تحقیق الاصول المجلد 6

اشارة

سرشناسه:حسینی میلانی، سیدعلی، 1326 -

عنوان و نام پدیدآور:تحقیق الاصول علی ضوء ابحاث شیخناالفقیه المحقق والاصولی المدقق آیةالله العظمی الوحیدالخراسانی/ تالیف علی الحسینی المیلانی.

مشخصات نشر:قم: مرکزالحقائق الاسلامیه، 1432 ق.= 1390 -

مشخصات ظاهری:ج.

شابک:دوره 978-964-2501-52-6 : ؛ ج.1 978-964-2501-93-9 : ؛ ج.2 978-964-2501-94-6 : ؛ ج.3 978-964-2501-39-7 : ؛ ج. 4 978-964-2501-54-0 : ؛ 70000 ریال : ج.5 978-964-2501-55-7 : ؛ 130000 ریال: ج.6 978-600-5348-78-1 : ؛ ج.7: 978-600-5348-91-0 ؛ ج.8 978-600-8518-02-0 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج. 2- 4 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390) .

یادداشت:ج.5 (چاپ اول: 1431ق.= 1389).

یادداشت:ج.6 (چاپ اول: 1435ق. = 1393).

یادداشت:ج.7 (چاپ اول: 1436ق. = 1393).

یادداشت:ج.8 (چاپ اول: 1437ق. = 1395) (فیپا).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:وحیدخراسانی، حسین، 1299 -

شناسه افزوده:مرکز الحقائق الاسلامیه

رده بندی کنگره:BP159/8/ح56ت3 1390

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:1093921

ص :1

اشاره

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد للّه رب العالمین ، والصّلاة والسّلام علی خیر خلقه وأشرف بریّته محمد وآله الطاهرین، ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعین من الأولین والآخرین.

وبعد :

فهذا هو الجزء السادس من کتابنا ( تحقیق الأُصول ) علی نسق الأجزاء السّابقة، نقدّمه للأساتذة العظام والفضلاء الکرام فی الحوزات العلمیّة. راجیا منهم الدعاء ومن اللّه القبول والثواب بمحمّد وآله الأطهار.

علی الحسینی المیلانی

1434

ص: 5

ص: 6

الأمارات

* حجیّة الظهورات

* حجیّة قول اللغوی

* الإجماع

* الشهرة الفتوائیّة

* حجیّة خبر الواحد

ص: 7

ص: 8

حجیّة الظّهورات

ص: 9

ص: 10

الظّهور

الظهور هو قالبیّة اللّفظ للمعنی.

فتارةً: یکون ظاهرا فی المعنی عند الشخص، وأُخری: یکون ظاهرا فیه عند نوع النّاس. ومحلّ الکلام هو الثانی، بأنْ یفهم عموم الناس المفهوم الموضوع له اللّفظ بمجرّد التلفّظ به.

وأیضا، فإنّ الظهور، تارةً: یکون فی المدلول الأفرادی، وأُخری: فی الجمل الترکیبیّة.

وأیضا: قد یکون الظهور من حاقّ اللّفظ، وقد یکون بمعونة قرینة خارجیّة.

ویقع البحث فی ثلاثة مقامات.

ص: 11

المقام الأوّل فی مطلق الظواهر

اشارة

وفی هذا المقام ثلاثة جهات:

الجهة الأُولی

هل الظّاهر حجّة أوْ لا؟

وهذا البحث کبروی کما لا یخفی، وأمّا الصّغریات مثل: هل صیغة الأمر ظاهرة فی الوجوب أوْ لا؟ وأمثال ذلک، فقد تقدّم الکلام علیها فی محالّها...

فإذا تم حجیّة الظواهر، بعد تمامیّة البحث فی الصغری، وقع الأمر الظاهر فی الوجوب _ مثلاً _ فی طریق استنباط الحکم الشرعی، وعلیه، فالبحث عن حجیّة الظواهر بحثٌ أُصولی.

ولا کلام فی أصل حجیّة الظّواهر؛ للسّیرة العقلائیّة القطعیّة القائمة علی ذلک، فإنّهم یجعلون اللّفظ الظاهر فی معناه کاشفا عن المراد، ویحتجّون به ویرتّبون علیه الأثر، ویلغون احتمال الخلاف، وإلاّ لاختلّت أحوالهم وأمورهم.

ص: 12

ثم إنّ الشارع قد أمضی هذه السّیرة بلاخلاف؛ إذْ لم یصل إلینا الرّدع منه عنها بالخصوص، ولو کان لبان، وأمّا أنْ تکون الأدلّة النّاهیة عن اتّباع الظنّ رادعةً عن العمل بهذه السّیرة، فسیأتی الکلام علی ذلک فیما بعد.

ومن ذلک کلام الشارع.

قال الشیخ: ومن المعلوم بدیهةً أنّ طریق محاورات الشارع فی تفهیم مقاصده للمخاطبین، لم یکن طریقا مخترعا مغایرا لطریق محاورات أهل اللّسان فی تفهیم مقاصدهم.(1)

وقال صاحب الکفایة: لاشبهة فی لزوم اتّباع ظاهر کلام الشارع فی تعیین مراده فی الجملة؛ لاستقرار طریقة العقلاء علی اتّباع الظهورات فی تعیین المرادات، مع القطع بعدم الردّع عنها؛ لوضوح عدم اختراع طریقة أُخری فی مقام الإفادة لمرامه من کلامه.(2)

وقوله: «فی الجملة» إشارة إلی أنّ الکلام هنا فی أصل المسألة، وإلاّ، فقد وقع الخلاف فی مواضع:

أحدها: من المحقّق القمی، حیث أنکر الحجیّة بالنسبة لمن لم یقصد إفهامه.

والثانی: من الأخباریین المنکرین لحجیّة ظواهر الکتاب.

والثالث: من بعض معاصری الشیخ، حیث قال بعدم الدلیل علی حجیّة

ص: 13


1- 1. فرائد الأُصول: 34.
2- 2. کفایة الأُصول: 281.

الظواهر إذا لم تفد الظنّ أو إذا حصل الظنّ غیر المعتبر علی خلافها.

قال الشیخ:

لکنّ الإنصاف أنّه مخالف لطریقة أرباب اللّسان والعلماء فی کلّ زمان.(1)

والرابع: من معاصرٍ آخر للشّیخ، قال ما حاصله: إنّ الکلام إن کان مقرونا بحالٍ أو مقال یصلح أن یکون صارفا عن المعنی الحقیقی، فلا یتمسّک فیه بأصالة الحقیقة، وإنْ کان الشکّ فی أصل وجود الصّارف، أو کان هناک أمر منفصل یصلح لأنْ یکون صارفا، فیعمل علی أصالة الحقیقة.

قال الشیخ:

وهذا تفصیل حسن متین، لکنه تفصیل فی العمل بأصالة الحقیقة عند الشکّ فی الصّارف لافی حجیّة الظهور اللّفظی.(2)

أقول:

وستری تفصیل الکلام فی کلّ واحدٍ فی التفصیلات المذکورة.

الجهة الثانیة

هل یشترط حجیّة الظّاهر بالظنّ بالوفاق، بحیث لولاه فلا یکون حجة؟

قد ذکرنا أن حجیّة الظواهر مستندة إلی السّیرة العقلائیّة، وإذا ما رجعنا إلیهم نجدهم یأخذون بالظاهر ویجعلونه حجةً علی المراد، من غیر توقّفٍ علی حصول الظنّ به.

ص: 14


1- 1. فرائد الاُصول: 44.
2- 2. فرائد الاُصول: 44.

مثلاً: إذا حکم العقلاء بوجود المعارضة بین کلامین، فإنّ من الواضح أنّ حکمهم بذلک هو من جهة ظهور اللّفظ فی معناه وحجیّته عندهم مطلقا، وحینئذٍ یرون أنّ هذا الظاهر یمانع ذاک، فلولا وجود المقتضی لما وقع التمانع والتعارض بین الکلامین، ولا یتمّ المقتضی إلاّ بعدم اشتراط الظنّ بالوفاق؛ لأنّ حصول الظن المذکور بالنسبة إلی المتعارضین محال؛ لاستحالة الظنّ بالمتنافیین. ولو کان الظنّ بالوفاق شرطا، لم یقع التعارض بین الکلامین حین لایوجد الظنّ لا بالنسبة إلی هذا الکلام ولا بالنسبة إلی ذاک؛ لعدم وجود الموضوع للتعارض. وکذا لا یتحقّق التعارض لو حصل الظنّ بالوفاق فی أحدهما المعیّن دون الآخر. وأمّا الأحد المردّد فلا ماهیّة له ولا وجود.

فثبت بالبرهان _ بالإضافة إلی السّیرة _ أنّ حجیّة الظواهر غیر مشروطةٍ بالظنّ بالوفاق.

الجهة الثالثة

وهل یشترط عدم وجود الظنّ بالخلاف؟

فیه بحثٌ.

قال فی الکفایة: والظاهر أنّ سیرتهم علی اتّباعها، من غیر تقیید بإفادتها للظنّ فعلاً، ولا بعدم الظنّ کذلک علی خلافها قطعا؛ ضرورة أنّه لامجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها، بعدم للظنّ إفادتها بالوفاق ولابوجود الظن بالخلاف.(1)

وقد تبع فی ذلک الشیخ _ رحمه اللّه _ إذ قال:

ص: 15


1- 1. کفایة الأُصول: 281.

ثم إنّک قد عرفت أنّ مناط الحجیّة والاعتبار فی دلالة الألفاظ هو الظهور العرفی... فلا فرق بین إفادته الظنّ بالمراد وعدمها، ولابین وجود الظنّ غیر المعتبر علی خلافه وعدمه...

نعم، ربما یجری علی لسان بعض متأخری المتأخرین من المعاصرین: عدم الدلیل علی حجیّة الظواهر إذا لم تفد الظنّ أو إذا حصل الظنّ المعتبر علی خلافها.

لکنّ الإنصاف أنّه مخالفٌ لطریقة أرباب اللّسان والعلماء فی کلّ زمان... .(1)

أقول:

وقد تبعهما جماعة من المتأخرین عنهما، کالسیّد الاستاذ(2) والسیّد

الخوئی(3).

أمّا عدم اعتبار الظنّ بالوفاق، فالحقّ معهم فیه، کما عرفت.

وأمّا حجیّة الظواهر مع الظنّ بالخلاف، فقد استدلّ لها بوجوهٍ ثلاثة:

الوجه الأوّل: السّیرة العقلائیّة

ولعلّ هذا أهمّ أدلّتهم کما هو ظاهر العبارات المتقدّمة، وحاصله: أنّ العقلاء لایعذرون العبد الذی لم یأخذ بظاهر کلام مولاه معتذرا بالظنّ بالخلاف، وأنّ للمولی الإحتجاج علیه بأنّه لِمَ لم تأخذ بظاهر کلامی؟ بل یعتبر عند العقلاء عاصیا یستحقّ العقاب.

ص: 16


1- 1. فرائد الأُصول: 44.
2- 2. منتقی الأُصول 4 / 207.
3- 3. مصباح الأُصول 2 / 118.

وفیه تأمّل؛ لأنّ المولی إذا أمر عبده بکلامٍ ظاهرٍ فی المراد، فلم یطع الأمر معتذرا بأنّه قد ظنَّ معنیً آخر مخالفا لما هو ظاهر فیه، فلا ریب أنّ هذا العذر لایقبل منه، ولکنْ هل عدم قبول العذر هو من جهة حجیّة ظاهر الکلام عند العقلاء وإنْ ظُنّ بالخلاف، أو هو من جهة أنّهم یرون ما یقوله العبدُ دعویً محتاجة إلی الإثبات؟

وتظهر الثمرة فی ما إذا ثبت أنّ العبد کان ظانّا بالخلاف ولذا لم یطع الأمر، فهل یحکمون باستحقاقه العقاب أو یعذرونه؟ هل هناک سیرة عقلائیّة علی مؤاخذة العبد فی هذه الحالة؟ هذا أوّل الکلام...

بل إنّ السّیرة العقلائیّة القائمة علی حجیّة الظواهر أمر عملی، والعمل مجمل، ومتی شکّ اُخذ بالقدر المتیقّن منه.

فالإستدلال بالسیرة العقلائیّة للقول بعدم اشتراط عدم الظنّ بالخلاف،

لا یخلو من نظر.

الوجه الثانی: إنّ اشتراط عدم الظنّ بالخلاف، لایخلو من أنْ یکون دخیلاً فی اقتضاء الظاهر للحجیّة، أو یکون مانعا عن اقتضائه لها، وکلاهما غیرمعقول. فعدم الظن بالخلاف لیس بشرط.

أمّا الأوّل، فلأنّه لا یعقل أن یکون المقتضی متقوّما بالعدم.

وأمّا الثانی، فلأنّ المانعیّة فرع لتمامیّة الحجیّة، والظنّ بالخلاف لیس بحجّةٍ.(1)

ص: 17


1- 1. اُنظر: نهایة الدرایة 3 / 169.

واُجیب:

أمّا عن الشقّ الأوّل: فبأنّ دخل العدم فی الإثبات لا یستلزم محالاً، فهو جزء للمقتضی فی مقام الإثبات دون الثبوت. أی: إنّ المقتضی محدود بحصّةٍ خاصّة فی اعتبار العقلاء، وهی الحصّة الملازمة لعدم الظنّ بالخلاف، فالظاهر الحجّة محدود اعتبارا بما ذکر.

وأمّا عن الشقّ الثانی: فبأنّه لا مانع ثبوتا؛ لأنّ الظنّ بالخلاف مانع ثبوتا عن کشف الظاهر کشفا نوعیّا عن المراد، فمادام لا یوجد الظنّ بالخلاف یکون داعیا للعقلاء إلی جعل الحجیّة.

الوجه الثالث: إنّ إطلاقات أدلّة النهی عن اتّباع الظن، کقوله تعالی: «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا»(1) وقوله تعالی: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ»(2) شاملة للظنّ بالخلاف فی مورد الظاهر، فهی تمنع من ترتیب الأثر علیه.

ولازم النهی عن ترتیب الأثر علی الظنّ بالخلاف، هو عدم رفع الید عن الظاهر ولزوم الأخذ به، فتتمّ حجیّة الظاهر بتعبّد شرعی هو لازم الأدلّة الناهیة عن ترتیب الأثر علی الظن.

وأجاب المحقّق الإصفهانی: بأنّ إطلاق الأدلّة بالنسبة إلی هذا الأثر مشکل.(3)

ص: 18


1- 1. سورة یونس: الآیة 36.
2- 2. سورة الأسراء: الآیة 36.
3- 3. نهایة الدرایة 3 / 171.

وکأنّه یرید انصرافها عن هذه الحصّة من الظنّ. وهذا هو الإشکال الأوّل علی هذا الإستدلال، إنْ تمّ الإنصراف.

والإشکال الثانی هو: إنّ هذه الإطلاقات إرشاد إلی حکم العقل.

ولکنّه أوّل الکلام.

والإشکال الثالث: إنّه علی القول بکونها مولویّةً، تکون دالّةً علی أنّ الظنّ لیس طریقا شرعیّا بالنسبة إلی متعلّقه، فهی تنفی حجیّة الظنّ، ولا دلالة لها علی حجیّة الظاهر الذی قام الظنّ علی خلافه. فما ذکر من الملازمة الشرعیّة بین النهی عن اتّباع الظنّ والأمر بالأخذ بالظاهر، ممنوع. کما أنّه لا ملازمة عقلاً بین الأمرین، لوجود الشق الثالث، وهو الرجوع إلی الأصول الشرعیّة أو العقلیّة فی مورد الظاهر.

والحاصل: أنّ الإطلاقات المذکورة إن کانت إرشادیّة، فالاستدلال ساقط. وإنْ کانت مولویة، توقّف الاستدلال بها علی الملازمة بین النهی عن العمل بالظنّ بالخلاف والعمل بالظاهر.

ثم إنّ الظنّ النوعی بالخلاف، یکون تارةً: من الظنون التی لا اعتبار لها عند العقلاء، کظنّ الوسواسی، فإنّه ملغی فی السّیرة العقلائیّة. وأُخری: هو من الظنون العقلائیّة، فإنّ مثله _ وإنْ لم یکن نوعیّا _ موجب لسقوط الظاهر، والمرجع حینئذٍ هو الأصل العملی.

ومن موارد ذلک: ما لو ورد فی الوصیّة لفظٌ حصل للوصیّ ظنّ علی خلاف ما هو ظاهر فیه، فهل یلزم علی الوصیّ إنفاذ تلک الوصیّة؟ الظاهر: لا؛ لأنّ أدلّة وجوب إنفاذ الوصیّة علی الوصی ناظرة إلی الوصیّة التامّ ظهورها فی

ص: 19

المعنی، وذلک موقوف علی أن یکون الظاهر حجةً، ولا تتمّ حجیّته مع وجود الظنّ بالخلاف.

فالقول بحجیّة الظّاهر مع وجود الظنّ بالخلاف، مشکل.

أقول:

فظهر أنّ فی هذه الجهة قولین، وأنّ العمدة هی السّیرة العقلائّیة، وقد أنکر شیخنا _ دام بقاه _ قیامها مع الظنّ بالخلاف مطلقا.

وهنا قول ثالث، وهو التفصیل، ذهب إلیه المحقّق النّائینی، إذ قال:

ولکنّ الحقّ فی المقام هو التفصیل: بین الظهورات الصّادرة عن الموالی إلی العبید، کالأخبار الواردة عن المعصومین _ سلام اللّه علیهم _ ، بحیث یکون المقام مقام الإحتجاج من المولی علی العبد أو العکس فیلتزم فیها بعدم التقیّد، وبین الظهورات التی لا یکون لها ارتباط بمقام الإحتجاج، بل یکون الغرض فیها کشف المرادات الواقعیّة... فالأخذ بالظهور فی غیر مقام الإحتجاج مقیّد بأعلی مراتب الظنّ وهی مرتبة الإطمینان، وبمجرّد احتمال إرادة خلاف الظّاهر _ احتمالاً عقلائیّا _ تسقط تلک الظّهورات عن الکاشفیّة، فضلاً عن وجود الظنّ بالخلاف.(1)

وحاصل الکلام هو: قیام السّیرة العقلائیّة علی حجیّة الظهورات فی خصوص الخطابات المولویّة، حیث یکون المقام مقام الإحتجاج، وعدم قیامها فی باب الأغراض الشّخصیّة.

ص: 20


1- 1. أجود التقریرات 3 / 161.

وقد وافقه السیّد الصّدر ووجّهه: بأنّ الفرق المذکور راجع إلی الفرق فی نکتة الکاشفیّة والطریقیّة لا أصلها، فإنّ ملاک الکاشفیّة فی مجال الأغراض الشخصیّة إنّما یکون هو الکشف الشخصی؛ لأنّ الغرض فیه شخصی، بخلاف باب الأغراض المولویّة؛ فإنّه لا یناسب أنْ تکون الکاشفیّة الشخصیّة عند العبد میزانا، بل المیزان الکاشفیّة النوعیّة.(1)

أقول:

والظاهر أنّ هذا التفصیل _ بالبیان المذکور _ لا بأس به.

المقام الثانی فی تفصیل المیرزا القمّی

اشارة

قال المحقّق المیرزا القمی _ رحمه اللّه _ بعد کلامٍ له:

ومن جمیع ذلک ظهر: أنّ حجیّة ظواهر القرآن علی وجوه، فبالنسبة إلی بعض الأحوال معلوم الحجیّة مثل حال المخاطبین بها، وبالنسبة إلی غیرالمشافهین مظنون الحجیّة، وکونها مظنون الحجّیة إمّا بظنٍّ آخر علم حجیّته بالخصوص، کأن نستنبط من دلالة الأخبار وجوب التمسّک بها لکلّ من یفهم منها شیئا، وإمّا بظنّ لم یعلم حجیّته بالخصوص، کأن نعتمد علی مجرّد الظنّ الحاصل من تلک الظواهر ولو بضمیمة أصالة عدم النقل وعدم التخصیص والتقیید وغیرذلک، فإنّ ذلک إنّما یثبت حجیّته وقت إنسداد باب العلم بالأحکام الشرعیّة

ص: 21


1- 1. بحوث فی علم الأُصول 4 / 275.

وانحصار الأمر فی الرجوع إلی الظنّ. ولمّا کان الأخبار أیضا من باب الخطابات الشفاهیّة، فکون دلالتها علی حجیّة الکتاب معلوم الحجیّة إنّما هو للمشافهین بتلک الأخبار، و طروّ حکمها بالنسبة إلینا أیضا لم یعلم دلیل علیه بالخصوص.(1)

و قد فصّل الشیخ الکلام فی هذا المقام، قال:

الذی یظهر من صاحب القوانین الفرق بین من قصد إفهامه بالکلام، فالظواهر حجة بالنسبة إلیه من باب الظنّ الخاصّ _ سواء کان مخاطبا کما فی الخطابات الشفاهیّة أمْ لا، کما فی الناظر فی الکتب المصنّفة لرجوع کلّ من ینظر إلیها _ وبین من لم یقصد إفهامه بالخطاب، کأمثالنا بالنسبة إلی أخبار الأئمة الصّادرة عنهم فی مقام الجواب عن سؤال السّائلین، وبالنسبة إلی الکتاب العزیز، بناءً علی عدم کون خطاباته موجّهةً إلینا، وعدم کونه من باب التألیف للمصنّفین. فالظهور اللّفظی لیس بحجّةٍ لنا إلاّ من باب الظنّ المطلق الثابت حجیّته عند إنسداد باب العلم.(2)

توجیه الشیخ

ثم إنّ الشیخ ذکر فی توجیه هذا التفصیل ما ملخّصه:

إنّ الظهور اللّفظی لیس حجّة إلاّ من باب الظنّ النوعی، وهو کون اللّفظ بنفسه _ لو خلّی وطبعه _ مفیدا للظنّ بالمراد، فإنْ کان مقصود المتکلّم من الکلام إفهام من یقصد إفهامه، فیجب علیه إلقاء الکلام علی وجهٍ لا یقع المخاطب معه

ص: 22


1- 1. قوانین الأُصول 1 / 403.
2- 2. فرائد الأُصول: 40.

فی خلاف المراد، ولو احتمل عدم کونه فی مقام الإفهام أو غفلته عن بیان القرائن المعیّنة لمراده، أو غفلة المخاطب، دفع احتمال ذلک کلّه بالأصل، مع انعقاد الإجماع من العقلاء والعلماء علی عدم الإعتناء باحتمال الغفلة، فی جمیع امور العقلاء من أقوالهم وأفعالهم.(1)

وعلی الجملة، فالأصول المذکورة جاریة فی المقصود إفهامه، والظهور منعقد.

وأمّا إذا لم یکن الشخص مقصودا بالإفهام، فوقوعه فی خلاف المقصود لاینحصر سببه فیما ذکر حتی یندفع بالأصل، ففی الآیات والروایات یحتمل وجود قرائن قد فهم المخاطبون بها المراد منها، وقد اُخفیت علینا تلک القرائن لأسباب غیرالغفلة، وهذا الإحتمال لا دافع له، قال الشیخ: بل لا یبعد دعوی العلم بأنّ ما اختفی علینا من الأخبار والقرائن أکثر ممّا ظفرنا بها.

قال: _ مع أنا لو سلّمنا حصول الظن بانتفاء القرائن المتصلة، لکنّ القرائن الحالیّة وما اعتمد علیه المتکلّم من الامور العقلیّة أو النقلیّة الکلیّة أو الجزئیّة المعلومة عند المخاطب الصّارفة لظاهر الکلام، لیست ممّا یحصل الظن بانتفائها بعد البحث والفحص.(2)

وبالجملة، فإنّ أصل عدم الغفلة غیر جارٍ بالنسبة إلی غیر المخاطب،

ص: 23


1- 1. فرائد الأُصول: 40 _ 41.
2- 2. فرائد الأُصول: 41.

واحتمال الإعتماد علی القرائن الحالیّة موجود، والروایات قد وقع فیها التقطیع، فیحتمل وجود القرینة علی قطعةٍ فی قطعةٍ أُخری منفصلة، کما أنّ لضیاع کثیر من الاصول دخلاً کبیرا فی هذه الإحتمالات...

فالألفاظ لیست ظواهرها بحجّةٍ لغیر المشافهین.

جواب الشیخ

قال الشیخ: لکنّ الإنصاف عدم الفرق فی العمل بالظهور اللّفظی وأصالة عدم الصّارف من الظاهر، بین من قصد إفهامه ومن لم یقصد. فذکر وجوها:

الأول: الأصل العقلائی، فإنّه یدفع هذه الإحتمالات، والسیرة العقلائیّة قائمة علی عدم ترتیب الأثر علیها. ویشهد بذلک عدم رفعهم الید عن ظاهر المکتوب، بلا فرقٍ بین المکتوب إلیه المخاطب به، والشخص الآخر الذی وقع المکتوب بیده غیرالمقصود به.

الثانی: إجماع العلماء، فإنّه منعقد بالضرورة علی العمل بهذه الروایات الواصلة إلینا الحاملة للأحکام الشرعیّة الکلیّة والأخذ بظواهرها، بلا توقّف، کما هو الحال فی الأخذ بظواهر الألفاظ فی الموارد الجزئیّة، کالأقاریر والوصایا، من دون فرق.

الثالث: سیرة أصحاب الأئمة _ علیهم السّلام _ ، فإنّها قائمة علی الأخذ بالروایات، بلا اعتناء بتلک الإحتمالات. وقد کانت هذه السّیرة بمرأی ومسمع من الأئمة.

الرابع: ما ورد من الأخبار فی عرض الأخبار علی الکتاب، فإنّها تعمّ المشافهین وغیرهم، وتدلّ علی عدم اختصاص ظواهر الکتاب بالمشافهین.

ص: 24

النظر فی ذلک

وأفاد الاستاد _ دام بقاه _ :

إنه یمکن الخدشة فی جمیع ما ذکر:

أمّا الأخیر، فأخصّ من المدّعی.

وأمّا السّیرة العملیّة العقلائیّة، فیعتبر ثبوتها واستمرارها إلی زمن المعصوم وإمضاؤه لها. أمّا أصل وجودها، فلا ریب فیه؛ إذ العقلاء لا یعبأون بالإحتمالات، ویشهد بذلک أخذهم بالأقاریر والوصایا والأوقاف. إلاّ أنّ التأمّل هو فی کلام من کان دیدنه بیان مطالبه بالتدریج، مع العلم بضیاع بعض خصوصیّات کلماته وقرائنها، فهل من بناء العقلاء عدم الإعتناء بالإحتمالات والأخذ بظواهر تلک الکلمات؟ الظاهر: لا، ولا أقلّ من الشکّ.

وقیاس ذلک بالوصایا والأقاریر ونحو ذلک _ مع الفارق؛ لعدم وقوع الضیاع علیها والتقطیع فیها، ولو احتمل _ فإنّه مندفع بالأصل.

وأمّا الإجماع العملی من الفقهاء، فلا ریب فیه کذلک، ولکنْ یحتمل استنادهم إلی السّیرة المذکورة التی عرفت الکلام فیها.

وأمّا سیرة أصحاب الأئمة _ علیهم السلام _، فإنْ کانت مستندة إلی السّیرة العقلائیّة، فلا فائدة فیها، وإن کانت سیرة متشرعیّة، اعتبر بها. لکنْ من الممکن أن یکون عملهم بالأخبار من جهة حصول الإطمینان لهم، فما عملوا به قد اطمأنّوا بإرادة ما هو ظاهر فیه، أو رجعوا إلی الأئمة _ علیهم السلام _ فیما اُشکل علیهم، فحصل لهم الإطمینان، وحینئذٍ لاتتمّ دعوی السّیرة.

هذا تمام الکلام علی ما أفاده الشیخ فی المقام.

ص: 25

أجوبة المتأخرین عن التفصیل

ثم إنْ المتأخرّین عن الشیخ _ رحمه اللّه _ أجابوا عن تفصیل المیرزا القمی بوجوه، ونحن ننقل نصوص عبارات بعضهم، ونلّخصها ثم ننظر فیها:

کلام المحقق الخراسانی

قال المحقّق الخراسانی:

الظاهر عدم اختصاص ذلک بمن قصد إفهامه، ولذا لا یسمع اعتذار من لا یقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنّه ظاهر کلام المولی من تکلیفٍ یعمّه أو یخصّه، ویصحّ به الإحتجاج لدی المخاصمة واللّجاج، کما تشهد به صحّة الشّهادة بالإقرار من کلّ من سمعه ولو قصد عدم إفهامه، فضلاً عمّا إذا لم یکن بصدد إفهامه.(1)

وکذا قال فی حاشیة الرسائل وأضاف:

ولایوجب احتمال أن یکون بین المتکلّم والمقصود بالإفهام قرینة معهودة علی إرادة خصوصه من ذاک العام تفاوتا، ولیس ذا إلاّ کسائر ما یوجب احتمالها ممّا تختلف فیه الأشخاص.

وبالجملة، اختصاص أحدٍ بسبب من أسباب الاحتمال، لایوجب اختصاص حجیّة الظهور بغیره، فکما لا فرق عند العقلاء بینها

ص: 26


1- 1. کفایة الأُصول: 281.

فی اتّباع أصالة عدم الغفلة عند احتمالها، کذلک لا فرق بینها فی أصالة عدم القرینة عند احتمالها. فلا وجه لتفصیل المحقّق القمی بینهما.(1)

کلام المحقق الهمدانی

وقال المحقّق الهمدانی _ بعد توجیه التّفصیل _ :

ویضعّفه ما نبّه علیه المصنّف _ رحمه اللّه من مخالفته لسیرة العقلاء والعلماء فی فهم مدالیل الألفاظ... .(2)

کلام المحقق النائینی

وقال المحقّق النائینی: ادّعی المحقّق القمی _ رحمه اللّه _ اختصاص حجّیّة الظواهر بخصوص مَنْ قُصد إفهامه، وعلیه بنی إنسداد باب العلم؛ نظرا إلی أنّ الأخبار المرویّة عن الحجج _ سلام اللّه علیهم _ لم یقصد منها إلاّ إفهام خصوص المشافهین دون غیرهم، فتختصّ حجّیّتها بهم أیضا.

وغایة ما یمکن أن یقال فی تقریب ما أفاده هو ما أفاده العلاّمة الأنصاری.

وحاصله: أنّ حجّیّة الظواهر لا مدرک لها إلاّ أصالة عدم غفلة المتکلّم عن بیان تمام مراده، وعدم غفلة السّامع عن القرائن المذکورة فی کلامه؛ لأنّ احتمال

ص: 27


1- 1. دررالفوائد: 86.
2- 2. حاشیة فرائد الأُصول: 103.

إرادة خلاف الظاهر _ مع کون المتکلّم فی مقام البیان _ وخفائها علی المخاطب، لابدّ وأن یستند إلی إحدی الغفلتین المدفوعتین بالأصل، وهذا لا یجری إلاّ فی خصوص المقصود بالإفادة، وأمّا بالنسبة إلی غیره فلاحتمال إرادة خلاف الظاهر وخفائها له باب واسع لا یمکن دفعه بالأصل؛ لجریان العادة علی الإتّکال علی قرائن منفصلة أو حالیّة لا یلتفت إلیها غیر المقصود بالإفادة.

ثمّ علی تقدیر تسلیم جریان أصالة عدم القرینة فی حقّ غیر المقصود بالإفهام _ ولو کان احتمال إرادة خلاف الظاهر غیرمستند إلی احتمال الغفلة _ إنّما یسلّم جریانها، فیما لم یعلم من حال المتکلّم أنّ دَیْدَنه علی الإتّکال علی قرائن منفصلة، وأمّا مع العلم بذلک، فلا یمکن الأخذ بظهور کلامه لغیر المقصود بالإفهام، کما هو ظاهر. ومن الواضح أنّ الأئمّة _ صلوات اللّه علیهم _ کثیرا مّا کانوا یعتمدون علی القرائن المنفصلة، بل ربما کانوا یؤخّرون البیان عن وقت الخطاب بل الحاجة لمصلحةٍ مقتضیة لذلک.

وعلی تقدیر التنزّل عن ذلک أیضا، فظواهر الأخبار إنّما تکون حجّةً إذا کانت واصلةً إلینا بمثل ما وردت، وحیث إنّها وصلت إلینا مقطّعةً ونحتمل وجود قرینة فی الکلام خفیت علینا بالتقطیع، فلا یبقی وثوق بإرادة هذه الظواهر منها، فتسقط عن مرتبة الحجّیّة.

قال: ولکن لا یخفی أنّ جَعْل مدرک أصالة الظهور أصالة عدم الغفلة، فیه غفلة واضحة؛ فإنّ أصالة الظهور إنّما هی حجّة ببناء العقلاء _ من جهة کون الألفاظ کواشف عن المرادات الواقعیّة _ فی قبال أصالة عدم الغفلة، وعَرضِها، ولا ربط لإحداهما بالاُخری فضلاً عن أن تکون مدرکا لها.

ص: 28

وأمّا ما ذکره _ من جریان دَیْدَن الأئمّة سلام اللّه علیهم، علی الاتّکال علی القرائن المنفصلة، والعلم الإجمالی بوجود مخصّصات أو مقیّدات کثیرة _ فهو وإن کان صحیحا، إلاّ أنّ مقتضاه وجوب الفحص عن المعارض، لا عدم حجّیّة الظهور بعده، کما هو واضح.

وأمّا ما أفاده _ من استلزام التقطیع لعدم حجّیّة الظهور _ فهو _ علی تقدیر تسلیمه _ أخصّ من المدّعی؛ لعدم وفائه بعدم حجّیّة الأخبار غیر المقطّعة الموجودة فی عصرنا، وقد نقل شیخنا الاُستاذ _ دام ظلّه _ أنّه کان عند المحدّث الشهیر الحاج میرزا حسین النوری _ قدّس اللّه نفسه الزکیّة _ ما یقرب من خمسین أصلاً من الاُصول. مع أنّ استلزام التقطیع للخَلَل فی ظهورات الأخبار ممنوع جدّا؛ فإنّ المقطّعین هم العلماء الأخیار الملتفتون إلی ذلک، ولا محالة یلاحظون فی تقطیعاتهم عدم الإخلال بتلک الظواهر.

نعم، لو کان المقطّع عامیّا أو مَنْ لا یوثق بدینه، لکان لاحتمال الخلل فی تلک الظواهر مجال واسع، لکنّه لا مجال لهذا الإحتمال إذا کان التقطیع من مثل هؤلاء العلماء الذین حازوا من مراتب العلم والتقی ما هی غایة المنی.(1)

کلام المحقق الإصفهانی

وقال المحقّق الإصفهانی: یمکن تقریب الإختصاص: بأنّ المتکلّم إذا اعتمد فی إرادة خلاف الظاهر من کلامه علی قرینة حالیّة بینه وبین المخاطب

ص: 29


1- 1. أجود التقریرات 3 / 157_160.

الذی قصد إفهامه، لم یکن مخلاًّ بمرامه، بخلاف ما إذا لم یکن قرینة أصلاً، فإنه یکون ناقضا لغرضه وهو إفهامه بکلامه.

وأما غیر المخاطب الذی لم یقصد إفهامه، فإنّه لم یلزم منه نقض للغرض إذا لم یکن بینه وبین من لم یقصد إفهامه قرینة معهودة؛ إذ المفروض أنّه لم یتعلّق الغرض بإفهامه حتی یلزم نقض الغرض من عدم إیصال القرینة إلیه.

والجواب یبتنی علی مقدّمة، هی: أنّ الإرادة استعمالیّة وتفهیمیّة وجدیّة، فمجرّد إیجاد المعنی باللّفظ بنحو الوجود العرضی متقوّم بالإرادة الإستعمالیّة، سواء قصد بهذا الإیجاد إحضار المعنی فی ذهن أحد أم لا، فإذا قصد بهذا المعنی کانت الإرادة تفهیمیّة.

وهذا المعنی الموجود المقصود به الإحضار ربّما یکون مرادا جدّیا، وربّما یکون لانتقال المخاطب _ مثلاً _ إلی لازمه المراد جدّا أو ملزومه کما فی باب الکنایة، والملاک فی کلّ واحدة غیر الملاک فی الأُخری، والکاشف عن کلّ واحدة غیرالکاشف عن الأُخری.

فالجری علی قانون الوضع یقتضی إیجاد المعنی بلفظه، وهو وجه بناء العرف عملاً علی حمل اللّفظ علی الإستعمال فی معناه.

ولزوم نقض الغرض لو لم یکن الکلام الصّادر وافیا بالمرام، یقتضی عدم قصد الإفهام، إلاّ بما یکون وافیاً بالمرام.

وکون جِدّ الشئ¨ کأنه لا یزید علی نفس الشئ¨، یقتضی حمل کلیّة الأقوال والأفعال علی الجِدّ حتی یظهر خلافه.

ص: 30

وعلیه نقول: بناء العقلاء عملاً علی حمل الکلام علی ما یوافق قانون الوضع بعد کشفه النوعی عن المعنی، هو معنی حجّیة الظهور.

وحکم العقل بقبح نقض الغرض الذی هو غیر مربوط ببناء أهل المحاورة، هو الدلیل علی أن المعنی المختصّ باللّفظ هو الذی قصد إفهامه.

وبناء العقلاء العامّ لجمیع الأقوال والأفعال، هو الدلیل علی حمل کلّیة الأفعال والأقوال علی الجدّ.

فالفرق المعلوم بین الظاهر الملقی إلی من قصد إفهامه ومن لم یقصد إفهامه لوجه مخصوص، لا یقتضی الفرق فی المقام الأوّل وحجیّة الظاهر بحمله علی مقتضاه من کشفه النوعی من معناه الوضعی، والخلط بین المقامین أوهم الفرق بین من قصد إفهامه ومن لم یقصد إفهامه.

هذا کلّه، مع أنّ قصر الخطاب علی شخص لا یقتضی قصد إفهامه، بل ربّما یقصد إفهام غیره، کما فی «إیاک أعنی واسمعی یا جارة»، فضلاً عن اقتضاء قصر قصد الإفهام علی المخاطب.

مضافا إلی أنّ الکلام إذا کان متضمّنا لتکلیف عمومی، فمقام عموم التکلیف بهذا الکلام یقتضی وصول التکلیف العمومی نفساً ومتعلّقا وموضوعا بشخص هذا الکلام، فلا یمکن التعویل علی ما یختصّ بالمخاطب من القرینة الحالیّة.

وعلی فرض کون المخاطب واسطة فی التبلیغ، فاللاّزم علیه فی إیصال التکلیف العمومی بحدّه، التنبیه علی ما یقتضی توسعته وتضییقه، فعدم التنبیه منه دلیل علی عدمه. بل الکلام المقصور علی المخاطب إذا کان متکفّلاً لتکلیف

ص: 31

خصوصیّ، وکان عمومه لغیره بقاعدة الإشتراک أیضا کذلک، إذ الطریق إلیه نقله روایة أو کتابة، ومقتضی عدم الخیانة فی نقله بأحد الطریقین، هو التنبیه علی القرینة الحالیّة الموسّعة لدائرة التکلیف والمضیّقة لها، ومع عدم نصب الدّال علیها یحکم بعدمها.(1)

هذه عمدة کلمات المحقّقین المتأخّرین فی الجواب عن تفصیل المیرزا القمی رحمه اللّه.

النظر فی أجوبة المتأخرین

وهذا تلخیص ما أجابوا به والنظر فی ذلک:

1. إنّ إحتمال وجود القرائن ساقط عند العقلاء.

وفیه: أنّه قد ظهر تمامیّة سقوط الإحتمال فی مثل الأقاریر والوصایا ونحوها؛ لعدم وقوع الضیاع، ولو احتمل اندفع بالأصل.

أمّا فی الروایات عن الأئمة، فالضّیاع لبعضها والتقطیع قطعی، فکیف تدفع الإحتمالات؟ فلو دوّن کتابٌ فی القانون وعلم بضیاع أوراقٍ منه، فهل من بناء العقلاء الإعتماد علی هذا الکتاب الناقص مع احتمالهم بکون عدّة من القرائن فی تلک الأوراق الضائعة، أو أنهم یتوقّفون؟

2. إنّ فی کلّ کلام إرادات، فلو شُکّ فی الإرادة الإستعمالیة، أی فی إرادة

المتکلّم المعنی الموضوع له اللّفظ، فإنّه یحمل علی معناه فی تلک اللّغة، من جهة

ص: 32


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 172_174.

أنّ أهل اللّسان تابعون لقانون الوضع، وأنّ المتکلّم ینظر إلی اللفظ بالنظر الطریقی إلی المعنی، فالغلط من المتکلّم أو إرادته المعنی المجازی، مندفعان بالأصل.

وهناک إرادة تفهیمیّة، بمعنی أنّ مقتضی الأصل أن یکون المتکلّم المستعمل للّفظ فی معناه فی مقام التفهیم لتمام المراد، ولو لم یأتِ بما یبیّن ذلک یلزم نقض الغرض.

فتصل النوبة إلی الإرادة الجدیّة، فهل أنّ المعنی الموضوع له اللّفظ والمراد تفهیمه للمخاطب، هو المراد الجدّی للمتکلّم أوْ لا؟ الأصل تعلّق الإرادة الجدیّة بالمعنی الموضوع له لا غیره.

ثم إنّ هذه الإرادات فی الکلام غیر مختصّةٍ بالمقصود بالإفهام، بل غیره أیضا یجری تلک الاصول فی الکلام الواصل إلیه، ویتمّ له ظاهر الکلام کالمقصود بالإفهام. نعم، قد یکون الکلام محفوفا بقرینةٍ حالیّة یعتمد علیها المقصود بالإفهام، لکنّ الإرادات المذکورة لا یفرّق فیها بین المقصود به وغیره.

وفیه: إنّه وإنْ تمّ فی الإرادات علی ما ذکر، لکنّ محلّ البحث هو الکلام المعتَمد فیه علی القرائن المنفصلة، مع العلم بضیاع قسمٍ من الکلام یحتمل وجودها فیه، فالأخذ بالإرادات فی مثله أوّل الکلام.

3. إنّ الخطابات الشرعیّة کلّها من باب «إیّاک أعنی واسمعی یا جارة». فلیس المخاطب وحده المقصود بالإفهام، بل وغیره إلی یوم القیامة.

وفیه: صحیح أنّا أیضا مکلّفون بالأحکام المشتمل علیها الخطابات، لکنْ هل یمکن لنا الأخذ بها مع الإحتمالات الموجودة؟

ص: 33

4. إنّ الخطابات الشرعیّة کلّها عمومیّة، والکلّ مقصودون بالإفهام.

وفیه: إنّه أوّل الدعوی.

5. إنّ المخاطب هو المقصود بالإفهام، لکنّه لمّا یروی الکلام ینقله مع القرائن المؤثّرة فی فهم المراد، فیصیر المنقول إلیه مقصودا بالإفهام کالمخاطب بالکلام.

وتوضیح ذلک:

إنّ الراوی الأوّل للرّوایة _ والمفروض وثاقته _ لمّا نقلها إلی الراوی الثانی ساکتا عن ذکر القرینة، کان سکوته دلیلاً علی عدم وجودها، وأصبح الثانی مقصودا بالإفهام، وهکذا الحال فی جمیع الوسائط حتّی ینتهی إلی مصنّفی

الجوامع الحدیثیّة، وبذلک یکون الناظر فیها مقصودا بالأفهام.

وعلی الجملة، فإنّ الأخبار قد وصلت إلینا یدا بیدٍ، وکلّ طبقة من الرواة لها مقصودة بالإفهام.

وفیه: أنّ هذا الوجه إنّما یفید لإثبات اتّصال الأسانید وکوننا مقصودین بالإفهام وأنّها حجّة بالنسبة إلینا کغیرنا من الرّواة للأخبار فی مختلف الطبقات، فالإشکال مندفع من هذه الناحیة، ولکنّ المفروض ضیاع قسمٍ من الأخبار وعدم وصوله إلینا، مع احتمال وجود القرائن فیما ضاع... بل إنّ الشیخ _ رحمه اللّه _ قد ذکر: أنّه لا یبعد دعوی العلم بأنّ ما اختفی علینا من الأخبار والقرائن أکثر ممّا ظفرنا بها،(1) فکیف یدّعی أنّا کالمخاطبین فی الإفهام؟

ص: 34


1- 1. فرائد الأُصول: 41.

هذا، وقد ذکرنا قیام السّیرة علی الأخذ بالظواهر فی کلام من لیس دأبه التدریج والإعتماد علی القرائن المنفصلة، وأمّا من کان دأبه ذلک، فأین السّیرة؟ والروایات من هذا القبیل، ولذا کیف یؤخذ بالعمومات والإطلاقات مع احتمال ضیاع المخصّصات والمقیّدات لها فی ضمن ما ضاع؟

6. إنّ احتمال وجود القرائن فی القسم الضّائع، إنّما یضرّ بالوصول إلی المراد، أمّا بالإحتجاج بما صدر عنهم، فلا، لأنه بمجرّد وصول الخطاب یجوز الإحتجاج به، کما هو الحال بین الموالی والعبید.

وفیه:

أوّلاً: لا وجه لدعوی أنّ الأحکام الشرعیّة مجعولة لمجرّد الإحتجاج والإعتذار، بل الغرض من التشریع هو الوصول إلی المصالح والإجتناب من المفاسد، وتحصیل أغراض المولی.

وثانیا: لو سلّمنا ذلک، فإنّه مع احتمال وجود المخصّص والمقیّد فی القسم الضّائع من الخطابات، کیف یتمّ الإحتجاج؟ بل المرجع حینئذٍ هو الإحتیاط، لا الأخذ بظاهر العام المفید للإباحة مثلاً.

فإنْ قیل: احتمال وجود المقیّد والمخصّص فی الضّائع ضعیف جدّا.

قلنا: إن وصل الضّعف إلی الإطمینان بالعدم فهو، وإلاّ بقی الإشکال.

فإنْ قیل: نأخذ بما بأیدینا من باب رفع العسر والحرج.

قلنا: أدلّة رفع العسر والحرج نافیة للتکلیف لامشرّعة. علی أنّ الکلام فی حجیّة العمومات والإطلاقات التی بأیدینا مع وجود الإحتمال المذکور، وأدلّة رفع

ص: 35

العسر والحرج لاربط لها بحجیّة العمومات والإطلاقات؛ لأنّ ذلک من أحکام الوضع وظواهر الألفاظ.

هذا تمام الکلام علی ما اُجیب به عن تفصیل المیرزا القمی.

قال الاستاد:

والتحقیق أنْ یقال: إنّ العمدة فی کلام المیرزا هو ضیاع قسمٍ من الأحکام واحتمال وجود القرائن المنفصلة فیها. وأمّا التقطیع، فالمفروض صدوره من أهل الفنّ فی الفقه والحدیث، وأنّهم إنّما فعلوا ذلک بحیث لایضرّ بالظواهر. وأمّا القرائن العقلیّة، فاحتمال وجودها منفی بالأصل.

فالعمدة هو الضیاع، لکنّ القدر المتیقّن من الضیاع هو کتب ابن أبی عمیر، وقول الشیخ: «لا یبعد أن یکون ما اختفی علینا أکثر»، غیر مسموع أصلاً... نعم، الضائع کتب ابن أبی عمیر، وهی 94 کتابا، ولو احتمل ضیاع غیرها من الکتب فإنّه یدفع بالأصل. لکنّ المهمّ هو أنّه _ لمّا سجن ابن أبی عمیر فی عهد المأمون لإبائه عن قبول القضاء، وقد قیل إنّه کان فی السجن 17 سنة، وکانت الکتب عند أُخته، فوقع علیها المطر أو ضاعت بسببٍ آخر، _ کان من فضل اللّه سبحانه ولطفه أنْ لم تضع الروایات، فإنّ للشیخ فی الفهرست أربعة طرق، ینتهی بعضها إلی نوادر ابن أبی عمیر، والبعض الآخر إلی کتبه. ویقول الشیخ فی الفهرست: أخبرنا بجمیع کتبه وروایاته فلان و فلان... .(1)

فجمیع روایات ابن أبی عمیر فی کتبه وغیر کتبه موجودة عند الشیخ،

ص: 36


1- 1. الفهرست: 405.

یرویها بطرقه المعتبرة. وواحد منها طریقه عن الصّدوق عند والده ومحمّد بن الحسن بن الولید عن سعد والحمیری عن إبراهیم بن هاشم عن ابن أبی عمیر.

وعلی الجملة، فإنّه لیس المعلوم ضیاعه إلاّ کتب ابن أبی عمیر، وهی جمیعا موجودة فی روایاتنا، والحمد للّه. وعلی ما ذکر، فإنّه لا یصل الأمر إلی الإنسداد.

أقول:

ومما ذکرنا یظهر ما فی کلام السیّد الاستاذ _ قدّس سرّه _ إذ قال:

کلام السیّد الاستاذ

والحقّ هو أن التفصیل فی حجیّة الظواهر بین من قصد إفهامه وبین من لم یقصد، تفصیلٌ متینٌ لابدّ من الإلتزام به. فإنّ الملاک الذی قربّنا به حجیّة الظواهر یختصّ بمن قصد إفهامه، وذلک: أنّ المتکلّم إذا کان فی مقام بیان مراده الواقعی، فإرادة خلاف ظاهر کلامه الذی یتعارف الحکایة به عن مدلوله من دون نصب قرینة معلومة للمخاطب، خلاف فرض کونه فی مقام التفهیم.

وهذا المحذور إنّما یتأتّی بالنسبة إلی من قصد إفهامه، أمّا من لم یقصد إفهامه فلا یتأتّی المحذور بالنسبة إلیه؛ إذ لا خلف فی إرادة خلاف ظاهر کلامه مع نصب قرینةٍ لم یعلمها من لم یقصد إفهامه وعلمها من قصد إفهامه. وعلیه، فلا یمتنع أنْ ینصب المتکلّم قرینةً لا یعرفها سوی من قصد إفهامه. کما لا یخفی.

فلا یمکن لمن لم یقصد إفهامه أن یحتجّ بکلام المتکلّم علی تعیین مراده؛ إذ لعلّه

ص: 37

نصب قرینةً خفیّة علیه علمها المخاطب فقط.(1)

فإنّ محلّ النزاع هو الخطابات الصّادرة من الموالی إلی العبید، والأخبار الواردة عن النبیّ وآله المعصومین _ علیهم السلام _ ، ونحو ذلک ممّا هو مورد الإبتلاء، لا فی تعیین مراد المتکلّم فی کلامه. وبعبارةٍ أُخری، فإنّ مورد التفصیل فی کلامه _ قدّس سرّه _ لو فرض وجوده أخصّ ممّا ذهب إلیه المحقّق القمّی.

وهذا تمام الکلام فی المقام الثانی.

المقام الثالث فی تفصیل الأخباریین

اشارة

ذکر الشیخ _ رحمه اللّه _ : أنّه ذهب جماعةٌ من الأخباریین إلی المنع عن العمل بظواهر الکتاب، من دون ما یرد التفسیر وکشف المراد عن الحجج المعصومین، صلوات اللّه علیهم.

قال:

وأقوی ما یتمسّک علی ذلک وجهان، أحدهما: الأخبار المتواترة المدّعی ظهورها فی المنع عن ذلک. والثانی: إنا نعلم بطرّو التقیید والتخصیص والتجوّز فی أکثر ظواهر الکتاب، وذلک ممّا یسقطها عن الظهور.

ثم أجاب عن الوجهین بالتفصیل، کما ستعلم.(2)

ص: 38


1- 1. منتقی الأُصول 4 / 215 _ 216.
2- 2. فرائد الأُصول: 34_38.

وأمّا المحقّق الخراسانی، فقد قال فی الکفایة:

لا شبهة فی لزوم اتّباع ظاهر کلام الشارع فی تعیین مراده فی الجملة... ولا فرق فی ذلک بین الکتاب المبین وأحادیث سید المرسلین والأئمة الطاهرین، وإنْ ذهب بعض الأصحاب إلی عدم حجیّة ظاهر الکتاب... .(1)

ثم ذکر ستة وجوه بعنوان «الدعوی» وأجاب عنها، وهی:

1. اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به.

2. عدم وصول الأفکار إلی فهم الکلام الإلآهی؛ لاحتوائه علی مضامین شامخة.

3. وجود المتشابه فیه.

4. العلم الإجمالی بطرّو التخصیص والتقیید علی ظواهره.

5. شمول الأخبار الناهیة عن تفسیر القرآن بالرأی.

6. وقوع التحریف فی ألفاظه.

ما یستدلّ لهذا التفصیل

ونحن نذکر هذه الوجوه ونتکلّم علیها:

الوجه الأوّل:

إنّهم استدلّوا بروایاتٍ ظاهرها اختصاص فهم القرآن بالنبی والمعصومین من أهل بیته علیهم السّلام،

* کقول الإمام أبی جعفر الباقر _ علیه السّلام _ لقتادة لمّا دخل علیه:

ص: 39


1- 1. کفایة الأُصول: 281.

أنت فقیه أهل البصرة؟

فقال: هکذا یزعمون.

فقال: بلغنی أنّک تفسّر القرآن.

قال: نعم...

قال: یا قتادة، إنْ کنت قد فسّرت القرآن من تلقاء نفسک، فقد هلکت وأهلکت، وإنْ کنت قد فسّرت من الرجال، فقد هلکت وأهلکت.

یا قتادة _ ویحک _ إنّما یعرف القرآن من خوطب به.(1)

* وعن أبی عبداللّه _ علیه السلام _ أنّه قال لأبی حنیفة:

أنت فقیه أهل العراق؟

قال: نعم.

قال: فبأیّ شئ¨ تفتیهم؟

قال: بکتاب اللّه وسنّة نبیّه.

قال: یا أبا حنیفة، تعرف کتاب اللّه حقّ معرفته؛ و تعرف الناسخ من المنسوخ؟

قال: نعم.

قال: یا أبا حنیفة، قد ادّعیت علما _ ویلک _ ما جعل اللّه ذلک إلاّ عند أهل الکتاب الذین أُنزل علیهم. ویلک، ما هو إلاّ عند الخاصّ من ذریّة نبیّنا _ صلی اللّه علیه وآله _ وما ورّثک اللّه من کتابه حرفا.(2)

ص: 40


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 185، کتاب القضاء الباب 13 من أبواب صفات القاضی، رقم: 25.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 47، الباب 6 من أبواب صفات القاضی، رقم 27.

والروایات فی الباب السادس من أبواب صفات القاضی، وقد ادّعی صاحب وسائل الشیعة تواترها(1).

ولا یخفی ظهور ما ذکرنا فی الحصر والإختصاص، وأنّه لیس غیرهم _ علیهم السلام _ بأهلٍ لفهم دقائق القرآن وحقائقه وإشاراته ورموزه.

الجواب

وقد أجاب فی الکفایة(2) عن هذا الوجه بما هو تلخیصٌ لما ذکره الشیخ، من أنّ المراد بتلک الأخبار اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحکماته بهم _ علیهم السلام _ ؛ بداهة أنّ فیه ما لا یختصّ بهم کما لایخفی. وردع أبی حنیفة وقتادة عن الفتوی به، إنّما هو لأجل الإستقلال فی الفتوی، لاعن الإستدلال بظاهره مطلقا، ولو مع الرجوع إلی روایاتهم... .

والحاصل: أنّ فی القرآن الکریم جهةً تختصّ بالنبیّ وآله المعصومین، فهم بتلک الجهة نفس القرآن، لا یفارقهم ولایفارقونه، لکنّ القرآن جهة الرحمانیّة العامّة، فکما أنّ فهم المتشابه یختصّ بالنبیّ وآله، ففی فهم المحکم یشارکهم غیرهم من أهل اللّسان. هذا أوّلاً.

وثانیا: روایات عرض الأخبار علی القرآن.(3)

والأخبار الآمرة بأخذ ما وافق القرآن من المتعارضین.(4)

ص: 41


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 11 _ 209.
2- 2. کفایة الأُصول: 283.
3- 3. وسائل الشیعة 27 / 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، رقم: 12، 15، 29.
4- 4. وسائل الشیعة 27 / 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، رقم: 12، 15، 29.

وما ورد فی الشروط، من أنّ المؤمنین عند شروطهم إلا ما خالف کتاب اللّه.(1)

وثالثا: الآیات الآمرة بالتدبّر ونحوه فی القرآن، وهی کثیرة.

ورابعا: روایات الإرجاع إلی الکتاب مثل حدیث الثقلین.(2)

کلّ ذلک وغیره دلیلٌ علی حجیّة ظواهر الکتاب.

أقول:

هذا، ولا بأس بالإشارة إلی أقسام ألفاظ القرآن ومعانیها، فإنّها علی أربعة أقسام:

أحدها: ما اختصّ اللّه تعالی بالعلم به، ومن ذلک قوله تعالی:

«یَسْئَلُونَکَ عَنِ السّاعَةِ أَیّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبّی».(3)

وثانیها: ما کان ظاهره مطابقا لمعناه، فکلّ من عرف اللّغة عرف معناها، مثل قوله تعالی: «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتی حَرَّمَ اللّه ُ إِلاّ بِالْحَقِّ»(4) وقوله: «وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدینَةِ رَجُلٌ یَسْعی قالَ یا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلینَ»(5) وغیر ذلک.

وثالثها: ما هو مجمل لا ینبئ ظاهره عن المراد به مفّصلاً، کقوله تعالی: «وَأَقیمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّکاةَ»(6) وقوله: «وَللّه ِِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ...»(7)

ص: 42


1- 1. وسائل الشیعة 18 / 16، الباب 6 من أبواب الخیار، الرقم: 1.
2- 2. هو من الأحادیث المتواترة بین الفریقین. انظر أسانیده من طرق العامّة فی: نفحات الأزهار، الأجزاء 1 _ 3.
3- 3. سورة الأعراف: الآیة 187.
4- 4. سورة الأنعام: الآیة 151.
5- 5. سورة یس: الآیة 20.
6- 6. سورة البقرة: الآیة 43.
7- 7. سورة آل عمران: الآیة 97.

ورابعها: ما کان اللّفظ مشترکا بین معنیین فما زاد، ویمکن أن یکون کلّ واحد مرادا، فإنّه لا ینبغی أن یقدم أحد فیقول: إنّ مراد اللّه فیه بعض ما یحتمل، إلاّ بقول نبیّ أو إمام معصوم.(1)

الوجه الثانی

إنّ القرآن مشتمل علی المضامین الشامخة والمطالب الغامضة العالیة التی لاتصل إلیها أیدی أفکار اُولی الأنظار غیرالراسخین العالمین بتأویله، مع اشتماله علی علم ما کان وما یکون وحکم کلّ شئ¨، فألفاظ القرآن المحکمات بالنسبة إلینا بحکم المتشابهات؛ لعدم وجود السنخیّة بیننا وبینها. إنّه تعالی یقول فی وصفه «لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ».(2) والملوّث بالأوساخ لا یتمکّن من فهم الکلام المقدّس.

الجواب

وقد أجاب فی الکفایة: بأنّ احتوائه علی المضامین الغامضة لا یمنع عن فهم ظواهره المتضمّنة للأحکام وحجیّتها، کما هو محلّ الکلام.(3)

وعلی الجملة، فإنّ قوله تعالی: «وَأَقیمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّکاةَ»(4) ظاهر فی معناه، وإن احتاج الصّلاة والزّکاة إلی التفسیر والبیان فی الکیفیّة والمقدار وغیرذلک من الخصوصیّات. وکذلک «کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ کَما کُتِبَ عَلَی الَّذینَ

ص: 43


1- 1. التبیان فی تفسیر القرآن 1 / 5 _ 6، ملخّصا.
2- 2. سورة الواقعة: الآیة 79.
3- 3. کفایة الأُصول: 283.
4- 4. سورة البقرة: الآیة 43.

مِنْ قَبْلِکُمْ»(1) و «وَللّه ِِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبیلاً»(2) ونحو ذلک.

ولو کانت هذه الآیات غیرظاهرة فی معانیها لما اُمرنا بعرض الروایات علیها.

الوجه الثالث

إنّ فی القرآن الآیات المتشابهات الممنوع عن اتّباعها، وذلک یشمل الظاهر، ولا أقلّ من احتمال شموله؛ لتشابه المتشابه واحتماله.

الجواب

وقد أجاب فی الکفایة: بالمنع عن کون الظاهر من المتشابه، فإنّ الظاهر کون المتشابه هو خصوص المجمل ولیس بمتشابه ومجمل.

ونقل الشّیخ فی هذا الوجه عن السیّد الصّدر: أنّ المتشابه کما یکون فی أصل اللّغة، کذلک یکون بحسب الإصطلاح، مثل أنْ یقول أحد: «أنا أستعمل العمومات وکثیرا مّا اُرید الخصوص به من دون قرینةٍ، وربما اُخاطب أحدا وأُرید غیره، ونحو ذلک»، فحینئذٍ لا یجوز لنا القطع بمراده ولا یحصل لنا الظنّ به. والقرآن من هذا القبیل؛ لأنّه نزل علی اصطلاحٍ خاص، لا أقول علی وضع جدید، بل أعمّ من أن یکون ذلک أن یکون فیه مجازات لا یعرفها العرب.

قال: ومقتضی ذلک: عدم العمل؛ لأنّ ما صار متشابها لا یحصل الظنّ بالمراد منه...

ص: 44


1- 1. سورة البقرة: الآیة 183.
2- 2. سورة آل عمران: الآیة 97.

وأجاب الشیخ بما حاصله: أنّ عمل أصحاب الأئمة _ علیهم السّلام _ بظواهر الأخبار لم یکن لدلیل خاصّ شرعیّ وصل إلیهم من الأئمة، بل کان بمقتضی أصول جواز العمل بالظواهر، المرکوز فی أذهانهم بالنسبة إلی مطلق الکلام الصّادر من المتکلّم لأجل الإفادة والإستفادة، وهذا المعنی جارٍ فی القرآن أیضا.

قال: ثم إنّ ما ذکره من عدم العلم بکون الظواهر من المحکمات واحتمال کونها من المتشابهات، ممنوع: بأنّ المتشابه لا یصدق علی الظواهر، لا لغةً ولا عرفا، بل یصحُّ سلبه عنه.(1)

الوجه الرّابع

إنّه لا شکّ فی وجود العلم الإجمالی بطروء التخصیص والتقیید والتجوّز فی غیر واحدٍ من ظواهر الکتاب، فیکون الأخذ بأیّ ظاهر منها موقوفا علی مجئ البیان من الأخبار عن الأئمة الأطهار.

الجواب

والجواب عنه واضح؛ لأنّ الإجمال إنّما یحصل لو لم ینحل العلم بالظفر بالمخصّصات والمقیّدات فی الروایات بمقدار المعلوم بالإجمال.

قال فی الکفایة: مع أنّ دعوی اختصاص أطرافه بما إذا تفحّص عمّا یخالفه لظفر به، غیر بعیدة.(2)

ص: 45


1- 1. فرائد الأُصول: 38.
2- 2. کفایة الأُصول: 283.

الوجه الخامس

إن مقتضی الأخبار الناهیة عن التفسیر بالرأی فی کتب الفریقین هو عدم العمل بالظواهر؛ لأنّ حمل الکلام الظاهر فی معنیً علی أنّ ذلک المعنی هو المراد، من التفسیر بالرأی.

الجواب

أوّلاً: اللّفظ الظاهر هو الذی لا إبهام فی دلالته علی معناه ولا قناع له، والتفسیر هو کشف القناع ورفع الغطاء، فکیف یکون الأخذ بالظاهر من التفسیر؟

وثانیا: لو سلّم، فالمنهیّ عنه لیس التفسیر، بل التفسیر بالرأی، أی الاعتبار الظنّی الذی لا اعتبار به.

وثالثا: إنّ هذه الأخبار لا یبعد أن تکون إشارة إلی أشخاص معیّنین وما کان یصدر منهم، أولئک الذین تصدّوا للتفسیر وهم لیسوا بأهلٍ لذلک. والحاصل: أنّ المقصود منها المنع من الرجوع إلی غیر أهل البیت علیهم السلام.

ورابعا: إنّ أحادیث الثقلین والعرض علی کتاب اللّه، وغیر ذلک ممّا ورد فی الإرجاع إلی ظواهر الکتاب، تدلُّ علی أنّ الأخذ بالظاهر لیس من التفسیر فضلاً عن أن یکون تفسیرا بالرأی.

الوجه السّادس:

دعوی العلم الإجمالی بوقوع التحریف فی القرآن إمّا بإسقاط أو تصحیف، کما یشهد به بعض الأخبار ویساعده الاعتبار، فکلّ آیة یراد الأخذ بظاهرها یحتمل وقوع التحریف فیها، فتسقط الظواهر عن الحجیّة.

ص: 46

الجواب

وقد أجابوا عن هذه الدعوی:

قال الشیخ: إنّ وقوع التحریف فی القرآن _ علی القول به _ لا یمنع من التمسّک بالظواهر؛ لعدم العلم الإجمالی باختلال الظواهر بذلک. مع أنّه لو علم لکان من قبیل الشبهة غیر المحصورة. مع أنّه لو کان من قبیل الشبهة المحصورة أمکن القول بعدم قدحه؛ لاحتمال کون الظاهر المصروف عن ظاهره من الظواهر غیرالمتعلّقة بالأحکام الشرعیّة العملیّة التی اُمرنا بالرجوع فیها إلی ظاهر الکتاب.(1)

وفی الکفایة: هذه الدعوی غیر بعیدة، إلاّ أنّه لا یمنع عن حجیّة ظواهره؛ لعدم العلم بوقوع الخلل فیها بذلک أصلاً.

ولو سلّم، فلا علم بوقوعه فی آیات الأحکام، والعلم بوقوعه فیها أو فی غیرها من الآیات، غیر ضائر بحجیّة آیاتها؛ لعدم حجیة ظاهر سائر الآیات. والعلم الإجمالی بوقوع الخلل فی الظواهر إنما یمنع عن حجیّتها إذا کانت کلّها حجة، وإلاّ لا یکاد ینفک ظاهر عن ذلک، کما لا یخفی.

نعم، لو کان الخلل المحتمل فیه أو فی غیره بما اتّصل به لأخلّ بحجیّته؛ لعدم انعقاد ظهور له حینئذٍ وإنْ انعقد له الظهور لولا اتّصاله.(2)

أقول

وملخّص الکلام: أنّ التحریف _ بمعنی النقصان _ علی القول به، لا یمنع من انعقاد الظهور للآیات؛ لما ذکروا من الوجوه، مضافا إلی الروایات الآمرة بعرض

ص: 47


1- 1. فرائد الأُصول: 40.
2- 2. کفایة الأُصول: 285.

الأخبار علی القرآن وما دلّ علی ردّ کلّ شرطٍ خالف الکتاب والسنّة، فإنّ تلک الروایات قد صدرت عن الأئمة المتأخرین زمانا علی التحریف المفروض، فلولا ظهور الآیات فی معانیها لما تمّ عرض الأخبار علیها، فیعلم منها أنّ التحریف غیرقادح فی انعقاد الظهور.

لکنّ المهمّ هو البحث عن أصل قضیّة التحریف، وأنّ أوّل من قال به هم العامّة، وکتبهم مشحونة بما هو ظاهر فی نقصان القرآن عن غیرواحدٍ من کبار الصّحابة الذین یقتدون بهم. نعم، قال به نفر من الخاصّة.(1)

ثم إنّه قد ذکر صاحب الکفایة والمحقّق العراقی(2) بأنّ القول بنقصان القرآن لایمنع من التمسّک بآیات الأحکام؛ لعدم العلم بوقوع التحریف فیها، ومجرّد الإحتمال لایؤثر. علی أنّه لو فرض العلم الإجمالی بسقوط شئ¨ منها، فإنّه بخروج بعض الأطراف لا یکون منجّزا. وعلی هذا المبنی، قال المحقّق الخراسانی فی المعلوم بالإجمال الحکمی: بأنّ العثور علی بعض المقیّدات والمخصّصات یوجب انحلال العلم فیما لو کان المقدار المعثور علیه مساویا للمقدار المعلوم بالإجمال أو قریبا منه.(3)

أقول:

وتحقیق المطلب هو: إنّ العلم الإجمالی تارة: یکون مانعا عن جریان

ص: 48


1- 1. راجع کتابنا: التحقیق فی نفی التحریف عن القرآن الشریف.
2- 2. کفایة الأُصول: 285، نهایة الأفکار 3 / 91.
3- 3. کفایة الأصول: 346.

الأصل اللّفظی، کالعلم الإجمالی بتخصیص أحد العامّین، حیث لا تجری أصالة العموم بالنسبة إلیهما. وأُخری: یکون مانعا عن جریان الأصل العملی، کما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین. فإن کان من قبیل الثانی، فلا یجری الأصل العملی للزوم المخالفة العملیّة والترخیص فی المعصیة، وإنْ کان من قبیل الأوّل، فلا یجری الأصل وإنْ لم تلزم المخالفة العملیّة.

لکنّ الخروج عن محلّ الإبتلاء إنما یؤثر فی الحکم التکلیفی؛ لأنّه الذی یدور مدار کون المتعلّق مقدورا للمکلّف وموردا للابتلاء له، بناءً علی اشتراط کونه موردا لذلک بالإضافة إلی کونه مقدورا له. وأمّا فی الأصل اللّفظی، فإنّ السّیرة قائمة علی عدم جریان الأصل، لأنّها کاشفة، ومع العلم الإجمالی بالخلاف _ سواء کان أحد الأطراف خارجا عن محلّ الإبتلاء أوْ لا _ تسقط الکاشفیّة عن المراد.

فظهر الفرق بین مورد الأصل العملی والأصل اللّفظی.

تکمیلٌ

قال فی الکفایة:

ثم إنّ التحقیق أنّ الإختلاف فی القراءة بما یوجب الإختلاف فی الظهور مثل «یَطْهُرْنَ»(1) بالتشدید والتخفیف، یوجب الإخلال بجواز التمسّک والإستدلال؛ لعدم إحراز ما هو القرآن الکریم، ولم یثبت تواتر القراءات ولا جواز الإستدلال بها، وإنْ نسب إلی المشهور تواترها لکنّه ممّا لا أصل له، وإنّما الثابت جواز القراءة بها، ولا ملازمة بینهما کما لا یخفی. ولو فرض جواز الاستدلال بها،

ص: 49


1- 1. سورة البقرة: الآیة 222.

فلا وجه لملاحظة الترجیح بینها، بعد کون الأصل فی تعارض الأمارات هو سقوطها عن الحجیّة فی خصوص المؤدّی... .(1)

أقول:

أمّا بناءً علی القول بتواتر القراءات السبع، فکلتا القراءتین قرآن، فیقع التعارض من حیث الدلالة، فإنْ أمکن الجمع الدلالی اُخذ به، وما نحن فیه کذلک؛ لأنّ إحداهما نصّ فی جواز الوطی بعد انقطاع الدم وقبل الغسل، والأُخری ظاهرة، فترفع الید بنصوصیّة قراءة التخفیف عن ظهور قراءة التشدید، ویکون الحکم هو الجواز علی کراهیّة.

وأمّا بناءً علی عدم تواترها، وأنّ الأدلّة لا تفید إلاّ جواز القراءة علی طبقها، فإنْ قلنا: بأنّ جواز القراءة یستلزم جواز الإستدلال، بمعنی أنّ جوازها یکشف عن الطریقیّة، فکذلک؛ لأنّهما حینئذٍ دلیلان متعارضان. وإنْ قلنا: بعدم جواز الإستدلال، کان مقتضی القاعدة هو الإجمال من حیث الإستدلال، وإنّما یجوز القراءة بکلٍّ منهما فقط.

ثم إنّه لا یخفی أنّ الأصل فی التعارض هو التساقط، خرج عنه الأخبار لوجود الدلیل فیها علی التخییر والترجیح، وعلیه، فما هو المرجع بناءً علی عدم التواتر أو فی فرض عدم تمامیّة الجمع بحمل الظاهر علی النصّ؟

إنّ المقام من صغریات کبری العام الأزمانی الذی خرج من تحته فردٌ من أفراده فی برهةٍ من الزمان، فهل یستصحب حکم الزمان الخارج أو یتمسّک بالعام؟

ص: 50


1- 1. کفایة الأُصول: 285.

لقد خرج الحیض من تحت «نِساوءُکُمْ حَرْثٌ لَکُمْ فَأْتُوا حَرْثَکُمْ أَنّی شِئْتُمْ»، ثم لمّا انقطع الدم ولمّا تغتسل المرأة، یتردّد الأمر بین البقاء تحت العام واستصحاب حکم زمان الحیض.

ولا یخفی أنّ هذا البحث هو بقطع النظر عن النصوص الخاصّة.

فقیل بالتمسّک بالعام، إلاّ أنّه مبنی علی عدم الفرق فی التخصیص بین ما یکون من أوّل الأمر أو فی الوسط. وأمّا علی القول بأنّ الخارج عن العام لا یعود، فالمحکّم هو الإستصحاب.

ولا یخفی أیضا: أنّ هذا البحث مبنی علی أن یکون المراد من «یَطْهُرْنَ» بالتخفیف هو الطهارة من الدم، أمّا إذا کان المراد الطهارة من الحدث _ أی الإغتسال _ فلا فرق بین القراءتین فی المدلول ولا بحث.

هذا، بالإضافة إلی أن فی ذیل الآیة قوله «فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ...» فإنّه إذا کان المراد من «یَطْهُرْنَ» هو الطهر من الحیض لا من الحدث، لم یکن للآیة مع ملاحظة الذیل معنی _ إلاّ إذا حمل «تَطَهَّرْنَ» علی معنی غَسل الموضع لا الإغتسال _ وذلک لأنه یقتضی أن یکون انتهاء أمد الحرمة الطهارة من الحیض لا الإغتسال، ویکون جواز الوطی من حین الإغتسال إن کان المراد من «تَطَهَّرْنَ» هو الإغتسال. وهذا غیرمعقول.

وعلی الجملة، فالجمع بین القراءتین بما ذکر غیر تام، وتصل النوبة إلی التمسک بالعام أو الإستصحاب، فنقول:

لقد تقرّر فی محلّه أنّه مع إحراز انفصال المخصّص عن العام _ وکذا المقیّد

ص: 51

عن المطلق _ لا یسری الإجمال من المخصّص إلی العام ولا یضرّ بحجیّته؛ لأنّه _ مع الإنفصال _ تامُّ الظهور، وحیث لا مزاحم له فهو تامّ الحجیّة، وعلیه، فلا مانع من التمسّک بالعام.

إلاّ أنّ المقام لیس من هذا القبیل، لکون المخصّص المجمل متّصلاً بالعامّ، قال تعالی «وَیَسْئَلُونَکَ عَنِ الَْمحیضِ... حَتّی یَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ... * نِساوءُکُمْ حَرْثٌ لَکُمْ فَأْتُوا حَرْثَکُمْ أَنّی شِئْتُمْ» فلا ینعقد الظهور ل_ «أَنّی شِئْتُمْ» فی العموم، إلاّ أن یثبت نزول الآیتین منفصلتین.

ومع التنزّل، فهل یمکن إجراء إستصحاب المخصّص؟

إنّ التمسّک بالإستصحاب منوطٌ بأنْ یکون الخارج بالتخصیص من الأحوال لا المقوّمات والقیود، وإلاّ فالموضوع متعدّد، بل لا یجری مع الشکّ أیضا، لأنه یکون من التمسّک بدلیل الإستصحاب فی الشبهة الموضوعیّة.

وعلیه، فإنّ إستصحاب حرمة وطی المرأة إلی زمان الإغتسال، یتوقف علی أن یکون المتغیّر حالاً، وبمجرّد احتمال کون «الحیض» مقوّما لموضوعیّة الموضوع لحرمة الوطی، لا یجری الإستصحاب.

وبما ذکرنا یظهر أنّ الحق هو الرجوع إلی النصوص الواردة فی جواز الوطی بعد الإنقطاع وقبل الإغتسال.

ص: 52

حجیّة قول اللّغوی

اشارة

ص: 53

ص: 54

کلام المحقق الخراسانی

قال فی الکفایة: قد عرفت حجیّة الکلام فی تعیین المرام. فإنْ اُحرز بالقطع وأنّ المفهوم منه جزما بحسب متفاهم أهل العرف هو ذا، فلا کلام، وإلاّ، فإن کان لأجل احتمال وجود قرینةٍ، فلا خلاف فی أنّ الأصل عدمها، لکنّ الظاهر أنّه معه یبنی علی المعنی الذی لولاها کان اللّفظ ظاهرا فیه ابتداءً، لا أنّه یبنی علیه بعد البناء علی عدمها کما لا یخفی. فافهم.

وإنْ کان لاحتمال قرینیّة الموجود... الظاهر أنْ یعامل معه معاملة المجمل. وإنْ کان لأجل الشک فیما هو الموضوع له لغةً أو المفهوم منه عرفا، فالأصل یقتضی عدم حجیّة الظن فیه، فإنّه ظنّ فی أنّه ظاهر ولادلیل إلاّ علی حجیّة الظواهر.

نعم، نسب إلی المشهور حجیّة قول اللّغوی بالخصوص فی تعیین الأوضاع.(1)

ثم إنّه استدلّ للقول بحجیّة قول اللّغوی:

1. باتفاق العلماء.

ص: 55


1- 1. کفایة الأُصول: 286.

2. بل العقلاء... .

3. وعن بعض دعوی الإجماع علی ذلک.

ثم أجاب عن هذه الوجوه... .

ما یستدلّ به لحجیّة قول اللغوی

أقول:

أمّا إجماع العلماء، فهو تارة: قولیّ، وأُخری: عملیّ.

فإنْ اُرید الأوّل: ففیه: أنّ المنقول منه لیس بحجّة، علی أنّه غیر محقّق؛ لعدم تعرّض القدماء لهذا الأمر. والمحصّل منه غیرحاصل، ومع التسلیم یحتمل کونه مدرکیّا.

وإنْ اُرید الثانی، ففیه: أنّ العمل مجمل، فلعلّ مراجعتهم للّغة هو لتحصیل الوثوق بأوضاع الألفاظ، وحینئذٍ یسقط الإستدلال. هذا أوّلاً.

وثانیا: لو سلّمنا أنّ مراجعتهم لأهل اللّغة هو من جهة حجیّة قول اللّغوی، فإنّه یحتمل أن یکون مبنی عملهم أحد الوجوه الآتیة، فلا یکون إجماعهم دلیلاً مستقلاًّ.

وأمّا السّیرة العقلائیّة. فتارة: یتّفق العقلاء علی العمل بقول اللّغوی من جهة کونه کاشفا عن المعنی الموضوع له اللفظ. وأُخری: من جهة کون اللّغوی من أهل الخبرة.

فإنْ اُرید الأوّل، فإنّ الاتّفاق من العقلاء علی مراجعة أهل اللّغة موجود،

ص: 56

لکنّها لیست من باب التعبّد بقول اللّغوی، بل إنّها من أجل تحصیل الوثوق بالمعنی. ومع التنزّل، فلا أقلّ من الإحتمال، وهو کاف لسقوط الإستدلال بالسّیرة. هذا أوّلاً.

وثانیا: إنّ الإستدلال بهذه السّیرة موقوف علی الإمضاء، وهل کانت السّیرة هذه موجودة فی زمن المعصوم حتی تمضی؟ فیه تأمّل.

وإنْ اُرید الثانی _ وهو رجوع العقلاء إلی أهل اللّغة من باب الرجوع إلی أهل الخبرة _ فلا یتم الإستدلال به، إلاّ إذا ثبت أخذ العقلاء بقول اللّغوی مطلقا، أی وإنْ لم یحصل الوثوق بالوضع من قوله، وهذا أوّل الکلام، فقد قیل: بأن رجوعهم إلی أهل اللّغة هو من جهة کون قولهم طریقا لتحصیل الوثوق، ولا تعبّد فی السّیرة العقلائیّة کما هو معلوم، وحینئذٍ یسقط الإستدلال.

لکنْ قد ینقض ذلک بمسألة حجیّة الخبر، ودلیلها السّیرة العقلائیّة کذلک، فإنّهم یرتّبون الأثر علی خبر الثقة، سواء أفاد الوثوق أوْ لا؟ فما ذکره المحقق العراقی(1) وغیره، مشکل.

توضیحه: أنّه تارةً: یحصل الوثوق بالخبر، فیرتّب علیه الأثر من باب الوثوق والإطمینان الذی هو حجّة عقلائیّة، وأُخری: یحصل الوثوق بالمخبر، فیتّبع خبره. والمخبر عن حسٍّ یحصل الظنّ النوعی بخبره، فیعتبر وإن لم یحصل الوثوق الشخصی، وأهل الخبرة کذلک، فإن العقلاء یعتبرون قول من کان ثقةً وکان بصیرا فی فنّه، ویجعلونه طریقا نوعیّا إلی الواقع ویلغون احتمال الخلاف، کما فی

ص: 57


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 95.

خبر الثقة. فلیس الرجوع إلیهم من باب تحصیل المقدّمة الإطمینانیّة، ولیس تعبّدا صرفا، بل هو من جهة الملاک المذکور الموجود فی خبر الثقة أیضا.

واُشکل أیضا: بأنّ السّیرة العقلائیّة القائمة علی الرجوع إلی أهل اللّغة من باب الرجوع إلی أهل الخبرة، لا یعتبر بها ما لم تمضَ من الشارع، لکنّ اتّصالها بزمنه غیر معلوم.

وفیه: أنّه إنْ اُرید إحراز الإتّصال فی کلّ موردٍ موردٍ، فالإشکال وارد، وأمّا إن کان الملاک عبارة عن الخبرویّة، وکون العمل علی الرجوع إلی أهل الخبرة کلیّةً، فالإشکال غیر وارد. والظاهر هو الثانی، کما یؤخذ بخبر الثقة فی جمیع الموارد مع عدم وجود المعصوم فی بعضها.

وتلخّص: إنّه إنْ کان الإستدلال بالسّیرة العقلائیّة علی الرجوع إلی اللّغوی من باب کونه من أهل الخبرة، کان للإستدلال وجه. إلاّ أن یقال: بأنّ اللّغوی لیس من أهل الخبرة بأوضاع الألفاظ، وسیأتی مزید الکلام علی ذلک. فتأمّل.

هذا تمام الکلام علی الوجوه الثلاثة.

وجوه أُخری للحجّیة

الوجه الأوّل

إنّ إخبار اللّغوی عن معنی اللَّفظ إخبار عن الموضوع، فیکون صغری لما یدلّ علی اعتبار خبر الثقة مطلقا. أی فی الأحکام والموضوعات معا.

ص: 58

الکلام علیه

وهذا الوجه یتوقف علی تمامیّة امور:

الأول: جریان أدلّة حجیّة خبر الثقة فی الإخبار عن الموضوعات.

وهذا هو المختار _ کما سیأتی إن شاء اللّه _ من جهة عدم الفرق فی السّیرة بین الإخبار عن الحکم أو الموضوع.

