معكة و طوب (4)، و أتى هؤلاء بحشد كامل من الرجال و المعدات لمساعدة

ص: 62


1- صموئيل ثان 5/ 17- 25 و كذا. p, tic- pO, noyneK. M. K 244. و كذا. p, tic- pO, htoN. M 194
2- صموئيل ثان 8/ 2، و كذا. p, tic- pO, htoN. M 194. و كذا. p, tic- pO, llaH. R. H 430
3- صموئيل ثان 10/ 1- 5.
4- انظر عن هذه الولايات الآرامية في شرق الأردن (محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 539- 542).

العمونيين ضد الهجوم الإسرائيلي المرتقب، و قد نجحت قوات داود بقيادة «يؤاب» في هزيمة هؤلاء الآراميين، ثم «رجع يؤاب عن بني عمون و أتى إلى أورشليم» (1).

و يعلم «هدد عزره ملك صوبة بذلك، فيستدعي «أرام الذي في عبر النهر» إلى «حيلام» (ربما كانت عليم أو علمه في سهل حوران) و يتقدم قائده «شوبك» لملاقاة بني إسرائيل، و ينجح داود، الذي كان على رأس جيشه هذه المرة، في إحراز النصر، و في العام التالي يأمر داود قائده «يؤاب» بالاتجاه نحو عمون، و سرعان ما يحاصر يؤاب «ربة» (ربه عمون» (2)، غير أنه لا يستطيع إخضاعها، و من ثم يطلب نجدة من داود، الذي يسرع لإنقاذ قائده بنفسه، فيستولي على قلعة المدينة، و يعاقب العمونيين بقسوة، و طبقا لرواية التوراة، فإن داود أمر بحرق المغلوبين، و سلخ جلودهم و وشرهم بالمنشار، بعد أن وضعهم تحت نوارج و فئوس من حديد (و بدهي أن ذلك من تحريفات التوراة، فما كان النبي الأواب يفعل ذلك أبدا)، ثم وضع التاج العموني، بما فيه من ذهب و أحجار كريمة، على رأسه، و بعبارة أخرى، فلقد أصبح داود ملكا على عمون (3).

ثم اتجه جيش داود بعد ذلك إلى أدوم، و طبقا لرواية التوراة، «فإن يؤاب و كل إسرائيل أقاموا في أدوم ستة أشهر، حتى أفنوا كل ذكر في أدوم»، و هكذا هزمت قوات إسرائيل أدوم، و قتل «حداد الثاني»، و هو الملك الثامن

ص: 63


1- صموئيل ثان 1/ 6- 14 و كذا., nodnoL, learsI fo yrotsiH ehT, htoN. M 195. p، 1965.
2- ربة أوربة عمون: هي عاصمة العمونيين، و قد سميت في العصر الإغريقي «فيلادلفيا، نسبة إلى ملك مصر «بطليموس الثاني فيلادلفيوس» (284- 246 ق. م)، و هي في موقع تشغله حاليا عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية «عمان» حيث يوجد في اسمها جزء من اسم العمورتين (محمد بيومي مهران) إسرائيل 2/ 557).
3- صموئيل ثان 12/ 26- 31، و كذا.. p, tic- pO, htoN. M 195

من سلسلة ملوك أدوم، و لكن ولده «هدد»، و الذي ربما كانت أمه مصرية، قد استطاع الهروب إلى مصر، حيث تزوج هناك من أميرة مصرية «أخت تخفنيس الملكة»، و عاش ضيفا على فرعون إلى أن مات داود عليه السلام، حيث بدأ الأمل يعاوده في استعادة حقه الشرعي في عرش أدوم (1).

و قد نجح داود إلى حد بعيد في تنظيم أدوم، كولاية تحت إمرته، و رغم أنها كانت بعيدة نسبيا عن دولته، إلا أنها كانت مهمة بالنسبة إليه، فهي تمكنه من الوصول إلى خليج العقبة، و من ثم إلى البحر الأحمر، هذا فضلا عن أنها كانت تحتوي على كثير من الرواسب المعدنية على حدود وادي العربة، و من هنا كانت أدوم ذات أهمية اقتصادية كبيرة بالنسبة إلى داود، ذلك لأن الصحراء العربية و التي تمتد من نهاية جنوب البحر الميت و حتى خليج العقبة إنما كانت غنية بمعدني النحاس و الحديد، و قد استغل داود ذلك أفضل استغلال، «و هيأ داود حديدا كثيرا للمسامير لمصاريع الأبواب و الوصل، و نحاسا كثيرا بلا وزن» (2).

6- دولة داود و مدى اتساعها:

لا ريب في أن داود عليه السلام قد كتب له نجحا بعيد المدى في أن يخلص قومه الإسرائيليين من النير الفلسطيني، و في أن يحقق لهم الاستقلال التام، بل و أن يوجد لنفسه نفوذا في مؤاب و أدوم و عمون، و في أن تقدم له الهدايا- و ليس الجزي- من أرامي دمشق، و في أن يقيم علاقات المودة مع «توعي» ملك حماة، ضد عدوهما المشترك «هدد عزر» ملك الآراميين في صوبة، و مع ذلك فعلينا ألا نبالغ كثيرا في تقدير سعة مملكة داود عليه

ص: 64


1- صموئيل ثان 8/ 13، ملوك أول 11/ 14- 22، و كذا. p, tic- pO, llaH. R. H 431 و كذا, nodnoL, learsI dna tpygE, eirteP. F. M. W 65. p، 1925.
2- أخبار أيام أول 22/ 4، و كذا. p, tic- pO, htoN. M 196. و كذا. p, tic- pO, relleK. W 188

السلام، فنطلق عليها وصف «إمبراطورية»، كما أراد أن يصفها بعض المؤرخين المحدثين (1)، أو نبالغ في حدودها كما فعل بعض الكتاب المصريين المحدثين، فجعلها تمتد من نهر الفرات إلى البحر المتوسط، و من دمشق إلى الخليج العربي (2)، بل إن هناك من زعم، دونما أي دليل، أن داود و سليمان عليهما السلام قد أقاما دولة تشمل الشام كله، و الجزيرة العربية كلها (3)، الأمر الذي يدعونا إلى مناقشته بشي ء من التفصيل عند الحديث عن دولة سليمان عليه السلام.

و على أية حال، فربما كان تحديد الدكتور الحاخام «أبشتين» أقل مبالغة من غيره، فقد ذهب إلى أن دولة داود كانت تمتد من فينيقيا (لبنان) في الغرب، إلى حدود الصحراء العربية في الشرق، و من نهر العاص (الأورنت) في الشمال إلى خليج العقبة في الجنوب (4)، و أما التوراة فقد ذهبت إلى أن مملكة إسرائيل كانت في أقصى اتساع لها «من دان إلى بئر سبع» (5)، و من ثم فالتوراة التي اشتهرت بمبالغاتها فيما يتصل بمملكة إسرائيل، إنما تحدد لها من الشمال مدينة «دان» و تقع عند سفح جبل حرمون عند تل القاضي حيث منابع الأردن على مبعدة ثلاثة أميال غربي بانياس (6)، و من الجنوب «بئر سبع» الحالية، و لم تشر التوراة إلى حدود لإسرائيل من الغرب أو الشرق، هذا أو قد ذهب المسعودي إلى أن ملك داود

ص: 65


1- , egdirbmaC, 2, traP, II, HAC ni, modgniK werbeH ehT, tdlefssiE. O 583. p، 1975.
2- علي إمام عطية: الصهيونية العالمية و أرض الميعاد ص 63.
3- جمال عبد الهادي و وفاء رفعت: ذرية إبراهيم عليه السلام و بيت المقدس- الرياض 1986 ص 255- 256، 259، 270.
4- , msiaduJ, nietspE, I 35. p، 1970.
5- قضاة 20/ 1، صموئيل أول 3/ 20، صموئيل ثان 24/ 15 أخبار أيام أول 21/ 2، و كذا. p, tic- pO, regnU. F. M 236.
6- قاموس الكتاب المقدس 1/ 356- 357.

إنما كان على فلسطين و الأردن، كما جاء في مروج الذهب (1/ 70).

و لعل من الجدير بالإشارة أن فينيقيا كانت- و خاصة على أيام «حيرام» (980- 936 ق. م) الذي عاصر داود و سليمان و كان ذا نشاط كبير في الاقتصاد و الفن و العمارة في إسرائيل- دولة مستقلة، و ليست هناك أية إشارة في التوراة أو الوثائق التاريخية إلى أن حيرام كان خاضعا لداود، كما أن هناك ما يشير إلى محاولة داود توطيد علاقاته بحماة من أقصى الشمال، فضلا عن الفلسطينيين في الغرب، و أن السيطرة الإسرائيلية على أيام داود لم تكتمل بالاستيلاء على كل فلسطين، و حتى الجزية، فيما يبدو، لم تكن ترسل إلى القدس، أضف إلى ذلك أن الفلسطينيين الجنوبيين قد وضعوا أنفسهم، راغبين لا مكرهين، تحت حماية فراعين مصر الشماليين في تانيس، و الذين كانوا يتبعون سياسة نشطة في فلسطين في تلك الأيام، حتى إن «شيشنق، مؤسس الأسرة الثانية و العشرين، عند ما غزا يهوذا بعد موت سليمان عليه السلام، لم يذكر المدن الفلسطينية، مما يدل على أنها كانت تحت الحكم المصري من قبل» (1).

و من ثم يذهب «هربرت ويلز» إلى أن أرض الميعاد (المزعومة) لم تقع يوما- و لن تقع، في قبضة العبرانيين، هذا فضلا عن أن ما وطد ملك داود، و هيأ له شيئا من الاتساع، أن أمور مصر كانت في عهده مرتبكة، فخفت هيمنتها على فلسطين و بلاد الشام، و كانت أمور آشور مرتبكة كذلك، و قد منح هذا كله لداود عليه السلام شيئا من الحرية و النشاط و ممارسة السيادة (2).

ص: 66


1- ج. كونتنو: الحضارة الفينيقية- ترجمة محمد عبد الهادي شعيرة ص 71، و كذا. p, tic- pO, llaH. R. H 431.
2- , nodnoL, yrotsiH fo eniltuo eht, slleW. G. H 279. p، 1965.

و أيا ما كان الأمر، فإن حكم داود- و كذا سليمان، عليهما السلام، إنما يمثل فترة الرخاء الوحيدة التي قدّر للشعوب العبرانية أن تعرفها على مرّ الدهور، و هي تقوم على محالفة وثيقة الأواصر مع مدينة «صور» الفينيقية التي يلوح أن ملكها «حيرام» كان رجلا قد أوتى نصيبا كبيرا من الذكاء و القدرة على المغامرة، و كان يبغي أن يكفل للتجار في البحر الأحمر طريقا آمنا عبر منطقة التلال العبرانية، و كان الأصل في التجارة الفينيقية أن تذهب إلى البحر الأحمر عن طريق مصر، بيد أن مصر كانت في تلك الفترة تمر بحالة من الفوضى، هذا و قد أنشأ حيرام أوثق العلاقات مع داود و سليمان عليهما السلام، و قد أنشئت بمساعدة حيرام أسوار أورشليم و قصرها و معبدها، و في مقابل ذلك بني حيرام سفنه على البحر الأحمر و سيّرها فيه، و أخذ سيل جسيم من التجارة يتدفق خلال أورشليم نحو الشمال و الجنوب (1)، بخاصة و أن داود عليه السلام قد سيطر تماما على طرق لقوافل القادمة من بلاد العرب الجنوبية و التي كانت تمر في مملكته عند النهاية الشمالية لخليج العقبة على الجانب الشرقي لوادي عربة، و حتى غوطة دمشق، ثم ترتبط بالطرق المؤدية إلى شمال سورية فآسيا الصغرى، و تلك التي كانت تمر بالصحراء الغربية إلى «ميزوباتاميا»، مما كان له أكبر الأثر في حالة دولة داود الاقتصادية، بل إن هناك من يذهب إلى أن حروب داود إنما كانت لهذا الغرض، على الرغم من أن المصادر المتبقية من عهده لا تعطي أهمية لذلك (2)، و هذا ما نرفضه تماما، ذلك أن داود، و إن كان ملك اليهود القدير، فهو قبل ذلك و بعده نبيّ اللّه و رسوله، و ما كان الأنبياء أبدا يحاربون من أجل أسباب اقتصادية، و إنما كانت حروبهم كلها جهادا في سبيل اللّه و نشر كلمة «لا إله إلا اللّه».

ص: 67


1- . p, dlroW eht fo yrotsiH trohsA, slleW. G. H 76.
2- . p, tic- pO, tdlefssiE. O 583.
7- وراثة العرش و الخلافات العائلية:

لم تكن هناك قاعدة عامة قد وضعت بعد لخلافة العرش في دولة إسرائيل الجديدة، و لكن مما لا شك فيه أن الابن الأكبر كان صاحب الحق في ذلك، إلا أن مكانة الأم و رغبة الملك و اختيار الشعب و الموافقات الدينية قد تكون سببا في اختيار أحد أخوته الصغار (1).

و يذهب بعض الباحثين إلى أنه ربما كانت فكرة داود عليه السلام عند ما طلب «ميكال» ابنة طالوت (شاؤل) لتكون زوجة له، إنما كان يبغي من وراء ذلك أن الابن الأكبر من هذا الزواج، تكون له الأفضلية على بقية إخوته من علات ميكال، و ربما يستطيع هذا الابن المرتقب أن يجذب إليه عواطف هؤلاء الذين كانوا يؤيدون بيت شاؤل، بصفته حفيدا لشاؤل، و لكن «لم يكن لميكال بنت شاؤل ولد إلى يوم موتها» (2)، و هكذا ضاع الأمل في أن يكون خليفته داود هو في نفس الوقت حفيد شاؤل (طالوت)، و أما بالنسبة لبقية أبناء داود فطبقا للقانون الإسرائيلي- كما قررته التوراة في سفر التثنية (3)، فإن للابن الأكبر نصيب الأسد في ميراث أبيه، بصرف النظر عن مكانة الأم بين علاتها من زوجات الأب، و من هنا كان من الطبيعي أن يخلف داود على عرش إسرائيل أكبر ولده، و لكن هنا في حالة داود عليه السلام، مؤسس الملكية و البيت المالك، فإن الابن الأكبر، الذي ولد بعد اعتلائه العرش مباشرة، ربما كانت له أفضلية خاصة، و لكن أبناء داود أنفسهم ما كانوا

ص: 68


1- . p, tic- pO, sdoL. A 364.
2- صموئيل ثان 6/ 23.
3- تثنية 21/ 5- 17، و انظر عن «البكورية» عند بني إسرائيل (تكوين 25/ 31، تثنية 21/ 17، خروج 22/ 29، قاموس الكتاب المقدس 1/ 187، محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 189- 192).

يعيرون المظهر الأخير أية أهمية خاصة، و إنما كانوا يعتبرون أنفسهم جميعا خلفاء محتملين للعرش، طبقا لترتيب أعمارهم (1).

و هناك في التوراة قائمة بستة أبناء ولدوا في حبرون، أثناء فترة ملكية داود على يهوذا و هم «و كان بكره أمنون من أخينو عم اليزرعيلية، و ثانية كيلاب من أبيجايل، و الثالث أبشالوم ابن معكة بنت تلماي ملك جشور، و الرابع أدونيا بن جحيث، و الخامس شفطيا بن أبيطال، و السادس يثر عام من عجلة» (2)، و لكن نظرا لأن داود كانت له زوجتان، على الأقل، تعتبران أقدم من الأخريات (أخينوعم و أبيحايل)، و طبقا لرواية التوراة في صموئيل الأول (25/ 42- 43) فربما كان البعض من هؤلاء الأبناء أكبر قليلا من الآخرين، و أن القائمة السابقة كانت إضافة لإحصاء أبناء داود الذين ولدوا في أورشليم (3)، و هم طبقا لرواية صموئيل الثاني (5/ 13- 16): شموع و شوباب و ناثان و سليمان و بيجار و اليشوع و نافج و يافيع و البشمع و البداع و اليفلط».

هذا و يوصف «أمنون» صراحة في سفر صموئيل الثاني (3/ 2) بأنه ابن داود البكر، و من ثم فقد اعتبر نفسه، كما اعتبره إخوته كذلك، وليا للعهد أو الملك القادم، غير أنه لم يكن حكيما بما فيه الكفاية، كما لم يكن كريما و لا عفيفا، و طبقا لرواية التوراة في صموئيل الثاني (إصحاح 13- 14) فقد اعتدى على أخته غير الشقيقة، مما دفع أبشالوم إلى أن يثأر لعرض شقيقته «تامار» فيقتله، ثم هرب عند أخواله في جشور، و بقي هناك ثلاث سنوات (4)، و من ثم فقد أصبح كيلاب الابن الثاني لداود وليا للعهد، و لكنه ).

ص: 69


1- . p, tic- pO, htoN. M 200
2- صموئيل ثان 3/ 2- 5.
3- . p, tic- pO, htoN. M 200
4- انظر عن قصة أمنون و أخته ثامار (صموئيل ثان 13/ 1- 39، محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 211- 213).

سرعان ما يختفي لسبب لا ندريه على وجه اليقين، و من ثم فقد أصبح أبشالوم الابن الثالث لداود وليا للعهد، و لكنه بدوره سرعان ما يختفي في ثورة دامية، كما سنرى، و من ثم تصبح ولاية العهد من حق الابن الرابع «أدونيا»، و لكنه لم يصل إلى العرش أبدا، حيث سيكون ذلك من نصيب سليمان، الابن العاشر كما سنشير إلى ذلك بالتفصيل فيما بعد.

8- ثورة أبشالوم:

بدأ أبشالوم يعدّ العدة لاعتلاء عرش أبيه، و كان أول ما فعله أن حصل- بمساعدة يؤاب- على عفو أبيه المطلق عن جريمته بقتل أخيه أمنون، و من ثم فقد عاد أبشالوم من جشور إلى أورشليم، و بدأ يبث الدعوة لنفسه بين المقربين إليه، ثم سرعان ما نجح في اكتساب عطف و تأييد القبائل الإسرائيلية و خاصة يهوذا قبيلة أبيه، و حين استوثق من النجاح ذهب إلى حبرون بإذن من أبيه، بحجة الوفاء بنذر كان قد نذره إبان إقامته في «جشور»، و هناك في حبرون أعلن عصيانه و نادى بنفسه ملكا على إسرائيل، و من أسف أن القوم سرعان ما انضموا إليه ضد داود، بل إن ثورة أبشالوم سرعان ما ضمت إليها «أخيتوفل» و هو واحد من مستشاري داود المقربين (1).

و تعلل بعض المصادر الإسلامية سرعة استجابة اليهود لأبشالوم، بأن قصة امرأة أوريا الحثي كانت سببا في إزالة طاعة داود عن بني إسرائيل و استخفوا بأمره و وثب عليه ابن يقال له «إيشا» و أمه ابنة طالوت، فدعى إلى نفسه، فكثر أتباعه من أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلما تاب اللّه على داود اجتمع إليه طائفة من الناس، فحارب ابنه حتى هزمه، و وجه إليه بعض قواده

ص: 70


1- صموئيل ثان 13/ 29، 14/ 1- 3، 15/ 7- 10، ماير: حياة داود ص 362 (مترجم)، و انظر: تاريخ اليعقوبي 1/ 53.

و أمره بالرفق به و التلطف لعله يأسره و لا يقتله، و طلبه القائد و هو منهزم فاضطره إلى شجرة فقتله، فحزن عليه داود حزنا شديدا و تنكر لذلك القائد (1).

و يذهب بعض المؤرخين المحدثين إلى أن القبائل الإسرائيلية ربما كانت غير راضية عن اتساع أملاك داود التي بدأت تمتد إلى ما وراء مناطقها، ذلك لأن ضم إسرائيل لعديد من المدن المستقلة ذات المستوى الحضاري المتقدم، و التي تمتلك صناعات هامة، فضلا عن سيطرتها على أراض كبيرة و غنية تمر خلالها طرق القوافل، كل ذلك أدى إلى رخاء مفاجئ في إسرائيل، تمتعت به طبقة خاصة صغيرة من رجال البلاط و كبار الموظفين و قادة الجيش و التجار، بينما لا يتمتع العامة من القوم ممن كانوا يعملون جنودا عاديين في الجيش بمثل هذا الرخاء، مما جعلهم غير راضين عن الوضع الجديد المفاجئ و يتقبلون دعاوي أبشالوم ضد أبيه (2)، أضف إلى ذلك، فيما يرى البعض، التوتر القائم بين يهوذا و إسرائيل، و الذي ظل قائما أبدا، و رغم أنه لم يكن السبب الرئيسي للثورة، إلا أنه لعب دورا هاما فيها، بخاصة و أن يهوذا حيث قامت الثورة في حبرون، بدأت تحس أن داود بدأ يفضل إسرائيل عليها (3)، و أخيرا فلعل من أسباب الثورة ذلك الاتجاه العدائي من القبائل الإسرائيلية، التي اعتادت النظام القبلي، ضد سياسة المركزية التي بدأت تسير عليها مملكة داود (4).

و مع ذلك فإن أسباب ثورة أبشالوم ما زالت تنتظر مزيدا من الوضوح،

ص: 71


1- ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 127، و انظر: تاريخ الطبري 1/ 484.
2- . p, tic- pO. dlefssiE. O 586- 585 F 1 ,nehc .ruM ,anitsalaP ni netilearsI red gnudiulnetaatS eiD ,tlA .A 56. p، 1953.
3- . p, tic- pO, tdlfssiE 586.
4- . p, learsI fo noigileR dna ygoloeahcrA, thgirblA. W 158.

ذلك لأن حركة السخط التي قام بها «شبع بن بكري» من سبط بنيامين (1) (سبط طالوت) ضد داود، بعد انتصاره على ولده أبشالوم، إنما قد استمدت قوتها من المعارضة الدائمة بين قبائل الشمال و الجنوب، و رغم أن داود عليه السلام قد كتب له نجحا بعيد المدى في القضاء على كليهما، و أن القضاء على ثورة شبع كان أسرع من القضاء على ثورة أبشالوم، فالذي لا شك فيه أن الأمور في إسرائيل ربما كانت سوف تتغير كثيرا بسبب هاتين الثورتين، لو لا وجود شخصية داود القوية (2)، ذلك لأن التنافس بين قبائل الشمال و الجنوب كان أقوى عوامل هدم مملكة إسرائيل، و هو تنافس لم يقض عليه أبدا، بل هو نفسه الذي قضى على الدولة (3).

و أيا ما كان الأمر، فإن ثورة أبشالوم إنما كانت جد خطيرة، حتى إن داود عليه السلام لم يجد بجواره غير حرسه الخاص و حتى اضطر إلى أن يعبر الأردن إلى «محانيم» تحت حماية التابوت مع رجاله، حتى لا يفاجأ بأبشالوم و أتباعه في العاصمة أورشليم (4)، بل إن بعض المصادر العربية جعلته يلحق بأطراف الشام، بل إن الخيال ذهب بهم إلى أن يصلوا به إلى خيبر و ما إليها من بلاد الحجاز (5)، بينما ذهب آخرون إلى أن داود هرب ماشيا على رجليه حتى صعد عقبة طور سيناء، و بلغ منه الجوع حتى لحقه رجل معه خبز و زيت فأكل منه، و دخل أبشالوم مدينة أبيه، و صار إلى داره و أخذ سراري أبيه فوطأهن و قال: ملكني اللّه على بني إسرائيل، و خرج معه اثنا عشر ألفا فطلب داود ليقتله، فهرب داود حتى جاز نهر الأردن (6)، و هكذا يبدو واضحا مدى ).

ص: 72


1- صموئيل ثان 20/ 1- 22.
2- . p, tic- pO, tdlefssiE. O 586.
3- سبتينو موسكاتي: المرجع السابق ص 141.
4- صموئيل 14115- 16/ 14.
5- تاريخ ابن خلدون 2/ 111 (بيروت 1981).
6- تاريخ اليعقوبي 1/ 53 (بيروت 1980).

اضطراب الروايات في تحديد المكان الذي لجأ إليه داود عليه السلام، فهو في رواية لجأ إلى محانيم في عبر الأردن، و هو في رواية ثانية إنما يلجأ إلى خيبر في شمال غرب الجزيرة العربية، و في رواية ثالثة صعد إلى عقبة طور سيناء، بل إن نفس الرواية سرعان ما تعكس الاتجاه و تذهب به إلى الشرق، فتعبر به الأردن، و بدهي أن اضطراب هذه الروايات إنما يقلل من قيمتها التاريخية، و يجعلها في مظان الشك و هواتف الريبة، فضلا عن الشك في القصة من أساس، و هذا ما نميل إليه و نرجحه.

و على أية حال، فإن أبشالوم، طبقا لرواية التوراة، قد استطاع أن يستولى على أورشليم، و أن يغتصب عرش أبيه بل إنه حتى لم يتورع عن أن ينتهك عرض أبيه بمشورة أخيتوفل على مرأى من الناس «فنصبوا لأبشالوم الخيمة على السطح، و دخل أبشالوم إلى سراري أبيه أمام جميع إسرائيل» (1)، غير أن بني إسرائيل بدءوا بعد ذلك يعودون إلى داود و الانضمام إلى جيشه تدريجيا، ربما نتيجة لما بذله بعض المخلصين له من جبرون، و ربما نتيجة لغرور أبشالوم و أخطائه الكثيرة، و إصغائه للحمقى من المقربين إليه، و ما ترك ذلك من آثار سيئة في نفوس الناس.

و أيا ما كان السبب، فإن أبشالوم قد حاول بكل ما وسعته المحاولة من أن يمنع عودة أبيه إلى أورشليم، و من ثم فقد جمع أنصاره قبل تفاقم الأمر، و زحف بهم إلى شرق الأردن، حيث كان أبوه في جلعاد، و قد اجتمع إليه عدد كبير من الأنصار، و هكذا بدأ القتال في «وعر أفرايم» قرب محانيم على الأرجح، و أثبت رجال داود أنهم أعلى كعبا من رجال القبائل الإسرائيلية الذين التفوا حول أبشالوم، و دارت الدائرة على أبشالوم الذي أمر الملك بعدم قتله، «و كانت هناك مقتلة عظيمة في ذلك اليوم، قتل عشرون ألفا،

ص: 73


1- صموئيل ثان 16/ 22 و انظر: تاريخ اليعقوبي 1/ 53.

و كان القتال هناك منتشرا على وجه كل الأرض، و زاد الذين أكلهم الوعر من الشعب على الذين أكلهم السيف في ذلك اليوم»، و قتل أبشالوم أثناء هروبه، على الرغم من أوامر الملك الصريحة على ملأ من الشعب بعدم قتله، و كما يقول الطبري: وجه داود في طلبه قائدا من قواده (يؤاب) و تقدم إليه أن يتوقى حتفه، و يتطلف لأسره، فطلبه القائد و هو منهزم، فاضطره إلى شجرة فركض فيها، و كان ذا جمّة، فتعلق بعض أغصان الشجرة بشعره فحبسه، و لحقه القائد فقتله مخالفا لأمر داود، فحزن عليه داود حزنا شديدا، و تنكر للقائد، و ربما طبقا لرواية التوراة أن رجلا رأى أبشالوم معلقا من رأسه في شجرة كبيرة ملتفة الأغصان فأخبر القائد يؤاب الذي أمره بقتل أبشالوم على أن يعطيه عشرة من الفضة و منطقة، لكن الرجل رفض أن يقتل ابن الملك، بعد أن سمع الملك يوصي بعدم قتله، و لو أعطاه ألفا من الفضة، و من ثم فقد تقدم يؤاب «و أخذ ثلاثة سهام بيده و نشبها في قلب أبشالوم، و هو بعد حي في قلب البطمة، و أحاط بها عشرة غلمان حاملوا سلاح يؤاب و ضربوا أبشالوم و أماتوه»، و قد أدى ذلك كله إلى حزن داود المرير على ولده، حتى «صعد إلى علية الباب و كان يبكي و يقول، و هو يتمشى، يا ابني يا أبشالوم يا ابني يا ابني أبشالوم، يا ليتني مت عوضا عنك يا أبشالوم ابني يا ابني»، و هكذا لم يعد أمام القبائل الإسرائيلية سوى المناداة بداود ملكا عليها مرة ثانية (1).

9- التعداد العام و نتائجه:

تروي التوراة أن رب إسرائيل غضب على شعبه إسرائيل «فأهاج عليهم داود قائلا: امض و احص إسرائيل و يهوذا، فقال الملك ليؤاب رئيس الجيش الذي عنده: طف في جميع أسباط إسرائيل من دان إلى بئر سبع

ص: 74


1- صموئيل ثان 18/ 1- 19/ 41، تاريخ الطبري 1/ 484، تاريخ ابن خلدون 1/ 111، تاريخ اليعقوبي 1/ 53، الكامل لابن الأثير 1/ 127.

و عدوا الشعب فاعلم عدد الشعب»، و يقوم يوآب بالمهمة التي تستغرق ستة أشهر و عشرين يوما. «و كان إسرائيل ثمان مائة ألف بأس مستل السيف، و رجال يهوذا خمس مائة ألف رجل»، غير أن رب إسرائيل سرعان ما يرسل جاد النبي ليخيّر داود بين «سبع سني جوع في أرضك، أم تهرب ثلاثة أشهر بين أعدائك، أم يكون ثلاثة أيام وباء في أرضك»، و يترك داود الخيرة لربه «الذي يجعل وباء في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد فمات من الشعب من دان إلى بئر سبع، سبعون ألف رجل، و بسط الملاك يده على أورشليم ليهلكها، فندم الرب (1) عن الشر، و قال للملاك المهلك للشعب كفى، الآن رويدك» (2).

و من عجب أن التوراة لم تقدم لنا هنا سببا مقنعا لغضب يهوه على شعبه، و إن أشارت أن ذلك إنما كان بسبب خطايا داود، و من ثم فهو يقول، ملتمسا عفو ربه و رحمته بشعبه «ها أنا أخطأت، و أنا أذنبت، و أما هؤلاء الخراف فما ذا فعلوا؟ فلتكن يدك على و على بيت أبي»، ثم تعود مرة أخرى فتروي نفس الرواية، و لكنها تقدم أرقاما للإحصاء تختلف عن المرة الأولى «فإسرائيل كان ألف و مائة ألف رجل مستلى السيف، و يهوذ أربع مائة و سبعين ألف رجل مستلى السيف»، هذا بخلاف سبطي لاوي و بنيامين (3)، و التعارض هنا بين نصوص التوراة ليس أمرا جديدا علينا فنظائره كثيرة.

ص: 75


1- من المؤلم أن توراة اليهود، و ليست توراة موسى، كثيرا ما تصور يهوه (اللّه) ليس معصوما، و أنه كثيرا ما يقع في الخطأ ثم يندم على خطئه، حدث ذلك عند ما فكر في إهلاك اليهود عن بكرة أبيهم، مما اضطر موسى إلى أن ينصحه فينتصح، ثم هناك ندمه على اختيار شاؤل (طالوت) ملكا، غير أن أشنع أخطائه خلقه الإنسان، ثم ندم على ذلك (انظر: تكوين 6/ 6، خروج 12/ 14، 32/ 10، صموئيل أول 15/ 11، إرميا 18/ 7- 10، عاموس 7/ 1- 6، يونان 3/ 9- 10، محمد بيومي مهران: إسرائيل 4/ 12- 14).
2- صموئيل ثان 24/ 1- 17.
3- أخبار أيام أول 21/ 5- 6، محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 738- 740.

و على أي حال، فإن التوراة تجعل التعداد الذي قام به داود، بأمر من رب إسرائيل، سببا من البلايا التي أنزلها رب إسرائيل بإسرائيل، و إن كنا لا ندري لم يغضب رب إسرائيل من قيام ملك إسرائيل بهذا التعداد، الذي تقوم به شعوب كثيرة (1)، حتى يفرض عليه واحدة من بلايا ثلاثة: أقلها و باء يروح ضحيته سبعون ألف رجل، غير أن الإمام الطبري يروي عن «وهب بن منبه» أن سبب غضب الرب أن داود فعل ذلك دون أمر من ربه، فعتب اللّه عليه ذلك و قال: قد علمت أني و عدت إبراهيم أن أبارك فيه و في ذريته حتى أجعلهم كعدد نجوم السماء، و أجعلهم لا يحصى عددهم، فأردت أن تعلم عدد ما قلت، إنه لا يحصى عددهم، فاختاروا بين أن أبتليكم بالجوع ثلاث سنين أو أسلط عليكم العد ثلاثة أشهر أو الموت ثلاثة أيام، فاستشار داود في ذلك بني إسرائيل فقالوا: ما لنا بالجوع ثلاث سنين صبرا، و لا بالعدو ثلاثة أشهر، فليس لهم بقية، فإذا كان لا بد فالموت بيده لا بيد غيره، فذكر وهب أنه مات منهم في ساعة من نهار ألوف كثيرة، لا يدري ما عددهم، فلما رأى داود ذلك شق عليه ما بلغه من كثرة الموت، فتبتل إلى اللّه و دعاه فقال: يا رب أنا آكل الحماض (أي ما في جوف الأترجة) و بنو إسرائيل يضرسون، أنا طلبت ذلك فأمرت به بني إسرائيل، فما كان من شي ء فبى، و اعف عن بني إسرائيل، فاستجاب اللّه لهم و رفع عنهم الموت» (2).

و الغريب في هذه الرواية أنها تناقض رواية التوراة في أمور، منها أن التعداد هنا كان بأمر داود، مع أن رواية التوراة صريحة في أن الذي أمر

ص: 76


1- لعل أول شعوب العالم التي قامت بعمل تعداد عام إنما هم المصريون، و قد قام به الملك «دن» (و ديمو» رابع ملوك الأسرة الأولى الفرعونية، و ذلك قبل عام 3000 ق. م، و لأول مرة في التاريخ، و بالمناسبة فإن آخر تعداد تم في مصر كان في نوفمبر عام 1986، و بلغ سكان مصر أكثر من 50 مليون.
2- تاريخ الطبري 1/ 485، و انظر تاريخ اليعقوبي 1/ 55- 56، تاريخ ابن خلدون 1/ 111.

بالتعداد إنما هو رب داود، و ليس داود، و منها أن بني إسرائيل هنا هم الذين اختاروا الموت عقابا لهم، و في رواية التوراة أن داود ترك الخيّرة لأمر ربه، فاختار لهم الموت، و منها أن عدد القتلى هنا غير معروف و إن كان ألوفا كثيرة، مع أنه في رواية التوراة قد حدد بسبعين ألفا، و منها أن داود اعتذر هنا بأنه يأكل الحماض و بنو إسرائيل يضرسون، و في رواية التوراة اعتراف صريح «ها أنا أخطأت و أنا أذنبت، و أما هؤلاء الخراف فما ذا فعلوا» و الأعجب أننا ما ندري لوهب بن منبه مصدرا في روايته هذه غير التوراة، و لم يقل لنا الإمام الطبري، أو وهب بن منبه، عن مصدر آخر غير التوراة اعتمد عليه في روايته هذه، فما بالك و التوراة نفسها موضع شك كبير.

10- وفاة داود عليه السلام:

و تنتهي أيام داود، النبي الأواب، في هذه الدنيا، و ينتقل عليه السلام إلى جوار ربه، راضيا مرضيا عنه من ربه الكريم، «و اضطجع داود مع آبائه و دفن في مدينة داود»، و في الواقع فإن دفن النبي الأواب في مدينة أورشليم (1) (مدينة داود) لأمر غريب، ذلك لأن هناك عبارة طالما تكررت في التوراة، و هي أن فلانا قد انضم إلى قومه» أو «انضم إلى آبائه» (2)، و ربما لا تعدو أن تكون إشارة إلى عقيدة القوم في أن الموتى من أسرة ما، يجب أن يدفنوا في مكان واحد، ليبقوا كما كانوا على قيد الحياة (3)، و من هنا فقد كان من المنتظر أن يدفن داود في مقابر أسرته في «بيت لحم»، و هو الحريص على التقاليد، و التي يستطيع قارئ التوراة أن يقدم الكثير من الأدلة عليها، بل إن داود لينقل عظام شاؤل، و كذا ولديه، من يابيش

ص: 77


1- يذهب ابن خلدون في تاريخه (1/ 112) إلى أن داود دفن في بيت لحم.
2- تكوين 25/ 8، قضاة 2/ 1.
3- , SENJ, nipieY. S 30. p، 1948، 7.

جلعاد، ليدفنوا» في أرض بنيامين في صيلع في قبر قيس أبيه» (1)، و مع في ذلك فإن داود نفسه الذي كان مخلصا للعادات و التقاليد إلى هذا الحد، لم يدفن في مقبرة أسلافه في بيت لحم، و إنما في مقبرة جديدة في القدس (مدينة داود)، و قد يقال إن ذلك تم بدون رغبة منه أو أنه لم يترك تعليمات فيما يختص بمكان دفنه، و لكن هناك عبارات في التوراة يفهم منها أن الرجل المحتضر كان يوصي أقرباءه بدفنه في مقبرة الأسرة (2)، و أن داود الذي أعطى تعليماته النهائية لولده و خليفته سليمان فيما يختص بأعدائه لم ينس بطبيعة الحال التعليمات الخاصة بمكان دفنه (3).

و يذهب بعض الباحثين إلى أن السبب في دفن داود في القدس، و ليس في بيت اللحم. و الأمر كذلك بالنسبة إلى خلفائه المباشرين الاثني عشر، هو تقليد الملك داود لجيرانه من الملوك، ذلك أنه منذ القرن الثالث عشر، و حتى القرن السادس أو السابع قبل الميلاد على الأقل كان العرف السائد في كل حوض شرق البحر المتوسط هو أن يدفن الملوك في قصورهم، أو على مقربة منها، و ليس داخل أسوار مدنهم فحسب (4)، و إني لأظن، و ليس كل الظن إثما، أن المؤرخين قد أخطئوا كثيرا في تفسير الأحداث الخاصة بداود عليه السلام، فهم يتعاملون معه على أنه ملك إسرائيل فحسب، و نسوا، أو تناسوا، أنه قبل ذلك و بعده نبيّ اللّه و رسوله، و طبقا لهذه الحقيقة التي يتغافل عنها البعض، يمكننا تفسير مكان دفن داود عليه السلام في القدس، و ليس في بيت لحم، اعتمادا على ما روي عن سيدنا و مولانا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون، فلقد حدث أبو بكر الصديق أنه

ص: 78


1- قضاة 8/ 32، صموئيل ثان 19/ 37- 38، 21/ 11- 14.
2- تكوين 49/ 29- 33. .( 7 ),SENJ ,divaD fo esuoH eht fo sgniK eht fo srehclupeS ehT ,nivieY .S 31. p، 1948، 7.
3- .. p, tic- p, nivieY. S 38- 36.

سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: «ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض»، و في رواية «ما مات نبيّ إلا دفن حيث قبض».

هذا و كان عمر داود عليه السلام، فيما وردت به الأخبار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مائة سنة (1)، فقد جاء من الأحاديث الواردة في خلق آدم أن اللّه لما استخرج ذريته من ظهره، فرأى فيهم الأنبياء عليهم السلام، و رأى فيهم رجلا يزهر فقال أي رب من هذا، قال ابنك داود، قال أي رب كم عمره، قال ستون عاما، قال رب زد في عمره، قال لا إلا أن أزيده من عمرك، و كان عمر آدم ألف عام، فزاده أربعين عاما، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، فقال بقي من عمري أربعون سنة، و نسي آدم ما كان وهبه لولده داود، فأتمها اللّه لآدم ألف سنة، و لداود مائة سنة» (رواه الإمام أحمد عن ابن عباس، و الترمذي عن أبي هريرة و صححه، و ابن خزيمة و ابن حبان، و رواه الحاكم في المستدرك و قال صحيح على شرط مسلم) (2)، و قال الطبري: و أما بعض أهل الكتاب فإنه زعم أن عمره كان سبعا و سبعين سنة (3)؛ و أما رواية التوراة فتجعل عمره سبعين عاما «كان داود ابن ثلاثين سنة حين ملك، و ملك أربعين سنة» (4) و بدهي أن رواية التوراة، و كذا رواية بعض أهل الكتاب كما نقلها الطبري و غيره، غير صحيحة، أو كما يقول ابن كثير فهذا غلط مردود عليهم، و أما مدة ملكه، و هي أربعون سنة (5)، فقد يقبل منهم، لأنه ليس عندنا ما ينافيه و لا ما يقتضيه (6).

ص: 79


1- تاريخ الطبري 1/ 485.
2- ابن كثير. البداية و النهاية 1/ 87- 88، 2/ 16.
3- تاريخ الطبري 1/ 485، و انظر: تاريخ اليعقوبي حيث يذهب إلى أن داود عليه السلام مات و له مائة و عشرون سنة، و كان ملكه أربعين سنة (تاريخ اليعقوبي 1/ 56).
4- صموئيل ثان 5/ 4.
5- صموئيل ثان 5/ 4- 6، أخبار أيام أول 29/ 26- 27.
6- ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 16، الكامل لابن الأثير 1/ 128، تاريخ المسعودي 1/ 70، تاريخ الطبري 1/ 485.

ص: 80

الفصل الرابع داود بين آي الذكر الحكيم و روايات التّوراة

داود عليه السلام، نبي اللّه و رسوله إلى بني إسرائيل، و أحد الدوحة الطاهرة من ذرية أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، التي جعل اللّه فيها النبوة و الكتاب، قال تعالى: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ (1)، و قال تعالى:

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ (2)، فكل كتاب أنزل من السماء على نبي من الأنبياء: بعد إبراهيم، فمن ذريته و شيعته (3)، و كان من هذه الكتب «الزبور» الذي أنزل على داود عليه السلام، و كما أن داود: من ذرية إبراهيم، فهو كذلك واحد من فروع تلك الشجرة المباركة التي ينتسب إليها المسيح عليه السلام (4)، فضلا عن أن داود هو والد سليمان، نبي اللّه و رسوله، صلوات اللّه و سلامة عليهم أجمعين.

و من أجل هذا و غيره، فإن القرآن الكريم إنما يصف سيدنا داود عليه السلام بقوله تعالى: وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (5)،

ص: 81


1- سورة الأنعام: آية 84.
2- سورة الحديد: آية 26.
3- ابن كثير: البداية و النهاية في التاريخ 1/ 167 (بيروت 1965).
4- متى 1/ 1- 16، لوقا 3/ 23- 28.
5- سورة ص: آية 30، و انظر: تفسير ابن كثير 4/ 51 (بيروت 1986)، تفسير النسفي 4/ 40، تفسير القرطبي ص 5636- 5637.

وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ (1)، وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (2)، وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً، وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (3)، وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)، و وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (5)، ثم يأمر اللّه تعالى نبيّه و حبيبه مولانا و سيدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ، وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ، وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ (6).

هذا هو رأي الإسلام في داود عليه السلام، كما جاء في القرآن الكريم، و ليس هناك من ريب في أنه ليس لمسلم بعد رأي الإسلام رأي.

ص: 82


1- سورة البقرة: آية 251، و انظر: تفسير النسفي 1/ 126، تفسير الطبري 5/ 371- 372، تفسير الكشاف 1/ 296، تفسير المنار 2/ 392- 393، تفسير روح المعاني 2/ 173- 174، الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 1/ 319، تفسير الطبرسي 2/ 291- 292، الجواهر في تفسير القرآن الكريم 1/ 230، تفسير القرطبي ص 1064- 1066، تفسير ابن كثير 1/ 453.
2- سورة النساء: آية 163، و انظر، تفسير الألوسي 4/ 16- 17، في ظلال القرآن 6/ 24، تفسير الطبرسي 6/ 399- 402، تفسير النسفي 1/ 263، تفسير القرطبي ص 2013، تفسير ابن كثير 2/ 421- 422، (القاهرة 1970) تفسير المنارة 5/ 57.
3- سورة النمل: آية 15، و انظر: تفسير النسفي 3/ 204، تفسير ابن كثير، 3/ 572- 573 (بيروت 1986)، الدر المنثور 5/ 103، تفسير الطبري 19/ 87، صفوة التفاسير 2/ 404.
4- سورة سبأ: آية 10- 11، و انظر تفسير القرطبي ص 5346- 5350، تفسير النسفي 3/ 319- 320، تفسير ابن كثير 3/ 838- 839، تفسير الفخر الرازي 25/ 245، زاد المسير لابن الجوزي 6/ 436، حاشية الصاوي على تفسير الجلالين 3/ 294.
5- سورة الإسراء: آية 55، تفسير النسفي 2/ 317، تفسير ابن كثير 3/ 76- 77.
6- ص: آية 17- 20، و انظر تفسير النسفي 4/ 36- 37، تفسير ابن كثير 4/ 45- 47، تفسير القرطبي ص 5602- 5608.

و لكن: ما هو رأي التوراة في داود عليه السلام؟

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة، بادئ ذي بدء، إلى أن التوراة تنظر إلى داود، على أنه ملك اليهود القدير، قبل أن يكون نبي اللّه و رسوله الكريم، و من ثم فإنها لم ترتفع إلى مستوى داود النبي، الأمر الذي صوّره القرآن في جلاء و وضوح، و إن حاولت في بعض الأحايين أن تتخلص من السقوط المريع الذي وصلت إليه بشأن النبي الأواب، فوصفته بما يتفق إلى حد ما و مكان النبوة السامي، كما نرى في بعض آيات من أسفار صموئيل الثاني (8/ 15، 22/ 21- 25) و الملوك الأول (3/ 3- 16، 14، 11/ 38، 15/ 3) و الملوك الثاني (18/ 3) و أخبار الأيام الأول (28/ 4- 5) و إشعياء (3/ 5، 55/ 3- 6) و هوشع (3/ 5) و غيرها.

و على أية حال، فليست هناك صورة تجمع بين النقيضين اللذين لا التقاء بينهما، كالصورة التي تقدمها التوراة عن داود عليه السلام، ملك اليهود القدير، فهو الشجاع قاتل جالوت (جليات) الجبار بمقلاعه دون سيف في يده (1)، و بدا يصبح مطاردا من الفلسطينيين يوما ما، و لكنه سرعان ما يشترك معهم في حروبهم ضد عدوهم يوما آخر، بل و يضع سيفه تحت تصرفهم ضد مواطنيه اليهود (2)، و هو يعمل حامل سيف طالوت (شاؤل) الإسرائيلي يوما ما، ثم حارسا للملك الفلسطيني «أخيش» يوما آخر، (3)، و هو قد بدأ حكمه تحت سيادة الفلسطينيين، ثم أنهاه و قد قضى على نفوذهم في المناطق الإسرائيلية تماما، و هو عدو شاؤل (طالوت) اللدود، ثم هو في نفس الوقت زوج ابنته، و حبيب ولده «يوناثان»، و كثير من فتيان و فتيات

ص: 83


1- صموئيل أول 17/ 50.
2- صموئيل أول 29/ 2- 12.
3- صموئيل أول 28/ 1- 2.

إسرائيل (1)، و هو يعمل مغنيا في بلاط شاؤل لأنه يجيد العزف على القيثار، و يغني أغانيه العجيبة بصوته الرخيم، و لكنه في نفس الوقت الفارس المغوار، حامل سلاح الملك و قاتل أعدائه (2).

و هو قاس غليظ القلب، كما كان الناس في وقته، و كما كانت قبيلته، و هي صورة مستحبة في أذهان اليهود، خلعوها على إلههم «يهوه» من بين ما خلعوا عليه من صفات، و لكنه في نفس الوقت كان مستعدا لأن يعفو عن أعدائه، كما كان يعفو عنهم قيصر و المسيح، و كان يقتل الأسرى جملة، كأنه ملك من ملوك الآشوريين، بل إنه حتى ليبالغ في القسوة حين يأمر بحرق المغلوبين، و سلخ جلودهم، و وشرهم بالمنشار (3)، و عند ما يطلب منه شاؤل مائة غلفة من الفلسطينيين مهرا لابنته ميكال، إذ به يقتل مائتي رجل من الفلسطينيين و يقدم غلفهم مهرا لابنة شاؤل هذه (4)، و حين يوصي ولده سليمان، و هو على فراش الموت، بأن يجدر بالدم إلى الهاوية شيبة شمعي بن جبرا، الذي لعنه منذ سنين طويلة (5).

و هو يأخذ النساء من أزواجهن غصبا، مستغلا في ذلك جاهه و سلطانه، فهو يشترط لمقابلة «أبنير»، قائد جيوش شاؤل، أن يأتي بابنة شاؤل ميكال، و التي كان قد خطبها من أبيها، و دفع مهرها رءوس مائتين من الفلسطينيين من زوجها «فلطيئيل بن لايش» الذي أدمى قلبه فراقها، ثم سار وراءها، و هو يبكي، حتى «بحوريم»، و لم يرجع من ورائها إلا بتهديد من

ص: 84


1- صموئيل أول 18/ 1- 7.
2- صموئيل أول 16/ 21- 23.
3- صموئيل ثان 12/ 29- 31.
4- صموئيل أول 18/ 25- 28.
5- ملوك ثان 2/ 9.

«أبنير و خوف منه (1)، ثم هو يأخذ «بتشبع» امرأة قائده» أوريا الحثي» من زوجها، و يأتي بها إلى نسائه، فيضطجع معها، و هي مطهرة من طمثها، و حين تحس المرأة أن ثمرة اللقاء بدأت تتحرك في بطنها، يرسل إلى زوجها فيستدعيه من ميدان القتال، حتى إذا ما ظهر الحمل ظن الناس أنه من زوجها، و لما رفض الرجل أن يدخل إلى فراش زوجته الدافئ، بينما أخوة له يقتلون و يقتلون في ساحة الوغى، و أصر على أن ينام على عتبة بيت الملك مع النائمين، و ألا يضاجع امرأته أبدا، حتى يقتضي اللّه أمرا كان مفعولا، فإذا بداود يرسل به إلى الصف الأول، مع أمر واضح صريح، أن «اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، و ارجعوا من ورائه فيضرب و يموت»، و حين يتم له ذلك يضم المرأة إلى حريمه، ثم هو يقبل بعد ذلك زجر «ناثان» على فعلته، و لكنه مع ذلك يحتفظ بالمرأة في حريمه (2).

و هو يعفو عن «طالوت» (شاؤل) عدة مرات، و لا يسلبه إلا درعه، في نفس الوقت الذي كان في مقدوره أن يسلبه حياته، و هو يعفو عن «مفيبوشت»، حفيد طالوت، و قد يكون من المطالبين بالعرش، عرش عمه وجده من قبل، بل و يعينه على أمره (3)، و هو يعفو عن ولده «أبشالوم»، أن قبض عليه بعد قتله أخيه أمنون، ثم بعد قيامه بثورة مسلحة، و بعد أن دنس عرضه على ملأ من القوم، و بعد أن طارده حتى شرق الأردن، لو لا أن يوآب قتله، رغم أوامر داود الصريحة بعدم قتله (4)، بل إنه ليعفو عن «شاؤل» الذي

ص: 85


1- صموئيل ثان 3/ 12- 16، ثم قارن: صموئيل أول 19/ 11- 17، حيث يروي كيف أن ميكال هي التي أنقذت زوجها داود من مؤامرات أبيها شاؤل، و أنها أخرجته من كوة في الدار، ليفر بنفسه من أبيها و رجاله، و قد وضعت في مكانه في الفراش الترافيم، كما أشرنا من قبل، و بدهي أن هذا نوع من تناقضات التوراة و تعارض نصوصها لبعضها البعض.
2- صموئيل ثان 11/ 2- 29، 12/ 1- 12.
3- صموئيل ثان 4/ 4- 5.
4- صموئيل ثان 16/ 32، 18/ 33.

كان يسعى لقتله، بعد أن تمكن منه مرات، و في أمان مطلق، و مناعة تامة (1)، و من ثم يذهب «ول ديورانت» طبقا لأوصاف التوراة هذه لداود، إلى أن ذلك وصف رجل حقيقي، لا رجل خيالي، اكتملت فيه عناصر الرجولة المختلفة، ينطوي على جميع بقايا الهمجية، و على كل مقومات الحضارة (2).

و بدهي أن هذا ليس رأينا، و لم و لن يكون، فحاشا النبي الأواب أن يكون هكذا، و لكنه رأى توراة اليهود المتداولة اليوم، ذلك لأن داود عليه السلام، فيما نعتقد و نؤمن به الإيمان كل الإيمان، هو نبيّ اللّه و رسوله الكريم، قبل أن يكون ملك اليهود القدير، و من ثم فنحن لا نرضى للنبيّ الكريم، إلا ما ارتضاه له رب العزة و الجلال في كتابه الكريم، و قد أشرنا إليه من قبل، و لكننا نقدم هذه الصورة ليعرف القارئ الكريم، رأى التوراة، كتاب اليهود المقدس، حتى في أنبياء بني إسرائيل و ملوكهم، و لأننا ندرس حياة داود الملك النبي ذلك لأننا نقدم هنا دراسة تاريخية دينية، و ليس من شك في أن الجانب التاريخي، و ليس الديني، إنما يعتمد على التوراة، كواحد من مصادر تاريخ الملك داود، و ليس النبي داود، و مع ذلك، فإننا إن اتفقنا معها في بعض الأمور، فإننا نختلف معها في الكثير من هذه الأمور، و بخاصة فيما يتعلق بالأنبياء و عصمتهم، تلك الصفوة المختارة من عباد اللّه الذين بعثوا بأمر من ربهم هداة راشدين، و اختارهم اللّه سبحانه و تعالى، مبشرين و منذرين، و اصطفاهم من خلقه، و صدق اللّه حيث يقول: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (3)، هذا فضلا عن اختلافنا مع توراة يهود فيما

ص: 86


1- صموئيل أول 24/ 2- 22.
2- ول ديورانت: قصة الحضارة 2/ 331- 332 (القاهرة 1961)، نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص 362- 373، محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 693- 697.
3- سورة الأنعام: آية 124.

يتصل بالحقائق التاريخية، ذلك لأن من كتبوا التوراة (1)، كانوا بشرا مثلنا، و هم كمؤرخين، لا يختلفون عن نظائرهم من معاصريهم في الشرق القديم، و بدهي أنه ليس هناك تاريخ لا يحتمل المناقشة، بل لا يحتمل أن نخطئه. ).

ص: 87


1- انظر عن كتابة التوراة (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 18- 106).

ص: 88

الباب الثاني سيرة سليمان عليه السّلام

اشارة

ص: 89

ص: 90

الفصل الأول سليمان- الرّسول النّبي
1- وراثة سليمان داود:

جاء ذكر سيدنا سليمان عليه السلام في كثير من آي الذكر الحكيم (1)، و هو أحد أنبياء بني إسرائيل، شأنه في ذلك شأن أبيه داود عليه السلام، فلقد كان سليمان، كما كان أبوه داود، عليهما السلام، نبيّا ملكا، فقد جمع اللّه لكل منهما النبوة و الملك، و أعطاه خيري الدنيا و الآخرة، فكان نبيّا ملكا، قال تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (2)، قال ابن كثير: أي في الملك و النبوة، و ليس المراد وراثة المال، إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود، فإنه قد كان لداود مائة امرأة، و لكن المراد بذلك وراثة الملك و النبوة، فإن الأنبياء لا تورث أموالهم، كما أخبر بذلك سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في قوله الشريف: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة» (3)، و قال النسفي: ورث النبوة و الملك دون سائر بنيه، و كانوا تسعة عشر، قالوا أوتى النبوة مثل أبيه فكأنه ورثه، و إلا فالنبوة لا تورث (4)، و قد

ص: 91


1- انظر: سورة البقرة (102) و النساء (163) و الأنعام (84) و الأنبياء (78- 82) و النمل (15- 44) و سبأ (12- 14) و ص (30- 40).
2- سورة النمل: آية 16.
3- تفسير ابن كثير 3/ 573 (ط بيروت 1986)، صحيح البخاري 8/ 185، صحيح مسلم 5/ 153، مسند الإمام أحمد 1/ 4.
4- تفسير النسفي 3/ 204.

أشرنا من قبل أن النبوة لا تكون بالإرث، فولد النبي لا يكون نبيّا بطريق الإرث عن أبيه، بل هي بمحض الفضل الإلهي و الاصطفاء الرباني (1)، و يقول صاحب الظلال: أن داود أوتى الملك مع النبوة و العلم، و لكن الملك لا يذكر في صدد الحديث عن نعمة اللّه عليه و على سليمان، إنما يذكر العلم، لأن الملك أصغر من أن يذكر في هذا المجال، و من ثم فالمفهوم في الوراثة أنها وراثة العلم، لأنه هو القيمة العليا التي تستأهل الذكر (2)، و يقول الطبري أن سليمان ورث أباه داود في العلم الذي كان آتاه اللّه في حياته، و الملك الذي كان خصه به على سائر قومه، فجعله له بعد أبيه، دون سائر ولد أبيه (3).

و يقول الفخر الرازي في التفسير الكبير: أما قوله تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ فقد اختلفوا فيه، فقال الحسن البصري: المال، لأن النبوة عطية مبتدأة و لا تورث، و قال غيره: بل النبوة، و قال آخرون: بل الملك و السياسة و لو تأمل الحسن لعلم أن المال إذا ورثه الولد فهو أيضا عطية مبتدأة من اللّه تعالى، و لذلك يرث الولد إذا كان مؤمنا، و لا يرث إذا كان كافرا أو قاتلا، و لكن اللّه تعالى جعل سبب الإرث فيمن يرث الموت على شرائط، و ليس كذلك النبوة، لأن الموت لا يكون سببا لنبوة اللّه، فمن هذا الوجه يفترقان، و ذلك لا يمنع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام به عند موته، كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته، و مما يبيّن ما قلناه أنه تعالى لو فصل فقال: و ورث سليمان داود ماله لم يكن لقوله «و قال يا أيها الناس علمنا منطق الطير» معنى، و إذا قلنا و ورث مقامه من النبوة و الملك حسن

ص: 92


1- محمد علي الصابوني: النبوة و الأنبياء ص 10، محمد بيومي مهران: النبوة و الأنبياء عند بني إسرائيل ص 71- 77.
2- في ظلال القرآن 5/ 2634.
3- تفسير الطبري 19/ 141.

ذلك، لأن تعليم منطق الطير يكون داخلا في جملة ما ورثه، و كذلك قوله تعالى: وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ لأن وارث الملك يجمع ذلك، و وارث المال لا يجمعه، و قوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ لا يليق أيضا إلا بما ذكرنا دون المال الذي قد يحصل للكامل و الناقص، و ما ذكره اللّه تعالى من جنود سليمان بعده، لا يليق إلا بما ذكرناه، فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لم يرث إلا المال، فأما إذا قيل: و ورث المال و الملك معا، فهذا لا يبطل بالوجوه التي ذكرناها، بل بظاهر قوله صلى اللّه عليه و سلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» (1).

و قال قتادة في قوله تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ورث نبوته و ملكه و علمه، و هذه الثلاثة هي المذكورة في حق داود عليه السلام في آية البقرة (251) وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ، و يدخل في هذا أيضا ما أخبر اللّه تعالى به في سورة النمل (15) مما أكرم اللّه به هذين النبيين الكريمين من عظيم المنح، و جزيل الفضل في قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً، و هذا يشمل على ما شرفهما اللّه به من النبوة و الرسالة و ما يسر لكل منهما من علوم الدنيا و الآخرة (2)، أو هو، كما يقول الطبري، علم كلام الطير و الدواب، و غير ذلك مما خصهم اللّه بعلمه» (3)، و قالا الحمد للّه الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين»، يقول النسفي: و الكثير المفضل عليه من لم يؤت علما أو من لم يؤت مثل علمهما، و فيه أنهما فضلا على كثير، و فضل عليهما كثير، و في الآية دليل على شرف العلم و تقدم حملته و أهله و أن نعمة العلم من أجل النعم، و أن من أوتيه فقد أوتى خيرا كثيرا، و فضلا على كثير من عباده، و ما سماهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم لهم

ص: 93


1- تفسير الفخر الرازي 24/ 186.
2- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 64.
3- تفسير الطبري 19/ 140.

في الشرف و المنزلة لأنهم القوامون بما بعثوا من أجله، و فيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا اللّه على ما أوتوه، و أن يعتقد العالم أنه إن فضل على كثير، فقد فضل عليه مثلهم (1). و يقول الفخر الرازي: و أما قوله تعالى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، ففيها أبحاث، أحدها: أن الكثير المفضل عليه هو من لم يؤت علما مثل علمهما، و فيه أنهما فضلا على كثير، و فضل عليهما كثير، و ثانيهما: في الآية دليل على علو مرتبة العلم، لأنهما أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما، فلم يكن شكرهما على الملك كشركهما على العلم، و ثالثها: أنهم لم يفضلوا أنفسهم على الكل و ذلك يدل على حسن التواضع، و رابعها: أن الظاهر يقتضي أن تلك الفضيلة ليست إلا ذلك العلم، ثم العلم باللّه و بصفاته أشرف من غيره، فوجب أن يكون هذا الشكر ليس إلا على العلم،، ثم إن هذا العلم حاصل لجميع المؤمنين فيستحيل أن يكون ذلك سببا لفضيلتهم على المؤمنين، فإذن الفضيلة هو أن يصير العلم باللّه و بصفاته جليا بحيث يصير المرء مستغرقا فيه بحيث لا يخطر بباله شي ء من الشبهات، و لا يغفل القلب عنه في حين من الأحيان، و لا ساعة من الساعات (2).

2- من أحكام سليمان:

يذهب كثير من المؤرخين و المفسرين إلى أن سليمان عليه السلام قد تولى الملك صبيّا لما ييفع، و من ثم فقد ذهب فريق منهم إلى أنه كان في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة (3)، عند ما خلف أباه في الحكم، و مع ذلك، فقد

ص: 94


1- تفسير النسفي 3/ 204.
2- تفسير الفخر الرازي 24/ 185- 186.
3- تاريخ اليعقوبي 1/ 56، المسعودي 1/ 71، تاريخ ابن الأثير 1/ 128، ثم قارن ابن خلدون: حيث يذهب إلى أنه كان في الثانية و العشرين من عمره حين ولي الحكم (تاريخ ابن خلدون 2/ 112).

كان، مع حداثة سنه، من ذوي الفطنة و الذكاء، و قد أعطاه اللّه الحكمة و حسن القضاء منذ الصغر، و قد ذكر القرآن الكريم طرفا من ذلك النبوغ و الذكاء الذي كان عند سليمان، و ذلك في الفتوى التي عرضت على أبيه داود، فأفتى فيها كل منهما بوجه يختلف عن الآخر، و كانت فتوى سليمان أضمن للحق و أقرب إلى الصواب، كما قال تعالى: وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ، فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً، فقوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ يدل على أن ما أفتى به سليمان كان أقرب إلى الصواب، و قوله تعالى: وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً يدل على أن داود و سليمان كانا على جانب عظيم من الحكمة و العلم (1)، و قال أبو حيان: و الظاهر أن كلا من داود سليمان حكم بما ظهر له، و هو متوجه عنده، فحكمهما باجتهاد، و هو قول الجمهور (2).

و خلاصة القصة، كما يقدمها لنا أصحاب التفسير، أن زرعا دخلت فيه غنم لقوم لبلاد فأكلته و أفسدته، فجاء المتخاصمون لداود، و عنده سليمان، و قصوا عليه القصة، فحكم داود بالغنم لصاحب الزرع عوضا عن حرثه الذي أتلفته الغنم ليلا، فقال سليمان: غير هذا أرفق، تدفع الغنم لصاحب الزرع فينتفع بألبانها و أولادها و أشعارها، و تدفع الحرث إلى أهل الغنم يقومون بإصلاحه حتى يعود كما كان، ثم يترادان بعد ذلك، فيعود لأهل الغنم غنمهم، و لأهل الحرث حرثهم، فقال داود: قد أصبت القضاء فيما قضيت (3)، ثم أمضى حكم سليمان لما فيه من حفظ أصول المال ).

ص: 95


1- سورة الأنبياء: آية 78- 79، محمد علي الصابوني: المرجع السابق 283.
2- انظر: تفسير البحر المحيط 6/ 330، تفسير النسفي 3/ 85، تفسير أبي السعود 6/ 78- 80.
3- جاء في تفسير النسفي و الفخر الرازي: قال الحسن البصري هذه الآية محكمة، و القضاة بذلك يقضون إلى يوم القيامة، غير أن النسفي يذهب إلى أن هذا كان في شريعتهم، فأما في شريعتنا فلا ضمان عند أبي حنيفة و أصحابه بالليل أو بالنهار، إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد، و عند الشافعي. لا ضمان بالنهار لأن لصاحب الماشية تسييب ماشيته بالنهار، و حفظ الزرع بالنهار على صاحبه، و إن كان ليلا يلزمه الضمان لأن حفظها بالليل عليه، و قال الجصاص إنما ضمنوا لأنهم أرسلوها و نسخ الضمان بقوله صلى اللّه عليه و سلم: «جرح العجماء جبار، و احتج الشافعي بما روي عن البراء بن عازب أنه قال: كانت ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدته، فذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، و أن حفظ الماشية بالليل على أهلها، و أن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل»، و قال مجاهد: كان هذا صلحا، و ما فعله داود كان حكما، و الصلح خير» (تفسير النسفي 3/ 85، تفسير الفخر الرازي 22/ 199).

لصاحبيهما، و يقول صاحب الظلال: كان حكم داود و حكم سليمان اجتهادا منهما في القضية، و كان اللّه حاضرا حكمهما، فألهم سليمان حكما أحكم، و فهمه ذلك الوجه و هو أصوب، و لقد اتجه داود في حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث، و هذا عدل فحسب، و لكن حكم سليمان تضمن مع العدل البناء و التعمير، و جعل العدل دافعا إلى البناء و التعمير، و هذا هو العدل الحي الإيجابي في صورته البانية الدافعة، و هو فتح من اللّه و إلهام يهبه من يشاء، و لقد أوتى داود و سليمان كلاهما الحكمة و العلم» و كلا آتينا حكما و علما، و ليس في قضاء داود من خطأ، و لكن قضاء سليمان كان أصوب، لأنه من نبع الإلهام.

و قريب من هذه القصة التي جاءت في القرآن الكريم، ما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «بينما امرأتان معهما ابنان لهما، إذ جاء الذئب فأخذ أحد الابنين، فتحاكما إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى:

يرحمك اللّه هو ابنها لا تشقه، فقضى به للصغرى» (1). و هناك قصة أخرى أوردها الحافظ ابن عساكر في ترجمة سليمان عليه السلام من تاريخه بسنده

ص: 96


1- الحديث أخرجه أيضا البخاري و مسلم في صحيحهما، و بوّب له النسائي في كتاب القضاء، و انظر: تفسير ابن كثير 3/ 299، تاريخ الطبري 1/ 486- 487.

عن ابن عباس ملخصها: «أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل، راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم فامتنعت على كل منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها، فشهدوا عند داود عليه السلام أنها مكنت من نفسها كلبا لها قد عودته ذلك منها، فأمر برجمها، فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان و اجتمع معه ولدان مثله، فانتصبت حاكما و تزيا أربعة منهم بزي أولئك، و آخر بزي المرأة، و شهدوا عليها بأنها مكّنت من نفسها كلبا، فقال سليمان، فرقوا بينهم، فسأل أولهم ما كان لون الكلب، فقال أسود، فعزله، و استدعى الآخر فسأله عن لونه، فقال أحمر، و قال الآخر أغبش، و قال الآخر أبيض، فأمر عند ذلك بقتلهم، فحكى ذلك لداود عليه السلام، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم عن لون ذلك الكلب، فاختلفوا عليه فأمر بقتلهم» (1).

3- من معجزات سليمان:

منح اللّه سبحانه و تعالى عبده و رسوله سليمان عليه السلام كثيرا من المعجزات، منها (أولا) أن اللّه تعالى علمه منطق الطير، و سائر لغات الحيوان، فكان يفهم عنها ما لا يفهمه سائر الناس، و ربما تحدث معها، كما كان الأمر مع الهدهد و النمل و غيرهما، روي ابن عساكر قال: مرّ سليمان بعصفور يدور حول عصفورة، فقال لأصحابه أ تدرون ما يقول، قالوا و ما يقول يا نبي اللّه، قال يخطبها إلى نفسه و يقول: زوجيني أسكنك أي غرف دمشق شئت قال سليمان عليه السلام لأن غرف دمشق مبنية بالصخر لا يقدر أن يسكنها أحد، و لكن كل خاطب كذاب» (2).

و روى النسفي و أبو السعود: يحكي أن سليمان مرّ على بلبل في شجرة

ص: 97


1- تفسير ابن كثير 3/ 299.
2- ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 18- 19.

يحرك رأسه و يميل ذنبه فقال لأصحابه: أ تدرون ما يقول، قالوا اللّه و نبيّه أعلم، قال يقول: إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، و صاحت فاختة فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، و صاح طاوس فقال يقول: كما تدين تدان، و صاح هدهد فقال يقول: استغفروا اللّه يا مذنبين و صاحت رخمة فقال تقول: سبحان ربي الأعلى مل ء سمائه و أرضه، و صاح قمري فأخبر أنه يقول: سبحان ربي الأعلى و قال: الحدأة تقول كل شي ء هالك إلا اللّه، و الديك يقول: اذكروا اللّه يا غافلين، و النسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت و العقاب، و الضفدع يقول: سبحان ربي القدوس (1).

و قال تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (2)، يذيعها سليمان عليه السلام في الناس تحدثا بنعمة اللّه و إظهار الفضلة، لا مباهاة و لا تنفجا على الناس فما يملك تعليم منطق الطير لبشر إلا اللّه، و كذلك لا يؤتى أحدا من كل شي ء، بهذا التعميم، إلا اللّه، و من المعروف أن للطيور و الحيوان و الحشرات وسائل للتفاهم، هي لغاتها و منطقها، فيما بينها، و اللّه سبحانه خالق هذه العوالم يقول: «و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم»، و لا تكون أمما حتى تكون لها روابط معينة تحيا بها، و وسائل معينة للتفاهم فيما بينها، و ذلك ملحوظ في أنواع كثيرة من الطيور و الحيوان و الحشرات، و يجتهد علماء هذه الأنواع في إدراك شي ء من لغاتها و وسائل التفاهم بينها عن طريق الحدس و الظن، لا عن الجزم و اليقين، فأما ما وهبه اللّه لسليمان عليه السلام، فكان شأنا خاصا به على طريق الخارقة التي تخالف مألوف البشر، لا على طريق المحاولة منه، و الاجتهاد لتفهم وسائل

ص: 98


1- تفسير أبي السعود 6/ 276- 277، تفسير النسفي 3/ 205.
2- سورة النمل: آية 16.

الطير و غيره في التفاهم على طريق الحدس، كما هو حال العلماء اليوم (1).

و قال تعالى: حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها (2)، و لا شك أن فهمه عليه السلام لكلام النمل إعجازا اختصه اللّه عز و جل به، إظهارا لما أكرمه اللّه به من شرف النبوة و الرسالة (3)، و نحن هنا، كما يقول صاحب الظلال، أمام خارقتين، لا خارقة واحدة، خارقة إدراك سليمان لتحذير النملة لقومها، و خارقة إدراك النملة أن هذا سليمان و جنوده، فأما الأولى، فهي مما علمه اللّه لسليمان، و سليمان إنسان و نبي، فالأمر بالقياس إليه أقرب من الخارقة الأخرى البادية في مقالة النملة، فقد تدرك النملة أن هؤلاء خلق أكبر، و أنهم يحطمون النمل إذا داسوه، و قد يهرب النمل من الخطر بحكم ما أودع اللّه فيه من القوى الحافظة للحياة، أما أن تدرك النملة أن هذه الشخوص هي سليمان و جنوده، فتلك هي الخارقة الخاصة التي تخرج على المألوف، و تحسب في عداد الخوارق في مثل هذه الحال (4).

و منها (ثانيا) أن جند سليمان عليه السلام إنما كان مؤلفا من الإنس و الجن و الطير، و قد نظم لهم أعمالهم و رتب لهم شئونهم، فإذا خرج خرجوا معه في موكب حافل، يحيط به الجند و الخدم من كل جانب، فالإنس و الجن يسيرون معه، و الطير تظلله بأجنحتها من الحر (5)، قال تعالى: وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (6)، و الجدير

ص: 99


1- في ظلال القرآن 5/ 2634.
2- سورة النمل: آية 18- 19.
3- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 68.
4- في ظلال القرآن 5/ 2637.
5- الصابوني: المرجع السابق ص 288.
6- سورة النمل: آية 17.

بالإشارة هنا أن اللّه سخر لسليمان طائفة من الجن و طائفة من الطير، كما سخر له طائفة من الإنس، و كما أنه لم، يكن كل أهل الأرض من الإنس جندا لسليمان، إذ إن ملكه لم يتجاوز ما يعرف الآن بفلسطين و لبنان و سورية و العراق إلى ضفة الفرات، فكذلك لم يكن جميع الجن، و لا جميع الطير مسخرين له، إنما كانت طائفة من كل أمة على السواء و نستدل في مسألة الجن إلى أن إبليس و ذريته من الجن كما قال القرآن: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ و قال: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ، و هؤلاء كانوا يزاولون الإغراء و الشر و الوسوسة للبشر في عهد سليمان، و ما كانوا ليزاولون هذا، و هم مسخرون له مقيدون بأمره، و هو نبيّ يدعو إلى الهدى، فالمفهوم إذن أن طائفة من الجن هي التي كانت مسخرة له، و نستدل في مسألة الطير إلى أن سليمان حين تفقد الطير علم بغيبة الهدهد، و لو كانت جميع الطيور مسخّرة له، محشورة في موكبه، و منها جميع الهداهد، ما استطاع أن يتبيّن غيبة هدهد واحد من ملايين الهداهد، هذا فضلا عن بلايين الطير، و لما قال: ما لي لا أرى الهدهد، فهو إذن هدهد خاص بشخصه و ذاته، و قد يكون هو الذي سخر لسليمان من أمة الهداهد، أو يكون صاحب النوبة في ذلك الموكب من المجموعة المحدودة العدد من جنسه، و يعين على هذا ما ظهر من أن هذا الهدهد موهوب إدراكا خاصا ليس من نوع إدراك الهداهد، و لا الطير بصفة عامة، و لا بد أن هذه الهبة كانت للطائفة الخاصة التي سخرت لسليمان، لا لجميع الهداهد و جميع الطيور، فإن نوع الإدراك الذي ظهر من ذلك الهدهد الخاص في مستوى يعادل مستوى العقلاء الأذكياء الأتقياء من الناس (1).

و منها (ثالثا) تسخير الريح له، قال تعالى: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً

ص: 100


1- في ظلال القرآن 5/ 2635- 2636.

غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ» (1)، و قال تعالى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (2)، و قال تعالى: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ (3)، و هكذا كان من معجزات سليمان عليه السلام تسخير الريح عاصفة قوية لتحمله و تحمل جنوده و ما معهم من الأثقال، و تقوم بأداء ما يريده منها مما سخر اللّه له فيه، و هي تجري بأمره إلى الأرض التي بارك اللّه فيها، معجزة قاهرة أكرمه اللّه بها، و أجراها على يديه إظهارا لنبوته و تأييدا لرسالته (4)، و يقول الفخر الرازي: المسخر لسليمان كانت ريحا مخصوصة، لا هذه الرياح، فإنها المنافع عامة في أوقات الحاجات و يدل عليه أنه لم يقرأ إلا على التوحيد، فما قرأ أحد الرياح (5)، و يقول الأستاذ الشهيد سيد قطب، طيب اللّه ثراه، و تخير الرياح لسليمان تتكاثر حوله الروايات (6)، و تبدو ظلال الإسرائيليات واضحة في تلك الروايات، و إن تكن كتب اليهود الأصلية لم تذكر شيئا عنها، و التحرج من الخوض في تلك الروايات أولى، و الاكتفاء بالنص القرآني أسلم، مع الوقوف عند ظاهر النص لا تتعداه، و منه يستفاد أن اللّه سخر الريح لسليمان، و جعل غدوها، أي توجهها غادية إلى بقعة معينة (هي الأرض المقدسة في آية الأنبياء 81) يستغرق شهرا، و رواحها، أي انعكاس اتجاهها في الرواح يستغرق شهرا كذلك، وفق مصلحة تحصل من غدوها و رواحها، يدركها سليمان عليه السلام، و يحققها بأمر اللّه، و لا نملك أن

ص: 101


1- سورة سبأ: آية 12.
2- سورة ص: آية 36.
3- سورة الأنبياء: آية 81.
4- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 77- 78.
5- انظر: تفسير الطبري 17/ 55- 56، 22/ 68- 69. 23/ 160، تفسير النسفي 3/ 320 تفسير ابن كثير 3/ 300، 840.

