تحقیق الاصول المجلد 3

اشارة

سرشناسه:حسینی میلانی، سیدعلی، 1326 -

عنوان و نام پدیدآور:تحقیق الاصول علی ضوء ابحاث شیخناالفقیه المحقق والاصولی المدقق آیةالله العظمی الوحیدالخراسانی/ تالیف علی الحسینی المیلانی.

مشخصات نشر:قم: مرکزالحقائق الاسلامیه، 1432 ق.= 1390 -

مشخصات ظاهری:ج.

شابک:دوره 978-964-2501-52-6 : ؛ ج.1 978-964-2501-93-9 : ؛ ج.2 978-964-2501-94-6 : ؛ ج.3 978-964-2501-39-7 : ؛ ج. 4 978-964-2501-54-0 : ؛ 70000 ریال : ج.5 978-964-2501-55-7 : ؛ 130000 ریال: ج.6 978-600-5348-78-1 : ؛ ج.7: 978-600-5348-91-0 ؛ ج.8 978-600-8518-02-0 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج. 2- 4 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390) .

یادداشت:ج.5 (چاپ اول: 1431ق.= 1389).

یادداشت:ج.6 (چاپ اول: 1435ق. = 1393).

یادداشت:ج.7 (چاپ اول: 1436ق. = 1393).

یادداشت:ج.8 (چاپ اول: 1437ق. = 1395) (فیپا).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:وحیدخراسانی، حسین، 1299 -

شناسه افزوده:مرکز الحقائق الاسلامیه

رده بندی کنگره:BP159/8/ح56ت3 1390

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:1093921

ص :1

اشارة

ص :1

ص :2

ص :3

ص :4

الواجب النفسی و الغیری

اشارة

ص:5

ص:6

و ینقسم الواجب إلی النفسی و الغیری .

و قد اختلف فی تعریفهما و بیان حقیقتهما :

تعریف الواجب النفسی و الغیری

فقد اشتهر تعریف الواجب النفسی ب« ما أُمر به لأجل نفسه » و الغیری ب« ما أُمر به لأجل غیره » .

فأشکل علیه الشیخ الأعظم : بأنّ هذا التعریف للواجب الغیری ینطبق علی کلّ الواجبات الشرعیة ، لکونها مأموراً بها لأغراض تترتّب علیها ، لأنْ الأحکام تابعة للأغراض المولویّة .

تعریف الشیخ الأعظم و الکلام حوله :

و لهذا فقد غیَّر الشیخ (1) التعریف فقال : بأنّ الواجب النفسی هو ما وجب لا للتوصّل إلی واجبٍ آخر ، و الغیری ما وجب للتوصّل إلی واجب آخر ، أی: إن النفسی ما لم یکن الداعی لإیجابه التوصّل إلی واجب آخر ، و الغیری هو ما کان الداعی لإیجابه التوصّل إلی واجب آخر .

توضیحه : إنّ الإیجاب عمل کسائر الأعمال الاختیاریّة ، و کلّ عمل اختیاری فلا یصدر إلّا عن الداعی ، فإنْ کان الداعی لإیجاب الشیء التوصّل به إلی

ص:7


1- 1) مطارح الأنظار : 67 .

شیءٍ آخر ، فهو الواجب الغیری ، و إنْ لم یکن ذلک هو الداعی لإیجابه فهو الواجب النفسی ، و هذا الواجب منه ما یکون مطلوباً لذاته ، و هو معرفة اللّٰه ، فإنّها واجبة و مطلوبیتها ذاتیّة ، و منه ما یکون مطلوباً و لیست مطلوبیّته للوصول إلی واجب آخر ، بل من أجل حصول غرضٍ یترتّب علیه ، و العبادات أکثرها من هذا القبیل ، و کذا التوصّلیات کلّها ... لأنّ الأغراض لیست بواجبات .

و أورد علی الشیخ : بأنّ المفروض کون وجوب الصلاة - مثلاً - ناشئاً من الغرض ، فهو الداعی لإیجابها ، و حینئذٍ ، فلا بدّ و أنْ یکون الغرض الداعی لزومیّاً و إلّا لم یصلح لأنْ یکون علّةً لجعل الطلب الوجوبی ، و إذا کان لزومیّاً کانت الواجبات - غیر معرفة اللّٰه - واجبةً لواجبٍ آخر ، فیعود الإشکال .

و قد أُجیب عن الإشکال : بأن الأغراض لیست بواجبة ، لکونها غیر مقدورة للمکلّف ، و کلّ ما لیس بمقدورٍ فلا یتعلّق به الوجوب .

و اعترضه صاحب ( الکفایة ) و تبعه السیّد الأُستاذ (1) : بأنّها و إنْ کانت غیر مقدورة ، إلّا أنّها مقدورة بالواسطة ، و هی الواجبات الناشئة عنها ، فلمّا کان الأمر الواجب مقدوراً للمکلّف فالغرض الداعی لإیجابه مقدور ، و لا یعتبر فی المقدوریّة أنْ تکون بلا واسطة ، فالطهارة مقدورة علی سببها و هو الوضوء ، و الملکیّة مقدورة للقدرة علی سببها و هو العقد ، و کذلک العتق مثلاً و هو الإیقاع .

فقال شیخنا : لکنّ هذا إنّما یتمُّ فی مورد الأسباب التولیدیّة کما مثّل ، إذ لا یوجد فیها إلّا واجب واحد ، فلا یوجد أمرٌ بالطهارة و أمر آخر بالوضوء ، بل هو أمر بالطهارة ، و هو المحرّک للعبد نحو السبب التولیدی لها و هو الوضوء مثلاً ، و للمستشکل علی الشیخ بأن الأغراض غیر مقدورة أن یطرح الاشکال حیث

ص:8


1- 1) کفایة الأُصول : 108 ، منتقی الأُصول 2 : 212 .

یتصوّر وجوبان ، إذ الوجوب الغیری عنده ما وجب لواجبٍ آخر .

و أجاب المحقّق الخراسانی عن الإشکال : بأنّ من العناوین ما یکون حسناً فی نفسه ، و إنْ أمکن کونه مقدّمةً لأمر مطلوبٍ واقعاً ، و منها ما لا یکون حسناً فی نفسه و إنّما یکون وجوبه لکونه مقدمةً لواجب نفسی و إن اتّصف بعنوانٍ حسن فی نفسه . مثلاً : التأدیب عنوان متّصف بالحسن ، أمّا الضرب فلا یتّصف بنفسه بالحسن و إنّما یکون حسناً فی حال وقوعه مقدمةً للتأدیب .

فکلّ ما کان من قبیل الأوّل فهو واجب نفسی ، إذ قد لوحظ حسنه و قد أُمر به بالنظر إلی ذلک ، و ما کان من قبیل الثانی ، أی لم یکن له حسن فی نفسه ، و إنّما تعلّق به الأمر من أجل التوصّل به إلی أمرٍ حسن ، أو کان ذا حسن فی نفسه لکنّه لم یکن الأمر به بالنظر إلی ذلک ، فهو واجب غیری . فنصب السلّم لیس له حسن فی نفسه ، و إنما یؤمر به من أجل الصعود إلی السطح - المفروض حسنه - فهو واجب غیری ، بخلاف الوضوء ، فله جهة حسنٍ ، لأنّ اللّٰه تعالی یقول «إِنَّ اللّٰهَ یُحِبُّ التَّوّٰابینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرینَ » (1)و الإمام علیه السلام یقول : « الوضوء نور » (2) .

فإنْ تعلّق به الأمر بالنظر إلی هذه الجهة کان مطلوباً نفسیّاً . أمّا إذا کان الأمر به لا بلحاظ ما ذکر بل بالنظر إلی شرطیّته للصّلاة و أنّه « لا صلاة إلّا بطهور » (3) کان واجباً غیریّاً .

قال : و لعلّه مراد من فسّرهما بما أُمر به لنفسه و ما أُمر به لأجل غیره .

تعریف الکفایة و الکلام حوله :

فکان تعریفه له : إنّ الواجب النفسی : ما وجب لحسنه ، و الواجب الغیری :

ص:9


1- 1) سورة البقرة : 222 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 377 الباب 8 من أبواب الوضوء .
3- 3) وسائل الشیعة 1 / 365 الباب الأول من أبواب الوضوء .

ما وجب للتوصّل إلی ما هو حسن بنفسه (1) .

و ما ذهب إلیه و إنْ سلم من الإشکال الوارد علی تعریف الشیخ ، و لکنْ قد أورد علیه بوجوه :

الأول : إنّ أکثر الواجبات الشرعیّة غیر متّصفة بالحسن العقلی حتّی یقال بأنّها قد وجبت لحسنها ، فإن کان حسنها من أجل ترتّب المصلحة علیها ، عاد إشکال کونها غیریّةً لا نفسیّة . فما ذکره - من أنّ الواجب النفسی ما وجب لحسنٍ فی نفسه - غیر صادقٍ علی عمدة الأحکام الشرعیّة .

و الثانی : کلّ شیء تعنون بعنوان ، فإمّا یکون عنواناً ذاتیّاً له ، و إمّا یکون عنوان عرضیّاً له ، لکنّ کلّ ما بالعرض فلا بدّ و أنْ ینتهی إلی ما بالذات ... و حینئذٍ نقول :

إنّ العنوان الحسن بالذات عقلاً لیس إلّا العدل ، کما أنّ العنوان القبیح بالذات عقلاً هو الظلم ، و لذا لا یزول الحسن عن العدل أبداً کما لا ینفصل القبح عن الظلم أبداً ، بخلاف مثل حسن الصّدق و قبح الکذب کما هو معلوم ، و علی هذا ، فلا بدّ و أن ینتهی حسن الواجبات الشرعیّة إلی « العدل » فینحصر الواجب الشرعی بهذا العنوان فقط ، و لا واجب آخر غیره ، و هذا ما لا یلتزم به صاحب الکفایة .

و الثالث : إنّه بناءً علی ما ذکره من مقدوریّة الأغراض مع الواسطة ، یلزم أنْ یجتمع عنوان « النفسیة » و عنوان « الغیریة » فی کلّ واجبٍ من الواجبات . أمّا الأوّل ، فلفرض وجود الحسن فیه . و أمّا الثانی ، فلکونه مقدّمة لحصول الغرض منه ، فلم یتمحّض واجب من الواجبات الشرعیّة فی النفسیّة .

ص:10


1- 1) کفایة الأُصول : 108 .

و لورود هذه الإشکالات علی تعریف المحقّق الخراسانی ، سلک المحقّقون المتأخّرون طرقاً أُخری لدفع الإشکال الوارد علی تعریف الشیخ .

طریق المیرزا

قال : إنّ الأغراض المترتّبة علی الواجبات تنقسم إلی ثلاثة أصناف :

1 - فمن الأغراض ما یترتّب علی الفعل الخارجی المأمور به من دون توسّط أمر بینهما ، سواء کان اختیاریّاً أو غیر اختیاری ، کما هو الحال فی الأفعال التولیدیة ، کالغسلات و المسحات بالنسبة إلی الطهارة ، و العقد بالنسبة إلی الزوجیّة ، و الإیقاع بالنسبة إلی الطلاق مثلاً .

و فی هذا القسم من الأغراض ، لا مانع من تعلّق التکلیف بها ، لکونها مقدورةً بالقدرة علی أسبابها .

2 - و منها ما یترتّب علی الفعل الخارجی المأمور به ، لکنْ بواسطة أمرٍ اختیاری من المکلّف ، کالصعود علی السطح مثلاً ، و فی هذا القسم من الأغراض أیضاً لا مانع من تعلّق التکلیف بها ، لکونها مقدورةً کذلک .

3 - و منها ما یترتّب علی الفعل الخارجی المأمور به ، لکن بواسطة أمر غیر اختیاری ، بل تکون النسبة بینهما نسبة المعدّ إلی المعدّ له ، کحصول الثمرة من الزرع ، المتوقّف علی أُمورٍ خارجة عن قدرة الزارع و إرادته .

فیقول المیرزا : و الواجبات الشّرعیّة بالنسبة إلی الأغراض الواقعیّة من هذا القبیل ، فالغرض من الصّلاة هو الانتهاء عن الفحشاء و المنکر ، و ترتّبه علیها موقوف علی أُمور بعضها خارج عن قدرة المکلّف ... فالغرض غیر مقدورٍ للعبد فلا یعقل تعلّق التکلیف به .

فتلخّص : إنّه صحیح أنّ الواجبات الشرعیّة تابعة لمصالح لزومیّة ، لکنْ

ص:11

لیس کلّ غرض لزومی قابلاً لأن یتعلّق الوجوب به ، بل القابل لذلک هو الاختیاری . فتعریف الشیخ صحیح لا یرد علیه الإشکال .

إشکال المحاضرات

و أورد علیه فی ( المحاضرات ) (1) : بأنّ ما أفاده إنّما یتمّ بالإضافة إلی الغرض الأقصی من التکلیف ، لوضوح أنّ الأفعال الواجبة بالنسبة إلیها من قبیل العلل المعدّة ، لفرض کونها خارجةً عن اختیار المکلّف و قدرته ، کما فی النهی عن الفحشاء الذی هو الغایة القصوی من الصّلاة کما تقدّم . لکنّه لا یتم بالإضافة إلی الغرض القریب ، و هو حیثیّة الإعداد للوصول إلی الغرض الأقصی ، حیث أنّه لا یتخلَّف عنها ، فیکون ترتّبه علیها من ترتّب المعلول علی العلّة التامّة و المسبّب علی السبب . و بما أنّ السبب مقدور للمکلّف فلا مانع من تعلّق التکلیف بالمسبّب ، فیکون نظیر الأمر بزرع الحبّ فی الأرض ، فإنّ الغرض الأقصی منه - و هو حصول الثمرة - و إنْ کان خارجاً عن الاختیار ، إلّا أنّ الغرض القریب - و هو إعداد الأرض للثمرة - مقدور بالقدرة علی سببه . هذا من ناحیة . و من ناحیة أُخری : بما أنّ هذا الغرض المترتّب علی تلک الأفعال ترتّب المسبّب علی السبب لزومی علی الفرض ، فبطبیعة الحال یتعیّن تعلّق التکلیف به ، لکونه مقدوراً من جهة القدرة علی سببه . و علی ذلک یبقی إشکال دخول الواجبات النفسیة فی تعریف الواجب الغیری علی حاله .

قال الأُستاذ

و یضاف إلی ما ذکر ناحیة أُخری ، و هی إنّ المیرزا یری أنّ المسبّب قابل لتعلّق الأمر کالسبب ، لأنّ وزان الإرادة التشریعیّة عنده وزان الإرادة التکوینیّة ،

ص:12


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 217 الطبعة الحدیثة .

فکما تتعلّق الإرادة فی التکوینیّات بالمسبّب و منها تتحقّق الإرادة بالنسبة إلی السبب ، فهما إرادتان ، کذلک الحال فی الإرادة التشریعیّة ، و یکون فیها إرادتان نفسیّة و غیریة .

فیتوجّه الإشکال علی المیرزا ، لأنّه صحیح أنّ ترتّب النهی عن الفحشاء علی الصّلاة موقوف علی أُمور غیر اختیاریّة ، لکنّ نفس الصّلاة توجد فی النفس الإنسانیّة استعداداً ، و نسبة هذا الاستعداد إلی الغرض الأقصی نسبة السبب إلی المسبّب ، فلا محالة تصیر الصّلاة واجباً غیریّاً ، فما انحلّت المشکلة بطریق المیرزا .

هذا ، لکن الإشکال فیما ذکر هو : إنّ الإهمال فی الغرض غیر معقول ، فإمّا یکون الغرض من الصّلاة هو الاستعداد بشرط لا عن الوصول إلی الغرض الأقصی أو یکون لا بشرط عن الوصول إلیه أو یکون بشرط الوصول . أمّا أنْ یکون الغرض هو الاستعداد لا بشرط ، أی سواء وصل إلی الغرض الأقصی أو لا ، فهذا باطل ، لأنّه خلف لفرض کون غرضاً أقصی ، و أمّا أن یکون الغرض هو الاستعداد بشرط لا ، فکذلک ، فتعیَّن کون الغرض من الصّلاة حصول الاستعداد فی النفس بشرط الوصول ، و إذا کان کذلک سقط الإشکال علی المیرزا ، لأنّ الاستعداد بشرط الوصول غیر اختیاری .

إلّا أنّه یمکن الجواب : بأنّ الغرض المترتّب علی متعلّق الأمر لا یمکن أن یکون أخصّ من المتعلّق و لا أعمّ منه ، سواء فی المراد التکوینی أو التشریعی ، لأنّه إن کان أخصّ لزم أن تکون الحصّة الزائدة بلا غرض ، و هو محال ، و کذلک إن کان أعم ، لأنّ الإرادة المتعلِّقة بالمأمور به هی فرع الغرض و معلول له ، فلا یعقل أن یکون الغرض أعم أو أخص ، و علی هذا ، فالإرادة المتعلّقة بالصّلاة تنشأ من

ص:13

الغرض الاستعدادی فیها و هو حصول الاستعداد فیها ، لا الاستعداد الموصل للغرض الأقصی ، فإنّه أخصّ من الصّلاة ، و قد تبیّن استحالته بناءً علی ما ذکر .

و الحاصل : إنّ متعلّق الأمر هو طبیعی الصّلاة ، و لیس الغرض منه بحسب الآیة المبارکة إلّا استعداد النفس الإنسانیّة .

فإشکال المحاضرات علی المیرزا قوی .

طریق المحاضرات

ثمّ قال : فالصحیح فی المقام أن یقال - بناءً علی نظریّة المشهور ، کما هی الحق ، و هی إن حال السبب حال سائر المقدّمات ، فلا فرق بینهما من هذه الناحیة أصلاً - إنّ المصالح و الغایات المترتّبة علی الواجبات لیست بقابلةٍ لأنْ یتعلّق بها التکلیف ، لأنّ تعلّق التکلیف بشیء یتقوّم بأمرین ، أحدهما : أن یکون مقدوراً للمکلّف . و الآخر : أنْ یکون أمراً عرفیّاً و قابلاً لأنْ یقع فی حیّز التکلیف بحسب أنظار أهل العرف ، و المصالح و الأغراض و إنْ کانت مقدورةً بالقدرة علی أسبابها ، إلّا أنّها لیست ممّا یفهمه العرف العام ، لأنّها من الأُمور المجهولة عندهم ، و خارجة عن أذهان عامّة الناس ، فلا یحسن من المولی توجّه التکلیف إلیها ، ضرورة أن العرف لا یری حسناً فی توجّه التکلیف بالانتهاء عن الفحشاء و المنکر أو بإعداد النفس للانتهاء عن الفحشاء و المنکر ، فلا مناص من الالتزام بأنّ الغایات و الأغراض غیر متعلّق بها التکلیف ، و إنّما هو متعلّق بنفس الأفعال ، و یصدق علیها حینئذٍ أنّها واجبة لا لأجل واجب آخر ، فلا إشکال علی الشیخ .

و فیه : إنّ فی الأخبار و الخطب المرویّة عن الشارع إشارات کثیرة إلی الأغراض و الغایات المترتّبة علی الأحکام الشرعیّة ، فقد جاء فیها ذکر الغرض من الجهاد بأنّ الجهاد عزّ للإسلام قال علیه السلام : « فمن ترکه رغبةً عنه ألبسه

ص:14

الذلّ ... » (1) ، و أنّ الزکاة تطهیر للنفس و توفیر للمال (2) ، و فی القرآن الکریم «إِنَّ الصَّلٰاةَ تَنْهیٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَالْمُنْکَرِ » (3)فهل خاطب الشارع الناس بما لا یفهمون ؟

إذا قال الشارع للناس : یجب علیکم العمل من أجل عزّ الإسلام و المحافظة علی عظمة الدین ، و ذلک یحصل بالجهاد فی سبیل اللّٰه ، أ لا یفهم العرف هذا المعنی ؟ و إذا قال : علیکم بالمحافظة علی المصالح العامّة للمجتمع الإسلامی ، و طریق ذلک هو الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر ، أ لا یفهمون مراد الشارع ؟

نعم ، العرف العام بل الخاص یجهلون کیفیّة ترتّب الأغراض علی الأفعال ، و السرّ فی حصول الانتهاء عن الفحشاء و المنکر بإقامة الصّلاة - مثلاً - لکنّ هذا الجهل لا یضرّ بالمطلب و لا یمنع من توجّه التکلیف بالغرض .

و الحاصل : إنّ هذا الطریق غیر دافع للإشکال .

طریق المحقّق الأصفهانی

و طریق المحقّق الأصفهانی (4) ناظر إلی قاعدة إنّ کلّ ما بالعرض لا بدّ و أن ینتهی إلی ما بالذات ، و من ذلک مطلوبیّة الشیء ، فإنّها إن کانت بالعرض لا بدّ و أن تنتهی إلی مطلوبٍ بالذات ، سواء عند الإنسان و الحیوان ، فإنّ الحیوان لمّا یطلب القوت ، فإنّه طلب بالعرض ، و المطلوب الذاتی هو البقاء و الحیاة ، فانتهی الأمر إلی حبّ الذات ... و فی القضایا المعنویة نری أنّ جمیع مرادات الإنسان ترجع إلی مرادٍ بالذات هو معرفة اللّٰه عزّ و جلّ . و فی التشریعیّات کذلک ، فإنّه عند ما یأمر بشراء اللحم ، فإن هذا مطلوب بالعرض ، و المطلوب بالذات هو طبخ اللحم

ص:15


1- 1) وسائل الشیعة 15 / 18 الباب الأول من أبواب جهاد العدو .
2- 2) وسائل الشیعة 9 / 9 الباب الأول من أبواب الزکاة .
3- 3) سورة العنکبوت : 45 .
4- 4) نهایة الدرایة 2 / 101 .

و أکله .

و فی التشریعیّات ، تارةً : یتوجّه الخطاب بالمطلوب بالعرض و الخطاب بالمطلوب بالذات ، یتوجّه کلاهما إلی شخصٍ واحدٍ ، و أُخری : یکون متعلّق الإرادة التشریعیّة - أی المطلوب بالعرض - فعل شخص ، و یکون متعلّق الغرض القائم بذلک الفعل - أی المطلوب بالذات - فعل شخصٍ آخر ، فیأمر زیداً بشراء اللحم ، و یأمر عمراً بطبخه .

فالمناط فی النفسی و الغیری هو : إنّه إن کان المطلوب الذاتی مطلوباً من نفس الشخص - الذی طلب منه المطلوب بالعرض - جاء البحث عن أنّ هذا الغرض حینئذٍ مطلوب لزومی أو لا ؟ فإن کان لزومیّاً ، صار شراء اللحم واجباً غیریّاً . و إن کان المطلوب الذاتی قائماً بشخصٍ آخر ، کان شراء اللحم من الأوّل مطلوباً نفسیّاً لا غیریّاً ، إذ لم یطلب منه شیء آخر سواه و إنْ کان شراء اللحم مقدّمةً لطبخه .

و تلخّص : إنّه إن کان المراد بالذات و المراد بالعرض قائمین بشخصٍ واحد ، کان المراد بالعرض واجباً غیریّاً و المراد بالذات واجباً نفسیّاً ، و إن کان المراد بالذات قائماً بشخصٍ غیر من قام به المراد بالعرض ، کان المطلوب من الشخص الأوّل واجباً نفسیّاً .

قال الأُستاذ

و هذا الطریق لا یجدی حلّاً للمشکلة ، إذ لا ریب فی أنّ المبحوث عنه فی علم الأُصول هو الأعمّ من الواجبات الشرعیّة و العرفیّة ، کما فی مسألة حجیّة خبر الواحد ، و حجیّة الظواهر ، لکنّ الغرض من هذه المباحث هو التحقیق عن حال الأخبار الواردة عن الشارع و ظواهر ألفاظه فی الکتاب و السنّة ... و هکذا فی

ص:16

المسائل الأُخری .

و هنا ، لمّا نقسّم الواجبات إلی النفسیّة و الغیریّة ، فالبحث أعمّ من الخطابات الشرعیّة و العرفیّة ، و حلّ المشکل فی الخطابات العرفیة لا یجدی نفعاً بالنسبة إلی الخطابات الشرعیّة ... و الطریق المذکور قد حلّ المشکل فی العرفیّات ، أمّا فی الشرعیّات فلا ... لأنّ المولی یأمر زیداً بشراء اللحم و عمراً بطبخه ، و هذا فی الأوامر العرفیّة کثیر ، أمّا فی الشرعیّات ، فإن الغرض مطلوب من نفس المخاطب بالعمل ، کالانتهاء من الفحشاء و المنکر ، فإنّه مطلوب من نفس من أُمر بالصّلاة ، و لا معنی لأنْ یؤمر مکلَّف بالصّلاة و یترتّب الأثر علیها عند مکلّف آخر .

و الحاصل : إن کان الغرض - کالانتهاء عن الفحشاء و المنکر - لزومیّاً ، فالواجب أی الصّلاة غیری ، و إنْ لم یکن لزومیّاً فلا وجوب للصّلاة .

فإن قال : الغرض خارج عن قدرة المکلّف و اختیاره .

قلنا : هذا هو طریق المیرزا .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ ما ذکره لا یحلّ المشکلة فی العرفیّات أیضاً ، ففی المثال الذی ذکره نقول : إن لم یکن للمولی غرض من الأمر بشراء اللّحم لم یعقل صدور الأمر منه به ، فلا بدّ من الغرض ، و هو هنا تمکّن عمرو من طبخ اللحم ، ثمّ تمکّن الآمر من الأکل ، فإنْ کان هذا التمکّن غرضاً لزومیّاً ، فالمفروض وجود القدرة علیه ، و حینئذٍ ، جاز تعلّق الأمر به .

طریق المحقّق العراقی

و ذکر المحقّق العراقی (1) إنّ الشیخ قد عرّف الواجب الغیری بأنّه « ما وجب

ص:17


1- 1) نهایة الأفکار المجلّد الأول (1 - 2) 331 .

لواجب آخر » و هناک فی کلّ واجب مقامان ، أحدهما : مقام التکلیف ، و الآخر مقام روح التکلیف و سرّه . أمّا بالنظر إلی سرّ التکلیف ، إذ للصلاة أسرار ، و للحج أسرار و هکذا ... فالواجبات الشرعیّة کلّها غیریّة ، لأنّها إنّما وجبت لترتّب تلک الأسرار و الآثار ، لکنّ هذه الغیریّة هی بحسب مقام إرادة المولی و بلحاظ أسرار التکلیف ، و بحثنا فی الواجبات الغیریّة لیس من هذه الجهة ، بل هو من جهة مقام التکلیف ، و فی هذا المقام إنْ کان الشیء الموضوع علی الذمّة و المکلّف به طریقاً للوصول إلی شیء آخر کذلک فهذا الواجب غیری ، و إنْ لم یکن فهو واجب نفسی .

و الحاصل : إنّ الشیخ قال : الغیری ما وجب لواجب آخر ، أی: لتکلیفٍ آخر موضوع علی الذمّة ، مطلوب من المکلَّف کسائر التکالیف ، کما هو الحال فی الوضوء بالنسبة إلی الصّلاة ... و لیس الانتهاء من الفحشاء و المنکر من هذا القبیل ، بل هو سرّ الصّلاة و لبّ الإرادة المتعلّقة بها ... .

نعم ، لو قال الشیخ : « ما وجب لغیره » توجّه إلیه الإشکال .

و بعبارة أُخری : المراد من « الواجب الآخر » هو الواجب الشرعی ، کما فی الوضوء ، فإنّه واجب شرعی قد وجب لواجب شرعی آخر هو الصّلاة ، و لیس المراد من « الواجب الآخر » هو الواجب العقلی ... .

أقول :

و هذا الطریق هو المختار عند الشیخ الأُستاذ .

.لو تردّد واجب بین کونه نفسیّاً أو غیریّاً

اشارة

فما هو مقتضی القاعدة ؟

إنّه الرجوع إلی الأصل ، و هو تارةً : لفظی ، و أُخری : عملی ، فإنْ وجد الأصل

ص:18

اللفظی فهو المرجع ، و إلّا فالأصل العملی .

.1 - مقتضی الأصل اللفظی

اشارة

لو تردّد أمر الوضوء بین أن یکون واجباً نفسیّاً فیجب الإتیان به سواء کانت الصّلاة واجبةً وجوباً فعلیّاً أو لا ، أو یکون واجباً غیریّاً ، فیکون واجباً فی حال کون الصّلاة واجبةً و کون وجوبها فعلیّاً ... فهل یمکن التمسّک بالإطلاق لإثبات النفسیّة ؟ و هل هو من إطلاق المادّة أو الهیئة ؟

اتّفق الشیخ و صاحب الکفایة علی إمکان الرجوع إلی الإطلاق لإثبات کون الواجب نفسیّاً لا غیریّاً ، إلّا أنّ الشیخ یقول بإطلاق المادّة ، و صاحب الکفایة بإطلاق الهیئة .

توضیح رأی الشیخ

(1)

إنّ مفاد هیئة افعل الواردة علی الوضوء « توضّأ » هو الطلب الحقیقی للوضوء - و لیس الطلب المفهومی - . أی: إنّ مادة « الوضوء » بمجرّد اندراجها تحت هذه الهیئة تتّصف بالمطلوبیّة حقیقةً ، و هذا الاتّصاف إنّما یکون بالطلب الحقیقی ، إذ لا یعقل الانفکاک بین المطلوب الحقیقی و الطلب الحقیقی ، و قد حصل الطلب الحقیقی من الهیئة ، فکان مفادها واقع الطّلب و مصداقه ، لأنّ الشیء لا یصیر مطلوباً حقیقةً بمفهوم الطلب .

إلّا أنّ المشکلة هی : إن واقع الطلب و مصداقه هو الفرد ، و الفرد لا یقبل التقیید و الإطلاق ، لأنّهما عبارة عن التضییق و التوسعة ، و هما یجریان فی المفهوم لا المصداق ... فسقط إطلاق الهیئة .

لکنّ الإطلاق فی المادّة جارٍ ، إذ الوضوء دخل تحت الطلب سواء قبل

ص:19


1- 1) مطارح الأنظار : 67 .

الوقت أو بعده ، و سواء وجدت الصّلاة أو لا ، و مطلوبیّته کذلک یعنی المطلوبیّة النفسیّة .

و تلخّص : إنّه مع التردّد بین النفسیّة و الغیریّة ، یکون مقتضی تمامیّة مقدّمات الحکمة و توفّرها جریان الاطلاق فی طرف « الواجب » - و هو الوضوء فی المثال - لا فی طرف « الوجوب » أی: هیئة توضّأ .

توضیح رأی المحقّق الخراسانی

و قد أنکر المحقّق الخراسانی (1) برهان الشیخ علی عدم جریان الإطلاق فی هیئة الوضوء ، من جهة أنّ مدلول الهیئة لو کان هو الطلب الحقیقی کما قال الشیخ ، فإنّ الطلب الحقیقی قائم بالنفس ، و صیغة « افعل » إنشاء لا إخبار ، و الأمر القائم بالنفس لا یقبل الإنشاء ، فلیس الطلب الحقیقی هو مدلول الهیئة ، وعلیه ، فلا یکون مدلولها الفرد و المصداق حتّی یرد الإشکال بأن الفرد لا یقبل التقیید فلا یقبل الإطلاق .

فإنْ قیل : إذا لم یکن مدلول الهیئة هو الطلب الحقیقی ، فکیف صار الوضوء مطلوباً حقیقیّاً ؟

قلنا : إنّ اتّصاف المادّة - أی الوضوء - بالمطلوبیّة الحقیقیّة إنّما یأتی من حیث أنّ الداعی للإنشاء هو الطلب النفسانی ، لأنّ المفروض أنّ الداعی له لم یکن الامتحان أو الاستهزاء أو غیرهما ، و إنّما کان الطلب الحقیقی ، فالمطلوبیّة له إنّما جاءت من ناحیة الداعی للإنشاء لا من ناحیة هیئة افعل .

و هذا بیان إشکال المحقّق الخراسانی علی برهان الشیخ لعدم جریان الإطلاق فی الهیئة .

ص:20


1- 1) کفایة الأُصول : 108 .

فکان المختار عنده جریان الإطلاق فی طرفها ، فما معنی هذا الإطلاق ؟ و هل هو صحیح ؟

قال المحقّق الأصفهانی :

(1)

إنّ مقتضی مقدّمات الحکمة هنا عدم تقیید الوجوب و هو مفاد الهیئة لا إطلاقه ، أی: إنّها تقتضی حیثیّة عدمیّة ، و لیست مقتضیةً لإطلاق الوجوب بمعنی اللّابشرطیّة ... و توضیح ذلک :

إنّ الوجوب النفسی و الغیری قسمان من الوجوب ، و قد تقدّم أنّ النفسی هو الواجب لا لواجبٍ آخر ، و الغیری هو الواجب لواجبٍ آخر ، فکان أحدهما مقیّداً بأمرِ عدمی و الآخر مقیّداً بأمرٍ وجودی ، فالواجب النفسی مقیَّد بعدم کونه لواجب آخر ، و الغیری مقیَّد بکونه لواجبٍ آخر ... فکلاهما مقیَّد ، و کلّ قیدٍ - سواء کان وجودیاً أو عدمیّاً - فهو محتاج إلی بیان .

و علی الجملة ، فکما أنّ کون الشیء « بشرط شیء » قید له ، کذلک کونه « بشرط لا » ، و لا بدّ لکلّ قیدٍ من بیانٍ و مئونةٍ زائدة ... و هذا مقتضی القاعدة .

لکنّ هناک موارد یری العرف فیها استغناء القید العدمی عن البیان ، بمعنی أنّ مجرّد عدم البیان بالنسبة إلی القید الوجودی ، یکفی لأنْ یکون بیاناً علی القید العدمی ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، و ذلک : لأنّ الواجب النفسی ما کان واجباً لا لواجبٍ آخر ، و الغیری ما وجب لواجبٍ ، فکان الغیری مقیّداً بکونه للغیر ، و حینئذٍ ، فلو تعلّق الطلب بشیءٍ و لم یکن معه بیانٌ لکون هذا الطلب لشیء آخر ، کان نفس عدم البیان لذلک کافیاً عند أهل العرف فی إفادة أنّ هذا المطلوب لیس لواجبٍ آخر ... .

ص:21


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 107 .

و علی هذا ، لیس الطریق إلی تعیین حال الفرد المحقّق خارجاً من الوجوب المتعلّق بالوضوء ، من حیث النفسیّة و الغیریّة ، هو التمسّک بالأصل اللفظی فی مفهوم الوجوب ، کما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی ، بل الصّحیح إثبات إطلاق الفرد الواقع عن طریق عدم التقیید بکونه للغیر ، فإنّه یفید کونه لا للغیر ، فهذا هو المراد من الاطلاق هنا ، و هذا طریق إثباته .

و تلخّص : إنّه لیس الطریق هو التمسّک بإطلاق مفهوم الطّلب ، فإنّه لا یحلّ المشکلة و لا یخرج الفرد الواقع من التردّد بین النفسیّة و الغیریّة ، لأنّ ذلک لا یحصل عن طریق إطلاق مفهوم الوجوب ، إذ الإطلاق المفهومی لا یعیّن حال الفرد الواقع ، بل الطریق الذی سلکناه هو الذی یعیّن حاله و یرفع التردّد و الشک ، لأنّه أفاد عدم التقیید بالغیریّة .

أقول :

و بهذا التقریب الذی استفدناه من شیخنا الأُستاذ دام بقاه تندفع خدشة سیدنا الأُستاذ ، حیث أنه أورد کلام المحقّق الأصفهانی و ذکر اشتماله علی ثلاثة إیرادات علی الکفایة ، ثم قال : و الإنصاف أنّ هذه الوجوه مخدوشة کلّها ، و وجه الاندفاع هو أنّ مناقشته للکلام المذکور إنما جاءت علی مقتضی القاعدة ، من جهة أنّ النفسیّة یحتاج إلی بیان کالعدمیّة ، لأنّ کلّاً منهما قید زائد علی أصل الوجوب ، و لا وجه لدعوی أنّه لا یحتاج إلی بیانٍ زائد بعد أن کان قیداً کسائر القیود الوجودیّة أو العدمیّة (1) .

لکنّ الارتکاز العرفی الذی أشار إلیه المحقق الأصفهانی بقوله : « فما یحتاج إلی التنبیه عرفاً کون الوجوب لداعٍ آخر غیر الواجب » هو الوجه للدعوی

ص:22


1- 1) منتقی الأُصول 2 : 217 .

المذکورة ، و قد وقع الغفلة عنه .

فما أفاده المحقق الأصفهانی لا محذور فیه ، لکنه - کما قال شیخنا - متّخذ من کلام صاحب الکفایة فی مبحث الإطلاق و التقیید (1) ... و بیان مطلبه هناک هو :

إنّ الإطلاق یفید تارة : الشمول و العموم الاستیعابی ، و أخری : العموم البدلی ، و ثالثة : خصوصیّة أُخری ، غیر الشمولیّة و البدلیّة .

مثال الأوّل : قوله تعالی «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ » (2)، فإنّه یفید حلیّة البیع عامّة .

و مثال الثانی : قولک : بع دارک ، فإنّه أمر ببیع داره و یفید جواز البیع بأیّ نحوٍ من الأنحاء اختار هو ، علی البدلیّة ، و لیس یفید العموم الاستیعابی ، فإنّه غیر ممکن کما لا یخفی .

و مثال الثالث : قول المولی : « توضّأ » من غیر أنْ یعلّق الوجوب علی شیء ... فهنا لیس الإطلاق من قبیل الأوّلین ، و إنّما هو لإفادة خصوصیة أنّ وجوبه لیس لغیره ، لأن خصوصیّة الغیریّة هی المحتاجة إلی البیان ، و أمّا النفسیّة فیکفی فیها عدم البیان علی الغیریّة ، فکان الإطلاق - بمعنی عدم إقامة القرینة علی إرادة الغیریة - یقتضی النفسیّة .

القول بالإطلاق الأحوالی

و قال المحقّق الإیروانی (3) بالإطلاق الأحوالی فی الفرد المردّد بین النفسیّة و الغیریّة ، لأنّ الإطلاق قد یکون أفرادیاً ، و قد یکون أحوالیّاً . فالأفرادی موضوعه الطبیعة و هی ذات فردین أو أفراد ، و حینئذٍ یصلح لأنْ یکون مطلقاً ، أی لا بشرط بالنسبة إلی خصوصیّة هذا الفرد أو ذاک ... کما هو الحال فی « الرقبة » مثلاً ، حیث

ص:23


1- 1) کفایة الأُصول : 252 تحت عنوان : تبصرة لا تخلو من تذکرة .
2- 2) سورة البقرة : الآیة 275 .
3- 3) نهایة النهایة 1 / 156 .

أنّها طبیعة ذات حصّتین ، و هی قابلة لأنْ تکون هی المراد و المورد للحکم .

و أمّا الإطلاق الأحوالی ، فإنّه یجری فی الفرد أیضاً ... و کلّما کانت طبیعة ذات حصّة و لکن المورد لا یصلح لأن تکون الطبیعة هی المراد ، فإنّه یجری فیه الإطلاق الأحوالی .

و علی هذا ، فإنّ الشیخ رحمه اللّٰه لمّا قال بأنّ مدلول الهیئة هو الفرد ، و الفرد لا یقبل الإطلاق و التقیید ، یتوجّه علیه : إنّه لا یقبل الإطلاق الأفرادی ، لکنّه یقبل الإطلاق الأحوالی .

و المحقّق الخراسانی ذهب إلی الإطلاق المفهومی ، فیرد علیه الإشکال : بأنّ الإطلاق المفهومی لا مورد له فی المقام ، لأن مجراه مثل « الرقبة » حیث أنّ الطبیعة تکون مورداً للحکم و الإرادة و یتعلّق بها التکلیف ، فیعمّ کلتا الحصّتین المؤمنة و الکافرة ، بخلاف المقام ، فإنّه لا یعقل أن یکون المراد هو الأعم من النفسیّة و الغیریّة ، بل إن حال الفرد الواقع خارجاً مردّد بین الأمرین ، و المقصود بیان حاله و إخراجه من حالة التردّد ، و لا یعقل الإطلاق المفهومی فی الفرد ... بل یتعیّن الإطلاق الأحوالی ، فإذا کان الوجوب المتعلّق بالوضوء فرداً ، فإنّه ذو حالین ، حال وجوب الصّلاة و حال عدم وجوبها ، و مقتضی الإطلاق هو التوسعة بالنسبة إلی الحالین لهذا الفرد ، فهو توسعة فی الحال لا فی المفهوم .

فظهر جریان الإطلاق الأحوالی بناءً علی مسلک المحقّق الخراسانی من أنّ مدلول الهیئة هو مفهوم الطلب ، و هو أیضاً جار بناءً علی کون مدلولها : النسبة البعثیّة أو البعث النسبی . أمّا الإطلاق الأفرادی فلا یجری ، لأن مدلول الهیئة معنیً حرفیّ و المعنی الحرفیّ جزئی ... .

هذا کلّه فی التمسّک بإطلاق مفاد الهیئة .

ص:24

و أمّا التمسّک بإطلاق المادّة ، فقد أفاد فی ( المحاضرات ) (1) : بأنّه بناءً علی نظریة الشّیخ من لزوم رجوع القید إلی المادّة ، یمکن تقریب التمسّک بالإطلاق بوجهین :

الأوّل : فیما إذا کان الوجوب مستفاداً من الجملة الاسمیّة ، کقوله علیه السلام : « غسل الجمعة فریضة من فرائض اللّٰه » فإنّه لا مانع من التمسّک فی مثله بالإطلاق لإثبات النفسیّة ، إذ لو کان غیریّاً لزم علی المولی إقامة القرینة .

و الثانی : التمسّک بإطلاق دلیل الواجب - کدلیل الصّلاة مثلاً - لدفع ما یحتمل أن یکون قیداً له کالوضوء مثلاً ، و لازم ذلک عدم کون الوضوء واجباً غیریّاً ، و قد تقرّر حجیّة مثبتات الأُصول اللفظیّة .

قال الأُستاذ : إنّه لا وجه للحصر بوجهین ، بل الإطلاق الأحوالی جارٍ أیضاً کما تقدّم ... هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ الوجه الثانی - من الوجهین المذکورین - لا یقول به الشیخ ، و إن کان وجهاً صحیحاً فی نفسه .

و تلخّص : تمامیة الإطلاق بوجوهٍ ثلاثة :

1 - الإطلاق الأحوالی فی مفاد الهیئة .

2 - إطلاق المادّة ، أی مادّة الوضوء فی « توضّأ » .

3 - إطلاق دلیل الواجب .

.2 - مقتضی الأصل العملی

اشارة

و اختلف الأنظار فی مقتضی الأصل العملی بعد فرض عدم تمامیّة الأصل اللفظی :

ص:25


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 221 .
رأی المحقق الخراسانی :

ذکر المحقّق الخراسانی (1) لمقتضی الأصل العملی - فی دوران أمر الفرد الواقع من الوجوب بین النفسیّة و الغیریّة - صورتین ، لأنّ وجوب ذلک الغیر - الذی شککنا فی کون هذا الشیء مقدّمةً له ، أو أنّه واجب نفسی و لیس بمقدّمةٍ له - تارةً فعلی و أُخری غیر فعلی .

فإن کان فعلیّاً ، کان الشیء المشکوک النفسیّة و الغیریّة مجری قاعدة الاشتغال ، لأنّ المفروض هو العلم بوجوبه ، إنّما الجهل فی وجه هذا الوجوب .

مثلاً : الوضوء واجب علی تقدیر النفسیّة و علی تقدیر الشرطیّة للصّلاة الواجبة بالوجوب النفسی الفعلی ، فلو تُرک الوضوء فقد تُرک واجب نفسی ، و هو الوضوء إن کان واجباً نفسیّاً أو الصّلاة المشروطة به ، فکان العلم الإجمالی المتعلّق بالمردّد بین النفسیّة و الغیریّة موجباً للعلم باستحقاق العقاب فی حال ترک الوضوء ، فلا محالة یکون هذا العلم الإجمالی منجزاً .

و إنْ لم یکن وجوب الغیر فعلیّاً ، کان مشکوکُ النفسیّة و الغیریّة مجری أصالة البراءة ، لأنّ المناط فی منجزیّة العلم الإجمالی هو تعلّق العلم بالتکلیف الفعلی ، و المفروض عدمه ، إذ الوضوء علی تقدیر کونه واجباً نفسیّاً فعلی ، و علی تقدیر کونه واجباً غیریّاً ، فهو شرط لواجب غیر فعلی ، و مع عدم فعلیّة المشروط لا یکون الشرط فعلیّاً ، فلا یکون العلم حینئذٍ منجّزاً ، فالمرجع البراءة .

هذا کلام المحقّق الخراسانی .

تفصیل الإیروانی

لکن الصّورة الثانیة یتصوَّر فیها صورتان ، لأنّ ذاک الغیر المفروض عدم

ص:26


1- 1) کفایة الأُصول : 110 .

فعلیّته ، قد یکون واجباً من قبل ثم ارتفع وجوبه ، و قد لا یکون کذلک ، فإنْ لم یکن مسبوقاً بالوجوب فالأصل الجاری هو البراءة کما ذکر . و أمّا إن کان مسبوقاً بوجوب مرتفع عنه فعلاً ، حصل لنا العلم بأنّ الواجب المشکوک فی نفسیّته و غیریّته کان من قبل واجباً غیریّاً ، فالحالة المتیقّنة السابقة لهذا المشکوک فیه هو الوجوب الغیری ، و بزوال فعلیّة وجوب ذلک الغیر یصیر هذا الوجوب الغیری مقطوع الزوال ، لأنّه بزوال وجوب المشروط بقاءً یزول وجوب الشرط کذلک ...

فیکون وجوب المشکوک النفسیّة و الغیریّة فرداً مردّداً بین مقطوع الزوال و مقطوع البقاء ، لأنّ هذا الوضوء - المشکوک کذلک - فی کون وجوبه نفسیّاً أو غیریّاً - إنْ کان واجباً غیریّاً فقد زال عنه الوجوب یقیناً و إنْ کان واجباً نفسیّاً فوجوبه باق ...

وعلیه ، فیکون صغری للقسم الثانی من أقسام استصحاب الکلّی ... .

فعلی القول بعدم جریان الاستصحاب فی القسم الثانی من أقسام الکلّی - لا فی الفرد و لا فی الکلّی - فالمرجع أصالة البراءة ، و أمّا علی القول بجریانه فیه - کما هو الصحیح - فهو أصل حاکم علی البراءة ، فکانت الصورة الثانیة من صورتی المحقّق الخراسانی تنقسم إلی صورتین ، و الحکم یختلف ... و قد نبّه علی هذا المحقّق الإیروانی (1) .

إشکال الأُستاذ

و أشکل علیه الأُستاذ : بأنّ المعتبر فی المستصحب أن یکون حکماً شرعیّاً أو موضوعاً لحکمٍ شرعی مجعول أو موضوعاً للحکم العقلی بمناط عدم لغویّة التعبّد فإنّه - و إن لم یکن المستصحب حکماً أو موضوعاً لحکم - یکفی لأن یکون للاستصحاب أثر فی الاشتغال أو الفراغ ، فلا یکون التعبّد به لغواً .

ص:27


1- 1) نهایة النهایة 1 / 158 .

لکن استصحاب الکلّی هنا لا تتوفّر فیه هذه الضابطة ، لأنّ هذا الکلّی الذی یراد إجراء الاستصحاب فیه - و هو الجامع الانتزاعی بین الوجوب النفسی و الوجوب الغیری - لیس بمجعولٍ شرعی ، إذ المجعول من قبل الشارع إمّا الوجوب النفسی أو الوجوب الغیری (1) ، و لا هو موضوع لحکم شرعی کما لا یخفی ، و هل هو موضوع للحکم العقلی علی ما ذکر ؟ کلّا ... و ذلک : لأنّ الحکم العقلی إنّما یتحقّق فی الجامع بین الواجبین النفسیّین و إنْ کان جامعاً انتزاعیّاً ، لأنّ موضوع حکمه هو استحقاق العقاب علی المخالفة ، فلو کان واجبان نفسیّان تردّد أمرهما بین مقطوع الزوال و مقطوع البقاء ، جری استصحاب الکلّی الجامع بینهما ، و أفاد وجوب الإتیان بالجامع و ترتیب الأثر علیه ، لحکم العقل باستحقاق العقاب علی المعصیة .

أمّا فی محلّ البحث ، فأحد الوجوبین نفسی و الآخر غیری ، و الواجب الغیری لا یحکم العقل باستحقاق العقاب علی ترکه ، فإحدی الحصّتین من الکلّی غیر محکومة بحکم العقل باستحقاق العقاب علی ترکها ، فکیف یتمّ إجراء الاستصحاب فی الجامع لتحقیق الحکم العقلی ؟

فتلخّص : عدم تمامیّة الاستصحاب فی الکلّی الانتزاعی أی: الوجوب الجامع بین النفسی و الغیری . نعم ، لو صحّ جریانه فی الفرد المردّد لتمّ ما ذکره المحقّق الإیروانی ، لکنّه أجلّ شأناً من أن یقول بذلک .

ص:28


1- 1) و الفرق بین الأمر الخارجی الواقعی و الأمر الاعتباری هو : إنّ الکلّی قابل للجعل بتبع جعل الفرد له ، فجعل زید هو جعلٌ للإنسان أیضاً ، إذ الکلّی الخارجی موجود بوجود فرده . أمّا الاعتباری فلیس له طبیعی أی الجنس ، و لیس له فرد أی النوع ، حتی یجعل له الکلّی ، بل الجامع فی الاعتبارات هو الجامع الانتزاعی العقلی .
رأی المیرزا

و ذهب المیرزا (1) إلی أنّ المردّد واجب بالوجوب النفسی ، و أنّ الصّلاة مجری البراءة . و توضیح ذلک : إنّه إذا تردّد أمر الوضوء بین النفسیّة و الغیریّة ، و کان علی تقدیر الغیریّة شرطاً لواجبٍ غیر فعلی ، کما لو تیقّن بالنذر و تردّد بین أن یکون قد نذر الصّلاة أو نذر الوضوء ، فإنْ کان متعلّق نذره هو الوضوء فهو واجب نفسی ، و إن کان الصّلاة کان الوضوء واجباً غیریّاً . إذن ، لا فعلیّة لوجوب الصّلاة ، بل إنّه فعلی علی تقدیر کون الوضوء واجباً غیریّاً لا نفسیّاً . فیقول المیرزا : بأنّ الوضوء واجب قطعاً ، بالوجوب النفسی أو الغیری ، و أمّا الصّلاة فهی مجری البراءة ، لجریانها فیها بلا معارض ، و ذلک : لأنّ معنی دوران أمر الوضوء بین النفسیّة و الغیریّة هو تحقّق علم إجمالی بأنّ الواجب علیه بالوجوب النفسی إمّا هو الصّلاة و إمّا هو الوضوء ، و هذا العلم مؤثر فی التنجیز ، و لا بدّ من الإتیان بالوضوء و الصّلاة معاً ، غیر أنّ الوضوء یؤتی به قبل الصّلاة ، حاله حال الواجب الغیری ...

لکنّ هذا العلم منحل ... لأنّ أحد الطرفین - و هو الوضوء - یقطع باستحقاق العقاب علی ترکه ، إمّا لکونه واجباً نفسیّاً و إمّا لأن ترکه یؤدّی إلی ترک الواجب المشروط به ، و مع القطع باستحقاق العقاب علی ترکه لا تجری البراءة فیه ، و یبقی الطرف الآخر محتمل الوجوبیّة ، فالشبهة فیه بدویّة ، و تجری البراءة فیه بقسمیها .

ثمّ ذکر فی نهایة الکلام أنّ المقام من صغریات التفکیک و التوسّط فی التنجیز .

و توضیح المراد من ذلک هو : إنّ الوقائع منها هو منجّز علی کلّ تقدیر ، و منها ما هو غیر منجّز علی کل تقدیر . و الأوّل : هو الحکم المعلوم بالإجمال ،

ص:29


1- 1) أجود التقریرات 1 / 250 .

و الثانی : هو الحکم المشکوک فیه شبهةً بدویة . و هذا القسمان واضحان . و الثالث منها هو : ما إذا کان العلم الإجمالی مردّداً بین الأقل و الأکثر ، و هذا مورد التوسّط فی التنجیز ، کما لو حصل العلم بوجوب مرکب تردّدت أجزاؤه بین کونها عشرة أو أحد عشر مثلاً ، فإنّه مع ترک الجزء الحادی عشر لا یقین باستحقاق العقاب ، بخلاف الأجزاء العشرة ، فلو ترکها استحق العقاب ... إذن ، فالواجب الواحد و الوجوب الواحد قابل للتفکیک من حیث استحقاق العقاب و عدمه ... و هذا مراده من التوسّط و التفکیک فی التنجیز .

الإشکال علی رأی المیرزا

إنّما الکلام فی اختصاص ذلک بمورد المرکّب ذی الأجزاء الخارجیّة - کما ذکر - أو أنّه ینطبق علی المرکّب ذی الأجزاء التحلیلیّة أیضاً ؟

إن حال المرکّب من الأجزاء الخارجیّة هو أنّ وجوده بتحقّق أجزاءه کلّها ، فهو وجود واحد ، أمّا عدمه فیتعدّد بعدد الأجزاء ، و یتّصف بالعدم إذا عدم الجزء الأوّل ، و بعدمٍ آخر إذا عدم الجزء الثانی ، و هکذا ... فإذا دار أمره بین الأقل و الأکثر ، فأیّ مقدارٍ من الأعدام بقی تحت العلم کان العلم منجّزاً بالنسبة إلیه .

و هل هذا الحال موجود فی الأجزاء التحلیلیّة کما فی محلّ البحث ؟

مقتضی الدقّة فی کلام المیرزا : جریان التوسیط فی التنجیز فی الأجزاء التحلیلیّة أیضاً ، لأنّه کما یحصل للمرکب من الأجزاء أعدام بعدد أجزائه ، کترک الصّلاة بترک القراءة ، و ترکها بترک الرکوع ... و هکذا ... فإنّه یحصل له ذلک بترک کلٍّ من قیوده و شروطه ، فالصّلاة المقیَّدة بالطهارة و الاستقبال و ... یحصل لها تروک بعدد تلک الأُمور ، فکما ینتفی المرکب بانتفاء جزئه ، کذلک ینتفی بانتفاء قیده ... و لیس تعدّد الترک منحصراً بالأجزاء الخارجیّة المحقّقة للمرکّب ... .

ص:30

و علی هذا ، فترک الصّلاة من ناحیة ترک الوضوء منجّز ، لأنّ المفروض تحقّق العلم بوجوب الوضوء سواء کان نفسیّاً أو غیریّاً ، و إذا تعلّق العلم بالوضوء کان ترک الصّلاة من جهة ترک الوضوء مورداً للمؤاخذة ، لقیام الحجة من ناحیة المولی علیه ، بخلاف ما لو ترکت الصّلاة من جهة غیر الوضوء ، لعدم وجود البیان و الحجّة منه ، و علی الجملة ، فقد تحقّق التنجیز بالنسبة إلی الصّلاة من حیث الوضوء ، أمّا بالنسبة إلی الصّلاة فلا ، بل الشبهة فیها بدویّة ، فالبراءة جاریة فی الصّلاة ، لکن وجوب الوضوء نفسی .

و تحصّل : أنّ التفکیک فی التنجّز یجری فی أجزاء المرکب ، و یجری فی القیود و الشرائط ، و لا یختص بالأجزاء .

فلا یرد علی المیرزا الإشکال بذلک (1) .

و أورد علیه : بأن موردنا من قبیل دوران الأمر بین المتباینین ، و لیس من الأقلّ و الأکثر ، لأن طرفی العلم الإجمالی هما الوضوء و الصّلاة ، و النسبة بینهما هو التباین .

و فیه : إنّه منقوض بالموارد التی تکون نسبة الجزء إلی الکلّ بحیث لا یطلق علی الجزء عنوان الکلّ - کما هو فی الإنسان و الرقبة مثلاً - فلو علمنا بمقدارٍ من الأجزاء هی فی العرف فی مقابل المرکب لا بعضه ، و تردّد الأمر بینه و بین سائر الأجزاء ، کان لازم ما ذکر عدم جریان البراءة . مثلاً : الصّلاة مرکّبة من أجزاء أوّلها التکبیر و آخرها التسلیم ، فلو تعلّق العلم بالتکبیر وحده و شکّ فی الزائد تجری البراءة عنه ، مع أنّ النسبة بین التکبیر و الصّلاة هو التغایر و التباین ، إذ لا یصدق عنوان الصّلاة علی التکبیر وحده .

ص:31


1- 1) منتقی الأُصول2 / 231 .

و أمّا حلّ المطلب فهو : أنّ ملاک انحلال العلم لیس خصوصیّة الأقل و الأکثر ، حتی لا ینحل و لا تجری البراءة إذا کانت النسبة التباین ، بل الملاک علی التحقیق - وعلیه المیرزا - هو کون أحد الطرفین مجری الأصل دون الطرف الآخر ، فإذا کان أحد الطرفین فقط مجری الأصل - سواء کانا متباینین أو أقل و أکثر - جرت البراءة . و فیما نحن فیه : الوضوء و إنْ لم یکن جزءاً من الصّلاة بل هو شرط لها ، إلّا أنّ الأصل لا یجری فی الوضوء و هو جارٍ فی الصّلاة ، لأنّ الوضوء معلوم الوجوب علی کلّ تقدیر ، دون الصّلاة فإنّها مشکوکة الوجوب .