الثانی: أن لا تکون السّیرة المذکورة مردوعة.

وأمّا خبر مسعدة بن صدقة: «والأشیاء کلّها علی هذا حتی تستبین أو تقوم به البیّنة»؛(1) فقد قیل: إنّ المراد من «البیّنة» هو المعنی اللّغوی، أی ما یبیّن الشئ¨، لا المعنی الإصطلاحی وهو شهادة العدلین.(2) وعلیه، فخبر الثقة اللّغوی أیضا مبیّن، فالسّیرة غیر مردوعة.

الثالث: أن یکون خبر اللّغوی مندرجا فی أدلّة حجیّة خبر الثقة.

وذلک: لأن موضوع تلک الأدلّة هو خبر الثقة الواحد عن حسٍّ، فإنْ کان خبر اللّغوی کذلک، شملته تلک الأدلّة، وإن کان عن حدسٍ فلا. فإنْ کان مستند اللّغوی فی إخباره عن مفهوم اللّفظ هو تبادره منه عند أهل اللسان، فهو حسّی، وإن کان عبارة عن إعمال قواعد تشخیص الحقیقة عن المجاز کصحّة الحمل وعدم صحّته، فشمولها مشکل، للخلاف فی کون صحة الحمل _ مثلاً _ علامةً للحقیقة. ولو شک فی مستند إخباره أنه حدسیّ أو حسّی، فالأصل کونه حسیّا.

ص: 59


1- 1. وسائل الشیعة 17 / 89، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، رقم 4.
2- 2. دراسات فی علم الأُصول 3 / 250.

والرابع: أن یکون حال اللّغوی المخبر بیان أوضاع الألفاظ ومفاهیمها لا بیان موارد الإستعمال.

وهذه المقدّمة ضروریّة، إلاّ علی مبنی السیّد المرتضی _ رحمه اللّه _ القائل بأصالة الحقیقة فی الإستعمالات.(1)

وإنّما یحتاج إلی هذه المقدّمة من جهة أنّ من اللّغویین من ینصُّ علی أنّه لایذکر إلاّ المعنی الحقیقی، ومنهم من ینصّ علی أنّ المعنی الأوّل من المعانی التی یذکرها للّفظ هو المعنی الحقیقی، وقد نسب هذا إلی صاحب القاموس، ومنهم من لایلتزم بذلک.

فإنْ کان المخبر من القسمین الأوّلین، أمکن الاستدلال بإخباره، أمّا الثالث فلا، إذْ لا علم لنا فی هذه الحالة بالمعنی الحقیقی من بین المعانی التی یذکرها للّفظ. أللهم إلاّ أنْ یقال: بأنّ طبع الحال ومقتضی المقام أنْ یکون بصدد المعانی الحقیقیّة للألفاظ، وهذا شأن اللّغوی، فیکون المعنی المذکور أوّلاً هو المعنی الحقیقی، ویکون ما عداه من المعانی مجازات ذکرها للإحتیاط علی اللّغة. فإذا کان هذا مقتضی حال اللّغوی، فمن نصّ علی أنّ دأبه ذلک، فقد نصّ علی ما یقتضیه الإطلاق، کالتنصیص علی إرادة النقد الرائج فی البلد فی المعاملة مع اقتضاء الإطلاق ذلک دون غیره.

وإذا تمّت المقدّمات هذه، أشکل القول بعدم حجیّة قول اللّغوی.

ص: 60


1- 1. الذریعة إلی أُصول الشّریعة 1 / 13.

إلاّ أن یناقش فی ظاهر الحال المذکور فی المقدمة الرّابعة؛ لأنّ العقلاء لایعتبرون بمثل هذا الظهور.

ولو وصلت النوبة إلی التوقف، لا یکون قوله حجةً؛ لعدم وجود الحجّة علی کونه بصدد بیان المعنی الحقیقی؛ لأنّ ظاهر حاله ذکر موارد الإستعمال.

الوجه الثانی

قانون الإنسداد، فکما یقال بالنسبة إلی الأحکام الشرعیّة بأنّا: نعلم إجمالاً بوجود واجبات ومحرّمات فی الشریعة، وأنّها غیر مهملة، وإجراء البراءة یستلزم الإهمال وهو قطعی البطلان، والإحتیاط موجب للعسر أو اختلال النظام، فتصل النوبة لامحالة إلی الإمتثال الظنّی؛ لأنّ الشکّ والوهم مرجوحان، فیکون مطلق الظنّ حجّة ویلزم الأخذ به، وهذا هو الإنسداد.

کذلک نقول هنا بأنّه: لا شبهة فی ابتلائنا بمعانٍ وردت فیها أحکام شرعیّة، لکنّ المعانی غیر واضحة، فإن أجرینا البراءة، فقد خالفنا العلم الإجمالی، وإن أردنا العمل بالإحتیاط لزم العسر، والشک والوهم مرجوحان، فلابدّ من الأخذ بقول اللّغوی المفید للظن، فقوله حجّة.

الکلام علیه

قال فی الکفایة:

وکون موارد الحاجة إلی قول اللّغوی أکثر من أن یحصی؛ لانسداد باب العلم بتفاصیل المعانی غالبا، بحیث یعلم بدخول الفرد المشکوک أو خروجه، وإنْ

ص: 61

کان المعنی معلوما فی الجملة. لایوجب اعتبار قوله مادام انفتاح باب العلم بالأحکام، کما لا یخفی.

ومع الإنسداد، کان قوله معتبرا، إذا أفاد الظن، من باب حجیّة مطلق الظن، وإنْ فرض انفتاح باب العلم باللّغات بتفاصیلها فیما عدا المورد.

نعم، لو کان هناک دلیل علی اعتباره، لا یبعد أن یکون إنسداد باب العلم بتفاصیل اللّغات موجبا له علی نحو الحکمة لا العلّة.(1)

أقول:

إنّ ما ذکره _ رحمه اللّه _ وإنْ کان وجها وجیها یصلح لأن یحلّ أصل المشکلة، ولکنّه لیس جوابا عن الإستدلال.

وأجاب الشیخ _ رحمه اللّه _ بما حاصله: أنّ ابتلائنا فی المفردات أقلّ قلیل، مثل «الصّعید» ونحوه «کالغناء». وأمّا فی الهیئات، فمفاد قسم منها واضح بالتبادر مع أصالة عدم القرینة، مثل ظهور هیئة «إفعل» فی الوجوب مثلاً، ومفاد قسم منها له ظهور فی معنی ثانوی، مثل ظهور الهیئة المذکورة فی الإباحة بعد الحظر...(2)

وعلی هذا، فالعلم الإجمالی منحلّ، وإجراء البراءة فی مثل «الصعید» بعد الأخذ بالقدر المتیقن منه، غیر مضر.

وفیه:

أوّلاً: أنّ الموارد لیست بالقلّة التی ذکرها. فالألفاظ غیر الواضحة مفهوما

ص: 62


1- 1. کفایة الأُصول: 287.
2- 2. فرائد الأُصول: 46.

کثیرة جدّا، منها «الوطن» و«الإقامة» و«الغروب» و«الإعانة علی الإثم» و«الید» و«الکرّ»، وإجراء البراءة فی مثلها غیر صحیح. نعم، ما یکون مجملاً مردّدا بین المتباینین مثل «القرء» قلیل، ولا مانع من إجراء البراءة.

وثانیا: إنّ ما أفاده هنا ینافی ما ذکره فی کتاب الطهارة(1) من أنّه قلَّ لفظ کان موضوعا للحکم الشرعی ولیس بمجمل. (قال) حتی لفظ «الماء» الذی هو من أوضح المفاهیم عند العرف.

وقد یقال: إنّ الأخذ بالقدر المتیقّن وإجراء البراءة عن الأکثر فی المفهوم المردّد بین الأقلّ والأکثر، لا محذور فیه؛ لأنّ قسما من المفاهیم یرتبط بالمستحبّات، وقسم منها یستفاد مراد الشارع فیها من مناسبات الحکم والموضوع فی لسان الدلیل.

فإنْ قیل: صحیح أنّه لیس فی المستحب تنجیز عملی، لکنّ المشکلة من

حیث الفتوی ونسبة الحکم إلی الشارع.

قلنا: لا نجری البراءة فی المستحبات _ إلاّ فیما له جهة الشرطیّة _ ؛ لأنّ مقتضی البراءة الشرعیّة رفع الکلفة، ولا کلفة فی المستحبات، فتنحصر البراءة بالواجبات والمحرّمات والوضعیّات من المستحبات کالذی له جهة شرطیة، ومع خروج قسمٍ من الأطراف بوضوح المراد منها بالقرائن، وأخذ القدر المتیقن وإجراء البراءة عن الزائد، ینحلّ العلم الإجمالی.

والحاصل: أنّ تمامیّة هذا الوجه یتوقف علی لزوم المخالفة للعلم الإجمالی

ص: 63


1- 1. کتاب الطهارة: 1 / 169.

من التمسّک بالبراءة، وهو أوّل الکلام. کما أنّ دعوی العلم ببطلان جریانها عن الزائد فی بعض الأطراف، أوّل الکلام.

تنبیه

الکلام المزبور ظاهر فی أنّ المرجع فی معانی الهیئات هو التبادر بضمیمة عدم القرینة.

ولا یخفی أنّ فی التبادر مسلکین، أحدهما: تبادر المعنی من حاقّ اللّفظ، والآخر: تبادره مع الأصل المذکور. لکنّ علامة الحقیقة هی تبادره من حاق اللّفظ.

والقول بالتبادر مع الأصل: إن کان للسّیرة العقلائیّة، من جهة أنّ الأصل عندهم عدم القرینة عند تردّد المعنی المتبادر بین کونه من حاقّ اللفظ أو لوجود القرینة. ففیه: أنّ أصالة عدم القرینة إنما تجری بالنسبة إلی أصل الإرادة لا کیفیّتها.

وإنْ کان لاستصحاب عدم القرینة. ففیه: إنه أصل مثبت.

وتلخّص:

أنّ العمدة فی الإستدلال لحجیّة قول اللّغوی وجهان:

1. حجیّة خبر الثقة فی الموضوعات، فتشمله أدلّة حجیّة خبر الواحد الثقة.

2. السّیرة العقلائیّة علی الرجوع إلی أهل الخبرة، واللّغوی خبیر فی اللّغة.

أمّا الوجه الأوّل، فیتوقّف علی ثبوت وثاقة أئمة اللّغة، ولاسبیل إلی إثبات ذلک.

علی أنّ ابن درید _ الذی قیل فی حقّه: إلیه انتهی علم لغة العربیّة(1) _ قد نصّ الأزهری اللّغوی علی عدم وثاقته، وقال: وجدته سکران(2)...

ص: 64


1- 1. قاله المسعودی فی مروج الذهب 4 / 320.
2- 2. معجم الأُدباء 6 / 2492، الرقم 1029.

والکسائی قالوا: کان یشرب الشّراب ویأتی الغلمان.(1)

وهذا الإشکال یقوی بناءً علی اعتبار قول اللّغوی من باب الشهادة؛ إذ یعتبر فی الشاهد العدالة.

هذا بناءً علی شمول أدلّة حجیّة خبر الثقة للإخبار عن الموضوعات إن کان إخبارا عن الحسّ أو شبهه. وأمّا لو تردّد الأمر بین کونه عن الحسّ أو الحدس، فإنّ ظهور حال المخبر یقتضی أن یکون عن حسّ لا عن حدس، ولکنْ إذا وجدناه یخبر عن حسٍّ أحیانا وعن حدسٍ اخری، فالظهور یسقط... فلابدّ من رعایة هذه الامور فی قول اللّغوی.

ثم إنّه لو شکّ فی ما أخبر به اللّغوی أنّه المعنی الحقیقی أو المجازی، فعن السیّد المرتضی القول بأنّ أصالة الإستعمال فی الحقیقة هی المرجع، وبها یثبت المعنی الحقیقی لدی الشکّ،(2) بل ذکروا أنّ اللّغویین أیضا یعتمدون علی هذا الأصل، ولذا یستشهدون بأشعار الجاهلیین وکلمات العرب لتعیین المعنی الحقیقی.

ولمّا کان هذا الأصل من البطلان بمکان، فالإخبارات المستندة إلیه کلّها ساقطة.

فظهر أنّه لو سلّم صغری وثاقة أهل اللغة، فالکبری غیر صحیحة.

وأمّا الوجه الثانی، وهو الظاهر من کلمات المتأخرین، ففی کلام العلاّمة فی

ص: 65


1- 1. معجم الأُدباء 4 / 1747، الرقم 753.
2- 2. الذریعة إلی أُصول الشریعة 1 / 13.

ذکر الخلیل بن أحمد الفراهیدی: «قوله حجّة فی الأدب».(1) وهذا ظاهر فی أنّه حجّة من باب کونه من أهل الخبرة، ولو کان من باب الوثاقة لقال «ثقة».

وفی الکفایة: أنّ وجه ذهاب الجلّ لولا الکلّ هو اعتقاد أنّه ممّا اتّفق علیه العقلاء من الرجوع إلی أهل الخبرة من کلّ صنعة فیما اختصّ بها.(2)

فهو لا یعتبر وجدان اللّغوی لشرائط الشهادة؛ لأن قوله معتبر من باب الخبرویّة، وبه صرح فی حاشیة الرسائل(3).

لکنّ الشیخ یعتبر وجدان اللّغوی لشرائط الشهادة،(4) وتبعه فی مصباح الاصول(5) وأضاف أنه مع وجدانها یعتبر بالنسبة إلی المعنی المستعمل فیه.

وأمّا العراقی(6)، فیری اعتبار قوله من باب الوثاقة لا الخبرویّة، فأشکل:

أوّلاً: بأن خبر الثقة فی الموضوعات لیس بحجّة، للرّدع عن السیّرة فیها بخبر مسعدة بن صدقة.(7) وثانیا: بأن اللّغوی إنما یبیّن المعنی المستعمل فیه.

والتحقیق:

إنّ موضوع الأثر هو کیفیة الإستعمال لا المعنی المستعمل فیه؛ لأنّا نرید

ص: 66


1- 1. خلاصة الأقوال: 140.
2- 2. کفایة الأُصول: 287.
3- 3. درر الفوائد فی حاشیة الفرائد: 95.
4- 4. فرائد الأُصول: 46.
5- 5. مصباح الأُصول 2 / 31.
6- 6. نهایة الأفکار 3 / 95.
7- 7. تقدّم تخریجه.

العثور علی المعانی الحقیقیّة حتی نحمل ألفاظ الکتاب والسنّة علیها من باب أصالة الحقیقة، فإذا ثبت حجیّة قول اللّغوی، فلابدّ من ثبوته بالنسبة إلی ذلک، وعلیه، فإذا کان شأن اللّغوی بیان موارد الإستعمال، فلا أثر لجعل الإعتبار والحجیّة لقوله، سواء توفّرت فیه شرائط الشهادة أوْلا. فما ذکروه کلّه مخدوش.

ویرد علی مصباح الأُصول خاصّةً: أنّه یری حجیّة قول الثقة فی الموضوعات، وأنّه من باب الحسّ لا الحدس، فلا حاجة إلی الشرائط من التعدّد والعدالة.

تعارض قول اللّغویین

وبناءً علی حجیّة قول اللّغوی، فلو تعارض قول لغویّین فی مفهوم لفظٍ:

فإنْ کان دلیل الحجیّة هو الإجماع العملی، فهو لا یتحقّق فی مورد التعارض.

وإن کان هو الظنّ الإنسدادی، فکذلک.

ویقع التعارض إن کان الدلیل هو أدلّة خبر الثقة أو قیام السّیرة العقلائیّة علی الرجوع إلی أهل الخبرة، بقطع النظر عن الإشکال فی قیامها فی مورد التعارض.

قیل: یقدّم قول المثبت علی النافی؛ لأنّ المثبت یخبر عن العلم والنافی یخبر عن عدم العلم.(1)

ص: 67


1- 1. نقله فی مفاتیح الأُصول: 63 عن السید بحرالعلوم.

وفیه:

أنّ النافی أیضا یخبر عن العلم.

فإنْ أمکن الجمع العرفی بین الخبرین أو الشهادتین فهو، وإلاّ یتساقطان.

إلاّ أن یقال: بالأخذ بقول الأخبر منهما، فإنّه أرجح، فلا تصل النوبة مع وجود المرجّح إلی التساقط. والدلیل علی الأخذ بقوله هو السّیرة العقلائیّة. نعم، یتساقطان بناءً علی کون الحجیّة من باب خبر الثقة.

فائدة الرجوع إلی اللغة

وأمّا بناءً علی عدم حجیّة قول اللّغوی، فما الفائدة من الرجوع إلیه؟

إنّه لا ملازمة بین عدم الحجیّة وعدم الفائدة، کما لا یخفی، لأن فی الرجوع إلی قوله یحصل الوثوق والإطمینان بالمعنی غالبا، فیلزم ذلک من باب المقدّمة.

وقد ذکر لعدم الفائدة من الرجوع إلیه: أنّه لا یخلو من أن یذکر للّفظ معنیً واحدا أو معنیین مثلاً:

فإن ذکر للّفظ معنیین، احتمل الإشتراک، فنحتاج إلی القرینة، ومع عدم احتماله، فأحدهما المعنی الحقیقی والآخر مجاز، فنحتاج إلی القرینة کذلک... فلا فائدة للرجوع إلیه فی صورة تعدّد المعنی.

وإن ذکر معنیً واحدا، واحتمل أن یکون للّفظ معنیً آخر قد استعمل فیه کذلک، لم یکن فائدة من الرجوع إلیه مع الإحتمال المذکور.

ص: 68

ولکنْ قد یقال:

أمّا فی صورة تعدّد المعنی، فالفائدة هی العثور علی المعنی الجامع بین المعنیین، وأمّا فی صورة وحدة المعنی مع احتمال وجود مستعملٍ فیه غیره، فالإحتمال المذکور ساقط عقلاءً، لأن المفروض اهتمام أهل اللّغة بجمع المعانی المستعمل فیها ونقلها إلینا.

وتلخّص: عدم الحجیّة، لکن فی الرجوع إلیه فائدة.

وهذا تمام الکلام فی حجیّة قول اللّغوی.

ص: 69

ص: 70

الإجماع

اشارة

ص: 71

ص: 72

ولا یخفی أنّ مسألة الإجماع من المباحث الاصولیّة المهمّة، وهو أحد الأدلّة الأربعة. ولمّا کان بحثنا فی الظنون الخاصّة، أی التی قام الدلیل علی اعتبارها بالخصوص، فإنّه یقع الکلام هنا فی دلیل اعتباره... .

قال الشیخ:

ومن جملة الظنون الخارجة عن الأصل: الإجماع المنقول بخبر الواحد، عند کثیر ممن یقول باعتبار الخبر بالخصوص، نظرا إلی أنه من أفراده، فتشمله أدلّته... .(1)

وقال صاحب الکفایة:

الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة عند کثیر ممّن قال باعتبار الخبر بالخصوص، من جهة أنه من أفراده من دون أن یکون علیه الدلیل بالخصوص، فلابدّ فی اعتباره من شمول أدلّة اعتباره له بعمومها أو إطلاقها.(2)

فهم یعترفون بعدم وجود الدلیل علی اعتبار الظنّ الحاصل من الإجماع

ص: 73


1- 1. فرائد الأُصول: 47.
2- 2. کفایة الأُصول: 288.

المنقول، ویجعلون الدلیل علی اعتباره أدلّة حجیّة خبر الواحد، بلحاظ کونه من أفراد خبر الواحد، فکان مقتضی القاعدة تأخیر هذا المبحث عن مبحث حجیّة خبر الواحد الثقة.

ثم إنّ درج الإجماع فی بحث خبر الواحد یتوقف علی شمول إطلاق دلیل حجیّته للخبر الحدسی عن المعصوم، لأنّ الخبر الواحد الذی قام الدلیل علی حجیّته، هو الخبر الحسّی خاصّةً، فشمول الدلیل للخبر عن حدسٍ أوّل الکلام.

هذا، والإجماع علی قسمین: الإجماع المحصّل والإجماع المنقول، فالّذی یدّعی شمول أدلّة حجیّة الخبر له هو الإجماع المنقول، والذی یعدّ من الأدلّة الأربعة التی ترجع إلیها الأحکام الشرعیّة هو الإجماع المحصّل، فلابدّ أوّلاً من البحث عن هذا القسم.

الإجماع المحصّل

قال الشیخ:

إنّ الإجماع فی مصطلح الخاصّة، بل العامّة الذین هم الأصل له وهو الأصل لهم، هو: إتّفاق جمیع العلماء فی عصرٍ، کما ینادی بذلک تعریفات کثیر من الفریقین... .(1)

فالظاهر أنْ لا خلاف بین الخاصّة والعامّة فی تعریفه، کما لا خلاف بین الفریقین فی حجیّته.

ص: 74


1- 1. فرائد الأُصول: 48.

فأمّا أنّ العامّة هم الأصل لهذا المصطلح، فهذا ثابت، وأمّا أنّه الأصل لهم، فهذا علی زعم بعضهم قیام الإجماع من الأصحاب علی خلافة أبیبکر، وقد أوضحنا فی بحوثنا الکلامیّة عدم تمامیّة هذه الدعوی، وأنّ حکومة أبیبکر کانت بالضّرب والتهدید والغلبة.

وعلی الجملة، فإنّ عمدة الخلاف فی الإجماع هو فی وجه حجیّته وفی دلیلها؛ لأنّ للإجماع عند العامّة الموضوعیّة، وعند الخاصّة الطریقیّة، کما سیتّضح ذلک ممّا سنذکره.

دلیل الحجیّة عند العامّة

واستدلّ العامّة لحجیّة الإجماع بوجهین:

أحدهما من الکتاب: وهو قوله تعالی: «وَمَنْ یُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَیَّنَ لَهُ الْهُدی وَیَتَّبِعْ غَیْرَ سَبیلِ الْمُوءْمِنینَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّی وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصیرًا»(1) بتقریب: أن المؤمنین إذا اتّفقوا علی شئ¨، فقد اتّخذوه سبیلاً، فمن خالف فهو ضالٌّ ومصیره جهنم.

وفیه:

أنّ الموضوع فی الآیة: مشاقّة اللّه ورسوله، فمن شاقق اللّه ورسوله فقد خالف سبیل المؤمنین؛ لأنّ سبیلهم هو الإیمان باللّه ورسوله والإطاعة لهما، ومن

ص: 75


1- 1. سورة النساء: الآیة 115.

الواضح أنّ مشاقّة اللّه ورسوله کفرٌ. فالآیة ناظرة إلی أنّ سبیل المؤمنین الإطاعة للّه ورسوله وعدم المشاقّة لهما، وأنّ مصیر من شاققهما هو النار، فلا إطلاق للآیة لیشمل محلّ الکلام. ولو سلّمنا، فالمراد عموم المؤمنین، وهذا لا ینفکّ عن دخول المعصوم کما سیأتی مثله فی الحدیث.

والثانی من السنّة، وهو: ما یروونه عن النبی _ صلّی اللّه علیه وآله _ من قوله: «لا تجتمع _ أو: لن تجتمع _ أمّتی علی الخطأ _ أو الضلالة(1).

وفیه:

أولاً: إنّه حدیث مرسلٌ، أو ضعیف فی جمیع طرقه، کما نصّ علی ذلک غیرواحدٍ من علماء العامّة(2).

وثانیا: إنّ الموضوع فی هذا الحدیث هو الاُمّة لا بعضها، فلو أنّ الاُمّة بجمیع أفرادها وفرقها اجتمعت علی شئ¨، کان المعصوم داخلاً فی المجمعین لا محالة، ولا یکون هذا الإجتماع علی الخطأ والضلالة قطعا. أمّا إن لم یکن المعصوم داخلاً، فإنّ الخطأ جائز علی المجموع کما هو جائز علی کلّ فرد، لأنّ اجتماع الأفراد لا یوجب عصمتهم عن الخطأ.

لکنّ التّحقیق أنّ هذا من موضوعات زمن معاویة، فی الوقت الذی سمّوه «عام الجماعة».

ص: 76


1- 1. المعجم الکبیر 12/447، الرقم 13623 و 13624، و المستدرک علی الصحیحین 1 / 200_ 201.
2- 2. اُنظر: تذکرة المحتاج إلی أحادیث المنهاج 1 / 51 _ 56، الرقم 51.

دلیل الحجیّة عند الإمامیّة: الکاشفیّة

وأمّا أصحابنا القائلون بعدم الموضوعیّة للإجماع، بل إنّه طریق إلی معرفة رأی المعصوم علیه السلام أو إلی الدلیل المعتبر، فإنّه إنْ کشف عن رأی المعصوم صار دلیلاً قطعیّا، وإنْ کشف عن الدلیل المعتبر صار دلیلاً ظنیّا، وإلاّ، فإن اتفاق العلماء بما هو لا اعتبار به، فلابدّ وأنْ ینتهی إلی ما هو المعتبر وهو رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر.

وجوه کاشفیّة الإجماع عن رأی المعصوم

وقد ذکروا لکاشفیة الإتّفاق عن رأی المعصوم وجوها:

الوجه الأوّل

أن یکون الإمام علیه السلام داخلاً فی المجمعین، ویعبّرون عنه بالإجماع الدخولی أو التضمّنی.

ولا ریب أنّ هکذا إجماع حجّة، ولکنّ الکلام فی الصغری.

الوجه الثانی

ما ذهب إلیه شیخ الطائفة من الإجماع اللّطفی، وحاصل کلامه: أنّه إذا اجتمع العلماء علی رأی، فإنْ کان مطابقا للواقع، فهو، وإنْ کان مخالفا، وجب علی الإمام علیه السّلام _ بقاعدة اللّطف _ أن یلقی الحکم الحقّ، فیقع الخلاف بین العلماء ولا یجتمعوا علی خلاف الواقع.(1)

ص: 77


1- 1. العدّة فی أُصول الفقه 2 / 628 و مابعدها.

وقد وقع الکلام علی هذا الوجه من جهة الکبری، للکلام فی قاعدة اللطف ووجوب شئ¨ علی اللّه تعالی، فإنّه لا یسئل عمّا یفعل وهم یسألون، وإنّه المولی الحقیقی الذی لا یصدر منه إلا الفضل والرحمة، ولا معنی لإیجاب شئ¨ علیه. وکذلک الإمام علیه السّلام.

وأما من جهة الصّغری، فإن إلقاء الخلاف بین العلماء لیس بلطفٍ، بل اللّطف هو الهدایة إلی الحق.

الوجه الثالث

الملازمة العادیّة بین اتفاق العلماء ورأی المعصوم. وهذا ینتهی إلی الحدس برأیه، إمّا من جهة أنه کلّما کثرت الآراء وتطابقت، ازداد احتمال الموافقة وضعف احتمال المخالفة، حتی یصل إلی القطع بالواقع وهو رأی المعصوم.

وقد أشکل فیه فی مصباح الاصول: بأن هذا إنما یتم فی الإخبار عن الحسّ، أمّا فی الامور الحدسیّة فلا، إذ کما یحتمل الخطأ فی رأی الواحد یحتمل فی رأی الکلّ.(1)

وفیه تأمّل، فإنّه إذا کان یحتمل الخطأ فی الکلّ، ففی الخبر الحسّی کذلک.

لکنّ التحقیق أنّ تطابق الآراء یوجب القطع لغیر أهل الخبرة، کما لو اتفق الأطبّاء فی موردٍ علی تشخیص المرض والدواء المعالج له، فإن غیر الطبیب یحصل له الیقین بذلک، أمّا بالنسبة إلی أهل الخبرة فلا. وفیما نحن فیه کذلک، فإن تطابق الآراء من الفقهاء لا یوجب الیقین بالواقع للفقیه.

وقد یقال بالملازمة العادیّة من جهة اخری وهی: إن العادة تحکم بأنّه متی

ص: 78


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 139.

اتّفق المرؤوسون علی رأی، فإن ذلک لا ینفک عن رأی الرئیس، فمن اتفاقهم یستکشف رأی الرئیس.

وفیه: إن هذا إنما یتم فی المرؤوسین الملازمین للرئیس، لا فی فقهاء عصر الغیبة، حیث أنهم منقطعون عن الإمام علیه السّلام.

الوجه الرابع

الإجماع التشرّفی، بأن یسمع الأوحدی من الناس الحکم من الإمام _ علیه السّلام _ مباشرةً، فینقله إلی الغیر بصورة الإجماع.

ویقع الکلام فی هذا الوجه من جهة أصل إمکان رؤیة الإمام _ علیه السلام _ فی عصر الغیبة، وأن ذلک ینافی الحکمة من الغیبة أوْ لا؟ لا سیّما بالنظر إلی ما ورد عنه من أن من ادّعی الرؤیة فکذّبوه.

لکنّ الأعاظم _ کالخراسانی والإصفهانی والنائینی(1) _ یجوّزون حصول ذلک للأوحدی، ومنهم من یصرّح بتحقّق ذلک للسید ابن طاووس،(2) کما ربّما یستفاد من بعض کلمات السیّد نفسه(3) أیضا، بل إنّ دعوی العلم الإجمالی بوقوع ذلک خلال هذه القرون المتمادیة بل التفصیلی بالنسبة إلی بعض الناس قریبة جدّا. وحینئذٍ، یجمع بین ذلک والخبر الوارد عنه _ علیه السلام _ الآمر بتکذیب من ادّعاه، ببعض الوجوه المذکورة فی ذیله.(4)

ص: 79


1- 1. کفایة الأُصول: 289، نهایة الدرایة 3 / 185، فرائد الأُصول 1 / 289.
2- 2. أنظر: بحرالفوائد فی شرح الفرائد 2 / 51.
3- 3. مهج الدعوات: 281 و 353.
4- 4. بحارالأنوار 55 / 151، الباب 23 مَن ادّعی الرؤیة فی الغیبة الکبری... .

کشف الاجماع عن الدلیل المعتبر؟

وبعد سقوط الوجوه المذکورة لکاشفیّة الإجماع عن رأی المعصوم، تصل النوبة إلی کاشفیّته عن الدلیل المعتبر علی رأی المعصوم، فإنه إنْ تمّ هذا الوجه نتوصّل إلی رأی المعصوم لکنْ بواسطة الدلیل الدالّ علیه، وبیان ذلک هو:

إن المفروض تحقق الإتفاق من الکلّ علی رأیٍ واحدٍ، والمفروض أنهم فقهاء عدولٌ لا یفتون بلا دلیل، فلابدّ وأنهم قد عثروا علی دلیلٍ معتبر فاتفقوا علی الفتوی علی طبقه، فیکون إجماعهم کاشفا عنه ویمکننا الاعتماد علیه. فنحن قد عملنا فی الحقیقة _ بواسطة الإجماع _ بذلک الدلیل المعتبر الذی عثروا علیه ولم نعثر علیه، فنکون قد عملنا برأی الإمام _ علیه السّلام _ الدالّ علیه ذلک الدلیل.

الکلام علیه

أشکل المحقّق الإصفهانی بما توضیحه: أنّ الدلیل المعتبر المنکشف لیس الإجماع، لأنّ الإجماع لا یکشف عن الإجماع. ولیس الکتاب، لأنّ آیات الأحکام معلومة لنا کما هی معلومة لهم. ولیس العقل، لأن البراهین العقلیّة محصورة ومعلومة لنا مثلهم. فلیس إلاّ السنّة، ولکنْ: قد یکون الخبر معتبرا عندهم ولیس بمعتبر عندنا، فهم قالوا باعتباره علی مبانیهم ونحن مخالفون لهم فی المبنی. وقد یکون الخبر ظاهرا فی مدلولٍ عندهم هو غیر ظاهر عندنا فیه بل ظاهر فی خلافه،

ص: 80

کما حدث فی أدلّة نجاسة البئر بالملاقاة، إذ استظهر المتأخرون منها خلاف ما استظهر المتقدّمون.(1)

فتلخّص عدم تمامیّة کشف الإجماع المحصّل عن الدلیل المعتبر.

ویمکن الجواب:

أمّا من جهة السند، فبأنّ المتیقن من القدماء أنهم ما کانوا یأخذون إلاّ بخبر العدل أو الثقة، فقد کانت الوثاقة مطروحةً حتی فی زمن المعصوم، حیث کانوا یسألون عن وثاقة الأشخاص لکی یأخذوا منهم معالم الدین. فإذا اتّفق القدماء علی رأی، کشف اتّفاقهم عن دلیلٍ معتبر _ بالعدالة أو الوثاقة _ هو المستند لتلک الفتوی المتفق علیها.

وأمّا من جهة الظّهور، فالمفروض هو اتّفاق الفقهاء علی ظهور اللّفظ فی معنیً، والمفروض کذلک کونهم من أهل اللّسان أو من أهل الدقّة والتدبّر فی فهم المعانی من الألفاظ وظهورها فیها، فمن البعید جدّا أن یتّفقوا علی دلالة لفظ علی معنی بحیث لو وقفنا علی ذلک لکان ظاهرا عندنا فی معنیً آخر.

وبما ذکرنا یظهر اندفاع النقض بقضیّة أخبار نزح البئر؛ إذ النجاسة لم تکن مجمعا علیها بین قدماء الأصحاب رضوان اللّه علیهم. نعم، کان المشهور بینهم ذلک، وکلامنا فی الإجماع.

هذا أوّلاً.

وثانیا _ وهو العمدة _ أنّ القدماء أخذوا بروایات النّزح وبظاهر الروایة:

ص: 81


1- 1. نهایة الدرایة: 3 / 185.

«ما الذی یطهّرها»(1) وهی ظاهرة فی النجاسة عند المتأخرین أیضا، لکن المتقدّمین قد غفلوا عن صحیحة ابن بزیع «ماء البئر واسع لا یطهّره شئ¨ إلا أن یتغیّر»(2) والمتأخرون رفعوا الید بها عن ظهور تلک الرّوایات... فلم یکن الخلاف من جهة الظهور حتی یرد النقض.

وأشکل فی مصباح الأُصول: بأن إجماعهم یمکن أن یکون مستندا إلی قاعدةٍ أو أصلٍ، ونحن لا نری تمامیّة ذلک الأصل أو القاعدة، أو نری عدم انطباقهما علی الحکم المجمع علیه.(3)

لکنّ هذا خروج عن محلّ البحث، فإنّ مثل هذا الإجماع یکون مدرکیّا والإجماع المدرکی لا قیمة له، بل الکلام فی الإجماع المحصّل الذی هو علی خلاف القواعد والاصول ولا نعلم بمدرکه، لکنّا نعلم بأنّهم _ لورعهم ومقامهم العلمی _ لا یجمعون علی رأی بلا دلیلٍ، وهو إمّا رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر، والمفروض أنّه لیس الکتاب والعقل والإجماع، فهو الروایة المعتبرة.

ویبقی الإشکال: بأنّه لو کان هکذا دلیل معتبر لبان، ولکُتب فی المجامیع الحدیثیّة التی هی لکبار المجمعین، فتأمّل.

هذا تمام الکلام فی الإجماع المحصّل.

ص: 82


1- 1. وسائل الشیعة 1 / 174، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الرقم: 21.
2- 2. وسائل الشیعة 1 / 140، الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الرقم: 10.
3- 3. مصباح الأُصول 2 / 140.

الاجماع المنقول

والإجماع المنقول هو الإجماع المحصّل المنقول بخبر الواحد، فهل هو حجّة أوْ لا؟

إنّ کلّ خبر یکون عن أمر محسوس، فلا ریب فی شمول أدلّة حجیّة خبر الواحد له علی المبنی فی ذلک؛ إذ اعتبر بعضهم العدالة فی المخبر، والمعروف کفایة الوثاقة، فإذا شملته أدلّة الحجیّة واندفع احتمال الخلاف بأصالة عدم الخطأ _ وهو أصل عقلائی _ تمّت الحجیّة للخبر بلاکلام.

لکنّ الإخبار عن الإجماع إخبار عن أمر حدسی.

فإن أخبر عن الأمر المحسوس بالحدس، بأنْ أخبر _ مثلاً _ عن نزول المطر استنادا إلی قواعد علم الهیئة، لم یکن بحجّةٍ وإنْ کان المخبر ثقة، لعدم جریان أصالة عدم الخطأ فی الحدسیّات عقلاءً.

وإنْ أخبر عن الأمر الحسّی، وشککنا فی أنه عن حسٍّ أو حدس، فما هو مقتضی القاعدة؟

تارةً: لا یکون المخبر من شأنه الإخبار عن الحدس، فالأصل فی مثله الحمل علی الحسّ. واخری: یکون من شأنه ذلک، کالمنجّم إذا أخبر عن زوال الشمس مثلاً، فهنا لا یرجع إلی الأصل العقلائی، لعدم قیام السّیرة العقلائیّة علی قبول مثل هذا الخبر.

وکذا لو شک فی المخبِر أن من شأنه الإخبار عن حسّ أو حدس.

هذا کلّه، فیما إذا أخبر عن أمر محسوس.

ص: 83

وأمّا إن کان المخبر به من الامور الحدسیّة، فتارة: یکون من الحدسیّات القریبة من الحسّ، واُخری: لا.

فإن کان من القسم الأوّل، کما لو أخبر عن شجاعة زید وجود عمرو ونحوهما من الامور الحدسیّة القریبة من الحسّ؛ لإمکان التوصّل إلیها علی أثر المعاشرة أو القرائن والأحوال، فالحجیّة ثابتة، ومن هنا یرتب الأثر علی الإخبار بالعدالة والإجتهاد ونحوهما.

وإن کان من القسم الثانی، فتارةً: ینقل الخبر إلی أهل الخبرة بذلک الموضوع، واخری: لا یکون المنقول إلیه من أهل الخبرة به. فإنْ کان من قبیل الثانی، کما لو أخبر الطبیب عن حدسه بالمرض ولم یکن المخبَر من الأطبّاء، فالخبر حجّة لا من باب حجیّة خبر الثقة، بل من باب حجیّة خبر أهل الخبرة.

وإن کان من قبیل الأوّل، فهنا صور؛ لأنه تارةً: یخبر عن السّبب والمسبّب معا، وأُخری: عن المسبّب فقط، وثالثةً: عن السبب فقط. والإخبار عن السبّب، تارةً: یکون إخبارا عن تمام السّبب، وأُخری: عن جزء السّبب. وعلی جمیع الصّور: تارةً: یکون المخبَر موافقا للمخبِر فی المسلک، وأُخری: لایکون بینهما توافق فی المسلک، کأن یری الطبیب المخبر السببیّة للأمر الکذائی للمرض، لکنِ الطبیب المخبَر لا یری لذلک الأمر السببیّة لذلک المرض.

فإن أخبر عن السّبب، کان حجةٌ، لکونه إخبارا عن أمرٍ محسوس، فتشمله أدلّة حجیّة خبر الثقة أو العدل _ علی المختار هناک _ سواء اُحرز کونه مخبِرا عن الحسّ أو شُک فی ذلک... وکون المسبّب حدسیّا لا یضرّ بذلک.

وإنْ أخبر عن المسبّب _ أی نفس المرض مثلاً _ فإخباره عن ذلک إخبارٌ

ص: 84

عن السّبب أیضا بالدلالة الإلتزامیّة، _ فیکون الخبر عن المسبّب خبرا عن أمرین، أحدهما: حدسیّ وهو المسبّب، المدلول المطابقی. والآخر: حسّی وهو السّبب وهو المدلول بالملازمة _ ففی مثل هذا المورد، یلحظ التوافق بین المخبِر والمخبَر فی المسلک، فإن کانا متوافقین، کان الخبر حجةً من جهة الدلالة الإلتزامیّة، وحیث أنه موافقٌ علی الملازمة بین هذا السّبب والمسبّب _ وهو المرض _ فالمرض المسبّب ثابت للمخبَر بالوجدان العلمی.

وبعد الفراغ عن هذه المقدّمة نقول:

قد تقدّم أنّه یعتبر فی الإجماع الحجّة أن یتّفق جمیع فقهاء العصر علی رأیٍ، ولا یکون الرأی مستندا إلی أصلٍ أو قاعدةٍ، کما لو ادّعی الإجماع علی بطلان الصّلاة فی المکان المغصوب؛ إذ یحتمل أن یکونوا مستندین فی هذه الفتوی إلی الترکیب الإتحادی بین الصّلاة والغصب، وأنّ ما یکون منهیّا عنه لا یمکن أن یکون مأمورا به، ومع هذا الإحتمال لا یکون هذا الإجماع حجةً...

فالشرّط الأساسیّ المقرّر الثابت فی حجیّة الإجماع هو انتفاء استناده إلی شئ¨ من الاصول والقواعد، کالإجماع علی حجب ابن العمّ من الأبوین للعمّ من الأب، مع تقدّمه رتبةً واستحقاقه للإرث بقوله تعالی «وَأُولُوا الاْءَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فی کِتابِ اللّه ِ»،(1) فإنّ مثل هذا الإجماع غیر المستند إلی أصل أو قاعدةٍ، والمخالف للکتاب، لابدّ وأنْ یکون کاشفا عن رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر المخصّص للآیة المبارکة، وإلاّ لم یکن من المعقول إجماع الفقهاء کافّةً علی تقدّم

ص: 85


1- 1. سورة الانفال: الآیة 75.

ابن العمّ وحجبه للعمّ فی الإرث. فمثل هذا الإجماع _ وإن کان نادرا فی الفقه _ یکون حجةً بلاکلام.

فإن نقل هذا الإجماع بخبرٍ واحدٍ، کان إجماع الفقهاء هو السّبب، ورأی المعصوم أو الدلیل المعتبر هو المسبّب المنکشف، فتارةً: ینقل السّبب والمسبّب معا، واخری: ینقل السّبب فقط، وثالثةً: ینقل المسّبب وحده... .

فإن کان نقله للإجماع بلفظ: «اتفق أهل الحق کلّهم علی کذا»، فمثله نقلٌ للسّبب والمسبّب، لکونه دالاًّ علی دخول الإمام فی المجمعین، فهو من الإجماع الدخولی المتضمّن لرأی المعصوم، لأن المفروض کون الناقل من الفقهاء، ویخبر بعبارةٍ ظاهرة فی دخول الإمام، وظاهرةٍ کذلک فی أن إخباره عن حسٍّ، فلا محالة تشمله أدلّة حجیّة خبر الواحد، ویترتب الأثر علیه.

وقد یعبّر بلفظ: «أجمع علماؤنا»، أو «إتفق الأصحاب»... ونحو ذلک، فمثل هذه التعابیر ظاهرة فی نقل السّبب، ویکون فائدته أن لا یتجشّم المنقول إلیه عناء الفحص عن الآراء وتحصیل الفتاوی، لکون المخبر ثقةً وهو یخبر عن تحقّق الإجماع علی الفتوی الکذائیّة، فإنْ حصل له الکاشفیّة عن رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر، أفتی علی طبق ما وقع علیه الإجماع، اللهم إلاّ علی مبنی المحقق الإصفهانی القائل بأنّا وإنْ کنّا نحتمل أن یکون کاشفا عن الدلیل، ولکنّ الدلیل المعتبر عندهم قد لایکون معتبرا عندنا، فکیف نفتی بما أفتوا به ویکون الإجماع حجةً؟

ص: 86

وقد یخبر الناقل عن بعض السّبب فیقول: «مذهب أکثر علمائنا کذا»، ولمّا کان المخبر ثقةً وإخباره عن حسّ، یکون معتبرا بقدره، وعلی المنقول إلیه الفحص عن آراء بقیة الفقهاء حتی یحصل له الإجماع، فإنْ کشف عن رأی المعصوم فهو، وإنْ کشف عن دلیل معتبر فکذلک، إلاّ علی إشکال المحقق الإصفهانی.

وقد ینقل الناقل المسبّب، أی رأی المعصوم علیه السّلام. وهذا لا یکون إلاّ فی الإجماع التشرّفی، والتشرف فی زمن الغیبة لا یحصل، إلاّ للأوحدی کما عبّر الأکابر، لا سیّما مع الخدشة فیما ورد من «أن من ادّعی الرؤیة قبل الصّیحة فکذّبوه»(1) سندا، مضافا إلی أنّ ما ورد من هذا القبیل لا إطلاق له، بل المقصود هو الرؤیة مع دعوی النیابة.

فالأوحدی بتعبیر الأکابر أو صاحب السرّ _ بتعبیر السیّد بحرالعلوم _ یری الإمام فی زمن الغیبة، ونحن لایمکننا تکذیب ما یرویه الثقات من القضایا الواقعة فی هذه المدّة الطویلة...

وعلی الجملة، فإنّ من یری الإمام ویأخذ منه الحکم، لایعرّف نفسه بل یعبّر لدی النقل بالإجماع، فإذا تحققت الصغری، ونقل الخبر وهو ثقة، فإنّه یحصل الوثوق بعدم خطئه، وهو لا یحصل إلاّ بإجراء أصالة عدم الخطأ، وجریانها إنّما یکون _ فی السیّرة العقلائیّة _ فی القضایا المتعارفة، ولکنّ ملاقاة الإمام فی عصر الغیبة أمر غیرمتعارف، فجریان الأصل فیه مشکل ولایثبت المسبب. أللهم إلاّ أن

ص: 87


1- 1. الإحتجاج 2/478، بحارالأنوار 55/151، الباب 23 مَن ادّعی الرؤیة فی الغیبة الکبری... ، الرقم1.

یحصل العلم للمنقول إلیه بعدم الخطأ وعدم کون القضیّة مکاشفةً، فله أن یفتی علی طبق هذا الإجماع.

وأمّا إذا أخبر عن الإجماع مستندا إلی الملازمة العقلیّة، وهو الإجماع اللّطفی الذی اختاره شیخ الطائفة، فمن الواضح أنّه خبر حدسی، لا تشمله أدلّة حجیّة الخبر.

وکذا الإجماع بالملازمة العادیّة بین رأی الرئیس وآراء المرئوسین.

نعم، لو أخبر عن السّبب، والمفروض کونه ثقةً وإخباره عن حسٍّ، ثم ثبتت الملازمة بین السّبب والمسبب عند المنقول إلیه، أو کانت حاصلةً للمخبر وکان المنقول إلیه موافقا له فیها، کان للمنقول إلیه الفتوی علی طبقها.

ولو أخبر عن المسبّب وحده، فلا ریب فی أنّ الإخبار عن المسبّب یلازم الإخبار عن السّبب، فالملازمة عند المخبر تامة، فإنْ کان المخبَر المنقول إلیه موافقا فی المسلک تمّت عنده أیضا... .

ولو شُکّ فی أن الإخبار عن حسٍّ أو حدسٍ، والمفروض أن المخبِر فقیه، فهو ممّن شأنه الإخبار عن الحدس والإجتهاد، فلا تشمله الأدلّة.

ص: 88

تنبیهات

التنبیه الأوّل فی ندرة الإجماع

قد تحصّل ممّا ذکرنا ندرة الإجماع المعتبَر فی الفقه جدّا، ولکنه _ مع ذلک _ قد یتّفق أن نجد الأصحاب _ علی اختلاف مسالکهم فی الأُصول وفی کاشفیّة الإجماع _ مجمعین علی فتوی، مع عدم وجود نصّ معتبر فی المسألة، وعدم احتمال استناد فتواهم إلی أصلٍ أو قاعدة، فمثل هذا الإجماع لا یمکن التجاوز عنه، کما ذکرنا فی مسألة حجب ابن العمّ من الأبوین العمّ؛ إذْ لا یوجد نصٌّ معتبر فی هذه المسألة. وما أشار إلیه الصّدوق(1) لم نعثر علیه فیما بین أیدینا من الأخبار، کما أنّ روایة الحسن بن عمّار أو عمارة،(2) غیرمعتبر. مع أنّ مقتضی الآیة المبارکة تقدیم العمّ.

ومن الموارد: مسألة عدم جواز التعلیق فی العقود، فإنه لا نصّ فیها أصلاً،

ص: 89


1- 1. قال الصّدوق فی من لایحضره الفقیه 4: 292، ما هذا لفظه، «فإن ترک عمّا لأب، وابنَ عمٍّ لأبٍ وأُمٍّ، فالمال لإبن العمّ للأب والأُمّ: لأنّه قد جمع الکلالتین، کلالته الأب وکلالة الأُمّ، وهذا غیرمحمولٍ علی أصلٍ بل مسلّم، للخبر الصحیح الوارد عن الأئمة (علیهم السلام)».
2- 2. وسائل الشیعة 26: 192، باب 5 من أبواب میراث الأعمام والأخوال، الرقم 4.

ولا دلیل علیه إلا إجماع الکلّ، وهو غیر محتمل استناده إلی أصل أو قاعدة. وما قد یذکر من القاعدة العقلیّة _ وهی أنّ تعلیق العقد یستلزم انفکاک المعلول عن العلّة وهو محال _ غیرصحیح، لأن الإستحالة المذکورة إنما هی فی القضایا التکوینیّة لا الإعتباریّة. علی أن الفقهاء یقولون بالواجب المشروط، مع أنه قد یستلزم ذلک الإنفکاک بین العلّة والمعلول.

ومن الموارد: محرمیّة أمّ الزوجة وإنْ علت، مع أن ظاهر النصّ هو اُمّ الزوجة بلا واسطة، لأنه المعنی الحقیقی، وإطلاقه علی اُمّ الاُم وإنْ علت مجاز... ولو شکّ، فالشبهة مفهومیّة، ولا یجوز التمسّک بالدلیل فی الشبهات المفهومیّة. لکنّ إجماع الکلّ قائم علی المحرمیّة. مع أنهم لایقولون بمثله فی الموارد الاخری، کما لو أوصی بکذا لاُمّ زوجته، وکذلک لو أوصی لأبیه، فإنه لا یعمّ أب الأب عندهم.

التنبیه الثانی فی الکلام فی إجماعات السیّد والشیخ قدّس سرّهما.

إعلم أنّ من الفقهاء من یعتنی بالإجماعات کثیرا، کصاحبی الریاض والجواهر، ومن الفقهاء من لایعبأ أصلاً کالمحقّق الأردبیلی، ومن الفقهاء من یتوسّط فی ذلک کالشیخ الأنصاری. وقال المجلسی ما محصّله: أنّ الإجماع إنّما یعتبر لکاشفیّته عن رأی المعصوم، هکذا قرّر الأصحاب فی الأُصول، لکنّهم فی الفقه ینسون ما یؤسّسون فی الاصول؛ إذْ لا صغری للإجماع الکاشف إلا نادرا، بل الموارد التی یدّعون فیها الإجماع لیس إلاّ الشهرة. نعم، الإجماعات تنتهی إلی الشیخ والسیّد وهی أخبارٌ مراسیل.(1)

ص: 90


1- 1. بحارالانوار 89 / 222. کتاب الصلاة، أبواب فضل یوم الجمعة. الباب 1، وجوب صلاة الجمعة.

وهذا الکلام غریب جدّا؛ إذ لیس الأمر کما ذکر، والفقهاء لا یخلطون بین الإجماع والشهرة، والإجماعات المحکیّة عن السیّد والشیخ لیست مراسیل، بل کتبهم موجودة وللفقهاء طرق إلی تلک الکتب.

ثم إنّ السیّد المرتضی قد أکثر من دعوی الإجماع فی کتابیه: الإنتصار والناصریّات.

ومن موارد ذلک عند السیّد: دعواه الإجماع علی وجوب رفع الیدین فی التکبیرات فی الصلاة.(1) ولا قائل به من الأصحاب غیره ظاهرا.

ودعواه الإجماع علی أن عدّة النفساء ثمانیة عشر یوما.(2) ولا قائل به من الأصحاب غیره.

ودعواه الإجماع علی ثبوت خیار الحیوان للمتبایعین کلیهما إلی ثلاثة أیام،(3) والشمهور بین الأصحاب هو ثبوته للمشتری خاصّةً، اقتصارا فیما خالف العمومات ومقتضی الأصل الدالّة علی لزوم المعاملة علی المجمع علیه بین الأصحاب وهو فی المشتری خاصّة کما حکاه جماعة.(4)

ودعواه الإجماع علی تعیّن المهر فی مهر السنّة، وأنه لاتجوز الزیادة علیها،(5) وهذا خلاف ظاهر الآیة، والظاهر أن لا موافق له فیما ذهب إلیه.

ص: 91


1- 1. الإنتصار: 147.
2- 2. المصدر: 129.
3- 3. المصدر: 433.
4- 4. ریاض المسائل 8 / 294.
5- 5. الانتصار: 292.

أقول

إذا کان هذا حال إجماعات السیّد، فهل یمکن الاعتماد علیها، بأنْ یفتی علی طبقها، أو تجعل جابرةً لضعف سندٍ بناءً علی القول بذلک، أو ترتیب أیّ أثر آخر علیها، کأنْ تکون منشأً للتوقّف أو الإحتیاط؟

وأمّا الشیخ، فقد أکثر من دعوی الإجماع فی کتاب الخلاف.

واختلفت تعبیراته، فتارة: یدّعی إجماع المسلمین، واخری: إجماع الفرقة، وثالثة: یضیف إلی إجماع الفرقة کلمة: لا یختلفون فی ذلک، ورابعة: یضیف کلمة: وأخبارهم.

وقد وقع الکلام فی إجماعاته، فقالوا: بأنه قد ادّعی الإجماع فی موارد کثیرة من کتاب الخلاف ثم خالفها هو فی غیره، قال الشهید الثانی: قد وقع ذلک فی أربعین موردا،(1) لکنّ بعض من تأخّر أوصلها إلی المائة... .

والمهمّ أنا نری الشیخ یفتی فی کتاب المبسوط وغیره وخاصةً فی النهایة _ وهو کتابه فی الفتوی _ علی خلاف ما ادّعی علیه الإجماع فی کتاب الخلاف.

فقیل: إنه یرید الشهرة. وقیل: إنها إجماعات جدلیّة فی مقابل العامّة. وقیل: إنها إجماعات مستندة إلی أصل أو قاعدة... .

أقول

وعمدة ما فی الباب هو الإشکال الذی طرحه الشهید الثانی من أن الشیخ قد خالف بنفسه إجماعاته، وهذا مسقطٌ لاعتبارها.

ص: 92


1- 1. اُنظر: رسائل الشهید الثانی 2 / 845 _ 857 ، و اُنظر: الحدائق الناضرة 9 / 368.

ولکن یمکن أن یقال: إن الشیخ لمّا أخبر عن الإجماع، فإن أدلّة حجیّة الخبر صادقة علی إخباراته من جهةٍ وأصالة عدم الخطأ والإشتباه جاریة من جهة اخری، فتکون إجماعاته معتبرةً، والموارد التی خالف فیها قلیلة، فلا تکون مضرّةً بجمیع إجماعاته. نعم، ترفع الید عنها فی تلک الموارد الخاصّة فقط. والسّبب فی عدم الإضرار بسائر الإجماعات هو جریان أصالة عدم الخطأ فیها کما ذکرنا.

نعم، لو کانت المخالفات کثیرةً بحیث یقع الشک فی ضبطه فی دعاویه الإجماع، ویوجب سقوط أصالة عدم الخطأ عقلاءً، کان الحق مع الشهید، لکن الأمر لیس کذلک.

وأمّا الجواب: بأنه یرید الشهرة من الإجماع.

فهذا خلاف الظاهر جدّا، وظواهر الألفاظ حجّة. علی أنّ الشیخ قد یذکر المخالف من الأصحاب، کما فی مسألة تطهیر المتنجّس بمطلق المائع.(1)

وأمّا الجواب: بأن إجماعاته فی الخلاف جدلیّة.

فهذا غیرصحیح، لأنّ الإجماع إن کان، فهو، وإنْ لم یکن، فدعواه کذب، فکیف ینسب إلی الشیخ؟

وأمّا الجواب: بأنّ إجماعات الشّیخ علی وزان إجماعات السیّد فی کونها مستندةً إلی أصلٍ أو قاعدة، وحیث أنّ من الممکن وجود الخلاف بینه وبین من بلغه إجماعُه فی ذلک الأصل أو القاعدة، فإنّ إجماعاته لا تکون حجةً، بل إنها إجماعات حدسیّة اجتهادیّة.

ص: 93


1- 1. المبسوط 1 / 38.

فالظاهر أنه نشأ من استدلاله بالقرعة فی کتاب إحیاء الموات وفی منجزات المریض، مدّعیا الإجماع علی أن القرعة لکلّ أمرٍ مشکل، والمورد من صغریات الأمر المشکل. أمّا فی إحیاء الموات ففیما لو حاز اثنان فی وقت واحد أرضا.(1) وأمّا فی منجّزات المریض ففیما لو أعتق سالما وغانما فی حال المرض المشرف علی الموت، ولا یفی ثلثه لعتق کلا العبدین.(2)

فهو فی هذین الموردین، لمّا رأی قیام الإجماع علی کبری القرعة، ادّعاه فیهما تطبیقا لها علیهما.

ولکنّ ما فعله فی هذین الموردین لا یجوّز لنا رفع الید عن سائر إجماعاته فی کتاب الخلاف، وهی أکثر من الألف!

وعلی الجملة، فإنّ الشیخ لمّا یدّعی الإجماع فی تلک الموارد، فهو إنما یدّعیها علی الحکم فی نفس المسألة، ولیس فیها أیّ استدلال حتی یقال بأنّ المدّعی علیه الإجماع هو الکبری... بخلاف إجماعات السیّد فی کتاب الإنتصار، فإنه قد ثبت بالتتبّع أن إجماعاته إنما هی علی الکبریات، فالفرق بینهما واضح جدّا. وبناءً علی ما ذکرنا، ففی أیّ موردٍ وجدنا الشیخ یستدلّ بالکبری، نرفع الید عن إجماعه هناک، وأمّا فی غیره فإجماعه حجة.

وقد یشکل أیضا: بأنّ إجماع الشیخ لا یخلو عن أنْ یکون إخبارا عن المسبّب وهو رأی الامام علیه السّلام، أو عن السّبب وهو إتفاق الأصحاب. فإنْ

ص: 94


1- 1. الخلاف 3 / 532.
2- 2. الخلاف 6 / 290.

کان الأوّل، فهو من جهة قاعدة اللُّطف، وهی من الناحیة الکبرویّة غیر تامة. وإنْ کان الثانی، فهو یفید إتفاق علماء عصره، وهذا لاینافی أن لایکون أهل العصر المتقدّم أو العصور المتقدّمة علی تلک الفتوی. وحینئذٍ، لا سببیّة لاتّفاق فقهاء عصره للوصول إلی رأی المعصوم.

والجواب هو: إن الشیخ عندما یقول «علیه إجماع الفرقة»، فالظاهر منه فقهاء کلّ العصور حتی زمن المعصوم. نعم، إذا قال «علیه الإجماع» کان للإشکال وجه.

ویبقی الإشکال: بأنّ الشیخ قد یدّعی إجماع الفرقة بل الاُمّة، ثم یذکر الخلاف عن البعض ویعتذر بأنه منقرض... وهذا موجود فی کتاب القضاء فی مسألة عدالة القاضی،(1) وفی مسألة الخطبة من کتاب النکاح،(2) فهذه الموارد تشهد بأن إجماعاته تتعلّق بالعصر الواحد لا جمیع العصور حتی زمن المعصوم، فیعود الإشکال السابق.

نعم، فی کلّ موردٍ أضاف الفتوی إلی الفرقة وقال: «لا خلاف بینهم» أو «لایختلفون» فمثله حجّة.

هذا، وذکر السیّد البروجردی(3) أنّ إجماعات الشیخ کلّها نقلٌ للروایة المعتبرة، أی أنه فی کلّ موردٍ یدّعی الإجماع فیه، ینقل الخبر المعتبر الوارد عن

ص: 95


1- 1. الخلاف 6 / 212.
2- 2. الخلاف 4 / 292.
3- 3. نهایة الوصول: 536.

الأئمة عن النبی صلّی اللّه علیه وآله، بخلاف إجماعات مثل العلاّمة، فإنها نقل للسّبب. واعترض علی الشیخ الأنصاری قوله: بأنّ إجماعات الشیخ نقلٌ للسّبب والمسبب معا، فقال: بأنّ الأمر لیس کذلک.

أقول

أمّا ما نسبه إلی الشیخ الأعظم قدّس سرّه، فلیس کذلک، بل الشّیخ یقول أنّ کلّ إجماع أسند فیه الفتوی إلی الفرقة وأهل الحق، فهو نقل السّبب والمسبّب، وما لم یکن کذلک فهو نقل للسّبب فقط.

وأما ما نسبه إلی شیخ الطائفة قدّس سرّه، فهو یخالف صریح کلامه فی مقدّمة کتاب الخلاف،(1) وأیضا فی موارد عدیدة منه، حیث یدّعی الإجماع ودلالة الأخبار معا، فلو کان فی إجماعاته ناقلاً للخبر، فأیّ معنی لعطف الأخبار علی الإجماع؟

التنبیه الثالث فی الإجماع البسیط والمرکّب

قد یتفق العلماء علی رأیٍ، کطهارة شئ¨ أو نجاسته أو وجوبه أو حرمته، فهذا الإجماع بسیط، أی: أنه یکشف عن مدلولٍ واحد. وقد یتّفق العلماء علی رأیٍ وهم مختلفون فیما بینهم، کما إذا اختلفوا فی حکم سجدة العزیمة فی أثناء الصّلاة، فقال بعضهم بالوجوب، وبعض بالحرمة، فهم متفقون علی عدم الکراهة أو الإستحباب، فمن قال بذلک خرق الإجماع المرکب وأحدث القول الثالث. فوقع الکلام بینهم فی جواز ذلک وعدم جوازه.

ص: 96


1- 1. الخلاف 1 / 45.

وقد یکون إحداث القول الثالث بنحو التفصیل فی المسألة، کأن یقول البعض بإقتضاء مطلق العیوب لفسخ النکاح، ویقول الآخرون بعدم اقتضاء شئ منها ذلک. فیحدث القول الثالث باقتضاء بعض العیوب دون بعض، وهذا ما یسمّی بالتفصیل فی المسألة، فهو خرقٌ للإجماع المرکّب بالقول بالفصل.

ثم إنّ الکلام فی حجیّة الإجماع المرکّب هو الکلام بعینه فی الإجماع البسیط، فقد ینقل بالإجماع المرکب مجرّد الإتفاق فقط، فهو نقل للسبب، وقد ینقل المسبّب أی رأی المعصوم، وقد ینقل کلاهما... علی ما تقدّم بالتفصیل.

وأمّا حکم خرقه بإحداث القول الثالث، فإنه الحرمة، إنْ کان القولان نافیین لغیرهما، بمعنی أن یکشف الإجماع المرکّب عن أن قول المعصوم غیرخارج عن القولین، فالقول الثالث یکون مخالفا لرأی المعصوم.

التنبیه الرابع فی تعارض الإجماعین

إنه إن کان المنقول إجماع الفقهاء کلّهم علی حرمة شئ¨ وإجماعهم علی جوازه، فهنا تعارض بین السببین والمسبّبین.

وإنْ کان المنقول إتفاق بعضهم وحصول الکشف عن رأی المعصوم من ذلک، بناءً علی مسلک الشیخ _ مثلاً _ أو علی مسلک الحدس برأی المعصوم، ففی هذه الحالة یکون التعارض فی المسبب، کأنْ یُنقل وجوب صلاة الجمعة فی زمن الغیبة، وینقل کذلک حرمتها، لأن ذاک ینقل اتفاق علماء عصر الشیخ _ مثلاً _ وهذا ینقل اتفاق عصر المحقق الحلّی _ مثلاً _ فلا تعارض بین الإجماعین، لکنّ رأی المعصوم واحد لا اثنان.

ص: 97

وقد یتفق ذلک فی العصر الواحد، کما نقل عن بعض الأعاظم أنه کان یری اتفاق الشیخ الأنصاری والمیرزا الشیرازی والمیرزا محمّدتقی الشیرازی _ قدّست أسرارهم _ کاشفا عن رأی المعصوم.

لکنْ یأتی هنا سؤالٌ هو: أنه إذا کان فی عصر کلٍّ من هؤلاء الثلاثة فقهاء کبار، واتفق إجماعهم علی خلاف ما اتّفق علیه الثلاثة، فهل فی هذه الحالة أیضا یری القائل الکاشفیّة لرأی الثلاثة عن رأی المعصوم أو یتوقّف؟

وبعد:

فإنه إذا نقل إجماعان متعارضان، وقد ذکرنا أن التعارض إنما هو فی المسبب، إلاّ أن یدّعیا الإجماع من الفقهاء کلّهم، فهو فی السّبب والمسبّب معا، فقد یکون أحد الإجماعین مجملاً فی ناحیة السّبب والآخر مفصّلاً، بأنْ یذکر أحدهما أسماء الفقهاء والآخر لایذکرهم، أو یکون المجمعون فی أحد النقلین من القدماء وفی الآخر هم المتأخرون، أو یکون المجمعون فی أحد النقلین أعظم وأدق منهم فی النقل الآخر، ففی هذه الحالات حیث ینقل الإجماع بالتفصیل، یتقدّم أحدهما علی الآخر، لأن الحدس برأی المعصوم من إجماع القدماء أقوی، وکذا من إجماع الذین هم أعظم وأدق نظرا.

وأمّا إنْ کان الإجماعان کلاهما مجملین، فالمستفاد من کلام صاحب الکفایة سقوطهما(1) وقیل،(2) إنه فی هذه الحالة یُنظر إلی الناقل، لوجود المناقشة

ص: 98


1- 1. کفایة الأُصول: 291.
2- 2. اُنظر: فوائد الأُصول 3 / 152.

فی إجماعات مثل السیّد المرتضی والسیّد ابن زهرة. أمّا مثل الشّهید، فلا مناقشة فی دعواه. والمحقق الأردبیلی الذی یناقش فی الإجماعات، إذا نقل الإجماع فإنه یعتمد علیه، ففی مثل هذه الحالة یقدَّم الإجماع علی الطرف الآخر.

وأمّا مع التساوی فی السّبب، فلا محالة یقع التعارض، ولا یمکن الأخذ بأحدهما دون الآخر.

التنبیه الخامس فی نقل التواتر

قال فی الکفایة:

إنه ینقدح مما ذکرنا فی نقل الإجماع حال نقل التواتر، وأنه من حیث المسبّب لابدّ فی اعتباره من کون الإخبار به إخبارا علی الإجمال بمقدارٍ یوجب قطع المنقول إلیه بما أخبر به لو علم به، ومن حیث السبب یثبت به کلّ مقدار کان إخباره بالتواتر دالاًّ علیه، کما إذا أخبر به علی التفصیل، فربما لا یکون إلاّ دون حدّ التواتر، فلابدّ فی معاملته معه معاملته من لحوق مقدار آخر من الأخبار یبلغ المجموع ذاک الحدّ. نعم، لو کان هناک أثر للخبر المتواتر فی الجملة _ ولو عند المخبر _ لوجب ترتیبه علیه، ولو لم یدل علی ما بحدّ التواتر من المقدار.(1)

أقول

التواتر هو تتابع الأخبار وتوالیها، من مخبرین یمتنع عادةً تواطؤهم علی الکذب، بحیث یحصل القطع بالمخبر به.

ص: 99


1- 1. کفایة الأُصول: 291 _ 292.

وقد أنکر بعض العلماء حصول القطع من التواتر، لأنّ کلاًّ من الأخبار یجوز الصّدق والکذب فیه، فإذا اجتمعت عدّة لم یتغیّر الحال.

وقد اُجیب عن ذلک فی محلّه.

والتواتر علی أقسام: لفظی ومعنوی وإجمالی.

وحصول القطع للمنقول إلیه یختلف باختلاف حاله.

والتواتر أیضا تارةً: محصَّل، واخری: منقول.

فإذا نقل التواتر، فقد نقل المسبّب، وقد یوصف الخبر بالمتواتر، فإذا نقل کان من نقل السّبب.

فلو نقل قائلاً: أخبر مائة شخص بکذا، فهذا النقل معتبر، لأنه نقل عن حسّ والمفروض کون الناقل ثقة، فإن حصل للمنقول إلیه الملازمة بین هذا الخبر والواقع، کان قاطعا بالواقع، وإلاّ فالسّبب ناقص حتی تأتی الأخبار الاخری.

وأمّا إذا نقل التواتر _ وهو المسّبب _ فهذا لا أثر له بالنسبة إلی المنقول إلیه، لأنّ المبانی فی التواتر مختلفة، وحصول العلم منه یختلف باختلاف حالات الأشخاص. نعم، إذا کان الناقل والمنقول إلیه متوافقین فی المبنی، ترتّب الأثر... وهکذا یختلف الأمر بالنظر إلی دقّة الناقل، فقد یکون فی مرتبةٍ من الوثاقة والدقّة، بحیث یحصل العلم من خبره وإنْ کان العدد قلیلاً، فلا ینتظر وصول الخبر أو تحصیله من غیر هؤلاء الذین أخبر عن تواطئهم.

هذا، وقال الشیخ قدّس سرّه:

إنّ معنی قبول نقل التواتر _ مثل الإخبار بتواتر موت زید مثلاً _ یتصوّر علی وجهین:

ص: 100

الأول: الحکم بثبوت الخبر المدّعی تواتره _ أعنی موت زید _ نظیر حجیّة الإجماع المنقول بالنسبة إلی المسألة المدّعی علیها الإجماع. وهذا هو الذی ذکرنا من أنّ الشرط فی قبول خبر الواحد هو کون ما أخبر به مستلزما عادةً لوقوع متعلّقه.

الثانی: الحکم بثبوت تواتر الخبر المذکور لیرتّب علی ذلک آثار المتواتر وأحکامه الشرعیّة، کما إذا نذر أن یحفظ أو یکتب کلّ خبر متواتر.

ثم إنّ أحکام التواتر منها: ما ثبت لما تواتر فی الجملة، ولو عند غیر هذا الشخص.

ومنها: ما ثبت لما تواتر بالنسبة إلی هذا الشخص.

ولاینبغی الإشکال فی أن مقتضی قبول نقل التواتر هو العمل به علی الوجه الأول وأوّل وجهی الثانی، کما لا ینبغی الإشکال فی عدم ترتب آثار تواتر المخبربه عند نفس هذا الشخص.

ومن هنا یعلم: إن الحکم بوجوب القرائة فی الصّلاة، إنْ کان منوطا بکون المقروء قرآنا واقعیّا قرأه النبی صلّی اللّه علیه وآله، فلا إشکال فی جواز الإعتماد علی إخبار الشهید رحمه اللّه بتواتر القراءات الثلاث، أعنی قراءة أبی جعفر وأخویه، لکنْ بالشرط المتقدّم، وهو کون ما أخبر به الشهید من التواتر ملزوما عادةً لتحقق القرآنیّة. وکذا لا إشکال فی الإعتماد من دون الشرط إنْ کان الحکم منوطا بالقرآن المتواتر فی الجملة، فإنه قد ثبت تواتر تلک القرائة عند الشهید بإخباره. وإنْ کان الحکم معلّقا علی القرآن المتواتر عند القاری أو مجتهده، فلا

ص: 101

یجدی إخبار الشهید بتواتر تلک القراآت... .(1)

ومحصّل کلامه: إنه إن أخبر عن إخبار العدد الکذائی، فهذا إخبار عن السّبب، وإنْ أخبر عن التواتر، فإن کان الأثر مترتبا علی التواتر فی الجملة، ترتّب، وإنْ کان مترتّبا علی التواتر عند المنقول إلیه، فلا أثر له، ففرّع علی ذلک مسألة تواتر القراءات بأنه: إن کان الأثر الشرعی مترتّبا علی القرآنیّة الواقعیّة، ترتّب بإخبار الشهید. وإنْ کان للتواتر فی الجملة، أی الأعم من الناقل والمنقول إلیه، فکذلک. أما إن کان للتواتر عند المنقول إلیه خاصّةً أو مجتهده، فلا.

وقد اعترضه المحقق الخراسانی فی الحاشیة،(2) فإنه بعد أن بحث عن التواتر فی التنبیه السابع من تنبیهات الإجماع قال:

فتلخّص أنه إذا نقل إلیه ما یبلغ حدّ التواتر عنده، یجب ترتیب الآثار مطلقا، کانت للواقع أو للتواتر مطلقا، وأمّا إذا لم یبلغ حدّه لم یترتب منها إلاّ خصوص ما کان له فی الجملة.

قال: ومنه ظهر حال ما ذکره قدّس سرّه من فرع جواز القراءة وأنه یجوز مطلقا لو کان ما نقله الشهید بالغا ذلک الحدّ عنده، ولایجوز إن لم یبلغه إلاّ إذا کانت من آثار ما تواتر قرآنیّته فی الجملة... .

ومحصّل کلامه: عدم الفرق، وأنّ الأثر یترتّب علی إخبار الشهید، سواء کان للواقع أو للمنقول إلیه.

ص: 102


1- 1. فرائد الأُصول: 64.
2- 2. درر الفوائد: 101.

أقول:

لکن التحقیق هو: أنه إذا أخبر عن التواتر، فتارةً: یتوافق المنقول إلیه والناقل فی المسلک فالأثر مترتب. وأُخری: هما مختلفان، فالأثر غیرمترتب. وثالثةً: یشک فی توافقهما، والحق عدم الترتّب کذلک.

وأمّا لو کان الأثر لا یترتّب بالنسبة إلی المنقول إلیه إلاّ إذا کان التواتر محقّقا عنده، فإنّ بإخبار المخبِر الواحد لا یتحقّق ذلک فلا یترتب علیه الأثر، وهذا هو مقصود الشیخ والحق معه فیما قال.

هذا تمام الکلام فی الإجماع.

ص: 103

ص: 104

الشهرة الفتوائیّة

اشارة

ص: 105

ص: 106

إعلم أن الشهرة علی أقسام:

1. الشهّرة الروائیّة.

2. الشهّرة العملیّة.

3. الشهّرة الفتوائیّة.

والکلام هنا فی القسم الأخیر.

ما یستدلُّ به لحجیّة الشهرة الفتوائیّة

اشارة

وهذا مجموع الوجوه المطروحة لحجیّة الشهرة الفتوائیة والکلام حولها:

ذهب صاحب الکفایة(1) إلی أنه لادلیل علی اعتبار الشّهرة فی الفتوی بالخصوص.

ثم ذکر ثلاثة وجوه بعنوان «التوهّم» وأجاب عنها، وهی:

الأول

الأولویّة القطعیّة من خبر الواحد، فتکون أدلّة حجیّته دالّة علی حجیّة الشّهرة، لأن الظن الحاصل منها أقوی ممّا یُفیده خبر الواحد.

ص: 107


1- 1. کفایة الأُصول: 292.

وفیه:

عدم دلالة أدلّة حجیّة خبر الواحد علی کون مناط اعتباره إفادته الظن، وتنقیح ذلک بالظن لایوجب إلاّ الظن بالأولویّة.

والثانی

مرفوعة زرارة، قال: قلت: جعلت فداک، یأتی عنکم الخبران والحدیثان المتعارضان، فبأیّهما نعمل؟ قال علیه السلام: خذ بما اشتهر بین أصحابک ودع الشاذ النادر. قلت: یا سیدی، إنهما معا مشهوران مأثوران عنکم. قال: خذ بما یقوله أعدلهما.(1)

وجه الاستدلال: إن «ما» الموصولة أعمّ من الروایة والفتوی.

وفیه:

إن المراد من «ما» خصوص الرّوایة المشهورة. هذا بغض النظر عن الإشکال فی السّند.

والثالث

مقبولة عمر بن حنظلة، بعد فرض السائل تساوی الراویین فی العدالة قال:

یُنظر إلی ما کان من روایتهم عنّا فی ذلک الذی حکما به المجمع علیه بین أصحابک فیؤخذ. ویترک الشاذ الذی لیس بمشهور عند أصحابک. فإن المجمع علیه لا ریب فیه، وإنّما الامور ثلاثة... .(2)

ص: 108


1- 1. عوالی اللئالی 4 / 133.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، رقم 1.

بناءً علی أنّ المراد بالمجمع علیه فی الموضعین هو المشهور، بقرینة إطلاق المشهور علیه فی قوله: ویترک الشاذ الذی لیس بمشهور، فیکون فی التعلیل بقوله: فإن المجمع علیه... دلالة علی أن المشهور مطلقا ممّا یجب العمل به، وإنْ کان مورد التعدیل الشهرة فی الروایة... .

وفیه: إن المراد من «ما» الموصولة فی هذا الخبر هو الروایة کذلک.

والرابع

ما ذکره فی الکفایة بقوله: نعم، بناءً علی حجیة الخبر ببناء العقلاء، لا یبعد دعوی عدم اختصاص بنائهم علی حجیّته، بل علی حجیّة کلّ أمارة مفیدة للظن أو الإطمینان.

ثم قال: لکن دون إثبات ذلک خرط القتاد.(1)

والخامس

ما ذکره فی مصباح الاصول،(2) وهو التعلیل الوارد فی ذیل آیة النبأ المبارکة: «أَنْ تُصیبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمینَ» والمراد من الجهالة السفاهة. بتقریب أنه: یجب التبیّن فی کلّ ما یکون العمل به سفاهة، وحیث أن العمل بالشهرة لیس بسفاهة فلا یجب التبیّن.

وأجاب: بأنّ السّفاهة فی العمل بالشهرة موجودة، لأن العمل بما لا یؤمن معه الضّرر سفاهة عقلاً، والشهرة کذلک. وإنْ کان المراد من الجهالة عدم العلم،

ص: 109


1- 1. کفایة الأُصول: 292.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 145.

فالأمر أوضح، لأن الشهرة لا تفید العلم. هذا فی الصّغری. وأمّا الکبری ففیها: إن الحکم بوجوب التبیّن فی کلّ ما کان العمل به سفاهة _ لعموم التعلیل _ لا یدلُّ علی عدم وجوب التبیّن فی کلّ ما لیس العمل به سفاهة، ولذا فمثل: «لاتشرب الخمر لأنه مسکر» وإن کنّا نتعدّی إلی کلّ مسکر فیکون شربه حراما، لکنّه لا یدلُّ علی عدم حرمة غیر المسکر، فقد یکون حراما لکونه نجسا مثلاً.

والسادس

ما ذهب إلیه السیّد البروجردی رحمه اللّه، وحاصله: الاستدلال بالمقبولة، بناءً علی أنّ المقصود من «المجمع علیه» هو الشهرة فی الفتوی لا فی الروایة، لأنّ الروایة قد تکون مشهورةً ولکنها صادرة علی وجه التقیّة فیکون فیها ریب، وإنّما الذی لا ریب فیه هو الحکم المشهور بین الأصحاب، ضرورة أنهم لا یعملون ولا یفتون إلاّ بما تلقّوه من الإمام من الحکم الواقعی، فالحکم المشهور بما أنه مشهور لا ریب فیه، فاُصول المطالب و رؤوسها المشهورة بین الأصحاب حجةٌ لکونها مشهورة بینهم.

هذا علی ما نقل عنه فی الحاشیة علی الکفایة.(1)

وأمّا فی تقریر بحثه،(2) فیتلخّص ما نسب إلیه فی: أنّ المتون الفتوائیّة للقدماء مثل المقنع والمقنعة والنهایة هی متون روائیّة فی المسائل الأصولیّة، فإذا اشتهر حکم بینهم من الناحیة الفتوائیّة کشف ذلک عن دلیل معتبر، فتکون الشهرة الفتوائیّة حجةً، لکاشفیتها عن رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر.

ص: 110


1- 1. الحاشیة علی کفایة الأُصول 2 / 93.
2- 2. نهایة الأُصول: 541 _ 545.

وفیه:

إنه لیس المقنع والهدایة وغیرهما بأهمّ من الکافی ومن لایحضره الفقیه، والحال أنا نناقش ما ذهب إلیه الکلینی والصّدوق فی الکتابین، فقد یکون ما استند إلیه فی الفتوی معتبرا عندهما وهو غیر معتبرٍ عندنا، ولو فرض جابریّة عمل القدماء لضعف السند، فإنّ بحثنا الآن فی الشهرة الفتوائیّة لا الشهرة العملیّة، فلا ینبغی الخلط.

علی أنّا قد تتبّعنا کتاب النهایة للشیخ والمقنع للصّدوق، وکشفنا عن المستند فی فتاویهما، ووجدنا أنه غیر معتبرٍ فی کثیر من الموارد.

ص: 111

ص: 112

خبر الواحد

اشارة

ص: 113

ص: 114

تمهیدٌ

لا کلام فی حجیّة الخبر المتواتر المفید للعلم، وإنما الکلام فی خبر الواحد، لکونه مفیدا للظن، فهل هو حجّة من جهة قیام الدلیل علی حجیّته فیخرج عن أصالة عدم حجیّة الظن، أوْ لا دلیل علی حجیّته بالخصوص، فینسدُّ باب العلمی، وتکون النتیجة التمسّک بمقدّمات الإنسداد؟

وممّا ذکرنا یظهر أهمیّة هذا البحث، ودخل هذه المسألة فی الإستنباط، ولا حاجة للبحث عن کونها من المسائل الاصولیّة أوْ لا.

هذا، ولیعلم أنه لا تتمُّ الحجیّة للخبر ولا یمکن استنباط الحکم الشرعی منه، إلاّ إذا توفَرت فیه الامور التالیة:

الأوّل: کونه صادرا عن المعصوم، وذلک یتوقف علی سقوط احتمال الکذب فی الراوی وسقوط احتمال الخطأ. أمّا الأوّل، فتتکفّله أدلّة حجیّة الخبر، وأمّا الثانی، فأصالة عدم الخطأ والاشتباه، وهو أصل عقلائی.

والثانی: کونه صادرا علی وجه الجدّ، فلا یحتمل صدوره عن تقیّةٍ. ویتکفّل ذلک الأصل العقلائی المعبّر عنه بأصالة الجدّ.

ص: 115

والثالث: کونه ظاهرا فی المعنی، فلو احتمل إرادة المعنی غیر الحقیقی منه، انتفی بأصالة الحقیقة.

والرابع: أن یکون المعنی الظاهر هو المراد الجدّی للمتکلّم والمطابق للمقصود الواقعی من الکلام. ویتکفّل هذه الناحیة فی صورة الشک أصالة التطابق بین المراد الإستعمالی والمراد الجدّی، وهو المعبّر عنه بأصالة الظهور.

إنه لابدّ من إحراز هذه الامور ولا یکفی الظن، لأنه لا یغنی من الحق شیئا، فإذا احرزت فی الخبر صلح لأنْ یستنبط منه الحکم الشرعی.

ومن هنا یظهر: أن الغرض من مبحث خبر الواحد هو دفع احتمال کذب الراوی، بإقامة الدلیل علی وثاقته.