نزيد هذا إيضاحا حتى لا ندخل في أساطير لا ضابط لها و لا تحقيق (1).

و منها (رابعا) أن اللّه تعالى سخر لسليمان طائفة من الجن و مردة الشياطين يعملون له الأعمال التي يعجز عنها البشر، كبناء الصروح الضخمة و القصور العالية و القدور الراسيات، و الجفان التي تشبه الأحواض، كما قال تعالى:

وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ، اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (2)، هذا و المحاريب، كما هو معروف، من أماكن العبادة، و التماثيل الصور من نحاس و خشب و غيره، و الجواب جمع جابية و هي الحوض الكبير الذي يجبى فيه الماء، و قد كانت الجن يصنعون لسليمان جفانا كبيرة للطعام تشبه الجوابي، قيل كان يجتمع على جفنة واحدة ألف نفس، كما كانت تصنع له قدروا ضخمة للطبخ راسية لضخامتها، لا تنقل لكبرها، و إنما يغرف منها في تلك الجفان، و هذه كلها نماذج مما سخر اللّه الجن لسليمان لتقوم له به حيث شاء بإذن اللّه، و كلها أمور خارقة لا سبيل إلى تصورها أو تعليلها، إلا بأنها خارقة من صنع اللّه، و هذا هو تفسيرها الواضح الوحيد (3). و قال تعالى:

وَ مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ، و هذا العمل فيه احتمال قوي أن يكون من قبيل المعجزات، بل هو معجزة، ذلك لأن التحكم في جماعات الشياطين و استخدامهم في الغوص، و عمل الأعمال التي دون الغوص، و حفظ اللّه تعالى لهم، ليكونوا تحت أمره عليه السلام خاصة، إنما هو أمر ظاهر في الإعجاز (4).

ص: 102


1- في ظلال القرآن 5/ 2898.
2- سورة سبأ: آية 12- 13.
3- في ظلال القرآن 5/ 2899. و انظر: تفسير الفخر الرازي 25/ 248.
4- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 78.

و منها (خامسا) أن اللّه تعالى جعل لسليمان عليه السلام سلطة على طائفة من الجن (1)، يسخر من يشاء منهم في الأعمال الشاقة، و يقيد من يشاء في الأغلال ليكف شرهم عن الناس، كما قال تعالى: وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ، وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ، و لم يكن هذا التسخير لأحد من الأنبياء غير سليمان عليه السلام، و ذلك غاية العظمة و نهاية الملك و السلطان لملوك الدنيا، فلم ينل أحد من الملوك ما ناله سليمان عليه السلام، نبي اللّه و رسوله، روي البخاري و مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «إن عفريتا من الجن تفلت على البارحة ليقطع على صلاتي، فأمكنني اللّه منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان «رب اغفر لي و هب لي ملكا لا ينبغي لأحد بعدي» فرددته خاسئا» (2)، و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه كان في مكنة سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن يربط العفريت، كما هو واضح من لفظ الحديث الشريف، و كما في حديث أبي الدرداء عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «ثم أردت أن آخذه، و اللّه لو لا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان أهل المدينة» (3)، و كما في حديث أبي سعيد الخدري عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «لو

ص: 103


1- يقول الإمام الفخر الرازي في تفسير قوله: «فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين» أن الآية (سبأ: آية 14) تبين أن الجن لا يعلمون الغيب، إذ لو كانوا يعلمونه لما بقوا في الأعمال الشاقة ظانين أن سليمان حيّ، و قوله: «ما لبثوا في العذاب المهين» دليل على أن المؤمنين من الجن لم يكونوا في التسخير، لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين (تفسير الفخر الرازي 25/ 250).
2- انظر: صحيح البخاري 4/ 197، صحيح مسلم 1/ 384، و انظر رواية أخرى للحديث الشريف عن أبي الدرداء (صحيح مسلم 2/ 72، سنن النسائي 3/ 13) و ثالثة للإمام أحمد في المسند (3/ 83) عن أبي سعيد الخدري (انظر تفسير ابن كثير 4/ 56- 57 (ط بيروت 1986).
3- صحيح مسلم 2/ 72.

رأيتموني و إبليس فأوهيت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين اصبعي هاتين- الإبهام و التي تليها- و لو لا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة» (1)، و لكن سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أبى أن يفعل ذلك تحقيقا لدعوة أخيه سليمان عليه السلام (2).

و منها (سادسا) أسال اللّه لسليمان عين القطر، قال تعالى: وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ (3)، و هذه من خصوصيات سليمان كما كانت إلانة الحديد من خصوصيات أبيه داود، فهو إذن من المحتمل للإعجاز، و قد يكون ذلك بأن فجر اللّه له عينا بركانية من النحاس المذاب من الأرض، أو هو من قبيل العلم الذي آتاه اللّه تعالى عبده سليمان، و هذا ما نميل إليه و نرجحه، و ذلك بأن ألهمه اللّه تعالى إذابة النحاس حتى يسيل، و يصبح قابلا للصب و الطرق، و هذا فضل من اللّه كبير (4).

هذا و قد أثبتت الحفريات الأثرية، كما سنوضح بالتفصيل في مكانة من هذه الدراسة، أن مدينة «عصيون جابر»، إنما كانت ميناء و مركزا صناعيا في دولة سليمان، و قد اكتشفها بعثة أمريكية برياسة «نلسون جلوك» في موقع «تل الخليفة» على مبعدة 500 مترا من ساحل البحر، على الطرق الشمالي من خليج العقبة، على مقربة من ميناء «إيلات» الحالي (5)، و على أية حال، فإنه لم يعثر حتى الآن في

ص: 104


1- مسند الإمام أحمد 3/ 83.
2- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 116.
3- سورة سبأ: آية 12، و القطر هو النحاس، و إسالته إذابته حتى يكون كالماء ليستطاع صبه في قوالب خاصة تنشأ فيها الصناعات التي يريدها سليمان من آلات الحرب و غيرها، للنحاس خاصية في هذا يدل على أنه أقوى من الحديد، بدليل قوله تعالى: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً، إذ لو لم يكن القطر أقوى من الحديد، لما احتاج إلى تقوية الحديد و إمساكه بإفراغ القطر عليه (عويد المطرقي: المرجع السابق ص 81).
4- في ظلال القرآن 5/ 2898، عويد المطرفي: المرجع السابق ص 81.
5- محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 792- 794، و كذا, ytiuqitnA, llenroH. J 66. p، 1947، 21 و كذا, nevaH weN, nedroJ eht fo ediS rehtO ehT, kceulG. N 113- 50. p، 1940. M. K و كذا, nodnoL, dnaL yloh eht ni ygoloeahcrA, noyneK 257. p، 1970 eht, thgirillA. F. W و كذا, Y. N, enitselaP fo ygoloeahcrA 128- 127، 44. p، 1963.

أي مكان آخر في العالم القديم، على ما يضاهي معامل تنقية النحاس في عصيون جابر و لعل أفضل هذه المعامل من جهة الإعداد و البناء ما وجد في الطبقة (ط) التي تحوي مخلفات أقدم للفترات الخمسة الرئيسية لعمران هذا الموقع (1).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هناك بعضا من آي الذكر الحكيم التي تتصل بسيدنا سليمان عليه السلام، قد أسرف المفسرون على أنفسهم و على الناس في تفسيرها، فيها قوله تعالى: وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ، فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ، رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ (2)، و في قصة الخيل هذه أو الصافات الجياد، و هي الخيل الكريمة، روايتان، تقول الأولى: إن سليمان عليه السلام، استعرض خيلا له بالعشى، ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب، فقال ردوها علي فجعل يضرب أعناقها و سيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه، و رواية أخرى إنما جعل يمسح سوقها و أعناقها إكراما لها لأنها كانت خيلا في سبيل اللّه، و كلا الروايتين، فيما يرى صاحب الظلال، لا دليل عليها و يصعب الجزم بشي ء عنها، و في تفسير ابن كثير و غيره أن هذه الخيل التي شغلت سليمان عليه السلام كانت عشرين ألف فرس فعقروها (3).

ص: 105


1- وليم أولبرايت: آثار فلسطين- القاهرة 1971 ص 128 (مترجم) و كذا.. p, tic- po, relleK. W 199- 198.
2- سورة ص: آية 30- 33.
3- في ظلال القرآن 5/ 3020، تفسير ابن كثير 4/ 51- 52، تفسير الطبري 23/ 153- 156، تفسير الفخر الرازي 26/ 203- 206، تفسير النسفي 4/ 40- 41.

هذا و قد ذكر غير واحد من السلف و المفسرين أن سليمان اشتغل بعرض الصافنات الجياد حتى فات وقت صلاة العصر، و الذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا، بل نسيانا، كما اشتغل النبي صلى اللّه عليه و سلم يوم الخندق عن صلاة العصر، حتى صلاها بعد الغروب، و يحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو و القتال، و الأول أقرب، لأنه قال بعدها «ردوها على فطفق مسحا بالسوق و الأعناق»، قال الحسن البصري: لا، قال: و اللّه لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك، ثم أمر بها فعقرت، و كذا قال قتادة، و قال السّدى: ضرب أعناقها و عراقيبها بالسيوف، و لهذا عوّضه اللّه عز و جل ما هو خير منها، و هي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، غدوها شهر و رواحها شهر، فهذا أسرع و خير من الخيل (1).

و هكذا يوصم سليمان عليه السلام بأنه تلهى عن ذكر اللّه، و يوصم كذلك بأنه قتل الخيول البريئة المعدة للجهاد، دون سبب أو مسوغ معقول (2)، و من ثم فقد رد حذاق العلماء هذا القول بأنه عقوبة لما لا يستحق العقوبة، و بأنه إفساد للمال في غير منفعة المسلمين، و يقول الفخر الرازي أن هذا بعيد (أي عقر سليمان للخيل) و يدل عليه وجوه (الأول) أنه لو كان مسح السوق و الأعناق قطعها لكان معنى قوله تعالى: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ قطعها، و هذا مما لا يقوله عاقل، بل لو قيل مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق، أما إذا لم يذكر لقط السيف لم يفهم البتة من المسح العقر و الذبح، و (الثاني) القائلون بهذا القول جمعوا على سليمان عليه السلام أنواعا من الأفعال المذمومة، فأولها: ترك الصلاة، و ثانيها: أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة و الإنابة البتة، و رابعها: أنه خاطب رب العالمين بقوله: «ردوها علي» و هذه الكلمة لا يذكرها الرجل

ص: 106


1- تفسير ابن كثير 4/ 51- 52 (ط بيروت 1986).
2- محمد الطيب النجار: المرجع السابق ص 40.

الحصيف إلا مع الخادم الخسيس، و خامسها: أنه تبع هذه المعاصي بعقر الخيل في سوقها و أعناقها، و روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه: «نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة»، فهذه أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان عليه السلام، مع أن لفظ القرآن لم يدل على شي ء منها (1).

على أن هناك اتجاها آخر في القصة، فلقد روي الطبري عن ابن عباس، كما روي القرطبي عنه و عن قتادة و الحسن و الزهري و ابن كيسان أن المراد بمسح سوق الخيل و أعناقها في هذه الآية الكريمة هو مسح حبالها و كشفا للغبار عنها، و قال الإمام الطبري في التفسير: و هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس (أي جعله يمسح أعراف الخيل و عراقيبها حبالها) أشبه بتأويل الآية، لأن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه و سلم لم يكن إن شاء اللّه ليعذب حيوانا بالعرقبة، و يهلك مالا من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها، و لا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها (2)، و من ثم يذهب الفخر الرازي إلى أن الصواب أن نقول إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم، كما أنه كذلك في دين محمد صلى اللّه عليه و سلم، ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغز و فجلس و أمر بإحضار الخيل و بإجرائها، و ذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا و نصيب النفس، و إنما أحبها لأمر اللّه و طلب تقوية دينه، و هو المراد في قوله: «عن ذكر ربي»، ثم إنه بإعدائها و تسييرها حتى توارت بالحجاب، أي غابت عن بصره، ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه، فلما عادت إليه طفق

ص: 107


1- تفسير الفخر الرازي 26/ 205- 206.
2- تفسير الطبري 23/ 156، ثم قارن تفسير ابن كثير 4/ 52، حيث يقول: و هذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر، لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا، و لا سيما إذا كان غضبا للّه تعالى بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة، و لهذا لما خرج عنها اللّه تعالى عوضه اللّه عز و جل ما هو خير منها و هو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، غدوها شهر و رواحها شهر، فهذا أسرع و خير من الخيل.

يمسح سوقها و أعناقها، و الغرض من ذلك المسح أمور، الأول: تشريفا لها و إبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو، و الثاني: أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة و الملك يتضح إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه، و الثالث: أنه كان أعلم بأحوال الخيل و أمراضها و عيوبها، فكان يمتحنها و يمسح سوقها و أعناقها، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، فهذا التفسير الذي ذكرنا، ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقا مطابقا موافقا، و لا يلزمنا نسبة شي ء من تلك المنكرات و المحذورات (1).

هذا فضلا عن أن حب الخيل من سنن الأنبياء و المرسلين، صلوات اللّه و سلامة عليهم أجمعين، روي النسائي و أبو داود و أحمد عن أبي وهب الجشمي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «ارتبطوا الخيل و امسحوا بنواصيها و أكفالها» (2)، و روي البخاري و مسلم و أصحاب السنن و مالك و أحمد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» (3)، و روي الطحاوي في مشكل الآثار بسنده عن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، و أهلها معانون عليها، و امسحوا نواصيها و ادعوا لها بالبركة» (4)، هذا إلى أن ارتباط الخيل كما أنه في القرآن ممدوح، فكذلك في التوراة ممدوح (5)، و قد روت التوراة أن سليمان عليه السلام كان شغوفا بالخيل (6)، و أنه كان يقول:

ص: 108


1- تفسير الفخر الرازي 26/ 206.
2- سنن النسائي 6/ 218، سنن أبي داود 3/ 24، مسند الإمام أحمد 6/ 282.
3- صحيح البخاري 4/ 34، صحيح مسلم 3/ 493، سنن الدارمي 2/ 212، سنن ابن ماجة 2/ 47، سنن أبي داود 3/ 22، سنن الترمذي 4/ 202، سنن النسائي 6/ 215، موطأ مالك ص 279، مسند الإمام أحمد 6/ 282.
4- مشكل الآثار 1/ 132 (حيدرآباد 1333 ه).
5- تفسير الفخر الرازي 26/ 204.
6- ملوك أول 10/ 26- 29، أخبار أيام ثان 1/ 14- 17.

«الفرس معدة ليوم الحرب»، و إن «كانت النصرة من الرب» (1)، هذا و قد أثبتت الحفريات الأثرية أن سليمان عليه السلام قد أقام حظائر للخيل في أماكن متعددة من مملكته، و قد ألقت بعثات الحفائر الأمريكية في مدينة «مجدو» القديمة، الضوء على هذه الحظائر، فلقد عثر المكتشفون، كما سنوضح ذلك في مكانة من هذه الدراسة، هناك على بقايا إسطبلات الخيول، و التي كانت دائما تنتظم حول فناء دائري مبلط ببلاط من الحجر الجيري، و يخترق وسط كل إسطبل ممر عرضه عشرة أقدام، و قد وصف بصخور خشنة ليحول دون انزلاق الخيل، و قد وضعت على كل جانب، وراء نتوءات الأحجار، مرابط فسيحة عرض كل منها عشرة أقدام، و ما يزال الكثير من هذه الإسطبلات محتفظا بمعالف طعام الخيل، كما لا تزال كذلك أجزاء من معدات السقي ظاهرة، كما تدل فخامة الإسطبلات و العناية الشديدة التي بذلت بوفرة في المباني و الخدمات على أن الخيل كانت مرغوبا فيها في تلك الأيام، و عند ما تم الكشف عن المبنى بأكمله، قدر بعض الباحثين لكل إسطبل 450 حصانا، و لكل حظيرة 150 عربة (2)، هذا و قد كشفت نظائر لإسطبلات محدد هذه في بيت شان و حاصور و تعنك و القدس (3).

و هناك كذلك آية الفتنة و الجسد الذي ألقى على كرسي سليمان، يقول عز من قال: وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (4)، فلقد

ص: 109


1- سفر الأمثال 21/ 31.
2- . 591 و كذا. p, tic- po, thgirillA. F. W 124 و كذا F, gezpieL, I, sanitselaP relamkneD:, negniztaW. C 87، F 67. p، 1933.
3- مجدو: تل المتسلم، على مبعدة 20 ميلا جنوب شرق حيفا، و حاصور: على مبعدة 5 كيلا جنوب غرب بحيرة الحولة و تسمى الآن تل قدح، و تعنك: على مبعدة 8 كيلا جنوب شرق مجدو.
4- سورة ص: آية 34.

روي بعض المفسرين و المحدثين عدة روايات عن فتنة سليمان، و عن الجسد الذي ألقى على كرسيه، كثير منها تقدح في النبوة، و تتنافى مع العصمة التي أوجبها اللّه للأنبياء، و التي عرفت من الدين بالضرورة إجماعا، فضلا عن أنها تحط من مقام الاصطفاء الإلهي للنبوة و الرسالة، و كلها قصص و روايات باطلة و فاسدة عقلا و نقلا (1).

و لعل من أغرب و أنكر تلك الروايات، ما رواه ابن أبي حاتم (2) من أن سليمان عليه السلام، أراد أن يدخل الخلاء، فأعطى الجرادة خاتمة، و كانت أحب نسائه إليه، فجاءها الشيطان بصورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي، فظنته سليمان، فأعطته إياه، فلما لبسه دانت له الإنس و الجن و الشياطين، و زادت بعض الروايات أنه تسلط حتى على نسائه (3)، و ذهبت رواية ثالثة إلى أن الفتنة إنما كانت بسبب أن امرأته جرادة كانت تبكي على أبيها الذي قتله سليمان، فأمر سليمان الشيطان فمثل لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته، و كانت تذهب إلى تلك الصورة بكرة و عشيا مع جواريها يسجدن لها، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة و عاقب المرأة (4)، ثم خرج

ص: 110


1- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 116.
2- مختصر تفسير ابن كثير 3/ 203 (هامش/ 2).
3- تفسير الفخر الرازي 26/ 208، الدر المنثورة 5/ 312، تاريخ الطبري 1/ 499، ثم قارن: تفسير الطبري (23/ 158) حيث يقول و سلط الشيطان على ملك سليمان كله غير نسائه، و في تفسير ابن كثير (4/ 55) أن المشهور عن مجاهد و غير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان، بل عصمهن اللّه عز و جل منه تشريفا و تكريما لنبيّه عليه السلام.
4- هذه الأسطورة لا ريب أنها منقولة عن توراة اليهود المتداولة اليوم، و التي تزعم كذبا أن سليمان عليه السلام قد ضم إلى حريمه مئات سبعة من الزوجات، و مئات ثلاث من السراري، و أنه كان طوع أمرهن، حتى إنه أقام رغبة في مرضاتهن هياكل صغيرة، و دورا لعبادة الآلهة الوثنية، تقول التوراة «و كان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، و لم يكن قلبه كاملا مع الرب كقلب أبيه داود، فذهب سليمان وراء عشتاروت إلهة الصيدونيين و ملكوم إله العمونيين، و عمل سليمان الشرفي عيني الرب، و بنى مرتفعة لكموش رجس المؤابيين على الجبل الذي تجاه أورشليم، و لو لك رجس بني عمون، و هكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن و يذبحن لآلهتهن»؛ و هكذا تصور توراة يهود، النبي الكريم، و هو يختم حياته، و غضب الرب، و العياذ باللّه، قد حلّ به، لأن قلبه مال عن الرب و لم يحفظ وصاياه، (انظر: سفر الملوك الأول 11/ 1- 13، محمد بيومي مهران. إسرائيل 3/ 213- 218)، و انطلاقا من كل هذا، فإن هذه الروايات التي ذكرها بعض المفسرين و المؤرخين، شأنها شأن ما جاء بتوراة يهود، إنما هي أكاذيب ضد النبي الكريم عليه السلام.

وحده إلى فلاء، و فرش الرماد فجلس عليه تائبا إلى اللّه، و رواية رابعة تذهب إلى أن سليمان قال لبعض الشياطين كيف تفتنون الناس؟ فقال أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه إياه نبذه في البحر، فذهب ملكه و قعد هذا الشيطان على كرسيه أربعين يوما، عدد ما عبد الوثن في بيته، ثم أعطاه أحد الصيادين سمكة فبقر بطنها، فإذا هو بالخاتم فتختم به، و وقع ساجدا للّه، و رجع إليه ملكه، ثم أخذ ذلك الشيطان و أدخله في صخرة و ألقاها في البحر (1).

هذا و قد أظهر حذاق العلماء، كابن كثير و ابن حزم و ابن العربي و الفخر الرازي و النسفي و الزمخشري و أبي حيان و غيرهم (2) زيف هذه الأساطير، يقول الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير: و اعلم أن أهل التحقيق استبعدوا هذا الكلام من وجوه (الأول) أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه بالصورة و الخلقة بالأنبياء، فحينئذ لا يبقى اعتماد على شي ء من

ص: 111


1- انظر: تفسير الفخر الرازي 26/ 207- 208، تفسير الطبري 23/ 157- 158، تفسير ابن كثير 4/ 53- 55، تاريخ الطبري 1/ 496- 497، الكامل لابن الأثير 1/ 133- 135، تاريخ اليعقوبي 1/ 59- 60.
2- انظر: تفسير ابن كثير 4/ 55، تفسير البحر المحيط 7/ 397، تفسير الكشاف 3/ 375، تفسير الفخر الرازي 26/ 208- 209، تفسير النسفي 4/ 42، ابن حزم: الفصل في الملل و الأهواء و النحل- القاهرة 1964- الجزء الثالث ص 20، ابن العربي: أحكام القرآن 4/ 1638 (فاس 1376 ه)، محمد محمد أبو شهبة: الإسرائيليات و الموضوعات في كتب التفسير- القاهرة 1393 ه ص 380.

الشرائع، فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس في صورة محمد و عيسى و موسى عليهم السلام، ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء و الإضلال، و معلوم أن ذلك يبطل الدين بالكلية، و (الثاني) أن الشيطان لو قدر على أن يعامل نبي اللّه سليمان بمثل هذه المعاملة، لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع الأنبياء و الزهاد، و حينئذ وجب أن يقتلهم و أن يمزق تصانيفهم و أن يخرب ديارهم، و لما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل مثله في حق أكابر الأنبياء أولى، و (الثالث) كيف يليق بحكمة اللّه و إحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان؟ و لا شك أنه قبيح، و (الرابع) لو قلنا أن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادة تلك الصورة فهذا كفر منه، و إن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة، فكيف يؤاخذ اللّه سليمان بفعل لم يصدر عنه؟.

و أما الوجوه التي ذكرها أهل التحقيق في هذا الباب فأشياء الأول أن فتنة سليمان أنه ولد له ابن، فقالت الشياطين إن عاش صار متسلطا علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله، فعلم سليمان ذلك فكان يريبه في السحاب فبينما هو مشتغل في مهماته إذ ألقى ذلك الولد ميتا على كرسيه فتنبه على خطئه في أنه لم يتوكل فيه على اللّه، فاستغفر ربه و أناب، و (الثاني) روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل اللّه، و لم يقل إن شاء اللّه، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجي ء به على كرسيه فوضع في حجره، فو الذي نفسي بيده لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا كلهم في سبيل اللّه فرسانا أجمعون»، فذلك قوله تعالى: وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ، و (الثالث) و لقد فتنا سليمان بسبب مرض شديد ألقاه اللّه عليه، و ألقينا على كرسيه منه جسدا و ذلك لشدة المرض، و (الرابع) لا يبعد أن يقال إنه ابتلاء اللّه تعالى بتسليط خوف و توقع بلاء من بعض الجهات عليه، و صار بسبب قوة ذلك الخوف كالجسد

ص: 112

الضعيف الملقى على ذلك الكرسي، ثم أزال اللّه عنه ذلك الخوف و أعاده إلى ما كان عليه من القوة و طيب القلب (1).

و أياما كان الأمر، فإن العلماء المحققين إنما يذهبون إلى أن يكون بيان الفتنة في قول سليمان عليه السلام و هو ما يتصل أيضا بالخيل اتصالا قريبا، فيما أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام، لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع و تسعين (2) كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل اللّه، فقال له صاحبه قل إن شاء اللّه، فلم يقل إن شاء اللّه، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، و الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسانا أجمعون» (3)، و المراد بشق رجل، تفسره رواية أخرى عند البخاري أيضا في كتاب الأنبياء بلفظ «إلا واحدا ساقطا أحد شقيه» أي مشلولا فاقدا لكثير من مظاهر الرجولة، و لما رأى سليمان عليه السلام حرمانه مما تمنى من الولد للجهاد بهم في سبيل اللّه، لأنه لم يقل إن شاء اللّه، علم أنه ابتلى فأسرع إلى الإنابة إلى اللّه تعالى و الرجوع إليه بالتوبة من عدم استثنائه في طلبه و استعانته بمشيئة اللّه تعالى ثم استغفر ربه، متذللا خاشعا راجيا عفوه و مغفرته و فضله فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ

ص: 113


1- تفسير الفخر الرازي 26/ 208- 209.
2- كانت زوجات سليمان يبلغن المائة أو أقل، كما جاء في روايات الحديث المتعددة عند البخاري (صحيح البخاري 4/ 27، 197، 7/ 50، 8/ 162، 182، 9/ 169) ثم قارن ذلك برواية التوراة التي جعلتهن لفا «سبع مائة من النساء السيدات، و ثلاث مائة من السراري (ملوك أول 11/ 1- 4) و كذا قارنه بما جاء في كتب المفسرين و المؤرخين التي وافقت رواية التوراة (تاريخ ابن خلدون 1/ 113، الكامل لابن الأثير 1/ 129) و في رواية اليعقوبي 1/ 59) أنهن سبعمائة، و في تفسير الطبري (23/ 162- 163) عن ابن عباس قال: كان سليمان في ظهره ماء مائة رجل بان له ثلاث مائة امرأة، و تسع مائة سرية».
3- صحيح البخاري 4/ 27، و انظر: تفسير القرطبي ص 5645- 5646.

بَعْدِي (1) ليستعين بذلك الملك على الجهاد في سبيل اللّه، ناشرا لدين اللّه، مقيما لأحكام شرعه، فيحقق به من النصر على أعدائه أكثر مما كان يؤمله فيما فاته من إنجاب مائة ولد.

ص: 114


1- سورة ص: آية 35، و انظر: تفسير القرطبي ص 5648- 5649.
الفصل الثّاني بناء المسجد الأقصى

المسجد الأقصى أو بيت المقدس، موطن العديد من الأنبياء و المرسلين، ابتداء من أبيهم إبراهيم و حتى عيسى ابن مريم عليهم السلام، و ثاني مسجد وضع في الأرض بعد الكعبة البيت الحرام (1) و أولى القبلتين (2)، و ثالث الحرمين الشريفين (3)، و مسرى النبي الأعظم سيدنا و مولانا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و صدق اللّه العظيم حيث يقول: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ (4)، و ليس هناك من شك في أن هذا الإسراء أو هذه الرحلة المباركة من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في القدس الشريف إنما هي رحلة مختارة من اللطيف الخبير، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام إلى محمد صلى اللّه عليه و سلم رسول اللّه و خاتم النبيّين،

ص: 115


1- صحيح البخاري 4/ 177، صحيح مسلم 1/ 370، 2/ 153- 154، مسند الإمام أحمد 5/ 150، 167، تفسير القرطبي ص 1379، تفسير المنار 4/ 6- 7.
2- انظر: سورة البقرة: آية 142- 144، صحيح البخاري 6/ 25- 27، صحيح مسلم 2/ 160- 162، مسند الإمام أحمد 5/ 246- 247، مجمع الزوائد للهيثمي 2/ 13.
3- انظر: صحيح مسلم 1/ 541 (القاهرة 1971)، الزركشي: إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 287.
4- سورة الإسراء: آية، و انظر: تفسير القرطبي ص 3819- 3828، تفسير ابن كثير 3/ 5- 41، فتح الباري 7/ 159- 173، صحيح البخاري 5/ 66- 69/ 140.

و تربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا، و كأنما أريد بهذه الرحلة المباركة إعلان وراثة النبي الخاتم محمد صلى اللّه عليه و سلم لمقدسات الرسل قبله، و اشتمال رسالته على هذه المقدسات، و ارتباط رسالته بها جميعا، و لهذا فقد جمعوا له هناك كلهم فأمهم في محلتهم و دارهم، فدل على أنه هو الإمام الأعظم، و الرئيس المقدم، صلوات اللّه و سلامة عليهم أجمعين، و من ثم فقد كانت رحلة الإسراء ترمز إلى أبعد من حدود الزمان و المكان، و تشمل آمادا و آفاقا أوسع من الزمان و المكان، و تتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى (1).

و لعل سائلا يتساءل: من هذا الذي نال شرف بناء المسجد الأقصى؟

أخرج الإمام أحمد و ابن ماجة و ابن خزيمة و ابن حبان و الحاكم و النسائي (و اللفظ له) بأسانيدهم عن عبد اللّه بن فيروز الديلمي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: إن سليمان بن داود عليهما السلام، لما بنى بيت المقدس سأل اللّه عز و جل خلا لا ثلاثة، سأل اللّه عز و جل حكما يصادف حكمه فأوتيته، و سأل اللّه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، و سأل اللّه عز و جل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه، أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه» (2).

و روى البخاري و مسلم عن أبي ذر قال: قلت يا رسول اللّه أي مسجد وضع في الأرض أول، قال المسجد الحرام، قلت ثم أي، قال المسجد الأقصى، قلت كم كان بينهما، قال أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة

ص: 116


1- في ظلال القرآن 4/ 2212، تفسير ابن كثير 3/ 5.
2- سنن النسائي 2/ 43، سنن ابن ماجة 1/ 451، انظر: جامع الأصول ج 9 حديث 6307، صحيح الجامع الصغير: حديث 2086، البداية و النهاية 2/ 26، تفسير ابن كثير 4/ 58.

بعده فصله، فإن الفضل فيه» (1)، و في رواية عن أبي ذر أيضا قال: قلت يا رسول اللّه أي مسجد وضع في الأرض أول، قال المسجد الحرام ثم قلت أي، قال المسجد الأقصى، قلت كم بينها، قال أربعون سنة، و أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد» (2). هذا و قد أثار هذان الحديثان الشريفان جدلا بين العلماء، على أساس أن إبراهيم عليه السلام هو باني البيت الحرام، و أن سليمان عليه السلام هو باني المسجد الأقصى، و بينهما ما يقرب من ألف عام (3)، و من ثم فقد ذهب أبو جعفر الطحاوي بأن الوضع غير البناء، و السؤال عن مدة ما بين وضعهما، لا عن مدة ما بين بنائهما، فيحتمل أن يكون واضع المسجد الأقصى بعض الأنبياء قبل داود و سليمان، ثم بنياه بعد ذلك (4)، و لعل قريبا من هذا ما ذهب إليه ابن الجوزي و القرطبي بأنه ليس المراد أن إبراهيم عليه السلام هو الذي أسس بناء الكعبة المشرفة (5)، و لا أن سليمان عليه السلام بنى بناء بيت المقدس، و إنما هما جددا ما كان قد

ص: 117


1- صحيح البخاري 4/ 177، صحيح مسلم 1/ 370.
2- صحيح مسلم 2/ 153- 154 (القاهرة 1971)، مسند الإمام أحمد 5/ 150، 167، تفسير الطبري 7/ 22، تفسير ابن كثير 2/ 63، تفسير القرطبي ص 1379، تفسير المنار 4/ 6- 7.
3- الواقع أن الفترة بين وفاة إبراهيم و ولادة سليمان عليهما السلام، لا تصل أبدا إلى ألف عام، فإبراهيم عاش في الفترة (1940- 1765 ق. م) و سليمان عاش في الفترة (973- 922 ق. م).
4- صحيح مسلم 2/ 153 (هامش/ 2).
5- الرأي عندي أن الكعبة المشرفة ترجع في بنائها إلى إبراهيم و ولده إسماعيل عليهما السلام، دون غيرهما من العالمين و يرى ابن كثير و غيره من العلماء أنه لم يجي ء في خبر صحيح عن المعصوم صلى اللّه عليه و سلم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه السلام، و من تمسك في هذا بقوله مكان البيت فليس بناهض و لا ظاهر، لأن المراد مكانه المقدر في علم اللّه المقرر في قدرته، المعظم عند الأنبياء موضعه من لدن آدم إلى زمن إبراهيم (ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 163، 2/ 298، تفسير المنار 1/ 466- 467، الكشاف 1/ 446، تفسير الطبري 3/ 70، محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية في القرآن الكريم 1/ 183- 185.

أسسه غيرهما (1)، كما ذهب برهان الدين الزركشي إلى أن سليمان عليه السلام، إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه (2) على أن الأستاذ رشيد رضا يذهب إلى أن هذا التفسير ضعيف لأنه سماه بيتا، و لو جعل المكان مسجدا و لم يبن فيه لما سمى بيتا، بل مسجد أو قبلة، ثم إن ذلك مبنى على القول بأن إبراهيم هو الذي بنى أول مسجد للعبادة في أرض بيت المقدس، و ذلك معقول، و إن لم يكن عندنا نص صريح (3).

هذا و يذهب ابن قيم الجوزية إلى أن الذي أسس بيت المقدس إنما هو يعقوب عليه السلام، و أن سليمان كان مجددا له، و إلى هذا ذهب ابن كثير أيضا، حيث يقول: و عند أهل الكتاب أن يعقوب عليه السلام هو الذي أسس المسجد الأقصى (4)، و هو مسجد إيليا بيت المقدس شرفه اللّه، و هذا متجه و يشهد له ما ذكرناه من الحديث (يعني حديث أبي ذر المشهور) فعلى هذا يكون بناء يعقوب، و هو إسرائيل عليه السلام، بعد بناء الخليل و ابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء (5) كما ذهب إلى نفس الرأي

ص: 118


1- فتح الباري 6/ 408، تفسير القرطبي 4/ 138.
2- الزركشي: إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 30.
3- تفسير المنار 4/ 7 (القاهرة 1973).
4- يذهب أهل الكتاب، كما جاء في العهد القديم، إلى أن داود عليه السلام، كان أول من فكر في بناء المسجد الأقصى، بل و قد اشترى مكانه من رجل يبوسى يدعى «أرنان» (أرونا أو أرونة) كان قد اتخذه جرنا أو يبدر، و كان قد عرض على داود أن يأخذ المكان بلا مقابل، فرفض داود و اشتراه منه، و كذا بقرا ليقدمه محرقة للرب، بخمسين شاقلا من الفضة، و تذهب الرواية إلى داود قد منع من بناء البيت، لأن ذلك سيكون من نصيب ولده سليمان، و لكنها قد سجلت معاونة داود الفعالة لولده سليمان في إقامة البيت، و ذلك بتجهيز المواد اللازمة للبناء، فضلا عن كميات من الذهب و الفضة و النحاس و الحديد و غيرها (صموئيل ثان 24/ 16- 25، أخبار أيام ثان 22/ 1- 19، محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 843- 844، تاريخ ابن خلدون 2/ 111- 112) ثم قارن: تفسير ابن كثير 4/ 58 (ط بيروت 1986).
5- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 163، 2/ 298.

الزركشي في إعلام الساجد (1)، و الحميري في الروض المعطار (2)، و أخيرا فلقد ربط البعض بناء المسجد الأقصى، كما ربطوا بناء المسجد الحرام من قبل، بالملائكة، و ربطه آخرون بآدم عليه السلام، بل إن فريقا رابعا ربطه بسام بن نوح عليه السلام (3)، و جاء في تفسير القرطبي أن آدم هو الذي بنى المسجد الأقصى، بعد بنائه للبيت العتيق بأربعين عاما، و أن يعقوب قد أقام قواعده و جدده فقط، بعد أن رفع جده إبراهيم عليه السلام القواعد من البيت العتيق (4).

و يذهب الدكتور عويد المطرفي إلى أن أقرب الروايات إلى المعقول أن الذي بنى المسجد الأقصى تأسيسا، إنما هو سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، بعد فراغه من بناء الكعبة المشرفة، و رجوعه إلى مستقرة بالشام (5)، كما استظهر ذلك أبو حيان في تفسيره لقوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (6)، من أن إبراهيم عليه السلام، كما وضع الكعبة، وضع بيت المقدس (7).

و في الواقع فإن كثيرا من المفسرين و المؤرخين إنما يذهبون إلى أن سليمان عليه السلام هو الذي بنى بيت المقدس، ففي تفسير أبي السعود أن سليمان لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج، و هناك في مكة كان يذبح كل

ص: 119


1- الزركشي: المرجع السابق ص 30.
2- الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1975 ص 556.
3- مجير الدين الحنبلي: الأنس الجليل بتاريخ القدس و الخليل النجف 1388 ه، الجزء الأول ص 8، فتح الباري 6/ 409، الزركشي: المرجع السابق ص 30.
4- تفسير القرطبي 4/ 138، فتح الباري 6/ 408- 409.
5- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 149.
6- سورة آل عمران: آية 96.
7- تفسير البحر المحيط 3/ 6.

يوم طول مقامه خمسة آلاف ناقة، و خمسة آلاف بقرة، و عشرين ألف شاه (1)، و يقول الحافظ السهيلي: و بيت المقدس بناه سليمان عليه السلام، و كان داود عليه السلام قد ابتدأ مبناه فأكمله ابنه سليمان عليه السلام، و اسمه إيلياء، و تفسيره العربية: بيت اللّه (2)، ذكره البكري، و في الصحيح أنه وضع للناس بعد البيت الحرام بأربعين سنة، و هذا يدل على أنه قد كان بنى أيضا في زمن إسحاق و يعقوب عليهما السلام، و لكن بنيانه على التمام و كمال الهيئة كان على عهد سليمان عليه السلام (3)، و يقول الطبري في التاريخ:

و أصاب بني إسرائيل في زمان داود طاعون جارف، فخرج بهم إلى موضع بيت المقدس يدعون اللّه و يسألونه كشف ذلك البلاء عنهم، فاستجيب لهم، فاتخذوا ذلك الموضع مسجدا، و كان ذلك فيما قيل، لإحدى سنة مضت من ملكه، و توفي قبل أن يستتم بناءه، فأوصى إلى سليمان. باستتمامه، و قتل القائد الذي قتل أخاه (يعني يوآب الذي قتل أبشالوم كما ذكرنا من قبل) فلما دفنه سليمان نفذ لأمره في القائد و قتله و استتم بناء المسجد، ثم يتحدث الإمام الطبري بعد ذلك عن التعداد الذي قام به داود في بني إسرائيل، و البلايا التي حاقت بالقوم بسببه، كما أشرنا من قبل، و أن داود استغفر ربه و طلب العفو عن بني إسرائيل، فاستجاب اللّه لهم و رفع عنهم الموت، فرأى داود الملائكة سالين سيوفهم يغمدونها، يرتقون في سلم من ذهب عن الصخرة إلى السماء، فقال داود: هذا مكان ينبغي أن يبنى فيه مسجد، فأراد داود أن يأخذ في بنائه، فأوحى اللّه إليه أن هذا بيت مقدس، و أنك قد صبغت يديك في الدماء، فلست ببانية، و لكن ابن لك أملكه بعدك أسميه سليمان

ص: 120


1- تفسير أبي السعود 6/ 278، و انظر تاريخ ابن خلدون 2/ 113.
2- قارن: (محمد بيومي مهران: إسرائيل الجزء الثاني ص 1155- 1158، الإسكندرية 1979).
3- مختصر تفسير ابن كثير 2/ 354، هامش/ 1.

أسلمه من الدماء، فلما ملك سليمان بناه و شرفه (1): و يتفق ابن الأثير في روايته مع الطبري تماما (2).

و يقول المسعودي: و ابتدأ سليمان ببنيان بيت المقدس، و هو المسجد الأقصى، الذي بارك اللّه عز و جل حوله (3)، و يقول اليعقوبي: و ابتدأ سليمان في بيت المقدس و قال: إن اللّه أمر أبي داود أن يبنى بيتا، و إن داود شغل بالحروب، فأوحى اللّه إليه أن ابنك سليمان يبنى البيت باسمي، فأرسل سليمان في حمل خشب الصنوبر و خشب السرو، ثم بنى بيت المقدس بالحجارة، فأحكمه و لبسه الخشب من الداخل، و جعل الخشب منقوشا، و جعل له هيكلا مذهبا، و فيه آلة الذهب ثم أصعد تابوت السكينة فجعله في الهيكل، و كان في التابوت اللوحان اللذان وضعهما موسى (4)، و يقول ابن خلدون: و لأربع سنين من ملكه (أي سليمان) شرع في بناء بيت المقدس بعهد أبيه إليه بذلك، و قد تم بناء الهيكل في سبع سنين (5).

هذا و قد أشرنا من قبل إلى الحديث الشريف الذي يقول فيه سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «إن سليمان عليه الصلاة و السلام لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز و جل خلالا ثلاثا، سأل اللّه عز و جل حكما يصادف حكمه فأوتيه، و سأل اللّه عز و جل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، و سأل اللّه عز و جل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه» (6)، و عن رافع بن عمير قال سمعت رسول

ص: 121


1- تاريخ الطبري 1/ 484- 485، ثم قارن: صموئيل ثان 7/ 1- 17، 24/ 16- 24.
2- الكامل لابن الأثير 1/ 127- 128.
3- مروج الذهب للمسعودي 1/ 70، و انظر 1/ 69.
4- تاريخ اليعقوبي 1/ 58.
5- تاريخ ابن خلدون 2/ 111- 113، ثم قارن ملوك أول 6/ 1- 9/ 25.
6- سنن النسائي 2/ 43، سنن ابن ماجة 1/ 451، تفسير ابن كثير 4/ 58.

اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: قال اللّه عز و جل لداود عليه الصلاة و السلام ابن لي بيتا في الأرض، فبنى داود بيتا لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى اللّه إليه يا داود نصبت بيتك قبل بيتي، قال يا رب هكذا قضيت من ملك استأثر، ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاثا فشكا ذلك إلى اللّه عز و جل، فقال يا داود إنك لا تصلح أن تبني لي بيتا قال و لم يا رب، قال لما جرى على يديك من الدماء، قال يا رب أو ما كان ذلك في هواك و محبتك، قال بلى و لكنهم عبادي و أنا أرحمهم، فشق ذلك عليه فأوحى اللّه إليه لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان، فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه، و لما تم قرب القرابين و ذبح الذبائح و جمع بني إسرائيل، فأوحى اللّه إليه قد أرى سرورك ببنيان بيتي، فسلني أعطك، قال أسألك ثلاث: خصال، حكما يصادف حكمك، و ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، و من أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: أما الثنتان فقد أعطيهما، و أنا أرجو أن يكون قد أعطى الثالثة» (1).

و انطلاقا من كل هذا، فإنني أميل، حدسا عن غير يقين، إلى أن إبراهيم عليه السلام، هو الذي وضع الأسس للمسجد الأقصى، على أساس أن رواية مسلم إنما تتحدث عن أول مسجد، و ليس أول بيت، و هي العقبة التي احتج بها صاحب تفسير المنار، و على أساس ما جاء في الأحاديث الشريفة من أن سليمان هو الذي بنى بيت المقدس، و على أساس ما ذهب إليه جمع كبير من المؤرخين من أن سليمان قد بنى المسجد الأقصى بعهد أبيه إليه بذلك، و على أساس أن إبراهيم عليه السلام، طبقا لرواية العهد القديم (2)، إنما قد زار القدس، و أنه قد أقام المحاريب للّه في فلسطين،

ص: 122


1- تفسير ابن كثير 1/ 58 (ط بيروت 1986).
2- تكوين 12/ 6- 9، 14/ 19- 20.

و خاصة في شكيم و بيت إيل و بلوطات ممرا، و من ثم فليس هناك ما يمنع من أن يكون أبو الأنبياء قد فعل الشي ء نفسه في القدس، هذا فضلا عن أنه إذا ما كان صحيحا ما ذهبنا إليه في هذه الدراسة و غيرها من أن إبراهيم عليه السلام كان يعيش في الفترة (1940- 1765 ق. م) و أنه قد بنى الكعبة البيت الحرام حوالي عام 1824 قبل الميلاد (1)، و من ثم فإن بناءه أو وضعه لأسس المسجد الأقصى بعد ذلك بأربعين عاما، أي حوالي عام 1784 قبل الميلاد، يكون أمرا مقبولا، و أن ذلك قد تم قبل أن يولد حفيده يعقوب عليه السلام بأربع سنوات ذلك لأنه طبقا لما جاء في هذه الدراسة، و كما أشار العهد القديم (2)، فإن الخليل عليه السلام قد رزق بولده إسحاق عليه السلام، و قد أكمل المائة من عمره (بعد أن رزق بإسماعيل و هو في السادسة و الثمانين من عمره) و قد عاش إسحاق 180 عاما، و من ثم فهو كان يعيش في الفترة (1840- 1660 ق. م)، و أن يعقوب كان يعيش في الفترة (1780- 1633 ق. م) على أساس أنه ولد لأبيه إسحاق، و هو في الستين من عمره، و أنه عاش 147 سنة، و أن بنى إسرائيل قد دخلوا مصر حوالي عام 1650 قبل الميلاد، حين كان يعقوب في الثلاثين بعد المائة من عمره (3)، و أما سليمان فهو الذي بدأ بناء المسجد الأقصى، الذي وضع إبراهيم أسسه، في عام حكمه الرابع، حوالي عام 957 قبل الميلاد (4).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا بإيجاز إلى رواية العهد القديم

ص: 123


1- انظر عن بناء الكعبة المشرفة (محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم 1/ 183- 197).
2- تكوين 17/ 17، 25/ 26، 35/ 28، 47/ 9، 28.
3- انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 80- 82، دراسات تاريخية من القرآن الكريم 1/ 194- 195.
4- انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 840- 860.

عن بناء المسجد الأقصى، و الذي تدعوه بيت الرب، حيث تذهب إلى أن مكان البيت إنما كان على جبل المريا في بيدر أرونة اليبوسي، فاشتراه منه داود و معه بقر للقرابين بخمسين شاقلا من الفضة (1)، هذا و تشير الرواية بوضوح إلى أن داود عليه السلام إنما كان أول من فكر في إقامة بيت للرب، إلا أن فكرته هذه لم تجد قبولا حسنا من رب إسرائيل، الذي كان يدخر هذا العمل لولده سليمان (2)، و مع ذلك فإن داود عليه السلام، قبل أن ينتقل إلى جوار ربه، راضيا مرضيا عنه، أراد أن يسجل معاونته الفعالة لولده سليمان في إقامة بيت الرب، فأخذ يجهز المواد اللازمة للبناء، و كان القوم في عصره ما يزالون في بداوة بدائية، يندر فيهم من يعرف أصول حرفة أو صناعة أو علم من علوم الدنيا، و سنرى أن الاعتماد على الفينيقيين كان الحل الوحيد الممكن أمام داود و سليمان حتى يرتفع هيكل الرب، و نقرأ في التوراة أن داود قد «أمر بجميع الأجانب الذين في أرض إسرائيل فاتخذ نحاتين لنحت حجارة مربعة لبناء بيت اللّه، و هيأ داود حديدا كثيرا للمسامير لمصاريع الأبواب و الأوصال، و نحاسا كثيرا بلا وزن، و خشب أرز لم يحدد له عدد»، هذا فضلا عن كميات كبيرة من الذهب و الفضة و النحاس و الحديد و الخشب (3).

و هكذا، و في ربيع السنة الرابعة من عهد سليمان (حوالي عام

ص: 124


1- من عجب أن بعض الروايات العربية التي تنسب إلى أبي بن كعب تذهب إلى أن صاحب المكان غلام إسرائيلي، و ليس يبوسيا كنعانيا، و أن داود أراد أن يغتصبه منه، فنهاه ربه عن ذلك، و من ثم فقد اشتراه بتسعة قناطير من الذهب (السمهودي: وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 1/ 343 ط القاهرة 1320 ه) و الثمن جهد مغالا فيه، بل إن رواية التوراة جعلت ثمنه هو و البقر، خمسين شاقلا من الفضة صموئيل ثان 24/ 24).
2- صموئيل ثان 7/ 1- 17، 24/ 26- 24، ملوك جول 2/ 2، و انظر: تفسير ابن كثير 1/ 58، تاريخ اليعقوبي 1/ 58، تاريخ ابن خلدون 1/ 111، ابن الأثير 1/ 127- 128.
3- أخبار أيام أول 22/ 2- 16، أخبار أيام ثان 2/ 17- 18.

957 ق. م) وضع الحجر الأساسي لبناء بيت المقدس الذي استمر العمل فيه قائما على قدم و ساق سبعة أعوام، ثم واصل مهرة الصناع و الفعلة العمل ثلاثة عشر عاما بعد ذلك ليشيدوا صرحا أكبر يسكن فيه سليمان و نساؤه (1).

هذا و لم يقدم لنا موقع المعبد أي دليل الاعتماد عليه لتحقيق تصميمه، و من هنا فإن أية محاولة في هذه المجال لا تزيد عن كونها مجرد اجتهاد (2)، غير أن المعلومات التي يوفرها سفر حزقيال (40- 44) للمعبد الجديد، ربما تجعل من الإمكان استعادة تخطيطه، كما يمكن قول شي ء عن شكله الخارجي و تنظيمه الداخلي (3)، و من ناحية أخرى فإن المعلومات التي جاءت في سفر الملوك الأول (6/ 1- 38) إنما تشير بوضوح إلى التأثير المصري و العراقي، رغم الإشادة المستمرة بالمساعدة الفينيقية و بضخامة الإنفاق (4).

و نقرأ في التوراة أن سليمان عليه السلام، إنما أقام حفلا كبيرا بمناسبة الانتهاء من بناء المسجد الأقصى، دعا إليه شيوخ إسرائيل و كل رءوس الأسباط «لإصعاد تابوت عهد الرب من مدينة داود، و أن الجميع، و على رأسهم سليمان، قد اجتمعوا أمام التابوت «يذبحون من الغنم و البقر ما لا يحصى و لا يعد من الكثرة، و أدخل الكهنة تابوت عهد الرب إلى مكانه في محراب البيت، في قدس الأقداس، و هنا ملأ الغمام بيت الرب، حتى أن الكهنة، ما كانوا بقادرين على أداء الطقوس الدينية، و يعلن سليمان أن الرب إنما يسكن في الضباب (5)، و نقرأ في سفر الملوك الأول (8/ 22- 53)

ص: 125


1- ملوك أول 6/ 1- 2، 37- 38، 7/ 2، و انظر: تاريخ ابن خلدون 2/ 112- 113.
2- ,QEP ,trA fo skroW dna sgnidluB rehto dna elpmeT s'nomoloS gnitcurtsnoceR ,seryM .L .J و كذا F 14. p، 1948، 80 F, AB, elpmeT s'nomoloS gnitcurtsnoceR, reilraG. L. P 2. p، 1951، 14.
3- . p, tic- po, tdlefssiE. O 598.
4- أندريه إيمار و جانين أو بوايه: المرجع السابق ص 267.
5- ملوك أول 8/ 1- 13.

دعوات سليمان الحارة إلى اللّه تعالى، ثم ينهض من أمام المذبح، و يداه مبسوطتان إلى السماء، ليعلن أمام خراف بيت إسرائيل الضالة «ليعلم كل شعوب الأرض أن الرب هو اللّه، و ليس آخر، فليكن قلبكم كاملا لدى الرب إلهنا، إذ تسيرون في فرائضه، و تحفظون وصاياه» (1)، ثم يشكر الرب على أنعمه التي أسبغها عليه و على بيت أبيه من قبل، سائلا إياه سبحانه و تعالى أن يجيب دعوات بني إسرائيل حين يدعونه في هذا البيت، و أن يغفر لهم خطاياهم (2)، ثم تنتهي الاحتفالات بتقديم الذبائح لرب إسرائيل، و التي بلغت عددا كبيرا جدا، وصل إلى «اثنين و عشرين ألفا من البقر، و من الغنم مائة ألف و عشرين ألف، فدشن الملك و جميع بني إسرائيل بيت الرب» (3).

و على أية حال، فإن المسجد الذي بناه سليمان إنما قد دمر تماما أثناء غزو «نبوخذ نصر» للقدس عام 586 ق. م و نهب الغزاة القدس و أشعلوا فيها النيران و أحرقوا القصر الملكي و المسجد، و هكذا ضاع كل أثر للمسجد، و معه البقية الباقية من التابوت الذي كفت الروايات عن ذكره بعد نقله لمعبد سليمان (4)، و لم يستطع القوم إعادة البناء إلا عام 515 ق. م.، على أيام الملك الفارسي «دارا الأول» (5)، ثم دمر المعبد الثاني هذا عام 70 م على يد القائد الروماني تيتوس، و أضرمت النيران في المدينة، و هدم المعبد و ضارعت آثاره تماما، حتى أن الناس قد نسوا فيما بعد، إذا كان هذا المعبد

ص: 126


1- ملوك أول 8/ 60- 61.
2- ملوك أول 8/ 25- 34.
3- ملوك أول 8/ 62- 65، و انظر: تاريخ ابن خلدون 2/ 113.
4- محمد بيومي مهران، إسرائيل 2/ 997- 1004، و كذا ,nodnoL ,learsI fo yrotsiH ehT ,htoN .M eht niygoloeahcrA ,noyneK .M .K 287. p، 1965. و كذا. P, dnaL ylaH 291
5- محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 1036- 1049، و كذا: عزرا 3/ 7، 6/ 15، قاموس الكتاب المقدس 2/ 1014، و كذا, nodnoL, elpoeP hsiweJ eht fo yrotsiH trohSA, htoR. C 55- 54. p، 1969 و كذا. p, tic- po, kooC. A. S 409 و كذا. p, tic- po, htoN. M 314.

على التل الشرقي أو الغربي من المدينة المقدسة (1).

و في عام 135 م استولى الروم على القدس، ثم أمر الامبراطور «هدريان» (117- 138 م) بتدمير المدينة تماما و بنى فوقها مدينة جديدة باسم «إيليا كابيتولينا» (anilotipaC aileA) و أبدل المعبد القديم بمعبد آخر كرس للإله الوثني «جوبتر كابيتولينس» (sunilotipaC retipuJ) ثم قام الرومان بمذبحة نهائية ختمت مصير اليهود في فلسطين، كدولة و كقومية، و انتهت بذلك علاقة اليهود بفلسطين سياسيا و سكانيا و دينيا (2).

ص: 127


1- محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 1150- 1155، و كذا. p, tic- po, htoR. C 107- 103 و كذا, yrotsiH sa elbiB ehT, relleK. W 388. p، 1967.
2- محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 1155- 1158، و كذا F, BJ P, nnamhtartS. H 92. p، 1927، 23 و كذا F, VPDZ, netluhcS. A 180. p، 1933، 56 و كذا. p, tic- po, htoN. M 454- 453.

ص: 128

الفصل الثّالث سليمان و ملكة سبأ

جاءت قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ في التوراة (1) و الإنجيل (2) و القرآن العظيم (3)، و إن اختلفت الكتب الثلاثة في سردها للقصة تبعا للهدف من القصة لكل منها، غير أنها جميعا لم تذكر اسم ملكة سبأ، أو الأرض التي كانت تقيم فيها، إلا إذا كان المراد بكلمة سبأ هنا، تلك الدولة التي قامت في الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية (4).

و من عجب أن يذهب بعض النقاد ممن تعرضوا لقصص التوراة بالنقد، إلى أن قصة زيارة ملكة سبأ لسليمان عليه السلام، إنما هي أسطورة من الأساطير دونها كتبة التوراة لبيان عظمة سليمان و حكمته (5)، و لو تريث هؤلاء البعض من النقاد بعض الشي ء، و لما وقعوا في هذا المنزلق الخطير، و ربما خيّل لهؤلاء المتحذلقين من أدعياء التاريخ الذين يجمعون التمحيص كله في الإنكار، أنه خبر يسهل إنكاره بغير حجة، و كأن المنكر لا يطالب بحجة، و لا

ص: 129


1- ملوك أول 10/ 1- 13، أخبار أيام ثان 9/ 1- 9.
2- إنجيل متى 12/ 42.
3- سورة النمل: آية 20- 44.
4- قدم المؤلف دراسة مفصلة عن تاريخ دولة سبأ في أدوارها الأربعة (محمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم- الرياض 1977 ص 261- 368).
5- , grubnidE, elbiB eht fo yranoitciD A, sgnitsaH. J 843. p، 1936.

يعاب على النفي الجزاف، و الحق أن إنكارنا لأمر تجمع عليه التوراة و الإنجيل و القرآن العظيم، لا يتفق و منهج البحث العلمي، فضلا عن تعارضه مع إيماننا بما جاء في كتب السماء بإجماع، أضف إلى ذلك إنه ليس في زيارة ملكة سبأ لسليمان عليه السلام أمرا مستحيلا، أو تصرفا شاذا يستوجب الاستنكار، كما يجنح إلى ذلك بعض الباحثين (1)، و خاصة إذا كان هؤلاء الباحثون لهم دراية بقصص القرآن.

على أن هناك فريقا آخر من الباحثين إنما يذهب إلى أن هذه القصة لا يمكن فهمها جيدا، إلا إذا قدّرنا أن السبئيين إنما كانوا يقطنون في شمال بلاد العرب (2)، و لعل أصحاب هذا الرأي ممن يذهبون إلى أن السبئيين إنما ترجع أصولهم الأولى إلى شمال بلاد العرب، في بلاد الجوف أو قريبا منها، و ليس في جنوبها (3)، و أن دولتهم الحقيقية لم تبدأ في جنوب بلاد العرب، إلا حوالي عام 800 قبل الميلاد (4)، أي بعد هذه الأحداث بما يقرب من القرن و نصف القرن من الزمان، و من ثم فإن هذه الملكة التي زارت سليمان عليه السلام، لم تكن ملكة سبأ الشهيرة في اليمن، و إنما كانت ملكة على مملكة

ص: 130


1- محمد عزة دروزة: تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم- بيروت 1969 ص 162- 163.
2- فريتز هومل: التاريخ العربي القديم ص 63 (مترجم).
3- انظر عن: السبيئيين و الآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي (محمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم ص 265- 270).
4- يرى بعض الباحثين أن عصر مملكة سبأ إنما يبدأ حوالي عام 750 ق. م و يرى آخرون أنه كان حوالي عام 800 ق. م، و يذهب فريق ثالث إلى أنه كان في القرن التاسع قبل الميلاد، و الرأي عندي أنه كان في القرن العاشر، أو قبله بقرن، اعتمادا على علاقة ملكة سبأ بسليمان عليه السلام، و الذي كان، فيما يجمع المؤرخون، يعيش في القرن العاشر قبل الميلاد (انظر: محمد بيومي مهران: المرجع السابق ص 271- 273، جواد على: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 2/ 269، و كذا, ROSAB 38. p، 1955، 173 و كذا ,aibarA htuoS ni seirevocsiD lacigoloeahcrA ,thgirblA .W dna newoB .R 37. p، 1958 و كذا, nehcnuM, neibarA, nnamhorG. A 122. p، 1963.

صغيرة في أعالي شبه الجزيرة الغربية، كان سكانها من السبئيين القاطنين في الشمال، أو هي ملكة على الحكومات المحلية في منطقة معان و العلا، و التي ورثها السبئيون عن المعينيين (1)، و يستدلون على ذلك بأدلة منها (أولا) العثور على أسماء ملكات عربيات مثل زبيبة و شمس (2) و يثعي (ياتي) و تلخونو (تعلخونو) و تاربو (بتوءة) (3) و بائلة (باإيلو) و غيرهن في النصوص الآشورية، في حين أن العلماء لم يعثروا حتى الآن على اسم أية ملكة في النصوص العربية الجنوبية، غير أن هذا السبب في حاجة إلى إعادة نظر، ذلك لأن هؤلاء الملكات اللائي ذكرن آنفا إنما عشن في فترة متأخرة زمنيا عن عصر سليمان عليه السلام، كما أن عدم العثور حتى الآن على أسماء ملكات في اليمن لا يعني بالضرورة عدم وجود ملكات في تاريخ سبأ، كما أنه من المعروف أنه لم تجر حتى الآن حفريات كافية تثبت عدم وجود ملكات في سبأ، و من يدري فقد تكشف لنا الحفريات في وقت قريب أو بعيد عن أسماء

ص: 131


1- كثيرا ما تخلط الوثائق الآشورية بين ملك معين أو سبأ في جنوب غرب بلاد العرب، و بين الوالي المقيم في العلا و معان نائبا عن ملك معين أو سبأ، و من ثم فقد كان الآشوريون يذكرون هذا الوالي كما لو كان هو الملك الجنوبي، و هذا يفسر لنا الإشارات التي ترد في الوثائق السريانية و العبرية عن المعينيين و السبئيين و تذكرهم كما لو كانوا يقيمون في الجنوب الشرقي للبحر الميت، و قد أدى هذا الخلط إلى أن يظن البعض أن الملكين الأشوريين سرجون الثاني و سنحريب قد وصل نفوذهما إلى سبأ نفسها، و مع أن المراد في النصوص الجاليات المعينية و السبئية في العلا و معان، و إن أطلق الآشوريون على حكامها لقب ملك (محمد بيومي مهران: المرجع السابق ص 275- 278 و كذا, sageH nrehtroN ehT, lisuM. A 295. p، 1926. . 141. p, malsI fo dnuorgkcaB ehT, ylluhP. B. J و كذا. p, ssirdnurG, lemmoH. F 580)
2- . p, tic- pO, lisuM. A 477 و كذا, LSJA, sneeuQ cimalsI- erP, tobbA. N 4. p، 1941، 58 و كذا, TENA, niehcneppO. L. A 288. p، 1966
3- , II, BARA, lliulnekcuL. D. D 518. p، 1927 و كذا. p, tic- pO, miehneppO. L. A 291 و كذا, atreseD aibarA, llisuM. A 480. p، 1938.

ملكات في اليمن، فعلم ذلك عند علام الغيوب.

و منها (ثانيا) صعوبة تصور زيارة ملكة عربية جنوبية لسليمان عليه السلام، و تعجبها من بلاطه و حاشيته و عظمة ملكه، مع أن بلاط أورشليم (القدس) يجب ألا يكون شيئا بالنسبة إلى بلاط ملوك سبأ، و من ثم يجب ألا تكون هذه الملكة التي زارت سليمان، في نظر هذه الجماعة من علماء التوراة و بعض العلماء المحدثين (1)، إلا ملكة عربية صغيرة، لم تكن بعيدة عن عاصمة دولة سليمان في فلسطين، فقد تكون في جبل شمر، و تقع بين الحافة الجنوبية للنقود الكبير، و في وادي الرمة، و تتكون من سلسلتي جبال أجأ و سلمى، و قد تكون في نجد أو في الحجاز (2).

و الرأي عندي، أن من لجأوا إلى المقارنة بين بلاط سليمان عليه السلام، و بلاط ملكة سبأ، للوصول إلى رأي بشأن ملكة سبأ، و هل هي ملكة عربية جنوبية أو شمالية، إنما قد أخطئوا الطريق، فالمقارنة هنا لا تجدي نفعا و لا تحل المشكلة، كما أنها لا تعقدها، بل إن المقارنة لا تصح هنا أصلا بحال من الأحوال، و ذلك لأن بلاط سليمان، فيما نرى و نؤمن به الإيمان كل الإيمان، إنما يمثل معجزة نبيّ، و ليس عظمة ملك من الملوك، فالحديث هنا عن سليمان النبي عليه السلام، و ليس سليمان الملك، و الذي يقرأ الآيات الكريمة التي تحدثت عن القصة، كما جاءت في سورة النمل،

ص: 132


1- انظر عن هذه الآراء:. و كذا. p, tic- po, htoN. M 206 و كذا. p, tic- po, htoR. C 23- 21. p, tic- po, sdoL. A 375- 368 و كذا, SENJ, tamalaM. A 16- 13، 9- 48., on 21. p، 1963، 22 و كذا. p, tic- po, slleW G. H 77- 76 و كذا P, tpygE fo yrotsih A, detsaerB. H. J. 529.
2- جواد علي: المرجع السابق 1/ 636، 2/ 262، عبد الفتاح شحاتة: تاريخ الأمة العربية قبل ظهور الإسلام ص 83- 89 و كذا, aihpledalihP, elbiB eht dna aibarA, yremogtnoM. J 181. p، 1934 و كذا, siraP, malsI'L tnava airyS ne sebarA seL, duassuD. R 10. p، 1907 و كذا. P, euqilbiB euveR, mrohD E 105.

و التي سنوردها هنا بنصها كاملا فيما بعد، ليعرف تماما أن الملك سليمان ما كان في استطاعته مثلا أن يفعل بعرشها ما فعل، و إنما الذي يستطيع ذلك، بإذن اللّه، إنما هو سليمان النبيّ، ذلك لأن ما حديث إنما كان يمثل معجزة للنبي الكريم، سيدنا سليمان عليه السلام، و صدق اللّه العظيم حيث يقول تعالى، على لسان سليمان، فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ، وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (1).

أضف إلى ذلك أن سليمان عليه السلام، كما رأينا من قبل، قد منحه اللّه تعالى كثيرا من المعجزات، فقد علمه اللّه منطق الطير و سائر لغات الحيوان، فكان يفهم عنها ما لا يفهمه سائر الناس، و ربما تحدث معها، كما كان الأمر مع الهدهد و النمل، كما كان جند سليمان عليه السلام مؤلفا من الإنس و الجن و الطير، و قد نظم لهم أعمالهم و رتب لهم شئونهم، فإذا خرج خرجوا معه في موكب حافل يحيط به الجند و الخدم من كل جانب، فالإنس و الجن يسيرون معه، و الطير تطلّله بأجنحتها من الحر، هذا فضلا عن تسخير الريح له، بل و تسخير طائفة من الجن و مردة الشياطين يعملون له من الأعمال ما يعجز عنها البشر، كبناء الصروح الضخمة و القصور العالية و القدور الراسيات و الجفان التي تشبه الأحواض، و أخيرا، و ليس آخرا، فكما الآن اللّه الحديد لداود أبيه، فقد أسال له عين القطر (2)، و كل تلك أمور من معجزات النبي سليمان عليه السلام، و ما كان و لن يكون أبدا لملكة سبأ، أيا كانت، شي ء من ذلك، و من ثم فالمقارنة بين البلاطين غير ذي موضوع.

ص: 133


1- سورة النمل: آية 38- 40.
2- انظر سورة الأنبياء: آية 81- 82، النمل: آية 15- 31، سبأ: آية 12- 13، ص: آية 30- 40.

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أننا نستطيع أن نقدم، من آي الذكر الحكيم و من دراستنا لتاريخ العرب القديم، كثيرا من الأدلة التي تشير بوضوح إلى أن ملكة سبأ التي زارت سليمان عليه السلام، إنما كانت ملكة عربية جنوبية، و أنها كانت تجلس على عرش مملكة سبأ المشهورة في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية و التي منها (أولا) أن الذي يفهم صراحة من القصة القرآنية أن سليمان عليه السلام، لم يكن يعرف شيئا عن هذه الملكة سواء من ناحية دولتها أو ديانتها (1)، و من هنا نراه يقول للهدهد، بعد أن أعلمه خبرها قال: سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (2)، و ليس من المقبول أن يكون سليمان، و هو الملك العظيم، كما هو النبي الكريم، لا يعرف شيئا عن ملكة سبئية تقيم في مجاورات فلسطين، و على تخوم دولته، خاصة و أن هناك علاقات تجارية بين سبأ و فلسطين، تتولى أمرها الجالية السبئية في العلا و معان، كما أن فلسطين مقر دولة سليمان، إنما تقع في نهاية طريق القوافل التي تشرف عليهما الجالية السبئية في واحة «ديدان» (العلا) و معون (معان)، هذا فضلا عن أن «عصيون جابر» (تل الخليفة على الطرف الشمالي لخليج العقبة) و كانت نقطة بداية تحرك أسطول سليمان التجاري، إنما كانت تمثل محطة هامة في طريق القوافل التجارية القادمة من جنوب بلاد العرب إلى وادي عربة و شرق الأردن حتى سورية، و هو طريق ذو أهمية خاصة للملك سليمان (3)، فكيف لا يعرف سليمان شيئا عن هذه الملكة الشمالية، سواء كانت ملكة لمملكة مستقلة أو على الجاليات السبئية في العلا و معان، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن هذه الملكة التي زارت سليمان إنما كانت ملكة في جنوب بلاد العرب حيث تقع دولة سبأ المشهورة.

ص: 134


1- سورة النمل: آية 22- 26.
2- سورة النمل: آية 27.
3- , egdirbmaC, 2 traP, II, HAC ni, modgniK werbeH ehT, tdlefssiE. O 593. p، 1975.

و منها (ثانيا) أن النص القرآني صريح في أن هذه الملكة إنما كانت ملكة دولة سبأ، قال تعالى: وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ فالآية الكريمة تحدد هنا مجي ء الهدهد من سبأ، و لا يعرف التاريخ دولة بهذا الاسم غير دولة سبأ المعروفة في جنوب غرب بلاد العرب، و منها (ثالثا) أن وصف القرآن الكريم لملكة سبأ بها أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (1)، يجعلها يقينا ملكة جنوبية، و ليست شمالية، بخاصة و أن القرآن الكريم يصف قومها بالقوة و البأس الشديد، قالوا نحن أولوا قوة و أولوا بأس شديد، «و يصف هذه الملكة بأنها صاحبة الأمر و النهي في دولتها. وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (2)، و من ثم فإن ما جاء في هاتين الآيتين الكريمتين من أوصاف لهذه الملكة و قومها، لا يمكن أن ينطبق على ملكة صغيرة في شمال شبه الجزيرة العربية، و إنما على ملكة عظيمة تجلس على عرش دولة عظيمة تدعى سبأ، و لا يعرف التاريخ دولة بهذه الأوصاف سوى مملكة سبأ المشهورة في جنوب غرب بلاد العرب، و بعبارة أخرى، فإن هذه الملكة إنما هي، على وجه اليقين، ملكة جنوبية، و ليست شمالية.

و منها (رابعا) أنه من المعروف أن العرب الشماليين إنما كانوا يعبدون الأصنام، بينما سادت عبادة الكواكب عند العرب الجنوبيين، و خاصة عبادة ذلك الثالوث المشهور، و المكون من القمر و الشمس و الزهرة (و كانت الشمس تمثل فيه دور الأم، و يمثل القمر دور الأب، بينما كانت الزهرة تمثل دور الابن) و قد عبدت الشمس بصفة خاصة في ممالك معين و سبأ و حضرموت و قتبان (3)، و القرآن الكريم صريح في أن ملكة سبأ هذه و قومها إنما كان ).

ص: 135


1- سورة النمل: آية 23.
2- سورة النمل: آية 33.
3- كانت إلهة الشمس تسمى عند المعينيين «نكرح»، و عند السبيئيين» ذات غضرن» و «ذات حمى» (ذات حميم) بمعنى ذات حرارة أو «ذات الحمى»، و الحمى الموضع الذي يحمي، و يخصص للإله أو المعبد أو الملك أو سيد القبيلة، و المكان الذي يحيط بالمعبد يكون حرما آمنا لا يجوز لأحد انتهاكه، و تسمى الشمس عند القتبانيين «ذات صبهرن» و «ذات رحبن»، و هذا و قد انتسب بعض العرب إلى الشمس فسمي «عبد شمس»، و طبقا لرواية الإخباريين فقد كان سبأ الأكبر، أول من تسمى بهذا الاسم، كما كان أول من تعبد للشمس، و من ثم فقد دعى «عبد شمس» (انظر عن التفصيلات و المراجع: محمد بيومي مهران: الديانة العربية القديمة- الإسكندرية 1978 ص 22- 24، 86- 90).

يسجدون للشمس من دون اللّه، قال تعالى: وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ (1)، و من ثم فهذا دليل واضح على أن ملكة سبأ التي زارت سليمان عليه السلام إنما كانت ملكة عربية جنوبية، و ليست شمالية.

على أن الغريب من الأمر، أن يزعم المؤرخ اليهودي يوسف بن متى «أن ملكة سبأ هذه إنما هي ملكة أثيوبية، كما يزعم أن «سبأ abaS» هو اسم عاصمة الأحباش، و أن اسم الملكة هو (silakuam)، و من ثم تكون ملكة سبأ حبشية، و ليست عربية (2)، و أما الروايات الحبشية نفسها فتذهب إلى أن «منيلك» أول ملوك أثيوبيا في القرن العاشر قبل الميلاد، إنما كان ابنا لبطلة الشمي «بلقيس» (أو مكيدا أو مقيدا) و بطل القمر سليمان الحكيم، و من ثم فقد حمل ملوك الحبشة (أثيوبيا) من بين ألقابهم لقب «أسد يهوذا» أو «الأسد الخارج من سبط يهوذا» (3) حتى نهاية دولتهم في (21 مارس 1975)، على أن الأمر بهذه الصورة جد مضلل، فليس صحيحا أن اسم عاصمة الأحباش كان «سبأ» كما زعم يوسف اليهودي، هذا فضلا عن أن مملكة أكسوم إنما قامت في القرن الأول قبل الميلاد، و ليس في القرن العاشر، كما تزعم الروايات الحبشية، كما أن ملكة سبأ ليست حبشية، و إنما هي ملكة عربية

ص: 136


1- سورة النمل: آية 24.
2- . P, I, IE 027.
3- الحيمي الحسن بن أحمد: سيرة الحبشة- القاهرة 1958، نجيب ميخائيل: مصر و الشرق الأدنى القديم 3/ 378- 385، و كذا.. P, I, einissybA'L ed eriotsiH, xuaeblenoC. B. J 108 و كذا, nodnoL, I, ainissybA dna ailuN, aipoihtE fo yrotsiH, egduB. W. A. E 193. p، 1928.

تحكم دولة عربية في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، و من ثم فليس هناك من شك في أن تلك أساطير نشأت بعد هجرة اليهود إلى الحبشة، في القرن السادس قبل الميلاد، أو القرن الأول أو حتى الثاني بعد الميلاد، حتى إن «ليتمان» قد قرأ في بعض نقوش الملك الحبشي «عيزانا» عبارة «ملك صهيون»، و رغم أن هذا الرجل الذي اعتلى العرش عام 325 م، قد اعتنق النصرانية، فربما كانت هناك حركة تبشير باليهودية و النصرانية، أو بمذهب يجمع بين الديانتين (1).

على أن هناك وجها آخر للنظر في تفسير الروايات التي تذهب إلى أن ملكة سبأ حبشية، و ليست عربية، أقدمه هنا بحذر، و اعتمد فيه على فرضين، لا أرجح الواحد على الآخر، أما أول الفرضين فهو أن تلك الروايات ربما كانت نتيجة انتشار آراء التوراة المضطربة حول أصل السبيئيين، فهم مرة من الساميين (2)، و أخرى من الحاميين (3)، ثم إن سبأ مرة من ولد يقطان (4)، و مرة من ولد يقشان (5)، و من ثم فقد ذهب بعض الباحثين، نتيجة لهذا الاضطراب إلى أن هذا دليلا على انتشار السبيئيين في آسيا (اليمن) و في إفريقيا (أرتيريا و الحبشة) (6)، و أما الفرض الثاني، فربما كانت نفس تلك الآراء متأثرة بالرأي الذي ينادي بأن مملكة أكسوم نفسها إنما أقامها العرب الجنوبيون (7).