و أورد علیه : بأنّه یعتبر فی انحلال العلم الإجمالی وجود السنخیّة بین المعلوم بالإجمال و المعلوم بالتفصیل ، و ذلک کما فی مثال أجزاء الصّلاة ، فلو علم إجمالاً بالوجوب النفسی ، و تردّد بین أن یکون عشرة أجزاء من المرکب أو أحد عشر ، فإن عنوان « الوجوب النفسی » ینطبق علی العشرة ، الذی أصبح المعلوم بالتفصیل .

أمّا فیما نحن فیه ، فلا توجد هذه المسانخة ، لأنّ المعلوم بالإجمال أوّلاً هو « الوجوب النفسی » إذ تردّد بین الصّلاة و الوضوء ، لکن المعلوم بالتفصیل فی طرف الوضوء هو الجامع بین النفسیّة و الغیریّة ، فهو غیر المعلوم بالإجمال الأوّلی .

و فیه : إنّه لیس الملاک ذلک ، بل الملاک ما ذکرناه من کون أحد الطرفین موضوعاً للأصل دون الطرف الآخر .

و أورد علیه : بأنّ المفروض هو العلم الإجمالی بوجوب الوضوء ، مردّداً بین کونه نفسیّاً أو غیریّاً ، فإن کان فی الواقع نفسیّاً استحقّ العقاب علی ترکه ، و أمّا إن کان وجوبه غیریّاً فلا یستحقّه ، لکنّ انحلال العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی

ص:32

فی طرف و شک بدوی فی طرف آخر ، إنّما هو حیث یکون العلم التفصیلی متعلّقاً بتکلیفٍ منجّز موجبٍ لاستحقاق العقاب ، و قد تقدّم أنّ الوضوء علی تقدیر کون وجوبه غیریّاً لا یستحق العقاب علی ترکه ، فالعلم الإجمالی المردّد بین النفسیّة و الغیریّة باقٍ علی حاله ، لعدم استلزام مخالفته لاستحقاق العقاب علی کلّ تقدیر .

و فیه : إنّه إن کان المقصود إثبات استحقاق العقاب علی ترک الوضوء نفسه فالإشکال وارد ، للشک فی کونه واجباً نفسیّاً ، و الوجوب الغیری لا تستتبع مخالفته استحقاق العقاب . لکنّ المقصود من إجراء البراءة هو رفع التکلیف و التوسعة علی المکلّف ، و هذه التوسعة لا تکون فی طرف الوضوء للعلم التفصیلی بوجوبه ، فلا یمکن الترخیص فی ترکه ، لکون وجوبه إمّا نفسیّاً فلا یجوز ترکه ، و إمّا غیریّاً فکذلک لأنّه یؤدی إلی ترک الصلاة ، أمّا فی طرف الصّلاة فهی حاصلة بأصالة البراءة .

و الحاصل : إنّ المهم کون المورد مجری لأصالة البراءة و ترتّب أثر هذا الأصل ، أعنی التوسعة و المرخصیّة للمکلّف ، و هذا حاصل ، لوجود مناط الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی ، و هو جریان البراءة فی طرف و هو الصّلاة ، لوجود المقتضی لجریانه و عدم المانع عنه ، دون الآخر و هو الوضوء للعلم التفصیلی المتعلّق به .

الإشکال الأخیر :

إنّ هذا العلم الإجمالی لا ینحلّ ، لأنّه یلزم من انحلاله عدم الانحلال . و هو الإشکال الذی اعتمده الأُستاذ فی الدّورة السابقة فی ردّ رأی المیرزا فی المقام .

و توضیح ذلک : إنّ الغرض هو حلّ مشکلة دوران أمر الوضوء بین النفسیّة و الغیریّة ، و نتیجة انحلال هذا العلم الإجمالی هو الاشتغال بالنسبة إلی الوضوء

ص:33

و البراءة عن الصّلاة . لکنّ البراءة إنّما تجری حیث یقطع بجریانها - و إلّا فالظن بجریانها لا یفید فضلاً عن الشک فیه - و القطع بجریان البراءة فی الصّلاة یستلزم القطع بعدم المؤاخذة علی ترک الوضوء ، لکونه مقدّمةً لها ، لأنّ القطع بعدم المؤاخذة علی ترک ذی المقدّمة یستلزم القطع بعدمها علی ترک مقدّمته ، و إذا حصل القطع بعدم المؤاخذة علی ترک الوضوء ، حصل العلم بتعلّق التکلیف به علی تقدیر ، و العلم بعدم المؤاخذة به علی تقدیر ، فلم یحصل العلم التفصیلی بالنسبة إلیه ، فلا تجری قاعدة الاشتغال ، بل یکون الوضوء مجری أصالة البراءة .

و فیه : إن کان المقصود من الانحلال هو الانحلال العقلی ، فالإشکال وارد ، لکن المقصود هو انحلال العلم الإجمالی بحکم الشارع ، و الحکم العقلی هنا معلّق علی عدم الانحلال الشرعی ، فإنّ العقل حاکمٌ بضرورة ترتیب الأثر علی العلم الإجمالی بین الوضوء و الصّلاة ما دام لم یصل مؤمّن من قبل الشارع ، و مع وصوله یرتفع موضوع حکم العقل ، و المؤمّن هنا حدیث الرفع ، إذ المقتضی لجریانه موجود و المانع عنه مفقود ، و هذا المعنی متحقّق فی طرف الصّلاة إذ شک فی وجوبها النفسی ، فتمّ المقتضی لجریان أصل البراءة ، و مع وجود العلم التفصیلی فی طرف الوضوء لا موضوع لجریان الأصل فیه ، فلا معارض لأصالة البراءة فی الصّلاة .

أقول :

کان هذا ملخّص ما استفدناه من کلامه دام بقاه فی الدّورة اللّاحقة . و لکنّ الاستدلال بحدیث الرفع هنا یبتنی علی أن یکون المرفوع فیه هو المؤاخذة من جهة العمل نفسه أو من جهة غیره المترتّب علیه ، فإنّه علی هذا المبنی یکون الوضوء مشمولاً لحدیث الرفع ، إذ بترکه یترتّب العقابُ علی ترک الصّلاة لکونه

ص:34

مقدمةً لها .

و أمّا علی القول بأنّ المرفوع هو المؤاخذة علی خصوص العمل - کما هو مختار السید الأُستاذ - فلا یتم الاستدلال به ، فراجع (1) .

رأی السید الخوئی

و ذکر السید الخوئی فی مقام الأصل العملی (2) أربعة صور :

( الصورة الأُولی ) ما إذا علم المکلّف بوجوب شیء إجمالاً فی الشریعة و تردّد بین کونه نفسیّاً أو غیریّاً ، و هو یعلم بأنّه لو کان غیریّاً لم یکن وجوب ذلک الغیر بفعلی ، کما إذا علمت الحائض بوجوب الوضوء علیها و شکّت فی أنّ وجوبه علیها نفسی أو غیری ، و أنّه فی حال الغیریّة للصّلاة فلا فعلیّة لوجوبها لکونها حائض .

( الصورة الثانیة ) ما إذا علم المکلّف بوجوب شیء فعلاً و تردّد بین کون وجوبه نفسیّاً أو غیریّاً ، و هو یعلم أنّه لو کان غیریّاً ففعلیّة وجوب الغیر یتوقّف علی تحقق ذلک الشیء خارجاً . کما إذا علم بتحقّق النذر و لکنْ تردّد بین الوضوء و الصّلاة ... کما تقدّم .

و قد ذهب قدّس سرّه إلی البراءة فی کلتا الصورتین ، أمّا فی الأولی ، فهی جاریة فی الشیء المشکوک فیه ، لعدم العلم بوجوبٍ فعلی علی کلّ تقدیر ، إذ علی تقدیر الغیریّة لا یکون فعلیّاً لعدم فعلیّة وجوب ذی المقدمة . و أمّا فی الثانیة ، فهی جاریة فی الصّلاة علی ما تقدّم بیانه .

( الصورة الثالثة ) ما إذا علم المکلّف بوجوب کلٍّ من الفعلین فی الخارج ،

ص:35


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 226 - 227 .
2- 2) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 222 .

و شک فی أنّ وجود أحدهما مقیّد بوجود الآخر مع علمه بتماثل وجوبیهما من حیث الاطلاق و الاشتراط من بقیة الجهات ، أی إنهما متساویان إطلاقاً و تقییداً ، کوجوب الوضوء و الصّلاة مثلاً .

فذکر عن المیرزا القولَ بالبراءة ، و اختار هو الاحتیاط ، ( قال ) : قد أفاد شیخنا قدّس سرّه : أنّ الشک حیث أنّه متمحّض فی تقیید ما علم کونه واجباً نفسیّاً کالصلاة بواجب آخر و هو الوضوء - مثلاً - فلا مانع من الرجوع إلی البراءة عن ذلک التقیید ، لفرض أن وجوب الصّلاة و الوضوء معلوم ، و متعلّق الشک خصوص تقیید الصّلاة به أی خصوصیّة الغیریّة ، فالبراءة تجری عن التقیید .

( فأجاب ) بأنّ أصالة البراءة عن التقیید المذکور معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء بوجوب نفسی ، و ذلک لأنّ المعلوم تفصیلاً وجوبه الجامع بین النفسی و الغیری ، و أمّا الخصوصیّة فمشکوک فیها ، فلا مانع من جریان الأصل فی الخصوصیّة فی کلا الطرفین ، و یتعارض الأصلان ، و یکون المرجع قاعدة الاحتیاط ، فیجب الإتیان بالوضوء أوّلاً ، ثمّ بالصّلاة .

أقول :

و قد قرّب الأُستاذ دام بقاه رأی السید الخوئی فی هذه الصّورة و أوضح الفرق بینها و بین الصّورة السابقة التی قال فیها بالبراءة عن الصّلاة ... بأنّ صورة المسألة السابقة هی : إمّا الصّلاة واجبة بالوجوب النفسی و إمّا الوضوء ، و معنی ذلک أنّه إن کان الواجب النفسی هو الصّلاة فالوضوء وجوبه غیری ، و لذا تحقّق العلم التفصیلی فی وجوب الوضوء ، و الشک البدوی فی وجوب الصّلاة . أمّا الصّورة الثالثة هذه ، فلا شکّ فی وجوب الصّلاة - و وجوبها نفسی - بل الشک فی ناحیة الوضوء ، و للعلم الإجمالی طرفان ، أحدهما : الوجوب النفسی للوضوء ،

ص:36

و الآخر : الوجوب الغیری له ... و مقتضی العلم الإجمالی هو الاحتیاط .

فالحقّ مع المحاضرات خلافاً للمیرزا .

( الصّورة الرابعة ) ما إذا علم المکلّف بوجوب کلٍّ من الفعلین و شکّ فی تقیید أحدهما بالآخر ، مع عدم العلم بالتماثل بینهما من حیث الإطلاق و التقیید ، و ذلک : کما إذا علم باشتراط الصّلاة بالوقت و شک فی اشتراط الوضوء به من ناحیة الشک فی أنّ وجوبه نفسی أو غیری ، و أنّه علی الأوّل غیر مشروط و علی الثانی مشروط ، لتبعیّة الوجوب الغیری للنفسی فی الإطلاق و الاشتراط .

( قال ) : و قد أفاد شیخنا الأُستاذ أن البراءة جاریة من جهات ( الأُولی ) :

الشک فی تقیید الصّلاة بالوضوء ، و هو مجری البراءة ، فتصحّ بلا وضوء .

( الثانیة ) : الشک فی وجوب الوضوء قبل الوقت الذی هو شرط لوجوب الصّلاة ، و المرجع البراءة ، و نتیجة ذلک نتیجة الغیریّة من ناحیة عدم ثبوت وجوبه قبل الوقت فی المثال ( الثالثة ) : الشک فی وجوب الوضوء بعد الوقت بالإضافة إلی من أتیٰ به قبله ، و مرجع هذا الشک إلی أنّ وجوبه قبل الوقت مطلق أو مشروط بما إذا لم یؤت به قبله ، و بما أنّ ذلک مشکوک فیه بالإضافة إلی من أتی به قبله ، فلا مانع من الرجوع إلی البراءة ، و النتیجة تخییر المکلّف بین الإتیان بالوضوء قبل الوقت و بعده ، قبل الصّلاة و بعدها .

( قال ) و لنأخذ بالنظر فی هذه الجهات ، بیان ذلک : إن وجوب الوضوء فی مفروض المثال ، المردّد بین النفسی و الغیری ، إن کان نفسیّاً ، فلا یخلو من أنْ یکون مقیّداً بإیقاعه قبل الوقت أو یکون مطلقاً ، و إن کان غیریّاً ، فهو مقیَّد بما بعد الوقت علی کلّ تقدیر .

و علی الأوّل ، فلا یمکن جریان البراءة عن تقیید الصّلاة بالوضوء ،

ص:37

لمعارضته بجریانها عن وجوبه النفسی قبل الوقت ، للعلم الإجمالی بأنّه إمّا واجب نفسی أو واجب غیری ، و جریان البراءة عن کلیهما مستلزم للمخالفة القطعیّة العملیّة؛ فلا بدّ من الاحتیاط و الوضوء قبل الوقت ، فإن بقی إلی ما بعده أجزأ عن الوضوء بعده و لا تجب الإعادة ، و إلّا وجبت لحکم العقل بالاحتیاط .

و علی الثانی : فلا معنی لإجراء البراءة عن وجوب الوضوء قبل الوقت ، لعدم احتمال تقیّده به ، لأنّ مفاد أصالة البراءة رفع الضّیق عن المکلّف لا رفع السّعة ، و أمّا بعد الوقت فیحکم العقل بوجوب الوضوء ، للعلم الإجمالی بوجوبه إمّا نفسیّاً و إمّا غیریّاً ، و لا یمکن إجراء البراءة عنهما معاً ، و معه یکون العلم الإجمالی مؤثّراً و یجب الاحتیاط .

نعم ، لو شککنا فی وجوب إعادة الوضوء بعد الوقت علی تقدیر کونه غیریّاً ، أمکن رفعه بأصالة البراءة ، لأنّ تقییده بما بعد الوقت علی تقدیر کون وجوبه غیریّاً مجهول ، فلا مانع من الأصل ، لأنّ وجوبه إنْ کان نفسیّاً فهو غیر مقیّد بذلک ، و إن کان غیریّاً ، فالقدر المعلوم تقیّد الصّلاة به و أمّا تقیّدها بخصوصیّة بعد الوقت فشیء زائد مجهول ، فیدفع بالأصل .

فالبراءة لا تجری إلّا فی الجهة الأخیرة .

رأی الشیخ الأُستاذ

و خالف الشیخ الأُستاذ المیرزا القائل بالبراءة فی الصّورة ، و السید الخوئی القائل بالتفصیل فیها کما تقدَّم ، و اختار الاحتیاط فی الجهات الثلاثة ، أی: وجوب الإتیان بالوضوء قبل الصّلاة ... و خلاصة کلامه هو :

إنّ جریان أصالة البراءة فی أطراف العلم الإجمالی موقوف علی إخراج مورد الشّبهة عن الطرفیّة للعلم و کون الشک فیه بدویّاً ، و إلّا لم یجر الأصل . هذا

ص:38

بناءً علی مسلک العلیّة . و أمّا بناءً علی مسلک الاقتضاء ، فالانحلال لا یحصل إلّا بخروج مورد الشّبهة عن الطرفیّة للمعارضة . و من الواضح أنّ وقوع المعارضة فرع وجود المقتضی للجریان فی کلّ طرفٍ ، فیکون الأصل جاریاً فیهما و یسقطان بسبب المعارضة .

و علی هذا ، فإنّ معنی الشک بتقیُّد أحدهما بالآخر - فی عنوان الصورة الرابعة - بأن تکون الصّلاة مقیّدةً بالوضوء ، هو کون وجوب الصّلاة نفسیّاً و وجوب الوضوء غیریّاً ، فیحصل لنا علم إجمالی فی الوضوء بین أن یکون وجوبه نفسیّاً أو غیریّاً ، لکنّ حصول العلم الإجمالی بالوجوب النفسی أو الغیری للوضوء مسبوق بعلم إجمالی مردّد بین الوجوب النفسی للوضوء و الوجوب النفسی للصّلاة ، - و العلم الإجمالی المذکور فی الوضوء تابع لهذا العلم الإجمالی السّابق - و من المحال تحقّق العلم الإجمالی بین النفسیّة و الغیریّة للوضوء بدون العلم الإجمالی بالوجوب النفسی للوضوء أو الوجوب النفسی للصّلاة ... وعلیه ، فکما أنّ المقتضی لجریان الأصل موجود فی طرف الوضوء ، کذلک هو موجود فی طرف الصّلاة ، و الأصلان یجریان و یتعارضان ، و یتنجّز العلم الإجمالی و یجب الاحتیاط .

و الحاصل : إنّ العلم الإجمالی فی الوضوء - و أنّه إن کان نفسیّاً فکذا و إنْ کان غیریّاً فکذا - تابع للعلم الإجمالی بالوجوب النفسی للصّلاة أو الوضوء - سواء کان فی الطول کما هو الصحیح أو فی العرض - و إذا تساقط الأصلان فی العلم المتبوع وجب الاحتیاط .

ص:39

تذنیبٌ و فیه أمران الأمر الأول

فی حکم الواجب الغیری من حیث الثواب و العقاب

اشارة

إنّه هل یترتّب الثواب و العقاب علی امتثال و مخالفة الواجب الغیری کما یترتّب ذلک علی الواجب النفسی ، أو بین الواجبین فرق من هذه الجهة ؟

أمّا الواجب النفسی ، فلا إشکال فی ترتّبهما علی امتثاله و مخالفته .

کلام المحقّق الأصفهانی فی الواجب النفسی

و قد ذکر المحقق الأصفهانی لذلک وجوهاً ثلاثة :

أحدها : قاعدة اللطف ، فإنها تقتضی تکلیف العباد لغرض إیصالهم إلی المصالح المترتّبة علی التکالیف و إبعادهم عن المفاسد المترتّبة علی ترکها أو إتیان المحرّمات ، و هذا لطف عظیم ، إلّا أنّ للوعد و الوعید دخلاً فی تحقّق الامتثال و قبول البشارة و النذارة ، و لا ریب فی وجوب الوفاء بالوعد ، فیکون ترتّب الثواب علی الأعمال واجباً شرعاً ، و کذا استحقاق العقاب علی المخالفة و المعصیة .

و الثانی : تجسّم العمل ، فإنّ هناک ملازمةً بین الأعمال و بین الصّور المناسبة لها ، فالعمل إن کان حسناً تحقّقت صورة حسنة مناسبة له ، و إن کان سیّئاً تحقّقت صورة مناسبة له ... و هذا وجه آخر لترتّب الثواب و العقاب علی الإطاعة

ص:40

و المعصیة ، و أنّهما من لوازم الأعمال ، کالملازمة بین النار و الحرارة و غیرهما من التکوینیّات .

و الثالث : حکم العقل ، بیانه : إنّ حفظ النظام غرض من أغراض العقلاء بالضرورة ، و هم یرون ضرورة تحقّق کلّ ما یؤدّی إلی حفظ النظام ، و من ذلک المدح و الجزاء علی العمل الحسن و الذم و المؤاخذة علی العمل السیّئ ، فالأوامر و النواهی المولویّة - سواء المولی الحقیقی أو العرفی - لها مصالح و مفاسد و لها دخل فی حفظ النظام ، و العمل الحسن یستتبع استحقاق الجزاء الحسن و العمل السّیئ یستتبع استحقاق العقوبة ، فإذا أعطی المولی الجزاء أو عاقب علی المعصیة وقع فی محلّه ، لا أنّه واجبٌ علی المولی ذلک و أنّ للعبد المطالبة بالثواب علی عمله ، فإنّ هذا لا برهان علیه (1) .

أقول :

و قد تکلّم الأُستاذ دام بقاه علی الوجه الثالث من هذه الوجوه و محصّله : أن الحکم بترتّب الثواب و العقاب عقلائی ، و هو حکم عرضی بلحاظ حفظ النظام ، و لیس ذاتیّاً ، و أنّ هناک کبری واحدة تجری فی المولی الحقیقی و المولی العرفی ...

فناقشه : بأنّ الأحکام العقلائیة هی قضایا توافقت علیها آراؤهم حفظاً للنظام ، لکنّ الحاکم باستحقاق الثواب و العقاب علی موافقة حکم المولی الحقیقی أو مخالفته هو العقل لا العقلاء ، لأنّ الأحکام العقلائیّة تدور مدار النظام و حفظه ، أمّا حکم العقل بقبح مخالفة المولی الحقیقی فموجود سواء کان هناک عقلاء و نظام أو لم یکن ... فإنّ العقل یری قبح معصیة المولی الحقیقی علی کلّ حال ، و لو کان هذا الحکم عقلائیّاً لجازت المعصیة حیث لا یوجد نظام أو عقلاء ، أو حیث لا یلزم

ص:41


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 110 .

اختلال للنظام ، و هذا باطل .

و الحاصل : إنّ کلام هذا المحقّق یستلزم جواز مخالفة المولی الحقیقی حیث لا یترتّب علی المخالفة اختلال للنظام العقلائی ، و أنّه فی حال عدم لزوم الاختلال فلا دلیل علی وجوب إطاعة أوامر الباری و حرمة معصیته ، و هذا اللازم باطل ، لأنّ العقل مستقل بلزوم إطاعة المولی الحقیقی فی جمیع الأحوال و علی کلّ التقادیر .

المختار عند الأُستاذ

و المختار عند الأُستاذ : أمّا استحقاق العقاب ، فلا ریب فی ترتّبه علی المخالفة و المعصیة للمولی الحقیقی . و أمّا استحقاق الثواب علی الطاعة ، بمعنی أن یکون للعبد حق المطالبة ، فهذا باطل ، لأنّ القدرة علی الطاعة و تحقّقها من العبد تفضّل منه ، و هذه خصوصیّة المولی الحقیقی هذا أولاً . و ثانیاً : إنّ أوامر المولی و نواهیه کلّها ألطاف ، لأنه بالامتثال لها یحصل له القرب من المولی ، و هذا نفع للعبد المکلّف .

( قال ) : لکنّ المهمّ هو معرفة المولی الحقیقی حق معرفته ، و ما عرفناه ! کما قال تعالی «وَمٰا قَدَرُوا اللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ » (1)و من عرفه کذلک کان مصداقاً لقوله «یٰا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ حَقَّ تُقٰاتِهِ » (2)إذن ، لا بدّ أوّلاً من معرفة المولی معرفةً کاملةً ، و من حصلت له تلک المعرفة حصل عنده تقوی اللّٰه حقّ تقاته ، أی أداء حق العبودیّة و القیام بالوظیفة علی نحو الکمال .

و من معرفته تعالی هو : أنْ نعرف أنّ عدم إعطائه الثواب علی الأعمال

ص:42


1- 1) سورة الأنعام : 91 .
2- 2) سورة آل عمران : 102 .

الصالحة و الطاعات لیس بلائق بشأنه ... و توضیح ذلک :

إنّا لا نقول بوجوب الثواب علی الطاعة من حیث أنّها طاعة و لکون العبد مطیعاً ، لأنّ العبد مملوک للمولی و طاعته إنّما کانت بحوله و قوّته و هی لطف منه و منّة علی العبد ، و لا جزاء علیه حینئذٍ ، بل نقول بوجوب الثواب من جهة المطاع ، بمعنی أنّ عدم ترتّب الثواب علی الطاعة غیر لائق بهذا المولی ، فالطاعة - من حیث أنّها طاعة - لا تستتبع وجوب الثواب ، لکنّ عدم ترتّب الثواب علیها غیر لائق بالمولی ... .

و الدلیل علی هذا - قبل کلّ شیء - هو کلامه تعالی ، ففی الکتاب آیات مبدوّة بکلمة « ما کان » و معناها : عدم لیاقة هذا الشیء لأن یتحقّق و یکون ، سواء کان من اللّٰه أو الرسول أو سائر الناس ... فمثلاً یقول تعالی : «وَمٰا کٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَلٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَی اللّٰهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ » (1)أی: إن هذا غیر لائق بالمؤمنین و لیس من شأنهم ، بل إنّ المؤمنین یتّبعون ما أراده اللّٰه تعالی لهم و قضی فی حقّهم ، إذ لا یکون قضاؤه فیهم إلّا حقّاً و مصلحةً لهم .

و یقول تعالی : «وَمٰا کٰانَ لِنَبِیٍّ أَنْ یَغُلَّ » (2)أی: إن هذا لا ینبغی و غیر صالح صدوره منه .

و یقول تعالی : «وَمٰا کُنّٰا مُهْلِکِی الْقُریٰ بظلم ... » (3)فالظلم لا یلیق بذاته المقدّسة ، و کذا العذاب بلا بیان ، إذ قال : «وَمٰا کُنّٰا مُعَذِّبینَ حَتّٰی نَبْعَثَ رَسُولاً » (4).

و قد وردت الکلمة فی آیةٍ تتعلّق بالبحث و هی «وَمٰا کٰانَ اللّٰهُ لِیُضیعَ

ص:43


1- 1) سورة الأحزاب : 36 .
2- 2) سورة آل عمران : 161 .
3- 3) سورة القصص : 59 .
4- 4) سورة الإسراء : 15 .

إیمٰانَکُمْ » (1)فالآیة دالّة علی أنّ اللّٰه تعالی لیس من شأنه أن یضیع أعمال المؤمنین ، و لا یلیق به ذلک ، و لذا قال بعد هذا : «إِنَّ اللّٰهَ بِالنّٰاسِ لَرَءُوفٌ رَحیمٌ » و هو بمثابة التعلیل ، بمعنی أنّ الرءوف الرحیم علی الإطلاق - و لعموم الناس - لا یلیق به أن یضیع إیمان المؤمنین و یترک أعمالهم بلا ثوابٍ و أجر .

و الحاصل : إنّه لیس للعبد أن یطالب المولی الحقیقی بشیءٍ من عمله ، فإنّه إذا صلّی إطاعةً لأمر اللّٰه ، فقد أتی بها بحول اللّٰه و قوته «مٰا شٰاءَ اللّٰهُ لٰاقُوَّةَ إِلّا بِاللّٰهِ » (2)و إذا صلّی حصلت له التزکیة «إِنَّ الصَّلٰاةَ تَنْهیٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَالْمُنْکَرِ » (3)و تلک منّة من اللّٰه علیه ... فلیس للعبد أن یحتج بشیء علی اللّٰه ، لا من ناحیة نفسه و لا من ناحیة عمله ... لکنّ مقتضی شأن ربوبیّته و أُلوهیّته التی أشار إلیها ب « هو » فی «قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ » (4)و « شَهِدَ اللّٰهُ أَنَّهُ لٰاإِلٰهَ إِلّا هُوَ » (5)أن لا یجعل العمل بلا أجر ، و کذا مقتضی صفاته «وهو الرؤف الرحیم » فللعبد أن یقول له : « أنت کما وصفت نفسک » (6) « اللّٰهمّ إن لم أکن أهلاً لأنْ أُبلغ رحمتک فرحمتک أهل أن تبلغنی و تسعنی » (7) فیطلب منه الأجر و الثواب من هذا الباب .

هذا تمام الکلام علی ترتّب الأثر علی الواجبات و المحرّمات النفسیة .

و أمّا الواجب الغیری ، فقد ذهب المحقّقان الخراسانی و الأصفهانی إلی عدم استحقاق الثواب علی موافقة الأمر الغیری و العقاب علی مخالفته .

ص:44


1- 1) سورة البقرة : 143 .
2- 2) سورة الکهف : 39 .
3- 3) سورة العنکبوت: 45.
4- 4) سورة التوحید : 2 .
5- 5) سورة آل عمران : 18 .
6- 6) مصباح المتهجد ، دعاء صلاة الحاجة : 331 .
7- 7) مفاتیح الجنان : فی التعقیبات العامة للصلوات .

.الدلیل علی عدم ترتّب الثواب و العقاب علی الواجب الغیری

و استدلّ فی ( الکفایة ) (1) علی عدم ترتّب الثواب و العقاب علی الواجب الغیری بوجهین ، أحدهما : حکم العقل بعدم الاستحقاق و استقلاله بذلک .

و الآخر : إنّ الثواب و العقاب من آثار القرب و البعد عن المولی ، و الواجب الغیری لا یؤثّر قرباً أو بُعداً عن اللّٰه ، بل المؤثّر فی ذلک هو الواجب النفسی ... نعم لو کان لواجب نفسی مقدّمات کثیرة ، فإنّه یثاب علی الإتیان بتلک المقدّمات من باب « أفضل الأعمال أحمزها » (2) .

و قال المحقّق الأصفهانی ما محصّله :

إنّ هذا الوجوب بما أنه مقدّمة للوجوب النفسی و لا غرض منه إلّا التوصّل إلیه ، فهو معلول له ، و الانبعاث إنّما یکون من الأمر النفسی المتعلّق به الغرض الاستقلالی ، و أمّا تحرّک الإنسان نحو المقدّمة فهو بالارتکاز ، و لذا یکون الواجب المقدّمی مغفولاً عنه ، و تحرک الإنسان نحوه یکون بالارتکاز ، فکلّ الآثار مترتّبة علی الواجب النفسی (3) .

أقول :

و الإنصاف : إن ما ذکر لا یکفی لأن یکون وجهاً لعدم استحقاق الثواب علی امتثال الواجب الغیری ، بل قال السید الأُستاذ : بأنه لا یخرج عن کونه وجهاً صوریّاً (4) .

و أشکل علیه شیخنا دام بقاه : بأن مورد البحث هو حیث یکون المکلّف

ص:45


1- 1) کفایة الأُصول : 110 .
2- 2) خبر مشهور بین الخاصّة و العامة کما فی البحار 79 / 229 .
3- 3) نهایة الدرایة 2 / 113 .
4- 4) منتقی الأُصول 2 / 237 .

حین العمل ملتفتاً ، کما هو الحال فی الوضوء من أجل الصّلاة مثلاً ، فإنّ المتوضّئ لیس بغافل عمّا یفعل . فلیس المقدّمة مغفولاً عنه . و الحاصل : إنّ المقدمیّة لا تمنع من الالتفات و التوجّه إلی العمل ، و هو ظاهر قوله علیه السلام : « طوبی لعبدٍ تطهّر فی بیته ثمّ زارنی فی بیتی » (1) .

و علی الجملة ، فإنّ المقدّمة قد تعلّق بها الطلب و أصبحت واجبةً ، و قد أتی بها امتثالاً للأمر ، و هی ملتفت إلیها ، و إنْ کان الغرض الأصلی مترتّباً علی ذی المقدّمة .

و ذکر سیّدنا الأُستاذ قدّس سرّه برهاناً آخر قال : و محصّل ما نرید أن نقوله بیاناً لهذا الوجه هو : إن الثواب إنما ینشأ عن إتیان العمل مرتبطاً بالمولی بالاتیان به بداعی الأمر - الذی هو معنی الامتثال - ، فترتب الثواب علی موافقة الأمر الغیری انما تتصور بالإتیان بالمقدمة بداعی الأمر الغیری ، و من الواضح أن الأمر الغیری لا یصلح للداعویّة و التحریک أصلاً ، فلا یمکن الاتیان بالعمل بداعی الامتثال الأمر الغیری . أما أنه لا یصلح للداعویّة و التحریک ، فلأن المکلف عند الاتیان بالمقدمة إمّا ان یکون مصمماً و عازماً علی الاتیان بذی المقدمة أو یکون عازماً علی عدم الإتیان به ، فإن کان عازماً علی الإتیان به ، فإتیانه المقدمة - مع التفاته إلی مقدمیتها کما هو المفروض - قهری لتوقف ذی المقدمة علیها ، سواء تعلق بها الأمر الغیری کی یدعی دعوته إلیها أو لا فالاتیان بالمقدمة فی هذا التقدیر لا ینشأ عن تحریک الأمر الغیری ، بل هو أمر قهری ضروری و مما لا محیص عنه . و ان کان عازماً علی عدم الاتیان بذی المقدمة ، فلا یمکنه قصد الأمر الغیری بالاتیان بالمقدمة ، إذ ملاک تعلق الأمر الغیری بالمقدمة هو جهة مقدمیتها و الوصول بها إلی الواجب النفسی ،

ص:46


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 381 الباب 10 من أبواب الوضوء .

لو لم نقل - إذ وقع الکلام فی أن المقدمیّة جهة تعلیلیة للوجوب الغیری أو جهة تقییدیة - : بان موضوع الأمر الغیری هو المقدمة بما هی مقدمة لا ذات المقدمة .

و من الواضح أنه مع قصد عدم الاتیان بذی المقدمة لا تکون جهة المقدمیة و توقف الواجب علیها ملحوظة عند الاتیان بالمقدمة ، و معه لا معنی لقصد امتثال الأمر الغیری بالعمل ، إذ جهة تعلق الأمر الغیری غیر ملحوظة أصلاً .

و یتضح هذا الأمر علی القول بکون الأمر الغیری متعلقاً بالمقدمة الموصلة ، فانه مع القصد إلی ترک الواجب النفسی لا یکون المأتی به واجباً بالوجوب الغیری ، فلا معنی لقصد امتثاله فیه لانه لیس بمتعلق الوجوب (1) .

أقول :

إن الکلام - الآن - فی ترتّب الثواب علی إطاعة الأمر الغیری ، فمع فرض کون المکلّف ملتفتاً إلی مقدّمیة الواجب الغیری و کونه عازماً علی إطاعة أمر الواجب النفسی ، هل یعتبر فی ترتب الثواب وجود أمرٍ بالمقدّمة و الانبعاث منه کی یقال بعدم الترتّب ، لعدم داعویة الأمر الغیری ، أو یکفی لترتّبه الرجحان الذاتی أو الانقیاد للمولی المتمشّی منه مع الالتفات إلی ما ذکر ؟

الظاهر هو الثانی ، و هو الذی نصّ علیه السید الأُستاذ نفسه فی مسألة الطّهارات الثلاث ، فتأمّل .

و أمّا العقاب علی معصیة الواجب الغیری ، فقد یقال بترتّبه کالثواب ، لأنه أمرٌ و قد عصی ، قال المحقق الإیروانی : إنّ المفروض وجوب المقدّمة ، و أثر الوجوب هو الثواب علی الإطاعة و العقاب علی المعصیة (2) .

ص:47


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 238 .
2- 2) نهایة النهایة 1 / 161 .

لکنّ الحقّ - کما علیه المحققون و مشایخنا - أنّ هذا خلاف الارتکاز العقلائی ، فإنّ العقلاء لا یرون استحقاق العقاب إلّا علی ترک ذی المقدّمة ، و هم یرون قبح ترک المقدمة لأنه یؤدّی إلی ذلک .

قال شیخنا : اللّهم إلّا إذا خولف الأمر الغیری عصیاناً لنفس الأمر الغیری .

لکنّ مثل هذه الحالة قلیل جدّاً ، و لذا کان الارتکاز العقلائی - علی وجه العموم و بالنظر إلی عامّة الناس - قائماً علی عدم استحقاق العقاب لمخالفة الأمر الغیری .

الأمر الثانی

کیفیّة عبادیّة الطّهارات الثلاث

اشارة

ثم إنه بناءً علی أن الأمر الغیری لا یستحقُّ علی امتثاله الثواب ، فقد وقع الکلام بین الأعلام فی الطهارات الثلاث ، لأنّ الأوامر المتعلّقة بها غیریّة ، مع أنها یترتّب علیه الثواب بلا إشکال ؟

و أیضاً : الأوامر المتعلّقة بالمقدّمات توصّلیة و لیست بعبادیّة ، لأنّ الغرض من المقدّمة هو التوصّل إلی ذی المقدّمة و لیس یترتّب علیها غرض آخر ، وعلیه فهی غیر منوطة بقصد القربة ، لکن الإتیان بالطهارات بلا قصد القربة باطلٌ ، فکیف الجمع ؟

رفع المحقّق الخراسانی الإشکال فیها

أجاب المحقّق الخراسانی (1) عن الإشکال الأوّل : بأنّ ترتّب الثواب علی الطهارات إنّها هو من جهة المطلوبیّة النفسیّة لها کما فی قوله تعالی : «إِنَّ اللّٰهَ یُحِبُّ

ص:48


1- 1) کفایة الأُصول : 111 .

التَّوّٰابینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرینَ » (1)فالطهارة بنفسها محبوبة للّٰه ، و الثواب مترتّب علی هذه المحبوبیّة و المطلوبیّة ، لا من جهة الأمر الغیری المتعلّق بها کی یرد الإشکال .

و أجاب عن الثانی : بأنّ کلّ أمرٍ إنّما یدعو إلی متعلّقه ، و الأمر الغیری کذلک ، فإنّه یدعو إلی متعلَّقه و هو المقدّمة . لکن المقدّمة قد لا تکون عبادیّة کنصب السّلم للصعود إلی السطح ، فیتحقّق التوصّل إلی ذی المقدّمة بمجرّد حصول المقدّمة . أمّا فی الطهارات فقد تعلّق الأمر بها لا بذواتها ، بل مقیّدة بقصد القربة ، فکان الأمر - مع کونه غیریّاً - قد تعلّق بمقدّمة عبادیّة ، و علی هذا فلا یسقط إلّا بالامتثال له و الإتیان به مع هذا القید .

الأصل فیه هو الشیخ الأعظم

و هذا الذی ذکره المحقّق الخراسانی فی دفع الاشکال متّخذ من الشیخ قدّس اللّٰه روحه ، و الأفضل هو الرجوع إلی کلامه و التعرّض لما قاله الأعلام فی نقضه أو إبرامه .

فلقد طرح الشیخ فی مسألة الطهارات ثلاث إشکالات ، ذکر اثنین منها فی الأُصول (2) و الثالث فی مبحث نیّة الوضوء من ( کتاب الطهارة ) (3) فیقول الشیخ فی بیان الاشکال الأوّل :

إنّ مقتضی القاعدة العقلیّة هو أنّ الأمر الغیری من شئون الأمر النفسی و لیس فی قباله ، و کذلک إطاعة الأمر الغیری ، فهو من شئون إطاعة الأمر النفسی ، فالأمر الغیری تابع للأمر النفسی فی ذاته و فی ترتّب الأثر علیه قرباً و بعداً و فی إطاعته و معصیته . لکنّ هذا مخالف للأخبار المستفیضة فی الطهارات و الإجماع القائم

ص:49


1- 1) سورة البقرة : 222 .
2- 2) مطارح الانظار : 71 .
3- 3) کتاب الطهارة 2 / 54 الطبعة المحققة ، التنبیه الأول من تنبیهات نیّة الوضوء .

علی ترتّب الثواب علی نفس الطهارة ، فإنّ الثواب یترتّب علی الوضوء للصّلاة ، لا للصّلاة عن وضوء ... فکان الإشکال الأوّل : المخالفة بین القاعدة العقلیّة و مقتضی النصوص و الإجماعات .

فأجاب الشیخ :

بأنّ الثواب فی الطهارات مترتّب علی ذواتها ، لکونها محبوبةً بالمطلوبیّة و المحبوبیّة النفسیّة ، و لیس ترتّب الثواب بمناط الأمر الغیری لیتوجّه الإشکال ، بل إنّها محبوبة بأنفسها و لها الاستحباب النفسی .

و هذا ما ذکره صاحب الکفایة .

و لکن الشیخ قدّس سره قد نصّ علی أنّه جواب غیر مفید ، و الوجه فی ذلک هو : أنّ تصویر الاستحباب النفسی للطّهارة لا یجتمع مع الوجوب الغیری الثابت لها ، لأنّ الوجوب و الاستحباب لا یجتمعان فی المتعلّق الواحد ، و إلّا لزم اجتماع المثلین ، و لو قلنا بأنّه مع الوجوب الغیری لا یبقی الاستحباب النفسی ، عاد الإشکال ... .

إلّا أن یوجّه : بأنّه مع الوجوب الغیری ینعدم الاستحباب النفسی بذاته ، بل یزول حدّه و یندک فی الوجوب ، کاندکاک المرتبة الضعیفة من النور فی المرتبة القویّة منه ، فإنه لا ینعدم بل یندک ، و ذاته محفوظة ... فلا مانع من أن یترتّب الأثر علی المطلوبیّة النفسیّة الاستحبابیّة الموجودة هنا مندکّةً فی الوجوب الغیری ... .

لکنّ هذا التوجیه أیضاً لا یرفع المشکلة إلّا فی الوضوء و الغسل ، لقیام الدلیل فیهما علی المطلوبیّة النفسیّة کذلک ، أمّا فی التیمّم فلا دلیل ، و إنْ حاول بعضهم الاستدلال له ببعض الأخبار ، لکنّه لا یفید .

علی أنّه یرد علی تصویر الاستحباب النفسی أیضاً : إنّ المستفاد من کلمات

ص:50

الأصحاب کفایة الإتیان بالطهارات بداعی الأمر الغیری حتّی مع الغفلة عن المطلوبیّة النفسیّة المذکورة ، و هذا لا یجتمع مع عبادیّتها - و لو بالاستحباب - لأنّها موقوفة علی الالتفات و القصد .

ثم قال الشیخ : بأنّ الأولی هو القول بأنّ الثواب علی الطهارات تفضّل من اللّٰه .

ثمّ أمر بالتأمّل .

و أخذ صاحب الکفایة هذا الجواب إذ قال : بأنّ الأمر یدعو إلی متعلّقه و هو « المقدّمة » و هی الطهارات بقصد القربة ، فیکون الاستحباب النفسی مقصوداً بقصد الأمر الغیری . ثمّ أمر بالفهم .

و الوجه فی ذلک واضح ، لأنّه مع الجهل و الغفلة یکون القصد محالاً ، و مع عدمه لا یمکن تحقّق عنوان العبادیّة .

هذا کلّه بالنسبة إلی الإشکال الأوّل ، و هو کیفیّة ترتّب الثواب علی الأمر الغیری .

و أمّا الإشکال الثانی - و هو أنّه إذا کان الوضوء مثلاً للتوصّل إلی الغیر فوجوبه توصّلی مع أنّه عبادة یعتبر فیه قصد القربة - فقد ذکره الشیخ ، و حاصله : إنّ الطهارات الثلاث لا یحصل الغرض منها بأیّ صورةٍ اتّفقت ، بل یعتبر فیها قصد القربة ، فکیف یکون وجوبها غیریّاً و الغرض منها التوصّل إلی الصّلاة مثلاً ؟

و أجاب الشیخ - و تبعه فی الکفایة - بأنّ الأمر هنا إنّما تعلّق بالحصّة العبادیّة من المقدّمة .

لکنّ هذا یتوقّف علی حلّ المشکلة السابقة ، إذ الإتیان بالمقدّمة مع الجهل و الغفلة عن استحبابها النفسی لا یحصل الغرض منها و هو التوصّل إلی

ص:51

ذی المقدّمة ، فقد اعتبر فیها قصد القربة و المفروض انتفاؤه ، قاله شیخنا دام بقاه .

و أمّا الإشکال الثالث - الذی تعرّض له فی کتاب الطهارة فی کیفیّة نیّة الوضوء - فهو : إنّ الأمر الغیری قد تعلّق بالمقدّمة المتحقّقة خارجاً ، لا بعنوان المقدّمة ، فالوضوء الواقع مقدّمة للصّلاة - سواء قلنا بأنّ الطهارة رافعة للحدث المانع من الدخول فی الصلاة أو قلنا بأنّها شرط للصّلاة - فهو رافع أو شرط إن أُتی به و تحقّق مع قصد القربة ... فالأمر الغیری یتوقّف تحقّقه علی کون متعلّقه مقدّمةً قبل أن یتوجّه إلیه الأمر و یتعلّق به ، و ثبوت مقدّمیة المتعلّق موقوفٌ علی کونه مأتیاً به عبادةً ، لکنّ عبادیّته إنّما تحصل بتعلّق الأمر الغیری به ، و هذا دور .

و أورد علیه المیرزا (1) : بأنّ هذا الدور لا یتوقّف علی تحقّق المتعلّق و الإتیان به علی وجه العبادیّة ، بل هو حاصل فی مرحلة جعل المتعلّق و توجّه التکلیف به ، ففی تلک المرحلة لا بدّ لإرادة الشارع جعل الأمر الغیری من متعلّق ، و لا بدّ من أن یکون عبادةً - و إلّا لا یکون رافعاً للحدث أو شرطاً للدخول فی الصّلاة - فجعل الأمر الغیری موقوف علی عبادیّة الوضوء مثلاً ، و عبادیّته موقوفة علی جعل الأمر الغیری ... فالدور حاصل ، سواء وصل الأمر إلی مرحلة التحقّق خارجاً أو لا .

ثمّ أجاب عن الدور : بأنّ عبادیّة الوضوء لیست من ناحیة الأمر الغیری ، بل من جهة استحبابه النفسی الموجود قبل تعلّق الأمر الغیری به .

فقال الأُستاذ : لکنّ الإشکال فی مورد الجاهل و الغافل باقٍ علی حال ، فإمّا أن ترفع الید عن عبادیّة الطهارات فی حقّهما ، و إمّا یقال بأنّ عبادیّتها جاءت من ناحیة الأمر الغیری ، فیعود محذور الدور .

و لکنْ لا یبعد أن یکون نظر الشیخ فی تقریب الدور إلی لزومه فی مرحلة

ص:52


1- 1) أجود التقریرات 1 / 257 .

العمل مضافاً إلی مرحلة الجعل ، فهو یرید إضافة إشکال ، و أنّ الدور لازم فی المرحلتین ، لا أنّه ینفی لزومه فی مرحلة الجعل . بل إنّ مقتضی الدقّة هو أنّ إثبات الدور فی مرحلة الامتثال و فعلیة الأمر یستوجب اثباته فی مرحلة الجعل ، و لا عکس ... و کأنّ المیرزا قد غفل عن هذه النکتة ... فبیان الشیخ أمتن من بیان المیرزا ، فتدبّر .

و أشکل المیرزا فی الطّهارات الثلاث ، بإشکال الدور ، و بالنقض بالتیمّم لأنّه لیس بمستحبٍ نفسی ... و قد تقدّم ذکرهما عن الشیخ .

ثمّ أجاب المیرزا عن الإشکال - باستحالة القصد مع الجهل و الغفلة ، و أنّه إذا استحال القصد استحالت العبادیة للطهارات - بأنّه یمکن تحقّق العبادیّة فیها بوجهٍ آخر ، و هو أنّ الأمر بالمشروط ینبسط علی الشرط کانبساط الأمر بالمرکّب علی أجزائه ، و کما أنّ الإتیان بالأجزاء بقصد الأمر بالمرکّب یحقّق لها العبادیّة ، کذلک الأمر المتوجّه إلی المشروط ، فإنّه یتحقّق العبادیّة للشرط ، فالوضوء یؤتی به بداعویّة الأمر المتوجّه إلی الصّلاة ، کما أنّ الرکوع - مثلاً - یؤتی به بداعویّة الأمر بالصّلاة .

فأورد شیخنا الأُستاذ علیه : بأنّ المبنی المذکور غیر مقبول و لا یحلّ المشکل ، فأمّا تعلّق الأمر فی المرکب بالأجزاء فهو أوّل الکلام ، ثمّ إنّ الفرق بین الجزء و الشرط واضح تماماً ، لأنّ الأجزاء داخلة تحت الأمر علی المبنی ، لکنّ الشروط خارجة عنه ، إذ الداخل تحته فیها هو الاشتراط لا الشّرط ، فلیس الوضوء بمطلوب بالأمر بالصّلاة بل المطلوب به تقیّدها و اشتراطها به .

و کذا سیّدنا الأُستاذ و أضاف : بأنه لو سلّم ما ذکر ، فالشرط فیما نحن فیه هو الطهارة لا نفس الوضوء ، و هی مسبّبة عن الوضوء ، و الاشکال فی تصحیح عبادیّة

ص:53

نفس الأعمال المأتی بها ، و هی لا تکون متعلّقةً للأمر الضمنی لأنها لیست شرطاً ... (1) .

فما ذکره لا یحلّ المشکلة .

و أمّا الجواب عن النقض بالتیمّم : بأنّه مستحبٌّ بالاستحباب النفسی ، بالنّظر إلی طائفتین من النصوص ، أفادت الأولی مطلوبیّة الطّهور فی جمیع الأحوال ، و الثانیة کون التیمّم أحد الطهورین ، و محصّلهما کون التیمّم مطلوباً للمولی . فقد ذکره الشیخ قدّس سرّه ، إلّا أنّه قال بعد ذلک ما حاصله : أن أحداً من الفقهاء لم یذهب إلی الاستحباب النفسی للتیمّم .

لکنّ الحق تمامیّة الجواب المذکور ، إذ المستفاد من الصحیحة : « الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهّروا » (2) هو المطلوبیّة النفسیّة للطهارة ، و روی الصدوق مرسلاً : « من تطهّر ثمّ آوی إلی فراشه بات و فراشه کمسجده ... » (3) و فی الخبر أیضاً : « إنّ التیمّم أحد الطهورین » (4) و من جمیع هذه الأخبار یستفاد المطلوبیّة النفسیة للتیمّم ، و مقتضی القاعدة هو الأخذ بظواهر هذه النصوص إلّا أن یثبت إعراض الأصحاب عنها ، لکنّها دعوی ممنوعة ، بل إنّ ظواهر کلمات بعضهم فی بدلیّة التیمّم عن الوضوء ترتّب جمیع آثار الوضوء علی التیمّم .

هذا ، و قد یقال : باستحباب التیمّم نفساً عن طریق الإجماع القائم علی أن رافعیّة الطهارات الثلاث للحدث أو مبیحیّتها للدخول فی الصّلاة متوقفة علی کونها - أی الطهارات - عبادةً ، و ذلک : لأنّه إذا لم یکن الأمر الغیری موجباً لعبادیّتها

ص:54


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 260 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 378 الباب 8 من أبواب الوضوء .
3- 3) وسائل الشیعة 1 / 378 الباب 9 من أبواب الوضوء .
4- 4) وسائل الشیعة 3 / 386 الباب 23 من أبواب التیمّم .

کان الإجماع المذکور دلیلاً علی الاستحباب النفسی لها ، و إلّا لم یتحقّق العبادیّة للتیمّم .

و أشکل علیه الأُستاذ : بأنّ الإجماع علی مقدمیّة الطهارات للصّلاة و کونها عبادةً لا یثبت الاستحباب النفسی للتیمّم ، لاحتمال استناد المجمعین إلی الروایات التی أشرنا إلیها ، أو لقولهم بأنّ الإتیان بالمقدّمة بداعویّة الأمر الغیری أو التوصّل إلی الصّلاة مقرّب . و مع وجود هذه الاحتمالات لا یکون هذا الإجماع کاشفاً عن رأی المعصوم أو عن دلیل معتبر ... .

و تحصّل اندفاع الاشکال بالنظر إلی الروایات و استظهار الاستحباب النفسی منها .

و أشکل المیرزا أیضاً : بأنّ الطّهارات الثلاث - لکونها مقدّمةً للصّلاة - متّصفة بالوجوب الغیری ، و معه لا یمکن بقاء الأمر النفسی المتعلّق بها بحاله ، للتضادّ بین الأحکام ، وعلیه ، فلا بدّ من الالتزام باندکاک الأمر النفسی الاستحبابی فی الوجوب ، و حینئذٍ ، کیف یمکن أن یکون منشأً للعبادیّة ؟

قال الأُستاذ : و هذا الإشکال أیضاً قد تعرّض له الشیخ و أجاب عنه : بأن زوال الطلب قد یکون بطروّ مفسدة ، و قد یکون بطروّ مصلحةٍ أُخری للطلب ، فإنْ کان الطارئ هو المفسدة فلا مطلوبیة نفسیة ، و إنْ کان هو المصلحة ، فإنّ حدّ المطلوبیّة یزول بعروضها و أمّا أصل المطلوبیة فباق ، و حینئذٍ ، یمکن الإتیان بالطهارة بداعی أصل المطلوبیّة النفسیّة .

و قد أوضح المحقّق الأصفهانی هذا الجواب (1) : بأنّ الوجوب الغیری إن کان الإرادة الشدیدة فلا کلام ، کأن یکون الوضوء - مثلاً - مطلوباً نفسیّاً قبل الوقت

ص:55


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 119 .

و متعلّقاً للإرادة ، ثمّ بعد الوقت تشتدّ الإرادة نفسها فیکون واجباً ... لأنّ الإرادة قابلة للشدّة کما هو معلوم ، نظیر النور ، فإنّه مع مجیء النور الشدید لا ینعدم النور الضعیف السابق علیه . و إن کان الأمر ، بمعنی أنّ الوجوب الغیری أمر آخر غیر الأمر الاستحبابی النفسی ، فلا ریب فی زوال الأمر النفسی بمجیئه ، لاستحالة اجتماع المثلین ، لکنّ ملاکه باق و لا مانع من التقرّب بملاک الأمر النفسی .

و قد تنظّر فیه الاستاذ بما حاصله : أنّه ینافی مسلکه فی الإرادة الغیریّة و الأمر الغیری ، و ذلک لأنّه قد ذهب فیما سبق إلی أنّ الإرادة الغیریّة و الأمر الغیری لا یقبل اللّحاظ الاستقلالی ، لکونه کالمعنی الحرفی ، فلا یصلح للباعثیة ، لأنّه غیر قابل للالتفات النفسی ، نعم ، یتم هذا الجواب علی مسلکنا من أنّ هذه الإرادة و هذا الأمر ملحوظ بالاستقلال ، و یمکن تعلّق القصد به و إنْ کان فی ضمن الإرادة الشدیدة .

هذا تمام الکلام علی إشکال التیمّم ، و مشکلة انقلاب الاستحباب النفسی إلی الطلب الغیری .

أمّا الأول ، فقد اندفع بإثبات استحبابه استحباباً نفسیّاً من الروایات ، و أمّا الثانی ، فقد اندفع بناءً علی أنّ المطلوب بالطلب الغیری ملحوظ باللحاظ الاستقلالی کما اخترناه .

بقی الکلام فی الإشکال : بأن الجاهل أو الغافل غیر الملتفت إلی الاستحباب النفسی ، إنّما یأتی بالطهارات بقصد الأمر الغیری ، و المفروض أنّ الأمر الغیری توصّلی و لیس بعبادی ... فإنّ هذا الإشکال باقٍ بعد ما تقدّم من سقوط جواب المیرزا بدعوی عبادیّتها بنفس الطلب المتعلّق بالصّلاة ، فلنرجع إلی الوجوه الأُخری المطروحة فی حلّ هذا الإشکال ، فقد قال فی الکفایة « و قد تفصّی عن

ص:56

الاشکال بوجهین آخرین ... » (1) و لکنّ الأولی هو التعرّض لکلام الشیخ نقلاً عن التقریرات مباشرةً ، فإلیک محصّل کلامه أعلی اللّٰه فی علوّ مقامه (2) :

إنّ من المقدّمات ما ندرک توقّف ذی المقدّمة علیه ، و منها ما لا ندرکه ، فالأوّل کتوقف الصعود علی السطح علی نصب السلّم ، فإنّ هذا واضح عند کلّ عاقل سواء جاء بیان فیه من الشارع أو لا ، لکنّ توقّف الصّلاة علی الطهارة من القسم الثانی ، فإنّا لا ندرک کیفیّة توقف أفعال الصّلاة من الحرکات و السکنات علی الوضوء مثلاً ، فلا بدّ من الرجوع إلی الشارع ، و من أمره بالوضوء عند القیام إلی الصّلاة نستکشف توقّفها علیه .

ثمّ إنّ الأفعال أیضاً مختلفة ، فمنها : ما یکون حسنه معلوماً ، و منها : ما لا نعلم جهة الحسن فیه ، و منها : ما یختلف بالوجوه فهو من وجهٍ حسن و من وجهٍ قبیح ، کالقیام مثلاً عند دخول الشخص ، فقد یکون تعظیماً و إکراماً له و قد یکون إهانةً ...

و أمر الوضوء من هذا الحیث أیضاً مجهول ، فإنّا لا ندرک أنّ الوضوء فی أیّة حالةٍ یتّصف بالحسن حتی یکون مقدّمةً للصّلاة .

و علی الجملة ، فإنّا جاهلون بالعنوان الذی به یتّصف الوضوء بالحسن و المقدمیّة للصّلاة ، و لکنّ الشارع لمّا أمر بالوضوء أمراً غیریّاً ، کان أمره بذلک طریقاً لأنْ نأتی بالوضوء بعنوانه ، و إنْ کان العنوان علی حقیقته مجهولاً عندنا .

و حاصل هذا الوجه :

أوّلاً : لیس الحسن و المقدمیّة للوضوء بالنسبة إلی الصّلاة حاصلاً من جهة نفس الأمر الغیری حتی یلزم الدور ، بل ذلک یحصل من عنوانٍ یکون الأمر

ص:57


1- 1) کفایة الأُصول : 111 .
2- 2) مطارح الانظار : 71 .