ونحن نذکر أوّلاً أدلّة القائلین بعدم حجیّة خبر الواحد، ونتکلّم علیها، ثم أدلّة القول بالحجیّة:

ص: 116

أدلّة المانعین

اشارة

إنّ المحکیّ عن جماعة من الأساطین، کالسیّد المرتضی، والقاضی ابن البراج، والسید ابن زهرة، وأبی علی الطبرسی، وابن إدریس: القول بعدم حجیّة خبر الواحد، ولهم علی ذلک وجوه من الأدلّة، قبل الأصل العقلی المؤسّس بعدم جواز اتّباع الظن:

الکتاب

وقد استدلّ لهذا القول من الکتاب بالآیات الناهیة عن اتّباع غیر العلم:

کقوله تعالی: «إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا».(1) ووجه الإستدلال هو کونها ناهیة عن اتّباع الظن مع التعلیل بأن الظن لا یغنی من الحق شیئا. ولا یخفی إطلاقها الشامل للاصول والفروع معا. وخبر الواحد لا یفید إلاّ الظنّ، فلا یجوز ترتیب الأثر علیه.

ص: 117


1- 1. سورة النجم: الآیة 28.

وقوله تعالی: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُوءادَ کُلُّ أُولئِکَ کانَ عَنْهُ مَسْوءُلاً»(1) وهذه کسابقتها ظاهرة فی المنع عن اتّباع غیر العلم، سواء فی الاصول والفروع. واتباع خبر الواحد اتّباعٌ لما لیس بعلمٍ، وإنّ السّمع والبصر ممنوعان من اتّباع الظن.

وقوله تعالی: «یا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصیبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمینَ»،(2) فإنّ التعلیل المذکور ظاهر فی المنع عن ترتیب الأثر علی ما لیس بعلمٍ.

الجواب:

وقد اُجیب عن الإستدلال بالآیات بوجوهٍ یعود بعضها إلی مرحلة الإقتضاء والبعض الآخر إلی مرحلة المانع:

قال الشیخ: والجواب أمّا عن الآیات، فبأنّها بعد تسلیم دلالتها عمومات مخصّصة بما سیجئ من الأدلّة.(3)

وفی هذا الکلام إشارة إلی المرحلتین، فقوله: «بعد تسلیم دلالتها» إشارة إلی أنّ الآیات فی مورد اصول الدین، فلا دلالة لها علی المنع من العمل بخبر الواحد فی الأحکام. وقوله: «عمومات مخصّصة» صریحٌ فی أنه لو سلّم وجود المقتضی

ص: 118


1- 1. سورة الإسراء: الآیة 36.
2- 2. سورة الحجرات: الآیة 6.
3- 3. فرائد الأُصول: 69.

للاستدلال وهو الظهور فی العموم، فالمانع عن الأخذ به _ وهو المخصّص _ موجود.

وقد صرَّح فی الکفایة بالجواب المذکور فی مرحلة المقتضی قائلاً:

والجواب، أمّا عن الآیات: فبأنَّ الظاهر منها أو المتیقّن من إطلاقاتها هو اتّباع غیرالعلم فی الاصول الإعتقادیّة لا ما یعمّ الفروع الشّرعیّة.(1)

فی مرحلة الاقتضاء

أقول

أمّا أن القدر المتیقّن منها هو المنع عن اتّباع غیر العلم فی الاصول الاعتقادیّة، فمبنی علی مسلکه فی مقدّمات الحکمة. وأمّا کونها ظاهرةً فی ذلک، فمن أجل السّیاق، وقد وافقه علی هذا المیرزا والعراقی وغیرهما.

إلاّ أنه قد تقدّم أن ظاهر التعلیل بأن الظن لا یغنی من الحق شیئا هو أنّ ذلک مقتضی طبیعة الظن، لعدم الکاشفیّة له عن الواقع، لوجود احتمال الخلاف غیر الملغی شرعا، فتجوز دعوی کون الآیة فی حدّ ذاتها نصّا فی العموم، ولا أقلّ من ظهورها فیه، والسّیاق لا یوجب رفع الید عن أصالة العموم والإطلاق، کما لا یخفی.

وأمّا قوله تعالی: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ...» فهو بنفسه یعمّ الفروع، خصوصا بلحاظ الذیل: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ...».

وأجاب السیّد الخوئی کما فی المصباح: بأنّ مفاد الآیات الشریفة إرشاد إلی

ص: 119


1- 1. کفایة الأُصول: 295.

حکم العقل بوجوب تحصیل العلم بالمؤمنّ من العقاب وعدم جواز الإکتفاء بالظنّ به، بملاک وجوب دفع الضرر المحتمل إنْ کان اُخرویّا، فلا دلالة لها علی عدم حجیّة الخبر أصلاً.(1)

أقول:

لکنّ رفع الید عن أصالة المولویّة فی الخطابات الشّرعیّة یحتاج إلی الدلیل. ولعلّه لذا لم یذکر هذا الجواب فی الدراسات.(2)

وأجاب السیّد الصدّر عن الآیة «وَلا تَقْفُ ...» بأنّ النهی قد تعلّق فیها بالإقتفاء بغیر العلم لا مجرّد العمل علی طبقه، والإقتفاء عبارة عن الاتباع... وهذا المطلب صحیح فی باب الظنّ وعقلائی أیضا، ولکنّه لا ینافی حجیّته، فإن الإقتضاء حینئذٍ فی مورد الظنّ یکون للعلم بالحجیّة ووجوب متابعته شرعا لالنفس الظنّ، وإنْ کان العمل علی طبق الظنّ. قال: وأمّا الآیة الاخری «وَإِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی...» فقد تبیّن حالها ممّا قلناه فی الاولی، فإنها واردة فی سیاق التندید بالکفّار الذین یعوّلون علی الظّنون... وهذا السیّاق قرینة علی أنّ المقصود هو الإشارة إلی سنخ قاعدة عقلیّة أو عقلائیّة...(3)

أقول:

أمّا الآیة الثانیة، فقد جعلها إرشادیّة. وأمّا الآیة الاولی، فإن الاقتفاء هو الاتباع

ص: 120


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 151.
2- 2. دراسات فی علم الأُصول 3 / 155.
3- 3. بحوث فی علم الأُصول 4 / 339.

کما ذکر، لکن الاتّباع قد یکون فی العقیدة، وقد یکون فی القول، وقد یکون فی العمل، فالعمل فی مورده من مصادیق الاقتفاء. فتدبّر.

وذکر شیخنا الاستاذ _ فی الدورتین _ وجها آخر للجواب عن الإستدلال بالآیات لعدم حجیّة خبر الواحد، وهو: إنّ الاستدلال بها علی عدم حجیّة الخبر یتوقّف علی حجیّة ظواهرها، لکنّ المفروض أنها ظنیّة الدلالة _ وإنْ کانت قطعیّة الصّدور _ فیلزم من عمومها عدم حجیّة الظن، وعدم حجیّة ظواهرها، فالاستدلال بها لعدم حجیّة خبر الواحد محال.

ثم نقل الجواب عن ذلک: بأنّ البرهان المشار إلیه، وهو استحالة استلزام وجود الشئ لعدم نفسه موجبٌ للتخصیص عقلاً، أی خروج ظواهر هذه الآیات عن تحت الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم. وحینئذٍ، یتمُّ الاستدلال بها.

ثم أشکل دام بقاه علی هذا الجواب: بأنه یبتنی علی مولویّة هذه الآیات، بأنْ یکون الشارع قد نهی عن اتّباع الظنّ نهیا مولویّا طریقیّا لحفظ الواقع، نظیر الأوامر الاحتیاطیّة الصّادرة عنه من أجل التحفّظ علی الواقع، ونظیر النهی عن القیاس، فإنه نهی طریقی للتحفّظ علی الواقعیّات، إذ السنّة إذا قیست محق الدین.

لکنّ هذه الآیات إرشاد إلی حکم العقل، والعقل یحکم بأنّ الظنّ بما هو ظنٌّ لیس بحجّةٍ، والأحکام العقلیّة لا تقبل التخصیص کما هو معلوم.

قال: بل التحقیق إنّ هذه الآیات _ حتی لو کانت مولویّةً _ غیر قابلة للتخصیص، لکونها معلّلةً بأنّ الظنّ لا یغنی من الحقّ شیئا، إذ لا یعقل أنْ یکون الظنّ الخبری مغنیا عن الحق. وبعبارة اخری: فإنّ هذا التعلیل معناه أنّ طبیعة الظنّ

ص: 121

هی عدم الإغناء عن الحق، فلا یعقل تخصیصها فی موردٍ... وکذا قوله تعالی: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ...» فلا یعقل أن تخصّص الآیة بعدم المسئولیّة فی موردٍ من الظنون.

والحاصل: إن هذه الآیات، إمّا إرشاد إلی حکم العقل بعدم جواز اتّباع غیر العلم، فالظن وغیره المحتمل لمخالفة الواقع لا یجوز اتّباعه، وهذا الحکم لا یقبل التخصیص. وإمّا هی خطابات مولویّة طریقیّة، فلا تقبل التخصیص، لکونها معلّلةً بما لا یقبله.

فظهر أنّ الآیات تقتضی _ عقلاً _ المنع عن اتّباع الظن مطلقا، فخبر الواحد لیس بحجّة.

وهذا عمدة الکلام فی مرحلة الإقتضاء.

فی مرحلة المنع

وأمّا فی مرحلة المانع، فقد اختلفت أنظار القائلین بحجیّة خبر الواحد فی وجه تقدّم أدلّتهم علی الآیات المستدلّ بها علی المنع، فهل هو التخصیص أو الورود أو الحکومة؟

فالشّیخ علی أنّ الآیات عمومات مخصصّة...

وتبعه صاحب الکفایة إذ قال: ولو سلّم عمومها لها فهی مخصصّة بالأدلّة الآتیة علی اعتبار الأخبار.

واختاره السیّد الاستاذ رحمه اللّه، وأوضح ذلک: بأنّ النهی الوارد فی الآیات

ص: 122

الکریمة نهی تشریعی یقصد به نفی الحجیّة عن غیرالعلم، فما یثبت الحجیّة یکون مصادما لنفس الحکم مباشرة. وبعبارة اخری: إنّ مفاد الآیات أن غیرالعلم لیس بحجّةٍ، فما یتکفّل أن خبر الواحد حجة لا یکون حاکما علیها بل یکون مخصّصا کما لا یخفی.(1)

وقیل بالورود، لأنّ الموضوع فی قوله تعالی: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ» لیس هو «العلم» بل هو «الحجّة»، وذلک: لحکم العقل باتّباع الحجة ونهیه عن اتّباع ما لیس بحجّةٍ، والشّرع مؤیّد لحکم العقل بذلک، وإذا قام الدلیل علی اعتبار الخبر کان الخبر حجّةً، وحینئذٍ یتقدّم ما دلّ علی حجیّته علی الآیات المذکورة بالورود.

وقد اختار السیّد الصّدر هذا الوجه، حیث نصَّ علی ذلک فی آخر کلامه الذی نقلناه آنفا حول الآیتین إذ قال: فیکون دلیل الحجیّة واردا علی الآیتین.(2)

وأمّا التقدّم بالحکومة، فقد ذهب إلیه المیرزا، قال: ولو فرضنا عمومها لمطلق الظنّ _ ولو کان متعلّقا بحکمٍ فرعی _ فالطرق التی جری علیها بناء العقلاء خارجة عن موضوعها حقیقةً، إذ الطریق الذی ثبت حجیّته ببناء العقلاء أو بدلیل تعبّدی _ ولو فی غیر مورد بنائهم، وإنْ کان هذا فرضا غیر واقع _ یکون خارجا عن موضوعها بالحکومة، فإن الطریق إذا کان حجّةً فلا محالة یکون محرزا للواقع وعلما طریقیّا، فکیف یمکن أن تعمّه الآیات الناهیة عن العمل بالظن؟(3)

ص: 123


1- 1. منتقی الأُصول 4 / 253.
2- 2. بحوث فی علم الأُصول 4 / 339.
3- 3. أجود التقریرات 3 / 178 _ 179.

والعراقی، حیث قال: أمّا الآیات الناهیة عن اتّباع غیر العلم، فلأنها إنما تدلّ علی المنع عن العمل بخبر الواحد فی فرض عدم تمامیّة الأدلّة المثبتة للحجیّة، إذ فی فرض تمامیّتها لا مجال للتمسّک بتلک الآیات، لحکومة تلک الأدلّة علیها حسب اقتضائها لتتمیم الکشف وإثبات العلم بالواقع، حیث أنها تقتضی کون العمل به عملاً بالعلم. وهذا ظاهر بعد معلومیّة وضوح عدم تکفّل الآیات لإحراز موضوعها الذی هو عدم العلم، وتمحضّها لإثبات حکم کلّی لموضوع کلّی... ومن هذا البیان ظهر الجواب عن الآیات الناهیة عن العمل بالظنّ واتّباعه...(1)

وقد تبعهما السیّد الخوئی رحمه اللّه.(2)

أقول:

قد تلخّص ما تقدّم فی المرحلة الاولی فی تمامیّة العموم، فإنْ کانت الآیات إرشادا إلی حکم العقل، فلا تخصیص فی الخطابات الإرشادیة، وإنْ کانت مولویة، فإنّ النهی عن اتباع الظن لا یقبل التخصیص لإباء لسان «وَإِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی...» عن ذلک.

ثم إنه هل المراد من «العلم» فی قوله تعالی: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ» هو «الحجّة» أو «الإنکشاف»؟

إن کان الأوّل، کانت أدلّة حجیّة خبر الواحد واردة علی الآیة، بناءً علی جعل الحجیّة.

ص: 124


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 102.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 152.

وإن کان الثانی، وقلنا بأن مدلول الأدلّة هو جعل الکاشفیة، کانت حاکمةً علی الآیة، أی أنها تتصرّف فی موضوع «وَلا تَقْفُ» ویکون خبر الواحد علما.

وإنْ کان مدلول أدلّة اعتبار خبر الواحد هو جعل الحکم المماثل، فقد یقال هنا بتقدّمها علی الآیة بالتخصیص، لکن الأظهر هو الحکومة کذلک، لأنْ مدلولها لیس جعل الحکم المماثل فی مقابل الواقع، بل جعل الحکم المماثل بعنوان أنه الواقع، فیکون العلم بالواقع طریقیّا، وأدلّة اعتبار الخبر تفید أن ما أخبر به زرارة مثلاً هو الواقع.

واستدلّ المیرزا بالسّیرة وأنها قائمة علی تقدّم خبر الثقة علی أدلّة النهی عن اتباع الظن، تخصّصا أو ورودا أو حکومة.

فقال بعد أنْ ذهب إلی الحکومة:

هذا فی غیر السّیرة العقلائیّة القائمة علی العمل بالخبر الموثوق به. وأمّا السّیرة العقلائیّة، فیمکن بوجهٍ أنْ تکون نسبتها إلی الآیات الناهیة نسبة الورود بل التخصّص.(1)

فإنْ أراد تقدّمها بنفسها _ کما هو ظاهر کلامه، ولأنه لو أراد السّیرة الممضاة، فلابدّ من إسقاط احتمال رادعیّة قوله تعالی: «وَلا تَقْفُ» قبل دعوی تقدّمها _ فلا إشکال فی أن خبر الواحد لیس بعلم وجدانا عند العقلاء، لأنهم یحتملون الخلاف معه، غیر أنهم لا یعبأون بالإحتمال فی مقام العمل، وإذ لیس بعلم فلا تخصّص.

وإنْ أراد تقدّمها مع أمضاء الشارع:

ص: 125


1- 1. فوائد الأُصول 3 / 161.

ففیه: أن إمضائه لا یجعل خبر الثقة علما، علی أنه یتوقف علی إثبات عدم رادعیّة الآیة.

هذا بالنسبة إلی التخصّص.

وأمّا الورود، فیتوقف علی التصرّف فی الموضوع بالوجدان ببرکة التعبّد، ولا ریب فی عدم زوال موضوع «وَلا تَقْفُ» وجدانا، فی السیرة العقلائیة. علی أنّ السیرة بوحدها، أی بقطع النظر عن الإمضاء، لیست دلیلاً تعبدیّا، ومع النظر إلیه، فلا معنی للورود، لأنه مع الإمضاء لا یرتفع الجهل ولا یزول عدم العلم وجدانا، ولکن الورود هو ارتفاع الموضوع بالوجدان.

وهذا بالنسبة إلی الورود.

بقی الحکومة، ولا إشکال فی دعواها بالسّیرة مع إمضاء الشارع، لأنّ نتیجة ذلک اعتبار الشارع خبر الثقة، کما علیه العقلاء، حیث أنه معتبر عندهم مع إلغاء احتمال الخلاف. وبعبارة اخری: علی نحو تتمیم الکشف کما هو مسلک المیرزا رحمه اللّه. فموضوع الآیة المبارکة وهو الجعل یرتفع بالتعبّد، ولکنْ لابدّ من إسقاط احتمال رادعیّة الآیة، لأنه مع وجوده لا یتم الإمضاء. وأمّا مع قطع النظر عن الإمضاء فلا تعقل الحکومة، إذ لا أثر للسیرة مع عدم الإمضاء، ولا یحقّ للعقلاء التصرّف فی موضوع حکم الشارع.

وتلخّص من جمیع ما ذکرنا:

إن الآیات تنهی عن اتّباع ما لیس بعلم وما لا ینتهی إلی العلم، لکنّ أدلّة حجیّة خبر الواحد تُنهی الخبر إلی العلم، فهی مقدّمة علی الآیات بالحکومة.

ص: 126

السنّة

واستدلّ المانعون بروایات کثیرة مروّیة بالأسانید عن الأئمة الطّاهرین علیهم السلام فی کتب أصحابنا المعتمدة، وقد أورد الشیخ طرفا منها، ولانری حاجةً إلی ذکرها کلّها، وإنما نقول أنها بحسب المضامین علی طوائف:

1. ما لم یعلم أنه من الأئمة علیهم السلام فلیس بحجّة.

مثل الخبر عن محمد بن عیسی قال: أقرأنی داود بن فرقد الفارسی کتابه إلی أبیالحسن الثالث وجوابه بخطّه علیه السّلام، فکتب: نسألک عن العلم المنقول عن آبائک وأجدادک _ صلوات اللّه علیهم أجمعین _ قد اختلفوا علینا فیه، فکیف العمل به علی اختلافه؟ فکتب بخطّه: ما علمتم أنه قولنا فالزموه وما لم تعلموه فردّوه إلینا.(1)

2. ما لیس علیه شاهد أو شاهدان من کتاب اللّه فلیس بحجّة، مثل الخبر عن ابن أبییعفور قال: سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن اختلاف الحدیث، یرویه من أثق به ومن لا أثق به. قال: إذا ورد علیکم حدیث فوجدتم له شاهدا من کتاب اللّه أو من قول رسول اللّه _ صلّی اللّه علیه وآله _ فخذوا به، وإلاّ فالذی جاءکم به أولی به.(2)

3. ما لا یوافق کتاب اللّه فلیس بحجّة.

کقوله علیه السّلام: کلّ شئ مردود إلی کتاب اللّه والسنّة، وکلّ حدیث لا یوافق کتاب اللّه فهو زخرف.(3)

ص: 127


1- 1. بصائر الدرجات: 524 رقم 26.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 110، الباب 9 من أبواب صفات القاضی رقم 11.
3- 3. المصدر، الرقم 14.

4. ما خالف کتاب اللّه فلیس بحجّة.

کصحیحة هشام بن الحکم عن أبی عبداللّه علیه السّلام: لا تقبلوا علینا حدیثا إلاّ ما وافق الکتاب والسنّة أو تجدون معه شاهدا من أحادیثنا المتقدّمة.

فاتّقوا اللّه ولاتقبلوا علینا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبیّنا.(1)

أجوبة الأعلام

أجاب فی الکفایة:

إن الإستدلال بها خالٍ عن السّداد، فإنها أخبار آحاد.

لا یقال: إنها وإنْ لم تکن متواترة لفظا ومعنیً إلاّ أنها متواترة إجمالاً، للعلم الإجمالی بصدور بعضها لا محالة.

فإنّه یقال: إنها وإنْ کانت کذلک، إلاّ أنها لا تفید إلاّ فیما توافقت علیه، وهو غیر مفید فی إثبات السّلب کلیّا، کما هو محلّ الکلام ومورد النقض والإبرام، وإنما تفید عدم حجیّة الخبر المخالف للکتاب والسنّة، والإلتزام به لیس بضائر بل لا محیص عنه فی مقام المعارضة.(2)

توضیحه:

إنه لو کانت هذه الأخبار آحادا کان الإستدلال بها خالیا عن السّداد، إذ لا یمکن نفی حجیّة خبر الواحد بخبر الواحد، لکنّ الإستدلال لیس بکلّ طائفةٍ

ص: 128


1- 1. بحارالأنوار 2 / 250 رقم 62.
2- 2. کفایة الأُصول: 295.

بوحدها، بل مورد الإستدلال مجموع الطوائف، وهی _ وإنْ لم تکن متواترةً لفظا _ متواترة إجمالاً کما علیه المحقّق الخراسانی، أو معنیً کما علیه الاستاذ دام بقاه کما سیأتی، أو تحتمل هذا وذاک کما هو ظاهر عبارة المیرزا رحمه اللّه.(1)

وکیف کان، فلا یصّحُ الجواب بأنها أخبار آحاد، ولذا عدل صاحب الکفایة عن الجواب بذلک. وإذا کانت متواترةً إجمالاً، فلابدّ من الأخذ بالأخصّ مضمونا منها، وهو ما یدلّ علی عدم حجیّة الخبر المخالف للکتاب والسنّة _ فإنه ممّا لم یقولوه ولا شاهد علیه منهما _ فیکون الجواب: إنْ هذه المخالفة لاتخلو إمّاهی بالمباینة أو بالعموم من وجهٍ، لأنّ المخالف بالعموم والخصوص المطلق صادر منهم یقینا. وعلیه، فما خالف الکتاب بأحد النحوین یکون ساقطا عن الاعتبار، وهذا ما لا خلاف فیه بین الأصحاب، لا مطلق خبر الواحد کما هو المدّعی.

والحاصل:

التسلیم بتواتر تلک الأخبار، والقول بأنه تواتر إجمالی فیؤخذ بالأخصّ مضمونا منها، وهو ما ورد عنهم مباینا للکتاب والسنّة وأنه لاضیر فی الإلتزام به، فالاستدلال بها لعدم حجیّة خبر الواحد مردود.

هکذا تخلّص رحمه اللّه عن هذه المشکلة.

وقد أشکل سیدنا الاستاذ(2) رحمه اللّه علی کلمته أخیرا «بل لا محیص عنه فی مقام المعارضة» بأنّه: أجبنیٌ عمّا نحن فیه، لأنّ فرض التعارض یلازم فرض

ص: 129


1- 1. فوائد الأُصول 3 / 162.
2- 2. منتقی الأُصول 4 / 254.

تمامیّة حجیّة کلٍّ من المتعارضین فی نفسه، بحیث یجب العمل به لولا المعارضة. والبحث فیما نحن فیه عن أصل الحجیّة. فالإلتزام بعدم حجیّة الخبر المخالف للکتاب والسنّة فی مقام التعارض لا یعنی الإلتزام بعدم حجیّته فی نفسه ولایقرب هذا المعنی.

أقول:

والإنصاف أن المسألة غیر صافیة من الإشکال، ولعلّه لذا أهمل البحث عن ذلک بعضهم، وأحاله غیره إلی موضع آخر، والإضطراب لائحٌ من کلمات البعض الآخر، اُنظر إلی کلام المحقق النائینی فی الدورة الاولی، وهذا نصّه بطوله:

وأمّا السنّة: فلأنّ الأخبار الدالّة علی طرح الخبر المخالف أو الذی لاشاهد علیه من الکتاب والعمل بالخبر الموافق والذی علیه شاهد من الکتاب وإن کانت متواترة معنی أو إجمالاً _ للعلم بصدور بعضها عن المعصوم علیه السلام وهی آبیة عن التخصیص _ کما لا یخفی علی المتأمّل فیها _ إلاّ أنّه یعلم أیضا بصدور جملة من الأخبار المخالفة للکتاب ولو بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقیید، ولا یسعنا طرح جمیع ما بأیدینا من الأخبار المودعة فی الکتب، لأنّه یلزم من الإقتصار علی ما یستفاد من ظاهر الکتاب تعطیل کثیر من الأحکام، خصوصا فی باب العبادات؛ بل معظم الأحکام إنّما یستفاد من الأخبار؛ ولو بنینا علی الأخذ بظاهر هذه الأخبار الناهیة عن العمل بما یخالف الکتاب أو الذی لا یوجد له شاهد منه والإقتصار فی العمل بما یوافق ظاهر الکتاب، یلزم طرح جمیع ما بأیدینا من الأخبار المخالفة لظاهر الکتاب بالعموم والخصوص والإطلاق والتقیید؛ وهذا ممّا

ص: 130

لا سبیل إلی الإلتزام به؛ فلابدّ وأن یکون المراد من «المخالفة» غیرالمخالفة بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقیید، من المخالفة بالتباین الکلّی أو بالعموم من وجه؛ بل المخالفة بالعموم والخصوص لا تعدّ من المخالفة، لما بینهما من الجمع العرفی، والتخالف بینهما إنّما یکون بدویّا یزول بالتأمّل فی مدلولهما؛ فالأخبار الناهیة عن العمل بالخبر المخالف للکتاب لا تعمّ المخالفة بالعموم والخصوص.

ولا یبعد أن یکون صدور هذه الأخبار فی مقام الردّ علی الملاحدة الذین کانوا یضعون الأخبار ویدسّونها فی کتب الأصحاب هدما للشریعة المطهرة، حتی نقل عن بعضهم أنّه قال _ بعد ما استبصر ورجع إلی الحق _ إنّی قد وضعت إثنی عشر ألف حدیثا. فأقرب المحامل لهذه الأخبار حملها علی الخبر المخالف للکتاب بالتباین أو بالعموم من وجه؛ وإن کان یبعد حملها علی المخالفة بالتباین، لأنّه لیس فی الأخبار ما یخالف الکتاب بالتباین الکلّی، حتی أنّ من یرید الوضع والدسّ فی الأخبار لا یضع ما یخالف الکتاب بالتباین الکلّی؛ لأنّه یعلم أنّه من الموضوع.

ولا یبعد أیضا حمل الأخبار الناهیة علی الأخبار الواردة فی باب الجبر والتفویض والقدر، ونحو ذلک.

ویمکن أیضا حمل بعضها علی صورة التعارض بین الروایات، فیؤخذ بالموافق للکتاب ویطرح المخالف له.

وکیف کان، لابدّ من حمل هذه الأخبار علی أحد هذه المحامل، لما عرفت

ص: 131

من أنّه لو بنینا علی شمولها للمخالفة بالعموم والخصوص، یلزم تعطیل کثیر من الأحکام.

وممّا ذکرنا یظهر ما فی الاستدلال بروایة داود بن فرقد، فإنّه مضافا إلی أنّها من أخبار الآحاد ولایصلح التمسک بها لما نحن فیه _ لأنّه یلزم من حجیتها عدم حجیتها _ لا تشمل العمل بخبر الثقة، لأنّه لیس من أفراد قوله علیه السلام: وما لم تعلموا فردّوه إلینا، بل أدلّة حجیّته تقتضی أن یکون من أفراد قوله علیه السّلام: ما علمتم أنه قولنا فالزموه، بالبیان المتقدم فی الجواب عن الإستدلال بالآیات الناهیة عن العمل بالظن.(1)

أقول:

أمّا خبر داود بن فرقد، وخبر آخر معه فی الطائفة الاولی، فهما من أخبار الآحاد، وواردان فی مورد المعارضة بین الخبرین. وإنّما الکلام فی بقیة الأخبار المعترف بتواترها.

وذهب الاستاذ فی الدورة السّابقة إلی أنّ هذه الأخبار متواترة معنیً لا إجمالاً، لأن الدلالة الالتزامیّة من الدلالات اللّفظیّة کما لا یخفی، ومن الدلالة الإلتزامیّة هی الأولویة القطعیّة، وعلیه، فما یدلّ علی سقوط ما لا یوافق الکتاب، یکون دالاًّ بالأولویّة القطعیّة علی سقوط المخالف له، والمنع عن الأخذ بالمخالف له یدلّ بالأولویّة القطعیّة علی المنع من الأخذ بما لیس له شاهد أو شاهدان من

ص: 132


1- 1. فوائد الأُصول 3 / 162 _ 164.

کتاب اللّه. فالأخبار متواترة معنیً، وذلک، لأنّها وإنْ اختلفت مضامینها متّحدة فی المصداق، لأنّ ما یکون علیه شاهد أو شاهدان یکون موافقا للکتاب، وما لا فهو مخالف له.

نعم، یمکن أن یکون الخبر غیر موافق للکتاب وهو فی نفس الوقت غیر مخالف له، فتقع المفارقة المصداقیّة بین الطائفتین الثالثة والرابعة.

لکنّ الخبر عن أبی عبداللّه علیه السلام أنه خطب النبی صلی اللّه علیه وآله بمنی فقال: أیها الناس، ما جاءکم عنی یوافق کتاب اللّه فأنا قلته، وما جاءکم یخالف کتاب اللّه فلم أقله(1)، والخبر عن أبی عبد اللّه علیه السلام: قال قال رسول اللّه: إن علی کلّ حق حقیقة وعلی کلّ صواب نورا، فما وافق کتاب اللّه فخذوه وما خالف کتاب اللّه فدعوه.(2) یدلاّن علی الوحدة المصداقیّة، لأنّ المخالف الذی یطرح هو المخالف بالمباینة، وکلّما لا یکون مخالفا بالمباینة، فهو موافق یجب الأخذ به.

فظهر أن مدلول الجمیع واحد، والمقصود بطلان ما خالف کتاب اللّه بالتباین. ویشهد بما ذکرنا حمل الفقهاء «ما لا یوافق» علی «المخالف» فی قولهم: «کلّ شرط لا یوافق کتاب اللّه فهو باطل».

أقول:

لکنّ حمل «المخالفة» علی «المباینة» غیر واضح، لِما أشار إلیه المیرزا فی

ص: 133


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 111، الباب 9 من أبواب صفات القاضی رقم: 15.
2- 2. المصدر، رقم: 10.

کلامه، قال: لأنّه لیس فی الأخبار ما یخالف الکتاب بالتباین الکلّی، حتی أنّ من یرید الوضع والدّس فی الأخبار لایضع ما یخالف الکتاب بالتباین الکلّی، لأنه یُعلم أنه من الموضوع.

وقد تبع فی ذلک الشیخ رحمه اللّه إذ قال فی تقریب استدلال المنکرین:

والمراد من المخالفة للکتاب والسنّة لیس هی المخالفة علی وجه التباین الکلّی، إذ لایصدر من الکذّابین علیهم مایباین الکتاب والسنّة کلّیةً، إذْ لا یصدّقهم أحدٌ فی ذلک...(1)

وما أفاده السّید الخوئی فی الجواب من: أنّ الواضعین کانوا یدسّون تلک المجعولات فی کتب الثقات من أصحاب الأئمة ولم ینقلوها بأنفسهم لعدم القبول منهم.(2)

فإنما یفید بنحو الموجبة الجزئیّة. کما فی روایة لعن الإمام علیه السلام المغیرة بن سعید، لأنّه دسّ فی کتب أصحاب أبیه،(3) ولیس کلّما وضع علیهم علیهم السلام من هذا القبیل.

وعلی الجملة، فإنّ شمول تلک الأخبار للمخالفة بالعموم والخصوص باطلٌ بلاکلام، وحملها علی صورة المخالفة بالتباین مشکل، فلابدّ من حملها علی بعض المحامل. فتدبّر.

ص: 134


1- 1. فرائد الأُصول: 68.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 150.
3- 3. رجال الکشی: 224.

تنبیهان

الأوّل

ذکر السیّد الخوئی: أن أخبار «ما لیس له شاهد أو شاهدان» مخصّصة بأدلّة اعتبار خبر الثقة، والمخصّص لا یعقل أن یکون مانعا عن المخصّص.(1)

وفیه:

إن «ما لیس له شاهد أو شاهدان» تارة: خبر الثقة، واخری: خبر غیر الثقة. وخبر الثقة تارةً: له شاهد، واخری: لا. فالصحیح أن النسبة بین «ما لیس له شاهد» وبین «خبر الثقة» هی العموم من وجه، لا العموم والخصوص المطلق. فإنْ لزم فی مورد الإجتماع لغویّة أحد الدلیلین، فالقاعدة المقرّرة هی الأخذ بما تلزم لغویّته. وفیما نحن فیه: لو اُخذ بما علیه شاهد أو شاهدان، لزم لغویّة عنوان خبر الثقة، بخلاف ما لو اُخذ بدلیل حجة خبر الثقة، فلا تلزم لغویّة ما علیه شاهد أو شاهدان، لوجود المورد له.

الثانی

قد کان فی الأخبار طائفة اخری لم یذکرها الأصحاب، وهی: «ما سمعتَه منّی یشبه قول الناس ففیه التقیّة، وما سمعت منّی لا یشبه قول الناس فلیس فیه تقیّة».(2)

ص: 135


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 151، دراسات فی علم الأُصول 3 / 155.
2- 2. وسائل الشیعة 22 / 285، الباب 3 من أبواب کتاب الخلع والعباراة.

والجواب:

إنها أخبار آحاد، ولو سلّم، فإنما تصلح للمانعیّة لو کان النسبة بینها وبین أدلّة حجیّة الخبر نسبة العموم والخصوص المطلق.

الإجماع

واستدلّ للقول بعدم حجیّة خبر الواحد بالإجماع. فقد ادّعاه السیّد المرتضی فی موارد، ولذا نُسب القول بذلک إلی الطائفة فی کتب الاصول للعامّة.

وقد أجابوا عنه: بأن المحصّل منه غیر حاصل، والمنقول لیس بحجّة، وأنه معارض بمثله.

هذا، وللمحقق النائینی هنا مطلبٌ لا بأس بإیراده، قال رحمه اللّه:

والتحقیق فی هذا المقام أن یقال: إنّ للخبر الواحد عندهم اصطلاحین:

أحدهما: الخبر غیرالقطعی وما لا یکون محفوفا بالقرینة القطعیّة أو ما بحکمها، وهو الذی ذهب ابن إدریس إلی عدم حجّیّته، وذهب جماعة من القدماء والمتأخّرین إلی حجّیّته، إذا کان الراوی له موثوقا به، بل ادّعی الشیخ قدّس سرّه وجماعة اُخری الإجماع علی حجّیّته.

الثانی: الخبر الذی لا یکون معتمدا علیه، ویکون راویه غیرثقة، وکثیر من القدماء کانوا یعبّرون عن الخبر الضعیف بأنّه خبر واحد، ولذا تری أنّ الشیخ قدّس سرّه بعدما یذکر الأخبار التی یفتی بها فی کتاب التهذیب، یذکر الخبر المعارض له ثمّ یردّه بأنّ أوّل ما فیه أنّه خبر واحد، مع أنّ الشیخ هو الذی ادّعی الإجماع علی

ص: 136

حجّیّة الخبر الواحد. فالإختلاف بین الإصطلاحین هو الموجب لإسناد المنع إلی الشیخ أیضا،

فظهر أنّ الخبر الواحد بالمعنی الأوّل _ الذی هو محلّ الکلام _ لا یحتمل فیه انعقاد الإجماع علی عدم حجّیّته، فضلاً عن الظنّ به، وما هو معقد الإجماع أجنبیّ عنه بالکلّیّة.(1)

وهذا تمام الکلام فی أدلّة المانعین عن حجیّة خبر الواحد.

ص: 137


1- 1. أجود التقریرات 3 / 180.

ص: 138

أدلّة حجیّة خبر الواحد

واستدلّ القائلون بحجیّة خبر الواحد بالکتاب والسنّة وغیرهما.

امّا من الکتاب، فقد استدلّوا بآیات، منها:

آیة النبّأ

اشارة

قوله تعالی: «یا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصیبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمینَ ».(1)

ویقع الکلام فی هذه الآیة فی مقامین:

1. مقام المقتضی

2. مقام المانع

ولا یتم الإستدلال إلاّ بتمامیّة المقتضی وعدم المانع، کما هو واضح.

المقام الأوّل: فی المقتضی

اشارة

إنه یمکن الإستدلال بهذه الآیة لحجیّة خبر الواحد من وجوه، عمدتها:

الوجه الأوّل: مفهوم الوصف

ص: 139


1- 1. سورة الحجرات: الآیة 6.

حیث حکم فیها بالتبیّن من خبر الفاسق، فینتفی عند انتفاء الوصف، فالمترتّب علی الوصف سنخ الحکم لا شخصه. وتوضیحه: إنّ الآیة المبارکة أناطت وجوب التبیّن بعنوان خبر الفاسق، فإذا انتفی الوصف انتفی الحکم، فلو وجب التبیّن عن خبر العادل کذلک لزم لغویّة الإناطة المذکورة وهی مستحیلة.

وعلی الجملة، فإنّ مجرّد أخذ الوصف فی الموضوع، یکون کاشفا _ لامحالة _ عن دخلٍ له فی الحکم، ونتیجة ذلک، أنه إنْ کان المخبر عادلاً لم یجب التبیّن من خبره.

الکلام علیه

وقد وقع هذا الوجه موقع النقض والإبرام فی کلمات الأعلام، فصاحب الکفایة _ الذی لم یذکره فیها _ أجاب عنه فی تعلیقة الرسائل: بأنه إنما یستفاد من التعلیل ذلک لو کانت العلّة راجعةً إلی عدم القبول، بخلاف ما إذا کانت راجعةً إلی اشتراط القبول بالتبیّن، کما هو ظاهر الآیة... مع أنه لو سلّم رجوعها إلی عدم القبول، فإنما تفید المطلوب لو اُحرز انحصار المانع بما علّل به، ولا طریق إلیه. وأصالة عدم مانع مثبتة أن ترتّب المقتضی علی المقتضی إنما یکون من آثار عدم المانع عقلاً.(1)

وأجاب المیرزا: بأنّ القضیة الوصفّیة لیست ذات مفهوم، ومجرّد ذکر الوصف فی القضیّة لایقتضی انتفاء سنخ الحکم بانتفاء الوصف، بل أقصاه أن یکون الحکم المذکور فی القضیّة لایشمل الموصوف الفاقد للوصف، یعنی عدم

ص: 140


1- 1. درر الفوائد: 106 _ 107.

التعرّض لحکمه، وهذا غیر المفهوم، فمن الممکن أنْ لایکون المتکلّم بصدد بیان تمام أفراد الموضوع، واقتصر فی البیان علی بیان بعض الأفراد مع اشتراک الأفراد الاخر فی الحکم، إلاّ أنه لمصلحة أخّر بیانها. فلا دلالة لقوله: «أکرم عالما» علی کون المناط فی وجوب الإکرام هو وصف العالمیّة لا وصف الإنسانیّة، لأنه من الممکن أنْ یکون مطلق الإنسان یجب إکرامه، ولکنْ لأهمیّة إکرام العالم اقتصر فی الکلام علی بیانه. فالآیة الشریفة لاتدلّ علی أن تمام المناط لوجوب التبیّن هو کون المخبر فاسقا حتی ینتفی الحکم عن خبر العادل.(1)

أقول:

والإنصاف عدم إمکان المساعدة علی ما ذکره أخیرا، لما ذکرنا من أنّ ظاهر الآیة إناطة الحکم بوصف الفسق، فیدور وجوب التبیّن مداره.

وما ذکره من المثال، فیه: أنه قیاسٌ مع الفارق، فإنّ «العالم» حصّة من «الإنسان»، فکأنّه قال: أکرم الإنسان العالم، بخلاف ما نحن فیه، فإنّ الفسق والعدالة متقابلان، وقد اُنیط الحکم فی الآیة بالفسق دون العدالة.

ولعلّ المیرزا لعدم قبوله بما ذکر لم یطرحه فی الدورة اللاّحقة من بحثه.(2)

وکیف کان، ففی عدم ثبوت مفهوم الوصف _ کما تقرّر فی محلّه _ وعدم إحراز انحصار المانع بما علّل، کفایةٌ للجواب عن هذا الوجه.

الوجه الثانی: ما ذکره الشیخ.

ص: 141


1- 1. فوائد الأُصول 3 / 167.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 181.

وحاصله: إنّ فی خبر الفاسق حیثیّتین، حیثیّة ذاتیّة، وهی کونه خبر واحد. وحیثیّة عرضیّة، وهی کونه خبر الفاسق، وقد جاء إناطة وجوب التبیّن علی الحیثیّة العرضیّة، ولو لم یکن هو العلّة للحکم لکان العدول عن الحیثیّة الذاتیّة التی هی مؤثّرة فی المرتبة السّابقة، إلی العرضیّة المتأخرّة مرتبةً، قبیحا، بل هو خارجٌ عن طریق المحاورة العرفیّة أیضا، فإذا کان المؤثّر فی وجوب الإکرام هو الإنسانیّة قالوا: أکرم الإنسان، ولا یقولون: أکرم العالم.

وعلی هذا، فمع انتفاء العنوان المعلّق علیه الحکم _ وهو الفسق _ ینتفی الحکم، وتکون الآیة دالّةً علی ترتیب الأثر علی خبر العادل بلا تبیّن.

الکلام علیه

وظاهر جماعة کالهمدانی والعراقی والمیرزا وغیرهم: أنّ هذا الذی أفاده الشیخ رحمه اللّه عبارة اُخری عن الوجه السّابق، وهو الإستدلال بمفهوم الوصف، وتبعهم السیّد الخوئی فقال: إنّ هذا الوجه یرجع إلی الإستدلال بمفهوم الوصف، لا أنه وجه مستقل، وحینئذ، یرد علیه ما تقدّم فی الوجه السّابق من أنّ التقیید بالوصف وإنْ کان مشعرا بالعلیّة إلاّ أن ذلک لا یدلّ علی الإنتفاء عند الانتفاء، فإنه متفرّع علی کون الوصف علّةً منحصرة...(1)

لکنّ ظاهر المحقق الإصفهانی أنه وجه مستقل، فإنه قال _ فی التعلیق علی عبارة الکفایة: من وجوهٍ أظهرها... _ :

ص: 142


1- 1. مصباح الأُصول: 156.

منها: ما حکاه المحقق الأنصاری(1) قدّس سرّه فی رسائله، وهو تعلیق الحکم علی أمرٍ عرضی متأخّر عن الذاتی. (قال):

وتوضیحه بحیث یکون دلیلاً للمطلوب هو: إنّ العلّة لوجوب التبیّن، إمّا مجرّد الخبریّة أو هی مع الفسق بنحو الاشتراک، أو کلٌّ منهما مستقلاًّ، أو مجرّد فسق المخبر. وبعد ظهور الآیة فی دخل الفسق فی وجوب التبیّن _ کما هو مفروض الرسائل _ ینتفی الإحتمال الأوّل، کما أنّ الثانی یثبت المطلوب، لانتفاء المعلول بانتفاء أحد جزئی العلّة... والاحتمال الثالث مناف للظاهر... فلم یبق من المحتملات إلاّ علیّة الفسق اشتراکا أو استقلالاً بنحو الإنحصار.

ثم أشکل علی ذلک بقوله:

نعم، کلّ ذلک مبنی علی تسلیم ظهور الآیة _ بمناسبة الحکم والموضوع _ فی علیّة الفسق للحکم، لا للتنبیه علی فسق المخبر _ وهو الولید _ فی خصوص المورد.

وأمّا ما أفاده من أنّ التعلیل بالذاتی أولی لحصوله قبل حصول العرضی، فإنّما ینفی العلیّة بالاستقلال للخبریّة لا الاشتراک مع الفسق فی التأثیر. مضافا إلی أن قبلیّة الذاتی علی العرضی قبلیّة ذاتیّة طبعیّة لا قبلیّة زمانیّة وجودیّة حتی لا تنتهی النوبة فی التأثیر إلی العرضی المتأخّر.(2)

وإلی أنّ هذا الوجه مستقلٌ عن الوجه السّابق ذهب شیخنا الاستاذ دام بقاه، من دون تعرّضٍ لإشکال المحقق المذکور علیه.

ص: 143


1- 1. والوجه للسیّد عمیدالدین الحلّی، کما فی أوثق الوسائل: 140.
2- 2. نهایة الدرایة 3 / 202 _ 203.

إلاّ أنّه تعرّض لما جاء فی کلام المیرزا _ وتبعه السیّد الخوئی والسیّد الاستاذ _ من أنْ المتکلّم قد یعدل عن الحیثیّة الذاتیّة إلی العرضیّة لسببٍ من الأسباب کالأهمیّة مثلاً، وعلیه، فمن الممکن إرادة التبیّن من مطلق خبر الواحد، إلاّ أنه خصّ خبر الفاسق بذلک، لکون التنبیه علی الإجتناب عن ترتیب الأثر علیه أهمّ من غیره فأورد علیه بأنه:

وإنْ جاز هذا من الناحیة العرفیّة، فلا یجوز من الناحیة العقلیّة، لأن مجرّد احتمال الأهمیّة لا یجوّز رفع الید عن أصالة التطابق بین مقامی الثبوت والإثبات. وعلی الجملة، فإنه ما دام الجامع موضوعا للحکم، فلا تصل النوبة إلی الخصوصیّة والحصّة، ومادام الذاتی موضوعا له، فلا تصل النوبة إلی العرضی.

فما ذکر غیر تام من النّاحیة العقلیّة.

هذا، ولکنّ الوجه المذکور یعود إلی

الوجه الثالث: مفهوم الشرّط

وتقریبه کما قال الشیخ: إنه سبحانه علّق وجوب التثبّت علی مجئ الفاسق فینتفی عند انتفائه عملاً بمفهوم الشرط، وإذا لم یجب التثبّت عند مجئ غیر الفاسق، فإمّا أنْ یجب القبول وهو المطلوب، أو الردّ وهو باطل لأنّه یقتضی کون

العادل أسوء حالاً من الفاسق، وفساده بیّن.(1)

وجعله صاحب الکفایة أظهر الوجوه...(2)

ص: 144


1- 1. فرائد الأُصول: 71.
2- 2. کفایة الأُصول: 296.

ما یعتبر فی مفهوم الشرّط

لکنْ یعتبر فی تمامیّة مفهوم الشرط أمران:

أحدهما: أن یکون موضوع القضیّة ذا حالین وتقدیرین، ویکون الحکم متعلّقا بأحدهما، کما فی: إن جاءک زید فأکرمه، حیث یکون لزید حالان: المجیء وعدم المجیء، فیجب إکرامه علی تقدیر المجیء، فلو لم یکن الموضوع کذلک لم یتم مفهوم الشرط، أی لا یتحقّق الإنتفاء عند الإنتفاء.

والثانی: أن یکون ترتب الحکم وتعلیقه علی الموضوع مولویّا، لا عقلیّا أو عادیّا، کما فی: إن جاءک الأمیر وکان راکبا فخذ برکابه، حیث أن تعلیق الأخذ بالرکاب علی کونه راکبا عقلی أو عادی ولیس مولویّا.

فإنْ توفّر هذان الأمران فی الآیة، أمکن الاستدلال عن طریق مفهوم الشرط.

ثم إنه إن کان وجوب التبیّن _ فیما نحن فیه _ نفسیّا لا شرطیّا،(1) احتاج الإستدلال إلی أمر آخر وهو: إنه إذا انتفی وجوب التبیّن لکون المخبر عادلاً، فإمّا یردُّ الخبر، فیلزم أن یکون خبر العادل أسوء حالاً من خبر الفاسق، وإمّا أن یقبل الخبر فهو المطلوب.

وقد اُشکل علی هذا الأمر: بعدم دوران حال الخبر بین القبول والردّ، بل یوجد شق ثالث وهو التوقف، ولا یلزم منه أن یکون خبر العادل أسوء حالاً من

ص: 145


1- 1. وما فی کلام البعض من التعبیر بالوجوب الغیری فسهو من القلم، لأن وجوب التبیّن فی الآیة شرطی لا غیری، والوجوب الشرطی یتحقق وإنْ لم نقل بوجوب المقدمة، والوجوب الغیری دائما قابل للبعث لکونه تحت اختیار المکلف، بخلاف الشرطی فهو قد لا یکون کذلک مثل کون تقیّد الصلاة بالوقت واجبا مع خروج الوقت عن أجزاء الصّلاة وکونه خارجا عن الاختیار.

خبر الفاسق، وإذا بطل هذا الأمر _ الثالث _ بطل المفهوم، بناءً علی کون الوجوب نفسیّا، وسقط الإستدلال بالآیة من جهة مفهوم الشرط.

لکنّ کون وجوب التبیّن نفسیّا باطل من وجوه، منها: أنّ التبیّن له حیثیّة الطریقیّة، وما کان کذلک لا یکون نفسیّا، ولذا لیس التبیّن عن خبر الفاسق من الواجبات النفسیّة بالضرورة الفقهیّة، فهو وجوب شرطی.

فالبحث حینئذٍ فی الأمرین الأوّلین.

أمّا الأمر الثانی _ وهو کون ترتّب الحکم فی القضیّة مولویّا _ فلا إشکال فیه، من جهة أن الأصل فی کلام الشارع هو المولویّة إلی أن یقوم الدلیل علی الإرشادیّة، أو یمنع من ذلک محذور عقلی. وعلی الجملة، فإنّ مجرد إمکان حمله علی المولویّة کاف لحمله علی ذلک.

الخلاف فی ثبوت المفهوم بین الشیخ والکفایة

وأمّا الأمر الأوّل، ففیه بحث وخلاف:

فذهب الشیخ إلی أن المفهوم فی الآیة من قبیل السّالبة بانتفاء الموضوع، لأنّ الشرط هو مجیء الفاسق بالنبأ، ومن الواضح أن انتفاء التبیّن عند عدم مجیئه من باب عدم ما یُتبین، إذ لا خبر حتی یتبین فیه، فالشرط ههنا من الشرط المسوق لبیان تحقق الموضوع. ولأنه ممّا یتقوّم الموضوع به عقلاً، بحیث لا یتصور بقاء الموضوع بانتفائه، نظیر قوله: «إن رزقت ولدا فاختنه» و: «إن رکب الأمیر فخذ برکابه»، وقوله تعالی: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ

ص: 146

وَأَنْصِتُوا».(1) وغیر ذلک من الأمثلة، وقد تقرر فی محلّه أن مثل هذه الشروط لا یثبت لها مفهوم، إذ المفهوم عبارة عن انتفاء الحکم بانتفاء الشرط عن الموضوع الذی ثبت له الحکم عند وجود الشرط، ومن الواضح أن هذا یستدعی أن یکون الموضوع موجودا عند انتفاء الشرط کما کان موجودا فی حال وجوده، فإذا فرض أن الشرط کان مقوّما للموضوع عقلاً، کان انتفاؤه ملازما لإنتفاء الموضوع، فلا مفهوم.(2)

وذهب صاحب الکفایة إلی ثبوت المفهوم للآیة فی حدّ نفسه، وذلک باعتبار أن موضوع الحکم هو النبأ، وفرض الشرط هو جهة إضافته للفاسق، ومن الواضح أن الشرط علی هذا لا یکون مقوّما للموضوع، إذ النبأ کما یضاف إلی الفاسق یضاف إلی غیره.(3)

وعلی الجملة، فإن إن کان الموضوع فی الآیة هو «النبأ»، فلا إشکال فی تمامیّة المفهوم، فهو الموضوع ومجیء الفاسق به من أحواله، فیکون له تقدیران. وإنْ کان الموضوع هو «الفاسق»، وکان مجئ الفاسق بالنبأ من الأحوال، فلا مفهوم، لکون القضیّة حینئذٍ محقّقةً للموضوع.

فالإستدلال بالآیة من جهة مفهوم الشّرط مبنی علی الإحتمال الأول، وإثبات ظهور الآیة فیه بحسب المتفاهم العرفی، وإن لم یکن فرق بین الإحتمالین فی مقام الثبوت.

ص: 147


1- 1. سورة الأعراف: الآیة 204.
2- 2. فرائد الأُصول: 72.
3- 3. کفایة الأُصول: 296.

رأی المحققّ الإصفهانی

لکنّ المحقق الإصفهانی(1) أفاد: بأنّه لا یثبت المفهوم حتی علی الإحتمال الأوّل، لأن تمامیّته إنما تکون فیما إذا کان الموضوع موجودا بوجود مستقلٍّ عن الشرط وبدله، کوجود زید الموجود مستقلاًّ عن المجیء وعدمه، ولیس الحال فی الآیة کذلک، إذ بناءً علی الإحتمال الأوّل _ وهو کون الموضوع هو النبأ _ لیس للموضوع وجود إلاّ مع الشرط، وهو مجئ الفاسق به، أو مع بدیله وهو مجیء العادل به، فلولا مجیء أحدهما بالنبأ لم یکن له وجود، وإذْ لا وجود له بدونهما، فالقضیّة محققة للموضوع، فلا مفهوم لها.

الإشکال علیه

وفیه:

أمّا نقضا، فباتّفاق الکلّ علی وجود المفهوم لقوله علیه السلام: «الماء إذا بلغ قدر کرٍ لم ینجّسه شئ¨»،(2) مع أنه لا وجود للماء إلاّ مع القلّة أو الکثرة.

وأمّا حلاًّ، فإنّه یعتبر فی الموضوع أن یکون فی مرحلة الذات منحازا عن الشرط وبدیله، ولا یعتبر استقلاله عنهما فی مرحلة الوجود، فالنبأ عنوان فی مقابل مجیء الفاسق أو العادل، کما أن الماء عنوان فی مقابل القلّة والکثرة، والحیوان عنوان فی مقابل المأکول اللّحم وغیر المأکول اللّحم. وهکذا... .

ص: 148


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 208.
2- 2. وسائل الشیعة 1 / 158، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الرقم 2.

فما ذهب إلیه المحقق المذکور مردود نقضا وحلاًّ.

لکنّ التحقیق أن الآیة ظاهرة فی الإحتمال الثانی، فهی مسوقة لبیان تحقق الموضوع، ولا أقلّ من احتمالها له فتکون مجملة، وبذلک یسقط الإستدلال.

کلام الکفایة وإیضاح الاصفهانی

لکنْ فی الکفایة:(1) یمکن أن یقال: إن القضیّة ولو کانت مسوقةً لذلک، إلاّ أنها ظاهرة فی انحصار موضوع وجوب التبیّن فی النبأ الذی جاء به الفاسق، فیقتضی انتفاء وجوب التبیّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر. فتدبر.

وقد أوضحه المحقق الإصفهانی:(2) بأنّ أداة الشرط لها الظهور فی الحصر، فمع ترتب سنخ الحکم علی الشرط یکون موضوع سنخ الحکم منحصرا، ولا یبقی حکم فی غیر هذا الموضوع. (قال) إنّ أداة الشرط مفادها تعلیق ما بعدها علی ما قبلها، والقضیّة المحققة للموضوع تارة: لا بدل لها، وهذه علی قسمین: فتارةً: یکون للشرط علیّة بالنسبة إلی الجزاء، مثل «إنْ سألک فأعطه» وأخری: لا یکون، مثل: «إنْ رزقت ولدا فاختنه». واخری: لها بدل. إذنْ، یمکن للمتکلّم بیان القضیّة بصورة محققة الموضوع وبغیرها. وحیث جاء الکلام بالصّورة الاولی مع تعلیق سنخ الحکم علی الموضوع، کان الحاصل منه الإنتفاء عند الإنتفاء بنحوٍ آکد، لأنه قد أفاد أن تمام الموضوع عبارة عن ذلک.

ص: 149


1- 1. کفایة الأُصول: 296.
2- 2. نهایة الدرایة 3 / 206.

النظر فیه

أقول

أولاً: ما وجه الظهور فی الإنحصار؟

وثانیا: لقد منع صاحب الکفایة نفسه ظهور الجملة الشرطیة فی الإنحصار فی مبحث مفهوم الشرط.

ثم إن الظهور إنْ کان من جهة أداة الشرط، لزم القول بالإنحصار فی جمیع القضایا الشرطیّة، وهو لا یلتزم به. وإنْ کان من جهة القضیّة الشرطیّة، لزم القول بمفهوم الشرط بحسب الوضع، والتزامه به بعید. وإنْ کان من جهة خصوصیّةٍ فی هذه القضیّة، فما هی تلک الخصوصیّة؟

وأمّا ما ذکره المحقق المذکور.

ففیه: إنه یتوقف علی کون المعلّق سنخ الحکم لا شخصه، علی أن تغییر البیان إلی صورة محقق الموضوع، إنْ لم یکن نافیا للمفهوم فلا یدلّ علیه.

ثم إن وجه توقّف المفهوم علی کون المعلّق سنخ الحکم واضح، لأنه إذا کان شخصه أمکن مع انتفائه تحقق شخص آخر من الحکم، فلا یتحقّق الإنتفاء عند الإنتفاء. لکنّ الکلام کلّه فی إثبات أن المعلّق هو سنخ الحکم، فإنْ قلنا _ فی مبحث المعنی الحرفی _ بأنّ وضعه عام والموضوع له عام والمستعمل فیه عام، سهل تعلیق سنخ الحکم وجنسه. وأمّا بناءً علی کون الموضوع له أو المستعمل فیه خاصّا، فکیف یکون المعلّق السنخ؟ نعم، یرتفع هذا المشکل إن کان التعلیق فی الکلام مدلولاً إسمیّا مثل: إن جاءکم فاسق بنبأ فیجب التبیّن.

ص: 150

هذا، وفی سنخ الحکم یعتبر وجود القابلیّة لانعقاد الإطلاق. وتوضیح ذلک:

إنا فی «إن جاءک زید فأکرمه» لا نرتّب مدلول الهیئة بنحو الإهمال، بل المرتب إمّا شخص الإکرام وإمّا مطلق الإکرام _ لأن الإطلاق رفض الخصوصیّات _ فیکون المعلّق هو الإکرام بوجوده السّعی، وهذا یتوقف علی قابلیّة الإکرام لأنْ یعلّق بوجوده السّعی، بأنْ یکون قابلاً للإنقسام إلی أقسام بحسب اختلاف حالات الموضوع، وإلاّ فلا معنی لإطلاق الحکم، وهذا الأمر بالنسبة إلی المثال المذکور متحقّق، لأن الحکم بإکرام زید یقبل الإطلاق من حیث المجئ¨ وعدم المجیء، وکذا فی الماء من حیث القلّة والکثرة. وهکذا.

إذن، یجوز تعلیق سنخ الحکم فی القضیّة المحقّقة للموضوع، ویراد ترتب سنخ الحکم وجنسه علی الموضوع فی جمیع حالاته. ولکنّ تعلیق سنخ الحکم فیها علی الموضوع، وإرادة تعلیقه علیه دون موضوع أو موضوعات اخری. غیر معقول. فلا معنی لإطلاق وجوب الإکرام المرتب علی زید بالنسبة إلی وجوب إکرام عمرو، لعدم معقولیّة الإنقسام إلی زید وعمرو، حتی یقال بتحقّق المفهوم للقضیّة المحقّقة للموضوع. وعلی هذا الأساس، لا یعقل أنْ یکون وجوب التبیّن المرتّب علی مجئ¨ الفاسق مثل عمرو بالنسبة إلی زید فی المثال المذکور.

فتلخّص: أنه متی کانت القضیّة مسوقةً لبیان الموضوع، یکون الحکم ذا إطلاق سنخی بقدر أحوال نفس ذلک الموضوع، فلا مفهوم للقضیّة المحققة للموضوع.

ص: 151

فما ذکراه مخدوش.

وفذلکة الکلام فی هذا المقام: إنه إنْ کان الموضوع «مجیء الفاسق بالنبأ»، أو کان «الفاسق إنْ جاء بالنبأ»، فلا مفهوم للآیة، وإنْ کان: «الجائی بالنبأ إن کان فاسقا...» أو کان: «النبأ إنْ جاء به فاسق...» فلها مفهوم.

وعندنا: إن الآیة ظاهرة فی أنّ الموضوع: «الفاسق إنْ جاء...» ومع التنزّل، تکون الآیة ذات احتمالات، فلا ظهور لها فی أحد الإحتمالین الثالث والرابع.

کلام الشیخ و جواب الإصفهانی

لکنّ طریق الشّیخ هو: إنه لو لم یکن لمجیء الفاسق دخل، وکان الجامع بین مجیء الفاسق ومجیء العادل هو الموضوع، لکان أخذه قبیحا.

وأجاب الإصفهانی: بأن العنوانین _ أی: عنوان خبر الواحد، وعنوان خبر الفاسق _ موجودان بوجود واحد، فلا اختلاف فی المرتبة حتی یلزم القبح.

وفیه:

إن العلّة والمعلول فی مرتبة واحدة، فلو کانت العلّة موضوعا للحکم، لم یکن لجعل المعلول مدخلیّة فیه.

وما قیل: من أن ذکر الفاسق هو لإفادة أهمیّة الحکم بالنسبة إلیه.

مردود: بأن المرتّب هو الوجوب لا أهمیّة الوجوب.

وقیل: هو للتنبیه علی فسق الولید.

وفیه: إن هذا التنبیه خارج عن الموضوعیّة للحکم.

ص: 152

والحاصل:

إن دعوی اقتضاء الآیة الدلالة علی المفهوم ممنوعة، أللّهم إلاّ أنْ یحصل الوثوق من مناسبات الحکم والموضوع بکون الفسق تمام المناط فی وجوب التبیّن من دون احتمال دخل شئٍ آخر، فإذا انتفی الفسق انتفی وجوب التبیّن.

المقام الثانی: فی المانع

اشارة

إنه بناءً علی تمامیة الإقتضاء فی الآیة، فهل من مانع؟

هناک مانعان:

المانع الأوّل

الاول: إنّ العلّة فی ذیل الآیة المبارکة تعمّم الحکم بالنسبة إلی خبر العادل، فإن قوله تعالی: «أَنْ تُصیبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمینَ»(1) یوجب التبیّن من خبر العادل أیضا. ویکون حاصل معنی الآیة: المنع من القیام بعمل علی أثر النّبأ یوجب الندامة منه بسبب الوقوع فی خلاف الواقع، سواء کان المخبر فاسقا أو عادلاً.

فلو کان للآیة مفهوم، یقع التعارض بینه وبین هذا العموم.

الجواب

واُجیب:(2) بأن الوقوع فی خلاف الواقع بالعمل بخبر الفاسق، بلا عذر،

ص: 153


1- 1. سورة الحجرات: الآیة 6.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 164.

بخلاف العمل بخبر العادل والوقوع فی خلاف الواقع، فإنه مع العذر. والمراد من الندامة هو العمل بلا عذر، وإلاّ یلزم سدّ باب جمیع الحجج من الظواهر وغیرها، لوجود احتمال الخلاف فیها.

علی أنه إذا کان العمل طبق خبر الفاسق مطلقا موجبا للندامة، فلماذا عمل الأصحاب بخبر الولید؟ إلاّ أن یقال بأنهم کانوا جاهلین بفسقه.

المانع الثانی

الثانی: إن لفظ «الجهالة» یعمّ خبر العادل أیضا.

الجواب:

واُجیب:(1) بأن المراد هو «السّفاهة»، ولا سفاهة فی العمل بخبر العادل بخلاف خبر الفاسق.

لا یقال: فلماذا عملوا بخبر الولید؟

لأنه یقال: کانوا لا یعلمون بفسقه.

لکن الحق: أنّ «الجهالة» تقابل «العلم» لغةً وعرفا. نعم، تطلق علی السّفاهة مجازا، ولا وجه للحمل علیه هنا إلاّ أن یدّعی شهرة هذا المجاز، فیکون مجملاً، وحیث أنه متصل بالکلام فإنه یسقط عن الظهور والمفهوم.

ص: 154


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 163.

تقدّم المفهوم حکومةً عند المیرزا

وقد أجاب المیرزا(1) عن المانع الأوّل، وذهب إلی تقدّم المفهوم علی العموم بوجوه:

أحدها: أظهرّیة المفهوم.

والثانی: لأن لسانه لا یقبل التخصیص، ومع التنزّل عن تقدّمه علیه، فلا أقل من مانعیّته من انعقاد الظهور للعموم، لأنه یصلح للقرینیّة.

والثالث: حکومة المفهوم علی العموم، لأن عدم وجوب التبیّن من خبر العادل _ وهو المفهوم _ یلازم جعل هذا النبأ علما، فلا یشمله التعلیل لکونه فی مورد الجهالة، فیکون المفهوم حاکما علی التعلیل.

إشکال العراقی علیه

فأشکل المحقق العراقی(2) علیه: بأن المقام لیس من صغریات الحکومة، لأنّ مورد الحکومة أن یکون الدلیل المحکوم ذا أثر، ویکون للدلیل الحاکم نظر إلی المحکوم إثباتا للموضوع أو نفیا له بلحاظ تعمیم الأثر أو تضییقه. وهذه الضابطة غیر منطبقة هنا، لأن عدم وجوب التبیّن یتم بنفس الدلیل الحاکم وهو المفهوم، فلا یبقی حکم لیکون هذا الدلیل بلحاظه موسّعا لموضوعه.

ص: 155


1- 1. أجود التقریرات 3 / 183 _ 184.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 114.

جواب السیّد الخوئی

واُجیب(1) بأنّ الحکومة علی قسمین، أحدهما: ما ذکر. والثانی: أن یکون الأثر عقلیّا، فیحقق الدلیل الحاکم الموضوع لذلک الأثر. وما نحن فیه من هذا القبیل، لأن للعلم أثرا کما هو معلوم، سواء کان وجدانیّا أو تعبدیّا، فلما اعتبر الشارع الشئ¨ علما تحقّق الموضوع لذلک الأثر. نظیر قاعدة قبح العقاب بلا بیان، حیث أن للعقل حکما علی البیان وحکما علی اللاّبیان، وإذْ اعتبر الشارع الأمارة صارت بیانا.

قال: والمقام من هذا القبیل، فإنه بعد ما استفدنا من المفهوم عدم وجوب التبیّن عن خبر العادل، یستکشف منه أن خبر العادل قد اعتبر علما، للملازمة بینهما، فیکون خبر العادل خارجا عن عموم التعلیل موضوعا بالتعبّد، وهو من الحکومة بهذا المعنی الثانی، لا بمعنی أنْ یکون خبر العادل قد اعتبر علما بلحاظ أثره الشرعی، وهو عدم وجوب التبیّن عنه، فإنه لیس من آثار العلم، بل لا معنی له، إذ العلم هو نفس التبیّن، فلا یعقل أن یکون عدم وجوب التبیّن من آثاره.

الإشکال علیه

وفیه:

أوّلاً: إن لسان الحکومة لسان التخصیص وتتم الحکومة بالملازمة، لأن اعتبار خبر العادل علما هو مدلولٌ التزامی للمفهوم _ وهو عدم وجوب التبیّن من

ص: 156


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 166 _ 167.

خبر العادل _ فلابدّ من تمامیّة المفهوم حتی تتم الدلالة الالتزامیّة المذکورة، لکنّ التعلیل یمنع من تمامیّة المفهوم وانعقاده.

وثانیا: إن الحکومة متوقفة علی أن یکون عدم وجوب التبیّن ملازما لاعتبار خبر العادل علما، ولکنه لازم أعم من العلم الوجدانی والتعبّدی، ففی الشبهات الموضوعیّة قبل الفحص _ مثلاً _ لا ریب فی عدم وجوب التبیّن مع عدم اعتبار الشارع العلم هناک، وإذْ لا ملازمة بین الأمرین کیف نستکشف من عدم وجوب التبیّن اعتبار الشارع خبر العادل علما؟ وأیضا: ففی موارد الاصول المحرزة مثل الاستصحاب، یرتب الأثر مع عدم العلم، إلاّ علی القول بأنها أمارات وأن الشارع اعتبرها علما، وهو خلاف التحقیق.

إشکالٌ آخر علی الحکومة

هذا، وقد اُشکل علی الحکومة أیضا:

بأنّ المفهوم ظلّ المنطوق ومدلولٌ التزامی له، والمنطوق معلولٌ للعلّة، فالعلّة فی مرتبةٍ متقدّمة، وما هو متأخّر بمرتبتین لا یکون حاکما علی المتقدّم.

وجوه الجواب عنه

وقد اُجیب عنه(1) بوجوه:

ص: 157


1- 1. مصباح الأُصول: 168.

الأوّل: إن تأخرّ المفهوم عن المنطوق إنما هو فی مقام الکشف والدلالة، بمعنی إن دلالة القضیّة علی المفهوم متأخّرة رتبة عن دلالتها علی المنطوق، وأما نفس المفهوم فلیس متأخرا عن المنطوق.

وبعبارة اخری: عدم وجوب التبین عن خبر العادل لیس متأخرا عن وجوب التبین عن خبر الفاسق:

وبعبارة ثالثة واضحة: حجیة خبر العادل لیست متأخرة عن عدم حجیة خبر الفاسق، بل المتأخر کشف القضیّة عن حجیّة خبر العادل عن کشفها عن عدم حجیّة خبر الفاسق، والحاکم علی التعلیل إنما هو نفس المفهوم لا کشفه، فما هو متأخر رتبة عن المنطوق لیس حاکما علی التعلیل، وما هو حاکم علیه لیس متأخرا عن المنطوق.

النظر فی الأوّل

وفیه: إن حجیّة خبر العادل وعدم حجیّة خبر الفاسق کلیهما من الأحکام، سواء کان وجوب التبیّن نفسیّا أو شرطیّا أو إرشادا إلی عدم الحجیّة، فیکون عدم وجوبه إرشادا إلی الحجیّة. ومن الواضح أنّ سبب الحکم هو اللّفظ ودلالته علی المعنی، لأن الأحکام التکلیفیّة والوضعیّة کلّها إنشائیّات وتُنشأ باللّفظ والصیغة، وحیث أن حجیّة خبر العادل معلولة للدلالة المفهومیّة، وهی معلولة للدّلالة المنطوقیّة، فإنّ اختلاف المرتبة متحقّق، فلا حکومة.

هذا علی مبنی المشهور من أن المنشآت مدالیل للإنشاءات.

ص: 158

وأمّا بناءً علی مبنی الإعتبار والإبراز، فإن الحکم لا یتحقّق بمجرّد اعتباره، بل لابدّ من الإبراز حتی یتحقق مصداق الحکم، والحکم أمر انتزاعی ینتزع من الإعتبار المبرز، وعلیه، فالإبراز دخیل فی تحقق حقیقة الحکم، فالحکم متأخّر رتبةً عن الدلالة.

والثانی: إنه لو سلّم کون المفهوم بنفسه متأخرا عن المنطوق، کان ذلک مانعا عن الحکومة بالمعنی الأول، وهی أن یکون الحاکم ناظرا إلی المحکوم وشارحاً له، باعتبار أن ما یکون متأخرا عن الشئ¨ رتبة لا یعقل أن یکون شارحا له. وأمّا الحکومة بالمعنی الثانی، وهی أن یکون مفاد الحاکم خارجا موضوعا عن مفاد المحکوم بالتعبد، فلا مانع منها، إذ کون المفهوم متأخرا عن المنطوق رتبة لا یمنع من خروج المفهوم عن عموم التعلیل موضوعا بالتعبد، کما هو واضح.

النّظر فی الثانی

وفیه:

إنه لا فرق بین النوعین، والتقدّم والتأخّر لازم فی الثانی کالأول، لأن قولنا: زید لیس بعالمٍ رافع لموضوع، اکرم العلماء، ولا إشکال فی أنه لو لا أکرم العلماء لم یکن «زید لیس بعالم» معنی، فهو محتاج إلیه دون العکس.

والثالث: إنّه لو سلّم کون التأخّر الرتبی مانعا عن الحکومة بکلا معنییه، فإنّما هو فیما إذا کان التعلیل مولویّا، بأنْ یکون المراد منه حرمة إصابة القوم بجهالة.

ص: 159

وأما إذا کان التعلیل إرشادا إلی ما یحکم به العقل من عدم جواز العمل بما لا یؤمن معه من العقاب المحتمل، فلا مانع من کون المفهوم حاکما علیه. إذ بعد حجیّة خبر العادل، کان العمل به مأمونا من العقاب، وکان خارجا عن حکم العقل موضوعا، وقد ذکرنا سابقا إن الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم _ ومنها التعلیل فی آیة النبأ _ إرشاد إلی حکم العقل.

النظر فی الثالث

وفیه:

أوّلاً: لا نسلّم کونه إرشادیّا.

وثانیا: لو سلّمنا نقول بوجود التقدّم والتأخر الرّتبی، لوحدة الملاک بین المولوی والإرشادی، فیعود الإشکال. والفرق المذکور لا یکون فارقا.

تقریب الحکومة ببیان آخر

هذا، ویمکن تقریب الحکومة ببیانٍ آخر بأنْ یقال:

أوّلاً: إن عدم رافعیّة المتأخّر رتبةً للمتقدّم بالحکومة إنما هو فی الامور الواقعیّة، وأمّا فی القضایا الإعتباریّة فلا مانع من ذلک، إذن، الإختلاف فی المرتبة بین الحاکم والمحکوم غیر مانع عن الحکومة فی الإعتباریّات، وما نحن فیه من هذا القبیل.

وثانیا: إنه إذا کان الشئ¨ قرینةً لشئ¨، کان ذو القرینة معلّقا علی القرینة ومنوطا بها، وإنْ اختلفت المرتبة بینهما، فلا مانعیّة لاختلاف المرتبة عن تقدّم القرینة علی

ص: 160

ذی القرینة، وهذه هی القاعدة العامّة. وفیما نحن فیه: فإن مفهوم آیة النبأ قرینة علی العلّة المذکورة فی ذیلها، فأصالة العموم فی التعلیل معلّقة علی عدم القرینة وإن کان بینهما اختلاف فی المرتبة، ومع وجود المفهوم وتقدّمه علی التعلیل لا ینعقد للعلّة عموم، فتکون الآیة بمفهومها دالّة علی حجیّة خبر العادل.

الإشکال

وفیه:

إنّ الوجه فی تقدّم المفهوم علی التعلیل العام هو جعل خبر العادل علما، فإنه بذلک یرتفع موضوع التعلیل _ وهو الجهالة _ تعبّدا، وهذا هو القسم الثانی من الحکومة. لکنّ جعل خبر العادل علما یتوقف علی أن یکون عدم وجوب التبیّن ملازما لکون ما لایجب التبیّن عنه علما، وهذه الملازمة أوّل الکلام، فقد تقدّم سابقا أنّ هناک موارد لا یجب التبیّن فیها مع عدم اعتبار العلم فیها، کالشبهات الموضوعیّة وغیرها.

إشکال و جواب ذکرهما الشیخ

وقد أشکل الشیخ علی الإستدلال بالآیة بأنّ موردها هو إخبار الولید بارتداد بنی المصطلق، ولا ریب فی عدم ثبوت ارتداد الشخص الواحد _ فضلاً عن القوم _ بإخبار العدل الواحد، فلو کان للآیة الشریفة مفهومٌ _ وهو ترتیب الأثر علی خبر العادل الواحد _ لزم خروج موردها وهو الإخبار عن الإرتداد، وخروج مورد الآیة أمر مستهجن لا یلتزم به، فیدلّ ذلک علی أنْ لا مفهوم للآیة.

ص: 161

فأجاب قدّس سرّه: بأنّ الموضوع فی الآیة لوجوب التبیّن هو طبیعی خبر الفاسق، ویشمل الواحد والأکثر، فالمفهوم یکون طبیعی العادل، وهو وإن کان یشمل الواحد والأکثر إلاّ أنه یقیّد بالمتعدّد، فالمورد لم یخرج حتی یلزم الإستهجان وإنما قُیّد.

وهذا الجواب _ وإنْ وافق علیه شیخنا الاستاذ فی الدّورة السّابقة کغیره من الأکابر _ محلّ نظر، کما أفاد فی الدّورة اللاّحقة، لأن منطوق الآیة «إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ...» فهو نکرة، فالمفهوم أیضا یکون نکرة، أی: إن جاءکم عادلٌ بنبأ... فالموضوع له النکرة هو الطبیعی بقید الوحدة، فیلزم إشکال خروج المورد. فتأمّل.

هذا تمام الکلام علی الإستدلال بالآیة من جهة مفهوم الشرط.

تکمیلٌ

اشارة

وبقیت وجوه اخری للإستدلال بآیة النبأ علی حجیّة خبر الواحد، نتعرّض لها تکمیلاً للبحث:

الإستدلال بدلالة الإیماء والاقتضاء

بتقریب: أنّه قد اقترن بالحکم _ وهو وجوب التبیّن _ وصف الفسق، وظاهره کونه علّة له، ولولا ذلک لما اقترن به، وحینئذٍ یکون الحکم منتفیا عند انتفاء الفسق.

وقد نبّه المحقق الخراسانی إلی أنّ هذا الوجه غیر الإستدلال بمفهوم الوصف، قال:

ص: 162

ولو قیل: بأنّ ملاک مفهوم الوصف هو إستفادة العلیّة من التعلیق علیه، فإنّ الإستفادة فیه إنما هو من مجرّد التعلیق لا بملاحظة خصوصیّة وصف، بخلاف هذا الوجه فإنه بملاحظتها کما لا یخفی، مع أنه لیس بالملاک عند القائلین بالمفهوم فیه.

ثم عرّض بکلام الشیخ قائلاً: فما یتراءی من کلامه قدّس سرّه من جعله هذا تقریرا لمفهوم الوصف، کما تری.(1)

الإشکال علیه

وفیه _ بعد التسلیم بأنّ دلالة الإیماء من الدلالات _ إنّ الإستدلال یتوقف علی تمامیّة الصغری، وهی إحراز أنّ الغرض من الإتیان بوصف الفسق هو الإیماء إلی دخل هذا الوصف فی الحکم بوجوب التبیّن، وهذا أوّل الکلام، فلعلّه ارید من الإتیان به مجرّد تفهیم فسق المخبر وهو الولید، کما أفاد المحقق الخراسانی.(2)

ویتوقف أیضا علی الإنحصار، فلولا دلالة الآیة علی أن العلّة المنحصرة للتبیّن هی الفسق لم یتم المفهوم، ومن أین یثبت الإنحصار، حتی ینتفی وجوب التبیّن بانتفاء الفسق؟

ص: 163


1- 1. درر الفوائد فی تعلیقة الفرائد: 106.
2- 2. المصدر: 107.

أقول:

لکن کونه لمجرّد التنبیه علی فسق الولید بعید. فتأمّل.

الاستدلال بحکمة الردع

إنه قد أفادت الآیة المبارکة الرّدع عن ترتیب الأثر علی خبر الفاسق، ولمّا کان المولی فی مقام بیان التکلیف، وقد ردع عن العمل بخبر الفاسق لکونه لیس بحجّةٍ، فلابدّ وأن یبیّن ما هو الحجّة حتی یرتب علیه الأثر، والاّ یلزم النقص فی البیان، وما هو الحجّة خبر العادل.

الإشکال علیه

وفیه

من أین نثبت أن اللّه تعالی فی هذه الآیة فی مقام بیان ما هو الحجّة؟ إنه یرید الرّدع عن العمل بخبر الفاسق ویعلن عن عدم حجیّته، وهذا هو المقصد فی هذه الآیة، وأمّا غیره فیحتاج إلی دلیل آخر.

وبعبارة اخری: إن المولی لمّا کان فی مقام البیان، فعلیه أن یبیّن تمام المراد وإلاّ یلزم النقض، وبیان تمام المراد غیر بیان تمام ما هو فی الواقع.

لقد بیّن اللّه تعالی مراده تماما وهو الرّدع عن العمل بخبر الفاسق، أمّا أن الحجّة فی الواقع ما هو؟ فلم یکن من مراده فی الآیة، ولا أقل من الشک.

ص: 164

الإستدلال بوجه عقلی

إنه لا ریب فی أن تحقق الشئ¨ یکون عند وجود المقتضی والشرط وعدم المانع، فالإحتراق یتوقف علی وجود النار وعدم الرطوبة وحصول الشرط وهو التماس بین النار والحطب مثلاً، فإنْ فُقد النار، لم یتحقق الإحتراق، ولا یسند عدم الإحتراق إلی وجود الرطوبة، وکذا إذا وجدت النار وفقد التماسُّ... .

وهذه القاعدة العقلیّة تنطبق هنا، لأن ظاهر الآیة أنّ المانع من ترتّب الأثر علی خبر الفاسق هو کون المخبر فاسقا، فلو کان أصل الخبر لایقتضی ترتیب الأثر لاُسند عدم ترتیبه إلی عدم المقتضی لا إلی وجود المانع وهو الفسق.

فظهر أنّ للخبر اقتضاء ترتیب الأثر، غیر أن فسق المخبر مانع، فإذا ارتفع المانع بأنْ کان المخبر غیر فاسقٍ أثرّ المقتضی أثره.

الإشکال علیه

ویرد علیه: إن ما ذکر صحیحٌ ولکنّ ترتیب الأثر علی خبر العادل یحتاج إلی عدم المانع عن ترتیب الأثر وإلی وجود الشّرط، والاستدلال المذکور لایفی بوجود الشرط وعدم المانع، لاحتمال وجود مانعٍ آخر غیرالفسق.

الاستدلال بمنطوق آیة النبأ

ثم إنْ منطوق الآیة هو: أنه إن جاء فاسق بنبأ یجب التبیّن، والتبیّن هو

ص: 165

تحصیل البیان، والبیان لیس خصوص العلم الوجدانی بل أعمّ منه ومن الإطمینان والظن، فإنْ کان المخبر عادلاً کان بیانا، لأنّه إن کان المراد من البیان هو الظن، فخبر العادل یفید الظن، وإن کان الإطمینان فکذلک.

إذن، لا نحتاج إلی الإستدلال بالمفهوم.

إشکال المحقق الخراسانی

أشکل علیه المحقق الخراسانی بوجهین:(1)

الأول: إن ظاهر التبیّن _ لغةً وعرفا _ خصوص العلم.

والثانی: إنّ وجود الجهالة فی ذیل الآیة دلیل علی أن المراد من التبین هو العلم.

ثم أشکل:

لا یقال: هذا صحیحٌ، لکنْ هناک قرینة ترفع الید بها عن هذا الظهور، وهو أنه إن قلنا: بأن الملاک خصوص العلم، سقطت جمیع الأمارات المفیدة للظن والاصول کلّها عن الاعتبار، ولزم التخصیص المستهجن، فلابدّ وأنْ یکون التبین أعم.

فأجاب:

صحیح أنه یلزم التخصیص الأکثر المستهجن من أخذ التباین بمعنی العلم

ص: 166


1- 1. درر الفوائد: 106 _ 107.

وهو فاسد، لکنّ أخذه بالمعنی الأعم له محذور أفسد، وهو لزوم خروج المورد، لأنه إخبارٌ عن الإرتداد ولا یعتبر فیه إلاّ العلم، وإذا دار الأمر بین الفاسد والأفسد، التزمنا بالفاسد دفعا للأفسد.