ص: 137


1- , siraP, einissybA'D euqitnA eriotsiH'L rus aisE, reremmaK. A 68. p، 1926.
2- تكوين 10/ 28.
3- تكوين 10/ 7، أخبار أيام أول 1/ 9.
4- تكوين 19/ 28.
5- تكوين 25/ 1- 3، و كذا انظر: , nodnoL, tsaE raeN tneicnA eht dna elbiB ehT, thgirllA. F. W 300. p، 1961.
6- . P, BE 2564 و كذا. p, tic- po, gnitsaH. J 40.
7- جواد علي 3/ 451، جورج فضلو حوراني: العرب و الملاحة في المحيط الهندي ص 85 (مترجم)، و كذا. F. Altheim and R. Steihl, Die Arabier in der Alten Welt, Berlin, I, 114. p، 1964.

و تذهب الروايات العربية إلى أن ملكة سبأ هذه إنما كانت تسمى «بلقيس» أو «بلقمة أو يلقمة» (1)، و يرى أستاذنا الدكتور أحمد فخري، طيب اللّه ثراه، أن أحد الاسمين، و ربما كان يلقمه، نتيجة خطأ في النقل عن الآخر، و ربما كان اسم الإله الوثني «الموقاة» (بمعنى إيل قوي، أي اللّه قوي) يدخل تركيبه، أما اسم «بلقيس» الذي تكرر ذكره في كتب المؤرخين المسلمين، فلم يرد على الإطلاق بين الأسماء السبئية (على الأقل حتى الآن) و هناك احتمال بأنه منقول عن العبرية التي نقلته عن اليونانية، و معناه «أمة»، أو «جارية» (2)، و أما أستاذنا الدكتور حسن ظاظا، فالرأي عنده أن اسم هذه الملكة لم يكن يقينا «بلقيس»، و ربما كانت هذه صفة تنطق في العبرية و الآشورية «بلجشن» أو «فلجش»، و معناه العشيقة أو الزوجة غير الشرعية، و الراجح أن ملكة سبأ و صمت بذلك من الشعب اليهودي الذي لم يكن يستريح إلى مثل هذه الصلات بين ملوكه و النساء الأجنبيات (3).

و أيا ما كان اسم ملكة سبأ التي زارت سليمان عليه السلام، و أيا كان السبب في تسميتها بهذا الاسم أو ذاك، كما تذكره المصادر العربية و العبرية و اليونانية و الحبشية، فالتوراة تزعم أن ملكة سبأ إنما كانت تهدف من وراء زيارتها هذه إلى البحث عن الحكمة و امتحان سليمان، و أنها حينما تأكدت من حكمته و عظمة ملكه، سرعان ما قدست إله إسرائيل، الذي جعل سليمان ملكا تجري على يديه الحكمة و فصل الخطاب، ثم دعت إله إسرائيل أن يثبت عرشه إلى الأبد «ليكن مباركا إلهك الذي سر بك و جعلك على كرسي

ص: 138


1- تاريخ الطبري 1/ 489، الكامل لابن الأثير 1/ 129، البكري 4/ 1298، ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 21.
2- أحمد فخري: المرجع السابق ص 73.
3- حسن ظاظا: المرجع السابق ص 133.

إسرائيل، لأن الرب أحب إسرائيل إلى الأبد جعلك ملكا لتجري حكما و برا»، ثم انتهى بأن تبادل الملكان الهدايا، «و أعطت الملك مائة و عشرين وزنة ذهب و أطيابا كثيرة جدا و أحجار كريمة لم يأت بعد مثل ذلك الطيب في الكثرة الذي أعطته ملكة سبأ للملك سليمان»، و أعطى الملك سليمان لملكة سبأ كل مشتهاها الذي طلبت عدا ما أعطاها إياه حسب كرم الملك سليمان، و ذهبت إلى أرضها هي و عبيدها» (1).

على أن هناك فريقا من الباحثين إنما يجنح إلى أن زيارة ملكة سبأ لسليمان عليه السلام، إنما كانت لتوثيق العلاقات التجارية و تسهيل التعاون التجاري بينهما، بل إن هناك من يزعم أن هذه الملكة لم تكن الحاكم الفعلي لبلادها (2)، و لكنها هي التي قامت بالزيارة، و من ثم فيمكن الاستنتاج من ذلك أنها هي التي رغبت في القيام بأعمال تجارية مع سليمان، و ربما كان ذلك لتنظيم سير القوافل التجارية و الإشراف عليها، على أن هناك من يرى أن سليمان هو الذي دعا ملكة سبأ لزيارته و الإقامة فترة من الزمان في مكان ما من هضاب أدوم لمشاهدة عمال الملك و هم يستخرجون النحاس من المناجم الممتدة من هناك (3).

و هكذا يبعد هؤلاء الباحثون عن الأهداف الحقيقية لزيارة ملكة سبأ لنبيّ اللّه سليمان عليه السلام، و إيمانها بدعوة النبي الكريم «قالت رب إني ظلمت نفسي و أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين» (4)، يبعد الباحثون عن

ص: 139


1- ملوك أول 1/ 1- 13.
2- تكذب آيات القرآن الكريم هذا الادعاء، كما يبدو ذلك واضحا من الآيات 23- 35، 41- 42، 44 من سورة النمل.
3- محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 772 و كذا, learsI fo noigileR eht dna ygoloeahcrA, thgirblA. W 124. p، 1963, melasureJ ni noitavacxE, nogneK. M. K 1962، F, QEP ni 7. p، 1963، 95. و كذا
4- سورة النمل: آية 44.

هذا الهدف النبيل من الزيارة، فيذهبون إلى أن مملكة سليمان إنما كانت في نهاية طريق البخور، و كان وكلاء سليمان يقومون بالإجراءات الجمركية، إن صح هذا التعبير، على البضائع الثمينة، كما كانوا هم الذين يسمحون للقوافل بالاستمرار في رحلتها إلى مصر و فينيقيا و سورية عبر مملكة سليمان في فلسطين، و من ثم فليس من الغريب أن تصل شهرة سليمان إلى ملكة سبأ (1)، و هكذا «فقد أتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدا، بجمال حاملة أطيابا و ذهبا كثيرا جدا، و حجارة كريمة، و أتت إلى سليمان و كلمته بكل ما في قلبها» (2).

و الحق كل الحق، أن القصة كلها إنما تتصل بدعوة النبي سليمان عليه السلام، و ليس بالملك سليمان، و لنقرأ أولا هذه الآيات الكريمة التي تصور القصة أصدق تصوير، يقول تعالى: وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبأ بنبإ يقين، إني وجدت امرأة تملكهم و أوتيت من كل شي ء و لها عرش عظيم، وجدتها و قومها يسجدون للشمس من دون اللّه و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون، ألا يسجدوا للّه الذي يخرج الخب ء في السموات و الأرض و يعلم ما تخفون و ما تعلنون، اللّه لا إله إلا هو رب العرش العظيم، قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ما ذا يرجعون، قالت: يا أيها الملأ إني ألقى إلى كتاب كريم، إنه من سليمان و إنه بسم اللّه الرحمن الرحيم، ألا تعلوا علي و أتوني مسلمين، قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون، قالوا

ص: 140


1- جواد علي 2/ 263، و كذا. S. p, tic- po, relleK. W 215- 213 و كذا. p, tic- po, sgnitsaH. J 843. p, tic- po, tdlefssiE. O 39593. و كذا
2- ملوك أول 10/ 2.

نحن أولوا قوة و ألوا بأس شديد، و الأمر إليك فانظري ما ذا تأمرين: قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة و كذلك يفعلون، و إني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون، فلما جاء سليمان قال أ تمدونن بمال فما آتاني اللّه خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها و لنخرجنهم منها أذلة و هم صاغرون، قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك و إني عليه لقوي أمين، قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أ أشكر أم كفر و من شكر فإنما يشكر لنفسه و من كفر فإن ربي غني كريم، قال نكروا لها عرشها ننظر أ تهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون، فلما جاءت قيل أ هكذا عرشك قالت كأنه هو، و أوتينا العلم من قبلها و كنا مسلمين، و صدها ما كانت تعبد من دون اللّه إنها كانت من قوم كافرين، قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة و كشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير، قالت رب إني ظلمت نفسي و أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين» (1).

و تبدأ القصة بالنبي الملك سليمان عليه السلام في موكبه الفخم الضخم، من الجن و الإنس، و يتفقد عليه السلام الطير، فلا يجد الهدهد،

ص: 141


1- سورة النمل: آية 20- 44، و انظر: تفسير الطبري 19/ 143- 170، تفسير الطبرسي 19/ 208- 230، تفسير روح المعاني 19/ 182- 210، تفسير القرطبي 13/ 176- 213، تفسير أبي السعود 4/ 127- 134، في ظلال القرآن 5/ 2631- 2643، تفسير الكشاف 3/ 142- 151، تفسير البيضاوي 2/ 172- 178، تفسير النسفي 3/ 207- 215، تفسير الفخر الرازي 24/ 188- 200، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5/ 104- 112، صفوة التفاسير 2/ 406- 412، تفسير ابن كثير 3/ 574- 586، تيسير العلي القدير لتفسير ابن كثير 3/ 320- 240، تاريخ الطبري 1/ 489- 495، الكامل لابن الأثير 1/ 224- 238، تاريخ ابن خلدون 2/ 113- 114، ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 18- 24.

و قد اختلف العلماء فيما لأجله تفقده على وجوه، أحدها قول وهب: أنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها فلذلك تفقده، و ثانيها أنه تفقده لأن مقاييس الماء كانت إليه، و كان يعرف الفصل بين قريبه و بعيده، فلحاجة سليمان إلى ذلك طلبه و تفقده (1)، و ثالثها أنه كان يظله من الشمس، فلما فقد ذلك تفقده (2)، و لعل في هذا ما يشير إلى أنه هدهد خاص معين في نوبته، و ليس هدهدا ما من تلك الألوف أو الملايين التي تحويها الأرض من أمة الهداهد، كما ندرك من افتقاد سليمان لهذا الهدهد سمة من سمات شخصيته، سمة اليقظة و الدقة و الحزم، فهو لم يغفل عن غيبة جندي من هذا الحشر الضخم من الجن و الإنس و الطير الذي يجمع آخره على أوله كي لا يتفرق و ينتكث، و هو يسأل عنه في صيغة مرتفعة مرنة جامعة «ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين» و يتضح أنه غائب و يعلم الجميع من سؤال الملك عنه أنه غائب بغير إذن، و حينئذ يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم كي لا تكون فوضى، و من ثم نجد سليمان الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف «لأعذبنه عذابا شديدا، أو لأذبحنه»، و لكن سليمان ليس ملكا جبارا في الأرض، إنما هو نبي، و هو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائيا قبل أن يسمع و يتبيّن عذره، و من ثم تبدر سمة النبي العادل «أو ليأتيني بسلطان مبين» أي حجة قوية توضح عذره، و تنفي المؤاخذة عنه (3).

ص: 142


1- جاء في تفسير الطبري (19/ 144) اختلف عبد اللّه بن سلام و القائلون بقوله، و وهب بن منتبه، فقال عبد اللّه: كان سبب تفقده الهدهد و سؤاله عنه ليستخبره عن بعد الماء في الوادي الذي نزل به في مسيره، و قال وهب: كان تفقده إياه و سؤاله عنه لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها، و اللّه أعلم، كما يقول الطبري، بأي ذلك كان إذ لم يأتنا بأي ذلك كان تنزيل، و لا خبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صحيح، و الصواب أن يقال إن اللّه أخبر عن سليمان أنه تفقد الطير، إما للنوبة التي كانت عليها و أخلت بها، و إما لحاجة كانت إليها عن بعد الهاء.
2- تفسير الفخر الرازي 24/ 189.
3- في ظلال القرآن 5/ 2638.

و يأتي الهدهد بعد مكث غير بعيد، فيقول للنبي الكريم «أحطت بما لم تحط به»، و في هذا، كما يقول الإمام الفخر الرازي، تنبيه لسليمان على أن من أدنى خلق اللّه تعالى من أحاط علما بما لم يحط، فيكون ذلك لطفا في ترك الإعجاب، و الإحاطة بالشي ء علما أن يعلم من جميع جهاته (1)، ثم يخبره بهذا الذي لم يحط به وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ، أي أنني أتيت من سبأ- و هي مملكة عظيمة في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية- و قد وجدت القوم تحكمهم امرأة» (2) أوتيت من كل شي ء»، كناية عن عظمة ملكها و ثرائها و توافر أسباب الحضارة و القوة و المتاع، «و لها عرش عظيم» أي سرير ملك فخم ضخم يدل على الغنى و الترف و ارتقاء الصناعة أو عظيم في قدره و عظم خطره، لا عظمة في الكبر و السعة، لكن هذه المرأة و قومها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ، و هنا نجد أنفسنا أمام هدهد عجيب، صاحب ذكاء و إيمان، و براعة في عرض النبأ، و يقظة إلى طبيعة موقفه و تلميح و إيماء أريب، فهو يدرك أن هذه ملكة و أن هؤلاء رعية، و يدرك أنهم يسجدون للشمس من دون اللّه، و يدرك أن السجود لا يكون إلا للّه رب العرش العظيم، و ما هكذا تدرك الهداهد، إنما هو هدهد خاص أوتي هذا الإدراك الخاص، على سبيل الخارقة التي تخالف المألوف (3).

و من ثم فقد أراد النبي الكريم أن يختبر صدق الهدهد في دعواه، و في

ص: 143


1- تفسير الفخر الرازي 24/ 190.
2- روي البخاري و الترمذي و النسائي بسنده عن أبي بكرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم ابنة كسرى قال: لن يفلح قوم و لوا أمرهم امرأة (البداية و النهاية 2/ 22).
3- في ظلال القرآن 5/ 2638، و انظر تفسير الطبري 19/ 148.

نفس الوقت أن يدعو هؤلاء المنحرفين عن عبادة اللّه الواحد القهار «قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ما ذا يرجعون»، و تجمع الملكة الملأ من القوم و تعرض عليهم الأمر يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ، و يقول الفخر الرازي في وصف الكتاب بأنه كريم، فيه ثلاثة أوجه، أحدها حسن مضمونة و ما فيه، و ثانيها وصفه بالكريم لأنه من عند ملك كريم، و ثالثها أن الكتاب كان مختوما، و قال صلى اللّه عليه و سلم: «كرم الكتاب ختمه»، و كان صلى اللّه عليه و سلم: يكتب إلى العجم فقيل له إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه خاتم فاتخذ لنفسه خاتما» (1)، كما يدل ذلك أيضا على أدب جم تحلت به الملكة العربية، و على أية حال، فإن الكتاب يفيد أن الملكة كانت لا تعبد اللّه، و لكن صيت سليمان كان ذائعا في هذه الرقعة، و لغة الكتاب التي يحكيها القرآن فيها استعلاء و حزم و جزم، مما قد يوحي إليها بهذا الوصف الذي أعلنته، و فحوى الكتاب في غاية البساطة و القوة، فهو مبدوء باسم اللّه الرحمن الرحيم، و مطلوب فيه أمر واحد: ألا يستكبروا على مرسله و يستعصوا و أن يأتوا إليه مستسلمين للّه الذى يخاطبهم باسمه (2).

و تطلب الملكة الرأي و المشورة من الملأ في هذه الأزمة التي أتت إليها من حيث لا تحتسب، و في نفس الوقت تعلن إليهم أنها لن تقطع في الأمر، إلا بعد هذه المشورة، برضاهم و موافقتهم «يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون»، و يأتيها الجواب سريعا من المؤتمرين «نحن أولوا قوة و أولوا بأس شديد، و الأمر إليك فانظري ما ذا

ص: 144


1- تفسير الفخر الرازي 24/ 194، تفسير النسفي 3/ 209- 210.
2- في ظلال القرآن 5/ 2639- 2640.

تأمرين»، و ليس هناك من ريب في أن هذا السياق القرآني إنما يدل بوضوح على أنها صاحبة السلطان الفعلي في مملكتها، بعكس ما ذهب إليه بعض الباحثين (1)، كما أشرنا من قبل، و أما القوة و البأس اللتان أشار إليهما الملأ، فالمراد بالقوة قوة الأجسام و قوة الآلات، و أما البأس فالمراد النجدة و الثبات في الحرب، و حاصل الجواب أن القوم ذكروا أمرين، أحدهما إظهار القوة الذاتية و العرضية ليظهر أنها إن إرادتهم للدفع و الحرب وجدتهم بحيث تريد، و الآخر قولهم: «و الأمر إليك فانظري ما ذا تأمرين» و في ذلك إظهار الطاعة لها، إن أرادت السلم و لا يمكن ذكر جواب أحسن من هذا (2)، و يقول الإمام النسفي: أرادوا بالقوة، قوة الأجسام و الآلات، و بالبأس النجدة و البلاء في الحرب، «و الأمر إليك فانظري ما ذا تأمرين» أي موكول إليك، و نحن مطيعون لك، فأمرينا بأمرك نطعك و لا نخالفك كأنهم أشاروا عليها بالقتال، أو أرادوا نحن من أبناء الحرب، لا من أبناء الرأي و المشورة، و أنت ذات الرأي و التدبير فانظري ما ذا تريدين نتبع رأيك نتبع رأيك، فلما أحست منهم الميل إلى المحاربة، مالت إلى المصالحة و رتبت الجواب، فزيفت أولا ما رتبوه، و أرتهم الخطأ فيه حيث «قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية (عنوة و قهرا) أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة و كذلك يفعلون «أرادت و هذه عادتهم المستمرة التي لا تتغير، لأنها كانت في بيت الملك القديم فسمعت نحو ذلك (3)، و جاء في تفسير ابن كثير: قال الحسن البصري: فوضوا أمرهم إلى علجة تضطرب ثدياها، فلما قالوا لها ما قالوا، كانت هي أحزم رأيا منهم و أعلم بأمر سليمان، و أنه لا قبل لها بجنوده و جيوشه و ما سخر له من الجن و الإنس و الطير، و قد شاهدت مع الهدهد أمرا عجيبا

ص: 145


1- . p, tic- po, tdlefssiE. O 593.
2- تفسير الرازي 24/ 195.
3- تفسير النسفي 3/ 210.

بديعا (1)، فقالت لهم إني أخشى أن نحاربه و نمتنع عليه فيقصدنا بجنوده و يهلكنا بمن معه و يخلص إلى و إليكم الهلاك و الدمار دون غيرنا، و لهذا قالت: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، قال ابن عباس: أي إذا دخلوا بلدا عنوة أفسدوه أي خربوه، و جعلوا أعزة أهلها أذلة، أي و قصدوا من فيها من الولاة و الجنود و أهانوهم غاية الهوان، إما بالقتل أو الأسر .. ثم عدلت إلى المصالحة و المهادنة و المسالمة و المخادعة و المصادفة (2).

و هكذا تبدأ الملكة في أعمال الحيلة و التدبير، بل و هنا تظهر شخصية المرأة من وراء الملكة، المرأة التي تكره الحروب و التدمير، و التي تنعني سلاح الحيلة و الملاينة، قبل أن تنفي سلاح القوة و المخاشنة (3)، و من ثم فإنها تعمل على أن تضع النبي الكريم موضع الاختبار لتصل إلى رأي تطمئن إليه بشأنه، و هل هو من الهداة المرشدين أم من الطغاة الطامعين، و من ثم فإنها تبعث برسل من عندها إلى صاحب هذه الرسالة الذي يطلب منها، و كذا قومها، ألا تعلوا علي و أتوني مسلمين» يحملون الهدايا الثمينة (4)، كما أنها

ص: 146


1- قارن في ظلال القرآن (5/ 2639) حيث يرجح صاحبه أنها لم تعلم من ألقى إليها الكتاب، و لا كيف ألقاه، و لو كانت تعرف أن الهدهد هو الذي جاء به، كما تقول التفاسير، لأعلنت هذه العجيبة التي لا تقع كل يوم، و لكنها قالت بصيغة المجهول، مما يجعلنا نرجح أنها لم تعلم كيف ألقى إليها و لا من ألقاه.
2- تفسير ابن كثير 3/ 579 (ط بيروت 1986).
3- في ظلال القرآن 5/ 2640.
4- روت كتب التفسير عن ابن عباس أنها بعثت إليه بوصائف و وصفاء و ألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف ذكر من أنثى، فقالت إن زيل بينهم حتى يعرف الذكر من الاثنى ثم رد الهدية فإنه نبيّ، و ينبغي لنا أن نترك ملكنا و نتبع دينه و نلحق به، و عن ابن جريح قال مجاهد: فخلص سليمان بعضهم من بعض و لم يقبل هديتها، و عن ثابت البناني قال: أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج، فلما بلغ ذلك سليمان أمر الجن فموّهوا له الآجر بالذهب، ثم أمر به فألقى في الطرق، فلما جاءوا فرأوه ملقي ما يلتفت إليه، صغر في أعينهم ما جاءوا به، و في تفسير النسفي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري و حليهن راكبي خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم و السروج بالذهب المرصع بالجواهر، و خمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان و ألف لبنة من ذهب و فضة و تاجا مكللا بالدر و الياقوت، و حقّا فيه درة عذراء و جزعة معوجة الثقب، و بعثت كتابا فيه نسخة الهدايا و قالت: إن كنت نبيا فميّز بين الوصفاء و الوصائف و أخبر بها في الحق و اثقب الدرة ثقبا و اسلك في الخزرة خيطا، ثم قالت لكبير رسلها: إن نظر إليك نظرة غضبان فهو ملك فلا يهولنك منظرة، و إن رأيته بشاشا لطيفا فهو نبيّ، فأقبل الهدهد و أخبر سليمان الخبر كله، فأمر سليمان الجن فضربوا لبنات الذهب و الفضة و فرشوها في ميدان بين يديه طوله، سبعة فراسخ و جعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب و الفضة، و أمر بأحسن الدواب في البر و البحر فربطوها عن يمين الميدان و يساره على اللبنات و أمر بأولاد الجن و هم خلق كثير فأقيموا عن اليمين و اليسار، ثم قعد على سريره و الكراسي من جانبيه، و اصطفت الشياطين صفوفا فراسخ، و الإنس صفوفا فراسخ، و الوحش و السباع و الطيور و الهدام كذلك، فلما دنا القوم و رأوا الدواب تروث على اللبن رموا بما معهم من الهدايا، و لما وقفوا بين يديه نظر إليهم سليمان بوجه طلق فأعطوه كتاب الملكة فنظر فيه و قال: أين الحق فأمر الأرضة فأخذت شعرة و نفذت في الدرة و أخذت دودة بيضاء الخيط بفيها و نفذت فيها، و دعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها، و الغلام كما يأخذه يضرب به وجهه، ثم رد الهدية، و في تفسير ابن كثير: أنها أرسلت إليه بقدح ليملأه ماء رواء لا من السماء، و لا من الأرض، فأجرى الخيل حتى عرقت ثم ملأه من ذلك، و بخرزة و سلك ليجعله فيها ففعل و اللّه أعلم أ كان ذلك أم لا، و الظاهر أن أكثره من الإسرائيليات، و أن سليمان لم ينظر إلى ما جاءوا به بالكلية و لا اعتنى به، بل أعرض عنه (تفسير الطبري 19/ 155، تفسير النسفي 3/ 211، تفسير ابن كثير 3/ 580.

في الوقت نفسه طلبت من رسلها أن يقفوا على قوة سليمان، ثم يعودوا إليها بتقرير واف شامل عن حقيقته، و مدى ما يمكن أن يقدر عليه من المكيدة، و هل يمكنه أن يهدد أمنها و أمن قومها، إن لم تخضع لأمره، و ذلك لتكون على بينة من أمرها، و حتى يمكنها اتخاذ القرار المناسب، قال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها و شركها، علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس، ذلك لأن الهدية تلين القلب و تعلن الود، و قد تفلح في دفع القتال، و هي تجربة، فإن قبلها سليمان فهو إذن أمر الدنيا، و وسائل الدنيا إذن تجدي، و إن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة الذي لا يصدفه عنه مال، و لا عرض من أعراض

ص: 147

الدنيا، قال ابن عباس: قالت لقومها إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، و إن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه (1).

و جاءت الرسل إلى سليمان عليه السلام بالهدايا فرفضها، و أعلم رسل الملكة أن ما آتاه اللّه من الملك و النبوة و الرسالة و ما جعل له فيهما من ثواب عظيم، و مقام كريم، إنما هو خير من هداياهم، و من كل ما عندهم من عرض الدنيا، ثم توعّدهم بأن يرسل إليهم، و في بلادهم نفسها، بجنود لا قبل لهم بها، و ليخرجنّهم منها أذلة و هم صاغرون، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ، فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ (2)، و هنا تتأكد الملكة العربية أنها أمام واحد من المصطفين الأخيار، يطلب لها، و كذا لقومها، الهداية إلى سواء السبيل، و ليس رجلا غزته قوته، فأراد أن يجعل دولتها جزءا من مملكته، فتقرر الذهاب بنفسها إلى النبي الكريم، قال ابن عباس: لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان و أخبروها الخبر قالت: قد عرفت ما هذا بملك، و ما لنا به من طاقة، و بعثت إلى سليمان إني قادمة إليك بملوك قومي و ما تدعو إليه من دينك (3).

و يستعد سليمان لاستقبال الملكة بأمر يخرج عن قدرة البشر العاديين، و يدخل في عداد معجزات الصفوة المختارة من أنبياء اللّه و رسله الكرام البررة، قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ

ص: 148


1- في ظلال القرآن 5/ 2640، تفسير ابن كثير 3/ 579- 580.
2- سورة النمل: آية 36- 37.
3- انظر: حاشية زادة على البيضاوي 3/ 493، صفوة التفاسير 2/ 409.

مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (1).

هذا و قد اختلف المفسرون و المؤرخون في قصد سليمان عليه السلام من استحضار عرشها قبل مجيئها مسلمة مع قومها، كما اختلفوا كذلك في هذا الذي عنده علم من الكتاب، و الذي قال: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، فأما عن الهدف من استحضار العرش، فذهب رأي إلى أنه وسيلة لعرض مظاهر القوة الخارقة التي تؤيده لتؤثر في قلب الملكة و تقودها إلى الإيمان باللّه و الإذعان لدعوته، و يقول الفخر الرازي: و اختلفوا في غرض سليمان عليه السلام من إحضار ذلك العرش على وجوه، أحدها: أن المراد أن يكون ذلك دلالة لبلقيس على قدرة اللّه تعالى، و على نبوة سليمان عليه السلام حتى تنضم هذه الدلالة إلى سائر الدلائل التي سلفت، و ثانيها: أراد أن يؤتي بذلك العرش فيغيّر و ينكر ثم يعرض عليها حتى أنها هل تعرفه أو تنكره، و المقصود اختبار عقلها، و قوله تعالى: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي كالدلالة على ذلك، و ثالثها، قال قتادة: أراد أن يأخذه قبل إسلامها، لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها، و رابعها: أن العرش سرير الملك فأراد أن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه، و قال أبو جعفر:

و أولي الأقوال بالصواب أنه أراد أن يجعل ذلك حجة عليها في نبوته، و يعرفها بذلك قدرة اللّه و عظيم شأنه، و أما أولي التأويلين في قوله تعالى:

قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فهو قول ابن عباس من أن معناه طائعين، لأن المرأة لم تأت سليمان إذ أتته مسلمة، و إنما أسلمت بعد مقدمها عليه، و بعد محاورة جرت بينهما و مساءلة (2).

و أما الذي عنده علم من الكتاب فقد اختلفوا فيه على قولين، قيل كان

ص: 149


1- سورة النمل: آية 38- 40.
2- تفسير الطبري 19/ 160- 161، في ظلال القرآن 5/ 2641، تفسير الفخر الرازي 24/ 197، تفسير البيضاوي 2/ 83، تفسير النسفي 3/ 212، تفسير ابن كثير 3/ 581، صفوة التفاسير 2/ 409، تفسير القرطبي ص 4918- 4919.

من الملائكة و قيل كان من الإنس، فمن قال بالأول اختلفوا، قيل هو جبريل عليه السلام، و قيل هو ملك أيد اللّه تعالى به سليمان عليه السلام، و من قال بالثاني اختلفوا على وجوه، أحدها قول ابن مسعود إنه الخضر عليه السلام، و ثانيهما، و هو المشهور، من قول ابن عباس: إنه آصف بن برخيا وزير سليمان، و كان صديقا يعلم الاسم الأعظم إذا دعا به أجيب، و كذا روي عن يزيد بن رومان أنه «آصف بن برخيا» و كان صديقا يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعى اللّه به أجاب، و إذا سئل به أعطى، و ذهب ابن عطية و أبو حيان إلى أن هذا القول هو قول الجمهور، و عدّه الشوكاني قول أكثر المفسرين و ثالثها قول قتادة إنه رجل من بني آدم، قال معمر: أحسبه قال من بني إسرائيل، كان يعلم اسم اللّه الذي إذا دعى به أجاب، و رابعها قول ابن زيد: كان رجلا صالحا في جزيرة في البحر، خرج ذلك اليوم ينظر إلى سليمان، فلما سمع العفريت يقول: «أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك و إنه عليه لقوي أمين»، قال: «أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك» ثم دعا باسم من أسماء اللّه، فإذا هو يحمل بين عينيه، و قرأ «فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي» إلى قوله تعالى فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (1).

على أن هناك من يذهب إلى أنه النبي الكريم نفسه سيدنا سليمان عليه السلام (2)، و يذهب الدكتور المطرفي (3) إلى أن سليمان قال ذلك ليظهر

ص: 150


1- تفسير القرطبي 19/ 162- 163، تفسير القرطبي 13/ 205- 206، تفسير ابن كثير 3/ 582، تفسير الكشاف 3/ 149، تفسير البحر المحيط 7/ 76، تفسير النسفي 3/ 213، صفوة التفاسير 2/ 409، فتح القدير للشوكاني 4/ 139، البداية و النهاية 2/ 23، الكامل لابن الأثير 1/ 132، تفسير الفخر الرازي 24/ 197.
2- تفسير الكشاف 3/ 149، تفسير القرطبي 13/ 205، تفسير الفخر الرازي 24/ 197.
3- عويد المطرفي: المرجع السابق 75- 76.

معجزة من اللّه تعالى تجري على يديه، توثيقا لإيمان جموعه بنبوته و رسالته، و يكون الخطاب، كما قال ابن عطية، على هذا التأويل للعفريت لما قال أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ، كأن سليمان استبطأ ذلك، فقال له على جهة تحقيره أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، ليبيّن للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإيتان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت (1)، و قد أيد القرطبي ابن عطية و قال: إن النحاس قال بذلك في معاني القرآن، و هو قول حسن إن شاء اللّه، و أن القائلين بأن قوله: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ من قول سليمان عليه السلام، استدلوا على ذلك بما جاء في هذه الآية نفسها من قوله فيها، إظهار الفضل اللّه تعالى عليه هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي (2).

هذا و قد ذهب الفخر الرازي (3) إلى هذا الرأي، فقال إنه سليمان نفسه، و المخاطب هو العفريت الذي كلمه، و أراد سليمان عليه السلام إظهار معجزة، فتحداهم أولا، ثم بيّن للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت، و هذا القول أقرب لوجوه، أحدها أن لفظه الذي موضوعه في اللغة للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفه بقصة معلومة، و الشخص المعروف بأنه عنده علم من الكتاب هو سليمان عليه السلام، فوجب انصرافه إليه، و أقصى ما في الباب أن يقال: كان آصف كذلك، لكننا نقول إن سليمان عليه السلام كان أعرف بالكتاب منه لأنه هو النبيّ، فكان صرف هذا اللفظ إلى سليمان أولى، و الثاني: أن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية، فلو حصلت لآصف دون سليمان، لاقتضى ذلك تفضيل آصف على سليمان، و أنه غير جائز، و الثالث: أن سليمان عليه السلام لو افتقر في ذلك إلى آصف لاقتضى ذلك قصور حال

ص: 151


1- تفسير القرطبي 13/ 205، تفسير الفخر الرازي 24/ 197.
2- تفسير القرطبي 13/ 205 (دار الكاتب العربي- القاهرة 1967).
3- تفسير الفخر الرازي 24/ 197- 198.

سليمان في أعين الخلق، و الرابع: أن سليمان قال: «هذا من فضل ربي ليبلوني أ أشكر أم أكفر»، و ظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره اللّه تعالى بدعاء سليمان، على أن الأستاذ سيد قطب إنما يرجح أنه غير سليمان، و حجته أنه لو كان هو لأظهره السياق باسمه، و لما أخفاه، و القصة عنه، و لا داعي لإخفاء اسمه فيها عند هذا الموقف الباهر (1).

بقيت الإشارة إلى أن بعض المفسرين حاولوا تفسير «الكتاب» في قوله تعالى: عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ، فقال بعضهم إنه التوراة، و قال بعضهم إنه كان يعرف اسم اللّه الأعظم، الذي إذا دعى به أجاب، كما أشرنا من قبل، و هو «يا حي يا قيوم يا ذا الجلال و الإكرام، أو يا إلهنا و إله كل شي ء، إلها واحدا، لا إله إلا أنت»، و قيل كان له علم بمجاري الغيوب إلهاما، و أنه قال لسليمان، فيما يروي عن وهب بن منبه، «امدد بصرك فلا يبلغ مداه حتى آتيك به»، فذكروا أنه أمره أن ينظر نحو اليمن التي فيها هذا العرش المطلوب، ثم قام فتوضأ و دعا اللّه تعالى، قال مجاهد، قال يا ذا الجلال و الإكرام، و قال الزهري قال: يا إلهنا و إله كل شي ء إلها واحدا لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها، قال فمثل بين يديه، قال مجاهد و سعيد بن جبير و محمد بن إسحاق و زهير بن محمد و غيرهم، لما دعا اللّه تعالى و سأله أن يأتيه بعرش بلقيس، و كان في اليمن و سليمان عليه السلام ببيت المقدس، غاب السرير و غاص في الأرض ثم نبع من بين يدي سليمان (2).

و أيا ما كان الأمر، فلقد تمت المعجزة، و رأى سليمان عليه السلام عرش ملكة سبأ مستقرا بين يديه، فأمر أن تنكر لها معالم هذا العرش ليمتحن بذلك قوة ملاحظتها و انتباهها، فلما جاءت فوجئت بأول ظاهرة عجيبة،

ص: 152


1- في ظلال القرآن 5/ 2641.
2- تفسير النسفي 3/ 213، تفسير ابن كثير 3/ 582، في ظلال القرآن 5/ 2641.

فعرض عليها عرشها و قيل لها: أ هكذا عرشك، فأجابت: كأنه هو، لا تنفي و لا تثبت، مما يدل على فراسة و بديهية في مواجهة المفاجأة العجيبة، فضلا عن غزارة في الفهم و قوة في الملاحظة، فلقد استبعدت أن يكون عرشها لأنها خلفته وراءها بأرض اليمن، و لم تكن تعلم أن أحدا يقدر على هذا الصنع العجيب، قال النسفي: أجابت أحسن جواب، فلم تقل هو هو، و لا ليس به، و ذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتمل للأمرين، أو لما شبهوا عليها بقولهم: أ هكذا عرشك شبهت عليهم بقولها: كأنه هو، مع أنها علمت أنه عرشها، ثم كانت في انتظارها مفاجأة أخرى، فلقد أمر سليمان بأن يقام لها صرح من قوارير (زجاج) تجري تحته المياه حتى يحسبه من لا يعرف أمره أنه ماء (1).

و هكذا ما إن وصلت الملكة السبئية إلى القدس، عاصمة سليمان، حتى وجدت أمامها مفاجأتين، الواحدة عرشها، و قد نكر لها، و الأخرى ذلك الصرح الزجاجي الذي تجري المياه من تحته، أو ذلك القصر البلوري، الذي أقيمت أرضيته فوق الماء، فظهر و كأنه لجة، فلما قيل لهما: ادخلي الصرح، حسبت أنها ستخوض تلك اللجة فكشفت عن ساقيها، فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها «قال إنه صرح ممرد من قوارير»، و كل من المفاجأتين إنما تدل على أن سليمان مسخر له قوى أكبر من طاعة البشر، فرجعت إلى اللّه و ناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره، معلنة إسلامها مع سليمان، لا لسليمان، و لكن «للّه رب العالمين» (2)، و إلى هذا يشير القرآن الكريم فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ، وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ، وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ

ص: 153


1- تفسير النسفي 3/ 214، الصابوني: المرجع السابق ص 293- 294.
2- في ظلال القرآن 5/ 2643.

مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ، قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ، قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (1).

و هكذا رأت الملكة كل ما يبعد عنها أية ريبة في أنها أمام نبيّ كريم، أمام نبيّ اللّه سليمان عليه السلام، و ليس، كما كانت تظن بادئ ذي بدء، أنها أمام ملك يطمع في دولتها أو يبغي الاستيلاء عليها، ثم يجعل من أعزة قومها أذلة، و كذلك يفعل الطامعون المستعمرون، و عندئذ تصرفت سيدة سبأ تصرفا تفخر به المرأة العربية على طول العصور، تصرفا لم يقدر عليه من قبل، ملك العراق مع الخليل عليه السلام، أو فرعون مصر مع الكليم عليه السلام، كما رأينا من قبل في هذه الدراسة، كما لم يقدر عليه من بعد جبابرة قريش و طواغيت ثقيف و غيرهم من بعض رجالات العرب، مع سيد الأولين و الآخرين سيدنا و مولانا وجدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، أو قل هي رحمة اللّه التي تداركت هذه السيدة الكريمة، و أراق لها الهداية و الرشاد، و من ثم فقد أنهت الأمر كله، كما رأينا، «قالت رب إني ظلمت نفسي و أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين»، و حتى في إسلامها فقد كانت عاقلة رشيدة، فلقد اهتدى قلبها و استنار، و من ثم فقد عرفت أن الإسلام للّه وحده ليس استسلاما لأحد من خلقه، حتى و إن كان هذا الأحد هو سليمان النبي الملك صاحب المنجزات، إنما الإسلام إسلام للّه رب العالمين، و مصاحبة للمؤمنين به و الداعين إلى طريقة، على سنة المساواة «و أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين»، و قد سجل السياق القرآني هذه اللفتة الأخيرة و أبرزها، للكشف عن طبيعة الإيمان باللّه، و الإسلام له، فهي العزة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين، بل التي يصبح فيها الغالب و المغلوب أخوين في اللّه لا غالب

ص: 154


1- سورة النمل: آية 42- 44.

منهما و لا مغلوب، و هما أخوان في اللّه رب العالمين على قدم المساواة (1).

هذه عجالة نلخص بها قصة سليمان عليه السلام، مع ملكة سبأ، كما جاءت في القرآن الكريم، غير أن بعض المفسرين و المؤرخين قد أسرفوا على أنفسهم و على الناس، فعالجوا هذه القصة الواضحة بطريقة عجيبة، فأضافوا إليها ما شاء لهم الخيال أن يضيفوا تذهب بعضهم إلى أن بلقيس إنما هي بلقمة ابنة «ليشرع بن الحارث بن صيفي بن يشجب بن يعرب بن قحطان»، و ذهب آخرون إلى أنها بلقيس (تلقمة أو بلقمة) بنت السيرج، و هو الهدهاد بن شرحبيل، و أنها حكمت اليمن مائة و عشرين سنة، بينما نزل البعض بحكمها إلى سبع سنين (2)، و من عجب أن بعض الأخباريين إنما يذهب به الخيال إلى أن يرى أن «أم بلقيس» إنما كانت «جنية» بنت ملك الجن، و اسمها «رواحة» بنت السكر، أو بلقمة بنت عمرو بن عمير الجني، و ذهب آخرون إلى أن والد بلقيس كان من أكابر الملوك، و كان يأبى أن يتزوج من أهل اليمن، فيقال أنه تزوج من امرأة من الجن اسمها «ريحانة» بنت السكن، فولدت له بلقيس و اسمها تلقمة، و يقال لها بلقيس (3)، و أما كيف وصل أبو بلقيس إلى الجن و خطب ابنة ملكهم، فإنهم إنما يقدمون روايات من ذلك النوع من الأساطير، على أن أسوأ ما في الأمر و أشده خطورة أن يحاول بعض الرواة أن يعطوا لرواياتهم سندا من شرعية أو نصيبا عن صواب، فينسبوا إلى سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، عن طريق أبي هريرة،

ص: 155


1- في ظلال القرآن 5/ 2643.
2- تاريخ الطبري 1/ 489، الكامل لابن الأثير 1/ 129- 130، الثعلبي: قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس ص 278، 290، تاريخ اليعقوبي 1/ 196، مروج الذهب للمسعودي 2/ 50، تاريخ ابن خلدون 2/ 59.
3- تفسير القرطبي ص 4898- 4927، الثعلبي: المرجع السابق ص 278، مروج الذهب 2/ 49- 50، ابن كثير: البداية و النّهاية 2/ 21، ابن الأثير 1/ 129، قصص الأنبياء 2/ 290- 291، تفسير الفخر الرازي 24/ 200- 201.

أحاديث تؤيد مزاعمهم هذه (1)، ثم لا يقتصر القوم على ذلك، و إنما يقدمون كل دني ء عن القوم (2)، فالملك السبئي يعتدي على الأعراض، فلا تفوته عروس إلا و يفتضها قبل زوجها، و بلقيس، و هي ابنة عمه، لا تنجو من هذه الإذلال، إلا أن تثور على قومها مؤنبة إياهم على قبولهم هذا الصغار، و تلك الخسة و الدناءة، فنقول: «أما فيكم من يأنف لكريمته و كرائم عشريته»، ثم تعد له من وراء ستار رجلان يقتلانه في اللحظة التي يهمّ بها (3).

و يبلغ الخيال بمؤرخينا أشده حين يزعمون أن بلقيس كانت عريضة الملك، كثيفة الجيش، و يقدم لنا الطبري عدة روايات عن قوة جيشها و كثرة عدده، فرواية تذهب إلى أنه كان مع بلقيس اثنا عشر ألف فيل، مع كل فيل مائة ألف، و أخرى تذهب إلى أنه كان مع بلقيس مائة ألف قيل مع كل ما قيل مائة ألف، و في الكامل لابن الأثير «كان لها اثنا عشر ألف قيل، تحت يد كل ).

ص: 156


1- جاءت في البداية و النهية (1/ 21) أنه صلى اللّه عليه و سلم قال: «كان أحد أبوي بلقيس جنيا»، و هو، فيما يرى ابن كثير، حديث غريب و في سنده ضعف، و في تفسير الطبري (19/ 169) «كان أحد أبوي صاحبة سبأ جنيا».
2- تسرف المصادر العربية كثيرا في ذكر الجرائم الجنسية، في تاريخ العرب القديم، رغم أن هذه الجرائم، فضلا عن تعارضها مع المنطق و التاريخ، فإنها تتعارض أيضا مع التقاليد العربية التي يعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء، فضلا عن الحاقدين و المتشككين في كل خلة عربية كريمة، و مع ذلك فقد تكرر ذكر هذه الجرائم المنحطة في مصادر لها ما لها من القيمة عند الناس، بصورة أو بأخرى، و في مواضع مختلفة من الجزيرة العربية، تكررت في طسم و جديس، و في المدينة بين العرب و اليهود، و في اليمن مع بلقيس و عتودة مولى أبرهة الحبشي (انظر تاريخ الطبري 1/ 629- 632، 2/ 128- 129، ابن الأثير: الكامل 1/ 232- 233، 350، 354، 432- 433، 656- 658، مروج الذهب 2/ 111- 119، تاريخ ابن خلدون 2/ 24- 25، 287- 289، المقدس: البدء و التأريخ 1/ 179- 180، 3/ 28- 29، معجم ياقوت 2/ 242، 5/ 84- 87، الأغاني 19/ 96- 97، عبد الفتاح شحاتة: المرجع السابق ص 286- 292)، ثم انظر مناقشة هذه الأكاذيب (محمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم ص 169- 173، 376- 377، 461- 475).
3- الديار بكري: تاريخ الخميس ص 276، ابن الأثير 1/ 232- 233 (بيروت 1965).

قيل مائة ألف مقاتل، مع كل مقاتل سبعون ألف جيش، في كل جيش سبعون ألف مبارز، ليس فيهم إلا أبناء خمس و عشرون سنة»، و صدق ابن الأثير حيث يقول: و ما أظن الساعة راوي هذا الكذب الفاحش عرف الحساب، حتى يعرف مقدار جهله، و لو عرف مبلغ العدد لأقصر عن إقدامه على هذا القول السخيف، فإن أهل الأرض لا يبلغون جميعهم، شبابهم و شيوخهم و صبيانهم و نساؤهم، هذا العدد (1).

هذا و يجعل الأخباريون أمر بلقيس كله بيد سليمان، و حين ترفض الزواج من أحد رعاياها، يزوجها سليمان من «ذي تبع» ملك همدان، بحجة أن ذلك لا يكون في الإسلام، و كأن الملوك قبل عصر سليمان ما كانوا يتزوجون من غير أنداد لهم، و كأن التاريخ لا يعرف زواجا بين الأمراء و غير الأمراء، و مع ذلك فإن سليمان لم يزوجها بواحد من رعاياها أو حتى من عظماء قومها، و إنما زوجها من ملك همدان، الذي لا يعرف التاريخ عنه شيئا، و ليت الذين كتبوا كله، كانوا يعرفون أن قبيلة همدان لم تصبح لها المكانة الأولى بين قبائل اليمن، و لم يحمل شيوخها لقب «ملك» متحدين بذلك سلطة ملوك سبأ الشرعيين (2)، إلا منذ أيام «نصريهأمن» (نصريهنعم) و شقيقه «صدق يهب» حوالي عام 200 قبل الميلاد (3)، و أن بلقيس، و قد عاصرت الملك سليمان (960- 922 ق. م)، إنما كانت تعيش في القرن العاشر قبل الميلاد، أي قبل ظهور ملوك همدان بما يقرب من سبعة قرون على الأقل، و على أية حال، فهناك رواية تذهب إلى أن سليمان قد زوجها من «سدد بن زرعة بن سبأ»، الذي لا يعرف التاريخ عنه شيئا كسابقه، علي

ص: 157


1- تفسير الطبري 19/ 154، تاريخ الطبري 1/ 491، الكامل لابن الأثير 1/ 131 (بيروت 1978).
2- , eromitlaB, siuqliB marhaM snoitpircsnI naeabaS, emmaJ. A 278. p، 1961
3- , airdnaxelA, malsI fo dnuorgkcaB eht yllihP. B. J 142. p، 1947.

أن هناك رواية تذهب إلى أن الزوج الذي ارتضته بلقيس، إنما كان سليمان نفسه، و أنه قد أحبها حبا شديدا، وردها إلى ملكها باليمن، و كان يزورها كل شهر مرة يقيم عندها ثلاثة أيام، و على أية حال، فليس لذلك ذكر في الكتاب، و لا في خبر مقطوع بصحته، و مع ذلك فإن بعض الروايات تزعم أن سليمان جعل الجن تحت إمرتها، و على رأسهم «زوبعة» أمير جن اليمن، و أن بلقيس ماتت على أيام سليمان، و أنه قد دفنها باليمن على رواية، و في الشام على رواية أخرى، و أنه دفنها بتدمر و أخفى قبرها، على رواية ثالثة (1).

ص: 158


1- تفسير القرطبي ص 4926، تفسير النسفي 3/ 214- 215، تفسير الطبري 19/ 169- 170، تفسير الفخر الرازي 24/ 201، تاريخ الطبري 1/ 494- 495، الكامل لابن الأثير 1/ 133، الثعلبي: المرجع السابق ص 269- 270، البداية و النهاية 2/ 24 ابن دريد: الاشتقاق 2/ 311، تاريخ ابن خلدون 2/ 59، 113- 114.
الفصل الرّابع سليمان ملك بني إسرائيل
[1] السياسة الداخلية:-

ورث سليمان داود في مملكته، و من ثم فقد أصبح ملكا في أورشليم (القدس) و حاكما على مملكة إسرائيل، هذا و يتفق المؤرخون على أن سليمان قد حكم في القرن العاشر قبل الميلاد، و لكنهم يختلفون في تحديد فترة حكمه من هذا القرن العاشر، فهناك من يرى أنها في الفترة (974- 932 ق. م) (1)، و من يرى أنها في الفترة (973- 936 ق. م) (2)، و من يرى أنها في الفترة (970- 933 ق. م) (3)، و من يرى أنها في الفترة (963- 923 ق.

م) (4)، و من يرى أنها في الفترة (961- 923 ق. م) (5)، و من يرى أنها في الفترة (971- 931 ق. م) (6)، و من أنها في الفترة (963- 629 ق. م) (7)،

ص: 159


1- فضلو حوراني: المرجع السابق ص 34.
2- حسن ظاظا: الساميون و لغاتهم ص 84.
3- فيلب حتى: المرجع السابق ص 205.
4- نفس المرجع السابق.
5- سبتينو موسكاتي: الحصارات السامية القديمة ص 143 (مترجم) و كذا, nodnoL, stehporP tnematseT dlO ehT, notaeH. W. E 172. p، 1969.
6- , msiaduJ, nietspE. I 36. p، 1970.
7- , dnaL yloH eht fo saltA lacirotsiH 81. p، 1959.

و من يرى أنها في الفترة (960- 922 ق. م) (1)، و هذا ما نميل إليه و نرجحه، و سنسير عليه في هذه الدراسة.

هذا و كان اختيار سليمان بعد أبيه داود، عليهما السلام، ملكا على بني إسرائيل، إنما يرجع إلى كفاءته الشخصية، فهو لم يكن أبدا أكبر أبناء داود الكثيرين، كما أنه لم يكن حتى أكبر الأبناء الذين ولدوا بعد اعتلاء داود عرش إسرائيل، و أيا ما كان الأمر، فلقد خلف سليمان أباه دونما أية صعوبات أو ثورات داخلية، ثم سرعان ما عمل على القضاء على منافسيه و التخلص من مؤامراتهم، و ما قد يحيكون له من دسائس (2)، ثم اتجه بعد ذلك إلى تدعيم عرشه في الداخل، فاستخدم معظم موارد دولته في تقوية دعائم الحكومة، و تجميل العاصمة أورشليم، و من ثم فقد أقام سليمان كثيرا من الحصون، كما رمّم القديم منها، و وضع حاميات في المواقع ذات الأهمية الاستراتيجية، ليرهب بها الثائرين و الغازين على السواء.

ثم عمل سليمان بعد ذلك على القضاء على طموح البطون و العشائر التي كانت تسعى للاستقلال، ذلك لأن سليمان إنما كان يعرف تماما أن أخطر المشاكل التي واجهت أبوه داود من قبل، إنما كانت طموح بعض القبائل إلى التمتع بحكم ذاتي، و لا شك أن هذه الرغبة إنما كانت تتعارض كثيرا مع رغبة سليمان في الحكم المركزي، و من ثم فقد ركز كل جهوده في تفتيت أي تحالف يقوم بين هذه القبائل و يهدد الوحدة الإسرائيلية العامة، و هكذا قسم سليمان مملكته إلى اثنتي عشرة محافظة، على كل واحدة منها محافظ يتولى الضرائب، كما فرض على كل محافظة إعاشة الملك و حاشيته و جيشه و خيله شهرا في السنة، ذلك لأن سليمان كان في حاجة إلى تزويد ).

ص: 160


1- , Y. N, ARZE ot maharbA morf doireP lacilbiB ehT, thgirblA. F. W 122- 120. p، 1963.
2- ملوك أول 1/ 1- 53، 2/ 3- 48، 3/ 12- 13، تاريخ الطبري 1/ 485، الكامل لابن الأثير 1/ 127 (بيروت 1978).

الجنود، و كذا الخيول، الموجودة في الحصون التي أقامها، بالمؤن و العلف، فضلا عن إعاشة رجالات القصر الذين زاد عددهم عن أيام أبيه كثيرا (1).

و أيا ما كان الأمر، فلقد كانت حدود المناطق الجديدة، باستثناء أربع أو خمس حالات، ليست متطابقة مع حدود القبائل الإسرائيلية، مما يتفق و هدف سليمان من تحطيم البناء الحكومي الإقليمي المستقل، و بالتالي يمكن أن يضعف النزعة الانفصالية بين القبائل الإسرائيلية، و أن يؤلف منهم شعبا واحدا (2)، و على أي حال، فلقد كان على كل منطقة من المناطق الجديدة «مشرفا» أو «وكيلا» عليه توزيع المسئولية الخاصة بالمئونة بين الملاك المختلفين، و أن يراقب وصولها في الوقت المحدد، و أن يجمعها في مدن الصوامع، ثم يسلمها في أورشليم في الشهر المعين، و كان على رأس هذا النظام موظفا أعلى يسمى «رئيس الوكلاء» لم تظهر وظيفته على أيام داود، و إنما ظهرت، و لأول مرة، بين الموظفين الكبار في عهد سليمان، و من هنا كان الصدام بما يسمى حرية القبائل الإسرائيلية، و ذلك عن طريق التصرف في إنتاج زراعتهم و نتاج مواشيهم بطريقتهم الخاصة أو على حسب هواهم (3).

و يبدو أن المدن الكنعانية التي كانت قد احتفظت باستقلالها حتى ذلك الوقت، مثل دور و مجدو و تعنك و بيسان، قد ضمت إلى مملكة إسرائيل، أما منطقة يهوذا، أو على الأقل الإقليم الجبلي منها، فلا يبدو أنها كانت تكون جزءا من أي إقليم من الأقاليم الاثني عشر، الأمر الذي يرى فيه بعض

ص: 161


1- فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 237، أندريه إيمار، و جانين إبوايه: المرجع السابق ص 266، صموئيل ثان 9/ 9، 13/ 23، 16/ 1 و ما بعدها، و كذا. P, tic- po, tdlefssiE. O 591.
2- ول ديورانت: المرجع السابق ص 334، و كذا. P, tic- po, sdoL. A 371.
3- . P, tic- po, htoN. M 213- 212.

الباحثين دلالة على أن سليمان قد أعفى هذه القبيلة الملكية من الواجبات المفروضة على غيرها، و بالتالي كان سببا في تذمر قبائل الشمال عند ما فرض عليهم العمل في تحصين العاصمة، و قد أخمد التذمر، و أجبر زعيمه «يربعام» إلى الهروب إلى مصر (1)، على أن كثيرا من الباحثين يرون أن يهوذا، لا بد و أنها قد كلفت بعمل آخر، لأنه من غير المقبول أن تترك بدون أي التزام مالي نحو الدولة (2)، فضلا عن أن سليمان، و هو الملك النبيّ، ما كان في حاجة إلى إجبار بني إسرائيل للعمل في تحصين العاصمة، و قد سخر اللّه له الجن يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ (3).

[2] السياسة الخارجية:-

كان سليمان عليه السلام سياسيا حكيما، كما كان محاربا عظيما، و إداريا قديرا، و رغم أنه قد أدرك بفطرته السليمة أنه من الضروري أن يكون له جيش قوي يحمي مملكته (4)، و يساعده في تبليغ الدعوة، فسليمان كما كان ملكا عظيما، فقد كان كذلك رسولا نبيّا، فقد أدرك في نفس الوقت بتفكيره السليم أن مملكته الصغيرة في مساحتها لن تعيش في سلام إلا بالتفاهم مع جيرانها، و أن من وسائل هذا التفاهم، و ربما من وسائل نشر الدعوة أيضا، أن يرتبط برباط المصاهرة مع جيرانه من الملوك و الأمراء، و من ثم فقد تزوج من بنات أمراء العمونيين و المؤابيين و الآراميين و الكنعانيين و الحيثيين (5) و غيرهم، بل و قد تخطت مصاهراته حدود الشام، فصاهر فرعون

ص: 162


1- . P, tic- po, sdoL. A 72- 371. ثم قارن: تاريخ ابن خلدون 2/ 214.
2- . P, tic- po, tdlefssiE. O 591 و كذا ,eromitlaB ,learsI fo noigileR eht dna ygoloeahcarA ,thgirblA .F .W 140. p، 1963.
3- سورة سبأ: آية 13.
4- . P, tic- po, tdlefssiE. O (6). 589
5- ملوك أول 11/ 1- 2.

مصر، و من ثم فقد أصبحت الأميرة المصرية السيدة الأولى في مملكته (1).

و نقرأ في التوراة أن فرعون «قد صعد و أخذ جازر و أحرقها بالنار، و قتل الكنعانيين الساكنين في المدينة، و أعطاها مهرا لابنته امرأة سليمان» (2)، و نطالع هذه الأمور، فيما يرى جاردنر، و كأنها تاريخ حقيقي، و لكننا لا نلتقي بما يؤكدها من الجانب المصري، و أما الشك من الناحية التاريخية في هذا الزواج، فإنه، و إن حصر في حدود ضيقة نسبيا، إلا أنه يكفي للتشكيك في أي الفراعين هو المقصود هنا، هذا إلى أن اسم «تحبنيس» (senephaT) لا يستطاع مطابقته على نظير له بالهيروغليفية (3)، و من ثم فقد اختلف الباحثون في اسم هذا الفرعون الذي صاهر سليمان عليه السلام، فمن يرى أنه «سي أمون» (4)، و من يرى أنه «بسوسنس الثاني» (5)، و من يرى أنه آخر ملوك الأسرة الحادية و العشرين (6) (1087- 945 ق. م) أو ما قبل الأخير من ملوك هذه الأسرة (7)، بل إن هناك من اقترح «شيشنق الأول» مؤسس الأسرة الثانية و العشرين (8) (945- 730 ق. م)، و على أي حال،

ص: 163


1- ملوك أول 3/ 1، و كذا. P, tic- po, tdlefssiE. O 601، و انظر: تاريخ ابن خلدون 2/ 112، تاريخ اليعقوبي 1/ 57، ثم قارن:, Y. N, yrotsiH fo eniltuO ehT, slleW. G. H 280. p، 1965.
2- ملوك أول 9/ 16.
3- , drofxO, shoarahP eht fo tpyGE, renidraG. H. A 329. p، 1964.
4- عبد الحميد زائد: الشرق الخالد- القاهرة 1966 ص 389، و كذا. P, tic- po, tdlefssiE. O 588 و كذا p .1 F ,SENJ ,nomoloS dna divaD fo seiciloP ngieroF eht fo stcepsA ,tamalaM .A ، 1963، 22
5- محمد أبو المحاس عصفور: المرجع السابق ص 211، و كذا, nodnoL, learsI dna tpygE, eirteP. F. W 66. p، 1925.
6- من المفروض أن «بسوسنس الثاني» هو آخر ملوك الأسرة الحادية و العشرين، غير أن هناك من يرى أنه (بسوسنس الثالث) (أنظر:, siraP, III, etpygE'd sioR sed erviL eL, reihtuaG. H 301. p، 1907 و كذا.). P, tic- po, renidraG. A 447
7- . P, tic- po, sdoL. A 368.
8- , tpygE fo yrotsiH A, detsaerB. H. J 529. p، 1946. و كذا. P, tic- po, yelretseO. E. O. W 226.

فأيا كان فرعون مصر هذا، الذي تنسب التوراة إليه مصاهرة سليمان عليه السلام، فالذي لا شك فيه أن هذا الزواج، فيما يرى المؤرخ اليهودي سيل روث، قد ساعد سليمان عليه السلام في أن يضيف إلى مملكته إقليم جازر، و هي القلعة الكنعانية القديمة، و واحدة من أهم المراكز التجارية في الشرق الأدنى القديم، و من ثم فقد اكتسب مملكة إسرائيل موطئ قدم على البحر المتوسط (1)، و إن كنا لا نرى أبدا أن سليمان كان في حاجة إلى عون فرعون، و قد سخر اللّه طائفة من الجن و مردة الشياطين يعملون له الأعمال التي يعجز عنها البشر، كما أشرنا من قبل، فضلا عن أن جند سليمان إنما كان مؤلفا من الإنس و الجن و الطير، قال تعالى: وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (2).

[3] التنظيمات العسكرية:-

يجمع المؤرخون أو يكادون، على أن خليفة داود، عليهما السلام، المحارب الشجاع، إنما قد أدرك جيدا ضرورة تكوين جيش قوي للدفاع عن دولته، فضلا عن دعوته، و ربما تجارته كذلك، و من ثم فإن المصادر التاريخية إنما تنسب إلى سليمان عليه السلام استعمال «العربات الحربية»، و لأول مرة، في جيش إسرائيل، و نقرأ في التوراة أن داود عليه السلام عند ما هزم مملكة «أرام صوبة» قد استولى على مئات الخيول (3)، غير أن داود لم يكن يملك عربة حربية واحدة، رغم أنه قد أدرك بنفسه أهمية هذا السلاح أثناء حروبه مع الآراميين، هذا فضلا عن أن المصريين كانوا قد استخدموا هذا السلاح منذ مئات السنين (4)، و كذا فعل الكنعانيون.

ص: 164


1- . P, tic- po, htoR. C 21.
2- سورة النمل: آية 17.
3- صوئيل ثان 8/ 3- 5.
4- محمد بيومي مهران: حركات التحرير في مصر القديمة- دار المعارف- الاسكندرية 1976 ص 140- 143، ص 197- 198.

و هكذا ما أن ورث سليمان ملك أبيه داود، عليهما السلام، حتى أدخل هذا السلاح «العربات الحربية» في جيشه بل إنه إنما جعل منه القوة العسكرية الرئيسية في هذا الجيش، و ربما كان السبب المباشر في ذلك، أن الآراميين في دمشق قد عملوا على استرداد نفوذهم المفقود بعد موت داود مباشرة، و في أوائل أيام سليمان، و من ثم فقد أصبحت دولة «أرام دمشق» نتيجة استخدامها لهذا السلاح، إنما تمثل تهديدا مباشرا لإسرائيل (1)، و طبقا لما جاء في التوراة (2)، فإن سليمان إنما كان يملك ما بين 1400، 4000 حصانا (3)، و أما عن مباني الثكنات العسكرية الخاصة بفصائل العجلات الحربية، و طبقا لما جاء في الملوك الأول (4)، فقد اكتشف في «مجدو» و غيرها إسطبلات للخيول، و حظائر للعربات مع بعضها، و كانت تلك التي في «مجدو» تسع 150 عربة، 450 حصانا (5).

هذا و كان قائد العربة يتلقى تدريبات طويلة شاقة، و يظل في الخدمة طالما كان قادرا على أداء وظيفته، أو على الأقل لعدة سنوات، و من ثم فإنه يصبح جنديا محترفا، و عند ما زاد عدد العربات أصبح من الضروري استخدام عدد لا بأس به من الجنود غير المحترفين، ذلك لأن عددا قليلا من الإسرائيليين الذين كانوا مكلفين بالخدمة العسكرية كانوا يصبحون جنودا محترفين، و ليس هذا يعني أن هؤلاء الإسرائيليين المجندين بالجيش، و لا يعملون في سلاح العربات الحربية، قد أعفوا من القيام بالمهمات

ص: 165


1- , egdirbmaC, 2, traP, II, HAC ni, modgniK werbeH ehT, tdlefssiE. O 589- 583. p، 1975.
2- ملوك أول 10/ 26.
3- F. P, tic- po, thgirblA. F. W 135 و كذا. P, tic- po, tdlefssiE. O 589.
4- ملوك أول 9/ 19، 10/ 16.
5- . P, ytinaitsirhC ot egA enotS eht morF, thgirblA. F. W 233، 127 و كذا F, AB, oddigeM s'nomolaS no thgiL weN, nidaY. Y 62. p، 1960، 23 و كذا, gezpieL I, sanitsalP, relamkneD, regniztaW. C 81- 80. F gif 67. p، 1933 و كذا. P, enitselaP fo ygoloeahcrA ehT, thgirblA. F. W 124.

العسكرية، بل على العكس من ذلك، فقد كان الواحد منهم إذا لم يستدع للخدمة في الجيش، فقد كان يكلف بالعمل في بناء التحصينات و الحظائر الخاصة بالعربات، فضلا عن العمل في المشاريع البنائية الأخرى، و من ثم فمن الأفضل أن نطلق على العمل الذي اشتهر خطأ باسم «السخرة»، اسم خدمة الأعمال العامة لبناء و صيانة التحصينات الدفاعية و خدمة الجيش (1)، و كان الرجال المكلفون بالخدمة العامة يستدعون طبقا لكشوف ثابتة، تحدد الأعمال التي يمكنهم القيام بها في المجال الزراعي و الصناعي، و كانوا بطبيعة الحال يتأثرون من هذا الاستدعاء في أعمالهم الخاصة (2)، و طبقا للتقاليد الخاصة بانقسام مملكة إسرائيل بعد موت سليمان، فلقد تحملت إسرائيل، و ليس يهوذا، العب ء الأكبر من هذه الخدمة العامة (3).

[4] النشاط التجاري:-

امتاز عهد سليمان عليه السلام بنشاط تجاري عظيم، فلقد احتلت التجارة من اهتمامه و تدبيره مكانا عظيما، حتى أن فصائل العربات إنما كانت في خدمة التجارة، عند ما لا تكون في خدمة الدفاع عن الدولة (4) و نشر الدعوة، و قد ساعد على نجاح التجارة سيطرة سليمان عليه السلام على الطرق التجارية في سورية و فلسطين و التي كانت قائمة منذ عهد أبيه، و ليس هناك من ريب في أن سليمان قد احتفظ بحقوق كاملة على طرق القوافل التي كانت تمر عبر أراضي «أرامي دمشق»، فضلا عن تلك التي كانت تمر عبر أراضي الآدوميين (5)، و من هنا نراه يهتم بتحصين المراكز التي كانت تسيطر

ص: 166


1- . P, tic- po, tdlefssiE. O 590.
2- . P,. dibI 590.
3- ملوك أول 4/ 6، 5/ 27- 30، 11/ 20- 23، و كذا.. P, tic- po, tdlefssiE. O 591.
4- . P,. dibI 596.
5- . P,. dibI 587.

على الطرق التجارية الهامة التي كانت تمر بمملكته، حتى أصبحت فلسطين قنطرة بين آسيا و إفريقيا، كما استغل سليمان علاقاته الودية من ناحية، و مهارته السياسية من ناحية أخرى، فضلا عن أن حدوده الجنوبية إنما كانت آمنة بسبب صلاته الطيبة بمصر، هذا إلى أن تحالفه مع «حيرام» ملك صور، أقوى الأمراء الفينقيين، قد حمى مواصلات سليمان مع المدن الفينيقية، و هكذا تمكنت القوافل من السفر، بصفة دائمة، من أرض مصر إلى بلاد الرافدين، و من فينيقيا إلى الجزيرة العربية، في أمان و سلام، و هكذا نجح سليمان عليه السلام في السيطرة على مصدر الثروة العائد من التجارة (1)، و لعل الذي دفع سليمان إلى الإتجاه إلى التجارة، أن فلسطين إنما كانت بلدا زراعيا خاليا من الصناعة مما اضطره أن يحضر الصناع من صور، و النجارين من جبيل (ببلوس) عند ما بنى بيت المقدس، كما أن فلسطين لم تكن تملك سلعا للتصدير يمكن أن تقوم عليها تجارة ناجحة، و لكنه في موقع يمكن التصرف منه كوسيط، و قد استغل هذا الموقع أحسن استغلال (2)، فإلى جانب العمل في التجارة، فقد عبّدت الطرق و زودت ببعض المحطات، و هكذا كانت القوافل الآتية من الجزيرة العربية (3)، و المحملة بالتوابل، خاضعة لدفع الرسوم عند ما كانت تمر بتلك الطرق).

ص: 167


1- . P, tic- po, llaH. R. H 433.
2- . P, tic- po, sdoL. A 370.
3- أهم طرق القوافل هذه طريقان: الأول: الطريق الجنوبي الشمالي: و يبدأ من عدن و قنا في بلاد اليمن و حضرموت، ثم مأرب إلى نجران فالطائف ثم مكة و يثرب و خيبر و العلا و مدائن صالح، و هنا ينقسم إلى فرعين، فرع يتجه إلى تيماء صوب العراق، و يستمر الفرع الآخر إلى البتراء ثم غزة فالشام و مصر، و أما الطريق الثاني فهو طريق «جرها- البتراء» و يبدأ من الهفوف ثم إلى شمال اليمامة في موقع مدينة الرياض الحالي، ثم يتجه غربا إلى بريدة ثم حائل ثم تيماء فالبتراء (محمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم- الرياض 1977 ص 133- 136).

و المحطات التي تقع في فلسطين (1).

و نقرأ في التوراة أن سليمان عليه السلام كان شغوفا بالخيل (2)، رغم أن رب إسرائيل، فيما تروي التوراة، كان قد حذر ملوك إسرائيل من الخيل و النساء و الذهب (3)، غير أن سليمان إنما كان يرى أن «الفرس معدة ليوم الحرب» و إن كانت «النصرة نمن الرب» (4)، و من ثم فقد اهتم سليمان عليه السلام بالخيل كثيرا، لأنها أداة الجهاد في سبيل اللّه، فضلا عن أنها وسيلة كسب، و من ثم فإن دولة سليمان إنما كانت في تلك الفترة تحتكر تجارة الخيل تماما، ذلك لأن كل طرق القوافل الهامة بين مصر و سورية و آسيا الصغرى كانت تمر بمملكة سليمان (5).

و كانت مصر المصدر الرئيسي للخيل و المركبات، و نقرأ في التوراة «و كان مخرج الخيل التي لسليمان من مصر، و جماعة تجار الملك أخذوا جليبة بثمن، و كانت المركبة تصعد و تخرج من مصر بست مائة شاقل من الفضة، و الفرس بمائة و خمسين» (6)، أي أن قيمة الحصان إنما كانت تساوي ربع قيمة العربة، و ربما كان ذلك لأن سليمان كان يتمتع في مصر بامتياز خاص، و لأن صناع المركبات المصريين إنما كانوا على درجة عالية من المهارة في صنع المركبات ذات العجلتين الخاصة بالصيد و الحرب، كما كانوا يستوردون الخشب المتين من فينيقيا و سورية، و هذا يفسر لنا الفرق بين

ص: 168


1- فيليب حتى: المرجع السابق ص 207، فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 238.
2- ملوك أول 10/ 26- 29، أخبار أيام ثان 1/ 14- 17.
3- تثنية 17/ 16- 17.
4- سفر الأمثال 21/ 31.
5- , yrotsiH sA elbiB ehT, relleK renreW 207. p، 1967.
6- ملوك أول 10/ 28- 29.

سعر المركبة و الفرس في مصر (1)، و على أية حال، فهناك مصدر آخر للخيل، هو «aoK» و هو اسم دولة في سيليسيا كانت تقع في السهل الخصيب بين جبال طوروس و البحر الأبيض المتوسط، و تشتهر بتربية الخيول، و طبقا لرواية «هيرودوت» فإن الفرس كانوا يحصلون على أحسن خيولهم من سيليسيا (2)، و أما سوق هذه التجارة فقد كان عند ملوك الآراميين و الحيثيين (3).

و هناك ما يشير إلى أن سليمان قد أقام حظائر للخيل في جهات متعددة، و قد ألقت بعثة الحفائر الأمريكية في «مجدو» الضوء على هذه الحظائر، حيث عثر على بقايا من عدة أجزاء كبيرة من اسطبلات الخيول، و التي كانت دائما تنتظم حول فناء دائري مبلط ببلاط من الحجر الجيري، و يخترق وسط كل اسطبل ممر عرضه عشرة أقدام، و قد رصف بصخور خشنة ليحول دون انزلاق الخيل، و قد وضعت على كل جانب وراء نتوءات الأحجار، مرابط فسيحة عرض كل منها عشرة أقدام، و ما يزال الكثير من هذه الإسطبلات محتفظا بمعالف طعام الخيل، كما لا تزال كذلك أجزاء من معدات السقي ظاهرة، و لعل مما يثير الانتباه فخامة تلك الإسطبلات حتى بالنسبة لظروف الحياة الحاضرة، فضلا عن العناية الفائقة التي بذلت بوفرة في المباني و الخدمات، و التي يمكن الحكم عن طريقها بأن الخيول إنما كانت مرغوبا فيها في تلك الأيام، و عند ما تم الكشف عن المبنى بأكمله، قدر بعض الباحثين لكل اسطبل 450 حصانا و لكل حظيرة 150 عربة، هذا و قد

ص: 169


1- , ecneicsnoC fo nwoD ehT, detsaerB. H. J 355. p، 1939 و كذا. P, tic- po, tdlefssiE. O 593 و كذا.. P, learsI fo noigileR eht dna ygoloeahcrA, thgirblA. F. W 135.
2- . P, tic- po, relleK. W 207 و كذا, ogacihC, uranoitciD elbiB s'regnU, regnU. F. M 1036. p، 1970.
3- ملوك أول 11/ 29.

اكتشفت نظائر لهذه الإسطبلات في بيسان و حاصور و تعنك و أورشليم (1)، كما أشرنا من قبل، و أما تاريخ هذه الإسطبلات، فهناك من يرجعها إلى عهد «أخاب» (869- 850 ق. م) أكثر من عهد سليمان (2) (960- 922 ق. م)، غير أن أكثر الدراسات أهمية في تاريخ مدينة «مجدو» إنما تضع الطبقة الرابعة التي وجدت بها هذه الإسطبلات جزئيا على الأقل في عهد الملك سليمان، و أن بقايا هذه المباني المشهورة إنما ترجع حقيقة إلى عهد سليمان، دون غيره (3)

[5] النشاط البحري:-

اتجه سليمان أيضا نحو البحر ليفتح لبلاده أبواب التجارة مع البلاد الواقعة على الأبحر، و لكن قومه العبرانيين لم يكونوا قد ألفوا ركوب البحر من قبل، كما أنهم لم يكونوا على خبرة، أيا كانت، بشئون بناء السفن و ملاحتها، و من هنا بدأ سليمان يعمل على تأمين الطرق عبر وادي عربة، ثم الاتفاق مع «حيرام» ملك صور، على إنشاء أسطول في ميناء «عصيون جابر» تستغل فيه المهارة الفينيقية، هذا و قد ركزت التوراة على التجارة البحرية في عهد سليمان أكثر من التجارة البرية، و قد أثبتت الحفريات مما يؤكد كثيرا من النصوص الخاصة بهذه التجارة البحرية (4)، و نقرأ في التوراة «و قد عمل سليمان سفنا في عصيون جابر التي بجانب أيلة على شاطئ بحر سوف في

ص: 170


1- . P, enitselaP fo ygoloeahcrA ehT, thgirblA. F. W 124 و كذا F. P, tic- po, regniztaW. C 67 و كذا F, nevaH- weN, senotS esehT naeM tahw, sworuB. M 127. p، 1941 و كذا. P, tiC- po, relleK. W 195.
2- , QEP, toofworC. W. J 147- 143. p، 1940.
3- . P, tic- po, thgirblA. F. W 124 و كذا. P, tic- po, nageniF. J 181 و كذا, AB, thgirW. E. G 44. p، 1950، 13 و كذا, AJA 550- 546. p، 1940، 44 و كذا F, AB, grebgnE. M. R 12. p، 1941، 4.
4- . P, tic- po, tdlefssiE. O 593.

أرض أدوم (1)»، و قد كشف في تل الخليفة «عصيون جابر» (2) مسامير كبيرة من الحديد أو النحاس الممزوج بالحديد، و قطع من حبال غليظة و كتل من القار لضم السفن، و أخرى من الصمغ لطلائها، و كان من الممكن قطع الأخشاب اللازمة من غابات البلوط التي كانت توجد في أدوم في ذلك الوقت (3)، و مع ذلك، و رغم وجود غابات كثيرة من النخيل في مجاورات هذا المكان، إلا أنه لا توجد الأخشاب اللازمة لأغراض البناء، و من ثم فقد أرسل «حيرام» الصوري الأخشاب التي حملها ثمانية آلاف من الرجال، بنى بها أسطول من عشر سفن، و قد عرفنا الكثير عن هذا الأسطول حتى أسماء ربانية من الفينيقيين (4)، كما عرفنا كثيرا عن أسطول منفصل لحيرام، أبحر مع أسطول سليمان إلى «أوفير»، و أتى من هناك بالذهب و الأخشاب النادرة و الأحجار النفيسة، و كل ما هو نادر و غريب (5)، هذا و قد كشف قرب «تل أبيب»- leT) (vivA عن «أوستراكا» ترجع إلى ما بين عامي 900، 800 قبل الميلاد، و عليها نص يقول: «ذهب أوفير من أجل بيت حورن» (6). ).

