سرشناسه:حسینی میلانی، سیدعلی، 1326 -
عنوان و نام پدیدآور:تحقیق الاصول علی ضوء ابحاث شیخناالفقیه المحقق والاصولی المدقق آیةالله العظمی الوحیدالخراسانی/ تالیف علی الحسینی المیلانی.
مشخصات نشر:قم: مرکزالحقائق الاسلامیه، 1432 ق.= 1390 -
مشخصات ظاهری:ج.
شابک:دوره 978-964-2501-52-6 : ؛ ج.1 978-964-2501-93-9 : ؛ ج.2 978-964-2501-94-6 : ؛ ج.3 978-964-2501-39-7 : ؛ ج. 4 978-964-2501-54-0 : ؛ 70000 ریال : ج.5 978-964-2501-55-7 : ؛ 130000 ریال: ج.6 978-600-5348-78-1 : ؛ ج.7: 978-600-5348-91-0 ؛ ج.8 978-600-8518-02-0 :
یادداشت:عربی.
یادداشت:ج. 2- 4 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390) .
یادداشت:ج.5 (چاپ اول: 1431ق.= 1389).
یادداشت:ج.6 (چاپ اول: 1435ق. = 1393).
یادداشت:ج.7 (چاپ اول: 1436ق. = 1393).
یادداشت:ج.8 (چاپ اول: 1437ق. = 1395) (فیپا).
یادداشت:کتابنامه.
موضوع:اصول فقه شیعه
شناسه افزوده:وحیدخراسانی، حسین، 1299 -
شناسه افزوده:مرکز الحقائق الاسلامیه
رده بندی کنگره:BP159/8/ح56ت3 1390
رده بندی دیویی:297/312
شماره کتابشناسی ملی:1093921
ص :1
ص :1
ص :2
ص :3
ص :4
ص:5
ص:6
و ینقسم الواجب إلی النفسی و الغیری .
و قد اختلف فی تعریفهما و بیان حقیقتهما :
تعریف الواجب النفسی و الغیری
فقد اشتهر تعریف الواجب النفسی ب« ما أُمر به لأجل نفسه » و الغیری ب« ما أُمر به لأجل غیره » .
فأشکل علیه الشیخ الأعظم : بأنّ هذا التعریف للواجب الغیری ینطبق علی کلّ الواجبات الشرعیة ، لکونها مأموراً بها لأغراض تترتّب علیها ، لأنْ الأحکام تابعة للأغراض المولویّة .
و لهذا فقد غیَّر الشیخ (1) التعریف فقال : بأنّ الواجب النفسی هو ما وجب لا للتوصّل إلی واجبٍ آخر ، و الغیری ما وجب للتوصّل إلی واجب آخر ، أی: إن النفسی ما لم یکن الداعی لإیجابه التوصّل إلی واجب آخر ، و الغیری هو ما کان الداعی لإیجابه التوصّل إلی واجب آخر .
توضیحه : إنّ الإیجاب عمل کسائر الأعمال الاختیاریّة ، و کلّ عمل اختیاری فلا یصدر إلّا عن الداعی ، فإنْ کان الداعی لإیجاب الشیء التوصّل به إلی
ص:7
شیءٍ آخر ، فهو الواجب الغیری ، و إنْ لم یکن ذلک هو الداعی لإیجابه فهو الواجب النفسی ، و هذا الواجب منه ما یکون مطلوباً لذاته ، و هو معرفة اللّٰه ، فإنّها واجبة و مطلوبیتها ذاتیّة ، و منه ما یکون مطلوباً و لیست مطلوبیّته للوصول إلی واجب آخر ، بل من أجل حصول غرضٍ یترتّب علیه ، و العبادات أکثرها من هذا القبیل ، و کذا التوصّلیات کلّها ... لأنّ الأغراض لیست بواجبات .
و أورد علی الشیخ : بأنّ المفروض کون وجوب الصلاة - مثلاً - ناشئاً من الغرض ، فهو الداعی لإیجابها ، و حینئذٍ ، فلا بدّ و أنْ یکون الغرض الداعی لزومیّاً و إلّا لم یصلح لأنْ یکون علّةً لجعل الطلب الوجوبی ، و إذا کان لزومیّاً کانت الواجبات - غیر معرفة اللّٰه - واجبةً لواجبٍ آخر ، فیعود الإشکال .
و قد أُجیب عن الإشکال : بأن الأغراض لیست بواجبة ، لکونها غیر مقدورة للمکلّف ، و کلّ ما لیس بمقدورٍ فلا یتعلّق به الوجوب .
و اعترضه صاحب ( الکفایة ) و تبعه السیّد الأُستاذ (1) : بأنّها و إنْ کانت غیر مقدورة ، إلّا أنّها مقدورة بالواسطة ، و هی الواجبات الناشئة عنها ، فلمّا کان الأمر الواجب مقدوراً للمکلّف فالغرض الداعی لإیجابه مقدور ، و لا یعتبر فی المقدوریّة أنْ تکون بلا واسطة ، فالطهارة مقدورة علی سببها و هو الوضوء ، و الملکیّة مقدورة للقدرة علی سببها و هو العقد ، و کذلک العتق مثلاً و هو الإیقاع .
فقال شیخنا : لکنّ هذا إنّما یتمُّ فی مورد الأسباب التولیدیّة کما مثّل ، إذ لا یوجد فیها إلّا واجب واحد ، فلا یوجد أمرٌ بالطهارة و أمر آخر بالوضوء ، بل هو أمر بالطهارة ، و هو المحرّک للعبد نحو السبب التولیدی لها و هو الوضوء مثلاً ، و للمستشکل علی الشیخ بأن الأغراض غیر مقدورة أن یطرح الاشکال حیث
ص:8
یتصوّر وجوبان ، إذ الوجوب الغیری عنده ما وجب لواجبٍ آخر .
و أجاب المحقّق الخراسانی عن الإشکال : بأنّ من العناوین ما یکون حسناً فی نفسه ، و إنْ أمکن کونه مقدّمةً لأمر مطلوبٍ واقعاً ، و منها ما لا یکون حسناً فی نفسه و إنّما یکون وجوبه لکونه مقدمةً لواجب نفسی و إن اتّصف بعنوانٍ حسن فی نفسه . مثلاً : التأدیب عنوان متّصف بالحسن ، أمّا الضرب فلا یتّصف بنفسه بالحسن و إنّما یکون حسناً فی حال وقوعه مقدمةً للتأدیب .
فکلّ ما کان من قبیل الأوّل فهو واجب نفسی ، إذ قد لوحظ حسنه و قد أُمر به بالنظر إلی ذلک ، و ما کان من قبیل الثانی ، أی لم یکن له حسن فی نفسه ، و إنّما تعلّق به الأمر من أجل التوصّل به إلی أمرٍ حسن ، أو کان ذا حسن فی نفسه لکنّه لم یکن الأمر به بالنظر إلی ذلک ، فهو واجب غیری . فنصب السلّم لیس له حسن فی نفسه ، و إنما یؤمر به من أجل الصعود إلی السطح - المفروض حسنه - فهو واجب غیری ، بخلاف الوضوء ، فله جهة حسنٍ ، لأنّ اللّٰه تعالی یقول «إِنَّ اللّٰهَ یُحِبُّ التَّوّٰابینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرینَ » (1)و الإمام علیه السلام یقول : « الوضوء نور » (2) .
فإنْ تعلّق به الأمر بالنظر إلی هذه الجهة کان مطلوباً نفسیّاً . أمّا إذا کان الأمر به لا بلحاظ ما ذکر بل بالنظر إلی شرطیّته للصّلاة و أنّه « لا صلاة إلّا بطهور » (3) کان واجباً غیریّاً .
قال : و لعلّه مراد من فسّرهما بما أُمر به لنفسه و ما أُمر به لأجل غیره .
فکان تعریفه له : إنّ الواجب النفسی : ما وجب لحسنه ، و الواجب الغیری :
ص:9
ما وجب للتوصّل إلی ما هو حسن بنفسه (1) .
و ما ذهب إلیه و إنْ سلم من الإشکال الوارد علی تعریف الشیخ ، و لکنْ قد أورد علیه بوجوه :
الأول : إنّ أکثر الواجبات الشرعیّة غیر متّصفة بالحسن العقلی حتّی یقال بأنّها قد وجبت لحسنها ، فإن کان حسنها من أجل ترتّب المصلحة علیها ، عاد إشکال کونها غیریّةً لا نفسیّة . فما ذکره - من أنّ الواجب النفسی ما وجب لحسنٍ فی نفسه - غیر صادقٍ علی عمدة الأحکام الشرعیّة .
و الثانی : کلّ شیء تعنون بعنوان ، فإمّا یکون عنواناً ذاتیّاً له ، و إمّا یکون عنوان عرضیّاً له ، لکنّ کلّ ما بالعرض فلا بدّ و أنْ ینتهی إلی ما بالذات ... و حینئذٍ نقول :
إنّ العنوان الحسن بالذات عقلاً لیس إلّا العدل ، کما أنّ العنوان القبیح بالذات عقلاً هو الظلم ، و لذا لا یزول الحسن عن العدل أبداً کما لا ینفصل القبح عن الظلم أبداً ، بخلاف مثل حسن الصّدق و قبح الکذب کما هو معلوم ، و علی هذا ، فلا بدّ و أن ینتهی حسن الواجبات الشرعیّة إلی « العدل » فینحصر الواجب الشرعی بهذا العنوان فقط ، و لا واجب آخر غیره ، و هذا ما لا یلتزم به صاحب الکفایة .
و الثالث : إنّه بناءً علی ما ذکره من مقدوریّة الأغراض مع الواسطة ، یلزم أنْ یجتمع عنوان « النفسیة » و عنوان « الغیریة » فی کلّ واجبٍ من الواجبات . أمّا الأوّل ، فلفرض وجود الحسن فیه . و أمّا الثانی ، فلکونه مقدّمة لحصول الغرض منه ، فلم یتمحّض واجب من الواجبات الشرعیّة فی النفسیّة .
ص:10
و لورود هذه الإشکالات علی تعریف المحقّق الخراسانی ، سلک المحقّقون المتأخّرون طرقاً أُخری لدفع الإشکال الوارد علی تعریف الشیخ .
قال : إنّ الأغراض المترتّبة علی الواجبات تنقسم إلی ثلاثة أصناف :
1 - فمن الأغراض ما یترتّب علی الفعل الخارجی المأمور به من دون توسّط أمر بینهما ، سواء کان اختیاریّاً أو غیر اختیاری ، کما هو الحال فی الأفعال التولیدیة ، کالغسلات و المسحات بالنسبة إلی الطهارة ، و العقد بالنسبة إلی الزوجیّة ، و الإیقاع بالنسبة إلی الطلاق مثلاً .
و فی هذا القسم من الأغراض ، لا مانع من تعلّق التکلیف بها ، لکونها مقدورةً بالقدرة علی أسبابها .
2 - و منها ما یترتّب علی الفعل الخارجی المأمور به ، لکنْ بواسطة أمرٍ اختیاری من المکلّف ، کالصعود علی السطح مثلاً ، و فی هذا القسم من الأغراض أیضاً لا مانع من تعلّق التکلیف بها ، لکونها مقدورةً کذلک .
3 - و منها ما یترتّب علی الفعل الخارجی المأمور به ، لکن بواسطة أمر غیر اختیاری ، بل تکون النسبة بینهما نسبة المعدّ إلی المعدّ له ، کحصول الثمرة من الزرع ، المتوقّف علی أُمورٍ خارجة عن قدرة الزارع و إرادته .
فیقول المیرزا : و الواجبات الشّرعیّة بالنسبة إلی الأغراض الواقعیّة من هذا القبیل ، فالغرض من الصّلاة هو الانتهاء عن الفحشاء و المنکر ، و ترتّبه علیها موقوف علی أُمور بعضها خارج عن قدرة المکلّف ... فالغرض غیر مقدورٍ للعبد فلا یعقل تعلّق التکلیف به .
فتلخّص : إنّه صحیح أنّ الواجبات الشرعیّة تابعة لمصالح لزومیّة ، لکنْ
ص:11
لیس کلّ غرض لزومی قابلاً لأن یتعلّق الوجوب به ، بل القابل لذلک هو الاختیاری . فتعریف الشیخ صحیح لا یرد علیه الإشکال .
و أورد علیه فی ( المحاضرات ) (1) : بأنّ ما أفاده إنّما یتمّ بالإضافة إلی الغرض الأقصی من التکلیف ، لوضوح أنّ الأفعال الواجبة بالنسبة إلیها من قبیل العلل المعدّة ، لفرض کونها خارجةً عن اختیار المکلّف و قدرته ، کما فی النهی عن الفحشاء الذی هو الغایة القصوی من الصّلاة کما تقدّم . لکنّه لا یتم بالإضافة إلی الغرض القریب ، و هو حیثیّة الإعداد للوصول إلی الغرض الأقصی ، حیث أنّه لا یتخلَّف عنها ، فیکون ترتّبه علیها من ترتّب المعلول علی العلّة التامّة و المسبّب علی السبب . و بما أنّ السبب مقدور للمکلّف فلا مانع من تعلّق التکلیف بالمسبّب ، فیکون نظیر الأمر بزرع الحبّ فی الأرض ، فإنّ الغرض الأقصی منه - و هو حصول الثمرة - و إنْ کان خارجاً عن الاختیار ، إلّا أنّ الغرض القریب - و هو إعداد الأرض للثمرة - مقدور بالقدرة علی سببه . هذا من ناحیة . و من ناحیة أُخری : بما أنّ هذا الغرض المترتّب علی تلک الأفعال ترتّب المسبّب علی السبب لزومی علی الفرض ، فبطبیعة الحال یتعیّن تعلّق التکلیف به ، لکونه مقدوراً من جهة القدرة علی سببه . و علی ذلک یبقی إشکال دخول الواجبات النفسیة فی تعریف الواجب الغیری علی حاله .
و یضاف إلی ما ذکر ناحیة أُخری ، و هی إنّ المیرزا یری أنّ المسبّب قابل لتعلّق الأمر کالسبب ، لأنّ وزان الإرادة التشریعیّة عنده وزان الإرادة التکوینیّة ،
ص:12
فکما تتعلّق الإرادة فی التکوینیّات بالمسبّب و منها تتحقّق الإرادة بالنسبة إلی السبب ، فهما إرادتان ، کذلک الحال فی الإرادة التشریعیّة ، و یکون فیها إرادتان نفسیّة و غیریة .
فیتوجّه الإشکال علی المیرزا ، لأنّه صحیح أنّ ترتّب النهی عن الفحشاء علی الصّلاة موقوف علی أُمور غیر اختیاریّة ، لکنّ نفس الصّلاة توجد فی النفس الإنسانیّة استعداداً ، و نسبة هذا الاستعداد إلی الغرض الأقصی نسبة السبب إلی المسبّب ، فلا محالة تصیر الصّلاة واجباً غیریّاً ، فما انحلّت المشکلة بطریق المیرزا .
هذا ، لکن الإشکال فیما ذکر هو : إنّ الإهمال فی الغرض غیر معقول ، فإمّا یکون الغرض من الصّلاة هو الاستعداد بشرط لا عن الوصول إلی الغرض الأقصی أو یکون لا بشرط عن الوصول إلیه أو یکون بشرط الوصول . أمّا أنْ یکون الغرض هو الاستعداد لا بشرط ، أی سواء وصل إلی الغرض الأقصی أو لا ، فهذا باطل ، لأنّه خلف لفرض کون غرضاً أقصی ، و أمّا أن یکون الغرض هو الاستعداد بشرط لا ، فکذلک ، فتعیَّن کون الغرض من الصّلاة حصول الاستعداد فی النفس بشرط الوصول ، و إذا کان کذلک سقط الإشکال علی المیرزا ، لأنّ الاستعداد بشرط الوصول غیر اختیاری .
إلّا أنّه یمکن الجواب : بأنّ الغرض المترتّب علی متعلّق الأمر لا یمکن أن یکون أخصّ من المتعلّق و لا أعمّ منه ، سواء فی المراد التکوینی أو التشریعی ، لأنّه إن کان أخصّ لزم أن تکون الحصّة الزائدة بلا غرض ، و هو محال ، و کذلک إن کان أعم ، لأنّ الإرادة المتعلِّقة بالمأمور به هی فرع الغرض و معلول له ، فلا یعقل أن یکون الغرض أعم أو أخص ، و علی هذا ، فالإرادة المتعلّقة بالصّلاة تنشأ من
ص:13
الغرض الاستعدادی فیها و هو حصول الاستعداد فیها ، لا الاستعداد الموصل للغرض الأقصی ، فإنّه أخصّ من الصّلاة ، و قد تبیّن استحالته بناءً علی ما ذکر .
و الحاصل : إنّ متعلّق الأمر هو طبیعی الصّلاة ، و لیس الغرض منه بحسب الآیة المبارکة إلّا استعداد النفس الإنسانیّة .
فإشکال المحاضرات علی المیرزا قوی .
طریق المحاضرات
ثمّ قال : فالصحیح فی المقام أن یقال - بناءً علی نظریّة المشهور ، کما هی الحق ، و هی إن حال السبب حال سائر المقدّمات ، فلا فرق بینهما من هذه الناحیة أصلاً - إنّ المصالح و الغایات المترتّبة علی الواجبات لیست بقابلةٍ لأنْ یتعلّق بها التکلیف ، لأنّ تعلّق التکلیف بشیء یتقوّم بأمرین ، أحدهما : أن یکون مقدوراً للمکلّف . و الآخر : أنْ یکون أمراً عرفیّاً و قابلاً لأنْ یقع فی حیّز التکلیف بحسب أنظار أهل العرف ، و المصالح و الأغراض و إنْ کانت مقدورةً بالقدرة علی أسبابها ، إلّا أنّها لیست ممّا یفهمه العرف العام ، لأنّها من الأُمور المجهولة عندهم ، و خارجة عن أذهان عامّة الناس ، فلا یحسن من المولی توجّه التکلیف إلیها ، ضرورة أن العرف لا یری حسناً فی توجّه التکلیف بالانتهاء عن الفحشاء و المنکر أو بإعداد النفس للانتهاء عن الفحشاء و المنکر ، فلا مناص من الالتزام بأنّ الغایات و الأغراض غیر متعلّق بها التکلیف ، و إنّما هو متعلّق بنفس الأفعال ، و یصدق علیها حینئذٍ أنّها واجبة لا لأجل واجب آخر ، فلا إشکال علی الشیخ .
و فیه : إنّ فی الأخبار و الخطب المرویّة عن الشارع إشارات کثیرة إلی الأغراض و الغایات المترتّبة علی الأحکام الشرعیّة ، فقد جاء فیها ذکر الغرض من الجهاد بأنّ الجهاد عزّ للإسلام قال علیه السلام : « فمن ترکه رغبةً عنه ألبسه
ص:14
الذلّ ... » (1) ، و أنّ الزکاة تطهیر للنفس و توفیر للمال (2) ، و فی القرآن الکریم «إِنَّ الصَّلٰاةَ تَنْهیٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَالْمُنْکَرِ » (3)فهل خاطب الشارع الناس بما لا یفهمون ؟
إذا قال الشارع للناس : یجب علیکم العمل من أجل عزّ الإسلام و المحافظة علی عظمة الدین ، و ذلک یحصل بالجهاد فی سبیل اللّٰه ، أ لا یفهم العرف هذا المعنی ؟ و إذا قال : علیکم بالمحافظة علی المصالح العامّة للمجتمع الإسلامی ، و طریق ذلک هو الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر ، أ لا یفهمون مراد الشارع ؟
نعم ، العرف العام بل الخاص یجهلون کیفیّة ترتّب الأغراض علی الأفعال ، و السرّ فی حصول الانتهاء عن الفحشاء و المنکر بإقامة الصّلاة - مثلاً - لکنّ هذا الجهل لا یضرّ بالمطلب و لا یمنع من توجّه التکلیف بالغرض .
و الحاصل : إنّ هذا الطریق غیر دافع للإشکال .
و طریق المحقّق الأصفهانی (4) ناظر إلی قاعدة إنّ کلّ ما بالعرض لا بدّ و أن ینتهی إلی ما بالذات ، و من ذلک مطلوبیّة الشیء ، فإنّها إن کانت بالعرض لا بدّ و أن تنتهی إلی مطلوبٍ بالذات ، سواء عند الإنسان و الحیوان ، فإنّ الحیوان لمّا یطلب القوت ، فإنّه طلب بالعرض ، و المطلوب الذاتی هو البقاء و الحیاة ، فانتهی الأمر إلی حبّ الذات ... و فی القضایا المعنویة نری أنّ جمیع مرادات الإنسان ترجع إلی مرادٍ بالذات هو معرفة اللّٰه عزّ و جلّ . و فی التشریعیّات کذلک ، فإنّه عند ما یأمر بشراء اللحم ، فإن هذا مطلوب بالعرض ، و المطلوب بالذات هو طبخ اللحم
ص:15
و أکله .
و فی التشریعیّات ، تارةً : یتوجّه الخطاب بالمطلوب بالعرض و الخطاب بالمطلوب بالذات ، یتوجّه کلاهما إلی شخصٍ واحدٍ ، و أُخری : یکون متعلّق الإرادة التشریعیّة - أی المطلوب بالعرض - فعل شخص ، و یکون متعلّق الغرض القائم بذلک الفعل - أی المطلوب بالذات - فعل شخصٍ آخر ، فیأمر زیداً بشراء اللحم ، و یأمر عمراً بطبخه .
فالمناط فی النفسی و الغیری هو : إنّه إن کان المطلوب الذاتی مطلوباً من نفس الشخص - الذی طلب منه المطلوب بالعرض - جاء البحث عن أنّ هذا الغرض حینئذٍ مطلوب لزومی أو لا ؟ فإن کان لزومیّاً ، صار شراء اللحم واجباً غیریّاً . و إن کان المطلوب الذاتی قائماً بشخصٍ آخر ، کان شراء اللحم من الأوّل مطلوباً نفسیّاً لا غیریّاً ، إذ لم یطلب منه شیء آخر سواه و إنْ کان شراء اللحم مقدّمةً لطبخه .
و تلخّص : إنّه إن کان المراد بالذات و المراد بالعرض قائمین بشخصٍ واحد ، کان المراد بالعرض واجباً غیریّاً و المراد بالذات واجباً نفسیّاً ، و إن کان المراد بالذات قائماً بشخصٍ غیر من قام به المراد بالعرض ، کان المطلوب من الشخص الأوّل واجباً نفسیّاً .
قال الأُستاذ
و هذا الطریق لا یجدی حلّاً للمشکلة ، إذ لا ریب فی أنّ المبحوث عنه فی علم الأُصول هو الأعمّ من الواجبات الشرعیّة و العرفیّة ، کما فی مسألة حجیّة خبر الواحد ، و حجیّة الظواهر ، لکنّ الغرض من هذه المباحث هو التحقیق عن حال الأخبار الواردة عن الشارع و ظواهر ألفاظه فی الکتاب و السنّة ... و هکذا فی
ص:16
المسائل الأُخری .
و هنا ، لمّا نقسّم الواجبات إلی النفسیّة و الغیریّة ، فالبحث أعمّ من الخطابات الشرعیّة و العرفیّة ، و حلّ المشکل فی الخطابات العرفیة لا یجدی نفعاً بالنسبة إلی الخطابات الشرعیّة ... و الطریق المذکور قد حلّ المشکل فی العرفیّات ، أمّا فی الشرعیّات فلا ... لأنّ المولی یأمر زیداً بشراء اللحم و عمراً بطبخه ، و هذا فی الأوامر العرفیّة کثیر ، أمّا فی الشرعیّات ، فإن الغرض مطلوب من نفس المخاطب بالعمل ، کالانتهاء من الفحشاء و المنکر ، فإنّه مطلوب من نفس من أُمر بالصّلاة ، و لا معنی لأنْ یؤمر مکلَّف بالصّلاة و یترتّب الأثر علیها عند مکلّف آخر .
و الحاصل : إن کان الغرض - کالانتهاء عن الفحشاء و المنکر - لزومیّاً ، فالواجب أی الصّلاة غیری ، و إنْ لم یکن لزومیّاً فلا وجوب للصّلاة .
فإن قال : الغرض خارج عن قدرة المکلّف و اختیاره .
قلنا : هذا هو طریق المیرزا .
هذا أوّلاً .
و ثانیاً : إنّ ما ذکره لا یحلّ المشکلة فی العرفیّات أیضاً ، ففی المثال الذی ذکره نقول : إن لم یکن للمولی غرض من الأمر بشراء اللّحم لم یعقل صدور الأمر منه به ، فلا بدّ من الغرض ، و هو هنا تمکّن عمرو من طبخ اللحم ، ثمّ تمکّن الآمر من الأکل ، فإنْ کان هذا التمکّن غرضاً لزومیّاً ، فالمفروض وجود القدرة علیه ، و حینئذٍ ، جاز تعلّق الأمر به .
لواجب آخر » و هناک فی کلّ واجب مقامان ، أحدهما : مقام التکلیف ، و الآخر مقام روح التکلیف و سرّه . أمّا بالنظر إلی سرّ التکلیف ، إذ للصلاة أسرار ، و للحج أسرار و هکذا ... فالواجبات الشرعیّة کلّها غیریّة ، لأنّها إنّما وجبت لترتّب تلک الأسرار و الآثار ، لکنّ هذه الغیریّة هی بحسب مقام إرادة المولی و بلحاظ أسرار التکلیف ، و بحثنا فی الواجبات الغیریّة لیس من هذه الجهة ، بل هو من جهة مقام التکلیف ، و فی هذا المقام إنْ کان الشیء الموضوع علی الذمّة و المکلّف به طریقاً للوصول إلی شیء آخر کذلک فهذا الواجب غیری ، و إنْ لم یکن فهو واجب نفسی .
و الحاصل : إنّ الشیخ قال : الغیری ما وجب لواجب آخر ، أی: لتکلیفٍ آخر موضوع علی الذمّة ، مطلوب من المکلَّف کسائر التکالیف ، کما هو الحال فی الوضوء بالنسبة إلی الصّلاة ... و لیس الانتهاء من الفحشاء و المنکر من هذا القبیل ، بل هو سرّ الصّلاة و لبّ الإرادة المتعلّقة بها ... .
نعم ، لو قال الشیخ : « ما وجب لغیره » توجّه إلیه الإشکال .
و بعبارة أُخری : المراد من « الواجب الآخر » هو الواجب الشرعی ، کما فی الوضوء ، فإنّه واجب شرعی قد وجب لواجب شرعی آخر هو الصّلاة ، و لیس المراد من « الواجب الآخر » هو الواجب العقلی ... .
أقول :
و هذا الطریق هو المختار عند الشیخ الأُستاذ .
فما هو مقتضی القاعدة ؟
إنّه الرجوع إلی الأصل ، و هو تارةً : لفظی ، و أُخری : عملی ، فإنْ وجد الأصل
ص:18
اللفظی فهو المرجع ، و إلّا فالأصل العملی .
لو تردّد أمر الوضوء بین أن یکون واجباً نفسیّاً فیجب الإتیان به سواء کانت الصّلاة واجبةً وجوباً فعلیّاً أو لا ، أو یکون واجباً غیریّاً ، فیکون واجباً فی حال کون الصّلاة واجبةً و کون وجوبها فعلیّاً ... فهل یمکن التمسّک بالإطلاق لإثبات النفسیّة ؟ و هل هو من إطلاق المادّة أو الهیئة ؟
اتّفق الشیخ و صاحب الکفایة علی إمکان الرجوع إلی الإطلاق لإثبات کون الواجب نفسیّاً لا غیریّاً ، إلّا أنّ الشیخ یقول بإطلاق المادّة ، و صاحب الکفایة بإطلاق الهیئة .
إنّ مفاد هیئة افعل الواردة علی الوضوء « توضّأ » هو الطلب الحقیقی للوضوء - و لیس الطلب المفهومی - . أی: إنّ مادة « الوضوء » بمجرّد اندراجها تحت هذه الهیئة تتّصف بالمطلوبیّة حقیقةً ، و هذا الاتّصاف إنّما یکون بالطلب الحقیقی ، إذ لا یعقل الانفکاک بین المطلوب الحقیقی و الطلب الحقیقی ، و قد حصل الطلب الحقیقی من الهیئة ، فکان مفادها واقع الطّلب و مصداقه ، لأنّ الشیء لا یصیر مطلوباً حقیقةً بمفهوم الطلب .
إلّا أنّ المشکلة هی : إن واقع الطلب و مصداقه هو الفرد ، و الفرد لا یقبل التقیید و الإطلاق ، لأنّهما عبارة عن التضییق و التوسعة ، و هما یجریان فی المفهوم لا المصداق ... فسقط إطلاق الهیئة .
لکنّ الإطلاق فی المادّة جارٍ ، إذ الوضوء دخل تحت الطلب سواء قبل
ص:19
الوقت أو بعده ، و سواء وجدت الصّلاة أو لا ، و مطلوبیّته کذلک یعنی المطلوبیّة النفسیّة .
و تلخّص : إنّه مع التردّد بین النفسیّة و الغیریّة ، یکون مقتضی تمامیّة مقدّمات الحکمة و توفّرها جریان الاطلاق فی طرف « الواجب » - و هو الوضوء فی المثال - لا فی طرف « الوجوب » أی: هیئة توضّأ .
و قد أنکر المحقّق الخراسانی (1) برهان الشیخ علی عدم جریان الإطلاق فی هیئة الوضوء ، من جهة أنّ مدلول الهیئة لو کان هو الطلب الحقیقی کما قال الشیخ ، فإنّ الطلب الحقیقی قائم بالنفس ، و صیغة « افعل » إنشاء لا إخبار ، و الأمر القائم بالنفس لا یقبل الإنشاء ، فلیس الطلب الحقیقی هو مدلول الهیئة ، وعلیه ، فلا یکون مدلولها الفرد و المصداق حتّی یرد الإشکال بأن الفرد لا یقبل التقیید فلا یقبل الإطلاق .
فإنْ قیل : إذا لم یکن مدلول الهیئة هو الطلب الحقیقی ، فکیف صار الوضوء مطلوباً حقیقیّاً ؟
قلنا : إنّ اتّصاف المادّة - أی الوضوء - بالمطلوبیّة الحقیقیّة إنّما یأتی من حیث أنّ الداعی للإنشاء هو الطلب النفسانی ، لأنّ المفروض أنّ الداعی له لم یکن الامتحان أو الاستهزاء أو غیرهما ، و إنّما کان الطلب الحقیقی ، فالمطلوبیّة له إنّما جاءت من ناحیة الداعی للإنشاء لا من ناحیة هیئة افعل .
و هذا بیان إشکال المحقّق الخراسانی علی برهان الشیخ لعدم جریان الإطلاق فی الهیئة .
ص:20
فکان المختار عنده جریان الإطلاق فی طرفها ، فما معنی هذا الإطلاق ؟ و هل هو صحیح ؟
إنّ مقتضی مقدّمات الحکمة هنا عدم تقیید الوجوب و هو مفاد الهیئة لا إطلاقه ، أی: إنّها تقتضی حیثیّة عدمیّة ، و لیست مقتضیةً لإطلاق الوجوب بمعنی اللّابشرطیّة ... و توضیح ذلک :
إنّ الوجوب النفسی و الغیری قسمان من الوجوب ، و قد تقدّم أنّ النفسی هو الواجب لا لواجبٍ آخر ، و الغیری هو الواجب لواجبٍ آخر ، فکان أحدهما مقیّداً بأمرِ عدمی و الآخر مقیّداً بأمرٍ وجودی ، فالواجب النفسی مقیَّد بعدم کونه لواجب آخر ، و الغیری مقیَّد بکونه لواجبٍ آخر ... فکلاهما مقیَّد ، و کلّ قیدٍ - سواء کان وجودیاً أو عدمیّاً - فهو محتاج إلی بیان .
و علی الجملة ، فکما أنّ کون الشیء « بشرط شیء » قید له ، کذلک کونه « بشرط لا » ، و لا بدّ لکلّ قیدٍ من بیانٍ و مئونةٍ زائدة ... و هذا مقتضی القاعدة .
لکنّ هناک موارد یری العرف فیها استغناء القید العدمی عن البیان ، بمعنی أنّ مجرّد عدم البیان بالنسبة إلی القید الوجودی ، یکفی لأنْ یکون بیاناً علی القید العدمی ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، و ذلک : لأنّ الواجب النفسی ما کان واجباً لا لواجبٍ آخر ، و الغیری ما وجب لواجبٍ ، فکان الغیری مقیّداً بکونه للغیر ، و حینئذٍ ، فلو تعلّق الطلب بشیءٍ و لم یکن معه بیانٌ لکون هذا الطلب لشیء آخر ، کان نفس عدم البیان لذلک کافیاً عند أهل العرف فی إفادة أنّ هذا المطلوب لیس لواجبٍ آخر ... .
ص:21
و علی هذا ، لیس الطریق إلی تعیین حال الفرد المحقّق خارجاً من الوجوب المتعلّق بالوضوء ، من حیث النفسیّة و الغیریّة ، هو التمسّک بالأصل اللفظی فی مفهوم الوجوب ، کما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی ، بل الصّحیح إثبات إطلاق الفرد الواقع عن طریق عدم التقیید بکونه للغیر ، فإنّه یفید کونه لا للغیر ، فهذا هو المراد من الاطلاق هنا ، و هذا طریق إثباته .
و تلخّص : إنّه لیس الطریق هو التمسّک بإطلاق مفهوم الطّلب ، فإنّه لا یحلّ المشکلة و لا یخرج الفرد الواقع من التردّد بین النفسیّة و الغیریّة ، لأنّ ذلک لا یحصل عن طریق إطلاق مفهوم الوجوب ، إذ الإطلاق المفهومی لا یعیّن حال الفرد الواقع ، بل الطریق الذی سلکناه هو الذی یعیّن حاله و یرفع التردّد و الشک ، لأنّه أفاد عدم التقیید بالغیریّة .
أقول :
و بهذا التقریب الذی استفدناه من شیخنا الأُستاذ دام بقاه تندفع خدشة سیدنا الأُستاذ ، حیث أنه أورد کلام المحقّق الأصفهانی و ذکر اشتماله علی ثلاثة إیرادات علی الکفایة ، ثم قال : و الإنصاف أنّ هذه الوجوه مخدوشة کلّها ، و وجه الاندفاع هو أنّ مناقشته للکلام المذکور إنما جاءت علی مقتضی القاعدة ، من جهة أنّ النفسیّة یحتاج إلی بیان کالعدمیّة ، لأنّ کلّاً منهما قید زائد علی أصل الوجوب ، و لا وجه لدعوی أنّه لا یحتاج إلی بیانٍ زائد بعد أن کان قیداً کسائر القیود الوجودیّة أو العدمیّة (1) .
لکنّ الارتکاز العرفی الذی أشار إلیه المحقق الأصفهانی بقوله : « فما یحتاج إلی التنبیه عرفاً کون الوجوب لداعٍ آخر غیر الواجب » هو الوجه للدعوی
ص:22
المذکورة ، و قد وقع الغفلة عنه .
فما أفاده المحقق الأصفهانی لا محذور فیه ، لکنه - کما قال شیخنا - متّخذ من کلام صاحب الکفایة فی مبحث الإطلاق و التقیید (1) ... و بیان مطلبه هناک هو :
إنّ الإطلاق یفید تارة : الشمول و العموم الاستیعابی ، و أخری : العموم البدلی ، و ثالثة : خصوصیّة أُخری ، غیر الشمولیّة و البدلیّة .
مثال الأوّل : قوله تعالی «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ » (2)، فإنّه یفید حلیّة البیع عامّة .
و مثال الثانی : قولک : بع دارک ، فإنّه أمر ببیع داره و یفید جواز البیع بأیّ نحوٍ من الأنحاء اختار هو ، علی البدلیّة ، و لیس یفید العموم الاستیعابی ، فإنّه غیر ممکن کما لا یخفی .
و مثال الثالث : قول المولی : « توضّأ » من غیر أنْ یعلّق الوجوب علی شیء ... فهنا لیس الإطلاق من قبیل الأوّلین ، و إنّما هو لإفادة خصوصیة أنّ وجوبه لیس لغیره ، لأن خصوصیّة الغیریّة هی المحتاجة إلی البیان ، و أمّا النفسیّة فیکفی فیها عدم البیان علی الغیریّة ، فکان الإطلاق - بمعنی عدم إقامة القرینة علی إرادة الغیریة - یقتضی النفسیّة .
و قال المحقّق الإیروانی (3) بالإطلاق الأحوالی فی الفرد المردّد بین النفسیّة و الغیریّة ، لأنّ الإطلاق قد یکون أفرادیاً ، و قد یکون أحوالیّاً . فالأفرادی موضوعه الطبیعة و هی ذات فردین أو أفراد ، و حینئذٍ یصلح لأنْ یکون مطلقاً ، أی لا بشرط بالنسبة إلی خصوصیّة هذا الفرد أو ذاک ... کما هو الحال فی « الرقبة » مثلاً ، حیث
ص:23
أنّها طبیعة ذات حصّتین ، و هی قابلة لأنْ تکون هی المراد و المورد للحکم .
و أمّا الإطلاق الأحوالی ، فإنّه یجری فی الفرد أیضاً ... و کلّما کانت طبیعة ذات حصّة و لکن المورد لا یصلح لأن تکون الطبیعة هی المراد ، فإنّه یجری فیه الإطلاق الأحوالی .
و علی هذا ، فإنّ الشیخ رحمه اللّٰه لمّا قال بأنّ مدلول الهیئة هو الفرد ، و الفرد لا یقبل الإطلاق و التقیید ، یتوجّه علیه : إنّه لا یقبل الإطلاق الأفرادی ، لکنّه یقبل الإطلاق الأحوالی .
و المحقّق الخراسانی ذهب إلی الإطلاق المفهومی ، فیرد علیه الإشکال : بأنّ الإطلاق المفهومی لا مورد له فی المقام ، لأن مجراه مثل « الرقبة » حیث أنّ الطبیعة تکون مورداً للحکم و الإرادة و یتعلّق بها التکلیف ، فیعمّ کلتا الحصّتین المؤمنة و الکافرة ، بخلاف المقام ، فإنّه لا یعقل أن یکون المراد هو الأعم من النفسیّة و الغیریّة ، بل إن حال الفرد الواقع خارجاً مردّد بین الأمرین ، و المقصود بیان حاله و إخراجه من حالة التردّد ، و لا یعقل الإطلاق المفهومی فی الفرد ... بل یتعیّن الإطلاق الأحوالی ، فإذا کان الوجوب المتعلّق بالوضوء فرداً ، فإنّه ذو حالین ، حال وجوب الصّلاة و حال عدم وجوبها ، و مقتضی الإطلاق هو التوسعة بالنسبة إلی الحالین لهذا الفرد ، فهو توسعة فی الحال لا فی المفهوم .
فظهر جریان الإطلاق الأحوالی بناءً علی مسلک المحقّق الخراسانی من أنّ مدلول الهیئة هو مفهوم الطلب ، و هو أیضاً جار بناءً علی کون مدلولها : النسبة البعثیّة أو البعث النسبی . أمّا الإطلاق الأفرادی فلا یجری ، لأن مدلول الهیئة معنیً حرفیّ و المعنی الحرفیّ جزئی ... .
هذا کلّه فی التمسّک بإطلاق مفاد الهیئة .
ص:24
و أمّا التمسّک بإطلاق المادّة ، فقد أفاد فی ( المحاضرات ) (1) : بأنّه بناءً علی نظریة الشّیخ من لزوم رجوع القید إلی المادّة ، یمکن تقریب التمسّک بالإطلاق بوجهین :
الأوّل : فیما إذا کان الوجوب مستفاداً من الجملة الاسمیّة ، کقوله علیه السلام : « غسل الجمعة فریضة من فرائض اللّٰه » فإنّه لا مانع من التمسّک فی مثله بالإطلاق لإثبات النفسیّة ، إذ لو کان غیریّاً لزم علی المولی إقامة القرینة .
و الثانی : التمسّک بإطلاق دلیل الواجب - کدلیل الصّلاة مثلاً - لدفع ما یحتمل أن یکون قیداً له کالوضوء مثلاً ، و لازم ذلک عدم کون الوضوء واجباً غیریّاً ، و قد تقرّر حجیّة مثبتات الأُصول اللفظیّة .
قال الأُستاذ : إنّه لا وجه للحصر بوجهین ، بل الإطلاق الأحوالی جارٍ أیضاً کما تقدّم ... هذا أوّلاً .
و ثانیاً : إنّ الوجه الثانی - من الوجهین المذکورین - لا یقول به الشیخ ، و إن کان وجهاً صحیحاً فی نفسه .
و تلخّص : تمامیة الإطلاق بوجوهٍ ثلاثة :
1 - الإطلاق الأحوالی فی مفاد الهیئة .
2 - إطلاق المادّة ، أی مادّة الوضوء فی « توضّأ » .
3 - إطلاق دلیل الواجب .
و اختلف الأنظار فی مقتضی الأصل العملی بعد فرض عدم تمامیّة الأصل اللفظی :
ص:25
ذکر المحقّق الخراسانی (1) لمقتضی الأصل العملی - فی دوران أمر الفرد الواقع من الوجوب بین النفسیّة و الغیریّة - صورتین ، لأنّ وجوب ذلک الغیر - الذی شککنا فی کون هذا الشیء مقدّمةً له ، أو أنّه واجب نفسی و لیس بمقدّمةٍ له - تارةً فعلی و أُخری غیر فعلی .
فإن کان فعلیّاً ، کان الشیء المشکوک النفسیّة و الغیریّة مجری قاعدة الاشتغال ، لأنّ المفروض هو العلم بوجوبه ، إنّما الجهل فی وجه هذا الوجوب .
مثلاً : الوضوء واجب علی تقدیر النفسیّة و علی تقدیر الشرطیّة للصّلاة الواجبة بالوجوب النفسی الفعلی ، فلو تُرک الوضوء فقد تُرک واجب نفسی ، و هو الوضوء إن کان واجباً نفسیّاً أو الصّلاة المشروطة به ، فکان العلم الإجمالی المتعلّق بالمردّد بین النفسیّة و الغیریّة موجباً للعلم باستحقاق العقاب فی حال ترک الوضوء ، فلا محالة یکون هذا العلم الإجمالی منجزاً .
و إنْ لم یکن وجوب الغیر فعلیّاً ، کان مشکوکُ النفسیّة و الغیریّة مجری أصالة البراءة ، لأنّ المناط فی منجزیّة العلم الإجمالی هو تعلّق العلم بالتکلیف الفعلی ، و المفروض عدمه ، إذ الوضوء علی تقدیر کونه واجباً نفسیّاً فعلی ، و علی تقدیر کونه واجباً غیریّاً ، فهو شرط لواجب غیر فعلی ، و مع عدم فعلیّة المشروط لا یکون الشرط فعلیّاً ، فلا یکون العلم حینئذٍ منجّزاً ، فالمرجع البراءة .
هذا کلام المحقّق الخراسانی .
لکن الصّورة الثانیة یتصوَّر فیها صورتان ، لأنّ ذاک الغیر المفروض عدم
ص:26
فعلیّته ، قد یکون واجباً من قبل ثم ارتفع وجوبه ، و قد لا یکون کذلک ، فإنْ لم یکن مسبوقاً بالوجوب فالأصل الجاری هو البراءة کما ذکر . و أمّا إن کان مسبوقاً بوجوب مرتفع عنه فعلاً ، حصل لنا العلم بأنّ الواجب المشکوک فی نفسیّته و غیریّته کان من قبل واجباً غیریّاً ، فالحالة المتیقّنة السابقة لهذا المشکوک فیه هو الوجوب الغیری ، و بزوال فعلیّة وجوب ذلک الغیر یصیر هذا الوجوب الغیری مقطوع الزوال ، لأنّه بزوال وجوب المشروط بقاءً یزول وجوب الشرط کذلک ...
فیکون وجوب المشکوک النفسیّة و الغیریّة فرداً مردّداً بین مقطوع الزوال و مقطوع البقاء ، لأنّ هذا الوضوء - المشکوک کذلک - فی کون وجوبه نفسیّاً أو غیریّاً - إنْ کان واجباً غیریّاً فقد زال عنه الوجوب یقیناً و إنْ کان واجباً نفسیّاً فوجوبه باق ...
وعلیه ، فیکون صغری للقسم الثانی من أقسام استصحاب الکلّی ... .
فعلی القول بعدم جریان الاستصحاب فی القسم الثانی من أقسام الکلّی - لا فی الفرد و لا فی الکلّی - فالمرجع أصالة البراءة ، و أمّا علی القول بجریانه فیه - کما هو الصحیح - فهو أصل حاکم علی البراءة ، فکانت الصورة الثانیة من صورتی المحقّق الخراسانی تنقسم إلی صورتین ، و الحکم یختلف ... و قد نبّه علی هذا المحقّق الإیروانی (1) .
و أشکل علیه الأُستاذ : بأنّ المعتبر فی المستصحب أن یکون حکماً شرعیّاً أو موضوعاً لحکمٍ شرعی مجعول أو موضوعاً للحکم العقلی بمناط عدم لغویّة التعبّد فإنّه - و إن لم یکن المستصحب حکماً أو موضوعاً لحکم - یکفی لأن یکون للاستصحاب أثر فی الاشتغال أو الفراغ ، فلا یکون التعبّد به لغواً .
ص:27
لکن استصحاب الکلّی هنا لا تتوفّر فیه هذه الضابطة ، لأنّ هذا الکلّی الذی یراد إجراء الاستصحاب فیه - و هو الجامع الانتزاعی بین الوجوب النفسی و الوجوب الغیری - لیس بمجعولٍ شرعی ، إذ المجعول من قبل الشارع إمّا الوجوب النفسی أو الوجوب الغیری (1) ، و لا هو موضوع لحکم شرعی کما لا یخفی ، و هل هو موضوع للحکم العقلی علی ما ذکر ؟ کلّا ... و ذلک : لأنّ الحکم العقلی إنّما یتحقّق فی الجامع بین الواجبین النفسیّین و إنْ کان جامعاً انتزاعیّاً ، لأنّ موضوع حکمه هو استحقاق العقاب علی المخالفة ، فلو کان واجبان نفسیّان تردّد أمرهما بین مقطوع الزوال و مقطوع البقاء ، جری استصحاب الکلّی الجامع بینهما ، و أفاد وجوب الإتیان بالجامع و ترتیب الأثر علیه ، لحکم العقل باستحقاق العقاب علی المعصیة .
أمّا فی محلّ البحث ، فأحد الوجوبین نفسی و الآخر غیری ، و الواجب الغیری لا یحکم العقل باستحقاق العقاب علی ترکه ، فإحدی الحصّتین من الکلّی غیر محکومة بحکم العقل باستحقاق العقاب علی ترکها ، فکیف یتمّ إجراء الاستصحاب فی الجامع لتحقیق الحکم العقلی ؟
فتلخّص : عدم تمامیّة الاستصحاب فی الکلّی الانتزاعی أی: الوجوب الجامع بین النفسی و الغیری . نعم ، لو صحّ جریانه فی الفرد المردّد لتمّ ما ذکره المحقّق الإیروانی ، لکنّه أجلّ شأناً من أن یقول بذلک .
ص:28
و ذهب المیرزا (1) إلی أنّ المردّد واجب بالوجوب النفسی ، و أنّ الصّلاة مجری البراءة . و توضیح ذلک : إنّه إذا تردّد أمر الوضوء بین النفسیّة و الغیریّة ، و کان علی تقدیر الغیریّة شرطاً لواجبٍ غیر فعلی ، کما لو تیقّن بالنذر و تردّد بین أن یکون قد نذر الصّلاة أو نذر الوضوء ، فإنْ کان متعلّق نذره هو الوضوء فهو واجب نفسی ، و إن کان الصّلاة کان الوضوء واجباً غیریّاً . إذن ، لا فعلیّة لوجوب الصّلاة ، بل إنّه فعلی علی تقدیر کون الوضوء واجباً غیریّاً لا نفسیّاً . فیقول المیرزا : بأنّ الوضوء واجب قطعاً ، بالوجوب النفسی أو الغیری ، و أمّا الصّلاة فهی مجری البراءة ، لجریانها فیها بلا معارض ، و ذلک : لأنّ معنی دوران أمر الوضوء بین النفسیّة و الغیریّة هو تحقّق علم إجمالی بأنّ الواجب علیه بالوجوب النفسی إمّا هو الصّلاة و إمّا هو الوضوء ، و هذا العلم مؤثر فی التنجیز ، و لا بدّ من الإتیان بالوضوء و الصّلاة معاً ، غیر أنّ الوضوء یؤتی به قبل الصّلاة ، حاله حال الواجب الغیری ...
لکنّ هذا العلم منحل ... لأنّ أحد الطرفین - و هو الوضوء - یقطع باستحقاق العقاب علی ترکه ، إمّا لکونه واجباً نفسیّاً و إمّا لأن ترکه یؤدّی إلی ترک الواجب المشروط به ، و مع القطع باستحقاق العقاب علی ترکه لا تجری البراءة فیه ، و یبقی الطرف الآخر محتمل الوجوبیّة ، فالشبهة فیه بدویّة ، و تجری البراءة فیه بقسمیها .
ثمّ ذکر فی نهایة الکلام أنّ المقام من صغریات التفکیک و التوسّط فی التنجیز .
و توضیح المراد من ذلک هو : إنّ الوقائع منها هو منجّز علی کلّ تقدیر ، و منها ما هو غیر منجّز علی کل تقدیر . و الأوّل : هو الحکم المعلوم بالإجمال ،
ص:29
و الثانی : هو الحکم المشکوک فیه شبهةً بدویة . و هذا القسمان واضحان . و الثالث منها هو : ما إذا کان العلم الإجمالی مردّداً بین الأقل و الأکثر ، و هذا مورد التوسّط فی التنجیز ، کما لو حصل العلم بوجوب مرکب تردّدت أجزاؤه بین کونها عشرة أو أحد عشر مثلاً ، فإنّه مع ترک الجزء الحادی عشر لا یقین باستحقاق العقاب ، بخلاف الأجزاء العشرة ، فلو ترکها استحق العقاب ... إذن ، فالواجب الواحد و الوجوب الواحد قابل للتفکیک من حیث استحقاق العقاب و عدمه ... و هذا مراده من التوسّط و التفکیک فی التنجیز .
الإشکال علی رأی المیرزا
إنّما الکلام فی اختصاص ذلک بمورد المرکّب ذی الأجزاء الخارجیّة - کما ذکر - أو أنّه ینطبق علی المرکّب ذی الأجزاء التحلیلیّة أیضاً ؟
إن حال المرکّب من الأجزاء الخارجیّة هو أنّ وجوده بتحقّق أجزاءه کلّها ، فهو وجود واحد ، أمّا عدمه فیتعدّد بعدد الأجزاء ، و یتّصف بالعدم إذا عدم الجزء الأوّل ، و بعدمٍ آخر إذا عدم الجزء الثانی ، و هکذا ... فإذا دار أمره بین الأقل و الأکثر ، فأیّ مقدارٍ من الأعدام بقی تحت العلم کان العلم منجّزاً بالنسبة إلیه .
و هل هذا الحال موجود فی الأجزاء التحلیلیّة کما فی محلّ البحث ؟
مقتضی الدقّة فی کلام المیرزا : جریان التوسیط فی التنجیز فی الأجزاء التحلیلیّة أیضاً ، لأنّه کما یحصل للمرکب من الأجزاء أعدام بعدد أجزائه ، کترک الصّلاة بترک القراءة ، و ترکها بترک الرکوع ... و هکذا ... فإنّه یحصل له ذلک بترک کلٍّ من قیوده و شروطه ، فالصّلاة المقیَّدة بالطهارة و الاستقبال و ... یحصل لها تروک بعدد تلک الأُمور ، فکما ینتفی المرکب بانتفاء جزئه ، کذلک ینتفی بانتفاء قیده ... و لیس تعدّد الترک منحصراً بالأجزاء الخارجیّة المحقّقة للمرکّب ... .
ص:30
و علی هذا ، فترک الصّلاة من ناحیة ترک الوضوء منجّز ، لأنّ المفروض تحقّق العلم بوجوب الوضوء سواء کان نفسیّاً أو غیریّاً ، و إذا تعلّق العلم بالوضوء کان ترک الصّلاة من جهة ترک الوضوء مورداً للمؤاخذة ، لقیام الحجة من ناحیة المولی علیه ، بخلاف ما لو ترکت الصّلاة من جهة غیر الوضوء ، لعدم وجود البیان و الحجّة منه ، و علی الجملة ، فقد تحقّق التنجیز بالنسبة إلی الصّلاة من حیث الوضوء ، أمّا بالنسبة إلی الصّلاة فلا ، بل الشبهة فیها بدویّة ، فالبراءة جاریة فی الصّلاة ، لکن وجوب الوضوء نفسی .
و تحصّل : أنّ التفکیک فی التنجّز یجری فی أجزاء المرکب ، و یجری فی القیود و الشرائط ، و لا یختص بالأجزاء .
فلا یرد علی المیرزا الإشکال بذلک (1) .
و أورد علیه : بأن موردنا من قبیل دوران الأمر بین المتباینین ، و لیس من الأقلّ و الأکثر ، لأن طرفی العلم الإجمالی هما الوضوء و الصّلاة ، و النسبة بینهما هو التباین .
و فیه : إنّه منقوض بالموارد التی تکون نسبة الجزء إلی الکلّ بحیث لا یطلق علی الجزء عنوان الکلّ - کما هو فی الإنسان و الرقبة مثلاً - فلو علمنا بمقدارٍ من الأجزاء هی فی العرف فی مقابل المرکب لا بعضه ، و تردّد الأمر بینه و بین سائر الأجزاء ، کان لازم ما ذکر عدم جریان البراءة . مثلاً : الصّلاة مرکّبة من أجزاء أوّلها التکبیر و آخرها التسلیم ، فلو تعلّق العلم بالتکبیر وحده و شکّ فی الزائد تجری البراءة عنه ، مع أنّ النسبة بین التکبیر و الصّلاة هو التغایر و التباین ، إذ لا یصدق عنوان الصّلاة علی التکبیر وحده .
ص:31
و أمّا حلّ المطلب فهو : أنّ ملاک انحلال العلم لیس خصوصیّة الأقل و الأکثر ، حتی لا ینحل و لا تجری البراءة إذا کانت النسبة التباین ، بل الملاک علی التحقیق - وعلیه المیرزا - هو کون أحد الطرفین مجری الأصل دون الطرف الآخر ، فإذا کان أحد الطرفین فقط مجری الأصل - سواء کانا متباینین أو أقل و أکثر - جرت البراءة . و فیما نحن فیه : الوضوء و إنْ لم یکن جزءاً من الصّلاة بل هو شرط لها ، إلّا أنّ الأصل لا یجری فی الوضوء و هو جارٍ فی الصّلاة ، لأنّ الوضوء معلوم الوجوب علی کلّ تقدیر ، دون الصّلاة فإنّها مشکوکة الوجوب .
و أورد علیه : بأنّه یعتبر فی انحلال العلم الإجمالی وجود السنخیّة بین المعلوم بالإجمال و المعلوم بالتفصیل ، و ذلک کما فی مثال أجزاء الصّلاة ، فلو علم إجمالاً بالوجوب النفسی ، و تردّد بین أن یکون عشرة أجزاء من المرکب أو أحد عشر ، فإن عنوان « الوجوب النفسی » ینطبق علی العشرة ، الذی أصبح المعلوم بالتفصیل .
أمّا فیما نحن فیه ، فلا توجد هذه المسانخة ، لأنّ المعلوم بالإجمال أوّلاً هو « الوجوب النفسی » إذ تردّد بین الصّلاة و الوضوء ، لکن المعلوم بالتفصیل فی طرف الوضوء هو الجامع بین النفسیّة و الغیریّة ، فهو غیر المعلوم بالإجمال الأوّلی .
و فیه : إنّه لیس الملاک ذلک ، بل الملاک ما ذکرناه من کون أحد الطرفین موضوعاً للأصل دون الطرف الآخر .
و أورد علیه : بأنّ المفروض هو العلم الإجمالی بوجوب الوضوء ، مردّداً بین کونه نفسیّاً أو غیریّاً ، فإن کان فی الواقع نفسیّاً استحقّ العقاب علی ترکه ، و أمّا إن کان وجوبه غیریّاً فلا یستحقّه ، لکنّ انحلال العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی
ص:32
فی طرف و شک بدوی فی طرف آخر ، إنّما هو حیث یکون العلم التفصیلی متعلّقاً بتکلیفٍ منجّز موجبٍ لاستحقاق العقاب ، و قد تقدّم أنّ الوضوء علی تقدیر کون وجوبه غیریّاً لا یستحق العقاب علی ترکه ، فالعلم الإجمالی المردّد بین النفسیّة و الغیریّة باقٍ علی حاله ، لعدم استلزام مخالفته لاستحقاق العقاب علی کلّ تقدیر .
و فیه : إنّه إن کان المقصود إثبات استحقاق العقاب علی ترک الوضوء نفسه فالإشکال وارد ، للشک فی کونه واجباً نفسیّاً ، و الوجوب الغیری لا تستتبع مخالفته استحقاق العقاب . لکنّ المقصود من إجراء البراءة هو رفع التکلیف و التوسعة علی المکلّف ، و هذه التوسعة لا تکون فی طرف الوضوء للعلم التفصیلی بوجوبه ، فلا یمکن الترخیص فی ترکه ، لکون وجوبه إمّا نفسیّاً فلا یجوز ترکه ، و إمّا غیریّاً فکذلک لأنّه یؤدی إلی ترک الصلاة ، أمّا فی طرف الصّلاة فهی حاصلة بأصالة البراءة .
و الحاصل : إنّ المهم کون المورد مجری لأصالة البراءة و ترتّب أثر هذا الأصل ، أعنی التوسعة و المرخصیّة للمکلّف ، و هذا حاصل ، لوجود مناط الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی ، و هو جریان البراءة فی طرف و هو الصّلاة ، لوجود المقتضی لجریانه و عدم المانع عنه ، دون الآخر و هو الوضوء للعلم التفصیلی المتعلّق به .
الإشکال الأخیر :
إنّ هذا العلم الإجمالی لا ینحلّ ، لأنّه یلزم من انحلاله عدم الانحلال . و هو الإشکال الذی اعتمده الأُستاذ فی الدّورة السابقة فی ردّ رأی المیرزا فی المقام .
و توضیح ذلک : إنّ الغرض هو حلّ مشکلة دوران أمر الوضوء بین النفسیّة و الغیریّة ، و نتیجة انحلال هذا العلم الإجمالی هو الاشتغال بالنسبة إلی الوضوء
ص:33
و البراءة عن الصّلاة . لکنّ البراءة إنّما تجری حیث یقطع بجریانها - و إلّا فالظن بجریانها لا یفید فضلاً عن الشک فیه - و القطع بجریان البراءة فی الصّلاة یستلزم القطع بعدم المؤاخذة علی ترک الوضوء ، لکونه مقدّمةً لها ، لأنّ القطع بعدم المؤاخذة علی ترک ذی المقدّمة یستلزم القطع بعدمها علی ترک مقدّمته ، و إذا حصل القطع بعدم المؤاخذة علی ترک الوضوء ، حصل العلم بتعلّق التکلیف به علی تقدیر ، و العلم بعدم المؤاخذة به علی تقدیر ، فلم یحصل العلم التفصیلی بالنسبة إلیه ، فلا تجری قاعدة الاشتغال ، بل یکون الوضوء مجری أصالة البراءة .
و فیه : إن کان المقصود من الانحلال هو الانحلال العقلی ، فالإشکال وارد ، لکن المقصود هو انحلال العلم الإجمالی بحکم الشارع ، و الحکم العقلی هنا معلّق علی عدم الانحلال الشرعی ، فإنّ العقل حاکمٌ بضرورة ترتیب الأثر علی العلم الإجمالی بین الوضوء و الصّلاة ما دام لم یصل مؤمّن من قبل الشارع ، و مع وصوله یرتفع موضوع حکم العقل ، و المؤمّن هنا حدیث الرفع ، إذ المقتضی لجریانه موجود و المانع عنه مفقود ، و هذا المعنی متحقّق فی طرف الصّلاة إذ شک فی وجوبها النفسی ، فتمّ المقتضی لجریان أصل البراءة ، و مع وجود العلم التفصیلی فی طرف الوضوء لا موضوع لجریان الأصل فیه ، فلا معارض لأصالة البراءة فی الصّلاة .
أقول :
کان هذا ملخّص ما استفدناه من کلامه دام بقاه فی الدّورة اللّاحقة . و لکنّ الاستدلال بحدیث الرفع هنا یبتنی علی أن یکون المرفوع فیه هو المؤاخذة من جهة العمل نفسه أو من جهة غیره المترتّب علیه ، فإنّه علی هذا المبنی یکون الوضوء مشمولاً لحدیث الرفع ، إذ بترکه یترتّب العقابُ علی ترک الصّلاة لکونه
ص:34
مقدمةً لها .
و أمّا علی القول بأنّ المرفوع هو المؤاخذة علی خصوص العمل - کما هو مختار السید الأُستاذ - فلا یتم الاستدلال به ، فراجع (1) .
و ذکر السید الخوئی فی مقام الأصل العملی (2) أربعة صور :
( الصورة الأُولی ) ما إذا علم المکلّف بوجوب شیء إجمالاً فی الشریعة و تردّد بین کونه نفسیّاً أو غیریّاً ، و هو یعلم بأنّه لو کان غیریّاً لم یکن وجوب ذلک الغیر بفعلی ، کما إذا علمت الحائض بوجوب الوضوء علیها و شکّت فی أنّ وجوبه علیها نفسی أو غیری ، و أنّه فی حال الغیریّة للصّلاة فلا فعلیّة لوجوبها لکونها حائض .
( الصورة الثانیة ) ما إذا علم المکلّف بوجوب شیء فعلاً و تردّد بین کون وجوبه نفسیّاً أو غیریّاً ، و هو یعلم أنّه لو کان غیریّاً ففعلیّة وجوب الغیر یتوقّف علی تحقق ذلک الشیء خارجاً . کما إذا علم بتحقّق النذر و لکنْ تردّد بین الوضوء و الصّلاة ... کما تقدّم .
و قد ذهب قدّس سرّه إلی البراءة فی کلتا الصورتین ، أمّا فی الأولی ، فهی جاریة فی الشیء المشکوک فیه ، لعدم العلم بوجوبٍ فعلی علی کلّ تقدیر ، إذ علی تقدیر الغیریّة لا یکون فعلیّاً لعدم فعلیّة وجوب ذی المقدمة . و أمّا فی الثانیة ، فهی جاریة فی الصّلاة علی ما تقدّم بیانه .
( الصورة الثالثة ) ما إذا علم المکلّف بوجوب کلٍّ من الفعلین فی الخارج ،
ص:35
و شک فی أنّ وجود أحدهما مقیّد بوجود الآخر مع علمه بتماثل وجوبیهما من حیث الاطلاق و الاشتراط من بقیة الجهات ، أی إنهما متساویان إطلاقاً و تقییداً ، کوجوب الوضوء و الصّلاة مثلاً .
فذکر عن المیرزا القولَ بالبراءة ، و اختار هو الاحتیاط ، ( قال ) : قد أفاد شیخنا قدّس سرّه : أنّ الشک حیث أنّه متمحّض فی تقیید ما علم کونه واجباً نفسیّاً کالصلاة بواجب آخر و هو الوضوء - مثلاً - فلا مانع من الرجوع إلی البراءة عن ذلک التقیید ، لفرض أن وجوب الصّلاة و الوضوء معلوم ، و متعلّق الشک خصوص تقیید الصّلاة به أی خصوصیّة الغیریّة ، فالبراءة تجری عن التقیید .
( فأجاب ) بأنّ أصالة البراءة عن التقیید المذکور معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء بوجوب نفسی ، و ذلک لأنّ المعلوم تفصیلاً وجوبه الجامع بین النفسی و الغیری ، و أمّا الخصوصیّة فمشکوک فیها ، فلا مانع من جریان الأصل فی الخصوصیّة فی کلا الطرفین ، و یتعارض الأصلان ، و یکون المرجع قاعدة الاحتیاط ، فیجب الإتیان بالوضوء أوّلاً ، ثمّ بالصّلاة .
أقول :
و قد قرّب الأُستاذ دام بقاه رأی السید الخوئی فی هذه الصّورة و أوضح الفرق بینها و بین الصّورة السابقة التی قال فیها بالبراءة عن الصّلاة ... بأنّ صورة المسألة السابقة هی : إمّا الصّلاة واجبة بالوجوب النفسی و إمّا الوضوء ، و معنی ذلک أنّه إن کان الواجب النفسی هو الصّلاة فالوضوء وجوبه غیری ، و لذا تحقّق العلم التفصیلی فی وجوب الوضوء ، و الشک البدوی فی وجوب الصّلاة . أمّا الصّورة الثالثة هذه ، فلا شکّ فی وجوب الصّلاة - و وجوبها نفسی - بل الشک فی ناحیة الوضوء ، و للعلم الإجمالی طرفان ، أحدهما : الوجوب النفسی للوضوء ،
ص:36
و الآخر : الوجوب الغیری له ... و مقتضی العلم الإجمالی هو الاحتیاط .
فالحقّ مع المحاضرات خلافاً للمیرزا .
( الصّورة الرابعة ) ما إذا علم المکلّف بوجوب کلٍّ من الفعلین و شکّ فی تقیید أحدهما بالآخر ، مع عدم العلم بالتماثل بینهما من حیث الإطلاق و التقیید ، و ذلک : کما إذا علم باشتراط الصّلاة بالوقت و شک فی اشتراط الوضوء به من ناحیة الشک فی أنّ وجوبه نفسی أو غیری ، و أنّه علی الأوّل غیر مشروط و علی الثانی مشروط ، لتبعیّة الوجوب الغیری للنفسی فی الإطلاق و الاشتراط .
( قال ) : و قد أفاد شیخنا الأُستاذ أن البراءة جاریة من جهات ( الأُولی ) :
الشک فی تقیید الصّلاة بالوضوء ، و هو مجری البراءة ، فتصحّ بلا وضوء .
( الثانیة ) : الشک فی وجوب الوضوء قبل الوقت الذی هو شرط لوجوب الصّلاة ، و المرجع البراءة ، و نتیجة ذلک نتیجة الغیریّة من ناحیة عدم ثبوت وجوبه قبل الوقت فی المثال ( الثالثة ) : الشک فی وجوب الوضوء بعد الوقت بالإضافة إلی من أتیٰ به قبله ، و مرجع هذا الشک إلی أنّ وجوبه قبل الوقت مطلق أو مشروط بما إذا لم یؤت به قبله ، و بما أنّ ذلک مشکوک فیه بالإضافة إلی من أتی به قبله ، فلا مانع من الرجوع إلی البراءة ، و النتیجة تخییر المکلّف بین الإتیان بالوضوء قبل الوقت و بعده ، قبل الصّلاة و بعدها .
( قال ) و لنأخذ بالنظر فی هذه الجهات ، بیان ذلک : إن وجوب الوضوء فی مفروض المثال ، المردّد بین النفسی و الغیری ، إن کان نفسیّاً ، فلا یخلو من أنْ یکون مقیّداً بإیقاعه قبل الوقت أو یکون مطلقاً ، و إن کان غیریّاً ، فهو مقیَّد بما بعد الوقت علی کلّ تقدیر .
و علی الأوّل ، فلا یمکن جریان البراءة عن تقیید الصّلاة بالوضوء ،
ص:37
لمعارضته بجریانها عن وجوبه النفسی قبل الوقت ، للعلم الإجمالی بأنّه إمّا واجب نفسی أو واجب غیری ، و جریان البراءة عن کلیهما مستلزم للمخالفة القطعیّة العملیّة؛ فلا بدّ من الاحتیاط و الوضوء قبل الوقت ، فإن بقی إلی ما بعده أجزأ عن الوضوء بعده و لا تجب الإعادة ، و إلّا وجبت لحکم العقل بالاحتیاط .
و علی الثانی : فلا معنی لإجراء البراءة عن وجوب الوضوء قبل الوقت ، لعدم احتمال تقیّده به ، لأنّ مفاد أصالة البراءة رفع الضّیق عن المکلّف لا رفع السّعة ، و أمّا بعد الوقت فیحکم العقل بوجوب الوضوء ، للعلم الإجمالی بوجوبه إمّا نفسیّاً و إمّا غیریّاً ، و لا یمکن إجراء البراءة عنهما معاً ، و معه یکون العلم الإجمالی مؤثّراً و یجب الاحتیاط .
نعم ، لو شککنا فی وجوب إعادة الوضوء بعد الوقت علی تقدیر کونه غیریّاً ، أمکن رفعه بأصالة البراءة ، لأنّ تقییده بما بعد الوقت علی تقدیر کون وجوبه غیریّاً مجهول ، فلا مانع من الأصل ، لأنّ وجوبه إنْ کان نفسیّاً فهو غیر مقیّد بذلک ، و إن کان غیریّاً ، فالقدر المعلوم تقیّد الصّلاة به و أمّا تقیّدها بخصوصیّة بعد الوقت فشیء زائد مجهول ، فیدفع بالأصل .
فالبراءة لا تجری إلّا فی الجهة الأخیرة .
و خالف الشیخ الأُستاذ المیرزا القائل بالبراءة فی الصّورة ، و السید الخوئی القائل بالتفصیل فیها کما تقدَّم ، و اختار الاحتیاط فی الجهات الثلاثة ، أی: وجوب الإتیان بالوضوء قبل الصّلاة ... و خلاصة کلامه هو :
إنّ جریان أصالة البراءة فی أطراف العلم الإجمالی موقوف علی إخراج مورد الشّبهة عن الطرفیّة للعلم و کون الشک فیه بدویّاً ، و إلّا لم یجر الأصل . هذا
ص:38
بناءً علی مسلک العلیّة . و أمّا بناءً علی مسلک الاقتضاء ، فالانحلال لا یحصل إلّا بخروج مورد الشّبهة عن الطرفیّة للمعارضة . و من الواضح أنّ وقوع المعارضة فرع وجود المقتضی للجریان فی کلّ طرفٍ ، فیکون الأصل جاریاً فیهما و یسقطان بسبب المعارضة .
و علی هذا ، فإنّ معنی الشک بتقیُّد أحدهما بالآخر - فی عنوان الصورة الرابعة - بأن تکون الصّلاة مقیّدةً بالوضوء ، هو کون وجوب الصّلاة نفسیّاً و وجوب الوضوء غیریّاً ، فیحصل لنا علم إجمالی فی الوضوء بین أن یکون وجوبه نفسیّاً أو غیریّاً ، لکنّ حصول العلم الإجمالی بالوجوب النفسی أو الغیری للوضوء مسبوق بعلم إجمالی مردّد بین الوجوب النفسی للوضوء و الوجوب النفسی للصّلاة ، - و العلم الإجمالی المذکور فی الوضوء تابع لهذا العلم الإجمالی السّابق - و من المحال تحقّق العلم الإجمالی بین النفسیّة و الغیریّة للوضوء بدون العلم الإجمالی بالوجوب النفسی للوضوء أو الوجوب النفسی للصّلاة ... وعلیه ، فکما أنّ المقتضی لجریان الأصل موجود فی طرف الوضوء ، کذلک هو موجود فی طرف الصّلاة ، و الأصلان یجریان و یتعارضان ، و یتنجّز العلم الإجمالی و یجب الاحتیاط .
و الحاصل : إنّ العلم الإجمالی فی الوضوء - و أنّه إن کان نفسیّاً فکذا و إنْ کان غیریّاً فکذا - تابع للعلم الإجمالی بالوجوب النفسی للصّلاة أو الوضوء - سواء کان فی الطول کما هو الصحیح أو فی العرض - و إذا تساقط الأصلان فی العلم المتبوع وجب الاحتیاط .
ص:39
تذنیبٌ و فیه أمران الأمر الأول
إنّه هل یترتّب الثواب و العقاب علی امتثال و مخالفة الواجب الغیری کما یترتّب ذلک علی الواجب النفسی ، أو بین الواجبین فرق من هذه الجهة ؟
أمّا الواجب النفسی ، فلا إشکال فی ترتّبهما علی امتثاله و مخالفته .
و قد ذکر المحقق الأصفهانی لذلک وجوهاً ثلاثة :
أحدها : قاعدة اللطف ، فإنها تقتضی تکلیف العباد لغرض إیصالهم إلی المصالح المترتّبة علی التکالیف و إبعادهم عن المفاسد المترتّبة علی ترکها أو إتیان المحرّمات ، و هذا لطف عظیم ، إلّا أنّ للوعد و الوعید دخلاً فی تحقّق الامتثال و قبول البشارة و النذارة ، و لا ریب فی وجوب الوفاء بالوعد ، فیکون ترتّب الثواب علی الأعمال واجباً شرعاً ، و کذا استحقاق العقاب علی المخالفة و المعصیة .
و الثانی : تجسّم العمل ، فإنّ هناک ملازمةً بین الأعمال و بین الصّور المناسبة لها ، فالعمل إن کان حسناً تحقّقت صورة حسنة مناسبة له ، و إن کان سیّئاً تحقّقت صورة مناسبة له ... و هذا وجه آخر لترتّب الثواب و العقاب علی الإطاعة
ص:40
و المعصیة ، و أنّهما من لوازم الأعمال ، کالملازمة بین النار و الحرارة و غیرهما من التکوینیّات .
و الثالث : حکم العقل ، بیانه : إنّ حفظ النظام غرض من أغراض العقلاء بالضرورة ، و هم یرون ضرورة تحقّق کلّ ما یؤدّی إلی حفظ النظام ، و من ذلک المدح و الجزاء علی العمل الحسن و الذم و المؤاخذة علی العمل السیّئ ، فالأوامر و النواهی المولویّة - سواء المولی الحقیقی أو العرفی - لها مصالح و مفاسد و لها دخل فی حفظ النظام ، و العمل الحسن یستتبع استحقاق الجزاء الحسن و العمل السّیئ یستتبع استحقاق العقوبة ، فإذا أعطی المولی الجزاء أو عاقب علی المعصیة وقع فی محلّه ، لا أنّه واجبٌ علی المولی ذلک و أنّ للعبد المطالبة بالثواب علی عمله ، فإنّ هذا لا برهان علیه (1) .
أقول :
و قد تکلّم الأُستاذ دام بقاه علی الوجه الثالث من هذه الوجوه و محصّله : أن الحکم بترتّب الثواب و العقاب عقلائی ، و هو حکم عرضی بلحاظ حفظ النظام ، و لیس ذاتیّاً ، و أنّ هناک کبری واحدة تجری فی المولی الحقیقی و المولی العرفی ...
فناقشه : بأنّ الأحکام العقلائیة هی قضایا توافقت علیها آراؤهم حفظاً للنظام ، لکنّ الحاکم باستحقاق الثواب و العقاب علی موافقة حکم المولی الحقیقی أو مخالفته هو العقل لا العقلاء ، لأنّ الأحکام العقلائیّة تدور مدار النظام و حفظه ، أمّا حکم العقل بقبح مخالفة المولی الحقیقی فموجود سواء کان هناک عقلاء و نظام أو لم یکن ... فإنّ العقل یری قبح معصیة المولی الحقیقی علی کلّ حال ، و لو کان هذا الحکم عقلائیّاً لجازت المعصیة حیث لا یوجد نظام أو عقلاء ، أو حیث لا یلزم
ص:41
اختلال للنظام ، و هذا باطل .
و الحاصل : إنّ کلام هذا المحقّق یستلزم جواز مخالفة المولی الحقیقی حیث لا یترتّب علی المخالفة اختلال للنظام العقلائی ، و أنّه فی حال عدم لزوم الاختلال فلا دلیل علی وجوب إطاعة أوامر الباری و حرمة معصیته ، و هذا اللازم باطل ، لأنّ العقل مستقل بلزوم إطاعة المولی الحقیقی فی جمیع الأحوال و علی کلّ التقادیر .
و المختار عند الأُستاذ : أمّا استحقاق العقاب ، فلا ریب فی ترتّبه علی المخالفة و المعصیة للمولی الحقیقی . و أمّا استحقاق الثواب علی الطاعة ، بمعنی أن یکون للعبد حق المطالبة ، فهذا باطل ، لأنّ القدرة علی الطاعة و تحقّقها من العبد تفضّل منه ، و هذه خصوصیّة المولی الحقیقی هذا أولاً . و ثانیاً : إنّ أوامر المولی و نواهیه کلّها ألطاف ، لأنه بالامتثال لها یحصل له القرب من المولی ، و هذا نفع للعبد المکلّف .
( قال ) : لکنّ المهمّ هو معرفة المولی الحقیقی حق معرفته ، و ما عرفناه ! کما قال تعالی «وَمٰا قَدَرُوا اللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ » (1)و من عرفه کذلک کان مصداقاً لقوله «یٰا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ حَقَّ تُقٰاتِهِ » (2)إذن ، لا بدّ أوّلاً من معرفة المولی معرفةً کاملةً ، و من حصلت له تلک المعرفة حصل عنده تقوی اللّٰه حقّ تقاته ، أی أداء حق العبودیّة و القیام بالوظیفة علی نحو الکمال .
و من معرفته تعالی هو : أنْ نعرف أنّ عدم إعطائه الثواب علی الأعمال
ص:42
الصالحة و الطاعات لیس بلائق بشأنه ... و توضیح ذلک :
إنّا لا نقول بوجوب الثواب علی الطاعة من حیث أنّها طاعة و لکون العبد مطیعاً ، لأنّ العبد مملوک للمولی و طاعته إنّما کانت بحوله و قوّته و هی لطف منه و منّة علی العبد ، و لا جزاء علیه حینئذٍ ، بل نقول بوجوب الثواب من جهة المطاع ، بمعنی أنّ عدم ترتّب الثواب علی الطاعة غیر لائق بهذا المولی ، فالطاعة - من حیث أنّها طاعة - لا تستتبع وجوب الثواب ، لکنّ عدم ترتّب الثواب علیها غیر لائق بالمولی ... .
و الدلیل علی هذا - قبل کلّ شیء - هو کلامه تعالی ، ففی الکتاب آیات مبدوّة بکلمة « ما کان » و معناها : عدم لیاقة هذا الشیء لأن یتحقّق و یکون ، سواء کان من اللّٰه أو الرسول أو سائر الناس ... فمثلاً یقول تعالی : «وَمٰا کٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَلٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَی اللّٰهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ » (1)أی: إن هذا غیر لائق بالمؤمنین و لیس من شأنهم ، بل إنّ المؤمنین یتّبعون ما أراده اللّٰه تعالی لهم و قضی فی حقّهم ، إذ لا یکون قضاؤه فیهم إلّا حقّاً و مصلحةً لهم .
و یقول تعالی : «وَمٰا کٰانَ لِنَبِیٍّ أَنْ یَغُلَّ » (2)أی: إن هذا لا ینبغی و غیر صالح صدوره منه .
و یقول تعالی : «وَمٰا کُنّٰا مُهْلِکِی الْقُریٰ بظلم ... » (3)فالظلم لا یلیق بذاته المقدّسة ، و کذا العذاب بلا بیان ، إذ قال : «وَمٰا کُنّٰا مُعَذِّبینَ حَتّٰی نَبْعَثَ رَسُولاً » (4).
و قد وردت الکلمة فی آیةٍ تتعلّق بالبحث و هی «وَمٰا کٰانَ اللّٰهُ لِیُضیعَ
ص:43
إیمٰانَکُمْ » (1)فالآیة دالّة علی أنّ اللّٰه تعالی لیس من شأنه أن یضیع أعمال المؤمنین ، و لا یلیق به ذلک ، و لذا قال بعد هذا : «إِنَّ اللّٰهَ بِالنّٰاسِ لَرَءُوفٌ رَحیمٌ » و هو بمثابة التعلیل ، بمعنی أنّ الرءوف الرحیم علی الإطلاق - و لعموم الناس - لا یلیق به أن یضیع إیمان المؤمنین و یترک أعمالهم بلا ثوابٍ و أجر .
و الحاصل : إنّه لیس للعبد أن یطالب المولی الحقیقی بشیءٍ من عمله ، فإنّه إذا صلّی إطاعةً لأمر اللّٰه ، فقد أتی بها بحول اللّٰه و قوته «مٰا شٰاءَ اللّٰهُ لٰاقُوَّةَ إِلّا بِاللّٰهِ » (2)و إذا صلّی حصلت له التزکیة «إِنَّ الصَّلٰاةَ تَنْهیٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَالْمُنْکَرِ » (3)و تلک منّة من اللّٰه علیه ... فلیس للعبد أن یحتج بشیء علی اللّٰه ، لا من ناحیة نفسه و لا من ناحیة عمله ... لکنّ مقتضی شأن ربوبیّته و أُلوهیّته التی أشار إلیها ب « هو » فی «قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ » (4)و « شَهِدَ اللّٰهُ أَنَّهُ لٰاإِلٰهَ إِلّا هُوَ » (5)أن لا یجعل العمل بلا أجر ، و کذا مقتضی صفاته «وهو الرؤف الرحیم » فللعبد أن یقول له : « أنت کما وصفت نفسک » (6) « اللّٰهمّ إن لم أکن أهلاً لأنْ أُبلغ رحمتک فرحمتک أهل أن تبلغنی و تسعنی » (7) فیطلب منه الأجر و الثواب من هذا الباب .
هذا تمام الکلام علی ترتّب الأثر علی الواجبات و المحرّمات النفسیة .
و أمّا الواجب الغیری ، فقد ذهب المحقّقان الخراسانی و الأصفهانی إلی عدم استحقاق الثواب علی موافقة الأمر الغیری و العقاب علی مخالفته .
ص:44
و استدلّ فی ( الکفایة ) (1) علی عدم ترتّب الثواب و العقاب علی الواجب الغیری بوجهین ، أحدهما : حکم العقل بعدم الاستحقاق و استقلاله بذلک .
و الآخر : إنّ الثواب و العقاب من آثار القرب و البعد عن المولی ، و الواجب الغیری لا یؤثّر قرباً أو بُعداً عن اللّٰه ، بل المؤثّر فی ذلک هو الواجب النفسی ... نعم لو کان لواجب نفسی مقدّمات کثیرة ، فإنّه یثاب علی الإتیان بتلک المقدّمات من باب « أفضل الأعمال أحمزها » (2) .
و قال المحقّق الأصفهانی ما محصّله :
إنّ هذا الوجوب بما أنه مقدّمة للوجوب النفسی و لا غرض منه إلّا التوصّل إلیه ، فهو معلول له ، و الانبعاث إنّما یکون من الأمر النفسی المتعلّق به الغرض الاستقلالی ، و أمّا تحرّک الإنسان نحو المقدّمة فهو بالارتکاز ، و لذا یکون الواجب المقدّمی مغفولاً عنه ، و تحرک الإنسان نحوه یکون بالارتکاز ، فکلّ الآثار مترتّبة علی الواجب النفسی (3) .
أقول :
و الإنصاف : إن ما ذکر لا یکفی لأن یکون وجهاً لعدم استحقاق الثواب علی امتثال الواجب الغیری ، بل قال السید الأُستاذ : بأنه لا یخرج عن کونه وجهاً صوریّاً (4) .
و أشکل علیه شیخنا دام بقاه : بأن مورد البحث هو حیث یکون المکلّف
ص:45
حین العمل ملتفتاً ، کما هو الحال فی الوضوء من أجل الصّلاة مثلاً ، فإنّ المتوضّئ لیس بغافل عمّا یفعل . فلیس المقدّمة مغفولاً عنه . و الحاصل : إنّ المقدمیّة لا تمنع من الالتفات و التوجّه إلی العمل ، و هو ظاهر قوله علیه السلام : « طوبی لعبدٍ تطهّر فی بیته ثمّ زارنی فی بیتی » (1) .
و علی الجملة ، فإنّ المقدّمة قد تعلّق بها الطلب و أصبحت واجبةً ، و قد أتی بها امتثالاً للأمر ، و هی ملتفت إلیها ، و إنْ کان الغرض الأصلی مترتّباً علی ذی المقدّمة .
و ذکر سیّدنا الأُستاذ قدّس سرّه برهاناً آخر قال : و محصّل ما نرید أن نقوله بیاناً لهذا الوجه هو : إن الثواب إنما ینشأ عن إتیان العمل مرتبطاً بالمولی بالاتیان به بداعی الأمر - الذی هو معنی الامتثال - ، فترتب الثواب علی موافقة الأمر الغیری انما تتصور بالإتیان بالمقدمة بداعی الأمر الغیری ، و من الواضح أن الأمر الغیری لا یصلح للداعویّة و التحریک أصلاً ، فلا یمکن الاتیان بالعمل بداعی الامتثال الأمر الغیری . أما أنه لا یصلح للداعویّة و التحریک ، فلأن المکلف عند الاتیان بالمقدمة إمّا ان یکون مصمماً و عازماً علی الاتیان بذی المقدمة أو یکون عازماً علی عدم الإتیان به ، فإن کان عازماً علی الإتیان به ، فإتیانه المقدمة - مع التفاته إلی مقدمیتها کما هو المفروض - قهری لتوقف ذی المقدمة علیها ، سواء تعلق بها الأمر الغیری کی یدعی دعوته إلیها أو لا فالاتیان بالمقدمة فی هذا التقدیر لا ینشأ عن تحریک الأمر الغیری ، بل هو أمر قهری ضروری و مما لا محیص عنه . و ان کان عازماً علی عدم الاتیان بذی المقدمة ، فلا یمکنه قصد الأمر الغیری بالاتیان بالمقدمة ، إذ ملاک تعلق الأمر الغیری بالمقدمة هو جهة مقدمیتها و الوصول بها إلی الواجب النفسی ،
ص:46
لو لم نقل - إذ وقع الکلام فی أن المقدمیّة جهة تعلیلیة للوجوب الغیری أو جهة تقییدیة - : بان موضوع الأمر الغیری هو المقدمة بما هی مقدمة لا ذات المقدمة .
و من الواضح أنه مع قصد عدم الاتیان بذی المقدمة لا تکون جهة المقدمیة و توقف الواجب علیها ملحوظة عند الاتیان بالمقدمة ، و معه لا معنی لقصد امتثال الأمر الغیری بالعمل ، إذ جهة تعلق الأمر الغیری غیر ملحوظة أصلاً .
و یتضح هذا الأمر علی القول بکون الأمر الغیری متعلقاً بالمقدمة الموصلة ، فانه مع القصد إلی ترک الواجب النفسی لا یکون المأتی به واجباً بالوجوب الغیری ، فلا معنی لقصد امتثاله فیه لانه لیس بمتعلق الوجوب (1) .
أقول :
إن الکلام - الآن - فی ترتّب الثواب علی إطاعة الأمر الغیری ، فمع فرض کون المکلّف ملتفتاً إلی مقدّمیة الواجب الغیری و کونه عازماً علی إطاعة أمر الواجب النفسی ، هل یعتبر فی ترتب الثواب وجود أمرٍ بالمقدّمة و الانبعاث منه کی یقال بعدم الترتّب ، لعدم داعویة الأمر الغیری ، أو یکفی لترتّبه الرجحان الذاتی أو الانقیاد للمولی المتمشّی منه مع الالتفات إلی ما ذکر ؟
الظاهر هو الثانی ، و هو الذی نصّ علیه السید الأُستاذ نفسه فی مسألة الطّهارات الثلاث ، فتأمّل .
و أمّا العقاب علی معصیة الواجب الغیری ، فقد یقال بترتّبه کالثواب ، لأنه أمرٌ و قد عصی ، قال المحقق الإیروانی : إنّ المفروض وجوب المقدّمة ، و أثر الوجوب هو الثواب علی الإطاعة و العقاب علی المعصیة (2) .
ص:47
لکنّ الحقّ - کما علیه المحققون و مشایخنا - أنّ هذا خلاف الارتکاز العقلائی ، فإنّ العقلاء لا یرون استحقاق العقاب إلّا علی ترک ذی المقدّمة ، و هم یرون قبح ترک المقدمة لأنه یؤدّی إلی ذلک .
قال شیخنا : اللّهم إلّا إذا خولف الأمر الغیری عصیاناً لنفس الأمر الغیری .
لکنّ مثل هذه الحالة قلیل جدّاً ، و لذا کان الارتکاز العقلائی - علی وجه العموم و بالنظر إلی عامّة الناس - قائماً علی عدم استحقاق العقاب لمخالفة الأمر الغیری .
الأمر الثانی
ثم إنه بناءً علی أن الأمر الغیری لا یستحقُّ علی امتثاله الثواب ، فقد وقع الکلام بین الأعلام فی الطهارات الثلاث ، لأنّ الأوامر المتعلّقة بها غیریّة ، مع أنها یترتّب علیه الثواب بلا إشکال ؟
و أیضاً : الأوامر المتعلّقة بالمقدّمات توصّلیة و لیست بعبادیّة ، لأنّ الغرض من المقدّمة هو التوصّل إلی ذی المقدّمة و لیس یترتّب علیها غرض آخر ، وعلیه فهی غیر منوطة بقصد القربة ، لکن الإتیان بالطهارات بلا قصد القربة باطلٌ ، فکیف الجمع ؟
أجاب المحقّق الخراسانی (1) عن الإشکال الأوّل : بأنّ ترتّب الثواب علی الطهارات إنّها هو من جهة المطلوبیّة النفسیّة لها کما فی قوله تعالی : «إِنَّ اللّٰهَ یُحِبُّ
ص:48
التَّوّٰابینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرینَ » (1)فالطهارة بنفسها محبوبة للّٰه ، و الثواب مترتّب علی هذه المحبوبیّة و المطلوبیّة ، لا من جهة الأمر الغیری المتعلّق بها کی یرد الإشکال .
و أجاب عن الثانی : بأنّ کلّ أمرٍ إنّما یدعو إلی متعلّقه ، و الأمر الغیری کذلک ، فإنّه یدعو إلی متعلَّقه و هو المقدّمة . لکن المقدّمة قد لا تکون عبادیّة کنصب السّلم للصعود إلی السطح ، فیتحقّق التوصّل إلی ذی المقدّمة بمجرّد حصول المقدّمة . أمّا فی الطهارات فقد تعلّق الأمر بها لا بذواتها ، بل مقیّدة بقصد القربة ، فکان الأمر - مع کونه غیریّاً - قد تعلّق بمقدّمة عبادیّة ، و علی هذا فلا یسقط إلّا بالامتثال له و الإتیان به مع هذا القید .
و هذا الذی ذکره المحقّق الخراسانی فی دفع الاشکال متّخذ من الشیخ قدّس اللّٰه روحه ، و الأفضل هو الرجوع إلی کلامه و التعرّض لما قاله الأعلام فی نقضه أو إبرامه .
فلقد طرح الشیخ فی مسألة الطهارات ثلاث إشکالات ، ذکر اثنین منها فی الأُصول (2) و الثالث فی مبحث نیّة الوضوء من ( کتاب الطهارة ) (3) فیقول الشیخ فی بیان الاشکال الأوّل :
إنّ مقتضی القاعدة العقلیّة هو أنّ الأمر الغیری من شئون الأمر النفسی و لیس فی قباله ، و کذلک إطاعة الأمر الغیری ، فهو من شئون إطاعة الأمر النفسی ، فالأمر الغیری تابع للأمر النفسی فی ذاته و فی ترتّب الأثر علیه قرباً و بعداً و فی إطاعته و معصیته . لکنّ هذا مخالف للأخبار المستفیضة فی الطهارات و الإجماع القائم
ص:49
علی ترتّب الثواب علی نفس الطهارة ، فإنّ الثواب یترتّب علی الوضوء للصّلاة ، لا للصّلاة عن وضوء ... فکان الإشکال الأوّل : المخالفة بین القاعدة العقلیّة و مقتضی النصوص و الإجماعات .