هذا تمام کلام المحقق الخراسانی

الردّ علیه

ویردّ علیه بثلاثة وجوه:

الأوّل: إنّ «البیان» لیس العلم فقط، قال تعالی «هذا بَیانٌ لِلنّاسِ»(1) ومن المعلوم أن فی القرآن آیات متشابهات، وفیه ظهورات وعمومات وإطلاقات تفید الظن ولا تفید العلم. هذا أوّلاً.

وثانیا: قد تقرّر أنّ الاصول العملیّة تتقدّم علی قاعدة قبح العقاب بلابیان، مع أن أصالة البراءة لا تفید العلم، فلیس المراد من البیان هو العلم.

والثانی: إستشهاده بالجهالة فی ذیل الآیة، مردود بما جاء فی الکفایة من أنها بمعنی السفاهة لا ما یقابل العلم.

والثالث: إنه کما یقبح إخراج المورد، کذلک یقبح تخصیص الأکثر.

فالحق: عدم تمامیّة الاستدلال، لکون الآیة مجملةً من هذه الناحیة.

ص: 167


1- 1. سورة آل عمران: الآیة 138.

إشکالات علی الإستدلال بآیة النبأ

ذکرها الشیخ وأجاب عنها

اشارة

قال: وأمّا ما اورد علی الآیة ممّا هو قابل للذب، فکثیر:

1. إشکال المعارضة

(منها): معارضة مفهوم الآیة بالآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم، والنسبة عموم من وجه، فالمرجع إلی أصالة عدم الحجیّة.

فأجاب بقوله: وفیه: إن المراد بالنبأ فی المنطوق ما لا یعلم صدقه ولا کذبه، فالمفهوم أخصّ مطلقا من تلک الآیات، فیتعیّن تخصیصها.

أقول:

وعلی فرض التنزّل ووقوع المعارضة، فهل المرجع أصالة عدم الحجیّة؟

قال بعض المحشین علی الرسائل:(1) لا، لأن الأصل المذکور أصله نفس تلک الآیات والأخبار الناهیة عن العمل بالظنّ، فإذا سقط الطرفان بالمعارضة کان الأصل المرجع هو الجواز.

أقول:

الظاهر أنه إذا وصل الأمر إلی الأصل العملی، فالمرجع هو إستصحاب عدم الحجیّة.

ص: 168


1- 1. أوثق الوسائل: 149.
2. الإشکال بلزوم حجیّة خبر السیّد

(ومنها): إنّ مفهوم الآیة لو دلّ علی حجیّة خبر العادل، لدلّ علی حجیّة الإجماع الذی أخبر به السید المرتضی وأتباعه _ قدّس سرّهم _ من عدم حجیّة خبر العادل، لأنهم عدول أخبروا بحکم الإمام بعدم حجیّة الخبر.

فأجاب بوجوه:

الأوّل: إن الآیة غیر شاملة للإجماع المنقول.

یرید رحمه اللّه: إنّ الآیة دالّة علی حجیّة الأخبار الحسیّة، والإجماع المنقول خبر حدسیّ.

والثانی: إن إخبار هؤلاء معارض بإخبار الشیخ.

یرید رحمه اللّه: أنّ الخبرین متعارضان، فیندرجان تحت عمومات الخبرین المتعارضین، و مقتضی القاعدة هو الرجوع إلی المرجّحات، فإنْ کانت الشهرة الفتوائیّة مرجّحة، فلا ریب فی أنها مطابقة لخبر الشیخ، وإلا فالمرجع هو الکتاب. و بناءً علی تمامیّة دلالة آیة النبأ و آیة النفر و غیرهما من الآیات، یکون المرجّح خبر الشیخ، و إلاّ، فالمرجع موافقة العامّة، و هنا لابد من مراجعة رأی العامّة، فإنْ وافق أحد الخبرین رأیهم، کان المخالف هو المرجّح، فإنّ لم یتم ذلک، استقرّت المعارضة، و بناءً علی التساقط یکون المرجع أصالة عدم حجیّة خبر الواحد، کما تقدّم.

والثالث: إنه لا یمکن دخول هذا الخبر تحت الآیة...

فذکر وجوها لهذه الإستحالة، و توضیح ذلک:

ص: 169

إنّ الأخذ یخبر السیّد بعدم حجیّة خبر الواحد محال بالذات، لأنه من قبیل ما یلزم من وجوده عدمه، لأنّ أدلّة حجیّة خبر الواحد إذا شملت خبر السیّد بالإجماع علی عدم حجیة خبر الواحد، سقط خبره عن الحجیّة کسائر أخبار الآحاد، فیلزم من حجیّته عدم حجیّته، و هو محال، و بذلک ینکشف عدم شمول الأدلة لهذا الخبر. هذا أوّلاً.

و ثانیا: إن شمول أدلّة حجیّة خبر الواحد لخبر السیّد یستلزم تخصیص الأکثر، و هو محال من المتکلّم الحکیم، لأن معنی ذلک سقوط جمیع الأخبار الآحاد إلاّ خبر السیّد.

و ثالثا: إنه إذا کان مقصود الشارع من الأدلّة بیان حجیّة الخبر، فإنْ شمولها لخبر السیّد یستلزم بیان الحجیّة بعدم الحجیّة. و هذا قبیح فی الغایة و فضیح إلی النهایة.

طریق العراقی لدفع الإشکال

وذکر المحقق العراقی:(1) أنّ أدلّة حجیّة الخبر لا تشمل خبر السیّد أصلاً، لوجهین:

الوجه الأوّل: إنّ الموضوع فی أدلّة حجیّة خبر الواحد هو الخبر المشکوک فی مطابقته للواقع، إذ لا معنی لجعل الحجیّة لخبر علم بمطابقته أو بعدم مطابقته له. وعلیه، فلابدّ من فرض الشک فی الحجیّة حتی تشمله أدلّة الحجیّة، لکنّ الشکّ فی الحجیّة متأخر عن الحجیّة، تأخر العارض عن المعروض، فیلزم تقدّم الحجیّة

ص: 170


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 118 _ 119.

علی شمول أدلّة الحجیّة بمرتبتین، والمفروض أن الحجیّة مستفادة من الأدّلة، فیلزم اجتماع التقدّم والتأخّر فی الحجیّة، و هو محال. فشمول أدلّة الحجیّة لخبر السیّد بعدم الحجیّة محال.

إشکال السیّد الخوئی

وقد أشکل علیه فی مصباح الاصول(1) بما حاصله:

إن العلم و کذا الجهل بالشئ¨ متأخر عن الشئ¨ رتبةً، لأنا کثیرا مّا نشکّ فی شئ¨ و لا واقعیّة له أصلاً، وکذا یحصل لنا العلم بالشئ¨ ولا واقعیّة له کما فی الجهل المرکّب، فإذن، لا یوجد اختلاف فی المرتبة بین العلم والجهل بالشئ¨ و بین نفس الشئ¨، لعدم توقّف الشک علی المشکوک فیه.

الجواب عنه

وهذا الإشکال غیروارد، لأن المحقق العراقی(2) یوافق علی أنّه لا اختلاف فی المرتبة بحسب الواقع، لأنّ العلم قد یحصل و لا واقعیّة للمعلوم کما فی الجهل المرکّب، لکنّه یذهب إلی وجود الاختلاف برتبتین بین الشک والمشکوک فیه _ وکذا فی العلم و متعلّقه _ فی عالم اللّحاظ، فالعلم متأخر عن المعلوم بالوجود

العلمی واللّحاظی وکذا الشک.

ص: 171


1- 1. انظر: مصباح الأُصول 2 / 175 _ 176.
2- 2. انظر کتاب مقالات الأُصول، المقالة رقم: 15.

الوجه الثانی: إن المقام من صغریات دوران الأمر بین التخصیص والتخصّص، لأنه علی تقدیر شمول الأدلّة لما سوی خبر السیّد، یکون خبره خارجا تخصّصا، و إن کانت شاملةً له، یلزم القطع بعدم مطابقة غیره للواقع، فهی خارجة تخصیصا، و إذا دار الأمر بین التخصیص والتخصّص تعیّن الثانی.

إشکال السیّد الخوئی

وأشکل علیه بما ملخّصه:(1) إن ما نحن فیه لیس من موارد دوران الأمر بین التخصیص والتخصّص، لعدم التنافی بین خبر السیّد وبقیّة الأخبار لا بالذات ولا بالعرض، بل المشکلة وقوع المعارضة فی أدلّة خبر الخبر فی صورة شمولها لکلا الطّرفین، وعلی هذا، فلا وجه لتعیّن التخصّص.

الجواب عنه

إنّ التنافی هنا أیضا موجود، لأنّ الأخبار الواردة عن المعصومین حاملةٌ للأحکام الشّرعیّة ولا یرضی الشارع بإهمالها، فلایجوز التمسّک بالبراءة فی موردها، کما لایجوز أو لایجب العمل بالاحتیاط من أجل التحفّظ علیها، فلا محالة یلزم جعل الحجیّة للخبر الواحه، لکنّ جعل الحجیّة للأخبار یتنافی مع جعل الحجیّة لخبر السیّد المرتضی بالإجماع علی عدم الحجیّة.

ص: 172


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 177.

(ومنها): إن الآیة لا تشمل الأخبار مع الواسطة، لانصراف النبأ إلی الخبر بلاواسطة، فلا یعم الروایات المأثورة عن الأئمة، لاشتمالها علی وسائط.

أجاب الشیخ بما حاصله: أن السند الواحد ینحلُّ إلی إخبارات عدیدة، و کلّ واحد منها نبأ بلا واسطة.

وقد وقع الإشکال فی هذا الجواب، من حیث أنّ مقتضی آیة النفر والروایات مثل: «لا عذر لأحدٍ فی التشکیک فیما یرویه عنا ثقاتنا»(1) هو الأخذ من المعصوم، والروایات المرویة مع الواسطة لیست بمصداقٍ للأدلّة.

لکنّ التحقیق أن الأدلّة غیر منحصرة بما ذکر، فمثل قوله: «فما أدّیا فعنّی یؤدّیان»(2) ظاهر فی المصداقیّة

علی أنّ السّیرة القطعیّة قائمة علی الإعتماد علی الإخبارات عن الأئمة بوسائط، و هذه السّیرة متصلة و غیر مردوعة یقینا.

مضافا إلی أن مقتضی أدلّة عرض الروایتین المتعارضتین علی الکتاب والترجیح به، اعتبارهما، لأن التعارض فرع الحجیّة، و من المعلوم أنّ الأخبار المتعارضة منقولة عن المعصومین بوسائط.

فالإشکال مندفع بوجوه.

ثم إن الشیخ بعد أن أجاب عن الإشکال قال:(3)

ص: 173


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 149، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم 40.
2- 2. الکافی 1 / 330.
3- 3. فرائد الأُصول: 75.

إشکالٌ طرحه الشیخ

لکن قد یشکل الأمر: بأنّ ما یحکیه الشیخ عن المفید صار خبرا للمفید بحکم وجوب التصدیق، فکیف یصیر موضوعا لوجوب التصدیق الذی لم یثبت موضوع الخبر إلاّ به؟

وتوضیحه یتمّ ببیان أمرین:

الأوّل: إن کلّ حکمٍ سواء کان وضعیّا أو تکلیفیّا فهو متأخّر عن موضوعه، أمّا فی مرحلة الإنشاء، فلأن القضایا الشرعیّة بنحو القضایا الحقیقیّة، ومن الواضح أن الموضوع فی القضیّة الحقیقیّة مفروض الوجود فیؤتی بالمحمول علیه. وأمّا فی مرحلة الفعلیّة، فلأنَّ الحکم فیها فی مرتبة المحمول، ولو لا تحقق الموضوع خارجا لم یتحقّق الحمل. وهذا التقدّم والتأخّر بین الموضوع والمحمول طبیعی، لوضوح أن وجود المحمول متوقف علی وجود الموضوع، فهو لا یتحقّق إلاّ أن یکون الموضوع متحقّقا، لکنّ الموضوع یمکن تحقّقه ولایکون هناک حکم.

والثانی: إنه یستحیل أنْ یکون المحمول متکفّلاً لموضوعه، لما تقدّم من أن الحکم فرعٌ للموضوع، ومن المحال أنْ یکون الفرع محقّقا لِما هو فرعٌ له.

والکلام فی انطباق هذه الکبری علی ما نحن فیه، وذلک: لأنّ القضیّة هی: الخبر حجة، فالموضوع هو «الخبر» وهو بالنسبة إلی الصّدق والکذب علی ثلاثة أقسام، أمّا إنْ کان معلوم الکذب، فهو لیس بحجةٍ قطعا، وأمّا إنْ کان معلوم الصّدق، فهو حجّة قطعا، إلاّ أنّه حجّة بحکم العقل، وبحثنا فی الحجیّة الشرعیّة، فتعّین أنْ

ص: 174

یکون الموضوع هو الخبر المحتمل للصّدق والکذب، فالخبر المحتمل للصّدق والکذب حجّة.

لکنّ «الخبر» بالنسبة إلی «الحجیّة» مهملٌ، فلا هو مشروطٌ ومقیّد بوجوده ولابعدمه، ولاهو مطلقٌ بالنسبة إلی وجوده وعدمه، لأنه إنْ کان بشرط وجوده لزم تحصیل الحاصل، وإنْ کان بشرط لا بأنْ یکون الخبر حجةً بشرط عدم الحجیّة، لزم اجتماع النقیضین، وإنْ کان لابشرط، جاز اتّحاده مع کلٍّ من القسمین، لأنّ کلَّ مطلق یتّحد وجودا مع المقید.

وإذا تقرّر ما ذکر، فإنّ حجیّة الخبر مع الواسطة تستلزم أنْ یکون الخبر محقّقا لموضوعه، فلّما یقول الشیخ: أخبرنا المفید، ویقول المفید أخبرنا الصفّار ویقول الصفّار سمعت العسکری علیه السلام، فإنّ الخبر الحاصل بالوجدان لنا هو خبر الشیخ، وأمّا خبر المفید للشیخ فحاصلٌ للشیخ بالوجدان لا لنا، فخبریّة خبر المفید متوقّفة علی حجیّة خبر الشیخ، وهکذا بقیّة الإخبارات، فکان المحمول محققا للموضوع وهو محال.

هذا هو الإشکال، وقد أجاب عنه الشیخ کما سیأتی، وأجاب عنه المحققون.

ویضاف إلیه إشکال آخر(1) هو: إنه یعتبر وجود الأثر فی الخبر الذی تعبّد الشّارع به قبل التعبّد، وإلاّ تلزم اللّغویّة من التعبّد به، وهی محالٌ علی الحکیم. والأخبار الموجودة فی الوسط فی کلّ سلسلةٍ لا أثر لها بالنسبة إلینا إلاّ الخبر الأوّل

ص: 175


1- 1. اُنظر: دررالفوائد فی التعلیق علی الفرائد: 112.

عن الإمام علیه السلام وهو ما نقله زرارة مثلاً، وأمّا ما بعده من الأخبار، فلایوجد الأثر قبل التعبّد، لأنّ خبر الصفّار عن زرارة مثلاً لیس بحکمٍ شرعی ولا بموضوع حکمٍ شرعی، فلا مناص من الالتزام بأنّ التعبّد بتلک الأخبار هو بلحاظ الأثر المترتّب علی حجیّة الخبر، فیلزم أنْ یکون ما فی المرتبة المتأخرة محققا لما فی المرتبة المتقدّمة.

جواب الشیخ

وقد أجاب الشیخ عن الإشکال نقضا وحلاًّ.

أمّا نقضا فبوجهین:

أحدهما: نفوذ الإقرار بالإقرار بالإجماع. فکما أنّ الإقرار الموجود بالوجدان المعتبر بعموم «إقرار العقلاء علی أنفسهم جایز» ویترتب علیه الحکم تعبّدا، کذلک ثبوت الإخبار بالواسطة بواسطة الخبر الحاصل بالوجدان.

والثانی: نفوذ الشّهادة علی الشهادة، فکما ثبتت تلک الشهادة بهذه الشهادة الحاصلة بالوجدان، کذلک ثبوت الأخبار.

وعلی الجملة، إن ورد الإشکال فی الإخبار مع الواسطة، کان واردا فی مسألة الإقرار بالإقرار والشهادة علی الشهادة کذلک. ولکن المقرّر فی الفقه هو القبول فیهما، مع أنّ الخبر محقق للموضوع فی کلا الموردین.

وأمّا حلاًّ، فقد ذکر الشیخ رحمه اللّه أنّ الممتنع هو توقّف فردیّة بعض أفراد العام علی إثبات الحکم لبعضها الآخر _ کما فی قول القائل: کلّ خبری صادق

ص: 176

مثلاً _ . وأمّا توقّف العلم ببعض الأفراد وانکشاف فردیّته علی ثبوت الحکم لبعضها الآخر، کما فیما نحن فیه، فلا مانع فیه.

یعنی أنه قد وقع الخلط فی الإشکال بین مقامی الثبوت و الإثبات، لأنّ خبر المفید أمر واقعی یدور أمره بین الوجود والعدم، سواء أخبر به الشیخ أوْ لا، فهو فی مقام الثبوت غیر متوقف علی حجیّة خبر الشیخ حتی یلزم الإشکال، و إنما یحتاج إلی خبر الشیخ فی مقام الإثبات، فلولا حجیّة خبر الشیخ لم یصدّق خبر المفید و لم یترتب علیه الأثر، و هذا لا یلزم منه أیّ إستحالة، و إنما کان المحال تکفّل المحمول لوجود الموضوع، و قد ظهر أنه لیس کذلک.

إشکال المحقق الخراسانی

وأشکل المحقق الخراسانی علی ما أجاب به الشیخ، قال:(1) وأمّا أجاب به قدّس سرّه بالنقض أوّلاً، وبالحلّ ثانیا، فلا وقع لواحدٍ منهما:

أمّا الأوّل، فلأن جواز الإقرار بالإقرار بالإجماع لا إشکال فیه أصلاً، إنما هو فیما إذا لم یکن فی البین إلاّ دلیل واحد لفظی، کما لا یخفی. ولعلّه أشار إلیه بأمره بالتأمّل.

أی: إن الدلیل علی جواز الإقرار بالإقرار هو الإجماع، وهو دلیل آخر غیردلیل نفوذ الإقرار، وهذا خروج عن محلّ البحث، لأنّ البحث فیما إذا لم یکن فی البین إلاّ دلیلٌ واحدٌ لفظی، کقولنا: الخبر حجّة، کما تقدّم.

ص: 177


1- 1. درر الفوائد: 113.

نظر شیخنا الاستاذ

وأجاب شیخنا دام بقاه: بأنّ الدلیل علی جواز الإقرار بالإقرار لیس الإجماع، لأنّ هذه المسألة غیرمطروحة فی کلمات قدماء الأصحاب، بل طرحها العلاّمة فی التحریر والقواعد والتذکرة والشهید فی الدروس، کما فی مفتاح الکرامة،(1) ولذا لم یستدل فی هذه الکتب للجواز فی المسألة بالإجماع، بل الدلیل هو عموم قاعدة الإقرار، وهو دلیل لفظیُّ واحدٌ. فنقض الشیخ تام، والتأمّل تدقیقی، ومعقد الإجماع عموم دلیل الإقرار.

وأمّا الثانی، فلوضوح توقّف تحقّق الخبر الجعلی علی إثبات الحکم لبعض أفراد العام، بحیث لولاه لما تحقق خبر تعبّدا، والخبر الحقیقی غیرالمتوقّف تحقّقه علیه لاینکشف به إلاّ تعبّدا، وهو لایکون إلاّ عبارة اخری من نفس الخبر التعبّدی، کما لا یخفی. ولعلّه لذلک ضرب علیه فی بعض النسخ المصحّحة فی زمانه.

وتوضیحه یتم ببیان امور:

الأوّل: هو الفرق بین: «کلٍّ خبری صادق» و «الخبر حجّة»، لأن شمول الأوّل لنفسه یستلزم أنْ یکون المحمول واسطةً فی الثبوت، أمّا فی شمول الثانی للأخبار مع الواسطة فالمحمول واسطة فی الإثبات.

والثانی: إنّ الأحکام تترتّب علی موضوعاتها، سواء کان الموضوع وجدانیّا أو تعبدّیا، کجواز الإقتداء، فإنه حکم یترتّب علی العدالة الثابتة بالوجدان أو بالاستصحاب، بلافرق.

ص: 178


1- 1. مفتاح الکرامة فی شرح قواعد العلاّمة 9 / 222.

والثالث: إنه إنْ کان الحکم الشرعی واسطةً فی الإثبات، فإن وساطته کذلک إنما تکون بالنسبة إلی الموضوع الواقعی، أمّا بالنسبة إلی الموضوع التعبّدی فهو واسطة فی الثبوت.

وعلی ما ذکر، فإنّ حجیّة خبر الشّیخ لاتفید الخبریّة الوجدانیّة لخبر المفید، لأنّ خبره أمر واقعیٌّ لا علاقة له بحجیّة خبر الشیخ. هذا صحیح، لکنّ حجّیة خبر الشیخ واسطة فی إثبات خبر المفید، وهذا الإثبات تعبّدی _ لا وجدانی _ وإذا کان تعبّدیا یعود الإشکال، لأنّ خبریّة خبر المفید معلولٌ لحجیّة خبر الشیخ، فکان خبر الشیخ واسطةً فی الثبوت، لا واسطةً فی الإثبات.

ومن هنا ذهب شیخنا دام بقاه إلی ورود إشکال المحقق الخراسانی علی الجواب الحلّی.

وأمّا إشکال الأثر، فقد أجاب عنه المیرزا:(1) بأنّ الأثر الشرعی کما یترتب علی الخبر الأخیر، یترتّب علی غیره من الوسائط، غایة الأمر أن غیر الخبر الأخیر لایکون تمام الموضوع للأثر الشرعی. وإذا کان کذلک، فکما أن الخبر الأخیر الحاکی عن الحکم یکون مشمولاً لوجوب التصدیق، کذلک غیره من الوسائط، فخبر الشیخ یکون مشمولاً له أیضا.

وهذا هو الجواب الصحیح عند سیدنا الاستاذ.(2)

ص: 179


1- 1. أجود التقریرات 3 / 185.
2- 2. منتقی الأُصول 4 / 277.

طریق صاحب الکفایة

ولورود الإشکال علی الجواب الحلّی، سلک المحقق المذکور طریقا آخر للحلّ. وملخّصه بتوضیحٍ منّا: إنّ الإشکال إنما یرد لو کانت القضایا بنحو القضیّة الشخصیّة، أمّا إذا کانت بنحو القضیّة الطبیعیّة، فإن الموضوع والمحمول یتعدّدان ولا یلزوم المحذور، والقضیّة فیما نحن فیه هی: الخبر حجّة، والمراد طبیعیّ الخبر لا خصوص خبر الشیخ أو خبر المفید للشیخ. والمحمول کذلک، فهو طبیعیّ الحجیّة، و مثل هذه القضیّة سائر القضایا فی الشرع، کقولنا الخمر حرام، البیع جائز.

لا یقال: إن الطبیعة من حیث هی لیست إلاّ هی، فلا تقع موضوعا للأحکام، سواء فی القضایا التکوینیّة أو الإعتباریّة، بل الطبیعیّة إنما تکون موضوعا للقضایا الذهنیّة، کما لو ارید بیان أحکام الماهیّة، فموضوعها الطبیعة من حیث هی.

لأنه یقال: لیس المراد من الطبیعی هنا هو الطبیعی المعقولی، بل المراد هو الطبیعی الاصولی، أی الوجود السّعی، فالمراد هو الخبر الملغی عنه خصوصیّة کونه خبر زید أو عمرو أو الشیخ أو المفید... و حینئذٍ، لا یقع الإشکال بتوقف الموضوع علی المحمول.

الإشکال علیه

ولکن یرد علی هذا الطّریق _ الذی وافق علیه السیّد الخوئی أیضا(1) _ : إنه و إنْ اخذت الطبیعة بشرط الوجود السّعی، و یحصل بذلک التعدّد موضوعا و

ص: 180


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 181.

حکما، لکنّ الوجود إنما یضاف إلی الطبیعة بتبع إضافته إلی الفرد، لأن الطبیعی موجود بوجود أفراده، فإذا وجد زید وجد الإنسان، فوجود الإنسان بوجود زید لا بالعکس، لأن الشّیء ما لم یتشخص لم یوجد. و بالجملة، لابدّ من إضافة الوجود إلی الفرد والشخص حتی یتحقّق الطبیعی، فیکون وجود طبیعی الموضوع بوجود فرده، و وجود طبیعی المحمول بوجود فرده، فهکذا الحال فی: الخبر حجة، الخمر حرام، و أمثالهما. و إذا کان کذلک، عاد الإشکال، لاحتیاج الطبیعی فی الوجود إلی وجود الفرد.

طریق المیرزا والإصفهانی

وهو أنّ القضیّة «الخبر حجّة» هی بنحو القضیّة الحقیقیّة، فهی _ وإن کانت فی مرحلة الإنشاء قضیّة واحدة _ تنحلّ إلی قضایا و یتعدّد الموضوع والمحمول، فخبر الشیخ موضوع، و یترتب علیه المحمول و هو الحجیّة، ثم خبر المفید موضوع و یترتب علیه الحجیّة کذلک، و هکذا... فلیس شئ¨ من الأحکام بمتکفّل لموضوعه، بل کلّما تحقّق شیء و اتّصف بکونه خبرا فهو حجّة.

وهذه عبارة أجود التقریرات:

إنّ وجوب التصدیق لو کان حکما شخصیّا ثابتا لکلّ واحد من الأخبار، لکان للتوهّم المذکور مجال واسع، لکنّ الأمر لیس کذلک، بل هو من قبیل الأحکام الإنحلالیّة، وکلّ فرد من الخبر موضوع لحکم مغایرٍ لحکم آخر یتوقف علیه، فوجوب التصدیق الثابت لإخبار الشّیخ ممّا یتوقف علیه خبر المفید، لکنّ

ص: 181

خبر المفید لا یکون موضوعا لشخصی ذاک الوجوب بل لوجوبٍ آخر ثابت له یتوقف علیه ثبوت خبر الصفّار، وهکذا إلی أنْ ینتهی إلی الخبر الأخیر الموضوع لوجوب التصّدیق المثبت لقول الإمام علیه السلام.(1)

وقد تبعه السیّد الخوئی...(2)

والسیّد الاستاذ قدّس سرّه، وجعله الجواب الواضح جدّا، فقال کما فی منتقی الاصول: وذلک لأنّ الحکم المجعول _ وهو الحجیّة _ وإنْ کان بإنشاء واحدٍ، إلاّ أنه ینحلّ إلی أحکام متعدّدةٍ بتعدّد الأخبار. وعلیه، فما یترتب علی خبر الصّدوق غیرما یترتّب علی خبر الشیخ الحرّ، لأنه فرد من الحجیّة غیر الفرد المترتب علی الخبر الآخر، فلا یتحدّ الموضوع والحکم بل فرد من المنجزیّة _ ینجزّ فردا آخر منها، وفرد من الطّریقیّة یکون إلی فردٍ آخر منها. وهکذا. ودعوی الإنحلال بدیهیّة لاتحتاج إلی بیان... وإذا کانت دعوی الإنحلال بهذا الوضوح واندفاع الإشکال بها کذلک، فإن تصدّیهم لدفعه بالوجوه المختلفة تطویل بلاطائل.(3)

الإشکال علیه

وقد أشکل علیه: بأنّ بین خبری الشیخ والمفید _ مثلاً _ اختلافا فی المرتبة، و کیف تجعل الحجیّة لطولیین بجعلٍ واحد؟

ص: 182


1- 1. أجود التقریرات 3 / 187.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 180.
3- 3. منتقی الأُصول 4 / 272 _ 273.

و بعبارة اخری: إنه لا یعقل وجود المختلفین رتبةً بوجودٍ واحدٍ، لأن هذا الإنشاء و هو «الخبر حجّة» إنشاء واحد، فهو إیجاد واحد و وجوده واحد کذلک، لأن الإیجاد والوجود فی الحقیقة واحد، ککلّ مصدر و اسم مصدرٍ آخر.

الجواب

وأجاب الإصفهانی بما ملخّصه:(1)

المختلفان فی المرتبة علی قسمین، فقد یکونان مختلفین فی الوجود کذلک، و قد یکون وجودهما واحدا بل البرهان قائم علی اتحادهما فی الوجود، مثلاً: الإرادة والمراد، الشوق والمشتاق إلیه، مختلفان فی المرتبة، إذ الإرادة متقوّمة بالمراد و لا یمکن وجودها بدون المراد بالذات _ و لا یخفی أن المراد بالذات موطنه النفس، و أمّا الذی تعلّقت به الإرادة فی الخارج فهو المراد بالعرض _ والحاصل: إنهما مع الإختلاف الرتبی بینهما موجودان بوجودٍ واحدٍ.

و فیما نحن فیه کذلک، فإن خبر الشیخ و خبر المفید مختلفان رتبةً، لکن یمکن إیجادهما بإنشاءٍ واحد و یوجدان بوجود واحد.

الإشکال علیه

و یرد علیه: أنّ هذا الذی ذکره _ فی الإرادة والشوق، و کذلک فی الحبّ والبغض و سائر الصّفات النفسانیّة ذات التعلّق _ حقٌّ، لکنّ تطبیقه علی ما نحن فیه

ص: 183


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 215.

غیر تام، لأنّ النسبة بین خبری الشیخ والمفید نسبة العلّة والمعلول، إذ لولا خبر الشیخ لم یتحقق خبر المفید، فهما مختلفان فی الرتبة و بینهما نسبة العلیّة والمعلولیّة، و إیجاد المختلفین فی المرتبة کذلک بوجودٍ واحدٍ محال.

التحقیق

ولکنّ هذا الإشکال إنما یتوجّه علی القول بأن حقیقة الإنشاء هو الإیجاد کما علیه القوم، و أمّا علی مبنی المحقق العراقی من أنه الإعتبار و الإبراز أو الإعتبار المبرز _ والذی أخذه السید الخوئی _ فلا یرد، لأن اعتبار المختلفین رتبةً کذلک و إبرازه بمبرزٍ واحدٍ لا محذور فیه.

وهذا تمام الکلام علی آیة النّبأ.

ص: 184

آیة النفر

اشارة

قوله تعالی: «وَما کانَ الْمُوءْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ»(1)

تقریب الإستدلال

وقد ذکر الشیخ قدّس سرّه وغیره(2) فی تقریب الإستدلال بهذه الآیة لحجیّة الأخبار الآحاد ما حاصله: إنّ الآیة تدلّ علی وجوب الحذر عند إنذار المنذرین و إنْ لم یکن مفیدا للعلم. و توضیح ذلک:

1. إنّ المراد من «لینذروا» إنذار کلّ واحدٍ من النافرین بعض القوم، و لیس إنذار مجموعهم لمجموع القوم حتی یقال بإفادة الإنذار حینئذٍ للعلم.

2. إن «الحذر» بعد «الإنذار» واجب من وجهین:

أحدهما: إن لفظة «لعلّ» بعد انسلاخها عن معنی الترجّی _ لامتناعه فی حق

ص: 185


1- 1. سورة التوبة: الآیة 122.
2- 2. فرائد الأُصول: 78، کفایة الأُصول: 298.

الباری سبحانه _ ظاهرة فی کون مدخولها محبوبا، و إذا تحقق حسن الحذر ثبت وجوبه، إمّا لما ذکره صاحب المعالم قدّس سرّه(1) من أنه لا معنی لندب الحذر، و إمّا لأن رجحان العمل بخبر الواحد مستلزم لوجوبه بالإجماع المرکّب، لأن کلّ من أجازه فقد أوجبه.

والثانی: إنّ ظاهر الآیة وجوب الإنذار، لوقوعه غایة ل_ «النفر» الواجب بمقتضی کلمة «لولا»، فإذا وجب الإنذار أفاد وجوب «الحذر» لوجهین:

أحدهما: وقوعه غایة للواجب.

والثانی: أنه إذا وجب الإنذار ثبت وجوب القبول، وإلاّ لغا الإنذار.

إشکالات الشیخ والکلام حولها

هذا، و قد اختلفت أنظار العلماء فی الإستدلال بالآیة، فالشیخ و صاحب الکفایة و تلمیذه المحقّق العراقی والسیّد الاستاذ والسیّد الصدّر علی عدم جواز الإستدلال بها، والمیرزا و تلمیذه السیّد الخوئی علی تمامیّته.

قال الشیخ بعد تقریب الإستدلال: لکن الإنصاف عدم جواز الإستدلال بها لوجوه:

الأوّل:

إنه لا یستفاد من الکلام إلاّ مطلوبیّة الحذر عقیب الإنذار بما یتفقّهون فی الجملة، لکن لیس فیها إطلاق وجوب الحذر، بل یمکن أن یتوقف وجوبه علی

ص: 186


1- 1. معالم الأُصول: 47.

حصول العلم. فالمعنی: لعلّه یحصل لهم العلم فیحذروا... فلیس فی هذه الآیة تخصیص للأدلّة النّاهیة عن العمل بما لم یعلم، و لذا استشهد الإمام علیه السّلام(1) بالآیة علی وجوب النفر فی معرفة الإمام، مع أن الإمامة ممّا لا یثبت إلاّ بالعلم.

و ملخّصه هو: إن الإستدلال یتوقف علی کون الآیة فی مقام بیان إطلاق وجوب الحذر، أی هو واجب سواء أفاد العلم أوْلا، و هذا غیر ثابت، بل هی فی مقام بیان مطلوبیّة إنذار المنذرین بما تفقّهوا والحذر من القوم بما أُنذروا، فلا تصلح الآیة للتخصیص، و یشهد بذلک إستدلال الإمام بها.

الجواب:

وأجاب السیّد الخوئی:(2)

أوّلاً: بأن الأصل فی کلام المتکلّم أن یکون فی مقام البیان، لاستقرار بناء العقلاء علی ذلک ما لم تظهر قرینة علی خلافه.

وثانیا: إن ظاهر الآیة کونها واردةً لبیان وظیفة جمیع المسلمین المکلّفین، وأنه یجب علی طائفةٍ منهم التفقّه والإنذار، و علی غیرهم الحذر والقبول، فکما أنّ إطلاقها یقتضی وجوب الإنذار، ولو مع عدم حصول العلم للمنذر بمطابقة کلام المنذر للواقع، کذلک یقتضی وجوب الحذر أیضا فی هذا الفرض.

وثالثا: تخصیص الآیة بصورة العلم یوجب إلغاء عنوان الإنذار، إذ العمل

ص: 187


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 140، الباب 11 من أبواب صفات القاضی رقم 10.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 184.

یکون حینئذٍ بالعلم و لا دخل للإنذار فیه، غایته کون الإنذار مقدمةً تکوینیّة لحصول العلم، و هذا خلاف ظاهر الآیة.

رابعا: إنه علی تقدیر تسلیم أن اعتبار العلم فی وجوب الحذر یوجب التقیید لا إلغاء عنوان الإنذار، لا یمکن الإلتزام بالتقیید، فإنه تقیید بفرد نادر، وهو مستهجن.

أقول:

إنه یتلخّص إشکال الشیخ قدّس سرّه فی أنّ الآیة لیست فی مقام البیان من حیث الحذر، حتی یتمسّک بالإطلاق فیقال بوجوبه، سواء أفاد العلم أوْ لا، فیشمل خبر الواحد، و إذا لم یتم الإطلاق لا تصلح الآیة لتخصیص عمومات النهی عن اتباع غیر العلم. ثم استشهد بتطبیق الإمام الآیة علی معرفة الإمام، لنفی الإطلاق.

و أمّا أنّ الآیة فی مقام بیان وظیفة النافرین و المتخلّفین معا، بأن یکون وظیفة أُولئک التفقّه والإنذار، و وظیفة هؤلاء ترتیب الأثر علی الإنذار و إن لم یفد العلم، فهذا أوّل الکلام، بل الآیة فی مقام بیان وظیفة المسلمین فی أن ینقسموا إلی النافرین والباقین فی بلدانهم، و أنه لا یجب النفر علی الجمیع، أمّا أن یجب علی المتخلّفین ترتیب الأثر مطلقا علی إنذار المنذرین، فلیست الآیة فی مقام بیانه.

وعلی الجملة، فإنّ أجوبة المیرزا و تلمیذه غیر وافیة بالجواب عن الإشکال.

نعم، لو کانت الآیة فی مقام البیان من جهة وجوب الحذر و ترتیب الأثر تعبّدا، لقلنا بأنه فی موارد اعتبار العلم _ کمسألة معرفة الإمام مثلاً _ ینتظر وصول

ص: 188

الخبر بحیث یحصل العلم، فلا ینافی استشهاد الإمام علیه السلام بالآیة دلالتها علی حجیّة خبر الواحد.

إلاّ أن هنا کلاما من جهةٍ اخری، و هی ضرورة أن یکون الأمر بترتیب الأثر تعبدیّا، فلو کان إرشادیا سقط الإستدلال، فما الدلیل لمنع احتمال الإرشادیّة؟

إنّ هذا الإحتمال موجود جدّا، فیکون وزان الآیة وزان قوله تعالی لموسی و هارون «اذْهَبا إِلی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغی * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَیِّنًا لَعَلَّهُ یَتَذَکَّرُ أَوْ یَخْشی»(1) فتأمّل.

الثانی:

إنّ التفقّه الواجب لیس إلاّ معرفة الامور الواقعیّة من الدین، فالإنذار الواجب هو الإنذار بهذه الامور المتفقّه فیها، فالحذر فیها لا یجب إلاّ عقیب الإنذار بها، فإذا لم یعرف المنذر _ بالفتح _ أنّ الإنذار هل وقع بالامور الدینیّة الواقعیّة أو بغیرها خطأ أو تعمّدا من المنذر _ بالکسر _ لم یجب الحذر. فانحصر وجوب الحذر فیما إذا علم المنذر صدق المنذر فی إنذاره بالأحکام الواقعیّة، فهو نظیر قول القائل: أخبر فلانا بأوامری لعلّه یمتثلها.

فهذه الآیة نظیر الأمر بنقل الأخبار الواردة عن النبیّ الأکرم والأئمة صلّی اللّه علیهم وسلّم، فإن المقصود من ذلک لیس إلاّ العمل بالامور الواقعیّة الّتی یشتمل علیها أخبارهم علیهم السلام، لا وجوب تصدیق الراوی فیما یحکی و لو لم یعلم

ص: 189


1- 1. سورة طه: الآیة 44.

مطابقته للواقع... و نظیره جمیع ما ورد فی بیان الحق للناس و وجوب تبلیغه إلیهم... .

الجواب

وأجاب المیرزا:(1) بأنه لمّا جعل الحجیّة لإنذار المنذر، فقد جعل الطریقیّة لقوله إلی الأحکام الواقعیّة. فالآیة جعلت قوله طریقا إلی الواقع و أفادت أن إنذاره إنذار بالأحکام الواقعیّة، فهی حاکمة علی أدلّة النهی عن اتباع غیر العلم.

أقول:

والظاهر عدم تمامیّة هذا الجواب، لأنّ الشیخ یقول بدلالة الآیة علی تقیّد الحذر بما إذا کان الإنذار بما تفقّه، فالحذر مقیّد، و مع احتمال خطأ المنذر أو کذبه فلا یجب. و لو أُرید التمسک بالآیة _ مع الإحتمال المذکور _ کان من التمسّک بالعام فی الشبهة الموضوعیّة.

و بالجملة، المراد هو الإنذار بالأحکام الواقعیّة، أی کلّ ما کان حکم اللّه، سواء کان حکما ظاهریّا أو واقعیّا، و مع احتمال أن لا یکون المنذر به حکما واقعیّا لم یجب الحذر.

و أجاب الخوئی:(2) بأن الإخبار بوجوب شئ¨ أو بحرمة شئ¨ لا ینفک عن الإنذار بما تفقّه، إذ الإخبار بالوجوب إنذار بالعقاب علی الترک بالدلالة الإلتزامیّة، و کذا الإخبار بالحرمة، فإنه إنذار بالعقاب علی الفعل. أمّا کون المخبر به مطابقا

ص: 190


1- 1. أجود التقریرات 3 / 195.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 186.

للواقع أو لا، فهو خارج عن مدلول الخبر، لما ذکرناه فی مقام الفرق بین الإخبار والإنشاء من أن مدلول الخبر هو الحکایة عن ثبوت الشیء أو نفیه.

وبالجملة: الإخبار عن الوجوب والحرمة إخبار بما تفقّه فی الدین، وإن کان المخبر به غیر مطابق للواقع.

أقول:

وفیه ما عرفت، لأن الواجب هو الحذر فیما إذا کان الإنذار بما تفقّه من الدین، فلابدّ من إحراز کون الإنذار کذلک، و بمجرد احتمال العدم لا یجب، والتمسّک بالآیة حینئذٍ تمسّک بالدلیل فی الشبهة الموضوعیّة، و هو غیر جائز.

الثالث:

لو سلّمنا دلالة الآیة علی وجوب الحذر مطلقا عند إنذار المنذرین، و لو لم یفد العلم، لکن لا یدلّ علی وجوب العمل بالخبر من حیث إنه خبر، لأن الإنذار هو الإبلاغ مع التخویف، فإنشاء التخویف مأخوذ فیه، والحذر هو التخوّف الحاصل عقیب هذا التخویف الداعی إلی العمل بمقتضاه فعلاً، و من المعلوم أن التخویف لا یجب إلاّ علی الوعّاظ فی مقام الإیعاد علی الامور التی یعلم المخاطبون بحکمها من الوجوب والحرمة... و علی المجتهدین فی مقام إرشاد الجهّال. و من الواضح أن تصدیق الحاکی فیما یحکیه من لفظ الخبر الذی هو محلّ الکلام، خارج عن الأمرین، فالآیة غیر شاملةٍ لإخبار الراوی.

ص: 191

الجواب

وأجاب المیرزا _ وتبعه تلمیذه _ بأنّ الإنذار إنْ اُخذ بما ینصرف إلیه إنصرافا بدویّا _ و هو الإنذار الإبتدائی الإستقلالی _ فتکون فتوی المجتهد و إرشاد المرشد کإخبار الراوی خارجةً عن مدلول الآیة، و إنْ اُخذ بما هو ظاهر فیه _ و لو بمعونة تفرّعه علی التفقّه _ و هو الإنذار التبعی الضمنی الحاصل ببیان الحکم الشرعی، فکما أنّ فتوی المجتهد تکون مشمولةً لها، کذلک إخبار الراوی، فالتفکیک بین الفتوی والرّوایة فی مشمولیّة الآیة غیرمعقول.(1)

أقول:

وهذا الجواب تام.

رأی الکفایة

وقد وافق صاحب الکفایة الشیخ فیما ذهب إلیه فی الآیة، غیر أنه خالفه فی معنی کلمة «لعلّ»، فلم یجعلها منسلخة عن معناها الحقیقی، وقال: ببقاء الکلمة علی معناها أخذا بأصالة الحقیقة فذکر: إن کلمة لعلّ و إن کانت مستعملة علی التحقیق فی معناها الحقیقی و هو الترجّی الإیقاعی الإنشائی، إلاّ أنّ الداعی إلیه حیث یستحیل فی حقّه تعالی أنّ یکون هو الترجّی الحقیقی، کان هو محبوبیّة التحذّر عند الإنذار، و إذا ثبت محبوبیّته ثبت وجوبه شرعا، لعدم الفصل، وعقلاً لوجوبه مع وجود ما یقتضیه، و عدم حسنه بل عدم إمکانه بدونه.

ثم أشکل رحمه اللّه: بأن التحذّر لرجاء إدراک الواقع و عدم الوقوع فی

ص: 192


1- 1. اجود التقریرات 3/196.

محذور مخالفته من فوت المصلحة أو الوقوع فی المفسدة، حسن و لیس بواجب فیما لم یکن هناک حجة علی التکلیف، و لم یثبت هاهنا عدم الفصل، غایته عدم القول بالفصل.(1)

النظر فیه

أقول:

یرید رحمه اللّه: إن الحذر حسن فی جمیع الشبهات حتی الشبهات البدویّة مع عدم وجوبه یقینا. فهذا إشکال علی الإستدلال بالآیة لحجیّة الخبر، زائدا علی ما أورده الشیخ.

ولکنّ الظاهر عدم تمامیّته، لأنّ عندنا بالنسبة إلی المصالح والمفاسد الواقعیّة براءة عقلیّة و شرعیّة، فقاعدة قبح العقاب بلا بیان ترفع الخوف، و کذا البراءة الشرعیّة، و مع وجود البراءة عقلاً و شرعا لا یبقی خوف الوقوع فی مفسدة ترک الواجب أو مفسدة الوقوع فی الحرام، و قد عرفنا أن «الحذر» مفهوم متقوّم بالخوف، إذن، لا حذر فی الشبهات، فلا یرد الإشکال حتی یتمّم بعدم الفصل.

علی أنّه یرد علی قوله: «غایته عدم القول بالفصل»: إن الإجماع المرکّب معناه کون الأُمّة علی قولین ینفیان القول الثالث بالدلالة الإلتزامیّة، و الأُمّة فی مسألة خبر الواحد علی قولین: الحجیّة و عدم الحجیّة، و کلاهما ینفیان محبوبیّة ترتیب الأثر علی خبر الواحد، فإنه إمّا واجب و إمّا غیر واجب.

ص: 193


1- 1. کفایة الأُصول: 298 _ 299.

طریق الإصفهانی

وقد قرّب المحقق الإصفهانی(1) دلالة الآیة علی حجیّة خبر الواحد بالدقّة فی جهات:

الاولی: إن وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذیها فی الإطلاق والتقیید، لکونها فرعا لذیها والنسبة بینهما نسبة العلّة والمعلول. ونسبة الإنذار إلی الحذر _ وإن لم یکن من ذلک القبیل _ إلاّ أنه لا ریب فی تبعیّة الإنذار للحذر فی الإطلاق و التقیید بلحاظ مقام الغرض، فالحذر قد تعلّق به الغرض و کان هو الموجب لوجوب الإنذار، فلو کان الحذر محدودا بحدًّ لم یعقل أن لا یکون الإنذار محدودا به و یکون مطلقا.

الثانیة: إنّ التفقّه فی الآیة المبارکة أعم من الاصول والفروع.

الثالثة: إنّ الإنذار الواجب لا یعقل فیه الإهمال، فإمّا یتقیّد بما إذا أفاد العلم أو یکون مطلقا، و إذ لا دلیل علی التقیید فهو مطلق.

الرابعة: إنه قد ترتب الحذر علی الإنذار، فهو تمام الموضوع له، فلا دخل لحصول العلم و إلاّ لخرج الموضوع عن الموضوعیّة.

الخامسة: إنه لما کان الإنذار تمام الموضوع للحذر، فلا محالة یکون إنذار المنذر حجةً، سواء حصل العلم منه أوْلا، لأنه لولا الحجیّة کان العقاب بلا بیان، فلا معنی لوجوب الحذر لکنّ الحذر واجب، فالإنذار حجة سواء أفاد العلم أوْلا.

هذا هو المستفاد من کلماته فی عدّة صفحات.

ص: 194


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 236 _ 239.

والحاصل: لقد کان الإشکال فی ثبوت الإطلاق لعدم کون الآیة فی مقام البیان، و قد ظهر تمامیّته فی «الإنذار» و «الحذر» معا، فلا الإنذار یحتمل تقیّده بالعلم و لا الحذر... و قد دلّت الآیة علی حجیّة الخبر بما هو خبر. ولیس یشترط فی المخبر أن یکون فقیها حتی تختصّ الآیة بفتوی المفتی، لأنّ التفقّه فی زمن الأئمة علیهم السّلام کان بمعنی تعلّم الأحکام و تفهّمها، بخلاف ما هو المتعارف من معنی الکلمة فی زماننا.

الرابع:

و هو الإشکال الباقی بعد التقریبات المزبورة، وذلک أنّ الإمام علیه السّلام قد طبّق هذه الآیة علی ما یعتبر فیه العلم، و هو معرفة الإمام کما فی الأخبار الکثیرة، منها: صحیحة محمد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام و فیها: قلت: أفیسع الناس إذا مات العالم أنْ لا یعرفوا الذی بعده؟ فقال: أمّا أهل هذه البلدة فلا، یعنی أهل المدینة، و أمّا غیرها من البلدان فبقدر مسیرهم، إنّ اللّه عزّوجلّ یقول: «فَلَوْلا نَفَرَ ...».(1)

فإنّ ما ذکره المحقق الإصفهانی و غیره غیر وافٍ بالجواب عنه.

فإنْ قلت: نستفید من إطلاق الآیة حجیّة خبر الواحد، غیر أنه تقیّد الآیة فی مورد معرفة الإمام بإفادة الخبر للعلم.

قلت: التمسّک بإطلاق الکلام یختلف، فتارةً: یکون الکلام مطلقا و حجیّته

ص: 195


1- 1. الکافی 1 / 380.

تامّة، فیجوز التمسّک بالإطلاق فی کلّ حصة أو فردٍ شکّ فی شموله له، و هذا علی القاعدة. و أخری: یکون إطلاق الکلام مقیّدا بقیدٍ، فهو مطلقٌ لکنْ سقطت حجیّته، ففی هذه الحالة لا یتمسّک بالإطلاق فی مورد الشک، لأن المطلق بعد التقیید _ و کذا العام بعد التخصیص _ یسقط عن الدلیلیّة. فلو تقیّد أکرم العلماء بالعدول، لم یصح التمسّک بأکرم العلماء لوجوب إکرام العدول منهم، لأن معناه حینئذٍ وجوب إکرام العلماء و إن لم یکونوا عدولاً، لأن الإطلاق رفض القید.

و فی المقام: إن الآیة إن کانت مطلقةً، فکیف استدلً بها الإمام علیه السّلام لموردٍ یعتبر فیه العلم، و إن کانت مقیّدة بإفادة العلم، فلا تصلح للإستدلال للأعم ممّا أفاد العلم و ما لم یفده.

فالإستدلال بالآیة ساقط لبقاء هذا الإشکال من الشیخ علی حاله.

الإشکال علی الشیخ

لکن یرد علی الشیخ التهافت فی کلماته، وذلک: أنه إذا کانت الآیة مفیدةً لاعتبار العلم _ لأنّ الإمام علیه السّلام طبّقها علی مسألة معرفة الإمام و هی من اصول الدین _ فلماذا استدلّ بها فی مسألة الإجتهاد والتقلید؟

لقد استدلّ الشیخ بالآیة علی وجوب التقلید، والتقلید _ کما هو معلوم _ هو الأخذ بقول الغیرتعبّدا، فهذا یناقض کلامه هنا. هذا أوّلاً.

و ثانیا: إنه فی رسالته فی مسألة تقلید المیت،(1) قال فی ردّ المستدلّین بالآیة

ص: 196


1- 1. مطارح الأنظار: 288.

للجواز: بأنّ الآیة غیر واردة فی مورد التفقّه، بل إن موردها النفر إلی الجهاد.

و هذا یناقض کلامه فی المقام، إذ یقول بأنها دالّة علی التفقّه فی الدین.

و قال أیضا فی ردّ الإستدلال: بأنّ التفقّه فی عصر نزول الآیة بمعنی الحضور عند المعصوم والأخذ منه، و لذا استدلّ الأعاظم بالآیة لحجیّة خبر الواحد.

فکیف یقول هذا هناک، و فی المقام ینکر دلالة الآیة علی حجیّة خبر الواحد. هذا کلّه نقضا.

و أمّا حلاًّ، فإن مقتضی التحقیق هو النظر فی الروایات المستدلّ فیها بالآیة المبارکة، فقد تبیَّن ممّا ذکرناه من أوّل البحث إلی هنا أنّ تلک الأخبار هی سبب الإشکال العمدة فی الإستدلال بها علی حجیّة خبر الواحد.

وقد وجدنا الشیخ فی رسالة تقلید المیت(1) _ بعد أن استدلّ بالآیة علی حجیّة الخبر، و ذکر أنّ التفقّه فی عصر الأئمّة کان یتحقق بتعلّم الأحکام و أخذ الروایات _ یستشهد بما رواه الشیخ الصّدوق فی عیون الأخبار من أمر الإمام علیه السّلام بالنفر إلی الإمام لتعلّم مسائل الحلال والحرام.(2)

فکما ورد الإستدلال بالآیة لمعرفة الإمام فی الروایات، کذلک ورد فی تعلّم الأحکام، فیکون «التفقّه» مفهوما عامّا یصدق علی «معرفة الإمام» المعتبر فیه

ص: 197


1- 1. مطارح الأنظار: 261.
2- 2. عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 119، علل الشرائع 1 / 273، وسائل الشیعة 11 / 12، الباب 1 من أبواب وجوب الحج.

العلم، و علی «أخذ الأحکام» الذی لا یعتبر فیه العلم، و کذلک یکون مفهوم «الإنذار»، فإنّه التخویف، لکنّ المصداق یختلف، فما یعتبر فیه العلم یکون الإنذار حجةً إن أفاد العلم، و ما لا یعتبر فیه العلم فهو حجّة. و بهذا یتمّ الاستدلال بالآیة فیما یعتبر فیه العلم و فیما لا یعتبر أیضا.

لا یقال:(1) إنّ وجوب العمل بما اُنذروا شرعیٌّ فی الأحکام وعقلیٌّ فی اصول الدین، فکیف یُجعل هذان الوجوبان بالآیة المبارکة بجعلٍ واحدٍ؟

لأنّا نقول: بأنَّ الوجوب فی کلا البابین شرعیٌّ، والحکم العقلی غیرالقابل للتعبّد الشرّعی منحصر بباب الإطاعة والمعصیة، ولذا نقول بشرعیّة ماورد فی الکتاب والسنّة فی وجوب العدل وحرمة الظلم، ولا نحملها علی الإرشاد إلی حکم العقل. وعلی الجملة، فإنّه لا مانع من أن یکون الأمر بمعرفة الإمام _ مثلاً _ أمرا شرعیّا مولویّا بعد وجود المقتضی من جهة أنّ کثیرا من الناس لا تدرک عقولهم وجوب معرفته، بل إنّ بعض الناس لا ینبعثون من الأحکام العقلیّة وإنّما ینبعثون بأوامر المولی ونواهیه فقط.

لایقال: إنّ الأحکام الشرعیّة منجزَّة، إمّا لکونها شبهات حکمیّة قبل الفحص، وإمّا للعلم الإجمالی، ولذا لا یجوز التمسّک بقاعدة قبح العقاب بلابیان. وإذا کانت منجزّة، فلا معنی لأنْ تفید الآیة وجوب الحذر بالنسبة إلی الأحکام، لأنّ المنجَّز لا یتنجّز ثانیةً.

ص: 198


1- 1. کما فی أوثق الوسائل: 157، ثم أمر بالتأمّل.

لأنّا نقول: بأنّ صحیحة یعقوب بن شعیب(1) وغیرها صریحة بکون النافرین معذورین ماداموا فی حال الفحص، والمتخلّفین معذورین کذلک مادام لم یصلهم الإنذار. فالاشکال المذکور اجتهاد فی مقابل النصّ.

وحلّ المطلب هو: إنّ ظاهر الآیة المبارکة ترتّب الحذر علی الإنذار، وتوهّم عدم دخل الإنذار فی الحذر باطلٌ، ولیس دخله بنحو جزء الموضوع لیکون الجزء الآخر هو العلم، لأن الآیة ظاهرة فی وجوب الحذر عند الإنذار سواء علموا أولا. علی أنّه لو کان للعلم دخلٌ لکان تمام الموضوع وسقط الإنذار عن الموضوعیّة، وهو باطل، فثبت أنّ الإنذار تمام الموضوع للحذر، وحینئذٍ یستحیل أنْ لایکون حجةً.

وبهذا ظهر تمامیّة الاستدلال بآیة النفر فی أبواب اصول الدین، وفی باب الإجتهاد والتقلید.

وأمّا فی مطلق خبر الواحد الثقة، فدلالتها علی وجوب القبول تعبّدا، محلّ تأمّل، لمکان أخذ عنوان «التفقّه»، وهو غیرحاصل فی مطلق الخبر الواحد، فیکون أخصّ من المدّعی، فلا مناص من تتمیم الاستدلال بعدم الفصل.

وأمّا ما أفاده المحقق الإصفهانی من أن «التفّقه» کان فی زمن الأئمة علیهم السلام بمعنی تعلّم الأحکام، بخلاف ما هو المتعارف من معنی الکلمة فی زماننا». فلا یدفع الإشکال، لأن «الفقه» لیس فی جمیع الأزمنة إلاّ بمعنی واحد، غیر أنّ التفقّه فی تلک الأزمنة کان سهلاً وهو فی زماننا صعب، لطول المدّة ووجود

ص: 199


1- 1. الکافی 1 / 378.

التعارضات فی الأدلّة، وغیرذلک من الأسباب.

هذا، وقد اختلف رأی شیخنا الاستاذ فی جواز الاستدلال بالآیة لحجیّة خبر الواحد، فاختار فی الدّورة السّابقة العدم، أمّا فی اللاّحقة فلم یجزم بذلک.

وقد کان تقریبنا للمطلب یقوّی الإستدلال بها، فهی إنْ لم تکن أوضح دلالةً من آیة النبأ _ کما ادّعی فی مصباح الاصول _ فلیست ساقطةً عن الاستدلال کما ذهب الشیخ وأتباعه.

وهذا تمام الکلام فی آیة النفر.

ص: 200

آیة الکتمان

اشارة

قال تعالی: «إِنَّ الَّذینَ یَکْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَیِّناتِ وَالْهُدی مِنْ بَعْدِ ما بَیَّنّاهُ لِلنّاسِ فِی الْکِتابِ أُولئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللّه ُ وَیَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ».(1)

والتقریب فیه نظیر ما بیّناه فی آیة النفر، من أنّ حرمة الکتمان یستلزم وجوب القبول عند الإظهار.

کلام الشیخ:

قال: و یرد علیها ما ذکرنا من الإیرادین الأولین فی آیة النفر، من سکوتها و عدم التعرّض فیها لوجوب القبول و إنْ لم یحصل العلم عقیب الإظهار، أو اختصاص وجوب القبول المستفاد منها بالأمر الذی یحرم کتمانه و یجب إظهاره. قال: و یشهد لما ذکرنا: أن مورد الآیة کتمان الیهود لعلامات النبی صلی اللّه علیه وآله بعد ما بیّن اللّه لهم ذلک فی التوراة، و معلومٌ أن آیات النبوّة لا یکتفی فیها

بالظن.

ص: 201


1- 1. سورة البقرة: الآیة 159.

قال: نعم، لو وجب الإظهار علی من لا یفید قوله العلم غالبا، أمکن جعل ذلک دلیلاً علی أن المقصود العمل بقوله و إن لم یفد العلم، لئلاّ یکون إلقاء هذا الکلام کاللّغو.

ومن هنا یمکن الإستدلال بما تقدّم من آیة تحریم کتمان ما فی الأرحام علی النساء(1) علی وجوب تصدیقهنّ، و بآیة وجوب إقامة الشهادة(2) علی وجوب قبولها بعد الإقامة، مع إمکان کون وجوب الإظهار لأجل رجاء وضوح الحق من تعدّد المظهرین.(3)

رأی صاحب الکفایة

وقال فی الکفایة ما حاصله: إنه إن کانت الملازمة العقلیّة بین حرمة الکتمان و وجوب القبول تامةً _ من جهة لزوم لغویّة تحریم الکتمان إن لم یجب القبول _ لم یکن مجال لإیراد الشیخ علی الاستدلال من دعوی الإهمال أو استظهار الإختصاص بما إذا أفاد العلم.

فإنها تنافیهما کما لا یخفی.

أی: إن الملازمة تنافی دعوی الإهمال أو استظهار الإختصاص.

ثم أجاب عن الإستدلال: بمنع الملازمة، و قال: فإن اللّغویة غیر لازمة، لعدم

ص: 202


1- 1. سورة البقرة: الآیة 228.
2- 2. سورة البقرة: الآیة 283.
3- 3. فرائد الأُصول: 81.

انحصار الفائدة بالقبول تعبّدا، و إمکان أنْ تکون حرمة الکتمان لأجل وضوح الحق بسبب کثرة من أفشاه و بیّنه، لئلاّ یکون للناس علی اللّه حجّة، بل کان له علیهم الحجّة البالغة.(1)

آراء المتأخرین

وقد قال المیرزا فی هذه الآیة وآیة السؤال: بأن عدم دلالتها علی حجیّة خبر الواحد أوضح من أن یخفی(2)

وتبع الإصفهانی و العراقی(3) صاحب الکفایة.

وتبعهما فی مصباح الاصول(4) و استفاد منهما فی الجواب عن الإستدلال بالآیة، فذکر ما حاصله: عدم الملازمة فی المقام، فالآیة معناها حرمة الکتمان علی کلّ أحد، فیحتمل أن یکون الوجه فیها أن إخبار الجمیع مما یوجب العلم، کما فی الخبر المتواتر.

قال: و لا یقاس المقام بحرمة الکتمان علی النساء، لأن طریق إحراز ما فی الأرحام منحصر فی إخبارهن، فالملازمة هناک موجودة وإلاّ تلزم اللّغویّة، بخلاف المقام، حیث حرّم الکتمان علی الیهود الذین أخفوا الأدلّة الظاهرة علی نبوة نبیّنا

ص: 203


1- 1. کفایة الأُصول: 300.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 196.
3- 3. نهایة الدرایة 3 / 244، نهایة الأفکار 3 / 130.
4- 4. مصباح الأُصول 2 / 188 _ 189.

صلی اللّه علیه وآله لجمیع الناس، کما فی قوله تعالی: «مِنْ بَعْدِ ما بَیَّنّاهُ لِلنّاسِ».(1)

والحاصل: إنه لا ملازمة بین حرمة الکتمان و وجوب القبول هنا، کما لا إطلاق لحرمة الکتمان لیشمل ما لو علم المخبر بأن إخباره لا یفید العلم للسّامع، إذ فی هذه الصّورة تدلّ الآیة علی وجوب القبول و إلاّ تلزم اللّغویّة. و وجه عدم الإطلاق هو أن ظهور الحق لعامّة الناس هو الحکمة لحرمة الکتمان، والحکمة الداعیة إلی التکلیف لا یلزم أن تکون ساریة فی جمیع الموارد.

قال: و یدلّ علی ما ذکر: أن مورد الآیة هو النبوّة، و هی من اصول الدین، ولا یقبل فیها خبر الواحد.

الإشکالات الواردة علی الإستدلال

ویتلخّص الإشکال فی الاستدلال بالآیة فی وجوه:

الأوّل: إنها واردة فی ذمّ علماء أهل الکتاب، لکتمانهم ما نزل فی التوراة والإنجیل فی النبیّ الأکرم ورسالته، فالآیة متعلّقة بأصول الدین.

لایقال: فلیکنْ الاستدلال بها کما استدلّ بآیة النّفر، وقد تعلّقت بحسب الأخبار بالإمامة وهی من اصول الدین.

لأنا نقول: فرقٌ واضحٌ بین الآیتین وموردیهما. فالإمامة یمکن أنْ تعرف بما قاله الرسّول، لما تقدّم من أن وجوب معرفتها شرعیّ، ولکنّ الرسالة والنبوّة لاتعرف بکلام الرسول للزوم الدور، فوجوب معرفتها عقلی.

ص: 204


1- 1. سورة البقرة: الآیة 159.

والثانی: إنها فی مقام بیان حرمة الکتمان لا وجوب قبول ما أظهر، والفرق بینها وبین آیة کتمان ما فی الأرحام ممّا لا یخفی.

والثالث: إنه لا ملازمة بین حرمة الکتمان ووجوب القبول تعبّدا، إلاّ إذا لزم لغویّة حرمة الکتمان، کما فی آیة کتمان ما فی الأرحام، وما نحن فیه لیس من هذا القبیل، فالملازمة ممنوعة، فالإستدلال ساقط.

والرابّع: إنّ موضوع الآیة هو ما أنزله اللّه من البیّنات والهدی، فإذا أخبر المخبر وعلم بأنّ المخبر به مما أنزله اللّه کذلک، وجب القبول، أمّا مع الشک، فلایجوز التمسّک للقبول بالآیة، لأنه من التمسّک بالعام فی الشبهة الموضوعیّة.

وقد استظهر المحقق الإصفهانی من هذه الآیة معنیً أجنبیّا عن حجیّة الخبر بالمرّة، فذهب إلی أنها ظاهرة فی حرمة کتمان ما فیه مقتضی الظهور لو لا الستر، بقرینة قوله«بَعْدِ ما بَیَّنّاهُ لِلنّاسِ». فلا نظر فیها إلی وجوب الإعلام، بل غایة ما تدلّ هو لزوم إظهار ما بیّنه اللّه، ولا تدلّ علی لزوم إعلام ما هو مستور فی نفسه لولا الإعلام.(1)

قال سیدنا الاستاذ قدّس سرّه بعد إیراده: وهذا الإستظهار لا بأس به قریب إلی الذهن والذوق.(2)

وعن السیّد الصّدر: إن کلمة «الکتاب» لعلّ المراد منه القرآن الکریم _ لا التوراة والإنجیل _ فیکون المقصود أنه بعد ما بیّنا فی الکتاب الکریم أنّ النبیّ قد

ص: 205


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 244.
2- 2. منتقی الأُصول 4 / 290.

توّفرت بشائر نبوّته فی کتب العهدین، فمن ینکر أو یکتم علمه بذلک من أهل الدیانتین عداوةً لهذا الدین وتکذیبا للقرآن، فأولئک یلعنهم اللّه ویلعنهم اللاّعنون، وبذلک تکون الآیة أجنبیّة عن مسألة حجیّة خبر الواحد.(1)

فالآیة المبارکة إمّا أجنبیّة عن البحث، وإمّا لا تدلّ علی المدّعی بوجوه.

ص: 206


1- 1. بحوث فی علم الأُصول 4 / 382.

آیة الذکر

اشارة

قوله تعالی فی سورة الأنبیاء «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ».(1)

وجه الإستدلال: إن وجوب السؤال یستلزم وجوب قبول الجواب، وإلاّ لغا وجوب السؤال. و إذا وجب القبول وجب قبول کلّما یصحّ أن یسأل عنه و یقع جوابا له، فلا خصوصیّة لمسبوقیّة بالسؤال.

إشکالات الشیخ

وأورد علیه الشیخ رحمه اللّه: بأنّ مقتضی سیاق الآیة _ سواء التی فی سورة الأنبیاء أو التی سورة النحل _ هو إرادة علماء أهل الکتاب.

و أمّا مع قطع النظر عن السیاق ففیه:

أوّلاً: إنه قد ورد فی المستفیضة أن المراد هم الأئمة الأطهار علیهم السّلام و روایتان منها صحیحتان، و هما عن محمد بن مسلم، والوشّاء.(2)

ص: 207


1- 1. سورة النحل: الآیة 43.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 63 و 60، الباب 7 من أبواب صفات القاضی، رقم 3 و 9.

وثانیا: إن الظاهر من وجوب السؤال عند عدم العلم وجوب تحصیل العلم لا وجوب السؤال للعمل بالجواب تعبّدا، کما یقال فی العرف: سلْ إن کنت جاهلاً.

و یؤید ذلک ورود الآیة فی اصول الدین التی لا یؤخذ فیها بالتعبّد إجماعا.

و ثالثا: لو سلّمنا، فإن المراد من أهل الذکر لیس مطلق من علم و لو بسماع روایةٍ من الإمام... .

الکلام حول الإشکالات

أمّا السّیاق، فإنّه لا یصلح لأنْ یصرف اللّفظ العام عن العموم، ولذا کان لفظ «الغنیمة» فی آیة الخمس(1) ظاهرا فی العموم، مع أنّ مقتضی السّیاق إرادة خصوص غنیمة دارالحرب. هذا أوّلاً.

وثانیا: إنّ السّیاق یسقط عن القرینیّة مع وجود الدلیل علی خلافه، وفیما نحن فیه روایة معتبرة عن محمد بن مسلم، رواها الشیخ الکلینی _ فی باب أنهم أهل الذکر _ قد ورد فیها النهی عن السؤال من أهل الکتاب، قال علیه السلام: إذْن، یدعونکم إلی دینهم.(2)

وأمّا الإشکالات الثلاثة:

ص: 208


1- 1. سورة الأنفال: الآیة 41.
2- 2. الکافی 1 / 211.

حول الاشکال الثالث

فقد أورد فی الکفایة علی الإشکال الثالث بقوله:

إنّ کثیرا من الرواة یصدق علیهم أنهم أهل الذکر والإطلاع علی رأی المعصوم، کزرارة و محمّد بن مسلم، و یصدق علی السؤال منهم أنه السؤال من أهل الذکر والعلم... و إذا وجب قبول روایتهم فی مقام الجواب بمقتضی الآیة، وجب قبول روایتهم و روایة غیرهم من العدول مطلقا، لعدم الفصل جزما فی وجوب القبول بین المبتدی ء والمسبوق بالسؤال، و لا بین أضراب زرارة و غیرهم ممّن یکون من أهل الذکر و إنما یروی ما سمعه أو رآه. فافهم.(1)

ویمکن الجواب: بأن موضوع وجوب القبول هو جواب أهل العلم لعلّة کونهم کذلک، و حینئذٍ، کیف یقال بعدم الفصل بین جوابهم و خبر من لیس منهم؟

وأجاب السیّد الاُستاذ بأن: ما ذکره صاحب الکفایة غیرسدید، وذلک، لأنّ موضوع القبول لیس روایة العالم کی یقال بعدم الفصل بین روایته وغیره، بل عرفت أن موضوع القبول هو جواب أهل العلم، بملاحظة جهة علمهم ومعرفتهم، بحیث یکون لذلک دخلٌ فی القبول، ومعه لا قطع بعدم الفصل بینهم وبین ما لایکون من أهل الذکر، لعدم ثبوت ملاک القبول فی خبره.(2)

ص: 209


1- 1. کفایة الأُصول: 300.
2- 2. منتقی الأُصول 4 / 292.

حول الإشکال الأوّل

واُجیب عن الإشکال الأوّل: بأنّ الروایات هذه من باب ذکر المصداق الأتم، وأهل الذکر عنوان عام.

أقول:

قد وقع الکلام بین الأعلام حول هذه الروایات من جهات:

الأولی: الکلام فی أسانیدها:

قال الشیخ: ردّ بعض مشایخنا هذه الأخبار بضعف السّند، بناءً علی اشتراک بعض الرواة فی بعضها وضعف بعضها فی الباقی.

قال: وفیه نظر، لأنّ روایتین منها صحیحتان وهما روایتا محمد بن مسلم والوشاء فلاحظ وروایة أبیبکر الحضرمی حسنة أو موثّقة. نعم، ثلاث روایات اخر منها لا تخلو من ضعف ولایقدم قطعا.

والثانیة: هل هی آحاد؟

قال الآشتیانی: إنّ الإستشهاد بالأخبار المذکورة لإرادة خصوص الأئمة من أهل الذکر مع عدم قطعیّة صدور الأخبار وإنْ بلغت حدّ الاستفاضة لایجوز قطعا حسبما عرفت مرارا من أنّ الاستعانة فی مسألة حجیّة خبر الواحد منعا وإثباتا غیرجائز عقلاً.(1)

أقول:

إنّ هذه الأخبار موثوقٌ بصدورها، لاعتضادها بأدلّةٍ من الکتاب والسنّة کما

ص: 210


1- 1. بحر الفوائد فی شرح الفرائد 2 / 285.

سیأتی، ولو لا ذلک لم یستدل بها الشیخ وصاحب الفصول وغیرهما.

الثالثة: هل تدلّ علی الإنحصار أوهی بنحو المصداق؟

ظاهر الشیخ وبعض شرّاح کتابه وصاحب الفصول هو الأخذ بظواهر تلک الأخبار، خاصّةً وأنّ بعضها یفید الحصر کما لا یخفی علی من یراجعها، وکان شیخنا الاستاذ دام بقاه یصرّ علی ذلک فی الدورة السّابقة.

وذهب آخرون: إلی أنّ تلک الأخبار غیر دالّةٍ علی الحصر، وإنما المراد ذکر المصداق الأتم، وأهل الذکر فی الآیة عنوان عام، واختاره شیخنا فی الدّورة اللاّحقة.

وقال سیدنا الاستاذ: إنّ التفسیر بمثل ذلک یرجع إلی بیان المصادیق لا لبیان المعنی المراد علی سبیل الحصر، ففی زمانهم علیهم السّلام یکونون هم مصداق الذکر الذی ینبغی السّؤال منهم، ومثل ذلک کثیر فی تفسیر الآیات الوارد فی النصوص.(1)

وقال السیّد الصّدر: لاشک فی أنهم هم أهل الذکر الحقیقیین، لأنهم ورثة کلّ الرّسالات والشرائع والکتب السّماویّة وورثة آدم ونوحٍ... إلاّ أن هذا من التفسیر بالباطن لا الظّاهر، وإلاّ، فلا معنی ولا مناسبة فی إرجاع المشککّین فی نبوّة محمد إلی الأئمة _ علیهم الصّلاة والسّلام _ لإثبات حقانیّة الرسول ودفع شبهة بشریّته.(2)

ص: 211


1- 1. منتقی الأُصول 4 / 292.
2- 2. بحوث فی علم الأُصول 4 / 384.

أقول:

والصحّیح ما ذهب إلیه الاستاذ فی الدورّة السّابقة، تبعا للشیخ وغیره، ولتوضیح ذلک نذکر اُمورا:

الأوّل: إنّ «الذکر» فی الکتاب والسنّة هو «القرآن» أو «النبّی صلّی اللّه علیه وآله» أو «مطلق ذکر اللّه». وأیّا کان المراد فی الآیة الکریمة، فالأئمة الأطهار هم أهله علی التحقیق لا غیرهم.

والثانی: إنّ الأئمة علیهم السّلام عندهم جمیع الکتب المنزلة من اللّه، وهم فی نفس الوقت صادقون ومصدّقون عند جمیع أصناف الکفّار.

والثالث: قد استشهد اللّه والرسول أمام الکفّار بأمیرالمؤمنین علیه السّلام علی نبوّة رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله.

قال تعالی: «وَیَقُولُ الَّذینَ کَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ کَفی بِاللّه ِ شَهیدًا بَیْنی وَبَیْنَکُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتابِ»،(1) فقد روی الفریقان أنّ المراد من «من عنده علم الکتاب» هو «أمیرالمؤمنین علی»،(2) فإن هذه الآیة تدلّ:

أوّلاً: علی قبول الکفار شهادة أمیرالمؤمنین،

وثانیا: علی صحّة إرجاع المشککّین فی نبوّة محمّد إلی الأئمة.

والرّابع: فرقٌ بین التفسیر وبیان المراد من اللّفظ، کما فی تفسیر «أهل الذکر» ب_«الأئمة»، وبین التفسیر الباطن، کما فی تفسیر «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقیمَ» ب_«علی» علیه السّلام. فلا ینبغی الخلط بین المقامین.

ص: 212


1- 1. سورة الرّعد: الآیة 43.
2- 2. اُنظر: تفسیر الثعلبی 5 / 303، تفسیر القرطبی 9 / 336، شواهد التنزیل 1 / 401.

وعلی الجملة، فإنّ الحقّ مع الشیخ وأتباعه فی هذا الإشکال، لأنّه إن کان المراد من «أهل الذکر» هم الأئمة علیهم السلام، فإن إخبارهم یفید العلم. فالآیة أجنبیّة عن البحث.

حول الإشکال الثانی

وأجاب المحقق الإصفهانی عن الإشکال الثانی بما حاصله:(1) إنْ متعلّق العلم فی الآیة هو العلم بالجواب لا العلم بالواقع؛ فالإشکال مندفع.

والإنصاف أن ما ذکر خلاف ظاهر الآیة، وقد أوضح ذلک سیدنا الاستاذ رحمه اللّه: بأنّ مرادنا بالعلم الذی یکون دخیلاً فی وجوب القبول لیس النظر والروّیة والدّقة، بل مطلق الرأی والإعتقاد، فقبول رأیه لو کان ناشئا عن حسّ ظاهر بلا أی مقدّمة حدسیّة لا یلازم قبول خبره بما هو خبر. وبعبارة اخری: الآیة الکریمة بمنزلة أنْ یقال: الفتوی حجّة، فهل یتصوّر دلالة هذا القول علی حجیّة الخبر، بملاحظة أن الفتوی تنشأ أحیانا عن غیر نظرٍ وإعمال حدس(2)

هذا، وقد أضاف شیخنا فی الردّ علی قول المحقق المذکور: الإستدلال بروایةٍ أخرجها الشیخ الکلینی(3) عن أبی عبداللّه علیه السّلام أنه عرض علیه بعض خطب أبیه علیه السّلام...

ص: 213


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 246.
2- 2. منتقی الأُصول 4 / 292.
3- 3. الکافی 1 / 50.

ص: 214

آیة الاُذُن

اشارة

قوله تعالی: «وَمِنْهُمُ الَّذینَ یُوءْذُونَ النَّبِیَّ وَیَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَکُمْ یُوءْمِنُ بِاللّه ِ وَیُوءْمِنُ لِلْمُوءْمِنینَ».(1)

و تقریب الإستدلال: إن اللّه مدح رسوله بتصدیقه للمؤمنین، فکان تصدیقه لهم فعلاً حسنا، و إذا کان حسنا فهو واجب.

قال الشیخ(2): و یزید فی تقریب الإستدلال وضوحا: ما رواه فی فروع الکافی فی الحسن بابن هاشم إنه کان لإسماعیل بن أبیعبداللّه علیه السلام دنانیر، و أراد رجل من قریش أن یخرج إلی الیمن، فقال له أبوعبداللّه: یا بنی، أما بلغک أنه یشرب الخمر؟ قال: سمعت الناس یقولون. فقال یا بنی: إن اللّه عزّوجلّ یقول «یُوءْمِنُ بِاللّه ِ وَیُوءْمِنُ لِلْمُوءْمِنینَ». یقول: یصدّق اللّه و یصدّق للمؤمنین. فإذا شهد عندک المسلمون فصدّقهم.(3)

ص: 215


1- 1. سورة التوبة: الآیة 61.
2- 2. فرائد الأُصول: 83.
3- 3. الکافی 5 / 299.

وإنّما قال «یزید فی الإستدلال...» لأنّ الإمام علیه السّلام قد طبّق الآیة علی إخبار المؤمنین بأن الرجل یشرب الخمر، فیفید حجیّة إخبارهم، وأنه کان علی إسماعیل ترتیب الأثر علیه بعدم إعطاء ماله إلیه. وکأنه علیه السّلام یشیر إلی أن شارب الخمر سفیهٌ واللّه تعالی یقول «وَلا تُوءْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَکُمُ»(1). فالخبر یزید وضوحا فی دلالة الآیة علی حجیّة خبر المؤمن، ولذا عَمَد إلی توجیهه بعد الإیراد علی الاستدلال.

هذا تقریب الإستدلال.

إشکال الشیخ

ثم إن الشیخ أورد علی الإستدلال بإیرادین:

الأوّل: إن المراد من «الاُذُن» هو السّریع التصدیق والإعتقاد بکلّ ما یسمع، لا من یعمل تعبّدا بما یسمع من دون حصول الإعتقاد بصدقه. فاللّه تعالی مدح نبیّه لحسن ظنّه بالمؤمنین و عدم اتّهامهم.

والثانی: إن المراد من التصدیق فی الآیة لیس جعل المخبر به واقعا و ترتیب جمیع آثاره علیه، إذ لو کان المراد ذلک لم یکن اُذن خیر لجمیع الناس، إذ لو أخبره أحد بزنا أحد أو شربه أو قذفه أو ارتداده، فقتله النبی أو جلده، لم یکن فی سماعه ذلک الخبر خیر للمخبر عنه، بل کان محض الشرّ له، خصوصا مع عدم صدور الفعل منه فی الواقع.

ص: 216


1- 1. سورة النساء: الآیة 5.

بل المراد هو الحمل علی الصحّة فقط. وذلک قد یتحقّق بمجرد حمل الفعل ذی الوجهین علی الوجه الصحیح منهما، من دون ترتیب أی أثرٍ، کما لو اغتاب المؤمن عندک أحدا من المؤمنین، فإنک تحمل اغتیابه علی الصحّة، بأنْ یکون له مجوّز للغیبة، ولکنْ لا ترتب الأثر علی قوله فی المغتاب. وقد یتحقّق بترتیب الأثر الخاصّ به، کما لو اُجریت صیغة عقد البیع فشکّ فی صحّتها، فإنه یحمل علی الصحّة ویرتّب النقل والانتقال علیه. وقد یتحقّق بترتیب جمیع آثار الواقع علیه عملاً، وهذا ما نسمیّه بالصحیح فی إخبار الثقات.

ومراد الشیخ هنا هو القسم الأوّل، فلا یکذّب المؤمن فیما قال، ولکنْ لا یرتب الأثر علی قوله، وهو ما تقتضیه أدلّة حمل فعل المسلم علی الصحّیح والأحسن،(1) وهو ظاهر الأخبار الواردة فی أنّ من حقّ المؤمن علی المؤمن أنْ یصدّقه ولا یتّهمه، خصوصا مثل قوله علیه السلام: یا أبا محمد، کذّب سمعک وبصرک عن أخیک، فإنْ شهد عندک خمسون قسامة أنه قال قولاً وقال لم أقله، فصدّقه وکذّبهم.(2)

قال:

ویؤیّد هذا المعنی ما عن تفسیر العیاشی عن الصّادق علیه السّلام من أنه «یصدّق المؤمنین، لأنه کان رؤوفا رحیما بالمؤمنین».(3)

ص: 217


1- 1. وسائل الشیعة 12 / 302، الباب 161 من أبواب أحکام العِشرة.
2- 2. وسائل الشیعة 12 / 295، الباب 157 من أبواب أحکام العشرة، الرقم 4.
3- 3. تفسیر العیّاشی 2 / 95.

فإن تعلیل التّصدیق بالرأفة والرحمة علی کافّة المؤمنین، ینافی إرادة قبول قول أحدهم علی الآخر بحیث یترتب علیه آثاره و إن أنکر المخبر عنه... .(1)

و یؤیّده أیضا: ما عن القمی فی سبب نزول الآیة: إنه نمّ منافق علی النبی صلّی اللّه علیه وآله فأخبره اللّه ذلک، فأحضره النبی و سأله، فحلف أنه لم یکن شیء مما ینمّ علیه، فقبل منه النبی، فأخذ هذا الرجل بعد ذلک یطعن علی النبی و یقول إنه یقبل کلّ ما یسمع... فردّه اللّه بقوله لنبیّه «قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَکُمْ».(2)

ومن المعلوم أن تصدیقه للمنافق لم یکن بترتیب آثار الصّدق علیه مطلقا. وهذا التفسیر صریح فی أن المراد من المؤمنین المقرّون بالإیمان من غیر اعتقاد، فیکون الإیمان لهم علی حسب إیمانهم.

