المكاسب - الجزء الرابع في الرسائل الملحقة

اشارة

سرشناسه : انصاري، مرتضي‌بن محمدامين، ق‌۱۲۸۱ - ۱۲۱۴
عنوان و نام پديدآور : ...المكاسب / مرتضي الانصاري؛ التحقيق مركز التحقيقات لموسسه احسن الحديث
مشخصات نشر : قم: احسن الحديث، ۱۴۲۱ق. = ۱۳۷۹.
مشخصات ظاهري : ج ۳
شابك : 964-5738-11-3(دوره) ؛ 964-5738-08-3۱۵۰۰۰ريال:(ج.۱) ؛ 964-5738-09-1۲۲۰۰۰ريال:(ج.۲) ؛ 964-5738-10-5۱۷۰۰۰ريال:(ج.۳)
يادداشت : فهرستنويسي براساس اطلاعات فيپا.
يادداشت : كتابنامه
موضوع : معاملات (فقه)
شناسه افزوده : موسسه احسن الحديث. مركز تحقيقات
رده بندي كنگره : BP۱۹۰/۱/الف‌۸م‌۷ ۱۳۷۹
رده بندي ديويي : ۲۹۷/۳۷۲
شماره كتابشناسي ملي : م‌۷۹-۲۷۷۱

1- رسالة في التّقيّة

اشارة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه ربّ العالمين و صلّي اللَّه علي محمد و آله الطاهرين. و لعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين. التقيّة: اسم ل (اتّقي يتّقي) و التاء بدل عن الواو كما في التهمة و التخمة، و المراد هنا: التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق. و الكلام تارة يقع في حكمها التكليفي، و اخري في حكمها الوضعيّ. و الكلام في الثاني: تارة من جهة الآثار الوضعيّة المترتّبة علي الفعل المخالف للحقّ، و أنّها تترتب علي الصادر تقيّة كما تترتب علي الصادر اختيارا، أم وقوعها تقيّة يوجب رفع «1» تلك الآثار؟. و اخري في أنّ الفعل المخالف للحقّ هل يترتّب عليه آثار الحقّ بمجرّد الإذن فيها من قبل الشّارع أم لا؟. ثمّ الكلام في آثار الحقّ الواقعي: قد يقع في خصوص الإعادة و القضاء إذا كان الفعل الصادر تقيّة من العبادات. و قد يقع في الآثار الأخر، كرفع الوضوء- الصادر تقيّة- للحدث بالنسبة إلي جميع الصلوات، و إفادة المعاملة الواقعة تقيّة الآثار المترتبة علي المعاملة الصحيحة، فالكلام في مقامات أربعة

[المقام الأول]

أمّا الكلام في حكمها التكليفي فهو أنّ التقيّة تنقسم إلي الأحكام الخمسة: فالواجب منها: ما كان لدفع الضرر الواجب فعلا، و أمثلته كثيرة. و المستحب:
ما كان فيه التحرز عن معارض الضرر، بأن يكون تركه مفضيا تدريجا إلي حصول الضّرر، كترك المداراة مع العامّة و هجرهم في المعاشرة في بلادهم فإنّه ينجرّ غالبا إلي حصول المباينة الموجب لتضرّره منهم. و المباح: ما كان التحرز عن الضرر و فعله «2» مساويا في نظر الشارع، كالتقيّة في إظهار كلمة الكفر علي ما ذكره جمع من الأصحاب، و يدلّ عليه الخبر الوارد في رجلين أخذا بالكوفة و امرا بسبّ أمير المؤمنين عليه السلام «3». و المكروه: ما كان تركها و تحمّل الضّرر أولي من فعله، كما ذكر ذلك بعضهم في إظهار كلمة الكفر، و أنّ الأولي تركها ممّن يقتدي به النّاس إعلاء لكلمة الإسلام. و المراد بالمكروه حينئذ ما يكون ضدّه أفضل «4». و المحرّم منه: ما كان في الدّماء.
و ذكر الشهيد رحمه اللَّه في قواعده: أنّ المستحب إذا كان لا يخاف ضررا عاجلا، و يتوهم ضررا آجلا، أو ضررا سهلا، أو كان تقيّة في المستحب، كالترتيب في تسبيح الزهراء صلوات اللَّه عليها و ترك بعض فصول الأذان. و المكروه: التقيّة في المستحب حيث لا ضرر عاجلا و لا آجلا، و يخاف منه الالتباس علي عوام المذهب. و الحرام:
التقيّة حيث يؤمن الضرر عاجلا و آجلا، أو في قتل المسلم. و المباح: التقيّة في بعض المباحات الّتي يرجّحها العامّة و لا يصل بتركها ضرر «5». (انتهي). و في بعض ما ذكره رحمه اللَّه تأمّل. ثم الواجب منها يبيح كلّ محظور من فعل الحرام و ترك الواجب «6». و الأصل في ذلك: أدلّة نفي الضّرر و الحديث: «رفع عن أمتي تسعة أشياء.. و منها: ما اضطرّوا إليه» «7»، مضافا إلي عمومات التقيّة مثل قوله في الخبر: «إنّ التقيّة واسعة ليس شي‌ء من التقيّة إلّا و صاحبها مأجور» «8» و غير ذلك من الأخبار المتفرّقة في خصوص الموارد، و جميع هذه الأدلّة حاكمة علي أدلّة الواجبات و المحرّمات، فلا يعارض بها شي‌ء منها حتي يلتمس بالترجيح و يرجع إلي الأصول بعد فقده- كما زعمه بعض في بعض موارد هذه المسألة. و أمّا المستحب من التقيّة فالظاهر وجوب الاقتصار فيه علي مورد النصّ، و قد ورد النصّ بالحثّ علي المعاشرة مع العامة «9»
و عيادة مرضاهم «10»، و تشييع جنائزهم «11»، و الصلاة في مساجدهم «12»، و الأذان لهم «13»، فلا يجوز التعدّي عن ذلك إلي ما لم يرد النصّ من الأفعال المخالفة للحق، كذمّ بعض رؤساء الشيعة للتحبّب إليهم، و كذلك المحرّم و المباح و المكروه، فإنّ هذه الأحكام علي خلاف عمومات التقيّة، فيحتاج إلي الدليل الخاص.

و أمّا المقام الثاني

[ترتيب الآثار علي العمل الصادر تقيّة و عدمه. «14»]
فنقول: إنّ الظّاهر ترتيب آثار العمل الباطل علي الواقع تقيّة، و عدم ارتفاع الآثار بسبب التقيّة إذا كان دليل تلك الآثار عاما لصورتي الاختيار و الاضطرار، فإنّ من احتاج لأجل التقيّة إلي التكتّف في الصلاة، أو السّجود علي ما لا يصحّ السّجود عليه، أو الأكل في نهار رمضان، أو فعل بعض ما يحرم علي المحرم، فلا يوجب ذلك ارتفاع أحكام تلك الأمور بسبب وقوعها تقيّة. نعم، لو قلنا بدلالة حديث رفع التسعة علي رفع جميع الآثار تمّ ذلك في الجملة، لكنّ الإنصاف ظهور الرّواية في رفع المؤاخذة، فمن اضطرّ إلي الأكل و الشّرب تقيّة، أو التكتّف في الصّلاة فقد اضطرّ إلي الإفطار، و إبطال الصّلاة، لأنّه مقتضي عموم الأدلّة، فتأمّل.

المقام الثالث

اشارة

في حكم الإعادة و القضاء إذا كان المأتيّ به تقيّة من العبادات. فنقول: إنّ الشّارع إذا أذن في إتيان واجب موسّع علي وجه التقيّة، أمّا بالخصوص كما لو أذن في الصّلاة متكتّفا حال التقيّة، و إمّا بالعموم كأن يأذن بامتثاله أوامر الصّلاة، أو مطلق العبادات علي وجه التقيّة، كما هو الظّاهر من أمثال قوله عليه السلام:
«التقيّة في كلّ شي‌ء إلّا في النبيذ و المسح علي الخفّين» «15» و نحوه، ثم ارتفعت التقيّة قبل خروج الوقت، فلا ينبغي الإشكال في إجزاء المأتيّ به و إسقاطه للأمر، لما تقرّر في محله: من أنّ الأمر بالكلّي كما يسقط بفرده الاختياري، كذلك يسقط بفرده الاضطراري إذا تحقّق الاضطرار الموجب للأمر به، فكما أنّ الأمر بالصّلاة يسقط بالصّلاة مع الطهارة المائيّة، كذلك يسقط مع الطهارة الترابيّة إذا وقعت علي الوجه المأمور به. أمّا لو لم يأذن في امتثال الواجب الموسّع في حال التقيّة خصوصا أو عموما علي الوجه المتقدّم، فيقع الكلام في أنّ الوجوب في الواجب الموسّع، هل يتعلّق بإتيان هذا الفرد المخالف للواقع بمجرّد تحقّق التقيّة في جزء من الوقت بل في مجموعه؟. و بعبارة أخري: الكلام في أنّه هل يحصل من الأوامر المطلقة بضميمة أوامر التقيّة، أمر بامتثال الواجبات علي وجه التقيّة، أو لا، بل غاية الأمر سقوط
المكاسب، ج‌4، ص 321
الأمر عن المكلّف في حال التقيّة و لو استوعب الوقت؟. و التحقيق: أنّه يجب الرجوع في ذلك إلي أدلّة تلك الأجزاء و الشروط المتعذّرة لأجل التقيّة، فإن اقتضت مدخليّتها في العبادة من دون فرق بين الاختيار و الاضطرار، فاللّازم الحكم بسقوط الأمر عن المكلّف حين تعذّرها لأجل التقيّة، و لو في تمام الوقت، كما لو تعذّرت الصّلاة في تمام الوقت إلّا مع الوضوء بالنبيذ، فإنّ غاية ذلك سقوط الأمر بالصلاة رأسا، لاشتراطها بالطهارة بالماء المطلق المتعذّرة في الفرض، فحاله كحال فاقد الطهورين. و إن اقتضت مدخليّتها في العبادة بشرط التمكّن منها، دخلت المسألة في مسألة أولي الأعذار في أنّه إذا استوعب العذر الوقت لم يسقط الأمر رأسا، و إن كان في جزء من الوقت مع رجاء زواله في الجزء الآخر، أو مع عدمه، جاء فيه الخلاف المعروف في أولي الأعذار، و أنّه هل يجوز لهم البدار، أم يجب عليهم الانتظار؟. فثبت من جميع ما ذكرنا: أنّ صحّة العبادة المأتيّ بها علي وجه التقيّة، يتبع إذن الشارع في امتثالها حال التقيّة. فالإذن «1» متصوّر بأحد أمرين: أحدهما:
الدليل الخارجي الدالّ علي ذلك، سواء كان خاصا بعبادة أو كان عامّا لجميع العبادات. و الثاني: فرض شمول الأوامر العامّة بتلك العبادة لحال التقيّة. لكن يشترط في كلّ منهما بعض ما لا يشترط في الآخر. فيشترط في الثاني كون الشرط أو الجزء المتعذّر للتقيّة من الأجزاء و الشرائط الاختيارية، و أن لا يكون للمكلّف مندوحة، بأن لا يتمكّن من الإتيان بالعمل الواقعي في مجموع الوقت، أو في الجزء الذي يوقعه مع اليأس من التمكّن منه فيما بعده، أو مطلقا- علي التفصيل و الخلاف في أولي الأعذار. و هذان الأمران غير معتبرين في الأول، بل يرجع فيه إلي ملاحظة ذلك الدليل الخارجي، و سيأتي أنّ الدليل الخارجي الدالّ علي الإذن في التقيّة في الأعمال، لا يعتبر فيه شي‌ء منهما. و يشترط في الأوّل أن يكون التقيّة من مذهب المخالفين، لأنّه المتيقّن من الأدلّة الواردة في الإذن في العبادات علي وجه التقيّة، لأنّ المتبادر، التقيّة من مذهب المخالفين، فلا يجري في التقيّة عن الكفار أو ظلمة الشيعة. لكن في رواية مسعدة بن صدقة الآتية «2»، ما يظهر منه عموم الحكم لغير المخالفين، مع كفاية عمومات التقيّة في ذلك، بعد ملاحظة عدم اختصاص التقيّة في لسان الأئمة صلوات اللَّه عليهم لما يظهر بالتّبع في أخبار التقيّة التي جمعها في الوسائل «3». و كذا لا إشكال في التقيّة عن غير مذهب المخالفين، مثل التقيّة في العمل علي طبق عمل عوام المخالفين الّذين لا يوافق مذهب مجتهدهم.
بل و كذا التقيّة في العمل علي طبق الموضوع الخارجي الذي اعتقدوا تحقّقه في الخارج مع عدم تحقّقه في الواقع، كالوقوف بعرفات يوم الثامن، و الإفاضة منها و من المشعر يوم التاسع، موافقا للعامّة- إذا اعتقدوا رؤية هلال ذي الحجة في الليلة الأخيرة من ذي القعدة- ، فإنّ الظاهر خروج هذا عن منصرف أدلّة الإذن في إيقاع الأعمال علي وجه التقيّة، لو فرضنا هنا إطلاقا، فإنّ هذا لا دخل له في المذهب، و إنّما هو اعتقاد خطأ في موضوع خارجي. نعم، العمل علي طبق الموضوعات العامّة الثابتة علي مذهب المخالفين داخل في التقيّة عن المذهب، فيدخل في الإطلاق- لو فرض هناك إطلاق- ، كالصلاة عند اختفاء الشمس لذهابهم إلي أنّه هو المغرب. و يمكن إرجاع الموضوع الخارجي أيضا في بعض الموارد إلي الحكم، مثل ما إذا حكم الحاكم: بثبوت الهلال من جهة خبر شهادة من لا يقبل شهادته، إذا كان مذهب الحاكم: القبول، فإنّ ترك العمل بهذا الحكم قدح في المذهب، فيدخل في أدلة التقيّة. و كيف كان ففي هذا الوجه لا بدّ من ملاحظة إطلاق دليل الترخيص لإتيان العبادة علي وجه التقيّة و تقييده، و العمل علي ما يقتضيه الدليل. و اما في الوجه الثاني: فهذا الشرط غير معتبر قطعا، لأنّ مبناه علي العمل المخالف للواقع من جهة تعذّر الواقع، سواء كان تعذّره للتقيّة من مخالف أو كافر أو موافق، و سواء كان في الموضوع أم في الحكم، كلّ ذلك لأنّ المناط في مسألة أولي الأعذار: العذريّة، من غير فرق بين الأعذار.

[اعتبار عدم المندوحة]

بقي الكلام في اعتبار عدم المندوحة الذي اعتبرناه في الوجه الثاني، فإنّ الأصحاب فيه بين غير معتبر له كالشهيدين و المحقّق الثاني في البيان «4» و الروض «5» و جامع المقاصد «6»، و بين معتبر له كصاحب المدارك «7»،
و بين مفصّل كما عن المحقّق الثاني بأنّه: إذا كان متعلّق التقيّة مأذونا فيه بخصوصه، كغسل الرجلين في الوضوء، و التكتّف في الصلاة، فإنّه إذا فعل علي الوجه المأذون فيه كان صحيحا مجزيا- و إن كان للمكلّف مندوحة- ، التفاتا إلي أنّ الشارع أقام ذلك مقام المأمور به حين التقيّة فكان الإتيان به امتثالا، و علي هذا فلا يجب الإعادة و إن تمكّن من فعله علي غير وجه التقيّة قبل خروج الوقت- قال: و لا أعلم خلافا في ذلك بين الأصحاب. و أمّا إذا كان متعلّقها مما لم «8» يرد فيه نصّ بالخصوص، كفعل الصلاة إلي غير القبلة، و الوضوء بالنبيذ و مع الإخلال بالموالاة، فيجفّ الوضوء كما يراه بعض العامة، فإنّ المكلّف يجب عليه- إذا اقتضت الضّرورة- موافقة «9» أهل الخلاف فيه و إظهار الموافقة لهم. ثمّ إن أمكن له الإعادة في الوقت وجب، و لو خرج الوقت ينظر في دليل يدل علي القضاء، فإن حصل الظفر به أوجبناه و إلّا فلا، لأنّ القضاء إنّما يجب بفرض جديد «10» (انتهي) ثمّ نقل عن بعض أصحابنا القول بعدم وجوب الإعادة، لكون المأتيّ به شرعيا، ثمّ ردّه بأنّ الإذن في التقيّة من جهة الإطلاق لا يقتضي أزيد من إظهار الموافقة مع الحاجة «11» (انتهي). أقول: ظاهر قوله في المأذون بالخصوص: «لا يجب فيه الإعادة و ان تمكّن من فعله قبل خروج الوقت» إنّ عدم التمكّن من فعله علي غير وجه التقيّة حين العمل معتبر، و إنّ من كان في سوق و أراد الصلاة وجب عليه مع التمكّن الذهاب إلي مكان مأمون فيه، و حينئذ فمعني قوله- قبل ذلك- «و إن كان للمكلّف مندوحة عن فعله» «12» ثبوت المندوحة بالتأخير إلي زمان ارتفاع التقيّة، لا وجودها بالنسبة إلي زمان العمل، و حينئذ يكون هذا قولا باعتبار عدم المندوحة علي الإطلاق، ك «صاحب المدارك» «13»، إذ ليس مراد صاحب المدارك بعدم المندوحة: عدم المندوحة في مجموع الوقت، إذ الظاهر أنّه مما لم يعتبره أحد- لما سيجي‌ء من مخالفته لظواهر الأخبار، بل لصريح بعضها-
المكاسب، ج‌4، ص 322
و مراد القائل بعدم اعتباره: عدم اعتباره في الجزء الذي يقع الفعل فيه، فمن تمكّن من الصّلاة في بيته مغلقا عليه الباب، لا يجب عليه ذلك بل يجوز له الصلاة تقيّة في مكانه و دكّانه بمحضر المخالفين. نعم لو كان الخلاف في اعتبار عدم المندوحة في تمام الوقت و عدمه «1»، كان ما ذكره المحقق تفصيلا في المسألة. و علي أيّ تقدير فيرد علي ما ذكره المحقّق في القسم الثاني «2» انّه: إن أراد من عدم ورود نصّ بالخصوص في الإذن في متعلّق التقيّة: عدم النّص الموجب للإذن في امتثال العمل علي وجه التقيّة، ففيه: أنّه لا دليل حينئذ علي مشروعية الدخول في العمل المفروض امتثالا للأوامر المطلقة المتعلّقة بالعمل الواقعي، لأنّ الأمر بالتقيّة لا يستلزم الإذن في امتثال تلك الأوامر، لأنّ التحفظ عن الضرر إن تأدّي إلي ترك «3» ذلك العمل رأسا، بأن يترك الصلاة في تلك الحال وجب، و لا يشرع الدخول في العمل المخالف للواقع بعد تأدّي التقيّة بترك الصلاة رأسا. و إن فرضنا أنّ التقيّة ألجأته إلي الصلاة، و لا تتأدّي بترك الصلاة، كانت الصلاة المذكورة واجبة عينا، لانحصار التقيّة فيها، فهي امتثال لوجوب التقيّة عينا لا للوجوب «4» الموسّع المتعلّق بالصلاة الواقعيّة.
و إن أراد به عدم النص الدّالّ علي الإذن في هذه العبادة بالخصوص، و إن كان هناك نصّ عام دالّ علي الاذن في امتثال أوامر مطلق العبادات علي وجه التقيّة، ففيه: أنّ هذا النّص كما يكفي للدخول في العبادة امتثالا للأمر المتعلّق بها، كذلك يوجب موافقته الإجزاء و عدم وجوب الإعادة في الزمان الثاني إذا ارتفعت التقيّة. و الحاصل: أنّ الفرق بين كون متعلق التقيّة مأذونا فيه بالخصوص أو بالعموم، لا نفهم له وجها «5»، كما اعترف به بعض «6»
بل كلّما يوجب الإذن في الدخول في العبادة امتثالا لأوامرها، كان امتثاله موجبا للإجزاء و سقوط «7» الإعادة، سواء كان نصّا خاصّا أو دليلا عاما. و كلّما لا يدلّ علي الإذن في الدخول علي الوجه المذكور، لم يشرع بمجرّده الدخول في العبادة علي وجه التقيّة امتثالا لأمرها، بل إن انحصرت التقيّة في الإتيان بها كانت امتثالا لأوامر وجوب التقيّة، لا لأوامر وجوب تلك العبادة. اللَّهم إلّا أن يكون مراده من الأمر العام، أوامر التقيّة، و من وجوب العمل علي وجه التقيّة إذا اقتضت الضرورة، هو هذا الوجوب العيني لا الوجوب التخييري الحاصل من الوجوب الموسّع. فيكون حاصل كلامه:
الفرق بين الإذن في العمل امتثالا لأوامر المتعلقة بالعبادة، و بين الإذن في العمل امتثالا لأوامر التقيّة، لكن ينبغي- حينئذ- تقييده بغير ما إذا كانت التقيّة في الأجزاء و الشروط الاختيارية، و إلّا فتدخل المسألة في مسألة أولي الأعذار، و يصحّ الإتيان بالعمل المذكور امتثالا للأوامر المتعلّقة بذلك العمل مع تعذّر تلك الأجزاء و الشرائط لأجل التقيّة، علي الخلاف و التفصيل المذكور في مسألة أولي الأعذار. و ممّا ذكرنا يظهر: أنّ ما أجاب به بعض عن هذا التفصيل بأنّ المسألة، مسألة ذوي الأعذار، و أنّ الحقّ فيها: سقوط الإعادة بعد التمكن من الشرط المتعذّر، لا وجه له علي إطلاقه.
ثمّ إنّ الذي يقوي في النّظر في أصل مسألة اعتبار عدم المندوحة: أنّه إن أريد عدم المندوحة بمعني عدم التمكن حين العمل من الإتيان به موافقا للواقع، مثل أنّه يمكنه عند إرادة التكفير للتقيّة من الفصل بين يديه، بأن لا يضع بطن إحداهما علي ظهر الأخري بل يقارب بينهما، كما «8» إذا تمكّن من صبّه الماء من الكفّ إلي المرفق لكنّه ينوي الغسل عند رجوعه من المرفق إلي الكفّ، وجب ذلك، و لم يجز العمل علي وجه التقيّة، بل التقيّة علي هذا الوجه غير جائزة في غير العبادات أيضا، و كأنّه ممّا لا خلاف فيه. و إن أريد به عدم التمكّن من العمل علي طبق الواقع في مجموع الوقت المضروب لذلك العمل، حتي لا يصح العمل تقيّة إلّا لمن لم يتمكّن في مجموع الوقت من الذهاب إلي موضع مأمون، فالظاهر عدم اعتباره، لأنّ حمل أخبار الإذن في التقيّة في الوضوء و الصلاة علي صورة عدم التمكّن من إتيان الحقّ في مجموع الوقت ممّا يأباه ظاهر أكثرها، بل صريح بعضها، و لا يبعد- أيضا- كونه وفاقيا. و إن أريد عدم المندوحة حين العمل من تبديل موضوع التقيّة بموضوع الأمن، كأن يكون في سوقهم و مساجدهم، و لا يمكن في ذلك الحين من العمل علي طبق الواقع إلّا بالخروج الي مكان خال، أو التحيّل في إزعاج من يتّقي منه عن مكانه، لئلّا يراه، فالأظهر في أخبار التقيّة عدم اعتباره، إذ الظّاهر منها الإذن بالعمل علي التقيّة في أفعالهم المتعارفة من دون إلزامهم بترك ما يريدون فعله بحسب مقاصدهم العرفية، أو فعل ما يجب تركه كذلك، مع لزوم الحرج العظيم في ترك مقاصدهم و مشاغلهم لأجل فعل الحقّ بقدر الإمكان، مع أنّ التقيّة إنّما شرّعت تسهيلا للأمر علي الشيعة و رفعا للحرج عنهم، مع أنّ التخفّي عن المخالفين في الأعمال ربما يؤدّي إلي اطّلاعهم علي ذلك، فيصير سببا لتفقّدهم و مراقبتهم للشيعة وقت العمل فيوجب نقض غرض التقيّة. نعم في بعض الأخبار ما يدلّ علي اعتبار عدم المندوحة في ذلك الجزء من الوقت، و عدم التمكّن من دفع موضوع التقيّة، مثل: رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن إبراهيم بن شيبة قال: كتبت إلي أبي جعفر الثاني عليه السلام أسأله عن الصّلاة خلف من يتولّي أمير المؤمنين و هو يري المسح علي الخفين، أو خلف من يحرّم المسح علي الخفّين و هو يمسح، فكتب عليه السلام: إن جامعك و إيّاهم موضع لا تجد بدّا من الصلاة معهم، فأذّن لنفسك و أقم، فإن سبقك إلي القراءة فسبّح» «9». فإنّ ظاهرها اعتبار تعذّر ترك الصلاة معهم. و نحوها ما عن الفقه الرضوي من المرسل، عن العالم عليه السلام قال: «و لا تصلّ خلف أحد إلّا خلف رجلين:
أحدهما من تثق به و بدينه «10» و ورعه، و آخر من تتقي سيفه و سوطه و شرّه و بوائقه و شيعته «11»، فصلّ خلفه علي سبيل التقيّة و المداراة، و أذّن لنفسك و أقم و اقرأ فيها، فإنّه «12» غير مؤتمن به.. إلخ» «13». و في رواية معمّر بن يحيي- الواردة في تخليص الأموال عن أيدي العشّار- : «إنّه كلّما خاف المؤمن علي نفسه فيه ضرورة فله فيه
المكاسب، ج‌4، ص 323
التقية» «1». و عن دعائم الإسلام، عن أبي جعفر الثاني صلوات اللَّه عليه: «لا تصلّوا خلف ناصب و لا كرامة «2»، إلّا أن تخافوا علي أنفسكم أن تشهروا و يشار إليكم، فصلّوا في بيوتكم ثم صلّوا معهم، و اجعلوا صلاتكم معهم تطوّعا» «3». و يؤيّده العمومات الدّالة علي أنّ التقيّة في كلّ شي‌ء يضطرّ إليه ابن آدم «4»، فإنّ ظاهرها حصر التقيّة في حال الاضطرار، و لا يصدق الاضطرار مع التمكّن من تبديل موضوع التقيّة بالذهاب إلي موضع الأمن، مع التمكّن و عدم الحرج.
نعم، لو لزم من التزام ذلك حرج أو ضيق من تفقّد المخالفين، و ظهور حاله في مخالفتهم سرّا، فهذا- أيضا- داخل في الاضطرار. و بالجملة: فمراعاة عدم المندوحة في الجزء من الزمان الذي يوقع فيه الفعل أقوي مع أنّه أحوط. نعم، تأخير الفعل عن أوّل وقته لتحقيق الأمن و ارتفاع الخوف مما لا دليل عليه، بل الأخبار بين ظاهر و صريح في خلافه كما تقدّم.

بقي هنا أمور:

الأوّل

إنّك قد عرفت أنّ صحّة العبادة و إسقاطها للفعل ثانيا تابع لمشروعيّة الدخول فيها و الإذن فيها من الشارع. و عرفت- أيضا- أنّ نفس أوامر التقيّة- الدالة علي كونها واجبة من جهة حفظ ما يجب حفظه- لا يوجب الإذن في الدخول في العبادة علي وجه التقيّة «5» من باب امتثال الأوامر المتعلّقة بتلك العبادة، إلّا فيما كان متعلق التقيّة من الأجزاء و الشروط الاختيارية، كنجاسة الثوب و البدن و نحوها. أمّا ما اقتضي الدليل- و لو بإطلاقه- مدخليته في العبادة من دون اختصاص بحال الاختيار، فمجرد الأمر بالتقيّة لا يوجب الإذن في امتثال العبادة في ضمن الفعل الفاقد لذلك الجزء أو الشرط تقيّة كما هو واضح. ثم إنّ الإذن المذكور قد ورد في بعض العبادات، كالوضوء مع المسح علي الخفّين، أو غسل الرجلين، و الصلاة مع المخالف حيث يترك فيها بعض ماله مدخلية فيها، و يوجد بعض الموانع مثل التكفير و نحوه. و الغرض هنا بيان أنّه هل يوجد في عمومات الأمر بالتقيّة ما يوجب الإذن في امتثال العبادات عموما علي وجه التقيّة، بحيث لا يحتاج في الدخول في كلّ عبادة علي وجه التقيّة- امتثالا للأمر المتعلّق بتلك العبادة- إلي النّص الخاصّ، لتفيد قاعدة كلّية في كون التقيّة عذرا رافعا لاعتبار ما هو معتبر في العبادات و إن لم يختص اعتباره بحال الاختيار، مثل الدخول في الصلاة مع الوضوء بالنبيذ، أو مع التيمم في السفر بمجرد عزّة الماء و لو كان موجودا، أم لا؟. الذي يمكن الاستدلال به علي ذلك أخبار: منها: قوله عليه السلام: «التقيّة في كلّ شي‌ء يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه اللَّه» «6». بناء علي أنّ المراد ترخيص اللَّه سبحانه في كل فعل أو ترك يضطر إليه الإنسان في عمله. فنقول- مثلا- :
إنّ الإنسان يضطرّ إلي استعمال النبيذ و المسح علي الخفّين أو غسل الرجلين في وضوئه و إلي استعمال التراب للتيمم في صلاته و إلي التكفير «7» و ترك البسملة و غير ذلك من الأفعال و التروك الممنوعة شرعا في صلاته، فكلّ ذلك مرخّص فيه في العمل، بمعني ارتفاع المنع الثابت فيها لو لا التقيّة، و إن كان منعا غيريا من جهة التوصل بتركها إلي صحّة العمل، و أداء فعله إلي فساد العمل. و الحاصل: أنّ المراد بالإحلال رفع المنع الثابت في كلّ ممنوع بحسب حاله من التحريم النفسي، كشرب الخمر، و التحريم الغيري، كالتكفير في الصلاة و المسح علي حائل أو استعمال ماء نجس أو مضاف في الوضوء. فإن قلت: الاضطرار إلي هذه الأمور الممنوعة تابع للاضطرار إلي الصلاة الّتي تقع هذه فيها، و حينئذ فإن فرض عدم اضطرار المكلّف إلي الصلاة مع أحد هذه الأمور الممنوعة فهي غير مضطرّ إليها، فلا يرخّصها التقيّة. و إن فرض اضطراره إلي الصلاة معها فهي مرخّص فيها، لكن مرجع الترخيص فيها- بملاحظة ما دلّ علي كونها مبطلة- إلي الترخيص في صلاة باطلة، و لا بأس به إذا اقتضاه الضّرورة، فإنّ الصلاة الباطلة ليست أولي من شرب الخمر الذي سوّغه التقيّة. قلت: لا نسلّم توقّف الاضطرار إلي هذه الأمور علي الاضطرار إلي الصلاة التي يقع فيها، بل الظاهر أنّه يكفي في صدق الاضطرار اليه كونه لا بدّ من فعله مع وصف إرادة الصلاة في ذلك الوقت لا مطلقا، نظير ذلك أنّهم يعدّون من اولي الأعذار من لا يتمكن من شرط الصلاة في أوّل الوقت، مع العلم أو الظن بتمكّنه منه فيما بعده، فإن تحقّق الاضطرار ثبت الجواز الذي هو رفع المنع الثابت فيه حال عدم التقيّة، و هو المنع الغيري. و منها ما رواه في أصول الكافي بسنده عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «التقيّة في كلّ شي‌ء إلّا في شرب المسكر و المسح علي الخفّين» «8». دلّت الرواية علي ثبوت التقيّة و مشروعيّتها في كلّ شي‌ء ممنوع لو لا التقيّة، إلّا في الفعلين المذكورين، فاستثناء المسح علي الخفين مع كون المنع فيه عند عدم التقيّة منعا غيريا، دليل علي عموم الشي‌ء لكلّ ما يشبهه من الممنوعات لأجل التوصل بتركها إلي صحّة العمل، فدلّ علي رفع التقيّة لمثل هذا المنع الغيري، و تأثيرها في ارتفاع أثر ذلك الممنوع منه، فيدلّ علي أنّ التقيّة ثابتة في التكفير في الصلاة مثلا، بمعني عدم كونه ممنوعا عليه فيها عند التقيّة، و كذا في غسل الرجلين، و استعمال النبيذ في الوضوء و نحوهما. و في معني هذه الروايات روايات أخر واردة في هذا الباب، مثل قوله عليه السلام: «ثلاثة لا أتّقي فيهنّ أحدا: المسح علي الخفّين، و شرب النبيذ، و متعة الحج» «9». فإنّ معناه ثبوت التقيّة فيما عدا الثلاث من الأمور الممنوعة في الشريعة، و رفعها للمنع الثابت فيها بحالها من المنع النفسي و الغيري كما تقدم.
ثم إنّ مخالفة ظاهر المستثني في هذه الروايات لما أجمع عليه من ثبوت التقيّة في المسح علي الخفّين و شرب النبيذ، لا يقدح فيما نحن بصدده، لأنّ ما ذكرناه في تقريب دلالتها علي المطلوب لا يتفاوت الحال فيه بين إبقاء الاستثناء علي ظاهره أو حمله علي بعض المحامل، مثل اختصاص الاستثناء بنفس الإمام عليه السلام كما يظهر من الرواية المذكورة، و تفسير الراوي في بعضها الآخر و التنبيه «10» علي عدم تحقق التقيّة فيها لوجود المندوحة، أو لموافقة بعض الصحابة أو التابعين علي المنع من هذه الأمور، إلي غير ذلك من المحامل الغير القادحة في استدلالنا المتقدّم «11». و منها موثّقة سماعة: «عن الرجل يصلي فدخل الإمام «12» و قد صلّي الرجل ركعة من صلاة فريضة؟ قال: إن كان إماما عادلا «13» فليصلّ اخري و ينصرف، و يجعلها تطوّعا، و ليدخل مع الإمام في صلاته كما هو. و ان لم يكن إمام عدل
المكاسب، ج‌4، ص 324
فليبن علي صلاته كما هو و يصلّي ركعة أخري، و يجلس قدر ما يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، ثم يتمّ صلاته معه علي ما استطاع، فإنّ التقيّة واسعة و ليس شي‌ء من التقيّة إلّا و صاحبها مأجور عليها إن شاء اللَّه» «1». فإنّ الأمر بإتمام الصلاة علي ما استطاع مع عدم الاضطرار إلي فعل الفريضة في ذلك الوقت، معللا بأنّ التقيّة واسعة، يدلّ علي جواز أداء الصلاة في سعة الوقت علي جميع وجوه التقيّة، بل علي جواز كلّ عمل علي وجه التقيّة و إن لم يضطرّ إلي ذلك العمل لتمكّنه من تأخّره إلي وقت الأمن. و منها: قوله عليه السلام- في موثّقة مسعدة بن صدقة- : «و تفسير ما يتّقي فيه: أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم و فعلهم علي خلاف حكم الحق و فعله، فكلّ شي‌ء يعمله المؤمن منهم لمكان التقيّة مما لا يؤدّي إلي فساد الدين فهو جائز» «2». بناء علي أنّ المراد بالجواز في كلّ شي‌ء بالقياس إلي المنع المتحقّق فيه لو لا التقيّة، فيصدق علي التكفير في الصلاة الذي يفعله المصلي في محل التقيّة أنّه جائز و غير ممنوع عنه بالمنع الثابت فيه لو لا التقيّة. و دعوي: أنّ الداعي علي التكفير ليس التقيّة، لإمكان التحرّز عن الخوف بترك الصلاة في هذا الجزء من الوقت، فلا يكون عمل التكفير لمكان التقيّة. مدفوعة: بنظير ما عرفت في الرواية الاولي «3» من أنه يصدق علي المصلّي أنه يكفّر لمكان التقيّة و إن قدر علي ترك الصلاة. و منها: قوله عليه السلام في رواية أبي الصباح: «ما صنعتم من شي‌ء أو حلفتم الرواية السادسة عليه من يمين في تقيّة فأنتم منه في سعة» «4». فيدلّ علي أنّ المتقي في سعة من الجزء و الشرط المتروكين تقيّة، و لا يترتّب عليه من جهتهما تكليف بالإعادة و القضاء، نظير قوله عليه السلام: «الناس في سعة ما لم يعلموا» «5» بناء علي شموله لما لم يعلم جزئيته أو شرطيته كما هو الحقّ.

الثاني

إنّه لا ريب في تحقّق التقيّة مع الخوف الشخصي، بأن يخاف علي نفسه أو غيره من ترك التقيّة في خصوص ذلك العمل، و لا يبعد ان يكتفي بالخوف من بنائه علي ترك التقيّة في سائر أعماله، أو بناء سائر الشيعة علي تركها في العمل الخاص أو مطلق العمل النوعي في بلاد المخالفين، و إن لم يحصل للشخص بالخصوص خوف. و هو الذي يفهم من إطلاق أوامر التقيّة و ما ورد من الاهتمام فيها. و يؤيّده- بل يدلّ عليه- : إطلاق قوله عليه السلام: «ليس منّا «6» من لم يجعل التقيّة «7» شعاره و دثاره «8» مع من يأمنه لتكون سجيّته «9» مع من يحذره» «10». نعم، في حديث أبي الحسن الرضا صلوات اللَّه عليه معاتبا لبعض أصحابه الّذين حجبهم: «انكم تتّقون «11» حيث لا تجب «12» التقيّة، و تتركون التقيّة «13»
حيث لا بدّ من التقيّة» «14». و ليحمل علي بعض ما لا ينافي القواعد.

الثالث

إنّه لو خالف التقيّة في محلّ وجوبها، فقد أطلق بعض بطلان العمل المتروك فيه. و التحقيق: أنّ نفس ترك التقيّة في جزء العمل أو في شرطه أو في مانعة لا يوجب بنفسه إلّا استحقاق العقاب علي تركها، فإن لزم من ذلك ما يوجب بمقتضي القواعد- بطلان الفعل بطل، و إلّا فلا. فمن مواقع البطلان: السجود علي التربة الحسينية مع اقتضاء التقيّة تركه، فإنّ السجود يقع منهيا عنه فيفسد، فيفسد الصلاة. و من مواضع عدم البطلان: ترك التكفير في الصلاة، فإنّه- و إن حرم- لا يوجب البطلان، لأنّ وجوبه من جهة التقيّة لا يوجب كونه معتبرا في الصلاة لتبطل بتركه. و توهّم: أنّ الشارع أمر بالعمل علي وجه التقيّة، مدفوع: بأنّ تعلّق الأمر بذلك العمل المقيّد ليس من حيث كونه مقيّدا بتلك الوجه، بل من حيث نفس الفعل الخارجي الّذي هو قيد اعتباري للعمل لا قيد شرعي. و توضيحه: أنّ المأمور به ليس هو الوضوء المشتمل علي غسل الرجلين، بل نفس غسل الرجلين الواقع في الوضوء، و تقييد الوضوء باشتماله علي غسل الرجلين ممّا لم يعتبره الشارع في مقام الأمر، فهو نظير تحريم الصلاة المشتملة علي محرّم خارجي لا دخل له في الصلاة. فإن قلت: إذا كان إيجاب الشي‌ء للتقيّة لا يجعله معتبرا في العبادة حال التقيّة، لزم الحكم بصحّة وضوء من ترك المسح علي الخفّين، لأنّ المفروض أنّ الأمر بمسح الخفّين للتقيّة لا يجعله جزءا، فتركه لا يقدح في صحّة الوضوء، مع أنّ الظاهر عدم الخلاف في بطلان الوضوء.
قلت: ليس الحكم بالبطلان من جهة ترك ما وجب بالتقيّة، بل لأنّ المسح علي الخفّين متضمّن لأصل المسح الواجب في الوضوء، مع إلغاء قيد مماسّية الماسح للممسوح- كما في المسح علي الجبيرة الكائنة في موضع الغسل أو المسح، و كما في المسح علي الخفّين لأجل البرد المانع من نزعها- ، فالتقيّة إنّما أوجبت إلغاء قيد المباشرة. و أمّا صورة المسح و لو مع الحائل فواجبة واقعا لا من حيث التقيّة، فالإخلال بها يوجب بطلان الوضوء بنقص جزء منه. و ممّا يدلّ علي انحلال المسح إلي ما ذكرنا من الصورة و قيد المباشرة قول الإمام لعبد الأعلي مولي آل سام- [لمّا] «15» سأله عن كيفية مسح من جعل علي إصبعه مرارة- :
«إنّ هذا و شبهه يعرف من كتاب اللَّه، و هو قوله تعالي ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. ثم قال: امسح عليه» «16». فإنّ معرفة وجوب المسح علي المرارة الحائلة بين الماسح و الممسوح من آية نفي الحرج، لا يستقيم إلّا بأن يقال: إن المسح الواجب في الوضوء ينحلّ إلي صورة المسح و مباشرة الماسح للمم‌سوح، و لمّا سقط قيد المباشرة لنفي الحرج، تعيّن المسح من دون مباشرة، و هو المسح علي الحائل، و كذلك فيما نحن فيه سقط قيد المباشرة و لا يسقط صورة المسح عن الوجوب. و كذلك الكلام في غسل الرجلين للتقيّة، فإنّ التقيّة إنّما أوجبت سقوط الخصوصية المائزة بين الغسل و المسح، و أمّا إيصال الرطوبة إلي الممسوح فهو واجب لا من حيث التقيّة، فإذا أخلّ به المكلّف فقد ترك جزءا من الوضوء، فبطلان الوضوء من حيث ترك ما وجب لا لأجل التقيّة، لا ترك ما وجب للتقيّة. و ممّا يؤيّد ما ذكرنا ما ذكره غير واحد من الأصحاب: من أنّه لو دار الأمر بين المسح علي الخفين و غسل الرجلين، قدّم الثاني «17»،
لأنّ فيه إيصال الماء، بخلاف الأول، فلو كان نفس الفعل المشتمل علي القيد و المقيّد إنما وجب تقيّة، لم يعقل ترجيح شرعي بين فعلين ثبت وجوبهما بأمر واحد و هو الأمر بالتقيّة، لأنّ نسبة هذا الأمر إلي الفردين نسبة واحدة، إلّا أن يكون ما ذكروه فرقا اعتباريا منشأه ملاحظة
المكاسب، ج‌4، ص 325
الأسباب العقلية. لكن يبقي علي ما ذكرنا في غسل الرجلين: أنّه لو لم يتمكّن المكلف من المسح تعيّن عليه الغسل الخفيف. و لا يحضرني من أفتي به، لكن لا بأس باعتباره كما في عكسه المجمع عليه، و هو تعيّن المسح عند تعذّر الغسل. و يمكن استنباطه من رواية عبد الأعلي المتقدمة «1». و لو قلنا بعدم الحكم المذكور فلا بأس بالتزام عدم بطلان الوضوء فيما إذا ترك غسل الرجلين الواجب للتقيّة، لما عرفت من أنّ أوامر التقيّة لم يجعله جزءا، بل الظاهر أنّه لو نوي به الجزئيّة بطل الوضوء، لأنّ التقيّة لم يوجب نيّة الجزئيّة و إنّما أوجب العمل الخارجي بصورة الجزء «2».

المقام الرابع

في ترتّب آثار الصحّة علي العمل الصادر تقيّة- لا من حيث الإعادة و القضاء- سواء كان العمل من العبادات، كالوضوء من جهة رفع الحدث، أم من المعاملات، كالعقود و الإيقاعات الواقعة علي وجه التقيّة. فنقول: إنّ مقتضي القاعدة: عدم ترتيب الآثار، لما عرفت غير مرة من أنّ أوامر التقيّة لا تدلّ علي أزيد من وجوب التحرّز عن الضرر، و أمّا الآثار المترتبّة علي العمل الواقعي فلا. نعم، لو دلّ دليل في العبادات علي الإذن في امتثالها علي وجه التقيّة، فقد عرفت أنّه يستلزم سقوط الإتيان به ثانيا بذلك العمل. و أمّا الآثار الأخر، كرفع الحدث في الوضوء، بحيث لا يحتاج المتوضّئ تقيّة إلي وضوء آخر بعد رفع التقيّة بالنسبة إلي ذلك العمل الذي توضّأ له، فإن كان ترتّبه متفرّعا علي ترتّب الامتثال بذلك العمل، حكم بترتّبه، و هو واضح.
أمّا لو لم يتفرّع عليه احتاج إلي دليل آخر. و يتفرّع علي ذلك ما يمكن أن يدّعي: أنّ رفع الوضوء للحدث السابق عليه من آثار امتثال الأمر به بناء علي أنّ الأمر بالوضوء ليس إلّا لرفع الحدث، و أمّا في صورة دائم الحدث فكونه مبيحا لا رافعا، من جهة دوام الحدث لا من جهة قصور الوضوء عن التأثير. و ربما يتوهّم: أنّ ما تقدّم من الاخبار- الواردة في أنّ كل ما يعمل للتقيّة فهو جائز، و أنّ كلّ شي‌ء يضطرّ إليه للتقيّة فهو جائز- يدلّ علي ترتيب الآثار مطلقا، بناء علي أنّ معني الجواز و المنع في كلّ شي‌ء بحسبه، فكما أنّ الجواز و المنع في الأفعال المستقلّة في الحكم، كشرب النبيذ و نحوه يراد به الإثم و العدم، و في الأمور الداخلة في العبادات فعلا أو تركا يراد به الإذن و المنع من جهة تحقّق الامتثال بتلك العبادات، فكذلك الكلام في المعاملات، بمعني عدم البأس و ثبوته من جهة ترتّب الآثار المقصودة من تلك المعاملة- كما في قول الشارع بجواز المعاملة الفلانيّة «3»، و هذا توهّم مدفوع بما لا يخفي علي المتأمل. ثمّ لا بأس بذكر بعض الأخبار الواردة مما اشتمل علي بعض الفوائد: منها: ما عن الاحتجاج بسنده عن أمير المؤمنين صلوات اللَّه عليه في بعض احتجاجه علي بعض، و فيه: «و آمرك أن تستعمل التقيّة في دينك فإنّ اللَّه عز و جل يقول لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ‌ءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً «4»
و قد أذنت لك في تفضيل أعدائنا إن ألجأك الخوف إليه، و في إظهار البراءة منّا إن حملك الوجل عليه، و في ترك المكتوبات «5» إن خشيت علي حشاشتك الآفات و العاهات، و تفضيلك أعداءنا «6» عند خوفك، لا ينفعهم و لا يضرّنا، و انّ إظهار «7» براءتك عند تقيّتك لا يقدح فينا «8»، و لئن تبرأت «9» منّا ساعة بلسانك و أنت موال لنا بجنانك، لتبقي علي نفسك روحها التي بها قوامها، و مالها الّذي به قيامها، و جاهها الذي به تمكّنها «10»، و تصون بذلك من عرف من أوليائنا «11» و إخواننا، فإنّ ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك، و تنقطع به عن عمل في الدين، و صلاح إخوانك المؤمنين، و إيّاك ثم إيّاك أن تترك التقيّة الّتي أمرتك بها، فإنّك شاحط «12» بدمك و دماء إخوانك، معرّض لنفسك و لنفسهم للزوال «13»، مذلّ لهم «14» في أيدي أعداء الدين «15» و قد أمرك اللَّه بإعزازهم، فإنّك إن خالفت وصيّتي كان ضررك علي إخوانك «16» و نفسك أشدّ من ضرر الناصب «17» لنا الكافر بنا» «18». و فيها دلالة علي أرجحيّة اختيار البراءة علي العمل، بل تأكّد وجوبه. لكن في أخبار كثيرة بل عن المفيد في الإرشاد: أنه قد استفاض عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «ستعرضون من بعدي علي سبّي، فسبّوني، و من عرض عليه البراءة فليمدد عنقه، فإن برئ منّي فلا دنيا له و لا آخرة» «19». و ظاهرها حرمة التقيّة فيها كالدماء. و يمكن حملها علي أنّ المراد الاستمالة و الترغيب إلي الرجوع حقيقة عن التشيّع إلي النصب. مضافا إلي أنّ المروي في بعض الروايات أنّ النهي من التبرّي مكذوب علي أمير المؤمنين عليه السلام و أنّه لم ينه عنه، ففي موثقّة مسعدة بن صدقة: «قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام الناس يروون أنّ عليا عليه السلام قال:- علي منبر الكوفة- : أيّها الناس إنّكم ستدعون إلي سبّي فسبّوني، ثمّ تدعون إلي البراءة منّي فلا تبرءوا منّي. فقال عليه السلام: ما أكثر ما يكذّب الناس علي عليّ، ثمّ قال: إنّما قال: ستدعون إلي سبّي فسبّوني ثمّ تدعون إلي البراءة منّي و إنّي لعلي دين محمّد صلّي اللَّه عليه و آله و سلم، و لم يقل: لا تبرءوا منّي. فقال له السائل: أ رأيت إن اختار القتل دون البراءة؟ فقال: و اللَّه ما ذاك عليه، و لا له إلّا ما مضي عليه عمّار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة و قلبه مطمئنّ بالإيمان، فأنزل اللَّه تعالي «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» «20» فقال النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم عندها:
يا عمّار إن عادوا فعد» «21». و في رواية محمد بن مروان: «قال لي أبو عبد اللَّه عليه السلام: ما منع ميثم رحمه اللَّه عن التقيّة، فو اللَّه لقد علم أنّ هذه الآية نزلت في عمار و أصحابه:
«إلّا من اكره و قلبه مطمئن.. الآية» «22». و في رواية عبد اللَّه بن عطاء، عن أبي جعفر عليه السلام- في رجلين من أهل الكوفة أخذا و امرا بالبراءة عن أمير المؤمنين عليه السلام فتبرّأ واحد منهما و أبي الآخر، فخلّي سبيل الّذي تبرّأ و قتل الآخر- : «فقال عليه السلام: أمّا الّذي بري‌ء فرجل فقيه في دينه، و أمّا الذي لم يتبرّأ، فرجل تعجّل إلي الجنة» «23». و عن كتاب الكشّي بسنده إلي يوسف بن عمران الميثمي قال: سمعت ميثم الهرواني «24» يقول: قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: يا ميثم كيف أنت إذا دعاك دعيّ بني أميّة- عبيد اللَّه بن زياد- إلي البراءة منّي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أنا و اللَّه لا أبرأ منك. قال: إذا و اللَّه يقتلك و يصلبك! قال: قلت: أصبر، فإنّ ذلك في اللَّه قليل. قال عليه السلام: يا ميثم فإذن تكون معي في روضتي» «25». و به ثقتي.
المكاسب، ج‌4، ص 326

2- رسالة في العدالة

اشارة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

العدالة لغة:

«الاستواء» كما يظهر من محكيّ المبسوط «1» و السرائر «2» أو: «الاستقامة» كما عن جامع المقاصد «3» و مجمع الفائدة «4» أو هما معا كما عن الروض «5» و المدارك «6» و كشف اللثام «7».

[الأقوال في العدالة]

اشارة

و قد اختلف الأصحاب في بيان ما هو المراد من لفظها الوارد في كلام المتشرّعة، بل الشارع علي أقوال:

أحدها:

- و هو المشهور بين العلّامة و من تأخّر عنه- أنّها كيفيّة نفسانيّة باعثة علي ملازمة التقوي، أو: عليها مع المروّة، و إن اختلفوا في التعبير عنها بلفظ «الكيفيّة» أو «الحالة» أو «الهيئة» أو «الملكة»، و نسب الأخير في محكيّ النجيبيّة إلي العلماء «8»، و في محكيّ كنز العرفان «9» إلي الفقهاء، و في مجمع الفائدة إلي الموافق و المخالف «10»، و في المدارك: «الهيئة الراسخة» إلي المتأخّرين «11»، و في كلام بعض نسب «الحالة النفسانيّة» إلي المشهور «12». و كيف كان، فهي عندهم كيفيّة من الكيفيات باعثة علي ملازمة التقوي كما في الإرشاد «13»، أو عليها و علي ملازمة المروّة كما في كلام الأكثر. بل نسبه بعض إلي المشهور «14»، و آخر إلي الفقهاء، «15» و ثالث إلي الموافق و المخالف «16».

الثاني:

أنّها عبارة عن مجرّد ترك المعاصي أو خصوص الكبائر و هو الظاهر من محكيّ السرائر حيث قال: حدّ العدل هو الّذي لا يخلّ بواجب و لا يرتكب قبيحا «17». و عن محكيّ الوسيلة «18» حيث ذكر في موضوع منه: أنّ العدالة في الدين الاجتناب عن الكبائر و عن الإصرار علي الصغائر. و من محكي أبي الصلاح «19» حيث حكي عنه أنّه قال: إنّ العدالة شرطفي قبول الشهادة، و تثبت حكمها بالبلوغ و كمال العقل و الإيمان و اجتناب القبائح أجمع. و عن المحدّث المجلسي «20» و المحقّق السبزواري «21»: أنّ الأشهر في معناها أن لا يكون مرتكبا للكبائر و لا مصرّا علي الصغائر و ظاهر هذا القول أنّها عبارة عن الاستقامة الفعليّة في أفعاله و تروكه من دون اعتبار لكون ذلك عن ملكة.

الثالث:

أنّها عبارة عن الاستقامة الفعليّة لكن عن ملكة فلا يصدق العدل علي من لم يتّفق له فعل كبيرة مع عدم الملكة، و هذا المعني أخصّ من الأوّلين، لأنّ ملكة الاجتناب لا يستلزم الاجتناب. و كذا ترك الكبيرة لا يستلزم الملكة. و هذا المعني هو الظاهر من كلام والد الصدوق حيث ذكر في رسالته إلي ولده أنّه «22»: لا تصلّ إلّا خلف رجلين: أحدهما من تثق بدينه و ورعه و الآخر من تتّقي سيفه و سوطه «23». و هو ظاهر ولده «24» و ظاهر المفيد في المقنعة، حيث قال: إنّ العدل من كان معروفا بالدين و الورع و الكفّ عن محارم اللَّه، (انتهي) «25».
فإنّ الورع و الكفّ لا يكونان إلّا عن كيفيّة نفسانيّة، لظهور الفرق بينه و بين مجرّد الترك، فتأمّل. و هو الظاهر من محكيّ النهاية «26»، حيث أنّه ذكر بمضمون «27» صحيحة ابن أبي يعفور، و كذلك الوسيلة، حيث قال: العدالة تحصل بأربعة أشياء، الورع و الأمانة و الوثوق و التّقوي «28»، و نحوه المحكيّ عن القاضي، حيث اعتبر فيها الستر و العفاف و اجتناب القبائح «29»، فإنّ الاجتناب خصوصا مع ضمّ العفاف إليه لا يكون بمجرّد الترك. و بمعناه المحكيّ عن الجامع، حيث أخذ في تعريف العدل الكفّ و التجنّب للكبائر «30».
ثمّ إنّه ربّما

يذكر في معني العدالة قولان آخران:

أحدهما: الإسلام و عدم ظهور الفسق

، و هو المحكيّ عن ابن الجنيد «31»، و المفيد في كتاب الأشراف «32»، و الشيخ في الخلاف مدّعيا عليه الإجماع «33».

و الثاني: حسن الظاهر

اشارة

، نسب إلي جماعة بل أكثر القدماء.
و لا ريب أنّهما ليسا قولين في العدالة، و إنّما هما طريقان للعدالة، ذهب إلي كلّ منهما جماعة و لذا ذكر جماعة من الأصحاب- كالشهيد في الذكري «34» و الدروس «35»، و المحقّق الثاني في الجعفريّة «36»، و غيرهما «37»- هذين القولين في عنوان ما به تعرف العدالة، مع أنّ عبارة ابن الجنيد المحكيّ عنه «أنّ كلّ المسلمين علي العدالة إلّا أن يظهر خلافها» «38» لا يدلّ إلّا علي وجوب الحكم بعدالتهم. و أوضح‌منه كلام الشيخ في الخلاف، حيث أنّه لم يذكر إلّا عدم وجوب البحث عن عدالة الشهود إذا عرف إسلامهم «39»، ثمّ احتجّ بإجماع الفرقة و أخبارهم، و أنّ الأصل في المسلم العدالة، و الفسق طار عليه، يحتاج إلي دليل «40». نعم: عبارة الشيخ في المبسوط ظاهرة في هذا المعني، فإنّه قال: إنّ العدالة في اللغة: أن يكون الإنسان متعادل الأحوال متساويا، و أمّا في الشريعة: فهو من كان عدلا في دينه عدلا في مروّته، عدلا في أحكامه، فالعدل في الدين: أن يكون مسلما لا يعرف منه شي‌ء من أسباب الفسق، و في المروّة: أن يكون مجتنبا للأمور الّتي تسقط المروّة،.. إلي آخر ما ذكر. (انتهي موضع الحاجة) «41». لكنّ الظاهر أنّه أراد كفاية عدم معرفة الفسق منه في ثبوت العدالة، لا أنّه نفسها، و لذا فسّر العدالة في المروّة بنفس الاجتناب، لا بعدم العلم بالارتكاب.
هذا كلّه، مع أنّه لا يعقل كون عدم ظهور الفسق أو حسن الظاهر نفس العدالة، لأنّ ذلك يقتضي كون العدالة من الأمور الّتي يكون وجودها الواقعي عين وجودها الذهني، و هذا لا يجامع كون ضدّه- أعني الفسق- أمرا واقعيّا لا دخل للذهن فيه. و حينئذ فمن كان في علم اللَّه تعالي مرتكبا للكبائر مع عدم ظهور ذلك لأحد، يلزم أن يكون عادلا في الواقع و فاسقا في الواقع [و كذا لو فرض أنّه لا ذهن و لا ذاهن «42» يلزم أن لا يتحقّق العدالة في الواقع] «43» لأنّ المفروض أنّ وجودها الواقعي عين وجودها الذهني. و أمّا بطلان اللازم «44» فغنيّ عن البيان. و كذا لو اطّلع علي أنّ شخصا كان في الزمان السابق مع اتّصافه بحسن الظاهر لكلّ أحد مصرّا علي الكبائر يقال: كان فاسقا و لم يطّلع، و لا يقال: كان عادلا فصار فاسقا عند اطّلاعنا. فتبيّن- من جميع ما ذكرنا- أنّ هذين القولين لا يعقل أن يراد بهما بيان العدالة الواقعية، و لا دليل للقائل بهما يفي بذلك، و لا دلالة في عبارتهما المحكية عنهما، و لا فهم ذلك من كلامهما من يعتني به مثل الشهيد و المحقّق الثاني و ابن فهد و غيرهم. ثمّ الظاهر رجوع القول الأوّل إلي الثالث، أعني اعتبار الاجتناب مع الملكة، لاتّفاقهم
المكاسب، ج‌4، ص 327
و صراحه مستندهم كالنصوص و الفتاوي علي أنّه تزول بارتكاب الكبيرة العدالة بنفسها و يحدث الفسق الّذي هو ضدّها، و حينئذ فإمّا أن يبقي الملكة أم لا، فإن بقيت ثبت اعتبار الاجتناب الفعلي في العدالة، فإن ارتفعت ثبت ملازمة الملكة للاجتناب الفعلي. فمراد الأوّلين من «الملكة الباعثة علي الاجتناب»: الباعثة فعلا، لا ما من شأنها أن تبعث و لو تخلّف عنها البعث لغلبة الهوي و تسويل الشيطان، و يوضّحه توصيف «الملكة» في كلام بعضهم بل في معقد الاتّفاق ب «المانعة عن ارتكاب الكبيرة» فإنّ المتبادر: المنع الفعلي بغير اشكال. و أوضح منه تعريفها- الشهيد في باب الزكاة من نكت الإرشاد- :
بأنّها هيئة راسخة تبعث علي ملازمة التقوي بحيث لا يقع منها الكبيرة و لا الإصرار علي الصغيرة «1» بناء علي أنّ الحيثيّة بيان لقوله: «تبعث»، لا قيد توضيحيّ للملازمة.
نعم: يبقي الكلام في أنّ العدالة هل هي الملكة الموجبة للاجتناب أو الاجتناب عن ملكة، أو كلاهما حتّي يكون عبارة عن الاستقامة الظاهرة في الأفعال، و الباطنة في الأحوال؟ و هذا لا يترتّب عليه كثير فائدة، إنّما المهمّ بيان مستند هذا القول، و عدم كون العدالة هي مجرّد الاستقامة الظاهريّة و لو من دون ملكة- كما هو ظاهر من عرفت- «2» حتّي يكون من علم منه هذه الصفة عادلا و إن لم يكن فيه ملكتها. و يدلّ عليه- مضافا إلي الأصل «3» و الاتّفاق المنقول المعتضد بالشهرة المحقّقة، بل عدم الخلاف، بناء علي أنّه لا يبعد إرجاع كلام الحلّي «4» إلي المشهور كما لا يخفي، و إلي ما دلّ علي اعتبار الوثوق بدين إمام الجماعة و ورعه، مع أنّ الوثوق لا يحصل بمجرّد تركه المعاصي في جميع ما مضي من عمره، ما لم يعلم أو يظنّ فيه ملكة الترك، و اعتبار المأمونية و العفة و الصيانة و الصلاح و غيرها ممّا اعتبر في الأخبار من الصفات النفسانية في الشاهد، مع الإجماع علي عدم اعتبارها زيادة علي العدالة فيه و في الإمام- صحيحة ابن أبي يعفور، حيث سأل أبا عبد اللَّه عليه السلام و قال: «بم يعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّي تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: أن يعرفوه بالستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان، و تعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد اللَّه عليها النار.. إلي آخر الحديث» «5» فإنّ الستر و العفاف و الكفّ قد وقع مجموعها المشتمل علي الصفة النفسانية معرّفا للعدالة، فلا يجوز أن يكون أخصّ منها، بل لا بدّ من مساواته، و قد يكون أعمّ إذا كان من المعرّفات الجعليّة، كما جعل عليه السلام في هذه الصحيحة الدليل علي هذه الأمور كون الشّخص ساترا لعيوبه. و دعوي أنّ ظاهر السؤال وقوعه عن الأمارة المعرّفة للعدالة بعد معرفة مفهومها تفصيلا، و الصفات المذكورة ليست أمارة بل- هي علي هذا القول- عينها، فيدور الأمر بين حمل السؤال علي وقوعه عن المعرّف المنطقي لمفهومها بعد العلم إجمالا- و هو خلاف ظاهر السؤال- ، و بين خلاف ظاهر آخر، و هو حمل الصفات المذكورة علي مجرّد ملكاتها، فتكون ملكاتها معرّفة و طريقا للعدالة، و حينئذ فلا تصح أن يراد بها إلّا نفس اجتناب الكبائر المسبّب عن ملكة العفاف و الكفّ، و هو القول الثاني مدفوعة: أوّلا: ببعد إرادة مجرّد الملكة من الصفات المذكورة، بخلاف إرادة المعرّف المنطقي الشارح لمفهوم العدالة، فإنّه غير بعيد، خصوصا بملاحظة أنّ طريقية ملكة ترك المعاصي لتركها ليست أمرا مجهولا عند العقلاء محتاجا إلي السؤال، و خصوصا بملاحظة قوله فيما بعد: «و الدليل علي ذلك كلّه أن يكون ساترا لعيوبه.. إلخ»، فإنّه علي ما ذكر يكون أمارة علي أمارة، فيكون ذكر الأمارة الأولي- أعني الملكة- خالية عن الفائدة مستغني عنها بذكر أمارتها، إذ لا حاجة غالبا إلي ذكر أمارة تذكر لها أمارة أخري، بخلاف ما لو جعل الصفات المذكورة عين العدالة، فإنّ المناسب بل اللازم أن يذكر لها طريق أظهر و أوضح للناظر في أحوال الناس. و يؤيّد ما ذكرنا أنّه لا معني محصّل حينئذ لقوله عليه السلام- بعد الصفات المذكورة- : «و تعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد اللَّه عليها النار»، لأنّ الضمير في «تعرف» إمّا راجع إلي العدالة بأن يكون معرّفا مستقلا، و إمّا راجع إلي الشخص بأن يكون من تتمّة المعرّف الأوّل، و إمّا أن يكون راجعا إلي الستر و ما عطف عليه، ليكون معرّفا للمعرّف، و قوله عليه السلام: «و الدليل علي ذلك.. إلخ» «6» معرّفا ثالثا، و هو أبعد الاحتمالات. و علي أيّ تقدير فلا يجوز أن يكون أمارة علي العدالة، لأنّه علي هذا القول نفس العدالة. و الحاصل: أنّ الأمور الثلاثة المذكورة من قبيل المعرّف المنطقي للعدالة، لا المعرّف الشرعي في اصطلاح الأصوليّين. ثمّ إنّ المراد بالستر هنا غير المراد به في قوله عليه السلام فيما بعد: «و الدلالة علي ذلك كله أن يكون ساترا لعيوبه» و إلّا لم يعقل أن يكون أحدهما طريقا للآخر، بل المراد بالستر هنا ما يرادف الحياء و العفاف، قال في الصحاح: رجل ستير، أي: عفيف، و جارية ستيرة «7» فكأنّ المراد بالستر- هنا- : الاستحياء من اللَّه، و بالستر- فيما بعد- :
الاستحياء من الناس، و لذا ذكر القاضي: أنّ العدالةتثبت بالستر و العفاف و اجتناب القبائح أجمع «8». بقي الكلام في بيان الأظهر من الاحتمالات الثلاث المتقدّمة في قوله عليه السلام: «و تعرف باجتناب الكبائر.. إلخ» و أنّ الاجتناب هل هي تتمّة للمعرّف أو معرّف له، أو للمعرّف- بالفتح- ؟ لكن الثاني في غاية البعد سواء حمل المعرّف علي المنطقي أو علي الشرعي. [أمّا علي الأوّل] «9» فلعدم كون الأمور المذكورة أمورا عرفية متساوية في البيان لمفهوم الاجتناب، فلا يحسن جعله طريقا إليها، أو شارحا لمفاهيمها. و الثالث أيضا بعيد، بناء علي المعرّف المنطقي و الشرعي، لأنّه إن أريد ب «اجتناب الكبائر» الاجتناب عن ملكة، فليس أمرا مغايرا للمعرّف الأوّل، فذكره كالتكرار، و إن أريد نفس الاجتناب، و لو لا عن ملكة، فلا معني لجعله معرّفا منطقيّا بعد شرح مفهوم العدالة أوّلا بما يتضمّن اعتبار الملكة في الاجتناب. و الحاصل: إنّ جعله معرّفا منطقيّا فاسد، لأنّه إمّا أن يراد من المعرّفين كليهما معني واحد و إمّا أن يراد من كلّ منهما معني، و علي الأوّل يلزم التكرار، و علي الثاني يلزم تغاير الشارحين لمفهوم واحد. و كذا لا يجوز جعله معرّفا شرعيّا، لأنّ حاصله يرجع إلي جعل نفس الاجتناب طريقا إلي كونه عن ملكة، و هذا بعيد لوجهين: أحدهما: أنّ معرفة الاجتناب عن جميع الكبائر ليس بأسهل من معرفة الملكة، بل معرفة الملكة أسهل من معرفة الاجتناب، فلا يناسب جعله معرّفا لها. الثاني: أنّه جعل
المكاسب، ج‌4، ص 328
الدليل علي ذلك كلّه أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتّي يحرم علي المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته، فستر العيوب عن الناس قد جعل طريقا ظاهريّا، و من المعلوم أنّ جعل الاجتناب الواقعي طريقا مستدرك بعد جعل عدم العلم بالارتكاب طريقا، بل اللازم جعله طريقا من أوّل الأمر، لأنّ جعل الأخصّ طريقا بعد جعل الأعمّ مستدرك، و هذا كما يقال: إنّ إمارة العدالة عند الجهل بها الإيمان الواقعي، و علامة الإيمان الواقعي عند الجهل به: الإسلام، فإنّ جعل الإيمان الواقعي «1» طريقا، مستغني عنه، بل لازم قوله عليه السلام: «حتّي يحرم علي المسلمين تفتيش ما وراء ذلك» أنّه لا يجوز التوصّل بالأمارة الاولي و هو الاجتناب الواقعي، لأنّه يتوقّف علي الفحص عن أحواله. فثبت من جميع ذلك أنّ أظهر الاحتمالات المتقدّمة هو كونه تتمة للمعرّف، بأن يجعل المراد بكفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان، كفّها عن المعاصي الخاصّة الّتي تتبادر عند إطلاق نسبة المعصية إلي إحدي الجوارح. [المذكورة فإنّ المتبادر من معصية البطن: أكل الحرام، و من معصية الفرج: الزنا، و من معصية اليد: ظلم الناس، و من اللسان: الغيبة و الكذب، فيكون ذكره بعد ذكر الكفّ من قبيل التعميم بعد التخصيص، و عقيب الستر و العفاف من قبيل ذكر الأفعال بعد الصفات النفسانيّة الموجبة لها. و يحتمل أيضا أن يراد بالستر: الاستحياء المطلق، و بالعفاف: التعفّف عن مطلق المعاصي، و بالكفّ (الكف) «2» عن مطلق الذنوب، و يكون ذكر الجوارح الأربع لكونها أغلب ما تعصي من بين الجوارح] «3». و حينئذ فيكون قوله: «و تعرف باجتناب الكبائر» من قبيل التخصيص بعد التعميم و التقييد بعد الإطلاق، تنبيها علي أنّ ترك مطلق المعاصي غير معتبر في العدالة

. [اعتبار المروّة في مفهوم العدالة]

ثمّ المشهور بين من تأخّر عن العلّامة: اعتبار المروّة في مفهوم العدالة، حيث عرّفوها بأنّها هيئة راسخة تبعث علي ملازمة التقوي و المروّة، و هو الّذي يلوح من عبارة المبسوط، حيث ذكر أنّ العدالة في اللغة: أن يكون الإنسان متعادل الأحوال متساويا، و في الشريعة: من كان عدلا في دينه، عدلا في مروّته، عدلا في أحكامه «4» (انتهي)، بناء علي أنّ المراد بالعدالة في الدين و المروّة و الأحكام:
الاستقامة فيها. و أمّا كلام غير الشيخ ممّن تقدّم علي العلّامة، فلا دلالة فيه، بل و لا إشعار علي ذلك. نعم: ذكره ابن الجنيد في شرائط قبول الشهادة «5»، و كذا ابن حمزة في موضع من الوسيلة «6»، بل كلامه الأخير المتقدّم في صدر المسألة «7»،- ككلامي المفيد و الحلّي المتقدّم ذكرهما «8»- دالّ علي عدم اعتبارها. و أمّا الصدوقان فهما و إن لم يفسّرا العدالة، إلّا أنّ كلامهما المتقدّم «9» من أنّه «لا يصلّي إلّا خلف رجلين [أحدهما من تثق بدينه و ورعه و أمانته، و الآخر من تتقي سيفه و سوطه] «10» ظاهر في عدم اعتبار المروّة في العدالة، بناء علي أنّ اعتبار العدالة في الإمام متّفق عليه. نعم، قد أخذ القاضي «الستر» و «العفاف» في العدالة «11» بناء علي ما سيأتي «12» من أنّه لا يبعد استظهار اعتبار المروّة من هذين اللفظين. و ذكر في الجامع أنّ العدل الّذي يقبل شهادته، هو البالغ العاقل المسلم العفيف الفعلي المجتنب عن القبائح الساتر لنفسه «13» فإن جعلنا الموصول «14» صفة تقييدية كانت العفّة- الّتي عرفت إمكان استظهار المروّة منها- مأخوذة في عدالة الشاهد دون عدالة الإمام و مستحقّ الزكاة، و إلّا كانت مأخوذة في مطلق العدالة. و ممّن لا يعتبر المروّة في العدالة، المحقّق في الشرائع «15» و النافع «16»، و تبعه العلّامة في الإرشاد «17» و ولده في موضع من الإيضاح «18». و عرّف الشهيد- في نكت الإرشاد- العدالة في كلام من اعتبرها في مستحقّ الزكاة بأنّها «هيئة تبعث علي ملازمة التقوي» «19» و ظاهره أنّ العدالة تطلق في الاصطلاح علي ما لا يؤخذ فيه المروّة. و الحاصل: أنّه لو ادّعي المتتبّع أنّ المشهور بين من تقدّم علي العلّامة عدم اعتبار المروّة في العدالة- خصوصا المعتبرة في غير الشاهد- لم يستبعد ذلك منه، لما عرفت من كلمات من عدا الشيخ، و أمّا الشيخ فالعدالة المذكورة في كلامه لا ينطبق علي ما ذكره المتأخّرون، لأنّه أخذ فيه الإسلام و البلوغ و العقل، و هذا ليس معتبرا عند المتأخّرين، و إن كان العادل عندهم من أفراد البالغ العاقل المسلم، لكنّ الإسلام و الكمال ليسا جزءا للعدالة عندهم، و لذا يذكرون البلوغ و العقل و الإسلام علي حدة، فالظاهر أنّه أراد بالعدالة صفة جامعة لشرائط العامّة لقبول الشهادة، و كيف كان: فالمتّبع هو الدليل. و ينبغي الجزم بعدم اعتبارها «20» في العدالة المعتبرة في الإمام، و أنّ المعتبر فيه العدالة و «21» الاستقامة في الدين، لأنّ الدليل علي اعتبار العدالة في الإمام، إمّا الإجماعات المنقولة و إمّا الروايات: أمّا الإجماعات المنقولة «22» فلا ريب في أنّها ظاهرة في العدالة في الدين المقابلة للفسق الّذي هو الخروج عن طاعة اللَّه، مع أنّ الخلاف في أخذ المروّة في العدالة يوجب حمل العدالة في كلام مدّعي الإجماع علي العدالة في الدين، و يؤيّده أنّه لو كان المراد العدالة المطلقة الّتي تقدّم تفسيرها من المبسوط «23» لم يحتج إلي اعتبار البلوغ و العقل في الإمام مستقلا. و دعوي: أنّ دعوي الإجماع إنّما وقعت من المتأخّرين الّذين أخذوا المروّة في العدالة، و كلام مدّعي الإجماع يحمل علي ما اللفظ ظاهر فيه عنده. مدفوعة- بعد تسليم ما ذكر كليّة- بأنّ الإجماع إذا فرض دعواه علي العدالة المأخوذة فيها المروّة فهي موهونة بمصير جلّ القدماء- كما عرفت- علي خلافه. و إن كان المستند الروايات فنقول: إنّها بين ما دلّ علي اعتبار العدالة، و الظاهر منها هي الاستقامة في الدين، لأنّها الاستقامة المطلقة في نظر الشارع، فإنّ التحقيق أنّ العدالة في كلام الشارع و أهل الشرع يراد بها:
الاستقامة، لكنّ الاستقامة المطلقة في نظر الشارع هو الاستقامة علي جادّة الشرع و عدم الميل عنها، و إن قلنا بأنّها منقولة من الأعمّ إلي الأخصّ، لكن نقول: إنّ المتبادر منها الاستقامة من جهة الدين، لا من جهة العادات الملحوظة عند الناس حسنا أو قبيحا. و غاية ما يمكن أن يستدلّ لاعتبارها في العدالة المستعملة في كلام الشارع: صحيحة ابن أبي يعفور، و محل الدلالة يمكن أن يكون فقرأت منها: الأولي: قوله: «بأنّ يعرفوه بالستر» علي أن يكون المراد منه ستر العيوب الشرعية و العرفيّة. الثانية: قوله عليه السلام:
«و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان» بناء علي أنّ منافيات المروّة غالبا من شهوات الجوارح. الثالثة: قوله عليه السلام: «و الدالّ علي ذلك كلّه أن يكون ساترا لعيوبه.. إلخ». و قد تمسك بكلّ واحد من هذه الفقرات بعض ممّن «24» عاصرناهم. و في الكلّ نظر، أمّا الفقرة الأولي: فلما عرفت سابقا من أنّ المراد بالستر ليس هو الستر الفعلي، و إنّما يراد به صفة مرادفة للعفاف- كما سمعت من الصحاح «25»- ، كيف و قد جعل ستر العيوب بعد ذلك دليلا علي العدالة، فيلزم اتّحاد الدليل و المدلول، مضافا إلي أنّ المتبادر من الستر:
تعلّقه بالعيوب الشرعيّة دون العرفية، فلا يفيد حذف المتعلّق العموم. و بهذا يجاب عن الفقرة الثانية، فإنّ الظاهر من كفّ الجوارح الأربع: كفّها عن معاصيها، لا مطلق ما تشتهيها. و أمّا الفقرة الثالثة، ففيها أوّلا: أنّ المتبادر من «العيوب» هي ما تقدّم في الفقرة السابقة ممّا أخذ تركها في مفهوم العدالة، لا مطلق النقائص في
المكاسب، ج‌4، ص 329
الكبائر و الصغائر و المكروهات المنافية للمروّة، و إلّا لزم تخصيص الأكثر، إذ الكبائر و منافيات المروّة في جنب غيرهما- الّذي لا يعتبر في العدالة تركها و لا في طريقها سترها- كالقطرة في جنب البحر، فلا بدّ من حمله علي المعهود المتقدّم في الفقرات السابقة، فكأنّ الإمام عليه السلام لمّا عرّف العدالة بملكة الكفّ و التعفّف عن الكبائر جعل سترها عند المعاشرة و المخالطة طريقا إليها. و ثانيا: أنّ غاية ما يدلّ عليه هذه الفقرة كون ستر منافيات المروّة من تتمّة طريق العدالة، لا مأخوذة في نفسها، فيكون فيه دلالة علي أنّ عدم ستر منافيات المروّة و ظهورها عند المعاشرة و المخالطة لا يوجب الحكم ظاهرا بعدالة الرجل الّتي تقدّم معناها في الفقرات السابقة، و لا يلزم من هذا أنّا لو اطّلعنا علي ذلك المعني بحيث لا يحتاج إلي الطريق الشرعي و علمنا منه صدور منافيات المروّة لم نحكم بعدالته، لأنّ الوصول إلي ذي الطريق يغني عن الطريق. ففي الرواية دلالة علي التفصيل الّذي ذكره بعض متأخّري المتأخّرين، من أنّه لو كشف فعل منافي المروّة عن قلّة المبالاة في الدين، بحيث لا يوثق معه بالتحرّز عن الكبائر و الإصرار علي الصغائر كان معتبرا و إلّا فلا. و هذا التفصيل غير بعيد، لكنّه في الحقيقة ليس تفصيلا في مسألة اعتبار المروّة في نفس العدالة- بل قول بنفيه مطلقا- إلّا أنّه يوجب الوهن في حسن الظاهر الّذي هو طريق إليها. ثمّ إنّ الّذي يخطر بالبال أنّه إن كان و لا بدّ من فهم اعتبار المروّة من الصحيحة- بناء علي أنّ المذكور فيه حدّ لها، لا بدّ من أن يكون مطّردا، فترك التعرّض لاعتبار ما يعتبر مخلّ بطردها- فالأنسب أن يقال: إنّ ذلك إنّما يستفاد من لفظي «الستر» و «العفاف» الراجعين إلي معني واحد، كما عرفت من قول الصحاح: «رجل.. إلخ» «1» فيكون المراد بالستر ما عدّ- في الحديث المشهور المذكور في أصول الكافي في باب جنود العقل و الجهل- مقابلا للتبرّج «2» المفسّر في كلام بعض محقّقي شرّاح أصول الكافي بالتظاهر بما يقبح و يستهجن في الشرع أو العرف «3». و لا ريب أنّ منافيات المروّة ممّا يستهجن في العرف، فهي منافية للستر و العفاف بذلك المعني. و قد ذكر بعضهم في عدالة القوّة الشهويّة- المسمّاة بالعفّة- أنّ ما يحصل من عدم تعديلها: عدم المروّة. و ظاهره أنّ المروّة لازمة للعفاف. ثمّ إنّ المروّة- علي القول باعتبارها في العدالة- مثل التقوي المراد بها عندهم: اجتناب الكبائر و الإصرار علي الصغائر، ففعل منافيها يوجب زوال العدالة بمجرّده من غير حاجة إلي تكراره «4» كارتكاب الكبيرة لأنّه لازم تفسيرهم للعدالة بالملكة المانعة عن «5» مجانبة «6» الكبائر و منافيات المروّة و الباعثة علي ملازمة التقوي و المروّة، و قد عرفت أنّ المراد بالبعث أو المنع:
الفعلي، لا الشأني. نعم: ربّما يكون بعض الأفعال لا ينافي المروّة بمجرّده، و لذا قيّدوا منافيات «7» الأكل في الأسواق بصورة غلبة وقوع ذلك منه، و أنّه لا يقدح وقوعه نادرا، أو للضرورة، أو من السوقي، فمعناه- بقرينة عطف الضرورة و السوقي أنّه لا ينافي المروّة، لا أنّه مع منافاته المروّة لا يوجب زوال العدالة بمجرّده. نعم: فرق بين التقوي و المروّة، و هو أنّ مخالفة التقوي يوجب الفسق، بخلاف مخالفة المروّة، فإنّها توجب زوال العدالة دون الفسق، ففاقد المروّة إذا كانت فيه ملكة اجتناب الكبائر، واسطة بين العادل و الفاسق. و من جميع ما ذكرنا يظهر ما في كلام بعض سادة مشايخنا «8»، حيث إنّه بعد ما أثبت اعتبار المروة بالفقرة الثالثة المتقدمة من الصحيحة قال: بقي الكلام في أنّ منافيات المروّة هل توجب الفسق بمجرّدها كالكبائر؟ أو بشرط الإصرار أو الإكثار كالصغائر؟ أو تفصيل بين مثل تقبيل الزوجة في المحاضر و بين مثل الأكل في الأسواق؟ و هذا هو المختار. ثمّ استشهد بكلام جماعة ممّن قيّد الأكل في السوق بالغلبة أو الدوام.
و يمكن تأويل أوّل كلامه بأنّ المراد من الفسق: مجرّد عدم العدالة، دون الفسق المتكرّر في كلام الشارع و المتشرّعة، لكنّه بعيد. و أبعد منه: توجيه كلامه فيما ذكره من الوجوه الثلاثة في زوال العدالة بمنافيات المروّة، بأنّ المراد ما ينافيها بحسب الأعمّ من المرّة «9» و الإكثار، و معناه أنّ ما ينافي المروّة بجنسه هل يزيل العدالة بمجرّده أو بشرط الإكثار؟ و هو كما تري!. ثمّ إنّه قد تلخّص ممّا ذكرنا من أوّل المسألة إلي هنا أنّ الأقوي- الّذي عليه معظم القدماء و المتأخّرين- : هو كون العدالة عبارة عن صفة نفسانيّة توجب التقوي و المروّة أو التقوي فقط- علي ما قوّيناه. و عرفت «10» أيضا أنّ القول بأنّها عبارة عن «الإسلام و عدم ظهور الفسق» غير ظاهر من كلام أحد من علمائنا و ان كان ربّما نسب إلي بعضهم «11»، كما عرفت، و عرفت ما فيه «12». و كذلك القول بأنّها عبارة عن «حسن الظاهر» غير مصرّح به في كلام أحد من علمائنا، و إن نسبه بعض متأخّري المتأخّرين إلي كثير، بل إلي الكلّ «13». و كيف كان: فالمتّبع هو الدليل و إن لم يذهب اليه إلّا قليل، و قد عرفت الأدلّة.

[ما أورد علي القول بالملكة]

اشارة

بقي الكلام فيما أورد علي القول بالملكة و هي وجوه:

منها:

ما ذكره المولي الأعظم وحيد عصره في شرح المفاتيح- علي ما حكاه عنه بعض الأجلّة «14»- من أنّ حصول الملكة بالنسبة إلي كلّ المعاصي بمعني صعوبة الصدور لا استحالته، فربّما يكون نادرا بالنسبة إلي نادر من الناس- إن فرض تحقّقه- و يعلم أنّ العدالة ممّا تعمّ به البلوي و تكثر إليه الحاجات في العبادات و المعاملات و الإيقاعات، فلو كان الأمر كما يقولون لزم الحرج و اختلّ النظام، مع أنّ القطع حاصل بأنّه في زمان الرسول صلّي اللَّه عليه و آله و سلم و الأئمّة عليهم السلام ما كان الأمر علي هذا النهج، بل من تتبّع الأخبار الكثيرة يحصل القطع بأنّ الأمر لم يكن كما ذكروه في الشاهد، و لا في إمام الجماعة. و يؤيّده ما ورد «15» في أنّ إمام الصلاة إذا أحدث، أو حدث له مانع آخر، أخذ بيد آخر و أقامه مقامه (انتهي). و قال السيّد الصدر في شرح الوافية- بعد ما حكي عن المتأخّرين أنّ العدالة «هي الملكة الباعثة علي التقوي و المروّة»- ما لفظه: أمّا كون هذه الملكة عدالة فلا ريب فيه، لأنّ الوسط بين البلادة و الجربزة تسمّي: حكمة، و بين إفراط الشهوة و تفريطها هي: العفّة، و بين الظلم و الانظلام هي: الشجاعة، فإذا اعتدلت هذه القوي حصلت كيفيّة وحدانيّة شبيهة بالمزاج، كأنّها تحصل من الفعل و الانفعال بين طرفي هذه القوي، و انكسار سورة كلّ واحدة منها، و بعد
المكاسب، ج‌4، ص 330
حصولها يلزمها التقوي و المروّة. و أمّا اشتراط تحقّق هذا [المبني بهذا] «1» المعني، حيث اعتبر الشارع العدالة، فلم أطّلع علي دليل ظنّي لهم، فضلا عن القطعيّ، و صحيحة ابن أبي يعفور «2» عليهم لا لهم- كما قيل- ، نعم: لا يحصل لنا الاطمئنان التامّ في اجتناب الذنب في الواقع إلّا فيمن يعلم أو يظنّ حصول تلك الملكة فيه، و هذا يقرّب اعتبارها، و لكن يبعّده أنّ هذه الصفة الحميدة تكون في الأوحديّ الّذي لا يسمح «3» الدهر بمثله إلّا نادرا، لأنّ التعديل المذكور يحتاج إلي مجاهدات شاقّة مع تأييد ربّاني، و الاحتياج إلي العدالة عامّ لازم في كلّ طائفة من كلّ فرقة من سكّان البرّ و البحر حفظا لنظام الشرع.
ثمّ قال: لا يقال إنّ الشارع و إن اعتبر الملكة، و لكنّه جعل حسن الظاهر مع عدم عثور الحاكم أو المأموم علي فعل الكبيرة و الإصرار علي الصغيرة علامة لها، و هذا يحصل في أكثر الناس. لأنّا نقول: إن اعتبر القائل بالملكة فيما يعرف به العدالة هذا الّذي قلت، فلا ثمرة للنزاع في أنّ العدالة ما ذا؟ (انتهي موضوع الحاجة) «4». و الجواب عن ذلك كلّه: أنّا لا نعني بقولنا: «العدالة هيئة راسخة» أو «ملكة» أو «هيئة نفسانيّة» إلّا الصفة النفسانية الحاصلة من خشية اللَّه بحيث يردعه عن المعصية. توضيح ذلك: أنّ ترك المعاصي قد يكون لعدم الابتلاء بها، و قد يكون مع الابتلاء بالمعصية للدواعي النفسانيّة لا لخوف اللَّه، و قد يكون لحالة خوف حاصلة فيه علي سبيل الاتّفاق تمنعه عن الإقدام علي المعصية، حتّي أنّه إذا ترك في زمان طويل معاصي كثيرة ابتلي بها، كان الترك في كلّ مرّة مستندا إلي حالة اتّفقت له في ذلك الزمان، و قد يكون ترك المعاصي لحالة واحدة مستمرّة في الزمان الّذي يبتلي فيه بالمعاصي. و هذا الرابع هو المقصود من «الصفة النفسانيّة» أو «الصفة الراسخة» في مقابل «الغير الراسخة»- الموجودة في الثالث. قال العلّامة في نهاية الأصول «5»- علي ما حكي عنه- في بيان طرق معرفة العدالة: الأوّل: الاختبار بالصحبة المتأكّدة و الملازمة، بحيث يظهر له أحواله و يطّلع علي سريرة أمره بتكرار المعاشرة، حتّي يظهر له من القرائن ما يستدلّ به علي خوف في قلبه مانع عن الكذب و الإقدام علي المعصية (انتهي). ثمّ إنّ العبرة بكون تلك الحالة باعثة هو الحال المتعارف للإنسان، دون حالة كماله، فقد تعرض للشخص حالة كأنّه لا يملك من نفسه مخالفة الشهوة أو الغضب، لقوّة قهر القوّة الشهويّة أو الغضبيّة و غلبتهما، و عليه يحمل ما حكي عن المقدّس الأردبيلي «6»: من أنّه سئل عن نفسه إذا ابتليت بامرأة مع استجماع جميع ماله دخل في رغبة النفس إلي الزنا؟ فلم يجب قدّس سرّه بعدم الفعل، بل قال: «أسأل اللَّه أن لا يبتليني بذلك» فإنّ عدم الوثوق بالنفس في مثل هذه الفروض الخارجة عن المتعارف لا يوجب عدم الملكة فيه، إذ مراتب الملكة في القوّة و الضعف متفاوتة، يتلو آخرها: العصمة، و المعتبر في العدالة أدني المراتب، و هي الحالة الّتي يجد الإنسان بها مدافعة الهوي في أوّل الأمر و إن صارت مغلوبة بعد ذلك، و من هنا تصدر الكبيرة عن ذي الملكة كثيرا. و كيف كان: فالحالة المذكورة غير عزيزة في الناس [و] ليس في الندرة علي ما ذكره الوحيد البهبهاني «7» بحيث يلزم من اشتراطه و إلغاء ما عداه، اختلال النظام. و كيف يخفي علي هؤلاء ذلك حتّي يعتبروا في العدالة شيئا، يلزم منه- بحكم الوجدان- ما هو بديهيّ البطلان؟ إذ المفروض أنّه لاخفاء في الملازمة و لا في بطلان اللازم- و هو الاختلال- بل الإنصاف أنّ الاقتصار علي ما دون هذه المرتبة يوجب تضييع حقوق اللَّه و حقوق الناس و كيف يحصل الوثوق في الإقدام علي ما أناطه الشارع بالعدالة لمن لا يظنّ فيه ملكة ترك الكذب و الخيانة، فيمضي قوله في دين الخلق و دنياهم من الأنفس و الأموال و الأعراض، و يمضي فعله علي الأيتام و الغيّب «8» و الفقراء و السادة «9». قال بعض السادة: أنّ الشريعة المنيعة الّتي منعت من إجراء الحدّ علي من أقرّ علي نفسه بالزنا مرّة بل ثلاثا كيف يحكم بقتل النفوس و اهراقهم «10» و قطع أياديهم و حبسهم و أخذ أموالهم، و أرواحهم بمجرّد شهادة من يجهل حاله من دون اختبار.
و أمّا ما ذكره السيّد الصدر «11»:- من كون الملكة عبارة عن تعديل القوي الثلاث: قوّة الإدراك، و قوّة الغضب، و قوّة الشهوة، و أنّ العدالة تتوقّف علي الحكمة و العفّة و الشجاعة- فلا أظنّ أنّ الفقهاء يلتزمون ذلك في العدالة، كيف، و ظاهر تعريفهم لها بالحالة النفسانية ينطبق علي الحالة الّتي ذكرناها و هي الموجودة في كثير من الناس. و دعوي: أنّ إدخالهم المروّة في مدخول «12» الملكة و جعلهم العدالة هي الملكة الجامعة بين البعث علي التقوي و البعث علي المروّة ظاهر في اعتبار أزيد من الحالة النفسانيّة المذكورة الّتي ذكرنا أنّها تنشأ من خشية اللَّه تعالي، فإنّ هذه الحالة لا تبعث إلّا علي مجانبة الكبائر و الإصرار علي الصغائر، و لا تبعث علي مراعاة المروّة مدفوعة: أوّلا: بما عرفت «13» من أنّ الأقوي خروج المروّة عن مفهوم العدالة. و ثانيا: أنّ اعتبار الملكة الجامعة بين البعث علي التقوي و المروّة غير ما ذكره السيّد أيضا، لأنّ المراد منها: الاستحياء و التعفّف فيما بينه و بين اللَّه و بين الناس، و هذا أيضا كثير الوجود في الناس، بل الاستحياء عن الخلق موجود في أكثر الخلق، فكما أنّ علماء الأخلاق عبّروا عن تعديل القوي الثلاث بالعدالة فكذلك الفقهاء عبّروا عن الاستحياء عن الخالق و المخلوق بالعدالة، لأنّها استقامة علي جادّتي الشرع و العرف، و خلافه خروج عن إحدي الجادّتين. هذا مع أنّ جعل حسن الظاهر، بل مطلق الظنّ طريقا إلي هذه الصفة، أوجب تسهيل الأمر في الغاية حتّي كاد لا يري ثمرة لجعل العدالة هي الملكة، كما تقدّم من السيّد الصدر «14»، فكيف يتفاوت الأمر في اختلال النظام و استقامته بين جعلها «حسن الظاهر» و بين جعلها «الملكة» و جعل حسن الظاهر طريقا إليها؟.