فأجاب الشیخ :
بأنّ الثواب فی الطهارات مترتّب علی ذواتها ، لکونها محبوبةً بالمطلوبیّة و المحبوبیّة النفسیّة ، و لیس ترتّب الثواب بمناط الأمر الغیری لیتوجّه الإشکال ، بل إنّها محبوبة بأنفسها و لها الاستحباب النفسی .
و هذا ما ذکره صاحب الکفایة .
و لکن الشیخ قدّس سره قد نصّ علی أنّه جواب غیر مفید ، و الوجه فی ذلک هو : أنّ تصویر الاستحباب النفسی للطّهارة لا یجتمع مع الوجوب الغیری الثابت لها ، لأنّ الوجوب و الاستحباب لا یجتمعان فی المتعلّق الواحد ، و إلّا لزم اجتماع المثلین ، و لو قلنا بأنّه مع الوجوب الغیری لا یبقی الاستحباب النفسی ، عاد الإشکال ... .
إلّا أن یوجّه : بأنّه مع الوجوب الغیری ینعدم الاستحباب النفسی بذاته ، بل یزول حدّه و یندک فی الوجوب ، کاندکاک المرتبة الضعیفة من النور فی المرتبة القویّة منه ، فإنه لا ینعدم بل یندک ، و ذاته محفوظة ... فلا مانع من أن یترتّب الأثر علی المطلوبیّة النفسیّة الاستحبابیّة الموجودة هنا مندکّةً فی الوجوب الغیری ... .
لکنّ هذا التوجیه أیضاً لا یرفع المشکلة إلّا فی الوضوء و الغسل ، لقیام الدلیل فیهما علی المطلوبیّة النفسیّة کذلک ، أمّا فی التیمّم فلا دلیل ، و إنْ حاول بعضهم الاستدلال له ببعض الأخبار ، لکنّه لا یفید .
علی أنّه یرد علی تصویر الاستحباب النفسی أیضاً : إنّ المستفاد من کلمات
ص:50
الأصحاب کفایة الإتیان بالطهارات بداعی الأمر الغیری حتّی مع الغفلة عن المطلوبیّة النفسیّة المذکورة ، و هذا لا یجتمع مع عبادیّتها - و لو بالاستحباب - لأنّها موقوفة علی الالتفات و القصد .
ثم قال الشیخ : بأنّ الأولی هو القول بأنّ الثواب علی الطهارات تفضّل من اللّٰه .
ثمّ أمر بالتأمّل .
و أخذ صاحب الکفایة هذا الجواب إذ قال : بأنّ الأمر یدعو إلی متعلّقه و هو « المقدّمة » و هی الطهارات بقصد القربة ، فیکون الاستحباب النفسی مقصوداً بقصد الأمر الغیری . ثمّ أمر بالفهم .
و الوجه فی ذلک واضح ، لأنّه مع الجهل و الغفلة یکون القصد محالاً ، و مع عدمه لا یمکن تحقّق عنوان العبادیّة .
هذا کلّه بالنسبة إلی الإشکال الأوّل ، و هو کیفیّة ترتّب الثواب علی الأمر الغیری .
و أمّا الإشکال الثانی - و هو أنّه إذا کان الوضوء مثلاً للتوصّل إلی الغیر فوجوبه توصّلی مع أنّه عبادة یعتبر فیه قصد القربة - فقد ذکره الشیخ ، و حاصله : إنّ الطهارات الثلاث لا یحصل الغرض منها بأیّ صورةٍ اتّفقت ، بل یعتبر فیها قصد القربة ، فکیف یکون وجوبها غیریّاً و الغرض منها التوصّل إلی الصّلاة مثلاً ؟
و أجاب الشیخ - و تبعه فی الکفایة - بأنّ الأمر هنا إنّما تعلّق بالحصّة العبادیّة من المقدّمة .
لکنّ هذا یتوقّف علی حلّ المشکلة السابقة ، إذ الإتیان بالمقدّمة مع الجهل و الغفلة عن استحبابها النفسی لا یحصل الغرض منها و هو التوصّل إلی
ص:51
ذی المقدّمة ، فقد اعتبر فیها قصد القربة و المفروض انتفاؤه ، قاله شیخنا دام بقاه .
و أمّا الإشکال الثالث - الذی تعرّض له فی کتاب الطهارة فی کیفیّة نیّة الوضوء - فهو : إنّ الأمر الغیری قد تعلّق بالمقدّمة المتحقّقة خارجاً ، لا بعنوان المقدّمة ، فالوضوء الواقع مقدّمة للصّلاة - سواء قلنا بأنّ الطهارة رافعة للحدث المانع من الدخول فی الصلاة أو قلنا بأنّها شرط للصّلاة - فهو رافع أو شرط إن أُتی به و تحقّق مع قصد القربة ... فالأمر الغیری یتوقّف تحقّقه علی کون متعلّقه مقدّمةً قبل أن یتوجّه إلیه الأمر و یتعلّق به ، و ثبوت مقدّمیة المتعلّق موقوفٌ علی کونه مأتیاً به عبادةً ، لکنّ عبادیّته إنّما تحصل بتعلّق الأمر الغیری به ، و هذا دور .
و أورد علیه المیرزا (1) : بأنّ هذا الدور لا یتوقّف علی تحقّق المتعلّق و الإتیان به علی وجه العبادیّة ، بل هو حاصل فی مرحلة جعل المتعلّق و توجّه التکلیف به ، ففی تلک المرحلة لا بدّ لإرادة الشارع جعل الأمر الغیری من متعلّق ، و لا بدّ من أن یکون عبادةً - و إلّا لا یکون رافعاً للحدث أو شرطاً للدخول فی الصّلاة - فجعل الأمر الغیری موقوف علی عبادیّة الوضوء مثلاً ، و عبادیّته موقوفة علی جعل الأمر الغیری ... فالدور حاصل ، سواء وصل الأمر إلی مرحلة التحقّق خارجاً أو لا .
ثمّ أجاب عن الدور : بأنّ عبادیّة الوضوء لیست من ناحیة الأمر الغیری ، بل من جهة استحبابه النفسی الموجود قبل تعلّق الأمر الغیری به .
فقال الأُستاذ : لکنّ الإشکال فی مورد الجاهل و الغافل باقٍ علی حال ، فإمّا أن ترفع الید عن عبادیّة الطهارات فی حقّهما ، و إمّا یقال بأنّ عبادیّتها جاءت من ناحیة الأمر الغیری ، فیعود محذور الدور .
و لکنْ لا یبعد أن یکون نظر الشیخ فی تقریب الدور إلی لزومه فی مرحلة
ص:52
العمل مضافاً إلی مرحلة الجعل ، فهو یرید إضافة إشکال ، و أنّ الدور لازم فی المرحلتین ، لا أنّه ینفی لزومه فی مرحلة الجعل . بل إنّ مقتضی الدقّة هو أنّ إثبات الدور فی مرحلة الامتثال و فعلیة الأمر یستوجب اثباته فی مرحلة الجعل ، و لا عکس ... و کأنّ المیرزا قد غفل عن هذه النکتة ... فبیان الشیخ أمتن من بیان المیرزا ، فتدبّر .
و أشکل المیرزا فی الطّهارات الثلاث ، بإشکال الدور ، و بالنقض بالتیمّم لأنّه لیس بمستحبٍ نفسی ... و قد تقدّم ذکرهما عن الشیخ .
ثمّ أجاب المیرزا عن الإشکال - باستحالة القصد مع الجهل و الغفلة ، و أنّه إذا استحال القصد استحالت العبادیة للطهارات - بأنّه یمکن تحقّق العبادیّة فیها بوجهٍ آخر ، و هو أنّ الأمر بالمشروط ینبسط علی الشرط کانبساط الأمر بالمرکّب علی أجزائه ، و کما أنّ الإتیان بالأجزاء بقصد الأمر بالمرکّب یحقّق لها العبادیّة ، کذلک الأمر المتوجّه إلی المشروط ، فإنّه یتحقّق العبادیّة للشرط ، فالوضوء یؤتی به بداعویّة الأمر المتوجّه إلی الصّلاة ، کما أنّ الرکوع - مثلاً - یؤتی به بداعویّة الأمر بالصّلاة .
فأورد شیخنا الأُستاذ علیه : بأنّ المبنی المذکور غیر مقبول و لا یحلّ المشکل ، فأمّا تعلّق الأمر فی المرکب بالأجزاء فهو أوّل الکلام ، ثمّ إنّ الفرق بین الجزء و الشرط واضح تماماً ، لأنّ الأجزاء داخلة تحت الأمر علی المبنی ، لکنّ الشروط خارجة عنه ، إذ الداخل تحته فیها هو الاشتراط لا الشّرط ، فلیس الوضوء بمطلوب بالأمر بالصّلاة بل المطلوب به تقیّدها و اشتراطها به .
و کذا سیّدنا الأُستاذ و أضاف : بأنه لو سلّم ما ذکر ، فالشرط فیما نحن فیه هو الطهارة لا نفس الوضوء ، و هی مسبّبة عن الوضوء ، و الاشکال فی تصحیح عبادیّة
ص:53
نفس الأعمال المأتی بها ، و هی لا تکون متعلّقةً للأمر الضمنی لأنها لیست شرطاً ... (1) .
فما ذکره لا یحلّ المشکلة .
و أمّا الجواب عن النقض بالتیمّم : بأنّه مستحبٌّ بالاستحباب النفسی ، بالنّظر إلی طائفتین من النصوص ، أفادت الأولی مطلوبیّة الطّهور فی جمیع الأحوال ، و الثانیة کون التیمّم أحد الطهورین ، و محصّلهما کون التیمّم مطلوباً للمولی . فقد ذکره الشیخ قدّس سرّه ، إلّا أنّه قال بعد ذلک ما حاصله : أن أحداً من الفقهاء لم یذهب إلی الاستحباب النفسی للتیمّم .
لکنّ الحق تمامیّة الجواب المذکور ، إذ المستفاد من الصحیحة : « الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهّروا » (2) هو المطلوبیّة النفسیّة للطهارة ، و روی الصدوق مرسلاً : « من تطهّر ثمّ آوی إلی فراشه بات و فراشه کمسجده ... » (3) و فی الخبر أیضاً : « إنّ التیمّم أحد الطهورین » (4) و من جمیع هذه الأخبار یستفاد المطلوبیّة النفسیة للتیمّم ، و مقتضی القاعدة هو الأخذ بظواهر هذه النصوص إلّا أن یثبت إعراض الأصحاب عنها ، لکنّها دعوی ممنوعة ، بل إنّ ظواهر کلمات بعضهم فی بدلیّة التیمّم عن الوضوء ترتّب جمیع آثار الوضوء علی التیمّم .
هذا ، و قد یقال : باستحباب التیمّم نفساً عن طریق الإجماع القائم علی أن رافعیّة الطهارات الثلاث للحدث أو مبیحیّتها للدخول فی الصّلاة متوقفة علی کونها - أی الطهارات - عبادةً ، و ذلک : لأنّه إذا لم یکن الأمر الغیری موجباً لعبادیّتها
ص:54
کان الإجماع المذکور دلیلاً علی الاستحباب النفسی لها ، و إلّا لم یتحقّق العبادیّة للتیمّم .
و أشکل علیه الأُستاذ : بأنّ الإجماع علی مقدمیّة الطهارات للصّلاة و کونها عبادةً لا یثبت الاستحباب النفسی للتیمّم ، لاحتمال استناد المجمعین إلی الروایات التی أشرنا إلیها ، أو لقولهم بأنّ الإتیان بالمقدّمة بداعویّة الأمر الغیری أو التوصّل إلی الصّلاة مقرّب . و مع وجود هذه الاحتمالات لا یکون هذا الإجماع کاشفاً عن رأی المعصوم أو عن دلیل معتبر ... .
و تحصّل اندفاع الاشکال بالنظر إلی الروایات و استظهار الاستحباب النفسی منها .
و أشکل المیرزا أیضاً : بأنّ الطّهارات الثلاث - لکونها مقدّمةً للصّلاة - متّصفة بالوجوب الغیری ، و معه لا یمکن بقاء الأمر النفسی المتعلّق بها بحاله ، للتضادّ بین الأحکام ، وعلیه ، فلا بدّ من الالتزام باندکاک الأمر النفسی الاستحبابی فی الوجوب ، و حینئذٍ ، کیف یمکن أن یکون منشأً للعبادیّة ؟
قال الأُستاذ : و هذا الإشکال أیضاً قد تعرّض له الشیخ و أجاب عنه : بأن زوال الطلب قد یکون بطروّ مفسدة ، و قد یکون بطروّ مصلحةٍ أُخری للطلب ، فإنْ کان الطارئ هو المفسدة فلا مطلوبیة نفسیة ، و إنْ کان هو المصلحة ، فإنّ حدّ المطلوبیّة یزول بعروضها و أمّا أصل المطلوبیة فباق ، و حینئذٍ ، یمکن الإتیان بالطهارة بداعی أصل المطلوبیّة النفسیّة .
و قد أوضح المحقّق الأصفهانی هذا الجواب (1) : بأنّ الوجوب الغیری إن کان الإرادة الشدیدة فلا کلام ، کأن یکون الوضوء - مثلاً - مطلوباً نفسیّاً قبل الوقت
ص:55
و متعلّقاً للإرادة ، ثمّ بعد الوقت تشتدّ الإرادة نفسها فیکون واجباً ... لأنّ الإرادة قابلة للشدّة کما هو معلوم ، نظیر النور ، فإنّه مع مجیء النور الشدید لا ینعدم النور الضعیف السابق علیه . و إن کان الأمر ، بمعنی أنّ الوجوب الغیری أمر آخر غیر الأمر الاستحبابی النفسی ، فلا ریب فی زوال الأمر النفسی بمجیئه ، لاستحالة اجتماع المثلین ، لکنّ ملاکه باق و لا مانع من التقرّب بملاک الأمر النفسی .
و قد تنظّر فیه الاستاذ بما حاصله : أنّه ینافی مسلکه فی الإرادة الغیریّة و الأمر الغیری ، و ذلک لأنّه قد ذهب فیما سبق إلی أنّ الإرادة الغیریّة و الأمر الغیری لا یقبل اللّحاظ الاستقلالی ، لکونه کالمعنی الحرفی ، فلا یصلح للباعثیة ، لأنّه غیر قابل للالتفات النفسی ، نعم ، یتم هذا الجواب علی مسلکنا من أنّ هذه الإرادة و هذا الأمر ملحوظ بالاستقلال ، و یمکن تعلّق القصد به و إنْ کان فی ضمن الإرادة الشدیدة .
هذا تمام الکلام علی إشکال التیمّم ، و مشکلة انقلاب الاستحباب النفسی إلی الطلب الغیری .
أمّا الأول ، فقد اندفع بإثبات استحبابه استحباباً نفسیّاً من الروایات ، و أمّا الثانی ، فقد اندفع بناءً علی أنّ المطلوب بالطلب الغیری ملحوظ باللحاظ الاستقلالی کما اخترناه .
بقی الکلام فی الإشکال : بأن الجاهل أو الغافل غیر الملتفت إلی الاستحباب النفسی ، إنّما یأتی بالطهارات بقصد الأمر الغیری ، و المفروض أنّ الأمر الغیری توصّلی و لیس بعبادی ... فإنّ هذا الإشکال باقٍ بعد ما تقدّم من سقوط جواب المیرزا بدعوی عبادیّتها بنفس الطلب المتعلّق بالصّلاة ، فلنرجع إلی الوجوه الأُخری المطروحة فی حلّ هذا الإشکال ، فقد قال فی الکفایة « و قد تفصّی عن
ص:56
الاشکال بوجهین آخرین ... » (1) و لکنّ الأولی هو التعرّض لکلام الشیخ نقلاً عن التقریرات مباشرةً ، فإلیک محصّل کلامه أعلی اللّٰه فی علوّ مقامه (2) :
إنّ من المقدّمات ما ندرک توقّف ذی المقدّمة علیه ، و منها ما لا ندرکه ، فالأوّل کتوقف الصعود علی السطح علی نصب السلّم ، فإنّ هذا واضح عند کلّ عاقل سواء جاء بیان فیه من الشارع أو لا ، لکنّ توقّف الصّلاة علی الطهارة من القسم الثانی ، فإنّا لا ندرک کیفیّة توقف أفعال الصّلاة من الحرکات و السکنات علی الوضوء مثلاً ، فلا بدّ من الرجوع إلی الشارع ، و من أمره بالوضوء عند القیام إلی الصّلاة نستکشف توقّفها علیه .
ثمّ إنّ الأفعال أیضاً مختلفة ، فمنها : ما یکون حسنه معلوماً ، و منها : ما لا نعلم جهة الحسن فیه ، و منها : ما یختلف بالوجوه فهو من وجهٍ حسن و من وجهٍ قبیح ، کالقیام مثلاً عند دخول الشخص ، فقد یکون تعظیماً و إکراماً له و قد یکون إهانةً ...
و أمر الوضوء من هذا الحیث أیضاً مجهول ، فإنّا لا ندرک أنّ الوضوء فی أیّة حالةٍ یتّصف بالحسن حتی یکون مقدّمةً للصّلاة .
و علی الجملة ، فإنّا جاهلون بالعنوان الذی به یتّصف الوضوء بالحسن و المقدمیّة للصّلاة ، و لکنّ الشارع لمّا أمر بالوضوء أمراً غیریّاً ، کان أمره بذلک طریقاً لأنْ نأتی بالوضوء بعنوانه ، و إنْ کان العنوان علی حقیقته مجهولاً عندنا .
و حاصل هذا الوجه :
أوّلاً : لیس الحسن و المقدمیّة للوضوء بالنسبة إلی الصّلاة حاصلاً من جهة نفس الأمر الغیری حتی یلزم الدور ، بل ذلک یحصل من عنوانٍ یکون الأمر
ص:57
الغیری طریقاً إلیه .
و ثانیاً : إنّ الأمر الغیری لا یوجب القرب و الثواب کما تقدّم ، لکنّ العمل قد تعنون بعنوانٍ ، فکان الإتیان به مقرّباً لذلک العنوان ، غایة الأمر هو مجهول ، و لا ضیر فی ذلک .
و ثالثاً : صحیح أنّ الأمر الغیری المتعلّق بالوضوء توصّلی ، و لا یمکن أن یکون تعبّدیاً - و الحال أنّ الوضوء عبادة - لکنّ عبادیّة الوضوء لم تنشأ من ناحیة هذا الأمر حتی یرد الإشکال ، و إنّما هی من ناحیة ذلک العنوان المجهول الذی کان الأمر الغیری طریقاً إلیه ، فاندفع الإشکال . لکنّ عبادیّة العمل منوطة بالقصد ، و مع الجهل بالعنوان الموجب للعبادیّة کیف یقصد ؟ فأجاب الشیخ : بکفایة قصد الأمر الغیری ، لأنّه یدعو إلی الإتیان بالوضوء بذلک العنوان ، فصار العنوان مقصوداً عن طریق الأمر الغیری .
هذا ، و لا یخفی أنّ بهذا الوجه تنحلّ مشکلة التیمّم أیضاً - لأنّ الشیخ قد أشکل علی استحبابه النفسی لظاهر الأخبار ، بعدم ذهاب الأصحاب إلی ذلک - فإنّه یتم استحبابه و یکون مقدّمةً للصلاة بعنوانٍ یکون الأمر الغیری طریقاً إلیه و کاشفاً عنه .
لکن یرد علی هذا الوجه :
أوّلاً : ما ذکره الشیخ نفسه من أنّ عدم درکنا لکیفیّة توقف ذی المقدّمة علی المقدّمة و ترتّبه علیها ، غیر منحصر بالطهارات الثلاث ، فإنّ للصّلاة مقدّمات أُخری أیضاً قد اعتبرها الشارع مقدّمةً لها و نحن نجهل کیفیة توقّفها علیها ، فلو کانت المقدمیّة المأخوذة شرعاً توجب عبادیّة المقدّمة و لزوم الإتیان بها بعنوان العبادة ، فلا بدّ من القول بذلک فی تلک المقدّمات أیضاً ، مع أنّ وجوب
ص:58
الإتیان بقصد القربة و بالوجه الحسن یختصُّ بالطهارات الثلاث فقط .
و ثانیاً : ما ذکره المحقّق الخراسانی من أنّه کما یمکن قصد ذلک العنوان - الموجب لحسن العمل و المجهول عندنا - بطریقیّة الأمر الغیری ، کذلک یمکن قصده بنحو التوصیف ، کأن یقصد الوضوء بوصف کونه مأموراً به ، فلا یکون إتیانه بالوضوء بداعویّة الأمر و طریقیّته ، و إذا أمکن قصد تلک الخصوصیّة المجهولة بالتوصیف - لا بمحرکیّة الأمر الغیری - أمکن أنْ یکون الداعی شیئاً آخر غیر أخذ الشارع ، فمن أین تحصل العبادیّة ؟
هذا ، و ذکر المحقّق الخراسانی وجهاً آخر و هو : إنّه لا ریب فی عبادیّة نفس الصّلاة ، و أنّها یؤتی بها بالوجه القربی - سواء بالأمر الأوّل أو بالأمر الثانی - و کما أنّ الأمر قد اقتضی الإتیان بذی المقدّمة - أی الصّلاة - بوجهٍ قربی ، کذلک یقتضی أن یؤتی بمقدّماته علی الوجه المزبور . إذن ، لم یکن الإتیان بالطّهارات بالأمر الغیری ، لیرد الإشکال بأنّه لا یوجب العبادیّة ، بل إنّه باقتضاء الأمر بالصّلاة نفسه .
قال الأُستاذ : حاصله : لزوم الاتیان بالطهارات بقصد القربة باقتضاء نفس الأمر المتوجّه إلی الصّلاة ، لکنّ هذا الوجه لم یوضّح کیفیّة تأثیر الأمر المتعلّق بالصّلاة فی مقدّمات الصّلاة و هی الطهارات الثلاث .
و ذکر المحقّق الخراسانی وجهاً آخر و حاصله : أنّه کما تمّت العبادیّة للصّلاة بمجموع أمرین ، تعلّق الأوّل بالأقوال و الأفعال و الثانی بوجوب الإتیان بها بقصد القربة ، کذلک تتمّ العبادیة للطّهارات بأمرین ، أفاد أحدهما وجوب الإتیان بالغسلات و المسحات - فی الوضوء مثلاً - و الثانی وجوب الإتیان بها بقصد القربة وداعی الأمر الشرعی ... فلا تکون عبادیّتها بالأمر الغیری .
ص:59
قال الأُستاذ :
و فیه : الفرق الواضح بین الصّلاة و الطهارات ، لأنّ الأمر الأوّل المتعلّق بأجزاء الصّلاة کان أمراً نفسیّاً ، و هو مقرّب ، و الامتثال له موجب للثواب ، بخلاف الأمر فی الطهارات ، فإنّ الأمر الأوّل فیها غیری ، فلو جاء أمر آخر یقول بلزوم الإتیان بها بداعی الأمر ، فأیّ أمر هو المقصود ؟ إن کان الأمر الأوّل فهو غیری ، و الأمر الغیری لا یستتبع ثواباً و عقاباً ، و إنْ کان غیره فما هو ؟
و تلخص :
إن مشکلة عدم استتباع الأمر الغیری للثواب و العقاب باقیة علی المبنی ، و أنّه کیف یکون ممتثلاً من أتی بالطهارة مع الغفلة عن الاستحباب النفسی لها ؟
و ذکر المحقّق الایروانی : أنّ الاشکال المهم فی المقام هو : عدم إمکان عبادیّة المقدّمة التی تعلّق بها الأمر الغیری ، لأنّها إنّما جعلت مقدّمة من أجل التوصّل بها إلی ذیها ، فبنفس الغسلات و المسحات یتحقّق المقدّمة و لا یعتبر فیه قصد القربة .
فأجاب : بأنّ توقّف الصّلاة علی الطهارة لیس من قبیل توقّف الکون علی السطح علی نصب السلّم ، إذ الأمر بذلک غیر مقیّد بنصبه ، بخلاف بنصبه ، لکنّ الأمر بالصّلاة فإنه مقیَّد بالطهارة ، فیکون تقیّدها بها داخلاً فی المأمور به ، فکانت الصّلاة مرکّبةً من الأجزاء الواقعیّة کالتکبیر و الرکوع و السجود ... و من جزءٍ عقلی هو تقیّدها بالطّهارة ... و لمّا کانت الصّلاة عبادة مقیّدةً بهذه القیود ، فإنّ مقتضی عبادیّتها أن یؤتی بجمیع القیود علی الوجه القربی و منها التقید المذکور ، لکن الإتیان ب« التقیّد » علی الوجه المذکور لا یتحقّق إلّا بالإتیان ب« القید » و هو « الوضوء » مثلاً علی ذلک الوجه ... فتحقّق العبادیّة للطهارات الثلاث و لزوم
ص:60
الإتیان بها علی الوجه القربی .
إشکال الأُستاذ
و أورد علیه الأُستاذ بوجهین : أحدهما فی قوله فی طرح الاشکال بعدم امکان کون الأمر الغیری عبادیّاً ، و أنّه غیر معقول . فإنّ فیه : أنّ المقدّمة هی ما یتوقّف علیه الشیء ، و هو قد یکون عبادةً تتقوّم بالقصد ، و قد لا یکون کذلک .
و الثانی فی قوله فی تقیّد الصّلاة بالطهارة بأنّه عبادی . ففیه : أن کونه عبادة یحتاج إلی دلیلٍ ، فإنْ کان الدلیل علیه هو نفس الدلیل علی وجوب الإتیان بالصّلاة بقصد القربة ، بتقریب أنّ الصّلاة فی هذه الحال مرکّبة من التقیّد و من الأجزاء ، فإن هذا یتوقّف علی دخول التقیّد المذکور فی ماهیّة الصّلاة بحیث لا یصدق عنوان الصّلاة إنْ جرّدت عنه ، و الحال أنه لیس کذلک ، بل یصدق عنوان الصّلاة علی الفاقدة للتقیّد .
و علی فرض دخول التقیّد فی الصّلاة کذلک ، فما الدلیل علی ضرورة کون القید - کالوضوء مثلاً - عملاً عبادیّاً حتی یتحقّق التقیّد ؟ بل إنّ الصّلاة مقیّدة بعدم الخبث فی لباس المصلّی ، فکان التقیّد داخلاً ، مع أنّ غسل الثوب المحصّل له لیس بعملٍ عبادی .
و ذکر بعضهم : إنّ منشأ العبادیّة للطهارات هو قابلیّتها للتقرّب إلی المولی ، و هذا کاف لترتّب الآثار کالثواب ... و یشهد بکفایة القابلیّة ارتکاز المتشرعة ، فإنّهم لا یأتون بالوضوء - مثلاً - بداعی استحبابه النفسی ، بل یأتون به بعنوان أنه بنفسه قابل للتقرّب به إلی المولی .
اشکال الأُستاذ
فأورد علیه الأُستاذ : بأنْ الأُمور ثلاثة ، فمنها : ما لا یصلح للمقربیّة لأنّه
ص:61
لا یقبل الإضافة إلی المولی أصلاً کالظلم ، لقبحه الذاتی . و منها : ما یصلح لذلک لأنّه یقبل الإضافة إلیه کالعدل ، لحسنه الذاتی ، و منها : ما لا یصلح لذلک إلّا بعد الإضافة و أمّا قبلها فلا ، و الحاکم فی صلوحه لذلک هو العقل ، و العقل یری المقربیّة فی أحد أمرین إمّا أن یکون مقرّباً بالذات کالتعظیم ، و إمّا أن یکون مقرّباً بالعرض ... و الطهارات الثلاث لیست عبادةً بالذات ، و عبادیتها بالعرض موقوف علی إضافتها إلی المولی ، بأنْ یؤتی بها بداعی الأمر أو المحبوبیّة ، فلا یکفی مجرّد القابلیّة فیها للعبادیّة .
و قال السید الخوئی : « و الصحیح فی المقام أن یقال : إنّ منشأ عبادیّة الطّهارات الثلاث أحد أمرین علی سبیل منع الخلو أحدهما : قصد امتثال الأمر النفسی المتعلّق بها مع غفلة المکلّف عن کونها مقدمة لواجب أو مع بنائه علی عدم الإتیان به ، کاغتسال الجنب - مثلاً - مع غفلته عن إتیان الصلاة بعده أو قاصد بعدم الإتیان بها ، و هذا یتوقّف علی وجود الأمر النفسی ، و قد عرفت أنّه موجود .
و ثانیهما : قصد التوصّل بها إلی الواجب ، فإنّه أیضاً موجب لوقوع المقدّمة عبادة و لو لم نقل بوجوبها شرعاً ، لما عرفت فی بحث التعبّدی و التوصّلی من أنّه یکفی فی تحقّق قصد القربة إتیان الفعل . مضافاً به إلی المولی و إن لم یکن أمر فی البین » (1) .
إذن ، ارتفع الإشکال ، لأنّ عبادیّة العمل أصبحت منوطةً بإضافته إلی المولی و هی متحقّقة ، کما یرتفع اشکال ترتّب الثواب ، لأنّه قد أتی بالعمل بقصد التوصّل إلی الواجب النفسی لا بداعی الأمر الغیری .
ص:62
قال الأُستاذ
إنّ هذه النظریّة متّخذة من کلام الشیخ الأعظم رحمه اللّٰه فی باب التعبّدی و التوصّلی ، و من کلام له فی باب المقدّمة .
قال الشیخ فی الفرق بین التعبّدی و التوصّلی کما فی ( التقریرات ) (1) : بأنّ الفرق بینهما لیس من ناحیة الأمر ، بل من ناحیة الغرض و المصلحة القائمة بمتعلّق الأمر ، ففی التوصّلی تتحقّق المصلحة بالإتیان بالمتعلّق ، أمّا فی التعبّدی فلا ، بل لا بدّ من الإتیان بقصد الامتثال ، فیکون فی التوصّلی أمر واحد ، و فی التعبدی أمران ، یتعلّق الأول منهما بالعمل کقوله صلّ ، و الثانی یقول : أقم الصلاة بقصد الامتثال وداعی الإطاعة ، و هذا ما أخذه المیرزا و اصطلح علیه ب« متمم الجعل » .
و قال الشیخ فی باب المقدّمة (2) : بأنّ التوصّل إلی ذی المقدمة تارةً : یکون بصرف وجود الأمر الغیری بلا دخلٍ لأمرٍ آخر ، و أُخری : لا یتحقّق التوصّل إلی ذی المقدّمة إلّا بالإتیان بالمقدّمة بداعی التوصّل إلی ذیها ، إذن ، لا بدّ من أمرٍ آخر لإفادة هذا المعنی و تحقیق الغرض من الأمر ، کما هو الحال فی التعبّدی و التوصّلی ، مع فرق بینهما هو أنّ الأمرین هناک کلاهما نفسی ، بخلاف المقام فإنّ الأمرین کلیهما غیریّان ، لتعلّق الأول بالوضوء و هو مقدمة للصّلاة فهو غیری ، و کذلک الثانی الذی أفاد الإتیان بالوضوء بداعی التوصّل إلی الصّلاة کما لا یخفی .
و قال الأُستاذ دام بقاه : بأنّ الإتیان بالعمل بداعی الأمر الغیری یرفع جمیع المشاکل ، فإنّه یرفع مشکلة ترتّب الثواب و یرفع مشکلة عبادیة الطهارات
ص:63
الثلاث ، و علی الجملة ، فإنّ العبادیّة تتحقّق بالأمر الغیری و تترتّب علیه جمیع الآثار .
أمّا ترتّب الثواب ، فیکفی فیه الإتیان بالعمل مضافاً إلی المولی ، فإذا أُضیف إلیه صلح لأنْ یکون مقرّباً إلیه و لأن یترتّب علیه الأجر و الثواب ، بل العقل حاکم بکفایة الإتیان به بمجرّد کون المحرّک نحوه مطلوبیّته للمولی ، فلا خصوصیّة لإضافته إلیه ، بل إنّ حصوله بداعٍ إلهی یجعله مورداً للثواب ، و الإتیان بالطهارات کذلک ، و إنْ کان الطلب الدّاعی له غیریّاً لا نفسیّاً .
و کذلک عبادیّة العمل ، فإنّها تتحقّق بإضافته إلی المولی و إنْ کان الطلب المتوجّه إلیه غیریّاً ، لعدم الفرق فی تحقّق الإضافة بین الطلب النفسی و الغیری ، و الأمر فی الطهارات الثلاث من هذا القبیل ، فالعبادیّة متحقّقة فیها بالأمر الغیری و لا إشکال فی ذلک ، إلّا مشکلة الدور التی ذکرها الشیخ ، لأن متعلّق الأمر فیها لیس هو الأفعال من الغسل و المسح ، بل الأفعال بوصف العبادیّة ، فلو تحقّقت العبادیّة لها من ناحیة الأمر الغیری لزم الدور .
و قد تقدّم منّا حلّ هذه المشکلة : بأنها تبتنی علی أنْ تؤخذ فی متعلّق الأمر الغیری خصوصیّة الإتیان به بقصده ، إذْ یلزم تقدم المتأخّر و تأخّر المتقدّم ، أو لا تؤخذ و لکنّ الإطلاق یکون بنحو جمع الخصوصیّات ، فتکون الخصوصیّة المذکورة مأخوذةً فی ضمنها ، و أمّا إذا کان المتعلّق و هو الغسل و المسح فی الوضوء مطلقاً بنحو رفض القیود ، کان المأخوذ فیه طبیعة العبادیّة ، و یکون الإتیان به بقصد الأمر الغیری من مصادیق الطبیعة ، فالأمران مختلفان و الدور غیر لازم .
و تلخّص : إنّ منشأ عبادیّة الطهارات الثلاث أحد أُمور ثلاثة :
1 - قصد امتثال الأمر الاستحبابی النفسی ، فالعمل مضاف إلی المولی . ذکره
ص:64
المحقّق الخراسانی .
2 - قصد التوصّل بها إلی الواجب النفسی ، لأنّه یتحقّق لها بذلک إضافة إلی المولی . ذکره الشیخ .
3 - قصد الأمر الغیری ، لأنّه یضاف العمل للمولی ، و إشکال الدور مرتفع بما ذکرناه ، و إن کان من الشیخ و ارتضاه الآخرون ، و قال فی ( المحاضرات ) : بأنّ الأمر الغیری لا یعقل أن یکون منشأً لعبادیّتها (1) . فقد ظهر أنّه معقول ، لأنّ الدور إنّما یلزم لو أُخذ خصوص الأمر الغیری فیها ، أمّا مع أخذ العبادیّة مطلقاً أی بنحو رفض القیود فلا یلزم .
و هذا تمام الکلام فی الطهارات الثلاث .
ص:65
ص:66
ص:67
ص:68
ثم إنّه قد وقع الخلاف بین الأعلام فی متعلّق الوجوب الغیری ، فهل هو مطلق المقدمة أو خصوص حصّة معیّنة منها ؟ أقوال :
أحدها : ما نسب إلی صاحب المعالم : من اشتراط وجوب المقدمة بالعزم و الإرادة علی الإتیان بذیها ... فیکون قیداً للوجوب .
و الثانی : ما نسب إلی الشیخ من أنّ متعلّق الوجوب : المقدّمة التی قصد بها التوصّل إلی الواجب ... فیکون قیداً للواجب .
و الثالث : ما اختاره صاحب الفصول : من أنّ متعلّق الوجوب هو المقدّمة الموصلة إلی ذی المقدّمة .
و الرابع : ما نسب إلی المشهور : من أنّ متعلّق الوجوب هو المقدّمة .
إنّ کلمات صاحب ( المعالم ) مضطربة مختلفة ، فله کلام یحتمل أنّه یرید کون الوجوب مشروطاً بإرادة ذی المقدّمة بنحو القضیّة الشرطیة ، و أن یرید أنّها واجبة حین إرادة ذی المقدّمة بنحو القضیّة الحینیّة .
و کلامه علی کلّ تقدیر غیر مقبول ، لأنّه بناءً علی وجوب المقدّمة ، فإنّ المبنی فیه هو الملازمة بین مطلوبیّة ذی المقدمة بالطلب النفسی و مطلوبیّة المقدمة بالطلب الغیری ، وعلیه یکون وجوبها تابعاً لوجوبه و لا تفکیک بینهما ،
ص:69
و حینئذٍ ، یستحیل تقیّد وجوب المقدمة بإرادة ذیها ، لأنّ الوجوب إنما هو من أجل أن یؤثّر فی الإرادة ، فاشتراطه بها تحصیل للحاصل ... و وجوب شیء فی حال أو حین إرادة ذلک الشیء ، فإنّه تحصیل للحاصل کذلک .
إذن ، لیس وجوب المقدّمة مشروطاً بإرادة ذی المقدّمة ، و لا هو فی حال إرادته .
و الحاصل ، إنّه بعد ثبوت التبعیة ، یستحیل الاشتراط بالإرادة أو التقیید بحالها ، و إلّا یلزم التفکیک بین الوجوبین الغیری و النفسی .
و هو القول المنسوب إلی الشیخ ( التقریرات ) (1) ، بأنّ المقدّمة مقیّدة بداعی التوصّل ، و هو قید اختیاری ، بخلافه فی القول الثالث ، فإنّه قید قهری کما سیأتی ، ... و أیضاً ، هو قیدٌ للواجب لا للوجوب .
و قد استدلّ لهذا القول :
بأنّ ما یتوقّف علیه الشیء معنون بعناوین ، لکنّ العنوان الذی یدخل تحت الأمر الغیری بحکم العقل هو عنوان المقدمیّة لذی المقدّمة ، فنصب السلّم مثلاً یتصوّر له أکثر من عنوان ، إلّا أنّ متعلّق الأمر الغیری فیه عنوان المقدمیّة للصعود إلی السطح ، إذ الأمر لم یتعلّق به بعنوان نصب السلّم بما أنّه کذلک بل بما أنّه مقدّمة ... و إذا کان هذا هو المتعلّق للأمر ، فلا ریب أنّ الأمر لا یدعو إلّا إلی متعلّقه ، و داعویّته لغیر المتعلّق مستحیلة ، فإذا لم یؤت به بهذه الخصوصیّة لم یتحقّق الامتثال .
و علی هذا ، فإن مصداق الواجب - سواء فی المقدّمات العبادیّة أو غیرها -
ص:70
هو ما أُتی به بقصد المقدّمة لذیها ، و إنّ ما یُحقّق عنوان المقدمیّة هو الإتیان بداعی التوصّل ، غیر أنّه فی العبادیّات یعتبر قصد القربة أیضاً .
و قد أیّد الشیخ مطلبه بما فی الأوامر العرفیّة ، فلو أمر المولی عبده بتحصیل الثمن و شراء اللّحم به ، ثم حصل الثمن لا بقصد شراء اللّحم ، لم یکن تحصیله عند العرف امتثالاً للأمر ، لأنّه قد أمر بتحصیل الثمن لاشتراء اللّحم .
و فرّع الشیخ علی مسلکه مسألتین :
أحدهما : إنّه لو کان علی المکلّف صلاة قضاءٍ ، فتوضّأ قبل الوقت لا بداعی الصّلاة الفائتة و لا بقصد غایةٍ من الغایات للوضوء ، فلا یجوز له الصّلاة به ، لأنّ المتعلّق للوجوب هو المقدّمة المأتی بها بداعی التوصّل لذی المقدّمة .
و ثانیهما : إنّه لو اشتبهت القبلة فصلّی المکلّف إلی جهةٍ من الجهات من غیر أن یقصد بها التوصّل إلی الاحتیاط الواجب ، - کأن لم یُرد الصلاة إلی الجهات الأُخری - بطلت صلاته . و لذا لو عزم علی الاحتیاط بالصّلاة إلی الجهات وجب علیه إعادة تلک الصّلاة ، أمّا لو قلنا بعدم اعتبار قصد التوصّل ، فإنّه لو قصد الصّلاة إلی جهةٍ واحدةٍ فقط ، ثمّ بدا له و أراد الصّلاة إلی جمیعها عملاً بالاحتیاط ، لم تجب علیه إعادة الصّلاة الأولی .
و أورد علیه المیرزا - و تبعه الأُستاذان (1) - بخروج هذه الثمرة عن البحث ، لأنّ البحث فی المقدّمة الوجودیة لا العلمیّة .
هذا فی العبادات .
و أمّا فی غیرها ، فمن المقدّمات ما لا یعتبر فیه قصد التوصّل ، فلا فرق بین رأی الشیخ و رأی المشهور ، مثل غسل الثیاب لا بداعی التوصّل إلی الصّلاة . و منها
ص:71
ما یعتبر فیه ذلک ، و تتحقّق الثمرة بین القولین فیما لو أمر بإنقاذ الغریق و توقف ذلک علی التصرّف فی ملک الغیر ، فیقول الشیخ : بأنّه لو تصرّف بداعی إنقاذ الغریق فلا حرمة ، لأنّ متعلّق الوجوب هو التصرّف بداعی التوصّل به إلی الإنقاذ ، و لمّا کان الإنقاذ أهمّ فلا تبقی الحرمة ، أمّا لو تصرّف لا بداعی التوصّل به للإنقاذ فالحرمة باقیة و إن حصل الإنقاذ .
و قد تصدّی المحقّق الاصفهانی (1) لتوجیه کلام الشیخ بما تقریبه :
1 - إنّ الأحکام العقلیّة منها نظریّة و منها عملیّة ، فمن أحکام العقل النظری :
استحالة اجتماع النقیضین و ارتفاعهما ، بل هذا هو أُمّ القضایا فیها . و من أحکام العقل العملی : حسن العدل و قبح الظلم ، بل هذا هو أُمّ القضایا فیها .
أمّا الأحکام الشرعیّة ، فإنّ الغایات منها - و هی متأخّرة وجوداً و متقدّمة فی اللّحاظ - هی العلل لجعل تلک الأحکام ، فالحکم یتوجّه إلی ذات العمل و لیس فی متعلّقه قید « کونه ذا مصلحة » بل إنّ کونه کذلک علّة للحکم ، فالمصلحة المترتّبة علی العمل خارجاً متأخّرة عن العمل ، لکنّها فی الحقیقة هی العلّة للحکم ، بخلاف الأحکام العقلیّة - مطلقاً - فإنّ متعلّق الحکم فیها هو المصلحة و هی الموضوع ، فنقول فی الأحکام الشرعیّة : هذا واجب لأنّه ذو مصلحة . و فی الأحکام العقلیّة نقول : ذو المصلحة واجب ، فیکون اللزوم و الوجوب متعلّقاً ب« ذو المصلحة » و هو الموضوع للحکم ... فالعقل یدرک استحالة الدور - فی الأحکام الشرعیّة - و هذه الکبری تطبّق علی مواردها ، مثل ما تقدّم فی محلّه : من أنّ أخذ قصد الأمر فی المتعلّق محال ... فهو لا یدرک استحالة أخذه کذلک ، بل
ص:72
یدرک الکبری التی هذا المورد من صغریاتها .
و فی الأحکام العملیّة کذلک ، فهو لا یدرک أنّ ضرب الیتیم تأدیباً حسن بل یدرک : التأدیب حسن ، ثم الکبری تطبّق علی هذه الصغری ، فهو یحکم بحسن ضرب الیتیم لکونه مصداقاً لکبری حسن العدل .
فعلی هذا ، فإن القیود فی الأحکام العقلیة تدخل تحت الطلب ، أی کون العمل ذا مصلحةٍ ، أو کونه عدلاً ، بخلاف الأحکام الشرعیّة ، فإن کون صلاة الظهر ذات مصلحةٍ ثابت ، لکنّ هذا القید غیر داخلٍ تحت الأمر بل هو العلّة له .
هذا ، و البرهان علی رجوع أحکام العقل النظری کلّها إلی اجتماع النقیضین و ارتفاعهما هو : أنّ کلّ ما بالعرض ینتهی إلی ما بالذات . و علی هذا الأساس أیضاً ترجع أحکام العقل العملی إلی حسن العدل و قبح الظلم .
هذا ... فیقول الأصفهانی : إنّ ما ذکره الشیخ صحیح علی القاعدة ، لأنّ المفروض کون وجوب المقدمة من باب الملازمة بینها و بین ذیها ، و الملازمة حکم عقلی ، و إذا کان کذلک ، فلیس نصب السلّم بموضوعٍ للوجوب ، بل موضوعه هو الصعود علی السطح ، فنصب السلّم المقصود بالعرض ، المنتهی إلی ما بالذات هو المقدّمة ... و هذا العنوان لا یتحقّق بدون الداعی للتوصّل إلی ذی المقدّمة .
إنّ هذا الذی ذکره المحقّق الاصفهانی إنّما یتمّ فی الأحکام العقلیّة ، فالتأدیب مثلاً هو موضوع الحکم لا خصوص ضرب الیتیم ... أمّا فی الأحکام الشرعیّة فلا ، و مقامنا من الأحکام الشرعیّة و إن کان الکاشف عنه هو العقل ... لأنّ وجوب المقدّمة شرعاً - علی القول به - حکم غیری ، من جهة أنّ من یطلب شیئاً
ص:73
فهو طالب لمقدّمته أیضاً ، للتلازم بین إرادته و إرادتها ، فهذا ثابت فی عالم الثبوت ، غیر أنّ الکاشف عنه فی عالم الإثبات هو حکم العقل . فکون الحیثیات التعلیلیّة - مثل کون العمل ذا مصلحةٍ کما تقدّم - حیثیّات تقییدیّة و موضوعات للأحکام العقلیّة ، صحیح فی الأحکام العقلیّة ، لکنّ وجوب المقدّمة حکم شرعی کما هو المفروض ، فلا تنطبق علیه القاعدة المذکورة ... بل إنّ موضوع الحکم الشرعی فی المقام هو ذات المقدّمة فقط ... وفاقاً للمحقّق الخراسانی .
2 - إنّه دائماً یتعلّق الأمر بالحصّة المقدورة ، و ما کان خارجاً عن الاختیار فلا یتعلّق الأمر به ، وعلیه ، فالمتعلّق للأمر الغیری هو الحصّة المقدورة ، الاختیاریة ، و هی ما قصد به المقدمیّة و التوصّل به إلی الغیر .
و أورد علیه فی ( المحاضرات ) (1) : بأنّ هذا إنّما یتمّ فیما إذا کانت القدرة علی المتعلّق مأخوذةً فیه شرعاً و واردة فی لسان الدلیل ، کما فی آیة الحج ، بناءً علی تفسیر « الاستطاعة » ب« القدرة » ، و کذا فی آیة التیمّم ، بناءً علی أنّ المراد من « الوجدان » هو « القدرة » علی الاستعمال شرعاً ... لأنّه لا یمکن کشف الملاک فی أمثال هذه الموارد إلّا فی خصوص الحصّة المقدورة . و أمّا الحصّة الخارجة عن القدرة ، فلا طریق للکشف عنه فیها .
و أمّا إذا کانت القدرة معتبرة فی المتعلّق بحکم العقل ، فلا یتم ما ذکر ، لأنّ القدرة علی بعض أفراد الطبیعة یکفی لتحقّقها علی الطبیعة .
و لمّا کان اعتبار القدرة علی المقدّمة حکماً عقلیّاً ، لأنه الحاکم بأنّه لو لا القدرة علیها فلا وجوب ، فلا محالة لا یکون وجوبها مختصّاً بما یصدر من
ص:74
المکلّف عن اختیار ، بل یعمّه و غیره ، و إذا کان الواجب هو الطبیعی الجامع بین المقدور و غیره ، کان الإتیان به لا بقصد التوصّل مصداقاً للطبیعی ، فلا موجب لتخصیصه بالحصّة المقدورة .
قال الأُستاذ : قد تقدّم أنّ مراد الشیخ هو أنّ متعلّق الوجوب لیس هو ذات المقدّمة بما هی ذات ، و لا بما هی معنونة بعنوانٍ من العناوین ، بل المتعلّق هو الذات المعنونة بعنوان المقدمیّة ، فلو أتی بها بدون قصد المقدمیّة کأن یصلّی صلاة الظهر لا بقصد عنوان الظهر ، فلا یتحقق الامتثال و لا یسقط الأمر .
و إذا کان هذا مراده ، فلا ربط لکلام المحقّق الأصفهانی به ، و لا لجواب المحاضرات و إن کان صحیحاً فی حدّ ذاته .
و تلخّص : إنّ الاشکال الوارد علی الشیخ هو : أنّ ما ذکره إنّما یتم فی الأحکام العقلیّة ، ففیها یدخل العنوان تحت الطلب ، أمّا فی الأحکام الشرعیّة المستکشفة بالعقل فلا ... .
و تعرّض المحقّق الخراسانی (1) لمسلک الشیخ بالنقض و الحلّ ... فذکر أُموراً :
1 - إنّ الأمر معلول للغرض ، و لا یعقل أن یکون أخصّ من الغرض . و هذا مراده من أنّ کلام الشیخ یستلزم التخصیص بلا مخصّص ... و توضیحه :
إنّ الغرض من الأمر بالمقدّمة هو تحقّق ذیها ، لأنّه یتوقّف علیها ، و هذا الغرض یتحقّق سواء أُتی بالمقدّمة بداعی التوصّل إلی ذی المقدّمة أو لا بهذا
ص:75
الداعی ، فتخصیص متعلّق الأمر الغیری بالحصّة التی یؤتی بها بهذا الداعی بلا مخصّص .
2 - إنّه لو أتی بالمقدّمة لا بداعی التوصّل ، ثمّ بدا له أن یأتی بذی المقدّمة ، لم یجب إعادة المقدّمة ، و هذا دلیلٌ علی عدم تقیّد متعلّق الأمر الغیری بالإتیان به بداعی التوصّل ، و عدم دخول عنوان المقدمیّة تحت الطلب ، بل الأمر یسقط و یتحقّق الامتثال بلا قصدٍ للتوصّل .
3 - إنّ الشیخ أشکل علی صاحب الفصول القائل بالمقدّمة الموصلة : « بأنّ مناط المقدمیّة هو ما یلزم من عدمها عدم ذی المقدّمة » فکلّ ما کان کذلک فیدخل تحت الطلب دون غیره ، و قید « الموصلیّة » لا یلزم من عدمه عدم ذی المقدمة .
فقال المحقّق الخراسانی : بأنّ هذا الاشکال یرد علی الشیخ نفسه القائل بتقیّد المقدّمة : بالمأتی بها بداعی التوصّل إلی ذیها .
هذا ، و قد ذهب المحقّق الخراسانی إلی عدم اعتبار قصد التوصّل ، و عدم اعتبار الموصلیّة ، قال : « فهل یعتبر فی وقوعها علی صفة الوجوب أن یکون الإتیان بها بداعی التوصّل ... أو ترتّب ذی المقدّمة علیها ... أو لا یعتبر فی وقوعها کذلک شیء منهما ؟ الظاهر عدم الاعتبار » .
ثمّ قال بعد المناقشة مع الشیخ : « نعم ، إنّما اعتبر ذلک فی الامتثال ، لما عرفت من أنّه لما یکاد یکون الآتی بها بدونه ممتثلاً لأمرها و آخذاً فی امتثال الأمر بذیها فیثاب بثواب أشق الأعمال » .
و حاصل کلامه : عدم دخل قصد التوصّل فی متعلّق الأمر الغیری ، نعم له دخل فی عبادیّة المقدّمة .
و قد فرّع علی ذلک فی مسألة الدخول فی ملک الغیر لإنقاذ الغریق ، بناءً
ص:76
علی مختاره من أنّ الغرض هو تحقّق ذی المقدّمة فیؤتی بالمقدّمة لتوقّفه علیها :
بأنّ التوقف موجود سواء دخل لقصد التوصّل أو لا ، فترتفع الحرمة حیث یکون الإنقاذ موقوفاً علی الدخول ، غیر أنّه یختلف باختلاف حال المکلّف من حیث الالتفات إلی التوقّف و عدمه ، فتارةً : لا یکون ملتفتاً إلی توقف ذی المقدّمة - و هو الإنقاذ - علی الدخول ، ففی هذه الحالة یکون دخوله فی تلک الأرض مع اعتقاد الحرمة تجرّیاً ، لأنّه قد أتی بما هو واجب علیه واقعاً مع اعتقاد حرمته . و أُخری :
یکون ملتفتاً إلی المقدمیّة و التوقف ، فیکون دخوله حینئذٍ تجرّیاً بالنسبة إلی ذی المقدّمة ، لأنّ المفروض عدم قصده التوصّل إلیه مع وجوبه علیه . و ثالثة :
یکون ملتفتاً و یقصد التوصّل ، لکن هذا القصد ناشئ من داعٍ آخر ، فیکون دخوله واجباً ، فلا معصیة و لا تجرّی أصلاً .
ثمّ إنّ الأُستاذ وافق علی الإیراد علی الشیخ بذلک - و إن کان له نظر فی کلام الکفایة - و سیأتی فیما بعد .
و حاصل الاشکال علی الشیخ : إنّه لا مانع ثبوتاً من أخذ قصد التوصّل فی امتثال الأمر الغیری المتعلّق بالمقدّمة ، و لکنّ الاشکال فی مقام الإثبات ، لأنّ الدلیل الإثباتی إن کان عن طریق الملاک ، فلا وجه لحصر الملاک فی هذه الحصّة بل هو أعمّ . و إن کان أخذ الشارع فی لسان الدلیل ، فهو غیر موجود . و إن کان الارتکاز العرفی ، فالحقّ عدم وجود هکذا ارتکاز عند العرف و العقلاء .
المذکور محقّق لعبادیّة المقدّمة ، لا أنّه مأخوذ قیداً لمتعلّق الأمر الغیری . و احتمل ثانیاً : أن یکون مراده اعتبار القید المذکور فی مقام التزاحم بین حکم المقدّمة و حکم ذیها ، کما إذا کانت المقدّمة محرّمة ، کالدخول فی ملک الغیر و ذو المقدّمة واجب کإنقاذ الغریق ، ففی هذه الصورة ترتفع الحرمة عن المقدّمة لأهمیّة ذیها منها ... ثمّ ذکر أنّه لو عصی و لم ینقذ الغریق ثبتت حرمة التصرّف فی ملک الغیر ، من باب الترتّب .
و عقب الأُستاذ علی کلام المیرزا : بأن لا اضطراب فی کلام التقریرات ، فإنّه صریح فی نسبة القول بأخذ القید المذکور فی المتعلّق .
و أمّا ما ذکره المیرزا من صورة المزاحمة ، فإنّها بین الحرمة النفسیّة للمقدّمة و بین الوجوب النفسی لذیها ، سواء قیل بوجوبها أو لا . و الحاصل : إنّه لا یتوقّف التزاحم فی المثال المذکور علی القول بوجوب المقدّمة مطلقاً ، أو بقید التوصّل کما عن الشیخ ، أو بقید الموصلیّة کما عن صاحب الفصول .
و أمّا بقاء الحرمة للدخول فی صورة معصیة ذی المقدّمة ، بناءً علی الترتّب ، فسیأتی ما فیه فی مبحث الضد .
هذا تمام الکلام علی مسلک الشیخ فی المقام .
و قال صاحب ( الفصول ) بالمقدّمة الموصلة (1) ، فجعل متعلّق الوجوب الغیری هو الحصّة الموصلة من المقدّمة ، أی إنّه جعل ترتّب ذی المقدّمة علیها شرطاً لاتّصافها بالوجوب .
ص:78
و قد استدلّ لما ذهب إلیه بوجوه :
الأوّل : إنّ وجوب المقدّمة لمّا کان من باب الملازمة العقلیّة ، فالعقل لا یدلّ علیه زائداً علی القدر المذکور .
و الثانی : إنّه لا یأبی العقل أنْ یقول الآمر الحکیم : أرید الحج و أرید المسیر الذی یتوصّل به إلی فعل الواجب دون ما لم یتوصّل إلیه ، بل الضرورة قاضیة بجواز تصریح الآمر بمثل ذلک ، کما أنّها قاضیة بقبح التصریح بعدم مطلوبیّتها له مطلقاً أو علی تقدیر التوصّل بها إلیه ، و ذلک آیة عدم الملازمة بین وجوبه و وجوب مقدّماته علی تقدیر عدم التوصّل بها إلیه .
و الثالث : إنّ الأمر تابع للغرض الداعی إلیه ، و لا یمکن أن یکون الأمر أضیق أو أوسع من الغرض ، و الذی یدرکه العقل هو أنّ الغرض من إیجاب المقدّمة لیس إلّا التوصّل بها إلی الواجب ، فالأمر لیس إلّا فی خصوص المقدّمة الموصلة .
و قد أورد المحقّق الخراسانی علی نظریّة الفصول وجوهاً من الإشکال (1) :
1 - إنّه تارةً : یکون بین المقدّمة و ذیها واسطة اختیاریّة . و أُخری : تکون النسبة بینهما نسبة الفعل التولیدی إلی السبب التولیدی کالإلقاء فی النار و حصول الاحتراق ... و لازم مبنی الفصول خروج القسم الأوّل من المقدّمات من تحت قاعدة الملازمة بین وجوب المقدّمة و وجوب ذیها ، و التالی باطل ، فالمقدّم مثله .
بیان الملازمة :
إنّ ترتّب ذی المقدّمة علی المقدّمة فی التولیدیّات واضح ، لأنّه بمجرّد الإلقاء فی النار یحصل الاحتراق . أمّا فی مثل الحج و غیره من الواجبات الشرعیّة ،
ص:79
فلا یترتّب ذو المقدّمة حتّی بعد توفّر جمیع المقدّمات ، فقد یعصی المکلّف و لا یأتی بالواجب ، فکیف یترتّب علی تحقّق کلّ فردٍ من أفراد المقدّمات ؟
فقول صاحب الفصول بأنّه : لمّا کان الغرض هو ترتّب ذی المقدّمة ، فالواجب من المقدّمة ما یترتّب علیه ذو المقدّمة ، یستلزم خروج جمیع الأفعال الاختیاریة ، و هذا باطل قطعاً .
ثمّ ذکر اعتراضاً علی هذا الاشکال و أجاب عنه .
2 - إنّه لو کان ترتّب ذی المقدّمة علی المقدّمة شرطاً فی وجوبها ، لما کان الأمر الغیری المتعلّق بالمقدّمة ساقطاً بمجرّد الإتیان بها ، و الحال أنّه یسقط و یکشف ذلک عن تحقّق الغرض منه ، و ذلک یکشف عن أنّه لیس وجوب المقدّمة مشروطاً بترتّب ذی المقدّمة علیها ، بل الغرض هو التمکّن من ذی المقدّمة ، إذ لو کان الترتّب فالمفروض عدم حصوله فکیف سقط الأمر ؟
و تعرّض المحقّق الخراسانی لاعتراضٍ علی هذا الإشکال و أجاب عنه ، و حاصل الاعتراض هو : أنّ سقوط الأمر لا یکشف دائماً عن تحقّق الامتثال و حصول الغرض منه ، فقد یسقط الأمر بانتفاء الموضوع ، کما لو قال أکرم العالم فمات العالم ، و قد یسقط بالعصیان ، و قد یسقط بقیام الغیر بالعمل ، کما لو أُمر بدفن میّت ، فقام غیره بذلک .
فأجاب : بعدم تحقّق شیء من المسقطات فی المقام إلّا الامتثال ، أمّا الموضوع ، فالمفروض تحقّقه من قبل المکلّف لا تفویته ، و کذا المعصیة ، فإنّها غیر حاصلة ، و کذا قیام الغیر بالفعل .
3 - إنّ مراده من المقدّمة الموصلة هو الذات التی یترتّب علیها وجود ذی المقدّمة ، فیکون وجوبها مقیّداً و مشروطاً بالموصلیّة ، لکنّ المقیّد هو
ص:80
ذو المقدّمة ، فیکون مقدّمة ، فاجتمع فی ذی المقدّمة وجوبان : الوجوب النفسی لکونه ذا المقدّمة ، و الوجوب الغیری لکونه مقدمةً لحصول المقدّمة الموصلة ، و هذا محال .
و أورد فی ( المحاضرات ) (1) علی المحقّق الخراسانی - فی قوله : بأنّ الغرض من المقدّمة هو التمکّن من ذی المقدّمة - : بأنّ التمکّن منه لیس من آثار وجود المقدّمة ، بل هو من آثار التمکّن منها ، فلا یکون الأثر مترتّباً علی مطلق المقدّمة کی یکون وجوبها تابعاً لهذا الأمر . هذا أوّلاً .
و ثانیاً : إنّه لو کان وجوب المقدّمة من أجل التمکّن من ذیها ، فإنّه تنتفی القدرة علی ذی المقدّمة بانتفائها علی المقدّمة ، و مع انتفاء القدرة علیه فلا وجوب له ، فلو کان وجوب ذی المقدّمة منوطاً بالتمکّن المترتّب من وجود المقدّمة ، کانت القدرة شرطاً للوجوب ، مع أنّ تحصیل القدرة غیر لازم ، فیجوز حینئذٍ تفویت ذی المقدّمة ، و هذا باطل . فالقول بأنّ الغرض من المقدّمة هو التمکّن من ذیها باطل .
قال الأُستاذ
إنّه لمّا کان الأصل فی هذا التحقیق هو المحقّق الاصفهانی ، فالأولی التعرّض لکلامه ، فإنّه قال فی ( نهایة الدرایة ) (2) ما حاصله : إنّ المقصود من « المقدّمة » فی کلمات القوم لا یخلو عن أحد وجوه ثلاثة :
أحدها : أن یکون المراد ما کان عدمه مستلزماً لعدم ذی المقدّمة ، فیکون
ص:81
وجودها متعلّقاً للغرض .
و الثانی : أن یکون الغرض منها ترتّب إمکان ذی المقدّمة علی وجودها .
و الثالث : إنّ الغرض هو التمکّن من ذی المقدّمة .
( قال ) : و الاحتمالات کلّها مردودة :
أمّا استلزام عدم المقدّمة لعدم ذیها ، ففیه : إنّ الأمر العدمی لا یمکن أن یکون غرضاً للوجود ، بل الأمر العدمی من لوازم الغرض ، و لازم الغرض غیر الغرض ، فلا یصحّ القول بأنّ الغرض من المقدّمة أن لا یلزم من عدمها عدم ذی المقدّمة .
و أمّا أنّ الغرض من المقدّمة إمکان ذی المقدّمة ، ففیه : إنّ الإمکان إمّا ذاتی و إمّا وقوعی و إمّا استعدادی . أمّا الإمکان الذاتی الثابت لذی المقدّمة ، فإنّه لا یتوقّف علی وجود المقدّمة ، لأنّه استواء نسبة الماهیّة إلی الوجود و العدم ، و هذا المعنی حاصل لذی المقدّمة بلا توقّف علی المقدّمة .
و أمّا الإمکان الوقوعی ، أی ما لا یلزم من وجوده محال ، فهذا أیضاً حاصل لذی المقدّمة بلا توقّف علی وجودها .
و أمّا الإمکان الاستعدادی لذی المقدّمة ، فهو منوط بالقدرة ، فإنْ وجدت عند الإنسان تمکّن و إلّا فلا ... علی أنّ القدرة و القوّة علی الفعل مقدّمة لوجوبه لا لوجوده ، و کلامنا فی المقدّمة الوجودیّة .
و أمّا أنّ الغرض هو التمکّن من ذی المقدّمة ، بأن یکون التمکّن منه موقوفاً علی وجودها ، فهذا أیضاً مردود ، لأن المراد من التمکّن - سواء کان العقلی أو العرفی - هو القدرة علی ذی المقدّمة ، لکنّ القدرة علیه موقوفة علی التمکّن من المقدّمة لا علی وجودها .
ص:82
و إذا بطلت الاحتمالات ، بطل القول بأنّ الغرض من المقدّمة هو التمکّن من ذی المقدّمة .
قال الأُستاذ : إنّ المهمّ فی کلمات الکفایة قوله بأنّ الغرض من المقدّمة هو التوقّف و المقدمیّة ، و من الواضح أنّ هذا غیر التمکّن من ذی المقدّمة ، کی یرد علیه اشکال المحاضرات من أنّ التمکّن منه أثر التمکّن من المقدّمة و لیس بأثرٍ لوجودها ... کما أنّ التوقّف لیس بأمرٍ عدمی ، کی یرد علیه إشکال المحقّق الأصفهانی ... و توضیح مراد المحقّق الخراسانی من « المقدمیّة » هو أنّ المقدّمة لها دخل فی وجود ذی المقدّمة دخل المقتضی فی المقتضی أو دخل الشرط بالنسبة إلی المشروط . فالمقدّمة إمّا مقتضٍ أو شرط ، و من الواضح : إنّ الاقتضاء و الشرطیّة من خواصّ وجود المقتضی و وجود الشرط ، فإذا فقد فلا اقتضاء . ثمّ إنّ الاقتضاء أثر لمطلق وجود المقتضی و الشرط ، لا خصوص الشرط أو المقتضی الفعلیین .
فظهر عدم ورود شیء ممّا ذکر علی المحقّق الخراسانی ، فهو یری أنّ المراد من المقدّمة هو الاقتضاء ، و هو یتحقّق بنفس وجودها - لا أنّه الاقتضاء الفعلی المنتهی إلی حصول ذی المقدّمة کما یقول صاحب الفصول - غیر أنّ حصول کلّ واحدة من المقدمات تغلق أحد أبواب عدم ذی المقدّمة ، و إذا حصلت المقدّمات کلّها أوصلت إلی ذی المقدّمة .
و تلخّص : تمامیّة مبنی الکفایة ثبوتاً .
ثمّ إنّ الأُستاذ تکلّم علی إشکالات الکفایة علی الفصول ، ( فأمّا الأوّل ) و هو انحصار الواجب من المقدّمات بما یکون من قبیل الأسباب التولیدیّة ، و أمّا ما
ص:83
یکون الاختیار واسطة بینها و بین ذی المقدّمة فلیس بواجب ، لأنّ الإرادة من أجزاء السّبب ، و هی غیر قابلة لتعلّق الوجوب ( ففیه ) :
إنّه إن کانت اختیاریّة الشیء بکونه مسبوقاً بالإرادة ، فالإشکال وارد ، لأنّ الإرادة قد لا تتعلّق بها الإرادة فلا تکون اختیاریّة ، و استلزام کلّ إرادة لإرادة أُخری مستلزم للتسلسل کما قال المحقّق الخراسانی . و لکنّ المناط فی تعلّق التکلیف هو اختیاریّة المکلّف به ، سواء کانت بالذات أو بالعرض ، و الاختیار فی الارادة هو بالذات ، و اختیاریّة الأفعال بالعرض ، أی إنّها اختیاریّة بسبب تعلّق الاختیار بها ، و إذا کانت الاختیاریّة بالعرض مصحّحة للتکلیف ، فالاختیاریّة بالذات کذلک بطریقٍ أولی ، فکما یصحّ أن یقال : صلّ ، یصح أن یقال : اختر الصّلاة ، لأنّ الاختیار مقدور بالذات و به یصحّ تعلّق التکلیف .
و علی الجملة ، فإنّ الاختیار أمر اختیاری بالذات ، فیصحُّ تعلّق التکلیف به ، کسائر الأجزاء إن کان المکلّف به ذا أجزاء .
( و أمّا الثانی ) و هو سقوط الأمر الغیری بالإتیان بالمقدّمة ، و منشأ السقوط هو الإطاعة فقط ، فدلّ ذلک علی أنّ متعلّق الأمر مطلق المقدّمة ( ففیه ) :
إنّ هذا أشبه بالمصادرة ، لأنّ الواجب إن کان طبیعی المقدّمة فلا محالة یکون وجه سقوط الأمر حصول الإطاعة و الامتثال ، لکنّ للقائل بخصوص المقدّمة الموصلة أن یقول : إنّه بعد أن جاء بالمقدّمة إمّا یأتی بذی المقدّمة أو لا یأتی ، فإنْ جاء به ، فقد سقط الأمر بذی المقدّمة بالإتیان به و سقط الأمر بالمقدّمة لکونها أوصلت إلیه ، و إنْ لم یأت بذی المقدّمة ، فقد عصی الأمر النفسی المتعلّق به و کان سقوطه بالعصیان ، و کذا الأمر الغیری المتعلّق بالمقدّمة ، فقد عصی ، لأنّ المفروض تعلّقه بالحصّة الموصلة إلی ذی المقدّمة ، و المفروض عدم تحقّق
ص:84
الإیصال إلیه .
و الحاصل : إنّ سقوط الأمر الغیری لا یکون إلّا إذا کان المتعلّق مطلق المقدّمة ، و هذا أوّل الکلام .
( و أمّا الثالث ) و هو لزوم اجتماع النفسیّة و الغیریّة فی ذی المقدّمة ( ففیه ) :
إنّه مردود بما یجاب به عن دلیل المیرزا علی بطلان المقدّمة الموصلة ، و لنتعرّض لذلک ثمّ نذکر الجواب :
إنّ تخصیص وجوب المقدّمة بخصوص الحصّة الموصلة یستلزم إمّا الدور فی الوجود أو الوجوب ، و إمّا الخلف أو التسلسل .
و توضیح ذلک : إنّ المقسّم للشیء تارةً : یکون فی رتبة وجود الشیء و أُخری : فی رتبةٍ متأخرة عن وجوده ، فالأوّل مثل تقسیم الأجناس إلی الأنواع ، حیث أنّ الجنس یقسّم إلیها بواسطة الفصل و هو فی مرتبة الجنس ، و کتقسیم النوع إلی الأصناف کالانسان إلی الزنجی و الرومی ... و ما نحن فیه من القسم الثانی ، حیث أنّ المقدّمة تنقسم إلی الموصلة و غیر الموصلة ، لکنّ عنوان « الموصلة » منتزع من شیء متقدّم و هو « وجود » ذی المقدّمة ، إذ المقدّمة بذاتها لا تنقسم إلی ذلک ، و إنّما تنقسم إلی القسمین المذکورین إذا وُجد ذو المقدّمة بعد وجودها ، فوصف المقدّمة بالموصلیّة یکون بعد وجودها و وجود ذی المقدّمة بعدها ، و أمّا قبل وجود ذی المقدّمة فلا یوجد إلّا ذات المقدّمة .
و علی هذا ، فلو کان متعلّق الأمر الغیری هو المقدّمة الموصوفة بالموصلیّة لزم الدور ، لأنّ وصفها بالموصلیّة موقوف علی وجود ذی المقدّمة ، و وجوده موقوف علی وجود المقدّمة .
ص:85
و هذا هو الدّور فی الوجود ، و هو بیانه فی الدّورة الأُولی (1) .
و أمّا بیان الدور فی الوجوب - و هو ما یستفاد من کلامه فی الدورة الثانیة (2) - فهو : إنّه قد تقدّم کون عنوان الموصلیّة منتزعاً من وجود ذی المقدّمة ، وعلیه ، فذو المقدّمة من قیود المقدّمة الموصلة و من مقوّماتها ، فیقع الدور فی الوجوب ، من جهة أنّ وجوب ذی المقدّمة علةُ لوجوب المقدّمة ، إلّا أنّه لو لا وجوب المقدّمة لما وجب ذو المقدّمة ، لکونه من قیودها کما تقدّم .
و أمّا الخلف أو التسلسل ، فلأنّ الواجب لو کان خصوص المقدّمة الموصلة کانت ذات المقدّمة من مقدّمات تحقّق المقدّمة خارجاً ، فإنْ کان الواجب هو الذات فقط بلا تقیّد بالایصال ، لزم الخلف ، و إن کان الذات المقیَّدة بالإیصال هو الواجب ، کان نسبة « الذات » إلی « الإیصال » نسبة « المقدّمة » إلی « ذی المقدّمة » ، و حینئذٍ ، ینتقل إلی الذات و أنّها واجبة مطلقاً أو مقیَّدة بالإیصال . و الأوّل خلف و الثانی مستلزم للتسلسل .
و الجواب :
و قد أجاب السید الأُستاذ عن هذه المحاذیر (3) و کذا شیخنا دام بقاه ، فأفاد ما ملخّصه :
أمّا عن لزوم الدور فی الوجود ، فلأنّ وجود ذی المقدّمة غیر متوقّف علی المقدّمة بوصف الوجود ، إذ لا دخل لوصفها بالوجود فی تحقّق ذیها ، بل إنّه موقوف علی ذاتها .
و أمّا عن لزوم الدور فی الوجوب ، فلأن الوجوب النفسی لذی المقدّمة
ص:86
یکون منشأً للوجوب الغیری للمقدّمة ، لکن ذا المقدّمة یتّصف بالوجوب الغیری أیضاً من حیث أنّه لولاه لما اتّصفت المقدمة به ، فلا یلزم الدور فی الوجوب ، و إنّما اللازم هو اجتماع الوجوب النفسی و الغیری فی شیء واحد و هو ذو المقدّمة ، و هذا لا مانع منه ، لأنّه یؤول إلی الاندکاک و تحقّق وجوب واحدٍ مؤکّد علی مبنی المیرزا ، فلا دور .
و أمّا عن لزوم الخلف أو التسلسل ، فلأنّ هذا المحذور إنّما یترتّب بناءً علی وجوب أجزاء المرکّب بالوجوب الغیری ... لأنّ المقدّمة الموصلة مرکّبة من جزءین هما ذات المقدّمة و تقیّدها بالإیصال ، و حینئذٍ ، فلو قلنا بأنّ الأجزاء متّصفة بالوجوب الغیری لزم المحذور ، لأنّ الذات مقدّمة لهذا المرکب ، فتکون واجبةً بالوجوب الغیری أیضاً ، لکن الأجزاء غیر واجبة بالوجوب الغیری لذی المقدّمة ، بل المقدّمة هو المرکّب ، فأصل الاستدلال باطل .
قال الأُستاذ
لکن یمکن تقریب الاشکال بوجهٍ آخر بأن یقال : إنّ المفروض علی مبنی الفصول کون الإیصال منتزعاً من وجود ذی المقدّمة ، فلو کان متعلّق الوجوب الغیری هو المقدّمة الموصلة ، لزم وجود الوجوب الغیری بعد وجود الوجوب النفسی ، لتقدّم منشأ الانتزاع فی الوجود علی الأمر الانتزاعی ، فیلزم اجتماع التقدّم و التأخّر فی الشیء الواحد .
و هنا لا بدّ من التعرّض لکلام المحقّق الاصفهانی فی تقریب مبنی الفصول ، و به تنحلّ المشکلات .
و العمدة هو فهم کیفیة أخذ « الإیصال » فی المقدّمة ، إذ لا ریب فی أن متعلّق
ص:87
الوجوب هو ما دخل تحت الطلب من طرف المولی ، فهل هو عبارة عن المقدّمة بوصف الموصلیّة إلی ذی المقدّمة المنتزع من ذی المقدّمة ، أی المقدّمة المقیّدة بوجود ذیها ، أو أنّ المراد منها عبارة عن الحصّة التوأمة مع وجود ذی المقدّمة کما هو المستفاد من کلام المحقّق العراقی ، أو المراد منها العلّة التامّة ، أو الحصّة - من المقدّمة - الملازمة لوجود ذی المقدّمة - لا المقیَّدة بوجوده - کما هو المستفاد من کلام المحقّق الأصفهانی ؟
و الحاصل : إنّ المحقّق الاصفهانی یری أنّ المراد من المقدّمة هی الحصّة منها الملازمة لوجود ذیها ، هذا فی تقریب . و فی تقریب آخر : أنّ المراد هو العلّة التامّة . و علی کلٍّ منهما فإشکال الکفایة من اجتماع المثلین ، و کذا ما طرحناه أخیراً من اجتماع المتأخّر و المتقدّم فی الشیء الواحد ... یرتفع ... .
قال قدّس اللّٰه روحه (1) :
إنّ المراد من المقدّمة ما یکون مقدّمةً لذیها بالفعل لا بالقوّة ، فالحطب مقدّمة للطبخ ، لکنه تارةً : مقدّمة بالقوّة و هو ما کان قبل الاشتعال ، و أُخری : بالفعل و هو ما کان مشتعلاً ، و هاتان حصّتان من وجود الحطب ، و کذا الکلام فی اشتراط الشیء بشرطٍ ، فإنّه تارة یکون شرطاً بالقوّة و أُخری بالفعل ، فإنْ کان المقتضی بالفعل فسیکون الشرط أیضاً فعلیّاً ، کما فی یبوسة الحطب و مماسّته للنار من أجل الاحتراق ، فلا یمکن تمامیّة الاقتضاء إلّا مع فعلیّة الشرط ، و إذا تمّ الأمران ، أصبح المشروط و المقتضیٰ فعلیّاً ... .
و علی الجملة ، فإنّه یوجد تلازم بین أجزاء العلّة ، و یوجد تلازم بین أجزاء العلّة - المقدّمة - مع المعلول ، و هو ذوها .
ص:88
و من الواضح : إنّ التلازم غیر التوقّف ... و لذا یکون بین « الابوّة » و« البنوّة » تلازم ، لکنْ لا توقف لأحدهما علی الآخر .
و علی هذا ، فإنّ المراد من المقدّمة الموصلة هو المقدّمة الملازمة - أو التوأمة - مع وجود ذیها ، لا أنّ وجوده موقوف علی وجودها ، بل إنّ فعلیّتهما تکون فی عرضٍ واحد و لیستا فی الطول لیرد علیه الإشکال .
و ملخّص هذا البیان :
أوّلاً : إنّ المطلوب من المقدّمة هو الحصّة الموجودة بالفعل منها لا بالقوّة .
و ثانیاً : إنّ بین المقدّمة و ذیها تلازماً من قبیل التلازم بین أجزاء المقدّمة و العلّة التامّة ، و لیس بینهما توقّف .
و ثالثاً : إنّه لمّا کان الغرض قائماً بوجود ذی المقدّمة ، و هو لا یتحقّق إلّا بالمقدّمة ، فالإرادة تتعلّق بنفس ذی المقدّمة ، و یحصل منها إرادة تبعیّة غیریّة متعلّقة بالمقدّمة ، و لا یمکن أن یکون متعلّقاً بالقوّة کما تقدّم .
فظهر بذلک أنّ المراد من الموصلیّة لیس الإناطة و التقیید ، فکلّ الإشکالات المتقدّمة من المیرزا و الکفایة و غیرهما مندفعة .
أقول :
هذا البیان فی المحقّق الأصفهانی هو أحد التقریبین منه لمبنی صاحب الفصول .
و أمّا التقریب الآخر له ، فهو علی أساس کون المراد من المقدّمة هو العلّة التامّة ، و قد تعرّض له شیخنا کذلک ، ثمّ أورد علیه اشکالات ، کلّها ترجع إلی خصوصیّاتٍ و جزئیّات فی کلام المحقّق الاصفهانی . أمّا بالنسبة إلی ما یتعلّق بدفع الإشکالات المزبورة ، فقد وافق الأُستاذ علی ما ذکره من أنّ : متعلّق الإرادة الغیریّة
ص:89
هو الحصّة الملازمة مع وجود ذی المقدّمة لا الحصّة المقیّدة بالإیصال إلیه ...
و الفرق بین المسلکین واضح ، فإنّه علی مسلک المحقّق الأصفهانی تکون المقدّمة هو ما ینتهی إلی وجود ذیها ، و علی مسلک صاحب الفصول قد یقع التخلّف بینهما ، لأنّه قید و مقیّد . و الصحیح هو الأوّل ، لأن ما ینتهی إلی ذی المقدّمة یکون دائماً متعلّقاً للإرادة الغیریّة و الشوق الغیری ، و أمّا علی الثانی فالإشکالات ترد ، لأنّ التقیّد بوجوده لا یکون إلّا بنحو الاشتراط به بنحو الشرط المتأخّر ، فیقع البحث عن کیفیّة هذا الاشتراط ، و أنّه فی الواجب أو الوجوب ، بخلاف المسلک الأوّل ، فإنّه لا اشتراط - بناءً علیه - لا فی الواجب و لا فی الوجوب ، بل الواجب من المقدّمة عبارة عن الحصّة منها الملازمة مع وجود ذیها ، و وجود أحد المتلازمین لیس مشروطاً بوجوب الملازم الآخر حتّی یبحث فیه عن أنّه شرط للوجوب أو الواجب .
و هذا هو الحق ، و هو تامّ ثبوتاً ، و کذا إثباتاً ، و الوجدان قائم علی أنّه إذا تعلّق الشوق بشیء ، فکلّ ما یکون فی طریقه فهو مشتاق إلیه دون ما لیس کذلک .
هذا تمام الکلام فی المقام ، و یبقی التحقیق عن ثمرة البحث .
ذکر صاحب الفصول فی بیان ترتّب الثمرة علی مختاره ما ملخّصه (1) : إنّ الأمر بالشیء یقتضی إیجابه لنفسه و إیجاب ما یتوقّف علیه من المقدّمات للتوصّل إلیه ، و من جملة المقدّمات ترک الأضداد المنافیة للفعل ، لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة .
و توضیحه : إنّ هذه الثمرة تترتّب علی النزاع فیما لو أُمر - مثلاً - بإنقاذ
ص:90
الغریق و توقّف ذلک علی ترک الصّلاة ، بناءً علی المقدّمات التالیة :
1 - أن یکون ترک أحد الضدّین مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ، کأن یکون ترک الصّلاة مقدّمة لفعل الإنقاذ .
2 - أن یکون الأمر بالشیء مقتضیاً للنهی عن ضدّه ، فإذا وجب الإنقاذ کان الصّلاة مورداً للنهی .
3 - أن یکون النهی عن العبادة مقتضیاً للفساد ، فتکون الصّلاة باطلة فی المثال .
فبناءً علی أنّ الواجب مطلق المقدّمة - کما علیه المشهور - فالصّلاة باطلة ، للمقدّمات المذکورة ، و أما بناءً علی أنّه خصوص المقدّمة الموصلة - کما علیه صاحب الفصول - فصحیحة ، لأنّ الإتیان بالصّلاة لیس نقیضاً لترکها الموصل إلی الإنقاذ حتی تکون مورداً للنهی فتبطل ، بل نقیض ترک الصّلاة الموصل إلی الإنقاذ هو عدم هذا الترک الموصل ، و هو - أی ترک الصّلاة کذلک - لیس عین الصّلاة لیتوجّه النهی إلیها فتبطل ، بل إن عدم ترکها یمکن أن یتحقّق بفعلها و أن یتحقّق بفعلٍ آخر کالنوم مثلاً . فهذه هی الثمرة ، ذکرها فی الفصول و قرّرها المحقّق الخراسانی فی الکفایة .
ثمّ ذکر فی ( الکفایة ) (1) إشکال الشیخ الأعظم علی الثمرة ، و أنّ مقتضی القاعدة هو البطلان علی کلا القولین ، بتقریب : إن نقیض ترک الصّلاة الموصل إلی الإنقاذ له فردان : فعل الصّلاة أو ترکها المجرّد عن الإیصال إلی الإنقاذ ، و بناءً علی اقتضاء الأمر بالشیء لحرمة نقیضه ، فإنّه تسری الحرمة إلی کلٍّ من الفردین ،
ص:91
فتبطل الصّلاة علی القولین .
و أجاب عنه صاحب الکفایة : بالفرق بین نقیض الترک الموصل و الترک المطلق ، و حاصله : إنّ نقیض ترک الصّلاة المطلق هو الصّلاة ، فترک الترک هو فعلها ، و إذا کان الانقاذ واجباً و الصّلاة نقیضه ، فإنّ الإتیان بها منهیٌّ عنه ، فتبطل ...
أمّا بناءً علی مسلک الفصول و أنّ المقدّمة لتحقّق الإنقاذ هو ترک الصّلاة الموصل ، فإنّ النقیض عدم هذا الترک ، وعلیه ، فیکون فعل الصّلاة مقارناً لهذا الترک - إذ أنّه یتحقّق بفعلٍ آخر کالنوم مثلاً - و إذا کان مقارناً ، فإنّ حرمة الشیء لا تسری إلی مقارنه ، فلا تکون الصّلاة باطلة .
أقول :
ملخّص إشکال الشیخ : أمّا علی المشهور ، فإنّ فعل الصّلاة و إنْ لم یکن نقیض المقدّمة فهو مصداق لنقیضها أو لازمٌ له ، فالنقیض لترک الإنقاذ هو ترک ترک الإنقاذ ، و هذا منطبق علی نفس فعل الصّلاة ، فتکون فاسدة . أمّا علی مبنی الفصول ، فإنّ هذا العنوان منطبقٌ ، لکن مورد الانطباق أمران أحدهما فعل الصّلاة و الآخر مجرّد الترک ، فکلاهما مورد انطباق النقیض ... فالصّلاة فاسدة کذلک .
و ملخّص جواب الکفایة : عدم انطباق النقیض علی فعل الصّلاة ، بل هو ملازم للنقیض ، و حرمة الملازم لا یوجب حرمة الملازم الآخر ، فالثمرة مترتّبة .
و ذهب المحقّق الاصفهانی (1) إلی عدم الفرق بین القولین فی النتیجة ، و هی بطلان الصّلاة . أمّا علی قول الفصول : فإنّ المقدّمة الموصلة - بناءً علی کون ترک
ص:92
الضدّ مقدّمةً للضدّ الآخر - إمّا هی العلّة التامّة و إمّا هی المقدّمة التی لا تنفک عن ذیها .
أمّا بناءً علی کونها العلّة تامّةً ، فإنّ المقدّمة هی ترک الصّلاة و إرادة الإنقاذ ، فالعلّة مرکّبة من هذین الجزءین ، و نقیض ترک الصّلاة هو فعلها ، کما أنّ نقیض إرادة الإنقاذ هو عدم إرادته ، فالعلّة التامّة مجموع الجزءین - ترک الصّلاة و إرادة الإنقاذ - و هذا المجموع واحد اعتباری و النقیض هو : وجود الصّلاة و عدم إرادة الإنقاذ ، و هذا المجموع أیضاً واحد اعتباری ، لکنّ الذی هو مقدّمة حقیقةً هو ترک الصّلاة خارجاً و وجود الإرادة خارجاً ، أمّا مجموعهما فلیس بموجودٍ فی الخارج بل هو أمر اعتباری کما تقدّم ، و إذا کان متعلّق الأمر الوجوبی الغیری ترک الصّلاة و وجود الإرادة ، فإنّه یستلزم النهی عن نقیضهما و هما فعل الصلاة و عدم إرادة الإنقاذ ، فیحرم هذان حرمةً واحدة ، کما وجب ترک الصّلاة و وجود الإرادة بوجوبٍ واحد ... و إذا تعلّقت الحرمة بالصّلاة بطلت .
و حاصل هذا هو أنّ الصّلاة بنفسها تکون نقیضاً للمقدّمة .
و أمّا بناءً علی أن المقدّمة هی المقدّمة التی لا تنفک عن ذیها و یترتّب علیها ذو المقدّمة ، فإنّها مرکّب من الشیء - و هو الترک - . و تقییده بقیدٍ و هو الموصلیّة ، و الترک أمر عدمی و الموصلیّة أمر وجودی ، و نقیض ذلک العدمی هو فعل الصّلاة ، و نقیض ذلک الوجودی هو عدم الموصلیّة ، و کما کانت المقدّمة کذلک متعلّق الوجوب ، فنقیضها أیضاً یکون متعلّق النهی ، فتکون الصّلاة محرمة ، فهی باطلة .
و أورد علیه الأُستاذ :
أوّلاً : إنّ تعدّد النقیض ظرفه هو الخارج ، و لکن الوجود الخارجی لفعل الصّلاة و عدم إرادة الإنقاذ مسقط للتکلیف ، و لیس وجود التکلیف حتّی یکون
ص:93
محکوماً بالحرمة فالفساد .
و ثانیاً : هذا الجواب بظاهره غیر کاف ، لأنّه یتکفّل الجواب عن الشق الأوّل و هو کون المقدّمة الموصلة هی العلّة التامّة . و أمّا الشق الثانی و هو کونها المقدّمة التی لا تنفک عن ذیها ، فلم یذکر جوابه ، و لعلّ الجواب هو : أنّکم قد اعترفتم أن لا نقیض للترک الخاص بما هو ، لأنّه لیس رفعاً لشیء و لا هو مرفوع بشیء ، ثمّ قلتم : بل نقیض الترک المرفوع به الفعل و نقیض خصوصیّته عدمها الرافع لها .
فیکون الفعل محرّماً لوجوب نقیضه .
فأقول : إذا لم یکن نقیضاً فهو ملازم أو مقارن کما قال صاحب الکفایة . هذا أوّلاً .
و ثانیاً : إنّ متعلّق الوجوب هو الترک الخاص کما ذکرتم ، و الفعل لیس نقیضاً للترک الخاص لوجود فرد آخر و هو النوم أو أیّ فعل وجودی آخر ... .
و علی الجملة ، فإنّ النقیض - کما ذکر هذا المحقّق - إمّا الرفع للشیء و إمّا المرفوع بالشیء ، و المقصود من رفع الشیء عدمه ، و من المرفوع به الوجود الذی به یرتفع العدم ، و علی هذا ، فإنّه لما کان العلّة التامّة هنا هی ترک الصّلاة الموصل و إرادة الإنقاذ ، کان نقیض الترک المذکور هو فعل الصّلاة لأنّه المرفوع بترکها ، لکنّ کون فعل الصّلاة نقیضاً للعلّة التامّة محال ، لأنّها لیست برفعٍ للعلّة التامّة لأنّها وجودیّة و الرفع عدم ، و لا هی مرفوع بالعلّة التامّة ، لأنّ المفروض کون العلّة التامّة مرکّبة من وجود إرادة الإنقاذ و من عدم الصّلاة ، و إذا لم تکن رفعاً للعلّة و لا مرفوعاً بها ، استحال أن تکون نقیضاً ، فلا یتعلّق بها النهی فلا فساد . فالحقّ مع الکفایة .
و تلخّص : إنّه بناءً علی تمامیّة المقدّمات الثلاث فالثمرة مترتّبة ، و لکنّ الکلام فی تمامیّتها لا سیّما الأُولی منها .
و هذا تمام الکلام فی النفسی و الغیری ، و الحمد للّٰه .
ص:94
ص:95
ص:96
و قد وقع الکلام بین الأعلام فی المقدّمة ، هل هی واجبة بالوجوب الشرعی أو إنها لابدیّة عقلیة ؟
و الأقوال المهمّة فی المسألة أربعة ، قد ذکرها صاحب الکفایة أیضاً .
1 - الوجوب مطلقاً .
2 - عدم الوجوب مطلقاً .
3 - التفصیل بین السبب و غیره .
4 - التفصیل بین المقدّمة الشرعیّة و غیرها .
إلّا أنّ المحقّق الخراسانی قدّم البحث عن مقتضی الأصل فی المقام علی ذکر الأدلّة ، و تبعه علی ذلک غیره ، قال (1) :
اعلم أنّه لا أصل فی محلّ البحث فی المسألة ، فإن الملازمة بین وجوب المقدمة و وجوب ذی المقدّمة و عدمها ، لیست لها حالة سابقة ، بل تکون الملازمة أو عدمها أزلیّةً ، نعم ، نفس وجوب المقدّمة یکون مسبوقاً بالعدم ، حیث یکون حادثاً بحدوث وجوب ذی المقدّمة ، فالأصل عدم وجوبها .
و الحاصل : إن هنا مسألتین ، مسألة أُصولیّة ، و هی هل وجوب ذی المقدّمة
ص:97
یلازم وجوب المقدّمة أو لا ؟ فهذه مسألة کبرویة أُصولیة تقع فی طریق استنباط الحکم الشرعی ، فإذا ثبتت الملازمة أفتی الفقیه بوجوب المقدّمة وجوباً شرعیّاً ، و إلّا فلا .
و مسألة فقهیّة فرعیّة ، هل المقدّمة واجبة أو لا ؟
إذا علم هذا ، فإنّ الأصل المطروح فی المقام هو الاستصحاب ، و صاحب الکفایة یری جریانه فی المسألة الفقهیّة دون المسألة الأُصولیّة ، فمن قوله « اعلم ... » یرید الأُصولیّة ، و من قوله : « نعم ... » یرید الفقهیّة ، فالکلام فی مقامین :
إنّه یمکن طرح الاستصحاب فی الأُصولیّة فی الجعل ، بأن یکون الأصل عدم جعل الملازمة ، و یمکن طرحه فی المجعول ، بأن یکون الأصل عدم الملازمة نفسها ... .