ص: 171


1- ملوك أول 9/ 26.
2- كان يظن من قبل أن «عصيون جابر» تقع عند «عين الغديان» في قعر وادي العربة، غير أن بعثة أمريكية، برياسة نلسون جلوك، قد كشفت موقعها في «تل الخليفة» على مبعدة 21 كيلا من ساحل البحر على الطرف الشمالي لخليج العقبة على مقربة من ميناء «إيلات» الحالي، في منتصف الطريق بين مدينة العقبة و الطرف الشرقي من خليج العقبة، و «أم الرشراش» على الطرف الغربي، و قد عرفت عصيون جابر فيما بعد باسم «برنيسا» (ecinreP)، فيما يرى البعض، ثم أعاد «عزايا» ملك يهودا بناءها باسم إيلات (أنظر:, nevaH- weN, nedroJ eht fo edis rehto ehT, kceulG. N 113- 50. p، 1940 و كذا. P, tic- po, noyneK. M. K 257 و كذا.. P, enitselaP fo ygoloeahcrA ehT, thgirblA W 128، 127، 44 و كذا. P, tic- po, sgnitsaH. J 253 و كذا, ytiuqitnA, llenroH. J 66. p، 1947، 21.
3- جورج فضلو حوراني: المرجع السابق ص 34.
4- .. P, tic- po, relleK. W 201.
5- ملوك أول 10/ 11- 12.
6- . F, SENJ, elisaQ- lleT morf acartsO werbeH owT, reliaM. B 265. p، 1951، 10 و كذا -, IVXX airyS 157. p، 1949، و أما بيت حورن، فيعني المغارة، و يطلق على قريتين على حدود أفرايم و بنيامين، و مكانهما على مبعدة 12 ميلا شمال القدس، و يسميان بيت عور الفوقانية و بيت غور التحتية (قاموس الكتاب المقدس 1/ 202).

و لعل سؤال البداهة الآن: أين تقع أوفير؟

لقد قام، و ما يزال، جدل طويل حول أوفير هذه، و هناك دائما من يزعم أنه وجدها في شرق إفريقيا، فهناك «كارل ماوخ» الذي وصل إلى أنقاض مدينة أحد المعابد في عام 1864 م، على حدود روديسيا الجنوبية و موزامبيق في شرق إفريقية، و هناك «ستنبرج» الذي اكتشف بعد ذلك بخمسة عشر عاما، و على مبعدة أميال قليلة إلى الجنوب من المكان الأول، محلات للتعدين من عصر ما قبل المسيحية، ظن أنها كانت تتصل بمعبد المدينة، و في عام 1910 م صوّر الرحالة الدكتور «كارل بطرس» نقوشا من هذا الموقع يزعم المتخصصون أنهم لاحظوا فيها ملامح فينيقية عربية (1)، و هناك وجه آخر للنظر يذهب صاحبه (وليم أولبرايت) أن أوفير في الصومال، و يتفق هذا مع رواية التوراة عن طول الوقت الذي يلزم للوصول إلى أوفير، حيث تقول «فكانت سفن ترشيش تأتي مرة كل ثلاث سنوات» (2)، ثم يقترح «أولبرايت» بعد ذلك أن الأسطول ربما كان يبحر من عصيون جابر في نوفمبر أو ديسمبر من السنة الأولى، و يعود في مايو أو يونية من السنة الثالثة و بهذا يتجنب الجو الحار، قدر استطاعته، و أن الرحلة في هذه الحالة لا تأخذ أكثر من ثمانية عشر شهرا، هذا فضلا عن أن طبيعة السلع (الذهب و الفضة و العاج و القرود) تشير إلى إفريقية من الواضح أنه كمكان إنما هو الأصل (3).

و هناك وجه ثالث للنظر يحاول أن يوحّد «أوفير» ببلاد «بونت» (4)

ص: 172


1- . P, tic- po, relleK. W 202- 201.
2- ملوك أول 10/ 12.
3- . P, tic- po, relleK. W 434.
4- . P, tic- po, llaH. R. H 454.

(و صحة الإسم فيما يرى جاردنر بويني) (1)، و التي يرى كثير من العلماء (2) أنها تقع على الساحلين، و جنوب بلاد العرب في ناحية أخرى (3)، على أن هناك وجها رابعا للنظر يذهب إلى أن أوفير إنما تقع في جنوب شبه الجزيرة العربية (4)، و إن اختلفت الآراء في هذا المكان من جنوب بلاد العرب، بين أن تكون في الجنوب الغربي (اليمن) متضمنا الساحل الأفريقي المجاور (5)، و بين أن تكون في الجنوب الشرقي، متضمنا الخليج العربي و خليج عمان (6)، و بين أن تكون في العويفرة (7)، القريبة من قرية «الفاو» السعودية (على مبعدة 60 كيلا جنوب غرب مدينة الخماسين)، و أن الإسم القديم هو «عفر»، و قد حرف بالنقل إلى اللغتين العبرية و اليونانية، فأصبح «أوفير»، و بين أن تكون في المنطقة ما بين «القنفذة» و «عتود» في المملكة العربية السعودية (8).

و هناك وجه خامس للنظر يذهب إلى أن «أوفير» إنما تقع في الهند، اعتمادا على أن كثيرا من أسماء بعض السلع التي كانت تأتي من «أوفير» إنما

ص: 173


1- . P, tic- po, renidraG. H. A 37.
2- أنظر الآراء المختلفة عن موقع بونت (محمد بيومي مهران: العرب و علاقاتهم الدولية في العصور القديمة- الرياض 1976 ص 307- 311).
3- أحمد فخري: مصر الفرعونية ص 133، دراسات في تاريخ الشرق القديم ص 140، محمد مبروك نافع: عصر ما قبل الإسلام ص 52- 53، و كذا ,eveneG ,sennsioV snoitaN sel ceva etpygE enneicnA 'L ed ecremmoC eL ,ellivaN .E 7. p، 1911 و كذا F, IIIVXL, SAZ 112. p، 1932 و كذا 3. P, tic- po, ittiH. K. P و كذا. P, tic- po, nosliW. J 176.
4- . P, tic- po, sdoL. A 370 و كذا, III, HAC, kooC. A. S 357. p، 1965.
5- . P, tic- po, regnU. F. M 810 و كذا. p, tic- po, sgnitsaH. J 669 و كذا. P, tic- po, htoN. M 215.
6- , acirfa dnu neibarA ni reinissebA eiD, resalG. E 373- 368. p، 1895 و كذا-. P, tic po, sgnitsaH. J 669.
7- ,Y .N ,aibarA fo retrauQ ytpmE ehT ssorC A ,xileF aibarA ,samohT .B 163. p، 1932.
8- , revonnaH, neibarA, ztiroM. B 110. p، 1923.

هي دخيلة في اللغة العبرية من بعض لغات أخرى مثل «السنسكريتية» (1)، على أن الخيال ذهب بالبعض إلى أن يذهب أن أوفير إنما تقع في ولاية «الأمازون» البرازيلية في أمريكا الجنوبية، اعتمادا على أن هناك حتى اليوم في ولاية الأمازون أمكنة كثيرة حافظت على أسماء عبرية و فينيقية، كما أن السلع التي نقلتها سفن سليمان و حليفه حيرام من أوفير إلى أورشليم و صور و صيدا، يوجد نماذج كثيرة منها هناك، كما أن أسماءها ليست عبرية أو فينيقية، و إنما هي من صميم لغة سكان الأمازون، فضلا عن أن اسم «سوليمونس» الذي يحمله أحد فروع الأمازون، إنما هو اسم الملك سليمان نفسه، و قد أطلقه على النهر الكبير أحد أفراد الأسطول تيمنا بالملك العظيم (2)، و هكذا يصل الخيال بالبعض إلى هذا الحد، إلى أن تكون أوفير في أمريكا الجنوبية.

و هناك وجه سابع للنظر يذهب إلى أن «أوفير» إنما تقع في «عسير»، و ثامن يرى أنها في مدين، و رجح كثيرون أنها على سواحل بلاد العرب الغربية أو الجنوبية، على أساس أن هذه الأماكن أقرب إلى الوصف الوارد في التوراة من غيرها (3)، هذا و قد ذكر الهمداني في معاد اليمامة موضعا سماه «الحفير» فقال: «و معدن الحفير بناحية عماية، و هو معدن ذهب غزير» و وجود الذهب بغزارة في الحفير إنما ينطبق على وصف أوفير إلى حد كبير، إلا أن هذا الموضع بعيد عن البحر، و لكن من يدري فلعل كتبة التوراة لم يكونوا على معرفة بموقع أوفير، و إنما سمعوا بذهبه الذي يتاجر به العرب

ص: 174


1- , siraP, learsI'd elpueP ud eriotsiH, naneR tsenrE 122. p، 1887 و كذا. 181. P, tic- po, nageniF. J
2- الأب أميل أدة: الفينيقيون و اكتشاف أمريكا- بيروت 1969 ص 24- 25.
3- جواد عل: المرجع السابق 1/ 639، و كذا. P, tic- po, yremogtnoM. B. J 38 و كذا، 7. p, tic- po ztiroM. B و كذا P, II, ezzkiS, naidiM fo seniM dloG ehT, notruB. F. R. 347.

الجنوبيون، من المواني الساحلية، فأرسل سليمان سفنه إلى موضع بيعه في سواحل بلاد العرب لشرائه، و من هنا ظن كتاب التوراة أن أوفير على ساحل البحر، و الحفير كما يبدو اسم قريب جدا من أوفير (1)، و أخيرا فهناك من يرى أن «أوفير» معناها «الأرض الحمراء» (أي الحمراء بلون الذهب)، و أنها لم تكن علما على بلد بعينه، و إنما كانت اسم جنس ينطبق على بلاد عدة كاليمن و شرق إفريقية و غرب الهند (2).

هذا و قد قدم لنا الأستاذ الدكتور السيد يعقوب بكر، دراسة عليمية جادة عن موقع أوفير، ناقش فيها كل النظريات المختلفة و خلص منها إلى أن الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية هو مكان «أوفير» (3)، فقد كانت بلاد العرب موطنا للذهب الأمر الذي شاع بين الكتاب القدامى من الأغارقة و الرومان، حتى أنهم يذهبون إلى أنه كان يستخرج في مواضع معينة منها، خالصا نقيا لا يعالج بالنار لاستخلاصه من الشوائب الغريبة و لا يصهر لتنقيته، و لهذا قيل له «norypA» و من ثم فقد ذهب بعض العلماء المحدثين إلى أن العبرانيين إنما قد أخذوا لفظة «أوفير» من «أبيرون» (norypA) هذه (4)، و قد عثر في «مهد الذهب»، و يقع شمالي المدينة المنورة، على أدوات استعمالها القدامى في استخراج الذهب و استخلاصه من شوائبه مثل رحى و أدوات تنظيف و مدقات و مصابيح، فضلا عما تركه القوم من آثار في حفر العروق التي يتكون منها الذهب، مما يدل على أن الموقع كان منجما للذهب في عصور ما

ص: 175


1- الهمداني: صفة جزيرة العرب ص 153، جواد علي: المرجع السابق 1/ 639- 640.
2- ,ytiuqitnA ,III ,sesmaR dna namoloS fo yad eht ni ytivitcalavaN ,llenroH .J - 239. p، 1947، 21, ytiuqitnA, semiT ylraE ni edarT- aeS, llemroH. J 364- 361. p، 1941، 15. و كذا
3- السيد يعقوب بكر: أوفير ص 116- 190 (من كتاب فضلو حورابي- العرب و الملاحة في المحيط الهندي- القاهرة 1958).
4- , elbiB eht dna aibarA, yremogtnoM. A. J 39. p، 1934.

قبل الإسلام، و لعله من المناجم التي أرسلت الذهب إلى سليمان (1).

و هكذا كان من الطبيعي أن يطلب سليمان الذهب في بلاد العرب، و ليس في مكان أقصى كالهند و إفريقية، و كان من الطبيعي أيضا أن يطلبه في الجانب الجنوبي الغربي من بلاد العرب، لأنه أقرب أجزائه إليه، و بخاصة في «بيشة» و في «خنكان» و في المنطقة ما بين القنفذة و مرسى حلج، فضلا عن «وادي تثليت» على مقربة من «حمضة»، و على مبعدة 183 ميلا من نجران (2)، و ربما قد حدث ذلك بعد إسلام ملكة سبأ، في أغلب الظن.

و كان أمام سليمان للوصول إلى ذهب بلاد العرب طريقان، طريق البر عبر الصحراء، و طريق البحر على طول ساحل البحر الأحمر، و لكنه آثر الطريق البحري، رغم أن قومه كانوا أهل زراعة و رعي، لم يتمرسوا بالبحار، ذلك لأن طريق البر جد شائق و قد تزيد نفقاته على طريق البحر، و ثمة سبب آخر دعا سليمان إلى اختيار طريق البحر هو أنه أراد أن يشرك معه حليفه «حيرام» ملك صور، رغبة في الانتفاع بمهارة الفينيقيين في الملاحة، و ربما بإلحاح من حيرام نفسه، و أيا كان السبب، فإن الجانب الجنوبي الغربي من بلاد العرب، إنما كان المصدر الذي استقى منه سليمان الذهب، و كان الذهب أهم السلع التي كانت تجلب من أوفير، ثم يلي الذهب في الأهمية بين سلع أوفير، خشب الصندل و الحجارة الكريمة و هما سلع عربية كذلك، هذا فضلا عن أن التوراة (3) إنما تعد «أوفير» من أبناء يقطان (قحطان في جنوب بلاد العرب) تضعه بين سبأ و حويلة، و «أوفير بن يقطان» هذا (أي شعب أوفير القحطان) هو الشعب الذي يسكن أرض «أوفير»،

ص: 176


1- جواد علي 1/ 193، و كذا, llenroC, alusnineP naibarA ehT, regnaS. H. R 23، 20. p، 1954.
2- tnuoccA na htiW aibarA iduS, llehctiwT. S. K و كذا. P, tic- po. ztiroM. B 110, notecnirP, secruoceR larutaN sti fo tnempolevD fo 77. p، 1943.
3- تكوين 10/ 29.

و بدهي أنه ليس هناك «أوفيران»، أوفير في الجزيرة العربية، و أوفير في مكان آخر، كما يزعم البعض (1).

و أما الفضة و العاج و القرود و الطواويس، فالفضة كانت دائما غالية في بلاد العرب، و لهذا رأى بعض الباحثين أنها مقحمة في النص (2)، و لكن من الممكن أنها كانت تستورد إلى أوفير، و الأمر كذلك بالنسبة إلى العاج، إما من إفريقية القريبة، و هو الأرجح، و إما من الهند البعيدة، و أما القرود فهي مستوردة أيضا، إلا إذا كان المراد «النسانيس» كما يقول «مونتجمري» (3)، و هي ما تزال ترى في مرتفعات اليمن و حضرموت، و عندئذ فهي سلعة عربية، و كذلك «الطيوب» التي يجعلها «جلازر» مكان القرود، سلعة عربية كذلك، بل هي السلعة التي يتهافت عليها الشرق و الغرب، و كانت مصدر غنى و ثروة لعرب الجنوب، ثم يتبقى بعد ذلك «الطواويس»، و هي سلعة هندية في الأصل، فلا بد أن أوفير كانت تستوردهما من الهند، و إذا صح ما يقوله «نيبور» من أن المراد «العبيد»، كانت السلعة مستوردة أيضا، و لكن من إفريقية (4).

أضف إلى ذلك كله أن هناك ما يثبت أن الاتصال البحري بين شمال البحر الأحمر و الهند لم يتم إلا في عصر قريب من القرن الأول الميلادي أو في عصر لا يبعد كثيرا عن القرن الأول، و في هذا زعزعة للنظرية الهندية (5)، و كذا النظرية «جلازر» و التي تذهب إلى أن أوفير التوراة إنما هي الساحل

ص: 177


1- السيد يعقوب بكر: المرجع السابق ص 150- 154.
2- , Y. N, I, slateM dna naM, drakciR. A. T 267. p، 1932.
3- . P, tic- po, yremogtnoM. J 39.
4- السيد يعقوب بكر: المرجع السابق ص 154- 155.
5- 212. P, I, HAC و كذا. P, tic- po, naneR. C 122- 119 و كذا, ytiuqitnA, llenroH. J 244. p، 1941، 15،, ytiuaitnA 73- 72. p، 1947.

العربي من الخليج الفارسي (العربي) من الشمال حتى رأس مصندم (1)، ثم إن هذا يثبت كذلك أن السفن قبل القرن الأول كانت تستطيع عبور باب المندب إلى عدن، و في هذا زعزعة لرأي «موريتز» (2) الذي يرى أن السفن في عصر سليمان كانت أضعف من أن تتجاوز مضيق باب المندب، و إذن فإن سفن سليمان كانت تستطيع حمل سلع أوفير من ميناء عربي قبل باب المندب، كميناء «مخا» أو بعده كميناء «عدن» ثم إن انتساب العاج و القرود و الطواويس في العربية إلى أصول هندية، ليس دليلا على أن السلع كانت تستورد من الهند نفسها، فقد كان باب الاستيراد مفتوحا، كذلك لا يستطيع الاستدلال على أن أوفير في بلد ما، بورود أسماء متشابهة لأوفير في هذا البلد، فكثيرا ما يكون التشابه اللفظي عارضا (3).

و يناقش الدكتور يعقوب بكر بعد ذلك الاعتراضات التي وجهت إلى هذه النظرية، و منها أن ذهب بلاد العرب كان قليلا بالقياس إلى المقادير الهائلة التي كانت تصل منه إلى سليمان، و أن السنوات الثلاث التي كانت تستغرقها رحلة أوفير، يستحيل معها أن تكون أوفير في مكان قريب من عصيون جابر، فهذان الاعتراضات يقومان على أساس التسليم بقصة التوراة عن أوفير حرفيا، و لكن ألا تجوز المبالغة في هذا المجال الأدبي، و لا سيما أن الأمر يتعلق بسليمان الذي سارت بذكره الركبان، و الذي كان يحتاج فعلا إلى ذهب كثير لتزيين الهيكل و قصر الملك، ثم ألا يمكن أن يكون الغرض من المبالغة التوراتية إظهار حملات أوفير، و كأنها أبهى من حملات الفراعنة إلى «بونت» أو بمنزلتها على الأقل، و أخيرا فمن المتفق عليه أن نصوص التوراة ليست فوق مظان الشك و الريبة.

ص: 178


1- . P, II, sneibarA sihpargoeG dnu ethcihcseG red ezzikS, resalG. E 373- 368.
2- . P, tic- po, ztiroM. B 89- 86.
3- السيد يعقوب بكر: المرجع السابق ص 156- 157.

و أما عن ذكر السنوات الثلاث التي كانت تستغرقها الرحلة إلى أوفير، فهي أولا قد وردت في المصادر التوراتية المتأخرة، ثم هي مبالغة أيضا، فقد يجوز أن يكون المعنى أن سليمان كان يبعث بسفنه مرة كل ثلاث سنين، و عندئذ لا تكون الإشارة إلى زمن الرحلة، و لكن إلى المدة الفاصلة بين كل رحلة و أخرى (1)، هذا فضلا عن أن وجهة نظر «أولبرايت» عن الرحلة، ربما كانت تتصل برحلة أخرى غير رحلة أوفير، ذلك لأن «ستانلي كوك» (2) يرى أن سليمان و حيرام قد امتلكا أسطول «ترشيش»، و الذي يمكن الحكم عليه من اسمه أنه قد ذهب إلى ترشيش في أسبانيا، و أما أسطول الفينقيين فقد أبحر من عصيون جابر في أدوم ليحضر الذهب من أرض أوفير (في جنوب بلاد العرب)، و هكذا يبدو أن رحلة السنوات الثلاث ربما لا تتصل بأوفير، و لكنها تتصل بأسطول «ترشيش» (3) إلى أسبانيا، و إن كان ذلك سيجرنا إلى متاعب أخرى، علما بأن هناك من يرى أن هناك علاقات تجارية بين حيرام من ناحية، و بين قبرص و أسبانيا من ناحية أخرى (4).

[6] النشاط الصناعي:-

لم تكن عصيون جابر ميناء تجاريا فحسب، و لكنها كانت كذلك مركزا صناعيا، و في الواقع فلقد كان اختيار موقعها اختيارا موفقا، في مكان لم يسكن من قبل بين تلال أدوم من الشرق، و تلال فلسطين من الغرب، حيث

ص: 179


1- انظر عن مصادر التوراة (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 97- 106.
2- السيد يعقوب بكر: المرجع السابق ص 148- 160.
3- . P, tic- po, kooC. A. S 367.
4- يذهب البعض إلى أن «ترشيش» تقع في سردينيا، و يذهب آخرون إلى أنها هي «ترتيسوس» في جنوب أسبانيا على مقربة من جبل طارق أو لعلها قرطاجة في شمال إفريقية (قاموس الكتاب المقدس 1/ 215- 216 و كذا. P, tic- po, regnU. F. M 1071- 1070 و كذا., nodnoL, namoloS gniK, regrebeihT F 206. p، 1957.

يمكن الإفادة إلى أقصى الحدود من الريح التي تهب من الشمال، حيث تبلغ غاية سرعتها في وسط وادي عربة، و ذلك للانتفاع بها في تأجج النار اللازمة للتكرير، هذا فضلا عن أدوم، و كل المنطقة الواقعة بين البحر الميت و خليج العقبة، غنية بالنحاس و الحديد (1)، و نقرأ في التوراة عن «أرض حجارتها حديد، و من جبالها تحفر نحاسا» (2)، و من هنا كانت عصيون جابر، بجانب وادي عربة و النقب، مركزا لصهر الحديد و النحاس في عهد سليمان، حتى كانت فلسطين في عهده من أكبر مصدري النحاس في العالم القديم (3).

هذا و قد كشف «بتري» في «جمة» معامل لاستخراج الحديد، أصغر كثيرا من تلك التي في عصيون جابر، و يبدو أن داود عليه السلام كان قد نازع الآدومين احتكار الحديد، و استولى عليه بعد هزيمتهم، و من ثم فإن مخزونات النحاس و الحديد قد استخرجت و صهرت في عهد سليمان عليه السلام بدرجة كبيرة، حتى أنه لم يعثر حتى الآن في أي مكان آخر في العالم القديم على ما يضاهي معامل تنقية النحاس في عصيون جابر، و لعل أفضل هذه المعامل من جهة الإعداد و البناء ما وجد في الطبقة (ط) التي تحوي مخلفات أقدم للفترات الخمسة الرئيسية لعمران هذا الموقع (4).

[7] مملكة سليمان و مدى اتساعها:-

اختلف المؤرخون، و ما يزالون مختلفين، حول اتساع مملكة سليمان

ص: 180


1- موسكاتي: المرجع السابق ص 280، و كذا. P, tic- po, tdlefssiE 181. P,. tiC. pO, nageniF. J 594.
2- تثنية 8/ 12.
3- F ,eromitlaB ,learsI fo noigileR eht dna ygoloeahcrA ,thgirblA .F .W 133. p، 1963 و كذا و كذا, MGN 236- 233. p، 1944، 85. و كذا F. P, tic- po, kceulG. N 89.
4- وليم أولبرايت: آثار فلسطين ص 128، فيليب حتى: المرجع السابق ص 207 و كذا.. P, tic- po, relleK W 199- 198.

عليه السلام، فرأي يذهب أصحابه من المؤرخين المحدثين إلى أن المملكة التي ورثها سليمان عن أبيه داود عليهما السلام، أكبر من تلك التي ورّثها سليمان لمن أتوا بعده من ملوك بيت يهوذا و إسرائيل، و ذلك لأن الأمور في خارج فلسطين لم تكن تسير في نفس المجرى الذي اتخذته في الداخل (1)، و قد بدأت المتاعب ضد دولة سليمان تظهر على الحدود، ذلك أن «يوآب» قائد جيش داود كان قد اجتاح «أدوم» قبل ذلك بنصف قرن، و قتل كل ذكورها بحد السيف، و قد استطاع «هدد»، و هو طفل أدومي من الأسرة المالكة، أن يهرب إلى مصر، و حين اشتد ساعده وجد رضا في عين فرعون الذي زوجه من «تحبنيس» (تحفنيس) أخت زوجة الملكة، ثم عاد هدد إلى أدوم، بغير موافقة فرعون، و أصبح العدو اللدود لسليمان مدى الحياة (2)، و نقرأ في التوراة أنه «أصبح ملكا على أدوم» (3)، و ربما قد حدث ذلك في فترة مبكرة من عهد سليمان، و طبقا لرواية أخرى في التوراة (4)، فقد كان لسليمان مدخل إلى خليج العقبة و ميناء «عصيون جابر»، عبر وادي عربة، أي عبر الجزء الأساسي الهام من أدوم، و يفترض بعض المؤرخين أن سليمان قد عقد اتفاقا مع «هدد»، بتوسط من فرعون الذي كان يريد أن تفسد علاقاته الودية مع صهره سليمان، إن صحت روايات التوراة، و إن لم تعد لسليمان سيطرة على ولاية أدوم، كما أنه ليس هناك ما يدل على أن سليمان قد اتخذ من الخطوات ما يجعله يستعيد سيطرته على أدوم مرة أخرى (5).

و نقرأ كذلك في التوراة «أن اللّه أقام لسليمان خصما آخر، هو «رزون

ص: 181


1- . P, tic- po, sdoL. A 268. و كذا. P, tic- po, htoN. M 206.
2- . P, tic- po, sdoL. A 368 و كذا. P, tic- po, htoR. C 23 و كذا. P, tic- po, htoN. M 256- 250 و كذا. P, tic- po, llaH. R. H 433.
3- ملوك أول 11/ 14- 22 و كذا, shoarahp eht fo tpygE, renidraG. H. A 329. p، 1961.
4- ملوك أول 11/ 25.
5- . P,. tiC. PO, sdoL. A 268 و كذا. P,. tic. pO, htoN. M 206.

بن اليداع» (رصين) الذي هرب من سيده «هدد عرر» ملك صوبة، و أقام مملكة في دمشق، و كان خصما لإسرائيل كل أيام سليمان مع «هدد» (1)، و هكذا نمت المملكة الآرامية في دمشق، ثم تطورت بعد فترة قصيرة حتى غدت أقوى سلطة في سورية، الأمر الذي أدى إلى أن ما أوجده داود من نفوذ في دمشق قد ضاع الآن (2).

هذا و في نفس الوقت كانت مصر قد بدأت حالتها في الانتعاش، و بالتالي فقد بدأت تحاول إعادة سيطرتها في غربي كنعان فهناك ما يشير إلى حملة ضد الفلسطينيين شعوب البحر في جنوب غرب كنعان، فقد عثر في «تانيس» على نقش بارز على جدران مبنى شيده «بسوسنس الأول» و «سيامون» (سي آمون) من الأسرة الحادية و العشرين، جنوب معبد آمون الرئيسي، يصور فيه «سيامون»، و هو يضرب عدوا راكعا أمامه، و قابضا في يده على فأس للحرب مزدوجة من ذلك النوع الذي كان يتخذه الإيجيون من أسلحة الحرب (3)، هذا فضلا عن أن هناك ما يشير إلى أن سيامون قد أرسل جيوشه لمحاربة الفلسطينين في جنوب غرب كنعان، و أن مدينة أسدود قد غزيت، و أن هناك آثارا في «تل فرعة» لنفس الفرعون (4)، بل إن هناك من يذهب إلى أن سيامون قد فكر في غزو إسرائيل نفسها (5).

أضف إلى ذلك أن أعداء سليمان قد نشطوا كثيرا، و نجحوا في

ص: 182


1- ملوك أول 11/ 23- 25.
2- .. P, tic- po, htoN. M 206.
3- ., pl. 1. P, II, nokrosO, tetnoM. P 36.
4- . ,SENJ ni ,nomoloS dna divaD fo seiciloP ngieroF eht fo stcepsA ,tamalaM .A 49- 48. no، 12. p، 1963، 22.
5- . F. P,. dibI 16، 13.

استعادة بعض البقاع التي كانت خاضعة لداود، و أصبح ملك سليمان في غرب الأردن فقط (1) (فلسطين)، و أصبح الفلسطينيون الهند و أوربيون في غزو و ما بعدها في نجوة من سلطانه، هذا فضلا عن أن ممالك و ملوك شعوب شرق الأردن إنما كانوا يمارسون سلطانهم المحلي بعيدا عن قبضة سليمان، مما يدل على أن هذه الممالك و الشعوب التي كان داود قد أخضعها في شرق الأردن و سورية الآرامية قد تفلتت من سيادته، كما تفلت الفلسطينيون منها كذلك (2).

و على أي حال، فإن النبي الكريم ما أن ينتقل إلى جوار ربه، راضيا مرضيا عنه، حتى يستولي «شيشنق الأول» أول فراعنة الأسرة الثانية و العشرين (945- 730 ق. م) على أورشليم، و يأخذ معظم ما فيها من كنوز (3)، و سواء أ كانت حملة شيشنق هذه، فيما يرى البعض (4)، بسبب استنجاد «يربعام» زعيم الثوار الإسرائيليين بمصر، ضد بيت سليمان، أو أنها كانت، فيما يرى آخرون، لإعادة سورية و فلسطين إلى حظيرة الامبراطورية المصرية (5)، فإن التدخل المصري في إسرائيل، في أعقاب موت النبي الكريم، إنما أدى إلى احتلال معظم مدن فلسطين، و الاستيلاء على خزائن معبد سليمان و قصره (6)، بل إن التوراة نفسها (7) إنما تشير إلى خضوع

ص: 183


1- , elpoeP hsiweJ eht fo yrotsiH trohs A, htoR. C 21. p، 1969.
2- محمد عزة دروزة: المرجع السابق ص 262- 263.
3- , dlroW eht fo yrotsiH trohS A, slleW. G. H 77- 76. p، 1965.
4- . P, tic- po, sdoL. A 375- 374 و كذا. P, tic- po, htoR. C 31 و كذا. P, tic- po, llaH. R. H 437- 436.
5- . P, tic- po, renidraG. H. A 330- 329.
6- ملوك أول 14/ 25- 27.
7- أخبار أيام ثان 12/ 18.

«يهوذا» التي كانت من نصيب رحبعام بن سليمان، للامبراطورية المصرية، أو على الأقل، فإن معظم المدن هناك إنما كانت تقوم بدفع الجزية لمصر، و أما الدويلة الأخرى (إسرائيل) فقد أصبحت تحت النفوذ المصري تماما (1).

على أن فريقا آخر يذهب أصحابه من المؤرخين المسلمين إلى ملك واسع لسليمان عليه السلام، و ربما بغير حدود، بل إن المصادر الإسلامية إنما تزعم لدولة سليمان ما لم تزعمه لها المصادر اليهودية نفسها، ذلك أن التوراة رغم المبالغات المعروفة عنها، إنما تذهب إلى أن مملكة إسرائيل في أقصى اتساع لها، و في أزهى عهودها، إنما كان «من دان إلى بئر سبع» (2) (و دان تقع عند سفح جبل حرمون عند تل القاضي، على مبعدة ثلاثة أميال غربي بانياس) (3) من الشمال إلى الجنوب، و أما من الشرق إلى الغرب، «فمن النهر (الأردن) إلى أرض فلسطين و إلى تخوم مصر» (4)، و هي حدود تشمل فلسطين بالكاد، و مع ذلك فإن بعض المصادر العربية تجعل سليمان عليه السلام واحدا من أربعة ملكوا الدنيا كلها (نمرود و بختنصر و هما كافران، و سليمان بن داود و ذو القرنين و هما مؤمنان) (5)، بل إن الخيال ليذهب بالبعض الآخر إلى أن يجعل عاصمة سليمان بعيدا في إيران، حيث ).

ص: 184


1- . p, tic- po, kooC. A. S 359.
2- قضاة 20/ 1، صوئيل أول 3/ 20، صموئيل ثان 24/ 15، أخبار أيام أول 21/ 2، و كذا. P, tic- po, regnU. F. M 236.
3- قاموس الكتاب المقدس 1/ 356- 357.
4- ملوك أول 4/ 21، ثم قارن ملوك أول 9/ 11.
5- أنظر: تاريخ الطبري 1/ 234، الكامل لابن الأثير 1/ 54، البداية و النهاية 1/ 148، ثم أنظر مناقشتنا لهذا الاتجاه (محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم 1/ 116- 119).

اتخذ من «اصطخر» (التي ينسبون إليه أو إلى الجن المسخر بأمره، أمر بنائها)، مقرا لحكمه، بينما يذهب فريق ثالث إلى أن ملك سليمان إنما قد وصل إلى اليمن (1).

و في عام 1986 م صدر كتابان، يزعم الأول منهما أن دولة داود و سليمان عليهما السلام إنما قامت في غرب شبه الجزيرة العربية (من الطائف و حتى نجران)، و ليست في فلسطين، و كما تقول التوراة «من دان إلى بئر سبع» غير أن «دان» فيما يزعم المؤلف، ليست هي المدينة التي تقع عند سفح جبل حرمون عند تل القاضي، حيث منابع الأردن، على مبعدة ثلاثة أميال من بانياس، كما هو معروف، و إنما هي «الدنادنة» في تهامة زهران، و أن «بئر سبع» ليست هي المدينة المعروفة في جنوب فلسطين، و إنما هي الشباعة في مرتفعات خميس مشيط، و من ثم فإن دولة داود و سليمان، فيما يزعم المؤلف، إنما تمتد من «الدنادنة» في تهامة زهران جنوب وادي أضم، و حتى شباعة في مرتفعات خميس مشيط، شرقي رجال ألمع، و أما عاصمة الدولة القدس (أورشليم) فيذكر المؤلف رواية التوراة أن داود عليه السلام نقل عاصمته من حبرون إلى أورشليم، لكنه يزعم أن هناك خمسة أماكن تسمى «حبرون» ما تزال تحمل اسم «خربان» على المنحدرات البحرية لعسير، و من الأمكنة الخمسة يختار المؤلف قرية «الخربان» الحالية في منطقة المجاردة، كعاصمة أولى لداود، و هي نفسها، فيما يزعم، حبرون إبراهيم عليه السلام، و ليست «حبرون» المشهورة في فلسطين، و هي مدينة الخليل الحالية، على مبعدة 19 كيلا شمال القدس، و أما «أورشليم» فهي ليست،

ص: 185


1- ياقوت الحموي: معجم البلدان 1/ 211 (بيروت 1955)، دائرة المعارف الإسلامية 3/ 458- 569 (دار الشعب- القاهرة 1970) علي إمام عطية: الصهيونية العالمية و أرض الميعاد ص 71- 72.

فيما يزعم، مدينة القدس الحالية (حيث المسجد الأقصى) و إنما هي قرية «آل شريم» الحالية، على مبعدة 35 كيلا شمالي بلده «النماص» في سراة عسير، شمال مدينة أبها (1).

و أما الكتاب الثاني فيزعم صاحباه أن سليمان عليه السلام قامت على عهده، و عهد أبيه (داود عليه السلام) دولة إسلامية عاصمتها بيت المقدس، و حدودها من المؤكد كانت تشمل بلاد الشام الحالية (سورية و فلسطين) و تشمل الجزيرة العربية كلها، و أنهما يعتبران ذلك من تمكين اللّه لسليمان فأعطاه ملكا لم و لن ينبغي لأحد من بعده (2)، ثم يقولان بعد ذلك، و في نفس الكتاب: لا يعقل أن تكون هناك أمة مشركة في عهد سليمان الذي طويت له الأرض، و مكن له فيها، و أوتي من كل شي ء (3)، فضلا عن أنهما زعما في كتاب آخر أن سليمان عليه السلام كان نبيا عربيا (4)، بينما يذهبان في كتاب آخر أنه من سلالة إسرائيل عليه السلام (5).

و لعل من الأفضل هنا، أن نرد أولا على هذه الآراء الآنفة الذكر، قبل أن نتعرض لرأي المفسرين في تفسيرهم لقوله تعالى: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (6)، فأما أصحاب الرأي الأول، و الذي يذهب إلى أن المملكة التي ورثها سليمان عن أبيه داود عليهما السلام أكبر من تلك التي ورثها سليمان لمن أتوا بعده من ملوك

ص: 186


1- كمال سليمان الصليبي: التوراة جاءت من جزيرة العرب- ترجمة عفيف الرزاز- ط ثانية- بيروت 1986- مؤسسة الأبحاث العربية ص 175- 193.
2- جمال عبد الهادي و وفاء محمد رفعت: ذرية إبراهيم عليه السلام و بيت المقدس- دار طيبة- الرياض 1986 ص 256، 259.
3- نفس المرجع السابق ص 270.
4- جمال عبد الهادي و وفاء رفعت: جزيرة العرب ج 1 ص 80.
5- جمال عبد الهادي و وفاء رفعت: ذرية إبراهيم عليه السلام و بيت المقدس ص 255- 256.
6- سورة طه: آية 35.

يهوذا و إسرائيل، و ذلك بسبب عودة «هدد» أمير أدوم من مصر و استقلاله بدولته، و بسبب «رصين» الذي أقام مملكة في دمشق و قضى على نفوذ إسرائيل فيها، و بسبب حالة الانتعاش في مصر و التي صاحبت عهد سليمان، فذلك رأي بالغ أصحابه فيه كثيرا، فضلا عن اعتمادهم في الدرجة الأولى على التوراة، فيما يتصل بهدد و رصين، و التوراة كما هو معروف، مصدر غير موثوق فيه، و أقل ما يوصف به أنه نص محرف (1)، و من ثم فلا يمكن الاعتماد عليه، ما لم تؤيده مصادر أخرى، و هذا ما لم يثبت حتى الآن، ثم إن كل الدلائل، الدينية و التاريخية، تشير إلى أن سليمان قد مكّن له، كما مكّن لأبيه من قبل، و أما الانتعاش المصري و الرغبة في إعادة السيادة المصرية على غربي كنعان، فأدلة أصحاب هذا الرأي تعتمد على آثار تشير إلى حملات مصرية ضد الفلسطينيين الهند و أوربيين، و الذين كانوا يسكنون المنطقة ما بين يافا و غزة على ساحل البحر المتوسط، و ليس هناك دليل واحد يشير إلى حملات مصرية ضد مملكة سليمان، بل إن الأدلة كلها تشير إلى علاقات و دية بين مملكة سليمان و مصر، و أن فرعون كان حريصا على أن لا يفسد العلاقات الودية بينه و بين صهره سليمان ملك إسرائيل، كما رأينا من قبل، و أما حملة «شيشنق» على فلسطين، و التي يعتبرها البعض دليلا على ضعف مملكة سليمان، فيكفي القول إن هذه الحملة كانت بعد موت سليمان بأعوام خمسة، و من ثم فهي غير ذي موضوع بالنسبة لعهد سليمان، كما أنها كانت بعد انقسام مملكة سليمان بين ولده رحبعام و الثائر يربعام.

و أما ما ذهب إليه «برستد» من أن سليمان كان واليا تحت النفوذ المصري (2)، فيكذبه أن صاحبه لم يقدم دليلا واحدا على صحته، و هي

ص: 187


1- أنظر: سورة البقرة آية 79، 159، آل عمران: آية 78، النساء: آية 46، المائدة 13، 15، محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 136- 379.
2- , Y. N, tpygE fo yrotsiH A, detsaerB. H. J 529. p، 1946.

سقطة لا شك فيها من المؤرخ الكبير، كما أن مصر على أيام سليمان لم يكن لها نفوذ في فلسطين من أي نوع، و الأهم من ذلك كله: هل يقبل عاقل أن يكون نبيّ، أي نبيّ، تابعا لملك كافر، و لما ذا يتبعه، هل ليكون ملكا على فلسطين، و لكن ما قيمة ملك فلسطين، بجانب شرف النبوة، فما بالك إذا كان هذا النبي هو سليمان، الذي وهبه اللّه، بجانب النبوة، ملكا لا ينبغي لأحد بعده، الهم إنا نبرأ من قول كهذا، و نسألك أن تلهمنا جانب الصواب و الأدب مع أنبيائك و رسلك، و أن تحمينا من أن ننساق، دون أن ندري، في تيار كتبة التوراة، أو في تيار قلة من المؤرخين المحدثين ممن يلقون التهم جزافا على سيدنا سليمان عليه السلام، و بدهي أن خضوع سليمان النبي لفرعون من الفراعين تهمة لا شك فيها، نبرأ إلى اللّه منها، و أخيرا فإن أصحاب هذا الرأي تسقط كل حججهم بالرجوع إلى قصة سليمان مع ملكة سبأ، كما جاءت في القرآن الكريم، فإن الذي يهدد ملكة سبأ، أعظم دول الجزيرة العربية، و هي بعيدة عن مملكة سليمان بآلاف الكيلومترات، لا يمكن بحال من الأحوال، أن تكون دولته ضعيفة، يهددها أمثال أمير أدوم أو دمشق أو غيرهم من النكرات التي كانت تعيش في سورية و فلسطين تحت ظلال دولة سليمان، ثم إن سليمان الذي سخر اللّه له طائفة من الإنس و الجن و الطير و الشياطين، لن يعجز عن جماع قوم من ضعاف المشركين، و لا ريب في أن من سخر له من يأتيه بعرش ملكة سبأ قبل أن يرتد إليه طرفه، يمكن أن يسخر له، ما يستطيع به القضاء على كل أعدائه.

و أما أصحاب الرأي الذي يعطي سليمان عليه السلام ملكا واسعا، ربما بغير حدود، و يجعل عاصمته في «اصطخر» و يملكه بلاد اليمن، فأما عن «اصطخر» فليت الذين ذهب بهم الخيال إلى هذا الحد يعرفون أن اصطخر لم يبدأ الفرس في بنائها إلا حوالي عام 520 ق. م، على أيام دارا الأول (522- 486 ق. م)، و لم يتم البناء إلا في عهد «أرتخششتا الأول»،

ص: 188

حوالي عام 460 ق. م، أي بعد وفاة سليمان (960- 922 ق. م) بحوالي أربعة قرون (1)، و أما ملك اليمن فأمره عجيب، فالبعض خلط بين إسلام ملكة سبأ و بين خضوع دولتها لسليمان، و البعض أعطى سليمان ملك اليمن 320 سنة، مع أن المؤرخين، و منهم صاحب هذا الرأي، يجمعون على أن ملك سليمان لم يزد عن أربعين سنة، و أنه مات، و له اثنتان و خمسون سنة (2)، و أما إسلام ملكة سبأ فقد كان للّه مع سليمان «قالت رب إني ظلمت نفسي و أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين»، و هكذا اهتدى قلبها و استنار، و عرفت أن الإسلام للّه وحده ليس استسلاما لأحد من خلقه، حتى و إن كان هو سليمان، النبي الملك صاحب المعجزات، إنما الإسلام إسلام للّه رب العالمين، و مصاحبة للمؤمنين به و الداعين إلى طريقه على سنة المساواة «و أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين» و قد سجل السياق القرآني هذه اللفتة الأخيرة و أبرزها، للكشف عن طبيعة الإيمان باللّه و الإسلام له، فهي العزة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين، بل التي يصبح فيها الغالب و المغلوب أخوين في اللّه لا غالب منهما و لا مغلوب، و هما أخوان في اللّه رب العالمين على قدم المساواة (3)، ثم إن الذين يقولون بضم اليمن إلى مملكة سليمان إنما يخطئون في فهم دعوة الرسل، فهم لا يريدون ملك الناس و دنياهم، و إنما يريدون هدايتهم إلى عبادة اللّه وحده، و إلى الإيمان بشرائعه، كما أشرنا إلى ذلك من قبل في قصة سليمان مع ملكة سبأ.

و أما الدكتور الصليبي فلم يقدم لنا في دعواه أية أدلة علمية يمكن أن تؤيد مزاعمه التي تمس الدين و الوطن، سوى الزعم بأن هناك قرى في غرب

ص: 189


1- أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم ص 229، آرثر كريستنس: إيران في عهد الساسانيين ص 80.
2- تاريخ اليعقوبي 1/ 60، 196.
3- في ظلال القرآن 5/ 2643.

الجزيرة العربية، يمكن أن تتشابه أسماؤها مع أسماء أماكن جاءت في توراة يهود و من ثم زعم أن غرب الجزيرة العربية هي أرض التوراة، و ليست فلسطين، و في الواقع لو طبقنا مزاعمه هذه على الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، لكان الكثير من مدنها، اعتمادا على تشابه أسماء بعض المدن، إنما هي مدن عربية، كان يسكنها العرب في العصور القديمة، ناهيك عن تشابه أسماء بعض المدن و القرى في البلاد، العربية نفسها، الأمر الذي يمكن أن يتفق و ما زعمه الدكتور الصليبي من مسخ للحقائق الدينية الثابتة، فضلا عن الحقائق التاريخية و الجغرافية المتعارف عليها منذ آلاف السنين.

و أما دعوة الدكتور جمال عبد الهادي و الدكتورة وفاء رفعت من أن سليمان قامت على عهده، و عهد أبيه داود، عليهما السلام دولة إسلامية عاصمتها القدس، و حدودها من المؤكد أنها كانت تشمل الشام كله و الجزيرة العربية كلها، فلست أدري من أين جاءا بدعواهما أن داود كون دولة شملت الشام كله و الجزيرة العربية كلها، و ليس في القرآن الكريم و الحديث الشريف و لا في المصادر العربية أو اليهودية أو الأثرية ما يشير إلى ذلك من قريب أو بعيد، و أما ملك سليمان لليمن فقد ناقشناه من قبل، و ليس هناك من دليل يثبت استيلاء سليمان على اليمن و ضمها إلى مملكته، فضلا عن ضم الجزيرة العربية كلها، و اليمن جزء من الجزيرة العربية، و ليس كل الجزيرة العربية، ثم يقول المؤلفان أن اللّه مكّن سليمان فأعطاه ملكا لم و لن ينبغي لأحد من بعده؟ فهل ملك الشام و الجزيرة العربية يعتبر هو الملك الذي لم ينبغ لأحد من بعد سليمان، أم أن هناك آخرون ملكوا أكثر من الشام و الجزيرة العربية، فمثلا الإسكندر المقدوني في التاريخ القديم، و الدولة الإسلامية على أيام الراشدين و الأمويين و العباسيين، ناهيك عن الامبراطوريات الأوربية في العصر الحديث.

و أما القول بأنه لا يعقل أن تكون هناك أمة مشركة في عهد سليمان

ص: 190

الذي طويت له الأرض و مكن له فيها، و أوتي من كل شي ء، فلست أدري ما ذا يعني المؤلفان بذلك، و هل تبق حقا أمة مشركة في عهد سليمان بعد إيمان ملكة سبأ، و هل أصبحت مصر الفرعونية أو العراق القديم مثلا، و هما أقرب إلى فلسطين مقر مملكة سليمان من اليمن، من الأمم المسلمة في عهد سليمان؟ ثم، و هذا في منتهى الأهمية، هل بعث سليمان للناس عامة، أم أنه بعث إلى قومه خاصة، ذلك أنه من المعروف أن كل نبيّ إنما كان يبعث إلى قومه خاصة، و أن سيدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هو وحده الذي بعث إلى الناس كافة بشيرا و نذيرا «قل يا أيها الناس إني رسول اللّه إليكم جميعا»، «و ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا و نذيرا»، و في الصحيحين عن جابر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، و أحلت لي الغنائم و لم تحل لأحد قبلي، و أعطيت الشفاعة، و كان النبي يبعث إلى قومه خاصة و بعثت إلى الناس عامة» (1).

ثم إن المؤلفين مضطربان في نسب سليمان عليه السلام، فهو مرة نبي عربي، و هو مرة أخرى من بني إسرائيل من سلالة يعقوب (إسرائيل) بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، و هذا هو الصحيح، ثم كيف يكون سليمان نبيّا عربيا، و سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول في حديث أبي ذر المشهور:

و أربعة من العرب، هود و صالح و شعيب و نبيّك يا أبا ذر» (2)، و في رواية:

«و أربعة من العرب، هود و صالح و شعيب و محمد عليه السلام» (3).

بقي الآن أن نتحدث عن رأي المفسرين و المؤرخين المسلمين في قوله تعالى:

ص: 191


1- تفسير ابن كثير 3/ 857.
2- البداية و النهاية تفسير ابن كثير 1/ 891- 892 (بيروت 1986).
3- تفسير النسفي 1/ 263- 264.

رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (1)، إذ ترى جمهرة كبيرة من المفسرين و المؤرخين أن سياق الآيات الكريمة تفيد أن الزيادة التي أوتيها سليمان عليه السلام في ملكه المعبر عنها بقوله تعالى:

مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنما هي إيتاؤه بعض المعجزات التي لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم السلام، بدليل التعقيب عليه بقوله تعالى:

فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ، وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ، وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (2)، المتضمن استجابة اللّه تعالى لدعائه، مفتتحا بالفاء الدالة على الربط و التعقيب و الترتيب (3)، و هذا ما نميل إليه و نرجحه، و يقول ابن الأثير أن سليمان عليه السلام سأل اللّه أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب اللّه و سخر له الإنس و الجن و الشياطين و الطير و الريح، فكان إذا خرج من بيته إلى مجلسه، عكفت عليه الطير، و قام له الإنس و الجن حتى يجلس (4)، و يقول الطبري (5): و سخرت له الريح و الشياطين يومئذ، و لم تكن سخرت له من قبل (أي بعد أن جلس الشيطان على كرسيه) و هو قوله تعالى: وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (6)، و من هنا فقد ذهب المسعودي إلى أن ملك سليمان كان أربعين سنة على فلسطين و الأردن (7)، و قول ابن خلدون: إن سليمان قد ضرب الجزية على جميع ملوك الشام مثل فلسطين و عمون و كنعان و مؤاب ).

ص: 192


1- سورة ص: آية 35.
2- سورة ص: آية 36- 37.
3- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 114- 115.
4- الكامل لابن الأثير 1/ 128.
5- تاريخ الطبري 1/ 501.
6- سورة ص: آية 35.
7- مروج الذهب للمسعودي 1/ 70 (بيروت 1965).

و أدوم و الأرمن (أي الآراميين) و هذا لا يعدو أيضا فلسطين و شرق الأردن (1).

و إذا ما رجعنا إلى كتب التفسير لرأينا الأستاذ سيد قطب، طيب اللّه ثراه، يقول في تفسير الآية الكريمة: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، أن أقرب تأويل لهذا الطلب من سليمان عليه السلام لم يرد به أثره، و إنما أراد الاختصاص الذي يتجلى في صورة معجزة، فقد أراد به النوع، أراد به ملكا ذا خصوصية تميّزه من ملك كل ملك آخر يأتي بعده، و ذا طبيعة معينة ليست مكررة و لا معهودة في الملك الذي يعرفه الناس، و قد استجاب اللّه له، فأعطاه فوق الملك المعهود، ملكا خاصا لا يتكرر (2)، ثم يحدد صاحب الظلال هذا الملك المعهود بأنه لا يتجاوز ما يعرف الآن بفلسطين و سورية و لبنان و العراق إلى ضفة الفرات (3)، أي الشام بمعنى آخر، لا أكثر و لا أقل، أو لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعده هذه السلبة (يعني الشيطان الذي جلس على كرسيه) أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته (4)، و يقول النسفي أن سليمان عليه السلام سأل ملكا بهذه الصفة (لا ينبغي لأحد من بعدي) ليكون معجزة له، لا حسدا (5)، و كان قبل ذلك لم يسخر له الريح و الشياطين، فلما دعا بذلك ».

ص: 193


1- تاريخ ابن خلدون 2/ 112.
2- في ظلال القرآن 5/ 3020.
3- في ظلال القرآن 5/ 2635.
4- الدر المنثور 5/ 313.
5- تفسير البيضاوي 5/ 19. جاء في تفسير الطبري (23/ 164 ط بيروت 1984) ذكر عن الحجاج بن يوسف الثقفي أنه قرأ قوله تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فقال: «إنه كان لحسودا، فإن ذلك ليس من أخلاق الأنبياء، قيل: أما رغبته إلى ربه فيما رغب إليه من الملك، فلم تكن إن شاء اللّه به رغبة في الدنيا، و لكن إرادة منه أن يعلم منزلته من اللّه في إجابته فيما رغب إليه فيه، و قبول توبته، و إجابته دعائه».

سخرت له الريح و الشياطين و لن يكون معجزة حتى يخرق العادات (1).

و يقول ابن كثير في تفسير الآية الكريمة: قال بعضهم: معناه لا ينبغي لأحد من بعدي، أي لا يصح لأحد أن يسلبنيه بعدي، كما كان من قضية الجسد الذي ألقى على كرسيه، لا أن يحجر على من بعده من الناس، و الصحيح أنه سأل من اللّه تعالى ملكا لا يكون لأحد من بعده من البشر، و هذا هو ظاهر السياق من الآية، و بذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، قال البخاري عند تفسير هذه الآية، حدثنا إسحاق إبراهيم أخبرنا روح و محمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «إني عفريتا من الجن تفلت على البارحة، أو كلمة نحوها، ليقطع على الصلاة، فأمكنني اللّه تبارك و تعالى منه، و أردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا و تنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة و السلام: «رب اغفر لي و هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي»، قال روح: «فرده خاسئا»، و كذا رواه مسلم و النسائي من حديث شعبة به (2).

هذا و قد قدم لنا الإمام الطبري عدة روايات في تفسير الآية الكريمة، منها أن اللّه تعالى سخر لسليمان الريح و الشياطين يومئذ، و لم تكن سخرت له من قبل ذلك، و هو قوله: وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، لا يسلبنيه أحد، كما سلبنيه قبل هذا الشيطان، و منها يقول تعالى ذكره: -

ص: 194


1- تفسير النسفي 4/ 43.
2- تفسير ابن كثير 4/ 56- 57 (ط بيروت 1986) و انظر: صحيح البخاري 6/ 156، صحيح مسلم 2/ 72، سنن النسائي 3/ 13، مسند الإمام أحمد 3 ك 83.

فاستجبنا له دعائه، فأعطيناه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، «فسخرنا له الريح» مكان الخيل التي شغلته عن الصلاة «تجري بأمره رخاء» يعني رخوة لينة، و هي من الرخاوة عن الحسن: أن نبيّ اللّه سليمان صلى اللّه عليه و سلم لما عرضت عليه الخيل، فشغله النظر إليها عن صلاة العصر «حتى توارت بالحجاب» فغضب اللّه، فأمر فعقرت، فأبدله اللّه مكانها، سخر الريح تجري بأمره رخاء حيث شاء، و منها ما روى عن الضحاك في قوله تعالى: وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، فإنه دعا يوم دعا، و لم يكن في ملكه الريح، و كل بناء و غواص من الشياطين فدعا ربه عند توبته و استغفاره، فوهب اللّه له ما سأل، فتم ملكه، و عن الضحاك أيضا «و الشياطين كل بناء و غواص» قال لم يكن هذا في ملك داود، أعطاه اللّه ملك داود، و زاده الريح، «و الشياطين كل بناء و غواص و آخرين مقرنين في الأصفاد»، يقول في السلاسل، و يقول الإمام الطبري:

و أولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القول الذي ذكرناه عن الحسن و الضحاك من أنه عني بالعطاء ما أعطاه اللّه تعالى ذكره من الملك، و ذلك أنه جل ثناؤه ذكر عقيب خبره عن مسألة نبيّه سليمان، صلوات اللّه و سلامه عليه، إياه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فأخبره أنه سخر له ما لم يسخر لأحد من بني آدم، و ذلك تسخيره له الريح و الشياطين على ما وصفت، ثم قال له عز ذكره:

هذا الذي أعطيناك من الملك، و تسخير ما سخرنا لك عطاؤنا، و وهبنا لك ما سألتنا أن نهبه لك من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعدك «فامنن أو أمسك بغير حساب» (1).

و يقول الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير في تفسير الآية: أن الملك هو القدرة، فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري البتة، ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي و رسالتي، و الدليل على صحة هذا الكلام أنه تعالى قال عقيبه: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً ).

ص: 195


1- تفسير الطبري 23/ 158- 163 (ط بيروت 1984).

حَيْثُ أَصابَ، فكون الريح جاريا بأمره قدرة عجيبة و ملك عجيب، و لا شك أنه معجزة دالة على نبوته، فكان قوله؛ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي هو هذا المعنى لأن شرط المعجزة أن لا يقدر غيره على معارضتها، فقوله: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي يعني لا يقدر أحد على معارضته، و هناك وجه آخر أنه عليه السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة، عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى الغير بإرث أو بسبب آخر، فسأل ربه ملكا لا يمكن أن ينتقل منه إلى غيره، و ذلك الذي سأله بقوله: مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، أي ملكا لا يمكن أن ينتقل عني إلى غيري (1).

و هكذا يبدو واضحا أن جمهرة المفسرين لا يذهبون إلى أن سليمان عليه السلام، سأل اللّه ملكا واسعا، بمعنى مساحات واسعة من الأرضين، و إنما سأل اللّه تعالى ملكا معجزا لا يكون لأحد غيره من بعده، فكانت هذه المعجزات من تسخير الريح بأمره رخاء حيث أصاب، و الشياطين كل بناء و غواص، و آخرين مقرنين في الأصفاد، إلى غير ذلك من معجزات لم يشاركه فيها أحد، كما أشرنا إلى كل ذلك في مكانه من هذه الدراسة، و من ثم فلا مكان للربط بين ملك شاسع المساحات، كما ذهبت إلى ذلك بعض المصادر العربية، و بين نبوة سليمان عليه السلام، و كأن مكانة النبي الكريم لا تكون إلا بملك الدنيا كلها، كما ذهب البعض، حيث جعلوا من سليمان عليه السلام، واحدا من أربعة (نمرود و بختنصر و ذو القرنين و سليمان) ملكوا الدنيا بأسرها، بل إن سليمان، فيما يقولون، «كان لا يسمع بملك في ناحية من الأرض إلا أتاه حتى يذله»، و نسوا، أو تناسوا، أن سليمان عليه السلام، لم يكن، و لن يكون، جبارا في الأرض، و إنما كان رسولا نبيّا، و هاديا إلى اللّه بإذنه، و مبشرا و نذيرا، و نسوا كذلك أن النبوة أشرف و أكرم من ملك الدنيا و ما فيها، و إن جمع اللّه لسليمان، كما جمع لأبيه من قبل، بين

ص: 196


1- تفسير الفخر الرازي 26/ 209- 210.

النبوة و الملك، و نسوا أيضا أنهم ربطوا سليمان بملوك أربعة، منهم على الأقل كافران، فإذا كان هذا الملك الواسع المساحات هو المراد من دعاء النبي الكريم: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، فهم إذن قد ساووا بين سليمان عليه السلام، و بين هؤلاء الثلاثة (نمرود و بختنصر و ذو القرنين) في هذا الملك الواسع العريض، و هذا ما لم يقل به أحد.

و هكذا يبدو واضحا أن سياق الآيات الكريمة، كما أشرنا من قبل، إنما يشير إلى أن الزيادة التي أوتيها سليمان عليه السلام في ملكه و المعبر عنها بقوله: مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي هي إيتاؤه بعض المعجزات التي لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم السلام، بدليل التعقيب عليه بقوله تعالى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ، وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ، وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ، المتضمن استجابة اللّه تعالى لدعائه، مفتتحا بالفاء الدالة على الربط و التعقيب و الترتيب (1).

[8] القدس عاصمة سليمان:-

تقع القدس على مبعدة 14 ميلا إلى الغرب من البحر الميت، 33 ميلا إلى الشرق من البحر المتوسط، و قد عرفت بأسماء كثيرة، حيث أطلقت عليها التوراة أو العهد القديم اسم «أريئيل» (إشعياء 29/ 1) و مدينة العدل (إشعياء 1/ 26) و المدينة (مزمور 72/ 16) و مدينة اللّه (مزمور 48/ 1) و مدينة الحق (زكريا 8/ 3) و مدينة القدس (نحميا 11/ 1) و جبل القدس (إشعياء 27/ 13) و المدينة المقدسة (متى 4/ 5) و مدينة داود، و أما أسماؤها العربية فهي: بيت المقدس و المقدس و القدس الشريف، أما الإسم الغالب فهو «القدس»، و الذي يبدو أنه رافق المدينة منذ بداية تاريخها، غير أن أشهر اسمين للمدينة إنما هما القدس و أورشليم.

ص: 197


1- عويد المطرفي: المرجع السابق ص 114- 115.

هذا و يظن كثير من الناس خطأ أن اسم «أورشليم» اسم عبري أو يهودي، و الحقيقة غير ذلك تماما، ذلك لأن أقدم النقوش التي ورد فيها اسم المدينة المقدسة إنما هو نقش مصري، يرجع إلى أخريات القرن التاسع عشر قبل الميلاد، و ربما إلى أيام «سنوسرت الثالث (1878- 1843 ق. م) أو بعده بقليل، و ربما قبله بقليل، حيث ذكرت المدينة تحت اسم «أورشليم» (mumilasrU) على رأي (1)، و إلى أيام الأسرة الثالثة عشرة المصرية (1786- 1650 ق. م) فيما عرف بنصوص اللعنة تحت اسم «أوشاميم» (memahsuA على رأي آخر (2)، و نقرأ في رسائل العمارنة من القرن الرابع عشر قبل الميلاد (3)، في رسالة من نائب الفرعون إخناتون (1367- 1350 ق. م) و يدعى «عبد خيبا» أمير القدس و كانت تدعى «أورسالم» يقول فيها «لا أبي و لا أمي وضعاني في هذا المكان، بل يد الملك القوية هي التي وضعتني في بيت آبائي» (4)، و بقيت المدينة تدعى «أورسالم»، حتى استقل بها اليبوسيون في فترة الضعف التي انتابت الإمبراطورية المصرية، و سموها «يبوس» (5)، حتى جاء داود عليه السلام (1000- 960 ق. م) و استولى عليها منهم، ثم اتخذها عاصمة لدولته، و نقل إليها «تابوت العهد»، و أطلق عليها اسم «مدينة داود»، و من ثم فقد أصبحت المدينة المقدسة مركزا للحياة

ص: 198


1- .. P, tic- po, regnU. F. M 576.
2- أحمد فخري: المرجع السابق ص 335 و كذا, TENA, nosliW. J 329. p، 1966 ,allatneirO ni ,.C .B munnelliM dnoceS eht ni naenarretideM tsaE ehT dna tpygE ,draW .W 30،, amoR 32. p، 1961.
3- أنظر عن رسائل العمارنة (محمد بيومي مهران: إخناتون- الإسكندرية 1979 ص 233- 245).
4- ., otnoroT, II, tselbaT anramA- lE- leT ehT, recreM. B. A. S 89- 286. p، 1939 و كذا. P, TENA, thgirblA. F. W 489- 487.
5- . 19/ 10- 11.

السياسية و الدينية معا، هذا و يختلف الباحثون في أسباب تغيير اسم المدينة القديم، فمن قائل لأن اسمها القديم كان غريبا على العبرانيين، و من قائل لأن فيه تخليدا للاهوت أجنبي، و من قائل لأن داود عليه السلام أراد أن يخلد اسمه على المدينة أو حتى على جزء منها، ذلك لأن اليهود أطلقوا على المدينة أيضا اسم «يورشالايم» أو «أورشالم» بإضافة لاحقة عبرية كي تصبح عبرية النطق، و أيا كان السبب فإن الإسم الجديد لم يحل محل الإسم القديم، الذي له جذور عميقة في الوعي الشعبي (1).

هذا و قد دعيت المدينة في النقوش الآشورية باسم «أورساليمو» (ummilasrU) و في النقوش اليونانية باسم «هيروسوليما» (amylosoreiH) (2)، هذا و لم يذكر «هيرودوت» (484- 430 ق. م) في تاريخه اسم «أورشليم» و لكنه ذكر مدينة كبيرة في الجزء الفلسطيني من الشام، و سماها «قديتس»، مرتين في الجزء الثاني و الثالث من تاريخه، و يقول المستشرق اليهودي «سالومون مونك» في كتابه «فلسطين» أن هذا الإسم على الأرجح هو «القدس»، محرفا في اليونانية عن النطق الآرامي «قديشتا» (3).

و أما معنى «أورشليم» فموضع خلاف، و لعل أرجح الآراء من الناحية العلمية أنها مركبة من «أور» بمعنى مدينة أو موضع، و من «شالم» و هو إله وثني لسكان فلسطين الأصليين هو «إله السلام»، فالمدينة إذن كانت مكرسة لإله السلام، و هناك من يقول أن كلمة «أور» معناها «الميراث»، فتكون

ص: 199


1- صموئيل ثان 5/ 9، 6/ 12- 13، 8/ 17- 18، 20/ 25- 26، عبد الحميد زائد: الشرق الخالد ص 56- 57، و كذا, learsI fo yrotsiH ehT, htoN. M 191. p، 1965 و كذا, SENJ, nivieY. Y 10. p، 1948، 7.
2- . P, tic- po, regnU. F. M 576.
3- حسن ظاظا: المرجع السابق ص 8، قاموس الكتاب المقدس 1/ 135.

أورشليم بمعنى «ميراث السلام» أما أحبار اليهود فيدعون أن «سام بن نوح» قد سماها «شلم» أي السلام، و أن إبراهيم الخليل عليه السلام، قد سماها «يرأه»، و هي باللغة العبرية بمعنى الخوف، فقرر اللّه أن يسميها بالاسمين معا، «يرأه- شلم» أي «أورشليم» بمعنى الخوف و السلام، و بنوا على هذه التخريجات الفلوكلورية عقائد رهيبة حول السلام المتولد عن الرعب، و قيل أيضا أن «يرو» يمكن أن تكون في اللغات السامية بمعنى «إله»، و يكون اسم المدينة بكل بساطة «مدينة إله السلام» (1).

و أيا ما كان الأمر، فما أن يأتي الرومان، و تحدث مذبحة «هدريان» (117- 138 م) عام 135 م، حتى تكون ختاما نهائيا لليهود في فلسطين سياسيا و سكانيا، ثم يغير الرومان اسم المدينة إلى «إيليا كابيتولينا» أو «إيليا» فقط، و يصبح لفظ أورشليم لفظا تاريخيا، يطلق فقط على المدينة التي كانت على عهد الملوك و الأنبياء من بني إسرائيل، و ظلت المدينة تسمى «إيليا» و لا يسكنها اليهود حتى القرن السابع الميلادي، و في العام الخامس عشر الهجري يفتح المسلمون المدينة المقدسة، و يعيدون إليها اسمها «القدس»، و إن اشترط أهلها ألا تسلم مدينتهم إلا للخليفة الراشد عمر بن الخطاب، رضوان اللّه عليه، و أن يمنحهم الأمان لدينهم و كنائسهم، و يقبل الخليفة أن يتسلم المدينة بنفسه، و يأتي إلى القدس في عام 15 ه (أو عام 16 ه 635/ 636 م) و يتسلم المدينة من البطريرك «صفرنيوس»، و يمنح أهلها النصارى الأمان في دينهم و أموالهم و أعراضهم، لا يضار أحد منهم بسبب دينه، و لا يكره على شي ء في أمره، و لا يسكن معهم أحد من اليهود (2)، و بينما كان الخليفة الراشد في كنيسة القيامة مع البطريرك أدركته ).

ص: 200


1- حسن ظاظا: المرجع السابق ص 9.
2- هناك رواية أخرى تذهب إلى أن الفارق عمر رفض الموافقة على استمرار القرار الروماني بمنع اليهود من النزول بالمدينة، معتذرا بأن القرآن الكريم قد حدد لأهل الكتاب ما لهم و ما عليهم، و ليس فيه شي ء يسمح بهذا، و لكنه تعهد للنصارى بألا يدخل أحد من اليهود إلى مقدساتهم أو يسكن في حاراتهم (حسن ظاظا: المرجع السابق ص 30).

الصلاة، فطلب إليه أن يصلي بها فرفض حتى لا يتبعه المسلمون إذ يرون أن عمله سنة مستحبة، فإذا فعلوا أخرجوا النصارى من كنيستهم و خالفوا عهد الأمان، و اعتذر للسبب نفسه عن الصلاة بكنيسة قسطنطين المجاورة لكنيسة القيامة (1)، و إنما صلى في مكان قريب عند الصخرة المقدسة، و خطّ المسجد الذي عرف باسمه (2).

[9] مباني سليمان:-

لا ريب في أنه كان للقدس نصيب الأسد في المباني التي شيدت في عهد سليمان عليه السلام و طبقا لما جاء في التوراة فقد شيد سليمان سور المدينة و قلعتها، و إن كان بناء المسجد الأقصى و قصر سليمان إنما يمثلان أعظم إنجازات الملك النبي المعمارية، و أما المسجد الأقصى فقد خصصنا له فصلا مستقلا من قبل، و أما القصر فقد اختيرت له الهضبة الغربية، و طبقا لرواية التوراة، فلقد أقيم القصر على المنطقة الصخرية التي تدعى «تل

ص: 201


1- يقول المسعودي: أن سليمان عليه السلام بعد أن بنى المسجد الأقصى، بنى لنفسه بيتا في الموضع الذي يسمى في وقتنا هذا (أي وقته هو) كنيسة القيامة، و هي الكنيسة العظمى ببيت المقدس عند النصارى (مرجع الذهب 1/ 70) و هي الكنيسة التي بنتها «هيلانة» أم الامبراطور قسطنطين (306- 337 م) في عام 326 م، في المكان الذي يعتقد النصارى أن جثمان المسيح عليه السلام قد دفن فيه، ثم رفع إلى السماء، و هذا خطأ لأن المسيح لم يقتل و لم يصلب، قال تعالى: وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (سورة النساء: آية 157- 158).
2- تاريخ الطبري 3/ 607- 613، الواقدي: فتوح الشام 2/ 26، 244، 267، البلاذري: فتوح البلدان ص 144- 145، حسن ظاظا: المرجع السابق ص 30، عبد الحميد زائد: القدس الخالدة ص 173- 175، البداية و النهاية 7/ 60- 67.

موريا» (1)، و يذهب المسعودي، كما أشرنا آنفا، أنه في مكان كنيسة القيامة (2)، و كان القصر يتكون من عناصر ثلاثة: «بيت وعر لبنان»، و كان يستخدم كترسانة أسلحة (3)، و ربما كمكان للمالية في نفس الوقت (4)، و يحتمل كذلك أنه استخدم كحوش للإسطبلات، و أما «صالة الأعمدة» فلم يعرف الغرض الذي استخدمت من أجله، و أما «غرفة الاجتماعات الكبيرة»، فقد استخدمت كمكان للقضاء، فضلا عن الاحتفالات الرسمية (5)، هذا و قد وجد إلى جانب هذا القصر الكبير من ناحية الغرب مباشرة، قصر آخر أحيط بجدار فاصل، و قد اتخذ مكانا لسكني الملك و سيدات القصر، هذا و قد وجد أيضا، إلى الشمال مباشرة، و فوق هضبة مرتفعة، مبنى آخر أحيط بسور خاص، اتخذ كمصلي، و أمامه مذبح لحرق الأضاحي (6).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الروايات التي وصلتنا عن مباني سليمان إنما تضعه في مرتبة أعلى البنائين المشهورين، و من ثم فقد نسبت إليه مبان كثيرة في منطقة الشرق الأدنى القديم، حتى أن بعض تلك المباني إنما كانت تقع بعيدا جدا عن منطقة نفوذه (7)، و قد نافست المصادر العربية المصادر اليهودية في نسبة مبان كثيرة إلى سليمان، حتى أن «ياقوت الحموي» يقول: «إن الناس كانوا إذا ما رأوا بناء عجيبا جهلوا بانيه، أضافوه إلى سليمان و إلى جن سليمان (8)، و مع ذلك، فالذي لا شك فيه أن ).

ص: 202


1- أخبار أيام ثان 3/ 1.
2- مروج الذهب 1/ 70.
3- ملوك أول 10/ 16- 17.
4- ملوك أول 10/ 17- 20.
5- ملوك أول 10/ 18- 20، و كذا. P, tic- po, tdlefssiE. O 596.
6- . P,. dibI 596.
7- . P,. dibI 594.
8- ياقوت الحموي: معجم البلدان 2/ 17 (بيروت 1957).

لسليمان إنجازات معمارية كثيرة، و قد ذكرنا من قبل تشييده لكثير من الثكنات لفصائل عجلاته الحربية، و التي أطلقت عليها التوراة «مدن المركبات» و «مدن الفرسان» و كذا «مدن المخازن» (1) التي أقيمت للمؤن و العلف التي تحتاجها المعسكرات و المحطات التي أقيمت على الطرق التجارية، و ذلك لأن «مدن المخازن التي بناها سليمان في حماة» (2) إنما قد خدمت الهدفين، و بالتالي فربما أمكن القول أن الأماكن المحصنة التي أقيمت في مجاورات مجدو و تدمر و حماة و أورشليم إنما كانت «مدن مخازن» (3).

هذا و قد كشف عن بعض مبان لسليمان في حاصور (4) (تل قدح على مبعدة 5 كيلا جنوب غرب بحيرة الحولة) و في «عصيون جابر» اكتشف «جلوك» حصنا يرجع إلى أيام سليمان، و كذا في «قادش برينع»، و هي خربة القضيرات أو عين قديس، على مبعدة 50 ميلا جنوب بئر سبع (5)، و نقرأ في التوراة أن سليمان «بنى جازر و بيت حورن السفلى و بعلة و تدمر في البرية» (6)، أما «جازر» فهي المدينة الكنعانية الواقعة على مبعدة 18 ميلا شمال غرب أورشليم، و قد أشرنا من قبل إلى أن فرعون قد استولى عليها و قدمها مهرا لابنته امرأة سليمان، و يبدو أن سليمان قد أعاد بناء المدينة بعد ذلك (7)، و أما «بيت حورن السفلي» فتقع على مبعدة 12 ميلا شمال

ص: 203


1- ملوك أول 9/ 19.
2- أخبار أيام ثان 8/ 4.
3- . P, tiC. pO, tdlefssiE. O 595.
4- ملوك أول 9/ 15.
5- قاموس الكتاب المقدس 2/ 708- 709، و كذا. P, tiC. pO, tdlefssiE. O 595. 595 و كذا F, Y. N, dnaL elbiB ni seirevocsiD tneceR, thgirblA. F. W 86. p، 1955.
6- ملوك أول 9/ 17- 18.
7- ملوك أول 9/ 15- 17، قاموس الكتاب المقدس 1/ 242 و كذا. p, tic- po, regnU. F. M 401.

أورشليم، و تسمى حاليا «بيت عور السفلى» و هي أقدم من عصر سليمان، و من ثم فيبدو أن سليمان قد حصنها و لكنه لم يبنها (1)، و أما «بعلة» فهي مدينة في منطقة «دان» لا يعرف الآن مكانها على وجه التحقيق، و يرجح أن سليمان حصنها و لم يبنها كذلك (1).

و أما مدينة «تدمر» فهي مدينة «تمر» التي قام سليمان ببنائها في البرية، و قد أشارت التوراة و يوسف بن متى أن سليمان قد أقام مدينة تدمر (2)، و لا شك في أن وجهة النظر اليهودية هذه خاطئة، ذلك لأن مدينة تدمر إنما ظهرت للمرة الأولى في التاريخ على أيام الملك الأشوري «تجلات بلاسر» (1116- 1090 ق. م) في صورة «تدمر أمورو» (3) أي قبل أن يولد النبي الكريم، و كذا بفترة تسبق ما دون في التوراة بشأنها بأكثر من سبعة قرون، و من هنا يذهب العلماء إلى أن الرواية التوراتية بشأن بناء سليمان لمدينة تدمر، إما أنها من نوع المبالغة، و من ثم فقد نسبت إلى سليمان بناء مدينة تقع في منطقة بعيدة عن حدود دولته إسرائيل (4)، و إما أن هناك خطأ وقع فيه كاتب الحوليات العبراني حين خلط بين «تامارا» (تمر) التي بناها سليمان في جنوب شرق يهوذا (5)، و ربما كانت الشهرة التي اكتسبتها «تدمر» (6) على أيام كتبة الأسفار العبرانيين هي السبب في نسبة بنائها إلى النبي الكريم، و من ثم فقد ذهب هؤلاء الكتبة إلى أن المدينة التي بناها سليمان هي «تدمر» و ليست

ص: 204


1- ملوك أول 11/ 18، قاموس الكتاب المقدس 1/ 82).
2- ملوك أول 9/ 18، أخبار أيام ثان 8/ 4، و كذا, BR, sneiryssA setxeT seL snad arymlaP, emorhD. E 106. p، 1924 و كذا. P, III, IE 1020.
3- . p, III, IE 1020 و كذا, BE 488، 17،. P, tic- po, emorhD. E 106 و كذا, BE 161. p، 17.
4- فيليب حتى: المرجع السابق ص 432، جواد علي 3/ 77، و كذا. P, tic- po, sgnitsaH. J 889.
5- حزقيال 47/ 19، قاموس الكتاب المقدس 1/ 282.
6- عن «تدمر» أنظر (محمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم- الرياض 1977 ص 533- 541.