و منها

«15»: أنّ الحكم بزوال العدالة عند عروض ما ينافيها من معصية أو خلاف مروّة و رجوعها بمجرّد التوبة، ينافي كون العدالة هي الملكة. و ما يقال في الجواب: من أنّ الملكة لا تزول بمخالفة مقتضاها في بعض الأحيان، إلّا أنّ الشارع جعل الأثر المخالف لمقتضاها مزيلا لحكمها بالإجماع، و جعل التوبة رافعة لهذا المزيل، فالأمر تعبّدي. ففيه: أنّه مخالف لتصريحهم بالزوال و العود.
المكاسب، ج‌4، ص 331
و الجواب: ما تقدّم من أنّ العدالة ليست عندهم هي الملكة المقتضية للتقوي و المروّة، المجامعة لما يمنع عن مقتضاها، لأنّ قولهم: «ملكة تبعث» أو «تمنع» يراد بها البعث و المنع الفعلي. و يدلّ عليه ما مرّ عن نكت الإرشاد «1» علي أظهر احتماليه، فالملكة إذا لم يكن معها المنع الفعلي ليست عدالة. و لو أبيت إلّا عن ظهور عبائرهم في كون العدالة هي الملكة المقتضية لا بقيد الخلوّ عن المعارض و المانع، فيكفي في إرادة الملكة المقتضية الخالية عن المانع تصريح نفس أرباب الملكة- كغيرهم- بأنّ نفس العدالة تزول بمواقعة الكبائر، و لذا ذكرنا أنّه لا قائل بكون العدالة مجرّد الملكة من غير اعتبار للمنع الفعلي. و أمّا التوبة فهي إنّما ترفع حكم المعصية و تجعلها كغير الواقع في الحكم، فزوال العدالة بالكبيرة حقيقي، و عودها بالتوبة تعبّدي، بل سيجي‌ء «2» أنّ الندم علي المعصية عقيب صدورها، يعيد الحالة السابقة و هي الملكة المتّصفة بالمنع، إذ لا فرق حقيقة بين من تمنعه ملكته عن ارتكاب المعصية و بين من توجب عليه تلك الملكة الندم علي ما مضي منه، فحالة الندم بعينها هي الحالة المانعة فعلا، لأنّ الشخص حين الندم علي المعصية، من حيث إنّها معصية- كما هو معني التوبة- يمتنع صدور المعصية منه، فالشخص النادم متّصف بالملكة المانعة فعلا، بخلاف من لم يندم، فتأمّل.

و منها:

أنّ ما اشتهر بينهم أنّ تقديم الجارح علي المعدّل- عند التعارض- لا يتأتّي إلّا علي القول بأنّ العدالة هي «حسن الظاهر» و أمّا علي القول بأنّه «الملكة» فلا يتّجه، لأنّ المعدّل إنّما ينطق عن علم حصل له بعد طول المعاشرة و الاختبار، أو بعد الجهد في تتبّع الآثار، فيبعد صدور الخطأ منه، و يرشد إلي ذلك تعليلهم تقديم الجرح بأنّا إذا أخذنا بقول الجارح فقد صدّقناه و صدّقنا المعدّل، لأنّه لا مانع من وقوع ما يوجب الجرح و التعديل بأنّ يكون كلّ منهما اطّلع علي ما يوجب أحدهما: و أنت خبير بأنّ المعدّل- علي القول بالملكة- إنّما يخبر عن علم بالملكة و ما هو عليه في نفس الأمر و الواقع، ففي تقديم الجرح حينئذ و تصديقهما معا جمع بين النقيضين، فتأمّل. و الجواب أنّ عدم الكبيرة مأخوذ في العدالة إجماعا علي ما تقدّم «3» إمّا لكونه قيدا للملكة علي ما اخترناه، و إمّا لأخذه في العدالة بدليل الإجماع و النصّ، كيف! و لو لم يكن مأخوذة لم يكن الجارح معارضا له أصلا. و كيف كان: فاعتماد المعدّل علي هذا الأمر العدمي المأخوذ في تحقّق العدالة ليس إلّا علي أصالة العدم، أو أصالة الصحّة، أو قيام الإجماع علي أنّ العلم بالملكة المجرّدة طريق ظاهريّ للحكم بتحقّق ذلك الأمر العدمي. و الحاصل: أنّ الإجماع منعقد- بل النصّ «4»- علي أنّه يكفي في الشهادة علي العدالة بعد العلم بالملكة أو حسن الظاهر- علي الخلاف في معناها- عدم العلم بصدور الكبيرة عنه، و لا يعتبر علمه أو ظنّه بأنّه لم يصدر عنه كبيرة إلي زمان أداء الشهادة. و علي هذا فأحد جزأي الشهادة- و هو تحقّق ذلك الأمر العدمي- ثابت بالطريق الظاهري، و هو مستند شهادته، و من المعلوم أنّ شهادة الجارح حاكمة علي هذا الطريق الظاهري، فإنّ تعارضهما إنّما هو باعتبار تحقّق هذا الأمر العدمي و عدم تحقّقه، و إلّا فلعلّ الجارح أيضا لا ينكر الملكة، بل يعترف بها في متن الشهادة. فالمقام علي ما اخترناه- من أخذ الاجتناب عن الكبيرة قيدا للملكة- نظير شهادة إحدي البيّنتين علي أنّه ملكه قد اشتراه من المدّعي، تعويلا علي أصالة صحّة الشراء، و شهادة البيّنة الأخري أنّه ملك للآخر مستندا الي فساد ذلك الشراء لوجود مانع من موانع الصحّة. و علي القول بكونه مزيلا للعدالة بالدليل الخارجي يكون نظير شهادة إحداهما بملكه لأحدهما، و شهادة الأخري بانتقاله عنه إلي الآخر. و كيف كان: فالمعدّل يقول: «إنّه ذو ملكة لم أطّلع علي صدور كبيرة منه» و الجارح يقول: «قد اطّلعت علي صدور المعصية الفلانية [منه] «5»» فشهادة المعدّل مركّبة من أمر وجوديّ و عدمي، و شهادة الجارح «6» يدلّ علي انتفاء ذلك الأمر العدمي، فالتعارض إنّما هو في الجزء الأخير، و من المعلوم كونهما من قبيل النافي و المثبت. نعم: لو اعتبرنا في التعديل الظنّ بعدم صدور الكبيرة، كان التعارض علي وجه لا يمكن الجمع، فلا بدّ إمّا من ترجيح الجارح لاستناده إلي القطع الحسّي بخلاف المعدّل فإنّه مستند إلي الظنّ الحدسيّ، و إمّا من التوقّف عن الحكم بالعدالة و الفسق و الرجوع إلي الأصل. كما أنّه لو اعتبر في التعديل العلم أو الظنّ بكون الشخص بحيث لو فرض صدور كبيرة عنه بادر إلي التوبة- البتّة- ، كان المناسب تقديم المعدّل لأنّ غاية الجرح صدور المعصية لكن المعدّل يظنّ أو يعلم بصدور التوبة عقيب المعصية علي فرض صدورها، فكأنّ الجارح مستند في تفسيقه إلي صدور الكبيرة و عدم العلم بالمزيل و هي التوبة، و المعدّل و إن لم يشهد بعدم صدور المعصية إلّا أنّه يشهد بالتوبة علي فرض صدور المعصية.

و منها:

ما ذكره في مفتاح الكرامة: من إطباق الأصحاب- إلّا السيّد و الإسكافي- علي صحّة صلاة من صلّي خلف من تبيّن كفره أو فسقه «7»، و به نطقت الأخبار «8». أقول: لم أفهم وجه منافاة هذا الحكم لكون العدالة هي «الملكة» دون «حسن الظاهر». و لم لا يجوز أن يكون العدالة كالإسلام أمرا واقعيّا يستدلّ عليه بالآثار الظاهرة و يعتمد فيه عليها، فإذا تبيّن الخطأ بعد ترتيب الأثر يحكم الشارع بمضيّ تلك الآثار و عدم انتقاضها؟. فإن قلت: مقتضي ظهور الأدلّة في كون العدالة شرطا واقعيّا بانضمام ما دلّ علي صحّة الصلاة مع ثبوت الفسق، أن يكون العدالة أمرا ظاهريّا غير قابل لانكشاف الخلاف لا الملكة الواقعيّة، و إلّا وجب إمّا صرف أدلّة اشتراط تحقّقها في الواقع عن ظاهرها و جعلها من الشروط العلمية، و إمّا إبقاؤها علي ظاهرها من كونها شرطا واقعيا، و صرف أدلّة كون العدالة الواقعية شرطا في صحّة الصلاة الخالية عن الفاتحة و غيرها- من خواصّ المنفرد- إلي كونها شرطا علميّا، و كلاهما مخالفان للأصل. قلت: أوّلا: إنّه قد تقدّم «9» أنّه لا يمكن أن يكون العدالة أمرا ظاهريّا- مثل حسن الظاهر و نحوه- مع كون الفسق أمرا واقعيّا، و إلّا خرجا عن التضادّ، لاجتماعهما حينئذ في من حسن ظاهره و فرض فاسقا في الواقع، مع أنّ تضادّهما من بديهيّات العرف، فإنّهم لا يحكمون بحدوث الفسق من حين الاطّلاع علي قبح الإمام، بل يقولون: «إنّه تبيّن فسقه» و لذا عبّروا في المسألة المتقدّمة بقولهم: إذا تبيّن فسق الإمام. و ثانيا: أنّه لو سلّمنا
المكاسب، ج‌4، ص 332
إمكان تعقّله من كون نفس العدالة الواقعيّة حسن الظاهر و إن فرض فسقه واقعا، لكن نقول: إنّ الحكم بالصحّة لا يدلّ علي عدم كونها هي الملكة و لو بضميمة ظهور أدلّة اشتراطها في كونها شرطا واقعيّا، لأنّ الدليل علي اشتراط العدالة إمّا الإجماع و إمّا الأخبار المتقدّمة: أمّا الإجماع: فهو إنّما حصل بانضمام فتوي القائلين بالملكة، و معلوم أنّهم يجعلونها شرطا علميّا، نعم: أرباب حسن الظاهر، يجعلونه شرطا واقعيّا. هذا كلّه مع أنّ معقد إجماع المعتبر هو اعتبار ظهور العدالة لا اعتبار نفسها، قال: «ظهور العدالة معتبر عند علمائنا» «1» و ظاهره كونه شرطا علميّا عند الكلّ، و هذا الكلام من المحقّق يدلّ أنّ العدالة عنده أمر واقعيّ، قد يظهر و قد لا يظهر، و لا ينطبق إلّا علي «الملكة» و حينئذ فيصير عنده و عند غيره شرطا واقعيّا. و أمّا الأخبار: فما دلّ منها [علي اعتبار الوثوق بالدين، فدلالته علي كون العدالة شرطا علميّا واضحة، و الدالّ منها] «2»
علي اعتبار مفهوم العدالة ظاهر في صورة العلم، إذ ليس فيها إلّا أنّه إذا كان الإمام عادلا فافعل «3» كذا، فلا حظ و تأمّل. [مع أنّ صحة صلاة المأموم ليست اجماعيّة، فقد خالف السيّد المرتضي في المسألة بناء علي أنّ العدالة شرط واقعيّ تبيّن انتفاؤها «4» و احتجّ القائل بالصحّة، بأنّها صلاة مشروعة في ظاهر الحكم، فهي مجزية] «5». ثمّ إنّك قد عرفت غير مرّة أنّ القول بأنّ العدالة «نفس ظهور الإسلام و عدم ظهور الفسق» مع كونه غير معقول- كما عرفت- ، غير مصرّح في كلام أحد، بل و لا ظاهر و لا مومئ إليه. نعم، يظهر من المحكي عن بعض كلمات جماعة: الاكتفاء في ثبوتها بالإسلام، و عدم ظهور الفسق.

و كذلك كون العدالة «نفس حسن الظاهر» غير معقول،

لما عرفت من بداهة مضادّتها مع الفسق المجامع لحسن الظاهر، و الشي‌ء يمتنع أن يفسّر بما يجامع ضدّه، و مع ذلك فهو غير مصرّح به في كلام أحد من المتقدّمين و ان دارت حكايته عنهم في ألسنة بعض المتأخّرين «6». و حيث إنّه حكي هذا القول عن خصوص بعض القدماء بأسمائهم، فلا بأس أن نشير إلي عدم مطابقة هذه الحكاية للواقع بالنسبة إلي من وصل إلينا كلماتهم. فممّن حكي عنه هذا القول: المفيد- في المقنعة- ، حيث ذكر أنّ العدل «من كان معروفا بالدين و الورع عن محارم اللَّه» «7». و لا يخفي أنّ ظاهر هذا الكلام و إن كان تفسير العدل الواقعي بمن عرف بالدين و الورع، لا من اتّصف بهما في نفس الأمر، لكن لا يخفي أنّ تحقّق الدين في نفس الأمر معتبر في العدالة اتّفاقا حتّي ممّن قال بأنّ العدالة هي «الإسلام مع عدم ظهور الفسق» و الكلام إنّما هو في الورع عن المحارم و أنّه معتبر في الواقع أو في الظاهر، أي: فيما يظهر للناس في أحواله، فلا بدّ من أن يراد من العبارة: تفسير العدل المعلوم عدالته، لأنّه الّذي يترتّب عليه الأحكام، دون العدل النفس الأمري مع قطع النظر عن كونه معلوما، فكأنّه قال: «العدل المعروف عدالته من كان معروفا بالدين و الورع» فالعدل الواقعي من له دين و ورع في الواقع، و العدل المعروف بهذه الصفة من كان معروفا بالدين و الورع. نعم: لو التزم أحد أنّ الإسلام الواقعيّ أيضا غير معتبر في العدالة الواقعيّة، كان العدالة عنده: حسن الظاهر من حيث الدين و الورع، لكنّ الظاهر من حكاية هذا القول هو إلغاء الواقع و نفس الأمر بالنسبة إلي الورع لا الدين. و ممّن حكي عنه هذا القول الشيخ في النّهاية «8»، حيث ذكر «أنّ العدل الّذي يقبل شهادته: من كان ظاهره ظاهر الإيمان، ثمّ يعرف بالستر و العفاف». فظاهره إرادة معلوم العدالة، كما لا يخفي. و ممّا ذكر يعلم حال حكاية هذا القول عن القاضي «9» حيث اعتبر في العدالة «الستر و العفاف» و حال حكايته عن التقيّ «10» حيث اعتبر فيها «اجتناب القبائح» الّذي هو أمر واقعيّ، و حال عبارة الجامع «11» حيث اعتبر فيها «التعفّف و اجتناب القبائح» و لا يحضرني كلام غيرهم. و بالجملة: فالقول المذكور بظاهره غير ظاهر من كلام أحد من القدماء، و سيأتي غاية ما يمكن أن يوجّه به هذا القول «12».
هذا كلّه، مضافا إلي أنّ مجرّد وجود القائل لا يثبت القول، بل لا بدّ له من الدليل، و لم نجد في الأدلّة ما يدلّ علي كون العدالة الّتي هي ضدّ الفسق «مجرّد حسن الظاهر» و إن استدلّ له بعض متأخّري المتأخّرين «13» بأخبار، هي بين ظاهر في اشتراط قبول الشهادة بالصّفة الواقعيّة الّتي لا دخل لظهورها في تحقّقها و إن كان لظهورها دخل في ترتيب أحكامها- كما هو شأن كلّ صفة باطنيّة واقعيّة من الشجاعة و الكرم، بل العصمة و النبوّة و نحوهما- مثل قوله عليه السلام: «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفا صائنا» «14». و: «لا بأس بشهادة المكاري و الجمّال و الملّاح إذا كانوا صلحاء» «15». و ما ورد في تفسير العسكري عليه السلام «16» من أنّه: «إذا كان الرجل «17» صالحا عفيفا، مميّزا، محصّلا، مجانبا للمعصية و الهوي، و الميل و المخائل «18»، فذلك «19» الرجل الفاضل». و صحيحة ابن أبي يعفور الّتي قد عرفت دلالتها «20». و بين ظاهر في أنّ حسن الظاهر يوجب الحكم علي الشخص بالعدالة و قبول الشهادة، فهو طريق إليها لأنفسها، مثل قوله عليه السلام: «من عامل الناس فلم يظلمهم، و حدّثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم، فهو ممّن حرمت غيبته و كملت مروّته و ظهرت عدالته و وجبت أخوّته» «21». و قوله: «من صلّي الخمس في الجماعة، فظنّوا به كلّ خير» «22». و ما ورد في قبول شهادة القابلة في استهلال الصبيّ- إذا سئل عنها فعدّلت «23». و ما ورد: «أنّ الشاهد إذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه» «24». و في قبول شهادة المسلم «إذا كان يعرف منه خير» «25». و أنّه «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه و أمانته» «26». و غير ذلك ممّا دلّ علي ترتّب أثر العدالة علي حسن الظاهر. و هذا شي‌ء لا ينكره أهل الملكة، فإنّهم يجعلونه طريقا، كما هو ظاهر قوله عليه السلام في صحيحة ابن أبي يعفور- بعد تفسير العدالة بما هو ظاهر في اعتبار الصفة النفسانيّة- : «و الدلالة علي ذلك كلّه أن يكون ساترا لعيوبه» «27». و من هذه الصحيحة و نحوها- مثل قوله: «ظهرت عدالته»- يظهر اندفاع ما يقال: من أنّ ظاهر اشتراط قبول الشهادة بحسن الظاهر- كما دلّت عليه تلك الأخبار بضميمة ما دلّ علي اشتراطه بالعدالة- هو اتّحاد العدالة و حسن الظاهر، للإجماع علي عدم كونهما شرطين متغايرين، فكون حسن الظاهر طريقا إلي العدالة خلاف ظاهر الاتّحاد، كما إذا ورد أنّه «يشترط في الشاهد العدالة» و ورد أيضا «يشترط فيه حسن الظاهر» فحينئذ يجعل العدالة عبارة عن الاستقامة الظاهريّة
المكاسب، ج‌4، ص 333
عليها الإنسان في ظاهر حاله. فإن قلت: إن أراد أهل الملكة من كون حسن الظاهر طريقا، كونه طريقا يعتبر فيها إفادة الظنّ بالملكة أو عدم الظنّ بعدمها، فهو مخالف لظاهر الأخبار المتقدّمة بل صريح بعضها، مثل قوله: «إذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه» «1» فإنّه في قوّة قوله:
«و لا يلتفت إلي باطنه» نظير قوله عليه السلام- في لحوم أسواق المسلمين- : «كلّ و لا تسأل» «2» و مثل قوله: «فظنّوا به كلّ خير» «3» حيث إنّ الأمر بالظنّ- مع أنّه غير مقدور- راجع إلي ترتيب آثار الظنّ و إن لم يحصل هو. و قوله عليه السلام: «ظهرت عدالته» «4» الظاهر في وجوب التعبّد بعدالة ذلك الشخص. و قوله عليه السلام: «من لم تره بعينك يرتكب معصية [و لم يشهد عليه شاهدان] «5» فهو من أهل العدالة و الستر» «6» و غير ذلك. و إن أرادوا أنّه طريق تعبّدي بمعني أنّه يحكم بجميع أحكام العدالة عند الاطّلاع علي حسن الظاهر، فيكون حسن الظاهر عدلا شرعا- كما أنّ مستصحب العدالة عدل شرعا- انتفت الثمرة بين القولين، بل التحقيق أنّه لا تغاير بينهما، بناء علي أن يراد من جعل العدالة «حسن الظاهر» كون حسن الظاهر عدالة شرعا، كما أنّ الحالة المسبوقة بالعدالة المشكوك في زوالها عدالة شرعا، فقولهم: «العدل من كان معروفا بكذا» نظير قولهم: «المسلم من أظهر الشهادتين» فالمراد بالعدالة المفسّرة عندهم بحسن الظاهر هي العدالة الظاهريّة، لأنّها هي الّتي يترتّب عليها الآثار دون الواقعيّة مع قطع النظر عن تعلّق العلم بها، لأنّها لا تفيد شيئا، بل يعامل معها معاملة عدمها. و الحاصل: أنّ أرباب القول بحسن الظاهر لا ينكرون كون العدالة هي الاستقامة الواقعيّة المسبّبة عن الملكة، أو مجرّد الاستقامة علي طريق الحقّ من فعل الواجبات و ترك المحرّمات و لو من دون الملكة- علي الاختلاف المتقدّم، المستفاد من كلمات الأصحاب- إلّا أنّهم جعلوا استقامة الظاهر طريقا تعبّديا إلي ذلك المعني الواقعيّ بحيث كأنّها صارت موضوعا مستقلّا لا يلاحظ فيها الطريقيّة، و لا يلتفت إلي ذي الطريق، فيستحق إطلاق اسم ذي الطريق عليه، كما يظهر «7» [من ملاحظة إطلاق] «8» أسامي جميع الموضوعات الواقعيّة- كالملكية و الزوجيّة و الطهارة و النجاسة و القبلة و الوقت و غيرها- علي مؤدّيات الطرق الظاهريّة، كالاستصحاب و أصالة الصحّة. قلت، أوّلا: إنّه سيجي‌ء «9» في بيان طرق العدالة أنّه يعتبر في حسن الظاهر إفادته الظنّ بالملكة، و أنّ ما ذكر من الأخبار لا ينهض علي إثبات كونه من الطرق التعبّديّة الّتي لا يلاحظ فيها الظنّ بذي الطريق. و ثانيا: لو «10» سلّمنا كونه طريقا تعبّديّا كذلك، لكن هذا لا يوجب تفسير «العدالة» بحسن الظاهر- كما هو ظاهر هذا القول- لأنّ مقتضي هذا التفسير عدم ملاحظة الملكة رأسا حتّي مع العلم بعدمها، فضلا عن صورة الظنّ به، و أين هذا من الطريقية؟. و بالجملة: فهذا القائل إن أراد أنّ «حسن الظاهر» هي العدالة الواقعيّة و لا واقع لها غيره، فهو غير معقول، لما عرفت «11»
من اجتماعه مع الفسق الواقعيّ الّذي هو ضدّ العدالة. و إن أراد أنّ «حسن الظاهر» مع عدم الفسق الواقعيّ هي العدالة، و إن انتفت الملكة في الواقع، فهو و إن كان معقولا، إلّا أنّه خلاف ظاهر ما دلّ علي كون العدالة صفة نفسانيّة باطنيّة. و إن أراد أنّه طريق إليها، فإنّ أراد كونه طريقا تعبّديّا و لو مع الظنّ بعدم الملكة، فلا يساعد عليه ما ادّعي من الإطلاقات، فلا يتعدّي لأجلها عن مقتضي الأصل. و إن أراد أنّه طريق إليها مع إفادة الظنّ، فمرحبا بالوفاق. و إن تعدّي عن ذلك إلي صورة الشكّ، فللتأمّل فيه مجال، و الأقوي العدم. ثمّ إنّه يشكل جعل «حسن الظاهر» ضابطا للعدالة مع عدم إناطته بإفادة الظنّ بالملكة، من جهة أنّ مراتب الظهور مختلفة، لأنّ الظاهر و الباطن إضافيّان، فالظاهر لأهل البلد باطن بالنسبة إلي غيرهم، و الظاهر لأهل المحلّة باطن بالنسبة إلي باقي أهل البلد، و الظاهر للجيران باطن لباقي أهل المحلّة، و الظاهر لأهل البيت باطن للجيران، و الظاهر لزوجة الشخص باطن لغيرها، و قد يكون السلسلة بالعكس، فلا يظهر لزوجته ما يظهر لغيرها، و لا يظهر لأهل بلده ما يظهر لغيرهم. و الجواب عنها- بعد تسليم دلالتها و عدم ورودها مورد الغالب من حسن الظنّ «12» بالملكة- معارضتها بما هو أخصّ منها ممّا دلّ علي اعتبار الوثاقة بالأمانة و الورع في الإمام و الشاهد، مثل قول الإمام عليه السلام- المحكيّ عنه في الفقه الرضوي- : «لا تصلّ إلّا خلف رجلين: أحدهما من تثق بدينه و ورعه و الآخر من تتّقي سيفه و سوطه» «13»، و رواية أبي عليّ ابن راشد: «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه و أمانته» «14» و قوله عليه السلام في تفسير «15» قوله تعالي مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ «16» «17». فإن قلت: ما دلّ علي كون «حسن الظاهر» طريقا تعبّديا إلي العدالة حاكم علي أمثال هذه، نظير أدلّة كون البيّنة طريقا تعبّديّا إليها، مع أنّهم لا يقولون بتقييد أدلّة البيّنة بصورة إفادة الوثوق بالواقع. قلت: التحقيق في ذلك: أنّ ما دلّ من أخبار «حسن الظاهر» علي كونه مجوّزا لقبول الشهادة- كرواية يونس «18»- فهو معارض بأدلّة اعتبار الوثوق، و ليس من قبيل الحاكم عليها. و ما دلّ علي أنّ العدالة تتحقّق به ظاهرا: ذيل صحيحة ابن أبي يعفور «19»
و رواية علقمة «20» و قوله عليه السلام: «من عامل الناس.. الخبر» «21» و قوله عليه السلام: «من صلّي الخمس في جماعة فظنّوا به كلّ خير» «22». فهو و إن كان حاكما عليها. لكن يرد علي الكلّ- بعد الإغماض عمّا تقدّم في سندها و دلالتها- : أنّ هذه كلّها منصرفة إلي الغالب، و هي صورة إفادة الوثوق بالدين و الأمانة و الورع. مع أنّ هنا كلاما آخر، و هو أنّه يمكن أن يقال: إنّ ظاهر أدلّة اعتبار الوثوق و الورع اعتباره من باب الموضوعيّة لا من باب الطريقيّة و الكاشفيّة، فإذا كان كذلك فلا ينفع الطريق الغير المفيد للوثوق، و يخصّص به عموم كلّ ما دلّ علي اعتبار طريق إلي العدالة و لو كانت بيّنة شرعيّة، فلا يعمل بها إلّا مع اعتبار الوثوق. لكن الإنصاف أنّ الوثوق إنّما اعتبر في المقام من باب الطريقيّة، نظير اعتبار العلم في كثير من الموضوعات.

[طرق إثبات كون المعصية كبيرة]

اشارة

ثمّ كون المعصية كبيرة يثبت بأمور:

الأوّل: النصّ المعتبر علي أنّها كبيرة

، كما ورد في بعض المعاصي، و قد عدّ منها- في الحسن كالصحيح المرويّ عن الرضا عليه السلام- من نيّف «23» و ثلاثين، فإنّه كتب إلي المأمون: «من محض الإيمان: اجتناب الكبائر، و هي:
قتل النفس الّتي حرّم اللَّه، و الزنا، و السرقة، و شرب الخمر، و عقوق الوالدين، و الفرار من الزحف، و أكل مال اليتيم ظلما، و أكل الميتة و الدم و لحم الخنزير،
المكاسب، ج‌4، ص 334
و ما أهلّ لغير اللَّه به من غير ضرورة، و أكل الربا بعد البيّنة، و السحت، و الميسر و هو القمار «1» و البخس في المكيال و الميزان، و قذف المحصنات، و اللواط، و شهادة الزور، و اليأس من روح اللَّه، و الأمن من مكر اللَّه، و القنوط من رحمة اللَّه، و معونة الظالمين و الركون إليهم، و اليمين الغموس، و حبس الحقوق من غير عسرة، و الكذب، و الكبر، و الإسراف و التبذير، و الخيانة، و الاستخفاف بالحجّ، و المحاربة لأولياء اللَّه، و الاشتغال بالملاهي، و الإصرار علي الذنوب» «2».

الثاني: النصّ المعتبر علي أنّها ممّا أوجب اللَّه عليها النار

- سواء أوعد في الكتاب، أو أخبر النبي صلّي اللَّه عليه و آله و سلم أو الإمام عليه السلام بأنّه ممّا يوجب النّار- لدلالة الصحاح المرويّة في الكافي «3» و غيرها علي أنّها: ما أوجب اللَّه عليه النار و لا ينافيه ما دلّ علي أنّها ممّا «4» أوعد اللَّه عليه النار «5» بناء علي أنّ إيعاد اللَّه إنّما هو في كلامه المجيد، فهو مقيّد لإطلاق ما أوجب اللَّه.

الثالث: النصّ في الكتاب الكريم علي ثبوت العقاب عليه بالخصوص

، لا من حيث عموم المعصية، ليشمله قوله تعالي وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ «6». و نحو ذلك ما إذا كشف السنّة عن إيعاد اللَّه تعالي، مثل قوله عليه السلام: «من قال في مؤمن ما رأت عيناه أو سمعت أذناه، فهو من الذين قال اللَّه تعالي: الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ.. إلخ «7» «8». و الدليل علي ثبوت الكبيرة بما ذكر في هذا الوجه صحيحة عبد العظيم ابن عبد اللَّه الحسني المرويّة في الكافي- عن أبي جعفر الثاني، عن أبيه، عن جدّه عليه السلام يقول: دخل عمرو بن عبيد علي أبي عبد اللَّه عليه السلام فلمّا سلّم و جلس تلا هذه الآية الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ «9» ثمّ أمسك، فقال له أبو عبد اللَّه عليه السلام: ما أمسك؟ قال: أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب اللَّه عزّ و جلّ فقال عليه السلام: نعم يا عمرو، أكبر الكبائر:
الإشراك باللّه، يقول اللَّه: مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ «10» و بعده اليأس من روح اللَّه، لأنّ اللَّه تعالي يقول لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «11»
ثمّ الأمن من مكر اللَّه، لأنّ اللَّه عزّ و جلّ يقول فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ «12» و منها عقوق الوالدين، لأنَّ اللَّه تعالي جعل العاقّ جبّارا شقيّا في قوله تعالي وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا «13» و قتل النفس الّتي حرّم اللَّه إلّا بالحقّ، لأنّ اللَّه تعالي يقول فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها. «14» (الآية) و قذف المحصنة، لأنّ اللَّه تعالي يقول لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «15» و أكل مال اليتيم، لأنّ اللَّه تعالي يقول الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامي ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً «16» و الفرار من الزحف، لأنّ اللَّه تعالي يقول وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلي فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ «17»، و أكل الربا، لأنّ اللَّه تعالي يقول الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ «18» و السحر، لأنّ اللَّه عزّ و جلّ يقول وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ «19» و الزنا لأنّ اللَّه تعالي يقول وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً «20» و اليمين الغموس الفاجرة، لأنّ اللَّه تعالي يقول الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ «21»
و الغلول، لأنّ اللَّه عزّ و جلّ يقول وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ «22» و منع الزكاة المفروضة، لأنّ اللَّه عزّ و جلّ يقول فَتُكْوي بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ «23» و شهادة الزور و كتمان الشهادة، لأنّ اللَّه عزّ و جلّ يقول وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ «24» و شرب الخمر، لأنَّ اللَّه عزّ و جلّ نهي عنه كما نهي عن عبادة الأوثان، و ترك الصلاة متعمّدا و شيئا ممّا فرضه اللَّه، لأنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم قال: «من ترك الصلاة متعمّدا فَقَد بري‌ء من ذمّة اللَّه و ذمّة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم» و نقض العهد و قطيعة الرحم، لأنَّ اللَّه تعالي يقول أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ «25». قال: فخرج عمرو و له صراخ من بكائه، و هو يقول: هلك من قال برأيه و نازعكم في الفضل و العلم «26».

الرابع: دلالة العقل و النقل علي أشدّيّة معصيته ممّا ثبت كونها من الكبيرة أو مساواتها

، كما في قوله تعالي وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ «27»، و في الكذب: «شرّ من الشراب» «28»
و كما ورد أنّ: «الغيبة أشدّ من الزنا» «29» و مثل حبس المحصنة للزنا، فإنّه أشدّ من القذف بحكم العقل، و مثل إعلام الكفّار بما يوجب غلبتهم علي المسلمين، فإنّه أشدّ من الفرار من الزحف.

الخامس: أن يرد النصّ بعدم قبول شهادة عليه

، كما ورد النهي عن الصلاة خلف العاقّ لوالديه «30».
ثمّ لا إشكال في أنّ الإصرار علي الصغيرة من الكبائر، و يدلّ عليه- قبل الإجماع المحكيّ عن التحرير «31» و غيره- «32» النصوص الواردة: منها: أنّه «لا صغيرة مع الإصرار و لا كبيرة مع الاستغفار» «33» فإنّ النفي في الصغيرة راجع إلي خصوص وصف الصغريّة و إن كان في الكبيرة راجعا إلي نفي ذاتها حكماً. و منها: ما عن البحار عن تحف العقول عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: «أنّ الإصرار علي الذنب أمن من مكر اللَّه، و لا يأمن مكر اللَّه إلّا القوم الخاسرون» «34» «35» بضميمة ما ورد من أنّ الأمن من مكر اللَّه من الكبائر» «36». و منها: ما رواه في العيون «37» بسنده الحسن- كالصحيح- إلي الفضل بن شاذان، حيث عدّ الكبائر، و عدّ منها: الإصرار علي صغار الذنوب. [و في رواية الأعمش- المحكيّة عن الخصال- عدّ منها: الإصرار علي صغائر الذنوب «38»] «39» إنّما الإشكال في معني «الإصرار» و الظاهر بقاؤه علي معناه اللغويّ العرفيّ، أعني الإقامة و المداومة عليه و ملازمته، و لا إشكال في أنّ العاصي إذا تاب عن معصيته السابقة ثمّ أوقع معصية أخري لم يصدق عليه «الإصرار» و لو فعل ذلك مرارا، و إليه ينظر قوله عليه السلام: «ما أصرّ من استغفر» «40» و كذا فحوي: «لا كبيرة مع الاستغفار» «41» فيشترط في صدق «الإصرار» عدم التوبة عن المعصية السابقة. ثمّ إنّه إمّا أن يعزم علي غيره مع فعله أولا معه، و إمّا أن لا يعزم عليه، و علي الثاني إمّا أن يفعل الغير، و إمّا أن لا يفعله و حكم الجميع أنّه إن كان عازما علي العود، فالظاهر صدق «الإصرار» عرفا و إن لم يعد إليها. و يؤيّده مفهوم قوله: «ما أصرّ من استغفر» «42» و قوله عليه السلام في تفسير قوله تعالي وَ لَمْ يُصِرُّوا «43»: «الإصرار أن يحدث الذنب فلا يستغفر اللَّه» «44». و قد عدّ عليه السلام في حديث جنود العقل و الجهل منها: «التوبة»، و جعل ضدّها: «الإصرار» «45»
بناء علي أنّ ظاهر السياق كونهما ممّا لا ثالث [لهما]، فتأمّل. و في حسنة ابن أبي عمير، عن أبي الحسن الكاظم عليه السلام: «قال: لا يخلّد اللَّه في النار إلّا أهل الكفر و الجحود و الضلال و الشرك، و من اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر، قال اللَّه تعالي إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً «46» قلت: يا ابن
المكاسب، ج‌4، ص 335
رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم فالشفاعة لمن تجب من المؤمنين؟ قال: حدّثني أبي، عن آبائه، عن علي عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم: إنّما شفاعتي لأهل الكبائر، و أمّا المحسنون فما عليهم من سبيل. قال ابن أبي عمير: قلت يا ابن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم فكيف يكون «1» الشفاعة لأهل الكبائر و اللَّه تعالي يقول وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضي «2». و من ارتكب الكبائر فليس بمرتضي؟! قال: يا أبا أحمد ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلّا ساءه ذلك و ندم عليه، و قد قال النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم: «كفي بالندم توبة» و قال عليه السلام: «من سرّت حسنة و ساءته سيّئة «3» فهو مؤمن» فمن لم يندم علي ذنب يرتكبه فليس بمؤمن، فلم يجب له الشفاعة و كان ظالما، و اللَّه تعالي يقول ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ «4». قلت: فكيف لا يكون مؤمنا من لم يندم علي ذنب يرتكبه؟ فقال: يا أبا أحمد ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي و هو يعلم أنّه سيعاقب عليها، إلّا أنّه ندم علي ما ارتكب، و متي ندم كان تائبا مستحقّا للشفاعة، و من لم يندم عليها كان مصرّا، و المصرّ لا يغفر له، لأنّه غير مؤمن لعقوبة ما ارتكب، و لو كان مؤمنا بالعقوبة لندم، و قد قال النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم: «لا كبيرة مع الاستغفار، و لا صغيرة مع الإصرار» و أمّا قوله: «و لا يَشْفَعوُنَ إلّا لمن ارتضي» [فإنّهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضي] «5» اللَّه دينه، و الدين: الإقرار بالحسنات و السيّئات، فمن ارتضي دينه ندم علي ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة.. الخبر» «6». و مورده و إن كان في الكبائر، إلّا أنّ ظاهره أنّه لا فرق بينها و بين غيرها في تحقّق «الإصرار» بعدم الندم. ثمّ إنّ عدم الندم و إن جامع عدم العزم علي المعصية- كما لو تردّد فيها أو لم يلتفت إليها- إلّا أنّ هذه الصورة خارجة عمّا ذكر سابقا من قوله: «من اجتنب الكبائر لم يسأل عن الصغائر» يعني إذا لم يكفّرها بتوبة أو عمل صالح آخر غير اجتناب الكبائر. ثمّ الظاهر أنّه لا فرق فيما ذكر بين أن يكون العزم علي العود حال ارتكاب المعصية الأولي، أو بعدها قبل التوبة. و إن كان عازما علي غيره، فإن كان العزم علي الغير من زمان ارتكاب الأولي، فالظاهر أيضا صدق «الإصرار» و إن كان بعده قبل التوبة، فمقتضي الأخبار المتقدّمة صدقه لكن العرف يأباه.
و إن لم يكن عازما علي الغير، فإن لم يحصل العود فلا إشكال، و إن حصل العود، فإن لم يبلغ حدّ الإكثار فلا إشكال في العدم، و إن حصل الإكثار علي وجه يصدق الإصرار عرفا فلا إشكال أيضا. فالحاصل: أنّ الإصرار يصدق بالعزم علي العود إلي مطلق المعصية إذا كان العزم مستمرّا من زمان الفعل السابق. و إذا حدث بعد الفعل اعتبر اتّحاد المعصية. و قد لا يصدق إلّا بالفعل، و هو ما إذا تحقّق الإكثار علي وجه يوجب الصدق عرفا، و ما يدلّ «7» علي عدم العدالة مع عموم قوله: «عن الرجل تقارف «8» الذنوب و هو عارف بهذا الأمر أصلّي خلفه أم لا؟ قال: لا» «9» و نحوه. و أمّا العزم المجرّد، فالظاهر عدم تحقّق «الإصرار» بمجرّده و إن أصرّ عليه، لأنّ هذا إصرار علي العزم لا علي المعصية، إلّا إذا قلنا إنّ العزم علي المعصية معصية، و للكلام فيه محلّ آخر. ثمّ أنّه قد يشكل الأمر بناء علي القول بوجوب التوبة مطلقا، من جهة أنّ المعصية لا تنفكّ عن الإصرار، لأنّه إذا ترك التوبة عن الصغيرة فقد أخلّ بواجب آخر و هي التوبة، و حيث إنّها فوريّة ففي أدني زمان «10» يتحقّق الإصرار- كما لا يخفي- ، فيكون الثمرة بين القول بثبوت الصغائر و القول بكون المعاصي كلّها كبائر منتفية أو في غاية القلّة، مثل ما إذا فعل صغيرة فنسيها أن يتوب عنها، و نحو ذلك. و قد أجاب بعض السادة المعاصرين بمنع وجوب التوبة عن المعاصي مطلقا، بل هو مختصّ بالكبائر، و أمّا الصغائر فمكفّرة «11» باجتناب الكبائر و بالأعمال الصالحة.
و هو لا يخلو عن نظر، لعموم أدلّة وجوب التوبة، كما سيجي‌ء «12» و أدلّة تكفير الأعمال الصالحة لو صلحت، دالّة علي عدم وجوب التوبة، و «13» لم يفرّق بين الصغائر و الكبائر، لعموم كثير من أدلّة التكفير بل صراحة بعضها في الكبائر، كما لا يخفي، مع أنّ تكفيرها بالأعمال الصالحة لا ينافي وجوب التوبة عنها. و به يظهر الجواب عن دعوي تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، غاية الأمر تسليم سقوط وجوب التوبة إذا اجتنب الكبائر قربة إلي اللَّه تعالي بعد ارتكاب الصغائر أو عمل بعض الطاعات المكفّرة، لكن التوبة أسبق من الكلّ، لأنّها تحقّق في زمان متّصل بالمعصية لا يمكن فيه تحقّق غيرها غالبا، و المفروض أنّ القائلين بانقسام المعاصي لم يقولوا بتحقّق الإصرار الموجب للفسق بصدور الصغيرة و إن لم يتب عنها، و لم يمتثل اجتناب الكبائر- بل تركها، لعدم التمكّن عنها- و لم يعمل طاعة مكفّرة.
و الحاصل: أنّ عدم وجوب التوبة إمّا لعدم الدليل عليه و عدم المقتضي لها- و إن بقي الذنب غير مكفّر- و إمّا لأنّ غيرها قد يقوم مقامها في التكفير. و الأوّل مردود بعموم الأدلّة، كما سيجي‌ء «14» و الثاني- مع أنّه خلاف إطلاق الشارع من عدم كون الصغيرة مفضية إلي الكبيرة و إن لم يتب عنها و لم يعمل مكفّرا آخر- لا ينافي وجوب التوبة ما لم يكفّر الذنب بمكفّر آخر غيرها. و لا يجوز أن يكون الوجوب تخييريّا بين التوبة و اجتناب الكبائر و الأعمال المكفّرة، كما لا يخفي. فالتحقيق في الجواب: دعوي كون وجوب التوبة وجوبا عقليّا محضا، بمعني كونه للإرشاد، و إن أمر بها الشارع أيضا في الكتاب و السنّة، لكن أوامرها إرشاديّة لرفع مفسدة المعصية السابقة، و لا يترتّب علي تركها عقاب آخر. و بعبارة اخري: إنّما وجبت التوبة للتخلّص عن المعصية السابقة، و وجوب التخلّص عن المعصية ليس واجبا شرعيّا يترتّب علي تركه «15» عقاب آخر غير العقاب الّذي لم يتخلّص منه، فهي من قبيل معالجة المريض الّتي أمر بها الطبيب، فلا يترتّب علي مخالفتها أمر سوي ما يقتضيه نفس ترك المأمور به مع قطع النظر عن الأمر، فإنّا لا نعني بالأمر الإرشادي إلّا ما لا يترتّب علي مخالفته سوي ما يقتضيه نفس ترك المأمور به مع قطع النظر عن تعلّق الأمر، و لا علي موافقته إلّا ما يقتضيه فعله كذلك و ليس من قبيل الأوامر التعبّديّة الّتي أمر بها السيّد عبده في مقام الاستعلاء و التعبّد، ليترتّب علي موافقته ثواب الإطاعة زائدا [عمّا يقتضيه نفس المأمور به مع قطع النظر عن الأمر، و علي مخالفته عقاب زائدا] «16» عمّا يقتضيه نفس ترك المأمور به كذلك، و سيجي‌ء في مقام التعرّض لحكم التوبة ما يوضح ذلك. فترك التوبة ليس من المعاصي الّتي توجب العقاب، و لا يدخل في المعاصي الشرعيّة المنقسمة إلي صغيرة و كبيرة، و إن كان قبح تركها- من حيث إنّه إقامة علي العقاب و بقاء عليه- قد يصل إلي حدّ قبح الكبيرة، و قد لا يصل إليه بحسب قبح المعصية الّتي بقي عليها.

خاتمة

في التوبة

و الكلام تارة في حقيقتها، و اخري في حكم إيجادها، و ثالثة في حكمها بعد الوجود. أمّا حقيقتها: فهي الرجوع إلي
المكاسب، ج‌4، ص 336
اللَّه بعد الإعراض عنه، أو الرجوع إلي صراط اللَّه المستقيم بعد الانحراف عنه، و هو يتوقّف علي اليقين بكون البعد عن اللَّه تعالي و الانحراف عن سبيل التوجّه إليه خسرانا لا يعدّ ما عداه خسرانا، فبعد ذلك يحدث للنفس بحسب مرتبة ذلك اليقين تألّم نفسانيّ يناسب تلك المرتبة في الشدّة و الضعف، و يعبّر عنه ب «الندم».
و هل يعتبر فيها العزم علي عدم العود؟ ظاهر الأكثر: نعم، و قيل: لا. و الأقوي: أنّه إن كان المراد بالعزم: «القصد الّذي لا يتحقّق إلّا بعد الوثوق بحصول ما عزم عليه» فاعتباره ممّا لا دليل عليه، و أنّه يستلزم امتناع التوبة ممّن لا يثق من نفسه بترك المعصية عند الابتلاء بها، كسيّ‌ء الخلق الّذي لا يثق من نفسه و لا يأمن من وقوعه مكرّرا في شتم من يتعرّض له [بما لا يوجب جواز شتمه] «1» و كالجبان الّذي لا يأمن وقوعه في الفرار عن الزحف، و نحو ذلك. فبقي إطلاق مثل قوله صلّي اللَّه عليه و آله و سلم: «كفي بالنّدم توبة» «2»
و قوله عليه السلام: «إن كان الندم من الذنب توبة فأنا أندم النادمين» «3» سليما عن المقيّد. و إن أريد: «تحقّق إرادته بعدم عوده إلي المعصية و إن لم يثق بحصول مراده» فهو ممّا لا ينفكّ عن الندم. و هل يعتبر فيها الاستغفار أم لا؟ التحقيق: أنّه إن أريد به: «حبّ المغفرة و شوق النفس إلي أن يغفر له اللَّه» فالظاهر أنّه لا ينفكّ عن الندم.
و إن أريد به «الدعاء للمغفرة» الّذي هو نوع من الطلب الإنشائي، ففي اعتباره وجهان: من إطلاقات الندم «4»، و من مثل قوله صلّي اللَّه عليه و آله و سلم: «لا كبيرة مع الاستغفار» «5» و قوله: «دواء الذنوب الاستغفار» «6» و قوله: «ما أصرّ من استغفر» «7» و نحو ذلك. ثمّ إنّ ظاهر بعض الآيات و الروايات مغايرة التوبة للاستغفار، ففي غير موضع من سورة هود «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» «8» و عدّهما جندين من جنود العقل في الحديث المشهور في تعداد جنود العقل و الجهل المرويّ في أوّل أصول الكافي، حيث قال عليه السلام:
«التوبة و ضدّها الإصرار و الاستغفار و ضدّها الاغترار» «9» و قوله عليه السلام في المناجات الاولي من الأدعية الخمسة عشر: «إلهي إن كان الندم توبة إليك فأنا أندم النادمين و إن يكن الاستغفار حطّة للذنوب فإنّي لك من المستغفرين» «10». و يؤيّد ذلك ظاهر العطف في الاستغفار المشهور المكرّر في الأدعية و الألسنة: «أستغفر اللَّه ربّي و أتوب إليه». و ممّا يظهر منه الاتّحاد: الجمع بين ما دلّ علي أنّ «دواء الذنوب الاستغفار» «11» و أنّ «التائب من الذنب يغفر له و أنّه كمن لا ذنب له» «12» و يؤيّده غير ذلك من الأخبار الّتي يظهر للمتتبّع. و يمكن حمل التوبة المعطوفة علي الاستغفار في الآيات و الأخبار علي الإنابة، أعني التوجّه إلي اللَّه بعد طلب العفو عمّا سلف، و هذا متأخّر من التوجّه إليه لطلب العفو الّذي هو متأخّر عن الندم الّذي هو توجّه أيضا إلي اللَّه، لكونه رجوعا من طريق البطلان و عودة إلي سلوك الطريق المستقيم الموصل إلي جناب الحقّ، فهي كلّها توجّهات و إقبالات إلي الحقّ يمكن إطلاق التوبة الّتي هي لغة «الرجوع» علي كلّ منها. و قد يطلق علي المجموع اسم «الاستغفار» كما في الخبر المشهور المرويّ في نهج البلاغة [عن مولانا سيّد الوصيّين] «13» في تفسير الاستغفار في إرشاد من قال «أستغفر اللَّه ربّي و أتوب إليه» بقوله عليه السلام في مقام التأديب: «ثكلتك أمّك! أ تدري ما الاستغفار؟» ثمّ فسره بما يجمع أمورا ستّة: الندم علي ما مضي، و العزم علي الترك في المستقبل، و قضاء الحقوق الفوتية «14»، و تحليل القوي الحاصلة من الخوض في الشبهات «15» المحرّمة، و أذاقه النفس مرارة الطاعة كما أذاقها حلاوة المعصية» «16». و أمّا حكم إيجادها: فهو الوجوب مطلقا عن الصغائر و الكبائر، و يدلّ عليه من الكتاب قوله تعالي تُوبُوا إِلَي اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسي رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ «17» و قوله جلّ ذكره وَ تُوبُوا إِلَي اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «18». و من السنّة ما لا يحصي كثرة «19». و أمّا الإجماع: فقد ادّعاه غير واحد، كصاحب الذخيرة «20»، و شارح أصول الكافي، بل ادّعي هو إجماع الأمّة عليه «21». و أمّا العقل: فالظاهر أنّه حكم بوجوبه عقلا كلّ من قال بالحسن و القبح العقليّين، و استدلّ عليه أفضل المحقّقين في تجريده بأنّه دافع للضرر فيجب «22»، و اعترف به شارح التجريد بناء علي مذهب العدليّة «23».

[إثبات العدالة بالشهادة]

ثمّ إنّ الكلام في إثبات العدالة بالشهادة بعد القطع بأنّها تثبت بها في الجملة، يقع في مقامات: الأوّل: أنّها هل تثبت بالشهادة الفعليّة- بمعني أن يفعل العدلان فعلا يدلّ و يشهد علي عدالته، كأن يصلّيا وراءه مع انتفاء احتمال الضرورة- أم لا؟ وجهان: جزم بالأوّل في الدروس «24»، و لعلّه لعموم ما دلّ علي وجوب تصديق العادل بل المؤمن، الشامل لتصديق قوله و فعله، فإنّ الفعل كالقول منبئ و مخبر عمّا في ضمير الفاعل فيتّصف بالصدق و الكذب، مثل قوله تعالي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ «25». و ما دلّ علي وجوب تصديق المؤمن «26» و إن انصرف كلّ ذلك إلي القول، إلّا أنّ إرادة تصديقه في مطلق ما يدلّك و ينبّئك عليه و يرشدك إليه واضح، فاحتمال تدليسه في فعله كاحتمال خطائه في اعتقاده أو صدور الفعل عنه لداع، مندفع بما يندفع به هذه الاحتمالات المتطرّقة في خبره. نعم لو كان فاسقا لم يقبل منه، لورود الأمر بالتثبّت في خبره. و حمل نفس فعل الفاسق علي الصحّة إنّما هو من حيث نفس فعله، لا من حيث إنّه فعل له، فإنّ الفاسق إذا صلّي خلف شخص صلاة الاستيجار استحقّ الأجرة، و لا يلتفت إلي احتمال فسق إمامه، و أمّا من حيث مدلول فعله فهو كمدلول قوله في عدم العمل به، مع أنّ نفس القول الصادر منه من حيث إنّه فعل يحمل علي الصّحّة، و لا يلتفت إلي احتمال كونها معصية من جهة كونها شهادة زور. و إلي ما ذكرنا- من أنّ الفعل في دلالته كالقول، و أنّه يقبل مع العدالة و يردّ مع الفسق- ينظر كلام غير واحد من فقهائنا، منهم العلّامة رحمه اللَّه- فيما حكي عنه في نهج الحقّ- حيث قال في مقام الردّ علي العامّة القائلين بجواز الاقتداء بالفاسق، ما هذا لفظه: و قال اللَّه تعالي إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ.. إلخ «27» أوجب التثبّت عند خبر الفاسق، و من جملته الطهارة الّتي هي من شروط الصلاة (انتهي) «28». و ظاهره أنّ تصدّيه للصلاة إخبار منه باستجماعه للشرائط الّتي منها الطهارة، و حيث فرض فاسقا فلا تعويل علي ما يظهر لنا و يدلّ عليه بأفعاله. و لا ينافي ذلك الحكم بصحّة صلاته من حيث إنّه فعله، حتّي يستحقّ ما يستحقّه بالصلاة الصحيحة من الأجرة لو كانت بإجارة، و حصول «29» القبض بها إذا وقعت «30» في أرض موقوفة جعلت مسجدا و نحو ذلك. و يؤيّد ما ذكرنا أنّه لم يتأمّل أحد في العمل بتعديلات أهل الرجال المكتوبة في كتبهم، من أجل أنّ الخبر و النبإ لا يصدق علي الكتابة، مع ذهاب أكثرهم إلي أنّ التعديلات من باب الشهادة، و لا في العمل بالأخبار المودعة في كتب الحديث من دون سماعها مشافهة عن المحدّث، و قد شاع
المكاسب، ج‌4، ص 337
منهم الاستدلال علي ذلك بأدلّة حجيّة الخبر و النبإ، و يعتبرون العدالة في من جمع الروايات في كتابه من جهة آية النبإ و نحوه. و دعوي: أنّ العمل بها باعتبار تلفّظ المؤلّف بها و نقلها مشافهة لمن كان أخذ منه الحديث، تكلّف ضعيف. و من هنا يعلم أنّ اعتبار التلفظ و عدم كفاية الكتابة في البيّنة علي الدعاوي إنّما هو لدليل خارج، لا لأنّ أدلّة النبإ لا تشمل ذلك، فهو كاعتبار عدم الواسطة في الشهادة إلّا مع تعذّر شهادة الأصل، فيكتفي بشهادة الفرع في بعض المقامات بشرط وحدة الواسطة. هذا، و لكن الاعتماد علي ذلك إذا لم يفد الوثوق بالعدالة في غاية الإشكال، لفقد ما يطمئن به النفس من الدليل عليه تعبّدا. و ما ذكر في عبارة العلّامة و الشهيد لا يدلّ علي أنّ فعل العادل معتبر في دلالته نظير اعتبار قوله، فلعلّ مرادهما أنّ الفاسق لا يقبل خبره إذا صرّح به، فكيف يقبل إذا ظهر مطلبه من فعله؟ فإنّ فعله ليس بأقوي من قوله في الحجيّة، فالمراد أنّ فعل الفاسق كقوله الصريح غير مقبول، لا أنّ فعل العادل مقبول كقوله. ثمّ إنّ هذا كلّه بعد فرض ثبوت قاعدة أخري، و هي أنّ كلّ طريق يجوز للإنسان أن يعمل عليه كالاستصحاب، و البيّنة، و قول العدل، و غيرها يجوز له أن يستند إليه في الشهادة و يشهد بمؤدّاه، كما يظهر هذه الكلّية من رواية حفص ابن غياث- الواردة في جواز الشهادة بالملك استنادا إلي اليد «1»- أمّا لو لم تثبت هذه الكلّية- كما هو ظاهر المشهور- فلا إشكال في أنّ صلاة عدلين لا توجب الحكم بالعدالة ما لم يفد الوثوق. و أمّا الشهادة القولية: و هي شهادة عدلين بعدالته، فالظاهر أنّه لا إشكال، بل لا خلاف في اعتبارها، و يدلّ عليه- مضافا إلي ما يظهر من عموم حجّيّة شهادة العدلين- ما ورد من فعل النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم حيث كان يبعث رجلين من أصحابه لتزكية الشهود المجهولين فيعمل بقولهما جرحا و تعديلا «2»، و ما دلّ علي قبول شهادة القابلة إذا سئل عنها فعدّلت «3»، و فحوي ما دلّ علي اعتبارها في الجرح، مثل قوله عليه السلام: «من لم تره بعينك يرتكب معصية و لم يشهد عليه شاهدان، فهو من أهل الستر و العدالة» «4». و هل هي معتبرة تعبّدا حتّي لو كان الظنّ علي خلافها؟ أو يشترط عدم الظنّ علي خلافها؟ أو يشترط إفادتها الظنّ؟ وجوه مبنيّة علي ملاحظة إطلاق أدلّة اعتبارها، و انصرافها إلي صورة إفادة الظنّ، أو صورة عدم الظنّ علي الخلاف. و يمكن أن يفصّل بين ما إذا كان احتمال كذبه مستندا إلي تعمّد كذبه فلا اعتبار به و لو كان مظنونا، لأنّ الظاهر من أدلّة تصديق العادل بل المؤمن، نفي تعمّد الكذب عنه مطلقا حتّي مع الظنّ، كما يدلّ عليه قوله عليه السلام: «كذّب سمعك و بصرك عن أخيك» «5» و بين ما إذا كان مستندا إلي خطائه و اشتباهه، فالظاهر اعتبار كونه موهوما «6»، لأنّ ظاهر أدلّة حجّيّة الخبر- خصوصا آية النبإ «7» المفصّل بين العادل و الفاسق- عدم الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه، و أمّا عدم الاعتناء باحتمال خطئه و اشتباهه، فهو ممّا ينفيه ظاهر حال المخبر المعتبر. عند كافة العقلاء إذا كان المخبر به من المحسوسات، أو من غيرها، النازل في ندرة الخطأ و الاشتباه منزلة المحسوسات و لو عند المخبر، لكونه من أهل الخبرة و الاطّلاع بالنسبة إلي مضمون الخبر. لكن مقتضي هذا التفصيل وجوب قبول خبر الفاسق إذا علمنا عدم تعمّد كذبه، و كان احتمال المخالفة للواقع من جهة احتمال خطائه في الحسّ سهوا أو اشتباها. و لعلّ ظاهر كلماتهم يأباه، إلّا أنّ القول به متعيّن، بناء علي كون مستند اعتبار خبر العادل و ردّ الفاسق آية النبإ مفهوما و منطوقا، إلّا أن يقوم الإجماع في بعض المقامات، كما بينّاه في مسألة حجّية الإجماع المنقول. بقي الكلام في أنّ مطلق الظنّ بالعدالة هل هو معتبر أم لا؟ وجهان، بل قولان، ظاهر من حصر طريقها بالمعاشرة و الشياع و الشهادة هو الثاني، و صريح بعض المعاصرين هو الأوّل. و يمكن التفصيل بين الظنّ القويّ الموجب للوثوق، و بين غيره، و هو الأقوي. و يشهد للأوّل انسداد باب العلم بالعدالة و عدم جواز الرجوع في جميع موارد الجهل بها إلي أصالة عدمها، و إلّا لبطل أكثر الحقوق، بل ما قام للمسلمين سوق، فتعيّن الرجوع فيها إلي الظنّ، كما في نظائره من الموضوعات بل أكثر الأحكام الشرعيّة عند القائل بعدم وفاء الظنون المعتبرة بالخصوص بأكثر الأحكام. و يمكن الإيراد عليه أوّلا: بإمكان الاقتصار فيها علي خصوص الظنّ الّذي دلّ النصّ و الإجماع علي اعتباره، كالمعاشرة و شهادة
العدلين و الشياع، كما اقتصر عليه كلّ من حصر الطريق في هذه الثلاثة، أو أضاف إليها «اقتداء العدلين» أو «شهادة العدل» في تزكية الإمام و الراوي. و ثانيا: أنّ الانسداد إنّما يوجب العمل بالظنّ في الجملة، فيجب الاقتصار علي الظنّ القويّ المعبّر عنه عرفا ب «الوثوق» و «الأمن» مع إمكان استفادة حجّيّة هذه المرتبة من النصوص، مثل قوله عليه السلام: «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه و ورعه» «8» و قوله عليه السلام: «إذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت «9» شهادته» «10» و قوله عليه السلام: «من عامل الناس فلم يظلمهم..» «11»
و هو المتيقّن من جميع الإطلاقات الدالّة علي حسن الظاهر، بل كفاية عدم العمل بالفسق. فإن قلت: إنّ هذه الإطلاقات تدلّ علي اعتبار مطلق الظنّ، بناء علي أنّ المتيقّن من الخروج عن إطلاقها هي صورة عدم حصول الظنّ، فيبقي الباقي، هذا مضافا إلي قوله عليه السلام- فيما حكي عن الفقيه- : «من صلّي الخمس في جماعة فظنّوا به كلّ خير» «12» و في رواية: «فظنّوا به خيرا و أجيزوا شهادته» «13» حيث إنّ الأمر بالظنّ لا يعقل، لعدم كونه اختياريّا، فيدلّ بدلالة الاقتضاء- علي الأمر بترتيب أحكام «ظنّ الخير» و منها إجازة شهادته، فيدلّ علي أنّ هذه الأحكام ثابتة لمطلق الظنّ. قلت: هذه الإطلاقات- مع الإغماض عن دعوي انصرافها إلي صورة الوثوق لا بدّ من تقييدها بما دلّ علي اعتبار الوثوق. فظهر من جميع ما ذكرنا: أنّ الأقوي اعتبار مطلق الوثوق بالملكة، و هو الأوسط بين القولين. ثمّ إنّ الوثوق بالملكة كما يجوز أن يعمل الشخص في أعمال نفسه، كذلك يجوز الشهادة بالملكة استنادا إليه، و يدلّ عليه قوله عليه السلام- في صحيحة ابن أبي يعفور- : «و يجب إظهار عدالته و تزكيته بين الناس» «14» و ما تقدّم من استناد الشاهدين- اللّذين بعثهما النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم لتزكية الشهود المجهولين- الي الظنّ الحاصل من السؤال عن قبيلة الشهود «15». مع أنّه لو انحصر مستند الشهادة في العلم لبطل أمر التعديل، و به تبطل الحقوق، كما لا يخفي.
و الحمد للَّه أوّلا و آخرا.
المكاسب، ج‌4، ص 338

3- رسالة في القضاء عن الميّت

اشارة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم و به نستعين الحمد للَّه ربّ العالمين، و صلّي اللَّه علي محمّد و آله الطاهرين و لعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين «1».

مسألة «2» في قضاء الصلاة عن الميت

و الكلام فيه تارة في نفس القضاء، و اخري في القاضي، و ثالثة في المقضيّ، و رابعة في المقضيّ عنه، و خامسة في أحكام القضاء.

أمّا القضاء عن الميت «3»

فهو عبارة عن فعل العبادة نيابة عن الميّت. و حقيقة النيابة: تنزيل الفاعل نفسه منزلة شخص آخر فيما يفعله. و يظهر من السيّد المرتضي أنّ القضاء عن الميّت ليست نيابة حقيقة، و إنّما هو واجب أصليّ خوطب به القاضي، نعم سببه فوات الفعل عن الميّت، و زاد علي ذلك: أنّ الميّت لا يثاب علي ذلك، فعن الانتصار- بعد اختيار أنّ الوليّ يقضي الصوم عن الميّت إذا لم يكن للميّت مال يتصدّق به عنه لكلّ يوم بمدّ، مدّعيا عليه الإجماع، و انفراد الإماميّة به، و مخالفة الفقهاء في ذلك الّا أبا ثور- «4» قال: و قد طعن فيما نقوله بقوله تعالي وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعي «5» و بما روي عن النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم من قوله:
«إذا مات المؤمن انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يترحّم عليه، أو علم ينتفع به» «6» و لم يذكر الصوم عنه. و الجواب عن ذلك: أنّ الآية إنّما تقتضي أنّ الإنسان لا يثاب الّا بسعيه، و نحن لا نقول: إنّ الميّت يثاب بصوم الحيّ عنه. و تحقيق القول في هذا الموضع: أنّ من مات و عليه صوم فقد جعل اللَّه هذه الحالة سببا في وجوب صوم الوليّ، و سمّاه قضاء، لأنّ سببه التفريط المتقدّم، و الثواب في هذا الفعل لفاعله دون الميّت. فإن قيل: فما معني قولهم: «صام عنه»، إذا كان لا يلحقه و هو ميّت ثواب، و لا حكم لأجل هذا الفعل؟ قلنا: معني ذلك أنه صام، و سبب صومه تفريط الميّت، و قيل: «صام عنه» من حيث كون التفريط المتقدّم سببا في لزوم هذا الصوم.
و أمّا الخبر الّذي رووه، فمحمول علي هذا المعني أيضا، و أنّ المؤمن ينقطع بعد موته عمله، فلا يلحقه ثواب و لا غيره، و الّذي ذهبنا إليه لا يخالف ذلك. و خبرهم هذا يعارض ما رووه عن عائشة «7». ثمّ ساق أخبارا نبويّة تدلّ علي النيابة «8» «9» (انتهي). و تبعه في جميع ذلك السيّد أبو المكارم ابن زهرة في الغنية «10» ثمّ من بعده الفاضل في المختلف «11» في الجواب عن الآية المتقدّمة «12». مع أنّ الشهيد في الذكري حكي عنه أنّه قال- فيما يلحق الميّت بعد موته- : أمّا الدعاء و الاستغفار و الصدقة و أداء الواجبات الّتي تدخلها النيابة فبالإجماع، و أمّا ما عداها فعندنا أنه يصل إليه «13». أقول: كأنّ السيّد و من تبعه أراد بما ذكر من الجواب عن الآية و الرواية ردّ استدلال العامة بهما علي نفي وجوب القضاء الّذي هو المطلوب، لأنّ القضاء لا يستلزم الثواب حتّي يستكشف انتفاء الملزوم عن انتفاء اللازم، و إلّا فشأن السيّد أجلّ من أن تخفي عليه الأخبار الكثيرة الواردة عن النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم و الأئمة عليهم السلام في انتفاع الميّت بما يفعله الأحياء علي طريق النيابة أو الهديّة. و قد حكي أكثرها في الذكري عن كتاب غياث سلطان الوري للسيّد الأجلّ ابن طاوس، «14» و لنذكر بعضها تبركا: فمنها: قضيّة الخثعميّة الّتي أتت النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم فقالت: إنّ أبي أدركه الحجّ شيخا زمنا لا يستطيع أن يحجّ، إن حججت عنه أ ينفعه ذلك؟ فقال لها: أ رأيت لو كان علي أبيك دين فقضيته، أ كان ينفعه ذلك؟! قالت: نعم، قال: فدين اللَّه أحقّ بالقضاء «15». و منها: ما عن كتاب حمّاد بن عثمان: «قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: من عمل من المسلمين عملا صالحا عن ميّت أضعف اللَّه أجره و نفع به ذلك الميت» «16». و رواه الصدوق أيضا في الفقيه مرسلا «17». و منها: ما عن كتاب المسائل لعليّ بن جعفر عليه السلام: «عن الرجل هل يصلح له أن يصلّي أو يصوم عن بعض موتاه؟ قال: نعم فيصلي ما أحبّ و يجعل تلك للميّت، فهو للميّت إذا جعل ذلك له» «18». و قريبة منها رواية أخري له «19». و منها: ما حكاه عنه، عن أصل عليّ بن أبي حمزة- الّذي هو من رجال الصادق و الكاظم عليهما السلام- : «قال: و سألته عن الرجل يحجّ و يعتمر و يصلّي و يصوم و يتصدّق عن والديه و ذوي قرابته؟ قال: لا بأس به، و يؤجر فيما يصنع، و له أجر آخر بصلة قرابته، قلت: و إن كان لا يري ما أري، و هو ناصب؟! قال: يخفّف عنه بعض ما هو فيه» «20». و منها: ما عن أصل هشام بن سالم: «قال: قلت:
يصل إلي الميّت الصلاة و الدعاء و نحو هذا؟ قال: نعم، قلت: أو يعلم من يصنع ذلك؟ قال: نعم، ثمّ قال: يكون مسخوطا عليه فيرضي عنه» «21». قال في الذكري: و ظاهره أنّه من الصلوات الواجبة الّتي تركها سبب للسخط «22». أقول: و في هذا الظهور تأمّل. و منها: ما عن ابن محبوب- في كتاب المشيخة- عن الصادق عليه السلام أنّه قال: «تدخل علي الميّت في قبره الصلاة و الصوم و الحجّ و الصدقة و الدعاء، قال: و يكتب أجره للّذي يفعله و للميّت» «23». و نحوها: روايتا إسحاق بن عمّار «24» و ابن أبي عمير «25».
و منها: روايات ابن مسلم و ابن أبي يعفور و البزنطي و صفوان بن يحيي عن الصادق و الرضا عليهما السلام أنّه: «يقضي عن الميّت الحجّ و الصوم و العتق و فعاله الحسن» «26».
و عن كتاب الفاخر «27»: أنّ ممّا أجمع عليه و صحّ من قول الأئمّة عليهم السلام أنّه يقضي أعماله الحسنة كلّها «28». و منها: ما عن كتاب حمّاد بن عثمان: «قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: إنّ الصلاة و الصدقة و الحجّ و العمرة و كلّ عمل صالح ينفع الميّت، حتّي أنّ الميت ليكون في ضيق فيوسع عليه، و يقال: هذا بعمل ابنك فلان، و هذا بعمل أخيك فلان- أخوه في الدين- » «29». و مثلها رواية عمرو بن محمد بن يزيد «30». و منها: ما عن عبد اللَّه بن جندب: «قال: كتبت إلي أبي الحسن عليه السلام: الرجل يريد أن يجعل أعماله من الصلاة و البرّ و الخير أثلاثا، ثلثا له و ثلثين لأبويه، أو يفردهما بشي‌ء ممّا يتطوّع به، و إن كان أحدهما حيّا و الآخر ميّتا؟ فكتب اليّ: أمّا الميّت فحسن جائز، و أمّا الحيّ فلا، إلّا البرّ و الصلة» «31». و مثلها ما عن محمّد بن عبد اللَّه بن جعفر الحميري، أنّه كتب إلي الكاظم عليه السلام مثله، و أجاب بمثله «32». قال
المكاسب، ج‌4، ص 339
في الذكري: قال السيّد: لا يراد بهذه: الصلاة المندوبة، لأنّ الظاهر جوازها عن الأحياء في الزيارات و الحجّ و غيرهما «1». أقول: لعلّ ما ذكره من التوجيه للجمع بينها و بين ما دلّ علي جواز ذلك عن الحيّ أيضا، مثل ما عن الكليني بإسناده إلي محمّد بن مروان: «قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «ما يمنع الرجل منكم أن يبرّ والديه حيّين و ميّتين، يصلّي عنهما و يتصدّق عنهما و يصوم عنهما، فيكون الّذي صنع لهما، و له مثل ذلك، فيزيده «2» اللَّه ببرّه و صلته خيرا كثيرا» «3».
نعم احتمال هذه الرواية إرادة عدم قطع البرّ عنهما بعد الموت بفعل هذه الأفعال عنهما، فيكون قد برّهما حيّين و ميّتين، بعيد. و حكي عن الحسين بن الحسن الطوسي الكوكبي- في كتابه المنسك- «4» بإسناده إلي عليّ بن أبي حمزة: «قال: قلت لأبي إبراهيم عليه السلام: أحجّ و أصلّي و أتصدّق عن الأحياء و الأموات من قرابتي و أصحابي؟ قال: نعم، تصدّق عنه و صلّ عنه، و لك أجر آخر بصلتك إيّاه» «5». و ظاهر الصلاة عن الغير: النيابة عنه، لا فعلها و إهداء الثواب إليه، فيدلّ علي جواز النيابة عن الحيّ في الصلاة، و إطلاق الصلاة «6» و البرّ علي ذلك يشعر بعموم رجحان النيابة عن الحيّ في كلّ فعل حسن. ثمّ أنّه «7» إذا جاز الصلاة عنه جاز غيرها، لعدم القول بالفصل ظاهرا بينها و بين غيرها، بل قد روي جواز الاستنابة في الصوم الواجب بالنذر علي الحيّ، فقد روي في الفقيه، عن عبد اللَّه بن جبلّة، عن إسحاق بن عمّار «8». بل يمكن استفادة عموم النيابة في كلّ الأعمال الواجبة- عدا ما دلّ الإجماع علي عدمه- من الأخبار الدالّة علي مشروعيّة قضاء دين اللَّه عمّن هو عليه تبرّعا «9»، ثمّ إثبات مشروعيّة النيابة في المستحبّات بعدم القول بالفصل، فتأمل. و كيف كان: فانتفاع الميّت بالأعمال الّتي تفعل عنه أو يهدي إليه ثوابها، ممّا أجمع عليه النصوص، بل الفتاوي، علي ما عرفت من كلام الفاضل «10» و صاحب الفاخر «11»، المعتضد بقضيّة تعاقد صفوان بن يحيي و عبد اللَّه بن جندب و عليّ بن نعمان، علي أنّ من مات منهم يصلّي من بقي صلاته و يصوم عنه و يحجّ عنه، فبقي صفوان يصلّي كلّ يوم و ليلة مائة و خمسين ركعة» «12». فإنّ دعوي كفاية اتّفاق هذه الثلاثة في الكشف عن رضا الإمام عليه السلام غير بعيدة، فكيف إذا ضمّ إلي ذلك دعوي الفاضل و صاحب الفاخر الإجماع علي ذلك. و أمّا الآية «13» فيمكن توجيهها بعد مخالفة ظاهرها للإجماع و الأخبار المتواترة بأنّ الثواب علي سعيه حال الحياة، فإنّ تحصيل الاخوّة للمؤمنين تعريض للنفس في هذه المثوبات. و أمّا الرواية النبويّة «14»: فهي مسوقة لذكر ما يعدّ عملا للميّت بعد موته من الأفعال المتولّدة من فعله تولّد الغاية، دون الّتي يترتّب علي عمله اتّفاقا من دون قصد لترتّبها، فالحصر في الرواية بالنسبة إلي إعمال الميّت المقصود منها الاستمرار بعد الموت، كإعانة الناس بحفر البئر و غرس الشجر و وقف مال عليهم أو إظهار سنّة حسنة، أو ولادة من يستغفر له ممّا يقصد منه البقاء، فهي بمنزلة الأفعال التوليدية للميّت يعدّ عملا له، و الكلام- في المقام- في ما يعمل الغير عنه، كما أنّ ما ورد من أنّ: «من سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها إلي يوم القيامة» «15» لا تنافي قوله تعالي وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْري، «16» و إنّما ينافيه ما يكذب علي النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم من أنّ: «الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه «17»»
و لذا ردّت عائشة بتلك الآية «18». و قد خرجنا بإيراد الأخبار المذكورة عمّا هو المقصود في هذه الرسالة من وجوب القضاء عن الميّت مع قطع النظر عن انتفاع الميّت بذلك، و قد عرفت أنّه مجمع عليه فتوي «19» و نصّا «20»، و سيجي‌ء ما يدلّ عليه من النصوص بالخصوص «21». ثمّ المشهور أنّ القضاء معيّن علي الوليّ، لا أنّه مخيّر [بينه] «22»
و بين الصدقة، كما عن الإسكافي «23» و السيّد المرتضي «24» و السيّد ابن زهرة مدّعيا عليه الإجماع «25»، لعدم الدليل علي إجزاء الصدقة نعم ورد ذلك في النافلة مضافا إلي ظهور الأدلّة «26» في تعيين الصلاة. و الإجماع المدّعي كما تري. و أضعف منه الاستدلال عليه بالاحتياط.

و أمّا القاضي

فالمحكيّ عن المفيد: النصّ علي أنّه إن لم يكن له ولد من الرجال قضي عنه أكبر أوليائه من أهله، و إن لم يكن فمن النساء «27». و عن الإسكافي: أولي الناس بالقضاء عن الميّت أكبر ولده الذكور، و أقرب أوليائه إليه إن لم يكن له ولد «28». و في كلام الصدوقين و الرضويّ: «إنّه يقضي الوليّ، فإن لم يكن له وليّ من الذكور قضي عنه وليّه من النساء «29»» و نسب قول المفيد في الدروس إلي ظاهر القدماء و الأخبار، و اختاره «30». و لعلّه لإطلاق صحيحة حفص بن البختري، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «في الرجل يموت و عليه صلاة أو صيام؟ قال:
يقضي عنه أولي الناس بميراثه. قلت: فإن كان أولي الناس به امرأته؟ قال: لا، إلّا الرجال» «31». و مرسلة حمّاد: «قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام في الرجل يموت و عليه دين من شهر رمضان من يقضيه عنه؟ قال: أولي الناس به، قلت: فإن كان أولي الناس به امرأته؟ قال: لا، إلّا الرجال» «32». و رواية ابن سنان، عن الصادق عليه السلام- المحكيّة في الذكري عن كتاب السيّد الأجلّ ابن طاوس- : «قال: الصلاة الّتي حصل وقتها قبل أن يموت الميّت يقضيه عنه أولي الناس به» «33». إلي غير ذلك. فما أطلق فيه «الوليّ» المراد منه الأولي من غيره، و هو يختلف باختلاف الموجودين من الناس المنتسبين إلي الميّت، فإنّ ولده أولي به من أخيه، و أخوه أولي به من عمه.. و هكذا.
بل قد يدّعي شموله للمولي المعتق و ضامن الجريرة، لأنّهما أولي الناس بالميّت مع فقد الأقارب النسبيّة، و لذا قيل بوجوب القضاء عليهما مع فقد القريب «34». هذا، مضافا إلي أنّ الحكم في صحيحة حفص معلّق علي «الأولي بالإرث» «35»، و لا إشكال في صدقه علي ما عدا الأولاد مع عدمهم، بل و علي المولي و ضامن الجريرة. و أمّا وجه تقديم الولد علي الأب: فلعلّه لأنّ أكثريّة نصيبه يدلّ عرفا علي كونه أولي بالميّت عن الأب «36» مع أنّ النصّ ورد بأنّ الأكثر نصيبا أولي بالميّت من الأقلّ، كما في صحيحة الكناسي: «و أخوك لأبيك و أمّك أولي بك من أخيك لأبيك «37»» «38» مع أنّ حكم المشهور باستحقاق الولد خصوصا مجّانا الحبوة- الّتي هي عبارة عن خصائص الأب، التي يعزّ علي أولياء الميّت أن يروها عند غير الميّت- يدلّ علي أولويّته بأبيه من غيره حتّي جدّه. نعم ينافي ذلك كلّه حكم المشهور
المكاسب، ج‌4، ص 340
في باب الجنائز بأنّ الأب أولي من الولد في تجهيز الميّت، و لذا تنظّر فيه هناك مائلا إلي مراعاة الإطلاق «1»- هنا و هناك- من يقدّم الأب علي الولد «2». و يمكن أن يكون مستند المشهور هناك أنّ الأولي بالميّت من حيث أحكامه و أموره- الّتي لا بدّ أن تصدر باستصواب الأولياء- هو الأب دون غيره، و يمكن استشعار ذلك من قوله عليه السلام: «يصلّي علي الجنازة أولي الناس بها» «3» فإنّ الأولي بالجنازة- من حيث انّها جنازة لا بدّ من التصرف فيها و تقلّبها في الغسل و الصلاة و الدفن- هو الأب عرفا.
و الحاصل: أنّ الموضوع للحكم في باب القضاء هو الميّت من حيث شخصه و نفسه الإنساني، و في الجنائز هو جسده و جنازته الّتي يتصرف فيها و يتقلّب، فالأولويّة هنا عليه، و في القضاء له، فتأمّل. و علي كلّ حال: فالمراد من «أكثريّة النصيب» أكثريّة نصيب النوع، لأنّها الكاشفة عرفا و شرعا عن أولويّة ذلك النوع، فلو عرض لشخص الوليّ قلّة النصيب لتعدّد أشخاص نوعه- كما لو اجتمع له أب مع عشرة أولاد- فلا يسقط أكبرهم عن الأولويّة، لكونه أقلّ سهما من الأب، لأنّ نوع الولد أكثر سهما فهو أولي.
فما يظهر من بعض المعاصرين من اعتبار أكثريّة نصيب الشخص- حتّي أنّه فصّل في المسألة بين ما دون الخمسة من الأولاد إذا اجتمعوا مع الأب و بين الخمسة و الأزيد «4»-
لم أجد له وجها ظاهرا. ثمّ إطلاق «الأولي بالإرث» في الصحيحة المتقدّمة «5» يشمل المولي المعتق و ضامن الجريرة علي الترتيب عند عدم غيرهما من الورثة. إلّا أنّ العبارة المحكيّة عن المفيد «6» و جماعة من القدماء «7» خالية عن التصريح به، لأنّ المحكيّ عن المفيد- المنسوب في الدروس إلي ظاهر القدماء- «أنّه لو فقد أكبر الذكور فأكبر أوليائه من أهله» «8» و لفظ «الأهل» ظاهر في من عدا المعتق و ضامن الجريرة. و ما أبعد ما بين هذا القول و بين القول و بين ما اختاره الشيخ «9» و أكثر من تأخّر عنه من اختصاص التكليف بأكبر أولاده الذكور «10»، و كأنّهم فهموا من صحيحة حفص و مرسلة حمّاد- المتقدّمتين «11»- أنّ المراد من «الأولي بالميّت» أولي الناس به علي الإطلاق. و بعبارة أخري: الأولي من كلّ أحد يفرض وجوده من الناس، لا أولي الموجودين فعلا حين موت الميّت، و لا شك أنّ الأولي علي الإطلاق بذلك المعني هو الولد الذكر. و أمّا أولويّة غيره من طبقات الورثة فأولويّة إضافيّة يلاحظ فيها الموجودون عند الموت. و هذا غير بعيد. مع أنّه لو فرض احتمال الرواية لما ذكرنا احتمالا مساويا وجب الرجوع إلي أصالة البراءة. و ممّا يؤيّد إرادة ما ذكرنا- بل يدلّ عليه- صحيحة حفص و مرسلة حمّاد الصريحتان في نفي التكليف عن النساء، و كلّ من نفاه عنهنّ نفاه عمّن عدا الولد من الذكور، و كلّ من أثبته علي من عدا الولد من الذكور أثبته علي النساء، فحمل الرواية علي ما يعمّ الولد يوجب شذوذ الرواية و ترك العمل بظاهرها بين الأصحاب من التفصيل بين من عدا الولد و بين النساء، فيجب لأجل ذلك حمل «الأولي» علي الأولويّة علي الإطلاق دون الإضافيّة. نعم يظهر من المدارك العمل بظاهرها من التفصيل «12». ثمّ المراد في كلامهم من «الأكبر»: من لا أكبر منه، فيعمّ المنحصر، كما هو مقتضي إطلاق النصّ «13» و صريح الفتاوي «14». و لو تعدد الأولاد يقدّم الأكبر مع استوائهم في البلوغ، للإجماع و لمكاتبة الصفّار «15» و في دلالتها تأمّل يأتي وجهه. و لو استووا في السنّ فالبالغ مقدّم علي غيره، إمّا لأنّه أكبر عرفا و أقرب إلي حدّ الرجال، و إمّا لأنّ التكليف يتعلّق به عند بلوغه، لصدق «أولي الناس به» عليه بحسب النوع، إذ لو اعتبرت الأولويّة الشخصيّة من كل أحد لم يجب عليه بعد بلوغ أخيه أيضا، فإذا تعلّق التكليف به فارتفاعه عند بلوغ أخيه يحتاج إلي دليل، فتأمل. و لو اختلفوا في البلوغ و كبر السنّ، ففي اعتبار البلوغ أو كبر السنّ وجهان: ممّا ذكرنا في تقديم البالغ علي غيره مع المساواة، و من إطلاق تقديم الأكبر في النصّ «16» و الفتاوي «17»، و الأوّل لا يخلو عن قوّة. و لو استووا في السنّ و البلوغ، ففي سقوط القضاء عنهم- كما عن الحلّي «18»- لعدم وجود الأكبر، أو ثبوته عليهم علي طريق الكفاية و تخييرهم، فإن اختلفوا فالقرعة- كما عن القاضي «19»- أو علي طريق التوزيع- كما عن المشهور وفاقا للشيخ «20»- ، أقوال: أقواها الأخير، لأنّ الحكم معلّق بجنس أولي الناس الصادق علي الواحد و الاثنين، لما عرفت من أنّ المراد بأولي الناس: الأولي بالنوع، و هو جنس الأولاد، فكأنّه قال: يقضي عنه ولده. و أمّا وجوبه علي الكلّ كفاية فلم يثبت، لأنّ الوجوب علي الجنس أعم من التوزيع و من الوجوب الكفائي، فالأصل عدم تكليف كلّ منهم بأزيد من حصته و لو علي طريق الكفاية.
و بعبارة أخري: يعلم باستحقاقه العقاب إذا ترك حصته و لم يأت بها صاحبه علي أي تقدير، و لا يعلم بأنه بعد قضاء حصته يعاقب علي ترك الباقي إذا تركه مع ترك صاحبه. ثم انّ حكم القاضي بالقرعة عند اختلافهما «21» لا وجه له، لعدم جواز الاختلاف بعد وجوب قيامهما «22» بالواجب الكفائي، لأنه لا يسقط عنهما إلّا بعد حصوله في الخارج، فينوي كلّ منهما الوجوب كما في صلاة الميّت. و دعوي وجوب فعل واحد عنه- علي أن تكون الوحدة شرطا لصحة الفعل مع تعددهما- ممنوعة. و ممّا ذكرنا يعلم حكم ما إذا كان الواجب ممّا لا يتبعّض كصلاة واحدة أو صوم يوم واحد و في ثبوت الكفّارة عليهما مع إفطار الصوم بعد الزوال- علي القول بوجوبه في القضاء عن الغير- وجهان، أقواهما: الوجوب عليهما مع إفطارهما معا، و علي المتأخّر إفطارا مع التراخي، فتأمّل. ثمّ إنّ هنا وجوبا كفائيا في الصلاة من جهة أخري، و هي أنّ الترتيب لمّا كان شرطا في صحّة الصلاة فبعد الحكم بتوزيعها يكون الواجب كفائيا منهما الشروع في القضاء فإذا فرغ من صلاة واحدة كان الشروع في الأخري أيضا واجبا كفائيا، و هكذا إلي أن يصلّي أحدهما قدر نصيبه، فيتعيّن الباقي علي الآخر، فإن اختلفا في السابق بأن أراد كلّ منهما السبق و اللحوق، فلا يبعد القرعة. و لا يشترط في القاضي الحرّيّة، لأنّ الأولويّة بالميّت- الذي هو مناط الحكم- لا يتوقّف علي استحقاقه الإرث، بل يقتضيه مع عدم المانع، و لهذا لا يفرّق في الحرّ بين الوارث بالفعل و الممنوع عن الإرث للقتل. و تعلّق الحكم في صحيحة حفص «23» علي «الأولي بالإرث» يراد به الأولي بالإرث من حيث القرابة لو خلّيت و نفسها. و لا يشترط أيضا خلوّ ذمته من صلاة فائتة، نعم سيأتي حكم الترتيب بين الفائتة و المتحمّلة في أحكام القضاء
. عليه،
المكاسب، ج‌4، ص 341

و أما المقضيّ

فالمحكيّ عن المشهور أنّه جميع ما فات عن الميّت، و عن الشهيد الثاني: نسبته إلي ظاهر النصّ و إطلاق الفتوي «1» و ظاهر عبارة الغنية: الإجماع عليه «2»
و عن الحلّي «3» و سبطه- ابن سعيد- : أنّه لا يقضي إلّا ما فاته في مرض موته «4» و المحكيّ عن [المحقق] «5» في بعض رسائله أنه يقضي ما فاته لعذر كالمرض و السفر و الحيض بالنسبة إلي الصوم، لا ما تركه عمدا مع قدرته عليه «6» و عن الذكري نسبته إلي السيّد عميد الدين ثمّ اختياره «7» كما عن الشهيد الثاني «8». و الأقوي الأوّل، لإطلاق ما تقدّم من النصوص، خصوصا رواية ابن سنان المتقدمة «9» و دعوي انصرافها إلي ما فات لعذر- إن سلّم- فهو تبادر ابتدائي، كتبادر بعض أفراد الماء من إطلاق لفظه، مع أنّ بعض فروض الترك عمدا ممّا لا إشكال في عدم خروجه عن منصرف الإطلاق، مثل ما إذا وجب عليه الصلاة في حال المرض مع النجاسة أو مع القعود أو الاضطجاع، أو وجب عليه الصلاة حال المطاردة مع العدوّ، فقصّر في فعلها كذلك- علي ما هو الغالب في أحوال المرضي و الغازين من ترك الصلوات إذا لم يتمكّنوا من فعلها إلّا كذلك- ثم مات في هذه الحال أو بعد ذلك، فإنّ دعوي خروج مثل هذا عن منصرف إطلاق الأخبار المتقدمة «10» بعيدة عن الإنصاف، و إذا شمل هذا شمل غيره من الصلوات المتروكة عمدا أو المفعولة فاسدة، لعدم القول بالفصل. بل يمكن دعوي شمول الروايات للمفعولة فاسدة، فيشمل المتروكة عمدا لعدم الفصل، فتأمّل. و كيف كان: فدعوي اختصاص الرواية بمن فاته الصلاة لعذر يسقط شرعا معه الصلاة- كالإغماء و فقد الطهورين و نحو ذلك- في غاية البعد، خصوصا لو أريد من عدم تعمّد الفوت عدم التمكن من قضائه أيضا، بحيث لا يعمّ ما تسامح في قضائه حتّي مات. ثم الظاهر أنّ النسبة بين قول الحلّي «11» و مختار المحقق «12» عموم من وجه، لأنّ الفوات في مرض الموت يعمّ الترك عمدا. و علي أيّ حال: فالظاهر انصراف الإطلاق في النصّ و الفتوي إلي ما وجب عليه أصالة، فلا يعمّ ما تحمّله بالولاية أو الاستئجار و إن كان العمل بالإطلاق أحوط، بناء علي احتمال كون الانصراف هنا نظير الانصراف السابق

و أما المقضيّ عنه

فهو الوالدان لا غير، بناء علي المشهور من اختصاص القاضي بالولد الأكبر. نعم اختلفوا في دخول الأمّ من جهة اختصاص رواية حمّاد بالرجل «13» و انصراف رواية ابن سنان إليه «14» فإلحاق المرأة بالرجل قياس- كما صرّح الحلّي «15» و المحقّق و الشهيد الثانيان في حاشيتي الشرائع «16» بل حكي عن جماعة «17». و الأقوي الدخول، وفاقا لصريح المحكيّ عن صوم المبسوط «18» و النهاية «19» و الغنية «20» و المنتهي «21» و التذكرة «22» بناء علي عدم الفرق بين الصوم و الصلاة. و حكي في خصوص الصلاة عن الرسالة المحكيّة سابقا عن المحقّق في جواب سؤال جمال الدين المشغري «23» و عن الذكري «24» و الموجز «25» بل حكي نسبته إلي ظاهر إطلاق الأكثر، إلّا أنّ الموجود في الروضة: انّ اختصاص الحكم بالأب و عدم التعدي إلي الأمّ و غيرها من الأقارب «26» هو المشهور «27». و كيف كان فالأقوي اللحوق، و دعوي الانصراف في رواية ابن سنان «28»
ممنوعة، مضافا إلي مصححة أبي حمزة: «عن امرأة مرضت في شهر رمضان أو طمثت أو سافرت، فماتت قبل خروج شهر رمضان، هل يقضي عنها؟ قال: أما الطمث و المرض فلا، و أما السفر فنعم» «29». بناء علي عدم القول بالفصل بين الصوم و الصلاة كما يظهر من بعض «30» و علي أنّ المسئول عنه وجوب القضاء، لما ذكره في المنتهي من الاتّفاق علي الاستحباب في هذه الصور «31». و يمكن أن يكون طرحا الحلّي «32» لهذه الأخبار لكونها آحادا عنده. و هل يشترط في المقضي عنه الحرّية؟ قولان، أقواهما:
العدم، لإطلاق الروايات «33» و دعوي انصرافها إلي الحرّية في غاية البعد. و توهّم كون الأولي بالعبد مولاه، و لا يجب عليه القضاء إجماعا، مدفوع بأنّ المراد بالأولويّة: الأقربيّة في النسب و الأشدّيّة في علاقة القرابة الّتي هي المقتضية للأولويّة بالإرث و لو اجتمع سائر شروط الإرث، و لذا يجب علي القاتل لأبيه و إن لم يرثه. و حكي عن فخر الدين عدم الوجوب، قال: و منشأ الإشكال عموم قولهم عليهم السلام: «فعلي وليّه أن يتصدّق عنه من تركته» «34» دلّ بالمفهوم علي الحرّيّة، فهذه المسألة ترجع إلي أنّ الضمير إذا رجع إلي البعض هل يقتضي التخصيص أم لا؟ و قد حقّق ذلك في الأصول. و الحقّ عندي عدم القضاء، لما تقدّم «35» (انتهي).
و اعترضه شارح الروضة- بعد نقل هذا الكلام- بأنّا لم نظفر بخبر فيه ذلك، و إنّما الخبر الّذي تعرّض فيه للتصدّق خبر أبي مريم، و ليس فيه ذكر الصوم إلّا بعد التصدّق في إحدي طريقيه و لفظه: «و إن صحّ ثمّ مرض حتّي يموت و كان له مال تصدّق عنه مكان كلّ يوم بمدّ، و إن لم يكن له مال صام عنه وليّه» «36» «37» (انتهي). و لا يخفي ضعف ما ذكره فخر الدين، إذ لو سلّم وجود خبر مشتمل علي المتمّم المذكور، فمقتضي التبادر و إن كان تقييد المطلق به- و ليس هذا من قبيل العام المتعقّب بالضمير الراجع الي بعض أفراده كما لا يخفي- إلّا أنّ تخصيص الخبر المشتمل علي المتمّم «38» لا يقتضي تخصيص باقي «39» المطلقات، لعدم التنافي بينهما. ثمّ إنّ حكم الجارية حكم العبد الميّت.