یقول المحقّق الخراسانی بعدم جریان الاستصحاب فی المسألة الأُصولیّة لعدم تمامیّة أرکانه فیها ، لعدم الحالة السابقة ، بل تکون الملازمة أو عدمها أزلیةً .
و توضیح ذلک : قالوا إنّ هناک أُموراً تلازم الماهیّة و لا تنفکُّ عنها ، سواء کانت الماهیّة موجودةً أو لا ، کالزوجیّة بالنسبة إلی الأربعة کما یقولون . و إنّ هناک أُموراً تلازم وجود الماهیّة کالحرارة الملازمة لماهیّة النار الموجودة خارجاً ... .
و علی هذا ، فإنّ لوازم الماهیّة لا تکون مسبوقة بالعدم ، بخلاف لوازم الوجود فلها حالة سابقة ، لأنّها قبل أن تکون الماهیّة کانت معدومة و بوجودها وجدت .
ثمّ إنه یقول بأنّ الملازمة بین وجوب المقدّمة و وجوب ذیها هی من قبیل لوازم الماهیّة لا من قبیل لوازم وجودها ، فإنّ وجوب المقدّمة لا ینفک عن وجود
ص:98
ذیها کما لا تنفکّ الزوجیّة عن الأربعة ، إنّها ملازمة موجودة عند العقل ... فلیس لها حالة سابقة حتی تکون مجری الاستصحاب .
قال الأُستاذ :
أوّلاً : إنّ کلام المحقّق الخراسانی مبنی علی أن تکون الملازمة من لوازم الماهیّة ، و أمّا بناءً علی أنّها من لوازم الوجود ، فإنّه کلّما وجد وجوب ذی المقدّمة استلزم وجود وجوب المقدّمة ، فالملازمة بین الوجودین ، و قد تقرّر أن الوجودین مسبوقان بالعدم فکذا لازمهما ، فالملازمة لها حالة سابقة .
و ثانیاً : إنّه یعتبر فی المستصحب أن یکون إمّا حکماً شرعیّاً و إمّا موضوعاً لحکم شرعی ، لکنّ الملازمة بین الوجوبین لیست بحکم شرعی بل هی من الموضوعات التکوینیّة ، و لا هی موضوع لحکم شرعی لعدم ترتّب شیء من الأحکام الشرعیّة علیها ، وعلیه ، فإنّه لو أجری الاستصحاب فی الملازمة ، کان لازم هذا الاستصحاب هو وجوب المقدّمة شرعاً وجوباً غیریّاً ، فکان وجوبها أثراً عقلیّاً للاستصحاب ، و هو أصل مثبت .
و تلخّص : إنّ الملازمة إن کانت من لوازم الوجود لا الماهیّة ، فلها حالة سابقة خلافاً لصاحب الکفایة ، لکنّ الاستصحاب لا یجری إلّا بناءً علی القول بالأصل المثبت ، فظهر الفرق علماً و عملاً . أمّا علماً ، فالملازمة هی بین وجودی الماهیّتین لا نفس الماهیّتین . و أمّا عملاً ، فإنّ الاستصحاب یکون جاریاً عند من یقول بحجیّة الأصل المثبت .
قال الأُستاذ :
لکنّ التحقیق عدم معقولیّة أنْ یکون للماهیّة لوازم ، و عدّهم الزوجیّة من لوازم الأربعة غیر صحیح ، لأنّ الزوجیّة ماهیّة و الأربعة ماهیّة ، و لا یعقل استلزام
ص:99
ماهیّةٍ لماهیّةٍ أُخری ، لکون الماهیّات متباینات بالذات . هذا أوّلاً .
و ثانیاً : إنّه لا یتصوّر أنْ یکون للماهیّة - بقطع النظر عن الوجود - استلزام ، لأن کون الشیء ذا لزوم أمر وجودی ، و الملازمة من الأُمور الوجودیّة ، فکیف تستلزم الماهیّة من حیث هی هی أمراً وجودیّاً ؟
نعم ، الزوجیّة تلازم الأربعة ، لکنْ بوجودها الذهنی أو الخارجی .
و أمّا فی المسألة الفقهیّة ، فالأصل المطروح هو الاستصحاب و البراءة بقسمیها ، کما أنّ الاستصحاب یطرح فی عدم الجعل و هو الوجوب ، و عدم المجعول ، أی عدم الوجوب ، فهی أربعة أُصول فی هذا المقام .
قال صاحب الکفایة : بجریان الاستصحاب فی الوجوب ، و قال جماعة :
بعدم جریانه ، وعلیه فی المحاضرات ... و تحقیق ذلک فی جهتین :
الجهة الأُولی : هل للاستصحاب مقتضٍ فی هذا المقام ؟
قال جماعة : بعدم وجود المقتضی للاستصحاب بالنسبة إلی عدم الوجوب خلافاً للخراسانی صاحب الکفایة ، لأنّ الوجوب حادث ، فأرکان الاستصحاب فیه تامّة . أمّا وجه عدم الجریان فهو : أنّ وجوب المقدّمة لا یقبل الجعل ، فلا معنی لاستصحاب العدم فیه ، و الدلیل علی عدم قبول وجوب المقدّمة للجعل هو : أنّ وجوبها من لوازم وجوب ذیها کما تقدّم ، و اللّوازم غیر قابلة للجعل ، لا الجعل البسیط - و هو مفاد کان التامّة - و لا الجعل التألیفی الذی هو مفاد کان الناقصة .
و قد أجاب المحقّق الخراسانی : بأنّ وجوب المقدّمة من لوازم وجوب ذیها ، و هو آبٍ عن الجعل البسیط و التألیفی کما ذکر ، لکنّه لا یأبی عن الجعل التبعی ، إذ اللزوم فی لوازم الماهیّة هو بمعنی التبعیّة ، لأنّ جعل الماهیّة یکفی
ص:100
لانتزاع لوازمها منها ، فیکون اللّازم مجعولاً بتبع جعل الماهیّة ... و إذا کان قابلاً للجعل کان مجریً للاستصحاب (1) .
قال الأُستاذ
إن أراد من الجعل التبعی أنّ وجوب المقدّمة مجعول بجعل مستقل غیر أنّه لا ینفک عن وجوب ذیها ، فهو مجعولٌ بالجعل البسیط ، فهذا ینافی نفیه للجعل البسیط .
و إن أراد أنّ الجعل یتعلّق بوجوب المقدّمة بالعرض ، کما أنّ الزوجیّة مجعولة بجعل الأربعة ، و الفوقیّة مجعولة بجعل الفوق ، ففیه : إنّه لیس کذلک ، لأنّ هناک إرادة متعلّقة بالمقدّمة و إرادة أُخری متعلّقة بذی المقدّمة ، فتلک غیریّة و هذه نفسیّة ، و لکلٍّ جعل علی حده ، و لیس المقدّمة مجعولةً بجعل عرضی .
فالحق : إنّ المقدّمة قابلة لتعلّق الجعل بالجعل البسیط ، فلجریان الأصل فیها مجال ، بالبیان الذی ذکرناه .
و قال آخرون - منهم السیّد البروجردی (2) - بعدم جریان الأصل ، من جهة أنّ وجوب المقدّمة فی حال وجوب ذیها قهری ذاتی ، و ما کان کذلک فلا یقبل الجعل ، و ما لا یقبله فلا یجری فیه الأصل .
قال الأُستاذ
ما المراد من أنّ « وجوب المقدّمة ذاتی و قهری بالنسبة إلی ذی المقدّمة » ؟
إن کان المراد أنّه إذا تحقّق الوجوب لذی المقدّمة ، ثبت للمقدّمة بصورةٍ قهریّة ، فإنّ هذا یتم فی الإرادة دون الوجوب ، إذ الإرادة إذا تحقّقت بالنسبة إلی
ص:101
ذی المقدّمة تتحقّق قهراً بالنسبة إلی مقدّمته ، لکنّ الإرادة من الصفات ، و الوجوب من الأفعال ، فتلک الحالة بالنسبة إلی الإرادة متصوّرة و واقعة ، أمّا الوجوب فیحتاج إلی موجب ، و هو فعل اختیاری للمولی ، یمکن أن یجعله و أن لا یجعله ، بخلاف الإرادة .
و أشکل علی الاستصحاب هنا - و اعتمده فی المحاضرات (1) - بأنّه لا أثر له ، بعد استقلال العقل بلزوم الإتیان بالمقدّمة ، فلا معنی لجریانه .
و أجاب المحقّق الأصفهانی : بأنّ اعتبار الأثر للاستصحاب إنّما هو حیث لا یکون المستصحب نفسه حکماً مجعولاً شرعیّاً ، و إلّا فلا حاجة إلی اشتراط الأثر .
قال الأُستاذ : لکنّ أثر جعل الحکم هو تحریک العبد ، فیجعل الوجوب مثلاً لأن یکون داعیاً له للفعل ، و مع وجود الداعی - و هو اللّابدیة العقلیّة - لا یبقی للوجوب داعویّة للعبد من أجل التعبّد ، فإنْ کان للوجوب أثر آخر فهو و إلّا فلا حاجة إلیه .
هذا تمام الکلام فی الاستصحاب .
و أمّا البراءة :
فإنّ العقلیّة غیر جاریة ، لأنّ مجراها هی الشبهات الحکمیّة للتکالیف الإلزامیّة ، و علی القول بوجوب المقدّمة ، فإنّ ترکها لا یستتبع استحقاق العقاب ، فلا موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بیان .
و أمّا الشرعیّة ، فإن قلنا : بأنّ وجوب المقدّمة من لوازم الماهیّة ، و هی غیر قابلة للجعل ، فلا یجری حدیث الرفع فی المقدّمة ، إذ ما لا یقبل الجعل لا یقبل
ص:102
الرفع .
و إن قلنا : بقابلیّته للجعل تبعاً - کما علیه المحقّق الخراسانی - فیقبل الرفع ، إذ لا فرق بین الاستقلالیة و التبعیة هنا .
و علی المختار من کون وجوب المقدّمة قابلاً للجعل البسیط الاستقلالی ، فالبراءة جاریة .
هذا ، و لا تجری البراءة الشرعیة - علی القول بکون وجوب المقدّمة من لوازم وجوب ذیها - من جهةٍ أُخری أیضاً ، و هی : أنّ لازم هذا القول أن یکون وضع وجوب المقدّمة بوضع وجوب ذی المقدّمة ، و ما کان وضعه بوضع غیره فلا یقبل الرفع إلّا برفع ذلک الغیر ، و لذا قالوا بأن حدیث الرفع لا یرفع الجزئیّة - مثلاً - لکونها مجعولةً بجعل الأمر المتعلّق بالمرکّب الذی هو منشأ انتزاعها ، إذ لیس لها وضع استقلالی ، فلا رفع کذلک .
لکنّ التحقیق أنّه لیس وجوب المقدّمة من لوازم ماهیّة وجوب ذیها ، بل له وجود مستقل .
و أورد فی المحاضرات : بأنّه لا أثر لأصالة البراءة الشرعیّة بعد حکم العقل بلابدّیة الإتیان بالمقدّمة ، لتوقف الواجب النفسی علیها .
فأفاد الأُستاذ : بأنّ هذا الإشکال یبتنی علی عدم ترتّب ثمرةٍ من الثمرات المذکورة سابقاً علی الإتیان بالمقدّمة ، لکنّ تصویر الثمرة ممکن ، فمثلاً : بناءً علی عدم جواز أخذ الأُجرة علی الواجب الشرعی ، فإنّه إنْ جرت البراءة الشرعیّة عن وجوب المقدّمة سقطت عن الوجوب ، و لا یبقی إشکال فی جواز أخذ الأُجرة علیها ... .
هذا تمام الکلام فی مرحلة المقتضی لجریان الأصل فی المقام .
ص:103
و أمّا المانع ، فقد ذکر فی الکفایة : إنّ استصحاب عدم الوجوب الشرعی للمقدّمة یستلزم التفکیک بین المتلازمین فی صورة الشک ، قال رحمه اللّٰه : « نعم لو کانت الدعوی هی الملازمة المطلقة حتی فی مرتبة الفعلیة لما صح التمسّک بالأصل » (1) هکذا فی نسخةٍ . و فی أُخری « صحّ التمسّک » و عن بعض تلامذته أنّ « لما صحّ » کانت فی الدّورة السابقة ، و« صحّ » فی الدورة اللّاحقة .
و حاصل الکلام : وجود المانع عن جریان الأصل - بعد تمامیّة المقتضی له - و هو لزوم التفکیک بین الوجوبین .
فأجاب رحمه اللّٰه عن الإشکال : أمّا بناءً علی کلمة « لما صح » بأنّ الإشکال إنّما یرد لو کانت الملازمة بین الوجوبین ظاهراً و واقعاً ، أمّا لو قلنا بأنّها فی الواقع فقط ، دون مقام جریان الأصل ، فلا ملازمة بین الوجوبین ، إذ للشارع أن یتصرّف فی مرتبة الظاهر و یرخّص بالنسبة إلی المقدّمة بجریان أصالة عدم وجوبها فیها .
و أمّا بناءً علی کلمة « صحّ » فتقریب الإشکال هو : إنّ إجراء البراءة عن وجوب المقدّمة یعنی الشک فی الملازمة و وقوع التفکیک بین المتلازمین احتمالاً ، و هذا محال کالتفکیک بینهما قطعاً .
فأجاب رحمه اللّٰه - فیما حکاه المحقّق القوچانی - بأنّه فی کلّ موردٍ یوجد دلیلٌ یستلزم الأخذ به محالاً من المحالات ، فإنّ ظهور ذلک الدلیل یکون حجةً علی أنْ لا موضوع لذلک اللازم المحال ... و یؤخذ بالدلیل ... و هذا هو البیان الذی مشوا علیه فی جواب شبهة ابن قبة فی حجیّة خبر الواحد باحتمال لزوم تحلیل الحرام و تحریم الحلال من العمل بخبر الواحد ، و احتمال لزوم اجتماع الضدّین أو النقیضین من جهة تعذّر الجمع بین الحکمین الظاهری و الواقعی .
ص:104
و قد استفاد المحقّق الخراسانی من هذا المطلب لیعطی الجواب عن إشکال لزوم التفکیک فی المقام ، فهو یقول بأنّ عمومات أدلّة الاستصحاب و أدلّة البراءة الشرعیّة حجّة علی عدم الملازمة ، فلا موضوع للّازم المحال و هو التفکیک بین المتلازمین ... .
و الحاصل : إنّ التعبّد بالأدلّة یثبت عدم وجود الملازمة ، فصحّ جریان الأصل و تمّ عدم وجوب المقدّمة .
هذا تمام الکلام فی مقتضی الأصل فی وجوب المقدّمة .
قد ذکرنا الأقوال ، و نتعرّض هنا لأدلّتها :
و قد استدل للقول بالوجوب مطلقاً بوجوه :
إنّ الإرادة التشریعیّة علی وزان الإرادة التکوینیّة ، فکما أنّ التکوینیّة إذا تعلّقت بشیء تعلّقت بمقدّمته المتوقّف علیها ، غیر أنّ تلک إرادة نفسیّة و هذه غیریّة ، کذلک التشریعیّة ... و إن کان فرق بین الإرادتین من حیث أنّ التکوینیّة متعلّقها فعل النفس ، و التشریعیّة متعلّقها فعل الغیر عن اختیار . و هذا ما اعتمده فی ( الکفایة ) (1) .
و هو أقوی الوجوه ، إذ لا ریب فی شیء من مقدّماته . إلّا أنّ تمامیّة هذا الوجه متوقّفة علی معرفة حقیقة الحکم ، لأنّ الدلیل أفاد أنّه إن حصل الشوق الواصل إلی حدّ النصاب بالنسبة إلی المقدّمة تحقّق الوجوب الغیری لها ، فهل هذا
ص:105
صحیح ؟
قیل : إنّ الحکم فعل اختیاری .
و قیل : إنّه الإنشاء بداعی جعل الداعی .
و قیل : إنّه اعتبار لابدّیة شیء أو حرمان المکلّف من شیء .
و القدر المشترک بین هذه الأقوال هو إنّ الحکم فعل اختیاری .
و فی المقابل قول المحقّق العراقی من أنّ الحکم هو الإرادة المبرزة و الکراهة المبرزة .
فعلی القول بأنّه فعل اختیاری ، فلا محالة تکون الإرادة التشریعیّة - و هی الشوق البالغ حدّ النصاب - أجنبیّة عن الفعل . أمّا علی القول بأنّه الإرادة المبرزة ، فلا تکون الإرادة التشریعیّة بلا إبراز حکماً ، اللّهم إلّا أن یبرز الإرادة بالنسبة إلی المقدّمة ، کأن یقول : ادخل السوق و اشتر اللّحم .
نعم ، یتم الاستدلال لو قیل بأن حقیقة الحکم نفس الإرادة و الکراهة .
الثانی
وقوع الأمر بالمقدّمة فی القضایا التکوینیّة کقوله : ادخل السوق و اشتر اللحم ، و فی القضایا الشرعیّة کما فی الخبر : « اغسل ثوبک من أبوال ما لا یؤکل لحمه ... » (1) و الأصل فی الاستعمال هو الحقیقة ، و الأمر ظاهر فی الوجوب . و هذا الوجوب الثابت للمقدّمة غیری بالاستقراء ، لأنّ الوجوب إمّا إرشادی و إمّا مولوی طریقی و إمّا مولوی نفسی و إمّا غیری . أمّا الإرشادی ، فهو إرشاد إلی حکم العقل فی المورد کما فی «أَطیعُوا اللّٰهَ وَأَطیعُوا الرَّسُولَ ... » (2)فهنا یوجد الحکم العقلی
ص:106
و لا یمکن أن یکون الأمر بالإطاعة حکماً شرعیّاً مولویاً ، فیحمل علی الإرشادیة ، لکنْ لیس فی مقامنا حکم من العقل ، فهو لا یقول بلزوم الإتیان بالمقدّمة ، بل یقول بلابدّیته و هو غیر اللزوم و الوجوب ، و أیضاً ، ففیما نحن فیه یمکن الحکم المولوی .
و أمّا المولوی الطریقی ، فلا معنی له هنا ، إذ الحکم المولوی الطریقی ما یجعل للتحفّظ علی الواقع ، و فیما نحن فیه لا جهل بالواقع حتّی یجعل حکم الوجوب للاحتفاظ علیه .
و أمّا المولوی النفسی ، فالمفروض أنّ بحثنا فی المقدّمة .
فانحصر کون الوجوب هنا غیریّاً ... فیکون الأمر بغسل الثوب واجباً غیریّاً .
و الجواب :
و قد أجاب الأکابر عن هذا الاستدلال : بأنّ هناک شقّاً آخر و هو : الإرشادیّة إلی الشرطیّة ، بأن یکون الأمر بغسل الثوب إرشاداً إلی شرطیّة الطهارة من الخبث فی صحّة الصّلاة .
قال الأُستاذ
و هذا الجواب الذی ارتضاه فی المحاضرات أیضاً (1) ، إنّما یتمّ فیما إذا کان الشیء شرطاً ، کاشتراط الصّلاة بطهارة اللباس ، و بالطهارة من الحدث کما فی «یٰا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا ... » (2)، أمّا فی مثل : اذهب إلی السوق و اشتر اللحم ، فلیس دخول السّوق شرطاً و لا مقدّمةً لشراء اللحم ، و إنّما هو مقدّمة وجودیّة .
ص:107
و کذا الحمل علی الارشاد إلی المقدمیّة ، ففیه : إنّه من الواضح فی مثل :
ادخل السّوق و اشتر اللحم ، کون الدخول مقدمةً للشراء ، و لا حاجة إلی التنبیه و الإرشاد إلیه .
( قال ) و الذی یمکن أن یقال فی الجواب : إنّ لابدّیة الإتیان بمتعلّق الأمر هی لترتّب ذی المقدّمة علیه ، و هذه الخصوصیّة تمنع من انعقاد الظهور العرفی للأوامر الشرعیّة المتعلّقة بالمقدّمات فی الطلب المولوی .
لا یقال : إنّه بعد ثبوت حکم العقل بلابدیّة المقدّمة ، من باب الملازمة العقلیة بین المقدمة و ذیها ، یکون المقام من صغریات قاعدة الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع ، فیتم الحکم الشرعی ، أعنی وجوب المقدّمة شرعاً .
لأنّ الأصحاب قد نفوا الوجوب الشرعی هنا مع قولهم بقانون الملازمة .
و بیان ذلک بحیث یکون نافعاً فی سائر الموارد هو :
إن العقل ، سواء قلنا بأنه حاکم أو مدرک فقط ، إنما یحرّک المکلّف و یحمله علی امتثال حکم المولی حتی یخرج عن عهدة التکلیف ، فیما إذا لم یکن قبله حکم من الشرع ، لأنّ حکم الشرع السابق علی حکم العقل یکون کافیاً لداعویّة العبد ، و فی مثل هذه الحالة لا أثر للحکم العقلی لیکون مورداً لقاعدة الملازمة ، علی أنّه یستلزم التسلسل ، لأنّ الحکم العقلی لو استتبع حکماً شرعیّاً ، کان الحکم الشرعی موضوعاً لوجوب الإطاعة عقلاً ، و وجوب الإطاعة لو استتبع حکماً شرعیّاً ، کان موضوعاً لوجوب الإطاعة کذلک ، و هکذا فیتسلسل . و من هنا قالوا :
الأحکام العقلیّة التی هی فی طول الأحکام الشرعیّة لیست مورداً لقاعدة کلّ ما حکم به العقل حکم به الشرع .
بل الأحکام العقلیّة التی هی مورد القاعدة هی الأحکام العقلیّة الواقعة فی
ص:108
سلسلة علل الأحکام الشرعیّة ، بمعنی أنّ العقل إذا أدرک المصلحة الملزمة غیر المزاحمة بالمفسدة ، أو المفسدة الملزمة غیر المزاحمة بالمصلحة ، فإنّ تلک المصلحة أو المفسدة تکون علّةً للوجوب أو الحرمة ، لکون الأحکام الشرعیّة تابعة للمصالح و المفاسد ، فمثل هذه الأحکام تکون مورداً للقاعدة .
و الحاصل : إنّ الأحکام العقلیّة علی قسمین ، فما کان منها فی طول الأحکام الشرعیّة فلا یکون مورداً للقاعدة ، و ما کان منها فی سلسلة العلل لها فهی مورد للقاعدة .
إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ مورد بحثنا خارج خروجاً موضوعیّاً عن مورد القاعدة ، لأنّه لیس فی مقامنا إلّا درک العقل التلازم فی الإرادة و الاشتیاق بین المقدّمة وذی المقدّمة ، و هذا التلازم أمر تکوینی و لیس وظیفةً للعبد ، فالعقل یری هذه اللّابدّیة لکن لا بعنوان کونها وظیفةً من وظائف العبودیّة ... .
و تلخّص : عدم تمامیّة القول بالوجوب الشرعی للمقدّمة عن طریق قانون الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع .
ما نقله فی الکفایة عن أبی الحسین البصری (1) و هو أنّه : لو لم تجب المقدّمة لجاز ترکها ، و إذا تحقّق الترک ، فلا یخلو حال ذی المقدّمة من أنْ یبقی علی وجوبه فیلزم التکلیف بما لا یطاق ، أو یخرج عن الوجوب المطلق و یکون مشروطاً بوجود المقدّمة ، و هذا خلف .
أجاب فی الکفایة : بعدم لزوم شیء من المحذورین ، بعد حکم العقل
ص:109
بلابدّیة الإتیان بالمقدّمة ، فلو ترک المقدّمة - مع ذلک - لزم سقوط الأمر بذی المقدّمة بالعصیان ، فالأمر غیر باقٍ حتی یلزم التکلیف بما لا یطاق .
و أشکل المحقّق الإیروانی (1) علی الکفایة : بأنّ هذا الجواب یتم علی القول بجواز خلوّ الواقعة عن الحکم الشرعی . و أمّا بناءً علی أنّ لکل واقعة حکماً شرعیاً ، فإنّه إن لم تجب المقدّمة فهی مباحة شرعاً ، و مع الإباحة تکون موضوعاً لحکم العقل بالرخصة ، و إذا جاء الترخیص بالنسبة إلی المقدّمة أمکن ترک ذی المقدّمة أیضاً ، فینقلب وجوبه عن الإطلاق إلی الاشتراط بالإتیان بالمقدّمة .
و هذا هو الخلف .
و الحاصل : إنّ جواب الکفایة عن الاستدلال مبنائی .
و الأُستاذ وافق علی إشکال المحقّق الإیروانی ، لکنّه ذکر أنّ المبنی الصحیح ما ذهب إلیه فی الکفایة ، إذ لا دلیل علی ضرورة وجود حکم شرعی فی کلّ واقعة ، بل الحکم العقلی أیضاً وظیفة مخرجة للعبد من الحیرة . و بعبارة أُخری : لا بدّ من تعیین الوظیفة فی کلّ واقعةٍ سواء کانت من ناحیة العقل أو الشرع .
و استدلّ للقول بعدم وجوب المقدّمة شرعاً ، باستحالة الوجوب بلا ملاک ، و ملاک جعل الوجوب فی المقدّمة إمّا تحریک العبد نحو العمل ، و إمّا إسناد العمل إلی أمر المولی إن کان العبد متحرّکاً و منبعثاً (2) . و لیس فی وجوب المقدّمة شیء من الملاکین .
أمّا أن یکون لأجل تحریکه ، فقد تقدّم کفایة اللابدّیة العقلیة .
ص:110
و أمّا أن یکون لأجل الإضافة إلی المولی فیکون مقرّباً ، فإنْ قلنا : بأن المقدّمة معنی حرفی و لیس لها وجود مستقل ، فلا موضوع للوجوب ، و إن قلنا - کما هو الصحیح - بأنّها قابلة للنظر الاستقلالی و توجّه الأمر إلیها ، فإنّ مقربیّة الإتیان بالمقدّمة حاصلة بالإتیان بذی المقدّمة ، لأنّه إنّما یأتی بالمقدّمة بداعی التوصّل إلی ذیها ، فالمقربیّة حاصلة و لا أثر لجعل الوجوب للمقدّمة من هذه الجهة .
و مع انتفاء کلٍّ من الملاکین ، یکون جعل الوجوب للمقدّمة لغواً اللّهمّ إلّا أن یقال : بأنّ جعله لها یؤثّر أثر التأکید ، بأن یأتی بها بداعیین ، أحدهما الوجوب الغیری و الآخر التوصّل إلی ذی المقدّمة . فلا لغویّة . فیکون وجه عدم الوجوب للمقدّمة حینئذ عدم الدلیل علی وجوبها لا عدم الملاک و لزوم اللغویّة ، إذ لا دلیل شرعی علی وجوب المقدّمة ، و قد عرفت أنّ العقل غیر کاشف هنا إلّا عن التلازم بین المقدّمة و ذیها فی الشوق و الإرادة ، أمّا أن یکشف عن حکم شرعی فلا ...
و قانون الملازمة أیضاً لم یثبت حکماً شرعیّاً للمقدّمة .
فالحقّ : عدم وجوب مقدّمة الواجب شرعاً .
فإن کانت سبباً فهی واجبة ، و إنْ کانت شرطاً فلا ، و ذلک : لأنّ القدرة علی المتعلّق شرط ، و المسبّب خارج عن القدرة ، فلا یتعلّق التکلیف به ، لکنّ السبب المتوقّف علیه مقدور ، فلا بدّ من صرف الأمر المتعلّق بالمسبّب إلی السبب ، وعلیه ، فلو أمر بالطّهارة من الحدث ، فإنّه یتوجّه إلی السبب المحصّل لها ، لأنّه المقدور دون نفس الطّهارة .
ص:111
أجاب فی الکفایة (1)
أوّلاً : إن هذا الذی ذکر لیس بدلیلٍ علی التفصیل ، بل إنّه دلیل علی أنّ الأمر النفسی إنّما یکون متعلّقاً بالسبب دون المسبّب ، فیکون السبب واجباً نفسیّاً . و هذا شیء خارج عن محلّ البحث ، و هو وجوب المقدّمة بالوجوب الغیری و عدمه .
و ثانیاً : إنّ ما ذکر من أنّ المسبّب غیر مقدور غیر صحیح ، لأنّ الشیء یکون مقدوراً بالقدرة علی سببه ، و القدرة المعتبرة فی التکالیف أعم من القدرة بالمباشرة أو بالتسبیب ، فلو أمر بالإحراق - و هو المسبّب - مع القدرة علی الإلقاء فی النار کان صحیحاً ، و لا وجه لصرفه إلی الإلقاء ، أی السبب .
و قال المیرزا (2) :
إن کان وجود العلّة غیر وجود المعلول صحّ وجوب العلّة بالوجوب الغیری ، و إن کانا موجودین بوجودٍ واحدٍ - کالإلقاء و الإحراق ، و الغسل و الطهارة من الخبث و نحوهما - فلا معنی لأنْ یکون وجوب العلّة غیریّاً و المعلول نفسیّاً .
أشکل الأُستاذ
أوّلاً : بأنّه لا یعقل وجود العلّة و المعلول بوجودٍ واحدٍ ، إذ العلّة و المعلول متقابلان ، العلّة مؤثرة و المعلول أثر ، و المتقابلان لا یوجدان بوجود واحدٍ .
و ثانیاً : ما ذکره من تعدّد الوجود فی الإلقاء و الاحتراق غیر صحیح ، لأنّ الإلقاء لا ینفک عن الإحراق ، لکنّ عدم الانفکاک أمرٌ و وجودهما بوجودٍ واحدٍ أمر آخر .
فإنْ کانت المقدّمة شرطاً شرعیّاً کالوضوء بالنسبة إلی الصلاة فهی واجبة ،
ص:112
و إنْ کانت شرطاً غیر شرعی کنصب السلّم للصعود إلی السطح الواجب فلا ، و هو قول ابن الحاجب فی ( المختصر ) و شارحه العضدی (1) ، فهو :
أنّه لو لا وجوب الشرط الشرعی شرعاً لما کان شرطاً ، حیث إنّه لیس ممّا لا بدّ منه عقلاً أو عادةً .
و الحاصل : إنّ المقدّمة إن کانت عقلیّة کطیّ الطریق للحج أو عادیّة کنصب السلّم للصعود ، فلا حاجة إلی جعل الوجوب الشرعی ، لأنّ جعله إنّما هو بداعی بعث المکلّف ، و المفروض انبعاثه عقلاً أو عادةً نحو المتعلّق ، و أمّا إن کانت المقدّمیّة شرعیّة ، فإنّ العقل لا یدرک لابدیّتها ، کلابدّیة الوضوء للصّلاة ، و هذا معنی قوله : لو لا وجوبه شرعاً لما کان شرطاً .
جواب المحقّق الخراسانی
و أجاب المحقّق الخراسانی (2) : أوّلاً : إنّ الشرط مطلقاً - شرعیّاً کان أو عقلیّاً أو عادیّاً - هو ما ینتفی المشروط بانتفائه ، وعلیه ، فالشروط الشرعیّة ترجع إلی العقلیّة .
قال الأُستاذ
و فیه : إنّه فرقٌ بین الشروط الشرعیّة و غیرها ، لأنّ غیر الشرعیّة واضحة لدی العقل ، بخلاف الشرعیّة ، إذ العقل لا یدرک لابدّیتها إلّا بعد وجوبها شرعاً ، کما تقدّم .
و أجاب ثانیاً : بأنّه لا یتعلّق الأمر الغیری إلّا بما هو مقدّمة ، فلا بدّ من إثبات مقدمیّة المقدّمة قبل تعلّق الأمر فلو کانت مقدمیّته متوقّفة علی تعلّق الأمر بها لزم الدور .
ص:113
قال الأُستاذ
و یمکن الجواب : بأنّ الوضوء کما هو شرط و قید للصّلاة بما هی واجبة ، کذلک هو قید للصّلاة بما هی قربان کلّ تقی - مثلاً - فله دخلٌ فی وجوبها و فی الغرض منها ، لکنّ دخله فی الغرض منها غیر موقوف علی وجوبه الغیری ، بل الوجوب الغیری موقوف علی ذلک ، إذ لو لم یکن الوضوء قیداً للغرض من الصّلاة لم یتعلّق به الوجوب الغیری . وعلیه ، فقد أصبح الوجوب الغیری للوضوء موقوفاً علی دخله فی الغرض من الصّلاة ، و لیس دخله فیه موقوفاً علی وجوبه الغیری .
نعم ، مقدمیّة الوضوء للصّلاة - من حیث أنّها واجبة - موقوفة علی الوجوب الغیری . و الحاصل : إنّه قد وقع الخلط بین مقدمیّة الوضوء للواجب و مقدمیّته للغرض من الواجب .
و علی الجملة : فإن کون الوضوء شرطاً و قیداً للواجب موقوف علی مصحّح انتزاع هذه الشرطیّة و هو الوجوب الغیری ، لکنّ الوجوب الغیری موقوف علی شرطیّته للقربانیّة و غیرها من الأغراض ، فاختلف الموقوف و الموقوف علیه ، فلا دور .
الحق فی الجواب
ما ذکره المحقّق الخراسانی بالتالی ، من أنّ المصحّح لاتّصاف المقدّمة الشرعیّة بالمقدمیّة هو : الأمر النفسی المتعلّق بذی المقدّمة مقیّداً بالمقدّمة ، کقوله :
صلّ مع الطّهارة ، فإنّ مثل هذا الخطاب یکون منشأً لانتزاع المقدمیّة و الشرطیّة للوضوء بالنسبة إلی الصّلاة ، فلا یکون واجباً غیریّاً شرعاً .
هذا تمام الکلام فی مقدمة الواجب .
ص:114
ذکر فی الکفایة و غیرها (1) ثمرات للبحث عن وجوب المقدّمة :
( منها ) إنّ نتیجة البحث عن ثبوت الملازمة بین وجوب شیء و وجوب مقدّماته هی الوجوب الشرعی للمقدّمة بناءً علی ثبوتها ، قال المحقّق الخراسانی رحمه اللّٰه : لو قیل بالملازمة فی المسألة فإنّه بضمیمة مقدّمة کون شیء مقدّمةً لواجب یستنتج أنّه واجب .
یعنی : إذا علمنا مثلاً : أنّ الوضوء مقدّمة لواجبٍ ، فجعلنا ذلک مقدّمةً للکبری الأُصولیّة بأنّ : کلّ ما هو مقدّمة لواجب فإنّه یلزم وجوب المقدّمة من وجوب ذی المقدّمة ، و یستنتج من هذا القیاس وجوب الوضوء ، أمّا بناءً علی عدم ثبوت الکبری الأُصولیّة المذکورة ، فلا تتم هذه النتیجة و یبقی اللّابدّیة العقلیّة .
و فی المحاضرات : إنّ ما ذکر لا یصلح لأن یکون ثمرةً فقهیة للمسألة الأُصولیّة ، لعدم ترتّب أثر عملی بعد حکم العقل بلابدّیة الإتیان بالمقدّمة .
فأجاب الأُستاذ : بأنّه یکفی لتحقّق الثمرة الفقهیّة جواز فتوی الفقیه بوجوب الوضوء فی المثال ، فکان للقیاس المزبور هذا الأثر الفقهی العملی لبعض المکلّفین و هم الفقهاء .
( و منها ) إنّ المقدّمة إذا کانت عبادةً ، فعلی القول بوجوبها فإنّه یؤتی بها بقصد التقرّب ، و إلّا فلا کما هو واضح .
ص:115
و فی المحاضرات : إنّ عبادیّة المقدّمة لا تتوقّف علی وجوبها ، فإنّ منشأ العبادیّة لها أحد أمرین ، إمّا الإتیان بها بقصد التوصّل إلی الواجب النفسی و امتثال الأمر المتعلّق به ، و إمّا الإتیان بها بداعی الأمر النفسی المتعلّق بها کما فی الطهارات الثلاث ، فالوجوب الغیری لا یکون منشأ لعبادیّتها أصلاً .
فأجاب الأُستاذ : بأنه اشکال مبنائی ، و لا یعتبر فی الثمرة أن تکون مترتّبةً علی جمیع المبانی ، فعلی القول بأنّ العمل بداعی الأمر الغیری غیر مقرّب بل العبادیّة إنّما تحصل بأحد الأمرین المذکورین ، فلا ثمرة . أمّا علی القول بأنّ الإتیان به مضافاً إلی المولی کافٍ للعبادیّة و المقربیّة ، فإنّ الإتیان به بداعی الأمر الغیری یکون مقرّباً و تترتّب الثمرة .
( و منها ) إنه إنْ کانت المقدّمة واجبةً بالوجوب الشرعی ، کانت موضوعاً للبحث عن أخذ الأُجرة علی الواجبات ، و إلّا فلا مانع من ذلک .
قال فی المحاضرات : و فیه أوّلاً : إنّ الوجوب - بما هو وجوب - لا یکون مانعاً من أخذ الأُجرة علی الواجب ، إلّا إذا قام دلیل علی لزوم الإتیان به مجّاناً کدفن المیّت ، و إذ لا دلیل علی لزوم الإتیان بالمقدّمة مجّاناً ، فلا مانع من أخذ الأُجرة علیها و إنْ قلنا بوجوبها . و ثانیاً : إنّه لا ملازمة بین وجوب شیء و عدم جواز أخذ الأُجرة علیه ، بل النسبة بینهما عموم من وجه ، فقد یکون العمل واجباً و أخذ الأُجرة علیه جائز کما لو کان واجباً توصلیاً ، و قد یکون غیر واجب و لا یجوز أخذ الأُجرة علیه کالأذان ، فإنْ کان واجباً عبادیاً حرم أخذ الأُجرة علیه علی القول بالحرمة ... إذن ، لا بدّ من التفصیل فی هذه الثمرة .
قال الأُستاذ : إنّه یکفی ترتّب الثمرة علی بعض الأقوال فی المسألة ، فعلی القول بأنّ کل واجب فهو للّٰه ، و ما کان للّٰه فلا تؤخذ الأُجرة علیه - لأن وجوب
ص:116
العمل علی العبد منافٍ لملکیّة العبد لعمله - فالثمرة مترتّبة .
( و منها ) برّ النذر بالإتیان بالمقدّمة علی القول بوجوبها لو نذر الإتیان بفعل واجب ، و عدم حصول البرّ بذلک علی القول بعدم وجوبها .
و قد أشکل فی الکفایة و المحاضرات و غیرهما علی هذه الثمرة : بأنّ الوفاء بالنذر یتبع قصد الناذر ، فإن کان قاصداً من لفظ « الواجب » خصوص الواجب النفسی ، لم یکف الإتیان بالمقدّمة ، لأن وجوبها غیری علی القول بوجوبها ، و إن کان قاصداً منه ما یلزم الإتیان به و لو بحکم العقل ، وجب الإتیان بالمقدّمة ، حتّی علی القول بعدم وجوبها شرعاً . نعم لو قصد من الوجوب الأعم من النفسی و الغیری ، حصل البرّ بإتیان المقدّمة علی القول بوجوبها دون القول بعدم وجوبها .
( و منها ) إنّه بناءً علی وجوب المقدّمة شرعاً ، فقد یکون لواجب نفسی مقدّمات کثیرة ، و حینئذٍ ، فلو ترک الواجب النفسی مع مقدّماته حکم بفسقه ، أمّا بناءً علی عدم وجوبها فلا ، لأنّه لم یفوّت إلّا واجباً واحداً و هو النفسی ذو المقدّمة ، و لا یصدق عنوان الإصرار علی المعصیة بذلک إلّا إذا کان ترک ذی المقدّمة کبیرةً من الکبائر .
و أشکل فی المحاضرات بما حاصله : ترتّب الثمرة علی بعض المبانی فی معنی « العدالة » و فی معنی « الإصرار علی الصغیرة » علی مسلک التفصیل بین الصغیرة و الکبیرة .
قال : و لو تنزّلنا عن جمیع ذلک ، فإنّه لا معصیة فی ترک المقدّمة بما هی مقدّمة حتی علی القول بوجوبها کی یحصل الإصرار علی المعصیة ، لأنّ ما یحقّق عنوان المعصیة هو مخالفة الأمر النفسی ، و أمّا مخالفة الأمر الغیری فلا تحقّق بها المعصیة .
ص:117
و قد أورد علیه الأُستاذ :
أوّلاً : بکفایة ترتّب الثمرة علی بعض المبانی ، کما تقدّم .
و ثانیاً : إن عنوان « المعصیة » یتحقّق بمخالفة الأمر ، سواء کان نفسیّاً أو غیریّاً ... .
و ثالثاً : إن قیل إنّ عنوان « الإصرار » علی المعصیة یتحقّق بکثرة المخالفة کما یتحقّق بتکرّر المخالفة للحکم الواحد ، فإنّه یتحقّق فیما نحن فیه بترک جمیع المقدّمات .
( و منها ) إنّ المقدّمة إن کانت محرّمة ، فعلی القول بوجوب المقدّمة شرعاً یلزم اجتماع الأمر و النهی فیها ، و علی القول بعدم وجوبها فلا یلزم .
أجاب فی الکفایة
أوّلاً : إنّ المقدّمة المحرّمة علی قسمین ، منحصرة و غیر منحصرة ، فإن کانت منحصرةً فلا یلزم الاجتماع ، بل یترجّح أحد الأمرین - الوجوب و الحرمة - علی الآخر . و إن کانت غیر منحصرة ، فإنّ مصب الوجوب - علی القول به فی بحث مقدّمة الواجب - هو المقدّمة المباحة ، لأنّ الحاکم بوجوب المقدّمة هو العقل ، عن طریق الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة و وجوب المقدّمة ، و هو لا یری الملازمة إلّا بین الواجب و مقدّمته المباحة ، فلا تکون المحرّمة محلّ الاجتماع .
فأشکل فی المحاضرات فی صورة عدم الانحصار : بعدم الدلیل علی اعتبار إباحة المقدّمة ، لأنّ الملاک فی المقدّمیة توقف ذی المقدّمة الواجب علی المقدّمة ، و کما أنّ المقدّمة المباحة واجدة لهذا الملاک فکذلک المقدّمة المحرمة ، و مجرّد انطباق عنوان المحرّم علیها لا یخرجها عن واجدیّتها للملاک ... فتکون
ص:118
محلّاً للاجتماع .
و أجاب الأُستاذ دام ظلّه : بأنّ وجوب المقدّمة شرعاً - علی القول به - إنّما اکتشف عن طریق حکم العقل بالملازمة بین وجوب ذی المقدّمة شرعاً و وجوب المقدّمة ، فالعقل لا یری انفکاکاً بین مطلوبیّة ذی المقدّمة و مطلوبیّة المقدّمة ، لکنّ هذه المطلوبیّة من أوّل الأمر إنّما تکون بین ذی المقدّمة و مقدّمته المباحة لا مقدّمته المبغوضة للمولی ، فهو لا یری الملازمة إذا کانت مبغوضة له ، وعلیه ، فإنّ الوجوب یتوجّه إلی المقدّمة المباحة ، فلا یلزم الاجتماع .
و ثانیاً : إنّه لیس المورد من قبیل اجتماع الأمر و النهی ، بل من قبیل النهی عن العبادة ، لأنّ موضوع الوجوب هو « ذات المقدّمة » کالوضوء ، و موضوع الحرمة هو « الغصب » ، فتعلّق الأمر و النهی بما هو مصداق فعلاً للمقدّمة ، فیکون من مسائل النهی عن العبادة .
و الجواب : صحیح أنّ عنوان « المقدّمة » خارج عن متعلّق الأمر ، إلّا أنّ الأمر قد تعلّق بطبیعی الوضوء الجامع بین الفردین الحلال و الحرام ، و النهی قد تعلّق بخصوص الفرد المغصوب ، فکان متعلّق الأمر غیر متعلّق النهی ، ثمّ انطبقا علی هذا الوضوء الغصبی فکان مجمعاً لهما .
و ثالثاً : إنّ الغرض من المقدّمة هو التوصّل بها إلی ذی المقدّمة الواجب بالوجوب النفسی ، و هی لا تخلو إمّا أن تکون توصلیّة أو تعبدیّة ، فإن کانت توصلیّة فهی توصل إلی ذی المقدّمة و إن کانت محرّمةً ، کالحج علی الدابّة المغصوبة ، و إن کانت تعبدیّة - کالوضوء مثلاً - وقع البحث فی جواز اجتماع الأمر و النهی و عدم جوازه ، فإنْ قلنا بالجواز صحّت العبادة سواء قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل ، و إن قلنا بالعدم و تقدیم جانب النهی بطلت سواء قلنا بوجوب المقدّمة
ص:119
أم لم نقل ، فلا ثمرة للبحث .
و فیه :
إنّه بناءً علی عدم الفرق فی المقربیّة بین الواجب النفسی و الواجب الغیری ، فإنّ المقدّمة إن کانت تعبّدیة فإنّه یعتبر فیها قصد القربة ، فإنْ اتّفق کونها محرمةً کالوضوء الغصبی امتنع التقرّب بها إلّا علی القول بوجوب المقدّمة ، بناءً علی جواز اجتماع الأمر و النهی ، فالثمرة مترتبة .
ص:120
تتمّة
قال المحقّق الخراسانی :
مقدّمة المستحب کمقدّمة الواجب فتکون مستحبةً لو قیل بالملازمة .
أقول :
إنّه بناءً علی الملازمة بین المقدّمة و ذیها ، لا یری العقل فرقاً بین الطلب الإلزامی و الطلب غیر الإلزامی ، فبمجرّد وجود المقدمیّة و توقّف ذی المقدّمة علیها ، یکون مقدّمة المستحب مستحبّاً ، کما یکون مقدّمة الواجب واجباً .
قال المحقّق الخراسانی :
و أمّا مقدّمة الحرام و المکروه ، فلا تکاد تتّصف بالحرمة أو الکراهة ، إذ منها ما یتمکّن معه من ترک الحرام أو المکروه اختیاراً ... (1) .
أقول :
حاصل کلامه قدّس سرّه هو التفصیل ، لأنّ المقدّمة علی قسمین :
أحدهما : المقدّمة التی یتمکّن المکلّف مع فعلها من ترک الحرام أو المکروه ، لعدم کونها علّةً تامّةً و لا جزءاً أخیراً للعلّة التامّة .
ص:121
الثانی : المقدّمة التی لا یتمکّن المکلّف معها من ذلک ، لکونها علّةً تامّة أو جزءاً أخیراً لها .
ففی القسم الأول لا تکون المقدّمة حراماً أو مکروهاً ، إذ مع الفرض المذکور لا وجه لذلک ، لعدم کونها واجدةً لملاک المقدّمیّة و هو التوقّف ، بل یکون إتیانه لذی المقدّمة المحرَّم مستنداً إلی سوء اختیاره ، بخلاف القسم الثانی .
و بعبارة أُخری : إنّه فی کلّ موردٍ تتوسّط الإرادة بین المقدّمة و ذیها ، فلا تترشّح الحرمة أو الکراهة إلی المقدّمة ، و فی کلّ موردٍ لا توسط للإرادة بینهما ، کما فی الأفعال التولیدیّة ، حیث النسبة بین المقدّمة و ذیها نسبة العلّة التامّة و المعلول ، فالمقدّمة تکون محرّمة أو مکروهةً کذلک .
و قال المحقّق النائینی (1)
بأنّ المکلّف تارةً : عنده صارف یصرفه عن ارتکاب الحرام و أُخری :
لا صارف عنده . فإنْ کان عنده صارف عن الحرام ، فلا تتّصف المقدّمة بالحرمة ، لعدم ترتّب أثر علیها .
و أمّا إن لم یکن عنده صارف فهنا صور :
( الصورة الأُولی ) : أن یتعدّد المقدّمة و ذو المقدّمة عنواناً و یتّحدا وجوداً ، کصبّ الماء للوضوء حالکون الماء مغصوباً ، فقد تحقّق عنوانان أحدهما : صبّ الماء و حکمه الوجوب و الآخر : الغصب و حکمه الحرمة ، لکنّهما متّحدان وجوداً ، فالمورد من صغریات اجتماع الأمر و النهی ، و تکون المقدّمة محرّمةً بالحرمة النفسیّة - لا الغیریّة - لأنّ النهی حینئذٍ یتوجّه إلی نفس الفعل التولیدی .
( الصورة الثانیة ) أن یتعدّد المقدّمة و ذو المقدّمة عنواناً و وجوداً :
ص:122
فإنْ کانت النسبة بین المقدّمة و ذیها نسبة العلّة التامّة إلی المعلول و لا توسّط للإرادة ، فالمقدّمة محرّمة حرمةً نفسیّة - مع کونها مقدّمة - لأنّها هی متعلّق القدرة و الاختیار من المکلّف ، و أمّا ذو المقدّمة فلا قدرة علی ترکه فلا تتعلّق به حرمة .
و إنْ لم تکن النسبة بینهما کذلک ، فهنا صورتان :
1 - أن یأتی بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلی الحرام ، فیکون القول بحرمتها مبنیّاً علی القول بحرمة التجرّی ، فعلی القول بذلک تکون المقدّمة محرّمةً بالحرمة النفسیّة ، و إلّا فهی حرام بالحرمة الغیریّة .
2 - أن یأتی بها لا بقصد ذلک ، فلا تکون صغری للتجرّی ، و لا وجه للحرمة حینئذٍ ، لبقاء الاختیار و القدرة علی ترک الحرام کما هو المفروض .
تحقیق الأُستاذ فی هذا المقام
فقال الأُستاذ دام بقاه : إنّ مقتضی القاعدة - قبل کلّ شیء - تعیین المبنی فی حقیقة النهی ، و أنّه هل طلب الترک أو أنّه الزجر عن الفعل ؟
فعلی القول بوحدة الحقیقة فی الأمر و النهی ، و أن کلیهما طلب ، غیر أنّ الأوّل طلب للفعل و الثانی طلب للترک - کما هو مختار صاحب الکفایة - یتم التفصیل الذی ذهب إلیه ، لأنّ ما لیس علّةً تامّةً و لا جزءاً أخیراً لها لا یتعلّق به طلب الترک ، فلا یکون محرّماً بالحرمة الغیریّة ، لأنّه غیر واجد للملاک و هو المقدمیة و التوقّف ، لأنّ ما له دخل فی ترک الحرام هو الجزء الأخیر من العلّة التامّة ، أمّا غیره من الأجزاء فلا دخل له فی تحقّق الحرام .
و بهذا البیان یظهر الفرق بین مقدّمة الواجب و مقدّمة الحرام - مع کون کلیهما طلباً علی المبنی - فإن مقدّمات الواجب کلّ واحدة منها دخیل فی تحقّق الواجب ، فکلّ خطوة خطوة من طی الطریق للحج واجب ، بخلاف مقدّمات الحرام إذ الدخیل لیس إلّا الجزء الأخیر .
ص:123
و هنا یواجه المحقّق الخراسانی مشکلةً یتعرّض لها بعنوان « إن قلت » و حاصلها : إنّ الإرادة علّة تامّة للحرام ، فلا بدّ و أن تکون منهیّةً عنها فهی محرمة . ثمّ یجیب بأنّ الإرادة غیر إرادیة ، فلا یتعلّق بها التکلیف لا النفسی و لا الغیری ، و إلّا لتسلسل .
فهذا توضیح مختار الکفایة .
فأشکل علیه الأُستاذ بإشکالین :
أحدهما : إنّ حقیقة النهی هو الزجر و لیس طلب الترک .
و الثانی : إنّ الإرادة یتعلّق بها التکلیف ، لکون أفعالنا اختیاریّةً بالعرض .
أقول :
لکنّهما اشکالان مبنائیّان کما لا یخفی .
هذا بالنسبة إلی کلام المحقّق الخراسانی .
و أمّا بالنسبة إلی کلام المیرزا ، فقد أفاد الأُستاذ :
أمّا ما ذکره فی الصّورة الأُولی - و هی ما إذا کان للمکلّف صارف عن الحرام - ففیه نظر ، لأنّ مقتضی قانون الملازمة - بناءً علی القول به - هو الحکم بحرمة المقدّمة الموقوف علیها فعل الحرام حرمةً غیریّة ، سواء وجد الصّارف عن الحرام أو لا .
و أمّا ما ذکره فی الصّورة الثانیة - من سرایة الحرمة إلی متعلّق الأمر فیما إذا کان العنوانان موجودین بوجودٍ واحد - فتامٌ من حیث الکبری ، إلّا أنّ المورد لیس من صغریاتها ، لأنّ إجراء الماء علی الید غیر متّحد وجوداً مع جریانه علی الأرض المغصوبة ، بل الجریان علیها أثر لإراقة الماء علی الید بعنوان الغسل .
و أمّا ما ذکره فی الصّورة الثالثة - من عدم سرایة الحرمة من ذی المقدّمة إلی المقدّمة ، لکون ذی المقدّمة خارجاً عن القدرة فی حال عدم توسط الإرادة بینهما -
ص:124
ففیه : بعد غضّ النظر عن اختلاف کلماته فی هذا المورد ، إنّ القدرة علی المسبّب موجودة ، لوجود القدرة علی سببها الذی هو مقدّمة وجودیّة لذی المقدّمة ، و حینئذٍ ، فالذی یحرم بالحرمة النفسیّة هو ذو المقدّمة ، أمّا المقدّمة فلا مفسدة ذاتیة لها و إنْ کانت جزءاً أخیراً للعلّة التامّة ، فتکون محرّمةً حرمة غیریّة .
و أمّا ما ذکره فی الصّورة الرابعة - و هی المورد الذی لا تکون المقدّمة فیه علّةً تامّةً ، و قد أتی بها بقصد التوصّل إلی الحرام فهی علی القول بحرمة التجرّی حرام نفسی ، و علی القول بعدم حرمته فهی حرامٌ حرمةً غیریة - ففیه :
أمّا التجرّی ، فلا حرمة شرعیّة له ، و إنّما یستتبع استحقاق العقاب بمناط أنّه خروج علی المولی . و أمّا القول بالحرمة الغیریّة بناءً علی عدم حرمة التجرّی ، فالمفروض هنا هو القدرة علی ترک الحرام مع الإتیان بالمقدّمة ، فلا یتحقّق مناط الحرمة الغیریّة و هو التوقّف أو المقدمیّة .
و أمّا ما ذکره فی الصّورة الخامسة - من عدم حرمة المقدّمة ، إنْ لم تکن علةً تامةً و لم یؤت بها بقصد التوصّل للحرام - فتام بلا کلام .
فالحق فی المسألة
هو التفصیل بین مقدّمة الواجب - بناءً علی القول بوجوبها - و مقدّمة الحرام ، فإن مقدّمات الواجب تتّصف کلّها بالوجوب ، لواجدیة کلّ واحدة منها لملاک الوجوب الغیری ، و هو توقف ذی المقدّمة علیها ، بخلاف مقدّمة الحرام ، فإنّ ذا المقدّمة إنّما یتحقّق بتحقّق المقدّمة الأخیرة ، و أمّا غیرها من المقدّمات فلا أثر لها ، لأنّ ملاک المقدمیة غیر متوفّر إلّا فی الأخیرة ، فتکون هی وحدها المحرّمة بالحرمة الغیریّة ، بناءً علی ثبوت الملازمة .
هذا تمام الکلام فی مبحث المقدّمة بجمیع أقسامها .
و یقع الکلام فی مبحث الضد .
ص:125
ص:126
ص:127
ص:128
إنّ عنوان البحث هو : الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضدّه أو لا ؟
فی هذا العنوان ألفاظ ، فما المراد منها :
( الأمر ) لیس المراد به مادّة الأمر و لا صیغته ، بل المراد هو الطلب المبرز ، بأیّ مبرز لفظی أو فعلی کالتحریک عملاً ، أو الإشارة بالید و غیرها ... .
فهذا هو المراد ، لأنّه إنْ أرید خصوص مادّة الأمر أو صیغته ، کان البحث لفظیّاً ، و تکون دلالة الأمر علی النهی لفظیّة ، مطابقیة أو تضمّنیّة أو التزامیّة ، و لکنّ البحث أعم ، و یدخل فیه الدلالة العقلیّة أیضاً ، فیکون المراد من الأمر هو الأعمّ من الطلب اللّفظی و غیره .
و ( الاقتضاء ) لفظی تارةً و عقلی أُخری ، و العقلی ینشأ تارةً : من مقدمیّة ترک أحد الضدّین لوجود الآخر ، و أُخری : من الملازمة بین وجود أحدهما و عدم الآخر ... و الاقتضاء اللفظی هو الدلالة اللفظیّة بأقسامها الثلاثة .
و المراد من الاقتضاء هو الأعمّ من اللفظی و العقلی بأقسامهما .
و سیأتی توضیحٌ لهذا قریباً .
و ( النهی ) ما یقابل الأمر ، فإذا کان المراد من الأمر هو الطلب المبرز الأعمّ من اللفظی و غیره ، فکذلک النّهی یکون أعم ، سواء کان حقیقته طلب الترک أو
ص:129
الزجر عن الفعل .
و ( الضد ) اصطلاحان ، فلسفی و أُصولی ، أمّا فی الفلسفة ، فالمراد منه الأمران الوجودیان اللذان لا یقبلان الاجتماع ، فبینهما تقابل التضاد . توضیحه : کلّ شیئین إن اشترکا فی النوع القریب فهما متماثلان ، و إلّا فإنْ لم یکونا آبیین عن الاجتماع فی الوجود فهما متخالفان ، و إنْ أبیا فهما متقابلان ، فإنْ کانا وجودیین فهما ضدّان ، و إنْ کان أحدهما وجودیّاً و الآخر عدمیّاً فهما متناقضان . و الحاصل :
إنْ کان المتقابلان وجودیین و لا تلازم بینهما فی التصوّر ، فهما ضدّان فلسفةً .
و أمّا فی الاصطلاح الأُصولی ، فلا یشترط أن یکونا وجودیین ، و لذا یقسّم الضدّ إلی الخاص و العام و هو عبارة عن الترک .
فالمراد من « الضد » هنا هو المصطلح الأُصولی کما عرفت .
بقی أن نوضّح المراد من « الاقتضاء » بالنظر إلی المراد من « الضد » :
و ذلک لأنّ ما تقدّم من أعمیّة الاقتضاء من اللفظی و العقلی ، إنّما هو فیما إذا کان الأمر بالشیء مقتضیاً للنهی عن الضدّ العام ، فإنّه فی هذه الحالة یعقل أن یکون الاقتضاء لفظیّاً ، فقیل : بأنّ الأمر بالشیء یدلّ بالمطابقة علی النهی عن ترکه ، و قیل :
بالتضمّن ، و قیل : بالالتزام من جهة الملازمة بینهما باللزوم البیّن بالمعنی الأخص - أیْ صورة عدم انفکاک تصوّر الملزوم عن تصوّر الملازم - فإنّه متی کان اللزوم کذلک فالدلالة التزامیّة لفظیّة .
أمّا إذا کان الأمر بالشیء مقتضیاً للنهی عن ضدّه الخاص ، فلا وجه للدلالة اللفظیّة بل هی عقلیّة ، لأنّ القول بأنّ الأمر بالشیء یدلّ علی النهی عن ضدّه بالدلالة المطابقیّة أو التضمّنیّة أو الالتزامیّة ، مبنی علی أنّ الأمر عبارة عن طلب الشیء مع المنع عن ترکه ، و من الواضح أنّ الترک ضدّ عام ، لکنّ الأمر بالإزالة لیس
ص:130
دالّاً علی النهی عن الصّلاة - التی هی ضدّها الخاص - بإحدی الدلالات المذکورة ، إذ لیس الأمر بالإزالة عین النهی عن الصّلاة ، و لا أنّ النهی عن الصّلاة جزء للأمر بالإزالة ، و لا أن بینهما - أی مطلوبیّة الازالة و مبغوضیّة الصّلاة - اللزوم البیّن بالمعنی الأخص ، لوضوح انفکاک تصوّر الصّلاة عن تصوّر الإزالة .
و تلخّص ، أن لا مجال لشیء من الدلالات اللفظیّة فی الضدّ الخاص .
فقد یقال باقتضاء الأمر بالشیء علی النهی عن ضدّه الخاص اقتضاء عقلیّاً ، عن طریق کون ترک الضدّ الخاص مقدّمةً لوجود المأمور به ، بأن یکون وجود الإزالة موقوفاً علی عدم الصّلاة ، بناءً علی وجوب مقدّمة الواجب ، بمعنی : أنّ الشارع لمّا أمر بإزالة النجاسة عن المسجد ، فإن أمره بذلک یقتضی وجوب عدم الصّلاة ، و وجوب عدم الصّلاة یقتضی النهی عنها .
فهذا طریقٌ لاقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضدّه الخاص عقلاً .
و طریق آخر هو : دعوی الملازمة بین وجود الإزالة و عدم الصّلاة ، ببیان : أنّه إذا وجبت الإزالة کان عدم الصّلاة ملازماً لوجود الإزالة ، و لمّا کان المتلازمان متّفقین حکماً کان عدم الصّلاة واجباً .
و تفصیل الکلام فی مقامین :
و البحث الآن فی الطریق الأوّل ... و فیه أقوال خمسة :
1 - المقدمیّة مطلقاً ، أی: أنّ وجود أحد الضدّین مقدّمة لعدم الآخر ، و عدمه
ص:131
مقدّمة لوجوده .
2 - عدم المقدمیّة مطلقاً ، فلیس وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر و لا عدمه مقدّمة لوجوده .
3 - وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر .
4 - عدم الضدّ مقدّمة لوجود الآخر .
5 - العدم مقدّمة دون الوجود ، فلا مقدمیّة للوجود ، إلّا أنّ الضدّ إن کان موجوداً فهو مقدّمة ، و إن کان معدوماً فلیس بمقدّمة .
و المهم من هذه الأقوال ثلاثة :
الأول : قول المشهور بمقدمیّة عدم أحد الضدّین لوجود الآخر .
و الثانی : قول المتأخّرین بعدم المقدمیّة مطلقاً .
و الثالث : تفصیل المحقّق الخونساری بین الضدّ الموجود و الضدّ المعدوم .
إنّ الإزالة و الصّلاة ضدّان متمانعان فی الوجود .
و العلّة التامّة مرکّبة من وجود المقتضی و وجود الشرط و عدم المانع .
فکان عدم الصّلاة - المانع - مقدمةً لوجود الإزالة .
و أجاب المحقّق الخراسانی (1) : بأنّ بین الضدّین معاندة تامّة ، لکنْ بین الضدّ و عدم الضدّ الآخر کمال الملاءمة ، فالسواد و البیاض متنافران ، لکنْ بین البیاض و عدم السواد تلاءم ، وعلیه ، فکما أنّ الضدّین فی مرتبةٍ واحدة ، کذلک
ص:132
وجود أحدهما و عدم الآخر فی مرتبةٍ واحدة ، و إذا ثبت الاتحاد فی المرتبة ، انتفی تقدّم أحدهما علی الآخر ، و الحال أنّ المقدّمیّة لا تکون إلّا مع الاختلاف فی المرتبة .
و فیه : إنّه قد یکون بین الشیء و الآخر کمال الملاءمة و لا اتّحاد فی المرتبة ، کما بین العلّة و المعلول ، فإن بین وجودهما کمال الملاءمة و هما مختلفان فی المرتبة .
و الحاصل : إنّ مجرّد الملاءمة بین وجود الضد و عدم الضدّ الآخر لا یوجب اتّحاد المرتبة حتی تنتفی المقدمیّة .
ثمّ قال :
فکما أنّ المنافاة بین المتناقضین لا تقتضی تقدّم ارتفاع أحدهما فی ثبوت الآخر ، کذلک فی المتضادّین .
أقول :
یحتمل أن یکون تکمیلاً للوجه المذکور : بأنّه کما أنّ عدم السواد - المنافی للسّواد - فی مرتبةٍ واحدة معه ، کذلک السواد و البیاض .
أو یکون کما هو ظاهر السید الأُستاذ (1) برهاناً آخر علی عدم التمانع ، بأنْ یکون جواباً نقضیّاً ، من حیث أنّ المعاندة بین الضدّین لیست بأکثر من المعاندة بین النقیضین ، فکما لا یعقل أن یکون الوجود مقدّمةً للعدم - مع کمال المنافرة بینهما - کذلک السواد و البیاض . فلو کان مجرّد المنافرة موجباً لمقدمیّة أحد الشیئین للآخر ، کان وجود الشیء مقدمةً لعدم الشیء الآخر . و علی الجملة : إنّه لو کان ملاک المقدمیّة کمال المنافرة ، فإنّ وجوده فی المتناقضین أقوی منه فی
ص:133
الضدّین ، و الحال أنّ المقدمیّة بین المتناقضین مستحیلة .
ثمّ قال :
کیف ؟ و لو اقتضی التضادّ توقّف وجود الشیء علی عدم ضدّه - توقّف الشیء علی عدم مانعه - لاقتضی توقّف عدم الضدّ علی وجود الشیء توقّف عدم الشیء علی مانعه ، بداهة ثبوت المانعیّة فی الطرفین و المطاردة من الجانبین ، و هو دور واضح .
أقول
و هذا - مع کونه جواباً عن دلیل المشهور - برهانٌ علی عدم المقدمیّة بین الضدّین کما هو مختار المحقّقین المتأخّرین . و توضیحه : لا ریب أنّ عدم المانع مقدّمة من مقدّمات الممنوع ، فلو کان عدم أحد الضدّین من مقدّمات وجود الضدّ الآخر ، کان وجود الضدّ موقوفاً و عدم الضدّ الآخر موقوفاً علیه ، لکنّ هذه الحالة موجودة من الطرف الآخر أیضاً ، لأنّ التمانع من الطرفین ، فیکون وجود الضدّ مانعاً من عدم الضدّ الآخر ، فعدم الضدّ الآخر موقوفٌ ، و وجود الضدّ موقوف علیه ... فکان عدم الضدّ الآخر موقوفاً و موقوفاً علیه ، غیر أنّ العدم شرط لوجود الضد ، و وجود الضدّ سبب للعدم ، و کون أحد الطرفین شرطاً و الآخر سبباً غیر مانع من لزوم الدور ، لأنّ ملاکه التوقّف ، و هو حاصل سواء کان علی سبیل الشرطیّة أو السببیّة .
و عن المحقق الخونساری أنه أجاب عن هذا الدور : بأنّ التوقّف من طرف الوجود فعلی ، بخلاف التوقّف من طرف العدم ، فإنّه یتوقّف علی فرض ثبوت المقتضی له مع شراشر شرائطه غیر عدم وجود ضدّه ، و لعلّه کان محالاً ، لأجل
ص:134
انتهاء عدم وجود أحد الضدّین مع وجود الآخر إلی عدم تعلّق الإرادة الأزلیّة به و تعلّقها بالآخر حسب ما اقتضته الحکمة البالغة ، فیکون العدم دائماً مستنداً إلی عدم المقتضی ، فلا یکاد یکون مستنداً إلی وجود المانع کی یلزم الدور ... ذکره صاحب الکفایة (1) ، و توضیحه :
إنّه لا یلزم الدور ، لکون التوقّف من أحد الطرفین فعلیّاً و من الطرف الآخر تقدیریّاً ، و هذا الاختلاف کافٍ لعدم لزومه ، لأنّ الوجود الفعلی للمعلول متوقّف دائماً علی فعلیّة العلّة التامّة بجمیع أجزائها ، من المقتضی و الشرط و عدم المانع ، فإذا تحقّقت تحقّق المعلول و استند وجوده إلیها ... هذا من جهةٍ . و من جهة أُخری : یعتبر وجود أجزاء العلّة جمیعاً مع وجود المعلول و إن کانت الأجزاء مختلفةً فی المرتبة ، لکنّ وجود المعلول مستند إلی جمیعها ، فإذا وجدت وجد .
أمّا عدم المعلول فیستند فی الدرجة الأُولی إلی عدم المقتضی ثمّ إلی عدم الشرط ثمّ إلی وجود المانع ، لأنّ المراد من الشرط ما یتمّم فاعلیّة الفاعل أی المقتضی ، و من المانع ما یزاحم المقتضی فی التأثیر ، فلا بدّ من وجود المقتضی أوّلاً ثمّ الشرط ثمّ عدم المانع ، فلو فقد المقتضی لاستند عدم المعلول إلی عدم الشرط أو وجود المانع ، و لو فقد الشرط - مع وجود المقتضی - استند عدم المعلول إلی عدم الشرط لا إلی وجود المانع .
فالمراد من فعلیّة التوقّف فی طرف وجود الضدّ هو أنّ العلّة التامّة لوجوده متحقّقة ، إذ المقتضی و الشّرط متحقّقان ، فهو متوقّف علی عدم الضدّ .
لکنّ التوقف من طرف العدم تقدیری ، لأنّ عدم الضدّ لا یسند إلی وجود الضدّ الآخر ، إلّا إذا تحقّق المقتضی و الشرط للعدم ، فکان توقّف عدم الضدّ علی
ص:135
وجود الضدّ الآخر تقدیریّاً ، و ذلک ، لأنّ الإرادة إن تعلّقت بالصّلاة استحال تعلّقها بالإزالة ، فکان عدم الإزالة مستنداً إلی عدم المقتضی لها و هو الإرادة ، و لیس مستنداً إلی وجود الصّلاة المانع عن تحقّق الإزالة ... و لو کانت هناک إرادتان تعلّقت احداهما بضدّ و الأُخری بالضدّ الآخر ، کان عدم تحقّق الضدّ الذی تعلّقت به الإرادة المغلوبة غیر مستندٍ إلی وجود المانع أی الإرادة الغالبة ، بل إلی عدم قدرة الإرادة المغلوبة ، فرجع عدم الضدّ إلی عدم المقتضی .
و تلخّص : عدم لزوم الدور و اندفاع الإشکال عن استدلال المشهور للقول بالمقدمیّة .
رأی صاحب الکفایة
و قد سلّم المحقّق الخراسانی للجواب المذکور و وافق علی أنّه رافع للدور ، لکنّه قال : بأنّ هذا الجواب غیر سدید ، لبقاء مشکلة لزوم توقّف الشیء علی ما یصلح أن یتوقّف علیه ، قال : « لاستحالة أن یکون الشیء الصالح لأنْ یکون موقوفاً علیه الشیء موقوفاً علیه ، ضرورة أنّه لو کان فی مرتبةٍ یصلح لأنْ یستند إلیه ، لما کاد یصح أن یستند فعلاً إلیه » (1) .
و حاصله : إنّ مجرّد صلاحیّة عدم الضدّ للمانعیّة عن وجود الضدّ الآخر کافٍ للاستحالة ، لأنّه لمّا کان صالحاً لذلک کان متقدّماً رتبةً ، تقدّم المانع علی الممنوع ، لکنّه فی نفس الوقت متأخّر عن الضدّ الموجود لکونه معلولاً له ، فیلزم فی طرف الوجود اجتماع التقدّم و التأخّر ، و اجتماع المتقابلین فی الشیء الواحد محال ، فالقول بتوقّف وجود الضدّ علی عدم ضدّه - توقّف الشیء علی مقدّمته - باطل .
ص:136
فظهر : إنّ صاحب الکفایة مخالفٌ للمشهور ، و أنّ جوابه عن استدلالهم یرجع إلی أنّه یستلزم اجتماع المتقابلین فی الشیء الواحد ، و هو محال ، فالدور و إن اندفع بما ذکر ، لکن ملاک الاستحالة موجود .
و أورد المیرزا علی المشهور بوجهٍ آخر هو فی الحقیقة أوّل أدلّته علی عدم المقدمیّة فقال کما فی ( أجود التقریرات ) (1) ما حاصله : إنّ استدلالهم یستلزم انقلاب المحال إلی الممکن ، و هو محال ، فالمقدمیّة محال ... و توضیح کلامه :
إنّه لا ریب فی اختلاف المرتبة بین العلّة و المعلول ، و کذا بین أجزاء العلّة ، و أنّ استناد عدم المعلول إلی کلّ جزءٍ منها مقدّم رتبةً علی استناده إلی الجزء المتأخّر عنه ... کما ذکرنا من قبل . فهذه مقدّمة .
و مقدّمة أُخری هی : إنّ المحال وجوداً محالٌ اقتضاءً أیضاً ، فلا فرق فی الاستحالة بین الفعلیّة و الاقتضاء ، لأنّه إنْ کان المقتضی للضدّین موجوداً حصل لهما إمکان الوجود ، و المفروض أنّه محال .
و علی هذا ، فإنّ عدم الضدّ - کالسّواد - لو کان مقدّمةً لوجود الضدّ الآخر کالبیاض ، فإنّ هذه المقدمیّة لیست إلّا لمانعیّة وجود السّواد ، فکان عدمه شرطاً لوجود البیاض ، و هو شرط عدمی ، لکنّ هذه المانعیّة موقوفة علی أن یکون هناک ما یقتضی وجود البیاض ، فیلزم اقتضاء وجود الضدّین فی آنٍ واحد ، و هو محال بحکم المقدمة الثانیة ، و إلّا یلزم انقلاب المحال إلی الممکن ... .
فظهر أنّ القول بالمقدمیّة مستلزم للمحال ، و کلّ ما یستلزم المحال محالٌ .
ص:137
و قد ناقشه شیخنا الأُستاذ دام بقاه نقضاً و حلّاً :
أمّا نقضاً : فبأن لازم ما ذکره انکار المانعیّة و إبطال الجزء الأخیر من العلّة التامّة .
و توضیحه : إنّه لا تتحقّق المانعیّة إلّا مع التضادّ بین المانع و الممنوع ، بأنْ یکون المانع نفسه أو أثره ضدّاً للممنوع ، و أمّا حیث لا مضادّة بینهما أصلاً فالمنع محال ، فإنْ کان نفس المانع ضدّاً فالمانعیّة متحقّقة لا محالة ، و قد تقدّم مراراً أنّ عدم المانع مقدّمة لوجود الممنوع ، لکونه الجزء الأخیر للعلّة التامّة ، و إنْ کانت المانعیّة بسبب التضاد بین الممنوع و أثر المانع ، کان عدم المانع الذی هو المنشأ للأثر مقدّمة لوجود الممنوع ... و سواء کان الضدّ للممنوع هو المانع نفسه أو أثره ، فلا بدّ و أنْ یکون هناک مقتضٍ لوجوده و إلّا لما وجد و لما تحقّقت المانعیّة ، و قد تقدّم أنّ إسناد عدم الضدّ إلی وجود المانع منوط بتمامیّة المقتضی ، فثبت تحقّق المقتضی للضدّین ، و إلّا یلزم إنکار کون عدم المانع من مقدّمات وجود الضدّ ، و هو خلاف الضرورة العلمیّة .
و أمّا حلّاً ، فإنّ کبری استدلاله مسلّمة ، فاقتضاء المحال - و هو هنا اجتماع الضدّین فی الوجود - محال بلا ریب ، لأنّه لو کان المحال قابلاً للوجود خرج عن المحالیّة الذاتیة ، و هذا محال . إنّما الکلام فی الصغری و هی : أنّه لو کان عدم أحد الضدّین مقدّمة لوجود الآخر ، لزم اقتضاء المحال ... لأنّ الاستحالة الذاتیة إنّما هی فی اجتماع الضدّین فی الوجود ، فوجود هذا مع وجود ذاک محال ، أمّا وجود کلٍّ منهما فلیس بمحال ، و الوجود یحتاج إلی مقتضٍ ، و وجود المقتضیین للضدّین لیس بمحال ... و توضیحه :
ص:138
إنّ لکلّ معلولٍ و أثر و مقتضی وجوداً فعلیّاً و وجوداً بالقوّة ، فإنْ وجد المؤثّر و العلّة و المقتضی حصل له الوجود الفعلی ، و التمانع بین الضدّین إنّما یکون فی الوجود الفعلی لهما لا بالوجود بالقوّة ، إذ التضادّ هو بین البیاض و السّواد لا بین المقتضی للبیاض و المقتضی للسّواد ، و هذه الحقیقة جاریة فی جمیع العلل و المعالیل الطبیعیّة ، أی: إنّ الآثار و المعالیل کلّها موجودة بوجود العلل و المؤثرات الطبیعیة ، مترشّحة عنها ، اللهم إلّا المخلوق بالإرادة ، إذ یقول تعالی «إِذٰا أَرٰادَ شَیْئًا أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ » (1).
و تلخّص : إنّه إذا تحقّق المقتضیان کان الضدّان موجودین بالقوّة ، و لا تضادّ بین الضدّین الموجودین بالقوّة ... فثبت إمکان وجود المقتضی للضدّین ...
و تطبیق المیرزا الکبری علی الصغری غیر صحیح ، فالدلیل الأوّل من أدلّته ساقط .
و الدلیل الثانی : ما تقدّم سابقاً عن المحقّق الخراسانی : من أنّ ملاک مقدمیّة أحد الضدّین للضدّ الآخر هو التمانع فی الوجود ، و إذا کان الضدّان لا یجتمعان لما ذکر ، فالنقیضان کذلک ، فیلزم أن لا یکون النقیض مقدّمة للنقیض الآخر ، لکنّ التالی باطل فالمقدّم مثله .
و أجاب عنه الأُستاذ : بأنّ المقدمیّة لا تکون إلّا مع التعدّد فی الوجود ، و لذا قلنا بأنّ أجزاء الماهیّة لیست مقدمةً لوجودها ، لأنّ الأجزاء عین الکلّ ، لکنّ المهم هو أنّه لا تعدّد فی الوجود فی النقیضین ، إذ العدم نقیض الوجود لکنّه عدم نفس ذلک الوجود ، و کذا العکس ، فلا یعقل أنْ یکون أحد النقیضین و هو الوجود مقدمةً لنقیضه و هو عدم الوجود ، لأنّه یستلزم صیرورة الشیء مقدّمةً لنفسه ، إذ لا تعدّد
ص:139
هناک لا مفهوماً و لا واقعاً ، و هذا هو الملاک .
و أمّا توقف الوجود علی عدم العدم فکذلک ، لأنّه و إنْ کان الوجود مغایراً لعدم العدم مفهوماً ، لکنّهما فی الواقع شیء واحد ، لتحقّق عدم العدم بالوجود ...
فالمقدمیّة ممنوعة .
و الحاصل : إنّ قیاس النقیضین علی الضدّین مع الفارق ، لوجود التعدّد فی الضدّین ، فالمقدمیّة متصوّرة بینهما ، دون النقیضین ، لأنّهما إمّا واحد مفهوماً و مصداقاً و إمّا واحد مصداقاً و إنْ تعدّدا مفهوماً .
و أقام المیرزا دلیلاً ثالثاً علی امتناع مقدمیّة الضدّ للضدّ الآخر ، و هو یبتنی علی أُمور :
الأوّل : إنّ الضدّین فی مرتبةٍ واحدة ، إذ لا علیّة و معلولیّة بینهما و لا شرطیة و مشروطیّة ، حتی یختلفا فی المرتبة .
و الثانی : إن نقیض الشیء فی مرتبة الشیء ، لأنّ نقیض الوجود هو عدم ذاک الوجود لا مطلق العدم .
و الثالث : إنّ النقیضین و الضدّین لمّا کانا فی رتبةٍ واحدة ، کان العدم المتّحد رتبةً مع وجود الضدّ ، متّحداً رتبةً مع وجود الضدّ الآخر ، فهذا العدم فی رتبة ذلک الضدّ و عدم ذاک الضدّ فی رتبة هذا الضد .
و نتیجة ذلک : استحالة مقدمیّة عدم الضدّ لوجود الآخر ، لتوقّف ذلک علی الاختلاف فی المرتبة ، و قد تبیّن عدمه .
قال الأُستاذ دام ظله : و فی هذه الأُمور نظر :
أمّا الأمر الأوّل ، فدعوی بلا دلیل .
ص:140
تارةً نقول : الضدّان فی مرتبةٍ واحدة ، و أُخری نقول : لیس بین الضدّین اختلاف فی المرتبة . و کلّ واحدٍ من القولین دعوی تحتاج إلی إثبات .
إنّ ملاک الاتحاد فی المرتبة هو کون الشیئین معلولین لعلّةٍ واحدةٍ ، و الضدّان لیسا کذلک ، بل لکلٍّ علّته . و ملاک الاختلاف فی المرتبة کون أحدهما علّةً أو شرطاً للآخر ، و الضدّان لیس بینهما نسبة العلیّة أو الشرطیّة . فالقدر المسلّم هو عدم وجود الاختلاف فی المرتبة بین الضدّین ، لکنّ هذا لا یکفی لاتّحاد المرتبة بینهما ، لأنّ الاتّحاد یحتاج إلی ملاک .
فدعوی أنّ الضدّین فی مرتبةٍ واحدة أوّل الکلام .
و أمّا الأمر الثانی ، فکذلک ، لأنّ التناقض هو بین الوجود و العدم ، فالعدم یرتفع بالوجود و یکون الوجود مرفوعاً به ، و الوجود یرتفع بالعدم ، فیکون العدم رافعاً ، فالنقیض هو الرافع أو المرفوع به ... وعلیه ، فإنّ النقیض للوجود رفع الوجود لا الرفع الواقع فی مرتبة الوجود ، و لو کان کذلک لاعتبر وحدة المرتبة من شرائط التناقض و لیس کذلک ، علی أنّ المرتبة من خواص الوجود و من آثار العلیّة و المعلولیّة ، و العدم لیس ذا مرتبة أصلاً .
و الحاصل : إنّ دعوی وحدة المرتبة بین النقیضین غیر صحیحة .
و أمّا الأمر الثالث ، فکذلک ... لأنّا لو سلّمنا کون الضدّین فی مرتبة واحدة ، و کذا النقیضان ، لکنّ کون نقیض هذا الضدّ متّحداً فی المرتبة مع وجود الضدّ الآخر یحتاج إلی دلیلٍ ... إذ لا یکفی أن یقال : لمّا کان الضدّان فی مرتبةٍ ، و عدم کلّ ضد فی مرتبته ، فعدم هذا الضدّ فی مرتبة وجود ذاک ... لأنّ المفروض وجود الملاک لکون الضدّین فی مرتبةٍ واحدة و کذا النقیضان ، أمّا ضرورة کون نقیض أحدهما فی رتبة وجود الآخر فبأیّ ملاک ؟
ص:141
و تلخّص : إنّ الأُمور التی ذکرها مقدّمةً لدلیله کلّها دعاوی بلا برهان .
و اختلفت کلمات المحقّق الأصفهانی فی هذا المقام (1) ، ففی أوّل البحث اختار المقدمیّة ، و فی آخره قال : و التحقیق یقتضی طوراً آخر من الکلام ، و انتهی إلی القول بالعدم ... و البرهان الذی ذکره لنفی المقدمیّة هو :
إنّ فی المادیّات أربع علل و شرطین ، بخلاف فی المجرّدات فلیس إلّا العلّة الفاعلیّة و العلّة الغائیّة - :
العلّة الفاعلیّة ، و هی التی یکون منها الوجود .
و العلّة الغائیّة ، و هی التی من أجلها تحقّق الوجود .
و العلّة المادیّة ، و هی الجنس .
و العلّة الصّوریّة ، و هی الفصل .
و الشرطان هما : ما یتمّم فاعلیّة الفاعل ، و ما یتمّم قابلیّة القابل ، و ذلک : لأنّ الوجود فی الأُمور المادیّة بحاجة إلی الفاعل و القابل ، فلو وجد الفاعل و کان ناقصاً لم یؤثّر أثره ، و لو وجد القابل و ابتلی بمانع فالأثر لا یتحقّق ، و بتوفّر الشرط فی الطرفین یتحقّق الأثر .
و حینئذٍ ، ننظر فی الأمر و نقول :
إنّ العلّة المادیّة هی الجنس ، و العلّة الصوریّة هی الفصل ، و عدم الضدّ الآخر لا هو جنس للضدّ الآخر و لا هو فصل له .
و العلّة الغائیة أیضاً غیر متصوّرة للعدم ، لأنّ العلّة الغائیّة هی المنشأ للفاعلیّة ، و لا یعقل أن یکون عدم الضدّ فاعلاً للضدّ الآخر ، لأنّ الفاعل و العلّة
ص:142
الفاعلیّة للضدّ الآخر هو مقتضی وجود ذاک الضدّ ، فلا یکون عدم أحد الضدّین فاعلاً للضدّ الآخر .
علی أنّ الفاعلیّة - أو تتمیم الفاعلیّة - منوطة بأنْ یکون هناک أثر و منشأ للأثر ، و العدم لا یمکن أن یکون مؤثّراً .
و تلخّص : أنّه لا توجد أیّة نسبة علیّةٍ و معلولیّة بین الضدّ کالبیاض و عدم الضدّ کعدم السّواد .
فانحصر أنْ تکون النّسبة بینهما نسبة الاشتراط ، فعدم السّواد شرط لوجود البیاض ... و قد ظهر أنّ الشرط إمّا هو متمّم لفاعلیّة الفاعل أو متمّم لقابلیّة القابل ...
أی : إمّا یجعل الفاعل المقتضی مؤثّراً ، أو یجعل القابل قابلاً للأثر ، لکنّ عدم الضدّ لا یمکن أن یکون متمّماً لفاعلیّة الضدّ الآخر ، لما تقدّم من أنّ الضدّ الآخر لیس فاعلاً للضدّ ، علی أنّ العدم لا یکون مؤثراً کما تقدّم أیضاً .
بقی صورة أن یکون عدم الضدّ متمّماً لقابلیّة المحلّ لوجود الضدّ الآخر ، و هذا أیضاً محال ، لأنّه إن أُرید من قابلیّة المحلّ أن یکون قابلاً لوجود کلا الضدّین معاً ، فهذا محال ، و إنْ أُرید أن یکون قابلاً لأحدهما ، فإنّ هذه القابلیّة موجودة بالذات و من غیر حاجةٍ إلی المتمّم .
و قد أورد علیه الأُستاذ فی ما ذکر فی الشقّ الأخیر ، من أن عدم أحد الضدّین متمّم لقابلیّة المحلّ للآخر و کونه قابلاً لأحدهما قابلیّةً ذاتیةً : بأنّه إن کان المراد من « أحدهما » هو الأحد المردّد ، فهذا غیر معقول ، لأنّ المردّد لا ذات له و لا وجود ، فالمراد هو « الأحد » الواقعی . أی: إنّ الجدار قابلٌ للبیاض و قابل للسّواد ، لکنّ الإهمال فی الواقعیّات محال ، إذن ، یکون قابلاً للبیاض - مثلاً - إمّا بشرط وجود
ص:143
السّواد ، و هذا محالٌ لاستلزامه اجتماع الضدّین ، و إمّا لا بشرط وجود السّواد ، و هذا أیضاً محالٌ ، لأنّه یجتمع مع وجود السّواد فیلزم اجتماع الضدّین ، و یبقی صورة بشرط لا عن وجود السواد ، فکان عدم الضدّ شرطاً لوجود الضدّ و مقدمةً له .
و قد أجاب طاب ثراه فی التعلیقة : بأنّه لا یمکن أن تکون قابلیّة المحلّ للبیاض المشروط بعدم السّواد ، لأنّ عدمه حین یکون شرطاً یکون مفروض الوجود - لأن کلّ شرط فهو مفروض الوجود للمشروط - فیکون المحلّ قابلاً للبیاض المقیّد بعدم السواد ، و الحال أنّه قابل بالذات للبیاض لا البیاض المقیّد بعدم السّواد .
فقال الأُستاذ : و هذا لا یحلّ المشکلة ، لأنّ عدم السّواد دخیلٌ فی وجود البیاض علی کلّ حالٍ ، لأنّ البیاض إمّا یکون مع وجود السّواد أو مع عدمه ، فإن کان المحلّ قابلاً لکلیهما فهذا محال ، لأنّ القابلیّة للمحال محال ، و إن کان قابلاً للحصّة الکائنة مع عدم السّواد من البیاض ، لزم دخل عدم السّواد فی تحصّص البیاض و قابلیّة المحلّ لتلک الحصّة ، و دخله فی ذلک - سواء قال بتقیّد البیاض بعدم السّواد أو بأنّه مع عدم السواد - هی المشکلة ... .
فالبرهان المذکور لا یدلّ علی عدم مقدمیّة أو دخل عدم الضدّ فی وجود الضدّ الآخر .
و البرهان الأخیر علی عدم مقدمیّة عدم أحد الضدّین لوجود الضدّ الآخر هو : ما أشار إلیه صاحب الکفایة (1) فی قوله : « و المانع الذی یکون موقوفاً علی
ص:144
عدم الوجود هو ما کان ینافی و یزاحم المقتضی فی تأثیره ، لا ما یعاند الشیء و یزاحمه فی وجوده » .
و قد قرّبه المحقّق النائینی (1) و هو أقوی البراهین فی الردّ علی المشهور .
و هذا کلام المیرزا بإیضاح أکثر :
إنّ الضدّین قد لا یکون لهما مقتضٍ و قد یکون لکلیهما و قد یکون لأحدهما دون الآخر ، فالصّلاة و الإزالة ، قد تتعلّق الإرادة بکلیهما - من شخصین - و قد لا تتعلّق بشیء منهما ، و قد تتعلّق بأحدهما فقط ، و السواد و البیاض کذلک ، فقد یکون لوجودهما فی المحل مقتضٍ و قد لا یکون و قد یکون لأحدهما .
هذه هی الصور المتصوّرة .
فإن لم یکن لشیء منهما مقتضٍ فلا مانعیّة ، لما تقدّم من أنّ المانعیّة تأتی فی مرتبةٍ متأخّرة عن المقتضی ، و عدم المعلول یستند حینئذٍ إلی عدم المقتضی لا وجود المانع .
و إن کان لأحدهما مقتضٍ دون الآخر ، فکذلک ، إذ مع عدم وجود المقتضی یستحیل استناد عدم الضدّ إلی وجود المانع .
و إنْ کان کلٌّ منهما ذا مقتضٍ ، قال المیرزا : هذا محال ، لما تقدّم من استحالة وجود المقتضی للضدّین ، لأنّه یستلزم إمکان المحال ، و المحال بالذات یستحیل انقلابه إلی الإمکان .
و إذا ظهر استلزام کلّ صورةٍ للمحال ، فمقدّمیّة عدم الضدّ للضدّ الآخر محال .
قال الأُستاذ : لکنْ قد تقدّم تحقیق أنّ وجود المقتضی للضدّین لیس
ص:145
بمحال ، إذ المقتضی للضدّین غیر المقتضی للجمع بینهما ، فالصّورة الثالثة باقیة ...
و الطریق الصحیح هو أن نقول :
إنّه فی هذه الصّورة ، لا یخلو الحال من أن یکون المقتضیان متساویین أو یکون أحدهما أقوی من الآخر .
فإن کانا متساویین ، استند عدم الضدّ إلی عدم تمامیّة المقتضی فی الأثر ، لا إلی وجود المانع ، لأنّ المؤثر لیس مجرّد وجود المقتضی ، بل هو المقتضی الفعلی فی المؤثریّة ، لما تقدّم من تقسیم المقتضی إلی الشأنی و الفعلی ، و أنّ الأثر یکون للمقتضی التام فی المؤثریّة ، فکان عدم الضدّ - فی صورة تساوی المقتضیین - مستنداً إلی عدم الشرط للمقتضی و هو الفعلیّة ، لا إلی وجود المانع ...
وعلیه ، فیستحیل أن یکون وجود الضدّ مانعاً عن الضدّ الآخر ، بل عدم الضدّ الآخر مستند إلی عدم توفّر شرط المقتضی للتأثیر ، لأنّ المفروض تساویه مع المقتضی الآخر و کونهما متزاحمین فی الوجود ... فیکون المانع عن وجود الضدّ هو المقتضی للضدّ الآخر ، لا نفس الضدّ الآخر .