«ثامار»، و سرعان ما انتقلت تلك الرواية إلى المصادر العربية، عن طريق مسلمة أهل الكتاب، فأخذوها بغير تدقيق و لا تحقيق، فضلا عن أن آثار المدينة ربما أدهشتهم و من ثم فقد نسبوا أبناءها إلى الجن، بأمر من سليمان عليه السلام (1).

هذا و قد ناقش الأستاذ «إيسفلت» الموضوع عام 1975 م بشي ء من التفصيل، و خلص إلى أن «تدمر» المشار إليها في التوراة إنما هي «تمر»، و تقع في أو بالقرب من «عين الرس»، على مبعدة 5 كيلا إلى جنوب النهاية الجنوبية للبحر الميت، و ليست تدمر التي تقع على مبعدة 150 كيلا شمال شرق دمشق، في منتصف المسافة بين دمشق و الفرات و على أي حال، فإن بناء «تمر» إنما كان جزءا من مشروع أكبر لخدمة الأغراض التجارية التي كانت دولة سليمان ميدانا لها (2).

ص: 205


1- فيليب حتى: المرجع السابق ص 432، جواد علي 3/ 78، الألوسي: بلوغ الأرب 1/ 209- 210، ياقوت 2/ 17- 19، البكري 1/ 306- 307، ثم قارن المسعودي 2/ 244- 245 (بيروت 1973).
2- ملوك أول 3/ 1، 9/ 15، و كذا, BE. O 161. p، 17 و كذا. P, tic- po, tdlefssiE. O 593- 592.

ص: 206

الكتاب الخامس الأنبياء من أيوب إلى يحيى عليهم السّلام

اشارة

ص: 207

ص: 208

الفصل الأول أيوب عليه السّلام

[1] قصة أيوب عليه السلام:-

وردت قصة أيوب عليه السلام في القرآن الكريم في سورة النساء (آية 163) و الأنعام (آية 84)، و في سورة الأنبياء و ص بشي ء قليل من التفصيل، قال تعالى في الأنبياء: وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ (1)، و قال تعالى في سورة ص: وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ، وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ، وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (2).

هذا و يشير القرآن الكريم إلى أن أيوب إنما هو من ذرية إبراهيم

ص: 209


1- سورة الأنبياء: آية 83- 84، و انظر: تفسير الطبري 17/ 56- 73، تفسير ابن كثير 3/ 300- 304، تفسير الفخر الرازي 22/ 203- 209، تفسير النسفي 3/ 86- 87، تفسير القرطبي ص 4362- 4367، في ظلال القرآن 4/ 2391- 2392، تفسير روح المعاني 17/ 79- 82، صفوة التفاسير 2/ 272.
2- سورة ص: آية 41- 44، و انظر: تفسير ابن كثير 4/ 59- 61، تفسير النسفي 4/ 42- 43، تفسير الفخر الرازي 26/ 211- 215، تفسير الطبري 23/ 165- 169، في ظلال القرآن 5/ 3021- 3022، تفسير القرطبي ص 5651- 5656.

الخليل عليهما السلام، قال تعالى: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (1)، و من ثم فقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه من سلالة العيص (عيسو) بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، و أن أمه، فيما يرى ابن عساكر، بنت لوط عليه السلام، و إن ذهب رأي إلى أنه من الروم، قال ابن إسحاق: كان رجلا من الروم، و هو أيوب بن موص بن زراح بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، و لعل خطأ وقع هنا في كلمة «الروم»، و المقصود «أدوم» و ليس «روم»، ذلك لأن عيسو (العيص) بن إسحاق (شقيق يعقوب التوأم)، إنما كان يسمى «أدوم» (الأحمر)، و إليه ينسب الآدوميون الذين كانوا يسكنون في أقصى بلاد شرق الأردن، و جنوب وادي الحسا، و كانت عاصمتهم «البتراء» (2)، على أن هناك وجها ثالثا للنظر يذهب إلى أن أبا أيوب عليه السلام، إنما كان ممن آمن بإبراهيم عليه السلام و هاجر معه إلى فلسطين، على أن هناك رواية رابعة تنسب لابن إسحاق تذهب إلى أن أيوب كان من بني إسرائيل، و لم يصح في نسبه شي ء، إلا أن اسم أبيه أموص، و على أية حال، فالصحيح، فيما يرى كثير من المفسرين و المؤرخين، أنه من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، و أما امرأته فهي «ليا» (دينة) بنت يعقوب عليه السلام، و قيل هي «رحمة» بنت أفرايم بن يوسف أو ماضر بنت منشا (منسى) بن يوسف عليه السلام، و طبقا لهذا، فإن أيوب إنما قد عاش قبل موسى عليه السلام، و قال ابن جرير: كان بعد شعيب عليه السلام، و في التاريخ أنه كان نبيّا في عهد يعقوب عليه السلام، و أنه عاش ثلاثا و تسعين سنة، و قال ابن أبي خيثمة كان بعد سليمان عليه السلام (3)، و سوف نناقش ذلك بالتفصيل فيما بعد.

ص: 210


1- سورة الأنعام: آية 84.
2- انظر: التفصيلات و المراجع (محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 547- 552).
3- تفسير روح المعاني 17/ 80، تفسير الفخر الرازي 22/ 203، تفسير النسفي 3/ 86، البداية و النهاية لابن كثير 1/ 220- 221، تاريخ الطبري 1/ 322- 324، الصابوني: النبوة و الأنبياء ص 264.

هذا و قد اقترن ذكر أيوب عليه السلام بالصبر، لأنه كان من أشد الأنبياء صبرا، إن لم يكن أشدهم، فلقد ابتلى عليه السلام بلاء شديدا في أهله و بدنه و ماله، و لكنه كان مثال العبودية الحقة للّه تعالى، فصبر على ذلك حتى أصبح يضرب به المثل في الصبر على الأذى، فيقال: «صبر كصبر أيوب»، و قد روى الليث عن مجاهد ما معناه: أن اللّه يحتج يوم القيامة بسليمان عليه السلام على الأغنياء، و بيوسف عليه السلام على الأرقاء، و بأيوب عليه السلام على الأرقاء (1)، و قد أثنى اللّه تعالى على أيوب بقوله تعالى: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (2).

هذا و يتحدث المفسرون عما كان يملكه أيوب عليه السلام من المزارع و الحدائق، و ما كان له من أموال و دواب و أنعام و حرث، يضيق بها الحصر و التعداد، فضلا عن نعمة القوة و الصحة، إلى جانب زوجة صالحة حسنة الخلق و الخلق، و مع هذا لم تبطره هذه النعم الكثيرة، و إنما صبر لها و أدى لها كل ما يلزم، من شكر للمنعم جل جلاله و تقدير و عرفان لفضله، و كان رحيما بالمساكين، كما كان يكفل الأيتام و الأرامل، و يكرم الضيف، و مع ذلك فقد شاءت إرادة اللّه، و لا راد لمشيئته، أن تتغير الأحوال، فصوّح الزرع، و جف الضرع، و نفدت الأموال، و نفقت الماشية، و زال الثراء العريض، و هاجم الفقر الشديد، و المرض القاسي العنيد، نبيّ اللّه الكريم، ثم كانت مصيبته في موت البنين و البنات أنكى و أفدح، روى الإمام النسفي (3) أنه عليه السلام كان له سبعة بنين و سبع بنات و ثلاثة آلاف بعير، و سبعة آلاف شاة، و خمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة و ولد و نخيل،

ص: 211


1- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 225.
2- سورة ص: آية 44.
3- تفسير النسفي 3/ 86- 78.

فابتلاه اللّه تعالى بذهاب ولده و ماله و بمرض في بدنه، فما وهن لما أصيب به من البلايا، و ما ضعف و لا استكان و إنما قابل ذلك كله بالصبر الجميل و الإيمان الكامل، فكان في حالتي الرخاء و البلاء مثالا لعباد اللّه الصالحين في إرضاء الرحمن، و إرغام أنف الشيطان.

هذا و قد روى الإمام الرازي في التفسير الكبير: (1) أن إبليس سأل ربه فقال: هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال اللّه تعالى: نعم عبدي أيوب، فجعل يأتيه بوساوسه و هو يرى إبليس عيانا و لا يلتفت إليه، فقال يا رب إنه قد امتنع علي فسلّطني على ماله، و كان يجيئه و يقول له: هلك من مالك كذا و كذا، فيقول: اللّه أعطى و اللّه أخذ، ثم يحمد اللّه، فقال: يا رب إن أيوب لا يبالي فسلطني على ولده، فجاء و زلزل الدار فهلك أولاده بالكلية، فجاءه و أخبره فلم يلتفت إليه، فقال يا رب لا يبالي بماله و ولده فسلطني على جسده، فأذن فيه فنفخ في جلد أيوب، و حدثت أسقام عظيمة و آلام شديدة، فمكث في ذلك البلاء سنين (2)، و مع ذلك فقد ظل صابرا حتى ضرب في هذا المجال أروع المثل، و غدا صبره و إيمانه حديث القرون و الأجيال، و صدق سيدنا و مولانا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حيث يقول كما ثبت في الصحيح: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الرجل حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه» (3).

و قد اختلف المفسرون في مدة بلاء أيوب عليه السلام و شدته، فذهبت

ص: 212


1- تفسير الفخر الرازي 26/ 212.
2- يعترض كثير من العلماء على هذه الرواية لأن الشيطان لا قدرة له البتة على إيقاع الناس في الأمراض و الآلام، فضلا عن أن يكون ذلك مع الأنبياء على وجه الخصوص، و قد حكى اللّه تعالى عن الشيطان أنه قال: «و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي»، فصرح بأنه لا قدرة له في حق البشر، إلا على إلقاء الوساوس و الخواطر الفاسدة (راجع: تفسير الفخر الرازي 26/ 213).
3- البداية و النهاية 1/ 222، انظر مسند الإمام أحمد 1/ 172، تفسير ابن كثير 3/ 301.

رواية إلى أنها كانت ثماني عشرة سنة، روى ابن شهاب عن أنس قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «إن أيوب بقي في البلاء ثماني عشرة سنة فرفضه القريب و البعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان و يروحان إليه، فقال أحدهما للآخر ذات يوم: و اللّه لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه:

و ما ذاك، فقال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه اللّه تعالى و لم يكشف ما به، فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك لأيوب عليه السلام، فقال أيوب: ما أدري ما تقولان، غير أن اللّه تعالى يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكر إن اللّه عز و جل فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر اللّه إلا في حق» (1)، و ذهبت رواية أخرى عن الحسن البصري قال: مكث أيوب عليه السلام بعد ما ألقى على الكناسة سبع سنين و أشهر، و لم يبق له مال و لا ولد صديق، غير امرأته رحمة صبرت معه، و كانت تأتيه بالطعام و تحمد اللّه تعالى مع أيوب، و كان أيوب مواظبا على حمد اللّه تعالى و الثناء عليه و الصبر على ما ابتلاه، و في رواية ثالثة قال الضحاك و مقاتل بقي في البلاء سبع سنين و سبعة أشهر و سبعة أيام و سبع ساعات، و قال وهب في رواية رابعة بقي في البلاء ثلاث سنين، بل إن هناك رواية خامسة تذهب إلى أن البلاء بقي ثلاث عشرة سنة (2).

و يذهب المفسرون إلى أن شدة البلاء وصلت إلى أن ألقى به في كناسة خارج القرية لا يقربه أحد إلا زوجته، و قد تنكر الناس له، حتى الذين آمنوا به، و كانوا ثلاثة (3)، لما رأوا ما نزل به من البلاء رفضوه و اتهموه من

ص: 213


1- تفسير الفخر الرازي 22/ 205، و انظر: تفسير الطبري 23/ 167، تفسير ابن كثير 4/ 60، تفسير الفخر الرازي 26/ 214.
2- تفسير الطبري 17/ 70، تفسير روح المعاني 17/ 80، تفسير الفخر الرازي 22/ 206، تفسير ابن كثير 3/ 301.
3- قال النسفي في تفسيره (4/ 43): روى أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين فارتد أحدهم فسئل عنه فقيل: ألقى الشيطان أن اللّه لا يبتلي الأنبياء و الصالحين.

غير أن يتركوا دينه، و في تفسير الطبري عن الحسن قال: و مر رجلان و هو على تلك الحال (يعني حال البلاء)، و لا و اللّه ما على ظهر الأرض يومئذ أكرم على اللّه من أيوب، فقال أحد الرجلين لصاحبه: لو كان للّه في هذا حاجة ما بلغ به هذا، فلم يسمع أيوب شيئا كان أشد عليه من هذه الكلمة، و في رواية أخرى، قال أحدهما لصاحبه: لو كان اللّه علم في أيوب خيرا ما ابتلاه بما أرى، فما جزع أيوب من شي ء أصابه جزعه من كلمة الرجل، و بلغ من شدة البلاء أيضا أن امرأته اضطرتها الحاجة، بعد العز و الجاه، إلى أن تخدم الناس في بيوتهم، لتطعم زوجها، وليت المصاب اقتصر على ذلك، فإن الناس ما لبثوا أن كفوا عن استخدامها، لئلا ينالهم من بلاء يعقوب شي ء، أو تنقل إليهم عدوى أمراضه، فلما لم تجد أحدا يستخدمها عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير، فأتت به أيوب، فقال: من أين لك هذا و أنكره، فقالت خدمت به أناسا، فلما لم تجد في الغد أحدا باعت الضفيرة الأخرى بطعام، فأتت به فأنكره أيضا و حلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام، فكشفت عن رأسها خمارها، فلما رأى رأسها محلوقا قال في دعائه: «أني مسني الضرّ و أنت أرحم الراحمين»، و في رواية أن أيوب عليه السلام كان إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذؤابة، فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر المؤذية في قلبه و اشتد غمه (1).

و كان نبي اللّه أيوب عليه السلام، في كل ذلك، في غاية الصبر، و به يضرب المثل في ذلك، روى أن أبي حاتم عن يزيد بن ميسرة قال: لما ابتلى اللّه أيوب عليه السلام بذهاب الأهل و المال و الولد، و لم يبق له شي ء أحسن الذكر، ثم قال: أحمدك رب الأرباب الذي أحسنت إليّ، أعطيتني المال

ص: 214


1- تفسير روح المعاني 17/ 80 تفسير الطبري 17/ 71، تاريخ الطبري 1/ 324، تفسير الفخر الرازي 22/ 207، 26/ 214، ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 222- 223.

و الولد فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخله ذلك، فأخذت ذلك كله مني، و فرغت قلبي، فليس يحول بيني و بينك شي ء، لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني، قال فلقي إبليس من ذلك منكرا، قال و قال أيوب عليه السلام: يا رب إنك أعطيتني المال و الولد، فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته، و أنت تعلم ذلك، و إنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها، و أقول لنفسي يا نفسي إنك لم تخلقي لوطء الفراش، ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك (1).

هذا و قد أشار القرآن الكريم إلى محنة أيوب، و كيف أنه لجأ إلى اللّه طالبا كشف الضر عنه، و راجيا رحمة ربه، فاستجاب اللّه له فكشف عنه الضر و أبدله خيرا مما فقد منه، يقول تعالى: وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ (2)، و يقول صاحب الظلال: و قصة ابتلاء أيوب من أروع قصص الابتلاء، و النصوص القرآنية تشير إلى مجملها دون تفصيل، و هي في هذا الوضع تعرض دعاء أيوب، و استجابة اللّه للدعاء، لأن السياق (في سورة الأنبياء) سياق رحمة اللّه بأنبيائه و رعايته لهم في الابتلاء، سواء كان الابتلاء بتكذيب قومهم لهم و إيذائهم، كما في قصص إبراهيم و لوط و نوح، أو بالنعمة كما في قصة داود و سليمان، أو بالضر كما في حال أيوب (3).

على أن المفسرين أنما يذهبون مذاهب شتى في تفسيرهم لقول أيوب «أني مسني الضر»، فرواية تذهب إلى أن البلاء لما طال على أيوب رفضه

ص: 215


1- تفسير ابن كثير 3/ 103.
2- سورة الأنبياء: آية 83- 84.
3- في ظلال القرآن 4/ 2392.

القريب و البعيد، غير زوجته، إلا رجلان كانا يغدوان و يروحان إليه، فجاءا يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه، فقاما من بعيد، فقال أحدهما للآخر: لو كان اللّه علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا، فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع من شي ء قط، فقال اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان و أنا أعلم مكان جائع فصدقني، فصدق من في السماء و هما يسمعان، ثم قال اللهم أن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط، و أنا أعلم مكان عار، فصدقني، فصدق من في السماء و هما يسمعان، ثم قال اللهم بعزتك ثم خر ساجدا، فقال اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدا حتى تكشف عني، فما رفع رأسه حتى كشف عنه» (1).

و تذهب رواية أخرى إلى أن الشيطان وسوس إلى زوجته لو أن أيوب ذبح لي أو سجد أو أكل طعاما و لم يسم اللّه تعالى لعوفي مما هو فيه من البلاء، و في رواية ثالثة أنه قال: لو شئت فاسجد لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال و الولد، و أعافي زوجك، فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها، فقال لها أيوب: أتاك عدو اللّه ليفتنك عن دينك، ثم أقسم لئن عافاني اللّه لأجلدنك مائة جلدة، و قال عند ذلك «مسني الضر» يعني طمع إبليس في سجودي له و سجود زوجتي و دعائه إياها و إياي إلى الكفر، و في رواية رابعة قال وهب: كانت امرأة أيوب عليه السلام تعمل للناس و تأتيه بقوته، فلما طال عليه البلاء سئمها الناس فلم يستعملوها، فالتمست ذات يوم شيئا من الطعام فلم تجد شيئا، فجزت قرنا من رأسها فباعته برغيف فأتته به، فقال لها: أين قرنك، فأخبرته بذلك، فحينئذ قال: «مسني الضر»، و في رواية خامسة قال إسماعيل السّدى لم يقل أيوب: «مسني الضر» إلا لأشياء ثلاث:

أحدهما: قول الرجلين له لو كان عملك الذي كنا نرى للّه تعالى لما أصابك

ص: 216


1- تفسير ابن كثير 3/ 302- 303، و انظر: تفسير الفخر الرازي 22/ 206.

الذي أصابك، و ثانيهما: كان لامرأته ثلاث ذوائب، فعمدت إلى احداها و قطعتها و باعتها فأعطوها بذلك خبزا و لحما فجاءت إلى أيوب عليه السلام فقال من أين هذا؟ فقالت كل فإنه حلال، فلما كان من الغد لم تجد شيئا فباعت الثانية، و كذلك فعلت في اليوم الثالث، و قالت: كل فإنه حلال، فقال لا آكل ما لم تخبريني فأخبرته، فبلغ ذلك من أيوب ما اللّه به عليم، و قيل إنما باعت ذوائبها لأن إبليس تمثل لقوم في صورة بشر و قال: لئن تركتم أيوب في قريتكم، فإني أخاف أن يعدي إليكم ما به من العلة فأخرجوه إلى باب البلد، ثم قال لهم إن امرأته تدخل بيوتكم و تعمل و تمس زوجها، أما تخافون أن تعدي إليكم علته، فحينئذ لم يستعملها أحد فباعت ضفيرتها، و ثالثها: حين قالت له امرأته ما قالت، و أخيرا هناك رواية سادسة ذهبت إلى أن إبليس أتاها في هيئة عظيمة فقال لها: أنا إله الأرض فعلت بزوجك ما فعلت لأنه تركني و عبد إله السماء، فلو سجد لي سجدة رددت عليه و عليك جميع ما أخذت منكما (1).

على أن كثيرا من العلماء يرفضون معظم هذه الروايات فهي مشوبة بالإسرائيليات التي تطغى عليها، هذا فضلا من أن انتهاء هذا المرض الذي أصيب به أيوب إلى حد التنفير عنه غير جائز، لأن الأمراض المنفرة غير جائزة على الأنبياء عليهم السلام، و قد قرر علماء التوحيد أن الأنبياء منزهون عن الأمراض المنفرة، فكيف يتفق هذا مع منصب النبوة، و الصحيح أن المرض الذي ألم بأيوب عليه السلام لم يكن مرضا منفرا، و ليس فيه شي ء من هذه الأقوال العليلة و إنما هو مرض طبيعي و لكنه استمر به سنين عديدة، و هو أجل طويل لا يصبر عليه عادة لإنسان، ثم إن بلاءه لم يكن في جسمه فحسب، بل شمل المال و الأهل و الولد (2)، و لهذا قال تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ

ص: 217


1- تفسير الفخر الرازي 22/ 206- 208، تفسير روح المعاني 17/ 80.
2- الصابوني: النبوة و الأنبياء ص 267.

مَعَهُمْ، و من ثم فالحد المأمول من هذه القصة، كما يقول صاحب الظلال، أن أيوب عليه السلام كان، كما جاء في القرآن، عبدا صالحا أوابا، و قد ابتلاه اللّه فصبر صبرا جميلا، و يبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال و الأهل و الصحة جميعا، و لكنه ظل على صلته بربه و ثقته به و رضاه بما قسم له، و كان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له، و منهم زوجته، بأن اللّه لو كان يحب أيوب ما ابتلاه، و كانوا يحدثونه بهذا فيؤذونه في نفسه أشد مما يؤذيه الضر و البلاء، فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه اللّه لئن يضربنها عدد أعينه، قيل مائة (1).

و على أية حال، فلقد استجاب اللّه تعالى لدعاء عبده أيوب، فرفع عنه الضر في بدنه، فإذا هو معافى صحيح، و رفع عنه الضر في أهله فعوضه عمن فقد منهم، و رزقه مثلهم، و قيل هم أبناؤه فوهب اللّه له مثليهم أو أنه وهب له أبناء و أحفادا (2)، يقول تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ، وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (3)، فأما قوله تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ، أي اضرب الأرض، و هي أرض الجابية فيما يروي عن قتادة، برجلك، فامتثل ما أمر به فأنبع اللّه له عينا باردة الماء، و أمر أن يغتسل فيها و يشرب منها، فأذهب اللّه عنه ما كان يجده من الألم و الأذى و السقم و المرض الذي كان في جسده ظاهرا و باطنا، و أبدله اللّه بعد ذلك كله صحة ظاهرة و باطنة و جمالا تاما (4).

و قال بعض المفسرين نبعث له عينان فاغتسل من إحداهما و شرب

ص: 218


1- في ظلال القرآن 5/ 3021.
2- في ظلال القرآن 4/ 2392.
3- سورة ص: آية 42- 44.
4- البداية و النهاية 1/ 224.

الأخرى، فذهب الداء من ظاهره و من باطنه بإذن اللّه، و قيل ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها، ثم اليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها، فذهب الداء من ظاهرة و باطنة بإذن اللّه تعالى، و كساه اللّه حله، ثم خرج فجلس على مكان مشرف، و أقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه فلم تجده، فقامت كالوالهة متلددة، ثم قالت: يا عبد اللّه، هل لك علم بالرجل المبتلي الذي كان هاهنا، قال: لا، ثم تبسم، فعرفته بضحكه، فاعتنقته، و في الحديث الذي رواه ابن شهاب عن أنس بن مالك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:

«و كان يخرج إلى حاجته، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، و أوحى إلى أيوب في مكانه «أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد و شراب»، فاستبطأته، فتلقته تنظر، فأقبل عليها قد أذهب اللّه ما به من البلاء، و هو على أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك اللّه فيك، هل رأيت نبيّ اللّه هذا المبتلي، فو اللّه على ذلك ما رأيت أحدا أشبه به منك إذ كان صحيحا؟ قال: «فإني أنا هو» (1).

هذا و يذهب بعض المفسرين إلى أن اللّه تعالى، بعد أن أذهب عن أيوب كل آلامه، و عاد إليه شبابه و جماله، كأحسن مما كان و أفضل، جعل يتلفت و لا يرى شيئا مما كان له من أهل و مال، إلا و قد أضعفه اللّه له، حتى أن الماء الذي اغتسل به، تطاير على صدره جرادا من ذهب، قال: فجعل يضمه بيده، أخرج الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:

«بينما أيوب يغتسل عريانا خرّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب عليه الصلاة و السلام يحثو في ثوبه، فناداه ربه عز و جل، يا أيوب أ لم أكن أغنيتك عما ترى، قال عليه الصلاة و السلام: بلى يا رب، و لكن لا غنى بي عن

ص: 219


1- تفسير الطبري 17/ 68- 72، 23/ 166- 167، تفسير ابن كثير 4/ 60، تفسير الفخر الرازي 26/ 214- 215، تفسير روح المعاني 17/ 81، تفسير النسفي 4/ 43.

بركتك» (1)، انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرازق به (2)، و عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: لما عافى اللّه أيوب أمطر عليه جرادا من ذهب، فجعل يأخذ منه بيده و يجعله في ثوبه، قال فقيل له: يا أيوب أما تشبع، قال يا رب: «و من يشبع من رحمتك» (3).

هذا و قد اختلف أهل التأويل في أهل أيوب الذين قال اللّه تعالى فيهم في سورة الأنبياء: وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا، و في سورة ص: وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا، أهم أهله الذين أوتيهم في الدنيا، أم ذلك وعد وعده اللّه أيوب أن يفعل به في الآخرة؟ فقال بعضهم: إنما أتى اللّه أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا، فإنهم لم يردوا عليه في الدنيا، و إنما وعد اللّه أيوب أن يؤتيه إياهم في الآخرة (4)، أخرج ابن مردوية و ابن عساكر من طريق جويبر الضحاك عن ابن عباس، رضي اللّه تعالى عنهما، قال: سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن قوله تعالى:

وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ الآية، قال: رد اللّه تعالى امرأته و زاد في شبابها حتى ولدت له ستا و عشرين ذكرا»، فالمعنى على هذا آتيناه في الدنيا مثل أهله عددا، مع زيادة مثل آخر (5)، أو أنهم أبناؤه فوهب اللّه له مثيلهم، أو أنه وهب له أبناء و أحفادا (6)، و روى ابن جرير بسنده عن الليث قال: أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن قول اللّه لأيوب: وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فقال: قيل له: أن أهلك لك في الآخرة، فإن شئت

ص: 220


1- مسند الإمام أحمد 2/ 314.
2- صحيح البخاري 1/ 78، تفسير ابن كثير 4/ 61، تفسير روح المعاني 17/ 81.
3- تفسير ابن كثير 3/ 303.
4- تفسير الطبري 17/ 72.
5- تفسير روح المعاني 17/ 81.
6- في ظلال القرآن 4/ 2392.

عجلناهم لك في الدنيا، و إن شئت كانوا لك في الآخرة و آتيناك مثلهم في الدنيا، فقال: يكونون لي في الآخرة، و أوتي مثلهم في الدنيا، قال: فرجع إلى مجاهد فقال أصاب» (1).

على أن هناك وجها آخر للنظر، ذهب إليه ابن مسعود و ابن عباس و قتادة و مقاتل و الكلبي و كعب و الحسن البصري و السدى يقول إن اللّه تعالى أحيا له أهله، يعني أولادهم بأعيانهم، قال ابن مسعود: مات أولاده سبعة من الذكور، و سبعة من الإناث، فلما عوفي أحيوا له، و ولدت له امرأته سبعة بنين و سبع بنات، و قال ابن عباس: لما دعا أيوب استجاب اللّه له، و أبدله بكل شي ء ذهب له ضعفين، رد إليه أهله و مثلهم معهم، و في روح المعاني:

قال ابن مسعود و الحسن و قتادة في الآية: إن اللّه تعالى أحي له أولاده الذين هلكوا في بلائه، و أوتي مثلهم في الدنيا، و قال الألوسي: و الظاهر أن المثل من صلبه عليه السلام أيضا، و يميل الإمام الرازي إلى هذا الرأي الثاني لأنه هو الظاهر، فلا يجوز العدول عنه من غير ضرورة، غير أن صاحب الظلال يقول إنه ليس في النص ما يحتم أنه أحيا له من مات، و قد يكون معناه أنه بعودته إلى الصحة و العافية قد استرد أهله الذين كانوا بالنسبة إليه كالمفقودين، و أنه رزقه بغيرهم زيادة في الإنعام و الرحمة و الرعاية، مما يصلح ذكرى لذوي العقول و الإدراك، و يقول الأستاذ الصابوني في صفوة التفاسير إن القول بأن اللّه أحيا أولاده بعد موتهم فيه نظر، لأنه لا يرجع أحد إلى الدنيا بعد انتقاله منها، إلا ما كان من معجزة المسيح عليه السلام، و الصحيح أن اللّه تعالى عوّضه من زوجته أولادا مثل من فقدهم (2).

ص: 221


1- تفسير الطبري 17/ 72.
2- تفسير الفخر الرازي 22/ 210، 26/ 215، تفسير الطبري 17/ 72- 73، 23/ 167- 168، تفسير روح المعاني 17/ 81، تفسير ابن كثير 3/ 303- 304، 4/ 61، تفسير النسفي 3/ 87، في ظلال القرآن 5/ 3022، صفوة التفاسير 2/ 272.

و أما قوله تعالى: وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (1)، فأما «الضغث» فهو ما يحمل من شي ء مثل حزمة الرطبة، و كمل ء الكف من الشجر أو الحشيش و الشماريخ و نحو ذلك مما قام على ساق، و في تفسير النسفي هو حزمه صغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك، و عن ابن عباس: قبضة من الشجر، و عن قتادة: كانت امرأته قد عرضت له بأمر، و أرادها إبليس على شي ء، فقال: لو تكلمت بكذا و كذا، و إنما حملها عليها الجزع، فحلف نبيّ اللّه: لئن اللّه شفاه ليجلدنها مائة جلدة، قال: فأمر بغصن فيه تسعة و تسعون قضيبا، و الأصل تكملة المائة، فضربها ضربة واحدة، فأبر نبيّ اللّه، و خفف اللّه عن أمته، و اللّه رحيم، و في رواية في تفسير النسفي: كان أيوب حلف في مرضه ليضربن امرأته مائة إذا برأ، فحلل يمينه بأهون شي ء عليه و عليها لحسن خدمتها إياه، و هذه الرخصة باقية، و يجب أن يصيب المضروب كل واحدة من المائة، و السبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبة في حاجة، فخرج صدره، و قيل باعت ذؤابتيها برغيفين، و كانتا متعلق أيوب إذا قام، و يذهب الفخر الرازي إلى أنه يبعد ما قيل إنها رغبته في طاعة الشيطان، و يبعد أيضا أنها خالفته في بعض المهمات، و ذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برأ، و من ثم فرحمة من اللّه به و بزوجة التي قامت على رعايته و صبرت على بلائه و بلائها به، أمره اللّه أن يأخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذي حدده، فيضربها به ضربة واحدة، تجزئ عن يمينه فلا يحنث فيها (2).

و يذهب الرازي و النسفي إلى أن هذه الرخصة باقية، و هي اليوم في الناس

ص: 222


1- سورة ص: آية 44.
2- تفسير الطبري 23/ 168- 169، تفسير النسفي 4/ 43، تفسير الفخر الرازي 26/ 215، في ظلال القرآن 5/ 3022.

يمين أيوب من أخذ بها فهو حسن، و عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه أتى بمجذم خبث بأمة فقال: «خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة»، و هكذا أمر اللّه أيوب أن يبرّ بيمينه بأهون شي ء عليه و عليها، قال ابن كثير: و هذا من الفرج و المخرج لمن اتقى اللّه و أطاعه، و لا سيما في حق امرأته الصابرة المحتسبة، المكابدة الصّديقة، البارة الراشدة، و لهذا عقب اللّه هذه الرخصة و علّلها بقوله: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، ثم عقب ابن كثير على الرخصة بأن كثيرا من الفقهاء قد استعمل هذه الرخصة في باب الإيمان و النذور، و توسع آخرون فيها حتى وضعوا كتاب الحيل في الخلاص من الأيمان، و صدوره بهذه الآية، و أتوا فيه بأشياء من العجائب و الغرائب (1).

[2] سفر أيوب:-

من المعروف أن لأيوب عليه السلام سفرا في العهد القديم (2)، و مكانه في الترجمة السريانية (3) بين سفري التثنية و يشوع، و قد اختلف الباحثون في السفر و في صاحبه، فيرى فيه شراح التوراة القدامى تاريخا حقيقيا، و ينسبه بعضهم إلى موسى عليه السلام، غير أن كثيرا من الباحثين يرون أن أيوب أقدم من موسى (4)، عليهما السلام، بل و يحددون له تاريخا حوالي عام 1520 قبل الميلاد (5)، غير أن هناك فريقا يذهب إلى أن أيام عاش على أيام يعقوب عليه السلام (1780- 1633 ق. م) و قد تزوج من ابنته «دينة» (6)،

ص: 223


1- تفسير الفخر الرازي 26/ 215، تفسير النسفي 4/ 43، البداية و النهاية 1/ 224- 225.
2- انظر عن سفر أيوب (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 67- 73).
3- انظر عن الترجمة السريانية للتوراة (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 115).
4- أنظر عن تاريخ موسى عليه السلام و الآراء التي دارت حوله (محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 281- 455).
5- باروخ سبينوزا: رسالة في اللاهوت و السياسة- القاهرة 1971 ص 315 (مترجم.
6- نفس المرجع السابق ص 315، ثم قارن: تفسير روح المعاني 17/ 80، تاريخ الطبري 1/ 322، البداية و النهاية 1/ 221.

بدليل قول الكاتب في مستهل السفر «رجل في أرض عوص» (1)، فضلا عن الإشارة إليه في سفر حزقيال (2)، على أن فريقا رابعا، و منهم موسى بن ميمون و بعض الأحبار، أنما يحسبون سفر أيوب هذا مجرد قصة روائية للموعظة فحسب (3)، و بدهي أن هذا ليس صحيحا، فصاحب السفر هو نبيّ اللّه أيوب عليه السلام، و قصته صادقة، الصدق كل الصدق، كما أخبرنا القرآن الكريم و حديث المصطفى صلى اللّه عليه و سلم.

و يذهب الحبر اليهودي «إبراهام بن عزار» (1092- 1167 م)، و يوافقه سبينوزا و غيره، إلى أن سفر أيوب إنما قد ترجم إلى العبرية من لغة أخرى (4)، بل إن الترجمة السبعينية (5) للتوراة أنما تنص صراحة على أن السفر مترجم عن السريانية (الآرامية) (6)، و من هنا اتجه البعض إلى اعتبار أيوب عليه السلام، عربيا، و ليس يهوديا، و أن سفره هذا ما هو إلا ترجمة لأصل عربي مفقود (7)، و لعل الأديب الفرنسي «فرنسوا فولتير» (1694- 1778 م) كان أول من نادى في العصر الحديث بأن أيوب و سفره أقدم من التوراة، و أن العبريين قد أخذوه عن العرب و ترجموه إلى لغتهم، و يستدل على ذلك بأدلة، منها (أولا) أن اسم الشيطان الذي يشغل مكانا رئيسيا في السفر، ليس كلمة عبرية، بل كلدانية، و منها (ثانيا) أن أصدقاء أيوب إنما

ص: 224


1- أيوب 1/ 1.
2- حزقيال 14/ 14.
3- سبينوزا: المرجع السابق ص 315.
4- فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 144.
5- أنظر عن الترجمة السبعينية للتوراة (محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 107- 112).
6- فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 144.
7- ,nodnoL ,malsI fo esiR eht ot roirP seitilearsI dna sbarA neewteb snoitaleR ehT ,htuoilograM .D .D 30. p، 1924 و كذا, LSJA, retsoF. F 31. p، 1932 و كذا, aihpledalihP, elbiB eht dna aibarA, yremogtnoM. A. J 172. p، 1934 و كذا. P, tic- po, regnU. F. M 593.

كانوا فيما يبدو، من العرب، اليعازر من تيمان، و بلد كان شوحيا من منطقة السويس، فيما يرى فولتير، و صوفر كان من نعمات (1).

و منها (ثالثا) ما لاحظه الباحثون من ذكر «الجمال» عند الحديث على ثروة أيوب من الماشية، و نحن نعلم أن لحوم الإبل محرمة على اليهود، و أنها لم تذكر بين ثرواتهم إلا نادرا، بل إن اسم أيوب نفسه لا مثيل له في أسماء العبريين (2)، و منها (رابعا) ما جاء في السفر من أن أيوب رجل من أرض «عوص»، و أرض «عوص» هذه، و إن اختلف العلماء في مكانها، فالراجح عندهم أنها في بلاد العرب، أو في مناطق يسكنها عرب (أي في نجد و عمان أو في شمال بلاد العرب، في شمال غربي المدينة المنورة، أو في بلاد الشام، في حوران أو في اللجاة، أو على حدود و أدوم أو في أدوم نفسها، أو في شرقي فلسطين أو جنوبها الشرقي) و بعبارة أخرى، فهي أما في شبه الجزيرة العربية أو في بادية الشام (3)، و لعل تحديدها ببادية الشام ربما كان هو الأرجح، و ذلك لسببين، الأول: ما ذكره معظم المفسرين و المؤرخين من أن أيوب من ولد العيص، و هو عيسو بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، و الذي كان يسمى كذلك «أدوم» (الأحمر) و إليه ينسب الآدوميون الذين كانوا يسكنون في أقصى بلاد شرق الأردن و جنوب وادي الحسا، و الثاني: ما جاء في حديث أبي ذر المشهور في ذكر الأنبياء و المرسلين، حيث يقول سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: و أربعة من العرب: هود و صالح و شعيب

ص: 225


1- أيوب 2/ 11، حسن ظاظا: الفكر الديني الإسرائيلي ص 55، و كذا, reinnraG- siraP euqihPosolihP eriannoitciD, eriatloV. F 260- 257. p، 1954.
2- حسن ظاظا: المرجع السابق ص 56.
3- جواد علي: المرجع السابق 1/ 631، قاموس الكتاب المقدس 1/ 148، و كذا. P, elbiB eht fo yranoitciD A, sgnitsaH. J 469، 200.

و نبيك يا أبا ذر» (1) و في رواية «و أربعة من العرب: هود و صالح و شعيب و محمد عليه السلام» (2).

على أن هناك فريقا من العلماء يذهب إلى أن أيوب عليه السلام كان مصريا، و ذلك بدليل الأثر الثقافي المصري الذي يطل علينا من ثنايا هذا السفر في مواضع كثيرة، فسفر أيوب في الواقع ما هو إلا صورة صادقة لقصة المتشائم المصري القديم (3)، (اليائس من الحياة) (4)، هذا فضلا عن ذكره للأهرام و المقابر التي يبنيها الملوك لأنفسهم، و أخيرا ذكره للثواب و العقاب و الحياة بعد الموت، و عدم ضياع الناس في متاهات «شيول» (5)، كما آمن بذلك الأولون، و المعروف أن العبريين، طبقا لما جاء في كتبهم المتداولة اليوم، و ليس كما جاء بها أنبياء اللّه، قد عرفوا عقيدة الحياة بعد الموت في حقبة متأخرة من تاريخهم، ربما في القرنين الثالث و الثاني قبل الميلاد (6)، ).

ص: 226


1- تفسير ابن كثير 1/ 891- 892 (بيروت 1986)، البداية و النهاية 1/ 120.
2- تفسير النسفي 1/ 263- 264.
3- فؤاد حسنين: المرجع السابق ص 145.
4- أنظر: عن اليائس من الحياة (محمد بيومي مهران: الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراعنة ص 10- 12.
5- شيول: كان العبرانيون، كما يفهم من نصوص العهد القديم، يعتقدون أنه من غير الممكن للإنسان أن يتلقى البركات و حكم الرب إلا في هذه الدنيا فقط، و بجسده فقط، و العودة إلى الأرض هي البعث، ذلك لأن الروح تنزل عند الموت إلى عالم سفلي يدعى «شيول» (loehS)، و كانت شيول هذه، أو العالم السفلي، تعني نقيض ما تعني به الضوء و الحياة، و هي منطقة تقرب من العدم و النسيان، تنظر إلى البشر كوحوش، و تغلق عليهم أبوابها دونما أي احتمال للهروب، إن سكانها من الأموات مجرد ظلال، يتميزون بالضعف الشديد، و هم منقطعون عن تبعية الرب، «لأنه ليس في الموت ذكرك، في الهاوية من يحمدك» (مزمور 88/ 10، 107/ 18، أيوب 7/ 9، 26/ 5- 6، أمثال 2/ 18، إشعياء 14/ 9- 11، 26/ 14، 19، و كذا., stehporP tnematseT dlO ehT, notaeH. W. E (137. p، 1969.
6- أنظر عن الحياة بعد الموت عند بني إسرائيل (محمد بيومي مهران: النبوة و الأنبياء عند بني إسرائيل ص 102- 106).

الأمر الذي سبقهم إليه المصريون بآلاف السنين (1).

و على الجملة، و كما يقول الأستاذ العقاد، يبدو سفر أيوب غريبا في موضعه و موضوعه بين أسفار العهد القديم، و لم يكن من عادة بني إسرائيل أن يجمعوا كتابا لغير أنبيائهم المتحدثين عن ميثاقهم و ميعادهم، و لكنهم جمعوا هذا السفر مع الأسفار المشهورة لأنهم وجدوه في بقاع فلسطين الجنوبية، محفوظا يتذاكره الرواة، و حسبه بعضهم من كلام موسى، و بعضهم من كلام سليمان و لا عجب أن يشيع هذا الكتاب العجيب، حيث تسامع به الناس، فإنه عزاء للمتعزين، و عبرة صالحة للمعتبرين، و لا تزال قصة أيوب منظومة شائعة يتغنى بها شعراء اللغة الدارجة في مصر و الشام (2).

و أما زمن كتابة سفر أيوب، فهو موضع خلاف بين الباحثين، فهناك من يرجحه إلى عصر الآباء الأوائل، بل إن «هاليس» إنما يجعل من عام 2300 ق. م تاريخا لأيوب، اعتمادا على أن السفر لم يشر بكلمة واحدة إلى خروج بني إسرائيل من مصر، و الذي نراه حوالي عام 1214 ق. م (3)، فضلا عن المدن التي دمرتها الزلازل وقت ذاك، كما أنه لم يرد في صلب السفر أي ذكر ليهوه رب إسرائيل، و إنما ورد ذلك في المقدمة و الذيل، و هما مضافان بعد عصره، كما هو راجح عند شراح التوراة (4).

على أن هناك وجها آخر للنظر يذهب إلى أن سفر أيوب أنما كتب على أيام سليمان عليه السلام (960- 922 ق. م)، و حجتهم أنه يحمل بين ثناياه

ص: 227


1- حبيب سعيد: المدخل إلى الكتاب المقدس ص 153.
2- عباس العقاد: إبراهيم أبو الأنبياء ص 163.
3- أنظر عن تاريخ خروج بني إسرائيل من مصر و الآراء التي دارت حوله (محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 357- 439).
4- عباس العقاد: المرجع السابق ص 160- 161، قاموس الكتاب المقدس 1/ 148.

إشارات من ذلك العهد (1)، على أن هناك وجها ثالثا للنظر يذهب إلى أن السفر قد كتب قبل السبي البابلي (586- 539 ق. م)، و ربما في عصر النبي إرميا (626- 580 ق. م) بالذات، ذلك لأن النبي حزقيال (593- 572 ق.

م) إنما يذكر رجلا اسمه أيوب مثالا للبر، مع نوح و دانيال (2)، و أن ذهب البعض إلى أن حزقيال لم يستق الفكرة من سفر أيوب في وضعه الحالي، و لعل صورة من القصة النثرية كانت في ذهن النبي عن رجل خرج مبررا من أقسى تجربة، و أمر محنة جازها إنسان (3)، و أما الجزء الشعري من السفر، فيرجع إلى تاريخ متأخر، ذلك لأن الإيمان بإله واحد ثابت فيه بوضوح، فضلا عن محاولته الجادة تبرئة نفسه من خطيئة عبادة الشمس و القمر، و وصفه للّه القدير بأنه أعلى من في السموات، و أعمق من الهاوية، و أعرض من البحر، و لم يذكر شيئا عن «البعل» و غيره من الآلهة الوثنية التي عبدتها الشعوب قبل السبي البابلي (4)، و أخيرا فهناك وجه رابع للنظر يذهب إلى أن سفر أيوب إنما كتب بعد السبي البابلي بسبب الصراع الواضح فيه بشأن الثواب و العقاب (5).

و أما لغة سفر أيوب ففيها تأثيرات أرامية و عربية لا تخطئها العين (6)، و ربما تشير إلى تاريخ متأخر لكتابة السفر (7)، و من ثم ذهب البعض إلى

ص: 228


1- قارن: أيوب 15/ 8، 26/ 1- 14، بالإصحاح الثامن من سفر الأمثال (. P, tic- po, regnU. F. M (594.
2- حزقيال 14/ 14.
3- حبيب سعيد: المرجع السابق ص 153.
4- أيوب 31/ 26- 28، عباس العقاد: المرجع السابق ص 161، حبيب سعيد: المرجع السابق ص 153.
5- قاموس الكتاب المقدس 1/ 148.
6- F. P, tic- po, htuoilograM. S. D 149. و كذا. P, tic- po, yremogtnoM. A. j 15، 8.
7- قاموس الكتاب المقدس 1/ 148.

أنه إنما كتب حوالي عام 400 ق. م (1)، و فضل آخرون القول بأنه كتب خلال القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد (2).

و أيا ما كان الأمر، فإننا لا نعرف سفرا من أسفار التوراة ظفر في رأي النقاد بالإعجاب الأدبي، الذي ظفر به سفر أيوب، فقال «توماس كارليل» عنه: «إنه واحد من أجل الأشياء التي وعتها الكتابة، و إنه أقدم المأثورات عن تلك القضية التي لا تنتهي، قضية الإنسان و القدر، و الأساليب الإلهية معه على هذه الأرض، و لا أحسب أن شيئا كتب مما يضارعه في قيمته الأدبية»، و قال «فيكتور هيجو»: إنه ربما كان أعظم آية أخرجتها بصيرة الإنسان»، و قال «شاف»: إنه يرتفع كالهرم في تاريخ الأدب، بلا سابقة و بغير نظير» (3).

ص: 229


1- . P, tic- po, regnU. F. M 594.
2- حبيب سعيد: المرجع السابق ص 153.
3- عباس العقاد: المرجع السابق ص 162.

ص: 230

الفصل الثّاني إلياس و إليسع عليهما السّلام

[1] إلياس عليه السلام:-

جاء ذكر إلياس عليه السلام في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع، في آية من سورة الأنعام و في آيتين من سورة الصافات (1)، أولاهما ذكر فيه لفظ «إلياس»، و في الثانية ذكر لفظ إلياسين قال تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ، قال ابن كثير: أي إلياس، و العرب تلحق النون في أسماء كثيرة، و تبدلها من غيرها، كما يقال إسماعيل و إسماعين و إسرائيل و إسرائين، و إلياس و إلياسين، و هي لغة بني أسد (2)، و يقول صاحب الظلال: و نقف هنا لنلم بالناحية الفنية في الآية: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ، و قد روعيت الفاصلة و إيقاعها الموسيقى في إرجاع اسم إلياس بصيغة «إلياسين» على طريق القرآن في ملاحظة تناسق الإيقاع في التعبير (3).

هذا و قد ذهب فريق من علماء السلف إلى أن إلياس هو إدريس عليه السلام، قال قتادة و ابن إسحاق يقال: إلياس هو ادريس، و كذا قال عكرمة، و روى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد اللّه بن مسعود قال: إلياس هو إدريس،

ص: 231


1- سورة الأنعام: آية 85، الصافات: آية 123- 132.
2- ابن كثير: البداية و النهاية 1/ 339، التفسير 4/ 31.
3- في ظلال القرمان 5/ 2998.

و كذا قال الضحاك، على أن هناك فريقا آخر، و هو أكثر المفسرين، يذهب إلى أن إلياس إنما هو نبيّ من أنبياء بني إسرائيل، و هو إلياس بن ياسين من ولد هارون أخي موسى عليه السلام، و أن اللّه تعالى بعثه في بني إسرائيل بعد حزقيل، عليهما السلام، و كانوا قد عبدوا صنما يقال له «بعل» فدعاهم إلى اللّه تعالى، و نهاهم عن عبادة ما سواه (1).

و لعنا نستطيع القول، و لكن بحذر (2)، إن إلياس النبي عليه السلام الذي جاء ذكره في القرآن الكريم، إنما هو «إيليا» (و هو صيغة مختصرة من إلياهو بمعنى اللّه يهوه) الذي جاء ذكره في العهد القديم، معتمدين في ذلك على قصة هذا النبي الكريم، كما جاءت في التوراة و القرآن العظيم، فقصة التوراة تشير إلى عبادة «بعل» في إسرائيل على أيام الملك «أخاب» (869- 850 ق. م) و زوجه «إيزابيل» الصورية، ثم معارضة إيليا العنيفة لهذه الوثنية الصورية و دعوته إلى عبادة اللّه (يهوه) رب إسرائيل (3)، و أما في القرآن الكريم، فقد ذكر إلياس عليه السلام في سورة الأنعام حيث يقول تعالى: وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (4)، و في سورة الصافات، حيث يقول تعالى: وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ، أَ تَدْعُونَ بَعْلًا وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي

ص: 232


1- تفسير النسفي 4/ 27، تفسير ابن كثير 4/ 30، تفسير الطبري 23/ 91- 92، تفسير الفخر الرازي 26/ 161.
2- الأرجح، فيما يرى صاحب الظلال (5/ 2997) أنه النبي المعروف في العهد القديم باسم إيلياء.
3- ملوك أول 16/ 29- 33.
4- سورة الأنعام: آية 85، و انظر: تفسير المنار 7/ 487- 490، تفسير الطبري 11/ 508 510، تفسير ابن كثير 2/ 247- 248.

الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (1).

هذا و قد اختلف المفسرون في قوله تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ، فقال بعضهم: هو اسم إلياس، و أنه كان يسمى باسمين: إلياس و إلياسين، مثل إبراهيم و إبراهام، و يستشهد على ذلك أن ذلك كذلك بأن جميع ما في السورة من قوله «سلام»، فإنه سلام على النبي الذي ذكر دون آلة، فكذلك إلياسين إنما هو سلام على إلياس دون آلة، أو كما ذكرنا من قبل أنه إلياس بن ياسين، فكان إلياس آل ياسين، على أن هناك وجها آخر للنظر يذهب إلى أن المراد «آل سيدنا محمد صلى اللّه عليه و سلم»، فقد قرأ عامة قراء المدينة «سلام على آل ياسين» بقطع آل من ياسين، فكان بعضهم يتأول ذلك بمعنى سلام على مال محمد صلى اللّه عليه و سلم، بينما ذهب فريق ثالث أن ياسين اسم القرآن، كأنه قيل سلام اللّه على من آمن بكتاب اللّه الذي هو ياسين (2).

هذا و يقدم العهد القديم قصة النبي الكريم في سفر الملوك الأول، فيروي أن «أخاب بن عمري» ملك إسرائيل، قد اقترف كل أنواع الشرور، التي اقترفها أسلافه من قبل، و لعل السبب في ذلك أن أخاب كان قد تزوج من «إيزابيل» بنت «إيثبعل» ملك صور، و التي كانت ذات شخصية قوية، و من ثم فقد استطاعت أن تسيطر على زوجها تماما، و قد أثار هذا الزواج

ص: 233


1- سورة الصافات: آية 123- 132، و انظر: تفسير البيضاوي 2/ 299، تفسير النسفي 4/ 27- 28، تفسير روح المعاني 23/ 138- 142، تفسير ابن كثير 4/ 30- 32، تفسير القرطبي ص 5551- 5554، تفسير الطبري 23/ 91- 96، تفسير الفخر الرازي 26/ 160- 162، تفسير الجلالين ص 398، تفسير القاسمي 14/ 5059- 5061، تفسير مجمع البيان 23/ 80- 82، (و انظر: الثعلبي: قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس ص 223- 229، أبو الحسن علي الماوردي: أعلام النبوة- القاهرة 1971 ص 52).
2- تفسير الطبري 23/ 95- 96، تفسير ابن كثير 4/ 31، تفسير الفخر الرازي 26/ 162.

معارضة قوية في إسرائيل، تزعمها النبي إيليا، ذلك لأن «إيزابيل» (1) الصورية لم تأت في الواقع لإسرائيل بأفكار الحكم المطلق الغريبة عن التصور العبري التقليدي عن الملكية فحسب، و إنما حاولت كذلك احلال آلهة الفينيقيين الوثنية شيئا فشيئا محل عبادة اللّه في مملكة إسرائيل، و ليس هناك من ريب في أن إيزابيل و حاشيتها الصورية كانوا يمارسون ديانتهم

ص: 234


1- ليس صحيحا ما ذهبت إليه بعض المراجع العربية من أن هذه الملكة الصورية إيزابيل (أربيل كما يدعونها) ابنة ملك سبأ، و أنها تزوجت بعد أخاب (لاجب أو آجب كما يدعونه) سبعة من ملوك إسرائيل و قتلهم بالاغتيال، و أنها ولدت سبعين ولدا، و كانت معمرة، و أنها هي التي قتلت يحيى عليه السلام (الماوردي: أعلام النبوة ص 52، الثعلبي: قصص الأنبياء ص 224)، و ربما اختلط الأمر عليهم بين هذه الملكة إيزابيل الصورية، و بين ابنتها «عثليا» التي تزوجت من «يهورام» (849- 842 ق. م) ملك يهوذا، و قد سيطرت على زوجها كأمها، و أدخلت عبادة «البعل» في يهوذا، كما جعلت القتل وسيلة من وسائل سياسة الدولة، و هكذا نتيجة لتأثيرها القوي و غير المحدود على زوجها، فإنه لم يحتضن عبادة «بعل» مدينة صور فحسب، بل إنه عقد العزم كذلك على تثبيتها كديانة رسمية للبلاد، و ربما لكي يزيل المعارضة عن هدفه في سياسة عبادة الأوثان، فقد قتل إخوته الستة، كما قتل كثيرا من النبلاء، و إن كان التنافس على العرش ربما لعب دوره في هذه المجزرة المروعة، و على أية حال، فلقد خلفه ولده أخزيا من عثليا ابنة إيزابيل و أخاب، و لكنه قتل بعد عام، فانتهزت عثليا الفرصة، و كانت شديدة الرغبة في الحكم، فقتلت أبناء الأسرة المالكة جميعا (إلا طفلا خبأه الكاهن الأكبر في المعبد) ثم أعلنت عبادة بعل صور كعبادة رسمية في العاصمة القدس و في جميع أنحاء البلاد، بل إن هناك من يذهب إلى أنها كانت تخطط لإقامة أسرة ملكية جديدة في القدس من وطنها صور، رغم أنها صورية الأم، إسرائيلية الأب، غير أن حياتها انتهت فجأة، أما بمؤامرة من الجيش أو بتمرد شعبي عام ضد عبادة البعل، الذي سادت عبادته في دويلتي إسرائيل و يهوذا، و إن اعتبرت عبادته في يهوذا عبادة رسمية تعتنقها الدولة نفسها، و أما قتلها ليحيى عليه السلام فغير صحيح، لأن عهودها يسبق عهد يحيى بما يقرب من ثمانية قرون و نصف القرن، كما أن الذي قتل يحيى عليه السلام أنما هو هيرودوس إرضاء لهيروديا و ابنتها سالومي، كما سنرى فيما بعد (ملوك ثان 8/ 8- 22، 11/ 1، أخبار أيام ثان 21/ 1- 10، 22/ 10، إنجيل متى 14/ 3- 12، مرقس 6/ 16- 30، تاريخ يوسفيوس ص 214، محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 916، 960- 694، و كذا-. P, tic- po, sdOL. A 385- 384. P, tic- po, nietspE. I 47. و كذا. P, tic- po, htoR. C 32. و كذا.

الصورية الوثنية في معبد أنشئ في «السامرة» (1) نفسها من أجل هذا الغرض (2).

و على أي حال، فلم تكن هذه الديانات هي عبادة الدولة الرسمية، فقد ظلت عبادة اللّه هي العبادة الرسمية، و إن كان الملك نفسه، فيما تروي التوراة، قد عبد «البعل» و سجد له (3)، كما أن وجود هذه الديانة الأجنبية و عبادتها في العاصمة السامرة، قد أثار مقاومة التقاليد القديمة الصارمة للقبائل الإسرائيلية التي كانت تعتبر خدمة «يهوه» هو هدفها النهائي (4)، و قد تزعم النبي «إيليا» الثورة ضد أخاب و زوجه إيزابيل اللذين جهدا لإلغاء عبادة اللّه، و احلال عبادة البعل في مكانها، فهدما مذابح رب إسرائيل و قتلا أنبياءه، و من ثم فقد اندفع إيليا في طول البلاد و عرضها كالإعصار مهددا متوعدا بأنه لا ظل و لا مطر في هذه السنين، و في السنة الثالثة يقول الرب لإيليا «اذهب و تراء لأخاب فأعطي مطرا على وجه الأرض» (5).

و مع أن المجاعة كانت شديدة في كل مكان، إلا أنها كانت في السامرة أشد قسوة، و أعنف ضراوة، و يطلب النبي إيليا من أخاب أن يدعو كل

ص: 235


1- حكم عمري والد أخاب إسرائيل من «ترزة» و لكنه في عام حكمه السادس (حوالي عام 870 ق. م) أقام عاصمة إسرائيل الجديدة في «السامرة»، و هي سبسطية الحالية على مبعدة ستة أميال شمال غرب شكيم شرقي نابلس، في موقع استراتيجي هام، و قد سميت السامرة نسبة إلى شامر صاحب التل الذي أقيمت فوقه، و إن رأى البعض أن الاسم بمعنى مركز المراقبة أو جبل المراقبة و قد قامت عدة هيئات علمية بحفريات في السامرة، لعل أهمها ما كان في أعوام 1908/ 1910، 1931/ 1933، 1935 (أنظر التفصيلات و المراجع: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 900- 902).
2- ج. كونتنو: الحضارة الفينيقية ص 74، و انظر تفسير الطبري 23/ 92- 93.
3- ملوك أول 16/ 31.
4- . 242. P, tic- po, htoN. M
5- ملوك أول 17/ 1- 19/ 21، إنجيل لوقا 4/ 25- 26، رسالة يعقوب 5/ 17.

إسرائيل إلى جبل الكرمل، حيث يلتقي هناك سدنة البعل، و عددهم 450 سادنا، و كذا سدنة السواري (1) الذين يعيشون على مائدة إيزابيل، عددهم 400 سادنا، و أصدر أخاب أمره الملكي باستدعاء «جميع بني إسرائيل و جميع الأنبياء إلى الكرمل»، و طلب منهم إيليا أن يدعو بعولهم و أصنامهم أن تنزل عليهم المطر، فإن استجابت، فهم على حق، و إن لم تستجب، فهم على باطل، فدعوا فلم تستجب لهم، و دعا إيليا ربه فاستجاب له، و أرسل اللّه المطر فأغاثهم، فحييت بلادهم و فرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، ثم أمر إيليا القوم أن «امسكوا أنبياء البعل، و لا يفلت منهم رجل، فأمسكوهم فنزل بهم إيليا إلى نهر «ميشون» (نهر المقطع في وسط سهل مرج ابن عامر) و ذبحهم»، و تسمع إيزابيل بما حدث، و في غضب مرير تنذر قتل إيليا، (انتقاما منه لقتله كهنة البعل، و لكن إيليا يترك إسرائيل إلى جبل حوريب، بعد أن يعهد إلى حواريه «اليسع» الذي يتولى الدعوة من بعده (2).

هذا و قد اختلفت المصادر العربية في عبادة البعل (3) و مكانها، قال ابن ).

ص: 236


1- انظر عن السواري و أهميتها الدينية في إسرائيل (محمد بيومي مهران: إسرائيل 4/ 123- 124).
2- ملوك أول 18/ 1- 19/ 17، و انظر: تاريخ الطبري 1/ 462- 464 (بيروت 1984).
3- البعل: و جمعه بعليم أو بعاليم، و هو اسم سامي بمعنى، «سيد أو رب أو زوج»، و قد جرى بعض الباحثين على اعتبار «بعل» إلها وثنيا معينا، و هذا فيما يرى كونتنو، خلط يحسن أن يزول، فإن اللفظ يطلق على الآلهة الوثنية بوجه عام، فيما عدا إطلاقه في نصوص رأس الشمرا على الإله الوثني الأكبر «بعل»، فيقال، فيما عدا ذلك، بعل هذا الإقليم أو ذاك مثل بعل صور، و بعل لبنان، بمعنى سيد صور و سيد لبنان، و بما أنه كان لأغلب المدن الفينيقية بعولة يقدسونها، فكل بعل يوصف في الغالب باسم المكان الذي يعبد فيه، مثل «بعل روش» (سيد الرأس) و بعل آسافون (سيد الشمال) و بعل شمين (سيد السماوات)، و بعل لبنان (سيد لبنان)، كما كان الاسم من أسمائه يبتدئ غالبا ببعل و ينتهي باسم تلك البلاد أو المدينة الموجود فيها أو بشي ء ينسب إليه، مثل بعل فعور، و بعل زبوب، و بعلبك، و كان بعل إلها و ثنيا كنعانيا فينيقيا، و هو، في عقيدة القوم، ابن الإله إيل، و زوج الآلهة بعلة أو عشيرة أو عنات أو عشتارت، و كان إله المزارع و رب الخصب في الحقول و المواشي، كما كان يتولى أمر القمم العالية و العواصف و الرعد و المطر، و يصور على هيئة محارب ذي خوذة ممسك بيده صاعقة أمور، مما يجعل هويته نفس هوية الإله الكبير المعروف في سورية العليا ولدى الحيثيين و الحوريين أيضا، و هو على الجملة إله أسيوي، و قد أولع أهل المشرق بعبادة البعل فكان يضحون بالذبائح البشرية على مذابحه، و يقيمون هياكله على الأماكن المرتفعة كالجبال و التلال، و قد صار البعل بعد ذلك عشرة للإسرائيليين الذين كسروا شريعة اللّه تعالى حين أدخلوا عبادته إلى بلادهم، كما كان للبعل كهنة كثيرون يخدعون الناس بسحرهم و شعوذتهم، كما رأينا في قصة إيليا، كما روتها توراة اليهود (كونتنو: الحضارة الفينيقية ص 104، 119- 120، قاموس الكتاب المقدس 1/ 181- 182).

عباس و مجاهد و عكرمة و قتادة و السدي: بعلا يعني ربا، قال عكرمة و قتادة:

و هي لغة أهل اليمن، و في رواية عن قتادة هي لغة أزد شنوءة، و قال عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم عن أبيه هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال لها بعلبك غربي دمشق، و قال الضحاك هو اسم صنم كانوا يعبدونه، و في تفسير النسفي: بعل اسم صنم من الذهب كان موضعه يقال له «بك» فركب و صار «بعلبك» و هي من بلاد الشام، و قال الرازي في التفسير الكبير: في بعل قولان، أحدهما: أنه اسم علم لصنم كان لهم كمناة و هبل، و قيل كان من ذهب، و كان طوله عشرين ذراعا، و له أربعة أوجه، و فتنوا به و عظموه، حتى عينوا له أربعمائة سادن و جعلوهم أنبياء، و باسم هذا الصنم سميت مدينتهم بعلبك، و ثانيهما: أن البعل هو الرب بلغة اليمن، يقال: من بعل هذه الدار، أي من ربها، و سمي الزوج بعلا لهذا المعنى، قال تعالى:

وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ، و قال تعالى: وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً فعلى هذا التقدير المعنى: أ تعبدون بعض البعول و تتركون عبادة اللّه؟ و قال صاحب الظلال إن إلياس أرسل إلى قوم في سورية كانوا يعبدون صنما كانوا يسمونه بعلا، و ما تزال آثار مدينة بعلبك تدل على آثار هذه العبادة (1).

ص: 237


1- تفسير الفخر الرازي 26/ 161، تفسير النسفي 4/ 28، تفسير ابن كثير 4/ 31، في ظلال القرآن 5/ 2997.

و قال ابن إسحاق: سمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بعل إلا امرأة يعبدونها من دون اللّه، يقول اللّه لمحمد: وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ- إلى قوله: اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فجعل إلياس يدعوهم إلى اللّه، و جعلوا لا يسمعون منه شيئا، ألا ما كان من ذلك الملك، و الملوك متفرقة بالشام، كل ملك له ناحية منها يأكلها، فقال ذلك الملك الذي كان إلياس معه يقوّم له أمره، و يراه على هدى من بين أصحابه، يوما يا إلياس: و اللّه ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلا، و اللّه ما أرى فلانا و فلانا، يعدّد ملوكا من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان من دون اللّه، إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون و يشربون و ينعمون مملكين، ما ينقص دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل، و ما نرى لنا عليهم من فضل، فيزعمون و اللّه أعلم، أن إلياس استرجع و قام شعر رأسه و جلده، ثم رفضه و خرج عنه، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه: عبد الأصنام، و صنع ما يصنعون، فقال إلياس: اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلا أن يكفروا بك، و العبادة لغيرك فغيّر ما بهم من نعمتك»، قال (أي ابن إسحاق) فذكر لي أنه أوحى إليه: إنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك و إليك، حتى تكون أنت الذي تأذن في ذلك، فقال إلياس:

اللهم فامسك عليهم المطر، فحبس عنهم ثلاث سنين، حتى هلكت الماشية و الهوام و الدواب و الشجر و جهد الناس جهدا شديدا، و في رواية عن وهب ابن منبه: أنهم سألوه أن يكشف ذلك عنهم و وعدوه الإيمان، أن هم أصابهم المطر، فدعا اللّه تعالى لهم فجاءهم الغيث، فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر فسأل اللّه أن يقبضه إليه، و كان قد نشأ على يديه «اليسع بن أخطوب» عليهما السلام، فأمر إلياس أن يذهب إلى مكان كذا و كذا، فمهما جاءه فليركبه و لا يهبه، فجاءته فرس من نار، فركب و ألبسه اللّه تعالى النور و كساه الريش، و كان يطير مع الملائكة إنسيا سماويا أرضيا، و في تفسير النسفي: قيل في إلياس و الخضر إنهما حيان، و قيل إلياس و كل بالفيافي،

ص: 238

كما و كل الخضر بالبحار، و الحسن يقول: قد هلك إلياس و الخضر، و لا تقول كما يقول الناس: أنهما حيان (1).

و أما متى كان عصر إلياس عليه السلام، فالثابت من نصوص العهد القديم، و بعض المصادر العربية، فضلا عن المؤرخين المحدثين، أن إلياس إنما أرسل إلى بني إسرائيل على أيام الملك أخاب بن عمري، ملك إسرائيل في الفترة (869- 850 ق. م) (2)، أي أن إلياس عليه السلام كان يعيش في القرن التاسع قبل الميلاد، و ربما في النصف الأول من هذا القرن التاسع ق. م.

[2] اليسع عليه السلام:-

أوجز القرآن الكريم عن حياته عليه السلام فلم يذكر عنها شيئا، و اكتفى بذكره بين مجموعة الأنبياء الكرام البررة الذين يجب الإيمان بهم إجمالا، و ذلك في سورتي الأنعام و ص، يقول اللّه تعالى: وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ، و يقول تعالى: وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (3).

و اليسع، في روايات العهد القديم، هو «اليشع بن شافاط» (4)، و في

ص: 239


1- تفسير الطبري 23/ 93- 94، تفسير ابن كثير 4/ 31، تاريخ الطبري 1/ 463- 464، تفسير النسفي 1/ 28.
2- أنظر عن عهد أخاب (محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 903- 913).
3- سورة الأنعام: آية 86، سورة ص: آية 48، و انظر: تفسير الطبري 11/ 510- 512، 23/ 172- 173، تفسير الفخر الرازي 13/ 64- 65، 26/ 216- 217، تفسير روح المعاني 7/ 218- 219، 23/ 211- 212، تفسير ابن كثير 2/ 247- 248، 4/ 62، تفسير الكشاف 2/ 34، تفسير البيضاوي 2/ 312، تفسير المنار 7/ 487- 491 تفسير القرطبي ص 2467- 2469، 5662- 5663، تفسير أبي السعود 2/ 245.
4- ملوك أول 19/ 16.

المصادر العربية، هو «اليسع بن أخطوب» من سبط أفرايم، و قيل ابن عم إلياس، و قال ابن عساكر: اسمه أسباط بن عدي بن شوليم بن أفرايم (1)، و في تفسير الطبري: أن إلياس عند ما دعا على بني إسرائيل، فحبس المطر عنهم ثلاث سنين حتى هلكت الماشية و الهوام و الدواب و الشجر و جهد الناس جهدا شديدا، استخفى إلياس عن الناس شفقة على نفسه منهم، ثم إنه آوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له «اليسع بن أخطوب»، به ضرّ، فآوته و أخفت أمره، فدعا إلياس لابنها فعوفي من الضرّ الذي كان به، و اتبع اليسع إلياس، فآمن به و صدقه و لزمه، فكان يذهب معه حيثما ذهب (2).

و يذهب بعض المفسرين إلى أن «اليسع» معرب الإسم العبراني «يوشع» فهو اسم أعجمي دخلت عليه لام التعريف، على خلاف القياس، بينما ذهب آخرون إلى أنه اسم عربي منقول من «يسع» مضارع «وسع»، و أنه من ولد إسماعيل عليه السلام، و يذهب صاحب تفسير المنار إلى أنه تعريب «اليشع»، و هو أحد «أنبياء بني إسرائيل و كان خليفة إلياس (إيليا) و من المعهود في نقل الإسم العبري إلى العربي إبدال الشين المعجمة بالمهملة (3)، و هذا ما نميل إليه و نرجحه، روى عن وهبه بن منبه أن اللّه قبض حزقيل و عظمت في بني إسرائيل الأحداث، و نسوا ما كان من عهد اللّه إليهم، حتى نصبوا الأوثان و عبدوها دون اللّه، فبعث اللّه إليهم إلياس من ولدها هارون نبيا و إنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة، فكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال ).

ص: 240


1- تاريخ ابن خلدون 2/ 129- 130.
2- تفسير الطبري 23/ 93.
3- تفسير المنار 7/ 490- 491 (القاهرة 1974)، تفسير القرطبي ص 2468- 2469 (القاهرة 1970).

له «أحاب» كان اسم امرأته «أربل»، و كان يسمع منه و يصدقه، و كان إلياس يقيم له أمره، و كان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون اللّه يقال له «بعل» (1).

و قد جاءت قصة اليسع (اليشع) مفصلة في سفر الملوك الثاني (2- 9) من العهد القديم، و عاش على أيام ملك إسرائيل «يهورام» (849- 842 ق.

م) آخر ملوك أسرة عمري، و نقرأ في سفر الملوك الأول أن الرب أمر إيليا أن «امسح اليشع بن شافاط من آبل محوله، نبيا عوضا عنك»، فذهب إيليا و وجد اليشع «يحرث و اثنا عشر فدان بقر قدامه و هو مع الثاني عشر، فمر إيليا و طرح رداءه عليه، فترك البقر و ركض وراء إيليا و قال: دعني أقبل أبي و أمي و أسير وراءك، فقال له اذهب راجعا لأني ما ذا فعلت لك، فرجع من ورائه و أخذ فدان بقر و ذبحهما و سلق اللحم بأدوات البقر، و أعطى الشعب فأكلوا، ثم قام و مضى وراء إيليا و كان يخدمه» (2)، ثم تولى الدعوة إلى اللّه تعالى بعد إلياس كما سار على نهجه و شريعته.

ص: 241


1- تفسير الطبري 23/ 92- 93، تاريخ الطبري 1/ 461.
2- ملوك أول 19/ 16، 19- 21.

ص: 242

الفصل الثّالث زكريّا و يحيى عليهما السّلام

اشارة

جاء ذكر زكريا و ولده يحيى عليهما السلام في عدة سور من القرآن الكريم، منها ما جاء في سورة آل عمران في قوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ، فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ، قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ، قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (1)، و في قوله تعالى في سورة مريم: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا، قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا، قالَ رَبِ

ص: 243


1- سورة آل عمران: آية 37- 41، و انظر: تفسير النسفي 1/ 155- 157، تفسير روح المعاني 3/ 139- 154، تفسير الطبري 3/ 243- 262، في ظلال القرآن 1/ 393- 396، تفسير الفخر الرازي 8/ 29- 42، تفسير ابن كثير 1/ 539- 542، البداية و النهاية 2/ 47- 55، صفوة التفاسير 1/ 199- 201، تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/ 181- 182، تفسير القرطبي ص 1314- 1324.

أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً، قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا، فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا، يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا، وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (1)، كما جاء ذكرهما في سورتي الأنعام (آية 85) و الأنبياء (الآيات 89- 90).

و لعل مما تجدر الإشارة إليه أن هناك بين القصة، كما جاءت في سورتي آل عمران و مريم، بعض المقابلات، منها (أولا) أن اللّه تعالى بيّن في سورة مريم أن زكريا دعا ربه و لم يبين الوقت، بينما بيّنه في آل عمران بقوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، و المعنى أن زكريا لما رأى خرق العادة في حق مريم طمع فيه في حق نفسه فدعا، و منها (ثانيا) أن اللّه تعالى صرح في آل عمران بأن المنادى هو الملائكة لقوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ، و في سورة مريم الأظهر أن المنادى بقوله تعالى: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ هو اللّه تعالى، و لا منافاة بين الأمرين، و منها (ثالثا) أنه قال في آل عمران: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ، فذكر أولا كبر نفسه، ثم عقر المرأة، و في سورة مريم قال: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، و جوابه أن الواو لا تقتضي الترتيب، و منها (رابعا) قال

ص: 244


1- سورة مريم: آية 2- 15، تفسير روح المعاني 16/ 58- 74، تفسير الطبري 16/ 45- 59، في ظلال القرآن 4/ 2301- 2304، تفسير الفخر الرازي 21/ 179- 194، تفسير النسفي 3/ 28- 30، تفسير ابن كثير 3/ 179- 185.

تعالى في آل عمران؛ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً، و في مريم: ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا، و قد دلت الآيتان أن المراد ثلاثة أيام بلياليهنّ (1).

هذا و قد كان زكريا قد كفل مريم أم المسيح عليهم السلام، بعد وفاة أبيها عمران، فقد كان زوجها لخالتها، أو أختها، على الأرجح، كما سنرى إن شاء اللّه فيما بعد عند الحديث عن مريم البتول، و اتخذ لها محرابا (2)، و هو المكان الشريف في المسجد، لا يدخله عليها أحد سواه، و قد شاء اللّه تعالى أن يطلعه على كرامة مريم، و جليل قدرها، فكان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا: قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، و كان زكريا عليه السلام قد بلغ من الكبر عتيا، و كانت امرأته عاقرا، قال ابن عباس: كان ابن عشرين و مائة سنة، و كانت امرأته بنت تسع و تسعين (3)، فلما رأى من كرامات اللّه تعالى ).

ص: 245


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 195.
2- المحراب: هو الموضع العالي الشريف، و احتج الأصمعي على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ، و التسور لا يكون إلا من علو، و قيل المحراب أشرف المجالس و أرفعها، قال أبو عبيدة: سيد المجالس و أشرفها و مقدمها، و كذلك هو من المسجد، بل هو المكان الشريف في المسجد أو موقف الإمام، و يقول الألوسي: اعلم أن الصلاة في المحاريب المشهورة الموجودة الآن في مساجد المسلمين قد كرهها جماعة من الأئمة، و إلى ذلك ذهب سيدنا الإمام على كرم اللّه وجهه في الجنة، و إبراهيم رحمه اللّه، فيما أخرجه عنهما ابن أبي شيبة، و هي من البدع التي لم تكن في العصر الأول، فعن أبي موسى الجهني قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «لا يزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى»، و عن عبد اللّه بن أبي الجعد قال: «كان أصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم يقولون: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد»، و عن ابن عمر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «اتقوا هذه المذابح»، يعني المحاريب، و الروايات في ذلك كثيرة، و للإمام السيوطي رسالة مستقلة فيها (تفسير روح المعاني 3/ 146، تفسير الفخر الرازي 8/ 30، تفسير البحر المحيط 2/ 433).
3- تذهب رواية أخرى إلى أن سن زكريا كان مائة، و سن زوجته تسعا و تسعين، و قيل كان له من العمر تسع و تسعون، و قيل اثنتان و تسعون، و قيل خمس و ثمانون، و قيل خمس و سبعون، و قيل سبعون، و قيل ستون (تفسير الفخر الرازي 8/ 39، 22/ 217، تفسير روح المعاني 3/ 149).