قال: و یشهد بتغایر معنی الإیمان فی الموضعین _ مضافا إلی تکرار لفظه _ تعدیته فی الأول بالباء و فی الثانی باللاّم.

ثم إنه قدّس سرّه جعل یوجّه الروایة فی قضیة إسماعیل... .

رأی الکفایة

أجاب عن الإستدلال بما هو ملخّص کلام الشیخ، فلا حاجة إلی ذکر نصّ کلامه(3) رحمهما اللّه.

ص: 218


1- 1. فرائد الأُصول: 83 .
2- 2. تفسیر القمّی 1 / 300.
3- 3. کفایة الأُصول: 301.

نعم، قد لوحّ إلی أنّ المراد من التصدیق ترتیب خصوص الأثر غیرالمضّر بالمخبر.

وقال فی حاشیة الرسائل: الحمل علی الأحسن لایقتضی الحمل علی الصّدق، بل الصّدق والکذب کلاهما له وجه حسن ووجه غیرحسن، فالحمل علی الأحسن هو الحمل علی الجهة المباحة.(1)

لکنّ ظاهر کلمات الشیخ هو الحمل علی الصّدق مع رعایة جانب الإحتیاط بالنسبة إلی الواقع، فیترتب الأثر إلی حدٍّمّا، فهو تصدیق ظاهری من باب الحمل علی أحسن الوجوه کما تقدّم.

رأی العراقی

أجاب رحمه اللّه(2) بمنع کون المراد من التصدیق فی الآیة هو التعبّد بثبوت الخبر به و ترتیب الأثر علیه. و إنما هو بمعنی مجرّد إظهار القبول و عدم المبادرة إلی تکذیب المخبر فیما یخبر به والإنکار علیه، کما یشهد له تکرار لفظ الإیمان و تعدیته فی الأوّل بالباء و فی الثانی باللاّم.

قال: کما أنّ المراد بالاُذُن فیها أیضا هو ما ذکرنا، لأنه هو الذی یکون خیرا لجمیع الناس، دون المعنی الأوّل، لا أنّ المراد منه هو سریع الإعتقاد، کیف؟ و إنّ ذلک لا یناسب مقام النبوّة فضلاً عن کونه کمالاً له و موجبا لمدح اللّه إیّاه.

ص: 219


1- 1. درر الفوائد: 120.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 131 _ 132.

فکانت الآیة المبارکة فی مقام بیان آداب المعاشرة مع الناس، من إظهار القبول فیما یقولون و عدم المبادرة إلی تکذیبهم... کما قیل فی سبب نزول الآیة أنه نمّ منافق... فإن من المعلوم بالضّرورة أن تصدیقه لذلک المنافق لم یکن إلاّ صوریّا لا حقیقیّا، و إلی ما ذکرنا یشیر قوله علیه السلام: یا محمّد کذّب سمعک و بصرک...

و أمّا الروایة المتضمّنة لقصّة إسماعیل... فإنما هو لأجل عدم الأخذ بالإحتیاط.

فالمحقق العراقی موافق للشیخ و صاحب الکفایة، إلاّ فی معنی «الاُذن».

رأی السید الخوئی

وأمّا السیّد الخوئی، فکذلک، إلاّ فی ما ذکروا من مغایرة معنی «الإیمان» بالتعدیة بالباء واللاّم، قال:

و فیه: إن الإیمان بمعنی التصدیق القلبی، فإن کان متعلّقا بوجوب شیء تکون تعدیته بالباء، کما فی قوله تعالی «وَالْمُوءْمِنُونَ کُلٌّ آمَنَ بِاللّه ِ...»،(1) وإن کان متعلّقا بقول شخص، کانت تعدیته باللاّم، کما فی قوله: «وَما أَنْتَ بِمُوءْمِنٍ لَنا».(2) وحینئذٍ تکون التعدیة باللاّم بالإضافة إلی المؤمنین علی إرادة تصدیق قولهم. فلا شهادة للسّیاق علی ما ذکر.(3)

ص: 220


1- 1. سورة البقرة: الآیة 285.
2- 2. سورة یوسف: الآیة 17.
3- 3. مصباح الأُصول 2 / 191.

أقول:

ویتلخص کلام الأعاظم فی أنّ التصدیق للمؤمنین تصدیقٌ ظاهری، بخلاف الإیمان باللّه فإنه واقعی، و ذلک لتکرار «یؤمن» و اختلاف حرف التعدیة. هذا أوّلاً.

وثانیا: إن المراد بالمؤمنین هنا هم المنافقون، فإنّ النبیّ صلّی اللّه علیه وآله کان یتظاهر معهم بتصدیق قولهم و هو غیر مصدّق لهم واقعا، معتمدین علی ما فی تفسیر القمی.

و بذلک قالوا بعدم صلاحیّة الآیة للإستدلال.

رأی الاستاذ

قال شیخنا: وللنظر فیما ذکروا مجال.

أمّا الإختلاف فی التّصدیق، فهو موجود علی کلّ حال، لأنّ التصدیق بالنسبة إلی اللّه عقلی، لعدم احتمال الخلاف، و بالنسبة إلی المؤمنین تعبّدی تشریعی.

و أمّا الإختلاف فی حرف التعدیة، ففیه: ورود الإیمان بمعنی التصدیق الواقعی متعدّیا باللاّم کما فی «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ».(1)

وأمّا أن المراد من «المؤمنین» هم «المنافقون»، لما فی تفسیر القمی رحمه اللّه، فإنّ کلام القمی هنا غیر مسندٍ إلی الإمام علیه السلام. هذا أوّلاً.

و ثانیا: إنه ینافی الکتاب، فإنه ینفی بکلّ صراحة کون المنافقین مؤمنین،

ص: 221


1- 1. سورة العنکبوت: الآیة 26.

حیث یقول تعالی: «وَمِنَ النّاسِ مَنْ یَقُولُ آمَنّا بِاللّه ِ وَبِالْیَوْمِ اْلآخِرِ وَما هُمْ بِمُوءْمِنینَ»(1) و یقول: «وَللّه ِِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُوءْمِنینَ وَلکِنَّ الْمُنافِقینَ لا یَعْلَمُونَ»(2).

وثالثا: لقد جاء فی ذیل الآیة المبارکة «وَرَحْمَةٌ لِلَّذینَ آمَنُوا مِنْکُمْ»،(3) ودلالته واضحة علی ما ذکرنا.

ویؤید ذلک: روایة العیاشی التی أوردها الشیخ.

هذا، و یوضّح أن المراد من «وَیُوءْمِنُ لِلْمُوءْمِنینَ» هو التصدیق بمعنی ترتیب الأثر: قوله تعالی علی لسان إخوة یوسف لمّا قالوا لیعقوب «وَما أَنْتَ بِمُوءْمِنٍ لَنا»(4) أی: لست بمصدّق لنا و لا ترتّب الأثر علی قولنا «أَکَلَهُ الذِّئْبُ».(5)

وکذا الخبر فی قضیّة إسماعیل، فإنّه ظاهر فی التصدیق بمعنی ترتیب الأثر.

وفی خبر حمّاد بن بشیر: «أما علمت أنه یشرب الخمر؟ صدّقهم، فإنّ اللّه عزّوجلّ یقول «یُوءْمِنُ بِاللّه ِ وَیُوءْمِنُ لِلْمُوءْمِنینَ».(6)

ومن هنا، ذهب دام بقاء فی الدورتین إلی أنّ للإستدلال بالآیة لحجیّة خبر الواحد وجها قویّا، خلافا للأعلام. واللّه العالم.

ص: 222


1- 1. سورة البقرة: الآیة 8.
2- 2. سورة المنافقون: الآیة 7.
3- 3. سورة التوبة: الآیة 61.
4- 4. سورة یوسف: الآیة 17.
5- 5. سورة یوسف: الآیة 14.
6- 6. سورة التوبة: الآیة 61.

الاستدلال بالأخبار لحجیّة خبر الواحد

اشارة

واستدلّ لحجیّة الخبر الواحد بالأخبار، ولایخفی أنّ الإستدلال بها یتوقّف علی أن تکون مقطوعة الصّدور لئلاّ یکون دورّیا.

وقد قیل: إنّ أوّل من تمسّک بالأخبار لحجیّة الأخبار هو الفاضل التونی رحمه اللّه، وکأنّ المتقدّمین علیه کانوا غافلین اُو کانوا یعلمون بعدم تواترها. ولعّل الثانی هو الظاهر، وکأنّه لذا أهمل المحقق الإصفهانی هذا البحث.

وعلی الجملة، فلا کلام فی وجود روایاتٍ یمکن الإستدلال بها لهذا المدّعی، ولکنّ المهمّ إثبات تواترها، لئلاّ یلزم توقف الشئ علی نفسه، وقد جعلها الشیخ رحمه اللّه أربعة طوائف.

الطائفة الاولی

الأخبار العلاجیّة.

فقال ما ملخّصه: إنّ هذه الأخبار تدلّ علی کون حجیّة الأخبار فی نفسها

ص: 223

مفروغةً عنها عند الأئمة علیهم السلام و أصحابهم، غیر أنّهم کانوا یسألون عن الضابطة الشرعیّة فیما إذا وقع التعارض بین الخبرین، بأن کان أحدهما آمرا والآخر ناهیا.

و ذکر رحمه اللّه مقبولة عمر بن حنظلة فقال: بأنها و إنْ وردت فی الحکم حیث أجاب الإمام: بأن الحکم ما حکم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما فی الحدیث،(1) إلاّ أنّ ملاحظة جمیع الروایة تشهد بأن المراد بیان المرجّح للروایتین اللتین استند إلیهما الحاکمان.(2)

ثم ذکر مرفوعة زرارة،(3) و روایة ابن أبی الجهم(4) عن الرضا علیه السلام.

و قال: روایة ابن المغیرة(5) تدلُّ علی اعتبار خبر کلّ ثقة.

إشکالٌ ودفع

لکن وقع الإشکال من جهة أنّ الحجّتین المتعارضین أعمّ من أن یکونا مشکوکی الصّدور أو مقطوعی الصّدور.

فأجاب المیرزا: بأنّ الموضوع فی الأخبار العلاجیّة هو الخبران المشکوک صدورهما، لعدم معقولیّة وقوع المعارضة بین الخبرین المقطوع بصدورهما.(6)

ص: 224


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 106 الباب 9 من أبواب صفات القاضی، رقم 1.
2- 2. فرائد الأُصول: 84.
3- 3. عوالی اللئالی 4 / 133.
4- 4. وسائل الشیعة 27 / 121 الباب 9 من أبواب صفات القاضی، رقم 40.
5- 5. المصدر، رقم: 41.
6- 6. أجود التقریرات 3 / 198.

و فی مصباح الاصول: من الواضح أنه لیس مورد الأخبار العلاجیّة الخبرین المقطوع بصدورهما، لأنّ المرجحات المذکورة فیها لا تناسب العلم بصدورهما، و أنّ الظاهر من مثل قوله: «یأتی عنکم خبران متعارضان» کون السؤال عن مشکوکی الصّدور. مضافا إلی أن وقوع التعارض بین مقطوعی الصّدور، بعید فی نفسه.(1)

لکن قد یقال: بمنع ظهور الرّوایة فی الخبرین المشکوک صدورهما، والقول بعدم وقوع المعارضة بین المقطوعی الصّدور _ فضلاً عن الإستبعاد _ ممنوع، لأنه إنما یمتنع فیما لو حصل القطع فی کلّ من الخبرین من جمیع الجهات، أعنی السّند والدلالة وجهة الصّدور، فلو صدر أحدهما لبیان الحکم الواقعی والأخر تقیّةً، وقع التعارض، و إنْ کانا مقطوعی الصّدور... فإذا أمکن وقوع التعارض بینهما، وجب الرجوع إلی المرجّحات.

و أمّا أنّ المرجّحات لا تناسب العلم بصدورهما، کموافقة الکتاب و مخالفته، إذ لا یعقل أن یکون مقطوع الصدور لکنه مخالف للکتاب.

فالجواب: إنّ المخالفة بالتباین مستحیلة، أمّا بالإطلاق والتقیید فلا، إذ یمکن صدور الخبر المقطوع الصّدور المخالف لعموم الکتاب أو إطلاقه فیکون مخصّصا أو مقیّدا.

فلا ریب فی عموم و إطلاق الأخبار العلاجیّة و عدم اختصاصها بمقطوعی الصّدور، فالإستدلال بها لحجیّة خبر الواحد المشکوک الصّدور تام.

ص: 225


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 191.

لکنْ یبقی الکلام فی صدور الأخبار العلاجیّة، لئلاّ یلزم الدّور بالإستدلال بها. والظاهر: عدم تمامیّة الاستدلال بهذه الأخبار بوحدها، و دعوی القطع بصدورها _ کما عن المیرزا رحمه اللّه(1) _ مردودة، لقلّة هذه الأخبار عددا، مع أن بعضها مراسیل، فکیف یثبت التواتر؟

الطّائفة الثانیة

الأخبار الآمرة بالرجوع إلی أشخاصٍ معیّنین فی الروایة:

کقوله علیه السلام: إذا أردت الحدیث فعلیک بهذا الجالس.(2) مشیرا إلی زرارة.

و قوله فی روایةٍ اخری: و أمّا ما رواه زرارة عن أبی، فلا یجوز ردّه.(3)

و قوله لابن أبی یعفور _ بعد السؤال عمّن یرجع إلیه إذا احتاج أو سئل عن مسألةٍ _ فما یمنعک عن الثقفی _ یعنی: محمّد بن مسلم _ فإنه سمع من أبی أحادیث و کان عنده وجیهاً.(4)

و قوله _ فی جواب السؤال: أفیونس بن عبدالرحمن ثقة نأخذ معالم دیننا عنه؟ _ «نعم».(5)

ص: 226


1- 1. أجود التقریرات 3 / 198.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 143، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم 19.
3- 3. المصدر، رقم: 17.
4- 4. وسائل الشیعة 27 / 144، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم 23.
5- 5. المصدر، رقم 33.

و قوله: «علیک بالأسدی»(1) یعنی أبابصیر.

و قوله: علیک بزکریا بن آدم المأمون علی الدین والدنیا.(2)

قال الشیخ: فقد أرجع الأئمة علیهم السلام آحاد الرواة إلی آحاد أصحابهم بحیث یظهر منه عدم الفرق بین الفتوی والروایة. بل یظهر من الخبر الوارد فی یونس: أنّ قبول قول الثقة کان أمرا مفروغا عنه عند الراوی.

قال: و هذه الطائفة مشترکة مع الطائفة الاولی فی الدلالة علی اعتبار خبر الثقة المأمون.

أقول:

ذکر المیرزا أنّ هذه الطائفة من الأخبار بوحدها متواترة بالتواتر المعنوی. و سیأتی التفصیل.

الطائفة الثالثة

الأخبار الآمرة بالرجوع إلی الثقات والعلماء، علی وجهٍ یظهر منه عدم الفرق بین فتواهم بالنسبة إلی المقلّدین و روایتهم بالنسبة إلی المجتهدین. مثل: «و أمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنهم حجّتی علیکم و أنا حجة اللّه علیهم.(3)

ص: 227


1- 1. المصدر، رقم 15.
2- 2. المصدر، رقم 27.
3- 3. کمال الدین: 484.

ومثل: إذا نزلت بکم حادثة لاتجدون حکمها فیما روی عنّا، فانظروا إلی ما رووه عن علی.(1)

ومثل ما فی الإحتجاج عن تفسیر العسکری فی قوله تعالی: «وَمِنْهُمْ أُمِّیُّونَ لا یَعْلَمُونَ الْکِتابَ»(2)...

و مثل: اعتمدا فی دینکما علی کلّ مسنٍّ فی حبّنا کثیر القدم فی أمرنا.(3)

و مثل: لا تأخذنّ معالم دینک من غیر شیعتنا، فإنک إنْ تعدّیتهم أخذت دینک من الخائنین الذین خانوا اللّه و رسوله و خانوا أماناتهم...(4)

و مثل: خذوا بما رووا و ذروا ما رأوا.(5)

و مثل: لا عذر لأحدٍ فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا... .(6)

الطّائفة الرّابعة

الأخبار التی یظهر من مجموعها جواز العمل بخبر الواحد، و إن کان فی دلالة کلّ واحد علی ذلک نظر. مثل: «من حفظ علی أُمّتی أربعین حدیثا بعثه اللّه فقیها عالما یوم القیامة(7) و أمثال هذا الحدیث، مما ورد فی روایة الحدیث و

ص: 228


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 91، الباب 8 من أبواب صفات القاضی، رقم 47.
2- 2. تفسیر العسکری: 299 _ 301 والآیة فی سورة البقرة: آیه 78.
3- 3. وسائل الشیعة 27 / 151، الباب 11 من أبواب صفات القاضی رقم 45.
4- 4. المصدر، رقم: 42.
5- 5. کتاب الغیبة للشیخ: 389.
6- 6. وسائل الشیعة 27 / 149، الباب 11 من أبواب صفات القاضی رقم: 40.
7- 7. وسائل الشیعة 27 / 94، الباب 8 من أبواب صفات القاضی رقم 58 ومابعده.

تعلّمه و تعلیمه و نشره، و هی کثیرة جدّا.

قال الشیخ: و ادّعی فی الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة.(1) إلاّ أن القدر المتیقّن منها هو خبر الثقة الذی یضعف فیه احتمال الکذب، علی وجه لا یعتنی به العقلا و یقبّحون التوقف فیه لأجل ذلک الإحتمال، کما دلّ علیه ألفاظ «الثقة» و«المأمون» و«الصّادق» و غیرها الواردة فی الأخبار المتقدّمة... .

أقول:

هذه هی الأخبار کما صنّفها الشیخ وتبعه علی ذلک غیره. وکما ذکرنا من قبل، فإنّ دلالة کثیرٍ منها واحدا واحدا تامّة، ولکنّ المهمّ تواترها، وقد وقع الکلام بین الأعلام فی معنی التواتر وأقسامه، وفی تواتر الأخبار المذکورة.

فههنا مطالب:

المطلب الأول فی معنی التواتر.

وقد اختلفت کلمات العلماء من الخاصّة والعامّة فی تعریف التواتر، فمنهم من اعتبر فیه عددا معیّنا، ثم اختلفوا فی تعیین العدد، و منهم من لم یعتبر، بل قالوا: بأنّ المتواتر هو الخبر الذی رواه جماعة یمتنع عادة تواطؤهم علی الکذب و أفاد العلم. وهذا هو الصّحیح.

المطلب الثانی فی أقسام التواتر، فقد قالوا إنه علی ثلاثة أقسام:

1 _ التواتر اللّفظی، وهو قلیل جدّا، وقد مثّلوا له بقوله صلّی اللّه علیه وآله: إنّما الأعمال بالنیات. وقوله: من کنت مولاه فهذا علی مولاه.

ص: 229


1- 1. فرائد الأُصول: 88.

2 _ التواتر المعنوی، بأنْ یروی جماعة یمتنع تواطؤهم علی الکذب حدیثا بألفاظ مختلفةٍ تشترک فی المعنی الواحد، کالأخبار الواردة فی حروب أمیرالمؤمنین المشترکة فی الدلالة علی شجاعته.

3 _ التواتر الإجمالی، بأنْ نعلم إجمالاً بصدور بعض الأخبار الواردة عن جماعةٍ یمتنع تواطؤهم علی الکذب، کالأخبار عن القضایا الواقعة فی البلد، فإنّ بعضها یقینیٌّ حتما.

هذا، وقد أنکر المیرزا _ فی الدورة الثانیة من بحثه _ وجود التواتر الإجمالی فقال: بأنّ الأخبار إذا بلغت من الکثرة ما بلغت، فإن کان بینها جامع یکون الکلّ متّفقا علی نقله، فهو راجع إلی التواتر المعنوی، وإلاّ فلا وجه لحصول القطع بصدق واحد منها بعد جواز کذب کلّ واحدٍ منها فی حدّ نفسه وعدم ارتباط بعضه ببعض.

قال: فالحق هو انحصار التواتر فی القسمین الأولین لا غیر.(1)

فأشکل فی مصباح الاصول علی استاذه بأنّ: احتمال الکذب فی کلّ خبر بخصوصه غیر قادح فی التواتر الإجمالی، لأن احتمال الصّدق والکذب فی کلّ خبرٍ بخصوصه لا ینافی العلم الإجمالی بصدور بعضها، وإلاّ لکان مانعا عن التواتر المعنوی واللّفظی أیضا، إذْ کل خبر فی نفسه محتمل للصّدق والکذب (قال):

وبالجملة: التواتر الإجمالی مما لا مجال لإنکاره، فإن کثرة الأخبار المختلفة ربما تصل إلی حدٍّ یقطع بصدور بعضها وإنْ لم یتمیّز بعینه، والوجدان أقوی شاهد

ص: 230


1- 1. أجود التقریرات 3 / 197.

وأوضح دلیل علیه، فإنا نعلم علما وجدانیّا بصدور جملةٍ من الأخبار الموجودة فی کتاب الوسائل ولا نحتمل کذب الجمیع... .(1)

والتحقیق عدم تمامیّة نقضه، وتمامیّة الإستدلال بالوجدان. فالحقّ وجود التواتر الإجمالی کبرویّا، والعجب أنه لم ینبّه علی اختلاف رأی استاذه لاهنا ولا فی أجود التقریرات، وستأتی عبارة المیرزا فی الدورة الاولی.

المطلب الثالث: فی التواتر فیما نحن فیه

قال المحقق الخراسانی فی الکفایة: إنها متواترة إجمالاً، ضرورة أنه یعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم علیهم السّلام.(2)

وقال فی حاشیة الرسائل:

لا یقال: وجه الإستدلال بالأخبار مع عدم تواترها لفظا ومعنی؛ لوضوح اختلافها بألفاظها ومضامینها وإن کان بینها قدر مشترک کما لا یخفی، ضرورة أن وجود القدر المشترک بینها لا یوجب تواتر الأخبار بالنسبة إلیه ما لم یحرز أن المخبرین بصدد الإخبار عن معنی واحد، وإن اختلافهم إنما یکون فی خصوصیّاته، کیف! والأخبار الکثیرة المتفرّقة یکون بین مضامینها قدر مشترک لا محالة، ولا یفید کثرتها القطع به أصلاً.

لأنّا نقول: وجه الإستدلال إنما هو تواترها علی نحو الإجمال، بمعنی أن کثرتها توجب القطع بصدور واحد منها، وهو کاف حجّة علی حجیّة الخبر الواحد

ص: 231


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 193.
2- 2. کفایة الأُصول: 302.

فی الجملة فی قبال نفی حجیّته مطلقا. وقضیّته الإقتصار علی إعتبار خصوص ما دلّ علی اعتباره من أنحاء خبر الواحد مثل خبر العدل أو مطلق الثقة أخصّ الطائفة التی علم بصدور واحد بینهما مضمونا. نعم، یمکن التعدّی عنه إلی غیره لو وجد مثل هذا الخبر ناهضا علی حجّیّة غیرهذا النحو.

والإنصاف: حصول القطع بصدور واحد ممّا دلّ منها علی حجّیّة خبر الثقة، ولا یخفی ظهور هذه الطائفة فی أن اعتبار هذا الوصف فی المخبر إنّما هو لأجل حصول الوثوق بالصّدور، ففی الحقیقة تکون العبرة به لا بها، فلو حصل من غیرها یکون مثله فی الإعتبار، ومن المعلوم عدم إنحصار أسباب الوثوق بالصّدور بوثاقة الرّاوی، بل هی تکون فی الأخبار المدوّنة فی الکتب المعتبرة سیّما الکتب الأربعة التی علیها المدار فی الأعصار والأمصار، وما یحذو حذوها فی الإعتبار کثیرة جدّا:

منها: وجود الخبر فی غیر واحد من الأصول المعتبرة المتداولة فی الأعصار السّابقة.

ومنها: تکرّره ولو فی أصل واحد بطرق مختلفة وأسانید عدیدة معتبرة.

ومنها: وجوده فی أصل معروف الإنتساب إلی من أُجمع علی تصدیقه، کزرارة ونظراءه، وعلی تصحیح ما یصحّ عنه کصفوان بن یحیی وأمثاله.

ومنها: کونه مأخوذا من الکتب التی شاع بین السّلف الوثوق بها والإعتماد علیها، ولو لم یکن مؤلّفوها من الإمامیّة.

إلی غیر ذلک مما لا یخلو عن أکثرها الکتب التی ألّفت لتکون مرجعا للأنام فی الأحکام.

ص: 232

ویشهد علی ذلک _ أی علی کون العبرة علی الوثوق بالصّدور مطلقا _ : أنه کان المتعارف بین القدماء علی ما صرّح به الشیخ بهاء الدین فی «مشرق الشمسین» إطلاق الصحیح علی ما اعتضد بما یقتضی الإعتماد علیه، أو إقترن بما یوجب الوثوق به والرّکون إلیه، ولم یکن تقسیم الحدیث إلی الأقسام الأربعة المشهورة معروفا بینهم وأنه کان من زمان العلاّمة رحمه اللّه(1)

وقال المحقق العراقی:

لا یخفی أن التواتر المدعی فی تلک الأخبار وإن لم یکن لفظیّا إلا أنه یکون معنویا، لوضوح کون الجمیع بصدد بیان معنی واحد وهو حجیة قول الثقة ووجوب العمل علی طبقه، بل وظاهر بعضها هو کون وجوب العمل بخبر الثقة أمرا مرکوزا عندهم بحیث کان من المسلّمات عند أصحاب الأئمة علیهم السلام... وحینئذٍ فلا ینبغی الإرتیاب فی حجّیّة خبر الثقة ووجوب الأخذ به.(2)

وقال المیرزا فی دورته الاولی:

ولا یتوهّم أنّ هذه الأخبار من الأخبار الآحاد ولایصحّ الإستدلال بها لمثل المسألة، فإنها لو لم تکن أغلب الطوّائف متواترةً معنیً، فلا إشکال فی أن مجموعها متواترة إجمالاً، للعلم بصدور بعضها عنهم صلوات اللّه علیهم أجمعین.(3)

ص: 233


1- 1. درر الفوائد: 121 _ 122.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 134.
3- 3. فوائد الأُصول 3 / 191.

وقال فی الدورة الثانیة:

یمکن أنْ یقال: إنّ خصوص الأخبار الدالّة علی جواز العمل بخبر الثقة متواتر، مضافا إلی احتفاف بعضها بالقرینة القطعیّة من جهة اعتماد الأصحاب علیها، فیکون جواز العمل به مقطوعا لا محالة.(1)

أقول:

أمّا التواتر اللّفظی، فلا ریب فی انتفائه.

وأمّا التواتر المعنوی فی خصوص الروایات الواردة فی الرجوع إلی الأشخاص _ کما ذکر المیرزا _ ، وهی الطائفة الثانیة، فالظاهر عدم تمامیّة، لأنّها علی الأکثر عشر روایات، وهذا العدد لا یورث العلم.

یبقی الکلام فی تواتر مجموع الطّوائف معنیً أو إجمالاً، فأقول:

إنه قد اعتبر فی التواتر الإستحالة العادیّة لتواطؤ المخبرین علی الکذب عند الإنسان العادی، دون القطّاع والوسواس، وقد اختلف العلماء فی العدد المعتبر فیهم علی أقوالٍ، لکنّ المهم بلوغهم عددا یستحیل معه عادةً تواطؤهم علی الکذب، خلافا لمن أنکر إفادة التواتر القطع مطلقا _ لأنّ المجموع لیس إلاّ الأفراد، وکلّ منهم یحتمل فیه الصّدق والکذب، والإعتماد علی حساب الإحتمالات وأنّه کلّما ازداد العدد قلّ احتمال الکذب، لا یُفید للجواب، لأنّ غایة قلّة احتمال الکذب تفید الظن القویّ بالصّدق، والمدّعی هو إفادة التواتر للقطع _ وهذه الإستحالة دلیلها الوجدان، ولا طریق لإقامة البرهان علیها.

ص: 234


1- 1. أجود التقریرات 3 / 199.

هذا، ولا یخفی اعتبار العدد _ علی ما ذکر _ فی کلّ طبقةٍ من طبقات سند الرّوایة.

هذه هی کبری التواتر، سواء کان لفظیّا أو معنویّا أو إجمالیّا.

إنما الکلام فی انطباق هذه الکبری علی ما نحن فیه، وذلک: لأنّ مجموع روایات الطوائف الأربع تبلغ المأتین روایة، وهذا العدد ضخمٌ، ولکنْ یعتبر فی کلّ روایةٍ منها تمامیّة السّند والدلالة، ثم أنْ یکون العدد فی کلّ طبقةٍ مفیدا للعلم، من جهة امتناع تواطؤ المخبرین علی الکذب.

وقد رأینا بعد التحقیق فی الأخبار: أن بعضها مرسل، وبعضها مرفوع، والمسند منها قد تکرّر الراوی الواحد فی عدّةٍ منها، فمثلاً: فی عدّةٍ منها (أحمد بن محمّد) وهو لا یخلو عن (ابن عیسی) و(ابن خالد).

فإذا عزل المرسل والمرفوع، وعزل المسند من قبیل ما ذکرنا، ینزل العدد من المأتین إلی الأقلّ من العشرین هذا.

مضافا إلی وجود التعارض بین نفس الأخبار، فأخبار الطائفة الأولی متعارضة فی نفسها، والأصل الأوّلی فی الخبرین المتعارضین عندهم هو التساقط، وإنما نرفع الید عن هذا الأصل بالمرجّحات أو القول بالتخییر، لکنّ الترجیح بخبر الواحد مستلزم للدّور.

ومضافا إلی أنّ الواسطة بیننا وبین أصحاب الأئمة هم ثلاثة: الکلینی والصّدوق والشیخ، ونحن وإنْ حصل لنا القطع بما یخبر به الواحد من هؤلاء، لکنّ هذا القطع یأتی من جهة شأن کلّ واحد منهم، وکلامنا فی التواتر.

ص: 235

وبما ذکرنا یظهر عدم تحقق التواتر.

ولکنّ الذی یهوّن الخطب هو أنّ المقصود من دعوی التواتر حصول العلم.

ونحن عندنا علمٌ بصدور بعض أخبار الطوائف الأربع وإنْ لم یثبت التواتر.

والحاصل: إن نتیجة التواتر _ وهو العلم _ حاصلٌ فیما نحن فیه.

المطلب الرابع إنه بناءً علی قبول التواتر الإجمالی، کما علیه المحقق الخراسانی والمیرزا فی الدّورة السّابقة. وغیرهما، فلابدّ من الأخذ بالمضمون الأخصّ من بین الأخبار وجعله القدر المقطوع به، لأنّ ذلک مقتضی التواتر الإجمالی، وقد نصّ علیه المحقق الخراسانی فی حاشیة الرسائل فی کلامه المنقول عنه سابقا، وکذلک السیّد الخوئی حیث قال: ومقتضاه الإلتزام بحجیّة الأخصّ منها المشتمل علی جمیع الخصوصیّات المذکورة فی هذه الأخبار، فیحکم بحجیّة الخبر الواجد لجمیع تلک الخصوصیّات باعتباره القدر المتیقّن من هذه الأخبار الدالّة علی الحجیّة...(1)

وقد وقع البحث بینهم فی تعیین القدر المتیقّن، فذکر المحقق العراقی أنّه الصحیح الأعلائی،(2) وذهب المیرزا إلی أنّ القدر المتیقّن دلالتها علی حجیّة الخبر الوثوق به صدورا أو مضمونا.(3)

وهذا کلامه فی الدورة السّابقة، وأمّا فی اللاّحقة، فقد قال ما نصّه:

ص: 236


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 193.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 136، تعلیقة فوائد الأُصول 3 / 189.
3- 3. فوائد الأُصول 3 / 189.

ولا یخفی أن أخصّ تلک الأخبار مضمونا هو الأخبار الدالّة علی جواز العمل بخبر الثقة، کما صرّح بذلک فی جملةٍ من أخبار الطّائفة الثانیة وبعض الأخبار من الطّائفة الثالثة، بل یمکن أن یقال: إنّ خصوص الأخبار الدّالة علی جواز العمل بخبر الثقة متواتر، مضافا إلی احتفاف بعضها بالقرینة القطعیّة من جهة اعتماد الأصحاب علیها، فیکون جواز العمل به مقطوعا لا محالة. بل قد عرفت أن تعلیق وجوب التبیّن علی کون الجائی بالنبأ فاسقا کما فی آیة النبأ، إنما هو من جهة عدم تحرّز الفاسق عن الکذب، لِما عرفت من اقتضاء مناسبة الحکم والموضوع ذلک. وعلیه، فخبر الثقة الذی یتحرّز عن الکذب _ وإنْ لم یکن إمامیّا _ هو القدر المتیقّن من أدلّة حجیّة الخبر.

ثم إن هذه الأخبار وإنْ کان لا یستفاد منها حجیّة الخبر الضعیف المنجبر بالشهرة، کما کانت تستفاد من آیة النبأ، إلاّ أنّ الخطب فی ذلک هیّن، بعد عدم کون هذه الأخبار فی مقام إثبات حکم ابتدائی تأسیسی، وإنما هی بصدد إمضاء ما جرت علیه السّیرة العقلائیّة. ولا ریب أن سیرتهم قد جرت علی العمل بالخبر الموثق الأعم من کون الخبر بنفسه أو کون راویه موثوقا به، وبذلک تثبت حجیّة الخبر الصحیح القدمائی مطلقا. واحتمال حجیّة خصوص الخبر الصحیح بین المتأخرین _ کما علیه جماعة من المتأخرین _ ضعیف لا یمکنالقول به أصلاً.(1)

ص: 237


1- 1. أجود التقریرات 3 / 199.

ردّ الاستاذ علی المیرزا

وقد تناول شیخنا دام بقاه هذا الکلام بالنقد والردّ، فقال بأنه یشتمل علی خمس دعاوی کلّها مردودة.

أمّا دعوی أنّ أخص الأخبار مضمونا هو الأخبار الدالّة علی جواز العمل بخبر الثقة، فیدفعها: أن من بین أخبار الطائفة الثانیة ما ورد فی زکریا بن آدم من أنه «المأمون علی الدین والدنیا»، وهذا أخصّ من الثقة، لأن من یکون کذلک فهو فوق العدالة بمراتب، ولا یمکن رفع الید عن هذه الخصوصیّة إلاّ بالإجماع علی عدم دخلها، ولا یرفع إلاّ العدالة المطلقة، ویبقی اشتراط مطلق العدالة، کما دلّ علیها خبر الإحتجاج: أمّا من کان من الفقهاء صائنا لنفسه...

وأیضا، فإنّ الأخبار التی اُرجع فیها إلی أشخاص الأصحاب، لا یُعلم أنّ وجه الإرجاع إلیهم هو الوثاقة أو العدالة، فهی من هذا الحیث مجملة، فیؤخذ بالقدر المتیّقن منها وهو العدالة.

وأمّا دعوی احتفاف بعضها بالقرینة القطعیّة من جهة اعتماد الأصحاب علیها فیکون جواز العمل به مقطوعا لا محالة. فیدفعها: أنه إن أراد اعتماد کلّ الأصحاب، فهو منتف یقینا. وإنْ أراد اعتماد المشهور، فإنّ مبانی الفقهاء فی الاعتماد علی الرواة وأخبارهم مختلفة، فمنهم من یعتمد علی الخبر بمجرّد تکرّره فی الاصول الأربعمائة، ومنهم من یعتمد علی الخبر إذا اتفق المشایخ الثلاثة علی روایته، ومنهم من یعتمد علی الخبر إنّ کان الحکم موافقا للقاعدة، وإذا کنّا مخالفین مع الفقهاء فی جمیع هذه المبانی کیف نثق بتلک الأخبار؟

وأمّا دعوی أنّ تعلیق وجوب التبیّن علی کون الجائی بالنبأ فاسقا فی آیة

ص: 238

النبأ إنّما هو من جهة عدم تحرز الفاسق عن الکذب... فیدفعها: أن تعلیق وجوب التبیّن علی مجئ¨ الفاسق بالنبأ، یقتضی _ سواء عن طریق مفهوم الوصف أو مفهوم الشرط _ دخالة العدالة فی حجیّة الخبر، ورفع الید عن هذا الظهور یحتاج إلی القرینة القویّة أو الحجّة علی خلافه، ولذا تمسّک المیرزا لرفع الید عن اعتبار العدالة فی المخبر إلی الوثاقة بقرینة مناسبة الحکم والموضوع.

ومن الواضح أنّ مناسبة الحکم والموضوع لا توجب إلغاء الخصوصیّة فی کلّ موردٍ، فهی فی مثل «إغسل ثوبک إذا لاقی الدم» توجب إلغاء خصوصیّة الثوب، أمّا فیما نحن فیه فلا، لأنّ ملکة العدالة أقوی من الوثاقة، فإن الثقة یحترز من الکذب، والعادل یحترز منه ومن سایر المعاصی، وهذه الحالة یمکن أنْ تکون سببا لدخالة العدالة فی الراوی شرعا من أجل التحفّظ علی الأحکام الإلهیّة، ومع هذا الإحتمال لا تصلح المناسبة لرفع الید عن تلک الخصوصیّة إلاّ ظنّا، وإنّ الظنّ لایغنی من الحق شیئا.

وأمّا دعوی أنّ هذه الأخبار لمّا کانت بصدد إمضاء ماجرت علیه السّیرة العقلائیة، وأنّها قائمة _ بلا ریب _ علی العمل بالخبر الموثّق الأعم من کون الروایة بنفسها أو کون راویها موثوقا به، فهی تثبت حجیّة الخبر الصحیح القدمائی مطلقا. فیدفعها: إنه إن کانت الأخبار إمضاء للسیّرة، فإن الدلیل حینئذٍ هو السیرة لا الأخبار، وکلامنا فی دلالة الأخبار. ومع التنزّل عن هذا الإشکال، فإنّ عمل المشهور بالخبر الضّعیف لا یفید الوثوق به بعد علمنا باختلاف مسالکهم کما أشرنا من قبل.

فظهر اندفاع ما ذکره المیرزا من جمیع الوجوه.

ص: 239

التحقیق فی المقام بالنظر إلی کلمات الأعلام

ثم إنه دام بقاه تعرّض لما ذهب الیه المحقّق الخراسانی وأتباعه من أنّ مقتضی القاعدة هو الأخذ بالأخصّ من الأخبار بناءً علی تواترها إجمالاً.

أمّا من حیث الکبری، فقد انتهی تحقیقه إلی عدم ثبوت التواتر، ثم ذکر أن عدم ثبوته لا یضرّ بالاستدلال، لأن المهمّ حصول العلم بالصّدور بالنسبة إلی بعض الأخبار، فلایلزم الدور.

وأمّا من حیث الصغری، فذکر عن العلماء اعتبار الصحیح الأعلائی، أی: اعتبار کون الراوی ثقةً عدلاً إمامیّا، لکونه أخصّ الرّوایات، فأشکل علیهم بوجود الأخصّ منه، وهو کون الرّوایة بالإضافة إلی ذلک مجمعا علیها، للخبر عن الإمام الکاظم علیه السلام فی جواب هارون لمّا سأله أن یلقی إلیه کلاما جامعا فی الدین، وهذا نصّ الخبر: قال علیه السلام: فقال _ یعنی هارون _ أحبّ أن تکتب لی کلاما موجزا له أُصول وله فروع، ویکون ذلک ممّا علمته من أبی عبداللّه _ علیه السلام _ ... فکتب: بسم اللّه الرحمن الرحیم، جمیع أمور الدنیا والدین أمران: أمرٌ لا اختلاف فیه وهو اجتماع الأمّة علی الضرورة التی یضطرّون إلیها والأخبار المجمع علیها... وأمرٌ یحتمل الشکّ والإفکار... .(1)

وهذا الخبر وإنّ لم یکن معلوم الصّدور، إلاّ أن المفروض ضرورة الأخذ بأخصّ ماجاء فی الطوائف الأربع من الأخبار.

لکنّ المحقق العراقی تنازل عن اعتبار العدالة فقال: ولکن مع ذلک أمکن أن

ص: 240


1- 1. مستدرک الوسائل 17 / 293، الباب 8 من أبواب صفات القاضی، الرقم 31.

یقال فی الإنتقال من العدالة إلی الوثاقة: ربما یستظهر أن المناط فی الحجیّة هو هذه الجهة، وإن کان الموثق عند الإمام علیه السّلام فوق العدالة، مؤیّدا ذلک بالإرجاع إلی کتب بنی فضال لمحض وثاقتهم، کما لا یخفی.(1)

وفی مصباح الاصول بعد أن قرّر الصحیح الأعلائی: نعم، ذکر صاحب الکفایة رحمه اللّه أن المتیقَّن من هذه الأخبار وإنْ کان هو خصوص الخبر الصحیح، إلاّ أنه فی جملتها خبر صحیح یدلّ علی حجیّة الخبر الموثّق، فتثبت به حجیّة خبر الثقة وإنْ لم یکن عادلاً.

قال: و ما ذکره متین، ولعلّ مراده من الخبر الصحیح الدال علی حجیّة خبر الثقة قوله علیه السّلام: «نعم» بعد ما قال السّائل: أفیونس بن عبدالرحمن ثقة نأخذ معالم دیننا عنه؟(2) فإنّ ظاهره کون حجیّة خبر الثقّة مفروغا عنها بین الإمام

والسائل وأن السؤال ناظر إلی الصّغری فقط(3)

وقد تعقّب الاستاذ دام بقاه هذه الکلام بالنظر فی سند الرّوایة المذکورة ودلالتها. أمّا سندها ففی رجال الکشّی: عنه عن محمد بن نصیر عن محمد بن عیسی عن عبدالعزیز ابن المشهدی والحسن بن علی بن یقطین جمیعا، عن أبیالحسن الرّضا علیه السّلام.

فقد یقال: بأنّ هؤلاء کلّهم عدول، فالإستدلال بها لحجیّة خبر الثقة غیرتام،

ص: 241


1- 1. تعلیقة فوائد الأُصول 3 / 189.
2- 2. رجال الکشی: 490، الرقم 935.
3- 3. مصباح الأُصول 2 / 194.

الراوی، لأنّ توثیق علماء الرجال للّراوی تعدیل له.

لکنّه توهّم، لأنّ الغرض من توثیق الراوی لیس إلاّ تصحیح روایته من جهة صدورها، ولا دلالة للتوثیق علی احترازه من سایر المعاصی غیر الکذب. علی أنّ الشیخ والعلاّمة وغیرهما من القائلین بفسق العامّة یوثّقون بعض الرواة منهم کالسکونی وأضرابه، وهذا دلیلٌ علی أنّ التوثیق لیس بشهادةٍ بالعدالة.

وإذا لم یکن التوثیق دلیلاً علی العدالة، فإنّه لم یرد فی حقّ محمد بن نصیر إلاّ قول الشیخ «ثقة کثیر العلم مشهور به»،(1) کما أنّ قول الفضل بن شاذان بحق عبدالعزیز بن المهتدی: «وکان خیرَ قُمّیٍّ فی مَن رأیته»(2) الذی یدّلُ علی مرتبةٍ فوق العدالة، فی سنده علی بن محمد بن قتیبة ولم یثبت وثاقته.

وعلی الجملة، فإنّ الإستدلال بهذه الروایة لحجیّة خبر مطلق الثقة تام.

ولکن یرد علیه أنها مطلقة، وتقیّدها الأخبار الواردة فی النهی عن الأخذ من غیر الشیعة، المعلّلة بأنهم خانوا اللّه ورسوله،(3) بناءً علی الوثوق بصدورها لقوّة مضامینها وغیرذلک. فتأمّل.

وتقیّدها أیضا الأخبار الواردة فی الأخذ من کلّ مسنٍّ فی حبّهم.(4)

وما ورد فی أنه «لا عذر لأحدٍ فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا»(5) الظّاهر

ص: 242


1- 1. رجال الشیخ: 440.
2- 2. رجال الکشی: 506، الرقم 974.
3- 3. وسائل الشیعة 27 / 150، وقد تقدّم.
4- 4. المصدر، رقم 45، وقد تقدّم.
5- 5. وسائل الشیعة 27 / 150، رقم 40، وقد تقدّم.

فی اشتراط الإمامیّة فی الرواة.

لا یقال: إن الطرفین مثبتان ولایجمع بین الخبرین المثبتین.

لأنا نقول: إنّ فی المقام خصوصیّة تقتضی رفع الید بالمقید عن إطلاق خبر عبدالعزیز، وهی کون المقیّد فی مقام التحدید وبیان شرائط الاعتبار، والأصل فی القیود هو الإحترازیّة.

ومن الأدلّة علی حجیّة خبر الواحد من الأخبار: قوله علیه السّلام: العمری ثقتی، وأضاف علیه السّلام «فما أدّی إلیک فعنّی یؤدی، فاسمع له وأطع» هذا الخبر الذی تمسّک به القائلون بنظریّة جعل المؤدّی والقائلون بالطّریقیّة معا، وهو وإنْ کان یدلُّ علی شأنٍ کبیرٍ، لکنّ مورد الإستدلال هو التعلیل إذ قال: «فإنه الثقة المأمون»،(1) فإنّ عموم هذا التعلیل یصلح للإستدلال علی المدّعی، ولا یضرّ بذلک وجود الجملة السّابقة فی حقّ شخص العمری الدالّة علی ذلک الشأن الخاصّ عند الإمام علیه السلام. لکن یمنع الأخذ به وجود صفة «المأمون»، وحمل الکلمة علی التأکید خلاف الأصل.

وکذا فی الخبر الآخر: «العمری وابنه ثقتان، فما أدّیا إلیک فعنیّ یؤدیّان وما قالا فعنّی یقولان، فاسمع لها وأطعهما».(2) فالموضوع وإنْ کان «الثقة» لکنّ الذّیل یمنع من الأخذ بعمومه وإطلاقه.

وبعد، فإنّ خبر السؤال عن یونس بن عبدالرحمن کافٍ الإستدلال علی

ص: 243


1- 1. الکافی 1 / 330.
2- 2. المصدر نفسه.

حجیّة خبر الثقة، لامن جهة مقتضی التواتر الإجمالی، بل من جهة الإطمینان العادی والعلم العرفی والوثوق العقلائی. أمّا من ناحیة السند، فهو خبر معتبر، لأن محمد بن نصیر ثقة بلا کلام، ومحمد بن عیسی، إنْ کان ابن سعد، فکذلک، وإنْ کان ابن عبید الیقطینی، فقد وثقه النجاشی ووصفه بمقامٍ جلیل، وأمّا تضعیف الشیخ، فمستند إلی استثناء ابن الولید من رجال نوادر الحکمة، ولکنّ الشیخ الصّدوق قد أخرج عنه فی الفقیه. نعم، یتوقف _ تبعا لشیخه ابن الولید _ فیما یرویه محمد بن عیسی عن یونس بن عبدالرحمن، وهذا الخبر لیس منها، وبذلک یسقط تضعیف الشیخ عن المعارضة لتوثیق النجاشی. وأمّا بقیّة رجال الخبر، فلا کلام لأحدٍ فیهم.

وتلخّص: أن الحق حجیّة خبر الثقة، لا لما ذکره الشیخ ولا لما ذکره المیرزا ولا لما ذکره صاحب الکفایة ومن تبعه، بل لما ذکرنا من الإطمینان العقلائی.

وأمّا ما تقدّم من تقیّد روایة عبدالعزیز بما دلّ علی اعتبار العدالة.

فالجواب عنه: إن هذه الروایة آبیة عن التقید، لأنّ السؤال فی فرض عدم التمکن من الوصول إلی الإمام علیه السّلام، فلو کان یعتبر فی اعتبار الخبر شئ زائدا علی الوثاقة لبیّن، وإلاّ یلزم الإغراء بالجهل.

فإنْ قیل: القدر المتیقّن من الأخبار ما یروی عن الإمام بلاواسطة، فالأخبار المرویّة عن الأئمة مع الواسطة خارجة عن القدر المتیقن.

أو قیل: إنّ الإخبار مع الواسطة إخبارٌ عن الإخبار، وهذا خبر عن الموضوع لا الحکم، فهو خارج عن البحث.

ص: 244

وهذا هو الإشکال العمدة فی نظر سیّدنا الاستاذ رحمه اللّه، والذی ذهب علی أساسه إلی القول بعدم تمامیّة الاستدلال بالأخبار لحجیّة خبر الواحد.(1)

والجواب:

إنّ المشهور القائلین بعدم حجیّة خبر الواحد فی الموضوعات، استثنوا الإخبار عن الإخبار، ورفعوا الید عن إطلاق خبر مسعدة فی هذا المورد، ومما یشهد بذلک قبولهم الجرح والتعدیل من الواحد فی الکتب الرجالیّة، وعدم اشتراطهم البنیّة. هذا أوّلاً.

وثانیا: قد جاء فی الصحیح(2) السؤال من الإمام أنّ ابن مهزیار روی عن الإمام الصّادق خبرین مختلفین فبأیهّما نأخذ؟ ومن الواضح أنّ ابن مهزیار من أصحاب الإمام العسکری علیه السلام، ولا یمکنه الروایة عن أبی عبداللّه علیه السّلام، ومع ذلک عبرّ عن خبره بالروایة.

هکذا أفاد شیخنا دام بقاه.

وهذا تمام الکلام فی الإستدلال بالسنّة علی حجیّة خبر الواحد الثقة.

ص: 245


1- 1. منتقی الأُصول 4 / 296 _ 297.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 122، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الرقم: 44.

ص: 246

الإستدلال بالإجماع لحجیّة خبر الواحد

اشارة

واستدلّوا علی حجیّة خبر الواحد بالإجماع، وتقریره من وجوه:

الإجماع المحصّل

ذکر الشیخ(1) أنه یمکن تحصیل الإجماع فی المسألة.

قال: إنّ طریق تحصیله أحد وجهین علی سبیل منع الخلوّ:

أحدهما: تتبّع أقوال العلماء من زماننا إلی زمان الشیخین، فیحصل من ذلک القطع بالاتفاق الکاشف عن رضا الامام بالحکم أو عن وجود نص معتبر فی المسألة.

ثم أجاب عن سؤال مقدّر حول مخالفة السیّد ومن تبعه (قال): لا یعتنی بخلافهم، إمّا لکونهم معلومی النسب، کما ذکر الشیخ فی العُدة، وإمّا للإطّلاع علی أنّ ذلک لشبهةٍ حصلت لهم، کما ذکر العلاّمة، وإمّا لعدم اعتبار اتّفاق الکلّ، کما علیه المتأخرون.

ص: 247


1- 1. فرائد الأُصول: 88.

الإجماع المنقول

والثانی: تتبّع الإجماعات المنقولة فی ذلک. فأورد کلمات: الشیخ فی العدّة، والعلاّمة، والسیّد ابن طاووس، والمجلسی.

کلام الشیخ فی العدّة

فأورد أوّلاً کلام شیخ الطّائفة فی العدّة، وهو کلام طویلٌ جدّا، ونحن نشیر إلی المواضع المهمّة منه.

ذکر الشیخ فی العدّة:

ما اخترته من المذهب هو: إنّ الخبر الواحد، إنْ کان واردا من طریق أصحابنا القائلین بالإمامة، وکان ذلک مرویّا عن النبی أو عن أحد الأئمة علیهم الصّلاة والسّلام، وکان ممن لا یطعن فی روایته ویکون سدیدا فی نقله، ولم یکن هناک قرینة تدلّ علی صحة تضمّنه الخبر، جاز العمل به.

والذی یدلّ علی ذلک إجماع الفرقة المحقّة، فإنی وجدتها مجمعةً علی العمل بهذه الأخبار التی رووها فی تصنیفاتهم ودوّنوها فی اُصولهم، فلولا أن العمل بهذه الأخبار جائز لما أجمعوا علی ذلک، لأنّ إجماعهم فیه معصوم لا یجوز علیه الغلط والسّهو.

ثم ذکر أنّه لو کان العمل بخبر الواحد عند الطائفة محظورا لعاملوا القائل بحجیّته معاملة الآخذ بالقیاس.(1)

ص: 248


1- 1. العدّة فی الأُصول 1 / 126 _ 127.

أقول

حاصل کلام شیخ الطّائفة فی العدّة إلی هنا هو:

إنه یری حجیّة خبر الواحد بشروطٍ:

1. أن یکون الراوی إمامیّا (2) سدیدا (3) ثقةً (4) یروی الخبر عن المعصوم (5) ولا قرینة موجبة للعلم بمضمونه.

ثم یدّعی إجماع الطائفة علی ذلک.

ویدّعی وجدانهم مجمعین علی ذلک. فهو هنا یدّعی (الوجدان) وهذا هو الفرق الأساسی بین هذا الإجماع، ودعواه الإجماع فی (کتاب الخلاف).

وهذا الإجماع حجّةٌ، إذ فیه الإمام المعصوم من الخطأ والسّهو.

ثم یؤیّد ذلک بالقیاس إلی (القیاس).

إشکال السیّد الخوئی

وأشکل فی مصباح الاصول علی الشیخ بوجهین:

الأوّل: حجیّة الإجماع المنقول عند القائل بها، إنما هی لکونه من أفراد الخبر، فکیف یصح الإستدلال به علی حجیّة الخبر؟

والثانی: إنه لا ملازمة بین حجیّة خبر الواحد وحجیّة الإجماع المنقول، لأنّ أدلّة حجیّة الخبر تختصٌّ بالخبر الحسّی، علی ما تقدّم بیانه.(1)

ص: 249


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 195.

الجواب

أمّا عن الإشکال الأوّل، فإنّ الشّیخ ذکر أنّ الخبر الناقل للإجماع محفوف بالقرائن المفیدة للعلم، وحینئذٍ لا یکون دور.

وأمّا عن الإشکال الثانی، فیظهر مما تقدّم فی مبحث الإجماع، من أنه تارةً: یقوم الإجماع علی السّبب. واخری: علی المسبّب. وما نحن فیه من قبیل الأوّل، فشیخ الطائفة یدّعی إجماع العلماء فی جمیع الأزمنة علی العمل بخبر الواحد، ومثل هذا الإجماع یکشف عن المسبّب، وهو رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر.

دعوی صاحب المعالم

وادّعی صاحب المعالم عدم دلالة کلام شیخ الطائفة علی حجیّة الأخبار المجرّدة عن القرینة. قال: والإنصاف أنه لم یتّضح من حال الشیخ وأمثاله مخالفتهم السیّد قدّس سرّه، إذ کانت أخبار الأصحاب یومئذٍ قریبة العهد بزمان لقاء المعصوم علیه السّلام، واستفادة الأحکام منهم، وکانت القرائن المعاضدة لها متیّسرة کما أشار إلیه السیّد، ولم یعلم أنهم اعتمدوا علی الخبر المجرّد لیظهر مخالفتهم لرأیه فیه.

قال: وتفطّن المحقق من کلام الشیخ ما قلناه، حیث قال فی المعارج(1)...

وما فهمه من کلام الشیخ هوالذی ینبغی أنْ یعتمد علیه،لامانسبه العلاّمة إلیه.(2)

وکذا قال الأمین الإسترابادی والسیّد صدرالدین، کما نقل عنهما الشیخ.

ص: 250


1- 1. معارج الأُصول: 147.
2- 2. معالم الدین: 198.

الجواب

وحاصل کلام صاحب المعالم ومن تبعه أنّ شیخ الطائفة لایقول بحجیّة الخبر الواحد المجرّد عن القرینة، بل یقول رحمه اللّه بأنّ أخبارنا الآحاد کلّها محفوفة بالقرائن، وهذا ما یقوله السیّد رحمه اللّه، وبذلک یجمع بین إجماعیهما، فلا تعارض بینهما.

لکنّ الشیخ قدّس سرّه تعجّب من کلام هؤلاء، وذکر أنّ الظاهر بل المعلوم أن صاحب المعالم لم یکن عنده کتاب العُدّة، وأنّ ما ذکره فی وجه الجمع بین الإجماعین _ من تیسّر القرائن وعدم اعتمادهم علی الخبر المجرّد _ قد صرّح الشیخ فی عبارته ببداهة بطلانه.

رفع إشکال المعارضة بین إجماع الشیخ وإجماع السیّد

وذلک، بعد أنْ تقرّر أن الإختلاف بینهما لیس لفظیّا، وأنه لایبعد وقوع مثل هذا التدافع مع کونهما معاصرین خبیرین بمذهب الأصحاب فی العمل بخبر الواحد، فکم من مسألةٍ فرعیّة وقع الإختلاف بینهما فی دعوی الإجماع فیها، مع أن المسألة الفرعیّة أولی بعدم خفاء مذهب الأصحاب فیها علیهما. فلابدّ من وجهٍ للجمع، وإلاّ فلا تتمّ دعوی الشیخ، ولا یمکن الاستدلال بالإجماع علی حجیّة خبر الواحد، ولذا ذکروا وجوها للجمع، لکنّ الشیخ یقول:

ویمکن الجمع بینهما بوجهٍ أحسن وهو: إن مراد السیّد من العلم الذی ادّعاه فی صدق الأخبار هو مجرّد الإطمینان، فإن المحکی عنه فی تعریف العلم أنه ما

ص: 251

اقتضی سکون النفس، وهو الذی ادّعی بعض الأخباریین أن مرادنا بالعلم بصدور الأخبار هو هذا المعنی، لا الیقین الذی لا یقبل الإحتمال رأسا. فمراد الشیخ من تجرّد هذه الأخبار عن القرائن، تجرّدها عن القرائن الأربع التی ذکرها أوّلاً، وهی: موافقة الکتاب أو السنّة أو الإجماع أو دلیل العقل. ومراد السیّد من القرائن التی ادّعی فی عبارته احتفاف أکثر الأخبار بها هی الامور الموجبة للوثوق بالراوی أو بالروایة، بمعنی سکون النفس بهما ورکونهما إلیهما. وحینئذٍ، فیحمل إنکار الإمامیّة للعمل بخبر الواحد علی إنکارهم للعمل به تعبّدا أو لمجرّد حصول رجحان بصدقه علی ما یقوله المخالفون.

والإنصاف أنه لم یتضّح من کلام الشیخ دعوی الإجماع علی أزید من الخبر الموجب لسکون النفس، ولو بمجرّد وثاقة الراوی وکونه سدیدا فی نقله لم یطعن فی روایته.

ولعلّ هذا الوجه أحسن وجوه الجمع بین کلامی الشیخ والسیّد، خصوصا مع ملاحظة تصریح السیّد فی کلامه: بأنّ أکثر الأخبار متواترة أو محفوفة، وتصریح الشیخ فی کلامه المتقدّم بإنکار ذلک.(1)

أقول

إنه لا یخلو ما ذکره قدّس سرّه من نظر وتأمّل، فإنّا إذا راجعنا کلمات السیّد رحمه اللّه فی کتاب (الذریعة) ودقّقنا النظر فیها، وجدناها ظاهرةً بل صریحةً فی خلاف ما نسبه الشیخ إلیه:

ص: 252


1- 1. فرائد الأُصول: 88.

قال: «إعلم أن العلم ما اقتضی سکون النفس. وهذه حالة معقولة یجدها الإنسان من نفسه عند المشاهدات، ویفرّق فیها بین خبر النبی صلّی اللّه علیه وآله بأنّ زیدا فی الدار وخبر غیره».(1)

ومراده: إن العلم یقتضی سکون النفس مع عدم احتمال الخلاف، أی: السکون الیقینی. ویشهد بذلک کلامه فی الظنّ إذ یقول: «وأمّا الظنّ، فهو یقوّی کون ما ظنّه علی ما یتناوله الظنّ وإنْ جوّز خلافه... وما یحصل عنده الظنُّ یسمّی أمارة»(2) فإذا کان یجوّز الخلاف فی الظنّ، کان مراده من سکون النفس فی العلم، هو الیقین الذی لا یجوّز فیه الخلاف.

وعلیه، فالجمع الذی اختاره الشیخ ساقط.

ثم إنّ ما ینفی عنه السیّد الحجیّة شرعا هو الخبر الواحد فی مقابل الخبر المتواتر، کما لا یخفی علی من یراجع الجزء الثانی من کتابه، لا الخبر الذی لا تسکن إلیه النفس، بل إنه ینصّ علی أنه لیس بحجّة وإن کان المخبر عدلاً، فهو یقول: «إعلم أن من یذهب إلی العمل بخبر الواحد فی الشریعة... یراعی فی العمل بالخبر صفة المخبر فی العدالة»(3) ثم یناقش ذلک القول ویقول بأنّ الخبر لا یکون حجةً ما لم یفد العلم، وإنْ کان المخبر عدلاً أمینا، ویصرّح بسقوط جمیع البحوث المبنیّة علی القول بحجیّة خبر الواحد عن الاعتبار فی فصلٍ عقده لذلک بعد الفراغ عن إثبات عدم الحجیّة.(4)

ص: 253


1- 1. الذریعة إلی أُصول الشریعة 1 / 20.
2- 2. الذریعة إلی اصول الشریعة
3- 3. الذریعة إلی اصول الشریعة 2 / 79.
4- 4. المصدر 2 / 78.

وبما ذکرنا یسقط أیضا ما قیل فی الجمع بین الإجماعین من أنّ السیّد ینفی حجیّة الخبر الضعیف فی مقابل الموثوق به، لا الواحد فی مقابل المتواتر.

وتلخّص أن التعارض بین الإجماعین باق.

ما یشهد بصحّة دعوی شیخ الطائفة

لکنّ الحق فی دعوی الإجماع فی المسألة مع الشیخ، لشهادة امور عدیدة بذلک:

منها: کلام السید ابن طاووس،(1) حیث أنکر علی السیّد دعوی الإجماع قائلاً:

ولایکاد تعجّبی ینقضی کیف أشتبه علیه أن الشیعة لاتعمل بأخبار الآحاد فی الامور الشرعیّة؟

قال: من تتبّع الکتب والتواریخ والسیر، علم أنّ العمل بخبر الواحد من الامور المسلّمة عند الشیعة بغیر شبهةٍ من العارفین، کما ذکر الشیخ فی العدّة وغیره.

ومنها: کلام ابن ادریس فی المواسعة والمضایقة،(2) حیث ذکر أسماء جماعةٍ من قدماء الأصحاب وأرکان الحدیث من السلف، قائلاً: بأنهم کانوا لا یجوّزون ترک العمل بالخبر الموثوق به.

ومنها: دعوی الشیخ الکشی إجماع العصابة علی تصحیح ما یصحّ عن جماعة من الرّواة.(3)

ص: 254


1- 1. فرج المهموم: 42.
2- 2. أجوبة مسائل ورسائل فی مختلف فنون المعرفة: 17 _ 18.
3- 3. رجال الکشی: 238 و 375 و 556.

فإنها _ بقطع النظر عن البحث والتحقیق فیها _ تکشف عن الإجماع علی العمل بخبر الواحد الوارد عن الجماعة، إذْ لا شبهة فی عدم بلوغ کلّ ما ورد عنهم حدّ إفادة العلم.

ومنها: دعوی شیخ الطّائفة(1) الإجماع علی العمل بخبر السکونی وحفص بن غیاث وأمثالهما من الرّواة.

ومنها: دعوی المفید رحمه اللّه الإجماع علی العمل بخبر جماعةٍ من الرّواة. ذکرهم فی کتاب الإرشاد.(2)

ومنها: تفحّص المحدّثین عن حال الروّاة من حیث الجرح والتعدیل. فإنه یکشف عن حجیّة خبر الواحد عندهم.

فالحق مع الشیخ.

وأمّا السیّد المرتضی رحمه اللّه، فإنه إنما ادّعی الإجماع علی عدم الحجیّة لشبهةٍ عرضت له، کما ذکر العلاّمة قدّس سرّه.

ویمکن أن یقال: بأنّ معقد إجماع السیّد رحمه اللّه هو الکبری فی المسألة، وهی أن علماء الطائفة لا یعملون بما لا یفید العلم. فإنّ هذه الکبری مسلّمة، وخبر الواحد لایفید العلم کما هو معلوم. ولهذا نظائر عدیدة فی (کتاب الإنتصار)، حیث یدّعی الإجماع علی الکبری ویطبّقها علی المورد، فکانت دعواه الإجماع صحیحةً، وهو مشتبه فی تطبیق الکبری علی الصغری.

ص: 255


1- 1. العدّة فی الأُصول 1 / 149.
2- 2. اُنظر: الإرشاد (من مجموعة مصنّفات الشیخ المفید) 2 / 216 و 247.

وما نحن فیه کذلک، فإنّ الأصحاب وإنْ کانوا لایرون العمل بما لا یفید العلم، إلاّ أن خبر الواحد قد خرج عن ذلک العموم بالتّخصیص.

وتلخص:

إن إجماع شیخ الطائفة تامٌ من حیث المقتضی وعدم المانع، بعد الإجابة عن الإشکالات، وعن دعوی الإجماع من السیّد علی خلاف ذلک.

الإشکال الوارد

ولکنّ الکلام کلّه فی الاستدلال بهذا الإجماع علی حجیّة خبر الواحد من جهة کاشفیّته عن رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر، کما ذکر الشیخ الأعظم، وذلک:

لأنّ کاشفیّته عن رأی المعصوم تتوقّف علی دفع احتمال استناد المجمعین إلی السّیرة أو إلی الروایات فی المسألة. ولا دافع لهذا الإحتمال.

قال بعض المحققین فی التعلیق علی «وطریق تحصیله أحد وجهین» لایخفی ما فی کلا الوجهین.

أمّا فی الأوّل: فلأنّ اتّفاق کلمتهم علی الحجیّة مع استدلال الجلّ علی ذلک لولا الکلّ بما ذکر فی المقام من الآیات والروایات وغیرها، لایوجب القطع برضا الإمام علیه السلام أو بوجود نصّ معتبر متّبع علی تقدیر الظفر به، لوضوح ما به استنادهم وعلیه اعتمادهم، ومعه کیف یکشف عن مستند آخر.

وأمّا فی الثانی، فلوهن الإجماع ودعواه، لا لأجل الظّفر بالمخالف بل لما

ص: 256

ذکرناه الآن من أنّ الإتفاق فی الفتوی مع بیان ما علیه الإستناد فیها، لایکشف عن مستند آخر أصلاً.(1)

وقال المیرزا: إنه لم یحصل لنا ظنّ من هذین الإجماعین بکون وجوب العمل بالخبر ثابتا للمجمعین بدلیلٍ لم یصل إلینا، إذ یمکن أن یکون مدرکهم فی ذلک هی الأخبار المزبورة، أو یکون فتواهم من جهة قیام السّیرة العقلائیّة علی ذلک، فلایکون اتّفاقهم علی ذلک کاشفا عن دلیل تعبّدی.(2)

وبذلک أشکل السیّد لخوئی علی جمیع الوجوه _ عدا السیّرة _ فقال:

والإنصاف: عدم الاعتبار بشئ¨ من الوجوه، لأنّ شیئا منها لا یکون واجماعا تعبّدیّا کاشفا عن رأی المعصوم علیه السّلام، فإن عمل جملةٍ من المجمعین بهذه الأخبار من جهة کونها مقطوعة الصّدور عندهم، وجملة منهم عملوا بما فی الکتب الأربعة، لاعتقادهم صحّة جمیع ما فیها، حتی قال بعضهم: إنّ الخدشة بضعف السند فی الأخبار الموجودة فیها حرفة العاجز.(3)

ثم إنّه یرد علی کاشفیّته عن الدّلیل المعتبر:

إن ذاک الدلیل المعتبر: إنْ کان خبرا واحدا فیلزم الدّور، وإنْ کان متواترا، فأین ذاک الخبر المتواتر؟ ولماذا لم یصل إلینا؟ وإنْ کان واحدا محفوفا بقرینةٍ مفیدةٍ للعلم، فلعلّ تلک القرینة المفیدة للعلم لهم غیر مفیدة له عندنا.

ص: 257


1- 1. أوثق الوسائل: 123.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 200.
3- 3. دراسات فی علم الأُصول 3 / 187.

الإجماع التقدیری

بأنْ یدّعی الإجماع حتّی من السیّد وأتباعه علی وجوب العمل بالخبر غیر العلمی فی زماننا هذا وشبهه، مما انسدّ فیه باب القرائن المفیدة للعلم بصدق الخبر.

فإن الظاهر أن السیّد إنما منع من ذلک لعدم الحاجة إلی خبر الواحد المجرّد، کما یظهر من کلامه المتضمّن للاعتراض علی نفسه بقوله:

فإنْ قلت: إذا سددتم طریق العمل بأخبار الآحاد، فعلی أیّ شئ¨ تعوّلون فی الفقه کلّه؟

فأجاب بما حاصله: إن معظم الفقه یعلم بالضرورة والإجماع والأخبار العلمیّة، وما یبقی من المسائل الخلافیّة یرجع فیها إلی التخییر.

وقد اعترف السیّد فی بعض کلامه _ علی ما فی المعالم _ ، بل وکذا عن الحلّی فی بعض کلمه: بأنّ العمل بالظن متعیّن فیما لا سبیل فیه إلی العلم.

إشکالان

وقد أورد علیه:

أوّلاً: إنه یحتمل أن یقول السیّد وأتباعه _ إنْ کانوا فی زماننا _ بحجیّة الظن المطلق، فیکون الخبر الواحد حجةً لکونه من أفراد الظن المطلق، لا لحجیّته بالخصوص، کما هو المدعی.

ص: 258

أقول

لکنْ قد یستظهر من عبارة السیّد فی الذریعة فی الجواب عن الدلیل التاسع حیث قال: «وبعد، فهذه الطریقة توجب علیهم أنْ یکون الفاسق کالعدل...» القول بحجیّة خبر الواحد العدل، لا من باب الظن المطلق. فتأمّل.

ثانیا: إنّ هذا إجماعٌ مستند إلی الأدلّة کتابا وسنّةً، ولیس بالإجماع الکاشف، ولا أقل من الإحتمال، فهو لیس بحجّة.

وقد عرفت ورود هذا الإشکال علی الوجه السّابق.

الإجماع العملی

اشارة

وقد ادّعاه الشیخ من (الصحابة) و(أصحاب الأئمة) و(العلماء) و(المسلمین) و(العقلاء).

1. من الصّحابة

وقد نقل الشیخ هذه الدعوی عن العلاّمة.(1)

وأشکل: بأنه إنْ اُرید منهم من لا یصدر إلاّ عن رأی الحجّة، فلم یثبت لنا عمل أحدٍ بخبر الواحد فضلاً عن ثبوت تقریر الإمام علیه السلام لعمله. وإنْ اُرید الهمج الرّعاع الذین ینعقون مع کلّ ناعق، فمن المقطوع به عدم کشف عملهم عن رضا المعصوم، لعدم ارتداعهم بردعه.

ص: 259


1- 1. فرائد الأُصول: 101.

إلاّ أنْ یقال: بأنّه لو کان العمل بخبر الواحد منکرا لم یترک الإمام وأتباعه من الصحابة النکیر علیهم، إظهارا للحق ونهیا عن المنکر، وإنْ لم یظنّوا الإرتداع، إذْ لیست هذه المسألة بأعظم من مسألة الخلافة، إذ أنکر علیهم الإمام وأتباعه لئلاّ یتوهّم الرّضا منه لو سکت.

أقول

لکنّ هذا الإشکال من الشیخ لا یرد، لما سیأتیمن تقریره الإجماع علی العمل بخبر الواحد من المسلمین طرّا من زمن الصّحابة فما بعد. فالقول بعدم ثبوت ذلک من الصّحابة مناقض له.

وقوله: إلاّ أنْ یقال...

فیه: أنّ التنظیر بمسألة الخلافة بلا وجه، لأن الخلافة من المسائل الاصولیّة، ومسألتنا من فروع الاصول، وفی مثلها لایجب النّهی إلاّ مع احتمال تأثیره، فلا یکون ترکه کاشفا عن الرّضا.

لکنّ الصحیح فی الجواب أن یقال: إن قیام سیرتهم علی العمل بخبر الواحد _ بما أنّهم أصحاب _ غیر ثابت، فلعلّ السّیرة هذه کانت بما هم عقلاء، وسیأتی الکلام علی السّیرة العقلائیّة.

2. من أصحاب الأئمة

وقد أشکل المیرزا(1) بالفرق بین الإجماع القولی والعملی، من جهة أن

ص: 260


1- 1. أجود التقریرات 3 / 200.

القولی هو اتّفاق الفقهاء علی أمرٍ فی مسألة اصولیّة أو فقهیّة، والعملی یختصّ بالمسألة الاصولیّة ولا ینعقد فی الفرعیّة، لأن العمل فی المسألة غیر مختص بالفقهاء من حیث هم فقهاء، بل یعمّهم والمقلّدین.

ولکنّ المهمّ فی الإجماع کشفه عن رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر، فهذا ملاک الحجیّة، سواء کان قولیّا أو عملیّا. نعم، العمل فی المسألة الاصولیّة یختصّ بالمجتهدین، وفی الفرعیّة یعمّهم والمقلّدین.

3. من العلماء

فإنّ عمل العلماء فی جمیع الأزمنة بالأخبار واستنباطهم للأحکام منها مع کونها آحادا، إجماعٌ عملی منهم علی حجیّة خبر الواحد.

وأشکل الشیخ بوجهین:

أحدهما: إن شروط العاملین بالأخبار فی حجیّتها مختلفة، والقدر الجامع لجمیعها نادر فی الأخبار.

والثانی: إن العمل مجمل، إذ لا لسان له حتی یتبیّن وجه العمل، فلعلّ السّبب فی عمل جماعةٍ منهم قطعیّة صدور الأخبار، والآخرین حجیّة الظنّ المطلق.

أقول

هذا، مضافا إلی ما تقدّم من احتمال المدرکیّة.

وأمّا قول المحقق العراقی: من أنّ الإختلاف فی المستند وتعدّد وجه العمل

ص: 261

غیرضارٍّ بتحقّق الإجماع علی الحجیّة، لأن الإتفاق منهم علی ذلک حاصلٌ، وإنْ کان کلّ طرفٍ یرید تطبیق الحجیّة علی الوجه الذی یراه، فتلک الإستنادات عللٌ بعد الوقوع.

ففیه: إنْ الإستناد موجودٌ، ومقتضی الأصل کونه المستند تمام الإستناد.

4. من المسلمین طرّا

قال الشیخ: الثالث من وجوه تقریر الإجماع: إستقرار سیرة المسلمین طرّا علی استفادة الأحکام الشرعیّة من أخبار الثقات المتوسطة بینهم وبین الإمام أو المجتهد. أتری أنّ المقلّدین یتوقّفون فی العمل بما یخبرهم الثقة عن المجتهد، أو الزوجة تتوقف فیما یحکیه زوجها عن المجتهد فی مسائل حیضها وما یتعلّق بها، إلی أن یعلموا من المجتهد تجویز العمل بالخبر غیر العلمی؟

ثم ذکر الشیخ:

إن دعوی الإجماع علی العمل فی الموارد المذکورة یلقّن الخصم طریق الإلزام والردّ، بأنّ هذه الموارد للإجماع، فدعوی إستقرار سیرة المسلمین علی العمل فیها _ وإنْ لم یطّلعوا علی کون ذلک إجماعیّا عند العلماء _ أبعد عن الردّ. فتأمّل.(1)

وقد بیّن المحّقق الخراسانی(2) وجه الأمر بالتأمّل: بأن معنی کونه أبعد عن

ص: 262


1- 1. فرائد الأُصول: 99.
2- 2. دررالفوائد: 123.

الإشکال عدم خلوّه عنه، أو أن منشأ عمل المسلمین فی هذه الموارد هو السّیرة العقلائیّة.

وقال المیرزا:(1) سیرة المسلمین دلیل مستقلّ عن السّیرة العقلائیّة.

أی: إنّ عمل المسلمین فی الامور الإعتباریّة المتعارفة عند العقلاء علی طبق السّیرة العقلائیّة لا یسقط الاستدلال بسیرة المسلمین، ولا یخرجها عن الدلیلیّة فی قبال السّیرة العقلائیّة، إذا کانت کاشفةً عن رضا المعصوم. وأیضا: فإنّ سیرة المسلمین بما هم مسلمون غیر قابلة للرّدع، بخلاف سیرتهم بما هم عقلاء.

إذن، یوجد بینهما التعدّد.

لکنّ الکلام فی مقام الإثبات، فإنّه لا طریق لنا لإحراز کون عملهم بما هم مسلمون، فیحتمل کونه بما هم عقلاء، فلا یثبت التعدّد.

ص: 263


1- 1. أجود التقریرات 3 / 201.

ص: 264

الإستدلال بالسّیرة العقلائیّة علی حجیّة خبر الواحد

اشارة

فإنّ العقلاء بما هم عقلاء، وبقطع النظر عن أیّ شئ¨ آخر، یعملون بخبر الثقة، وهم مجمعون ومتفقون علی ذلک عملاً فی جمیع شئونهم.

وهذه السّیرة متحقّقة بین الموالی والعبید أیضا.

وکما یعملون بخبر الواحد بحسب فطرتهم العقلائیّة فی جمیع امورهم، یعملون کذلک فی الامور الشرعیّة.

والشارع إنْ کان راضیا بعملهم فهو، وإلاّ وجب علیه الرّدع، وإلاّ یلزم نقض الغرض، وقد کان بإمکانه الرّدع، لأن المسألة لیست من المسائل التی یتّقی فیها الإمام أعدائه، فکان المقتضی للرّدع موجودا والمانع مفقودا، ولکنه لم یردع، فهو راض.

فکانت السّیرة العقلائیّة مع عدم الرّدع الکاشف عن الرّضا، دلیلاً علی حجیّة خبر الواحد.

ص: 265

وأمّا ما ذکره المیرزا:(1) من أنّ هذا إنما یتم فی مسألة حجیّة خبر الواحد ونحوها من الامور غیر الإعتباریّة، وأمّا الإعتباریات کالبیع والصلح والإجارة ونحوها، فلا یکفی فیها عدم الرّدع، بل لابدّ من دلیلٍ علی الرّضا والإمضاء، من عموم أو إطلاق. وتظهر الثمرة فی عقد التأمین المتعارف لدی العقلاء فی هذا الزمان، فإنْ لم یندرج تحت عامٍ من عمومات العقود، لا یمکن تصحیحه بمجرّد عدم الرّدع.

فقد یقال: إنه لا حاجة فی الإعتباریات إلی عموم أو إطلاق، بل اللاّزم فی جمیع الموارد وجود الاعتبار المماثل لاعتبار العقلاء، وهذا الإعتبار من الشارع کما یکشف عنه العام أو المطلق، کذلک یکشف عنه عدم الرّدع.

وأمّا مسألة التأمین، فإنْ تمّ اندارجها تحت «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بناءً علی أن اللاّم فیها للعموم لا للعهد فهو، وإلاّ فالأمر مشکل، والسّیرة لا تنفع، لتأخّرها عن زمن المعصوم.

وبعد، فالظاهر اتفاقهم علی وجود السّیرة العقلائیّة علی العمل بخبر الواحد.

أقول

هل یعملون بخبر الواحد ویرتّبون علیه الأثر تعبّدا وبلا لحاظ حصول الإطمینان منه، کما هو المدّعی؟

أمّا بین الموالی والعبید، فالسّیرة موجودة بلا ریب، ولکنْ، ألا توجد هناک قرینة، وهی اقتضاء المولویّة والعبودیّة؟

ص: 266


1- 1. فوائد الأُصول 3 / 193.

إنه لابدّ من التأمّل فی هذه المرحلة.

وبعد الفراغ عنها، فإنّه لا ریب فی کون هذه السّیرة بمرأی من المعصوم ومسمع، ولا ریب فی تمکّنه من الرّدع کما تقدّم، فهل صدر الرّدع أوْ لا؟

أمّا الرّادع الخاصُّ، فإنّه غیر واصل إلینا، ولو کان لبان.

وأمّا الرّادع العام، فهل تصلح الأدلّة الناهیة عن العمل بغیر العلم للرادعیّة عن هذه السّیرة؟

هل هذه السّیرة مردوعة؟

قد وقع الکلام فی ذلک بین الأعلام، فنقول:

رأی الشّیخ

أمّا الشیخ، فذکر أنّ دلیل حرمة العمل بما عدا العلم ینحصر فی أمرین، وأنّ الآیات والأخبار راجعة إلی أحدهما:

الأوّل: إن العمل بالظن والتعبّد به تشریع محرّم.

والثانی: إن فیه طرحا لأدلّة الاصول اللفظیّة والعملیّة التی اعتبرها الشّارع عند عدم العلم.

قال: وشئ¨ من هذین الوجهین لا یوجب ردع العقلاء عن العمل بالظنّ، لکون حرمة العمل به من أجلهما مرکوزا فی أذهانهم _ لأنّ حرمة التشریع ثابتة عندهم، والاصول العملیّة واللفظیّة معتبرة عندهم مع عدم الدلیل علی الخلاف _ ومع ذلک، نجد بناءهم علی العمل بالخبر الموجب للإطمینان.

ص: 267

والسرّ فی ذلک: عدم جریان الوجهین المذکورین بعد استقرار سیرة العقلاء علی العمل بالخبر، لانتفاء التشریع، فإنّ الملتزم بفعل ما أخبر الثقة بوجوبه وترک ما أخبر بحرمته، لا یعدّ مشرّعا، بل لا یشکّون فی کونه مطیعا، ولذا یعوّلون به فی أوامرهم العرفیّة من الموالی إلی العبید، مع أن قبح التشریع عند العقلاء لا یختصُّ بالأحکام الشرعیّة. وأما الاصول المقابلة للخبر، فلا دلیل علی جریانها فی مقابل الخبر، کالبراءة والإحتیاط والتخییر. وأمّا الإستصحاب، فإنْ اُخذ من العقل _ یعنی من باب إفادته الظنّ عند العقلاء _ فلا إشکال فی أنه لا یفید الظن فی المقام، وإنْ اُخذ من الأخبار، فغایة الأمر حصول الوثوق بصدورها دون الیقین. وأما الاصول اللّفظیّة کالإطلاق والعموم، فلیس بناء أهل اللّسان علی اعتبارها حتی فی مقام وجود الخبر الموثوق به فی مقابلها. فتأمّل.(1)

أقول

والظاهر أنه تأمّل تدقیقی.

إشکال المحقق الخراسانی

وأشکل المحقق الخراسانی:(2) بأنّ التشریع حاصلٌ، لأنّه مع العمل بخبر الواحد ینسب ما یشکُّ فی صدوره من الشارع إلیه، إذْ لا ملازمة بین کون الخبر موردا للعمل عند العقلاء وکونه حجةً عند الشارع، ومع الشکّ یتحقّق موضوع

ص: 268


1- 1. فرائد الأُصول: 100 _ 101.
2- 2. درر الفوائد: 124 _ 125.

التشریع، بل إنّ مجرّد احتمال رادعیّة الآیات یکفی لتحقّقه.