و أما أحكام القضاء

فيحصل توضيح المهم منها في ضمن مسائل: الأولي: أنّ الظاهر من النص و الفتوي بأنّه «يقضي عن الميّت»، أنّ القضاء عن الميّت نيابة عنه في الفعل، لا أنّه تكليف أصلي علي الوليّ. فلا بدّ فيه من نيّة النيابة كما في الحجّ و الزيارة عن الغير، و لا تبرأ ذمّته بإهداء ثواب العبادة إلي الميّت من دون قصد النيابة، بل لا يشرع هذا الفعل بمجرّد هذه الغاية مع عدم اشتغال ذمّته به أصالة، كمن أراد أن يصلّي ظهرا في غير وقته و يهديه إلي الميّت، لأنّ إهداء الثواب فرع وجوده المتوقّف علي تحقّق الأمر، المفروض عدمه. و يعتبر في القضاء جميع ما كان معتبرا في فعل الميّت، مع قطع النظر عمّا يعرض باعتبار خصوص مباشرة الفاعل له، فيقصر ما فاته سفرا، و يتمّ ما فاته حضرا، و لا يجب عليه الإخفات في أوّليي الجهريّة لو كان النائب رجلا و الميّت امرأة، و يجب الإخفات لو انعكس الفرض، و كذا الكلام في ستر تمام «40» البدن. و الفرق بينهما و بين القصر و الإتمام: أنّ القصر و الإتمام مأخوذان في ماهيّة الصلاة، و أمّا الجهر و الإخفات فإنّما هو باعتبار كون المباشر للفعل امرأة يطلب خفض صوتها و ستر بدنها عند الصلاة، فهما
المكاسب، ج‌4، ص 342
أحكام خصوص الفاعل لا الفعل. و مثلهما الأحكام الثابتة للفاعل باعتبار العجز و القدرة، فإنّ المعيار فيها حال المباشرة للفعل، فيصلّي القادر قائما عمّن فات عنه قاعدا، و يصلّي العاجز قاعدا عمّن فاته قائما. و لا يجب علي الوليّ الاستنابة مع عجزه، للأصل. و ربما يحتمل ذلك بناء علي أنّ الواجب علي الوليّ تحصيل الصلاة بالأجزاء و الشرائط الّتي كانت علي الميّت و إبراء ذمّته بصلاة نفسه أو بالاستنابة، فإذا لم يتمكّن من الصلاة الاختياريّة بنفسه تعيّن عليه الاستنابة.
و يضعّفه أنّ الاستنابة مع جوازها مسقطة للواجب المعيّن علي الوليّ، لا أحد فردي الواجب المخيّر، فلا يتعيّن عند تعذّر الصلاة الاختياريّة، بل ينتقل إلي بدلها الاضطراري كالصلاة قاعدا أو قائما إذا كان غير راج لزوال العذر، بل و إن كان راجيا، بناء علي عدم وجوب تأخير اولي الأعذار، و علي وجوب المبادرة إلي براءة ذمّة الميّت. و لكن الأقوي وجوب الانتظار مع رجاء زوال الأعذار، و الأحوط الاستنابة مع عدمه. و في حكم العجز و القدرة: العلم و الجهل المعذور فيه موضوعا أو حكما كمن جهل القبلة فصلّي إلي الجهة المظنونة أو إلي أربع جهات مع عدم الظنّ، أو صلّي في طاهر كان يعتقده الميّت نجسا، فإنّ هذه الأمور و أشباهها تلحق الفعل باعتبار مباشرته، لا باعتبار ذاته. و من هذا القبيل اختلاف الميّت و النائب في مسائل الصلاة، فإنّ العبرة فيها بمعتقد الفاعل تقليدا أو اجتهادا دون الميّت، حتّي لو فاته صلاة يعتقدها قصرا، كما إذا سافر إلي أربعة فراسخ من دون الرجوع ليومه و اعتقدها الوليّ تماما- لاعتقاده اعتبار الرجوع ليومه في الأربعة- وجب القضاء عنه تماما. نعم لا يجب قضاء ما صلّاه «1» الميّت صحيحا إذا اعتقد الوليّ فسادها، و هو واضح. و الفرق: إنّ فعل الميّت بدل عن الواقع إذا كان مخالفا له، أمّا إذا لم يفعل فالفعل يصير تكليفا للوليّ يوقعه بحسب اعتقاده، حتّي لو اعتقد عدم وجوبه علي الميّت رأسا لم يجب علي الوليّ و إن كان الميّت قد اعتقد وجوبه، كقضاء صلاة الخسوف الّذي لم يعلم به الميّت حتّي انجلي، فلا يجب علي الوليّ قضاؤها إذا اعتقد عدم وجوبه، و إن كان الميّت قد اعتقد وجوب القضاء. و يحتمل وجوب القضاء هنا علي الوليّ إذا اعتقد استحبابه علي تقدير عدم الوجوب، لصيرورة الميّت مشغول الذمّة به في اعتقاده و يمكن إبراء ذمّته فيجب. أمّا إذا لم يعتقد الوليّ استحبابه علي تقدير عدم الوجوب فلا يجوز له الإتيان لعدم تأتّي قصد القربة لكن فرض المسألة خلافيّة لا ينفكّ عن رجحان الإتيان من باب الاحتياط. الثانية: هل ما يفعله الوليّ أداء لما فات عن الميّت باعتبار الأمر الأدائي، فيكون فعله تداركا للأداء؟ كما لو فرض موته قبل خروج وقت الصلاة الّتي فاتته، كما إذا مات بعد مضيّ مقدار الصلاة و الطهارة، أو في غير الفرض المذكور أداء لما فات عن الميّت باعتبار الأمر القضائي فيكون تداركا لقضاء الميّت الّذي هو تدارك لفعله الأدائي، لا تداركا أوّليّا لفعله الأدائي؟. و بعبارة أخري: لا شك أنّ الصلاة عن الميّت كأداء الدين عنه، فهل الملحوظ- في كونه دينا- الأمر الأدائي، أو الأمر القضائي به فيما إذا مات بعد تكليفه بالقضاء؟ وجهان، أظهرهما من أدلّة العبادة عن الميّت و أنّها كأداء الدين عنه، الأوّل، لأنّ ظاهر إطلاق الدين علي العبادة إنّما هو باعتبار مطلوبيّتها الأوّليّة، و الأمر بقضائها أمر بأداء ذلك الدين، فإذا لم يؤدّه بنفسه أدّاه عنه الوليّ، ففعل الوليّ بدل الأداء، لا القضاء. و تظهر الثمرة في اعتبار الأمور المعتبرة في القضاء في فعل الوليّ. توضيح ذلك: أنّ ما كان من الشروط معتبرة في الأداء، فلا إشكال في اعتبارها في القضاء، سواء كان القاضي نفسه حيّا أو وليّه «2» بعد موته، لأنّ تدارك الفائتة لا يحصل إلّا بمراعاتها، لأنّ المفروض كونها مأخوذة في الفائت. و أما الشروط المعتبرة في قضاء الصلاة الّتي دلّ عليها الدليل الخاصّ من دون كونها معتبرة في الأداء، فلا بدّ من الاقتصار في اعتبارها علي مقدار دلالة الدليل، فإذا دلّ الدليل علي اعتبارها في قضاء الشخص عن نفسه فلا يتسرّي إلي قضائه عن غيره. نعم لو قلنا: إنّ الغير إنّما يفعل ذلك القضاء الّذي كان واجبا علي الميّت و امتثالا لأمره القضائي، فلا مناص من مراعاة هذه الشروط. و هذا مثل الترتيب بين الفوائت،- بناء علي اعتباره في القضاء باعتبار دليل خارج، و ليس باعتبار كونه شرطا في الأداء- ، إذ ليس تأخير المغرب عن عصره المتقدّم شرعا شرطا له، و إنّما هو عارض اتّفاقي له حصل من تدريج الزمان، بل تأخير العصر عن الظهر أيضا ليس إلا باعتبار الأمر الأدائي بالظهر، فإذا فات الظهر و العصر فقد ارتفع الأمر الأدائي بالظهر و برئت الذمّة منه، و وجوب وقوع العصر بعد «3» براءة الذمّة من مطلق الأمر بالظهر- و لو كان أمرا قضائيّا- غير معلوم، فتأمّل حتي لا يتوهّم أنّه رجوع عن لزوم «4» اتّحاد القضاء و الأداء في الشروط، لأنّا نلتزم أيضا أنّ كلّما هو شرط في العصر الأدائي شرط في العصر القضائي، لكن ندّعي أنّ الشرط في العصر الأدائي وقوعها بعد براءة الذمّة عن الأمر الأدائي [بالظهر، دون مطلق الأمر بها، و لازم اعتبار شروط
الأداء في القضاء أنّ العصر القضائي أيضا لا بدّ من وقوعها بعد البراءة عن الأمر الأدائي] «5»، و هذا شي‌ء حاصل دائما. فالعمدة في وجوب الترتيب بين الفوائت الإجماع المنقول و بعض الأخبار «6» و هي مختصّة بقضاء الشخص عن نفسه، و المفروض أنّ الوليّ نائب عن الميّت في تدارك الأداء، لا في تدارك القضاء حتّي يقتضي ذلك وجوب مراعاة ما وجب علي الميّت في قضائه عن نفسه. نعم لا يستبعد أن يستظهر من أدلّة الترتيب في قضائه عن نفسه كون مطلق كذلك، سواء كان عن نفسه أو عن الغير. الثالثة: هل يسقط القضاء عن الوليّ بفعل الغير- كما عن الشيخ «7» و جماعة «8»- أم لا- كما عن الحلّي «9» و آخرين «10»- ؟. الأقوي: الأوّل، لعموم ما دلّ علي أنّ الصلاة و الصوم عن الميّت يكتب له «11» و ما دلّ علي أنّ العبادة في ذمّة الميّت كالدين، فكما تبرأ ذمّته بأداء كلّ أحد الدين عنه فكذلك العبادة «12»: و قد تقدّم «13» في رواية الخثعميّة قوله صلّي اللَّه عليه و آله و سلم: «أ رأيت لو كان علي أبيك دين فقضيته أ كان ينفعه ذلك؟ قالت: نعم قال صلّي اللَّه عليه و آله و سلم: فدين اللَّه أحقّ بالقضاء» «14».
المكاسب، ج‌4، ص 343
فإذا برئت ذمة الميّت بفعل كل من فعل عنه، فلا يبقي في ذمّته شي‌ء حتّي يجب علي الوليّ قضاؤه، ففعل الغير مسقط للوجوب عن الوليّ بسقوط موضوعه- أعني اشتغال ذمّة الميّت- لا أنّ الغير نائب عن الوليّ أو متحمّل عنه، حتّي يقال: إنّ الصلاة و الصوم لا يتحمّلان عن الحيّ، أو يقال: إنّ المخاطب هو الوليّ فيجب عليه المباشرة، فإنّا لم نحكم بامتثال الوليّ إذا استناب غيره، و إنّما نحكم ببراءة ذمّة الميّت، فلا يكون عليه صلاة أو صيام حتّي يقضيه الوليّ. فيظهر من ذلك كلّه أنّ الاستدلال علي المنع بظهور الأدلّة في وجوب المباشرة، أو أنّ الصلاة و الصوم لا تدخلهما النيابة عن الحيّ، في غير محلّه، فإذن ما ذكرنا ينافي التصريح عن المشهور بوجوب مباشرة الوليّ له. و يدلّ علي السقوط- مضافا إلي ما ذكرنا- الموثّقة: «في الرجل يكون عليه صلاة أو صوم هل يجوز أن يقضيه رجل غير عارف؟ قال: لا يقضيه إلّا مسلم عارف» «1». دلّ علي عدم إجزاء قضاء غير العارف بالأئمة عليهم السلام و إن كان وليّا، و جواز قضاء العارف و إن لم يكن وليّا. و لا يجوز أن يكون المراد بغير العارف في السؤال، و بالعارف في الجواب خصوص الوليّ، كما لا يخفي. و مرسلة الفقيه عن الصادق عليه السلام: «إذا مات الرجل و عليه صوم شهر رمضان فليقض عنه من شاء من أهله» «2». فإنّه بعد قيام القرينة علي عدم إرادة ظاهر الخبر- و هو الوجوب الكفائي- ظاهر في أنّ كلّ أحد من أهله مرخّص في إبراء ذمّة الميّت، و تخصيص «الأهل» مع أنّ غيرهم أيضا مرخّص، لأجل حصول مشيئة القضاء فيهم غالبا، دون غيرهم. و الموثّق- كالصحيح- المحكيّ عن زيادات التهذيب، عن أبي بصير: «قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل سافر في رمضان فأدركه الموت قبل أن يقضيه قال: يقضيه أفضل أهل بيته» «3». دلّ- بعد قيام الدليل علي عدم وجوب القضاء علي أفضل أهل البيت- علي استحباب تفويض الوليّ القضاء إليه إن لم يكن هو وليّا، و علي عدم تفويضه إلي غيره إن كان هو الولي. و استدلّ الحليّ «4» و من تبعه «5» علي عدم سقوطه بفعل الغير بما يرجع حاصله إلي أصالة عدم السقوط بعد كون الوليّ هو المخاطب، و زاد في الذكري: أنّ الصلاة لا تقبل التحمّل عن الحيّ «6». و يعرف الجواب عن ذلك كلّه بما ذكرنا من أنّ الغير ليس متحمّلا عن الوليّ، و إنّما يبرئ ذمّة الميّت فيرتفع الوجوب عن الوليّ. نعم يمكن أن يستدلّ لهم بمكاتبة الصفّار إلي أبي محمّد العسكري عليه السلام: «رجل مات و عليه قضاء من شهر رمضان عشرة أيّام، و له وليّان، هل يجوز أن يقضيا عنه جميعا عشرة أيّام، خمسة أيام أحد الوليّين و خمسة أيّام الآخر؟ فوقّع عليه السلام: يقضي عنه أكبر وليّيه «7» عشرة أيّام ولاء إن شاء اللَّه تعالي» «8». فإنّ المنع عن إقدام الوليّين علي القضاء بالتوزيع مع كون أحدهما أكبر، يدلّ علي عدم جواز تبرّع الأصغر بقضاء خمسة أيّام. و حمل الأمر بالقضاء علي الاستحباب ينافيه- مع كون السؤال عن أصل الجواز- أنّ المستحبّ هو تعجيل إبراء ذمّة الميّت الحاصل بقضاء كلّ منهم خمسة دون صوم الأكبر عشرة ولاء، فالظاهر أنّ الأمر بالولاء لوجوب المبادرة إلي إبراء الذمة، ففيه دلالة علي عدم جواز تبرّع غير الوليّ، مضافا إلي اقتضاء تطابق الجواب و السؤال لذلك. و علي أيّ تقدير: فقوله عليه السلام: «يقضي عنه» ليس مستعملا في الوجوب بقرينة تقييده بالولاء، فليت شعري كيف استدلّ به المشهور علي وجوب تقديم الأكبر عند تعدّد الأولي بالإرث. إلّا أن يقال: إنّ الاستحباب مناف لوجوب المبادرة إلي إبراء ذمّة الميّت، فلو جاز لغير الوليّ القضاء لم يرجّح انفراد الوليّ به علي المشاركة. فظاهر الرواية لو حمل علي الوجوب نافي مذهبهم في جواز تبرّع الغير، و لو حمل علي الاستحباب لم يدلّ علي مذهبهم بتعيّن القضاء علي الأكبر. ثمّ إنّ ما ذكرنا من سقوط القضاء عن الميّت بفعل الغير يعمّ المتبرّع، و الموصي إليه، و المستأجر. أمّا المتبرّع: فلا فرق فيه بين أن يقع بإذن الوليّ أو بدون إذنه، إذ المفروض عدم تحمّله شيئا عن الوليّ حتّي يحتاج إلي إذنه. و أمّا الموصي إليه:
فإن قبل الوصيّة وجب عليه الفعل و لو كان تبرعا أو أوصي بالاستئجار من مال الموصي اليه علي ما يظهر من الذكري «9» و المحكيّ عن ابن طاوس «10» و غير واحد من المعاصرين «11»،
بل في المناهل دعوي ظهور الاتّفاق عليه «12» و عن التذكرة: أنّه إذا أوصي الإنسان بوصيّة فإنّ وصيّته تنفذ و يجب العمل بها إجماعا «13». و في دلالته علي المدّعي نظر.
نعم استدلّ عليه بعموم حرمة تبديل الوصيّة المستفاد من الآية «14» و من الأخبار «15» المستشهدة بالآية. و يظهر من العبارة المحكيّة عن التذكرة أنّ هذا النحو من قبول الوصيّة بمنزلة الوعد لا يجب الوفاء به، قال- في مقام الاستدلال علي وجوب قضاء الصوم عن المرأة برواية أبي بصير: «عن امرأة مرضت في شهر رمضان و ماتت في شوّال، فأوصتني أن أقضي عنها، قال: هل برئت من مرضها؟ قلت: لا، قال: لا تقضي عنها فإنّ اللَّه تعالي لم يجعله عليها، قلت: فإنّي أشتهي أن أقضي عنها و قد أوصتني بذلك، قال: كيف تقضي شيئا لم يجعله اللَّه عليها، فإن اشتهيت أن تصوم فصم لنفسك» «16»: استفسر عليه السلام عن حصول البرء أوّلا، و لو لم يجب القضاء مع البرء لم يكن للسّؤال معني. ثمّ قال: لا يقال: قد حصلت الوصية فجاز أن يكون الوجوب بسببها. لأنا نقول: الوصية لا تقتضي الوجوب، أما مع عدم القبول فظاهر، و أما مع القبول فلأنّه راجع إلي الوعد «17» (انتهي). و كيف كان: فهل الوصيّة النافذة تسقط الوجوب عن الوليّ، أم لا؟ صريح الشهيدين «18» و صاحب الموجز «19» و شارحه «20» و صاحب الذخيرة «21» ذلك، و لعلّه «22» لأنّ بعد فرض وجوب العمل بوصيّته لا يجب الفعل الواحد عينا علي مكلّفين، و إرجاعه إلي الوجوب الكفائي مخالفة لظاهر التكليفين، و الحكم بالوجوب علي الوليّ مناف لفرض نفوذ الوصيّة، فإنّ التحقيق أنّ دليل وجوب العمل بالوصيّة حاكم علي أدلّة مثل هذا الحكم، أعني الوجوب علي الوليّ، و إلّا فكلّ واقعة قبل تعلّق الوصيّة بها لها حكم غير ما تقتضيه الوصيّة، و لذا لم يستدلّ الشهيد رحمه اللَّه «23» و من تبعه «24» علي السقوط بأزيد من أنّ العمل بما رسمه الموصي واجب. نعم زاد صاحب الذخيرة: أنّ المتيقن من موارد الوجوب علي الولي ما إذا لم يوص الميت «25». و لا بأس به، لأنّ الظاهر من قول السائل: «يموت الرجل و عليه صلاة أو صيام من يقضيه؟» «26» فرض عدم وجود من أقدم علي إبرائه و وجب عليه ذلك. و ربّما يقال أيضا: إنّ النسبة بين أدلّة الوجوب علي الوليّ و أدلّة وجوب العمل بالوصيّة
المكاسب، ج‌4، ص 344 عموم من وجه، و الترجيح مع أدلّة الوصيّة. و فيه نظر، بل التحقيق الحكم بحكومة أدلّة الوصيّة كما يحكم في سائر الموارد، لما عرفت من أنّ كلّ وصيّة فهي ترد علي واقعة لها حكم و دليل لو لا الوصيّة، فلا يعارض بدليلها أدلّة الوصيّة، فلاحظ، فأدلّة العمل بالوصيّة شبيهة بأدلّة النذر و شبهه. و يظهر من شرح الوحيد البهبهاني:
عدم السقوط عن الوليّ بالوصيّة، بل يكون الوجوب عليهما نظير الكفائي «1». فإن أراد به كون الوجوب كذلك من أوّل الأمر و حين موت المقضيّ عنه، ففيه نظر عرفت وجهه. و إن أراد أنّ السقوط مراعي بفعل الوصيّ، فلا تبرأ ذمّته مطلقا إلّا بعد فعله، و لو تركاه استحقّا العقاب، فلا بأس به، لكن لا يجب تحصيل العلم أو الظنّ علي الوليّ بقيام الوصيّ به، بل لو ظهر له فواته من الوصيّ بحيث لا يمكن له الإتيان بموته أو نحوه، تعيّن علي الوليّ، للعمومات السليمة عن المعارض. إلّا أن يقال- بعد تسليم ما ذكر سابقا من كون مورد الحكم في الأخبار غير صورة إيصاء الميّت- : لا دليل علي عود الوجوب بعد تحقّق السقوط. و أمّا الاستيجار: فلا كلام فيه من حيث براءة ذمّة الميّت بفعل الأجير إذا فعلها علي الوجه الصحيح، سواء كان له وليّ فكان المستأجر هو أو غيره، أم لم يكن له وليّ. و إنّما الكلام في صحّة الاستيجار و عدمها. و الثمرة بعد الاتّفاق علي الصحّة، لو وقع من الأجير صحيحا كما لو وقع من غيره من في أمرين: أحدهما: انتقال مال الأجرة إلي الأجير. و الثاني: أنّ كون الداعي للعمل هو تحصيل استحقاق الأجرة غير قادح في نيّة القربة المعتبرة في جميع العبادات. فنقول: أمّا صحّة الاستيجار: فالحقّ صحّته وفاقا للمعظم، لوجوه:
الأوّل: الإجماعات المستفيضة عن جماعة كالشهيد قدّس سرّه حيث قال في الذكري: إنّ هذا النوع ممّا انعقد عليه إجماع الإماميّة الخلف و السلف، و قد تقرّر أنّ إجماعهم حجّة قطعية «2» (انتهي). و حكي الإجماع أيضا عن الإيضاح «3» و جامع المقاصد «4» و إرشاد الجعفرية «5». بل عن ظاهر مجمع الفائدة أيضا «6»، و عن بعض الأجلّة- كأنّه صاحب الحدائق- عدم الخلاف في المسألة «7». و يؤيّد ذلك- مضافا إلي الشهرة العظيمة، إذ لم يخدش في ذلك إلّا صاحبا الكفاية «8» و المفاتيح «9»- استقرار سيرة الشيعة في هذه الأعصار و ما قاربها من المجتهدين و العوام و المحتاطين علي الاستيجار و الإيصاء به. و يدلّ علي المسألة- مضافا إلي ما عرفت- أنّ المقتضي لصحّة الاستيجار موجود و المانع مفقود، لاتّفاق المسلمين علي أنّ كلّ عمل مباح «10» مقصود للعقلاء لا يرجع نفعه الي خصوص العامل و لم يجب عليه يجوز استئجاره عليه، و منع «11»
تحقّق الإجماع في خصوص كلّ مقام ضروري الفساد عند أدني محصّل، إذ لم تسمع المناقشة في هذه القاعدة و مطالبة الدليل علي الصحّة في كلّ مورد من الأعمال المستأجر عليها كما في الأعيان المستأجرة. هذا كلّه مضافا إلي العمومات الدالّة علي صحّة إجارة الإنسان نفسه، كما في رواية تحف العقول «12» و غيرها «13» و عمومات الوفاء بالعقود «14» و حلّ أكل المال بالتجارة عن تراض «15» و عمومات الصلح إذا وقعت المعاوضة علي جهة المصالحة «16». و بالجملة: فالأمر أظهر من أن يحتاج إلي الإثبات. ثمّ إنّ ما ذكره المخالف في المقام لا يوجب التزلزل فيما ذكرناه من الدليل، إذ المحكيّ عن المحدّث الكاشاني في المفاتيح ما هذا لفظه: «أمّا العبادات الواجبة عليه الّتي فاتته، فما شاب منها المال كالحجّ يجوز الاستئجار له كما يجوز التبرّع به عنه بالنصّ و الإجماع، و أمّا البدنيّ المحض- كالصلاة و الصيام- ففي النصوص أنّه «يقضيها عنه أولي الناس به» «17»، و ظاهرها التعيّن عليه، و الأظهر جواز التبرّع بهما عنه من غيره أيضا. و هل يجوز الاستيجار لهما عنه؟ المشهور نعم، و فيه تردّد، لفقد نص فيه، و عدم حجّيّة القياس حتّي يقاس علي الحجّ أو علي التبرّع، و عدم ثبوت الإجماع بسيطا و لا مركّبا، إذ لم يثبت أنّ كلّ من قال بجواز التبرّع «18» قال بجواز الاستيجار لهما. و كيف كان: فلا يجب القيام بالعبادات البدنيّة المحضة بتبرع و لا استئجار، إلّا مع الوصيّة» «19» (انتهي). و الظاهر أنّ استثناء الوصيّة من نفي الوجوب رأسا، فيجب مع الوصيّة في الجملة، لا مطلقا حتّي يشمل الوصيّة بالاستئجار، كما زعمه بعض فأورد عليه بأنّه لا تأثير للوصيّة في صحّة الاستيجار. و كيف كان: فحاصل ما ذكره- كما حصّله بعض- يرجع إلي التمسّك بالأصل. فإن أراد أصالة الفساد بمعني عدم سقوطه عن الوليّ و عدم براءة ذمّة الميّت، ففيه أنّه لا يعقل الفرق بين فعل الأجير إذا وقع جامعا لشرائط الصحّة و فعل المتبرّع في براءة ذمّة الميّت و الوليّ في الثاني دون الأوّل و إن قلنا بفساد أصل الإجارة. و دعوي عدم وقوع فعل الأجير صحيحا، لعدم الإخلاص- مع أنّه كلام آخر يأتي الإشارة إليه- مدفوعة بأنّه قد لا يفعله الأجير إلّا بنيّة القربة، إذ الاستيجار لا يوجب امتناع قصد القربة. و إن أراد به أصالة فساد الإجارة، بمعني عدم تملّك الأجير للأجرة المسمّاة و عدم تملّك المستأجر العمل علي الأجير ليترتّب عليه آثاره، ففيه ما عرفت سابقا من أنّه لا معني لمطالبة النصّ الخاصّ علي صحّة الاستيجار لهذا العمل الخاصّ من بين جميع الأعمال الّتي يعترف بصحّة الاستيجار عليها من غير توقف علي نص خاصّ، فهل تجد من نفسك التوقّف في الاستيجار لزيارة الأئمة عليهم السلام من جهة عدم النصّ الخاصّ، و كون إلحاقه قياسا محرّما؟. و الحاصل: أنّ التوقّف في صحّة الاستيجار في هذا المورد الخاصّ من جهة عدم الدليل في غاية الفساد، مضافا إلي ما عرفت سابقا من وجود النصّ علي صحّة الاستيجار علي الصوم، أو علي ما هو بمنزلة الاستيجار- كالجعالة و المصالحة- مثل ما عن الصدوق في الفقيه، عن عبد اللَّه بن جبلة، عن إسحاق ابن عمّار، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «في رجل جعل عليه صياما في نذر فلا يقوي. قال: يعطي من يصوم عنه كلّ يوم مدّين» «20» فإنّ غاية الأمر حملها علي الاستحباب علي فرض انعقاد الإجماع علي عدم وجوب الاستنابة عند العجز، لكنّه كاف في إثبات المشروعيّة. ثمّ إنّ لصاحب المفاتيح دعوي أخري في هذا المقام من جهة عدم قصد التقرّب فيما يفعله الأجير، تبع فيه بعض من تقدّمه، قال في المفاتيح- علي ما حكي عنه- ما هذا لفظه: «و الّذي يظهر لي أنّ ما يعتبر فيه التقرّب لا يجوز أخذ الأجرة عليه مطلقا، لمنافاته الإخلاص، فإنّ النيّة- كما مضي- ما
المكاسب، ج‌4، ص 345
يبعث علي الفعل، دون ما يخطر بالبال. نعم يجوز فيه الأخذ إن اعطي علي وجه الاسترضاء أو الهدية أو الارتزاق من بيت المال من غير تشارط. و أمّا ما لا يعتبر فيه ذلك، بل يكون الغرض منه مجرّد صدور الفعل علي أيّ وجه اتّفق، فيجوز أخذ الأجرة عليه مع عدم الشرط فيما له صورة العبادة فيكون مسقطا للعقاب عمّن وجب عليه و إن لم يوجب الثواب له. و أمّا جواز الاستيجار للحجّ- مع كونه من القسم الأوّل- فلأنّه إنّما يجب بعد الاستيجار و فيه تغليب لجهة الماليّة، فإنّه إنّما يأخذ المال ليصرفه في الطريق حتّي يتمكّن من الحجّ، و لا فرق في صرف المال في الطريق بين أن يصدر من صاحب المال أو نائبه. ثمّ إنّ النائب إذا وصل إلي مكّة و تمكّن من الحجّ أمكنه التقرّب به، كما إذا لم يكن أخذ أجرة فهو كالمتطوّع. أو نقول: إنّ ذلك أيضا علي سبيل الاسترضاء للتبرّع، أما الصلاة و الصوم فلم يثبت جواز الاستيجار لهما كما مرّ» «1». و ربما يستفاد هذا من كلام بعض من سبقه كما سيجي‌ء. و الجواب عنه، أوّلا: بالنقض ببعض الواجبات و المستحبّات المعتبر فيها التقرّب، كالحجّ و صلاة الطواف و الزيارات المندوبات إذا وقعت الإجارة علي نفس الأفعال فقط أو مع المقدّمات. و دعوي خروجها بالنص و الإجماع إن رجعت إلي دعوي عدم اعتبار القربة فيها كانت فاسدة بالبداهة، و إن رجعت إلي دعوي الفرق بينها و بين الصلاة و الصوم في منافاة الأجرة لقصد القربة فيهما دونها، فأظهر فسادا من الأوّل، ضرورة اتّحاد القربة المعتبرة في جميع العبادات. و أمّا ثانيا: فبالحلّ، و قد تقرّر بما حاصله: جعل التقرّب صفة للفعل و استحقاق الأجرة غاية، فيقال: إنّ النيّة مشتملة علي قيود: منها كون الفعل خالصا للَّه سبحانه، و منها كونه أداء أو قضاء، عن نفسه أو عن الغير، بأجرة أو بغيرها، و كلّ من هذه القيود غير مناف لقصد الإخلاص، و الأجرة فيما نحن فيه إنّما وقعت أوّلا و بالذات بإزاء القيد الثاني- أعني النيابة عن زيد- بمعني أنّه مستأجر علي النيابة عن زيد بالإتيان بهذه الفريضة المتقرّب بها، و قيد القربة في محلّه علي حالة لا تعلّق للإجارة إلّا من حيث كونه قيدا للفعل المستأجر عليه. نعم لو اشترط في النيابة عن الغير التقرّب زيادة علي التقرّب المشروط في صحّة العبادة، اتجه منافاة الأجرة لذلك، إلّا أنّه ليس بشرط إجماعا. و بالجملة: فإنّ أصل الصلاة مقصود بها وجهه سبحانه، لكنّ الداعي عليها و الباعث عليها مع التقرّب هو هذا المبلغ الّذي قرّر له. و لذلك نظائر في الشرع يوجب رفع الاستبعاد، مثل صلاة الاستسقاء و الاستخارة و طلب الحاجة و الولد و الرزق، و نحوها ممّا كان الباعث عليها أحد الأغراض، فإنّ أصل الصلاة مقصود بها وجهه سبحانه و يتقرّب بها إليه جلّ ذكره، و لكن الحامل عليها أخذ الأمور المذكورة، بمعني أنّه يأتي بالصلاة الخالصة لوجه اللَّه لأجل هذا الغرض الحامل عليها «2» (انتهي). و لا يخفي ما فيه، لابتناء ما ذكره المحدّث المتقدّم علي اعتبار كون القربة و الإخلاص داعيا و حاملا علي الفعل بحيث لا يشركه بغيره و هو الحقّ الّذي لا محيص عنه، فجعل الغرض و الداعي أمرا آخر مخالف لذلك. مع أنّ كون القربة و الإخلاص من قبيل الأداء و القضاء من قيود الفعل لا محصّل له، بناء علي أنّ قصد القربة عبارة عن قصد امتثال أمر اللَّه و طلب رضا اللَّه بذلك الفعل. فالتحقيق في الجواب أن يقال: قد عرفت سابقا أن معني النيابة هو تنزيل الشخص منزلة الغير في إتيان العمل الخاصّ، و قد عرفت أيضا مشروعيّته و رجحانه، و مقتضي هذا التنزيل كون الفعل المقصود به حصول التقرّب و الثواب موجبا لتقرّب ذلك الغير، لا العامل، لأنّه لم يتقرّب بذلك الفعل إلّا بعد تنزيل نفسه منزلة المنوب عنه، فصار المنوب عنه هو المتقرّب، و لذا يعود النفع إليه. ثم إنّ هذا التنزيل هو بنفسه فعل يمكن أن يقع للدواعي المختلفة، فقد يكون الداعي ما حكم العقل و النقل به من حسن هذا التنزيل و أنّه محبوب للَّه تعالي و أنّ الفاعل يثاب عليه، فلا يوقع هذا التنزيل إلّا للَّه تعالي. و قد يكون الداعي عليه حبّ ذلك الغير لأمر دنيوي- كقرابة أو صداقة أو إحسان يريد مكافأته أو غير ذلك- من غير التفات إلي كون هذا التنزيل ممّا أمر به استحبابا و أراده الشارع، و هذا هو الأكثر في العوام حيث لا يكون الداعي و الحامل لهم علي العمل إلّا ما يسمع من وصول النفع إلي الميّت بهذه العبادة أو هذه الصدقة، و لا يلتفتون إلي وصول
نفع و ثواب إليهم، بل لا يعتقدونه، بل قد لا يصدّقون من يخبرهم بذلك قائلين: إنّا نفعل هذا و ثوابه لميّتنا، و لا شكّ أنّ النيابة بهذا القصد لا يوجب عدم صحّة العمل، لأنّ التقرّب علي وجه النيابة حاصل. نعم النيابة علي وجه التقرّب غير حاصل، و الموجب لصحّة الفعل علي وجه النيابة هو الأوّل، و الثاني يعتبر في صحّة نفس النيابة الّتي هي عبادة باعتبار تعلّق الأمر الاستحبابي به عقلا و نقلا. إذا عرفت هذا فنقول: كون الداعي علي النيابة و تنزيل نفسه منزلة الغير في إتيان الفعل تقرّبا إلي اللَّه هو مجرّد استحقاق الأجرة، إنّما يوجب عدم الخلوص و التقرّب في موافقة أوامر النيابة و عدم حصول ثواب للنائب، لعدم امتثاله أوامر النيابة و عدم إخلاصه فيها، و هذا لا يوجب عدم صحّة العمل الّذي جعل نفسه فيه بمنزلة الغير و أتي به عنه تقرّبا إلي اللَّه، فالنيابة عن الميّت لمجرّد استحقاق الأجرة كالنيابة عنه لمجرّد محبّة الميّت لكونها زوجة للنائب قد شغفته حبّا لحسنها، بحيث لا يريد من صدقاته و عباداته عنها إلّا مجرّد إيصال الثواب إليها، أو كالنيابة عنه لكونه محسنا إليه في أيّام حياته و معينا له في أمر دنياه أو دينه. نعم لو نوي الأجير النيابة عن الميّت لأجل إيصال النفع إلي أخيه المؤمن و لأجل امتثاله للوجوب الحاصل من جهة وجوب الوفاء بالعقود، كان مثابا في عمله مأجورا في الدنيا و الآخرة. و عليه يحمل ما ورد من قول الصادق عليه السلام لمن استأجره للحجّ عن إسماعيل- بعد ما شرط آدابا كثيرة- : «انه إذا فعلت كذلك كان لإسماعيل واحد بما أنفق من ماله، و لك تسعة بما أنعمت من ربّك» «3». ثمّ إنّ هنا كلمات للفقهاء لا بأس بإيرادها ليعلم حالها بمقايسة ما ذكرنا من التوجيه في نيّة التقرّب، و أنّ ما ذكره المحدّث الكاشاني «4» موافق لبعضها، فنقول- تعويلا علي ما حكي عنهم- : قال في القواعد: و كذا
المكاسب، ج‌4، ص 346
لو آجر نفسه للصلاة الواجبة عليه، فإنّها لا تقع عن المستأجر، و هل تقع عن الأجير؟ الأقوي العدم. «1» (انتهي). و حكي اختيار عدم وقوعها عن الأجير عن الإيضاح «2» و جامع المقاصد «3» معلّلا بأنّ الفعل الواحد لا يكون له غايتان متنافيتان، إذ غاية الصلاة التقرّب و الإخلاص خاصّة، و غاية العبادة في الفرض حصول الأجرة، و لأنّه لم يفعلها عن نفسه لوجوبها عليه بالأصالة [بل لوجوبها عليه بالإجارة لمكان أخذ العوض في مقابلها، فلا يكون هي الّتي في ذمّته، لأنّ الّتي في ذمّته هي الواجبة عليه بالأصالة] «4». و وجه غير الأقوي أنّ ذلك علّة و باعث في حصول الداعي إلي الصلاة الجامعة لما يعتبر في صحّتها، فكان كالأمر بالصلاة و نحوها ممّن يطاع، و كما في الاستيجار للصلاة عن الميّت و الحج و غيرها من العبادات، و علّيته للداعي لا تبطل الفعل. و أجاب في جامع المقاصد بأنّ العلّة متي نافت الإخلاص و كانت غاية اقتضت الفساد، و العلّة و الغاية هنا حصول الأجرة «5». و حكي عن الإيضاح ما في معني هذا، و زاد: إنّ الإجماع فرّق بين هذه الصورة و الاستيجار عن الميّت «6». و عن جامع المقاصد: أنّه متي لحظ في الصلاة عن الميّت فعلها لحصول الأجرة كانت فاسدة «7». (انتهي ما حكي عن هؤلاء في هذا المقام) و عليك بالتأمّل فيها و فيما ذكرناه قبل ذلك. ثمّ إنّ بما ذكرنا يعلم أنّه لا حاجة في صلاة الاستيجار إلي قصد التقرّب باعتبار الوجوب الحاصل بالإجارة- كما زعمه بعض «8»- لأنّ ذلك الوجوب توصّلي لا يحتاج سقوطه إلي قصده، و جعله غاية و التقرّب المحتاج إليه في صحة الصلاة لتبرّي ذمّة المنوب عنه لا يعقل أن يكون باعتبار ذلك الوجوب التوصّلي، و إلّا للزم الدور، فإنّ صحّة الاستيجار الّتي يتوقّف عليها حصول الوجوب موقوفة علي فعل الصلاة عن النائب متقرّبا إلي اللَّه، فكيف يكون فعله بقصد التقرّب موقوفا علي حصول الوجوب؟! اللَّهم إلّا أن يقال: فعله عن الميّت متقرّبا إلي اللَّه شي‌ء ممكن قبل الإجارة باعتبار رجحان النيابة عن الغير في العبادات عقلا و نقلا، فإذا وقع في حيّز الإجارة تبدّلت صفة ندبه بصفة الوجوب، كما في صلاة التحيّة الّتي تقع في حيّز النذر. و فيه نظر، مع أنّ ما ذكر من قصد التقرّب باعتبار الوجوب الحاصل بالإجارة إنّما يصحّح الفعل المستأجر عليه، أمّا إذا وقعت المعاوضة علي وجه الجعالة، أو أمره بالعمل عن الميّت، فعمل رجاء للعوض من دون سبق معاملة، فلا يجري ما ذكره، لعدم الوجوب، فينبغي أن لا يصحّ فعله له لداعي استحقاق العوض، مع أنّ الظاهر عدم القول بالفصل بين الإجارة و الجعالة و فعل العمل عقيب أمر الآمر به غير ناو للتبرّع. ثمّ إنّ المحقّق القميّ رحمه اللَّه في بعض أجوبة مسائله ذكر أنّ الاعتماد في صحّة الاستيجار للعبادة علي الإجماعات المنقولة، دون ما ذكره الشهيد في الذكري من الاستدلال عليه بمقدّمتين إجماعيّتين الراجع إلي ما ذكرنا في الوجه الثاني من وجود المقتضي و انتفاء المانع. إحداهما: إنّ العبادة عن الغير يقع عنه و يصل اليه نفعه، و هذه المقدّمة ثابتة بإجماع الإمامية و النصوص المتواترة. و الثانية: إنّ كل أمر مباح يمكن أن يقع للمستأجر يجوز الاستيجار له، و هذه أيضا إجماعية. و علّل عدم الاعتماد علي هذا الاستدلال بأنّه مستلزم للدور، و لم يبيّن وجهه في ذلك الموضع، بل إحالة إلي بعض مؤلّفاته «9». و كأنه أراد بالدور ما ذكرنا، بناء علي أنّ قصد التقرّب المعتبر في المقدّمة الاولي من دليله- و هي وقوع العمل عن الغير و وصول نفعه إليه- موقوف علي النتيجة، و هي صحّة استئجاره للعمل عن الغير ليحصل الأمر فيقصد التقرّب بامتثال هذا الأمر، إذ مع قطع النظر عن الإجارة لم يتعلّق أمر بإيقاع العمل عن الغير في مقابل العوض حتّي يتصوّر فيه قصد التقرّب. نعم تعلّق الأمر في الأخبار الكثيرة بإيقاع العمل عن الميّت تبرّعا، «10» و هذا ليس منه «11». و قد عرفت ممّا ذكرنا في بيان قصد التقرب أنّ التقرّب إنّما يقصد في الفعل الّذي يتعلّق به النيابة لا في نفسها. و الحاصل أنّ النائب ينزّل نفسه لأجل العوض أو غرض دنيوي آخر منزلة الغير في إيقاع الفعل تقرّبا إلي اللَّه، لا أنّه ينزّل نفسه قربة إلي اللَّه و امتثالا لأمره منزلة الغير في إيقاع الفعل، حتّي يقال: إنّه موقوف علي وجوب النيابة أو استحبابها و لم يثبت إلّا تبرّعا، و وجوبها فرع صحّة الإجارة المتوقّفة علي إحراز القربة المصحّحة قبل الإجارة حتّي يصح تعلّق الإجارة. ثمّ إنّ ما ذكرنا من الاتّفاق علي صحّة الاستيجار لا ينافي ما تقدّم من الخلاف في جواز استئجار الوليّ، لأنّ الكلام هناك في سقوطه عن الولي
بالاستئجار لا في صحّته، فالقائل بالاستئجار و بعدم جوازه من الوليّ لا يمنع من الاستيجار إذا لم يكن وليّ أو أوصي الميّت بالاستئجار أو استأجر متبرّع من ماله، كما أنّ المانع من الاستيجار لا يمنع تبرّع غير الوليّ بالعمل كما عرفت من المحدّث الكاشاني «12».
فالنسبة بين القول بصحة الاستئجار و صحّة قيام غير الوليّ بالعمل بإذنه أو بدون إذنه، عموم من وجه.

فرع


الظاهر أنّه لا يجوز استئجار العاجز عن الأفعال الواجبة كالقيام و لو كان الفائت من الميّت كذلك، لانصراف أمر القضاء أو الاستيجار إلي الفعل التام. فلو آجر نفسه للعمل فطرأ عليه العجز عن أفعال الصلاة الاختيارية- كالقيام- فاحتمل في الجعفريّة انفساخ العقد، و تسلّط المستأجر علي الفسخ، و الرجوع بالتفاوت، و الإتيان بمقدوره، قال: و هذا أضعفها «13» (انتهي). و الظاهر أنّ هذه الاحتمالات مع تعيّن المباشرة عليه، و إلّا وجب الاستنابة كما لو مات. ثمّ إنّ الأوفق بالأصول الانفساخ، لعدم تمكّنه من العمل المستأجر عليه «14».
المكاسب، ج‌4، ص 347

4- رسالة في المواسعة و المضايقة

اشارة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

مسألة اختلفوا في وجوب تقديم الفائتة علي الحاضرة علي أقوال:

أحدها: عدم الوجوب مطلقا

، و هو المحكي عن الحلبي في كتابه «1»- الذي استحسنه أبو عبد اللَّه صلوات اللَّه عليه بعد عرضه عليه- «2» و عن الحسين بن سعيد «3»، بل عن أخيه الحسن أيضا- بناء علي أنّ ماله من الكتب كان لأخيه أيضا- «4»، و عن أبي جعفر أحمد بن محمّد بن عيسي الأشعري القمي «5» و محمّد بن عليّ بن محبوب «6»، و عن الصدوقين «7»، و عن الجعفي صاحب الفاخر- المعروف في كتب الرجال- بأبي الفضل الصابوني «8»
الذي يروي عنه الشيخ و النجاشي بواسطتين- و عن الشيخ أبي عبد اللَّه الواسطي- من مشايخ الكراجكي- و المعاصر للمفيد قدّس سرّه حيث قال- في مسألة «من ذكر صلاة و هو في اخري»- : إنّه قال أهل البيت عليهم السلام: «يتمّ التي هو فيها، و يقضي ما فاته» و به قال الشافعي، ثمّ ذكر خلاف باقي الفقهاء «9». و في المحكي عن موضع آخر من كتابه أنّه قال: دليلنا علي ذلك ما روي عن الصادق عليه السلام: أنّه قال: «من كان في صلاة ثمّ ذكر صلاة أخري فائتة أتمّ التي هو فيها، ثمّ قضي ما فاته» «10». و عن الشيخ قطب الدين الراوندي- من مشايخ ابن شهر آشوب- «11» و عن الشيخ سديد الدين محمود الحمصي «12» و الشيخ الإمام أبي طالب عبد اللَّه بن حمزة الطوسي «13» و الشيخ أبي عليّ الحسن بن طاهر الصوري «14» و عن الشيخ يحيي بن حسن بن سعيد- جدّ المحقق- «15» و عن ولد ولده ابن سعيد- ابن عمّ المحقق- في الجامع «16» و عن السيّد الأجلّ عليّ بن طاوس «17» و عن العلّامة في كثير من كتبه «18» و عن والده «19» و ولده «20» و ابن أخته السيّد عميد الدين «21» و أكثر من عاصره «22» و الشهيد «23» و المحقّق الثاني «24» و ولده «25» و السيوري «26»
و ابن القطّان «27» و ابن فهد «28» و الصيمري «29» و الشهيد الثاني «30» و ولده «31» و تلميذه «32» و ولد ولده «33» و الشيخ البهائي «34» و المحقّق الأردبيلي «35» و المحقّق الجواد الكاظمي «36» و الفاضل الهندي «37» و السيّد المحدّث نعمة اللَّه الجزائري «38» و ولد ولده السيّد عبد اللَّه «39»- في شرح النخبة- «40» و المحقّق الوحيد البهبهاني «41» و أكثر تلامذته، منهم السيّد محمّد مهدي الطباطبائي «42» و الشيخ الوحيد الفقيه الشيخ جعفر «43» و جماعة من علماء البحرين «44» و أكثر المعاصرين، بل كلّهم «45» و قدصرّح جماعة بدعوي الشهرة عليه مطلقا «46» أو بين المتأخّرين «47».
و هؤلاء- مع اتّفاقهم علي جواز تقديم الحاضرة- بين من يظهر منه وجوبه- كما عن ظاهر جماعة من القدماء- «48» فيكون الفائتة بالنسبة إلي الحاضرة كالكسوفين بالنسبة إليها- عند جماعة- «49» و بين من يظهر منه استحبابه كما عن ظاهر بعضهم، و صريح أبي علي الصوري- المتقدّم إليه الإشارة «50»- و بين من نصّ علي استحباب تقديم الفائتة «51»
و من نصّ علي استحباب تأخير الحاضرة استنادا إلي الاحتياط لأجلها، و من يظهر منه التخيير المحض بالنسبة إلي ما عدا الفائتة الواحدة و فائتة اليوم كما عن رسالة الملاذ للمحقّق المجلسي «52» حيث حكم بأنّ الأحوط تقديم الفائتة الواحدة، و فائتة اليوم، و أمّا مطلق الفوائت فالظاهر عدم وجوب تقديمها، بل و لا أفضليته (انتهي). لكنّ الإنصاف أنّ هذا ليس قولا بالتخيير، لأنّ عدم أفضلية تقديم الفائتة يلزمه القول برجحان تقديم الحاضرة، لعمومات «53» رجحان تقديمها «54» فإنّ من يقول برجحان تقديمها لا يقول إلّا لأجل العمومات و النصوص الدالّة علي رجحان تقديمها علي الفائتة، لأجل إدراك فضيلة وقت الحاضرة، فتأمّل. و علي كلّ حال فيمكن القول باستحباب تأخير الحاضرة لمراعاة الاحتياط الغير اللّازم، مع استحباب تقديم الحاضرة، إمّا لعموم فضيلة أوّل الوقت «55» و إمّا للنصوص الخاصّة «56»، و لا منافاة بين الاستحبابين، كما نقول: إنّ الإتمام في الأماكن الأربعة أفضل، و القصر أحوط. بل يمكن القول باستحباب تقديم الحاضرة من جهة عمومات فضيلة أوّل الوقت و استحباب تقديم الفائتة إمّا بالخصوص «57» أو لأدلّة المسارعة إلي الخير «58»، فتأمّل. و الحاصل: أنّ لكلّ من استحباب تقديم الحاضرة و استحباب تقديم الفائتة وجوها ثلاثة: النصّ الخاصّ المحمول علي الاستحباب، و عمومات‌المبادرة إلي الطاعات، و الاحتياط بناء علي وجود القول بوجوب تقديم الحاضرة كالقول بوجوب تقديم الفائتة، و يزيد استحباب تقديم الحاضرة بوجه رابع و هو ما دلّ علي فضيلة أوّل الوقت لها، حيث إنّ لخصوصيّة الجزء الأوّل من الوقت مدخلا في الفضيلة، لا أنّ ذلك لمجرّد رجحان المبادرة إلي إبراء الذمّة، علي ما يومئ إليه بعضها «59». فعليك بالتأمّل فيما يمكن اجتماعه من وجوه استحباب تقديم الفائتة، مع وجوه استحباب تقديم الحاضرة، و سيجي‌ء لهذا مزيد بيان عند ذكر الأخبار الواردة في الطرفين إن شاء اللَّه. و كيف كان ففي صور الاجتماع نحكم باستحباب كلّ من الأمرين علي سبيل التخيير، فإن علم من دليل خارج أهميّة أحدهما حكم بمقتضاه من دون سقوط الآخر عن الاستحباب. و هذا بخلاف الواجبين المتزاحمين إذا علم من الخارج أهميّة أحدهما، فإنّه يحكم بسقوط وجوب الآخر، خلافا لمن أنكر الترجيح بالأهميّة كالفاضل التوني في الوافية «60»،
و لمن اعترف به «61» مع حكمه ببقاء الآخر علي صفة الوجوب علي تقدير اختيار المكلّف ترك الأهم. و ضعف كلا القولين، و بيان الفرق بين المستحبين المتزاحمين مع أهمّيّة أحدهما، و الواجبين كذلك، موكول إلي محلّه.

و الثاني «62»: القول بعدم وجوب الترتيب مع تعدّد الفائتة

، و بوجوبه مع وحدتها. ذهب إليه المحقّق في كتبه «63» و سبقه إليه الدّيلمي فيما حكي عنه «64» و تبعه إليه صاحب المدارك «65» و قوّاه الشهيد في نكت الإرشاد «66» و إن عدل عنه في باقي كتبه «67». و حكي عن صاحب هديّة المؤمنين «68» و عن المختلف «69» نسبة
المكاسب، ج‌4، ص 348
القول بالمضايقة إلي الديلمي، لكن المحكي «1» من بعض كلماته التفصيل المذكور حيث قال: إنّ الصلاة المتروكة علي ثلاثة أضرب: فرض معيّن، و فرض غير معين، و نفل، فالأوّل يجب قضاؤه علي ما فات، و الثاني علي ضربين: أحدهما: أن يتعيّن له أنّ كلّ الخمس فأتت في أيّام لا يدري عددها. و الثاني: أن يتعيّن له أنّها صلاة واحدة، و لا يتعيّن أيّ صلاة هي. فالأوّل: يجب عليه فيه أن يصلّي مع كلّ صلاة صلاة حتّي يغلب علي ظنّه أنّه و في. و الثاني: يجب عليه أن يصلّي اثنين، و ثلاثا، و أربعا «2» (انتهي). و ظاهره كما تري التوسعة في الفوائت المتعددة. و ممّن يظهر منه اختيار هذا، المحقّق الآبي- تلميذ المحقّق- فيما حكي عنه «3» من كشف الرموز حيث قال- بعد ما اختار القول بالمضايقة و الترتيب مطلقا «4» و ذكر تفصيل شيخه المحقّق و مستنده- : «و هو حسن اذهب اليه جزما، و علي التقديرات لا يجوز لصاحب الفوائت الإخلال بأدائها إلّا لضرورة، و عند أصحاب المضايقة إلّا لأكل أو شرب ما يسدّ الرمق أو تحصيل ما يتقوّت به هو و عياله و مع الإخلال بها يستحقّ المقت في كلّ جزء من الوقت «5» (انتهي).
ثمّ إنّ هؤلاء إنّما صرّحوا بالتفصيل في الترتيب، و امّا وجوب المبادرة فظاهر صاحب المدارك «6» عدمه مطلقا، كما أنّ صريح المحكيّ عن هديّة المؤمنين «7» ثبوته مطلقا، حيث قال: يجب المبادرة إلي القضاء فورا لاحتمال اخترام المنيّة «8» في كلّ ساعة، بل لم يرخّص المرتضي «9» إلّا أكل ما يسدّ الرّمق، و النّوم الحافظ للبدن، و أن لا يسافر سفرا ينافيه، و بالغ في التضيّق كلّ مبلغ، ثمّ قال: و أمّا الترتيب بين الحاضرة و الفائتة فإن كانت واحدة قدّمها علي الحاضرة، و ان كانت أكثر قدّم الحاضرة عليها. و إن أراد تقديم الفوائت المتعددة عليها مع سعة الوقت فجائز أيضا «10» (انتهي). و ظاهره جواز فعل الفريضة الحاضرة مع فوريّة الفوائت المتعدّدة، بل استحبابها قبله، بل المحكيّ «11» عنه التصريح بجواز فعل النافلة علي كراهيّة لمن كانت ذمّته مشغولة بصلاة واجبة. و الظاهر أنّه لا يحكم بفساد العبادة مع فوريّة ضدّها الواجب، فيبقي الحاضرة علي حكم استحباب المبادرة إليها، لا أنّ الحاضرة و النافلة مستثنيان من فوريّة فعل الفائتة، لأنّه لم يتعرّض لحرمة ما ينافيها حتّي يقبل الاستثناء، بل نسب حرمة الأضداد إلي السيّد المرتضي. و أمّا المحقّق فالمحكيّ عنه «12» فيما عدا الشرائع: التصريح باستحباب تقديم الفائتة المتعدّدة «13»
بل عن المعتبر «14» و العزيّة «15»: التصريح بعدم فوريّتها، و أمّا في الواحدة فليس في كلماته الموجودة، و المحكية عنه، إلّا وجوب تقديمها علي الحاضرة، من غير تعرّض للفورية، بل استظهر «16» من كلامه في المعتبر و العزيّة: نفي الفورية فيها أيضا. و أمّا الشرائع فقد قال فيها- بعد ذكر أصل وجوب قضاء ما فات من الصلوات المفروضة- : و يجب قضاء الفائتة وقت الذكر ما لم يتضيّق وقت حاضرة «17» و تترتّب «18» السابقة علي اللاحقة، كالظهر علي العصر، و العصر علي المغرب، و المغرب علي العشاء «19»، و إن فاتته صلوات لم تترتّب علي الحاضرة، و قيل تترتّب و الأوّل أشبه «20» (انتهي). فقوله: «و يجب قضاء الفائتة وقت الذكر ما لم يتضيّق وقت الحاضرة» يحتمل وجوها، لأنّ المراد بالفائتة إمّا أن يكون خصوص الواحدة، كما قيّده به في المسالك «21» و المدارك «22» و إمّا ان يكون المراد مطلق الفائتة، و علي التقديرين:
إمّا أن يراد وجوب المبادرة إلي القضاء وقت الذكر، و إمّا أن يراد بيان وقت القضاء بعد بيان أصل وجوبه، فيكون المراد: أنّ الأوقات كلّها صالحة لقضاء الفوائت إلّا وقت ضيق الحاضرة، فهذه أربعة احتمالات: فعلي التقدير الأوّل منها تدلّ العبارة علي فورية الفائتة الواحدة مطابقة، و يدلّ بالالتزام علي وجوب الترتيب، بناء علي أنّ الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ، أو علي أنّ الترتيب، بناء علي أنّ الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ، أو علي أنّ الترتيب واجب مستقلّ يرجع إلي وجوب تقديم الفائتة، لا أنّه «23» شرط يرجع إلي اعتبار تأخير الحاضرة، و اشتراط براءة الذمّة عن الفائتة في صحّتها. لكنّ الإنصاف: أنّ هذا الاحتمال خلاف ظاهر العبارة، من جهة عدم مساعدة السياق له من وجهين: أحدهما: أنّه قد فصّل شقّي التفصيل بين الواحدة و المتعدّدة بمسألة، و هي ترتّب الفوائت بعضها علي بعض. و احتمال أن يكون قد فرغ من حكم الواحدة، ثمّ تعرّض للمتعدّدة فذكر- أوّلا- عدم الترتيب بينها «24»، ثمّ عدم الترتيب بينها و بين الحاضرة، ينافيه عنوان المسألة الثانية بقوله: «و إن فاتته صلوات لم تترتّب علي الحاضرة». و هذا بخلاف ما إذا أريد بالفائتة مطلقها، فيكون في مقام بيان فوريّة القضاء مطلقا، أو بيان وقته كذلك، فيكون قد تعرّض- بعد بيان وجوب أصل القضاء- لوقته، ثمّ لاعتبار الترتيب فيه مع التعدّد، ثمّ لعدم ترتّب الفائتة المتعدّدة علي الحاضرة، فيكون حكم الفائتة الواحدة مسكوتا عنه، أو مستفادا من مفهوم العبارة، أو ممّا سيجي‌ء في كلامه في مسألة العدول.
و الثاني: أنّه إن كان الترتيب لازما لوجوب المبادرة، فالأحسن التعبير عن عدم وجوب الترتيب في المتعدّدة بعدم وجوب المبادرة إليها، و إلّا فلا حسن في التعبير عن وجوبه في الواحدة بوجوب المبادرة إليها. ثمّ إنّه قد فرّع علي هذا القول: أنّ من عليه فوائت إذا قضاها حتّي بقيت واحدة لم يجز له- حينئذ- الاشتغال بالحاضرة، و إن جاز له قبل ذلك، كما أنّ من عليه فائتة واحدة إذا صار عليه اخري سقط عنه وجوب الترتيب. و الفرع الأخير ظاهر، و أمّا الأوّل فلا يخلو عن شي‌ء، لإمكان دعوي ظهور كلمات أصحاب هذا القول- كأدلّتهم- فيما إذا اتّحدت الفائتة بالأصل، فلا يعمّ لما إذا بقيت من المتعدّدة واحدة.
و كيف كان فلا ينبغي «25» الإشكال في أنّه إذا كانت الفائتة واحدة بالذات، و عرض لها التعدّد لعدم تعيينها أو لاشتباه القبلة أو اشتباه الثواب الطاهر بالنجس، أنّ حكمه في وجوب الترتيب حكم الواحدة، إذ لم يفت من المكلّف إلّا واحدة، إلّا أنّ البراءة منها، بل العلم بها يتوقّف علي متعدّد.

الثالث: القول بالمواسعة في غير فائتة اليوم

. و بالمضايقة في فائتة اليوم. واحدة كانت أو متعدّدة، و هو المحكيّ عن المختلف حيث قال: الأقرب أنّه إذا ذكر الفائتة في يوم الفوات، وجب تقديمها علي الحاضرة إذا لم يتضيّق وقت الحاضرة، سواء اتّحدت أم تعدّدت، و يجب تقديم سابقتها علي لاحقتها، و إن لم يذكرها
المكاسب، ج‌4، ص 349
حتّي يمضي ذلك اليوم، جاز له فعل الحاضرة في أوّل وقتها، ثمّ اشتغل بالقضاء- سواء اتّحدت الفائتة، أو تعدّدت- و يجب الابتداء بسابقتها علي لاحقتها، و الأولي تقديم الفائتة ما لم يتضيّق وقت الحاضرة «1» (انتهي). و حكي هذا القول عن بعض شرّاح الإرشاد «2» أيضا. و الظاهر أنّ المراد بيوم الفوات في كلامه: هو ما يشمل اللّيل، إذ النهار فقط لا يمكن أن يكون ظرفا لفوات الصلوات المتعدّدة و لذكرها، فقوله: «إذا ذكر الفائتة في يوم الفوات»، لا يستقيم إلّا علي أن يكون الذكر في اللّيل، و الفوات في النهار، أو بالعكس، فالظرف الواحد للذكر و الفوات كليهما ليس إلّا اليوم بالمعني الشامل للّيل. و هل المراد: اللّيلة الماضية أو المستقبلة؟
الظاهر، بل المتعيّن هو الثاني، كما يظهر بالتدبّر في كلامه. و اعلم أنّه قدّس سرّه ذكر في المختلف في مسألة العدول عن الحاضرة إلي الفائتة: أنّه لو اشتغل بالحاضرة في أوّل وقتها ناسيا، ثمّ ذكر الفائتة بعد الإتمام صحّت صلاته إجماعا، و إن ذكرها في الأثناء، فإن أمكنه العدول إلي الفائتة عدل بنيّته استحبابا عندنا، و وجوبا عند القائلين بالمضايقة «3» (انتهي). و ظاهر هذه العبارة يوهم العدول عن التفصيل المذكور إلي القول بالمواسعة مطلقا، إلّا أنّ الذي يعطيه التدبّر في كلامه، أنّ مراده الفريضة الحاضرة، المختلف فيها بينه و بين أرباب المضايقة المطلقة لا بينهم و بين أرباب المواسعة المطلقة. و يحتمل قويّا ابتناء ذلك علي خروج فوائت اليوم- عنده- عن محلّ النزاع بين أرباب المواسعة و المضايقة، تبعا لما سيأتي «4» عن شيخه المحقّق في العزيّة، فلا يكون هذا القول تفصيلا بين القولين. نعم ربّما يحكي عدوله عن هذا القول إلي المواسعة في المسائل المدنية المتأخّر تأليفها عن كتاب المختلف. ثمّ إنّ ظاهر العبارة السابقة: أنّها تفصيل فيما إذا فات الأداء للنسيان، و أمّا إذا فات لغيره من الأعذار، أو عمدا، فلا تعرّض فيها لحكمه، كما لا تعرّض فيها لحكم ما إذا اجتمع فوائت اليوم مع ما قبله، و وسع الوقت للجميع. و هل يقدّم الجميع علي الحاضرة، لثبوت الترتيب بين الحاضرة و فوائت اليوم، و ثبوت الترتيب بين فوائت اليوم و ما قبلها، بناء علي القول بترتيب الفوائت بعضها علي بعض. أو لا يجب الاشتغال بشي‌ء حينئذ، لعدم التمكن من فعلها إلّا بعد ما أذن في تأخيره، مع إمكان إدخاله في إطلاق كلامه، الراجع إلي عدم وجوب الترتيب إذا كان عليه أكثر من يوم فتأمّل. أو يجب الاقتصار علي فائتة اليوم، لدعوي اختصاص وجوب الترتيب بين الفوائت بما إذا كانت متساوية في وجوب تداركها، فلا يعمّ ما إذا كان بعضها واجب التقديم لأمر الشارع بالخصوص، خصوصا لو قال بوجوب الفوريّة في فائتة اليوم، دون غيرها؟ وجوه، لا يبعد أوّلها، ثمّ ثالثها علي القول بالفوريّة مع الترتيب.

الرابع: ما حكي عن المحقّق في العزيّة

حيث قال في عنوان هذه المسألة ما هذا لفظه:
و تحرير موضع النزاع أن نقول: صلاة كلّ يوم مترتبة بعضها علي بعض، حاضرة كانت أو فائتة، فلا يقدّم صلاة الظهر من يوم، علي صبحه، و لا عصره علي ظهره، و لا مغربه علي عصره، و لا عشاؤه علي مغربه، إلّا مع تضيّق الحاضرة. و أمّا إذا فاته صلوات من يوم، ثمّ ذكرها في وقت حاضرة من آخر، فهل يجب البدأة بالفوائت ما لم يتضيّق الحاضرة؟ قال أكثر الأصحاب: نعم، و قال آخرون: ترتّب الفوائت في الوقت الاختياري، ثمّ تقدم الحاضرة. و الذي يظهر لي وجوب تقديم الفائتة الواحدة، و استحباب تقديم الفوائت، فلو أتي بالحاضرة قبل تضيّق وقتها و الحال هذه جاز «5» (انتهي). و ظاهره عدم الخلاف في وجوب الترتيب في فوائت اليوم، و هو خلاف إطلاق كلمات أرباب القولين، بل صريح بعضها.

الخامس: ما عن ابن [أبي] جمهور الأحسائي «6» من التفصيل

بين الفائتة الواحدة، إذا ذكرها يوم الفوات، دون المتعدّدة و الواحدة المذكورة في غير يوم الفوات.

السادس: القول بالمواسعة إذا فاتت عمدا، و بالمضايقة إذا فاتت نسيانا،

و هو المحكي عن الشيخ عماد الدين بن حمزة في الوسيلة، حيث قال: أمّا قضاء الفرائض فلم يمنعه وقت، إلّا تضيّق وقت الحاضرة، و هو ضربان، إمّا فاتته نسيانا، أو تركها قصدا اعتمادا، فإن فاتته نسيانا و ذكرها، فوقتها حين ذكرها إلّا عند تضيّق وقت الفريضة، فإن ذكرها و هو في فريضة حاضرة، عدل بنيّته إليها ما لم يتضيّق الوقت، و إن تركها قصدا جاز له الاشتغال بالقضاء إلي آخر الوقت، و الأفضل تقديم الحاضرة عليه، و إن لم يشتغل بالقضاء، و أخّر الأداء إلي آخر الوقت كان مخطئا «7» (انتهي). و ظاهره وجوب العدول عن الحاضرة إلي الفائتة المنسيّة، و هو إمّا لاعتبار الترتيب، أو لإيجاب المبادرة إلي المنسيّة، و إن ذكرها في أثناء الواجب و إن قلنا بعدم اعتبار الترتيب- بناء علي القول بالفوريّة دون الترتيب- كما سبق «8» عن صاحب رسالة هدية المؤمنين، و إمّا للدليل الخاصّ علي وجوب العدول، و إن لم نقل بالترتيب و لا بالفوريّة، و هذا أردأ الاحتمالات، كما أنّ الأوّل أقواها. هذا كلّه في المنسية، و أمّا المتروكة قصدا، فظاهره عدم وجوب الترتيب مع استحباب تقديم الحاضرة، و لازمة عدم وجوب الفور إلّا أن يجعل مقدار زمان يسع الحاضرة مستثني من وجوب المبادرة، و كون المكلّف مخيّرا فيه مع استحباب تقديم الحاضرة، كما ينبئ عنه قوله: «و إن لم يشتغل بالقضاء، و أخّر الأداء إلي آخر الوقت كان مخطئا» بناء علي أنّ المراد بالخطإ: الإثم كما فهمه الشهيد «9». هذا علي تقدير إرجاع الخطأ إلي عدم الاشتغال بالقضاء، و أمّا إذا رجع إلي تأخير الأداء إلي آخر الوقت بناء علي أنّ المراد بآخر الوقت مجموع الوقت الاضطراري الّذي لا يجوز التأخير إليه إلّا لصاحب العذر- علي ما ذهب إليه صاحب هذا القول- ، و يكون إطلاق آخر الوقت علي مجموع ذلك الوقت تبعا للروايات الواردة في أنّ «أوّل الوقت رضوان اللَّه و آخره غفران اللَّه» «10» أمكن أيضا استظهار فوريّة القضاء منه من جهة دلالة كلامه بالمفهوم علي أنّه لو اشتغل بالقضاء، و أخّر الأداء إلي آخر الوقت لم يكن مخطئا، و لا يكون ذلك إلّا إذا كان القضاء من الأعذار، و العذر- علي ما ذكره صاحب هذا القول، قبل العبارة المتقدمة بأربعة أسطر- : السفر و المرض و اشتغل الّذي يضرّ تركه بدينه أو دنياه، فلو لم يكن القضاء فوريّا خرج عن الأعذار الأربعة.
المكاسب، ج‌4، ص 350
إلّا أن يقال: ظاهر العذر في كلامه، ما عدا الصلاة، فتأمّل. و أمّا المراد بالوقت في قوله: «ما لم يتضيّق وقت الحاضرة» فيحتمل أن يكون وقت الاختيار، و يؤيّده ما تقدّم «1» عن المحقّق في العزيّة من ذهاب جماعة. إلّا أنّ الفوائت تترتّب في الوقت الاختياري، ثمّ تتقدّم الحاضرة. و أن يكون مطلق الوقت بناء علي جعل القضاء من الأعذار المسوّغة للتأخير. ثمّ إنّه ليس في كلامه تعرّض لحكم المتروكة لعذر آخر غير النسيان. و لا لحكم اجتماع المتروكة نسيانا مع المتروكة عمدا، بناء علي وجوب الترتيب بين الفوائت عند هذا القائل، فإنّه يجي‌ء فيه- مع فرض تأخير المنسيّة- الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة في فروع القول المتقدّم «2»
عن المختلف.

السابع: ما تقدم عن العزيّة من الترتيب في الوقت الاختياري، دون غيره.

الثامن: القول بالمضايقة المطلقة

اشارة

، و هو المحكيّ «3» عن ظاهر كلام القديمين «4» و الشيخين «5» و السيّدين «6» و القاضي «7» و الحلبي «8» و الحلّي «9»، و عن المعتبر «10» نسبته إلي الديلمي «11» و هو المحكي أيضا عن الشيخ ورّام بن أبي فراس «12» و عن الشيخ الجليل الحسن بن أبي طالب اليوسفي الآبي- تلميذ المحقّق- «13» و حكاية «14» هذا القول عن أكثر القدماء مستفيضة، و حكي عن غير واحد أنّه المشهور «15» فهذه أصول أقوال المسألة، و إذا لوحظ الأقوال المختلفة بين أهل المواسعة التي تقدّمت إليها الإشارة، زادت الأقوال علي الثمانية. و ذكر بعض المحقّقين: أنّ جملة المطالب الّتي يدور عليها هذا القول الأخير، و يدلّ عليها كلام القائلين- كلّا أو بعضا، نصّا، أو ظاهرا- سبعة:

الأوّل: ترتيب الأداء علي القضاء

، و هو المحكي عمّن عدا الديلمي و الشيخ ورّام ممّن تقدّم ذكره من الفقهاء.

الثاني: التسوية بين أقسام الفوائت و أسباب الفوات في مقابل التفاصيل المتقدّمة.

الثالث: فوريّة القضاء

، المحكيّة «16» عن صريح المفيد «17» و السيّدين «18» و الحلبي «19» و الحلّي «20» و ظاهر الشيخ «21» و القديمين «22» و الآبي «23»، بل عن المفيد و القاضي و أبي المكارم و الحلّي: الإجماع علي ذلك «24».

الرابع: بطلان الحاضرة إذا قدّمت علي الفائتة في السعة

، و هو المحكيّ «25» عن صريح الشيخ «26» و السيّدين «27» و القاضي «28» و الحلبي «29» و الحلّي «30» و عن الغنية «31»: الإجماع عليه.

الخامس: العدول عن الحاضرة إلي الفائتة إذا ذكرها في الأثناء

، و هو المحكيّ «32» عن المرتضي «33» و الشيخ «34» و القاضي «35» و الحلبيين «36» و الحلّي «37». و عن المسائل الرسّية للسيّد «38» و الخلاف للشيخ «39» و خلاصة الاستدلال للحلّي و شرح الجمل: الإجماع عليه «40».

السادس: وجوب التشاغل بالقضاء إلّا عند ضيق الأداء

و الاشتغال بما لا بدّ منه من ضروريات المعاش من الكسب و الأكل و الشرب و النوم، و هو المحكيّ «41» عن صريح المرتضي «42» و الشيخ «43» و القاضي «44» و الحلبي «45» و الحلّي «46»، بل هو لازم كلّ من قال بالفورية، و لذا ذكر الآبي- فيما حكي عنه «47»- : أنّ عند أصحاب المضايقة لا يجوز الإخلال بالقضاء إلّا لأكل أو شرب ما يسد به الرمق أو تحصيل ما يتقوّت به هو و عياله، و مع الإخلال بها يستحقّ العقوبة في كلّ جزء من الوقت «48» (انتهي).

السابع: تحريم الأفعال المنافية للقضاء عدا الصلاة الحاضرة في آخر وقتها

، و ضروريات الحياة، و هو المحكي «49» عن صريح المرتضي «50» و الحلّي «51» و ظاهر المفيد «52» و الحلبيّين «53»
حيث رتّبوا تحريم الحاضرة في السعة علي تضيّق الفائتة، و بني المفيد «54» تحريم النافلة لمن عليه فائتة علي تحريم الحاضرة، و مقتضاه استناد التحريم إلي التضادّ، فيطّرد في جميع الأضداد، و قد ذكر المحقّق و العلّامة في المعتبر «55» و المنتهي «56» انّ لازم هؤلاء تحريم جميع المباحات المضادّة للقضاء.
و حينئذ فتخصيص جماعة «57» نسبة القول بتحريم الأضداد إلي المرتضي و الحلّي فقط، محمول علي إرادتها اختصاصهما بالتصريح بذلك، و لذلك نسبه في محكي «58» التذكرة «59» إلي السيد و جماعة. ثمّ اعلم أنّ هذه المسألة معنونة في كلام بعضهم «60» بوجوب ترتيب الحاضرة علي الفائتة و عدمه، و في كلام آخرين بالمضايقة و المواسعة. و لا ريب أنّ الترتيب و التضيّق غير متلازمين بأنفسهما، لجواز القول بالترتيب من دون المضايقة من جهة النصوص، و إن أفضي إلي التضيّق أحيانا، كما إذا كانت الفوائت كثيرة لا تقضي إلّا إذا بقي من الوقت مقدار فعل الحاضرة، و يجوز القول بالفوريّة من دون الترتيب كما تقدم عن صاحب هدية المؤمنين «61»، و إن أفضي إلي التزام الترتيب بناء علي القول بأنّ الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن ضدّه. فالقول بأنّ الفوريّة و الترتيب متلازمان «62» لا يخلو عن نظر، سواء أريد تلازمهما في أنفسهما، أو أريد تلازمهما بحسب القائل، بمعني أنّ كلّ من قال بأحدهما قال بالآخر، لما عرفت من وجود القائل بأحدهما دون الآخر. لكنّ الإنصاف أنّ معظم القائلين بالترتيب إنّما قالوا به من جهة الفوريّة، فما ذكره الصيمري «63»- فيما حكي عنه- : أنّ منشأ القول بالترتيب و عدمه: القول بالمضايقة و عدمها، محلّ تأمّل، إلّا أن يريد به الأكثر، أو يريد جميع القائلين بالترتيب بالنسبة إلي زمانه. و أولي بالتأمّل ما يظهر من بعض «64» أنّ القول بالترتيب أصل مسألة المضايقة، بل الحقّ أنّ القول بالترتيب و القول بالفوريّة ليس أحدهما متفرّعا علي الآخر في كلمات جميع الأصحاب، نعم القول بالترتيب متفرّع علي الفوريّة في كلمات أكثر أهل المضايقة. و أمّا وجوب العدول، فهو من فروع الترتيب و يحتمل- ضعيفا- كونه غير متفرّع علي شي‌ء، و يكون المدرك فيه مجرّد النص، و أضعف منه كونه من فروع الفوريّة، و إن لم نقل بالترتيب، و وجهه- مع ضعفه- يظهر بالتأمّل. و أمّا بطلان الحاضرة و صحّتها في سعة الوقت، فيحتمل تفرّعه علي الفوريّة بناء علي اقتضاء الأمر المضيّق النهي عن ضدّه الموسّع و عدم «65» الأمر به، و يحتمل تفرّعه علي الترتيب و إن لم نقل بالفوريّة. و أمّا حرمة التشاغل بالأضداد، فلا إشكال في أنّه من فروع الفوريّة. هذا خلاصة الكلام في الأقوال، فلنشرع في ذكر أدلّتها مقدّما لأدلّة القول بالمواسعة المطلقة، متّبعا إيّاه بأدلّة المضايقة المطلقة، ثمّ نتكلّم في أدلّة باقي الأقوال حسب ما يقتضيه الحال، فنقول:

[أدلة القول بالمواسعة]

اشارة

[الأول: الأصل] احتجّ للقول بالمواسعة المطلقة بوجوه:

أحدها: الأصل. و تقريره من وجوه خمسة، أو ستة:

الأوّل: أصالة البراءة عن التعجيل

، فإنّ وجوب التعجيل و إن لم يكن تكليفا مستقلا، بل هو من أنحاء وجوب الفعل الثابت في الجملة، إلّا أنّ الوجوب الثابت علي نحو التضيّق ضيق، لم يعلم من قبل الشارع، و «الناس في سعة ما لم يعلموا» «66»، فالتضيّق الّذي حجب اللَّه علمه عن العباد موضوع عنهم «67»، و توهّم أنّ أصالة البراءة مختصة بصورة الشكّ في تكليف مستقلّ، مدفوع في محلّه «68».
المكاسب، ج‌4، ص 351
بل التحقيق: أنّ مقتضي أدلّة البراءة أنّ كلّ ضيق يلحق الإنسان شرعا في العاجل، و كلّ عقاب يرد عليه في الآجل لا بدّ أن يكون معلوما تفصيلا أو إجمالا، و لا يرد شي‌ء من الضيق و العقاب مع عدم العلم. فإن قلت: إنّ الاحتياط علي خلافه، و تقريره- علي ما ذكره بعض المحقّقين من المعاصرين «1»- : أنّ الوجوب لمّا اقتضي تحتّم الفعل و حرمة الترك، فثبوته يقتضي لزوم الامتثال و الخروج عن صنف المخالفين للأمر، و حيث ثبت في أوّل أوقات التمكّن، فترك الامتثال- حينئذ- بقصد التأخير عنه أو بدونه إنّما يجوز بأحد أمرين: أحدهما: إذن الشارع، فيسوغ الترك و إن أدّي إلي تركه لا إلي بدل. الثاني: الانتقال إلي بدل ثبت بدليّته عنه أو عن تعجيله، معلوم تمكّنه منه، فيسوغ الترك أيضا و إن لم يأذن الشارع صريحا، و كلا الأمرين غير معلوم. أمّا الإذن «2» فلأنّه المفروض فإنّه إنّما يثبت في الموسّع لمكان وجوبه به جهة حرمة تركه عند ظنّ ضيق الوقت المضروب أو ضيق وقت التمكّن، و إن كان هذا خلاف مقتضي إطلاق الوجوب، لأنّ انتفاء الظنّ المذكور يقتضي انتفاء خاصيّة الوجوب و مصلحته الفعليّة، فإنّ من جري في علم اللَّه أنّه يموت فجأة في سعة الوقت، إن فعل أدّي راجحا، و إن ترك، ترك ما جاز له تركه، و هو من خواصّ الندب. نعم قد يترتّب أثر الوجوب باعتبار وجوب القضاء أو ما في حكمه، و نيّة الوجوب ظاهرا و استحقاق ثواب الواجب و حرمة إزالة التمكّن من نفسه، و كلّ ذلك خارج عن المطلوب. أو باعتبار إيجاب العزم علي الفعل بدلا عنه، و لم يثبت فيما نحن فيه كما يأتي، و كأنّ ما ذكر هو الداعي لتخصيص بعضهم الوجوب بأوّل الوقت أو آخره- إن أرادوا تخصيص حقيقة الوجوب بأوّل أوقات التمكّن أو آخرها المعلوم أو المظنون. و كيف كان، فحيث ثبت الإذن في التأخير، فلا محيص عن القول بجوازه و بعدم الإثم في الفوات المترتّب عليه، و إن كان منافيا لما هو الظاهر من إطلاق الوجوب و اشتراكه بين الجميع، و لمّا لم يثبت هنا وجب العمل بمقتضي ظاهر الوجوب- كما ذكر- ، و لم يصحّ قياسه علي الموقّت الموسّع و لا سيّما مع ما بينهما من الفرق، لأنّ تجويز التأخير في الموقّت لا يفضي إلي تفويته غالبا، بخلاف المطلق. و أمّا الثاني- و هو الانتقال إلي البدل- ، فموقوف علي إثباته هنا علي نحو ما تقدّم، و هو إمّا العزم علي الفعل في وقت آخر، أو نفس ذلك الفعل، و الأوّل لم يثبت بدليّته هنا، و إنّما قيل بها في الموقّت المأذون في تأخيره، تحقيقا لحقيقة الوجوب المشترك بين الجميع، و تأدية لمقتضي الامتثال الواجب عليهم. و حيث تعلّق الأمر هنا بالقضاء بعينه و لم يثبت الإذن في تأخيره و كان مقتضي الإيجاب ظاهرا هو المنع من التأخير، لم يتّجه هنا دعوي بدليّة العزم عنه، أو عن تعجيل فعله، مع أنّ كثيرا من العلماء و أرباب المواسعة ينكرون بدليّة العزم في الموسّع، فلا يستقيم الالتزام بذلك هنا عن قبلهم. و أمّا نفس الفعل في وقت آخر فلم يثبت بدليّته عمّا كلّف به بتمامه، و لا يعلم التمكّن منه، فضلا عن وقوعه. أمّا الأوّل: فلأنّ إرادة الشارع ابتداء للفعل في أوّل أوقات التمكّن معلومة، و أمّا في سائر الأوقات فلا، غاية الأمر أنّه لو تركه أوّلا وجب عليه الفعل ثانيا، و كان مجزيا عمّا كلّف به في ذلك الوقت، لا عن تمام التكليف الثابت أوّلا، فلا يلزم التخيير ابتداء بين جميع الأوقات. و أمّا الثاني: فظاهر، لعدم إحاطة العلم عادة بالعواقب، فلو قطع النظر عن عدم ثبوت بدليّته، لكان في عدم العلم بإدراكه كفاية في وجوب المبادرة، إذ بها يتيقّن فراغ الذّمّة عمّا اشتغل به الذّمّة يقينا، فإنّ المبادر ممتثل قطعا علي أيّ حال، و إن عرضه ما يمنع الإ كمال، و ربما يموت تاركا فيبقي ذمّته مشغولة بما وجب عليه، فيصير مستحقّا للعقاب علي تركه الواقع باختياره، إذ لا يعتبر في الترك الموجب لذلك أن يكون بحسب جميع الأحوال الممكنة في حقّه، بل بما هو الثابت واقعا في شأنه، و لمّا كان الواقع غير معلوم قبل وقوعه لم يمكن إحالة التكليف بالامتثال عليه، حتّي يختلف باختلافه، فيكون مضيّقا لجماعة و موسّعا لآخرين بحسب تزايد الآنات و الساعات و الشهور و الأعوام، فتعيّن أن يكون منوطا بالتضيّق الّذي يعلم به حصول الامتثال بالنسبة إلي الجميع، فمن أدخل نفسه في صنف التاركين، ثمّ تداركه فضل اللَّه سبحانه بأن أبقاه إلي أن أدّي المأمور به، دخل في صنف العاملين، و لكن لا يمكن البناء علي ذلك ابتداء أوّلا فأوّلا، و إن
أدّت إلي فوات الحاضرة المأذون في تأخيرها. و أمّا البناء علي ظنّ ضيق وقت التمكّن و عدمه، كما في الموسّع، فموقوف علي الدليل، و هو منتف هنا، فوجب البناء علي ما ذكر (انتهي تقرير الاحتياط ملخّصا). و الجواب: إنّ الأمر المطلق إنّما يقتضي وجوب الفعل المشترك بين الواقع في أوّل أزمنة التمكّن، و الواقع فيما بعده من أجزاء الزمان الّتي يمكن إيقاع المأمور به فيها، و حينئذ فالتأخير عن الجزء الأوّل ترك لبعض أفراد الواجب، و هو لا يحتاج إلي إذن من الشارع، لأنّ العقل حاكم بالتخيير في الامتثال بين مصاديق المأمور به. و من هنا ظهر فساد ما ذكره من أنّ الوجوب في الواجب الموسّع باعتبار حرمة تركه عند ظنّ الضيق، بل وجوبه باعتبار حرمة تركه المطلق المتحقّق بتركه في جميع الأجزاء. و أمّا عدم مؤاخذة من فاجأه العجز في أثناء الوقت، فليس لعدم اتّصاف الفعل حقيقة بالوجوب فيما قبل الجزء الأخير من الوقت، بل لأجل أنّ الواجب لا يعاقب علي تركه إلّا إذا وقع الترك علي جهة العصيان، لاستقلال العقل و دلالة النقل علي أنّه لا عقاب إلّا مع العصيان، و لا عصيان في الفرض المذكور. فتحقّق بما ذكرنا: أنّ الفعل المأتيّ في كلّ جزء من الزمان من أفراد المأمور به و امتثال لتمامه، فلا يقال إنّه بدل من الواجب نظير بدلية العزم، بل هو نفسه، و أمّا احتمال طروّ العجز عن الفرد الآخر فهو إنّما يوجب رجحان المبادرة بحكم العقل المستقلّ الحاكم بحسن إحراز مصلحة الوجوب و مرجوحيّة التأخير المفضي أحيانا إلي فواتها و إن لم يوجب عقابا علي المكلّف. و يؤيّده النقل، مثل قوله عليه السلام: «إذا دخل الوقت فصلّ، فإنّك لا تدري ما يكون» «3». و أمّا وجوب هذا الاحتياط فلم يثبت بعد حكم العرف و الشرع بأصالة بقاء التمكّن و عدم طروّ العجز، و إجماع العلماء و العقلاء علي عدم وجوب المبادرة في الموسّع الموقّت، و جعل الشارع- في الرواية المذكورة و أمثالها- احتمال طروّ
المكاسب، ج‌4، ص 352
العجز علّة لاستحباب المبادرة دون وجوبها، إلي غير ذلك ممّا يقطع معه بعدم كون الاحتمال المذكور سببا لوجوب الاحتياط. نعم ربّما قيل باستحقاق العقاب لو اتّفق ترك الواجب الموسّع الغير الموقّت، و لازمة وجوب المبادرة عقلا- من باب الاحتياط، تحرّزا عن الوقوع في عقاب الترك- و إن لم يجب شرعا، ليكون من قبيل المضيّق الّذي يعاقب علي تأخيره، و إن لم يتّفق العجز. لكن هذا القول مع ضعفه لا ينفع فيما نحن فيه، لأنّ الكلام في التوسعة و التضيّق المستلزم لوجوب المبادرة شرعا، و إن علم المكلّف بالتمكّن في ثاني الحال، و تمكّن و أتي بالفعل. و بالجملة: فلا إشكال في أنّ الأصل هو عدم وجوب المبادرة شرعا.

الثاني من وجوه تقرير الأصل: استصحاب صحّة صلاته الحاضرة علي أنّها حاضرة، إذا ذكر الفائتة في أثنائها.

فإنّ القائل بالمضايقة يدّعي فساد الصلاة، إذا استمرّ علي نيّتها الاولي عند تذكّر الفائتة، و الأصل عدمه. و يرد عليه: أنّه قد حقّقنا في الأصول «1» عدم جريان استصحاب الصحّة، إذا شك في أثناء العمل في شرطيّة أمر فقد، أو مانعيّة أمر وجد، كالترتيب بين الحاضرة و الفائتة فيما نحن فيه. هذا كلّه بناء علي كون صحّة الأجزاء السابقة علي الذكر واقعيّة و أمّا إذا قلنا بأنّ وجوب القضاء واقعا، موجب لفساد الحاضرة واقعا، غاية الأمر أنّ المكلّف ما لم يتذكّر القضاء معذور، فالتذكّر كاشف من وجوب القضاء و عدم صحّة الأداء في متن الواقع، فصحّة الأجزاء السابقة علي التذكّر صحّة ظاهريّة عذريّة من جهة النسيان، ترتفع بارتفاع العذر، فلا يقبل الاستصحاب. و لا ينافي ذلك الإجماع «2» علي صحّة الحاضرة إذا لم يتذكّر الفائتة إلّا بعد الفراغ عنها، لأنّ هذا لا يكشف إلّا عن كون الترتيب شرطا علميّا، لا واقعيا بالنسبة إلي الجهل المستمرّ إلي تمام الحاضرة، فلا ينافي كونه شرطا واقعيّا بالنسبة إلي الجهل المرتفع في أثناء الصلاة، فإنّ كون الشروط علميّة أو واقعيّة يختلف بحسب الموارد حسب ما يقتضيه الأدلّة، ألا تري أنّ النجاسة مانع علميّ للصلاة بالنسبة إلي الجهل المستمرّ، فلا يعيد من صلّي جاهلا إلي آخر الصلاة، و أمّا الجاهل الّذي علم في الأثناء فلا يستمرّ علي ما فعل- علي ما ذهب إليه بعض- «3».

الثالث من وجوه تقرير الأصل: أصالة عدم وجوب العدول من الحاضرة إلي الفائتة.

و فيه: أنّه إن أريد أصالة البراءة عن التكليف بالعدول، فلا ريب في أنّ الشك في المكلّف به، لأنّ إتمام الصلاة واجب و إمّا بنيّة الحاضرة أو بنيّة الفائتة، مع أنّ إتمامها بنيّة الفائتة مجمع علي جوازه، بل رجحانه إمّا وجوبا و إمّا استحبابا، فالأمر «4» مردّد بين تعيين إتمامها بهذه النيّة، و بين التخيير بينه و بين إتمامها بنيّة الحاضرة، فمقتضي وجوب تحصيل اليقين بالبراءة، نقل النيّة إلي الفائتة. و إن أريد استصحاب عدم وجوب العدول قبل التذكّر. ففيه: أنّه كان معذورا عقلا لأجل النسيان، و قد زال العذر. و الحكم المنوط بالأعذار العقليّة- كالعجز و النسيان، و نحوهما- لا يجوز استصحابه بعد رفع العذر. فإن قلت: إنّ المعلوم عدم وجوب العدول حال النسيان، و أمّا كونه لأجل النسيان فغير معلوم. قلت: لا ريب أنّ النسيان علّة مستقلّة لعدم وجوب العدول، فإذا شكّ في كون عدم الوجوب السابق مستندا إلي هذه العلّة أو إلي علّة أخري، و هي مشروعيّة فعل الحاضرة مع اشتغال الذمّة بالفريضة الفائتة، فمقتضي الأصل عدم مشروعيّتها حينئذ. و الحاصل: أنّ الكلام إمّا أن يقع في حكم الناسي بوصف أنّه ناس، و لا شكّ أنّه حكم عذريّ يدور مدار النسيان وجودا و عدما، فلا معني لاستصحابه بعد ارتفاع العذر. و إمّا أن يقع في حكم المكلّف واقعا من حيث إنّه مكلّف فاتت عنه فريضة و دخل عليه وقت اخري، و لا عذر له من نسيان أو غيره، و لا ريب أنّ الشكّ- حينئذ- في مشروعيّة الحاضرة و عدمها. و من المعلوم أنّ الأصل عدم المشروعيّة، فإذا ثبت بحكم الأصل عدم مشروعيّة الحاضرة مع عدم العذر و هو النسيان، ترتّب عليه وجوب العدول إذا نسي و شرع فيها، فافهم فإنّه لا يخلو عن دقّة.

الرابع: أصالة إباحة فعل الحاضرة و عدم حرمتها

، إذا شكّ في فسادها و صحّتها من جهة الشكّ في حرمتها و إباحتها، المسبّب عن الشكّ في فوريّة القضاء و عدمها، بناء علي القول باقتضاء الأمر المضيّق النهي عن ضدّه، و أصالة عدم اشتراطها بخلوّ الذمّة عن الفائتة «5» إذا كان الشكّ في اعتبار الترتيب بينها و بين الفائتة. و يرد علي الأصل الأوّل: أنّ فساد الحاضرة إن كان من جهة القول بأنّ الأمر المضيّق يقتضي عدم الأمر بضدّه فيفسد الضدّ من هذه الجهة إذا كان من العبادات، فأصالة الإباحة و عدم التحريم لا ينفع في شي‌ء، بل الأصل هو عدم تعلّق الأمر بذلك الضّدّ في هذا الزمان. نعم هذا الأصل مدفوع بأصالة عدم التضيّق المتقدّمة، لكنّه أصل مستقلّ قد عرفت جريانه و اعتباره، و الكلام هنا في غيره. و إن كان من جهة أنّ الأمر المضيّق يقتضي حرمة ضدّه، فمرجع الكلام إلي الشكّ في حرمة الحاضرة و إباحتها، و الأصل الإباحة و عدم التحريم. ففيه: أنّه إن أريد أصالة البراءة فيرد عليه: أوّلا: إنّ حرمة الضدّ لو ثبت في الواجب المضيّق فإنّما يثبت- عند المشهور- من باب كون ترك الضّدّ مقدّمة لفعل المضيّق، فيجب. و الظاهر عدم جريان الأصل في مقدّمة الواجب إذا كان الشكّ فيها مسبّبا عن الشكّ في وجوب ذيها، أو عن الشكّ في أصل وجوب المقدّمة في المسألة الأصولية. نعم يجري الأصل في صورة ثالثة، و هي ما إذا كان الشك في وجوب الشي‌ء مسبّبا عن الشكّ في كونه مقدّمة، كما إذا شكّ في شرطيّة شي‌ء للواجب أو جزئيّته له. و السرّ في ذلك أنّ أصل البراءة إنّما ينفي المؤاخذة علي ما لم يعلم كونه منشأ للمؤاخذة، و يوجب التوسعة و الرخصة فيما يحتمل المنع. و هذا إنّما يتحقّق في الصورة الثالثة، و أمّا في الصورتين الأوليين فلا يلزم من الحكم بوجوب المقدّمة مؤاخذة عليها و لا منع و لا ضيق، حتّي ينفي بأدلّة البراءة الدالّة علي نفي المؤاخذة عمّا لم يعلم، و توجب الرخصة فيه. و ثانيا: أنّ أصالة عدم حرمة الحاضرة معارضة بأصالة البراءة و عدم اشتغال الذمّة بها. و إن شئت فقل: إنّ الأمر دائر بين حرمة الحاضرة و وجوبها، فلا أصل، فتأمّل. و بمثله يجاب لو أريد بأصالة عدم الحرمة: استصحابه، بأن يقال: إنّه يشكّ في أنّ الوجوب الحادث للقضاء كان علي
المكاسب، ج‌4، ص 353
الفور حتّي يوجب حرمة الحاضرة، أو علي التوسعة حتّي يبقي الحاضرة علي حالها من عدم الحرمة، فالأصل بقاؤها. فإن قلت: إنّا نفرض ثبوت الوجوب للحاضرة في أوّل وقتها قبل تذكّر الفائتة، فحينئذ نقول: الأصل بقاء وجوبها بعد التذكّر. قلت: قد عرفت أنّ تذكّر الفائتة ليس محدثا لوجوبها، بل السبب له واقعا هو فوت الأداء، و إنّما يرتفع بالتذكّر، العذر المسقط للتكليف، و هو النسيان، و حينئذ فالوجوب الثابت للحاضرة قبل التذكّر وجوب ظاهريّ يرتفع بارتفاع مناطه، و هو النسيان. لكنّ الإنصاف أنّ ما ذكرنا من معارضة استصحاب عدم الحرمة باستصحاب عدم الوجوب غير مستقيم، لأنّ الشكّ في مجري الأصل الثاني مسبّب عن الشكّ في مجري الأصل الأوّل، فالأوّل حاكم علي الثاني، لما تقرّر في الأصول «1» فالصواب: الجواب عن الاستصحاب المذكور بما سيجي‌ء في الوجه الخامس من تقرير الأصل «2». هذا كلّه في إجراء الأصل في الحكم التكليفي، و هي حرمة الحاضرة. و أمّا أصالة عدم اشتراطها بخلوّ الذمّة عن الفائتة، فإن أريد بها أصالة البراءة بناء علي القول بجريانها عند الشكّ في شرطيّة شي‌ء للعبادة، فهو حسن علي هذا القول، إلّا أنّ ظاهر كلام المستدلّ به إرادة أصالة إطلاق الأمر بالحاضرة، و سيأتي الكلام في الإطلاقات.