لمريم، البنية الصالحة المرزوقة، طمع في فضل اللّه و رحمته، يقول الفخر الرازي: و الجمهور الأعظم من المحققين و المفسرين أن زكريا عليه السلام رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء، و من فاكهة الشتاء في الصيف، فلما رأى خوارق العادات عندها طمع في أن يخرقها اللّه تعالى في حقه أيضا، فيرزق الولد من الزوجة الشيخة العاقر (1)، و من ثم فقد أخذت تحرك في نفسه، و هو الشيخ الذي لم يوهن ذرية، تلك الرغبة الفطرية القوية في النفس البشرية، الرغبة في الذرية، و في الامتداد و في الخلف، و تلك الرغبة التي لا تموت في نفوس العبّاد الزهاد الذين وهبوا أنفسهم للعبادة و نذروها للهيكل، إنها الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها، لحكمة عليا في امتداد الحياة و ارتقائها (2)، و من ثم فإنه يتوجه إلى ربه يناجيه، و يطلب منه أن يهب له من لدنه غلاما تقيا يرثه النبوة و هداية بني إسرائيل، و يجعله من عباده الصالحين:

قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً، وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ (3) وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (4).

و هكذا تشير الآيات الكريمة إلى أن زكريا يشكو إلى ربه و هن العظم،

ص: 246


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 32- 33.
2- في ظلال القرآن 1/ 393.
3- اتفق أكثر المفسرين على أن «يعقوب» هنا، هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، فإن زكريا من ولد هارون من نسل لاوى بن يعقوب، و كان متزوجا من أخت مريم بنت عمران، و هي من ولد سليمان بن داود من نسل يهوذا بن يعقوب، و إن ذهب آخرون (الكلبي و مقاتل) أن يعقوب هنا، هو يعقوب بن ماثان أخو عمران والد مريم البتول، بينما ذهب فريق ثالث إلى أنه أخو زكريا نفسه (روح المعاني 16/ 62).
4- سورة مريم: آية 4- 6، و انظر: آل عمران: آية 38- 41.

و حين يهن العظم يكون الجسم كله وهن، فالعظم هو أصلب ما فيه و هو قوامه الذي يقوم به و يجتمع عليه، و يشكو إليه اشتعال الرأس شيبا، و التعبير المصور يجعل الشيب كأنه نار تشتعل، و يجعل الرأس كله كأنما تشمله هذه النار المشتعلة، فلا يبقى في الرأس المشتعل سواد، و وهن العظم و اشتعال الرأس شيبا كلاهما كناية عن الشيخوخة و ضعفها الذي يعانيه زكريا و يشكوه إلى ربه، و هو يعرض عليه حاله و رجائه، ثم يعقب عليه بقوله: وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا معترفا بأن اللّه قد عوّده أن يستجيب إليه أذا دعاه، فلم يشق مع دعائه لربه، و هو في فتوته و قوته، فما أحوجه الآن في هرمه و كبرته أن يستجيب اللّه له و يتم نعمته عليه، و هذا و قد جاء في بعض الآثار أن العبد إذا قال في دعائه: يا رب، قال اللّه سبحانه و تعالى له: لبيك عبدي، و روى أن موسى عليه السلام قال يوما في دعائه: يا رب، فقال سبحانه و تعالى له: لبيك يا موسى، فقال موسى: أ هذا لي خاصة، فقال اللّه تبارك و تعالى: لا، و لكن لكل من يدعوني بالربوبية، و قيل إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه، فليدع اللّه تعالى بما يناسبه من أسمائه و صفاته عز و جل (1).

هذا و قد اختلف العلماء في قوله تعالى: وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (2)، فأما «الموالي»، فيما يروي عن ابن عباس و مجاهد، عصبة الرجل، و عن ابن عباس أيضا و الحسن البصري: ورثته، و عن أبي صالح: الكلالة (3)، و عن الأصم ينو العم، و هم الذين يلونه في النسب، ).

ص: 247


1- في ظلال القرآن 4/ 2302، روح المعاني 16/ 59- 61.
2- سورة مريم: آية 5- 6.
3- الكلالة: المراد هنا من يرثه من حواشيه، لا أصوله و لا فروعه، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه، أنه سئل عن الكلالة، فقال أقول فيها برأي، فإن يكن صوابا فمن اللّه، و إن يكن خطأ فمني و من الشيطان، و اللّه و رسوله بريئان منه، الكلالة: من لا ولد له، و لا والد، فلما ولي عمر رضي اللّه تعالى عنه، قال إني لأستحي أن أخالف أبا بكر في رأيه، و روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن طاوس قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت آخر الناس بعمر فسمعته يقول: الكلالة من لا ولد له و لا والد، و هكذا قال الإمام علي و ابن مسعود، و به يقول الشعبي و النخعي و الحسن البصري و قتادة و جابر بن زيد و الحكم، و به يقول أهل المدينة و الكوفة و البصرة، و هو قول الفقهاء السبعة و الأئمة الأربعة و جمع السلف و الخلف، و قد حكي الإجماع عليه غير واحد، و إن روى عن ابن عباس أيضا أنه من لا ولد له، و الصحيح الأول (تفسير ابن كثير 1/ 693، تفسير الطبري 4/ 283- 289).

و عن أبي مسلم المولي يراد به الناصر، و ابن العم و المالك و الصاحب، و هو هنا من يقوم بميراثه مقام الولد، و المختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده، إما في السياسة أو في المال الذي كان له في القيام بأمر الدين، فقد كانت العادة جارية أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب، فإنه كان متعينا في الحياة، و على أي حال، فهم على سائر الأقوال شرار بني إسرائيل فخاف عليه السلام أن لا يحسنوا خلافته في أمته، و كان زكريا يخشاهم ألا يقوموا على تراثه بما يرضاه، و تراثه هو دعوته التي يقوم عليها، و هو أحد أنبياء بني إسرائيل البارزين، و أهله الذين يرعاهم، و منهم مريم البتول التي كان قيّما عليها و هي تخدم المحراب الذي يتولاه، و ماله الذي يحسن تدبيره و إنفاقه في وجهه، و هو يخشى الموالي من ورائه على هذا التراث كله، و يخشى ألا يسيروا فيه سيرته، لأنه يعهدهم غير صالحين للقيام على ذلك التراث (1)، على أن هناك من يرى احتمال أن يكون اللّه تعالى قد أعلمه أنه لم يبق من أنبياء بني إسرائيل نبيّ له أب إلا واحد، فخاف أن يكون ذلك من بني عمه، إذ لم يكن له ولد، فسأل اللّه تعالى أن يهب له ولدا يكون هو ذلك النبي، و ذلك يقتضي أن يكون خائفا من أمر يهتم بمثله الأنبياء، و إن لم يدل على تفصيل ذلك، و لا يمتنع أن زكريا كان إليه، مع النبوة، السياسة من جهة الملك و ما يتصل بالإمامة، فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما، و من أجل ذلك

ص: 248


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 182، في ظلال القرآن 4/ 2302.

دعا زكريا أن يهبه من لدنه وليا، أي ولدا من صلبه، و يؤيده (أولا) قوله تعالى في آل عمران حكاية عنه: قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، و (ثانيا) قوله تعالى في سورة مريم: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، و (ثالثا) قوله تعالى في الأنبياء: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً، و هذا يدل على أنه سأل الولد، لأنه قد أخبر في سورة مريم أن له موالي، و أنه غير منفرد عن الورثة، و هذا، و إن أمكن حمله على وارث يصلح أن يقوم مقامه، لكن حمله على الولد أظهر (1).

و أما قوله تعالى: يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، فقد اختلف العلماء في المراد بالميراث هنا على وجوه، أحدهما: أن المراد بالميراث في الموضوعين هو وراثة لمال، و هذا قول ابن عباس و الحسن و الضحاك، و ثانيهما: المراد في الموضعين وراثة النبوة، و هو قول أبي صالح، و ثالثها:

يرثني المال (2)، و يرث من آل يعقوب النبوة، و هو قول السّدى و مجاهد و الشعبي، و روى أيضا عن ابن عباس و الحسن البصري و الضحاك، و عن أبي صالح قال: يرث مالي من آل يعقوب النبوة، و في تفسير الطبري: يرثني من بعد وفاتي مالي، و يرث من آل يعقوب النبوة، و ذلك أن زكريا كان من ولد يعقوب، و رابعها: يرثني العلم و يرث من آل يعقوب النبوة، و هذا مروى عن مجاهد، و قال البيضاوي: المراد وراثة الشرع و العلم، فإن الأنبياء لا يورثون مالا، و قال النسفي: أي هب لي ولدا وارثا مني العلم و من آل يعقوب النبوة، و معنى وراثة النبوة أنه يصلح لأن يوحى إليه، و لم يرد أن نفس النبوة تورث، كما أشرنا من قبل إلى ذلك مرارا، و يقول الفخر الرازي: أن هذه

ص: 249


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 183.
2- جاء في تفسير ابن كثير (1/ 179- 180): و في صحيح البخاري أنه كان نجارا يأكل من عمل يده في التجارة، و من ثم فلم يذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجارا يأكل من كسب يده، و مثل هذا لا يجمع مالا، و لا سيما الأنبياء فإنهم كانوا أزهد شي ء في الدنيا.

الروايات ترجع إلى أحد أمور خمسة و هي المال و منصب الحبورة و العلم و النبوة و السيرة الحسنة، و لفظ الإرث مستعمل في كلها، أما في المال، فلقوله تعالى: أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ، و أما في العلم فلقوله تعالى:

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ، و قال صلى اللّه عليه و سلم:

العلماء ورثة الأنبياء، و إن الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما و إنما ورثوا العلم»، و ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة»، و في رواية عن الترمذي بإسناد صحيح: «نحن معشر الأنبياء لا نورث»، و قال تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ، و هذا يحتمل وراثة الملك و النبوة، و على أي حال، فلقد ثبت أن اللفظ محتمل لكل تلك الوجوه (1).

هذا و قد احتج من حمل اللفظ على وراثة المال بالخبر و المعقول، فأما الخبر فلقد أخرج ابن جرير في التفسير بسنده عن الحسن قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: رحم اللّه أخي زكريا، ما كان عليه من ورثة ماله حين يقول فهب لي من لدنك وليا، يرثني و يرث من آل يعقوب»، و عن قتادة: ذكر لنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان إذا قرأ هذه الآية، و أتى على «يرثني و يرث من آل يعقوب»، قال: رحم اللّه زكريا ما كان عليه من ورثته» (2)، و ظاهر ذلك يدل على أن المراد إرث المال، و ثانيهما: أنه قال «و اجعله رب رضيا»، و لو كان المراد من الإرث إرث النبوة، لكان سأل جعل النبي رضيا، و هو غير جائز، لأن النبي لا يكون إلا رضيا معصوما، و أما قوله صلى اللّه عليه و سلم: «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»، فهذا لا يمنع أن يكون خاصا به، و أما من حمله على العلم أو المنصب و النبوة، فقد احتج بما علم من حال الأنبياء أن اهتمامهم لا يشتد ).

ص: 250


1- تفسير البيضاوي 2/ 14، تفسير الفخر الرازي 21/ 184، تفسير النسفي 3/ 29، تفسير ابن كثير 3/ 180.
2- تفسير الطبري 16/ 48 (بيروت 1984).

بأمر المال، كما يشتد بأمر الدين، و قيل لعله أوتي من الدنيا ما كان عظيم النفع في الدين، فلهذا كان مهتما به (1).

هذا و قد استدل الشيعة بالآية (يرثني و يرث من آل يعقوب) على أن الأنبياء عليهم السلام تورث عنهم أموالهم، لأن الوراثة حقيقة في وراثة المال، و لا داعي إلى الصرف عن الحقيقة، و قد ذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس و مجاهد و عكرمة و أبي صالح أنهم قالوا في الآية: يرثني مالي، و أخرج عبد الرازق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن الحسن أنه صلى اللّه عليه و سلم قال في الآية: «يرحم اللّه تعالى أخي زكريا ما كان عليه من ورثة»، و في رواية: ما كان عليه ممن يرث ماله»، و قال بعضهم: إن الوراثة ظاهرة في ذلك و لا يجوز هاهنا حملها على وراثة النبوة لئلا يلغوا قوله: وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، و لا على وراثة العلم لأنه كسبي، و الموروث حاصل بلا كسب، و مذهب أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام لا يرثون مالا، و لا يورثون، لما صح عندهم من الأخبار (2).

و على أي حال، فإن زكريا، النبي الصالح، إنما يختم دعاءه:

وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، و هكذا يصور أمله في ذلك الوريث الذي يرجوه في كبرته بأن يجعله اللّه تعالى رضيا، لا جبارا و لا غليظا، و لا متبطرا و لا طموعا، و لفظة «رضى» إنما تلقي هذه الظلال، فالرضى هو الذي يرضى و يرضى، و ينشر ظلال الرضى فيما حوله و من حوله، يقول الطبري: و اجعل يا رب الولي الذي تهبه لي مرضيا ترضاه أنت و يرضاه عبادك، دينا و خلقا و خلقا (3).

و يتقبل اللّه، سبحانه تعالى، دعاء عبده زكريا، و تحدث الاستجابة

ص: 251


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 184.
2- تفسير روح المعاني 16/ 64 (بيروت 1978).
3- في ظلال القرآن 4/ 2302، تفسير الطبري 16/ 49.

التي لا تتقيد بسن، و لا تتقيد بمألوف الناس، لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (1)، و هكذا بشرت الملائكة زكريا عليه السلام بمولود ذكر، اسمه معروف قبل مولده (يحيى)، و في آية أخرى: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (2)، و في تعيين اسمه عليه السلام تأكيد لوعد اللّه تعالى لزكريا عليه السلام، و تشريف ليحيى عليه السلام حيث تولى اللّه تعالى تسميته، و من المعروف عادة أن كل الناس إنما يسميهم آباؤهم و أمهاتهم بعد مولدهم، و أما يحيى عليه السلام فإن اللّه تعالى هو الذي سمّاه قبل دخوله في الوجود، فكان ذلك من خواصه، فلم يكن له مثل و شبيه في هذه الخاصية (3)، و أما قوله تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا، فقد اختلف المفسرون فيه على وجوه، أحدهما: و هو قول ابن عباس و الحسن البصري و سعيد بن جبير و عكرمة و قتادة أنه لم يسم أحد قبله بهذا الإسم، و ثانيها: أن المراد بالسمى النظير، كما في قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا، أي شريكا في الإسم، و في تفرده بهذا الإسم ضرب من التعظيم، و مزيد تشريف و تفخيم له عليه السلام و هذا، كما قال الزمخشري، شاهد على أن الأسماء النادرة التي لا يكاد الناس يستعملونها جديرة بالأثرة، و إياها كانت العرب تنحي في التسمية، لكونها أنبه و أنوه و أنزه عن النبر، و ثالثها: ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، من أن العواقر لم تلد قبله مثله، و كما يقول ابن كثير ).

ص: 252


1- سورة آل عمران: آية 39.
2- سورة مريم: آية 7.
3- تفسير الفخر الرازي 21/ 186، غير أننا نلاحظ أن هناك شبها لهذا، ذلك أن إسحاق و يعقوب و المسيح عليهم السلام، قد بشربهم، و سمعوا بأسمائهم قبل مولدهم (سورة آل عمران: آية 45، هود: آية 71، الصافات: آية 112)، بل إن التوراة تشير إلى أن إسماعيل قد بشر به و أعطى اسمه قبل أن يولد (تكوين 16/ 11).

و في هذا دليل على أن زكريا عليه السلام كان لا يولد له، و كذلك امرأته كانت عاقرا من أول عمرها، بخلاف إبراهيم و سارة عليهما السلام، فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق لكبرهما، لا لعقرهما (1) و لهذا قال: أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ، مع أنه كان قد ولد له من قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة و قالت امرأته: يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ، قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (2) و أخرج الإمام أحمد في الزهد، و ابن المنذر و غيرهما عن مجاهد أن «سميا» بمعنى شبيها، و روى عن عطاء و ابن حبير مثله أي لم نجعل له شبيها، حيث أنه لم يعصي و لم يهم بمعصية، فقد أخرج الإمام أحمد و الترمذي في نوادر الأصول و الحاكم و ابن مردوية عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: ما من أحد من ولد آدم، إلا و قد أخطأ أو همّ بخطإ، إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام، لم يهم بخطيئة و لم يعملها»، و عن ابن المسيب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «ما من أحد يلقي اللّه يوم القيامة إلا أذنب، إلا يحيى بن زكريا»، و قال قتادة: ما أذنب، و لا همّ بامرأة، و الأخبار في ذلك متظافرة، و قيل لم يكن له شبيه لذلك (3).

هذا و قد وصف اللّه تعالى نبيّه يحيى عليه السلام في سورة آل عمران بأربع صفات، قال تعالى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى (3) مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ).

ص: 253


1- هذا صحيح بالنسبة لسيدنا إبراهيم عليه السلام، أما السيدة سارة فقد كانت عجوز عقيم، كما أخبرنا القرآن الكريم في سورة الذاريات: آية 29.
2- سورة هود: آية 72- 73، تفسير ابن كثير 3/ 181- 182.
3- روى أنه سمي «يحيى» لأن اللّه تعالى أحيا به عقر أمه أو لأن اللّه تعالى أحيا قلبها لإيمان و الطاعة، و اللّه تعالى سمي المطيع حيا و العاصي ميتا بقوله تعالى: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ و قال تعالى: إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ، أو لأنه يحيا بإرشاد الخلق و هدايتهم أو لأن اللّه تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يعصي أو يعم بمعصية أو لأنه استشهد، و الشهداء أحياء عند ربهم لقوله تعالى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، و قيل غير ذلك (تفسير الفخر الرازي 21/ 186).

وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (1)، فأما الصفة الأولى، فقد وصفه اللّه تعالى بأنه كان «مصدقا بكلمة من اللّه»، و المراد بالكلمة هنا عيسى بن مريم، أي مصدقا بعيسى مؤمنا به، فهو أول من آمن به، و سمي عيسى كلمة اللّه لأن تكونه بكن بلا أب (2)، و رغم أن صاحب الظلال (3) يرى أنه ليس هناك ما يحتم هذا الفهم (أي التصديق بعيسى)، فإن المفسرين يروون عن ابن عباس أنه قال: إن يحيى كان أكبر سنا من عيسى بستة أشهر، و كان يحيى أول من آمن و صدق بأنه كلمة اللّه و روحه، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى، و أخرج الإمام أحمد عن مجاهد قال: قالت امرأة زكريا لمريم، إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك، و أخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال: كان يحيى و عيسى ابني خالة، و كانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك»، فذلك تصديقه له، و كان أكبر من عيسى بستة أشهر، و قيل بثلاث سنين (4)، و في تفسير ابن كثير (5): روى العوفي و غيره عن ابن عباس، كما قال الحسن و قتادة و عكرمة و مجاهد و أبو الشعثاء و السدي و الربيع بن أنس و الضحاك و غيره في هذه الآية: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بعيسى بن مريم، و قال الربيع هو أول من صدق بعيسى بن مريم، و قال قتادة: و على سنته و منهاجه، غير أن هناك رواية أخرى تنسب إلى عبيدة، و تذهب إلى أن معنى «بكلمة من اللّه»، بكتاب منه، و المراد به

ص: 254


1- سورة آل عمران: آية 39.
2- تفسير النسفي 1/ 156.
3- في ظلال القرآن 1/ 394.
4- تفسير روح المعاني 3/ 147، تفسير الطبري 3/ 253.
5- تفسير ابن كثير 1/ 450.

الإنجيل، و إطلاق الكلمة عليه كإطلاقها على العصيدة، غير أن الإمام الطبري إنما يعتبر ذلك جهلا بتأويل الكلمة، و اجتراء على ترجمة القرآن (1).

و أما (ثانيا) فكان سيدا: و قد فسره ابن عباس بالحليم و بالكريم و بالتقي، و قال الجبائي: إنه كان سيدا للمؤمنين، رئيسا لهم في الدين، أعني في العلم و الحلم و العبادة و الورع، و قال مجاهد: الكريم على اللّه، و قال ابن المسيب: الفقيه العالم، و قال عكرمة: الذي لا يغلبه الغضب، و قال الضحاك: الحليم التقي؛ و قال ابن زيد السيد هو الشريف، و في تفسير النسفي: السيد هو الذي يسود قومه، أي يفوقهم في الشرف، و كان يحيى فائقا على قومه لأنه لم يرتكب سيئة قط، و يا لها من سيادة، و قال الجنيد: هو الذي جاد بالكونين عوضا عن المكون، و قال القاضي: السيد هو المتقدم المرجوع إليه، فلما كان سيدا في الدين و قدوة فيه، فتدخل فيه جميع الصفات المذكورة من العلم و الحلم و الكرم و العفة و الزهد و الورع (2).

و أما (ثالثا) فكان حصورا: و الحصر في اللغة الحبس، يقال حصره حصرا، و حصر الرجل: أي اعتقل بطنه، و الحصور الذي يكتم السر و يحبسه، و الحصور الضيق البخيل، و أما المفسرون فلهم قولان، أحدهما:

أنه كان عاجزا عن إتيان النساء، فقد روى عن ابن مسعود و ابن عباس سعيد بن جبير و أبي الشعثاء و عطية العوفي أنهم قالوا: الذي لا يأتي النساء، و عن أبي العالية و الربيع بن أنس: هو الذي لا يولد و لا ماء له، ثم منهم من قال كان ذلك لصغر الآلة، و منهم من قال كان ذلك لتعذر الإنزال، و منهم من قال كان ذلك لعدم القدرة، و قد روى الحفاظ عن سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن ما معه عليه السلام كان كالأنملة، و في بعض الروايات كالقذاة، و في

ص: 255


1- تفسير الطبري 3/ 253- 254، تفسير روح المعاني 3/ 147.
2- تفسير النسفي 1/ 156، تفسير الفخر الرازي 8/ 36.

أخرى كالنواة، و في بعض كهدبة الثوب، و تذهب جمهرة العلماء إلى أن هذا الرأي غير مقبول أصلا، لأن هذه من صفات النقصان، و ذكر صفة النقصان، في معرض المدح لا يجوز، و لأنه على هذا التقدير لا يستحق به ثوابا و لا من تعظيما، و أما القول الثاني، و هو اختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء، لا للعجز، بل للعفة و الزهد، و ذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس و منعها، و المنع إنما يحصل أن لو كان المقتضى قائما، فلولا أن القدرة و الداعية كانتا موجودتين، و إلا لما كان حاصرا لنفسه، فضلا عن أن يكون يكون حصورا، لأن الحاجة إلى تكثير الحصر و الدفع إنما تحصل عند قوة الرغبة و الداعية و القدرة، و على هذا الحصور بمعنى الحاصر، فعول بمعنى فاعل (1).

و قال القاضي عياض في الشفا (2): اعلم أن ثناء اللّه تعالى على يحيى أنه كان «حصورا»، ليس كما قال بعضهم إنه كان هيوبا و لا ذكر له، بل قد أنكر ذلك حذاق المفسرين و نقاد العلماء و قالوا: هذه نقيصة و عيب و لا يليق بالأنبياء عليهم السلام، و إنما معناه أنه معصوم من الذنوب، أي لا يأتيها كأنه حصور عنها، و قيل مانعا نفسه من الشهوات، و قيل ليست له شهوة في النساء، و قد بان ذلك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، و إنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها، إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من اللّه عز و جل كيحيى عليه السلام، ثم هي في حق من قدر عليها، و قام بالواجب فيها، و لم تشغله عن ربه، درجة عليا، و هي درجة نبيا صلى اللّه عليه و سلم الذي لم تشغله كثرتهن عن عبادته ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن و قيامه عليهن و إكسابه ).

ص: 256


1- تفسير روح المعاني 3/ 148، تفسير الفخر الرازي 8/ 36- 37، تفسير الطبري 3/ 255- 256.
2- القاضي عياض اليحصبي: الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/ 88- 89 (بيروت 1979)، شرح الشفا للملا على القاري 1/ 209- 210 (دار الكتب العلمية- بيروت).

لهن و هدايته إياهن، بل و قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو، و إن كانت من حظوظ دنيا غيره، فقال: «حبب إلي من دنياكم»، و المقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور، ليس أنه لا يأتي النساء، بل معناه كما قاله هو و غيره: أنه معصوم من الفواحش و القاذورات، و لا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال و غشيانهن و إيلادهن، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم، حيث قال: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً كأنه قال: ولدا له ذرية و نسل و عقب (1)، و أما ما أخرجه الحفاظ، على تقدير صحته، يمكن أن يقال إنه من باب التمثيل و الإشارة إلى عدم انتفاعه عليه السلام بما عنده لعدم ميله للنكاح لما أنه في شغل شاغل عن ذلك.

و من هنا قيل: إن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح، استدلا لا بحال يحيى عليه السلام، و من ذهب إلى خلافه احتج بما أخرجه الطبراني عن أبي أمامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «أربعة لعنوا في الدنيا و الآخرة و أمنت الملائكة، رجل جعله اللّه تعالى ذكرا فأنث نفسه و تشبه بالنساء، و امرأة جعلها اللّه تعالى أنثى فتذكرت و تشبهت بالرجال، و الذي يضل الأعمى، و رجل حصور، و لم يجعل اللّه تعالى حصورا، إلا يحيى بن زكريا»، و في رواية «لعن اللّه تعالى و الملائكة رجلا تحصر بعد يحيى بن زكريا»، و يجوز أن يراد بالحصور المبالغ في حصر النفس و حبسها عن الشهوات مع المقدرة، و قد كان حاله عليه السلام كذلك، و أخرج عبد الرازق عن قتادة موقوفا، و ابن عساكر عن معاذ بن جبل مرفوعا، أنه عليه السلام مرّ في صبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال: «ما للعب خلقت» (2).

و أما (رابعا) فكان نبيا من الصالحين: و هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى عليه

ص: 257


1- تفسير ابن كثير 1/ 541- 542.
2- تفسير روح المعاني 3/ 148.

السلام بعد البشارة بولادته، و هي أعلى من الأولى، كقوله تعالى لأم موسى:

إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (1)، و أما الصلاح فالمراد به هنا ما فوق الصلاح الذي لا بد منه في منصب النبوة البتة من أقاصي مراتبه، و عليه مبنى دعاء سليمان عليه السلام: وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (2)، و ذلك لأن للأنبياء قدرا من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة، فذلك القدر بالنسبة إليهم يجري مجرى حفظ الواجبات بالنسبة إلينا، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر، و كل من كان أكثر نصيبا منه كان أعلى قدرا (3).

و عودا على بدء، إلى زكريا عليه السلام، ذلك أن النبي الكريم قد عجب من أن يكون له غلام، على كبر سنه، و عقم زوجته، فقيل له كذلك يفعل اللّه ما يشاء، و طلب آية من ربه تدل على حمل امرأته، فقيل له آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا، مع أنك سوى صحيح، و الغرض أن يأتيه مانع سماوي يمنعه من الكلام بغير ذكر اللّه، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً، وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً، قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (4)، و قد ذكر المفسرون في تفسير الآية الأخيرة (مريم: آية 10) (5) وجوها، أحدها: أنه تعالى حبس لسانه ثلاثة أيام، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزا، و الرمز: الإشارة باليد أو بالرأس أو بغيرهما، قال الطبري: الإيماء ً.

ص: 258


1- سورة القصص: آية 7.
2- سورة النمل: آية 19.
3- تفسير الفخر الرازي 8/ 37.
4- سورة مريم: آية 8- 10، و انظر: سورة آل عمران: آية 40- 41.
5- و كذا: آية آل عمران 41 أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً.

بالشفتين، و قد يستعمل في الحاجبين و العينين أحيانا، و فيه فائدتان، إحداهما: أن يكون ذلك آية على علوق الولد، و الثانية: أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا، و أقدره على الذكر و التسبيح و التهليل، ليكون في تلك المدة مشتغلا بذكر اللّه تعالى، و الشكر على تلك النعمة الجليلة، و على هذا التقدير يصير الشي ء الواحد علامة على المقصود، و أداء لشكر تلك النعمة فيكون جامعا لكل المقاصد، هذا فضلا عن أن تلك الواقعة إنما كانت مشتملة على المعجز من وجوه، أحدهما: أن قدرته على التكلم بالتسبيح و الذكر، و عجزه عن الكلام بأمور الدنيا، من أعظم المعجزات، و ثانيهما:

أن حصول ذلك المعجزة في تلك الأيام المقدورة، مع سلامة البنية، و اعتدال المزاج، من جملة المعجزات، و ثالثها: أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة فقد حصل الولد، ثم إن الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضا من المعجزات (1).

و ولد يحيى عليه السلام، فشب على الطهر و الاستقامة، و كان آية في ورعه و زهده و طاعته لربه، و بره بوالديه و آتاه اللّه العلم و الحكمة و منّ عليه بالرسالة، و قد روى أنه لم يهم بمعصية قط، و لم ينشغل في طفولته بما ينشغل به الأطفال، و كان يقول: ما للعب خلقت، و كان يحيى عليه السلام هو الآية الثانية لبني إسرائيل، و كانت الأولى ولادة مريم، و كانت أمها «حمنة» عقيما لا تلد، و أما الثالثة فكانت ولادة عيسى عليه السلام من غير أب (2)، و قد قدم اللّه تعالى قصة يحيى، و كذا مريم، على قصة عيسى، عليهم السلام، ذلك لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد من غير أب، و أحسن الطرق في التعليم الأخذ من الأقرب فالأقرب مترقيا إلى الأصعب فالأصعب.

ص: 259


1- تفسير الطبري 3/ 260، تفسير الفخر الرازي 8/ 40.
2- محمد خليل هراس: المرجع السابق ص 183.

هذا و قد أثنى اللّه تعالى على يحيى عليه السلام بالثناء العاطر، و وصفه بالبر و التقوى و الصلاح و الاستقامة قال تعالى: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا، وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا، وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (1).

و يقول المفسرون أن اللّه تعالى وصف يحيى عليه السلام في هذه الآيات بصفات تسع، منها (أولا) أن اللّه تعالى أعطاه الكتاب، و الكتاب هو التوراة، كتاب بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام، و عليه كان يقوم أنبياؤهم يعلمون به و يحكمون و هو نعمة اللّه على بني إسرائيل، قال تعالى:

وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ (2)، و يقول ابن عطية:

أن الإجماع هو التوراة، على أن «أل» للعهد، و لا معهود إذ ذاك سواها، فإن الإنجيل لم يكن موجودا حينئذ، كما خص كثير من الأنبياء عليهم السلام بمثل ذلك، و قيل المراد بالكتاب صحف إبراهيم عليه السلام، و قيل المراد الجنس، أي كتاب اللّه تعالى، و على أي حال، فإن يحيى قد ورث أباه زكريا، و نودى ليحمل العب ء و ينهض بالأمانة في قوة و عزم، لا يضعف و لا يتهاون و لا يتراجع عن تكاليف الوراثة (3).

و منها (ثانيا) آتاه اللّه الحكم صبيا: و هكذا كان يحيى عليه السلام، فذا في زاده لينهض بالتبعة الكبرى، كما كان فذا في اسمه و في ميلاده، فالحكمة تأتي متأخرة، و لكن يحيى قد زوّد بها صبيا (4)، أخرج أبو نعيم و ابن مردوية و الديلمي عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال في ذلك: أعطى الفهم و هو ابن سبع سنين، و جاء في رواية أخرى عنه مرفوعا أيضا، قال الغلمان ليحيى

ص: 260


1- سورة مريم: آية 12- 15.
2- سورة الجاثية: آية 16.
3- تفسير روح المعاني 16/ 72، في ظلال القرآن 4/ 2304.
4- في ظلال القرآن 4/ 2304.

بن زكريا عليهما السلام: اذهب بنا نلعب، فقال: أ للعب خلقنا، اذهبوا نصلي، فهو قوله تعالى: وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، و قد اختلف العلماء في معنى «الحكم» هنا، فمن قائل أنها بمعنى الحكمة، و هي الفهم في التوراة و الفقه في الدين، قال الطبري: المعنى أعطيناه الفهم لكتاب في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال، و من قائل إنها بمعنى العقل و الفراسة الصادقة، و من قائل إنها النبوة و عليه كثير، قالوا: أوتيها و هو ابن ثلاثين، و قبل و هو ابن سبع سنين أو ابن اثنتين، و لم يتنبأ أكثر الأنبياء عليهم السلام قبل الأربعين، و إن رأى البعض أن الحكم هنا ليس بمعنى النبوة، فهي على سن الأربعين، و إنما المراد الفهم و الفقه في الدين، و هو غير الحكمة المفسرة بالنبوة، كما في الآية (251) من سورة البقرة، و التي جاءت في حق داود عليه السلام (1).

هذا و يرجح الفخر الرازي في التفسير الكبير أنها النبوة، ذلك لأن اللّه تعالى قد أحكم عقله في صباه و أوحى إليه، و ذلك لأن اللّه تعالى بعث يحيى و عيسى عليهما السلام، و هما صبيان، لا كما بعث موسى و محمد عليهما السلام، و قد بلغا الأشد، و الأقرب حمل الحكم على النبوة لوجهين، الأول: أن اللّه تعالى ذكر في هذه الآية صفات شرفه و منقبته، و معلوم أن النبوة أشرف صفات الإنسان، فذكرها في معرض المدح أولى من ذكر غيرها، فوجب أن تكون نبوته مذكورة في هذه الآية، و لا لفظ يصلح للدلالة على النبوة إلا هذه اللفظة فوجب حملها عليها، و الثاني: أن الحكم هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره و لغيره على الإطلاق، و ذلك لا يكون إلا بالنبوة، فإن قيل كيف يعقل حصول العقل و الفطنة و النبوة حال الصبا؟ قلنا هذا السائل، إما أن يمنع من خرق العادة أو لا يمنع، فإن منع منه فقد سدّ

ص: 261


1- تفسير الطبري 16/ 54- 55، تفسير النسفي 3/ 30، تفسير ابن كثير 3/ 183، تفسير روح المعاني 16/ 72، صفوة التفاسير 2/ 213، تفسير الكشاف 2/ 504.

باب النبوات لأن الأنبياء بناء الأمر فيها على المعجزات، و لا معنى لها إلا خرق العادات، و إن لم يمنع فقد زال هذا الاستبعاد، فإنه ليس استبعاد صيرورة الصبي عاقلا، أشد من استبعاد انشقاق القمر، و انفلاق البحر (1).

و منها (ثالثا) و حنانا من لدنا: أي أن اللّه آتاه الحنان هبة لدنية لا يتكلفه و لا يتعلمه، و إنما هو مطبوع عليه، و مطبوع به، و الحنان صفة ضرورية للنبي المكلف رعاية القلوب و النفوس، و تألفها و اجتذابها إلى الخير في رفق، و عن زيد أن الحنان هنا المحبة، و هو رواية عكرمة، أي و آتيناه محبة من لدنا، و المراد جعلناه محببا عند الناس، فكل من رآه أحبه، نظير قوله تعالى: وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، و عن عطاء بن رباح أي آتيناه الحكم صبيا تعظيما، إذ جعلناه نبيا و هو صبي، و لا تعظيم أكثر من هذا، و الدليل عليه ما روى أنه مرّ و ورقة بن نوفل على بلال و هو يعذب قد ألصق ظهره برمضاء البطحاء، و يقول: أحد أحد، فقال: و الذي نفسي بيده لئن قتلتموه لاتخذته حنانا أي معظما (2).

و منها (رابعا) و زكاة: و الزكاة: الطهارة من الدنس و الآثام و الذنوب، و قال قتادة: الزكاة العمل الصالح، و قال الضحاك و ابن جريح: العمل الصالح الزكي، و قال العوفي عن ابن عباس: و زكاة، قال بركة، و المعنى آتاه اللّه الطهارة و العفة و نظافة القلب و الطبع يواجه بها أدران القلوب و دنس النفوس، فيطهرها و يزكيها (3)، و يقول الرازي (4): قوله تعالى: وَ زَكاةً فيه وجوه، أحدهما: المراد و آتيناه زكاة، أي عملا صالحا زكيا، كما روى عن ابن عباس و قتادة و الضحاك و ابن جريح، و ثانيها: عن الحسن البصري:

ص: 262


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 191- 192.
2- تفسير روح المعاني 16/ 73، تفسير الفخر الرازي 21/ 192- 193.
3- تفسير ابن كثير 3/ 184، في ظلال القرآن 4/ 2304.
4- تفسير الفخر الرازي 21/ 193.

زكاة لمن قبل منه حتى يكونوا أزكياء، و ثالثها: زكيناه بحسن الثناء، كما تزكي الشهود الإنسان، و رابعها: عن الكلبي: صدقة تصدق اللّه تعالى بها على أبويه، و خامسها: بركة و نماء، و هو الذي قاله عيسى عليه السلام وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ.

و منها (خامسا): و كان تقيا: أي كان موصولا باللّه، متحرجا معه، مراقبا له يخشاه و يستشعر رقابته عليه في سره و نجواه و أولى الناس بهذا الوصف من لم يعص اللّه و لا يهم بمعصيته، و كان يحيى عليه السلام كذلك، و قد سبق أن أشرنا إلى عدة أحاديث تدل على ذلك، و منها قوله صلى اللّه عليه و سلم: «ما من أحد يلقي اللّه يوم القيامة إلا أذنب، إلا يحيى بن زكريا»، و أخرج الأئمة مالك و أحمد في الزهد و عبد اللّه بن المبارك و أبو نعيم عن مجاهد قال: كان طعام يحيى بن زكريا عليهما السلام العشب و إنه كان ليبكي من خشية اللّه حتى لو كان القار على عينيه لخرقه، و قد كانت الدموع اتخذت مجرى في وجهه» (1).

و منها (سادسا): و برا بوالديه: كان يحيى برا بوالديه مسارعا في طاعتهما و محبتهما، غير عاق بهما، و ذلك لأنه لا عبادة بعد تعظيم اللّه تعالى مثل تعظيم الوالدين، و لهذا السبب قال تعالى: وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً (2). ).

ص: 263


1- تفسير الطبري 16/ 58، تفسير روح المعاني 16/ 73.
2- سورة الإسراء: آية 23، هذا و قد جاء في بر الوالدين كثير من الأحاديث الشريفة، منها ما روي الإمام أحمد بسنده عن أنس و غيره أن النبي صلى اللّه عليه و سلم صعد المنبر ثم قال: آمين آمين آمين، قيل يا رسول اللّه علام ما أمنت، قال أتاني جبريل فقال يا محمد، رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك، قل آمين، فقلت آمين، ثم قال رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له، قل آمين فقلت آمين، ثم قال رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل آمين فقلت آمين» (مسند الإمام أحمد 4/ 344)، و روى الإمام أحمد في مسنده (4/ 344) بسنده عن مالك بن عمرو القشيري قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: «من أعتق رقبة مسلم فهي فداؤه من النار، فإن كل عظم من عظامه محررة بعظم من عظامه، و من أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده اللّه عز و جل، و من ضم يتيما من أبوين مسلمين إلى طعامه و شرابه حتى يغنيه اللّه وجبت له الجنة»، و روى الإمام أحمد في مسنده (5/ 29) عن أبي مالك القشيري قال قال النبي صلى اللّه عليه و سلم: «من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك، فابعده اللّه و أسحقه» (و رواه أبو داود الطيالسي عن شعبه)، و روى الإمام أحمد في مسنده (2/ 346) عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك أبويه أو كلاهما عند الكبر، و لم يدخل الجنة» (و رواه الإمام مسلم في صحيحه 8/ 5 من حديث أبي عوانة و جرير و سليمان بن بلال عن سهيل)، و روى الإمام أحمد في مسنده (2/ 254) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ، و رغم أنف رجل دخل عليهم شهر رمضان فانسلخ فلم يغفر له، و رغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر، فلم يدخلاه الجنة»، قال ربعي: لا أعلمه إلا قال: «أو أحدهما»، و روى الإمام أحمد في مسنده (3/ 497) عن مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما أنا جالس عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذ جاءه رجل من الأنصار، فقال يا رسول اللّه: هل بقي عليّ من برّ أبوي شي ء بعد موتها أبرهما به، قال نعم خصال أربع: الصلاة عليهما، و الاستغفار لهما، و إنفاذ عهدهما، و إكرام صديقهما، و صلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلها، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما» (و رواه أبو داود و ابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن سليمان، و هو ابن الغسيل (سنن ابن ماجة 2/ 1208، سنن أبي داود 2/ 629) و روى الإمام أحمد في مسنده (3/ 429) بسنده عن معاوية بن جاهمة السلمي، أن جاهمة جاء إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال: يا رسول اللّه، أردت الغزو، و جئتك أستشيرك، فقال: «فهل لك من أم» قال: نعم، قال: «فالزمها فإن الجنة عند رجليها»، ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول (و رواه النسائي و ابن ماجة من حديث ابن جريح)، و روى الإمام أحمد في مسنده (4/ 132) بسنده عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «إن اللّه يوصيكم بآبائكم، إن اللّه يوصيكم بأمهاتكم، إن اللّه يوصيكم بأمهاتكم، إن اللّه يوصيكم بأمهاتكم، إن اللّه يوصيكم بالأقرب فالأقرب» (و أخرجه ابن ماجة من حديث عبد اللّه بن عياش، سنن ابن ماجة 2/ 1207)، و روى الإمام أحمد في مسنده (4/ 64) بسنده عن رجل من بني يربوع قال: «أتيت النبي صلى اللّه عليه و سلم فسمعته و هو يكلم الناس، يقول: «يد المعطي العليا، أمك و أباك، و أختك و أخاك، ثم أدناك أدناك»، و قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده بسنده عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأل النبي صلى اللّه عليه و سلم: هل أديت حقها؟ قال: لا، و لا بزفرة واحدة» أو كما قال: (و انظر: تفسير ابن كثير 3/ 57- 60- بيروت 1986).

ص: 264

و منها (سابعا): و لم يكن جبارا: لم يكن متكبرا متعاليا عن قبول الحق و الإذعان له أو متطاولا و لا على الخلق، و قيل الجبار: هو الذي لا يرى لأحد عليه حقا، و عن ابن عباس أنه هو الذي يقتل و يضرب على الغضب (1)، و المراد وصفه بالتواضع و لين الجانب، و ذلك من صفات المؤمنين، و قد وصف اللّه تعالى نبيّه سيدنا محمد صلى اللّه عليه و سلم بقوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (2)، قال الحسن البصري: هذا خلق محمد صلى اللّه عليه و سلم بعثه اللّه به، هذا و لأن رأس العبادات معرفة الإنسان نفسه بالذل، و معرفة ربه بالعظمة و الكمال، و من عرف نفسه بالذل، و عرف ربه بالكمال، كيف يليق به الترفع و التكبر، و لذا فإن إبليس لما تجبر و تمرد صار مبعدا عن رحمة اللّه و عن الدين (3).

و منها (ثامنا) و لم يكن عصيا: و العصي أبلغ من العاصي، كما أن العليم أبلغ من العالم، و المراد المبالغة في النقي، لا نفي المبالغة، و قيل:

عصيا: مخالفا أمر مولاه عز و جل، و قيل: عاقا لأبويه، و يقول الطبري: و لم يكن جبارا عصيا، أي لم يكن مستكبرا عن طاعة اللّه و طاعة والديه، و لكنه كان للّه و لوالديه، متواضعا متذللا، يأتمر لما أمر به، و ينتهي عما نهي عنه، لا يعصي ربه و لا والديه (4).

و منها (تاسعا) «و سلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا: و فيه أقوال، أحدهما: قال الطبري: و أمان من اللّه يوم ولد من أن يناله الشيطان

ص: 265


1- تفسير روح المعاني 16/ 73.
2- سورة آل عمران: آية 159، و انظر: تفسير الطبري 4/ 150- 153، تفسير ابن كثير 1/ 628- 630 تفسير روح المعاني 4/ 105- 106، في ظلال القرآن 1/ 500- 501، تفسير النسفي 1/ 191.
3- تفسير الفخر الرازي 21/ 193.
4- تفسير الطبري 16/ 58.

من السوء بما ينال به بني آدم، و ثانيها: قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن، يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، و يوم يموت فيرى قوما ما شاهدهم قط، و يوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم، فأكرم اللّه يحيى عليه الصلاة و السلام، فخصه بالسلام عليه في هذه المواطن الثلاثة، و ثالثها: قال عبد اللّه بن نفطويه: «و سلام عليه يوم ولد»، أي أول ما يرى الدنيا، و «يوم يموت» أي أول يوم يرى فيه أول أمر الآخرة، و «يوم يبعث حيا» أي أول يوم يرى فيه الجنة و النار، و هو يوم القيامة، و إنما قال «حيا» تنبيها على كونه من الشهداء لقوله تعالى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، و قال ابن عطية: الأظهر أن المراد بالسلام: التحية المتعارفة و التشريف بها، لكونها من اللّه تعالى في المواطن التي فيها العبد في غاية الضعف و الحاجة و قلة الحيلة و الفقر إلى اللّه عز و جل، و روى ابن جرير في التفسير بسنده عن قتادة أن الحسن البصري قال: «إن يحيى و عيسى التقيا، فقال له عيسى: استغفر لي، أنت خير مني، فقال الآخر: استغفر لي، أنت خير مني، فقال له عيسى: أنت خير مني، سلمت على نفسي، و سلم اللّه عليك، فعرف و اللّه فضلها (و رواه الإمام أحمد في الزهد عن الحسن أيضا، كما ذكره الألوسي في روح المعاني) (1).

استشهاد يحيى عليه السلام:-

ترجع المصادر النصرانية قتل يحيى عليه السلام، و هو يوحنا المعمدان عندهم، إلى أن «هيرودوس أنتباس» (6- 39 م) حاكم اليهودية من قبل الرومان، أراد أن يتزوج من «هيروديا» امرأة أخيه «فيلبس»، إلا أن يوحنا المعمدان (يحيى عليه السلام) أفتى بعدم الزواج لأنها لا تحل له، و من ثم فقد قرر هيرودوس التخلص منه، إلا أنه خشي غضب القوم الذين كانوا

ص: 266


1- تفسير الطبري 16/ 58- 59، تفسير روح المعاني 16/ 74، تفسير الفخر الرازي 21/ 193- 194، تفسير النسفي 3/ 30.

يعتقدون في نبوة يحيى عليه السلام، و لهذا فقد اكتفى بإلقائه في غياهب السجن، و تنتهز «هيروديا» فرصة الاحتفال بعيد ميلاد هيرودوس، و تتفق مع ابنتها «سالومي» على أن ترقص شبه عارية لعمها الملك، و حين تنتهي من رقصتها، و يفتتن الملك بها، تطلب منه رأس يحيى على طبق، و تفعل سالومي ما أشارت به أمها، و يضطر هيرودوس إلى تنفيذ رغبة ابنة أخيه، بناء على وعد منه أن يعطيها ما تريد، أيا كان الذي تريد، و من ثم يأمر بقتل يحيى فورا بالسيف و أن يؤتي برأسه على طبق ليكون هذا ختام الاحتفال، ثم يقدم الرأس الشريف إلى الداعرة سالومي التي قدمته بدورها إلى أمها، و عندئذ يسرع تلاميذ يحيى فيرفعوا الجسد و يدفنوه، ثم يخبروا السيد المسيح بالمأساة المروعة (1).

و الأمر بهذه الصورة يحتاج، فيما أرى إلى وقفة، (فأولا) ليس هناك من ريب في أن سيدنا يحيى عليه السلام، و هو الذي يسميه النصارى يوحنا المعمدان، نبيّ من أنبياء اللّه المصطفين الأخيار، كما جاء في ذلك في القرآن الكريم، و كما رأينا من

ص: 267


1- أنظر: إنجيل متى 14/ 3- 12، إنجيل مرقس 6/ 16- 30، تاريخ يوسفيوس ص 214، قاموس الكتاب المقدس 2/ 1011، فيلب حتى: المرجع السابق ص 420- 422، عبد الرازق نوفل: يوحنا المعمدان- القاهرة 1977 م ص 61- 68، و كذا, yranoitciD elbiB s'regnU, reGNU. F. M 472. p، 1970- ثم قارن: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 301- 302، تاريخ الطبري 1/ 585- 593، تاريخ ابن خلدون 2/ 172، مروج الذهب للمسعودي 1/ 75- 76، غير أن المراجع العربية مضطربة في تأريخها لهذه الفترة، حتى أنها تذهب إلى أن اللّه تعالى قد سلط على اليهود «بختنصر» (نبوخذ نصر 605- 562 ق. م) جزاء وفاقا لما ارتكبوه في حق النبي الكريم يحيى عليه السلام، و أنه قتل منهم سبعين ألف رجل و امرأته، هذا مع العلم بأن تاريخ «نبوخذ نصر» أصبح الآن من الحقائق التاريخية المسلم بها، و هو أنه كان يعيش في أواخر القرن السابع، و حتى عام 562 من القرن السادس قبل الميلاد، و أن سيدنا يحيى كان يعيش بعد ذلك بأكثر من خمسة قرون و نصف القرن، حيث أنه عاصر المسيح عليه السلام.

قبل، و ليس كما يقول إنجيل متى «لأنه كان عندهم مثل نبي» (1) أو أنه «رجل بار و قديس» كما يقول إنجيل مرقس (2)، (و ثانيا) لما ذا يمنع يوحنا المعمدان (3) هذا الزواج، و مبلغ علمي أن التوراة، و التي كان على شريعتها كل من هيرودوس و هيروديا، لا تمنع ذلك الزواج، بل تفرضه على المؤمنين بها، بل إنها إنما تفرض كذلك أن ينسب الأبناء من هذا الزواج الجديد إلى الأخ المتوفي (4) و إذا كان ذلك صحيحا فإن التفسير الآنف الذكر للحدث الخطير المحزن إنما هو تفسير أناجيل النصارى، و ما كان هيرودوس نصرانيا، إنما كان ملكا يهوديا آدوميا على مملكة آدومية يهودية، فالتاريخ حتى تلك اللحظة ما كان يتعامل مع ملوك أو حتى شعوب نصرانية، كما أن يحيى عليه السلام لم يكن نصرانيا حتى يفتى بشريعة النصارى، بل إن السيد المسيح نفسه لم يكن حتى ذلك الوقت قد بعث رسولا نبيا، و بالتالي لم يكن يحكم بشريعة الإنجيل، و من ثم فلا بد أن يكون هناك سبب آخر يمنع هذا الزواج، و هنا نجد رواية تذهب إلى أن هيرودوس إنما كان قد ألقى بأخيه فيلبس، زوج هيروديا، في غياهب السجون، ثم أمر به فقتل، ثم أراد أن يتزوج من امرأته، و لعل هذا هو السبب في ثورة النبي الكريم على هذا الزواج و معارضته بشدة (5).

على أن المراجع العربية إنما تقدم روايات تختلف عن الرواية السابقة، فتذهب في أسباب قتل يحيى عليه السلام إلى أن ملك دمشق وقت

ص: 268


1- متى 14/ 5.
2- مرقس 6/ 20.
3- يسمى النصارى يحيى عليه السلام «يوحنا المعمدان»، فأما يوحنا فهو اسمه، و أما المعمدان، فلأنه، طبقا لما جاء في الأناجيل، إنما كان يعمّد القوم، أي يغسلهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا، و قد عمّد يحيى السيد المسيح نفسه (متى 3/ 1- 16).
4- سفر التكوين 38/ 6- 11.
5- محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 1147- 1149.

ذاك أراد أن يتزوج ببعض محارمه أو من لا يحل له أن يتزوجها، فنهاه يحيى عن ذلك، فتبقى في نفسها منه، فلما كان بينها و بين الملك ما يحب منها استوهبت منه دم يحيى فوهبه لها، فبعثت إليه من قتله، و جاء برأسه و دمه في طشت إلى عندها، فيقال إنها هلكت من فورها و ساعتها، و قيل بل أحبته امرأة ذلك الملك و راسلته فأبى عليها، فلما يئست منه تحيلت في أن استوهبته من الملك فتمنع عليها الملك ثم أجابها إلى ذلك فبعث من قتله و أحضر إليها رأسه و دمه في طشت.

و أما مكان قتله، فذهب فريق إلى أنه قتل على الصخرة التي ببيت المقدس، و ذهب فريق آخر إلى أنه قتل في دمشق، و تذهب رواية لابن عساكر عن قاسم مولى معاوية إلى أن «هداد بن هداد» ملك دمشق كان قد زوج ابنه بابنة أخيه «أريل» ملك صيدا، فحلف بطلاقها ثلاثا ثم أراد مراجعتها فاستفتى يحيى بن زكريا فقال له: لا تحل لك حتى تنكح زوجا غيرك، فحقدت عليه و سألت الملك رأس يحيى، و ذلك بإشارة من أمها، فأبى عليها ثم أجابها إلى ذلك، و بعث إليه و هو قائم يصلي في مسجد حبرون من أتاه برأسه في صينية، فجعل الرأس يقول: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، فأخذت المرأة الطبق فحملته إلى أمها، و هو يقول كذلك، فلما تمثلت بين يدي أمها خسفت بها الأرض إلى قدميها، ثم إلى حقويها ثم إلى منكبيها، فأمرت أمها بقطع رأسها لتتسلى برأسها، فلفظت الأرض جثتها، و لم يزل دم يحيى يفور حتى قدم «بخت نصر» (نبوخذ نصر) فقتل عليه خمسة و سبعين ألفا، ثم ما زال الدم يفور حتى وقف عنده إرميا النبي، فقال: أيها الدم أفنيت بني إسرائيل فاسكن بإذن اللّه، فسكن فرفع السيف، و هرب نبو هرب من أهل دمشق إلى بيت المقدس، فتبعهم نبوخذ نصر إليها فقتل منهم خلقا كثيرا لا يحصون كثرة، و سبى منهم ثم رجع عنهم (1).

ص: 269


1- ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 53- 55، قصص الأنبياء 2/ 362- 366.

و هذه الروايات، و إن كان فيها بعض الشبه من رواية الأناجيل، ففيها كذلك بعض نقاط ضعف، منها (أولا) أن يحيى عليه السلام إنما كان من أنبياء بني إسرائيل، و لم يكن أبدا من أنبياء الآراميين سكان دمشق، و بنو إسرائيل لم يكونوا في دمشق، و إنما كانوا في فلسطين، و بالتالي فإن حادث مقتل النبي الكريم إنما كان في بيت المقدس و لم يكن في دمشق، و منها (ثانيا) أن دمشق كانت على أيام يحيى عليه السلام، بل و بالتحديد منذ عام 64 قبل مولد المسيح، مستعمرة رومانية، و بالتالي فلم يكن بها ملك، و إنما كان بها وال روماني (1)، و منها (ثالثا) أن «هدد» (بنحدد) إنما كان ملك الآراميين في دمشق، و ذلك في القرن التاسع قبل الميلاد، و قد اشترك في موقعه «قرقر» عام 853 ق. م ضد الملك الأشوري «شلمنصر الثالث (859- 824 ق. م)، إلى جانب «أخاب» ملك إسرائيل و غيره من حكام ولايات سورية و فلسطين، و من ثم فهو قد عاش قبل عهد يحيى عليه السلام بأكثر من ثمانية قرون، و منها (رابعا) أن حاكم دمشق، أيا كان اسمه، لم يكن أبدا أخا لملك صيدا، فالأولى ولاية أرامية، و الثانية فينيقية، و منها (خامسا) ما أشرنا إليه من قبل من أن عهد يحيى عليه السلام إنما كان بعد عهد «بخت نصر» (نبوخذ نصر ).

ص: 270


1- افتتح القائد الروماني «بومبي» (yepmoP) مدينة دمشق عام 64 ق. م، و في عام 63 ق. م، و في يوم سبت احتل مدينة القدس و دمر حصونها و قتل رجالها، و بذا أصبحت كل من دمشق و القدس ولاية رومانية ثم سرعان ما بدأ «بومبي» تنظيماته الجديدة، فأدخل سورية الجغرافية و التقليدية كلها تحت اسم واحد هو «ولاية سورية» (airyS aicnivorP) و حلت ولاية سورية محل مملكة سورية القديمة و أصبحت عاصمتها «أنطاكية»، بينما جعلت «قليقيا» ولاية قائمة بذاتها، و أبقيت اليهودية ولاية خاضعة ضمن إطار ولاية سورية، و بعد فترة منحت المدن ذات الدساتير اليونانية حرية داخلية في ظل حكام الولايات الرومان، و شكلت عشرة من هذه المدن اتحادا عرف باسم «الديكابوليس» ثم انضمت إليها مدن أخرى فيما بعد، و على أية حال فلقد ظلت سورية و فلسطين، طوال عصر مجد الامبراطورية الرومانية مجرد ولايات رومانية (أنظر: التفصيلات و المراجع: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 1136- 1139).

605- 562 ق. م) بأكثر من خمسة قرون و نصف القرن، و من ثم فلا علاقة بين الحادثين.

و منها (سادسا) أن فتوى يحيى عليه السلام بشأن المرأة التي طلقها زوجها ثلاثا، بأنها لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، إنما هي فتوى إسلامية على شريعة محمد صلى اللّه عليه و سلم، و ليس الأمر كذلك في شريعة موسى، كما جاءت في التوراة المتداولة اليوم، و ليس لدينا غيرها عن شريعة موسى (إلا بنص من الكتاب أو السنة يبطل هذا الحكم) و قد كان يحيى يفتي بشريعة التوراة، و التي اشترطت في الطلاق أن يعطي الرجل امرأته المطلقة وثيقة تسريح، ثم لها بعد ذلك أن تتزوج من غيره و لكنها لا تعود إلى زوجها الأول، إذا ما طلقت من زوجها الثاني أو حتى في حالة وفاة هذا الزوج الثاني (1)، تقول التوراة في سفر التثنية «إذا أخذ الرجل امرأة و تزوج بها، فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شي ء، و كتب لها كتاب طلاق و دفعه إلى يدها و أطلقها من بيته أو مات الرجل الآخر الذي اتخذها له زوجة، لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست» (2).

بقيت الإشارة إلى أن سيدنا يحيى عليه السلام، و قد عاصر المسيح عليه السلام، فإنه من ثم يكون قد عاش على أيام القيصر «أوغسطس» (27 ق. م- 14 م) و القيصر «تبيريوس» (14- 37 م)، كما عاصر من حكام القدس من قبل الرومان «هيرودوس الكبير» (37- 4 ق. م) و ولده «أرخيلاس» (4 ق.

م- 6 م) ثم ولده الثاني «هيرودوس أنتيباس» (6- 39 م)، و من الحكام العرب من الأنباط «الحارث الرابع» (9 ق. م- 40 م).

ص: 271


1- أنظر عن الزواج و الطلاق في التوراة (محمد بيومي مهران: إسرائيل 4/ 239- 286).
2- تثنية 24/ 1- 4.

ص: 272

الكتاب السّادس المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه

اشارة

ص: 273

ص: 274

الفصل الأول مريم ام المسيح عليهما السّلام

تذهب الروايات إلى أن «حنة» امرأة عمران، و أم مريم البتول كانت قد أمسك عنها الولد حتى أسنت، و كانوا أهل بيت من اللّه، جل ثناؤه، بمكان، فبينما هي في ظل شجرة نظرت إلى طائر يطعم فرخا له، فتحركت نفسها للولد، فدعت اللّه أن يهب لها ولدا، فحملت مريم، و هلك عمران أثناء الحمل، فلما عرفت أن في بطنها جنينا، جعلته للّه نذيرة، و النذيرة أن تعبّده للّه فتجعله حبسا في الكنيسة، لا ينتفع به بشي ء من أمور الدنيا (1)، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (2)، و كانت حنى تظن أن ما في بطنها ذكرا، ذلك لأن الذكر (3) أقوى على الخدمة

ص: 275


1- تفسير الطبري 3/ 235، و انظر: تفسير أبي السعود 1/ 230، تفسير النسفي 1/ 155، روح المعاني 3/ 133.
2- سورة آل عمران: آية 35.
3- كانت المرأة اليهودية المقلات تنذر لربها، إن رزقت أطفالا و عاشوا، فإنها تهب أكبرهم للإله (يهوه)، و من ثم يصبح هذا الطفل خادما للكهنة و حارسا للمعبد، و ربما يصبح كاهنا، كما يمكن افتداء الطفل بدفع مبلغ من المال للمعبد (لاويون 27/ 1- 8)، و طبقا لرواية التوراة في سفري الخروج و صموئيل أول، فقد جندت بعض النساء للخدمة، عند باب خيمة الاجتماع، غير أن هذين النصين إنما هما تعديل لا حق، كما أنهما ليسا واضحين، و إن كانت روايتهما عن خدم المعبد و الأشخاص المتدينين الذين يعيشون بداخله، أو النساء المتدينات المشتركات في الأعياد (أنظر:, siraP, learsI'd noitasiliviC al ed eriotsiH, telohtreB. A 356. p، 1929). P, tic- po, sdoL. A 449- 448. و كذا.

و أقوم بها، و أن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدس و القيام بخدمة الكنيسة لما يعترضها من الحيض و النفاس (1)، و من ثم فإن النذر للمعابد لم يكن معروفا إلا للصبيان ليخدموا الهيكل، و ينقطعوا للعبادة و التبتل، و لكن «حنة» رزقت بأنثى، و من ثم فهي تتوجه إلى ربها في نغمة أسيفة: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ، وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ، وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (2)، و هكذا تودع الأم هديتها بين يدي ربها و تدعها لحمايته و رعايته، و تعيذها به و ذريتها من الشيطان الرجيم، و هذه كلمة القلب الخالص، و رغبة القلب الخالص، فما تود لوليدتها أمرا خيرا من أن تكون في حياطة اللّه من الشيطان الرجيم (3) و استجاب اللّه لها فأعاذها اللّه و ذريتها من الشيطان الرجيم، فلم يجعل له عليها سبيلا، أخرج الشيخان، البخاري و مسلم عن أبي هريرة أنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «ما من مولد يولد إلا و الشيطان يمسه حين يولد، فيستهل من مسه صارخا، إلا مريم و ابنها»، و في رواية: «ما من ولد يولد، إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا من مسّة الشيطان، إلا مريم و ابنها»، ثم يقول أبو هريرة:

اقرءوا إن شئتم: «و إني أعيذها بك و ذريتها من الشيطان الرجيم» (4)، و هكذا قبل اللّه تعالى نذر حنة، قال تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً

ص: 276


1- تفسير الطبري 3/ 237.
2- سورة آل عمران: آية 36.
3- في ظلال القرآن 1/ 392- 293 (بيروت 1982).
4- صحيح البخاري 6/ 42، صحيح مسلم 7/ 96- 97، و انظر روايات أخرى للحديث الشريف في: تفسير الطبري 3/ 238- 240، تفسير روح المعاني 3/ 137، تفسير ابن كثير 1/ 538- 539، تاريخ ابن خلدون 2/ 168- 169.

حَسَناً (1) جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم، و هذا التجرد الكامل في النذر، و إعداد لها أن تستقبل نفخة الروح و كلمة اللّه، و أن تلد عيسى عليه السلام، على غير مثال من ولادة البشر (2).

هذا و قد روى عن ابن عباس، حبر الأمة و ترجمان القرآن، أن حنة لما وضعت مريم خشيت أن لا تقبل الأنثى محررة، فلفتها في خرقة و وضعتها في بيت المقدس عند القراء، فتساهم القراء عليها لأنها كانت ابنة إمامهم، أيهم يأخذها (3)، فقال زكريا، و هو رأس الأحبار: أنا آخذها و أنا أحقهم بها لأن خالتها عندي، فقالت القراء: و لكننا نتساهم عليها فمن خرج سهمه فهو أحق بها، فدعوا بأقلامهم التي يكتبون بها الوحي و جمعوها في موضع ثم غطوها، و قال زكريا لبعض من الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم ممن في بيت المقدس:

أدخل يدك فأخرج، فأدخل يده فأخرج قلم زكريا، فقالوا: لا نرضى و لكن نلقي الأقلام في الماء فمن خرج قلمه جرية الماء ثم ارتفع فهو يكفلها، فألقوا أقلامهم في نهر الأردن فارتفع قلم زكريا في جرى الماء، فقالوا: نقترع الثالثة: فمن جرى قلمه مع الماء فهو يكفلها، فألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا مع الماء و ارتفعت أقلامهم في جرية الماء، و قبضها عند ذلك زكريا (4)، و يقول الفخر الرازي أن المراد بالأقلام التي يكتبون بها التوراة و سائر كتب اللّه تعالى، و كان القراع على أن كل من جرى قلمه عكس الماء، فالحق معه، فلما فعلوا ذلك

ص: 277


1- سورة آل عمران: آية 37.
2- في ظلال القرآن 1/ 393.
3- يقول الفخر الرازي في التفسير الكبير 8/ 46): اختلفوا في السبب الذي لأجله رغبوا في كفالتها حتى أدتهم تلك الرغبة إلى المنازعة، فقيل لأن عمران أباها كان رئيسا لهم و مقدما عليهم، فلأجل حق أبيها رغبوا في كفالتها، و قيل لأن أمها حررتها لعبادة اللّه و خدمة بيته، و قيل لأن في الكتب الإلهية كان بيان أمرها و أمر عيسى عليه السلام حاصلا فتقربوا لهذا السبب حتى اختصموا.
4- تفسير روح المعاني 3/ 138.

صار قلم زكريا كذلك، فسلموا الأمر له، و هذا قول الأكثرين (1)، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (2)، و النص القرآني يشير إلى حادث لم يذكره العهد القديم، و لا العهد الجديد، المتداولان، و لكن لا بد أنه كان معروفا عند الأحبار و الرهبان، حادث إلقاء أقلام سدنة الهيكل، لمعرفة من تكون مريم من نصيبه، و النص القرآني لا يفصل الحادث ربما اعتمادا على أنه كان معروفا لسامعيه، أو لأنه لا يزيد شيئا في أصل الحقيقة التي يريد عرضها على الأجيال القادمة (3).

و هكذا كفل زكريا مريم أم المسيح عليهم السلام، بعد وفاة أبيها عمران، فقد كان زوجا لخالتها، أو أختها، كما ورد في الصحيح: «فإذا يحيى و عيسى و هما ابنا الخالة»، و قد يطلق على ما ذكره ابن إسحاق و ابن جرير من أنه كان زوجا لخالتها، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها، و قد ثبت في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قضى في عمارة بنت حمزة أن تكون في حضانة خالتها، امرأة جعفر بن أبي طالب، و قال صلى اللّه عليه و سلم: «الخالة بمنزلة الأم» (4)، و على أية حال، فلقد اتخذ زكريا لمريم محرابا، و المحراب مقدم كل مسجد و مصلي، و هو سيد المجالس و أشرفها و أكرمها، و كذلك هو من المساجد، أو هو المكان الشريف من المسجد، لا يدخله عليها أحد سواه، و قد شاء اللّه أن يطلعه على كرامة مريم و جليل قدرها، فكان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا، و إلى هذا يشير القرآن في قوله تعالى: ).

ص: 278


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 45.
2- سورة آل عمران: آية 44.
3- في ظلال القرآن 1/ 396.
4- تفسير ابن كثير 1/ 539 (بيروت 1986).

وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (1)، روى الطبري عن السّدى قال: جعلها زكريا معه في بيت، و هو المحراب، فكان يدخل عليها في الشتاء، فيجد عندها فاكهة الصيف، و يدخل في الصيف فيجد عندها فاكهة الشتاء، و عن ابن عباس قال: وجد عندها ثمار الجنة، فاكهة الصيف في الشتاء، و فاكهة الشتاء في الصيف (2).

و روى الحافظ أبو يعلي عن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا، فأتى فاطمة فقال: يا بنية هل عندك شي ء آكله فإني جائع، فقالت: لا، بأبي أنت و أمي، فلما خرج من عندها، بعثت إليها جارة لها برغيفين و قطعة لحم، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها، و قالت: و اللّه لأوثرن بهذا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على نفسي و من عندي، و كانوا جميعا محتاجين إلى شعبة طعام، فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فرجع إليها، فقالت: بأبي أنت و أمي، قد أتى اللّه بشي ء فخبأته لك، قال: هلمي يا بنية، قالت فأتيته بالجفنة، فكشفت عنها، فإذا هي مملوءة خبزا و لحما، فلما نظرت إليها بهت و عرفت أنها بركة من اللّه، فحمدت اللّه و صليت على نبيه، و قدمته إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فلما رآه حمد اللّه و قال: من أين لك هذا يا بنية، قالت يا أبت: «هو من عند اللّه إن اللّه يرزق من يشاء بغير حساب»، فحمد اللّه و قال: الحمد اللّه الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل، فإنها كانت إذا رزقها اللّه شيئا و سئلت عنه قالت: هو من عند اللّه، إن اللّه يرزق من يشاء بغير حساب، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى عليّ، ثم أكل رسول ).

ص: 279


1- سورة آل عمران: آية 37.
2- تفسير الطبري 3/ 245- 246 (بيروت 1984).

اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أكل علي و فاطمة و حسن و حسين و جميع أزواج النبي صلى اللّه عليه و سلم و أهل بيته حتى شبعوا جميعا، قالت: و بقيت الجفنة كما هي، فأوسعت ببقيتها على جميع الجيران، و جعل اللّه فيها بركة و خيرا كثيرا (1).

و هكذا نشأت مريم البتول على الطهارة و العبادة و البعد عن الدنس و رذائل الأمور، قال تعالى: وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ، يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (2)، و يقول الفخر الرازي: (3) اعلم أن المذكور في هذه الآية:

أولا هو الاصطفاء، و ثانيا التطهير، و ثالثا الاصطفاء على نساء العالمين، و لا يجوز أن يكون الاصطفاء الأول من الاصطفاء الثاني، لما أن التصريح بالتكرير غير لائق، فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها، و الاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها، و من النوع الأول من الاصطفاء أمور: أنه تعالى قبل تحريرها، مع أنها كانت أنثى، و لم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث، و ثانيها: قال الحسن البصري: إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين، بل ألقتها إلى زكريا، و كان رزقها يأتيها من الجنة، و ثالثها: أنه تعالى فرغها لعبادته و خصها في هذا المعنى بأنواع اللطف و العناية و الصحة، و رابعا: أنه كفاها أمر معيشتها، فكان رزقها يأتيها من عند اللّه تعالى على ما قال اللّه تعالى: أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، و خامسها: أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها، و لم يتفق ذلك لأنثى غيرها، فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول، و أما التطهير ففيه وجوه، أحدها: أنه تعالى طهرها من الكفر و المعصية، و ثانيها:

أنه طهرها عن مسيس الرجال، و ثالثها: طهرها من الحيض، قالوا كانت

ص: 280


1- تفسير ابن كثير 1/ 539- 540، تفسير روح المعاني 3/ 141.
2- سورة آل عمران: آية 42- 43.
3- تفسير الفخر الرازي 8/ 43.

مريم لا تحيض، و رابعها: طهرها من الأفعال الذميمة و العادات القبيحة، و خامسها: طهرها من مقالة اليهود و تهمتهم و كذبهم، و أما الاصطفاء الثاني:

فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب، و أنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة، و جعلها و ابنها آية للعالمين، فهذا هو المراد من هذه الألفاظ الثلاثة.

هذا و قد ناقش العلامة الألوسي في تفسيره: «روح المعاني» قضية اصطفاء مريم على نساء العالمين (1)، و قيل على جميع النساء في سائر الأعصر، و استدل به على أفضليتها على السيدة فاطمة الزهراء، و أمها السيدة خديجة، و السيدة عائشة رضي اللّه تعالى عنهن، و أن ذلك بما أخرجه ابن عساكر في أحد الطرق عن ابن عباس أنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: سيدة نساء أهل الجنة: مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون»، و بما أخرجه ابن جرير عن فاطمة، صلى اللّه تعالى على أبيها و عليها و سلم، أنها قالت: قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول».

و أما القول الثاني: فالمراد عالمها، فلا يلزم منه أفضليتها على فاطمة رضي اللّه تعالى عنها (2)، و يقول ابن كثير: يحتمل أن يكون عالمي زمانها، كقوله تعالى لموسى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ، و كقوله عن بني إسرائيل: وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ، و معلوم أن إبراهيم عليه السلام أفضل من موسى و أن محمدا صلى اللّه عليه و سلم أفضل منهما، و كذلك هذه الأمة أفضل من سائر الأمم قبلها و أكثر عددا و أفضل علما و أزكى عملا من بني إسرائيل و غيرهم (3).

ص: 281


1- روى الطبري و ابن كثير عدة أحاديث شريفة في فضل السيدة مريم (تفسير الطبري 1/ 263- 264، تفسير ابن كثير 1/ 542- 544، البداية و النهاية 2/ 59- 63).
2- تفسير روح المعاني 3/ 155.
3- ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 59.

و يؤيد الألوسي قوله بأن اصطفاء مريم على نساء عالمها، و لا يلزم منه أفضليتها على الزهراء، بضعة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، بما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: أربع نسوة سادات عالمهن: مريم بنت عمران، و آسية بنت مزاحم و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد صلى اللّه عليه و سلم و أفضلهن عالما فاطمة»، و ما رواه الحرث بن أسامة في مسنده بسند صحيح، لكنه مرسل «مريم خير نساء عالمها»، و إلى هذا ذهب أبو جعفر رضي اللّه تعالى عنه (أي الإمام محمد الباقر)، و هو المشهور عن أئمة أهل البيت، و الذي أميل إليه (أي العلامة الألوسي): أن فاطمة البتول أفضل النساء المتقدمات و المتأخرات من حيث أنها بضعة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، بل و من حيثيات أخرى أيضا، و لا يعكر على ذلك الأخبار السابقة لجواز أن يراد بها أفضلية غيرها عليها من بعض الجهات و بحيثية من الحيثيات، و به يجمع بين الآثار، و هذا شائع على القول بنبوة مريم أيضا، إذ البضعية من روح الوجود و سيد كل موجود صلى اللّه عليه و سلم لا أرها تقابل بشي ء، و أين الثريا من يد المتناول، و من هنا يعلم أفضليتها على عائشة، رضي اللّه تعالى عنها، الذاهب إلى خلافها الكثير، محتجين بقوله صلى اللّه عليه و سلم: «خذوا ثلثي دينكم عن الحميراء» و قوله صلى اللّه عليه و سلم:

«فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام»، و بأن عائشة يوم القيامة في الجنة مع زوجها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و فاطمة يومئذ فيها مع زوجها علي، كرم اللّه تعالى وجهه في الجنة، و فرق عظيم بين مقام النبي صلى اللّه عليه و سلم و مقام علي كرم اللّه وجهه.

و أنت تعلم ما في هذا الاستدلال، و أنه ليس بنص على أفضلية الحميراء على الزهراء، أما (أولا) فلأن قصارى ما في الحديث الأول، على تقدير ثبوته، إثبات أنها عالمة إلى حيث يؤخذ منها ثلثا الدين، و هذا لا يدل على نفي العلم المماثل لعلمها عن بضعته الزهراء صلى اللّه عليه و سلم، و لعلمه صلى اللّه عليه و سلم أنها لا تبقى بعده زمنا معتدا به يمكن أخذ الدين منها فيه لم يقل فيها ذلك، و لو علم لربما

ص: 282

قال: خذوا كل دينكم عن الزهراء، و عدم هذا القول في حق من دل العقل و النقل على علمه، لا يدل على مفضوليته، و إلا لكانت عائشة أفضل من أبيها، رضي اللّه تعالى عنه، لأنه لم يرو عنه في الدين إلا قليل، لقلة لبثه و كثرة غائلته بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، على أن قوله صلى اللّه عليه و سلم: «إني تركت فيكم الثقلين، كتاب اللّه تعالى و عترتي، لا يفترقان حتى يردا على الحوض»، يقام مقام ذلك الخبر و زيادة، كما لا يخفي، كيف لا، و فاطمة، رضي اللّه تعالى عنها، سيدة تلك العترة؟.