و إن کان أحد المقتضیین أقوی من الآخر ، فإنّ عدم الضدّ یکون مستنداً إلی ضعف المقتضی لوجوده ، لا إلی وجود الضدّ المقابل .
و هذا شرح قول المحقّق الخراسانی من أنّه لیس کلّ معاندة منشأً للمانعیّة .
قال الأُستاذ : و هذا البرهان تام بلا کلام .
و أقول :
فی هذا البرهان فی صورة تساوی المقتضیین نظر ، فإنّه فی هذه الصّورة ما البرهان علی استناد العدم إلی شأنیّة المقتضی لا إلی وجود الضدّ الآخر ؟
و تلخص : بطلان مبنی المشهور ، لما ذکره صاحب الکفایة فی الکلام علی
ص:146
الدور ، من أنّه و إن اندفع لزومه بما ذکره المحقّق الخونساری ، لکنّ ملاک الاستحالة موجود .
و به یبطل التفصیل ، و هو أنّ عدم ذلک الضدّ متوقّف علی وجود الضدّ الآخر ، إذ قد ظهر أنّ عدم الضدّ مستند إلی عدم المقتضی لوجوده لا إلی المانع و هو وجود الضدّ الآخر .
و کذا التفصیل : بأنّ وجود هذا الضدّ متوقّف علی عدم الضدّ الآخر و عدم ذاک موقوف علی وجود هذا .
و بقی :
و تعرّض صاحب الکفایة لرأی المحقّق الخونساری و الجواب عنه ، و هو القول بالتفصیل بین الضدّ الموجود و الضدّ المعدوم ، و أن عدم الضدّ الموجود مقدّمة لوجود الضدّ غیر الموجود ، بخلاف العکس ، فإنّ عدم الضدّ غیر الموجود لیس بمقدمةٍ للضدّ الموجود .
و توضیحه : إنّ المحلّ حین یکون خالیاً عن الضدّین قابلٌ لکلٍّ منهما ، و هذه القابلیّة ذاتیة لا تحتاج إلی شیء ، و لکنْ عند ما یوجد فیه أحد الضدّین تنتفی قابلیّته للضدّ الآخر ، فلو أُرید للضدّ الآخر غیر الموجود أنْ یتواجد فی هذا المحلّ ، فإنّ رفع الضدّ الموجود فیه یکون مقدمةً لذلک ... فکان عدم الضدّ الموجود مقدّمةً لوجود الضدّ غیر الموجود .
الجواب علی مبنی المیرزا
و جواب هذا التفصیل علی مبنی المحقّق النائینی واضح ، لأنّه - بناءً علی أنّ مناط الحاجة إلی العلّة فی الممکنات هو الحدوث لا الإمکان - یلزم اجتماع
ص:147
المقتضیین للضدّین ، و هو عند المیرزا محال ، لأنّه مع وجود أحدهما فی المحلّ و انتفاء قابلیّته للآخر یکون للموجود مقتضٍ ، فإذا کان هذا الموجود مانعاً عن وجود الضدّ الآخر - کما یقول المحقّق الخونساری - فإنّ مانعیّته عنه هی بعد تمامیّة المقتضی لوجود ذلک الضدّ ، فیکون الضدّ الآخر أیضاً ذا مقتضٍ ، فیلزم اجتماع المقتضیین للضدّین .
لکنّ المبنی المذکور غیر مقبول ، فلا بدّ من جوابٍ آخر عن هذا التفصیل .
قال الأُستاذ :
و التحقیق هو النظر فی مناط حاجة الشیء الممکن إلی العلّة ، و أنّ الحق فی ذلک هو الإمکان لا الحدوث ، و حینئذٍ یبطل التفصیل ، و توضیح ذلک :
إنّه قد ذهب جماعة إلی أنّ مناط حاجة الممکن إلی العلّة هو الحدوث ، فإذا تحقق له الحدوث استغنی عن العلّة لبقائه . و ذهب آخرون إلی أنّ المناط هو الإمکان ، فإذا وجد فالمناط أیضاً - و هو الامکان - موجود ، فهو بحاجةٍ إلی العلّة بقاءً کاحتیاجه إلیها حدوثاً .
أمّا علی الأوّل فیتمّ التفصیل ، لأنّ الضدّ الذی وجد فی المحلّ یزول مقتضیه بمجرّد وجوده و حدوثه ، و الضدّ الآخر غیر الموجود قد فرض له مقتضی الوجود ، فیکون عدم وجوده مستنداً إلی وجود الضدّ الموجود فی المحلّ ، و یکون عدم الموجود مقدمةً لوجود الضدّ غیر الموجود .
و أمّا علی مبنی التحقیق فلا یتم ، لأنّ المقتضی بعد حدوث الشیء موجود ، و هو مؤثّر فی وجوده فی کلّ آن ، فمقتضی الضدّ الموجود فی المحلّ غیر منعدم أصلاً ، و حینئذٍ ، تقع الممانعة بین مقتضی هذا الضدّ و مقتضی الضدّ غیر الموجود ، فلیس نفس وجود الضدّ هو المانع لیکون عدمه مقدّمةً .
ص:148
و بهذا ظهر : إنّه علی القول باستحالة تحقّق المقتضی للضدّین یسقط التفصیل ، سواء کان مناط الحاجة هو الإمکان أو الحدوث ، أمّا علی القول بعدم الاستحالة فینحصر الجواب عن التفصیل بکون المناط هو الإمکان .
هذا ، و لا یتوهّم أنّ المانعیّة إنّما هی للضدّ الموجود ، لأنّه هو السبب فی ارتفاع قابلیّة المحلّ للضدّ الآخر ، و لولاه لشغل ذاک هذا المحلّ ... لأنّ ذلک - و إنْ کان کذلک بنظر العرف - خلاف الواقع بحکم العقل و هو الحاکم فی مثل هذه الأُمور دون العرف ، لأنّ قابلیّة المحلّ مقدّمة رتبةً علی وجود الضدّ غیر الموجود ، و لمّا کان الضدّ الموجود هو الرافع للقابلیّة هذه ، کان الضدّ الموجود مقدّماً برتبتین علی الضدّ غیر الموجود ، فلا تمانع بینهما .
و أیضاً : فإنّ الضدّ غیر الموجود فعلاً له شأنیّة الوجود ، فهو قابلٌ لأنْ یکون علّةً لزوال الضدّ الموجود ، فیکون کلّ واحدٍ منهما قابلاً للعلیّة و قابلاً للمعلولیّة ، فیکون أحدهما متقدّماً بالقوّة و الآخر متأخّراً بالقوّة ، و أحیاناً متقدّماً بالفعل و متأخّراً بالفعل .
فلا یتحقّق التضاد بینهما أبداً .
و قال السیّد الأُستاذ - بعد قوله : الذی یقتضیه الإنصاف هو تسلیم القول بالتفصیل - ما ملخّصه: هذا التفصیل لا ینفع فیما نحن فیه من متعلّقات الأحکام الشرعیّة ، لکونه من الأفعال التدریجیّة الحصول بلا أنْ یکون لها وجود قار ، فهی دائماً تکون من الضدّ المعدوم ، و لا مقدمیّة فی الضدّ المعدوم . فلا یکون للتفصیل ثمرة عملیّة (1) .
ص:149
و بعد الفراغ عن بحث مقدمیّة عدم الضدّ لوجود الضدّ الآخر ، تصل النوبة إلی البحث عن الطریق الآخر لدلالة الأمر بالشیء علی النهی عن ضدّه الخاص ، و هو طریق الملازمة ، و توضیحه :
إنّ وجود کلّ ضدّ من الضدّین ملازم لعدم الضدّ الآخر ، فوجود الحرکة ملازم لعدم السکون ، و وجود البیاض ملازم لعدم السّواد ، و هذه هی الصغری و تنطبق علیها کبری أنّ المتلازمین یستحیل اختلافهما فی الحکم ، فإذا کانت الحرکة واجبةً کان عدم السکون واجباً .
أمّا أنّ وجود الضدّ ملازم لعدم الضدّ الآخر ، فلأنّه لو جاز وجود الضدّ الآخر لزم اجتماع الضدّین ، و هو محال . و أیضاً : لو جاز - مع وجود أحدهما - عدم انعدام الآخر ، لزم اجتماع النقیضین ، و هو محال .
و أمّا أنّهما متوافقان فی الحکم ، فلأنّ المفروض أنْ یکون لکلٍّ من المتلازمین حکم ، فلو کان أحدهما واجباً و خالفه الآخر فی الحکم ، فإمّا أنْ یکون حکمه هو الحرمة فیلزم طلب المتناقضین ، و التکلیف المحال - فضلاً عن التکلیف بالمحال - ، و إمّا أن یکون حکمه الاستحباب أو الکراهة أو الإباحة ، و هذا محال کذلک ، لأنّه لمّا کان حکم أحدهما الوجوب فالشارع غیر مرخّص فی ترکه ، و العقل حاکم بلابدّیته ، لکنّ الآخر الذی فرض حکمه أحد الأحکام الثلاثة المذکورة ، فهو مرخّص شرعاً فی ترکه و العقل حاکم بجواز الترک ، فیلزم التناقض فی حکم العقل ، بأنْ یحکم بلابدّیة الحرکة و یجوّز السکون فی نفس الوقت ، و هذا محال ... إذن ... لا بدّ و أن یکون المتلازمان متوافقین فی الحکم .
ص:150
قال الأُستاذ :
لکنّ الإشکال فی الکبری . أمّا نقضاً : فلا شکّ أن الأمر لمّا یتعلّق بالطبیعة کالصّلاة مثلاً ، فإنّ الطبیعی لا یتحقّق خارجاً إلّا ملازماً لخصوصیّاتٍ من الزمان و المکان و غیرهما ، لکن متعلّق الحکم - بضرورة الفقه - هو الطبیعی ، و لیس لتلک الخصوصیّات حکم أصلاً ، إذ الواجب علی المکلّف هو صلاة الظهر مثلاً ، لا خصوصیّة هذا الفرد منها الذی أتی به فی الدار فی أوّل الوقت مثلاً .
و أمّا حلّاً ، فصحیحٌ أنّه ما من واقعةٍ إلّا و فیها حکم شرعی ، لکن هذه الکبری لیست بلا ملاک ، و ملاکها لا یخلو : إمّا هو تبعیّة الأحکام الشرعیّة للمصالح و المفاسد غیر المزاحمة ، علی مسلک العدلیّة ، من جهة أنّه إذا رأی العقل المصلحة التامّة یستکشف الحکم الشرعی فی الواقعة بقانون الملازمة . و إمّا هو ضرورة جعل الشارع الدّاعی لتحقّق غرضه ، و الداعی هو الحکم . و إمّا هو لزوم خروج المکلّف من الحیرة فی کلّ واقعة .
لکنْ لا شیء من هذه الأُمور فی المتلازمین .
أمّا الأوّل : فلأنّه لا دلیل علی أنّه لو کان للملازم ملاک فلا بدّ و أن یکون لملازمه ملاک کذلک ، فلو کان القعود واجباً ، فما هو المصلحة لجعل الوجوب لترک القیام ؟
و أمّا الثانی : فلأنّ جعل الحکم للملازم کافٍ للداعویّة إلی تحقّق غرض المولی ، و لا حاجة لجعل الملازم الآخر من هذه الجهة .
و أمّا الثالث : فلأنّه لا حیرة للمکلّف فی مورد المتلازمین فی فرض جعل الحکم لأحدهما ، فإنّه مع جعل الوجوب للقعود ، لا یبقی المکلّف متحیّراً فی حکم القیام حتّی یُحتاج إلی جعل حکم الوجوب لترکه .
ص:151
و تلخّص : أنّه لا ملاک - بعد جعل الحکم لأحد المتلازمین - لجعله للملازم الآخر ... فالکبری غیر منطبقة هنا ... فالاستدلال ساقط .
و بذلک یظهر سقوط الطریق الثانی لإثبات أنّ الأمر بالشیء نهی عن الضدّ الخاص .
تتمّة
و قد وقع الکلام فی أنّ مسألة الضدّ کلامیّة ؟ أو فقهیّة ؟ أو أُصولیّة ؟ أو هی من المبادئ الأحکامیّة ؟ وجوه .
رأی الأُستاذ
و مختار الأُستاذ : هو أنّها من المسائل الأُصولیّة ، و لیست من مسائل الفقه أو الکلام ، کما أنّها لیست من مبادئ الأحکام .
أمّا عدم کونها من المسائل الکلامیّة ، فلأنّ علم الکلام هو ما یبحث فیه عن أحوال المبدإ و المعاد بالأدلّة العقلیّة و النقلیّة ، و البحث عن اقتضاء الأمر للنهی عن الضدّ الخاص لا یختص بالأوامر الإلهیّة - لتکون المسألة کلامیّة من جهة کونها بحثاً عن عوارض التکلیف و هو فعل اللّٰه - بل هو أعمّ من أوامر اللّٰه و أوامر سائر الناس .
و أمّا عدم کونها من المسائل الفقهیّة ، فلأن البحث فی هذه المسألة لیس عن حرمة الضدّ الخاص و عدم حرمته ، بل هو بحث عن أصل استلزام الأمر للنهی عن الضدّ الخاص ، و هو لیس بمسألةٍ فقهیّة .
و أمّا عدم کونها من المبادئ الأحکامیّة ، فلأنّ مختار القائل بذلک - و هو
ص:152
السید البروجردی (1) - فی موضوع علم الأُصول أنّه الحجّة فی الفقه (2) ، وعلیه ، یکون البحث فیه عن عوارض هذا الموضوع یعدّ من المسائل الأُصولیّة ، و البحث عن اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن الضدّ الخاص لیس بحثاً عن عوارض الحجة فی الفقه ، فلیس من المسائل الأُصولیّة فیکون من المبادی .
و فیه : - بعد غضّ النظر عن المبنی فی موضوع علم الأُصول ، و عن القول بأنّ لکلّ علم مبادئ أحکامیّة علاوةً علی المبادئ التصوریّة و التصدیقیّة - إن کون المسألة من مسائل علم الأُصول یدور مدار انطباق تعریفه علیها ، فإنْ وقعت نتیجة البحث فی طریق استنباط الحکم الشرعی ، فالمسألة أُصولیّة و إلّا فلا ، و هنا عند ما نبحث عن الاستلزام و عدمه ، فإنّ نتیجته حرمة الضدّ بناءً علی الاستلزام و عدم حرمته بناءً علی عدمه ... و إذا ترتّبت هذه الثمرة الفقهیّة فالمسألة أُصولیّة ، لأنّها نتیجة فقهیّة ترتّبت علی البحث مباشرةً .
و أیضاً ، فللبحث ثمرة أُخری لکن مع الواسطة ، و هی فساد العمل إن کان عبادیّاً بناءً علی الحرمة .
و لا یخفی أنّ الحرمة المترتّبة إنّما هی حرمة تبعیّة ، لعدم کون المفسدة فی متعلّقها و هو الصّلاة مثلاً ، بل لأنّ الصّلاة - إذا اقتضی وجوب الإزالة النهی عنها - تکون حینئذ مفوّتة لمصلحة الإزالة ، فکانت حرمة الصّلاة تبعیّة ، و إلّا فلا ریب فی وجود المصلحة فیها نفسها .
ص:153
و المراد من « الضدّ العام » هو « الترک » أی عدم المأمور به ، و هل یتعلّق التکلیف بالعدم حتی یبحث عن دلالة الأمر بالشیء علی النهی عن عدمه و ترکه ؟
إنّ هذا العدم لیس بالعدم المطلق ، بل هو عدم مضافٌ إلی الوجود ، و قد جری علی الألسنة أنّ للعدم المضاف إلی الوجود حظّاً من الوجود ، وعلیه ، فهو قابل لأنْ یتعلّق التکلیف به ... لکنّ الأُستاذ دام بقاه لا یوافق علی ذلک ، و مختاره أنّ العدم لا یقبل الاتّصاف بالوجود عقلاً مطلقاً ... إلّا أنّه یری جریان البحث بالنظر العرفی ، و الخطابات الشرعیّة ملقاة إلی العرف ، لأنّ أهل العرف یرون للعدم القابلیّة لتعلّق التکلیف ، و من هنا کانت تروک الإحرام - و هی أُمور عدمیّة - موضوعات للأحکام الشرعیّة ، و کذا غیرها من الأُمور العدمیّة ، و لا وجه لرفع الید عن أصالة الظهور فیها و تأویلها إلی أُمور وجودیّة .
هذا ، و فی المسألة قولان ، ثم اختلف القائلون بالاقتضاء ، بین قائل بأن الأمر بالشیء عین النهی عن نقیضه ، و هو المستفاد من کلام صاحب ( الفصول ) و قائل بأنه یقتضیه و یدلّ علیه بالدلالة التضمّنیّة ، و هو المستفاد من کلام صاحب ( المعالم ) و قائل بدلالته علیه بالدلالة الالتزامیّة العقلیّة ، وعلیه صاحب ( الکفایة ) .
و یتلخّص مستند صاحب ( المعالم ) (1) فی : أن الوجوب مرکّب من طلب الفعل و المنع من الترک ، و إذا کان مرکّباً من الجزءین فدلالة الأمر علی المنع من الترک دلالة لفظیّة تضمّنیّة .
ص:154
فردّ علیه صاحب الکفایة (1) : بأنّ الوجوب لیس إلّا مرتبةً واحدةً من الطلب ، فالطلب بسیط و لیس بمرکّب ، غیر أنّها مرتبة أکیدة فی قبال الاستحباب ، لأنّ الوجوب إمّا هو أمر اعتباری و إمّا هو الإرادة ، فإنْ کان هو الإرادة ، فإنّها و إنْ کانت تشکیکیّة لکنّها بسیطة لا ترکیب فیها ، و إن کان أمراً اعتباریّاً ، فالأُمور الاعتباریّة کلّها بسائط . و کیفما کان ، فإنّ المبنی باطل ، فما بنی علیه باطل کذلک .
ثم قال : و إذا کان حقیقة الوجوب هی المرتبة الشدیدة من الطلب ، فإنّ الآمر إذا التفت إلی نقیض متعلَّق طلبه ، فلا ریب فی کونه مبغوضاً له و مورداً للنهی منه ...
فکان النهی عن النقیض - و هو الترک - من لوازم المرتبة الأکیدة . و قد أشار بکلمة « الالتفات » إلی أنّ هذا اللزوم عقلی ، و لیس لزوماً بیّناً بالمعنی الأخص .
و هذا دلیل صاحب ( الکفایة ) علی دلالة الأمر بالشیء علی مطلوبیّة ترک ترکه بالملازمة العقلیّة .
ثمّ تعرّض لرأی صاحب ( الفصول ) و أفاد بأنّه إذا ثبتت الملازمة ثبت الاثنینیّة ، فالقول بکون الأمر بالشیء عین النهی عن ترکه باطل .
و للمحقّق الأصفهانی تعلیقة مطوّلة فی هذا الموضع ، و حاصل کلامه (2) هو :
إنّ بحثنا فی الإرادة التشریعیّة ، و وزانها وزان الإرادة التکوینیّة ، فإن کان المراد من قوله : الشوق فی مورد الوجوب أشدّ منه فی مورد الاستحباب ، أنّه یعتبر فی الوجوب وصول المصلحة إلی حدّ اللّزوم ، فهذا صحیح ، سواء فی المراد التکوینی أو التشریعی . و إنْ کان المراد : إنّ الإرادة المؤثرة فی تحقّق المراد هی فی
ص:155
مورد الواجبات أشدُّ و أقوی منها فی مورد المستحبات ، فهذا باطل ، لأنّ ما به التفاوت بین الواجب و المستحب هو الغرض و لیس الإرادة ... و لا اختلاف فی مرتبة الإرادة .
و علی الجملة ، فإنّه لیس الوجوب المرتبة الشدیدة من الإرادة و المستحب المرتبة الضعیفة منها ، بل إنّ إرادة المرید إن تعلّقت بأمرٍ جائز الترک عنده فهو المستحب ، و إنْ تعلّقت بأمرٍ غیر جائز الترک عنده فهو الواجب ... و من الواضح أنّ جواز ترک الشیء و عدم جوازه یتبع الغرض منه ... و إلّا ، فالإرادة کیفیّة نفسانیّة ، و الکیفیّات النفسانیّة لیس لها مراتب .
و أورد علیه الأُستاذ : بأنّ الوجوب إن کان من الأُمور الاعتباریّة ، فالمراد أنّ المعتبر فی الوجوب هو المرتبة الأکیدة من الطلب ، کما أنّ المعتبر فی الاستحباب هو المرتبة الضعیفة منه ، فالشدّة و الضعف یرجعان إلی المعتبر لا الاعتبار حتّی یقال بأنّه لا حرکة فی الاعتباریات . و إن کان هو الإرادة و الکیف النفسانی ، فالشدّة و الضعف فی الإرادة و اختلاف المرتبة فیها أمر واضح ... فاعتراضه علی صاحب ( الکفایة ) غیر وجیه .
و أمّا دعواه : بأنّ الاختلاف بین الوجوب و الاستحباب ناشئ من اختلاف الغرض منهما لا من اختلاف المرتبة فی الإرادة ، فمندفعة : بأنّه یستحیل تخلّف الإرادة عن الغرض ، سواء فی أصله و فی مرتبته ، إذ النسبة بینهما نسبة المعلول إلی العلّة ، و علی هذا ، فإذا کان الغرض فی الواجب آکد کانت الإرادة فیه کذلک لا محالة ، فقوله : بأنّ الاختلاف بین الاستحباب و الوجوب هو بالغرض لا باختلاف المرتبة فی الإرادة ، مردود . اللّهمّ إلّا بأن یقال بعدم تبعیّة الإرادات
ص:156
للأغراض ، أو یقال بتبعیّتها لها فی الأصل دون المرتبة ، و کلاهما باطل .
التحقیق فی حقیقة الوجوب
ثمّ قال الأُستاذ : لکنّ التحقیق فی حقیقة الوجوب و الاستحباب هو عدم کونهما مرتبة من الإرادة ، بل هما عنوانان اعتباریان انتزاعیّان ، فصحیح أنّه یوجد فی الوجوب شوق أکید ، إلّا أنّه لیس الوجوب ، و إنّما ینتزع عرفاً منه الوجوب ، و فی الاستحباب یوجد الشوق الضّعیف ، لکنّه المنشأ لانتزاع العرف الاستحباب ، و کذا الحال فی الحرمة و الکراهة ، ففی الحرمة مثلاً توجد المبغوضیّة الشدیدة و لیست هی الحرمة ، بل إنّها منتزعة منها عرفاً .
فما ذهبوا إلیه من أنّ الوجوب هو المرتبة الأکیدة من الإرادة ، غیر صحیح ، و یؤکّد ذلک أنّه لو کان کذلک لجاز حمل الوجوب علی الإرادة ، و هو غیر جائز کما هو واضح .
ثمّ إنّ إیراد المحقّق الخراسانی علی نظریّة العینیّة بین الأمر بالشیء و النهی عن ضدّه العام ، بأنّ بینهما ملازمة و الملازمة تقتضی المغایرة ، فیه :
أوّلاً : إنّه منقوض باعترافه بالعینیّة فی بحوثه المتقدّمة ، و ذلک حیث قال ما نصّه :
« نعم ، لا بدّ أن لا یکون الملازم محکوماً فعلاً بحکم آخر علی خلاف حکمه ، لا أن یکون محکوماً بحکمه ، و هذا بخلاف الفعل الثانی ، فإنّه بنفسه یعاند الترک المطلق و ینافیه لا ملازم لمعانده و منافیه ، فلو لم یکن عین ما یناقضه بحسب الاصطلاح مفهوماً لکنّه متّحد معه عیناً و خارجاً ، فإذا کان الترک واجباً فلا محالة
ص:157
یکون الفعل منهیّاً عنه قطعاً » (1) .
فهو هناک یعترف بأنّ الوجوب عین ترک الترک مصداقاً و إنْ اختلفا مفهوماً ، فکیف ینفی ذلک هنا ؟ و العصمة لأهلها .
و ثانیاً : إنّ بحثنا هو فی المغایرة المصداقیّة لا المفهومیّة ، و إثبات الملازمة لا ینتج المغایرة و الاثنینیّة الواقعیّة ، فیصحّ القول بأنّ الأمر بالشیء یلازم النهی عن الضدّ و هما وجوداً واحد ... و هذا الإشکال من المحقّق الاصفهانی .
و تعرّض المیرزا للآراء فی المقام ، ففصّل فی القول بالعینیّة ، و ردّ علی القول بالدلالة التضمّنیّة ، و لم یستبعد القول بالدلالة بالالتزام بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأخص ، ثمّ نصّ علی أنّها باللزوم البیّن بالمعنی الأعمّ ممّا لا إشکال فیه و لا کلام .
أمّا التفصیل فی العینیّة فقد قال : ربّما یدّعی أن الأمر بالشیء عین النهی عن ضدّه ، بتقریب : إنّ عدم العدم و إنْ کان مغایراً للوجود مفهوماً إلّا أنّه عینه خارجاً ، لأن نقیض العدم هو الوجود ، و عدم العدم عنوان و مرآة له ، لا أنّه أمر یلازمه ، فطلب ترک الترک عین طلب الفعل ، و الفرق بینهما إنّما هو بحسب المفهوم فقط .
قال : و فیه إنّ محلّ الکلام هو أنّه إذا تعلّق الأمر بشیء فهل هو بعینه نهی عن الترک أو لا ، لا أنّه إذا کان هناک أمر بالفعل و نهی عن الترک فهل هما متّحدان أو لا ؟ و الدلیل إنّما یثبت الاتّحاد فی الفرض الثانی لا الأوّل ، بداهة أنّ الآمر بالشیء ربّما یغفل عن ترک ترکه فضلاً عن أن یأمر به ، فلا یبقی لدعوی الاتّحاد فیما هو محلّ
ص:158
الکلام مجال أصلاً .
و أمّا القول بالدّلالة التضمّنیّة ، فقد ردّ علیه ببساطة الوجوب و عدم ترکّبه .
و أمّا القول بالدلالة الالتزامیّة ، فذکر أنّها بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأخص ، بأنْ یکون نفس تصوّر الوجوب کافیاً فی تصوّر المنع عن الترک ، لیست ببعیدة ، و علی تقدیر التنزّل عنها فالدلالة الالتزامیّة باللزوم البیّن بالمعنی الأعمّ ممّا لا إشکال فیه و لا کلام (1) .
النظر فیه
و قد أشکل علیه : بأنّ عدم استبعاد الدلالة بنحو اللّزوم البیّن بالمعنی الأخصّ ، و القول بأنّ الآمر قد یغفل عن ترک ترک أمره فضلاً عن أن یأمر به ، تناقض ، لأنّه لو کانت الدلالة کذلک لم یتصوّر غفلة الآمر .
قال الأُستاذ :
و عمدة الإشکال هو التفصیل فی العینیّة ، بأنْ وافق علیها إن وجد أمر بالفعل و نهی عن الترک و إلّا فالملازمة ، و ذلک : لأنّه إن کان ترک الترک عین الفعل و طلبه عین طلبه فهو کذلک دائماً ، و إن کان ملازماً له فهو دائماً کذلک ، إذ حقیقة المعنی الواحد - و هو ترک الترک - لا تختلف ، و لا یعقل أن یکون المعنی الواحد عین المعنی الآخر فی تقدیرٍ و ملازماً له فی تقدیر آخر .
و ذهب السیّد الخوئی إلی عدم الاقتضاء ، و هو مختار الشیخ الأُستاذ ، و إنْ خالفه فی بعض کلماته فی ردّ العینیّة .
قال الأُستاذ بالنسبة إلی نظریة العینیّة : أمّا بناءً علی أنّ الأمر هو الإرادة المبرزة و النهی هو الکراهة المبرزة ، کما علیه المحقّق العراقی ، فبطلان العینیّة
ص:159
واضح ، إذ الإرادة لا تکون عین الکراهة . و کذا بناءً علی أنّ الأمر هو البعث و النهی هو الزجر ، إذ الاتّحاد بینهما غیر معقول .
و أمّا أن یکون طلب الفعل عین طلب ترک الترک ، فالتحقیق : أنّ ترک الترک من المفاهیم التی یصنعها الذهن و لیس لها ما بإزاء فی الخارج و لا منشأ انتزاع ، فقول المحقّق الخوئی : بأنّه عنوان انتزاعی منطبق علی الوجود ، غیر صحیح ، لأنّ الصدق دائماً یکون فی عالم الخارج ، و من هنا قسّموا الحمل إلی الأوّلی المفهومی و إلی الشائع بلحاظ الوجود ، فترک الترک لا مصداقیّة له ، و لو قال بأنّ مصداقه الوجود ، فمن المحال کون المعنی الوجودی مصداقاً للمعنی العدمی ، و دعوی انتزاعیّته أیضاً باطلة ، لأنّ الانتزاع بلا منشأ له محال ، بل لا بدّ للأمر الانتزاعی من منشأ للانتزاع یکون متّحداً معه وجوداً ، کما فی الفوقیّة و السقف ، و قد تقدّم أنّ ترک الترک لا حظّ له من الوجود الخارجی ، بل إنّه من صنع الذهن فقط ... و العجب أنّه قد أشار إلی هذا المعنی فی کلماته حیث قال : « و لیس له واقع فی قبالهما و إلّا لأمکن أن یکون فی الواقع أعدام غیر متناهیة ، فإنّ لکلّ شیء عدماً و لعدمه عدم و هکذا إلی أن یذهب إلی ما لا نهایة له » .
فظهر : أن ترک الترک لیس إلّا من صنع الذهن ، فما ذهب إلیه المیرزا و السید الخوئی غیر تام ، و کذا کلام الکفایة من أنّ بینهما اتّحاداً مصداقیّاً .
و أمّا قول ( المحاضرات ) بعد ما تقدّم : « فالقول بأنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه فی قوّة القول بأنّ الأمر بالشیء یقتضی الأمر بذلک الشیء ، و هو قول لا معنی له أصلاً » ففیه : إنّه لا یکون کذلک ، لأنّهما - و إن اتّحدا مصداقاً - مختلفان مفهوماً ، و القائل بالعینیّة لا یدّعی العینیّة المفهومیّة ، و السید الخوئی أیضاً یری تعدّد المفهوم ، فلا معنی لکلامه المذکور .
ص:160
هذا کلّه بالنسبة إلی العینیّة .
و أمّا القول بالدّلالة التضمّنیّة ، فبطلانه واضح ، لکون الوجوب أمراً بسیطاً علی جمیع المبانی فی حقیقة الأمر .
و أمّا القول بالدلالة الالتزامیّة ، بأن یکون الأمر بالشیء دالّاً علی النهی عن ترکه بالالتزام ، فإنّ اللزوم - سواء أُرید منه اللّزوم بنحو البیّن بالمعنی الأخصّ ، و هو ما لا ینفک تصوّر أحد المتلازمین عن تصوّر الآخر ، کتصوّر العمی الذی لا ینفک عن تصوّر البصر ، و کذا نحوهما من الملکة و عدمها ، أو بنحو اللّزوم بالمعنی الأعمّ ، و هو ما إذا تصوّر الإنسان کلیهما أذعن بالملازمة بینهما - لا ینطبق علی شیء من الأقوال فی حقیقة الأمر و النهی ، و هی : القول بأنّهما الإرادة و الکراهة ، و القول بأنّهما البعث و الزجر ، و القول بأنّهما طلب الفعل و طلب الترک ، و القول باعتبار اللّابدّیة و اعتبار الحرمان .
نعم ، هناک تلازم بین الحبّ و البغض ، بمعنی أنّه لو أراد شیئاً کره و أبغض ترکه ، و هذا اللّزوم هو بنحو اللّزوم البیّن بالمعنی الأعمّ ، إلّا أنّه لا ربط له بالملازمة بین الأمر و النهی ، إلّا أن یقال بأنّ حقیقة الأمر بالشیء إرادته بالشوق البالغ حدّ النصاب ، و حقیقة النهی کراهیّة الشیء مع البغض الشدید له البالغ حدّ النصاب ، سواء أبرز أو لا ، لکنْ لا قائل بهذا ، لأنّ القائلین بأنّ حقیقة الأمر و النهی هی الإرادة و الکراهة یقولون باعتبار إبرازهما .
و تحصّل : أنّ الدلالة الالتزامیّة ساقطة ، کسقوط التضمّنیّة و العینیّة ، و أنّ القول بدلالة الأمر علی النهی عن ضدّه العام باطل علی جمیع الوجوه .
ص:161
ثم إنه قد بحث الأعلام عن ثمرة هذا البحث فذکروا موارد :
منها : مسألة المواسعة و المضایقة ، فقد ذهب المشهور من المتقدّمین إلی المضایقة ، بناءً علی أنّ الأمر بالصّلاة الفائتة یدلّ علی النهی عن الحاضرة ، و هی الضدّ الخاصّ ، وعلیه ، فقد أفتوا بأن من کانت ذمّته مشغولةً بصلاةٍ ، فصلاته الأدائیّة بعد الوقت باطلة ، لأنّ عدم الضدّ الخاص - و هو الصّلاة الحاضرة - یکون مقدّمة لوجود الضدّ الآخر و هو الصّلاة الفائتة .
لکن مقدمیّة عدم أحد الضدّین لوجود الضدّ الآخر أوّل الکلام ، کما تقدّم بالتفصیل .
و منها : مسألة ترتّب العقاب علی المخالفة للنهی بناءً علی الدلالة ، و عدم ترتّبه بناءً علی عدمها .
لکنّ استلزام مخالفة النهی الغیری لاستحقاق العقاب أوّل الکلام .
و منها : ترتّب أثر المعصیة ، فإنّه إذا کان الأمر بالشیء دالّاً علی النهی عن ضدّه ، یکون الضدّ الخاص - کالسّفر - معصیةً ، و یترتّب علی ذلک وجوب إتمام الصلاة .
و لکنْ هذا یتوقّف علی عدم انصراف أدلّة وجوب الإتمام فی سفر المعصیة عن النهی الغیری العرضی .
و منها : فساد العبادة ، لأنّه مع الدلالة علی النّهی تکون العبادة المزاحمة فاسدةً ، لأنّ النهی عنها موجب لفسادها ، أمّا مع عدم الدلالة فهی صحیحة ، و توضیح ذلک :
إنّه إن کان الأمر بالشیء یدلّ علی النهی عن ضدّه من باب أنّ عدم أحد
ص:162
الضدّین مقدّمة للضدّ الآخر ، فیجب عدمه بمقتضی دلالة الأمر بالشیء علی النهی عن ضدّه العام ، فلا ریب فی حرمة فعل الضدّ .
و إن کان الأمر بالشیء یدلّ علی النهی عن ضدّه من باب الاستلزام ، بأنْ یکون عدم ذاک ملازماً لوجود هذا ، کان عدم ذلک الضدّ واجباً لکونه ملازماً للواجب ، و المفروض اتّحاد المتلازمین فی الحکم ، و إذا کان واجباً فوجوبه یدلّ علی النهی عن الضدّ العام ، فیکون فعله محرّماً .
و إذا ثبت حرمة الضدّ - بأحد الطریقین : المقدمیّة أو الملازمة - فإن کان الضدّ عبادةً ، وقعت باطلة ، بناءً علی أنّ النهی فی العبادات یوجب الفساد ... لکنّ هذا النهی تبعی و عرضی ، فلا بدّ من القول بدلالة النهی فی العبادات علی الفساد حتی فی النواهی العرضیّة .
لکنّ الضدّین المتزاحمین ، قد یکونان مضیّقین ، و قد یکون أحدهما مضیّقاً و الآخر موسّعاً ، و علی الأوّل ، فتارةً یکونان متساویین ، و أُخری یکون أحدهما مهمّاً و الآخر أهم .
فإن کانا مضیّقین و أحدهما أهم ، کما لو دار الأمر فی آخر وقت الصّلاة بینها و بین إزالة النجاسة عن المسجد ، فإنّه و إن کان وجوب الإزالة فوریّاً ، فإنّ ضیق وقت الصّلاة یوجب أهمیّتها ، و حینئذٍ ، یکون الأمر بالصّلاة دالّاً علی النهی عن الضدّ فلا تجوز الإزالة .
و إن کان وجوب أحدهما موسّعاً ، کما لو کان وقت الصّلاة موسّعاً و الأمر بالإزالة فوری ، فعلی القول بالدّلالة یکون الأمر بالإزالة دالّاً علی النهی عن الصّلاة .
و لو کانا مضیّقین و کان أحدهما عملاً غیر عبادی لکنْ کان أهمّ من الآخر العبادی ، کما لو دار الأمر فی ضیق الوقت بین أن یصلّی أو ینقذ النفس المحترمة
ص:163
من الغرق ، فالأمر بالإنقاذ الأهم من الصّلاة یدلّ علی النهی عنها بناءً علی الدلالة ، فلو أتی بها حینئذٍ کانت فاسدة ، لکون النهی عن العبادة موجباً للفساد ، أمّا بناءً علی عدم الدلالة ، فلا موجب لفسادها لو أتی بها فی ذلک الوقت و ترک الإنقاذ .
و أورد الشیخ البهائی رحمه اللّٰه علی هذه الثمرة - کما عن کتابه ( زبدة الأُصول ) - : بأنّ العبادة باطلة مطلقاً حتی علی القول بعدم دلالة الأمر للنهی عن الضدّ ، فالثمرة منتفیة ، و ذلک لأنّ العبادة تتوقّف علی قصد الأمر ، إذن ، فصحّة العبادة مشروطة بتعلّق الأمر بها فعلاً حتی یُقصد ، و فی صورة الأمر بشیءٍ و وقوع التزاحم بینه و بین ضدّه ، لا یوجد أمرٌ بالضدّ ، لاستحالة تعلّق الأمر بالضّدین معاً ، فالضدّ الآخر غیر مأمور به ، سواء دلّ الأمر بالشیء علی النهی عنه أو لم یدل؛ و مع عدم الأمر به یکون فاسداً ، لکونه عبادةً و صحّة العبادة مشروطة بتعلّق الأمر بها .
الجواب عنه
و أجیب عن ذلک بوجهین :
أحدهما : ما ذکره صاحب ( الکفایة ) و غیره کالمحاضرات (1) ، من أنّ المعتبر فی صحّة العبادة لیس خصوص قصد الأمر بل قصد القربة بأیّ وجهٍ تحقّق ، و الحاصل : إنّه یکفی الإتیان بالعمل مضافاً إلی المولی ، کأن یؤتی به بقصد کونه محبوباً له أو بداعی تحصیل الثواب علیه و القرب منه . و علی هذا فالثمرة مترتّبة .
لکن هذا الجواب مبنائی .
و الثانی : ما یستفاد من کلمات المحقّق الثانی ، و بیان ذلک :
ص:164
أوّلاً : إنّه یعتبر فی التکلیف أن یکون المتعلّق مقدوراً ، و مناط اعتبار القدرة فی المتعلّق هو حکم العقل بذلک - لا اقتضاء الخطاب کما علیه المیرزا - فإن کان متعلّق التکلیف هو طبیعی المأمور به لزم وجود القدرة علیه ، و إن کان الحصّة من الطبیعة لزم وجود القدرة علیه کذلک .
و ثانیاً : إنّه إن کان المتعلّق هو الطبیعة ، فإنّ القدرة علیها تحصل بالقدرة علی فردٍ ما منها ، و انطباق الطبیعة علیه قهری .
و ثالثاً : إنّ الأمر یستحیل أن یتجاوز عن متعلّقه ، فلو کان المتعلّق هو الطبیعة فلا یتجاوز إلی الفرد .
و رابعاً : إنّ الحاکم بالإجزاء و سقوط الأمر هو العقل ، لأنّه فی کلّ موردٍ یکون الانطباق فیه قهریّاً ، فالإجزاء فیه عقلی .
ففی کلّ موردٍ توفّرت هذه المقدّمات ، تکون العبادة صحیحة ، و یندفع اشکال الشیخ البهائی ، و إلّا فالإشکال وارد ، کما فی المضیّقین حیث القدرة منتفیة .
و ذهب المیرزا (1) إلی إنکار الثمرة بوجهٍ آخر ، و ذلک : لأنّه إن اعتبر قصد الأمر فی عبادیّة العبادة ، فلا ثمرة کما عن الشیخ البهائی ، و إنْ لم یعتبر فیها ذلک فکذلک ، أمّا بناءً علی عدم دلالة الأمر بالشیء علی النهی عن ضدّه فواضحٌ ، إذ الضدّ یؤتی به عبادةً لکونه ذا مصلحةٍ ملزمة یجب استیفاؤها ، فیؤتی به بقصدها و لا إشکال فی صحتها . و أمّا بناءً علی الدلالة ، فإنّ النهی عن الضدّ المزاحم لیس ناشئاً عن مفسدةٍ فی المتعلّق - و هو الصّلاة - و مبغوضیّة ذاتیّة فیه ، بل هو فی الواقع یرجع إلی مطلوبیّة الإزالة ، و إذْ لیس فی نفس الصّلاة مفسدة ، فلا یکون مثل هذا
ص:165
النهی بمانعٍ عن المقربیّة .
فالحاصل : إنّ المقتضی للمقربیّة - و هو المصلحة - موجود ، و المانع عنها - و هو النهی - مفقود .
فظهر صحّة الصّلاة علی التقدیرین ، فلا ثمرة .
و أورد علیه فی المحاضرات : بأنّ الإتیان بالعمل بقصد الملاک و المصلحة غیر کافٍ فی العبادیّة ، بل لا بدّ من الإتیان به مضافاً إلی المولی ، و الإتیان به بقصد الملاک لا یفید إضافته إلیه .
و الجواب :
فأفاد شیخنا ما حاصله : إنه فرق بین مطلق المصلحة و المصلحة التی هی الغرض من التکلیف ، و قصد المصلحة التی هی الغرض عند المولی - کما لو کان الانتهاء عن الفحشاء و المنکر هو المصلحة فی إیجاب الصلاة - مقرّب إلی المولی و مضیف للعمل إلیه ... نعم ، قد یکون العمل مبتلی بالمزاحم الأهم ، فیکون المکلّف عاجزاً إلّا أنّ العمل واجد للمصلحة اللّازم استیفاؤها .
و الإشکال : بأن هذا إنّما یتمّ إن کانت المصلحة مترتبةً علی ذات العمل ، أمّا بناءً علی ترتّبها علی العمل المأتی به بعنوان العبادیّة ، فالمصلحة متأخّرة رتبةً عن العمل ، و مع تأخّرها عنه کیف تقصد عند الإتیان به ؟
مندفعٌ بالنقض ، لأنّ المستشکل یری صحّة العبادة المأتی بها بقصد المحبوبیّة عند المولی ، لکونها حینئذٍ عبادة مضافة إلیه ، و الحال أنّ المحبوبیّة مترتّبة علی العبادیّة لا علی ذات العمل ، فتکون فی طول العبادیّة و متأخّرة عنها ، فکیف یؤتی بالعمل بقصد المحبوبیّة ؟
ص:166
الإیراد علی المیرزا
لکن الإشکال الوارد علیه قوله بمقرّبیّة العمل و إن کان منهیّاً عنه ... لأنّه و إن کان النهی عن الصّلاة هو من جهة محبوبیّة الإزالة مثلاً لا لمفسدةٍ فیها ، إلّا أنّه زجر عن الصّلاة ، و مع الزجر کیف تکون مقرّبةً ؟ إن العقل یلحظ الزجر بغض النظر عمّا هو المنشأ له ، ویحکم بأنّ ما زجر عنه المولی فهو مبغوض عنده ، و المبغوض لا یکون مقرّباً بل مبعّداً عنه ... و لا أقل من الشکّ فی المقربیّة ، و معه یرجع الشکّ إلی العبادیّة ، و المرجع حینئذٍ قاعدة الاشتغال .
نتیجة البحث
إنّ المیرزا یری - بناءً علی دلالة الأمر علی النهی عن الضدّ الخاصّ - صحّة العبادة ، لکون العمل ذا مصلحة و النهی عنه غیر ذاتی ، فیکفی قصد الملاک بناءً علی عدم اعتبار قصد الأمر .
و الأُستاذ یری أنّ هذا النهی أیضاً یؤثر ، فلا یصلح العمل للمقربیّة ، لکنّ الصّلاة صحیحة لأنّه لا یری دلالة الأمر علی النهی عن الضدّ .
و فی ( المنتقی ) - بعد أنْ قرّبه و أفاد أنّ مقصود المحقق النائینی بالملاک المصحّح للعبادیّة هو المصلحة - یرد علیه :
« أولاً : إن قصد المصلحة لا یمکن تحققه هنا .
و ذلک : لأن العمل إذا فرض کونه عبادیاً کانت المصلحة مما یترتب علی العمل بقید کونه عبادیاً . أما ذات العمل فلا تترتب علیه المصلحة .
وعلیه ، فلا یصلح ترتب المصلحة لأن یکون داعیاً إلی الإتیان بالعمل ، لعدم ترتّبه علیه ، و الداعی ما کان بوجوده العلمی سابقاً و بوجوده العینی لاحقاً .
و بالجملة : لا یمکن أن یؤتی بالعمل بداعی المصلحة ، إذ لا مصلحة فیه ، بل
ص:167
المصلحة تترتب علی العمل العبادی فقصد المصلحة فی طول تحقق العبادیة لا محقق لها ، فهو نظیر الإتیان بالعمل بداعی ترتب الثواب أو الفرار من العقاب ، فإنه فی طول العبادة لا محقق لها ، کما تقدم بیان ذلک فی مبحث التعبدی و التوصلی .
و ثانیاً : لو فرض إمکان تحقق قصد المصلحة ، فهو لا یکون مقرباً ، لما تقدم من أنه یعتبر فی المقربیة ارتباط العمل بالمولی بنحو ارتباط ، و الإتیان بالعمل لأجل ترتب المصلحة علیه لا یرتبط بالمولی، فلا یکون العمل مقرباً لعدم ربطه بالمولی .
و علی هذا، لا یستقیم ما أفاده المحقق النائینی من إنکار الثمرة ، إذ الملاک المصحح لیس إلا المحبوبیة ، و هو لا یتحقق مع تعلق النهی بالعمل .
و لکن الذی یسهل الخطب ما عرفت من الالتزام بعدم اقتضاء الأمر بشیء النهی عن ضده ، إما لأجل إنکار دعوی المقدمیة التی هی عمدة أساس القول بالاقتضاء . و أما من جهة إنکار وجوب المقدمة » (1) .
ص:168
بعد أنْ ظهر أنّ الحق عدم دلالة الأمر علی النهی عن الضدّ الخاصّ ، لا من باب المقدمیّة و لا من باب التلازم ، و أنّ الحق عدم دلالته علی النهی عن الضدّ العام ، لسقوط القول بالعینیّة و الدلالة التضمّنیّة و الالتزامیّة ، لکنّ دلالته علی مبغوضیّته ثابتة ، لأنّه إذا کان الفعل محبوباً للمولی کان ترکه مبغوضاً له یقیناً ، و کذا العکس ، لکن لا بدّ من التنبیه علی أنّ متعلّق البغض - و هو الترک - لا یتجاوز عن متعلّقه ، لیکون لازمه - و هو فعل الضدّ الخاص - مبغوضاً کذلک ، فإذا کان الضدّ الخاصّ أمراً عبادیّاً فلا دلیل علی فساده .
إلّا أنّ عدم الدلیل علی عدم الفساد لا یکفی لعبادیّة العمل ، بل یعتبر أن یؤتی به مضافاً إلی المولی .
أمّا علی القول باشتراط صحّة العبادة بقصد الأمر ، فقد تقدّم أنّه لا أمر بالنسبة إلی المزاحم فی عرض الواجب المأمور به ، لاستحالة طلب الضدّین ، فإمّا أن یدّعی وجود الأمر بالطبیعة - التی یکون الضدّ الخاص فرداً لها - فی عرض الأمر المتوجّه إلی الواجب ، و إمّا أن یدّعی کونه مأموراً به بالأمر الطولی علی أساس الترتّب .
و أمّا علی القول بصحّة العبادة بقصد الملاک ، فلا بدّ أوّلاً من إثبات المبنی بإقامة الدّلیل علیه ، ثمّ تحقیق الصّغری و هو کون العمل واجداً للملاک .
ص:169
و تفصیل الکلام علی القول الأوّل هو : إنه بناءً علی ما تقدّم عن المحقق الثانی ، فإنّ الطبیعة هی المتعلّق للأمر و الفرد غیر مأمور به ، إلّا أنّ انطباقها علیه قهری و الإجزاء عقلی ، و بذلک تتم عبادیّة الفرد المزاحم .
و قد تقدّم سابقاً : أنّ طریق المحقّق الثانی مبنیٌّ علی أنّ اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف هو بحکم العقل ، و الکلام الآن حول هذا المبنی ، فإنّ فی المسألة أقوالاً ثلاثة :
فقیل : إنّ القدرة علی المتعلّق غیر معتبرة فی صحّة التکلیف ، فللمولی تکلیف العاجز ، إلّا أنّ المکلّف إن کان قادراً علی الامتثال فواجب ، و إن کان عاجزاً فهو معذور .
و هذا رأی جماعة من المحقّقین ، و منهم السید الخوئی .
و قیل : إنّ القدرة شرط فی التکلیف .
فقال المحقّق الثانی و جماعة : إنّها شرط بحکم العقل .
و قال المیرزا : هی شرط باقتضاء الخطاب .
و القائلون بأنّها بحکم العقل ، اختلفوا بین قائل : بأنّ القدرة علی فردٍ ما من أفراد الطبیعة تکفی لصحّة الأمر بالطبیعة ، و قائل : لا تکفی .
و مذهب المحقّق الثانی هو الکفایة .
قال المیرزا :
الصحیح إنّه باقتضاء التکلیف لا بحکم العقل ، وعلیه ، فکون الفرد المزاحم فرداً للمأمور به محال ... و توضیح ذلک هو :
ص:170
إنّ التکلیف جعل الداعی ، و جمیع التکالیف إنما تُنشأ لأجل أنْ یوجد الدّاعی للامتثال عند المکلّف ، و الداعی یقتضی - بذاته - إمکان المدعوّ إلیه عقلاً و شرعاً ، لأنّ النسبة بینهما هی التضایف ، فلمّا کان الداعی إمکانیّاً فالمدعوّ إلیه کذلک ، إذن ، فمتعلّق التکلیف هو الفرد المقدور ، و أمّا غیر المقدور فخارج عن التکلیف ، و یکفی عدم القدرة الشرعیّة ، لأنّ الممتنع شرعاً کالممتنع عقلاً ... .
و الحاصل : إنّ متعلّق التکلیف هو غیر الضدّ المزاحم .
و أورد علیه فی المحاضرات من جهات :
( الأُولی ) إنّ ما أفاده قدّس سرّه - من التفصیل بین القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتکلیف هو حکم العقل بقبح تکلیف العاجز ، و القول بأنه اقتضاء نفس التکلیف ، فیسلّم ما ذکره المحقّق الثانی علی الأوّل دون الثانی - لا یرجع إلی معنی محصّل ، بناءً علی ما اختاره من استحالة الواجب المعلّق و تعلّق الوجوب بأمر متأخّر مقدور فی ظرفه ، و بیان ذلک باختصار هو :
إنّ الأمر فی الواجب الموسّع و إنْ تعلّق بالطبیعة و بصرف الوجود منها ، إلّا أنّه مشروط بالقدرة علیها ، و ذلک لا یمکن إلّا بأن یکون بعض وجوداتها - و لو کان واحداً منها - مقدوراً للمکلّف ، أمّا لو کان جمیع أفرادها غیر مقدور للمکلّف و لو فی زمان واحدٍ ، فلا یمکن تعلّق التکلیف بنفس الطبیعة فی ذلک الزمان إلّا علی القول بجواز الواجب المعلّق . و حیث أنّ الواجب الموسّع فی ظرف مزاحمته مع الواجب المضیّق غیر مقدور بجمیع أفراده ، فلا یعقل تعلّق التکلیف به ، - لیکون انطباقه علی الفرد المزاحم قهریّاً و إجزاؤه عن المأمور به عقلیّاً - إلّا بناء علی صحة الواجب المعلّق ، حیث یتعلّق الطلب بأمرٍ متأخّر مقدور فی ظرفه . و لا یفرّق فی
ص:171
ذلک بین المسلکین فی منشأ اعتبار القدرة فی المتعلّق .
نعم ، إنما یتمّ کلام المیرزا فیما إذا کان للواجب أفراد عرضیّة ، و کان بعضها - لا کلّها - مزاحماً بواجب مضیّق ، لأنه یصحّ حینئذٍ الإتیان بالفرد المزاحم بداعی امتثال الأمر بالطبیعة المقدورة بالقدرة علی بعض أفرادها ، بناءً علی قول المحقّق الثانی ، کما لو وقعت المزاحمة بین بعض الأفراد العرضیّة للصّلاة و إنقاذ الغریق ، فی أحد مواضع التخییر بین القصر و الإتمام ، حیث أنّ الفرد المزاحم للإنقاذ هو الإتمام ، فیلزم علیه اختیار القصر لیتمکّن من الإنقاذ أیضاً ، فلو اختار التمام و عصی الأمر بالأهم - و هو الإنقاذ - فالصّلاة صحیحة ، لکونها فرداً من الطبیعة المأمور بها ، المقدور علیها بالقدرة علی فردٍ و هو القصر ... أمّا بناءً علی مبنی المیرزا فلا تصحّ ، لأنّ متعلّق التکلیف هو الفرد المقدور و هو القصر ، و هذا الفرد غیر منطبق علی الفرد المزاحم .
لکنّ الکلام فی الأفراد الطولیة .
الجواب
أما سیّدنا الأُستاذ ، فقد ذکر أنّ هذا الإیراد من المحقق الأصفهانی (1) و قد أوضحه السیّد الخوئی مفصّلاً . قال : و هو وجه لطیف لکنه لا یخلو عن مناقشةٍ سیأتی التعرّض لها فی غیر هذا المقام (2). لکنّا لم نوفّق للوقوف علیه . و أمّا شیخنا الأُستاذ، فقد أجاب عن هذا الإشکال : بأنّ تعلّق التکلیف - بناءً علی القول بالواجب المعلّق - و إنْ کان معقولاً ، بأن یتعلّق الأمر بالعبادة الموسّعة کالصّلاة فی حال مزاحمتها بالواجب المضیّق ، علی نحو یکون الوجوب الآن و الواجب فی
ص:172
المستقبل ، لاستحالة تعلّق الأمر الآن بالطبیعة من جهة کونها فی حال المزاحمة غیر مقدورة بجمیع أفرادها ، إلّا أن انطباق الواجب علی الفرد المزاحم مورد للإشکال ، لأنّ حقیقة الواجب المعلّق هو أن یکون الوجوب مطلقاً و الواجب معلّقاً علی الزمان الآتی ، فیکون الوجوب الآن و الواجب مقیّداً ، و إذا کان الواجب مقیّداً کذلک کان غیر قابل للتطبیق - بما هو واجب - علی الفرد فی أوّل الوقت ، إذ الفرد فی أوّل الوقت لا یکون فرداً للطبیعة بما هی مأمور بها .
و الحاصل : إنّ الواجب إنْ کان لا بشرط بالنسبة إلی الزمان الآتی ، فانطباقه علی جمیع أفراد الطبیعة ممکن ، لکنّه لیس بواجب معلّق ، و إن کان مشروطاً به ، فهو غیر منطبق الآن علی الفرد بعنوان الواجب .
و لو قیل : بأن تقیّد الواجب بالزمان اللّاحق یکون تارةً من جهة کونه دخیلاً فی الملاک و الغرض ، کما فی الحج حیث أنّ الوجوب الآن و الواجب مقیّد بأیام المناسک ، و هو قید دخیل فی الغرض ، و أُخری من جهة عدم قدرة المکلّف لا لدخله فی الغرض ، فیتقیّد الواجب بزمان بعد زمان المزاحمة مع الأهم ، و ما نحن فیه من قبیل الثانی لا الأوّل ، فهو ذو ملاک .
فإنّه یمکن الجواب : بأنّ الفرق المذکور موجود ، لکن کلیهما شریکان فی عدم إطلاق الواجب ، و مع تضیّق دائرة الواجب المأمور به ، لا یمکن القول بأن هذا الفرد فرد للمأمور به بما هو مأمور به ، فالاشکال باق .
هذا ، علی أنّ احراز واجدیّة الواجب المقیّد بزمان بعد المزاحمة للغرض و أن تقیّده بذلک إنّما هو من جهة عدم القدرة ، أمر مشکل .
( الجهة الثانیة ) قال : إنّه لو تنزّلنا و سلّمنا الفرق بین القولین ، فلا یتم ما أفاده المیرزا کذلک بالنظر إلی مختاره من أنّ التقابل بین الاطلاق و التقیید من تقابل
ص:173
العدم و الملکة ، فکلّ مورد لم یکن فیه التقیید فالإطلاق غیر ممکن . و ما نحن فیه من هذا القبیل ، لأنّ تقیید الطبیعة المأمور بها بالفرد المزاحم مستحیل ، فإطلاقها بالنسبة إلیه کذلک حتی علی قول المحقّق الثانی فی اعتبار القدرة فی التکلیف .
و الحاصل : إنّه لا یمکن الحکم بصحة الفرد المزاحم ، لعدم إطلاق المأمور به ، لیکون الإتیان به بداعی الأمر حتی علی القول بصحّة الواجب المعلّق .
نعم ، بناءً علی ما حقّقناه من أنّ التقابل بینهما من قبیل التضادّ ، یصحّ الإتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر بالطبیعة ، بناءً علی جواز تعلّق الوجوب بأمر متأخّر مقدور فی ظرفه کما هو المفروض ، لأنّه إذا استحال التقیید کان الإطلاق ضروریّاً .
جواب الأُستاذ
فأجاب الأُستاذ : بأنّ استحالة التقیید إنّما تستلزم ضرورة الإطلاق فیما إذا کان التقیید ممکناً ، أمّا لو لم یتمکّن المولی من التقیید فلا ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، فإنّ المولی - کما یعترف المستشکل - غیر متمکّن من التقیید بالفرد المزاحم ، و حینئذٍ ، فلا یکون الإطلاق کاشفاً عن کون مراده مطلقاً ... .
و الحاصل : إنّه لا اعتبار لمثل هذا الإطلاق .
( الجهة الثالثة ) فی أنّ القدرة غیر معتبرة فی صحّة التکلیف ، و هو القول الثالث من الأقوال فی المسألة ، فلا هی معتبرة بحکم العقل ، و لا هی معتبرة باقتضاء الخطاب ، بل إنّها معتبرة بحکم العقل فی مرحلة امتثال التکلیف . قال :
و ذلک : لأنّ حقیقة الحکم و التکلیف عبارة عن اعتبار المولی کون الفعل علی ذمّة المکلّف و إبرازه فی الخارج بمبرز ، و هذا الاعتبار لا یقتضی اختصاص الفعل بالحصّة المقدورة ، ضرورة أنّه لا مانع من اعتبار الجامع بین المقدور و غیر المقدور .
ص:174
فالحاصل : إنّه لا مقتضی من قبل الخطاب لاعتبار القدرة فی المتعلّق ، و کذا العقل ، فإنّه لا یقتضیه إلّا فی ظرف الامتثال ، فإذا لم یکن المکلّف حین جعل التکلیف قادراً علی الامتثال و أصبح قادراً علیه فی ظرفه ، صحّ التکلیف و لا قبح فیه عقلاً .
جواب الأُستاذ
و قد أجاب عنه الأُستاذ : بأنّ اعتبار المولی الفعل علی ذمّة المکلّف فعل اختیاری له ، و کلّ فعل اختیاری فهو معلول للغرض ، و لیس الغرض إلّا جعل الداعی للعبد نحو الفعل ، و حینئذٍ تعود نظریة المیرزا من أن جعل الداعی یقتضی القدرة علی المدعوّ إلیه ، فلو کان عاجزاً عن الامتثال لم یمکن من المولی جعل الداعی له ، فإنْ کان التکلیف مطلقاً جعل الداعی کذلک ، و إنْ کان مشروطاً بشرطٍ کان الداعی فی ظرف تحقّق الشرط ، و أمّا إن کان معلّقاً - بأنْ یکون الوجوب فعلیّاً و الواجب استقبالیّاً - فإنْ البعث الإمکانی الفعلی نحو الأمر المتأخّر یقتضی إمکان الانبعاث فی الواجب فی ظرفه ، و کذلک الحال بناءً علی إنکار الواجب المعلّق ، فإنّ البعث الإمکانی یقتضی الانبعاث الإمکانی .
فالحاصل : إنّه علی جمیع التقادیر و الأقوال : البعث الإمکانی یقتضی الانبعاث الإمکانی .
و ذکر المحقّق العراقی فی ( المقالات ) (1) - مشیراً إلی نظریّة المیرزا بعنوان التوهّم - ما حاصله : إنّ القدرة علی الامتثال من الأُمور الدخیلة فی فاعلیّة الإرادة حتّی لو لم یکن الخطاب فعلیّاً ، و حقیقة الحکم هی الإرادة المبرزة ، فإنْ أُرید
ص:175
للإرادة الوصول إلی الفعلیّة اعتبرت القدرة ، فتکون القدرة ممّا یعتبر فی ظرف الامتثال ...
و الحاصل : فاعتبار القدرة متأخّر رتبةً عن الخطاب ، و الخطاب متأخّر رتبةً عن متعلّقه ، و مع تأخّره لا یمکن أن یکون دخیلاً فیه ... فالخطاب لا یقتضی اعتبار القدرة خلافاً للمیرزا .
و قد انتقد الشیخ الأُستاذ کلام المحقّق العراقی بما انتقد به کلام المحاضرات ، و حاصل ما أفاده هو : إنه لا ریب فی أنّ المتأخّر لا یمکن أخذه فی المتقدّم علیه ، و لو أنّ المولی قد أخذ القدرة فی متعلّق حکمه لتمّ کلام هذا المحقّق ، لکنّ تقیّد الخطاب بالقدرة لیس بأخذ المولی بل إنّه تقیّد و تضیّق ذاتی ، لما تقدّم من أنّ الحکم بعث ، و هو یقتضی القدرة علی المبعوث إلیه ، لأنّ المولی الحکیم الملتفت لا یبعث نحو غیر المقدور ، فالبعث من أصله مضیّق و بذلک تتضیّق دائرة المتعلّق ، و یکون الحصّة المقدورة فحسب .
و الحاصل : إنّ کلام المحقّق النائینی قوی ... و لا یصلح ما ذکر للردّ علیه .
الإشکال علی المیرزا
إلّا أنّ فیه - بعد الموافقة علی کبری أنّ البعث الإمکانی یقتضی الانبعاث الإمکانی - أن تلک الکبری غیر منطبقة هنا حتّی تتم دعوی أنّ البعث نحو الطبیعة یختص دائماً بالحصّة المقدورة منها ، لأنّ المفروض کون البعث نحو الطبیعة ، و هی لا بشرط بالنسبة إلی الخصوصیّات الفردیّة ، و أنّ حقیقة الإطلاق رفض القیود ، و علی ما ذکر ، فإنّ المولی لما یبعث نحو الطبیعة فهو یرید الوجود المضاف إلیها ، و إذا کان البعث الإمکانی یقتضی الانبعاث الإمکانی ، فإنّ القدرة
ص:176
علی فردٍ ما من أفراد الطبیعة تحقّق إمکان الانبعاث ، فلا محالة تکون الطبیعة بما هی مأمور بها منطبقةً علی الفرد المزاحم ، و إذا تمّ الانطباق القهری تمّ الإجزاء .
و الحاصل : إنّ الخطاب لا یتعلّق بالحصّة المقدورة من الطبیعة ، بل هو متعلّق بالطبیعة المقدورة بالقدرة علی فردٍ ما من أفرادها ، و منها الفرد المزاحم ، خلافاً للمیرزا القائل بخروج الفرد المزاحم غیر المقدور عن المصداقیّة للطبیعة المأمور بها بما هی مأمور بها .
أمّا علی القول الثالث ، فمشکلة تصحیح العبادة المزاحمة منحلّة ، لأنّه بناءً علیه یکون التکلیف متعلّقاً بالطبیعة ، و هو غیر مشروط بالقدرة ، فیصحُّ الإتیان بالفرد المزاحم بقصد الأمر ، لأن انطباق الطبیعة علیه قهری و الإجزاء عقلی .
و أمّا علی القول باعتبار القدرة بحکم العقل فکذلک ، لأنّ الطبیعة مقدورة بالقدرة علی فردٍ ما من أفرادها ، فیصح الإتیان بالفرد المزاحم بقصد الأمر المتعلّق بالطبیعة .
و أمّا علی القول باعتبارها باقتضاء نفس الخطاب ، فالمشکلة باقیة ، لأنّ المتعلّق - بناءً علیه - هو الحصّة المقدورة من الطبیعة ، لا الجامع بین المقدور و غیر المقدور ، فلا یصحّ الفرد المزاحم بالإتیان به بقصد الأمر ، و تصل النوبة إلی قصد الملاک - و هو الطریق الثانی - .
لکنّ التحقیق عند الأُستاذ قابلیّة الطبیعة لتعلّق الأمر و صحّة العبادة المزاحمة بقصد الأمر ... .
فلا فرق بین الآراء الثلاثة فی حلّ المشکلة .
إلّا أنّ الحق - عنده - بقاء المشکلة علی حالها ، لأنّه لا قدرة علی الطبیعة فی
ص:177
الأفراد الطولیّة فی أوّل الوقت ، فلا بدّ من تصویر الواجب المعلّق ، وعلیه ، فیکون الواجب بعد الفرد المزاحم ، لأنّه - أی الفرد المزاحم - مقیّد بالزمان الآتی ، فلا ینطبق الواجب علیه ... فلا یمکن تصحیحه بقصد الأمر المتعلّق بالطبیعة ، و تصل النوبة إلی طریق قصد الملاک أو طریق الأمر الترتّبی .
و البحث فی الطریق الثانی - و هو تصحیح العبادة بقصد الملاک ، کما ذهب إلیه صاحب ( الکفایة ) و المیرزا - یستدعی الکلام فی جهتین :
جهة الکبری ، و هی تصحیح العبادة بقصد الملاک ، و أنّه لا ینحصر تصحیحها بقصد الأمر فقط ... و للتحقیق عن هذه الجهة موضع آخر .
وجهة الصغری ، و هی المهمّة فی المقام ، و هی أنّه کیف یثبت الملاک فی الفرد المزاحم ؟
إنّه لا بدّ من الکشف عن الملاک کی یؤتی بالعمل بقصده ، و المفروض عدم وجود أمر عرضی یکون کاشفاً عنه کشف المعلول عن العلّة - علی مسلک العدلیة - لأنّ وجوده مشروط بالقدرة علی الامتثال و هی منتفیة ، من جهة أنّ الواجب علیه هو الفرد الأهمّ ، فالمکلّف عاجز شرعاً عن امتثال الواجب المزاحم المهم ، فهل یمکن الکشف عنه عن طریق مفاد المادّة بعد سقوط اطلاق الهیئة لکونها مشروطة بالقدرة ؟ هنا وجوه :
.الوجه الأوّل
یقول المیرزا - کما فی ( أجود التقریرات ) (1) - بعدم تبعیّة إطلاق المادّة لإطلاق الهیئة ، و توضیح هذه الدعوی هو : إنّ قول المولی « صلّ » مشتمل علی
ص:178
مادةٍ و هو الواجب الذی تعلّق به الحکم ، و علی هیئةٍ و هو الحکم أی الوجوب ...
و کلٌّ منهما صالحٌ للتقیید بالقدرة أو غیرها من القیود ، و للإطلاق برفض القیود کلّها ، فإن أخذ المولی فی خطابه القدرة علی الواجب ، کأن یقول : إنْ قدرت فصلّ ، فقد اعتبرت القدرة الشرعیّة إلی جنب القدرة العقلیّة - المعتبرة بحکم العقل علی مسلک المحقّق الثانی ، أو باقتضاء الخطاب علی مسلک المیرزا - و کشفت عن دخلها فی الغرض من الصّلاة ، و إنْ لم یأخذها کشف - عدم أخذها - عن عدم دخلها فی الغرض .
و کذلک الحال بالنسبة إلی الوجوب ... .
لکنّ المفروض أنّه مع التزاحم بالأهمّ ، لا وجوب بالنسبة إلی المهمّ و هو الصّلاة ، فلا اطلاق للهیئة ، لکون وجوب الصّلاة مقیّداً بالقدرة ، و حینئذٍ ، یأتی البحث عن أنّه إذا سقط إطلاق الهیئة یسقط بتبعه إطلاق المادّة أو لا ؟
فذهب المیرزا إلی بقاء المادّة علی إطلاقها ، و أنّه کاشف عن أنّ الغرض قائم بالجامع بین المقدور و غیر المقدور ، فیکون الفرد المزاحم - و إن کان غیر مقدور - واجداً للملاک بمقتضی الإطلاق ، و یمکن الإتیان به بقصده .
هکذا قرّب الأُستاذ هذا الوجه .
و فی ( المحاضرات ) : إنّ الفرد المزاحم تام الملاک حتی علی القول بکونه منهیّاً عنه ، لأنّ النهی المانع عن التقرّب بالعبادة ، هو الذی ینشأ من مفسدةٍ فی متعلّقه و هو النهی النفسی ، و أمّا النهی الغیری ، فبما أنّه لا ینشأ من مفسدةٍ فی متعلّقه ، لا یکشف عن عدم وجود الملاک فی المتعلّق . فبضم هذا إلی کبری کفایة قصد الملاک ، تتمّ صحة عبادیّة الفرد المزاحم (1) .
ص:179
اشکالات المیرزا علی نفسه و جوابه عنها
ثمّ إن المیرزا أورد علی نفسه اشکالات أربعة ، و أجاب عنها (1) .
الأوّل : إنه لا إطلاق مع وجود المقیّد العقلی حتی یتمسّک به ، و علی القول باقتضاء ذات الخطاب القدرة فی المتعلّق ، یتقیّد المتعلّق و یخرج عن الإطلاق .
و بعبارة أُخری : صحّة الفرد المزاحم من جهة الملاک ، لا یجتمع مع القول باقتضاء الخطاب القدرة فی المتعلّق ، لأنّه بناءً علیه تکون القدرة دخیلةً فی ملاک الحکم ، و بارتفاعها یرتفع الملاک .
الثانی : إنّه لو سلّمنا عدم القطع بالتقیید باقتضاء الخطاب ، فلا ریب فی أنّ ذلک صالح للقرینیّة ، فیکون المقام من صغریات احتفاف الکلام بما یصلح للقرینیّة ، فلا ینعقد الإطلاق ، لیتم الملاک فیقصد بالفرد المزاحم .
الثالث : إنّه لو سلّمنا عدم الصلاحیّة للتقیید ، إلّا أنّ إطلاق المتعلّق إنّما یکشف عن عدم دخل القید فی الملاک ، فیما إذا لزم نقض الغرض من عدم التقیید فی مقام الإثبات ، مع دخله فی مقام الثبوت ، و أمّا إذا لم یلزم نقض الغرض ، فلا یکون الإطلاق فی مقام الإثبات کاشفاً عن عدم القید فیه ثبوتاً ، فلو کان غرض المولی متعلّقاً بالرقبة المؤمنة - مثلاً - کان علیه البیان فی مقام الإثبات لئلّا یلزم نقض الغرض ، و من عدم البیان نستکشف عدم دخل الإیمان فی الغرض و یتم الإطلاق . و أمّا إذا لم یلزم فی موردٍ نقض الغرض من عدم البیان ، فلا یتم استکشاف الإطلاق .
و ما نحن فیه من هذا القبیل ، و ذلک لأنّا نعلم بأنّ المکلّف عاجز عن الإتیان بالفرد غیر المقدور ، فهو غیر محتاج إلی البیان کی نقول بأنّ عدم البیان عن التقیید
ص:180
کاشف عن الإطلاق و إلّا یلزم نقض الغرض ... فالمورد لیس من موارد التمسّک بإطلاق المتعلّق .
الرابع : إنّ أوّل مقدّمات الإطلاق هو کون المتکلّم فی مقام البیان من تلک الجهة التی یراد التمسّک بالإطلاق فیها ، و بدون ذلک فلا یتم الإطلاق ... مثلاً : الآیة المبارکة : «فَکُلُوا مِمّٰا أَمْسَکْنَ علیه » فی مقام بیان حلیّة أکل هذا الصید ، و لیست فی مقام البیان من جهة الطهارة و النجاسة حتی یُتمسّک بإطلاقها فیقال بطهارة هذا الحیوان الذی اصطاده الکلب .
و فیما نحن فیه : المولی فی مقام بیان متعلّق حکمه ، و لیس فی مقام بیان ملاک الحکم ، حتّی یقال بأنّه لم یقیّد بالقدرة ، فالملاک مطلق و المتعلّق للحکم مطلق .
و الجواب :
أمّا عن الإشکال الأوّل ، فبأنّ تقیید المتعلّق عقلاً یکون إمّا باقتضاء الخطاب کما هو مسلک المیرزا ، و إمّا بحکم العقل ، و لا ثالث لهما . و الأوّل تقیید عقلی ذاتی و الثانی تقیید عرضی . و أیضاً : فإنّ الأوّل متحقّق فی کلّ خطابٍ لأنّه باقتضاء نفس الخطاب ، بخلاف الثانی ، فهو یختص بالخطاب الصادر من الحکیم ، لکون خطاباته تابعة للحسن و القبح العقلیین ، فالأوّل یرجع إلی اقتضاء العقل النظری ، و الثانی إلی اقتضاء العقل العملی و هو قبح تکلیف العاجز .
و حینئذٍ : فإنْ کان المدّعی تقیید متعلّق الحکم - و هو المادّة - باقتضاء نفس الخطاب ، فمن الواضح أنّ التقیید متأخّر عن الحکم المتأخّر عن المتعلّق ، فهو متأخّر عن المتعلّق بمرتبتین ، و لا یمکنه أنْ یؤثر فی إطلاقه فی مرحلة قیام الغرض تام بلا کلام .
ص:181
و إن کان المدّعی تقیید المتعلّق بحکم العقل ، فإن حکم العقل متأخّر عن حکم الشرع ، تأخّر الحکم عن موضوعه ، و حکم الشرع فی مرتبةٍ متأخّرةٍ عن المتعلّق ، فالتقیید متأخّر عن المتعلّق بمرتبتین کذلک .
فاندفع الإشکال الأوّل .
و بذلک یندفع الإشکال الثانی ، فإنّه إذا ثبت استحالة التقیید ، لا یبقی احتمالٌ حتی یکون صالحاً للقرینیّة .
و أمّا عن الإشکال الثالث ، فقد ذکر جوابین :
أحدهما : إن هذا إنّما یتم فیما إذا کان الشک فی اعتبار القدرة التکوینیّة فی الملاک ، لاستحالة صدور غیر المقدور ، فلا یلزم من عدم البیان نقض الغرض أصلاً . و أمّا إذا کان الشک فی کون القدرة - و لو کانت شرعیّة - دخیلةً فی الملاک کما هو المفروض فی المقام ، فیلزم نقض الغرض من عدم التقیید ، إذ للمکلّف الإتیان بالواجب الموسّع مع التزاحم بینه و بین المضیّق تمسّکاً بالإطلاق ، إذن ، لا بدّ من البیان ، و مع عدمه یستکشف عدم الدخل و یتم الإطلاق .
و الثانی : إن لزوم نقض الغرض لیس من مقدّمات الإطلاق ، بل إنّ من مقدّماته تبعیّة مقام الإثبات لمقام الثبوت ، فکون المتکلّم فی مقام بیان جمیع ما له دخل فی غرضه یستلزم بیان ذلک کلّه و إلّا لزم الخلف ، فمن الإطلاق و عدم التقیید بقیدٍ یستکشف عدم دخله فی مقام الثبوت ، بلا حاجة إلی ضمّ مقدّمة لزوم نقض الغرض .
و أمّا عن الإشکال الرابع فأجاب :
بأنّه لیس المراد الکشف عن الملاک من جهة کون المولی فی مقام البیان له ، بل المراد هو : إنّه لمّا کان فی مقام بیان متعلّق حکمه ، و الأحکام تابعة للملاکات
ص:182
و معلولة لها ، فتوجّه التکلیف إلی ذات المتعلّق بلا أخذ القید فیه ، یکشف عن کون العلّة - و هو الملاک - مطلقاً کذلک ، فیصحّ حینئذٍ التمسّک بالإطلاق للکشف عن الملاک المطلق .
و إذا اندفعت الإشکالات ، فلا مانع من التمسک بإطلاق المادّة للکشف عن الملاک ، فیؤتی بالصّلاة بقصده .
قال الأُستاذ
و تنظّر الأُستاذ فیما أجاب به المیرزا عن الإشکالات ... فوافق علی الجواب الأول عن الإشکال الثالث . و أبطل الثانی : بأنه و إنْ کان المعروف عدم کون لزوم نقض الغرض من مقدّمات الإطلاق ، لکنّ الحق هو کون المولی فی مقام بیان الغرض ، لأنّ الأمر معلول له و لحاظ المولی له عرضی ، و لکنّ لحاظه للغرض ذاتی ، لأنه هو العلّة للأمر .
و أمّا جوابه عن الإشکالین - الأوّل و الثانی - و ملخّصه : استحالة تقیید ما هو المتأخّر رتبةً لما هو متقدّم فی الرتبة ، ففیه :
إنّ المقیّد هو المولی إنْ أخذ القید فی المتعلّق ، و هو المطلق إنْ رفضه ، و انقسام الصّلاة إلی المقدورة و غیر المقدورة ، أمر واقعی طارئ علی الصّلاة قبل حکم المولی - لا فی مرتبته و لا بعده - سواء وجد الحکم أو لا ... فإنْ کان القید دخیلاً فی غرض المولی الملتفت إلی الانقسام أخذه فی متعلّق حکمه و إلّا رفضه ، فالإطلاق و التقیید بالنسبة إلی القدرة لیس من الانقسامات الحاصلة من ناحیة الخطاب ، بل هو القرینة علی أخذ المولی للقید فی المتعلّق ، و التقیید حاصل فی رتبة المتعلّق ، غیر أنّ القرینة علیه - و هو الخطاب - متأخّر عن ذی القرینة بالتأخّر الطبعی کما حقّق فی محلّه ، و إذا کان التقیید فی مرتبة المتعلّق فلا إطلاق .
ص:183
و بما ذکر یسقط الجواب عن الإشکال الثانی .
و أمّا جوابه عن الإشکال الرابع ففیه :
إنّه قد ورد الأمر بالصّلاة فی مرتبة الاستعمال علی طبیعی الصّلاة ، لکنّه مقیّد عقلاً - باقتضاء الخطاب عند المیرزا - بالحصّة المقدورة ، فالمراد الجدّی من الصّلاة أخصّ من المراد الاستعمالی ، و الکاشف عن الملاک هو المراد الجدّی لا الاستعمالی ، و إذا کان المراد الجدّی هو الحصّة المقدورة من الصّلاة ، فکیف یکون کاشفاً عن وجود الملاک فی الحصّة غیر المقدورة ؟
و بتعبیر السید الأُستاذ : « إنّ الدلیل الدال علی تبعیّة الأحکام للمصالح من إجماعٍ أو عدم اللغویة و الحکمة لا یقتضی سوی توفّر الملاک فیما انبسط علیه الأمر و بعث نحوه ، و إن کان قد تعلّق فی ظاهر الخطاب بالمطلق ، و لا ملازمة بین وجود الملاک و أخذ الشیء فی متعلّق الأمر خطاباً ، و المفروض فیما نحن فیه أن الأمر و إنْ کان یرد علی المطلق لا علی المقیّد ، و لکنْ إنما ینبسط فی مرحلة عروضه علی الحصّة المقدورة دون الأعم » (1) .
فالحق : امتناع التمسّک بالإطلاق ، لوجود القرینة العقلیّة ، بحکم العقل بقبح تکلیف العاجز أو باقتضاء نفس الخطاب لأنْ یتوجّه التکلیف إلی الحصّة المقدورة ، فإنّ هذه القرینة مانعة من انعقاد الإطلاق فی المادّة ، و حینئذٍ ، فلا کاشف عن الغرض .
و جوّز السیّد الخوئی التمسّک بالإطلاق بناءً علی مسلکه من أنّ القدرة لم تعتبر فی متعلّق التکلیف ، لا من جهة حکم العقل و لا من جهة اقتضاء التکلیف ،
ص:184
فلا موجب لاعتبارها فیه ، إلّا أنّ الإشکال فی المقتضی لهذا الإطلاق ، لأنّ المتکلّم غالباً بل دائماً لیس فی مقام بیان ما یقوم به ملاک حکمه ، حتی یمکن التمسک بالإطلاق فیما إذا شک فی فردٍ أنّه واجد للملاک أم لا ، و مع قطع النظر عن ذلک و فرض أنّه فی مقام البیان حتی من تلک الجهة ، فلا مانع من التمسّک بالإطلاق ، إذ قد عرفت أنّه لا حکم للعقل و لا اقتضاء للتکلیف لاعتبار القدرة فی المتعلّق ، لیکونا صالحین للبیان و مانعین عن ظهور اللّفظ فی الإطلاق .
و حاصل کلامه : إنّه لا حکم للعقل باشتراط التکلیف بالقدرة ، و لا اقتضاء للتکلیف لذلک ، فلا مانع من التمسّک بالاطلاق ، لأنّه لا یکون الاشتراط إلّا بأحد الأمرین المذکورین ، بل القدرة شرط لتنجّز التکلیف . لکنّ الکلام فی تمامیته الإطلاق ، لأن المولی فی مقام بیان متعلّق الحکم لا ما یقوم به الملاک ، فلا مقتضی لانعقاده . و هذا هو الصحیح فی الإشکال علی الإطلاق .
و فیه :
أوّلاً : إنّ الکلام فی حکم المولی الحکیم الملتفت و لیس حول غیره ، و لذا قیّد ما ذکره بالموالی العرفیّة حیث قال « بل الغالب فی الموالی العرفیّة غفلتهم عن ذلک فضلاً عن کونهم فی مقام بیانه » (1) ... فالکلام فی الخطابات الشرعیّة الصادرة من الشارع ، و قد تقرّر أنّ تکالیفه معلولة للأغراض ، فکیف لا یکون فی مقام بیان غرضه ؟
و ثانیاً : إن ما ذهب إلیه من أنّ القدرة من شرائط التنجیز ، فلها الدّخل فی استحقاق العقاب فقط ، لا یجتمع مع ما ذهب إلیه من أنّ التکلیف اعتبار مبرَز ، و أنّ
ص:185
الأمر مصداق للبعث و النهی مصداق للزجر . و توضیح ذلک :
إنه لا یخفی الفرق بین المفهوم و المصداق ، فکلّما کان الاتّحاد بین الشیئین مفهومیّاً کان الحمل بینهما أوّلیّاً ، و کلّما کان الاتحاد بینهما فی الوجود کان الحمل شائعاً . فالمفهوم - أی الصّورة الذهنیّة - من « زید » غیر ما هو المفهوم من « الإنسان » إلّا أنّهما فی الوجود واحد ، و هذا معنی المصداقیّة . فهذا مطلب .
و مطلب آخر هو : إنّ مفهوم « البعث » لا یستلزم « الانبعاث » لکن مصداقه یستلزمه .
فإذا کان الأمر مصداقاً للبعث ، فللبعث وجودٌ ، و یستلزم وجود الانبعاث ، و وجوده یستلزم القدرة ... وعلیه ، فالبعث الإمکانی - بمعنی وجود المقتضی و عدم موانع الطاعة - یستلزم الانبعاث الإمکانی ... و لو لا القدرة لما تحقّق الانبعاث ... فانفکاک الانبعاث عن القدرة غیر معقول ... فتکون من شرائط التکلیف ، إمّا بحکم العقل و إمّا باقتضاء نفس الخطاب .
فظهر سقوط ما ذهب إلیه السیّد المحقّق الخوئی .
و أنّ الحق عدم تمامیّة التمسّک بإطلاق المادّة و متعلّق الأمر ، لکون المتعلّق مقیّداً عقلاً بالقدرة ، إذ الحکم العقلی هنا - سواء علی مبنی المحقّق الثانی أو المحقّق النائینی - یصلح لأن یعتمد علیه المولی و یکتفی به إن کان غرضه هو المقیّد ، فلا کاشف عن الملاک .
أقول : و هذا الذی ذکر - أعنی صلاحیّة ذلک لأن یعتمد علیه المولی - موجود فی کلمات السیّد الخوئی أیضاً فی ( تعالیقه ) (1) .
ص:186
و أمّا الطریق الثانی للکشف عن الملاک ، الذی جاء به صاحب الکفایة ، فهذا توضیحه :
إنّ الشیء قد یکون متعلّقاً للأمر بنفسه و قد یکون متعلّقاً له لکونه مصداقاً للطبیعة المأمور بها ، فالأوّل : کالصّلاة فی المسجد ، فیما لو أُمر بالصّلاة فیه ، و الثانی : کالصّلاة فیما لو قال : « صل » .
و فی المقابل : ما لا یکون متعلّقاً للأمر لا بنفسه و لا بکونه مصداقاً ، و هذا یکون علی ثلاثة أنحاء :
الأوّل : ما خرج عن المصداقیّة للطبیعة المأمور بها بالتخصیص اللفظی ، کقوله لا تکرم الفساق ، المخرج لهم عن عموم أکرم العلماء .
و الثانی : ما خرج عن المصداقیّة للطبیعة المأمور بها بالتخصیص العقلی ، کموارد اجتماع الأمر و النهی ، حیث تخرج الصّلاة فی الدار المغصوبة عن الطبیعة المأمور بها ، بحکم العقل بعدم صلاحیّتها للمقربیّة .
و الثالث : ما خرج عن المصداقیّة للطبیعة المأمور بها مع تمامیّة المقتضی ، لوجود المانع و المزاحم من الفردیّة و المصداقیّة ، کالصّلاة فی وقت الإزالة ، فإنّها تخرج عن الفردیّة للصّلاة المأمور بها ، و المخرج لیس المخصّص اللفظی أو العقلی حتی یکشف عن عدم الملاک ، بل الملاک موجود و المخرج هو عدم القدرة ، فإنّ القدرة دخیلة فی توجّه الخطاب ، و بدونها لا یتوجّه إلی المکلّف ، و علی الجملة ، فإنّ المزاحمة مع الإزالة الواجبة توجب سلب القدرة عن المکلّف ، فیمتنع تکلیفه بالصّلاة مع وجود المقتضی لذلک ، بحیث لو لم یکن النهی الغیری مانعاً عن التکلیف ، و کان الأمر بالشیء غیر مقتضٍ للنهی عن ضدّه
ص:187
الخاص ، جاز الإتیان بالصّلاة بقصد الملاک .
و قد أورد علیه المحقّق الإیروانی بوجوه :
الأوّل : إنّ المفروض سقوط الأمر علی أثر المزاحمة مع الواجب الآخر ، فلو کانت المصلحة فی نفس الأمر ، فلا تبقی بعد سقوطه مصلحة حتی یُؤتی بالعمل بقصدها ، فلا یتم ما ذکره من أنّ الشیء قد یکون متعلّقاً للأمر بنفسه .
و الثانی : إن ما ذکره إنما یتم بناءً علی مسلک العدلیّة من تبعیّة الأحکام للملاکات فی الواقعیات .
و الثالث : إنّه مع المزاحمة لا تبقی مصلحة للأمر ، فلو کان هناک مصلحة لما انتفی الأمر من الشارع .
جواب الأُستاذ عن هذه الإشکالات :
أمّا الأوّل ، ففیه : إنّ مورد الکلام هو الضدّ العبادی کالأمر بالصّلاة و الأمر بالإزالة ، فلو سقط الأمر بالصّلاة علی أثر المزاحمة ما انتفت مصلحة الصّلاة . فغایة ما یرد علی المحقّق الخراسانی أن کلامه أخصّ من المدّعی .
و أمّا الثانی ، ففیه : إنّ صاحب الکفایة یتکلّم هنا علی مبنی العدلیّة .
و أمّا الثالث ، ففیه : إنّ المقصود هو وجود المصلحة فی متعلّق الأمر ، و کون الأمر ذا مصلحة هو لوجود المصلحة فی متعلّقه ، إلّا أنّ عدم القدرة هو المانع عن الأمر .
فظهر ، اندفاع هذه الإشکالات إلّا الأوّل کما ذکرنا .
ص:188
تقریر آخر للإشکال و الجواب عنه
و قد یقرّر الإشکال علی ( الکفایة ) بوجهٍ آخر (1) و هو : إنّ الأمر هو الکاشف عن الملاک کشف المعلول علی العلّة ، فإذا سقط علی أثر المزاحمة انتفی الکاشف عن الملاک ، و حینئذٍ ، کما یحتمل أن یکون سقوط الأمر بسبب وجود المانع و هو عدم القدرة ، کذلک یحتمل أن یکون بسبب عدم المقتضی و هو الملاک ، و مع هذا الاحتمال کیف یقطع بوجود الملاک حتی یُقصد فی العبادة ؟
لکنّه یندفع : بأنّ مفروض الکلام عدم وجود المخصّص اللفظی و العقلی فی المقام ، وعلیه ، فإنّه لا مانع من عموم الأمر إلّا الأمر بالأهمّ المزاحم له ... فکان المانع هو المزاحم الموجب لعدم القدرة علی الامتثال ، مع العلم بعدم دخل القدرة فی الملاک ، فمع لحاظ جمیع هذه الجهات ، ینحصر المانع بعدم القدرة علی الامتثال مع وجود الملاک ، فلا مجال لهذا الإشکال .
و أمّا الطریق الثالث ، فهو طریق الدلالة الالتزامیة ، و تقریب ذلک ضمن أُمور :
الأوّل : إنّ الأحکام تابعة للملاکات و معلولة لها ، کما هو مسلک العدلیّة .
و الثانی : إنّ الأمر إذا تعلّق بشیء کان له مدلولان ، أحدهما : المدلول المطابقی و هو وجوب ذلک الشیء . و الآخر : المدلول الالتزامی ، و هو کون الوجوب ذا ملاک .
و الثالث : إنّه إذا سقط المدلول المطابقی علی أثر وقوع المزاحمة بین هذا الأمر و أمرٍ آخر أهم منه ، فالمدلول الالتزامی - و هو الدلالة علی وجود الملاک - باقٍ .
أمّا الأمر الأوّل ، فهو واضح .
ص:189
و أمّا الأمر الثانی ، فکذلک .
إنّما الکلام فی الأمر الثالث ، و هو بقاء الدلالة الالتزامیّة بعد سقوط المطابقیّة ، باقتضاء الخطاب کما علیه المیرزا ، أو بحکم العقل من قبح تکلیف العاجز کما علیه المشهور ، و قد ذکروا فی بیان بقائها ما حاصله : إنّ ذلک مقتضی التفکیک فی الحجیة و أنّ الضرورات تتقدّر بقدرها ، فأمّا الدلالة المطابقیّة فقد سقطت لأن امتثالها کان مشروطاً بالقدرة فإذا انتفت سقطت ، و أمّا الملاک فغیر مقیّد بالقدرة و لا دخل لها فیه ، فلا موجب لسقوط الدلالة الالتزامیّة ... .
هذا ، و قد نصّ علی بقاء الدلالة الالتزامیّة مع سقوط المطابقیّة عدّة من الأکابر کصاحب الکفایة و المیرزا و العراقی ، و بنوا علی هذا المبنی و استنتجوا منه فی موارد ... کما فی باب التعارض بین الخبرین حیث قال المیرزا بدلالتهما علی نفی الثالث بالالتزام ، فلو دلّ أحدهما علی الوجوب و الآخر علی الحرمة ، ثبت عدم الاستحباب .