الخامس: أنّ الحاضرة كانت يجوز فعلها في السعة قبل اشتغال الذمّة بالفائتة

، فكذا بعده، للاستصحاب. و هذا الاستدلال حكاه بعض المعاصرين عن المختلف، و قال: إنّه فاسد لتعدّد الحاضرة في الحالتين، و عدم ثبوت الحكم لكلّ حاضرة، و إلّا استغني عن التمسّك بالاستصحاب، و هو لا يجري مع تعدّد المحلّ.. ثمّ قال: و أمّا الاستدلال بأنّه لو لم يكن عليه قضاء لجاز له فعل الحاضرة في السعة، فكذلك مع ثبوته، ففاسد أيضا، لأنّ مرجعه إلي القياس أو استصحاب الحكم الغير الثابت من أصله إلّا علي سبيل الفرض في نفس زمانه، و كلاهما باطل «3» (انتهي). أقول:
استصحاب الحكم الشرعي علي قسمين: أحدهما: استصحاب الحكم الجزئي الثابت بالفعل، كما إذا مضي من الوقت مقدار الفعل مع الشرائط، ثمّ سافر إلي أربعة فراسخ و شككنا في حدوث وجوب القصر عليه بعد وجوب الإتمام عليه بالفعل، بناء علي أنّ العبرة بحال الأداء دون الوجوب، أو مات مجتهده- الّذي أفتي بوجوب الجمعة عليه- فشكّ في حدوث وجوب الظهر عليه بعد وجوب الجمعة فعلا، أو رأي دما مشتبها بالحيض فشكّ في ارتفاع وجوب الصلاة الثابت عليه بالفعل.. إلي غير ذلك من الأمثلة. و الثاني: استصحاب الحكم الكلّي الثابت عليه بطريق القضيّة الشرطيّة، مثل حكم الشارع بأنّ التمام يجب بشروطها علي الحاضر، و الجمعة تجب بشروطها علي المقلّد لمن قال بوجوبها، و الصلاة تجب بشروطها علي الطاهر من الحيض و النفاس، و هذه الأحكام شرطيّات لا يتوقف صدقها علي صدق شروطها، بل تصدق مع فقد الشرائط، كدخول الوقت و وجدان «4» الطهور، فلا يعتبر في استصحاب ما كان من هذا القبيل تنجّز الحكم الشخصي و تحقّقه، فإذا فرضنا أنّ الشخص كان في بلده فإذا للطهورين، أو لم يدخل «5» عليه الوقت، ثمّ سافر إلي محلّ يشكّ في بلوغه المسافة، لشبهة في الحكم أو الموضوع، فلا يخدش في استصحاب حكم التمام في حقّه: أنّه لم يتنجّز عليه وجوب التمام في السابق من جهة عدم دخول الوقت أو فقد الطهور، بل يكفي كونه في السابق ممّن يجب عليه التمام إذا وجد في حقّه شرائط الصلاة، و كذا استصحاب وجوب الجمعة إن مات مقلّده، و استصحاب وجوب الصلاة علي من رأت دما شكّ في كونه حيضا لشبهة في الحكم أو الموضوع، فإنّه يحكم باستصحاب وجوب الصلاة عليه، و إن كان في الزمان السابق غير واجد للشروط، و لا يضرّ عدم ثبوت الحكم بالفعل في استصحاب الحكم الكلّي. بل لو عورض استصحاب الحكم الكلّي باستصحاب عدم الحكم الفعلي كان الأوّل حاكما، لأنّ الشكّ في الثاني مسبّب عن الشكّ فيه. إذا عرفت هذا فنقول: إنّ وجوب الفعل موسّعا في أوّل وقتها حكم شرعيّ كلّي و خطاب إلهيّ تعلّق بالمكلّف و إن توقّف تنجّزه و ثبوته فعلا علي شروط، لكن فقد تلك الشروط لا يقدح في صدق الحكم الكلّي علي وجه القضيّة الشرطيّة بأن يقال: إنّ هذا المكلّف ممّن يجب عليه الصلاة و تصح منه بمجرّد دخول وقتها و اجتماع باقي شرائط الصلاة، فإذا حدث وجوب القضاء عليه لفوات بعض الفرائض يقع الشكّ في ارتفاع الحكم الكلّي المذكور، فيقال: الأصل بقاؤه، فالمستصحب هو الحكم علي كلّي الحاضرة بالصحّة و الوجوب في أوّل الوقت، لا علي خصوص الحاضرة المتنجّزة عليه حين فراغ الذمّة عن الفائتة حتّي يمنع انسحابه إلي الحاضرة الّتي يدخل وقتها حين اشتغال الذمّة بالفائتة إلّا بالقياس أو بدلالة الدليل العامّ المغني عن الاستصحاب. و ما ذكره أخيرا من تقرير الاستصحاب فهو أيضا راجع إلي ما ذكرنا، و توهّم كونه من القياس أو من استصحاب الحكم الفرضي مدفوع بما ذكرنا، فإنّ استصحاب الحكم المعلّق علي شروطه قبل تحقّق شروطه راجع إلي استصحاب أمر محقّق منجّز، كما يظهر بالتأمّل.
و لا يخفي أنّ وجود مثله في المسائل الشرعيّة و المطالب العرفيّة أكثر من أن تحصي، و اعتماد أرباب الشرع و العرف عليه أمر لا يكاد يخفي، و هذا الأصل بعينه هو استصحاب عدم حرمة الحاضرة- الّذي تمسّك به المعترض في التقرير الرابع من تقرير الأصل- ، إلّا أنّ ذلك عدميّ و هذا وجوديّ، لكن جريان كليهما علي الوجه الّذي ذكرنا هنا و ما ذكره من الاعتراض جار في ذلك أيضا، فتسليم أحدهما و منع الآخر تحكّم، إلّا ان يريد من الأصل- هناك- أصالة البراءة لا الاستصحاب، و قد عرفت ضعف التمسّك بالبراءة.
و كيف كان، فالاستصحاب علي الوجه الّذي ذكرنا لا غبار عليه، و قد عرفت سابقا ضعف معارضته باستصحاب عدم وجوب الحاضرة، لأنّه حاكم عليه. نعم من لا يجري الاستصحاب في الحكم الشرعي إمّا مطلقا- كما هو مذهب بعض «6»- أو فيما يحتمل مدخلية وصف في الموضوع، مفقود في الحال اللّاحق- كما هو المختار- لم يكن له التمسّك به فيما «7» نحن فيه، لاحتمال كون الحكم الكلّي المستصحب- و هو وجوب الصلاة في الجزء الأوّل من الوقت- في الحال السابق، أعني قبل الاشتغال بالقضاء منوطا بخلوّ الذمّة عن القضاء، فيكون المكلّف الفارغ في الذّمة من القضاء، يجوز له فعل الحاضرة في أوّل وقتها، و الشكّ في المدخليّة يرجع إلي الشكّ في بقاء الموضوع، فلا يجري
المكاسب، ج‌4، ص 354
الاستصحاب، لاشتراطه ببقاء الموضوع يقينا، لكن الاستدلال المذكور مبنيّ علي المشهور بين العلّامة رحمه اللَّه و من تأخّر عنه من إجراء الاستصحاب في أمثال المقام.

السادس: أصالة عدم حرمة المنافيات لفعل الفائتة من المباحات الذاتيّة

، و هذا الأصل حسن بمعني الاستصحاب دون البراءة، لما عرفته في التقرير الرابع و الخامس. و علي أيّ تقدير فهذا الأصل إنّما يثمر في ردّ من قال بوجوب الترتيب من جهة اقتضاء فوريّة القضاء تحريم الحاضرة و القول بأنّ الحرمة المقدميّة توجب الفساد، لو كان المنفي- المحرّم من باب المقدّمة- من العبادات. و أمّا لو لم نقل- كما هو مذهب جماعة، منهم: المحقق الثاني في شرح القواعد في باب الدين «1»، بل ربّما نسبه بعضهم ككاشف الغطاء قدّس سرّه إلي كافّة الأصحاب «2»- فلا ثمرة لهذا الأصل، لأنّ إثبات الترتيب حينئذ من باب الأخبار الدالّة علي تقديم الفائتة، لا من وجوب المبادرة إليها، من باب أنّ الأمر بالشي‌ء يقتضي عدم الأمر بضدّه فيفسد، و الحكم بالفساد من هذين الوجهين يجامع عدم حرمة الحاضرة، فلا يترتّب علي أصالة عدم الحرمة «3» الحكم بصحّة الحاضرة. و من هنا يظهر فساد ما قيل: من «4» أنّه إذا ثبت عدم حرمة المنافيات بالأصل، ثبت صحّة فعل الحاضرة في السعة، لعدم القول بالفصل. مع أنّ التمسك بالإجماع المركّب و عدم القول بالفصل فيما إذا ثبت أحد شطري المسألة بالأصول الظاهرية محلّ إشكال، فقد أنكره غير واحد و لا يخلو عن قوّة. و كيف كان، فالأصل المعتمد في المسألة هو الأصل الأوّل، و هو أصالة عدم الفوريّة. و قد يعارض باقتضاء أصالة الاشتغال بالترتيب، و سيأتي الكلام عليها في أدلّة القائلين بالمضايقة إن شاء اللَّه.

[الدليل الثاني: الإطلاقات]

اشارة

الثاني من حجج القائلين بالمواسعة: الإطلاقات، و قد ضبطها بعض المعاصرين «5» في طوائف من الكتاب و السنّة.

الأولي: ما دلّ علي وجوب الحواضر علي كلّ مكلّف حين دخول وقتها «6»،

و وجوب قضائها علي كلّ من فاتته مع مضيّ ما يسعها عن أوقاتها «7»، و علي وليّه بعد موته- إن لم يقضها بنفسه- ، فلو وجب تأخيرها عن الفوائت لزم أن لا يجب علي من عليه فائتة معلومة إلّا عند ضيق وقت الحاضرة أو مضيّ زمان يسع الفائتة. و أيضا يلزم أن لا يجب عليه قضاء الحاضرة إلّا إذا أدرك وقت ضيقها، أو مضي زمان يسع الجميع، فلو مات قبل ذلك أو عرض حيض أو شبهه لم يكن مشغول الذمّة بالقضاء، و لم يجب علي وليّه تداركه بعد موته، و كلّ هذه مخالفة للإطلاقات المذكورة. و يرد عليه: أنّ القائل بالترتيب و وجوب تأخير الحاضرة عن الفائتة، إمّا أن يقول به من جهة فوريّة القضاء عنده، نظرا إلي أنّ الأمر بالشي‌ء يقتضي عنده النهي عن الضدّ الخاصّ، و إمّا أن يقول به من جهة وجود الدليل علي اشتراط الترتيب في الحاضرة و إن لم يقل بفوريّة القضاء، و علي كلّ تقدير فلا يردّه الإطلاقات المذكورة، و لا يلزم تقييد لتلك الإطلاقات من جهة قوله بالترتيب. أمّا إذا قال به من الجهة الأولي، فلأنّه يدّعي أنّ الصلاة الّتي هي واجبة في أوّل الوقت من حيث هي- لو خلّي و طبعها- قد عرض لها عدم الوجوب لأجل عروض الحرمة لها من باب المقدّمة لواجب فوريّ. و إن شئت فقل: إنّ وجوبها في أوّل الوقت مقيّد عقلا بعدم الامتناع العقليّ أو الشرعيّ «8» فإذا فرض طروّ الحرمة لها من باب المقدمة صار ممتنعا شرعيا لأنّ المانع الشرعي كالمانع العقلي، فهو نظير ما إذا عرض واجب فوريّ آخر في أوّل الوقت كأداء دين فوريّ أو إنقاذ نفس محترمة و نحوهما، فإنّه لا يلزم التقييد في تلك الإطلاقات بعدد هذه العوارض، بل إمّا أن نقول: إنّ تلك الإطلاقات مسوقة لبيان حكم الصلاة في أوّل الوقت لو خلّيت و نفسها، فلا ينافي عدم الوجوب لها لعارض يعرضها، كما أنّ قول الشارع: «لحم الغنم حلال- أو طاهر- » لا ينافي حرمة اللّحم المسروق و نجاسة اللّحم الملاقي للنجس، لأنّ طاهر- » لا ينافي حرمة اللّحم المسروق و نجاسة اللّحم الملاقي للنجس، لأنّ الحليّة و الطهارة الذاتيّتين لا تنافيان الحرمة و النجاسة العرضيّتين. و إمّا أن نقول: إنّها مقيّدة بالتمكّن و عدم الامتناع عقلا و شرعا، فإذا ادّعي مدّع الامتناع الشرعي فيما نحن فيه لأجل الحرمة المقدّميّة، فلا ينفي ادّعاؤه بالإطلاقات، نعم ليطالب «9» في دعواه الحرمة المقدّميّة- الموجبة لعروض عدم الوجوب و الامتناع الشرعيّ- بالاستدلال عليه، و هذا غير الاستدلال علي نفي قوله بالإطلاقات، بل وجود الإطلاقات كعدمها، لانعقاد الإجماع و الضرورة علي أنّ الحاضرة- لو لم يمنع عن فعلها في أوّل الوقت مانع عقليّ أو شرعيّ- متّصفة بالوجوب و الصحّة، و هذا القدر كاف في صحّة الحاضرة بعد ثبوت عدم المانع، و لو بحكم الأصل المتقدّم، الدالّ علي عدم الفوريّة الموجبة لطروّ الحرمة علي فعل الحاضرة. نعم لو أنكر أحد سوق تلك الإطلاقات لمجرّد بيان حكم الصلاة في نفسها علي حدّ قول الشارع: الغنم حلال أو طاهر، في مقابل قوله: الكلب حرام أو نجس، و ادّعي سوقها لبيان التكليف و حمل المكلّف في أوّل الوقت علي الفعل، بحيث يظهر من إطلاق بعث المكلّف علي الفعل عدم كونه ممنوعا من طرف الأمر، صح التمسّك «10» في كلّ مورد شكّ في فوريّة ما يزاحمها و انتفت الفوريّة عنه بحكم تلك الإطلاقات، و حكم من أجلها بعدم المانع الشرعيّ، و كان كلّما ورد من الدليل علي فوريّة شي‌ء يتوقّف علي تأخّر الحاضرة مقيّدا لتلك الأدلّة معارضا لها. لكن المتأمّل في تلك الإطلاقات- إذا أنصف- لا يجد من نفسه إلّا ما ذكرنا أوّلا. هذا كلّه إذا قيل بالترتيب من جهة الفوريّة، و أمّا إذا قيل به من جهة ورود الدليل علي اشتراطه في الحاضرة، فيصير حاله كحال سائر الشروط المعتبرة في الصلاة، في أنّ وجوب الصلاة في أوّل الوقت إنّما هو مع التمكّن من فعلها جامعة للشروط، فإذا شكّ في شرطيّة شي‌ء للصلاة كطهارة ما عدا موضع الجبهة من مكان المصلّي، و أنّه هل يجب تحصيله إذا كان مفقودا عند دخول الوقت أم لا؟ فلا يجوز التمسّك بالإطلاقات المذكورة لنفي شرطيّة المشكوك، لأجل إطلاق الحكم فيها بثبوت الوجوب في أوّل الوقت و عدم وجوب التأخير. و كذا لو شكّ في جزئيّة شي‌ء يجب معرفته كالسورة بعد الحمد، فإنّه لا يجوز أن يتمسّك بالإطلاقات المذكورة، لعدم وجوب تأخير الصلاة حتّي يتعلّم السورة. و بعبارة أخري: تلك الإطلاقات دالّة علي وجوب الصلاة في أوّل الوقت، و مسألتنا أنّ الصلاة هل يعتبر فيها
المكاسب، ج‌4، ص 355
الشرط الفلاني، كتأخّرها عن الفائتة، و طهارة ما عدا موضع الجبهة- مثلا- و قراءة السورة بعد الحمد أم لا؟ نعم ثبوت شرط أو جزء للصلاة يوجب تقييد لفظ الصلاة بناء علي وضعها للأعمّ لا تقييد إطلاق وجوبها عند دخول الوقت، فيكون هذه الإطلاقات كإطلاق أَقِيمُوا الصَّلاةَ. بل التحقيق: عدم جواز التمسّك بها و إن جوّزنا التمسّك بإطلاق: أَقِيمُوا الصَّلاةَ لنفي الشرطيّة و الجزئيّة عند الشكّ، لأنّ إطلاق الصلاة في هذه الإطلاقات مسوقة لبيان حكمها من حيث وقت وجوبها فلا تفيد مطلوبيّة كلّ ما يسمّي صلاة، فحالها كسائر الإطلاقات المسوقة لبيان أحكام الصلاة بعد الفراغ من بيان جهتها، كأحكام الجماعة و الخلل و القضاء و نحو ذلك. و أمّا إطلاقات وجوب القضاء علي من مضي عليه من الوقت مقدار الفعل، فإن كان المراد مقدار الصلاة و الطهارة دون غيرها من الشروط فلا دلالة فيها علي المقام. و إن كان المراد مقدار الصلاة و تحصيل جميع الشروط فهي ساكتة عن بيان الشروط فإذا ادّعي شرطيّة شي‌ء للصلاة فلا دلالة فيها علي نفيها، كما لا يخفي.

الثانية: ما دلّ بعمومه أو إطلاقه علي صلاحيّة جميع أوقات الحواضر

لأدائها بالنسبة إلي جميع المكلّفين «1» فيتناول من عليه فائتة أيضا فيصحّ له فعل الحاضرة في السعة. و يرد عليه: ما في سابقه، من عدم فائدة في إطلاقها، سواء جعلنا اعتبار الترتيب من جهة الفوريّة، أم من جهة ثبوت اشتراط الحاضرة بتأخّرها عن الفائتة، إذ مدلولها صلاحيّة كلّ جزء من الوقت للحاضرة، و هذا غير منكر عند أهل المضايقة، فإنّهم لا يقولون بعدم الصلاحيّة «2» للحاضرة، و إنّما يقولون بعروض ما أوجب تأخّرها، أو بكونها مشروطة بشرط مفقود يحتاج إلي تحصيله و هو فراغ الذمّة عن الفائتة. نعم ربّما يظهر من بعض العبارات المحكيّة عن السيّد المرتضي «3» ما يوهم عدم صلاحيّة زمان الاشتغال بالفائتة لأداء الحاضرة، و حينئذ فيصلح هذه الإطلاقات للردّ عليه و لكن من المقطوع أنّ مراده من عدم صلاحية ذلك الوقت للفعل: عدم صلاحية الفعل في ذلك الوقت.

الثالثة: ما دلّ علي أنّه إذا دخل وقت الفريضة لا يمنع من فعلها شي‌ء إلّا أداء نافلتها الراتبة «4»

مثل قولهم عليهم السلام: «إذا زالت الشمس فما يمنعك إلّا سبحتك» «5». و قولهم عليهم السلام: «إذا زالت الشمس دخل وقت الصلاتين إلّا أنّ بين يديها سبحة، و ذلك إليك، طوّلت أو قصّرت» «6». و يرد عليه: أنّ هذه الروايات في مقام دفع «7» توهّم رجحان تأخير الظهر إلي حدّ محدود، كالقدمين و الذراع و القامة- علي ما يتراءي من بعض الأخبار الدالّة علي هذه التحديدات- «8»
فبيّن الإمام بذلك أنّه ليس بعد دخول الوقت مانع عن فعل الفريضة إلّا النافلة، فلا ينتظر القدمين و لا الذراع و لا القامة و لا غيرها. و الّذي يكشف عمّا ذكرنا ما عن محمّد بن أحمد بن يحيي، قال: «كتب بعض أصحابنا إلي أبي الحسن عليه السلام: أنّه روي عن آبائك: القدمين و الذراع و القامة و القامتين و ظلّ مثلك و الذراعين؟
فكتب عليه السلام: لا القدم و لا القدمين، إذا زال الشمس فقد دخل وقت الصلاة و بين يديها سبحة، فإن شئت طوّلت و إن شئت قصّرت.. الحديث» «9». و الحاصل: أنّ من لاحظ الأخبار المذكورة يظهر له ما ذكرنا في معني الرواية غاية الظهور. ثمّ إنّه كيف يمكن الاستدلال بهذه الأخبار مع أنّ المراد بالمنع في قوله عليه السلام: «لا يمنعك»: المنع الكمالي، لا منع الصحّة و الإجزاء، بقرينة استثناء النافلة، و المطلوب في مسألة المضايقة منع الفائتة عن صحّة الحاضرة قبلها، فافهم.

الرابعة: ما دلّ علي تأكّد استحباب فعل الصلاة جماعة «10»

مع استمرار السيرة في الجماعات علي المبادرة إليها في أوائل الأوقات، و ما دلّ علي تأكّد استحباب فعل الصلاة في المساجد «11»،
و علي استحباب الأذان و الإقامة «12» و تأكّدهما في بعض الصلوات، و استحباب اختيار السور الطوال في بعضها «13» و الإتيان بسائر سننها «14»، فإنّ امتثال هذه المستحبّات في الحاضرة يقتضي عدم تأخيرها إلي الضيق، و في الفوائت يقتضي عدم المبادرة إلي كلّ منهما. و الجواب عن هذه كلّها يظهر ممّا ذكرنا، من أنّ هذه الإطلاقات لا تنفي فوريّة القضاء و لا اشتراط الأداء بخلوّ الذمّة عن القضاء، و المتأمل يجد بعد الإنصاف أنّ هذه كلّها أجنبيّة عن المطلب.

الخامسة: ما دلّ علي استحباب المستحبّات.

و يرد عليها ما ورد في السابق و هي نظير أدلّة المباحات «15».

السادسة: ما دلّ علي أنّه: «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة» «16»

و علي أنّ فروض الصلاة سبعة «17» أو عشرة «18». و يرد عليه: أنّ المراد عدم الإعادة من الإخلال سهوا بشي‌ء غير الخمسة، و أنّ الفروض الشرعية بحسب أصل الشرع في الصلاة سبعة، و أكثر أهل المضايقة يدّعون أنّ فوريّة القضاء يمنع عقلا عن صحّة الأداء. و كيف كان، فالتمسّك بهذه و أمثالها ممّا لم نذكره- و إن ذكره بعض- تضييع للقرطاس فضلا عن العمر.

السابعة: ما دلّ علي تأكّد استحباب المبادرة مطلقا إلي الصلاة

في أوائل أوقاتها «19» فيشمل من عليه فائتة. و يرد عليه ما تقدّم في إطلاقات الوجوب في أوّل الوقت و صلاحيّة كلّ جزء من الوقت للحاضرة، من أنّها لا تنفي وجوب تقديم الفائتة، سواء أخذناه عن فوريّة القضاء- بناء علي اقتضائها النهي عن الحاضرة- أو من دليل اعتبار الترتيب في الحاضرة و إن لم يحكم بفوريّة الفائتة. مضافا إلي أنّ الاستحباب المذكور إنّما يتوجّه إلي فعل الحاضرة في أوّل الوقت بعد الفراغ عن وجوبها و صحّتها، لأنّ استحباب بعض أفراد الواجب «20» فرع وجوبه في الواقع و في لحاظ الحاكم بالاستحباب، و الكلام في هذه المسألة في ثبوت أصل وجوب الحاضرة في الجزء الأوّل من الوقت لمن عليه فائتة، فالحكم بالاستحباب مقصور علي من لا مانع في حقّه عن وجوب الحاضرة عليه في أوّل الوقت. و قد يرد هذه الإطلاقات بوجوب رفع اليد عنها من جهة تسليم أهل المواسعة لاستحباب تقديم الفائتة، فلا يجامع استحباب الحاضرة في أوّل وقتها. و فيه نظر، أمّا أوّلا:
فلذهاب بعض أهل المواسعة- كالصدوقين و عبيد اللَّه الحلبي و غيرهم- إلي استحباب تقديم الحاضرة «21» و ذهاب بعض إلي التخيير بين تقديم الحاضرة و تقديم الفائتة «22»
و لازم هذا القول- كما قدّمنا في أوّل المسألة- : القول بأفضليّة فعل الحاضرة في وقت فضيلتها. و أمّا ثانيا: فلأنّ القول باستحباب تقديم الفائتة إمّا أن يكون من جهة الاحتياط فلا ينافي أفضلية الحاضرة من حيث الفتوي الّتي هي مقتضي الأدلّة الاجتهاديّة، فيكون المسألة نظير الحكم بأفضليّة الإتمام في المواطن
المكاسب، ج‌4، ص 356
الأربعة لظاهر الأدلّة و أنّ القصر أحوط، و كذا الحكم بأفضلية صلاة الجمعة، و كون الظهر أحوط و إمّا أن يكون من جهة الأخبار الدالّة علي رجحان تقديم الفائتة بحملها علي الاستحباب بعد فرض اختيار المواسعة. لكن نقول: لا تنافي بين استحباب تقديم الفائتة و بين استحباب فعل الحاضرة في وقت فضيلتها، فإن أمكن الجمع بين المستحبّين بأن يقضي الفائتة و يعقّبها بالحاضرة قبل خروج وقت فضيلتها فقد فاز بالمصلحتين، و إن لم يمكنه إلّا إحداهما بعينها تعيّنت، أو لا بعينها تخيّر، أو قدّم الحاضرة لكثرة ما دلّ من الأخبار علي الحثّ عليها في ذلك الوقت «1» و توعيد من أخّرها عنه «2» و أنّ ما بقي من الوقت وقت رخصة لأهل الأعذار «3»
أو لصلاة الصبيان «4» و نحو ذلك. و كيف كان فكون كلّ من فعل الحاضرة في وقت الفضيلة و تقديم الفائتة عليه مستحبّا ممّا لم يمنعه مانع، و قد ذكرنا أيضا في أوائل المسألة أنّ جهات استحباب تقديم الفائتة ثلاث، و جهات تقديم استحباب الحاضرة أربع، فعليك بملاحظة ما يمكن اجتماعه من جهات تقديم إحداهما مع جهات تقديم الأخري، فتدبّر.

[الدليل الثالث: الأخبار الخاصة]

اشارة

الثالث من وجوه الاحتجاج لأهل المواسعة: الأخبار الخاصّة- يعني المختصّ بحكم قضاء الفوائت- و هي طوائف:

الأولي: ما دلّ علي توسعة القضاء في نفسها: فمن جملة ذلك: إطلاق الأخبار الكثيرة المشتملة علي الأمر بالقضاء «5»

و لا سيّما ما ورد في الحائض و النفساء «6». و يرد عليه: أنّ الاستدلال بالأوامر المطلقة- خصوصا الأوامر الواردة في الحائض و النفساء- في مقام بيان أصل الوجوب من غير تعرّض لوجوب المبادرة و عدمها فإنّ الأمر بناء علي عدم دلالته بالوضع علي الفور لا يدلّ علي عدمه، بل غاية الأمر سكوته عنه، فلا ينافي إرادة الأمر، المبادرة إليه بأمر آخر، و ليس يلزم حينئذ تصرّف في تلك الأوامر.
فالمدّعي للفور و إن كان عليه إقامة الدليل إلّا أنّ الإطلاقات لا تدلّ علي خلافه، نعم ظاهر الأمر- حيث إنّه موضوع لطلب الفعل الغير المقيّد بزمان- حصول الامتثال بالإتيان به في الزمان الثاني و الثالث، و إن قلنا بدلالته علي الفور، فتأمّل جدّا. و منها: ما عن أصل الحلبي- الّذي عرض علي الإمام الصادق صلوات اللَّه عليه و استحسنه- «7»: «خمس صلوات يصلّين علي كلّ حال و متي أحبّ، صلاة فريضة نسيها يقضيها مع طلوع الشمس و غروبها، و صلاة ركعتي الإحرام، و ركعتي الطواف الفريضة، و كسوف الشمس عند طلوعها و غروبها» «8». و يرد عليه أنّ قوله: «يصلّين علي كلّ حال» يدلّ علي مشروعيتها في مقام دفع توهّم المنع عنها عند طلوع الشمس و غروبها، لما استفاض من الأخبار الظاهرة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس و غروبها و أنّها تطلع بين قرني الشيطان «9»، و ليس المراد سعة وقتها و اختيار المكلّف في تعجيلها و تأخيرها، لأنّ هذا غير ممكن في الكسوف و الطواف و صلاة الميّت المذكورة في بعض الأخبار معها «10»، فلا ينافي هذا وجوب تعجيل القضاء متي ذكرها، و لذا جمع في بعض الأخبار بين الفقرة المذكورة و بين وجوب القضاء متي ذكرها، مثل رواية زرارة- المحكيّة عن الخصال- عن أبي جعفر عليه السلام: «قال: أربع صلوات يصلّيها الرجل في كلّ ساعة: صلاة فاتتك فمتي ذكرتها أدّيتها، و ركعتي طواف الفريضة و صلاة الكسوف و الصلاة علي الميّت» «11». و أمّا قوله: «متي أحبّ» فليس دليلا علي جواز التأخير، لعدم جريانها في باقي الصلوات المذكورة في الرواية، فلا بدّ من تأويلها علي وجه لا ينافي التعجيل، و لا يحضرني الآن تأويل حسن له و لا يهمّنا أيضا. هذا، مع أنّ العبارة المذكورة ليست برواية، لأنّ الحلبي لم يسندها إلي إمام، فلعلّها فتوي استنبطها من ظاهر بعض الروايات الدالة علي التوسعة. و منها: ما عن الجعفي في كتاب الفاخر- الّذي ذكر في أوّله أنّه لم يرو فيه إلّا ما أجمع عليه و صحّ عنده عن قول الأئمّة عليهم السلام- من قوله قدّس سرّه:
«و الصلوات الفائتات تقضي «12» ما لم يدخل عليه وقت صلاة، فإذا دخل وقت صلاة بدأ بالّتي دخل وقتها و قضي الفائتة متي أحبّ» «13». و يرد عليه: أنّ الظاهر عدم كون القول المذكور متنا لرواية و إنّما هو معني مستنبط من الروايات الظاهرة في المواسعة، فليس دليلا مستقلا. و منها: رواية عمّار المشتملة علي مسائل متفرّقة، منها ما: «عن الرجل يكون عليه صلاة في الحضر هل يقضيها و هو مسافر؟ قال: نعم، يقضيها باللّيل علي الأرض، فأمّا علي الظهر فلا، و يصلّي كما يصلّي في الحضر» «14». فإنّ الظاهر- بقرينة المنع عن القضاء علي ظهر الراحلة و الأمر بفعلها كما في الحضر- أنّ المراد قضاء الفريضة، فلو كان القضاء مضيّقا لجاز فعله علي الراحلة كما في الفريضة المضيّقة لضيق وقتها أو وقت التمكّن منها. و فيه، أوّلا: إنّه لا دلالة لها إلّا علي عدم جواز فعل الفريضة علي الراحلة، و أمّا وجوب النزول عنها لأجل القضاء إن تمكّن، و عدمه إن لم يتمكّن، فلا تعرّض لها في الرواية، نعم ربّما كان في قوله: «يقضيها باللّيل» دلالة علي أنّه يؤخّرها إلي اللّيل ليقع علي الأرض، فلا يقضيها بالنهار ليقع علي الراحلة علي ما هو الغالب من أنّ دأب المسافرين- خصوصا العرب- المشي بالنهار، فيكون وجه الدلالة ظهورها في ترخيص تأخير القضاء إلي اللّيل و عدم وجوب المبادرة إليها بالنهار. نعم يمكن للقائلين بالمضايقة أن يقولوا: إنّ المبادرة إنّما يجب إذا أمكن فعل القضاء مستجمعا لجميع الشروط الاختياريّة لا مطلقا، لأنّ التضيّق إنّما جاء من دلالة الأمر علي الفور أو من ورود الدليل علي وجوب التعجيل. و علي كلّ تقدير، فالفعل المشروط في نفسه بشروط إذا أخّره المكلّف لتحصيل شرط من شروطه، لا يعدّ متوانيا فيه غير مستعجل، إذا لم يكن التأخير إلّا بمقدار تحصيل الشرط، و لهذا لم يلتزم أهل المضايقة بسقوط السورة و طهارة الثوب و البدن، بل مقدار الطهارة المائيّة إذا أوجب التأخير، و كان التعجيل يحصل بالتيمّم. و السرّ في ذلك: أنّ ترخيص الفعل بدون الشرائط الاختياريّة إنّما يكون عند الاضطرار، و الاضطرار إنّما يحصل إذا دار الأمر بين فوت أصل الواجب إمّا لضيق الوقت أو لطروّ المانع- و لو بحسب ظنّ المكلّف- ، و فوات شروطه و أجزائه الاختيارية، و أمّا إذا دار الأمر بين فوات التعجيل إلي الفعل و فوات تلك الشروط و الأجزاء الاختياريّة فلا يهمل جانب الشروط و يراعي التعجيل. و السرّ فيه: أنّ التعجيل المطلوب إنّما عرض للفعل بعد اعتبار الشروط و الأجزاء، فالمطلوب تعجيل الفعل المستجمع لها، فمتي لم يمكن
المكاسب، ج‌4، ص 357
تعجيل الفعل المستجمع لها و ارتقب زمان الاستجماع فلا يعدّ عاصيا في التعجيل، و هذا هو السرّ في التزام العقلاء في مقام الإطاعة مراعاة جانب الشروط و الأجزاء و إن تأخّر زمان الفعل، بل لا يعدّ هذا تأخيرا، لأنّ التأخير و التعجيل إنّما يعتبران بالنسبة إلي أزمنة الإمكان، فافهم. و أمّا توهّم أنّ الإمام عليه السلام لم يستفصل بين السفر الضروريّ و غيره فيأمره بترك غير الضروريّ المستلزم لتأخير القضاء إلي اللّيالي، فمدفوع بأنّ مقام السؤال لا يقتضي ذلك- كما لا يخفي- فترك الاستفصال لا يجدي. و منها: رواية أخري عن عمّار: «قال: سألته عن الرجل ينام عن الفجر حتّي يطلع الشمس و هو في سفر، كيف يصنع، أ يجوز أن يقضيها بالنهار؟ قال: لا يقضي صلاة نافلة و لا فريضة بالنهار، و لا يجوز و لا يثبت له، و لكن يؤخّرها و يقضيها باللّيل» «1». و يرد عليه: أنّ المنع التحريميّ عن قضاء الفريضة بالنهار ممّا أجمع علي خلافه الفتاوي و الأخبار، فإمّا يحمل علي التقيّة فلا يجدي، و إمّا علي الكراهة، و هي بعيدة عن مساقها و مخالفة لظاهر الأخبار، بل صريح كثير منها، فان لم يكن هذا كلّه موجبا لطرحها جاز الاقتصار علي موردها، و لا داعي إلي صرفها عن الحرمة إلي الكراهة، إذ كما أنّ الحرمة منافية للفتاوي و الأخبار، فكذلك الكراهة، كما لا يخفي. و منها: ما رواه في البحار عن السيّد ابن طاوس- في رسالة غياث سلطان الوري لسكّان الثري- عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام «قال: قلت له: رجل عليه دين من صلاة قام يقضيه فخاف أن يدركه الصبح و لم يصلّ صلاة ليلته تلك، قال: يؤخّر القضاء و يصلّي صلاة ليلته تلك» «2»
. و التقريب: أنّ الظاهر من الدين إمّا خصوص الفريضة الفائتة أو الأعمّ، و لا وجه للتخصيص بالنافلة، فيدلّ علي جواز تأخير القضاء لنافلة اللّيل، ثمّ عدم الأمر بفعلها قبل الصبح يدلّ علي عدم الترتيب. و يرد عليه: أنّ ظهور لفظ الدين في الفريضة محلّ نظر، بل لا يبعد- عند من له ذوق سليم- أن يراد من الدين- في مقابل صلاة ليلته تلك- صلوات سائر اللّيالي، فيكون حاصل الجواب: ترجيح أداء نافلة تلك اللّيلة علي قضاء نافلة سائر اللّيالي.
و لو أغمض عن ذلك، فنقول: إنّ التمسّك بعمومه حسن لنفي الفوريّة، و أمّا نفي الترتيب فلا يستفاد منه خصوصا علي تفصيلي المحقّق «3» و العلّامة «4». و منها: ما عن السيّد- أيضا- في رسالة المواسعة، عن أمالي السيّد أبي طالب الحسيني بإسناده إلي جابر بن عبد اللَّه: «قال: قال رجل: يا رسول اللَّه كيف أقضي؟ قال صلّي اللَّه عليه و آله و سلم: صلّ مع كلّ صلاة مثلها. قال:
يا رسول اللَّه قبل أم بعد؟ قال: قبل» «5». و فيه: أنّ الأمر بالصلاة ليس للوجوب قطعا. فيمكن أن يكون إرشادا لكيفيّة قضاء ذلك الشخص، فلعلّه كان القضاء مستحبّا في حقّه فيستحبّ له قبل كلّ صلاة أن يقضي صلاة. و منها ما عن الذكري، عن إسماعيل بن جابر: «قال: سقطت عن بعيري فانقلبت علي أمّ رأسي، فمكثت سبعة عشر ليلة مغمي عليّ، فسألته عن ذلك، قال: اقض مع كلّ صلاة صلاة» «6». و فيه: أنّ الاستدلال به مبنيّ علي وجوب القضاء علي المغمي عليه- كما اعترف به في الذكري- «7» و هو مخالف للأخبار الكثيرة «8». مع أنّ الرواية غير مذكورة- علي ما قيل- «9» في كتب الحديث، فلعلّ الشهيد أخذها من كتاب إسماعيل بن جابر أو من كتاب آخر أسندت فيه إلي إسماعيل، و هذا ممّا يوهن التمسك به. و منها: الأخبار المستفيضة الدالة علي مرجوحيّة قضاء الفريضة، أو مطلق الصلاة عند طلوع الشمس حتي يذهب شعاعها «10». و يرد عليه: أنّها مخالفة للأخبار الكثيرة الواردة علي خلافها، و أنّ ما يقوله الناس: «إنّ الشمس تطلع بين قرني الشيطان» كاذب، و أنّه لو صحّ فما أرغم أنف الشيطان بشي‌ء مثل الصلاة «فصلّها و أرغم أنف الشيطان» «11»، و الأخبار الدّالّة صريحا علي عدم المنع عن قضاء الفريضة متي ما ذكرها، بل مطلق الصلاة، بل فعل ذات السبب مطلقا «12». فالأولي حملها علي التقيّة- و إن اشتمل بعضها علي ما يخالف العامّة «13»، فإنّه غير مناف للحمل عليها، خصوصا إذا لم يكن محمل غيرها- من جهة ورود الأخبار المعتبرة علي خلافها. و منها: الأخبار المرخّصة لقضاء صلاة اللّيل في النهار و قضاء صلاة النهار بالليل، إن شاء بعد المغرب و إن شاء بعد العشاء «14» مثل مصحّحة ابن مسلم: «عن الرجل يفوته صلاة النّهار. قال: يقضيها، إن شاء بعد المغرب و إن شاء بعد العشاء» «15»، و نحوها مصحّحة الحلبي «16»
إلي غير ذلك من الأخبار الدالّة علي الرخصة المزبورة، فإنّ الصلاة المقضيّة فيها أعمّ من الفريضة و النافلة، بل يتعيّن حملها في الصّحيحتين علي الفريضة بناء علي القول بحرمة النافلة- و لو قضاء- في وقت الفريضة، بل و علي القول بالكراهة أيضا، لظهورها في التساوي و عدم مزيّة في فعلها بعد العشاء. و يرد عليها: أنّ الظاهر من صلاة اللّيل و النهار- في هذه الروايات- نافلتهما، إذ الغالب التعبير عن الفرائض بأسمائها، كالظهرين أو المغرب و العشاء، مع أنّ الظاهر من فوت صلاة النّهار فوتها في النهار و فوت صلاة اللّيل في اللّيل، و حينئذ لا إشكال في أنّ الحكم قضاء الأوّل في الليل «17»، و الثاني في النهار. نعم هذا لا يتمشّي في بعضها، مثل قوله: «اقض صلاة النهار أيّ ساعة شئت من ليل أو نهار» «18» و نحوها، إلّا أنّه يمكن حملها علي دفع توهّم المنع الحاصل عن مثل رواية عمّار المتقدّمة المانعة عن قضاء فائتة النهار إلّا في اللّيل «19»، مع إمكان حمل النهار فيها علي النهار الآخر، لا يوم الفوات.

الطائفة الثانية من الأخبار: ما دلّ علي أنّه يجوز لمن عليه فائتة أن يصلّي الحاضرة في السعة

، و أن يتمّها بنيّتها إذا ذكر الفائتة في أثنائها، فمن جملة ذلك ما عن أصل الحلبي المتقدّم «20» من قوله: «و من نام أو نسي أن يصلّي المغرب و العشاء الآخرة، فإن استيقظ قبل الفجر مقدار ما يصليهما، فليصلّهما، و إن استيقظ بعد الفجر فليصلّ الفجر ثمّ المغرب ثمّ العشاء» «21». و دلالته علي المطلوب واضحة بناء علي أنّ وقت العشاءين يمتدّ للمضطرّ إلي طلوع الفجر. و حمل قوله: «بعد الفجر» علي القريب من طلوع الشمس بعيد جدّا، فحمل الأمر بتقديم الفجر علي الاستحباب أولي من ذلك التقييد، فيتمّ المطلوب، لكنّها لا تنفي التفصيل المتقدّم عن المختلف «22». و منها ما تقدّم عن كتاب الفاخر «23»- الّذي ذكر في أوّله: «أنّه لا يروي فيه إلّا ما اجمع عليه و صحّ من قول الأئمّة»- من قوله: «و الصلوات الفائتات تقضي ما لم يدخل عليه وقت صلاة، فإذا دخل وقت صلاة بدأ بالّتي دخل وقتها و قضي الفائتة متي أحبّ». و ظاهره وجوب التقديم، إلّا أن يحمل علي الاستحباب، فيتمّ المطلوب و هي المواسعة المطلقة من دون تفصيل. لكنّ
المكاسب، ج‌4، ص 358
الإنصاف: أنّ عدّ هذين الكلامين من الرواية مشكل، فالظاهر كون الحكم المذكور من هذين الجليلين فتوي مستنبطة من ظاهر الروايات. و منها: ما أرسله الواسطي في كتابه عن الصادق عليه السلام: «إنّ من كان في صلاة ثمّ ذكر صلاة أخري فائتة أتمّ التي هو فيها ثمّ قضي ما فاته» «1». و حكي «2» عنه نسبة هذا إلي أهل البيت عليهم السلام في موضع آخر من كتابه، و دلالته علي المطلوب ظاهرة، فلا كلام إلّا في سنده. و منها: رواية أبي بصير المصحّحة: «إن نام رجل و لم يصلّ صلاة المغرب و العشاء الآخرة أو نسي، فإن استيقظ قبل الفجر مقدار ما يصلّيهما جميعا فليصلّهما، و إن خشي أن يفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة. و إن استيقظ بعد الفجر فليبدأ فليصلّ الفجر ثمّ المغرب ثمّ العشاء قبل طلوع الشمس، فإن خاف أن يطلع الشمس فيفوته إحدي الصلاتين فليصلّ المغرب ثمّ ليدع العشاء الآخرة حتّي يطلع الشمس و يذهب شعاعها ثمّ ليصلّ العشاء» «3». و حكي نحوها عن رسالة السيّد ابن طاوس عن كتاب الحسين بن سعيد «4». و نحوها ما عن الفقه الرضويّ مسندا إلي العالم بزيادة قوله: «و إن خاف أن تعجّله طلوع الشمس و يذهب عنهما جميعا فليؤخّرهما حتّي يطلع الشمس و يذهب شعاعها» «5». و الدلالة فيها ظاهرة علي ما سبق في تقريب دلالة عبارة الحلبي «6». و أمّا الحكم فيهما بتأخير القضاء إلي ذهاب شعاع الشمس فهو غير موهن للرواية- كما أنّ صحيحة زرارة «7» الّتي هي العمدة في أدلّة الترتيب مشتملة علي هذا الحكم أيضا- لأنّ غاية الأمر حمل هذه الفقرة علي التقيّة و لا يوجب حمل ما في الخبر عليها، خصوصا مع احتمال حدوث سبب التقيّة بعد ذكر الفقرات السابقة. مع أنّ الرواية المرويّة عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن ابن مسكان- أو ابن سنان «8»- خالية عن الفقرة المذكورة. فالإنصاف ظهورها في المدّعي، نعم لا ينهض لردّ تفصيل المختلف، كما عرفت «9». ثمّ إنّه حكي عن المحقّق في العزيّة «10» أنّه أورد علي هذين الخبرين فقال: إنّ خبري أبي بصير و ابن سنان يدلّان علي أنّ وقت العشاء يمتدّ إلي الفجر، و هو قول متروك، و إذا تضمّن الخبر ما لا نعمل به دلّ علي ضعفه. ثمّ. قال: و أيضا فهما شاذّان، لقلّة ورودهما «11»
بعد العمل بهما. ثمّ أجاب عن الأوّل: بأنّا لا نسلّم أنّ القول بذلك متروك، بل هو قول جماعة من فقهائنا المتقدّمين و المتأخّرين، منهم أبو جعفر بن بابويه «12»-
و هو أحد الأعيان- و قد ذكر ذلك الشّيخ أبو جعفر الطوسي في مسائل من بعض أصحابنا «13»، فكأنّه مشهور، و قالوا: هو وقت لمن نام أو نسي. و لو سلّمنا أنّ الوقت ليس بممتدّ، فما المانع أن يكون ذلك للتقيّة في القضاء، فإنّ رواية زرارة «14»- الّتي هي حجّة في ترتيب القضاء- تضمّنت تأخير المغرب و العشاء حتّي يذهب الشّعاع، و من المعلوم أنّ الحاضرة لا يتربّص بها ذلك، فكيف ما يدّعي أنّه يقدّم علي الحاضرة؟ ثمّ أجاب عن الثّاني بأنّه لا نسلّم شذوذهما و قد ذكرهما الحسين بن سعيد «15» و الكليني «16» و الطوسي في التهذيب «17» و الإستبصار «18» و ذكره أبو جعفر بن بابويه في الفقيه «19» و قد أودع فيه ما يعتقد أنّه حجّة فيما بينه و بين ربّه «20»
(انتهي). و منها: مرسلة الوشّاء، عن جميل بن درّاج، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «قال: قلت: الرّجل يفوته الاولي و العصر و المغرب و ذكرها عند العشاء الآخرة. قال:
يبدأ بالوقت الّذي هو فيه، فإنّه لا يأمن الموت، فيكون قد ترك صلاة فريضة في وقت قد دخلت، ثمّ يقضي ما فاته، الأولي فالأولي» «21». و عن المحقّق في المعتبر «22» روايته عن جميل «23»، فلعلّه أخذه من كتابه. و وجه الدّلالة أنّ المراد من تذكّر المنسيّ عند العشاء، إمّا تذكّره عند دخول مطلق وقته، و إمّا بذهاب الحمرة المغربيّة- بناء علي القول بأنّه آخر وقت المغرب كما هو مذهب جماعة- «24» و إمّا زمان تمحّض الوقت له، و هو ما بعد ثلث اللّيل أو ربعه- بناء علي انتهاء المغرب بذلك و بقاء العشاء إلي نصف اللّيل- و علي أيّ حال فقد دلّت الرّواية علي رجحان تقديم الحاضرة علي الفائتة، و التّعليل المذكور أمارة الاستحباب. و لو أبيت إلّا عن كون وقت العشاء قبل تضيّقه وقتا للمغرب أيضا- علي ما هو المشهور بين المتأخرين- أمكن حمل قوله: «بدأ «25» بالوقت الّذي هو فيه». علي المغرب و العشاء، فيكون المراد نسيان المغرب في أوّل وقته لا مطلقا. و يحتمل أيضا إرادة مغرب اللّيلة السّابقة. و يحتمل أيضا أن يكون قد وقع ذكره علي سبيل السّهو من السّائل في مقام ذكر المثال للفوائت، كما جمع في السّؤال عن تداخل الأغسال بين غسل العيد و عرفة و الجمعة «26». و إن أبيت إلّا عن كون الكلّ مخالفا للظّاهر، قلنا: إنّ عدم مناسبة ذكر المغرب لظاهر السّؤال لا يوجب سقوط الجواب عن قابليّة الاستدلال، فإنّ ظهور الرّواية في تقديم العشاء الحاضرة علي قضاء الظّهرين ممّا لا ينبغي إنكاره، و هو كاف في إثبات المواسعة المطلقة، خصوصا بملاحظة التّعليل المذكور فيها. و منها: موثّقة عمّار: «قال: سألته عن رجل يفوته المغرب حتّي يحضر العتمة؟ فقال: إذا حضر العتمة و ذكر أنّ عليه صلاة المغرب، فإن أحبّ أن يبتدئ بالمغرب بدأ، و ان أحبّ بدأ بالعتمة ثمّ صلّي المغرب بعد.. الخبر» «27». بناء علي أنّ المراد: مغرب اللّيلة السابقة، أو علي القول المتقدّم من انتهاء وقت المغرب بدخول وقت العشاء، و دلالته حينئذ علي جواز تقديم الحاضرة واضحة. و لا ينافيه الحكم باستحباب تقديم الحاضرة، و لا استحباب تقديم الفائتة، لإمكان حمل التخيير فيه علي إرادة دفع توهّم تعيّن أحد الأمرين.
و منها: ما عن السيّد ابن طاوس في رسالة المواسعة عن كتاب الحسين ابن سعيد، عن صفوان، عن العيص ابن القاسم: «قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل نسي أو نام عن الصلاة حتّي دخل وقت صلاة أخري؟ فقال: إن كانت صلاة الأولي فليبدأ بها، و إن كانت صلاة العصر صلّي العشاء ثمّ صلّي العصر» «28». بناء علي أنّ المراد بصلاة الأولي هي مطلق الصلاة الّتي بعدها صلاة، فتعمّ المغرب، و يكون المراد بوقت الصلاة الأخري: وقتها الّذي هو وقت اضطراريّ للأولي، فيكون حاصل الجواب: أنّ الصلاة الاولي مع بقاء وقتها الاضطراري يقدّم علي الصلاة الأخري، و أمّا مع فوات وقتها مطلقا فيقدّم عليها الحاضرة. و يمكن أن يراد من الصلاة الأولي صلاة الظهر، لشيوع إطلاقها عليها في الأخبار، و كونها أوّل صلاة صلّاها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم لكن تخصيصه بالذكر من باب المثال، فيعمّ الحكم المغرب أيضا.
المكاسب، ج‌4، ص 359
و يحتمل أن يراد ب «الاولي» خصوص الظهر، فيكون وجه تقديم الظهر المنسيّة علي العصر أنّه: «لا صلاة بعد العصر» «1». و في الرواية احتمالات أخر باعتبار رجوع كلّ من الضمير في قوله: «و إن كانت» و قوله: «فليبدأ بها» إلي كلّ من الحاضرة و المنسيّة، إلّا أنّ الأظهر ما ذكرنا، مع أنّ دلالتها علي تقديم العشاء الحاضرة علي العصر المنسيّ واضحة علي كلّ حال. و منها: المرويّة عن قرب الإسناد، عن عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «قال: و سألته عن رجل نسي المغرب حتّي دخل وقت العشاء الآخرة؟ قال: يصلّي العشاء ثمّ يصلّي المغرب. و سأله عن رجل نسي العشاء فذكر بعد طلوع الفجر؟ قال: يصلّي العشاء ثمّ يصلّي الفجر. و سأله عن رجل نسي الفجر حتّي حضرت الظهر. قال: يبدأ بالظهر ثمّ يصلّي الفجر، كذلك كلّ صلاة بعدها صلاة» «2». فإنّ صدرها و ذيلها كالصريح في جواز تقديم الحاضرة علي الفائتة. و أمّا الحكم فيها بتقديم العشاء المنسيّة علي الفجر فعلي وجه الأولويّة، كالحكم بتقديم الحاضرة في الصورتين، لما ذكر من الضابط في ذيلها. لكن يرد عليها: أنّ ظاهرها فوات وقت المغرب للناسي مع سعة وقت العشاء، و هو خلاف المشهور و الأدلّة «3»، و إرادة آخر وقت العشاء يوجب الحكم بوجوب تقديم العشاء. هذا مع أنّ الضابط المذكور لا يخلو من إجمال، لأنّ المشبّه به المشار إليه بقوله: «كذلك كلّ صلاة بعدها صلاة» يحتمل أن يكون الفائتة، و يحتمل أن يكون الحاضرة، و وجه الشبه إمّا الحكم بالتقديم و إمّا الحكم بالتأخير، و المراد من ثبوت صلاة بعدها أمّا مشروعيّة صلاة بعدها- و لو نفلا- «4» و إمّا وجوب فريضة بعدها. نعم في بعض الأخبار ما يبيّن المراد منها، و هو ما عن الشيخ بإسناده عن الحسن الصيقل: «قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل نسي الأولي حتّي صلّي ركعتين من العصر؟ قال: فليجعلهما «5» الاولي و ليستأنف العصر. قلت: فإنّه نسي المغرب حتّي صلّي ركعتين من العشاء ثمّ ذكر؟ قال: فليتمّ صلاته ثمّ ليقض بعد المغرب. قال: قلت له: جعلت فداك، قلت حين نسي الظهر ثمّ ذكر و هو في العصر يجعلها الاولي ثمّ يستأنف. و قلت: هذا يتمّ صلاته ثمّ ليقض بعد المغرب؟! قال: هذا ليس مثل ذلك، إنّ العصر ليس بعدها صلاة، و العشاء بعدها صلاة» «6».
و في معناها ما عن دعائم الإسلام بزيادة قوله: «انّ العصر ليس بعدها صلاة، يعني لا يتنفّل بعدها، و العشاء الآخرة يصلّي بعدها ما يشاء» «7». و هذا التفصيل محمول علي الأولويّة بشهادة التعليل- فإنّ قضاء الصلاة بعد العصر جائز إجماعا- أو علي التقيّة، ففيه دلالة علي المواسعة و تفسير لما سبق من التفصيل في رواية عليّ بن جعفر المتقدّمة «8»، إلّا أنّ ظاهره متروك عندنا- معاشر القائلين بعدم خروج وقت الظهر، خصوصا للناسي، إلّا إذا بقي مقدار صلاة العصر من وقتها- ، و حينئذ ففي غير ذلك الوقت يجب العدول، و فيه يحرم، فلا مورد للاستحباب، و هكذا الحكم المذكور للمغرب، فافهم. و منها: ما عن الشيخ، عن إسماعيل بن هشام، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن الرجل يؤخّر الظهر حتّي يدخل وقت العصر، انّه يبدأ بالعصر ثمّ يصلّي الظهر» «9». و فيه ما تقدّم، من أنّه لا يناسب ما هو المعروف من عدم خروج وقت الظهر إلّا إذا بقي مقدار صلاة العصر. و منها: ما عن الصدوق و الشيخ بإسنادهما عن إسحاق بن عمّار «قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: «تقام الصلاة و قد صلّيت؟.
قال: صلّها و اجعلها لما فات» «10». و دعوي اختصاص الصلاة الّتي صلّاها أوّلا بصورة نسيان وجوب القضاء، بعيدة. نعم ظاهر الرواية الاستحباب، فيمكن حملها علي محتمل الفوات.

الطائفة الثالثة: ما دلّ من الأخبار علي جواز النفل أداء، و قضاء، لمن عليه فائتة.

فمن جملة ذلك: ما استفاض من قصّة نوم النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم عن صلاة الصبح حتّي طلعت الشمس، فقام فصلّي هو و أصحابه أوّلا نافلة الفجر ثمّ صلّي الصبح «11». و لا إشكال في سندها و دلالتها إلّا من جهة تضمّنها نوم النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم، بل في بعضها ما يدلّ علي صدور السهو أيضا منه عليه السلام علي ما يقوله الصدوق «12» تبعا لشيخه ابن الوليد، بل عن ظاهر الطبرسي في تفسير قوله تعالي: وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا «13» نسبة ذلك إلي الإماميّة في غير ما يؤدّونه عن اللَّه «14». لكنّ الظاهر شذوذ هذا القول و مهجوريّته، خصوصا فيما يتعلّق بفعل المحرّمات و ترك الواجبات. نعم قال في الذكري- بعد ذكر رواية زرارة الدالّة علي نوم النّبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم- : إنّه لم نقف علي رادّ لهذا الخبر من حيث توهّم القدح بالعصمة فيه «15». و ظاهره أنّ قدح مضمونها في العصمة توهّم مخالف لما عليه الأصحاب ممّن تعرّض لذكر هذه الروايات. و يؤيّد ما ذكره ما عن رسالة نفي السهو للمفيد قدّس سرّه أنّه قال:
لسنا ننكر أن يغلب النوم علي الأنبياء صلّي اللَّه عليهم في أوقات الصلاة حتّي يخرج الوقت فيقضوها بعد ذلك، و ليس عليهم في ذلك عيب و لا نقص «16»، لأنّه ليس ينفكّ بشر من غلبة النوم، و لأنّ النائم لا عيب عليه، و ليس كذلك السهو، لأنّه نقص عن الكمال في الإنسان، و هو عيب يخصّ به من اعتراه، و قد يكون من فعل الساهي تارة كما يكون من فعل غيره، و النوم لا يكون إلّا من فعل اللَّه و ليس من مقدور العباد علي حال، و لو كان من مقدورهم لم يتعلّق عيب و لا نقص لصاحبه، لعمومه «17» جميع البشر، و ليس كذلك السهو، لأنّه يمكن التحرز منه، و لأنّا وجدنا الحكماء يجتنبون أن يودعوا أموالهم و أسرارهم من ذوي السهو و النسيان و لا يمنعون من إيداعها ممّن يغلبه النوم أحيانا، كما لا يمنعون من إيداعها ممّن يعرضه «18» الأمراض و الأسقام «19» (انتهي موضع الحاجة). و عن شيخنا البهائي- في بعض أجوبة المسائل- ما لفظه: «الرواية المتضمنة لنوم النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم صحيحة السند، و قد تلقّاه الأصحاب بالقبول، حتّي قال شيخنا في الذكري: إنّه لم يجد لها رادّا، فقبول من عدا الصدوق من الأصحاب لها، شاهد صدق علي أنّهم لا يعدّون فوات الصلاة بالنوم سهوا، و إلّا لردّوها كما ردّوا غيرها ممّا هو صريح في نسبة السهو، و من شدّة وثوقهم بها استنبطوا منها أحكاما كثيرة ذكرتها في حبل المتين، منها: قضاء النافلة، و منها: جواز النافلة لمن عليه فريضة «20» (انتهي). و عن والده في رسالة مفردة منسوبة إليه: إنّ الأصحاب تلقّوا أخبار نوم النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم بالقبول «21» (انتهي). و حينئذ نقول: إنّه لو لم نقل من جهة كثرة هذه الأخبار بجواز صدور ذلك عن النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم- وفاقا لظاهر من عرفت- لم يثبت بالعقل و لا بالنقل امتناع ذلك عليه، فلا يجوز ردّ الاستدلال بالأخبار بما لم يثبت امتناعه عقلا و لا نقلا و لا ادّعي أحد امتناعه. نعم
المكاسب، ج‌4، ص 360
حكي عن العلّامة أنّه قال:- بعد ذكر بعض الأخبار في ذلك- : إنّ حديثهم باطل، لاستحالة صدور ذلك عن النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم «1». و عن رسالة نفي السهو المتقدمة «2»- بعد الاعتراف بعدم امتناعه عقلا علي ما عرفت- ذكر أنّ الخبر في هذا المعني من جنس الخبر في السهو و أنّه من الآحاد الّتي لا توجب علما و لا عملا. و عن السيّد ابن طاوس أنّه- بعد ما ذكر عن بعض طرق العامّة أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم نام هو و أصحابه آخر اللّيل إلي أن طلعت الشمس، فأوّل من استيقظ أبو بكر ثمّ عمر، فكبّر عمر تكبيرا عاليا فأيقظ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم فأمرهم بالارتحال، و سار غير بعيد، فنزل فصلّي الصبح- قال: «انظر أيّها العاقل في وصفهم لعناية اللَّه سبحانه نبيّهم، و أنّه سبحانه لا يصحّ أن ينام، و أنّ جبرئيل عليه السلام ما كان شفقته علي نبيّهم دون عناية عمر حتّي كان يوقظه اللَّه أو جبرئيل، فإذا نظرت إلي روايتهم عن محمّد صلّي اللَّه عليه و آله و سلم أنّه تنام عينه و لا ينام قبله «3»، و تفسيرهم لذلك بأنّ نومه لا يمنعه عن معرفة الأحوال «4»، و نظرت في رواياتهم لوجوب قضاء ما فات عقيب ذكره، ثمّ يذكرون في هذه الرواية أنّه أخّر القضاء إلي بعد الارتحال، فإنّه قد نام قلبه حتّي لا يحسّ بخروج الوقت، فكلّ ذلك يشهد بالمناقضة في رواياتهم و مقالاتهم و تكذيب أنفسهم «5» (انتهي). و الإنصاف أنّ نوم النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم أو أحد المعصومين صلوات اللَّه عليهم عن الواجب- سيّما آكد الفرائض- نقص عليهم ينفيه ما دلّ من أخبارهم «6» علي كمالهم و كمال عناية اللَّه تعالي بهم في تبعيدهم من الزلل، بل الظاهر بعد التأمّل أنّ هذا أنقص من سهو النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم عن الركعتين في الصلاة. و ما تقدّم «7» من صاحب رسالة نفي السهو ممنوع، بل العقل و العقلاء يشهدون بكون السهو عن الركعتين في الصلاة أهون من النوم عن فريضة الصبح، و أنّ هذا النائم أحقّ بالتعبير من ذلك الساهي، بل ذاك لا يستحقّ تعييرا. و كون نفس السهو نقصا دون نفس النوم، لا ينافي كون هذا الفرد من النوم أنقص، لكشفه عن تقصير صاحبه و لو في المقدّمات. و بالجملة، فصدور هذا مخالف لما يحصل القطع به من تتبّع متفرّقات ما ورد في كمالاتهم و عدم صدور القبائح منهم فعلا و تركا في الصغر و الكبر عمدا أو خطأ. و لعلّه لذا تنظّر في الأخبار «8» بعض المتأخّرين- علي ما حكي عنهم- منهم: شيخنا البهائي «9» بعد اعترافه بأنّ المستفاد من كلام الشهيد المتقدّم عن الذكري: تجويز الأصحاب لذلك «10» و عرفت أيضا ما عن المنتهي و غيره «11». اللّهمّ إلّا أن يقال بإمكان سقوط أداء الصلاة عنه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم في ذلك الوقت لمصلحة علمها اللَّه سبحانه، فإنّ اشتراكه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم مع غيره في هذا التكليف الخاصّ ليس الدليل عليه أوضح من الأخبار المذكورة حتّي يوجب طرحها، خصوصا بملاحظة بعض القرائن الواردة في تلك الأخبار، منها: قوله عليه السلام- في رواية سعيد الأعرج- : «إنّ اللَّه تعالي أنام رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم إلي أن قال: و أسهاه في صلاته فسلّم في الرّكعتين.. إلي أن قال: و إنّما فعل ذلك رحمة لهذه الأمّة، لئلا يعيّر الرّجل المسلم إذا هو نام علي صلاته أو سها.. الخبر» «12» فتأمّل. و قوله صلّي اللَّه عليه و آله و سلم لأصحابه مخاطبا لهم: «نمتم بوادي الشيطان» «13». و لم يقل نمنا، فعلم أنّ النوم كان زللا منهم لا منه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم. ثمّ إنّ دلالة الأخبار المذكورة- بعد تسليمها- كغيرها من الأخبار المتضمّنة لجواز النفل لمن عليه قضاء، علي نفي المضايقة و فوريّة القضاء. و أمّا دلالتها علي نفي الترتيب فهي مبنيّة علي عدم المدرك له إلّا الفوريّة أو انعقاد الإجماع المركّب علي أنّ كلّ من قال بالمواسعة لم يقل بالترتيب، و كلاهما ممنوعان.

[الدليل الرابع: الإجماعات المنقولة]

الرابع من حجج القول بالمواسعة: الإجماعات المنقولة. منها: ما تقدّم عن الجعفي من نسبة ما يذكره في كتابه الفاخر إلي المجمع عليه «14». و منها: ما عن المعتبر من أنّ القول بالمضايقة يلزم منه منع من عليه صلوات كثيرة أن يأكل و أن ينام زائدا علي الضرورة، و لا يشتغل إلّا لاكتساب قوت يومه له و لعياله، و أنّه لو كان له درهم حرم عليه الاكتساب حتّي يخلو يده، و التزام ذلك مكابرة صرفة و التزام سوفسطائي. ثمّ قال: و لو قيل: قد أشار أبو الصلاح الحلبي إلي ذلك، قلنا «15»: نعلم من المسلمين كافّة خلاف ما ذكرنا، فإنّ أكثر الناس يكون عليهم صلوات كثيرة فإذا صلّي الإنسان منهم شهرين في يومه استكثره الناس «16» (انتهي). و عن المختلف ما محصّله: أنّ القول بتحريم الحاضرة في أوّل وقتها مع القول بجواز غيرها من الأفعال ممّا لا يجتمعان، و الثاني ثابت بالإجماع علي عدم إفتاء أحد من فقهاء الأمصار في جميع الأعصار بتحريم زيادة لقمة أو شرب جرعة، أو طلب الاستراحة من غير نصب شديد، أو المنع من فعل العبادات الواجبة، و المندوبة لمن عليه قضاء، فيلزم انتفاء الأوّل «17» (انتهي). و الجواب عن هذه الحجّة: أنّه إن أريد دعوي إجماع العلماء فهو واضح المنع، مع ما عرفت من كثرة القائلين بالمضايقة من القدماء و دعواهم الإجماع. و عبارة الجعفي يمكن حملها علي أنّ ما ذكر في كتابه مضمون الروايات المجمع عليها، بل يمكن دعوي ظهور قوله: «لا نذكر فيه إلّا ما اجمع عليه و صحّ من قول الأئمة عليهم السلام» فيما ذكرنا، فإنّ كلمة «من» بيان للموصول. و أمّا كلام المحقّق فمرجعها «18» إلي دعوي «19» سيرة المسلمين، و هي غير معلومة علي وجه يجدي في المقام، مع احتمال كونها ناشئة عن قلّة مبالاتهم في الدين، و لذا تراهم يشتغلون بما ذكر من المباحات من اشتغال ذممهم بحقوق من يطالبهم مستعجلا- و لو بشاهد الحال، كمستحقّي الصدقات الواجبة- و مع اشتغال ذممهم بحقوق اللَّه الفوريّة، كتعلّم العلم و اكتساب الأخلاق الجميلة و دفع الأخلاق الرذيلة، و تراهم يعاملون- بيعا و شراء- مع الأطفال الغير المميّزة و المجانين، و لا يجتنبون عن النظر إلي غير المحارم زائدا علي الوجه و الكفّين، كالشعر و الزند و الرجل إلي غير ذلك ممّا يطول الكلام بذكره. هذا مع أنّ استلزام المضايقة لتحريم الأمور المذكورة محلّ كلام في الأصول بين أعاظم الفحول، فلعلّ السيرة المذكورة دليل علي عدم الاستلزام، كما تمسّك بها بعض الأعلام في هذا المقام. و منه يظهر ما في دعوي العلّامة في المختلف. مضافا إلي أنّ نفي القول من فقهاء الأمصار بحرمة ما ذكر مع اعترافه قدّس سرّه «20» بذهاب السيّد و جماعة إلي الحرمة كما تري. و بالجملة فالتمسّك بالإجماع و السيرة في هذا المقام ليس إلّا لتكثير الأدلّة، مع أنّه لا ينفي الترتيب إلّا إذا كان منوطا بالفوريّة و مبنيّا عليها.

[الدليل الخامس: لزوم الحرج]

الخامس من حجج القائلين بالمواسعة: لزوم الحرج العظيم، الّذي يشهد بنفيه الأدلّة الثلاثة، بل الأربعة. و يرد عليه أنّ الحرج لا يلزم
المكاسب، ج‌4، ص 361
إلّا مع كثرة الفوائت، و حينئذ فإن كان لزومه علي وجه يرتفع به التكليف حكم بمقتضاه، كما يحكم القائل بالمواسعة عند ظنّ طروّ العجز، و كما يحكم بسقوط القيام في الصلاة عند تعسّره فلا يتعدّي إلي صورة عدم لزوم الحرج، لقلّة الفوائت. و ليس المقام ممّا يقضي لزوم الحرج بتشريع المواسعة في جميع الأفراد حتّي مع عدم الحرج، بأن يكون لزوم الحرج مؤسّسا للحكم، لأنّ ذلك إنّما هو فيما كان العسر في أغلب الموارد فيتبعها النادر، كما في تشريع القصر في السفر للحرج، و تشريع طهارة الحديد، و غير ذلك، و ليس كذلك ما نحن فيه قطعا «1». فاندفع ما يقال: إنّ غرض المستدلّ أنّ المشقّة النوعيّة الثابتة في فوريّة القضاء يقتضي- بحسب الحكمة المرعيّة في الشريعة السمحة السهلة- نفيها مطلقا، و إن انتفت المشقّة الشخصيّة في ثبوتها في بعض الأحيان. هذا مع إمكان معارضته بأنّ حكمه عدم وقوع المكلّف في تهلكة «2» بقائه مشغول الذمّة بالفوائت بعد الموت، اقتضت إيجاب المبادرة إليها إذ قلّما اتّفق للمكلّف أن يكون عليه فوائت كثيرة لم يبادر إليها في السعة إلّا و قد مات مشغول الذمّة بها أو بأكثرها. و كيف كان، فهذا الدليل- في الضعف- كسابقه، إلّا أنّه ينفي الترتيب أيضا و لو لم ينشأ من المضايقة، لأنّ مقتضاه وجوب الاشتغال بالفوائت تحصيلا للترتيب بين الحاضرة و بين ما يمكن تقديمه عليها من الفوائت، بل لو لم يشتغل بها أيضا كان في نفس تأخير الحاضرة حرج من جهة ضبط أواخر الأوقات بالساعات و العلامات إلّا إذا قلنا بأنّ الواجب تأخير الحاضرة عن مجموع الفوائت، لا عن كلّ فائتة حتّي يجب الاشتغال بها مهما أمكن، فافهم. و الحاصل: أنّ لزوم العسر علي من كثر عليه الفوائت مسلّم، سواء قلنا بالمضايقة أم قلنا بلزوم الترتيب من دون المضايقة، لكنّ الحكم بنفيهما «3» عموما حتّي في مورد عدم الحرج يحتاج إلي دليل آخر. و التمسّك بالإجماع المركّب في غير موضعه، لأنّ الفصل في الأحكام التكليفيّة بين موارد الحرج و غيرها، لكثرة وقوعه في الشريعة لا يعلم مخالفته في هذه المسألة لقول الإمام عليه السلام، و إن كان القطع به في بعض الموارد ممكنا، «4» إلّا أنّ غلبة الفصل بين الموردين في المسائل ممّا يمنع القطع غالبا، فافهم، فإنّه نافع في كثير من الموارد. و هذا خلاصة أدلّة القول بالمواسعة، و قد عرفت ضعف أكثرها، مع عدم الدلالة علي الترتيب خصوصا فيما عدا فوائت اليوم.

[أدلة القول بالمضايقة]

اشارة

و أمّا ما يمكن ان يستدلّ به للقول بالمضايقة فوجوه:

الأوّل: الأصل.

و المراد به: أصالة الاحتياط، إمّا من حيث الفوريّة، لتيقّن عدم المؤاخذة- علي تقدير التعجيل- و عدم الأمن منه- علي تقدير التأخير، مطلقا أو مع اتّفاق طروّ العجز. و إمّا من حيث تيقّن امتثال الحاضرة علي تقدير تأخيرها عن الفائتة أو إيقاعها في ضيق الوقت و الشكّ في الامتثال لو قدّمها علي الفائتة. و الجواب عنه: عدم وجوب الاحتياط لا من جهة الفوريّة و لا من جهة الترتيب، لما تقرّر في محلّه من دلالة العقل و النقل علي عدم المؤاخذة عمّا لم يعلم كونه منشأ لها، سواء كان الشكّ في التكليف الأصليّ أم كان في التكليف المقدّميّ، كالجزء، و الشرط. ثمّ إنّه لو قلنا بأصالة الاحتياط في الوجوب المقدّميّ من قبيل الجزء، و الشرط- علي ما هو مذهب جماعة «5»، و قد كنّا نقوّيه سابقا بدعوي اختصاص أدلّة البراءة- عقلا و نقلا- بالشكّ في التكليف المستقلّ، كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو غسل الجمعة، لكن وجوب الاحتياط في التكليف الوجوبيّ المستقلّ مما لم يقل به أحد من المجتهدين و الأخباريّين علي ما ادّعاه بعض الأخباريين من اختصاص الخلاف بين الأخباريّين و المجتهدين في وجوب الاحتياط و عدمه بغير هذه الصورة من صور الشبهة في الحكم الشرعيّ. و علي هذا فوجوب الاحتياط من جهة الفوريّة و وجوب المبادرة إلي القضاء لمجرّد احتمال العقاب علي التأخير ممّا لم يقل به أحد. و أمّا أصالة الاحتياط من جهة الشكّ في اعتبار الترتيب- علي ما هو مذهب جماعة في الشكّ في الشرطيّة و الجزئيّة- فهي أيضا غير جارية في المقام و إن قلنا بجريانها في غيره، لأنّ الترتيب عند أهل المضايقة من جهة لزوم المبادرة، فالشكّ في اعتبار الترتيب مسبّب عن الشك في لزوم المبادرة، و إذا كان المرجع عند الشك في لزوم المبادرة أصالة البراءة عنه بالإتّفاق علي ما ذكر لم يجب الاحتياط عند الشكّ في اعتبار الترتيب. بل المرجع إلي أصالة البراءة الّتي هي الأصل في الشكّ، الّذي صار منشأ لهذا الشكّ، لما تقرّر في محلّه من أنّ أحد الأصلين إذا كان الشكّ في مجراه سببا للشكّ في مجري الآخر، فهو حاكم علي صاحبه، و لا يلتفت إلي صاحبه، و لذا لو شككنا في وجوب تقديم إخراج النجاسة عن المسجد علي الصلاة فيه، لأجل الشكّ في وجوب إخراج النجاسة الغير الملوّثة منه لم يكن هناك موضع إجراء أصالة الاشتغال باتّفاق من القائلين بجريانها عند الشكّ في اعتبار شي‌ء في العبادة المأمور بها. و الحاصل أنّ أصالة البراءة حاكمة علي أصالة الاشتغال، مع كون الشكّ في مجري الثانية مسبّبا عن الشكّ في مجري الأولي، و هذا هو الضابط في كلّ أصلين متعارضين، سواء كانا من جنس واحد، كاستصحابين أو من جنسين، كما فيما نحن فيه. و الظاهر أنّ تقديم البراءة علي الاحتياط- في مثل ما نحن فيه- ممّا اتّفق عليه الموجبون للاحتياط، و إن اختلفوا في الاستصحابين المتعارضين إذا كانا من هذا القبيل. ثمّ إنّ ما نحن فيه ليس من الشك في شرطيّة شي‌ء لعبادة أو جزئيته لها، بل الشكّ في صحّة العبادة لأجل الشكّ في ثبوت تكليف آخر أهمّ منه، فإذا انتفي بأصالة البراءة فلا مسرح للاحتياط الواجب، فافهم و اغتنم. و اعلم أنّ جميع ما ذكرنا إنّما هو علي تقدير تسليم الصغري، و هي أنّ الاحتياط في تقديم الفائتة، و أمّا لو أخذنا بظواهر العبائر المحكيّة عن جماعة من القدماء «6» كظاهر بعض الأخبار من وجوب تقديم الحاضرة و إن كانت موسّعة «7»، أو لاحظنا قول جماعة كثيرة بثبوت الوقت الاضطراري «8» فلا احتياط في المقام.

الثاني: إطلاق أوامر القضاء

، بناء علي كونها للفور أمّا لغة- كما عن الشيخ و جماعة «9»- ،
و إمّا شرعا- كما عن السيّد- مدعيا إجماع الصحابة و التابعين عليه «10»، و إمّا عرفا- كما يظهر عن بعض أدلة بعض المتأخرين. و الجواب: منع كونه للفور، لا
المكاسب، ج‌4، ص 362
لغة و لا شرعا و لا عرفا.

الثالث: ما دل علي وجوب المبادرة إلي القضاء

، فمن ذلك قوله تعالي: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «1» فعن الطبرسي- بعد ذكر جملة من معانيه- و قيل: معناه أقم الصلاة متي ذكرت أنّ عليك صلاة، كنت في وقتها أم لم تكن- عن أكثر المفسرين- و هو المروي عن أبي جعفر عليه السلام «2». و عن القمي: إذا نسيت صلاة ثمّ ذكرتها، فصلّها «3». و في الذكري: «قال كثير من المفسرين: إنّه في الفائتة، لقول النبي صلّي اللَّه عليه و آله و سلم: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها، إنّ اللَّه تعالي يقول أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. و في رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «إذا فاتتك صلاة ذكرتها في وقت أخري، فإن كنت تعلم أنّك صلّيت الّتي فاتتك، كنت من الأخري في وقت فابدأ بالّتي فاتتك إنّ اللَّه عزّ و جل يقول وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «4»» (انتهي). و مثلها- في تفسير الآية- : صحيحة أخري لزرارة الواردة في حكاية نوم النبي صلّي اللَّه عليه و آله و سلم، و فيها قوله عليه السلام:
«من نسي شيئا من الصلاة فليصلّها إذا ذكرها، إنّ اللَّه تعالي يقول وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» «5». و منها: الأخبار الدالّة علي الأمر بالقضاء عند ذكره، مثل ما تقدّم في تفسير الآية، و مثل ما عن السرائر «6» في الخبر المجمع عليه بين جميع الأمة: «من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها» «7». و مثل رواية حمّاد، عن نعمان الرازي:
«قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل فاته شي‌ء من الصلوات فذكرها عند طلوع الشمس و عند غروبها؟ قال: فليصلّها عند ذكرها» «8». و رواية يعقوب بن شعيب: «عن الرجل ينام عن الغداة حتي تبزغ الشمس، أ يصلّي حين يستيقظ، أو ينتظر حتّي تنبسط الشمس؟ قال: يصلّي حين يستيقظ» «9»، إلي غير ذلك مما هو بهذا المضمون «10». و مثل ما دلّ من الأخبار «11» علي أنّ عدّة صلوات يصلّين علي كلّ حال، منها: صلاة فاتتك تقضي حين تذكر. و تقريب الاستدلال بالآية و الروايات: أنّ توقيت فعل الصلاة بوقت الذكر ظاهر في وجوب إيقاعها في ذلك الوقت، فهو وقت للواجب، لا لمجرّد الوجوب، كما في قول القائل: أدخل السوق عند طلوع الشمس أو الزوال، أو افعل كذا حين قدوم زيد، و نحو ذلك. و حملها علي الاستحباب مخالف لظاهرها، خصوصا ظاهر الآية، حيث إنّ قوله تعالي أَقِمِ الصَّلاةَ «12» عطف علي قوله فَاعْبُدْنِي الصريح في الوجوب، و كذا حملها علي مجرد الإذن في المبادرة في مقام رفع توهّم الحظر عنها في بعض الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها تنزيها أو تحريما. و منها: ما دلّ علي عدم جواز الاشتغال بغير القضاء، مثل صحيحة أبي ولّاد- الواردة في حكم المسافر القاصد للمسافة، الراجع عن قصده قبل تمامها- و في آخرها: «فإن كنت لم تسر في يومك الذي خرجت فيه بريدا، فإنّ عليك أن تقضي كلّ صلاة صليتها بالقصر بتمام، من قبل أن تبرح من مكانك» «13». و صحيحة زرارة: «عن رجل صلّي بغير طهور أو نسي صلاة أو نام عنها، قال: يقضيها إذا ذكرها، في أيّ ساعة ذكرها من ليل أو نهار، فإذا دخل وقت صلاة و لم يتمّ ما فاته فليقض، ما لم يتخوّف أن يذهب وقت هذه الصلاة الّتي قد حضرت، و هذه أحقّ بوقتها، فإذا قضاها فليصلّ ما قد فاته ممّا قد مضي، و لا يتطوّع بركعة حتّي يقضي الفريضة كلّها» «14». و الجواب: أمّا عن الآية «15» فبأنّه إن أريد إثبات دلالتها بنفسها علي فوريّة القضاء، فدونه خرط القتاد، إذ لا ظهور فيها إلّا في خطاب موسي عليه السلام بإقامة الصلاة، فإنّ قوله تعالي لِذِكْرِي يحتمل أن يكون قيدا لكلا الأمرين، أعني قوله فَاعْبُدْنِي- وَ أَقِمِ الصَّلاةَ خصوصا بعد ملاحظة أنّ في نسيان مثل موسي لصلاة الفريضة بل نومه عنها كلاما تقدّم شطر منه في نوم النبي صلّي اللَّه عليه و آله و سلم «16» و «اللام» فيه يحتمل وجوها، و كذا «الذكر». و بالجملة، فعدم دلالة الآية بنفسها علي المدّعي بحسب فهمنا ممّا لا يحتاج إلي بيان وجوه إجمال الآية أو بعضها: و لذا لم يحك عن أحد من المفسّرين من تفسيرها «17» بخصوص الفائتة، حتّي يمكن حمل الأمر فيها علي الفور. و إن أريد دلالتها بضميمة ما ورد في تفسيرها- من الروايات المتقدّمة المستشهد بها فيها علي وجوب القضاء عند الذكر- منعنا دلالتها، لأنّ الرواية الأولي عاميّة «18» و الصحيحة الآخرة «19» لزرارة «20» مع اشتمالها علي نوم النبي صلّي اللَّه عليه و آله و سلم و أصحابه عن منامهم بعد الاستيقاظ، و تقديم نافلة الفجر، بل الأذان و الإقامة. بل قد تدلّ مراعاة النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم للتجنب عن وادي الشيطان و عدم تأخيره نافلة الفجر عن فريضتها و عدم ترك الأذان و الإقامة علي عدم استحباب المبادرة إلي القضاء علي وجه يكون له مزيّة علي المستحبّات المذكورة. و أمّا الرواية الأولي لزرارة «21»، فلا دلالة فيها إلّا علي تقدير كون الأمر للفور و قد عرفت منعه سابقا «22»، فهي لا تدلّ إلّا علي الأمر بتقديم الفائتة الواحدة علي الحاضرة، و أين هذا من القول بالمضايقة و وجوب المبادرة، و بطلان الحاضرة لو قدّمها علي الفائتة و إن تعدّدت. و أمّا الأخبار «23»- غير صحيحي أبي ولّاد «24» و زرارة «25»- فهي بين مسوق لبيان أصل وجوب قضاء المتروك لعذر، و مسوق لبيان عدم اختصاص القضاء بوقت دون وقت في مقام رفع توهّم مرجوحيّته في بعض الأوقات. مع أنّه لو سلّم دلالتها علي الفور، فهي بنفسها لا يستلزم «26»
الترتيب، إلّا إذا قلنا باستلزام الأمر بالشي‌ء النهي عن ضدّه، أو عدم الأمر به، كما أنّ ما دلّ بظاهره علي الترتيب لا يستلزم وجوب المبادرة، كما عرفت سابقا «27».
نعم لو ثبت إجماع مركّب أمكن الاستدلال بما دلّ علي أحدهما علي الآخر بضميمة الإجماع، و هو غير ثابت. و بهذا يمكن دفع الاستدلال بالصحيحتين الأخيرتين، أعني صحيحي أبي ولّاد و زرارة. مع أنّ دلالة صحيحة أبي ولّاد علي المطلب موقوفة علي القول بوجوب قضاء الصلوات المقصورة إذا بدا له عن السفر قبل إتمام المسافة، و هو- مع أنّه ممّا لم يقل به أحد- مخالف لصحيحة زرارة الأخري «28» الصريحة في نفي الإعادة علي من رجع عن قصد السفر بعد الصلاة قصرا، فالمتّجه حمل الرواية علي الاستحباب، فلا تدل علي وجوب المبادرة. و أما صحيحة زرارة «29» فهي- كبعض الأخبار الآتية «30»- عمدة أدلّة هذا القول. و ربّما يجاب عنها بأنّ إطلاق السؤال منها، فيها، يقتضي حمل القضاء- في الجواب- علي مطلق الأداء، كما استعمل فيه في آخر الخبر، فلا يكون الغرض إلّا إيجاب الفعل وقت الذكر. و هو ضعيف لمخالفته ظاهر السؤال، فضلا عن ظواهر فقرأت الجواب، لأنّ النوم عن الصلاة، و نسيانها لا يصدق عرفا، بل و لا لغة، إلّا إذا نام أو نسي
المكاسب، ج‌4، ص 363
في مجموع الوقت. و يتلوه في الضعف حمل السؤال علي كونه عن وقت القضاء مع العلم بأصل وجوبه، فيكون الجواب لبيان الرخصة في القضاء في أيّ ساعة ذكر و لو في أوقات يكون فعل الصلاة فيها مطلقا أو في الجملة مرجوحة، كما إذا دخل وقت الفريضة، و كما بعد صلاة العصر و الفجر. و يؤيّده قوله عليه السلام في صحيحة أخري لزرارة: «في أيّ ساعة ذكرتها و لو بعد صلاة العصر» «1». و وجه الضعف: أنّ دعوي كون السؤال عن وقت القضاء مع الفراغ عن أصل وجوبه ممنوعة، و مخالفة لظاهر السؤال، كما لا يخفي. فالأحسن تسليم ظهور الرواية- بنفسها- في وجوب المبادرة، و حملها علي ما ذكرنا: من بيان تعميم وقت الرخصة، أو علي الاستحباب بمعونة ظهور بعض ما تقدّم من أخبار المواسعة. و ربّما يشهد للأوّل كثرة الأخبار الواردة في أوقات قضاء النوافل و الفرائض في مقام السؤال عن تعيين وقت القضاء، و يظهر ذلك لمن لاحظ كتاب الوسائل في باب عدم كراهة القضاء في وقت من الأوقات «2». ثمّ لو سلّم دلالتها علي المبادرة لم يكن فيه دلالة علي الترتيب، إلّا إذا قلنا بكون الأمر بالشي‌ء مستلزما للنهي عن ضدّه الخاص، أو لعدم الأمر به، أو قام إجماع مركّب في البين و كلاهما ممنوعان.

الرابع: من أدلّة هذا القول: ما دلّ علي الترتيب و تقديم الفائتة في الابتداء

و العدول من الحاضرة إليها في الأثناء مثل صحيحة زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «إذا نسيت صلاة أو صلّيتها بغير وضوء أو «3» كان عليك قضاء صلوات، فابدأ بأوّلهن و أذّن لها و أقم، ثمّ صلّها، و ثمّ صلّ ما بعدها بإقامة، إقامة لكلّ صلاة «4». و قال: قال أبو جعفر عليه السلام: فإن كنت قد صلّيت الظهر و قد فاتتك الغداة فذكرتها، فصلّ الغداة في «5» أيّ ساعة ذكرتها و لو بعد العصر، و متي ما ذكرت صلاة فاتتك صلّيتها «6». و قال: إذا نسيت الظهر حتّي صلّيت العصر فذكرتها و أنت في الصلاة، أو بعد فراغك فانوها الأولي، ثمّ صلّ العصر، فإنّما هي أربع مكان أربع. و إن ذكرت أنّك لم تصلّ الأولي و أنت في صلاة العصر و قد صلّيتها «7» ركعتين، فانوها الأولي، ثمّ صلّ الركعتين الباقيتين و قم و صلّ العصر. و إن كنت قد ذكرت أنّك لم تصلّ العصر حتّي دخلت «8» المغرب و لم تخف فوتها، فصلّ العصر، ثمّ صلّ المغرب. و إن كنت قد صلّيت المغرب فقم فصلّ العصر. فإن كنت قد صلّيت من المغرب ركعتين ثمّ ذكرت العصر فانوها العصر، ثمّ قم فأتمّها بركعتين، ثمّ تسلّم، ثم تصلّي المغرب. و إن كنت قد صلّيت العشاء الآخرة و نسيت المغرب فقم و صلّ المغرب. و إن كنت ذكرتها و قد صلّيت من العشاء الآخرة ركعتين، أو قمت في الثالثة، فانوها المغرب ثمّ سلّم، ثمّ قم فصلّ العشاء الآخرة. و إن كنت قد نسيت العشاء الآخرة حتّي صلّيت الفجر فصلّ العشاء الآخرة. و إن كنت ذكرتها و أنت في الركعة الأولي، أو الركعة الثانية من الغداة، فانوها العشاء، ثمّ قم فصلّ الغداة و أذّن و أقم. و إن كانت المغرب و العشاء قد فاتتك جميعا، فابدأ بهما قبل أن تصلّي «9» الغداة، ابدأ بالمغرب ثمّ العشاء. فإن خشيت أن يفوتك الغداة إن بدأت بهما فابدأ بالمغرب، ثمّ صلّ الغداة، ثمّ صلّ العشاء، فإن خشيت أن يفوتك الغداة إن بدأت بالمغرب فصلّ الغداة، ثمّ صلّ المغرب و العشاء، ابدأ بأوّلهما، لأنّهما جميعا قضاء أيّهما ذكرت، فلا تصلّهما «10» إلّا بعد ذهاب شعاع الشمس. قلت: لم ذاك «11»؟ قال: «لأنّك لست تخاف فوتها» «12». و رواية صفوان بن يحيي، عن أبي الحسن عليه السلام: «قال: سألته عن رجل نسي الظهر حتي غربت الشمس و قد كان صلّي العصر. قال: قال «13» أبو جعفر عليه السلام: و «14» كان أبي يقول: إن أمكنه أن يصلّيها قبل أن يفوته المغرب بدأ بها، و إلّا صلّي المغرب، ثمّ صلّاها» «15». و رواية أبي بصير: «عن رجل نسي الظهر حتّي دخل وقت العصر قال: يبدأ بالظهر، و كذلك الصلوات تبدأ بالتي نسيت إلّا أن تخاف أن يخرج وقت الصلاة فيبدأ بالّتي أنت في وقتها، ثمّ تصلّي «16» الّتي نسيت» «17». و رواية زرارة- المتقدمة في تفسير الآية- «18». و رواية البصري: «قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل نسي صلاة حتي دخل وقت صلاة أخري؟ فقال: إذا نسي صلاة أو نام عنها، صلّاها حين يذكرها، فإذا ذكرها و هو في صلاة بدأ بالّتي نسي، و إن ذكرها مع إمام في صلاة المغرب أتمّها بركعة، ثمّ صلّي المغرب ثمّ صلّي العتمة بعدها.. الخبر» «19». و رواية معمّر بن يحيي: «قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام: عن رجل صلّي علي غير القبلة، ثمّ تبيّن له القبلة و قد دخل وقت صلاة أخري؟ قال: يصلّيها قبل أن يصلّي هذه الّتي دخل وقتها، إلّا أن يخاف فوت الّتي دخل وقتها» «20». و المحكيّ «21» عن دعائم الإسلام: «قال»: روينا عن جعفر بن محمّد عليهما السلام أنّه قال: من فاتته صلاة حتّي دخل وقت صلاة أخري، فإن كان في الوقت سعة بدأ بالّتي فاتت، و صلّي الّتي هو منها في وقت، و إن لم يكن من الوقت إلّا مقدار ما يصلّي الّتي هو في وقتها بدأ بها، و قضي بعدها الّتي فاتت» «22». و المحكيّ عن كتب الأصحاب «23»-
مرسلا- عن النبي صلّي اللَّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «لا صلاة لمن عليه صلاة» «24» و لا ريب في أنّه يصدق علي المكلّف- قبل تنجّز الحاضرة عليه و مشروعيّتها له- أنّه عليه صلاة، فينفي مشروعيّة الحاضرة و تعلّقها في ذمّته بمقتضي الرواية، و لا يجوز قلب الاستدلال بها فيما إذا فرض تذكّر الفائتة بعد تنجّز الحاضرة عليه كما لا يخفي بأدني التفات. و الجواب: أمّا عن صحيحة زرارة الطويلة «25» فبأنّ مواضع الدلالة فيها فقرأت: إحداها: قوله عليه السلام: «و إن كنت قد ذكرت أنّك لم تصلّ العصر حتّي دخل وقت المغرب و لم تخف فوتها فصلّ العصر ثمّ صلّ المغرب.. الخبر». و لا يخفي- علي المتأمّل فيها- ظهورها في تضيّق وقت المغرب و فواتها بزوال الحمرة، و إلّا لم يناسب التفصيل- في فرض نسيان العصر إلي دخول المغرب- بين خوف فوات المغرب و عدمه، و حينئذ فلا ينهض الرواية دليلا علي المضايقة، بناء علي ما هو المشهور بين المتأخّرين من كون زوال الحمرة آخر وقت الفضيلة دون الإجزاء، فتعيّن حمل الأمر علي الاستحباب، و كون إدراك فضيلة المغرب أولي من المبادرة إلي الفائتة بحكم مفهوم القيد في قوله: «و لم تخف». الثانية: قوله عليه السلام: «و إن كنت قد صلّيت من المغرب ركعتين» و الظاهر أنّ الحكم بالعدول في هذه الفقرة مقيّد- كالحكم السابق- بعدم خوف فوات وقت المغرب. و حاصل الحكمين:
أنّه إذا لم يخف فوت المغرب قدّم العصر ابتداء و عدل إليها في أثناء المغرب، فيكون مفهوم القيد في قوله عليه السلام: «و لم يخف فوتها» مفيدا «26» لانتفاء الحكمين عند خوف
المكاسب، ج‌4، ص 364
وقت فضيلة المغرب، فيكون الراجح- عند خوف فوت وقت الفضيلة- تقديم الحاضرة، و هذا مخالف للقول بالمضايقة، فلا محيص عن حمل الأمر بالعدول علي الاستحباب.
الثالثة: قوله عليه السلام: «و إن كنت قد ذكرتها- يعني: العشاء الآخرة- و أنت في الركعة الأولي أو الثانية من الغداة.. إلخ». و الإنصاف ظهور دلالة هذه الفقرة- بنفسها- علي وجوب العدول، لكنّه لا ينفع بعد وجوب حمل الأمر بالعدول عن المغرب إلي العصر علي الاستحباب، إذ يتعيّن حينئذ- من جهة عدم القول بالفصل- حمل الأمر بالعدول من الفجر إلي العشاء أيضا علي الاستحباب. اللَّهم إلّا أن يقال: إنّ الاستحباب «1» بعيد عن السياق من جهة أنّ الأمر في الصحيحة بالعدول من العصر إلي الظهر، و من العشاء إلي المغرب للوجوب قطعا، فرفع اليد عن الظهور المتقدّم في وقت المغرب أولي. الرابعة: قوله عليه السلام: «و إن كانت المغرب و العشاء فاتتاك.. إلي قوله: فابدأ بالمغرب». و حاله كحال الأمر بالعدول عن الغداة إلي العشاء في حمله علي الاستحباب بقرينة ما سبق، لعدم القول بالفصل بين تذكّر فوات العصر في آخر وقت فضيلة المغرب و بين تذكّر العشاء فقط، أو مع المغرب في وقت صلاة الفجر. و حاصل الجواب عن هذه الصحيحة: أن الاستدلال بها مبنيّة علي القول بكون آخر وقت إجزاء المغرب: زوال الحمرة، فإذا لم نقل بهذا سقط الاستدلال بجميع الفقرات الأربع، فتأمّل. هذا مع أن قوله عليه السلام في آخر الرواية «2» تعليلا لتأخير القضاء إلي ذهاب الشعاع ب «أنّك لست تخاف فوتها» ظاهر في عدم فورية القضاء، فلو تمّت دلالة الفقرات علي الترتيب، فلا يستلزم الفورية، لمنع الإجماع المركّب. بل الظاهر أنّ جمع الإمام عليه السلام في الحكم بالترتيب بين الحاضرتين و بين حاضرة و فائتة أمارة علي أنّ مناط الترتيب في الكلّ أمر واحد، فليس لفورية القضاء- لو قلنا بها- دخل في الترتيب، كما يزعمه أهل المضايقة. ثمّ لو سلّم الإجماع المركّب كان التعليل المذكور قرينة أخري علي استحباب الترتيب، فافهم. هذا مع أنّ الخبر مشتمل علي بعض الأحكام المخالفة للإجماع، مثل العدول عن اللاحقة إلي السابقة بعد الفراغ عنها، و مثل النهي عن القضاء الّا بعد ذهاب شعاع الشمس. و بما ذكرنا في الجواب عن هذه الصحيحة- من ابتناء الاستدلال علي ضيق وقت المغرب- يجاب عن رواية صفوان بن يحيي «3»، و بنظيره يجاب عن رواية أبي بصير «4»، فإنّ الظاهر من قوله: «نسي الظهر حتّي دخل وقت العصر» ابتناء الجواب علي تعدّد أوقات الظهرين و العشاءين و حينئذ فقوله: «يبدأ بالّتي نسيت إلّا أن يخاف أن يخرج وقت الصلاة» خروج الوقت المختصّ بها، فلو نسي العصر عند خوف وقت المغرب المغاير لوقت العشاء وجب البدأة بالمغرب ثمّ بالعصر، و هذا ممّا لا نقول به، و حمل وقت العصر علي المقدار الّذي يسع الفعل عن آخر الوقت مخالف للظاهر قطعا. و أمّا رواية معمّر بن يحيي «5» فالأمر يدور بين تقييدها بصورة الا ستدبار و حملها علي الاستحباب أو حمل الوقت علي ما تقدّم في رواية أبي بصير. فلم يبق إلّا رواية زرارة «6» الضعيفة بالقاسم بن عروة و رواية البصري «7» الضعيفة بمعلّي بن محمّد، و رواية الدعائم «8» المجهولة السند، و النبوي المرسل «9». و الجواب عنها- بعد الإغماض عن سندها و عن سوابقها بعد تسليم ظهور دلالتها- : أنّها معارضة بما تقدّم من الأخبار الظاهرة في عدم اعتبار الترتيب، بل في الأمر بتقديم الحاضرة، و هي أكثر عددا و أصحّ سندا و أظهر دلالة، لإمكان حمل هذه علي الاستحباب، و ليس في تلك الأخبار مثل هذا الحمل في القرب. ثمّ لو سلّمنا التكافؤ، فالمرجع إلي الإطلاقات و الأصول الدالّة علي عدم اعتبار الترتيب و عدم وجوب المبادرة.
و ربّما رجّح القول بعدم الترتيب بمخالفته لأكثر الجمهور- علي ما عن التذكرة- «10» و حكي أنّه مذهب الأربعة عدا الشافعي، بل له أيضا- بناء علي أنّ المحكيّ عنه- أولوية الترتيب «11»
إن لم نقل بوجوبه. فالأخبار الدالّة علي رجحان تقديم الحاضرة مخالف لفتوي الأربعة.