وأمّا الاصول العقلائیّة، فعدم تحقق الموضوع عند العقلاء لجریانها لا یلازم عدمه عند الشارع، والمفروض عدم ثبوت خبر الواحد عنده، فموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان _ مثلاً _ موجود، فهی جاریة.

وأمّا الإستصحاب، فإن کان اعتباره من جهة إفادته الظن النوعی عند العقلاء، فإنّ هذا الظن یعتبر ما لم یثبت الدلیل علی الخلاف، والمفروض عدم ثبوت حجیّة خبر الواحد بعدُ، فالظن الحاصل من الإستصحاب معتبر، والعمل بخبر الثقة والحال هذه _ موجبٌ لطرح الإستصحاب، وإنْ کان دلیل اعتباره هو الأخبار، فإنّ تلک الأخبار _ لکثرتها وصحّة غیر واحد منها سندا _ موجبةٌ للیقین، فیتقدّم الاستصحاب علی الخبر.

وأمّا الاصول اللّفظیّة، فالعقلاء إنما یرفعون الید عن العامّ بالخاصّ، من جهة اعتقادهم بحجیّته، لکنّ حجیّة خبر الواحد عند الشرع موردٌ للشک، للشک فی إمضائه للسّیرة، فلا یمکن رفع الید به عن الاصول.

الدفاع عن کلام الشیخ

أقول:

قد یمکن تأیید کلام الشیخ: بأن من الأدلّة الرّادعة عن العمل بخبر الثقة ما یدلّ علی حرمة التشریع، لکنّ رادعیّتها یتوقف علی تحقق موضوع التشریع عند المخاطبین، وهو یتوقف علی الشک، ومع وجود خبر الثقة لا یبقی الشک، فلا

ص: 269

یتحقق التشریع، وحینئذٍ، فلا ردع، ولذا یقول الشیخ: فإن الملتزم بفعل ما أخبر الثقة بوجوبه وترک ما أخبر بحرمته لا یعدّ مشرّعا، بل لا یشکّون فی کونه مطیعا».

وبهذا التقریب یندفع الإشکال.

ثم إن المحقق الخراسانی لا یری أن الإستصحاب مفید للظن للنوعی، ولو کان یفیده، فإن خبر الثقة کذلک، وهو أقوی، ولا أقل من المساواة. فالظن النوعی الحاصل من الإستصحاب غیر باقٍ مع الإطمینان الشخصی أو الظن النوعی بالخلاف الحاصل من الخبر.

ودعوی إفادة أخبار الإستصحاب للیقین، دون إثباتها خرط القتاد، لأنها ستة أخبار فقط، وبعضها غیر تام سندا، فتعدّ مستفیضة لا متواترة، فکیف تفید الیقین؟

رأی المحقق الخراسانی

قال رحمه اللّه: لم یردع عنها نبیّ ولا وصیّ نبیّ، ضرورة أنه لو کان لاشتهر وبان، ومن الواضح أنه یکشف عن رضا الشارع به فی الشرعیّات أیضا.

فإن قلت: یکفی فی الرّدع الآیات الناهیة والروایات المانعة عن اتباع غیرالعلم، وناهیک قوله تعالی: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ»، وقوله تعالی: «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا».

قلت: لا یکاد یکفی تلک الآیات فی ذلک. فإنه _ مضافا إلی أنها وردت إرشادا إلی عدم کفایة الظن فی اصول الدین. ولو سلّم، فإنما المتیقّن لولا أنه المنصرف إلیه إطلاقها، هو خصوص الظن الذی لم یقم علی اعتباره

ص: 270

حجة _ لا یکاد یکون الرّدع بها إلاّ علی وجه دائر، وذلک، لأن الردّع بها یتوقف علی عدم تخصیص عمومها أو تقیید إطلاقها بالسّیرة علی اعتبار خبر الثقة، وهو یتوقف علی الرّدع عنها بها، وإلاّ لکانت مخصّصةً أو مقیّدة لها. کما لا یخفی.

أقول:

حاصله: إن رادعیّة الآیات متوقفة علی عدم کون السّیرة مخصصةً لها، لکن عدم کون السّیرة مخصّصةً للآیات یتوقف علی کونها _ أی الآیات _ رادعةً عن السیرة. فالردع متوقف علی عدم التخصیص، وهو متوقف علی عدم الرّدع.

قال:

لا یقال: علی هذا، لا یکون اعتبار خبر الثقة بالسّیرة أیضا، إلاّ علی وجهٍ دائر، فإنّ اعتباره بها فعلاً یتوقف علی عدم الرّدع بها عنها، وهو یتوقف علی تخصیصها بها، وهو یتوقف علی عدم الرّدع بها عنها.

فإنه یقال: إنما یکفی فی حجیّته بها عدم ثبوت الرّدع عنها، لعدم نهوض ما یصلح لردعها، کما یکفی فی تخصیصها لها ذلک، کما لا یخفی، ضرورة أن ما جرت علیه السّیرة المستمرّة فی مقام الإطاعة والمعصیة، وفی استحقاق العقوبة بالمخالفة، وعدم استحقاقها مع الموافقة، ولو فی صورة المخالفة للواقع، یکون عقلاً فی الشرع متبّعا ما لم ینهض دلیل علی المنعّ عن اتّباع فی الشرعیّات. فافهم وتأمّل.(1)

ص: 271


1- 1. کفایة الأُصول: 303.

أقول:

حاصل الجواب: إن کون السّیرة مخصّصةً للآیات لا یتوقف علی ثبوت عدم الرّدع، بل علی عدم ثبوت الرّدع، فلا دور فی تخصیصها بالسّیرة. بخلاف العکس، فإن کون الآیات رادعةً عن السّیرة متوقف علی عدم کونها مخصّصةً للآیات واقعا.

الإشکال علیه

إنّ المهم فعلاً من الوجوه التی ذکرها هو: استلزام رادعیّة الآیات عن السّیرة للدور، وأمّا الوجوه الاخری، فسنتعرّض لها فیما بعد.

وقد أشکل علی ما ذکره فی قضیّة الدور بوجهین:

الأوّل: إنه لو کان عدم ثبوت الرّدع کافیا فی صحّة تخصیص الآیات بالسّیرة، لکان عدم ثبوت التخصیص کافیا فی الرّدع أیضا، ولا یظهر وجه لمنع التوقف فی أحدهما دون الآخر.

والثانی: إن التحقیق عکس ما ذکره، لأن تخصیص العمومات بالسّیرة متوقف علی حجیّتها المتوقفة علی الإمضاء، فلا یکفی فی التخصیص عدم ثبوت الرّدع علی ما أفاده، بل لابدّ من ثبوت عدم الرّدع، فیکون التخصیص دوریّا. بخلاف الرّدع، فإنه غیرمتوقف علی ثبوت عدم التخصیص، بل یکفیه عدم ثبوت التخصیص، إذ العمومات حجّة ببناء العقلاء ما لم یثبت خلافها.

وعلیه، فالمتعیّن هو الإلتزام بکون الآیات رادعةً عن السّیرة، لا أنّ السّیرة مخصّصة للآیات.

ص: 272

تأیید الإصفهانی

وقد أیّد المحقق الإصفهانی ما ذکره استاذه من توقّف مخصصّیة السّیرة للآیات علی عدم ثبوت الرّدع، فقال: مبنی شیخنا الاستاذ قدّس سرّه فی الإکتفاء بنفس عدم ثبوت الرّدع هو: إنّ الشارع أحد العقلا، بل رئیسهم، فهو بما هو عاقل متّحد المسلک مع العقلاء، فهذا مقتض لاتّحاد المسلک، وردعه الفعلی کاشف عن اختلافه فی المسلک وأنه بما هو شارع له مسلک آخر. ومن الواضح أنّ ردعه الفعلی لا یکون کاشفا عن اختلاف المسلک لیختلّ به الکاشف الطبیعی عن اتّحاد مسلکه مع العقلاء من حیث أنه منهم. فعدم وصول الرّدع کاف فی الحکم باتّحاد المسلک لعدم المانع عن الحکم بالاتحاد.

وهذا هو الصحیح.(1)

رأی الحائری الیزدی

وقال المحقق الحائری: بأنّ حجیّة السّیرة منوطة بالعلم برضا الشارع وإمضائه، فعدم العلم الحاصل من قبل کاف فی عدم حجیّة السّیرة، وإنْ کان ثبوت الردع بالآیات مستلزما للدّور.(2)

أقول:

ویمکن تأیید مبنی المحقق الحائری: بأنْ لا ملازمة بین حجیّة الشئ عند العقلاء وحجیّته عند الشارع، من جهة العلم بأنّ للشارع فی کلّ واقعةٍ حکما، قد

ص: 273


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 249 _ 250.
2- 2. درر الفوائد: 394 _ 395.

یکون موافقا لمسلک العقلاء وقد لا یکون، ومنها حجیّة خبر الواحد، فالواجب هو الفحص عن حکمه فیها وإحراز عدم ردعه عن سیرة العقلاء القائمة فیها، ولا یکفی عدم ثبوت الردع. فتأمّل.

رأی العراقی

وقال المحقق العراقی: بأنّ الآیات تصلح للرادعیّة عن السیرة بتقریبین:

أحدهما: إنّه إذا کان عندنا دلیلان، وکان المقتضی فی أحدهما تنجیزیّا وفی الآخر تعلیقیّا، أثّر التنجیزی أثره، وارتفعت صلاحیّة التعلیقی عن المانعیّة عن تأثیره. هذه هی الکبری.

وفیما نحن فیه: المفروض عموم قوله تعالی: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ» وتحقق السّیرة العقلائیّة علی العمل بخبر الواحد، إلاّ أن اقتضاء أصالة العموم للحجیّة فی الآیة تام و تنجیزی، والمخصّص _ إنْ کان _ یمنع عن الإقتضاء؛ لا أن عدمه متممّم لحجیّة العام. أمّا السّیرة، فمع احتمال وجود الرّادع عنها لیس لها اقتضاء الحجیّة، لوضوح أن تمامیّة الإقتضاء فیها مشروط بعدم مردوعیّتها، فحجیّتها معلّقة علی عدمها، فیتقدّم العامّ علی السّیرة، لصلاحیّته للرادعیّة.

والثانی: إنّ السّیرة مشروطة حجیّتها بعدم الرّدع، فعدمه شرط لها، والآیات تصلح للرادعیّة، ومعها ینتفی شرط حجیّة السّیرة، وإذا انتفی الشّرط انتفی المشروط.(1)

ص: 274


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 103 _ 104.

الجواب

ویمکن الجواب:

أمّا التقریب الأول، ففیه:

إنه لا کلام فی الکبری، لکنّ تطبیقها هنا غیر تام، لعدم تمامیّة الحجیّة الفعلیّة فی کلا الطرفین، لأنه کما أنّ حجیّة السّیرة معلّقة علی عدم الردع، کذلک حجیّة العام معلّقة علی عدم المخصّص، فالعام والسیرة من هذه الحیثیّة علی السواء، وکما یحتمل کون العام رادعا فلا حجیّة للسیرة، کذلک یحتمل کون السّیرة مخصّصةً له فلا حجیّة له.

وأمّا التقریب الثانی، ففیه:

إنه موقوفٌ علی وحدة المرتبة بین النقیضین، أی کون الرّدع وعدم الرّدع فی مرتبة واحدة، فإنْ تمّ هذا تقدّم الرّدع علی السّیرة وسقطت عن الحجیّة، لکنّ الإلتزام بوحدة المرتبة فی النقیضین مشکل، لوجود الملاک لتقدّم عدم الرّدع وهو کونه شرطا، أمّا تقدّم الرّدع فلا ملاک له.

وأمّا القول: بأنّ المفروض تمامیّة الإطلاق فی الآیات، وأصالة العموم متوقفة علی عدم إحراز المخصص لا علی عدم المخصّص، ونحن لم نحرز مخصصّیة السّیرة، لکنّ عموم الآیات محرز، فهی رادعة عن السیرة ولا دور.

فالجواب عنه هو: إنه قد تقرّر فی محلّه لزوم الفحص عن المخصص حتی حصول الإطمینان بعدمه، سواء کان للأخذ بأصلٍ عملی _ کما فی الشبهات

ص: 275

الحکمیة _ أو لفظی کما فیما نحن فیه، فلا یکفی عدم إحراز المخصّص، سواء کان الشک فی أصل التخصیص أو فی مخصصیّة الموجود.

إذن، لابدّ من الاطمینان بعدم السّیرة، فلا یصح التمسّک بالعمومات مع احتمالها، کما لا یصح التمسّک بالسیرة مع احتمال رادعیة الآیات عنها.

رأی المحقق الإصفهانی

وذکر المحقق الإصفهانی(1): إنّ المقتضی فی طرف الآیات تام، لأنه غیر متقوّم بشئ¨ٍ، بخلاف السّیرة، فإن اقتضاءها للحجیّة متقوّم بعدم الرّدع، ولا ریب فی تقدّم ما هو تام الإقتضاء علی غیر تام الإقتضاء، فالآیات رادعة.

ثم أجاب رحمه اللّه عن ذلک:

أوّلاً: هذه الکبری مسلّمة فیما إذا لم یکن تمامیّة اقتضاء أحد الطرفین منوطةً بالطّرف الآخر، والإناطة فیما نحن فیه موجودة، لأنّ انعقاد العموم فی الآیات منوط بعدم مخصصّیة السّیرة، واعتبار السیرة منوط بعدم رادعیّة الآیات.

وثانیا: إن العقلاء یرتّبون الأثر علی خبر الثقة، وحینئذٍ، لا یعقل أنْ تکون سیرتهم قائمةً علی العمل بالعام المخالف للسّیرة المذکورة والرّادع عنها، وإلاّ یلزم تحقق البناء العقلائی علی المتنافیین. هذا بما هم عقلاء.

وأمّا بما هم منقادون للشرع، فإن العمومات صالحة للرّادعیة کالدلیل الخاصّ، لأنه مع الرّدع یکون مقتضی الإنقیاد للشارع هو المتابعة له والارتداع عمّا

ص: 276


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 253.

نهی عنه، وإنْ کان حجةً عندهم بما هم عقلاء، هذا إذا کانت السیرة مقارنة للعام. وأمّا مع تقدّمها علی العام _ کما نحن فیه _ فهی حجّة، لأنّه قبل مجئ العام _ المفروض کونه رادعا _ کان مقتضی الأصل التطابق بین رأی الشارع ومسلک العقلاء، فلمّا جاء العام کانت السیرة المتقدّمة إمّا خاصّا متقدّما أو یکون العام المتأخر ناسخا لها، وإذا دار الأمر تعیّن الأوّل لکون التخصیص أکثر من النسخ، فالنتیجة: حجیّة السّیرة، ومع وجودها لا یتم الإقتضاء للآیات، بل السیرة مخصصّة لها.

إلاّ أنه یعتبر فی حجیّة السّیرة أن تکون بمرأیً من الشارع وکون موردها من الامور المرتبطة به وکونه متمکّنا من الرّدع مع عدم ردعه، وتوفّر هذه الامور غیر معلوم... فیرجع الإشکال وتبقی العقدة.

أقول:

هذا الذی ذکره المحقق الإصفهانی _ فی وجه تقدّم السیرة ونفی الدور _ مذکور فی حاشیة شیخه علی الکفایة.(1)

ولا یرد علیه: أن بناء العقلاء علی العمل بخبر الثقة أمرٌ و تنجّز ظهور العام أمر آخر، ولا منافاة بینهما، بل المنافاة بین عملهم بخبر الثقة ومدلول العمومات وهو النهی عن اتباع غیر العلم.

ووجه عدم الورود هو: إن بناء العقلاء علی تنجّز الظهور فی العام یعنی: العمل بالظهور المانع عن اتّباع غیر العلم، وهو ینافی البناء علی العمل بخبر الثقة.

ص: 277


1- 1. کفایة الأُصول: 304.

إلاّ أنّ فیما ذکره فی فرض العقلاء بما هم منقادون للشارع تأمّلاً، ووجه ذلک هو: إن أساس الإلتزام بالتخصیص فی الخاصّ المتقدّم هو کون النسبة بینهما نسبة القرینة إلی ذی القرینة، فلا ینعقد الظهور فی ذی القرینة مع وجودها، ولم یکن العامّ ناسخا من جهة توقّف ذلک علی جریان أصالة الظهور، والمفروض عدم جریانه. هذا بتعبیر المیرزا تبعا للشیخ. وبتعبیر المحقق الاصفهانی _ فی مباحث التعادل والتراجیح _ النسبة نسبة الظاهر إلی الأظهر، والعقلاء لا یعملون بالظاهر إلاّ مع عدم وجود الأظهر، فمع وجود الخاص _ الأظهر _ لا یبقی موضوعٌ لحجیة الظاهر وهو العام، ومعه کیف یمکن أن یکون ناسخا؟

وحینئذٍ نقول:

إن السّیرة قائمة علی عدم العمل بالعامّ مع وجود الخاصّ _ الأظهر أو القرینة _ أمّا فی حال التقارن بین السیرة والعام، فلا قرینیّة وأظهریّة، وعلیه، یکون وجود السّیرة ممنوعا أو مشکوکا فیه. وعلی هذا، یتوجّه علی الإصفهانی أنه إذا کانت السّیرة مقارنة یکون العام رادعا ولا یحتمل التخصیص، فلا قرینیّة للخاصّ أو أظهریّة فی مورد عدم التقارن، لکن مورد السّیرة العقلائیّة هو خصوص الأظهریّة أو القرینیّة، ومع الشک فی قیام السّیرة علی تقدّم الخاصّ فی هذه الحالة، یتمّ المقتضی لأصالة العموم، وبه یتم ناسخیّة العام للسّیرة.

وهذا هو الإشکال علی هذا الوجه.

وأمّا إشکال الإصفهانی من جهة الشک فی جامعیّة السّیرة لشرائط الحجیّة، فنقول:

ص: 278

إن من الواضح عدم تمکن الشارع من إبلاغ کلّ الأحکام فی أوّل البعثة، ولذا جاءت الأحکام تدریجیّة حتی بالنسبة إلی الموضوع الواحد کالخمر مثلاً. لکنّ هذه الکبری غیر منطبقة هنا، لأنه لا مانع من أن یمنع الشارع عن العمل بغیر العلم منعا عاما بخطابٍ واحد، بل إن عدم العمل بغیر العمل من الامور الإرتکازیة ویکفی أن ینبّه علی ذلک، والآیات کافیة لهذا الغرض، خصوصا قوله تعالی «وَلا تَقْفُ» التی هی فی سورة الإسراء المکیّة. وعلیه، فالآیات صالحة للرّادعیّة وإشکاله مندفع.

استدلال صاحب الکفایة بالإستصحاب

قال فی هامش الکفایة:

إن خبر الثقة متبّع، ولو قبل بسقوط کلٍ من السیرة والإطلاق من الاعتبار بسبب دوران الأمر بین ردعها وتقییده بها. وذلک لأجل استصحاب حجیّته الثابتة قبل نزول الآیتین.(1)

أقول:

وهل کانت السّیرة فی الزمان السّابق علی نزول الآیتین حجّةً؟

ثم إنه قد أشکل(2) علی هذا الإستصحاب بوجوه:

1. إنه استصحاب فی الشبهة الحکمیّة.

ص: 279


1- 1. کفایة الأُصول: 304.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 198.

وفیه: إن صاحب الکفایة یقول بجریان الإستصحاب فیها.

2. إن مدرک هذا الإستصحاب هو الأخبار، فیعود الإشکال.

وفیه: إن صاحب الکفایة یری وجود ما یتیقّن بصدوره بین تلک الأخبار.

3. إن تمامیّة هذا الاستدلال یتوقف علی ثبوت حجیة الإستصحاب، فلعلّ الشارع لم یمکنه الرّدع عنه.

وفیه: ما تقدّم فی الجواب عن إشکال الإصفهانی.

الإشکالات فی اقتضاء الآیات للرادعیّة

وأشکل فی الإستدلال برادعیّة الآیات بوجوه:

أحدها: إن موردها اصول الدین. قاله المحقق الخراسانی.

وفیه: إن بعضها مطلق کقوله «وَلا تَقْفُ» وبعضها معلّل فیفید العموم کقوله: «وَإِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا». وأیضا، ففی ذیل «وَلا تَقْفُ» جاء «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ» وهو ظاهر فی المسائل الفرعیّة.

والثانی: إنها ناظرة إلی الظن الذی لم یقم علی اعتباره حجة، وهذا هو القدر المتیقن لولا أنه المنصرف إلیه. قاله المحقق الخراسانی.

وتقریبه: إن الإهمال غیرمعقول، وإطلاقها بالنسبة إلی الظن الحجة کذلک، فهی مقیدة بالظن غیر الحجة.

وفیه: إن الکلام فی السیرة العقلائیّة غیر الممضاة، فإذا کانت من الظنون، فهی مما لم تقم علی اعتباره حجة بعدُ، فتندرج تحت الآیات.

ص: 280

والثالث: لقد کان عمل المتشرعة فی زمن الأئمة قائما علی العمل بأخبار الآحاد، فلو کانت الآیات رادعة لما کان هذا العمل.

وفیه: إنه لا دلیل علی عملهم بخبر الواحد بما هو خبر الواحد، فلعلّه کان محفوفا بما یوجب الوثوق، أو کانوا لا یعملون منه إلاّ بما یثقون بصدوره.

خروج الخبر تخصّصا

وذکر المحقق الإصفهانی _ بعد القول بتقدّم السّیرة علی العمومات من باب التخصیص _ أنّ خبر الثقة خارج عن العمومات تخصّصا.

بیان الإصفهانی

قال ما حاصله: إن الآیات تنهی عن العمل بالظن بما هو ظن، وهی معللّة بأمرٍ ارتکازی وهو «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا». ولکن عمل العقلاء بخبر الثقة هو من حیث أنه خبر الثقة _ لا من حیث أنه ظن _ فَحصَل التباین بین موضوع الآیات و موضوع السّیرة، وکان موضوع السّیرة خارجا عن موضوع الآیات تخصّصا.

الإشکال علیه

وفیه: إن ظواهر الآیات وموردها لا تساعد هذا الوجه، وذلک: لأن قوله تعالی «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا» وإنْ کان عامّا یشمل الفروع أیضا، إلاّ أن

ص: 281

مورده هو اصول الدین، ولا یعقل خروج المورد من تحت الآیة، والأخذ بالظن فی اصول الدین ممنوع، بخلاف خبر الثقة، فإنه حجّة فی اصول الدین. وأمّا فی الفروع، فقد جاء بذیل قوله تعالی «لا تَقْفُ» قوله تعالی: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ...»، فهو یدلُّ علی أنّ الخروج عن «المسئولیة» لا یکون إلاّ بواسطة «الحجّة». فإذن، لا یجوز العمل بخبر الثقة فی الفروع إلاّ مع قیام الحجة، وهی إمضاء الشارع أو عدم ردعه عن العمل بخبر الثقة، فلا یکفی مجرّد خبر الثقة.

هذا أوّلاً.

وثانیا: إنه لیس الدلیل الرّادع منحصرا بالمانع عن اتّباع الظن، حتی یتم اختلاف الموضوع، فیخرج خبر الثقة تخصّصا، بل هناک أدلّة تدلّ علی وجوب التوقف فی کلّ ما لا یعلم، کقوله علیه السلام: «من حق اللّه علی العباد أنْ لا یقولوا ما لا یعلمون ویقفوا عند ما لا یعلمون».(1) ومقتضی هذه النصوص هو الرادعیّة عن العمل بما لا یعلم مطلقا ووجوب التوقّف عند ما لا یعلم.

بیان المیرزا

وذکر المیرزا الخروج التخصّصی حیث قال: لأن العمل بخبر الثقة فی طریقة العقلاء لیس من العمل بما وراء العلم، بل هو من أفراد العلم، لعدم التفات العقلاء إلی مخالفة الخبر للواقع، لما قد جرت علی ذلک طباعهم واستقرّت علیه عادتهم، فهو خارج عن العمل بالظن موضوعا، فلا تصلح لأنْ تکون الآیات

ص: 282


1- 1. وسائل الشیعة 27 / 23، الباب 4 من أبواب صفات القاضی، الرقم 9.

الناهیة عن العمل بما وراء العلم رادعةً... .

وقال: وأمّا السیرة العقلائیّة، فیمکن بوجهٍ أن تکون نسبتها إلی الآیات الناهیة نسبة الورود بل التخصّص، لأن عمل العقلاء بخبر الثقة لیس من العمل بالظن، لعدم التفاتهم إلی احتمال مخالفة الخبر للواقع، فالعمل بخبر الثقة خارج بالتخصّص...

قال: وإنْ منعت عن ذلک، فلا أقلّ من أنْ یکون حال السیر وسائر الأدلّة الدالّة علی حجیّة خبر الواحد من کونها حاکمةً علی الآیات.(1)

بیان الحائری

وقال الحائری الیزدی: نهی الشارع عن العمل بغیر العلم بنظر العرف والعقلاء محمول علی غیر صورة الإطمینان والوثوق الذی فرض کونه عندهم بمنزلة العلم.(2)

أقول:

ولا یخفی الفرق بین بیان المیرزا وما ذکره الإصفهانی فی تقریب التخصّص.

یقول المیرزا: إن الآیات لمّا کانت ملقاةً إلی العرف العام، فالمراد من «العلم» فی الآیة هو الأعمّ من العلم العقلی والعرفی، وخبر الثقة علمٌ عرفا، فهو خارج عن الآیة تخصّصا.

ص: 283


1- 1. فوائد الأُصول 3 / 161 _ 162.
2- 2. درر الفوائد: 394.

کما أن الفرق بین کلامه وکلام الحائری هو أنه یری الموضوع عند العقلاء علما حقیقیّا، والحائری یراه علما عرفیّا.

أقول:

لا یخفی أنّ «الورود» هو الخروج الموضوعی حقیقةً ووجدانا مع إعمال التعبّد من جانب الشّرع، ومثاله خبر الواحد وقاعدة قبح العقاب. و«الحکومة» هی الخروج التعبّدی لا الوجدانی، کالتعبد بأن زیدا لیس بعالم، فیخرج عن أکرم العلماء تعبّدا. و«التخصّص» هو الخروج عن الموضوع حقیقةً ووجدانا، فزید الجاهل خارج عن أکرم العلماء حقیقةً وبلا تعبّد.

ثم إنه یردُ علی القول بالتخصّص فیما نحن فیه:

إنّ الخطابات الشرعیّة _ من الآیات والروایات _ تفید جعل الأحکام بنحو القضیّة الحقیقیّة، فکلّ فرد من أفراد المکلّفین یجب علیه التوقّف عند کلّ موردٍ لیس فیه علمٌ. إلاّ أنّ الکلام فی أنّ هذا «العلم» الذی لا یجوز العمل بدونه، هل هو العلم الشخصی أو النوعی؟

لا یخفی وقوع الخلاف فی بعض الموضوعات فی الأحکام الشرعیّة هل هی مأخوذة علی نحو الشخصیّة أو النوعیة، کما فی «الحرج» مثلاً، هل المنفی هو الحرج الشخصی أو النوعی؟

وإذا کان خبر الثقة مفیدا للعلم، فهل یفید العلم لکلّ شخصٍ من العقلاء أو أنه یفیده لنوع العقلاء؟

ص: 284

تقدّم الخبر بالحکومة

بیان المیرزا

وذهب المیرزا فی الدورة اللاّحقة إلی التقدّم بالحکومة، قال: إن النهی عن العمل بالظن فرع تحقق الظن خارجا _ کما هو الشأن فی کلّ قضیّة خارجیّة أو حقیقیّة _ والظن یتقوّم باحتمال الخلاف لا محالة، ومع وجود دلیل تعبّدی علی حجیّة أمارة أو قیام سیرة العقلاء علی العمل بها، یکون احتمال الخلاف ملغیً بالضرورة، ولذا تقوم مقام القطع الطریقی أو المأخوذ فی الموضوع علی وجه الطریقیّة، ومعه یکون الخبر الموثوق بصدوره خارجا عن موضوع الآیات بالحکومة، کما أنه بدلیل الحجیّة یکون حاکما علی أدلّة الاصول. فالملاک فی تقدّم الأمارات علی الاصول بعینه موجود فی تقدّم السّیرة العقلائیّة علی الآیات الناهیة عن العمل بالظن أیضا، فلابدّ فی مقام الرّدع من ورود أدلّة خاصة ناهیة عن العمل بالسّیرة کما وردت فی باب القیاس، والمفروض انتفاؤها فی المقام.(1)

بیان العراقی

وقال العراقی: والآیات الناهیة عن العمل بما وراء العلم غیر صالحة للرّدع عن بنائهم بعد کون عملهم به من باب تتمیم الکشف وکونه من أفراد العلم الموجب لعدم التفاتهم إلی احتمال الخلاف، إذ لا یکاد یرون العمل به حینئذٍ من

ص: 285


1- 1. أجود التقریرات 3 / 202.

باب العمل بغیر العلم کی یصلح الآیات للردع عن ذلک، فلابدّ حینئذٍ فی فرض عدم رضائه بذلک من ردعهم ببیانٍ آخر.(1)

وفیه

إنه قد تقرّر أن الحکومة تصرّف أحد الدلیلین تعبّدا فی موضوع أو محمول الدلیل الآخر توسعةً أو تضییقا _ وإنْ لم یکن بلسان الشارحیّة والمفسّریة _ کتصرّف «لا ربا بین الوالد والولد» فی أدلّة حرمة الربا، وکتصرّف: «الطواف بالبیت صلاة» فی «لا صلاة إلاّ بطهور». هذا أوّلاً.

وثانیا: یُعتبر فی الحکومة أن یکون الدلیلان صادرین من الحاکم الواحد، إذْ لا یعقل أن یتصرف حاکمٌ فی خطابات الحاکم الآخر.

وفیما نحن فیه: الحاکم باعتبار خبر الثقة هو «السّیرة العقلائیّة» والحاکم بعدم اعتباره لکونه غیر مفیدٍ للعلم هو الشارع بقوله: «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ». وحینئذٍ لا تتمّ الحکومة بین الدلیلین. نعم، لو کانت السیرة ممضاة کان الحاکم فیها متّحدا.

هذا من جهةٍ.

ومن جهة اخری: السّیرة العقلائیّة ما لم یتمّ الإمضاء لها لیس لها تعبدیّة لکونها سیرة العقلاء لیس إلاّ، فکیف یتصرّف عمل العقلاء بما هم عقلاء فی حکم الشارع؟

ص: 286


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 138.

الحلّ النهائی

وبعد الفراغ عن الطرق التی ذکرها الأکابر لحلّ المشکل والمناقشة فیها، یبقی طریقان:

أحدهما: ما أشار إلیه العراقی وصرّح به المیرزا، من أنه لو کان الشارع غیر راضٍ بالعمل بخبر الواحد لردع عنه الرّدع القاطع _ کما فعل بالنسبة إلی القیاس _ .

قال المیرزا: «بل الرّدع عنه یحتاج إلی قیام الدلیل علیه بالخصوص، بل لابدّ من تشدید النکیر علی العمل به کما شدّد النکیر علی العمل بالقیاس، لاشتراک العمل بالقیاس مع العمل بخبر الثقة فی کونه مما استقرّت علیه طریقة العقلاء وطبعت علیه جبلّتهم».

وتوضیحه:

إنّ هذه الآیات _ بناء علی مانعیّة القدر المتیقّن فی مقام التخاطب عن انعقاد الإطلاق _ غیرمطلقة، بل هی مختصة بالمنع عن الظن فی اصول الدین ولا تعمّ خبر الواحد. هذا من جهة. ومن جهة اخری: إنّ احتفاف هذه الآیات بالإرتکاز العقلائی والسّیرة العملیّة من العقلاء بالعمل بخبر الثقة فی جمیع امورهم، مانع من انعقاد الإطلاق فیها، فتختصّ باُصول الدین کذلک.

فمع وجود هاتین الجهتین المانعتین من انعقاد الإطلاق _ وإنْ کنّا لا نقول بالاولی _ وقلّة عدد الآیات، وعدم وضوح دلالتها بالنظر إلی المناقشات المذکورة، کیف تصلح لأنْ تکون رادعةً عمّا استقرّت علیه طریقة العقلاء وطبعت علیه جبلّتهم، فلو أراد الشارع الرّدع عن العمل بخبر الثقة لردع عنه برادع خاصٍّ قویّ

ص: 287

قاطع، کما فعل بالنسبة إلی القیاس، بل إن العمل بالقیاس لم یکن علی حدّ العمل بخبر الثقة، ومع ذلک قد ورد (500) روایة فی المنع عن العمل به، ومن عدم ورود النهی کذلک نستکشف عدم الرّدع.

والثانی: أن یقال بأنّ المراد من «ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ» هو «ما لیس لک به حجة»، فیکون المراد من الآیة: لا تقف ما لیس لک علیه حجّة، وخبر الواحد عند العقلاء حجة، فهو خارج عن الآیات تخصّصا.

لا یقال: هذا حمل علی خلاف ظاهر الآیة، ورفع الید عن أصالة الظهور بلا دلیل غیر جائز.

لأنّا نقول: إنّ فی الآیات قرینةً علی هذا الحمل فلیس بلا دلیل، وذلک لما تقرر فی محلّه من أن الحکم إذا عُلّل کانت العلّة تمام الموضوع له، ومن هنا قالوا بأنّ العلّة قد تعمّم وقد تخصّص، ولذا تعدّی الحکم من الخمر إلی کلّ مسکر فی قوله: لا تشرب الخمر لأنه مسکر، وکان «المسکر» هو الموضوع ل_«الحرمة». وهذه الکبری منطبقة هنا. وذلک لقوله تعالی _ بعد النهی عن اتباع الظن _ «إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا» فکان المنهی عنه «ما لا یغنی من الحق شیئا» ومن الواضح أنّ «الحجة» تغنی من الحق.

وکذلک قوله تعالی «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ...» بعد قوله: «لا تَقْفُ...»، فإنّه علّة للمنع عن اقتضاء غیر العلم، فکان الممنوع ما فیه «المسئولیّة». ومن الواضح أنّ من عنده «الحجة» یخرج عن عهدة «المسئولیّة».

ص: 288

فظهر أنّه لا خصوصیّة «للعلم» بل الخصوصیّة للحجّة، فالممنوع هو اتباع ما لیس بحجّة، والحجّة حقٌّ ومخرجٌ عن المسئولیّة.

وخبر الواحد وإنْ لم یکن «علما» فهو «حجة»، والآیات تمنع عن اتباع ما لیس بحجة، فلا ربط لها بخبر الواحد.

أقول

ولعلّ هذا الوجه أولی من الوجه الأوّل، لإمکان توجّه المناقشة فیه: بأنّ قیاس خبر الواحد علی القیاس مع الفارق، فإنّ القیاس کاد أن یکون هو الأساس فی الدین، قد أفتی الفقهاء علی طبقه وحکم القضاة وروّجه الولاة والسلاطین، فلو لم یمنع عنه کذلک لمحق الدین. أمّا خبر الواحد، فلیس بهذه المثابة، ولا تترتب علی العمل به تلک المفسدة، فلم یحتج الرّدع عن العمل به إلی تلک الشدّة والمکافحة الأکیدة. فتأمّل.

الکلام فی حدّ السیرة

ثم إنه قد وقع الکلام بینهم فی حدّ هذه السیرة، هل هی قائمة علی العمل بخبر الثقة، أو هی قائمة علی العمل بالخبر الموثوق به وإنْ لم یکن راویه ثقة؟ وعلی الأوّل، فهل هو مشروط بالظنّ أو الوثوق أو عدم الظن بالخلاف، أو غیر مشروط بشئ¨؟

قال الشیخ: خبر الثقة المفید للإطمینان حجّة.

إذن، فالعبرة بالوثوق لا بالسّیرة، والوثوق من أینما حصل فهو حجة، فسقط

ص: 289

خبر الواحد عن الموضوعیّة. بل ادّعی المحقق الخراسانی أن هذا هو المستفاد من الأخبار المستدلّ بها علی حجیة خبر الثقة.

والمهمّ هو البحث عن حدّ السیرة، فنقول:

السّیرة من الأدلّة اللبیّة، وکلّ دلیل لبّی فالأصل الأوّلی فیه هو الأخذ بالقدر المتیقّن منه، فلابدّ من الرجوع إلی العقلاء أنفسهم.

مقتضی طبع المطلب أنْ لا یرتّبوا الأثر إلاّ إذا حصل الوثوق، وهذا هو القدر المتیقن، وقد قیل: إنهم یرتّبون الأثر مطلقا، حتی لو أن أحدا لم یرتّب الأثر معتذرا بعدم حصول الوثوق یُذّم عندهم.

وتفصیل الکلام هو: إن ملاک عملهم بخبر الثقة لا یخلو عن أربعة وجوه:

إفادته الظن الشخصی أو النوعی، أو إفادته الوثوق الشخصی أو النّوعی.

أمّا أن یقال: إنهم لا یعملون به إلاّ إذا أفاد الظن الشخصی، فهذا خلاف الواقع، ولیست سیرتهم کذلک.

وأمّا أن یقال: باعتبارهم الوثوق النوعی، فهل المراد من ذلک: حصول الظن من الخبر لنوع العقلاء، أو کون نوع خبر الثقة مفیدا للظن؟ ظاهر الشیخ هو الثانی.

لکنّ الحق عدم دوران عملهم بخبر الثقة مدار حصول الظنّ مطلقا، بل الملاک لعملهم هو الوثوق والإطمینان النوعی، وسقوط احتمال الخلاف عندهم سقوطا عقلائیّا لا فلسفیّا، بمعنی أن یکون ترتیب الأثر علی احتمال الخلاف مستقبحا عندهم، کما ذکر الشیخ.

وعلیه، فملاک حجیّة الأمارات لیس إفادة الظن النوعی عند العقلاء.

ص: 290

ثمّ إنه لو کان الخبر مفیدا للوثوق النوعی وحصل الظن الشخصی علی خلافه، فإن العقلاء لا یذمّون العامل بظنّه الشخصی التارک للعمل بالخبر المفروض إفادته للوثوق النوعی، نعم، یذمّونه لو احتمل الخلاف وأراد ترک العمل بالخبر من أجل الإحتمال. فالسیرة قائمة علی عدم الإعتناء باحتمال الخلاف للخبر المفید للوثوق النوعی، وغیر قائمة علی علی الاعتناء بالظن القائم علی خلافه. وأمّا لو شُک فی الخبر المفید للوثوق النوعی، فتحقّق السّیرة علی الإعتناء بالشکّ وعدمه مشکوک فیه، إلاّ أنْ یکون الشک غیر عقلائی، فلا یُعبأ به.

وأمّا الوثوق الشخصی الحاصل من الخبر، فلا ریب فی اعتباره، لکنّ الحجیّة حینئذٍ للوثوق، أی العلم العرفی، ولذا لو حصل من خبر غیر الثقة، کان حجةً کذلک.

وتلخّص:

إن الملاک فی حجیّة الخبر بالسیرة هو الوثوق النوعی لا الظن النوعی.

والوثوق النوعی مشروط بعدم وجود الظن الشخص العقلائی علی خلافه، وإلاّ فلا یکون حجة بالنسبة إلی الشخص الظانّ.

ثم إنه لا سیرة عقلائیّة علی العمل بخبر الإمامی الممدوح، کما فی الإصطلاح المعبَّر عن خبره ب_«الحسن»، لعدم حصول الوثوق النوعی من خبر من لم ینصّ علی وثاقته، بناءً علی اعتبار الوثوق المخبری.

ثم إذا کان الملاک هو الوثوق النوعی، فقول صاحب الکفایة _ بعد جعل

ص: 291

الإعتبار من باب الوثوق بالصّدور _ : «لعدم اختصاص دلیل اعتبار خبر الثقة ولا دلیل اعتبار الظهور بما إذا لم یکن ظن بعدم صدوره أو ظن بعدم إرادة ظهوره»(1) ینافی کون الاعتبار من باب الوثوق بالصّدور، لأنه مع وجود الظنّ بالخلاف لا وثوق بالصّدور.

ویقع الکلام حینئذٍ فی أثر إعراض المشهور، لأنْ إعراضهم عن الخبر المعتبر یورث الظنّ بالخلاف، فإذا کان دلیل الاعتبار هو الوثوق النوعی بالصّدور، فالإعراض رافع له، ولذا کان المشهور بین الأصحاب موهنّیة إعراض المشهور، ومن هنا یرد علی صاحب الکفایة القائل بالإعتبار بالوثوق بالصّدور، کیف لا یری الإعراض مضرّا؟

وهذا التنافی موجود فی کلمات الشیخ وغیره أیضا.

یقول الشیخ فی بحث الاستدلال بالسیرة: «نجد بنائهم علی العمل بالخبر الموجب للإطمینان».(2)

ویقول فی بحث الاستدلال بالأخبار: «إلاّ أن القدر المتیقّن منها خبر الثقة... ویقبّحون التوقّف فیه».(3)

ومع ذلک یقول: «کما لا إشکال فی عدم الوهنیّة إذا کان اعتبارها من باب الظن النوعی».(4)

ص: 292


1- 1. کفایة الاصول: 333.
2- 2. فرائد الأُصول 1 / 346. الطبعة الحدیثة.
3- 3. المصدر 1 / 309.
4- 4. المصدر 1 / 596.

ومع ذلک یقول فی باب التعادل والتراجیح: «ثم إنّ التعارض علی ما عرفت من تعریفه لا یکون فی الأدلّة القطعیّة،... ومنه یعلم عدم وقوع التعارض بین الدلیلین یکون حجیّتهما باعتبار صفة الظنّ الفعلی، لأن اجتماع الظنّین بالمتنافیین محال... والمراد بقولهم إنّ التعارض لایکون إلاّ فی الظنّین، یریدون به الدلیلین المعتبرین من حیث إفادة نوعهما الظن. وإنما أطلقوا القول فی ذلک، لأن أغلب الأمارات بل جمیعها عند جلّ العلماء... معتبرة من هذه الحیثیّة، لا لإفادة الظنّ الفعلی بحیث یناط الاعتبار به...(1)

وهل إنّ عمل الأصحاب بخبرٍ غیر معتبر یوجب اعتباره وجبر ضعفه کما ذهب إلیه المشهور کذلک؟

لقد تقدّم أنْ المعتبر هو إفادة الخبر للوثوق النوعی، وقد ذکروا أن عمل الأصحاب بخبرٍ یفیده من جهة أنه لولا الدلیل المعتبر أو القرینة القویّة بالخبر الضعیف لما عملوا به.

وهذا الکلام له وجهٌ، إلاّ أن المشکلة هی أن لا یکون ذلک الدلیل الذی اعتمدوه ولم یصل إلینا، أو القرینة التی لا نعلم بها، صالحةً للاعتماد عندنا.

ومن هنا کان التحقیق هو التفصیل بین الإعراض والعمل، فالإعراض موهن والعمل غیر جابر، خلافا للمشهور القائلین بکلیهما، وللسیّد الخوئی المنکر لکلیهما.

ص: 293


1- 1. فرائد الأُصول 4 / 17 _ 18. الطبعة الحدیثة.

وعلی الجملة: فإن المعتبر هو الخبر المفید للوثوق، ویکفی فی ذلک کون المخبر موثّقا، فالروایة الموثقة معتبرة کالصحیحة، ولا حاجة لأن یکون المخبر عدلاً، وترتیب الأثر علی احتمال خلاف ما یفیده خبر الثقة قبیح فی ارتکازات العقلاء، وهی القرینة الحافّة بالخطابات الملقاة إلی العرف من الأوامر والنواهی، المانعة من انعقاد الإطلاق فیها. مثلاً: دلیل تنجیس النجس بالملاقاة لیس مطلقا من حیث الرطوبة، من جهة احتفافه بالإرتکاز العقلائی القائم علی اشتراط الرطوبة المسریة، فالملاقاة بلا رطوبة مسریة غیر موجبة للنجاسة، مع خلوّ الأدلّة الشرعیّة عن هذا الشرط.

ومن هنا نقول أیضا فی حلّ مشکلة رادعیّة الآیات عن السّیرة العقلائیة: بأنّ الإرتکاز العقلائی بقبح التوقف عن قبول خبر الثقة یمنع من انعقاد الإطلاق فیها، بل إنها تنصرف بسببه إلی الظنون غیر القائمة علیها السیرة العقلائیّة.

وهذا طریق آخر لحلّ تلک المشکلة.

فإن قلت: الإستقباح المذکور محکوم بإطلاق الأدلّة.

قلنا: إنه یستلزم الدّور، لتوقف انعقاد الإطلاق فی الآیة علی عدم منع هذا الإرتکاز العقلائی، وعدم منعه یتوقف علی حکومة الإطلاق علیه.

وإلی هنا ظهر حدّ حجیّة خبر الواحد الثقة من باب السیرة العقلائیّة.

وأمّا بناءً علی حجیّته من باب الروایات، فإنْ کان لقوله: «ثقة آخذ عنه معالم دینی؟» إطلاق یعم ما قام الظنّ علی خلافه، کان خبر الثقة حجة علی الإطلاق، ولا یکون إعراض المشهور موجبا لسقوطه عن الإعتبار لکنّ التحقیق عدم تمامیّة

ص: 294

الإطلاق فی مثله، بل السؤال والجواب واردان فی مورد الإرتکاز العقلائی الذی ذکرناه، فالإطلاق غیر منعقد.

وعلیه، فالإستدلال علی حجیّة خبر الثقة بالسّیرة العقلائیّة أو بالأخبار ینتهی إلی نتیجةٍ واحدة.

وجوه القول باعتبار العدالة

وبقی الکلام فی أدلّة باعتبار العدالة فی الراوی، وهی وجوه:

1. إن خبر العدل هو القدر المتیقّن فی الخروج عن الأدلّة الناهیة عن العمل بما وراء العلم.

وفیه: قد عرفت خروج خبر الثقة أیضا، والأخذ بالقدر المتیقن موقوف علی تمامیّة الاطلاق فیها.

2. إنّ العمل بخبر الثقة غیر العادل مخالف لظاهر الآیة المبارکة «أَ فَمَنْ کانَ مُوءْمِنًا کَمَنْ کانَ فاسِقًا لا یَسْتَوُونَ».(1)

وفیه: إنّ الدلیل القائم علی حجیّة خبر الثقة دلیلٌ علی عدم إرادة الإستواء من جمیع الجهات.

3. إن منطوق آیة النبأ وجوب التبیّن من خبر الفاسق. أی سواء أفاد الوثوق أوْلا.

وفیه: إن المأمور به فی الآیة هو وجوب التبیّن، وخبر الثقة بیان بالسّیرة

ص: 295


1- 1. سورة السجدة: الآیة 18.

العقلائیّة، کما أن الأخبار المستدلّ بها علی حجیّة خبره بیانٌ بناءً علی کون الدلیل علی حجیّة خبره هو الأخبار.

4. إن الفاسق ظالم، والأخذ بقول الفاسق رکون إلیه، والرّکون إلیه منهیٌّ عنه بقوله تعالی: «وَلا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذینَ ظَلَمُوا...».(1)

وفیه: إن الرّکون لغة هو السّکون والمیل ولیس الوثوق. سلّمنا، لکنْ لیس کلّ فاسقٍ بظالم عرفا. فالدلیل أخصّ من المدّعی. علی أنّ الشبهة فی «الرکون» مفهومیّة، واندراج «الأخذ بقول الفاسق» تحته مشکوک فیه.

الاستدلال العقلی علی حجیة خبر الواحد

اشارة

واستدلّ من العقل لحجیّة خبر الواحد بوجوه:

الوجه الأوّل

اشارة

العلم الإجمالی

العلم الإجمالی، وهو إنه لا شک _ بالنظر فی أحوال الرواة ونقلة الأخبار عن الأئمة الأطهار _ فی صدور أکثرها عنهم علیهم السّلام، فلا مجال لاحتمال کذب جمیع ما بأیدینا من الروایات، فلقد کان الرواة والمدوّنون للأخبار یحتاطون فی هذا الباب أشدّ الإحتیاط، سواء فی مرحلة الأخذ، فکانوا لا یأخذون من کلّ أحدٍ ولا یکتبون عن کلّ کتابٍ إلاّ بعد الوثوق، وفی مرحلة الکتابة کذلک، فکانوا

ص: 296


1- 1. سورة هود: الآیة 113.

یحتاطون بشدّة حتی لا یقع نقصان أو زیادة، کانوا یقرأون الکتاب علی الشیخ، وبعد أن کتبوا یقابلون المکتوب علی الأصل... وهکذا... بل کان من بینهم من لا یأخذ ممّن هو ثقة لکنه یروی عن الضعفاء، وکان من بینهم من یُخرج الراوی عن البلد لکونه روی عن الضعفاء.

وعلی الجملة، فإنّا نعلم علما إجمالیّا بصدور طائفةٍ هی أکثر روایاتنا الموجودة بین أیدینا عن النبی وآله الأطهار، نقطع بصدور هذه العِدّة منها عنهم، ومقتضی القاعدة فی موارد العلم الإجمالی هو الإحتیاط بالأخذ بجمیع الأطراف، ولو فرض لزوم العسر أو اختلال النظام من الإحتیاط، وجب التنزّل إلی الظن والأخذ بکلّ خبر ظن بصدوره.

إشکالات الشیخ

وأشکل الشیخ(1) علی هذا الإستدلال:

أوّلاً: إن هذا العلم الإجمالی یکشف عن الحکم الواقعی، فلا موضوعیّة للأخبار بما هی أخبار، فالذی یوجب الإحتیاط هو العلم بوجود الأحکام الشرعیّة، ومن المعلوم أن الأحکام لیست فی مورد الأخبار فقط، بل توجد فی موارد الأمارات الاخری أیضا، فالدلیل أعم من المدّعی، لاقتضائه وجوب العمل علی طبق جمیع الأمارات.

وثانیا: إن نتیجة العلم الإجمالی هذا، هو العمل بالظن بمضامین الأخبار،

ص: 297


1- 1. فرائد الأصول : 103-104.

فکلّما ظن بمضمونٍ منها _ ولو من جهة الشهرة مثلاً _ یؤخذ به، وکلّ خبر لم یحصل الظن بکون مضمونه حکم اللّه فلا یؤخذ به وإنْ کان مظنون الصّدور. فکانت العبرة بظن مطابقة الخبر للواقع لا بظنّ الصّدور.

وثالثا: إن مقتضی هذا الوجه وجوب العمل بکلّ خبر مثبت للتکلیف للشرعی، لأنه الذی یجب العمل به، وأما الأخبار الصّادرة النافیة للتکلیف فلا یجب العمل بها، وهذا ما لا یلتزم به.

أقول:

وحاصل کلام الشّیخ: إنّ هنا علمین إجمالیین:

أحدهما: هو العلم الإجمالی بوجود الأحکام الشرعیّة فی دائرة الروایات الموجودة بین أیدینا، ویعبّر عنه بالعلم الإجمالی الصغیر.

والثانی: هو العلم الإجمالی بوجود الأحکام الشرعیّة فی دائرة مجموع ما بأیدینا من الأخبار ومن الأمارات الاُخر، کالشهرة والإجماع المنقول، وهذا هو العلم الإجمالی الکبیر.

وأمّا العلم الإجمالی بوجود الأحکام الشرعیّة بین الدائرة الکبیرة مع المشکوکات والموهومات _ بأنْ یکون هذا العلم الإجمالی هو الکبیر ویکون الثانی متوسطا _ فإنّه منحلٌّ بالمتوسّط، فلا یبقی إلاّ العلمان الإجمالیّان، ولا ثالث لهما.

ثم إنّ هذین العلمین باقیان علی حالهما، ولا ینحلّ الکبیر بالصّغیر، وحینئذٍ لا یتمّ الاستدلال، لِما تقدّم من الإشکال.

ص: 298

وقد أوضح الشیخ الإشکال: بأنّا لو فرضنا عزل طائفةٍ من الأخبار، وضممنا إلی الباقی منها مجموع الأمارات الاُخر، کان العلم الإجمالی باقیا علی حاله.

وتلخّص: إن اللاّزم مراعاة العلم الإجمالی الکبیر وعدم الاقتصار علی الصّغیر، نظیر ما إذا علمنا إجمالاً بوجود شیاه محرّمة فی قطیع غنم، بحیث تکون نسبته إلی کلّ بعضٍ منها کنسبته إلی البعض الآخر، ثم علمنا بوجود شیاه محرّمة بین خصوص طائفةٍ خاصّة من تلک الغنم _ کالشیاه السّوداء مثلاً _ بحیث لولم یکن من الغنم إلاّ هذه لعلم إجمالاً بوجود الحرام فیها أیضا، ففی هذه الصّورة، لابدّ من إجراء حکم العلم الإجمالی فی تمام الغنم، إما بالاحتیاط أو العمل بالمظنّة إذا بطل وجوب الإحتیاط للعسر والحرج.

رأی المیرزا

وقد أیّده المیرزا وقرّب مدّعاه بمثالٍ آخر وهو: إنه لو کان آنیةٌ ثلاثة فی الجانب الشرقی من الدار، وثلاثة اخری فی الجانب الغربی، ثم علم إجمالاً بإصابة أحد الشرقیّة قطرة من الدم، وعلم إجمالاً أیضا بأنه قد وقعت فی نفس الآن قطرةٌ اخری من الدم إمّا فی إناء آخر من الشرقیّة أو إناءٍ من الغربیّة، ففی هذه الحالة، لا تکون الآنیة الغربیّة طرفا للعلم الإجمالی، لاحتمال سقوط القطرة الثانیة فی الشرقیّة، لکنّ ضمّ الغربیّة إلی الشرقیّة یوجب ازدیاد أطراف المعلوم بالإجمال ولو بعد عزل ما یوجب انحلال العلم الإجمالی فی الشرقیّة، وتکون الآنیة الستّة کلّها موردا للعلم، فإنه لو عزلنا إحدی الشرقیّة ینحلّ العلم الإجمالی بنجاسة

ص: 299

إحدی الباقیتین، بسبب وقوع إحدی القطرتین فی خصوص إحداهما، لعدم العلم الإجمالی بنجاسبة أحدهما، کما لا یعلم بنجاسة أحد الغربیّة، لکنّ العلم الإجمالی بنجاسة إحدهما یتحقّق بضمّ الغربیّة إلیهما.

وحال الأمارات الظنیّة مع بقیّة الأخبار بعد عزل طائفةٍ منها، حال الآنیة بعینه، وعلیه، فالأمارات من أطراف العلم وحالها حال الأخبار.(1)

رأی المحقق الخراسانی

وذهب المحقّق الخراسانی إلی انحلال العلم الإجمالی، وسقوط إشکال الشیخ، ولابدّ من ذکر مقدّمات لفهم کلامه:

الاولی: الإنحلال تارةً: حقیقی، وهو علی قسمین: حقیقی وجدانی، فلا موضوع له وجدانا. وحقیقی تعبّدی، فلا موضوع له بالتعبّد الشرعی. واخری: حکمی، بأنْ یکون العلم موجودا، فهو موجود موضوعا لکنه بلا أثر.

والثانیة: إن العلم الإجمالی یتشکّل دائما من القضیّة المنفصلة، وانحلاله یکون بارتفاعها، إمّا وجدانا وإمّا تعبّدا وإمّا حکما.

والثالثة: إن کان الأمر دائرا بین الأقل والأکثر، فإنّ الأقل هو المتیقّن.

والرابعة: إن کان هناک علمان إجمالیّان أحدهما أوسع من الآخر، واحتمل انطباق الأوسع علی الأضیق، تحقّق الانحلال بمجرّد الاحتمال. فلو تیقّن بحرمة خمسة من الشیاة، ثم حصل الیقین بکون ثلاثة من الخمسة فی الشیاه السّود، لم

ص: 300


1- 1. أجود التقریرات 3 / 205 _ 206.

یتحقق الانحلال، لعدم انطباق الخمسة علی الثلاثة، بخلاف ما إذا علمنا بحرمة خمسةٍ من السّود، فاحتمال الإنطباق موجود والإنحلال حاصل.

ولو علمنا إجمالاً بوجود حرام فی القطیع، وتردّد العدد بین الخمسة والثلاثة، ثم علمنا بوجوده فی السود وتردّد کذلک بین الخمسة والثلاثة، أخذنا بالقدر المتیقن وانحلّ العلم الإجمالی من أجل احتمال الانطباق، لوحدة العدد.

ولا یخفی عدم الفرق فی سبب الحرمة، کأنْ یکون الوطی أو الغصب، لإمکان الانطباق، وهذا الإنحلال حکمی.

بعد الفراغ من المقدّمات:

هناک علم إجمالی بوجود الأحکام فی دائرة الکتب الأربعة، فبعضها صادر قطعا، لکنّ عددها مردد بین الأقل والأکثر _ غیر الارتباطیین _ . وهناک علم إجمالی آخر أعمّ من الکتب الأربعة من کتبنا ومن الشهرة الفتوائیّة والإجماعات المنقولة، وهی أیضا مرددة بین الأقل والأکثر.

ولمّا کان الأقلّ فی العلمین هو المتیقن، والانطباق محتمل کما ذکرنا فی مثال الشّیاه، فالعلم الإجمالی الأوسع منحلّ بالأضیق، لأنّه المتیقّن واشتغال الذمّة بالأوسع مشکوک فیه... وهذا الإنحلال حکمی.

هذا، ویبتنی کلام صاحب الکفایة علی الامور التالیة:

1. العلمان الإجمالیان عرضیّان.

2. إنه لا علم بکون عدد الأحکام أکثر ممّا فی الأخبار.

3. إحتمال إنطباق الأحکام علی ما حملته الأخبار، فالشبهة فی غیرها بدویّة.

ص: 301

وبما ذکرنا یظهر عدم انطباق مثال المیرزا علی محلّ البحث. علی أنه یرد علیه لزوم تنجّز المنجّز وهو محال، لأنّ المفروض فیه تنجّز التکلیف بالنسبة إلی الآنیة الشرقیّة بوقوع القطرة الاولی، فلو أرادت الثانیة تنجیز التکلیف بالإجتناب عنها یلزم المحذور المذکور، وحینئذٍ، یکون التکلیف بالنسبة إلی الغربیّة مشکوکا فیه بالشک البدوی. اللهم إلاّ أن یقال بعدم تمامیّة هذا المطلب فی العلم المقارن، فیتم ما ذکره، لکن المحقّق فی محلّه خلافه.

بیان المحقق الإصفهانی

وقال المحقق الإصفهانی فی تقریب الوجه العقلی: تقریبه علی وجهٍ لا یرد علیه ما أورده شیخنا العلاّمة الأنصاری هو: إن العلم الإجمالی _ وإنْ کان حاصلاً بثبوت تکالیف واقعیّة فی مجموع الروایات وسائر الأمارات من الإجماعات المنقولة والشهرات وأشباهها، ضرورة أن دعوی عدم العلم بمطابقة بعض الإجماعات المنقولة والشهرات للواقع خلاف الإنصاف جدّا _ إلاّ أن مجرّد تضمّن بعض الإجماعات المنقولة وبعض الشهرات لتکالیف واقعیّة لایجدی، لاحتمال توافقها مع ما تضمّنه الأخبار الصّادرة واقعا، بحیث لو عزلت الإجماعات المنقولة والشهرات المتوافقة مع جملة من الأخبار، لم یکن منع العلم الإجمالی بثبوت تکالیف واقعیّة فیما عداها بعیدا.

فالإلتزام بالعلم الإجمالی فی مجموع الروایات وسایر الأمارات، لا یقتضی

ص: 302

الإحتیاط فی تمام الأطراف، لمکان احتمال الإنطباق علی ما تضمّنه الأخبار، فلا علم إجمالی بتکالیف اخر زیادة علی ما فی الأخبار.

ومما ذکرنا یظهر أن ما أفاده شیخنا الاستاذ هنا وفی تعلیقته الأنیقة علی الرسائل، لیس مبنیّا علی إنکار العلم الإجمالی فی الروایات وغیرها، بل مبنی علی عدم تأثیره، لمکان احتمال الإنطباق الراجع إلی قصور العلم الإجمالی عن التأثیر فی التنجّز، لا مانعیّة العلم الإجمالی فی خصوص الروایات عن اقتضاء العلم الإجمالی الکبیر للتنجّز، کما هو کذلک فیما إذا قامت الحجة المعتبرة علی بعض الأطراف.(1)

أقول:

إنْ کان المعلوم بالإجمال فی الکبیر أکثر منه فی الصغیر، فلا شبهة فی عدم الإنحلال، لأنّ المقتضی لتأثیر العلم فی الکبیر موجود والمانع مفقود، فیتم مسلک الشیخ والمیرزا.

وأمّا علی مسلک صاحب الکفایة، فالأمر دائر بین الأقل والأکثر، فکان القدر المتیقّن من الأحکام فی الشریعة المقدّسة موجودا فی دائرة الأخبار المعلوم صدورها عن أهل العصمة وإنْ احتمل وجود شئ¨ فیما عداها. لکنّ احتمال انطباق الکبیر علی الصغیر یوجب الإنحلال، لأن قوام بقاء العلم الإجمالی هو القضیّة المنفصلة _ أیْ وجود المعلوم بالإجمال فی کلّ طرف علی السواء _ وبمجرّد کون أحدها محتملاً ینحلّ العلم، لکون الشک فیه بدویّا.

ص: 303


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 255.

والحاصل: إنه مع فرض کون المورد من قبیل الأقل والأکثر واحتمال الإنطباق، فلا مناص من الإنحلال، بمعنی أن عدم تأثیر العلم الإجمالی لیس علی أثر القصور فی المقتضی أو وجود المانع، بل إنه لا یوجد العلم الإجمالی أصلاً فی طرف الدائرة الکبیرة. فقوله: «لیس مبنیّا علی عدم العلم» فیه: إن القصور فرع الوجود، وقد ظهر أنْ لا وجود للعلم الإجمالی علی مسلک المحقق الخراسانی.

علی أنْ لازم تقریبه وجود العلم فی طرف الأکثر مع دوران الأمر بین الأقل والأکثر وعدم تأثیره لقصور المقتضی، والحال أنهم لا یقولون بذلک کبرویّا.

وصاحب الکفایة وإنْ ذکر کلمة «المانع»، لکنْ لیس مراده مانعیّة العلم الإجمالی الصّغیر عن الکبیر، بل مراده ما ذکرناه، ولا مناص من حمل کلامه علیه لو فرض عدم کونه ظاهرا فیه.

وعلی الجملة، فإنّ القول بالإنحلال لا یکون إلاّ عن طریق جعل المورد من الأقل والأکثر، وهذا هو مراده من مجموع کلماته فی الکفایة والحاشیة.

بقی الکلام فی قول الشیخ:

«والحاصل: إن معنی حجیّة الخبر کونه دلیلاً متبّعا فی مخالفة الاُصول العملیّة والاصول اللّفظیّة مطلقا، وهذا المعنی لا یثبت بالدلیل المذکور».

أقول

لابدّ من تحقیق المطلب فی مقامین:

المقام الأوّل: الاصول العملیّة

ص: 304

فنقول:

إن کان عندنا علم إجمالی بتکالیف شرعیّة حملتها الأخبار، فالأحکام إمّا إلزامیّة أو ترخیصیّة، والحکم الإلزامی یکون فی مقابله: تارةً أصل موافق للخبر فی إثبات الحکم، واخری: أصل نافٍ له، والأوّل إمّا محرز کالإستصحاب، وإمّا غیر محرز کالبراءة.

فإن کان الأصل نافیا للحکم وهو غیر محرز، والخبر قائم علی حکمٍ إلزامی، فالأصل غیر جارٍ عملاً، لأنه مع العلم الإجمالی بالتکلیف الإلزامی، لا مجال لجریان الأصل.

أمّا بناءً علی وجوب العمل بالخبر من جهة العلم الإجمالی، فإنّه وإنْ کان الموضوع للأصل _ وهو الشک _ موجودا، لکنّ العلم الإجمالی مانع عن جریانه، لأنه إنْ جری فی بعض الأطراف دون بعضٍ، لزم الترجیح بلا مرجّح، وإنْ جری فی الجمیع، لزم المخالفة العملیّة للمعلوم بالإجمال.

وأمّا بناءً علی حجیّة الخبر من غیر جهة العلم الإجمالی، فلا موضوع للأصل أصلاً، لفرض وجود الدلیل علی اعتبار الخبر.

ثم إنه بناءً علی حجیّة الخبر، یجوز إسناد مضمونه إلی الشارع کما هو واضح، بخلاف ما إذا وجب العمل به احتیاطا من باب وجوب العلم الإجمالی، فإنّه لا یجوز الإسناد، لعدم العلم بکونه من الشارع، فیکون الإسناد تشریعا.

لکنْ بناءً علی الحجیّة، لابدّ من تعیین المبنی:

فإنْ قلنا: بأنّ مدلول أدلّة الإعتبار والحجیّة هو جعل الطریقیّة، أو قلنا: بأنه

ص: 305

جعل الحکم المماثل، جاز الإسناد إلی الشارع، لأنه بناءً علی الثانی، یکون للشّارع حکم فی مورد الخبر، وعلی الأوّل، یوجد علم تعبّدی بالحکم الواقعی.

وإنْ قلنا: بجعل المنجزیّة والمعذریّة، لم یجز الإسناد، لأن الشارع قد جعل الخبر منجزا لا طریقا إلیه.

فظهر عدم تمامیّة القول بعدم جواز الإسناد مطلقا، بل لابدّ من تعیین المبنی والتفصیل بالنظر إلیه.

وأیضا: فبناءً علی حجیّة الخبر، تکون لوازم مضمونه حجةً، لکونه حینئذٍ أمارة، ولوازم الأمارة حجة. وأمّا بناءً علی وجوب العمل به احتیاطا _ من باب العلم الإجمالی _ فلا، لعدم حجیّة اللّوازم.

فظهرت ثلاثة فوارق _ فی هذا الفرض _ بین ما إذا کان ملاک حجیّة الخبر هو أدلّة الإعتبار، أو کون الخبر واجب العمل من باب العلم الإجمالی، وأنه لابدّ علی القول الثانی من التفصیل المذکور بین المبانی.

وإنْ کان الأصل نافیا للحکم وهو محرز کالإستصحاب، والخبر مثبت لتکلیف إلزامی، فلا مجال لجریانه مع وجود الخبر، بناءً علی العمل به من باب العلم الإجمالی، إمّا لعدم وجود المقتضی لقصور المجعول وعلیه المیرزا، وإمّا للزوم المخالفة العملیّة، کما علیه الاستاذ. وکذلک إن کان الأصل غیر محرز، إذ لا فرق _ علی هذا المبنی _ بین الأصل المحرز وغیرالمحرز.

وأمّا بناءً علی وجوب العمل بالخبر لحجیّته بأدلّة الإعتبار، فلا موضوع للأصل، کما لا یخفی.

ص: 306

والکلام فی جواز الإسناد وعدمه، کالکلام فی الصّورة السّابقة علی المبانی.

وإنْ کان الأصل مثبتا للحکم الشرعی کالخبر، فلا یجری الأصل لعدم الموضوع، سواء کان محرزا أو غیر محرز، شرعیّا أو عقلیّا.

هذا إن کان حجیّة الخبر بأدلّة الاعتبار.

وأمّا إنْ کان الخبر حجّةً _ أی یجب العمل به _ من باب العلم الإجمالی، ففیه تفصیل، لأنه إن کان الأصل المثبت للتکلیف أصلاً عقلیّا کالاشتغال، فالمقتضی لجریانه _ أی الشک _ موجود، والمانع _ وهو لزوم المخالفة العملیّة _ مفقود. وإنْ کان أصلاً شرعیّا محرزا کالإستصحاب، فموضوع الجریان موجود کذلک، لکن لا یجری لقصور المجعول، کما علیه المیرزا. وأمّا بناء علی عدم الجریان لوجود المانع عنه _ وهو لزوم المخالفة العملیّة القطعیّة _ فالأصل جارٍ، ومع الجریان _ یظهر الأثر بناءً علی وجوب العمل بالخبر من باب العلم الإجمالی، فإنه من ناحیة الإستصحاب یمکن إسناد المضمون إلی الشارع وإنْ لم یمکن من ناحیة الخبر، کما أن الملاقی لمستصحب النجاسة محکوم بالنجاسة، مع أن الملاقی لأطراف العلم الإجمالی لا یکون محکوما بحکم الملاقی.

وإن کان الخبر نافیا للتکلیف، ولکنّ الأصل تارةً: کذلک، واخری: مثبت له، وعلی التقدیرین یکون الأصل محرزا تارةً: واخری: غیر محرز.

فإنْ کان الأصل نافیا وهو غیر محرز، فلا موضوع له حتی یجری، بناءً علی حجیّة الخبر بأدلة الإعتبار، وحینئذٍ، یجوز إسناد مدلول الخبر إلی الشارع، بناءً علی الطریقیّة أو جعل الحکم المماثل، وتکون لوازمه حجةً، لأن مثبتات الأمارات

ص: 307

حجّة. وأما بناءً علی وجوب العمل به من باب العلم الإجمالی، فالموضوع للجریان _ أعنی الشک _ موجود والمانع مفقود، لأن المانع إمّا هو لزوم المخالفة القطعیّة، وإما عدم إمکان المحرز التعبّدی علی خلاف المحرز الوجدانی، وحیث أن الأصل غیر محرز، فلا مانع.

وإنْ کان الأصل النافی للتکلیف محرزا، فإن کان المبنی عدم جریان الإستصحابین مع العلم بالخلاف فی أحدهما، لأن الإحراز الوجدانی _ لکون أحدهما خلاف الواقع _ لا یجتمع مع المحرزین التعبدیین _ فهو، وإنْ وقع الخلاف فی وجه عدم الجریان _ . هذا بناءً علی وجوب العمل بالخبر من باب العلم الإجمالی. وأما بناءً علی حجیّته بالأدلّة، فلا موضوع للأصل.

وإنْ کان الأصل مثبتا للتکلیف والخبر نافٍ له، فإنْ کان حجیّة الخبر بالأدلّة، لم یجر الأصل لعدم الشک، وإنْ کان یجب العمل به من باب العلم الإجمالی، فالموضوع موجود، فإن کان الأصل غیر محرز، فلا مانع من جریانه والإحتیاط لازم، وإن کان محرزا، لزم ملاحظة المبنی _ وعلی القول بالجریان کما هو المختار _ یکون جاریا أیضا.

تنبیه

هل مع العلم بطهارة أحد الإنائین، یجری استصحاب النجاسة فیهما، لکونها الحالة السّابقة وجریانه کذلک لا یستلزم مخالفة حکمٍ إلزامی، لکنّ أحدهما خلاف الواقع؟

ص: 308

قال الشیخ والمیرزا بالعدم، واختلفا فی وجه ذلک.

فقال المیرزا: إن المجعول بدلیل الإستصحاب قاصر عن الشمول لأطراف العلم الإجمالی، لأن مدلوله التعبّد ببقاء الحالة السّابقة، إلاّ أن التعبّد بلسان إحراز الواقع فی کلٍّ من الأطراف، أی: أنت محرز للنجاسة _ مثلاً _ فی هذا الإناء وذاک وذاک، لا یجتمع مع العلم وهو الإحراز الوجدانی لطهارة أحدها.

هذا فی الأصل المحرز.

وأمّا غیر المحرز کالبراءة، فمدلول الدلیل هو تعیین الوظیفة عند العمل بلا إحراز للواقع. فالمانع عن جریان البراءة فی أطراف العلم الإجمالی إثباتی، کما أن المانع عن جریان الإستصحاب ثبوتی کما تقدّم.

وقال الشیخ: المانع إثباتی لا ثبوتی، وهو لزوم التناقض بین صدر دلیل الإستصحاب «لا تنقض الیقین بالشک بل انتقضه بیقین أخری» مع ذیله، لأن مقتضی صدره هو إبقاء النجاسة مثلاً، ومقتضی ذیله عدم إبقائه مع الیقین اللاّحق، والمفروض تحقق الیقین وجدانا بالنقض فی أحد الأطراف.

وقال الخراسانی والعراقی بالجریان ما لم تحصل المخالفة العملیّة القطعیّة، فإذن یجری الإستصحاب _ فی بعض الأطراف _ وإنْ علمنا بمخالفة بعضها للواقع، ولا مانع من جریانه إلاّ لزوم المخالفة القطعیّة.

والوجه فی ذلک هو: إنّ کلّ طرفٍ من الأطراف واجدٌ لملاک الإستصحاب وهو الیقین السابق والشک اللاّحق، وأمّا العلم الإجمالی بطهارة أحد الإنائین _ مثلاً _ فقد تعلّق بعنوان «الأحد» والعلم إذا تعلّق بشئ¨ٍ لا یتجاوز عن متعلّقه، إذنْ، لا

ص: 309

یتعلّق العلم بالأطراف، لأن العلم یکون فی صقع النفس، ومتعلّقه فی ذلک الصقع هو «الأحد»، فإذا أجرینا الإستصحاب فی کلّ طرفٍ بخصوصه لم یمنع العلم عن جریانه، إلاّ إذا حصل المخالفة القطعیّة، فذلک هو المانع عن الجریان.

هذه هی الکبری.

ولکنّ المحقق العراقی _ القائل بجریان الأصل المحرز کما تقدّم _ یقول فیما نحن فیه بعدم الجریان، للعلم الإجمالی بصدور أخبارٍ عن الأئمة الأطهار علیهم السّلام، وهی تامّة فی الظهور والدلالة، ومع تمامیّتها کذلک، فإنه فی کلّ موردٍ یراد إجراء الأصل فیه تتحقّق الحکومة، لأنّ الخبر التام ظهورا ودلالةً یکون حاکما علی الأصل، لأنّ جریان الاستصحاب فی جمیع الأطراف لایجتمع مع العلم الإجمالی بصدور بعضها، وجریانه فی بعضها دون بعضٍ ترجیح بلامرجّح. إذن، فهقتضی القاعدة سقوط الأصل المحرز، وإنْ تمّ جریانه فی البحث الکلّی.

وقد ردّ علیه شیخنا دام بقاه

أمّا نقضا، فبأنّ المحقق المذکور یری جریان الأصل العقلی المثبت للتکلیف کقاعدة الإشتغال، مع أنّ الأصل المثبت العقلی کذلک محکومٌ بالأمارة أو هی واردة علیه، فما الفرق؟

وأمّا حلاًّ، فإن صِرف وجود الأمارة علی خلاف بعض الاصول هو المانع من جریان الأصل أو له ملاک؟ إنّ الاصول اللفظیّة تدور حجیّتها مدار کاشفیّتها عن المراد، فمثلاً: مع وجود العلم الإجمالی بوجود المخصّص علی خلاف

ص: 310

العمومات، لاتجری أصالة العموم فیها لسقوطها عن الکشف عن المراد، وأمّا الاصول العملیّة، فملاک جریانها هو الشک، ففی الاستصحاب الیقین السّابق والشک اللاّحق هو الملاک، والأمارة ملاک تقدّمها علی الأصل هو رفعها للشک رفعا تعبدیّا، إمّا حکومةً وإمّا ورودا. وهذا هو الملاک العام. وهنا الأمارة معلومة بالإجمال وهی محتملة الإنطباق بالنسبة إلی موارد الاصول، والعلم الإجمالی بوجود الأمارة لایرفع الشک من کلّ طرفٍ طرفٍ بخصوصه، لا وجدانا ولا تعبّدا، بل یرفعه فی البعض الإجمالی، وحیث أنّ الشکّ موجود فالملاک لجریان الإستصحاب موجود. فالحاصل: عدم مانعیّة الأمارة المعلومة بالإجمال عن جریان الإستصحاب فی کلّ واقعةٍ واقعةٍ من الأطراف، وصرف وجود الأمارة علی خلاف الأصل غیر اللّفظی لیس مانعا، وإلاّ لکان الیقین الإجمالی مانعا بالأولویّة القطعیّة، بخلاف الأصل اللّفظی، لأنّ المخصّص المعلوم بالإجمال وجوده یضرّ بالکاشفیّة، وهی ملاک الحجیّة للأصل اللّفظی، ومع جریان الإستصحاب فی جمیع الأطراف لا تلزم المخالفة القطعیّة ولا العملیّة، لأن الکلام فی الأصل المثبت للتکلیف.

المقام الثانی: الاصول اللّفظیة

ذکر المحقق الإصفهانی أن الاصول اللّفظیّة تسقط أمام الخبر، إنْ کانت حجیّته من باب أدلّة الاعتبار، ولا تسقط إن وجب العمل به من باب العلم الإجمالی، لأن الخبر المخصّص أو المقیّد یکون فی الصّورة الاولی أقوی حجیّةً، أمّا فی الصّورة الثانیة، فلیس بحجةٍ، فلا وجه لسقوط الاصول اللّفظیّة، فلو کان

ص: 311

العام أو المطلق حاملاً لحکم إلزامیّ وجب الأخذ به.

وذکر المحقق العراقی أنّ العلم الإجمالی بالمخصص أو المقیّد موجبٌ لسقوط الاصول اللفظیّة کذلک، فالخبر الواجب العمل به من باب العلم الإجمالی یتقدّم علی العامّ الکتابی أو العامّ المتواتر أو الواحد المحفوف بالقرینة.

وقد اختار الاستاذ هذا القول.

وتفصیل المطلب:

إن العام تارةً: مثبت للتکلیف والخاصّ نافٍ له، کما فی قوله تعالی «حَرَّمَ الرِّبا» و«لا ربا بین الوالد والولد»، والمفروض وجوب العمل بالخاصّ من باب العلم الإجمالی، وفی هذه الصّورة لمّا کان الخاصّ مرخّصا، فإنه لابدّ من الأخذ بمقتضی العام من باب الإحتیاط والإشتغال، لأنّ العامّ أفاد الحکم الإلزامی والخاصّ الواجب العمل من باب العلم الإجمالی إنما أفاد الترخیص، وهو لا یزاحم الإلزام.

والحاصل: إنه وإنْ علمنا إجمالاً بسقوط بعض العمومات، لوجود المخصّص لها، لکنّ العلم الإجمالی بوجود التکالیف الإلزامیّة بین العمومات یقتضی العمل بها کلّها من باب الإحتیاط، والمفروض أنّ المخصص فی المثال لیس إلزامیّا، فمقتضی الإحتیاط فیه ترک الرّبا بین الوالد والولد أیضا.(1)

ص: 312


1- 1. ولا یخفی أنّ ما ذکر من باب المثال، لأنّ الإحتیاط قبل الابتلاء بالربا ممکن، أمّا إذا تحقق البیع الربوی شمله «حَرَّمَ الرِّبا» ویقتضی حرمة أخذ الزیادة أو بطلان البیع _ علی القولین _ فلا یجوز التصرّف، لکنّ «لا ربا بین الوالد والولد» یقتضی الصحّة وجواز التصرّف ووجوب تسلیم مورد المعاملة، فیقع الإشکال عملاً ویکون من أمثلة الصورة الثالثة.

واخری یکون العامّ ترخیصیّا والخاصّ حکم الزامی، مثل قوله عزّ وجلّ «أَحَلَّ اللّه ُ الْبَیْعَ»(1) و«نهی النبی عن الغرر». فإن کان الخبر حجةً بالأدلّة، فلا ریب فی تقدّمه، وإن کان یجب العمل به من باب العلم الإجمالی، فالوظیفة هی الإحتیاط فی جمیع الأطراف ومنها البیع الغرری. فالنتیجة إذنْ واحدة.

وثالثةً: یکون العام والخاصّ حکمین إلزامیین، فهنا علمان إجمالیّان یقتضیان الإحتیاط بالإمتثال فی کلّ طرفٍ، إلاّ أنه غیرممکن، لأن أحدهما الوجوب والآخر الحرمة، فیدور الأمر بین المحذورین، والقاعدة التخییر عقلاً.

ولا یخفی أنه فی دوران الأمر بین المحذورین خمسة أقوال، أحدها البراءة، إلاّ أنه لابدّ من القول بالتخییر فیما نحن فیه، لأن الحاکم بالدوران هو العقل، وحکم العقل فی دوران الأمر بین المحذورین هو التخییر.

وهذا تمام الکلام فی الوجه الأوّل للدلیل العقلی الذی اختاره الشیخ وعَدَل عنه.

الوجه الثانی

اشارة

ما ذکره فی الوافیة

وحاصله: إنا نعلم بتکالیف شرعیّة ونعلم ببقائها لا سیّما الضروریّات من الدین، ولا ریب فی أن طریق ثبوت أجزاء هذه التکالیف وشرائطها هو الخبر، فإذا لم یکن خبر الواحد حجةً لوقع العمل بتلک التکالیف والضروریّات علی خلاف

ص: 313


1- 1. لا یخفی أن هذا من باب المثال، لأن الآیة وإنْ أفادت الترخیص لکنّ المترتب علی البیع حکم الزامی، وهو وجوب الوفاء بالعقد وتسلیم مورد المعاملة.

الشرع. إذن، لابدّ من القول بحجیّة الأخبار الموجودة فی الکتب المعتمدة التی عمل بها من غیر ردٍّ ظاهر لها.

وهذا الوجه یرجع إلی العلم الإجمالی بأنّ طائفةً من الأخبار التی دوّنت فی الکتب فی المعتمدة حاملةٌ لأجزاء الأحکام وشرائطها لاسیّما الضروریات من الصلاة والصّیام ونحوهما، فلابدّ من العمل بها.

إشکال الشیخ

وأورد علیه الشیخ(1) بما حاصله: إن هنا علمین إجمالیین، أحدهما: ما ذکر، والآخر: العلم الإجمالیبوجود روایات تحمل الأجزاء والشرائط فی خارج الکتب المعتمدة، فمقتضی الوجه المذکور وجوب العمل بما فی الکتب المعتمدة وغیرها.

الجواب

وقد یجاب: بأنّ تحقّق هذا العلم الإجمالی الکبیر الّذی ادّعاه الشیخ أوّل الکلام، ولو سلّم، فإنّه یتوقف إشکال الشیخ علی عدم انحلال الکبیر بالصّغیر.

وعلی الجملة، فإمّا ننفی تحقق العلم الإجمالی زائدا عمّا فی الکتب المعتمدة، وإمّا ننفی شرائط تنجیزه، فیندفع الإشکال.

لکنْ یرد علی هذا الوجه:

أوّلاً: إن هذا الوجه یفید وجوب العمل بالأخبار المثبتة للتکلیف فقط،

ص: 314


1- 1. فرائد الأُصول: 104 _ 105.

والمدّعی حجیّة الخبر الأعم من المثبت والنافی له.

وثانیا: إنّ المطلوب إثبات حجیّة الخبر بحیث یتقدّم علی الاصول العملیّة واللّفظیّة، وقد عرفت أنّ فیه تفصیلات واختلافات بحسب المبانی.