الغیری طریقاً إلیه .

و ثانیاً : إنّ الأمر الغیری لا یوجب القرب و الثواب کما تقدّم ، لکنّ العمل قد تعنون بعنوانٍ ، فکان الإتیان به مقرّباً لذلک العنوان ، غایة الأمر هو مجهول ، و لا ضیر فی ذلک .

و ثالثاً : صحیح أنّ الأمر الغیری المتعلّق بالوضوء توصّلی ، و لا یمکن أن یکون تعبّدیاً - و الحال أنّ الوضوء عبادة - لکنّ عبادیّة الوضوء لم تنشأ من ناحیة هذا الأمر حتی یرد الإشکال ، و إنّما هی من ناحیة ذلک العنوان المجهول الذی کان الأمر الغیری طریقاً إلیه ، فاندفع الإشکال . لکنّ عبادیّة العمل منوطة بالقصد ، و مع الجهل بالعنوان الموجب للعبادیّة کیف یقصد ؟ فأجاب الشیخ : بکفایة قصد الأمر الغیری ، لأنّه یدعو إلی الإتیان بالوضوء بذلک العنوان ، فصار العنوان مقصوداً عن طریق الأمر الغیری .

هذا ، و لا یخفی أنّ بهذا الوجه تنحلّ مشکلة التیمّم أیضاً - لأنّ الشیخ قد أشکل علی استحبابه النفسی لظاهر الأخبار ، بعدم ذهاب الأصحاب إلی ذلک - فإنّه یتم استحبابه و یکون مقدّمةً للصلاة بعنوانٍ یکون الأمر الغیری طریقاً إلیه و کاشفاً عنه .

لکن یرد علی هذا الوجه :

أوّلاً : ما ذکره الشیخ نفسه من أنّ عدم درکنا لکیفیّة توقف ذی المقدّمة علی المقدّمة و ترتّبه علیها ، غیر منحصر بالطهارات الثلاث ، فإنّ للصّلاة مقدّمات أُخری أیضاً قد اعتبرها الشارع مقدّمةً لها و نحن نجهل کیفیة توقّفها علیها ، فلو کانت المقدمیّة المأخوذة شرعاً توجب عبادیّة المقدّمة و لزوم الإتیان بها بعنوان العبادة ، فلا بدّ من القول بذلک فی تلک المقدّمات أیضاً ، مع أنّ وجوب

ص:58

الإتیان بقصد القربة و بالوجه الحسن یختصُّ بالطهارات الثلاث فقط .

و ثانیاً : ما ذکره المحقّق الخراسانی من أنّه کما یمکن قصد ذلک العنوان - الموجب لحسن العمل و المجهول عندنا - بطریقیّة الأمر الغیری ، کذلک یمکن قصده بنحو التوصیف ، کأن یقصد الوضوء بوصف کونه مأموراً به ، فلا یکون إتیانه بالوضوء بداعویّة الأمر و طریقیّته ، و إذا أمکن قصد تلک الخصوصیّة المجهولة بالتوصیف - لا بمحرکیّة الأمر الغیری - أمکن أنْ یکون الداعی شیئاً آخر غیر أخذ الشارع ، فمن أین تحصل العبادیّة ؟

هذا ، و ذکر المحقّق الخراسانی وجهاً آخر و هو : إنّه لا ریب فی عبادیّة نفس الصّلاة ، و أنّها یؤتی بها بالوجه القربی - سواء بالأمر الأوّل أو بالأمر الثانی - و کما أنّ الأمر قد اقتضی الإتیان بذی المقدّمة - أی الصّلاة - بوجهٍ قربی ، کذلک یقتضی أن یؤتی بمقدّماته علی الوجه المزبور . إذن ، لم یکن الإتیان بالطّهارات بالأمر الغیری ، لیرد الإشکال بأنّه لا یوجب العبادیّة ، بل إنّه باقتضاء الأمر بالصّلاة نفسه .

قال الأُستاذ : حاصله : لزوم الاتیان بالطهارات بقصد القربة باقتضاء نفس الأمر المتوجّه إلی الصّلاة ، لکنّ هذا الوجه لم یوضّح کیفیّة تأثیر الأمر المتعلّق بالصّلاة فی مقدّمات الصّلاة و هی الطهارات الثلاث .

و ذکر المحقّق الخراسانی وجهاً آخر و حاصله : أنّه کما تمّت العبادیّة للصّلاة بمجموع أمرین ، تعلّق الأوّل بالأقوال و الأفعال و الثانی بوجوب الإتیان بها بقصد القربة ، کذلک تتمّ العبادیة للطّهارات بأمرین ، أفاد أحدهما وجوب الإتیان بالغسلات و المسحات - فی الوضوء مثلاً - و الثانی وجوب الإتیان بها بقصد القربة وداعی الأمر الشرعی ... فلا تکون عبادیّتها بالأمر الغیری .

ص:59

قال الأُستاذ :

و فیه : الفرق الواضح بین الصّلاة و الطهارات ، لأنّ الأمر الأوّل المتعلّق بأجزاء الصّلاة کان أمراً نفسیّاً ، و هو مقرّب ، و الامتثال له موجب للثواب ، بخلاف الأمر فی الطهارات ، فإنّ الأمر الأوّل فیها غیری ، فلو جاء أمر آخر یقول بلزوم الإتیان بها بداعی الأمر ، فأیّ أمر هو المقصود ؟ إن کان الأمر الأوّل فهو غیری ، و الأمر الغیری لا یستتبع ثواباً و عقاباً ، و إنْ کان غیره فما هو ؟

و تلخص :

إن مشکلة عدم استتباع الأمر الغیری للثواب و العقاب باقیة علی المبنی ، و أنّه کیف یکون ممتثلاً من أتی بالطهارة مع الغفلة عن الاستحباب النفسی لها ؟

و ذکر المحقّق الایروانی : أنّ الاشکال المهم فی المقام هو : عدم إمکان عبادیّة المقدّمة التی تعلّق بها الأمر الغیری ، لأنّها إنّما جعلت مقدّمة من أجل التوصّل بها إلی ذیها ، فبنفس الغسلات و المسحات یتحقّق المقدّمة و لا یعتبر فیه قصد القربة .

فأجاب : بأنّ توقّف الصّلاة علی الطهارة لیس من قبیل توقّف الکون علی السطح علی نصب السلّم ، إذ الأمر بذلک غیر مقیّد بنصبه ، بخلاف بنصبه ، لکنّ الأمر بالصّلاة فإنه مقیَّد بالطهارة ، فیکون تقیّدها بها داخلاً فی المأمور به ، فکانت الصّلاة مرکّبةً من الأجزاء الواقعیّة کالتکبیر و الرکوع و السجود ... و من جزءٍ عقلی هو تقیّدها بالطّهارة ... و لمّا کانت الصّلاة عبادة مقیّدةً بهذه القیود ، فإنّ مقتضی عبادیّتها أن یؤتی بجمیع القیود علی الوجه القربی و منها التقید المذکور ، لکن الإتیان ب« التقیّد » علی الوجه المذکور لا یتحقّق إلّا بالإتیان ب« القید » و هو « الوضوء » مثلاً علی ذلک الوجه ... فتحقّق العبادیّة للطهارات الثلاث و لزوم

ص:60

الإتیان بها علی الوجه القربی .

إشکال الأُستاذ

و أورد علیه الأُستاذ بوجهین : أحدهما فی قوله فی طرح الاشکال بعدم امکان کون الأمر الغیری عبادیّاً ، و أنّه غیر معقول . فإنّ فیه : أنّ المقدّمة هی ما یتوقّف علیه الشیء ، و هو قد یکون عبادةً تتقوّم بالقصد ، و قد لا یکون کذلک .

و الثانی فی قوله فی تقیّد الصّلاة بالطهارة بأنّه عبادی . ففیه : أن کونه عبادة یحتاج إلی دلیلٍ ، فإنْ کان الدلیل علیه هو نفس الدلیل علی وجوب الإتیان بالصّلاة بقصد القربة ، بتقریب أنّ الصّلاة فی هذه الحال مرکّبة من التقیّد و من الأجزاء ، فإن هذا یتوقّف علی دخول التقیّد المذکور فی ماهیّة الصّلاة بحیث لا یصدق عنوان الصّلاة إنْ جرّدت عنه ، و الحال أنه لیس کذلک ، بل یصدق عنوان الصّلاة علی الفاقدة للتقیّد .

و علی فرض دخول التقیّد فی الصّلاة کذلک ، فما الدلیل علی ضرورة کون القید - کالوضوء مثلاً - عملاً عبادیّاً حتی یتحقّق التقیّد ؟ بل إنّ الصّلاة مقیّدة بعدم الخبث فی لباس المصلّی ، فکان التقیّد داخلاً ، مع أنّ غسل الثوب المحصّل له لیس بعملٍ عبادی .

و ذکر بعضهم : إنّ منشأ العبادیّة للطهارات هو قابلیّتها للتقرّب إلی المولی ، و هذا کاف لترتّب الآثار کالثواب ... و یشهد بکفایة القابلیّة ارتکاز المتشرعة ، فإنّهم لا یأتون بالوضوء - مثلاً - بداعی استحبابه النفسی ، بل یأتون به بعنوان أنه بنفسه قابل للتقرّب به إلی المولی .

اشکال الأُستاذ

فأورد علیه الأُستاذ : بأنْ الأُمور ثلاثة ، فمنها : ما لا یصلح للمقربیّة لأنّه

ص:61

لا یقبل الإضافة إلی المولی أصلاً کالظلم ، لقبحه الذاتی . و منها : ما یصلح لذلک لأنّه یقبل الإضافة إلیه کالعدل ، لحسنه الذاتی ، و منها : ما لا یصلح لذلک إلّا بعد الإضافة و أمّا قبلها فلا ، و الحاکم فی صلوحه لذلک هو العقل ، و العقل یری المقربیّة فی أحد أمرین إمّا أن یکون مقرّباً بالذات کالتعظیم ، و إمّا أن یکون مقرّباً بالعرض ... و الطهارات الثلاث لیست عبادةً بالذات ، و عبادیتها بالعرض موقوف علی إضافتها إلی المولی ، بأنْ یؤتی بها بداعی الأمر أو المحبوبیّة ، فلا یکفی مجرّد القابلیّة فیها للعبادیّة .

و قال السید الخوئی : « و الصحیح فی المقام أن یقال : إنّ منشأ عبادیّة الطّهارات الثلاث أحد أمرین علی سبیل منع الخلو أحدهما : قصد امتثال الأمر النفسی المتعلّق بها مع غفلة المکلّف عن کونها مقدمة لواجب أو مع بنائه علی عدم الإتیان به ، کاغتسال الجنب - مثلاً - مع غفلته عن إتیان الصلاة بعده أو قاصد بعدم الإتیان بها ، و هذا یتوقّف علی وجود الأمر النفسی ، و قد عرفت أنّه موجود .

و ثانیهما : قصد التوصّل بها إلی الواجب ، فإنّه أیضاً موجب لوقوع المقدّمة عبادة و لو لم نقل بوجوبها شرعاً ، لما عرفت فی بحث التعبّدی و التوصّلی من أنّه یکفی فی تحقّق قصد القربة إتیان الفعل . مضافاً به إلی المولی و إن لم یکن أمر فی البین » (1) .

إذن ، ارتفع الإشکال ، لأنّ عبادیّة العمل أصبحت منوطةً بإضافته إلی المولی و هی متحقّقة ، کما یرتفع اشکال ترتّب الثواب ، لأنّه قد أتی بالعمل بقصد التوصّل إلی الواجب النفسی لا بداعی الأمر الغیری .

ص:62


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 229 .

قال الأُستاذ

إنّ هذه النظریّة متّخذة من کلام الشیخ الأعظم رحمه اللّٰه فی باب التعبّدی و التوصّلی ، و من کلام له فی باب المقدّمة .

قال الشیخ فی الفرق بین التعبّدی و التوصّلی کما فی ( التقریرات ) (1) : بأنّ الفرق بینهما لیس من ناحیة الأمر ، بل من ناحیة الغرض و المصلحة القائمة بمتعلّق الأمر ، ففی التوصّلی تتحقّق المصلحة بالإتیان بالمتعلّق ، أمّا فی التعبّدی فلا ، بل لا بدّ من الإتیان بقصد الامتثال ، فیکون فی التوصّلی أمر واحد ، و فی التعبدی أمران ، یتعلّق الأول منهما بالعمل کقوله صلّ ، و الثانی یقول : أقم الصلاة بقصد الامتثال وداعی الإطاعة ، و هذا ما أخذه المیرزا و اصطلح علیه ب« متمم الجعل » .

و قال الشیخ فی باب المقدّمة (2) : بأنّ التوصّل إلی ذی المقدمة تارةً : یکون بصرف وجود الأمر الغیری بلا دخلٍ لأمرٍ آخر ، و أُخری : لا یتحقّق التوصّل إلی ذی المقدّمة إلّا بالإتیان بالمقدّمة بداعی التوصّل إلی ذیها ، إذن ، لا بدّ من أمرٍ آخر لإفادة هذا المعنی و تحقیق الغرض من الأمر ، کما هو الحال فی التعبّدی و التوصّلی ، مع فرق بینهما هو أنّ الأمرین هناک کلاهما نفسی ، بخلاف المقام فإنّ الأمرین کلیهما غیریّان ، لتعلّق الأول بالوضوء و هو مقدمة للصّلاة فهو غیری ، و کذلک الثانی الذی أفاد الإتیان بالوضوء بداعی التوصّل إلی الصّلاة کما لا یخفی .

طریقة الأُستاذ لحلّ الاشکال

و قال الأُستاذ دام بقاه : بأنّ الإتیان بالعمل بداعی الأمر الغیری یرفع جمیع المشاکل ، فإنّه یرفع مشکلة ترتّب الثواب و یرفع مشکلة عبادیة الطهارات

ص:63


1- 1) مطارح الانظار : 58 .
2- 2) المصدر : 78 .

الثلاث ، و علی الجملة ، فإنّ العبادیّة تتحقّق بالأمر الغیری و تترتّب علیه جمیع الآثار .

أمّا ترتّب الثواب ، فیکفی فیه الإتیان بالعمل مضافاً إلی المولی ، فإذا أُضیف إلیه صلح لأنْ یکون مقرّباً إلیه و لأن یترتّب علیه الأجر و الثواب ، بل العقل حاکم بکفایة الإتیان به بمجرّد کون المحرّک نحوه مطلوبیّته للمولی ، فلا خصوصیّة لإضافته إلیه ، بل إنّ حصوله بداعٍ إلهی یجعله مورداً للثواب ، و الإتیان بالطهارات کذلک ، و إنْ کان الطلب الدّاعی له غیریّاً لا نفسیّاً .

و کذلک عبادیّة العمل ، فإنّها تتحقّق بإضافته إلی المولی و إنْ کان الطلب المتوجّه إلیه غیریّاً ، لعدم الفرق فی تحقّق الإضافة بین الطلب النفسی و الغیری ، و الأمر فی الطهارات الثلاث من هذا القبیل ، فالعبادیّة متحقّقة فیها بالأمر الغیری و لا إشکال فی ذلک ، إلّا مشکلة الدور التی ذکرها الشیخ ، لأن متعلّق الأمر فیها لیس هو الأفعال من الغسل و المسح ، بل الأفعال بوصف العبادیّة ، فلو تحقّقت العبادیّة لها من ناحیة الأمر الغیری لزم الدور .

و قد تقدّم منّا حلّ هذه المشکلة : بأنها تبتنی علی أنْ تؤخذ فی متعلّق الأمر الغیری خصوصیّة الإتیان به بقصده ، إذْ یلزم تقدم المتأخّر و تأخّر المتقدّم ، أو لا تؤخذ و لکنّ الإطلاق یکون بنحو جمع الخصوصیّات ، فتکون الخصوصیّة المذکورة مأخوذةً فی ضمنها ، و أمّا إذا کان المتعلّق و هو الغسل و المسح فی الوضوء مطلقاً بنحو رفض القیود ، کان المأخوذ فیه طبیعة العبادیّة ، و یکون الإتیان به بقصد الأمر الغیری من مصادیق الطبیعة ، فالأمران مختلفان و الدور غیر لازم .

و تلخّص : إنّ منشأ عبادیّة الطهارات الثلاث أحد أُمور ثلاثة :

1 - قصد امتثال الأمر الاستحبابی النفسی ، فالعمل مضاف إلی المولی . ذکره

ص:64

المحقّق الخراسانی .

2 - قصد التوصّل بها إلی الواجب النفسی ، لأنّه یتحقّق لها بذلک إضافة إلی المولی . ذکره الشیخ .

3 - قصد الأمر الغیری ، لأنّه یضاف العمل للمولی ، و إشکال الدور مرتفع بما ذکرناه ، و إن کان من الشیخ و ارتضاه الآخرون ، و قال فی ( المحاضرات ) : بأنّ الأمر الغیری لا یعقل أن یکون منشأً لعبادیّتها (1) . فقد ظهر أنّه معقول ، لأنّ الدور إنّما یلزم لو أُخذ خصوص الأمر الغیری فیها ، أمّا مع أخذ العبادیّة مطلقاً أی بنحو رفض القیود فلا یلزم .

و هذا تمام الکلام فی الطهارات الثلاث .

ص:65


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 232.

ص:66

هل الوجوب الغیری یتعلّق بمطلق المقدّمة أو حصّةٍ معیّنةٍ منها ؟

اشارة

ص:67

ص:68

ثم إنّه قد وقع الخلاف بین الأعلام فی متعلّق الوجوب الغیری ، فهل هو مطلق المقدمة أو خصوص حصّة معیّنة منها ؟ أقوال :

أحدها : ما نسب إلی صاحب المعالم : من اشتراط وجوب المقدمة بالعزم و الإرادة علی الإتیان بذیها ... فیکون قیداً للوجوب .

و الثانی : ما نسب إلی الشیخ من أنّ متعلّق الوجوب : المقدّمة التی قصد بها التوصّل إلی الواجب ... فیکون قیداً للواجب .

و الثالث : ما اختاره صاحب الفصول : من أنّ متعلّق الوجوب هو المقدّمة الموصلة إلی ذی المقدّمة .

و الرابع : ما نسب إلی المشهور : من أنّ متعلّق الوجوب هو المقدّمة .

.النظر فی القول الأوّل

إنّ کلمات صاحب ( المعالم ) مضطربة مختلفة ، فله کلام یحتمل أنّه یرید کون الوجوب مشروطاً بإرادة ذی المقدّمة بنحو القضیّة الشرطیة ، و أن یرید أنّها واجبة حین إرادة ذی المقدّمة بنحو القضیّة الحینیّة .

و کلامه علی کلّ تقدیر غیر مقبول ، لأنّه بناءً علی وجوب المقدّمة ، فإنّ المبنی فیه هو الملازمة بین مطلوبیّة ذی المقدمة بالطلب النفسی و مطلوبیّة المقدمة بالطلب الغیری ، وعلیه یکون وجوبها تابعاً لوجوبه و لا تفکیک بینهما ،

ص:69

و حینئذٍ ، یستحیل تقیّد وجوب المقدمة بإرادة ذیها ، لأنّ الوجوب إنما هو من أجل أن یؤثّر فی الإرادة ، فاشتراطه بها تحصیل للحاصل ... و وجوب شیء فی حال أو حین إرادة ذلک الشیء ، فإنّه تحصیل للحاصل کذلک .

إذن ، لیس وجوب المقدّمة مشروطاً بإرادة ذی المقدّمة ، و لا هو فی حال إرادته .

و الحاصل ، إنّه بعد ثبوت التبعیة ، یستحیل الاشتراط بالإرادة أو التقیید بحالها ، و إلّا یلزم التفکیک بین الوجوبین الغیری و النفسی .

.النظر فی القول الثانی

اشارة

و هو القول المنسوب إلی الشیخ ( التقریرات ) (1) ، بأنّ المقدّمة مقیّدة بداعی التوصّل ، و هو قید اختیاری ، بخلافه فی القول الثالث ، فإنّه قید قهری کما سیأتی ، ... و أیضاً ، هو قیدٌ للواجب لا للوجوب .

و قد استدلّ لهذا القول :

بأنّ ما یتوقّف علیه الشیء معنون بعناوین ، لکنّ العنوان الذی یدخل تحت الأمر الغیری بحکم العقل هو عنوان المقدمیّة لذی المقدّمة ، فنصب السلّم مثلاً یتصوّر له أکثر من عنوان ، إلّا أنّ متعلّق الأمر الغیری فیه عنوان المقدمیّة للصعود إلی السطح ، إذ الأمر لم یتعلّق به بعنوان نصب السلّم بما أنّه کذلک بل بما أنّه مقدّمة ... و إذا کان هذا هو المتعلّق للأمر ، فلا ریب أنّ الأمر لا یدعو إلّا إلی متعلّقه ، و داعویّته لغیر المتعلّق مستحیلة ، فإذا لم یؤت به بهذه الخصوصیّة لم یتحقّق الامتثال .

و علی هذا ، فإن مصداق الواجب - سواء فی المقدّمات العبادیّة أو غیرها -

ص:70


1- 1) مطارح الأنظار : 72 - 73 .

هو ما أُتی به بقصد المقدّمة لذیها ، و إنّ ما یُحقّق عنوان المقدمیّة هو الإتیان بداعی التوصّل ، غیر أنّه فی العبادیّات یعتبر قصد القربة أیضاً .

و قد أیّد الشیخ مطلبه بما فی الأوامر العرفیّة ، فلو أمر المولی عبده بتحصیل الثمن و شراء اللّحم به ، ثم حصل الثمن لا بقصد شراء اللّحم ، لم یکن تحصیله عند العرف امتثالاً للأمر ، لأنّه قد أمر بتحصیل الثمن لاشتراء اللّحم .

و فرّع الشیخ علی مسلکه مسألتین :

أحدهما : إنّه لو کان علی المکلّف صلاة قضاءٍ ، فتوضّأ قبل الوقت لا بداعی الصّلاة الفائتة و لا بقصد غایةٍ من الغایات للوضوء ، فلا یجوز له الصّلاة به ، لأنّ المتعلّق للوجوب هو المقدّمة المأتی بها بداعی التوصّل لذی المقدّمة .

و ثانیهما : إنّه لو اشتبهت القبلة فصلّی المکلّف إلی جهةٍ من الجهات من غیر أن یقصد بها التوصّل إلی الاحتیاط الواجب ، - کأن لم یُرد الصلاة إلی الجهات الأُخری - بطلت صلاته . و لذا لو عزم علی الاحتیاط بالصّلاة إلی الجهات وجب علیه إعادة تلک الصّلاة ، أمّا لو قلنا بعدم اعتبار قصد التوصّل ، فإنّه لو قصد الصّلاة إلی جهةٍ واحدةٍ فقط ، ثمّ بدا له و أراد الصّلاة إلی جمیعها عملاً بالاحتیاط ، لم تجب علیه إعادة الصّلاة الأولی .

و أورد علیه المیرزا - و تبعه الأُستاذان (1) - بخروج هذه الثمرة عن البحث ، لأنّ البحث فی المقدّمة الوجودیة لا العلمیّة .

هذا فی العبادات .

و أمّا فی غیرها ، فمن المقدّمات ما لا یعتبر فیه قصد التوصّل ، فلا فرق بین رأی الشیخ و رأی المشهور ، مثل غسل الثیاب لا بداعی التوصّل إلی الصّلاة . و منها

ص:71


1- 1) أجود التقریرات 1 / 261 ، منتقی الأُصول 2 / 283 .

ما یعتبر فیه ذلک ، و تتحقّق الثمرة بین القولین فیما لو أمر بإنقاذ الغریق و توقف ذلک علی التصرّف فی ملک الغیر ، فیقول الشیخ : بأنّه لو تصرّف بداعی إنقاذ الغریق فلا حرمة ، لأنّ متعلّق الوجوب هو التصرّف بداعی التوصّل به إلی الإنقاذ ، و لمّا کان الإنقاذ أهمّ فلا تبقی الحرمة ، أمّا لو تصرّف لا بداعی التوصّل به للإنقاذ فالحرمة باقیة و إن حصل الإنقاذ .

کلام المحقّق الاصفهانی فی توجیه مراد الشیخ

اشارة

و قد تصدّی المحقّق الاصفهانی (1) لتوجیه کلام الشیخ بما تقریبه :

1 - إنّ الأحکام العقلیّة منها نظریّة و منها عملیّة ، فمن أحکام العقل النظری :

استحالة اجتماع النقیضین و ارتفاعهما ، بل هذا هو أُمّ القضایا فیها . و من أحکام العقل العملی : حسن العدل و قبح الظلم ، بل هذا هو أُمّ القضایا فیها .

أمّا الأحکام الشرعیّة ، فإنّ الغایات منها - و هی متأخّرة وجوداً و متقدّمة فی اللّحاظ - هی العلل لجعل تلک الأحکام ، فالحکم یتوجّه إلی ذات العمل و لیس فی متعلّقه قید « کونه ذا مصلحة » بل إنّ کونه کذلک علّة للحکم ، فالمصلحة المترتّبة علی العمل خارجاً متأخّرة عن العمل ، لکنّها فی الحقیقة هی العلّة للحکم ، بخلاف الأحکام العقلیّة - مطلقاً - فإنّ متعلّق الحکم فیها هو المصلحة و هی الموضوع ، فنقول فی الأحکام الشرعیّة : هذا واجب لأنّه ذو مصلحة . و فی الأحکام العقلیّة نقول : ذو المصلحة واجب ، فیکون اللزوم و الوجوب متعلّقاً ب« ذو المصلحة » و هو الموضوع للحکم ... فالعقل یدرک استحالة الدور - فی الأحکام الشرعیّة - و هذه الکبری تطبّق علی مواردها ، مثل ما تقدّم فی محلّه : من أنّ أخذ قصد الأمر فی المتعلّق محال ... فهو لا یدرک استحالة أخذه کذلک ، بل

ص:72


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 113 - 134 .

یدرک الکبری التی هذا المورد من صغریاتها .

و فی الأحکام العملیّة کذلک ، فهو لا یدرک أنّ ضرب الیتیم تأدیباً حسن بل یدرک : التأدیب حسن ، ثم الکبری تطبّق علی هذه الصغری ، فهو یحکم بحسن ضرب الیتیم لکونه مصداقاً لکبری حسن العدل .

فعلی هذا ، فإن القیود فی الأحکام العقلیة تدخل تحت الطلب ، أی کون العمل ذا مصلحةٍ ، أو کونه عدلاً ، بخلاف الأحکام الشرعیّة ، فإن کون صلاة الظهر ذات مصلحةٍ ثابت ، لکنّ هذا القید غیر داخلٍ تحت الأمر بل هو العلّة له .

هذا ، و البرهان علی رجوع أحکام العقل النظری کلّها إلی اجتماع النقیضین و ارتفاعهما هو : أنّ کلّ ما بالعرض ینتهی إلی ما بالذات . و علی هذا الأساس أیضاً ترجع أحکام العقل العملی إلی حسن العدل و قبح الظلم .

هذا ... فیقول الأصفهانی : إنّ ما ذکره الشیخ صحیح علی القاعدة ، لأنّ المفروض کون وجوب المقدمة من باب الملازمة بینها و بین ذیها ، و الملازمة حکم عقلی ، و إذا کان کذلک ، فلیس نصب السلّم بموضوعٍ للوجوب ، بل موضوعه هو الصعود علی السطح ، فنصب السلّم المقصود بالعرض ، المنتهی إلی ما بالذات هو المقدّمة ... و هذا العنوان لا یتحقّق بدون الداعی للتوصّل إلی ذی المقدّمة .

إشکال الأُستاذ

إنّ هذا الذی ذکره المحقّق الاصفهانی إنّما یتمّ فی الأحکام العقلیّة ، فالتأدیب مثلاً هو موضوع الحکم لا خصوص ضرب الیتیم ... أمّا فی الأحکام الشرعیّة فلا ، و مقامنا من الأحکام الشرعیّة و إن کان الکاشف عنه هو العقل ... لأنّ وجوب المقدّمة شرعاً - علی القول به - حکم غیری ، من جهة أنّ من یطلب شیئاً

ص:73

فهو طالب لمقدّمته أیضاً ، للتلازم بین إرادته و إرادتها ، فهذا ثابت فی عالم الثبوت ، غیر أنّ الکاشف عنه فی عالم الإثبات هو حکم العقل . فکون الحیثیات التعلیلیّة - مثل کون العمل ذا مصلحةٍ کما تقدّم - حیثیّات تقییدیّة و موضوعات للأحکام العقلیّة ، صحیح فی الأحکام العقلیّة ، لکنّ وجوب المقدّمة حکم شرعی کما هو المفروض ، فلا تنطبق علیه القاعدة المذکورة ... بل إنّ موضوع الحکم الشرعی فی المقام هو ذات المقدّمة فقط ... وفاقاً للمحقّق الخراسانی .

2 - إنّه دائماً یتعلّق الأمر بالحصّة المقدورة ، و ما کان خارجاً عن الاختیار فلا یتعلّق الأمر به ، وعلیه ، فالمتعلّق للأمر الغیری هو الحصّة المقدورة ، الاختیاریة ، و هی ما قصد به المقدمیّة و التوصّل به إلی الغیر .

اشکال المحاضرات

و أورد علیه فی ( المحاضرات ) (1) : بأنّ هذا إنّما یتمّ فیما إذا کانت القدرة علی المتعلّق مأخوذةً فیه شرعاً و واردة فی لسان الدلیل ، کما فی آیة الحج ، بناءً علی تفسیر « الاستطاعة » ب« القدرة » ، و کذا فی آیة التیمّم ، بناءً علی أنّ المراد من « الوجدان » هو « القدرة » علی الاستعمال شرعاً ... لأنّه لا یمکن کشف الملاک فی أمثال هذه الموارد إلّا فی خصوص الحصّة المقدورة . و أمّا الحصّة الخارجة عن القدرة ، فلا طریق للکشف عنه فیها .

و أمّا إذا کانت القدرة معتبرة فی المتعلّق بحکم العقل ، فلا یتم ما ذکر ، لأنّ القدرة علی بعض أفراد الطبیعة یکفی لتحقّقها علی الطبیعة .

و لمّا کان اعتبار القدرة علی المقدّمة حکماً عقلیّاً ، لأنه الحاکم بأنّه لو لا القدرة علیها فلا وجوب ، فلا محالة لا یکون وجوبها مختصّاً بما یصدر من

ص:74


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 245 .

المکلّف عن اختیار ، بل یعمّه و غیره ، و إذا کان الواجب هو الطبیعی الجامع بین المقدور و غیره ، کان الإتیان به لا بقصد التوصّل مصداقاً للطبیعی ، فلا موجب لتخصیصه بالحصّة المقدورة .

نقد الأُستاذ

قال الأُستاذ : قد تقدّم أنّ مراد الشیخ هو أنّ متعلّق الوجوب لیس هو ذات المقدّمة بما هی ذات ، و لا بما هی معنونة بعنوانٍ من العناوین ، بل المتعلّق هو الذات المعنونة بعنوان المقدمیّة ، فلو أتی بها بدون قصد المقدمیّة کأن یصلّی صلاة الظهر لا بقصد عنوان الظهر ، فلا یتحقق الامتثال و لا یسقط الأمر .

و إذا کان هذا مراده ، فلا ربط لکلام المحقّق الأصفهانی به ، و لا لجواب المحاضرات و إن کان صحیحاً فی حدّ ذاته .

و تلخّص : إنّ الاشکال الوارد علی الشیخ هو : أنّ ما ذکره إنّما یتم فی الأحکام العقلیّة ، ففیها یدخل العنوان تحت الطلب ، أمّا فی الأحکام الشرعیّة المستکشفة بالعقل فلا ... .

مختار الکفایة و ردّه علی الشیخ

و تعرّض المحقّق الخراسانی (1) لمسلک الشیخ بالنقض و الحلّ ... فذکر أُموراً :

1 - إنّ الأمر معلول للغرض ، و لا یعقل أن یکون أخصّ من الغرض . و هذا مراده من أنّ کلام الشیخ یستلزم التخصیص بلا مخصّص ... و توضیحه :

إنّ الغرض من الأمر بالمقدّمة هو تحقّق ذیها ، لأنّه یتوقّف علیها ، و هذا الغرض یتحقّق سواء أُتی بالمقدّمة بداعی التوصّل إلی ذی المقدّمة أو لا بهذا

ص:75


1- 1) کفایة الأُصول : 114 .

الداعی ، فتخصیص متعلّق الأمر الغیری بالحصّة التی یؤتی بها بهذا الداعی بلا مخصّص .

2 - إنّه لو أتی بالمقدّمة لا بداعی التوصّل ، ثمّ بدا له أن یأتی بذی المقدّمة ، لم یجب إعادة المقدّمة ، و هذا دلیلٌ علی عدم تقیّد متعلّق الأمر الغیری بالإتیان به بداعی التوصّل ، و عدم دخول عنوان المقدمیّة تحت الطلب ، بل الأمر یسقط و یتحقّق الامتثال بلا قصدٍ للتوصّل .

3 - إنّ الشیخ أشکل علی صاحب الفصول القائل بالمقدّمة الموصلة : « بأنّ مناط المقدمیّة هو ما یلزم من عدمها عدم ذی المقدّمة » فکلّ ما کان کذلک فیدخل تحت الطلب دون غیره ، و قید « الموصلیّة » لا یلزم من عدمه عدم ذی المقدمة .

فقال المحقّق الخراسانی : بأنّ هذا الاشکال یرد علی الشیخ نفسه القائل بتقیّد المقدّمة : بالمأتی بها بداعی التوصّل إلی ذیها .

هذا ، و قد ذهب المحقّق الخراسانی إلی عدم اعتبار قصد التوصّل ، و عدم اعتبار الموصلیّة ، قال : « فهل یعتبر فی وقوعها علی صفة الوجوب أن یکون الإتیان بها بداعی التوصّل ... أو ترتّب ذی المقدّمة علیها ... أو لا یعتبر فی وقوعها کذلک شیء منهما ؟ الظاهر عدم الاعتبار » .

ثمّ قال بعد المناقشة مع الشیخ : « نعم ، إنّما اعتبر ذلک فی الامتثال ، لما عرفت من أنّه لما یکاد یکون الآتی بها بدونه ممتثلاً لأمرها و آخذاً فی امتثال الأمر بذیها فیثاب بثواب أشق الأعمال » .

و حاصل کلامه : عدم دخل قصد التوصّل فی متعلّق الأمر الغیری ، نعم له دخل فی عبادیّة المقدّمة .

و قد فرّع علی ذلک فی مسألة الدخول فی ملک الغیر لإنقاذ الغریق ، بناءً

ص:76

علی مختاره من أنّ الغرض هو تحقّق ذی المقدّمة فیؤتی بالمقدّمة لتوقّفه علیها :

بأنّ التوقف موجود سواء دخل لقصد التوصّل أو لا ، فترتفع الحرمة حیث یکون الإنقاذ موقوفاً علی الدخول ، غیر أنّه یختلف باختلاف حال المکلّف من حیث الالتفات إلی التوقّف و عدمه ، فتارةً : لا یکون ملتفتاً إلی توقف ذی المقدّمة - و هو الإنقاذ - علی الدخول ، ففی هذه الحالة یکون دخوله فی تلک الأرض مع اعتقاد الحرمة تجرّیاً ، لأنّه قد أتی بما هو واجب علیه واقعاً مع اعتقاد حرمته . و أُخری :

یکون ملتفتاً إلی المقدمیّة و التوقف ، فیکون دخوله حینئذٍ تجرّیاً بالنسبة إلی ذی المقدّمة ، لأنّ المفروض عدم قصده التوصّل إلیه مع وجوبه علیه . و ثالثة :

یکون ملتفتاً و یقصد التوصّل ، لکن هذا القصد ناشئ من داعٍ آخر ، فیکون دخوله واجباً ، فلا معصیة و لا تجرّی أصلاً .

موافقة الأُستاذ مع صاحب الکفایة فی الاشکال علی الشیخ

ثمّ إنّ الأُستاذ وافق علی الإیراد علی الشیخ بذلک - و إن کان له نظر فی کلام الکفایة - و سیأتی فیما بعد .

و حاصل الاشکال علی الشیخ : إنّه لا مانع ثبوتاً من أخذ قصد التوصّل فی امتثال الأمر الغیری المتعلّق بالمقدّمة ، و لکنّ الاشکال فی مقام الإثبات ، لأنّ الدلیل الإثباتی إن کان عن طریق الملاک ، فلا وجه لحصر الملاک فی هذه الحصّة بل هو أعمّ . و إن کان أخذ الشارع فی لسان الدلیل ، فهو غیر موجود . و إن کان الارتکاز العرفی ، فالحقّ عدم وجود هکذا ارتکاز عند العرف و العقلاء .

کلام المیرزا

اشارة

ثمّ إنّ المیرزا (1) احتمل فی رأی الشیخ أوّلاً : أن یکون مراده أنّ القصد

ص:77


1- 1) أجود التقریرات 1 / 341 - 342 .

المذکور محقّق لعبادیّة المقدّمة ، لا أنّه مأخوذ قیداً لمتعلّق الأمر الغیری . و احتمل ثانیاً : أن یکون مراده اعتبار القید المذکور فی مقام التزاحم بین حکم المقدّمة و حکم ذیها ، کما إذا کانت المقدّمة محرّمة ، کالدخول فی ملک الغیر و ذو المقدّمة واجب کإنقاذ الغریق ، ففی هذه الصورة ترتفع الحرمة عن المقدّمة لأهمیّة ذیها منها ... ثمّ ذکر أنّه لو عصی و لم ینقذ الغریق ثبتت حرمة التصرّف فی ملک الغیر ، من باب الترتّب .

تعلیق الأُستاذ

و عقب الأُستاذ علی کلام المیرزا : بأن لا اضطراب فی کلام التقریرات ، فإنّه صریح فی نسبة القول بأخذ القید المذکور فی المتعلّق .

و أمّا ما ذکره المیرزا من صورة المزاحمة ، فإنّها بین الحرمة النفسیّة للمقدّمة و بین الوجوب النفسی لذیها ، سواء قیل بوجوبها أو لا . و الحاصل : إنّه لا یتوقّف التزاحم فی المثال المذکور علی القول بوجوب المقدّمة مطلقاً ، أو بقید التوصّل کما عن الشیخ ، أو بقید الموصلیّة کما عن صاحب الفصول .

و أمّا بقاء الحرمة للدخول فی صورة معصیة ذی المقدّمة ، بناءً علی الترتّب ، فسیأتی ما فیه فی مبحث الضد .

هذا تمام الکلام علی مسلک الشیخ فی المقام .

مسلک صاحب الفصول

اشارة

و قال صاحب ( الفصول ) بالمقدّمة الموصلة (1) ، فجعل متعلّق الوجوب الغیری هو الحصّة الموصلة من المقدّمة ، أی إنّه جعل ترتّب ذی المقدّمة علیها شرطاً لاتّصافها بالوجوب .

ص:78


1- 1) الفصول الغرویّة : 86 .

و قد استدلّ لما ذهب إلیه بوجوه :

الأوّل : إنّ وجوب المقدّمة لمّا کان من باب الملازمة العقلیّة ، فالعقل لا یدلّ علیه زائداً علی القدر المذکور .

و الثانی : إنّه لا یأبی العقل أنْ یقول الآمر الحکیم : أرید الحج و أرید المسیر الذی یتوصّل به إلی فعل الواجب دون ما لم یتوصّل إلیه ، بل الضرورة قاضیة بجواز تصریح الآمر بمثل ذلک ، کما أنّها قاضیة بقبح التصریح بعدم مطلوبیّتها له مطلقاً أو علی تقدیر التوصّل بها إلیه ، و ذلک آیة عدم الملازمة بین وجوبه و وجوب مقدّماته علی تقدیر عدم التوصّل بها إلیه .

و الثالث : إنّ الأمر تابع للغرض الداعی إلیه ، و لا یمکن أن یکون الأمر أضیق أو أوسع من الغرض ، و الذی یدرکه العقل هو أنّ الغرض من إیجاب المقدّمة لیس إلّا التوصّل بها إلی الواجب ، فالأمر لیس إلّا فی خصوص المقدّمة الموصلة .

اشکالات الکفایة

و قد أورد المحقّق الخراسانی علی نظریّة الفصول وجوهاً من الإشکال (1) :

1 - إنّه تارةً : یکون بین المقدّمة و ذیها واسطة اختیاریّة . و أُخری : تکون النسبة بینهما نسبة الفعل التولیدی إلی السبب التولیدی کالإلقاء فی النار و حصول الاحتراق ... و لازم مبنی الفصول خروج القسم الأوّل من المقدّمات من تحت قاعدة الملازمة بین وجوب المقدّمة و وجوب ذیها ، و التالی باطل ، فالمقدّم مثله .

بیان الملازمة :

إنّ ترتّب ذی المقدّمة علی المقدّمة فی التولیدیّات واضح ، لأنّه بمجرّد الإلقاء فی النار یحصل الاحتراق . أمّا فی مثل الحج و غیره من الواجبات الشرعیّة ،

ص:79


1- 1) کفایة الأُصول : 115 .

فلا یترتّب ذو المقدّمة حتّی بعد توفّر جمیع المقدّمات ، فقد یعصی المکلّف و لا یأتی بالواجب ، فکیف یترتّب علی تحقّق کلّ فردٍ من أفراد المقدّمات ؟

فقول صاحب الفصول بأنّه : لمّا کان الغرض هو ترتّب ذی المقدّمة ، فالواجب من المقدّمة ما یترتّب علیه ذو المقدّمة ، یستلزم خروج جمیع الأفعال الاختیاریة ، و هذا باطل قطعاً .

ثمّ ذکر اعتراضاً علی هذا الاشکال و أجاب عنه .

2 - إنّه لو کان ترتّب ذی المقدّمة علی المقدّمة شرطاً فی وجوبها ، لما کان الأمر الغیری المتعلّق بالمقدّمة ساقطاً بمجرّد الإتیان بها ، و الحال أنّه یسقط و یکشف ذلک عن تحقّق الغرض منه ، و ذلک یکشف عن أنّه لیس وجوب المقدّمة مشروطاً بترتّب ذی المقدّمة علیها ، بل الغرض هو التمکّن من ذی المقدّمة ، إذ لو کان الترتّب فالمفروض عدم حصوله فکیف سقط الأمر ؟

و تعرّض المحقّق الخراسانی لاعتراضٍ علی هذا الإشکال و أجاب عنه ، و حاصل الاعتراض هو : أنّ سقوط الأمر لا یکشف دائماً عن تحقّق الامتثال و حصول الغرض منه ، فقد یسقط الأمر بانتفاء الموضوع ، کما لو قال أکرم العالم فمات العالم ، و قد یسقط بالعصیان ، و قد یسقط بقیام الغیر بالعمل ، کما لو أُمر بدفن میّت ، فقام غیره بذلک .

فأجاب : بعدم تحقّق شیء من المسقطات فی المقام إلّا الامتثال ، أمّا الموضوع ، فالمفروض تحقّقه من قبل المکلّف لا تفویته ، و کذا المعصیة ، فإنّها غیر حاصلة ، و کذا قیام الغیر بالفعل .

3 - إنّ مراده من المقدّمة الموصلة هو الذات التی یترتّب علیها وجود ذی المقدّمة ، فیکون وجوبها مقیّداً و مشروطاً بالموصلیّة ، لکنّ المقیّد هو

ص:80

ذو المقدّمة ، فیکون مقدّمة ، فاجتمع فی ذی المقدّمة وجوبان : الوجوب النفسی لکونه ذا المقدّمة ، و الوجوب الغیری لکونه مقدمةً لحصول المقدّمة الموصلة ، و هذا محال .

اشکال المحاضرات علی الکفایة

و أورد فی ( المحاضرات ) (1) علی المحقّق الخراسانی - فی قوله : بأنّ الغرض من المقدّمة هو التمکّن من ذی المقدّمة - : بأنّ التمکّن منه لیس من آثار وجود المقدّمة ، بل هو من آثار التمکّن منها ، فلا یکون الأثر مترتّباً علی مطلق المقدّمة کی یکون وجوبها تابعاً لهذا الأمر . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّه لو کان وجوب المقدّمة من أجل التمکّن من ذیها ، فإنّه تنتفی القدرة علی ذی المقدّمة بانتفائها علی المقدّمة ، و مع انتفاء القدرة علیه فلا وجوب له ، فلو کان وجوب ذی المقدّمة منوطاً بالتمکّن المترتّب من وجود المقدّمة ، کانت القدرة شرطاً للوجوب ، مع أنّ تحصیل القدرة غیر لازم ، فیجوز حینئذٍ تفویت ذی المقدّمة ، و هذا باطل . فالقول بأنّ الغرض من المقدّمة هو التمکّن من ذیها باطل .

قال الأُستاذ

إنّه لمّا کان الأصل فی هذا التحقیق هو المحقّق الاصفهانی ، فالأولی التعرّض لکلامه ، فإنّه قال فی ( نهایة الدرایة ) (2) ما حاصله : إنّ المقصود من « المقدّمة » فی کلمات القوم لا یخلو عن أحد وجوه ثلاثة :

أحدها : أن یکون المراد ما کان عدمه مستلزماً لعدم ذی المقدّمة ، فیکون

ص:81


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 255 .
2- 2) نهایة الدرایة 2 / 137 .

وجودها متعلّقاً للغرض .

و الثانی : أن یکون الغرض منها ترتّب إمکان ذی المقدّمة علی وجودها .

و الثالث : إنّ الغرض هو التمکّن من ذی المقدّمة .

( قال ) : و الاحتمالات کلّها مردودة :

أمّا استلزام عدم المقدّمة لعدم ذیها ، ففیه : إنّ الأمر العدمی لا یمکن أن یکون غرضاً للوجود ، بل الأمر العدمی من لوازم الغرض ، و لازم الغرض غیر الغرض ، فلا یصحّ القول بأنّ الغرض من المقدّمة أن لا یلزم من عدمها عدم ذی المقدّمة .

و أمّا أنّ الغرض من المقدّمة إمکان ذی المقدّمة ، ففیه : إنّ الإمکان إمّا ذاتی و إمّا وقوعی و إمّا استعدادی . أمّا الإمکان الذاتی الثابت لذی المقدّمة ، فإنّه لا یتوقّف علی وجود المقدّمة ، لأنّه استواء نسبة الماهیّة إلی الوجود و العدم ، و هذا المعنی حاصل لذی المقدّمة بلا توقّف علی المقدّمة .

و أمّا الإمکان الوقوعی ، أی ما لا یلزم من وجوده محال ، فهذا أیضاً حاصل لذی المقدّمة بلا توقّف علی وجودها .

و أمّا الإمکان الاستعدادی لذی المقدّمة ، فهو منوط بالقدرة ، فإنْ وجدت عند الإنسان تمکّن و إلّا فلا ... علی أنّ القدرة و القوّة علی الفعل مقدّمة لوجوبه لا لوجوده ، و کلامنا فی المقدّمة الوجودیّة .

و أمّا أنّ الغرض هو التمکّن من ذی المقدّمة ، بأن یکون التمکّن منه موقوفاً علی وجودها ، فهذا أیضاً مردود ، لأن المراد من التمکّن - سواء کان العقلی أو العرفی - هو القدرة علی ذی المقدّمة ، لکنّ القدرة علیه موقوفة علی التمکّن من المقدّمة لا علی وجودها .

ص:82

و إذا بطلت الاحتمالات ، بطل القول بأنّ الغرض من المقدّمة هو التمکّن من ذی المقدّمة .

تحقیق الأُستاذ

قال الأُستاذ : إنّ المهمّ فی کلمات الکفایة قوله بأنّ الغرض من المقدّمة هو التوقّف و المقدمیّة ، و من الواضح أنّ هذا غیر التمکّن من ذی المقدّمة ، کی یرد علیه اشکال المحاضرات من أنّ التمکّن منه أثر التمکّن من المقدّمة و لیس بأثرٍ لوجودها ... کما أنّ التوقّف لیس بأمرٍ عدمی ، کی یرد علیه إشکال المحقّق الأصفهانی ... و توضیح مراد المحقّق الخراسانی من « المقدمیّة » هو أنّ المقدّمة لها دخل فی وجود ذی المقدّمة دخل المقتضی فی المقتضی أو دخل الشرط بالنسبة إلی المشروط . فالمقدّمة إمّا مقتضٍ أو شرط ، و من الواضح : إنّ الاقتضاء و الشرطیّة من خواصّ وجود المقتضی و وجود الشرط ، فإذا فقد فلا اقتضاء . ثمّ إنّ الاقتضاء أثر لمطلق وجود المقتضی و الشرط ، لا خصوص الشرط أو المقتضی الفعلیین .

فظهر عدم ورود شیء ممّا ذکر علی المحقّق الخراسانی ، فهو یری أنّ المراد من المقدّمة هو الاقتضاء ، و هو یتحقّق بنفس وجودها - لا أنّه الاقتضاء الفعلی المنتهی إلی حصول ذی المقدّمة کما یقول صاحب الفصول - غیر أنّ حصول کلّ واحدة من المقدمات تغلق أحد أبواب عدم ذی المقدّمة ، و إذا حصلت المقدّمات کلّها أوصلت إلی ذی المقدّمة .

و تلخّص : تمامیّة مبنی الکفایة ثبوتاً .

الکلام علی اشکالات الکفایة علی الفصول

ثمّ إنّ الأُستاذ تکلّم علی إشکالات الکفایة علی الفصول ، ( فأمّا الأوّل ) و هو انحصار الواجب من المقدّمات بما یکون من قبیل الأسباب التولیدیّة ، و أمّا ما

ص:83

یکون الاختیار واسطة بینها و بین ذی المقدّمة فلیس بواجب ، لأنّ الإرادة من أجزاء السّبب ، و هی غیر قابلة لتعلّق الوجوب ( ففیه ) :

إنّه إن کانت اختیاریّة الشیء بکونه مسبوقاً بالإرادة ، فالإشکال وارد ، لأنّ الإرادة قد لا تتعلّق بها الإرادة فلا تکون اختیاریّة ، و استلزام کلّ إرادة لإرادة أُخری مستلزم للتسلسل کما قال المحقّق الخراسانی . و لکنّ المناط فی تعلّق التکلیف هو اختیاریّة المکلّف به ، سواء کانت بالذات أو بالعرض ، و الاختیار فی الارادة هو بالذات ، و اختیاریّة الأفعال بالعرض ، أی إنّها اختیاریّة بسبب تعلّق الاختیار بها ، و إذا کانت الاختیاریّة بالعرض مصحّحة للتکلیف ، فالاختیاریّة بالذات کذلک بطریقٍ أولی ، فکما یصحّ أن یقال : صلّ ، یصح أن یقال : اختر الصّلاة ، لأنّ الاختیار مقدور بالذات و به یصحّ تعلّق التکلیف .

و علی الجملة ، فإنّ الاختیار أمر اختیاری بالذات ، فیصحُّ تعلّق التکلیف به ، کسائر الأجزاء إن کان المکلّف به ذا أجزاء .

( و أمّا الثانی ) و هو سقوط الأمر الغیری بالإتیان بالمقدّمة ، و منشأ السقوط هو الإطاعة فقط ، فدلّ ذلک علی أنّ متعلّق الأمر مطلق المقدّمة ( ففیه ) :

إنّ هذا أشبه بالمصادرة ، لأنّ الواجب إن کان طبیعی المقدّمة فلا محالة یکون وجه سقوط الأمر حصول الإطاعة و الامتثال ، لکنّ للقائل بخصوص المقدّمة الموصلة أن یقول : إنّه بعد أن جاء بالمقدّمة إمّا یأتی بذی المقدّمة أو لا یأتی ، فإنْ جاء به ، فقد سقط الأمر بذی المقدّمة بالإتیان به و سقط الأمر بالمقدّمة لکونها أوصلت إلیه ، و إنْ لم یأت بذی المقدّمة ، فقد عصی الأمر النفسی المتعلّق به و کان سقوطه بالعصیان ، و کذا الأمر الغیری المتعلّق بالمقدّمة ، فقد عصی ، لأنّ المفروض تعلّقه بالحصّة الموصلة إلی ذی المقدّمة ، و المفروض عدم تحقّق

ص:84

الإیصال إلیه .

و الحاصل : إنّ سقوط الأمر الغیری لا یکون إلّا إذا کان المتعلّق مطلق المقدّمة ، و هذا أوّل الکلام .

( و أمّا الثالث ) و هو لزوم اجتماع النفسیّة و الغیریّة فی ذی المقدّمة ( ففیه ) :

إنّه مردود بما یجاب به عن دلیل المیرزا علی بطلان المقدّمة الموصلة ، و لنتعرّض لذلک ثمّ نذکر الجواب :

اشکالات المیرزا علی الفصول

إنّ تخصیص وجوب المقدّمة بخصوص الحصّة الموصلة یستلزم إمّا الدور فی الوجود أو الوجوب ، و إمّا الخلف أو التسلسل .

و توضیح ذلک : إنّ المقسّم للشیء تارةً : یکون فی رتبة وجود الشیء و أُخری : فی رتبةٍ متأخرة عن وجوده ، فالأوّل مثل تقسیم الأجناس إلی الأنواع ، حیث أنّ الجنس یقسّم إلیها بواسطة الفصل و هو فی مرتبة الجنس ، و کتقسیم النوع إلی الأصناف کالانسان إلی الزنجی و الرومی ... و ما نحن فیه من القسم الثانی ، حیث أنّ المقدّمة تنقسم إلی الموصلة و غیر الموصلة ، لکنّ عنوان « الموصلة » منتزع من شیء متقدّم و هو « وجود » ذی المقدّمة ، إذ المقدّمة بذاتها لا تنقسم إلی ذلک ، و إنّما تنقسم إلی القسمین المذکورین إذا وُجد ذو المقدّمة بعد وجودها ، فوصف المقدّمة بالموصلیّة یکون بعد وجودها و وجود ذی المقدّمة بعدها ، و أمّا قبل وجود ذی المقدّمة فلا یوجد إلّا ذات المقدّمة .

و علی هذا ، فلو کان متعلّق الأمر الغیری هو المقدّمة الموصوفة بالموصلیّة لزم الدور ، لأنّ وصفها بالموصلیّة موقوف علی وجود ذی المقدّمة ، و وجوده موقوف علی وجود المقدّمة .

ص:85

و هذا هو الدّور فی الوجود ، و هو بیانه فی الدّورة الأُولی (1) .

و أمّا بیان الدور فی الوجوب - و هو ما یستفاد من کلامه فی الدورة الثانیة (2) - فهو : إنّه قد تقدّم کون عنوان الموصلیّة منتزعاً من وجود ذی المقدّمة ، وعلیه ، فذو المقدّمة من قیود المقدّمة الموصلة و من مقوّماتها ، فیقع الدور فی الوجوب ، من جهة أنّ وجوب ذی المقدّمة علةُ لوجوب المقدّمة ، إلّا أنّه لو لا وجوب المقدّمة لما وجب ذو المقدّمة ، لکونه من قیودها کما تقدّم .

و أمّا الخلف أو التسلسل ، فلأنّ الواجب لو کان خصوص المقدّمة الموصلة کانت ذات المقدّمة من مقدّمات تحقّق المقدّمة خارجاً ، فإنْ کان الواجب هو الذات فقط بلا تقیّد بالایصال ، لزم الخلف ، و إن کان الذات المقیَّدة بالإیصال هو الواجب ، کان نسبة « الذات » إلی « الإیصال » نسبة « المقدّمة » إلی « ذی المقدّمة » ، و حینئذٍ ، ینتقل إلی الذات و أنّها واجبة مطلقاً أو مقیَّدة بالإیصال . و الأوّل خلف و الثانی مستلزم للتسلسل .

و الجواب :

و قد أجاب السید الأُستاذ عن هذه المحاذیر (3) و کذا شیخنا دام بقاه ، فأفاد ما ملخّصه :

أمّا عن لزوم الدور فی الوجود ، فلأنّ وجود ذی المقدّمة غیر متوقّف علی المقدّمة بوصف الوجود ، إذ لا دخل لوصفها بالوجود فی تحقّق ذیها ، بل إنّه موقوف علی ذاتها .

و أمّا عن لزوم الدور فی الوجوب ، فلأن الوجوب النفسی لذی المقدّمة

ص:86


1- 1) فوائد الأُصول (1 - 2) 290 ط جماعة المدرّسین .
2- 2) أجود التقریرات 1 / 345 - 346 .
3- 3) منتقی الأُصول 2 / 296 .

یکون منشأً للوجوب الغیری للمقدّمة ، لکن ذا المقدّمة یتّصف بالوجوب الغیری أیضاً من حیث أنّه لولاه لما اتّصفت المقدمة به ، فلا یلزم الدور فی الوجوب ، و إنّما اللازم هو اجتماع الوجوب النفسی و الغیری فی شیء واحد و هو ذو المقدّمة ، و هذا لا مانع منه ، لأنّه یؤول إلی الاندکاک و تحقّق وجوب واحدٍ مؤکّد علی مبنی المیرزا ، فلا دور .