و قال آخرون : بعدم معقولیّة بقاء الدلالة الالتزامیّة بعد سقوط المطابقیّة ، وعلیه فلا کشف عن الملاک بهذا الطریق ... و قد أورد علی المبنی الأوّل بعدّة نقوض :
النقض الأوّل : إنّه لو قامت البیّنة علی ملاقاة الشیء للبول مثلاً ، فهنا دلالتان : الملاقاة للبول و هی الدلالة المطابقیّة ، و نجاسة الملاقی و هی الدلالة الالتزامیّة . فإن انکشف کذب البیّنة سقطت الدلالة المطابقیّة کما هو واضح ، فهل تبقی الدلالة الالتزامیّة ؟ مقتضی القول بعدم التبعیّة بقاؤها ، و هو باطل بالضرورة
ص:190
من الفقه .
لکنْ یمکن دفع النقض ، بأنّ الشرط لبقاء الدلالة الالتزامیّة - عند القائلین به - هو بقاء الموضوع لهذه الدّلالة ، و الموضوع فیها فی المثال هو النجاسة و انتفاؤها مقطوع به عندهم ، فمثل هذا المورد خارج عن البحث .
النقض الثانی : لو کانت الدار - مثلاً - فی ید زید ، فقامت بیّنة علی أنّها لعمرو و أُخری علی أنّها لبکر ، وقع التعارض بینهما ، لکنهما متّفقتان علی أنّها لیست لزید ذی الید ، فإن قلنا بالتبعیّة ، سقطت الدلالتان و بقیت الدار لزید ذی الید ، و إن قلنا بعدم التبعیّة ، کانت النتیجة عدم کونها لزید ، فهی مجهولة المالک .
و هذا ما لا یلتزم به أحد .
و فیه : إنّه لا بدّ هنا من مراجعة النصوص الواردة فی المسألة ، وعلیه مشی صاحب النقض فی کتابه مبانی تکملة المنهاج . و الحاصل : إنّ المرجع هنا خبر إسحاق بن عمار و خبر غیاث بن إبراهیم ، و مقتضی الجمع بینهما : إنّ زیداً ذا الید ، إن اعترف لأحدهما المعیّن ، دار أمر الملکیّة بینه - المعترف له - و بین طرفه ، و یقع النزاع بینهما ، و إن اعترف لکلیهما خرج هو عن الملکیّة و تقاسما الدار ، و إن لم یعترف لأحدهما ، فإن حلف أحدهما و نکل الآخر انتقلت الدار إلی الحالف ، و إن حلفا أو نکلا تناصفاها (1) .
و تلخّص : عدم ورود النقض .
النقض الثالث : لو شهد شاهد واحد علی أنّ الدار التی بید زیدٍ هی لعمرو ، و شهد آخر علی أنّها لبکر ، فإنّ الشهادتین ساقطتان علی الحجیّة فی مدلولهما
ص:191
المطابقی ، بغض النظر عن التعارض بینهما ، فهل یلتزم بمدلولهما الالتزامی و هو عدم کون الدار لزید - لکونهما متوافقین فی ذلک - ؟ کلّا لا یمکن .
و فیه : إنّ أصل المدلول المطابقی هنا لیس بحجّةٍ ، لأن شهادة الواحد فی الأملاک لیس بحجّةٍ بل لا بدّ من ضمّ الیمین إلیها . وعلیه ، فلمّا کان أصل المدلول المطابقی بلا مقتضٍ ، فلا تصل النوبة إلی البحث عن وجود أو عدم المدلول الالتزامی .
النقض الرابع : لو قامت البیّنة علی أنّ الدار التی فی ید زیدٍ هی لعمرو ، فأقرّ عمرو بأنّها لیست له ، فالبیّنة تسقط من جهة إقرار عمرو ، و بذلک تسقط الدلالة المطابقیّة ، فهل یمکن الأخذ بالدلالة الالتزامیّة و هو القول بعدم ملکیة زید ؟ کلّا .
و فیه : إنّ الید أمارة الملکیّة ، و سقوطها یحتاج إلی دلیل ، و البیّنة دلیل تسقط بها أماریّة الید ، و بعبارة أُخری : فإنّ دلیل حجیّة البیّنة یخصّص دلیل حجیّة الید و یتقدّم علیه بالتخصیص ، و لکنْ هل هذا التخصیص و التقدّم مطلق یعمّ صورة تکذیب ذی الید ؟ کلّا . وعلیه ، فلا أثر لهذه البیّنة و لا یثبت بها شیء من الأساس ، فلا تصل النوبة إلی البحث عن مدلولها الالتزامی .
و ذهب الأُستاذ إلی القول بتبعیّة الدلالة الالتزامیّة للدلالة المطابقیّة فی الثبوت و السقوط ، و ذکر فی مقام حلّ المسألة بعد الإجابة عن النقوض : إنّ لکلّ کلامٍ ثلاث دلالات :
فالدلالة الأُولی : هی الدلالة التصوّریة ، و المقصود منها دلالة اللفظ علی معناه الموضوع له ، سواء التفت المتکلّم إلی ذلک و قصده أو لا .
و الدلالة الثانیة : هی الدلالة التصدیقیّة الأُولی ، و هی دلالة اللفظ علی
ص:192
الإرادة الاستعمالیّة ، بأن یصدّق بأنّ المتکلّم قد استعمل اللفظ فی معناه .
و الدلالة الثالثة : هی الدلالة التصدیقیّة الثانیة ، و هی دلالة اللفظ علی الإرادة الجدیّة ، بأن یکون المعنی مقصوداً للمتکلّم جدّاً .
أمّا الدلالة الأُولی ، فواضحة .
و أمّا الدلالة الثانیة ، فدلیلها تعهّد المتکلّم باستعمال الألفاظ فی معانیها الموضوعة لها فی اللغة .
و أمّا الدلالة الثالثة ، و هی حمل الکلام علی معناه الجدّی و نسبة ذلک إلی المتکلّم ، فدلیلها السیرة العقلائیّة القائمة علی کاشفیة اللّفظ المستعمل فی معناه عن المراد الجدّی للمتکلّم . و لکنّ الکلام فی حدّ هذه السّیرة ، فهل هی قائمة علی کاشفیّة الدلالة الالتزامیّة عن المراد الجدّی حتّی مع سقوط الدلالة المطابقیّة ؟
الظاهر عدم تحقّق هذا البناء من العقلاء ، و لا أقل من الشک ، و مقتضی القاعدة الأخذ بالقدر المتیقن من السیرة - لکونها دلیلاً لبیّاً - و هو صورة عدم سقوط الدلالة المطابقیّة عن الحجیّة .
و تلخّص : عدم تمامیّة هذا الطریق للکشف عن الملاک .
و یقع الکلام فی :
ص:193
فبعد الفراغ عن سقوط الأمر بالصّلاة مع وجود الأمر بالإزالة ، لاستحالة الأمر بالضّدین ، و عن عدم إمکان إحراز الملاک بأحد الطرق الثلاثة کی یُقصد و تتمُّ به عبادیّة العمل ، تصل النوبة إلی البحث عن الترتّب ، و أنّه لو عصی الأمر الأهمّ - و هو الأمر بالإزالة - هل یثبت الأمر بالمهمّ و هو الأمر بالصّلاة ، فیؤتیٰ بها بقصده و یکون عبادةً أو لا یثبت ؟
و الکلام تارةً : فی الواجبین الموسّعین ، و لا تزاحم بینهما ، لا فی مقام الجعل و لا فی مقام الامتثال ، لأنّ الوقت یسع کلا الأمرین و یتحقّق امتثالهما معاً ، و أُخری :
فی الواجبین المضیّقین ، کوجوب إنقاذ هذا الغریق و ذاک ، و هو مورد التزاحم ، و ثالثةً : فیما إذا کان أحدهما موسّعاً و الآخر مضیّق ، فهل هما کالمضیّقین ، کما دار أمر المکلّف بین أداء الصّلاة فی أوّل الوقت و إزالة النجاسة عن المسجد ؟
بعد کلامٍ له :
فقد ظهر أنّه لا وجه لصحّة العبادة مع مضادّتها لما هو أهمّ منها إلّا ملاک الأمر . نعم ، فیما إذا کانت موسّعةً و کانت مزاحمة بالأهمّ ببعض الوقت - لا فی تمامه - یمکن أن یقال : إنّه حیث کان الأمر بها علی حاله و إن صارت مضیّقةً بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها من تحتها ، أمکن أن یؤتی بما زوحم منها بداعی ذاک الأمر ، فإنّه و إن کان خارجاً عن تحتها بما هی مأمور بها ، إلّا أنّه لما کان
ص:194
وافیاً بغرضها کالباقی تحتها ، کان عقلاً مثله فی الإتیان به فی مقام الامتثال و الإتیان به بداعی ذاک الأمر ، بلا تفاوت فی نظره بینهما أصلاً .
و دعوی : إنّ الأمر لا یکاد یدعو إلّا إلی ما هو من أفراد الطبیعة المأمور بها ، و ما زوحم منها بالأهم و إن کان من أفراد الطبیعة لکنّه لیس من أفرادها بما هی مأمور بها . فاسدة ، فإنّه إنّما یوجب ذلک إذا کان خروجه عنها بما هی کذلک تخصیصاً لا مزاحمة ، فإنّه معها و إن کان لا تعمّه الطبیعة المأمور بها إلّا أنّه لیس لقصور فیه ، بل لعدم إمکان تعلّق الأمر بما تعمّه عقلاً . و علی کلّ حال ، فالعقل لا یری تفاوتاً فی مقام الامتثال و إطاعة الأمر بها بین هذا الفرد و سائر الأفراد أصلاً .
هذا علی القول بکون الأوامر متعلّقة بالطبائع .
و أمّا بناءً علی تعلّقها بالأفراد فکذلک ، و إن کان جریانه علیه أخفی ، کما لا یخفی . فتأمّل .
و حاصل کلامه هو : إنّ الأمر بالصّلاة مثلاً قد تعلّق بالطبیعة ، و الفرد المزاحَم بالأمر بالإزالة خارج من تحت هذا الإطلاق ، لکنّ هذا الخروج تزاحمی و لیس تخصیصیّاً ، فلو کان خروجه کذلک لم یمکن الإتیان به بقصد الأمر بالطبیعة أو بقصد الملاک ، أمّا مع الخروج التزاحمی فالإتیان به بقصد الأمر أو الملاک لا مانع منه ، إذ العقل لا یری تفاوتاً بینه و بین غیره من أفراد الطبیعة فی الوفاء بالغرض .
فالفرد المزاحم خارج عن الطبیعة بما هی مأمور بها ، إلّا أنّ ذلک غیر ضارٍّ ، لأنّه کغیره من الأفراد وافٍ بالغرض من الأمر عند العقل بلا تفاوت .
بأنّه إذا کان الفرد المزاحَم خارجاً من تحت الطبیعة - کما صرّح بذلک - فإنّ الإطلاق غیر شامل له ، بل یتحدّد بما سواه من الأفراد ، و حینئذٍ ، لا یمکن الإتیان بالفرد المزاحم بقصد الأمر المتعلّق بالطبیعة ، و المفروض أنّ الفرد
ص:195
بنفسه لا أمر له ، فبأیّ أمر یؤتی به فی مقام الامتثال ؟
و بالجملة ، فإنّ نتیجة کلامه أنّ الفرد المزاحم غیر مأمور به حتّی یمکن الإتیان به بقصد الأمر . نعم ، علی القول بانطباق الطبیعة المأمور بها علی الفرد المزاحم ، کما علیه المحقّق الثانی و من تبعه ، یکون مورداً للأمر فیمکن الإتیان به بقصده .
و المحقّق الخراسانی لم یذکر برهاناً علی خروج الفرد المزاحم من تحت الطبیعة .
فیری التزاحم کذلک ، لکنْ ببیان آخر ، و هو :
إن تقیید خطاب الواجب الموسّع بالفرد المزاحم غیر معقول ، لأنّه یستلزم طلب الضدّین فی آنٍ واحد ، و إذا استحال التقیید استحال الإطلاق کذلک ، لأنّ النسبة بین الإطلاق و التقیید عنده نسبة العدم و الملکة ، فلا یعقل الأمر بالصّلاة فی أوّل الوقت مع وجود الأمر بالإزالة ، فیقع بینهما التزاحم . هکذا فی ( المحاضرات ) (1) .
و ببیان آخر - و هو الأقرب إلی ما ذهب إلیه من أنّ الإطلاق یتوجّه باقتضاء الخطاب إلی الحصّة المقدورة ، و أنّ اعتبار القدرة باقتضاء نفس الخطاب و لیس بحکم العقل - إنّ الأمر بالصّلاة متوجّه من أصله إلی الحصّة المقدورة منها ، فإطلاق « صلّ » من أوّل الأمر غیر شامل للفرد المزاحم منها للإزالة ، فسواء کانت النسبة بین الإطلاق و التقیید هی العدم و الملکة أو التضاد ، یکون هناک تزاحم بین « صلّ » و« أزل النجاسة عن المسجد » . فإنْ صحّت الصّلاة المزاحمة عن طریق قصد الملاک - المنکشف بإطلاق المادّة أو الدلالة الالتزامیّة - کما ذهب هو إلی ذلک -
ص:196
فهو و إلّا وصلت النوبة إلی بحث الترتّب .
و کیف کان ، فلا بدّ قبل الورود فی البحث من ذکر ما یلی :
إنّ مبتکر بحث الترتّب هو المحقّق الثانی فی ( جامع المقاصد ) ، ثمّ تبعه الشیخ جعفر فی کشف الغطاء ثمّ حقّقه المیرزا الشیرازی ، ثمّ شیّد أرکانه الأعلام الثلاثة .
و ذهب المحقّق الخراسانی إلی استحالة الترتّب ، و نسبه فی المحاضرات إلی الشیخ الأعظم ، إلّا أنّ الأُستاذ ذکر أنّ کلمات الشیخ مختلفة ، و سیأتی .
ثمّ إنّ هذا البحث عقلی محض ، و لا دخل للّفظ فیه ، و هو یدور بین الإمکان و الاستحالة ، و مجرّد الإمکان کافٍ للوقوع بلا حاجةٍ إلی دلیلٍ آخر .
کلام المحقّق الثانی
ذکر العلّامة فی ( القواعد ) : أنّه إن کان مدیناً بدینٍ ، و کان الدّائن یطالبه به و هو فی أوّل الوقت ، فلو صلّی بطلت صلاته . و کذا المدین بالخمس و الزکاة .
فقال المحقّق الثانی بشرحه : مبنی المسألة أنّ أداء الدین بعد الطلب واجب فوری ، و کذا أداء الخمس و الزکاة ، و حینئذٍ ، یکون الأمر بأداء الدّین ناهیاً عن الضدّ و هو الصّلاة ، و النهی عن العبادة موجب للفساد .
ثمّ أشکل : بأن الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن الضدّ الخاص ، و الصّلاة ضدّ خاصٌ لأداء الدّین . قال :
فإن قیل : إن الترک ضدّ عامٌّ یتحقّق بالصّلاة التی هی ضد خاصّ . فأجاب عن ذلک ، ثمّ أشکل بإشکال آخر و أجاب عنه ، إلی أن قال :
إن قیل : إنّ الأمر بالصّلاة مع فرض فوریّة أداء الدّین یستلزم التکلیف بما
ص:197
لا یطاق ، لکونهما ضدّین .
فأجاب : بعدم لزوم ذلک ، لأنّ الصّلاة واجب موسّع ، و الأمر بأداء الدین أو الخمس و الزکاة فوریٌ ، و له الأمر بهما معاً ، بأن یکون مأموراً بأداء الدین ، فإن عصی أتی بالصّلاة .
ثمّ نقض بما لو کانت الصّلاة فی آخر الوقت ، فیقع التزاحم بین المضیّقین لکنّ الحکم صحّة الصلاة ، لأن أحد الواجبین مشروط بمعصیة الواجب الآخر .
و نقض علی العلّامة بمن خالف الترتیب فی واجبات الحج ، حیث یحکم بصحّة العمل ، و لا وجه لذلک إلّا الترتّب .
قال : و إنّ هذا الأصل إن لم یتم یبطل کثیر من أعمال الناس ، و إن کان مقتضی الاحتیاط ما ذکره العلّامة من البطلان (1) .
و تعرّض الشیخ الکبیر فی ( کاشف الغطاء ) للترتّب فقال : إنّه یمکن للشارع و للمولی المطاع أنْ یأمر بواجب ، ثمّ یأمر بآخر علی فرض عصیان الأوّل .
قال : إنّه فی مسألة الجهر و الإخفات ، لو جهر فی موضع الإخفات أو بالعکس ، یصحّ العمل . للقاعدة . قال : و مع عدم الالتزام بهذه القاعدة یلزم بطلان عبادات الناس کثیراً ... (2) .
و اختلفت کلمات الشیخ الأعظم ، فالمستفاد من کلامه فی بعض المباحث استحالة الترتّب ، و ظاهر کلامه فی رسالة التعادل و التراجیح من ( فرائد الأُصول ) ،
ص:198
عند البحث عن الأصل فی الخبرین المتعارضین بناءً علی السببیّة هو الإمکان ، فأفاد ما حاصله (1) : أنّه لمّا کان نتیجة القول بالسببیّة تحقّق المصلحة فیما قامت علیه الأمارة ، فإنّه یکون حال الخبرین المتعارضین حال الواجبین المتزاحمین ، فیکونان مجری قاعدة الترتّب حتّی فی صورة أهمیّة أحدهما من الآخر ، قال : إنّ التکلیف واقع بکلیهما و لکلٍّ منهما ملاک الوجوب ، لکنّ القدرة علی امتثال کلٍّ منهما تحقّق فی ظرف ترک الآخر ، و إذا تحقّقت القدرة حکم العقل بالامتثال .
هذا محصّل کلامه ، و من وجود لفظة « القدرة » فی عبارته یستکشف أنّ المانع عن الواجب الآخر هو العجز ، فالعقل حاکم بلزوم الامتثال فی کلّ فردٍ قد تحقّقت القدرة علیه منهما .
ثمّ ذکر : إنّ هذه القاعدة جاریة فی جمیع موارد الواجبین المتزاحمین .
و من الواضح : إنّ مقتضی تعلیقه الأمر علی القدرة ، فإنّه مع ترک الأهمّ تکون القدرة موجودة بالنسبة إلی المهم ، هو الالتزام بالترتّب .
و من هنا قال المیرزا : و من الغریب أنّ العلّامة الأنصاری قدس سره مع إنکاره الترتب و بنائه علی سقوط أصل خطاب المهم دون إطلاقه، ذهب فی تعارض الخبرین - بناءً علی السببیّة - إلی سقوط إطلاق وجوب العمل علی طبق کلٍّ من الخبرین ... (2) .
و ذکر فی ( الکفایة ) نظریة القائلین بالترتّب بنحوین فقال : « إنّه تصدّی جماعة من الأفاضل لتصحیح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب علی العصیان و عدم إطاعة
ص:199
الأمر بالشیء بنحو الشرط المتأخّر أو البناء علی معصیته بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن ، بدعوی أنّه لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدین کذلک ، أی: بأنْ یکون الأمر بالأهمّ مطلقاً و الأمر بغیره معلّقاً علی عصیان ذاک الأمر أو البناء و العزم علیه ، بل هو واقع کثیراً عرفاً » (1) .
لکنّه یری أن لا طریق إلّا علی نحو الشرط المتأخّر ، بأن یکون المعصیة علی هذا النحو ، لأنّ العبادة لا بدّ و أن تنشأ من الأمر ، فلو اشترط معصیة الأهم بنحو الشرط المتقارن ، فلا بدّ و أن تتحقّق بفعل المهم ، فلم ینشأ فعل المهم من الأمر به ، لأن المفروض أن لا أمر به قبل معصیة الأهم ، أمّا لو تأخّرت المعصیة عن الأمر ، کان فعل المهمّ ناشئاً عن الأمر به ، و أمّا العزم فلا تتحقّق به المعصیة .
فقد قرّب صاحب الکفایة النظریّة بأنّه : لو کان الشرط هو العزم علی المعصیة فالمفروض عدم تحقّق المعصیة ، فالأمر بالأهم علی حاله بنحو الإطلاق ، و الأمر بالمهمّ موجود مشروطاً ، و مع اشتراط العزم علی المعصیة و تأخّرها ، یکون فعل الضدّ - و هو المهم - ناشئاً من الأمر المتعلّق به و العزم علی ترک الأهم . أمّا مع الاشتراط بالعصیان ، فیعتبر أن یکون بنحو الشرط المتأخّر ، لأنّه ترک الأهم و ترکه فی مرتبةٍ واحدةٍ مع فعل المهم ، فلمّا کان العصیان شرطاً للأمر بالمهم ، وقع فعل المهم فی مرتبةٍ متقدّمة علی الأمر به ، فیکون فرض العصیان بنحو الشرط المتأخّر .
و علی أیّ حالٍ ، فقد أجاب عن هذا التقریب : بأنّ الأمر بالضدّین و طلبهما محال ، سواء کان التضادّ بالذات أو بالعرض ، لأنّ الطلب هو الإنشاء بداعی جعل الدّاعی ، و مع وجود التضادّ بین الشیئین کیف یتحقّق الداعی بجعل الداعی ؟
ص:200
و فیما نحن فیه : کلّ طلبٍ مشروط بالقدرة علی متعلّقه - علی مبنی المشهور أو المیرزا - و إذ لا قدرة علی الضدّین فطلبهما محال .
یقول : « ما هو ملاک استحالة طلب الضدّین فی عرضٍ واحدٍ آتٍ فی طلبهما کذلک ، فإنه و إن لم یکن فی مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما . إلّا أنّه کان فی مرتبة الأمر بغیره اجتماعهما ، بداهة فعلیّة الأمر بالأهم فی هذه المرتبة و عدم سقوطه بعدُ بمجرد المعصیة فیما بعد ما لم یعص أو العزم علیها مع فعلیّة الأمر بغیره أیضاً ، لتحقّق ما هو شرط فعلیّته فرضاً » .
یعنی : إنّه فی صورة التضادّ بالذات ، یطارد کلٌّ من الضدّین الآخر ، و فی صورة التضادّ بالعرض - و هو صورة الاشتراط - تکون المطاردة من طرفٍ واحد ، لأنّ الأمر بالأهم مطلقٌ ، أی إنّه لا بشرط بالنسبة إلی المهم ، و هذا الأمر مقدَّم علی متعلّقه - تقدّم العلّة علی المعلول - فهو مقدّم علی عصیانه ، لأنّ الإطاعة و العصیان فی مرتبةٍ واحدة ، فکان الأمر بالأهمّ مقدّماً علی إطاعة الأهم و عصیانه ، لکن العصیان شرط للأمر بالمهمّ ، و کلّ شرط متقدّم علی المشروط ، فیکون الأمر بالأهمّ و عصیانه مقدّماً علی الأمر بالمهمّ بمرتبتین ، وعلیه ، فلا یمکن للأمر بالمهمّ أن یطارد الأمر بالأهم ، فیکون الأمر بالأهم موجوداً بلا مانع .
و هو أیضاً موجود فی مرتبة إطاعة الأمر بالأهم و عصیانه ، لعدم الاقتضاء للأمر بالمهم فی هذه المرتبة حتی یطارد الأمر بالأهم ، لأنّ المفروض أنّ الأمر بالمهمّ ینشأ بعد مرتبة عصیان الأمر بالأهم .
فإن عصی الأمر بالأهم ، یصیر الأمر بالمهم فعلیّاً ، لتحقّق شرطه ، لکنّ المفروض أنّ الأمر بالأهم مطلق ، فهو بإطلاقه یشمل هذه المرتبة ، فله اقتضاء الامتثال ، و المهمُّ له اقتضاء الامتثال ، فتقع المطاردة فی هذه المرتبة .
ص:201
و تصدّی المیرزا لتصحیح الترتّب و الردّ علی إشکال الکفایة ، و ذکر لذلک مقدّمات (1) :
( فی التحقیق عن منشأ الإشکال )
ففی المقدّمة الأُولی حاول التحقیق عن منشأ الإشکال و المحذور فی الأمرین المتضادّین بالعرض ، و أنّه هل هو فی أصل وجودهما أو فی إطلاقهما ؟
إن کان منشأ الاستحالة وجود الأمرین فهو صحیح ، و أمّا إن کان المنشأ هو الإطلاق فیهما ، فالمحذور مرتفع و الترتّب ضروری . و بیان ذلک :
إنّه لو یکن بین الواجبین تضادّ ، کما لو أمر بالصّلاة بنحو الاطلاق و أمر بالصوم کذلک ، کان نتیجة الإطلاقین هو مطلوبیة کلیهما ، و الجمع بینهما ممکن و لا تضاد . أمّا لو قُید أحدهما بأنْ قیل : صلّ فإن لم تصلّ فصُم ، کان نتیجة التقیید عدم مطلوبیّة کلیهما ، فلو صلّی و صام لم یکن ممتثلاً لأمرین ... هذا لو لم یکن تضادّ بین الواجبین .
فإن کانا متضادّین کالصّلاة فی أوّل الوقت و إزالة النجاسة عن المسجد ، فإنّ الإطلاق فیهما یقتضی أن یکون کلاهما مطلوبین . أمّا لو تقیّد أحدهما بترک الآخر و عصیانه ، فوقوعهما علی وجه المطلوبیة محال .
و الحاصل : إن کلّ دلیلٍ یشتمل علی أصل الطلب و علی إطلاق الطلب ، و الاستحالة إنّما تتحقّق من إطلاق الدلیلین لا من أصل وجودهما ، فلو حصل تقیید فی أحد الطرفین لا یکونان مطلوبین ، فلا یتحقّق طلب الضدّین و هو غیر مقدور .
ص:202
نتائج هذه المقدمة
و نتیجة هذا المطلب أُمور :
1 - إنّه إذا کان المحذور فی إطلاق الدلیلین ، کان مقتضی القاعدة فی سائر موارد التضاد سقوط الإطلاقین - بأن یقیّد الوجوب فی کلّ من الدلیلین بعدم الآخر ، إن لم یکن أحدهما أهم من الآخر - و بقاء أصل الدلیلین ، لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها ، و حینئذٍ ، یکون المکلّف مخیّراً بینهما تخییراً عقلیّاً . أمّا فی صورة کون الدلیلین بوجودهما منشأً للمحذور ، کان مقتضی القاعدة سقوط کلیهما من أصلهما ، و حینئذٍ ، یستکشف العقل خطاباً شرعیّاً تخییریاً بین الأمرین .
2 - إنّه عند ما یکون المحذور فی إطلاق کلیهما ، فلا محالة یتقیّدان و یکون شرط کلٍّ منهما ترک الآخر ، فیجب إنقاذ هذا الغریق فی حال ترک الآخر و کذلک العکس ، و حینئذٍ ، فلو ترک کلیهما فقد تحقّق الشرط لوجوبهما معاً ، فیکون قد ارتکب معصیتین و یستحق عقابین ، لأنّه قد خالف خطابین فعلیین ، إذ الخطاب المشروط یکون فعلیّاً بفعلیّة شرطه ، و قد کان الشرط فی کلّ من الخطابین هنا ترک الآخر ، و القدرة علی الجمع بین الترکین حاصلة ، بخلاف ما لو کان المحذور فی أصل وجود الدلیلین و فرض سقوطهما و تحقّق حکم تخییری کما تقدّم ، فإنّه لو ترک کلیهما فقد ترک واجباً واحداً ، فالمعصیة واحدة و العقاب واحد .
اشکال المیرزا علی الشیخ
3 - إنّه بعد تصوّر ما ذکر ، یصیر الأصل عبارةً عن أنّه فی کلّ متزاحمین لا بدّ من رفع الید عن منشأ المحذور ، و قد ظهر أنّه الإطلاق ، وعلیه ، فالأصل فی الخبرین المتعارضین - بناءً علی السببیّة - هو التخییر ، لأنّهما خطابان مشروط کلٌّ
ص:203
منهما بترک الآخر . فیرد الإشکال علی الشّیخ : بأنّه کان علیه الالتزام بسقوط الإطلاقین - لا أصل الخطابین - إن لم یکن بینهما أهم ، و إن کان أحدهما أهم من الآخر سقط الإطلاق فی طرف .
نقد الدفاع عن الشیخ
قال الأُستاذ
و الحق : ورود هذا الإشکال علی الشیخ . و ما قد یقال فی الدفاع عنه : من أنّ کلامه - حیث قال بصرف القدرة فی أحد الضدّین فی حال عدم صرفها فی الآخر - إنّما هو فی مرحلة الامتثال ، و کلامنا - فی الترتّب - یتعلّق بمرحلة الجعل و التشریع ، فقد اختلط الأمر علی المیرزا ، لأن الشیخ قائل بالتزاحم و الترتّب هناک لکونه فی مقام الامتثال ، و لا یقول به هنا لأنّه مقام الجعل . ففیه نظر من وجوه :
الأوّل : إنّ الشیخ و إن ذکر ذلک فی مرحلة الامتثال ، لکنّه أضاف : بأنّ المطلب کذلک فی کلّ متزاحمین شرعیّین ، فالمیرزا قد تدبّر فی کلام الشیخ ، و المستشکل قد غفل عن هذه النکتة .
و الثانی : إنّ مرحلة الامتثال ظلّ مقام الجعل و التشریع ، و الامتثال فرع التکلیف ، فیستحیل أن یتحقّق الترتّب فی مرحلة الامتثال و لا یتحقّق فی مرحلة الجعل ، فلو لم یکن التکلیف ترتّبیاً ، فالامتثال الترتّبی محال .
و الثالث : إنّ القواعد العقلیّة غیر قابلة للتخصیص ، فإذا حکم العقل بالترتّب فی مرحلة الامتثال فهو حاکم به فی مرحلة الجعل .
4 - قد ظهر أنّ إشکال المحقّق الخراسانی ناشئ من مطلوبیّة الجمع بین الضدّین من جهة إطلاق الخطابین ، لکنّ المیرزا یقول : بأنّ الترتّب رافع لهذا الإشکال ، لأنّه ضد الجمع ، بل یستحیل الجمع بناءً علیه ، لأنّه مع حصول الإزالة
ص:204
فالصّلاة غیر مطلوبة ، و إنّما تکون مطلوبةً لو ترک الإزالة ، فترکها بشرط وجوب الصّلاة ، فأین مطلوبیتهما فی آنٍ واحد حتی یلزم التکلیف بالمحال .
نعم ، مع إطلاق الأمر بالأهم یکون الأمر به موجوداً فی ظرف عصیانه ، و هو ظرف وجود الأمر بالمهم ، لکنّ اجتماع الطلبین غیر اجتماع المطلوبین ، و قد کان الإشکال هو لزوم اجتماع المطلوبین لا الطلبین ، و بالترتّب ینتفی لزومه .
هذا تمام الکلام فی المقدّمة الأُولی .
( فی الجواب عن المطاردة )
إنّه یجاب عن إشکال المطاردة بین إطلاق الأمر بالأهمّ و الأمر بالمهمّ بعد تحقّق شرطه و صیرورته مطلقاً بذلک ، بناءً علی ما صرّح به المیرزا من أنّ کلّ موضوع شرط و کلّ شرط موضوع ، فإنّه یکون للشرط ما کان للموضوع من الأثر ، و کما تتحقّق الفعلیّة للحکم بوجود الموضوع ، فإنّ فعلیّة الشرط فعلیّة الحکم ، فلا فرق بین « المستطیع یجب علیه الحج » و« المکلّف إذا استطاع یجب علیه الحج » و علی هذا ، فکما لا یخرج الموضوع عن الموضوعیّة قبل وجوده و بعد وجوده ، کذلک الشرط لا ینسلخ عن کونه شرطاً بعد تحقّقه ، وعلیه ، لا یخرج المشروط عن الإناطة بالشرط لیکون مطلقاً بعد تحقّقه ، و إذ لا یکون مطلقاً فلا تتحقّق المطاردة بین الحکمین .
الإشکال علی المیرزا
و قد أشکل علی المیرزا هنا بوجوه بعضها ناش من عدم التدبّر فی کلامه و بعضها خارج عن البحث ، إلّا أن الإشکال الوارد من الأُستاذ یرجع إلی المناقشة فی المبنی ، إذ یقول : بأنّ الشرط إمّا متمّم لاقتضاء المقتضی و إمّا متمّم لقابلیّة القابل ، فیستحیل کون الشرط موضوعاً للحکم و رجوع الموضوع إلی الشرط ،
ص:205
و علی الجملة ، فإنّ المقتضی - و هو الموضوع - منشأ للأثر ، و الشرط هو ما یساعد علی تأثیر المقتضی أثره ، فکلّ من الموضوع و الشرط جزء للعلّة التامّة ، و یستحیل رجوع أحد الأجزاء إلی الجزء الآخر ... فهذا هو الإشکال علی المیرزا رحمه اللّٰه .
لکن المیرزا یصرّح : بأنّه لیس حکم الموضوع و الشرط حکم أجزاء العلّة التکوینیّة ، بل الموضوع فی الأحکام الشرعیة هو المکلّف ، و شرط التکلیف هو البلوغ و العقل ، و الحکم إرادة المولی بحسب الملاکات . فلیس البلوغ - مثلاً - متمّماً للاقتضاء أو لقابلیّة المحلّ القابل ، بل الملاکات هی التی تؤثر فی إرادة المولی ، و هو یجعل الحکم و یعتبره عند تحقّق الشرط ... فالإناطة التی کانت قبل تحقق الشرط موجودة بعد تحققه ، و لا یصیر الواجب المشروط بعد تحقق الشرط واجباً مطلقاً ، بل الحکم المشروط بعصیان الأهم یبقی مشروطاً بعد تحقق العصیان أیضاً ... فالإشکال مندفع .
نعم ، لو کان مراده أنّ کلّ شرط موضوع و کلّ موضوع شرط فی جمیع الآثار ، فهذا غیر تام ، ففی باب المفاهیم - مثلاً - لو کان کلّ شرط موضوعاً بلا فرق ، کان معنی قولک : « إن جاءک زید فأکرمه » : زید الجائی إلیک أکرمه ، و معنی الآیة :
« إِنْ جٰاءَکُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا » : الفاسق الجائی إلیکم تبیّنوا عنه ، و حینئذٍ ، ینتفی مفهوم الشرط و یرجع الکلام إلی مفهوم اللقب ، و هذا لیس بمرادٍ للمیرزا . بل المراد هو : إنّ الشرط و الموضوع بمنزلة واحدةٍ فی إناطة الحکم و تعلیقه علیهما ، فکلّ حکم منوط بالموضوع حدوثاً و بقاءً ، و منوط بشرطه حدوثاً و بقاءً کذلک .
( فی دفع الإشکال علی المیرزا )
و الغرض منها دفع ما یرد علی المیرزا بناءً علی مبنی الترتب و ذلک :
إنه فی الواجب المضیّق یعتبر وجود الحکم قبل زمان امتثاله ، فوجوب
ص:206
الصّوم لا بدّ من تحقّقه قبل طلوع الفجر ، لأنه لو لم یکن الخطاب متقدّماً علی الإمساک فی أول الفجر آناً ما ، فإمّا أن یکون المکلّف حین توجّه الخطاب إلیه أوّل الفجر متلبّساً بالإمساک أو غیر متلبّس به ، و علی کلا التقدیرین یستحیل توجّهه إلیه ، لأن طلب الإمساک ممّن هو متحقّق منه طلب للحاصل ، کما أنّ طلبه من المتلبس بعدمه طلب للجمع بین النقیضین ، و کلاهما محال . فلا بدّ من تقدّم الخطاب - و لو بآنٍ ما - علی زمان الامتثال و الانبعاث ، لیکون الانبعاث عن ذلک الخطاب المقدّم علیه و امتثالاً له ... فتکون النتیجة فی بحثنا : إن وجوب المهم لا بدّ من حصوله قبل امتثال الأمر بالمهم ، لکن امتثال الأمر بالمهم فی مرتبةٍ واحدة مع عصیان الأمر الأهمّ ، فوجود الأمر بالمهم لا بدّ و أنّ یکون فی رتبة قبل عصیان الأهم .
و توضیح أساس هذا الإشکال هو :
إن البعث لا بدّ و أن یکون مقدّماً علی الانبعاث ، و الأمر لا بدّ من تقدّمه علی الامتثال ، و الدلیل علی ذلک أمران : أحدهما : إن منشأ الامتثال و موجب الانبعاث هو تصوّر ما یترتّب علی مخالفته ثم التصدیق بما تصوّره ، فهنالک یحصل الامتثال ، و لو لا تقدّم الأمر علی الامتثال کیف تتحقّق هذه القضایا ؟ إذن : لا بدّ من تقدّم الأمر علی الامتثال زماناً ... و قد اعتمد علی هذا البیان المحقق الخراسانی .
و الثانی : لو کان الأمر مقارناً فی الزمان للامتثال و لم یکن قبله ، فالمکلّف إمّا تارک و إمّا فاعل ، فإن کان فاعلاً - کما فی مثال الإمساک - کان الأمر طلباً للحاصل ، و إن کان تارکاً ، کان طلباً للفعل فی آن الترک ، و هو طلب النقیض مع وجود النقیض له ، فهو طلب اجتماع النقیضین .
فتلخّص : ضرورة تقدّم الأمر زماناً علی الانبعاث .
ص:207
و نتیجة ذلک :
أولاً : إذا کان الأمر متقدّماً زماناً علی الانبعاث ، کان زمان الوجوب مقدّماً علی زمان الواجب ، فیلزم الالتزام بالواجب المعلّق . و الحال أنّ المیرزا ینکر الواجب المعلّق .
و ثانیاً : إن امتثال الأمر بالمهم متأخّر عن الأمر بالمهم ، و عصیان الأمر الأهم هو فی آن امتثال الأمر بالمهم - لأن عصیان الأهم یتحقق بامتثال المهم ، فهو یعصی الأمر بالإزالة بالإتیان بالصّلاة - و إذا کان کذلک ، لزم الالتزام بالشرط المتأخّر ، و المیرزا ینکر الشرط المتأخّر .
و تلخّص : إن علی المیرزا أنْ یرفع الید ، إمّا عن الترتب و إمّا عن إنکار الواجب المعلّق و الشرط المتأخّر .
جواب المیرزا
و قد أجاب المیرزا عن الإشکال بوجوه :
أولاً : بالنقض ، فقال : لو صحّ ذلک لصحّ فی نظیره ، أعنی به العلّة و المعلول التکوینیین ، بتقریب إن المعلول لو کان موجوداً حین علّته لزم علیّتها للحاصل ، و إلّا لزم کونها علةً للمستحیل ، لأن تأثیر العلّة فی الشیء فی ظرف عدمه اجتماع للنقیضین ، و کلاهما مستحیل ، فالقول بلزوم تقدّم الخطاب علی الامتثال زماناً یستلزم القول بلزوم تقدّم العلّة التکوینیة علی معلولها زماناً أیضاً ، و هو واضح البطلان .
و ثانیاً : بالحلّ فی المقامین : فإن المعلول أو الامتثال ، إنْ کان مفروض الوجود فی نفسه حین وجود العلّة أو الخطاب فیلزم ما ذکر من المحذور ، و أمّا إنْ کان فرض وجوده لا مع قطع النظر عنهما ، بل لفرض وجود علّته أو لتحریک
ص:208
الخطاب إلیه ، فلا یلزم من المقارنة الزمانیّة محذور أصلاً . و بالجملة : الامتثال بالإضافة إلی الخطاب کالمعلول بالإضافة إلی علّته ، فلا مانع من مقارنته إیّاه زماناً ، فلا موجب لفرض وجود الخطاب قبلاً و لو آناً ما .
هذا ، و قد نصّ السید الخوئی علی متانة هذا الجواب .
و ثالثاً : إن المکلّف إن کان عالماً قبل الفجر بوجوب الإمساک علیه عند الفجر ، کفی ذلک فی إمکان تحقق الامتثال منه حین الفجر ، فوجوده قبله لغو محض ، إذ المحرّک له حینئذٍ هو الخطاب المقارن لتحقق متعلّقه ، لا الخطاب المفروض وجوده قبله ، إذ لا یترتب علیه أثر فی تحقق الامتثال أصلاً . و أمّا إذا لم یکن المکلّف عالماً به قبل الفجر ، فوجود الخطاب فی نفس الأمر لا أثر له فی تحقق الامتثال فی ظرف العلم ، فیکون وجوده لغواً أیضاً . و لأجل ما ذکرناه - من عدم کفایة وجود التکلیف واقعاً فی تحقق الامتثال من المکلّف فی ظرفه ، بل لا بدّ فیه من وصول التکلیف إلیه - ذهبنا إلی وجوب تعلّم الأحکام قبل حصول شرائطها الدخیلة فی فعلیّتها ، فالقائل بلزوم تقدّم الخطاب علی الامتثال قد التبس علیه لزوم تقدّم العلم علی الامتثال بلزوم تقدّم الخطاب علیه .
رابعاً : إن تقدّم الخطاب علی الامتثال - و لو آناً ما - یستلزم فعلیّة الخطاب قبل وجود شرطه ، فلا بدّ من الالتزام بالواجب المعلّق ، و کون الفعل المقیّد بالزمان المتأخّر متعلّقاً للخطاب المتقدّم . و قد عرفت استحالته فی محلّه .
خامساً : النقض بالواجبات الموسّعة ، فإنه لا إشکال فی صحّة العبادات الموسّعة کالصّلاة مثلاً إذا وقعت فی أول وقتها تحقیقاً . و القول بلزوم تقدّم الخطاب علی زمان الامتثال آناً ما فی المضیّقات ، یستلزم القول بلزوم تقدّمه علیه فی الموسّعات أیضاً ، إذ لا فرق فی لزوم ذلک بین وجوب مقارنة الامتثال لأوّل
ص:209
الوقت کما فی المضیّقات و جوازها کما فی الموسّعات ، مع أنهم لا یقولون بلزوم التقدّم فیها ، فیکشف ذلک عن بطلان الالتزام به فی المضیّقات أیضاً .
( قال ) و الغرض من هذه المقدمة و إبطال القول بلزوم التقدّم المزبور هو :
إثبات أن زمان شرط الأمر بالأهمّ و زمان فعلیّة خطابه و زمان امتثاله أو عصیانه - الذی هو شرط الأمر بالمهم - کلّها متّحدة ، کما أنه الشأن فی ذلک بالقیاس إلی الأمر بالمهمّ و شرط فعلیّته و امتثاله أو عصیانه ، و لا تقدّم و لا تأخّر فی جمیع ما تقدّم بالزمان ، بل التقدّم و التأخر بینها فی الرتبة . وعلیه یتفرّع دفع جملة من الإشکالات .
اشکال المحقق الأصفهانی
و قد أشکل علیه المحقق الأصفهانی (1) : بأنّ ترتّب السقوط علی فعلیّة التکلیف و توجّهه لا یعقل أن یکون بالرتبة ، لمناقضة الثبوت السقوط ، و أن الإطاعة لیست علةً للسقوط و کذلک المعصیة ، و إلّا لزم علیّة الشیء لعدم نفسه فی الأولی و توقف تأثیر الشیء علی تأثیره فی الثانیة ، بل بالإطاعة ینتهی أمد اقتضاء الأمر ، و بالمعصیة فی الجزء الأول من الزمان یسقط الباقی عن القابلیّة للفعل ، فلا یبقی مجال لتأثیره فیسقط بسقوط علّته الباعثة علی جعله .
دفاع الأُستاذ
و قد دفع الأُستاذ هذا الإشکال : بأنّا لم نجد فی کلام المیرزا ما یفید أنّ ثبوت الأمر متقدّم رتبةً علی السقوط ، نعم ، قال : ثبوته متقدّم رتبةً علی عصیانه ، و من الواضح أنّ العصیان غیر السقوط ، لأن الأمر حال العصیان موجود و هو متقدّم علیه رتبةً کما ذکر ، أمّا سقوطه فهو بعد العصیان .
ص:210
( قال : و هی أهمّ المقدّمات ) :
إن انحفاظ الخطاب فی تقدیرٍ ما إنما یکون بأحد وجوهٍ ثلاثة ... و حاصل کلامه :
إن الإطلاق - و کذا التقیید - ینقسم إلی قسمین : فالأول : ما کان الانقسام فیه سابقاً علی الخطاب ، کالانقسام إلی البالغ و غیر البالغ ، فإنه محفوظ قبل وجود الخطاب . و القسم الثانی : ما کان الانقسام فیه متفرّعاً علی الخطاب ، کالانقسام إلی العالم به و الجاهل به . و لمّا کان الانقسام الأول یقبل اللّحاظ ، - و أنّ الحاکم فی ظرف الحکم یلحظه ، فإمّا یعتبر البلوغ و إمّا لا یعتبر فیطلق - فیسمّی بالإطلاق اللحاظی ، و أمّا الانقسام الثانی فلیس کذلک ، غیر أنّ ملاک الحکم یمکن فیه التقیید بالعلم - مثلاً - و إلّا فالإطلاق ، فیسمّی بالإطلاق الذاتی و الملاکی ، و لمّا کان الخطاب فیه غیر قابل للإطلاق و التقیید احتاج إلی دلیل آخر ، و هذا ما یعبّر عنه بنتیجة الإطلاق ، بخلاف الانقسام الأوّل ، فإن الإطلاق فیه بنفس الدلیل الأوّل .
فهذان وجهان لانحفاظ الخطاب ... و قد وقع الخلاف بین الأکابر هنا ، فالمیرزا یقول بهذین الوجهین ، و منهم من یقول : بأنّ الإطلاق فی جمیع الموارد لحاظی .
و الوجه الثالث :
ما کان الخطاب فیه محفوظاً - لا بالإطلاق اللّحاظی و لا بالإطلاق الملاکی - باقتضاء نفس الخطاب ، مثل : وجود الوجوب فی مرتبة الإطاعة و المعصیة ، فإنّه موجود مع فعل الواجب و مع ترکه ، و هذا مقتضی نفس الخطاب .
و لا بدّ هنا من الالتفات إلی أن فعل الواجب أو ترکه ، یلحظ تارةً : بعنوان الفعل و الترک و أُخری : بعنوان الطاعة و المعصیة ، فإن کان بالعنوان الثانی فهو من
ص:211
الانقسامات اللّاحقة ، و إن کان بالأوّل فلا ، لأن الفعل و الترک غیر متفرّعین علی وجود الواجب ، و لذا نبّه المیرزا علی أن لا یتوهّم قابلیّة الإطاعة و المعصیة للإطلاق الملاکی ، لکونهما من الانقسامات اللّاحقة ، فأفاد أنّه لیس کلّ ما کان من الانقسامات اللّاحقة فهو قابل للإطلاق الملاکی ، بل لا بدّ من التفصیل ...
قال : إن الإطلاق و التقیید بقسمیهما - أعنی بهما الملاکی و اللّحاظی - مستحیلان فی باب الإطاعة و المعصیة .
أمّا استحالة التقیید : فلأن وجوب فعل لو کان مشروطاً بوجوده ، لاختصّ طلبه بتقدیر وجوده خارجاً ، و هو طلب الحاصل ، و لو کان مشروطاً بعدمه ، لاختصّ طلبه بتقدیر ترکه ، و هو طلب الجمع بین النقیضین ، فعلی کلا التقدیرین یکون طلبه محالاً ، فلا یصح له أن یقول : إن صلّیت وجبت علیک ، أو یقول : إن ترکت الصّلاة وجبت علیک ، فلا الطلب أی الوجوب یمکن تقییده و لا المطلوب و هو الواجب . هذا کلامه . لکنّ المحقق الاصفهانی جعل البحث فی تقیید المطلوب ... إلّا أنّ تقیید الطلب فیه محذور ثالث أیضاً ، کما سنوضّحه فیما بعد .
و أمّا استحالة الإطلاق ، فقد ذکر له وجهین ، أحدهما : ما ذهب إلیه من أن التقابل بین الإطلاق و التقیید تقابل العدم و الملکة . و الثانی : ما ذکره من أنّ الإطلاق فی قوّة التصریح بکلا التقدیرین ، فإن قوله : اعتق رقبةً و إن لم یکن معناه : اعتق رقبةً مؤمنة أو کافرة ، لکنّه فی قوّة ذلک ، فلو کان الوجوب مطلقاً بالنسبة إلی الفعل و الترک لزم محذور تحصیل الحاصل أو محذور اجتماع النقیضین .
قال الأُستاذ :
فمن قال بأن التقابل من قبیل التضاد لا یمکنه إثبات الاطلاق ، و کذا بناءً علی أن الاطلاق لیس فی قوّة الجمع بین القیود و الخصوصیات ... فظهر أن أساس هذه
ص:212
المقدمة مبنی علی هذه المبانی ... و إلّا فلا یتم الإطلاق ، و هذا هو إشکال السید الخوئی فی ( التعلیقة ) آخذاً من المحقق الأصفهانی .
ثم قال المیرزا :
و الفرق بین انحفاظ الخطاب فی هذا القسم و انحفاظه فی القسمین السابقین ، إنما هو من جهة أن انحفاظه فی هذا القسم لأجل أنه من لوازم ذاته ، حیث أن تعلّق الخطاب بشیء بذاته یقتضی وضع تقدیرٍ و هدم تقدیر آخر ، سواء کان الخطاب وجوبیّاً أو تحریمیّاً ، لأن الأول یقتضی وضع تقدیر الوجود و هدم تقدیر العدم ، کما أن الثانی یقتضی وضع تقدیر العدم و هدم تقدیر الوجود .
و هذا بخلاف انحفاظ الخطاب فی القسمین السابقین ، فإنه من جهة التقیید بذلک التقدیر أو الإطلاق بالإضافة إلیه ، و إلّا فذات الخطاب بالحجّ أو الصّلاة مثلاً لا یقتضی انحفاظه فی تقدیر الاستطاعة بنفسه .
قال :
و یترتب علی الفرق من هذه الجهة أمران :
الأول : إن نسبة التقدیر المحفوظ فیه الخطاب بالإضافة إلیه فی القسمین الأوّلین ، نسبة العلّة إلی معلولها . أما فی موارد التقیید فهو واضح ، لما ذکرناه من أن مرجع کلّ تقدیر کان الخطاب مشروطاً به إلی کونه مأخوذاً فی موضوعه ، و قد عرفت أنّ رتبة الموضوع من حکمه نظیر رتبة العلّة من معلولها . و أمّا فی موارد الإطلاق ، فلما ذکرناه من اتّحاد مرتبة الإطلاق و التقیید ، إذ الإطلاق عبارة عن عدم التقیید فی موردٍ قابل له ، فإذا کانت مرتبة التقیید سابقة علی مرتبة الحکم المقیّد به ، کانت مرتبة الإطلاق أیضاً کذلک . و أمّا فی هذا القسم ، فنسبة التقدیر المحفوظ فیه الخطاب بالإضافة إلیه نسبة المعلول إلی العلّة ، و ذلک : لما مرّ من أن الخطاب
ص:213
له نحو علیّة بالإضافة إلی الامتثال ، فإذا کانت نسبة الحکم إلی الامتثال نسبة العلّة إلی معلولها ، کان الحال ذلک بالإضافة إلی العصیان أیضاً ، لأن مرتبة العصیان هی بعینها مرتبة الامتثال .
الثانی : إن نسبة التقدیر المحفوظ فیه الخطاب فی القسمین الأوّلین بما أنها نسبة الموضوع إلی حکمه ، فلا محالة لا یکون الخطاب متعرّضاً لحاله أصلاً وضعاً و رفعاً ، مثلاً : خطاب الحج لا یکون متعرّضاً لحال الاستطاعة ، بأن یکون مقتضیاً لوجودها أو عدمها ، و إنما هو یتعرّض لحال الحجّ باقتضاء وجوده علی تقدیر وجود الاستطاعة بأسبابها المقتضیة لها ، فلا نظر له إلی إیجادها و عدم إیجادها ، و هذا بخلاف التقدیر المحفوظ فیه الخطاب فی هذا القسم ، فإنه بنفسه متعرّض لحال ذلک التقدیر وضعاً و رفعاً ، إذ المفروض أنه هو المقتضی لوضع أحد التقدیرین و رفع الآخر .
فتحصل : إن انحفاظ الخطاب فی هذا القسم و فی القسمین الأوّلین من الجهتین المذکورتین علی طرفی النقیض .
نتیجة المقدمة
و تکون نتیجة هذه المقدمة - التی هی أهمّ المقدّمات کما قال - : أنّ انحفاظ خطاب الأهم فی ظرف العصیان ، إنما هو من جهة اقتضائه لرفع هذا التقدیر و هدمه ، من دون أن یکون له نظر إلی شیء آخر علی هذا التقدیر ، بخلاف خطاب المهم ، فإنه لا نظر له إلی وضع هذا التقدیر و رفعه ، لأنه شرطه و موضوعه ، و قد عرفت أنه یستحیل أن یقتضی الحکمُ وجودَ موضوعه أو عدمه ، و إنما هو یقتضی وجود متعلّقه علی تقدیر عصیان خطاب الأهمّ ، فلا الخطاب بالمهم یعقل أن یترقّی و یصعد إلی مرتبة الأهم و یکون فیه اقتضاء لموضوعه ، و لا الخطاب بالأهمّ
ص:214
یعقل أن یتنزل و یقتضی شیئاً آخر غیر رفع موضوع خطاب المهم ، فکلا الخطابین و إن کانا محفوظین فی ظرف العصیان و متّحدین زماناً إلّا أنهما فی مرتبتین طولیّتین .
توضیحه :
إن الأمر بالأهمّ مطلقٌ بالنسبة إلی الأمر بالمهمّ ، لکن الأمر بالمهمّ مقیّد بعصیان الأمر بالأهم ، فلیس للأمر بالأهمّ إلّا الاقتضاء الذاتی لمتعلّقه أعنی الإزالة ، لأنّ کلّ أمرٍ إنّما یدعو إلی متعلّقه ، فهو یقتضی الطاعة بفعل الإزالة و هدم عصیان الأمر بها ، و لا یخفی أنّ الاقتضاء غیر التقیید ، فهو یقتضی الفعل و الطاعة لا أنّه مقیّد بالفعل و الطاعة ، لأنّ تقیید الخطاب بالفعل أو المعصیة محال ، لکونهما متفرّعین علی الخطاب .
أمّا الأمر بالمهم ، فهو مقیّد بعصیان الأمر بالأهم ، فکان عصیانه موضوع الأمر بالمهم ، و قد تقرّر أن الحکم لا یتکفّل موضوعه ، بل یترتّب علیه عند تحقّقه ، فلا اقتضاء للأمر بالمهم لتحقق موضوعه و هو عصیان الأمر بالأهم ، أمّا الأمر بالأهمّ فکان له اقتضاء الطاعة و عدم العصیان ... و بعبارةٍ أُخری :
إن الأمر بالمهم یدعو إلی متعلّقه - و هو الصّلاة - عند تحقق شرطه و هو عصیان الأهم أی الإزالة ، و إذا کان مشروطاً بذلک فهو فی مرتبةٍ متأخرةٍ عن الشرط ، لکنّ الأمر بالأهمّ فی مرتبة متقدّمة و یقتضی عدم العصیان ، ... .
فکان الحاصل : وجود الاختلاف الرتبی بین الأمرین و أنّ الأمر بالأهمّ متقدّم ، و وجود الاختلاف بینهما من حیث المقتضی ، إذ الأمر بالأهم له اقتضاء بالنسبة إلی العصیان و یرید هدمه ، و الأمر بالمهم لا اقتضاء له بالنسبة إلیه ، و إنما هو شرط له و یتحقق - الأمر بالمهم - عند تحقّقه ... .
ص:215
و بعد هذا ... أین یکون التمانع ؟
تلخّص :
إن المحقق الخراسانی یری بأنّ محذور اجتماع الضدّین لا یرتفع بکون أحد الخطابین مطلقاً و الآخر مقیّداً ، فمع التنزّل عن کون عصیان الأمر بالأهم شرطاً للأمر بالمهم بنحو الشرط المتأخّر ، اللّازم منه تحقق التمانع من الطرفین ، یکون الطّرد من طرف الأمر بالأهم کافیاً للزوم المحذور ... .
فأجاب المحقق النائینی : بجعل الشرط شرطاً مقارناً لا متأخّراً ، و ذکر أنّ الأمر بالأهم یدعو إلی امتثال متعلّقه مطلقاً ، أی سواء کان فی قباله أمر بالمهم أو لا ، لکن الأمر بالمهم جاء مقارناً لعصیان الأمر بالأهم و مشروطاً به ، و لا تعرّض له لهذا الشرط لا وضعاً و لا رفعاً ، فالأمر بالمهم غیر طارد للأمر بالأهم ، کما أن الأمر بالأهم لا تعرّض له للمهمّ أصلاً ، و إنما یدعو إلی متعلّقه کما تقدّم .
و الحاصل : إنّ الأمر بالمهمّ لا یتکفّل شرطه - و هو عصیان الأمر بالأهمّ - فلا اقتضاء له بالنسبة إلیه ، و الأمر بالأهم لا یدعو إلّا إلی متعلّقه ، فلا اقتضاء له بالنسبة إلی متعلّق الأمر بالمهم ، و لا نظر له إلیه أبداً ، نعم ، لو کان مفاده أنک إن عصیت الأمر بالأهمّ فلا تأت بمقتضی الأمر بالمهم ، لزم طلب الضدّین ... و لذا قال المیرزا : لا الأمر بالمهم یترقی إلی الأمر بالأهم ، و لا الأمر بالأهم یتنزل إلی الأمر بالمهم .
و بعبارة أُخری : التمانع لیس فی مرتبة الملاک و الغرض من الخطابین ، و لیس فی مرتبة الإرادة و الشوق إلیهما - فإن الإرادة تابعة للملاک و الغرض - و لیس فی مرتبة الإنشاء ، لأنه - سواء کان الاعتبار و الابراز أو إیجاد الطلب - لا محذور فی الإنشاءین ، و تبقی مرحلة اقتضاء الخطابین ، و وجود التمانع فی هذه المرحلة لیس
ص:216
بین نفس الاقتضاءین ، بل هو - إن کان - فی المقتضَیَین ، فإن قال « صلّ » و قال « أزل النجاسة عن المسجد » و طلب تحقّقهما فی آن واحد بلا اشتراطٍ ، لزم محذور الجمع بین الضدّین ، و التکلیف بما لا یطاق ، أمّا لو قال : « أزل النجاسة » ثم قال :
« صلّ إن عصیت الإزالة » کان المقتضی للأمر الأوّل إطاعته و عدم معصیته ، و المقتضی للثانی : وجوب الصّلاة علی تقدیر عصیان الأوّل ، و لا تمانع بین هذین المقتضَیَین ، لأن الأمر بالإزالة إنما ینهی عن عصیانه و لا تعرّض له للصّلاة ، و الأمر بالصّلاة مفاده : وجوب إطاعته علی تقدیر عصیان الأمر بالإزالة ... .
إذن : لا تمانع بینهما فی مرحلةٍ من المراحل .
و ببیان آخر : إن المفروض أن القدرة واحدة ، و القدرة الواحدة لا تکفی لامتثال الخطابین معاً إن کانا مطلقین ، أمّا لو کان أحدهما مشروطاً ، فلا تمانع بین المتعلّقین فی جلب القدرة ، لأنّ الأمر بالأهم یطالب بصرف القدرة فیه ، لکنّه ساکت عمّا لو عصی ، و الأمر بالمهم یطالب بصرف القدرة فیه فی حال عصیان الأمر بالأهم ... فلا مشکلة .
و الشیخ الأعظم لمّا جعل المشکلة فی القدرة ، و أنه لا توجد قدرتان فی المتزاحمین بناءً علی السببیّة ، فمع تقیید کلٍّ منهما بعدم صرفها فی الآخر یتم التخییر . فأشکل علیه المیرزا بأنه : مع عدم صرف القدرة فی الأهم لا بدّ من صرفها فی المهم ، و إلّا یلزم تفویت مصلحة ملزمة مع القدرة علی استیفائها ، و هذا هو الترتب .
إشکال المحقق الأصفهانی
و قد أورد المحقق الأصفهانی (1) علی المقدمة الرابعة بأُمور ، نتعرّض لما
ص:217
یتعلّق منها بالموضوع ، و هو اشکالان :
الإشکال الأول و هو ذو جهتین :
إحداهما : إن المیرزا جعل محذور الترتب لزوم تحصیل الحاصل ، و لزوم الجمع بین النقیضین فی مورد تقیید المطلوب ، و الحال أن البحث فی الترتب هو فی تقیید الطلب لا المطلوب .
قال الأُستاذ :
هذا الإشکال وارد علی المیرزا بالنظر إلی کلامه فی الدورة الأولی کما فی ( فوائد الأُصول ) تقریر المحقق الکاظمی (1) . أمّا فی الثانیة - کما فی ( أجود التقریرات ) - فقد طرح البحث فی تقیید الطلب .
الثانیة : إن المحذور لیس الأمرین المذکورین ، بل هو استلزام الترتّب علیّة الشیء لنفسه ، و تقیید العلّة بعدم معلولها ، فهذان هما المحذوران ، لا ما ذکرهما المیرزا . و توضیحه :
إن المیرزا یقول : بأنّ الطلب إنْ تقیّد بوجود متعلّقه لزم تحصیل الحاصل ، و إن تقیّد بعدمه و ترکه ، کان الطلب مع التقیید بترک المتعلّق جمعاً بین النقیضین .
فقال الأصفهانی : بأنّ القید وجود ناشئ من الطلب نفسه ، فالمحذور هو کون الشیء علّةً لنفسه ، لأنّ کلّ قیدٍ و شرط فهو علّة للمقیّد و المشروط ، فلو کان وجود الصّلاة شرطاً لوجوبها - و الوجوب علّة وجودها و تحققها فی الخارج - کان وجودها معلولاً ، من جهة أن العلّة وجوبها ، و علّةً ، لفرض کونها شرطاً لوجوبها .
إذن ، قد أصبح الشیء علّةً لنفسه ، و هذا محذور التقیید ، لا تحصیل الحاصل . هذا من جهة أخذ الوجود .
ص:218
و لو کان ترک الصّلاة شرطاً للوجوب - و الوجوب علّة لوجودها - کان عدم الصّلاة عدم المعلول ، لکنّ هذا العدم قد فرض جعله شرطاً للأمر و الوجوب الذی هو علّة لوجود الصّلاة ، فاللّازم أن یکون عدم المعلول علّة و شرطاً لوجود علّة هذا المعلول . ثم أمر المحقق الأصفهانی بالتدبّر فإنه حقیق به .
قال الأُستاذ
لم یکن المیرزا فی مقام استقصاء جمیع المحاذیر ، هذا أوّلاً . و ثانیاً : إن ما ذکره - من عدم لزوم تحصیل الحاصل هنا ، بل المحذور علیّة الشیء لنفسه ، لأنّ الوجود المأخوذ شرطاً أو قیداً وجود معلول لنفس هذا الوجوب لا وجوب آخر ، لیلزم محذور تحصیل الحاصل - فی غیر محلّه ، لأن المیرزا لم یقل بأنّ قید الوجوب ناشئ من نفس هذا الوجوب ، بل قال : بأنّ تقیید الوجوب و اشتراطه بوجود المتعلّق تحصیل للحاصل ... فلا وجه لحصر الإشکال بما ذکر المحقق الأصفهانی .
و علی الجملة ، فإن مقصود المیرزا هو أن تقیید وجوب الأهم بفعله محال ، و إذا استحال التقیید استحال الإطلاق ، لکون النسبة بینهما عنده نسبة العدم و الملکة . و المحقق الأصفهانی یری النسبة بینهما نسبة السلب و الإیجاب بوجهٍ و العدم و الملکة بوجه .
و تلخّص عدم ورود هذا الإشکال .
الإشکال الثانی و قد تبعه المحقق الخوئی :
إن محذور لزوم تحصیل الحاصل أو طلب النقیضین موجود فی طرف التقیید بالوجود أو العدم ، أما فی طرف الإطلاق فلا ... لأنّ التقیید لحاظ الخصوصیّة و أخذها ، و الإطلاق عبارة عن لحاظ الخصوصیّة و عدم أخذها ، نعم ،
ص:219
لو کان أخذ الخصوصیّات و جمعها کان اللازم أحد المحذورین المذکورین ...
وعلیه ، فالإطلاق ممکن ، بل هو واجب ، لکون النسبة بینه و بین التقیید نسبة السلب و الإیجاب .
وعلیه ، فإن اقتضاء الأمر بالأهم لفعل الأهم یکون بإطلاقه عند المحقق الأصفهانی ، لا باقتضاء ذاته کما هو عند المیرزا ، و لا یخفی الفرق ، إذ علی الأوّل یکون الاقتضاء مجعولاً للشّارع ، و علی الثانی فهو غیر مستند إلی الشارع بل هو اقتضاء العلیّة و المعلولیّة .
قال الأُستاذ
إن الفعل و الترک إن کانا من الانقسامات المتفرّعة علی الخطاب ، أمکن التقیید بهما أو لحاظهما و جعل الخطاب لا بشرط بالنسبة إلیهما ، و هذا معنی الإطلاق ، و إن لم یکونا من الانقسامات المتفرّعة علیه ، فلا یمکن التقیید بأحدهما ، فالإطلاق ضروری علی مبنی المحقق الأصفهانی ، لکون النسبة هی السلب و الإیجاب .
و لمّا کان حقیقة الإطلاق هو عدم الأخذ للخصوصیّة ، و جعل نفس الذات مرکباً للحکم ، فلا محذور فی الإطلاق هنا ، وفاقاً للمحقق الأصفهانی و خلافاً للمیرزا ... .
و ینبغی الالتفات إلی أن المیرزا قد ذکر أن الأمر بالأهم موجود فی حال العصیان إلّا أنه بلا اقتضاءٍ و داعویّة ، و المحقق الأصفهانی لم یتطرّق إلی هذه النکتة و کأنه موافق علیها .
( فی تشخیص محلّ الکلام فی بحث الترتّب )
إن القول بالترتب لا یترتب علیه محذور طلب الجمع بین الضدّین - کما
ص:220
توهّم - فإنه إنما یترتب علی إطلاق الخطابین دون فعلیّتهما . و بیان ذلک :
إن الشرط الذی یترتّب علیه الخطاب ، إمّا أن لا یکون قابلاً للتصرّف الشرعی ، لخروجه عن اختیار المکلّف بالکلیّة ، کالزّوال بالنسبة إلی الصّلاة ، و إمّا أن یکون قابلاً لذلک ، کالاستطاعة بالنسبة إلی الحجّ ، فإن للشارع أن یتصرّف فیه بأن یوجب - مثلاً - أداء الدین ، فیرتفع الاستطاعة بحکم الشارع و یسقط وجوب الحج .
ثم إن الشرط یکون تارةً : شرطاً للحکم بحدوثه و أُخری : ببقائه و ثالثةً :
بوجوده فی برهةٍ من الزمان . مثلاً : فی باب الحضر و السفر قولان ، فقیل : الشرط للقصر هو السّفر ، و یکفی حدوثه فی أوّل الوقت ، فمن کان مسافراً فی أول وقت الصّلاة وجب علیه القصر ، و إن کان حاضراً فی بلده فی آخره . و قیل : لا یکفی الحدوث بل الشرط کونه مسافراً حتی آخر الوقت .
ثم إنّ الموارد تقبل التقسیم إلی قسمین بلحاظ حال المکلّف و اختیاره و ینقلب الحکم بتبع ذلک ، کما لو کان حاضراً فسافر أو العکس ، فإنّ الحکم الشّرعی ینقلب قصراً أو تماماً ، أمّا فی مثل الاستطاعة فلا خیار للمکلّف ، فإنه إذا حصل استقرّ الحج شاء أو أبی .
و الخطاب الشرعی أیضاً ینقسم تارةً : إلی الخطاب الرافع للموضوع بنفسه ، فلا دخل لإطاعة الخطاب ، و أُخری : یکون الرافع له امتثال الخطاب و إطاعته ، کما فی مسألة أرباح المکاسب ، فإن الربح موضوع لوجوب الخمس ، فإن أوجب الشارع علی المکلّف أداء دیون تلک السنة من الأموال الحاصلة فیها - لا السنین الماضیة - فإنّ نفس هذا الخطاب یرفع موضوع الخمس .
هذا ، و المهم فی موارد الترتّب أن یکون رفع الموضوع بامتثال الخطاب ،
ص:221
لا أن یکون أصل وجود الخطاب رافعاً - کما تقدّم - فإن التزاحم ینتفی حینئذٍ و لا یبقی موضوع للترتب ، لأنه فرع التزاحم بین الخطابین ، فلا بدّ من وجوده حتی نری هل یرتفع باشتراط أحدهما بعصیان الآخر أو لا ؟
ثم إن هنا قاعدةً و هی : إنه لو حصل خطاب فی موضوع خطابٍ آخر ، فإمّا أن یمکن اجتماع متعلّقی الخطابین ، فلا بحث ، کما لو جاء فی موضوع وجوب الصّلاة ، - و هو أوّل الفجر - وجوب الصّوم أیضاً ، فیکون أوّل الفجر موضوعاً لکلیهما و لا تمانع بینهما ، و إمّا لا یمکن و یقع التمانع ، فعلی الحاکم لحاظ الملاکین و تقدیم الأهم و إلّا فالتخییر .
فإن کان لکلٍّ من المتعلّقین ملاک تام و وقع الإشکال فی مرحلة الخطاب ، من حیث القدرة و عدمها عند المکلّف علی الامتثال ، کان أحد الحکمین رافعاً لموضوع الآخر بامتثاله ، لفرض عدم القدرة علی امتثالهما معاً ، و بقطع النظر عن الامتثال یکون الموضوع باقیاً ، إلّا أن القدرة الواحدة لا تفی لامتثال الحکمین . فإن لزم من الجمع بینهما طلب الجمع بین الضدین ، فلا مناص من الأخذ بالأهم و ینعدم الخطاب بالمهم ، أما إن کانا متساویین و لا أهم فی البین ، فالخطابان کلاهما ینعدمان و یستکشف خطاب واحد تخییری ، و إن لم یلزم منهما طلب الجمع بین الضدّین - و المفروض وجود الملاک التام لکلّ منهما - وجب وجودهما ... و هذا معنی قولهم : إن إمکان الترتّب مساوق لوجوبه .
إنما الکلام - کلّ الکلام - فی إثبات عدم لزوم الجمع . و قد أقام المیرزا ثلاثة براهین علی ذلک .
و قد ذکر قبل الورود فی المطلب ما هو المنشأ للزوم الجمع بین الضدّین ، فقال : بأنّ المنشأ لهذا المحذور هو أحد أُمورٍ ثلاثة :
ص:222
1 - أن یقیّد کلّ من الخطابین بوجود الآخر ، بتقیید المطلوبین أحدهما بالآخر ، کأن یقول : تجب علیک القراءة المقیّدة بالصّوم ، و یجب علیک الصّوم المقیّد بالقراءة ، أو بتقیید طلب کلٍّ بطلب الآخر ، فوجوب القراءة فی فرض وجود الصّوم و وجوب الصّوم فی فرض وجود القراءة .
فمن الواضح أن تقیید کلٍّ منهما بالآخر یستلزم الجمع بینهما .
2 - أن یقیّد أحدهما بالآخر دون العکس ، کأن یقول : صم . ثم یقول : صلّ إن کنت صائماً . فیلزم الجمع .
3 - أن لا یقیّد شیئاً منهما بل یجعلهما مطلقین ، فیقول : صم ، صلّ ، فکلّ منهما واجب سواء کان الآخر موجوداً أو لا ، فیلزم الجمع فی فرض وجودهما .
و من الواضح استحالة لزوم الجمع لو قیّد أحدهما بعدم الآخر ، کما لو قال :
صم إن لم تقرأ .
و حینئذٍ ، فإن الإشکال علی الترتّب یندفع بإقامة البرهان علی عدم لزوم الجمع ، لأن لزومه یکون إمّا بإیجاب الجمع بعنوانه کأن یقول : اجمع بین کذا و کذا ، و إمّا بإیجاب واقع الجمع ، و ذلک یکون بالأمر بکلیهما علی نحو الإطلاق ، فیلزم الجمع ، أمّا إذا لم یکن هذا و لا ذاک فلا وجه للاستحالة ، و البرهان هو :
أولاً : إنّ المفروض فی الترتب تقیید أحد الخطابین بعصیان الآخر ، فیکون وقوع أحدهما علی صفة المطلوبیّة بنحو القضیّة المنفصلة الحقیقیّة ، لأن الأمر بالأهم إمّا أن یمتثل فی الخارج أو لا ؟ فإن امتثل استحال وقوع المهم علی صفة المطلوبیّة ، و إن لم یمتثل فبما أن متعلّقه لم یوجد فی الخارج ، یستحیل کونه مصداقاً للمطلوب و معنوناً بعنوانه .
و بعبارة أُخری : إن حال الأهم لا یخلو عن أن یوجد خارجاً أو لا یوجد ، فإن
ص:223
وجد ، کان هو الواقع علی صفة المطلوبیّة و لا خطاب بالمهم لانتفاء شرطه أعنی عصیان الأهم ، و إن لم یوجد الأهم و وجد المهم ، کان هو الواقع علی صفة المطلوبیّة ، و إن لم یوجد المهمّ کذلک لم یقع شیء منهما علی صفة المطلوبیة من باب السّالبة بانتفاء الموضوع ... و علی کلّ حال ، یستحیل وقوعهما معاً فی الخارج علی صفة المطلوبیّة ، فیستکشف من ذلک عدم استلزام فعلیّة طلبهما لطلب الجمع .
و توضیحه : إن خطاب المولی ب« صلّ » مشتمل علی نسبتین : نسبة طلبیّة بین المولی و الصّلاة ، و نسبة تلبّسیة هی بین المکلّف و الصّلاة ، و لا تنافی بین هاتین النسبتین ، فکأنه یقول للمکلّف : کن فاعلاً للإزالة أو تجب علیک الصّلاة ، فالمولی آمر بالمهم - و هو الصّلاة - و المکلّف فاعل للأهم - و هو الإزالة - فأین الاجتماع بین النسبتین ؟ بل الاجتماع ضروری الامتناع ! لأنّ واقع الجمع هو فی مطلوبیّة الأهم و المهم - المتضادّین - فی زمانٍ واحد ، لکنّ المفروض فی الترتّب عدم اجتماع فاعلیّة الأهم مع وجوب المهم ، لأنّه لمّا یکون فاعلاً للأهم لا یکون مخاطباً بالمهم ، و عند ما یکون مخاطباً بالمهم و یجب علیه ، لا یکون للأهم فاعلیّة ، فهما لیسا مطلوبین فی وقت واحد لیلزم طلب الجمع بین الضدّین .
و ثانیاً : إن القید یکون تارةً : قیداً للمطلوب کالطهارة بالنسبة إلی الصّلاة و یکون تحصیله واجباً . و أُخری : قیداً للطلب و تحصیله غیر واجب کالاستطاعة فإنه قید لطلب الحجّ لا لنفس الحج .
و قید الطلب لا یکون قیداً للمطلوب .
و هنا : ترک الأهم قید لطلب المهم - و لیس قیداً للمهم نفسه - إذ کان عصیان الأمر بالأهم شرطاً لوجوب المهم و هو الصّلاة ، فهی لیست بواجبة إلّا عند ترک
ص:224
الإزالة ، فالنتیجة ضد إیجاب الجمع ... لأن إیجاب الجمع عبارة عن أن یکون المتضادّان متّصفین بالمطلوبیّة ، و مع الالتفات إلی ما تقدّم یستحیل تحقق المطلوبیّة لهما معاً ، لأن المفروض توقّف اتّصاف المهم بالمطلوبیّة علی ترک الأهم لا علی وجوده ، فشرط مطلوبیّة الصّلاة عدم الإزالة لا وجودها ... و إلّا لزم خلف الشرط ، کما أنه لا یتصف المهم بالمطلوبیّة إلّا مع عدم الأهم ، فلو اتّصف بها مع وجوده ، لزم وجود الأهم و عدمه و هو اجتماع للنقیضین ... فإیجاب الجمع یستلزم الاستحالة من وجهین أحدهما : لزوم الخلف ، و الآخر : لزوم اجتماع النقیضین . و کلّما استلزم المحال فهو محال .
قال الأُستاذ :
فی کلامه نقص لا بدّ من تتمیمه ، إذ للمنکر للترتب أن یقول : حاصل البرهان عدم مطلوبیّة المهم مع وجود الأهم ، لکنّ الأهمّ مع وجود المهم مطلوبٌ ، و ما ذکرتموه لا یثبت استحالة مطلوبیّته . و بعبارة أُخری : إن إطلاق الأهم یقتضی مطلوبیّته مع وجود المهم ، فیلزم اجتماع الضدّین و یعود الإشکال ، و إن کان مندفعاً بالنظر إلی تقیّد المهم بعدم الأهم .
و تتمیم البرهان یکون بالاستفادة ممّا ذکره المیرزا فی المقدمات السابقة ، من أن مطلوبیّة المهم إنّما هی فی حال ترک الأهم ، إذ أصبح ترکه موضوعاً لمطلوبیّة المهم ، و إذا تحقق ترک الأهم تحقق مطلوبیّة المهم فی ظرف عدم الأهم .
هذا تمام الکلام فی مطالب المیرزا فی هذا المقام .
و الشیخ عبد الکریم الحائری ذکر فی ( الدرر ) (1) مستفیداً من المحقق السیّد
ص:225
الفشارکی أربع مقدّماتٍ ، و قد شارک المیرزا فی بعض الخصوصیّات ، کقولهما بکون الأمر بالمهم مقیّداً - خلافاً للمحقّق العراقی القائل بأنّه مطلق ، کما سیأتی - و نحن نتعرّض للمقدّمتین الأولی و الثانیة ، و حاصل کلامه فیهما :
إن الإرادة المتعلّقة بالعناوین تنقسم إلی قسمین ، فقد تکون مطلقةً لم یؤخذ فیها أیّ تقدیر ، بل الشیء یجب إیجاده بجمیع مقدّماته ، کأن یرید إکرام زید بلا قیدٍ ، فهذه إرادة مطلقة تقتضی تحقّق الموضوع و هو مجیء زید لیترتب علیه إکرامه . و قد تکون الإرادة علی تقدیرٍ ، وجودی أو عدمی ، فتکون منوطةً بذلک التقدیر ، فلو لم یتحقّق التقدیر فلا إرادة بالنسبة إلیه ... و تنقسم هذه الإرادة إلی ثلاثة أقسام بحسب حصول التقدیر الذی أُنیطت به :
فتارةً : تتعلّق بالشیء بعد حصول التقدیر ، کتعلّقها بإکرام زید علی تقدیر مجیئه . و ثانیةً : تتعلّق به عند حصوله ، کتعلّقها بالصوم عند الفجر . و ثالثةً : تتعلّق به قبله ، کتعلّقها بالخروج إلی استقبال زید الذی سیصل إلی البلد بعد ساعات مثلاً .
ففی هذه الأقسام تکون الإرادة منوطة بالتقدیر ، فإذا علم به کان لها الفاعلیّة ، کما لو علم بوقت قدوم المسافر خرج إلی استقباله ، و لو علم بالفجر صام ، و لو علم بالمجیء أکرم ... فکان للعلم بالتقدیر دخل فی فاعلیة الإرادة و تأثیرها .
و هذه هی المقدمة الأولی ... و نتیجتها فی الترتب هو :
إنّ الإرادة المتعلّقة بالأهم مطلقة و لیس فیها تقدیر ، و المتعلّقة بالمهم منوطة غیر منوطة بتقدیر ترک الأهم ، و موجودة قبل حصول التقدیر المذکور ، غیر أنّ فاعلیّتها متوقّفة علی حصوله . و علی هذا ، فمورد الترتب فی طرف الأهم من قبیل الإرادة المطلقة ، و من طرف المهم من قبیل الإرادة المنوطة ، فکما لا فاعلیّة لإرادة الصّوم قبل طلوع الفجر ، کذلک لا فاعلیّة لإرادة الصّلاة قبل ترک إزالة النجاسة من
ص:226
المسجد ، بل عند تحقق ترکها تتحقّق الفاعلیّة بالنسبة إلی الأمر بالمهم .
قال الأُستاذ :
و هذا بیانٌ آخر لمطلب المیرزا ، غیر أنه قال : بأنّ الأمر بالمهم لا تحقّق له ما لم یتحقق الشرط - و هو ترک الأهم - فلا فعلیّة له و لا فاعلیة ، و الحائری یقول بوجود الفعلیّة له ، و إنما الفاعلیّة منوطة بترک الأهم .
و قد خالفا صاحب الکفایة ، إذ جعل الترک شرطاً متأخّراً ، و قد جعلاه مقارناً ، غیر أنّه عند المیرزا هو شرط مقارن للفعلیّة فما لم یتحقق فلا فعلیّة ، و عند الحائری هو شرط مقارن للفاعلیّة فما لم یتحقق فلا فاعلیّة ، أمّا الفعلیّة فهی محققة قبل الشرط للأمر بالمهم کما هی محقّقه للأمر بالأهم .
ثم ذکر الشیخ الحائری فی المقدّمة الثانیة : إنه لمّا کانت الإرادة فی المهم منوطةً بالتقدیر ، فإنه یستحیل تحقق الفاعلیّة لها قبل تحقّقه ، فلیس لها أی تأثیر فی تحرّک العبد إلا بعد تحقق التقدیر ، إذ لو فرض لها فاعلیّة قبله للزم الخلف و هو محال .
قال :
قد توافق الشیخ الحائری و المحقق العراقی علی أن حقیقة الواجب المشروط هی الإرادة المنوطة ، و قد أخذا هذا من فکر السید المحقّق الفشارکی ، و السرّ فی الالتزام بذلک فی الواجب المشروط هو : إنه إذا قال : إذا زالت الشمس فصلّ ، فهل قبل الزوال یوجد إیجابٌ و وجوبٌ أو کلاهما یحصلان عند الزوال ، أو یحصل الإیجاب بهذا الإنشاء و الوجوب عند الزوال ؟
فإن قلنا : بحصولهما عند الزوال ، فالإنشاء قبله لغو . و إن قلنا : بحصول الإیجاب عند الإنشاء و الوجوب عند الزوال ، لزم التفکیک بین الإیجاب
ص:227
و الوجوب .
فتعیّن القول بحصولهما عند الانشاء ... و هذا هو الواجب المشروط . لکن یرد علیه :
أوّلاً : إن هنا إرادة قد أُنیطت بقیدٍ و تقدیرٍ ، و معنی الإناطة هو الابتناء و الاشتراط ، فإن لم یکن للقید دخلٌ فی الإرادة فهی مطلقة و لا إناطة ، و إن جعل دخل القید فی الفاعلیة فقط ، لزم أن تکون الإرادة مطلقةً کذلک . فلیس الواجب مشروطاً بل هو مطلق ... نعم ، للمحقق الحائری أن یقسّم الواجب المطلق إلی قسمین ، أحدهما : ما کانت للإرادة فیه فعلیّة بلا فاعلیّة ، و الآخر : ما کانت للإرادة فیه فعلیّة و فاعلیّة .
و ثانیاً : إنّ شروط الوجوب تختلف عن شروط الواجب ، لأنّ شروط الوجوب لها دخل فی الغرض من الحکم ، فما لم یتحقق الشرط فلا غرض ، کالزوال بالنسبة إلی الصّلاة ، و شروط الواجب لها دخل فی فعلیّة الغرض ، کالطهارة بالنسبة إلی الصّلاة ، إذ الغرض من الصّلاة موجود سواء وجدت الطهارة أو لا ، لکنّ فعلیّة الغرض موقوفة علیها .
و علی ما ذکره من تحقّق الإرادة و فعلیتها فی الواجبات المشروطة قبل حصول الشرط ، یلزم تخلّف الإرادة عن الغرض ، فکیف تتحقّق الإرادة و الغرض غیر حاصل لکونه مشروطاً بشرط غیر حاصل ... و بعبارة أُخری : کیف تتحقّق الإرادة مع العلم بعدم تحقق الغرض و الحال أنّ الإرادة تابعة للغرض ؟
إیراد المحقق الأصفهانی و جوابه :
و أمّا إیراد المحقق الأصفهانی : بأن تخلّف الإرادة عن المراد محال ، سواء کانت الإرادة تکوینیّة أو تشریعیّة ، لأنّ الإرادة التکوینیّة هی الجزء الأخیر للعلّة
ص:228
التامّة ، و التشریعیّة هی الجزء الأخیر لإمکان البعث ، و لا یتخلّف إمکان البعث عن امکان الانبعاث .
فقد أجاب الأُستاذ عنه : بأنه یبتنی علی إنکار الواجب المعلّق و عدم تخلّف البعث التشریعی عن الانبعاث ، و قد تقدّم فی محلّه إثبات الواجب المعلّق و إمکان التخلّف فی التشریعیّات ... فمن الممکن أن یکون الوجوب حالیّاً و الواجب استقبالیّاً .
و قد جوّز المحقق العراقی (1) طلب الضدّین بنحو العرضیّة مضافاً إلی جواز ذلک بنحو الترتب ، خلافاً للمحققین الآخرین ، إذ خصّوا ذلک بالترتب فقط ، و نحن نذکر محصّل کلامه فی کلتا الجهتین کما فی ( نهایة الأفکار ) :
أمّا تصویره طلب الضدّین علی نحو العرضیّة ، فقد ذکر أنّ الأهم و المهم یُطلبان فی عرض واحدٍ - و بلا تقیید لا فی الطلب و لا فی المطلوب - إلّا أنّ إیجاب الأهمّ تام ، و إیجاب المهمّ ناقص .
و الأصل فی هذه النظریّة هو المحقق صاحب الحاشیة فی تعریف الواجب (2) التخییری ، فقد ذهب إلی أنّه أمر بالشیء مع النهی عن بعض أنحاء التروک ، فی قبال الواجب التعیینی فهو الأمر بالشیء مع اقتضائه للنهی عن جمیع أنحاء التروک ، و ذلک : لأن لکلّ وجوب تروکاً متعددةً بالنظر إلی مقدّماته و أضداده ، فالصّلاة تنتفی بانتفاء الطهارة التی هی من شروطها ، و بوجود المزاحم ، فیکون وجود الصّلاة موقوفاً علی وجود شرائطها و عدم جمیع الموانع لها ،
ص:229
و یتعدّد عدمها بعدد کلّ مقدمةٍ مقدمةٍ إذا عدمت ، و بعدد کلّ مزاحم مزاحم إذا وجد ... و علی هذا ، فالواجب المطلق ما انسدّ فیه جمیع الأعدام ، و مقتضی تعلّق الطلب به هو سدّ أبواب الأعدام کلّها . و کذلک الواجب التعیینی ، فهو یقتضی سدّ التروک ، لأنّ ترک العتق یتحقّق بترک الصوم و بفعل الصوم ، فإذا وجب العتق علی نحو التعیین ، کان وجوبه مقتضیاً لانتفاء ترکه مع فعل الصوم و انتفائه مع ترک الصوم . لکنه إذا وجب علی نحو التخییریة یسدّ باب ترکه مع ترک الصوم لا مع فعله ، إذ له أن یصوم و لا یعتق ... فهذا معنی أنّ الواجب التخییری هو الأمر بالشیء مع النهی عن بعض أنحاء ترکه .
و نتیجة هذا التحقیق فی حقیقة الوجوب التخییری هو أن متعلّق الطلب فیه هو الحصّة الملازمة لترک العدل ، فمتعلّق الطلب فی العتق مثلاً هو الحصة الملازمة لترک الصوم و الإطعام ، دون الحصّة الملازمة لفعلهما . و من هنا اتّخذ المحقق العراقی مصطلح الحصّة التوأمة .
و علی ضوء ما تقدم ، قال هنا :
إنّ الضدّین إمّا لا ثالث لهما کالحرکة و السکون ، و إمّا لهما ثالث کالصّلاة و الإزالة .
فإن کانا من قبیل الأول ، فالتخییر الشرعی مستحیل بل هو تخییر عقلی من باب لابدیّة أحد الأمرین ، إذ التخییر الشرعی إنما یکون حیث یمکن ترک کلا الطرفین و لا یکون أحدهما قهری الحصول ، فلیس الحرکة و السکون من موارده .
و إن کانا من قبیل الثانی ، فالمجموع مقدور علی ترکه و لیس شیء منه بقهریّ الحصول ، و حینئذٍ ، فالحکم هو التخییر شرعاً ، لأن المفروض إمکان استیفاء الملاک بکلٍّ من الطرفین ، فمع أن ملاک الصّوم یغایر ملاک العتق ، و بینهما
ص:230
تضاد ، لکن مجموع الملاکات یمکن استیفاؤه کما یمکن تفویته ، فلو لم یجعل الشارع خطاباً تخییریاً لزم انتفاء المجموع ، و جعل الخطاب التعیینی غیر ممکن ، لفرض التضادّ بین الملاکات ، فیجب وجود الخطاب التخییری ... و من هنا یقول هذا المحقق : إن المجعول فی الواجبات التخییریة متمّم الوجود و الوجوب ، لأنّ الوجوب فی کلّ فردٍ من التخییری ناقص - بخلاف الوجوب فی الواجب التعیینی - إذ ینسد باب العدم عن أحد الفردین حیث یترک الفرد الآخر ، أمّا مع فعله فلا یلزم سدّ باب العدم .
و المهم أن نفهم کیفیة الوجوب التخییری ، و أنه کیف یکون أحد الوجوبین فی الأهم و المهم ناقصاً ، و یکون کلاهما تامّاً فی المتساویین ؟
یقول : إن الضدّین إمّا متساویان فی الملاک و إمّا مختلفان ، و الواجبان إمّا مضیّقان و إمّا موسّعان ، و إمّا أحدهما مضیّق و الآخر موسّع .
فإن کانا مضیّقین و تساویا فی الملاک - و لا أهم و مهم - احتمل اشتراط الطلب فی کلّ منهما بترک الآخر ، و احتمل اشتراط المطلوب فی کلّ منهما بترک الآخر ، لکنّ کلیهما مستحیل ، و ینحصر الأمر بکون وجوبهما وجوباً ناقصاً .
و وجه الاستحالة هو : أنه لو کان الغریقان متساویین فی الملاک و لا یمکن انقاذهما معاً ، فإن اشتراط طلب انقاذ هذا بترک انقاذ ذاک محال ، لأنه إن ترک انقاذ کلیهما تحققت المطاردة بین الطلبین ، لحصول شرط وجوب کلٍّ من الطلبین بترک کلیهما ، و یصبح الطلبان فعلیین ، و الطلبان الفعلیّان مع وحدة القدرة محال .
و اشتراط طلب انقاذ کلٍّ منهما بمعصیة الأمر بإنقاذ الآخر محال کذلک ، للزوم تأخّر المتقدّم بمرتبتین ، لأن المفروض کون طلب انقاذ هذا مشروطاً بمعصیة طلب إنقاذ الآخر ، و المعصیة متأخّرة عن الطلب ، و المشروط متأخّر عن الشرط ،
ص:231
فکلّ طلبٍ متأخّر بمرتبتین و متقدّم بمرتبتین ، و هذا محال .
فتحصّل : استحالة اشتراط طلب أحد الضدّین المتساویین ملاکاً بترک الآخر أو بمعصیة الأمر المتعلّق بالآخر .
فلا یمکن أن یکون الطلب مشروطاً .
و أمّا المطلوب فکذلک ، لأن المطلوب - و هو الواجب - متأخّر عن الشرط ، فلو اشترط المطلوب الواجب - و هو إنقاذ هذا الغریق - بترک إنقاذ الآخر ، کان المطلوب متأخّراً عن الترک ، و الترک یتقدّم علی وجود الإنقاذ تقدّم الشرط علی المشروط ، لکن وجود إنقاذ هذا متّحد رتبةً مع ترک إنقاذ الآخر و کذا العکس ، لکون النقیضین فی مرتبةٍ واحدة .
فتکون النتیجة تأخّر وجود هذا الإنقاذ عن وجود انقاذ الآخر ، و قد عرفت تأخّر وجود الآخر عن وجود هذا کذلک ... فیستحیل اشتراط الواجب بترک الواجب الآخر .