الخامس من الأدلّة: الإجماعات المنقولة

من أساطين القدماء، كالشيخ المفيد قدّس سرّه حيث حكي عنه أنه قال في رسالة نفي السهو: إن الخبر المروي- في نومه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم عن صلاة الصبح- «12» متضمّن خلاف ما عليه عصابة الحق، لأنّهم لا يختلفون في أنّ من فاتته صلاة فريضة، فعليه أن يقضيها في أيّ ساعة ذكرها من ليل أو نهار، ما لم يكن ما لم يكن الوقت مضيّقا لفريضة حاضرة، و إذا كان يحرم فريضة قد دخل وقتها ليقضي فرضا فإنّه كان حظر النوافل عليه أولي، مع الرواية عن النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم أنّه «لا صلاة لمن عليه صلاة» مريدا به: لا نافلة له لمن عليه فريضة «13» (انتهي). و كالشريف أبي الحسين الحسن «14»
بن محمّد بن ناصر الرسّي في المسألة التاسعة عشرة من الرسيّات الّتي سئل عنها السيّد المرتضي قال «15» إذا كان إجماعنا مستقرا علي وجوب تقديم الفائت من فرائض الصلاة علي الحاضرة منها إلي آخر ما ذكره و قد أقرّه السيّد علي هذه الدعوي، و الشيخ في الخلاف «16» و السيّد في الغنية «17» و الحلّي في السرائر في بحث المواقيت «18». و حكي عنه «19» الشهيد في غاية المراد أنّه قال في رسالته المعمولة في هذه المسألة المسماة ب (خلاصة الاستدلال): إنّ ذلك مما أطبقت الإمامية عليه خلفا بعد سلف و عصرا بعد عصر و أجمعت عليه، و لا يعتدّ بخلاف نفر يسير من الخراسانيّين، فإنّ ابني بابويه و الأشعريين كسعد بن سعد و سعد بن عبد اللَّه صاحب كتاب الرحمة، و محمّد بن علي بن محبوب صاحب كتاب نوادر الحكمة، و القمّيّين أجمع عاملون بالأخبار المتضمّنة للمضايقة، لأنّهم ذكروا أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته و حفظهم «20» الصدوق ذكر ذلك في كتاب من لا يحضره الفقيه، و خرّيت هذه الصناعة و رئيس الأعاجم أبو جعفر الطوسي مودع أحاديث المضايقة في كتبه مفت بها، و المخالف إذا عرف باسمه و نسبه لا يضرّ خلافه «21» (انتهي). و هذه الإجماعات المحكية- مع كون كل منها- بمنزلة خبر صحيح عالي السند- معتضدة بالشهرة المطلقة كما عن كشف الالتباس «22» خصوصا بين القدماء كما عن الروض «23» و غيره «24» و عن التذكرة «25» و الدروس «26» و غيرهما «27» نسبته إلي الأكثر، و عن كشف الرموز «28» و غيره «29» نسبته إلي الثلاثة و أتباعهم. و الجواب: أن حكاية الإجماع- مع وجود القول بالخلاف ممّن عرفت من القدماء و المتأخّرين- لا تنهض حجّة إلّا علي مدّعيها، لوهن احتمال صدقه حينئذ و قوّة احتمال استناد قطعه إلي ما لا ينبغي أن يوجب القطع، أو احتمال إرادته من الإجماع علي الحكم: الإجماع علي المبني الذي يستنبط منه هذا الحكم بزعم المدّعي، كأن يكون دعوي السيّدين الإجماع علي المضايقة باعتبار كون دلالة الأمر علي الفور عندهم إجماعيا، أو باعتبار الإجماع علي العمل بأخبار وجوب قضاء المنسيّ
المكاسب، ج‌4، ص 365
إذا ذكرها، الدالّة بزعمهم علي أنّ وقت الذكر متعيّن لوقت القضاء، فلا يجوز التأخير عنه، و لا يجوز فعل الحاضرة فيه، و قد أطلعنا علي موارد من هذا القبيل إمّا بتنصيص مدّعي الإجماع، و إمّا بانفهام ذلك من مطاوي كلامه. و من الموارد التي علم استناد المدّعي إلي ما لا ينبغي أن يوجب «1» القطع: ما تقدّم «2» من كلام الحليّ- في هذا المقام- من دعواه إجماع القمّيّين و الأشعريّين علي الحكم لأجل مقدّمتين: إحداهما: ذكر الثقات روايات المضايقة.
و الثانية: بناؤهم علي وجوب العمل بما يروونه من أخبار الثقات. و يكفي في رده- بعد النقض بأنّ الثقات رووا أخبار المواسعة أيضا، بل ظاهر المحكيّ عن غاية المراد «3» أنّ هؤلاء المجمعين رووا أخبار المواسعة أيضا الحلّ بما عن المفيد: في جوابه عمّن سأله عن عمل من سدّ عليه طرق العلم بالأخبار المسندة «4»
في كتب الصدوق- من «5» أنّه إنما روي ما سمع و نقل ما حفظ و لم يضمن العهدة في ذلك، و أصحاب الحديث ينقلون الغثّ و السمين، و ليسوا بأصحاب نظر و تفتيش «6» (انتهي).

السادس: ما عن المحقّق في المعتبر

في مقام الاستدلال لهذا القول: من أنّ الفوائت تترتّب، فتترتّب علي الحاضرة «7». و حكي في توجيهه وجهان:
أحدهما: أنّ الفوائت تترتّب في القضاء، لترتّب أزمنتها، و حيث تقدّم أزمنتها علي أزمنة الحاضرة فيتقدّم «8» عليها أيضا. ثانيهما: أنّ الحاضرة لو كانت فائتة وجب تأخيرها عمّا فاتت قبلها، فكذا إذا كانت حاضرة. و قد يرد الوجهان بأنّه قد يكون لمساواتها في الفوات و عدم مزيّة بعضها علي بعض من جهة الوقت مدخليّة في وجوب الترتيب، و لذلك يجب الحاضرة عند ضيقها، ثمّ يجب تأخيرها بعد فوتها المتأخّر عن ضيقها، فلا يكون ترتّب الأزمنة في اليومية سببا مستقلّا في وجوب رعاية الترتيب مطلقا، و مجرّد احتمال ذلك لا يكفي في الاستدلال. أقول: لا ريب في ضعف الوجهين لما ذكر و لغيره. نعم يمكن توجيهه بأنّ المراد: أنّ الترتيب بين الفوائت يكشف عن أنّ ذلك لأجل تقدّم كلّ فريضة علي لاحقتها «9» قبل تحقّق فوت تلك اللاحقة، فحيث كانت اللاحقة حال حضور وقتها متأخّرة عن الفائتة انسحب هذا الاشتراط بعد فواتها، فمنشأ الترتيب بين الفوائت الترتيب بين الفائتة و الحاضرة. و لا ينافي ذلك تقديم الحاضرة عند ضيق وقتها، لأنّه تقديم عارضي لما هو مؤخّر بالذات. و يمكن الاستدلال لما ذكر بإطلاق أدلّة وجوب قضاء ما فات «10»، فإنّها تدلّ بإطلاقها علي الاكتفاء بفعل الفائت، فلو اعتبر في الفائتة اللاحقة تأخّرها عن السابقة كان ذلك تقييدا لتلك الإطلاقات، بخلاف ما لو كان اعتبار تأخّرها لأجل اعتبار تأخّرها «11» حين كونها حاضرة، فإنّه لا يلزم من ذلك تقييد في تلك الإطلاقات، لأنّ فعل ما فات بجميع شروطه و أجزائه المعتبرة قبل الفوات لا يتحقّق إلّا بتأخيرها عن السابقة. هذا و لكن يندفع بأنّ التقييد لازم، إمّا في إطلاق الحاضرة فلا يحتاج إلي تقييد إطلاق أدلة القضاء، إذ لم يعتبر فيها حينئذ أمر زائد علي ما اعتبر فيها حال الأداء، و إمّا تقييد أدلّة القضاء باشتراط تأخّر لاحقها عن سابقها من غير اعتبار هذا الشرط في القضاء. و حيث لم يثبت التقييد في أحدهما بالخصوص، و علم من الخارج وجوب الترتيب بين الفوائت بأنفسها اقتصر عليه، و يرجع في حكم الحاضرة إلي الأصول. نعم لو ثبت وجوب تقديم الفائتة علي الحاضرة أمكن الاستدلال في مسألة الترتيب بين الفوائت بأنفسها، بناء علي ما ذكر من دلالة أدلّة وجوب قضاء ما فات علي اعتبار جميع ما اعتبر في الأداء في القضاء. هذا خلاصة الكلام في أدلّة القولين المشهورين: المواسعة المطلقة، و المضايقة المطلقة. و قد عرفت أنّ القول بالمواسعة و عدم وجوب الترتيب لا يخلو عن قوّة، خصوصا فيما زاد علي الفائتة الواحدة، إذ لم يكن فيما تقدّم من أخبار المضايقة ما يتضمّن لزوم ترتيب الحاضرة علي الفائتة المتعدّدة، إلّا ذيل صحيحة زرارة الطويلة الآمرة بتقديم المغرب و العشاء الفائتين علي الفجر.

بقي هنا أمور:

الأوّل:

أنّه علي القول بعدم وجوب الترتيب، هل يستحبّ تقديم الفائتة أو تقديم الحاضرة؟ وجهان، بل قولان، و الأقوي: التفصيل بين صورة ضيق «12» وقت الفضيلة للحاضرة الّذي قيل بكونه هو الوقت للمختار، فالمستحبّ حينئذ تقديم الحاضرة، و بين غيرها، فيستحب تقديم الفائتة. أمّا استحباب تقديم الحاضرة في صورة ضيق وقت فضيلتها، فلعموم أدلّة تأكّد «13» عدم تأخير الحاضرة عن ذلك الوقت إلّا من عذر أو علّة، حتّي قيل «14» بتعيّنه للمختار من جهة ظاهر الروايات الدالّة علي ذلك «15» و خصوص الصحيحة الطويلة المتقدّمة في مسألة تقديم المغرب الحاضرة علي العصر الفائتة «16» بعد حمل الوقت فيها علي وقت الفضيلة، و كذا رواية صفوان- المتقدّمة- فيمن نسي الظهر إلي أن غربت الشمس و أنّه يقدّم الظهر إن لم يخف فوت المغرب «17» و كذا رواية أبي بصير المتقدّمة فيمن نسي الظهر حتي دخل وقت العصر «18»، فراجع و لاحظ.
و لأجل هذه الأخبار الخاصة يحمل ما دلّ «19» بإطلاقه علي الأمر بتقديم الفائتة في السعة، المحمول علي الاستحباب- بناء علي القول بالمواسعة- علي إرادة سعة وقت الفضيلة، دون مطلق الوقت، فلا يوجد في المقام خبر يدلّ علي الأمر بتقديم الفائتة مع ضيق وقت الفضيلة. و دعوي موافقته للاحتياط، للخروج به عن خلاف من أوجب التقديم. معارضة بموافقة تقديم الحاضرة في هذه للاحتياط، للخروج به عن خلاف من جعل وقت الفضيلة وقتا اختياريا. مع أنّ أهل المضايقة «20» قائلون بهذا القول كالشيخين «21» و العماني «22» و الحلبي «23» فهم قائلون بوجوب تقديم الحاضرة في هذه الصورة. مضافا إلي ما عرفت في نقل الأقوال من ظهور عبارة بعض القدماء بوجوب تقديم الحاضرة «24». و أمّا استحباب تقديم الفائتة مع سعة وقت الفضيلة أو بعد فواته، فلما تقدّم من الأخبار الّتي استدلّ بها أهل المضايقة «25» من الأمر بتقديم الفائتة، أو العدول من الحاضرة إليها، المحمول علي الاستحباب. و أمّا ما تقدّم في بعض أخبار المواسعة من إطلاق تقديم الحاضرة «26» فمحمول علي صورة ضيق وقت الفضيلة و خوف فواته. ثمّ إنّه لا ينافي ما ذكرنا- من
المكاسب، ج‌4، ص 366
استحباب تقديم الفائتة- الأخبار الدالّة علي استحباب المبادرة أوّل الوقت، لأنّها بين دالّة علي استحباب إتيان الفريضة في الوقت الأوّل، و هذا يجامع تقديم الفائتة، و بين دالّة علي استحباب المبادرة في أوّل الوقت، الأوّل فالأوّل الّتي ينافي تقديم الفائتة، إلّا أنّه لا بأس بالحكم باستحباب الأمرين المتنافيين، فإنّ جلّ المستحبات كثيرا ما يتّفق تنافيها. ثمّ إنّ المحكيّ «1» عن الصدوق من استحباب تقديم الحاضرة بقول مطلق «2» ينافي أخبار «3» العدول عنها إلي الفائتة، إذ الظاهر منها أنّ العدول راجح، و معناه رجحان تقديم الفائتة، إلّا أن يكون رجحانه مختصا بالتذكّر في الأثناء أو يكون الأمر لمجرّد بيان الجواز. و كيف كان فلا بدّ من حمله علي التعبّد لا لإدراك رجحان تقديم الفائتة، و هو بعيد. و هذا ممّا يضعف القول باستحباب تقديم الحاضرة مطلقا، فإنّ حمل الأمر بتقديم الفائتة علي مجرّد بيان جواز الاشتغال بالقضاء في وقت الفريضة دفعا لتوهّم عدم جوازه الناشئ عن بعض الأخبار المانعة للنافلة «4»
أو مطلق الصلاة «5» أو خصوص بعض الفرائض كالكسوفين في وقت اليوميّة، «6» إلّا أنّ حمل أخبار العدول علي الجواز بعيد جدّا.

الثاني:

إذا قلنا بالفوريّة و الترتيب، فلا إشكال في وجوب الاشتغال بالحاضرة عند ضيق وقتها، و كذا بما هو ضروريّ التعيّش. و الظاهر أنّه لو كان للإنسان ضروريات يمكن الاشتغال بها بعد الحاضرة و قبلها لم يجب تأخير الصلاة عنها، لأنّ تأخيرها إلي وقت ضيقها ليس للتعبّد، و إنّما هو لئلّا يزاحم الفائتة، و المفروض سقوط التكليف بها حينئذ، لأنّ الوقت بقدر الفعل الضروري و الحاضرة، و كذا لو سقط عنه الفائتة بعذر آخر كما إذا بقي من وقت الظهر مقدار عشر ركعات و عليه رباعيّة، فإنّه لو اشتغل بها فات عنه ركعتان من العصر. نعم لو أخذ بإطلاق قوله- عليه السلام: «لا صلاة لمن عليه صلاة» «7» كان مقتضاه الاقتصار علي المتيقّن من وقت الاشتغال.

الثالث:

أنّه لا إشكال في ترجيح الحاضرة علي الفائتة في آخر وقتها المضروب لأدائها بالذات أو بالعرض، كطروّ حيض أو فقد طهور، و هل يرجّح عليها إذا ضاق وقت أصل الفعل بحيث إنّه يظنّ أنّه لا يتمكّن منها أصلا و لو قضاء كما إذا ظنّ دنوّ الوفاة أم لا؟ صرّح بعض محقّقي من عاصرناهم بالترجيح، و بأنّه ممّا لا كلام فيه، فجعله كضيق وقت الأداء. و فيه نظر، لأنّ الحاضرة إنّما رجّحت علي الفائتة عند ضيق وقتها، للنصّ «8» المعتضد بما علم من أهميته الحاضرة بالنسبة إلي المبادرة إلي الواجبات الأخر، و تعيّن ترك المبادرة إليها. و أمّا ترجيح فعل الحاضرة علي أصل فعل الفائتة، بأنّ يدور الأمر بين ترك الحاضرة أداء و قضاء، أو ترك الفائتة رأسا، فلم يعلم له وجه عدا إطلاق النصّ «9» الدالّ علي أنّ الحاضرة أحقّ بوقتها، لكنّه من صرف إلي صورة التمكّن بعد ذلك من القضاء. و أمّا إذا علم أنّ عمره لا يفي إلّا بفعل أحدهما، فدعوي دخوله في الإطلاق قابلة للمنع. نعم لا يبعد أن يستفاد من الأدلّة أهميّة فعل الفرائض في وقتها من جميع ما عداها من حقوق اللَّه، مع أنّ الاحتياط يقتضيه، لدوران الأمر بين التعيين و التخيير، إذ ينبغي القطع بعدم وجوب ترجيح الفائتة في هذه الصورة.

الرابع:

صرّح بعض بأنّه لا كلام في أنّ تضيّق الفائتة- علي القول به- ليس كتضيّق الحاضرة في وجوب الاقتصار علي أقلّ ما يحصل به الامتثال. و التحقيق: أنّ أدلّة فوريّة القضاء إن استفيد منها وجوب الاشتغال بالقضاء عن غيره في مقابل الاشتغال بغيره عنه، فهو كما ذكر، فيجوز له الإتيان في الفائتة مطلقا بجميع المستحبّات الصلاتية كالقنوت و الأذان و الإقامة و غيرها ممّا يستحبّ في أثناء الصلاة، أو في أوّلها. و إن استفيد منها وجوب الاشتغال به مع التمكّن- عقلا و شرعا- فيجوز حينئذ الإتيان بجميع المستحبّات الصلاتيّة إذا لم يجب بعد هذه الصلاة فائتة اخري، و إلّا لم يجز، لتفويتها المبادرة إلي الاشتغال بالفائتة المتأخّرة. و إن استفيد منها وجوب المبادرة إلي تحصيل المأمور به في أوّل أوقات إمكانه لم يجز الاشتغال بشي‌ء من المستحبّات، و وجب الاقتصار علي أقلّ الواجب في الفائتة مطلقا. و حيث إنّ عمدة أدلّة المضايقة عند أهلها دلالة الأمر علي الفور، فهو يقتضي الوجه الثالث، لأنّ فعل المستحبّات و الآداب في الفائتة السابقة يوجب التأخير في لاحقتها. مضافا إلي أنّ مقتضي فورية أصل الواجب: وجوب تحصيله في أوّل أوقات إمكان حصوله. إلّا أن يقال بعد ثبوت التخيير بين أفراد المأمور به «10» المختلفة في الطول و القصر، يكون المراد المسارعة إلي التلبّس بالفعل من غير التفات إلي زمان الفراغ عنه، الّذي هو زمان حصول المأمور به في الخارج، كما إذا وجبت الكفّارة المخيّرة بين الخصال فورا، فإنّ ذلك لا يوجب وجوب اختيار العتق علي صوم شهرين إذا كان يحصل في زمان أقلّ من الصوم. و فيه: أنّه مسلّم إذا كان المأمور به في هي الأمور المخيّرة شرعا، أمّا إذا كان التخيير عقليا، فمنشأ حكم العقل به ملاحظة كون كلّ من الأفراد مما يتحقّق به إتيان المأمور به علي الوجه الّذي أمر به، فإذا لم يتحقّق إتيانه علي النحو الذي أريد في ضمن بعض الأفراد، فلا يحكم العقل بجواز اختيار ذلك البعض، و لذا لا يجوز إذا أمر المولي بإحضار شي‌ء فورا الاشتغال بمقدّمات الفرد الّذي لا يحصل إلّا بعد زمان طويل، و كذا التلبّس بفرد لا يحصل تمام وجوده في الخارج إلّا بعد زمان طويل. نعم لو قامت القرينة علي أنّ الفورية راجعة إلي التلبّس بالمأمور به- لا إلي تحصيله في الخارج- صحّ الاكتفاء بالمبادرة إلي التلبّس و إن لم يفرغ إلّا بعد زمان يمكن الفراغ عن فرد آخر بأقلّ منه، لكنّه خلاف ظاهر الصيغة المفيدة للفور. نعم لو ادّعي ظهور هذا المعني من الأخبار «11» الدالّة علي وجوب الاشتغال بالفريضة الفائتة عند ذكرها، و أنّه إذا دخل وقت الحاضرة و لم يتمّها فليشتغل بها، بناء علي تمامية دلالتها علي الفور لم يكن بعيدا، خصوصا بعد ملاحظة تصريح الشارع بعدم سقوط الأذان و الإقامة «12» و عدم التعرّض لوجوب الاقتصار علي أقلّ الواجب ردعا للقاضي عن اعتقاد اتّحاد الأداء و القضاء حتي في الآداب الخارجة و المستحبّات الداخلة، فافهم. و أولي من ذلك لو كان المستند في الفورية
المكاسب، ج‌4، ص 367
الإجماع المحقق أو المحكيّ المنصرف إلي فوريّة الاشتغال فإنّه يسهل حينئذ دعوي عدم إخلال المستحبّات بالفورية المنعقد عليها الإجماع، هذا كلّه بالنسبة إلي المستحبّات. و أمّا الأجزاء و الشروط الاختيارية فليست منافية للفوريّة حتي يجب تركها مراعاة للتعجيل، لأنّ الواجب هو تعجيل الفعل المستجمع للأجزاء و الشرائط، إذ الطلب إنّما يعرض الفعل بعد ملاحظة تقييده بها، فلا يجوز ترك السورة- مثلا- مراعاة للفوريّة كما تترك عند ضيق الوقت، و كذا تطهير الثوب و البدن، بل التطهير بالماء، فلا يجوز التيمّم كما يجوز عند ضيق الوقت، و هكذا. هذا مع التمكّن منها. و أمّا لو لم يتمكّن منها، فإن لم يرج التمكّن، فلا إشكال في وجوب التعجيل.
أمّا مع ظنّ التمكّن فهل يراعي الفورية فيجب البدار أو يراعي تلك الأجزاء و الشروط فيجب الانتظار؟ وجهان، بل قولان: من أنّ الفورية لا صارف عنها، غاية الأمر عدم التمكّن في هذا الزمان من تلك الأجزاء و الشروط، فيسقط، لإطلاق ما دلّ علي سقوطها عند العجز عنها «1»، بل لو قيل بعدم فورية القضاء كان مجرّد الأمر كافيا في صحة الفعل حين تعذّر الشروط، إذ لا صارف عنه بعد اختصاص أدلّة اعتبار تلك الشروط بحال التمكّن، و لذا صرّح في نهاية الإحكام «2»، و كشف الالتباس «3»، و الجعفرية «4»، و شرحها «5»، و إرشادها «6»- مع قولهم بعدم فوريّة القضاء- بجواز المبادرة حال التعذر. نعم عن الثلاثة الأخيرة: استثناء ما لو فقد الطهارة، فأوجبوا التأخير حينئذ، بل عن الأوّلين و الأخير عدم استحباب التأخير لما في المبادرة من المسارعة إلي فعل الطاعة «7». و من أنّ الواجب هو الفعل المستجمع للأجزاء و الشروط، و العجز المسقط لاعتبار الأجزاء و الشروط الاختيارية هو العجز عن امتثال الأمر الكلّي و عدم التمكّن رأسا من إتيانه بتلك الشروط، و هذا هو الذي يحكم العقل بخروجه عن الخطاب بإتيان الفعل المستجمع، فيحكم بكفاية الفعل الفاقد للشرط المتعذّر في حق هذا الفرد العاجز. و أمّا من يتمكّن من الإتيان بالفعل المستجمع في الزمان المستقبل، فهو داخل تحت القادرين، لا دليل علي كفاية الفعل الفاقد لبعض الشرائط في حقّه، فيكون هذا الشخص- العاجز عن الشرط في الحال القادر عليه في الاستقبال- عاجزا عن المأمور به في الحال قادرا عليه في الاستقبال فيجب عليه ترقيب زمان القدرة علي المأمور به. و دعوي أنّه يستكشف من إطلاق، الأمر الشامل لهذا الشخص كونه مكلّفا بالفعل في هذا الزمان، فيكشف عن سقوط الشرط بالنسبة إليه. مدفوعة بأنّ الأمر إذا تعلّق بالفعل المستجمع للشرائط، فإطلاقه نافع عند تمكّن المكلّف عن المأمور به، فإذا فرض عجزه في زمان خرج عن الإطلاق. نعم لو فرض دليل دالّ- و لو بالإطلاق- علي أنّ مجرّد العجز عن الشرط- في جزء من أجزاء وقت الواجب- مسقط لاعتباره في ذلك الجزء، تعيّن بقاء التكليف بالفعل في ذلك الجزء من الزمان، فيأتي به بحسب الإمكان، لكن هذا لا ضابط له فقد يوجد في بعض الشروط و لا يوجد في الآخر، و الكلام في أنّ مجرّد العجز في جزء من الزمان يوجب سقوط اعتباره ليبقي إطلاق الأمر الشامل لذلك الجزء سليما عن التقييد بذلك الشرط.

الخامس:

أنّه لو كان عليه فوائت و لم يتّسع الوقت إلّا لمقدار الحاضرة و بعض تلك الفوائت، فقد عرفت أنّه يجب تقديم ذلك البعض علي الحاضرة عند أهل المضايقة، بناء علي أنّ اشتراط الترتيب ينحلّ إلي شروط متعدّدة عند تعدّد الفوائت، فالممكن منها لا يسقط بالتعذّر، لا أنّ الشرط تقديم المجموع من حيث المجموع حتي يسقط اعتباره عند تعذّر الجميع مع احتمال هذا أيضا و قد تقدّم ذلك في الجواب عن دليل العسر و الحرج «8» و حينئذ فهل يجب تقديم ما أمكن تقديمه و إن أفضي إلي اختلال الترتيب بين الفوائت، مثلا إذا كان عليه ظهر و صبح و ذكرهما في وقت لا يسع إلّا للحاضرة و صلاة الصبح، فهل يجب تقديم صلاة الصبح علي الظهر و إن لزم اختلال الترتيب بينهما و بين الظهر الفائتة، أو يجب تقديم الحاضرة، ليوقع الفوائت علي ترتيبها، فيدور الأمر بين إهمال الترتيب بين الحاضرة و بين الفوائت، و بين إهمال الترتيب بين نفس الفوائت. مقتضي القاعدة: الأوّل، لأنّ الترتيب إنّما يعتبر بين الحاضرة و بين الفائتة المستجمعة لجميع شرائطها الّتي منها ترتّبها علي سابقتها، فالمقدّم علي الحاضرة هي صلاة الصبح المتأخّرة شرعا عن سابقتها، فافهم. السادس: لو كانت الفائتة مردّدة بين اثنين أو أزيد بحيث يجب تكرارها من باب المقدّمة، و لم يتّسع الوقت إلّا للحاضرة و فعل بعضها، فهل يجب تقديم ما أمكن من المحتملات أم لا؟ وجهان، لا يخفي الترجيح بينهما علي الخبير بالقواعد.
هذا آخر ما تيسّر تحريره علي وجه الاستعجال مع تشويش البال. و الحمد للَّه أوّلا و آخرا علي كلّ حال، و السلام علي محمّد و آله خير آل.
المكاسب، ج‌4، ص 368

5- رسالة في قاعدة من ملك

اشارة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام علي محمّد و آله الطاهرين و لعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين. و بعد، قد اشتهر في ألسنة الفقهاء من زمان الشيخ قدس سره إلي زماننا، قضيّة كلّية يذكرونها في مقام الاستدلال بها علي ما يتفرّع عليها، كأنّها بنفسها دليل معتبر أو مضمون دليل معتبر، و هي: «إنّ من ملك شيئا ملك الإقرار به». فأحببت أن أتكلّم في مؤدّاها، و مقدار عمومها، و فيما يمكن أن يكون وجها لثبوتها. و المقصود الأصلي الانتفاع بها في غير مقام إقرار البالغ الكامل علي نفسه، إذ يكفي في ذلك المقام ما أجمع عليه نصّا و فتوي من نفوذ إقرار العقلاء علي أنفسهم «1»، لكن لا ينفع ذلك في إقرار الصبيّ فيما له أن يفعله، و إقرار الوكيل و الوليّ علي الأصيل. فلا وجه لما تخيّله بعض من استناد هذه القاعدة إلي قاعدة إقرار العقلاء.

[كلمات الفقهاء في القاعدة]

و ينبغي أوّلا ذكر كلمات من ذكرها بعينها أو بما يرادفها، ثمّ نتبعه بذكر مرادهم منها بمقتضي ظاهرها، أو بمعونة قرينة استدلالهم بها في الموارد الخاصة، فنقول- مستعينا باللّه- : قال شيخ الطائفة قدس سره في مسألة إقرار العبد المأذون في التجارة «2»: و إن كان- يعني المال المقرّ به- يتعلق بالتجارة، مثل ثمن المبيع و أرش المعيب و ما أشبه ذلك، فإنّه يقبل إقراره، لأنّه من ملك شيئا ملك الإقرار به، إلّا أنّه ينظر فيه، فإن كان الإقرار بقدر ما في يده من مال التجارة قبل، و قضي «3» منه، و إن كان أكثر كان الفاضل في ذمّته يتبع به إذا أعتق «4» (انتهي). و حكي هذا عنه الحلّي في السرائر ساكتا عليه «5» مع أنّ دأب الحلّي عدم المسامحة فيما لا يرتضيه. و عن القاضي في المهذّب: أنّه إذا أقرّ المريض المكاتب لعبده في حال الصحة بأنّه قبض مال الكتابة، صحّ إقراره و عتق العبد، لأنّ المريض يملك القبض فيملك الإقرار به، مثل الصحيح «6». و قال المحقّق في الشرائع: لو كان- يعني العبد- مأذونا في التجارة فأقرّ بما يتعلّق بها صحّ «7»، لأنّه يملك التّصرف فيملك الإقرار و يؤخذ ما أقرّ [به] «8»، ممّا في يده «9» (انتهي). و قد استدلّ علي تقديم قول الوكيل في التصرّف: بأنّه أقرّ بما له أن يفعله «10». و نحوه العلّامة في القواعد في تلك المسألة «11»، و صرّح بهذه القضية في باب الإقرار «12» أيضا، و صرّح في جهاد التذكرة: بسماع دعوي المسلم أنّه أمّن الحربي في زمان يملك أمانه، و هو ما قبل الأسر، مدّعيا عليه الإجماع «13». و نحوه المحقّق في الشرائع «14» تبعا للمبسوط «15» من دون دعوي الإجماع. و ذكر فخر الدين في الإيضاح- في مسألة اختلاف الولي «16» و المولّي عليه- أنّ الأقوي أنّ كلّ من يلزم فعله أو «17» إنشاؤه غيره، كان إقراره بذلك ماضيا عليه «18». و هذه الكليّة و إن كانت أخصّ من القضية المشهورة إلّا أنّ الغرض من ذكرها الاستشهاد بتصريحهم علي إرادة نفوذ إقرار المالك للتصرّف علي غيره، و إلّا فقد صرّح بتلك القضية في غير هذا المقام. و ذكر الشهيد في قواعده: أنّ «19» كلّ من قدر علي إنشاء شي‌ء قدر علي الإقرار به إلّا في مسائل أشكلت: منها: أنّ وليّ المرأة الاختياري لا يقبل قوله، و كذا قيل في الوكيل إذا أقرّ بالبيع أو قبض الثمن أو الشراء أو الطلاق أو الثمن أو الأجل، و إذا أقرّ بالرجعة في العدة لا يقبل منه، مع أنّه قادر علي إنشائها، و قيل يقبل «20» (انتهي). و في تقييد الوليّ بالاختياري احتراز عن الوليّ الإجباري، فإنّه لا إشكال في قبول إقراره عليها، و لا خلاف بين العامة و الخاصة، علي ما يظهر من التذكرة «21»، و يلوح من الشيخ في المسألة دعوي الوكيل فعل ما وكّل فيه «22». نعم تأمّل فيه جامع المقاصد «23» علي ما سيأتي. قال في التذكرة: لو أقرّ الوليّ بالنكاح فإن كانت بالغة رشيدة لم يعتدّ بإقراره عندنا، لانتفاء الولاية. و أما عند العامّة فينظر إن كان له إنشاء النكاح المقرّ به عند الإقرار من غير رضاها قبل إقراره، لقدرته علي الإنشاء. و للشافعية وجه آخر: أنّه لا يقبل حتي تساعده «24» المرأة كالوكيل إذا ادّعي أنّه أتي بما هو وكيل فيه، و لو لم يكن له إنشاء النكاح المقرّ به عند الإقرار من غير رضاها لم يقبل «25» (انتهي). و يظهر منه الجزم بالتفصيل بين الوليّ الاختياري و غيره في مسألة ادّعاء «26» كلّ من العاقدين علي الوليّ سبق عقده علي المرأة، فيبطل اللاحق «27». هذا ما حضرني من موارد تعبير الفقهاء بهذه العبارة أو ما يرادفها أو ما هو أخص منها، و لا أظنّك ترتاب بعد ذلك في فساد ما يتخيّل من مساواة هذه القاعدة لحديث الإقرار، حتي يستدلّ عليها به.

[مفردات القاعدة و موارد جريانها]

فلنرجع إلي تفسير العبارة فنقول: إنّ المراد بملك الشي‌ء، السلطنة عليه فعلا، فلا يشمل ملك الصغير لأمواله، لعدم السلطنة الفعلية «28»، نعم يملك بعض التصرفات المالية، مثل الوصيّة و الوقف و الصدقة و هي داخلة في عموم القضية، و لهذا أطبقوا علي الاستناد إليها في صحة إقرار الصغير بالأمور المذكورة. و الدليل علي إرادة السلطنة الفعلية مضافا إلي اقتضاء اللغة- كما لا يخفي- هو عموم لفظ الشي‌ء للأعيان و الأفعال، مثل التصرّفات، فلا يمكن حمل الملك علي ملك الأعيان ليشمل ملك الصغير لأمواله، بل الظاهر أنّ لفظ الشي‌ء يراد به خصوص الأفعال، أعني التصرّفات- علي ما يقتضيه ظاهر «الإقرار به» لأنّ المقرّ به حقيقة لا يجوز أن يكون من الأعيان، و قولهم: الإقرار إخبار بحقّ لازم، معناه: الإخبار بثبوته، لا الإخبار بنفسه، إذ المخبر به لا يكون عينا. ثمّ التسلّط علي التصرّف أعمّ من أن يكون أصالة أو وكالة أو ولاية. و المراد من «ملك الإقرار بذلك»: التسلّط عليه. و المراد من «الإقرار به»: إمّا معناه اللغويّ، و هو إثبات الشي‌ء و جعله قارّا، سواء أثبته علي نفسه أو علي غيره. و إمّا معناه الظاهر عند الفقهاء، و هو الإخبار بحقّ لازم علي المخبر، فيختصّ بما أثبته علي نفسه. و يخرج منه دعوي الوكيل «29» أو الوليّ حقّا علي موكّله و المولّي عليه، أو شهادته لغيره عليهما، و علي هذا المعني فيساوي حديث الإقرار. و هذا المعني و إن كان أوفق بظاهر الإقرار في كلمات المتكلّمين بالقضية المذكورة، إلّا أنّه خلاف صريح استنادهم إليها في موارد دعوي الوكيل و الوليّ و العبد المأذون علي غيرهم كما سمعت مفصّلا، فلا بدّ من إرادة المعني اللّغوي. مع أنّ الظهور المذكورة قابل للمنع، كما يشهد به استعمالهم الإقرار في الإقرار علي الغير. ثمّ الظاهر من القضية: وقوع الإقرار بالشي‌ء المملوك حين كونه مملوكا، و أنّ ملك الإقرار بالشي‌ء تابع لملك ذلك الشي‌ء حدوثا و بقاء علي ما يقتضيه الجملة الشرطية الدالّة- عند التجرّد عن القرينة- علي كون العلّة في الجزاء هو نفس الشرط لا حدوثه و إن زال. و ما ذكرنا صريح جماعة،
المكاسب، ج‌4، ص 369
منهم: المحقّق، حيث اختار في الشرائع عدم قبول إقرار المريض بالطلاق في حال الصحّة بالنسبة إلي الزوجة ليمنعها من الإرث «1». و نصّ في التحرير علي عدم سماع إقرار العبد المأذون في التجارة بعد الحجر عليه بدين يسنده إلي حال الإذن «2». و قال- أيضا- : و كلّ من لا يتمكّن من إنشاء شي‌ء لا ينفذ إقراره فيه، فلو أقرّ المريض بأنّه وهب و أقبض حال الصحّة لم ينفذ من الأصل «3» (انتهي). و قد تقدّم منه في التذكرة التصريح بذلك في مسألة إقرار الوليّ بالنكاح في زمان ليس له إنشاؤه «4». و قد نصّ الشهيد رحمة اللَّه عليه علي ذلك أيضا في المسالك «5» كما عن نهاية المرام، تقييد قبول إقرار العبد المأذون بما إذا كان حال الإذن «6»، و هو ظاهر الشيخ و من عبّر بعبارته في العبد المأذون من أنّه يقبل إقراره و يؤخذ الدين ممّا في يده «7» فإنّ ظاهره عدم زوال الإذن بل هو صريحه في مسألة الجهاد المتقدمة. و علي هذا، فالحكم في مثل إقرار المريض بالهبة أو الطلاق البائن حال الصحّة «8» هو نفوذ إقراره بالنسبة إلي أصل الهبة و الطلاق، لأنّه المملوك له حال المرض، لا خصوص الهبة و الطلاق المقيّدين بحال الصحّة المؤثّرين في نفوذ الهبة من الأصل، و عدم إرث الزوجة منه. نعم، صرّح في المبسوط بعدم إرث الزوجة في مسألة الطلاق «9». و ظاهره تعميم قبول إقرار المالك لما بعد زوال الملك. و يمكن حمله علي أنّ إقراره إذا قبل في أصل الطلاق قبل في قيوده، لأنّ الطلاق في حال المرض لم يقع باعترافه، فلا معني للقبول «10» إلّا الحكم بوقوعه في زمان يحتمله. و يردّه: أنّ معني ما ذكرنا، نفوذ الإقرار بالطلاق المقيّد بالصحة بالنسبة إلي بعض أحكامه و هي البينونة، دون بعض آخر مثل الإرث، لا الحكم بوقوع الطلاق في حال المرض. فالظاهر أنّ مستند الشيخ قدس سره عموم نفوذ إقرار المقرّ علي ما «11» ملكه و لو في الزمان الماضي، لا عدم جواز التفكيك في الإقرار بين القيد و المقيّد. و ممن يظهر منه عموم القاعدة لما بعد زوال ملك التصرّف فخر الدين في الإيضاح- في مسألة اختلاف الوليّ و المولّي عليه بعد الكمال- حيث رجّح قول الوليّ و قال: إنّ الأقوي أنّ كلّ من يلزم فعله غيره يمضي «12» إقراره بذلك [الفعل] عليه «13». و ما أبعد ما بين هذا، و ما سيأتي منه من عدم نفوذ إقرار الزوج بالرجعة في العدة، و أنّ اعتباره من حيث كونه إنشاء لها لا إخبارا عنها «14». ثمّ معني «ملك الشي‌ء» يحتمل أن يكون هي السلطنة المطلقة بأن يكون مستقلّا فيه، لا يزاحمه فيه أحد، فيختصّ بالمالك الأصيل و الوليّ الإجباري. و يحتمل أن يراد به مجرّد القدرة علي التصرّف، فيشمل الوكيل و العبد المأذون، و هذا هو الظاهر من موارد ذكر هذه القضية في كلماتهم. و المراد ب «ملك الإقرار به» إذا كان أصيلا واضح، و إن كان غير أصيل- كالوليّ و الوكيل- فيحتمل أمورا: الأوّل: السلطنة علي الإقرار به، بمعني أنّ إقراره ماض مطلقا، و يكون كإقرار ذلك الغير الذي يتصرّف المقرّ عنه أو له، حتي أنّه لا يسمع منه بيّنة علي خلافه فضلا عن حلفه علي عدمه، و هذا المعني و إن كان بحسب الظاهر أنسب بلفظ الإقرار إلّا أنّه يكاد يقطع بعدم إرادته. الثاني: إنّ إقراره به نافذ بالنّسبة إلي الأصيل، كنفوذ إقراره، و إن لم يترتّب عليه جميع آثار إقراره، فالتعبير بالإقرار من حيث إنّه لمّا كان في التّصرف نائبا عنه و كان كالتصرّف الصادر عن نفسه، فالإخبار به كأنّه- أيضا «15»- صادر عن نفسه، ففعله كفعله و لسانه كلسانه، و لا فرق- حينئذ- بين أن يقع هناك دعوي و بين أن لا يكون، و لا بين أن يكون الدعوي مع ذلك الأصيل أو مع ثالث. و حينئذ فلو أخبر الوكيل بقبض الدين من الغريم، فإخباره يكون بمنزلة البيّنة للغريم علي الأصيل لو ادّعي عليه بقاء الدّين. و كذا أخبار الوليّ بالتّزويج إذا أنكرت المرأة علي الزوج التزويج. و كذا لو ادّعي البائع علي الأصيل شراء وكيله المتاع بأزيد مما يقرّ به الأصيل، فشهد له الوكيل. الثالث: أن يراد قبول قوله بالنّسبة إلي الأصيل لو أنكره، فيختصّ بالتداعي الواقع بينهما، فلا تعرّض فيه لقبول قوله بالنسبة إلي الأصيل لو كانت الدعوي ترجع علي ثالث، حتّي يكون كالشاهد للثالث علي الأصيل. و بهذا يجمع بين حكم المحقّق و العلّامة بتقديم قول الوكيل فيما إذا ادّعي علي الموكّل إتيان ما وكّل فيه، معلّلين بأنّه أقرّ بما له أن يفعله «16»، و تقديم قول الموكّل فيما إذا ادّعي الوكيل شراء العبد بمائة و ادّعي الموكّل شراءه بثمانين، معلّلين بأنّ الموكّل غارم.. «17» (انتهي). و
معني ذلك أنّ الوكيل لا يريد أن يدفع عن نفسه شيئا و إنّما يريد أن يثبت لغيره حقّا علي موكّله، فهو بمنزلة الشاهد علي الموكّل. و بعبارة اخري: إنّما يعتبر إقراره بما له أن يفعله فيما يتعلّق بنفسه لا فيما يتعلّق بغيره. قال في المبسوط: إذا وكّل رجلا علي قبض دين له من غريمه، فادّعي «18» أنّه قبضه منه و سلّمه إليه أو «19» تلف في يده، و صدّقه من عليه الدين، و قال الموكّل: لم يقبضه منه. قال قوم: ان القول قول الموكّل مع يمينه و لا يقبل قول الوكيل و لا المدين إلّا بيّنة، لأنّ الموكّل مدّع للمال علي المدين، دون الوكيل، لأنّه يقول: أنا لا أستحقّ عليك شيئا، لأنّك لم تقبض المال و إنّ مالي باق علي المدين. و لذا إذا حلف المدّعي طالب المدين، و لا يثبت بيمينه علي الوكيل شي‌ء، فإذا كان كذلك كان بمنزلة أن يدّعي من عليه الدين دفع المال إليه و هو ينكره، فيكون القول قوله، فكذلك هنا، و هذا أقوي. و إذا وكّله بالبيع و التسليم و قبض الثمن فباعه و سلم المبيع و ادّعي قبض الثمن و تلفه في يده أو دفعه إليه فأنكر الموكّل أن يكون قبضه من المشتري، كان القول قول الوكيل مع يمينه، لأنّ الوكيل مدّعي عليه لأنّه يدّعي عليه أنه سلّم المبيع و لم يقبض الثمن، و صار ضامنا، فالقول قوله «20» لأنّ الأصل أنّه أمين و أنّه لا ضمان عليه. و يخالف المسألة الأولي لأنّ المدّعي عليه فيها هو الّذي عليه الدين و هو الخصم «21» فإذا جعلنا القول قول الموكّل لم نوجب علي الوكيل غرامة، و في المسألة الثانية نوجب غرامة، فكان القول قول الوكيل (انتهي) «22». و المسألة الأولي نظير ما ذكره المحقّق «23» و العلّامة «24»- في اختلاف الوكيل و الموكّل في الثمن- من أنّ الوكيل ما يدّعي عليه بشي‌ء، بل يريد تغريم الموكّل. هذا، لكن المحقّق في الشرائع تنظّر في الفرق بين المسألتين الذي ذكره في المبسوط «25». قال في المبسوط: إذا أذن له في شراء عبد وصفه فاشتراه بمائة، ثمّ اختلف هو و الموكّل، فقال الموكّل: اشتريته بثمانين. و قال الوكيل: اشتريته بمائة و العبد يساوي مائة، قيل: فيه قولان: أحدهما: أنّه يقبل قول الوكيل كما يقبل قوله في التسليم و التلف. و الثاني: لا يقبل قوله عليه لأنّه يتعلّق بغيره. و كذلك كلّ ما اختلفا فيه مما يتعلّق بحقّ غيرهما من بائع أو مشتر أو صاحب حقّ، فإنّه علي قولين، و الأوّل أصح.. «26» (انتهي). ثمّ إنّ معني الملك- في الموضوع «27»- إمّا أن يكون هي السلطنة المستقلة، أو مجرّد أنّ له ذلك.
فعلي الأوّل: يختصّ بالمالك الأصيل و الوليّ الإجباري. و علي الثاني: يشمل الوكيل و العبد المأذون أيضا. و لا يخفي أنّ مراد جلّ الفقهاء، بل كلّهم هو الثاني. و يؤيّده تعبيرهم بأنّ له
المكاسب، ج‌4، ص 370
أن يفعل كذا فله الإقرار به. و قولهم: من يقدر علي إنشاء شي‌ء يقدر علي الإقرار به، و من يلزم فعله غيره يلزم إقراره به عليه. و أمّا ملك الإقرار، فيحتمل أن يراد به السلطنة المستقلّة المطلقة، بمعني أنّه لا يزاحمه أحد في إقراره، و أنّه نافذ علي كلّ أحد. و أن يراد به مجرّد أنّ له الإقرار به فلا سلطنة مطلقة له، فيمكن أن يزاحمه من يكون له- أيضا- سلطنة علي الفعل، فيكون ملك الإقرار بالشي‌ء علي نحو السلطنة علي ذلك الشي‌ء، فليس للبنت البالغة الرشيدة- بناء علي ولاية الأب عليها- مزاحمة الولي في إقراره، كما ليس لها مزاحمته في أصل الفعل. و كذا إذا قامت البيّنة علي إقرار الأب حين صغر الطفل بتصرّف فيه أو في ماله، فليس له بعد البلوغ مزاحمته. و هذا بخلاف الموكّل فإنّه يزاحم الوكيل في إقراره كما يزاحمه في أصل التصرّف. إذا عرفت ما ذكرنا في معني القضية، فاعلم أنّ حديث الإقرار لا يمكن أن يكون منشأ لهذه القاعدة: أمّا أولا- فلأنّ حديث الإقرار لا يدلّ إلّا علي ترتيب الآثار التي يلزم علي المقرّ دون غيرها مما يلزم «1» غيره، فإذا قال للكبير البالغ العاقل: إنّه ابني، فلا يترتّب عليه إلّا ما يلزم علي المقرّ من أحكام الأبوّة، و لا يلزم علي الولد شي‌ء من أحكام البنوّة. نعم لو ترتّب علي الآثار اللازمة علي المقرّ آثار لازمة علي غيره ثبت علي غيره، فلو كان الابن المذكور ممن ظاهره الرقيّة للمقرّ، فيسقط عنه حق «2» الغير المتعلّق بأمواله، مثل نفقة واجب النفقة و دين الغريم، لأنّ مثل ذلك تابع للمال حدوثا و بقاء، فهو من قبيل الوجوب المشروط بشي‌ء يكون المكلّف مختارا في إيجاده و إعدامه، لا من قبيل الحقّ المانع من الإعدام، كحقّ المرتهن و المفلّس و نحو ذلك، فإنّه حقّ لصاحبه، نظير الملكية للمالك، فذو الحقّ كالشريك. و الحاصل: أنّ دليل الإقرار لا ينفع في إقرار الوكيل و العبد و الوليّ علي غيرهم. و أمّا ثانيا: فلأنّ جلّ الأصحاب قد ذكروا هذه القضية مستندا لصحّة إقرار الصبي بما يصحّ منه، كالوصيّة بالمعروف و الصدقة، و لو كان المستند فيها حديث الإقرار لم يجز ذلك، لبنائهم علي خروج الصّبيّ من حديث الإقرار، لكونه مسلوب العبارة بحديث «رفع القلم» «3». و كيف كان فلا ريب في عدم استنادهم في هذه القضية إلي حديث الإقرار. و ربما يدّعي الإجماع علي القضية المذكورة، بمعني أنّ استدلال الأصحاب بها يكشف عن وجود دليل معتبر لو عثرنا به لم نعدل عنه، و إن لم يكشف عن الحكم الواقعي. و هذه الدّعوي إنّما تصحّ مع عدم ظهور خلاف أو تردّد منهم فيها «4»، لكنّا نري من أساطينهم في بعض المقامات عدم الالتزام بها أو التّردّد فيها، فهذا العلّامة في التذكرة رجّح تقديم قول الموكّل عند دعوي الوكيل- قبل العزل- التصرّف «5». و تردّد في ذلك في التحرير «6»، و تبع المحقّق في تقديم دعواه نقصان الثمن عما يدّعيه الوكيل «7». و يظهر من فخر الدين في الإيضاح عدم قبول دعوي الزوج في العدّة الرجوع، و جعل نفس الدعوي رجوعا «8». و تردّد في ذلك في موضع من القواعد «9». و تقدّم عن الشهيد في القواعد: الاستشكال في دعوي الزوج الرجعة «10». و أنكر المحقّق «11» هذه القاعدة رأسا، حيث تردّد في قبول إقرار العبد المأذون «12» و في قبول قول الوليّ في تزويج بنته لو أنكرت، بل و لو لم تنكر لجهلها بالحال. قال في جامع المقاصد في شرح قول العلّامة رحمه اللَّه: لو قيل للوليّ زوّجت بنتك من فلان؟ فقال: نعم. فقال الزوج: قبلت.. إلخ بعد شرح العبارة ما لفظه:
و لو صرّح بإرادة الإقرار فلا زوجية في نفس الأمر إذا لم يكن مطابقا للواقع، و هل يحكم به ظاهرا بالنسبة إلي البنت؟ فيه احتمال، و ينبغي أن يكون القول قولها بيمينها ظاهرا إذا ادّعت كذب الوليّ في إقراره. و هل لها ذلك فيما بينها و بين اللَّه إذا لم تعلم بالحال؟ فيه نظر، ينشأ: من أصالة العدم، و أنّ الإقرار لا ينفذ في حقّ الغير، و لو لا ذلك لنفذ دعوي الاستدانة و إنشاء بيع أمواله. و من أنّ إنشاء النكاح في وقت ثبوت الولاية فعله و هو مسلّط عليه، فينفذ فيه إقراره، و ينبغي التأمّل لذلك.. «13» (انتهي). و قال في شرح قول العلّامة: «إنّ المقرّ قسمان مطلق و محجور، فالمطلق ينفذ إقراره في كل ما ينفذ تصرّفه» ما حاصله: إنّ هذه القضية لا تنقض بعدم سماع دعوي الوكيل فيما وكّل فيه، لأنّها شهادة و ليست بإقرار، إذ الإقرار إخبار بحقّ لازم للمخبر «14». «15» و ظاهر هذا الكلام: أنّ هذه الكلّية المرادفة لقضية «من ملك» مختصّة بإقرار المالك بما يتعلّق بنفسه لا غيره. هذا و لكنّ الإنصاف: أنّ القضية المذكورة في الجملة إجماعيّة، بمعني أنّه ما من أحد من الأصحاب- ممّن وصل إلينا كلامهم- إلّا و قد عمل بهذه القضية في بعض الموارد، بحيث نعلم أن لا مستند له سواها، فإنّ من ذكرنا خلافهم إنّما خالفوا في بعض موارد القضية، و عملوا بها في مورد «16» آخر، فإنّ المحقّق الثاني و إن ظهر منه الخلاف فيما ذكرنا من الموارد إلّا أنّه وافق الأصحاب في إقرار الصبي بما له أن يفعله، مستندا في جامع المقاصد إلي هذه الكلّية «17»، مع أنّه لا يمكن الاستناد إلي غيرها، لأنّ حديث الإقرار مخصّص بالصبي و المجنون لعدم العبرة بكلامهما في الإنشاء و الإخبار. و العلّامة و ان ظهر منه المخالفة في بعض الموارد، حتّي في مسألة إقرار الصبي بماله أن يفعله «18» و إقرار العبد فيما يتعلّق بالتجارة- علي ما في التذكرة «19»- إلّا أنّ صريحه في كثير من الموارد الاستناد إلي القاعدة، كما في إقرار الوليّ الإجباري بالعقد علي المولّي عليه، و جزم بسماع الدعوي عليه معلّلا بأنّه لو أقرّ لنفع المدّعي لأنّ إقراره ماض «20». بل تقدّم منه دعوي الإجماع علي قبول دعوي المسلم أمان الحربيّ في زمان ملك الأيمان «21». و كذا فخر الدين حيث أكثر العمل بهذه القاعدة «22»، فظهور المخالفة منه في مسألة الإقرار غير مضرّ، مع إمكان أن يكون مراده عدم الحاجة في تلك المسألة إلي تلك القاعدة، لأنّ مجرّد الإخبار بالرجعة رجوع، من غير حاجة إلي الحكم بمضيّ إقراره، فإنّ الشي‌ء مستند إلي أسبق سببية، فإذا كان أصل الأخبار بالشي‌ء إنشاء له في الحال، لم يحتج إلي إثبات صدق المخبر به بدليل خارج «23».
و كيف كان: فلم نجد فقيها أسقطه عن استقلال التمسّك، لكن الإجماع علي الاستناد إليه في الجملة إنّما ينفع لو علمنا أنّ إهمالهم له في الموارد من حيث وجود المعارض.
أمّا إذا ظهر- أو احتمل- كون الإهمال من جهة تفسير القضية بما لا يشمل تلك الموارد أو «24» اختلفوا في التفسير علي وجه لا يكون مورد متّفق عليه يتمسّك فيه بهذه القضيّة، لم ينفع الاتّفاق المذكور. فإنّ ظاهر العلّامة في التذكرة في مسألة إقرار الصبي عدم نفوذه و عدم العبرة بكلامه، حتّي فيما له أن يفعله «25». فالمراد بالموصول عنده في قضية «من ملك» هو البالغ العاقل. و كذا ظاهر فتواه في القواعد بأنّ المريض لو أقرّ بعتق أخيه و له عمّ فإنّه ينفذ إقراره من الثلث «26» فإنّ الظاهر أنّ مراده: حجب الأخ العمّ في مقدار الثلث
المكاسب، ج‌4، ص 371 من التركة، لا مثل العتق. و هذا المحقّق الثاني يسلّم شمول القضيّة للصبيّ، لكن ينكر شمولها للإقرار علي الغير كما تقدّم من عبارته «1»، حتي في الوليّ الإجباري الذي يظهر من العلّامة في التذكرة عدم المخالف فيه من العامّة و الخاصّة «2». فإذا لم يكن إقرار الصبي أو الإقرار علي الغير مما اتّفق علي شمول القضيّة و كان «3» إقرار البالغ العاقل علي نفسه داخلا «4» في حديث الإقرار، لم ينفع القضية المجمع عليها في الجملة في مورد من موارد الحاجة، إلّا أن يبني علي عدم العبرة بمخالفة العلّامة في التذكرة في شمول القضيّة للصبيّ. مع أنّ عبارتها لا تخلو عن الحاجة إلي التأمّل، مع رجوعه عن هذا في سائر كتبه «5» مع دعواه الإجماع علي قبول دعوي المسلم أمان الحربي في حال ملكه لأمانه «6»، و ظاهر ان ليس مستند له إلّا القضيّة المذكورة، و لذا يظهر من بعضهم دعوي الاتفاق علي أن من صحّح صدقة الصبي و وصيّته حكم بمضيّ إقراره فيهما. و علي عدم العبرة بمخالفة المحقّق الثاني في شمول القضيّة للإقرار علي الغير، لأنّ الظاهر ثبوت الاتفاق من «7» غيره علي سماع إقرار من ملك علي غيره تصرّفا عليه، خصوصا إذا كان وليّا إجباريّا عليه بحيث لا يملك المولّي عليه التصرّف. و قد سمعت أنّ الظاهر من التذكرة اتّفاق العامّة و الخاصّة علي سماع إقرار الوليّ الإجباري تزويج «8» المولّي عليه. و يؤيّده استقرار السيرة علي معاملة الأولياء- بل مطلق الوكلاء- معاملة الأصيل في إقرارهم كتصرّفاتهم. هذا غاية التوجيه لتصحيح دعوي الإجماع في المسألة، و لا يخلو بعد عن الشبهة، فاللازم تتبّع مدرك آخر لها، حتي يكون استظهار الإجماع عليها مؤيّدا له و جابرا لضعفه أو وهنه ببعض الموهنات، و لا بدّ أن يعلم أنّ المدرك لها لا بدّ أن يكون جامعا لوجه اعتبار قول الصبيّ فيما له أن يفعل حتي يحكم علي أدلّة عدم اعتبار كلام الصبيّ في الإنشاء و الإخبار الحاكمة علي حديث الإقرار، و اعتبار إقرار الوكيل و الوليّ علي الأصيل حتي يحكم علي أدلّة عدم سماع إقرار المقرّ علي غيره، لكونها دعوي محتاجة إلي البيّنة، لا إقرارا علي النفس. و من هنا يظهر أنّ التمسّك بأدلّة قبول قول من ائتمنه المالك بالإذن أو الشارع بالأمر و عدم جواز اتّهامه غير صحيح، لأنّها لا ينفع في إقرار الصبيّ، و الرجوع فيه إلي دليل آخر- لا يجري في الوكيل و الوليّ- يخرج القضيّة عن كونها قاعدة واحدة، علي ما يظهر من القضيّة: من أنّ العلّة في قبول الإقرار كونه مالكا للتصرّف المقرّ به. هذا مع أنّه لو كان مدرك القضيّة قاعدة الائتمان لم يتّجه الفرق بين وقوع الإقرار في زمان الائتمان أو بعده، مع أنّ جماعة صرّحوا بالفرق، فإنّ قولهم «إنّ من لا يتمكّن من إنشاء شي‌ء لا ينفذ إقراره فيه» ليس المراد منه عدم نفوذ إقراره بفعل ذلك في زمان عدم التمكّن، إذ لا معني لعدم النفوذ هنا لعدم ترتّب أثر علي المقرّ به، بل المراد: عدم نفوذ الإقرار بفعله حين يتمكّن من الفعل، و لذا فرّع في التحرير علي القضيّة المذكورة: أنّه لو أقرّ المريض بأنّه وهب و أقبض حال الصحّة، نفذ من الثلث «9» و صرّح فيه أيضا و في غيره بعدم نفوذ إقرار العبد المأذون- بعد الحجر عليه- بدين أسنده إلي حال الإذن «10» و قد عرفت ما في جهاد التذكرة «11». و الحاصل: أنّ بين هذه القاعدة و قاعدة الائتمان عموما من وجه. و هنا قاعدة أخري، أشار إليها فخر الدّين- علي ما تقدم من الإيضاح- بأنّ كلّ ما يلزم فعله غيره يمضي إقراره بذلك الفعل علي ذلك الغير «12» «13» و ظاهره- و لو بقرينة الاستناد إليها في قبول قول الوصيّ و أمين الحاكم إذا اختلفا مع المولّي عليه- إرادة مضيّ الإقرار علي الغير و لو بعد زوال الولاية. فإن أريد من لزوم فعل المقرّ علي الغير: مجرّد مضيّه و لو من جهة نصب المالك أو الشارع له كانت أعمّ مطلقا من القاعدتين، لشموله «14» لوليّ النكاح الإجباريّ النافذ إقراره علي المرأة. و إن «15» أريد منه لزومه عليه ابتداء لسلطنة عليه كأولياء القاصرين في المال و النكاح كانت أعمّ من وجه من كلّ من القاعدتين، لاجتماع الكلّ في إقرار وليّ الصغير ببيع ماله، و افتراق «قاعدة الائتمان» عنهما «16»
في إقرار الوكيل بعد العزل، و افتراق قضية «من ملك» في إقرار الصبيّ بماله أن يفعل، و افتراق ما في الإيضاح بإقرار الوليّ الإجباري بعد زوال الولاية بالنكاح في حالها.
ثمّ إنّه يمكن أن يكون الوجه في القضيّة المذكورة، ظهور اعتبره الشارع، و بيانه: أنّ من يملك إحداث تصرّف فهو غير متّهم في الإخبار عنه حين القدرة عليه، و الظاهر صدقه و وقوع المقرّ به. و إن كان هذا الظهور متفاوت الأفراد قوّة و ضعفا بحسب قدرة المقرّ فعلا علي إنشاء المقرّ به من دون توقّف علي مقدّمات غير حاصلة وقت الإقرار، كما في قول الزوج: رجعت، قاصدا به الإخبار مع قدرته عليه بقصد الإنشاء، و عدم قدرته لفوات بعض المقدّمات، لكنّه قادر علي تحصيل المقدّمات و فعلها «17» في الزمان المتأخّر، كما إذا أقرّ العبد بالدّين في زمان له الاستدانة شرعا لكنّه موقوف علي مقدّمات غير حاصلة، فإنّ الظاهر هاهنا- أيضا- صدقه، و إن أمكن كذبه باعتبار بعض الدواعي. لكن دواعي الكذب فيه أقل بمراتب من دواعي الكذب المحتملة في إقرار العبد المعزول عن التجارة الممنوع عن الاستدانة. و لو تأمّلت هذا الظهور- و لو في أضعف أفراده- وجدته أقوي من ظهور حال المسلم في صحة فعله، بمعني مطابقته للواقع. بل يمكن أن يدّعي أنّ حكمة اعتبار الشارع و العرف لإقرار البالغ العاقل علي نفسه: أنّ الظاهر أنّ الإنسان غير متّهم فيما يخبره مما يكون عليه لا له، و في النبويّ: «إقرار العقلاء» «18» إشارة إليه، حيث أضاف الإقرار إلي العقلاء تنبيها علي أنّ العاقل لا يكذب علي نفسه غالبا، و إلّا فلم يعهد من الشارع إضافة الأسباب إلي البالغ العاقل، و إن اختص السبب به، إلّا أنّه اكتفي عن ذلك في جميع الأسباب القوليّة و الفعليّة بحديث «رفع القلم» «19» فالصبيّ لمّا جاز له بعض التصرّفات مثل الوقف و نحوه و لم يكن إقراره مظنّة للكذب كان مقبولا، و لمّا كان بعض الأقارير- بحسب نوعه- لا ظهور له في الصدق لم يعتبره الشارع، كما في الإقرار المتعارف لإقامة رسم القبالة، و كما في إقرار المريض مطلقا أو إذا كان متّهما. و يؤيّده: أنّ بعض الفقهاء قد يحكم بسماع الإقرار و ان تضمّن دفع دعوي الغير مستندا إلي عدم كونه متّهما، كما في إقرار مالك اللقيط [بعتقه] «20» بعد إنفاق الحاكم عليه بإعتاقه قبل ذلك، فإنّ الشيخ رحمة اللَّه عليه حكم في المبسوط بسماعه، لكونه غير متّهم، لأنّه لا يريد العبد و لا يريد الثمن «21» فيستمع دعواه و إن تضمّنت دفع النفقة عن نفسه. و ليس الغرض ترجيح هذا القول في هذه المسألة، بل الغرض تقريب أنّ عدم اتّهام المخبر في خبره يوجب تقديم قوله، و مرجعه إلي تقديم هذا الظاهر علي الأصل، كما في نظائره من ظهور الصحّة في فعل المسلم و نحوه من الظواهر. هذا و لكنّ الظهور المذكور لا حجيّة فيه بنفسه حتي يقدّم علي مقابله من الأصول و القواعد المقرّرة، بل يحتاج إلي قيام دليل عليه أو استنباطه من أدلة بعض القواعد الأخر.
المكاسب، ج‌4، ص 372

6- رسالة في قاعدة لا ضرر

اشارة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم [و به ثقتي و اعتمادي] «1». الحمد للَّه ربّ العالمين. و الصلاة و السلام علي محمّد و آله الطاهرين «2». و لعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين. و الكلام يقع تارة في معناها. و اخري في مدركها و بيان حالها مع الأدلة المعارضة لها في الظاهر «3». و ثالثة في بعض ما يتفرّع عليها ممّا عنونه الفقهاء مستدلّين عليها بها. و لا بدّ أوّلا من ذكر الأخبار الّتي عثرنا عليها في حكم الضرر، فنقول و باللّه التوفيق: منها ما اشتهر عنه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم في قصّة سمرة بن جندب، و قد روي بألفاظ مختلفة: ففي موثّقة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: «إنّ سمرة بن جندب كان له عذق «4» في حائط «5» رجل «6» من الأنصار. و كان منزل الأنصاريّ بباب البستان، و كان يمرّ إلي نخلته و لا يستأذن، فكلّمه الأنصاريّ أن يستأذن إذا جاء. فأبي سمرة. فجاء الأنصاريّ إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم فشكي إليه، فأخبره الخبر، فأرسل إليه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم و خبّره بقول الأنصاريّ و ما شكاه و قال: إذا أردت الدخول فاستأذن. فأبي. فلّما أبي ساومه حتّي بلغ به من الثمن له ما شاء اللَّه، فأبي أن يبيعه. فقال: لك بها عذق في الجنّة فأبي أن يقبل. فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم للأنصاري: اذهب فاقلعها و ارم بها إليه، فإنّه لا ضرر و لا ضرار» «7». و في رواية الحذّاء، عن أبي جعفر عليه السلام نحو ذلك، إلّا أنّه قال لسمرة بعد الامتناع: «ما أراك يا سمرة إلّا مضارّا، اذهب يا فلان فاقلعها و ارم بها وجهه» «8». و في رواية ابن مسكان، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام نحو ذلك بزيادة لا تغيّر المطلب، و في آخرها:
«إنّك يا سمرة رجل مضارّ. لا ضرر و لا ضرار علي المؤمن. ثمّ أمر بها فقلعت، فرمي بها وجهه، و قال: انطلق فاغرسها حيث شئت» «9». و في هذه القصّة إشكال من حيث حكم النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم بقلع العذق، مع أنّ القواعد لا تقتضيه، و نفي الضرر لا يوجب ذلك، لكن لا يخلّ بالاستدلال. و منها: رواية عقبة بن خالد عن الصادق عليه السلام: «قضي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين و المساكن. و قال: لا ضرر و لا ضرار» «10». و منها: ما عن التذكرة و نهاية ابن الأثير، مرسلا عن النبيّ صلّي اللَّه عليه و آله و سلم: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام» «11». و منها:
رواية هارون بن حمزة الغنوي، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «رجل شهد بعيرا مريضا يباع. فاشتراه رجل بعشرة دراهم، فجاء و أشرك فيه رجلا بدرهمين بالرأس و الجلد. فقضي أنّ البعير بري‌ء. فبلغ ثمنه دنانير. قال: فقال: لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ. فإن قال: أريد الرأس و الجلد فليس له ذلك. هذا الضرار. قد اعطي حقّه إذا اعطي الخمس» «12».
و منها: رواية أخري لعقبة بن خالد، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «قضي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه: لا يمنع نقع البئر، و قضي بين أهل البادية أنّه:
لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء فقال: لا ضرر و لا ضرار» «13». هذه جملة ما عثرنا عليها من الروايات العامّة «14». و كثرتها تغني عن ملاحظة سندها. مضافا إلي حكاية تواتر نفي الضرر و الضرار عن فخر الدين في الإيضاح في باب الرهن. و لم أعثر عليه «15». فالمهمّ بيان معني الضرر و الضرار. أمّا معني الضرر فهو معلوم عرفا. ففي المصباح: الضرّ- بفتح الضاد- مصدر ضرّه يضرّه. من باب قتل، إذا فعل به مكروها و أضرّ به. يتعدّي بنفسه ثلاثيا و بالباء رباعيّا، و الاسم: الضرر، و قد يطلق علي نقص في الأعيان. و ضارّه يضارّه مضارّة و ضررا بمعني ضرّه. «16» (انتهي). و في النهاية: معني قوله عليه السلام «لا ضرر»: لا يضرّ الرجل أخاه بأن ينقصه شيئا من حقوقه. و الضرار فعال من الضرّ. أي: لا يجازيه علي إضراره بإدخال الضرر عليه. و الضرر فعل الواحد، و الضرار فعل الاثنين، و الضرر ابتداء الفعل، و الضرار الجزاء عليه. و قيل: الضرر أن تضرّ صاحبك و تنتفع أنت به، و الضرار أن تضرّه من غير أن تنتفع به. و قيل: هما بمعني واحد. و الضرار للتأكيد «17» (انتهي). و كيف كان فالتباس الفرق بين الضرر و الضرار لا يخلّ بما هو المقصود من الاستدلال بنفي الضرر في المسائل الفرعية. فالأهمّ في ذلك بيان معني النفي. فنقول: إنّ نفي الضرر ليس محمولا علي حقيقته، لوجود الحقيقة في الخارج بداهة، فلا بدّ من حمله علي محامل قال بكلّ منها «18» قائل: أحدها: حمله علي النهي. فالمعني تحريم الفعل «19». الثاني: الضرر المجرّد عن التدارك «20». فكما أنّ ما يحصل بإزائه نفع لا يسمّي ضررا، كدفع مال بإزاء عوض مساو له أو زائد عليه، كذلك الضرر المقرون بحكم الشارع بلزوم تداركه نازل منزلة عدم الضرر، و ان لم يسلب عنه مفهوم الضرر بمجرّد حكم الشارع بالتدارك. فالمراد نفي وجود الضرر المجرّد عن التدارك، فإتلاف المال بلا تدارك ضرر علي صاحبه فهو منفيّ، فإذا وجد في الخارج فلا بدّ أن يكون مقرونا بلزوم التدارك. و كذلك تمليك الجاهل بالغبن ماله بإزاء ما دون قيمته من الثمن ضرر عليه فلا يوجد في الخارج إلّا مقرونا بالخيار. و هكذا.. الثالث: أن يراد به نفي الحكم الشرعي الذي هو ضرر علي العباد، و أنّه ليس في الإسلام مجعول ضرري «21». و بعبارة أخري: حكم يلزم من العمل به الضرر علي العباد، مثلا يقال: إنّ حكم الشرع بلزوم البيع مع الغبن ضرر علي المغبون، فهو منفيّ في الشريعة، و كذلك وجوب الوضوء مع إضرار المكلّف حكم ضرريّ منفي في الشريعة. ثمّ إنّ أردأ الاحتمالات هو الثاني، و ان قال به بعض الفحول «22»، لأنّ الضرر الخارجيّ لا ينزّل منزلة العدم بمجرّد حكم الشارع بلزوم تداركه، و إنّما المنزّل منزلته، الضرر المتدارك فعلا. و الحاصل:
إنّ إيصال الضرر إن كان لداعي النفع لا نضايق عن سلب الضرر عنه حقيقة، و ان كان قد يناقش فيه. و أمّا الضرر لا لداعي النفع و إن تعقّبه تدارك فهو ضرر حقيقيّ، لكن بعد أن اتّفق تداركه يمكن تنزيله منزلة ما لم يوجد، كما هو معني التدارك. و أمّا ما لم يتعقّبه تدارك فعلا فلا وجه لتنزيله منزلة ما لم يوجد في الخارج بمجرّد حكم الشارع بوجوب تداركه. فمنشأ هذا الاحتمال، الخلط بين الضرر المتدارك فعلا و الضرر المحكوم بلزوم تداركه. و المناسب للمعني الحقيقيّ- أعني نفي الماهيّة- هو الأوّل.
نعم لو كان حكم الشارع في واقعة بنفسه حكما ضرريا يكون تداركه بحكم آخر، كحكمه بجواز قتل مجموع العشرة المشتركين في قتل واحد، المتدارك بوجوب دفع تسعة أعشار الدية إلي كلّ واحد، و أمّا الضرر الواقع من المكلّف فلا يتدارك بحكم الشرع بلزوم التدارك لينزّل منزلة العدم. هذا مضافا إلي أنّ ظاهر قوله عليه السلام: «لا ضرر في الإسلام» كون الإسلام ظرفا للضرر، فلا يناسب أن يراد به الفعل المضرّ. و انّما المناسب الحكم الشرعي الملقي للعباد في الضرر في نظير قوله: «لا حرج في الدين «23»». هذا، مع أنّ اللازم من ذلك
المكاسب، ج‌4، ص 373
عدم جواز التمسّك بالقاعدة لنفي الحكم الضرريّ المتعلّق بنفس المكلّف «1»، كوجوب الوضوء مع التضرّر به، فإنّ فعل الوضوء المضرّ حرام، و الواقع منه في الخارج لم يجعل له الشرع تداركا، مع أنّ العلماء لم يفرّقوا في الاستدلال بالقاعدة بين الإضرار بالنفس و الإضرار بالغير. و أمّا المعني الأوّل فهو مناف لذكرها «2» في النصّ و الفتوي لنفي الحكم الوضعيّ، لا مجرّد تحريم الإضرار. نعم يمكن أن يستفاد منه تحريم الإضرار بالغير من حيث إنّ الحكم بإباحته حكم ضرريّ فيكون منفيّا في الشرع، بخلاف الإضرار بالنفس فإنّ إباحته- بل طلبه علي وجه الاستحباب- ليس حكما ضرريّا، و لا يلزم من جعله ضرر علي المكلّفين. نعم قد استفيد من الأدلّة العقليّة «3» و النقليّة «4» تحريم الإضرار بالنفس. فتبيّن ممّا ذكرناه: أنّ الأرجح في معني الرواية بل المتعيّن هو المعني الثالث، لكن في قوله: «لا ضرر و لا ضرار» من دون تقييد، أو مع التقييد بقوله: «في الإسلام».
و أمّا قوله: «لا ضرر و لا ضرار علي مؤمن» فهو مختصّ بالحكم الضرريّ بالنسبة إلي الغير، فلا يشمل نفي وجوب الوضوء و الحجّ مع الضرر. و

ينبغي التنبيه علي أمور:

[التنبيه] الأوّل

إنّ دليل هذه القاعدة حاكم علي عموم أدلّة إثبات الأحكام الشامل لصورة التضرّر بموافقتها، و ليس معها من قبيل المتعارضين، فيلتمس الترجيح لأحدهما ثمّ يرجع إلي الأصول. خلافا لما يظهر من بعض من عدّهما من المتعارضين «5»، حيث إنّه ذكر في مسألة «تصرف الإنسان في ملكه مع تضرّر جاره»: إنّ عموم: «نفي الضرر» معارض بعموم: «الناس مسلّطون علي أموالهم» «6». و ذكر نحو ذلك في مسألة جواز الترافع إلي حكّام الجور مع انحصار إنقاذ الحقّ في ذلك «7». و فيه ما تقرّر في محلّه من أنّ الدليل الناظر بدلالته اللفظية إلي اختصاص دليل عامّ ببعض أفراده حاكم عليه، و لا يلاحظ فيه النسبة الملحوظة بين المتعارضين، نظير حكومة أدلّة الحرج علي ما يثبت بعمومه التكليف في موارد الحرج «8»، و عليه جرت سيرة الفقهاء في مقام الاستدلال في مقامات لا تخفي، منها: استدلالهم علي ثبوت خيار الغبن «9» و بعض الخيارات الأخر بقاعدة «نفي الضرر» مع وجود عموم: «الناس مسلطون علي أموالهم» «10» الدالّ علي لزوم العقد و عدم سلطنة المغبون علي إخراج ملك الغابن بالخيار عن ملكه «11». ثمّ إنّ اللازم مما ذكرنا، الاقتصار في رفع مقتضي الأدلّة الواقعية المثبتة للتكاليف، علي مقدار حكومة القاعدة عليها، فلو فرض المكلّف معتقدا لعدم تضرره بالوضوء أو الصوم مثلا، فتوضأ ثمّ انكشف أنّه تضرر به، فدليل نفي الضرر لا ينفي الوجوب الواقعي المتحقّق في حقّ هذا المتضرّر. لأنّ هذا الحكم الواقعي لم يوقع المكلّف في الضرر، و لذا لو فرضنا انتفاء هذا الوجوب واقعا علي هذا المتضرّر- كأن يتوضّأ هذا الوضوء لاعتقاد عدم تضرره و عدم دخوله في المتضرّرين- فلم يستند تضرّره إلي جعل هذا الحكم، فنفيه ليس امتنانا علي المكلّف و تخليصا له من الضرر، بل لا يثمر إلّا تكليفا له بالإعادة بعد العمل و التضرّر. فتحصّل: أنّ القاعدة لا تنفي إلّا الوجوب الفعلي علي المتضرّر العالم بتضرّره، لأنّ الموقع للمكلّف في الضرر هو هذا الحكم الفعلي، دون الوجوب الواقعي الّذي لا يتفاوت وجوده و عدمه في إقدام المكلّف علي الضرر. بل نفيه مستلزم لإلقاء المكلّف في مشقّة الإعادة، فالتمسّك بهذه القاعدة علي فساد العبادة للمتضرّر بها في دوران الفساد مدار اعتقاد الضرر الموجب للتكليف الفعلي بالتضرّر بالعمل، كالتمسّك علي فسادها بتحريم الإضرار بالنفس في دورانه مدار الاعتقاد بالضرر الموجب للتحريم الفعلي، لأنّه الذي يمتنع اجتماعه مع الأمر، فلا يجري مع الضرر الواقعي و أن سلّم اجتماعه مع التحريم الشأني، كما تسالموا عليه في باب اجتماع الأمر و النهي من عدم الفساد مع الجهل بالموضوع أو نسيانه، و أنّ المفسد هو التحريم الفعليّ المنجّز.

[التنبيه] الثاني

إنّه لا إشكال- كما عرفت- في أنّ القاعدة المذكورة تنفي الأحكام الوجوديّة الضرريّة، تكليفيّة كانت أو وضعيّة، و أمّا الأحكام العدميّة الضرريّة- مثل عدم ضمان ما يفوت علي الحرّ من عمله بسبب حبسه- ففي نفيها بهذه القاعدة، فيجب أن يحكم بالضمان، إشكال: من أنّ القاعدة ناظرة إلي نفي ما ثبت بالعمومات من الأحكام الشرعية، فمعني نفي الضرر في الإسلام أنّ الأحكام المجعولة في الإسلام ليس فيها حكم ضرريّ. و من المعلوم أنّ حكم الشرع في نظائر المسألة المذكورة ليس من الأحكام المجعولة في الإسلام، و حكمه بالعدم ليس من قبيل الحكم المجعول، بل هو إخبار بعدم حكمه بالضمان، إذ لا يحتاج العدم إلي حكم به. نظير حكمه بعدم الوجوب أو الحرمة أو غيرهما. فإنّه ليس إنشاء منه بل هو إخبار حقيقة. و من أنّ المنفيّ ليس خصوص المجعولات بل مطلق ما يتديّن به و يعامل عليه في شريعة الإسلام، وجوديّا كان أو عدميّا، فكما أنّه يجب في حكمة الشارع نفي الأحكام الضّرريّة، كذلك يجب جعل الأحكام الّتي يلزم من عدمها الضرر. مع أنّ الحكم العدميّ يستلزم أحكاما وجوديّة، فإنّ عدم ضمان ما يفوته من المنافع يستلزم حرمة مطالبته و مقاصّته و التعرّض له، و جواز دفعه عند التعرّض له. فتأمّل. هذا كلّه، مضافا إلي إمكان استفادة ذلك من مورد رواية سمرة بن جندب، حيث إنّه صلّي اللَّه عليه و آله و سلم سلّط الأنصاريّ علي قلع نخل سمرة معلّلا بنفي الضرر، حيث إنّ عدم تسلّطه عليه ضرر، كما أنّ سلطنة سمرة علي ماله و المرور عليه بغير الإذن ضرر. فتأمّل. و يمكن تأييد دلالته بما استدلوا به علي جواز المقاصّة مثل قوله تعالي جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها.. وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ «12». و قوله تعالي فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدي عَلَيْكُمْ «13»
فيقال: إنّ من فوّت علي غيره منفعة- كأن حبسه عن عمله- جاز له أخذ ما يساوي تلك المنفعة منه. إلّا أنّ دلالة هذه الآيات علي نفس ما استدلّوا بها عليه فضلا عن نظيره قاصرة جدّا.

[التنبيه] الثالث

ذكر بعض المعاصرين «14» جوابا عن إيراد أورده علي الاستدلال بنفي الضرر لرفع التكاليف الثابتة بعموم أدلّتها في مورد الضرر، مثل وجوب الحجّ و الصلاة و الوضوء و الصوم علي من تضرّر، و هو: أنّا قد حققنا أنّ الضرر ما لا يحصل في مقابله نفع، و أمّا ما يحصل في مقابله نفع دنيوي أو أخروي فلا يكون ضررا، فإذا ورد- مثلا- : حجّوا إذا استطعتم، أو صلّوا إذا دخل الوقت، أو صوموا إذا دخل شهر رمضان، دلّ علي عمومه علي وجوب هذه الأفعال و ان تضمّن ضررا كليّا. و الأمر يدلّ علي العوض فلا يكون ضررا.
فأجاب بما لفظه: «إنّ الأمر إنّما «15» يتعلق بالصلاة و الحجّ. و لازمة تحقق الأجر المقابل لماهيّة الحجّ و الصلاة المتحقّقة في حال عدم الضرر أيضا، و أمّا حصول عوض في مقابل الضرر و أجر له، فلا دليل عليه. نعم لو كان نفس الضرر ممّا أمر به فيحكم بعدم التعارض و بعدم كونه ضررا. كما في قوله: إذا ملكتم النصاب فزكّوا، و أمثاله» (انتهي). أقول: لا يخفي ما في كلّ من السؤال و الجواب:
المكاسب، ج‌4، ص 374
أمّا في السؤال فلأنّ المراد بالضرر هو خصوص الضرر الدنيويّ لا غير. و أمّا النفع الحاصل في مقابل الضرر الدنيويّ فهو إنّما يوجب الأمر بالتضرّر، لا خروجه عن كونه ضررا. فدليل وجوب شراء ماء الوضوء بأضعاف قيمته الموجب للنفع الأخرويّ مخصّص لعموم نفي الضرر، لا رافع «1» لموضوعه. فجميع ما أثبت التكاليف الضرريّة مخصّص لهذه القاعدة، كيف! و لو كان الأمر كذلك لغت القاعدة. لأنّ كلّ حكم شرعيّ ضرريّ لا بدّ أن يترتّب علي موافقته الأجر، فإذا فرض تدارك الضرر و خروجه بذلك عن الضرر فلا وجه لنفيه في الإسلام، إذ يكون حينئذ وجود الدليل العامّ علي التكليف- الكاشف بعمومه عن وجود النفع الأخرويّ في مورد الضرر- مخرجا للمورد عن موضوع الضرر. و أمّا في الجواب «2»: فلأنّه لو سلّم وجود النفع في ماهيّة الفعل أو في مقدّماته- كأن تضرّر بنفس الصوم أو بالحجّ أو بمقدّماته- يكون الأمر بذلك الفعل نفسيّا أو مقدّمة أمرا بالتضرّر، فلا يبقي فرق بين الأمر بالزكاة و الأمر بالصوم المضرّ أو الحجّ المضرّ بنفسه أو بمقدّماته. فالتحقيق: أنّ المراد بالضرر خصوص الدنيويّ، و قد رفع الشارع الحكم في مورده امتنانا. فتكون القاعدة حاكمة «3» علي جميع العمومات المثبتة للتكليف. نعم، لو قام دليل خاصّ علي وجوب خصوص تكليف ضرريّ خصّص به عموم القاعدة.

[التنبيه] الرابع

إنّ مقتضي هذه القاعدة أن لا يجوز لأحد إضرار إنسان لدفع الضرر المتوجّه إليه، و أنّه لا يجب علي أحد دفع الضرر عن الغير بإضرار نفسه، لأنّ الجواز في الأوّل، و الوجوب في الثاني، حكمان ضرريّان. و يترتّب علي الأوّل ما ذهب إليه المشهور من عدم جواز إسناد «4» الحائط المخوف وقوعه إلي جذع الجار، خلافا للشيخ رحمه اللَّه مدّعيا عدم الخلاف فيه «5». و قد حمل علي ما إذا خاف من وقوعه إهلاك نفس محترمة، إذ يجب حفظ النفس المحترمة «6» غاية الأمر لزوم اجرة المثل للاستناد، كأخذ الطعام قهرا لسدّ الرّمق. و يمكن حمله علي ما لم يتضرر أصلا بحيث يكون كالاستظلال بحائط الغير. فتأمل. و يترتّب علي الثاني جواز إضرار الغير «7». إكراها أو تقيّة. بمعني أنّه إذا أمر الظالم بإضرار أحد و أوعد علي تركه الإضرار بالمأمور- إذا تركه- جاز للمأمور إضرار الغير، و لا يجب تحمّل الضرر لرفع الضرر عن الغير. و لا يتوهّم أنّ هذا من قبيل الأوّل- لأنّ المأمور يدفع الضرر عن نفسه بإضرار الغير- لأنّ المفروض أنّ الضرر يتوجّه إلي الغير أوّلا، لأنّ المكره مريد ابتداء تضرر الغير فيأمره و انّما يضرّه لأجل ترك ما أراده أوّلا و بالذات.

[التنبيه] الخامس

لا فرق في هذه القاعدة بين أن يكون المحقّق لموضوع الحكم الضرريّ من اختيار المكلّف «8» أو لا باختياره، و لا في اختياره بين أن يكون جائزا شرعا أو محرّما، فإذا صار المكلّف باختياره سببا لمرض أو عدوّ يتضرّر به سقط وجوب الصوم و الحجّ، لكونه حكما ضرريّا. و كذا إذا أجنب نفسه مع العلم بتضرّره بالغسل، أو قصّر «9» في الفحص عن قيمة ما باعه فصار مغبونا. نعم لو أقدم علي أصل التضرّر- كالإقدام علي البيع بدون ثمن المثل عالما- فمثل هذا خارج عن القاعدة، لأنّ الضرر حصل بفعل الشخص لا من حكم الشارع. فما ذكره بعض- في وجه وجوب ردّ المغصوب إلي مالكه و إن تضرّر الغاصب بذلك- من أنّه هو الّذي أدخل الضرر علي نفسه بسبب الغصب «10»، لا يخلو عن نظر. و يمكن أن يوجّه ذلك بملاحظة ما ذكرنا في الأمر السابق من أنّ مقتضي القاعدة عدم جواز الإضرار بالغير لئلّا يتضرر الشخص، و عدم وجوب التضرّر لأجل دفع الضرر عن الغير.
فكما أنّ إحداث الغصب- لئلا يتضرر بتركه- حرام، و جوازه منفيّ بقاعدة [نفي] «11» الضرر، كذلك إبقاؤه حرام غير جائز، لأنّ دليل حرمة الإبقاء هو دليل حرمة الأحداث، لأن كلّا منهما غصب. فإن قلت: حرمة الإبقاء سبب لوجوب التضرّر فيجب تحمّل الضرر عن الغير، و هو منفيّ. قلت: لا ريب أنّ ملاحظة ضرر المالك و نفي الحكم بجواز «12» الإضرار به- و إن استضرّ الغاصب- أولي من تجويز الشرع الإضرار بالغير و نفي وجوب تضرّر الغاصب لرفع إضراره بالغير بإمساك ما غصبه، لأنه غير مناف للامتنان، بخلاف الأوّل، فكلّ من جواز الإضرار بالغير و وجوب تحمّل الضرر لرفع إضراره بالغير حكم ضرريّ. لكنّ ثبوت الأوّل في الشريعة مراعاة لنفي الثاني- بأن يجوز للمضرّ الإبقاء علي إضراره لأنّه يتضرّر برفعه هو بنفسه- مناف للامتنان، و بناء الشريعة علي التسهيل و رفع الضرر عن العباد. هذا كله، مع إمكان أن يقال: إنّه إذا تعارض الحكمان الضرريّان، و فرض عدم الأولويّة لإثبات أحدهما و نفي الآخر، كان المرجع أدلّة حرمة الإضرار بالغير، لأنّ حرمته كحرمة الإضرار بالنفس ثابتة بأدلّة أخر غير قاعدة نفي الحكم الضرريّ، و إن كانت هي من أدلّتها أيضا. فإذا تعارض فردان من القاعدة يرجع إلي عمومات حرمة الإضرار بالغير و النفس.
هذا كله مضافا إلي الرواية المشهورة: «ليس لعرق ظالم حقّ» «13». فإنّ هذه الفقرة كناية عن كلّ موضوع بغير حقّ. فكلّ موضوع بغير حقّ لا احترام له، فإذا كان المغصوب لوحا في سفينة كان ما ألصق باللّوح و ما ركّب عليه من الأخشاب موضوعا بغير حقّ، فلا احترام له، و كذا ما بني علي الخشبة المغصوبة. نعم هذه الرواية لا تفي بجميع المراد لو فرضنا أنّ الردّ يتوقف علي تضرّر الغاصب بغير ما وضع علي المغصوب أو معه من الأمور الخارجة.