و أمّا عن لزوم الخلف أو التسلسل ، فلأنّ هذا المحذور إنّما یترتّب بناءً علی وجوب أجزاء المرکّب بالوجوب الغیری ... لأنّ المقدّمة الموصلة مرکّبة من جزءین هما ذات المقدّمة و تقیّدها بالإیصال ، و حینئذٍ ، فلو قلنا بأنّ الأجزاء متّصفة بالوجوب الغیری لزم المحذور ، لأنّ الذات مقدّمة لهذا المرکب ، فتکون واجبةً بالوجوب الغیری أیضاً ، لکن الأجزاء غیر واجبة بالوجوب الغیری لذی المقدّمة ، بل المقدّمة هو المرکّب ، فأصل الاستدلال باطل .

قال الأُستاذ

لکن یمکن تقریب الاشکال بوجهٍ آخر بأن یقال : إنّ المفروض علی مبنی الفصول کون الإیصال منتزعاً من وجود ذی المقدّمة ، فلو کان متعلّق الوجوب الغیری هو المقدّمة الموصلة ، لزم وجود الوجوب الغیری بعد وجود الوجوب النفسی ، لتقدّم منشأ الانتزاع فی الوجود علی الأمر الانتزاعی ، فیلزم اجتماع التقدّم و التأخّر فی الشیء الواحد .

و هنا لا بدّ من التعرّض لکلام المحقّق الاصفهانی فی تقریب مبنی الفصول ، و به تنحلّ المشکلات .

تحقیق المحقّق الاصفهانی

و العمدة هو فهم کیفیة أخذ « الإیصال » فی المقدّمة ، إذ لا ریب فی أن متعلّق

ص:87

الوجوب هو ما دخل تحت الطلب من طرف المولی ، فهل هو عبارة عن المقدّمة بوصف الموصلیّة إلی ذی المقدّمة المنتزع من ذی المقدّمة ، أی المقدّمة المقیّدة بوجود ذیها ، أو أنّ المراد منها عبارة عن الحصّة التوأمة مع وجود ذی المقدّمة کما هو المستفاد من کلام المحقّق العراقی ، أو المراد منها العلّة التامّة ، أو الحصّة - من المقدّمة - الملازمة لوجود ذی المقدّمة - لا المقیَّدة بوجوده - کما هو المستفاد من کلام المحقّق الأصفهانی ؟

و الحاصل : إنّ المحقّق الاصفهانی یری أنّ المراد من المقدّمة هی الحصّة منها الملازمة لوجود ذیها ، هذا فی تقریب . و فی تقریب آخر : أنّ المراد هو العلّة التامّة . و علی کلٍّ منهما فإشکال الکفایة من اجتماع المثلین ، و کذا ما طرحناه أخیراً من اجتماع المتأخّر و المتقدّم فی الشیء الواحد ... یرتفع ... .

قال قدّس اللّٰه روحه (1) :

إنّ المراد من المقدّمة ما یکون مقدّمةً لذیها بالفعل لا بالقوّة ، فالحطب مقدّمة للطبخ ، لکنه تارةً : مقدّمة بالقوّة و هو ما کان قبل الاشتعال ، و أُخری : بالفعل و هو ما کان مشتعلاً ، و هاتان حصّتان من وجود الحطب ، و کذا الکلام فی اشتراط الشیء بشرطٍ ، فإنّه تارة یکون شرطاً بالقوّة و أُخری بالفعل ، فإنْ کان المقتضی بالفعل فسیکون الشرط أیضاً فعلیّاً ، کما فی یبوسة الحطب و مماسّته للنار من أجل الاحتراق ، فلا یمکن تمامیّة الاقتضاء إلّا مع فعلیّة الشرط ، و إذا تمّ الأمران ، أصبح المشروط و المقتضیٰ فعلیّاً ... .

و علی الجملة ، فإنّه یوجد تلازم بین أجزاء العلّة ، و یوجد تلازم بین أجزاء العلّة - المقدّمة - مع المعلول ، و هو ذوها .

ص:88


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 138 - 139 .

و من الواضح : إنّ التلازم غیر التوقّف ... و لذا یکون بین « الابوّة » و« البنوّة » تلازم ، لکنْ لا توقف لأحدهما علی الآخر .

و علی هذا ، فإنّ المراد من المقدّمة الموصلة هو المقدّمة الملازمة - أو التوأمة - مع وجود ذیها ، لا أنّ وجوده موقوف علی وجودها ، بل إنّ فعلیّتهما تکون فی عرضٍ واحد و لیستا فی الطول لیرد علیه الإشکال .

و ملخّص هذا البیان :

أوّلاً : إنّ المطلوب من المقدّمة هو الحصّة الموجودة بالفعل منها لا بالقوّة .

و ثانیاً : إنّ بین المقدّمة و ذیها تلازماً من قبیل التلازم بین أجزاء المقدّمة و العلّة التامّة ، و لیس بینهما توقّف .

و ثالثاً : إنّه لمّا کان الغرض قائماً بوجود ذی المقدّمة ، و هو لا یتحقّق إلّا بالمقدّمة ، فالإرادة تتعلّق بنفس ذی المقدّمة ، و یحصل منها إرادة تبعیّة غیریّة متعلّقة بالمقدّمة ، و لا یمکن أن یکون متعلّقاً بالقوّة کما تقدّم .

فظهر بذلک أنّ المراد من الموصلیّة لیس الإناطة و التقیید ، فکلّ الإشکالات المتقدّمة من المیرزا و الکفایة و غیرهما مندفعة .

أقول :

هذا البیان فی المحقّق الأصفهانی هو أحد التقریبین منه لمبنی صاحب الفصول .

و أمّا التقریب الآخر له ، فهو علی أساس کون المراد من المقدّمة هو العلّة التامّة ، و قد تعرّض له شیخنا کذلک ، ثمّ أورد علیه اشکالات ، کلّها ترجع إلی خصوصیّاتٍ و جزئیّات فی کلام المحقّق الاصفهانی . أمّا بالنسبة إلی ما یتعلّق بدفع الإشکالات المزبورة ، فقد وافق الأُستاذ علی ما ذکره من أنّ : متعلّق الإرادة الغیریّة

ص:89

هو الحصّة الملازمة مع وجود ذی المقدّمة لا الحصّة المقیّدة بالإیصال إلیه ...

و الفرق بین المسلکین واضح ، فإنّه علی مسلک المحقّق الأصفهانی تکون المقدّمة هو ما ینتهی إلی وجود ذیها ، و علی مسلک صاحب الفصول قد یقع التخلّف بینهما ، لأنّه قید و مقیّد . و الصحیح هو الأوّل ، لأن ما ینتهی إلی ذی المقدّمة یکون دائماً متعلّقاً للإرادة الغیریّة و الشوق الغیری ، و أمّا علی الثانی فالإشکالات ترد ، لأنّ التقیّد بوجوده لا یکون إلّا بنحو الاشتراط به بنحو الشرط المتأخّر ، فیقع البحث عن کیفیّة هذا الاشتراط ، و أنّه فی الواجب أو الوجوب ، بخلاف المسلک الأوّل ، فإنّه لا اشتراط - بناءً علیه - لا فی الواجب و لا فی الوجوب ، بل الواجب من المقدّمة عبارة عن الحصّة منها الملازمة مع وجود ذیها ، و وجود أحد المتلازمین لیس مشروطاً بوجوب الملازم الآخر حتّی یبحث فیه عن أنّه شرط للوجوب أو الواجب .

و هذا هو الحق ، و هو تامّ ثبوتاً ، و کذا إثباتاً ، و الوجدان قائم علی أنّه إذا تعلّق الشوق بشیء ، فکلّ ما یکون فی طریقه فهو مشتاق إلیه دون ما لیس کذلک .

هذا تمام الکلام فی المقام ، و یبقی التحقیق عن ثمرة البحث .

.ثمرة النّزاع بین المشهور و الفصول

اشارة

ذکر صاحب الفصول فی بیان ترتّب الثمرة علی مختاره ما ملخّصه (1) : إنّ الأمر بالشیء یقتضی إیجابه لنفسه و إیجاب ما یتوقّف علیه من المقدّمات للتوصّل إلیه ، و من جملة المقدّمات ترک الأضداد المنافیة للفعل ، لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة .

و توضیحه : إنّ هذه الثمرة تترتّب علی النزاع فیما لو أُمر - مثلاً - بإنقاذ

ص:90


1- 1) الفصول الغرویّة : 86 .

الغریق و توقّف ذلک علی ترک الصّلاة ، بناءً علی المقدّمات التالیة :

1 - أن یکون ترک أحد الضدّین مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ، کأن یکون ترک الصّلاة مقدّمة لفعل الإنقاذ .

2 - أن یکون الأمر بالشیء مقتضیاً للنهی عن ضدّه ، فإذا وجب الإنقاذ کان الصّلاة مورداً للنهی .

3 - أن یکون النهی عن العبادة مقتضیاً للفساد ، فتکون الصّلاة باطلة فی المثال .

فبناءً علی أنّ الواجب مطلق المقدّمة - کما علیه المشهور - فالصّلاة باطلة ، للمقدّمات المذکورة ، و أما بناءً علی أنّه خصوص المقدّمة الموصلة - کما علیه صاحب الفصول - فصحیحة ، لأنّ الإتیان بالصّلاة لیس نقیضاً لترکها الموصل إلی الإنقاذ حتی تکون مورداً للنهی فتبطل ، بل نقیض ترک الصّلاة الموصل إلی الإنقاذ هو عدم هذا الترک الموصل ، و هو - أی ترک الصّلاة کذلک - لیس عین الصّلاة لیتوجّه النهی إلیها فتبطل ، بل إن عدم ترکها یمکن أن یتحقّق بفعلها و أن یتحقّق بفعلٍ آخر کالنوم مثلاً . فهذه هی الثمرة ، ذکرها فی الفصول و قرّرها المحقّق الخراسانی فی الکفایة .

إشکال الشیخ

ثمّ ذکر فی ( الکفایة ) (1) إشکال الشیخ الأعظم علی الثمرة ، و أنّ مقتضی القاعدة هو البطلان علی کلا القولین ، بتقریب : إن نقیض ترک الصّلاة الموصل إلی الإنقاذ له فردان : فعل الصّلاة أو ترکها المجرّد عن الإیصال إلی الإنقاذ ، و بناءً علی اقتضاء الأمر بالشیء لحرمة نقیضه ، فإنّه تسری الحرمة إلی کلٍّ من الفردین ،

ص:91


1- 1) کفایة الأُصول : 121 .

فتبطل الصّلاة علی القولین .

جواب الکفایة

و أجاب عنه صاحب الکفایة : بالفرق بین نقیض الترک الموصل و الترک المطلق ، و حاصله : إنّ نقیض ترک الصّلاة المطلق هو الصّلاة ، فترک الترک هو فعلها ، و إذا کان الانقاذ واجباً و الصّلاة نقیضه ، فإنّ الإتیان بها منهیٌّ عنه ، فتبطل ...

أمّا بناءً علی مسلک الفصول و أنّ المقدّمة لتحقّق الإنقاذ هو ترک الصّلاة الموصل ، فإنّ النقیض عدم هذا الترک ، وعلیه ، فیکون فعل الصّلاة مقارناً لهذا الترک - إذ أنّه یتحقّق بفعلٍ آخر کالنوم مثلاً - و إذا کان مقارناً ، فإنّ حرمة الشیء لا تسری إلی مقارنه ، فلا تکون الصّلاة باطلة .

أقول :

ملخّص إشکال الشیخ : أمّا علی المشهور ، فإنّ فعل الصّلاة و إنْ لم یکن نقیض المقدّمة فهو مصداق لنقیضها أو لازمٌ له ، فالنقیض لترک الإنقاذ هو ترک ترک الإنقاذ ، و هذا منطبق علی نفس فعل الصّلاة ، فتکون فاسدة . أمّا علی مبنی الفصول ، فإنّ هذا العنوان منطبقٌ ، لکن مورد الانطباق أمران أحدهما فعل الصّلاة و الآخر مجرّد الترک ، فکلاهما مورد انطباق النقیض ... فالصّلاة فاسدة کذلک .

و ملخّص جواب الکفایة : عدم انطباق النقیض علی فعل الصّلاة ، بل هو ملازم للنقیض ، و حرمة الملازم لا یوجب حرمة الملازم الآخر ، فالثمرة مترتّبة .

بیان المحقّق الاصفهانی لانتفاء الثمرة ردّاً علی الکفایة

و ذهب المحقّق الاصفهانی (1) إلی عدم الفرق بین القولین فی النتیجة ، و هی بطلان الصّلاة . أمّا علی قول الفصول : فإنّ المقدّمة الموصلة - بناءً علی کون ترک

ص:92


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 150 .

الضدّ مقدّمةً للضدّ الآخر - إمّا هی العلّة التامّة و إمّا هی المقدّمة التی لا تنفک عن ذیها .

أمّا بناءً علی کونها العلّة تامّةً ، فإنّ المقدّمة هی ترک الصّلاة و إرادة الإنقاذ ، فالعلّة مرکّبة من هذین الجزءین ، و نقیض ترک الصّلاة هو فعلها ، کما أنّ نقیض إرادة الإنقاذ هو عدم إرادته ، فالعلّة التامّة مجموع الجزءین - ترک الصّلاة و إرادة الإنقاذ - و هذا المجموع واحد اعتباری و النقیض هو : وجود الصّلاة و عدم إرادة الإنقاذ ، و هذا المجموع أیضاً واحد اعتباری ، لکنّ الذی هو مقدّمة حقیقةً هو ترک الصّلاة خارجاً و وجود الإرادة خارجاً ، أمّا مجموعهما فلیس بموجودٍ فی الخارج بل هو أمر اعتباری کما تقدّم ، و إذا کان متعلّق الأمر الوجوبی الغیری ترک الصّلاة و وجود الإرادة ، فإنّه یستلزم النهی عن نقیضهما و هما فعل الصلاة و عدم إرادة الإنقاذ ، فیحرم هذان حرمةً واحدة ، کما وجب ترک الصّلاة و وجود الإرادة بوجوبٍ واحد ... و إذا تعلّقت الحرمة بالصّلاة بطلت .

و حاصل هذا هو أنّ الصّلاة بنفسها تکون نقیضاً للمقدّمة .

و أمّا بناءً علی أن المقدّمة هی المقدّمة التی لا تنفک عن ذیها و یترتّب علیها ذو المقدّمة ، فإنّها مرکّب من الشیء - و هو الترک - . و تقییده بقیدٍ و هو الموصلیّة ، و الترک أمر عدمی و الموصلیّة أمر وجودی ، و نقیض ذلک العدمی هو فعل الصّلاة ، و نقیض ذلک الوجودی هو عدم الموصلیّة ، و کما کانت المقدّمة کذلک متعلّق الوجوب ، فنقیضها أیضاً یکون متعلّق النهی ، فتکون الصّلاة محرمة ، فهی باطلة .

إشکال الأُستاذ

و أورد علیه الأُستاذ :

أوّلاً : إنّ تعدّد النقیض ظرفه هو الخارج ، و لکن الوجود الخارجی لفعل الصّلاة و عدم إرادة الإنقاذ مسقط للتکلیف ، و لیس وجود التکلیف حتّی یکون

ص:93

محکوماً بالحرمة فالفساد .

و ثانیاً : هذا الجواب بظاهره غیر کاف ، لأنّه یتکفّل الجواب عن الشق الأوّل و هو کون المقدّمة الموصلة هی العلّة التامّة . و أمّا الشق الثانی و هو کونها المقدّمة التی لا تنفک عن ذیها ، فلم یذکر جوابه ، و لعلّ الجواب هو : أنّکم قد اعترفتم أن لا نقیض للترک الخاص بما هو ، لأنّه لیس رفعاً لشیء و لا هو مرفوع بشیء ، ثمّ قلتم : بل نقیض الترک المرفوع به الفعل و نقیض خصوصیّته عدمها الرافع لها .

فیکون الفعل محرّماً لوجوب نقیضه .

فأقول : إذا لم یکن نقیضاً فهو ملازم أو مقارن کما قال صاحب الکفایة . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ متعلّق الوجوب هو الترک الخاص کما ذکرتم ، و الفعل لیس نقیضاً للترک الخاص لوجود فرد آخر و هو النوم أو أیّ فعل وجودی آخر ... .

و علی الجملة ، فإنّ النقیض - کما ذکر هذا المحقّق - إمّا الرفع للشیء و إمّا المرفوع بالشیء ، و المقصود من رفع الشیء عدمه ، و من المرفوع به الوجود الذی به یرتفع العدم ، و علی هذا ، فإنّه لما کان العلّة التامّة هنا هی ترک الصّلاة الموصل و إرادة الإنقاذ ، کان نقیض الترک المذکور هو فعل الصّلاة لأنّه المرفوع بترکها ، لکنّ کون فعل الصّلاة نقیضاً للعلّة التامّة محال ، لأنّها لیست برفعٍ للعلّة التامّة لأنّها وجودیّة و الرفع عدم ، و لا هی مرفوع بالعلّة التامّة ، لأنّ المفروض کون العلّة التامّة مرکّبة من وجود إرادة الإنقاذ و من عدم الصّلاة ، و إذا لم تکن رفعاً للعلّة و لا مرفوعاً بها ، استحال أن تکون نقیضاً ، فلا یتعلّق بها النهی فلا فساد . فالحقّ مع الکفایة .

و تلخّص : إنّه بناءً علی تمامیّة المقدّمات الثلاث فالثمرة مترتّبة ، و لکنّ الکلام فی تمامیّتها لا سیّما الأُولی منها .

و هذا تمام الکلام فی النفسی و الغیری ، و الحمد للّٰه .

ص:94

هل المقدّمة واجبةٌ شرعاً ؟

اشارة

ص:95

ص:96

و قد وقع الکلام بین الأعلام فی المقدّمة ، هل هی واجبة بالوجوب الشرعی أو إنها لابدیّة عقلیة ؟

و الأقوال المهمّة فی المسألة أربعة ، قد ذکرها صاحب الکفایة أیضاً .

1 - الوجوب مطلقاً .

2 - عدم الوجوب مطلقاً .

3 - التفصیل بین السبب و غیره .

4 - التفصیل بین المقدّمة الشرعیّة و غیرها .

.مقتضی الأصل العملی

اشارة

إلّا أنّ المحقّق الخراسانی قدّم البحث عن مقتضی الأصل فی المقام علی ذکر الأدلّة ، و تبعه علی ذلک غیره ، قال (1) :

اعلم أنّه لا أصل فی محلّ البحث فی المسألة ، فإن الملازمة بین وجوب المقدمة و وجوب ذی المقدّمة و عدمها ، لیست لها حالة سابقة ، بل تکون الملازمة أو عدمها أزلیّةً ، نعم ، نفس وجوب المقدّمة یکون مسبوقاً بالعدم ، حیث یکون حادثاً بحدوث وجوب ذی المقدّمة ، فالأصل عدم وجوبها .

و الحاصل : إن هنا مسألتین ، مسألة أُصولیّة ، و هی هل وجوب ذی المقدّمة

ص:97


1- 1) کفایة الأُصول : 125 .

یلازم وجوب المقدّمة أو لا ؟ فهذه مسألة کبرویة أُصولیة تقع فی طریق استنباط الحکم الشرعی ، فإذا ثبتت الملازمة أفتی الفقیه بوجوب المقدّمة وجوباً شرعیّاً ، و إلّا فلا .

و مسألة فقهیّة فرعیّة ، هل المقدّمة واجبة أو لا ؟

إذا علم هذا ، فإنّ الأصل المطروح فی المقام هو الاستصحاب ، و صاحب الکفایة یری جریانه فی المسألة الفقهیّة دون المسألة الأُصولیّة ، فمن قوله « اعلم ... » یرید الأُصولیّة ، و من قوله : « نعم ... » یرید الفقهیّة ، فالکلام فی مقامین :

المقام الأوّل ( مقتضی الأصل فی المسألة الأُصولیة )

إنّه یمکن طرح الاستصحاب فی الأُصولیّة فی الجعل ، بأن یکون الأصل عدم جعل الملازمة ، و یمکن طرحه فی المجعول ، بأن یکون الأصل عدم الملازمة نفسها ... .

یقول المحقّق الخراسانی بعدم جریان الاستصحاب فی المسألة الأُصولیّة لعدم تمامیّة أرکانه فیها ، لعدم الحالة السابقة ، بل تکون الملازمة أو عدمها أزلیةً .

و توضیح ذلک : قالوا إنّ هناک أُموراً تلازم الماهیّة و لا تنفکُّ عنها ، سواء کانت الماهیّة موجودةً أو لا ، کالزوجیّة بالنسبة إلی الأربعة کما یقولون . و إنّ هناک أُموراً تلازم وجود الماهیّة کالحرارة الملازمة لماهیّة النار الموجودة خارجاً ... .

و علی هذا ، فإنّ لوازم الماهیّة لا تکون مسبوقة بالعدم ، بخلاف لوازم الوجود فلها حالة سابقة ، لأنّها قبل أن تکون الماهیّة کانت معدومة و بوجودها وجدت .

ثمّ إنه یقول بأنّ الملازمة بین وجوب المقدّمة و وجوب ذیها هی من قبیل لوازم الماهیّة لا من قبیل لوازم وجودها ، فإنّ وجوب المقدّمة لا ینفک عن وجود

ص:98

ذیها کما لا تنفکّ الزوجیّة عن الأربعة ، إنّها ملازمة موجودة عند العقل ... فلیس لها حالة سابقة حتی تکون مجری الاستصحاب .

قال الأُستاذ :

أوّلاً : إنّ کلام المحقّق الخراسانی مبنی علی أن تکون الملازمة من لوازم الماهیّة ، و أمّا بناءً علی أنّها من لوازم الوجود ، فإنّه کلّما وجد وجوب ذی المقدّمة استلزم وجود وجوب المقدّمة ، فالملازمة بین الوجودین ، و قد تقرّر أن الوجودین مسبوقان بالعدم فکذا لازمهما ، فالملازمة لها حالة سابقة .

و ثانیاً : إنّه یعتبر فی المستصحب أن یکون إمّا حکماً شرعیّاً و إمّا موضوعاً لحکم شرعی ، لکنّ الملازمة بین الوجوبین لیست بحکم شرعی بل هی من الموضوعات التکوینیّة ، و لا هی موضوع لحکم شرعی لعدم ترتّب شیء من الأحکام الشرعیّة علیها ، وعلیه ، فإنّه لو أجری الاستصحاب فی الملازمة ، کان لازم هذا الاستصحاب هو وجوب المقدّمة شرعاً وجوباً غیریّاً ، فکان وجوبها أثراً عقلیّاً للاستصحاب ، و هو أصل مثبت .

و تلخّص : إنّ الملازمة إن کانت من لوازم الوجود لا الماهیّة ، فلها حالة سابقة خلافاً لصاحب الکفایة ، لکنّ الاستصحاب لا یجری إلّا بناءً علی القول بالأصل المثبت ، فظهر الفرق علماً و عملاً . أمّا علماً ، فالملازمة هی بین وجودی الماهیّتین لا نفس الماهیّتین . و أمّا عملاً ، فإنّ الاستصحاب یکون جاریاً عند من یقول بحجیّة الأصل المثبت .

قال الأُستاذ :

لکنّ التحقیق عدم معقولیّة أنْ یکون للماهیّة لوازم ، و عدّهم الزوجیّة من لوازم الأربعة غیر صحیح ، لأنّ الزوجیّة ماهیّة و الأربعة ماهیّة ، و لا یعقل استلزام

ص:99

ماهیّةٍ لماهیّةٍ أُخری ، لکون الماهیّات متباینات بالذات . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّه لا یتصوّر أنْ یکون للماهیّة - بقطع النظر عن الوجود - استلزام ، لأن کون الشیء ذا لزوم أمر وجودی ، و الملازمة من الأُمور الوجودیّة ، فکیف تستلزم الماهیّة من حیث هی هی أمراً وجودیّاً ؟

نعم ، الزوجیّة تلازم الأربعة ، لکنْ بوجودها الذهنی أو الخارجی .

المقام الثانی ( مقتضی الأصل فی المسألة الفقهیّة )

و أمّا فی المسألة الفقهیّة ، فالأصل المطروح هو الاستصحاب و البراءة بقسمیها ، کما أنّ الاستصحاب یطرح فی عدم الجعل و هو الوجوب ، و عدم المجعول ، أی عدم الوجوب ، فهی أربعة أُصول فی هذا المقام .

قال صاحب الکفایة : بجریان الاستصحاب فی الوجوب ، و قال جماعة :

بعدم جریانه ، وعلیه فی المحاضرات ... و تحقیق ذلک فی جهتین :

الجهة الأُولی : هل للاستصحاب مقتضٍ فی هذا المقام ؟

قال جماعة : بعدم وجود المقتضی للاستصحاب بالنسبة إلی عدم الوجوب خلافاً للخراسانی صاحب الکفایة ، لأنّ الوجوب حادث ، فأرکان الاستصحاب فیه تامّة . أمّا وجه عدم الجریان فهو : أنّ وجوب المقدّمة لا یقبل الجعل ، فلا معنی لاستصحاب العدم فیه ، و الدلیل علی عدم قبول وجوب المقدّمة للجعل هو : أنّ وجوبها من لوازم وجوب ذیها کما تقدّم ، و اللّوازم غیر قابلة للجعل ، لا الجعل البسیط - و هو مفاد کان التامّة - و لا الجعل التألیفی الذی هو مفاد کان الناقصة .

و قد أجاب المحقّق الخراسانی : بأنّ وجوب المقدّمة من لوازم وجوب ذیها ، و هو آبٍ عن الجعل البسیط و التألیفی کما ذکر ، لکنّه لا یأبی عن الجعل التبعی ، إذ اللزوم فی لوازم الماهیّة هو بمعنی التبعیّة ، لأنّ جعل الماهیّة یکفی

ص:100

لانتزاع لوازمها منها ، فیکون اللّازم مجعولاً بتبع جعل الماهیّة ... و إذا کان قابلاً للجعل کان مجریً للاستصحاب (1) .

قال الأُستاذ

إن أراد من الجعل التبعی أنّ وجوب المقدّمة مجعول بجعل مستقل غیر أنّه لا ینفک عن وجوب ذیها ، فهو مجعولٌ بالجعل البسیط ، فهذا ینافی نفیه للجعل البسیط .

و إن أراد أنّ الجعل یتعلّق بوجوب المقدّمة بالعرض ، کما أنّ الزوجیّة مجعولة بجعل الأربعة ، و الفوقیّة مجعولة بجعل الفوق ، ففیه : إنّه لیس کذلک ، لأنّ هناک إرادة متعلّقة بالمقدّمة و إرادة أُخری متعلّقة بذی المقدّمة ، فتلک غیریّة و هذه نفسیّة ، و لکلٍّ جعل علی حده ، و لیس المقدّمة مجعولةً بجعل عرضی .

فالحق : إنّ المقدّمة قابلة لتعلّق الجعل بالجعل البسیط ، فلجریان الأصل فیها مجال ، بالبیان الذی ذکرناه .

و قال آخرون - منهم السیّد البروجردی (2) - بعدم جریان الأصل ، من جهة أنّ وجوب المقدّمة فی حال وجوب ذیها قهری ذاتی ، و ما کان کذلک فلا یقبل الجعل ، و ما لا یقبله فلا یجری فیه الأصل .

قال الأُستاذ

ما المراد من أنّ « وجوب المقدّمة ذاتی و قهری بالنسبة إلی ذی المقدّمة » ؟

إن کان المراد أنّه إذا تحقّق الوجوب لذی المقدّمة ، ثبت للمقدّمة بصورةٍ قهریّة ، فإنّ هذا یتم فی الإرادة دون الوجوب ، إذ الإرادة إذا تحقّقت بالنسبة إلی

ص:101


1- 1) کفایة الأُصول : 124 - 125 .
2- 2) نهایة الأُصول : 181 .

ذی المقدّمة تتحقّق قهراً بالنسبة إلی مقدّمته ، لکنّ الإرادة من الصفات ، و الوجوب من الأفعال ، فتلک الحالة بالنسبة إلی الإرادة متصوّرة و واقعة ، أمّا الوجوب فیحتاج إلی موجب ، و هو فعل اختیاری للمولی ، یمکن أن یجعله و أن لا یجعله ، بخلاف الإرادة .

و أشکل علی الاستصحاب هنا - و اعتمده فی المحاضرات (1) - بأنّه لا أثر له ، بعد استقلال العقل بلزوم الإتیان بالمقدّمة ، فلا معنی لجریانه .

و أجاب المحقّق الأصفهانی : بأنّ اعتبار الأثر للاستصحاب إنّما هو حیث لا یکون المستصحب نفسه حکماً مجعولاً شرعیّاً ، و إلّا فلا حاجة إلی اشتراط الأثر .

قال الأُستاذ : لکنّ أثر جعل الحکم هو تحریک العبد ، فیجعل الوجوب مثلاً لأن یکون داعیاً له للفعل ، و مع وجود الداعی - و هو اللّابدیة العقلیّة - لا یبقی للوجوب داعویّة للعبد من أجل التعبّد ، فإنْ کان للوجوب أثر آخر فهو و إلّا فلا حاجة إلیه .

هذا تمام الکلام فی الاستصحاب .

و أمّا البراءة :

فإنّ العقلیّة غیر جاریة ، لأنّ مجراها هی الشبهات الحکمیّة للتکالیف الإلزامیّة ، و علی القول بوجوب المقدّمة ، فإنّ ترکها لا یستتبع استحقاق العقاب ، فلا موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بیان .

و أمّا الشرعیّة ، فإن قلنا : بأنّ وجوب المقدّمة من لوازم الماهیّة ، و هی غیر قابلة للجعل ، فلا یجری حدیث الرفع فی المقدّمة ، إذ ما لا یقبل الجعل لا یقبل

ص:102


1- 1) محاضراتٌ فی أُصول الفقه : 2 / 278 .

الرفع .

و إن قلنا : بقابلیّته للجعل تبعاً - کما علیه المحقّق الخراسانی - فیقبل الرفع ، إذ لا فرق بین الاستقلالیة و التبعیة هنا .

و علی المختار من کون وجوب المقدّمة قابلاً للجعل البسیط الاستقلالی ، فالبراءة جاریة .

هذا ، و لا تجری البراءة الشرعیة - علی القول بکون وجوب المقدّمة من لوازم وجوب ذیها - من جهةٍ أُخری أیضاً ، و هی : أنّ لازم هذا القول أن یکون وضع وجوب المقدّمة بوضع وجوب ذی المقدّمة ، و ما کان وضعه بوضع غیره فلا یقبل الرفع إلّا برفع ذلک الغیر ، و لذا قالوا بأن حدیث الرفع لا یرفع الجزئیّة - مثلاً - لکونها مجعولةً بجعل الأمر المتعلّق بالمرکّب الذی هو منشأ انتزاعها ، إذ لیس لها وضع استقلالی ، فلا رفع کذلک .

لکنّ التحقیق أنّه لیس وجوب المقدّمة من لوازم ماهیّة وجوب ذیها ، بل له وجود مستقل .

و أورد فی المحاضرات : بأنّه لا أثر لأصالة البراءة الشرعیّة بعد حکم العقل بلابدّیة الإتیان بالمقدّمة ، لتوقف الواجب النفسی علیها .

فأفاد الأُستاذ : بأنّ هذا الإشکال یبتنی علی عدم ترتّب ثمرةٍ من الثمرات المذکورة سابقاً علی الإتیان بالمقدّمة ، لکنّ تصویر الثمرة ممکن ، فمثلاً : بناءً علی عدم جواز أخذ الأُجرة علی الواجب الشرعی ، فإنّه إنْ جرت البراءة الشرعیّة عن وجوب المقدّمة سقطت عن الوجوب ، و لا یبقی إشکال فی جواز أخذ الأُجرة علیها ... .

هذا تمام الکلام فی مرحلة المقتضی لجریان الأصل فی المقام .

ص:103

و أمّا المانع ، فقد ذکر فی الکفایة : إنّ استصحاب عدم الوجوب الشرعی للمقدّمة یستلزم التفکیک بین المتلازمین فی صورة الشک ، قال رحمه اللّٰه : « نعم لو کانت الدعوی هی الملازمة المطلقة حتی فی مرتبة الفعلیة لما صح التمسّک بالأصل » (1) هکذا فی نسخةٍ . و فی أُخری « صحّ التمسّک » و عن بعض تلامذته أنّ « لما صحّ » کانت فی الدّورة السابقة ، و« صحّ » فی الدورة اللّاحقة .

و حاصل الکلام : وجود المانع عن جریان الأصل - بعد تمامیّة المقتضی له - و هو لزوم التفکیک بین الوجوبین .

فأجاب رحمه اللّٰه عن الإشکال : أمّا بناءً علی کلمة « لما صح » بأنّ الإشکال إنّما یرد لو کانت الملازمة بین الوجوبین ظاهراً و واقعاً ، أمّا لو قلنا بأنّها فی الواقع فقط ، دون مقام جریان الأصل ، فلا ملازمة بین الوجوبین ، إذ للشارع أن یتصرّف فی مرتبة الظاهر و یرخّص بالنسبة إلی المقدّمة بجریان أصالة عدم وجوبها فیها .

و أمّا بناءً علی کلمة « صحّ » فتقریب الإشکال هو : إنّ إجراء البراءة عن وجوب المقدّمة یعنی الشک فی الملازمة و وقوع التفکیک بین المتلازمین احتمالاً ، و هذا محال کالتفکیک بینهما قطعاً .

فأجاب رحمه اللّٰه - فیما حکاه المحقّق القوچانی - بأنّه فی کلّ موردٍ یوجد دلیلٌ یستلزم الأخذ به محالاً من المحالات ، فإنّ ظهور ذلک الدلیل یکون حجةً علی أنْ لا موضوع لذلک اللازم المحال ... و یؤخذ بالدلیل ... و هذا هو البیان الذی مشوا علیه فی جواب شبهة ابن قبة فی حجیّة خبر الواحد باحتمال لزوم تحلیل الحرام و تحریم الحلال من العمل بخبر الواحد ، و احتمال لزوم اجتماع الضدّین أو النقیضین من جهة تعذّر الجمع بین الحکمین الظاهری و الواقعی .

ص:104


1- 1) کفایة الأُصول : 126 .

و قد استفاد المحقّق الخراسانی من هذا المطلب لیعطی الجواب عن إشکال لزوم التفکیک فی المقام ، فهو یقول بأنّ عمومات أدلّة الاستصحاب و أدلّة البراءة الشرعیّة حجّة علی عدم الملازمة ، فلا موضوع للّازم المحال و هو التفکیک بین المتلازمین ... .

و الحاصل : إنّ التعبّد بالأدلّة یثبت عدم وجود الملازمة ، فصحّ جریان الأصل و تمّ عدم وجوب المقدّمة .

هذا تمام الکلام فی مقتضی الأصل فی وجوب المقدّمة .

.أدلّة الأقوال فی مقدّمة الواجب

اشارة

قد ذکرنا الأقوال ، و نتعرّض هنا لأدلّتها :

.دلیل القول بالوجوب مطلقاً :

اشارة

و قد استدل للقول بالوجوب مطلقاً بوجوه :

الأوّل

إنّ الإرادة التشریعیّة علی وزان الإرادة التکوینیّة ، فکما أنّ التکوینیّة إذا تعلّقت بشیء تعلّقت بمقدّمته المتوقّف علیها ، غیر أنّ تلک إرادة نفسیّة و هذه غیریّة ، کذلک التشریعیّة ... و إن کان فرق بین الإرادتین من حیث أنّ التکوینیّة متعلّقها فعل النفس ، و التشریعیّة متعلّقها فعل الغیر عن اختیار . و هذا ما اعتمده فی ( الکفایة ) (1) .

و هو أقوی الوجوه ، إذ لا ریب فی شیء من مقدّماته . إلّا أنّ تمامیّة هذا الوجه متوقّفة علی معرفة حقیقة الحکم ، لأنّ الدلیل أفاد أنّه إن حصل الشوق الواصل إلی حدّ النصاب بالنسبة إلی المقدّمة تحقّق الوجوب الغیری لها ، فهل هذا

ص:105


1- 1) کفایة الأُصول : 126 .

صحیح ؟

قیل : إنّ الحکم فعل اختیاری .

و قیل : إنّه الإنشاء بداعی جعل الداعی .

و قیل : إنّه اعتبار لابدّیة شیء أو حرمان المکلّف من شیء .

و القدر المشترک بین هذه الأقوال هو إنّ الحکم فعل اختیاری .

و فی المقابل قول المحقّق العراقی من أنّ الحکم هو الإرادة المبرزة و الکراهة المبرزة .

فعلی القول بأنّه فعل اختیاری ، فلا محالة تکون الإرادة التشریعیّة - و هی الشوق البالغ حدّ النصاب - أجنبیّة عن الفعل . أمّا علی القول بأنّه الإرادة المبرزة ، فلا تکون الإرادة التشریعیّة بلا إبراز حکماً ، اللّهم إلّا أن یبرز الإرادة بالنسبة إلی المقدّمة ، کأن یقول : ادخل السوق و اشتر اللّحم .

نعم ، یتم الاستدلال لو قیل بأن حقیقة الحکم نفس الإرادة و الکراهة .

الثانی

وقوع الأمر بالمقدّمة فی القضایا التکوینیّة کقوله : ادخل السوق و اشتر اللحم ، و فی القضایا الشرعیّة کما فی الخبر : « اغسل ثوبک من أبوال ما لا یؤکل لحمه ... » (1) و الأصل فی الاستعمال هو الحقیقة ، و الأمر ظاهر فی الوجوب . و هذا الوجوب الثابت للمقدّمة غیری بالاستقراء ، لأنّ الوجوب إمّا إرشادی و إمّا مولوی طریقی و إمّا مولوی نفسی و إمّا غیری . أمّا الإرشادی ، فهو إرشاد إلی حکم العقل فی المورد کما فی «أَطیعُوا اللّٰهَ وَأَطیعُوا الرَّسُولَ ... » (2)فهنا یوجد الحکم العقلی

ص:106


1- 1) وسائل الشیعة 3 / 405 الباب 8 من أبواب النجاسات .
2- 2) سورة النساء : 59 .

و لا یمکن أن یکون الأمر بالإطاعة حکماً شرعیّاً مولویاً ، فیحمل علی الإرشادیة ، لکنْ لیس فی مقامنا حکم من العقل ، فهو لا یقول بلزوم الإتیان بالمقدّمة ، بل یقول بلابدّیته و هو غیر اللزوم و الوجوب ، و أیضاً ، ففیما نحن فیه یمکن الحکم المولوی .

و أمّا المولوی الطریقی ، فلا معنی له هنا ، إذ الحکم المولوی الطریقی ما یجعل للتحفّظ علی الواقع ، و فیما نحن فیه لا جهل بالواقع حتّی یجعل حکم الوجوب للاحتفاظ علیه .

و أمّا المولوی النفسی ، فالمفروض أنّ بحثنا فی المقدّمة .

فانحصر کون الوجوب هنا غیریّاً ... فیکون الأمر بغسل الثوب واجباً غیریّاً .

و الجواب :

و قد أجاب الأکابر عن هذا الاستدلال : بأنّ هناک شقّاً آخر و هو : الإرشادیّة إلی الشرطیّة ، بأن یکون الأمر بغسل الثوب إرشاداً إلی شرطیّة الطهارة من الخبث فی صحّة الصّلاة .

قال الأُستاذ

و هذا الجواب الذی ارتضاه فی المحاضرات أیضاً (1) ، إنّما یتمّ فیما إذا کان الشیء شرطاً ، کاشتراط الصّلاة بطهارة اللباس ، و بالطهارة من الحدث کما فی «یٰا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا ... » (2)، أمّا فی مثل : اذهب إلی السوق و اشتر اللحم ، فلیس دخول السّوق شرطاً و لا مقدّمةً لشراء اللحم ، و إنّما هو مقدّمة وجودیّة .

ص:107


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 280 .
2- 2) سورة المائدة : 6 .

و کذا الحمل علی الارشاد إلی المقدمیّة ، ففیه : إنّه من الواضح فی مثل :

ادخل السّوق و اشتر اللحم ، کون الدخول مقدمةً للشراء ، و لا حاجة إلی التنبیه و الإرشاد إلیه .

( قال ) و الذی یمکن أن یقال فی الجواب : إنّ لابدّیة الإتیان بمتعلّق الأمر هی لترتّب ذی المقدّمة علیه ، و هذه الخصوصیّة تمنع من انعقاد الظهور العرفی للأوامر الشرعیّة المتعلّقة بالمقدّمات فی الطلب المولوی .

لا یقال : إنّه بعد ثبوت حکم العقل بلابدیّة المقدّمة ، من باب الملازمة العقلیة بین المقدمة و ذیها ، یکون المقام من صغریات قاعدة الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع ، فیتم الحکم الشرعی ، أعنی وجوب المقدّمة شرعاً .

لأنّ الأصحاب قد نفوا الوجوب الشرعی هنا مع قولهم بقانون الملازمة .

و بیان ذلک بحیث یکون نافعاً فی سائر الموارد هو :

إن العقل ، سواء قلنا بأنه حاکم أو مدرک فقط ، إنما یحرّک المکلّف و یحمله علی امتثال حکم المولی حتی یخرج عن عهدة التکلیف ، فیما إذا لم یکن قبله حکم من الشرع ، لأنّ حکم الشرع السابق علی حکم العقل یکون کافیاً لداعویّة العبد ، و فی مثل هذه الحالة لا أثر للحکم العقلی لیکون مورداً لقاعدة الملازمة ، علی أنّه یستلزم التسلسل ، لأنّ الحکم العقلی لو استتبع حکماً شرعیّاً ، کان الحکم الشرعی موضوعاً لوجوب الإطاعة عقلاً ، و وجوب الإطاعة لو استتبع حکماً شرعیّاً ، کان موضوعاً لوجوب الإطاعة کذلک ، و هکذا فیتسلسل . و من هنا قالوا :

الأحکام العقلیّة التی هی فی طول الأحکام الشرعیّة لیست مورداً لقاعدة کلّ ما حکم به العقل حکم به الشرع .

بل الأحکام العقلیّة التی هی مورد القاعدة هی الأحکام العقلیّة الواقعة فی

ص:108

سلسلة علل الأحکام الشرعیّة ، بمعنی أنّ العقل إذا أدرک المصلحة الملزمة غیر المزاحمة بالمفسدة ، أو المفسدة الملزمة غیر المزاحمة بالمصلحة ، فإنّ تلک المصلحة أو المفسدة تکون علّةً للوجوب أو الحرمة ، لکون الأحکام الشرعیّة تابعة للمصالح و المفاسد ، فمثل هذه الأحکام تکون مورداً للقاعدة .

و الحاصل : إنّ الأحکام العقلیّة علی قسمین ، فما کان منها فی طول الأحکام الشرعیّة فلا یکون مورداً للقاعدة ، و ما کان منها فی سلسلة العلل لها فهی مورد للقاعدة .

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ مورد بحثنا خارج خروجاً موضوعیّاً عن مورد القاعدة ، لأنّه لیس فی مقامنا إلّا درک العقل التلازم فی الإرادة و الاشتیاق بین المقدّمة وذی المقدّمة ، و هذا التلازم أمر تکوینی و لیس وظیفةً للعبد ، فالعقل یری هذه اللّابدّیة لکن لا بعنوان کونها وظیفةً من وظائف العبودیّة ... .

و تلخّص : عدم تمامیّة القول بالوجوب الشرعی للمقدّمة عن طریق قانون الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع .

الثالث

ما نقله فی الکفایة عن أبی الحسین البصری (1) و هو أنّه : لو لم تجب المقدّمة لجاز ترکها ، و إذا تحقّق الترک ، فلا یخلو حال ذی المقدّمة من أنْ یبقی علی وجوبه فیلزم التکلیف بما لا یطاق ، أو یخرج عن الوجوب المطلق و یکون مشروطاً بوجود المقدّمة ، و هذا خلف .

أجاب فی الکفایة : بعدم لزوم شیء من المحذورین ، بعد حکم العقل

ص:109


1- 1) مع اصلاح الاستدلال بأن یکون المراد من « جواز الترک » : عدم المنع لا الاباحة ، و انّ الموجب للتکلیف بما لا یطاق هو الترک لا جواز الترک .

بلابدّیة الإتیان بالمقدّمة ، فلو ترک المقدّمة - مع ذلک - لزم سقوط الأمر بذی المقدّمة بالعصیان ، فالأمر غیر باقٍ حتی یلزم التکلیف بما لا یطاق .

و أشکل المحقّق الإیروانی (1) علی الکفایة : بأنّ هذا الجواب یتم علی القول بجواز خلوّ الواقعة عن الحکم الشرعی . و أمّا بناءً علی أنّ لکل واقعة حکماً شرعیاً ، فإنّه إن لم تجب المقدّمة فهی مباحة شرعاً ، و مع الإباحة تکون موضوعاً لحکم العقل بالرخصة ، و إذا جاء الترخیص بالنسبة إلی المقدّمة أمکن ترک ذی المقدّمة أیضاً ، فینقلب وجوبه عن الإطلاق إلی الاشتراط بالإتیان بالمقدّمة .

و هذا هو الخلف .

و الحاصل : إنّ جواب الکفایة عن الاستدلال مبنائی .

و الأُستاذ وافق علی إشکال المحقّق الإیروانی ، لکنّه ذکر أنّ المبنی الصحیح ما ذهب إلیه فی الکفایة ، إذ لا دلیل علی ضرورة وجود حکم شرعی فی کلّ واقعة ، بل الحکم العقلی أیضاً وظیفة مخرجة للعبد من الحیرة . و بعبارة أُخری : لا بدّ من تعیین الوظیفة فی کلّ واقعةٍ سواء کانت من ناحیة العقل أو الشرع .

.دلیل القول بعدم وجوب المقدّمة

و استدلّ للقول بعدم وجوب المقدّمة شرعاً ، باستحالة الوجوب بلا ملاک ، و ملاک جعل الوجوب فی المقدّمة إمّا تحریک العبد نحو العمل ، و إمّا إسناد العمل إلی أمر المولی إن کان العبد متحرّکاً و منبعثاً (2) . و لیس فی وجوب المقدّمة شیء من الملاکین .

أمّا أن یکون لأجل تحریکه ، فقد تقدّم کفایة اللابدّیة العقلیة .

ص:110


1- 1) نهایة النهایة 1 / 183 .
2- 2) إن کان العبد منبعثاً و متحرّکاً نحو العمل ، فجعل الوجوب من أجل تحریکه تحصیل للحاصل و هو محال ، بل جعله لأجل إسناد العمل و اضافته إلی المولی لیکون مقرّباً إلیه .

و أمّا أن یکون لأجل الإضافة إلی المولی فیکون مقرّباً ، فإنْ قلنا : بأن المقدّمة معنی حرفی و لیس لها وجود مستقل ، فلا موضوع للوجوب ، و إن قلنا - کما هو الصحیح - بأنّها قابلة للنظر الاستقلالی و توجّه الأمر إلیها ، فإنّ مقربیّة الإتیان بالمقدّمة حاصلة بالإتیان بذی المقدّمة ، لأنّه إنّما یأتی بالمقدّمة بداعی التوصّل إلی ذیها ، فالمقربیّة حاصلة و لا أثر لجعل الوجوب للمقدّمة من هذه الجهة .

و مع انتفاء کلٍّ من الملاکین ، یکون جعل الوجوب للمقدّمة لغواً اللّهمّ إلّا أن یقال : بأنّ جعله لها یؤثّر أثر التأکید ، بأن یأتی بها بداعیین ، أحدهما الوجوب الغیری و الآخر التوصّل إلی ذی المقدّمة . فلا لغویّة . فیکون وجه عدم الوجوب للمقدّمة حینئذ عدم الدلیل علی وجوبها لا عدم الملاک و لزوم اللغویّة ، إذ لا دلیل شرعی علی وجوب المقدّمة ، و قد عرفت أنّ العقل غیر کاشف هنا إلّا عن التلازم بین المقدّمة و ذیها فی الشوق و الإرادة ، أمّا أن یکشف عن حکم شرعی فلا ...

و قانون الملازمة أیضاً لم یثبت حکماً شرعیّاً للمقدّمة .

فالحقّ : عدم وجوب مقدّمة الواجب شرعاً .

.دلیل التفصیل بین المقدّمات السببیّة و غیرها

فإن کانت سبباً فهی واجبة ، و إنْ کانت شرطاً فلا ، و ذلک : لأنّ القدرة علی المتعلّق شرط ، و المسبّب خارج عن القدرة ، فلا یتعلّق التکلیف به ، لکنّ السبب المتوقّف علیه مقدور ، فلا بدّ من صرف الأمر المتعلّق بالمسبّب إلی السبب ، وعلیه ، فلو أمر بالطّهارة من الحدث ، فإنّه یتوجّه إلی السبب المحصّل لها ، لأنّه المقدور دون نفس الطّهارة .

ص:111

أجاب فی الکفایة (1)

أوّلاً : إن هذا الذی ذکر لیس بدلیلٍ علی التفصیل ، بل إنّه دلیل علی أنّ الأمر النفسی إنّما یکون متعلّقاً بالسبب دون المسبّب ، فیکون السبب واجباً نفسیّاً . و هذا شیء خارج عن محلّ البحث ، و هو وجوب المقدّمة بالوجوب الغیری و عدمه .

و ثانیاً : إنّ ما ذکر من أنّ المسبّب غیر مقدور غیر صحیح ، لأنّ الشیء یکون مقدوراً بالقدرة علی سببه ، و القدرة المعتبرة فی التکالیف أعم من القدرة بالمباشرة أو بالتسبیب ، فلو أمر بالإحراق - و هو المسبّب - مع القدرة علی الإلقاء فی النار کان صحیحاً ، و لا وجه لصرفه إلی الإلقاء ، أی السبب .

و قال المیرزا (2) :

إن کان وجود العلّة غیر وجود المعلول صحّ وجوب العلّة بالوجوب الغیری ، و إن کانا موجودین بوجودٍ واحدٍ - کالإلقاء و الإحراق ، و الغسل و الطهارة من الخبث و نحوهما - فلا معنی لأنْ یکون وجوب العلّة غیریّاً و المعلول نفسیّاً .

أشکل الأُستاذ

أوّلاً : بأنّه لا یعقل وجود العلّة و المعلول بوجودٍ واحدٍ ، إذ العلّة و المعلول متقابلان ، العلّة مؤثرة و المعلول أثر ، و المتقابلان لا یوجدان بوجود واحدٍ .

و ثانیاً : ما ذکره من تعدّد الوجود فی الإلقاء و الاحتراق غیر صحیح ، لأنّ الإلقاء لا ینفک عن الإحراق ، لکنّ عدم الانفکاک أمرٌ و وجودهما بوجودٍ واحدٍ أمر آخر .

.دلیل التفصیل بین الشرط الشرعی و غیره

فإنْ کانت المقدّمة شرطاً شرعیّاً کالوضوء بالنسبة إلی الصلاة فهی واجبة ،

ص:112


1- 1) کفایة الأُصول : 128 .
2- 2) أجود التقریرات 1 / 253 .

و إنْ کانت شرطاً غیر شرعی کنصب السلّم للصعود إلی السطح الواجب فلا ، و هو قول ابن الحاجب فی ( المختصر ) و شارحه العضدی (1) ، فهو :

أنّه لو لا وجوب الشرط الشرعی شرعاً لما کان شرطاً ، حیث إنّه لیس ممّا لا بدّ منه عقلاً أو عادةً .

و الحاصل : إنّ المقدّمة إن کانت عقلیّة کطیّ الطریق للحج أو عادیّة کنصب السلّم للصعود ، فلا حاجة إلی جعل الوجوب الشرعی ، لأنّ جعله إنّما هو بداعی بعث المکلّف ، و المفروض انبعاثه عقلاً أو عادةً نحو المتعلّق ، و أمّا إن کانت المقدّمیّة شرعیّة ، فإنّ العقل لا یدرک لابدیّتها ، کلابدّیة الوضوء للصّلاة ، و هذا معنی قوله : لو لا وجوبه شرعاً لما کان شرطاً .

جواب المحقّق الخراسانی

و أجاب المحقّق الخراسانی (2) : أوّلاً : إنّ الشرط مطلقاً - شرعیّاً کان أو عقلیّاً أو عادیّاً - هو ما ینتفی المشروط بانتفائه ، وعلیه ، فالشروط الشرعیّة ترجع إلی العقلیّة .

قال الأُستاذ

و فیه : إنّه فرقٌ بین الشروط الشرعیّة و غیرها ، لأنّ غیر الشرعیّة واضحة لدی العقل ، بخلاف الشرعیّة ، إذ العقل لا یدرک لابدّیتها إلّا بعد وجوبها شرعاً ، کما تقدّم .

و أجاب ثانیاً : بأنّه لا یتعلّق الأمر الغیری إلّا بما هو مقدّمة ، فلا بدّ من إثبات مقدمیّة المقدّمة قبل تعلّق الأمر فلو کانت مقدمیّته متوقّفة علی تعلّق الأمر بها لزم الدور .

ص:113


1- 1) شرح المختصر 1 / 244 .
2- 2) کفایة الأُصول : 128 .

قال الأُستاذ

و یمکن الجواب : بأنّ الوضوء کما هو شرط و قید للصّلاة بما هی واجبة ، کذلک هو قید للصّلاة بما هی قربان کلّ تقی - مثلاً - فله دخلٌ فی وجوبها و فی الغرض منها ، لکنّ دخله فی الغرض منها غیر موقوف علی وجوبه الغیری ، بل الوجوب الغیری موقوف علی ذلک ، إذ لو لم یکن الوضوء قیداً للغرض من الصّلاة لم یتعلّق به الوجوب الغیری . وعلیه ، فقد أصبح الوجوب الغیری للوضوء موقوفاً علی دخله فی الغرض من الصّلاة ، و لیس دخله فیه موقوفاً علی وجوبه الغیری .

نعم ، مقدمیّة الوضوء للصّلاة - من حیث أنّها واجبة - موقوفة علی الوجوب الغیری . و الحاصل : إنّه قد وقع الخلط بین مقدمیّة الوضوء للواجب و مقدمیّته للغرض من الواجب .

و علی الجملة : فإن کون الوضوء شرطاً و قیداً للواجب موقوف علی مصحّح انتزاع هذه الشرطیّة و هو الوجوب الغیری ، لکنّ الوجوب الغیری موقوف علی شرطیّته للقربانیّة و غیرها من الأغراض ، فاختلف الموقوف و الموقوف علیه ، فلا دور .

الحق فی الجواب

ما ذکره المحقّق الخراسانی بالتالی ، من أنّ المصحّح لاتّصاف المقدّمة الشرعیّة بالمقدمیّة هو : الأمر النفسی المتعلّق بذی المقدّمة مقیّداً بالمقدّمة ، کقوله :

صلّ مع الطّهارة ، فإنّ مثل هذا الخطاب یکون منشأً لانتزاع المقدمیّة و الشرطیّة للوضوء بالنسبة إلی الصّلاة ، فلا یکون واجباً غیریّاً شرعاً .

هذا تمام الکلام فی مقدمة الواجب .

ص:114

ثمرة القول بوجوب المقدّمة

ذکر فی الکفایة و غیرها (1) ثمرات للبحث عن وجوب المقدّمة :

( منها ) إنّ نتیجة البحث عن ثبوت الملازمة بین وجوب شیء و وجوب مقدّماته هی الوجوب الشرعی للمقدّمة بناءً علی ثبوتها ، قال المحقّق الخراسانی رحمه اللّٰه : لو قیل بالملازمة فی المسألة فإنّه بضمیمة مقدّمة کون شیء مقدّمةً لواجب یستنتج أنّه واجب .

یعنی : إذا علمنا مثلاً : أنّ الوضوء مقدّمة لواجبٍ ، فجعلنا ذلک مقدّمةً للکبری الأُصولیّة بأنّ : کلّ ما هو مقدّمة لواجب فإنّه یلزم وجوب المقدّمة من وجوب ذی المقدّمة ، و یستنتج من هذا القیاس وجوب الوضوء ، أمّا بناءً علی عدم ثبوت الکبری الأُصولیّة المذکورة ، فلا تتم هذه النتیجة و یبقی اللّابدّیة العقلیّة .

و فی المحاضرات : إنّ ما ذکر لا یصلح لأن یکون ثمرةً فقهیة للمسألة الأُصولیّة ، لعدم ترتّب أثر عملی بعد حکم العقل بلابدّیة الإتیان بالمقدّمة .

فأجاب الأُستاذ : بأنّه یکفی لتحقّق الثمرة الفقهیّة جواز فتوی الفقیه بوجوب الوضوء فی المثال ، فکان للقیاس المزبور هذا الأثر الفقهی العملی لبعض المکلّفین و هم الفقهاء .

( و منها ) إنّ المقدّمة إذا کانت عبادةً ، فعلی القول بوجوبها فإنّه یؤتی بها بقصد التقرّب ، و إلّا فلا کما هو واضح .

ص:115


1- 1) کفایة الأُصول : 123 ، محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 266 .