و هکذا الحال لو اشتراط الواجب المطلوب بمعصیة الأمر المتعلّق بالمطلوب الآخر ، لما ذکرناه فی اشتراط الطلب بمعصیة طلب الآخر .
و إذا استحال اشتراط الطلب و اشتراط المطلوب ، فلا مناص من الالتزام - فی المضیّقین المتّحدی الملاک - بوجوبین ناقصین ، و المقصود هو : إن کلّاً من الإنقاذین واجب ، بحیث یطرد هذا الوجوب عدم نفسه إلّا من جهة وجود انقاذ الآخر ، فلو أنقذ الغریق الآخر لم یجب انقاذ هذا ، و کذا العکس .
قال : إنّ وجوب شیء علی تقدیر وجود شیء آخر ، - کما لو وجب إکرام زید علی تقدیر مجیئه - هو فی الحقیقة إلزام من جهةٍ و ترخیص من جهة أُخری ، إذ الإکرام یکون واجباً إن جاء ، و یکون مرخّصاً فیه فی فرض عدم مجیئه ، فاجتمع
ص:232
الإلزام مع الترخیص فی الترک ، و کذلک یمکن أن یجتمع الإلزام بفعل شیء مع الإلزام بترک نفس الشیء ، لأنّ کلّ شیء له أضداد و موانع عن وجوده ، فیصح الإلزام بفعل شیء علی تقدیر وجود ضد من أضداده ، و الإلزام بترک الشیء نفسه علی تقدیر وجود ضد آخر ، کأن یلزم بإتیان الصّلاة علی تقدیر النوم ، بمعنی أن النوم لا یرفع وجوب الصّلاة ، و أن یلزم بترک الصّلاة علی تقدیر ضدّ آخر و هو الإزالة ، بمعنی أنه مع الإتیان بالإزالة مأمور بترک الصّلاة .
فظهر إمکان الأمر بالضدّین المتساویین فی الملاک بالوجود و الوجوب الناقص .
و أما إنْ کانا غیر متساویین ، بل کان أحدهما أهم من الآخر فکذلک ... لما تقدّم من أن للشیء أنحاء من العدم بأنحاء الإضافات و الأضداد و المقدّمات ، فلو حصل التمانع بین طلب الإزالة و طلب الصّلاة ، و کانت الإزالة أهم ، تحقق للصّلاة عدم من ناحیة وجود الإزالة ، و عدم من ناحیة وجود غیر الإزالة کالأکل و النوم و غیرهما .
إلّا أنه لمّا کان المفروض کون طلب الصّلاة ناقصاً ، کان المقصود هو عدم مطلوبیّة الصلاة فی حال تحقق الإزالة ، لکنّها مطلوبة من ناحیة وجود غیر الإزالة من الأضداد ، فاجتمع فی طلب الصّلاة جهة الإلزام بفعلها و الإلزام بترکها . أمّا الإلزام بفعل الصّلاة فمن غیر ناحیة وجود الإزالة ، و أما الإلزام بترکها فمن ناحیة وجود الإزالة ... هذا بالنسبة إلی طلب الصّلاة .
و أمّا الإزالة - و هی الأهم - فإن طلبها تام و لیس بناقص ، فهو یریدها من جمیع النواحی ، أی یرید الأعدام کلّها ، عدم الصّلاة ، عدم الأکل ، عدم النوم ... فقد توجّه الأمر بالإزالة بهذا الشکل ... .
ص:233
و بهذا البیان لا یلزم أیّ محذور من أن یجتمع الأمر بالضدّین - الإزالة و الصّلاة - و یکونا فی عرضٍ واحد ... لأن المحذور لا یکون إلّا فی مرحلة الاقتضاء أو فی مرحلة الامتثال و الطاعة ، و مع کون أحد الطلبین تامّاً و الآخر ناقصاً فلا یلزم أیّ محذور ، لأنّ مقتضی الأمر بالأهم إعدام المهم بلحاظ وجود الأهمّ لتمامیّة اقتضاء وجوده من هذه الناحیة ، بخلاف الأمر بالمهم فلیس له هذا الاقتضاء بالنسبة إلی الأهم ، و إنما یقتضی إعدام الأضداد الأُخری ... فلا مطاردة بین الطلبین ... فی مرحلة الاقتضاء . و کذلک فی مرحلة الامتثال ، لأنّه مع امتثال الأمر بالأهمّ لا یبقی الموضوع للأمر بالمهمّ حتی تصل النوبة إلی امتثاله ، لأنّ الأهمّ یقتضی سدّ باب عدمه من ناحیة المهم ، أمّا الأمر بالمهم فقد کان ناقصاً ، لفرض کونه محفوظاً بالنسبة إلی غیر الإزالة من الأضداد ، أمّا بالإضافة إلی الإزالة فلا ...
اللّهم إلّا أن تصل النوبة إلی إطاعته بالتمرّد و المعصیة للأمر بالأهمّ ، و هذا شیء آخر غیر المطاردة بین الأمرین .
فظهر : أن الأمر بالأهمّ لا یطرد إطاعة الأمر بالمهمّ ، بل إنه مع إطاعة الأمر بالأهم لا یبقی موضوع لطاعة الأمر بالمهم ، و إن الأمر بالمهم لا یطرد إطاعة الأمر بالأهم ، لأن الأهم إن لم تتحقّق إطاعته فذلک علی أثر العصیان لا علی أثر الأمر بالمهم ... .
فلا مطاردة بین الأمرین ، لا اقتضاءً و لا امتثالاً .
إشکال المحقق الأصفهانی
و أورد المحقق الأصفهانی (1) علی نظریة المحقق العراقی بما توضیحه :
إنه إن کان المراد من « التام » و« الناقص » أنّ إمکان الترتّب غیر موقوفٍ علی
ص:234
اشتراط وجوب المهم و ترک الأهم و عصیانه ، و أنه یمکن بنحو الواجب المعلّق ، فلا حاجة إلی هذا التقریب الغریب ، حیث صوّرتم الحصص للعدم و أنّ للشیء - الذی له وجود واحد - أعداماً عدیدة ، بل نقول : إنه من المعقول أن یکون الوجوب فعلیّاً و یکون الواجب مقیّداً بظرف معصیة الأهم ، کما هو الحال فی کلّ واجب معلّق ، حیث الوجوب مطلق و الواجب حصّة خاصة . هذا أولاً . و ثانیاً : إن کان المقصود أن المهمّ غیر مشروط بمعصیة الأهم ، و أنه یصوّر وجوب المهم بنحو الواجب المعلّق ، فیرد علیکم لزوم التفکیک بین فعلیّة الوجوب و فاعلیّته ، و هذا باطل ، إذ الطلب الفعلی یتقوّم بأن یجعل المولی ما یمکن أن یکون محرّکاً و باعثاً للعبد ، فهذا معنی إمکان الباعثیّة ، لأن العبد لو خلّی عن الموانع یکون للطلب إمکان الباعثیّة له ، فقولکم بوجود الأمر و الطلب و بفعلیّته لکن بلا فاعلیة ، یستلزم التفکیک بین البعث و الانبعاث ، و هذا غیر معقول .
و إن کان المراد من تصویر « التام » و« الناقص » رفع المطاردة و التمانع بین الأهم و المهم ، فهذا غیر متحقّق ، لأن المفروض إطلاق الأمر بالأهم ، فهو موجود فی حال وجود المهم و فی حال عدمه ، و حینئذٍ ، فالحصّة من عدم الأهم الملازمة مع وجود المهم مطرودة من قبل الأهم و لا یبقی الاقتضاء للمهم ، و أمّا الحصّة من عدم الأهم الملازمة لعدم المهم ، فیتحقّق فیها المطاردة . مثلاً : لو ترک الأهم مع عدم المهم لوجود بعض الأضداد الأُخری ، کان الأمر بالمهم مقتضیاً لطرد عدمه من ناحیة غیر وجود الأهم ، لأنه یدعو إلی نفسه من غیر ناحیة الأهم من سائر الأضداد ، لکن الأمر بالأهم موجود بإطلاقه ، فهو یقتضی عدم نفسه ، فالطّرد یحصل من طرف الأهم و المهم کلیهما ، إذ الأهم یقول بطرد عدم نفسه و المهم یقول مع وجود بعض الأضداد الأُخری بطرد عدم نفسه ، و المفروض أن القدرة
ص:235
واحدة و الوقت ضیّق .
دفاع الأُستاذ عن المحقق العراقی
و قد أجاب شیخنا الأُستاذ ، أمّا عن الإشکال الأوّل : فبأنّ المحقق العراقی لا یقصد إثبات المطلب عن طریق الواجب المعلّق ، بل یرید أن هنا طلبین بلا اشتراط من طرف المهم ، و أحدهما تام و الآخر ناقص ، فلا علاقة للبحث بالواجب المعلّق . و بعبارة أُخری : إنه لو أنکرنا الواجب المعلّق فما الإیراد علی نظریّة المحقق العراقی ؟
إنه یقول : بأن أحد الطلبین ناقص و الآخر تام ، أمّا فی الواجب المعلّق فالطلب تام و لیس بناقص ، و إنما المتعلّق له هو الحصّة ... فکم الفرق ؟
هذا أوّلاً . و ثانیاً : إن المحقق العراقی من القائلین بالواجب المعلّق ، فالإشکال علیه من هذا الحیث مبنائی .
و أمّا عن الإشکال الثانی : فبأن معنی « المطاردة » هو « التمانع » و قد بیّن المحقق العراقی عدم حصوله فی مرحلة الاقتضاء و فی مرحلة الامتثال ، فهو یقول باقتضاء الأهم إعدام المهم دون بقیّة أضداد المهم ، إذ لا نظر للأهم إلی الأکل و الشرب و النوم و أمثالها ، و إنما یدعو إلی نفسه و ترک المهم ، و المهم یقتضی الاتیان به من ناحیة بقیّة الأضداد لا من ناحیة وجود الأهم ، فلا تمانع بین الاقتضائین . و کذلک یقول فی مرحلة الإطاعة بمعنی : أن الأهم یدعو إلی نفسه و یرید الإطاعة له ، لکنّ المهمّ لا اقتضاء له للإطاعة مع وجود الأهم ، لأنه مع تأثیر الأهم فی الإطاعة لا یبقی موضوع للأمر بالمهم ، حتی یمکنه طرد الأهم ... و لو فرض سقوط الأمر بالأهمّ علی أثر التمرّد و العصیان له ، فلا فاعلیّة له لیکون طارداً للأمر بالمهم ، لفرض کون الأمر بالأهم منطرداً حینئذٍ - حسب تعبیره - فأین
ص:236
المطاردة ؟
اشکال الأُستاذ
هذا ، و أورد الاستاذ علی المحقق العراقی : بأنّ العمدة فی الفرق بین نظریّته و أنظار المحققین الآخرین هو عدم الاشتراط و التقیید بین الطلبین ، بل إنّ کلاً منهما بالنسبة إلی الآخر مطلق ، غیر أنّ أحد الطلبین تام و الآخر ناقص فالإشکال هو : إنّ الإطلاق و عدم التقیید فی الطلب یرجع إلی المولی ، کما أنّ أصل الطلب یرجع إلیه ، و کما یعتبر فی أصل الخطاب و الطلب أن لا یکون لغواً - لفرض کون المولی حکیماً لا یفعل اللغو - کذلک یعتبر فی الاطلاق وجود الأثر و عدم اللّغویة ، لکنّ وجود الأمر بالمهم مع امتثال الأمر بالأهم لغو ، فلا یمکن أن یکون مطلقاً ، إذ لا أثر لطلبه مع امتثال الأمر بالأهم ، فإمّا یکون الأمر بالمهم مهملاً ، لکن الإهمال أیضاً محال ، و إمّا أن یکون مشروطاً و مقیّداً بترک الأهم ، و هذا هو المعقول و المتعیّن ، فعاد الأمر إلی الترتّب و انتهی الاشتراط الذی هو مبنی المیرزا .
و قد فرغنا - حتی الآن - من طرح نظریّات المیرزا ، و الحائری تبعاً للفشارکی ، و العراقی ... و قد عرفت أن أمتن البیانات هو بیان المیرزا ، و بقی :
و قد ذکر تحت عنوان ( و التحقیق الحقیق بالتصدیق ) (1) مقدمتین :
إحداهما : إن ثبوت المقتضیین للضدّین جائز ، و إنما المحال وجود الضدّین ، بل یجب تحقق المقتضیین لهما ، فلو فرض عدم المقتضی لأحدهما لم تصل النوبة فی عدم الضدّ إلی وجود الضدّ الآخر و مانعیّته له ... مضافاً : إلی أن ذلک کذلک فی الوجدان ، إذ الشیء الواحد یمکن أن تتعلّق به إرادة زید و إرادة عمرو
ص:237
فی وقت واحد ، و الجسم الواحد یصلح لأن یکون لونه أسود أو أبیض ... .
و علی الجملة ، فإنه لا تمانع بین المقتضیین ، بل هو بین مقتضی هذا و ذاک .
الثانیة : إن النسبة بین الأمر و إطاعته هی نسبة المقتضی إلی المقتضی ، لا العلّة إلی المعلول ، لأنه لو کان من قبیل العلّة و المعلول لکان منافیاً للاختیار ، و الحال أن اختیار المکلّف محفوظ ، و أمر المولی إنما هو جعلٌ لما یمکن أن یکون داعیاً و محرّکاً للمکلّف نحو الامتثال ، و لذا تتوقّف فعلیّة الامتثال و تحقّقه علی خلوّ نفس العبد من موانع العبودیّة .
و بعد المقدمتین :
فإن أمر المولی بأمرین ، و لم یکن لأحدهما قید ، تحقّق المقتضی التامّ للفعلیّة لإیجاد الدّاعی فی نفس العبد ، فإذا کان العبد مستعدّاً للامتثال صلح کلّ من الأمرین لأن یصل إلی مرحلة الفعلیّة ، و حینئذٍ ، تقع المطاردة بینهما ... أمّا لو کان أحد الأمرین غیر مطلقٍ . بل علی تقدیر ، - و المقصود هو التقدیر فی مرحلة الاقتضاء لا مرحلة الفعلیّة - فیکون الأمر بالمهم مقدّراً و مقیّداً بسقوط الأمر بالأهم عن المؤثّریة ، بمعنی أن أصل الإنشاء بداعی جعل الدّاعی فی طرف المهم مقیّد بأن لا یکون الأمر بالأهم مؤثّراً ، و حینئذٍ ، یکون الاقتضاء فی أحد الأمرین معلّقاً ، و علی هذا تستحیل المطاردة بینهما ، لأن اقتضاء الأمر بالأهم تنجیزی و اقتضاء الأمر بالمهم تعلیقی ... ففی حال تحقّق الأمر بالمهم یکون الأمر بالأهم منطرداً مطروداً ، فلا تصل النوبة لأن یکون الأمر بالمهم طارداً له .
أقول :
إن هذا الوجه هو عین الوجه الذی ذکره المحقق العراقی ، و قد عرفت ما فیه ، فالصحیح ما ذهب إلیه المیرزا .
ص:238
و الکلام الآن فیما أُشکل به علی القول بالترتّب :
فقد قال فی ( الکفایة ) : ثم إنه لا أظن أن یلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق فی صورة مخالفة الأمرین لعقوبتین ، ضرورة قبح العقاب علی ما لا یقدر علیه العبد ، و لذا کان سیدنا الأُستاذ - قدّس سرّه - لا یلتزم به علی ما هو ببالی ، و کنّا نورد به علی الترتّب و کان بصدد تصحیحه (1) .
و توضیحه : إنه علی القول بالترتّب ، یکون هناک تکلیفان وجوبیّان ، أحدهما بالأهم و الآخر بالمهم ، و کلّ تکلیف یستتبع استحقاق العقاب علی ترکه ، ففی صورة مخالفة التکلیفین و ترک الواجبین یستحق العقوبتین ، و الحال أن المکلّف لم یکن له القدرة علی امتثال کلیهما ، فکیف یستحق العقاب علی ترک ما لا یقدر علیه ؟
الجواب
و قد أُجیب عن هذا الاشکال بجوابین : أما نقضاً : فبموردین ، أحدهما : فی الواجب الکفائی ، حیث أنه لو تُرک الواجب کفایةً ، یستحق کلّ المکلّفین به العقاب علیه ، مع أن القیام به لم یکن مقدوراً إلّا لواحدٍ منهم . و المورد الآخر : هو صورة تعاقب الأیدی علی مال الغیر ، فلو أنّ أحداً غصب مالاً ثم انتقل المال إلی
ص:239
غیره و منه إلی ثالثٍ و هکذا ، فإن الأیدی المتعاقبة هذه تستحق العقاب علی الغصب ، مع أن الغاصب هو واحد منهم و لیس کلّهم ... .
و أمّا حلّاً : فإنّ تعدّد العقاب لا محذور فیه ، إذ العقاب لیس علی الفعل کی یقال بأن الجمع بین الأهم و المهم فی الإتیان غیر مقدور - لکون القدرة علی أحدهما فقط - بل العقاب هو علی الترک للتکلیف ، و الجمع بین التکلیفین - الأهم و المهم - فی الترک مقدور ، فکان العقاب علی أمرٍ مقدورٍ صادر عن اختیار .
و کذلک الحال فی الواجب الکفائی .
و ببیانٍ آخر : إنّه لمّا ترک الأهم و استحق العقاب علی ترکه ، کان بإمکانه الإتیان بالمهم ، فلمّا ترکه استحق عقاباً آخر غیر استحقاقه له علی ترکه للأهم .
و تلخص : اندفاع الإشکال ، و حاصله الالتزام بتعدّد العقاب .
قال الأُستاذ
إن ملاک استحقاق العقاب یکون تارةً هو « ترک الفعل المقدور » و أُخری :
« الترک المقدور » ففی الواجب الکفائی یستحق المکلّفون العقاب لتحقّق « ترک فعلٍ مقدور » کدفن المیت أو الصّلاة علیه مثلاً ، فقد کان فعلاً مقدوراً لم یقم به أحد منهم ، فاستحقّوا العقاب علی ترکهم له .
أمّا فیما نحن فیه ، فإن المقدور لیس الفعل ، أی امتثال الأمرین ، بل هو الترک ، فإنّ ترک هذا و ذاک مقدور ، فهما ترکان مقدوران ... .
وعلیه ، فإن کان مناط استحقاق العقاب هو الجمع بین الترکین المقدورین ، فالجواب صحیح ، و یتمّ الالتزام باستحقاق العقابین . و أمّا إن کان المناط فی استحقاق العقاب هو ترک ما هو المقدور ، فالمفروض عدم کون کلیهما مقدوراً لیتحقق الترکان و یُستحق العقابان ... لکن ما نحن فیه من قبیل الثانی ، لأن
ص:240
المطلوب فیه هو الفعل لا الترک . و بعبارة أُخری : إن بحثنا فی الواجب لا الحرام ، و من المعلوم أنّ العقاب فی الواجبات یکون علی ترک الفعل ، و لا بدّ و أن یکون الفعل مقدوراً حتی یجوز علی ترکه ، لکنّ المقدور فعل واحد ، فلیس إلّا عقاب واحد .
و تلخّص : إن العقاب یتبع کیفیّة التکلیف ، فإذا کان مناطه ترک الفعل المقدور - لا الترک المقدور - فإنّ الفعل المقدور واحد و لیس بمتعدّد ، و ترکه یستتبع عقاباً واحداً ، فکیف یلتزم المیرزا و غیره باستحقاق العقابین ؟
و یؤکّد ذلک : إن لازم کلامهم عدم الفرق بین القادر علی امتثال کلا الأمرین التارک لهما ، کما لو قدر علی إنقاذ الفریقان فلم یفعل لهما ، و القادر علی امتثال أحدهما التارک له ، کما لو تمکّن من إنقاذ أحدهما و ترک ، فهل یفتی المیرزا و أتباعه بتساویهما فی استحقاق العقاب ؟
إنه لا ریب فی استحالة تعلّق الإرادتین التکوینیّتین العرضیین بالضدّین ، و کذا الطولیّتان ، بأن تکون احداهما مطلقة و الأُخری مشروطة ، و وزان الإرادة التشریعیّة وزان الإرادة التکوینیّة ، فإذا استحال الترتّب فی التکوینیّة فهو فی التشریعیّة کذلک .
و الجواب : هو إنّ الإشکال یبتنی علی عدم الفرق بین الإرادتین فی جمیع الأحکام ، لکن لا برهان علی ذلک ، بل هو علی خلافه ، لأن النسبة بین الإرادة و الفعل فی التکوینیّات نسبة العلّة التامّة إلی المعلول ، و لا یعقل تصویر الترتّب هناک ، بأن تکون علّة مطلقة و أُخری مترتبة علیها ، للزوم الخلف . أمّا فی التشریعیّات ، فإنّ الإرادة بالنسبة إلی الفعل من العبد لیست بعلّةٍ تامّة بل هی
ص:241
مقتضیةٌ له ، و أین الاقتضاء من العلیّة التامّة ؟ إن العلّة التامّة لا حالة منتظرة لها ، بخلاف المقتضی فإنّ شرط تأثیره اختیار العبد للامتثال ، فلو لم یتحقّق بقیت الإرادة التشریعیّة فی مرحلة الاقتضاء ، وعلیه ، یصحّ وجود مقتضیین یکون مؤثریّة أحدهما فی تحقّق الفعل متوقّفة علی عدم مؤثریّة الآخر ، کما تقدّم فی تصویر المحقق الحائری للترتب ، أو یکون أصل فعلیّة أحدهما متوقفاً علی عدم مؤثریّة الآخر ، کما تقدّم فی تصویر الترتب علی مسلک المیرزا و هو المختار ...
فقیاس الإرادة التشریعیّة علی التکوینیّة قیاس مع الفارق .
إن المتلازمین یستحیل اختلافهما فی الحکم ، کأنْ یکون أحدهما واجباً و الآخر حراماً مثلاً ، لأنه یلزم التکلیف بالمحال ، إذ فعل الفرد الواجب یستلزم فعل الآخر الحرام ، و ترک الحرام یستلزم ترک الفرد الواجب .
و علی هذا ، فإن القول بالترتب یستلزم القول بالتکلیف بالمحال ، لأنّ الأمر بالأهمّ یستلزم النهی عن ضدّه العام و هو ترکه ، فیکون ترکه حراماً ، لکنّ ترک الأهمّ ملازم لفعل المهم و هو واجب ، فکان المتلازمان مختلفین فی الحکم ، و هو محال کما تقدّم .
و الجواب : صحیحٌ أنّ الأمر بالأهم یستلزم النهی عن ضدّه العام و هو الترک ، و وجوب المهم مشروط بترک الأهم ، و بینهما تلازم ، لکن حرمة الترک حکم استلزامی ، فوجوب الأهم قد استلزم حرمة ترکه و کانت هذه الحرمة نتیجة لوجوبه ، فإن کان وجوبه بنحو الاقتضاء قابلاً للاجتماع مع وجوب المهم ، کانت الحرمة - التی هی حکم ترک الأهم - قابلةً للاجتماع مع المهم بنحو الاقتضاء ، و لا محذور فی هذا الاجتماع .
ص:242
و علی الجملة ، فإن اجتماع حرمة ترک الأهم مع وجود المهم ، فرعٌ لإمکان اجتماع وجوب الأهمّ مع وجوب المهم ، فإن أمکن الاجتماع بین وجوبهما أمکن بین حرمة ترک ذاک و وجوب هذا ... لکنّ إمکانه فی الأصل تام بالترتّب ، فلا محذور فیه بین الحرمة و الوجوب کما تقدّم .
إن الفرد المهمّ من المتزاحمین - کالصّلاة مثلاً - إذا وجب بالترتّب حرم ترکه بناءً علی اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن الضدّ العام ، و لا أقلّ من مبغوضیّة الترک ، لکنّ هذا الترک تارةً : هو خصوص ما لا ینتهی إلی فعل الأهم - و هو الإزالة - و تارةً :
یکون أعمّ من الموصل إلی فعل الأهم و غیر الموصل إلیه .
فإن کان المحرّم هو مطلق الترک ففیه :
أوّلاً : إن ذلک ینافی أهمیّة الأهم ، لأن حرمة ترک المهم مطلقاً - حتی المنتهی إلی فعل الأهمّ - معناه رفع الید عن الأهم حتی لا یقع فی ترک الحرام ، و هذا ینافی أهمیّة الأهم .
و ثانیاً : إنه بناءً علی الترتّب ، یکون فعل المهم فی فرض ترک الأهمّ ، فکیف یکون الحرام هو ترک المهم المجامع لفعل الأهم ؟ إذن ... بناءً علی الترتب لا یمکن أن یکون الترک المحرّم للمهمّ هو الترک المطلق .
و إن کان الترک المحرّم هو الترک الذی لا یوصل إلی فعل الأهم ، فهذا أیضاً محال ، لأنّ ترک المهمّ غیر الموصل إلی فعل الأهم إن کان حراماً کان نقیضه واجباً ، و نقیض الترک غیر الموصل هو « ترک الترک غیر الموصل » ، و هذا له لازمان ، أحدهما : فعل المهمّ . و ثانیهما : الترک الموصل لفعل الأهم ، ( قال ) و إنما قلنا بکونهما لازمین و لم نقل بکونهما فردین ، لأنّ « ترک الترک غیر الموصل » أمر
ص:243
عدمی ، و فعل المهم وجودی ، و الوجودی لا یکون مصداقاً للعدم و العدمی ، و إذا کانا من اللّوازم ، فقد ثبت أن حکم الملازم لا یسری إلی الملازم ، فإنّ « ترک الترک غیر الموصل » لمّا کان واجباً ، فإنّ هذا الحکم - و هو الوجوب - لا یسری إلی ملازمه - و هو المهم - فمن المحال أن یکون المهم واجباً . و إذا استحال وجوب المهم بطل الترتب من الأساس .
( قال ) و لو تنزّلنا و قلنا بجواز أن یکون فعل المهمّ مصداقاً « لترک الترک غیر الموصل » فالإشکال موجود کذلک ، لأنّه کما کان فعل المهم مصداقاً فیکون واجباً ، کذلک ترکه الموصل لفعل الأهم مصداق فیکون واجباً ، و إذا تعدّد فرد الواجب کان الوجوب تخییریّاً ، و المفروض فی الترتب کون وجوب المهم تعییناً لا تخییریّاً .
جواب المحقق الأصفهانی
أجاب بأنا نختار کلا الشقّین و لکلٍ ّ جواب .
أمّا الشق الأوّل ، فنسلّم بحرمة نقیض الواجب و وجوب نقیض الحرام ، إلّا أن الواجب هو فعل المهم ، لکن لا فعله علی کلّ تقدیر ، بل علی أحد التقادیر و هو ترک الأهم ، فلا یکون نقیضه الترک المطلق لیشمل الترک المنتهی إلی فعل الأهم ، فکان الحرام هو خصوص ترک المهم الذی هو فی تقدیر ترک الأهم .
جواب الأُستاذ
هذا الذی أفاده المحقق الأصفهانی ناظرٌ إلی الشق الثانی من کلام المیرزا الکبیر ، و الصحیح أن یقال فی الجواب عنه :
أولاً : إنّ الأصل هو وجوب المهم و لیس حرمة النقیض - و إن عکس المیرزا و جعل حرمة النقیض هی الأصل - و وجوبه علی ما تقدّم بالتفصیل مشروط بترک
ص:244
الأهم ، فیقتضی - بناءً علی اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن النقیض - حرمة ترک المهم علی تقدیر حرمة الأهم ، و لا یمکن أن یقتضی حرمة الترک المطلق ، لأنّ المفروض کون الواجب خاصّاً غیر مطلق ، و کما کان الأصل - و هو وجوب المهم - ترتبیّاً فحرمة ضدّه أیضاً ترتبیّة لکونها متفرعةً علیه ... فلا یبقی محذور .
و ثانیاً : لو تنزّلنا ، و جعلنا الأصل حرمة ترک المهم ، و یتفرّع علیه وجوب المهم ، فإنّ الأمر لا ینتهی إلی الوجوب التخییری ، لأنّ الحرام علی القول بالترتّب لیس ترک المهم حتی الترک الموصل لفعل الأهم - لأن هذا خلف فرض الترتّب - بل إن الحرام هو ترکه غیر الموصل لفعل الأهم ، و إذا کان کذلک ، فإنّ نقیضه هو ترک الترک غیر الموصل ، و هذا لا یتحقق إلّا بفعل المهم ، و لا یقبل الاجتماع مع الترک الموصل لفعل الأهم ، فتبیّن أن لیس للّازم أو النقیض فردان ، لیرجع الأمر إلی الوجوب التخییری .
فالصحیح أن نختار هذا الشق و نجیب عنه بما ذکرناه ، فإشکاله غیر وارد حتی لو قلنا باقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن الضدّ العام .
إذا کان شرط وجوب المهم هو عصیان الأمر بالأهم ، فما المقصود من هذا العصیان ؟ إن کان الشرط هو عصیان الأمر بالأهم بنحو الشرط المقارن ، فهو خلف فرض الترتّب ، و إن کان بنحو الشرط المتأخّر ، فهو یستلزم طلب الضدّین ، و إن کان بالعزم ، فیستلزم طلب الضدّین کذلک ، فالترتّب علی جمیع الاحتمالات غیر معقول .
فإن کان المقصود من الشرط هو الشرط المقارن ففیه :
إن الإطاعة و المعصیة لا یکونان إلا مع فرض الأمر ، فلولا الأمر فلا طاعة
ص:245
و لا معصیة .
فقال المیرزا و غیره : بکون العصیان بنحو الشرط المقارن ، فالأمر موجود و إنّما یسقط بعد العصیان .
لکن المشکلة هی : إن الأمر تابع للملاک ، و هو لا یسقط إلّا إذا سقط و تحقق الغرض أو امتنع حصوله فیستحیل وجود الأمر کذلک ، وعلیه ، ففی ظرف العصیان لا یعقل تحصیل الغرض ، إذ لا یعقل وجود الأمر حینئذٍ .
لا یقال : إنّ امتناع الأمر فی هذا الفرض امتناع بالاختیار ، و هو لا ینافی وجود الأمر ، لأن المنافی لوجوده هو الامتناع الذاتی و الوقوعی ، أمّا الامتناع بالغیر الناشئ من عصیان المکلّف للأمر فلا ینافیه .
لأنا نقول : إن الامتناع بالاختیار لا ینافی العقاب ، أمّا الخطاب و الأمر فإنّه ینافیه ، و مع تعذّر الخطاب الناشئ من اختیار العبد ، فالأمر لغو ، لکونه معلولاً للملاک ، و أن الغرض من الأمر هو تحصیله .
و تحصّل : إن الإشکال علی تقدیر کون العصیان شرطاً مقارناً باقٍ علی حاله .
و إن کان المقصود من الشرط هو العزم أو العصیان بنحو الشرط المتأخّر ، بناءً علی وجود الأمر مع العصیان ، فالتحقیق أن یقال :
إن أساس الإشکال فی الترتّب هو مؤثّریة کلا الأمرین معاً ، فإن أمکن تصویر عدم کونهما مؤثّرین فکان المؤثر أحدهما دون الآخر ، ارتفع الإشکال ، فبأیّ طریق أمکن حلّ العقدة یثبت الترتّب ، و علی هذا ، فمن عزم علی معصیة الأمر بالأهم بعد الأمر به ، سقط فی حقّه مؤثریّته و وجب علیه الإتیان بالمهم ، و کذا الحال فی تعقّبه بالعصیان بنحو الشرط المتأخّر .
ص:246
و علی الجملة : فإن العمدة سقوط الأمرین عن التأثیر فی عرض واحد ، و هذا یتحقق بالعزم علی عصیان الأمر بالأهم أو اشتراط تعقّبه بالعصیان ، بل و یسقط باشتراط العصیان بنحو الشرط المقارن .
و تلخّص : إن الإشکال فی الترتّب ثبوتاً و سقوطاً یدور مدار مؤثّریة کلا الأمرین ، فلو انتفت بأیّ طریقٍ من الطرق فلا إشکال ، و المختار عند الأُستاذ تصویر الترتّب باشتراط العزم علی العصیان ، فمن کان مستطیعاً و استقرّ الحج علی ذمّته فعزم علی العصیان و ترک الحج ، یسقط الحج عن ذمته بإتیان النائب عنه به ، و إن کان فی أُجرة النائب إشکال ، و بیانه موکول إلی محلّه .
هذا ، فأمّا أن أساس مشکلة الترتّب هو باعثیّة کلا الأمرین و عدم إمکان الانبعاثین - و لیس طلب الضدّین - فإن سقط أحدهما عن الباعثیّة ارتفعت ... فهذا مذکور فی کلام المیرزا و المحقق الأصفهانی و لیس ممّا انفرد به السید البروجردی کما جاء فی تقریر بحثه و فی حاشیته علی الکفایة .
ثم إنّ هناک بحثاً حول کون الشرط هو « العزم » و قد طرحه الاُستاذ فی الدرس و بیّن وجهة نظره فیه ، ترکنا التعرّض له اختصاراً .
ص:247
و قبل الورود فی البحث نذکّر بمطلبین :
الأول : إنه بعد الفراغ من إمکان الترتّب لا تبقی حاجة إلی بیان وقوعه ، لکفایة الإمکان ، لأنه بعد رفع الید عن إطلاق أحد الدلیلین و هو المهم و تقییده بعصیان الآخر و هو الأهم ، یکون المقتضی لوجوب المهم موجوداً و المانع مفقوداً ، کسائر الموارد .
و الثانی : إن التضاد الواقع بین متعلّقی الدلیلین فی سائر موارد الترتّب هو تضاد اتّفاقی و لیس بدائمی ، لأنه یکون - مثلاً - علی أثر العجز عن امتثال الأمرین کإنقاذ الغریقین حیث لا قدرة - غالباً - إلّا علی أحدهما ... و لکنّ مسألة الجهر و الإخفات لیست من هذا القبیل ، فالتضادّ بینهما دائمی ، فیقع البحث عن معقولیّة الترتّب فی مثلها ... و تصویر ذلک هو :
إن الجاهل المقصّر یستحق العقاب بلا کلام ، و عباداته محکومة بالبطلان ، فإن انکشف وقوع العمل علی خلاف الواقع فهو غیر مجزٍ ، و عدم الإجزاء حینئذٍ واقعی ، و إن لم ینکشف ذلک کان غیر مجزٍ ظاهراً ، حتی یتبیّن مطابقة عمله للواقع و عدمها ، إن تمشّی منه قصد القربة فی هذه الحالة .
لکنهم حکموا بالإجزاء فی موردین ، أحدهما : الجهر و الإخفات ، و الآخر :
القصر و التمام ، لوجود النصوص بإجزاء الإخفات فیما ینبغی الجهر فیه و بالعکس ، و مع ذلک حکموا باستحقاقه العقاب للتقصیر ، فوقع البحث بینهم فی کیفیة الجمع بین الإجزاء و استحقاق العقاب ، و ذکروا لذلک وجوهاً .
ص:248
منها : ما جاء فی ( کشف الغطاء ) (1) علی أساس قانون الترتّب ، فقال :
إن الخطاب المتوجّه أوّلاً إلی هذا الجاهل المقصّر فی تعلّم الحکم ، هو الجهر فی القراءة فی الصّلاة الجهریّة ، فإن عصی فالواجب علیه هو القراءة إخفاتاً ... و کذا بالعکس فی الصّلاة الإخفاتیة .
و کذا الکلام فی مسألة القصر و الإتمام .
فالصّلاة صحیحة ، لکنه عاصٍ یستحق العقاب ، لأنه قد ترک المأمور به الأهمّ .
قال کاشف الغطاء : بل لا بدّ من تطبیق ذلک علی سائر الفروع فی مختلف الأبواب الفقهیّة ، و إلّا لزم الحکم ببطلان أکثر عبادات المکلّفین . مثلاً : لو کان فی ماله الخمس أو الزکاة ، فلم یؤدّ عصیاناً و صلّی ، صحّت صلاته من باب الترتّب .
و کذا فی الحج و غیره ، و تصویر ذلک هو : إن الواجب علیه أداء الدّین أو دفع الخمس أو الزکاة أو الذهاب للحج أو النفقة ، فإن عزم علی المعصیة فالصّلاة واجبة علیه و مجزیة . و کذا أمثالها . هذا کلامه رحمه اللّٰه ... .
و قد نقله الشیخ فی خاتمة البراءة و الاشتغال ، فی أحکام الجاهل المقصّر ، ثم قال : بأنا لا نعقل الترتّب فی هذه المسائل ، إذ کیف یصدر من المولی الأمر بشیء مشروط بمعصیة أمرٍ آخر ، و المکلّف بعد غیر عاصٍ للأمر الأول ؟
فقال المیرزا رحمه اللّٰه : نحن نعقل الترتّب ... غیر أنّ الإشکال علی کاشف الغطاء فی الصغری .
قال الأُستاذ : الظاهر من الشیخ هو الموافقة علی الصغری ، غیر أنه ینکر هنا الترتّب کبرویّاً .
ص:249
و قد أشکل المیرزا من الناحیة الصغرویّة بوجوه (1) :
الأول : إنه قد وقع الخلط علی کاشف الغطاء بین التزاحم و التعارض ، لأنّ بحث الترتب من صغریات التزاحم ، و مسألة الجهر و الإخفات من صغریات التعارض .
توضیحه : إن قوام باب التزاحم هو أن یکون کلّ من المتعلّقین ذا ملاک و تکون المصلحة تامّةً فیهما ، فلا مشکلة فی مقام الجعل ، و إنما هی فی مقام الامتثال ، من جهة العجز عن تحصیل کلا الملاکین ، فإن کان أحدهما أهم من الآخر تقدّم من باب الترتب . بخلاف باب التعارض ، فإنّه لا یوجد ملاک لأحد الخطابین ... و مسألة الجهر و الإخفات من هذا القبیل ، إذ لا ملاک لإحدی الصّلاتین - القصریّة و التامّة - فی الیوم الواحد ، فإذا انتفی الملاک عن أحد الفردین ، خرجت المسألة عن باب التزاحم و کانت من باب التعارض .
هذا معنی کلام المیرزا . فلا یرد علیه الإشکال (2) : بأن محذور الترتب هو طلب الضدّین ، و کما یرتفع هذا المحذور فی المتضادّین اتفاقاً ، کذلک یرتفع فی المتضادّین دائماً ، عن طریق الترتّب ... .
وجه الاندفاع هو : أن فی کلام المیرزا نکتةً غفل عنها ، و هی أنه قد نصّ علی قیام الضّرورة علی عدم وجوب صلاتین فی یوم واحدٍ و وقت واحدٍ إحداهما قصر و الأُخری تمام . هذا من جهةٍ . و من جهةٍ أُخری : فقد ثبت فی باب
ص:250
التعارض : أنه قد یکون بالذات و قد یکون بالعرض ، کأن یقوم دلیلٌ علی وجوب صلاة الظهر فی یوم الجمعة و یقوم آخر علی وجوب صلاة الجمعة ، فتجب صلاتان ، و لکن قد قام الإجماع علی عدم وجوب الصّلاتین فی ظهر یوم الجمعة ، فیقع التعارض بین الدلیلین بالعرض ، و یحصل الیقین ببطلان أحدهما ، و مسألة الجهر و الإخفات من هذا القبیل ، فهی من باب التعارض .
ثم ذکر فی ( المحاضرات ) ما حاصله :
إنه کما یتعقّل الترتب فی مقام الامتثال ، کذلک یتعقّل فی مقام الجعل ، و یرتفع المشکل فی مقام الإثبات بالتقیید ، و أمّا فی مقام الثبوت فالنصوص الواردة فی المسألة هی الدلیل علی جعل الحکم بنحو الترتّب ، کصحیحة زرارة فی من جهر فیما لا ینبغی الإخفات فیه أو أخفت فیما ینبغی الجهر فیه (1) .
فأشکل الأُستاذ :
بأن الترتّب فی مقام الجعل فی الضدّین اللذین لهما ثالث معقول ، کأن یقول المولی : تجب علیک الإزالة فإن عصیت وجبت علیک الصّلاة ، إلّا أن مورد البحث من الضدّین اللذین لا ثالث لهما ، فلا یعقل التقیید - مع توقف الترتّب علی التقیید - کأن یقیّد وجوب الحرکة بترک السکون . هذا ثبوتاً .
و أمّا إثباتاً ، فإن نصوص المسألة لا تفی بدعوی کون الجعل بنحو الترتّب ، لأنّ معنی الترتّب فی مرحلة الجعل هو أن یجعل الشارع - بنحو القضیّة الحقیقیّة - وجوب الإخفات لمن وجب علیه الجهر فعصی ، و النصوص و إن احتمل دلالتها علی هذا المعنی ، یحتمل دلالتها علی جعل البدل فی مقام الامتثال کما هو الحال فی قاعدتی الفراغ و التجاوز ، و من الواضح الفرق بین جعل الحکم علی نحو
ص:251
الترتّب مشروطاً بالعصیان ، و جعله من باب بدلیّة العمل الناقص عن التکلیف؛ و لعلّ فی النصوص ما هو ظاهر فی جعل البدل کما فی صحیحة زرارة عن أبی جعفر المذکورة و هذا نصّها : « فی رجل جهر فیما لا ینبغی الجهر فیه أو أخفی فیما لا ینبغی الإخفاء فیه . فقال : أیّ ذلک فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعلیه الإعادة ، و إن فعل ذلک ناسیاً أو ساهیاً فلا شیء علیه و قد تمّت صلاته » (1) فإنّ ظاهر قوله علیه السلام : تمّت صلاته ، هو جعل البدل فی مرحلة الامتثال ، أی لا نقص فی صلاته .
و فی روایة أُخری عن أحدهما علیهما السلام : « إن اللّٰه تبارک و تعالی فرض الرکوع و السجود و القراءة سنّةً ، فمن ترک القراءة متعمّداً أعاد الصّلاة و من نسی فلا شیء علیه » (2) .
و هذه ظاهرة فی جعل البدل کذلک ، و إلّا لزم المستشکل القول بجریان الترتّب فی مورد النسیان أیضاً .
و علی أیّ حالٍ ، فالإشکال من المحقّق السید الخوئی علی المیرزا غیر وارد .
و هذا تمام الکلام علی الإشکال الأوّل .
الوجه الثانی : إن مورد الخطاب الترتبی هو ما إذا کان خطاب المهم مترتّباً علی عصیان الأمر بالأهم ، و هذا لا یکون إلّا فیما إذا لم یکن المهم ضروریّ الوجود عند عصیان الأمر بالأهم ، کما هو الحال فی الضدّین اللذین لهما ثالث .
و أمّا الضدّان اللّذان لا ثالث لهما ، ففرض عصیان الأمر بأحدهما هو فرض وجود
ص:252
الآخر لا محالة ، فیکون البعث نحوه تحصیلاً للحاصل .
إشکال السید الخوئی
فأشکل فی التعلیقة : بأنّ إدراج محلّ الکلام فی الضدّین اللذین لیس لهما ثالث ، غیر مطابق للواقع ، لأن المأمور به فی الصّلاة إنما هی القراءة الجهریّة أو الإخفاتیّة ، و من الواضح أن لهما ثالثاً و هو ترک القراءة رأساً ، فلا مانع من الأمر بهما فی زمانٍ واحدٍ مشروطاً أحدهما بعصیان الآخر .
أجاب الأُستاذ
بأنّ ما ذکره خلاف ظواهر النصوص (1) :
« عن أبی جعفر علیه السلام : لا یکتب من القراءة و الدعاء إلّا ما أسمع نفسه » .
« سألته عن قول اللّٰه : «وَلٰا تَجْهَرْ بِصَلٰاتِکَ وَلٰا تُخٰافِتْ بِهٰا » ... المخافتة ما دون سمعک و الجهر أن ترفع صوتک شدیداً » .
« قلت لأبی عبد الله علیه السلام : علی الإمام أن یُسمع من خلفه و إنْ کثروا ؟ قال : لیقرأ قراءةً وسطاً » .
« الجهر بها رفع الصوت و التخافت ما لم تسمع نفسک » .
« الاجهار أن ترفع صوتک تسمعه من بُعد عنک ، و الإخفات أن لا تسمع من معک إلّا یسیراً » .
فالمستفاد من النصوص لیس هو القراءة الجهریّة و الإخفاتیّة ، بل الواجب فی الصّلاة هو الإجهار فی القراءة و الإخفات فیها ... فالإشکال مندفع .
الوجه الثالث : إنّ الخطاب المترتّب علی عصیان خطابٍ آخر ، إنما یکون
ص:253
فعلیّاً عند تنجّز الخطاب المرتّب علیه و عصیانه ، و بما أنّ المفروض فیما نحن فیه توقف صحّة العبادة الجهریّة - مثلاً - علی الجهل بوجوب الإخفات ، لا یتحقق هناک عصیان للتکلیف بالإخفات لیتحقق موضوع الخطاب بالجهر ، لأن التکلیف الواقعی لا یتنجّز مع الجهل به ، و بدونه لا یتحقق العصیان الذی فرض اشتراط وجوب الجهر به أیضاً .
هذه عبارته .
و بعبارة أُخری : إن شرط التکلیف هو الوصول ، و ما لم یصل لم یصر فعلیّاً ، و الجاهل المقصّر لا یتحقّق فی حقّه هذا الشرط ، فلو کان الخطاب الترتّبی إلیه کأنْ یقول : یجب علیک الإخفات فإن عصیت فعلیک الجهر ، کان وجوب الإخفات علیه فی صورة التفاته إلی العصیان ، و إلّا فالشرط غیر واصل فلا یعقل فعلیّة التکلیف ، و بمجرّد الالتفات منه إلی العصیان صار متعمّداً ، فینعدم موضوع الخطاب الترتّبی .
إشکال السید الخوئی
أجاب السید الخوئی : بأن المدار فی الترتّب علی ترک الأهمّ لا علی عصیانه ، و خطاب الإخفات مشروطاً بترک الجهر قابل للوصول ، إذ الجاهل المقصّر ملتفت إلی کونه تارکاً للجهر .
أجاب الأُستاذ
بأن ما ذکر صحیح کبرویّاً ، فالترتب لا یتوقف علی العصیان ، لکنّ کاشف الغطاء عبّر بالعصیان قال : « کل مولی مطاع یمکنه القول : یجب علیک الجهر فإن عزمت علی المعصیة وجب علیک الإخفات » فإشکال المیرزا وارد من هذه الناحیة ، لأن العزم علی المعصیة یستحیل وصوله و لو التفت صار متعمّداً .
ص:254
لکن لا یخفی أن المیرزا یقول ب« العصیان » و کاشف الغطاء یقول « بالعزم » فنقول :
إنّ القول باشتراط العزم و إن کان هو الصحیح المختار فی الترتّب - کما تقدّم - لکنّ کاشف الغطاء لا یمکنه إجراء الترتب ، لأنه یقول أیضاً باقتضاء الأمر بالشیء النهی عن جمیع الأضداد الوجودیّة للشیء ، فإذا أُمر بالإزالة فقد نهی عن الصّلاة ، و مع النهی عنها کیف تکون مأموراً بها بالعزم علی معصیة الأمر بالإزالة ؟
فتصحیح العبادة عن طریق الترتّب - کما ذکر کاشف الغطاء - موقوف علی أن یرفع الید عن المبنی المذکور ، لأنه لا یتمشّی الترتّب معه ، و هذا هو الإشکال الوارد علیه قدّس سرّه بناءً علی مبناه فی اشتراط العزم علی المعصیة فی الترتّب .
و هذا تمام الکلام علی التنبیه الأوّل .
لا یخفی أن القدرة علی الامتثال فی مثل إزالة النجاسة و الصّلاة و نحو ذلک هی القدرة العقلیّة ، و قد أُجری الترتب فی هذه الموارد علی القول به ، کما فی البحوث السابقة .
أمّا إذا کانت القدرة المعتبرة فی الامتثال مختلفة ، بأن یکون أحد الواجبین مشروطاً بالقدرة العقلیّة و الآخر بالقدرة الشرعیّة ، کما لو کان عند المکلّف ماء یکفی إمّا للوضوء و إمّا لرفع العطش عن نفس محترمة ، إذ الأوّل مشروط الشرعیّة ، و الثانی العقلیة ، کما هو معلوم ، فهل یجری الترتّب کذلک أو لا ؟
فعن المیرزا الشیرازی - القائل بالترتّب - الفتوی ببطلان الوضوء إنْ توضّأ
ص:255
بالماء بعد عصیان الأمر بصرفه فی رفع العطش ، و نسب البطلان کذلک إلی الشیخ ، مع أنه غیر قائل بالترتب . قال المیرزا : و أمّا ذهاب السید المحقق الطباطبائی الیزدی قدّس سرّه إلی الصحة فی مفروض الکلام ، فهو ناشئ من الغفلة عن حقیقة الأمر .
و الحاصل : إن المسألة خلافیّة ، و لا بدّ لتحقیق الحال فیها من ذکر مقدّمات .
الأُولی : تارةً : تؤخذ القدرة فی لسان الدلیل کما فی دلیل الحج و الوضوء ، و أُخری : لا تؤخذ کما فی دلیل الصّلاة مثلاً ، فإن أُخذت ، کان مقتضی التطابق بین مقامی الثبوت و الإثبات دخل القدرة فی الملاک و الغرض ، و إن لم تؤخذ فمقتضی ذلک قیام الغرض بنفس ذات المتعلّق .
الثانیة : إنه بمجرّد حصول القدرة العقلیّة بالتمکن من الإتیان بالمادّة کالصّلاة ، یکون المتعلّق واجباً فعلیّاً ، إذ الحاکم هو العقل ، و هو یری کفایة التمکّن من الشیء فی صحّة طلبه ، و حینئذٍ ، فلا یبقی موضوع للواجب الآخر الذی أخذ الشارع القدرة فی لسان الدلیل علیه ... لأن المرجع فی القدرة الشرعیّة هو العرف - لکون الخطابات الشرعیة ملقاةً إلیه - و مع فعلیّة الواجب الآخر ینتفی القدرة العرفیّة العقلائیة .
الثالثة : أخذ القدرة فی الواجب تارة : یکون بالمطابقة مثل آیة الحج ، و أُخری : بالالتزام مثل آیة التیمّم ، و لمّا کان التیمم فی عرض الوضوء ، إذ المکلّف إمّا یکون متیمّماً أو متوضّأً ، فإنه بأخذ العجز عن الماء فی التیمّم یثبت بالالتزام أخذ القدرة فی الوضوء ... و هذه القدرة شرعیّة لا تکوینیّة ، لسقوط الوضوء عن المریض مع قدرته تکویناً علیه .
الرابعة : إن تصحیح العبادة بالأمر الترتّبی موقوف علی أن یکون الأمر ذا
ص:256
ملاک ، لتبعیّة الأحکام الشرعیّة للملاکات عند العدلیّة ، فلولا الملاک فلا أمر . أمّا المنکرون للترتّب فلهم تصحیحها بالإتیان بها بقصد الملاک ، کما علیه صاحب الکفایة قدّس سرّه .
و إذا عرفت هذه المقدّمات ، ظهر الدلیل علی القول ببطلان الوضوء بکلّ وضوح ، و ذلک :
لأنّ وجوب صرف الماء فی رفع العطش عقلی ، و شرط وجوبه هو القدرة التکوینیّة ، بخلاف وجوب الوضوء ، فالقدرة المأخوذة علی الماء فیه شرعیّة ، و إذا صرف فی رفع العطش انتفت القدرة المعتبرة فی الوضوء و تبدّل الحکم إلی التیمّم ، لأنه بمجرّد صرفه فی رفع العطش یکون الوضوء بلا ملاک لانتفاء شرطه و هو القدرة الشرعیّة ، و إذا انتفی الملاک انتفی الأمر ، و بذلک ینتفی الترتّب .
فظهر أنّ وجه فتوی المیرزا القائل بالترتب ، هو عدم الأمر الترتّبی ، لعدم الملاک ، و الشیخ یقول بالبطلان ، مع إنکار الترتب ، لعدم الملاک حتی یصحّح بقصده .
و لا یبقی وجه للقول بصحة هذا الوضوء ، لأنّ طریق تصحیحه إمّا الترتب و إمّا قصد الملاک ، و قد علم أن لا ملاک فیقصد أو یثبت الأمر الترتبی تبعاً له ، و قد نسب المیرزا هذا القول إلی السیّد فی ( العروة ) ، و کلامه فیها - فی السبب السادس من أسباب التیمّم - واضحٌ فی البطلان لا الصحّة ، إذ قال : لو دار الأمر بین الوضوء و بین واجب أهمّ ، یقدّم صرف الماء فی الأهم ، لأنه لا بدل له و الوضوء له بدل (1) .
و فی حاشیته علی نجاة العباد وافق الماتن فی القول بالبطلان .
هذا ، و ذهب السیّدان الحکیم و الخوئی إلی الصحّة من باب الترتّب ، فی
ص:257
مثال دوران الأمر بین رفع العطش و الوضوء مع عدم کفایة الماء إلّا لواحدٍ منهما .
قال فی ( المحاضرات ) ما ملخّصه بلفظه تقریباً :
إنه لا مانع من الترتّب إلّا توهّم أنّه لا ملاک للوضوء ، فلا یمکن تعلّق الأمر به علی نحو الترتّب ، لاستحالة وجود الأمر بلا ملاک ، لکنه یندفع : بأن القول بجواز تعلّق الأمر بالضدّین علی نحو الترتّب ، لا یتوقّف علی إحراز الملاک فی الواجب المهم ، إذ لا یمکن إحرازه فیه إلّا بتعلّق الأمر به ، فلو توقف تعلّق الأمر به علی إحرازه لدار ، سواء کان الواجب المهم مشروطاً بالقدرة عقلاً أو شرعاً ، لأنّ ملاک الترتّب مشترک بین التقدیرین ، فإذا لم یکن الأمر بالأهمّ مانعاً عن الأمر بالمهم لا عقلاً و لا شرعاً إذا کان فی طوله ، فلا مانع من الالتزام بتعلّق الأمر به علی نحو الترتب و لو کانت القدرة المأخوذة فیه شرعیّة ، وعلیه ، فإذا لم یصرف المکلّف الماء فی الواجب الأهم و عصی الأمر به ، فلا مانع من تعلّق الأمر بالوضوء ، لکونه حینئذٍ واجداً للماء و متمکّناً من صرفه فیه عقلاً و شرعاً .
و قد تحصّل من ذلک : إن دعوی عدم جریان الترتب فیما إذا کانت القدرة المأخوذة فی الواجب المهم شرعاً ، تبتنی علی الالتزام بأمرین :
الأوّل : دعوی أن الترتّب یتوقّف علی أن یکون الواجب المهم واجداً للملاک مطلقاً حتی فی حال المزاحمة ، و إحرازه إنما یکون إذا کانت القدرة المعتبرة عقلیّة ، و أما إذا کانت شرعیّةً ، فبانتفاء القدرة - کما فی المثال - ینتفی الملاک ، و معه لا یجری الترتب .
و الثانی : دعوی أن الأمر بالأهمّ مانع عن الأمر بالمهم و معجّز عنه شرعاً ، حتی فی حال عصیانه و عدم الإتیان بمتعلّقه .
و لکن قد عرفت فساد کلتا الدعویین .
ص:258
أمّا الأُولی ، فلما سبق من أن الترتّب لا یتوقّف علی إحراز الملاک فی الواجب المهم ، فإن إحرازه غیر ممکنٍ مع سقوط الأمر حتی فیما إذا کانت القدرة عقلیّة فضلاً عن کونها شرعیّة ، فلو کان الترتّب متوقفاً علی إحراز الملاک فی المهم لم یمکن الالتزام به علی کلا التقدیرین .
و أمّا الثانیة ، فقد عرفت عدم التنافی بین الأمرین ، إذا کان الأمر بالمهم مشروطاً بعصیان الأمر بالأهم (1) .
جواب الأُستاذ
و قد أجاب الأُستاذ عن ذلک : بأنه کلام غیر مناسب لشأنه ، لأنّ المیرزا إنما یستکشف الملاک عن طریق إطلاق المادّة لا عن طریق الأمر کما علیه المستشکل ، فالمیرزا یقول : بأنه إذا تعلّق الأمر بشیء و لم تؤخذ القدرة فیه فی لسان الدلیل الشّرعی ، فإنّ نفس إطلاق الواجب یکشف عن قیام الملاک بذات المادّة ... فالإشکال أجنبی عن مسلک المیرزا . هذا أوّلاً .
و ثانیاً : لو سلّمنا أنّ الترتّب لا یتوقّف علی إحراز الملاک فی الواجب المهم - کما قال - فإنّ الواقع فی المسألة هو إحراز عدم الملاک ، فما ذکره خلط بین عدم إحراز الملاک و إحراز عدم الملاک ، و ذلک لأن القدرة المأخوذة فی الواجب قید للواجب ، و کلّ ما یکون قیداً له فهو قید للملاک ، لاستحالة تقیّد الواجب من دون تقیّد الملاک ، وعلیه ، فإنه یستحیل أن تقیّد الصّلاة بالطهارة مع عدم تقیّد المصلحة المترتبة علیها و الغرض منها بالطهارة ، و المفروض اعتبار القدرة الشرعیّة علی الطهارة ، فإذا انتفت هذه القدرة علیها حصل القطع بعدم الملاک ، و القطع بعدمه فی المهم یبطل الترتب ... و قد اعترف المستشکل فی مباحث الضدّ بأنه متی
ص:259
أُخذت القدرة فی المتعلّق و کانت قیداً للواجب ، فإنّه ینتفی الملاک بانتفاء هذا القید ... و مع قطعاً یستحیل جریان الترتب .
و ثالثاً : کیف الجمع بین قوله هنا فی المحاضرات بعدم لزوم إحراز الملاک و أنّ عدمه لا ینافی الترتّب بین الواجبین ، و قوله فی کتاب الحج بشرح ( العروة ) (1)« لعدم جریان الترتب فی أمثال المقام » و هذا نصّ عبارته :
« الظاهر عدم وجوب متعلّق النذر حتی فی مثل الفرض ، لعدم جریان الترتب فی أمثال المقام ، لأن الترتب إنما یجری فی الواجبین اللذین یشتمل کلّ منهما علی ملاک ملزم ، غایة الأمر لا یتمکن المکلّف من الجمع بینهما فی مقام الامتثال » (2) ؟
فالحق مع المیرزا ، لأنّه قد أُخذ فی لسان أدلّة التیمّم عدم التمکّن من استعمال الماء ، فکان وجوب التیمّم و التکلیف به رافعاً لموضوع حکم الوضوء ، فلو توضّأ - و الحال هذه - بطل .
هل یجری الترتب فیما لو کان أحد الواجبین موسّعاً و الآخر مضیّقاً ، کما لو وجب علیه إزالة النجاسة عن المسجد و وجبت الصّلاة فی سعة الوقت ، بعد العلم بأنهما لو کانا مضیّقین فهما داخلان فی البحث ، و لو کانا موسّعین فخارجان یقیناً ؟ وجوه :
ص:260
1 - عدم جریان الترتب مطلقاً .
2 - الجریان مطلقاً .
3 - التفصیل بما إذا کان اعتبار القدرة فی الخطاب بحکم العقل کما علیه المحقق الثانی فلا یجری ، و أمّا بناءً علی اعتبارها باقتضاء الخطاب کما علیه المیرزا النائینی فیجری .
و لا بدّ من النظر فی أصل تحقّق التزاحم فی هذه الصّورة ، فالمیرزا علی أنّ التزاحم موجود بین إطلاق الأمر بالموسّع و أصل الأمر بالمضیّق - بخلاف المضیّقین فهو بین أصل دلیل کلٍّ من الواجبین - و لکنّ هذا إنما یتم علی مسلکه ، أمّا علی مسلک المحقق الثانی ، حیث اعتبرت القدرة فی جواز التکلیف بحکم العقل من باب قبح تکلیف العاجز ، فلا تزاحم أصلاً ، إذ یکفی فی صحّة التکلیف عند العقل تمکّن المکلّف علی فردٍ ما من أفراد الطبیعة ، و علی هذا ، فإن الفرد المزاحم بالمضیّق غیر مقدور ، أمّا غیره من الأفراد فمقدور ، و هذه القدرة تکفی لصحّة الخطاب المتعلّق بالطبیعة ، فلا موضوع للترتب ، لکونه فرع التزاحم ...
و نتیجة ذلک علی مسلک المحقق الثانی اختصاص الترتب بالمضیّقین .
و أمّا علی مبنی المیرزا ، فإنّ مقتضی نفس الخطاب توجّه التکلیف إلی الفرد المقدور من الطبیعة ، لأنّ حقیقة التکلیف هی البعث ، و البعث یقتضی الانبعاث ، و هو لا یتحقق إلّا بالنسبة إلی الفرد المقدور ، فلا محالة یتقیّد المأمور به بذلک ، و یخرج غیر المقدور عن دائرة اطلاق المأمور به ، و یتوقف شموله له علی جواز الترتب ، فإن جوّزناه کان داخلاً فی الإطلاق عند عصیان الأمر بالأهم ، و إلّا کان خارجاً عنه . یعنی : إن شمول الإطلاق للفرد المزاحم غیر ممکن ، لکونه ممتنعاً شرعاً بسبب مزاحمة الأمر بالمضیّق له ، فینصرف الإطلاق عنه ، فلو أُرید جعله
ص:261
مأموراً به فلا مناص من الالتزام بالترتب ، بأن یتقیّد الاطلاق بالعصیان کما لو قال :
أزل النجاسة عن المسجد فإن عصیت تجب علیک الصّلاة .
کلام المحاضرات
و جاء فی المحاضرات - بعد الإیراد علی المیرزا و المحقق الثانی ، بأن القدرة غیر مأخوذة فی متعلّق التکلیف لا من جهة اقتضاء الخطاب و لا من جهة حکم العقل ، بل هی معتبرة فی ظرف الامتثال و الطاعة - إن جریان الترتب فی المقام مبنی علی مسلک المیرزا من أن استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق ، و بما أنّ تقیید المهم فی المقام بخصوص الفرد المزاحم محال ، لکون هذا الفرد ممتنعاً شرعاً ، و الممتنع الشرعی کالممتنع العقلی ، فالإطلاق أیضاً محال ، لکون النسبة بینهما نسبة العدم و الملکة .
ثم أورد علیه : بأنّ التقابل بین الإطلاق و التقیید من تقابل التضادّ ، فلا یستلزم استحالة أحدهما - فی موردٍ - استحالة الآخر و لمّا کان التقیید بالفرد المزاحم غیر معقول ، و الإهمال کذلک ، کان الإطلاق ضروریّاً ، فیمکن الإتیان بالفرد بداعی امتثال الأمر المتعلّق بالطبیعة .
( قال ) فجریان الترتب هنا مرتکز علی أحد أمرین : الأوّل : دعوی اقتضاء نفس الخطاب اعتبار القدرة فی المتعلّق ، و أنه یوجب تقییده بالحصّة المقدورة .
و الثانی : دعوی أن استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق . لکنّ الدعویین فاسدتان کما تقدّم .
فالصحیح : أن یقال بخروج المسألة عن کبری التزاحم ، لتمکّن المکلّف فیها من الجمع بین التکلیفین فی مقام الامتثال (1) .
ص:262
قال الأُستاذ
أمّا ما ذکره من النسبة بین الإطلاق و التقیید فتام ، إذ الصحیح کون الإطلاق رفض القیود لا جمعها ، فبناءً علیه و بالنظر إلی أنّ الحکم یستحیل أن یتجاوز عن متعلّقه ، یثبت وجوب الإطلاق ، و مجیء الحکم علی طبیعی الصّلاة لا علی أفرادها ، فلیس الواجب هذا الفرد أو ذاک ، بل الفرد مصداق للواجب ... فما جاء فی المحاضرات متینٌ ، إلّا أنّ النظر فی إیراده علی المیرزا ، و ذلک :
أوّلاً : إن الذی استند إلیه المیرزا لاستحالة الإطلاق ، لیس کون النسبة بینه و بین التقیید هو العدم و الملکة ، کما لا یخفی علی من راجع ( أجود التقریرات ) و( فوائد الأُصول ) (1) ، بل مستنده هو القصور الذاتی للخطاب ، و لذا جوّز الاطلاق علی مسلک المحقق الثانی ، فلو کان وجه عدم جواز الإطلاق استحالة تقیید التکلیف بالفرد المزاحم ، لما تعقّل المیرزا الإطلاق علی ذاک المسلک ، لأن استحالة تقییده واضحة علی کلا المسلکین .
و ثانیاً : لقد ذکر المیرزا فی وجه نظره : إن البعث إنما یکون نحو الفرد المقدور فالإطلاق محال ، و لذا یقع التزاحم هنا بین إطلاق الواجب الموسّع و أصل وجوب الواجب المضیّق ، أمّا علی مبنی المحقق الثانی فلا تزاحم .
و إذا کان المیرزا یعبّر بالتزاحم ، فلا بدّ و أن یکون وقوعه هنا معقولاً ، أمّا لو کان الاطلاق مستحیلاً - لکونه عدم ملکة - فکیف یصح التعبیر بالتزاحم ؟
فظهر : أن کلامه فی المقام مستند إلی الضیق الذاتی للخطاب ، و لیس مستنداً إلی تقابل العدم و الملکة بین الاطلاق و التقیید ... فالإشکال علیه من هذه الناحیة غیر وارد .
ص:263
بل الإشکال الوارد علی المیرزا : أمّا من ناحیة المبنی ، فالصحیح أن اعتبار القدرة فی التکلیف هو بحکم العقل وفاقاً للمحقق الثانی ، لأنّ التکلیف لیس هو البعث - کما ذکر المیرزا - بل هو جعل الشیء فی الذمّة - وفاقاً للسید الخوئی - کما هو ظاهر الأدلّة اللفظیّة من قبیل «کُتِبَ عَلَیْکُمُ ... » و نحوه ، و هو المرتکز عند العرف ، و البعث و الانبعاث من آثار جعله فی الذمّة ... .
و أمّا من ناحیة البناء بعد فرض صحّة المبنی : فقد تقرّر أن متعلّق التکلیف هو الطبیعة ، و الأفراد خارجة ، فلو کان اعتبار القدرة بنفس الخطاب و کان حقیقة التکلیف هو البعث ، فلا بدّ من إمکان الانبعاث نحو المتعلّق ، و من المعلوم أن القدرة علی المتعلّق - و هو الطبیعة - تحصل بالقدرة علی فردٍ ما من أفرادها ، فما أمکن الانبعاث نحوه هو الفرد ، لکنّ الفرد غیر متعلّق للتکلیف ، و ما تعلّق به التکلیف هو الطبیعة ، و هی ملغًی عنها الخصوصیات الفردیة لا یمکن الانبعاث نحوها ، و إذا کان الامتثال یحصل بفردٍ ما من أفرادها فلا یتحقق التزاحم ، فلا مورد للترتب .
( فی الترتب فی التدریجیات )
هل تجری مسألة الترتب فی الواجبین التدریجیین أو أحدهما تدریجی و الآخر آنیّ أو لا ؟
و الکلام فی ثلاث صور :
1 - أن یکونا تدریجیین .
2 - أن یکون الأهم آنیّاً و المهم تدریجیّاً .
ص:264
3 - أن یکون المهم آنیّاً و الأهم تدریجیّاً .
فإن کان الأهمّ آنیّاً و المهم تدریجیّاً ، کان الجزء الأوّل من المهم التدریجی مزاحماً للأهم الآنی ، فعلی الترتّب یکون وجوب هذا الجزء مشروطاً بمعصیة الأمر بالأهم الآنیّ ، و تکون معصیته شرطاً مقارناً للوجوب الفعلی للمهم ، فإن عصی الأهم و أتی بالمهم صحّ ... و لا کلام .
و إن کان المهم و الأهم تدریجیّین ، وقع الإشکال و البحث - بالإضافة إلی مسألة الترتب - من جهة لزوم الالتزام بالشرط المتأخّر أو بالواجب المعلّق . إذن ، یتوقّف الفتوی بصحّة العمل - علاوةً علی القول بالترتب - بالالتزام بالشرط المتأخّر .
و ذلک : لأنّ المفروض أن هنا واجبین تدریجیّین کإزالة النجاسة من المسجد فی أوّل الوقت - و هی الأهم - و الصّلاة و هی المهم ، و من الواضح أنّ فعلیّة الأمر بالصّلاة متوقفة علی معصیة الأمر بالإزالة ، لکن معصیتها تدریجیّة ، و تستمرّ إلی آخر الصّلاة ، بأن یُعصی الأمر بالإزالة فی وقت التکبیر و القیام و الرکوع و السجود ... و هکذا إلی التسلیم ، و لو لا معصیة الإزالة فی وقت کلّ جزءٍ فلا فعلیّة للجزء ... وعلیه ، فإنّ فعلیّة الأمر بالتکبیرة مشروطة بعِصیان الأمر بالإزالة فی وقت الأجزاء اللّاحقة لتکبیرة الإحرام ، و هذا معناه الالتزام بالشرط المتأخّر .
کما یلزم الالتزام بالواجب المعلّق ، لأنّ فعلیّة الوجوب للتکبیرة متوقفة علی امکان الواجب المعلّق ، لأنّ وجوب الجزء الآخر للواجب التدریجی استقبالی ، و لو لا وجوبه لما ثبت وجوب لتکبیرة الإحرام .
فظهر أنّ تصویر الترتّب فی هذه الصّورة یتوقّف علی القول بالشرط المتأخّر و القول بالواجب المعلّق ، فمن قال بجوازها کلّها فهو فی راحة ، و من قال
ص:265
بالترتب و أنکر الشرط المتأخّر و الواجب المعلّق - کالمیرزا قدّس سرّه - لم یمکنه إجراء الترتب ، و کان مورد الترتب المتزاحمین الآنیّین فقط ، کإنقاذ الغریقین و ما شابه ذلک .
تفصّی المیرزا
لکن المیرزا قدّس سرّه تفصّی عن هذه المشکلة (1) بأنّ مشکلة التزاحم کانت من ناحیة عدم القدرة علی امتثال کلا الأمرین ، فکان القول بالترتّب - بأن یکون شرط التکلیف بالأمر بالمهم هو عصیان الأمر بالأهم - هو الطریق لحلّ المشکلة ، لأن اشتراط التکلیف بالقدرة حکم عقلی ، و هو یری أن بتحقّق هذا الشرط یتحقّق الامتثال ... .
و علی هذا ، فإنّ الشرط - فی صورة التدریجیّین - هو القدرة علی الجزء الأوّل من أجزاء الواجب التدریجی المتعقّبة بالقدرة علی سائر أجزائه ، فشرط وجوب الصّلاة - مثلاً - هو القدرة علی التکبیرة المتعقّبة بالقدرة علی سائر أجزائها حتی التسلیمة ، و هذا العنوان - عنوان التعقّب - حاصل بالفعل ، فیندفع بهذا البیان محذور الالتزام بالشرط المتأخّر ، فیکون شرط فعلیّة وجوب الأمر بالمهم عصیان الأمر بالأهم فی الآن الأوّل متعقّباً بعصیانه فی بقیّة الآنات ، و قد فرض تحقّق عصیانه فی آن أوّل امتثال الأمر بالمهم المتعقّب بعصیانه فی سائر أزمنة امتثال المهم ، فیکون من الشرط المقارن لا من الشرط المتأخر .
اشکال السید الخوئی
و قد أشکل علیه فی ( المحاضرات ) : بأن لا محصّل لجعل عنوان التعقّب
ص:266
هو الشرط ، لعدم الدلیل علیه (1) .
دفاع الأُستاذ عن المیرزا
فقال الأُستاذ : بأن کلام المیرزا دقیق ، و ذلک ، لأن أساس حکم العقل هو استحالة تعلّق الأمر بالضدّین ، للزوم التکلیف بالمحال أو التکلیف المحال ، و أساس ذلک هو عجز المکلّف عن الامتثال ، فکان الحاصل عدم وجود القدرة علی امتثال الأمر بالمهم ، أمّا مع عصیان الأمر بالأهم فالقدرة تحصل ، و إذا حصلت تحقق الشرط لوجوب المهم ، فیجب امتثاله ... و هذا هو الأساس فی نظریة الترتب .
وعلیه ، فإن العصیان للأهم إنما یکون شرطاً للمهم من جهة حصول القدرة علی المهم بذلک ، و إلّا فالمکلّف عاجز عن امتثاله ، ففی المورد الذی یستمرّ فیه الأمر بالأهم إلی آخر جزءٍ من أجزاء المهم ، - کما هو الفرض فی الإزالة بالنسبة إلی الصّلاة - تتحقّق القدرة علی المهم فیما إذا استمرت معصیة الأهمّ إلی الآخر ، و إلّا ، فلا تحصل القدرة التی هی شرط التکلیف بالمهم بحکم العقل ، فیعتبر فی فعلیّة وجوب الصّلاة القدرة المستمرة ، و هی لا تتحقّق إلّا بالعصیان المستمر للأمر بالإزالة ، و مع فرض تعقّب معصیة الجزء الأوّل من الأهم ، أو المعصیة فی الآن الأول من آناته بالمعصیة إلی الآن و الجزء الأخیر ، تکون القدرة علی المهمّ حاصلةً علی الصّلاة ، ویحکم العقل بوجوب الامتثال .
و إن کان الأهم تدریجیاً و المهم آنیّاً ... فالإشکال علی حاله ، لأنّ المفروض استمرار الأهم ، و بالاشتغال به من الآن الأوّل تنتفی القدرة علی المهم الآنی .
ص:267
إنه تارةً : یطّلع علی الأهم قبل الاشتغال بالمهم ، و أُخری : بعده . فإن کان الأوّل فالترتّب جارٍ ، و إن کان الثانی فصورتان ، إحداهما : ما إذا لم یکن قطع المهم محرّماً ، فالترتب جارٍ کذلک . و الثانیة : ما إذا کان قطعه حراماً ، فالمیرزا علی أن لا ترتب بل الأمر بالمهم متوجّه و الامتثال له متحقق .
و المثال الواضح هو الإزالة و الصّلاة ... فلو التفت إلی النجاسة فی المسجد و هو فی الصّلاة ، فالصّلاة مأمور بها حتی بناءً علی انکار الترتب ، فإن کان دلیل وجوب الأهم هو الإجماع ، کان المورد خارجاً عن القدر المتیقّن ، و هو صورة الاشتغال بواجبٍ ، و المفروض کونه فی الصّلاة . و إن کان دلیله لفظیّاً و کان مطلقاً ، قطع الصّلاة و عمل بمقتضی الترتب .
فأشکل علیه : بأن دلیل حرمة قطع الصّلاة إن کان هو الأخبار فی أن تحلیلها التسلیم ، فالأمر کما أفاد المیرزا ، لأن القدر المتیقّن من الإجماع علی وجوب إزالة النجاسة عن المسجد فوراً ، إنما هو فی غیر ما دلّ الدلیل اللّفظی بإطلاقه علی وجوب المضیّ فی الصّلاة ، المستلزم لتأخیر الإزالة إلی زمان الفراغ منها . و أمّا إن کان دلیل حرمة قطع الصّلاة هو الإجماع فقط ، لعدم دلالة تلک الأخبار إلّا علی الحکم الوضعی فلا تفید الحرمة التکلیفیّة ، فلا موجب لتقدّم وجوب المضیّ فی الصّلاة علی وجوب الإزالة ، بل مقتضی القاعدة هو الحکم بالتخییر . فقول المیرزا بوجوب المضیّ فی الصّلاة لا دلیل علیه (1) .
ص:268
و قد أجاب الأُستاذ عن ذلک : بمنافاته لما بنی علیه المستشکل فی الفقه ، فقد ذهب إلی أن معنی کلمة « الحل » لغةً و عرفاً هو « الإرسال » کما أن « الحرمة » هی « الحرمان » و مقتضی ذلک : ظهور اللّفظتین فی الإطلاق الشامل للحکم الوضعی و التکلیفی معاً ، و تخصیصها بأحدهما یحتاج إلی قرینةٍ ، کأن لا یکون المورد قابلاً للحکم الوضعی کما فی «أُحِلَّ لَکُمُ الطَّیِّبٰاتُ » (1)و «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَالدَّمُ » (2)و أمّا مع عدم القرینة ، فمقتضی القاعدة هو الحمل علی الجامع بین الحکمین کما هو مختاره فی «وَأَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبٰا » (3).
وعلیه ، فإن المستفاد من الأخبار هو مبطلیّة فعل المنافی للصّلاة و حرمة ذلک تکلیفاً ، إلّا فی النّافلة لقیام الدلیل علی جواز قطعها فیکون مخصّصاً للأخبار المذکورة ، و أمّا الخدشة فی أسانیدها فمردودة ، کما أوضحناه فی محلّه .
و تلخّص : أن الحق مع المیرزا ... و اللّٰه العالم .
و هذا تمام الکلام فی مسألة الضدّ .
ص:269
ص:270
متعلّقة بالطبائع أو الأفراد ؟
ص:271
ص:272
قال : الحق أن الأوامر و النواهی تکون متعلّقة بالطبائع دون الأفراد .
و لا یخفی أن المراد أن متعلّق الطلب فی الأوامر هو صرف الإیجاد ، کما أنّ متعلّقه فی النواهی هو محض الترک . و متعلّقها هو نفس الطبیعة المحدودة بحدود و المقیّدة بقیود تکون بها موافقة للغرض و المقصود ، من دون تعلّق غرض بإحدی الخصوصیّات اللّازمة للوجودات ، بحیث لو کان الانفکاک عنها بأسرها ممکناً لما کان ذلک ممّا یضرّ بالمقصود أصلاً ، کما هو الحال فی القضیّة الطبیعیّة فی غیر الأحکام ، بل فی المحصورة علی ما حقق فی غیر هذا المقام .
و فی مراجعة الوجدان للإنسان غنیً و کفایة عن إقامة البرهان علی ذلک ، حیث یری إذا راجعه أنه لا غرض له فی مطلوباته إلّا نفس الطبائع ، و لا نظر له إلیها من دون نظرٍ إلی خصوصیّاتها الخارجیّة و عوارضها العینیّة ، و إنّ نفس وجودها السّعی - بما هو وجودها - تمام المطلوب ، و إن کان ذاک الوجود لا یکاد ینفکّ فی الخارج عن الخصوصیّة . فانقدح بذلک أن المراد بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الأفراد أنها بوجودها السّعی بما هو وجودها قبالاً لخصوص الوجود متعلّقة للطلب ، لا أنها بما هی هی کانت متعلّقة له کما ربما یتوهّم ، فإنها کذلک لیست إلّا
ص:273
هی ، نعم هی کذلک تکون متعلقة للأمر فإنه طلب الوجود . فافهم (1) .
توضیحه
عند ما یتعلّق الأمر بالصّلاة - مثلاً - فإنّها إذا وجدت کان لها لوازم ، من المکان و الزّمان الخاصّین بها ، و من غیر ذلک ، فعلی القول بتعلّق الأمر بالطّبیعة تکون هذه الخصوصیّات اللّازمة للوجود خارجةً من تحت الطلب ، و علی القول بتعلّقه بالفرد داخلة تحته ... هذا ما ذکره أوّلاً . لکنّه غیّر التعبیر فقال : إن الغرض متعلّق بنفس الطبیعة ، و إن نفس وجودها السعی - بما هو وجودها - تمام المطلوب ، من دون نظرٍ إلی خصوصیّاتها الخارجیّة و عوارضها العینیّة ، و إن کان ذاک الوجود لا یکاد ینفکّ فی الخارج عن الخصوصیّة .
و الحاصل : تارةً : ننظر إلی الطبیعة بما هی موجودة فنقول : المطلوب فی ب « أَقِمِ الصَّلٰاةَ » (2)مثلاً هو وجود طبیعة الصّلاة ، لا هذا الوجود منها أو ذاک من الوجودات الخاصة ، و أُخری : ننظر إلیها مجرّدةً عن لوازم وجودها و أمارات تشخّصها و نقول بأن المطلوب هو وجود الطبیعة ، و تلک العوارض و اللوازم غیر داخلة فی الطلب ... و علی کلّ تقدیرٍ ، فإنّ تمام المطلوب هو الطبیعة - لا هذا الفرد أو ذاک - تلک الطبیعة التی هی ملزوم اللّوازم و المشخّصات ، أمّا هی ، فخارجة عن تحت الطلب و إن کانت الطبیعة غیر منفکّة عنها .
هذا ، و قد أشار بأمره بالفهم إلی أنه لا یمکن أن یکون الأمر طلب الوجود ، بل الأمر نفس الطلب ، فالوجود خارج من الأمر .
ص:274
و أمّا دلیله علی ما ذهب إلیه من أن متعلّق الأمر هو الطبیعة ، فالوجدان ، یعنی أنّا لمّا نراجع الوجدان - فی المرادات التکوینیّة ، کإرادتنا للأکل و الشرب و الضّرب ، و التشریعیّة ، کإرادتنا صدور تلک الأفعال من الغیر - نری أن متعلّق الطلب و الإرادة لیس إلّا وجود الطبیعة و لا دخل للزمان و المکان ... غیر أنّ الفرق بین الأمر و النّهی هو أنّ متعلّق الطلب فی الأولی هو صرف الإیجاد و فی الثانی محض الترک ، و لا یخفی وجود الخلاف فی حقیقة الأمر و النهی ، فقیل : الأمر هو البعث نحو المادّة و النهی هو الزجر عنها ... و علی هذا لا دخل للوجود و العدم فی المتعلّق . و قیل - و هو مسلک الکفایة - أن المدلول فی الأمر و النهی لیس إلّا الطلب ، غیر أن متعلّقه فی طرف الأمر هو الوجود و فی طرف النهی هو الترک و العدم .
أمّا صاحب الفصول و المحقق القمی ، فقد استدلّا للمدّعی بالتبادر ، و بأن مادّة المتعلّق - مثل الصّلاة - لیست إلّا الصّلاة ، و الخصوصیّات الزائدة علیها لا دخل لها فی المادّة .
فظهر أنّ الأدلّة للمدعی ثلاثة :
1 - تبادر الطبیعة إلی الذهن .
2 - مادّة متعلّق الأمر .
3 - الوجدان .
ثم إنّ الأُستاذ أورد علی ما تقدّم عن الکفایة بما یلی :
أوّلاً : إنه جعل مدلول الأمر طلب الفعل ، و مدلول النهی طلب الترک . فیرد علیه الإشکال فی الأوامر التی هی هیئات عارضة علی المواد - و هی الأکثر فی الأوامر - بأنّ الهیئات معانی حرفیّة ، و« الطلب » معنی اسمی ، فکیف یصیر المعنی الاسمی مدلولاً للهیئة ؟
ص:275
فإن قیل : إن المحقق الخراسانی لا یفرّق بین المعنی الاسمی و المعنی الحرفی .
قلنا : نعم ، لکنّه یری الاختلاف بینهما باللّحاظ ، و هذا یتمّ فی مثل الابتداء و الانتهاء و نحوهما ، أمّا الطلب فلا یقبل اللّحاظین .
و ثانیاً : إنه جعل الاختلاف بین الأمر و النّهی فی ناحیة المتعلّق ، فکلّ منهما طلب ، لکن الأمر طلب الفعل و النهی طلب الترک . و فیه : إن هذا خلاف الارتکاز العرفی ، إذ العرف العام علی أنهما متغایران بالذات .
و ثالثاً : إنه أدخل الوجود و العدم فی مدلولی الأمر و النهی ، لکنّ کلّاً من الأمر و النهی مرکّب من المادّة و الهیئة ، و لا دلالة لشیءٍ منهما علی الوجود فی طرف الأمر ، و العدم فی طرف النهی ، و قد عرفت أنّ المعنی الاسمی لا یمکن أن یکون مدلولاً للهیئة التی هی معنی حرفی ، و لا یعقل وجود مدلولٍ بلا دالٍ ، فلا یدلّ الأمر علی طلب الوجود و النهی علی طلب الترک و العدم .
و رابعاً : قوله : بأن متعلّق الطلب هو وجود الطبیعة ، لأن الطبیعة من حیث هی لیست إلّا هی ، لا مطلوبة و لا لا مطلوبة . و فیه : إن الطلب علی مسلکه هو طلب الوجود ، و قد طرأ علی الطبیعة - و هو أمر زائد علی ذاتها - فلما ذا لا یطرأ علی الطلب ؟ و علی الجملة ، فإنّ المناط لصحّة تعلّق الطلب بوجود الطبیعة هو المناط لتعلّقه بها ، و إذا کانت الطبیعة من حیث هی لیست متعلّقة للأمر ، فهی غیر متعلّقة للطلب أیضاً .
و خامساً : ما أورده المحقّقان الأصفهانی و العراقی ، و هو یرتبط بجوابه عن الوهم . و توضیح ذلک :
إنه قد ذکر تحت عنوان « دفع وهم » ما حاصله : إن الأمر طلب وجود
ص:276
الطبیعة ، فیرد علیه : أنّه إنْ کان المراد وجودها الذهنی ، ففیه : أن الوجود الذهنی لیس بحاملٍ للغرض حتی یطلب . و أیضاً : یرد علیه ما یرد علی الوجود الخارجی إن کان المراد ، و هو : إن الطلب من المفاهیم ذات التعلّق ، کسائر الصفات النفسانیة من الحبّ و البغض و نحوهما ، فلو تعلّق بالوجود الخارجی ، یلزم أن یصیر هو - أی الطلب - خارجیّاً ، أو یصیر المتعلّق الخارجی نفسانیّاً ، و کلاهما محال .
و أیضاً : فإنّ الخارج ظرف سقوط الطلب ، فکون الوجود الخارجی مقوّماً للطلب محال .
فأجاب فی الکفایة : بأن کون وجود الطبیعة أو الفرد متعلّقاً للطلب هو أن یرید المولی صدور الوجود من العبد و إفاضته بالمعنی الذی هو مفاد کان التامّة ، لا أنه یرید ما هو صادر و ثابت فی الخارج کی یلزم طلب الحاصل کما توهّم ...
فلیس متعلّق الطلب هو الوجود الخارجی ، لأنه مسقط للطلب و لأنّه تحصیل للحاصل ، بل المتعلّق هو الإفاضة .
و الإشکال علی هذا الجواب هو : إن الإفاضة عین المفاض ، و الصدور عین الصادر ، و الإیجاد عین الوجود ، لأنّ اسم المصدر و المصدر واحد حقیقةً و الاختلاف بالاعتبار ، فرجع الأمر إلی الوجود الخارجی ، فالإشکال باق علی حاله .
و أمّا المیرزا النائینی (1) ، فقد جعل البحث فی المقام من صغریات مبحث أنّ الکلّی الطبیعی موجود فی الخارج أو لا ؟ فعلی القول بعدم وجوده خارجاً ، یکون متعلّق الطلب هو الفرد ، إذ المفروض أنه موجود غیره ، فهو المطلوب و الغرض
ص:277
قائم به . أمّا علی القول بوجود الکلّی الطبیعی ، فهو متعلّق الغرض بقطع النظر عن مشخّصاته ، بحیث لو تمکّن المکلّف من إیجاده خارجاً بدونها لحصل الغرض .
و علی هذا ، فتظهر الثمرة بین القولین فی مسألة اجتماع الأمر و النهی ، ففی الصّلاة فی الدار المغصوبة - مثلاً - یبقی الطلب علی القول بتعلّقه بالطبیعة علی الصّلاة و لا یتجاوزه إلی متعلّق النهی و هو الغصب ، لکونهما طبیعتین مستقلتین ، غایة الأمر ، أن کلّ واحدةٍ منهما قد أصبحت مشخّصةً للأُخری فی مورد الاجتماع ، و المفروض خروج المشخّصات عن دائرة المتعلّق ، وعلیه ، فیقال بجواز اجتماع الأمر و النهی . و أمّا علی القول بتعلّق الطلب بالفرد ، و هو الصّلاة مع المشخّصات فی المثال ، فقد أصبح الفرد - و هو هذه الصّلاة فی الدار المغصوبة - هو المطلوب ، فیلزم اجتماع الأمر و النهی فی الشیء الواحد ، و هو محال ... و هذه ثمرة مهمّة .
و المختار عند المیرزا هو : تعلّق الأمر بالطبیعة ، و أنّ المشخّصات لها إنما توجد فی عرض وجودها خارجاً ، و لیست من ذات الطبیعة و ماهیّتها قبل وجودها ، لتدخل فی دائرة المتعلّق .
و قد أشکل علیه فی ( المحاضرات ) : بأن هذه النظریة خاطئة ، لأنّ کلّ وجود - سواء کان جوهراً أو عرضاً - یتشخّص فی الخارج بذاته ، فلا یعقل أن یکون متشخّصاً بوجود آخر ، لأن الوجود هو التشخص و تشخّص کلّ شیء بالوجود ، فلا یعقل أن یکون تشخّصه بشیء آخر أو بوجود ثان و إلّا لدار أو تسلسل ، وعلیه ، فتشخّصه - بمقتضی قانون کلّ ما بالغیر وجب أن ینتهی إلی ما بالذات - یکون بنفس ذاته ، و هذا بخلاف الماهیّة فتشخّصها یکون بالوجود .
وعلیه ، فإنّ الأمور المتلازمة مع الطبیعة خارجاً من الکم و الکیف و غیرها ،
ص:278
موجودات أُخری فی عرض وجود الطبیعة و متشخّصات بنفس وجوداتها ، و هی أفراد لطبائع مختلفة ، فلا یعقل أن تکون مشخّصات لوجود الطبیعة ، وعلیه ، ففی إطلاق المشخّصات للطبیعة علیها مسامحة واضحة .
( قال ) و بعد بیان ذلک نقول : إن تلک اللّوازم و الأعراض کما أنها خارجة عن متعلّق الأمر علی القول بتعلّقه بالطبیعة ، کذلک هی خارجة عن متعلّقه علی القول بتعلّقه بالفرد ، بداهة أنه لم یقصد من القول بتعلّقه بالفرد تعلّقه بفردٍ ما من هذه الطبیعة و فردٍ ما من الطبائع الأُخری الملازمة لها فی الوجود الخارجی کالغصب مثلاً .
( قال ) و کیف کان ، فالعجب منه قدّس سرّه کیف غفل عن هذه النقطة الواضحة و هی : أن الأعراض و اللوازم لیست متعلّقة للأمر علی کلا القولین ، و لکنک قد عرفت أن هذا مجرّد خیال لا واقع له ، و إن مثل هذا الخیال من مثله غریب ، لما سبق من أن تلک الأعراض لا تعقل أن تکون مشخّصات الوجود خارجاً ، فإن تشخّص الوجود بنفسه لا بشیء آخر ، بل إنها وجودات أُخری فی قبال ذلک الوجود و ملازمة له فی الخارج (1) .
و أجاب الشیخ الأُستاذ : بأن السیّد قد اشتبه فی تقریب کلام المیرزا فقال ما لا ینبغی أن یقول ، فإنّ المیرزا یصوّر النزاع علی أساس أن التشخّص بالوجود : بأنّه إن کانت المشخّصات عارضةً علی الطبیعة قبل عروض الوجود ، فالوجود لا محالة یکون طارئاً علی الماهیّة المشخّصة ، و تکون العوارض موجودة بعین وجود الفرد ، و إن کانت غیر عارضة علی الطبیعة قبل وجود الفرد ، بل فی نفس
ص:279
تلک المرتبة التی طرأ فیها الوجود علی الفرد ، فالماهیّة حینئذٍ غیر متشخصة بالعوارض بل یکون تشخّصها بالوجود .
فالقائلون بتعلّق الأمر بالفرد یقولون بأن الماهیّة تتشخّص بالعوارض من الکم و الکیف و الأین ، فتکون موجودة . و القائلون بتعلّقه بالطبیعة یقولون بأن متعلّق الأمر هو الماهیّة و التشخّص غیر داخل فیه .