[التنبيه] السادس

لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بحيث يكون الحكم بعدم أحدهما مستلزما للحكم بثبوت الآخر، فإن كان ذلك بالنسبة إلي شخص واحد فلا إشكال في تقديم الحكم الّذي يستلزم ضررا أقلّ ممّا يستلزمه الحكم الآخر، لأنّ هذا هو مقتضي نفي الحكم الضرريّ عن العباد، فإنّ من لا يرضي بتضرّر عبده لا يختار له إلّا أقلّ الضررين عند عدم المناص عنهما. و إن كان بالنسبة إلي شخصين فيمكن أن يقال أيضا بترجيح الأقلّ ضررا، إذ مقتضي نفي الضرر عن العباد في مقام الامتنان عدم الرضا بحكم يكون ضرره‌أكثر من ضرر الحكم الآخر، لأنّ العباد كلّهم متساوون في نظر الشارع، بل بمنزلة عبد واحد. فإلقاء الشارع أحد الشخصين في الضرر- بتشريع الحكم الضرريّ، فيما نحن فيه- نظير لزوم الإضرار بأحد الشخصين لمصلحته، فكما يؤخذ فيه بالأقلّ كذلك في ما نحن فيه. و مع التساوي فالرجوع إلي العمومات الأخر، و مع عدمها فالقرعة. لكن مقتضي هذا، ملاحظة الضررين الشخصيين المختلفين باختلاف الخصوصيّات الموجودة في كل منهما من حيث المقدار و من حيث الشخص، فقد يدور الأمر بين ضرر درهم و ضرر دينار مع كون ضرر الدرهم أعظم بالنسبة إلي صاحبه من ضرر الدينار بالنسبة إلي صاحبه، و قد يعكس حال الشخصين في وقت آخر. و ما عثرنا عليه في كلمات الفقهاء في هذا المقام لا يخلو عن اضطراب. قال في التذكرة: لو غصب دينارا فوقع في محبرة الغير- بفعل الغاصب أو بغير فعله- كسرت لردّه، و علي الغاصب ضمان المحبرة، لأنه
المكاسب، ج‌4، ص 375
السبب في كسرها. و إن كان كسرها أكثر ضررا من تبقيته الواقع [فيها]، ضمنه الغاصب و لم تكسر. «1» (انتهي). و ظاهره أنّه يكسر المحبرة مع تساوي الضررين، إلّا أن يحمل علي الغالب من كثرة ضرر الدينار لو ضمنه. و في الدروس: لو أدخل دينارا في محبرته و كانت قيمتها أكثر و لم يمكن كسره، لم يكسر المحبرة و ضمن صاحبها الدينار مع عدم تفريط مالكه (انتهي). «2»
و لا بدّ أن يقيّد إدخال الدينار بكونه بإذن المالك علي وجه يكون مضمونا، إذ لو كان بغير إذنه تعيّن كسر المحبرة و ان زادت قيمتها. و ان كان بإذنه علي وجه «3» لا يضمن لم يتّجه تضمين صاحبها الدينار.

[التنبيه] السابع

إنّ تصرّف المالك في ملك إذا استلزم تضرر جاره، يجوز أم لا؟ الظاهر «4» أنّ المشهور علي الجواز. قال في المبسوط في باب إحياء الموات: إن حفر رجل بئرا في داره، و أراد جاره أن يحفر بالوعة أو بئر كنيف بقرب هذه البئر لم يمنع منه و إن أدّي ذلك إلي تغيير ماء البئر، أو كان صاحب البئر يستقذر ماء بئره لقربه الكنيف و البالوعة، لأنّ له أن يتصرّف في ملكه بلا خلاف «5». و قال في السرائر في باب حريم الحقوق: و إن أراد الإنسان أن يحفر في ملكه أو داره بئرا، و أراد جاره أن يحفر لنفسه بئرا بقرب تلك البئر لم يمنع من ذلك بلا خلاف و إن نقص ماء البئر الأولي، لأنّ «الناس مسلّطون علي أموالهم» «6». و قال «7» في مسألة «أن لا حريم في الأملاك»: إنّ كلّ واحد يتصرّف في ملكه علي العادة كيف شاء، و لا ضمان إن أفضي إلي تلف، إلّا أن يتعدّي. و قد اختلف كلام الشافعي في أنّه لو أعدّ داره المحفوفة بالمساكن خانا أو إصطبلا أو طاحونة، أو حانوتا في صفّ العطّارين، حانوت حدّاد أو قصّار- علي خلاف العادة- علي قولين: أحدهما: أنّه يمنع. و به قال أحمد، لما فيه من الضرر. و أظهرهما عنده: الجواز. و هو المعتمد، لأنّه مالك للتصرّف في ملكه. و في منعه من تعميم التصرّفات إضرار به. هذا إذا احتاط و أحكم الجدران بحيث يليق بما يقصده، فإن فعل ما يغلب علي الظنّ أنّه يؤدّي إلي خلل في حيطان الجار فأظهر الوجهين عند الشافعيّة ذلك، و ذلك كأن يدقّ في داره الشي‌ء دقّا عنيفا يزعج به حيطان الجار، أو حبس الماء في ملكه بحيث ينشر النداوة إلي حيطان الجار. فإن قلنا لا يمنع في الصورة الأولي «8» فهنا أولي.. إلي أن قال: و الأقوي أنّ لأرباب الأملاك أن يتصرّفوا في أملاكهم كيف شاءوا، فلو حفر في ملكه بالوعة و فسد بها ماء بئر الجار لم يمنع منه، و لا ضمان بسببه. و لكن يكون قد فعل مكروها «9» (انتهي). و قريب من ذلك ما في القواعد «10» و التحرير «11». و قال في الدروس في إحياء الموات: و لا حريم في الأملاك، لتعارضها. فلكلّ أحد أن يتصرّف في ملكه بما جرت العادة به و إن تضرّر صاحبه و لا ضمان «12» (انتهي). و في جامع المقاصد في شرح مسألة تأجيج النّار و إرسال الماء في ملكه: إنّه لمّا كان الناس مسلّطين علي أموالهم كان للمالك الانتفاع بملكه كيف شاء، فإن دعت الحاجة إلي إضرام نار في ملكه أو إرسال ماء، جاز فعله و إن غلب علي ظنّه التعدّي إلي الإضرار بالغير «13». (انتهي موضع الحاجة). أقول: تصرّف المالك في ملكه إمّا أن يكون لدفع ضرر يتوجّه إليه، و إمّا أن يكون لجلب منفعة، و إمّا أن يكون لغوا غير معتدّ به عند العقلاء. فإن كان لدفع الضرر فلا إشكال، بل لا خلاف في جوازه، لأنّ إلزامه بتحمّل الضرر، و حبسه عن ملكه لئلّا يتضرّر الغير، حكم ضرريّ منفيّ. مضافا إلي عموم: «الناس مسلّطون [علي أموالهم] «14»». و الظاهر عدم الضمان أيضا عندهم، كما صرّح به جماعة، منهم الشهيد «15» رحمه اللَّه. لكنّه صرّح بالضمان في تأجيج النار علي قدر الحاجة مع ظنّ التعدّي. و هو مناف لتصريحه المتقدّم «16». فإن قلت: إذا فرض أنّه يتضرّر بالترك، فالضرر ابتداء يتوجّه إليه و يريد دفعه بالتصرف. و حيث فرض أنّه إضرار بالغير رجع إلي دفع «17» الضرر الموجّه علي الشخص عن نفسه بإضرار الغير. و قد تقدّم عدم جوازه، و لذا لو فرضنا كون التصرّف المذكور لغوا كان محرّما لأجل الإضرار بالغير.
قلت: ما تقدّم من عدم جواز إضرار الغير لدفع الضرر عن النفس إنّما هو في تضرّر الغير الحاصل لغير المتصرّف في مال نفسه، و أمّا إذا كان دفع الضرر عن نفسه بالتصرّف في ماله المستلزم لتضرّر الغير «18» فلا نسلّم منعه، لأنّ دليل المنع هو دليل نفي الضرر، و من المعلوم أنّه قاض في المقام بالجواز، لأنّ منع الإنسان عن التصرّف في ماله لدفع الضّرر المتوجّه إليه بالترك ضرر عظيم، بل سيجي‌ء أنّ منعه عن التصرّف لجلب النفع أيضا ضرر و حرج منفيّ، كما تقدّم في كلام العلّامة «19» رحمه اللَّه. ثمّ إنّه يظهر من بعض من عاصرناه «20» وجوب ملاحظة ضرر «21» المالك و ضرر الغير، و هو ضعيف مخالف لكلمات الأصحاب. نعم لو كان تضرّر الغير من حيث النفس أو ما يقرب منه ممّا يجب علي كلّ أحد دفعه و لو بضرر لا يكون حرج في تحمّله، فهذا خارج عن محلّ الكلام، لأنّ ما يجب تحمل الضرر لدفعه لا يجوز إحداثه لدفع الضرر عن النفس. و إن كان لغوا محضا، فالظاهر أنّه لا يجوز مع ظنّ تضرّر الغير، لأنّ تجويز ذلك حكم ضرريّ، و لا ضرر علي المالك في منعه عن هذا التصرّف، و عموم «الناس مسلّطون علي أموالهم» محكوم عليه بقاعدة «نفي الضرر». و هو الذي يظهر من جماعة كالعلّامة في التذكرة «22» و الشهيد في الدروس «23»، حيث قيّدا «24» التصرّف في كلامهما بما جرت به العادة، و المحقق الثاني «25» حيث قيّد الجواز مع ظنّ تضرّر الغير بصورة دعاء الحاجة، بل العلّامة في التذكرة حيث استدلّ علي الجواز- في كلامه المتقدّم- بأنّ منعه عن عموم التصرّف ضرر منفيّ، إذ لا شكّ أنّ منعه عن هذا التصرّف ليس ضررا «26» و قد قطع الأصحاب بضمان من أجّج نارا زائدا علي مقدار الحاجة مع ظنّ التعدّي «27». اللَّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الضمان لا يدل علي تحريم الفعل. فربّما كان مبني الضمان علي التعدّي العرفيّ و إن لم يكن محرّما، كما يظهر من كثير من كلماتهم. و أمّا ما كان لجلب المنفعة، فظاهر المشهور- كما عرفت من كلمات الجماعة- الجواز. و يدلّ عليه أنّ حبس المالك عن الانتفاع بملكه و جعل الجواز تابعا لتضرر الجار حرج عظيم لا يخفي علي من تصوّر ذلك. و لا يعارضه تضرّر الجار، لما تقدّم من أنّه لا يجب تحمّل الحرج و الضرر لدفع الضرر عن الغير، كما يدل عليه تجويز الإضرار مع الإكراه. و أمّا الاستدلال بعموم «الناس مسلّطون علي أموالهم» بزعم أنّ النسبة بينه و بين نفي الإضرار عموم من وجه، و الترجيح مع الأوّل بالشهرة مع أنّ المرجع بعد التكافؤ أصالة الإباحة، فقد عرفت ضعفه، من حيث حكومة أدلّة نفي الضرر علي عموم «الناس مسلّطون علي أموالهم».
و الحمد لله أوّلا و آخرا و ظاهرا و باطنا و صلّي اللَّه علي النبيّ محمّد و آله أجمعين. و جاء في آخر النسخة المخطوطة ما يلي: هذا آخر كلام المصنف دام ظله العالي و قد فرغ من تحريره تراب الأقدام محمّد بن محمد تقي الدرزابي في يوم النوروز الواقع في أوائل العشر الثاني من شهر شوال المكرم من سنة 1280.
المكاسب، ج‌4، ص 376
@@@@@

7- رسالة في الرضاع

[الخطبة]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام علي محمد و آله الطاهرين و لعنة الله علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين. أجمع علماء الإسلام ظاهرا علي أن من جملة أسباب تحريم النكاح الرضاع في الجملة و الأصل في هذا الحكم قبل الإجماع قوله ص فيما رواه الفريقان: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب و روي عن الصادق ع أيضا بعده طرق صحيحة و رواه عبد الله بن سنان و أبو الصباح الكناني و عبيد بن زرارة عن مولانا الصادق ع مع تخالف يسير في المتن و معني هذه العبارة أنه يحرم من جهة الرضاع نظير من يحرم من جهة النسب لا أن نفس من يحرم من جهة النسب يحرم من جهة الرضاع كما يتراءي من ظاهر العبارة و إنما عبر بهذا للتشبية علي اعتبار اتحاد العنوان الحاصل بالرضاع. و الحاصل بالنسب في التحريم صنفا مثلا الأم محرمة من جهة النسب فإذا حصل بالرضاع نفس هذا العنوان حصل التحريم من جهة الرضاع و لو حصل بالرضاع ما يلازمه مثل أمومة أخيه لأبويه لم يحرم و كذا الأخت و البنت و غيرهما ممن يحرم نكاحه بواسطة النسب الحاصل بين شخصين أو بين أحدهما و زوج الآخر أو من في حكمه فإن أم الزوجة محرمة علي الزوج من جهة نسب بينهما و بين الزوجة يحدث باعتباره المصاهرة بعد التزويج و كذلك الأم الرضاعية للزوجة فحاصل معني هذا الحديث التسوية بين النسب و الرضاع في إيجاب التحريم و أن العلاقة الرضاعية تقوم مقام العلاقة النسبية و تنزل مكانها فلا يتوهم أن تحريم أم الزوجة من جهة المصاهرة فينبغي أن لا تحرم من جهة الرضاع. توضيح الدفع أن معني هذه القضية السلبية و هي أن المحرم من جهة المصاهرة لا تحرم من جهة الرضاع علي قياس تلك القضية الموجبة هو أن الرضاع لا يقوم مقام المصاهرة و لا ينزل منزلتها فإذا أرضعت ولدك امرأة فلا تحرم عليك أمها من حيث إنها جدة ولدك لأمه الرضاعية من جهة أن جده الولد لأمه إنما تحرم علي الأب لأجل نسب بينهما و بين زوجته و لا شك أن الزوجية هنا منتفية و مجرد إرضاع ولد الرجل لا يصير المرضعة في حكم الزوجة لما عرفت من أن الرضاع لا يقوم مقام المصاهرة و أما أم الزوجة المرضعة لها في المثال الذي قدمناه فإنما قامت مقام أمها الوالدة لها فقد قام الرضاع مقام النسب لا مقام المصاهرة لأن زوجية الزوجة ثابتة بنفسها لم يبدل بالرضاع و إنما المبدل به النسب الحاصل بين الأم و الزوجة. و ملخص الكلام أنه لما كانت المصاهرة عبارة عن علاقة تحدث بين كل من الزوجين و أقارب الآخر توقفت وجودها علي أمرين ثبوت الزوجية بين الرجل و المرأة و ثبوت القرابة بين شخص و بين أحدهما فكما يمكن استناد التحريم إلي المصاهرة الحاصلة بين المحرم و المحرم عليه من مجموع ذينك الأمرين و كذلك يمكن استناده إلي الأمر الأول من الأمرين بأن يقال إنه يحرم أم الزوجة علي الزوج من جهة زوجية بنتهما و له كذلك يمكن استناده إلي الأمر الثاني فيقال إنه تحرم أم الزوجة علي الزوج لأجل نسب بينها و بين زوجته و لا يوجب ذلك عدها في المحرمات النسبية من جهة قصرها علي ما استند فيه التحريم إلي النسب الحاصل بين المحرم و المحرم عليه قبالا للمصاهرة الحاصلة بينهما إذا عرفت ذلك فدخول الرضاع في المصاهرة إما بقيامه مقام الأمر الأول من الأمرين المذكورين مع بقاء الأمر الثاني بحاله كالأم النسبية للأم الرضاعية للولد النازلة منزلة الزوجة و إما بقيامه مقام الثاني منهما كالأم الرضاعية للزوجية الحقيقية. ففي الأول لا مجال لتوهم نشر التحريم بالرضاع إلا إذا دل دليل خاص عليه لأن حاصل أدلة النشر بالرضاع إلحاقه بالنسب و جعل كل عنوان حاصل بالرضاع في حكم ذلك العنوان الحاصل بالنسب و معلوم أنه لم ينتف هنا إلا الزوجية و لم يدل دليل النشر علي تنزيل مرضعة الولد مقام الزوجة. و في الثاني لا ينبغي التأمل في التحريم لأنه إذا ألحق العنوان الرضاعي بالعنوان النسبي في التحريم و أقيم الرضاع مقام النسب في إناطة التحريم به فلا شك في أنه يكون الأم الرضاعية للزوجة بمنزلة الأم النسبية لها و لعل منشأ توهم عدم استفادة تحريم مثل هذا من الحديث المذكور توهم كون المراد بلفظ النسب فيه النسب الحاصل بين المحرم و المحرم عليه علي حد قولهم سبب التحريم إما نسب أو رضاع أو مصاهرة و هذا خبط فاسد فإنه تقييد للمطلق من غير دليل بل المراد منه هو مطلق النسب الموجب للتحريم سواء كان بين نفس المحرم
و المحرم عليه أم بين أحدهما و زوج الآخر أو غيره مثل المزني بها و الغلام و الموطوء و الملموسة و من هنا يصح التمسك بهذا الحديث في تحريم مرضعة الغلام الموقب و أخته و بنته الرضاعيتين علي الموقب و إلا فأي نسب بينهما و بين الموقب و أما دعوي أن التحريم في غير المحرمات النسبية السبع ليس من جهة النسب بل هو مستند إلي المصاهرة فقد عرفت الحال فيها و أنه يجوز استناد التحريم فيه إلي نفس المصاهرة و إلي كل واحد من الأمرين اللذين يتوقف وجودها عليها.

ثم اعلم أن انتشار الحرمة بالرضاع يتوقف علي شروط

الشرط الأول أن يكون اللبن عن وطء صحيح

فلو در لا عن وطء أو عن وطء بالزني لم ينشر علي المعروف بين الأصحاب و حكي عليه الإجماع في المدارك عن جماعة منهم جده في المسالك للأصل فإن إطلاقات التحريم بالرضاع منصرفة إلي غير ذلك و صحيحة عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله ع عن لبن الفحل قال هو ما أرضعت امرأتك من لبنك و لبن ولدك ولد امرأة أخري لا من حرام و مثلها حسنة ابن هشام ما أرضعت امرأتك من لبن ولدك ولد امرأة أخري. و يستفاد من اشتراط كون اللبن عن الوطي أنه لا حكم للبن الرجل و في حكمه لبن الخنثي المشكل أمره بناء علي أنه لو علم كون لبنه من الوطي فلا إشكال في كونها امرأة إلا علي ما ورد في بعض الأخبار من أن خنثي ولدت في أيام أمير المؤمنين فألحقه بالرجال بعد عد أضلاعه و عد في التحرير هذا الخبر من الشواذ و لا حكم أيضا للبن المرأة الموطوءة الغير
المكاسب، ج‌4، ص 377
الحاصل من الوطي فإن اللبن إنما يحصل عن الوطي بعد العلوق و الحمل و تخلق الولد. و قد استفيد جميع ذلك من الصحيحة المتقدمة و هل يعتبر انفصال الولد أو يكفي الحمل وجهان بل قولان اختار العلامة أولهما في التحرير و ثانيهما في القواعد و هو الأظهر للإطلاقات. و قول الصادق ع في صحيحة يزيد العجلي: كل امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة أخري من غلام أو جارية فذلك الرضاع الذي قال رسول الله ص إلي غير ذلك مما دل من الصحاح و غيرها علي إناطة التحريم بكون اللبن من الفحل كصحيحة الحلبي و موثقة جميل بن دراج بأحمد بن فضال و رواية أبي بصير و لا ينافيها قوله في صحيحة ابن سنان و حسنة المتقدمتين من لبن ولدك إذ يصدق علي ذلك اللبن أيضا أنه ابن الولد كما يشهد به العرف و دعوي عدم صدق الولد مضافا إلي الأب علي الحمل محل نظر مع أنها غير قادحة فيما نحن فيه لأن وجود الولد بالفعل لا يعتبر في إضافة اللبن إليه نعم في روايتي يونس بن يعقوب و يعقوب بن شعيب أن در اللبن من غير ولادة لا يوجب النشر لكنهما مع عدم صحتهما قابلتان للحمل علي در اللبن من غير ولادة رأسا حتي في المستقبل بأن يكون الدر لا عن حمل كما قد يتفق فلا ينهضان لتقييد إطلاقات الكتاب و السنة إلا أن يمنع عمومها لدعوي انصرافها بحكم الغلبة إلي الإرضاع بعد الوضع فيرجع في غيره إلي أصالة الإباحة فتأمل. ثم إن الوطي الصحيح المعتبر كون اللبن عنه يشمل الوطي بالنكاح الدائم و المنقطع و ملك اليمين و التحليل و أما الوطي بالشبهة فالمشهور إلحاقه في النشر بالنكاح و أخويه كما في غالب الأحكام و تردد فيه المحقق في الشرائع و عن الحلي الجزم بعدم النشر أولا ثم النشر ثانيا ثم النظر و التردد ثالثا و المسألة محل إشكال من إطلاق الكتاب و السنة فإن الفحل في صحيحة يزيد المتقدمة و غيرها أعم من الزوج و يؤيده كون وطء الشبهة بمنزلة النكاح من لحوق النسب و من الأصل و من انصراف الإطلاقات إلي غير هذا الفرد. و قوله في صحيحة ابن سنان و حسنة السابقتين ما أرضعت امرأتك و لو بني علي دعوي ورود التقييد بالمرأة مورد الغالب جري مثله في غيره من القيود فينسد باب الاستدلال علي اعتبار كثير من الشروط و تردد في المدارك و هو في محله إلا أن القول بالنشر لا يخلو عن قوة لأن دلالة المطلقات علي الإطلاق أقوي من دلالة المقيد علي الاختصاص مع أن تخصيص اللبن بالمرأة كما فرض استفادته من صحيحة ابن سنان و حسنته و نحوهما مخالف للإجماع للاتفاق علي النشر بالارتضاع من المملوكة و المحللة فلا بد من حمل التقييد فيها علي التمثيل بالفرد الغالب و إن احتيج في إخراج اللبن الحاصل من الزني عن إطلاقهما لو سلم شمول الولد فيهما لولد الزني إلي دعوي الإجماع علي خروجه و يكشف عما ذكرنا عدم تصريح أحد من فقهائنا بعدم النشر في المسألة و لحوق وطء الشبهة بالنكاح في غالب الأحكام.

الثاني من الشروط كون شرب اللبن علي وجه الامتصاص من الثدي

فلا ينشر الحرمة بوجور اللبن في حلق الرضيع علي المعروف بين معظم الأصحاب لأن الارتضاع المنوط به النشر في الأدلة لا يتحقق عرفا إلا بالامتصاص فلا يقال لمن شرب اللبن المحلوب من البهائم إنه ارتضع منها بخلاف ما لو امتص من ثديها و لو فرض تسليم شمول الارتضاع لغير الامتصاص فلا مجال لإنكار انصرافه إليه فيكون ما عداه باقيا تحت أصالة الإباحة خلافا للمحكي عن ابن الجنيد فاكتفي بالوجور إما لدعوي صدق الإرضاع و إما لحصول ما هو المقصود منه من إنبات اللحم و شد العظم و إما للمرسل المروي في الفقيه عن أبي عبد الله ع: قال و جور الصبي بمنزلة الرضاع و في الكل نظر لخلو الدعوي المذكورة عن البينة كدعوي كون المناط في النشر مجرد إنبات اللحم و شد العظم و ضعف المرسلة و معارضتها برواية زرارة عن الصادق ع: لا يحرم من الرضاع إلا ما ارتضعا من ثدي واحد حولين كاملين بناء علي جعل الحولين ظرفا لأصل الرضاع لا لقدره حتي يخالف الإجماع فالأقوي إذا القول المشهور إلا أن الأولي مراعاة الاحتياط.

الثالث حياة المرتضع منها

فلا اعتداد بما يرتضعه من المرأة بعد موتها علي المشهور بل لم أعثر فيه علي حكاية خلاف صريح قيل لقوله تعالي وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ الظاهرة في مباشرة المرأة للإرضاع المنفية في حق الميتة فيدخل في عموم وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ و لأصالة الإباحة إلي أن يثبت المزيل و قيل لأنها خرجت بالموت عن التحاق الأحكام فهي كالبهيمة المرضعة و بأن المتبادر من إطلاق الرضاع في الأدلة ما إذا حصل بالارتضاع من الحي فيبقي غيره داخلا في عموم أدلة الإباحة و في الجميع نظر. أما ظهور الآية في مباشرة الإرضاع فلا يجدي للقطع بخروج الميتة عن حكم الآية و لا يلزم منه دخولها في قوله وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ لعدم قابلية الميت للحكم عليه بالتحريم و لا التحليل فإن الكلام في الارتضاع من الميتة إنما هو في حدوث الحرمة بين الرضيع و غير الميتة ممن يتعلق به اللبن فيكفي لمدعي النشر عموم قوله تعالي وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ و قوله ص: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب و لا ظهور لهما في مباشرة المرأة للإرضاع مع أن مباشرة المرأة للإرضاع و قصدها إليه غير شرط إجماعا كما ادعاه في المسالك بل لو سعي إليها الولد و هي نائمة أو التقم ثديها و هي غافلة تحقق الحكم. و ما قيل من أن الآية دالة بظاهرها علي اعتبار الحياة و المباشرة و القصد و لا يلزم من عدم اعتبار الأخيرين لصارف عدم اعتبار الأول فاسد لأن دلالة لفظ الرضاع علي الجميع دلالة واحدة فلا يمكن التفكيك في مدلولها و لهذا لم يتمسك بالأخبار الدالة علي الإرضاع مع سلامتها عن بعض ما يرد علي الآية و أما التمسك بالأصل فهو صحيح لو لا الإطلاقات و أما خروج الميتة عن قابلية الحكم عليها فهو أمر مسلم لا كلام فيه. و إنما الكلام في نشر الحرمة بين الرضيع و أصوله و فروعه و بين غير هذه المرأة من الفحل و أولاده و أولاد المرضعة و غيرهم و أما دعوي تبادر غير الارتضاع من الميتة من الإطلاقات فهي علي إطلاقها ممنوعة فإنا لا نجد في السبق إلي الذهن تفاوتا بين من ارتضع منه جميع الرضعات حال الحياة و بين من ارتضع منه حال الحياة خمس عشرة رضعة إلا جزء واحد فأكملها بعد الموت.
نعم الإنصاف انصراف الإطلاقات إلي غير صورة ارتضاع جميع الرضعات حال الموت فالأحسن في الاستدلال علي اعتبار الحياة هو أن بعض فروض الارتضاع من الميتة خارج عن إطلاق مثل قوله وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ لانصراف المطلق إلي غيره كما عرفت فيدخل تحت قوله وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ فيثبت عدم النشر في هذا
المكاسب، ج‌4، ص 378
الفرد بالآية. و يجب إلحاق غيره من الفروض الداخلة تحت إطلاق آية التحريم بها لعدم القول بالفصل و قلب هذا الدليل بأن يثبت التحريم في الفروض الداخلة تحت إطلاق آية التحريم بها و يلحق الفرض الخارج منه بعدم القول بالفصل و إن كان ممكنا إلا أن غاية الأمر وقوع التعارض حينئذ بواسطة عدم القول بالفصل بين آيتي التحريم و التحليل فيجب الرجوع إلي أدلة الإباحة من العمومات و الأصول المعتضدة بفتوي معظم الفحول.

الرابع أن يقع مجموع الرضاع المعتبر من الرضيع في حولي رضاعه

فلا اعتداد بما يرتضع بعد الحولين علي المعروف من مذهب الأصحاب و نقل عن التذكرة دعوي إجماعهم عليه و في المسالك نفي الخلاف عنه و يدل عليه حسنة الحلبي بابن هاشم عن أبي عبد الله ع قال: لا رضاع بعد فطام و نحوها رواية حماد بن عثمان عنه ع بزيادة قوله: قلت جعلت فداك و ما الفطام قال الحولين الذين قال الله عز و جل و نحوها رواية الفضيل بن عبد الملك: الرضاع قبل الحولين قبل أن يفطم و رواية منصور بن حازم ثم إن المراد بالفطام في الأخبار المطلقة هو زمان الفطام أعني الحولين كما دلت عليه رواية الفضيل و حماد فلا عبرة بنفس الفطام حتي أنه لو لم يفطم الرضيع إلي أن تجاوز الحولين ثم ارتضع بعدها قبل الفطام لم يثبت التحريم كما أنه لو فطم قبل الحولين ثم ارتضع قبلهما ثبت التحريم و حكي عن ابن جنيد المخالفة في الحكم الأول و ثبوت التحريم إذا وقع الرضاع بعد الحولين قبل الفطم و لعله لرواية داود بن الحصين المروية في الفقيه و التهذيب المردودة فيه بالمخالفة للأحاديث كلها. و في كلام محكي عن الشهيد أن هذه الفتوي مسبوقة بالإجماع و ملحوقة به و أما الحكم الثاني فلم يحك فيه الخلاف إلا عن موهم ظاهر كلام العماني حيث قال الرضاع الذي يحرم عشر رضعات قبل الفطام و عن المختلف الاستدلال له برواية الفضيل بن عبد الملك المتقدمة الرضاع قبل الحولين قبل أن يفطم و الجواب عنه بأن المراد قبل أن يستحق الفطم و هو حسن و جار في عبارة العماني أيضا فيرتفع الخلاف ثم إنه هل يعتبر في ولد المرضعة الذي يحصل اللبن من ولادته كونه في الحولين عند ارتضاع المرتضع من لبنه بحيث لا يقع شي‌ء من الارتضاع بعد تجاوزه إياهما أم لا فيه قولان المحكي عن أبي الصلاح و ابن زهرة و ابن حمزة الأول تمسكا بظاهر الخبر لإرضاع بعد فطام الشامل لفطام المرتضع و ولد المرضعة بل لم يفهم منه ابن بكير إلا فطام ولد المرضعة لما سأله ابن فضال عن امرأة رضعت غلاما سنتين ثم أرضعت صبية لها أقل من سنتين حتي تمت لها سنتان أ يفسد ذلك بينهما قال لا لأنه رضاع بعد فطام و إنما قال رسول الله ص: لإرضاع بعد فطام أي أنه إذا تم للغلام سنتان أو الجارية فقد خرج عن حد اللبن و لا يفسد بينه و بين من شرب منه و الأكثر علي الثاني و هو الأظهر للأصل و الإطلاقات لظهور الخبر المذكور في فطام المرتضع أو عدم ظهوره في العموم الموجب للشك في تقييد المطلقات. و تفسير ابن بكير للخبر معارض بما فسره ثقة الإسلام و الصدوق في الكافي و الفقيه قال في الكافي معني قوله لإرضاع بعد فطام أن الولد إذا شرب لبن المرأة بعد ما يفطم لا يحرم ذلك الرضاع التناكح و قريب منه ما قاله في الفقيه ثم اعلم أن شيخنا في المسالك ناقش المحقق في نسبة حديث لا رضاع بعد فطام إليه ص و قال إنه لم يرد إلا عن الصادق ع و لا يخفي أن إسناد الحديث إلي رسول الله ص مشهور و قد عرفت أن ابن بكير نسبه إليه ص و كذا رواه في الفقيه مرسلا عنه ص و أصدق من ذلك ما رواه في الكافي عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله ع قال قال رسول الله ص: لإرضاع بعد فطام و لا وصال في صيام و لا يتم بعد احتلام إلي آخر الحديث و مع ذلك فلا وجه للمناقشة المذكورة إلا أن يرجع إلي المناقشة في الإسناد إلي عدم ثبوت النسبة بطريق صحيح يجوز الإسناد علي وجه الجرم ثم إن المعتبر في الحولين الأهلة و لو انكسر الشهر الأول اعتبر ثلاثة و عشرون شهرا بعد المنكسر بالأهلة و إكمال المنكسر بالعدد من الشهر الخامس و العشرين كغيره من الآجال علي أظهر الاحتمالات في نظائر المسألة و الله العالم.

الخامس أن يكون اللبن بحاله غير ممزوج بشي‌ء

فلو ألقي في فم الصبي شي‌ء جامد كالدقيق و فتيت السكر أو مائع كيسير من الأطعمة المائعة ثم ارتضع بحيث امتزج اللبن حتي يخرج عن كونه لبنا لم يعتد به و كذا لو جبن اللبن و الوجه في ذلك عدم صدق الإطلاقات مع الخروج عن اسم اللبن أو عدم انصرافها إلا الخالص.

السادس الكمية

اشارة

أي بلوغ الرضا حدا خاصا فإنه لا خلاف بين علمائنا ظاهرا في أن مسمي الرضاع و مطلقة غير كاف في النشر و الأخبار بذلك متواترة معني يأتي الإشارة إلي أكثرها في بيان التقديرات. نعم قد يوهم الأخبار حصول الحرمة بالمسمي كما سيأتي ذكره في أدلة مذهب الإسكافي المكتفي بالرضعة التامة و خالف في المسألة بعض العامة فاكتفي بالمسمي و قدره بما يفطر الصائم و لم يقنع بذلك حتي ادعي إجماع أهل العلم عليه علي ما حكي في المسالك

ثم إن أصحابنا قدروا المقدار الخاص الذي اعتبروه بثلاثة تقديرات

أحدها بالأثر

و هو ما أنبت اللحم و شد العظم و حصول النشر مع تحقق هذا الأثر مما لا خلاف فيه بين علماء الإسلام و يدل عليه مضافا إلي الإجماع الأخبار المستفيضة منها صحيحة علي بن رئاب عن أبي عبد الله ع: قلت ما يحرم من الرضاع قال ما أنبت اللحم و شد العظم قلت يحرم عشر رضعات فقال لا لأنها لا تنبت اللحم و لا تشد العظم و منها حسنة ابن أبي عمير عن زياد القندي عن عبد الله بن سنان عن أبي الحسن ع قال:
قلت له يحرم من الرضاع الرضعة و الرضعتان و الثلاث قال لا يحرم من الرضاع إلا ما اشتد عليه العظم و أنبت اللحم و منها رواية هارون بن مسلم تارة عن أبي عبد الله ع و تارة عن مسعدة بن زياد عنه ص قال: لا يحرم من الرضاع إلا ما شد العظم و أنبت اللحم و منها رواية عبد الله بن سنان قال سمعت أبا عبد الله ع يقول: ما يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم و شد العظم و في غير واحد من الروايات وقع التقدير بإنبات اللحم و الدم مثل صحيحة عبيد بن زرارة و حسنة حماد بن عيسي بابن هاشم و لا يبعد تلازم التقديرين و مع الانفكاك فالأجود ثبوت النشر بتحقق كل منهما لاعتبار أدلة التقدير الثاني أيضا إلا أن الأصحاب لم يتعرضوا لتحقق الحكم به نفيا و إثباتا و لعله لعدم انفكاكه عن الأول فتدبر ثم إن مقتضي النصوص المذكورة اعتبار تحقق كلا الأمرين من إنبات اللحم و اشتداد العظم و هو المعروف
المكاسب، ج‌4، ص 379
بين الأصحاب أيضا. و حكي عن بعض عبارات الشهيد قدس سره الاجتزاء بأحد الأمرين و نسبه في المسالك إلي الشذوذ و كيف كان فالتقدير بهذا الأثر و إن كان اعتباره في غاية القوة و المتانة بل مقتضي أدلته الحاصرة للرضاع المحرم فيه أنه أصل لأخويه الآتيين إلا أنه قليل الفائدة لأن ظهوره للحس في موضع الحاجة أمر لا يكاد يطلع عليه إلا بعض أهل الخبرة و قلما يتفق شهادة العدلين منهم بذلك و لعله لذا كشف عنه الشارع بأخويه و جعلهما طريقا إليه كما يومئ إليه صحيحة ابن رئاب المتقدمة.

و ثانيها بالزمان

و قدر بيوم و ليلة علي المعروف بين الأصحاب و مستندهم فيه موثقة زياد بن سوقة قال: قلت لأبي جعفر ع هل للرضاع حد يؤخذ به فقال لا يحرم الرضاع أقل من رضاع يوم و ليلة أو خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد و لم يفصل بينهما رضعة امرأة غيرهما فلو أن امرأة أرضعت غلاما أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد و أرضعتهما امرأة أخري من لبن فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحها و ليس فيها سوي عمار الذي نقل الشيخ عمل الأصحاب برواياته مع أن في السند ابن محبوب الذي أجمع علي تصحيح ما يصح عنه مضافا إلي اعتضادها بعمل الأصحاب و موافقة الكتاب و لا ينافيها ما دل علي حصر الرضاع المحرم فيما أنبت اللحم و شد العظم لفقد العلم بعدم كونه منه ثم إن ظاهر الرواية و الفتوي اعتبار الارتضاع في اليوم و الليلة كلما احتاج الرضيع إليه عادة أو طلبه و لا يعتبر في هذا التقدير إكمال الرضعة في كل مرة بل لو رضعته رضعة ناقصة ثم أكملتها مرة أخري لم يقدح و لو أطعم في الأثناء طعاما فإن كان مما يغتذي به بدلا من اللبن فالظاهر أنه قادح في التقدير كما أن شرب الماء للعطش غير قادح لو وقع في الأثناء و كذا ما يوكل أو يسقي دواء و يشكل فيما اعتاده من يسير من طعام بحيث لا يغنيه عما اعتاد شربه من اللبن و هل يعتبر ابتداء الرضاع في ابتداء اليوم و انتهائه في آخر الليلة أو العكس أو يكفي الملفق لو ابتدأ في أثناء أحدهما وجهان أقواهما الثاني إما لصدق رضاع يوم و ليلة عرفا علي رضاع الملفق و إما لأن الرضاع في الملفق لا يكون أقل من رضاع يوم و ليلة بل يكون مساويا له فلا يدل الرواية علي انتفاء النشر به فيبقي داخلا تحت الإطلاقات الدالة علي النشر و التعويل علي الوجه الأول. و هل المعتبر في رضاع هذا الزمان حال متعارف أوساط الأطفال أو حال شخص ذلك الرضيع وجهان أقواهما الثاني لظاهر الرواية و تظهر الثمرة فيهما فيما إذا كان الطفل مريضا بمرض يحتاج إلي أزيد مما يحتاج إليه الصحيح كغلبة القي‌ء عليه لعارض أو عرضه ما يحتاج معه إلي الأقل مما يحتاج إليه الصحيح كما إذا أغمي عليه في أغلب اليوم و الليلة. و هل يعتبر احتمال تأثير اللبن في نبات لحمه و شد عظمه أم لا وجهان من إطلاق الرواية و من دلالة بعض الأخبار السابقة علي عدم النشر بما لا ينبت اللحم و لا يشد العظم و تظهر الثمرة فيما لو كان بحيث يعلم عدم تحلل اللبن في معدته لعدم استقراره فيها لغلبة إسهال أو قي‌ء و هنا فروع أخر طوينا عن ذكرها كشحا و أعرضنا عنها صفحا.

و ثالثها بالعدد

اشارة

و قد اختلف فيه الأصحاب بسبب اختلاف الروايات ظاهرا فالمحكي عن ابن الجنيد الاكتفاء به برضعة واحدة تملأ جوف الصبي إما بالمص أو بالوجور لإطلاق الكتاب و السنة و خصوص قول أبي الحسن ع و مكاتبة علي بن مهزيار في جواب سؤاله عما يحرم من الرضاع قليله و كثيره حرام و مضمرة ابن يعفور قال: سألته عما يحرم من الرضاع قال إذا رضع حتي يمتلئ بطنه فإن ذلك ينبت اللحم و الدم و ذاك الذي يحرم و رواية السكوني و النبوي: يحرم بالرضعة ما يحرم الحولان و العلوي: الرضعة الواحدة كالمائة رضعة لا تحل له أبدا و في آخر: انهوا نساءكم أن يرضعن يمينا و شمالا فإنهن ينسين فإن الإرضاع يمينا و شمالا مع النسيان بعد حين إنما يناسب عدم التحديد بأكثر من رضعة و هذا القول ضعيف في الغاية لاستفاضة الأخبار كاشتهار الفتوي بعدم النص بما دون العشر فلا مجال للتمسك بالإطلاقات و لا بالمكاتبة و المضمرة لقصورهما عن المقاومة مع موافقة ظاهرهما لفتوي بعض العامة مضافا إلي إمكان حمل المكاتبة علي تحريم أصل الارتضاع. و مما ذكرنا يظهر حال التمسك بالنبوي و العلويتين و لذا أعرض سائر الأصحاب عن هذا القول و اتفقوا علي عدم النشر بما دون العشر و إن اختلف فتاويهم كالروايات فحكي عن أكثر المتقدمين كالمفيد و الديلمي و القاضي و التقي و ابن حمزة التحديد بالعشر و تبعهم الفاضل في المختلف و ولده و الشهيد في اللمعة و ذهب الشيخ و المحقق و الفاضل في غير المختلف إلي التحديد بالخمس عشرة رضعة و تبعهم أكثر المتأخرين و قد نسب هذا القول إلي الأكثر و المشهور بقول مطلق و كيف كان فهو الأظهر للأصل و عدم دليل علي النشر بالعشر عدا الإطلاقات من الكتاب و السنة و خصوص رواية الفضيل الموصوفة بالصحة في كلام بعض عن الباقر ع قال: لا يحرم من الرضاع إلا المجبور قلت و ما المجبور قال أم تربي أو ظئر تستأجر أو أمة تشتري ثم ترضع عشر رضعات يروي الصبي و ينام و مفهوم موثقة عمر بن يزيد قال: سألت الصادق ع عن الغلام يرضع الرضعة و الثنتين فقال لا يحرم فعددت عليه حتي أكملت عشر رضعات فقال إذا كانت متفرقة فلا و نحوها مفهوم رواية هارون بن مسلم عن أبي عبد الله ع قال: لا يحرم من الرضاع إلا ما شد العظم و أنبت اللحم و أما الرضعة و الرضعتان و الثلاث حتي بلغ عشرا إذا كن متفرقات فلا بأس و في الجميع نظر أما في الإطلاقات فلأنها علي فرض تسليم إفادتها العموم و عدم ورودها لبيان أصل نشر الحرمة بالرضاع في الجملة مقيدة بصحيحة علي بن رئاب عن الصادق ع قال: قلت ما يحرم من الرضاع قال ما أنبت اللحم و شد العظم قلت فيحرم عشر رضعات قال لا لأنها لا تنبت اللحم و لا تشد العظم و موثقة عبيد بن زرارة بعلي بن فضال عن أبي عبد الله ع قال: سمعته يقول عشر رضعات لا يحرمن شيئا و هذه الرواية لا تقصر عن الصحيح إذ ليس فيها إلا علي بن فضال و الظاهر أن الشيخ أخذ الرواية من كتابه حيث ابتدأ به في السند و كتب بني فضال مما أمر العسكري ع بالأخذ بها في رواية قريبة من الصحة مع ما ذكر في ترجمة علي بن فضال من مراتب وثاقته و احتياطه في الرواية و موثقة أخري رواها الشيخ عن علي بن فضال عن أخويه عن أبيهما عن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله ع قال سمعته يقول: عشر رضعات لا تحرم و هذه قريبة من سابقتها في اعتبار السند و إن كان جميع رجالها فطحيين و تخصيص هذه الأخبار المعتبرة برواية الفضيل التي هي أخص منها بعد إخراج
المكاسب، ج‌4، ص 380
صورة تفرق الرضعات العشر عن عمومها و بمفهوم الموثقتين اللتين بعدها و إن أمكن إلا أن ذلك فرع سلامتها عن المعارضة موثقة زياد بن سوقة المتقدمة الصريحة في نفي النشر بالعشر و لو متوالية أو ترجيحها عليها و هو مسلم لو ثبت صحة رواية الفضيل بتوثيق محمد بن سنان الذي حكي عن غير المفيد من مشايخ الرجال تضعيفه و سلامتها من موهنات أخري مثل مخالفة حصرها للإجماع و خلو الفقيه من زيادة رواها الشيخ في ذيلها أعني قوله ثم ترضع عشر رضعات مع سبق الصدوق علي الشيخ زمانا بل و ضبط الأخبار كتابه فكيف يتصور في حقه أو في الكتب التي أخذ الحديث منها إهمال شطر من كلام المعصوم ع مربوط بما قبله غاية الارتباط و يحتاج إليه نهاية الاحتياج فلا يبعد أن يكون الزيادة المذكورة من تحريفات محمد بن سنان لأنه إنما وقع في التهذيب و ليس في سند الفقيه و حيث لم يثبت اعتبار الرواية سندا و سلامتها من الوهن و المفروض أن أخويها أيضا لا يبلغان حد الصحة بل صرح بضعف ثانيهما فترجيحها و إن كانت ثلاثا علي موثقة زياد و إن كانت واحدة غير معلوم إذ ليس في سند الموثقة إلا عمار و اعتبار رواياته عند الأصحاب محكي عن الشيخ في عدته مع أن الراوي عنه بواسطة هشام بن سالم الحسن بن محبوب الذي أجمع علي تصحيح ما يصح عنه من أن متنها أصرح دلالة لأن دلالتها علي نفي النشر بالعشر المتوالي بالمنطوق و دلالة الموثقتين علي ثبوته بها بالمفهوم مع احتمال مفهومها الحمل علي ما إذا وقعت العشر المتوالية في يوم و ليلة فإن مفهومها بهذا الاعتبار أعم من منطوق موثقة زياد و إن كان تخصيصهما به بعيد كما يظهر ذلك كله بالتأمل. و أما ترجيح تلك الثلاث علي موثقة ابن سوقة بموافقة الكتاب فحسن إن لم تجوز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد و إن كان صحيحا و إلا فموافقة الكتاب لتلك الروايات الثلاث بعد تخصيصه بصحيحة ابن رئاب و أخويها غير حاصلة إلا بعد ترجيح تلك الروايات المخصصة للصحيحة و أخويها علي موثقة ابن سوقة و هو أول الكلام و يلزم الدور أيضا كما لا يخفي فإذا لم يثبت ترجيح تلك الأخبار علي الموثقة بوجه فلا أقل من تكافؤهما الموجب بسلامة الأخبار النافية للنشر بالعشر عن المخصص فيجب الأخذ بعمومها المطابق لقاعدة الإباحة المستفادة من العمومات و الأصول وفاقا لجملة من تقدم و معظم من تأخر من الفحول و قد يستدل علي إثبات النشر بالعشر بصحيحة عبيد بن زرارة بناء علي سلامة علي بن الحكم الذي يروي عنه ابن عيسي قال: قلت لأبي عبد الله ع إنا أهل بيت كبير فربما كان الفرح و الحزن الذي يجتمع فيه الرجال و النساء فربما استحييت المرأة أن تكشف رأسها عند الرجل الذي بينها و بينه الرضاع و ربما استخف الرجل أن ينظر إلي ذلك فما الذي يحرم من الرضاع فقال ما أنبت اللحم و الدم فقلت و ما الذي ينبت اللحم و الدم قال كأن يقال عشر رضعات قلت فهل يحرم عشر رضعات فقال دع ذا و قال ما يحرم من النسب ما يحرم من الرضاع و أنت خبير بأنها لا دلالة فيها علي تحريم العشر بوجه إذ لم يرد المعصوم ع إلا أن نسب القول بذلك إلي شخص مجهول و لم يعلم رضاه بذلك و إلا لم يكرر الراوي السؤال عنه بل الظاهر عدم رضاه بهذا القول كما يشهد به مضافا إلي نسبته إلي القيل إعراضه عنه بقوله دع هذا السؤال و لو كان المراد هذا القول كان من أوضح الأدلة علي خلاف المطلق ثم اعلم أنه إذا ثبت عدم النشر بالعشر لما ذكرنا تعين القول بالنشر بالخمس عشرة لعدم القائل باعتبار أزيد منها من حيث العدد و إطلاق رواية عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد الله ع يقول خمس عشرة رضعة لا تحرم بعد سلامة سندها محمول علي صورة عدم التوالي للإجماع ظاهرا علي النشر بهذا العدد مع التوالي. نعم في بعض الأخبار دلالة علي التقدير بسنة أو سنتين مثل ما رواه العلاء بن رزين عن أبي عبد الله ع قال: سأله عن الرضاع فقال لا يحرم من الرضاع إلا ما ارتضع من ثدي واحد سنة و ما رواه زرارة عن أبي عبد الله ع قال: لا يحرم من الرضاع إلا ما ارتضع من ثدي واحد حولين كاملين لكنهما شاذان مخالفان للإجماع كما ادعاه في المسالك و رد الشيخ في التهذيب الرواية الأولي بالشذوذ و حمل الثانية علي كون الحولين طرفا للرضاع لا قيدا لمقداره و هو علي بعده حسن في مقام الجمع و
عدم الطرح

ثم إنه يعتبر في الرضعات العشر أو الخمس عشرة المحرمة أمور

الأول إكمال الرضعة

فالرضعة الناقصة لا تعد من العدد ما لم يكمل علي وجه لا يقدح في الاتحاد فإذا لفظ الصبي الثدي فإن كان أعرض عنه إعراض ميل فهي رضعة كاملة و إن كان بغير ذلك كالنفس أو السعال أو الانتقال من ثدي أو الالتفات إلي ملاعب و نحوه ثم عاد في الحال فالمجموع رضعة و لو لم يعد إلا بعد مدة فالظاهر عدم احتساب مجموعهما من العدد و كذا لو أخرجت الثدي من فيه كرها فلم تلقمه إياه إلا بعد مدة ثم الدليل علي اعتبار إكمال الرضعة هو أن المتبادر من الرضعة الواردة في الأخبار هي الكاملة و المرجع في كمالها إلي العرف لأنه المحكم في أمثاله و حكي عن بعض تحديده بأن يروي الولد و يصدر من قبل نفسه و ليس ببعيد عن التفسير الأول. و في مرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله ع: الرضاع الذي ينبت اللحم و الدم هو الذي يرضع حتي يتضلع و يمتلئ و ينتهي من نفسه

الثاني توالي الرضعات

بأن لا يفصل بينها رضاع امرأة أخري و الظاهر عدم الخلاف في اعتباره كما في المسالك و يدل عليه موثقة زياد بن سوقة المتقدمة حيث نص فيها علي تقييد الرضعات بأن لا يفصل بينها رضعة من امرأة أخري و يستفاد منها أن المعتبر في الفاصل القادح في التوالي أن يكون رضعة كاملة فلو فصل بينها رضعة ناقصة لم تخل بالتوالي خلافا للمحكي عن القواعد و ظاهر عبارة الشرائع فأبطل التوالي بفصل مطلق الرضاع و لعله لعدم صدق التوالي المقيد بالرضعات في رواية زياد بن سوقة عرفا إلا مع عدم فصل مسمي الرضاع و إن كان قوله ع فيها: لم يفصل بينها رضعة امرأة أخري ظاهرا في اعتبار عدم فصل الرضعة الكاملة إلا أن قيد التوالي المذكور قبله أخص منه إلا أن يقال إن قوله لم يفصل إلخ تفسير للتوالي فلا يعتبر فيه أمر زائد علي عدم الفصل بالرضعة الكاملة اللهم إلا أن يجعل تقييد الفصل المنفي بالرضعة واردة مورد الغالب حيث إن الفصل إذا اتفق لا يكون غالبا بأقل من رضعة كاملة و كيف كان فينبغي القطع بعدم قطع تخلل غير الرضاع في التوالي و ادعي الاتفاق عليه في الحدائق فلو اغتذي بينها بمأكول أو مشروب فالتوالي بحاله.

الثالث أن يكون كمال العدد المعتبر من امرأة واحدة

فلو ارتضع بعضها من امرأة و أكملها من امرأة أخري لم ينشر الحرمة و لم تصر واحدة من المرضعتين أما للرضيع و لو كان الفعل واحدا و لم يصر الفحل أبا له أيضا و الظاهر عدم الخلاف في اعتبار ذلك بين من اعتبر تعدد الرضعات.
المكاسب، ج‌4، ص 381
و عن التذكرة أن عليه علمائنا أجمع و لعل المراد العلماء المعتبرين لتعدد الرضعات و إلا فمثل ابن الجنيد القائل بالنشر برضعة واحدة لا يتأتي في حقه اعتبار هذا الشرط اللهم إلا في مجموع الرضعتين الناقصتين المعدودتين برضعة كاملة أو في اللبن المؤجور في حلق الصبي و يدل علي اعتبار هذا الشرط موثقة زياد المتقدمة و يدل عليه أيضا كل ما دل علي تحقق الحرمة برضاع امرأة ولد أخري بعد تقييد الرضاع ببلوغه خمس عشرة فإن قوله ع في صحيحة يزيد العجلي: كل امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة أخري من غلام أو جارية فذلك هو الرضاع الذي قال رسول الله ص بعد ما حكم بقرينة أدلة اعتبار العدد أن المراد منه أرضعت خمس عشرة رضعة فيكون من أدلة اعتبار اتحاد المرضعة و هكذا قوله ع في صحيحة عبد الله بن سنان و حسنته ما أرضعت امرأتك من لبنك إلخ و يدل عليه أيضا قوله تعالي وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ بعد تقييد قوله وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ بالإرضاع خمس عشرة رضعة. نعم في إطلاق بعض الأخبار دلالة علي كفاية اتحاد الفحل و عدم اعتبار اتحاد المرضعة مثل قوله ع في رواية أبي بصير: ما أحب أن يتزوج ابنة فحل قد رضع من لبنه و صحيحة الحلبي و عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله ع: في رجل تزوج جارية صغيرة فأرضعتها امرأته و أم ولده قال تحرم فإن إطلاقها يشمل ما إذا وقع الرضاع المحرم من ارتضاع المرأة و أم الولد كليهما و مضمرة سماعة قال: سأله عن رجل كان له امرأتان فولدت كل واحدة منهما غلاما فانطلقت إحدي المرأتين فأرضعت جارية من عرض الناس أ ينبغي لابنه أن يتزوج بهذه الجارية قال ص لا لأنها أرضعت بلبن الشيخ دلت بعموم التعليل علي أن كل من أرضع بلبن الفحل سواء حصل الرضاع المعتبر من إحدي زوجاته أو من أكثر يحرم علي أولاده لكن هذه كلها مطلقات يجب تقييدها بما ذكرنا مضافا إلي إمكان منع استفادة العموم منها نظرا إلي ورودها في مقام بيان حكم آخر فتدبر.

الرابع أن يكون كمال العدد المعتبر من لبن فحل واحد

فلو كان من لبن فحلين لم يحصل النشر و لم يصر واحد منهما أبا للمرتضع و إن اتحدت المرضعة و لا تصير أيضا أما له و يتصور ذلك في المرضعة بأن ترضع الطفل من لبن فحله بعض العدد ثم يطلقها ذلك الفحل و تتزوج بآخر و تحمل منه ثم ترضع الطفل المذكور من لبن هذا الفحل تكمله الرضعات من غير أن يتخلل بين الإرضاعين إرضاع امرأة أخري بأن يستقل الولد في المدة الفاصلة بين الإرضاعين بالمأكول و المشروب بناء علي عدم إخلال فصلهما بتوالي الرضعات العددية و إن أخل برضاع اليوم و الليلة كما سبق و الظاهر أن اعتبار هذا الشرط مما لا خلاف فيه و حكي عن التذكرة الإجماع عليه و يدل عليه موثقة ابن سوقة المتقدمة و قوله ع في صحيحة يزيد: كل امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة أخري من غلام أو جارية فذلك الرضاع الذي قال رسول الله ص فإنه بعد ما قيد الإرضاع فيه بما بلغ العدد المعتبر فيعتبر في العدد المعتبر أن يكون من فحل تلك المرأة و الظاهر من قوله فحلها الواحد لا جنس فحلها كما يدل عليه قوله ع بعد ذلك: و كل امرأة أرضعت من لبن فحلين كانا لها واحدا بعد واحد فإن ذلك الرضاع ليس بالرضاع الذي قال رسول الله ص و أظهر من هذه الصحيحة صحيحة عبد الله بن سنان و حسنة ابن هاشم في تفسير لبن الفحل ما أرضعت امرأتك من لبن ولدك ولد امرأة أخري فهو حرام و تقريب الاستدلال فيهما كالسابقة و هذه الأخبار المعتضدة بعدم الخلاف يقيد إطلاقات الكتاب و السنة و اعلم أن هذا الشرط و سابقيه كما يعتبر في الرضاع المقدر بالعدد كذلك يعتبر في الرضاع المقدر بالزمان إلا أن معني الشرط الأول و هو التوالي في العدد و عدم تخلل رضاع آخر و في اليوم و الليلة عدم تخلل غذاء آخر سواء كان لبن غير المرضعة أم غذاء آخر و إن كان الشرط الثالث لا يتصور تخلفه في المقدر بالزمان الأعلي فرض نادر بأن يبقي لبن الفحل الأول إلي زمان حصول اللبن من الثاني و لا يحصل من اللبن الأول وحدة الرضاع المقدر بل يحصل رضاع يوم من الأول و ليلته من الثاني.
ثم إن هذه خلاصة الكلام في شروط نشر الحرمة بالرضاع فكلما انتفي بعض هذه الشروط الستة لم ينشر الحرمة بين المرتضع أو أحد من قبله و بين الفحل و المرضعة أو أحد من قبلهما

و هنا شروط أخر اعتبرها الأكثر في نشر الحرمة

اشارة

بين كل من المرتضعين من مرضعة واحدة و بين الآخر و جعلوه منخرطا في سلك شروط الرضاع باعتبار أنه شرط للنشر في الجملة

و هو اتحاد الفحل الذي يرتضع المرضعتان من لبنه

اشارة

فلو ارتضع أحد من امرأة من لبن فحل و ارتضع آخر من تلك المرأة من لبن فحل آخر لم يحرم أحد المرتضعين أو أصوله أو فروعه علي الآخر فالعبرة بالأخوة في الرضاع الأخوة من قبل الأب الرضاعي و هو الفحل و لا عبرة بالأم الرضاعي حتي أنه لو ارتضع عشرة من لبن فحل واحد كل واحد من إحدي أمهات أولاده صار الجميع إخوة يحرم بعضهم و فروعه علي البعض الآخر و فروعه و هذا معني قولهم اللبن للفحل.

و خالف الطبرسي صاحب التفسير في اعتبار هذا الشرط

و اكتفي باتحاد واحد من المرضعة و الفحل و ألحق الرضاع بالنسب في كفاية الأخوة من أحد الأبوين في نشر الحرمة تمسكا بعموم قوله تعالي وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ و قوله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب و شبه ذلك و خصوص رواية محمد بن عبيدة الهمداني: قال أبو الحسن الرضا ع ما يقول أصحابك قال قلت كانوا يقولون اللبن للفحل حتي جاءهم الرواية عنك أنك تحرم من الرضاع ما تحرم من النسب فرجعوا إلي قولك قال فقال و ذاك أن أمير المؤمنين سألني عنها البارحة فقال لي اشرح لي لبن الفحل و أنا أكره الكلام فقال لي كما أنت حتي أسألك عنها ما قلت في رجل كانت له أمهات أولاد شتي فأرضعت واحدة منهن بلبنها غلاما غريبا ليس كل شي‌ء من ولد ذلك الرجل من أمهات الأولاد الشتي يحرم علي ذلك الغلام قال قلت بلي فقال أبو الحسن ع فما بال الرضاع يحرم من قبل الفحل و لا يحرم من قبل الأمهات و إنما الرضاع من قبل الأمهات و إن كان لبن الفحل أيضا يحرم

و الأظهر ما عليه الأكثر

اشارة

بل حكي الإجماع عليه عن بعض أصحابنا غير واحد ممن تأخر لضعف الرواية بعد تسليم ظهورها في المدعي و الإغماض عن اختصاصها بأولاد المرضعة نسبا و لا خلاف في تحريمهم علي المرتضع و إن تعدد الفحل كما سيجي‌ء

و تقييد إطلاق الكتاب و السنة بالأخبار الدالة علي اعتبار اتحاد الفحل.

منها صحيحة الحلبي

قال: سألت أبا عبد الله ع عن الرجل يرضع من امرأة و هو غلام أ يحل له أن يتزوجها أختها لأمها من الرضاعة فقال إن
المكاسب، ج‌4، ص 382
كانت المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحل واحد فلا يحل و إن كانت المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحلين فلا بأس

و منها موثقة عمار الساباطي

الراوي عنه ابن محبوب بواسطة هشام بن سالم قال: سألت أبا عبد الله ع عن غلام رضع من امرأة أ يحل له أن يتزوج أختها لأبيها من الرضاع فقال لا فقد رضعا جميعا من لبن فحل واحد من امرأة واحدة قال فيتزوج أختها لأمها من الرضاعة قال فقال لا بأس بذلك إن أختها التي لم ترضعه كان فحلها غير فحل التي أرضعت الغلام فاختلف الفحلان فلا بأس و لا يضر دلالتها علي اعتبار اتحاد المرضعة الذي ليس معتبرا بالإجماع. و منها صحيحة يزيد بن معاوية المتقدمة قريبا في الشرط الرابع من شروط الرضعات العددية و قد يرد استدلال الطبرسي علي مطلبه بقوله تعالي وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ بمنع كون المرتضعة من امرأة بلبن فحل أختا أميا رضاعيا للمرتضع من تلك المرأة بلبن فحل آخر لكون الأخت الرضاعي أمرا شرعيا و كون المذكورة مندرجة فيه محل النزاع فلا بد من دليل يدل عليه. و فيه أن صدق العنوانات الحاصلة بالنسب علي ما يحصل من الرضاع غير متوقف علي التوقيف من الشارع بالخصوص كيف و لو كان كذلك لم يثبت نشر الرضاع الحرمة في أكثر الموارد و لم يكتف الشارع في بيان تحريم نظائر النسب الحاصلة من الرضاع بقوله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب لأن إلقاء هذا الكلام علي هذا الفرض يصير من قبيل الإحاطة علي المجهول مع أنه لا يرتاب المتتبع و المتأمل في أن كل من يسمع هذا الكلام من النبي ص و الأئمة ع أو من عالم فلا يحتاج في تشخيص نظائر العنوانات النسبية من بين العلائق الحاصلة بالرضاع إلي بيان و توقيف و يشهد بذلك ما في رواية محمد بن عبيدة الهمداني: حيث قال للرضا ع إن أصحابي كانوا يقولون اللبن للفحل حتي جاءتهم الرواية عنك أنك تحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فرجعوا إلي قولك فليت شعري أي شي‌ء فهموا من هذا الكلام حتي رجعوا إلي القول بعدم اعتبار اتحاد صاحب اللبن في الإخوة الرضاعية و من هنا تري فقهاء الخاصة و العامة يتمسكون بهذا الحديث من غير تأمل في معناه من هذه الحجة.

ثم اعلم أن اتحاد الفحل إنما يعتبر في حصول الأخوة بين المرتضعين

الذين يكونان كلاهما ولدين رضاعيين للمرضعة و أما إذا كان أحدهما ولدا نسبيا لها فلا يعتبر في إخوة ولدها الرضاعي لولدها النسبي اتحاد فحلهما فلو أرضعت ولدا حرم عليه أولادها النسبية كلا و إن كانوا من غير صاحب لبن المرتضع لأن اعتبار اتحاد الفحل أمر مخالف لإطلاق الكتاب و الأدلة المثبتة له مختصة بالولدين الرضاعيين كما سيظهر لمن راجعها مضافا إلي موثقة جميل بن دراج بأحمد بن فضال عن أبي عبد الله ع:
إذا ارتضع الرجل من لبن المرأة حرم عليه كل شي‌ء من ولدها و إن كان الولد من غير الرجل الذي أرضعته بلبنه و هي صريحة في المطلوب لكن يظهر من بعض الأخبار اتحاد الفحل هنا أيضا مثل صحيحة صفوان عن أبي الحسن ع: و فيها قلت له فأرضعت أمي جارية بلبني قال هي أختك من الرضاعة قلت فتحل لأخ لي من أمي لم ترضعها أمي بلبنه قال فالفحل واحد قلت نعم هو أخي لأبي و أمي قال اللبن للفحل صار أبوك أبوها و أمك أمها فإن استفصال الإمام ع عن اتحاد الفحل مع تصريح السائل بكون الأخ ولد المرضعة نسبا يدل علي تغاير حكمه مع حكم صورة تعداد الفحل

[قول العلامة في المقام]

اشارة

بقي هنا شي‌ء و هو أنه قد حكي عن العلامة في القواعد أن أم المرضعة من الرضاع أو أختها منه أو بنات أخيها منه لا تحرمن علي المرتضع لأن الرضاع الحاصل بين المرضعة و المرتضع بلبن فحل و الحاصل بينها و بين أمها أو أختها أو أخيها بلبن فحل آخر فلم يتحد الفحل فلا نشر و مثله عن المحقق الثاني في شرح هذه العبارة من القواعد و زاد علي فروض المتن عدم تحريم عمة المرضعة و خالتها من الرضاع علي المرتضع ثم نسب التحريم إلي القيل تمسكا بعموم الأدلة من الكتاب و السنة و أجاب عنه بأن ما دل علي اعتبار اتحاد الفحل المخصص خاص فلا حجة في العام

[مناقشة المؤلف في قول العلامة]

أقول و لا يخفي ضعف هذا القول أما أولا فلما عرفت من أن الدال علي اعتبار اتحاد الفحل المخصص لعموم الكتاب و السنة كان مختصا بالرضاع الموجب لإخوة المرتضعين بمعني أنه لا يحدث علاقة الأخوة بين مرتضعين أجنبيين نسبا إلا إذا اتحد فحلهما فلم يكن فيه إطلاق يشمل ما نحن فيه و أما ثانيا فلأن صحيحة الحلبي المتقدمة التي هي عمدة أدلة اعتبار اتحاد الفحل قد صرح فيها بتحريم أخت المرضعة من الرضاع علي المرتضع و هي أحد الموارد التي حكم في القواعد و شرحه بعدم التحريم تفريعا علي تعدد الفحل. و مثلها موثقة عمار الساباطي المتقدمة أيضا المعلل فيها تحريم أخت المرضعة من الرضاع بأن الأختين أرضعتا من امرأة واحدة بلبن فحل واحد مع أنه لا ريب في مغايرة فحل المرتضع لفحل أخت المرضعة فيفهم من التعليل أنه إذا اتحد الفحل بين المرأتين و تحققت الأخوة بينهما كفي ذلك في حرمة كل منهما علي فروع الآخر و لو من الرضاع
إذا ظهر ذلك فاعلم

أنه إذا حصل الرضاع المعتبر صارت المرضعة و الفحل أبوين للمرتضع

و فروعه لهما أحفادا و أصولهما له أجداد أو جدات و فروعهما له إخوة و أولاد إخوة و من في حاشية نسبهما عمومة و خئولة و تفصيل القول في ذلك يحصل ببيان اثنتين و ثلاثين مسألة حاصلة من ملاحظة كل من المرتضع و أصوله و فروعه و من في حاشية نسبه أو رضاعه مع كل من المرضعة و الفحل و أصولهما و فروعهما و من في حاشيتهما و قبل ذكر أحكامهما لا بد من بيان ضابطة للتحريم في الرضاع فنقول إن المستفاد من قوله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب أن كل عنوان قد حمل عليه الشارع التحريم من جهة علاقة نسبية فهذا العنوان يحرم من جهة نظير تلك العلاقة من الرضاع و ذلك لا بمعني أن كل شخص حرم من النسب فهو بعينه حرام من الرضاع إذ لا شك في عدم إرادة هذا المعني لأن نفس المحرم بالنسب ليس محرما بالرضاع. فالمراد بما الموصولة في الحديث هو عنوان كلي مشترك بين ما يحصل بالنسب و بين ما يحصل بالرضاع تعلق التحريم به من جهة النسبية باعتبار بعض أفراده و هو الحاصل بالنسب و تعلق التحريم به من جهة الرضاع باعتبار بعض أفراده و هو الحاصل بالرضاع مثلا يصدق علي عنوان الأم الذي هو شي‌ء واحد بالوحدة النوعية الغير المنافية مع تكثر الأشخاص أنها يحرم من جهة النسب و يحرم من جهة الرضاع و لا يقدح في هذا المطلب كون استعمال لفظ ذلك العنوان في الحاصل بالرضاع استعمالا مجازيا إذ لم يقع في الكلام لفظ أحد تلك العناوين حتي يقال إن المراد به خصوص الحاصل بعلاقة النسب بل نقول إنه اعتبر مثلا قدر مشترك بين الأم الرضاعية و النسبية و أريد من الموصول و إن أبيت إلا عن أن المراد بالموصول خصوص العنوانات النسبية فلا بد في الكلام من تقدير بأن يراد أنه يحرم من الرضاع نظير كل عنوان من العنوانات النسبية التي يحرم من جهة النسب و هذا القدر هو
المكاسب، ج‌4، ص 383
الذي ارتكبه جمع كثير من الفقهاء المتأخرين في تفسير الحديث ثم إن العنوان الذي يحرم من جهة النسبة ليس إلا أحد العنوانات المتعلق بها التحريم في لسان الشارع كالأم و البنت و الأخت و غيرهن من المحرمات المذكورة في الكتاب و السنة و أما العنوان المستلزم لأحد هذه كأم الأخ للأبوين المستلزم لكونها أما أو كأم السبط المستلزمة لكونها بنتا و كأخت الأخ للأبوين المستلزمة لكونها أختا فليس شي‌ء منهن يحرم من جهة النسب إذ لا نسب بينهن من حيث هذا العنوان و بين المحرم عليه فإن أم أخ الشخص من حيث إنها أم أخ ليس نسبه له بل نسبته لأخيه و النسب الحاصل بين الشخص و بين نسيبه لم يثبت كونه جهة للتحريم و الشاهد علي ذلك أدلة المحرمات فإن منها يستفاد جهة تحريم المحرمات إذ لا يستفاد من قوله تعالي حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إلا أن جهة التحريم أمومة الأم للشخص و أما أمومتها لأخيه أو بنوتها لجديه أو أخواتها لخالته فلم يستفد من دليل كونها جهة للتحريم فيثبت بهذا أن النسب الذي يصلح كونها جهة للتحريم ليس إلا ما يكون مبدأ لإحدي الصفات المعنونة بها المحرمات في الكتاب و السنة و علي هذا فإذا أرضعت امرأة أخاك فلا تحرم عليك لأنها أم أخيك و لم يثبت حرمة أم الأخ من جهة النسب إذ لا نسب بينك و بينها من حيث إنها أم أخيك بل النسب بينها و بين نسبك و النسب بين شخص و بين نسيبه لم يثبت كونه جهة للتحريم. و من هنا يظهر فساد ما ذهب إليه شرذمة من المتأخرين من عموم التنزيل في الرضاع و عدم الفرق بين أن يحصل بالرضاع أحد العناوين المذكورة في أدلة التحريم و بين أن يحصل به ما يستلزم أحدها فكما أن المرتضعة لبنتك محرمة عليك من حيث إنه حصل بالرضاع بنوتها لك فكذلك مرضعة ولد بنتك حيث إنه حصل بالرضاع أمومتها لولد بنتك و أم ولد البنت محرمة نسبا لكونها بنتا فكذلك أم ولد بنتك رضاعا إلي غير ذلك و قد عرفت وجه فساد ذلك و حاصله أن الحديث النبوي: إنما حرم بالرضاع ما حرم من جهة النسب و أم ولد البنت لم تحرم من جهة النسب إذ لا نسب بينها بهذا العنوان بين الشخص بل النسب بينها و بين نسيب الشخص و لم يثبت كونه جهة للتحريم فإذا لم يحرم أم ولد البنت من جهة النسب فكيف يحرم من جهة الرضاع مع أن دعوي عموم الموصول لكل عنوان من العناوين المذكورة في لسان الشارع و لما يستلزمه من العناوين الغير المحصورة موجب للتكرار في شمول العام. فإن قلت إذا صدق علي أم ولد البنت أنها بنت و صدق أن كل بنت محرمة من جهة النسب فلا مساغ لإنكار أن أم ولد البنت محرمة من جهة النسب فيضاف إلي ذلك قوله ع: كل ما يحرم من النسب يحرم من الرضاع ينتج أن أم ولد البنت يحرم من جهة الرضاع. قلت لا يخفي أن المراد بالأم في قولنا أم ولد البنت بنت إما أن يكون هي خصوص الأم النسبية أو خصوص الرضاعية أو الأعم و كذلك المراد بالبنت فالاحتمالات تسعة و لا نسلم الصغري إلا في احتمالين منها إحداهما أن يراد من الأم و البنت النسبيتان و الثاني أن يراد من الأم النسبية و من البنت الأعم فإن أريد الأول منهما فالصغري و الكبري إلا أن الحاصل منها ليس إلا قولنا إن الأم النسبية لولد البنت النسبية محرمة من جهة النسب لكن الأصغر في هذه الصغري غير مندرج تحت الأوسط في كبري قوله ع: كلما يحرم من النسب يحرم من الرضاع لما عرفت من أن المراد بالموصول في الحديث هو العنوان الكلي المشترك بين العنوان الحاصل من علاقة النسب و الحاصل من علاقة الرضاع لأنه الذي يعقل أن يحكم عليه بالتحريم من كلتا الجهتين أعني الرضاع و النسب و ليس المراد به خصوص العنوان النسبي إذ لا يعقل الحكم علي نفس هذا العنوان بأنه يحرم من جهة الرضاع إلا أن يراد أنه يحرم نظيره كما ذكرنا سابقا و حينئذ نقول كون مرضعة ولد البنت نظيره للأم النسبية لولد البنت ممنوع لأن اللام النسبية لولد البنت كانت متصفة بالبنتية و باعتبارها ثبت لها التحريم و مرضعة ولد البنت ليست كذلك. نعم نظيره الأم النسبية لولد البنت النسبية الأم النسبية لولد البنت الرضاعية و الحاصل أن المحرم في النسب أم ولد البنت المقيدة بكونها بنتا فنظيرها المحرم في الرضاع أيضا أو ولد البنت المقيدة بذلك القيد غاية الأمر أن القيد المذكور في النسب من اللوازم للمقيد و في الرضاع قد يكون و
قد لا يكون فإذا كان فيثبت النظارة و إلا فلا نظارة فلا حرمة و إن أريد الثاني منهما فالمقدمتان مسلمتان و يستنتج منهما أن الأم النسبية لولد البنت مطلقا محرمة من جهة النسب و لو باعتبار بعض أفرادها و هي الأم النسبية فيصح أن يضم إليه قوله ع: كلما يحرم من النسب يحرم من جهة الرضاع فيصير حاصل هذا أن الأم النسبية لولد البنت مطلقا عنوان كلي مشترك بين أم ولد البنت النسبية و أم ولد البنت الرضاعية و هذا العنوان الكلي يصدق عليه أنه يحرم من جهة الرضاع كما يحرم من النسب و حينئذ فلا يستفاد من الحديث حكم مرضعة ولد البنت بوجه من الوجوه و بهذا تقدر علي دفع ما يورد في نظائر هذا العنوان و إن كان تقدير الدفع مخالفا في الجملة فإذا قيل مثلا أم الأخ للأبوين أم و كل أم محرمة فأم الأخ للأبوين محرمة ثم يضم إلي ذلك قوله: كلما يحرم من جهة النسب يحرم من جهة الرضاع أجبنا عنه بأن أم الأخ لا يخلو من أن يراد به الاحتمالات التسعة المذكورة و علي فرض إرادة ما عدا احتمالين منهما يكون الصغري ممنوعة فإن التي يصدق عليها الأم ليس إلا الأم النسبية للأخ النسبي أو مرضعة الأخوين الرضاعيين فإن أريد بأم الأخ في الصغري خصوص الأول دفع بما دفع الأول في أم ولد البنت و إن أريد به الأعم من الأول أعني العنوان الكلي الملازم لصدق الأم فلا يدل النتيجة الحاصلة بعد ضم الحديث إليها علي تحريم مرضعة الأخ. و يمكن الجواب عن أصل الإيراد بمنع كون الموصول للعموم بل المتبادر منه الإشارة إلي العنوانات المعهودة المتداولة علي لسان الشارع و تعلق التحريم بها في كلامه ثم اعلم أن المراد بالنسب في الحديث ليس هو خصوص النسب الحاصل بين المحرم و المحرم عليه حتي يخص الحديث بتحريم نظائر العنوانات السبع النسبية من الرضاع بل المراد به هو الأعم منه و من الحاصل بين المحرم و زوج المحرم عليه أو ما ألحق بزوجة كالمزني بها و الموطوءة بالشبهة أو الغلام الموطوء و نحو ذلك لأن التحريم في العنوانات كما أنها موجبة بجهة النسب كذلك في هذه العنوانات مثلا قوله وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ دال علي تعلق التحريم بأم الزوجة من حيث أمومتها للزوجة فإذا ظهر نظير هذه الجهة من الرضاع حرمت. و الحاصل أنه لا فرق بين
المكاسب، ج‌4، ص 384
تحريم الأم و تحريم أم الزوجة و تعلق التحريم في كل منهما بعنوان النسبي فيحرم نظيره من الرضاع و سيأتي زيادة توضيح لذلك إن شاء الله تعالي
إذا عرفت هذا

فلنرجع إلي بيان تفاصيل المسائل المذكورة

اشارة

فنقول

المسألة الأولي لا شك في تحريم المرتضع علي المرضعة

بالإجماع و الكتاب و السنة لأنها أمة.

الثانية لا تحرم أصول المرتضع المذكور علي المرضعة من جهة إرضاعها إياه

سواء في ذلك أبواه و أجداده لأب كانوا أو لأم أما عدم التحريم علي الأب فظاهر لأن المرضعة لم تزد علي أن صارت أما لولده و أم الولد أولي بالتحليل من كل أحد و أما علي أجداده لأبيه فلأنها لم تزد علي أن صارت أما لولد ابنه و أم ولد الابن إنما تحرم علي الجد لأنها زوجة ابنه و الزوجية للابن لا تحصل بإرضاع ولد الابن لأن الزوجية لا تثبت بالرضاع. و بتقرير أوضح أن التحريم تعلق علي حليلة الابن و لا شك أن مرضعة ولد الابن ليست حليلة للابن و أما علي أجداده لأمه فلأن غاية ما حصل بالرضاع كون المرضعة أما لولد بنته و أم ولد البنت إنما تحرم إذا كان بنتا بالنسب أو الرضاع و هذه لم تصر إحداهما و قد مر مشروحا في تفسير الحديث النبوي أنه لا يدل إلا علي تحريم ما صدق عليه بعلاقة الرضاع أحد العناوين المحرمة علي لسان الشارع فيجب الرجوع في غيرها إلي أدلة الحل. و الحاصل أنه إذا حصل بالرضاع عنوان مستلزم في النسب لأحد العناوين المعلق عليها التحريم غير ملازم له في الرضاع لا يثبت له التحريم لأن ذلك العنوان النسبي الملزوم إنما حرم لتقييده باللازم و إن كان هذا المقيد غير منفك عنه فإن حصل هذا القيد في العنوان الرضاعي حتي يتم كونه نظيرا للعنوان النسبي و كونها تحت عنوان كلي ينتزع من الحاصل بالنسب و الحاصل بالرضاع حصلت الحرمة و إلا فلا ثم إذا لم يحرم أصول المرتضع نسبا علي المرضعة لم يحرم أصوله الرضاعية عليها بطريق أولي

الثالثة تحرم فروع المرتضع علي المرضعة

لأنهم أحفادها و لا فرق بين الفروع النسبية و الرضاعية. نعم يأتي علي قول العلامة و المحقق الثاني رحمهما الله في القواعد و شرحه عدم تحريم فروع المرتضع الرضاعية علي المرضعة حيث حكما بأن مرضعة المرضعة لا تحرم علي المرتضع فإن المرتضع من الفروع الرضاعية للمرتضعة من المرضعة و قد عرفت ضعف هذا القول و متمسكه.

الرابعة حواشي المرتضع أعني من في طبقته من الإخوة لا يحرمون علي المرضعة من جهة ارتضاع أخيهم منها

لأنها لم تزد علي أن صارت إما رضاعية لأخيهم و لا دليل علي تحريم أم الأخ. نعم هي محرمة في النسب من جهة كونه أما أو زوجة أب و لم يحصل شي‌ء منهما بالرضاع و أما الإخوة من الرضاع للمرتضع فهم أولي بعدم التحريم عليها و قد يزيد في الاستدلال علي ما ذكرنا بأن أمومة الأخ غير ملازمة للأمومة لتفارقهما في زوجة الأب و الأم التي ليس لها إلا ولد واحد و فيه أن لمتوهم التحريم أن يقول إن الأم النسبية للأخ من الأبوين محرم لأنها لا تنفك عن كونها إما فالأم الرضاعية له أيضا محرمة فالأجود الاقتصار علي ما ذكرناه و أن الملازمة بين العنوانين في النسب و إن كانت مسلمة إلا أن التحريم هناك من جهة أحد المتلازمين الغير الحاصل بسبب الرضاع ثم إن حكم فروع حواشي المرتضع حكم نفس الحواشي في عدم التحريم علي المرضعة لأن الفرع لا يزيد علي الأصل في الحرمة.

الخامسة يحرم المرتضع علي أصول المرضعة من النساء و يحرم المرتضعة علي أصولها من الذكور

لأن المرتضع من أحفادهم و لا فرق بين أصولها بالنسب و أصولها بالرضاع و لا إشكال فيه و لا خلاف ظاهرا و حكم حواشي أصول المرضعة من العمومة و الخئولة حكم نفس الأصول في التحريم سواء كانت من النسب أو الرضاع.

السادسة لا تحرم أصول المرتضع علي أصول المرضعة

لما تقدم في المسألة الثانية.

السابعة يحرم فروع المرتضع علي أصول المرضعة

لأنهم جدودتهم.

الثامنة لا يحرم حواشي المرتضع و فروعهم علي أصول المرضعة و حواشيهم

لما تقدم في المسألة الرابعة.

التاسعة يحرم المرتضع علي فروع المرضعة نسبا

و هم المتولدون منها و إن نزلوا سواء كان أبوهم فحلا للمرتضع أم لا لثبوت الأخوة من قبل الأم بينه و بينهم من جهة الرضاع و لا يشترط اتحاد الفحل هنا بلا خلاف علي الظاهر المصرح به في كلام غير واحد لإطلاق الكتاب و السنة مضافا إلي خصوص موثقة جميل بن دراج بأحمد بن الحسن بن فضال عن أبي عبد الله ع قال: إذا ارتضع الرجل من لبن امرأة حرم عليه كل شي‌ء من ولدها و إن كان الولد من غير الرجل الذي كان أرضعته بلبنه و يؤيدها رواية محمد بن عبيدة الهمداني المتقدمة في استدلال الطبرسي قدس سره و أما فروع المرضعة من حيث الرضاع و هم أولادها من الرضاع فيشترط في تحريم المرتضع عليهم اتحاد الفحل علي المشهور خلافا للطبرسي و قد مر ضعفه لورود الخبر الصحيح و ما في حكمه علي خلافه.

العاشرة تحرم أصول المرتضع علي فروع المرضعة من النسب علي الأظهر

و إن كانت القاعدة لا تقتضي ذلك نظرا إلي أن فروع المرضعة لا تزيد علي أن تكون إخوة لولد أصول المرتضع و أخ الولد أو أخته لا دليل علي تحريمه من حيث إخوة الولد و إنما يحرم حيث يحرم إما من حيث كونه ولدا و إما من حيث كونه ولدا لأحد الزوجين و لذا حكي عن جماعة منهم الشيخ في المبسوط عدم التحريم إلا أنه قد دل غير واحد من الأخبار المعتبرة علي التحريم مثل ما رواه في التهذيب عن أيوب بن نوح في الصحيح قال: كتب علي بن شعيب إلي أبي الحسن ع عن امرأة أرضعت بعض ولدي هل يجوز أن أتزوج بعض ولدها فكتب ع لا يجوز ذلك لأن ولدها صارت بمنزلة ولدك و مثل ما رواه الكليني قدس سره عن محمد بن يحيي عن عبد الله بن جعفر قال:
كتبت إلي أبي محمد ع امرأة أرضعت ولد الرجل هل يحل لذلك الرجل أن يتزوج ابنة هذه المرضعة أم لا فوقع ع لا يحل. و اعلم أنه قد يتفرع علي هذا القول أنه لو أرضعت ولدا جدته لأمه بلبن جده أو غيره حرمت أمه علي أبيه لأن أمه من أولاد المرضعة فتحرم علي أصول المرتضع و أما تحريم الجدة المرضعة علي جده من جهة صيرورتها أما لولد بنته فقد تقدم في المسألة الثانية أنه لا وجه له هذا كله في فروع المرضعة نسبا و أما فروعها بالرضاع فلا دليل علي تحريمهم علي أصول المرتضع لأن الولد و البنت في الخبرين المتقدمين ظاهران في خصوص النسبي فيبقي حكم الرضاعي باقيا تحت أصالة الإباحة اللهم إلا أن يقال إنه إذا ثبت التحريم في الولد النسبي للمرضعة ثبت في الولد الرضاعي لها لأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. و فيه أن الإمام ع حكم بتحريم ولد المرضعة علي أب المرتضع لا من حيث هو ولدها
المكاسب، ج‌4، ص 385
حتي يحرم ولدها الرضاعي أيضا بل لأجل كونه بمنزلة ولد أب المرتضع نسبا و هذا المعني غير معلوم في ولدها الرضاعي فتأمل مع أن هذا الكلام لا يصح في ولدها الرضاعي الذي ارتضع بلبن فحل غير فحل المرتضع الذي يكون الكلام في أصوله لعدم الأخوة بين ذلك الولد و بين المرتضع علي قول غير الطبرسي و من الظاهر بل المقطوع أن كون ولد المرضعة بمنزلة ولد أب المرتضع فرع الأخوة الرضاعية للمرتضع المفقودة مع تعدد الفحل و إنما يصح هذا الكلام لو صح في صورة اتحاد الفحل و حدوث الأخوة بين ذلك الولد و بين المرتضع و حينئذ فيكون هذا الولد من أولاد الفحل رضاعا و سيأتي الكلام فيه في مسألة تحريم أصول المرتضع علي فروع الفحل. و اعلم أن الخبرين المذكورين و إن دلا علي تحريم أولاد المرضعة نسبا علي أب المرتضع لكن الظاهر تحريمهم علي أم المرتضع أيضا لأن كونهم بمنزلة ولد أبيه يستلزم كونهم بمنزلة ولد أمه و لذا استفيد من تحريم الأولاد علي الآباء تحريم الأبناء علي الأمهات.

الحادية عشر فروع المرتضع و إن نزلوا نسبا و رضاعا يحرمون علي فروع المرضعة في المرتبة الأولي

لأنهم خئولة لفروع المرتضع و لا فرق بين فروع المرضعة نسبا و فروعها رضاعا مع نشر الرضاع بينهم و بين نفس المرتضع و أما فروع المرضعة في غير المرتبة الأولي فلا يحرمون علي فروع المرتضع مطلقا لأنهم ولد خئولة لهم.

الثانية عشر من في حاشية نسب المرتضع أو رضاعه أعني إخوته أو أخواته النسبية أو الرضاعية لا يحرمون لأجل ارتضاع أخيهم

علي فروع المرضعة الرضاعية بلا إشكال و لا خلاف لأنهم لم يزيدوا علي أنهم صاروا إخوة لأخي أولئك الحواشي أو أولادا لأم أخيهم و لم يتعلق التحريم في الشريعة بأحد العنوانين و كذا فروع المرضعة النسبية و هم المتولدون منها لا تحرم عليهم حواشي المرتضع الرضاعية لما ذكر و أما تحريم حواشي المرتضع من النسب علي فروع المرضعة النسبية فاختلف فيه فالأشهر كما قيل عدم التحريم لما ذكر و هو الأظهر و قيل بالتحريم لأن فروع المرضعة إذا صاروا بمنزلة ولد أبوي المرتضع بحكم ما تقدم في المسألة العاشرة فقد صاروا إخوة لأولادهما الذين هم حواشي المرتضع. و فيه منع استلزام صيرورتهم إخوة لأولادهما إذ لا مستند له إلا تلازم عنواني البنوة للأبوين مع الأخوة لأولادهما و هو مسلم إذا حدثت بالرضاع نفس البنوة للأبوين كما إذا ارتضع شخص بلبنهما فإن بنوته لهما تستلزم إخوته لأولادهما و أما إذا حدث به شي‌ء آخر حكم الشارع بكونه بمنزلة البنوة للأبوين في أحكامها الشرعية فلا يلزم منه ثبوت الأخوة لأولادهما. و الحاصل أن العنوان الحاصل بارتضاع ولد الأبوين من امرأة ذات أولاد ليس إلا كون أولادها إخوة للمرتضع. و من المعلوم مما سبق في المسألة الثانية أن بمجرد هذا العنوان لا يحرم هؤلاء الأولاد علي أبوي المرتضع و لا علي إخوته لكن لما دل الدليل علي كون الأولاد بمنزلة أولاد الأبوين في جميع الأحكام الشرعية التي من جملتها تحريمهم عليهما حكم به لكن لا يستلزم ذلك كونهم بمنزلة الإخوة لأولادهما حتي يحرموا عليهم و كذا ليس من الأحكام الشرعية لأولاد الأبوين تحريم بعضهم علي بعض فإن التحريم في آية المحرمات إنما علق علي عنوان الأخ و الأخت لا علي ولد الأبوين أو أحدهما و من هنا ظهر ما في استدلال صاحب الكفاية علي التحريم بأن كونهم بمنزلة الولد يقتضي أن يثبت لهم جميع الأحكام الثابتة للولد من حيث الولدية و من جملة أحكامه تحريم أولاد الأب عليه إذ لا يخفي أن تحريم أولاد الأب علي الولد ليس من حيث الولدية للأب بل من حيث إخوته للأولاد اللهم إلا أن يقال إن الأخوة التي نيطت بها الحرمة في آية المحرمات ليس مفهومها العرفي بل الحقيقي إلا كون الشخصين ولدا لواحد فكونهم أولادا لأبيه أو لأمه عين كونهم إخوة له لا أنه عنوان آخر ملازم له و يشهد لذلك تعليل تحريم المرتضعة من لبن ولد علي أخيه من أبيه في صحيحة صفوان المروية في الكافي بصيرورة أبيه أبا لها و أمه أما لها و ليس هذا إلا لأنه إذا ثبت أبوه الرجل لشخص و أمومة المرأة له ثبت إخوة أولادهما له فيحرمون عليه من هذه الجهة فالقول بالتحريم في المسألة لا يخلو عن قوة وفاقا للمحكي عن الشيخ و بعض المتأخرين.

الثالثة عشر يحرم المرتضع علي من في حاشية نسب المرضعة

أعني إخوتها و أخواتها و كذا من في حاشية رضاعها و هم إخوتها و أخواتها من الرضاع بلا إشكال و لا خلاف و يدل علي تحريم إخوتها من الرضاع المستلزم لتحريم إخوتها من النسب بالأولوية و عدم القول بالفصل صحيحة الحلبي المروية في الكافي و التهذيب قال: سألت أبا عبد الله ع عن الرجل يرضع من امرأة و هو غلام أ يحل له أن يتزوج أختها لأمها من الرضاع فقال إن كانت المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحل واحد فلا يحل و إن كانت المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحلين فلا بأس و نحوها موثقة عمار المتقدمة منها في أدلة القول المشهور باعتبار اتحاد الفحل في مقابل الطبرسي فتأمل و في حكم أولئك الحواشي فروعهم فيحرم المرتضع عليهم.

الرابعة عشر لا يحرم أصول المرتضع علي من في حاشية نسب المرضعة

فيجوز لآباء المرتضع و إن علو التزويج في أخوات المرضعة و لإخوتها التزويج في أمهات المرتضع و لا يتوهم في الأول كون المرضعة في حكم الزوجة فلا يجوز العقد علي أختها لعدم ثبوت الزوجية بالرضاع و لا في الثاني كون أم المرتضع أما لولد أخت إخوة المرضعة و أم ولد الأخت محرمة لكونها أختا لما مر من أن الحرمة إنما تعلقت علي عنوان الأخت لا علي أم ولد الأخت و إن تلازم العنوانان في النسب.

الخامسة عشر تحرم فروع المرتضع علي حواشي نسب المرضعة و رضاعها

لكونهم خئولة لأبيهم بلا إشكال و لا خلاف و لا يحرمون علي فروع أولئك الحواشي.

السادسة عشر لا يحرم من في حاشية نسب المرتضع علي من في حاشية نسب المرضعة

فيجوز لإخوة المرتضع التزويج في أخوات المرضعة و لإخوة المرتضع علي نفس المرضعة فعدم تحريمهم علي حواشيها أولي و المستند في الكل عدم الدليل إذ لم يحدث بينهم بالرضاع عنوان من العناوين المتعلق بها التحريم في النسب.

السابعة عشر يحرم المرتضع لو كانت أنثي علي الفحل إجماعا

لأنها بنته من الرضاع.

الثامنة عشر لا يحرم أصول المرتضع الإناث عن أمهاته و إن علون علي الفحل

أما أمة فواضح و أما جداته فكذلك علي الأشهر لأن غاية ما حصل بالرضاع كونهن جدات لولده و جدات الولد لا يحرمن علي الأب إلا من جهة كونهن جدات النفس الأب أو أمهات أزواجه و لم يحصل بالرضاع شي‌ء من العنوانين في المقام و نسب إلي ابن إدريس تحريم جدة المرتضع علي الفحل و هو ضعيف ثم إذا لم تحرم المرتضع علي الفحل لم يحرم فروع تلك الأصول عليه فعمة المرتضع و خالته لا تحرمان علي الفحل فإن الفرع لا يزيد علي الأصل.