و فی المحاضرات : إنّ عبادیّة المقدّمة لا تتوقّف علی وجوبها ، فإنّ منشأ العبادیّة لها أحد أمرین ، إمّا الإتیان بها بقصد التوصّل إلی الواجب النفسی و امتثال الأمر المتعلّق به ، و إمّا الإتیان بها بداعی الأمر النفسی المتعلّق بها کما فی الطهارات الثلاث ، فالوجوب الغیری لا یکون منشأ لعبادیّتها أصلاً .

فأجاب الأُستاذ : بأنه اشکال مبنائی ، و لا یعتبر فی الثمرة أن تکون مترتّبةً علی جمیع المبانی ، فعلی القول بأنّ العمل بداعی الأمر الغیری غیر مقرّب بل العبادیّة إنّما تحصل بأحد الأمرین المذکورین ، فلا ثمرة . أمّا علی القول بأنّ الإتیان به مضافاً إلی المولی کافٍ للعبادیّة و المقربیّة ، فإنّ الإتیان به بداعی الأمر الغیری یکون مقرّباً و تترتّب الثمرة .

( و منها ) إنه إنْ کانت المقدّمة واجبةً بالوجوب الشرعی ، کانت موضوعاً للبحث عن أخذ الأُجرة علی الواجبات ، و إلّا فلا مانع من ذلک .

قال فی المحاضرات : و فیه أوّلاً : إنّ الوجوب - بما هو وجوب - لا یکون مانعاً من أخذ الأُجرة علی الواجب ، إلّا إذا قام دلیل علی لزوم الإتیان به مجّاناً کدفن المیّت ، و إذ لا دلیل علی لزوم الإتیان بالمقدّمة مجّاناً ، فلا مانع من أخذ الأُجرة علیها و إنْ قلنا بوجوبها . و ثانیاً : إنّه لا ملازمة بین وجوب شیء و عدم جواز أخذ الأُجرة علیه ، بل النسبة بینهما عموم من وجه ، فقد یکون العمل واجباً و أخذ الأُجرة علیه جائز کما لو کان واجباً توصلیاً ، و قد یکون غیر واجب و لا یجوز أخذ الأُجرة علیه کالأذان ، فإنْ کان واجباً عبادیاً حرم أخذ الأُجرة علیه علی القول بالحرمة ... إذن ، لا بدّ من التفصیل فی هذه الثمرة .

قال الأُستاذ : إنّه یکفی ترتّب الثمرة علی بعض الأقوال فی المسألة ، فعلی القول بأنّ کل واجب فهو للّٰه ، و ما کان للّٰه فلا تؤخذ الأُجرة علیه - لأن وجوب

ص:116

العمل علی العبد منافٍ لملکیّة العبد لعمله - فالثمرة مترتّبة .

( و منها ) برّ النذر بالإتیان بالمقدّمة علی القول بوجوبها لو نذر الإتیان بفعل واجب ، و عدم حصول البرّ بذلک علی القول بعدم وجوبها .

و قد أشکل فی الکفایة و المحاضرات و غیرهما علی هذه الثمرة : بأنّ الوفاء بالنذر یتبع قصد الناذر ، فإن کان قاصداً من لفظ « الواجب » خصوص الواجب النفسی ، لم یکف الإتیان بالمقدّمة ، لأن وجوبها غیری علی القول بوجوبها ، و إن کان قاصداً منه ما یلزم الإتیان به و لو بحکم العقل ، وجب الإتیان بالمقدّمة ، حتّی علی القول بعدم وجوبها شرعاً . نعم لو قصد من الوجوب الأعم من النفسی و الغیری ، حصل البرّ بإتیان المقدّمة علی القول بوجوبها دون القول بعدم وجوبها .

( و منها ) إنّه بناءً علی وجوب المقدّمة شرعاً ، فقد یکون لواجب نفسی مقدّمات کثیرة ، و حینئذٍ ، فلو ترک الواجب النفسی مع مقدّماته حکم بفسقه ، أمّا بناءً علی عدم وجوبها فلا ، لأنّه لم یفوّت إلّا واجباً واحداً و هو النفسی ذو المقدّمة ، و لا یصدق عنوان الإصرار علی المعصیة بذلک إلّا إذا کان ترک ذی المقدّمة کبیرةً من الکبائر .

و أشکل فی المحاضرات بما حاصله : ترتّب الثمرة علی بعض المبانی فی معنی « العدالة » و فی معنی « الإصرار علی الصغیرة » علی مسلک التفصیل بین الصغیرة و الکبیرة .

قال : و لو تنزّلنا عن جمیع ذلک ، فإنّه لا معصیة فی ترک المقدّمة بما هی مقدّمة حتی علی القول بوجوبها کی یحصل الإصرار علی المعصیة ، لأنّ ما یحقّق عنوان المعصیة هو مخالفة الأمر النفسی ، و أمّا مخالفة الأمر الغیری فلا تحقّق بها المعصیة .

ص:117

و قد أورد علیه الأُستاذ :

أوّلاً : بکفایة ترتّب الثمرة علی بعض المبانی ، کما تقدّم .

و ثانیاً : إن عنوان « المعصیة » یتحقّق بمخالفة الأمر ، سواء کان نفسیّاً أو غیریّاً ... .

و ثالثاً : إن قیل إنّ عنوان « الإصرار » علی المعصیة یتحقّق بکثرة المخالفة کما یتحقّق بتکرّر المخالفة للحکم الواحد ، فإنّه یتحقّق فیما نحن فیه بترک جمیع المقدّمات .

( و منها ) إنّ المقدّمة إن کانت محرّمة ، فعلی القول بوجوب المقدّمة شرعاً یلزم اجتماع الأمر و النهی فیها ، و علی القول بعدم وجوبها فلا یلزم .

أجاب فی الکفایة

أوّلاً : إنّ المقدّمة المحرّمة علی قسمین ، منحصرة و غیر منحصرة ، فإن کانت منحصرةً فلا یلزم الاجتماع ، بل یترجّح أحد الأمرین - الوجوب و الحرمة - علی الآخر . و إن کانت غیر منحصرة ، فإنّ مصب الوجوب - علی القول به فی بحث مقدّمة الواجب - هو المقدّمة المباحة ، لأنّ الحاکم بوجوب المقدّمة هو العقل ، عن طریق الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة و وجوب المقدّمة ، و هو لا یری الملازمة إلّا بین الواجب و مقدّمته المباحة ، فلا تکون المحرّمة محلّ الاجتماع .

فأشکل فی المحاضرات فی صورة عدم الانحصار : بعدم الدلیل علی اعتبار إباحة المقدّمة ، لأنّ الملاک فی المقدّمیة توقف ذی المقدّمة الواجب علی المقدّمة ، و کما أنّ المقدّمة المباحة واجدة لهذا الملاک فکذلک المقدّمة المحرمة ، و مجرّد انطباق عنوان المحرّم علیها لا یخرجها عن واجدیّتها للملاک ... فتکون

ص:118

محلّاً للاجتماع .

و أجاب الأُستاذ دام ظلّه : بأنّ وجوب المقدّمة شرعاً - علی القول به - إنّما اکتشف عن طریق حکم العقل بالملازمة بین وجوب ذی المقدّمة شرعاً و وجوب المقدّمة ، فالعقل لا یری انفکاکاً بین مطلوبیّة ذی المقدّمة و مطلوبیّة المقدّمة ، لکنّ هذه المطلوبیّة من أوّل الأمر إنّما تکون بین ذی المقدّمة و مقدّمته المباحة لا مقدّمته المبغوضة للمولی ، فهو لا یری الملازمة إذا کانت مبغوضة له ، وعلیه ، فإنّ الوجوب یتوجّه إلی المقدّمة المباحة ، فلا یلزم الاجتماع .

و ثانیاً : إنّه لیس المورد من قبیل اجتماع الأمر و النهی ، بل من قبیل النهی عن العبادة ، لأنّ موضوع الوجوب هو « ذات المقدّمة » کالوضوء ، و موضوع الحرمة هو « الغصب » ، فتعلّق الأمر و النهی بما هو مصداق فعلاً للمقدّمة ، فیکون من مسائل النهی عن العبادة .

و الجواب : صحیح أنّ عنوان « المقدّمة » خارج عن متعلّق الأمر ، إلّا أنّ الأمر قد تعلّق بطبیعی الوضوء الجامع بین الفردین الحلال و الحرام ، و النهی قد تعلّق بخصوص الفرد المغصوب ، فکان متعلّق الأمر غیر متعلّق النهی ، ثمّ انطبقا علی هذا الوضوء الغصبی فکان مجمعاً لهما .

و ثالثاً : إنّ الغرض من المقدّمة هو التوصّل بها إلی ذی المقدّمة الواجب بالوجوب النفسی ، و هی لا تخلو إمّا أن تکون توصلیّة أو تعبدیّة ، فإن کانت توصلیّة فهی توصل إلی ذی المقدّمة و إن کانت محرّمةً ، کالحج علی الدابّة المغصوبة ، و إن کانت تعبدیّة - کالوضوء مثلاً - وقع البحث فی جواز اجتماع الأمر و النهی و عدم جوازه ، فإنْ قلنا بالجواز صحّت العبادة سواء قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل ، و إن قلنا بالعدم و تقدیم جانب النهی بطلت سواء قلنا بوجوب المقدّمة

ص:119

أم لم نقل ، فلا ثمرة للبحث .

و فیه :

إنّه بناءً علی عدم الفرق فی المقربیّة بین الواجب النفسی و الواجب الغیری ، فإنّ المقدّمة إن کانت تعبّدیة فإنّه یعتبر فیها قصد القربة ، فإنْ اتّفق کونها محرمةً کالوضوء الغصبی امتنع التقرّب بها إلّا علی القول بوجوب المقدّمة ، بناءً علی جواز اجتماع الأمر و النهی ، فالثمرة مترتبة .

ص:120

تتمّة

مقدّمة المستحب

قال المحقّق الخراسانی :

مقدّمة المستحب کمقدّمة الواجب فتکون مستحبةً لو قیل بالملازمة .

أقول :

إنّه بناءً علی الملازمة بین المقدّمة و ذیها ، لا یری العقل فرقاً بین الطلب الإلزامی و الطلب غیر الإلزامی ، فبمجرّد وجود المقدمیّة و توقّف ذی المقدّمة علیها ، یکون مقدّمة المستحب مستحبّاً ، کما یکون مقدّمة الواجب واجباً .

مقدّمة الحرام و المکروه

قال المحقّق الخراسانی :

و أمّا مقدّمة الحرام و المکروه ، فلا تکاد تتّصف بالحرمة أو الکراهة ، إذ منها ما یتمکّن معه من ترک الحرام أو المکروه اختیاراً ... (1) .

أقول :

حاصل کلامه قدّس سرّه هو التفصیل ، لأنّ المقدّمة علی قسمین :

أحدهما : المقدّمة التی یتمکّن المکلّف مع فعلها من ترک الحرام أو المکروه ، لعدم کونها علّةً تامّةً و لا جزءاً أخیراً للعلّة التامّة .

ص:121


1- 1) کفایة الأُصول : 128 .

الثانی : المقدّمة التی لا یتمکّن المکلّف معها من ذلک ، لکونها علّةً تامّة أو جزءاً أخیراً لها .

ففی القسم الأول لا تکون المقدّمة حراماً أو مکروهاً ، إذ مع الفرض المذکور لا وجه لذلک ، لعدم کونها واجدةً لملاک المقدّمیّة و هو التوقّف ، بل یکون إتیانه لذی المقدّمة المحرَّم مستنداً إلی سوء اختیاره ، بخلاف القسم الثانی .

و بعبارة أُخری : إنّه فی کلّ موردٍ تتوسّط الإرادة بین المقدّمة و ذیها ، فلا تترشّح الحرمة أو الکراهة إلی المقدّمة ، و فی کلّ موردٍ لا توسط للإرادة بینهما ، کما فی الأفعال التولیدیّة ، حیث النسبة بین المقدّمة و ذیها نسبة العلّة التامّة و المعلول ، فالمقدّمة تکون محرّمة أو مکروهةً کذلک .

و قال المحقّق النائینی (1)

بأنّ المکلّف تارةً : عنده صارف یصرفه عن ارتکاب الحرام و أُخری :

لا صارف عنده . فإنْ کان عنده صارف عن الحرام ، فلا تتّصف المقدّمة بالحرمة ، لعدم ترتّب أثر علیها .

و أمّا إن لم یکن عنده صارف فهنا صور :

( الصورة الأُولی ) : أن یتعدّد المقدّمة و ذو المقدّمة عنواناً و یتّحدا وجوداً ، کصبّ الماء للوضوء حالکون الماء مغصوباً ، فقد تحقّق عنوانان أحدهما : صبّ الماء و حکمه الوجوب و الآخر : الغصب و حکمه الحرمة ، لکنّهما متّحدان وجوداً ، فالمورد من صغریات اجتماع الأمر و النهی ، و تکون المقدّمة محرّمةً بالحرمة النفسیّة - لا الغیریّة - لأنّ النهی حینئذٍ یتوجّه إلی نفس الفعل التولیدی .

( الصورة الثانیة ) أن یتعدّد المقدّمة و ذو المقدّمة عنواناً و وجوداً :

ص:122


1- 1) أجود التقریرات 1 / 361 .

فإنْ کانت النسبة بین المقدّمة و ذیها نسبة العلّة التامّة إلی المعلول و لا توسّط للإرادة ، فالمقدّمة محرّمة حرمةً نفسیّة - مع کونها مقدّمة - لأنّها هی متعلّق القدرة و الاختیار من المکلّف ، و أمّا ذو المقدّمة فلا قدرة علی ترکه فلا تتعلّق به حرمة .

و إنْ لم تکن النسبة بینهما کذلک ، فهنا صورتان :

1 - أن یأتی بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلی الحرام ، فیکون القول بحرمتها مبنیّاً علی القول بحرمة التجرّی ، فعلی القول بذلک تکون المقدّمة محرّمةً بالحرمة النفسیّة ، و إلّا فهی حرام بالحرمة الغیریّة .

2 - أن یأتی بها لا بقصد ذلک ، فلا تکون صغری للتجرّی ، و لا وجه للحرمة حینئذٍ ، لبقاء الاختیار و القدرة علی ترک الحرام کما هو المفروض .

تحقیق الأُستاذ فی هذا المقام

فقال الأُستاذ دام بقاه : إنّ مقتضی القاعدة - قبل کلّ شیء - تعیین المبنی فی حقیقة النهی ، و أنّه هل طلب الترک أو أنّه الزجر عن الفعل ؟

فعلی القول بوحدة الحقیقة فی الأمر و النهی ، و أن کلیهما طلب ، غیر أنّ الأوّل طلب للفعل و الثانی طلب للترک - کما هو مختار صاحب الکفایة - یتم التفصیل الذی ذهب إلیه ، لأنّ ما لیس علّةً تامّةً و لا جزءاً أخیراً لها لا یتعلّق به طلب الترک ، فلا یکون محرّماً بالحرمة الغیریّة ، لأنّه غیر واجد للملاک و هو المقدمیة و التوقّف ، لأنّ ما له دخل فی ترک الحرام هو الجزء الأخیر من العلّة التامّة ، أمّا غیره من الأجزاء فلا دخل له فی تحقّق الحرام .

و بهذا البیان یظهر الفرق بین مقدّمة الواجب و مقدّمة الحرام - مع کون کلیهما طلباً علی المبنی - فإن مقدّمات الواجب کلّ واحدة منها دخیل فی تحقّق الواجب ، فکلّ خطوة خطوة من طی الطریق للحج واجب ، بخلاف مقدّمات الحرام إذ الدخیل لیس إلّا الجزء الأخیر .

ص:123

و هنا یواجه المحقّق الخراسانی مشکلةً یتعرّض لها بعنوان « إن قلت » و حاصلها : إنّ الإرادة علّة تامّة للحرام ، فلا بدّ و أن تکون منهیّةً عنها فهی محرمة . ثمّ یجیب بأنّ الإرادة غیر إرادیة ، فلا یتعلّق بها التکلیف لا النفسی و لا الغیری ، و إلّا لتسلسل .

فهذا توضیح مختار الکفایة .

فأشکل علیه الأُستاذ بإشکالین :

أحدهما : إنّ حقیقة النهی هو الزجر و لیس طلب الترک .

و الثانی : إنّ الإرادة یتعلّق بها التکلیف ، لکون أفعالنا اختیاریّةً بالعرض .

أقول :

لکنّهما اشکالان مبنائیّان کما لا یخفی .

هذا بالنسبة إلی کلام المحقّق الخراسانی .

و أمّا بالنسبة إلی کلام المیرزا ، فقد أفاد الأُستاذ :

أمّا ما ذکره فی الصّورة الأُولی - و هی ما إذا کان للمکلّف صارف عن الحرام - ففیه نظر ، لأنّ مقتضی قانون الملازمة - بناءً علی القول به - هو الحکم بحرمة المقدّمة الموقوف علیها فعل الحرام حرمةً غیریّة ، سواء وجد الصّارف عن الحرام أو لا .

و أمّا ما ذکره فی الصّورة الثانیة - من سرایة الحرمة إلی متعلّق الأمر فیما إذا کان العنوانان موجودین بوجودٍ واحد - فتامٌ من حیث الکبری ، إلّا أنّ المورد لیس من صغریاتها ، لأنّ إجراء الماء علی الید غیر متّحد وجوداً مع جریانه علی الأرض المغصوبة ، بل الجریان علیها أثر لإراقة الماء علی الید بعنوان الغسل .

و أمّا ما ذکره فی الصّورة الثالثة - من عدم سرایة الحرمة من ذی المقدّمة إلی المقدّمة ، لکون ذی المقدّمة خارجاً عن القدرة فی حال عدم توسط الإرادة بینهما -

ص:124

ففیه : بعد غضّ النظر عن اختلاف کلماته فی هذا المورد ، إنّ القدرة علی المسبّب موجودة ، لوجود القدرة علی سببها الذی هو مقدّمة وجودیّة لذی المقدّمة ، و حینئذٍ ، فالذی یحرم بالحرمة النفسیّة هو ذو المقدّمة ، أمّا المقدّمة فلا مفسدة ذاتیة لها و إنْ کانت جزءاً أخیراً للعلّة التامّة ، فتکون محرّمةً حرمة غیریّة .

و أمّا ما ذکره فی الصّورة الرابعة - و هی المورد الذی لا تکون المقدّمة فیه علّةً تامّةً ، و قد أتی بها بقصد التوصّل إلی الحرام فهی علی القول بحرمة التجرّی حرام نفسی ، و علی القول بعدم حرمته فهی حرامٌ حرمةً غیریة - ففیه :

أمّا التجرّی ، فلا حرمة شرعیّة له ، و إنّما یستتبع استحقاق العقاب بمناط أنّه خروج علی المولی . و أمّا القول بالحرمة الغیریّة بناءً علی عدم حرمة التجرّی ، فالمفروض هنا هو القدرة علی ترک الحرام مع الإتیان بالمقدّمة ، فلا یتحقّق مناط الحرمة الغیریّة و هو التوقّف أو المقدمیّة .

و أمّا ما ذکره فی الصّورة الخامسة - من عدم حرمة المقدّمة ، إنْ لم تکن علةً تامةً و لم یؤت بها بقصد التوصّل للحرام - فتام بلا کلام .

فالحق فی المسألة

هو التفصیل بین مقدّمة الواجب - بناءً علی القول بوجوبها - و مقدّمة الحرام ، فإن مقدّمات الواجب تتّصف کلّها بالوجوب ، لواجدیة کلّ واحدة منها لملاک الوجوب الغیری ، و هو توقف ذی المقدّمة علیها ، بخلاف مقدّمة الحرام ، فإنّ ذا المقدّمة إنّما یتحقّق بتحقّق المقدّمة الأخیرة ، و أمّا غیرها من المقدّمات فلا أثر لها ، لأنّ ملاک المقدمیة غیر متوفّر إلّا فی الأخیرة ، فتکون هی وحدها المحرّمة بالحرمة الغیریّة ، بناءً علی ثبوت الملازمة .

هذا تمام الکلام فی مبحث المقدّمة بجمیع أقسامها .

و یقع الکلام فی مبحث الضد .

ص:125

ص:126

مبحثُ الضدّ

اشارة

ص:127

ص:128

.مقدّمة فی بیان المراد من ألفاظ العنوان

اشارة

إنّ عنوان البحث هو : الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضدّه أو لا ؟

فی هذا العنوان ألفاظ ، فما المراد منها :

( الأمر ) لیس المراد به مادّة الأمر و لا صیغته ، بل المراد هو الطلب المبرز ، بأیّ مبرز لفظی أو فعلی کالتحریک عملاً ، أو الإشارة بالید و غیرها ... .

فهذا هو المراد ، لأنّه إنْ أرید خصوص مادّة الأمر أو صیغته ، کان البحث لفظیّاً ، و تکون دلالة الأمر علی النهی لفظیّة ، مطابقیة أو تضمّنیّة أو التزامیّة ، و لکنّ البحث أعم ، و یدخل فیه الدلالة العقلیّة أیضاً ، فیکون المراد من الأمر هو الأعمّ من الطلب اللّفظی و غیره .

و ( الاقتضاء ) لفظی تارةً و عقلی أُخری ، و العقلی ینشأ تارةً : من مقدمیّة ترک أحد الضدّین لوجود الآخر ، و أُخری : من الملازمة بین وجود أحدهما و عدم الآخر ... و الاقتضاء اللفظی هو الدلالة اللفظیّة بأقسامها الثلاثة .

و المراد من الاقتضاء هو الأعمّ من اللفظی و العقلی بأقسامهما .

و سیأتی توضیحٌ لهذا قریباً .

و ( النهی ) ما یقابل الأمر ، فإذا کان المراد من الأمر هو الطلب المبرز الأعمّ من اللفظی و غیره ، فکذلک النّهی یکون أعم ، سواء کان حقیقته طلب الترک أو

ص:129

الزجر عن الفعل .

و ( الضد ) اصطلاحان ، فلسفی و أُصولی ، أمّا فی الفلسفة ، فالمراد منه الأمران الوجودیان اللذان لا یقبلان الاجتماع ، فبینهما تقابل التضاد . توضیحه : کلّ شیئین إن اشترکا فی النوع القریب فهما متماثلان ، و إلّا فإنْ لم یکونا آبیین عن الاجتماع فی الوجود فهما متخالفان ، و إنْ أبیا فهما متقابلان ، فإنْ کانا وجودیین فهما ضدّان ، و إنْ کان أحدهما وجودیّاً و الآخر عدمیّاً فهما متناقضان . و الحاصل :

إنْ کان المتقابلان وجودیین و لا تلازم بینهما فی التصوّر ، فهما ضدّان فلسفةً .

و أمّا فی الاصطلاح الأُصولی ، فلا یشترط أن یکونا وجودیین ، و لذا یقسّم الضدّ إلی الخاص و العام و هو عبارة عن الترک .

فالمراد من « الضد » هنا هو المصطلح الأُصولی کما عرفت .

بقی أن نوضّح المراد من « الاقتضاء » بالنظر إلی المراد من « الضد » :

و ذلک لأنّ ما تقدّم من أعمیّة الاقتضاء من اللفظی و العقلی ، إنّما هو فیما إذا کان الأمر بالشیء مقتضیاً للنهی عن الضدّ العام ، فإنّه فی هذه الحالة یعقل أن یکون الاقتضاء لفظیّاً ، فقیل : بأنّ الأمر بالشیء یدلّ بالمطابقة علی النهی عن ترکه ، و قیل :

بالتضمّن ، و قیل : بالالتزام من جهة الملازمة بینهما باللزوم البیّن بالمعنی الأخص - أیْ صورة عدم انفکاک تصوّر الملزوم عن تصوّر الملازم - فإنّه متی کان اللزوم کذلک فالدلالة التزامیّة لفظیّة .

أمّا إذا کان الأمر بالشیء مقتضیاً للنهی عن ضدّه الخاص ، فلا وجه للدلالة اللفظیّة بل هی عقلیّة ، لأنّ القول بأنّ الأمر بالشیء یدلّ علی النهی عن ضدّه بالدلالة المطابقیّة أو التضمّنیّة أو الالتزامیّة ، مبنی علی أنّ الأمر عبارة عن طلب الشیء مع المنع عن ترکه ، و من الواضح أنّ الترک ضدّ عام ، لکنّ الأمر بالإزالة لیس

ص:130

دالّاً علی النهی عن الصّلاة - التی هی ضدّها الخاص - بإحدی الدلالات المذکورة ، إذ لیس الأمر بالإزالة عین النهی عن الصّلاة ، و لا أنّ النهی عن الصّلاة جزء للأمر بالإزالة ، و لا أن بینهما - أی مطلوبیّة الازالة و مبغوضیّة الصّلاة - اللزوم البیّن بالمعنی الأخص ، لوضوح انفکاک تصوّر الصّلاة عن تصوّر الإزالة .

و تلخّص ، أن لا مجال لشیء من الدلالات اللفظیّة فی الضدّ الخاص .

فقد یقال باقتضاء الأمر بالشیء علی النهی عن ضدّه الخاص اقتضاء عقلیّاً ، عن طریق کون ترک الضدّ الخاص مقدّمةً لوجود المأمور به ، بأن یکون وجود الإزالة موقوفاً علی عدم الصّلاة ، بناءً علی وجوب مقدّمة الواجب ، بمعنی : أنّ الشارع لمّا أمر بإزالة النجاسة عن المسجد ، فإن أمره بذلک یقتضی وجوب عدم الصّلاة ، و وجوب عدم الصّلاة یقتضی النهی عنها .

فهذا طریقٌ لاقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضدّه الخاص عقلاً .

و طریق آخر هو : دعوی الملازمة بین وجود الإزالة و عدم الصّلاة ، ببیان : أنّه إذا وجبت الإزالة کان عدم الصّلاة ملازماً لوجود الإزالة ، و لمّا کان المتلازمان متّفقین حکماً کان عدم الصّلاة واجباً .

و تفصیل الکلام فی مقامین :

الأوّل: فی اقتضاء الأمر للنّهی عن الضد الخاص

.1 - عن طریق المقدمیّة
اشارة

و البحث الآن فی الطریق الأوّل ... و فیه أقوال خمسة :

1 - المقدمیّة مطلقاً ، أی: أنّ وجود أحد الضدّین مقدّمة لعدم الآخر ، و عدمه

ص:131

مقدّمة لوجوده .

2 - عدم المقدمیّة مطلقاً ، فلیس وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر و لا عدمه مقدّمة لوجوده .

3 - وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر .

4 - عدم الضدّ مقدّمة لوجود الآخر .

5 - العدم مقدّمة دون الوجود ، فلا مقدمیّة للوجود ، إلّا أنّ الضدّ إن کان موجوداً فهو مقدّمة ، و إن کان معدوماً فلیس بمقدّمة .

و المهم من هذه الأقوال ثلاثة :

الأول : قول المشهور بمقدمیّة عدم أحد الضدّین لوجود الآخر .

و الثانی : قول المتأخّرین بعدم المقدمیّة مطلقاً .

و الثالث : تفصیل المحقّق الخونساری بین الضدّ الموجود و الضدّ المعدوم .

دلیل قول المشهور

إنّ الإزالة و الصّلاة ضدّان متمانعان فی الوجود .

و العلّة التامّة مرکّبة من وجود المقتضی و وجود الشرط و عدم المانع .

فکان عدم الصّلاة - المانع - مقدمةً لوجود الإزالة .

أجاب فی الکفایة

و أجاب المحقّق الخراسانی (1) : بأنّ بین الضدّین معاندة تامّة ، لکنْ بین الضدّ و عدم الضدّ الآخر کمال الملاءمة ، فالسواد و البیاض متنافران ، لکنْ بین البیاض و عدم السواد تلاءم ، وعلیه ، فکما أنّ الضدّین فی مرتبةٍ واحدة ، کذلک

ص:132


1- 1) کفایة الأُصول : 129 .

وجود أحدهما و عدم الآخر فی مرتبةٍ واحدة ، و إذا ثبت الاتحاد فی المرتبة ، انتفی تقدّم أحدهما علی الآخر ، و الحال أنّ المقدّمیّة لا تکون إلّا مع الاختلاف فی المرتبة .

و فیه : إنّه قد یکون بین الشیء و الآخر کمال الملاءمة و لا اتّحاد فی المرتبة ، کما بین العلّة و المعلول ، فإن بین وجودهما کمال الملاءمة و هما مختلفان فی المرتبة .

و الحاصل : إنّ مجرّد الملاءمة بین وجود الضد و عدم الضدّ الآخر لا یوجب اتّحاد المرتبة حتی تنتفی المقدمیّة .

ثمّ قال :

فکما أنّ المنافاة بین المتناقضین لا تقتضی تقدّم ارتفاع أحدهما فی ثبوت الآخر ، کذلک فی المتضادّین .

أقول :

یحتمل أن یکون تکمیلاً للوجه المذکور : بأنّه کما أنّ عدم السواد - المنافی للسّواد - فی مرتبةٍ واحدة معه ، کذلک السواد و البیاض .

أو یکون کما هو ظاهر السید الأُستاذ (1) برهاناً آخر علی عدم التمانع ، بأنْ یکون جواباً نقضیّاً ، من حیث أنّ المعاندة بین الضدّین لیست بأکثر من المعاندة بین النقیضین ، فکما لا یعقل أن یکون الوجود مقدّمةً للعدم - مع کمال المنافرة بینهما - کذلک السواد و البیاض . فلو کان مجرّد المنافرة موجباً لمقدمیّة أحد الشیئین للآخر ، کان وجود الشیء مقدمةً لعدم الشیء الآخر . و علی الجملة : إنّه لو کان ملاک المقدمیّة کمال المنافرة ، فإنّ وجوده فی المتناقضین أقوی منه فی

ص:133


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 341 .

الضدّین ، و الحال أنّ المقدمیّة بین المتناقضین مستحیلة .

ثمّ قال :

کیف ؟ و لو اقتضی التضادّ توقّف وجود الشیء علی عدم ضدّه - توقّف الشیء علی عدم مانعه - لاقتضی توقّف عدم الضدّ علی وجود الشیء توقّف عدم الشیء علی مانعه ، بداهة ثبوت المانعیّة فی الطرفین و المطاردة من الجانبین ، و هو دور واضح .

أقول

و هذا - مع کونه جواباً عن دلیل المشهور - برهانٌ علی عدم المقدمیّة بین الضدّین کما هو مختار المحقّقین المتأخّرین . و توضیحه : لا ریب أنّ عدم المانع مقدّمة من مقدّمات الممنوع ، فلو کان عدم أحد الضدّین من مقدّمات وجود الضدّ الآخر ، کان وجود الضدّ موقوفاً و عدم الضدّ الآخر موقوفاً علیه ، لکنّ هذه الحالة موجودة من الطرف الآخر أیضاً ، لأنّ التمانع من الطرفین ، فیکون وجود الضدّ مانعاً من عدم الضدّ الآخر ، فعدم الضدّ الآخر موقوفٌ ، و وجود الضدّ موقوف علیه ... فکان عدم الضدّ الآخر موقوفاً و موقوفاً علیه ، غیر أنّ العدم شرط لوجود الضد ، و وجود الضدّ سبب للعدم ، و کون أحد الطرفین شرطاً و الآخر سبباً غیر مانع من لزوم الدور ، لأنّ ملاکه التوقّف ، و هو حاصل سواء کان علی سبیل الشرطیّة أو السببیّة .

جواب المحقّق الخونساری

و عن المحقق الخونساری أنه أجاب عن هذا الدور : بأنّ التوقّف من طرف الوجود فعلی ، بخلاف التوقّف من طرف العدم ، فإنّه یتوقّف علی فرض ثبوت المقتضی له مع شراشر شرائطه غیر عدم وجود ضدّه ، و لعلّه کان محالاً ، لأجل

ص:134

انتهاء عدم وجود أحد الضدّین مع وجود الآخر إلی عدم تعلّق الإرادة الأزلیّة به و تعلّقها بالآخر حسب ما اقتضته الحکمة البالغة ، فیکون العدم دائماً مستنداً إلی عدم المقتضی ، فلا یکاد یکون مستنداً إلی وجود المانع کی یلزم الدور ... ذکره صاحب الکفایة (1) ، و توضیحه :

إنّه لا یلزم الدور ، لکون التوقّف من أحد الطرفین فعلیّاً و من الطرف الآخر تقدیریّاً ، و هذا الاختلاف کافٍ لعدم لزومه ، لأنّ الوجود الفعلی للمعلول متوقّف دائماً علی فعلیّة العلّة التامّة بجمیع أجزائها ، من المقتضی و الشرط و عدم المانع ، فإذا تحقّقت تحقّق المعلول و استند وجوده إلیها ... هذا من جهةٍ . و من جهة أُخری : یعتبر وجود أجزاء العلّة جمیعاً مع وجود المعلول و إن کانت الأجزاء مختلفةً فی المرتبة ، لکنّ وجود المعلول مستند إلی جمیعها ، فإذا وجدت وجد .

أمّا عدم المعلول فیستند فی الدرجة الأُولی إلی عدم المقتضی ثمّ إلی عدم الشرط ثمّ إلی وجود المانع ، لأنّ المراد من الشرط ما یتمّم فاعلیّة الفاعل أی المقتضی ، و من المانع ما یزاحم المقتضی فی التأثیر ، فلا بدّ من وجود المقتضی أوّلاً ثمّ الشرط ثمّ عدم المانع ، فلو فقد المقتضی لاستند عدم المعلول إلی عدم الشرط أو وجود المانع ، و لو فقد الشرط - مع وجود المقتضی - استند عدم المعلول إلی عدم الشرط لا إلی وجود المانع .

فالمراد من فعلیّة التوقّف فی طرف وجود الضدّ هو أنّ العلّة التامّة لوجوده متحقّقة ، إذ المقتضی و الشّرط متحقّقان ، فهو متوقّف علی عدم الضدّ .

لکنّ التوقف من طرف العدم تقدیری ، لأنّ عدم الضدّ لا یسند إلی وجود الضدّ الآخر ، إلّا إذا تحقّق المقتضی و الشرط للعدم ، فکان توقّف عدم الضدّ علی

ص:135


1- 1) کفایة الأُصول : 130 .

وجود الضدّ الآخر تقدیریّاً ، و ذلک ، لأنّ الإرادة إن تعلّقت بالصّلاة استحال تعلّقها بالإزالة ، فکان عدم الإزالة مستنداً إلی عدم المقتضی لها و هو الإرادة ، و لیس مستنداً إلی وجود الصّلاة المانع عن تحقّق الإزالة ... و لو کانت هناک إرادتان تعلّقت احداهما بضدّ و الأُخری بالضدّ الآخر ، کان عدم تحقّق الضدّ الذی تعلّقت به الإرادة المغلوبة غیر مستندٍ إلی وجود المانع أی الإرادة الغالبة ، بل إلی عدم قدرة الإرادة المغلوبة ، فرجع عدم الضدّ إلی عدم المقتضی .

و تلخّص : عدم لزوم الدور و اندفاع الإشکال عن استدلال المشهور للقول بالمقدمیّة .

رأی صاحب الکفایة

و قد سلّم المحقّق الخراسانی للجواب المذکور و وافق علی أنّه رافع للدور ، لکنّه قال : بأنّ هذا الجواب غیر سدید ، لبقاء مشکلة لزوم توقّف الشیء علی ما یصلح أن یتوقّف علیه ، قال : « لاستحالة أن یکون الشیء الصالح لأنْ یکون موقوفاً علیه الشیء موقوفاً علیه ، ضرورة أنّه لو کان فی مرتبةٍ یصلح لأنْ یستند إلیه ، لما کاد یصح أن یستند فعلاً إلیه » (1) .

و حاصله : إنّ مجرّد صلاحیّة عدم الضدّ للمانعیّة عن وجود الضدّ الآخر کافٍ للاستحالة ، لأنّه لمّا کان صالحاً لذلک کان متقدّماً رتبةً ، تقدّم المانع علی الممنوع ، لکنّه فی نفس الوقت متأخّر عن الضدّ الموجود لکونه معلولاً له ، فیلزم فی طرف الوجود اجتماع التقدّم و التأخّر ، و اجتماع المتقابلین فی الشیء الواحد محال ، فالقول بتوقّف وجود الضدّ علی عدم ضدّه - توقّف الشیء علی مقدّمته - باطل .

ص:136


1- 1) کفایة الأُصول : 131 .

فظهر : إنّ صاحب الکفایة مخالفٌ للمشهور ، و أنّ جوابه عن استدلالهم یرجع إلی أنّه یستلزم اجتماع المتقابلین فی الشیء الواحد ، و هو محال ، فالدور و إن اندفع بما ذکر ، لکن ملاک الاستحالة موجود .

أدلّة المحقّق النائینی علی عدم المقدمیّة

و أورد المیرزا علی المشهور بوجهٍ آخر هو فی الحقیقة أوّل أدلّته علی عدم المقدمیّة فقال کما فی ( أجود التقریرات ) (1) ما حاصله : إنّ استدلالهم یستلزم انقلاب المحال إلی الممکن ، و هو محال ، فالمقدمیّة محال ... و توضیح کلامه :

إنّه لا ریب فی اختلاف المرتبة بین العلّة و المعلول ، و کذا بین أجزاء العلّة ، و أنّ استناد عدم المعلول إلی کلّ جزءٍ منها مقدّم رتبةً علی استناده إلی الجزء المتأخّر عنه ... کما ذکرنا من قبل . فهذه مقدّمة .

و مقدّمة أُخری هی : إنّ المحال وجوداً محالٌ اقتضاءً أیضاً ، فلا فرق فی الاستحالة بین الفعلیّة و الاقتضاء ، لأنّه إنْ کان المقتضی للضدّین موجوداً حصل لهما إمکان الوجود ، و المفروض أنّه محال .

و علی هذا ، فإنّ عدم الضدّ - کالسّواد - لو کان مقدّمةً لوجود الضدّ الآخر کالبیاض ، فإنّ هذه المقدمیّة لیست إلّا لمانعیّة وجود السّواد ، فکان عدمه شرطاً لوجود البیاض ، و هو شرط عدمی ، لکنّ هذه المانعیّة موقوفة علی أن یکون هناک ما یقتضی وجود البیاض ، فیلزم اقتضاء وجود الضدّین فی آنٍ واحد ، و هو محال بحکم المقدمة الثانیة ، و إلّا یلزم انقلاب المحال إلی الممکن ... .

فظهر أنّ القول بالمقدمیّة مستلزم للمحال ، و کلّ ما یستلزم المحال محالٌ .

ص:137


1- 1) أجود التقریرات 2 / 16 - 17 .
مناقشة الدلیل الأوّل

و قد ناقشه شیخنا الأُستاذ دام بقاه نقضاً و حلّاً :

أمّا نقضاً : فبأن لازم ما ذکره انکار المانعیّة و إبطال الجزء الأخیر من العلّة التامّة .

و توضیحه : إنّه لا تتحقّق المانعیّة إلّا مع التضادّ بین المانع و الممنوع ، بأنْ یکون المانع نفسه أو أثره ضدّاً للممنوع ، و أمّا حیث لا مضادّة بینهما أصلاً فالمنع محال ، فإنْ کان نفس المانع ضدّاً فالمانعیّة متحقّقة لا محالة ، و قد تقدّم مراراً أنّ عدم المانع مقدّمة لوجود الممنوع ، لکونه الجزء الأخیر للعلّة التامّة ، و إنْ کانت المانعیّة بسبب التضاد بین الممنوع و أثر المانع ، کان عدم المانع الذی هو المنشأ للأثر مقدّمة لوجود الممنوع ... و سواء کان الضدّ للممنوع هو المانع نفسه أو أثره ، فلا بدّ و أنْ یکون هناک مقتضٍ لوجوده و إلّا لما وجد و لما تحقّقت المانعیّة ، و قد تقدّم أنّ إسناد عدم الضدّ إلی وجود المانع منوط بتمامیّة المقتضی ، فثبت تحقّق المقتضی للضدّین ، و إلّا یلزم إنکار کون عدم المانع من مقدّمات وجود الضدّ ، و هو خلاف الضرورة العلمیّة .

و أمّا حلّاً ، فإنّ کبری استدلاله مسلّمة ، فاقتضاء المحال - و هو هنا اجتماع الضدّین فی الوجود - محال بلا ریب ، لأنّه لو کان المحال قابلاً للوجود خرج عن المحالیّة الذاتیة ، و هذا محال . إنّما الکلام فی الصغری و هی : أنّه لو کان عدم أحد الضدّین مقدّمة لوجود الآخر ، لزم اقتضاء المحال ... لأنّ الاستحالة الذاتیة إنّما هی فی اجتماع الضدّین فی الوجود ، فوجود هذا مع وجود ذاک محال ، أمّا وجود کلٍّ منهما فلیس بمحال ، و الوجود یحتاج إلی مقتضٍ ، و وجود المقتضیین للضدّین لیس بمحال ... و توضیحه :

ص:138

إنّ لکلّ معلولٍ و أثر و مقتضی وجوداً فعلیّاً و وجوداً بالقوّة ، فإنْ وجد المؤثّر و العلّة و المقتضی حصل له الوجود الفعلی ، و التمانع بین الضدّین إنّما یکون فی الوجود الفعلی لهما لا بالوجود بالقوّة ، إذ التضادّ هو بین البیاض و السّواد لا بین المقتضی للبیاض و المقتضی للسّواد ، و هذه الحقیقة جاریة فی جمیع العلل و المعالیل الطبیعیّة ، أی: إنّ الآثار و المعالیل کلّها موجودة بوجود العلل و المؤثرات الطبیعیة ، مترشّحة عنها ، اللهم إلّا المخلوق بالإرادة ، إذ یقول تعالی «إِذٰا أَرٰادَ شَیْئًا أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ » (1).

و تلخّص : إنّه إذا تحقّق المقتضیان کان الضدّان موجودین بالقوّة ، و لا تضادّ بین الضدّین الموجودین بالقوّة ... فثبت إمکان وجود المقتضی للضدّین ...

و تطبیق المیرزا الکبری علی الصغری غیر صحیح ، فالدلیل الأوّل من أدلّته ساقط .

مناقشة الدلیل الثانی

و الدلیل الثانی : ما تقدّم سابقاً عن المحقّق الخراسانی : من أنّ ملاک مقدمیّة أحد الضدّین للضدّ الآخر هو التمانع فی الوجود ، و إذا کان الضدّان لا یجتمعان لما ذکر ، فالنقیضان کذلک ، فیلزم أن لا یکون النقیض مقدّمة للنقیض الآخر ، لکنّ التالی باطل فالمقدّم مثله .

و أجاب عنه الأُستاذ : بأنّ المقدمیّة لا تکون إلّا مع التعدّد فی الوجود ، و لذا قلنا بأنّ أجزاء الماهیّة لیست مقدمةً لوجودها ، لأنّ الأجزاء عین الکلّ ، لکنّ المهم هو أنّه لا تعدّد فی الوجود فی النقیضین ، إذ العدم نقیض الوجود لکنّه عدم نفس ذلک الوجود ، و کذا العکس ، فلا یعقل أنْ یکون أحد النقیضین و هو الوجود مقدمةً لنقیضه و هو عدم الوجود ، لأنّه یستلزم صیرورة الشیء مقدّمةً لنفسه ، إذ لا تعدّد

ص:139


1- 1) سورة یس : 82 .

هناک لا مفهوماً و لا واقعاً ، و هذا هو الملاک .

و أمّا توقف الوجود علی عدم العدم فکذلک ، لأنّه و إنْ کان الوجود مغایراً لعدم العدم مفهوماً ، لکنّهما فی الواقع شیء واحد ، لتحقّق عدم العدم بالوجود ...

فالمقدمیّة ممنوعة .

و الحاصل : إنّ قیاس النقیضین علی الضدّین مع الفارق ، لوجود التعدّد فی الضدّین ، فالمقدمیّة متصوّرة بینهما ، دون النقیضین ، لأنّهما إمّا واحد مفهوماً و مصداقاً و إمّا واحد مصداقاً و إنْ تعدّدا مفهوماً .

مناقشة الدلیل الثالث

و أقام المیرزا دلیلاً ثالثاً علی امتناع مقدمیّة الضدّ للضدّ الآخر ، و هو یبتنی علی أُمور :

الأوّل : إنّ الضدّین فی مرتبةٍ واحدة ، إذ لا علیّة و معلولیّة بینهما و لا شرطیة و مشروطیّة ، حتی یختلفا فی المرتبة .

و الثانی : إن نقیض الشیء فی مرتبة الشیء ، لأنّ نقیض الوجود هو عدم ذاک الوجود لا مطلق العدم .

و الثالث : إنّ النقیضین و الضدّین لمّا کانا فی رتبةٍ واحدة ، کان العدم المتّحد رتبةً مع وجود الضدّ ، متّحداً رتبةً مع وجود الضدّ الآخر ، فهذا العدم فی رتبة ذلک الضدّ و عدم ذاک الضدّ فی رتبة هذا الضد .

و نتیجة ذلک : استحالة مقدمیّة عدم الضدّ لوجود الآخر ، لتوقّف ذلک علی الاختلاف فی المرتبة ، و قد تبیّن عدمه .

قال الأُستاذ دام ظله : و فی هذه الأُمور نظر :

أمّا الأمر الأوّل ، فدعوی بلا دلیل .

ص:140

تارةً نقول : الضدّان فی مرتبةٍ واحدة ، و أُخری نقول : لیس بین الضدّین اختلاف فی المرتبة . و کلّ واحدٍ من القولین دعوی تحتاج إلی إثبات .

إنّ ملاک الاتحاد فی المرتبة هو کون الشیئین معلولین لعلّةٍ واحدةٍ ، و الضدّان لیسا کذلک ، بل لکلٍّ علّته . و ملاک الاختلاف فی المرتبة کون أحدهما علّةً أو شرطاً للآخر ، و الضدّان لیس بینهما نسبة العلیّة أو الشرطیّة . فالقدر المسلّم هو عدم وجود الاختلاف فی المرتبة بین الضدّین ، لکنّ هذا لا یکفی لاتّحاد المرتبة بینهما ، لأنّ الاتّحاد یحتاج إلی ملاک .

فدعوی أنّ الضدّین فی مرتبةٍ واحدة أوّل الکلام .

و أمّا الأمر الثانی ، فکذلک ، لأنّ التناقض هو بین الوجود و العدم ، فالعدم یرتفع بالوجود و یکون الوجود مرفوعاً به ، و الوجود یرتفع بالعدم ، فیکون العدم رافعاً ، فالنقیض هو الرافع أو المرفوع به ... وعلیه ، فإنّ النقیض للوجود رفع الوجود لا الرفع الواقع فی مرتبة الوجود ، و لو کان کذلک لاعتبر وحدة المرتبة من شرائط التناقض و لیس کذلک ، علی أنّ المرتبة من خواص الوجود و من آثار العلیّة و المعلولیّة ، و العدم لیس ذا مرتبة أصلاً .

و الحاصل : إنّ دعوی وحدة المرتبة بین النقیضین غیر صحیحة .

و أمّا الأمر الثالث ، فکذلک ... لأنّا لو سلّمنا کون الضدّین فی مرتبة واحدة ، و کذا النقیضان ، لکنّ کون نقیض هذا الضدّ متّحداً فی المرتبة مع وجود الضدّ الآخر یحتاج إلی دلیلٍ ... إذ لا یکفی أن یقال : لمّا کان الضدّان فی مرتبةٍ ، و عدم کلّ ضد فی مرتبته ، فعدم هذا الضدّ فی مرتبة وجود ذاک ... لأنّ المفروض وجود الملاک لکون الضدّین فی مرتبةٍ واحدة و کذا النقیضان ، أمّا ضرورة کون نقیض أحدهما فی رتبة وجود الآخر فبأیّ ملاک ؟

ص:141

و تلخّص : إنّ الأُمور التی ذکرها مقدّمةً لدلیله کلّها دعاوی بلا برهان .

رأی المحقّق الاصفهانی

و اختلفت کلمات المحقّق الأصفهانی فی هذا المقام (1) ، ففی أوّل البحث اختار المقدمیّة ، و فی آخره قال : و التحقیق یقتضی طوراً آخر من الکلام ، و انتهی إلی القول بالعدم ... و البرهان الذی ذکره لنفی المقدمیّة هو :

إنّ فی المادیّات أربع علل و شرطین ، بخلاف فی المجرّدات فلیس إلّا العلّة الفاعلیّة و العلّة الغائیّة - :

العلّة الفاعلیّة ، و هی التی یکون منها الوجود .

و العلّة الغائیّة ، و هی التی من أجلها تحقّق الوجود .

و العلّة المادیّة ، و هی الجنس .

و العلّة الصّوریّة ، و هی الفصل .

و الشرطان هما : ما یتمّم فاعلیّة الفاعل ، و ما یتمّم قابلیّة القابل ، و ذلک : لأنّ الوجود فی الأُمور المادیّة بحاجة إلی الفاعل و القابل ، فلو وجد الفاعل و کان ناقصاً لم یؤثّر أثره ، و لو وجد القابل و ابتلی بمانع فالأثر لا یتحقّق ، و بتوفّر الشرط فی الطرفین یتحقّق الأثر .

و حینئذٍ ، ننظر فی الأمر و نقول :

إنّ العلّة المادیّة هی الجنس ، و العلّة الصوریّة هی الفصل ، و عدم الضدّ الآخر لا هو جنس للضدّ الآخر و لا هو فصل له .

و العلّة الغائیة أیضاً غیر متصوّرة للعدم ، لأنّ العلّة الغائیّة هی المنشأ للفاعلیّة ، و لا یعقل أن یکون عدم الضدّ فاعلاً للضدّ الآخر ، لأنّ الفاعل و العلّة

ص:142


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 186 - 187 .

الفاعلیّة للضدّ الآخر هو مقتضی وجود ذاک الضدّ ، فلا یکون عدم أحد الضدّین فاعلاً للضدّ الآخر .

علی أنّ الفاعلیّة - أو تتمیم الفاعلیّة - منوطة بأنْ یکون هناک أثر و منشأ للأثر ، و العدم لا یمکن أن یکون مؤثّراً .

و تلخّص : أنّه لا توجد أیّة نسبة علیّةٍ و معلولیّة بین الضدّ کالبیاض و عدم الضدّ کعدم السّواد .

فانحصر أنْ تکون النّسبة بینهما نسبة الاشتراط ، فعدم السّواد شرط لوجود البیاض ... و قد ظهر أنّ الشرط إمّا هو متمّم لفاعلیّة الفاعل أو متمّم لقابلیّة القابل ...

أی : إمّا یجعل الفاعل المقتضی مؤثّراً ، أو یجعل القابل قابلاً للأثر ، لکنّ عدم الضدّ لا یمکن أن یکون متمّماً لفاعلیّة الضدّ الآخر ، لما تقدّم من أنّ الضدّ الآخر لیس فاعلاً للضدّ ، علی أنّ العدم لا یکون مؤثراً کما تقدّم أیضاً .

بقی صورة أن یکون عدم الضدّ متمّماً لقابلیّة المحلّ لوجود الضدّ الآخر ، و هذا أیضاً محال ، لأنّه إن أُرید من قابلیّة المحلّ أن یکون قابلاً لوجود کلا الضدّین معاً ، فهذا محال ، و إنْ أُرید أن یکون قابلاً لأحدهما ، فإنّ هذه القابلیّة موجودة بالذات و من غیر حاجةٍ إلی المتمّم .

إشکال الأُستاذ

و قد أورد علیه الأُستاذ فی ما ذکر فی الشقّ الأخیر ، من أن عدم أحد الضدّین متمّم لقابلیّة المحلّ للآخر و کونه قابلاً لأحدهما قابلیّةً ذاتیةً : بأنّه إن کان المراد من « أحدهما » هو الأحد المردّد ، فهذا غیر معقول ، لأنّ المردّد لا ذات له و لا وجود ، فالمراد هو « الأحد » الواقعی . أی: إنّ الجدار قابلٌ للبیاض و قابل للسّواد ، لکنّ الإهمال فی الواقعیّات محال ، إذن ، یکون قابلاً للبیاض - مثلاً - إمّا بشرط وجود

ص:143

السّواد ، و هذا محالٌ لاستلزامه اجتماع الضدّین ، و إمّا لا بشرط وجود السّواد ، و هذا أیضاً محالٌ ، لأنّه یجتمع مع وجود السّواد فیلزم اجتماع الضدّین ، و یبقی صورة بشرط لا عن وجود السواد ، فکان عدم الضدّ شرطاً لوجود الضدّ و مقدمةً له .

و قد أجاب طاب ثراه فی التعلیقة : بأنّه لا یمکن أن تکون قابلیّة المحلّ للبیاض المشروط بعدم السّواد ، لأنّ عدمه حین یکون شرطاً یکون مفروض الوجود - لأن کلّ شرط فهو مفروض الوجود للمشروط - فیکون المحلّ قابلاً للبیاض المقیّد بعدم السواد ، و الحال أنّه قابل بالذات للبیاض لا البیاض المقیّد بعدم السّواد .

فقال الأُستاذ : و هذا لا یحلّ المشکلة ، لأنّ عدم السّواد دخیلٌ فی وجود البیاض علی کلّ حالٍ ، لأنّ البیاض إمّا یکون مع وجود السّواد أو مع عدمه ، فإن کان المحلّ قابلاً لکلیهما فهذا محال ، لأنّ القابلیّة للمحال محال ، و إن کان قابلاً للحصّة الکائنة مع عدم السّواد من البیاض ، لزم دخل عدم السّواد فی تحصّص البیاض و قابلیّة المحلّ لتلک الحصّة ، و دخله فی ذلک - سواء قال بتقیّد البیاض بعدم السّواد أو بأنّه مع عدم السواد - هی المشکلة ... .

فالبرهان المذکور لا یدلّ علی عدم مقدمیّة أو دخل عدم الضدّ فی وجود الضدّ الآخر .

البرهان الأخیر

و البرهان الأخیر علی عدم مقدمیّة عدم أحد الضدّین لوجود الضدّ الآخر هو : ما أشار إلیه صاحب الکفایة (1) فی قوله : « و المانع الذی یکون موقوفاً علی

ص:144


1- 1) کفایة الأُصول : 132 .

عدم الوجود هو ما کان ینافی و یزاحم المقتضی فی تأثیره ، لا ما یعاند الشیء و یزاحمه فی وجوده » .

و قد قرّبه المحقّق النائینی (1) و هو أقوی البراهین فی الردّ علی المشهور .

و هذا کلام المیرزا بإیضاح أکثر :

إنّ الضدّین قد لا یکون لهما مقتضٍ و قد یکون لکلیهما و قد یکون لأحدهما دون الآخر ، فالصّلاة و الإزالة ، قد تتعلّق الإرادة بکلیهما - من شخصین - و قد لا تتعلّق بشیء منهما ، و قد تتعلّق بأحدهما فقط ، و السواد و البیاض کذلک ، فقد یکون لوجودهما فی المحل مقتضٍ و قد لا یکون و قد یکون لأحدهما .

هذه هی الصور المتصوّرة .

فإن لم یکن لشیء منهما مقتضٍ فلا مانعیّة ، لما تقدّم من أنّ المانعیّة تأتی فی مرتبةٍ متأخّرة عن المقتضی ، و عدم المعلول یستند حینئذٍ إلی عدم المقتضی لا وجود المانع .

و إن کان لأحدهما مقتضٍ دون الآخر ، فکذلک ، إذ مع عدم وجود المقتضی یستحیل استناد عدم الضدّ إلی وجود المانع .

و إنْ کان کلٌّ منهما ذا مقتضٍ ، قال المیرزا : هذا محال ، لما تقدّم من استحالة وجود المقتضی للضدّین ، لأنّه یستلزم إمکان المحال ، و المحال بالذات یستحیل انقلابه إلی الإمکان .

و إذا ظهر استلزام کلّ صورةٍ للمحال ، فمقدّمیّة عدم الضدّ للضدّ الآخر محال .

قال الأُستاذ : لکنْ قد تقدّم تحقیق أنّ وجود المقتضی للضدّین لیس

ص:145


1- 1) أجود التقریرات 2 / 12 - 13 .

بمحال ، إذ المقتضی للضدّین غیر المقتضی للجمع بینهما ، فالصّورة الثالثة باقیة ...

و الطریق الصحیح هو أن نقول :

إنّه فی هذه الصّورة ، لا یخلو الحال من أن یکون المقتضیان متساویین أو یکون أحدهما أقوی من الآخر .

فإن کانا متساویین ، استند عدم الضدّ إلی عدم تمامیّة المقتضی فی الأثر ، لا إلی وجود المانع ، لأنّ المؤثر لیس مجرّد وجود المقتضی ، بل هو المقتضی الفعلی فی المؤثریّة ، لما تقدّم من تقسیم المقتضی إلی الشأنی و الفعلی ، و أنّ الأثر یکون للمقتضی التام فی المؤثریّة ، فکان عدم الضدّ - فی صورة تساوی المقتضیین - مستنداً إلی عدم الشرط للمقتضی و هو الفعلیّة ، لا إلی وجود المانع ...

وعلیه ، فیستحیل أن یکون وجود الضدّ مانعاً عن الضدّ الآخر ، بل عدم الضدّ الآخر مستند إلی عدم توفّر شرط المقتضی للتأثیر ، لأنّ المفروض تساویه مع المقتضی الآخر و کونهما متزاحمین فی الوجود ... فیکون المانع عن وجود الضدّ هو المقتضی للضدّ الآخر ، لا نفس الضدّ الآخر .