و بهذا تظهر الثمرة فی مسألة اجتماع الأمر و النهی ، فعلی القول بخروج التشخصات عن المتعلّق یکون متعلق النهی غیر متعلق الأمر ، و أمّا علی القول بدخولها کان الأمر و النهی واردین علی الشیء الواحد ، و یلزم الاجتماع و لا بدّ من القول بالامتناع .
و مختار المیرزا هو أن العوارض المشخّصة لیست عارضةً من قبل ، بل إنها تشخّص الماهیّة فی عرض الوجود ، فالمتعلّق هو الطبیعة .
و الحاصل : إن المیرزا یصرّح بأن التشخّص لیس إلّا بالوجود ، و نسبة تشخّص الماهیّة بالعوارض إلیه هو الأمر الغریب .
إلّا أن یشکل علی المبنی ، فینکر أن تکون العوارض و المشخّصات فی عرض الوجود ... و هذا أمر آخر .
و قال المحقق العراقی قدّس سرّه : إن الطلب علی کلّ تقدیر یحتاج إلی متعلّق ، و هو مورد النزاع .
و الطبیعة تلحظ : تارةً بما هی هی ، ففی الانسان - مثلاً - لا یلحظ إلّا الحیوان و الناطق . و أُخری : تلحظ موجودةً بالوجود الذهنی کقولنا : الإنسان نوع . و ثالثةً :
تلحظ بما هی خارجیّة .
ص:280
فیقول : إن متعلّق الطلب فی الأمر هو العنوان ، لکن العنوان المرئیّ خارجاً ، و کذلک الصفات النفسانیّة کالحبّ و الشوق و الإرادة ، فإنها تتعلّق بالعناوین الفانیة فی المعنونات . فمراد القائلین بتعلّق الأمر بالفرد هو أن المتعلّق نفس المعنون الموجود فی الخارج ، و مراد القائلین بتعلّقه بالطبیعة أن المتعلّق هو العنوان - لا المقیّد بالوجود الذهنی ، لأنه لا یقبل الوجود فی الخارج ، و لا بما هو هو ، لأنه لیس بحاملٍ للغرض کی یتعلّق به الغرض و الأمر ، و لا الموجود فی الخارج ، لأنه فرد و هو منشأ لانتزاع عنوان الطبیعة ، - أی العنوان المتّحد مع الخارج ، کالإنسان المتحد مع زید ... فظهر الاختلاف بین القولین ... فالقول الأول : هو تعلّق الأوامر بالأفراد الموجودة خارجاً ، کزید المعنون بعنوان الإنسان . و القول الثانی : هو تعلّقها بالعناوین کعنوان الإنسان الملحوظ فانیاً فی زید .
قال : نظیر الحال فی الجهل المرکب ، حیث توجد الإرادة عند الجاهل کذلک ، لکنّ متعلّق الإرادة عنده هو العنوان و الصورة الفانیة فی الخارج فی ذهنه ، لا الخارج ، لأن الخارج ظرف سقوط الأمر ، فلا یکون متعلّقاً للطلب و الإرادة التی هی صفة نفسانیة .
ثم أورد علی الکفایة قوله : بأن متعلّق الطلب هو إیجاد الطبیعة فقال : إن متعلّق الطلب متقدّم علی الطلب تقدّماً طبعیّاً ، فلا یعقل وجود الطلب بلا متعلّق ، و إن أمکن وجود المتعلّق بلا طلب ، کأن یتعلّق الطلب بالأکل ، فإنه بدون الأکل محال ، لکن قد یوجب الأکل بلا طلب ، فلا ریب فی تقدّم متعلّق الطلب علی الطلب تقدّم الواحد علی الاثنین ، إذ لا یعقل وجود الاثنین بدون الواحد ، لکن یمکن وجوده بدون الاثنین ... هذا أوّلاً .
و ثانیاً : إن إیجاد الطبیعة معلولٌ للطلب فیکون متأخّراً عنه رتبةً ، فلو کان هو
ص:281
المتعلّق کان متقدّماً رتبةً علی الطّلب ، فیلزم تقدّم المتأخّر ، و هو محال .
و أورد علیه أیضاً قوله : بکون المتعلّق هو الوجود السعی للطبیعة : بأنّ هذا غیر ممکن ، لأنه قد تؤخذ مادة الوجود فی الأمر ، فیلزم حضور الوجود فی الذهن قبل الأمر بمرتبتین ، کما لو قال - بدل : « صل » - أوجد الصّلاة ، و هذا ضروری البطلان .
و تلخّص : إنه لیس متعلّق الإرادة هو الخارج ، إذ الخارج ظرف سقوط الطلب و الارادة ، و لیس الوجود الذهنی ، بل إن الحامل للمصلحة و الغرض هو الوجود الخارجی و متعلّق الطلب هو الوجود الزعمی ، کما ذکر ، أی الوجود المرئی خارجاً ، فلمّا یقول : « جئنی بماءٍ » یتصوّر الماء خارجاً ، أمّا لدی التّصدیق فالصّورة غیر خارجیّة و إنما هی مرئیّة خارجاً ، فالصّورة فی النظر التصوّری خارجیّة و فی النظر التّصدیقی غیر خارجیّة ، لأن الخارج ظرف للسقوط ، فهی غیر منعزلة عن الخارج ، کما أن الماهیّة غیر منعزلة عن الوجود ، لکنّ التحلیل العقلی یعزل الماهیّة عن الوجود ، فالصّور کذلک ، هی بالتحلیل العقلی منعزلة عن الخارج ، لکنّ الصورة متّحدة مع الخارج ، فیکون الخارج هو الحامل للغرض ، و لکن الصّورة هی متعلّق الطلب (1) .
و تنظّر الأُستاذ فی هذه النظریّة : بأنه صحیحٌ أن الخصوصیّات لا تتعلّق بها الإرادة ، سواء فی الأوامر الشرعیّة أو العرفیّة ، لکنّ القول بأن متعلّق الإرادة هی الصّورة الفانیة فی الخارج بالنظر التصوّری - أمّا بالنظر التصدیقی فخلاف الواقع ، لکون الصورة فی الذهن و لا علاقة لها بالخارج - لا یمکن المساعدة علیه ، لأنه
ص:282
خلاف الوجدان ، لأنا لا نجد فی أنفسنا فی مختلف مراداتنا تعلّق الطلب و الإرادة بالصّورة الفانیة فی الخارج ، و کیف یکون للإنسان طلب و إرادة و لا یجد فی نفسه و لا یلتفت إلی متعلّق طلبه ؟ هذا أوّلاً .
و ثانیاً : إنّ المفروض فی کلامه قدّس سرّه هو : أجنبیّة الصّورة الفانیة فی الخارج عن الخارج الواقعی ، و أنّ ذلک لیس إلّا فی النظر التصوّری أمّا بالنظر التصدیقی فهو باطل . فیرد علیه : أنه کیف یعقل تعلّق الإرادة بعنوانٍ و صورةٍ یراها بالنظر التصدیقی غیر موجودة فی الخارج ؟
و أمّا إیراده علی نظریّة تعلّق الأمر بإیجاد الطبیعة ، فیمکن دفعه بأن : الإیجاد ذهنی تارةً و أُخری هو ذهنی فانٍ فی الخارج ، فکما عندنا وجود خارجی و وجود ذهنی هو مرآة للوجود الخارجی ، کذلک الإیجاد ، لأن الوجود و الایجاد واحد حقیقةً ، فلقائل أن یقول بأن متعلّق الطلب هو الایجاد المفهومی الفانی فی الخارج ... و بذلک یندفع الإشکال و إن کانت عبارة الکفایة قابلةً له .
و أمّا إیراده الثانی من لزوم تصوّر الوجود مرّتین فی مثل : أوجد الصّلاة ، لکون الهیئة مشتملةً علی الوجود علی مسلک الکفایة ، و لکون مادّة الوجود فی حیّز الطلب ... فقد یجاب عنه : بأنّ الوجه فی إشراب الوجود فی الهیئة هو أن العقل یری عدم قابلیّة الطبیعة من حیث هی لتعلّق الطلب بها ، فلا مناص من أخذ الوجود لتصیر قابلةً لذلک ، سواء کانت المادّة هی الوجود أو غیره من المواد ، فإن کانت المادّة هی الوجود فلا ضرورة عقلیّة لإشرابه فی المادّة ، فلا یتکرّر تصوّر الوجود .
ص:283
و أمّا السیّد البروجردی ، فقد قدّم علی بیان ما ذهب إلیه (1) مقدّماتٍ ، ذکر فی الأولی المراد من الحصّة و الطبیعة و الفرد فقال : بأن المراد من الحصّة تارةً : هو الطبیعة المضافة کقولنا : الانسان الأبیض ، و أُخری : الماهیّة المتشخّصة بالوجود ، أی الإنسانیة الموجودة بوجود زید حصّة من الإنسان ، و کذا فی عمرو و غیره ، فلهم فی الحصّة اطلاقان فی قبال الطبیعة بقطع النظر عن الإضافة ، کقولک الانسان نوع ، الصادق علی الخارج من زید و عمرو ... فیقال : زید إنسان ، و ذلک لأنهم وجدوا فی الأفراد - کقولنا زید موجود - حیثیّتین ، حیثیّة الوجودیّة ، و هی تشمل عمراً و بکراً و السماء و الأرض أیضاً ، و حیثیّة خصوصیّة فی زید ، فهو زید و مع الإنسانیة التی یشارکه فیها عمرو و بکر ، فالطبیعة لها وجود فی القضیّة الذهنیّة - و هی قولنا : الإنسان نوع - یشترک فیها زید و عمرو و بکر من حیث الوجود کما یشترکون من حیث الانسانیة ... و هذه هی الطبیعة .
( قال ) و الماهیّة التی هی عبارة عن الطبیعة موجودة فی الخارج ، و لا یصح القول بعدم وجودها ، غیر أنّ للوجود إضافتین ، احداهما : إلی الفرد ، و الأُخری :
إلی الطبیعة ، فهو یضاف أوّلاً و بالذات إلی الماهیّة المتشخّصة التی هی حصّة من الطبیعة ، ثم إلی الطبیعة فی الرتبة الثانیة ، فبناءً علی أصالة الوجود یکون المتحقق بالذات فی الخارج هو الوجود ، إلّا أنه لیس بغیر حدّ ، بل الحدّ أیضاً موجود حقیقةً ، فالوجود موجود بالذات و الإنسانیّة الموجودة فی زید حدّ لهذا الوجود ، و کذلک الوجود فی عمرو ... و ذلک الحدّ هو الماهیّة الشخصیّة أی الإنسانیة الموجودة بوجود زید المرکّبة من جنس هو « حیوان » و فصل هو « ناطق » . و هکذا
ص:284
فی غیره ... لکن الإنسانیة الموجودة بوجود زید غیر الموجودة بوجود عمرو ...
و هکذا ، کما أنّ وجود کلّ منهم یغایر وجود الآخر ... إلّا أن الإنسانیّة - الحیوانیّة الناطقیة - موجودة و وجودها یکون أوّلاً و بالذات ، و یکون وجود الإنسان : زید و عمرو ... ثانیاً و بالعرض ، أی بتبع وجود الإنسانیّة ، و هذا معنی قولهم : « الحق أن الطبیعی موجود بوجود فرده » .
فظهر المراد من الحصّة و الطبیعة و الفرد ، و خلاصة ذلک أن :
الحصّة عبارة عن الإنسانیة الموجودة بوجود خاص :
و الطبیعة عبارة عن الجهة المشترکة بین الإنسانیّات الموجودة ، و وجود هذه الجهة یکون بوجود الأفراد ، کنسبة الآباء إلی الأبناء .
و الفرد قد یطلق و یراد منه الوجود ، بناءً علی أصالة الوجود ، إذ الوجود متفرّد بذاته و هو عین الفردیة ، و قد یطلق و یراد منه الماهیّة ، و هو الفرد بالعَرَض .
و قد ذکروا أن الماهیّة علی قسمین : ما یقبل الصّدق علی کثیرین و هو الطبیعة غیر المتحصّصة ، و ما لا یقبله و هو الماهیّة المتحصّصة أی المتشخّصة . فالإنسانیة تصدق علی کثیرین ، أمّا إنسانیة زید فلا ، کما أن الوجود کذلک ، فلا یقبل الصّدق علی کثیرین لأنه سالبة بانتفاء الموضوع ، بخلاف الماهیّة المتشخّصة ، فهی فی ذاتها تقبل الصّدق علی کثیرین ، لکنّها بإضافتها إلی الوجود سقطت عن القابلیّة لذلک ، فکان عدم القابلیّة للصّدق علی کثیرین فیها بالعرض ، کما کان فی الوجود بالذات .
المقدمة الثانیة : تارةً : نجعل الموضوع فی القضیّة مفهوم الوجود کأن نقول : « مفهوم الوجود من أعرف الأشیاء » ، أی: إنه بدیهی التصوّر ، و هذا من أحکام مفهوم الوجود ، - لا من أحکام واقع الوجود ، لاستحالة تصوّر واقع الوجود
ص:285
حتی یحکم علیه بحکمٍ - بأن یجرّد المفهوم من الوجود و یتصوّر وحده فی الذهن ، ثم یحکم علیه .
و أُخری : نجعل الموضوع واقع الوجود ؟ کأن نقول : « کنه الوجود فی غایة الخفاء » . لکن إذا کان واقعه غیر قابلٍ للتصوّر ، فکیف یجعل موضوعاً ویحکم علیه بحکم من الأحکام ؟
إن غایة ما قیل فی الجواب هو : إن مفهوم الوجود ، إن لوحظ بلحاظ ما فیه ینظر ، کان موضوعاً لأحکام نفس المفهوم ، و إن لوحظ بلحاظ ما به ینظر ، کان موضوعاً لأحکام واقع الوجود ، و فی قولنا : « کنه الوجود فی غایة الخفاء » جعلنا مفهوم الوجود بما فیه ینظر بالنسبة إلی واقع الوجود .
فقال : بأن متعلّق الطلب هو مفهوم وجود الطبیعة ، لکن بلحاظه مرآةً لوجود الطبیعة ، خلافاً لصاحب الکفایة ، إذ قال بأن المتعلّق هو وجود الطبیعة .
المقدمة الثالثة : إن متعلّق الطلب لا بدّ و أن یکون فیه جهة وجدان وجهة فقدان ، و أمّا الفاقد من جمیع الجهات فلا یصلح لأن یتعلّق به الطلب ، لأنه معدوم و المعدوم لا یتقوّم وجود الطلب به ، و کذا لو کان واجداً من جمیع الجهات ، فإن طلب ما کان کذلک طلب للحاصل و هو محال .
و بعد المقدمات : إن متعلّق الطلب و الإرادة هو الوجود الفرضی للموجود التحقیقی الخارجی ، فإنّه فی عالم الفرض یفرض وجود شیء فیتعلّق الإرادة و الطلب و الشوق به لأن یوجد خارجاً ، فالمتعلّق هو ما فی یفرض أنه موجود فی الخارج ... و کذلک الحال فی جمیع الإرادات التکوینیّة ، إذ المتعلّق لها هو الموجود بالحمل الشائع لکن بالوجود الفرضی ، و وزان الإرادة التشریعیّة وزان الإرادة التکوینیّة ، فیکون المتعلّق لها هو الوجود التحقیقی الموجود بالوجود
ص:286
الفرضی ... و أمارات المشخّصات خارجة عن دائرة المتعلّق ... و علی هذا ، یکون تطبیق المکلّف للمتعلّق علی الأفراد بنحو التخییر ... لأنه لیس المتعلّق إلا وجود الطبیعة بالوجود الفرضی بتعبیر المحقق الأصفهانی ، و بتعبیر السید البروجردی :
مفهوم وجود الطبیعة الفانی بوجود الطبیعة ، فیکون التطبیق بید المکلّف ، و هذا تخییر عقلی ، بخلاف ما لو قلنا بتعلّق الطلب بالأفراد و الماهیّة الشخصیّة ، فإن التخییر یکون شرعیّاً . فظهر ما فی کلام المحاضرات من جعل التخییر عقلیّاً علی کلّ تقدیر .
قال الأُستاذ بعد بیان کلام المحقق الأصفهانی و السید البروجردی : بأن الإشکال السّابق یعود ، لأن مفروض الکلام کون الآمر ملتفتاً إلی أن متعلّق طلبه لیس خارجیّاً و أنه یستحیل ذلک ، لکن غرضه من الطلب قائم بالوجود الخارجی لا الفرضی ... .
و علی الجملة ، فإنّ مشکلة کیفیّة تعلّق الطلب باقیة ، و لم تحل بوجهٍ من الوجوه المذکورة فی المقام فی الکتب الأُصولیّة ... بل إن حلّها موقوف علی فهمنا لکیفیّة علمنا بالأشیاء ، و أنه هل یمکن المعرفة أو لا ؟
و کیف کان ، فعلی القول بتعلّق الأمر بأمارات التشخّص و کونها داخلةً فی المتعلّق ، فلا محالة یلتزم بالامتناع فی مسألة اجتماع الأمر و النهی ، لکون المورد حینئذٍ صغری لباب التعارض ، و علی القول بخروجها ، یکون صغری لباب التزاحم ، و تکون النتیجة هو القول بالجواز .
لکن الحق خروجها عن المتعلّق ، لأن محلّ البحث هو تعلّق الأمر بذات الطبیعة ، المرئیة خارجاً کما علیه المحقق العراقی ، أو الموجودة بالوجود الفرضی
ص:287
کما علیه السید البروجردی ... فالمتعلّق هو القدر المشترک بین الحصص ، لأنّه الذی یقوم به الغرض ، ... وعلیه یکون التخییر عقلیّاً ... خلافاً للعراقی فإنّه - مع ذهابه إلی أن المتعلّق عبارة عن الطبیعة و أن الحصص غیر داخلة فیه - قال بأن التخییر شرعی ، لکون المتعلّق و إن کان الطبیعة ، لکنه الطبیعة بالحدود الطبیعیّة ، کالإنسان مثلاً ، فإنه یمتاز عن غیره من الأنواع بحدودٍ طبیعیّة ، فإذا کان کذلک ، کان التخییر شرعیّاً .
فأورد علیه الأُستاذ : بأنّ الحدود للطبیعة لیست إلّا الجنس و الفصل ، لأنّ الحدّ المضاف إلی الطبیعة المقوّم لها لیس إلّا ذلک ، فعلی القول بتعلّق الأمر بالطبیعة ، یکون المتعلّق هو الطبیعة النوعیّة ، و هی متّحدة مع الحدود ، غیر أنّ الاختلاف یکون بالإجمال و التفصیل ، کالإختلاف بین « الإنسان » و« الحیوان الناطق » فلیست حدود الطبیعة شیئاً زائداً علیها ، و لمّا کان متعلّق الطلب هو الطبیعة و هی الحامل للغرض ، فکیف یکون التخییر شرعیّاً ؟ إنّ التخییر الشرعی یتقوّم بکون الخصوصیّة داخلةً تحت الطلب بنحو علی البدل ، بأن یصلح دخول « أو » علیه ، کما فی : أعتق رقبةً أو صم ستّین یوماً . أمّا حیث یکون متعلّق الطلب هو « الصّلاة » فلا تکون الصّلاة هنا أو هناک داخلةً تحت الطلب .
و تلخّص :
إن الأمر یتعلّق بالعنوان فیما لا طبیعة له ، کعنوان الصّلاة و الصّوم و الحج ، فإن کان للمتعلّق طبیعة قابلة للوجود خارجاً فإنها هی المتعلّق و هی الحاملة للغرض ، و یکون التخییر عقلیّاً .
ص:288
ص:289
ص:290
« إذا نسخ الوجوب ، فلا دلالة لدلیل الناسخ و لا المنسوخ علی بقاء الجواز بالمعنی الأعم و لا بالمعنی الأخص ، کما لا دلالة لهما علی ثبوت غیره من الأحکام .
ضرورة أنّ ثبوت کلّ واحدٍ من الأحکام الأربعة الباقیة بعد ارتفاع الوجوب واقعاً ممکن ، و لا دلالة لواحدٍ من دلیلی الناسخ و المنسوخ - بإحدی الدلالات - علی تعیین واحدٍ منها ، کما هو أوضح من أن یخفی ، فلا بدّ للتعیین من دلیلٍ آخر » (1) .
أقول :
للبحث أمثلة کثیرة ، منها : قوله عزّ و جلّ : «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِکینَ حَیْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » حیث قیل إنّ الآیة منسوخة بقوله عز و جلّ «لا إکراهَ فی الدِّین » .
فهل یبقی جواز القتل بعد زوال الوجوب أو لا ؟ فههنا مقامات ، أحدها : بقاء الجواز ثبوتاً ، و الثانی : الجواز إثباتاً ، و الثالث : فی مقتضی الأُصول فی المسألة ... .
و قد أشار المحقق الخراسانی فی کلامه المزبور إلی أنّ للجواز معنیین ، أحدهما : الجواز بالمعنی الأعمّ ، و هو ما یجتمع مع الوجوب و الاستحباب
ص:291
و الإباحة ، و الآخر : الجواز بالمعنی الأخص ، و هو الإباحة . و لفظ « البقاء » یقتضی أن یکون المراد من « الجواز » هو المعنی الأعم لا الأخص .
فما ذکره المحقق المذکور من عدم الدلالة علی بقاء الجواز ، لا بالمعنی الأعم و لا بالأخص ، مخدوش ، لأن الجواز بالمعنی الأخص لیس بقائیّاً أصلاً بل هو حدوثی .
إن البحث الثبوتی فی المسألة یبتنی علی تشخیص حقیقة الوجوب ، فهل هو بسیطٌ أو مرکّب ، و علی الثانی هو مرکّب من جواز الفعل مع المنع عن الترک ترکیباً انضمامیّاً ، أو مرکّب منهما ترکیباً اتحادیّاً من قبیل الترکیب بین الجنس و الفصل ، فیکون موجوداً بوجودٍ واحدٍ منحلٍّ إلی جزءین ؟ أقوال .
فعلی القول بالبساطة - و هو الحق - لا بقاء للجواز بعد ارتفاع الوجوب ، لأنّ الحقیقة شیء واحد ، إمّا موجود و إمّا مرتفع ، إذ البسیط لا یتبعّض و الواحد لا یتعدّد .
و کذا علی القول بالترکیب الاتّحادی ، لأن بقاء الجنس بعد زوال الفصل غیر معقول إلّا متفصّلاً بفصلٍ آخر .
و أمّا علی القول بالترکیب الانضمامی ، فیمکن بقاء الجواز ثبوتاً بعد زوال الوجوب ، و هذا واضح .
و حاول المحقق العراقی رحمه اللّٰه (1) تصویر بقاء الجواز ثبوتاً علی القول بالبساطة ، بأنّ الوجوب عبارة عن الإرادة غیر المحدودة بالحدّ العدمی ، و هذه
ص:292
الإرادة - مع کونها بسیطة - مشتملة علی ثلاثة أُمور هی : أصل الرجحان ، و الجواز ، و الحدّ الوجوبی و هو شدّة الرجحان ، فلو ارتفع شدّة الرجحان - و هو الوجوب - أمکن بقاء الرجحان و الجواز ، نظیر اشتمال اللّون الأبیض علی : اللّونیة ، و البیاض ، و شدّة البیاض ، فإن ارتفعت الشدّة ، کان اللون و البیاض باقیین .
و یشهد بذلک قولهم بجریان الاستصحاب فی المراتب ، کما فی النور ، فلو کان هناک نور شدید ، ثم علم بارتفاع الشدّة و شکّ فی بقاء أصل النور و الضوء ، فإنّه یستصحب النور .
و قد یورد علیه بناءً علی أنّ الوجوب أمر منتزعٌ من اعتبار الشارع اللّابدیّة علی ذمّة المکلّف ، و الأُمور الانتزاعیة لا مراتب لها و لیست مشکّکة . لکنّه إشکال مبنائی .
فیرد علیه - مع حفظ المبنی - أولاً : إن الإرادة ، و هی الشوق الأکید غیر المحدود ، کیف نفسانی تکوینی ، و الترخیص أمر جعلی اعتباری ، فکیف یکون من أجزاء الأمر التکوینی ؟
و من هنا یظهر أن الإرادة لیست إلّا الشوق و شدّة الشوق ، و لا ثالث .
و ثانیاً : إنه علی فرض کون الترخیص أمراً واقعیّاً ، فإنّ الإرادة عبارة عن الشوق کما تقدّم ، فإن أُبرزت مع الحدّ فهو الاستحباب ، و مع عدمه فهو الوجوب ، فهی متقوّمة بالرجحان ، لکنّ الترخیص هو اللّااقتضاء ، فاجتماع الترخیص مع الإرادة و دخالته فیها غیر معقول ، وعلیه ، فلو نسخ الوجوب أمکن بقاء الاستحباب - علی مبنی المحقق العراقی - لا الجواز بالمعنی الأعم الذی هو مورد البحث .
ص:293
قال : إن الجواز و الوجوب لیسا مجعولین شرعیین ، بل هما أمران انتزاعیّان ، و المجعول الشرعی إنما هو اعتبار المولی لا غیره ، و المفروض أنه قد ارتفع بدلیل الناسخ ، فإذن ، لا موضوع للاستحباب ( قال ) : و لو تنزّلنا عن ذلک و سلّمنا أنّ الوجوب مجعول شرعاً ، فمع ذلک لا دلیل لنا علی بقاء الجواز ، و الوجه فی ذلک :
أمّا أوّلاً : فلأن الوجوب أمر بسیط و لیس مرکّباً من جواز الفعل مع المنع من الترک .
و أمّا ثانیاً : فلو سلّمنا أن الوجوب مرکّب ، إلّا أن النزاع هنا فی بقاء بالجواز بعد نسخ الوجوب و عدم بقائه ، لیس مبنیّاً علی النزاع فی تلک المسألة ، أعنی مسألة إمکان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل و عدم إمکانه ، و ذلک ، لأن النزاع فی تلک المسألة إنما هو فی الإمکان و الاستحالة العقلیین ، و أمّا النزاع فی مسألتنا هذه إنما هو فی الوقوع الخارجی و عدم وقوعه ، بعد الفراغ عن أصل إمکانه (1) .
توضیحه :
إنّ الأمر الواقع بالنسبة إلی الوجوب هو اعتبار ثبوت الفعل فی ذمّة المکلّف ، فإن اعتبر مع الترخیص فی الترک ، کان المنتزع عقلاً هو الاستحباب ، فالوجوب فی الحقیقة أمر منتزع من الاعتبار الشرعی لا مع الترخیص ، فلیس مجعولاً شرعیّاً ، فلا موضوع للبحث عن أنه بعد النسخ هل یبقی الجواز أو لا ؟
و أیضاً : فإنّ حقیقة النسخ لیس الرفع ، لأنه یستلزم الجهل فی الباری ، و إنما هو الدفع ، بمعنی أنّه بیانٌ لانتهاء أمد الحکم ، و هذا مفاد الدلیل الناسخ .
ص:294
و أورد علیه شیخنا - فی کلتا الدورتین - بأن ما ذکره یناقض ما ذهب إلیه - تبعاً للمحقق العراقی - من عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة الکلیّة الالهیة الإلزامیّة - خلافاً للمشهور بین المحققین - من جهة المعارضة بین استصحاب بقاء المجعول مع استصحاب عدم الجعل ، کما لو شک فی جواز وطئ المرأة بعد انقطاع الدم و قبل الغسل ، فالأصل بقاء الحکم المجعول و هو حرمة الوطء فی حال الحیض ، لکن هذا الأصل معارض باستصحاب عدم جعل الحرمة لهذه الحال بالخصوص ، فالوجوب و الحرمة أمران مجعولان شرعاً . بینما یقول هنا بأنهما غیر مجعولین من قبل الشارع ، فکیف یقع التعارض ؟
و أمّا قضیّة أن حقیقة النسخ هو الدفع ، بمعنی انتهاء أمد الحکم ، فإنّه لا منافاة بین انتهاء أمد الحکم الوجوبی و بقاء أصل الجواز .
هو عدم البقاء ثبوتاً ، من جهة أنّ الوجوب أمر بسیط ، سواء کان انتزاعیّاً أو واقعیّاً . و ما ذکره المحقق العراقی من تصویر المسألة بناءً علی هذا القول ، قد عرفت ما فیه .
هذا تمام الکلام فی المقام الأول .
إنه بناءً علی تمامیّة بقاء الجواز ثبوتاً - کما علیه المحقق العراقی - تصل النوبة إلی مقام الإثبات و البحث عن دلالة الدلیل علی البقاء ، و لا دلیل إلّا الناسخ و المنسوخ . و تقریب الاستدلال هو : إن حکم الدلیل الناسخ بالنسبة إلی الدلیل المنسوخ حکم دلیل الاستحباب بالنسبة إلی دلیل الوجوب ، فکما یقتضی ذاک
ص:295
الدلیل رفع الید عن ظهور ما دلّ علی الوجوب و حمله علی الاستحباب ، کذلک ناسخ الوجوب ، فإنه یزاحم المنسوخ فی دلالته علی الوجوب ، أی شدّة الارادة ، و یبقی دلالته علی أصل الرجحان .
و قد أورد علیه المحقق العراقی (1) : بأن هذا إنما یتمّ فی الدلیلین المتعارضین ، کأن یقوم الدلیل علی الوجوب ثم یأتی دلیل آخر مفاده « لا بأس بالترک » ، فبمقتضی نصوصیّة الثانی أو أقوائیّة ظهوره یتقدّم علی الأوّل ، لا فی دلیلین أحدهما حاکم علی الآخر ، لأنه لا یلحظ فی الحکومة جهة النصوصیّة أو الأقوائیة بل الحاکم یتقدّم علی المحکوم و إن کان أضعف ظهوراً منه . و ما نحن فیه من هذا القبیل ، فإنّ الدلیل الناسخ ناظر إلی الدلیل المنسوخ ، و هذا معیار الحکومة ، فلا یتم تنظیر محلّ الکلام بالوجوب و الاستحباب .
ثم قال : و بناءً علی الحکومة ، و أن الحاکم یتقدّم علی المحکوم و إن کان أضعف ظهوراً ، فإنّ الظهور العرفی قائم علی کون الناسخ ناظراً إلی المنسوخ بجمیع مراتبه لا بعضها ، و علی هذا ، فإن المنسوخ یرتفع بتمام مدلوله - و هو الإرادة - و حینئذٍ لا یبقی شیء بعد ارتفاع الوجوب .
قال : اللّهم إلّا إذا کان الناسخ مجملاً ، فإنه یقتصر فیه علی القدر المتیقّن ، و هو نسخه لمرتبة الشدّة من الإرادة ، فیبقی أصل الإرادة ، إلّا إذا سری إجمال الناسخ إلی المنسوخ فیسقط من الأساس .
قال الأُستاذ
و لا یرد علی المحقق المذکور : أن ما ذکره إنما یتم فی صورة کون الظهور ذا مراتب ، و هذا أول الکلام ، إذ لا ینبغی الاختلاف فی مراتب الظهور ، و إلّا لما أمکن
ص:296
تقدم النصّ علی الظاهر ، إذ النصوصیّة لیست إلّا الشدّة فی مرتبة الظهور .
لکنّ الإشکال الوارد علیه فی استثنائه صورة إجمال الناسخ ، إذ فیه :
أوّلاً : إن الناسخ دلیل منفصلٌ عن المنسوخ ، فیستحیل سرایة إجماله إلیه ، و إلّا لزم سرایة إجمال کلّ مخصّص منفصل مجمل إلی العام ، و عدم جواز التخصیص ... .
و ثانیاً : إن بقاء الرجحان فی حال عدم سرایة الإجمال - إن کان مجملاً - إلی المنسوخ ، موقوف علی دلالة المنسوخ علی الرجحان ، و هی إمّا بالالتزام و إمّا بالتضمّن - و هو یقول بالثانی لأنه یری أن الرجحان من مراتب الوجوب ، و التحقیق هو الأول - لکنّ الدلالة التضمنیّة و الالتزامیة فرعٌ للدلالة المطابقیّة ، فی الحدوث و الحجیّة ، فلو سقطت فلا تبقی الدلالتان ، و فیما نحن فیه : تقع المزاحمة بین الناسخ و المنسوخ ، إمّا فی أصل مدلول المنسوخ و إمّا فی حجیّته ، و علی کلّ تقدیرٍ ، فإنّه یسقط ، و إذا سقط المدلول المطابقی استحال بقاء شیء .
فالحق ، أنه علی مسلک المحقق العراقی فی حقیقة الوجوب : لا یبقی دلالة علی الرجحان المستلزم للجواز بالمعنی الأعم .
فإنّه - بعد الفراغ عن مرحلة الثبوت ، و عن البحث الإثباتی - هل یجری استصحاب بقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب أو لا ؟
إن المستصحب تارة شخصی و أُخری کلّی ، و قد ذکروا للکلّی أقساماً :
أحدها : الکلّی الموجود فی الفرد المشکوک بقاؤه ، فیصح استصحاب الکلّی و استصحاب الفرد .
الثانی : أن یکون الفرد مردّداً بین مقطوع الزوال و مقطوع البقاء ، و هذا هو
ص:297
القسم الثانی من أقسام الکلّی .
و الثالث : أن یکون الفرد معیّناً ، و هو زائل یقیناً ، لکن یحتمل وجود فردٍ آخر للکلّی مع ذاک الفرد . و هذا هو القسم الأوّل من القسم الثالث .
و الرابع : أن یکون الفرد معیّناً ، و هو زائل یقیناً ، لکن یحتمل حدوث فردٍ آخر للکلّی مقارناً لزوال ذاک الفرد . و هذا هو القسم الثانی من القسم الثالث .
و الخامس : أن یکون المتیقّن حقیقة واحدة لکن ذا مراتب ، فیقطع بزوال مرتبة و یشک بذلک فی بقاء الحقیقة و عدم بقائها .
فهذه مقدمة .
و مقدمة أُخری : إنه یعتبر فی الاستصحاب وحدة القضیة المتیقّنة مع القضیّة المشکوکة ، وحدةً عرفیّة لا عقلیة .
و بعد المقدمتین ، نذکر أوّلاً کلام المحقق الخراسانی فی هذا المقام؛ قال :
« و لا مجال لاستصحاب الجواز إلّا بناءً علی جریانه فی القسم الثالث من أقسام الکلّی ، و هو ما ، إذا شک فی حدوث فرد کلّی مقارناً لارتفاع الحادث الآخر ، و قد حقّقنا فی محله أنه لا یجری الاستصحاب فیه ما لم یکن الحادث المشکوک من المراتب القویّة أو الضعیفة المتّصلة بالمرتفع ، بحیث یعدّ عرفاً - لو کان - أنه باق ، لا أنه أمر حادث غیره . و من المعلوم أن کلّ واحدٍ من الأحکام مع الآخر - عقلاً و عرفاً - من المتباینات و المتضادّات ، غیر الوجوب و الاستحباب ، فإنه و إن کان بینهما التفاوت بالمرتبة و الشدّة و الضعف عقلاً ، إلّا أنهما متباینان عرفاً ، فلا مجال للاستصحاب إذا شکّ فی تبدّل أحدهما بالآخر ، فإن حکم العرف و نظره یکون متّبعاً فی هذا الباب » (1) .
ص:298
و حاصل کلامه :
1 - إن المورد من قبیل القسم الثالث من أقسام الکلّی ، و لا یجری فیه الاستصحاب ، إلّا إذا کان الباقی من مراتب الزائل ، کما فی الشدّة و الضّعف مثلاً .
2 - إن الأحکام الخمسة متباینات عقلاً و عرفاً ، إلّا فی الوجوب و الاستحباب ، فإنهما متباینان عرفاً و مختلفان فی المرتبة عقلاً ، فإذا ارتفع الوجوب لا یصح القول ببقاء الاستحباب من باب الاستصحاب ، للتباین العرفی بینهما ، إذ الملاک فی الاستصحاب هو الوحدة العرفیّة فی موضوع القضیّتین .
قال الأُستاذ
و التحقیق هو النظر فی المسألة علی ضوء المبانی (1) فی حقیقة الوجوب :
فإن قلنا : بأنه مرکّب من البعث إلی الفعل مع المنع من الترک ترکیباً انضمامیّاً ، فإنه إذا نسخ الوجوب و شک فی أنّ الزائل هو الجزءان أو خصوص المنع من الترک ، کان هذا الجزء مقطوع الزوال و الآخر - و هو البعث إلی الفعل - مشکوک فیه ، وعلیه فلا إشکال فی جریان الاستصحاب ، و هو استصحاب فرد واحدٍ شخصی .
و بعبارةٍ أُخری : الزائل مردّد بین الأقل و الأکثر ، و قد کان زوال الأقل متیقّناً ، و زوال الأکثر مشکوک فیه ، فیستصحب .
و إن قلنا : بأن الوجوب بسیط لا مرکّب ، فهنا لا یتصوّر إلّا القسم الثانی من القسم الثالث من استصحاب الکلّی الذی اتّفقوا علی عدم جریانه .
و إن قلنا : بمسلک المحقق العراقی ، کان المورد - علی تقدیرٍ - من قبیل القسم الأخیر من أقسام الکلّی ، و هو کون المستصحب ذا مراتب ، و من قبیل القسم
ص:299
الأوّل علی تقدیر آخر . و توضیحه : إنّه قد استثنی الشیخ الأعظم من أقسام الکلّی ما لو کان الفرد الموجود مرتبةً شدیدةً ، ثم علم بزوال الشدّة و شکّ فی بقاء أصل المرتبة ، فقال بجریان الاستصحاب فیه . و قال المتأخّرون عنه بأن هذا من القسم الأوّل لا من أقسام الکلّی ، لأن الشدّة إن کانت من المقوّمات لم یجر الاستصحاب لکونه من القسم الثالث ، و إن کانت من الحالات جری لبقاء الحقیقة ، کالعدالة الموجودة بالمرتبة العالیة ثم حصل الیقین بزوال تلک المرتبة ، فإنه تستصحب العدالة ، لکون تلک المرتبة من الحالات لا المقوّمات ، فیکون - علی هذا - من القسم الأوّل .
فبناءً علی أن حقیقة الوجوب هی الإرادة ، یکون أصل الإرادة هو المشکوک فیه بعد زوال الحدّ ، فیستصحب بقاؤها ، و لذا قال المحقق العراقی هنا بجریان الاستصحاب ، کما لا أنه لا یری التباین العرفی بین الاستحباب و الوجوب خلافاً لصاحب الکفایة .
و أمّا إن قلنا بالترکیب الاتّحادی ، فإنّه مع زوال الفصل لا یعقل بقاء الجنس ، فلا مجال للاستصحاب ، و ما أفاده المحقق الأصفهانی قدّس سرّه - من أنه مع انعدام الفصل ینعدم الجنس بما هو جنس ، لکنّه بما هو متفصّل بفصلٍ عدمی یکون باقیاً ، فلو قطعت « الشجرة » ینعدم « النامی » فالجهة الجنسیّة و هی حیثیة استعداد الشجر للنمو منعدمة ، إلّا أن تلک الجهة تبقی مع الفصل العدمی ، أی: فإن مادّة الشجر و هی الخشب موجودة مع عدم الاستعداد للنموّ ، فعلی القول بترکّب حقیقة الوجوب یکون الجواز باقیاً - بعد نسخ الوجوب - لکن مع الحیث العدمی ، أی الجواز مع عدم المنع من الترک - فقد عَدَل عنه فی تعلیقته ، و نصّ علی عدم معقولیّته ، قال : « لأن الترکّب الحقیقی من جنس و فصلٍ خارجیین ، لا یتصوّر إلّا فی الأنواع الجوهریّة دون الأعراض التی هی بسائط خارجیة ، فضلاً عن
ص:300
الاعتبارات » (1) .
مختار الأُستاذ
قال الأُستاذ : إنه إن کان الوجوب هو الإرادة ، و کانت الشدّة و الضعف من الحالات ، جری الاستصحاب بلا إشکال ، لکنّ الکلام فی المبنی ، فإنّ الحق هو بساطة الوجوب ، و أنه غیر الإرادة ، لکونها من التکوینیّات ، بل هو إمّا من الأُمور الاعتباریّة و إمّا من الانتزاعیّات ، فلا یجری فیه الاستصحاب ، لکونه من قبیل القسم الثانی من قسمی الثالث من أقسام الکلّی .
نظریّة السید الحکیم فی الاستصحاب
و قال السید الحکیم - معلّقاً علی قول ( الکفایة ) : فلا مجال للاستصحاب - ما نصّه :
« یکفی فی إثبات الجواز استصحاب الرضا بالفعل الثابت حال وجوبه ، إذ لو ثبت الرّضا به بعد ارتفاع الوجوب لا یکون وجوداً آخر للرضا ، بل یکون الرضا الأوّل باقیاً ، و إذا ثبت الرضا به - و لو بالاستصحاب - کان جائزاً عقلاً ، لأنّ الأحکام التکلیفیّة إنما تکون موضوعاً للعمل فی نظر العقل بمناط حکایتها عن الإرادة و الکراهة و الرضا لا بما هی هی ، و یکفی فی إثبات الاستحباب استصحاب نفس الإرادة النفسانیة ، إذ مجرّد رفع الوجوب لا یدلّ علی ارتفاعها ، و إذا تثبت الإرادة المذکورة ثبت الاستحباب ، لأنه یکفی فیه الإرادة للفعل مع الترخیص فی الترک الثابت قطعاً بنسخ الوجوب » (2) .
و توضیح کلامه :
أوّلاً : إنه قد کان مع الوجوب الرضا بالفعل ، و بعد النسخ یبقی الرّضا السّابق
ص:301
بالاستصحاب . لا یقال : الرضا لیس من المجعولات الشرعیّة کی یجری فیه الاستصحاب . لأن الوجوب - کغیره من الأحکام التکلیفیّة - إنما یکون موضوعاً للعمل فی نظر العقل بمناط حکایته عن إرادة المولی ، فکلّ ما بالعرض ینتهی إلی ما بالذات ، و هذا روح الحکم فی نظر العقل .
و ثانیاً : إنه مع بقاء الرضا السابق یتمّ الجواز العقلی .
و ثالثاً : إنه یکفی فی إثبات الاستحباب استصحاب نفس الإرادة النفسانیّة .
و بناءً علی ما ذکر ، فإنه مع بساطة الوجوب یکون رضا المولی متحقّقاً ، فإذا نسخ الوجوب استصحب الرضا ، و یترتّب علیه الأثر ، و هو حکم العقل بلزوم العمل اتّباعاً لإرادة المولی و رضاه ، و یفتی بالاستحباب .
أقول :
العمدة فی هذه النظریّة ، هی أنه قد أجری الاستصحاب فی الإرادة التی هی منشأ الوجوب ، فأثبت بها موضوع حکم العقل ، بخلاف المحقق العراقی ، حیث أجراه فی نفس الوجوب و جعله بمعنی الإرادة ، فلا یرد علی هذه النظریّة ما ورد علی المحقّق المذکور .
لکنّ التأمّل فیها هو : أنّ الوجوب - علی کلّ حالٍ - إمّا بسیط و إمّا مرکّب ، و ظاهر الکلام أوفق بالثّانی ، فإن أراد الترکیب الانضمامی بأنْ یکون الوجوب مرکّباً بالانضمام من الرضا بالفعل مع المنع من الترک ، فقد عرفت تمامیّة الاستصحاب بناءً علیه ، و إن أراد الاتحادی ، فقد عرفت ما فیه . و أمّا علی القول بالبساطة ، فما هو المراد من قوله « الرضا بالفعل الثابت حال وجوبه » ؟ الظاهر أن « الرضا » حالة نفسانیّة خارجة عن الوجوب لازمة له ، فإذا زال الوجوب زال الرّضا بتبعه ، فلا یبقی شیء لکی یستصحب .
و هذا تمام الکلام فی النسخ .
ص:302
ص:303
ص:304
إنّ هذا البحث مهم علماً و عملاً ... .
إنه لا ریب فی أنّ فی الشریعة واجبات یجوز ترکها إلی بدلٍ کخصال الکفارة ، و واجبات لا یجوز ترکها إلی بدل کالصّلاة ، و تسمّی الأُولی بالواجبات التخییریّة و الثانیة بالواجبات التعیینیّة ، و لکلٍّ من القسمین أحکام و آثار ، ففی الأوّل یستحق العقاب لو ترک جمیع الأفراد ، لکن استحقاق الثواب یکون بالإتیان بواحدٍ منها ، و من ذلک یظهر أن متعلّق الإرادة و حامل الغرض هو أحد الأفراد ، و لذا وقع الکلام فی تصویر هذا التکلیف ، و إذا أمکن ذلک فی الأحکام التکلیفیّة طبّق فی الأحکام الوضعیّة کذلک ، کما فی مسألة الضمان فی تعاقب الأیدی علی الماء المغصوب و المأخوذ بالعقد الفاسد .
و الإشکال العمدة ینشأ من نقطتین :
الأُولی : کیف یمکن أن تتعلّق الإرادة المشخّصة الموجودة ، بأحد الأشیاء أو الشیئین ، لأن الأحد مبهم ، فکیف یُعقل تعلّق المعیّن المتشخّص بالمبهم ؟
و الثانیة : إنه لا ریب فی أن الواجب التخییری بعث مولوی ، فکیف یکون البعث نحو « الأحد » ؟ مضافاً إلی أنه مضایف للانبعاث ، و الانبعاث بالمردّد غیر معقول .
ص:305
فإمّا یصوّر الوجوب التخییری بحیث یتلاءم مع هذه البراهین ، و إمّا یرفع الید عن ظواهر الأدلّة من أجلها و ینکر من أصله !
فلننظر فی الکلمات و الأقوال ... .
قال فی ( الکفایة ) : إذا تعلّق الأمر بأحد الشیئین أو الأشیاء ، ففی وجوب کلّ واحدٍ علی التخییر ، بمعنی عدم جواز ترکه إلّا إلی بدلٍ ، أو وجوب الواحد لا بعینه ، أو وجوب کلّ منهما مع السقوط بفعل أحدهما ، أو وجوب المعیّن عند اللّٰه . أقوال .
و التحقیق أن یقال : إنه إن کان الأمر بأحد الشیئین بملاک أنه هناک غرض واحد یقوم به کلّ واحد منهما ، بحیث إذا أتی بأحدهما حصل به تمام الغرض و لذا یسقط به الأمر ، کان الواجب فی الحقیقة هو الجامع بینهما ، و کان التخییر بینهما بحسب الواقع عقلیّاً لا شرعیّاً ... . و إن کان بملاک أنه یکون فی کلّ واحدٍ منهما غرض لا یکاد یحصل مع حصول الغرض فی الآخر بإتیانه ، کان کل واحدٍ واجباًَ بنحوٍ من الوجوب یستکشف عنه تبعاته ، من عدم جواز ترکه إلّا إلی الآخر ، و ترتب الثواب علی فعل الواحد منهما و العقاب علی ترکهما (1) ... .
أقول :
لقد ذکر رحمه اللّٰه أربعة أقوالٍ فقط ، لکنّها فی المسألة أکثر منها ، و اختار منها القول الرابع و حاصله : إن المتعلّق فی الوجوب التخییری لا یختلف عنه فی التعیینی إلّا من جهة سنخ التکلیف ، فإنّ التخییری مشوبٌ بجواز الترک إلی بدلٍ بخلاف التعیینی ، فکانا مشترکین فی عدم جواز الترک ، لأن الواجب ما لا یجوز
ص:306
ترکه ، غیر أنّ التخییری یجوز ترک أحد فردیه مثلاً بالإتیان بفردٍ آخر ، و التعیینی لا یوجد له بدیل .
إذن ، لا یرد الإشکال : بأنّ البعث و الإرادة لا یتعلّق بالمردّد ، لأنه لا ماهیّة له و لا وجود . و الإشکال : بأن البعث و الانبعاث متضایفان ، فکیف یکون الانبعاث مردّداً ؟
و یبقی اشکال اختلاف الآثار فأجاب : بأن هذا الاختلاف ینشأ من اختلاف سنخ الوجوب ، فإنّ سنخ الوجوب فی التخییری هو ترتب العقاب علی ترک الکلّ و الثواب علی الإتیان بأحدها ... أما فی التعیینی ، فإنهما یترتبان علی ترک أو فعل نفس ذاک المتعلّق المعیّن .
و قد ذکر أنّه إذا کان هناک غرض واحدٍ یقوم به کلّ واحد من الفردین ، فإنّ التخییر حینئذٍ عقلی لا شرعی ، أی یکون المتعلّق هو الطبیعة ، و البرهان علی ذلک هو قاعدة أن الواحد لا یصدر إلّا من الواحد ، فیکون ذلک الواحد بین تلک الأفراد هو الطبیعة . و إمّا إذا کان هناک غرضان ، بأن یقوم بکلّ من الفردین غرض مستقل عن الآخر ، لکن بینهما تزاحم و لا یمکن اجتماعهما فی الوجود ، فلا محالة تکون الإرادة متعلّقة بکلٍّ من الفردین مع جواز ترکه إلی الفرد الآخر .
ثم إنّه ذکر الأقوال الأُخری و ناقشها .
فأمّا القول : بأنّ المتعلّق للإرادة هو « الأحد لا بعینه » فقد أجاب عنه : بأن هذا « الأحد » لیس مفهومیّاً ، إذ لیس هو متعلّق الغرض حتی تتعلّق به الإرادة ، بل هو « الأحد » المصداقی ، لکنّ « الأحد لا بعینه » لا مصداق له . و قد أوضح هذا فی الحاشیة : بأن « الأحد » یصحّ تعلّق العلم به کما فی موارد العلم الاجمالی ، و کذا یصحّ تعلّق الأمر الانتزاعی به کتعلّق الوجوب بأحد الشیئین ، لکنّ الإرادة لا تتعلّق
ص:307
بالمردّد ، لأنّها علّة الوجود و لا یمکن أن یکون معلولها مبهماً ، و لا یعقل البعث و التحریک نحو المبهم ... فظهر الفرق بین العلم و الوجوب و بین البعث و الإرادة .
و أجاب عن القول بأن الوجوب التخییری هو وجوب کلا الشیئین ، لکن وجوب أحدهما مسقط لوجوب الآخر : بأن الفرضین إن کانا یقبلان الوجود ، فإسقاط أحدهما للآخر مستحیل ، و إن کانا متزاحمین لا یقبلان الوجود معاً ، فأحدهما لا یتحقق و لا تصل النوبة إلی إسقاط الآخر إیّاه .
و عن القول بأن الواجب هو « أحدٌ » معیّن لکن عند اللّٰه ... بأنّ المفروض کون کلّ واحدٍ من الشیئین أو الأشیاء حاملاً للغرض و وافیا به ، فکیف یکون « أحد » معیّن هو الواجب دون الآخر أو الأفراد الأُخری .
هذا بیان کلام ( الکفایة ) فی هذا المقام .
و قد أشکل المحقق الأصفهانی (1) - و تبعه فی ( المحاضرات ) (2)و( المنتقی ) (3) - بأنّ مستند مبنی المحقق الخراسانی هو قاعدة أن الواحد لا یصدر إلّا من الواحد ، و لکنّها إنما تجری فی الواحد الشخصی دون النوعی ... و توضیحه :
إن البرهان علی تلک القاعدة هو : إنّ کلّ معلول حدّ ناقص للعلّة ، و کلّ علّةٍ فهو حدّ کامل للمعلول ( و قد وضع أهل الحکمة هذه القاعدة فی باب صدور العقل الأوّل أو الفیض الأقدس من الباری عز و جلّ . لکنّ الحق جریانها فی الفاعل الطبیعی . أمّا اللّٰه سبحانه و تعالی فیفعل ما یرید و کلّ الأشیاء توجد بإرادته مع تکثرها ... ) وعلیه ، فالمعلول موجود فی رتبة وجود العلّة ، کالحرارة الحاصلة من
ص:308
النار ، فإنها موجودة فی رتبة وجودها ، و إلّا یلزم الترجّح بلا مرجّح ، فیقال : لما ذا وجدت هذه الحرارة و لم توجد تلک الأُخری ... فإذا کان وجود المعلول و وجوبه واحداً ، فلا بدّ و أن تکون علّته کذلک ، لأن العلّة إذا تعدّدت تعدّد وجود المعلول و وجوبه ، و المفروض أنه واحد ، و الواحد لا یتعدّد .
هذه هی القاعدة .
فقال المحقق الأصفهانی : بأنها إنما تجری فی الواحد الشخصی ، أما النوعی ، فیمکن فیه صدور الواحد عن الکثیر مع الاختلاف فی حقیقة الکثیر ، فإن الحرارة قد تحصل من النار و هی من الجواهر ، و قد تحصل من العرض کالحرکة ، فقد صدر الواحد من الکثیر ... و أیضاً ، فإنّ تحقق الأجناس بالفصول ، إذ الفصل علّة لوجود الجنس کالناطقیّة بالنسبة إلی الإنسان ، مع أن الناطقیّة مباینة للفصل الموجد لنوع الفرس مثلاً ، فکانت المتباینات علةً لوجود الشیء الواحد و هو الجنس .
و تلخّص : إن ما ذهب إلیه المحقق الخراسانی من کون الجامع هو المتعلّق غیر صحیح .
و أفاد الأُستاذ دام بقاه حول القاعدة بقدر ما یرتبط بعلم الأُصول : أنّ للواحد أنحاءً من الوجود :
1 - الواحد بالشخص ، مثل زید و عمرو ، من حیث کونه زیداً و کونه عمراً .
2 - الواحد بالنوع ، مثل زید و عمرو من حیث الإنسانیّة .
3 - الواحد بالعنوان ، مثل وجود زید و وجود عمرٍو و هکذا ... فإنّ العنوان مفهوم الوجود ، و حقیقة الوجود هو المعنون ، و النسبة بینهما نسبة العنوان
ص:309
و المعنون ، لا الکلّی و الفرد ، و لا الطبیعی و المصداق .
فهذه مقدمة .
و المقدمة الثانیة : إنّ الطبیعی موجود فی الخارج بلا ریب ، فلیس من الأُمور الانتزاعیّة العقلیّة ، و لیس من الاعتباریات کالزوجیّة و الملکیّة ، غیر أنّ وجوده وجود فرده ، کما أن الأُمور الانتزاعیّة موجودة لکن بوجود منشأ الانتزاع ...
و الحاصل : إن الطبیعی کالإنسان موجود فی الخارج ، لکن بوجود زید مثلاً .
و المقدّمة الثالثة : إن « الوحدة » و« التعدد » متقابلان ، و الاجتماع بینهما فی أیّ عالمٍ محال ، فلا یجتمع الواحد بالشخص مع المتعدّد بالشخص ، و کذلک الواحد بالنوع ، و الواحد بالعنوان .
و بعد المقدّمات نقول :
إنّ المحقق الأصفهانی یعترف بوجود الطبیعی خارجاً ، و أنّ نسبته إلی الخارج نسبة الآباء إلی الأبناء - لا نسبة الأب الواحد إلی الأبناء کما قال الرجل الهمدانی - فنقول : هذا الطبیعی إمّا مختص أو مشترک ؟ و الأول خلف الفرض ، و علی الثانی : هل لوجود هذا الطبیعی علّة أو لا ؟ و الثانی محال ، و منافٍ لقوله بأنّ الاجناس موجودة و عللها هی الفصول ، و إذا کان له علّة ، فهل لتلک العلّة حیثیّة غیر حیثیّة الخصوصیّة ؟ إنّه لا بدّ و أن یکون فیها حیثیّة تصلح بها لأن تکون علةً لماهیّةٍ مشترکة ، إذ ما لیس فیه إلّا حیثیّة الخصوصیّة لا یمکن أن یکون علةً لماهیّة ذات حیثیّة مشترکة ... .
إذن ، لا مناص من الالتزام بأنّه : لو حصل غرض و کان فیه حیثیّة القدر المشترک ، فلا بدّ و أن یکون له منشأ هو القدر المشترک ... و هذا معنی کلام المحقق الخراسانی حین یقول باستحالة حصول الأثر الواحد من کلّ واحدٍ من الفردین أو
ص:310
الأفراد و یکون مبدأ الأثر متعدّداً ... لأنّ الأثر موجود فی مرتبة المبدإ ، فإذا کان واحداً و المبدأ متعدّد ، لزم اجتماع الوحدة و التعدّد فی الشیء الواحد ، و هو محال .
و بالجملة ، فإنّ قاعدة الواحد و إن طرحت فی الواحد الشخصی ، لکن الملاک لها موجود فی الواحد النوعی و الواحد العنوانی أیضاً ، فإنّه - علی القول بثبوت الواحد النوعی و الواحد العنوانی - یکون للمعلول وحدة نوعیّة ، فلو لم یکن فی العلّة وحدة نوعیة کذلک ، یلزم عدم السنخیّة بین العلّة و المعلول .
فظهر اندفاع الإشکال علی ( الکفایة ) فی هذا القسم من کلامه .
و أورد فی المحاضرات (1) علی القسم الآخر من کلامه حیث قال : أنه إذا کان هناک غرضان متزاحمان ، فلا بدّ من الالتزام بالوجوبین ، إلّا أن کلّاً منها مشوب بالترک ، بوجوه :
أوّلاً : إن ذلک مخالف لظواهر الأدلّة ، فإن الظاهر من العطف بکلمة « أو » هو أن الواجب أحدهما لا کلاهما .
و ثانیاً : إن فرض کون الغرضین متضادّین فلا یمکن الجمع بینهما فی الخارج ، مع فرض کون المکلّف قادراً علی إیجاد کلا الفعلین ، بعید جداً ، بل هو ملحق بأنیاب الأغوال ، ضرورة أنا لا نعقل التضادّ بین الغرضین مع عدم المضادّة بین الفعلین ، فإذا فرض أن المکلّف متمکّن من الجمع بینهما خارجاً ، فلا مانع من إیجابهما معاً عندئذ .
و ثالثاً : إنا لو سلّمنا ذلک فرضاً و قلنا بالمضادّة بین الغرضین و عدم إمکان
ص:311
الجمع بینهما فی الخارج ، إلّا أن من الواضح جدّاً أنه لا مضادّة بین ترکهما معاً ، فیتمکّن المکلّف من ترک کلیهما بترک الإتیان بکلا الفعلین خارجاً . هذا من ناحیة . و من ناحیة أُخری : إن العقل مستقلّ باستحقاق العقاب علی تفویت الغرض الملزم ، و لا یفرّق بینه و بین تفویت الواجب الفعلی . و من ناحیة ثالثة : إن فیما نحن فیه و إن لم یستحق العقاب علی ترک تحصیل أحد الغرضین عند تحصیل الآخر ، من جهة عدم إمکان الجمع بینهما فی الخارج ، إلّا أنه لا مانع من استحقاق العقاب علیه عند ترکه تحصیل الآخر . فالنتیجة أنه یستحق العقابین عند جمعه بین الترکین .
و أجاب الأُستاذ دام بقاه :
أمّا عن الأوّل فبأنه : خلاف القاعدة ، لأن صاحب الکفایة یری أن التکلیف غیر متعلّق بأحدهما ، لا مفهوماً و لا مصداقاً ، لأن الأحد المفهومی غیر حاملٍ للغرض حتی تتعلّق به الإرادة ، و الأحد المصداقی هو المردد ، و المردّد لا یقبل الوجود حتی یتعلّق به التکلیف و الإرادة ، و إذ لم یمکن ثبوتاً تعلّق الإرادة بالأحد ، فلا بدّ من التصرّف فی مقام الإثبات و ظواهر الأدلّة ... فالإشکال غیر وارد علیه .
علی أنّ القول بتعلّق التکلیف بالأحد أیضاً خلاف ظواهر الأدلّة ، لعدم وجود هذا العنوان فیها ، بل الموجود هو العطف ب« أو » و هی فی أمثال المقام للتردید ، و أمّا « الأحد » فانتزاع من العقل و لیس من ظاهر الأدلّة .
و أمّا عن الثانی فبأن : التباین بین الأغراض شائع تکویناً و عقلاءً ، فقد یستعمل دواء لغرض العلاج من مرضٍ فیکون سبباً لحصول مرضٍ آخر .
و أمّا عن الثالث ، فقد تقدّم فی بحث الترتب بأنّه : لو لم تکن قدرة علی
ص:312
الفعلین فلا استحقاق للعقابین ... و هذا کلام المحقق الخراسانی . و لقد أشکل هناک علی السیّد المیرزا الشیرازی بلزوم تعدّد العقاب ، و کان السیّد لا یلتزم بذلک مع قوله بالترتب . أمّا المحقق الخراسانی ، فقد أنکر الترتب و صحّح عبادیّة المهم عن طریق الغرض ، فهو قائل بوجود الغرضین فی الأهم و المهم ، و غیر قائل بتعدّد العقاب بترک الغرضین ، بل یتعدد بمخالفة الأمرین ... فالإشکال علیه خلاف القاعدة کذلک .
ثم قال الأُستاذ : بأن الإشکال الوارد علی الکفایة . أمّا فی الشق الأوّل فهو : إنّه لا دلیل علی الوحدة بالنوع فی الأغراض ، فی الواجبات التخییریّة فی الشریعة المقدسة ، فما ذکره موقوف علی تمامیّة الصغری ، و إن تصوّرت الوحدة فهی لیست إلّا الوحدة العنوانیّة .
و أمّا فی الشق الثانی ، فالإشکال علیه - کما فی المحاضرات أخیراً - أنه لا ریب فی سقوط التکلیف فی الواجبات التخییریّة - العقلیّة منها و الشرعیّة - بالإتیان بکلا الطرفین أو کلّ الأطراف ، و حصول الامتثال بذلک ، فلو کان الغرضان متباینین لم یکن الامتثال حاصلاً ، و کان الأمر باقیاً ، و الحال أنه لیس کذلک یقیناً .
فما ذکره غیر صحیح .
و ذهب المحقق النائینی فی تصویر الواجب التخییری ، کما فی ( أجود التقریرات ) (1) إلی أنّ الواجب هو الفرد المردّد و الواحد علی البدل ، أی هو أحد الشیئین أو الأشیاء ، و ذلک ، لأنّه لا مانع من تعلّق الإرادة التشریعیّة بالمردد ،
ص:313
و توضیحه :
إن الإرادة التکوینیة و التشریعیة تشترکان فی أن کلتیهما إرادة ، لکنهما تفترقان من جهة التکوینیّة و التشریعیّة ، و لکلٍّ منهما أحکام و أقسام . مثلاً : الإرادة من المولی لا فاعلیّة لها ، بل الفاعلیّة هی لإرادة المکلّف ، و الإرادة التشریعیّة تنقسم إلی التعبّدی و التوصّلی ، و هذا غیر معقول فی التکوینیّة .
و من ذلک : إن الإرادة التکوینیّة لا یعقل أن تتعلّق بالکلّی ، بل متعلّقها دائماً هو الجزئی الحقیقی ، لأن الإرادة التکوینیّة علّة للوجود ، و العلّة یستحیل تعلّقها إلّا بالوجود و هو عین التشخّص ، بخلاف الإرادة التشریعیّة ، فإنّها تتعلّق بالکلیّات حتی لو قیّد المتعلّق بقیودٍ کثیرة ، کأن یقال : صلّ فی المسجد یوم الجمعة ظهراً جماعةً فی أوّل الوقت ... و السرّ فی ذلک : أنه ما لم یوجد فی الخارج أو الذهن فلا تتحقّق له الجزئیّة ... .
إذن ... الإرادة التی لا تتعلّق بالمبهم المردّد هی التکوینیّة ، و أما التشریعیّة فإنّها تتعلّق به ، إذ التکوینیّة هی العلّة التامّة للوجود ، و المردّد غیر قابلٍ للوجود أی لا وجود له ، أمّا التشریعیّة فلیست بعلةٍ للوجود ، و إنما أثرها هو إحداث الداعی الإمکانی فی نفس العبد ، فقد یمتثل و قد لا یمتثل ، و من هنا تکون التشریعیّة تابعة للغرض و الملاک ، فإن کان الغرض یحصل بأحد الأفراد جاءت الإرادة متعلّقة به کذلک ، و کان الخطاب علی طبق الإرادة ، إذ یأمر بالعتق أو الإطعام أو الصوم لیدلّ علی أنّ المکلّف به لیس معیّناً ، و لیس هو الجامع ، بل المطلوب خصوصیّة کلّ واحدٍ من الأفراد لکن علی البدل ، و کذلک الحال فی الوصیّة ، إذ یوصی بأحد الشخصین أن یعطی کذا ، أو ینوب عنه فی الحج مثلاً ، أو یُعتق فی سبیل اللّٰه .
إذن ، فما ذهب إلیه المیرزا متوافق مع ظهور الأدلّة فی الواجب التخییری فی
ص:314
مقام الإثبات ... .
فظهر أنْ لا محذور لهذا المبنی حتّی یذکر و یدفع ، فلا یبقی مجالٌ لاستغراب السیّد الأُستاذ من المیرزا قائلاً : « و هذا غریب من مثل المحقق المذکور ، فإنّ اللازم علیه کان بیان ما یحتمل أنْ یکون محذوراً و دفعه ، لا مجرّد عدم وجود المانع لا أکثر من دون بیان وجه ذلک ، فإن ذلک لا یتناسب مع علمیّة البحث » (1) .
و لا یخفی أنه أیضاً قد اختار هذا المبنی فی الواجب التخییری (2) .
و قد فصّل شیخنا الاستاذ الکلام فی أصل البحث و ذکر الأنظار فیه ، و ذلک لضرورة الوصول إلی منشأ الخلاف فی أنّ المردّد هل یمکن أن یقع متعلّقاً للإرادة أو للاعتبار أو لصفةٍ وجودیّة ، أو لا ؟
لقد ذکر الشیخ فی ( المکاسب ) (3) مسألة ما لو باع صاعا من الصبرة ، فهل یحمل علی الکسر المشاع ، فلو کان عشرة أصوع یکون المبیع هو العشر ، أو یکون کلّیاً معیّناً ، أو یکون فرداً من أفراد الأصوع علی البدل ؟ ثم أشکل علی الوجه الأخیر بوجوه ، منها : إن التردّد یوجب الجهالة ، و أنه یوجب الغرر ، و أنه غیر معقول ، و هذا محلّ الشاهد هنا .
إن تعلّق البیع بفردٍ مرددٍ من أفراد الأصوع غیر معقول ، لأنّ الملکیّة صفة وجودیّة ، و الصفة الوجودیّة لا یعقل أن تتعلّق بالشیء المردد ... و هذا هو الإشکال .
ص:315
و قد أجاب عنه : بأنّ الصفة الوجودیّة علی قسمین : فتارةً : هی صفة وجودیّة خارجیّة ، کالسواد و البیاض ، فهذه لا تقبل التعلّق بالمردد ، لأنها عرض خارجی و هو لا یوجد إلّا فی موضوع ، و المردّد لیس له وجود حتی یتحقّق فیه العرض و یقوم به . و أُخری : هی أمر اعتباری ، و هذه تقبل التعلّق بما لیس له وجود خارجی ، کما فی بیع الکلّی فی الذمة ، و المبیع فی باب السّلم .
فالشیخ یری أن الصّفة الوجودیّة إن کانت اعتباریةً فهی تقبل التعلّق بالمردّد .
و خالفه المحقق الخراسانی (1) ، فذهب إلی أن الصفة الوجودیّة الحقیقیّة أیضاً تقبل التعلّق بالمردّد ، و قد تقدّم کلامه فی حاشیته علی الکفایة ، إذ صرّح بأنّ العلم یمکن تعلّقه بالمردّد کما فی موارد العلم الإجمالی ، بخلاف مثل البعث ، لأنه لیس بصفةٍ بل إنه إیجاد للدّاعی فی نفس العبد ، و إیجاده نحو المردّد محال .
و بعبارة أُخری : کلّما یکون له جهة الباعثیّة و المحرّکیّة ، فلا بدّ و أن یکون متعلّقه مشخصاً ، و أمّا ما یکون - مثل العلم - لا جهة باعثیّة له ، فلا مانع من تعلّقه بالمردّد .
و أمّا المیرزا ، فقد جعل ملاک الافتراق فی الإرادة جهة التکوینیّة و التشریعیّة ، فخالف المحقق الخراسانی القائل بعدم تعلّق ما کان له باعثیة - و إنْ کانت تشریعیّة - بالشیء المردّد .
و لکنّ المحقق الاصفهانی خالف الکلّ ، و أنکر التعلّق بالمردد ، سواء فی الصفة الحقیقیّة أو الاعتباریّة ، و فی الإرادة التکوینیّة أو التشریعیّة ، و سواء فیما له جهة الباعثیّة و غیره ... و له علی هذا المدّعی برهانان :
( الأول ) : إن الوجود عین التشخّص و الواقعیّة ، فکلّ موجود متشخّص ،
ص:316
و لا یعقل فیه أیّ إبهامٍ و اجمال ، حتی لو کان الوجود اعتباریّاً ، فلا یعقل أن یکون مردّداً ، لأنّ الوجود هو التعیّن ، و بینه و بین التردد تقابل و لا یمکن اجتماعهما أبداً .
و( الثانی ) : إن المردّد المصداقی محال ، لأنّ التردّد إمّا یکون فی ذات الشیء و إمّا فی وجوده ، أمّا الذات ، فهی متعیّنة و لا یعقل الإبهام و التردد فیها . و أمّا الوجود ، فقد تقدّم .
و بعبارة أُخری : إنه لو کان للمردّد مصداق خارجی ، وقع الإشکال فی الأُمور ذات التعلّق ، کالإرادة و البعث و الحبّ و الملکیّة و أمثالها ، - سواء التکوینیّة منها و الاعتباریة - فهی أُمور لا یحصل لها الوجود إلّا بالمتعلّق ، لکنّ الوجود لا یقبل التردّد ، فلو تعلّقت الإرادة مثلاً بمردّد لزم إمّا تعیّن المردد أو تردّد المعیّن ، و کلاهما محال ، لأنّ الأوّل انقلاب ، و الثانی خلف .
و بالنظر إلی هذین البرهانین نقول - وفاقاً للمحقق الأصفهانی - بعدم صلاحیّة المردّد لأن یکون متعلّقاً للإرادة - ... و تبقی المناقشة بذکر نقوض ، من قبیل الوصیة بعتق أحد العبدین ، و تملیک أحد الولدین ، أو هبة أحد المالین ، أو بیع المعدوم کما فی بیع السلف . و لا بدّ من حلّها فی کتاب البیع .
لکن السیّد الاستاذ بعد أنْ ذکر آراء الأعلام قال :
هذا محصل الإیرادات علی تعلق التکلیف بالفرد المردّد و هی فی الحقیقة ثلاثة ، إذ الأول یرجع إلی الثالث کما لا یخفی .
و شیء منها لا ینهض مانعاً عن تعلّق التکلیف بالفرد المردد ، و لأجل ذلک یمکننا أن ندّعی أن متعلّق الوجوب التخییری هو أحد الأمرین علی سبیل البدل ، فی الوقت الذی لا ننکر فیه أن الفرد المردد لا واقع له ، و أن کلّ موجود فی الخارج
ص:317
معیّن لا مردّد .
و بتعبیر آخر نقول : إن المدّعی کون متعلّق الحکم مفهوم الفرد علی البدل ، أو فقل هذا أو ذاک ، بمعنی أن کلاً من الأمرین یکون مورد الحکم الواحد ، لکن بنحو البدل فی قبال أحدهما المعین ، و کلاهما معاً بنحو المجموع .
و وضوح ذلک یتوقف علی ذکر مقدمتین :
الأُولی : إن مفهوم الفرد علی البدل أو الفرد المردد الذی یعبّر عنه بالتعبیر العرفی ب : « هذا أو ذاک » من المفاهیم المتعینة فی أنفسها ، فإن المردّد مردّد بالحمل الأوّلی لکنه معیّن بالحمل الشائع ، نظیر مفهوم الجزئی الذی هو جزئی بالحمل الأولی کلّی بالحمل الشائع ، فالفرد علی البدل مفهوم متعین ، و لذا نستطیع التعبیر عنه و الحکم علیه و تصوّره فی الذهن کمفهوم من المفاهیم ، فهو علی هذا قابل لتعلّق الصفات الحقیقیّة و الاعتباریة به کغیره من المفاهیم المتعینة .
الثانیة : إن الصفات النفسیّة کالعلم و نحوه لا تتعلّق بالخیارات ، بل لا بدّ و أن یکون معروضها فی أُفق النفس دون الخارج ، و إلا لزم انقلاب الخارج ذهناً أو الذهن خارجاً و هو خلف ، فمتعلق العلم و نحوه لیس إلا المفاهیم الذهنیة لا الوجودات الخارجیة .
و إذا تمت هاتان المقدّمتان ، تعرف صحّة ما ندّعیه من کون متعلّق العلم الإجمالی فی مورده و الملکیة فی صورة بیع الصاع من صبرة و البعث فی الواجب التخییری هو الفرد علی البدل و مفهوم هذا أو ذاک ، فإنه مفهوم متعین فی نفسه کسائر المفاهیم المتعینة ، و لا یلزم منه انقلاب المعین مردداً ، إذ المتعلق له تعین و تقرر ، کما لا یلزم کون الصفة بلا مقوّم ، إذ المفهوم المذکور له واقع .
یبقی شیء ، و هو : إن الصفات المذکورة و إنْ تعلقت بالمفاهیم ، لکنها
ص:318
مرتبطة بالواقع الخارجی بنحو ارتباط و مأخوذة مرآتاً للواقع ، و المفروض أنه لا واقع لمفهوم الفرد المردد ، فکیف یتعلق به العلم ؟ ! و حلّ هذا الإشکال سهل ، فإن ارتباط المفهوم المعلوم بالذات بالواقع الخارجی لیس ارتباطاً حقیقیاً واقعیاً ، و یشهد له أنه قد لا یکون العلم مطابقاً للواقع ، فکیف یتحقق الربط بین المفهوم و الخارج ؟ إذ لا وجود له کی یکون طرف الربط ، و لأجل ذلک یعبّر عن الخارج بالمعلوم بالعرض . إذن ، فارتباطه بنحو ارتباط لا یستدعی أن یکون له وجود خارجی کی یشکل علی ذلک بعدم الواقع الخارجی لمفهوم الفرد المردد .
و مما یؤیّد ما ذکرناه من امکان طرو الصفات علی الفرد المردد : مورد الإخبار بأحد الأمرین ، کمجیء زید أو مجیء عمرو ، فإنه من الواضح أنه خبرٌ واحدٌ عن المردد ، و لذا لو لم یأت کلّ منهما لا یقال إنه کذب کذبتین ، مع أنه لو رجع إلی الإخبار التعلیقی لزم ذلک و لا تخریج لصحة الإخبار إلا بذلک .
یبقی إشکال صاحب الکفایة و هو : إن التکلیف لتحریک الإرادة ، و الإرادة ترتبط بالخارج ارتباطاً تکوینیاً ، فیمتنع التکلیف بالمردّد ، إذ لا واقع له کی یکون متعلق الإرادة (1) .
و الجواب عنه : إنّه لا ملزم لأن نقول بأن التکلیف لأجل التحریک و البعث و الدعوة نحو متعلّقه بجمیع خصوصیّاته و قیوده ، بل غایة ما هو ثابت إن التکلیف لأجل التحریک نحو ما لا یتحرک العبد نحوه من دون التکلیف المزبور بحیث تکون جهة التحریک و سببه هو التکلیف المعین و إن اختلف عن متعلّقه بالخصوصیّات .
و من الواضح : أن تعلق التکلیف بالفرد المردد یستلزم الحرکة نحو کلّ من
ص:319
الفعلین علی سبیل البدل ، فیأتی العبد بأحدهما منبعثاً عن التکلیف المزبور ، و هذا یکفی فی صحة التکلیف و کونه عملاً صادراً من حکیم عاقل .
و نتیجة ما تقدم : إنه لا مانع من تعلّق التکلیف بالفرد علی البدل و بأحدهما لا بعینه ، بمعنی کون کلّ منهما متعلقاً للتکلیف الواحد ، و لکن علی البدل لا أحدهما المردد و لا کلاهما معاً . و بذلک یتعین الالتزام به فیما نحن فیه لفرض ثبوت الغرض فی کل من الفعلین علی حدّ سواء و من دون مرجح ، فلا بدّ من کون الواجب فی کلّ منهما بنحو البدلیة و التردد .
و هذا المعنی لا محیص عنه فی کثیر من الموارد ، و لا وجه للالتزام ببعض الوجوه فی العلم الإجمالی ، کدعوی أن المتعلّق هو الجامع و التردید فی الخصوصیات . و فی مسألة بیع صاع من صبرة ، کدعوی أن المبیع هو الکلّی فی الذمة و لکن مع بعض القیود ، أو دعوی اخری لا ترجع إلی محصل . و تحقیق الکلام فی کلّ منهما موکول إلی محلّه .
فالمختار علی هذا فی الواجب التخییری کون الواجب أحدهما لا بعینه ، کما التزم به المحقق النائینی ، و إن خالفناه فی طریقة إثباته » (1) .
أقول :
أمّا ما ذکر فی المقدمة الأُولی من أن « الفرد علی البدل مفهوم متعیّن ، و لذا نستطیع التعبیر عنه و الحکم علیه و تصوّره فی الذهن کمفهومٍ من المفاهیم » فهذا صحیح ، و لکن التفریع علیه بقوله : « فهو - علی هذا - قابلٌ لتعلّق الصّفات الحقیقیّة و الاعتباریّة به کغیره من المفاهیم المتعیّنة » فیه :
أوّلاً : کیف تتعلّق الصفات الاعتباریّة من البعث و التحریک و نحوهما
ص:320
بالوجود الذهنی ما لم یکنْ له مطابق فی الخارج ؟
و ثانیاً : کیف یکون المردد متعیّناً کغیره من المفاهیم المتعیّنة ؟ إن أراد المتعیّن خارجاً ، فإن کلّ ما فی الخارج معیّن غیر مردد ، و إنْ أراد التعیّن ذهناً ، فالمفروض أنه مردد غیر معیّن .
و أمّا ما ذکر فی المقدّمة الثانیة من صحّة تعلّق العلم و نحوه بالمردد ، فقد تقدّم أنه رأی صاحب الکفایة ، و ما أجاب به من أنّ الارتباط بین المفهوم و المتعلّق الخارجی لیس ارتباطاً واقعیّاً غریب ، فإنّ الارتباط بین الشّیئین إمّا واقعی و إمّا اعتباری ، و هل الارتباط بین الصورة الذهنیة و مطابقها الخارجی اعتباری لا واقعی ؟
و الاستشهاد لذلک بأنّه « قد لا یکون العلم مطابقاً للواقع » أعجب ، فإنه یتضمّن الاعتراف بلزوم وجود المطابَق و لزوم المطابقة بینهما ، و أمّا عدم المطابقة أحیاناً فمن الخطأ فی التطبیق ، و أین هذا عن المدّعی حتی یستشهد به ؟ و کذلک الاستشهاد بتعبیرهم عن الخارج بالمعلوم بالعرض ، فإنّ هذا التعبیر یفید خلاف المدّعی کما لا یخفی .
و تأیید ذلک بالإخبار عن أحد الأمرین ، واضح الضعف ، للفرق بین الإخبار ، و العلم و البعث و التکلیف ، علی أن المخبر عنه هو « الأحد » الجامع بین الفردین لا الفرد المردد ، و هذا هو المرتکز العقلائی .
إنه فی الواجب التخییری یوجد وجوبان ، لکن کلّاً منهما مشروط بترک الآخر ، فالإطعام واجب مشروط بترک الصوم ، و هکذا بالعکس . و الحاصل : إن هنا غرضین قائمین بالعدلین ، لکنّهما متزاحمان و لا یمکن استیفاؤهما معاً ،
ص:321
فیجب استیفاء أحدهما علی النحو المذکور ، و إن کان ظواهر الأدلّة لا تساعد علیه - لعدم دلالتها علی وجود الغرضین و الوجوبین - لکن لا مناص من تصویر الواجب التخییری بهذه الصّورة .
و قد أورد علیه بوجوه :
الأوّل : إن دعوی التمانع بین الغرضین مع القدرة علی الفعلین و هم محض .
قاله المیرزا و تبعه السیّد الخوئی (1) .
و فیه : لیس الأمر کذلک ، فقد یقدر الإنسان علی استعمال دواءین یکون الغرض من کلٍّ منهما مضادّاً للغرض من الآخر .
و الثانی : إن هذا الطریق یستلزم القول بالترتّب ، و من القائلین بالواجب التخییری من لا یقول بالترتب ، کصاحب الکفایة .
و فیه : أولاً : إن المحقق الخراسانی قد أنکر الترتب بین الأهمّ و المهم . و أما لو کانا متساویین - کما فی الواجب التخییری - فقد لا ینکره .
و ثانیاً : قد صوّر فی الکفایة الواجب التخییری بوجهٍ آخر - کما تقدّم - لأنّ القول بشوب الوجوب بجواز الترک یغایر القول باشتراط وجوب أحدهما بترک الآخر .
و الثالث : إنه فی حال ترک کلا الواجبین ، یتحقّق الشرط لهما معاً فیکونان فعلیین ، فیلزم الإتیان بکلیهما بعنوان الوجوب ، و هذا مناف لحقیقة الواجب التخییری . قاله المحقق الإیروانی (2) .
ص:322
و فیه - کما تقدّم سابقاً - إن المفروض کون وجوب کلٍّ منهما مشروطاً بترک الآخر ، فلا یلزم من ترکهما معاً کون کلیهما مطلوباً .
و الرابع : إنه فی صورة ترک کلیهما یلزم تعدّد العقاب ، و هو خلاف الضرورة .
و فیه : إنه إشکال مبنائی ، لأنّ تعدّد العقاب إنما هو فی تعدّد الواجب المنتهی إلی تعدّد الغرض ، و لیس الأمر فی الواجب التخییری کذلک .
الخامس : إن لازم هذا القول أن لا یتحقق الامتثال بالإتیان بکلا الفردین ، مع الیقین بحصول الامتثال بذلک .
و هذا هو الإشکال الصحیح .
و السادس : إن هذا الوجه لا تساعده ظواهر الأدلّة فی مقام الإثبات ، فقد جاءت الأفراد معطوفةً ب« أو » لا مشروطاً بعضها بترک البعض الآخر . و القول بضرورة حمل الأدلّة علی هذا المعنی موقوف علی سقوط جمیع الوجوه . و هذا الإشکال الإثباتی وارد کذلک علی هذا الوجه .
إنّ الواجب التخییری ما کان وجوبه مشوباً بجواز الترک إلی بدلٍ . ذهب إلیه المحقق الأصفهانی رحمه اللّٰه (1) .
إن قیل : فما الفرق بین هذا الطریق و طریق صاحب الکفایة ؟
قلنا : إنّ المحقق الخراسانی قد اختار ذلک علی أساس قوله بتباین الأغراض ، أمّا المحقق الأصفهانی فقد ذهب إلی ما ذکر سواء کانت متباینة أو متسانخة ، فالاختلاف بینهما فی منشأ الجعل ، کما بینهما اختلاف فی التخییر کما
ص:323
سیظهر .
و توضیح هذا الطریق :
أوّلاً : إنه یمکن أن یکون الغرض فی کلّ من العتق و الإطعام و الصّوم من سنخ واحدٍ ، و یکون لزومیّاً ، فالمقتضی لکونه لزومیّاً موجود - و إلّا لما کان هناک وجوب - إلّا أنّ مصلحة الإرفاق و التسهیل علی المکلّفین قد زاحمت هذا الغرض اللّزومی فی حدّ الجمع بین الأُمور لا فی حدّ جمیع الأُمور ، و کان مقتضی الجمع أن لا یجب الإتیان بالجمیع کما لا یجوز ترک الجمیع ... و هذا معنی کون وجوب کلٍّ من الأُمور مشوباً بجواز ترکه إلی البدل . و قد لا یکون الغرض قابلاً للإرفاق فلا یقع التزاحم بین مصلحة التسهیل و مصلحة الأُمور ، فیجب الجمیع کما فی کفارة الجمع ، خلافاً للمحقق الخراسانی القائل بعدم إمکان تحقق الغرضین أو الأغراض فی الخارج ، لکونها متباینة .
و ثانیاً : إنّ الأغراض قد یکون لها وحدة نوعیّة ، کما هو الحال بین الإطعام و العتق ، فإن الغرض الجامع بینهما هو الإحسان ، و قد تکون متباینة کما هو الحال بین العتق و الصّوم ... خلافاً للمحقّق الخراسانی القائل بالتقابل بین الأغراض دائماً .
و ثالثاً : إنه یظهر مما تقدّم عدم توجّه الإشکال الوارد علی المحقق الخراسانی ، من أن لازم کلامه أن لا یکون المکلّف ممتثلاً لو جمع بین الأفراد مع أنه ممتثل یقیناً ، لأنّ المحقق الأصفهانی لم یؤسّس طریقه علی التقابل بین الأغراض ، بل ذهب إلی إمکان تحقّقها ، لأنّ المزاحم لیس إلّا مصلحة التسهیل ، فکان المکلّف مرخّصاً فی ترک الغرضین ، لا ممنوعاً من الجمع بینهما .
ص:324
هذا ، و قد أورد علی هذا الطریق بوجوه کلّها مندفعة :
الأول : إنّ الوجوب المشوب بجواز الترک لا یعقل إلّا بنحو الواجب المشروط ، وعلیه ، فلو ترک کلا الفردین فقد تحقق الشرط لها ، فیجب الجمع بینهما ، و هو خلف فرض الواجب التخییری ، قاله المحقق الإیروانی .
و فیه : إنّ هذا الإشکال لا یرد علی صاحب الکفایة ، لقوله بالتقابل بین الأغراض کما تقدم ، و لا یرد أیضاً علی طریق الأصفهانی - و إن کان لا یری التقابل المذکور - لأن المفروض وقوع التزاحم بین الأغراض و بین مصلحة التسهیل ، و مع فرض التزاحم ، لا یبقی الفردان أو الأفراد علی الوجوب ، و الجمع موقوف علی وجوبها کما هو واضح ، فیکون الواجب واحداً من الفردین أو الأفراد فقط ، فأین الجمع ؟
الثانی : إنه فی حال ترک کلا الفردین یلزم تعدّد العقاب .
و فیه : إنه قد عرفت أنّ الباقی بعد التزاحم هو أحد الغرضین أو الأغراض ، فلو ترک الکلّ فات الغرض الملزم الواحد ، فلا یُستحق إلّا عقاب واحد .
و الثالث : إن القول بوجود واجبین یجوز ترک أحدهما إلی بدل ، موقوف علی تعدّد الغرض ، لکنّ الکاشف عن تعدده هو تعدّد الوجوب ، و الحال أنّ الخطاب الشرعی فی الواجب التخییری جاء بکلمة « أو » الدالّة علی کون الواجب هو الجامع الانتزاعی ، و هذا یکشف عن غرض واحدٍ مترتب علی هذا الجامع ، أی : هذه الأُمور ، لا علی کلّ واحد واحد .
و قد أجاب شیخنا - فی الدورتین - عن هذا الاشکال : بأنه لیس المقصود هو الکشف عن الغرض حتی یقال : ما هو الکاشف کذلک ؟ بل المقصود تصویر
ص:325
الوجوب التخییری و حلّ مشکلته فی مقام الثبوت ، و حاصل ذلک : إنّه لیس الحامل للغرض هو الأحد المصداقی ، لعدم معقولیته ، و لا المفهومی ، لأنّه جامع انتزاعی و لیس له وجود فی الخارج ، بل إنّا نکشف من مذاق الشارع و أدلّة الأحکام أن یکون لکلّ من العتق و الصّوم و الإطعام ملاک ، لکن مصلحة التسهیل توجب أن لا یکون المکلّف مأموراً بتحصیل جمیعها ، إلّا المفطر عمداً فلا یقع مورد الإرفاق و التسهیل ... إذن ، الکاشف عن الغرض موجود بهذه الصّورة .
و الرابع : إن هذه المزاحمة إما أن تصل إلی حدّ اللّزوم ، فلا یجب شیء من الخصال ، و إمّا لا ، فلا تزاحم .
و فیه : إن هذه المزاحمة لزومیّة ، لکنّها بین مصلحة التسهیل و تحصیل جمیع الأغراض ، کلّ واحدٍ واحدٍ .
و الخامس : إن سقوط التکلیف یکون إمّا بالامتثال و إمّا العجز و إمّا النسخ ، و الإتیان بالفرد الآخر من الواجبین لیس بواحدٍ من هذه الأُمور .
و فیه : إنّ ما ذکر یتمّ فیما لا یجوز ترکه أصلاً و هو التعیینی ، لا فی الواجبین اللذین یجوز ترک أحدهما إلی بدل .
و یبقی الإشکال الإثباتی ، فقد قال فی الدورة اللّاحقة : إنّ الإشکال الوارد علی هذا الطریق هو الإشکال الإثباتی ، فإن ظواهر الأدلة هو مطلوبیّة « الأحد » لکنّ مقتضی هذا الطریق هو عدم التردید ، فهو یری وجوب کلٍّ من الأفراد .
أمّا فی الدورة السابقة ، فقد أجاب بأنّ المحقق الأصفهانی فی مقام التصویر ثبوتاً و لا یدّعی مطابقة الأدلّة لما ذهب إلیه ، و لعلّ ذلک هو الظاهر من قوله :
« یمکن فرض » أی أنه غیر ملتزم لأن یکون التصویر متطابقاً مع مقام الإثبات ...
فلو انسدّت الطرق کلّها و بقی هذا ، فلا مناص من رفع الید عن الظواهر بحیث
ص:326
تناسب مقام الثبوت .
قال المحقق العراقی (1) : إذا تعلّق الأمر بأحد الشیئین أو الأشیاء علی وجه التخییر ، فالمرجع فیه - کما عرفت - إلی وجوب کلّ واحدٍ لکن بإیجابٍ ناقص ، بنحو لا یقتضی إلّا المنع عن بعض أنحاء تروکه و هو الترک فی حال ترک البقیة ، من غیر فرقٍ فی ذلک بین أن یکون هناک غرض واحد یقوم به کلّ واحد فرد - و لو بملاحظة ما هو القدر الجامع - أو أغراض متعددة ، بحیث کان کلّ واحد تحت غرضٍ مستقل و تکلیف مستقل ، و کان التخییر من جهة عدم إمکان الجمع بین الغرضین ، إما للتضادّ بین متعلّقهما کما فی المتزاحمین أو بین نفس الغرضین فی عالم الوجود ، بحیث لا یبقی مع استیفاء أحد الغرضین فی الخارج مجال لاستیفاء الآخر ، أو فی مرحلة أصل الاتّصاف ، بحیث مع تحقق أحد الموجودات و اتّصافه بالمصلحة لا تتصف البقیّة بالغرض و المصلحة و الحاصل : إن الواجب التخییری ما یکون وجوبه وجوباً ناقصاً .
قال الأُستاذ : لا فرق جوهری بین هذا الطریق و طریق المحقّق الأصفهانی ، لأن الوجوب الناقص - فی الحقیقة - هو الوجوب المشوب بجواز الترک .
نعم ، بینهما فرق من جهة أنه علی القول بالوجوبین المشوبین بجواز الترک ، یکون العقاب المترتب فی حال ترک کلّ الأطراف عقاباً واحداً ، أمّا علی قول المحقق العراقی ، فقد صرّح بلزوم تعدّد العقاب فی بعض الصّور ، فهو یقول بأنه لو ترک الجمیع و کان الغرض منها غرضاً واحداً یقوم بالجامع بینها ، کان العقاب واحداً لا متعدّداً ، و کذا لو کان لکلٍّ غرضٌ ، لکن الغرضین کانا بحیث أنه مع تحقّق
ص:327
أحد الغرضین أو الأغراض ینتفی الغرض من غیره . أمّا لو کان لکلٍّ من الأطراف غرض مستقل تام فترک جمیع الأطراف ، فالعقاب متعدّد .