و أما (ثانيا) فلأن الحديث الثاني معارض بما يدل على أفضلية غيرها، رضي اللّه تعالى عليها، فقد أخرج ابن جرير عن عمار بن سعد أنه قال، قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «فضلت خديجة على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين» بل هذا الحديث أظهر في الأفضلية و أكمل في المدح، عند من انجاب عن عين بصيرته عين التعصب و التعسف، لأن ذلك الخبر، و إن كان ظاهرا في الأفضلية، لكنه قيل، و لو على بعد، إن «أل» في النساء فيه للعهد، و المراد بها الأزواج الطاهرات الموجودات حين الإخبار، و لم يقل مثل ذلك في هذا الحديث، و أما (ثالثا) فلأن الدليل الثالث يستدعى أن يكون سائر زوجات النبي صلى اللّه عليه و سلم أفضل من سائر الأنبياء و المرسلين، عليهم الصلاة و السلام، لأن مقامهم بلا ريب، ليس كمقام المحمود صلى اللّه عليه و سلم فلو كانت الشركة في المنزل مستدعية للأفضلية، لزم ذلك قطعا، و لا قائل به.

و بعد هذا كله، الذي يدور في خلدي: أن أفضل النساء قاطبة: فاطمة ثم أمها (خديجة) ثم عائشة، بل لو قال قائل إن سائر بنات النبي صلى اللّه عليه و سلم أفضل من عائشة، لا أرى عليه بأسا، و عندي بين مريم و فاطمة توقف نظرا للأفضلية المطلقة، و أما بالنظر إلى الحيثية، فقد علمت ما أميل إليه، و قد سئل الإمام السبكي، عن هذه المسألة فقال: الذي نختاره و ندين اللّه تعالى به، أن فاطمة بنت محمد صلى اللّه عليه و سلم أفضل، ثم أمها ثم عائشة، و وافقه في ذلك البلقيني،

ص: 283

و قد صحح ابن العماد أن خديجة أيضا أفضل من عائشة، لما ثبت أنه صلى اللّه عليه و سلم قال لعائشة، حين قالت: قد رزقك اللّه خيرا منها، فقال لها: لا و اللّه ما رزقني اللّه تعالى خيرا منها، آمنت بي حين كذبني الناس، و أعطتني مالها حين حرمني الناس، و أيد هذا بأن عائشة أقرأها السلام النبي صلى اللّه عليه و سلم من جبريل، و خديجة أقرأها السلام جبريل من ربها، و بعضهم لما رأى تعارض الأدلة في هذه المسألة توقف فيها، و إلى التوقف مال القاضي أبو جعفر الأسروشني منا، و ذهب ابن جماعة إلى أنه المذهب الأسلم، و أشكل ما في هذا الباب حديث الثريد، و لعل كثرة الأخبار الناطقة بخلافه تهون تأويله، و تأويل واحد لكثير أهون من تأويل كثير لواحد، و اللّه تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل (1). ).

ص: 284


1- تفسير روح المعاني 3/ 155- 156 (دار الفكر- بيروت 1978).

الفصل الثّاني مولد المسيح عليه السّلام

السيد المسيح عيسى بن مريم: اسمه عيسى، و لقبه المسيح، و يكنى ابن مريم، نسبة إلى أمه مريم بنت عمران، و أما سبب تقديم اللقب على الاسم، فذلك، فيما يرى الفخر الرازي، لأن المسيح كاللقب الذي يفيد كونه شريفا رفيع الدرجة مثل الصديق و الفاروق، فذكره اللّه تعالى أولا بلقبه ليفيد علو درجته، ثم ذكره باسمه الخاص، و أما نسبه لأمه، فلأن الأنبياء إنما ينسبون إلى الآباء، لا إلى الأمهات، فلما نسبه اللّه تعالى إلى الأم، دون الأب، كان ذلك إعلاما لها بأنه محدث بغير الأب، فكان ذلك سببا لزيادة فضله و علو درجته (1).

و كلمة المسيح عند أهل الكتاب تعني المخلص المنتظر الذي يتم على يديه خلاص الشعب المختار، و من ثم فقد أطلق على أتباع المسيح لفظ «المسيحيين» تمييزا لهم عن اليهود (2)، و ربما تعني كلمة المسيح، الممسوح بزيت البركة، كما كان اليهود يفعلون عند تنصيب ملك جديد (3)، و أما كلمة «يسوع» التي استعملت في الأناجيل فهي الصيغة الهيلينية لكلمة «يشوع»،

ص: 285


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 50.
2- جواد علي: المرجع السابق 6/ 585.
3- صموئيل أول 10/ 1.

و هو بالعربية تعني «يهوه هو الخلاص» (1)، على أنه من الجدير بالملاحظة أن هذه اللفظة اليونانية لم تستعمل في القرآن الكريم، و كذا المؤلفات العربية القديمة، فضلا عن الشعر الجاهلي، فالكلمة على ما يبدو من الكلمات المتأخرة (2)، و إن ذهب بعض علماء المسلمين إلى أن عيسى معرب يشوع و معناه «السيد» (3).

و أما كلمة المسيح عند المسلمين فهي: لقب من الألقاب المشرفة كالصديق و الفاروق، و أصله مشيحا بالعبرية و معناه المبارك، و قيل بمعنى مسحه اللّه فطهره من الذنوب، و قيل لأنه مسح بالبركة، و عن إبراهيم النخعي بمعنى الصديق، و عن أبي عمرو بن العلاء بمعنى الملك، و عن كثير من السلف أن المسيح مشتق من المسح، و اختلفوا في وجه إطلاقه على عيسى عليه السلام، فقيل لأنه مسح بالبركة و اليمن، و قد روى ذلك عن الحسن البصري و سعيد بن جبير، و عن ابن عباس لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برئ، و عن الكلبي لأنه كان يمسح عين الأكمة فيبصر، و عن الجبائي لأنه كان يمسح بدهن زيت بورك فيه، و كانت الأنبياء تتمسح به، و لا يمسح به غيرهم، و أن هذا الدهن يجوز أن يكون اللّه تعالى جعله علامة حتى تعرف الملائكة أن كل من مسح به وقت الولادة فإنه يكون نبيّا، و قيل لأن جبريل مسحه بجناحيه وقت الولادة ليكون عوذه من الشيطان الرجيم، و قيل لأنه حين مسح اللّه تعالى ظهر آدم عليه السلام، فاستخرج منه ذرات ذريته لم يرده (أي المسيح) إلى مقامه كما فعل بباقي الذرات بل حفظه عنده حتى ألقاه إلى مريم قد بقي عليه اسم المسيح أي الممسوح، و قيل لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما، و قيل لكثرة سياحته، فقد كان يمسح الأرض بالسياحة لا

ص: 286


1- فيلب حتى: المرجع السابق ص 363.
2- . P, malsI fo yranoitciD, sehguH 431.
3- تفسير روح المعاني 3/ 161.

يستوطن مكانا، أو لأنه كان يمسح رأس اليتامى للّه تعالى، أو لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن (1).

و أما أتباع المسيح فيسمون «النصارى»، و النصارى جمع واحدهم «نصراني»، بإسقاط الياء فيما يرى «سيبويه»، و الأنثى «نصرانية» و هي نكرة يعرف بالألف و اللام، و ذهب الخليل إلى أن واحد النصارى «نصري» هذا و قد سمع في جمعهم أنصار، و الكلمة ليست عربية أصلية، و إنما معربة عن السريانية من كلمة «نصريو أو نصرايا» على رأي (2)، و من التسمية العبرية «الناصريين» أو «النذيريين» حيث أطلقها اليهود على أتباع السيد المسيح، على رأي آخر (3)، على أن البعض إنما يرى أن للكلمة صلة بالناصرة، بلد المسيح عليه السلام، فعن ابن عباس: إنما سميت النصارى نصارى، لأن قرية عيسى بن مريم كانت تسمى «الناصرة»، و كان أصحابها يسمون «الناصريين» و كان يقال لعيسى «الناصري»، أو نسبة إلى الناصريين إحدى الفرق اليهودية القديمة المنتصرة، أو أنهم سموا النصارى لتناصرهم فيما بينهم، و قد يقال لهم أنصار أيضا، كما قال عيسى عليه السلام: «من أنصاري إلى اللّه قال الحواريون نحن أنصار اللّه» (4)، و قد بقي اليهود يطلقون كلمة النصارى على من اتبع دين المسيح، و بهذا المعنى وردت الكلمة في

ص: 287


1- تفسير الطبري 3/ 270 تفسير ابن كثير 1/ 545، تفسير روح المعاني 3/ 161، تفسير الكشاف 1/ 278، صفوة التفاسير 1/ 201، لسان العرب 2/ 594، تفسير النسفي 1/ 158، تفسير الفخر الرازي 8/ 49- 50، تفسير المنار 3/ 251- 252.
2- لسان العرب 7/ 68، تفسير الطبري 1/ 318، تفسير القرطبي ص 369، تفسير ابن كثير 1/ 156، تفسير البحر المحيط 1/ 238، معاني القرآن للفراء 1/ 44، أمالي ابن الشجري 1/ 79، 371، غرائب اللغة ص 207، و كذا.. 848. P, III, IE
3- أعمال الرسل 24/ 5، و كذا., ERE, sgnitsaH. J 574. p، 3.
4- تفسير الطبري 1/ 318، تفسير ابن كثير 1/ 156.

القرآن الكريم، و من ثم فقد أصبحت النصرانية علما على ديانة المسيح عند المسلمين (1).

و أما النصارى أنفسهم فقد كان القدامى منهم ينظرون إلى السيد المسيح نظرتهم إلى «المعلم»، و من ثم فقد كانوا يسمون أنفسهم «التلاميذ» و «تلاميذ المسيح» (2)، و الأمر كذلك بالنسبة إلى نظرتهم إلى «الحواريين» (و هي لفظة أرامية على رأي، و عربية على رأي آخر، و حبشية على رأي ثالث) (3)، كما دعوا أنفسهم «الأخوة» و «الأخوة في اللّه»، على أساس أن العقيدة الدينية قد آخت بينهم (4)، ثم سرعان ما أصبحت الكلمة مقصورة على رجال الدين الذين دعوا أنفسهم «القديسيين» و «الأخوة المؤمنين في المسيح» و «المقدسين في المسيح يسوع المدعوين قديسيين» (5)، هذا و قد عرف النصارى كذلك «بالمسيحيين»، و نقرأ في أعمال الرسل أن «برنابا» قد خرج إلى طرطوس، و هناك التقى بشاؤل حيث جاء به إلى أنطاكية و بقيا هناك عاما يعلمان جمعا غفيرا من الكنيسة و دعي التلاميذ «مسيحيين» في أنطاكية أولا (6)، كما نقرأ أيضا «فقال أغريباس لبولس بقليل تقنعني أن أصير مسيحيا» (7)، و ربما كانت الكلمة نسبة إلى السيد المسيح، هذا و قد أطلق

ص: 288


1- سورة البقرة: آية 62، المائدة: آية 18، 51، 69، 82، التوبة: آية 30، الحج: آية 17، و انظر: محمد بيومي مهران: الديانة العربية القديمة الإسكندرية 1978 ص 59- 70، 103- 107.
2- , elbiB eht fo yranoitciD, sgnitsaH. J 192. p، 1936.
3- الأب لويس شيخو: النصرانية و آدابها بين عرب الجاهلية- بيروت 1933 ص 189، المشرق- السنة السابقة 1904 م ص 620.
4- . P, tic- po, sgnitsaH. J 104.
5- أعمال الرسل 1/ 15- 16، رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 1/ 2، 10.
6- أعمال الرسل 11/ 25- 26.
7- أعمال الرسل 11/ 26، 26/ 28، رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 4/ 16، و كذا.. P, tic- po, sgnitsaH. J 127.

القرآن الكريم على النصارى «أهل الإنجيل» في قوله تعالى: وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ، وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (1).

و على أي حال، فالمسيح عيسى بن مريم هو عبد اللّه و رسوله، و كلمته ألقاها إلى مريم البتول العذراء، الطاهرة العفيفة التي أحصنت فرجها و صدقت بكلمات ربها و كتبه، و كانت من القانتين، و يمثل المسيح عليه السلام آخر طور من أطوار الديانة الإسرائيلية، فهو آخر أنبياء بني إسرائيل، و قد جعله اللّه عز و جل، هو و أمه، آية في ولادتهما و نشأتهما، قال تعالى:

وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (2)، يقول الرازي: و أما مريم فآياتها كثيرة، أحدها: ظهور الحبل فيها، لا من ذكر، فصار ذلك آية و معجزة خارقة عن العادة، و ثانيها:

أن رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة، و هو قوله تعالى: أَنَّى لَكِ هذا، قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، و ثالثها و رابعها: قال الحسن البصري: إنها لم تلتقم ثديا يوما قط، و تكلمت هي أيضا في صباها، كما تكلم عيسى عليه السلام (3)، و أما آيات عيسى عليه السلام، فسوف نتحدث عنها بالتفصيل في مكانها من هذه الدراسة، و يقول تعالى: وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً، وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ (4)، أما الآية فهي آية غير مسبوقة و لا ملحوقة (أعني ولادة مريم للمسيح من غير مسيس)، آية فذة واحدة في تاريخ البشرية جميعا، ذلك أن المثل الواحد من هذا النوع يكفي لتتأمله البشرية في أجيالها

ص: 289


1- سورة المائدة: آية 47.
2- سورة الأنبياء: آية 91.
3- تفسير الفخر الرازي 22/ 218.
4- سورة المؤمنون: آية 50.

جميعا، و تدرك يد القدرة الطليقة التي تخلق النواميس، و لكنها لا تحتبس داخل النواميس (1).

و أما الربوة المشار إليها في الآية الكريمة، فقد اختلفت الروايات في تحديدها، بين مصر و دمشق و بيت المقدس (2)، و رغم أنه ليس المهم تحديد موضعها، و إنما المقصود هو الإشارة إلى إيواء لمريم و ابنها في مكان طيب، ينضر فيه النبت، و يسيل فيه الماء، و يجدان فيه الرعاية و الإيواء (3)، و على آية حال، فلقد ذهبت رواية الإنجيل إلى أنها مصر (4)، و إلى هذا ذهب الطبري في التاريخ (5)، و كذا ابن خلدون الذي يرى أنهما أقاما بمصر اثنى عشر سنة (6)، و كذا ابن كثير الذي يروي عن وهب بن منبه أن عيسى لما بلغ ثلاث عشرة سنة أمره اللّه أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت إيليا (بيت المقدس) فقدم عليه يوسف ابن خال أمه، فحملها على حمار حتى جاء بهما إلى إيليا، و أقام بها حتى أحدث اللّه له الإنجيل و علمه التوراة و أعطاه إحياء الموتى و إبراء الأسقام و العلم بالغيوب مما يدخرون في بيوتهم، و تحدث الناس بقدومه و فزعوا لما كان يأتي من العجائب فجعلوا يعجبون منه، فدعاهم إلى اللّه ففشا فيهم أمره (7)، و كذا ذهب اليعقوبي و ابن الأثير في تاريخهما، و الألوسي في تفسيره، إلى أنها مصر (8).

ص: 290


1- في ظلال القرآن 4/ 2395.
2- أنظر: تفسير الطبري 18/ 26- 28، تفسير روح المعاني 18/ 37- 39، تفسير ابن كثير 3/ 394- 395، تفسير النسفي 3/ 121، تفسير الفخر الرازي 23/ 102- 103.
3- في ظلال القرآن 4/ 2469.
4- إنجيل متى 2/ 13- 15.
5- تاريخ الطبري 1/ 597.
6- تاريخ ابن خلدون 2/ 172.
7- ابن كثير: البداية و النهاية 2/ 77.
8- تاريخ اليعقوبي 1/ 69، الكامل لابن الأثير 1/ 178، تفسير روح المعاني 18/ 38- 39.

و أيا كان مكان هذه الربوة، فما يهمنا الآن الإشارة إلى أن الشعب الإسرائيلي في ذلك الوقت إنما كان قد فقد الروح الديني الصحيح، و جمد على الطقوس و المراسيم و أشكال العبادة، و ارتكب الجرائم المروعة التي أشار القرآن الكريم إلى بعضها (1)، فأراد اللّه أن يهز في هذا الشعب ما جمد من عواطفه، و يحرك فيه المعاني الروحية التي نسيها، فأجرى له ثلاث آيات كبار، جاءت متتابعة متقاربة، الأولى في ولادة مريم، و الثانية في ولادة يحيى، و أما الثالثة فكانت في ولادة المسيح، و ذلك أن مريم البتول ما أن بلغت مبلغ النساء، حتى أراد اللّه أن يجعل لها من الكرامة ما لم يتيسر لغيرها من نساء العالمين، فهيأ لها الحمل دون تتوافر لها أسبابه، و ذلك بأن جاءها جبريل، في أرجح الآراء، في صورة فتى غض الشباب فتملكها الرعب و الخوف، و ظنت أنه يريد بها السوء، و من ثم فهي تنتفض منه انتفاضة العذراء يفجؤها رجل في خلوتها، فتلجأ إلى اللّه تستعيذ به و تستنجد و تستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل، و الخوف من اللّه و التحرج من رقابته في هذا المكان الخالي «قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا»، فالتقى ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن، و يرجع عن دفعة الشهوة و نزغ الشيطان (2).

و روى عن ابن عباس: جاءها في صورة شاب أبيض الوجه جعد الشعر مستوى الخلقة (3)، قال المفسرون: إنما تمثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه و لا تنفر عنه، و لو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت و لم تقدر على السماع لكلامه، و دل على عفافها و ورعها أنها تعوذت باللّه من تلك الصورة الجملية الفائقة في الحسن (4)، و يقول الفخر الرازي إن في

ص: 291


1- أنظر: سورة آل عمران: آية 36، النساء: آية 160- 161.
2- في ظلال القرآن 4/ 2305.
3- زاد المسير 5/ 217.
4- تفسير البحر المحيط 6/ 180، تفسير النسفي 3/ 31.

قوله تعالى: قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا وجوه، أحدها:

أرادت إن كان يرجى منك أن تتقي اللّه و يحصل ذلك بالاستعاذة باللّه، فإني عائذة به منك، و هذا في نهاية الحسن لأنها علمت أنه لا تؤثر الاستعاذة إلا في التقي، و هو كقوله: وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، أي أن شرط الإيمان يوجب هذا، لا أن اللّه يخشى في حال دون حال، و ثانيها: أن معناه ما كنت تقيا حين استحللت النظر إلي و خلوت بي، و ثالثها: أنه كان في ذلك الزمان إنسان فاجر اسمه «تقي» يتبع النساء فظنت مريم أن ذلك الشخص المشاهد هو ذلك التقي، و الأول هو الوجه (1)، و من ثم ذهب الألوسي إلى أن من قال إن «تقيا» اسم رجل صالح أو حتى طالح، ليس بسديد (2).

و على أية حال، فلقد أخبرها جبريل عليه السلام أن اللّه تعالى أرسله إليها ليهب لها غلاما زكيا، يكون له شأن عجيب، و يهبه اللّه النبوة و الحكمة و حينئذ تملكها العجب، و أدركتها شجاعة الأنثى المهددة في عرضها، فتسأل في صراحة أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا، و يبدو من سؤالها أنها لم تكن تتصور حتى اللحظة وسيلة أخرى لأن يهبها غلاما، إلا الوسيلة المعهودة بين الذكر و الأنثى، و هذا هو الطبيعي بحكم التصور البشري، قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا (3). و في سورة آل عمران تفصيل أكثر عن الغلام المبشر به قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا وَ مِنَ الصَّالِحِينَ (4)، و هكذا بشرت الملائكة مريم بكلمة من اللّه اسمه المسيح

ص: 292


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 197- 198.
2- تفسير روح المعاني 16/ 77.
3- سورة مريم: آية 20- 21، في ظلال القرآن 4/ 2306.
4- سورة آل عمران: آية 45- 46، و انظر: تفسير الطبري 3/ 269- 273، تفسير ابن كثير 1/ 545، تفسير النسفي 1/ 158، تفسير روح المعاني 3/ 159- 164، تفسير الفخر الرازي 8/ 46- 52، تفسير الكشاف 1/ 277- 278، تفسير القرطبي ص 1330- 1331، تفسير المنار 3/ 249- 255، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/ 182- 183.

عيسى ابن مريم، فتضمنت البشارة نوعه، و تضمنت اسمه و نسبه، و ظهر من هذا النسب أن مرجعه لأمه، ثم تضمنت البشارة كذلك صفته و مكانه من ربه وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، كما تضمنت ظاهرة معجزة تصاحب مولده وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، و لمحة من مستقبله «و كهلا»، و سمته و الموكب الذي ينتسب إليه «و من الصالحين»، فأما مريم الفتاة الطاهرة العذراء المقيدة بما لوف البشر في الحياة، فقد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة، و اتجهت إلى ربها تناجيه و تتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحيّر عقل الإنسان: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، و حين يرد الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب و تزول الحيرة و يطمئن القلب، و هكذا كان القرآن يجلو الشبهات التي تعقدها الفلسفات المعقدة، و يقر الأمر في القلوب و في العقول سواء (1).

و على أية حال، فليس هناك من ريب في أن ولادة المسيح عيسى بن مريم، على هذا الوضع العجيب آية بالغة على كمال قدرة اللّه على أنواع الخلق، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر و لا أنثى، و خلق عيسى من أنثى بلا ذكر، و خلق حواء من ذكر بلا أنثى، و خلق بقية الخلق من ذكر و أنثى، يقول ابن كثير: فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته و عظيم سلطانه، فلا إله غيره و لا رب سواه (2)، و على هذا المنوال الأخير من الخلق (أي من ذكر و أنثى) جرت سنة اللّه التي وضعها لامتداد الحياة بالتناسل من ذكر و أنثى في

ص: 293


1- في ظلال القرآن 1/ 398.
2- تفسير ابن كثير 3/ 187.

جميع الفصائل و الأنواع بلا استثناء، حتى المخلوقات التي لا يوجد فيها ذكر و أنثى متميزان، تتجمع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير و التأنيث، جرت هذه السنة أحقابا طويلة حتى استقر في تصور البشر أن هذه هي الطريقة الوحيدة، و نسوا الحادث الأول، حادث وجود الإنسان لأنه خارج عن القياس، فأراد اللّه أن يضرب لهم مثل عيسى بن مريم عليه السلام، ليذكرهم بحرية القدرة و طلاقة الإرادة، و أنها لا تحتبس داخل النواميس التي تختارها، و لم يتكرر حادث عيسى، لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها اللّه، و أن ينفذ الناموس الذي اختاره، و هذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلما بارزا على حرية المشيئة، و عدم احتباسها داخل حدود النواميس وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ، و نظرا لغرابة الحادث و ضخامته، فقد عزّ على فرق من الناس أن تتصوره على طبيعته و أن تدرك الحكمة في إبرازه، فجعلت تضفي على عيسى بن مريم عليه السلام، صفات الألوهية، و تصوغ حول مولده الخرافات و الأساطير، و تعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب، و هي إثبات القدرة الإلهية التي لا نتقيد، تعكسها فتشوه عقيدة التوحيد (1)، بينما تدنت آراء أخرى إلى الحضيض، فاتهمت الطاهرة البتول بما هي منه براء.

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه من البشارات التي جاءت في الإنجيل عن سيدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قول المسيح عليه السلام: «ذاك يمجدني» (2)، و القرآن الكريم، كما رأينا من قبل، حافل بآيات الدفاع عن السيد المسيح و أمه الطاهرة البتول، و دفع الشبهات عنه بالحجة البالغة، و الاعتراف به عبدا للّه تعالى، و رسولا إلى بني إسرائيل، و قد أيده اللّه تعالى بالإنجيل و الروح القدس، و من البدهي أنه ليس هناك من تمجيد، أرفع، و لا

ص: 294


1- في ظلال القرآن 4/ 2304- 2305.
2- إنجيل يوحنا 16/ 14.

دفاع أقوى و أشرف، مما جاء في كتاب اللّه الكريم- القرآن الكريم (1)- من ثناء و تقدير و تكريم للسيد المسيح عليه السلام، و تبرئه لعرضه، و عرض أمه مريم الطاهرة البتول العذراء مما اتهمها به اليهود (2)، من ذلك قوله تعالى:

وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ

ص: 295


1- أنظر مثلا: سورة آل عمران: آية 35- 37، 42- 51، سورة مريم: آية 16- 35.
2- يروى التلمود أن يسوع الناصري (و حاشاه أن يكون كما وصفه اليهود كذبا و افتراء) ارتد عن ديانة اليهود و عبد الأوثان، و كل مسيحي لم يتهود فهو و ثني عدو لليهود، كما يسمى التلمود السيد المسيح «ابن البخار» (ربما يقصد اليهود يوسف البخار خطيب السيدة مريم الذي لم يدخل بها كما تذكر الأناجيل) على نحو ما كان اليهود يطلقون عليه أثناء حياته، و يصفه بأنه كان ساحرا و وثنيا و مجنونا و كافرا لا يعرف اللّه، و من ثم فإن المسيحيين إنما هم كفرة مثله، و أن الطقوس الدينية المسيحية نوع من عبادة الأصنام، و أن أمه مريم قد أتت به من العسكري الروماني «باندارا» بمباشرة الزنا. و يشير اليهود إلى «يوسف باندارا» الذي عاش في الجليل، و عرف بالفسق و الفجور، إلى جانب شكله الحسن، ثم أقدم على التغرير بالفتاة «ميريام» (مريم) ابنة الأرملة، و هناك كتاب يهودي يحكي القصة بأكملها، و يرجع تاريخه إلى القرن الثاني أو الثالث الميلادي، استخدمه اليهود في الهجوم على المسيحية و تحقيرها و يسمى «سفر حياة يشوع» ( tsirhC fo efiL hsiweJ ehT ,suseJ fo noitareneG eht fo kooB :todloT rehpeS ) و يبدو أن الكتاب قد وقع في أيدي الكنيسة في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، و قد نشر الراهب الدومينيكي «ريموند مارتن» (1225- 1284 م) بعض من مقتطفات من «سفر حياة يسوع» دون ذكر اسمه في مقدمة كتابه «خنجر الإيمان أو سيف الدين» soeaduJ te soruaM susrevdA iediF oiguP, nitraM dnumyaR)، 1278) الذي نشره للدفاع عن الدين المسيحي ضد تحديات اليهود و أكاذيبهم المفتراة، ثم قام «مارتن لوثر» (1483- 1546 م) زعيم الإصلاح البروتستاني، بترجمة «سفر حياة يسوع» إلى الألمانية، كما نشره المستشرق الألماني «يوحنا كريستوني فاجنزايل»، فوضع النص اللاتيني مقابل النص العبري في مجموعته الشهيرة التي ضمت العديد من النصوص و الكتابات اليهودية التي تضمر العداء للمسيحية، ثم عكف على دحض كل ما فيها من تهجمات و افتراءات،, frodtlA eanataS aengI aleT, liesnegeW hpotsirhC nnshoJ) 1681) و انظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل- الكتاب الثالث- التوراة و التلمود- الاسكندرية 1979 ص 445- 451.

الْعالَمِينَ (1)، و هنا يجب أن نلاحظ أمرين: أحدهما: أن القرآن الكريم لم يذكر اسم أية امرأة، إلا مريم بنت عمران، أم المسيح عليهما السلام، و الهدف واضح هو ألا يكون في براءتها و طهرها أية ريبة لمستريب، و ثانيهما: أن القرآن الكريم قد أطلق اسمها على سورة من سوره، الأمر الذي لم يحدث لغيرها من النساء، و في حاشية الصاوي على الجلالين: قال بعض العلماء: إن الحكمة في أن اللّه لم يذكر في القرآن امرأة باسمها، إلا «مريم» هي الإشارة من طرف خفي إلى رد ما قاله النصارى من أنها زوجته، فإن العظيم يأنف من ذكر اسم زوجته بين الناس و لينسب إليها عيسى باعتبار عدم وجود أب له، و لهذا قال تعالى: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (2).

و يستمر السياق القرآني فيذكر مشهدا جديدا من القصة، يقول تعالى:

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا، فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (3)، و لا يذكر السياق القرآني كيف حملت مريم وليدها المبارك، و لا كم حملته، و هل كان حملا عاديا كما تحمل النساء، و تكون النفخة قد بعثت الحياة و النشاط في البويضة فإذا هي علقة فمضغة فعظام ثم تكسى باللحم و يستكمل الجنين أيامه المعهودة؟ إن هذا جائز، فبويضة المرأة تبدأ بعد التلقيح في النشاط و النمو حتى تستكمل تسعة أشهر قمرية، و النفخة تكون قد أدت دور التلقيح فصارت البويضة سيرتها الطبيعية، كما أنه من الجائز في مثل هذه الحالة الخاصة ألا تسير البويضة بعد النفخة سيرة عادية، فتنحصر المراحل اختصارا، و يعقبها تكوين

ص: 296


1- سورة آل عمران: آية 42، و انظر: تفسير الفخر الرازي 8/ 42- 44، تفسير الطبري 3/ 262- 264، تفسير ابن كثير 1/ 542- 544، تفسير النسفي 1/ 157- 158، تفسير روح المعاني 3/ 154- 156، تفسير القرطبي ص 1324- 1326، تيسير الكريم الرحمن 1/ 182، تفسير المنار 3/ 246- 247.
2- صفوة التفاسير 1/ 204.
3- سورة مريم: آية 22- 23.

الجنين و نموه و اكتماله في فترة وجيزة، ليس في النص ما يدل على إحدى الحالتين (1)، و من ثم فقد اختلف العلماء في مدة حمل مريم بعيسى على وجوه، الأول: قول ابن عباس أنها كانت تسعة أشهر، كما في سائر النساء بدليل أن اللّه تعالى ذكر مدائحها في هذا الموضع، فلو كانت عادتها في مدة حملها بخلاف عادات النساء لكان ذلك أولى بالذكر، و الثاني: أنها كانت ثمانية أشهر، و لم يعش مولود وضع لثمانية، إلا عيسى بن مريم عليه السلام، و الثالث: قول عطاء و أبي العالية و الضحاك سبعة أشهر، و الرابع: أنها كانت ستة أشهر، و الخامس: ثلاث ساعات، حملته في ساعة، و صور في ساعة، و وضعته في ساعة، و السادس: قول آخر لابن عباس كانت مدة الحمل ساعة واحدة، ما هي إلا أن حملت فوضعت، و استدل عليه من وجهين، أولهما:

قوله تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ فَناداها مِنْ تَحْتِها، و الفاء للتعقيب فدلت هذه الفاءات على أن كل واحدة من هذه الأحوال حصل عقيب الآخر من غير فصل، و ذلك يوجب كون مدة الحمل ساعة واحدة، لا يقال انتباذها مكانا قصيا كيف يحصل في ساعة واحدة، لأن السّدى فسرها بأنها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها، و ثانيهما: أن اللّه تعالى قال في وصف عيسى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فثبت أن عيسى كما قاله اللّه تعالى: كُنْ فَيَكُونُ، و هذا مما لا يتصور فيه مدة الحمل، و إنما تعقل المدة في حق من يتولد من النطفة (2)، و أخيرا فإن «إليان» و أشياعه من النصارى إنما يذهبون إلى أن مريم لم تحبل بعيسى تسعة أشهر، و إنما مرّ في بطنها كما يمر الماء في الميزاب، لأن الكلمة دخلت في أذنها، و خرجت من حيث يخرج الولد من

ص: 297


1- في ظلال القرآن 4/ 2306.
2- تفسير الفخر الرازي 21/ 202، تفسير روح المعاني 16/ 79- 80 و انظر: تفسير الطبري 16/ 65، تفسير النسفي 3/ 32، تفسير ابن كثير 3/ 188- 189، البداية و النهاية 2/ 65- 66، الكامل لابن الأثير 1/ 176.

ساعتها (1)، هذا و اختلفوا كذلك في سن مريم يوم حملت بالسيد المسيح، بين أن تكون بنت عشر سنين أو خمس عشرة أو سبع عشرة أو عشرين، و قيل أنها كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل، و ليس في القرآن ما يدل على شي ء من هذه الأحوال (2).

و أيا ما كان الأمر، فلقد حملت مريم الطاهرة البتول بالمسيح، كلمة اللّه و روحه، ثم انتبذت به مكانا قصيا، و قد اختلف المفسرون في المكان الذي انتبذت مريم بعيسى لوضعه، و أجاءها إليه المخاض، فقال بعضهم:

كان ذلك في أدنى أرض مصر، و آخر أرض الشام، و ذلك أنها هربت من قومها لما حملت، فتوجهت نحو مصر هاربة منهم (3)، على أن هناك رواية أخرى، و هي الأرجح، أنها ولدته في «بيت لحم» (4)، و يؤكده أن أحاديث الإسراء من رواية النسائي عن أنس، و البيهقي عن شداد بن أنس، أن ذلك كان في بيت لحم، و هو المشهور، و لا يشك النصارى أن المسيح ولد في بيت لحم (5)، و في مروج الذهب يقول المسعودي أن مولد المسيح كان في يوم الأربعاء (الثلاثاء عند اليعقوبي) لأربع و عشرين ليلة خلت من كانون الأول (ديسمبر) (6)، و قال ابن العميد، مؤرخ النصارى، فيما يروي عنه ابن

ص: 298


1- في ظلال القرآن 2/ 864.
2- تفسير الفخر الرازي 21/ 201، تفسير النسفي 3/ 32 مروج الذهب للمسعودي 1/ 76، الكامل لابن الأثير 1/ 175.
3- تفسير الطبري 16/ 64 (بيروت 1984).
4- بيت لحم: مدينة على مبعدة خمسة أميال جنوب القدس، و قد بنت الامبراطور «هيلانة» حوالي عام 330 م كنيسة هناك فوق المغارة التي يظن النصارى أن المسيح ولد فيها، و هي أقدم كنيسة مسيحية في العالم (قاموس الكتاب المقدس 1/ 205- 206 و كذا. P, tic- po, regnU. F. M) 140 و لكن القرآن الكريم يذكر أنه ولد عند جذع نخلة (مريم آية 23) و من ثم فالصحيح أنه ولد عند جذع نخلة أو عند بيت لحم، و ليس في مغارة.
5- تفسير ابن كثير 3/ 189، تاريخ ابن خلدون 2/ 171، و انظر: إنجيل متى 2/ 1- 6، لوقا 2/ 4- 6.
6- مروج الذهب للمسعودي 1/ 76، تاريخ اليعقوبي 1/ 68.

خلدون، ولد المسيح لثلاثة أشهر من ولادة يحيى بن زكريا، عليهم السلام، و لإحدى و ثلاثين من دولة هيرودوس الأكبر، و لاثنتين و أربعين من ملك أو غسطس قيصر (1).

على أن المؤرخين المحدثين إنما يختلفون في تاريخ مولد السيد المسيح، و إن كان الخلاف محصورا في سنوات قلائل، فلقد كان مولد المسيح على أيام أول قياصرة روما «أوغسطس» (27 ق. م- 14 م)، و على أيام «هيرودوس الكبير» (37- 4 ق. م) حاكم اليهودية من قبل الحاكم الروماني «بيلاطس النبطي»، و على أيام «الحارث الرابع» (9 ق. م- 40 م) ملك الأنباط، هذا و يذهب البعض إلى أن السيد المسيح إنما قد ولد فيما بين عامي 6، 2 قبل الميلاد، بينما يذهب فريق ثان إلى أنه ولد عام 5 قبل الميلاد أو أوائل عام 4 قبل الميلاد، أما الاحتفال بمولده في 25 ديسمبر، فقد بدأ في القرن الرابع الميلادي، و من ثم فربما كان مولده في 25 ديسمبر عام 5 ق.

م، و هذا يجعله سابقا للتاريخ الذي وضعه «ديونيسيوس» في 25 ديسمبر عام 1 م، بخمس سنوات، على أن هناك فريقا رابعا يرى أن مولد المسيح كان في عام 4 م، و أنه رفع إلى السماء في عام 27 م، و ربما في 23 مارس عام 29 م، و هذا يجعله و كأنه عاش 23 سنة أو 25 سنة، مع أن المشهور أنه عاش ثلاثا و ثلاثين سنة، و أخيرا فهناك من يرى أن المسيح عليه السلام إنما بدأ دعوته، و قد ناهز الثلاثين من عمره في عهد الامبراطور «تيبريوس» (14- 37 م)، و كان حاكم اليهودية من قبل الرومان «هيرودوس أنتيباس» (6- 39 م) الابن الثاني لهيرودوس الكبير (2)

ص: 299


1- تاريخ ابن خلدون 2/ 171.
2- ه. ج. ويلز: تاريخ العالم- القاهرة 1967 ص 172- 416 (مترجم)، فيلب حتى: المرجع السابق 1/ 311- 312، 263، محمد بيومي مهران: إسرائيل 1/ 359، 2/ 1145، و كذا., VIX, seitiuqitnA, suhpesoJ 4، 6، XV، 5، 3، 8،. 8, IIIX, I, raW hsiweJ ehT

هذا و قد يحدثنا العهد الجديد أن هيرودوس علم أن مجوسا من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم يسألون عن المولود ملك اليهود، و من ثم فقد جمع رؤساء الكهنة و سألهم أين يولد المسيح، فأخبروه أنه يولد في بيت لحم، و من ثم فقد أسرع الطاغية فأمر بقتل جميع الأطفال في بيت لحم و في كل تخومها، من ابن سنتين فما دونها، و هنا رأي يوسف النجار، فيما يرى النائم، من يأمره بأن يأخذ الصبي و أمه (المسيح و مريم البتول) و أن يلجأ بهم إلى أرض الكنانة، حيث بقوا هناك إلى مات هيرودوس، ثم عادوا من مصر إلى اليهودية، و لكنهم لم يقيموا في بيت لحم و إنما أقاموا في الناصرة بأرض الجليل، خوفا على السيد المسيح من «أرخيلاوس» ابن هيرودوس و خليفته (1).

و أما مكان الولادة فكان، كما جاء في القرآن الكريم، عند جذع نخلة، قال تعالى: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ (2)، و قال الزمخشري في الكشاف: كان جذع نخلة يابسة في الصحراء، ليس لها رأس و لا ثمر و لا خضرة، و كان الوقت شتاء، و التعريف إما أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم و الصعق، كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة مشهور عند الناس، فإذا قيل جذع النخلة فهم منه ذلك دون سائره، و إما أن يكون تعريف الجنس، أي إلى جذع هذه الشجرة خاصة، كان اللّه قد أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو أشد الأشياء موافقة للنفساء، و لأن النخلة أقل الأشياء صبرا على البرد، و لا تثمر إلا عند اللقاح، و إذا قطعت رأسها تثمر، فكأنه تعالى قال: كما أن الأنثى لا تلد إلا مع الذكر، فكذا النخلة لا تثمر إلا مع اللقاح، ثم إني أظهر الرطب من غير لقاح، ليدل ذلك

ص: 300


1- متى 2/ 1- 23 و كذا. P, tic- po, regnU. M 471. و كذا. P, tic- po, htoR. C 109.
2- سورة مريم: آية 23.

على ظهور الولد من غير ذكر (1).

و على أية حال، فبينما كانت البتول الطاهرة تستند إلى جذع النخلة إبان الوضع: قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (2)، مع أنها كانت تعلم أن اللّه تعالى بعث جبريل إليها، و خلق ولدها من نفخ جبريل عليه السلام، و وعدها بأن يجعلها و ابنها آية للعالمين (3)، و إنما قالت ذلك استحياء من الناس و خوفا من لائمتهم، أو حذرا من وقوع الناس في المعصية بما يتكلمون فيها، قال ابن كثير: في الآية دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى و تمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، و لا يصدقونها في خبرها، و بعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية، و من ثم قالت و هي تطلق من الحبل استحياء من الناس، فيما يروي عن ابن عباس و السدى، يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه، و الحزن بولادتي المولود من غير بعل، و هكذا تمنت الموت، و تمني الموت لنحو ذلك مما لا كراهة فيه، نعم يكره تمنيه لضرر نزل بالإنسان من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا، ففي صحيح مسلم و غيره، قال صلى اللّه عليه و سلم: لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل، فإن كان لا بد متمنيا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، و توفني إذا كانت الوفاة خيرا لي»، و من ظن أن تمنيها ذلك كان لشدة الوجع، فقد أساء الظن، و العياذ باللّه (4).

و في حدة الألم و غمرة الهول، تقع المفاجأة الكبرى فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ

ص: 301


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 203.
2- سورة مريم: آية 23.
3- تفسير الفخر الرازي 21/ 203.
4- تفسير ابن كثير 3/ 189، تفسير روح المعاني 16/ 81- 82.

عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا، فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً، فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (1)، و قد اختلف في المنادى على قولين، الأول أنه عيسى عليه السلام، و هو قول الحسن البصري و سعيد بن جبير، و استظهر أبو حيان كون المنادى عيسى، و الضمير لمريم، و الفاء فصيحة، أي فولدت غلاما فأنطقه اللّه تعالى حين الولادة، فنادها المولود من تحتها، و روى ذلك أيضا عن مجاهد و وهب و ابن جرير و ابن زيد، و الثاني أنه جبريل، و نقل في البحر عن الحسن أنه قال: ناداها جبريل و كان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها، و لعله إنما كان موقفه هناك إجلالا لها، و تحاشيا من حضوره بين يديها في تلك الحال، و القول بأنه عليه السلام كان تحتها يقبل الولد مما لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة ما لا يليق بشأن أمين وحي الملك المتعال، و يعضد الفخر الرازي القول الأول بأدلة منها: الأول أن قوله: فَناداها مِنْ تَحْتِها بفتح الميم، إنما يستعمل إذا كان قد علم قبل ذلك أن تحتها أحدا، و الذي علم كونه حاصلا تحتها هو عيسي عليه السلام فوجب حمل اللفظ عليه، و أما القراءة بكسر الميم فهي لا تقتضي كون المنادى جبريل عليه السلام، و الثاني: أن ذلك الموضع موضع اللوث و النظر إلى العورة، و ذلك لا يليق بالملائكة، و الثالث: أن قوله فناداها فعل، و لا بد أن يكون فاعله قد تقدم ذكره، و لقد تقدم قبل هذه الآية ذكر جبريل و عيسى عليهما السلام، إلا أن ذكر عيسى أقرب لقوله تعالى:

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ و الضمير هنا عائد إلى المسيح فحمله عليه أولى، و الرابع: هو دليل الإمام الحسن بن علي عليه السلام، أن عيسى لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق، فما كانت تشير إلى عيسى عليه السلام بالكلام، فأما من قال إن المنادى هو عيسى عليه السلام، فالمعنى أنه تعالى أنطقه لها حين وضعته تطيبا لقلبها و إزالة للوحشة عنها، حتى تشاهد في أول الأمر ما

ص: 302


1- سورة مريم: آية 24- 26.

بشرها به جبريل عليه السلام من علو شأن ذلك الولد، و من قال إن المنادى جبريل قال إنه أرسل إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيرا لها بما تقدم من أصناف البشارات، و أولى القولين عند جمهرة المفسرين أن المنادى هو عيسى عليه السلام (1).

و أما السرى، فقد اتفق المفسرون، إلا الحسن البصري و عبد الرحمن بن زيد، أنه النهر و الجدول، سمي لأن الماء يسرى فيه، قال ذلك البراء بن عازب و ابن عباس و عمرو بن ميمون و قتادة و إبراهيم النخعي و ابن منبه، و اختاره الطبري، و روى عن ابن عباس أنه جدول من الأردن أجراه اللّه تعالى منه لما أصابها العطش، و روى أن جبريل عليه السلام ضرب برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى جدولا، و قيل فعل ذلك عيسى عليه السلام، و هو المروي عن أبي جعفر الباقر، رضي اللّه تعالى عنه، و قيل كان ذلك موجودا من قبل، إلا أن اللّه تعالى نبهها عليه، و الأرجح، عند صاحب الظلال، أنه جرى للحظته من ينبوع أو تدفق من مسيل ماء في الجبل، و عن الحسن و ابن زيد و الجبائي أن المراد بالسرى عيسى عليه السلام، و هو من السرو بمعنى الرفعة، كما قال الراغب، أي جعل ربك تحتك غلاما رفيع الشأن سامي القدر، و روى أن الحسن البصري رجع عنه، فقد تلا هذه الآية، و بجنبه حميد بن عبد الرحمن الحميري: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، فقال إن كان لسريا، و إن كان لكريما، فقال له حميد: يا أبا سعيد إنما هو الجدول، فقال له الحسن: من ثم تعجبنا مجالستك، و روى أن خالد بن صفوان قال له: إن العرب تسمي الجدول سريا، فقال له الحسن:

صدقت و رجع إلى قوله، و احتج من قال إنه النهر بوجهين، أحدهما: أن النبي صلى اللّه عليه و سلم سئل عن السري، فقال هو الجدول، و ثانيهما: أن قوله تعالى:

ص: 303


1- تفسير الفخر الرازي 21/ 204، تفسير روح المعاني 16/ 82، تفسير الطبري 16/ 68- 69، تفسير ابن كثير 3/ 190، تفسير النسفي 3/ 32، الكامل لابن الأثير 1/ 177.

فَكُلِي وَ اشْرَبِي يدل على أنه نهر حتى ينضاف الماء إلى الرطب، فتأكل و تشرب (1).

و على أي حال، فإن اللّه تعالى أمرها أن تهز النخلة فتساقط عليها رطبا جنيا فتأكل منه، قال المفسرون: أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع، بعد رؤيتها عين الماء العذب الذي جرى جدولا، و ذلك ليسكن ألمها و تعلم أن ذلك كرامة من اللّه، فَكُلِي وَ اشْرَبِي أي كلي من هذا الرطب الشهي، و اشربي من هذا الماء العذب السلسبيل (2)، و هكذا أعطاها اللّه تعالى طعاما و شرابا، و الطعام الحلو مناسب للنفساء، و الرطب و التمر من أجود طعام النفساء، و نحسبها قد دهشت طويلا، قبل أن تمديدها إلى جذع النخلة تهزه ليساقط عليها رطبا جنيا، ثم أفاقت فاطمأنت إلى أن اللّه لا يتركها، و إلى أن حجتها معها، هذا الطفل الذي ينطق في المهد، فيكشف عن الخارقة التي جاءت به إليها (3).

و أتت الطاهرة البتول بوليدها المبارك تحمله: قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا، يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (4)، و هكذا بدأت ألسنة القوم بالتقريع و التأنيب، ثم سرعان ما تحولت إلى تهكم مرير، قائلين: يا شبيهة هارون في الصلاح و العبادة، ما كان أبوك رجلا فاجرا، و ما كانت أمك زانية، فكيف صدر هذا منك، و أنت من بيت طاهر معروف بالصلاح و العبادة، قال قتادة: كان هارون رجلا صالحا في بني إسرائيل مشهورا بالصلاح فشبهوها به، و ليس بهارون أخي موسى،

ص: 304


1- تفسير روح المعاني 16/ 83، تفسير ابن كثير 3/ 190، تفسير الفخر الرازي 21/ 205، تفسير الطبري 16/ 69- 71، تفسير النسفي 3/ 32، في ظلال القرآن 4/ 2307.
2- صفوة التفاسير 2/ 214- 215.
3- في ظلال القرآن 4/ 2307.
4- سورة مريم: آية 27- 28.

عليهما السلام، لأن بينهما ما يزيد على ألف عام، و قال السهيلي: هارون رجل من عباد بني إسرائيل المجتهدين كانت مريم تشبه به في اجتهادها، و ليس بهارون بن عمران النبي، فإن بينهما دهرا طويلا، و من ثم فقد أخطأ كثيرا جدا من قال أنها أخت هارون النبي لأبيه و أمه، كما أنها أخت موسى عليه السلام، التي قصت أثره، و قد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بيني و بينه نبي»، و أخرج الإمام أحمد بسنده عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى نجران فقالوا: أ رأيت ما تقرءون «يا أخت هارون» و موسى قبل عيسى بكذا و كذا، قال فرجعت فذكرت ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال: أ لا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء و الصالحين قبلهم» (1)، و عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن كعبا قال: إن قوله: «يا أخت هارون»، ليس بهارون أخي موسى، قال، فقالت له عائشة: كذبت، قال يا أم المؤمنين: إن كان النبي صلى اللّه عليه و سلم قاله فهو أعلم و أخبر، و إلا فإني أجد بينهما ست مائة سنة، قال:

«فسكتت» قال ابن كثير: و في هذا التاريخ نظر (2)، و هذا صحيح لأن ما بين موسى و عيسى عليهما السلام قرابة اثنين و عشرين قرنا.

و اشتد القوم على الطاهرة البتول: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (3)، قال السّدى: لما أشارت غضبوا و قالوا: لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها، قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، أي من هو موجود في مهده في حالة صباه و صغره، كيف يتكلم؟ قال الرازي في التفسير الكبير: روى أنه كان يرضع فلما سمع

ص: 305


1- تفسير روح المعاني 16/ 88، تفسير ابن كثير 3/ 193، تفسير الطبري 16/ 77- 78، مسند الإمام أحمد 4/ 252، صحيح مسلم 6/ 171، تحفة الأحوذي 5/ 601.
2- تفسير الطبري 16/ 77، تفسير ابن كثير 3/ 193.
3- سورة مريم: آية 29.

ذلك ترك الرضاع و أقبل عليهم بوجهه و اتكأ على يساره و أشار بسبابته، و قيل كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان، و قيل إن زكريا عليه السلام أتاها عند مناظرة اليهود إياها، فقال لعيسى عليه السلام: انطق بحجتك إن كنت أمرت بها، فقال عيسى عند ذلك» (1)، إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا، وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا، وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (2).

و هكذا يعلن عيسى عليه السلام عبوديته للّه، فليس هو ابنه كما تدعى فرقة، و ليس هو إليها كما تدعي فرقة، و ليس هو ثالث ثلاثة، هم إله واحد، و هم ثلاثة، كما تدعي فرقة، و يعلن أن اللّه جعله نبيا، لا ولدا و لا شريكا، و بارك فيه، و أوصاه بالصلاة و الزكاة مدة حياته، و البر بوالدته و التواضع مع عشيرته، فله إذن حياة محدودة ذات أمد، و هو يموت و يبعث، و قد قدّر اللّه له السلام و الأمان و الطمأنينة يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا، و النص صريح هنا في موت عيسى و بعثه، و هو لا يحتمل تأويلا في هذه الحقيقة و لا جدالا (3).

ص: 306


1- تفسير ابن كثير 3/ 193، تفسير الفخر الرازي 21/ 208، تفسير روح المعاني 16/ 89.
2- سورة مريم: آية 30- 33.
3- في ظلال القرآن 4/ 2308.

الفصل الثّالث نبوّة المسيح و معجزاته

[1] نبوة المسيح:-

لم يذكر القرآن الكريم متى بدأت نبوة المسيح عليه السلام، و لا كيف كان ذلك، و لكن عبارات الإنجيل اتفقت على أن نبوته كانت على رأس ثلاثين من عمره، و على ذلك جرى المؤرخون و كثير من المفسرين، يقول الألوسي في تفسير روح المعاني: و اختلف في زمن رسالته عليه السلام، فقيل في الصبا و هو ابن ثلاث سنين، و في البحر: أن الوحي أتاه بعد البلوغ و هو ابن ثلاثين سنة، فكانت نبوته ثلاث سنين، قيل و ثلاثة أشهر و ثلاثة أيام، ثم رفع إلى السماء، و هو القول المشهور (1)، و في تفسير الطبري عن وهب بن منبه: لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة أوحى اللّه إلى أمه، و هي بأرض مصر، و كانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر، أن اطلعى به إلى الشام، ففعلت الذي أمرت به، فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة، و كانت نبوته بثلاث سنين، ثم رفعه اللّه إليه (2)، و يقول ابن الأثير في الكامل: أتت المسيح النبوة و الرسالة و عمره ثلاثون سنة، و ظل رسولا سنتين، إذ رفع إلى السماء، و هو ابن اثنتين و ثلاثين سنة و أياما، و يقول

ص: 307


1- تفسير روح المعاني 3/ 167.
2- تفسير الطبري 3/ 278.

علماء التوحيد إن النبوة تكون على رأس الأربعين من العمر، أما عيسى عليه السلام فقد نبى ء على رأس الثلاثين، و هذه خصوصية له عليه السلام، لأنه قد رفع إلى السماء قبل أن يبلغ سن الأربعين (1)، و يذهب الدكتور الطيب النجار إلى أنه لا بأس من ذلك، أي أن نبوة المسيح كانت على رأس الثلاثين، فإن سن الأربعين ليست شرطا لتحديد بدء نبوة الأنبياء، فلقد أوتي يحيى عليه السلام العلم و الحكمة و هو صبي و بدأت نبوته قبل أن يبلغ الثلاثين (2).

على أن الدكتور الشريف إنما يحدد ابتداء نبوة المسيح من منطوق الآيات (29- 33 من سورة مريم) يقول تعالى: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا، وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا، وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا، وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (3)، و ظاهر الآيات الكريمة إنما يفيد أن المسيح نبئ و هو في المهد، و لا غرابة في ذلك، فالقرآن يقول في شأن يحيى بن زكريا عليهما السلام:

وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، هذا فضلا عن اعتراف المسيح في الآية (30 مريم) و هو ما يزال في المهد، بأن اللّه جعله نبيا و آتاه الكتاب، و التعبير بصيغة الماضي في (آتاني و جعلني)، كل ذلك يرجح أنه بعث في المهد و هو صبي صغير، و لا حاجة بنا بعدئذ لأن نجاري البعض الذين قالوا إن المسيح نبئ على رأس الثلاثين، و لا برهان لهم على هذا، إلا من تكلف من

ص: 308


1- محمد علي الصابوني: المرجع السابق، ص 198، محمد بن الشريف: الأديان في القرآن، جده 1979، ص 157، ابن الأثير 1/ 179.
2- محمد الطيب النجار: المرجع السابق، ص 278.
3- سورة مريم: آية 29- 33، و انظر تفسير الطبري 16/ 78- 82، تفسير ابن كثير 3/ 191- 194، تفسير الفخر الرازي 21/ 207- 216، تفسير روح المعاني 16/ 88- 91) تفسير النسفي 3/ 34- 35. في ظلال القرآن 4/ 2308، تفسير القرطبي ص 4140- 4144.

تمحلات لغوية، و لا أن نقول كما قال بعض علماء التوحيد إن الرسالة لا تكون إلا بعد الأربعين، و لا غرو فنحن أمام شخصية جعلها الإعداد الإلهي، و الإعجاز الإلهي لا تسير على سنن العادة، فعيسى مخلوق غير عادي في مولده و في مبعثه و في مماته (1)، عليه صلوات اللّه و سلامه.

و جاء في تفسير النسفي: روى عن الحسن أنه كان في المهد نبيّا و كلامه معجزته، و قيل إن معناه أن ذلك سبق في قضائه أو جعل الآتي لا محالة كأنه وجد (2)، و يقول الفخر الرازي: إن قوله: وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا يدل على أن ذلك قد حصل من قبل، إما ملاصقا لذلك الكلام أو متقدما عليه بأزمان، و الظاهر أنه من قبل أن كلمهم آتاه اللّه الكتاب و جعله نبيّا، بالصلاة و الزكاة و أن يدعو إلي اللّه تعالى و إلى دينه و إلى ما خص به من الشريعة، فقيل هذا الوحي نزل عليه و هو في بطن أمه، و قيل لما انفصل من الأم آتاه اللّه الكتاب و النبوة، و أنه تكلم مع أمه و أخبرها بحاله و أخبرها بأنه يكلمهم بما يدل على براءة حالها، فلهذا أشارت إليه بالكلام، ثم يرد الإمام الرازي على من قال إنه نبي، و لكنه ما كان رسولا، لأنه في ذلك الوقت ما جاء بالشريعة، و معنى كونه نبيّا أنه رفيع القدر على الدرجة، فيقول إن هذا ضعيف، لأن النبي في عرف الشرع هو الذي خصّه اللّه بالنبوة و بالرسالة، خصوصا إذا قرن إليه ذكر الشرع، و هو قوله و أوصاني بالصلاة و الزكاة (3).

و أما دليل نبوة المسيح في القرآن الكريم، فقوله تعالى: وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ، وَ رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ (4) و قوله

ص: 309


1- محمود بن الشريف: الأديان في القرآن ص 157- 158.
2- تفسير النسفي 3/ 34.
3- تفسير الفخر الرازي 21/ 214.
4- سورة آل عمران: آية 48- 49، و انظر: تفسير الطبري 3/ 273- 275، تفسير الفخر الرازي 8/ 53- 54، تفسير النسفي 1/ 158، تفسير ابن كثير 1/ 545- 546، تفسير روح المعاني 3/ 166- 167، تفسير الظلال 1/ 399- 400، تفسير المنار 3/ 249- 256، تفسير القرطبي ص 1335- 1337.

تعالى: وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (1).

هذا و من المعروف أن دعوة المسيح عليه السلام، شأنها في ذلك شأن دعوات كل الرسل الكرام قبل بعثة سيدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، إنما هي دعوة خاصة إلى بني إسرائيل، كما جاء في القرآن الكريم (2)، و كما يقول الإنجيل على لسان المسيح «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» (3)، و من ثم فقد اتجه السيد المسيح عليه السلام بدعوته إلى بني إسرائيل يبغي من ورائها هداية خراف بيت إسرائيل الضالة، و أما الذي عمم الدعوة فهم تلاميذ المسيح، أو بالأحرى، فقد عممها «بولس» الذي زعم أن المسيح تراءى له، و جعله تلميذا له، مع أنه لم يره، و ذلك بعد تكرارها على بني إسرائيل، و لجاجتهم في الإعراض عنها، و من ثم فقد وجهت إلى كل مستمع لها، مقبل عليها، و قال لهم: إن العاملين بالخير هم ذرية إبراهيم الخليل، أقرب و أوفي ممن يدعون النسبة إليه بالسلالة، لأنهم أبناؤه بالروح (4)، و مع ذلك تبقى دعوة المسيح في صميمها، دعوة خاصة، و أما الدعوة العامة فهي دعوة سيدنا و مولانا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الذي أرسل إلى الناس كافة بشيرا و نذيرا، و صدق اللّه العظيم حيث يقول: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً

ص: 310


1- سورة الصف: آية 6.
2- سورة آل عمران: آية 48- 49، الصف: آية 6.
3- متى 15/ 24.
4- متى 15/ 23- 28، عباس العقاد: مطلع النور ص 96، محمد بيومي مهران: الديانة العربية القديمة ص 61- 62.

وَ نَذِيراً (1)، و يقول: وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (2)، و يقول: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (3) هذا فضلا عن أن المسيح عيسى بن مريم إنما هو واحد من أولى العزم الخمسة، خيار ولد آدم قاطبة، و هم نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد، صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، و قد ذكروا في القرآن الكريم تخصيصا من بين الأنبياء جميعا في آيتين، الأولى قال تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (4)، و الثانية:

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (5).

[2] معجزات المسيح:-
اشارة

لا ريب في أن مولد المسيح معجزة، و حياته معجزة، و وفاته معجزة، فعيسى عليه السلام، كما قلنا، غير عادي في مولده و في مبعثه و في مماته، فأما مولده، فلقد شاء اللّه، بعد نشأة آدم نشأة ذاتية مباشرة، أن يجعل لإعادة النشأة الإنسانية طريقا معينا، طريق التقاء ذكر و أنثى، و اجتماع بويضة و خلية تذكير، فيتم الإخصاب، و يتم الإنسال، و البويضة حية غير ميتة، و الخلية حية كذلك متحركة، و مضى مألوف الناس على هذه القاعدة، حتى

ص: 311


1- سورة سبأ: آية 28.
2- سورة النساء: آية 79.
3- سورة الأعراف: آية 158 و انظر: سورة إبراهيم: آية 1، 52، الحج: آية 49، الفرقان آية 1، الأحزاب: آية 40، ص؛ آية 87.
4- سورة الأحزاب: آية 7.
5- سورة الشورى: آية 13، و انظر تفسير الطبري 25/ 14- 16، تفسير القرطبي 16/ 9- 12 (الغالب 1967)، تفسير البيضاوي 2/ 354- 355، تفسير روح المعاني 25/ 21- 22، تفسير الفخر الرازي 27/ 154، تفسير الكشاف 3/ 463- 464، تفسير الرحمن في تفسير كلام المنان 7/ 96- 97 (مكة المكرمة 1398 ه).

شاء اللّه تعالى أن يخرق هذه القاعدة المختارة في فرد من بني الإنسان، فينشئه نشأة قريبة و شبيهة بالنشأة الأولى، و إن لم تكن مثلها تماما، أنثى فقط تتلقى النفخة التي تنشئ الحياة ابتداء، فتنشأ فيها الحياة (1)، و هكذا جاء عيسى بن مريم إلى هذه الدنيا بطريقة أشبه بتلك التي جاء بها آدم عليه السلام، و صدق اللّه العظيم حيث يقول: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2).

صحيح أن ولادة عيسى عجيبة حقا بالقياس إلى مألوف الناس، و لكنه صحيح كذلك أنه لا غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي البشر، و أهل الكتاب الذين يناظرون و يجادلون حول عيسى بسبب مولده، و يصوغون حوله الأوهام و الأساطير بسبب أنه نشأ من غير أب، أهل الكتاب هؤلاء كانوا يقرون بنشأة آدم من التراب، و أن النفخة من روح اللّه هي التي جعلت منه هذا الكائن الإنساني، دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى، و دون أن يقولوا عن آدم: إن له طبيعة لاهوتية، على حين أن العنصر الذي صار به آدم إنسانا هو ذاته العنصر الذي ولد به عيسى من غير أب، عنصر النفخة الإلهية في هذا و ذاك، و إن هي إلا الكلمة «كن» تنشئ ما تراد له النشأة «فيكون» و هكذا تتجلى بساطة هذه الحقيقة، حقيقة عيسى و حقيقة آدم و حقيقة الخلق كله، و تدخل إلى النفس في يسر، و في وضوح، حتى ليعجب الإنسان، كيف ثار الجدل حول هذا الحادث، و هو جار وفق السنة الكبرى، سنة الخلق و النشأة جميعا (3).

ص: 312


1- في ظلال القرآن 1/ 398.
2- سورة آل عمران: آية 59، و انظر: تفسير الفخر الرازي 8/ 74- 76، تفسير الطبري 3/ 295- 297، تفسير ابن كثير 1/ 550- 552، تفسير النسفي 1/ 160- 161، تفسير روح المعاني 3/ 186- 187.
3- في ظلال القرآن 1/ 404- 405.

و أما معجزات المسيح عليه السلام، فقد جاءت في عدة آيات من آي الذكر الحكيم (1)، نذكر منها (أولا) أن اللّه تعالى يعلمه الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل، فأما «الكتاب» فقد يراد به الكتابة، و كان عليه السلام أحسن الناس خطا في زمانه (2)، و قد يكون هو التوراة و الإنجيل، و أما «الحكمة» فهي حالة في النفس يتأتى معها وضع الأمور في مواضعها و إدراك الصواب و اتباعه، و هي خير كثير (3)، أو هي السنة التي يوحيها اللّه إليه في غير كتاب، و أما «التوراة»، فهو الكتاب الذي أنزله اللّه على موسى عليه السلام، و أما «الإنجيل» فهو الكتاب الذي أنزله اللّه على عيسى عليه السلام، و قد كان عيسى يحفظ هذا و ذاك (4).

و لعل مما تجدر الإشارة إليه أن التوراة إنما كانت كتاب عيسى كالإنجيل، فهي أساس الدين الذي جاء به، و الإنجيل تكملة و إحياء لروح التوراة، و لروح الدين التي طمست في قلوب بني إسرائيل، و هذا ما يخطئ الكثيرون من المتحدثين عن المسيحية فيه فيغفلون التوراة، و هي قاعدة دين المسيح عليه السلام، و فيها الشريعة التي يقوم عليها نظام المجتمع، و لم يعدل فيها الإنجيل إلا القليل (5)، و من ثم فإن اللّه تعالى يقول على لسان المسيح: وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (6)، يقول ابن كثير: و فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة، و هو الصحيح،

ص: 313


1- أنظر: سورة آل عمران: آية 47- 50، المائدة: آية 110- 115، مريم: آية 29- 33.
2- تفسير النسفي 1/ 158.
3- تفسير الظلال 1/ 399.
4- تفسير ابن كثير 1/ 546.
5- في ظلال القرآن 1/ 399.
6- سورة آل عمران: آية 50.

و قد قال بعض العلماء: لم ينسخ منها شيئا، و إنما أحل لهم بعض ما كان يتنازعون فيه خطأ و انكشف لهم عن الغطاء في ذلك، كما قال في الآية الأخرى: وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ (1)، و يقول الطبري: إن عيسى كان مؤمنا بالتوراة مقرابها، و أنها من عند اللّه (2)، و كذلك الأنبياء كلهم يصدقون بكل ما كان قبلهم من كتب اللّه و رسله، و إن اختلفت بعض شرائع أحكامهم لمخالفة اللّه بينهم في ذلك، مع أن عيسى كان، فيما بلغنا، عاملا بالتوراة لم يخالف شيئا من أحكامها، إلا ما خفف اللّه عن أهلها في الإنجيل، مما كان مشددا عليهم فيها (3)، و جاء في التفسير الكبير عن وهب بن منبه: أن عيسى عليه السلام كان على شريعة موسى عليه السلام، كان يقرر السبت و يستقبل بيت المقدس، ثم إنه فسر قوله: وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ بأمرين، أحدهما: أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند

ص: 314


1- تفسير ابن كثير 1/ 546.
2- نرى لزاما علينا أن نبيّن هنا: أن التوراة التي كان عيسى عليه السلام مؤمنا بها مقرا بما فيها، إنما هي التوراة التي أنزلها اللّه على موسى عليه السلام، فيها هدى و نور، فهي تقرر وحدانية اللّه تعالى و تنزيهه عن كل مظاهر النقص، و التي ترتكز على الاعتراف باليوم الآخر، و الإيمان بما فيه من ثواب و عقاب و جنة و نار، و التي تضمنت عظات و أفكار و شريعة لبني إسرائيل يحكم بها أبناؤهم، و التي تقرر عصمة هؤلاء الأنبياء، غير أن هذه التوراة الأصلية ببنودها و نصوصها و تعاليمها، لا وجود لها بهذه الصورة الإلهية في التوراة المتداولة اليوم، فلقد امتدت إليها يد أثيمة من أحبار يهود فحرفت و بدلت، ثم كتبت سواها بما يتلاءم مع يهود، و يتواءم مع مخططاتهم، ثم زعموا بعد كل هذا، أنها التوراة التي أنزلها اللّه تعالى على موسى عليه السلام: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً، هذا فضلا عن أن توراة موسى شي ء، و العهد القديم شي ء آخر، فالتوراة لا تعدو خمسة أسفار من أسفار العهد القديم، البالغ عددها 39 سفرا، عند البروتستانت، و أكثر من ذلك بسبعة أسفار، عند الكاثوليك، فضلا عن أسفار الأبوكريفا، و الأسفار المفقودة أو الخفية (قدم المؤلف دراسة مفصلة عن التوراة: أنظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 3/ 1- 379- الاسكندرية 1979).
3- تفسير الطبري 3/ 281.

أنفسهم شرائع باطلة و نسبوها إلى موسى، فجاء عيسى و رفعها و أبطلها، و أعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى عليه السلام، و ثانيهما: أن اللّه تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، ثم بقي هذا التحريم حتى جاء عيسى عليه السلام، و رفع تلك التشديدات عنهم، و قال آخرون: إن عيسى رفع كثيرا من أحكام التوراة، و لم يكن ذلك قادحا في كونه مصدقا بالتوراة على ما بيناه، و رفع السبت و وضع الأحد قائما مقامه، و كان محقا في كل ما عمل لأن الناسخ و المنسوخ كلاهما حق و صدق (1).

و من ثم فإن قوله تعالى: وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، إنما يكشف عن طبيعة المسيحية الحقة، فالتوراة التي تنزلت على موسى، و هي تتضمن التشريع المنظم لحياة الجماعة وفق حاجة ذلك الزمان، و ملابسات حياة بني إسرائيل (بما أنها ديانة خاصة لمجموعة من البشر في فترة من الزمان) هذه التوراة معتمدة في رسالة المسيح عليه السلام و جاءت رسالته مصدقة لها، مع تعديلات تتعلق بإحلال بعض ما حرم اللّه عليهم، و كان تحريمه في صورة عقوبات حلت بهم على معاص و انحرافات، أدبهم اللّه عليها بتحريم بعض ما كان حلالا لهم، ثم شاءت إرادته أن يرحمهم بالمسيح عليه السلام فيحل لهم بعض الذي حرم عليهم (2)، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن الربيع أنه قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى عليهما السلام، و كان فيما حرم عليهم فيما جاء به موسى، لحوم الإبل و الثروب فأحلها لهم على لسان عيسى،

ص: 315


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 59.
2- في ظلال القرآن 1/ 400.

و حرمت عليهم شحوم الإبل فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، و في أشياء من السمك و في أشياء من الطير، مما لا صيصة له، و في أشياء أخرى حرمها عليهم و شدد عليهم فيها، فجاء عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل، و هذا يدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام تغاير ما في التوراة، و أن شريعة عيسى نسخت بعض شريعة موسى، و لا يخل ذلك بكونه مصدقا للتوراة، فإن النسخ بيان لانتهاء زمان الحكم الأول، لا رفع و إبطال (1).

هذا و قد جاء في إنجيل متى، على لسان السيد المسيح، «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس و الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإن الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء و الأرض لا يزول حرف أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (2) و ليس هناك من شك في أن التصديق بالكتب السابقة يعني أن الكتب المتأخرة إنما هي تجديد للمتقدمة و تذكير بها، فلا تبدل معنى و لا تغير حكما، و إنما الواقع غير ذلك، فقد جاء الإنجيل بتغيير بعض أحكام التوراة، كما جاء القرآن بتبديل بعض أحكام الإنجيل، و لكن يجب أن يفهم أن هذا و ذاك لم يكن من المتأخرة نقصا للمتقدم، و لا إنكارا لحكمة أحكامه في إبانها، و إنما كان وقوفا عند وقتها المناسب، و أجلها المقدر (3)، و من هنا كان قول سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق» (4).

و هكذا يمكن القول أن الإنجيل إنما كان نفحة إحياء و تجديد لروح الدين، و تهذيب لضمير الإنسان، بوصلة مباشرة باللّه من وراء النصوص،

ص: 316


1- تفسير روح المعاني 3/ 171، تفسير الطبري 1/ 282.
2- إنجيل 5/ 17- 18.
3- محمد عبد اللّه دزار: الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان- القاهرة 1969 ص 185- 186.
4- عبد الحليم محمود: دلائل النبوة و معجزات الرسول- القاهرة 1974 ص 462.

هذا الإحياء و هذا التهذيب، هما اللذان جاء بهما المسيح و جاهد لهما حتى مكرت يهود به عليه السلام (1).

و منها (ثانيا) أن اللّه تعالى جعله يكلم الناس في المهد و كهلا: فأما المهد فهو حجر الأم أو مضجع الصبي وقت الرضاع، و المراد أن المسيح عليه السلام يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد، و لا يختلف هذا المقصود سواء كان في حجر أمه أو كان في المهد، و أما الكهل في اللغة فهو ما اجتمع قوته و كمل شبابه، و هو مأخوذ من قول العرب: اكتهل النبات إذا قوي (2)، و المراد أن المسيح يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حالة الطفولة و حالة الكهولة التي يستحكم فيها العقل، و يستنبأ فيها الأنبياء، و أما كلامه في المهد (3)، فدلالة على براءة أمه مما قذفه بها المفترون، و حجة على نبوته، قال ابن عباس: كان كلامه في ).

ص: 317


1- في ظلال القرآن 1/ 399.
2- نقل أن عمر عيسى عليه السلام إلى أن رفع كان ثلاثا و ثلاثين و ستة أشهر، و على هذا فهو ما بلغ الكهولة، و الجواب من وجهين، الأول: أن الكهل في أصل اللغة هو الكامل التام، و أكمل أحوال الإنسان إذا كان بين الثلاثين و الأربعين، فصح وصفه بكونه كهلا في هذا الوقت، و الثاني هو قول الحسين بن الفضل البجلي: أن المراد بقوله: «كهلا» أن يكون كهلا بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان، و يكلم الناس و يقتل الدجال، قال الحسين بن الفضل: و في هذه الآية نص في أنه عليه الصلاة و السلام سينزل إلى الأرض، و من ثم فقد ذهب سعيد بن المسيب و زيد بن أسلم و غيرهما أنه عليه السلام رفع إلى السماء، و هو ابن ثلاث و ثلاثين سنة، و أنه سينزل إلى الأرض و يبقى حيّا فيها أربعا و عشرين سنة، كما رواه ابن جرير بسند صحيح عن كعب الأحبار، و يؤيده ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: قد كلمهم عيسى في المهد، و سيكلمهم إذا قتل الدجال و هو يومئذ كهل (تفسير الفخر الرازي 8/ 52، تفسير روح المعاني 3/ 164، تفسير الطبري 3/ 272- 273، تفسير القرطبي ص 1332- 1334، تفسير المنار 3/ 252- 255).
3- روى ابن إسحاق عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: ما تكلم أحد في صغره إلا عيسى و صاحب جريح»، و في رواية أخرى قال صلى اللّه عليه و سلم: لم يتكلم في المهد إلا ثلاث: عيسى و صبي كان في زمن جريح و صبي آخر» (تفسير ابن كثير 1/ 545).

المهد ساعة واحدة بما قصى اللّه تعالى لنا، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام، على أن ابن الأخشيد إنما يذهب إلى أنه كان يتكلم دائما، و كان كلامه فيه تأسيسا لنبوته، و إرهاصا لها، و عليه يكون قوله: وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا إخبارا عما يؤول إليه، و قال الجبائي: إنه سبحانه أكمل عقله عليه السلام إذ ذاك و أوحى إليه بما تكلم به مقرونا بالنبوة و جوّز أن يكون ذلك كرامة لمريم دالة على طهارتها و براءة ساحتها مما نسبه أهل الإفك إليها، و أما كلامه في الكهولة فقد ذكر، رغم أنه غير معجز، لأسباب منها بيان كونه متقلبا في الأحوال من الصبا إلى الكهولة، و التغيير على اللّه تعالى محال، و المراد منه الرد على وفد نجران في قولهم: إن عيسى كان إلها، و منها أن يكلم الناس في المهد مرة واحدة لإظهار براءة أمه ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي و النبوة، و منها أنه يكلم الناس حال كونه في المهد و كهلا على حد واحد، و صفة واحدة، و ذلك لا شك أنه في غاية المعجز، و منها أن المراد أنه سيبلغ الكهولة (1).

بقيت الإشارة إلى أن النصارى أنكرت كلام المسيح في المهد، محتجين بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور و أغربها، و بأنه لو حدث لشهده الجمع العظيم الذي يحصل القطع و اليقين بقولهم، لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد و الاثنين لا يجوز، و متى حدثت الواقعة العجيبة جدا عند حضور الجمع العظيم فلا بد و أن تتوافر الدواعي على النقل فيصير ذلك بالغا حد التواتر، و إخفاء ما يكون بالغا إلى حد التواتر ممتنع، كما أن الإخفاء ممتنع لأن النصارى بالغوا في إفراط محبته إلى حيث قالوا إنه كان إلها، و من كان كذلك يمتنع أن يسعى في إخفاء مناقبه و فضائله، بل ربما

ص: 318


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 51- 52، تفسير الطبري 3/ 271- 273، تفسير ابن كثير 1/ 545، تفسير النسفي 1/ 158، تفسير الكشاف 1/ 278، تفسير روح المعاني 3/ 162- 164.

يجعل الواحد ألفا، فثبت أن لو كانت هذه الواقعة موجودة لكان النصارى أولى الناس بمعرفتها، و لما أطبقوا على إنكارها، علمنا أنه ما كان موجود البتة.