و إن کان أحد المقتضیین أقوی من الآخر ، فإنّ عدم الضدّ یکون مستنداً إلی ضعف المقتضی لوجوده ، لا إلی وجود الضدّ المقابل .

و هذا شرح قول المحقّق الخراسانی من أنّه لیس کلّ معاندة منشأً للمانعیّة .

قال الأُستاذ : و هذا البرهان تام بلا کلام .

و أقول :

فی هذا البرهان فی صورة تساوی المقتضیین نظر ، فإنّه فی هذه الصّورة ما البرهان علی استناد العدم إلی شأنیّة المقتضی لا إلی وجود الضدّ الآخر ؟

و تلخص : بطلان مبنی المشهور ، لما ذکره صاحب الکفایة فی الکلام علی

ص:146

الدور ، من أنّه و إن اندفع لزومه بما ذکره المحقّق الخونساری ، لکنّ ملاک الاستحالة موجود .

و به یبطل التفصیل ، و هو أنّ عدم ذلک الضدّ متوقّف علی وجود الضدّ الآخر ، إذ قد ظهر أنّ عدم الضدّ مستند إلی عدم المقتضی لوجوده لا إلی المانع و هو وجود الضدّ الآخر .

و کذا التفصیل : بأنّ وجود هذا الضدّ متوقّف علی عدم الضدّ الآخر و عدم ذاک موقوف علی وجود هذا .

و بقی :

تفصیل المحقّق الخونساری

و تعرّض صاحب الکفایة لرأی المحقّق الخونساری و الجواب عنه ، و هو القول بالتفصیل بین الضدّ الموجود و الضدّ المعدوم ، و أن عدم الضدّ الموجود مقدّمة لوجود الضدّ غیر الموجود ، بخلاف العکس ، فإنّ عدم الضدّ غیر الموجود لیس بمقدمةٍ للضدّ الموجود .

و توضیحه : إنّ المحلّ حین یکون خالیاً عن الضدّین قابلٌ لکلٍّ منهما ، و هذه القابلیّة ذاتیة لا تحتاج إلی شیء ، و لکنْ عند ما یوجد فیه أحد الضدّین تنتفی قابلیّته للضدّ الآخر ، فلو أُرید للضدّ الآخر غیر الموجود أنْ یتواجد فی هذا المحلّ ، فإنّ رفع الضدّ الموجود فیه یکون مقدمةً لذلک ... فکان عدم الضدّ الموجود مقدّمةً لوجود الضدّ غیر الموجود .

الجواب علی مبنی المیرزا

و جواب هذا التفصیل علی مبنی المحقّق النائینی واضح ، لأنّه - بناءً علی أنّ مناط الحاجة إلی العلّة فی الممکنات هو الحدوث لا الإمکان - یلزم اجتماع

ص:147

المقتضیین للضدّین ، و هو عند المیرزا محال ، لأنّه مع وجود أحدهما فی المحلّ و انتفاء قابلیّته للآخر یکون للموجود مقتضٍ ، فإذا کان هذا الموجود مانعاً عن وجود الضدّ الآخر - کما یقول المحقّق الخونساری - فإنّ مانعیّته عنه هی بعد تمامیّة المقتضی لوجود ذلک الضدّ ، فیکون الضدّ الآخر أیضاً ذا مقتضٍ ، فیلزم اجتماع المقتضیین للضدّین .

لکنّ المبنی المذکور غیر مقبول ، فلا بدّ من جوابٍ آخر عن هذا التفصیل .

قال الأُستاذ :

و التحقیق هو النظر فی مناط حاجة الشیء الممکن إلی العلّة ، و أنّ الحق فی ذلک هو الإمکان لا الحدوث ، و حینئذٍ یبطل التفصیل ، و توضیح ذلک :

إنّه قد ذهب جماعة إلی أنّ مناط حاجة الممکن إلی العلّة هو الحدوث ، فإذا تحقق له الحدوث استغنی عن العلّة لبقائه . و ذهب آخرون إلی أنّ المناط هو الإمکان ، فإذا وجد فالمناط أیضاً - و هو الامکان - موجود ، فهو بحاجةٍ إلی العلّة بقاءً کاحتیاجه إلیها حدوثاً .

أمّا علی الأوّل فیتمّ التفصیل ، لأنّ الضدّ الذی وجد فی المحلّ یزول مقتضیه بمجرّد وجوده و حدوثه ، و الضدّ الآخر غیر الموجود قد فرض له مقتضی الوجود ، فیکون عدم وجوده مستنداً إلی وجود الضدّ الموجود فی المحلّ ، و یکون عدم الموجود مقدمةً لوجود الضدّ غیر الموجود .

و أمّا علی مبنی التحقیق فلا یتم ، لأنّ المقتضی بعد حدوث الشیء موجود ، و هو مؤثّر فی وجوده فی کلّ آن ، فمقتضی الضدّ الموجود فی المحلّ غیر منعدم أصلاً ، و حینئذٍ ، تقع الممانعة بین مقتضی هذا الضدّ و مقتضی الضدّ غیر الموجود ، فلیس نفس وجود الضدّ هو المانع لیکون عدمه مقدّمةً .

ص:148

و بهذا ظهر : إنّه علی القول باستحالة تحقّق المقتضی للضدّین یسقط التفصیل ، سواء کان مناط الحاجة هو الإمکان أو الحدوث ، أمّا علی القول بعدم الاستحالة فینحصر الجواب عن التفصیل بکون المناط هو الإمکان .

هذا ، و لا یتوهّم أنّ المانعیّة إنّما هی للضدّ الموجود ، لأنّه هو السبب فی ارتفاع قابلیّة المحلّ للضدّ الآخر ، و لولاه لشغل ذاک هذا المحلّ ... لأنّ ذلک - و إنْ کان کذلک بنظر العرف - خلاف الواقع بحکم العقل و هو الحاکم فی مثل هذه الأُمور دون العرف ، لأنّ قابلیّة المحلّ مقدّمة رتبةً علی وجود الضدّ غیر الموجود ، و لمّا کان الضدّ الموجود هو الرافع للقابلیّة هذه ، کان الضدّ الموجود مقدّماً برتبتین علی الضدّ غیر الموجود ، فلا تمانع بینهما .

و أیضاً : فإنّ الضدّ غیر الموجود فعلاً له شأنیّة الوجود ، فهو قابلٌ لأنْ یکون علّةً لزوال الضدّ الموجود ، فیکون کلّ واحدٍ منهما قابلاً للعلیّة و قابلاً للمعلولیّة ، فیکون أحدهما متقدّماً بالقوّة و الآخر متأخّراً بالقوّة ، و أحیاناً متقدّماً بالفعل و متأخّراً بالفعل .

فلا یتحقّق التضاد بینهما أبداً .

و قال السیّد الأُستاذ - بعد قوله : الذی یقتضیه الإنصاف هو تسلیم القول بالتفصیل - ما ملخّصه: هذا التفصیل لا ینفع فیما نحن فیه من متعلّقات الأحکام الشرعیّة ، لکونه من الأفعال التدریجیّة الحصول بلا أنْ یکون لها وجود قار ، فهی دائماً تکون من الضدّ المعدوم ، و لا مقدمیّة فی الضدّ المعدوم . فلا یکون للتفصیل ثمرة عملیّة (1) .

ص:149


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 355 .
.2 - عن طریق الملازمة
اشارة

و بعد الفراغ عن بحث مقدمیّة عدم الضدّ لوجود الضدّ الآخر ، تصل النوبة إلی البحث عن الطریق الآخر لدلالة الأمر بالشیء علی النهی عن ضدّه الخاص ، و هو طریق الملازمة ، و توضیحه :

إنّ وجود کلّ ضدّ من الضدّین ملازم لعدم الضدّ الآخر ، فوجود الحرکة ملازم لعدم السکون ، و وجود البیاض ملازم لعدم السّواد ، و هذه هی الصغری و تنطبق علیها کبری أنّ المتلازمین یستحیل اختلافهما فی الحکم ، فإذا کانت الحرکة واجبةً کان عدم السکون واجباً .

أمّا أنّ وجود الضدّ ملازم لعدم الضدّ الآخر ، فلأنّه لو جاز وجود الضدّ الآخر لزم اجتماع الضدّین ، و هو محال . و أیضاً : لو جاز - مع وجود أحدهما - عدم انعدام الآخر ، لزم اجتماع النقیضین ، و هو محال .

و أمّا أنّهما متوافقان فی الحکم ، فلأنّ المفروض أنْ یکون لکلٍّ من المتلازمین حکم ، فلو کان أحدهما واجباً و خالفه الآخر فی الحکم ، فإمّا أنْ یکون حکمه هو الحرمة فیلزم طلب المتناقضین ، و التکلیف المحال - فضلاً عن التکلیف بالمحال - ، و إمّا أن یکون حکمه الاستحباب أو الکراهة أو الإباحة ، و هذا محال کذلک ، لأنّه لمّا کان حکم أحدهما الوجوب فالشارع غیر مرخّص فی ترکه ، و العقل حاکم بلابدّیته ، لکنّ الآخر الذی فرض حکمه أحد الأحکام الثلاثة المذکورة ، فهو مرخّص شرعاً فی ترکه و العقل حاکم بجواز الترک ، فیلزم التناقض فی حکم العقل ، بأنْ یحکم بلابدّیة الحرکة و یجوّز السکون فی نفس الوقت ، و هذا محال ... إذن ... لا بدّ و أن یکون المتلازمان متوافقین فی الحکم .

ص:150

قال الأُستاذ :

لکنّ الإشکال فی الکبری . أمّا نقضاً : فلا شکّ أن الأمر لمّا یتعلّق بالطبیعة کالصّلاة مثلاً ، فإنّ الطبیعی لا یتحقّق خارجاً إلّا ملازماً لخصوصیّاتٍ من الزمان و المکان و غیرهما ، لکن متعلّق الحکم - بضرورة الفقه - هو الطبیعی ، و لیس لتلک الخصوصیّات حکم أصلاً ، إذ الواجب علی المکلّف هو صلاة الظهر مثلاً ، لا خصوصیّة هذا الفرد منها الذی أتی به فی الدار فی أوّل الوقت مثلاً .

و أمّا حلّاً ، فصحیحٌ أنّه ما من واقعةٍ إلّا و فیها حکم شرعی ، لکن هذه الکبری لیست بلا ملاک ، و ملاکها لا یخلو : إمّا هو تبعیّة الأحکام الشرعیّة للمصالح و المفاسد غیر المزاحمة ، علی مسلک العدلیّة ، من جهة أنّه إذا رأی العقل المصلحة التامّة یستکشف الحکم الشرعی فی الواقعة بقانون الملازمة . و إمّا هو ضرورة جعل الشارع الدّاعی لتحقّق غرضه ، و الداعی هو الحکم . و إمّا هو لزوم خروج المکلّف من الحیرة فی کلّ واقعة .

لکنْ لا شیء من هذه الأُمور فی المتلازمین .

أمّا الأوّل : فلأنّه لا دلیل علی أنّه لو کان للملازم ملاک فلا بدّ و أن یکون لملازمه ملاک کذلک ، فلو کان القعود واجباً ، فما هو المصلحة لجعل الوجوب لترک القیام ؟

و أمّا الثانی : فلأنّ جعل الحکم للملازم کافٍ للداعویّة إلی تحقّق غرض المولی ، و لا حاجة لجعل الملازم الآخر من هذه الجهة .

و أمّا الثالث : فلأنّه لا حیرة للمکلّف فی مورد المتلازمین فی فرض جعل الحکم لأحدهما ، فإنّه مع جعل الوجوب للقعود ، لا یبقی المکلّف متحیّراً فی حکم القیام حتّی یُحتاج إلی جعل حکم الوجوب لترکه .

ص:151

و تلخّص : أنّه لا ملاک - بعد جعل الحکم لأحد المتلازمین - لجعله للملازم الآخر ... فالکبری غیر منطبقة هنا ... فالاستدلال ساقط .

و بذلک یظهر سقوط الطریق الثانی لإثبات أنّ الأمر بالشیء نهی عن الضدّ الخاص .

تتمّة

.مسألة الضد من مسائل أیّ علم من العلوم ؟

و قد وقع الکلام فی أنّ مسألة الضدّ کلامیّة ؟ أو فقهیّة ؟ أو أُصولیّة ؟ أو هی من المبادئ الأحکامیّة ؟ وجوه .

رأی الأُستاذ

و مختار الأُستاذ : هو أنّها من المسائل الأُصولیّة ، و لیست من مسائل الفقه أو الکلام ، کما أنّها لیست من مبادئ الأحکام .

أمّا عدم کونها من المسائل الکلامیّة ، فلأنّ علم الکلام هو ما یبحث فیه عن أحوال المبدإ و المعاد بالأدلّة العقلیّة و النقلیّة ، و البحث عن اقتضاء الأمر للنهی عن الضدّ الخاص لا یختص بالأوامر الإلهیّة - لتکون المسألة کلامیّة من جهة کونها بحثاً عن عوارض التکلیف و هو فعل اللّٰه - بل هو أعمّ من أوامر اللّٰه و أوامر سائر الناس .

و أمّا عدم کونها من المسائل الفقهیّة ، فلأن البحث فی هذه المسألة لیس عن حرمة الضدّ الخاص و عدم حرمته ، بل هو بحث عن أصل استلزام الأمر للنهی عن الضدّ الخاص ، و هو لیس بمسألةٍ فقهیّة .

و أمّا عدم کونها من المبادئ الأحکامیّة ، فلأنّ مختار القائل بذلک - و هو

ص:152

السید البروجردی (1) - فی موضوع علم الأُصول أنّه الحجّة فی الفقه (2) ، وعلیه ، یکون البحث فیه عن عوارض هذا الموضوع یعدّ من المسائل الأُصولیّة ، و البحث عن اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن الضدّ الخاص لیس بحثاً عن عوارض الحجة فی الفقه ، فلیس من المسائل الأُصولیّة فیکون من المبادی .

و فیه : - بعد غضّ النظر عن المبنی فی موضوع علم الأُصول ، و عن القول بأنّ لکلّ علم مبادئ أحکامیّة علاوةً علی المبادئ التصوریّة و التصدیقیّة - إن کون المسألة من مسائل علم الأُصول یدور مدار انطباق تعریفه علیها ، فإنْ وقعت نتیجة البحث فی طریق استنباط الحکم الشرعی ، فالمسألة أُصولیّة و إلّا فلا ، و هنا عند ما نبحث عن الاستلزام و عدمه ، فإنّ نتیجته حرمة الضدّ بناءً علی الاستلزام و عدم حرمته بناءً علی عدمه ... و إذا ترتّبت هذه الثمرة الفقهیّة فالمسألة أُصولیّة ، لأنّها نتیجة فقهیّة ترتّبت علی البحث مباشرةً .

و أیضاً ، فللبحث ثمرة أُخری لکن مع الواسطة ، و هی فساد العمل إن کان عبادیّاً بناءً علی الحرمة .

و لا یخفی أنّ الحرمة المترتّبة إنّما هی حرمة تبعیّة ، لعدم کون المفسدة فی متعلّقها و هو الصّلاة مثلاً ، بل لأنّ الصّلاة - إذا اقتضی وجوب الإزالة النهی عنها - تکون حینئذ مفوّتة لمصلحة الإزالة ، فکانت حرمة الصّلاة تبعیّة ، و إلّا فلا ریب فی وجود المصلحة فیها نفسها .

ص:153


1- 1) نهایة الأُصول : 189 .
2- 2) نهایة الأُصول : 11 .

المقام الثانی: فی اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضدّه العام

اشارة

و المراد من « الضدّ العام » هو « الترک » أی عدم المأمور به ، و هل یتعلّق التکلیف بالعدم حتی یبحث عن دلالة الأمر بالشیء علی النهی عن عدمه و ترکه ؟

إنّ هذا العدم لیس بالعدم المطلق ، بل هو عدم مضافٌ إلی الوجود ، و قد جری علی الألسنة أنّ للعدم المضاف إلی الوجود حظّاً من الوجود ، وعلیه ، فهو قابل لأنْ یتعلّق التکلیف به ... لکنّ الأُستاذ دام بقاه لا یوافق علی ذلک ، و مختاره أنّ العدم لا یقبل الاتّصاف بالوجود عقلاً مطلقاً ... إلّا أنّه یری جریان البحث بالنظر العرفی ، و الخطابات الشرعیّة ملقاة إلی العرف ، لأنّ أهل العرف یرون للعدم القابلیّة لتعلّق التکلیف ، و من هنا کانت تروک الإحرام - و هی أُمور عدمیّة - موضوعات للأحکام الشرعیّة ، و کذا غیرها من الأُمور العدمیّة ، و لا وجه لرفع الید عن أصالة الظهور فیها و تأویلها إلی أُمور وجودیّة .

هذا ، و فی المسألة قولان ، ثم اختلف القائلون بالاقتضاء ، بین قائل بأن الأمر بالشیء عین النهی عن نقیضه ، و هو المستفاد من کلام صاحب ( الفصول ) و قائل بأنه یقتضیه و یدلّ علیه بالدلالة التضمّنیّة ، و هو المستفاد من کلام صاحب ( المعالم ) و قائل بدلالته علیه بالدلالة الالتزامیّة العقلیّة ، وعلیه صاحب ( الکفایة ) .

.أدلّة الأقوال :

و یتلخّص مستند صاحب ( المعالم ) (1) فی : أن الوجوب مرکّب من طلب الفعل و المنع من الترک ، و إذا کان مرکّباً من الجزءین فدلالة الأمر علی المنع من الترک دلالة لفظیّة تضمّنیّة .

ص:154


1- 1) معالم الدین : 63 .

فردّ علیه صاحب الکفایة (1) : بأنّ الوجوب لیس إلّا مرتبةً واحدةً من الطلب ، فالطلب بسیط و لیس بمرکّب ، غیر أنّها مرتبة أکیدة فی قبال الاستحباب ، لأنّ الوجوب إمّا هو أمر اعتباری و إمّا هو الإرادة ، فإنْ کان هو الإرادة ، فإنّها و إنْ کانت تشکیکیّة لکنّها بسیطة لا ترکیب فیها ، و إن کان أمراً اعتباریّاً ، فالأُمور الاعتباریّة کلّها بسائط . و کیفما کان ، فإنّ المبنی باطل ، فما بنی علیه باطل کذلک .

ثم قال : و إذا کان حقیقة الوجوب هی المرتبة الشدیدة من الطلب ، فإنّ الآمر إذا التفت إلی نقیض متعلَّق طلبه ، فلا ریب فی کونه مبغوضاً له و مورداً للنهی منه ...

فکان النهی عن النقیض - و هو الترک - من لوازم المرتبة الأکیدة . و قد أشار بکلمة « الالتفات » إلی أنّ هذا اللزوم عقلی ، و لیس لزوماً بیّناً بالمعنی الأخص .

و هذا دلیل صاحب ( الکفایة ) علی دلالة الأمر بالشیء علی مطلوبیّة ترک ترکه بالملازمة العقلیّة .

ثمّ تعرّض لرأی صاحب ( الفصول ) و أفاد بأنّه إذا ثبتت الملازمة ثبت الاثنینیّة ، فالقول بکون الأمر بالشیء عین النهی عن ترکه باطل .

اعتراض المحقّق الاصفهانی

و للمحقّق الأصفهانی تعلیقة مطوّلة فی هذا الموضع ، و حاصل کلامه (2) هو :

إنّ بحثنا فی الإرادة التشریعیّة ، و وزانها وزان الإرادة التکوینیّة ، فإن کان المراد من قوله : الشوق فی مورد الوجوب أشدّ منه فی مورد الاستحباب ، أنّه یعتبر فی الوجوب وصول المصلحة إلی حدّ اللّزوم ، فهذا صحیح ، سواء فی المراد التکوینی أو التشریعی . و إنْ کان المراد : إنّ الإرادة المؤثرة فی تحقّق المراد هی فی

ص:155


1- 1) کفایة الأُصول : 133 .
2- 2) نهایة الدرایة 2 / 205 .

مورد الواجبات أشدُّ و أقوی منها فی مورد المستحبات ، فهذا باطل ، لأنّ ما به التفاوت بین الواجب و المستحب هو الغرض و لیس الإرادة ... و لا اختلاف فی مرتبة الإرادة .

و علی الجملة ، فإنّه لیس الوجوب المرتبة الشدیدة من الإرادة و المستحب المرتبة الضعیفة منها ، بل إنّ إرادة المرید إن تعلّقت بأمرٍ جائز الترک عنده فهو المستحب ، و إنْ تعلّقت بأمرٍ غیر جائز الترک عنده فهو الواجب ... و من الواضح أنّ جواز ترک الشیء و عدم جوازه یتبع الغرض منه ... و إلّا ، فالإرادة کیفیّة نفسانیّة ، و الکیفیّات النفسانیّة لیس لها مراتب .

مناقشة الأُستاذ

و أورد علیه الأُستاذ : بأنّ الوجوب إن کان من الأُمور الاعتباریّة ، فالمراد أنّ المعتبر فی الوجوب هو المرتبة الأکیدة من الطلب ، کما أنّ المعتبر فی الاستحباب هو المرتبة الضعیفة منه ، فالشدّة و الضعف یرجعان إلی المعتبر لا الاعتبار حتّی یقال بأنّه لا حرکة فی الاعتباریات . و إن کان هو الإرادة و الکیف النفسانی ، فالشدّة و الضعف فی الإرادة و اختلاف المرتبة فیها أمر واضح ... فاعتراضه علی صاحب ( الکفایة ) غیر وجیه .

و أمّا دعواه : بأنّ الاختلاف بین الوجوب و الاستحباب ناشئ من اختلاف الغرض منهما لا من اختلاف المرتبة فی الإرادة ، فمندفعة : بأنّه یستحیل تخلّف الإرادة عن الغرض ، سواء فی أصله و فی مرتبته ، إذ النسبة بینهما نسبة المعلول إلی العلّة ، و علی هذا ، فإذا کان الغرض فی الواجب آکد کانت الإرادة فیه کذلک لا محالة ، فقوله : بأنّ الاختلاف بین الاستحباب و الوجوب هو بالغرض لا باختلاف المرتبة فی الإرادة ، مردود . اللّهمّ إلّا بأن یقال بعدم تبعیّة الإرادات

ص:156

للأغراض ، أو یقال بتبعیّتها لها فی الأصل دون المرتبة ، و کلاهما باطل .

التحقیق فی حقیقة الوجوب

ثمّ قال الأُستاذ : لکنّ التحقیق فی حقیقة الوجوب و الاستحباب هو عدم کونهما مرتبة من الإرادة ، بل هما عنوانان اعتباریان انتزاعیّان ، فصحیح أنّه یوجد فی الوجوب شوق أکید ، إلّا أنّه لیس الوجوب ، و إنّما ینتزع عرفاً منه الوجوب ، و فی الاستحباب یوجد الشوق الضّعیف ، لکنّه المنشأ لانتزاع العرف الاستحباب ، و کذا الحال فی الحرمة و الکراهة ، ففی الحرمة مثلاً توجد المبغوضیّة الشدیدة و لیست هی الحرمة ، بل إنّها منتزعة منها عرفاً .

فما ذهبوا إلیه من أنّ الوجوب هو المرتبة الأکیدة من الإرادة ، غیر صحیح ، و یؤکّد ذلک أنّه لو کان کذلک لجاز حمل الوجوب علی الإرادة ، و هو غیر جائز کما هو واضح .

النظر فی اشکال الکفایة علی الفصول

ثمّ إنّ إیراد المحقّق الخراسانی علی نظریّة العینیّة بین الأمر بالشیء و النهی عن ضدّه العام ، بأنّ بینهما ملازمة و الملازمة تقتضی المغایرة ، فیه :

أوّلاً : إنّه منقوض باعترافه بالعینیّة فی بحوثه المتقدّمة ، و ذلک حیث قال ما نصّه :

« نعم ، لا بدّ أن لا یکون الملازم محکوماً فعلاً بحکم آخر علی خلاف حکمه ، لا أن یکون محکوماً بحکمه ، و هذا بخلاف الفعل الثانی ، فإنّه بنفسه یعاند الترک المطلق و ینافیه لا ملازم لمعانده و منافیه ، فلو لم یکن عین ما یناقضه بحسب الاصطلاح مفهوماً لکنّه متّحد معه عیناً و خارجاً ، فإذا کان الترک واجباً فلا محالة

ص:157

یکون الفعل منهیّاً عنه قطعاً » (1) .

فهو هناک یعترف بأنّ الوجوب عین ترک الترک مصداقاً و إنْ اختلفا مفهوماً ، فکیف ینفی ذلک هنا ؟ و العصمة لأهلها .

و ثانیاً : إنّ بحثنا هو فی المغایرة المصداقیّة لا المفهومیّة ، و إثبات الملازمة لا ینتج المغایرة و الاثنینیّة الواقعیّة ، فیصحّ القول بأنّ الأمر بالشیء یلازم النهی عن الضدّ و هما وجوداً واحد ... و هذا الإشکال من المحقّق الاصفهانی .

مختار المیرزا فی المقام

و تعرّض المیرزا للآراء فی المقام ، ففصّل فی القول بالعینیّة ، و ردّ علی القول بالدلالة التضمّنیّة ، و لم یستبعد القول بالدلالة بالالتزام بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأخص ، ثمّ نصّ علی أنّها باللزوم البیّن بالمعنی الأعمّ ممّا لا إشکال فیه و لا کلام .

أمّا التفصیل فی العینیّة فقد قال : ربّما یدّعی أن الأمر بالشیء عین النهی عن ضدّه ، بتقریب : إنّ عدم العدم و إنْ کان مغایراً للوجود مفهوماً إلّا أنّه عینه خارجاً ، لأن نقیض العدم هو الوجود ، و عدم العدم عنوان و مرآة له ، لا أنّه أمر یلازمه ، فطلب ترک الترک عین طلب الفعل ، و الفرق بینهما إنّما هو بحسب المفهوم فقط .

قال : و فیه إنّ محلّ الکلام هو أنّه إذا تعلّق الأمر بشیء فهل هو بعینه نهی عن الترک أو لا ، لا أنّه إذا کان هناک أمر بالفعل و نهی عن الترک فهل هما متّحدان أو لا ؟ و الدلیل إنّما یثبت الاتّحاد فی الفرض الثانی لا الأوّل ، بداهة أنّ الآمر بالشیء ربّما یغفل عن ترک ترکه فضلاً عن أن یأمر به ، فلا یبقی لدعوی الاتّحاد فیما هو محلّ

ص:158


1- 1) کفایة الأُصول : 121 .

الکلام مجال أصلاً .

و أمّا القول بالدّلالة التضمّنیّة ، فقد ردّ علیه ببساطة الوجوب و عدم ترکّبه .

و أمّا القول بالدلالة الالتزامیّة ، فذکر أنّها بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأخص ، بأنْ یکون نفس تصوّر الوجوب کافیاً فی تصوّر المنع عن الترک ، لیست ببعیدة ، و علی تقدیر التنزّل عنها فالدلالة الالتزامیّة باللزوم البیّن بالمعنی الأعمّ ممّا لا إشکال فیه و لا کلام (1) .

النظر فیه

و قد أشکل علیه : بأنّ عدم استبعاد الدلالة بنحو اللّزوم البیّن بالمعنی الأخصّ ، و القول بأنّ الآمر قد یغفل عن ترک ترک أمره فضلاً عن أن یأمر به ، تناقض ، لأنّه لو کانت الدلالة کذلک لم یتصوّر غفلة الآمر .

قال الأُستاذ :

و عمدة الإشکال هو التفصیل فی العینیّة ، بأنْ وافق علیها إن وجد أمر بالفعل و نهی عن الترک و إلّا فالملازمة ، و ذلک : لأنّه إن کان ترک الترک عین الفعل و طلبه عین طلبه فهو کذلک دائماً ، و إن کان ملازماً له فهو دائماً کذلک ، إذ حقیقة المعنی الواحد - و هو ترک الترک - لا تختلف ، و لا یعقل أن یکون المعنی الواحد عین المعنی الآخر فی تقدیرٍ و ملازماً له فی تقدیر آخر .

مختار السید الخوئی و الشیخ الأُستاذ :

و ذهب السیّد الخوئی إلی عدم الاقتضاء ، و هو مختار الشیخ الأُستاذ ، و إنْ خالفه فی بعض کلماته فی ردّ العینیّة .

قال الأُستاذ بالنسبة إلی نظریة العینیّة : أمّا بناءً علی أنّ الأمر هو الإرادة المبرزة و النهی هو الکراهة المبرزة ، کما علیه المحقّق العراقی ، فبطلان العینیّة

ص:159


1- 1) أجود التقریرات 2 / 6 - 7 .

واضح ، إذ الإرادة لا تکون عین الکراهة . و کذا بناءً علی أنّ الأمر هو البعث و النهی هو الزجر ، إذ الاتّحاد بینهما غیر معقول .

و أمّا أن یکون طلب الفعل عین طلب ترک الترک ، فالتحقیق : أنّ ترک الترک من المفاهیم التی یصنعها الذهن و لیس لها ما بإزاء فی الخارج و لا منشأ انتزاع ، فقول المحقّق الخوئی : بأنّه عنوان انتزاعی منطبق علی الوجود ، غیر صحیح ، لأنّ الصدق دائماً یکون فی عالم الخارج ، و من هنا قسّموا الحمل إلی الأوّلی المفهومی و إلی الشائع بلحاظ الوجود ، فترک الترک لا مصداقیّة له ، و لو قال بأنّ مصداقه الوجود ، فمن المحال کون المعنی الوجودی مصداقاً للمعنی العدمی ، و دعوی انتزاعیّته أیضاً باطلة ، لأنّ الانتزاع بلا منشأ له محال ، بل لا بدّ للأمر الانتزاعی من منشأ للانتزاع یکون متّحداً معه وجوداً ، کما فی الفوقیّة و السقف ، و قد تقدّم أنّ ترک الترک لا حظّ له من الوجود الخارجی ، بل إنّه من صنع الذهن فقط ... و العجب أنّه قد أشار إلی هذا المعنی فی کلماته حیث قال : « و لیس له واقع فی قبالهما و إلّا لأمکن أن یکون فی الواقع أعدام غیر متناهیة ، فإنّ لکلّ شیء عدماً و لعدمه عدم و هکذا إلی أن یذهب إلی ما لا نهایة له » .

فظهر : أن ترک الترک لیس إلّا من صنع الذهن ، فما ذهب إلیه المیرزا و السید الخوئی غیر تام ، و کذا کلام الکفایة من أنّ بینهما اتّحاداً مصداقیّاً .

و أمّا قول ( المحاضرات ) بعد ما تقدّم : « فالقول بأنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه فی قوّة القول بأنّ الأمر بالشیء یقتضی الأمر بذلک الشیء ، و هو قول لا معنی له أصلاً » ففیه : إنّه لا یکون کذلک ، لأنّهما - و إن اتّحدا مصداقاً - مختلفان مفهوماً ، و القائل بالعینیّة لا یدّعی العینیّة المفهومیّة ، و السید الخوئی أیضاً یری تعدّد المفهوم ، فلا معنی لکلامه المذکور .

ص:160

هذا کلّه بالنسبة إلی العینیّة .

و أمّا القول بالدّلالة التضمّنیّة ، فبطلانه واضح ، لکون الوجوب أمراً بسیطاً علی جمیع المبانی فی حقیقة الأمر .

و أمّا القول بالدلالة الالتزامیّة ، بأن یکون الأمر بالشیء دالّاً علی النهی عن ترکه بالالتزام ، فإنّ اللزوم - سواء أُرید منه اللّزوم بنحو البیّن بالمعنی الأخصّ ، و هو ما لا ینفک تصوّر أحد المتلازمین عن تصوّر الآخر ، کتصوّر العمی الذی لا ینفک عن تصوّر البصر ، و کذا نحوهما من الملکة و عدمها ، أو بنحو اللّزوم بالمعنی الأعمّ ، و هو ما إذا تصوّر الإنسان کلیهما أذعن بالملازمة بینهما - لا ینطبق علی شیء من الأقوال فی حقیقة الأمر و النهی ، و هی : القول بأنّهما الإرادة و الکراهة ، و القول بأنّهما البعث و الزجر ، و القول بأنّهما طلب الفعل و طلب الترک ، و القول باعتبار اللّابدّیة و اعتبار الحرمان .

نعم ، هناک تلازم بین الحبّ و البغض ، بمعنی أنّه لو أراد شیئاً کره و أبغض ترکه ، و هذا اللّزوم هو بنحو اللّزوم البیّن بالمعنی الأعمّ ، إلّا أنّه لا ربط له بالملازمة بین الأمر و النهی ، إلّا أن یقال بأنّ حقیقة الأمر بالشیء إرادته بالشوق البالغ حدّ النصاب ، و حقیقة النهی کراهیّة الشیء مع البغض الشدید له البالغ حدّ النصاب ، سواء أبرز أو لا ، لکنْ لا قائل بهذا ، لأنّ القائلین بأنّ حقیقة الأمر و النهی هی الإرادة و الکراهة یقولون باعتبار إبرازهما .

و تحصّل : أنّ الدلالة الالتزامیّة ساقطة ، کسقوط التضمّنیّة و العینیّة ، و أنّ القول بدلالة الأمر علی النهی عن ضدّه العام باطل علی جمیع الوجوه .

ص:161

ثمرة البحث

اشارة

ثم إنه قد بحث الأعلام عن ثمرة هذا البحث فذکروا موارد :

منها : مسألة المواسعة و المضایقة ، فقد ذهب المشهور من المتقدّمین إلی المضایقة ، بناءً علی أنّ الأمر بالصّلاة الفائتة یدلّ علی النهی عن الحاضرة ، و هی الضدّ الخاصّ ، وعلیه ، فقد أفتوا بأن من کانت ذمّته مشغولةً بصلاةٍ ، فصلاته الأدائیّة بعد الوقت باطلة ، لأنّ عدم الضدّ الخاص - و هو الصّلاة الحاضرة - یکون مقدّمة لوجود الضدّ الآخر و هو الصّلاة الفائتة .

لکن مقدمیّة عدم أحد الضدّین لوجود الضدّ الآخر أوّل الکلام ، کما تقدّم بالتفصیل .

و منها : مسألة ترتّب العقاب علی المخالفة للنهی بناءً علی الدلالة ، و عدم ترتّبه بناءً علی عدمها .

لکنّ استلزام مخالفة النهی الغیری لاستحقاق العقاب أوّل الکلام .

و منها : ترتّب أثر المعصیة ، فإنّه إذا کان الأمر بالشیء دالّاً علی النهی عن ضدّه ، یکون الضدّ الخاص - کالسّفر - معصیةً ، و یترتّب علی ذلک وجوب إتمام الصلاة .

و لکنْ هذا یتوقّف علی عدم انصراف أدلّة وجوب الإتمام فی سفر المعصیة عن النهی الغیری العرضی .

و منها : فساد العبادة ، لأنّه مع الدلالة علی النّهی تکون العبادة المزاحمة فاسدةً ، لأنّ النهی عنها موجب لفسادها ، أمّا مع عدم الدلالة فهی صحیحة ، و توضیح ذلک :

إنّه إن کان الأمر بالشیء یدلّ علی النهی عن ضدّه من باب أنّ عدم أحد

ص:162

الضدّین مقدّمة للضدّ الآخر ، فیجب عدمه بمقتضی دلالة الأمر بالشیء علی النهی عن ضدّه العام ، فلا ریب فی حرمة فعل الضدّ .

و إن کان الأمر بالشیء یدلّ علی النهی عن ضدّه من باب الاستلزام ، بأنْ یکون عدم ذاک ملازماً لوجود هذا ، کان عدم ذلک الضدّ واجباً لکونه ملازماً للواجب ، و المفروض اتّحاد المتلازمین فی الحکم ، و إذا کان واجباً فوجوبه یدلّ علی النهی عن الضدّ العام ، فیکون فعله محرّماً .

و إذا ثبت حرمة الضدّ - بأحد الطریقین : المقدمیّة أو الملازمة - فإن کان الضدّ عبادةً ، وقعت باطلة ، بناءً علی أنّ النهی فی العبادات یوجب الفساد ... لکنّ هذا النهی تبعی و عرضی ، فلا بدّ من القول بدلالة النهی فی العبادات علی الفساد حتی فی النواهی العرضیّة .

لکنّ الضدّین المتزاحمین ، قد یکونان مضیّقین ، و قد یکون أحدهما مضیّقاً و الآخر موسّعاً ، و علی الأوّل ، فتارةً یکونان متساویین ، و أُخری یکون أحدهما مهمّاً و الآخر أهم .

فإن کانا مضیّقین و أحدهما أهم ، کما لو دار الأمر فی آخر وقت الصّلاة بینها و بین إزالة النجاسة عن المسجد ، فإنّه و إن کان وجوب الإزالة فوریّاً ، فإنّ ضیق وقت الصّلاة یوجب أهمیّتها ، و حینئذٍ ، یکون الأمر بالصّلاة دالّاً علی النهی عن الضدّ فلا تجوز الإزالة .

و إن کان وجوب أحدهما موسّعاً ، کما لو کان وقت الصّلاة موسّعاً و الأمر بالإزالة فوری ، فعلی القول بالدّلالة یکون الأمر بالإزالة دالّاً علی النهی عن الصّلاة .

و لو کانا مضیّقین و کان أحدهما عملاً غیر عبادی لکنْ کان أهمّ من الآخر العبادی ، کما لو دار الأمر فی ضیق الوقت بین أن یصلّی أو ینقذ النفس المحترمة

ص:163

من الغرق ، فالأمر بالإنقاذ الأهم من الصّلاة یدلّ علی النهی عنها بناءً علی الدلالة ، فلو أتی بها حینئذٍ کانت فاسدة ، لکون النهی عن العبادة موجباً للفساد ، أمّا بناءً علی عدم الدلالة ، فلا موجب لفسادها لو أتی بها فی ذلک الوقت و ترک الإنقاذ .

رأی الشیخ البهائی فی الثمرة

و أورد الشیخ البهائی رحمه اللّٰه علی هذه الثمرة - کما عن کتابه ( زبدة الأُصول ) - : بأنّ العبادة باطلة مطلقاً حتی علی القول بعدم دلالة الأمر للنهی عن الضدّ ، فالثمرة منتفیة ، و ذلک لأنّ العبادة تتوقّف علی قصد الأمر ، إذن ، فصحّة العبادة مشروطة بتعلّق الأمر بها فعلاً حتی یُقصد ، و فی صورة الأمر بشیءٍ و وقوع التزاحم بینه و بین ضدّه ، لا یوجد أمرٌ بالضدّ ، لاستحالة تعلّق الأمر بالضّدین معاً ، فالضدّ الآخر غیر مأمور به ، سواء دلّ الأمر بالشیء علی النهی عنه أو لم یدل؛ و مع عدم الأمر به یکون فاسداً ، لکونه عبادةً و صحّة العبادة مشروطة بتعلّق الأمر بها .

الجواب عنه

و أجیب عن ذلک بوجهین :

أحدهما : ما ذکره صاحب ( الکفایة ) و غیره کالمحاضرات (1) ، من أنّ المعتبر فی صحّة العبادة لیس خصوص قصد الأمر بل قصد القربة بأیّ وجهٍ تحقّق ، و الحاصل : إنّه یکفی الإتیان بالعمل مضافاً إلی المولی ، کأن یؤتی به بقصد کونه محبوباً له أو بداعی تحصیل الثواب علیه و القرب منه . و علی هذا فالثمرة مترتّبة .

لکن هذا الجواب مبنائی .

و الثانی : ما یستفاد من کلمات المحقّق الثانی ، و بیان ذلک :

ص:164


1- 1) کفایة الأُصول : 134 ، محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 339 .

أوّلاً : إنّه یعتبر فی التکلیف أن یکون المتعلّق مقدوراً ، و مناط اعتبار القدرة فی المتعلّق هو حکم العقل بذلک - لا اقتضاء الخطاب کما علیه المیرزا - فإن کان متعلّق التکلیف هو طبیعی المأمور به لزم وجود القدرة علیه ، و إن کان الحصّة من الطبیعة لزم وجود القدرة علیه کذلک .

و ثانیاً : إنّه إن کان المتعلّق هو الطبیعة ، فإنّ القدرة علیها تحصل بالقدرة علی فردٍ ما منها ، و انطباق الطبیعة علیه قهری .

و ثالثاً : إنّ الأمر یستحیل أن یتجاوز عن متعلّقه ، فلو کان المتعلّق هو الطبیعة فلا یتجاوز إلی الفرد .

و رابعاً : إنّ الحاکم بالإجزاء و سقوط الأمر هو العقل ، لأنّه فی کلّ موردٍ یکون الانطباق فیه قهریّاً ، فالإجزاء فیه عقلی .

ففی کلّ موردٍ توفّرت هذه المقدّمات ، تکون العبادة صحیحة ، و یندفع اشکال الشیخ البهائی ، و إلّا فالإشکال وارد ، کما فی المضیّقین حیث القدرة منتفیة .

رأی المیرزا النائینی

و ذهب المیرزا (1) إلی إنکار الثمرة بوجهٍ آخر ، و ذلک : لأنّه إن اعتبر قصد الأمر فی عبادیّة العبادة ، فلا ثمرة کما عن الشیخ البهائی ، و إنْ لم یعتبر فیها ذلک فکذلک ، أمّا بناءً علی عدم دلالة الأمر بالشیء علی النهی عن ضدّه فواضحٌ ، إذ الضدّ یؤتی به عبادةً لکونه ذا مصلحةٍ ملزمة یجب استیفاؤها ، فیؤتی به بقصدها و لا إشکال فی صحتها . و أمّا بناءً علی الدلالة ، فإنّ النهی عن الضدّ المزاحم لیس ناشئاً عن مفسدةٍ فی المتعلّق - و هو الصّلاة - و مبغوضیّة ذاتیّة فیه ، بل هو فی الواقع یرجع إلی مطلوبیّة الإزالة ، و إذْ لیس فی نفس الصّلاة مفسدة ، فلا یکون مثل هذا

ص:165


1- 1) أجود التقریرات 2 / 21 - 22 .

النهی بمانعٍ عن المقربیّة .

فالحاصل : إنّ المقتضی للمقربیّة - و هو المصلحة - موجود ، و المانع عنها - و هو النهی - مفقود .

فظهر صحّة الصّلاة علی التقدیرین ، فلا ثمرة .

الدفاع عنه فی قبال المحاضرات و المنتقی

و أورد علیه فی المحاضرات : بأنّ الإتیان بالعمل بقصد الملاک و المصلحة غیر کافٍ فی العبادیّة ، بل لا بدّ من الإتیان به مضافاً إلی المولی ، و الإتیان به بقصد الملاک لا یفید إضافته إلیه .

و الجواب :

فأفاد شیخنا ما حاصله : إنه فرق بین مطلق المصلحة و المصلحة التی هی الغرض من التکلیف ، و قصد المصلحة التی هی الغرض عند المولی - کما لو کان الانتهاء عن الفحشاء و المنکر هو المصلحة فی إیجاب الصلاة - مقرّب إلی المولی و مضیف للعمل إلیه ... نعم ، قد یکون العمل مبتلی بالمزاحم الأهم ، فیکون المکلّف عاجزاً إلّا أنّ العمل واجد للمصلحة اللّازم استیفاؤها .

و الإشکال : بأن هذا إنّما یتمّ إن کانت المصلحة مترتبةً علی ذات العمل ، أمّا بناءً علی ترتّبها علی العمل المأتی به بعنوان العبادیّة ، فالمصلحة متأخّرة رتبةً عن العمل ، و مع تأخّرها عنه کیف تقصد عند الإتیان به ؟

مندفعٌ بالنقض ، لأنّ المستشکل یری صحّة العبادة المأتی بها بقصد المحبوبیّة عند المولی ، لکونها حینئذٍ عبادة مضافة إلیه ، و الحال أنّ المحبوبیّة مترتّبة علی العبادیّة لا علی ذات العمل ، فتکون فی طول العبادیّة و متأخّرة عنها ، فکیف یؤتی بالعمل بقصد المحبوبیّة ؟

ص:166

الإیراد علی المیرزا

لکن الإشکال الوارد علیه قوله بمقرّبیّة العمل و إن کان منهیّاً عنه ... لأنّه و إن کان النهی عن الصّلاة هو من جهة محبوبیّة الإزالة مثلاً لا لمفسدةٍ فیها ، إلّا أنّه زجر عن الصّلاة ، و مع الزجر کیف تکون مقرّبةً ؟ إن العقل یلحظ الزجر بغض النظر عمّا هو المنشأ له ، ویحکم بأنّ ما زجر عنه المولی فهو مبغوض عنده ، و المبغوض لا یکون مقرّباً بل مبعّداً عنه ... و لا أقل من الشکّ فی المقربیّة ، و معه یرجع الشکّ إلی العبادیّة ، و المرجع حینئذٍ قاعدة الاشتغال .

نتیجة البحث

إنّ المیرزا یری - بناءً علی دلالة الأمر علی النهی عن الضدّ الخاصّ - صحّة العبادة ، لکون العمل ذا مصلحة و النهی عنه غیر ذاتی ، فیکفی قصد الملاک بناءً علی عدم اعتبار قصد الأمر .

و الأُستاذ یری أنّ هذا النهی أیضاً یؤثر ، فلا یصلح العمل للمقربیّة ، لکنّ الصّلاة صحیحة لأنّه لا یری دلالة الأمر علی النهی عن الضدّ .

و فی ( المنتقی ) - بعد أنْ قرّبه و أفاد أنّ مقصود المحقق النائینی بالملاک المصحّح للعبادیّة هو المصلحة - یرد علیه :

« أولاً : إن قصد المصلحة لا یمکن تحققه هنا .

و ذلک : لأن العمل إذا فرض کونه عبادیاً کانت المصلحة مما یترتب علی العمل بقید کونه عبادیاً . أما ذات العمل فلا تترتب علیه المصلحة .

وعلیه ، فلا یصلح ترتب المصلحة لأن یکون داعیاً إلی الإتیان بالعمل ، لعدم ترتّبه علیه ، و الداعی ما کان بوجوده العلمی سابقاً و بوجوده العینی لاحقاً .

و بالجملة : لا یمکن أن یؤتی بالعمل بداعی المصلحة ، إذ لا مصلحة فیه ، بل

ص:167

المصلحة تترتب علی العمل العبادی فقصد المصلحة فی طول تحقق العبادیة لا محقق لها ، فهو نظیر الإتیان بالعمل بداعی ترتب الثواب أو الفرار من العقاب ، فإنه فی طول العبادة لا محقق لها ، کما تقدم بیان ذلک فی مبحث التعبدی و التوصلی .

و ثانیاً : لو فرض إمکان تحقق قصد المصلحة ، فهو لا یکون مقرباً ، لما تقدم من أنه یعتبر فی المقربیة ارتباط العمل بالمولی بنحو ارتباط ، و الإتیان بالعمل لأجل ترتب المصلحة علیه لا یرتبط بالمولی، فلا یکون العمل مقرباً لعدم ربطه بالمولی .

و علی هذا، لا یستقیم ما أفاده المحقق النائینی من إنکار الثمرة ، إذ الملاک المصحح لیس إلا المحبوبیة ، و هو لا یتحقق مع تعلق النهی بالعمل .

و لکن الذی یسهل الخطب ما عرفت من الالتزام بعدم اقتضاء الأمر بشیء النهی عن ضده ، إما لأجل إنکار دعوی المقدمیة التی هی عمدة أساس القول بالاقتضاء . و أما من جهة إنکار وجوب المقدمة » (1) .

ص:168


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 362 - 363 .

طرق تصحیح الفرد المزاحم

اشارة

بعد أنْ ظهر أنّ الحق عدم دلالة الأمر علی النهی عن الضدّ الخاصّ ، لا من باب المقدمیّة و لا من باب التلازم ، و أنّ الحق عدم دلالته علی النهی عن الضدّ العام ، لسقوط القول بالعینیّة و الدلالة التضمّنیّة و الالتزامیّة ، لکنّ دلالته علی مبغوضیّته ثابتة ، لأنّه إذا کان الفعل محبوباً للمولی کان ترکه مبغوضاً له یقیناً ، و کذا العکس ، لکن لا بدّ من التنبیه علی أنّ متعلّق البغض - و هو الترک - لا یتجاوز عن متعلّقه ، لیکون لازمه - و هو فعل الضدّ الخاص - مبغوضاً کذلک ، فإذا کان الضدّ الخاصّ أمراً عبادیّاً فلا دلیل علی فساده .

إلّا أنّ عدم الدلیل علی عدم الفساد لا یکفی لعبادیّة العمل ، بل یعتبر أن یؤتی به مضافاً إلی المولی .

أمّا علی القول باشتراط صحّة العبادة بقصد الأمر ، فقد تقدّم أنّه لا أمر بالنسبة إلی المزاحم فی عرض الواجب المأمور به ، لاستحالة طلب الضدّین ، فإمّا أن یدّعی وجود الأمر بالطبیعة - التی یکون الضدّ الخاص فرداً لها - فی عرض الأمر المتوجّه إلی الواجب ، و إمّا أن یدّعی کونه مأموراً به بالأمر الطولی علی أساس الترتّب .

و أمّا علی القول بصحّة العبادة بقصد الملاک ، فلا بدّ أوّلاً من إثبات المبنی بإقامة الدّلیل علیه ، ثمّ تحقیق الصّغری و هو کون العمل واجداً للملاک .

ص:169

.الطریق الأول

اشارة

و تفصیل الکلام علی القول الأوّل هو : إنه بناءً علی ما تقدّم عن المحقق الثانی ، فإنّ الطبیعة هی المتعلّق للأمر و الفرد غیر مأمور به ، إلّا أنّ انطباقها علیه قهری و الإجزاء عقلی ، و بذلک تتم عبادیّة الفرد المزاحم .

.الأقوال فی اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف

و قد تقدّم سابقاً : أنّ طریق المحقّق الثانی مبنیٌّ علی أنّ اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف هو بحکم العقل ، و الکلام الآن حول هذا المبنی ، فإنّ فی المسألة أقوالاً ثلاثة :

فقیل : إنّ القدرة علی المتعلّق غیر معتبرة فی صحّة التکلیف ، فللمولی تکلیف العاجز ، إلّا أنّ المکلّف إن کان قادراً علی الامتثال فواجب ، و إن کان عاجزاً فهو معذور .

و هذا رأی جماعة من المحقّقین ، و منهم السید الخوئی .

و قیل : إنّ القدرة شرط فی التکلیف .

فقال المحقّق الثانی و جماعة : إنّها شرط بحکم العقل .

و قال المیرزا : هی شرط باقتضاء الخطاب .

و القائلون بأنّها بحکم العقل ، اختلفوا بین قائل : بأنّ القدرة علی فردٍ ما من أفراد الطبیعة تکفی لصحّة الأمر بالطبیعة ، و قائل : لا تکفی .

و مذهب المحقّق الثانی هو الکفایة .

قال المیرزا :

الصحیح إنّه باقتضاء التکلیف لا بحکم العقل ، وعلیه ، فکون الفرد المزاحم فرداً للمأمور به محال ... و توضیح ذلک هو :

ص:170

إنّ التکلیف جعل الداعی ، و جمیع التکالیف إنما تُنشأ لأجل أنْ یوجد الدّاعی للامتثال عند المکلّف ، و الداعی یقتضی - بذاته - إمکان المدعوّ إلیه عقلاً و شرعاً ، لأنّ النسبة بینهما هی التضایف ، فلمّا کان الداعی إمکانیّاً فالمدعوّ إلیه کذلک ، إذن ، فمتعلّق التکلیف هو الفرد المقدور ، و أمّا غیر المقدور فخارج عن التکلیف ، و یکفی عدم القدرة الشرعیّة ، لأنّ الممتنع شرعاً کالممتنع عقلاً ... .

و الحاصل : إنّ متعلّق التکلیف هو غیر الضدّ المزاحم .

إشکالات المحاضرات

و أورد علیه فی المحاضرات من جهات :

( الأُولی ) إنّ ما أفاده قدّس سرّه - من التفصیل بین القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتکلیف هو حکم العقل بقبح تکلیف العاجز ، و القول بأنه اقتضاء نفس التکلیف ، فیسلّم ما ذکره المحقّق الثانی علی الأوّل دون الثانی - لا یرجع إلی معنی محصّل ، بناءً علی ما اختاره من استحالة الواجب المعلّق و تعلّق الوجوب بأمر متأخّر مقدور فی ظرفه ، و بیان ذلک باختصار هو :

إنّ الأمر فی الواجب الموسّع و إنْ تعلّق بالطبیعة و بصرف الوجود منها ، إلّا أنّه مشروط بالقدرة علیها ، و ذلک لا یمکن إلّا بأن یکون بعض وجوداتها - و لو کان واحداً منها - مقدوراً للمکلّف ، أمّا لو کان جمیع أفرادها غیر مقدور للمکلّف و لو فی زمان واحدٍ ، فلا یمکن تعلّق التکلیف بنفس الطبیعة فی ذلک الزمان إلّا علی القول بجواز الواجب المعلّق . و حیث أنّ الواجب الموسّع فی ظرف مزاحمته مع الواجب المضیّق غیر مقدور بجمیع أفراده ، فلا یعقل تعلّق التکلیف به ، - لیکون انطباقه علی الفرد المزاحم قهریّاً و إجزاؤه عن المأمور به عقلیّاً - إلّا بناء علی صحة الواجب المعلّق ، حیث یتعلّق الطلب بأمرٍ متأخّر مقدور فی ظرفه . و لا یفرّق فی

ص:171

ذلک بین المسلکین فی منشأ اعتبار القدرة فی المتعلّق .

نعم ، إنما یتمّ کلام المیرزا فیما إذا کان للواجب أفراد عرضیّة ، و کان بعضها - لا کلّها - مزاحماً بواجب مضیّق ، لأنه یصحّ حینئذٍ الإتیان بالفرد المزاحم بداعی امتثال الأمر بالطبیعة المقدورة بالقدرة علی بعض أفرادها ، بناءً علی قول المحقّق الثانی ، کما لو وقعت المزاحمة بین بعض الأفراد العرضیّة للصّلاة و إنقاذ الغریق ، فی أحد مواضع التخییر بین القصر و الإتمام ، حیث أنّ الفرد المزاحم للإنقاذ هو الإتمام ، فیلزم علیه اختیار القصر لیتمکّن من الإنقاذ أیضاً ، فلو اختار التمام و عصی الأمر بالأهم - و هو الإنقاذ - فالصّلاة صحیحة ، لکونها فرداً من الطبیعة المأمور بها ، المقدور علیها بالقدرة علی فردٍ و هو القصر ... أمّا بناءً علی مبنی المیرزا فلا تصحّ ، لأنّ متعلّق التکلیف هو الفرد المقدور و هو القصر ، و هذا الفرد غیر منطبق علی الفرد المزاحم .

لکنّ الکلام فی الأفراد الطولیة .

الجواب

أما سیّدنا الأُستاذ ، فقد ذکر أنّ هذا الإیراد من المحقق الأصفهانی (1) و قد أوضحه السیّد الخوئی مفصّلاً . قال : و هو وجه لطیف لکنه لا یخلو عن مناقشةٍ سیأتی التعرّض لها فی غیر هذا المقام (2). لکنّا لم نوفّق للوقوف علیه . و أمّا شیخنا الأُستاذ، فقد أجاب عن هذا الإشکال : بأنّ تعلّق التکلیف - بناءً علی القول بالواجب المعلّق - و إنْ کان معقولاً ، بأن یتعلّق الأمر بالعبادة الموسّعة کالصّلاة فی حال مزاحمتها بالواجب المضیّق ، علی نحو یکون الوجوب الآن و الواجب فی

ص:172


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 250 .
2- 2) منتقی الأُصول 2 / 371 .

المستقبل ، لاستحالة تعلّق الأمر الآن بالطبیعة من جهة کونها فی حال المزاحمة غیر مقدورة بجمیع أفرادها ، إلّا أن انطباق الواجب علی الفرد المزاحم مورد للإشکال ، لأنّ حقیقة الواجب المعلّق هو أن یکون الوجوب مطلقاً و الواجب معلّقاً علی الزمان الآتی ، فیکون الوجوب الآن و الواجب مقیّداً ، و إذا کان الواجب مقیّداً کذلک کان غیر قابل للتطبیق - بما هو واجب - علی الفرد فی أوّل الوقت ، إذ الفرد فی أوّل الوقت لا یکون فرداً للطبیعة بما هی مأمور بها .

و الحاصل : إنّ الواجب إنْ کان لا بشرط بالنسبة إلی الزمان الآتی ، فانطباقه علی جمیع أفراد الطبیعة ممکن ، لکنّه لیس بواجب معلّق ، و إن کان مشروطاً به ، فهو غیر منطبق الآن علی الفرد بعنوان الواجب .

و لو قیل : بأن تقیّد الواجب بالزمان اللّاحق یکون تارةً من جهة کونه دخیلاً فی الملاک و الغرض ، کما فی الحج حیث أنّ الوجوب الآن و الواجب مقیّد بأیام المناسک ، و هو قید دخیل فی الغرض ، و أُخری من جهة عدم قدرة المکلّف لا لدخله فی الغرض ، فیتقیّد الواجب بزمان بعد زمان المزاحمة مع الأهم ، و ما نحن فیه من قبیل الثانی لا الأوّل ، فهو ذو ملاک .