و بلحاظ هذا الفرق یصلح لأن یکون طریقاً آخر .
و یرد علیه أنّ تعدّد العقاب خلاف الضرورة الفقهیّة .
قال المحقق الإیروانی - بعد المناقشة لکلام الکفایة و الطرق المذکورة فیها - ما نصّه : فلا محیص عن الالتزام بأن الواجب هو الواحد الجامع ، و أنّ التخییر فی جمیع الواجبات التخییریة عقلیّ لا شرعی ، أو الالتزام بأن الواجب أحدهما لا بعینه مصداقاً ، مع عدم القول بتبعیّة الأحکام للمصالح فی المتعلّق ، و الالتزام بکفایة المصلحة فی الحکم ، و ذلک لأن توجّه الحکم إلی أحدهما لا بعینه معقول ، کتوجّه التملیک إلی الواحد المردّد ، لکن لا یعقل قیام المصالح التی تکون فی الأغراض المتّصلة بالواحد المردّد ، فلا بدّ أن تکون المصلحة إمّا فی واحدٍ معین أو فی الجمیع ، فإن کان الأوّل ، تعیّن ذلک الواحد للوجوب ، و إن کان الثانی ، وجب الجمیع عیناً (1) .
و أورد علیه الأُستاذ بوجوه :
الأوّل : إن إرجاع موارد الوجوب التخییری فی الشریعة إلی التخییر العقلی بعید کلّ البعد عن ظواهر الأدلّة فی مقام الإثبات ، بأن یکون المراد منها کون متعلّق التکلیف هو القدر المشترک ، ثم العقل یحکم بکون المکلف مخیّراً فیما بین الأفراد ، کالأمر بالصلاة و حکم العقل للمکلّف بالصّلاة فی الدار أو فی المسجد أو
ص:328
فی المدرسة ، و أنّ واحدةً منها محقّق للامتثال ... وعلیه ، فتکون الأدلّة فی الوجوب التخییری إرشاداً إلی حکم العقل .
و هذا ما لا یمکن المساعدة علیه .
علی أنّه یستلزم القول بکون العقل حاکماً ، و قد تقرّر أنه مدرک فحسب و لا حکم له .
الثانی : إنه یستلزم القول بوجود الواحد المردّد خارجاً . و قد تقرّر أنه محال .
و الثالث : إنّ الالتزام بکفایة المصلحة فی الحکم الوضعی لا إشکال فیه ، بأن تقوم المصلحة فی حکم الشارع بصحّة البیع أو لزومه ، أمّا فی الحکم التکلیفی - کما فیما نحن فیه - فغیر معقول ، لأن معنی قیام المصلحة فی جعل الوجوب حصولها بنفس جعله ، و کذا فی جعل الحرمة ، و الحال أن الغرض فی التکلیفیّات لا یحصل إلّا بالإتیان بالمتعلّق فی الواجب و ترکه فی الحرام .
قال السید البروجردی : و أمّا أصحابنا الإمامیّة ، فلما توجّهوا إلی الفرق بین الوجوب التعیینی و التخییری ، و أن الوجوب التعیینی هو تحتّم المولی عبده بإتیان شیء ، و الوجوب التخییری هو تحتّم المولی عبده بإتیان شیئین أو الأشیاء علی سبیل التردید النفس الأمری ، زادوا علی تعریف الواجب التخییری بأنه هو الذی یستحق تارکه لا إلی بدلٍ العقاب .
فالوجوب التخییری حقیقة هو : إیجاب المولی عبده نحو شیئین أو أشیاء علی سبیل التردید النفس الأمری و تعلّقه بالأطراف علی وجه التردید الواقعی ، کتردّد العلم الإجمالی بین الأطراف .
و لیعلم أن تردید الوجوب هاهنا تردید واقعی کما أشرنا إلیه ، و التردید فی
ص:329
المعلوم بالعلم الإجمالی ظاهری ، و إن کان فی نفس العلم واقعیاً أیضاً .
و لا یخفی المراد بقولهم « لا إلی بدلٍ » فی تعریف الوجوب التخییری ، لیس هو البدل فی قبال الأصل کما هو المصطلح فی بعض المقامات الأُخر ، بل معناه هو الفرد التخییری کما هو واضح .
فهذا نظره کما فی تقریر بحثه (1) .
و من هنا نسب إلیه الأُستاذ القول بأن حقیقة الوجوب التخییری عبارة عن تعلّق التکلیف بالمردد ، فی قبال التعیینی حیث یتعلّق بالمعیّن .
و إذا کان هذا رأیه ، فلا یمکن المساعدة علیه أصلاً .
قال فی ( المحاضرات ) (2) : الذی ینبغی أن یقال فی هذه المسألة - تحفّظاً علی ظواهر الأدلّة - هو : أن الواجب أحد الفعلین أو الأفعال لا بعینه ، و تطبیقه علی کلٍّ منهما فی الخارج بید المکلّف ، کما هو الحال فی موارد الواجبات التعیینیّة ، غایة الأمر أن متعلّق الوجوب فی الواجبات التعیینیة هو الطبیعة المتأصّلة و الجامع الحقیقی ، و فی الواجبات التخییریة هو الطبیعة المنتزعة و الجامع العنوانی .
( قال ) و لا مانع من تعلّق الأمر بالجامع الانتزاعی ، بل إنه تتعلّق به الصفات الحقیقیة کالعلم - کما فی مورد العلم الإجمالی - ، فضلاً عن الشرعی و هو أمر اعتباری ، فإنّه لا ریب فی تعلّقه بالجامع الاعتباری کتعلّقه بالجامع الذاتی کالإنسان ، فلا مانع من اعتبار الشارع ملکیّة احدی الدارین للمشتری إذا قال البائع :
بعت إحداهما ، بل ذلک واقع فی الشریعة کما فی باب الوصیّة .
ص:330
إذن ، یکون متعلّق الأمر عنوان « الأحد » ، و مجرّد عدم الواقعیة له لا یمنع من تعلّق الأمر به ، إذ المفروض تعلّقه بالطبیعی الجامع ، و لا فرق بین الجامع المتأصّل و الانتزاعی ... و هذا هو مقتضی ظواهر الأدلّة من جهة اشتمالها علی « أو » ، و حینئذٍ یکون الغرض قائماً بهذا العنوان ، و هو یتحقق بالإتیان بأیٍّ من الفردین أو الأفراد ، بلا دخل خصوصیّة شیء منها ... فالمراد من تعلّق الأمر بالجامع الانتزاعی - لیس تعلّقه به بما هو موجود فی النفس ، و لا یتعدی عن أُفق النفس إلی الخارج ، ضرورة أنه غیر قابل لأن یتعلّق به الأمر و یقوم به الغرض - إنما هو بمعنی تعلّق الأمر به بما هو منطبق علی کلّ واحدٍ من الفعلین أو الأفعال فی الخارج ، و یکون تطبیقه علی الخارج بید المکلّف .
و من هنا یظهر أنه لا فرق بین الوجوب التعیینی و التخییری إلّا فی نقطةٍ واحدة ، و هی کون المتعلّق فی الأول الطبیعة المتأصّلة کالصّلاة مثلاً ، و فی الثانی الطبیعة المنتزعة کعنوان أحدهما .
و هذا ملخّص هذا الطریق .
مناقشة الأُستاذ
إن العمدة فی هذا المسلک کون متعلّق الأمر هو الجامع الانتزاعی ، لکن لا بما هو موجود ذهنی ، بل بما هو ملحوظ مرآة لما فی الخارج ، فنقول :
إذا کان المتعلّق کذلک ، فما معنی قوله : « مرادنا من تعلّق الأمر به بما هو منطبق علی کلّ واحدٍ من الفعلین أو الأفعال فی الخارج و یکون تطبیقه علی ما فی الخارج بید المکلّف » ؟
إن الجامع الانتزاعی موطنه النفس و لیس له خارجیّة - بل ما فی الخارج هو الجامع الحقیقی - فإن أراد سرایة الأمر بتوسّط هذا الجامع إلی الخارج ، فهذا أیضاً
ص:331
محال ، لأنّ الخارج لیس بظرفٍ لثبوت الأمر و تعلّقه بل هو ظرف سقوطه ، و بعبارة أُخری ، فإن الجامع قبل التطبیق أمر ذهنی لا خارجیة له ، و أمّا بعده ، فإنّ الخارج ظرف سقوط الأمر لا تحقّقه .
هذا أوّلاً .
و ثانیاً : إن هذا الجامع ینتزعه العقل ، فإن کان مصداق هذا الأحد المفهومی فی الخارج هو الأحد المردّد ، فهو یعترف بأن الأحد المردّد لا یتعلّق به التکلیف و لا یقوم به الغرض ، فلا بدّ و أن یکون المصداق و ما بإزائه فی الخارج هو المعیّن ، غیر أن هذا المکلّف یطبّقه علی هذا الفرد ، و المکلّف الآخر یطبّقه علی فردٍ آخر ، فإن کان الغرض قائماً بالقدر المشترک بین الأفراد أصبح التخییر عقلیاً ، و إن کان قائماً بفردٍ معیّن خرج عن التخییریّة و کان الواجب تعیینیّاً ، و إن کان لکلّ واحدٍ واحدٍ منها غرض غیر أن مجموع الأغراض تزاحمها مصلحة التسهیل ، عاد المطلب إلی طریق المحقق الأصفهانی ... و قد تقدّم سلامة طریقه ثبوتاً عن کلّ ما أُورد علیه ، و مع التنزّل عنه ، فإن طریق السید الخوئی یکون أحسن الطرق و المسالک فی الباب .
و تلخّص : إن هذا الطریق و إن کان أحسن الوجوه و أقربها إلی النصوص ، لکنّ الإشکال فیه من جهة الغرض باق ، لأنّ العنوان الانتزاعی لا یحمل الغرض بل المعیّن هو الحامل له ، لکن المفروض أنّ الواجب هنا غیر معیّن . لأنه الأحد الخارجی ، و الأحد المردد خارجاً محال ... فلا مناص من أن یکون الواجب کلّ من الأفراد بخصوصه ، و یکون فی کلّ فردٍ فردٍ مصلحة ، فیقع التزاحم بین تلک الأغراض و المصالح و مصلحة التسهیل ، و هو مبنی المحقق الأصفهانی .
لکن تقدّم أن فی مبنی المحقق الأصفهانی اشکالین :
ص:332
أولاً : إنه غیر متطابق مع الأدلّة فی مقام الإثبات .
و ثانیاً : إنّ الوجوب المشوب بجواز الترک مرجعه إلی الوجوب المشروط ، إلّا أن یرفع بالتحقیق الأتی إن شاء اللّٰه .
و اختار الشیخ الأُستاذ دام ظلّه الطریق الأخیر فی الدورة السابقة ، و ذکر أنه کان مختاره فی الدورة الأُولی - فی النجف الأشرف ... و کان حاصل ما أفاده : أنّه إذا کان متعلّق التکلیف هو الجامع الانتزاعی ، فلا بدّ و أن یکون هو الحامل للغرض ، و أن یصحّ البعث إلیه ... فهنا ثلاثة مراحل .
أمّا أن الجامع الانتزاعی هو المتعلّق ، فهو مقتضی ظواهر النصوص ، کما أنه سالمٌ من محذور تعدّد العقاب . و أمّا البعث و التحریک نحوه ، فهو بلحاظ تطبیقه علی الفرد ، و هو بید المکلّف ، فلا مشکلة فی هذه المرحلة . و تبقی مرحلة قیام الغرض ، لأنّ الغرض یکون قائماً بما یتعلّق به التکلیف ، و إذا کان المتعلّق هو الجامع الانتزاعی فهل یصلح لأن یقوم به الغرض ؟
قال دام ظلّه : إنّ بیان ( المحاضرات ) غیر وافٍ لحلّ المشکلة فی هذه المرحلة . فلا بدّ من التحقیق فی ملاک ما یقال من ضرورة قیام الغرض بنفس متعلّق التکلیف ، فأفاد - فی کلتا الدورتین - بأن صور المسألة مختلفة :
فقد : یتّحد المتعلّق و الحامل للغرض کما فی الأمر بالصّلاة ، فإنّها هی متعلّق التکلیف و هی حاملة الغرض .
و قد یقع التخلّف ، بأن یکون العنوان متعلّق التکلیف و المعنون هو الحامل للغرض ، کما فی الأمر بإکرام من المسجد ، حیث یکون الغرض قائماً بالفرد المعیّن خارجاً .
ص:333
و قد یکون المتعلّق هو الملازم لعنوانٍ کان الغرض مترتباً علیه ، کما فی التکلیف الناسی ، بناءً علی مسلک المحقق الخراسانی ، إذ لا یعقل توجّه التکلیف إلی « الناسی » لأنه بذلک ینقلب ذاکراً ، بل یتوجّه إلی عنوان « کلاه قرمز » - کما مثّل هو فی الدرس - و هذا العنوان ملازم للناسی و هو موضوع الغرض .
فعلیه ، لا یلزم أن یکون حامل الغرض هو المتعلّق ، و لا برهان علی ذلک ، بل اللّازم أن یکون تعلّق التکلیف بالعنوان منتهیاً إلی التحریک نحو الموضوع الحامل للغرض .
و ما نحن فیه کذلک ، فإنّ التکلیف قد تعلّق بالجامع الانتزاعی ، و موطنه الذهن ، فلیس حاملاً للغرض ، إلّا أن تعلّقه به موجب للتحرک نحو المصداق الخارجی ، و یکون المصداق هو الحامل له .
و بهذا البیان یرتفع الإشکال عن طریق المحقق الخوئی ، و ما ذکره من أن تعلّق التکلیف بالجامع الانتزاعی یکشف عن کون الغرض قائماً به ، فلیس برافعٍ له .
و بعد أن رفع الأُستاذ الإشکال عن مسلک السید الخوئی ، و الذی کان قد اختاره سابقاً ، لکونه الأقرب إلی ظواهر النصوص ، ذکر أنّ مقتضی الدقّة فی النصوص شیء آخر غیر المسلک المزبور ... فأورد بعض النصوص ، و استظهر منها کون المجعول فی موارد الوجوب التخییری - الذی هو مفاد « أو » - هو « التخییر » :
* محمد بن أحمد بن یحیی ، عن أحمد بن محمد ، عن علی بن الحکم ، عن أبی حمزة : عن أبی جعفر علیه السلام قال : سمعته یقول : « إنّ اللّٰه فوّض إلی
ص:334
الناس فی کفارة الیمین ، کما فوّض إلی الإمام فی المحارب أن یصنع ما یشاء .
و قال : کلّ شیء فی القرآن « أو » فصاحبه فیه بالخیار » (1) .
فالخبر ظاهر فی أنّ المجعول فی هذه الموارد هو « تخییر المکلّف » و« تفویض الأمر إلیه » و لا فرق بین لسانه و لسان جعل الخیار فی أبواب الخیارات ، کقوله علیه السلام : « البیّعان بالخیار ما لم یفترقا » (2) و قوله : « صاحب الحیوان بالخیار بثلاثة أیّام » (3) .
فإن قیل : هذا ما یرجع إلیه الوجوب التخییری .
نقول : حمل المبدإ علی النتیجة خلاف الظاهر ، بل مفاد الخبر جعل المکلّف مختاراً کما جعل الإمام علیه السلام مختاراً فی المحارب ، و لسانهما واحد ، و ظاهرهما واحد ... فیکون الحاصل : کما أن البیّعین بالخیار بین الفسخ و عدمه ، کذلک من علیه الکفّارة بالخیار بین العتق و الصیام و الإطعام ، نعم الفرق هو أنّ المجعول هناک هو الخیار الحقّی ، و المجعول هنا هو الخیار الحکمی ، و حکم الأول أنه قابل للإسقاط ، و حکم الثانی أنه مثل الخیار فی الهبة غیر قابلٍ للإسقاط .
و الظاهر تمامیّة سند الروایة ، و« أبو حمزة » هو « الثمالی » .
و عن أبی عبد الله علیه السلام : « فی کفّارة الیمین ، یطعم عشرة مساکین ، لکلّ مسکین مدّ من حنطة أو مدّ من دقیق و حفنة أو کسوتهم لکلّ انسان ثوبان أو عتق رقبة ، و هو فی ذلک بالخیار أی ذلک شاء صنع » (4) .
ص:335
فالمجعول الشرعی کونه بالخیار .
و السند صحیح بلا کلام .
قال الأُستاذ : إن هذا هو الظاهر من الأخبار ، و إذ لا مانع ثبوتاً و إثباتاً من الأخذ به ، فمقتضی الصناعة العلمیّة هو الأخذ بالظهور .
و یبقی الکلام فی ضرورة تصویر الجامع بین الأفراد ... .
و لنرجع إلی الروایات فی ذلک ، فإنّا نری أنّ التخییر فی الوجوب التخییری شرعی - و لیس بعقلی - و قد وجدنا أن مقتضی الظواهر هو « الکفارة » و« الفدیة » و هذا هو الواجب لا « أحد الأُمور » :
و عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال : « سألته عن المحرم یصید الصید بجهالةٍ . قال : علیه کفّارة » .
فالمجعول علی ذمة المکلّف هو « الکفارة » ... فکان ما یکفر به الذنب أن « یصوم ستین یوماً » أو « یطعم ستین مسکیناً » أو « یعتق رقبةً » و کلّ واحدٍ من هذه الأُمور مصداق للجامع و هو « الکفارة » ، و قد فوّض الأمر إلی المکلّف فی التطبیق و العمل ، کما فوّض إلی الإمام علیه السلام فی المحارب إذ قال تعالی «إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذینَ یُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَرَسُولَهُ ... » .
ثم قال الراوی :
قلت : إنه أصابه خطأ .
قال : و أیّ شیء الخطأ عندک ؟
قلت : ترمی هذه النخلة فتصیب نخلةً أُخری .
قال : نعم ، هذا الخطأ وعلیه الکفارة » .
فکان ما « علیه » هو « الکفارة » .
ص:336
قلت : إنه أخذ طائراً متعمّداً فذبحه و هو محرم .
قال : علیه الکفارة .
قلت : جعلت فداک ، أ لست قلت إن الخطأ و الجهالة و العمد لیسوا بسواء ... » (1) .
و سندها صحیح .
و عن أبی عبد الله علیه السلام : مرّ رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم علی کعب بن عجرة الأنصاری و القمّل یتناثر من رأسه . فقال : أ تؤذیک هوامک ؟ فقال :
نعم . قال : فأنزلت هذه الآیة «فَمَنْ کٰانَ مِنْکُمْ مَریضًا أَوْ بِهِ أَذًی مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْیَةٌ » .
فالواجب هو عنوان « الفدیة » «مِنْ صِیٰامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُکٍ » و« من » هذه بیانیة .
( قال علیه السلام ) : « فأمره رسول اللّٰه بحلق رأسه و جعل علیه الصیام ثلاثة أیام و الصدقة علی ستة مساکین ، لکلّ مسکین مدّان ، و النسک شاة .
( قال علیه السلام ) : « و کلّ شیء فی القرآن « أو » فصاحبه بالخیار یختار ما شاء » (2) .
و عن أبی عبد الله علیه السلام :
« فی رجلٍ أتی امرأته و هی صائمة و هو صائم . قال : إن کان استکرهها فعلیه کفّارتان ، و إن کانت مطاوعته فعلیه کفارة و علیها کفارة » (3) .
و عن أبی عبد الله علیه السلام : « فی الرجل یلاعب أهله أو جاریته و هو فی قضاء شهر رمضان ، فیسبقه الماء فینزل . قال : علیه من الکفارة مثل ما علی الذی
ص:337
یجامع فی رمضان » (1) .
قال الأُستاذ :
و لو تنزلنا عن هذا ، فالمختار من بین الوجوه المتقدمة هو مسلک السید الخوئی .
هذا تمام الکلام فی الواجب التخییری بین المتباینین .
و قد وقع الکلام بین الأعلام فی جواز التخییر بین الأقل و الأکثر ، و اختلفت کلماتهم فیه ، بین قائل : بالجواز مطلقاً ، و قائل بالاستحالة مطلقاً ، و مفصّل بین ما کان تدریجیّ الحصول فلا یجوز کالتسبیحات ، و ما کان دفعیّ الحصول فیجوز ، کدوران الأمر بین رسم الخط القصیر أو الطویل ، علی أن یوجد الخط دفعةً .
و منشأ الخلاف هو :
أوّلاً : إنه إن وجب الأقل ، فإنّه دائماً موجود فی ضمن الأکثر ، فإذا تحقق حصل الغرض من الأمر ، و یکون الأکثر حینئذٍ بلا غرض ، فلما ذا یکون واجباً ؟
و ثانیاً : إن معنی « الوجوب » و حقیقته : ما لا یجوز ترکه - اللّهم إلّا فی الوجوب التخییری ، حیث یجوز ترک أحد العدلین مثلاً بالإتیان بالعدل الآخر - و لکنّ التخییر بین الأقلّ و الأکثر یستلزم القول بجواز ترک الواجب ، لأنّه مع الإتیان بالأقل یسقط الأکثر عن الوجوب .
و لا یخفی ورود هذین المحذورین سواء فی مورد التدریجی و الدفعی ،
ص:338
فلا وجه لتخصیص المحقق الأصفهانی (1) أحدهما بالتدریجی و الآخر بالدفعی .
و ذهب المحقق الخراسانی إلی الجواز مطلقاً ، و حاصل کلامه (2) :
تارةً : یکون الغرض قائماً بالأقل بحدّه ، و بالأکثر بحدّه ، بحیث یکون للحدّ دخلٌ فی الغرض . فهنا لا محیص عن القول بالتخییر .
و أُخری : یکون الغرض قائماً بذات الأقل بلا دخل للحدّ فیه ، و کذا فی الأکثر . فهنا لا یعقل التخییر .
ففی التسبیحات - مثلاً - إن کان الغرض الواحد قائماً بالأقل و بالأکثر بحدّهما ، کانت التسبیحة الواحدة حاملةً للغرض کالتسبیحات الثلاث ، فلو أوجب الأقلّ دون الأکثر لزم الترجیح بلا مرجّح ، فلا محالة یکون المکلّف مخیّراً - بحکم العقل - بین الإتیان بالأقل أو الأکثر ، لأنّ المفروض کون الواجب هو الجامع بینهما ، و کلّ منهما مصداق له بلا فرق .
أمّا لو تعدّد الغرض ، و کان کلٌّ منهما حاملاً لغرضٍ غیر الغرض من الآخر و لا یمکن الجمع بینهما ، کان التخییر شرعیّاً ، إذ یکون کلٌّ منهما واجباً مع جواز ترکه إلی البدل ، کما تقدّم فی المتباینین .
فإن قلت : هذا إنما یتمّ فی الدفعی ، لکون کلٍّ من الأقل و الأکثر طرفاً فیتحقق التخییر ، و أمّا مع الحصول بالتدریج ، بأن یوجد الأقل و یصیر کثیراً حتی یصل إلی الأکثر فلا ، لحصول الامتثال بالأقل .
فأجاب : بعدم الفرق ، لإمکان ترتب الغرض علی التسبیحة بقید الوحدة
ص:339
و علیها بقید الثلاثة ، و إذا کان کلّ منهما حاملاً للغرض ، کان تعیین الأقل منهما ترجیحاً بلا مرجّح .
قال الأُستاذ :
و محصّل کلامه هو : إن جمیع موارد التخییر بین الأقل و الأکثر - حیث یکون کلّ منهما مقیّداً بحدّه - ترجع إلی التخییر بین المتباینین ، من قبیل التباین بین البشرطلا مع البشرط شیء ... و علی هذا الأساس قال بالتخییر .
لکنّ هذا خلاف الفرض فی مسألة دوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، إذ یکون الأقل موجوداً فی ضمن الأکثر ، فلیس المراد من الأقل هو البشرطلا عن الأکثر ...
حتی یرجع الحال إلی ما ذکره .
فما أفاده لیس حلّاً للإشکال و رافعاً للمحذور المزبور سابقاً .
المختار
فالمختار فی محلّ الکلام هو القول الثانی ، أی استحالة التخییر .
و العجب من السیّد الاستاذ أنه بعد ذکر محصَّل ما جاء فی الکفایة قال ما نصه : « و به یصحّح التخییر بین الأقل و الأکثر و إنْ کانت النتیجة إرجاعه إلی التخییر بین المتباینین ، لإرجاعه إلی التخییر بین المأخوذ بشرط لا و المأخوذ بشرط شیء .
فهو تصحیح للتخییر بین الأقل و الاکثر بتخریجه علی التخییر بین المتباینین ، لا التزام بالتخییر بین الأقل و الاکثر » (1) فتدبر .
المتعلّق للتکلیف مردّداً بین الأقل و الأکثر ، و کان للأقل فی ضمن الأکثر وجود مستقل ، کرسم خطٍّ طویل تدریجاً ، و إن عدّ المجموع بعد حصول الأکثر فعلاً واحداً ذا وجود واحد .
فیخرج بالقید الأوّل : ما إذا لم یکن الفعل المتعلّق للتکلیف مردداً بین الأقل و الأکثر ، بل کان متعلّق ذلک الفعل مردّداً بینهما ، کما إذا أمر تخییراً بالإتیان بعصا طولها عشرة أذرع ، أو بعصا طولها خمسة أذرع ، أو بإکرام عشرة دفعةً واحدة ، أو إکرام خمسةٍ کذلک ، فإن ذلک من التخییر بین المتباینین ، لتباین الفعلین المتعلّق بهما التکلیف .
و یخرج بالقید الثانی : ما إذا لم یکن للأقل فی ضمن الأکثر وجود مستقل ، کما إذا أمر تخییراً بالمسح بالکف أو بإصبع واحدة ، فإنه أیضاً من التخییر بین المتباینین .
و من ذلک یظهر عدم الفرق بین الکمّ المنفصل و الکمّ المتصل ، فلو أمر تخییراً بین التسبیحة الواحدة و التسبیحات الثلاث ، أو أمر تخییراً بین المشی فرسخاً واحداً أو فراسخ عدیدة ، أو القراءة و التکلّم و سائر الأُمور التدریجیّة ، کان کلّ ذلک من محلّ الکلام .
ثم إنه أورد علی ( الکفایة ) بإشکالین : ( أحدهما ) : ما تقدّم من أن ما ذکره خارج عن محلّ الکلام ، و أنّ لازم کلامه عدم معقولیّة التخییر بین الأقل و الأکثر .
و( الثانی ) هو : إن ما ذکره من التخییر بین الأقل بشرط لا و الأکثر غیر معقولٍ أیضاً ، و إن کان ذلک داخلاً فی المتباینین ، إذ التباین المذکور تباین عقلی لا خارجی ، و الإشکال لا یرتفع بالتباین الخارجی ، و لذا لا یسع المصنف الحکم بعدم وجوب الأکثر بعد الإتیان بالأقل ، لأن ذلک فی معنی إخراج الأکثر عن طرف التخییر ،
ص:341
و لا الحکم بوجوب الأکثر عیناً ، لأن ذلک فی معنی إخراج الأقل عن طرف التخییر ، و حکمه بالتخییر بین الإتیان بالزائد و عدمه فی معنی عدم وجوب الزائد و انحصار الوجوب بالأقل ، لعدم معقولیّة وجوب فعل شیء و ترکه علی سبیل التخییر .
و قد أورد الأُستاذ - فی کلتا الدورتین - علی هذه النظریّة ، بأن ذات الأقل موجود فی ضمن الأکثر فی الوجود الدفعی کذلک ، و المفروض أن الغرض مترتب علی الذات ، فیکون الأکثر زائداً عن الغرض ، لکنّ هذا یستلزم أن لا تکون ذات الأقل حاملةً للغرض إلّا مع الحدّ و کونه بشرط لا ، و حینئذٍ ینقلب إلی التخییر بین المتباینین ، و هو خلف الفرض کما تقدم فی الإشکال علی ( الکفایة ) .
إذن ، فمورد البحث هو ذات الأقل لا بحدّه ، و هو موجود فی ضمن الأکثر ، من دون فرقٍ بین الوجود الدفعی للأکثر أو التدریجی .
و أمّا إشکاله علی المحقق الخراسانی بأن هذه التباین عقلی لا خارجی .
ففیه : إنّ منشأ اعتبار الأقل بشرط لا مغایر خارجاً مع منشأ اعتبار البشرط شیء ، فکان التباین خارجیاً لا ذهنیّاً .
و هذا تمام الکلام فی الوجوب التخییری .
ص:342
ص:343
ص:344
و الفارق بینه و بین التخییری هو المتعلّق و الموضوع ، ففی التخییری یتردّد متعلّق التکلیف بین الصوم و الإطعام و العتق - مثلاً - أمّا فی الکفائی ، فإنه یتردّد موضوع التکلیف بین زید و عمرو و بکر ... .
فالتکلیف واحد ، لکن الموضوع متعدّد ، و استحقاق العقاب أو الثواب یکون للکلّ ، بخلاف الواجب التخییری حیث الثواب أو العقاب واحد .
و قد اختلفت کلمات الأعلام فی هذا المقام کذلک علی وجوه :
فقال المحقق الخراسانی (1) : و التحقیق أنه سنخ من الوجوب ، و له تعلّق بکلّ واحد ، بحیث لو أخلّ بامتثاله الکلّ لعوقبوا علی مخالفته جمیعاً ، و إن سقط عنهم لو أتی به بعضهم ، و ذلک قضیّة ما إذا کان هناک غرض واحد حصل بفعل واحدٍ صادر عن الکلّ أو البعض . کما أن الظاهر هو امتثال الجمیع له أتوا به دفعةً و استحقاقهم المثوبة ، و سقوط الغرض بفعل الکل ، کما هو قضیّة توارد العلل المتعدّدة علی معلول واحد .
و حاصل کلامه هو : أنّ حقیقة الوجوب الکفائی عبارة عن الوجوب المشوب بجواز الترک - کما فی التخییری ، غیر أنه هناک جواز الترک إلی بدلٍ فی
ص:345
الفعل ، و هنا جواز الترک إلی بدلٍ فی الموضوع - و قد ذکر وجهین لهذه الدعوی :
( أحدهما ) من جهة العلّة للحکم و هو الغرض ، إذ الغرض واحد و الفعل واحد و هو الحامل للغرض ، و حینئذٍ ، یستوی الحال بالنسبة إلی أفراد المکلّفین ، فکلّ من أتی به فقد حصل الغرض و تحقّق الامتثال .
فالحاصل : إنّ موضوع التکلیف هو کلّ الأفراد - لا جمیعهم ، لوحدة الغرض و الفعل ، و لا الأحد المفهومی المردّد منهم ، لأنه غیر حاملٍ للغرض ، و لا الأحد المردد المصداقی ، لأنه لا وجود له - لکن سنخ التکلیف هو أن الوجوب المتوجّه إلی کلّ واحدٍ مشوب بجواز الترک له فی حال قیام غیره به .
و لو أتی الجمیع بالفعل - کأن صلّوا جماعةً علی المیّت - کان الامتثال حاصلاً بفعل الکلّ ، من باب توارد العلل المتعددة علی المعلول الواحد .
و هذا هو ( الوجه الثانی ) .
ثم إنّ المحقق الأصفهانی (1) قد وافق صاحب ( الکفایة ) فی أصل الرأی ، إلّا أنه خالفه فی الوجه الثانی من الوجهین المذکورین ، لبطلان توارد العلل علی المعلول الواحد فی الصّلاة علی المیت و غیره من الواجبات الکفائیة القابلة للتعدّد ، فلو صلّی کلّ واحدٍ من المکلّفین علی المیت ، کانت صلاته ذات مصلحة ، فلم یتحقّق توارد العلل علی المعلول الواحد ، هذا بالنسبة إلی أصل المصلحة . و أمّا المصلحة اللّزومیّة فهی لیست إلّا واحدة ، تتحقّق بقیام أیّ واحدٍ من المکلّفین بالصّلاة علی المیّت ، فنسبتها إلی جمیع المکلّفین علی حدٍّ سواء ، و لذا یحصل الامتثال بفعل أیّ واحدٍ منهم ... فلا توارد للعلل ، لا فی أصل المصلحة
ص:346
و لا فی المصلحة اللزومیّة .
أمّا فی مثل دفن المیت و نحوه ممّا لا یقبل التعدّد ، فالأمر واضح ، إذ مع عدم تعدّد الفعل کیف یتحقّق توارد العلل علی المعلول الواحد ؟
و قد أورد علیه شیخنا بوجوه :
الأوّل : إنّ الوجوب الکفائی وجوب مشوب بجواز الترک فی طرف الموضوع ، أی المکلّف ، فلو ترک کان المکلّفون کلّهم معاقبین ، لأنّ کلّاً منهم قد ترک لا إلی بدلٍ ، فهو یقول بتعدّد العقاب هنا ، و لا یقول به فی الواجب التخییری مع ترک جمیع الأطراف ، و الحال أنّ نفس الدلیل القائم هنا علی تعدّد العقاب یقتضی تعدّده هناک ، لأنّ جواز ترک الإطعام - مثلاً - کان منوطاً بالإتیان بالعتق أو الصوم ، فلو ترک الکلّ لزم تعدّد العقاب کذلک .
و الثانی : لقد جاء فی کلامه فی ( نهایة الدرایة ) عبارة : إن المصلحة اللزومیّة هذه لا متعیّنة . فیرد علیه :
أوّلاً : إنه لا وجود لغیر المتعیّن ، و قد ذکر هو سابقاً إن الوجود مساوق للتعیّن .
و ثانیاً : إنّ المصلحة اللزومیّة متقوّمة بالفعل الحامل لها ، فکیف یکون المعلول متعیّناً و العلّة غیر متعیّنة ؟ و کیف یکون اللّامتعیّن قابلاً للامتثال ؟
و ثالثاً : إن المصلحة اللزومیّة واحدة لا تقبل التعدّد و إلّا لتعدّد الواجب و هو خلاف الفرض فی الواجب الکفائی ، و لذا یکون نسبتها إلی کلٍّ من المکلّفین علی السواء ، و هی نسبة صدوریّة ، فکیف یعقل أن یکون الصّادر واحداً و من صدر عنه الفعل متعدّداً ؟
ص:347
هذا ، و الإشکال الوارد علی تصویر الوجوب الکفائی بالوجوب المشوب بجواز الترک ، هو عدم مساعدة مقام الإثبات و الارتکازات العقلائیّة علیه ، و أمّا ثبوتاً فلا یرد علیه شیء .
هو القول بالوجوب المشروط ، بأن یجب الفعل علی کلّ واحدٍ من المکلّفین مشروطاً بعدم قیام غیره منهم به .
و هذا الوجه ساقط ، لأنّه یستلزم عدم حصول الامتثال لو صلّی الکلّ علی المیّت مثلاً ، لأنّ المفروض اشتراط الوجوب علی کلّ واحدٍ منهم بترک الآخر ، و إذا صلّی الجمیع لم یتحقق الشرط و انتفی الوجوب ، فلا امتثال للأمر ... و هذا باطل .
إن موضوع التکلیف هو الفرد المردّد ، کما أنّ متعلّق التکلیف فی الوجوب التخییری هو المردّد ، فکما تتعلّق الإرادة التشریعیّة بالمراد المردّد - و هو الفعل - کذلک تتعلّق بالمراد منه المردد و هو الموضوع .
و فیه :
ما تقدّم هناک من أن تعلّق التکلیف بالمردّد غیر معقول ، سواء کان التردّد فی الفعل المکلّف به أو فی المکلّف نفسه ، لأنّ التکلیف - سواء علی القول بأنه الإنشاء بداعی جعل الداعی ، أو القول بأنه الطلب الإیقاعی الإنشائی ، أو القول بأنه البعث و التحریک نحو الإتیان بالمتعلّق ، أو القول بأنه اعتبار الفعل فی ذمّة العبد و إبرازه بالصیغة - أمر ذو تعلّق و ارتباط بالغیر ، و التعلّق بالمردّد محال مطلقاً .
ص:348
هذا ، و لا یخفی أن المیرزا - و إن قال بمعقولیّة تعلّق الإرادة التشریعیّة بالمردّد فی الوجوب التخییری ، من جهة أنّ أثرها إحداث الدّاعی فی نفس المکلّف ، و لا مانع من أن یکون المدعوّ إلیه مردّداً - لا یقول فی الوجوب الکفائی بتعلّقها بالموضوع المردّد ، فهو یفرّق بین الموردین ، و لعلّ السرّ فی ذلک هو تعیّن الموضوع فی التخییری و تردّد المتعلّق ، و لا محذور - عنده - فی إحداث الداعی نحو المتعلّق المردّد ، أمّا فی الوجوب الکفائی ، فالموضوع مردّد و لا یعقل إحداث الداعی مع تردّده ... و لذا قال فی تصویر الکفائی بأنّ الموضوع صرف الوجود - لا الفرد المردد - کما سیأتی .
إنّ موضوع التکلیف عبارة عن الکلّی الجامع بین الأفراد ، غیر أنّه فی مقام التشخّص یتشخص الموضوع بقیام أیّ فردٍ من الأفراد بالمکلّف به ، کما هو الحال فی الوضعیّات ، کملکیّة سهم السّادة مثلاً - بناءً علی أنه لکلّی الهاشمی الفقیر - حیث الموضوع عبارة عن الکلّی ، ویتعیّن بالقبض و الإقباض ، فهنا کذلک ، فقد تعلّق التکلیف بالکلّی غیر أنّه یتعیّن بمن یقوم بالعمل من أفراد المکلّفین .
و هذا ما نقله المحقق الأصفهانی عن السید بحر العلوم صاحب بلغة الفقیه (1) فی تصویر أخذ الأُجرة علی الواجبات .
ثم أشکل علیه : بأنّ البعث و التحریک لا بدّ و أن یتوجّه نحو الشخص ، و لا یعقل أن یکون الکلّی طرفاً للبعث ، لعدم معقولیّة انقداح الإرادة فی نفس
ص:349
الکلّی ، لأن الکلّی لا نفس له (1) .
و قد أجاب عنه شیخنا : بأن هذا البعث اعتباری و لیس تکوینیّاً ، و غایة ما یقتضیه البرهان هو انقداح الإرادة علی أثر البعث ، و هذا یحصل فی نفس الفرد بالبعث نحو کلّی المکلّف بعثاً اعتباریاً ، لأنّ الکلّی متّحد مع الأفراد . فالإشکال مندفع ... .
و ما جاء فی کلامه من أنّ متعلّق التکلیف هو المکلّف بالحمل الشائع .
مخدوش عقلاً ، لأنّ التکلیف من الأُمور ذات التعلّق ، فهو فی وجوده محتاج إلی الطرف و هو مقوّم له ، لکن التکلیف و البعث من الموجودات النفسانیّة ، و تقوّم الموجود النفسانی بالموجود الخارجی محال ، لاستلزامه صیرورة النفسانی خارجیّاً أو الخارجی نفسانیاً ، و کلاهما محال .
بل إن متعلّق التکلیف لا بدّ و أن یکون من سنخ التکلیف ، فالتکلیف أمر نفسانی و متعلّقه نفسانی أیضاً ، و هو الداعی فی نفس العبد ، غیر أنّ هذا الداعی یصیر علّةً للمراد الخارجی فیکون المبعوث إلیه بالعرض ... فافهم و اغتنم .
لکنّ الإشکال الوارد علی هذا الوجه هو : عدم معقولیّته فیما نحن فیه ، و تنظیره بالأحکام الوضعیّة کالملکیّة قیاس مع الفارق ، لأنّ الموضوع لملکیّة الخمس هو کلّی الهاشمی الفقیر ، لکنّه فی ظرف التشخّص تتحقّق ملکیّة شخصیّة بمقتضی الأدلّة الشرعیّة فی المسألة ، بخلاف الأحکام التکلیفیّة ، فإنّه لا موضوعیة
ص:350
فی ظرف التشخّص ، لأنّ ظرف التشخّص فیها هو ظرف التلبّس بالفعل و القیام به ، فما لم یقم أحد المکلّفین بالفعل لم یتشخص الموضوع ، و إذا قام بالعمل خرج عن الموضوعیّة ، فلا معنی لتوجّه التکلیف إلیه و بعثه نحو الفعل .
إنّ موضوع الوجوب فی الکفائی عبارة عن مجموع المکلّفین ، بنحو العام المجموعی ، فی مقابل العام الاستغراقی حیث یکون الواجب عینیّاً و أنّ المکلّف کلّ واحدٍ من أفراد المکلّفین .
و قد أورد علیه بوجهین :
الأوّل : إنّ المجموع أمر اعتباری ذهنی ، إذ الموجود فی الخارج هو الأفراد ، و التکلیف - کما تقرر - إنما هو لإیجاد الداعی فی نفس المکلّف ، و من الواضح أن الأمر الاعتباری غیر صالح للمبعوثیة .
و الثانی : إنه لیس الموضوع فی الوجوب الکفائی هو مجموع المکلّفین ، و إلّا یلزم أن لا یتحقق الامتثال بإتیان البعض بالمأمور به ، و تحقّقه بامتثال البعض کاشف عن أن الموضوع لیس المجموع .
و هذا الإشکال الثانی وارد .
و أمّا الأوّل فیمکن الجواب عنه : بأنّ الأمر الاعتباری و إنّ لم یکن بنفسه موضوعاً للتکلیف لما ذکر ، إلّا أنه یمکن أن یکون وسیلةً لبعث من فی الخارج ، نظیر عنوان « أحدهما » مثلاً ، فإنه أمر انتزاعی لا یتعلّق به التکلیف و لا یقع موضوعاً له ، إلّا أنه لمّا یقول المولی : لیقم أحدکم بالفعل الکذائی ، یصیر هذا العنوان منشأً للانبعاث فی الخارج ، و قد تقدّم - فی تصحیح جعل الکلّی عنواناً للموضوع - أنه لا برهان علی ضرورة کون المکلّف نفسه قابلاً للانبعاث ، بل یکفی أن یکون
ص:351
لجعل العنوان موضوعاً أثر فی الخارج یخرج أخذه کذلک عن اللغویّة ، فهذا الإشکال من المحقق الأصفهانی (1) غیر وارد .
إن الموضوع صِرف وجود المکلّف ، و کما أنّ الغرض من المکلّف به یترتّب علی صرف وجود الطبیعة - کالإکرام مثلاً - حیث یتحقّق الامتثال بإکرام فردٍ واحدٍ أو علی مطلق وجودها الساری ، فینحلّ التکلیف بعدد أفراد تلک الطبیعة ، کذلک فی طرف المکلّف ، فقد یترتّب الغرض علی صدور الفعل من مکلّفٍ ما ، و قد یترتّب علی مطلق وجود المکلّف ، فإن کان الأوّل فهو الکفائی ، و إن کان الثانی فهو العینی ... .
و هذا مختار المحقق النائینی (2) و قال فی المحاضرات : « و هو الصحیح » (3) .
و قد تعرّض المحقق الأصفهانی لهذا الوجه فی تعالیقه علی ( نهایة الدرایة ) (4) فقال : إن صرف الوجود بمعناه المصطلح علیه فی المعقول لا یطابق (5)له إلّا الواجب تعالی و فعله الإطلاق ، حیث إنه لا حدّ عدمی لهما و إن کان الثانی محدوداً بحدّ الإمکان . و بمعناه المصطلح علیه فی الأُصول : إمّا أن یراد منه ناقض العدم المطلق و ناقض العدم الکلّی کما فی لسان بعض أجلّة العصر (6) ، و إمّا أن یراد
ص:352
المبهم المهمل من حیث الخصوصیّات ، و إمّا أن یراد منه اللّابشرط القسمی المساوق لکونه متعیّناً بالتعیّن الإطلاقی اللازم منه انطباقه علی کلّ فرد .
( قال ) فإن أُرید منه ناقض العدم المطلق و العدم الکلّی .
ففیه : إنّ کلّ وجود ناقض عدمه البدیل له ، و لیس شیء من موجودات العالم ناقض کلّ عدم یفرض فی طبیعته المضاف إلیها الوجود .
و إرجاعه إلی أوّل الوجودات ، باعتبار أنّ عدمه یلازم بقاء سائر الأعدام علی حاله ، فوجوده ناقض للعدم الأزلی المطلق لا کلّ عدم .
فهو لا یستحق إطلاق الصرف علیه ، فإنه وجود خاص من الطبیعة بخصوصیّته الأولیّة ، مع أنه غیر لائقٍ بالمقام ، فإنه من المعقول إرادة أوّل وجودٍ من الفعل ، و لا تصحّ إرادته من أول وجودٍ من عنوان المکلّف ، فإنّ مقتضاه انطباقه علی أسنّ المکلّفین .
کما لا یصحّ إرجاعه إلی أوّل من قام بالفعل .
فإنّ موضوع التکلیف لا بدّ من أن یکون مفروض الثبوت و لا یطلب تحصیله ، فمقتضاه فرض حصول الفعل لا طلب تحصیله .
و إنّ أُرید المبهم المهمل .
فلا إهمال فی الواقعیّات .
و إنّ أُرید اللّابشرط القسمی ، و هی الماهیّة الملحوظة بحیث لا تکون مقترنةً بخصوصیة و لا مقترنةً بعدمها .
فیستحیل شخصیّة الحکم و البعث - مع لحاظ المکلّف بعد الاعتبار الإطلاقی - إذ لا یعقل شخصیّة الحکم و نوعیّة الموضوع وسعته ، فلا بدّ من انحلال الحکم حسب انطباقات الموضوع المطلق علی مطابقاته و مصادیقه ، فیتوجّه
ص:353
حینئذٍ السؤال عن کیفیة هذا الوجوب الوسیع علی الجمیع مع سقوطه بفعل البعض . و سیأتی توضیح الجواب عنه .
و أجاب شیخنا عن الإشکال : بأن المراد من « صرف الوجود » هو ما ذکره من نقیض العدم البدیل ، بمعنی أن وجود زید - مثلاً - رافع لعدم زید لا عدم عمرو ، لکنّ وجود زیدٍ فی نفس الوقت رافع لمطلق العدم ، لا للعدم المطلق حتی یرد الإشکال ، إذ الفرق بین مطلق العدم و العدم المطلق کبیر ، و کذلک الفرق بین الوجود الخاص و مطلق الوجود ، فلما یتحقق زید یتحقق أصل الوجود معه ، کما هو الحال بین الأفراد و الطبائع ، إذ یتحقق مع وجود زید أصل الإنسانیة و مطلق الانسانیة لا الإنسانیة المطلقة .
فالمراد من صرف الوجود هو الوجود الناقض للعدم ، و هذا هو الموضوع للتکلیف ، لا الوجود الناقض لجمیع الأعدام أو المهمل أو الطبیعة لا بشرط و لا من یقوم بالفعل و لا أول الوجود ... فالإشکال مندفع و إنْ تعجّب السید الأُستاذ من التزام المحقق النائینی به و موافقة السید الخوئی له ، فلاحظ (1) .
هو : إن الأمر إذا صدر عن المولی متوجّهاً إلی عبده ، فله أنحاء من الإضافات ، إذ له نحو إضافةٍ إلی الآمر و هو بصدوره عنه ، و نحو إضافةٍ أُخری إلی المأمور ، و هو بتحریکه نحو المطلوب ، و نحو إضافة بالفعل الصادر ، و هو بقیامه فیه شبه قیام العرض فی الموضوع لا مثله حقیقةً ، لما عرفت من أن التکلیف لیس من العوارض الخارجیة ، إذ الخارج ظرف السقوط لا ظرف العروض .
ص:354
و معلوم : أنه لا فرق بین الواجبات العینیّة و الکفائیّة من جهة الإضافة الأولی و الثانیة ، إذ فی کلیهما کان الآمر یصدر عنه الطلب و کان المأمور مبعوثاً نحو الفعل ، لکنّ الفرق بین العینی و الکفائی إنما هو فی نحو الإضافة الأخیرة ، حیث أن نحو إضافة التکلیف إلی الفعل فی العینی هو بقید صدوره عن آحاد المکلفین مباشرةً ، فیتعدّد لا محالة بتعدّد المکلّفین بمناسبة هذا القید ، بخلاف الواجبات الکفائیة فلا یتعدّد بتعداد المکلّفین .
فتعلّق التکلیف بالمکلّفین هو علی نحو الاستغراق فی العینی و الکفائی من غیر فرقٍ ، و الفرق بینهما إنما هو بنحو الإضافة الأخیرة ، فکما یمکن أن یکون نحو إضافة التکلیف إلی الفعل المتعلّق بقید أن یکون التعلّق صادراً عن کلّ فردٍ من الأفراد بالمباشرة ، کما فی الصّلاة و الصوم و نظائرهما من الواجبات النفسیّة ، حیث أن المصلحة قائمة فی فعل آحاد المکلّفین بالصّدور المباشری ، کذلک یمکن أن یکون نحو إضافته إلی المتعلّق لا بقید صدوره عن کلّ واحدٍ مباشرة ، بل یکون نحو تعلّقه بصرف الوجود من طبیعة الفعل لا بقید تکثرها بکثرة أفراد المکلفین ، فیسقط الأمر بصرف وجود الطبیعة فی الخارج من أحد المکلفین قهراً ، لأنّ الطبیعة توجد بوجود فردٍ ما . هذا هو حقیقة الوجوب الکفائی فافهم و اغتنم . و هذا مختار السید البروجردی (1) .
و حاصل هذا الوجه هو : أن کلّ التصویرات مردودة ، لأنها کانت متوجّهةً نحو المطلوب منه ، فقیل : هو مجموع الأفراد ، و قیل : الجمیع و یسقط بفعل البعض ، و قیل : الواحد المردّد ... بل الفرق بین العینی و الکفائی هو من ناحیة المطلوب ، إذ هو فی الأول مشروط بصدوره من المکلّف الخاص و الثانی
ص:355
لا بشرط من ذلک .
أورد علیه الأُستاذ بوجوه :
الأول : النقض بالواجب التخییری ، حیث ذهب إلی أن الواجب فیه هو الواحد المردّد ... فیقال له : أیّ فرقٍ بین تردید المتعلّق و تردید الموضوع ؟ لوضوح وحدة المناط و هو أنّ المردّد لا وجود له ، و ما کان کذلک فلا یقبل البعث ... و الأحکام العقلیّة لا تقبل التخصیص .
و الثانی : إنّه لا یعقل تقیید المعلول بصدوره عن علّته ، فالحرارة تصدر من النار ، و إذا صدرت لا یعقل تقییدها بالصدور عن النار ، بل إنها تصدر عنها ثم تتّصف بالصّدور . فهذه مقدّمة . و مقدمة أُخری : إنّ الإرادة التشریعیة من المولی إنما تتعلّق بما تتعلّق به الإرادة التکوینیّة من العبد .
و بناءً علی ما ذکر یتّضح عدم إمکان اشتراط الواجب بصدوره عن إرادة المکلّف ، لأن إرادته علّة لتحقق الواجب ، فلو کان الواجب مشروطاً بصدوره عن إرادة المکلّف لزم اشتراط المراد بصدوره عن الإرادة ، و هذا غیر معقول ، فلا یعقل تعلّق الإرادة التشریعیّة به ...
و الحاصل : إن الإرادة تتعلّق بالصّلاة لا بالصّلاة الصادرة عن الإرادة ...
فقوله بأن الواجب العینی عبارة عن الواجب المشروط بصدوره عن فاعل خاص ، یرجع إلی کون الصّلاة الواجبة علی زید هی الصّلاة المقیّدة بصدورها عن إرادته ، و لمّا کان هذا المحقق من القائلین بأن التقابل بین الإطلاق و التقیید من قبیل العدم و الملکة ، فإنه إذا استحال التقیید - کما ذکرنا - یستحیل الإطلاق . فما ذکره فی تصویر الواجب الکفائی و فرقه عن العینی ساقط .
ص:356
و الثالث : إن الغرض فی الواجب الکفائی واحد لا متعدّد ، و قد صرّح بذلک أیضاً ، و مع وحدته یستحیل تعدّد الواجب ، فقوله بتعدّد الوجوب علی عدد أفراد المکلّفین غیر صحیح .
إنه لیس للوجوب حقائق مختلفة متعدّدة ممتازة بذاتیّاتها ، بل هو فی جمیع موارده سنخ واحد ، و یکون تکثّره بالعوارض المصنّفة و الخصوصیّات المشخّصة .
فسنخ الکفائی هو سنخ العینی ، و التکلیف فیه متوجّه إلی الجمیع ، لعدم معقولیّة تکلیف واحدٍ علی البدل ، و الفرض عدم اختصاص التکلیف بواحدٍ معیّن ، و التکلیف المتوجّه إلی الجمیع متعدّد ، لعدم معقولیّة توجّه تکلیفٍ واحدٍ إلی متعدّدین ، فإذا تعدّد التکلیف و المکلّف تعدّد الفعل المکلّف به ، و یکون تکلیف کلّ واحدٍ متعلّقاً بفعل نفسه لا بفعل غیره ... .
فحقیقة الوجوب هنا هی حقیقة الوجوب هناک من غیر تخالف فی الحقیقة الوجوبیّة أصلاً ، فیجب علی کلّ واحدٍ امتثال تکلیف نفسه ، فإذا اجتمع الکلّ علی الامتثال دفعةً واحدة استحق کلّ واحدٍ المثوبة الکاملة ، و إذا اجتمعوا علی المعصیة استحق کلّ واحدٍ عقاباً تامّاً کما فی الواجبات العینیّة .
نعم ، إذا بادر أحدهم إلی الامتثال سقط التکلیف عن الباقین ، علی خلاف الواجبات العینیّة ، و لیس المنشأ لهذا الاختلاف حقیقة الوجوب ، بل الوجه فی ذلک ارتفاع موضوع التکلیف بإتیان واحدٍ ، و ذلک لخصوصیّة أُخذت فی المتعلَّق ، فإنّ متعلّق التکلیف هو الغسل و الکفن و الدفن لمیت لم یغسّل و لم یکفّن و لم یصلّ علیه و لم یدفن . و هذا کلّه ینتفی بإتیان واحد ، فموضوعُ التکلیف
ص:357
غیر باقٍ لیکلّف الباقون .
و حاصل الکلام هو : إن الفرق بین الوجوب العینی و الوجوب الکفائی هو فی طرف موضوع التکلیف ، فهو فی الأول لا بشرط و فی الثانی بشرط ، أی هو المیت الذی لم یغسّل و لم یکفن و لم یصلّ علیه و لم یدفن ، فإذا تحقّق ذلک کلّه فی حقّه من واحد ، فلا موضوع لتکلیف سائر المکلّفین ، و یکون سقوط التکلیف عنهم لانتفاء الموضوع ، خلافاً للسید البروجردی ، إذ جعل العینی مشروطاً بصدوره عن فاعلٍ خاصٍ و الکفائی لا بشرط ... و هذا مختار المحقق الإیروانی (1) .
و قد أورد الشیخ الأُستاذ علی هذا الوجه : بأنّ کلّ موضوع فهو بقیوده مقدّم رتبةً علی الحکم ، و کلّ حکم متأخّر عن موضوعه بالتأخّر الطبعی ، فکان نسبة الموضوع إلی الحکم نسبة العلّة إلی المعلول ، و إن کانت العلّة الواقعیّة هی إرادة المولی .
و أیضاً : فإنّ الرافع للشیء لا بدّ و أن یکون متقدّماً علی الشیء رتبةً ، لأنه العلّة لعدمه ، و إلّا فلا یکون رافعاً له .
و أیضاً : فإنّ الإهمال فی الموضوع و قیوده محال .
و بناءً علی هذه المقدّمات نقول : إذا کان تغسیل المیّت واجباً علی زیدٍ أو عمرو کفایةً ، و کان وجوبه علی کلٍّ منهما مقیّداً بعدم کون المیت مغسّلاً بواسطة الآخر ، کان الرافع للموضوع الموجب لانتفاء تکلیف زید ، هو تغسیل عمرو ، و حینئذٍ یتوجّه السؤال : هل کان تغسیل عمرو - الرافع لموضوع تکلیف زید - مهملاً ، أی هو رافع له سواء کان المأمور به أو لا ؟ لا ریب فی عدم الإهمال بل هو
ص:358
مقیّد بکونه غسلاً صحیحاً مطابقاً للأمر ، إذن ، کان موضوع الوجوب علی کلٍّ من زید و عمرو هو عدم کون المیت مغسّلاً بالغسل الصحیح بواسطة الآخر ، فیکون الرافع للموضوع هو الغسل الصحیح ، لکنّ قید الصحّة للموضوع متأخّر رتبةً علی الموضوع المتقدم رتبةً علی الحکم .
و نتیجة ذلک هو : أن یکون وجوب التغسیل علی زیدٍ متأخّراً عن الموضوع - و هو عدم تغسیل عمرو الغسل الصحیح - بمرتبتین ، و أن یکون وجوبه علی عمرٍو متأخّراً عن الموضوع - و هو عدم تغسیل زید له کذلک - بمرتبتین ، فیجتمع التأخّر و التقدّم فی وجوبه علی زیدٍ ، و هو محال .
هذا کلّه أوّلاً .
و ثانیاً : إنه قد نصّ علی وحدة الغرض ، و فی نفس الوقت نصّ علی تعدّد التکلیف ، فکیف یکون الغرض واحداً و المکلّف به واحداً ، - و هو الدفن - و التکلیف متعدّداً ؟
و اختلف مختار الأُستاذ فی الدورتین . أمّا فی السابقة ، فقد اختار قول المحقّق الخراسانی ، کالمحققین الأصفهانی و العراقی ، مستشکلاً علی قول المیرزا بأن متعلّق الوجوب هو صرف الوجود - بعد أن ذکر تعبیر ( المحاضرات ) عنه بالجامع لا بعینه - بأن تصویر الجامع الانتزاعی - الواحد لا بعینه - و إن أمکن فی الوجوب التخییری ، فهو غیر ممکن فی الکفائی ، للفرق بینهما من جهة استحقاق العقاب الواحد هناک فی صورة المخالفة للکلّ ، بخلاف الوجوب الکفائی ، فلو ترک کلّ أفراد المکلّفین استحقّوا العقاب جمیعاً ... .
و أمّا فی الدورة اللّاحقة ، فقد ناقش فی طریق صاحب الکفایة و من تبعه ،
ص:359
و اختار طریق المیرزا ، مستشکلاً علی ( المحاضرات ) إرجاع النظریّة إلی الجامع الانتزاعی بأنّه لیس المراد عند المحقق النائینی ، و یشهد بذلک قوله فی التخییری بأن الواجب هو الفرد المردّد ، لأنّ الإرادة التشریعیّة تختلف عن الإرادة التکوینیّة ، فلو کان مراده فی الکفائی ذلک أیضاً لصرّح به ، مع وجود الفرق بین الوجوبین ، حیث أن المردّد هناک هو المتعلّق و المردّد هنا هو الموضوع ... لکنّ بیان المیرزا هنا شیء آخر ، إنه یجوّز أن یکون صرف الوجود موضوعاً للحکم ، کما جاز أنْ یکون متعلَّقاً له ، و من الواضح أنّ « صرف الوجود » غیر « الجامع » و غیر « الفرد المردد » .
و الحاصل : إنه کلّما أمکن تصویر الجامع صحّ صرف الوجود ، و کلّما لم یمکن کان التکلیف متوجّهاً إلی عنوان « الأحد » . أمّا فی التخییری فلا جامع بین أفراد المکلّف به من الصوم و العتق و الإطعام فی الکفارة ، أو القتل و الصّلب و النفی فی حدّ المحارب ، و لذا یکون الواجب هو « الأحد » ، بخلاف الکفائی ، فالجامع موجود ، و هو عنوان الصّلاة ، فکان صرف وجود المکلّف هو الموضوع للتکلیف ... .
و هذه هی النکتة فی اختلاف تعبیر المیرزا فی الموردین ، حیث قال فی الوجوب التخییری بأن المتعلّق هو عنوان « الأحد » و فی الوجوب الکفائی جعل الموضوع هو « صرف وجود المکلّف » ... .
و ما ذهب إلیه هنا لا یتوجّه علیه أیّ إشکالٍ ، بعد ظهور اندفاع مناقشات المحقق الأصفهانی .
و هذا تمام الکلام علی الوجوب الکفائی .
ص:360
ص:361
ص:362
و البحث فی جهاتٍ ثلاثة :
إنّه لا ریب فی لابدیّة الزمان فی کلّ أمر زمانی ، و إنما الکلام فی کیفیّة دخله فی الغرض ، لأن من الواجب ما لیس بموقّت ، و الموقّت : منه ما یکون الزمان فیه علی قدر الفعل ، و منه ما یکون أوسع منه ، و الأوّل هو المضیَّق ، و الثانی هو الموسّع .
إنما الکلام فی تصویر هذین القسمین .
فعن العلّامة الحلّی رحمه اللّٰه انکار الواجب الموسّع فی الشریعة ، لأن القول به یستلزم القول بجواز ترک الواجب ، لکونه جائز الترک فی أوّل الوقت ، و ترک الواجب غیر جائز .
فأجاب عنه فی ( الکفایة ) (1) بأنّا نلتزم بعدم وجوب الفعل فی أوّل الوقت ، بل الواجب هو الفعل بین الحدّین ، کالصّلاة بین الزوال و الغروب ، و حینئذٍ ، تکون الصّلاة فی أوّل الوقت مصداقاً للواجب ، و مصداق الواجب غیر الواجب ، فلا موضوع للإشکال .
ص:363
و أمّا جواب السید الحکیم (1) : بأنّ الإشکال إنما یرد لو ترکت الصّلاة فی أوّل الوقت لا إلی بدلٍ ، لأنه منافٍ للوجوب ، و أمّا مع وجود البدل و هو الصّلاة فی الوقت الثانی - مثلاً - فلا یرد .
ففیه : إن الإشکال هو أنه مع فرض کون الزمان أوسع من الواجب ، فإنّ ترک الواجب فی أول الوقت ینافی أصل الوجوب ، فلو ترک إلی بدلٍ أصبح الوجوب تخییریّاً ، و الکلام فی الواجب التعیینی لا التخییری .
و تلخّص : تصویر الواجب الموسّع .
و أمّا الإشکال فی الواجب المضیّق فهو : إن کون الزمان علی قدر الفعل غیر معقول ، لأن الوجوب إن کان قبل الزمان لزم تقدّم المشروط علی الشرط ، و إن کان بعده أو مقارناً له ، فمن الضروری تصوّر البعث و تصدیقه حتی یؤثر فی الإرادة ، لأن الانبعاث من الأمر - و هو فعل اختیاری - یتوقف علی التصوّر و التصدیق ، و کلّ ذلک یحتاج إلی زمان ، فیکون زمان الانبعاث متأخّراً عن زمان البعث ، و یلزم أن یکون زمانه أقل من زمان البعث .
و الجواب هو : إن ورود هذا الاشکال یتوقّف علی أن یکون تأخّر الانبعاث عن البعث زمانیّاً ، لکنّه تأخّر رتبی ، و ذلک : لأن الموجب للانبعاث هو - فی الحقیقة - الصّورة العلمیّة للأمر و البعث ، و هی تتحقّق فی آن الانبعاث و الامتثال ، فیحصل البعث و العلم به و العمل علی طبقه فی الزمان الواحد ، فالواجب المضیّق ممکن ... .
ص:364
فی أنّ الدلیل علی وجوب الفعل فی الوقت المعیّن هل یدل علی وجوبه کذلک فی خارج ذلک الوقت ، أو لا بدّ لوجوبه من دلیل آخر ؟ فإن کان الأوّل ، فالقضاء بالأمر الأوّل ، و إن کان الثانی ، فهو بأمر جدید ... أقوال :
منها : عدم الدلالة مطلقاً .
و منها : الدلالة مطلقاً .
و منها : التفصیل بین ما إذا کان الدلیل الدالّ علی التقیید بالزمان منفصلاً أو متّصلاً .
و منها : التفصیل بین ما إذا کان دلیل التقیید مهملاً و دلیل الوجوب مطلقاً فیدلّ ، و إلّا فلا . و هذا مختار المحقق الخراسانی .
قال فی ( الکفایة ) (1) : إنه لا دلالة للأمر بالموقت بوجهٍ علی الأمر به فی خارج الوقت بعد فوته فی الوقت ، لو لم نقل بدلالته علی عدم الأمر به . نعم ، لو کان التوقیت بدلیلٍ منفصلٍ لم یکن له إطلاق علی التقیید بالوقت و کان لدلیل الواجب إطلاق ، لکان قضیّة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت ، و کون التقیید به بحسب تمام المطلوب لا أصله .
أقول : و حاصل کلامه الأوّل : إن نسبة دلیل التوقیت إلی دلیل أصل الوجوب ، هو نسبة المقیّد إلی المطلق ، فکما یکون الدلیل علی اعتبار الإیمان فی الرقبة مقیّداً لدلیل وجوب العتق ، کذلک الدلیل القائم علی مدخلیّة الزمان الکذائی فی الغرض من التکلیف الکذائی ، و حینئذٍ ، فمقتضی القاعدة عدم الدلالة علی الأمر بالفعل فی غیر ذلک الوقت ، لو لم نقل بدلالته علی عدم الأمر به فیه ، من جهة
ص:365
مفهوم التحدید .
و أمّا کلامه الثانی فبیانه هو : إن دلیل التقیید بالزمان إنْ کان متّصلاً بدلیل الوجوب ، فهو إمّا مبیّن فیؤثر التقیید کما هو واضح ، و إمّا مجمل ، فیسری إجماله إلی دلیل الوجوب . و إن کان منفصلاً ، فتارةً یکون الدلیلان مطلقین ، و أُخری مهملین ، و ثالثةً یکون دلیل الوجوب مطلقاً و دلیل القید مطلق ، و رابعةً بالعکس .
فإن کانا مهملین ، فهذا خارج من البحث .
و إن کان دلیل الوجوب مهملاً و دلیل التقیید معیّناً ، أُخذ بمقتضی دلیل التقیید .
و إن کان الدلیلان مطلقین ، یؤخذ بدلیل التقیید أیضاً ، لکون نسبته إلی دلیل الوجوب نسبة القرینة إلی ذی القرینة .
و إن کان دلیل الوجوب مطلقاً و دلیل التقیید مجملاً ، فإن کان مجملاً مردداً بین المتباینین ، سقط دلیل التقیید عن الحجیّة ، و إن کان مجملاً مردداً بین الأقل و الأکثر ، رفع الید عن دلیل الوجوب بالمقدار المتیقن و بقی علی حجیّته فی الزائد عنه .
هذه هی الکبری ، و تطبیقها علی المورد هو أنه :
إن کان دلیل التقیید بالزمان المعیّن مطلقاً ، بأن یکون الوقت دخیلاً فی الغرض من المطلوب فی جمیع الأحوال و الأفراد ، کان مقتضاه عدم الوجوب فی خارج الوقت ، لعدم الغرض .
و إن کان دلیل الوجوب مطلقاً و دلیل التقیید غیر مطلق ، بأن یکون الغرض قائماً بالمرتبة العالیة من الصّلاة مثلاً ، و هی الصلاة فی الوقت - أمّا لو اضطرّ و لم یصلّها کذلک ، فالوجوب فی خارج الوقت باق ، لبقاء الغرض ، بعد انتفاء المرتبة
ص:366
العالیة - فلا حاجة إلی دلیلٍ جدید ، لأن المفروض اطلاق دلیل الوجوب ، و أنّ القید فی المرتبة .
و إن کان دلیل التقیید مجملاً مردداً بین کونه مقیّداً لأصل الوجوب أو للمرتبة ، فیؤخذ بالقدر المتیقّن ، و یبقی أصل الوجوب .
و قد وافق الأُستاذ المحقق الخراسانی علی النظریّة ، و أنّها خالیة من الإشکال الثبوتی ، غیر أن مقام الإثبات لا یساعد علیها ، لأنّ مقتضی الارتکازات العرفیّة و العقلائیة ورود القید علی أصل الوجوب ، و أنّه فی غیره لا یبقی وجوبٌ ، و القول بأنّه یقیّد مرتبةً من الطلب یحتاج إلی دلیلٍ زائد ، لأنّ التمسّک بإطلاق دلیل الوجوب فرع الشک فی بقائه و عدم بقائه بعد خروج الوقت ، و العقلاء لیس عندهم شک فی عدم البقاء ... اللّهم إلّا حیث یتحقّق الشک أو یقوم دلیل آخر علی بقاء الوجوب .
هذا ما ذکره فی الدورة اللّاحقة .
و أمّا فی الدورة السّابقة ، فقد وافق ( الکفایة ) علی أصل النظریّة کذلک ، إلّا أنه خالفه فی إطلاقها ، فاختار عدم دلالة دلیل الوجوب علی بقائه بعد الوقت بالنسبة إلی المکلّف الفاعل المختار ، و دلالته علی ذلک بالنسبة إلی العاجز .
و هذا ما أفاده الإیروانی . فلیلاحظ (1) .
هذا ، و تظهر ثمرة البحث فی الصّلاة فی کلّ موردٍ لا تجری فیه قاعدة الحیلولة و قاعدة الفراغ ، و بیان ذلک هو : إنه لو شک فی خارج الوقت فی تحقق
ص:367
الصّلاة فی الوقت ، فتارةً یشک فی أصل وجودها و أُخری یشک فی کیفیة الصّلاة التی صلّاها ، فإن کان الأوّل ، فتجری - فی خصوص الصّلاة - قاعدة الحیلولة ، و لا یعتبر بالشک . و إن کان الثانی ، فقد تجری قاعدة الفراغ و قد لا تجری ، فیکون مورد ثمرة البحث ، کما لو علم أنّه قد صلّی فی الوقت إلی جهةٍ معیّنة ، ثم شک بعد الوقت فی کونها جهة القبلة ، أمّا قاعدة الحیلولة فلا تجری ، لأنّ مجراها هو الشک فی أصل وجود الصّلاة ، فإن قلنا بجریان قاعدة الفراغ فی خصوصیّات العمل ، سواءً کان مورداً للتعلیل بالأذکریّة الوارد فی النصّ أو لم یکن ، فلا ثمرة للبحث ، لجریان هذه القاعدة . و إن قلنا بعدم جریانها إلّا فی حال کونه حین العمل أذکر ، أخذاً بالتعلیل ، - و هذا هو المختار - فلا مجری للقاعدة ، لفرض عدم کونه حینئذٍ أذکر ، ترتّبت الثمرة . فعلی القول بأن القضاء بالأمر الأوّل ، فهو واجب ، لأن مقتضی الأمر الأول هو الاشتغال بالنسبة إلی القبلة ، و المفروض هو الشک فی وقوع الصّلاة إلیها ، فالفراغ مشکوک فیه ، و مقتضی قاعدة أن الاشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیة هو القضاء . و أمّا علی القول بأنه بأمر جدید ، فیقع الشک فی توجّه أمر جدیدٍ یقتضی القضاء ، لأنه إن کان قد صلّی إلی القبلة فلا أمر ، و إلّا فهو مکلّف بالقضاء ، فهو إذاً شاک فی الاشتغال بأمرٍ جدید ، و هذا مجری البراءة .
إنه لو شک فی أنّ دخل الزمان فی الواجب هل هو بنحو وحدة المطلوب أو بنحو تعدّده ، فما هو مقتضی القاعدة ؟
ذهب الشیخ الأعظم و المحقق الخراسانی و أتباعهما إلی البراءة ، لعدم جریان الاستصحاب ، لعدم وحدة الموضوع ، فقد کان مقتضی الدلیل هو الصّلاة فی الوقت و إذا خرج الوقت تغیّر الموضوع .
ص:368
و خالف المحقق الأصفهانی - بعد أن وافق القوم فی متن ( نهایة الدرایة ) فی الحاشیة ، و تبعه السید الحکیم - فقال بجواز استصحاب شخص الموضوع ، إذا کان المستصحب هو الواجب الخاص ، و توضیحه : إن الخصوصیّات قد تکون مقوّمة لحامل الغرض و أُخری تکون ذات دخلٍ فی تأثیر المقتضی کالشرائط مثل المماسّة بین المحرق و المحترق ... و هذا ثبوتاً . و أمّا إثباتاً ، فإن المقتضی للنهی عن الفحشاء هو ذات الصّلاة ، و أمّا خصوصیة الوقت و الطهارة و الساتر و القبلة و نحو ذلک ، فلها دخلٌ فی فعلیّة تأثیر المقتضی ، وعلیه ، فإن الوجوب النفسی متوجّه إلی ذات الصّلاة ، و تلک الخصوصیّات واجبات غیریّة ، فإذا خرج الوقت - و هو من الخصوصیات - أمکن استصحاب وجوب الصّلاة ، و هذه الذات هی نفسها الذات فی داخل الوقت بالنظر العرفی .
و فیه : إن الملاک فی وحدة الموضوع و عدمها فی الاستصحاب هو نظر العرف ، و الموضوع فیما نحن فیه هو الصّلاة مع الطهارة لا ذات الصّلاة ، لأنّ العرف لا یری الإهمال فی الموضوع و لا الإطلاق ، بل یری أنّ متعلّق الوجوب هو الصّلاة المقیّدة بالوقت و بالطهارة ، فکان الوجوب متوجّهاً إلی هذا الموضوع الخاص ، و هو فی خارج الوقت متغیّر عن الذی کان فی الوقت ... .
ثم إنّه بناءً علی أنّ القضاء بأمرٍ جدیدٍ فی الصّلاة و الصیام ، فلو خرج الوقت و شکّ المکلّف فی الإتیان بالواجب فی وقته ، هل یمکن إثبات فوت الفریضة باستصحاب عدم الإتیان بها أم لا ؟ وجهان !
فعلی القول : بأنّ موضوع وجوب القضاء هو « الفوت » و أنه أمر وجودی ، کان استصحابه لإثبات عدم الإتیان بالفریضة أصلاً مثبتاً . أما علی القول : بکونه عدمی ، فلا مانع من جریان الاستصحاب فیه ، لتمامیة أرکانه حینئذٍ .
ص:369
و قد ذهب المیرزا و السید الخوئی إلی الأول ، لکون المتفاهم عرفاً هو أنّ الفوت ذهاب الشیء من الکیس ، و أنه لیس فی نظرهم عین « الترک » ، و لو شکّ فی أنه وجودی أو عدمی ، لم یجر الاستصحاب کذلک ، لکونه حینئذٍ شبهةً مصداقیة لدلیل الاستصحاب .
و ذهب الأُستاذ إلی أنه و إن کان لغةً کذلک ، لکنّ العبرة فی الاستصحاب بنظر العرف ، و کونه وجودیّاً عندهم غیر واضح ، إن لم یکن عدمیّاً .
لکنّ المهمّ هو أنه لیس موضوع وجوب القضاء فی ظواهر النصوص ، فکما جاء فی بعضها عنوان « الفوت » کذلک یوجد عنوان « النسیان » و« الترک » و« عدم الإتیان » أیضاً .
ففی روایة : عن أبی جعفر علیه السلام : أنه سئل عن رجلٍ صلّی بغیر طهور أو نسی صلوات لم یصلّها أو نام عنها . قال : یقضیها ... » (1) .
و فی أُخری : « کل شیء ترکته من صلاتک ... فاقضه ... » (2) .
و فی ثالثة : « إذا أُغمی علیه ثلاثة أیام فعلیه قضاء الصلاة فیهن » (3) .
و فی رابعة : « سألته عن الرجل تکون علیه صلاة فی الحضر هل یقضیها و هو مسافر ؟ قال : نعم ... » (4) .
و فی أبواب الحج :
« سألت أبا جعفر علیه السلام عن رجلٍ مات و لم یحج ... » (5) .
ص:370
و فی أبواب الصوم (1) :
« رجل مات وعلیه قضاء من شهر رمضان . فوقّع علیه السلام : یقضی عنه ... » .
« عن الرجل تکون علیه أیام من شهر رمضان کیف یقضیها ... ؟ » .
و علی الجملة ، فقد قال الأُستاذ بجریان الاستصحاب فی کلّ موردٍ جاء الموضوع فیه عدمیّاً ، و قد ظهر أنه لیس « الفوت » فقط ، لو ثبت کونه وجودیّاً .
إذن ، لا مانع من جریان الاستصحاب فی فرض کون الشک بعد خروج الوقت .
و أمّا لو شک فی الإتیان بالفریضة فی داخل الوقت لا خارجه ، فقد قالوا بوجوب الإتیان ، للاستصحاب و لقاعدة الاشتغال ، فإن مقتضاهما صدق عنوان « الفوت » بالنسبة إلی هذا المکلّف ... و قد جاء فی النصوص « من فاتته الفریضة فلیقضها کما فاتته » و بهذا یظهر الفرق بین هذه الصّورة و الصّورة السّابقة .
و قد أشکل علیه شیخنا : بأنّ قاعدة الاشتغال عقلیّة ، و هی لا تفید الأحکام الظاهریة ، فهی تفید وجوب الإتیان وجوباً عقلیّاً ، و موضوع « من فاتته » هو الفریضة الشرعیّة ، إذن ، القاعدة العقلیّة لا تثبت الفریضة ، و إنّما تدعو إلی السّعی وراء إبراء الذمّة ، و هذا أمر آخر .
و أمّا التمسک بالاستصحاب ، فإنّما یتم بناءً علی مسلک جعل الحکم المماثل ، کما هو مختار صاحب ( الکفایة ) ، فیثبت به وجوب الصّلاة مثلاً و یتحقق موضوع « من فاتته » . أمّا علی القول بأنّ مفاد أدلّة الاستصحاب لیس إلّا التعبّد ببقاء الیقین السابق فی ظرف الشک ، فلا تثبت الفریضة و لا یتحقق موضوع « من فاتته » ،
ص:371
و هذا مختار المحقق الأصفهانی ، وعلیه السید الخوئی نفسه ، وعلیه ، فمفاد الأدلّة إبقاء الیقین بعدم الإتیان بالصّلاة مثلاً ، و هذا لا یثبت الفریضة إلّا علی الأصل المثبت .
و تلخّص : إن مقتضی الأدلّة الأولیّة هو کون القید لتمام المطلوب ، و مع الشک فی کونه لذلک أو أنه قید لأصل المطلوب ، فلا یجری الاستصحاب الشخصی الذی ذکره المحقق الأصفهانی و تبعه السید الحکیم ، و لا الکلّی - القسم الثالث - لعدم تمامیّته من حیث الکبری ... و أمّا القسم الثانی ، فقد اختلفت کلمات السید الخوئی فی جریانه هنا و عدمه فقهاً و أُصولاً . و المختار : هو جریان استصحاب الکلّی ، القسم الثانی ، وفاقاً له فی أُصوله .
ص:372
ص:373
ص:374
هل الأمر بالأمر بشیء أمرٌ بالأمر فقط ، أو أنه أمر بذلک الشیء حقیقة ؟
و لعلّ السبب العمدة فی طرح هذا البحث هو الأخبار الآمرة بأن یأمر الأولیاء صبیانهم بالصّلاة إذا کانوا أبناء سبع ، فإنّه علی القول الأوّل لا تکون عباداتهم شرعیّة و علی الثانی فهی شرعیّة ، و تظهر الثمرة فیما إذا صلّی الصبیّ و بلغ الحلم فی داخل الوقت ، هل تجب علیه إعادة الصّلاة أو لا ؟ قولان :
قال فی ( الکفایة ) :
« الأمر بالأمر بشیء أمر به لو کان الغرض حصوله و لم یکن له غرض فی توسیط أمر الغیر به إلّا تبلیغ أمره به ، کما هو المتعارف فی أمر الرسل بالأمر و النهی ، و تعلّق غرضه به ، لا مطلقاً بل بعد تعلّق أمره به ، فلا یکون أمراً بذاک الشیء ، کما لا یخفی » (1) .
و قد انقدح بذلک أنه لا دلالة بمجرّد الأمر بالأمر علی کونه أمراً به ، و لا بدّ فی الدلالة علیه من قرینة .
و بیان کلامه : أن المحتمل فی مقام الثبوت ثلاثة وجوه :
أحدها : أن یکون الغرض قائماً بنفس الأمر ، کأن یأمر بالأمر لمصلحة إثبات
ص:375
آمریّة الثانی .
و الثانی : أن یکون الغرض قائماً بالفعل المأمور به کما فی قوله تعالی «بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَیْکَ » (1).
و الثالث : أن یکون الغرض قائماً بالفعل الحاصل من المأمور - و هو الثالث - بشخصه المنبعث من أمر هذا الآمر الثانی ، فکان تعلّق الغرض مقیّداً لا مطلقاً .
و أمّا فی مقام الإثبات ، فقد ذکر أنه مع وجود هذه الوجوه ، لا یکون لمجرّد الأمر بالأمر دلالة علی کونه أمراً به إلّا بقرینةٍ .
ففی مثل الصحیحة : « فمروا صبیانکم بالصلاة إذا کانوا بنی سبع سنین » (2)یری المحقق الخراسانی وجود الاحتمالات الثلاثة ، وعلیه ، فلو أمر الصبی بالصّلاة ، فصلّی فی الوقت و اتّفق بلوغه بعدها ، فإن شرعیّتها یتوقّف علی القرینة علی کون هذه الصّلاة حاملةً للغرض ، حتی لا تجب إعادتها ، و إلّا احتمل کون الغرض من الأمر به هو التمرین مثلاً ، فلا تکون مسقطةً لوجوب الإعادة ... هذا رأیه و وافقه سیّدنا الأُستاذ (3) .
تعالی «أَقیمُوا الصَّلٰاةَ » (1)فإنّها تعمّ البالغین و الممیّزین الذین یتمشّی منهم القصد ، خاصّةً الممیّز المقارب للبلوغ ، فهذا مقتضی الإطلاقات ، و لیس فی مقابلها إلّا حدیث رفع القلم . فإنْ کان المرفوع به هو خصوص المؤاخذة ، فلا إشکال کما هو واضح ، و أمّا إن کان المرفوع به هو التکلیف أو هو و المؤاخذة ، فإنّ مقتضی کونه فی مقام الامتنان هو رفع الإلزام لا أصل التکلیف و محبوبیّة العمل ، فیکون العمل منه مطلوباً و مشروعاً .
و ناقش السید الخوئی (2) الاستدلال المذکور ، و قال بشرعیّة عبادات الصبیّ بوجهٍ آخر ، و هو الدلالة العرفیّة للنصوص علی ذلک ، لأنّ « الأمر » یفارق « العلم » ، من جهة أنّ العلم قد یؤخذ موضوعاً و قد یؤخذ طریقاً و قد یؤخذ جزءاً للموضوع ، فالوجوه التی ذکرها صاحب ( الکفایة ) فی مقام الثبوت تأتی فی « العلم » و نحوه ، لکنّ « الأمر » لیس إلّا طریقاً عرفیّاً إلی مطلوبیّة الشیء ، فإذا أمر الآمر غیره بأن یأمر الثالث بالقیام بعملٍ ، کان تمام النظر إلی ذلک العمل ، و احتمال أن یکون المصلحة فی نفس الأمر لا یقاوم هذا الظهور العرفی و العقلائی ، و بذلک یستدلُّ علی شرعیة عبادات الصبیّ .
و أفاد الأُستاذ دام ظلّه : بأنّ مقتضی الظهور الأوّلی کون متعلّق الأمر الأول هو
ص:377
الأمر من الثانی ، و مطلوبیّة الفعل للآمر الأوّل یحتاج إلی مزید بیان ... .
أمّا التمسک بالإطلاقات ففیه : إن الوجوب بسیط لا یتبعّض ، فهو لیس مرکّباً من طلب الفعل مع المنع من الترک ، وعلیه ، فإنّ حدیث الرفع یکون رافعاً لأصل الجعل ، فلا یبقی دلیل علی المشروعیة ، إلّا أن یقال بأنه یرفع المؤاخذة فقط ، لکنّ المبنی باطل .
و أمّا ظهور الأمر عرفاً فی الطریقیّة ، فإنّه - لو سلّم - لا یکفی لترتّب الثمرة و هو شرعیّة عبادات الصبی ، لأن غایة ما یفید ذلک هو تعلّق غرض للآمر الأوّل بذلک بالفعل کالصّلاة ، و لکن هل الغرض هو نفس الغرض فی عبادات البالغین ، أو أن هناک فی أمر الصبی بالصّلاة غرضاً آخر ؟
إنّه لا یستفاد من نصوص المسألة کون الغرض هو نفس الغرض من صلاة البالغین ، بل إنها صریحة فی أنّه « التعوید » ، ففی صحیحة الحلبی المتقدمة عن أبی عبد الله علیه السلام : « إنّا نأمر صبیاننا بالصلاة إذا کانوا بنی خمس سنین ، و مروا صبیانکم بالصلاة إذا کانوا بنی سبع سنین ، و نحن نأمر صبیاننا بالصوم ...
حتی یتعوّدوا ... » .
و کذا فی مرسلة الصدوق ، و لعلّها نفس روایة الحلبی المذکورة .
و علی هذا ، فإنّ الغرض بالفعل متحقّق ، لکنه غرض آخر غیر الغرض القائم بصلاة البالغین من الناهویة عن الفحشاء و المنکر و نحوها .
فالقول بشرعیّة عبادات الصبی مشکل ، و اللّٰه العالم .
ص:378
ص:379
ص:380
هل الأمر بعد الأمر یفید التأسیس أو التأکید ؟
قال : إذا ورد أمر بشیء بعد الأمر به قبل امتثاله ، فهل یوجب تکرار ذاک الشیء أو تأکید الأمر الأول و البعث الحاصل به ؟
قضیّة إطلاق المادّة هو التأکید ، فإنّ الطلب تأسیساً لا یکاد یتعلّق بطبیعةٍ واحدةٍ مرّتین ، من دون أن یجئ تقیید لها فی البین و لو کان بمثل مرة أُخری ، کی یکون متعلّق کلّ منها غیر متعلّق الآخر کما لا یخفی ، و المنساق من إطلاق الهیئة و إن کان هو تأسیس الطلب لا تأکیده ، إلّا أن الظاهر هو انسباق التأکید عنها فیما کانت مسبوقةً بمثلها و لم یذکر هناک سبب أو ذکر سبب واحد (1) .
توضیح ذلک :
أمّا إن کان هناک أمران و موضوعان ، کقوله : إن ظاهرت فاعتق رقبة ، ثم قوله :
إن أفطرت فأعتق رقبةً ، فلا کلام فی التأسیس و التعدّد ، و کذا لو کرّر الخطاب الواحد لکن مع کلمة « مرة أُخری » مثلاً ... فمورد البحث ما لو أمر بشیء و کرّر الأمر قبل امتثال الأمر الأول ، کما لو قال اعتق رقبةً ، ثم قال بعد ذلک و قبل الامتثال :
اعتق رقبةً ... فیقول صاحب ( الکفایة ) أنّ المادّة و الهیئة مطلقان ، لکن مقتضی
ص:381
إطلاق المادّة - و هو العتق مثلاً - هو التأکید ، لأن الواجب الذی تعلّق به التکلیف هو صرف وجود العتق ، فلمّا أعاد الأمر بلا قید « مرة أُخری » مثلاً ، توجّه إلی صرف الوجود کذلک ، و هو للطبیعة الواحدة لا یتعدّد ، فلو جعل الأمر الثانی تأسیسیّاً لزم ورود التکلیفین علی صرف الوجود ، و هو غیر معقول ، إذ البعثان یستلزمان الانبعاثین ، و قد تقدم أنه لا یقبل التکرار ، و التعدّد ، فمقتضی إطلاق المادة هو التأکید .
بخلاف إطلاق الهیئة ، و هو الوجوب ، فإن مقتضی الإطلاق الانصرافی فیه هو التأسیس ، لأنّ إنشاء الوجوب إنما یکون بداعی الطلب ، فلو کان الأمر الثانی بداعی التأکید لاحتاج إلی قرینةٍ ، فمقتضی إطلاق الهیئة هو التأسیس .
و حینئذٍ ، یقع التمانع بین الإطلاقین ، فإن إطلاق المادّة کان الطلب تأکیدیاً ، فإنْ رجّح إطلاق الهیئة کان تأسیسیاً ، و إن لم یرجّح أحدهما فالکلام مجمل ، و المرجع هو الأصل العملی .
و فی ( نهایة الأفکار ) (1) : قد یقال بلزوم الحمل علی التأکید ، ترجیحاً لإطلاق المادّة علی الهیئة ، باعتبار کونها معروضة للهیئة و فی رتبةٍ سابقة علیها ، إذ یقال حینئذٍ بجریان أصالة الإطلاق فیها فی رتبة سابقة بلا معارض .
( قال ) : و لکن یدفعه أن المادة کما کانت معروضةً للهیئة و فی رتبة سابقة علیها ، کذلک الهیئة أیضاً ، باعتبار کونها علّة لوجود المادّة فی الخارج کانت فی رتبة سابقة علیها ، فمقتضی تقدّمها الرتبی علیها حینئذٍ هو ترجیح اطلاقها علی إطلاق المادّة » .
ص:382
ثم انّه احتمل ترجیح اطلاق الهیئة بحسب أنظار العرف ، لکون الهیئة علّةً لوجود المادّة ، ثم قال : « لکن مع ذلک لا تخلو المسألة من إشکال » ثم قال بأنّ « مقتضی الأصل هو التأکید ، لأصالة البراءة عن التکلیف الزائد » .
و قد أورد شیخنا علی کلام المحقق العراقی بوجوهٍ :
الأول : إنه إنّ لیس العلّة لوجود المادّة هو الهیئة أی الوجوب ، بل هو علم المکلّف بالوجوب ، فلا تقدّم بالعلیّة للهیئة ، لکنّ المادّة متقدّمة علی الهیئة بالتقدّم الطبعی .
و الثانی : إنّ الملاک هو التقدّم و التأخّر فی مقام الجعل ، و من الواضح أن المولی یلحظ المتعلّق ثم یجعل الحکم بالنسبة إلیه ، فیکون إطلاقه - إن أُخذ مطلقاً - مقدّماً علی إطلاق الهیئة إن أُخذت کذلک .
و الثالث : إنّ هذه المسألة عرفیّة و التقدّم و التأخر فیها زمانی ، و لیست بعقلیّة حتی یکون المناط فیها هو المرتبة ، و العرف یفهم توجّه الوجوب إلی « عتق الرقبة » و یلحظهما معاً فی آنٍ واحدٍ و یتحرک نحو الامتثال ، و لیس یوجد فی نظر العرف اختلاف المرتبة أصلاً .
و التحقیق هو : أنّ هذا الکلام له ظهور - و لا وجه للتوقف کما صار إلیه المحقق العراقی - و هو ظهور مقامی ، لأنّ کلّ أمرٍ صادر من المولی فلا بدّ و أن یکون بداعٍ من الدواعی ، کالبعث ، و الاختبار ، و الاستهزاء و غیر ذلک ، فإذا کان الداعی هو البعث ، أی کان إنشاءً بداعی جعل الداعی فی نفس العبد ، و لم یکن هناک أیّة قرینةٍ ، کان مقتضی هذا الإطلاق داعویّة کلّ واحدٍ من الأمرین ، و استلزامه
ص:383
للامتثال ... لکنّ الأمر الثانی لمّا کان قبل امتثال الأمر الأوّل و حصول الغرض منه ، فإنّ العرف یفهم منه التأکید للأمر الأوّل ، و لا یراه صادراً بداعی البعث ، فکان هذا الفهم العرفی هو الوجه لحمل المادّة علی التأکید .
فما ذهب إلیه فی ( الکفایة ) هو الصحیح ، للوجه الذی ذکره ، و للفهم العرفی الذی ذکرناه .
فإن وصلت النوبة إلی الشک ، دار الأمر بین الأقل و الأکثر ، إذ یشک فی وجوب الزائد علی صرف الوجود و عدم وجوبه ، فیجری استصحاب عدم تعلّق الوجوب بالفرد الآخر ، و یجری البراءة الشرعیة و العقلیة عن التکلیف الزائد ...
و اللّٰه العالم .
هذا تمام الکلام فی المقصد الأول : الأوامر .
و تم الجزء الثالث و یلیه الجزء الرابع و أوّله: المقصد الثانی فی النواهی.
ص:384