ورد المتكلمون عليهم بأن كلام عيسى عليه السلام في المهد إنما كان للدلالة على براءة مريم عليها السلام من الفاحشة، و كان الحاضرون جمعا قليلين، فالسامعون لذلك الكلام كان جمعا قليلا، و لا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء، و بتقدير أن يذكروا ذلك، إلا أن اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك و ينسبونهم إلى البهت، فهم أيضا سكتوا لهذه العلة، فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر مكتوما إلى أن أخبر اللّه تعالى نبيّه محمد صلى اللّه عليه و سلم بذلك، و أيضا فليس كل النصارى ينكرون ذلك، فإنه نقل عن جعفر بن أبي طالب، رضي اللّه تعالى عنه: لما قرأ علي النجاشي سورة مريم، قال النجاشي: لا تفاوت بين واقعة عيسى، و بين المذكور في هذا الكلام، بذرة (1).

و منها (ثالثا) شفاء المرضى و إبراء الأكمة و إحياء الموتى و الإخبار عن بعض المغيبات، قال تعالى، على لسان المسيح: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (2)، و لعل من الأهمية بمكان، و قبل الحديث عن هذه الخوارق المعجزة، الإشارة إلى أنه في هذه الآية (آل عمران 49) و في آية المائدة (110) أن النص القرآني الكريم يذكر، على لسان المسيح، أن كل خارقة من هذه الخوارق التي جاءهم بها، إنما جاءهم بها من عند اللّه تعالى، كما حرص النص على ذكر

ص: 319


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 52- 53، تفسير روح المعاني 3/ 163.
2- سورة آل عمران: آية 49.

اللّه بكل واحدة منها تفصيلا و تحديدا، و لم يدع القول يتم حتى يذكر في نهايته إذن اللّه زيادة في الاحتياط، و هذه المعجزات في عمومها تتعلق بإنشاء الحياة أوردها، أورد العافية و هي فرع عن الحياة، و رؤية غيب بعيد عن مدى الرؤية، و هي في صميمها تتسق مع مولد عيسى و منهج الوجود و الحياة على غير مثال، إلا مثال آدم عليه السلام، و إذا كان اللّه قادرا على أن يجري هذه المعجزات على يد واحد من خلقه، فهو قادر على خلق ذلك الواحد من غير مثال، و لا حاجة إذن لكل الشبهات و الأساطير التي نشأت عن هذا المولد الخاص، متى رد الأمر إلى مشيئة اللّه الطليقة، و لم يقيد الإنسان اللّه، سبحانه و تعالى، بمألوف الإنسان (1).

و أما هذه المعجزات التي جاءت في هذه الآية و في غيرها فهي:-
أولا: كان المسيح يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه تعالى:-

و المراد بالخلق هنا، فيما يرى صاحب روح المعاني، التصوير و الإبراز على مقدار معين، لا الإيجاد من العدم، و المعنى أنني أقدر، لأجل تحصيل إيمانكم و دفع تكذيبكم إياي، أن اجعل من الطين شيئا مثل الطير المهيأ أو هيئة كائنة كهيئته، فأنفخ فيه فيكون طيرا حيا طيارا كسائر الطيور، و في تفسير النسفي أي أقدر لكم شيئا مثل صورة الطير، أي في ذلك الشي ء المماثل لهيئة الطير، فيصير طيرا كسائر الطيور، و في التفسير الكبير:

أي أقدر و أصور، فالخلق هو التقدير و التصوير، و ذلك لأن العبد لا يكون خالقا بمعنى التكوين و الإبداع، فوجب تفسير كونه خالقا بالتقدير و التسوية، و هكذا كان المسيح عليه السلام يصور من الطين شكل، طير، ثم ينفخ فيه فيطير عيانا بإذن اللّه عز و جل، الذي جعل هذا معجزة له، تدل على أنه تعالى

ص: 320


1- في ظلال القرآن 1/ 399.

أرسله، و من ثم فقد جوّز بعض المفسرين أن يقال: إنه تعالى أودع في نفس عيسى عليه السلام خاصية بحيث متى نفخ في شي ء، كان نفخه فيه موجبا لصيرورة ذلك الشي ء حيا، أو يقال ليس الأمر كذلك، بل اللّه تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخه عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات، و هذا القول الثاني هو الحق لقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ، و حكى عن إبراهيم عليه السلام إنه قال في مناظرته مع الملك رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ، فلو حصل لغيره هذه الصفة، لبطل ذلك الاستدلال.

و أظهر المعجزات أنهم أخذوا يتعنتون عليه و طالبوه بخلق خفاش، فأخذ طينا و صوره، ثم نفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء و الأرض، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا، ثم اختلف الناس فقال قوم لم يخلق غير الخفاش، و قال آخرون: إنه خلق أنواعا من الطير (1).

ثانيا: إبراء الأكمة و الأبرص بإذن اللّه تعالى:-

و قد اختلف العلماء في معنى الأكمة، فمن قائل إنه الذي ولد أعمى، و كما روى عن ابن عباس و قتادة: كنا نتحدث أن الأكمة الذي ولد و هو أعمى مضموم العينين، و قال الخليل و غيره: هو الذي عمى بعد أن كان بصيرا، و أخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء عن ابن عباس: أنه الممسوح العين الذي لم يشق بصره، و لم يخلق له حدقة، قيل: و لم يكن في صدر هذه الأمة أكمه بهذا المعنى، غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير، و عن

ص: 321


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 56، تفسير روح المعاني 3/ 168، تفسير النسفي 1/ 159، تفسير ابن كثير 1/ 546، تفسير الطبري 3/ 275، الكامل لابن الأثير 1/ 179، تفسير القرطبي ص 1335- 1336، تفسير المنار 3/ 255- 257.

مجاهد: الأكمة هو الذي يبصر بالنهار و لا يبصر بالليل، فهو يتكمه، و عن عكرمة أنه الأعمش، و أما الأبرص فهو الذي به الوضع المعروف، يقول الإمام الطبري: و إنما أخبر اللّه تعالى عن عيسى عليه السلام أنه يقول ذلك لبني إسرائيل، احتجاجا منه بهذه العبر و الآيات عليهم في نبوته، و ذلك أن الأكمة و الأبرص لا علاج لهما، فيقدر على إبرائه ذو طب بعلاج، فكان ذلك من أدلته على صدق قيله إنه للّه رسول لأنه من المعجزات مع سائر الآيات التي أعطاه اللّه إياها دلالة على نبوته، و أما ما قاله عكرمة من أن الكمه هو العمش، و ما قاله مجاهد من أنه سوء البصر بالليل، فلا معنى لهما، لأن اللّه لا يحتج على خلقه بحجة تكون لهم السبيل إلى معارضته فيها، و لو كان ما احتج به عيسى على بني إسرائيل في نبوته أنه يبرئ الأعمش أو الذي يبصر بالنهار و لا يبصر بالليل لقد روا على معارضته بحجة أن فيهم خلقا يعالجون ذلك، و ليسوا للّه أنبياء و رسلا، هذا و زعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفا، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، و من لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه، و إنما كان يداويهم بالدعاء إلى اللّه (1).

ثالثا: إحياء الموتى بإذن اللّه:-

قيد اللّه الإحياء بالإذن، كما فعل في المعجزات السابقة، لأنه خارق عظيم يكاد يتوهّم منه ألوهية فاعلة، لأنه ليس من جنس أفعال البشر، و كان إحياء عيسى الموتى بدعاء اللّه، يدعو لهم فتستجاب له، قال الكلبي: كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات، بيا حي يا قيوم، و أحيا عازر و كان صديقا له، و دعا سام بن نوح من قبره فخرج حيا، و مرّ على ابن ميت لعجوز فدعا اللّه فنزل عن سريره حيا، و رجع إلى أهله و ولد له (2).

ص: 322


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 57، تفسير روح المعاني 3/ 169، تفسير الطبري 3/ 277- 278.
2- تفسير روح المعاني 3/ 169، تفسير الفخر الرازي 8/ 57.
رابعا: إخبار القوم بما يأكلون و ما يدخرون في بيوتهم:-

و قد اختلف العلماء في وقت هذا الإخبار على قولين، أحدهما: أنه عليه السلام كان يخبر عن الغيوب من أول أمره، أخرج ابن عساكر عن عبد اللّه بن عمر و بن العاصي، و كذا روى عن السدي: أنه كان يلعب مع الصبيان، ثم يخبرهم بأفعال آبائهم و أمهاتهم، و كان يخبر الصبي بأن أمك خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله و يبكي إلى أن يأخذ ذلك الشي ء، ثم قالوا لصبيانهم لا تلعبوا مع هذا الساحر، و جمعوهم في بيت، فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا له: ليسوا في البيت، فقال فمن في البيت، قالوا خنازير، قال عيسى كذلك يكونون، فإذا هم خنازير، و أما القول الثاني:

فإن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر وقت نزول المائدة، و ذلك لأن القوم نهوا عن الإخبار، فكانوا يحزنون و يدخرون، فكان عيسى عليه السلام يخبرهم، و قد أيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق و غيره عن عمار بن ياسر في الآية أنه قال:

وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ من المائدة و ما تدخرون منها، و كان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا و لا يدخروا، فادخروا و خانوا، فجعلوا قردة و خنازير (1).

و بدهي أن الإخبار عن الغيوب على هذا الوجه معجزة، ذلك لأن المنجمين الذين يدعون استخراج الخبر لا يمكنهم ذلك، إلا عن سؤال تتقدم ثم يستعينون عند ذلك بآله و يتوصلون بها إلى معرفة أحوال الكواكب، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيرا، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة و لا تقدم مسألة لا يكون إلا بالوحي من اللّه تعالى، و هذا هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب و إخبارهم عنها، و بين علم سائر المتكذبة على اللّه أو المدعية علم ذلك، ثم إنه عليه السلام ختم كلامه بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً

ص: 323


1- تفسير روح المعاني 3/ 170، تفسير الفخر الرازي 8/ 57.

لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، يعني بذلك السيد المسيح: إن في خلقي من الطين الطير بإذن اللّه، و في إبرائي الأكمه و الأبرص، و إحيائي الموتى، و إنبائي إياكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم، ابتداء من غير حساب و لا تنجيم، و لا كهانة و لا عرافة، لعبرة لكم، و متفكرا تتفكرون في ذلك، فتعتبرون به أني محق في قولي لكم: إني رسول من ربكم إليكم، و تعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر اللّه و نهيه، صادق، إن كنتم مؤمنين، يعني إن كنتم مصدقين حجج اللّه و آياته مقرنين بتوحيده و نبيه موسى، و التوراة التي جاءكم بها (1).

ص: 324


1- تفسير الطبري 3/ 281، تفسير الفخر الرازي 8/ 58، تفسير القرطبي ص 1337.

الفصل الرّابع دعوى تأليه المسيح و صلبه

اشارة

ليس هناك من ريب في أن الخلاف الأساسي و الأصيل بين المسلمين و المسيحيين حول السيد المسيح عليه السلام، إنما يدور حول دعوى النصارى بألوهية المسيح و صلبه.

[1] دعوى التأليه:-

يعرض القرآن الكريم أكثر من مرة لعبودية المسيح للّه تعالى، و أنه عبد اللّه و رسوله، و كفاه فخرا بهذه العبودية للّه تعالى، كما اعتبر القرآن من ألهوا المسيح كفارا، و من ثم فإنه يؤكد كثيرا أن عيسى بن مريم بشر، و أنه رسول من اللّه، مؤيد بكتاب إلهي، و بوحي سماوي، و أنه نادى بعقيدة التوحيد، فدعا إلى عبادة اللّه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد و لم يولد، و لم يكن له كفوا أحد، و يذهب صاحب الظلال (1) إلى أن عقيدة التوحيد عاشت بعد المسيح عليه السلام في تلامذته و في أتباعهم، و أحد الأناجيل الكثيرة التي كتبت، و هو إنجيل «برنابا» يتحدث عن عيسى عليه السلام بوصفه رسولا من عند اللّه، ثم وقعت بينهم الاختلافات، فمن قائل: إن المسيح رسول من عند اللّه كسائر الرسل، و من قائل: إنه رسول نعم، و لكن له باللّه صلة خاصة، و من قائل: إنه ابن اللّه لأنه خلق من غير أب، و لكنه على هذا

ص: 325


1- في ظلال القرآن 2/ 864- 865.

مخلوق للّه، و من قائل: إنه ابن اللّه، و ليس مخلوقا، بل له صفة القدم كالأب.

و لتصفية هذه الخلافات عقد «مجمع نيقية» عام 325 م الذي اجتمع فيه ثمانية و أربعون ألفا من البطارقة و الأساقفة، و قد اختار المجمع مقالة من كانوا يقولون بألوهية المسيح، و هي مقالة «بولس الرسول» و مقالة الثلاثمائة و ثمانية عشر أسقفا، و قد اختار الإمبراطور الروماني «قسطنطين» (306- 337 م) (1) هذا الرأي و سلط أصحابه على مخالفيهم و شرد أصحاب سائر المذاهب، خاصة القائلين بألوهية الأب وحده، و ناسوتية المسيح، و قد ذكر صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية عن هذا القرار: إن الجامعة المقدسة و الكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن اللّه موجودا فيه، و أنه لم يوجد قبل أن يولد، و أنه وجد من لا شي ء، أو من يقول: إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر اللّه الأب، و كل من يؤمن أنه مخلوق أو من يقول إنه قابل للتغيير و يعتريه ظل دوران»، و لكن هذا المجمع بقرارته لم يقض على نحلة الموحدين أتباع «آريوس» و قد غلبت على القسطنطينية و أنطاكية و بابل و الاسكندرية و مصر.

ثم سار خلاف جديد حول «روح القدس» فقال بعضهم هو «إله» و قال آخرون ليس بإله، فاجتمع مجمع القسطنطينية الأول عام 381 م، و فيه تقررت ألوهية روح القدس، كما تقررت ألوهية المسيح في مجمع نيقية عام

ص: 326


1- يذهب البعض إلى أن قسطنطين لم يعترف بالمسيحية كديانة رسمية فحسب، بل إنه هو نفسه اعتنق المسيحية في عام 312 م، بينما يذهب آخرون إلى أنه بقي وثنيا طوال حياته، و لم يتقبل النصرانية إلا على فراش المرض، و قد بنت أمه «هيلانة» كنيسة القيامة في القدس عام 326 م نتيجة اعتقاد خاطئ أن جثمان المسيح دفن في مكان هذه الكنيسة ثم رفع إلى السماء (عمر كمال توفيق: تاريخ الامبراطورية البيزنطية ص 29، فيلب حتى: المرجع السابق ص 387 ثم قارن. hC, XI, KB, suilesuE 2، 9. و كذا 4. hC. I. KB, sunemozoS

325 م، و تم الثالوث من الأب و الابن و الروح القدس.

ثم ثار خلاف آخر حول طبيعة المسيح الإلهية و طبيعته الإنسانية، أو اللاهوت و الناسوت كما يقولون، فقد رأى «نسطور» بطريرك القسطنطينية أن هناك أقنوما و طبيعة، فأقنوم الألوهية من الأب و تنسب إليه، و طبيعة الإنسان و قد ولدت من مريم، فمريم أم الإنسان في المسيح، و ليست أم الإله، و يقول في المسيح الذي ظهر بين الناس و خاطبهم، كما نقله عنه ابن البطريرق، ثم يقول: «إن نسطور ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلها في حد ذاته، بل هو إنسان مملوء من البركة و النعمة، أو هو ملهم من اللّه، فلم يرتكب خطئة و ما أتى أمرا إدّا»، و خالفه في هذا الرأي أسقف روما و بطريرك الاسكندرية و أساقفة أنطاكية فاتفقوا على عقد مجمع رابع، و انعقد مجمع «أفسس» عام 431 م، و قرر: «أن مريم العذراء والدة اللّه، و أن المسيح إله حق و إنسان، معروف بطبيعتين، متوحد في الأقنوم»، و لعنوا نسطور.

ثم خرجت كنيسة الاسكندرية برأي جديد، انعقد له «مجمع أفسس الثاني» الذي قرر «أن المسيح طبيعة واحدة، اجتمع فيها اللاهوت و الناسوت»، و لكن هذا الرأي لم يسلم، و استمرت الخلافات الحادة، فاجتمع مجمع «خلقدونية» عام 451 م، و قرر: «أن المسيح له طبيعتان لا طبيعة واحدة، و أن اللاهوت طبيعة وحدها، و الناسوت طبيعة وحدها، التقتا في المسيح»، و لعنوا مجمع أفسس الثاني، و لم يعترف المصريون بقرار هذا المجمع، و وقعت بين المذهب المصري «المنوفيسية» و المذهب «الملوكاني» الذي تبنته الدولة البيزنطية ما وقع من الخلافات الدامية (1). ).

ص: 327


1- في ظلال القرآن 2/ 864- 866، محمد أبو زهرة: محاضرات في النصرانية ص 127- 149 (القاهرة 1966).

و ظل الأمر كذلك حتى بعث اللّه تعالى خاتم النبيين و سيد المرسلين سيدنا محمد صلى اللّه عليه و سلم بالرسالة العامة، و نزل القرآن الكريم ليبّين للناس أن النصارى على فرق ثلاثة في عقيدتهم في المسيح، عبد اللّه و رسوله إلى بني إسرائيل ففرقه تزعم أنه اللّه، و أخرى تؤمن بعقيدة التثليث، و ثالثة تزعم أنه ابن اللّه.

1- تزعم الفرقة الأولى أنه اللّه، تعالى اللّه عما يقولون علوا كبيرا، و أن اللّه تعالى تجسم و تجسد في صورة يسوع المسيح و نزل إلى الأرض ليخلص الناس من آثامهم، و إلى هذا الفريق يشير القرآن الكريم في قوله تعالى:

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (1)، و يقول تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ (2)، و يقول تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (3)، و يقول تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ، وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (4).

و هكذا يفرق القرآن الكريم بين ذات اللّه تعالى و طبيعته و مشيئته و سلطانه، و بين ذات عيسى، عليه السلام، و كذا ذات أمه، و كل ذات أخرى، في نصاعة قاطعة حاسمة، فذات اللّه، سبحانه و تعالى، واحدة،

ص: 328


1- سورة المائدة: آية 72.
2- سورة المائدة: آية 75.
3- سورة المائدة: آية 17.
4- سورة النساء: آية 172.

و مشيئته مطلقة، و سلطانه متفرد، و لا يملك أحد شيئا في رد مشيئته أو دفع سلطانه، إن أراد أن يهلك المسيح و أمه و من في الأرض جميعا، و هو سبحانه و تعالى، مالك كل شي ء، و خالق كل شي ء، و الخالق غير المخلوق، و كل شي ء مخلوق: وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ، وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ، و كذلك تتجلى نصاعة العقيدة الإسلامية، و وضوحها و بساطتها، و تزيد جلاء أمام ذلك الركام من الانحرافات و التصورات و الأساطير و الوثنيات و المتلبسة بعقائد فريق من أهل الكتاب، و تبرز الخاصية الأولى للعقيدة الإسلامية في تقرير حقيقة الألوهية، و حقيقة العبودية، و الفصل التام الحاسم بين الحقيقتين، بلا غبش و لا شبهة و لا غموض (1).

2- يز عم الفريق الثاني أن اللّه ثالث ثلاثة: و هذا الفريق هو الذي يعتقد بعقيدة التثليث، و هي عقيدة تزخر بمزاعم و أضاليل و أباطيل، فهي تزعم أن اللّه، تعالى اللّه عما يقولون علوا كبيرا، ثالث ثلاثة (2)، و أنه ثلاثة أصول (أقانيم) متساوية: اللّه الأب و اللّه الابن، و اللّه الروح القدس، فالمسيح عيسى ابن مريم إله، و هو ابن إله، و في الوقت نفسه هو بشر و إله، هو لاهوت و ناسوت، هو اللّه و ابن اللّه، و أصل من الأصول الثلاثة المكونة للّه، و يصدر القرآن الكريم حكمه في هذه العقيدة، فيحكم بكفر من اعتنقها و اعتقد ).

ص: 329


1- في ظلال القرآن 2/ 866.
2- يحكي المتكلمون عن النصارى أنهم يقولون: جوهر واحد، ثلاثة أقانيم، أب و ابن و روح القدس، و هذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم يتناول القرص و الشعاع و الحرارة، و عنوا بالأب الذات، و بالابن الكلمة، و بالروح الحياة، و أثبتوا الذات و الكلمة و الحياة، و قالوا: إن الكلمة التي هي كلام اللّه اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر، و اختلاط الماء باللبن، و زعموا أن الأب إله، و الابن إله، و الروح إله، و الكل واحد، و اعلم إن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل فإن الثلاثة لا تكون واحدا، و الواحد لا يكون ثلاثة (تفسير الفخر الرازي 12/ 60).

فيها (1)، يقول تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ، وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (2)، و يقول تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ، وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ، إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3).

و قال الزجاج: لا تقولوا آلهتنا ثلاثة، و ذلك لأن القرآن يدل على أن النصارى يقولون: إن اللّه و المسيح و مريم ثلاثة آلهة، و الدليل عليه قوله تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ (4)، و قال الفراء: و لا تقولوا هم ثلاثة كقوله: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ، و ذلك لأن ذكر عيسى و مريم مع اللّه تعالى بهذه العبارة يوهم كونهما إلهين، و بالجملة فلا نرى مذهبا في الدنيا أشد ركاكة و بعدا عن العقل من مذهب النصارى، ثم قال اللّه تعالى: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ، ثم أكد التوحيد بقوله: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ، ثم نزه اللّه تعالى نفسه عن الولد بقوله: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ (5).

و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن القرآن الكريم إنما يقرن لفظ المسيح أو عيسى بكلمة: ابْنَ مَرْيَمَ ليقرع آذان النصارى بأنه «ابن مريم»، و ليس «ابن اللّه»، كما ينبه القرآن الكريم المسيحيين إلى أن

ص: 330


1- محمد بن الشريف: المرجع السابق ص 190.
2- سورة المائدة: آية 73.
3- سورة النساء: آية 171.
4- سورة المائدة: آية 116.
5- تفسير الفخر الرازي 11/ 115- 116.

المسيح و أمه كانا يأكلان الطعام، يقول تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ (1)، و من البيّن أن الذي يأكل الطعام فيتحول في جسمه دما و لحما و عظما، و ينضح عرقا، و يخرج فضلة لو بقيت في الجسم لأضرته، من الواضح أن كائنا من هذا النمط لا يمكن إلا أن يكون بشرا خاضعا لكل قوانين البشر التي لا تؤدي إلى نقص في مرتبته كرسول (2)، و يقول الفخر الرازي اعلم أن المقصود من قوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ الاستدلال على فساد قول النصارى، و بيانه من وجوه، الأول: أن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن، و كل من كان كذلك كان مخلوقا، لا إلها، و الثاني: أنهما كانا محتاجين، لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة، و الإله هو الذي يكون غنيا عن جميع الأشياء، فكيف يعقل أن يكون (المحتاج) إلها، و الثالث أن الأكل عبارة عن الحاجة إلى الطعام، و هذه الحاجة من أقوى الدلائل على أنه ليس بإله، و الرابع: أن الإله هو القادر على الخلق و الإيجاد، فلو كان إلها لقدر على دفع ألم الجوع عن نفسه بغير الطعام و الشراب، فلما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه، كيف يعقل أن يكون إلها للعالمين، و بالجملة ففساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل (3).

و أما قوله تعالى: قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً (4)، فهذا، كما يقول الفخر الرازي، دليل آخر على فساد قول النصارى، و هو يحتمل أنواعا من الحجة، الأول: أن اليهود كانوا يعادونه و يقصدونه بالسوء، فما قدر على الإضرار بهم، و كان أنصاره و صحابته

ص: 331


1- سورة المائدة: آية 75.
2- عبد الحليم محمود: التفكير الفلسفي في الإسلام- القاهرة 1964 ص 74.
3- تفسير الفخر الرازي 12/ 61.
4- سورة المائدة: آية 76.

يحبونه، فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، و العاجز عن الإضرار و النفع، كيف يعقل أن يكون إلها، و الثاني أن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه و مزقوا أضلاعه، و لما عطش و طلب الماء منهم، صبوا الخل في منخريه، و من كان في الضعف هكذا، كيف يعقل أن يكون إلها، و الثالث: أن إله العالم يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه، و يكون كل ما سواه محتاجا إليه، فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولا بعبادة اللّه تعالى، لأن الإله لا يعبد شيئا، إنما العبد هو الذي يعبد الإله، و لما عرف بالتواتر كونه كان مواظبا على الطاعات و العبادات، علمنا أنه إنما كان يفعلها لكونه محتاجا في تحصيل المنافع و دفع المضار إلى غيره، و من كان كذلك، كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد و دفع المضار عنهم، و إذا كان كذلك كان عبدا كسائر العبيد، و هذا هو عين الدليل الذي حكاه اللّه تعالى عن إبراهيم عليه السلام، حيث قال لأبيه: لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (1).

ثم إن الإله موجود، واجب الوجود لذاته، و يجب ألا يكون جسما و لا متحيزا و لا عرضا، و عيسى عليه السلام عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوما، و قتل بعد أن كان حيا على قول النصارى، و كان طفلا أولا ثم صار مترعرعا ثم صار شابا، و كان يأكل و يشرب و يحدث و ينام و يستيقظ، و قد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديما، و المحتاج لا يكون غنيا، و الممكن لا يكون دائما، كما أن النصارى يقولون بأن اليهود أخذوه و صلبوه و تركوه حيا على الخشبة، و قد مزقوا ضلعه، و أنه كان يحتال في الهرب منهم، و في الاختفاء عنهم، و حين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد (2)، فإذا كان إلها أو أن الإله كان حالا فيه، ».

ص: 332


1- تفسير الفخر الرازي 12/ 62.
2- جاء في إنجيل متى (27/ 46- 50) «و صرح يسوع بصوت عظيم قائلا: إيلي إيلي لما شبقتني، أي إلهي إلهي لما ذا تركتني، فقوم من الواقفين هناك لما سمعوا قالوا إنه ينادي إيليا، و للوقت ركض واحد منهم و أخذ اسفنجة و ملأها خلا، و جعلها على قصبة و سقاه، و أما الباقون فقالوا: اترك لنرى هل يأتي إيليا يخلصه، فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم و أسلم الروح».

أو كان جزءا من الإله حال فيه فلم لم يدفعهم عن نفسه؟ و لم لم يهلكهم بالكلية؟ و أي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم، و الاحتيال في الفرار منهم؟

كما يظهر بطلان القول بألوهية المسيح مما ثبت بالتواتر من أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة و الطاعة للّه تعالى، و لو كان إلها لاستحال ذلك، لأن الإله لا يعبد نفسه، ثم لو كان المسيح حقا إلها، و قد قتله اليهود و صلبوه، فهذا يعني أن اليهود قتلوا إله العالم، فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إله، ثم إن اليهود إنما هم أشد الناس ذلا و دناءة، و من ثم فإن الإله الذي تقتله اليهود إنما هو إله فى غاية العجز (1).

هذا و يسجل القرآن الكريم أن دعوة المسيح عيسى بن مريم رسول اللّه، إنما كانت إلى التوحيد الكامل يقول تعالى: وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (2) و قال تعالى: وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (3).

ص: 333


1- تفسير الفخر الرازي/ 78- 79.
2- سورة المائدة: آية 72.
3- سورة المائدة: آية 116- 117، و انظر: تفسير روح المعاني 7/ 64- 70، تفسير ابن كثير 2/ 192- 195، تفسير الفخر الرازي 12/ 133- 137، تفسير النسفي 1/ 310- 311، تفسير البحر المحيط 4/ 58- 59.

و يقول الألوسي (1): استشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحدا من النصارى اتخذ مريم عليها السلام إلها، و أجيب عنه بأجوبة، الأول: أنهم لما جعلوا عيسى عليه الصلاة و السلام إلها، ألزمهم أن يجعلوا والدته أيضا كذلك لأن الولد من جنس من يلده فذكر «إلهين» على طريق الإلزام لهم، و الثاني: أنهم لما عظموها تعظم الإله أطلق عليها اسم الإله (2)، كما أطلق اسم الرب على الأحبار و الرهبان في قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، كما أنهم عظموهم تعظيم الرب، و الثالث:

أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك (3).

و أيا ما كان الأمر، فإن النصوص القرآنية ستظل أبد الدهر، بما تحمل من قول المسيح، أو اعترافه، إن جاز هذا التعبير، بأنه بشر يتبرأ من دعوى الألوهية، و ينفي ما لصقه به المنحرفون و المخرفون من أتباعه و أشياعه، و بأن علمه محدود، و أجله محدود، و أنه عبد اللّه و رسوله، لا يبلغ إلا ما أمر اللّه مولاه أن يبلغه، و كذا بما تحمل من دلائل على جوهر المسيحية، الحقة، و نقائها، ستظل مسجلة على أهل التثليث غلوهم و كفرهم، و لعلهم، إن كانوا أتباع المسيح حقا، أن يثوبوا إلى عقيدته الحقة (4)، و أن يؤمنوا بما بشر به، سيدنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ما أنزل عليه، فقد جاء في الحديث الشريف قوله صلى اللّه عليه و سلم: «و الذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي أو نصراني، و لا يؤمن بي إلا دخل النار» (5).

و من عجب أن أناجيل النصارى إنما تشير إلى غير ما يزعمون، فهناك ).

ص: 334


1- تفسير روح المعاني 7/ 65.
2- انظر: تفسير الفخر الرازي 12/ 134.
3- أنظر: ديتلف نلسن و آخرون: التاريخ العربي القديم ص 242- 243.
4- محمود بن الشريف: المرجع السابق ص 192.
5- صحيح مسلم 1/ 367 (القاهرة 1971).

نصوص تشير إلى عبودية المسيح (1) للّه تعالى و إلى رسالته (2) و إلى وحدانية اللّه (3)، و إلى إنسانية المسيح و أمه، و إلى أنه ابن الإنسان (تعني ابن مريم) و ليس ابن اللّه كما يزعمون (4).

و لعل سائلا يتساءل: من أين جاءت عقيدة التثليث هذه لديانة المسيح التوحيدية؟ و الجواب أن ذلك إنما كان من تأثير الديانات الوثنية التي كانت شائعة وقت ذاك في الشرق الأدنى القديم، و ربما المصرية بصفة خاصة، و التي شاعت فيها عقائد التثليث، حتى كان لكل مدينة ثالوثها الخاص بها، و المكون من الإله الأب، و الإله الأم، و الإله الابن، فمثلا ثالوث طيبة (الأقصر الحالية) يتكون من الإله آمون (الأب) و الإلهة موت (الأم) و الإله خونسو (الابن)، و في مدينة منف (ميت رهينة بمركز البدرشين بمحافظة الجيزة) يتكون الثالوث من الإله «بتاح» (الأب) و الإلهة سمخت (الأم) و الإله نفرتوم (الابن)، و في اليفانتين (جزيرة أسوان) يتكون الثالوث من الإله خنوم و عنقت و ساتت، هذا فضلا عن ثالوث أوزير المشهور، حيث يمثل أوزير الإله الأب، و تمثل إيزة الإلهة الأم، و يمثل حور الإله الابن (5).

ص: 335


1- يوحنا 20/ 17.
2- يوحنا 14/ 24.
3- متى 23/ 9، 22، مرقس 12/ 28- 33، حيث يقول: «فجاء واحد من الكتبة و سمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله أية وصية هي أول الكل، فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، و تحب الرب إلهك من كل قلبك و من كل نفسك و من كل فكرك و من كل قدرتك، هذه هي الوصية الأولى، و ثانية مثلها: هي تحب قريبك كنفسك، ليس وصية أخرى أعظم من هاتين، فقال له الكاتب جيدا يا معلم، بالحق قلت لأنه اللّه واحد، و ليس آخر سواه، و محبته من كل القلب و من كل الفهم و من كل النفس، و من كل القدرة، و محبة القريب كالنفس هي أفضل من جميع المحرقات و الذبائح».
4- متى 1/ 1- 17، 8/ 20، 13/ 37، 26/ 64، يوحنا 1/ 51، 17/ 3.
5- أنظر: محمد بيومي مهران: الحضارة المصرية القديمة- الاسكندرية 1984 ص 243- 361.

و الأمر كذلك بالنسبة إلى بلاد الرافدين (العراق القديم) و سورية و فينيقيا، فضلا عن بلاد العرب، حيث نرى اللات و العزى و مناة الثالثة في الشمال، و حيث سادت في الجنوب عبادة ثالوث من الكواكب هي القمر و الشمس و الزهرة، و يمثل القمر في هذا الثالوث دور الأب، و تمثل الشمس دور الأم، بينما كانت الزهرة تمثل دور الابن، و لم يكن بنو إسرائيل بعيدين عن عقيدة التثليث هذه، فقد وجد عندهم ثالوث (يهوه و بعل و عشتارت)، و قد كان هذا الثالوث يقدس عند العبرانيين في عصر الملوك بين جميع أفراد الشعب (1)، و إن كانت عبادة «بعل» على أيام الملك الإسرائيلي «أخاب» (869- 850 ق. م) معاصر النبي «إيليا»، و هو إلياس عليه السلام فيما نرجح (2)، أوضح من غيرها (3)، و قد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في سورة الصافات (4)، و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أننا نجد عند بني إسرائيل تلك الظاهرة العربية، أعني أن الشمس كان ينظر إليها كإلهة أم و مؤنثة، كما في زواج «يهوه» رب يهود الشمس، و في جميع الحالات ترد الشمس كإلهة مؤنثة، بينما ترد الزهرة (عشثر) مذكرة (5)، و كان العربانيون يعظمون بعلا كثيرا، حتى حمل كثير منهم اسم «بعل» كجزء من أسمائهم مثل «إيشبعل» و «مريبعل» و «يربعل» و «بعلزكار» و «بعلاة» (6)، كما تقبلوا «كيموش» كإله للقوم، و كذا «بلزيوب» إله عقرون، و ملكوم إله عمون و غيرهم (7)، و رغم

ص: 336


1- ديتلف نالسن: المرجع السابق ص 236.
2- أنظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2/ 910- 916.
3- ملوك أول 16/ 30- 34.
4- سورة الصافات: آية 122- 128.
5- ديتلف نلسن: المرجع السابق ص 236، محمد بيومي مهران: إسرائيل 4/ 21- 22.
6- أخبار أيام أول 8/ 33- 34، 9/ 39- 40، أخبار أيام ثان 14/ 7، 27/ 28، قضاة 6/ 32، 7/ 1، 8/ 9، 9/ 1، محمد بيومي مهران: إسرائيل 4/ 24- 25، 32- 33، و كذا., RTH, noyL. G D 143- 136. p، 1911.
7- قضاة 11/ 24، محمد بيومي مهران: إسرائيل 4/ 25.

أن البعض حاول أن يفسر ذلك على أنه نوع من النزعة الانفصالية التي كانت تتملك نفوس القوم من الناحيتين السياسية و الاقتصادية و التي أدت إلى ما يمكن أن يسمى استقلالا دينيا (1)، إلا أن ذلك لن يغير من الحقيقة شيئا، و هو أنه شرك محض، و انطلاقا من هذا، و كما يقول أنجنل، فإن الوحدانية التي كان يدركها الإسرائيليون في ذلك الزمن إنما كانت وحدانية تغليب لرب من الأرباب على سائر الأرباب (2).

و هكذا لم يمض القرن الأول الميلادي حتى كانت ديانة المسيح، و هي ديانة توحيدية في أصلها و جوهرها، لا تختلف كثيرا عن ديانات الشرق القديم الوثنية، بل إنها لم تعد ديانة توحيدية، و إنما غدت ديانة متعددة الآلهة، فالمسيح و أمه كانا يقدسان فيها ككائنين إلهيين، و نافست الديانات المنتشرة وقت ذاك في عقيدة التثليث (3).

3- يزعم الفريق الثالث من النصارى أن المسيح إنما هو ابن اللّه، تعالى اللّه عما يقولون علوا كبيرا، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)، و يقول تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (5)، و إذا كان النصارى يعجبون من أمر عيسى لأنه ولد بدون أب، فأمر آدم عليه السلام أعجب، لأنه خلق بدون أب و بدون أم، فالذي خلق آدم من تراب و قال له كن فيكون، هو

ص: 337


1- ول ديورانت: قصة الحضارة- الجزء الثاني من المجلد الأول- ترجمة محمد بدران- القاهرة 1961 ص 243.
2- عباس محمود العقاد: إبراهيم أبو الأنبياء دار الهلال- ص 122.
3- ديتلف نلسن: المرجع السابق ص 242- 243.
4- سورة التوبة: آية 30.
5- سورة النساء: آية 171.

الذي خلق عيسى من غير أب، و إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى:

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (1)، و قد أجمع المفسرون أن آية آل عمران (59) نزلت عند حضور وفد نجران على سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و كان من جملة شبههم أن قالوا: يا محمد، لما سلمت أنه (أي عيسى) لا أب له من البشر، وجب أن يكون أبوه هو اللّه تعالى، فقال صلى اللّه عليه و سلم: إن آدم ما كان له أب و لا أم، و لم يلزم أن يكون ابنا للّه تعالى، فكذا القول في عيسى عليه السلام، و أيضا إذا جاز أن يخلق اللّه تعالى آدم من التراب، فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم، بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم، أقرب من تولده من التراب اليابس (2).

و أخرج في الدلائل بسنده عن ابن عباس: أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، منهم السيد، و هو الكبير، و العاقب، و هو الذي يكون بعده و صاحب رأيهم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أسلما، قالا أسلمنا قال ما أسلمتما، قالا بلى قد أسلمنا قبلك، قال كذبتما، يمنعكما من الإسلام ثلاث فيكما: عبادتكما الصليب، و أكلكما الخنزير، و زعمكما أن للّه ولدا، و نزل «إن مثل عيسى» الآية، فلما قرأها عليهم قالوا: ما نعرف ما تقول، و نزل «فمن حاجك» الآية، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إن اللّه تعالى قد أمرني، إن لم تقبلوا هذا، أن أباهلكم، فقالوا يا أبا

ص: 338


1- سورة آل عمران: آية 59- 61، و انظر: تفسير الفخر الرازي 8/ 74، تفسير النسفي 1/ 160- 162، تفسير روح المعاني 3/ 186- 193، تفسير الطبري 3/ 295- 298، تفسير ابن كثير 1/ 550- 555، في ظلال القرآن 1/ 404- 406، تفسير المنار.
2- صفوة التفاسير 1/ 206- 207.

القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك، فخلا بعضهم ببعض و تصادقوا فيما بينهم، قال السيد للعاقب: قد و اللّه علمتم أن الرجل نبي مرسل، و لئن لاعنتموه أنه لاستئصالكم، و ما لاعن قوم نبيّا قط، فبقي كبيرهم و لا نبت صغيرهم، فإن أنتم لم تتبعوه و أبيتم، إلا إلف دينكم، فوادعوه و ارجعوا إلى بلادكم، و قد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خرج و معه علي و الحسن و الحسين و فاطمة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إن أنا دعوت فأمنوا أنتم، فأبوا أن يلاعنوه و صالحوه على الجزية»، و روي أن أسقف نجران لما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مقبلا، و معه علي و الحسنان و فاطمة، رضي اللّه عنهم، قال: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوها، لو سألوا اللّه تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا و تهلكوا»، و في التفسير الكبير أن سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خرج و عليه مرط من شعر أسود، و كان قد احتضن الحسين، و أخذ بيد الحسن، و فاطمة تمشي خلفه، و علي رضي اللّه عنه، خلفها، و هو يقول:

«إذا دعوت فأمنوا، قال أسقف نجران: يا معشر النصارى: إني لأرى وجوها لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة» (1).

و لا ريب أن هذه القصة أوضح دليل على نبوته صلى اللّه عليه و سلم، قال أبو حيان في البحر: و في ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بصدقه شاهد عظيم على صحة نبوته صلى اللّه عليه و سلم (2)، كما أن في دلالتها على فضل آل اللّه و رسوله صلى اللّه عليه و سلم، أي أهل البيت، مما لا يمتري فيها مؤمن (3)، كما تدل على أن الحسن و الحسين عليهما السلام كانا ابني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، وعد أن يدعو أبناءه، فدعا الحسن و الحسين، فوجب أن يكونوا أبنية، و مما يؤكد هذا قوله تعالى في سورة

ص: 339


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 80، تفسير روح المعاني 3/ 188- 189.
2- تفسير البحر المحيط 2/ 480.
3- تفسير روح المعاني 3/ 189.

الأنعام: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ ... إلى قوله وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى و معلوم أن عيسى عليه السلام إنما انتسب إلى إبراهيم عليه السلام بالأم، لا بالأب، فثبت أن ابن البنت قد يسمى ولدا، و كذا ما روى أنه صلى اللّه عليه و سلم لما خرج في المرط الأسود، فجاء الحسن رضي اللّه عنه، فأدخله، ثم جاء الحسين رضي اللّه عنه، فأدخله، ثم فاطمة ثم علي رضي اللّه عنهما، ثم قال:

إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، و اعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير و الحديث (1).

هذا و قد استدل الشيعة بقصة المباهلة هذه على أولوية الإمام علي كرم اللّه وجهه بالخلافة، بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بناء على رواية مجى ء علي كرم اللّه تعالى وجهه، مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و وجه أن المراد حينئذ بأبنائنا الحسن و الحسين و بنسائنا فاطمة، و بأنفسنا الأمير، و إذا صار نفس الرسول، و ظاهران المعنى الحقيقي مستحيل، تعني أن يكون المراد المساواة، و من كان مساويا للنبي صلى اللّه عليه و سلم فهو أفضل و أولى بالتصرف من غيره، و لا معنى للخلافة إلا ذلك (2)، و هكذا كان سائر الشيعة قديما و حديثا يستدلون بهذه الآية (آل عمران آية 61) على أن عليا رضي اللّه عنه، مثل نفس محمد صلى اللّه عليه و سلم، إلا فيما خصه اللّه بالنبوة، و كان نفس محمد صلى اللّه عليه و سلم أفضل من الصحابة رضوان اللّه عليهم، فوجب أن يكون نفس علي أفضل أيضا من سائر الصحابة (3).

[2] دعوى الصلب:-

تمثل عقيدة الصلب عند النصارى (4) موضوع الخلاف الثاني بينهم

ص: 340


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 80.
2- تفسير روح المعاني 3/ 189.
3- تفسير الفخر الرازي 8/ 81.
4- أنظر القصة بالتفصيل (إنجيل متى 26/ 1- 28/ 20، إنجيل مرقس 14/ 1- 16/ 20، إنجيل لوقا 22/ 1- 24/ 53، إنجيل يوحنا 18/ 1- 21/ 25).

و بين المسلمين بشأن المسيح عليه السلام، فالقرآن الكريم إنما ينفي قصة صلب المسيح و قتله تماما، قال تعالى: وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ، وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ، إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ، وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (1)، و قال تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (2)، هذا و قد كشف إنجيل برنابا هذه الأسطورة، فجاء فيه، على لسان المسيح، «فلما كان الناس دعوني اللّه و ابن اللّه، على أني كنت بريئا في العالم، أراد اللّه أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا، معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة، و سيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول اللّه، الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة اللّه».

و هذا النص يشير إلى أمرين، الواحد: أن الذي صلب إنما هو «يهوذا الإسخريوطي»، الذي خان السيد المسيح و دل عليه أعداءه حين قبله، و لذا نطق المسيح بمثله المشهور «يا يهوذا أ بقبلة تسلم ابن الإنسان» (3)، و أن المسيح عليه السلام لم يحاكم و لم يصلب و لم يرقد في قبر، و لم يقم من بين

ص: 341


1- سورة النساء: آية 157- 158، و انظر: تفسير الطبري 6/ 12- 18، صفوة التفاسير 1/ 316، تفسير البيضاوي 1/ 141- 142، تفسير ابن كثير 1/ 872- 889، التسهيل لعلوم التنزيل 1/ 163، في ظلال القرآن 2/ 801- 803، تفسير روح المعاني 6/ 10- 13، تفسير النسفي 1/ 261- 263.
2- سورة آل عمران: آية 55، و انظر: تفسير الفخر الرازي 8/ 67- 70، تفسير ابن كثير 1/ 548، في ظلال القرآن 1/ 403- 404، تفسير الطبري 3/ 289- 293، تفسير روح المعاني 3/ 179- 184، تفسير النسفي 1/ 160.
3- أنظر: إنجيل لوقا 22/ 1- 71.

الأموات، كما يدعي النصارى، و إنما كانت الواقعة تدور في فلك يهوذا الأسخريوطي، أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر، الذي أراد اللّه له تنكيلا جزاء خيانته، و رفع نبيه المسيح إليه، و من ثم فالذي صلب، كما حققه برنابا، أحد الحواريين، إنما هو يهوذا، شبيه المسيح، و ليس المسيح ذاته (1)، و أما الأمر الثاني، فهو نبوءة المسيح بالنبي الخاتم، سيدنا محمد صلى اللّه عليه و سلم و أنه هو الذي سيكشف خدعة الصلب للمؤمنين بشريعة اللّه و قد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في سورتي آل عمران (55) و النساء (157- 158) (2).

و أما الإسلام فيقرر في وضوح و تأكيد، كما أشرنا آنفا، أن المسيح لم يقتل و لم يصلب، و إنما رفعه اللّه إليه، قال تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، و قد اختلف علماء المسلمين في معنى الوفاة و الرفع و التطهير، و قد ساق الأستاذ عبد الوهاب النجار في كتابه «قصص الأنبياء» عدة آراء لعديد من المفسرين بلغت تسعا (3)، ثم اختار منها أوجهها إليه، و هو أن المراد في قوله تعالى: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا هو أني مستوف أجلك و مميتك حتف أنفك، لا أسلط عليك من يقتلك، و أن الآية كناية عن عصمته من الأعداء، ثم تساءل: أين مكان عيسى، و ما الذي آل إليه أمره؟

و أجاب عن ذلك: أن اللّه تعالى أبهم أمره علينا و لم يقصه، فنحن نفوض العلم بذلك إلى اللّه تعالى، فليكن أنه أماته في الأرض، أو أنامه كما أنام أهل الكهف، أو أصعده إلى السماء، لا نقطع بشي ء من هذه الأشياء بعينه، ).

ص: 342


1- انظر: بعض الروايات العربية عن الموضوع (تفسير ابن كثير 1/ 873- 876).
2- إبراهيم خليل أحمد: محمد صلى اللّه عليه و سلم في التوراة و الإنجيل و القرآن- الطبعة الخامسة- القاهرة 1983 ص 218- 220.
3- هذه الأوجه هي: (1) المعنى رافعك إلي و متوفيك و أن الكلام فيه تقديم و تأخير. (2) المراد أني مستوفيك أجلك و مميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك، فالكلام كتابة عن عصمته من الأعداء، و ما هم بصدده من الفتك به عليه السلام، لأنه يلزم من استيفاء اللّه أجله موته حتف أنفه.(3) المراد قابضك و مستوف شخصك من الأرض و من توفي المال بمعنى استوفاه و قبضه. (4) المراد بالوفاة هنا النوم، لأن النوم و الوفاة، يطلق على كل منهما على الآخر، و قد روي عن الربيع أن اللّه تعالى رفع عيسى عليه السلام و هم نائم رفقا. (5) أجلك كالمتوفي لأنه بالرفع أشبه. (6) المراد آخذك وافيا بروحك و بدنك فيكون وَ رافِعُكَ إِلَيَّ كالمفسر لما قبله. (7) المراد بالوفاة موت القوى الشهوانية العائقة عن اتصاله بالملكوت. (8) أن المراد مستقبل عملك! قال الألوسي: لا يخلو أكثر هذه الأوجه من بعد، و لا سيما الأخير. (9) أخرج ابن جرير عن وهب أنه قال: توفى اللّه عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه، و في رواية للحاكم عنه: أنه توفاه سبع ساعات ثم أحياه (عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص 423).

بل نبهمه كما أبهمه اللّه تعالى، و من أراد أن يقطع فعليه دليل ما قطع به، و تفويض العلم إلى اللّه تعالى أسلم في العاقبة، و أكثر احتياطا للدين، فليس بهين أن يشهد المرء على اللّه بأمر لم يشهد به على نفسه، و ليس عنده عليه سلطان مبين (1).

و يقول صاحب الظلال: لقد أراد اليهود صلب عيسى عليه السلام و قتله، و أراد اللّه أن يتوفاه، و أن يرفعه إليه، و أن يطهره من مخالفة الذين كفروا و البقاء بينهم، و هم رجس و دنس، إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فأما كيف كانت وفاته، و كيف كان رفعه، فهي أمور غيبية تدخل في المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا اللّه، و لا طائل وراء البحث فيها، لا في عقيدة و لا في شريعة، و الذين يجرون وراءها، و يجعلونها مادة للجدل ينتهي بهم الحال إلى المراء و إلى التخليط و إلى التعقيد، دونما جزم بحقيقة، و دون ما راحة بال في أمر موكول إلى علم اللّه (2).

و على أي حال، و كما يقول الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير

ص: 343


1- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص 423.
2- في ظلال القرآن 1/ 403.

المنار، فإن للعلماء هنا طريقتين، إحداهما، و هي المشهورة، أنه رفع بجسمه حيّا، و أنه سينزل في آخر الزمان، فيحكم بين الناس بشريعة محمد صلى اللّه عليه و سلم ثم يتوفاه اللّه تعالى (1)، و يقول الفخر الرازي: معنى قوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي متمم عمرك، فحينئذ أتوفاك، فلا أتركهم حتى يقتلوك، بل أنا رافعك إلى سمائي، و مقربك بملائكتي، و أصونك عن أن يتمكنوا من قتلك، و هذا تأويل حسن، و هناك وجه آخر في تأويل الآية هو: أن الواو في قوله:

مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ تفيد الترتيب، فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال، فأما كيف يفعل، و متى يفعل، فالأمر فيه موقوف على الدليل، و قد ثبت الدليل أنه حي، و ورد الخبر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم: «أنه سينزل و يقتل الدجال» ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك (2).

و أما الطريقة الثانية، فيما يرى الأستاذ الإمام، فهي أن الآية على ظاهرها، و أن التوفي على معناه الظاهر المتبادر منه و هو «الإماتة العادية» و أن الرفع يكون بعده، و هو رفع الروح (3)، يقول الفخر الرازي: إني «متوفيك» أي مميتك، و هو مروي عن ابن العباس و محمد بن إسحاق، قالوا:

و المقصود أن لا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتلة، ثم أنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء، ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه، أحدها: قال وهب توفي ثلاث ساعات، ثم رفع، و أخرج الحاكم عنه أن اللّه تعالى توفي عيسى سبع ساعات ثم أحياه، و أن مريم حملت به و لها ثلاث عشرة سنة و أنه رفع و هو ابن ثلاث و ثلاثين، و أن أمه بقيت بعد رفعه ست سنين، و ثانيها: قال محمد بن إسحاق توفي سبع ساعات (و هو قول لوهب كما رأينا) ثم أحياه اللّه و رفعه، و ثالثها، قال الربيع بن أنس: أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء، قال

ص: 344


1- تفسير المنار 3/ 260.
2- تفسير الفخر الرازي 8/ 67.
3- تفسير المنار 3/ 260.

تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها (1)، و روى عن الربيع أيضا و عن الحسن أن اللّه تعالى رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، و هو نائم، رفقا به (2).

و هكذا وجد عندنا رأيان، الأول، و هو رأي الجمهور، و يذهب إلى أن المسيح عليه السلام رفع إلى السماء حيا، بجسده و روحه، و أنه الآن ما يزال حيا يرزق عند ربه، و في رفعه إلى أي سماء خلاف، و الذي اختاره الكثير من العارفين أنه رفع إلى السماء الرابعة، و عن ابن عباس، رضي اللّه تعالى عنهما، أنه رفع إلى السماء الدنيا، فهو فيها يسبح مع الملائكة ثم يهبطه اللّه تعالى عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس (3)، و يستدل الذي ينادون بأن المسيح رفع حيا إلى السماء بآيتي سورة النساء (157- 158) الآنفتي الذكر، و كذا بقوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (4)، فهي تفيد أن عيسى سينزل آخر الزمان، و إذا نزل آمن به كل من كان موجودا حينئذ من أهل الكتاب لأنه سينزل ليحكم بشريعة محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و يقول الإمام القرطبي في تفسيره: إن الضمير يعود على عيسى عليه السلام، أي قبل موت عيسى، ثم يذكر رواية عن يزيد بن زريع عن الحسن البصري يقول فيها: «و اللّه إنه لحي الآن عند اللّه، و لكن إذا نزل آمن به أجمعون» (5)، و روى ابن أبي

ص: 345


1- تفسير الفخر الرازي 8/ 67، تفسير روح المعاني 3/ 179.
2- تفسير روح المعاني 3/ 179.
3- تفسير روح المعاني 3/ 182.
4- سورة النساء: آية 159، و انظر: تفسير الطبري 6/ 18- 23، تفسير ابن كثير 1/ 876- 878، تفسير النسفي 1/ 162- 163، تفسير روح المعاني 6/ 12- 13، في ظلال القرآن 2/ 802- 803.
5- تفسير القرطبي ص 2007- 2008.

حاتم عن جويرية بن بشير، قال: سمعت رجلا قال للحسن يا أبا سعيد، قول اللّه تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، قال: قبل موت عيسى، إن اللّه رفع إليه عيسى، و هو باعثه قبل يوم القيامة مقاما يؤمن به البر و الفاجر، و كذا قال قتادة، و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، و غير واحد (1).

و يقول الإمام الطبري في التفسير: أن أولى الأقوال بالصحة قول من قال إنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام، إلا آمن به (أي عيسى) قبل موت عيسى عليه السلام، و لا شك أن الذي قاله ابن جرير، فيما يرى ابن كثير، هو الصحيح، لأن المقصود من سياق الآية في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى و صلبه، و تسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر اللّه تعالى أنه لم يكن الأمر كذلك، و إنما شبّه لهم، فقتلوا الشبه و هم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، و إنه باق حي، و إنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، فيقتل مسيح الظلالة و يكسر الصليب، و يقتل الخنزير، و يضع الجزية، يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، و لا يتخلف عن التصديق به واحد منهم، و لهذا قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أي قبل موت عيسى عليه السلام، الذي زعم اليهود و من وافقهم من النصارى أنه قتل و صلب (2).

و أما الأحاديث الشريفة المتواترة (3) بذلك، فمنها ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «و الذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، ).

ص: 346


1- تفسير ابن كثير 1/ 877.
2- تفسير الطبري 6/ 21، تفسير ابن كثير 1/ 878.
3- أنظر: تفسير ابن كثير 1/ 879- 889 (بيروت 1986).

فيكسر الصليب و يقتل الخنزير، و يضع الجزية، و يفيض المال حتى لا يقبله أحد، و حتى تكون السجدة خير له من الدنيا و ما فيها»، ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (1).

و كذا رواه مسلم عن الحسن الحلواني و عبد بن حميد (2)، كلاهما عن يعقوب به، و أخرجه البخاري و مسلم أيضا من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري به، و أخرجاه من طريق الليث عن الزهري به (3)، و روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «ليهلن عيسى بن مريم بفج الروحاء بالحج أو العمرة أو ليثنيهما جميعا» (4)، و كذا رواه مسلم منفردا به من حديث سفيان بن عيية و الليث بن سعد و يونس بن يزيد، ثلاثتهم عن الزهري به (5)، و روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:

«ينزل عيسى بن مريم، فيقتل الخنزير و يمحو الصليب، و تجمع له الصلاة، و يعطى المال حتى لا يقبل، و يضع الخراج، و ينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعها»، قال و تلا أبو هريرة: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الآية (6)، و أخرج البخاري عن ابن شهاب عن نافع مولي أبي قادة الأنصاري أن أبا هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم و إمامكم منكم» (7)، و روى عن جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «و ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بنا،

ص: 347


1- صحيح البخاري 4/ 205.
2- صحيح مسلم 1/ 93، صحيح البخاري 3/ 178.
3- صحيح البخاري 3/ 107، صحيح مسلم 1/ 93.
4- مسند الإمام أحمد 2/ 513.
5- صحيح مسلم 4/ 60.
6- مسند الإمام أحمد 2/ 260.
7- صحيح البخاري 4/ 250، و رواة أيضا الإمام أحمد و مسلم.

فيقول لا، إن بعضهم أمير بعض تكرمة اللّه لهذه الأمة» (1).

هذا و يستدل القائلون بنزول عيسى قبل يوم القيامة أيضا بآية الزخرف: وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ (2)، و فيها قراءتان الأولى: «و إنه لعلم للساعة» بمعنى أنه يعلم بقرب مجيئها، و القراءة الثانية: «و إنه لعلم للساعة» بمعنى أمارة و علامة، و كلاهما قريب من قريب (3)، و هذه القراءة الأخيرة (بفتح العين و اللام) قرأ بها ابن عباس و قتادة الأعمش، و المعنى أمارة و علامة على اقتراب الساعة، قال ابن عباس في قوله: «و إنه لعلم للساعة» هو خروج عيسى بن مريم قبل يوم القيامة»، رواه الإمام أحمد و سعيد بن منصور و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و الطبراني و الحاكم و صححه هو و الذهبي، و قد رواه ابن حبان في صحيحه، و قال مجاهد: «و إنه لعلم للساعة»، أي آية للساعة خروج عيسى بن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة، و هكذا روى عن أبي هريرة و ابن عباس و أبي العالية و أبي مالك و عكرمة و الحسن البصري و قتادة و الضحاك و غيرهم (4).

و هكذا تستدل جمهرة العلماء من آيات القرآن و من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم في نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان (5)، و ما قاله ابن عباس و أبو هريرة و غيرهما من السلف في تفسير آيتي النساء (159) و الزخرف ).

ص: 348


1- حمود بن عبد العزيز التجري: إقامة البرهان في الرد على من أنكر خروج المهدي و الدجال و نزول المسيح في آخر الزمان- مجلة البحوث الإسلامية- العدد 13- شوال 1405 ص 109.
2- سورة الزخرف: آية 61.
3- في ظلال القرآن 5/ 3198.
4- تفسير ابن كثير 4/ 201، حمود التويجري: المرجع السابق ص 105.
5- جاء في نزول عيسى عليه السلام أكثر من خمسين حديثا مرفوعا أكثرها من الصحاح، و الباقي غالبه من الحسان، فمن زعم أنها كلها مزيفة، فلا شك أنه فاسد العقل و الدين (حمود التويجري: المرجع السابق ص 105- 106).

(61) من أن نزول عيسى عليه السلام حق، و قال إمام أهل السنة، أحمد بن حنبل في عقيدة أهل السنة و الجماعة التي رواها عنه «عبدوس بن مالك العطار»، «و الإيمان أن المسيح الدجال خارج مكتوب بين عينيه كافر، و الأحاديث التي جاءت فيه، و الإيمان بأن ذلك كله كائن، و أن عيسى بن مريم ينزل فيقتله بباب لدّ، و في الحديث: «يقتل ابن مريم الدجال بباب لدّ»، و في رواية «إلى جانب لدّ» (1)، و قال أبو محمد البربهاري في شرح السنة: و الإيمان بنزول عيسى بن مريم عليه السلام، ينزل فيقتل الدجال و يتزوج، و يصلي خلف القائم من آل محمد صلى اللّه عليه و سلم و يموت و يدفنه المسلمون»، و القائم من آل محمد صلى اللّه عليه و سلم هو المهدي، كما جاء في حديث جابر، الآنف الذكر، و فيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، قال: «و ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي تعال صل بنا، فيقول لا، إن بعضهم أمير بعض تكرمة اللّه لهذه الأمة»، رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده بإسناد جيد، و قد ذكره ابن القيم في كتاب «المنار المنيف» و قال إسناده جيد، و قال الطحاوي في العقيدة المشهورة «و نؤمن بأشراط الساعة (2) من خروج الدجال و نزول عيسى بن مريم عليه السلام من السماء».

و قال الإمام ابن تيمية أن عيسى بن مريم عليه السلام حي رفعه اللّه تعالى إليه بروحه و بدنه، و قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ، أي قابضك، ).

ص: 349


1- مسند الإمام أحمد 3/ 420، تحفة الأحوذي 6/ 513.
2- روى الإمام أحمد بسنده عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اشرف علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من عرفة، و نحن نتذاكر الساعة، فقال: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، و الدخان، و الدابة، و خروج يأجوج و مأجوج، و نزول عيسى ابن مريم و الدجال، و ثلاثة خسوف: خسف بالمشرق و خسف بالمغرب و خسف بجزيرة العرب، و نار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس، تبيت معهم حيث باتوا، و تقيل معهم حيث قالوا»، و هكذا رواه مسلم و أهل السنن من حديث فرات الفزارية (مسند الإمام أحمد 4/ 7، صحيح مسلم 8/ 178، تفسير ابن كثير 1/ 887).

و كذلك ثبت أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيقتل الدجال و يكسر الصليب و يقتل الخنزير و يضع الجزية حكما عدلا مقسطا، و يراد بالتوفي الاستيفاء، و يراد به الموت و يراد به النوم، و يدل على كل واحد القرينة التي معه، و قال القاضي عياض في شرح مسلم: نزول عيسى و قتله الدجال حق و صحيح عند أهل السنة للأحاديث الصحيحة في ذلك، و ليس في العقل و لا في الشرع ما يبطله، و أنكر ذلك بعض المعتزلة و الجهمية و من يوافقهم، و زعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى: وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ، و بقوله صلى اللّه عليه و سلم: «لا نبي بعدي»، و بإجماع المسلمين أنه لا نبي بعد نبينا صلى اللّه عليه و سلم، و أن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة لا تنسخ، و هذا استدلال فاسد لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه السلام أن ينزل نبيّا ينسخ شرعنا، و لا في الأحاديث شي ء من هذا، بل صحت الأحاديث أنه ينزل حكما مقسطا يحكم بشرعنا، و يحيى من أمور شرعنا ما هجره الناس، و قد نقله النواوي في شرح مسلم و أقره، و قال المناوي في شرح الجامع الصغير: أجمعوا على نزول عيسى عليه السلام نبيّا، لكنه بشريعة نبينا صلى اللّه عليه و سلم، و قال «السفاريني» في شرح عقيدته: نزول المسيح عيسى بن مريم ثابت بالكتاب و السنة و إجماع الأمة، و لم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، و إنما أنكر ذلك الفلاسفة و الملاحدة ممن لا يعتد بخلافه، و قد انعقد الإجماع على أنه ينزل و يحكم بهذه الشريعة المحمدية (1).

و أما الرأي الثاني، و يقول به بعض علماء المسلمين، و يذهب إلى أن المسيح عليه السلام قد توفي فعلا، بعد أن نجاه اللّه من مؤامرة اليهود، و لم يمكنهم من قتله و صلبه، و من ثم فإن معنى قوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ (2)

ص: 350


1- حمود التويجري: المرجع السابق ص 101- 113.
2- سورة النساء: آية 158.

و قوله تعالى: وَ رافِعُكَ إِلَيَّ (1)، إنما يراد به: رفع التعظيم و التكريم، و يستدلون على ذلك بأن اللّه عز و جل قد قدم كلمة: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ على كلمة وَ رافِعُكَ إِلَيَّ، كما يستدلون بقوله تعالى: (2) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (3)، بأن المقصود بها بأنه ليس من أحد من أهل الكتاب، اليهود أو النصارى، إلا و يؤمن بعيسى عليه السلام، إذ عاين ملك الموت، و لكنه إيمان لا ينفع، لأنه إيمان عند اليأس، و حين التلبس بحالة الموت، فاليهودي في ذلك الوقت يقر بأنه رسول اللّه، و النصراني يقر بأنه كان رسول اللّه (4).

ص: 351


1- سورة آل عمران: آية 55.
2- سورة المائدة: آية 117.
3- يذهب الأستاذ سيد قطب، طيب اللّه ثراه، في تفسير هذه الآية إلى أن ظاهر النصوص القرآنية يفيد أن اللّه سبحانه و تعالى قد توفي عيسى بن مريم ثم رفعه إليه، و بعض الآثار تفيد أنه حيّ عند اللّه، و ليس هناك، فيما يرى، أي تعارض يثير أي استشكال بين أن يكون اللّه قد توفاه من حياة الأرض، و أن يكون حيا عنده، فالشهداء كذلك يموتون في الأرض، و هم أحياء عند اللّه، أما صور حياتهم عنده، فنحن لا ندري لها كيفا، و كذلك صورة حياة عيسى عليه السلام، و هو هنا يقول لربه: إنني لا أدري ما ذا كان منهم بعد وفاتي (في ظلال القرآن 2/ 1001)، و يقول في تفسير قوله تعالى: وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (مريم آية 33) بأن المسيح إذن حياة محدودة ذات أمد، و هو يموت و يبعث، و قد قدّر اللّه له السلام و الطمأنينة يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا، و النص صريح هنا في موت عيسى و بعثه، و هو لا يحتمل تأويلا في هذه الحقيقة، و لا جدالا (في ظلال القرآن 4/ 2308)، و يقول في تفسير قوله تعالى: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا (آل عمران: آية 55) بأنهم أرادوا صلب عيسى عليه السلام و قتله، و أراد اللّه أن يتوفاه و يرفعه إليه، و أن يطرّه من مخالطة الذين كفروا و البقاء بينهم، و هم رجس و دنس، و أما كيف كانت وفاته، و كيف كان رفعه، فهي أمور غيبية تدخل في التشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا اللّه، و لا طائل وراء البحث فيها، لا في عقيدة و لا شريعة (في ظلال القرآن 1/ 403.
4- محمد الطيب النجار: تاريخ الأنبياء في ضوء القرآن و السنّة النبوية- الرياض 1983) ص 282- 283.

و يقرر الأستاذ الإمام محمود شلتوت في الفتاوي أن معنى قوله تعالى:

يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي مميتك إماتة عادية، إذ المعنى اللغوي الوضعي و المعنى القرآني لكلمة «متوفيك» إنما هو مميتك إماتة عادية (1)، و من قال إن عيسى حيّ في السماء، فذلك ادعاء و زعم منه، كما قرر أن معنى الرفع في «و رافعك إلي»، رفع مكانة، لا رفع جسد، بدليل التعقيب الذي جاء بجانب الرفع، و هو قوله تعالى: وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، مما يدل على أن الأمر أمر تشريف و تكريم، و يؤيد ذلك أن الرفع جاء في القرآن كثيرا بهذا المعنى (في بيوت أذن اللّه أن ترفع- نرفع درجات من نشاء- و رفعنا لك ذكرك- و رفعناه مكانا- يرفع اللّه الذين آمنوا ... إلخ)، و من ثم فقد حكم بأن التعبير بقوله تعالى: وَ رافِعُكَ إِلَيَّ، «بل رفعه اللّه إليه»، كالتعبير في قولهم: «لحق فلان بالرفيق الأعلى» و في «أن اللّه معنا» و في «عند مليك مقتدر»، و كلها لا يفهم منها سوى معنى الرعاية و الحفظ، و الدخول في الكنف المقدس، فمن يؤخذ كلمة «السماء» من كلمة «إليه»، اللهم إن هذا الظلم للتعبير القرآني الواضح، خضوعا لقصص و روايات لم يقم على الظن بها، فضلا عن اليقين، برهان و لا شبه برهان.

ثم يذهب الأستاذ شلتوت بعد ذلك إلى أنه ليس في القرآن و لا في السنة المطهرة (2)، مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء، و أنه حيّ إلى الآن فيها، و أنه سينزل منها آخر الزمان، و أن كل ما تفيده الآيات الواردة في هذا الشأن هو وعد اللّه عيسى أنه متوفيه أجله و رافعه إليه، و عاصمه من الذين كفروا، و أن هذا الوعد قد تحقق فلم يقتله أعداؤه و لم يصلبوه، و لكن وفاه اللّه أجله و رفعه إليه، و أن من أنكر أن عيسى قد رفع بجسمه إلى السماء و أنه حيّ إلى الآن، و أنه سينزل آخر

ص: 352


1- روى عن الجبائي: أن عيسى مات ثم رفع إلى السماء بعد ذلك (روح المعاني 7/ 69).
2- أنظر: ما سبق أن ذكرناه من الأحاديث النبوة الشريفة.

الزمان، فإنه لا يكون بذلك منكر لما ثبت بدليل قطعي، فلا يخرج عن إسلامه و إيمانه.

ثم أورد بعد ذلك رأي الأستاذ الإمام محمد عبده، و تلميذه الأستاذ محمد رشيد رضا (في الجزء العاشر من المجلد 28 من مجلة المنار) و الذي قال فيه: و جملة القول أنه ليس في القرآن نص صريح في أن عيسى رفع بروحه و جسده إلى السماء حيا، حياة دنيوية بهما، بحيث يحتاج بحسب سنن اللّه تعالى إلى غذاء، و ليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء، و إنما هي عقيدة أكثر النصارى، و قد حاولوا في كل زمان، منذ ظهور الإسلام، بثها في المسلمين (1).

هذا و يذهب الأستاذ الإمام المراغي إلى أنه ليس في القرآن نص صريح قاطع على أن عيسى عليه السلام، رفع بجسمه و روحه، و على أنه حيّ بجسمه و روحه، و قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، الظاهر منه أنه توفاه و أماته ثم رفعه، و الظاهر من الرفع بعد الوفاة أنه رفعه درجات عند اللّه، كما قال في إدريس عليه السلام: «و رفعناه مكانا عاليا»، و هذا الظاهر ذهب إليه بعض علماء المسلمين، فهو عند هؤلاء العلماء توفاه اللّه وفاة عادية، ثم رفع اللّه درجاته عنده، فهو حيّ حياة روحية، كحياة الشهداء، و حياة غيره من الأنبياء، لكن جمهور العلماء على أنه رفع بجسمه و روحه، فهو حيّ الآن بجسده و روحه، و فسروا الآية بهذا بناء على أحاديث وردت كان لها عندهم المقام الذي يسوّغ تفسير القرآن بها، لكن هذه الأحاديث لم تبلغ درجة الأحاديث المتواترة التي توجب على المسلم عقيدة، و العقيدة لا تجب إلا

ص: 353


1- محمود شلتوت: الفتاوي ص 52- 57، محمود بن الشريف: المرجع السابق ص 207- 209.

بنص من القرآن أو بحديث متواتر، و على ذلك فلا يجب على المسلم أن يعتقد أن عيسى عليه السلام حيّ بروحه و جسده، و الذي يخالف في ذلك لا يعد كافرا في نظر الشريعة الإسلامية (1)، و الأئمة المجتهدون الذي اتجهوا هذا الاتجاه كلهم قد استقوا من معين واحد، و استمدوا رأيهم من رأي الإمام الرازي الذي قال: و اعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله:

وَ رافِعُكَ إِلَيَّ هو الرفعة بالدرجة و المنقبة، لا بالمكان و الجهة، كما أن الفوقية في هذه ليست بالمكان، بل بالدرجة و الرفعة (2).

و أما النصارى، فقد جعلوا خاتمة المسيح عليه السلام، كما يقول الأستاذ رشيد رضا، خاتمة شنيعة، و مأساة مروعة، و جعلوا الاعتقاد بحصولها على الوجه الذي صوروه أصلا من أصول دينهم، و دعامة من دعائم عقيدتهم، لا يقبل من مؤمن إيمانه إلا بها، و هي الاعتقاد بصلب المسيح، و قد تلمسوا لتلك العقيدة أصلا في العهد القديم، و أسسوا عليه صلب المسيح، فقالوا: إن آدم، و هو أول كل البشر، قد عصي اللّه تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه عن الأكل منها، فصار خاطئا، و صار جميع ذريته خطاه مستحقين للعقاب في الآخرة بالهلاك الأبدي، و قد جاء جميع أبناء آدم خطاة مذنبين، فهم يحملون وزر ذنوبهم، و وزر ذنب أبيهم، و لما كان اللّه من صفاته العدل و الرحمة، فمن عدله ألا يترك الجريمة دون عقاب، و إلا لم يكن عادلا، و لهذا شاء اللّه أن يحمل ابنه، الذي هو بنفسه (اللّه) في رحم امرأة من ذرية آدم، و يتجسد حنينا في رحمها و يولد منها، فيكون ولدها «إنسانا» كاملا من حيث أنه ابن لتلك المرأة، و «إلها» كاملا، من حيث أنه ابن اللّه، و يكون معصوما من جميع المعاصي، ثم بعد أن يعيش كما يعيش

ص: 354


1- نفس المرجع السابق ص 209- 210.
2- تفسير الفخر الرازي 8/ 69.

الناس، و يأكل كما يأكلون، و يشرب مما يشربون، و يتلذذ و يتألم، كما يتلذذون و يتألمون يأتي أعداء اللّه، و أعداء شريعته، و يقتلونه شر قتلة و أفظعها، و هي أن يصلبوه و يسمروا يديه و رجليه في الخشب، ثم يقتلوه بعد أن يلطموه على وجهه و يسخروا منه، و يضفروا له إكليلا من الشوك و يبصقوا في وجهه، كل ذلك ليفدي البشر من جريمة لم يقترفها هو، و لا هم (1).

ص: 355


1- تفسير المنار 6/ 25، و انظر التفصيلات عن قصة الصلب هذه: إنجيل متى 26/ 1- 28/ 20، مرقس 14/ 1- 16/ 20، لوقا 22/ 1- 24/ 53، يوحنا 18/ 1- 21/ 25.

ص: 356

فهرست

تقديم 5

الكتاب الرابع داود و سليمان عليه السلام الباب الأول سيرة داود عليه السلام الفصل الأول: بنو إسرائيل فيما بين عهدي موسى و داود عليهما السلام 11

1- دخول بني إسرائيل كنعان 11

2- عصر القضاة 15

3- قيام ملكية طالوت 19

4- حروب طالوت و ظهور داود 26

الفصل الثاني: داود الرسول النبي 33

1- معجزات داود عليه السلام 34

قصة الخصمين 40

الفصل الثالث: داود ملك إسرائيل 53

1- داود فيما قبل الملكية 53

2- اختيار داود ملكا على يهوذا 56

3- داود و توحيد إسرائيل 58

ص: 357

4- داود و الفلسطينيون 59

5- داود و موآب و عمون و أرام و أدوم 62

6- دولة داود و مدى اتساعها 64

7- وارثة العرش و الخلافات العائلية 68

8- ثورة أبشالوم 70

9- التعداد العام و نتائجه 74

10- وفاة داود عليه السلام 77

الفصل الرابع: داود بين آي الذكر الحكيم و روايات التوراة 81

الباب الثاني سيرة سليمان عليه السلام الفصل الأول: سليمان الرسول النبي 91

1- وراثة سليمان داود عليهما السلام 91

2- من أحكام سليمان عليه السلام 94

3- من معجزات سليمان عليه السلام 97

الفصل الثاني: بناء المسجد الأقصى 115

الفصل الثالث: سليمان و ملكة سبأ 129

الفصل الرابع: سليمان ملك بني إسرائيل 159

1- السياسة الداخلية 159

2- السياسة الخارجية 162

3- التنظيمات العسكرية 164

4- النشاط التجاري 166

5- النشاط البحري 170

ص: 358

6- النشاط الصناعي 179

7- مملكة سليمان و مدى اتساعها 180

8- القدس عاصمة سليمان 197

9- مباني سليمان 201

الكتاب الخامس الأنبياء: من أيوب إلى يحيى عليهم السلام الفصل الأول: أيوب عليه السلام 209

1- قصة أيوب عليه السلام 209

2- سفر أيوب عليه السلام 223

الفصل الثاني: إلياس و اليسع عليهما السلام 231

1- إلياس عليه السلام 231

2- اليسع عليه السلام 239

الفصل الثالث: زكريا و يحيى عليهما السلام 243

1- زكريا عليه السلام 243

2- يحيى عليه السلام 259

3- استشهاد يحيى عليه السلام 266

الكتاب السادس المسيح عيسى بن مريم رسول اللّه الفصل الأول: مريم أم المسيح عليهما السلام 275

الفصل الثاني: مولد المسيح عليه السلام 285

ص: 359

الفصل الثالث: نبوة المسيح و معجزاته 307

1- نبوة المسيح 307

2- معجزات المسيح 311

الفصل الرابع: دعوى تأليه المسيح و صلبه 325

1- دعوى التأليه 325

2- دعوى الصلب 340

ص: 360

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.