فإنّه یمکن الجواب : بأنّ الفرق المذکور موجود ، لکن کلیهما شریکان فی عدم إطلاق الواجب ، و مع تضیّق دائرة الواجب المأمور به ، لا یمکن القول بأن هذا الفرد فرد للمأمور به بما هو مأمور به ، فالاشکال باق .

هذا ، علی أنّ احراز واجدیّة الواجب المقیّد بزمان بعد المزاحمة للغرض و أن تقیّده بذلک إنّما هو من جهة عدم القدرة ، أمر مشکل .

( الجهة الثانیة ) قال : إنّه لو تنزّلنا و سلّمنا الفرق بین القولین ، فلا یتم ما أفاده المیرزا کذلک بالنظر إلی مختاره من أنّ التقابل بین الاطلاق و التقیید من تقابل

ص:173

العدم و الملکة ، فکلّ مورد لم یکن فیه التقیید فالإطلاق غیر ممکن . و ما نحن فیه من هذا القبیل ، لأنّ تقیید الطبیعة المأمور بها بالفرد المزاحم مستحیل ، فإطلاقها بالنسبة إلیه کذلک حتی علی قول المحقّق الثانی فی اعتبار القدرة فی التکلیف .

و الحاصل : إنّه لا یمکن الحکم بصحة الفرد المزاحم ، لعدم إطلاق المأمور به ، لیکون الإتیان به بداعی الأمر حتی علی القول بصحّة الواجب المعلّق .

نعم ، بناءً علی ما حقّقناه من أنّ التقابل بینهما من قبیل التضادّ ، یصحّ الإتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر بالطبیعة ، بناءً علی جواز تعلّق الوجوب بأمر متأخّر مقدور فی ظرفه کما هو المفروض ، لأنّه إذا استحال التقیید کان الإطلاق ضروریّاً .

جواب الأُستاذ

فأجاب الأُستاذ : بأنّ استحالة التقیید إنّما تستلزم ضرورة الإطلاق فیما إذا کان التقیید ممکناً ، أمّا لو لم یتمکّن المولی من التقیید فلا ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، فإنّ المولی - کما یعترف المستشکل - غیر متمکّن من التقیید بالفرد المزاحم ، و حینئذٍ ، فلا یکون الإطلاق کاشفاً عن کون مراده مطلقاً ... .

و الحاصل : إنّه لا اعتبار لمثل هذا الإطلاق .

( الجهة الثالثة ) فی أنّ القدرة غیر معتبرة فی صحّة التکلیف ، و هو القول الثالث من الأقوال فی المسألة ، فلا هی معتبرة بحکم العقل ، و لا هی معتبرة باقتضاء الخطاب ، بل إنّها معتبرة بحکم العقل فی مرحلة امتثال التکلیف . قال :

و ذلک : لأنّ حقیقة الحکم و التکلیف عبارة عن اعتبار المولی کون الفعل علی ذمّة المکلّف و إبرازه فی الخارج بمبرز ، و هذا الاعتبار لا یقتضی اختصاص الفعل بالحصّة المقدورة ، ضرورة أنّه لا مانع من اعتبار الجامع بین المقدور و غیر المقدور .

ص:174

فالحاصل : إنّه لا مقتضی من قبل الخطاب لاعتبار القدرة فی المتعلّق ، و کذا العقل ، فإنّه لا یقتضیه إلّا فی ظرف الامتثال ، فإذا لم یکن المکلّف حین جعل التکلیف قادراً علی الامتثال و أصبح قادراً علیه فی ظرفه ، صحّ التکلیف و لا قبح فیه عقلاً .

جواب الأُستاذ

و قد أجاب عنه الأُستاذ : بأنّ اعتبار المولی الفعل علی ذمّة المکلّف فعل اختیاری له ، و کلّ فعل اختیاری فهو معلول للغرض ، و لیس الغرض إلّا جعل الداعی للعبد نحو الفعل ، و حینئذٍ تعود نظریة المیرزا من أن جعل الداعی یقتضی القدرة علی المدعوّ إلیه ، فلو کان عاجزاً عن الامتثال لم یمکن من المولی جعل الداعی له ، فإنْ کان التکلیف مطلقاً جعل الداعی کذلک ، و إنْ کان مشروطاً بشرطٍ کان الداعی فی ظرف تحقّق الشرط ، و أمّا إن کان معلّقاً - بأنْ یکون الوجوب فعلیّاً و الواجب استقبالیّاً - فإنْ البعث الإمکانی الفعلی نحو الأمر المتأخّر یقتضی إمکان الانبعاث فی الواجب فی ظرفه ، و کذلک الحال بناءً علی إنکار الواجب المعلّق ، فإنّ البعث الإمکانی یقتضی الانبعاث الإمکانی .

فالحاصل : إنّه علی جمیع التقادیر و الأقوال : البعث الإمکانی یقتضی الانبعاث الإمکانی .

کلام المحقّق العراقی فی المقام

و ذکر المحقّق العراقی فی ( المقالات ) (1) - مشیراً إلی نظریّة المیرزا بعنوان التوهّم - ما حاصله : إنّ القدرة علی الامتثال من الأُمور الدخیلة فی فاعلیّة الإرادة حتّی لو لم یکن الخطاب فعلیّاً ، و حقیقة الحکم هی الإرادة المبرزة ، فإنْ أُرید

ص:175


1- 1) مقالات الأُصول 1 / 106 .

للإرادة الوصول إلی الفعلیّة اعتبرت القدرة ، فتکون القدرة ممّا یعتبر فی ظرف الامتثال ...

و الحاصل : فاعتبار القدرة متأخّر رتبةً عن الخطاب ، و الخطاب متأخّر رتبةً عن متعلّقه ، و مع تأخّره لا یمکن أن یکون دخیلاً فیه ... فالخطاب لا یقتضی اعتبار القدرة خلافاً للمیرزا .

نقد کلام العراقی و الدفاع عن المیرزا

و قد انتقد الشیخ الأُستاذ کلام المحقّق العراقی بما انتقد به کلام المحاضرات ، و حاصل ما أفاده هو : إنه لا ریب فی أنّ المتأخّر لا یمکن أخذه فی المتقدّم علیه ، و لو أنّ المولی قد أخذ القدرة فی متعلّق حکمه لتمّ کلام هذا المحقّق ، لکنّ تقیّد الخطاب بالقدرة لیس بأخذ المولی بل إنّه تقیّد و تضیّق ذاتی ، لما تقدّم من أنّ الحکم بعث ، و هو یقتضی القدرة علی المبعوث إلیه ، لأنّ المولی الحکیم الملتفت لا یبعث نحو غیر المقدور ، فالبعث من أصله مضیّق و بذلک تتضیّق دائرة المتعلّق ، و یکون الحصّة المقدورة فحسب .

و الحاصل : إنّ کلام المحقّق النائینی قوی ... و لا یصلح ما ذکر للردّ علیه .

الإشکال علی المیرزا

إلّا أنّ فیه - بعد الموافقة علی کبری أنّ البعث الإمکانی یقتضی الانبعاث الإمکانی - أن تلک الکبری غیر منطبقة هنا حتّی تتم دعوی أنّ البعث نحو الطبیعة یختص دائماً بالحصّة المقدورة منها ، لأنّ المفروض کون البعث نحو الطبیعة ، و هی لا بشرط بالنسبة إلی الخصوصیّات الفردیّة ، و أنّ حقیقة الإطلاق رفض القیود ، و علی ما ذکر ، فإنّ المولی لما یبعث نحو الطبیعة فهو یرید الوجود المضاف إلیها ، و إذا کان البعث الإمکانی یقتضی الانبعاث الإمکانی ، فإنّ القدرة

ص:176

علی فردٍ ما من أفراد الطبیعة تحقّق إمکان الانبعاث ، فلا محالة تکون الطبیعة بما هی مأمور بها منطبقةً علی الفرد المزاحم ، و إذا تمّ الانطباق القهری تمّ الإجزاء .

و الحاصل : إنّ الخطاب لا یتعلّق بالحصّة المقدورة من الطبیعة ، بل هو متعلّق بالطبیعة المقدورة بالقدرة علی فردٍ ما من أفرادها ، و منها الفرد المزاحم ، خلافاً للمیرزا القائل بخروج الفرد المزاحم غیر المقدور عن المصداقیّة للطبیعة المأمور بها بما هی مأمور بها .

.التحقیق فی اعتبار القدرة فی صحّة التکلیف

أمّا علی القول الثالث ، فمشکلة تصحیح العبادة المزاحمة منحلّة ، لأنّه بناءً علیه یکون التکلیف متعلّقاً بالطبیعة ، و هو غیر مشروط بالقدرة ، فیصحُّ الإتیان بالفرد المزاحم بقصد الأمر ، لأن انطباق الطبیعة علیه قهری و الإجزاء عقلی .

و أمّا علی القول باعتبار القدرة بحکم العقل فکذلک ، لأنّ الطبیعة مقدورة بالقدرة علی فردٍ ما من أفرادها ، فیصح الإتیان بالفرد المزاحم بقصد الأمر المتعلّق بالطبیعة .

و أمّا علی القول باعتبارها باقتضاء نفس الخطاب ، فالمشکلة باقیة ، لأنّ المتعلّق - بناءً علیه - هو الحصّة المقدورة من الطبیعة ، لا الجامع بین المقدور و غیر المقدور ، فلا یصحّ الفرد المزاحم بالإتیان به بقصد الأمر ، و تصل النوبة إلی قصد الملاک - و هو الطریق الثانی - .

لکنّ التحقیق عند الأُستاذ قابلیّة الطبیعة لتعلّق الأمر و صحّة العبادة المزاحمة بقصد الأمر ... .

فلا فرق بین الآراء الثلاثة فی حلّ المشکلة .

إلّا أنّ الحق - عنده - بقاء المشکلة علی حالها ، لأنّه لا قدرة علی الطبیعة فی

ص:177

الأفراد الطولیّة فی أوّل الوقت ، فلا بدّ من تصویر الواجب المعلّق ، وعلیه ، فیکون الواجب بعد الفرد المزاحم ، لأنّه - أی الفرد المزاحم - مقیّد بالزمان الآتی ، فلا ینطبق الواجب علیه ... فلا یمکن تصحیحه بقصد الأمر المتعلّق بالطبیعة ، و تصل النوبة إلی طریق قصد الملاک أو طریق الأمر الترتّبی .

.الطریق الثانی

اشارة

و البحث فی الطریق الثانی - و هو تصحیح العبادة بقصد الملاک ، کما ذهب إلیه صاحب ( الکفایة ) و المیرزا - یستدعی الکلام فی جهتین :

جهة الکبری ، و هی تصحیح العبادة بقصد الملاک ، و أنّه لا ینحصر تصحیحها بقصد الأمر فقط ... و للتحقیق عن هذه الجهة موضع آخر .

وجهة الصغری ، و هی المهمّة فی المقام ، و هی أنّه کیف یثبت الملاک فی الفرد المزاحم ؟

إنّه لا بدّ من الکشف عن الملاک کی یؤتی بالعمل بقصده ، و المفروض عدم وجود أمر عرضی یکون کاشفاً عنه کشف المعلول عن العلّة - علی مسلک العدلیة - لأنّ وجوده مشروط بالقدرة علی الامتثال و هی منتفیة ، من جهة أنّ الواجب علیه هو الفرد الأهمّ ، فالمکلّف عاجز شرعاً عن امتثال الواجب المزاحم المهم ، فهل یمکن الکشف عنه عن طریق مفاد المادّة بعد سقوط اطلاق الهیئة لکونها مشروطة بالقدرة ؟ هنا وجوه :

[الطریق الاول للکشف عن الملاک]

اشارة

.الوجه الأوّل

یقول المیرزا - کما فی ( أجود التقریرات ) (1) - بعدم تبعیّة إطلاق المادّة لإطلاق الهیئة ، و توضیح هذه الدعوی هو : إنّ قول المولی « صلّ » مشتمل علی

ص:178


1- 1) أجود التقریرات 2 / 25 - 26 .

مادةٍ و هو الواجب الذی تعلّق به الحکم ، و علی هیئةٍ و هو الحکم أی الوجوب ...

و کلٌّ منهما صالحٌ للتقیید بالقدرة أو غیرها من القیود ، و للإطلاق برفض القیود کلّها ، فإن أخذ المولی فی خطابه القدرة علی الواجب ، کأن یقول : إنْ قدرت فصلّ ، فقد اعتبرت القدرة الشرعیّة إلی جنب القدرة العقلیّة - المعتبرة بحکم العقل علی مسلک المحقّق الثانی ، أو باقتضاء الخطاب علی مسلک المیرزا - و کشفت عن دخلها فی الغرض من الصّلاة ، و إنْ لم یأخذها کشف - عدم أخذها - عن عدم دخلها فی الغرض .

و کذلک الحال بالنسبة إلی الوجوب ... .

لکنّ المفروض أنّه مع التزاحم بالأهمّ ، لا وجوب بالنسبة إلی المهمّ و هو الصّلاة ، فلا اطلاق للهیئة ، لکون وجوب الصّلاة مقیّداً بالقدرة ، و حینئذٍ ، یأتی البحث عن أنّه إذا سقط إطلاق الهیئة یسقط بتبعه إطلاق المادّة أو لا ؟

فذهب المیرزا إلی بقاء المادّة علی إطلاقها ، و أنّه کاشف عن أنّ الغرض قائم بالجامع بین المقدور و غیر المقدور ، فیکون الفرد المزاحم - و إن کان غیر مقدور - واجداً للملاک بمقتضی الإطلاق ، و یمکن الإتیان به بقصده .

هکذا قرّب الأُستاذ هذا الوجه .

و فی ( المحاضرات ) : إنّ الفرد المزاحم تام الملاک حتی علی القول بکونه منهیّاً عنه ، لأنّ النهی المانع عن التقرّب بالعبادة ، هو الذی ینشأ من مفسدةٍ فی متعلّقه و هو النهی النفسی ، و أمّا النهی الغیری ، فبما أنّه لا ینشأ من مفسدةٍ فی متعلّقه ، لا یکشف عن عدم وجود الملاک فی المتعلّق . فبضم هذا إلی کبری کفایة قصد الملاک ، تتمّ صحة عبادیّة الفرد المزاحم (1) .

ص:179


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 371 .

اشکالات المیرزا علی نفسه و جوابه عنها

ثمّ إن المیرزا أورد علی نفسه اشکالات أربعة ، و أجاب عنها (1) .

الأوّل : إنه لا إطلاق مع وجود المقیّد العقلی حتی یتمسّک به ، و علی القول باقتضاء ذات الخطاب القدرة فی المتعلّق ، یتقیّد المتعلّق و یخرج عن الإطلاق .

و بعبارة أُخری : صحّة الفرد المزاحم من جهة الملاک ، لا یجتمع مع القول باقتضاء الخطاب القدرة فی المتعلّق ، لأنّه بناءً علیه تکون القدرة دخیلةً فی ملاک الحکم ، و بارتفاعها یرتفع الملاک .

الثانی : إنّه لو سلّمنا عدم القطع بالتقیید باقتضاء الخطاب ، فلا ریب فی أنّ ذلک صالح للقرینیّة ، فیکون المقام من صغریات احتفاف الکلام بما یصلح للقرینیّة ، فلا ینعقد الإطلاق ، لیتم الملاک فیقصد بالفرد المزاحم .

الثالث : إنّه لو سلّمنا عدم الصلاحیّة للتقیید ، إلّا أنّ إطلاق المتعلّق إنّما یکشف عن عدم دخل القید فی الملاک ، فیما إذا لزم نقض الغرض من عدم التقیید فی مقام الإثبات ، مع دخله فی مقام الثبوت ، و أمّا إذا لم یلزم نقض الغرض ، فلا یکون الإطلاق فی مقام الإثبات کاشفاً عن عدم القید فیه ثبوتاً ، فلو کان غرض المولی متعلّقاً بالرقبة المؤمنة - مثلاً - کان علیه البیان فی مقام الإثبات لئلّا یلزم نقض الغرض ، و من عدم البیان نستکشف عدم دخل الإیمان فی الغرض و یتم الإطلاق . و أمّا إذا لم یلزم فی موردٍ نقض الغرض من عدم البیان ، فلا یتم استکشاف الإطلاق .

و ما نحن فیه من هذا القبیل ، و ذلک لأنّا نعلم بأنّ المکلّف عاجز عن الإتیان بالفرد غیر المقدور ، فهو غیر محتاج إلی البیان کی نقول بأنّ عدم البیان عن التقیید

ص:180


1- 1) أجود التقریرات 2 / 26 - 27 .

کاشف عن الإطلاق و إلّا یلزم نقض الغرض ... فالمورد لیس من موارد التمسّک بإطلاق المتعلّق .

الرابع : إنّ أوّل مقدّمات الإطلاق هو کون المتکلّم فی مقام البیان من تلک الجهة التی یراد التمسّک بالإطلاق فیها ، و بدون ذلک فلا یتم الإطلاق ... مثلاً : الآیة المبارکة : «فَکُلُوا مِمّٰا أَمْسَکْنَ علیه » فی مقام بیان حلیّة أکل هذا الصید ، و لیست فی مقام البیان من جهة الطهارة و النجاسة حتی یُتمسّک بإطلاقها فیقال بطهارة هذا الحیوان الذی اصطاده الکلب .

و فیما نحن فیه : المولی فی مقام بیان متعلّق حکمه ، و لیس فی مقام بیان ملاک الحکم ، حتّی یقال بأنّه لم یقیّد بالقدرة ، فالملاک مطلق و المتعلّق للحکم مطلق .

و الجواب :

أمّا عن الإشکال الأوّل ، فبأنّ تقیید المتعلّق عقلاً یکون إمّا باقتضاء الخطاب کما هو مسلک المیرزا ، و إمّا بحکم العقل ، و لا ثالث لهما . و الأوّل تقیید عقلی ذاتی و الثانی تقیید عرضی . و أیضاً : فإنّ الأوّل متحقّق فی کلّ خطابٍ لأنّه باقتضاء نفس الخطاب ، بخلاف الثانی ، فهو یختص بالخطاب الصادر من الحکیم ، لکون خطاباته تابعة للحسن و القبح العقلیین ، فالأوّل یرجع إلی اقتضاء العقل النظری ، و الثانی إلی اقتضاء العقل العملی و هو قبح تکلیف العاجز .

و حینئذٍ : فإنْ کان المدّعی تقیید متعلّق الحکم - و هو المادّة - باقتضاء نفس الخطاب ، فمن الواضح أنّ التقیید متأخّر عن الحکم المتأخّر عن المتعلّق ، فهو متأخّر عن المتعلّق بمرتبتین ، و لا یمکنه أنْ یؤثر فی إطلاقه فی مرحلة قیام الغرض تام بلا کلام .

ص:181

و إن کان المدّعی تقیید المتعلّق بحکم العقل ، فإن حکم العقل متأخّر عن حکم الشرع ، تأخّر الحکم عن موضوعه ، و حکم الشرع فی مرتبةٍ متأخّرةٍ عن المتعلّق ، فالتقیید متأخّر عن المتعلّق بمرتبتین کذلک .

فاندفع الإشکال الأوّل .

و بذلک یندفع الإشکال الثانی ، فإنّه إذا ثبت استحالة التقیید ، لا یبقی احتمالٌ حتی یکون صالحاً للقرینیّة .

و أمّا عن الإشکال الثالث ، فقد ذکر جوابین :

أحدهما : إن هذا إنّما یتم فیما إذا کان الشک فی اعتبار القدرة التکوینیّة فی الملاک ، لاستحالة صدور غیر المقدور ، فلا یلزم من عدم البیان نقض الغرض أصلاً . و أمّا إذا کان الشک فی کون القدرة - و لو کانت شرعیّة - دخیلةً فی الملاک کما هو المفروض فی المقام ، فیلزم نقض الغرض من عدم التقیید ، إذ للمکلّف الإتیان بالواجب الموسّع مع التزاحم بینه و بین المضیّق تمسّکاً بالإطلاق ، إذن ، لا بدّ من البیان ، و مع عدمه یستکشف عدم الدخل و یتم الإطلاق .

و الثانی : إن لزوم نقض الغرض لیس من مقدّمات الإطلاق ، بل إنّ من مقدّماته تبعیّة مقام الإثبات لمقام الثبوت ، فکون المتکلّم فی مقام بیان جمیع ما له دخل فی غرضه یستلزم بیان ذلک کلّه و إلّا لزم الخلف ، فمن الإطلاق و عدم التقیید بقیدٍ یستکشف عدم دخله فی مقام الثبوت ، بلا حاجة إلی ضمّ مقدّمة لزوم نقض الغرض .

و أمّا عن الإشکال الرابع فأجاب :

بأنّه لیس المراد الکشف عن الملاک من جهة کون المولی فی مقام البیان له ، بل المراد هو : إنّه لمّا کان فی مقام بیان متعلّق حکمه ، و الأحکام تابعة للملاکات

ص:182

و معلولة لها ، فتوجّه التکلیف إلی ذات المتعلّق بلا أخذ القید فیه ، یکشف عن کون العلّة - و هو الملاک - مطلقاً کذلک ، فیصحّ حینئذٍ التمسّک بالإطلاق للکشف عن الملاک المطلق .

و إذا اندفعت الإشکالات ، فلا مانع من التمسک بإطلاق المادّة للکشف عن الملاک ، فیؤتی بالصّلاة بقصده .

قال الأُستاذ

و تنظّر الأُستاذ فیما أجاب به المیرزا عن الإشکالات ... فوافق علی الجواب الأول عن الإشکال الثالث . و أبطل الثانی : بأنه و إنْ کان المعروف عدم کون لزوم نقض الغرض من مقدّمات الإطلاق ، لکنّ الحق هو کون المولی فی مقام بیان الغرض ، لأنّ الأمر معلول له و لحاظ المولی له عرضی ، و لکنّ لحاظه للغرض ذاتی ، لأنه هو العلّة للأمر .

و أمّا جوابه عن الإشکالین - الأوّل و الثانی - و ملخّصه : استحالة تقیید ما هو المتأخّر رتبةً لما هو متقدّم فی الرتبة ، ففیه :

إنّ المقیّد هو المولی إنْ أخذ القید فی المتعلّق ، و هو المطلق إنْ رفضه ، و انقسام الصّلاة إلی المقدورة و غیر المقدورة ، أمر واقعی طارئ علی الصّلاة قبل حکم المولی - لا فی مرتبته و لا بعده - سواء وجد الحکم أو لا ... فإنْ کان القید دخیلاً فی غرض المولی الملتفت إلی الانقسام أخذه فی متعلّق حکمه و إلّا رفضه ، فالإطلاق و التقیید بالنسبة إلی القدرة لیس من الانقسامات الحاصلة من ناحیة الخطاب ، بل هو القرینة علی أخذ المولی للقید فی المتعلّق ، و التقیید حاصل فی رتبة المتعلّق ، غیر أنّ القرینة علیه - و هو الخطاب - متأخّر عن ذی القرینة بالتأخّر الطبعی کما حقّق فی محلّه ، و إذا کان التقیید فی مرتبة المتعلّق فلا إطلاق .

ص:183

و بما ذکر یسقط الجواب عن الإشکال الثانی .

و أمّا جوابه عن الإشکال الرابع ففیه :

إنّه قد ورد الأمر بالصّلاة فی مرتبة الاستعمال علی طبیعی الصّلاة ، لکنّه مقیّد عقلاً - باقتضاء الخطاب عند المیرزا - بالحصّة المقدورة ، فالمراد الجدّی من الصّلاة أخصّ من المراد الاستعمالی ، و الکاشف عن الملاک هو المراد الجدّی لا الاستعمالی ، و إذا کان المراد الجدّی هو الحصّة المقدورة من الصّلاة ، فکیف یکون کاشفاً عن وجود الملاک فی الحصّة غیر المقدورة ؟

و بتعبیر السید الأُستاذ : « إنّ الدلیل الدال علی تبعیّة الأحکام للمصالح من إجماعٍ أو عدم اللغویة و الحکمة لا یقتضی سوی توفّر الملاک فیما انبسط علیه الأمر و بعث نحوه ، و إن کان قد تعلّق فی ظاهر الخطاب بالمطلق ، و لا ملازمة بین وجود الملاک و أخذ الشیء فی متعلّق الأمر خطاباً ، و المفروض فیما نحن فیه أن الأمر و إنْ کان یرد علی المطلق لا علی المقیّد ، و لکنْ إنما ینبسط فی مرحلة عروضه علی الحصّة المقدورة دون الأعم » (1) .

فالحق : امتناع التمسّک بالإطلاق ، لوجود القرینة العقلیّة ، بحکم العقل بقبح تکلیف العاجز أو باقتضاء نفس الخطاب لأنْ یتوجّه التکلیف إلی الحصّة المقدورة ، فإنّ هذه القرینة مانعة من انعقاد الإطلاق فی المادّة ، و حینئذٍ ، فلا کاشف عن الغرض .

رأی السید الخوئی

و جوّز السیّد الخوئی التمسّک بالإطلاق بناءً علی مسلکه من أنّ القدرة لم تعتبر فی متعلّق التکلیف ، لا من جهة حکم العقل و لا من جهة اقتضاء التکلیف ،

ص:184


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 380 .

فلا موجب لاعتبارها فیه ، إلّا أنّ الإشکال فی المقتضی لهذا الإطلاق ، لأنّ المتکلّم غالباً بل دائماً لیس فی مقام بیان ما یقوم به ملاک حکمه ، حتی یمکن التمسک بالإطلاق فیما إذا شک فی فردٍ أنّه واجد للملاک أم لا ، و مع قطع النظر عن ذلک و فرض أنّه فی مقام البیان حتی من تلک الجهة ، فلا مانع من التمسّک بالإطلاق ، إذ قد عرفت أنّه لا حکم للعقل و لا اقتضاء للتکلیف لاعتبار القدرة فی المتعلّق ، لیکونا صالحین للبیان و مانعین عن ظهور اللّفظ فی الإطلاق .

و حاصل کلامه : إنّه لا حکم للعقل باشتراط التکلیف بالقدرة ، و لا اقتضاء للتکلیف لذلک ، فلا مانع من التمسّک بالاطلاق ، لأنّه لا یکون الاشتراط إلّا بأحد الأمرین المذکورین ، بل القدرة شرط لتنجّز التکلیف . لکنّ الکلام فی تمامیته الإطلاق ، لأن المولی فی مقام بیان متعلّق الحکم لا ما یقوم به الملاک ، فلا مقتضی لانعقاده . و هذا هو الصحیح فی الإشکال علی الإطلاق .

قال الأُستاذ

و فیه :

أوّلاً : إنّ الکلام فی حکم المولی الحکیم الملتفت و لیس حول غیره ، و لذا قیّد ما ذکره بالموالی العرفیّة حیث قال « بل الغالب فی الموالی العرفیّة غفلتهم عن ذلک فضلاً عن کونهم فی مقام بیانه » (1) ... فالکلام فی الخطابات الشرعیّة الصادرة من الشارع ، و قد تقرّر أنّ تکالیفه معلولة للأغراض ، فکیف لا یکون فی مقام بیان غرضه ؟

و ثانیاً : إن ما ذهب إلیه من أنّ القدرة من شرائط التنجیز ، فلها الدّخل فی استحقاق العقاب فقط ، لا یجتمع مع ما ذهب إلیه من أنّ التکلیف اعتبار مبرَز ، و أنّ

ص:185


1- 1) أجود التقریرات 2 / 30 الهامش .

الأمر مصداق للبعث و النهی مصداق للزجر . و توضیح ذلک :

إنه لا یخفی الفرق بین المفهوم و المصداق ، فکلّما کان الاتّحاد بین الشیئین مفهومیّاً کان الحمل بینهما أوّلیّاً ، و کلّما کان الاتحاد بینهما فی الوجود کان الحمل شائعاً . فالمفهوم - أی الصّورة الذهنیّة - من « زید » غیر ما هو المفهوم من « الإنسان » إلّا أنّهما فی الوجود واحد ، و هذا معنی المصداقیّة . فهذا مطلب .

و مطلب آخر هو : إنّ مفهوم « البعث » لا یستلزم « الانبعاث » لکن مصداقه یستلزمه .

فإذا کان الأمر مصداقاً للبعث ، فللبعث وجودٌ ، و یستلزم وجود الانبعاث ، و وجوده یستلزم القدرة ... وعلیه ، فالبعث الإمکانی - بمعنی وجود المقتضی و عدم موانع الطاعة - یستلزم الانبعاث الإمکانی ... و لو لا القدرة لما تحقّق الانبعاث ... فانفکاک الانبعاث عن القدرة غیر معقول ... فتکون من شرائط التکلیف ، إمّا بحکم العقل و إمّا باقتضاء نفس الخطاب .

فظهر سقوط ما ذهب إلیه السیّد المحقّق الخوئی .

المختار

و أنّ الحق عدم تمامیّة التمسّک بإطلاق المادّة و متعلّق الأمر ، لکون المتعلّق مقیّداً عقلاً بالقدرة ، إذ الحکم العقلی هنا - سواء علی مبنی المحقّق الثانی أو المحقّق النائینی - یصلح لأن یعتمد علیه المولی و یکتفی به إن کان غرضه هو المقیّد ، فلا کاشف عن الملاک .

أقول : و هذا الذی ذکر - أعنی صلاحیّة ذلک لأن یعتمد علیه المولی - موجود فی کلمات السیّد الخوئی أیضاً فی ( تعالیقه ) (1) .

ص:186


1- 1) أجود التقریرات 2 / 30 . الهامش .

.الطریق الثانی للکشف عن الملاک

اشارة

و أمّا الطریق الثانی للکشف عن الملاک ، الذی جاء به صاحب الکفایة ، فهذا توضیحه :

إنّ الشیء قد یکون متعلّقاً للأمر بنفسه و قد یکون متعلّقاً له لکونه مصداقاً للطبیعة المأمور بها ، فالأوّل : کالصّلاة فی المسجد ، فیما لو أُمر بالصّلاة فیه ، و الثانی : کالصّلاة فیما لو قال : « صل » .

و فی المقابل : ما لا یکون متعلّقاً للأمر لا بنفسه و لا بکونه مصداقاً ، و هذا یکون علی ثلاثة أنحاء :

الأوّل : ما خرج عن المصداقیّة للطبیعة المأمور بها بالتخصیص اللفظی ، کقوله لا تکرم الفساق ، المخرج لهم عن عموم أکرم العلماء .

و الثانی : ما خرج عن المصداقیّة للطبیعة المأمور بها بالتخصیص العقلی ، کموارد اجتماع الأمر و النهی ، حیث تخرج الصّلاة فی الدار المغصوبة عن الطبیعة المأمور بها ، بحکم العقل بعدم صلاحیّتها للمقربیّة .

و الثالث : ما خرج عن المصداقیّة للطبیعة المأمور بها مع تمامیّة المقتضی ، لوجود المانع و المزاحم من الفردیّة و المصداقیّة ، کالصّلاة فی وقت الإزالة ، فإنّها تخرج عن الفردیّة للصّلاة المأمور بها ، و المخرج لیس المخصّص اللفظی أو العقلی حتی یکشف عن عدم الملاک ، بل الملاک موجود و المخرج هو عدم القدرة ، فإنّ القدرة دخیلة فی توجّه الخطاب ، و بدونها لا یتوجّه إلی المکلّف ، و علی الجملة ، فإنّ المزاحمة مع الإزالة الواجبة توجب سلب القدرة عن المکلّف ، فیمتنع تکلیفه بالصّلاة مع وجود المقتضی لذلک ، بحیث لو لم یکن النهی الغیری مانعاً عن التکلیف ، و کان الأمر بالشیء غیر مقتضٍ للنهی عن ضدّه

ص:187

الخاص ، جاز الإتیان بالصّلاة بقصد الملاک .

إشکالات المحقّق الإیروانی

و قد أورد علیه المحقّق الإیروانی بوجوه :

الأوّل : إنّ المفروض سقوط الأمر علی أثر المزاحمة مع الواجب الآخر ، فلو کانت المصلحة فی نفس الأمر ، فلا تبقی بعد سقوطه مصلحة حتی یُؤتی بالعمل بقصدها ، فلا یتم ما ذکره من أنّ الشیء قد یکون متعلّقاً للأمر بنفسه .

و الثانی : إن ما ذکره إنما یتم بناءً علی مسلک العدلیّة من تبعیّة الأحکام للملاکات فی الواقعیات .

و الثالث : إنّه مع المزاحمة لا تبقی مصلحة للأمر ، فلو کان هناک مصلحة لما انتفی الأمر من الشارع .

جواب الأُستاذ عن هذه الإشکالات :

أمّا الأوّل ، ففیه : إنّ مورد الکلام هو الضدّ العبادی کالأمر بالصّلاة و الأمر بالإزالة ، فلو سقط الأمر بالصّلاة علی أثر المزاحمة ما انتفت مصلحة الصّلاة . فغایة ما یرد علی المحقّق الخراسانی أن کلامه أخصّ من المدّعی .

و أمّا الثانی ، ففیه : إنّ صاحب الکفایة یتکلّم هنا علی مبنی العدلیّة .

و أمّا الثالث ، ففیه : إنّ المقصود هو وجود المصلحة فی متعلّق الأمر ، و کون الأمر ذا مصلحة هو لوجود المصلحة فی متعلّقه ، إلّا أنّ عدم القدرة هو المانع عن الأمر .

فظهر ، اندفاع هذه الإشکالات إلّا الأوّل کما ذکرنا .

ص:188

تقریر آخر للإشکال و الجواب عنه

و قد یقرّر الإشکال علی ( الکفایة ) بوجهٍ آخر (1) و هو : إنّ الأمر هو الکاشف عن الملاک کشف المعلول علی العلّة ، فإذا سقط علی أثر المزاحمة انتفی الکاشف عن الملاک ، و حینئذٍ ، کما یحتمل أن یکون سقوط الأمر بسبب وجود المانع و هو عدم القدرة ، کذلک یحتمل أن یکون بسبب عدم المقتضی و هو الملاک ، و مع هذا الاحتمال کیف یقطع بوجود الملاک حتی یُقصد فی العبادة ؟

لکنّه یندفع : بأنّ مفروض الکلام عدم وجود المخصّص اللفظی و العقلی فی المقام ، وعلیه ، فإنّه لا مانع من عموم الأمر إلّا الأمر بالأهمّ المزاحم له ... فکان المانع هو المزاحم الموجب لعدم القدرة علی الامتثال ، مع العلم بعدم دخل القدرة فی الملاک ، فمع لحاظ جمیع هذه الجهات ، ینحصر المانع بعدم القدرة علی الامتثال مع وجود الملاک ، فلا مجال لهذا الإشکال .

.الطریق الثالث للکشف عن الملاک

اشارة

و أمّا الطریق الثالث ، فهو طریق الدلالة الالتزامیة ، و تقریب ذلک ضمن أُمور :

الأوّل : إنّ الأحکام تابعة للملاکات و معلولة لها ، کما هو مسلک العدلیّة .

و الثانی : إنّ الأمر إذا تعلّق بشیء کان له مدلولان ، أحدهما : المدلول المطابقی و هو وجوب ذلک الشیء . و الآخر : المدلول الالتزامی ، و هو کون الوجوب ذا ملاک .

و الثالث : إنّه إذا سقط المدلول المطابقی علی أثر وقوع المزاحمة بین هذا الأمر و أمرٍ آخر أهم منه ، فالمدلول الالتزامی - و هو الدلالة علی وجود الملاک - باقٍ .

أمّا الأمر الأوّل ، فهو واضح .

ص:189


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 360 .

و أمّا الأمر الثانی ، فکذلک .

.هل تبقی الدلالة الالتزامیة بعد سقوط المطابقیة ؟

إنّما الکلام فی الأمر الثالث ، و هو بقاء الدلالة الالتزامیّة بعد سقوط المطابقیّة ، باقتضاء الخطاب کما علیه المیرزا ، أو بحکم العقل من قبح تکلیف العاجز کما علیه المشهور ، و قد ذکروا فی بیان بقائها ما حاصله : إنّ ذلک مقتضی التفکیک فی الحجیة و أنّ الضرورات تتقدّر بقدرها ، فأمّا الدلالة المطابقیّة فقد سقطت لأن امتثالها کان مشروطاً بالقدرة فإذا انتفت سقطت ، و أمّا الملاک فغیر مقیّد بالقدرة و لا دخل لها فیه ، فلا موجب لسقوط الدلالة الالتزامیّة ... .

هذا ، و قد نصّ علی بقاء الدلالة الالتزامیّة مع سقوط المطابقیّة عدّة من الأکابر کصاحب الکفایة و المیرزا و العراقی ، و بنوا علی هذا المبنی و استنتجوا منه فی موارد ... کما فی باب التعارض بین الخبرین حیث قال المیرزا بدلالتهما علی نفی الثالث بالالتزام ، فلو دلّ أحدهما علی الوجوب و الآخر علی الحرمة ، ثبت عدم الاستحباب .

و قال آخرون : بعدم معقولیّة بقاء الدلالة الالتزامیّة بعد سقوط المطابقیّة ، وعلیه فلا کشف عن الملاک بهذا الطریق ... و قد أورد علی المبنی الأوّل بعدّة نقوض :

.نقوض المحاضرات و الجواب عنها

النقض الأوّل : إنّه لو قامت البیّنة علی ملاقاة الشیء للبول مثلاً ، فهنا دلالتان : الملاقاة للبول و هی الدلالة المطابقیّة ، و نجاسة الملاقی و هی الدلالة الالتزامیّة . فإن انکشف کذب البیّنة سقطت الدلالة المطابقیّة کما هو واضح ، فهل تبقی الدلالة الالتزامیّة ؟ مقتضی القول بعدم التبعیّة بقاؤها ، و هو باطل بالضرورة

ص:190

من الفقه .

لکنْ یمکن دفع النقض ، بأنّ الشرط لبقاء الدلالة الالتزامیّة - عند القائلین به - هو بقاء الموضوع لهذه الدّلالة ، و الموضوع فیها فی المثال هو النجاسة و انتفاؤها مقطوع به عندهم ، فمثل هذا المورد خارج عن البحث .

النقض الثانی : لو کانت الدار - مثلاً - فی ید زید ، فقامت بیّنة علی أنّها لعمرو و أُخری علی أنّها لبکر ، وقع التعارض بینهما ، لکنهما متّفقتان علی أنّها لیست لزید ذی الید ، فإن قلنا بالتبعیّة ، سقطت الدلالتان و بقیت الدار لزید ذی الید ، و إن قلنا بعدم التبعیّة ، کانت النتیجة عدم کونها لزید ، فهی مجهولة المالک .

و هذا ما لا یلتزم به أحد .

و فیه : إنّه لا بدّ هنا من مراجعة النصوص الواردة فی المسألة ، وعلیه مشی صاحب النقض فی کتابه مبانی تکملة المنهاج . و الحاصل : إنّ المرجع هنا خبر إسحاق بن عمار و خبر غیاث بن إبراهیم ، و مقتضی الجمع بینهما : إنّ زیداً ذا الید ، إن اعترف لأحدهما المعیّن ، دار أمر الملکیّة بینه - المعترف له - و بین طرفه ، و یقع النزاع بینهما ، و إن اعترف لکلیهما خرج هو عن الملکیّة و تقاسما الدار ، و إن لم یعترف لأحدهما ، فإن حلف أحدهما و نکل الآخر انتقلت الدار إلی الحالف ، و إن حلفا أو نکلا تناصفاها (1) .

و تلخّص : عدم ورود النقض .

النقض الثالث : لو شهد شاهد واحد علی أنّ الدار التی بید زیدٍ هی لعمرو ، و شهد آخر علی أنّها لبکر ، فإنّ الشهادتین ساقطتان علی الحجیّة فی مدلولهما

ص:191


1- 1) و راجع کتاب : القضاء و الشهادات 2 / 645 - 651 الطبعة المحقّقة للمؤلّف ، و هو تقریر أبحاث السید الأُستاذ آیة اللّٰه العظمی الگلپایگانی طاب ثراه .

المطابقی ، بغض النظر عن التعارض بینهما ، فهل یلتزم بمدلولهما الالتزامی و هو عدم کون الدار لزید - لکونهما متوافقین فی ذلک - ؟ کلّا لا یمکن .

و فیه : إنّ أصل المدلول المطابقی هنا لیس بحجّةٍ ، لأن شهادة الواحد فی الأملاک لیس بحجّةٍ بل لا بدّ من ضمّ الیمین إلیها . وعلیه ، فلمّا کان أصل المدلول المطابقی بلا مقتضٍ ، فلا تصل النوبة إلی البحث عن وجود أو عدم المدلول الالتزامی .

النقض الرابع : لو قامت البیّنة علی أنّ الدار التی فی ید زیدٍ هی لعمرو ، فأقرّ عمرو بأنّها لیست له ، فالبیّنة تسقط من جهة إقرار عمرو ، و بذلک تسقط الدلالة المطابقیّة ، فهل یمکن الأخذ بالدلالة الالتزامیّة و هو القول بعدم ملکیة زید ؟ کلّا .

و فیه : إنّ الید أمارة الملکیّة ، و سقوطها یحتاج إلی دلیل ، و البیّنة دلیل تسقط بها أماریّة الید ، و بعبارة أُخری : فإنّ دلیل حجیّة البیّنة یخصّص دلیل حجیّة الید و یتقدّم علیه بالتخصیص ، و لکنْ هل هذا التخصیص و التقدّم مطلق یعمّ صورة تکذیب ذی الید ؟ کلّا . وعلیه ، فلا أثر لهذه البیّنة و لا یثبت بها شیء من الأساس ، فلا تصل النوبة إلی البحث عن مدلولها الالتزامی .

الجواب الحلّی

و ذهب الأُستاذ إلی القول بتبعیّة الدلالة الالتزامیّة للدلالة المطابقیّة فی الثبوت و السقوط ، و ذکر فی مقام حلّ المسألة بعد الإجابة عن النقوض : إنّ لکلّ کلامٍ ثلاث دلالات :

فالدلالة الأُولی : هی الدلالة التصوّریة ، و المقصود منها دلالة اللفظ علی معناه الموضوع له ، سواء التفت المتکلّم إلی ذلک و قصده أو لا .

و الدلالة الثانیة : هی الدلالة التصدیقیّة الأُولی ، و هی دلالة اللفظ علی

ص:192

الإرادة الاستعمالیّة ، بأن یصدّق بأنّ المتکلّم قد استعمل اللفظ فی معناه .

و الدلالة الثالثة : هی الدلالة التصدیقیّة الثانیة ، و هی دلالة اللفظ علی الإرادة الجدیّة ، بأن یکون المعنی مقصوداً للمتکلّم جدّاً .

أمّا الدلالة الأُولی ، فواضحة .

و أمّا الدلالة الثانیة ، فدلیلها تعهّد المتکلّم باستعمال الألفاظ فی معانیها الموضوعة لها فی اللغة .

و أمّا الدلالة الثالثة ، و هی حمل الکلام علی معناه الجدّی و نسبة ذلک إلی المتکلّم ، فدلیلها السیرة العقلائیّة القائمة علی کاشفیة اللّفظ المستعمل فی معناه عن المراد الجدّی للمتکلّم . و لکنّ الکلام فی حدّ هذه السّیرة ، فهل هی قائمة علی کاشفیّة الدلالة الالتزامیّة عن المراد الجدّی حتّی مع سقوط الدلالة المطابقیّة ؟

الظاهر عدم تحقّق هذا البناء من العقلاء ، و لا أقل من الشک ، و مقتضی القاعدة الأخذ بالقدر المتیقن من السیرة - لکونها دلیلاً لبیّاً - و هو صورة عدم سقوط الدلالة المطابقیّة عن الحجیّة .

و تلخّص : عدم تمامیّة هذا الطریق للکشف عن الملاک .

و یقع الکلام فی :

ص:193

الترتّب

اشارة

فبعد الفراغ عن سقوط الأمر بالصّلاة مع وجود الأمر بالإزالة ، لاستحالة الأمر بالضّدین ، و عن عدم إمکان إحراز الملاک بأحد الطرق الثلاثة کی یُقصد و تتمُّ به عبادیّة العمل ، تصل النوبة إلی البحث عن الترتّب ، و أنّه لو عصی الأمر الأهمّ - و هو الأمر بالإزالة - هل یثبت الأمر بالمهمّ و هو الأمر بالصّلاة ، فیؤتیٰ بها بقصده و یکون عبادةً أو لا یثبت ؟

و الکلام تارةً : فی الواجبین الموسّعین ، و لا تزاحم بینهما ، لا فی مقام الجعل و لا فی مقام الامتثال ، لأنّ الوقت یسع کلا الأمرین و یتحقّق امتثالهما معاً ، و أُخری :

فی الواجبین المضیّقین ، کوجوب إنقاذ هذا الغریق و ذاک ، و هو مورد التزاحم ، و ثالثةً : فیما إذا کان أحدهما موسّعاً و الآخر مضیّق ، فهل هما کالمضیّقین ، کما دار أمر المکلّف بین أداء الصّلاة فی أوّل الوقت و إزالة النجاسة عن المسجد ؟

قال فی الکفایة

(1)

بعد کلامٍ له :

فقد ظهر أنّه لا وجه لصحّة العبادة مع مضادّتها لما هو أهمّ منها إلّا ملاک الأمر . نعم ، فیما إذا کانت موسّعةً و کانت مزاحمة بالأهمّ ببعض الوقت - لا فی تمامه - یمکن أن یقال : إنّه حیث کان الأمر بها علی حاله و إن صارت مضیّقةً بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها من تحتها ، أمکن أن یؤتی بما زوحم منها بداعی ذاک الأمر ، فإنّه و إن کان خارجاً عن تحتها بما هی مأمور بها ، إلّا أنّه لما کان

ص:194


1- 1) کفایة الأُصول : 136 .

وافیاً بغرضها کالباقی تحتها ، کان عقلاً مثله فی الإتیان به فی مقام الامتثال و الإتیان به بداعی ذاک الأمر ، بلا تفاوت فی نظره بینهما أصلاً .

و دعوی : إنّ الأمر لا یکاد یدعو إلّا إلی ما هو من أفراد الطبیعة المأمور بها ، و ما زوحم منها بالأهم و إن کان من أفراد الطبیعة لکنّه لیس من أفرادها بما هی مأمور بها . فاسدة ، فإنّه إنّما یوجب ذلک إذا کان خروجه عنها بما هی کذلک تخصیصاً لا مزاحمة ، فإنّه معها و إن کان لا تعمّه الطبیعة المأمور بها إلّا أنّه لیس لقصور فیه ، بل لعدم إمکان تعلّق الأمر بما تعمّه عقلاً . و علی کلّ حال ، فالعقل لا یری تفاوتاً فی مقام الامتثال و إطاعة الأمر بها بین هذا الفرد و سائر الأفراد أصلاً .

هذا علی القول بکون الأوامر متعلّقة بالطبائع .

و أمّا بناءً علی تعلّقها بالأفراد فکذلک ، و إن کان جریانه علیه أخفی ، کما لا یخفی . فتأمّل .

و حاصل کلامه هو : إنّ الأمر بالصّلاة مثلاً قد تعلّق بالطبیعة ، و الفرد المزاحَم بالأمر بالإزالة خارج من تحت هذا الإطلاق ، لکنّ هذا الخروج تزاحمی و لیس تخصیصیّاً ، فلو کان خروجه کذلک لم یمکن الإتیان به بقصد الأمر بالطبیعة أو بقصد الملاک ، أمّا مع الخروج التزاحمی فالإتیان به بقصد الأمر أو الملاک لا مانع منه ، إذ العقل لا یری تفاوتاً بینه و بین غیره من أفراد الطبیعة فی الوفاء بالغرض .

فالفرد المزاحم خارج عن الطبیعة بما هی مأمور بها ، إلّا أنّ ذلک غیر ضارٍّ ، لأنّه کغیره من الأفراد وافٍ بالغرض من الأمر عند العقل بلا تفاوت .

أشکل الأُستاذ :

بأنّه إذا کان الفرد المزاحَم خارجاً من تحت الطبیعة - کما صرّح بذلک - فإنّ الإطلاق غیر شامل له ، بل یتحدّد بما سواه من الأفراد ، و حینئذٍ ، لا یمکن الإتیان بالفرد المزاحم بقصد الأمر المتعلّق بالطبیعة ، و المفروض أنّ الفرد

ص:195

بنفسه لا أمر له ، فبأیّ أمر یؤتی به فی مقام الامتثال ؟

و بالجملة ، فإنّ نتیجة کلامه أنّ الفرد المزاحم غیر مأمور به حتّی یمکن الإتیان به بقصد الأمر . نعم ، علی القول بانطباق الطبیعة المأمور بها علی الفرد المزاحم ، کما علیه المحقّق الثانی و من تبعه ، یکون مورداً للأمر فیمکن الإتیان به بقصده .

و المحقّق الخراسانی لم یذکر برهاناً علی خروج الفرد المزاحم من تحت الطبیعة .

و أمّا المیرزا ،

فیری التزاحم کذلک ، لکنْ ببیان آخر ، و هو :

إن تقیید خطاب الواجب الموسّع بالفرد المزاحم غیر معقول ، لأنّه یستلزم طلب الضدّین فی آنٍ واحد ، و إذا استحال التقیید استحال الإطلاق کذلک ، لأنّ النسبة بین الإطلاق و التقیید عنده نسبة العدم و الملکة ، فلا یعقل الأمر بالصّلاة فی أوّل الوقت مع وجود الأمر بالإزالة ، فیقع بینهما التزاحم . هکذا فی ( المحاضرات ) (1) .

و ببیان آخر - و هو الأقرب إلی ما ذهب إلیه من أنّ الإطلاق یتوجّه باقتضاء الخطاب إلی الحصّة المقدورة ، و أنّ اعتبار القدرة باقتضاء نفس الخطاب و لیس بحکم العقل - إنّ الأمر بالصّلاة متوجّه من أصله إلی الحصّة المقدورة منها ، فإطلاق « صلّ » من أوّل الأمر غیر شامل للفرد المزاحم منها للإزالة ، فسواء کانت النسبة بین الإطلاق و التقیید هی العدم و الملکة أو التضاد ، یکون هناک تزاحم بین « صلّ » و« أزل النجاسة عن المسجد » . فإنْ صحّت الصّلاة المزاحمة عن طریق قصد الملاک - المنکشف بإطلاق المادّة أو الدلالة الالتزامیّة - کما ذهب هو إلی ذلک -

ص:196


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 344 .

فهو و إلّا وصلت النوبة إلی بحث الترتّب .

و کیف کان ، فلا بدّ قبل الورود فی البحث من ذکر ما یلی :

.الأصل فی الترتب هو المحقق الثانی

اشارة

إنّ مبتکر بحث الترتّب هو المحقّق الثانی فی ( جامع المقاصد ) ، ثمّ تبعه الشیخ جعفر فی کشف الغطاء ثمّ حقّقه المیرزا الشیرازی ، ثمّ شیّد أرکانه الأعلام الثلاثة .

و ذهب المحقّق الخراسانی إلی استحالة الترتّب ، و نسبه فی المحاضرات إلی الشیخ الأعظم ، إلّا أنّ الأُستاذ ذکر أنّ کلمات الشیخ مختلفة ، و سیأتی .

ثمّ إنّ هذا البحث عقلی محض ، و لا دخل للّفظ فیه ، و هو یدور بین الإمکان و الاستحالة ، و مجرّد الإمکان کافٍ للوقوع بلا حاجةٍ إلی دلیلٍ آخر .

کلام المحقّق الثانی

ذکر العلّامة فی ( القواعد ) : أنّه إن کان مدیناً بدینٍ ، و کان الدّائن یطالبه به و هو فی أوّل الوقت ، فلو صلّی بطلت صلاته . و کذا المدین بالخمس و الزکاة .

فقال المحقّق الثانی بشرحه : مبنی المسألة أنّ أداء الدین بعد الطلب واجب فوری ، و کذا أداء الخمس و الزکاة ، و حینئذٍ ، یکون الأمر بأداء الدّین ناهیاً عن الضدّ و هو الصّلاة ، و النهی عن العبادة موجب للفساد .

ثمّ أشکل : بأن الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن الضدّ الخاص ، و الصّلاة ضدّ خاصٌ لأداء الدّین . قال :

فإن قیل : إن الترک ضدّ عامٌّ یتحقّق بالصّلاة التی هی ضد خاصّ . فأجاب عن ذلک ، ثمّ أشکل بإشکال آخر و أجاب عنه ، إلی أن قال :

إن قیل : إنّ الأمر بالصّلاة مع فرض فوریّة أداء الدّین یستلزم التکلیف بما

ص:197

لا یطاق ، لکونهما ضدّین .

فأجاب : بعدم لزوم ذلک ، لأنّ الصّلاة واجب موسّع ، و الأمر بأداء الدین أو الخمس و الزکاة فوریٌ ، و له الأمر بهما معاً ، بأن یکون مأموراً بأداء الدین ، فإن عصی أتی بالصّلاة .

ثمّ نقض بما لو کانت الصّلاة فی آخر الوقت ، فیقع التزاحم بین المضیّقین لکنّ الحکم صحّة الصلاة ، لأن أحد الواجبین مشروط بمعصیة الواجب الآخر .

و نقض علی العلّامة بمن خالف الترتیب فی واجبات الحج ، حیث یحکم بصحّة العمل ، و لا وجه لذلک إلّا الترتّب .

قال : و إنّ هذا الأصل إن لم یتم یبطل کثیر من أعمال الناس ، و إن کان مقتضی الاحتیاط ما ذکره العلّامة من البطلان (1) .

کلام کاشف الغطاء

و تعرّض الشیخ الکبیر فی ( کاشف الغطاء ) للترتّب فقال : إنّه یمکن للشارع و للمولی المطاع أنْ یأمر بواجب ، ثمّ یأمر بآخر علی فرض عصیان الأوّل .

قال : إنّه فی مسألة الجهر و الإخفات ، لو جهر فی موضع الإخفات أو بالعکس ، یصحّ العمل . للقاعدة . قال : و مع عدم الالتزام بهذه القاعدة یلزم بطلان عبادات الناس کثیراً ... (2) .

کلام الشیخ الأعظم

و اختلفت کلمات الشیخ الأعظم ، فالمستفاد من کلامه فی بعض المباحث استحالة الترتّب ، و ظاهر کلامه فی رسالة التعادل و التراجیح من ( فرائد الأُصول ) ،

ص:198


1- 1) جامع المقاصد فی شرح القواعد 5 / 14 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام .
2- 2) کشف الغطاء : 27 .

عند البحث عن الأصل فی الخبرین المتعارضین بناءً علی السببیّة هو الإمکان ، فأفاد ما حاصله (1) : أنّه لمّا کان نتیجة القول بالسببیّة تحقّق المصلحة فیما قامت علیه الأمارة ، فإنّه یکون حال الخبرین المتعارضین حال الواجبین المتزاحمین ، فیکونان مجری قاعدة الترتّب حتّی فی صورة أهمیّة أحدهما من الآخر ، قال : إنّ التکلیف واقع بکلیهما و لکلٍّ منهما ملاک الوجوب ، لکنّ القدرة علی امتثال کلٍّ منهما تحقّق فی ظرف ترک الآخر ، و إذا تحقّقت القدرة حکم العقل بالامتثال .

هذا محصّل کلامه ، و من وجود لفظة « القدرة » فی عبارته یستکشف أنّ المانع عن الواجب الآخر هو العجز ، فالعقل حاکم بلزوم الامتثال فی کلّ فردٍ قد تحقّقت القدرة علیه منهما .

ثمّ ذکر : إنّ هذه القاعدة جاریة فی جمیع موارد الواجبین المتزاحمین .

و من الواضح : إنّ مقتضی تعلیقه الأمر علی القدرة ، فإنّه مع ترک الأهمّ تکون القدرة موجودة بالنسبة إلی المهم ، هو الالتزام بالترتّب .

و من هنا قال المیرزا : و من الغریب أنّ العلّامة الأنصاری قدس سره مع إنکاره الترتب و بنائه علی سقوط أصل خطاب المهم دون إطلاقه، ذهب فی تعارض الخبرین - بناءً علی السببیّة - إلی سقوط إطلاق وجوب العمل علی طبق کلٍّ من الخبرین ... (2) .

.استحالة الترتّب ببیان الکفایة

اشارة

و ذکر فی ( الکفایة ) نظریة القائلین بالترتّب بنحوین فقال : « إنّه تصدّی جماعة من الأفاضل لتصحیح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب علی العصیان و عدم إطاعة

ص:199


1- 1) فرائد الأُصول 4 / 36 - 37 ط مجمع الفکر الاسلامی .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 57 .

الأمر بالشیء بنحو الشرط المتأخّر أو البناء علی معصیته بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن ، بدعوی أنّه لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدین کذلک ، أی: بأنْ یکون الأمر بالأهمّ مطلقاً و الأمر بغیره معلّقاً علی عصیان ذاک الأمر أو البناء و العزم علیه ، بل هو واقع کثیراً عرفاً » (1) .