الوجه الثالث

ما ذکره فی الحاشیة

وملخّصه کما ذکر الشیخ:(1)

إن وجوب العمل بالکتاب والسنّة ثابت بالإجماع بل الضرورة من الدین والأخبار المتواترة عن أهل العصمة صلوات اللّه علیهم أجمعین. وبقاء هذا التکلیف أیضا بالنسبة إلینا ثابت بالأدلّة المذکورة، وحینئذٍ، فإنْ أمکن الرجوع إلی الکتاب والسنّة علی وجه یحصل العلم بها بحکمٍ أو الظن الخاصّ به، فهو، وإلاّ فالمتّبع هو الرجوع إلیهما علی وجه یحصل الظن منهما.

قال الشیخ:

وهذا عبارة اخری عن دلیل الانسداد الآتی.

هذا تمام الکلام فی الظنون الخاصّة. والحمدللّه

ص: 315


1- 1. فرائد الأُصول: 105.

ص: 316

الظنُّ المطلق

اشارة

ص: 317

ص: 318

قد ذکرت وجوه عقلّیة لحجیّة مطلق الظّن، وهی أربعة:

الوجه الأوّل

ما فی الرسائل من أنّ فی مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحکم الوجوبی أو التحریمی مظنّة للضّرر، ودفع الضرر المظنون لازم. أمّا الصّغری، فلأن الظنّ بالوجوب ظن باستحقاق العقاب علی الترک، کما أنّ الظنّ بالحرمة ظن باستحقاق العقاب علی الفعل. أو لأن الظن بالوجوب ظن بوجود المفسدة فی الترک، کما أنّ الظّن بالحرمة ظنّ بالمفسدة فی الفعل، بناءً علی قول العدلیّة بتبعیّة الأحکام للمصالح والمفاسد. وقد جعل فی النهایة کلاًّ من الضررین دلیلاً مستقلاًّ علی المطلب.(1)

وفی الکفایة(2) ما حاصله: إنّ الظّن بالتکلیف یستلزم الظّن بالضرر فی مخالفته، والعقل مستقلٌّ بلزوم دفع الضرر المظنون، سواء قلنا بالحسن والقبح

ص: 319


1- 1. فرائد الأُصول: 106.
2- 2. کفایة الأُصول: 308.

العقلیین أوْ لم نقل، لأن التحّرز عن الضرر المظنون بل المحتمل ممّا جبل علیه العقلاء کافّةً، بل ممّا فطر علیه کلّ ذی شعور.

الکلام حوله

ویقع الکلام فی «الصغری» و«الاستلزام» و«الکبری»، فنقول:

إن «الضّرر» هو إمّا «العقاب الاخروی» وإمّا «المفسدة الدنیویة» وإمّا «النقص فی البدن والعرض والمال».

فإن کان المراد من الضرر هو «العقاب» فالملازمة المذکورة غیر تامّة، بل الثابت هو الإحتمال حتّی فی صورة القطع. إلاّ أن یقال فی صورة القطع بالحکم الشرعی بوجود الظن بالعقاب، لأن المقتضی للعقاب علی المخالفة موجودٌ غیر أنه یحتمل الشفاعة والعفو، فیبقی الظن بالعقاب، أی: یتنزّل مع الإحتمال المذکور من القطع إلی الظن، وتکون الملازمة تامّةً فی هذه الصّورة، خلافا لظاهر کلام بعضهم.

و «الظن بالحکم الشرعی» إن کان ظنّا مقطوع الاعتبار، فإنه یلازم الظنّ بالعقاب لما ذکرنا، وإنْ لم یکن معتبرا _ لدلیل خاصّ کما فی الظنّ القیاسی، أو بالأدلّة العامّة الناهیة عن اتباع الظنّ أو غیر العلم _ فمخالفة هذا الظن غیر ملازمة لاحتمال العقاب، فضلاً عن أن تلازم الظنّ به، بل إنها تلازم القطع بعدم العقاب، لأن المفروض قیام الدلیل الخاصّ أو العامّ علی سقوط هذا الظن، وهذا یلازم _ عقلاً _ عدم مؤاخذة الشارع، فلا تصل النوبة إلی التمسک لعدم استحقاق

ص: 320

العقاب بقاعدة قبح العقاب بلا بیان، لکون الدلیل القائم علی عدم اعتبار هذا الظنّ بیانا لعدم العقاب.

وتلخّص: عدم تمامیّة الصغری فی هذا الفرض.

وإنْ کان المراد من الضّرر هو «المفسدة الدنیویّة»:

فإنّ هذا الدلیل إنما یتم علی مذهب العدلیّة القائلین بالحسن والقبح العقلیین ولایتم علی مذهب الأشاعرة. هذا أوّلاً.

و ثانیا: إنّه یتوقّف علی تبعیّة الأحکام للمصالح والمفاسد فی المتعلّقات، وفیه کلام، فقد ذهب جماعة _ منهم المحقق الخراسانی _ إلی أنها تابعة لمصالح فیها.(1)

وثالثا: یتوقف علی عدم تمامیّة الإطلاق فی أدلّة الاصول العملیّة المرخّصة، لأنه إذا کانت مطلقةً، کشف إطلاقها عن تدارک المفسدة، ومن هنا قال الشیخ: بأن أخبار الإستصحاب والبراءة إن کانت مقطوعة الصّدور، ثبت التدارک، لکن لا بالقطع، لکون دلالتها بالظهور وذلک من الظنون. وإن کانت ظنیّة الصّدور، حصل الظن بالتدارک.

و رابعا: إن مقتضی عدم لزوم متابعة الظن للأدلّة الناهیة _ وإنما قلنا «عدم لزوم المتابعة» لکونه القدر المتیقّن من تلک الأدلّة _ هو أنه لو کان هناک ضرر مترتب علی عدم المتابعة، فقد تدارک الشارع ذاک الضرر.

و خامسا: إن هذا الدلیل _ مع کلّ ما تقدّم _ أخصّ من المدّعی، لأن المصلحة

ص: 321


1- 1. انظر: فوائد الأُصول للمحقق الخراسانی، الفائدة: 337، کفایة الأُصول: 309.

إنما توجد فی الأحکام الإلزامیّة، مع أن الکبری هی: وجوب دفع المفسدة، ولیس هناک کبری مفادها وجوب جلب المنفعة والمصلحة. فیکون الدلیل مختصّا بالأحکام الإلزامیّة التحریمیّة.

وتلخّص: عدم تمامیّة الصغری فی هذا الفرض أیضا.

ثم الکلام فی الکبری، فإنّه إنْ کان الضّرر مأخوذا بالمعنی العامّ، اتّحدت المفسدة معه، لکنّ المراد من الضرر فی لسان الأدلّة هو النقص المالی والبدنی والعرضی، والمفسدة أعمّ من الضّرر، لأنها تعمّ المفسدة الشخصیّة والنوعیّة والدنیویّة والاخرویّة. وکیف کان، فهل المفسدة الشخصیّة یلزم دفعها بحکم العقل؟

إن العقل حاکم بلزوم دفع المفسدة الشخصیّة التی کشف عنها الشارع، ولکنْ هل مظنون المفسدة یجب دفعه عقلاً؟ إنّ کلّ من یقول بلزوم دفع الضرر المظنون یقول بلزوم دفع المفسدة المظنونة، فلو قلنا بالعدم من جهة العمومات الناهیة عن اتباع الظن، والاصول المرخّصة، فلابدّ وأن تکون تلک العمومات کاشفةً عن تدارک الشارع.

و بعبارة اخری: إن الأحکام الشرعیّة ألطاف فی الواجبات العقلیّة عند العدلیّة، فهی تابعة للمصالح والمفاسد، والمصالح والمفاسد تارةً: شخصیّة، واخری: نوعیّة، فتکون کبری الاستدلال تامّةً علی مذهب العدلیّة، فیما إذا کانت المصلحة والمفسدة ملزمتین، وکان غرض المولی مترتبا علی تلک المصلحة أو المفسدة، لکون العقل حاکما بلزوم حفظ أغراض المولی. لکنّ هذا کلّه إنما

ص: 322

یجری فی الغرض الذی قامت الحجة العقلیّة أو الشرعیّة علیه، ففی مثله یحکم العقل بلزوم الحفظ، فإذا لم یکن الظن القائم علی مفسدةٍ ظنّا معتبرا، والمفروض تمامیّة أدلّة النهی عن اتباع الظنّ، ثبت أن الشارع لا یرید الاتّباع، وحینئذٍ، فلا حکم للعقل. بل المفروض قیام الدلیل علی أنه لا غرض للمولی فیه، فلا تصل النوبة إلی الاستدلال بقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

فظهر أن الکبری أیضا غیر تامة.

أمّا إن کان المراد من «الضرر» هو «النقص فی البدن والمال أو العرض» کان الدلیل أخصّ من المدّعی، لأن الضرر بهذا المعنی یتحقّق فی بعض الأحکام الشرعیّة فقط.

الوجه الثانی

إن الأخذ بغیر الظنّ _ وهو الشک والوهم _ ترجیح للمرجوح علی الراجح، و هو قبیح عقلاً، فیتعیّن الأخذ بالظن.

وفیه:

إنه یتوقّف علی تنجّز التکلیف ولزوم الأخذ بالظن أو بالشک أو بالوهم، فی مقام الإمتثال، کأنْ تترّدد القبلة بین الجهات مع الظنّ بجهةٍ، وفرض عدم إمکان الإحتیاط بالجمع، حتی یدور الأمر بین ترجیح الظنّ أو الطرف الآخر، لکن الدوران بینهما لا یتحقق إلاّ بمقدّمات الإنسداد.

و علیه، فهذا الوجه یشکّل مقدّمةً من مقدّمات قانون الإنسداد الآتی.

ص: 323

الوجه الثالث

إن العلم إجمالاً بوجود التکالیف الإلزامیّة الکثیرة بین الشبهات یقتضی الإحتیاط فیها، وذلک یکون بالإتیان بکلّ ما یحتمل الوجوب ولو موهوما، وترک ما یحتمل الحرمة ولو موهوما، ولکنّ مقتضی قاعدة نفی العسر والحرج فی الشریعة عدم وجوب الإحتیاط علی النحو المذکور، فیکون مقتضی الجمع بین دلیل نفی العسر و الحرج ودلیل وجوب الإحتیاط، هو الأخذ بالمظنونات دون المشکوکات والموهومات، وهذا ما یعبّر عنه بالتبعیض فی الاحتیاط. ولو ارید الأخذ بالعکس لزم ترجیح المرجوح علی الراجح، وهو قبیح.

وفیه:

إنه من مقدّمات قانون الإنسداد. وهو الوجه الرّابع، وهو:

ص: 324

قانون الإنسداد

اشارة

و یقع الکلام فیه فی مقامات:

المقام الأول

اشارة

فی مقدّمات الإنسداد

و هی عند الشیخ أربعة، وعند المحقق الخراسانی خمسة:

(الاولی) العلم الإجمالی بثبوت تکالیف فعلیّة.

و (الثانیة) إنسداد باب العلم والعلمی بالنسبة إلی کثیر من تلک التکالیف.

و (الثالثة) عدم جواز إهمال التکالیف الشرعیّة.

و (الرابعة) إن الأخذ بالإحتیاط غیر جائز أو غیر واجب. وإن الاصول ساقطة عن المرجعیّة، وکذا القرعة وفتوی الفقیه، فالطرق هذه کلّها منسدة، لکنّ العمل بالتکالیف واجب کما تقدّم. إذن، لا مناص من الاکتفاء بالإطاعة الشکیّة أو الوهمیّة أو الظنیّة، والأمر دائر بین هذه الامور.

و (الخامسة) أن تقدیم الشک والوهم فی العمل ترجیح للمرجوح علی الراجح وهو الظن. وهو قبیح.

ص: 325

فیتعیّن الأخذ بالظن.

والشیخ لم یذکر المقدمة الاولی منها.

و ذکر الشیخ _ فی المقدمة الثالثة _ وجوها علی عدم جواز الإهمال، هی: (الإجماع) و(لزوم المخالفة القطعیّة والخروج من الدین) و(العلم الإجمالی).

فکان العلم الإجمالی بالتکالیف من أدلّة المقدّمة الثالثة عند الشیخ، لکنّ صاحب الکفایة جعله المقدّمة الاُولی.

وقد وقع ذلک موقع الکلام بین الأعلام:

رأی المیرزا

فقال المیرزا: بأنّ الشیخ أسقط هذه المقدّمة، نظرا إلی أنّ المراد من العلم بثبوت التکالیف إنْ کان هو العلم بثبوت الشریعة وعدم نسخ أحکامها، فهذا من البدیّهیات التی لا ینبغی عدّها من المقدّمات، فإنّ العلم بذلک کالعلم بأصل وجود الشارع. وإن کان المراد من العلم بثبوت التکالیف العلم الإجمالی بثبوتها فی الوقائع المشتبهة التی لایجوز إهمالها، فهو أیضا لیس من مقدّمات دلیل الإنسداد، بل هو من أحد الوجوه الثلاثة التی تبتنی علیها المقدمة الثانیة علی ما سیأتی بیانه.

فالأولی الإقتصار علی ما ذکره الشیخ قدّس سرّه من المقدّمات الأربع.(1)

ص: 326


1- 1. فوائد الأُصول 2 / 226 وانظر: أجود التقریرات 3 / 223.

رأی الإصفهانی

لکنّ المحقق الإصفهانی قال: بأنّ إسقاطها إنْ کان لأجل عدم المقدمیّة، فمن الواضح أنه لولاها لم یکن مجالٌ للمقدّمات الأخر إلاّ بنحو السّالبة بانتفاء الموضوع، وإنْ کان لوضوح هذه المقدّمة لدلالة سائر المقدّمات علیها، فمن الواضح أنّ وضوحها لایوجب عدم مقدّمیّتها ولا الإستغناء بذکر الباقی عن ذکرها وإلاّ کان بعضها الآخر کذلک بل بعضها أوضح.(1)

رأی السید الخوئی

وتبع السید الخوئی المیرزا فقال:

والصحیح ما صنعه الشیخ، إذ لو کان مراد صاحب الکفایة من المقدّمة الاولی هو العلم الإجمالی بثبوت تکالیف فعلیّة فی حقّ کلّ مکلّف ممّن یجری دلیل الإنسداد فی حقّه کما هو ظاهر کلامه، فهذه المقدّمة هی بعینها المقدّمة الثالثة فی کلامه، إذ معنی العلم بالتکالیف الفعلیّة أنه لایجوز إهمالها وعدم التعرّض لامتألها. وإنْ کان مراده هو العلم بأصل الشریعة لاالعلم بفعلّیة التکالیف فی حقّنا، فلاوجه لجعل ذلک من مقدّمات الإنسداد وإنْ کان صحیحا فی نفسه، لأنّ المقصود ذکر المقدّمات القریبة التی یتألّف منها دلیل الإنسداد لا المقدّمات البعیدة، وإلاّ لزم أنْ یجعل من المقدّمات إثبات الصّانع...(2)

ص: 327


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 271 _ 272.
2- 2. مصباح الأُصول 2 / 219 _ 220. وانظر: دراسات فی علم الأُصول 3 / 206 _ 207.

والمحقق المشکینی(1) ذکر _ بالنظر إلی ما ذهب إلیه صاحب الکفایة من أنّ للأحکام أربع مراحل:

إن المقدّمة الثالثة جاءت لبیان مرحلة التنجّز، فلاتکون المقدّمة الاولی مغنیةً عن الثالثة.

وفیه: إنَّ المحقّق الخراسانی لایفّرق فی التنجیز بین العلم الإجمالی والتفصیلی.

رأی السیّد الاستاذ

والسیّد الاستاذ رحمه اللّه بعد أن ذکر بعض الکلمات قال: ولا یخفی أن هذا الحدیث بین الأعلام أشبه باللّفظی، فإن دخالة وجود العلم الإجمالی بالأحکام وتأثیره فی تمامیّة الدلیل مما لا ینکر، إنما البحث فی ذکره مقدمةً بالإستقلال وعدم ذکره کذلک بل استفادته من طیّ الکلام، وهذا المعنی لیس بهم. ونستطیع أنْ نقول إن الشیخ أخذ وجود العلم الإجمالی فی جملة المقدّمات، إذ فرض وجود الواقعیّات التی لایجوز إهمال امتثالها وفرض إنسداد باب العلم والعلمی ملازم للعلم الإجمالی، ولولاه لما کان للمقدّمات الاخری موضوع ومجال.

نعم، یختلف الشیخ عن صاحب الکفایة فی أنّ تنبیهه علی العلم الإجمالی بالالتزام، بخلاف صاحب الکفایة، فإنه نصّ علیه مطابقةً وصریحا. والأمر سهل.(2)

ص: 328


1- 1. کفایة الأُصول مع حواشی المشکینی 3 / 384.
2- 2. منتقی الأُصول 4 / 325.

أقول:

لکنّ جعل هذا البحث بین الأساطین أشبه باللّفظی بعید جدّا، فإنّ الشیخ رحمه اللّه جعل العلم الإجمالی من أدلّة المقدّمة الثالثة لامن المقدّمات، وقد فهم السیّد الاستاذ نفسه هذا حیث قال:

أمّا المقدّمة الثالثة، فهی قطعیّة لا تقبل التشکیک. واستدلّ علیها الشیخ بوجوه ثلاثة:

الأول: الإجماع...

الثانی: استلزام الإهمال للمخالفة القطعیّة...

الثالث: العلم الإجمالی...(1)

وهذا تهافت. ولعلّه من المقرّر رحمه اللّه.

دفاع شیخنا الاستاذ عن الکفایة

وأقول:

لکنّ شیخنا الاستاذ أجاب فی الدورتین عن إشکال المیرزا وتلمیذه المحقّق علی الکفایة بما حاصله:

إنّ ما نحن فیه من قبیل العلم الإجمالی المتعلّق بتکالیف مع الإضطرار إلی إرتکاب البعض غیر المعیَّن منها، أی: إن ارتکاب هذا البعض رافع للاضطرار والإحتیاط الذی هو غیر واجب أو غیرجائز، وهکذا علم إجمالی غیرمنجزّ عند صاحب الکفایة، وعلی هذا المبنی، لابدّ من ذکر المقدّمة الثالثة للتنبیه علی أنّ هذا

ص: 329


1- 1. المصدر 4 / 331.

العلم الإجمالی وإنْ کان متعلّقا بتکالیف کذائیّة إلاّ أنه یجب ترتیب الأثر علیه ولایجوز إهماله فی هذا المقام لخصوصیّةٍ فیه، وهی أنه لو خالفه لزمت المخالفة القطعیّة والخروج من الدین.

لکنّ صاحب الکفایة یری أنّ الإضطرار من حدود التکلیف وأنه مانع من فعلیتّه، ولذا یکون العلم الإجمالی بالبعض غیر المعیّن غیرمنجزّ، وهنا قد صرّح بأنه متعلّق بتکالیف فعلیّة. فیرد علیه الإشکال من جهة أنّ معنی جعل التکالیف فعلیّةً عدم مانعیّة الإضطرار عن فعلّیتها، فالعلم الإجمالی متعلّق بتکالیف فعلیّة فلایجوز إهمالها، فلا حاجة إلی المقدّمة الثالثة.

لکنّ الظاهر أن صاحب الکفایة بصدد بیان المطلب وإتمام المسألة علی جمیع المبانی حتی مبنی المحقق الخونساری القائل بأنّ العلم الإجمالی بالتکالیف الفعلیّة غیر منجزّ، بل یعتبر فی التنجیز تمیّز متعلّق التکلیف. فکان ذکر المقدّمة الثالثة لغرض بیان أنه لایجوز الإهمال حتی علی المبنی المذکور.

فالإشکال مندفع.

دفاع العراقی عن الکفایة

هذا، وللمحقّق العراقی(1) رحمه اللّه بیانٌ فی توجیه المقدّمة الاولی کما صنع فی الکفایة، فقال ما حاصله:

تارةً نقول: بأنّ نتیجة المقدّمات هو التبعیض فی الإحتیاط لا حجیّة الظنّ. أی: أن علی المکلّف الأخذ بالمظنونات فی مقام الإمتثال وترک المشکوکات

ص: 330


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 146.

والموهومات، فیکون الظنّ معتبرا فی مقام الإطاعة وسقوط التکلیف. واخری نقول: بأنّ النتیجة حجیّة الظنّ واعتباره _ فی مرحلة ثبوت التکلیف _ حکومةً أو کشفا علی الخلاف. فعلی الأوّل یُحتاج إلی المقدّمة الاولی، وذلک، لأنه مع فرض إنسداد باب العلم والعلمی یتحقّق الشک وهو موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فیلزم إجراء البراءة فی کلّ مسألةٍ مسألةٍ، ولکنْ لایجوز الرجوع إلی البراءة، إمّا للعلم الإجمالی، وإمّا للزوم الخروج من الدین، وإمّا للإجماع. ولایقال: هذا الإجماع لیس بحجّةٍ، لأنّ المعتبر إجماع القدماء والمسألة غیرمعنونة فی کلماتهم. لأنا نقول: لو کانت معنونةً فی کلماتهم لکانت فتواهم عدم جواز الرجوع إلی البراءة هنا قطعا، وإنما لم یعنونوها لأنهم کانوا یرون الإنفتاح.

ولکن، إذا کان المدرک لعدم جریان القاعدة هو العلم الإجمالی، فإنه لمّا کان العلم الإجمالی منجزّا، فلامعنی لأن یکون الظنّ منجزّا للتکلیف ومثبتا له، فلابدّ من أنْ تکون حجیّة الظنّ لمرحلة إسقاط التکلیف.

فظهر الفرق بین مقامی الثبوت والسقوط، وظهر أن من یقول بحجیّة الظن فی مقام السقوط یحتاج إلی المقدّمة، ومن یقول بحجیّة الظن فی مقام الثبوت، فلا وجه لأنْ یذکرها فی المقدّمات.

وببیانٍ آخر: المقدّمة یجب أن تکون محفوظةً فی ظرف النتیجة وإلاّ لم تحصل، فإن کان مقدّمة الدلیل العلم الإجمالی، فعند استنتاج حجیّة الظنّ لإثبات التکلیف یجب أنْ یکون العلم الإجمالی محفوظا، والحال أنه مع ثبوته ینحل. فإذن، جعل العلم الإجمالی مقدّمةً یستلزم القول بالتبعیض فی الإحتیاط بالأخذ

ص: 331

بالمظنونات فی مقام الإمتثال والإطاعة وسقوط التکلیف، وحینئذٍ یتوجّه علی الشیخ القائل بالتبعیض فی الإحتیاط أنه لماذا لم یجعل العلم الإجمالی مقدّمةً؟

الإشکال علیه

وقد أشکل علیه شیخنا فی الدّورتین بما حاصله:

إنه لا معنی لقیام الإجماع علی التکلیف غیرالمنجزّ، ولا معنی للزوم الخروج من الدین من مخالفة التکلیف غیرالمنجزّ، فلا محالة تکون التکالیف منجزّة بالعلم الإجمالی، إذن، لایمکن تصوّر الخروج من الدین إلاّ مع العلم الإجمالی. هذا نقضا.

وأمّا حلّا، فإن العلم الإجمالی منجزّ بالنسبة إلی کلّ واحدٍ واحدٍ من الأطراف، ولکن إقامة الطریق إلی الأطراف المنجزة بالعلم لامحذور فیها. نعم، یمکن الإشکال بناءً علی أنّ مدلول دلیل اعتبار الطرق والأمارات هو المنجّزیة، فیلزم تنجیز المنجّز وهو تحصیلٌ للحاصل. إلاّ أن من الممکن دفعه: بأنّ العلم الإجمالی منجّز بالنسبة إلی الجامع بین الأطراف لا بالنسبة إلیها، فلا مانع من منجعل المنجّز بالنسبة إلی الطرف والمقتضی موجود. إلاّ أنْ یقال: بأنّ العلم الإجمالی یقتضی الموافقة القطعیّة فی جمیع الأطراف، ولکنّ هذا فیه بحث کما لایخفی.

وأمّا أنّ المقدّمة إن کانت العلم الإجمالی فإنّه ینحلّ بقیام الأمارة والطریق. فیردّه: ما تقدّم من أنّ القائل بالإجماع ولزوم الخروج من الدین یعترف بالعلم الإجمالی. فإنْ قیل: القائل بالإجماع لا یجعل العلم الإجمالی من المقدّمات، فلا یرد النقض. قلنا: إن کان العلم الإجمالی مقدّمةً بحدوثه وبقائه، کان الإشکال واردا،

ص: 332

لانحلاله بقاءً، وأمّا إنْ کان مقدّمةً بحدوثه فقط فلا ینافی عدم بقائه بعد ذلک. نظیر وجوب الفحص فی الشبهات الحکمیّة، فإنه من جهة العلم الإجمالی بالتکلیف، فهو مقدّمة للفحص، ومع الظفر بالطریق ینحلّ. نعم، للمحقق العراقی أنْ یقول: بأنّ هذا العلم قد أفادنا لزوم الفحص والوصول إلی الطریق، وهو ینحلّ بالوصول، وفیما نحن فیه یتحقّق الإنحلال بنفس الوصول، فلیس للعلم الإجمالی نتیجة إلاّ الوصول إلی الظن.

وحاصل الجواب عمّا ذکره رحمه اللّه هو: أنه لا دلیل علی لزوم بقاء المقدّمة بعد الوصول إلی النتیجة، وإذن، یمکن القول بالتبعیض فی الإحتیاط أو القول بالحکومة أو الکشف علی جمیع التقادیر، أی: سواء قلنا بالإجماع ولزوم الخروج من الدین أو قلنا بالعلم الإجمالی.

وقال المیرزا رحمه اللّه: إن کان الوجه هو الإجماع والخروج من الدین، فلا مناص من القول بالکشف. وسنتعرّض لکلامه فی محلّه إن شاء اللّه.

المقام الثانی

اشارة

فی تمامیّة المقدّمات وعدمها

المقدمة الاولی

أمّا الاولی، فقد ذکر المحقق الخراسانی:(1) إنها وإن کانت بدیهیّة إلاّ أنه قد عرفت انحلال العلم الإجمالی بما فی الأخبار الصّادرة عن الأئمة الطاهرین التی

ص: 333


1- 1. کفایة الأُصول: 312.

تکون فیما بأیدینا من الروایات فی الکتب المعتبرة، ومعه، لا موجب للإحتیاط إلاّ فی خصوص ما فی الروایات، وهو غیر مستلزم للعسر، فضلاً عما یوجب الإختلال.

أقول:

فحاصل الإشکال علی المقدّمة الاولی کون باب العلمی مفتوحا.

بل یمکن القول بالإنحلال علی فرض إنسداد باب العلمی أیضا، بالعلم الإجمالی بوجود أحکام فی أخبار الثقات وفی الأخبار الموثوق بها، ولا علم لنا بوجود الأحکام فی خارج هذه الأخبار، إلا علی مبنی الشیخ القائل بوجود علم إجمالی کبیر تدخل فی أطرافه الإجماعات والشهرات.

و بالجملة، فالمقدّمة الاولی غیر تامة عند صاحب الکفایة.

المقدمة الثانیة

و أمّا المقدمة الثانیة، فلا ریب فی إنسداد باب العلم علینا، لأن حصول العلم یتوقف علی القطع بالصّدور، وعلی أن یکون الکلام الصّادر نصّا فی المدلول، ومع انتفاء أحد الأمرین ینتفی العلم.

وأمّا إنسداد باب العلمی، فیتوقف علی عدم حجیّة خبر الواحد من الناحیة الکبرویّة. وأمّا بناءً علی حجیّته کذلک، فقد أشرنا إلی وجود الخلاف، فقد ذهب جمع من الأساطین إلی اعتبار خبر الإمامی العدل فقط، وعلی هذا المسلک فباب العلمی منسدّ، لعدم القدر الوافی من الأخبار عن الرواة الإمامیین العدول بکلّ الأحکام المعلومة بالإجمال.

ص: 334

و أمّا علی المسلک المعروف من کفایة وثاقة الراوی _ وإنْ لم یکن إمامیّا ولم یکن عدلاً _ فالوثاقة من أی طریق تثبت؟ إنْ قلنا: بأنها لا تثبت إلاّ بشهادة العدلین، لخبر مسعدة بن صدقة: «والأشیاء کلّها علی هذا حتی تستبین أو تقوم به البیّنة» بناءً علی تمامیّته سندا ودلالة، فالإنسداد حاصلٌ، لعدم تحقّق هذا الشرط إلاّ فی مقدارٍ قلیل من الأخبار لا یفی بالأحکام المعلومة بالإجمال. وإن قلنا: بأنها تثبت بتوثیق الواحد المخبر عن حسّ، إمّا من جهة حجیّة خبر الثقة فی الموضوعات، أو من جهة عدم الإحتیاج إلی شهادة العدلین فی الموضوع الذی هو طریق لإثبات الحکم الشّرعی، فالإنسداد غیر حاصل. أمّا لو کان إخباره عن الوثاقة عن اجتهادٍ، فلا عبرة به ولا یتم الإنفتاح.

هذا کلّه بالنسبة إلی السّند.

ثم الکلام بالنسبة إلی ظهور الأخبار المعتبرة، فلاریب فی اعتبار ظهورها فی المدلول حتی یتمّ الإنفتاح، وقد وقع الخلاف، فی أنّ الظهورات مختصّة بالمقصودین بالإفهام أو غیر مختصّة بهم؟ فعلی الأوّل یتمّ الإنسداد.

ثم إنه قد یتحقّق الإنفتاح ببعض الطرق، کما لو حصل الوثوق الشّخصی بمضامین الأخبار بواسطة کثرة النظر فیها والاستیناس بها، أو بوجود الخبر فی أحد الاصول المعتبرة لأصحاب الأئمة علیهم السلام کما قال المحقق الخراسانی، و کما لو قلنا بجبر الشهرة لضعف الخبر کما علیه المشهور _ وإن کان خلاف التحقیق _ ، فإنه بناءً علیه ینفتح باب العلمی، لأن مجموعة الأخبار الموثوق بها والضعیفة المنجبرة بعمل المشهور تفی بالأحکام المعلومة بالإجمال. وکما لو قلنا

ص: 335

بحجیّة خبر الواحد الثقة فی الموضوعات التی تنتهی إلی الأحکام الشرعیّة، کما علیه السیّد الحکیم، فإن هذه الأخبار بالإضافة إلی الأخبار الآحاد الحاملة للأحکام الشرعیّة تفی بالأحکام الشرعیّة المعلومة بالإجمال.

ثم إن صاحب الکفایة ذکر فی الحاشیة: بأنْ ظاهر الخبر الدالّ علی حجیّة خبر الثقة هو أنّ الملاک للحجیّة هو الوثوق بخبره لاکون المخبر ثقةً، وإذا کان الخبر الموثوق به حجةً _ أعمّ من وثاقة المخبر وعدمها _ فالإنفتاح حاصل. وکذا علی القول بحجیّة خبر الثقة وکلّ خبر موثوق بصدوره بالوثوق الشخصی، کما هو المختار.

المقدمة الثالثة

إنه لا شبهة فی لزوم التعرّض للأحکام الشرعیّة، وقد ذکر الشیخ لذلک ثلاثة وجوه وتبعه علیها غیره، وهی:

1. الإجماع.

و هذا الإجماع تقدیری لا تحقیقی، لعدم کون المسألة معنونة فی کلمات القدماء، فلو تعرّضوا لها لقالوا جمیعا بذلک، ولقالوا بالإنسداد عند تمامیّة مقدّماته.

لکنّ هذا الإجماع لیس بالإجماع الحجّة الکاشف عن رأی المعصوم.

2. لزوم المخالفة القطعیّة بترک التعرّض.

فإنّه إذا ترک، لزمت المخالفة القطعیّة لکثیر من الأحکام الشرعیّة، والشارع لا یرضی بذلک بالضرورة، بل قیل إنّه یستلزم الخروج من الدین، لا بمعنی الکفر،

ص: 336

بل بمعنی سقوطه عن الصّلاحیّة لتوجیه الخطاب إلیه، کما یفهم من کلام شیخ الطائفة، فلا ترد إشکالات المحقق المشکینی.

3. العلم الإجمالی.

فإنا نعلم إجمالاً بوجود التکالیف الإلهیّة المطلوبة من المکلّفین من قبل الشّارع، وهذا العلم یمنع من الإهمال وترک التعرّض.

قال المیرزا(1): إن کان وجه المنع من الإهمال هو الإجماع أو لزوم الخروج من الدین، فلابدّ من الإلتزام بالکشف، إذ العقل یستکشف حینئذٍ حجیّة الظن شرعا، لأن الشارع قد جعل طریقا إلی التکالیف المطلوبة، فإمّا هو الإحتیاط کما جعله فی الفروج والدماء، لکن المفروض عدم وجوب الإحتیاط، فیتعیّن أن یکون الطریق هو الظن. وأمّا إن کان وجه المنع هو العلم الإجمالی، فللعقل الحکم بلزوم الإحتیاط، ومع سقوط الإحتیاط _ لعدم وجوبه أو عدم جوازه کما سیأتی _ یلزم التبعیض فی الأحکام بحکم العقل أو أنه یحکم العقل بمتابعة الظن، وتکون النتیجة هی الحکومة.

المقدمة الرابعة

إنه یجب مراعاة الأحکام ویحرم إهمالها، ولکن کیف تراعی؟ بالأخذ بفتوی الفقیه؟ أو بالقرعة؟ أو بالتمسّک بالاصول العملیّة؟ أو العمل بالإحتیاط؟

إن دلیل الإنسداد یتوقف علی سقوط کلّ هذه الطرق حتی ینحصر الطریق بالظنّ.

ص: 337


1- 1. أجود التقریرات 3 / 224.

قال المحقق الخراسانی: الإحتیاط إما غیر واجب وإما غیر جائز.

أقول:

إن کان الإحتیاط غیر ممکن أو موجبا للعسر المخلّ بالنظام، فلا کلام فی عدم وجوبه، وأمّا إن کان عسره غیر موجب لاختلال النظام، فلا یرتفع بأدلّة نفی العسر والحرج. قال فی الکفایة(1): وأمّا فیما لا یوجب، فمحلّ نظر بل منع، لعدم حکومة قاعدة نفی العسر والحرج علی قاعدة الإحتیاط.

و توضیح کلامه هو: إنه قد وقع الخلاف بین الشیخ والمحقق الخراسانی فی مفاد أدلّة نفی الضّرر والعسر والحرج، فذهب الشیخ إلی أن مفادها نفی کلّ حکم یکون منشأً للضّرر والعسر والحرج، وقال الخراسانی: إنها تنفی الحکم بلسان نفی الموضوع، أی: إن الموضوع الحرجی _ مثلاً _ لیس له حکم فی الشریعة.

فعلی القول الأوّل: یمکن التمسک بتلک الأدلّة فی محلّ الکلام، لأنه فی ظرف الإنسداد تکون الأحکام المعلومة بالإجمال منشأً للعسر والحرج والضّرر. أمّا علی الثانی فلا، لأن الحرج یتحقق من ناحیة الإحتیاط بالجمع بین المحتملات لا من ناحیة متعلّقات الأحکام، فلا تکون تلک القواعد حاکمةً علی الأحکام الأوّلیة، فلا یرتفع الإحتیاط فی ظرف الإنسداد بمناط الحرجیّة والضّرر والعسر.

ص: 338


1- 1. کفایة الأُصول: 313.

إشکال المحقق الخوئی

و قد أشکل علی صاحب الکفایة:

أمّا من حیث المبنی، فبأنّ أدلّة تلک القواعد ظاهرة فی رفع الأحکام الموجبة للعسر والضرر والحرج، لا فی رفع متعلّقات الأحکام، ولیس مفادها من قبیل رفع الحکم بلسان رفع الموضوع، لأن العمل الضّرری غیر مذکور فی لسانها، و إنما المذکور هو لفظ «الضرر» وهو لیس عنوانا للفعل لیکون الرفع عائدا الی الفعل الضّرری ومتعلّقا به، فلو کان المراد نفی الحکم بلسان نفی الموضوع لکان المفاد نفی حرمة الضرّر، کما هو الحال فی «لا ربا بین الوالد والولد» ونحوه، فإن المراد نفی حرمة الرّبا بینهما، ولو کان المراد من «لا ضرر...» نفی الحکم بلسان نفی الموضوع، لکان المعنی نفی حرمة الإضرار بالغیر، وهذا باطل.

و أما من حیث البناء، فبأن قاعدة نفی الحرج والعسر والضرر حاکمة علی قاعدة الإحتیاط فی المقام حتی علی مبناه، حیث تکون أطراف الشبهة من الوقائع التدریجیّة، لأن الحرج یتحقّق بالأفراد الأخیرة من الشبهة. مثلاً: لو فرض تعلّق النذر بصوم یوم معین، ثم تردّد ذلک الیوم بین الخمیس والجمعة، وفرض کون الصّوم فیهما معا حرجیّا علی الناذر، فإنه إذا صام یوم الخمیس یعلم بعدم وجوب صوم الجمعة علیه، لأن الحرج یتحقّق بالفرد الأخیر من الشبهة، لأن التکلیف الحاصل بسبب النذر، إن کان متعلّقا بالخمیس فقد امتثل، وإن کان متعلّقا بالجمعة فمتعلّقه حرجی فعلاً، یرفعه قاعدة نفی الحرج.

وما نحن فیه کذلک، لأن الشبهات التی یلزم الحرج أو الضرر من الإحتیاط

ص: 339

فیها طولیّة تدریجیّة لا عرضیّة، فلا یکون الإحتیاط فیها واجبا علی کلا المسلکین، فلا ثمرة بینهما فی مثل المقام.

نعم، تظهر الثمرة فی الوقائع العرضیّة، وفی خیار الغبن، بناءً علی أنّ دلیل هذا الخیار هو قاعدة نفی الضّرر، فعلی مبنی الشیخ، یکون الحکم بلزوم العقد ووجوب الوفاء به ضرریّا، أمّا علی مبنی المحقق الخراسانی، فمتعلّق الحکم هو العقد وهو لیس بضرری.

هذا إشکال السید الخوئی تبعا للمشکینی.

الجواب عنه

ولکن یمکن دفع الإشکال علی المبنی، بأن یقال: إن سبب الوقوع فی العسر والحرج لیس الأطراف المتأخّرة وحدها، بل هو الجمع بین الأطراف المتقدّمة والمتأخرة، والقول بأنه المتأخرة فقط مسامحة، لکنّ الملاک فی موضوعات الأدلّة هو الدقّة العرفیّة، فاللاّزم أن یکون متعلّق الحکم حرجیّا أو ضرریّا، وحینئذٍ یرتفع الحکم، کما فی الوضوء فی الهواء البارد، _ وإن کانت برودة الهواء هی المنشأ للضرر والحرج _ فیرتفع الحکم ویجب التیمّم، أمّا فیما نحن فیه فلیس کذلک، بل الحرج ینشأ من الجمع بین أطراف الشبهة.

و علی الجملة، فإنه إن کان الموضوع بنفسه حرجیّا ارتفع حکمه بالأدلّة کما فی مثال الوضوء، وأمّا الحرج اللاّزم من الجمع بین المحتملات فلا تشمله الأدلّة، و مع الشک فی الشمول، فالقدر المتیقّن من جریانها ما إذا لم یکن الحرج ناشئا من الجمع بین المحتملات.

ص: 340

و أمّا الشیخ، فمبناه إن أدلّة القواعد إنما ترفع الأحکام الحرجیّة والضرریّة، أی إن نفس الحکم الحرجی المعلوم بالإجمال _ فی المقام _ یرفعه دلیل نفی العسر والحرج والضّرر، فالمراد من «الدین» فی آیة نفی الحرج هو الأحکام، کما أنه المراد من «الإسلام» فی دلیل نفی الضرر.

و لو قیل: لیس الحرج فیما نحن فیه فی جعل الحکم، وإنّما جاء من جهة الجهل به وحکم العقل بلزوم الإحتیاط لوجود العلم الإجمالی.

فالجواب: إنّ الآیة دلّت علی عدم جعل الحکم الحرجی، سواء کان حکما مجعولاً من الشارع من دون وساطة العقل أو مع وساطته.

لکنّ المهم _ علی مسلک الشیخ _ هو أنّ مقتضی العلم الإجمالی أو الإجماع أو لزوم الخروج من الدین، هو مراعاة الأحکام، ویتحقق ذلک بالإحتیاط، وأمّا الحرج، فینتفی برفع بعض الأطراف. وعلی هذا، فالقواعد جاریةٌ ولکنها لا تفید إثبات حجیّة الظنّ بل یلزم التبعیض فی الإحتیاط، سواء فی المظنونات والمشکوکات والموهومات.

فالإحتیاط غیر ساقط علی کلا المسلکین، فالمقدّمة الرّابعة غیر تامّة.

هذا بالنسبة إلی الإحتیاط.

و أمّا الاصول:

فإن الأصل، إمّا مثبت للتکلیف وإمّا ناف، والأوّل، إمّا محرز وإمّا غیر محرز.

أمّا الأصل غیر المحرز، فالمقتضی لجریانه موجودٌ والمانع مفقود، فتجری قاعدة الإشتغال.

ص: 341

أقول:

هکذا قال شیخنا فی الدّورة السّابقة، ولکنّ الظاهر وجود المانع، لأنَّ إجراء الإشتغال فی البعض المعیّن بلا مرجّح والمردد لاوجود له، وفی الجمیع فیلزم الإحتیاط التام وهو باطل. ومن هنا عدل فی الدورة اللاّحقة واعترض علی السیّد الخوئی إذ قال بالجریان بلا مانع.(1)

و أمّا المحرز کالإستصحاب، فإنْ لم یلزم من جریانه العلم بمخالفة الواقع، فالمقتضی لجریانه _ وهو الشک اللاّحق _ موجود والمانع مفقود، وأمّا إن لزم من جریانه العلم الإجمالی بمخالفة بعضه للواقع، فهل یجری؟

إن المانع الثبوتی عن الجریان فی نظر الشیخ وصاحب الکفایة هو لزوم المخالفة العملیّة، فإذا کان الأصل المحرز للتکلیف فهی غیر لازمةٍ، فلا مانع من الجریان.

المانع الثبوتی عند المیرزا والجواب عنه

لکنّ المیرزا(2) ذکر محذورا ثبوتیّا، ولو تمّ برهانه علی ذلک، لجری أیضا فی الأصل النافی الذی علم بمخالفة بعضه للواقع، وهو: لزوم اجتماع تعبّدین، أحدهما علی خلاف الواقع المعلوم بالإجمال. مثلاً: لو علم بنجاسة أحد الأناءین سابقا، کان نتیجة إجراء الإستصحاب فی کلیهما، هو التعبّد بنجاستهما، وهذا

ص: 342


1- 1. دراسات فی علم الأُصول 3 / 215.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 227.

التعبّد لا یجتمع مع العلم بطهارة أحد الإناءین.

و فیه: إنه لا یلزم من ذلک إلاّ المخالفة الإلتزامیّة، لأن أرکان الإستصحاب فی کلٍّ من الإناءین تامة، ولا تتزلزل بالعلم بطهارة أحدهما، ولا یلزم أیّ محذورٍ عملی. و أمّا الموافقة الإلتزامیّة فغیر واجبة.

المانع الثبوتی عند الإصفهانی

و ذکر المحقق الإصفهانی(1) محذورا ثبوتیّا آخر، وهو لزوم اجتماع المثلین، کما لو استصحب وجوبهما مع العلم بوجوب أحدهما، أو النقیضین کما لو استصحب عدم وجوبهما مع العلم بوجوب أحدهما.

و ما ذکره یبتنی علی امور:

الأول: إن احتمال اجتماع الضدّین أو المثلین محال مثل القطع بالإجتماع.

والثانی: إن الإعتبار یحتاج إلی الملاک وعدمه یحتاج إلی عدم الملاک. هذا فی مرحلة الإعتبار، وعندما لا یکون من الشارع اعتبار فی موردٍ، یکون عدم الإعتبار منه موضوعا عقلاً لعدم تقیّد المکلّف وکونه فی سعةٍ، کما أن الإعتبار الشرعی موضوع لحکم العقل بالتقیّد، ولا یجتمع التقیّد وعدمه فی حکم العقل.

والثالث: إن حکم العقل بالسّعة معلّقا علی ترخیص الشارع، یجتمع مع حکمه منجّزا بالتقیّد مع عدم العلم بالترخیص.

ص: 343


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 278.

الجواب عنه

ویرد علیه: أمّا نقضا، فلأن لازم کلامه هو عدم جریان الاصول العقلیّة أیضا فی أطراف العلم الإجمالی، فإنّ الأصل العقلی الجاری فی کلّ موردٍ تحقق فیه العلم الإجمالی هو قاعدة الإشتغال، وهی تقتضی تقیّد المکلّف، لکن العلم بعدم وجوب أحد الأطراف یقتضی عدم التقیّد، ولا یجتمع التقیّد وعدمه فی حکم العقل.

فالمحذور الذی ذکره موجود فی جریان الأصل العقلی أیضا ولا یختصّ بالإستصحاب.

بل المحذور آتٍ فی الشبهات البدویّة کذلک، لوجود احتمال التناقض، أللهم إلاّ أن یقال بعدم احتمال التقیّد العقلی فیها بل القطع بعدمه، لقبح العقاب بلا بیان.

وأمّا حلاًّ، فنقول:

أمّا من ناحیة الملاک، فلا تمانع، لأن معنی عدم الإعتبار هو عدم الملاک الواقعی.

وأمّا جریان الأصلین فی الطرفین _ مثلاً _ فملاکه التحفّظ علی الواقع، فلا تمانع.

وأما من جهة نفس الحکمین، فإن الإعتبار وعدم الإعتبار مختلفان فی المرتبة، والتضادّ یشترط فیه الإتحاد الرتبی.

وأمّا من جهة حکم العقل، فإن الترخیص الناشئ من عدم الإعتبار تعلیقی، والتقیّد الذی یأتی من ناحیة العقل تنجیزی، ولا منافاة بینهما، إذ الفعلیّة لعدم

ص: 344

الترخیص معلّق عند العقل علی عدم الترخیص الشرعی.

و أمّا إشکال لزوم اجتماع المثلین، فبالنسبة إلی نفس الحکمین، فالمفروض اختلاف المرتبة، وبالنسبة إلی الملاک فیتحقّق هناک التأکّد، وأمّا بالنسبة إلی حکم العقل، فإن العقل مقیّد من ناحیتین، ولا مانع من التأکد فی التقیّد.

فظهر ممّا ذکرنا أن لا محذور ثبوتی من جریان الأصل المحرز.

هل یلزم محذور إثباتی؟

وهل یلزم محذور إثباتی من جریانه؟

قد ذکرنا سابقا أنّ الشیخ یری عدم جریان الإستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی، للزوم التناقض بین صدر دلیله وذیله.

وأمّا الإشکال علیه: بأنّ ظاهر الدلیل هو أن لا ینقض الیقین بالشئ¨ بالشک فی نفس ذلک الشئ¨ بل ینقض بیقینٍ آخر متعلّق به، ولیس الأمر فی أطراف العلم کذلک، لأن الیقین المتعلّق بأحدهما غیر متعلّق بکلّ واحدٍ منهما، فلا تناقض.

ففیه: إن الشیخ یری عدم جواز نقض الیقین السابق بشئ¨ بالشک، سواء کان الشک فی نفس ذلک الشئ¨ بخصوصه أو بعنوانٍ منطبق علیه، بل ینقض بیقینٍ آخر، سواء کان الیقین الآخر متعلّقا به بخصوصه أو بما ینطبق علیه. وعنوان «أحدهما» ینطبق علی «کلّ واحدٍ» فالتناقض موجود.

لکنّ الصحیح فی الإشکال هو المناقشة فی ثبوت الإطلاق فی «بیقین آخر» بحیث یکون أعم من أن یکون بخصوصه أو بعنوانٍ أعم، وهو أوّل الکلام، لأن

ص: 345

کون المراد هو المتعلّق بخصوصه أظهر. ومع التنزّل یأتی دور مبنی المحقق العراقی من أنّ الیقین لا یتجاوز عن متعلّقه، فلا یتجاوز عن عنوان «الأحد» إلی الفرد، فلا انطباق، ولکنه مبنائی.

الإشکال علی الکفایة

و فی مصباح الاصول(1) عن صاحب الکفایة أنه لا مانع من جریان الإستصحاب فی المقام حتی علی مسلک الشیخ، لأن الإستنباط تدریجی، والمجتهد لا یکون ملتفتا إلی جمیع الأطراف دفعةً لیحصل له شک فعلی بالنسبة إلی الجمیع، بل یجری الإستصحاب فی کلّ موردٍ غافلاً عن غیره من الموارد، فلا یکون جریان الإستصحاب فی جمیع الأطراف فی عرضٍ واحدٍ لیحصل له علم إجمالی بأنّ هذا الإستصحاب أو ذاک مخالف للواقع.

ثم أشکل علیه _ تبعا للإصفهانی _ بأنّ الإستنباط وإن کان تدریجیّا والمجتهد لا یکون ملتفتا إلی جمیع الشبهات التی هی مورد الاستصحاب دفعةً، إلاّ أنّه بعد الفراغ عن استنباط الجمیع وجمعها فی الرسالة العملیّة، یعلم إجمالاً بانتفاض الحالة السّابقة فی بعض الموارد التی أجری فیها الإستصحاب، فلیس له الإفتاء بها. فجریان الأصل المحرز المثبت للتکلیف فی المقام مبنی علی مسلکه من أن العلم الإجمالی بنفسه غیر مانع عن جریان الإستصحاب ما لم یلزم منه مخالفة عملیّة.

ص: 346


1- 1. مصباح الأُصول 2 / 228.

ما أفاده المحقق الإصفهانی

و ذکر المحقق الإصفهانی وجها آخر للجریان حتی علی مسلک الشیخ رحمه اللّه، ثم ناقشه.

أمّا الوجه فهو: إن الإستصحاب متقوّم بفعلیّة الیقین والشک، بالإضافة إلی فعلیّة المتعلّق للیقین والتکلیف بأن یکون موردا للإبتلاء، ولا فعلیّة للتکلیف فی القضایا المتأخرّة، لعدم کونها موردا للإبتلاء الفعلی. فلا یجری الإستصحاب فیها، و أمّا عند الإبتلاء بتلک القضایا، فقد انقضی ظرف فعلیّة القضایا السّابقة.

و بالجملة، فعلیّة الإستصحاب متقوّمة بفعلیّة الیقین والشکّ، وفعلیّة المتیقن والمشکوک فیه، وهما غیر متحققّین فی الامور التدریجیّة بالنسبة إلی القضایا اللاّحقة، لعدم فعلیّة المتعلّق فیها.

و أمّا المناقشة فهی: إنّ عدم الإبتلاء لا یستلزم أن یکون الیقین المتعلّق به بلا أثر، فالمعتبر فی الإستصحاب کون الیقین ذا أثر وإن لم یکن متعلّقه کذلک، لکنّ الیقین هنا له أثر، لحکم العقل بلزوم حفظ أغراض المولی، سواء کان الغرض فعلیّا أو ستحّقق له الفعلیّة فیما بعد. وعلیه، فالمجتهد علی یقینٍ الآن بمخالفة بعض الإستصحابات التی یجریها فی الأطراف الفعلیّة للواقع، فللیقین أثر، فلا تجری کلّ الإستصحابات.

الإشکال علیه

ویمکن أنْ یناقش: بأنّا وإنْ کنّا نقول بمؤثریّة العلم الإجمالی فی الامور التدریجیّة وعلیه نقول بحکم العقل بلزوم حفظ أغراض المولی، لکنّ الیقین

ص: 347

والشک المعتبرین فی الإستصحاب یتعلّقان بالتکلیف، فیکون المنقوض هو الیقین بالتکلیف والناقض هو الیقین بالتکلیف کذلک، ولهذا، فالواقعة غیر المبتلی بها لیست تکلیفا. والکلام فعلاً هو بحسب أدلّة الإستصحاب لا بحسب حکم العقل. والحاصل: وقوع الخلط بین حکم العقل ومفاد أدلّة الإستصحاب. هذا أوّلاً.

وثانیا: إنه لا ریب فی تقوّم الإستصحاب بالیقین والشک، ولکن جمیع التکالیف فعلیّة للمجتهد حتی مثل أحکام الحیض، فإنه مبتلی بها من حیث الفتوی. نعم، فعلیّة الإستنباط تدریجیّة، وبحثنا _ فی الإنسداد _ هو بالنسبة إلی المجتهد، وقد وقع الخلط بین تکلیفه وتکلیف المقلّد. نعم، إنما یتمّ ما ذکر فی المجتهد الذی تحصل له قوّة الإستنباط بالتدریج، مثل تحقّق الموضوعات والتکالیف.

وتلخص: جریان الأصل المثبت للتکلیف المحرز وغیر المحرز، بلا محذور ثبوتی أو إثباتی.

و أمّا الاصول النافیة للتکلیف، فلا تجری مع العلم الإجمالی بوجود التکلیف، غایة الأمر أنّه من جهة الإنتهاء إلی المخالفة العملیّة، فالاصول النافیة لا تجری علی جمیع المبانی. وإن کان الأصل النافی محرزا وقد علم بمخالفة بعض الأطراف للواقع، جاء المحذور الثبوتی أو الإثباتی بالإضافة إلی لزوم المخالفة العملیّة.

وأمّا القرعة

فلا مجال لها هنا، لأن مجراها هو الشبهات الموضوعیّة، وأمّا الحکمیّة، فإن المرجع فیها هو الأدلّة الشّرعیّة.

ص: 348

وأما فتوی الفقیه

فلا یرجع إلیها، لأن الفقیه الإنفتاحی مخطی ء فی نظر الإنسدادی، فیکون من رجوع العالم إلی الجاهل، غایته أنه جاهل معذور.

حاصل الکلام

إن المقدّمة هذه تامّة من حیث عدم جواز الرجوع إلی القرعة وفتوی الفقیه، لکنّ الإحتیاط ساقط، والاصول المثبتة جاریة، فإذا ضمّ الإحتیاط إلی الموارد المعلومة بالإجمال وانحلّ العلم الإجمالی، لم تصل النوبة إلی الظن. ولو أن الاصول المثبتة ضمّت إلی الموارد المعلومة ولم یحصل الإنحلال، کان المرجع هو الإحتیاط دون الظن، ولیس الإحتیاط حینئذٍ حرجیّا.

هذا کلّه بناءً علی عدم حجیّة خبر الواحد أو عدم انحلال العلم الکبیر بالصّغیر.

ص: 349

ص: 350

نتیجة المقدّمات

اشارة

الکشف أو الحکومة؟

لقد ثبت أن المقدّمات عقیمة، لأنّ باب العلمی منفتح، وعندنا علم بصدور أخبار کثیرة حاملةٍ للأحکام، والإحتیاط فی مواردها ممکن، ویضاف إلی ذلک موارد الاصول المثبتة، فإنْ انحلّ العلم الإجمالی بذلک فهو، وإلاّ، فالإحتیاط فی البقیّة ممکن.

ثم إنّه قد وقع الکلام بینهم فی نتیجة المقدّمات _ بناءً علی تمامیّتها _ واختلفوا علی قولین: فقیل: بأنها حجیّة الظن بحکم العقل، وقیل: بأنها کاشفة عن حکم الشرع بالعمل بالظن.

والحکومة _ بمعنی درک العقل وحکمه بحجیّة الظن _ یحتمل أن تکون بمعنی کون الظن واسطةً فی إثبات الحکم الشرعی، وأن تکون بمعنی کونه واسطةً فی إسقاط الحکم الشرعی.

ففی الحکومة احتمالان. وفی الثانی احتمالان، أحدهما: الإتیان بالمظنونات، والثانی: الإمتثال الظنی، وبین الإحتمالین عموم وخصوص مطلق، إذ

ص: 351

الثانی یتحقق بالإتیان بالتکالیف المظنونة والمشکوکة، والأوّل معناه الإکتفاء بالتکالیف المظنونة، والمشکوکات خارجة.

و هناک إحتمال ثالث، وهو عبارة عن التبعیض فی الإحتیاط، بمعنی أنه مع العلم بالتکالیف وعدم إمکان الإتیان بجمیعها، فإن العقل یحکم بلزوم الإتیان بالقدر المیسور.

ثم إنّ العراقی قال بالحکومة، بمعنی وساطة الظنّ فی مقام ثبوت التکلیف. أی: إنّ العقل یحکم بأنّ الظن فی هذه الحالة مثبت للتکلیف.

و المحقق الخراسانی قال بالحکومة، بمعنی إکتفاء العقل فی مقام الإمتثال بالإطاعة الظنّیة، أی: إنّ الظن بحکم العقل حجّة فی مقام إسقاط التکلیف.

والمیرزا، قال بالکشف ببیان لم یسبق إلیه.

رأی العراقی

أمّا المحقق العراقی فحاصل کلامه: إنّ العلم الإجمالی لیس من مقدّمات دلیل الإنسداد، بل الإجماع التقدیری القائم علی لزوم مراعاة الأحکام فی ظرف الإنسداد هو المقدّمة، وإذ لیس العلم الإجمالی من المقدّمات، فلا موجب للتبعیض فی الإحتیاط، بل مع وجود الإجماع تسقط قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

ثم إن هذا الإجماع یفید إهتمام الشارع بتکالیفه، وهی بین المظنونات والمشکوکات والموهومات، لکنّ القدر المتیقن هو التکالیف المظنونة، أمّا فی الأکثر من ذلک فتجری أصالة البراءة.

فظهر أن العقل یدرک کون الظن مثبتا للتکالیف المظنونة.

ص: 352

الإشکال علیه

وقد أورد علیه شیخنا بعد التسلیم بما ذکره من سقوط العلم الإجمالی وغیر ذلک: بأنّ الإجماع یکشف عن اهتمام الشارع بتکالیفه کما ذکر، وإلاّ لزم الخروج من الدین، وهو یکون منشأً لحکم العقل بالإحتیاط، لکنّ المانع منه لزوم العسر والحرج واختلال النظام. إذن، یلزم الإحتیاط بقدر الإمکان، فأین وساطة الظنّ بحکم العقل لثبوت الأحکام؟

لقد کانت النتیجة لزوم الإحتیاط بقدر الإمکان، فکان الإجماع مفیدا لما یفیده العلم الإجمالی، فلماذا إسقاط العلم الإجمالی من المقدّمیّة والنتیجة هی التبعیض فی الإحتیاط؟

رأی المیرزا

و قال المیرزا ما ملخّصه:

أوّلاً: إن المقدّمات لا تنتج الإنسداد إلاّ بناءً علی القول بقیام الإجماع علی لزوم رعایة التکالیف الشرعیّة بعناوینها، وإلاّ فلا تتم المقدّمات.

و توضیح ذلک هو: إن الموجب لسقوط الإحتیاط عن المرجعیّة، إمّا لزوم إختلال النظام والعسر والحرج، وإمّا الإجماع علی أن الشارع یرید الإتیان بتکالیفه بعناوینها لا بالإحتیاط. وإذا کان حصول النتیجة متوقفا علی القول بالإجماع المذکور، کانت النتیجة الحاصلة من المقدّمات مستندةً إلی الشارع بالضرورة، لأن

ص: 353

الطریق إلی الإتیان بالتکالیف بعناوینها قائم من قبل الشارع نفسه، و هو کون الظنّ حجةً، وأن الشک والوهم لیسا طریقین قطعا.

و ثانیا: إن الحکومة عبارة عن درک العقل فی مقام الإمتثال، فالعقل یقول بلزوم الإمتثال الظنی عند امتناع الإمتثال العلمی بسبب الإنسداد، والإمتثال الظنی غیر الإتیان بالمظنون، إذ المتحقّق عندنا هو الظن بالتکالیف، ولا یوجد عندنا ظن بانحصارها فی دائرة المظنونات، والإمتثال الظنّی یتحقق بالإتیان بالمظنونات والمشکوکات معا، إذ بذلک یحصل الإمتثال وفراغ الذمّة.

فلو لم نقل بالکشف، فلا مناص من القول بلزوم الإتیان بالمشکوکات مع المظنونات، بحکم العقل.

أقول:

حاصل کلامه قدّس سرّه الإستدلال للکشف من جهةٍ، والردّ علی الحکومة من جهة اخری.

و قد کان العمدة فی الجهة الأولی دعوی قیام الإجماع علی وجوب الإتیان بالتکالیف بعناوینها، وأمّا إذا کان معقده عدم جواز الرجوع إلی البراءة، فلا یتم مسلکه، لأنه حینئذٍ یمکن تمامیّة القول بالحکومة، لأن الحاکم بمرجعیّة الظن _ بعد سقوط البراءة بالإجماع، وعدم إمکان الإحتیاط، وقبح ترجیح المرجوح أی الشک علی الراجح وهو الظن _ هو العقل، وحینئذٍ، للشارع أن یکتفی بهذا الحکم العقلی ولا حاجة إلی الجعل الشرعی.

لکنّ الکلام کلّه فی ثبوت الإجماع المدّعی، والحقّ أنْ لا إجماع علی

ص: 354

وجوب الإتیان بالتکالیف بعناوینها.

وأمّا فی الجهة الثانیة، فإنّ واقع القضیّة هو أنا نعلم بثبوت تکالیف، وهی إمّا فی المظنونات أو المشکوکات أو الموهومات، فإذا نظرنا فی دائرة المظنونات حصل الظنّ بوجودها فیها، وإذا نظرنا فی دائرة المشکوکات حصل الشک فی وجودها فیها، وإذا نظرنا فی دائرة الموهومات، نتوهّم وجودها فیها، وعلی هذا یظهر أنّ الإتیان بالمظنونات یلازم حصول الإمتثال الظنّی، وقد عرفت تحقّق الظنّ بوجود التکالیف کلّها فی دائرة المظنونات، وأن مقتضی درک العقل فی ظرف الإنسداد هو الإمتثال الظنی.

وتحصّل: أنّ الحق ما ذهب إلیه المحقق الخراسانی من أنّ النتیجة کون الظن بحکم العقل حجةً فی مقام إسقاط التکالیف.

هل الحجیّة مطلقة أو مهملة؟

إن أسباب حصول الظن مختلفة، منها: الإجماع والشهرة والأولویّة الظنیّة، وموارد الظنّ مختلفة، من النفوس والأموال والأعراض، والظن ذو مراتب من حیث القوّة والضعف. فهل حجیّة الظن مطلقة بالنسبة إلی الأسباب والموارد والمراتب أوْ لا، بل فیه تفصیل؟

الکلام فی الأسباب

قد یقال: بأن السبب الموجب للظن إن وجد مانع شرعی عن اتّباعه

ص: 355

کالقیاس، فلا شبهة فی خروج الظن الحاصل من هکذا سبب عن إطلاق المقدّمات، للقطع بعدم حجیّة هذا الظن. وأمّا بالنسبة إلی ما لم یقم دلیل شرعی علی المنع منه، فإنّ نتیجة المقدّمات هو الإطلاق من حیث الأسباب، سواء علی القول بالحکومة أو الکشف. إذ علی الأوّل: لا فرق فی نظر العقل بین الظن الحاصل من هذا السّبب أو من ذاک. وعلی الثانی: فقد قام الإجماع علی رعایة التکالیف بعناوینها. فالظن الحاصل حجّة بلا فرقٍ بین الأسباب الموجبة لحصوله.

أقول

قد عرفت أن الإجماع المدّعی علی لزوم الإتیان بالتکلیف بعنوانه، یلازم جعل الشارع الظنّ حجةً فی ظرف الإنسداد، وأن هذا هو الأساس للقول بالکشف.

فالکاشف عن اعتبار الظن _ بناءًعلی الکشف _ هو الدلیل اللّبی وهو الإجماع، و الظن له أسباب عدیدة، قد أصبح بعضها متیقّنا من حیث الإعتبار دون البعض الآخر فی ظرف الإنسداد، فیکون الأقل قطعی الإعتبار والباقی مشکوک فیه، فمقتضی القاعدة هو الأخذ بالقدر المتیقن من الإجماع، والقول بعدم اعتبار الظن فی الزائد عنه، لعمومات النهی عن اتباع الظن، ومع التنزّل عن العمومات، یستصحب عدم اعتبار الظن المشکوک فی اعتباره، ومع التنزل عن الإستصحاب یکون الشک فی جعل الحجیّة للظنّ المشکوک فی حجیّته کافیا لعدمها فیه، لأن الشک فی الحجیّة مساوق للقطع بعدمها.

ص: 356

و إذا کان الواجب هو الأخذ بالقدر المتیقّن من أسباب الظن، فلا ریب أنه الظن الحاصل من خبر الثقة، لأنه الذی له اعتبار عقلائی، ولیس الإجماع المنقول والشهرة الفتوائیّة بهذه المثابة...

علی أنّه إذا کان لا یفرّق بین الأسباب، فلماذا لا یؤخذ بالظنّ الحاصل من الجفر والاسطرلاب ویؤخذ بالحاصل من الإجماع؟ ولو قیل: بأن الفارق هو القطع بعدم رضا الشارع بالعمل طبق الظن الحاصل من الجفر ونحوه. قلنا: هذا یکون فی ظرف الإنفتاح، وکلامنا فی الإنسداد.

فظهر مما ذکرنا: أنّ الأمر لیس کما قیل،بل یختلف الحال علی اختلاف المبانی.

فأمّا علی القول بالکشف، فإن مقتضی القاعدة هو الأخذ بالقدر المتیقّن من الأسباب، وهو الظن الحاصل من خبر الثقة، لما ذکرنا، ولأنه یوجد بالنسبة إلی خبر الثقة ظنّان فی ظرف الإنسداد، أحدهما: الظن بالحکم من جهة المقدّمات، والآخر: هو الظن بالطریق من جهة کونه ثقةً. أمّا فی غیر الظن الحاصل من خبر الثقة، فلا یوجد إلاّ ظن واحد، وهو الظن بالحکم، وهذا وجه آخر لکون خبر الثقة هو القدر المتیقن.

و أمّا علی القول بالحکومة، فأمّا بناءً علی حجیّة الظن فی مقام الإمتثال وسقوط التکلیف _ کما علیه صاحب الکفایة رحمه اللّه وهو المختار _ فالظاهر عدم الفرق بین الأسباب، إذ لا یوجد دلیل لبّی لیؤخذ منه بالمتیقّن، بل الدّلیل هو درک العقل بوصول النوبة إلی الإمتثال الظنّی عند انسداد باب العلم والعلمی، والعقل لا یفرّق حینئذٍ بین الأسباب، نعم، یکون درکه أو حکمه معلّقا علی عدم

ص: 357

المنع الشرعی عن اتباع ظنٍ کالظن القیاسی.

و أما بناءً علی حجیّة الظنّ فی مقام إثبات التکلیف _ کما علیه المحقق العراقی _ فلا فرق کذلک، لکون المنجّز للتکلیف _ کما ذکر _ هو الإجماع القائم علی عدم جواز الرجوع إلی البراءة، لاهتمام الشارع بتکالیفه، والإهتمام ذو مراتب، وحیث أن باب العلم والعلمی منسدّ، فالمرتبة الظنیّة هی الباقیة وتجری البراءة فی غیرها. وحینئذٍ، لا یفرّق العقل بین الأسباب الموجبة للظن، فمن أین ما حصل ثبت التکلیف.

هذا کلّه بالنسبة إلی الأسباب.

الکلام فی الموارد

وأمّا بالنسبة إلی الموارد: فأمّا ما علمنا باهتمام الشارع به من الموارد، کالدماء والفروج، فلا معنی لأن تکون النتیجة مهملةً، بل الواجب هو الإحتیاط، سواء علی مسلک الکشف والحکومة.

و أمّا ما لا نعلم باهتمامه بل نظنّ، فبناءً علی الکشف، لا إشکال فی عدم اعتبار الظن، لوجود الظنّ بالإحتیاط والحکم، وقد کان دلیلنا علی لزوم الإمتثال هو الإجماع، وقد عرفت لزوم الأخذ بالقدر المتیقن منه، وهو المورد الذی لم یجب فیه الإحتیاط.

و بناءً علی الحکومة، أمّا علی مبنی الخراسانی، فإن العقل یدرک بکون الظن عذرا، لکن مع الظن باهتمام الشارع یظنّ بالإحتیاط، فتکون النتیجة مقیّدة بالمورد

ص: 358

الذی لا ظن فیه باهتمام الشارع فیه. وبناءً علی مبنی العراقی، فحیث أن الدلیل هو الإجماع والإحتیاط یقتضی خلاف الإجماع، فالقدر المتیقّن هو الظن بالأحکام الواقعیّة، لکن فی صورة احتیاط الشارع فی موردٍ، یکون حکم العقل سقوط المشکوکات والموهومات، ویکون الظن مثبتا للواقع وحجةً وعذرا فی غیر مورد احتیاط الشارع، لأنّ الإحتیاط الشرعی حکمٌ یجب الإمتثال له.

و بما ذکرنا ظهر الإشکال فی قول العراقی هنا علی مسلکه بکون النتیجة مطلقة بحسب الموارد.

الکلام فی المراتب

وأمّا بالنسّبة إلی مراتب الظن، فعلی القول بالکشف، یکون القدر المتیقن هو الظن الأقوی فالأقوی فقط، و فی غیره تجری الاصول العملیّة.

و علی الحکومة، فأمّا علی مسلک العراقی، فکالکشف بعینه. وأمّا علی مسلک الخراسانی _ وهو المختار _ فالنتیجة لزوم مراعاة الظن بجمیع المراتب، لأنّ الحکومة علی هذا المسلک مبناها العلم الإجمالی بالتکالیف، وهذا یقتضی الإحتیاط التام، لکن لمّا کانت المقدّمات قد أفادت عدم إمکانه أو عدم لزومه _ کما هو المفروض _ تصل النوبة إلی الأخذ بالإحتیاط الناقص، فالعقل یحکم بلزوم الإمتثال الظنّی، ویلزم الإتیان بجمیع أطراف المظنونات قویّها وضعیفها.

ص: 359

ص: 360

الظنُّ فی الاعتقادات

اشارة

إن الظنّ فی الأحکام الشرعیّة معتبر، الظن الخاصّ(1) أو الإنسدادی، أمّا فی المسائل الإعتقادیة، فأقوال ستّة کما فی الرسائل:

1. لا یعتبر، بل یعتبر العلم، ویعتبر کونه حاصلاً من الإستدلال.

2. لا یعتبر إلاّ العلم، ویکفی کونه تقلیدیّا.

3. یکفی الظن الحاصل من الإستدلال.

4. یکفی الظن مطلقا.

5. یکفی الظن إن کان حاصلاً من خبر الواحد.

6. یکفی الظن ولو تقلیدا، والاستدلال واجب لکنّه معفوّ عنه.

خلاصة کلام الشیخ

إنّ مسائل اصول الدین _ وهی التی لایطلب فیها أوّلاً وبالذات إلاّ الإعتقاد باطنا والتدیّن ظاهرا _ علی قسمین:

ص: 361


1- 1. هذا التعبیر _ کما فی غیرواحدٍ من الکتب _ غیردقیق، لأن الأدلّة القائمة علی اعتبار بعض الظنون بالخصوص، إنما قامت علی اعتبار خبر الثقة مثلاً لا علی اعتبار الظنّ الحاصل منه، فالتفت.

أحدهما: ما وجب علی المکلّف الإعتقاد والتدیّن غیرمشروط بحصول العلم، کالمعارف. فیکون تحصیل العلم من مقدّمات الواجب المطلق فیجب.

الثانی: ما یجب الإعتقاد والتدیّن به إذا اتفق حصول العلم به، کبعض تفاصیل المعارف.

وأمّا الثانی، فحیث کان المفروض عدم وجوب تحصیل المعرفة العلمیّة، کان الأقوی القول بعدم وجوب العمل فیه بالظن لو فرض حصوله، ووجوب التوقّف فیه، للأخبار الکثیرة الناهیة عن القول بغیر علم والآمرة بالتوقّف...

ثم إنّ الفرق بین القسمین المذکورین وتمیّز مایجب تحصیل العلم به عمّا لایجب، فی غایة الإشکال، وقد ذکر العلاّمة قدّس سرّه فی الباب الحادی عشر فیما تجب معرفته علی کلّ مکلّف من تفاصیل التوحید والنبوة والإمامة والمعاد أمورا لا دلیل علی وجوبها کذلک، مدّعیا أن الجاهل بها عن نظر واستدلال خارج عن ربقة الإسلام مستحقّ للعذاب الدائم. وهو فی غایة الإشکال.

نعم، یمکن أنْ یقال: إنّ مقتضی عموم وجوب المعرفة مثل قوله تعالی «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ»(1) أی لیعرفون، وقوله صلوات اللّه علیه وآله: ما أعلم شیئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس(2)... هو وجوب معرفة اللّه جلّ ذکره ومعرفة النبی ومعرفة الإمام ومعرفة ما جاء به النبی علی کلّ قادر یتمکّن من تحصیل العلم، فیجب الفحص حتی یحصل الیأس، فإن حصل العلم

ص: 362


1- 1. سورة الذاریات: الآیة 56.
2- 2. الکافی 3 / 264.

بشئ¨ من هذه التفاصیل اعتقد وتدیّن، وإلاّ توقف ولم یتدیّن بالظن لو حصل له.

ومن هنا، قد یقال: إنّ الإشتغال بالعلم المتکفّل لمعرفة اللّه ومعرفة أولیائه صلوات اللّه علیهم أهم من الإشتغال بعلم المسائل العملیّة، بل هو المتعیّن... لکنّ الإنصاف یقتضی عدم التمکّن من ذلک إلاّ للأوحدیّ من الناس...(1)

خلاصة کلام صاحب الکفایة

وکلام صاحب الکفایة فی هذا المقام علی قسمین، ففی الأوّل: ذکر رأیه فی المسألة، وفی الثانی: تعرّض للرّد علی الشیخ. وهذا ملخّص کلامه:

هل الظنّ ویتبّع فی الاصول الإعتقادیّة المطلوب فیها عمل الجوانح من الإعتقاد به وعقد القلب علیه وتحمّله والإنقیاد له، أوْ لا؟ الظاهر: لا. فإن الأمر الإعتقادی وإنْ انسدّ باب القطع به إلاّ أنّ باب الاعتقاد إجمالاً بما هو واقعه، والإنقیاد له وتحمّله، غیر مسند، بخلاف العمل بالجوارح، ...

وبالجملة، لا موجب _ مع انسداد باب العلم فی الاعتقادیّات _ لترتیب الأعمال الجوانحیّة علی الظن فیها مع إمکان ترتیبها علی ما هو الواقع فیها، فلا یتحمّل إلاّ لما هو الواقع ولا ینقاد إلاّ له لا لما هو مظنونه. وهذا بخلاف العملیّات، فإنه لا محیص عن العمل بالظن فیها مع مقدّمات الإنسداد.

هذا هو القسم الأوّل من کلامه.

و قد وافقه المیرزا والعراقی.

ص: 363


1- 1. فرائد الأُصول: 170 _ 171.

خلاصة کلام الإصفهانی

و کذا الإصفهانی، لکن ببیان آخر، لعدم تعقّل الإعتقاد بالواقع علی إجماله، فقال ما حاصله:(1)

إن الواجب فی باب الامور الإعتقادیة إمّا تحصیل العلم والمعرفة، أو عقد القلب علی المعلوم بما هو معلوم بنحو الواجب المطلق أو المشروط، أو عقد القلب علی الواقع.

فإن کان الواجب هو المعرفة، وجب تحصیلها، ولا یکفی الظن.

و إن کان الواجب هو الإعتقاد بما هو معلوم بنحو الواجب المشروط، أی: یجب الإعتقاد إذا علم، أو الاعتقاد بما هو معلوم بنحو الوجوب المطلق، بأن یکون الوجوب مطلقا والواجب مقیّدا بکونه معلوما، فلا تصل النوبة إلی الظن کذلک، لأن المفروض أخذ «العلم» فی الإعتقاد، فإن کان باب العلم منسدّا سقط التکلیف عنه، ولا یکون الظن حجةً له لا الخاصّ منه ولا المطلق.

و إن کان الواجب هو الإعتقاد بالواقع، صحّ الإعتقاد الظنّی فی ظرف الإنسداد، لأن العلم غیر دخیل فی الواجب بل یکون طریقا إلیه، ومع فقده، یمکن للشّارع اعتبار الظنّ فی مرحلة الإمتثال.

فالحاصل: إنه إن اخذ «العلم» فی متعلّق الوجوب، کان مقوّما للحکم، فإذا لم یتحقق العلم لم یقم مقامه شئ¨، وإن لم یؤخذ کذلک، کان طریقا، فیمکن حینئذٍ أن یقوم الظن مقامه فی الطریقیّة.

ص: 364


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 402.

و حیث یکون الواجب هو الإعتقاد بالواقع، فلا یخلو: إمّا أن یکون بنحو الإحتیاط، فإن الإعتقاد بکلا الطرفین غیر معقول، لأنه یلزم منه الإعتقاد بالنقیضین. و إمّا أن یکون بنحو التخییر الشرعی، فکذلک، لأنّ الواجب هو الإعتقاد بأمرٍ معیّن. و إمّا أن یکون بنحو التخییر العقلی، فهو فی المتزاحمین، ولیس المقام منه. وإمّا أن یکون بنحو الفرد المردّد، ولا ذات للمردّد ولا وجود. وإذا بطلت جمیع الشقوق تعیّن وجوب الإعتقاد بجهة جامعة، وهذه الجهة موجودة فی المظنون وغیره، فلا تصل النوبة إلی المظنون، لأنه باطل، من جهة أنا مکلّفون بالإعتقاد بالواقع کما عرفت، ومن الممکن کونه فی خلاف المظنون. فیتعیّن الإعتقاد بالجهة الجامعة، لأنها القدر المیسور من الإعتقاد.

النّظر فی کلام الإصفهانی

ولأجل أنْ یتّضح کلام المحقق الخراسانی، ویظهر النظر فیما أفاده المحقق الإصفهانی نقول:

إنّ ما یمکن تعقّله من العناوین خمسة:

أحدها: العنوان الجامع القابل للصّدق علی جمیع الأفراد _ أی علی الواحد والکثیر علی السواء _ مثل عنوان «الخبر»، وهذا العنوان مشترک ولاحکایة له عن خصوصیّةٍ ولو إجمالاً.

والثانی: العنوان الجامع کالأوّل مع الحکایة عن الخصوصیّة، مثل: «مصداق الخبر»، فإنه غیر الخبر، وهو عنوان مشترک لابشرط فی الصّدق بالنسبة إلی الوحدة والتعدّد، لکنه حاکٍ عن «الخبر».

ص: 365

والثالث: العنوان الجامع المشترک المقیَّد بالوحدة فیالصّدق، مثل: «أحد هذه الأخبار»، فإنّ کلّ واحدٍ واحدٍ من هذه الأخبار _ ولیس کلّها مجتمعةً _ مصداق لهذا العنوان.

والرابع: العنوان الخاصّ الحاکی عن الخصوصیّة الخاصّة الشّخصیة، مثل: «الخبر الحاکی عن حال زید فی مکان کذا وفی زمان کذا».

والخامس: عنوان: «ما أخبر به زید»، فإنه عنوان لا یصدق علی غیر خبر زید، غیر أنّه غیر متشخّص، لعدم حکایته عن خصوصیّةٍ، فلیس فیه جهة مشترکة بالمعنی الأوّل ولا الثانی، ولا الثالث وهو العنوان الإنتزاعی. فلیس فیه جهة مشترکة وهو فی نفس الوقت لایحکی عن الخصوصیّة کما فی الرابع.

وما نحن فیه من قبیل الخامس.

فیجب أنْ یعتقد المکلّف بما جاءت به الشریعة من الامور الاعتقادیّة، لکنْ لیس فی هذا جهة مشترکة أو إجمال.

وهذا هو مراد المحقق صاحب الکفایة.

إشکال الکفایة علی الشیخ

وتعرّض صاحب الکفایة فی القسم الثانی من کلامه لمناقشة کلمات الشیخ، فقال ما ملخّصه:

نعم، یجب تحصیل العلم فی بعض الإعتقادات لو أمکن، من باب وجوب المعرفة لنفسها کمعرفة الواجب تعالی وصفاته، أداءً لشکر بعض نعمائه، ومعرفة

ص: 366

أنبیائه، فإنهم وسائط نعمه وآلائه، بل وکذا معرفة الإمام علی وجهٍ صحیح، فالعقل یستقلّ بوجوب معرفة النبی ووصیّه لذلک ولاحتمال الضرر فی ترکه، ولایجب عقلاً معرفة غیر ما ذکر إلاّ ما وجب شرعا معرفته، کمعرفة الإمام علی وجهٍ آخر غیرصحیح أو أمر آخر ممّا دلّ الشرع علی وجوب معرفته.

وما لا دلالة علی وجوب معرفته بالخصوص _ لا من العقل ولا من النقل _ کان أصالة البراءة من وجوب معرفته محکّمةً، ولا دلالة لمثل قوله تعالی «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنْسَ» الآیة، ولا لقوله: «وما أعلم شیئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصّلوات الخمس»، ولا لما دلّ علی وجوب التفقّه وطلب العلم من الآیات والروایات، علی وجوب معرفته بالعُموم...

ثم إنه لا یجوز الإکتفاء بالظن فیما تجب معرفته عقلاً أو شرعا، حیث أنه لیس بمعرفةٍ قطعا، بل لابدّ من تحصیل العلم لو أمکن، ومع العجز عنه کان معذورا إنْ کان عن قصورٍ لغفلةٍ أو لغموضة المطلب مع قلّة الاستعداد، کما هو المشاهد فی کثیر من النساء بل الرجال، بخلاف ما إذا کان عن تقصیر...

والمراد من المجاهدة فی قوله تعالی: «وَالَّذینَ جاهَدُوا فینا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا»(1) هو المجاهدة مع النفس...

ثم لا استقلال للعقل بوجوب تحصیل الظنّ مع الیأس عن تحصیل العلم فیما یجب تحصیله عقلاً لو أمکن، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه بل بعدم جوازه، لما أشرنا إلیه...

ص: 367


1- 1. سورة العنکبوت: الآیة 69.

وکذلک لا دلالة من النقل علی وجوبه فیما تجب معرفته مع الإمکان شرعا، بل الأدلّة الدالّة علی النهی عن اتّباع الظن دلیلٌ علی عدم جوازه أیضا...(1)

النّظر فی الإشکالات

وتکلّم شیخنا دام بقاه علی إشکالات المحقق الخراسانی علی الشّیخ فقال ما حاصله:

أمّا الآیة المبارکة، فقد فسّر الشیخ «لیعبدون» بقوله: «أی لیعرفون»، وقال فی الکفایة أن المراد هو خصوص عبادة اللّه ومعرفته.