التاسعة عشر يحرم فروع المرتضع و إن نزلوا علي الفحل لكونهم بمنزلة أحفاده من غير فرق بين فروعه الرضاعية و النسبية

بلا خلاف و لا إشكال في ذلك.
المكاسب، ج‌4، ص 386

العشرون لا تحرم من في حاشية نسب المرتضع

أعني أخواته علي الفحل علي الأشهر لعدم الدليل علي التحريم عدا ما يتخيل من كونها أخوات لولده و لا يخفي أن التحريم لم يتعلق بهذا العنوان و إنما تعلق بعنوان البنت أو الربيبة اللذين لا ينفك أحدهما عن عنوان أخت الولد في النسب و نسب إلي الشيخ في الخلاف و ابن إدريس تحريم أخت المرتضع علي الفحل و هو ضعيف.

الحادية و العشرون يحرم المرتضع علي أصول الفحل

لكونهم جدودة له بلا خلاف و لا إشكال.

الثانية و العشرون لا يحرم أصول المرتضع علي أصول الفحل

فيجوز لآباء المرتضع أن يتزوجوا في أمهات الفحل و كذا لآباء الفحل أن يتزوجوا في أمهات المرتضع لعدم الدليل إلا تخيل كون أمهات الفحل بمنزلة جدات المرتضع فيحرم علي أبيه و علي بعض أجداده و كذا أمهات المرتضع بالنسبة إلي آباء الفحل.

الثالثة و العشرون يحرم فروع المرتضع علي أصول الفحل لأنهم جدودة له

و قد مر تحريمهم علي الفحل لكونهم أحفادا له فيحرمون علي آبائه أيضا لأن المحرم علي شخص لأجل النسب محرم علي آبائه أيضا فكذلك في الرضاع.

الرابعة و العشرون لا يحرم من في حاشية نسب المرتضع علي أصول الفحل

لما تقدم من عدم حرمتهم علي نفس الفحل و يجري هنا الخلاف المنسوب إلي ابن إدريس في تلك المسألة.

الخامسة و العشرون يحرم المرتضع علي فروع الفحل نسبا و رضاعا و إن نزلوا

لأنهم إخوة و أولاد إخوة بلا خلاف في ذلك و يدل عليه بعد الإجماع أخبار كثيرة و لا فرق في الفروع بين كونهم من مرضعة المرتضع أو من غيرها فلو كان لرجل عشر نساء و كان له من كل منها بنت و ابن من الولادة و أرضعت كل واحدة منهن غلاما أو جارية بلبن ذلك الفحل حرم الذكور العشرون علي البنات العشرين.

السادسة و العشرون يحرم أصول المرتضع علي فروع الفحل

أعني المتولدين منه و إن لم يقتضه القاعدة من جهة أن فروع الفحل لم يزيدوا علي أن صاروا إخوة لولد أصول المرتضع و لا دليل علي تحريم إخوة الولد من حيث إنهم إخوة الولد و لهذا قيل هنا بعدم التحريم إلا أن الأظهر التحريم لصحيحة علي بن مهزيار قال:
سأل عيسي بن جعفر بن عيسي أبا جعفر ع الثاني عن امرأة أرضعت لي صبيا هل يحل أن أتزوج ابنة زوجها فقال ما أجود ما سألت من هنا يؤتي أن يقول الناس حرمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل هذا لبن الفحل لا غيره فقلت له الجارية ليست ابنة المرأة التي أرضعت لي بل ابنة غيرها فقال لو كن عشرا متفرقات ما يحل لك شي‌ء منهن و كن في موضع بناتك و الرواية و إن اختصت بتحريم ولد الفحل علي أب المرتضع إلا أن تحريمهم علي أمه أيضا ثابت بالإجماع المركب ظاهرا مع أن كونهم بمنزلة بنات أب المرتضع يستلزم كونهم بمنزلة أبناء أمه ثم إن ظاهر الرواية كما تري مختص بفروع الفحل نسبا و يلحق بهم فروعه رضاعا و لعله لقاعدة يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فإذا حرم ولد الفحل نسبا علي أصول المرتضع حرم ولده رضاعا و لأن منشأ صيرورتهم أولادا لأصول المرتضع إخوته لولدهم و لا فرق بين الأخوة النسبية و الرضاعية.

السابعة و العشرون يحرم فروع المرتضع نسبا و رضاعا و إن نزلوا علي فروع الفحل نسبا و رضاعا

و المرتبة الأولي لأنهم عمومة لفروع المرتضع و أما فروع الفحل في غير المرتبة الأولي فلا يحرمون علي فروع المرتضع.
الثامنة و العشرون لا يحرم من في حاشية نسب المرتضع
و هم إخوته و أخواته علي فروع الفحل لأنهم لم يزيدوا علي أن صاروا بالرضاع إخوة لأخي أولئك و إخوة الأخ ليست موجبة للتحريم إذ قد يتزوج أخ الرجل لأبيه أخته لأمه و لو قيد بالأخ من الأبوين فلا يوجب التحريم و إنما يحرم إخوة الأخ للأبوين من جهة كونهم إخوة و لم يحصل بالرضاع هذا العنوان فالحاصل بالرضاع غير موجب للتحريم و الموجب للتحريم غير حاصل خلافا للشيخ و جماعة فحكموا بالتحريم لأن صيرورة الفروع بمنزلة الأولاد لأصول المرتضع بحكم صحيحة ابن مهزيار المتقدمة يستلزم كونهم إخوة لإخوة المرتضع فيحرمون عليهم و قد سبق في المسألة الثانية عشر أن هذا القول لا يخلو عن قوة.

التاسع و العشرون يحرم المرتضع علي من في حاشية نسب الفحل أو رضاعه

لأنهم عمومة له و هذا مما لا إشكال فيه و لا خلاف

الثلاثون لا يحرم أصول المرتضع علي من في حاشية نسب الفحل

إذ لا يحدث بينهم بالرضاع رابطة من الروابط المحرمة.

الواحد و الثلاثون يحرم فروع المرتضع نسبا و رضاعا و إن نزلوا

علي من في حاشية الفحل نسبا أو رضاعا لأنهم عمومة لأبيهم و يحل لهم فروع أولئك الحواشي.

الثاني و الثلاثون لا يحرم من في حاشية نسب المرتضع علي من في حاشية نسب الفحل

لأن حواشي المرتضع لا تحرم علي نفس الفحل فأولي بأن لا تحرم علي حواشيه و يجي‌ء علي القول المنسوب إلي ابن إدريس من تحريم أخت المرتضع علي الفحل تحريمها علي إخوته لكنه لا دليل عليه.

و ينبغي التنبيه علي أمور

الأول حيث عرفت أن الضابط في حصول الحرمة بالرضاع ملاحظة الرابطة النسبية التي علق عليها التحريم

فإن حصل بالرضاع نظيرها ثبتت الحرمة و إلا فلا إلا ما خرج بالدليل كما عرفت في المسألة العاشرة و السادسة و العشرين و لا عبرة بأن يحصل بالرضاع رابطة مغايرة للرابطة المعلق عليها التحريم مقارنة معها في الوجود دائما أو في بعض الأحيان و ما دل علي خروج المسألتين السابقتين أو نحوهما عن هذه الضابطة لا يعطي ضابطة كلية لتحريم كل عنوان ملازم في النسب لعنوانات التحريم بل يقتصر علي مورده و التعدي قياس لا نقول به. فاعلم أنه لا فرق في الرابطة النسبية التي يكون نظيرها الحاصل بالرضاع محرما بين أن يكون التحريم المعلق عليها لأجل وجودها بين نفس المحرم و المحرم عليه و يسمي بالمحرم النسبي كما في المحرمات السبع النسبية و بين أن يكون التحريم لأجل وجودها بين المحرم و زوج المحرم عليه أو من في حكمه و يسمي بالمحرم لأجل المصاهرة و هي عبارة عن علاقة تحدث بين كل من الزوجين و أقرباء الآخر كأم الزوجة مثلا فإن التحريم علق علي أمومة الزوجة و هي رابطة نسبية بين المحرم و هي الأم و بين زوجة المحرم عليه و كأم المزني بها و الموطوءة بالشبهة و غيرهما و تسمية الأول بالمحرم لأجل النسب و الثاني بالمحرم لأجل المصاهرة باعتبار ملاحظة العلاقة الكائنة بين نفس المحرم و المحرم عليه و أنها قد تكون نفس الرابطة النسبية المعلق عليها التحريم في المحرمات السبع و قد يكون أمرا حاصلا منها كما في المحرمات بالمصاهرة و لكن التحريم في الكل معلق علي الرابطة
المكاسب، ج‌4، ص 387
النسبية أما في المحرمات السبع فظاهر و أما في المحرمات بالمصاهرة فلأن تحريم أم الزوجة لم تتعلق في الكتاب و السنة علي علاقة المصاهرة التي بينها و بين الزوج و إنما علق علي الرابطة النسبية التي بينها و بين زوجة الزوج و هي الأمومة و كذا غيرها و من هنا ظهر فساد ما ربما يسبق إلي الوهم من أن قوله ص: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب إنما يدل علي تحريم نظائر المحرمات السبع الحاصلة بالرضاع و لا يدل علي تحريم نظائر المحرمات بالمصاهرة إذا حصلت بالرضاع كمرضعة الزوجة و رضيعتها و نحوهما لأن هؤلاء لا يحرمون من النسب حتي يحرم نظائرها من الرضاع و إنما يحرم من أجل المصاهرة. توضيح الفساد مضافا إلي ما ذكر أن المصاهرة و هي العلاقة الحاصلة بين كل من الزوجين و أقرباء الآخر ليس مما علق عليها التحريم و إنما علق علي الرابطة النسبية التي هي منشأ لانتزاعها فتحرم أم الزوجة علي الزوج أيضا من جهة النسب الحاصل بين المحرم و المحرم عليه بل النسب الحاصل بين المحرم و زوجة المحرم عليه و عمدة ما يوقع في هذا الوهم توهم أن المراد بالنسب في الحديث خصوص النسب الحاصل بين المحرم و المحرم عليه نظير ما اصطلحوا عليه من قولهم سبب التحريم إما نسب و إما مصاهرة حيث يجعلون المصاهرة قسيما للنسب و لا يخفي أنه لا داعي إلي تقييد النسب في الحديث بهذا الفرد الخاص بل المراد به أن كل ما يحرم علي شخص من جهة نسب حاصل بينهما أو من جهة نسب حاصل بين أحدهما و زوج الآخر و من في حكمه فيحرم نظيره من جهة الرضاع الحاصل بينهما أو بين أحدهما و زوج الآخر أو من في حكمه. و حاصل معناه بعبارة أضبط كل رابطة نسبية ثبت من جهتها تحريم شخص علي آخر فيثبت التحريم أيضا من جهة نظيرها الحاصل بالرضاع فإذا ورد أمهات الأزواج محرمة فنقول إن التحريم تعلق بالنساء المتصفات بالأمومة للزوجات و هي رابطة نسبية علق عليها التحريم فإذا حصل نظيرها بالرضاع يحصل الحرمة للحديث المذكور فظهر أنه كما يصدق علي أم الرجل أنها محرمة عليه من جهة النسب أي من جهة رابطة النسبية حيث إنها حرمت عليه بعنوان كونها أما له فكذلك يصدق علي أم زوجته أنها محرمة عليه من جهة النسب حيث إنها حرمت عليه من جهة كونها أما لزوجته فالموضوع في كل من الحكمين معنون بعنوان الأمومة إلا أنها في الأول بين المحرم و المحرم عليه و في الثاني بين المحرم و زوج المحرم عليه و من هنا تراهم يتمسكون في تحريم مرضعة الغلام الموقب و رضيعته علي الموقب بالحديث المذكور و إلا فأي نسب بين المرضعة و الموقب. و مما ذكرنا ظهر ما في استشكال صاحب الكفاية الحكم بإلحاق الرضاع بالنسب في الرابطة النسبية الموجودة بين أحد الزوجين و أقرباء الآخر الموجدة لعلاقة المصاهرة بين الزوجين في ثبوت أحكام المصاهرة بالنسبة إلي أحد الزوجين و بعض ذوي الرابط الرضاعية للآخر و أنه إن كان الإجماع علي ذلك فهو و إلا ففي دلالة الحديث المشهور علي ذلك إشكال و قد عرفت أنه لا إشكال في المسألة أصلا بحمد الله و سبحانه.

الثاني أن الرضاع كما يؤثر في ابتداء النكاح يؤثر في استدامته

فكل رضاع يمنع من النكاح إذا سبقه يبطله إذا لحقه بلا خلاف فيه علي الظاهر و يدل عليه إطلاق الحديث المشهور:
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب و خصوص بعض الأخبار الواردة في بعض فروع المسألة منها حسنة الحلبي بابن هاشم عن أبي عبد الله ع قال: لو أن رجلا تزوج جارية فأرضعتها امرأته فسد نكاحه و رواها في الفقيه بسند صحيح عن أبي جعفر ع بتفاوت يسير و نحوها حسنته الأخري عنه ع و يترتب علي ذلك أنه إذا تزوج برضيعة فأرضعتها بعض نساء آبائه و إن علو أو أولاده و إن نزلوا أو إخوته أو أخواته حرمت عليه و كذا لو أرضعتها زوجته الكبيرة بلبنه كما في الأخبار السابقة و تحرم الكبيرة أيضا مؤبدا و لو أرضعتها بلبن غيره فإن دخل بالكبيرة حرمت عليه أيضا و إن لم يدخل بها حرمت الكبيرة مؤبدا و حرمت الصغيرة جمعا بمعني جواز تجديد العقد عليها بعد بطلان النكاح الأول و الوجه في بطلان نكاحهما عدم جواز الحكم بصحة نكاحهما و لا بصحة نكاح أحدهما لأنه ترجيح من غير مرجح. و استشكل في الحكم صاحب الكفاية من حيث احتمال القرعة و هو ضعيف و لو أرضعت زوجته الصغيرة إحدي الكبيرتين بلبنه ثم أرضعتها الأخري حرمن جمع و حكي عن الإسكافي و الشيخ أنه تحرم المرتضعة و أولي المرضعتين و لعل وجهه أن أم الزوجة المحرمة هي من زوج ابنته بأن تتصف ابنته بالزوجية بمعني تصادق عنوان البنتية و الزوجية في زمان من الأزمنة حتي يصدق علي أمها في ذلك الزمان أم الزوجة و هاهنا ليس كذلك لأن المرضعة الثانية إنما صارت أما بعد ما انفسخ عقد الصغيرة فحصلت صفة البنتية للصغيرة بعد زمان الزوجية. و يؤيده ما رواه في الكافي بسند ضعيف بصالح بن أبي حماد عن علي بن مهزيار و رواه عن أبي جعفر ع: قيل له إن رجلا تزوج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته ثم أرضعتها امرأة له أخري فقال ابن شبرمة حرمت عليه الجارية و امرأتاه فقال أبو جعفر ع أخطأ ابن شبرمة حرمت عليه الجارية و امرأته التي أرضعتها أولا و أما الأخيرة فلا تحرم عليه نكاحها لأنها أرضعت ابنته و لا يبعد العمل بها لموافقتها للأصل ثم إنه كلما حكم بفساد عقد الصغيرة بالرضاع فإن كان الرضاع بسبب مختص بها بأن سعت إلي الكبيرة و هي نائمة و ارتضعت الرضاع المحرم. فقد صرح في الشرائع و التحرير و المسالك بسقوط مهرها و يحتمل عدم السقوط لأن المهر ثبت بالعقد و لا دليل علي سقوطه بفعل الصغيرة الذي حصل منها من غير قصد و تمييز و إن كان بسبب مختص بالكبيرة بأن تولت إرضاعها و كان لها مهر مسمي غرمه الزوج و قيل يغرم نصفه كالطلاق و هو محكي عن الشيخ و جماعة و لا دليل عليه بناء علي ملك الزوجة لكمال المهر بالعقد و في رجوع الزوج الغارم إلي المرضعة إشكال و لا يبعد عدم الرجوع فيها إذا كان الإرضاع واجبا عليها لفقد من يرضعها بما يسد رمقها لأنه حينئذ مأمور به فلا يتعقبه ضرر الضمان و الأقوي عدم الرجوع لعدم الدليل و نظائره كثيرة كما لو قتلت الزوجة أو ارتدت بعد الدخول أو أرضعت من ينفسخ نكاحها بإرضاعه فإن المهر ثابت في جميع الصور علي الزوج و لا يرجع بعد غرامته إلي أحد نعم مقتضي قاعدة نفي الضرر رجوع الزوج بما يغرمه و إن لم نقل بضمان البضع فإن مقتضي ضمانه الرجوع إلي مهر المثل أو نحوه لا ما يغرمه و عدم الرجوع في الأمثلة المذكورة و لهذا يغرم الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم بطلاق الزوج الأول للمرأة المهر للثاني. و يؤيدها ما رواه في الفقيه بسند ضعيف عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله ع قال: سألته عن رجل قال لآخر اخطب لي فلانة فما فعلت شيئا مما
المكاسب، ج‌4، ص 388
قاولت من صداق أو ضمنت من شي‌ء أو شرطت فذلك لي رضا و هو لازم لي و لم يشهد علي ذلك فذهب فخطب له و بذل عنه الصداق أو غيره مما طالبوه و سألوه فلما رجع إليه أنكر ذلك كله قال يغرم لها نصف الصداق عنه و ذلك أنه هو الذي ضيع حقها إذ لم يشهد عليه بذلك الذي قال دل بعموم التعليل علي أن التضييع سبب للغرامة و قد حصل فيما نحن فيه من المرضعة الغرور.

الثالث [ما حكي عن المحقق الثاني عن بعض الطلبة القول بنشر الحرمة بالرضاع في صور كثيرة]

اشارة

اعلم أنه قد حكي شيخنا المحقق الثاني في رسالته الرضاعية عن بعض الطلبة القول بنشر الحرمة بالرضاع في صور كثيرة و نسب ذلك إلي اشتباههم و ذكر أنه لا مستند لهم في ذلك و أنهم زعموا أن ذلك من فتاوي شيخنا الشهيد و ليس لهم إسناد يتصل بشيخنا في هذا الفتوي ثم قال نعم اختلف أصحابنا في ثلاث مسائل قد يتوهم منه القاصر عن درجة الاستنباط أن يكون دليلا لشي‌ء من هذه المسائل أو شاهدا عليها إلي أن قال إن المسائل المتصورة في هذا الباب كثيرة لا تنحصر و الذي سنح لنا الآن ذكره خارجا عن المسائل الثلاث المشار إليها صور ثم ذكر الصور ثم عقبها بذكر المسائل الثلاث التي ذكر أنه اختلف فيها الأصحاب.
أقول إن هذا المتوهم قد استند في دعوي النشر إلي عموم المنزلة في الرضاع المشهور في الألسنة و حاصل تفسيره أنه إذا حصل بالرضاع عنوان مصادف لعنوان الذي تعلق به التحريم في النسب حكم بتحريمه و إن لم يحصل بالرضاع نفس ذلك العنوان المنوط به التحريم مثلا إذا أرضعت امرأتك ولد بنتك فقد صارت المرضعة أما لولد ابنتك و أم ولد البنت حيث إنه عنوان مصادف في النسب لعنوان البنت محرمة فإذا حصلت هذا العنوان بإرضاع امرأتك ولد بنتك تحقق التحريم و بطلان نكاح الجد و المرضعة و إن لم يتحقق عنوان البنتية و هكذا فها أنا أذكر المسائل الثلاث التي ذكر المحقق أنه مما تعرض له الأصحاب و اختلفوا فيها ثم أذكر غيرها من الصور التي ذكر أن القول بالتحريم فيها توهم و أنه ليس به قائل معروف بين الأصحاب و أن نسبته إلي الشهيد غير ثابتة فنقول

أما المسائل المختلف فيها

فإحداها حرمة جدات المرتضع علي صاحب اللبن

اختلف فيها الأصحاب علي قولين و قريب منه أم المرضعة وجدتها بالنسبة إلي أب المرتضع. و قد تقدم في المسألة الثانية عشر نسبة القول بتحريم جدات المرتضع علي الفحل إلي ابن إدريس و عزي هذا القول إلي جماعة من الأصحاب و قد عرفت في تلك المسألة أنه لا وجد للتحريم عدا توهم صيرورة جدات المرتضع جدات لولد الفحل و جدة الولد محرمة لكونها أما أو أم زوجة و كلتاهما محرمتان و مثل هذا جار في أم المرضعة وجدتها بالنسبة إلي أب المرتضع و مرجع هذا الاستدلال إلي دعوي عموم المنزلة في الرضاع التي ذكرنا تفسيره قريبا و أثبتنا فساده لعدم الدليل عليه في المسألة الثانية من المسائل المتقدمة.

و ثانيتها أخوات المرتضع نسبا و رضاعا بشرط اتحاد الفحل هل يحللن للفحل أم لا

و قد حكي عن الشيخ و ابن إدريس القول بالتحريم و لعله لأنهن بمنزلة ولده كما أن أولاد الفحل بمنزلة ولد أب المرتضع لصحيحة علي بن مهزيار المتقدمة. و قد عرفت في المسألة العشرين من المسائل المتقدمة ضعف هذا القول لأن الحكم بكون أولاد الفحل و المرضعة بمنزلة ولد أب المرتضع لا يقتضي الحكم بكون أولاد أبوي المرتضع بمنزلة أولاد الفحل بل غاية ما حصل من ارتضاع أخيهم بلبنه هو كون أخيهم بمنزلة ولده فهم إخوة ولده و أخ الولد لا يحرم إلا إذا كان ولدا.

و ثالثها أولاد صاحب اللبن ولادة و رضاعا و أولاد المرضعة ولادة هل تحرم علي أب المرتضع.

و قد عرفت في المسألة العاشرة و السادسة و العشرين أن الأصح التحريم للأخبار المتقدمة في المسألتين و إن كان القاعدة لا تقتضي التحريم نظرا إلي أنه لم يحصل بالرضاع إلا أخوة أولاد صاحب اللبن و المرضعة للمرتضع فهم إخوة ولد لأب المرتضع و أخ الولد لا يحرم إلا إذا صدق الولد عليه إما من النسب و إما من الرضاع لكن الأخبار المتقدمة قد دلت علي أنهم بمنزلة ولده فهذه المسائل الخلافية التي ذكرها المحقق في الرسالة و صرح في غير الأخيرة بعدم التحريم. أقول هنا مسألة رابعة اختلف فيها و هي مسألة تحليل أولاد صاحب اللبن نسبا و رضاعا و أولاد المرضعة نسبا علي إخوة المرتضع الذين لم يرتضعوا بلبن ذلك الفحل.

و أما المسائل التي ذكرها و نسب القول بالتحريم فيها إلي الوهم

اشارة

فهي ثلاثة عشر مسألة

الأولي أن ترضع المرأة بلبن فحلها

الذي هي في نكاحه حين الإرضاع أخاها أو أختها لأبويها أو أحدهما فيقال إن ذلك موجب لتحريم المرضعة علي زوجها من جهة أن المرتضع صار ولدا للفحل و المرضعة فهي أخت ولد الفحل و أخت الولد محرمة من النسب فكذا من الرضاع.
و بعبارة أخري الفحل يصير أبا رضاعا لأخ الزوجة أو أختها و كما أن أباهما النسبي محرم عليها فكذا الرضاعي و الحق أنه توهم كما ذكره شيخنا المحقق لما مر في المسألة العشرين من المسائل المتقدمة من عدم تحريم من حاشية نسب المرتضع علي الفحل و أن الخلاف هنا محكي عن الشيخ و ابن إدريس و هو ضعيف لكن يرد علي شيخنا المحقق أن هذه المسألة هي ثانية المسائل التي ذكر فيها الخلاف بين الأصحاب فإن تحريم المرضعة في الفرض المذكور علي زوجها مبني علي تحريم أخوات المرتضع علي الفحل و هي عين المسألة الثانية من الثلاث المتقدمة. نعم لو كان قولهم التحريم ناشئا عن غير ما ذكر في توجيهه مثل صيرورة المرضعة أما لأخ الزوجة من أمها و هي محرمة علي الزوج أمكن كونها بهذا الاعتبار مسألة خارجة عن المسائل الثلاث.

الثانية

أن ترضع الزوجة المذكورة ولد أخيها.

الثالثة أن ترضع ولد أختها

فقد يتوهم التحريم في هاتين المسألتين من جهة صيرورة المرضعة عمه أو خالة لولد الفحل من الرضاع و عمة الولد محرمة جمعا و لأن الفحل في المسألة الأولي أب رضاعي لولد أخ المرضعة فكما أن الأب النسبي لولد أخيها محرمة عليها لأنه أخوها فكذا الأب الرضاعي له و لا يخفي أيضا فساد التوهمين لأن عمة الولد إنما يحرم لكونها أختا فإذا تحقق بالرضاع علاقة الأختية تحقق التحريم و قد عرفت ذلك في المسألة الثانية عشر و كذا الكلام في الأب النسبي لولد الأخ فإنه لا يحرم إلا لأجل عنوان الأخوة و أما خاله الولد فتحريمها علي الأب مما لا يتفوه به أحد إذ لم يحصل الجمع بين الأختين الذي هو مناط تحريم خاله الولد. نعم يصدق علي المرضعة أنها أم للمرتضع و خالته و الجمع بين الأختين المحرم هو أن يكون للشخص امرأتان يصدق علي إحداهما أنها أم لولده و علي الأخري أنه خاله لولده لا أن يكون له امرأة واحدة يصدق عليها أنه أم ولده و خالته و قد حكي عن السيد الداماد الجزم بالتحريم في
المكاسب، ج‌4، ص 389
هذه الصورة و هو بعيد

الرابعة أن ترضع الزوجة المذكورة ولد ولدها ابنا كان أو بنتا

و مثله ما لو أرضعت إحدي زوجيته و ولد ولد الأخري فيقال هنا بتحريم المرضعة في الفرض الأول و ضرتها في الفرض الثاني علي زوجهما من جهة صيرورتها جدة ولدها و جدة الولد محرمة علي الأب لأنها إما أم و إما أم الزوجة و كلتاهما محرمتان و الأقوي في هذه أيضا عدم التحريم كما نبهنا عليه في المسألة الثانية عشر من أن أصول المرتضع لا يحرمن علي الفحل ثم إن هذه المسألة أول المسائل الثلاث الخلافية التي ذكرها شيخنا المحقق أعني تحريم جدات المرتضع علي الفحل و قد يستند التحريم في هذه المسألة مع كون المرتضع ولد بنت الفحل إلي صيرورة المرضعة أما لولد بنته و أم ولد البنت من النسب محرمة لكونها بنتا فكذا تحرم من الرضاع و فيه ما مر في المسألة الثانية.

الخامسة

أن ترضع الزوجة المذكورة عمها أو عمتها.

السادسة أن ترضع خالها أو خالتها

فيقال إن الزوجة تصير بالإرضاع إما لعمها أو لعمتها أو خالها أو خالتها و أم عم الزوجة أو عمتها أو خالها أو خالتها محرمة علي الزوج لأنها جدة الزوجة لأمها أو لأبيها أو أن الزوجة تصير بإرضاع زوجته لهؤلاء أبا لهم من الرضاع و هذه الزوجة تحرم علي أبيهم من النسب لأنه جدها فتحرم علي أبيهم من الرضاع و يظهر الجواب عن الوجهين بما مر مرارا فإن أم عمومة الزوجة و خئولتها إنما حرمت علي الزوج من جهة الدخول في أمهات النساء و لم يحصل هذا العنوان للمرضعة و كذا يحرم المرأة علي أب عمومتها و خئولتها لأجل كونه جدا لها و لم يحصل عنوان الجدودة للفحل بالرضاع و اعلم أن هذه المسألة من فروع المسألة الأولي لأن أخوات المرتضع إذا حرمت علي الفحل من جهة كونهن كالأولاد له حرمت عليه أولادهن و هذه المرضعة تصير من أولاد الإخوة و قد عرفت أن تلك المسألة من المسائل الخلافية فلا وجه لعد هذه المسألة مسألة أخري غير المسألة الأولي كما لا وجه لعد كلتيهما خارجة عن المسائل الخلافية.

السابعة

أن ترضع الزوجة المذكورة ولد عمها أو عمتها.

الثامنة أن ترضع ولد خالها أو خالتها

فقال في صورة إرضاع ولد العم أو الخال إن الفحل يصير أبا لهذا الولد فيحرم علي المرضعة لأنه إما أبو ولد عمها أو أبو ولد خالها و كلاهما محرمان عليها و إن الأول عمها و الثاني خالها و أما إرضاع الزوجة ولد خالتها أو عمتها فلم أعثر فيه علي ما يوجب توهم التحريم فيه إلا إذا قلنا بحرمة الجمع بين المرأة و ابنة أخيها أو أختها مطلقا حتي مع إذنها و حينئذ فيجري فيه التوهم الذي جري في المسألة الثالثة من إرضاع الزوجة ولد أختها فراجع. و قد صرح بعض من جزم بالنشر في صورة إرضاع ولد العم و الخال بعدم النشر في إرضاع ولد العمة و الخالة و يظهر الكلام في فساد توهم الحرمة هنا مما مر مرارا.

التاسعة أن ترضع الزوجة المذكورة أخ الزوج أو أخته

فيقال إن المرضعة صارت أم أخيه لأبويه أو أخته كذلك و هي محرمة لكونها أما و فيه أن حرمة أم الأخ للأبوين في النسب لعلاقة الأمومة بينهما و نظيرها لم يحصل بالرضاع و إنما حصل به أمومة الأخ و لم يتعلق التحريم بالنسب به.

العاشرة أن ترضع ولد ولد الزوج فيقال إنها صارت أما لولد ولده

و أم ولد الولد محرمة لكونها إما بنتا و إما زوجة ابن و فيه أن شيئا من عنواني البنت و زوجة الابن لم يحصل بالرضاع مع أن حصول زوجية الابن لا يجدي لأن الزوجية لا تثبت بالرضاع إجماعا.

الحادية عشر أن ترضع ولد أخيه أو ولد أخته

و لا يخفي أنه ليس في إرضاع ولد الأخ هنا ما يوجب التوهم لأن المرضعة لم تزد علي أن صارت أما لولد أخي زوجته و أم ولد الأخ ليس حراما علي الشخص. نعم يقال في فرض إرضاع ولد الأخت إنما تصير أم ولد الأخت و هي محرمة لكونها أختا و فيه أن أم ولد الأخت ليست محرمة إلا لعنوان الأخوة الغير الحاصلة بالرضاع.

الثانية عشر

أن ترضع عم الزوج أو عمته.

الثالثة عشر أن ترضع خال الزوج أو خالته


فيقال إن المرضعة حيث إنها صارت إما لعمومه الزوج أو خئولته حرمت عليه لكونها جدة له و فيه ما مر غير مرة و حاصله أنه لم يثبت من أدلة إلحاق الرضاع بالنسب إلا أن الرضاع فرع النسب فكل علاقة حصلت بالرضاع إنما توجب الحرمة إذا كان نظيرها الحاصل بالنسب موجبا للحرمة إذ لا يعقل أن يثبت الحرمة لأجل علاقة رضاعية و لو فرض حصولها بالنسب لم يوجب التحريم لأن هذا مناف لفرعية الرضاع و أصالة النسب فنقول في هذه الصورة الثالثة عشر لم يحصل بالرضاع إلا علاقة الأمومة بين المرضعة و عمومة الزوج أو خئولته و نظيرها الحاصل بالنسب ليس موجبا للتحريم لأن الأم النسبية للعمومة و الخئولة لا تحرم علي الشخص من حيث أمومتها لعمومته أو خئولته بل من حيث علاقة جدودتها له فلا يحكم بالحرمة في الرضاع إلا إذا حصلت هذه العلاقة لا علاقة مستلزمة لها لا دخل لها في التحريم و لو حصلت من جهة النسب كما مر مرارا فراجع. الحمد لله أولا و آخرا
المكاسب، ج‌4، ص 390

8- رسالة في التحريم من جهة المصاهرة

الباب الأول في المصاهرة

و هي علاقة تحدث بين كل من الزوجين و أقرباء الآخر توجب حرمة النكاح من عقد علي امرأة حرم عليه أمها و إن علت تحريما مؤبدا و إن لم يدخل بالمعقودة علي المشهور بل عن الروضة أنه كاد يكون إجماعا. و في الرياض أن عن الناصريات و الغنية دعوي الإجماع عليه لعموم قوله وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ السليم عن معارضة ما يصلح لتخصيصه عدا ما يتراءي من احتمال كون القيد في قوله مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ راجعا إلي هذه الجملة كما يرجع إلي الربائب اتفاقا فيسقط ذلك عن الحجية و ما يتوهم من الاتكال علي بعض الروايات في تخصيص الآية و شي‌ء منهما لا يقدح في ظهورها أما القيد الراجع إلي الربائب فلأن إرجاعه إلي قوله وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ موجب لاستعمال كلمة من في معنيين لأنها بالنسبة إلي الربائب ابتدائية و بالنسبة إلي قوله وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ لو رجع إليه بيانية و هو غير جائز و لو استعملت في القدر المشترك و هو مطلق الاتصال كان به مخالفا لظهورها في الابتداء و أما الرواية فلا تصلح مخصصة لمعارضتها بأكثر منها و أشهر و أقوي.
و منها المحكي عن تفسير العياشي عن أبي حمزة عن مولانا الباقر ع: أنه سئل عن رجل تزوج امرأة و طلقها قبل أن يدخل بها أ تحل له ابنتها قال فقال قد قضي في ذلك أمير المؤمنين ع لا بأس به إن الله يقول وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ و لو تزوج الابنة ثم طلقها قبل أن يدخل بها لم تحل له أمها قال قلت له أ ليس هما سواء قال فقال لا ليس هذه مثل هذه إن الله عز و جل يقول وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ لم يستثن في هذه كما اشترط في ذلك هذا هنا مبهمة ليس فيها شرط و ذلك فيها شرط فكذلك و قد استنهض بعض المعاصرين بهذه الرواية علي رجوع القيد الواقع عقيب الجمل المتعددة إلي الأخيرة نظرا إلي استدلال المصنف بإطلاق غير الأخيرة و فيه نظر لجواز كون الوجه في إطلاقها عدم صلاحيته برجوع القيد إليها كما عرفت. و محل النزاع في المسألة الأصولية فيما إذا صلح القيد لغير الأخيرة أيضا و كيف كان فالمحكي عن العماني من اشتراط الدخول في المعقودة في تحريم أمها ضعيف جدا و إن صحت روايته و يحرم أيضا بالعقد عليها بناتها و إن نزلن لكن مع عدم الدخول إنما تحرم جمعا بمعني تحرم الجمع بينها و بينهن لا عينا فإن دخل بالأم حرمن مؤبدا بقوله تعالي وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ و يدل عليه الروايات المستفيضة و تحرم المعقود عليها و إن لم يدخل بها علي أب العاقد و إن علا لعموم وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ و علي ابنه و إن نزل و يدل عليه صحيحة محمد بن مسلم و فيها بعد الاستدلال علي حرمة أزواج النبي ص علي الحسن و الحسين ع بقوله و لا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إنه لا يصلح للرجل أن ينكح امرأة جده و لو وطئ أحدهما زوجة الآخر لشبهة لم تحرم الموطوءة علي الزوج لأصالة بقاء الحل و فحوي ما في الروايات من أن الحرام لا يحرم الحلال و للرواية فيمن عقد علي أم زوجته و وطئها بشبهة و قيل يحرم علي الابن زوجته إذا وطئها أبوه بشبهة لعموم قوله تعالي وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ بناء علي أن النكاح هو الوطي و كذا لا تحرم الزانية علي أب الزاني و ابنه و له النكاح مطلقا علي رأي نسب إلي الأكثر لاستصحاب صحة العقد عليها قبل الزني و لا يعارضه استصحاب حرمة الوطي و النظر قبل العقد لأنا إذا ثبتنا صحة العقد بالاستصحاب لزمها ترتيب الآثار و لعموم قوله تعالي وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ و لما دل من الروايات علي عدم تحريم أم المزني بها و بنتها علي الزاني بناء علي عدم الفرق بين أصول الزاني و المزني بها و فروعهما في نشر الحرمة و عدمه خلافا للمحكي عن الأكثر فيحرم لرواية ابن أبي عمير عن أبي بصير و رواية علي بن جعفر عن أخيه ع و موثقة عمار و كذا لا تحرم أم المزني بها و لابنتها و إن تقدم لما مر من الأصل.
و العموم مضافا إلي رواية هشام بن المثني و حسن بن سدير و حنان بن أسد و رواية سعيد بن يسار و مرسلة ابن رباط و الأوليان تقبلان الحمل علي ما إذا وقع الفجور بعد العقد بخلاف الأخيرتين لكنهما معارضتان بغيرهما مما دل علي التحريم كصحاح محمد بن مسلم و عيص بن القسم و منصور بن حازم فلا بأس بحملهما علي ما إذا لم يحصل الزني و يراد بلفظ الفجور فيهما مثل اللمس و القبلة و نحوهما علي ما ذكره الشيخ في التهذيب و استثني من قال بعدم تحريم بنت المزني بها صورتين أشار إليهما المصنف قدس سره بقوله علي أن يزني بعمته أو خالته فإن بنتها تحرمان أبدا بلا خلاف و لكن النص مختص بالخال ثم إن الخلاف المتقدم فيما أن سبق الزني علي العقد و إن لم يسبق علي الوطي و إلا يسبق علي العقد و إن سبق علي الوطي فلا يحرم إجماعا للأخبار المستفيضة الدالة علي أنه لا يحرم الحرام و الحلال. نعم في بعض الروايات اشتراط عدم التحريم بتأخر الزني عن الوطي كرواية أبي الصباح و مفهوم الحصر في رواية عمار و كذا لا يحرم لأجل الوطي بالشبهة تزويج الموطوءة علي أب الواطئ و ابنه و لا علي الواطئ أمها و بنتها علي رأي المصنف و جماعة قدس أسرارهم و إن لحق به النسب للأصل و عموم وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ. نعم من قال بالنشر في الزني فالقول به هنا أولي و النظر إلي ما يحرم علي غير المالك للنظر لأجل الملك أو العقد أو التحليل النظر إليه و كذا لمسه لا ينشر الحرمة و إن كان الناظر أبا أو ابنا علي رأي المصنف و شيخه المحقق قدس سرهما للأصل و العموم و خصوص رواية علي بن يقطين و عن الشيخ و أتباعه النشر علي الأب و الابن لعموم وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ و لصحيحة ابن بزيع: إن جردها فنظر إليها بشهوة حرمت علي أبيه و ابنه و نحوها المحكية عن الفقيه. و عن المفيد تخصيص الحرمة بمنظورة الأب لصحيحة محمد بن مسلم: إذا جرد الرجل الجارية و وضع يده عليها فلا تحل لابنه و لا يخفي قصورها عن إفادة الاختصاص و عن الإسكافي و الشيخ في الخلاف تحريم أم المنظورة و الملموسة و بنتها علي الفاعل لعموم النبويين: لا
المكاسب، ج‌4، ص 391
ينظر الله إلي من نظر إلي فرج امرأة و بنتها و في الآخر: من كشف قناع امرأة حرمت عليه أمها و بنتها و الصحيحة يدل علي أنه إذا رأي من المعقودة ما يحرم علي غيره حرمت عليه بنتها و الكل ضعيف سندا و إفادة و القول الثاني لا يخلو عن قوة و حكم الرضاع في جميع ذلك الذي ذكرنا من موارد الوفاق و الخلاف كالنسب بلا خلاف ظاهر لعموم: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فإن معناه كما مر أن العلاقة الحاصلة بسبب الرضاع كالحاصلة بالنسب و كما أن العلاقة النسبية الثابتة بين الزوجة و أمها أوجبت حرمة الأم علي الزوج فكذلك الرضاعية الحاصلة بين الزوجة و بين مرضعتها و الحاصل أن العلاقة الحاصلة من الرضاع بمنزلة نظيرها الثابت بالنسب فمرضعة الزوجة أم و بناتها أخوات و كذا مرضعة الزوج و أصولها فلا يقال إن حرمة هؤلاء النسوة بالمصاهرة لا يوجب حرمتها في الرضاع لأن الرضاع إنما حرم منه ما حرم من النسب لا من المصاهرة. نعم نظير المصاهرة في الرضاع أم المرتضع بالنسبة إلي الفحل حيث إنه إذا صار المرتضع ولدا له فأمه بمنزلة زوجته و جدته بمنزلة أم الزوجة فربما يتوهم تحريمها عليه من هذه الجهة و هو غلط فإن المصاهرة لا تحصل بالرضاع و قد يتوهم التحريم هنا من جهة عموم المنزلة بأن يقال إن جده الولد النسبي محرمة كذلك جدة الولد الرضاعي و فيه ما مر في باب الرضاع و تحرم أخت الزوجة جمعا بالكتاب و السنة و الإجماع من غير فرق بين الدائمة و المنقطعة و كذا ملك اليمين و كذا تحرم مع بقاء علاقة الزوجية و لو بجواز الرجوع في المطلقة الرجعية العقد علي بنت أختها و أخيها إلا أن يجيز الخالة أو العمة و يدل عليه الأخبار المستفيضة خلافا للمحكي عن القديمين فجوزاه مطلقا لبعض الروايات و للمحكي عن الصدوق فمنعه مطلقا و لو مع الإذن لبعض آخر و هما ضعيفان لتقييد أوليهما بما دل علي اختصاص الجواز بصورة الإذن و عليه فإن عصي في موضع و فعل بطل النكاح علي رأي المحقق قدس سره و وقف علي الإجازة علي رأي كثير من المتأخرين أما البطلان منجزا فهو إما لرواية علي بن جعفر الدالة علي البطلان و إما للنهي عنه في الأخبار المقتضي للفساد و إما لأن الصحة في مثل هذا العقد المنهي عنه يحتاج إلي دليل خاص غير قوله تعالي أَوْفُوا بِالْعُقُودِ- وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ لعدم ثبوت وجوب الوفاء و الحلية مع الحكم بالحرمة أما الحكم بالحلية فواضح و أما وجوب الوفاء فلأن ما كان ابتداؤه و إحداثه مبغوضا يكون البقاء عليه كذلك و إما لما يستفاد من الروايات الدالة علي صحة نكاح العبد بدون إذن مولاه و وقوفه علي الإجازة المعللة بأنه لم يعص الله و إنما عصي سيده و في بعضها أن هذان كإتيان من حرم الله من النكاح في العدة و اشتباهه. و أما الوقوف علي الإجازة فلعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ مع ضعف رواية علي بن جعفر و منع دلالة النهي علي الفساد و لعدم منافاة الحرمة قبل الرضا لوجوب الوفاء إلا إذا ادعي أن النهي هنا لعدم قابلية المعقود عليها للعقد كسائر المحرمات في النكاح و غيره مثل تحريم الأصول و الفروع و تحريم بيع الخمر و شبهه و هو غير ثابت بل لا يبعد أن يكون النهي هنا لعارض و هو رضاء العمة و الخالة و هذا العارض يندفع بالإذن. و أما حكاية الأخبار الواردة في وقوف نكاح المملوك علي الإجازة معللا بأنه لم يعص الله و إنما عصي سيده فالمراد به معصية الله سبحانه في نكاح النساء المحرمات عليه لا مطلق المعصية لتحققها في نكاح المملوك قطعا و هنا قول ثالث و هو تخيير العمة و الخالة بين فسخ عقد أنفسهما و فسخ عقد البنت و إمضائهما لوقوع كليهما صحيحين أما عقد العمة و الخالة فواضح و أما عقد البنت فلأنه عقد صدر من أهله في محله فإذا وقع كلاهما صحيحا و كان الجمع بين العقدين موقوفا علي رضاهما تخيرتا بين الرضا بالجمع و دفعه بفسخ أي عقد شاءتا و هو ضعيف لأن العقد الأول وقع لازما و الأصل يقتضي بقاءه و دفع الجميع يحصل بفسخ العقد الطاري و لا يعلم قابلية العقد الأول للفسخ حتي يرتفع الجمع به فيبقي علي أصالة اللزوم. و هنا قول رابع يحكي عن الحلي و هو بطلان العقد اللاحق و تزلزل العقد السابق و هو ضعيف إذ مع بطلان اللاحق و صيرورته كالعدم لا وجه لتزلزل العقد السابق و القولان الأولان مترتبان في القوة و ثانيهما أقوي
و الأخيران مترتبان في الضعف كذلك و الاحتياط غير خفي و له إدخال العمة أو الخالة علي بنت أخيها أو أختها و إن كرهت المدخول عليها و لو تزوج الأختين و إن ترتب صح السابق لوجود المقتضي و عدم المانع و بطلان اللاحق لحرمة الجمع و إن اقترنا مع تعدد العقد أو اتحد العقد عليهما بطل الكل لأن صحة الكل ممتنعة شرعا و صحة أحدهما ترجيح من غير مرجح كما إذا عقد المرأة و أمها و بنتها في عقد واحد خلافا للمحكي عن الشيخ و أتباعه فيتخير في إمساك أحدهما لرواية جميل المرمية بالإرسال و الضعف علي رواية التهذيب و الكافي و الموصوفة بالصحة علي رواية الفقيه. و لو تزوج أخت الأمة الموطوءة بالملك حرمت المملوكة ما دامت الثانية زوجة أو في حكمها أما صحة التزويج فلعموم وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ و لأن الجمع بين الأختين مطلقا ليس بمحرم و لهذا يجوز الجمع بينهما في الملك و أما أنه إذا حصل التزويج حرم وطء المملوكة دون المتزوجة فلأن الوطي بالنكاح أقوي من الوطي بملك اليمين لكثرة ما يتعلق به من الأحكام التي لا تتعلق بالوطء بالملك مع أن الغرض الأصلي من الملك المالية دون الوطي و من المتزوجة الوطي و لهذا يجوز تملك الأختين و لا يجوز تزويجها فيرجح المتزوجة في جواز الوطي و في التعليل تأمل. و اعلم أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في الوطي بملك اليمين كما لا يجوز الجمع في النكاح فعلي هذا لو وطئ إحدي الأختين بالملك حرمت الثانية أي تبقي علي حرمة الوطي كما كانت كذلك قبل وطئها بعد وطء الأول سواء أبقاها علي ملكه أو أخرجها و سواء كان عالما أو جاهلا إلا أن يخرج الأول عن ملكه فيحل الثانية أما حرمة الثانية و حلية الأولي فلاستصحابهما و أن الحرام لا يحرم الحلال و أما حليتها بإخراج الأولي من الملك فلعدم صدق الجمع حينئذ فلا مقتضي للحرمة. و في المسألة أقوال أخر أقواها دليلا ما تضمنته حسنة الحلبي بابن هاشم: في أختين وطئ المالك إحداهما ثم وطئ الأخري فقد حرمت الأولي حتي تموت الأخري قلت أ رأيت إن باعها أ تحل له الأولي قال إن كان يبيعها لحاجة و لا يخطر علي قلبه من الأخري شي‌ء فلا أري لك بأسا و إن كان إنما يبيعها ليرجع إلي الأولي فلا كراهة و نحوها رواية الكناني إلا أن فيها سقطا لا يخل بالمقصود فإن الظاهر اتحاد متنها مع متن رواية الحلبي و ظاهرهما و إن عم صورة الجهل إلا أن في بعض المكاسب، ج‌4، ص 392
الأخبار تخصيص ذلك بصورة العلم و لا يجوز للرجل أن يعقد علي أمته إجماعا و للتفصيل في قوله إِلَّا عَلي أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ و معني عدم الجواز هنا اللغوية و لا يجوز للحرة أي يحرم عليها أن تنكح عبدها إجماعا أيضا: و قد حد أمير المؤمنين ع امرأة أمكنت نفسها من عبدها

الثاني الكفر

اشارة

و فيه بحثان

الأول يحرم علي المسلم نكاح غير الكتابية

اشارة

من النساء الكوافر دائما و متعة و ملك يمين بلا خلاف كما صرح به غير واحد و إجماعا كما ادعاه آخرون للكتاب و السنة المستفيضة و فيها أي في الكتابية قولان من حيث حرمة مطلق النكاح أو خصوص الدوام و إلا فقد حكي في المسألة أقوال ستة و يحتمل أن يكون القولان المذكوران أشهر الأقوال في المسألة ثم الأشهر منهما و أقربهما عند المصنف و جماعة قدس سرهم حرمة الدائم و جواز المنقطع و ملك اليمين أما حرمة الدائم فلقوله تعالي وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ و قوله وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ مضافا إلي بعض الروايات كرواية الحسن بن الجهم و المحكي من نوادر الراوندي و أما جواز المنقطع فلبعض الروايات المصرحة بالجواز المنجبر ضعفها لو كان بحكاية الإجماع عن غير واحد مضافا إلي ما دل علي جواز النكاح بملك اليمين كآية أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ و خصوص الصحيحة في المجوسية إذا كانت أمه بعد ما استفيد من غير واحدة من الروايات أن المتمتعة بمنزلة الأمة كل ذلك مضافا إلي عموم قوله وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ خرج منها نكاحهن دواما و ليس في مقابل المذكور عدا إطلاق الآيتين السابقتين و الروايات و تخصيصها بما ذكرنا طريق الجمع فالقول بالمنع مطلقا ضعيف و أضعف منه القول بالجواز مطلقا لعموم وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ و عموم بعض الأخبار الصحيحة و بعض الروايات و الآية نسخت بقوله لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ كما في بعض الروايات و بقوله تعالي وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ كما يظهر عن بعض آخر و الأخبار مقيدة بالمتعة مع موافقة عمومها لمذهب العامة علي ما حكي

و المجوسية كالكتابية

إما لما ورد من ثبوت كتاب لهم و نبي فقتلوا نبيهم و حرقوا كتابهم و إما للنبوي سنوا بهم سنة أهل الكتاب و إما لما ورد بالخصوص من جواز التمتع بالمجوسية مؤيدا بما في مصححة محمد بن مسلم من جواز نكاح المجوسية بملك اليمين بعد ضم كون المنقطعة بمنزلة الأمة و الصابئون و هم كما قيل طائفة من النصاري كما أن السامرة طائفة إن كانوا ملحدة الأولي منهم عند النصاري و الثانية عند اليهود فكالوثني لخروجهما حينئذ عن كلتا الملتين فلا يشار كأنهما في الحكم للاختلاف في أصول الملة و إن كانوا مبتدعة متوافقة معهم في أصل الملة فكالكتابي. و عن مجمع البحرين عن الصادق ع: أنه ليس للصابئة دين و لا كتاب و مقتضاه أنهم غير كتابيين و عن الشيخ التصريح بذلك و عن المصباح المنير أنهم يدعون أنهم علي دين صابئ بن شيث بن آدم ع و عن الصحاح أنهم من أهل الكتاب و حكي عن المحقق الثاني في شرح القواعد أن الصابئة فرقتان فرقة توافق النصاري في أصول الدين و الأخري تخالفهم و يعبدون الكواكب السبعة و تسند الآثار إليها و تنفي الصانع المختار قال و كلام المفيد قريب من هذا و قال إن جمهور الصابئين توحد الصانع في الأزل و منهم من تجعل معه هيولي في القدم صنع منها العالم فكانت عندهم الأصل و يعتقدون في الفلك و ما فيه الحياة و النطق و أنها المدبر لما في هذا العالم الدائر عليه و عظموا الكواكب و عبدوها من دون الله و سماها بعضهم ملائكة و بعضهم آلهة و بنوا لها بيوتا للعبادات انتهي و عن تفسير القمي الصابئون قوم لا مجوس و لا يهود و لا نصاري و لا مسلمون و لكنهم يعبدون الكواكب و النجوم و عن التبيان و المجمع للطوسي و الطبرسي أنه لا يجوز عندنا أخذ الجزية من الصابئة لأنهم ليسوا من أهل الكتاب و كيف كان فجوز النكاح منهم في غاية الإشكال إذ لم يخرج من عموم أدلة التحريم إلا اليهود و النصاري و المجوس و كونهم منهم يحتاج إلي دليل إلا أن يقال إن الشك في دخولهم فيهم يوجب الشك في شمول العموم لهم فيبقي علي أصل الإباحة لكن الإنصاف أن المتبادر من اليهود و النصاري الخارجين عن العمومات هو ما يقابل الصابئة فالصابئة لو كانت منهم فرضا نشك في شمول الخاص لهم فيبقي تحت العام ثم اعلم أنه قال في المسالك لا فرق في الكتابي بين الذمي و هو القائم بشرائط الذمة منهم و الحربي و هو الناقض لها لعموم الأدلة و فيه إشكال لانصراف اليهود و النصاري إلي الذمي و الله العالم

[البحث الثاني] لو أسلم زوج المرأة الكتابية و المجوسية بقي علي نكاحه و إن لم يدخل

اشارة

بغير خلاف بين العلماء حتي المانعين من نكاح الكتابي ابتداء كما يظهر من غير واحد و يدل عليه ما سيأتي في من أسلم علي أكثر من أربع و إن أسلمت المرأة دونه أي دون الرجل فإن كان إسلامها قبل الدخول انفسخ النكاح لحرمة نكاح الكافر علي المسلمة وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا و لا عدة عليها هنا حتي يتوقف الانفساخ علي بقائه علي الكفر حتي تنقضي العدة كما فيما بعد الدخول و لا مهر لها أيضا لأن الحدث جاء من قبلها و يدل علي ذلك كله مضافا إلي أن الظاهر أنه المعروف من مذهب الأصحاب كما حكي الصحيح: في نصراني تزوج نصرانية فأسلمت قبل أن يدخل بها قال قد انقطعت عصمتها و لا مهر لها و لا عدة عليها منه و في رواية السكوني: وجوب نصف المهر لأن الإسلام لم يزدها إلا عزا و هو شاذ و إن كان إسلامها بعده أي بعد الدخول ينتظر العدة عدة الطلاق فإن أسلم فالزوجية باقية و إلا بطلت من حين إسلامها و هذا الحكم في غير الزوج الكتابي و المجوسي مما لا خلاف فيه ظاهرا كما يظهر من جماعة و أما الكتابي و المجوسي فحكمه أيضا كذلك عند المشهور بل عن الشيخ في الخلاف دعوي الوفاق و لكنه خالفه في التهذيبين و النهاية علي ما حكي عنه فحكم ببقاء النكاح و إن لم يسلم الكتابي إلا أنه لا يقربها و لا يتمكن من الخلوة بها لرواية محمد بن مسلم و فيها إرسال لكن عن ابن أبي عمير و مرسلة جميل بن دراج و فيها علي بن حديد: و لو أسلم أحد الحربيين قبل الدخول انفسخ العقد و لو كان المسلم هو الزوج لعدم جواز نكاح غير الكتابية ابتداء و لا استدامة إجماعا و عليه نصف المهر إن كان الإسلام منه و قيل عليه جميع المهر لثبوته بالعقد و لا دليل علي سقوطه و إلحاقه بالطلاق قياس و إلا لم يكن الإسلام منه بل كان الإسلام منها فلا شي‌ء لما تقدم و إن كان إسلام أحدهما
المكاسب، ج‌4، ص 393
بعده أي بعد الدخول ينتظر العدة فإن أسلم الآخر بقي النكاح و إلا يسلم انفسخ بلا خلاف ظاهرا كما صرح به في الرياض و فيه أنه حكي عليه الإجماع. و يدل علي حكم المسألة مع إسلام المرأة أولا المستلزم لثبوته مع العكس بالإجماع و الأولوية و رواية محمد بن مسلم عن ابن أبي عمير و علي كل تقدير عليه المهر لاستقراره بالدخول و إن كان الإسلام من المرأة لأن مطلق تفويت البضع لا يوجب الضمان و لهذا لو قتلت نفسها لم يسقط مهرها و كذا لا يضمن المهر من قتلها و لو انتقلت زوجة الذمي الذمية إلي غير الإسلام انفسخ النكاح في الحال و إن عادت قيل لقوله وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ و عموم قوله: فمن بدل دينه فاقتلوه فيجب عليه بعد التبديل القتل أو تدخل في الإسلام و تنظر في ذلك في المسالك من وجهين الأول أنه لا يجوز أن ينتقل إلي دين يصح عندهم التناكح فيه فلا ينفسخ ما دامت فيه الثاني أنها إن قتلت فالانفساخ بالقتل لا بالانتقال و إن أسلمت فينبغي هنا مراعاة انقضاء العدة و عدمه إذا كان بعد الدخول و علي كل تقدير لا يعد الفسخ الحاصل باختلاف الدين طلاقا كما هو واضح فإن كان قبل الدخول من المرأة فلا مهر كما تقدم و إن كان من الرجل فعليه من المهر علي ما حكي عن المشهور نصفه و قد تقدم أنه محل نظر و إن كان بعد الدخول فالمسمي من أيهما كان موجب الفسخ لاستقراره بالدخول و لو كان المهر المسمي فاسدا.

فمهر المثل مع الدخول

و إن كان أسلم قبله فعليه المتعة حملا له علي طلاق المفوضة و فيه نظر لعدم كونه طلاقا و لا المرأة مفوضة و لو ارتد من الزوجين أحدهما قبل الدخول انفسخ العقد في الحال لأن المرتد إن كان هو الزوج وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا و إن كانت الزوجة فلا يجوز البقاء علي نكاح غير الكتابية و المجوسية إجماعا و لا عدة قبل الدخول حتي ينتظر و حينئذ فإن كان الارتداد من الزوجة فلا مهر لها لأن الحدث جاء من قبلها و إلا يكن منها كان علي الزوج المرتد نصفه إلحاقا له بالطلاق كما تقدم مع النظر فيه و الخلاف و إن كان ارتداد أحدهما بعد الدخول فالجميع لازم لها لاستقراره و ينفسخ العقد في الحال إن كان المرتد هو الزوج و كان ارتداده عن فطرة لعدم قبول الإسلام فيه حتي ينتظر العدة كما في غيره من الكفار و إن كان ارتداده عن غيرها أو كانت المرتدة هي الزوجة وقف الانفساخ علي انقضاء العدة مع بقاء المرتد عنهما علي ارتداده و هذا الحكم و إن خلا عن النص بل في بعض الأخبار البينونة بمجرد الردة إلا أن وقوفه علي انقضاء العدة الظاهر أنه لا خلاف فيه. و صرح به في الرياض و حكي التصريح بالاتفاق عن بعض مضافا إلي أن الأصل بقاء النكاح فإن وطئها الزوج لشبهة في العدة قال الشيخ عليه مهران كما لو وطئ مطلقة في العدة البائنة هذا مع عدم الإسلام في العدة فيكشف ذلك عن بينونتها من حين الردة فتكون أجنبية كالمطلقة و فيه نظر لأنها بحكم الزوجة و لهذا لا يحتاج إلي تجديد نكاح بعد الإسلام فليست كالمطلقة

الباب الثالث العقد و الوطي

إذا عقد الحر غبطة أي دواما علي أربع حرائر أو حرتين أو أمتين حرم الزائد إجماعا علي الظاهر كما يظهر من جماعة و به روايات كحسنة زرارة و محمد بن مسلم: إذا جمع الرجل أربعا فطلق إحداهن فلا يتزوج الخامسة حتي تنقضي عدة في ظاهر المرأة التي طلق و قال لا يجمع ماءه في خمسة و نحوها روايتا علي بن حمزة و محمد بن قيس و لا خلاف أيضا كما قيل في أنه لا يحل له ثلاث إماء و إن لم يكن معهن حرة. و في الرياض أنه حكي جماعة الإجماع عليه و استدل له في الرياض و الحدائق برواية أبي بصير: لا يصلح أن يتزوج ثلاث إماء و لكن تنظر فيه الرياض و لا خلاف أيضا ظاهرا من غير واحد أنه يحرم علي العبد تزويج ما زاد علي الحرتين أو حرة أو أمتين أو أربع إماء و يدل عليه رواية محمد بن مسلم عن العبد يتزوج حرتين و إن شاء تزوج أربع إماء قيل و المعتق بعضه كالحر في حق الإماء كما يظهر فلا يزيد علي أمتين و كالعبد في حق الحرائر فلا يزيد علي حرتين و المعتق بعضها كالحرة في حق العبد و كالأمة في حق الحر قيل و لعله لتغليب الحرام إذا اجتمع مع الحلال و العبد و الحر لو استكملا العدد في الدائم حل لهما بملك اليمين و المتعة ما أرادا أما عدم الحصر في ملك اليمين فموضع وفاق كما صرح في المسالك لعموم قوله تعالي أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ و أما في المنقطع فهو المشهور و عن الحلي الإجماع عليه للروايات الكثيرة. و عن القاضي تحريم ما زاد علي الأربع لما ورد في بعض الروايات أنها أي المنقطعة عن الأربع و حمل علي الاستحباب لأنه متي جعلها من الأربع و اطلع عليه المخالفون أمكن أن يدعي أنها دائمات بخلاف ما إذا زاد و يدل عليه قول أبي الحسن ع لصفوان إنه قال أبو جعفر ع: اجعلوهن من الأربع قلت علي الاحتياط قال نعم و المراد به الاحتياط من المخالفين و اعلم أنه لو طلق واحدة من كمال العدد بائنا جاز له نكاح غيرها و أختها علي كراهية في الحال أما الجواز فلانقطاع عصمة المطلقة علي ما يستفاد من الروايات و أما الكراهة فلورود النهي عن الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة الشامل لغير الرجعية و كذا عن الأخت علي كراهة و لو كان الطلاق رجعيا حرمت الأخري و الأخت إلا بعد العدة لأنها بحكم الزوجة ما دامت في العدة ثم المحكي عن الأكثر بل المشهور إلحاق عدة المتعة بعده البائن و يشهد له تعليل الجواز في عدة البائن بانقطاع عصمتها الجاري في المنقطع أيضا. و في بعض الأخبار وجوب التربص إلي انقضائها فيتزوج أختها و حكي القول به عن المقنع و هو أحوط و قول المشهور أقوي و لو تزوج خمسا في عقد واحد أو تزوج اثنتين و معه ثلاث أو تزوج أختين في عقد واحد بطل العقد بالنسبة إلي كليهما للزوم الترجيح بلا مرجح و قيل يتخير و يدل عليه حسنة جميل و قد مر نظيره في الأختين أيضا و إذا طلقت الحرة ثلاثا بينهما رجعتان بالرجوع أو باستيناف العقد حرمت المطلقة إلا بالمحلل الذي يأتي تفصيله في باب الطلاق سواء كان المطلق حرا أو عبدا و الأمة تحرم بطلقتين سواء كانت تحت حر أو عبد بلا خلاف كما يظهر لما دل من أن الاعتبار في الطلاق و العدة بالزوجة دون الزوج فإن طلقت المرأة تسعا للعدة ينكحها بينهما رجلان بأن طلقها فراجعها في العدة و وطئها ثم طلقها ثم راجعها و وطئها ثم طلقها فتزوجها المحلل ثم بعد فراقه تزوجها فطلقها ثلاثا بينهما رجعتان مع الوطي ثم تزوجها المحلل ثم بعد فراقها تزوجها الأول فطلقها ثلاثا بينهما رجعتان مع الوطي حرمت أبدا. و إطلاق طلاق العدة علي المطلقات التسع مجاز لأن طلاق العدة ليس إلا ستة منها ثم إن غير واحدة من الروايات ليس فيها تقييد الطلقات بكونها للعدة كرواية أبي بصير المحكية عن الكافي
المكاسب، ج‌4، ص 394
و رواية جميل المحكية عن المشايخ الثلاثة و رواية أديم بن بياع الهروي المروية في التهذيب و المحكية عن الكافي و عن كتاب الحسين بن سعيد. نعم حكي عن الخصال في رواية عد المحرمات من الأزواج قول الصادق ع و تزويج الرجل امرأة طلقها للعدة تسع تطليقات و نحو ذلك حكي عن الفقه الرضوي و حيث إنهما في مقام البيان تدلان علي نفي الغير بالمفهوم مع أن في الرضوي دلالة بالمنطوق ظاهر و نحوهما فتوي علي بن إبراهيم الكاشفة عن وجود النص فيصلح هذا كله بعد اشتهار مضمونها لتقييد تلك المطلقات مضافا إلي رواية معتبرة رواها عبد الله بن بكير في عدم احتياج المطلقة ثلاثا إذا تزوجت بعد انقضاء عدة كل طلاق إلي المحلل. فإن قوله ع فيها له أن يتزوجها أبدا معناه إلي أنه لا تصير المرأة عليه محرمة أبدا بل يجوز تزويجه أبدا بعد المحلل في كل ثلاث ثم بناء علي اختصاص الحرمة الأبدية بالمطلقة للعدة فلو كان في كل من الأدوار الثلاثة طلاق واحد للعدة لم يحصل التحريم الأبدي و كذا لو كان في بعض الأدوار طلاقان للعدة و في بعض آخر واحد هذا كله في الحرة و أما في الأمة فالحكم فيه بتحريمها مؤبدا محل نظر من أن الطلقات الست فيها بمنزلة التسع في الحرة حيث إنها تحرم بعد كل طلقتين حتي تنكح زوجا غيره و من أن حكم النص معلق علي تسع طلقات بينها محللان فإذا طلقت الأمة بين كل طلقتين محلل يصدق عليها أنها طلقت تسعا و نكحت بينها رجلان و إن كان قد نكحها بينها أكثر حينئذ إلا أن ذلك لا ينفي صدق الرجلين و من أن الظاهر المتبادر من النص هي الحرة. فينبغي أن تبقي الأمة علي أصالة الإباحة مع أن ظاهر تحلل الرجلين نفي الزائد فيصير هذا قرينة لإرادة الحرة و اعلم أن عقد علي امرأة في عدتها الرجعية أو البائنة دواما أو انقطاعا أو للوفاة عالما بالحكم و الموضوع حرمت المرأة عليه أبدا و إن لم يدخل بها و كذا إن جهل العدة و التحريم أو أحدهما و لكن دخل و لو لم يدخل بطل العقد و له استينافه بعد الانقضاء اتفاقا في الجميع كما يظهر من غير واحد و يدل عليها أخبار منها حسنة الحلبي عن أبي عبد الله ع قال: إذا تزوج الرجل المرأة في عدتها و دخل بها لم تحل له أبدا عالما كان أو جاهلا و إن لم يدخل بها حلت للجاهل و لم تحل للآخر و إطلاق التحريم بالدخول مع الجهل يشمل ما لو وقع الدخول في العدة أو بعدها. و حسنته الأخري عن أبي عبد الله ع قال: سألته عن المرأة الحبلي يموت زوجها فتضع و تتزوج قبل أن يمضي لها أربعة أشهر و عشرا قال إن كان دخل بها فرق بينهما ثم لم تحل له أبدا و اعتدت بما بقي عليها من الأول و استقلت عدة أخري من الآخر ثلاثة قروء و إن لم يكن دخل بها فرق بينهما و اعتدت بما بقي عليها من الأول و هو خاطب من الخطاب و صريحها الدخول في العدة و نحوها في الصراحة موثقة محمد بن مسلم لكن لا يخفي أن اختصاص موردها بصورة الدخول في العقد لا تقتضي اختصاص الحكم بذلك فبقي إطلاق رواية الحلبي السابقة و نحوها علي حالها. و صرح في المسالك باشتراط الدخول في العدة في التحريم و لعل وجهه أن الدخول مع الجهل إنما يوجب التحريم إذا وقع في زمان لا يصلح الزوجة للنكاح و بعد الدخول لا فرق بين الدخول بها و بغيرها فمن لم يعقد عليها العدة و جوابه واضح لاحتمال مدخلية العقد في ذلك مضافا إلي أنه اجتهاد في مقابلة إطلاق النص إلا أن يدعي ظهور ذلك من النص ثم إن بعضهم صرحوا بلحوق عدة الشبهة بعده الطلاق و المتمتعة و في دلالة النصوص عليه تأمل لانصراف العدة إلي غيرها ثم إذا كان الدخول بالمعقودة في العدة لشبهة استحقت المهر مع جهلها و هل هو المسمي أو مهر المثل قولان أقواهما الثاني لفساد المسمي بفساد العقد و اعتدت من وطء الشبهة بعد إتمام عدتها الأولي للحسنة الثانية و رواية محمد بن مسلم المتقدمتين.
و في بعض الأخبار ما يدل علي الاكتفاء بعده واحدة و هل يلحق مدة استبراء الأمة فيه إشكال الأقوي العدم اقتصارا علي مورد الدليل و هل يلحق بالمعتدة ذات البعل قيل فيه وجهان من مساواتها لها في المعني و من انتفاء العدة التي هي مورد النص و في الوجهين نظر لا يخفي إذ السماوات لا تصلح دليلا للحكم الشرعي حتي يتعدي و لا النص مختص بالمعتدة حتي يقتصر بل الأقوي الإلحاق أما التحريم مع العقد عليها عالما لموثقة أديم بن بياع الهروي قال قال أبو عبد الله ع: التي تتزوج و لها زوج يفرق بينهما ثم لا يتعاودان خرج منه ما لو جهل و لم يدخل بقي ما لو علم أو دخل و نحوها مرفوعة أحمد بن محمد و عبارة الرضوي و يدل علي التحريم مع الدخول مضافا إلي الموثقة المذكورة موثقة زرارة: في المرأة فقدت زوجها أو نعي إليها فتزوجت ثم قدم زوجها بعد ذلك ثم طلقها زوجها أو مات عنها قال تعتد عنهما جميعا ثلاثة أشهر عدة واحدة ليس للآخر أن يتزوجها أبدا و نحوها خبر آخر و لا يعارضها الصحيح الآتي بالعموم من وجه لظهورها في صورة الجهل مع وجوب الرجوع علي هذا الفرض إلي عموم موثقة أديم بن بياع الهروي و نحوها مضافا إلي الأولوية الجلية فإن بقاء النكاح لو لم يؤكد التحريم لم ينفه قطعا. و أما عدم التحريم مع الجهل و عدم الدخول فالظاهر أنه مما لا خلاف فيه و صرح بدعوي الإجماع في الرياض و في الحدائق ليس فيه خلاف يعرف و يدل عليه أيضا الصحيح: عمن تزوج امرأة و لها زوج و هو لا يعلم فطلقها الأول أو مات عنها ثم علم الآخر أ يراجعها قال لا حتي تنقضي عدتها و أما التحريم مع الدخول و العلم فهو اتفاقي لأنه زني بذات البعل و يدل عليه غير واحد من الأخبار و علي كل حال فإن دخل بها مع الجهل لحق به الولد إن جاء لستة أشهر منذ وطئها لأن وطء الشبهة بمنزلة الصحيح و فرق بينهما و عليه المهر مع جهلها لا علمها إذ لا مهر لبغي و تتم عدة الأولي لكونها فيها و تقدم سببها و تستأنف أخري كل ذلك علم مما سبق و لو زني بذات بعل أو في عدة رجعية حرمت المزني بها علي الزاني أبدا بلا خلاف فيه ظاهرا.
و حكي في الرياض الإجماع عليه عن جماعة و في الحدائق عن غير واحد و يدل عليه فحوي ما تقدم من الحكم بالحرمة مع العقد عالما بدون الدخول و كذا الدخول مع الجهل مضافا إلي صريح المحكي عن الرضوي في تحريم الزني بذات البعل و أنه لا يحل للزاني تزويجها أبدا و أنه يقال لزوجها يوم القيامة خذ من حسناته ما شئت و يدل علي حكم المعتدة رجعيا بانضمام ما دل علي أنها بمنزلة الزوجة و قد يستدل بما تقدم من الدليل علي التحريم بالعقد و الدخول الشامل بصورة العلم و هو الزني و فيه نظر إذ لعل للزني المستند إلي العقد تغليظ عقوبة حيث استند في العمل القبيح إلي الأسباب الشرعية فجعلها واسطة في خلاف ما وضع لأجله و لذا عد معصية الله سبحانه فيما يكون بصورة العبادة أغلظ من غيرها و لهذا لو زني بغيرها من المعتدات لم تحرم عليه عند المصنف و غيره مع أن العقد عليها مع الدخول بها محرم
المكاسب، ج‌4، ص 395
إجماعا كما تقدم. نعم ربما يحتمل التحريم هنا من جهة فحوي حكم الدخول بها مجردا و العقد المجرد عليها عالما و فيه تأمل و في حكم المعتدات غيرها الخالية عن الزوج و الموطوءة بشبهة و الموطوءة بالملك و كذا الحكم فيما لو أصرت امرأته عليه أي علي الزني فإنه لا يوجب حرمتها عليه و إن عقد المحرم علي امرأة عالما بالتحريم حرمت مؤبدا و إن لم يدخل بها إجماعا حكاه في الرياض عن جماعة و يدل عليه المحكي عن الخصال و بعض الروايات و إن كان جاهلا فسد عقده إجماعا و لكن لا تحرم علي الأشهر بل عن التذكرة و المنتهي الإجماع عليه و يدل عليه المحكي عن كتاب الحسين بن سعيد و مفهوم الخبر المحرم إذا تزوج و هو يعلم أنه حرام عليه لا تحل له أبدا خلافا للمحكي عن المقنع و سلار فحكموا بالتحريم لعموم ما دل عليه. و من أوقب غلاما أو رجلا و لو بإدخال بعض الحشفة الغير الموجب للغسل علي تأمل فيه من جهة انصراف النصوص و الفتاوي إلي غيرها حرمت عليه أمه و إن علت و بنته و إن نزلت و أخته لا بناتها اتفاقا في جميع ذلك علي الظاهر المصرح به في كلام بعض و المحكي في كلام آخرين و لا تحرم واحدة من هؤلاء لو سبق العقد عليها اللواط بشرط وقوعه حال الزوجية أما لو عقد علي إحداهن ففارقها ففعل ذلك القبيح فالظاهر حرمة تزويج المفارقة لأن عموم قوله: لا يحرم الحرام الحلال في الحلال بالفعل و هكذا حكم غير المسألة من مسائل المصاهرة و ما يلحقها ثم إن أصل الحكم في صورة العقد اتفاقي لا مخالف فيه فتوي و رواية إلا ما يظهر من بعض الروايات: من أن من أتي أخا امرأته حرمت عليه امرأته و هي محمولة علي إرادة أخ من صدق عليها أنها امرأته في الحال دون زمان الإتيان و إن كان مخالفا للظاهر لأن ظاهر الموضوعات المتصفة بعنوان ثبوت الوصف العنواني فيها حال عروض المحمول لها حال الإخبار عن وقوعها. و ظاهر إطلاق العبارة كسائر العبائر عدم الفرق في الفاعل بين الصغير و الكبير إلا أن المذكور في الأخبار هو الرجل و حمله علي كونه رجلا لها حال الحكاية بعيد كما عرفت و يؤيده الحكم بالتحريم عليه حيث إنه من عوارض أفعال البالغين اللهم إلا أن يقال إن المراد بالتحريم في هذه المقامات هو مجرد الفساد كما أن صيغة النهي قد تستعمل لمحض ذلك فكذا مادة التحريم و اعلم أن المشهور أنه لا يحرم علي المفعول بسبب هذا العمل أحد من أقارب الفاعل. و حكي عن شرح النافع حكاية نقل القول بإلحاقه بالفاعل عن بعض و من لا عن امرأة حرمت عليه أبدا بلا خلاف في ذلك ظاهرا كما صرح به غير واحد و سيأتي الكلام فيه و كذا لو قذفها صما أو خرسا فيما يجب اللعان لو لا خرسها أو صمها بأن يرميها بالزني مع دعوي المشاهدة و عدم البينة قيل و الحكم بالرواية مختص بجامعة الوصفين لكن المحكي عن الأكثر الاكتفاء بأخذ الأمرين و عن الغنية و السرائر الإجماع قيل و في بعض مواضع من التهذيب ذكر الرواية بعطف أحدهما علي الآخر بلفظ أو بدل الواو و الموجود عندي هو ذكر لفظ أو في الرواية المروية في التهذيب عن الحسن بن محبوب عن هشام بن سالم عن أبي بصير و ذكر عبارة الفقيه قبل هذه الرواية بلفظ أو أيضا. نعم في بعض الروايات الاكتفاء بالخرس وحده و يثبت الاكتفاء بالصمم وحده بعدم القول بالفصل. و حكي عن الصدوق تعدي الحكم إلي ما لو قذف الزوجة زوجها الأصم للمرسل و كل مقام ثبت الحرمة فالواجب تمام المهر و إن كان قبل الدخول لأن إلحاقه بالطلاق قياس لا نقول به ثم هل ينفي بذلك الولد عن أبيه الملاعن أم لا وجهان و لو دخل الزوج بصبية لم تبلغ تسعا و تزوجها فعل محرما بلا خلاف كما يظهر من كلام بعضهم و لم يحرم عليه بذلك ما لم يفضها علي المعروف ممن عدا الشيخ و له إطلاق بعض الروايات فلو أفضاها بجعل مسلك البول و الحيض واحدا و ربما فسر بجعل مسلك الحيض و الغائط واحد و هو بعيد الوقوع حرمت عليه أبدا لمرسلة زيد بن يعقوب و عليه الإنفاق عليها حتي يموت أحدهما لرواية الحلبي و هل تبين منه بغير طلاق أم لا ظاهر رواية يزيد بن معاوية و رواية حمران المحكية عن الفقيه بل صريحهما الثاني و ظاهر المرسلة المتقدمة الأول و هو المحكي عن ابن حمزة و أيده في المسالك تبعا للمحقق الثاني علي ما حكي
بأن التحريم المؤبد ينافي النكاح إذ ثمرته حل الاستمتاع و لأنه يمنع النكاح سابقا فيقطعه لاحقا كالرضاع و اللعان و القذف للزوجة الصماء و الخرساء. و فيه أن انحصار ثمرة النكاح في حل الاستمتاع إنما توجب عدم جواز ابتداء النكاح علي من يحرم الاستمتاع منه لا بقاءه و أما حرمة النكاح بالرضاع السابق الموجب لانفساخ اللاحق فلوجود الدليل. و الحاصل أن الخروج من أصالة بقاء النكاح حرمة الزوجة للغير لا بد له من دليل قاطع و لا اعتبار بالاعتبار قد طعن ابن إدريس علي هذا القول بما لا مزيد عليه بل ظاهره ثبوت الاتفاق علي عدم بينونتها بغير الطلاق علي ما حكي عنه ثم لو طلقها أو قلنا بأنه تبين منه بغير طلاق لو تزوجت فهل يجب علي المفضي الإنفاق عليها أيضا أم لا الأظهر الثاني و إن كان مقتضي إطلاق رواية الحلبي الأول و فيها يجب الإجراء عليها ما دامت حية لانصرافها علي صورة عدم تزوجها حيث إن الغالب عدم رغبة الأزواج فيها بعد الإفضاء كما تدل عليه الرواية القابلة بأنه قد أفسدها و أبطلها علي الأزواج مضافا إلي ما دل علي وجوب نفقة الزوجة علي زوجها الشامل لهذه الزوجة و ليس إطلاق تلك الأدلة أدون من إطلاق هذه الرواية فيتعارضان حيث يدل كل منهما علي وجوب الاتفاق عينا و يترجح تلك الأدلة باعتبار موافقتها للقواعد الشرعية من كون النفقة في مقابل التمكين و غير ذلك مما لا يخفي

الباب الرابع في موجب الخيار و هو العيب و التدليس

الأول في العيب

العيوب المجوزة لفسخ النكاح في الرجل أربعة الجنون و الخصي و الجب و العنة

و سيأتي الدليل علي كونها عيوبا و تفصيل أحكامها و هل الجذام و البرص عيب في الرجل فيه قولان الأشهر لا و المحكي عن القاضي و الإسكافي و الشهيد الثاني نعم لعموم الصحيح: إنما يرد النكاح من البرص و الجنون و الجذام و الفعل و لأدائه إلي الضرر لأنهما من الأمراض المتعدية باتفاق الأطباء. و في الخبر: فر من الجذام فرارك من الأسد مع أنها عيب في المرأة مع طريق التخلص للرجل إلي فراقها بالطلاق فثبوته في الرجل بطريق أولي حيث لا طريق للمرأة إلي فراقه بوجه آخر و رد باختصاص الصحيح بالمرأة بحكم سياقه و السؤال المذكور له في غير التهذيب و التخلص يمكن مع التضرر بإجبار الحاكم له علي الطلاق لو تضررت بالمباشرة و المعاشرة مضافا
المكاسب، ج‌4، ص 396
إلي أنه مستلزم لثبوت الفسخ بجميع الأمراض المعدية و هل يرد بالعمي المحكي عن القاضي و الإسكافي. نعم و ألحق الثاني به العرج و الزمن الثابت قبل العقد أو بعده و حكي عن الشيخ في المبسوط أنه عد من العيوب ما لو ظهر الزوج خنثي. و في المسالك أن موضع الخلاف ما إذا كان محكوما بالذكورية بالأمارات للتنفر عنه و عدم حصول الاطمئنان بالأمارات أما لو كان مشكلا تبين فساد النكاح و عيوب المرأة سبعة الجنون و الجذام و البرص و القرن بسكون الراء و هو العفل و هو لحم ينبت في قبل المرأة أو شي‌ء يخرج من قبل المرأة شبه الأدرة للرجل أعني انتفاخ الخصيتين أو عظم كالسن في قبل المرأة. و اتحاد العفل و القرن هو المحكي عن أكثر أهل اللغة و الفقهاء و يدل عليه الصحيح: المرأة ترد من أربعة أشياء البرص و الجذام و الجنون و القرن و هو العفل ما لم يقع فإذا وقع عليها فلا و نحوها خبر آخر كما قيل ثم إنه لا خلاف نصا و فتوي في أن هذه الأربعة عيوب في المرأة توجب الفسخ و لا فرق في الجنون بين المطبق و الأدواري و هل القرن عيب مطلقا أو بشرط كونه مانعا عن الجماع بسهولة و لذا أطلق في كلام جماعة من أهل اللغة أنه يمنع الوطي و لكن يستفاد من غير واحد من الأخبار إمكان وطئها و علي كل حال فالمحكي عن الشيخ و الأكثر هو عدم ثبوت الخيار مع إمكان الوطي للأصل و عدم ثبوت المقتضي للخيار فإنه إنما نشأ من حيث المنع عن الوطي و حكي عن الشيخ و الأكثر عدم ثبوت الخيار أيضا و مال إليه المحقق في الشرائع لإطلاق الأخبار و تصريح بعضها بالخيار و لو مع الدخول ثم إن الخيار إنما يثبت بالجذام و البرص إذا تحققا بشهادة أهل الخبرة و يظهر من بعض اعتبار التعدد فيه لأنها شهادة و في اعتبار العدالة نظر و قد يشتبه البهق بالبرص.

و الخامس من العيوب الإفضاء

و هو جعل المسلكين واحدا و لا خلاف ظاهرا في ثبوت الخيار به كما يظهر من غير واحد و يدل عليه مصححة الحذاء.

و السادس العمي

و لا خلاف فيه ظاهرا إلا ما يحكي عن ظاهر المقنع و المبسوط و يدل عليه مصححة داود بن سرحان و موثقة ابن مسلم.

و السابع العرج مطلقا

علي ما حكي عن الشيخين و الإسكافي و الحلبي و أكثر الأصحاب لمصححة داود بن سرحان و موثقة محمد بن مسلم أو بشرط كونه بينا كما ذهب إليه آخرون منهم المصنف قدس سره في المختلف و التحرير و يمكن أن يراد به ما كان كثيرا متفاحشا لبعد كون اليسير جدا عيبا بل الأخبار أيضا منصرفة إلي البين و قيل ليس بعيب مطلقا و قيل إنه عيب إن بلغ الإقعاد و الأول أقوي

و هل يثبت الخيار بالرتق

و هو علي ما حكي من أهل اللغة التحام الفرج بحيث لا يكون للذكر فيه مدخل و عن التحرير أنه لحم ينبت في الفرج فيرادف العفل فيه قولان أظهرهما نعم لعموم التعليل في رواية أبي الصباح: عن رجل تزوج امرأة فوجد بها قرنا قال هي لا تحبل و لا يقدر زوجها علي مجامعتها ترد و هي صاغرة قلت فإن كان دخل بها قال إن كان علم بذلك قبل أن ينكحها يعني الجامعة ثم جامعها فقد رضي بها و إن لم يعلم إلا بعد ما جامعها فإن شاء طلق بعد و إن شاء أمسك و نحوها رواية الحسن بن صالح عن الفقيه و الكافي و المراد بالطلاق هو الطلاق اللغوي بالفسخ لا الطلاق الشرعي

و اختلف في المحدودة في الفجور

ففي كثير من المتقدمين بل عن أكثرهم أنها ترد للعار علي الزوج و لم أجد في الروايات ما يدل علي هذا الحكم. نعم في بعض الروايات عن رجل تزوج امرأة فعلم بعد ما تزوجها أنها قد كانت زنت قال إن شاء زوجها أخذ الصداق ممن زوجها و لها الصداق بما استحل من فرجها و إن شاء تركها و هذا يدل علي جواز الرجوع علي وليها بالصداق أو ليس إلا كونه عيبا يفسخ به و عن الشيخ أنه حكم بضمان الولي مع عدم الخيار و عن المختلف رده بأنهما لا يجتمعان و إثبات مثل هذا الحكم بمثل هذا المستند مشكل

و تفسخ المرأة نكاحها بالجنون الحاصل للرجل

و إن كان أدوارا سواء تجدد بعد الوطي أو كان سابقا عليه أو علي العقد بلا خلاف صريح إذا كان لا يعقل أوقات الصلاة و إن كان يعقل فإن كان قبل العقد أو مقارنا له فالمعروف عمن عدا ابن حمزة الفسخ أيضا و إن كان متأخرا عن العقد فالمحكي عن أكثر المتقدمين عدم الفسخ خلافا لكثير من المتأخرين و لهم إطلاق رواية علي بن حمزة عن أبي إبراهيم ع: عن المرأة يكون لها زوج و قد أصيب في عقله بعد ما تزوجها أو عرض لها جنون فقال لها أن تنزع نفسها منه إن شاءت و أضاف إليها في المسالك إطلاق صحيحة الحلبي أنه إنما يرد النكاح من البرص و الجذام و العفل و الجنون و اعترض بأن ظاهر السؤال المذكور في هذه الرواية في غير التهذيب هو حكم المرأة. نعم أورد في التهذيب من غير سؤال و استدل للقدماء بالمحكي عن الفقه الرضوي و المسألة محل إشكال

و تفسخ المرأة نكاحها بالخصاء

و هو سل الأنثيين و إخراجهما و في معناه حكما الوجاء و هو رض الخصيتين و حكي عن بعض أنه أفراد الخصاء فيعمه كلما دل علي ثبوت خيار الفسخ بالخصاء من الأخبار الكثيرة و ظاهر اتفاق الفتاوي. نعم حكي عن الشيخ في الخلاف و المبسوط أن الخصاء ليس بعيب لأنه يقدر علي الوطي و يبالغ فيه أكثر من غيره من جهة عدم الإنزال و هو ضعيف في مقابلة النصوص و إن لم يكن من أفراده فإلحاقه به مشكل و هذا الحكم في الخصاء ثابت إن كان حصوله سابقا علي العقد و إلا يكن سابقا فلا خيار لها لأصالة بقاء النكاح و اختصاص أدلة الفسخ بصورة تدليس الخصي و هو ظاهر بل صريح في تقدم خصائه علي العقد

و تفسخ المرأة أيضا نكاحها بالعنة

و هو كما قيل مرض يعجز معه من الإيلاج لضعف الذكر عن الانتشار من دون تقييد بعدم إرادة النساء و ربما حكي عن المصباح المنير عن بعض أهل اللغة اعتباره. و حكي عن الفقهاء الاكتفاء بالأول و يشهد بذلك رواية الكناني و رواية أبي بصير المعبرتان عن العنن بعدم القدرة علي النساء من دون تقييد بعدم إرادتهن و ثبوت الفسخ بها ثابت بالإجماع ظاهرا كما يظهر من غير واحد و يدل عليه الأخبار المستفيضة و إطلاق غير واحد منهما يدل علي ثبوت الخيار و إن تجددت بعد العقد قبل الوطي و أما لو تجددت بعد الوطي و لو مرة كما في روايتي السكوني و إسحاق أو عن عنها خاصة أو عن القبل خاصة فلا خيار خلافا في الأول للمحكي عن المصنف و جماعة لإطلاق بعض النصوص و قد عرفت أنها مقيدة بالروايتين المنجبرتين بفتوي الأكثر و حكاية الإجماع عن المعتبر و في الثاني عن المفيد خاصة فاكتفي بالعنة عنها خاصة لبعض الأخبار و يقيد
المكاسب، ج‌4، ص 397
بما في بعض آخر من اعتبار العجز عن إتيان النساء و لو ادعي الزوج الوطي لها أو لغيرها بعد ثبوت العنة صدق المدعي باليمين و علل بأنه فعله فلا يعرف إلا من قبله و تعذر الإشهاد عليه فكان كالعدة في النساء و قيل إن المرأة لو كانت بكرا نظر إليها من يوثق بها من النساء و إن كانت ثيبا حشي قبلها خلوقا حيث لا يعلم فإن ظهر شي‌ء منه علي العضو صدق ثم مع ثبوت العنة بإقراره أو بما في حكمه إن صبرت المرأة فلا فسخ و إلا تصبر رفعت أمره إلي الحاكم فيؤجله سنة من حين المرافعة بلا خلاف ظاهر كما ادعي للمحكي عن قرب الإسناد و رواية البختري عن علي ع أنه كان يقضي في العنين أنه يؤجل سنة من يوم مرافعة المرأة فإن وطئها أو غيرها كما مر مع خلاف المفيد فلا فسخ و إلا فسخت و لها نصف المهر لمصححة أبي حمزة و المحكي عن الفقه الرضوي و إلا فليس الفسخ طلاقا يوجب تنصيف المهر بل مقتضي الفسخ عدم المهر أصلا و لهذا لا شي‌ء لها لو فسخت لغيره أي غير العنن قبل الدخول. و في احتساب مدة السفر من السنة إشكال و لو رضيت بأن يقيم معها فطلقها ثم جدد العقد عليها فلا خيار لها مع العلم بأنه الزوج السابق أما لو وطئها في العقد الأول ثم عن في الثاني فلها الخيار و وجهه واضح. و أما الجب و هو قطع الذكر فإن استوعب العضو فسخت المرأة به و إلا يستوعبه بل بقي مقدار الحشفة فلا فسخ أما الفسخ في الأول فقد حكي عن المبسوط و الخلاف عدم الخلاف فيه و يدل عليه عموم رواية الكناني الدالة علي ثبوت الفسخ في امرأة ابتلي زوجها فلم يقدر علي الجماع مضافا إلي فحوي ثبوت الخيار في الخصي مع إمكان الوطي فيه بل قيل إنه يبالغ فيه أكثر من غيره. و في العنن مع إمكان زواله مضافا إلي نفي الضرر و أما عدم الفسخ لو بقي مقدار الحشفة فادعي عليه الإجماع مضافا إلي لزوم الاقتصار في مخالفة الأصل علي موضع النص و لهذا لو تجدد الجب بعد العقد فلا خيار و قيل بثبوته لعموم مصححة الكناني و رواية ابن مسكان عن أبي بصير في امرأة ابتلي زوجها فلم يقدر علي الجماع و فحوي ثبوته في العنن و كذا يتحقق الخيار مع الرتق و قد تقدم الكلام فيه هذا إذا لم يكن إزالته بشق موضع الالتحام أو غيره و أما إذا أمكن فإن لم يمتنع المرأة عن الإزالة فلا خيار للأصل و اختصاص ما سبق من الدليل بغير الفرض و لو امتنعت فالذي اختاره المصنف قدس سره هنا هو ثبوت الخيار و فيه إشكال بل لا يبعد أن يقال بإجبارها علي الإزالة مع عدم تضررها بها زائدا علي ألم الإزالة لأن حق الزوج في الاستمتاع ثابت لإمكانه و ما تقدم من دليل الخيار لا ينصرف إليه لأن التعليل المذكور في القرن أعني عدم القدرة علي مجامعتها يراد به عدم القدرة مع إمكان العلاج و إزالة المرض كما هو الظاهر المتبادر و الله العالم.

و اعلم أن الخيار في الفسخ و العيب و التدليس علي الفور

بلا خلاف يعرف كما صرح به جماعة هذا مع العلم بالخيار و الفورية و لو جهل أحدهما فلا يبعد معذوريته إلي زمان العلم لإطلاق الأخبار و استصحاب الخيار و نفي الضرر و إن كان العيب مما يحتاج إثباته إلي المرافعة كان المرافعة فورية فإذا ثبت العيب كان الفسخ فوريا و كذا مرافعة العنن إلي الحاكم و ما يتجدد من عيوب المرأة بعد العقد لا يفسخ به و إن كان تجدده قبل الوطي لأصالة اللزوم و اختصاص أكثر الأخبار كما قيل بصورة سبقها علي العقد. نعم بعضها مطلقة و لكن لا تنافي بين المطلقات و المقيدات حتي يحمل عليها إلا أن يدعي انصراف المطلقات إلي صورة تقدمها علي العقد كما ادعاه في الرياض و المسألة لذلك محل إشكال و يمكن أن يستدل علي ذلك بأن الأخبار و فتاوي الأصحاب أطبقت علي استحقاق الزوجة بشي‌ء من المسمي إذا فسخ قبل الدخول و لا يتأتي ذلك إلا مع سبق العيب علي العقد حتي يكون الصداق من أصله متزلزلا أما لو تجددت بعد العقد و المفروض تملك الصداق بالعقد و استقرار ملكها علي المشهور فإذا حصل العيب الحادث بعد العقد يحكم بثبوت المهر كلا لأن الفسخ ليس طلاقا و لا أقل من ثبوت نصف المهر لاستقراره بالعقد و عدم وجود عيب حين العقد حتي يوجب تزلزله اللهم إلا أن يقال إن استقرار نصف المهر المجمع عليه إنما هو بالإضافة إلي عدم اشتراطه بالدخول فلا ضرر في التزام تزلزله بالنسبة إلي العيب الحادث قبل الوطي فتأمل أما إذا تجددت بعد الدخول فينبغي القطع بعدم الخيار بل ادعي الوفاق عليه و يدل عليه كثير من الأخبار.
و حكي عن الشيخ ثبوت الخيار هنا أيضا و لا يشترط في الفسخ شرط من شروط الطلاق لأنه ليس طلاقا شرعيا و إن أطلق عليه التطليق في غير واحد من الأخبار و المراد الإطلاق و لا التلفظ بصيغة خاصة و لا أن تكون بحضور الحاكم خلافا للمحكي عن شاذ منا إلا في العنة فإنه لا بد من رفع الأمر إليه ليضرب الأجل و هذا الاستثناء منقطع لأن الفسخ في العنة لا يتوقف علي الحضور عند الحاكم إذ لها الفسخ بعد انقضائه أي بدون الحاكم و كما لا يشترط الحضور عند الحاكم لا يشترط حضور شاهدين لما عرفت من أن الفسخ ليس بطلاق و إذا اختلف الزوجان في العيب كان القول قول منكر العيب مع عدم البينة لأصالة السلامة و لزوم العقد و علي المنكر اليمين فإن نكل أحلف المدعي و يثبت العيب و إذا فسخت المرأة بالعيب أو التدليس قبل الدخول فلا شي‌ء بلا خلاف فتوي و نصا إلا في الخصي. فقد حكي عن الشيخ و جماعة ثبوت جميع المهر عليه بالخلوة و عن أخري ثبوت نصف المهر مع عدم الدخول مطلقا لروايتي قرب الإسناد و الفقه الرضوي إلا في فسخها لأجل العنة فإن لها النصف و إن كان فسخها بعده أي بعد الدخول كان لها المسمي لاستقراره بالدخول قال في المسالك و مقتضي القواعد أنه لا فرق بين الفسخ بالعيب الحادث قبل العقد و بعده لأن الفسخ لا يبطله من أصله و لهذا لا يرجع عليها بالنفقة الماضية و قال الشيخ في المبسوط إن كان الفسخ بالمتجدد بعد الدخول فالواجب المسمي لأن الفسخ إنما يستند إلي العيب الطاري بعد استقراره و إن كان بعيب موجود قبل العقد أو بعده قبل الدخول وجب مهر المثل لأن الفسخ و إن كان في الحال إلا أنه مستند إلي حال حدوث العيب فيكون كأنه وقع مفسوخا حين حدوث العيب فيصير كأنه وقع فاسدا فيلحقه أحكام الفاسد فإن كان قبل الدخول فلا مهر و لا متعة و إن كان بعده فلا نفقة للعدة و يجب مهر المثل. ثم قال في المسالك و لا يخفي ضعفه لأن النكاح وقع صحيحا و الفسخ و إن كان بسبب العيب السابق لا يبطله من
المكاسب، ج‌4، ص 398
أصله بل من حين الفسخ خصوصا إذا كان العيب حادثا بعد العقد فإن دليله لا يجي‌ء انتهي و إن فسخ الرجل قبله أي قبل الدخول فلا مهر لها و لا عدة عليها بلا خلاف نصا و فتوي و ادعي الإجماع في الرياض و إن كان بعده فلها المسمي و يرجع الزوج به علي المدلس كما يظهر من الحدائق و ادعي الإجماع عليه في الرياض و للأخبار فإن كان المدلس هي سقطت إلا أقل ما يمكن أن يكون مهرا لئلا تخلو البضع عن عوض و قيل أقل مهر مثلها و الأخبار خالية عن هذا الاستثناء و لهذا أنكره جماعة كما في الرياض و ارتضاه و لو لم تكن هي المدلس بأن خفي عيب المرأة عليها و علي وليها فلا رجوع للزوج علي أحد.

الثاني في التدليس

و هو إظهار صفة كمال في المرأة مع انتفائها عنها أو إخفاء صفة نقص و الفرق بينه و بين العيب أن منشأ الخيار في العيب مجرد ثبوته في الواقع و في التدليس اشتراط الصفة بحيث لو لا الاشتراط لم يثبت فلو تزوجها علي أنها حرة باشتراط ذلك في متن العقد لفظا أو ذكره قبله بحيث أجريا العقد علي ذلك فخرجت أمة فله الفسخ عملا بمقتضي الشرط إذ ليس فائدته إلا التسلط علي الفسخ مع عدمه و حكي عن الشيخ في الخلاف و المبسوط البطلان و علل تارة بعموم: المؤمنون عند شروطهم حيث إن مقتضي وجوب الوفاء بمقتضي الشرط عدم بقاء التزويج بدونه ثم رده المعلل باختصاص العموم بغير المستحق أما المستحق فلا يجب عليه الوفاء إذ له إسقاطه لأنه من حقوقه و أخري بأن نكاح الأمة بدون إذن المولي باطل و رده المعلل بأنه مختص بما إذا لم يكن التزويج بإذن مولاها و كيف كان فهذا القول ضعيف مع إذن المولي و عدمه أما مع إذن المولي فلعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ خرج منه الوفاء بالعقد قبل الإمضاء و بقي الباقي و منه هذا العقد بعد الإمضاء و أما مع عدم الإذن فلما تقدم من عدم وقوع العقد باطلا بل موقوفا علي إجازة المولي. و مما ذكرنا من الدليل و عمومه يظهر ثبوت خيار الفسخ و إن دخل بها فإن التصرف مع الجهل لا يزيل خيار الشرط فإن لم يفسخ الزوج فلا كلام و إن فسخ فإن كان قبل الدخول فلا مهر بلا خلاف ظاهر إلا أن سبب الفسخ حصل من قبلها كذا علل و إن كان بعد الدخول فإن كانت المرأة قد دلست نفسها بإذن المولي لها في التزويج فتزوجت مدلسة دفع المهر إلي المولي لأنه مالك بضع الجارية فله عوضه و لا يسقط حقه بتدليس غيره و تبعها به بعد عتقها إذ في جعلها في ذمتها قبله إضرار بالمولي و في الحكم بعدم استحقاق الزوج شيئا إضرار بالزوج مع إمكان تداركه بما ذكر و اتباعها بالمهر بعد العتق ليس منافيا لحق المولي. نعم لا يقدر المملوك لأن يشغل ذمته و لو علي هذا الوجه لأنه مملوك لا يقدر علي شي‌ء و لا ينافي ذلك تعلق شي‌ء بذمته قهرا و إن كان سببه اختياريا كما لو أقرض بدون إذن مولاه فلأنه إتلاف اختياري موجب لضمانه قهرا و إن دلسها مولاها فلا مهر لأن المملوكة لا يستحق مهرا و المولي هو المدلس و ثبوت الرجوع علي المدلس ينافي الحكم بوجوب الدفع إلي المولي ثم الارتجاع منه ما هو مسبب لغرامة ما يغترمه الزوج فلا معني لاستحقاقه له ثم الرجوع به عليه و لا يستثني في مقابل الوطي شي‌ء من مهر المثل أو أقل يتمول و وجهه في المسالك بعموم الدليل الدال علي الرجوع به علي المدلس. و ينبغي أن يراد بالدليل عموم التعليل في بعض الأخبار المتقدمة في العيب ففي بعضها في مقام بيان علة الرجوع إلي ولي المرأة المعيبة إذا دلسها قال ع: و إنما جاز عليه المهر لأنه دلسها و يستفاد هذا من غيره أيضا كما لا يخفي علي من راجعها و تعتق عليه أي علي مولي الجارية المدلسة لو تلفظ عند التدليس بما يقتضي إنشاء العتق أو الإخبار به علي وجه الإقرار و حينئذ فصح العقد مع إذن المرأة سابقا أو إجازتها لاحقا و لها المهر و لا خيار له و الولد حر و علي أبيه المغرور قيمته يوم سقط حيا للمولي و يرجع به علي الغار و لو كان الغار هو المولي فلا يستحق شيئا لأن الرجوع عليه لمكان غروره ينافي استحقاقه و لو كان الغار عبدا أتبع بالقيمة بعد العتق. و لو انعكس الفرض بأن تزوجت الحرة رجلا علي أنه حر فبان عبدا فلها الفسخ فإن كان قبل الدخول فلا شي‌ء لها لأن الحدث جاء من قبلها و إن كان بعده ثبت لها المهر علي السيد إن أذن في العقد لأن إذنه يستلزم تعلق عوض الوطي بذمته و إن كان بغير إذنه أتبع العبد به بعد العتق و اليسار و مستند الخيار في هذا الفرض مضافا إلي أنه مقتضي الشرط مصححة محمد بن مسلم و لو شرط كون المرأة المعينة المعقود عليها بنت مهيرة أي حرة لأن ذات مهر دائما دون الأمة فإنها قد توطأ بالملك كما قد توطأ بالمهر فبانت بنت أمة كان له الخيار في ردها فإن رد قبل الدخول فلا شي‌ء و إن رد بعده فلها مهر المثل بما استحل من فرجها و يرجع به علي المدلس. و لا خيار هنا بدون ذكر الشرط في متن العقد و تبع المصنف قدس سره هنا المحقق
رحمه الله في الشرائع حيث أطلق الحكم بالخيار في السابق بحيث يمكن أن يعمم لما إذا ذكر الشرط سابقا و أجري العقد عليه و هنا قيد الحكم بما إذا شرط في متن العقد. و ذكر في المسالك الفرق بين هذه و السابقة من وجهين الأول إطلاق النص هناك حيث ورد السؤال فيها عن رجل تزوج حرة فوجدها أمة دلست نفسها الثاني أن الحرية أمر مهم ففواتها نقص بين يصلح لتسلط من قدم عليه علي الرد إذا ظهر خلافه بخلاف الحرة التي أمها حرة أو أمة فإن التفاوت بينهما ليس كالتفاوت بين الحرة و الأمة و لا قريبا منهما بل ربما لا يظهر التفاوت بينهما أو يكون الكمال في جانب بنت الأمة مع اشتراكهما في الوصف بالحرية فلم يكن لفواته أثر إلا مع الشرط في ضمن العقد عملا بعموم الوفاء بالشرط و بفواته يظهر تزلزل العقد هذا كله إذا وقع العقد علي المرأة معينة و شرط كونها بنت مهيرة فظهرت بنت أمة أما لو زوجه بنت مهيرة و أدخل عليه امرأة أخري هي بنت أمة لم يعقد عليها ردت وجوبا بمجرد العلم فإن رد قبل الدخول فلا شي‌ء لها عليه و إن كان بعده مع جهل الزوجة بعدم العقد عليها كان عليه مهر المثل لأجل وطء الشبهة و عليها العدة و يرجع الرجل به أي بالمهر علي السابق المدلس و مع علم الزوجة بالحال فلا شي‌ء لها لأنها بغي و لا عدة عليها مع علم الرجل لعدم احترام ماء الزني و كذا الحكم في كل من سبق إليه غير زوجته و قد ورد به غير واحد من الأخبار و لو شرط البكارة فظهرت ثيبا فلا فسخ لاحتمال زوال البكارة بعد العقد و الأصل تأخر الحادث و مع الشك في تاريخهما لا سبب للفسخ و إن لم يمكن الحكم بتأخر الثيبوبة عن العقد لأن الخيار لا يثبت إلا ذا علم سببه و هو تقدم الثيبوبة علي العقد و لو فرض حصول العلم بتاريخ الثيبوبة و شك في زمان العقد فلا خيار أيضا و إن
المكاسب، ج‌4، ص 399
كان الأصل تأخر العقد لأن أصالة تأخر العقد لا يثبت تقدم العيب و إن كانا متلازمين عقلا لأن ثبوت أحد المتلازمين عقلا بالأصول الشرعية الظاهرية لا يثبت الآخر كما قرر في محله. و بالجملة لا يحكم بالخيار إلا أن يعلم سبق الثيبوبة علي العقد ثم علي تقدير عدم الفسخ لعدم العلم بسبقها علي العقد أو اختيار البقاء في موضع له الفسخ هل له أن ينقص عن المسمي بنسبته ما بين المهرين أو لا ينقص مطلقا أو ينقص شي‌ء و لم يرد من الشارع تقديره و قد يفسد بالسدس قياسا علي الوصية بالشي‌ء أو تقديره موكول إلي نظر الحاكم أقوال و علي الأول بأن الرضا بالمهر المعين إنما حصل علي تقدير اتصافها بالبكارة فيلزم التفاوت كأرش ما بين الصحة و المعيب و ضعف بأن ذلك إنما يكون حيث تثبت فواته قبل العقد أما مع إمكان تجدده بعده فلا دليل علي سقوط شي‌ء من المسمي و هذا الإيراد يبني عن تسليم النقص مع تحقق سبق الثيبوبة. و وجه القول الثالث بوروده فإنه ينقص بقول مجمل فإما أن يحمل علي مسمي الشي‌ء أو يحمل علي السدس أو يفوض إلي الحاكم و وجه العدم مطلقا هو أن النقص علي خلاف الأصل فإن مقتضي العقد وجوب جميعه فإن أمضي العقد وجب العمل بمقتضاه و ليس للشرط تأثير إلا الخيار بين الرد و الإمساك و لهذا لا يحكم بشي‌ء مع فوات الوصف المشروط في المبيع و هذا أقوي لو لا الرواية المصححة الواردة في النقص و معها فيوجه وكوله إلي نظر الحاكم و حينئذ فالأولي أن يقال إن علي الحاكم أن ينظر في نفس هذه المسألة الخلافية و يحكم بما يؤدي إليه نظره بل قد يقال إن وكول ما ينقص إلي الحاكم لا دليل عليه لأن تعيين ما أبهمه الشارع ليس موكولا إلي الحاكم و يمكن أن يقال إن الظاهر من الرواية حيث لم يبين مقدار النقص هو نقص التفاوت لأنه المتعارف في تدارك الفائت و قد وكله الشارع إلي التعارف بل مقصود السائل أيضا السؤال عن نقص التفاوت كما لا يخفي علي من تأمل قليلا و لو شرط إسلامها فبانت كتابية فإن قلنا بجواز ابتداء النكاح الكتابية فله الفسخ قضية للشرط و لا خيار مع عدم ذكر الشرط في متن العقد لأصالة اللزوم كما في كل عقد لم يذكر في متنه شرط و لو تزوجت علي أنه حر فبان مملوكا فلها الفسخ و قد تقدم أن لها المهر مع الدخول و لو أدخلت امرأة كل من الزوجين علي الآخر فلها مهر المثل علي الواطئ بشبهة و المسمي علي الزوج و ترد زوجة كل منهما إليه و لكن لا يطأها إلا بعد العدة

مسألة لا خلاف بين الأصحاب كما صرح به جماعة في وجوب القسم بين الزوجات في الجملة

اشارة

و يدل عليه الأخبار المستفيضة أيضا و إنما الإشكال و الخلاف في أنه هل يجب بنفس العقد و التمكين فيجب للزوجة الواحدة ليلة من أربع ليال و للاثنين ليلتان و للثلاث ثلاث و الفاضل عن تمام الأربع له يضعه حيث يشاء فإن كن أربعا فليس له شي‌ء للفاضل من الليالي و كلما فرغ دوره من القسمة يجب عليه الشروع في دوره أخري أم يتوقف وجوبه علي الشروع في القسمة و يتفرع عليه كما ذكره جماعة و نسبه بعض إلي الأصحاب عدم الوجوب للزوجة الواحدة و عدم وجوب الابتداء بها للمتعددة.
نعم لو بات عند واحدة ليلا يجب عليه المبيت عند غيرها فإذا انقضت دوره القسمة يجب عليه استيناف دوره أخري إلي أن يبيت عند بعضهن فيجب عليه إيفاء القسمة للباقيات ثم لا يجب عليه الاستيناف و هكذا و المشهور كما صرح به جماعة علي الأول و حكي عن الشيخ في المبسوط و المحقق في الشرائع و العلامة في التحرير الثاني و اختاره الشهيد و سبطه و صاحب الكفاية و صاحب الحدائق و قواه في الرياض.

و يمكن أن يستدل للمشهور بجملة من الآيات و الأخبار

فمن الآيات

قوله تعالي وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ دل علي وجوب معاشرة النساء في الجملة و لا يصدق عرفا بمجرد الاتفاق و لا بانضمام وطئها في كل أربعة أشهر مرة واحدة بأقل مما يوجب الغسل فدل علي وجوب آخر يوجب صدق المعاشرة و ليس غير المضاجعة بالإجماع فتعين وجوبها و أورد عليه في المسالك بأن المعاشرة تتحقق بدون المضاجعة بل بالإيناس و الإنفاق و تحسين الخلق و الاستمتاع بالنهار أو بالليل مع عدم استيعاب الليلة بالمبيت بل مع عدم المبيت علي الوجه الذي أوجبه القائل بل يمكن تحصيل المعاشرة بالمعروف زيادة في الأوقات مع عدم مبيته عندهن. و فيه ما عدا الإنفاق من هذه الأمور التي ذكرها غير واجب إجماعا و قد عرفت أيضا عدم تحقق المعاشرة عرفا بمجرد الإنفاق أو بانضمام أقل الواجب من الوطي فلم يبق هنا ما يصلح أن يكون واجبا إلا المضاجعة مع أن مثل هذا الإيراد لو توجه لم يمكن الاستدلال بالآية علي وجوب المضاجعة و القسمة في الجملة الذي لا خلاف فيه مع أنه قدس سره كغيره استدل بها عليه. و منها قوله تعالي فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أي لا تميلوا إلي تقديم إحدي الزوجتين حتي تذروا الأخري كالمعلقة لا ذات بعل و لا مطلقة فدلت علي تحريم الميل لأجل العلة المذكورة و هي أن تذرها كالمعلقة و لا ريب في تحقق هذه الغاية في ترك القسمة ابتداء فيتحقق التحريم. و منها وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا دل علي جواز الهجرة في المضاجع مع خوف النشوز أو مع علمها علي اختلاف في التفسير فيدل بمفهومه المعتبر هنا اتفاقا ظاهرا و إن كان مفهوم الوصف علي عدم جوازه مع عدم خوف النشوز و وجه اعتبار مفهوم الوصف هنا أنه في مقام تحديد الصنف الذي يجوز هجره من النساء مضافا إلي وجود القرينة في ذيل الآية و هو قوله فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا

و أما الأخبار

فمنها موثقة محمد بن قيس عن أبي جعفر ع قال: إذا كانت الأمة عنده قبل نكاح الحرة علي الأمة قسم للحرة الثلثين من ماله و نفسه يعني النفقة و للأمة الثلث من ماله و نفسه و ردها في المسالك تارة بضعف الدلالة حيث إنها بظاهرها تدل علي وجوب ما ليس بواجب إجماعا لعدم وجوب قسم الحرة بالثلثين من تمام الأوقات و الأمة الثلث و أخري بضعف السند. أقول أما الإيراد بضعف الدلالة فضعيف لأن دلالتها علي وجوب ما ليس بواجب إجماعا لا يوجب طرح الرواية فإن التقييد و التخصيص في المطلقات و العمومات بواسطة الإجماع ليس بعزيز فكما أن المراد بالمال في الرواية خصوص النفقة كما فسره الإمام ع فكذا المراد من النفس
المكاسب، ج‌4، ص 400
المضاجعة إذ ليس غيرها واجبا إجماعا و أما الإيراد بضعف السند فإن كان بواسطة محمد بن قيس حيث إنه مشترك بين الثقة و الضعيف ففيه أن الظاهر كما استظهره غير واحد هو وثاقة من يروي عنه عاصم بن حميد كما في هذه الرواية مع أن ما سيجي‌ء من الرواية في العمل بكتب بني فضال كان في هذا المجال حيث إن الرواية مأخوذة ظاهرا من كتاب علي بن الحسن بن فضال و إن كان ضعفه بواسطة نفس علي بن فضال حيث إنه فطحي ففيه أنه غاية الوثاقة و الورع في دينه كما يظهر من ملاحظة ترجمته مضافا إلي أن الشيخ أخذ الرواية من كتابه كما هو الظاهر من عادته فيمن يبتدئ به في السند. و قد ورد رواية حسنة كالصحيحة: في شأن علي بن فضال و أبيه و أخويه و كتبهم عن العسكري ع قال خذوا ما رووا و ذروا ما رأوا مضافا إلي انجبار الرواية بالشهرة. نعم هذا الإيراد منهم حسن علي قاعدته من التأمل في الضعيف المنجبر و لو كان موثقا حيث قال في مقام آخر و لا أذكره إلا أن العمل بالموثق خروج عن قيد الإيمان و جبر الضعف بالشهرة مجبور بالشهرة. و منها موثقة عبد الرحمن بابن فضال و أبان عن أبي عبد الله ع و فيها: للحرة ليلتان و للأمة ليلة و منها صحيحة ابن مسكان: فإن تزوج الحرة علي الأمة فللحرة يومان و للأمة يوم و نحوها المحكي عن الفقيه مرسلا و رواية أبي بصير. و منها صحيحة الحلبي أو حسنة بابن هاشم قال: سألت أبا عبد الله ع عن قوله تعالي وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً قال هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول لها إني أريد أن أطلقك فتقول لا تفعل إني أكره أن تشمت بي و لكن أنظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت و ما كان سوي ذلك من شي‌ء فهو لك و دعني علي حالي فهو قوله تعالي فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً و هذا هو الصلح فإن الرواية كما تري ظاهره في كون الليلة حقا للزوجة و لهذا لها إسقاطها و المصالحة بها كسائر الحقوق علي ترك الطلاق و نحوها رواية أبي بصير و رواية زيد الشحام و المروي في تفسير العياشي عن البزنطي عن مولانا الرضا ع و رواية زرارة الواردة كلها في تفسير الآية الشريفة المذكورة و أظهر من الجميع رواية علي بن حمزة الواردة في تفسير الآية عن أبي الحسن ع قال: إذا كانت كذلك فهم بطلاقها فقالت له أمسكني و أدع بعض ما عليك و أحلك من يومي و ليلتي حل له ذلك و لا جناح عليهما و لا يقدح في هذه الرواية و في غيرها اشتمالها علي ذكر اليوم مع الليلة مع أن اليوم ليس حقا لها علي المشهور لأن ترك ظاهر الرواية في بعض موارده لا يوجب طرحها بالنسبة إلي الباقي مع أن كون الزوج عند الزوجة في صبيحة ليلتها من الحقوق المستحبة و قيلولته عندها من الحقوق الواجبة عند الإسكافي علي ما حكي عنه فليس شي‌ء من الرواية مخالفا للإجماع هذا كله مضافا إلي أن في هجر الزوجة في المضاجع ضرر عظيم عليها نفي بعموم لا ضرر و لا ضرار الذي تمسكوا بها كثيرا في موارد خيار الفسخ للزوجين و غيرها و بخصوص ما يستفاد من بعض الروايات من حرمة مضارة الرجل المرأة و المرأة الرجل ثم إن هذه الأدلة و إن اختص بعضها بوجوب القسمة مع تعدد الزوجة إلا أن بعضها يشمل صورة اتحادها مضافا إلي ما يظهر من المسالك من عدم القول بعدم الوجوب في الواحدة و الوجوب المتعددة و يمكن أن يستفاد من كلام غيره أيضا. نعم حكي في الرياض عن ابن حمزة التصريح باشتراط التعدد في وجوب القسمة قال بعده و حكي أيضا عن ظاهر جماعة كالمقنعة و النهاية و المهذب و الجامع انتهي كلامه رفع مقامه و يحتمل قويا أن يكون مراد ابن حمزة من القسمة التي اشترط فيها تعدد الزوجة هي القسمة بين الزوجات و لا ريب في اعتبار تعدد الزوجة في مفهومها و أما القسم للواحدة بمعني إعطائها قسما أو حظا من الليالي أو نصيبا من المعاشرة فلا يعتبر فيه التعدد و كيف كان فلعل مستند التفصيل اختصاص ما اعتبر سنده و دلالته من الأدلة المذكورة بصورة التعدد و عدم ثبوت الإجماع المركب و ضعف ما دل منها علي العموم سندا و دلالة علي سبيل منع الخلو فيرجع في صورة الاتحاد إلي أصالة البراءة و من ذلك يظهر مستند القائلين بعدم الوجوب مطلقا حيث إنهم ضعفوا دلالة ما اعتبر
سنده و سند ما اعتبر دلالته و لم يزيدوا علي ما في المسالك و قد ذكرنا و قد استدل له في المسالك مضافا إلي الأصل بقوله تعالي فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْني وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قال إن الآية تدل علي أن الواحدة كالأمة لا حق لها في القسمة المعتبر فيها العدل و لو وجبت لها ليلة من الأربع لساوت غيرها و كل من قال بعدم الوجوب للواحدة قال بعدمه للأزيد إلا مع الابتداء انتهي. و فيه أنه لا دلالة في الآية علي كون الواحدة كالأمة و عطفها عليها لا يدل علي اتحادهما بل المراد و الله العالم فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بين الزوجات فانكحوا واحدة فتسلموا من الميل و الحيف أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ و لو كانت متعددة و لأن منافعها مملوكة للمولي فلا يلزم ظلم عليهن و لو ترك المولي استيفاء المنفعة من بعضهن لأن ترك الرجل الحق المختص به ليس ظلما و كيف كان فليس في الآية دلالة علي المطلوب و لا إشعار. نعم يمكن أن يتمسك لهم بما دل من الأخبار علي حصر الحق الواجب للمرأة في أن يكسوها من العري و يطعمها من الجوع كموثقة إسحاق بن عمار و رواية عمر ابن جبير العزرمي و رواية شهاب بن عبد ربه و نحوها و يمكن الجواب عنها بأن المراد بحق الزوجة في تلك الأخبار حقها المختص بها و لا ضير في حصره فيما ذكر فيها فإن القسم عند من يوجبه إنما هو من الحقوق المشتركة بين الزوجين و ليس مختصا بالزوجة فتأمل. و بالجملة فالمسألة محل التأمل و إن كان ما ذهب إليه المشهور لا يخلو عن قوة مع أنه أحوط
المكاسب، ج‌4، ص 401

9- رسالة في المواريث

مسألة «1» [1] المقتضي للإرث أمران: نسب، و سبب.

و المراد بالنسب: علاقة بين شخصين تحدث من تولّد أحدهما من الآخر، أو تولدهما من ثالث. و السبب أربعة: الزوجية، و ولاء العتق، و ولاء ضمان الجريرة، و ولاء الإمامة. و النسب ثلاث مراتب. المرتبة الأولي: الأبوان و الأولاد. و لا يرث معهم أحد عدا الزوج و الزوجة: بإجماع الإماميّة، و السنّة المتواترة معني عن أهل البيت عليهم السلام. فللأب المنفرد المال، و كذا الأم المنفردة. و لو كان معهما أو مع أحدهما ابن، فلكلّ واحد منهما السّدس، و الباقي‌للابن. و لو كانت «2» بنت أعطيت من الباقي نصف المال، و ردّ الباقي منه إليها و إليهما أو إلي أحدهما علي حسب السهام، بالإجماع، و الأخبار المستفيضة. و لو كان للميّت إخوة بالشّروط الآتية- في حجبهم الامّ عن الثلث- فالمعروف- الّذي ادعي عليه الاتّفاق في المسالك «3»، و عدم معرفة الخلاف في الكفاية «4»- : أنّهم يحجبونها هنا عن حصّتها من الفاضل المردود، و لم أجد عليه دليلا. و استدلّ عليه بقوله تعالي فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ «5». و فيه: إنّ الظاهر كونه تتمّة لقوله تعالي فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ «6» فيختصّ بصورة فقد الولد، مع أنّ إثبات السّدس لها بالفرض لا يستلزم نفي الزائد بالردّ، كما أنّ قوله تعالي وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ «7» لا يوجب نفي الردّ في صورة كون الولد بنتا «8» و لهذا يردّ الاستدلال للمطلب بهذه الآية بدعوي: أن ظهورها عرفا في نفي استحقاق الزائد، خرج من عمومها ما اتّفق فيه علي الردّ عليها، و بقي الباقي. و استدلّ عليه أيضا: بأنّ الإخوة إذا حجبوها عن فرضها الأصلي- و هو الثلث- فلأن يحجبوها عن المردود عليها بالقرابة أولي. و في الأولويّة منع. و استدلّ عليه- أيضا- بعموم ما علّل به حجبهم إيّاها عن الثلث من التوفير علي الأب لكون الإخوة عيالا له «9». و فيه: إنّه ظاهر فيما إذا كان المحجوب عنه «10» موفّرا بتمامه علي الأب، فلا يشمل ما إذا كان الموفّر عليه جزءا «11» قليلا من المحجوب عنه، كما هو المشهور بين القائلين بالحجب. نعم ذهب معين الدين المصري «12» منهم [إلي] اختصاص المحجوب عنه بالأب، و أنّه لا تعطي البنت منه شيئا، و قوّاه في الدروس «13». و يضعّف بما دلّ علي وجوب كون الردّ علي ذوي السهام المفروضة بقدر سهامهم، كعموم التعليل في رواية حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام في رجل ترك ابنته و امه: «إنّ الفريضة من أربعة أسهم لأنّ للبنت ثلاثة أسهم، و للأمّ السّدس سهم، و بقي سهمان فهما أحقّ بهما من العمّ و ابن الأخ «14»، لأنّ البنت و الامّ سمّي «15» لهما، و لم يسمّ لهم، فيردّ عليهما بقدر سهامهما» «16». دلّت علي أنّ كلّ من سمّي له فيردّ عليه بقدر سهمه، و في الطريق موسي بن بكر «17» الواسطي الواقفي، إلّا أنّ الظاهر كونه ثقة لما عن الفهرست من رواية صفوان عنه «18»، مع اعتضادها بالشّهرة، و برواية بكير «19» الموافقة لها من حيث المضمون. و بأنّ تخصيص الأب بالرّد دون البنت- مع كونها أكثر نصيبا منه- ترجيح من غير مرجّح، و إنّما انفرد بالردّ مع عدم الأولاد «20» لعدم قريب آخر معه. اللَّهمّ إلّا أن تعارض الروايتان بعموم ما دلّ علي حكم حجب الإخوة للأمّ «21» حيث إنّها ظاهرة في اختصاص المردود بالأب. و لو كان مع الأبوين أو أحدهما زوج أو زوجة كان لأحد الزوجين- مع عدم الولد- نصيبه الأعلي، و معه نصيبه الأدني، و الباقي للولد، فإن فضل عن فريضته «22» شي‌ء- كما لو كانت بنتا واحدة- ردّ عليها و علي أحد الأبوين، و لو لم يف الباقي بفريضته «23»- كما لو كانتا بنتين- دخل النقص عليهما دون الأبوين و أحد الزوجين، بالإجماع، و الأخبار المستفيضة الدالة علي بطلان العول «24»، و المصرحة بأنّ الأبوين و الزوجين لا يدخل عليهم النقص عن سهامهم النازلة أبدا «25».

مسألة [2] للزوج من تركة زوجته الربع إن كان لها ولد، و إلّا فالنصف،

و الباقي لسائر ورثتها بالنسب أو السبب. و لو لم يوجد منهم عدا الإمام ردّ الباقي علي الزوج، علي المعروف من غير سلّار «26» من علمائنا، و عن الشيخين «27» و السيّدين «28» و الحلّي «29» دعوي الإجماع، و به أخبار مستفيضة «30»، و بذلك يخصص عموم قوله: «لا يردّ علي الزوج و الزوجة» «31» و مع توجّه احتمال حمله علي التقيّة، أو وروده فيما إذا جامع أحد الزوجين لذي «32» فرض من اولي الأرحام- بحيث تزيد التركة علي فرضهما- كأحد الزوجين مع الأم «33» أو الأخ «34» [لها] «35».

مسألة [3] للزوجة من تركة زوجها الثمن إذا كان له ولد، و إلّا فالربع، و الباقي لسائر الورثة.

و مع عدمهم- عدا الإمام- ففي ردّ الباقي عليها، أو كونه للإمام، أقوال: ثالثها: الأوّل مع غيبة الإمام عليه السلام، و الثاني مع حضوره عليه السلام. و خيرها أوسطها للأصل، لأنّ ثبوت الزائد عمّا فرض لها في الكتاب يحتاج إلي دليل، و لا يعارض بأصالة عدم ثبوته للإمام عليه السلام لأنّه إذا ثبت- و لو بحكم الأصل- عدم ثبوت وارث و مستحق لهذا المال، ثبت كونه للإمام عليه السلام، لما دلّ علي أنّه وارث مع عدم الوارث «36»، و للأخبار المستفيضة «37» المعتضدة بفتوي الأكثر، إذ لم يحك الأوّل إلّا عن المفيد «38»، [و يدلّ عليه الصحيح] «39»: «عن رجل مات و ترك امرأته؟ قال: المال لها» «40» و يردّ بالشذوذ لأنّ القول به «41» مختصّ بالمفيد فيما وجدنا و مع ذلك فرجوعه عنه محكيّ عن الحلّي «42». و عن الانتصار: عدم عمل الطائفة بالرواية الدالّة علي الردّ علي الزوجة «43». و عن الحلّي: إنّه لا خلاف فيه بين المحصلين «44».
و القول الثالث «45» للصدوق قدّس سرّه «46» و جماعة من المتأخّرين، و لا مستند لهم سوي الجمع بين الأخبار، بتقييد مستند المفيد «47» بزمان غيبة الإمام عليه السلام و هو بعيد. و أفرط الحلّي- فيما حكي عنه «48»- في تبعيده «49» حيث إنّ قوله: «رجل مات» بصيغة الماضي، فحمله علي زمان غيبة الإمام عليه السلام المتأخّر عن زمان صدور هذا الكلام بأزيد من مائة عام لا وجه له [في المقام] «50»

مسألة [4] توارث الزوجين لا يتوقف علي الدخول،

بالإجماع- ظاهرا- و غير واحد من الأخبار «51»، مضافا إلي ظاهر الآية. و يثبت التوارث بين الزوج و مطلّقته
المكاسب، ج‌4، ص 402
رجعيّا في العدّة بلا خلاف، و في المسالك «1» و الرياض «2»: الإجماع عليه علي الظاهر لغير واحد من الأخبار «3»، و لأنّها بحكم الزوجة. و لا توارث بين الزوج و مطلّقته بائنا، إلّا أن يطلّق المريض رجعيّا أو غيره، فترث منه لو مات في المرض ما بينه و بين سنة إذا لم تتزوّج المرأة.

مسألة [5] المعروف من غير الإسكافي أنّ الزوجة غير ذات الولد من زوجها الذي مات لا ترث من جميع أمواله،

بل تحرم عن أشياء «4». و عن نكت الشهيد و غيره: دعوي الإجماع عليه «5»، و أنّه من متفردات «6» الإماميّة «7».
ثمّ اختلفوا فيما يحرم منه علي أقوال: أقواها: ما نسب إلي المشهور، من أنّها لا ترث من الأرض مطلقا عينا و لا قيمة، و ترث من قيمة البناء و الآلات المثبتة فيه من الأبواب و الأخشاب و الجذوع و القصب، و من «8» قيمة الشجر، لصحيحة مؤمن الطاق المرويّة في الفقيه عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «سمعته يقول: لا يرثن النساء من العقار شيئا، و لهنّ قيمة البناء و الشجر و النخل، يعني بالبناء: الدور، و إنّما عني من النساء: الزوجة» «9». و ليس في السند- عدا محمّد بن موسي المتوكّل- من يتأمّل فيه، و هو و إن لم يحك عن الشيخ و النجاشي توثيقه، إلّا أنّه وثّقه العلّامة «10» و ابن داود «11»، و قد ترضّي الصدوق عليه «12» و كان من مشايخه «13». و بالجملة، لا يقصر حاله عن إبراهيم بن هاشم، مضافا إلي أنّ عمل الأكثر علي الرواية. و أمّا ذات الولد من الزوج «14»، فظاهر الكليني «15» و المحكي عن المفيد «16»، و الشيخ في الاستبصار «17»، و السيد «18»، و أبي الصلاح «19»، و ابن إدريس «20» إلحاقها «21» بغيرها، و هو ظاهر المحقق في النافع «22»، و المحكي عن تلميذه مصنف كشف الرموز «23»، و ذهب إليه كثير من متأخري المتأخّرين، و قوّاه في المسالك «24».
خلافا لجماعة، منهم: الصدوق «25»، و الشيخ في النهاية «26»، و القاضي «27» و ابن حمزة «28»، و المحقق في الشرائع «29»، و الفاضل «30» و ولده «31»، و الشهيد في اللمعة «32»، و الفاضل المقداد في كنز العرفان «33»، و نسب إلي المشهور- سيّما بين المتأخرين «34»- فحكموا بتوريثها من أعيان جميع التركة، للجمع بين أخبار كثيرة مانعة بقول مطلق أو عام «35»، و صحيحة ابن أبي يعفور الدالة علي مذهب الإسكافي «36»، و مقطوعة ابن أذينة: «في النّساء، إذا كان «37» لهنّ ولد أعطين من الرباع» «38». و الجمع خال عن الشاهد لحمل «39» رواية ابن أبي يعفور علي التقيّة، و المقطوعة لا تصلح لتخصيص عمومات كثيرة.

مسألة [6] إذا مات شخصان متوارثان، و لم يعلم تقدّم موت أحدهماعن الآخر،

فإن كان موتهما أو أحدهما حتف الأنف، فالأظهر عدم إرث واحد منهما عن الآخر لأنّ هذا الإرث مخالف للأصل الدالّ علي توقّف الإرث علي تحقّق حياة الوارث عن الموروث «40»، فيقتصر فيه علي مورد الدليل- و ليس في المقام- مضافا إلي دعوي الإجماع في المسالك، و نقله «41» فيه عن جماعة «42». و كذا إن كان موتهما بسبب غير الغرق و الهدم لما ذكر، خلافا لجماعة، فألحقوه بهما، و لم أجد لهم دليلا تطمئنّ إليه النفس. و إن كان موتهما بسبب الغرق و الهدم، فلا إشكال في توريث كل منهما عن الآخر لو ترك شيئا. و الظاهر عدم الخلاف فيه، مضافا إلي الأخبار المستفيضة. منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليه السلام: «عن رجل سقط عليه «43» و علي امرأته بيت، فقال: تورّث المرأة من الرجل و الرجل من المرأة» «44». و ظاهر هذه الصحيحة تقديم الأقل نصيبا في التوريث لو «45» ثبت عدم الفصل بين موردها و غيره، و قال به جماعة «46»، و استنبط منه المفيد و الديلمي قدّس سرّهما: أنّ كلّ واحد منهما يرث ممّا ورث من صاحبه، و لا يختصّ توارثهما بصلب «47» أموالهما «48»، و إلّا «49» كان تقديم الأقل نصيبا غير مفيد. و فيه- بعد تسليم دلالة الصحيحة علي وجوب التقديم- منع انحصار فائدته في توريث كلّ ممّا «50» ورث صاحبه منه، فلعلّه أمر «51» تعبديّ لا نعلمه. و لمّا ثبت أنّ هذا التوريث مخالف للأصل، فالمتيقن الخروج عنه هو «52» توريث كلّ عن «53»

صلب مال صاحبه، لا عمّا «54» ورث منه، وفاقا لغير هذين الجليلين من الأجلّاء المتقدّمين و المتأخّرين. مضافا إلي رواية حمران بن أعين، عمّن ذكره، عن أمير المؤمنين عليه السلام في قوم غرقوا جميعا؟ قال: «يورّث هؤلاء من هؤلاء، و هؤلاء من هؤلاء، و لا يورّثوا هؤلاء ممّا ورّثوا شيئا» «55». و يدلّ علي هذه- أيضا- صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج في أخوين غرقا، لأحدهما مال، قال: «المال لورثة الّذي ليس له مال» «56». و نحوها غيرها. و اللَّه العالم.

مسألة [7] «57» المحكيّ عن الأكثر: أنّ التركة لا تنتقل إلي ورثة «58» الميّت مع اشتغال ذمته بدين يحيط بها «59»،

بل عن السرائر: إنّه لا خلاف في أنّ التركة لا تدخل في ملك الورثة و لا الغرماء، بل تبقي موقوفة علي قضاء الدين «60».
و عنه «61»- أيضا- أنّه الذي تقتضيه أصول المذهب «62». للأصل، و قوله تعالي مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ «63». و الأخبار الظاهرة في توقّف الإرث علي براءة الميّت، مثل ما ورد في دية المقتول: إنّه يرثها «64» أولياؤه ما لم يكن عليه دين «65». و قوله عليه السلام في رواية عبّاد بن صهيب «66» المرويّة في زكاة الكافي: «إنما هو بمنزلة الدين «67»، ليس للورثة شي‌ء حتّي يؤدّوا «68» ما أوصي من الزكاة» «69» و نحو ذلك من الأخبار. و لأنّه لو انتقل إلي الوارث لأعتق عليه محارمه المملوكة للمورّث بمجرّد موته، و التالي باطل بلا خلاف. و لاستمرار طريقة الناس علي دفع النماء في الدين. خلافا للمحكيّ عن جماعة منهم الفاضل «70»، و الشهيد «71» و المحقّق الثانيان «72»، فقالوا بالانتقال إلي الوارث، و عن التذكرة: إنّه الحقّ عندنا «73» و إن تعلّق به حقّ الديّان لإطلاق الآيات مثل قوله إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ «74» دلّ «75»

علي سببية هلاك المورّث لتملك الوارث، و قوله تعالي لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ.. «76» الآية، و قوله تعالي وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلي بِبَعْضٍ «77». و لأنّه لو لم ينتقل إلي الوارث لزم إمّا كونه ملكا بلا مالك، أو بقاؤه علي ملك الميت، أو انتقاله إلي غير الوارث، و الأوّل باطل [إذ يترتّب عليه ما يتوقّف علي الملك، كورود البيع و الإجارة عليه، و ضمانه بالمثل و القيمة، و منه يظهر بطلان الثاني، مضافا إلي أنّ الملك من الإضافات المتوقفة علي تحقّق أطرافها، مضافا إلي ظهور الاتّفاق عليه كما عن حجر جامع المقاصد «78»] «79» و إن حكي عن الخلاف أنّه حكم بأنّ من أوصي بعبد ثمّ مات قبل هلال شوّال و لم يقبل الموصي له إلّا بعد الهلال، إنه لا يلزم فطرته علي أحد «80». و ظاهره- كما فهم الحلّي في محكي السرائر «81»- بقاء العبد بلا مالك، فتأمّل. و أمّا الميت فغير قابل للملك، مع أنّه لا يترتّب عليه أحكام المالك كانعتاق أقاربه، و انتقال عوض ماله إليه عند المعاوضة عنه، مع أن الإجماع علي عدم بقائه علي ملكه حقيقة، و انتقاله إلي غير الوارث مخالف للإجماع. و به يندفع احتمال انتقاله إلي اللَّه تعالي- كما صرّح به بعض «82» فيها- مع أنّ ملكيّته تعالي بالملكيّة المتعارفة بين الناس محلّ نظر، و إن قال به جماعة في الوقف العامّ «83». و لأنّه لو لم ينتقل إلي الوارث لم يشارك ابن
المكاسب، ج‌4، ص 403
الابن عمّه في ميراث جدّه [إذا مات أبوه قبل إيفائه دين جده] «1»، و التالي باطل إجماعا. و لأنّه لو لم «2» ينتقل إليه لم يجز له الحلف لإثبات مال لمورّثه علي غيره لظهور النصوص و الفتاوي في أنّ اليمين المنضمّة إلي الشّاهد الواحد هو يمين صاحب الحق.

مسألة [8] المحكيّ عن الأكثر: أنّ مال الميّت باق علي حكم ماله إذا كان عليه دين مستوعب،

بل عن موضع من السرائر- في مقام النقض علي من استدلّ علي انتقال الموصي به إلي الموصي له بموت الموصي، بأنّه لولاه لزم بقاء الملك بلا مالك- : إنّه لا خلاف في أنّ التركة لا تدخل في ملك الورثة و لا الغرماء، بل تبقي موقوفة علي قضاء الدين «3». و عن موضع آخر: أنّه الذي تقتضيه أصول مذهبنا «4». للأصل، و قوله تعالي مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ «5»، و الأخبار «6» المستفيضة الواردة في توقّف الإرث علي براءة ذمّة الميت، كصحيحة سليمان «7» بن خالد: «قضي أمير المؤمنين عليه السلام في دية المقتول: إنّه يرثها الورثة علي كتاب اللَّه و سهامهم إذا لم يكن علي المقتول دين» «8». و في المصحّح عن عباد بن صهيب- الّذي قيل فيه: إنّه ثقة جليل «9»- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «في رجل فرّط في «10»

إخراج الزكاة، فلمّا حضره الموت حسب جميع ما كان فرّط فيه ممّا يلزمه من الزكاة، ثمّ أوصي أن يخرج ذلك فيدفع ذلك إلي من يجب له ذلك، فقال عليه السلام: جائز، يخرج ذلك «11» من جميع المال، إنّما هو بمنزلة دين لو كان عليه، ليس للورثة شي‌ء حتي يؤدّوا ما أوصي به من الزكاة» «12». و موثّقة زرارة الواردة «في عبد أذن له سيّده في التجارة، فاستدان العبد فمات المولي «13»، فاختصم الغرماء و ورثة الميّت في العبد و ما في يده، قال عليه السلام: ليس للورثة سبيل علي رقبة العبد و ما في يده من المال و المتاع، إلّا أن يضمنوا دين الغرماء جميعا، فيكون العبد و ما في يده من المال للورثة، فإن أبوا كان العبد و ما في يده من المال للغرماء، يقوّم العبد و ما في يده من‌المال ثم يقسّم ذلك بينهم بالحصص، فإن عجز قيمة العبد و ما في يده عن دين الغرماء رجعوا إلي الورثة فيما بقي لهم إن كان الميّت ترك شيئا «14»، و إن فضل «15» قيمة العبد و ما في يده عن دين الغرماء ردّ علي الورثة» «16». إلي غير ذلك من الأخبار. و لأنّه لو انتقل المال إلي الوارث لا نعتق عليه من لا يستقرّ ملكه عليه من الأقارب بمجرّد موت المورّث إن كان عليه دين مستوعب. و التالي باطل بلا خلاف، كما عن الخلاف «17». و لاستمرار سيرة المسلمين علي دفع نماء التركة في الدين، و الإنكار علي من اقتصر علي دفع الأصل في الدين و إن قصر عن الدين، و هو كاشف عن بقاء الأصل في حكم مال الميّت، فيتبعه النماء. و للنظر في هذه الوجوه مجال لاندفاع الأصل بما يجي‌ء من أدلّة الانتقال إلي الوارث، و إمكان دعوي ظهور الآيات في تأخّر قسمة الإرث عن الوصيّة و الدّين لدفع توهّم مزاحمته لهما بتقسيط التركة علي الثلاثة، فمساق الآية مساق ما ورد من أنّه يبدأ بالكفن، ثمّ الدّين، ثمّ الوصيّة، ثمّ الإرث «18»، و ليس في مقام تأسيس حكم تملّك الورثة حتّي يقيّد بكونه بعد الوصيّة و الدين [و لو سلم ظهورها في تقييد أصل التملك، لوجب حملها علي تقييد استقرار الملك و استقلال الملك بالتأخّر عن الوصية و الدين، جمعا بينها و بين ما سيأتي] «19». و بهذا «20»

يمكن الجواب عن الأخبار، مضافا إلي أنّ ظاهرها تأخّر التملّك مطلقا عن الدين و لو لم يستوعب، و هو خلاف المعروف من الأصحاب، فيجب إمّا تقييد الدّين بالمستوعب، أو إرجاع القيد إلي الاستقرار و الاستقلال، بل هو ظاهر نفي السبيل في موثقة زرارة المذكورة «21». نعم، هذا لا يتوجّه علي ظاهر الآيات حيث إنّ المقيّد فيها بالتأخّر هو تملك الورثة سهامهم من مجموع ما ترك، و لا ريب في توقّفه علي عدم الدين و لو كان غير مستوعب. و أما لزوم انعتاق [القريب علي الوارث فبمنع الملازمة فإنّ عمومات أدلّة انعتاق] «22» بعض أقارب الرجل عليه معارض بما دلّ من النصوص و الفتاوي «23» علي تعلّق حق الديان بالتركة، و اختصاص التركة بالديّان إذا أبي الوارث عن ضمان الدين للغرماء، كما هو صريح موثقة زرارة المتقدّمة. و أما التمسك بالسيرة المذكورة ففيه: إنها مجرّد عادة مستحسنة عند العقل أو الشرع استقرّ بناء أهل المروءة عليها، مع أنّ الملازمة بين تملّك الوارث للأصل و استقلاله في النماء محلّ نظر، و إن كان ظاهرهم الفراغ عن هذه الملازمة، كما سيجي‌ء جعله من ثمرات المسألة. و لأجل ما ذكرنا من ضعف بعض «24» هذه الوجوه و إمكان رفع اليد عن بعضها، ذهب جمع- كما عن الخلاف «25»- إلي انتقال التركة إلي الوارث. و حكي ذلك عن المبسوط «26»، و جامع الشرائع «27»، و حكي عن الشهيد في محكي حواشي القواعد «28»، و تبعهم الفاضل في كثير من «29»

كتبه «30»، و الشهيد و المحقّق الثانيان «31»، و فخر الدين في حجر الإيضاح «32»، و كاشف اللّثام في شرح ميراث القواعد «33»، بل ظاهر بعض أنّه المشهور «34» و عن التذكرة: إنه الحق عندنا «35». و يدلّ عليه- مضافا إلي إطلاق آية الإرث مثل قوله تعالي إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ «36» دلّ علي سببية الهلاك للإرث، و قوله تعالي لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ.. الآية «37» و آية أولوا الأرحام «38»- : أنّه لو لا ذلك لم يشارك ابن الابن عمّه في ميراث جدّه إذا مات أبوه قبل إيفاء الدّين، و التّالي باطل إجماعا. و أنّه لو لم «39» ينتقل المال إليه لم يجز له الحلف لإثبات دين لمورّثه إذا أقام شاهدا واحدا به إذ لا يمين لإثبات مال الغير، كما يظهر من النّصوص «40» و الفتاوي «41». و أنّه لو لم ينتقل إليه لزم إمّا خروج التركة عن الملك، أو بقاؤه بلا مالك، أو كون الميّت مالكا له «42»، و انتقاله إلي غير الوارث، و الكلّ باطل بالعقل و النقل. و يمكن الجواب عن الإطلاقات: بما ذكر من الآيات المقيّدة. و عن مشاركة ابن الابن: بأنّه لأجل وراثته لما «43» ترك أبوه من استحقاق الإرث لو لا الدّين، كمشاركة البعيد للقريب فيما ينتقل بالخيار، كما إذا باع الميّت بخيار فمات عن اثنين، فمات أحدهما عن ابن، فإن ابن الابن يشارك عمّه في المبيع لأجل وراثته الخيار عن أبيه. و عن جواز حلف الوارث: بأنّه لأجل الإجماع «44» علي كون المحاكمة للوارث فهو الدّليل علي جواز حلفه لإثبات مال مورّثه. و عن الوجه الأخير: بمنع عدم قابليّة الميت للملك، و إلّا بقي الكفن و مئونة التجهيز بلا مالك، أو خرج عن الملكيّة، و كذا دية الجناية عليه «45» بعد موته، و كذا العين الذي أوصي بدفعه اجرة للعبادة، و كذا تركة الحرّ إذا لم يخلّف «46» سوي قريب مملوك حيث حكموا بوجوب شرائه و عتقه ليرث الباقي. و لو التزم فيما عدا الأخير بانتقاله إلي الوارث- إلّا أنّه يتعين عليه صرفه إلي الوجه الخاص و محجور عما عداه من التصرّفات، كما حكي عن جامع المقاصد «47»، و التزم ذلك في الثلث الموصي به «48»- لم يتأتّ ذلك في الأخير إذ المفروض أنّ المملوك قبل العتق لا يرث. و احتمال انتقاله إلي اللَّه- كما في الوقف العام «49»- مشترك. اللَّهم إلّا أن يقال بانتقاله إلي الإمام عليه السلام، بمقتضي عموم ما دلّ علي أنّ الإمام يرث من لا وارث له «50» فإنّ وجود القريب الممنوع عن الإرث كعدمه، فالقريب المملوك كالقاتل و ولد الملاعنة و الكافر «51»، فيكون حكم الإمام عليه السلام بشراء المملوك و عتقه و إعطائه @@@
المكاسب، ج‌4، ص 404
الباقي «1» تفضّلا منه عليه السلام علي المملوك، فهو حكم شرعي ثانوي، و ليس من باب الإرث بالنسب حتي يكون مخصصا بالعمومات «إنّه لا يرث عبد حرا» «2»، فتأمّل. و أمّا احتمال كونه ملكا للَّه، فهو- مع أنّ الظّاهر كما ادعي الاتفاق علي عدمه- مناف لعموم ما دلّ علي أنّ ما كان للَّه فهو للإمام عليه السلام «3»، مع أنّ نسبة الملكيّة بالمعني المتعارف- أعني: الربط الخاص الموجود بين الأملاك و الملّاك- إلي اللَّه تعالي شأنه محل تأمّل و نظر، و أن قال به جماعة في الوقف العام «4». و أمّا احتمال انتقاله إلي الديّان أو أجنبيّ آخر فهو مخالف للإجماع،- كما ادعي «5»- فلم يبق من مقدمات الدليل المذكور إلّا إبطال خروج المال عن الملك، أو جواز بقاء الملك بلا مالك. و إن أبيت عن إبطالهما «6» بالاتّفاق كما ادّعاه علي ثانيهما ثاني المحققين، قال «7» في محكي المقاصد: فيكفي في إبطالهما صحة ورود عقود المعاوضات عليه، كالبيع و الإجارة و نحوهما، مما يتوقف علي ملكيّة مورده، و وجود مالك ينتقل إليه عوضه «8». و يمكن تقرير الدّليل المذكور بوجه آخر أسهل في إبطال اللوازم المذكورة، و هو أنّه لا ريب في تحقّق الوراثة الفعليّة شرعا و عرفا لجميع التركة بعد إيفاء الدين من الخارج، أو إبراء الدّيّان، أو تبرّع الأجنبيّ، و ليس معني الوراثة شرعا و عرفا إلّا انتقال المال من الموروث إلي الوارث، فلو خرج المال بموت المورث عن الملكية لم يتحقق [الانتقال، و لو بقي بلا مالك لم يكن الانتقال من الميّت، و لو انتقل إلي اللَّه أو إلي غير الوارث لم يكن الانتقال من الميّت إلي الوراث] «9» لأن الوراثة هي الانتقال بلا واسطة، و لذا لا يسمّي انتقال بعض التركة من الموصي له «10» إلي الوارث بالابتياع وراثة. و كيف كان، فالظاهر تماميّة مقدّمات الدليل المذكور، و به يثبت صحّة القول الثاني و إن سلّمنا مخالفته لظاهر الآيات، إلّا أنّ الوجه المذكور قابل لصرفها عن ظاهرها، و لكن المسألة مشكلة جدا، و اللَّه العالم.
هذا كله في الدين المستوعب، و أمّا ما لا يستوعب التركة، فتارة يقع الكلام فيما قابل الدين منها، و اخري في الفاضل عنه. أمّا الأوّل: فالظّاهر أنّ الخلاف فيه كما في الدّين المستوعب، و تدلّ عليه الأدلّة المتقدّمة. و أمّا الثاني: فملكيّته للوارث ممّا لا خلاف فيه علي الظاهر- كما يظهر من غير واحد- و إن كان ظاهر الأخبار المتقدّمة خلافه. و أمّا جواز تصرّفه فيه و عدم حجره عنه، ففيه قولان: أحدهما: نعم- و هو للفاضل «11»، و المحكي عن الجامع «12»، و الشهيد في حواشيه علي ميراث القواعد «13»، و المسالك «14»، و الكفاية «15»، و بعض آخر، بل ظاهر عبارة المناهل ظهور عدم الخلاف فيه «16»- لأصالة تسلّط المالك علي ملكه إلّا أن يثبت الحجر «17». و الثاني: لا «18»- و هو المحكي عن ميراث القواعد «19»، و رهن الإيضاح «20» و حجره «21»، و حجر جامع المقاصد «22»، و كتاب الدين من إيضاح النافع «23»، و ظاهر المبسوط «24» و السرائر، مدعيا عدم الخلاف فيه «25»، كما عرفت من عبارته المتقدّمة «26»- للأخبار المتقدّمة «27» الظاهرة في أنّ [الورثة لا يملكون شيئا إلّا بعد الأداء أو الضمان خرجنا عن ظاهرها في أصل الملكية بالنسبة إلي الفاضل] «28». و قد يتمسك- أيضا- بالآية المتقدّمة، و فيه نظر لأنّ التّقييد في الآية بما بعد الدين إمّا للتملّك، و إمّا [ل] «29» جواز التّصرف. و علي كل حال، فمفادها تقييد تملّك مجموع ما ترك الميّت أو التصرّف فيه بما بعد الدّين، و لا خلاف في ذلك. فالعمدة هي الأخبار، إلّا أنّها معارضة بما يخالفها مثل مرسلة البزنطي المصحّحة إليه: «عن رجل يموت و يترك عيالا و عليه دين، أ ينفق عليهم من ماله؟ قال: إذا استيقن أنّ الّذي عليه يحيط بجميع المال فلا ينفق عليهم، و إن لم يستيقن فلينفق عليهم من وسط المال» «30». و في معناها ما عن ثقة الإسلام و الشيخ في الموثّق عن ابن الحجّاج عن أبي الحسن عليه السلام «31». و لعلّه «32» يجوز الإنفاق مع الشك في الإحاطة للبناء علي أصالة عدمها. فالأقوي الجمع بين هذين و بين الأخبار المتقدّمة بتقييد جواز التصرّف، بصورة ضمان الورثة أو وليّهم دين الغرماء، كما هو صريح موثّقة زرارة المتقدّمة «33». لكن «34» يأباه التفصيل في هذين بين صورتي الإحاطة و عدمها إذ مع الضّمان لا فرق بينهما في جواز التّصرف. فالأولي حملها علي الإنفاق بعد عزل القدر المتيقّن من الدين، و إنّ وليّ الميّت أو الورثة يجب عليه مع عدم الإحاطة أن لا يحبس حقّ الورثة لأجل الغرماء، بل يعزل حقّهم و ينفق الباقي.
فالأظهر- حينئذ- ما دلّت عليه الموثّقة المتقدّمة من عدم جواز التّصرف قبل الضمان. و أمّا ما دلّ بظاهره منها علي توقّف التصرّف علي الأداء، فمع وروده مورد الغالب من إقدام الوارث علي الأداء «35» من قيمة العين، لا ضمان الدين في الذمة، يجب تقييد مفهومه الغائي بمنطوق الموثقة. ثمّ لا يبعد أن يراد من الضّمان فيها هو مجرد التعهّد بالمال، مع إذن الغرماء صريحا، أو رضاهم بشاهد الحال، بحسب مقتضي حال الوارث من عزمه علي الأداء و وفائه بما يعزم عليه. و علي ما ذكرنا «36» ينطبق ما يشاهد «37» من استمرار سيرة المسلمين علي عدم الامتناع من التّصرف في مال مورّثهم- من بيته «38» و أثاث البيت و غير ذلك- إلي أن يستأذنوا الغريم الّذي له علي الميت ما يفي به جزء من مائة ألف جزء من تركة الميت. و حينئذ فالوارث إذا علم من نفسه- في خصوص أداء دين الميّت- حالة يعلم برضي الغريم بتصرّفه في التركة لو اطّلع علي ما في عزمه «39»، فالظاهر جواز التّصرف و إن استوعب الدين. و علي أيّ تقدير، فلو تصرّف الوارث في موضع الجواز فتلف باقي التركة قبل إيفاء الدين، فالظاهر رجوع الغرماء إلي الوارث، لعموم ما دلّ علي أنّه يبدأ «40» بالدين قبل الإرث «41»، و إطلاق ذيل موثّقة زرارة المتقدمة الآمرة برجوع الغرماء فيما بقي من حقوقهم إلي الورثة إن كان الميّت ترك شيئا «42». و لو أعسر الوارث حينئذ، فلا يبعد أن يكون للغريم نقض تصرفه فيما تصرّف فيه «43» من بعض التركة- كما ذكره في القواعد «44»- لكشف تلف بعض التركة عن عدم استحقاق الوارث لما تصرّف فيه، فتأمّل. نعم، لو عزل دين الميت فقبضه وليّ الميت- وصيّا «45» أو غيره- و تمكن من دفعه إلي الغريم فلم يدفع ثم تلف، كان عليه «46» ضمانه لا علي الورثة للأخبار «47»

الدّالة علي ضمان من اوصي إليه بإيصال حق فتمكّن منه و لم يفعل، و قد ورد بعضها في باب من تمكّن من إيصال الزكاة فلم يفعل «48»، كمصحّحة الحلبي [عن أبي عبد اللَّه: «أنه قال] «49» في رجل توفّي فأوصي إلي رجل- و علي الرجل «50» المتوفّي دين- فعمد الذي اوصي إليه فعزل الذي للغرماء، فرفعه في «51» بيته و قسّم الّذي بقي بين الورثة، فسرق «52» الذي للغرماء من الليل، ممن يؤخذ «53»؟ قال: هو ضامن حين عزله في بيته يؤدي من ماله» «54». و ما عن المشايخ الثلاثة عن أبان عن رجل [قال: «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام] «55» عن رجل أوصي إلي رجل «56» أنّ عليه دينا، فقال: يقضي الرجل ما عليه من دينه و يقسّم ما بقي بين الورثة، قلت: فسرق ما كان أوصي به من الدّين، ممن يؤخذ [الدين، أ] «57» من الورثة أم من الوصيّ؟ [قال: لا يؤخذ من الورثة] «58» و لكن الوصيّ ضامن لها «59»» «60». و قريب منها رواية عبد اللَّه الهاشميّ المحكيّة عن التهذيبين في وصيّ أعطاه الميّت زكاة ماله فذهبت «61».

مسألة [9] «62» إذا مات المديون فالمحكي عن الأكثر: بقاء المال المقابل للدين علي حكم [مال] الميّت،

و لا ينتقل من حين الموت إلي الوارث إلّا الفاضل عن الدين «63». و عن جماعة منهم العلّامة «64» و الشهيد الثاني «65»: [الذهاب] «66» إلي انتقال المال بالموت إلي الوارث و إن استغرق الدين التركة. للأوّلين: ظاهر قوله تعالي مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ «67» بناء علي أنّ ظاهر اللّام في آيات الإرث التمليك، فمقتضي القيد توقف الملك علي إيفاء الوصيّة و الدين. و ظاهر الأخبار الكثيرة، مثل قوله في الدية: «يرثها أولياء المقتول إذا لم يكن علي الميّت دين» «68». و قوله في الرواية المرويّة في باب الزكاة: «إنّما هو بمنزلة الدين لو كان عليه، ليس للورثة شي‌ء حتي يؤدّوا ما أوصي به من الزكاة «69». و قوله عليه السلام في موثّقة زرارة: «في عبد أذن له سيّده في التجارة، فاستدان العبد فمات المولي فاختصم الغرماء و الورثة فيما في يد العبد، قال: ليس للورثة سبيل علي رقبة العبد و ما في يده من المال و المتاع، إلّا أن يضمنوا دين الغرماء جميعا، فيكون العبد و ما في يده من المال للورثة، فإن أبوا كان العبد و ما في يده من المال للغرماء، يقوّم العبد و ما في يده من المال، ثم يقسّم ذلك بينهم بالحصص، فإن عجز قيمة العبد و ما في يده عن أموال الغرماء رجعوا إلي الورثة فيما بقي لهم إن كان الميت ترك شيئا، و إن فضل قيمة العبد و ما في يده عن دين الغرماء رد علي الورثة» «70». و ممّا استدلّ به الشيخ في المبسوط لهذا القول أيضا: إنّه لو انتقل المال إلي الورثة لانعتق قريب الوارث عليه بمجرّد موت المورث و إن كان عليه دين مستوعب، و التالي باطل بلا خلاف «71». و للآخرين: إنه لو لم ينتقل إلي الوارث لبقي مالا بلا مالك، و هو محال عقلا. و إنّه لو لم ينتقل لم يشارك ابن الابن عمّه في ميراث جده إذا مات أبوه قبل إيفاء الدين. و التالي باطل إجماعا. و للنظر في كل من أدلّة الطرفين مجال، إلّا أنّ الأقوي هو القول الثاني لأن كون التركة ملكا ممّا لا يقبل الإنكار، لما قد ثبت له من الأحكام المتوقّفة علي الملك، كالبيع و الإجارة، و ضمانه عينا و منفعة عند التلف، إلي غير ذلك، و توقّف الملك علي المالك- أيضا- كذلك لأن الملكيّة من الإضافات المتوقّفة علي تحقّق أطرافها، و ليس هنا من يملك إلّا الوارث لأنّ مالكيّة الديّان منتفية إجماعا «72». و أورد عليه النقض ب: ثمن الكفن، و مئونة التجهيز، و الزكاة، و دية الجناية علي الميت- التي ورد النص بأنّها ليست للورثة بل يتصدّق [بها] للميّت في وجوه البر «73»- و بالوقف العام. فإن قيل: إنّه ملك للَّه تعالي. قلنا بمثله في مال الميّت، إلّا أنّ الفارق وجوب صرف هذا في ديون الميّت. و يمكن الجواب- فيما عدا النقض بالوقف- : بالتزام ملكيّة الكفن و نحوه للورثة، و نحوه المال الموصي به في مصرف مخصوص كاستئجار العبادة و نحوه، و دية الجناية للفقراء، و الزكاة لهم أو لكافّة المسلمين. و أمّا احتمال كونه كالوقف ملكا للَّه، فهو مخالف للإجماع علي أنّ الملك هنا ليس للَّه تعالي لأنّ أصحابنا بين قائل بانتقاله إلي الوارث، و بين قائل بكونه في حكم مال الميّت «74»، مع أنّ ثبوت الملك بالمعني المتعارف للَّه تعالي محلّ تأمّل، و إن قيل به في الوقف العام، مع أنّ انتقال الملك إلي اللَّه ليس بناقل اختياريّ، و الاضطراري غير ثابت. فإن قلت: الانتقال إلي الوارث- أيضا- غير ثابت. قلت: انتقاله إليه في الجملة ثابت، إنّما الكلام في كون ذلك قبل إيفاء الدين أو بعده، فيحكم بثبوت الانتقال قبل الإيفاء بأصالة عدم الانتقال إلي غيره، نظير ما إذا ثبتت الحقيقة العرفيّة للفظ و شكّ في كونه في اللّغة كذلك، فإنّه يحكم بثبوت الحقيقة العرفية في اللّغة- أيضا- بأصالة عدم النقل، و لا يجري هنا أصالة تأخّر الوارث «75». فحاصل الاستدلال: أنّ الأمر دائر بين تملك الميت، أو تملك الوارث، أو كون الملك للَّه تعالي. و الأوّل باطل قطعا، فيدور الأمر بين الأخيرين و حيث إنّ تملك الوارث ثابت في الزمان المتأخّر، و يشك في ثبوته عند الموت، فيحكم بثبوته هناك، نظير ما ذكر في الحكم بسبق المعني العرفي و عدم مسبوقيّته لوضع آخر، هذا، و لكنّ العمدة في نفي احتمال ملكيته للَّه هو الإجماع المركّب كما عرفت، و إلّا فإثبات سبق التملّك بهذا الأصل غير صحيح، و المعتمد في إثبات سبق الحقيقة العرفيّة عند الشكّ علي أمور أخر، فتدبّر. نعم، يمكن أن يوجّه الاستدلال المذكور بأنّ الإرث عرفا و شرعا هو انتقال ما كان للميت من مال أو حق منه إلي الوارث، و لا يتحقق هذا المعني إلّا بعد عدم توسّط مالك ثالث بين الميت و الوارث، و إلّا لانتقل المال إلي الوارث منه لا من الميّت، فحينئذ فيدور الأمر- قبل إيفاء الدين- بين تملك الميّت و تملك الوارث، و الأوّل باطل لكونه خرقا للإجماع، و لأن الميت إمّا أن يراد به نفس الجسد، و لا يخفي عدم قابليته للتملك، و إمّا أن يراد به النفس الباقية بعد الموت، و هو و إن تصوّر فيه الملك نظير ما يقال في حصول الملكيّة للَّه تعالي في الوقف العام، إلّا أنّ ملاحظة أحكام الملك و المالك يكشف كشفا قطعيّا عن بطلانه، كيف و لو كان كذلك لزم انتقال عوض التركة إليه إذا باعها الوارث، و انعتق عليه من يعتق عليه إذا انتقل إليه، إلّا أن يمنع ذلك من أجل الحجر عليه و إن كان مالكا، و لجاز الربا في المعاملة الواقعة من الوارث إذا كان مع ولد الميت أو زوجته، و لجاز نقل الملك إليه، و الوقف عليه، إلي غير ذلك مما هو متّفق البطلان. و لو فرض تسليم قابليّة النفس الناطقة للملك، لكن نقول: لا بد من التزام انتقال المال من الإنسان لأنّ المالك في حال الحياة ليس خصوص النفس الناطقة- كما لا يخفي- و قد علمت أنّ الإرث انتقال المال من الميت إلي الحيّ لا إلي النفس، و منه إلي الوارث. و كيف كان، فهذا الوجه هو المعتمد في الاستدلال. و أمّا ما ذكر من اشتراك ابن الابن لعمّه إذا مات أبوه قبل الإيفاء فهو أعم من المطلوب لاحتمال كونه لأجل انتقال تأهّل الملكيّة بعد الدين إليه من أبيه، و انتقال سبب الملك كاف في استحقاق النصيب، كما لو كان للميّت خيار، فإن ابن الابن يرث الخيار من أبيه فيشارك مع عمّه في البيع المستردّ بالخيار، و نحوه ورثة الموصي له، فإنهم إذا قبلوها تنتقل إلي ورثة الموصي له حين موته لا حين قبولهم لأنّهم إنّما ورثوا قابليّة الملك و القبول للموصي به. و كذا الوقف المنقطع الآخر الذي قيل: إنّه يرجع بعد الانقطاع إلي ورثة الواقف، بناء علي انتقاله إلي ورثته حين الموت لا حين انقراض الموقوف عليهم، و يحتمل الانتقال إلي ورثته حين الانقراض، بناء علي أنّه يقدّر انتقاله إلي الميت من ذلك الحين، و الفرق بينه و بين الخيار و الوصيّة أنّهما إنّما ينتقلان من الميت إلي وارثه، ثمّ منه إلي وارثه، و هكذا، و انتقال المال تابع للخيار و الوصيّة، بخلاف الوقف فإنّه يقدّر انتقاله إلي الميت من حين الانقراض. و وجه الاحتمال الأوّل: هو أن الواقف له تأهّل انتقال الوقف إليه لو انقرض الموقوف إليه «76». و بهذا المعني ينتقل إلي وارثه، ثم إلي وارثه، و هكذا، فيكون انتقال المال تابعا لانتقال ذلك التأهّل، كانتقال المال في الخيار و الوصيّة. و يدلّ علي تملّك الوارث- مضافا إلي ما ذكرنا- إطلاقات الإرث، مثل قوله تعالي لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ.. الآية «77». و قوله تعالي إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ «78». دل علي سببيّة الهلاك لتملّك الوارث. و يؤيّدها آية اولي الأرحام «79» و قوله تعالي وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ «80». و تقييدها بما بعد الوصيّة و الدين لوجود الآيات المقيّدة ممنوع، أوّلا: بما سيجي‌ء من عدم دلالة تلك الآيات إلّا علي كون القسمة بين الورثة بعد الدين، لا أنّ التملك بعده. و ثانيا: لو سلمنا دلالتها علي ذلك لكن نقول: لا يمكن تقييد الآيات المطلقة بها لأنّا إن قلنا بظهور اللّام- وضعا أو انصرافا- في الملكيّة المستقرة السليمة عن مزاحمة الغير، فلا يخفي أنّ تقييد هذه الملكيّة بما بعد الدين- كما تضمنته الآيات- متفق عليه. [علي أن التقييد في هذه] «81» الآيات ليس بأولي من حمل الملكية- المستفادة من اللام- و الأولوية و المولوية علي ما لا ينافي مزاحمة حقّ الغير المانع من التصرف المنافي له، و إن كانت ظاهرة في غير ذلك «82». إلّا أنّ الآيات المطلقة المذكورة كما يمكن تقييد الملكيّة المذكورة المستفادة منها بما بعد الدين بقرينة الآيات المقيّدة، كذلك يمكن أن يراد من الملكيّة فيها- الظاهرة في الفرد المستقر- مطلق الملكيّة المجامع مع عدم الاستقرار و مزاحمة الغير. و دعوي أولويّة تقييد المطلق من إرادة الإطلاق من المطلق المنصرف إلي بعض أفراده، ممنوعة. و إن قلنا بعدم ظهور في أزيد من مطلق الملكيّة فيدور الأمر بين تقييد الآيات المطلقة بما بعد الدين، لشهادة الآيات المقيدة، و بين تقييد الملكيّة المقيّدة بما بعد الدين- في الآيات المقيّدة- علي خصوص الملك المستقرّ المستقلّ السليم عن مزاحمة الغير في التصرّف، فبقي إطلاق ثبوت أصل الملك في الآيات المطلقة غير مقيّد بشي‌ء، و كيف [كان] «83» فلا يتعيّن تقييد الآيات المطلقة بالآيات المقيّدة. و أمّا ما استدلّ به الأكثر علي عدم الملك من الوجوه الثلاثة: فأمّا أصالة عدم الانتقال إلّا بعد الإيفاء و إن كانت جارية هنا و لا تعارضها أصالة عدم الانتقال إلي مالك آخر فضلا عن أن تقدّم عليها، و إنّما تقدّم عليها في تعيين أوضاع الألفاظ لوجوه أخر- كما عرفت سابقا- إلّا أنّ الأصل يخرج عنه بما ذكرنا من الدليل. و أمّا التمسك بلزوم انعتاق من ينعتق علي الوارث بمجرّد الموت مع إحاطة الدين، فيرد عليه: منع عموم الدّليل علي الانعتاق بمجرّد الملك، حتّي فيما إذا كان متعلّقا لحق الغير و كان المالك ممنوعا من التصرّف. و عموم ما دلّ علي أنّه لا يملك الرجل محارمه معارض بعموم ما تقدّم من الدليل، علي أنّ الورثة إذا أبوا عن ضمان الدين كان التركة للغرماء يقوّمونه و يأخذون حقّهم «84». و أمّا التمسك بالآيات المتضمّنة لقوله مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ.. أَوْ دَيْنٍ «85» ففيه: أوّلا: انّ الظاهر من الآية سوقها لبيان كيفيّة القسمة- بعد كون مالكيّة الورثة و استحقاقهم في الجملة مفروغا عنه- لا لتأسيس الحكم بأصل التملّك، فالمتأخر عن الوصيّة و الدين هي قسمة الإرث بين الورثة علي النحو المذكور في الآيات، فالمراد: أنّ الورثة لا يزاحمون الموصي له و لا الديّان. فمساق الآية مساق ما ورد من أنّ أوّل شي‌ء يبدأ به من المال: الكفن، ثم الدين، ثم الوصيّة، ثم الميراث «86». و ربما يظهر ما ذكرنا من بعض فقرأت الآيات، مثل قوله تعالي فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ.. إلخ «87»، فإنّ قوله وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ دل علي أنّ قوله فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ و قوله فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مسوق لبيان كيفيّة القسمة، فالمقيّد بقوله: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ هي القسمة بين الأبوين، لا أصل إرث الأبوين لمال الميت. فالمقصود من القيد بيان عدم مزاحمة إيفاء الوارث للوصيّة و الدين. و ثانيا- سلّمنا أنّ القيد يرجع إلي الملكيّة لكن نقول: لمّا كان الظاهر من الملكيّة المستفادة من اللّام- الموضوعة للاختصاص المطلق- هو استقلال المالك و عدم مزاحمته في التصرّف، فالقيد راجع إلي الملكيّة علي هذا النهج، و تأخّرها عن الدين ممّا لا خلاف فيه. اللَّهمّ إلّا أن يقال: إنّ خصوصيّة الاستقلال في الملك و التسلّط، و عدم تسلّط الغير ليس من الأمور المستفادة من «لام التمليك»، بل و لا «لام الاختصاص» لأنّ غاية الاختصاص المطلق المستفاد من اللّام هو الاستقلال، بمعني عدم مدخليّة الغير في الملكيّة و نفي تشريك الغير.
و أمّا عدم مدخلية الغير في مزاحمة المالك و منعه عن التصرّف، فهو من الأحكام الشرعيّة الثابتة للأملاك لو خلّيت و أنفسها، و أظهر من ذلك- في الخروج عن مدلول اللّام- استقرار الملك و عدم تزلزله بتسلط الديّان علي إبطاله عند امتناع الوارث من أداء الدين، فإنّ هذا ليس من أحكام الملك- فضلا عن مدخليّته في نفس الملك- ليكون داخلا في مفاد اللّام، بل هو مقتضي استصحاب الملك. و أمّا تنجّز الملك و عدم مراعاته بضمان الدين، أو مقتضي إطلاق الحكم بالملكيّة، فاتّضح إنّ شيئا من الخصوصيّات المذكورة للملك- اعني الاختصاص بمعني عدم مدخليّة الغير في المنع عن التصرّف، و استقرار الملك و تنجّزه- ليس مستفادا من نفس اللفظ حتّي يرد عليه التقييد، فيكون مؤدّاه توقّف الملك الخاص علي إيفاء الدين، فلا ينافي حصول أصل الملك قبل الإيفاء. نعم، لو سلّم عدم دلالة اللّام علي أكثر من مطلق الملك- لكن ادعي أنّ المراد من المطلق: الملك الخاص، اعني المنجّز المستقرّ السليم عن المزاحمة، فالتقييد وارد علي هذا المقيّد المراد من المطلق- كان حسنا بشرط إثبات الدليل من الخارج علي ثبوت أصل الملك، حتي لهذا التقييد المذكور. نعم، يمكن أن يقال- كما أشرنا سابقا- : إنّ إبقاء الملكيّة- المقيّدة في هذه الآيات بما بعد الدين- علي إطلاقها موجب لتقييد الآيات المطلقة المتقدّمة «88» بهذه الآيات، فيدور الأمر بين تقييد الملكيّة المطلقة- في آيات الدين- بالملكيّة المستقرة السليمة عن مزاحمة الغير في التصرّف، و بين تقييد أصل الملكيّة- في تلك الآيات المطلقة- بما بعد الدين، و لو لم نرجّح التقييد الأوّل، فلا نرجّح الثاني. لكنّ الإنصاف إنّ التقييد الثاني أرجح، و حينئذ فمع الإجمال في الآيات المطلقة و الآيات المقيّدة، فالمرجّح ما ذكرنا من الدليل العقلي، لا إطلاقات الآيات المتقدّمة، مضافا إلي قوّة احتمال ورودها في مقام بيان استحقاق الأقارب في مقابل الحرمان بالكلية، و يشهد له: أنّ الآية الأولي إنّما نزلت في ورثة بعض الأنصار حيث إنّ إخوة الميّت أخذوا المال و حرموا أولاده الصغار و امرأته «89»، فيكون مساقها مساق جميع الإطلاقات الواردة في أنّ للأبوين كذا، و للأخ كذا، و للخال كذا، و للعمّ كذا، إذ لا يرتاب أحد في ورودها في مقام تشخيص المستحقّين إذا فرض ثبوت الإرث و الاستحقاق لأصل الوارث في وقت. و يؤيّده إطلاقهم- ظاهرا- علي أنّ الوارث له حقّ المحاكمة، بمعني أنّه لو ادّعي لمورّثه مالا علي أحد، فأقام شاهدا واحدا، فله الحلف و أخذ الحقّ، و إن كان علي الميت دين يحيط بالحقّ. و قد دلّت النصوص «90» و الفتاوي علي أن اليمين المثبتة هي اليمين لإثبات مال لنفسه، و لا يمين لإثبات مال للغير بلا خلاف ظاهرا «91»، مع صراحة النصوص في أنّ المعتبر في جزء البيّنة يمين صاحب الحق، و مشروعيّة الحلف من الوارث، مع ما ثبت من أنّه لا يمين لإثبات مال للغير يدلّ علي أنّ التركة مال الوارث. و اعلم أنّ الظاهر إنّ حكم الوصيّة و حكم الدين واحد، كما صرّح به بعض، حاكيا له عن جمع الجوامع «92» و فقه الراوندي «93» و غيرهما من مصنّفي آيات الأحكام «94». ثم إنّ الثمرة بين القولين تظهر في مواضع: منها: وجوب فطرته- لو كان عبدا- علي الوارث، بل وجوب زكاة المال، علي أحد الوجوه كما سيجي‌ء. و منها: استحقاق الوارث لنمائه لأنّه نماء ملكه، و في تعلق حقّ الديّان بالنماء- كما في فوائد الرهن علي أحد القولين- احتمال، و إن نسب إلي الأصحاب القطع بخلافه في المدارك «95». و يؤيد هذا الاحتمال: عموم قوله عليه السلام في الرواية المتقدّمة: «ليس شي‌ء للورثة حتي يؤدوا ما عليه» «96»، و قوله: «ليس للورثة سبيل علي رقبة العبد و ما في يده» «97»، و قوله عليه السلام في ولد المكاتب المطلق: «ليس له شي‌ء حتي يؤدي ما علي أبيه» «98» فإنّ الظاهر.. «99». نعم، مقتضي الأصل و قاعدة «تسلّط الناس علي أموالهم» ما نسب إلي الأصحاب. و منها: جواز بيع التركة قبل الإيفاء، ذكره في الدروس «100»، فإن أراد الجواز مع عدم الضمان، و عدم إذن الغرماء، فهو مناف لما سبق من الأخبار «101»- و حكي عليه الإجماع في الإيضاح «102» و المسالك «103» و كشف اللثام «104»- من عدم استقلال الوارث بالتصرف. نعم، حكم الفاضل بجواز رهن التركة «105»، و لعلّه لأنّه يري كون تعلق الدين بالتركة تعلق الرهن، لكن صرح بعض بأنّه لم يعهد ذلك من قائل عدا ما حكاه الشهيد في قواعده عن السيد رضي الدين قدّس سرّهما «106». نعم ظاهر محكي جامع المقاصد موافقة الفاضل في باب الرهن «107»، لكنّه عدل في باب الحجر «108» كما عرفت. و إن أراد الجواز مع الضمان أو إذن الديّان، فالظاهر جوازه علي القولين لأنّه و إن لم يكن مالكا- علي قول الأكثر- إلّا أنّ له ولاية التصرف بإذن الغرماء، إلّا أن يمنع الولاية. بل له إمّا إعطاء الأعيان بإزاء الدين بعد التقويم أو ضمان الدين ثم التصرف فيها بما يشاء، كما يظهر من قوله عليه السلام: «ليس للورثة سبيل علي العبد و ما في يده حتّي يضمنوا للغرماء» «109». و منها: وجوب الزكاة علي الوارث و عدمه، و توضيحه: إنّه إذا مات المالك و عليه دين و ترك نخيلا- مثلا- فإمّا أن يكون موته بعد ظهور الثمرة و تعلّق الزكاة بها، أو قبله. و الأوّل سيجي‌ء حكمه. و علي الثاني: فإمّا أن تكون التركة فاضلا عن الدين. و إمّا أن يكون الدين محيطا بالتركة. و علي التقديرين: فإمّا أن يكون الموت بعد الظهور أو قبله. فالأقسام أربعة: فعلي الأوّل يحسب الزكاة في الفاضل إذا بلغ نصابا، لانتقاله إلي الوارث. و ممنوعيته عن التصرّف فيه- علي أحد القولين المتقدّمين في الفاضل عن الدين «110»- لا يوجب نفي الزكاة إذ غايته انّه كالمرهون المقدور علي فكه و لو ببيعه، بل هو أولي. نعم، لو قيل بعدم الزكاة في ما تعلّق به حقّ الغير كالرهن و لو تمكّن من فكّه، كما هو أحد الأقوال في الرهن، لم تجب الزكاة. و كذلك الحكم علي الثاني، و كذلك علي الثالث، إن قلنا بملك الوارث. و الكلام في حجره عن التصرّف كما تقدّم من أنّه لا يزيد عن الرهن المقدور علي فكّه، الذي صرّح الشهيدان في الروضة «111» و البيان «112» بوجوب الزكاة فيه، فما في المسالك- من أنّ التركة المحاطة بالدين لا تجب زكاتها علي الوارث و لو علي الانتقال، لمنعه عن التصرّف «113»- لا يخفي ما فيه. ثمّ إنّه إذا أخرج الوارث الزكاة من العين فهل يغرم بدلها للديّان؟ الظاهر ذلك إذ لم يجب عليه دفع الزكاة من العين، و لا دفع الدين منها، فالوجوب في كل منهما تخييري الأداء من العين و غيره، فلا يلزم من العمل بخطابي أداء الزكاة و أداء الدين محذور لعدم التعارض، و تعلق الزكاة بالعين لا ينافي كون الخطاب تخييريّا. نعم لو قلنا: إنّ دفع القيمة مسقط للتكليف بالإخراج من العين حيث إنّه لولايته الشرعية نقل العين المستحقة للفقراء إلي نفسه فسقط تكليفه بإخراج العين لا أنّ دفع العين أحد طرفي التخيير، أمكن القول بأنّ تعلق حق الفقراء بالعين بمنزلة تلف بعض التركة بغير اختيار الوارث، فلا يجب عليه الغرامة، مع إمكان القول بالوجوب حينئذ نظرا إلي عموم ما دل علي أنّه لا يجوز للوارث التصرّف ما لم يضمن للغرماء حقهم، كما في الرواية المتقدّمة في قوله عليه السلام: «ليس للورثة سبيل علي رقبة العبد و ما في يده حتي يضمنوا للغرماء» «114». و حينئذ فوجوب التصرف بدفع الزكاة لا ينافي توقف هذا التصرف علي الضمان. و إن كان واجبا- أيضا- فيجب الضمان من باب المقدّمة، و مجرّد الحكم بوجوب إخراجه من العين لا يوجب كون الإخراج مجّانا و من غير عوض، كما أنّ وجوب أخذ مال الغير في الاضطرار لا ينافي ضمانه الثابت بالقاعدة. فنتيجة القاعدة هي وجوب الأخذ بعد الضمان. فإن قلت: بعد تسليم تعلّق الزكاة به و اشتراك الفقراء فإخراج الزكاة ليس تصرفا في متعلّق حقّ الغرماء لأنّه خارج عن الإرث، فلا يشمله ما دل علي منعه علي التصرّف في الميراث إلّا بعد الضمان. قلت: مع أنّ هذا مبنيّ علي تعلّق الشركة فيه، إنّه إنّما يستقيم لو كان تعلّق التكليف بأداء الزكاة متأخرا عن مشاركة الفقراء، نظير التكليف بأداء حصّة الشريك إليه في سائر الأموال المشتركة، و هو ممنوع. و كذا علي الرابع، إن قلنا بملك الوارث، و ليس هنا مانع الحجر لأنّ الثمرة تظهر في ملك الوارث، و قد تقدّم أنّ المنسوب إلي الأصحاب القطع بعدم حجره عن التصرّف في النماء «115». ثمّ لو قلنا: بأنّ التركة في حكم مال الميّت فظهرت الثمرة و زادت التركة و دخلت المسألة في الصورة الثانية. و لو زادت التركة عند بلوغ حدّ الوجوب في الصورة الثالثة، اتحد زمان تملّك الوارث للفاضل و زمان نفي الوجوب، و الظاهر وجوب الزكاة علي الوارث للعمومات. و لو كان موت المالك بعد تعلّق الوجوب، فلا إشكال في وجوب الزكاة في هذا المال و إن كان الميّت مديونا لأنّ الدين لا يمنع الزكاة. و لو ضاقت التركة عن الدين و الزكاة، فإن كان عين المال الزكوي تالفا، بأن كانت الزكاة في ذمة الميّت فهي كأحد الديون يوزّع المال علي الجميع، و إن كانت العين باقية فالظاهر دفع الزكاة أوّلا، أمّا علي تقدير تعلّق الشركة فواضح، و أمّا علي تقدير تعلّقه كتعلّق الدين بالرهن و دية الجنابة بالعبد الجاني فلسبق تعلّق ذلك الحقّ، فيكون حقّ الغرماء بعد الموت تعلّق بمال تعلّق حقّ الغير به، فلا بدّ من فكّ الحقّ المتقدّم. ثمّ علي القول بالانتقال إلي الوارث فالظاهر منعه من التصرّف مع مطالبة الورثة «116» مطلقا و لو كان الدين غير مستوعب- وفاقا للإيضاح «117»، و المحكيّ عن الكركي «118»- لعموم الروايتين المتقدّمتين في قوله: «ليس للورثة شي‌ء» «119»، و قوله: «ليس للورثة سبيل علي رقبة العبد و ما في يده» «120». و ربّما يستدلّ لذلك بالآية، و يقال: إنّ مقتضاها أنّ تسلّط الورثة من جميع الوجوه متأخّر عن الدين و الوصيّة، خولف ذلك في أصل الملك لما دلّ عليه من الدليل العقلي و النقلي فيبقي الباقي علي المنع. و فيه: انّ مقتضي الآية تأخّر التسلّط المطلق عن الدين، لا تأخر مطلق التسلط، فالعموم في قوله: التسلّط من جميع الوجوه، مجموعي لا أفرادي. و كيف كان، فمقتضي تلك الروايات هو المنع مطلقا، إلّا أنّ في بعض الأخبار دلالة علي جواز التصرف إذا لم يحط الدين بالتركة، نحو مرسلة البزنطي- المصحّحة إليه- : «عن رجل يموت و يترك عيالا و عليه دين، أ ينفق عليهم من ماله؟ قال: إذا استيقن أن الّذي عليه يحيط بجميع المال فلا ينفق عليهم، و إن لم يستيقن فلينفق عليهم من وسط المال» «121». و ما سيجي‌ء من صحيحة الحلبي الدالّة علي أنّ الوصيّ إذا عزل الدين و قسّم الباقي بين الورثة ثم تلف المعزول غرمه «122» إذ لو لم تجز القسمة قبل إيفاء الدين إلي صاحبه لكان حقّ الديان. و في معناها ما عن الكليني و الشيخ في الموثّق عن ابن الحجّاج عن أبي الحسن عليه السلام «123» أن ينفق علي الورثة مع عدم الاستغراق، و يوفّي الدين- أيضا- لوجوب إيصال حقّ كل من الورثة و الديان إليهم، لكن لا يخفي أنّه ليس في الرواية ما يوجب اختصاص ذلك بالوصيّ للميت- الولي الشرعي للصغار- بل ظاهر مطلق المتولي لأمور الميت و الورثة، فلا يبعد جواز ذلك لنفس الوارث، فيجوز له التصرف في بعض التركة مع حفظ بعضها الآخر للديان إلي زمان إمكان الأداء. نعم، لو اتّفق تلف ما للديّان بعد الإنفاق علي الورثة فالضمان علي الولي المتصرف إذا تمكّن من إيصال حقّ الدّيان إليهم فلم يفعل لما ورد في ضمان من اوصي إليه دفع مال إلي مستحقه فتمكّن و لم يفعل، المروي في باب: من تمكّن من إيصال الزكاة فلم يفعل «124». و لصحيحة الحلبي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «أنّه قال: في رجل توفّي فأوصي إلي رجل، و علي الرجل المتوفّي دين، فعمد الذي اوصي إليه فعزل الذي للغرماء فرفعه في بيته، و قسّم الذي بقي بين الورثة، فسرق الذي للغرماء من اللّيل، ممّن يؤخذ؟ قال: هو ضامن حين عزله في بيته، يؤدي من ماله» «125». و رواية أبان- المحكيّة عن الفقيه بطريق موثّق «126»، و عن الشيخ بطريق صحيح إليه مرسل «127»، و عن الكليني بسند ضعيف مرسل «128»- أنّه سأل رجل، أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل أوصي إلي رجل أنّ عليه دينا، فقال: «يقضي الرجل ما عليه من دينه و يقسّم ما بقي بين الورثة، قلت: فسرق ما كان أوصي به في الدين، ممن يؤخذ؟ أمن الورثة أم من الوصي؟ قال: لا يؤخذ من الورثة و لكن الوصيّ ضامن له» «129». و قريب منها رواية عبد اللَّه الهاشمي المحكية عن الاستبصار «130» و التهذيب «131» في وصيّ أعطاه الميت زكاة ماله فذهبت. و لا بد من حمل هذه الروايات- وفاقا للمحكيّ عن الشيخ في التهذيبين- علي صورة تمكّن الوصيّ «132» لما تقدّم من التقييد في رواية الوصيّ الذي أمر بدفع مال إلي غيره، المرويّة في باب الزكاة «133». و لو لم يتمكّن من الدفع، فالظاهر المطابق للقاعدة أن الضمان علي الورثة إذ لا يستقر ملك الرجل علي شي‌ء من التركة قبل إيفاء الدين، لما تقدّم من الروايتين الظاهرتين في المنع من التصرف «134»، المحمولتين- بقرينة رواية الإنفاق «135» و هذه الروايات- علي أنّه ليس لهم شي‌ء علي سبيل الاختصاص المستقرّ و الملكيّة الثابتة حتي يؤدوا الدين. و لو أفلس الوصي، فالظاهر رجوع الغرماء إلي الورثة، بل لا يبعد رجوعهم من أوّل الأمر إلي الورثة. و
المراد بضمان الوصيّ وجوب غرامته فيكون ما يغرمه كأصل مال الميّت، لا أنّ الوصيّ ضامن للديان بمعني عدم تسلّطهم علي الورثة. فقوله عليه السلام في الرواية الثانية: «لا يؤخذ من الورثة» و إن كان ظاهرا في ذلك إلّا أنّه لا يبعد حمله علي أنّ الضمان لا يستقرّ علي الورثة، بمعني أن لا يرجع أحدهما إلي الوصيّ، بل الضمان يستقرّ علي الوصيّ، فإن أخذ الديّان منه فهو، و إن أخذوا من الوارث رجع الوارث إلي الوصيّ، كلّ ذلك لما تقرّر من أنّ الإرث لا يستقرّ ما لم يبرئ ذمة الميّت.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.