لکنّ هذا التفسیر الذی توافقا علیه لا مستند له فی التفاسیر _ کالصّافی(2) وغیره _ إلاّ روایة مرسلة، وحینئذٍ، فإنّ مقتضی القاعدة الأخذ بظاهر الآیة المبارکة وأنّ الغایة من الخلقة هی العبادة للّه وحده لا شریک له. نعم، العبادة فرع المعرفة له، وهی إنما تتحقّق بمعرفة رسوله وأوصیاء رسوله علیهم السلام، فهی تدلّ علی وجوب معرفتهم بالدّلالة الإلتزامیّة.

وأمّا إشکاله علی الإستدلال بالحدیث النبوی، بأنه بصدد بیان فضیلة الصلوات لا بیان حکم المعرفة، فلا اطلاق فیه، فوارد.

وأمّا إشکاله علی الاستدلال بآیة النفر، بأنها بصدد بیان الطّریق المتوسّل به إلی التفقّه الواجب لا بیان ما یجب فقهه ومعرفته. ففیه: إذا کانت دالّةً علی وجوب

ص: 368


1- 1. کفایة الأُصول: 329 _ 331.
2- 2. تفسیر الصافی 5 / 75.

النّفر، فهی دالّة علی وجوب الغایة من النفر. وأیضا، فقد رتّب علی المعرفة والتفقّه إنذار القوم، ولا یعقل وجوب الإنذار وعدم وجوب مقدّمته وهو المعرفة والتفقّه، کما أنَّ وجوب الحذر یستلزم وجوب الإنذار. وعلی الجملة، فالآیة فی مقام البیان من جمیع الجهات المذکورة.

وأمّا إشکاله علی الإستدلال بما دلّ علی وجوب طلب العلم بأنه بصدد الحثّ علی طلبه لابصدد بیان ما یجب العلم به. ففیه: إنَّ العلم من الامور ذات الإضافة، فلمّا أمر بطلب العلم ولم یذکر المتعلّق دلّ علی الإطلاق لا محالة. لایقال:

حمل هذه الأدلّة علی الإطلاق یستلزم تخصیص الأکثر، لعدم وجوب تعلّم أکثر العلوم. لأنا نقول: إنه بالنظر إلی صدور هذه الروایات من الشّارع، یکون مقام الشارعیّة، وکذا ما ورد عنه من أنّ العلوم ثلاثة: آیة محکمة وفریضة عادلة وسنّة قائمة(1) قرینة علی أنّ ماعدا ذلک من العلوم خارج تخصّصا.

إشکال المحقق الإصفهانی علی الاستدلال بوجوب شکر المنعم

ثم إنّ المحقق الإصفهانی(2) أشکل علی استدلال صاحب الکفایة بحکم العقل بلزوم شکر المنعم لوجوب المعرفة بوجوه ثلاثة، وقد أفاد قبل ذکرها فائدةً جلیلةً وهی: إنّ الشکر وسایر مقامات الدین لها مراتب ثلاثة: علمٌ وحالٌ وعملٌ، فمعرفة المنعم من الأوّل، والتخضّع له قلبا من الثانی، وصرف النعمة فیما خلقت

ص: 369


1- 1. وسائل الشیعة 17 / 327، الباب 105 من أبواب مایکتسب به الرقم 6.
2- 2. نهایة الدرایة 3 / 408.

لأجله بأداء ما هو وظیفة السمع والبصر واللّسان من الثالث. فمعرفة المنعم من أفضل مراتب شکر النعمة.

وأمّا الإشکالات، فهی:

الأوّل: إنّ هذه المعرفة لیس مصداقا لهذه المرتبة من الشکر، بل ما هو مصداقه معرفة المنعم بما هو منعم لا بذاته، لأنّ الحیثیّة التعلیلیّة _ وهی المنعمیّة لوجوب الشکر _ حیثیّة تقییدیّة له، کما فی جمیع الأحکام العقلیّة، فلا تجب معرفة الذات لإنعامه نفسا، بل مرجعه إلی معرفة الذات مقدّمةً لمعرفته بالمنعمیّة، مع أنّ المقصود إثبات وجوب المعرفة لنفسها.

توضیحه:

إنّ الحیثیّة التعلّیلیة فی الأحکام العقلیّة _ سواء النظریّة، مثل قولنا: توقّف الشئ¨ علی نفسه محالٌ، والعملیّة، مثل: ضرب الیتیم لا للتأدیب قبیح _ حیثیّات تقییدیّة، ومعنی ذلک: کون العلّة موضوعا للحکم، فتوقّف الشئ¨ علی نفسه محال، لماذا؟ لأنه دورٌ، فترجع القضیة إلی: الدور محال. وضرب الیتیم لا للتأدیب قبیح، لماذا؟ لأنه ظلم، فترجع القضیّة إلی: الظلم قبیح. فکانت العلّة هی الموضوع للحکم العقلی. هذه هی الکبری.

وفیما نحن فیه: یقول هذا المحقق: إنّ حکم العقل بوجوب شکر المنعم من الأحکام العقلیّة العملیّة، فهو فی الحقیقة: شکر المنعم واجب لإنعامه، فالحکم وهو الشکر مترتّب علی المنعمیّة، أی: شکر المنعم من حیث أنه منعم واجب، لکنّ المدّعی فی المقام وجوب معرفة ذات الباری تعالی.

ص: 370

لایقال: هذا إنما یتمّ فی غیرالباری، حیث أنّ الصفات فیه زائدة علی الذّات، لا فی الباری الذی صفاته عین ذاته.

قلت: هذه غفلةٌ، لأنّ الصّفات الذاتیّة عین الذات المقدّسة، والمنعمیّة من صفات الفعل لا الذات.

والثانی: إنّ أصل وجوب الشکر عقلاً بحیث یستحقُّ العقاب علی ترکه، لا یثبت إلاّ بإدخاله تحت قاعدة التحسین والتقبیح العقلیّین، ومن البیّن عند التأمّل أنّ شکر المنعم _ علما وحالاً وعملاً _ وإنْ کان تعظیما للمنعم وإحسانا إلیه، إلاّ أنه لا یثبت به إلاّ مجرّد الحسن واستحقاق المدح علی فعله بمراتبه، ولیس ترک کلّ تعظیمٍ وإحسانٍ قبیحا إلاّ إذا کان ظلما من حیث کونه کفرانا، ولیس ترک کلّ إحسانٍ ولا ترک الإحسان إلی المحسن ظلما علیه.

توضیحه:

إنْ العدل حسنٌ والظلم قبیح، ولکنْ لیس ترک العدل قبیحا وترک الظلم حسنا، فالإستدلال بوجوب شکر المنعم لوجوب معرفة الباری عقیمٌ، إلاّ إذا انتهی ترک الشکر إلی الکفران.

والثالث: إنّ الإستناد فی تحصیل المعرفة إلی وجوب شکر المنعم عقلاً، إنما یجدی بعد الفراغ عن انتهاء النعمة إلی مبدأ موجود، لیتحقّق موضوع شکر المنعم لیجب عقلاً، فهو إنما یفید فی معرفته من حیث کیفیّة وجوده وصفاته لا فی التصدیق بوجوده.

توضیحه:

قد تقرّر أنَّ القضیّة _ سواء العقلیّة أو الشرعیّة _ لا تتکّفل وجود الموضوع،

ص: 371

بل لابدّ من وجوده وثبوته ثم ترتّب الحکم علیه فی القضیّة، فلمّا نقول: شکر المنعم واجبٌ، یتوقّف ترتّب الحکم _ وهو الوجوب _ علی وجود الباری عزّوجلّ وثبوت منعمیّته، ولولا ذلک لما ترتّب الحکم.

هذه هی إشکالات المحقق الإصفهانی علی کلام الکفایة.

النّظر فی الإشکالات

وللنّظر فیما أفاده هذا المحقّق مجال کبیر، ولنقدّم لذلک مقدّمةً قد توافق علیها الکلّ، وهی: إنَّ جمیع الأحکام العقلیّة النظریّة ترجع إلی قضّیة: استحالة اجتماع النقیضین وارتفاعهما، وحتی قضیة استحالة اجتماع الضدّین وارتفاعهما ترجع إلیها، لأنَّ وجود کلّ ضدٍّ ملازم لعدم الضدّ الآخر. وإنّ جمیع الأحکام العقلیّة العملیّة ترجع إلی قضیة: العدل حسن والظلم قبیح، ولذا لمّا یقال: شکر المنعم واجبٌ یقع السؤال: لِمَ؟ الجواب: لأنه عدلٌ. وکذا لمّا یقال: کفر المنعم قبیح. ویکون الجواب: لأنه ظلمٌ،

فما لم یکن شکر المنعم مصداقا للعدل لم یحکم علیه بالحسن، وما لم یکن کفر المنعم ظلما لم یحکم علیه بالقبح، لأنّ کلّ ما بالعرض لابدّ وأنْ ینتهی إلی ما بالذات.

وعلی هذا، فإنّ شکر المنعم من حیث أنه منعم مرتبة من العدل، وإنْ کان شکره لذاته مرتبةً أعلی، لأنه فی هذه الصّورة لایری إلاّ ذات المنعم، بخلاف الصّورة الاولی فإنه یری نفسه أیضا، ومن هنا ورد عن أمیرالمؤمنین علیه السّلام:

ص: 372

إنَّ قوما عبدوا اللّه رغبةً فتلک عبادة التجّار، وإنّ قوما عبدوا اللّه دهبةً فتلک عبادة العبید، وإنّ قوما عبدوا اللّه شکرا فتلک عبادة الأحرار.(1) وعنه أیضا أنه قال: ما عبدتک شوقا إلی ثوابک ولاخوفا من عقابک، بل وجدتک أهلاً للعبادة فعبدتک.(2) إنّ العبد إذا عبداللّه وذکره وشکره من دون لحاظ نفسه، فإنّ ذلک یکون أعلی مرتبةً مما إذا لحظ نفسه أیضا، ومن هنا کان سیّدنا الجدّ رحمه اللّه یقول: إن أفضل الأذکار هو «لا إله الاّ اللّه» لعدم لحاظ شئ¨ فیه بخلاف «الحمدللّه» و«أستغفراللّه» ونحو ذلک، فإن هناک حامدا ومستغفرا... ولکنْ لاینکر أنّ هذه الأذکار أیضاً لها مرتبة من العدل، ولذا تکون موردا للمدح ویحکم علیها بالحسن.

وهذا جواب الإشکال الأوّل.

ومنه یظهر جواب الثانی، لأنّ العدل هو: إعطاء کلّ ذی حقٍّ حقّه، _ کما أنّ الحکمة: وضع کلّ شئ¨ٍ فی موضعه _ ، فیکون الظلم منع ذی الحقّ حقّه، وعلیه، فإنّ ترک العدل ظلمٌ، وإذا کان ظلما، فإنّ کلّ ظلم قبیح.

وعلی ما ذکر، لا مجال لأن یقال بأنّه وإنْ کان شکر النعم واجبا، فإنّ ترک الشکر لیس بکفرٍ.

علی أنّ للنعمة وشکر النعمة درجات، والذی یقصده الأعاظم المحققون کالخراسانی والعراقی وغیرهما من هذا الإستدلال هو شکر المنعم بالذات علی الممکن الفقیر المحتاج بالذات، إذن، لابدّ من لحاظ المنعِم والمنَعم والنعمة،

ص: 373


1- 1. نهج البلاغة: 449، باب المختار من حکمه علیه السلام ومواعظه، الرقم: 229.
2- 2. عوالی اللئالی 1 / 404: الرقم 63.

وبذلک لایبقی أدنی ریبٍ فی وجوب الشکر، ویشهد بذلک کثرة التأکید علی الشکر فی الکتاب والسنّة والإهتمام به والذمّ الشدید علی ترکه فیهما.

ویزداد المطلب وضوحا بما إذا فرضنا إنسانا فاقدا لکلّ شئ¨، فلا ملبس ولا مأکل ولا مسکن له، بل یعیش فی مزبلةٍ نتنةٍ، وقد ابتلی بأنواع الأسقام، فجاء رجلٌ وأخرجه من ذلک المکان، وأخذه إلی الطبیب المعالج، وألبسه أفخر الثیاب، وقدّم له أطیب الأطعمة، وأجلسه علی کرسیّ السّلطنة، فهل یجوّز العقل أن لا یسأل هذا الشخص عن الرجل الذی أحسن إلیه هذا الإحسان وأنْ لا یشکره علی ذلک؟

إنّ الذی فعله اللّه سبحانه بالإنسان أعلی وأعظم من ذلک، یقول عزوجلّ «فَلْیَنْظُرِ الاْءِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ...»(1) ویقول: «قُتِلَ الاْءِنْسانُ ما أَکْفَرَهُ مِنْ أَیِّ شَیءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ...»(2)

فهکذا خلق اللّه العلی العظیم السبّوح القدوس هذا الإنسان، ثم خاطبه بقوله عزّ من قائل: «سَخَّرَ لَکُمْ ما فِی السَّماواتِ وَما فِی الاْءَرْضِ»(3)...

فالقول بوجوب شکر المنعم هذا معناه، وهل الشکر فی قوله سبحانه «إِنّا خَلَقْنَا الاْءِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلیهِ فَجَعَلْناهُ سَمیعًا بَصیرًا إِنّا هَدَیْناهُ السَّبیلَ إِمّا شاکِرًا وَإِمّا کَفُورًا»(4) هو الشکر المستحب؟

ص: 374


1- 1. سورة الطارق: الآیة 6.
2- 2. سورة عبس: الآیة 18 _ 19.
3- 3. سورة الجاثیة: الآیة 13.
4- 4. سورة الإنسان: الآیة 2.

برهانٌ للمحقّق الإصفهانی علی وجوب المعرفة

هذا، وقد ذکر المحقق الإصفهانی برهانا لوجوب المعرفة فقال:

لنا طریق برهانی إلی وجوب تحصیل معرفته تعالی، وهو أنّ کلّ عاقلٍ بالفطرة السّلیمة یعلم بأنه ممکن حادث معلول لمن لم یکن مثله فی الإمکان والحدوث، والشرایع الإلهیّة ما جاءت للتّصدیق بوجود المبدء والعلّة، بل لنفی الشّرک فی المعبود، ولذا کان أوّل کلمة أمر بها النّبی صلّی اللّه علیه وآله شهادة أن لا إله إلا اللّه، وهی أنه لا معبود إلا اللّه، مع اعتراف المشرکین بأنّه تعالی خالق السموات والأرضین کما نطق به الکتاب المبین، حیث قال عزّ اسمه: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالاْءَرْضَ لَیَقُولُنَّ اللّه ُ»(1) إلی غیر ذلک من الآیات.

ومن البیّن بعد التصدیق بوجود المبدأ، أن النفس فی حدّ ذاتها قوّة محضة علی إدراک المعقولات التی هی کمالها، وأشرف الکمالات النّفسانیّة معرفة المبدأ بذاته وصفاته وأفعاله بالمقدار الممکن، فإن شرف کلّ علم وعقل بشرف معلومه ومعقوله، وأفضل موجود وأکمله المبدأ.

فمعرفة المبدأ أشرف کمال وفضیلة للنفس، وبها نورانیّتها وبها حیاتها، کما أنه بعدم المعرفة أو بها یضادّها ظلمانیّتها وموتها، والقرب الحاصل للجوهر النّفسانی من المبدأ صیرورته وجودا إضافیّا نوریّا للمبدأ، خصوصا إذا کان بنحو الشّهود الرّوحی، وبالأخص إذا فنی فی مقام الإستغراق فی اللّه الموجب لبقائه باللّه تعالی.

ص: 375


1- 1. سورة لقمان: الآیة 25.

فهذه المرتبة عین السّعادة والابتهاج بشهود المبدأ، کما أن عدمه عین البعد عن معدن النّور والتّخلد فی عالم الطّبیعة والحرمان عن ینبوع الحیاة. وبقیّة الکلام فی محلّه.(1)

المناقشة فیه

ولکنّ هذا البرهان یفید وجوب تحصیل جمیع العلوم الدینیّة علی المکلّفین، وهذا یستلزم اختلال النّظام، هذا نقضا. وأمّا حلاًّ، فإنه لا دلیل علی وجوب تحصیل الأشرف.

والإشکال الثالث أیضا مندفع، لأنّ التصدیق بوجود المنعم من مراتب شکر المنعم، وقد تقدّم نصّ کلام المحقق الإصفهانی فی ذلک.

وهذا تمام الکلام علی الاستدلال بوجوب شکر المنعم لوجوب المعرفة.

الإستدلال لوجوب المعرفة باحتمال الضّرر فی الترک

وقال فی الکفایة:

ولاحتمال الضّرر فی ترکه(2)

وتوضیحه:

أنا نحتمل وجود المبدأ، ونفی هذا الإحتمال غیرممکن، لأنّه یتوقّف علی

ص: 376


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 414 _ 415.
2- 2. کفایة الأُصول: 330.

الإحاطة بالوجود بتمامه والوصول إلی عدم وجود المبدء، والإحاطة غیرممکنة أوّلاً. وغیرواقعة ثانیا. علی أنه لو فرض، فلیس له أنْ ینفی وإنما یقول لا أعلم.

ثم إنّ احتمال وجود المبدء، یستتبع احتمال المؤاخذة علی عدم العلم بأحکامه والإمتثال لها، ودفع هذا العقاب المحتمل لازم عقلاً، فتجب معرفته عقلاً.

لکنّ وجوب معرفته عقلاً بهذا البرهان لیس نفسیّا، وإنما لدفع العقاب المحتمل.

إشکال المحقق الاصفهانی

فقال المحقق الإصفهانی فی الشرح: إما عطفٌ علی قوله: «لذلک» فیکون تعلیلاً لخصوص معرفة النبی والوصی علیهما السّلام، کما هو أقرب الوجهین. أو عطف علی قوله: «أداءً لشکر بعض نعمائه...» فیکون تعلیلاً لتحصیل المعرفة مطلقا، کما هو أبعد الوجهین، وإنْ کان صریح تعلیقته الأنیقة علی الرسائل هو الثانی.

والمراد بالضّرر، إن کان زوال النعمة وشبهه، کما علّل به وجوب الشکر فی کلماتهم، فهو فی حدّ ذاته لا یستلزم العقاب، بل غایة الضّرر المترقّب منه زوال النعمة وشبهه.

وإنْ کان المراد من الضّرر المحتمل فی ترک تحصیل المعرفة هو العقاب، فالعقل یستقلّ بدفعه.

لکنک عرفت فی هذا المبحث وفی المباحث المتقدّمة: أنْ لا بعث من العقل نحو ترکه ودفعه، ولا یندرج مثله تحت قاعدة التحسین والتقبیح العقلیین.

ص: 377

نعم، کلّ ذی شعور بالجبلّة والطبع لا یقدم علی العقاب _ مقطوعا کان أو محتملاً _ ومثله یکفی فی دعوته نحو تحصیل المعرفة.(1)

الجواب عنه

ویمکن الجواب عنه:

أوّلاً: إنّ الغرض إثبات وجوب تحصیل المعرفة، فلیکنْ عن طریق الجبلّیة، فإنه إنْ لم یکن أقوی من طریق العقل فلیس بأضعف منه.

وثانیا: إنه لا منافاة بین الجبلیّة وحکم العقل، أمّا کون المعرفة فطریّة، فلا کلام فیه، قال تعالی: «فَأَقِمْ وَجْهَکَ لِلدِّینِ حَنیفًا فِطْرَتَ اللّه ِ الَّتی فَطَرَ النّاسَ عَلَیْها».(2) وأمّا عقلاً، فقد ذکر المحقق الإصفهانی برهانا عقلیّا، وقد تقدّم نصّ کلامه.

ولیت هذا المحقّق استحضر کلام الإمام علیه السّلام مع الزندیق حول وجود الصّانع، إذ قال له: إنْ کان الحکم قولنا نجونا وهلکتم...(3)

وعلی الجملة، فإنّ الضّرر المحتمل هنا هو العقاب الشّدید، وما من عاقل إلاّ ویقول بلزوم دفع هذا الضّرر.

فهذا البرهان تام إلاّ أنه لا یفید الوجوب النفسی للمعرفة.

ص: 378


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 412.
2- 2. سورة الروم: الآیة 30.
3- 3. الکافی 1 / 78، باب حدوث العالم من کتاب التوحید.

کلام الکفایة فی معرفة النبیّ والوصیّ

وأمّا قول صاحب الکفایة: «... ومعرفة أنبیائه، فإنهم وسائط نعمه وآلائه، بل وکذا معرفة الإمام علی وجهٍ صحیح، فالعقل یستقل بوجوب معرفة النبی ووصیّه لذلک... ولایجب عقلاً معرفة غیر ما ذکر إلاّ ما وجب شرعا معرفته، کمعرفة الإمام علی وجهٍ آخر غیر صحیح...»

فقد أوضحه فی الحاشیة، إذ کتب علی «علی وجهٍ صحیح»: وهو کون الإمامة کالنبوة منصبا إلآهّیا یحتاج إلی تعیینه تعالی ونصبه، لا أنها من الفروع المتعلّقة بأفعال المکلّفین وهو الوجه الآخر.

أقول:

قد ذکرنا فی بحوثنا فی الإمامة: أنّ الذی علیه أصحابنا هو کون الإمامة کالنبوّة منصبا إلآهیا، وأنّ جماعة من أکابر العامّة کالقاضی البیضاوی قد تبعونا علی ذلک، وأوردنا هناک الأدلّة علیه من العقل والنقل بالتفصیل، وأبطلنا الوجه الآخر الذی علیه جمهور العامّة القائلین بأنّ نصب الإمام بید الناس وأنّ الإمامة من الفروع لامن الاصول.

إلاّ أن الکلام هنا فی وجه القول بوجوب معرفتهم، والذی نصّ علیه شیخنا دام بقاه أنّ کون النبیّ والوصیّ علیهما السّلام وسائط النعم الالآهیّة لایکفی للإستدلال علی وجوب معرفتهم بقاعدة وجوب شکر المنعم، لأن المنعم الحقیقی هو اللّه عزّوجلّ، ومعرفة النعمة تصورّا وتصدیقا تلازم معرفة المنعم کذلک، لأنّ «النعمة» حقیقة ذات إضافة، ولا یتحقّق هذا المفهوم تصورّا وتصدیقا إلاّ بالمنعم

ص: 379

والمنعم، وهذا بدیهی بالنسبة إلی معرفة اللّه عند کلّ إنسان وإنْ کان فی أدنی مراتب التمییز والإلتفات إلی وجود الکمالات الموجودة عنده، والتی یعلم بالقطع والیقین أنها ممّن هو لیس مثله فی الإمکان، وحینئذٍ یکون بصدد الشکر له بحکم عقله.

أمّا بالنسبة إلی النبی والوصیّ، فلیس الأمر کذلک، لأنهم وسائط، فیحتاج إلی إثبات کونهم وسائط، وأنه کما یجب معرفة المنعم کذلک یجب معرفة الواسطة، وقاعدة وجوب شکر المنعم غیر وافیة بذلک.

أقول:

صحیحٌ أنّ النبیّ والوصیّ مخلوقان للمنعم الحقیقی، وکلّ ما عندهم من نعمة فمن اللّه، لکنّا قد استظهرنا من الأدلّة أنهم لیسوا مجرّد وسائط، بل إنْ اللّه یعطیهم النعم علی وجه التملیک، وما یعطونه للغیر ویوصلونه إلیه فهو من ملکهم. ولکنْ لامجال لتفصیل المطلب هنا.

ثم ذکر الاستاذ تمامیّة الإستدلال لوجوب معرفتهم بحکم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، إذ لا ریب فی دخالة معرفتهم فی معرفة غرض الباری من الخلقة، علی ما تقدّم.

وکذلک یتمّ الإستدلال علی ذلک بکونهم علیهم السّلام العلّة الغائیّة من الخلقة، فیصدق علیهم عنوان «المنعم» من هذا الحیث، وهذا معنی «بیمنه رزق الوری و بوجوده ثبتت الأرض والسماء»(1) فیجب الشکر لهم بحکم العقل بوجوب شکر النعم.

ص: 380


1- 1. زاد المعاد: 423.

بین «العلم» و«الاعتقاد»

و قد وقع الکلام بین الأعلام فی معنی «العلم» و«الاعتقاد».

قال المحقق الخراسانی فی المراد من اصول الدین: المراد بها ما یقابل الفروع، وهی التی لایطالب فیها أوّلاً وبالذات إلاّ العمل وإنْ وجب الإعتقاد بها باطنا... ثم اعلم: إن المطلوب فی تلک المسائل الاصولیّة باطنا أو المرغوب فیها قلبا، لیس هو مجرّد العلم بها، بل لابدّ من عقد القلب علیها والإلتزام بها والتسلیم لها، غیرجاحدٍ إیّاها بعد استیقانها، وإلاّ لزم إیمان المعاندین من الکفار الذین کانوا یجحدون ما استیقنت به أنفسهم، کما قال اللّه تعالی: «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ»، بناءً علی أنّ الظاهر أنه لیس المراد الجحد والإنکار باللّسان بل عن إنکار قلبی وعناد باطنی، أو خصوص ذلک ولو لم یکن بالّلسان. هذا ما یعتبر فیها من فعل القلب...(1)

والظاهر من کلام الکفایة أیضا، هو التغایر، وانفکاک أحدهما عن الآخر. واستدلّ لذلک بوجوه:

ص: 381


1- 1. درر الفوائد: 168.

الأول: الوجدان. استدل به جماعة منهم المشکینی.

و الثانی: إنه إن کان الإعتقاد علما یلزم أن یکون الکفار والمعاندون معتقدین، لأنهم علماء، مع أنهم کفار ولیسوا بمؤمنین.

والثالث: قوله تعالی: «وَ جَحَدُوا بِها وَاسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ».

و قیل: العلم هو الإعتقاد.

و قیل: العلم صفة، والإعتقاد فعل نوری وجودی لا یقبل الإنفکاک عن العلم بل هما متلازمان.

والعلم عند بعضهم من مقولة الإضافة، وعند آخرین من مقولة الکیف، وعند ثالث من مقولة الإنفعال، وعند أصحاب الحکمة المتعالیة هو «الوجود» مصداقا، فیکون الإختلاف بین العلم والوجود مفهومیّا. واختاره المحقق الإصفهانی، ففی الوجود العلمی یکون العلم صورةً للنفس، والإعتقاد أمر وجودی صادر من النفس، وقد عبّر عنه الإصفهانی بأنه فعل نوری وجودی للنفس.

قال شیخنا: وهذا الرأی الأخیر أدقّ الأنظار، وتوضیحه:

إنّ حقیقة العلم هو الحضور، وهو ینقسم إلی الحضور المقیَّد وهو التصدیق والحضور الساذج وهو التصوّر، قال رحمه اللّه: «فإن صورة هذا ذلک فقط تصوّر محض، ونفس هذا ذاک عند النفس إقرار من النفس وتصدیق منها». وحاصله: إن العلم التصدیقی لاینفکّ عن الإعتقاد بل منهما تلازم: «فما من علم تصدیقی إلاّ ومعه إقرار النفس بأن هذا ذاک».

والعلم تارة: فعلی، واُخری: إنفعالی _ بمعنی تأثّر النفس من الخارج _

ص: 382

والأوّل مطابق دائما مع وجوه الخارجی، بخلاف الثانی. قال: «فعقد القلب وإن کان ربط الشئ¨ بالقلب بربط وجود نوری زیادةً علی الربط العلمی الذی بلحاظه یطلق الإعتقاد علی العلم الإنفعالی، بل هذا علم فعلی من منشآت النفس، ووجوده الواقعی عین وجوده العلمی، دون المعلوم بالعلم الإنفعالی، فإن وجوده الواقعی غیروجوده العلمی، إلاّ إن الإشکال فیه من حیث هذا المعنی من الإقرار النفسانی والعقد القلبی لازم دائمی للعلم التصدیقی المقابل للتصوّر، فکلّ علم تصدیقی ملزوم لهذا الفعل القلبی، فما معنی اعتباره زیادة علی العلم التصدیقی؟ وقد بیّنا ملازمته فی مبحث الطلب والإرادة.

وإذ ظهر الفرق بین العلم التصوّری والعلم التصدیقی، فإذا أردنا أنْ نجعل «الإیمان» فی مقابل «الإعتقاد» فلا بد من کون الاول أسما اعتباریا تشریعیا، لکنّ کلّ امر اعتباری فلابدّ من رجوعه إلی الذّاتی، لأنّ کلّ ما بالعرض ینتهی إلی ما بالذّات، وقد وجدنا أنّ التّصدیق ذاتا لاینفکّ عن الإعتقاد. نعم، لیس هو بل یلازمه.

ثمّ إنه أجاب عن شبهة أنّه: کیف یکون الکافر کافرا مع أنه معتقد ومتیّقن؟ بوجهین:

أحدهما: أنّ الوهم لسلطنة علی العقل یزیل الإعتقاد وآثاره، وهذا معنی الآیة المبارکة.

والثانی: أن الجحود کان باللّسان، والإستیقان کان فی النفس، والذی دعاهم إلی الجحود هو العناد، ولا أثر لهذا الإستیقان لکونه مقارنا مع العناد، فهم کفرة.

وقد سبق أن «الإیمان» هیئة نورانیة راسخة فی النفس، بحیث تکون نسبة النفس إلیها نسبة الهیولی إلی الصّورة المادیّة، وإذا تحقق هذا المعنی

ص: 383

استحق الإنسان الثواب والجنة، وفی مقابلها الهیئة الظلمانیّة التی یستحق بها العقاب والنار.

وتلک «الهیئة» تارة: تحصیل من التقلید، وحینئذٍ لیس الصدر منشرحا للإسلام، فهذه مرتبة من الإیمان، واخری: تحصل من التحقیق والبرهان، وهذه مرتبة ثانیة، ولذا لا یطلق «العارف» علی «المقلّد». وثالثة: تحصل بمکاشفات ومشاهدات بالإضافة إلی المرتبة الثانیة. ورابعة: یستغرق الشخص فی عظمة من آمن به. وهذه المرتبة أیضا لها مراتب، فالمرتبة الثانیة «علم الیقین» وبعدها «عین الیقین» و مرتبة الفناء «حق الیقین».

هذه خلاصة مطالب المحقق الإصفهانی قدّس سرّه.

وأقول:

إنه تعرّض إلی هذه المطالب فی ثلاثة مواضع: فی هذا المقام، وفی مبحث الموافقة الإلتزامیة، وفی مبحث الطلب والإرادة. وقد وجدنا کلماته متناقضة بأشدّ التناقض، فقال هنا: «فإن صورة هذا ذاک فقط تصور محض، ونفس هذا ذاک عند النفس إقرار من النفس وتصدیق منها بوجوب کون تلک الصّورة الإدراکیّة الملزومة له علما تصدیقیّا. وعلیه، فما من علم تصدیقی إلاّ ومعه إقرار النفس بأنّ هذا ذاک، فالإلتزام بعقد القلب والإلتزام النفسانی زیادة علی العلم والیقین فی باب الإیمان، لئلاّ یلزم محذور الإلتزام بإیمان الکفار الموقنین الجاحدین بما استیقتت به أنفسهم کما نطق به القرآن الکریم لایجدی شیئا...». فإذن، یوجد یقین ملازم مع الإقرار حتی عند الکفار «لما مرّ من أنّ الإرتباط بالربّط العلمی یصحح صدق عقد

ص: 384

القلب علیه» قال: «ویمکن أن یقال فی دفع الشبهة أیضا: بأن المراد من الجحود هو الجحود لسانا، لکنه باعتبار انبعاثه إلی رذیلةٍ باطنیّة، وهی معاندته للحق ومعاداته للرّسول صلی اللّه علیه وآله وسلّم تحفظا علی الجاه واستکبارا علی اللّه وعلی الرسول، ومن الواضح أن المعاند للحق باطنا والمعادی للرسول قلبا، محتجب عن الحق وعن نور الإیمان، فإن الإیمان بالبعض والکفر ببعض کالکفر المطلق، فکفر الجاحد غیر مستند إلی عدم تصدیقه جنانا، لمامرّ من ملازمته للعلم والیقین، ولا لعدم عقد القلب فرضا وبناءً لعدم الإهتمام بشأنه بعد عقد القلب حقیقةً وربطه واقعا بما اعتقد به، بل لمعاندته قلبا مع الحق ومعاداته باطنا مع الرسول، وهما موجبان للکفر والإحتجاب عن الحق وعن الرّسول. هذا قلیل من کثیر ممّا ینبغی بیانه. واللّه المستعان».(1)

وقال فی الطلب والإرادة بعد نقل کلام عن صدر المتألهین «فإن عقد القلب علی شئ¨ غیرالیقین. قال تعالی: «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ» فالإقرار والجحود النفسیّان أمر معقول یشهد به الوجدان، وإلاّ لزم الإلتزام بإیمان الکفّار الموقنین بالتوحید والنبوّة، أو جعل الإیمان الذی هو أکمل کمالات النفس مجرّد الإقرار باللّسان».(2)

وقال فی الموافقة الإلتزامیّة: «إن الفعل القلبی ضرب من الوجود النوری، والوجود فی قبال المقولات، وهذا الفعل قائم بالنفس قیاما صدوریّا، فهو من

ص: 385


1- 1. نهایة الدرایة 3 / 154.
2- 2. المصدر 1 / 112.

العلوم الفعلیّة دون الإنفعالیّة، ونسبة النفس إلیه بالتأثیر والإیجاد. وبالجملة، الأفعال القلبیّة أمور یساعدها الوجدان، فإن الإنسان کثیرا ما یعلم بأهلیّة المنصوب من قبل من له النصب، لکنه لاینقاد له قلبا ولا یقرّ به باطنا، لخباثة نفسه أو لجهة اخری، وإن کان فی مقام العمل یتحرک بحرکته خوفا من سوطه وسطوته. وهکذا کان حال کثیر من الکفار بالنسبة إلی نبیّنا صلّی اللّه علیه وآله، حیث أنهم کانوا عالمین بحقیّته کما نطق به القرآن، ومع ذلک لم یکونوا منقادین له قلبا ولا مقرّین به باطنا، ولو کان ملاک الإیمان الحقیقی نفس العلم التصدیقی لزم أن یکونوا مؤمنین به حقیقة، أو جعل الإیمان الذی هو أکمل کمالات النفس مجرّد الإقرار اللّسانی. وکلاهما ممّا لا یمکن الإلتزام به فافهم جیّدا».(1)

وأما جوابه قدّس سرّه عن الشبهة فغیر واف.

قال: الوهم یزیل أثر الیقین بل الیقین،

قلت: الوهم لا یزیل الیقین، فإن صاحب الوهم الغالب الجالس عند المیت یخاف منه لغلبة سلطان الوهم، ولکن إذا سئل أظهر یقینه بموته، وأنّه لایعود حیّا عادةً، فالیقین لایزیله الوهم، نعم یزیل أثره کما ذکر، فالکفار مؤمنون لکن غلبة الوهم ونحو ذلک أزالت أثر الإیمان وهو الإقرار باللّسان، وحیث لم یقرّوا ولم یرتبّوا الأثر علی إیمانهم فهم کافرون، قال اللّه تعالی: «الَّذینَ آتَیْناهُمُ الْکِتابَ یَعْرِفُونَهُ کَما یَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» فهم مع معرفتهم کافرون، بل هم بحسب الآیة المبارکة _ کفرة حتی قبل غلبة الوهم علی معرفتهم ویقینهم.

ص: 386


1- 1. نهایة الدرایة 2 / 26.

فالصّحیح فی فهم المطلب _ وهو هل الإیمان نفس المعرفة أو بینهما مغایرة _ هو النظر فی الآیات والرّوایات، فإنّها تدلّ علی أن الإیمان متقوّم بالإضافة إلی المعرفة بشئ¨ آخر. قال تعالی: «إِنَّ أَوْلَی النّاسِ بِإِبْراهیمَ لَلَّذینَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِیُّ وَالَّذینَ آمَنُوا وَاللّه ُ وَلِیُّ الْمُوءْمِنینَ»(1) وقال: «إِلاَّ الَّذینَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللّه ِ وَأَخْلَصُوا دینَهُمْ للّه ِِ فَأُولئِکَ مَعَ الْمُوءْمِنینَ وَسَوْفَ یُوءْتِ اللّه ُ الْمُوءْمِنینَ أَجْرًا عَظیًما»(2) قال: «وَالْمُوءْمِنُونَ وَالْمُوءْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَیُقیمُونَ الصَّلاةَ وَیُوءْتُونَ الزَّکاةَ وَیُطیعُونَ اللّه َ وَرَسُولَهُ أُولئِکَ سَیَرْحَمُهُمُ اللّه ُ إِنَّ اللّه َ عَزیزٌ حَکیمٌ * وَعَدَ اللّه ُ الْمُوءْمِنینَ وَالْمُوءْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْری مِنْ تَحْتِهَا الاْءَنْهارُ خالِدینَ فیها وَمَساکِنَ طَیِّبَةً فی جَنّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللّه ِ أَکْبَرُ ذلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظیمُ»(3) وقال: «وَالَّذینَ آمَنُوا بِاللّه ِ وَرُسُلِهِ أُولئِکَ هُمُ الصِّدِّیقُونَ».(4)

و یعتبر فی الإیمان الطاعة والتسلیم للرسول. قال تعالی: «فَلا وَرَبِّکَ لا یُوءْمِنُونَ حَتّی یُحَکِّمُوکَ فیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُوا فی أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمّا قَضَیْتَ وَیُسَلِّمُوا تَسْلیًما».(5)

فظهر: إن الإیمان هو الإعتقاد مع الإطاعة والإخلاص والتسلیم للّه ورسوله.

و فی الخبر: سألته عن قول اللّه عزّوجلّ «هُوَ الَّذی أَنْزَلَ السَّکینَةَ فی قُلُوبِ الْمُوءْمِنینَ» قال: هو الإیمان.

ص: 387


1- 1. سورة آل عمران: الآیة 68.
2- 2. سورة النساء: الآیة 146.
3- 3. سورة التوبة: الآیة 71.
4- 4. سورة الحدید: الآیة 19.
5- 5. سورة النساء: الآیة 65.

قال الرّاوی: سألته عن قول اللّه عزّوجلّ «وَأَیَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ».

قال: هو الإیمان.(1)

فلیس المعرفة وحدها سکینةً وروحا من اللّه.

و تلخّص:

إن الإیمان مرکّب من المعرفة والتصدیق والتسلیم.

والعلم غیر الإعتقاد، وأحدهما ینفکّ عن الآخر کما قال المحقّق الخراسانی.

والحاصل:

إنّ «الإیمان» هو «المعرفة» التی «عقد القلب» علیها، ویدلّ علی اعتبار عقد القلب علی المعرفة قوله تعالی «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا...» بناءً علی قولهم بأن «الجحد» فیها هو الجحد القلبی. لکنّ الجحود فی اللغة: إثبات ما فی القلب نفیه ونفی ما فی القلب إثباته.(2)

وفی الکافی فی روایةٍ، قسّم الکفر فیها إلی وجوه، ومنها: الکفر الجحودی، وهو علی قسمین: کفر الذین هم فی ریبٍ وشک، ینفون وجود الصّانع. وکفر آخر استدلّ له الإمام بالآیة.

ولا دلالة فی الخبر علی قولهم: بأنّ المراد من الجحد فیها هو الجحود القلبی، ففی الإستدلال بالآیة لما ذکر نظر.

ص: 388


1- 1. الکافی 2 / 15، بابٌ فی أنّ السکینة هیالإیمان، الرقم 1.
2- 2. مفردات ألفاظ القرآن: 187.

بقیت بحوث

1. حکم الجاهل بما یجب معرفته؟

إن کان جهله عن تقصیر فهو معاقب، وإن کان عن قصور _ والمفروض وجود الجاهل القصوری بالمبدء والمعاد والنبوة _ فلا یستحق العقاب، کما لا یخفی.

و هل یجوز للجاهل إنکار ما یجهله؟

قد یقال بالجواز، لعدم قیام الدلیل علی المنع من إنکار ما لم یقم دلیل علی ثبوته.

لکنّ الصحیح هو العدم، فکما لا یجوز الإقرار لا یجوز الإنکار، لأنّ کلاًّ منهما یتوقف علی العلم وقد قال تعالی «وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ».

2. هل أدلّة الظنّ الخاصّ تفید اعتباره فی المسائل الاعتقادیة؟

إنه مع عدم العلم وحصول الظن الإنسدادی، فإنّ مقدّمات الظنّ الإنسدادی قائمة علی الأحکام العملیة لا الإعتقادیّة، والنتیجة علی الحکومة هی الإحتیاط. ولو جرت المقدمات فی الإعتقادیات أیضا لکانت النتیجة الإحتیاط، وهو یتحقق بالإعتقاد بالواقع علی ما هو علیه، ولا یجوز الأخذ بالظنّ. وأما علی الکشف، فالنتیجة هی اعتبار الظن فی الأحکام العملیّة.

3. حکم الظنّ فی القضایا التاریخیّة

هل للظنّ اعتبار فی القضایا التکوینیّة والتاریخیّة وسایر القضایا التی لا أثر شرعیّ لها؟

أمّا إنْ کان للقضیّة أثر شرعی، فإنّ الظنّ الخاصّ أو الإنسدادی معتبر

ص: 389

بلاکلام، أمّا حیث لا أثر شرعیّ، فإنّ الظن الإنسدادی غیرمعتبر، ولیس للعالم الإنسدادی الإخبار عن شئ¨ من الوقائع التاریخیّة وغیرها.

وأمّا الظنّ الخاصّ:

فعلی القول بالمنجزیّة والمعذریّة، فلا، لأنّه لاتنجیز وتعذیر فی القضایا والحوادث التاریخیّة.

وعلی القول بجعل الحکم المماثل، کذلک، إذ لا یعقل جعل الحکم المماثل فی القضایا التاریخیّة، لعدم کونها ذات أحکام.

وعلی القول بجعل المودّی، فإنّ مفاد الأدلّة هو واقعیّة ما أخبر عنه الثقة، لکنّ المجوّز للإخبار _ بناءً علی هذا المبنی _ لیس الواقع بل هو إحراز الواقع، فقول الإمام علیه السّلام: ما أدّی فعنیّ یؤدی، معناه أن ما أخبر به زرارة واقع، لکنّ الإخبار عن ذلک یتوقف علی إحرازه. أللهم إلاّ أنْ یدّعی الملازمة العرفیّة بین جعل المؤدّی بمنزلة الواقع وجعل ما یقوله زرارة _ مثلاً _ بمنزلة الواقع، بأنْ یقال: بأن أهل العرف یفهمون من تنزیل کلام الراوی بمنزلة کلام الإمام أنّ المؤدّی علم وهو مطابقٌ للواقع.

وعلی القول بالطریقیّة وأنّ الشارع جعل خبر الثقة کاشفا عن الواقع، یجوز الإخبار عن القضایا التاریخیّة، ولمّا کان الدلیل العمدة علی حجیّة خبر الثقة هو السّیرة العقلائیّة الممضاة من قبل الشارع، فإنّ العقلاء لایفرّقون بین موارد إخبار الثقة.

ص: 390

جبر الخبر الضّعیف بالعمل وکسر المعتبر بالإعراض

اشارة

وهذا البحث مهمٌ جدّا، ویترتّب علیه الأثر الکبیر علما وعملاً، فنقول:

لایخفی أنّ کلّ خبرٍ یراد الاستدلال به واستنباط الحکم منه لابدّ وأنّ تتوفّر فیه ثلاث جهات:

1. أنْ یکون السّند معتبرا.

2. أنْ تکون الدلالة تامّةً.

3. أن لایکون الخبر صادرا عن التقیّة.

فإنْ لم یکن الخبر معتبرا سندا، فهل یجبر ضعفه بعمل المشهور من قدماء الأصحاب، والمفروض عدم اعتبار الشهرة الفتوائیّة، أوْلا؟ ولو کان معتبرا، فأعرضوا عنه لسببٍ فی الأسباب وأفتوا علی خلافه، هل یسقط عن الاعتبار أوْلا؟

وإنْ کانت الدلالة مخدوشةً، فهل عمل المشهور بها یوجب تمامیّة الدلالة؟ ولو کانت تامّةً، فهل قیام الشهرة الفتوائیّة علی خلافها یوجب الوهن فی دلالتها؟

ولو وقع التعارض بین خبرین معتبرین سندا ودلالةً ولا مرجّح لأحدهما علی الآخر بحسب المرجّحات المنصوصة، فهل قیام الظنّ علی طبق أحدهما یوجب ترجّحه علی الآخر أوْلا، ولا یخفی أنّ المراد من «الظن» لیس الظنّ

ص: 391

الممنوع کالقیاس، بل الظن الذی قام الدلیل علی اعتباره، وإلاّ، فإنّ الأصل فی الظنون عدم الإعتبار، کما لا یخفی أن ذکر الشهرة الفتوائیّة هو من باب المثال، وإلاّ فإنّ المقصود هو الظنّ.

ولذا قال فی الکفایة فی عنوان البحث: الظن الذی لم یقم علی حجیّته دلیل، هل یجبر به ضعف السند أو الدلالة بحیث صار حجةً ما لولاه لما کان بحجّة، أو یوهن به ما لولاه علی خلافه لکان حجةً، أو یرجّح به أحد المتعارضین بحیث لولاه علی وفقه لما کان ترجیح لأحدهما أو کان للآخر منهما أم لا؟ ومجمل القول فی ذلک: إنّ العبرة فی حصول الجبران أو الرجحان بموافقته هو الدخول بذلک تحت دلیل الحجیّة أو المرجحیّة الراجعة إلی دلیل الحجیّة، کما أنّ العبرة فی الوهن إنما هو الخروج بالمخالفة عن تحت دلیل الحجیّة...(1)

مختار صاحب الکفایة

ثم إنه اختار جبر ضعف السند فی الخبر بالظنّ بصدوره أو بصحّة مضمونه، وعدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد، وعدم وهن السند بالظن بعدم صدوره، وعدم وهن الدلالة إلاّ فیما کشف بنحوٍ معتبر عن ثبوت خللٍ فی سنده أو وجود قرینةٍ مانعةٍ عن انعقاد ظهوره فیما فیه ظاهر لولا تلک القرینة.

قال: وأمّا الترجیح بالظن، فهو فرع دلیل علی الترجیح به ولم یقم دلیل بالخصوص علی الترجیح به، وإنْ ادّعی شیخنا العلاّمة أعلی اللّه مقامه استفادته من

ص: 392


1- 1. کفایة الأُصول: 332.

الأخبار الدالة علی الترجیح بالمرجّحات الخاصّة.

قال: ومقدّمات الإنسداد فی الأحکام إنما توجب حجیّة الظن بالحکم أو بالحجّة لا الترجیح به ما لم یوجب ظن بأحدهما، ومقدّماته فی خصوص الترجیح لوجرت إنما توجب حجیّة الظنّ فی تعیین المرجّح لا أنه مرجّح إلاّ إذا ظنّ أنه أیضا مرجح.

وأمّا ما قام الدلیل علی المنع عنه کالقیاس، فلا یکاد یکون به جبر أو وهن أو ترجیح، وذلک لدلالة دلیل المنع علی إلغائه الشارع رأسا وعدم جواز استعماله فی الشرعیّات قطعا.

هذا، وظاهر قوله فی حاشیة الرسائل: الملاک عبارة عن الوثوق بالخبر ولا عبرة بوثاقة المخبر، هو أنّ المراد من «الظن» هو «الوثوق». ولکنّ لم یبیّن هل المقصود هو الوثوق الشخصی أو النوعی.

النظر فی کلامه

ویناقش فیما ذهب إلیه رحمه اللّه فی الکفایة:

أوّلاً: إنّه قال بأنَّ الظنّ یوجب الجبر، وإنْ نفی ذلک فی أربعة مواضع. فیرد علیه: إنّ الظنّ الذی لم یقم دلیل علی اعتباره بالخصوص لیس له اعتبار کالظنّ الذی قام الدلیل علی عدم اعتباره کالقیاس، فلماذا التفریق بینهما؟

وثانیا: إنّ ضمّ الظن بما هو ظنٌّ إلی الخبر غیرالمشمول لدلیل الاعتبار، کیف یفید له الاعتبار؟

ص: 393

وثالثا: إنّه لا فرق بین مقامی الجبر والوهن، فالقول بأنّ الظنّ بالصّدور وبالمضمون یوجب اندراج الخبر تحت ما یوثق بصدوره، أمّا الظنّ بالخلاف فلا یخرجه من تحت ما یوثق بصدوره، بلا وجهٍ.

مختار المیرزا

وأمّا المحقق النائینی، فملخّص کلامه(1) هو:

1. هل حجیّة الظواهر من حیث الدلالة وحجیّة الخبر یثبتان بالظنّ غیرالثابت حجیّته، کقول اللغوی أو الرجالی أمْ لا؟ فقال: الحق هو التفصیل. لأنّ الحجّة من حیث السند لیس إلاّ الخبر الموثوق بصدوره، ومن التعدیلات الرجالیّة یحصل ذلک، فیدخل الخبر فی موضوع الحجیّة وجدانا، فالعمل به لیس من جهة حجیّة قول الرجالی، إذ المفروض عدم ثبوت حجیّته، بل من جهة اندراج الخبر به فی موضوع الحجیّة.

وأمّا الحجیّة من حیث الدلالة، فموضوعها کون اللّفظ ظاهرا فی المعنی، وقول اللغوی المفروض عدم حجیّته لا یوجب ظهورا فی اللّفظ.

2. هل الشهرة یجبر بها ضعف الدلالة أو السّند؟ قال: الحق هو التفصیل. وذلک: لأنّ الشّهرة إمّا روائیّة أو عملیّة استنادیّة أو فتوائیّة مطابقیّة.

أمّا الشهرة الروائیّة، فلا ریب أن کثرة روایة أصحاب الأئمة لروایةٍ معیّنةٍ ولو کان فی سندها من لایوثق به، توجب الظنّ الإطمینانیّ باحتفافها بقرینة أوجبت

ص: 394


1- 1. اُجود التقریرات 3 / 276 _ 280.

الشّهرة بینهم _ لقرب عهده من زمان صدورها _ وذلک یوجب الوثوق بصدورها فتکون بذلک حجةً.

وأمّا الشهرة الإستنادیّة بین القدماء مع کون الرّوایة ضعیفةً فی نفسها، فتکشف بحسب العادة عن إطلاّعهم علی قرائن أوجبت اطمینانم بصدورها حتی أصبحت مدرکا لفتواهم. فلا محالة تکون الروایة بذلک داخلةً فیما یوثق بصدوره فیشملها دلیل الحجیّة.

وأمّا الشهرة الفتوائیّة المطابقیّة، حیث اشتهرت الفتوی علی طبق روایةٍ من دون استنادٍ لهم إلیها فی الفتوی، فلا تکشف عن ذلک، فلا توجب الوثوق بالصّدور فالحجیّة.

هذا کلّه بحسب السند.

وأمّا بحسب الدلالة، فحیث إن موضوع الحجیّة من هذه الحیثیّة هو کون الّلفظ بنفسه ظاهرا فی المعنی فیستحیل تحقّق ذلک بالشهرة الخارجیّة.

لایقال: الشهرة الإستنادیة لا تعلم إلاّ من کتب الإستدلال، ولکنّ الإستدلال فی کتب القدماء نادر جدّا، فما هو الجابر غیرمتحقّق، وما هو متحقق _ وهو الاستدلال فی کتب المتأخرین _ غیرجابر.

لأنه إذا علم فتوی القدماء من کتبهم ولم تکن الفتوی موافقةً لأصلٍ أو قاعدة، ولم یکن علیها دلیل واضح فی کتب الأخبار غیر الروایة التی یحتمل إستنادهم إلیها، فلا محالة تطمئن النفس باستنادهم فیها إلیها.

3. هل أن اشتهار الفتوی بخلاف ما هو حجة فی نفسه، یوجب وهنا فی السند أو الدلالة أمْ لا؟

ص: 395

أمّا بحسب السّند، فلا ریب فی أنّ إعراض المشهور عن روایةٍ صحیحةٍ وفتواهم بخلافها، یوجب الوثوق باطّلاعهم علی خللٍ فی الروایة من حیث الصدور أو جهة، فتخرج بذلک عمّا یوثق بصدوره لبیان الحکم الواقعی، فلا تکون حجةً. لکنّ ذلک مشروط: بکون الشهرة قدمائیّةً، وبکون الروایة بمرأیً ومسمع حیث یثبت إعراضهم عنها، وبأنْ لا تکون فتواهم علی الخلاف من جهة عدم وثاقة الروایة عندهم.

وأما من حیث الدلالة، فالذی اخترناه سابقا هو عدم موهنّیة اشتهار الخلاف للظهور، ولکنّ الإنصاف عدم استقامة ذلک، إذ کون الظهور بمرأیً ومسمعٍ من القدماء وعدم اعتمادهم علیه بل فتواهم بخلافه، یوجب الظن الإطمینانی باطّلاعهم علی قرینةٍ توجب إرادة خلاف الظاهر.

النظر فی کلامه

ویتوجّه علی کلامه وجوه:

الأوّل: إنّ صریح کلامه عدم حجیّة تعدیلات الرّجالیین، وحینئذٍ، کیف یکون تعدیلهم موجبا للوثوق بصدور الروّایة؟ إذا کان تعدیل الرجالی مع عدم حجیّته لکونه إخبارا عن الموضوع _ و خبر الواحد الثقة فی الموضوعات لیس بحجّةٍ _ یستلزم الوثوق بالصّدور، فتخصیص ذلک بهذا المورد بلاوجهٍ، وهذا یکشف عن عدم الملازمة. فالحق: دوران الأمر مدار الوثوق بصدور الروایة حتی تشملها أدلّة الاعتبار. فإطلاق القول بأنّ تعدیلاتهم مع عدم حجیّتها توجب الوثوق بالصّدور، غیرصحیح.

ص: 396

والثانی: إنّ ما ذکره من أنّ الشهرة الرّوائیة للروایة توجب الظنّ الإطمینانی باحتفافها بقرینةٍ، لایختص بإخبار أصحاب الأئمة عنهم علیهم السلام، فهو منقوضٌ بمالو أخبر جماعة ضعفاء عن خبر أو قضیّةٍ، فیلزم الوثوق بذلک، وهذا مما لایلتزم به. هذا أوّلاً.

وثانیا: سلّمنا، لکنّ الروایة الضعیّفة المعیّنة التی رواها الکلینی والصّدوق والشیخ فکانت مشهّرةً بین العلماء، فإنّ هذه الشهرة لاتکشف عن وجود القرینة الموجبة للوثوق، إذ من المحتمل قریبا أنهم إنما أوردوا الروّایة فی کتبهم لغرض جمع روایات الأئمة وضبطها وحفظها من الضّیاع، ومع هذا الإحتمال، لا یحصل الوثوق بالصّدور.

وثالثا: سلّمنا، ولکنْ من أین یثبت أنّ القرینة تلک لو وصلت إلینا أفادت الوثوق بالصّدور لنا؟

والثالث: إنّ ما ذکره فی الشهرة الإستنادیة، یرد علیه ما ورد علی ما ذکره فی الشهرة الفتوائیّة، وخاصّةً ما ذکرناه من أنّ من المحتمل قویّا أن تلک القرینة المزعومة لو وصلت إلینا ما کانت مقبولة عندنا.

محتملات الحجیّة

وبعد، فلنذکر أوّلاً محتملات الحجیّة فی مقام الثبوت، ثم ننظر فیها بلحاظ مقام الإثبات. وهی تسعة:

1. أن یکون الظن الشخصی حجّة، والخبر حجةٌ لکونه مفیدا للظن الشخصی.

ص: 397

2. أن یکون الظن النوعی حجّة، وخبر الثقة حجّة لإفادته الظن النوعی.

3. أن یکون موضوع الحجیّة هو «الوثوق الشخصی»، ومتی أفاد الخبر ذلک فهو حجّة.

4. أن یکون موضوع الحجیّة هو «الوثوق النوعی»، ومتی أفاد الخبر ذلک فهو حجّة.

5. خبر الثقة المفید للظن الشخصی حجّة.

6. خبر الثقة المفید للوثوق الشخصی حجّة.

7. الخبر المفید للظن النوعی حجّة.

8. خبر الثقة حجّة مطلقا، بقطع النظر عن الظن والوثوق.

9. الخبر المفید للوثوق النوعی حجّة.

أمّا فی مقام الإثبات:

فالأوّل باطل.

و أمّا الثانی _ وهو أن یکون المعتبر هو «الظن النوعی» وکلّما أفاده فهو حجة _ فهو الوجه المذکور فی أغلب الکلمات، ویستدلّ له بالسیّرة العقلائیّة، بل یمکن دعوی إنصراف أدلّة النهی عن اتباع الظن عن مثله.

لکنّ قیام السیّرة علیه أوّل الکلام، والإنصراف غیر تام...

فلا دلیل علی اعتبار الظن النوعی.

و أما الثالث، ففیه: إنه وإن کان الوثوق الشخصی حجةً، لکونه علماً عرفیّا عند العقلاء، وسیرتهم علی ذلک غیر مردوعة، لکنّ البحث فی الخبر،

ص: 398

والظن والوثوق الشخصیّان خارجان عن البحث. علی أنّ الظنّ لا اعتبار به للأدلّة الناهیة.

و أمّا الرابع، فقد ذهب إلیه بعضهم، لکن فیه: أنه لا دلیل علی لزوم متابعة الشخص للنوع فی الوثوق الحاصل لهم مع عدم حصوله للشخص، بل إن أدلّة النهی عن العمل بغیر علمٍ تمنعه عن المتابعة. اللهم إلاّ إذا کان الوثوق بحیث یحتج به العقلاء ویستغربون من عدم حصوله للشخص.

و أمّا الخامس _ وهو أن یکون الموضوع للحجیّة نفس الخبر لکن بقید إفادته للظن الشخصی _ فلا دلیل علیه فی مقام الإثبات، لا من الأدلّة اللّفظیة ولا من السّیرة العقلائیة.

و أمّا السّادس، فلا کلام فی صحّته، لکن الوثوق الشخصی علم عرفی وهو حجّة للسّیرة العقلائیّة، فیعمل بالخبر من هذا الباب لا من جهة أدلّة الإعتبار، ومع قطع النظر عن السّیرة، فإنّ الخبر المفید للعلم العرفی هو القدر المتیقن من الأدلّة.

و أما السّابع، ففیه: إن الظن النوعی لا دلیل علی اعتباره، وأمّا نفس الخبر، فلا دلیل علی حجیّة الخبر المفید للظنّ النوعی، لا من السیّرة ولا من الأخبار.

و أمّا الثامن _ وهو أن یکون موضوع الحجیّة خبر الثقة بمقتضی الروایات من «العمری وابنه...» و«لا عذر لأحدٍ...» ونحوهما، وهی غیر مقیّدةٍ بإفادة الظن أو الوثوق مطلقا. وحینئذٍ، لا یکون للعمل والإعراض أثر، لأنّ موضوع دلیل الإعتبار هو خبر الثقة بحسب الفرض.

ص: 399

لکنّ هذا الإحتمال یتوقف تمامیّته علی کون الأخبار هی دلیل الإعتبار، وعلی کونها تأسیسیّةً. وأمّا بناءً علی کونها إمضائیّة، فاللاّزم إثبات السیّرة علی حجیّة خبر الثقة مطلقا. لکنّها قائمة علی اعتبار خبر الثقة المفید للوثوق النوعی، بحیث أن العقلاء لا یعتنون معه باحتمال الخلاف. فثبت:

الإحتمال التاسع. وهو حجیّة خبر الثقة المفید للوثوق النوعی.

الأقوال فی المسألة

الأول: الجبر والکسر معا

هذا، وقد ذهب المشهور إلی أن عمل المشهور بالخبر غیرالمعتبر جابر له وإعراضهم عن الخبر المعتبر کاسر، والأصل فی ذلک هو احتمال القرینة الموجبة للجبر أو الوهن، کما یظهر من کلمات کثیر من الأساطین، کالمحقّق فی المعتبر، والشهید فی الدروس، والسید ابن طاووس فی فلاح السّائل، والبهائی فی مشرق الشمسین، والوحید البهبهانی فی تعلیقة الرجال الکبیر، والفیض الکاشانی فی الوافی، وصاحب المعالم فی المنتقی وغیرهم.

الثانی: لاجبر ولاکسر

وذهب السیّد الخوئی إلی أنّ عمل المشهور بالخبر غیرالمعتبر لایجبره، وإعراضهم عن الخبر المعتبر لایکسره.

وقد تبعه غیر واحدٍ من تلامذته.

ص: 400

والثالث: الجبر نعم والکسر لا

وذهب صاحب الکفایة رحمه اللّه إلی أنّ عملهم جابر، وأمّا إعراضهم فغیر کاسر.

التحقیق: عکس الثالث

وإلیه ذهب شیخنا الاستاذ والشهید الصدر، وهو المختار. وبیان ذلک فی ثلاث جهات:

الجهة الاُولی: فی جبر السّند وکسره

وللتحقیق فی المقام ننظر:

أوّلاً فی کلمات شیخ الطّائفة قدّس سرّه فی کتبه:

أمّا فی کتاب العدّة،(1) فذکر أنّ الخبر إنْ کان موافقا لأصلٍ عقلیٍ، فإنّه یؤخذ به للوثوق به حینئذٍ.

والأصل العقلی فی الأشیاء عند القدماء، إمّا أصالة الحظر کما علیه جماعة، وإمّا أصالة الإباحة کما علیه آخرون، وإمّا الوقف، وعلیه الشیخ نفسه.

وإذا کانوا یثقون بالروایة من جهة کونها موافقة للأصل، ونحن نخالفهم فی ذلک الأصل العقلی، فکیف یکون عملهم بالروایة جابرا لضعفها لنا؟

ص: 401


1- 1. العدّة فی الأُصول 1 / 143.

وأمّا فی الإستبصار،(1) فقد جعل ممّا یفید العلم بصدور الروایة کونها موافقةً لدلیل الکتاب أی لظاهره، وکذا إذا کان موافقا لفحوی الخطاب، أو کان موافقا لظاهر السنّة القطعیّة.

ولکنّ غایة ما یفید ذلک هو الظنّ بالصّدور أو الوثوق، أما العلم، فمن أین؟

علی أنّ الخبر الذی لیس بحجّةٍ کیف ینقلب حجّةً بالموافقة لظاهر الکتاب أو السنّة؟ ألیس فی الأخبار المکذوبة ما هو موافق لظاهر أحدهما؟

ثم یقع الکلام فی صغری الموافقة، ومع الخلاف بیننا وبین الشیخ فی ذلک کیف یتحقّق الجبر؟ مثلاً: الشیخ یری صیغة الأمر حقیقةً فی الوجوب لغةً وشرعا، ویری دلالته علی الفور، ودلالة النهی علی الفساد، ونحن مخالفون له فی هذه وفی غیرها، فکیف یکون عمل الشیخ جابرا للضعف لنا؟

وذهب الفیض الکاشانی(2) إلی أنّ تکرّر الروایة فی الاصول الأربعمائة یوجب إندراجها فی الأخبار المعتبرة، وقد اعتمد المحقق الخراسانی أیضا هذا الوجه.(3)

وهذا الوجه أضعف من سابقه کما لایخفی.

وذکر الشهید فی الذکری(4) وجها آخر، قال: بأنّ قدماء الأصحاب کانوا إذا

ص: 402


1- 1. الاستبصار 1 / 3 _ 4، خطبة المؤلّف.
2- 2. الوافی 1 / 22.
3- 3. درر الفرائد: 122.
4- 4. ذکری الشیعة 1 / 51: «وقد کان الأصحاب یتمسکون بما یجدونه فی شرائع الشیخ أبیالحسن بن بابویه _ رحمة اللّه علیه _ عند إعواز النصوص؛ لحسن ظنّهم به وانّ فتواه کروایته».

أعوزوا النصّ فی المسألة یأخذون بفتوی الصّدوق الأوّل ویجعلونها بمثابة النصّ.

ولکنّ احتمال اعتماد الصّدوق الأول علی الأخبار الضعیفة الموافقة للاصول والقواعد العقلیّة _ کما ذکر الشیخ فی العدّة _ موجود ولا دافع له. وهذا یکفی لسقوط هذا الوجه.

وتلخّص:

إنه لا وجه صحیح لجابریّة عمل الأصحاب لضعف الخبر.

ولکنّ الحق أنه لا یعتبر فی الوثوق بصدور الخبر والعمل به صحّة سنده بحسب الإصطلاح، فلا یتوقف العمل بالخبر علی توثیق النجاشی والشیخ لروایة _ کما علیه السید الخوئی ومن تبعه _ وإنما یحصل الوثوق بالصّدور من قرائن وامور اخری. فمثلاً: قد أکثر الکلینی فی اصول الکافی _ الذی ألّفه فی زمن سفراء الإمام علیه السّلام ووضعه لیکون مرجعا للشیعة فی عقائدهم ومعارفهم _ من الروایة عن المعلّی بن محمد، فروی عنه فی أبواب التوحید وصفات الباری والنبوّة والإمامة، فنحن نثق بروایاته هذه للخصوصیّات المذکورة، من غیر احتیاجٍ إلی توثیق النجاشی وغیره.

وأیضا، کم من خبرٍ ضعیفٍ سندا بحسب الإصطلاح ولکنّ الوثوق بصدوره حاصل لمن له اُنسٌ بکلمات أهل البیت ومعارفهم، فحدیث اللّوح عن جابر بن عبداللّه الأنصاری _ مثلاً _ ضعیف ب_«بکر بن حبیب»، ولکنّا نقطع بصدور هذا الخبر، لاشتماله علی دقائق وحقائق لایبقی معها مجالٌ للتأمّل فی قطعیّة صدوره.

ص: 403

ولما ذکرنا نظائر کثیرة جدّا.

هذا کلّه بالنسبة إلی الجبر.

وأمّا بالنسبة إلی الوهن بالإعراض، فنقول:

إن کان المدرک لحجیّة الخبر هو الأخبار، فمقتضی القاعدة هو عدم کسر إعراض المشهور للخبر الصحیح، إلاّ أن یکون کاشفا عن الجرح العملی، فیتعارض الجرح حینئذٍ مع التوثیق الرجالی، فإما یتساقطان، وإما یتقدّم جرح المشهور علی توثیق النجاشی مثلاً.

و إن کان المدرک لحجیّة الخبر ودلیل اعتباره هو السیّرة والأخبار إمضائیّة، أو قلنا بأن الإعراض لیس جرحا عملیّا، فلا یوهن إعراض المشهور الخبر الصحیح.

و التحقیق: إن الأخبار إمضائیّة، والمرجع هو السیّرة العقلائیّة العملیّة، والعقلاء إذا حصل الظنّ علی خلاف الخبر یترکون العمل به ولا یذمّون التارک له إن کان الرواة له ثقاة... هذه هی سیرتهم، ولو شک فی ثبوتها، فالقدر المتیقّن من عملهم بالخبر هو حیث لا یکون الظن علی خلافه.

فظهر: أن الصّحیح هو التفصیل بین الجبر والکسر، وهو مبنیّ علی کون السیّرة هی دلیل الإعتبار للخبر.

هذا کلّه بالنسبة إلی السّند جبرا أو کسرا.

ص: 404

الجهة الثانیة: فی جبر وکسر الدلالة

وأمّا بالنّسبة إلی الدلالة.

فالمشهور هو العدم من الطرفین، لأنّ الموضوع للحجیّة عبارة عن «الظهور»، وهو قالبیّة اللّفظ للمعنی عند العرف، وعمل المشهور لا یجعل غیر الظاهر ظاهرا، ولا إعراضهم یجعل الظاهر غیر ظاهر، إلاّ إذا أفاد العمل أو الإعراض الوثوق بقرینةٍ حافّة بالکلام ظهرت لهم وخفیت علینا.

والتحقیق هو التفصیل کذلک، لأن العمل لا یجبر الدلالة کما ذکر، لکنّ الإعراض إن أفاد الظن بالخلاف یؤثر، لأن الدلیل علی اعتبار الظهورات وحجیّتها هو السیّرة العقلائیّة، والظاهر الذی قام الظن علی خلافه غیر معتبر عندهم.

و قیل: بالتفصیل بین ما إذا ارید من الظاهر الکشف عن المراد، فمع الظنّ بالخلاف لا ینکشف، وارید الإحتجاج والإعتذار بالظاّهر، فإنّه یحتجّ ویعتذر به حتی مع الظن بالخلاف.

و فیه: إنه إذا کان المولی یعلم بوجود المظنّة علی الخلاف عند العقلاء، لزم علیه الإفهام وإلاّ لم یجز له المؤاخذة علی المخالفة. نعم، علی العبد إثبات وجود المظنّة علی الخلاف. فإذن، لا فرق بین مقامی الکشف عن المراد والإحتجاج والاعتذار.

الجهة الثالثة: فی الترجیح بالشهرة مثلاً وعدمه

و هذا البحث یرتبط بمباحث التعادل والتراجیح. وخلاصة الکلام هنا هو:

إنّ الشهرة الفتوائیّة ونحوها ظنّ لم یقم الدلیل علی اعتباره، وإذا سقط

ص: 405

الدلیلان عن الإعتبار بالتعارض _ لعدم شمول الأدلة لکلیهما، وشمولها لأحدهما ترجیح بلا مرجّح _ وجب الرجوع إلی ما عیّنه الشارع، ولا مرجعیّة لما لا اعتبار به، بل الدلیل قائم علی عدم اعتباره.

هذا بناءً علی القول بسقوط المتعارضین.

و أمّا علی القول بأنّ الخبرین إذا تعارضا فأحدهما لا علی التعیین هو الحجّة، کما علیه الخراسانی أو القول بالتخییر، فلا موضوع للترجیح، حتّی یبحث عن صلاحیّة الشهرة مثلاً لذلک وعدمها.

هذا تمام الکلام فی مباحث الظنّ.

و یقع الکلام فی الاصول العملیة إن شاء اللّه.

ص: 406

الفهرس

الأمارات ··· 7

حجیّة الظّهورات ··· 9

الظّهور ··· 11

المقام الأوّل فی مطلق الظواهر ··· 12

الجهة الأُولی ··· 12

الجهة الثانیة ··· 14

الجهة الثالثة ··· 15

المقام الثانی فی تفصیل المیرزا القمّی ··· 21

توجیه الشیخ ··· 22

جواب الشیخ ··· 24

ص: 407

النظر فی ذلک ··· 25

أجوبة المتأخرین عن التفصیل ··· 26

کلام المحقق الخراسانی ··· 26

کلام المحقق الهمدانی ··· 27

کلام المحقق النائینی ··· 27

کلام المحقق الإصفهانی ··· 29

النظر فی أجوبة المتأخرین ··· 32

کلام السیّد الاستاذ ··· 37

المقام الثالث فی تفصیل الأخباریین ··· 38

ما یستدلّ لهذا التفصیل ··· 39

تکمیلٌ ··· 49

حجیّة قول اللّغوی ··· 53

کلام المحقق الخراسانی ··· 55

ما یستدلّ به لحجیّة قول اللغوی ··· 56

وجوه أُخری للحجّیة ··· 58

الکلام علیه ··· 59

ص: 408

الوجه الثانی ··· 61

الکلام علیه ··· 61

تنبیه ··· 64

والتحقیق: ··· 66

تعارض قول اللّغویین ··· 67

فائدة الرجوع إلی اللغة ··· 68

الإجماع ··· 71

الإجماع المحصّل ··· 74

دلیل الحجیّة عند العامّة ··· 75

دلیل الحجیّة عند الإمامیّة: الکاشفیّة ··· 77

وجوه کاشفیّة الإجماع عن رأی المعصوم ··· 77

الوجه الأوّل ··· 77

الوجه الثانی ··· 77

الوجه الثالث ··· 78

الوجه الرابع ··· 79

کشف الاجماع عن الدلیل المعتبر؟ ··· 80

الکلام علیه ··· 80

ص: 409

الاجماع المنقول ··· 83

تنبیهات ··· 89

التنبیه الأوّل فی ندرة الإجماع ··· 89

التنبیه الثانی فی الکلام فی إجماعات السیّد والشیخ قدّس سرّهما. ··· 90

التنبیه الثالث فی الإجماع البسیط والمرکّب ··· 96

التنبیه الرابع فی تعارض الإجماعین ··· 97

التنبیه الخامس فی نقل التواتر ··· 99

الشهرة الفتوائیّة ··· 105

ما یستدلُّ به لحجیّة الشهرة الفتوائیّة ··· 107

الأول ··· 107

والثانی ··· 108

والثالث ··· 108

والرابع ··· 109

والخامس ··· 109

والسادس ··· 110

ص: 410

خبر الواحد ··· 113

تمهیدٌ ··· 115

أدلّة المانعین ··· 117

الکتاب ··· 117

الجواب: ··· 118

فی مرحلة الاقتضاء ··· 119

فی مرحلة المنع ··· 122

السنّة ··· 127

أجوبة الأعلام ··· 128

توضیحه: ··· 128

الإجماع ··· 136

أدلّة حجیّة خبر الواحد ··· 139

آیة النبّأ ··· 139

المقام الأوّل: فی المقتضی ··· 139

ما یعتبر فی مفهوم الشرّط ··· 145

ص: 411

الخلاف فی ثبوت المفهوم بین الشیخ والکفایة ··· 146

رأی المحققّ الإصفهانی ··· 148

الإشکال علیه ··· 148

کلام الکفایة وإیضاح الاصفهانی ··· 149

النظر فیه ··· 150

کلام الشیخ و جواب الإصفهانی ··· 152

المقام الثانی: فی المانع ··· 153

المانع الأوّل ··· 153

المانع الثانی ··· 154

الثانی: إن لفظ «الجهالة» یعمّ خبر العادل أیضا. ··· 154

تقدّم المفهوم حکومةً عند المیرزا ··· 155

إشکال العراقی علیه ··· 155

جواب السیّد الخوئی ··· 156

الإشکال علیه ··· 156

إشکالٌ آخر علی الحکومة ··· 157

وجوه الجواب عنه ··· 157

النظر فی الأوّل ··· 158

النّظر فی الثانی ··· 159

ص: 412

النظر فی الثالث ··· 160

تقریب الحکومة ببیان آخر ··· 160

الإشکال ··· 161

إشکال و جواب ذکرهما الشیخ ··· 161

تکمیلٌ ··· 162

الإستدلال بدلالة الإیماء والاقتضاء ··· 162

الإشکال علیه ··· 163

الاستدلال بحکمة الردع ··· 164

الإشکال علیه ··· 164

وفیه ··· 164

الإستدلال بوجه عقلی ··· 165

الإشکال علیه ··· 165

الاستدلال بمنطوق آیة النبأ ··· 165

إشکال المحقق الخراسانی ··· 166

الردّ علیه ··· 167

إشکالات علی الإستدلال بآیة النبأ ··· 168

ذکرها الشیخ وأجاب عنها ··· 168

ص: 413

1. إشکال المعارضة ··· 168

2. الإشکال بلزوم حجیّة خبر السیّد ··· 169

طریق العراقی لدفع الإشکال ··· 170

إشکال السیّد الخوئی ··· 171

الجواب عنه ··· 171

إشکال السیّد الخوئی ··· 172

الجواب عنه ··· 172

إشکالٌ طرحه الشیخ ··· 174

جواب الشیخ ··· 176

إشکال المحقق الخراسانی ··· 177

نظر شیخنا الاستاذ ··· 178

طریق صاحب الکفایة ··· 180

الإشکال علیه ··· 180

طریق المیرزا والإصفهانی ··· 181

الإشکال علیه ··· 182

الجواب ··· 183

الإشکال علیه ··· 183

التحقیق ··· 184

ص: 413

آیة النفر ··· 185

تقریب الإستدلال ··· 185

إشکالات الشیخ والکلام حولها ··· 186

الجواب: ··· 187

الثانی: ··· 189

الجواب ··· 190

الثالث: ··· 191

الجواب ··· 192

رأی الکفایة ··· 192

النظر فیه ··· 193

طریق الإصفهانی ··· 194

الرابع: ··· 195

الإشکال علی الشیخ ··· 196

آیة الکتمان ··· 201

کلام الشیخ: ··· 201

رأی صاحب الکفایة ··· 202

آراء المتأخرین ··· 203

ص: 414

الإشکالات الواردة علی الإستدلال ··· 204

آیة الذکر ··· 207

إشکالات الشیخ ··· 207

الکلام حول الإشکالات ··· 208

حول الاشکال الثالث ··· 209

حول الإشکال الأوّل ··· 210

حول الإشکال الثانی ··· 213

آیة الاُذُن ··· 215

إشکال الشیخ ··· 216

رأی الکفایة ··· 218

رأی العراقی ··· 219

رأی السید الخوئی ··· 220

رأی الاستاذ ··· 221

الاستدلال بالأخبار لحجیّة خبر الواحد ··· 223

الطائفة الاولی ··· 223

ص: 415

إشکالٌ ودفع ··· 224

الطّائفة الثانیة ··· 226

الطائفة الثالثة ··· 227

الطّائفة الرّابعة ··· 228

المطلب الثالث: فی التواتر فیما نحن فیه ··· 231

ردّ الاستاذ علی المیرزا ··· 238

التحقیق فی المقام بالنظر إلی کلمات الأعلام ··· 240

الإستدلال بالإجماع لحجیّة خبر الواحد ··· 247

الإجماع المحصّل ··· 247

الإجماع المنقول ··· 248

کلام الشیخ فی العدّة ··· 248

إشکال السیّد الخوئی ··· 249

دعوی صاحب المعالم ··· 250

الجواب ··· 251

رفع إشکال المعارضة بین إجماع الشیخ وإجماع السیّد ··· 251

أقول ··· 252

ما یشهد بصحّة دعوی شیخ الطائفة ··· 254

ص: 417

الإشکال الوارد ··· 256

الإجماع التقدیری ··· 258

إشکالان ··· 258

الإجماع العملی ··· 259

1. من الصّحابة ··· 259

2. من أصحاب الأئمة ··· 260

3. من العلماء ··· 261

4. من المسلمین طرّا ··· 262

الإستدلال بالسّیرة العقلائیّة علی حجیّة خبر الواحد ··· 265

هل هذه السّیرة مردوعة؟ ··· 267

إشکال المحقق الخراسانی ··· 268

الدفاع عن کلام الشیخ ··· 269

رأی المحقق الخراسانی ··· 270

الإشکال علیه ··· 272

تأیید الإصفهانی ··· 273

رأی الحائری الیزدی ··· 273

رأی العراقی ··· 274

ص: 418

الجواب ··· 275

رأی المحقق الإصفهانی ··· 276

استدلال صاحب الکفایة بالإستصحاب ··· 279

الإشکالات فی اقتضاء الآیات للرادعیّة ··· 280

بیان الإصفهانی ··· 281

الإشکال علیه ··· 281

بیان المیرزا ··· 282

بیان الحائری ··· 283

تقدّم الخبر بالحکومة ··· 285

بیان المیرزا ··· 285

بیان العراقی ··· 285

الکلام فی حدّ السیرة ··· 289

وجوه القول باعتبار العدالة ··· 295

الاستدلال العقلی علی حجیة خبر الواحد ··· 296

الوجه الأوّل ··· 296

إشکالات الشیخ ··· 297

رأی المیرزا ··· 299

ص: 419

رأی المحقق الخراسانی ··· 300

بیان المحقق الإصفهانی ··· 302

تنبیه ··· 308

المقام الثانی: الاصول اللّفظیة ··· 311

الوجه الثانی ··· 313

إشکال الشیخ ··· 314

الجواب ··· 314

الوجه الثالث ··· 315

الظنُّ المطلق ··· 317

الوجه الأوّل ··· 319

الوجه الثانی ··· 323

الوجه الثالث ··· 324

قانون الإنسداد ··· 325

المقام الأول ··· 325

رأی المیرزا ··· 326

رأی الإصفهانی ··· 327

ص: 420

رأی السید الخوئی ··· 327

رأی السیّد الاستاذ ··· 328

دفاع شیخنا الاستاذ عن الکفایة ··· 329

دفاع العراقی عن الکفایة ··· 330

الإشکال علیه ··· 332

المقام الثانی ··· 333

المقدمة الاولی ··· 333

المقدمة الثانیة ··· 334

المقدمة الثالثة ··· 336

المقدمة الرابعة ··· 337

إشکال المحقق الخوئی ··· 339

الجواب عنه ··· 340

المانع الثبوتی عند المیرزا والجواب عنه ··· 342

المانع الثبوتی عند الإصفهانی ··· 343

الجواب عنه ··· 344

هل یلزم محذور إثباتی؟ ··· 345

الإشکال علی الکفایة ··· 346

ما أفاده المحقق الإصفهانی ··· 347

ص: 421

الإشکال علیه ··· 347

نتیجة المقدّمات ··· 351

الإشکال علیه ··· 353

رأی المیرزا ··· 353

هل الحجیّة مطلقة أو مهملة؟ ··· 355

الکلام فی الأسباب ··· 355

الکلام فی الموارد ··· 358

الکلام فی المراتب ··· 359

الظنُّ فی الاعتقادات ··· 361

خلاصة کلام الشیخ ··· 361

خلاصة کلام صاحب الکفایة ··· 363

خلاصة کلام الإصفهانی ··· 364

النّظر فی کلام الإصفهانی ··· 365

إشکال الکفایة علی الشیخ ··· 366

النّظر فی الإشکالات ··· 368

إشکال المحقق الإصفهانی علی الاستدلال بوجوب شکر المنعم ··· 369

النّظر فی الإشکالات ··· 372

ص: 422

برهانٌ للمحقّق الإصفهانی علی وجوب المعرفة ··· 375

المناقشة فیه ··· 376

الإستدلال لوجوب المعرفة باحتمال الضّرر فی الترک ··· 376

إشکال المحقق الاصفهانی ··· 377

الجواب عنه ··· 378

کلام الکفایة فی معرفة النبیّ والوصیّ ··· 379

بین «العلم» و«الاعتقاد» ··· 381

بقیت بحوث ··· 389

1. حکم الجاهل بما یجب معرفته؟ ··· 389

و هل یجوز للجاهل إنکار ما یجهله؟ ··· 389

2. هل أدلّة الظنّ الخاصّ تفید اعتباره فی المسائل الاعتقادیة؟ ··· 389

3. حکم الظنّ فی القضایا التاریخیّة ··· 389

جبر الخبر الضّعیف بالعمل وکسر المعتبر بالإعراض ··· 391

مختار صاحب الکفایة ··· 392

النظر فی کلامه ··· 393

مختار المیرزا ··· 394

النظر فی کلامه ··· 396

ص: 423

محتملات الحجیّة ··· 397

الأقوال فی المسألة ··· 400

الأول: الجبر والکسر معا ··· 400

الثانی: لاجبر ولاکسر ··· 400

والثالث: الجبر نعم والکسر لا ··· 401

التحقیق: عکس الثالث ··· 401

الجهة الاُولی: فی جبر السّند وکسره ··· 401

الجهة الثانیة: فی جبر وکسر الدلالة ··· 405

ص: 424

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.