لکنّه یری أن لا طریق إلّا علی نحو الشرط المتأخّر ، بأن یکون المعصیة علی هذا النحو ، لأنّ العبادة لا بدّ و أن تنشأ من الأمر ، فلو اشترط معصیة الأهم بنحو الشرط المتقارن ، فلا بدّ و أن تتحقّق بفعل المهم ، فلم ینشأ فعل المهم من الأمر به ، لأن المفروض أن لا أمر به قبل معصیة الأهم ، أمّا لو تأخّرت المعصیة عن الأمر ، کان فعل المهمّ ناشئاً عن الأمر به ، و أمّا العزم فلا تتحقّق به المعصیة .

فقد قرّب صاحب الکفایة النظریّة بأنّه : لو کان الشرط هو العزم علی المعصیة فالمفروض عدم تحقّق المعصیة ، فالأمر بالأهم علی حاله بنحو الإطلاق ، و الأمر بالمهمّ موجود مشروطاً ، و مع اشتراط العزم علی المعصیة و تأخّرها ، یکون فعل الضدّ - و هو المهم - ناشئاً من الأمر المتعلّق به و العزم علی ترک الأهم . أمّا مع الاشتراط بالعصیان ، فیعتبر أن یکون بنحو الشرط المتأخّر ، لأنّه ترک الأهم و ترکه فی مرتبةٍ واحدةٍ مع فعل المهم ، فلمّا کان العصیان شرطاً للأمر بالمهم ، وقع فعل المهم فی مرتبةٍ متقدّمة علی الأمر به ، فیکون فرض العصیان بنحو الشرط المتأخّر .

و علی أیّ حالٍ ، فقد أجاب عن هذا التقریب : بأنّ الأمر بالضدّین و طلبهما محال ، سواء کان التضادّ بالذات أو بالعرض ، لأنّ الطلب هو الإنشاء بداعی جعل الدّاعی ، و مع وجود التضادّ بین الشیئین کیف یتحقّق الداعی بجعل الداعی ؟

ص:200


1- 1) کفایة الأُصول: 134 .

و فیما نحن فیه : کلّ طلبٍ مشروط بالقدرة علی متعلّقه - علی مبنی المشهور أو المیرزا - و إذ لا قدرة علی الضدّین فطلبهما محال .

یقول : « ما هو ملاک استحالة طلب الضدّین فی عرضٍ واحدٍ آتٍ فی طلبهما کذلک ، فإنه و إن لم یکن فی مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما . إلّا أنّه کان فی مرتبة الأمر بغیره اجتماعهما ، بداهة فعلیّة الأمر بالأهم فی هذه المرتبة و عدم سقوطه بعدُ بمجرد المعصیة فیما بعد ما لم یعص أو العزم علیها مع فعلیّة الأمر بغیره أیضاً ، لتحقّق ما هو شرط فعلیّته فرضاً » .

یعنی : إنّه فی صورة التضادّ بالذات ، یطارد کلٌّ من الضدّین الآخر ، و فی صورة التضادّ بالعرض - و هو صورة الاشتراط - تکون المطاردة من طرفٍ واحد ، لأنّ الأمر بالأهم مطلقٌ ، أی إنّه لا بشرط بالنسبة إلی المهم ، و هذا الأمر مقدَّم علی متعلّقه - تقدّم العلّة علی المعلول - فهو مقدّم علی عصیانه ، لأنّ الإطاعة و العصیان فی مرتبةٍ واحدة ، فکان الأمر بالأهمّ مقدّماً علی إطاعة الأهم و عصیانه ، لکن العصیان شرط للأمر بالمهمّ ، و کلّ شرط متقدّم علی المشروط ، فیکون الأمر بالأهمّ و عصیانه مقدّماً علی الأمر بالمهمّ بمرتبتین ، وعلیه ، فلا یمکن للأمر بالمهمّ أن یطارد الأمر بالأهم ، فیکون الأمر بالأهم موجوداً بلا مانع .

و هو أیضاً موجود فی مرتبة إطاعة الأمر بالأهم و عصیانه ، لعدم الاقتضاء للأمر بالمهم فی هذه المرتبة حتی یطارد الأمر بالأهم ، لأنّ المفروض أنّ الأمر بالمهمّ ینشأ بعد مرتبة عصیان الأمر بالأهم .

فإن عصی الأمر بالأهم ، یصیر الأمر بالمهم فعلیّاً ، لتحقّق شرطه ، لکنّ المفروض أنّ الأمر بالأهم مطلق ، فهو بإطلاقه یشمل هذه المرتبة ، فله اقتضاء الامتثال ، و المهمُّ له اقتضاء الامتثال ، فتقع المطاردة فی هذه المرتبة .

ص:201

الترتّب ببیان المیرزا

اشارة

و تصدّی المیرزا لتصحیح الترتّب و الردّ علی إشکال الکفایة ، و ذکر لذلک مقدّمات (1) :

المقدّمة الأُولی

( فی التحقیق عن منشأ الإشکال )

ففی المقدّمة الأُولی حاول التحقیق عن منشأ الإشکال و المحذور فی الأمرین المتضادّین بالعرض ، و أنّه هل هو فی أصل وجودهما أو فی إطلاقهما ؟

إن کان منشأ الاستحالة وجود الأمرین فهو صحیح ، و أمّا إن کان المنشأ هو الإطلاق فیهما ، فالمحذور مرتفع و الترتّب ضروری . و بیان ذلک :

إنّه لو یکن بین الواجبین تضادّ ، کما لو أمر بالصّلاة بنحو الاطلاق و أمر بالصوم کذلک ، کان نتیجة الإطلاقین هو مطلوبیة کلیهما ، و الجمع بینهما ممکن و لا تضاد . أمّا لو قُید أحدهما بأنْ قیل : صلّ فإن لم تصلّ فصُم ، کان نتیجة التقیید عدم مطلوبیّة کلیهما ، فلو صلّی و صام لم یکن ممتثلاً لأمرین ... هذا لو لم یکن تضادّ بین الواجبین .

فإن کانا متضادّین کالصّلاة فی أوّل الوقت و إزالة النجاسة عن المسجد ، فإنّ الإطلاق فیهما یقتضی أن یکون کلاهما مطلوبین . أمّا لو تقیّد أحدهما بترک الآخر و عصیانه ، فوقوعهما علی وجه المطلوبیة محال .

و الحاصل : إن کلّ دلیلٍ یشتمل علی أصل الطلب و علی إطلاق الطلب ، و الاستحالة إنّما تتحقّق من إطلاق الدلیلین لا من أصل وجودهما ، فلو حصل تقیید فی أحد الطرفین لا یکونان مطلوبین ، فلا یتحقّق طلب الضدّین و هو غیر مقدور .

ص:202


1- 1) أجود التقریرات 2 / 55 .

نتائج هذه المقدمة

و نتیجة هذا المطلب أُمور :

1 - إنّه إذا کان المحذور فی إطلاق الدلیلین ، کان مقتضی القاعدة فی سائر موارد التضاد سقوط الإطلاقین - بأن یقیّد الوجوب فی کلّ من الدلیلین بعدم الآخر ، إن لم یکن أحدهما أهم من الآخر - و بقاء أصل الدلیلین ، لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها ، و حینئذٍ ، یکون المکلّف مخیّراً بینهما تخییراً عقلیّاً . أمّا فی صورة کون الدلیلین بوجودهما منشأً للمحذور ، کان مقتضی القاعدة سقوط کلیهما من أصلهما ، و حینئذٍ ، یستکشف العقل خطاباً شرعیّاً تخییریاً بین الأمرین .

2 - إنّه عند ما یکون المحذور فی إطلاق کلیهما ، فلا محالة یتقیّدان و یکون شرط کلٍّ منهما ترک الآخر ، فیجب إنقاذ هذا الغریق فی حال ترک الآخر و کذلک العکس ، و حینئذٍ ، فلو ترک کلیهما فقد تحقّق الشرط لوجوبهما معاً ، فیکون قد ارتکب معصیتین و یستحق عقابین ، لأنّه قد خالف خطابین فعلیین ، إذ الخطاب المشروط یکون فعلیّاً بفعلیّة شرطه ، و قد کان الشرط فی کلّ من الخطابین هنا ترک الآخر ، و القدرة علی الجمع بین الترکین حاصلة ، بخلاف ما لو کان المحذور فی أصل وجود الدلیلین و فرض سقوطهما و تحقّق حکم تخییری کما تقدّم ، فإنّه لو ترک کلیهما فقد ترک واجباً واحداً ، فالمعصیة واحدة و العقاب واحد .

اشکال المیرزا علی الشیخ

3 - إنّه بعد تصوّر ما ذکر ، یصیر الأصل عبارةً عن أنّه فی کلّ متزاحمین لا بدّ من رفع الید عن منشأ المحذور ، و قد ظهر أنّه الإطلاق ، وعلیه ، فالأصل فی الخبرین المتعارضین - بناءً علی السببیّة - هو التخییر ، لأنّهما خطابان مشروط کلٌّ

ص:203

منهما بترک الآخر . فیرد الإشکال علی الشّیخ : بأنّه کان علیه الالتزام بسقوط الإطلاقین - لا أصل الخطابین - إن لم یکن بینهما أهم ، و إن کان أحدهما أهم من الآخر سقط الإطلاق فی طرف .

نقد الدفاع عن الشیخ

قال الأُستاذ

و الحق : ورود هذا الإشکال علی الشیخ . و ما قد یقال فی الدفاع عنه : من أنّ کلامه - حیث قال بصرف القدرة فی أحد الضدّین فی حال عدم صرفها فی الآخر - إنّما هو فی مرحلة الامتثال ، و کلامنا - فی الترتّب - یتعلّق بمرحلة الجعل و التشریع ، فقد اختلط الأمر علی المیرزا ، لأن الشیخ قائل بالتزاحم و الترتّب هناک لکونه فی مقام الامتثال ، و لا یقول به هنا لأنّه مقام الجعل . ففیه نظر من وجوه :

الأوّل : إنّ الشیخ و إن ذکر ذلک فی مرحلة الامتثال ، لکنّه أضاف : بأنّ المطلب کذلک فی کلّ متزاحمین شرعیّین ، فالمیرزا قد تدبّر فی کلام الشیخ ، و المستشکل قد غفل عن هذه النکتة .

و الثانی : إنّ مرحلة الامتثال ظلّ مقام الجعل و التشریع ، و الامتثال فرع التکلیف ، فیستحیل أن یتحقّق الترتّب فی مرحلة الامتثال و لا یتحقّق فی مرحلة الجعل ، فلو لم یکن التکلیف ترتّبیاً ، فالامتثال الترتّبی محال .

و الثالث : إنّ القواعد العقلیّة غیر قابلة للتخصیص ، فإذا حکم العقل بالترتّب فی مرحلة الامتثال فهو حاکم به فی مرحلة الجعل .

4 - قد ظهر أنّ إشکال المحقّق الخراسانی ناشئ من مطلوبیّة الجمع بین الضدّین من جهة إطلاق الخطابین ، لکنّ المیرزا یقول : بأنّ الترتّب رافع لهذا الإشکال ، لأنّه ضد الجمع ، بل یستحیل الجمع بناءً علیه ، لأنّه مع حصول الإزالة

ص:204

فالصّلاة غیر مطلوبة ، و إنّما تکون مطلوبةً لو ترک الإزالة ، فترکها بشرط وجوب الصّلاة ، فأین مطلوبیتهما فی آنٍ واحد حتی یلزم التکلیف بالمحال .

نعم ، مع إطلاق الأمر بالأهم یکون الأمر به موجوداً فی ظرف عصیانه ، و هو ظرف وجود الأمر بالمهم ، لکنّ اجتماع الطلبین غیر اجتماع المطلوبین ، و قد کان الإشکال هو لزوم اجتماع المطلوبین لا الطلبین ، و بالترتّب ینتفی لزومه .

هذا تمام الکلام فی المقدّمة الأُولی .

المقدّمة الثانیة

( فی الجواب عن المطاردة )

إنّه یجاب عن إشکال المطاردة بین إطلاق الأمر بالأهمّ و الأمر بالمهمّ بعد تحقّق شرطه و صیرورته مطلقاً بذلک ، بناءً علی ما صرّح به المیرزا من أنّ کلّ موضوع شرط و کلّ شرط موضوع ، فإنّه یکون للشرط ما کان للموضوع من الأثر ، و کما تتحقّق الفعلیّة للحکم بوجود الموضوع ، فإنّ فعلیّة الشرط فعلیّة الحکم ، فلا فرق بین « المستطیع یجب علیه الحج » و« المکلّف إذا استطاع یجب علیه الحج » و علی هذا ، فکما لا یخرج الموضوع عن الموضوعیّة قبل وجوده و بعد وجوده ، کذلک الشرط لا ینسلخ عن کونه شرطاً بعد تحقّقه ، وعلیه ، لا یخرج المشروط عن الإناطة بالشرط لیکون مطلقاً بعد تحقّقه ، و إذ لا یکون مطلقاً فلا تتحقّق المطاردة بین الحکمین .

الإشکال علی المیرزا

و قد أشکل علی المیرزا هنا بوجوه بعضها ناش من عدم التدبّر فی کلامه و بعضها خارج عن البحث ، إلّا أن الإشکال الوارد من الأُستاذ یرجع إلی المناقشة فی المبنی ، إذ یقول : بأنّ الشرط إمّا متمّم لاقتضاء المقتضی و إمّا متمّم لقابلیّة القابل ، فیستحیل کون الشرط موضوعاً للحکم و رجوع الموضوع إلی الشرط ،

ص:205

و علی الجملة ، فإنّ المقتضی - و هو الموضوع - منشأ للأثر ، و الشرط هو ما یساعد علی تأثیر المقتضی أثره ، فکلّ من الموضوع و الشرط جزء للعلّة التامّة ، و یستحیل رجوع أحد الأجزاء إلی الجزء الآخر ... فهذا هو الإشکال علی المیرزا رحمه اللّٰه .

لکن المیرزا یصرّح : بأنّه لیس حکم الموضوع و الشرط حکم أجزاء العلّة التکوینیّة ، بل الموضوع فی الأحکام الشرعیة هو المکلّف ، و شرط التکلیف هو البلوغ و العقل ، و الحکم إرادة المولی بحسب الملاکات . فلیس البلوغ - مثلاً - متمّماً للاقتضاء أو لقابلیّة المحلّ القابل ، بل الملاکات هی التی تؤثر فی إرادة المولی ، و هو یجعل الحکم و یعتبره عند تحقّق الشرط ... فالإناطة التی کانت قبل تحقق الشرط موجودة بعد تحققه ، و لا یصیر الواجب المشروط بعد تحقق الشرط واجباً مطلقاً ، بل الحکم المشروط بعصیان الأهم یبقی مشروطاً بعد تحقق العصیان أیضاً ... فالإشکال مندفع .

نعم ، لو کان مراده أنّ کلّ شرط موضوع و کلّ موضوع شرط فی جمیع الآثار ، فهذا غیر تام ، ففی باب المفاهیم - مثلاً - لو کان کلّ شرط موضوعاً بلا فرق ، کان معنی قولک : « إن جاءک زید فأکرمه » : زید الجائی إلیک أکرمه ، و معنی الآیة :

« إِنْ جٰاءَکُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا » : الفاسق الجائی إلیکم تبیّنوا عنه ، و حینئذٍ ، ینتفی مفهوم الشرط و یرجع الکلام إلی مفهوم اللقب ، و هذا لیس بمرادٍ للمیرزا . بل المراد هو : إنّ الشرط و الموضوع بمنزلة واحدةٍ فی إناطة الحکم و تعلیقه علیهما ، فکلّ حکم منوط بالموضوع حدوثاً و بقاءً ، و منوط بشرطه حدوثاً و بقاءً کذلک .

المقدمة الثالثة

( فی دفع الإشکال علی المیرزا )

و الغرض منها دفع ما یرد علی المیرزا بناءً علی مبنی الترتب و ذلک :

إنه فی الواجب المضیّق یعتبر وجود الحکم قبل زمان امتثاله ، فوجوب

ص:206

الصّوم لا بدّ من تحقّقه قبل طلوع الفجر ، لأنه لو لم یکن الخطاب متقدّماً علی الإمساک فی أول الفجر آناً ما ، فإمّا أن یکون المکلّف حین توجّه الخطاب إلیه أوّل الفجر متلبّساً بالإمساک أو غیر متلبّس به ، و علی کلا التقدیرین یستحیل توجّهه إلیه ، لأن طلب الإمساک ممّن هو متحقّق منه طلب للحاصل ، کما أنّ طلبه من المتلبس بعدمه طلب للجمع بین النقیضین ، و کلاهما محال . فلا بدّ من تقدّم الخطاب - و لو بآنٍ ما - علی زمان الامتثال و الانبعاث ، لیکون الانبعاث عن ذلک الخطاب المقدّم علیه و امتثالاً له ... فتکون النتیجة فی بحثنا : إن وجوب المهم لا بدّ من حصوله قبل امتثال الأمر بالمهم ، لکن امتثال الأمر بالمهم فی مرتبةٍ واحدة مع عصیان الأمر الأهمّ ، فوجود الأمر بالمهم لا بدّ و أنّ یکون فی رتبة قبل عصیان الأهم .

و توضیح أساس هذا الإشکال هو :

إن البعث لا بدّ و أن یکون مقدّماً علی الانبعاث ، و الأمر لا بدّ من تقدّمه علی الامتثال ، و الدلیل علی ذلک أمران : أحدهما : إن منشأ الامتثال و موجب الانبعاث هو تصوّر ما یترتّب علی مخالفته ثم التصدیق بما تصوّره ، فهنالک یحصل الامتثال ، و لو لا تقدّم الأمر علی الامتثال کیف تتحقّق هذه القضایا ؟ إذن : لا بدّ من تقدّم الأمر علی الامتثال زماناً ... و قد اعتمد علی هذا البیان المحقق الخراسانی .

و الثانی : لو کان الأمر مقارناً فی الزمان للامتثال و لم یکن قبله ، فالمکلّف إمّا تارک و إمّا فاعل ، فإن کان فاعلاً - کما فی مثال الإمساک - کان الأمر طلباً للحاصل ، و إن کان تارکاً ، کان طلباً للفعل فی آن الترک ، و هو طلب النقیض مع وجود النقیض له ، فهو طلب اجتماع النقیضین .

فتلخّص : ضرورة تقدّم الأمر زماناً علی الانبعاث .

ص:207

و نتیجة ذلک :

أولاً : إذا کان الأمر متقدّماً زماناً علی الانبعاث ، کان زمان الوجوب مقدّماً علی زمان الواجب ، فیلزم الالتزام بالواجب المعلّق . و الحال أنّ المیرزا ینکر الواجب المعلّق .

و ثانیاً : إن امتثال الأمر بالمهم متأخّر عن الأمر بالمهم ، و عصیان الأمر الأهم هو فی آن امتثال الأمر بالمهم - لأن عصیان الأهم یتحقق بامتثال المهم ، فهو یعصی الأمر بالإزالة بالإتیان بالصّلاة - و إذا کان کذلک ، لزم الالتزام بالشرط المتأخّر ، و المیرزا ینکر الشرط المتأخّر .

و تلخّص : إن علی المیرزا أنْ یرفع الید ، إمّا عن الترتب و إمّا عن إنکار الواجب المعلّق و الشرط المتأخّر .

جواب المیرزا

و قد أجاب المیرزا عن الإشکال بوجوه :

أولاً : بالنقض ، فقال : لو صحّ ذلک لصحّ فی نظیره ، أعنی به العلّة و المعلول التکوینیین ، بتقریب إن المعلول لو کان موجوداً حین علّته لزم علیّتها للحاصل ، و إلّا لزم کونها علةً للمستحیل ، لأن تأثیر العلّة فی الشیء فی ظرف عدمه اجتماع للنقیضین ، و کلاهما مستحیل ، فالقول بلزوم تقدّم الخطاب علی الامتثال زماناً یستلزم القول بلزوم تقدّم العلّة التکوینیة علی معلولها زماناً أیضاً ، و هو واضح البطلان .

و ثانیاً : بالحلّ فی المقامین : فإن المعلول أو الامتثال ، إنْ کان مفروض الوجود فی نفسه حین وجود العلّة أو الخطاب فیلزم ما ذکر من المحذور ، و أمّا إنْ کان فرض وجوده لا مع قطع النظر عنهما ، بل لفرض وجود علّته أو لتحریک

ص:208

الخطاب إلیه ، فلا یلزم من المقارنة الزمانیّة محذور أصلاً . و بالجملة : الامتثال بالإضافة إلی الخطاب کالمعلول بالإضافة إلی علّته ، فلا مانع من مقارنته إیّاه زماناً ، فلا موجب لفرض وجود الخطاب قبلاً و لو آناً ما .

هذا ، و قد نصّ السید الخوئی علی متانة هذا الجواب .

و ثالثاً : إن المکلّف إن کان عالماً قبل الفجر بوجوب الإمساک علیه عند الفجر ، کفی ذلک فی إمکان تحقق الامتثال منه حین الفجر ، فوجوده قبله لغو محض ، إذ المحرّک له حینئذٍ هو الخطاب المقارن لتحقق متعلّقه ، لا الخطاب المفروض وجوده قبله ، إذ لا یترتب علیه أثر فی تحقق الامتثال أصلاً . و أمّا إذا لم یکن المکلّف عالماً به قبل الفجر ، فوجود الخطاب فی نفس الأمر لا أثر له فی تحقق الامتثال فی ظرف العلم ، فیکون وجوده لغواً أیضاً . و لأجل ما ذکرناه - من عدم کفایة وجود التکلیف واقعاً فی تحقق الامتثال من المکلّف فی ظرفه ، بل لا بدّ فیه من وصول التکلیف إلیه - ذهبنا إلی وجوب تعلّم الأحکام قبل حصول شرائطها الدخیلة فی فعلیّتها ، فالقائل بلزوم تقدّم الخطاب علی الامتثال قد التبس علیه لزوم تقدّم العلم علی الامتثال بلزوم تقدّم الخطاب علیه .

رابعاً : إن تقدّم الخطاب علی الامتثال - و لو آناً ما - یستلزم فعلیّة الخطاب قبل وجود شرطه ، فلا بدّ من الالتزام بالواجب المعلّق ، و کون الفعل المقیّد بالزمان المتأخّر متعلّقاً للخطاب المتقدّم . و قد عرفت استحالته فی محلّه .

خامساً : النقض بالواجبات الموسّعة ، فإنه لا إشکال فی صحّة العبادات الموسّعة کالصّلاة مثلاً إذا وقعت فی أول وقتها تحقیقاً . و القول بلزوم تقدّم الخطاب علی زمان الامتثال آناً ما فی المضیّقات ، یستلزم القول بلزوم تقدّمه علیه فی الموسّعات أیضاً ، إذ لا فرق فی لزوم ذلک بین وجوب مقارنة الامتثال لأوّل

ص:209

الوقت کما فی المضیّقات و جوازها کما فی الموسّعات ، مع أنهم لا یقولون بلزوم التقدّم فیها ، فیکشف ذلک عن بطلان الالتزام به فی المضیّقات أیضاً .

( قال ) و الغرض من هذه المقدمة و إبطال القول بلزوم التقدّم المزبور هو :

إثبات أن زمان شرط الأمر بالأهمّ و زمان فعلیّة خطابه و زمان امتثاله أو عصیانه - الذی هو شرط الأمر بالمهم - کلّها متّحدة ، کما أنه الشأن فی ذلک بالقیاس إلی الأمر بالمهمّ و شرط فعلیّته و امتثاله أو عصیانه ، و لا تقدّم و لا تأخّر فی جمیع ما تقدّم بالزمان ، بل التقدّم و التأخر بینها فی الرتبة . وعلیه یتفرّع دفع جملة من الإشکالات .

اشکال المحقق الأصفهانی

و قد أشکل علیه المحقق الأصفهانی (1) : بأنّ ترتّب السقوط علی فعلیّة التکلیف و توجّهه لا یعقل أن یکون بالرتبة ، لمناقضة الثبوت السقوط ، و أن الإطاعة لیست علةً للسقوط و کذلک المعصیة ، و إلّا لزم علیّة الشیء لعدم نفسه فی الأولی و توقف تأثیر الشیء علی تأثیره فی الثانیة ، بل بالإطاعة ینتهی أمد اقتضاء الأمر ، و بالمعصیة فی الجزء الأول من الزمان یسقط الباقی عن القابلیّة للفعل ، فلا یبقی مجال لتأثیره فیسقط بسقوط علّته الباعثة علی جعله .

دفاع الأُستاذ

و قد دفع الأُستاذ هذا الإشکال : بأنّا لم نجد فی کلام المیرزا ما یفید أنّ ثبوت الأمر متقدّم رتبةً علی السقوط ، نعم ، قال : ثبوته متقدّم رتبةً علی عصیانه ، و من الواضح أنّ العصیان غیر السقوط ، لأن الأمر حال العصیان موجود و هو متقدّم علیه رتبةً کما ذکر ، أمّا سقوطه فهو بعد العصیان .

ص:210


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 213 - 215 .
المقدمة الرابعة

( قال : و هی أهمّ المقدّمات ) :

إن انحفاظ الخطاب فی تقدیرٍ ما إنما یکون بأحد وجوهٍ ثلاثة ... و حاصل کلامه :

إن الإطلاق - و کذا التقیید - ینقسم إلی قسمین : فالأول : ما کان الانقسام فیه سابقاً علی الخطاب ، کالانقسام إلی البالغ و غیر البالغ ، فإنه محفوظ قبل وجود الخطاب . و القسم الثانی : ما کان الانقسام فیه متفرّعاً علی الخطاب ، کالانقسام إلی العالم به و الجاهل به . و لمّا کان الانقسام الأول یقبل اللّحاظ ، - و أنّ الحاکم فی ظرف الحکم یلحظه ، فإمّا یعتبر البلوغ و إمّا لا یعتبر فیطلق - فیسمّی بالإطلاق اللحاظی ، و أمّا الانقسام الثانی فلیس کذلک ، غیر أنّ ملاک الحکم یمکن فیه التقیید بالعلم - مثلاً - و إلّا فالإطلاق ، فیسمّی بالإطلاق الذاتی و الملاکی ، و لمّا کان الخطاب فیه غیر قابل للإطلاق و التقیید احتاج إلی دلیل آخر ، و هذا ما یعبّر عنه بنتیجة الإطلاق ، بخلاف الانقسام الأوّل ، فإن الإطلاق فیه بنفس الدلیل الأوّل .

فهذان وجهان لانحفاظ الخطاب ... و قد وقع الخلاف بین الأکابر هنا ، فالمیرزا یقول بهذین الوجهین ، و منهم من یقول : بأنّ الإطلاق فی جمیع الموارد لحاظی .

و الوجه الثالث :

ما کان الخطاب فیه محفوظاً - لا بالإطلاق اللّحاظی و لا بالإطلاق الملاکی - باقتضاء نفس الخطاب ، مثل : وجود الوجوب فی مرتبة الإطاعة و المعصیة ، فإنّه موجود مع فعل الواجب و مع ترکه ، و هذا مقتضی نفس الخطاب .

و لا بدّ هنا من الالتفات إلی أن فعل الواجب أو ترکه ، یلحظ تارةً : بعنوان الفعل و الترک و أُخری : بعنوان الطاعة و المعصیة ، فإن کان بالعنوان الثانی فهو من

ص:211

الانقسامات اللّاحقة ، و إن کان بالأوّل فلا ، لأن الفعل و الترک غیر متفرّعین علی وجود الواجب ، و لذا نبّه المیرزا علی أن لا یتوهّم قابلیّة الإطاعة و المعصیة للإطلاق الملاکی ، لکونهما من الانقسامات اللّاحقة ، فأفاد أنّه لیس کلّ ما کان من الانقسامات اللّاحقة فهو قابل للإطلاق الملاکی ، بل لا بدّ من التفصیل ...

قال : إن الإطلاق و التقیید بقسمیهما - أعنی بهما الملاکی و اللّحاظی - مستحیلان فی باب الإطاعة و المعصیة .

أمّا استحالة التقیید : فلأن وجوب فعل لو کان مشروطاً بوجوده ، لاختصّ طلبه بتقدیر وجوده خارجاً ، و هو طلب الحاصل ، و لو کان مشروطاً بعدمه ، لاختصّ طلبه بتقدیر ترکه ، و هو طلب الجمع بین النقیضین ، فعلی کلا التقدیرین یکون طلبه محالاً ، فلا یصح له أن یقول : إن صلّیت وجبت علیک ، أو یقول : إن ترکت الصّلاة وجبت علیک ، فلا الطلب أی الوجوب یمکن تقییده و لا المطلوب و هو الواجب . هذا کلامه . لکنّ المحقق الاصفهانی جعل البحث فی تقیید المطلوب ... إلّا أنّ تقیید الطلب فیه محذور ثالث أیضاً ، کما سنوضّحه فیما بعد .

و أمّا استحالة الإطلاق ، فقد ذکر له وجهین ، أحدهما : ما ذهب إلیه من أن التقابل بین الإطلاق و التقیید تقابل العدم و الملکة . و الثانی : ما ذکره من أنّ الإطلاق فی قوّة التصریح بکلا التقدیرین ، فإن قوله : اعتق رقبةً و إن لم یکن معناه : اعتق رقبةً مؤمنة أو کافرة ، لکنّه فی قوّة ذلک ، فلو کان الوجوب مطلقاً بالنسبة إلی الفعل و الترک لزم محذور تحصیل الحاصل أو محذور اجتماع النقیضین .

قال الأُستاذ :

فمن قال بأن التقابل من قبیل التضاد لا یمکنه إثبات الاطلاق ، و کذا بناءً علی أن الاطلاق لیس فی قوّة الجمع بین القیود و الخصوصیات ... فظهر أن أساس هذه

ص:212

المقدمة مبنی علی هذه المبانی ... و إلّا فلا یتم الإطلاق ، و هذا هو إشکال السید الخوئی فی ( التعلیقة ) آخذاً من المحقق الأصفهانی .

ثم قال المیرزا :

و الفرق بین انحفاظ الخطاب فی هذا القسم و انحفاظه فی القسمین السابقین ، إنما هو من جهة أن انحفاظه فی هذا القسم لأجل أنه من لوازم ذاته ، حیث أن تعلّق الخطاب بشیء بذاته یقتضی وضع تقدیرٍ و هدم تقدیر آخر ، سواء کان الخطاب وجوبیّاً أو تحریمیّاً ، لأن الأول یقتضی وضع تقدیر الوجود و هدم تقدیر العدم ، کما أن الثانی یقتضی وضع تقدیر العدم و هدم تقدیر الوجود .

و هذا بخلاف انحفاظ الخطاب فی القسمین السابقین ، فإنه من جهة التقیید بذلک التقدیر أو الإطلاق بالإضافة إلیه ، و إلّا فذات الخطاب بالحجّ أو الصّلاة مثلاً لا یقتضی انحفاظه فی تقدیر الاستطاعة بنفسه .

قال :

و یترتب علی الفرق من هذه الجهة أمران :

الأول : إن نسبة التقدیر المحفوظ فیه الخطاب بالإضافة إلیه فی القسمین الأوّلین ، نسبة العلّة إلی معلولها . أما فی موارد التقیید فهو واضح ، لما ذکرناه من أن مرجع کلّ تقدیر کان الخطاب مشروطاً به إلی کونه مأخوذاً فی موضوعه ، و قد عرفت أنّ رتبة الموضوع من حکمه نظیر رتبة العلّة من معلولها . و أمّا فی موارد الإطلاق ، فلما ذکرناه من اتّحاد مرتبة الإطلاق و التقیید ، إذ الإطلاق عبارة عن عدم التقیید فی موردٍ قابل له ، فإذا کانت مرتبة التقیید سابقة علی مرتبة الحکم المقیّد به ، کانت مرتبة الإطلاق أیضاً کذلک . و أمّا فی هذا القسم ، فنسبة التقدیر المحفوظ فیه الخطاب بالإضافة إلیه نسبة المعلول إلی العلّة ، و ذلک : لما مرّ من أن الخطاب

ص:213

له نحو علیّة بالإضافة إلی الامتثال ، فإذا کانت نسبة الحکم إلی الامتثال نسبة العلّة إلی معلولها ، کان الحال ذلک بالإضافة إلی العصیان أیضاً ، لأن مرتبة العصیان هی بعینها مرتبة الامتثال .

الثانی : إن نسبة التقدیر المحفوظ فیه الخطاب فی القسمین الأوّلین بما أنها نسبة الموضوع إلی حکمه ، فلا محالة لا یکون الخطاب متعرّضاً لحاله أصلاً وضعاً و رفعاً ، مثلاً : خطاب الحج لا یکون متعرّضاً لحال الاستطاعة ، بأن یکون مقتضیاً لوجودها أو عدمها ، و إنما هو یتعرّض لحال الحجّ باقتضاء وجوده علی تقدیر وجود الاستطاعة بأسبابها المقتضیة لها ، فلا نظر له إلی إیجادها و عدم إیجادها ، و هذا بخلاف التقدیر المحفوظ فیه الخطاب فی هذا القسم ، فإنه بنفسه متعرّض لحال ذلک التقدیر وضعاً و رفعاً ، إذ المفروض أنه هو المقتضی لوضع أحد التقدیرین و رفع الآخر .

فتحصل : إن انحفاظ الخطاب فی هذا القسم و فی القسمین الأوّلین من الجهتین المذکورتین علی طرفی النقیض .

نتیجة المقدمة

و تکون نتیجة هذه المقدمة - التی هی أهمّ المقدّمات کما قال - : أنّ انحفاظ خطاب الأهم فی ظرف العصیان ، إنما هو من جهة اقتضائه لرفع هذا التقدیر و هدمه ، من دون أن یکون له نظر إلی شیء آخر علی هذا التقدیر ، بخلاف خطاب المهم ، فإنه لا نظر له إلی وضع هذا التقدیر و رفعه ، لأنه شرطه و موضوعه ، و قد عرفت أنه یستحیل أن یقتضی الحکمُ وجودَ موضوعه أو عدمه ، و إنما هو یقتضی وجود متعلّقه علی تقدیر عصیان خطاب الأهمّ ، فلا الخطاب بالمهم یعقل أن یترقّی و یصعد إلی مرتبة الأهم و یکون فیه اقتضاء لموضوعه ، و لا الخطاب بالأهمّ

ص:214

یعقل أن یتنزل و یقتضی شیئاً آخر غیر رفع موضوع خطاب المهم ، فکلا الخطابین و إن کانا محفوظین فی ظرف العصیان و متّحدین زماناً إلّا أنهما فی مرتبتین طولیّتین .

توضیحه :

إن الأمر بالأهمّ مطلقٌ بالنسبة إلی الأمر بالمهمّ ، لکن الأمر بالمهمّ مقیّد بعصیان الأمر بالأهم ، فلیس للأمر بالأهمّ إلّا الاقتضاء الذاتی لمتعلّقه أعنی الإزالة ، لأنّ کلّ أمرٍ إنّما یدعو إلی متعلّقه ، فهو یقتضی الطاعة بفعل الإزالة و هدم عصیان الأمر بها ، و لا یخفی أنّ الاقتضاء غیر التقیید ، فهو یقتضی الفعل و الطاعة لا أنّه مقیّد بالفعل و الطاعة ، لأنّ تقیید الخطاب بالفعل أو المعصیة محال ، لکونهما متفرّعین علی الخطاب .

أمّا الأمر بالمهم ، فهو مقیّد بعصیان الأمر بالأهم ، فکان عصیانه موضوع الأمر بالمهم ، و قد تقرّر أن الحکم لا یتکفّل موضوعه ، بل یترتّب علیه عند تحقّقه ، فلا اقتضاء للأمر بالمهم لتحقق موضوعه و هو عصیان الأمر بالأهم ، أمّا الأمر بالأهمّ فکان له اقتضاء الطاعة و عدم العصیان ... و بعبارةٍ أُخری :

إن الأمر بالمهم یدعو إلی متعلّقه - و هو الصّلاة - عند تحقق شرطه و هو عصیان الأهم أی الإزالة ، و إذا کان مشروطاً بذلک فهو فی مرتبةٍ متأخرةٍ عن الشرط ، لکنّ الأمر بالأهمّ فی مرتبة متقدّمة و یقتضی عدم العصیان ، ... .

فکان الحاصل : وجود الاختلاف الرتبی بین الأمرین و أنّ الأمر بالأهمّ متقدّم ، و وجود الاختلاف بینهما من حیث المقتضی ، إذ الأمر بالأهم له اقتضاء بالنسبة إلی العصیان و یرید هدمه ، و الأمر بالمهم لا اقتضاء له بالنسبة إلیه ، و إنما هو شرط له و یتحقق - الأمر بالمهم - عند تحقّقه ... .

ص:215

و بعد هذا ... أین یکون التمانع ؟

تلخّص :

إن المحقق الخراسانی یری بأنّ محذور اجتماع الضدّین لا یرتفع بکون أحد الخطابین مطلقاً و الآخر مقیّداً ، فمع التنزّل عن کون عصیان الأمر بالأهم شرطاً للأمر بالمهم بنحو الشرط المتأخّر ، اللّازم منه تحقق التمانع من الطرفین ، یکون الطّرد من طرف الأمر بالأهم کافیاً للزوم المحذور ... .

فأجاب المحقق النائینی : بجعل الشرط شرطاً مقارناً لا متأخّراً ، و ذکر أنّ الأمر بالأهم یدعو إلی امتثال متعلّقه مطلقاً ، أی سواء کان فی قباله أمر بالمهم أو لا ، لکن الأمر بالمهم جاء مقارناً لعصیان الأمر بالأهم و مشروطاً به ، و لا تعرّض له لهذا الشرط لا وضعاً و لا رفعاً ، فالأمر بالمهم غیر طارد للأمر بالأهم ، کما أن الأمر بالأهم لا تعرّض له للمهمّ أصلاً ، و إنما یدعو إلی متعلّقه کما تقدّم .

و الحاصل : إنّ الأمر بالمهمّ لا یتکفّل شرطه - و هو عصیان الأمر بالأهمّ - فلا اقتضاء له بالنسبة إلیه ، و الأمر بالأهم لا یدعو إلّا إلی متعلّقه ، فلا اقتضاء له بالنسبة إلی متعلّق الأمر بالمهم ، و لا نظر له إلیه أبداً ، نعم ، لو کان مفاده أنک إن عصیت الأمر بالأهمّ فلا تأت بمقتضی الأمر بالمهم ، لزم طلب الضدّین ... و لذا قال المیرزا : لا الأمر بالمهم یترقی إلی الأمر بالأهم ، و لا الأمر بالأهم یتنزل إلی الأمر بالمهم .

و بعبارة أُخری : التمانع لیس فی مرتبة الملاک و الغرض من الخطابین ، و لیس فی مرتبة الإرادة و الشوق إلیهما - فإن الإرادة تابعة للملاک و الغرض - و لیس فی مرتبة الإنشاء ، لأنه - سواء کان الاعتبار و الابراز أو إیجاد الطلب - لا محذور فی الإنشاءین ، و تبقی مرحلة اقتضاء الخطابین ، و وجود التمانع فی هذه المرحلة لیس

ص:216

بین نفس الاقتضاءین ، بل هو - إن کان - فی المقتضَیَین ، فإن قال « صلّ » و قال « أزل النجاسة عن المسجد » و طلب تحقّقهما فی آن واحد بلا اشتراطٍ ، لزم محذور الجمع بین الضدّین ، و التکلیف بما لا یطاق ، أمّا لو قال : « أزل النجاسة » ثم قال :

« صلّ إن عصیت الإزالة » کان المقتضی للأمر الأوّل إطاعته و عدم معصیته ، و المقتضی للثانی : وجوب الصّلاة علی تقدیر عصیان الأوّل ، و لا تمانع بین هذین المقتضَیَین ، لأن الأمر بالإزالة إنما ینهی عن عصیانه و لا تعرّض له للصّلاة ، و الأمر بالصّلاة مفاده : وجوب إطاعته علی تقدیر عصیان الأمر بالإزالة ... .

إذن : لا تمانع بینهما فی مرحلةٍ من المراحل .

و ببیان آخر : إن المفروض أن القدرة واحدة ، و القدرة الواحدة لا تکفی لامتثال الخطابین معاً إن کانا مطلقین ، أمّا لو کان أحدهما مشروطاً ، فلا تمانع بین المتعلّقین فی جلب القدرة ، لأنّ الأمر بالأهم یطالب بصرف القدرة فیه ، لکنّه ساکت عمّا لو عصی ، و الأمر بالمهم یطالب بصرف القدرة فیه فی حال عصیان الأمر بالأهم ... فلا مشکلة .

و الشیخ الأعظم لمّا جعل المشکلة فی القدرة ، و أنه لا توجد قدرتان فی المتزاحمین بناءً علی السببیّة ، فمع تقیید کلٍّ منهما بعدم صرفها فی الآخر یتم التخییر . فأشکل علیه المیرزا بأنه : مع عدم صرف القدرة فی الأهم لا بدّ من صرفها فی المهم ، و إلّا یلزم تفویت مصلحة ملزمة مع القدرة علی استیفائها ، و هذا هو الترتب .

إشکال المحقق الأصفهانی

و قد أورد المحقق الأصفهانی (1) علی المقدمة الرابعة بأُمور ، نتعرّض لما

ص:217


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 239 .

یتعلّق منها بالموضوع ، و هو اشکالان :

الإشکال الأول و هو ذو جهتین :

إحداهما : إن المیرزا جعل محذور الترتب لزوم تحصیل الحاصل ، و لزوم الجمع بین النقیضین فی مورد تقیید المطلوب ، و الحال أن البحث فی الترتب هو فی تقیید الطلب لا المطلوب .

قال الأُستاذ :

هذا الإشکال وارد علی المیرزا بالنظر إلی کلامه فی الدورة الأولی کما فی ( فوائد الأُصول ) تقریر المحقق الکاظمی (1) . أمّا فی الثانیة - کما فی ( أجود التقریرات ) - فقد طرح البحث فی تقیید الطلب .

الثانیة : إن المحذور لیس الأمرین المذکورین ، بل هو استلزام الترتّب علیّة الشیء لنفسه ، و تقیید العلّة بعدم معلولها ، فهذان هما المحذوران ، لا ما ذکرهما المیرزا . و توضیحه :

إن المیرزا یقول : بأنّ الطلب إنْ تقیّد بوجود متعلّقه لزم تحصیل الحاصل ، و إن تقیّد بعدمه و ترکه ، کان الطلب مع التقیید بترک المتعلّق جمعاً بین النقیضین .

فقال الأصفهانی : بأنّ القید وجود ناشئ من الطلب نفسه ، فالمحذور هو کون الشیء علّةً لنفسه ، لأنّ کلّ قیدٍ و شرط فهو علّة للمقیّد و المشروط ، فلو کان وجود الصّلاة شرطاً لوجوبها - و الوجوب علّة وجودها و تحققها فی الخارج - کان وجودها معلولاً ، من جهة أن العلّة وجوبها ، و علّةً ، لفرض کونها شرطاً لوجوبها .

إذن ، قد أصبح الشیء علّةً لنفسه ، و هذا محذور التقیید ، لا تحصیل الحاصل . هذا من جهة أخذ الوجود .

ص:218


1- 1) فوائد الأُصول (1 - 2) 348 ط جامعة المدرسین .

و لو کان ترک الصّلاة شرطاً للوجوب - و الوجوب علّة لوجودها - کان عدم الصّلاة عدم المعلول ، لکنّ هذا العدم قد فرض جعله شرطاً للأمر و الوجوب الذی هو علّة لوجود الصّلاة ، فاللّازم أن یکون عدم المعلول علّة و شرطاً لوجود علّة هذا المعلول . ثم أمر المحقق الأصفهانی بالتدبّر فإنه حقیق به .

قال الأُستاذ

لم یکن المیرزا فی مقام استقصاء جمیع المحاذیر ، هذا أوّلاً . و ثانیاً : إن ما ذکره - من عدم لزوم تحصیل الحاصل هنا ، بل المحذور علیّة الشیء لنفسه ، لأنّ الوجود المأخوذ شرطاً أو قیداً وجود معلول لنفس هذا الوجوب لا وجوب آخر ، لیلزم محذور تحصیل الحاصل - فی غیر محلّه ، لأن المیرزا لم یقل بأنّ قید الوجوب ناشئ من نفس هذا الوجوب ، بل قال : بأنّ تقیید الوجوب و اشتراطه بوجود المتعلّق تحصیل للحاصل ... فلا وجه لحصر الإشکال بما ذکر المحقق الأصفهانی .

و علی الجملة ، فإن مقصود المیرزا هو أن تقیید وجوب الأهم بفعله محال ، و إذا استحال التقیید استحال الإطلاق ، لکون النسبة بینهما عنده نسبة العدم و الملکة . و المحقق الأصفهانی یری النسبة بینهما نسبة السلب و الإیجاب بوجهٍ و العدم و الملکة بوجه .

و تلخّص عدم ورود هذا الإشکال .

الإشکال الثانی و قد تبعه المحقق الخوئی :

إن محذور لزوم تحصیل الحاصل أو طلب النقیضین موجود فی طرف التقیید بالوجود أو العدم ، أما فی طرف الإطلاق فلا ... لأنّ التقیید لحاظ الخصوصیّة و أخذها ، و الإطلاق عبارة عن لحاظ الخصوصیّة و عدم أخذها ، نعم ،

ص:219

لو کان أخذ الخصوصیّات و جمعها کان اللازم أحد المحذورین المذکورین ...

وعلیه ، فالإطلاق ممکن ، بل هو واجب ، لکون النسبة بینه و بین التقیید نسبة السلب و الإیجاب .

وعلیه ، فإن اقتضاء الأمر بالأهم لفعل الأهم یکون بإطلاقه عند المحقق الأصفهانی ، لا باقتضاء ذاته کما هو عند المیرزا ، و لا یخفی الفرق ، إذ علی الأوّل یکون الاقتضاء مجعولاً للشّارع ، و علی الثانی فهو غیر مستند إلی الشارع بل هو اقتضاء العلیّة و المعلولیّة .

قال الأُستاذ

إن الفعل و الترک إن کانا من الانقسامات المتفرّعة علی الخطاب ، أمکن التقیید بهما أو لحاظهما و جعل الخطاب لا بشرط بالنسبة إلیهما ، و هذا معنی الإطلاق ، و إن لم یکونا من الانقسامات المتفرّعة علیه ، فلا یمکن التقیید بأحدهما ، فالإطلاق ضروری علی مبنی المحقق الأصفهانی ، لکون النسبة هی السلب و الإیجاب .

و لمّا کان حقیقة الإطلاق هو عدم الأخذ للخصوصیّة ، و جعل نفس الذات مرکباً للحکم ، فلا محذور فی الإطلاق هنا ، وفاقاً للمحقق الأصفهانی و خلافاً للمیرزا ... .

و ینبغی الالتفات إلی أن المیرزا قد ذکر أن الأمر بالأهم موجود فی حال العصیان إلّا أنه بلا اقتضاءٍ و داعویّة ، و المحقق الأصفهانی لم یتطرّق إلی هذه النکتة و کأنه موافق علیها .

المقدمة الخامسة

( فی تشخیص محلّ الکلام فی بحث الترتّب )

إن القول بالترتب لا یترتب علیه محذور طلب الجمع بین الضدّین - کما

ص:220

توهّم - فإنه إنما یترتب علی إطلاق الخطابین دون فعلیّتهما . و بیان ذلک :

إن الشرط الذی یترتّب علیه الخطاب ، إمّا أن لا یکون قابلاً للتصرّف الشرعی ، لخروجه عن اختیار المکلّف بالکلیّة ، کالزّوال بالنسبة إلی الصّلاة ، و إمّا أن یکون قابلاً لذلک ، کالاستطاعة بالنسبة إلی الحجّ ، فإن للشارع أن یتصرّف فیه بأن یوجب - مثلاً - أداء الدین ، فیرتفع الاستطاعة بحکم الشارع و یسقط وجوب الحج .

ثم إن الشرط یکون تارةً : شرطاً للحکم بحدوثه و أُخری : ببقائه و ثالثةً :

بوجوده فی برهةٍ من الزمان . مثلاً : فی باب الحضر و السفر قولان ، فقیل : الشرط للقصر هو السّفر ، و یکفی حدوثه فی أوّل الوقت ، فمن کان مسافراً فی أول وقت الصّلاة وجب علیه القصر ، و إن کان حاضراً فی بلده فی آخره . و قیل : لا یکفی الحدوث بل الشرط کونه مسافراً حتی آخر الوقت .

ثم إنّ الموارد تقبل التقسیم إلی قسمین بلحاظ حال المکلّف و اختیاره و ینقلب الحکم بتبع ذلک ، کما لو کان حاضراً فسافر أو العکس ، فإنّ الحکم الشّرعی ینقلب قصراً أو تماماً ، أمّا فی مثل الاستطاعة فلا خیار للمکلّف ، فإنه إذا حصل استقرّ الحج شاء أو أبی .

و الخطاب الشرعی أیضاً ینقسم تارةً : إلی الخطاب الرافع للموضوع بنفسه ، فلا دخل لإطاعة الخطاب ، و أُخری : یکون الرافع له امتثال الخطاب و إطاعته ، کما فی مسألة أرباح المکاسب ، فإن الربح موضوع لوجوب الخمس ، فإن أوجب الشارع علی المکلّف أداء دیون تلک السنة من الأموال الحاصلة فیها - لا السنین الماضیة - فإنّ نفس هذا الخطاب یرفع موضوع الخمس .

هذا ، و المهم فی موارد الترتّب أن یکون رفع الموضوع بامتثال الخطاب ،

ص:221

لا أن یکون أصل وجود الخطاب رافعاً - کما تقدّم - فإن التزاحم ینتفی حینئذٍ و لا یبقی موضوع للترتب ، لأنه فرع التزاحم بین الخطابین ، فلا بدّ من وجوده حتی نری هل یرتفع باشتراط أحدهما بعصیان الآخر أو لا ؟

ثم إن هنا قاعدةً و هی : إنه لو حصل خطاب فی موضوع خطابٍ آخر ، فإمّا أن یمکن اجتماع متعلّقی الخطابین ، فلا بحث ، کما لو جاء فی موضوع وجوب الصّلاة ، - و هو أوّل الفجر - وجوب الصّوم أیضاً ، فیکون أوّل الفجر موضوعاً لکلیهما و لا تمانع بینهما ، و إمّا لا یمکن و یقع التمانع ، فعلی الحاکم لحاظ الملاکین و تقدیم الأهم و إلّا فالتخییر .

فإن کان لکلٍّ من المتعلّقین ملاک تام و وقع الإشکال فی مرحلة الخطاب ، من حیث القدرة و عدمها عند المکلّف علی الامتثال ، کان أحد الحکمین رافعاً لموضوع الآخر بامتثاله ، لفرض عدم القدرة علی امتثالهما معاً ، و بقطع النظر عن الامتثال یکون الموضوع باقیاً ، إلّا أن القدرة الواحدة لا تفی لامتثال الحکمین . فإن لزم من الجمع بینهما طلب الجمع بین الضدین ، فلا مناص من الأخذ بالأهم و ینعدم الخطاب بالمهم ، أما إن کانا متساویین و لا أهم فی البین ، فالخطابان کلاهما ینعدمان و یستکشف خطاب واحد تخییری ، و إن لم یلزم منهما طلب الجمع بین الضدّین - و المفروض وجود الملاک التام لکلّ منهما - وجب وجودهما ... و هذا معنی قولهم : إن إمکان الترتّب مساوق لوجوبه .

إنما الکلام - کلّ الکلام - فی إثبات عدم لزوم الجمع . و قد أقام المیرزا ثلاثة براهین علی ذلک .

و قد ذکر قبل الورود فی المطلب ما هو المنشأ للزوم الجمع بین الضدّین ، فقال : بأنّ المنشأ لهذا المحذور هو أحد أُمورٍ ثلاثة :

ص:222

1 - أن یقیّد کلّ من الخطابین بوجود الآخر ، بتقیید المطلوبین أحدهما بالآخر ، کأن یقول : تجب علیک القراءة المقیّدة بالصّوم ، و یجب علیک الصّوم المقیّد بالقراءة ، أو بتقیید طلب کلٍّ بطلب الآخر ، فوجوب القراءة فی فرض وجود الصّوم و وجوب الصّوم فی فرض وجود القراءة .

فمن الواضح أن تقیید کلٍّ منهما بالآخر یستلزم الجمع بینهما .

2 - أن یقیّد أحدهما بالآخر دون العکس ، کأن یقول : صم . ثم یقول : صلّ إن کنت صائماً . فیلزم الجمع .

3 - أن لا یقیّد شیئاً منهما بل یجعلهما مطلقین ، فیقول : صم ، صلّ ، فکلّ منهما واجب سواء کان الآخر موجوداً أو لا ، فیلزم الجمع فی فرض وجودهما .

و من الواضح استحالة لزوم الجمع لو قیّد أحدهما بعدم الآخر ، کما لو قال :

صم إن لم تقرأ .

و حینئذٍ ، فإن الإشکال علی الترتّب یندفع بإقامة البرهان علی عدم لزوم الجمع ، لأن لزومه یکون إمّا بإیجاب الجمع بعنوانه کأن یقول : اجمع بین کذا و کذا ، و إمّا بإیجاب واقع الجمع ، و ذلک یکون بالأمر بکلیهما علی نحو الإطلاق ، فیلزم الجمع ، أمّا إذا لم یکن هذا و لا ذاک فلا وجه للاستحالة ، و البرهان هو :

أولاً : إنّ المفروض فی الترتب تقیید أحد الخطابین بعصیان الآخر ، فیکون وقوع أحدهما علی صفة المطلوبیّة بنحو القضیّة المنفصلة الحقیقیّة ، لأن الأمر بالأهم إمّا أن یمتثل فی الخارج أو لا ؟ فإن امتثل استحال وقوع المهم علی صفة المطلوبیّة ، و إن لم یمتثل فبما أن متعلّقه لم یوجد فی الخارج ، یستحیل کونه مصداقاً للمطلوب و معنوناً بعنوانه .

و بعبارة أُخری : إن حال الأهم لا یخلو عن أن یوجد خارجاً أو لا یوجد ، فإن

ص:223

وجد ، کان هو الواقع علی صفة المطلوبیّة و لا خطاب بالمهم لانتفاء شرطه أعنی عصیان الأهم ، و إن لم یوجد الأهم و وجد المهم ، کان هو الواقع علی صفة المطلوبیّة ، و إن لم یوجد المهمّ کذلک لم یقع شیء منهما علی صفة المطلوبیة من باب السّالبة بانتفاء الموضوع ... و علی کلّ حال ، یستحیل وقوعهما معاً فی الخارج علی صفة المطلوبیّة ، فیستکشف من ذلک عدم استلزام فعلیّة طلبهما لطلب الجمع .

و توضیحه : إن خطاب المولی ب« صلّ » مشتمل علی نسبتین : نسبة طلبیّة بین المولی و الصّلاة ، و نسبة تلبّسیة هی بین المکلّف و الصّلاة ، و لا تنافی بین هاتین النسبتین ، فکأنه یقول للمکلّف : کن فاعلاً للإزالة أو تجب علیک الصّلاة ، فالمولی آمر بالمهم - و هو الصّلاة - و المکلّف فاعل للأهم - و هو الإزالة - فأین الاجتماع بین النسبتین ؟ بل الاجتماع ضروری الامتناع ! لأنّ واقع الجمع هو فی مطلوبیّة الأهم و المهم - المتضادّین - فی زمانٍ واحد ، لکنّ المفروض فی الترتّب عدم اجتماع فاعلیّة الأهم مع وجوب المهم ، لأنّه لمّا یکون فاعلاً للأهم لا یکون مخاطباً بالمهم ، و عند ما یکون مخاطباً بالمهم و یجب علیه ، لا یکون للأهم فاعلیّة ، فهما لیسا مطلوبین فی وقت واحد لیلزم طلب الجمع بین الضدّین .

و ثانیاً : إن القید یکون تارةً : قیداً للمطلوب کالطهارة بالنسبة إلی الصّلاة و یکون تحصیله واجباً . و أُخری : قیداً للطلب و تحصیله غیر واجب کالاستطاعة فإنه قید لطلب الحجّ لا لنفس الحج .

و قید الطلب لا یکون قیداً للمطلوب .

و هنا : ترک الأهم قید لطلب المهم - و لیس قیداً للمهم نفسه - إذ کان عصیان الأمر بالأهم شرطاً لوجوب المهم و هو الصّلاة ، فهی لیست بواجبة إلّا عند ترک

ص:224

الإزالة ، فالنتیجة ضد إیجاب الجمع ... لأن إیجاب الجمع عبارة عن أن یکون المتضادّان متّصفین بالمطلوبیّة ، و مع الالتفات إلی ما تقدّم یستحیل تحقق المطلوبیّة لهما معاً ، لأن المفروض توقّف اتّصاف المهم بالمطلوبیّة علی ترک الأهم لا علی وجوده ، فشرط مطلوبیّة الصّلاة عدم الإزالة لا وجودها ... و إلّا لزم خلف الشرط ، کما أنه لا یتصف المهم بالمطلوبیّة إلّا مع عدم الأهم ، فلو اتّصف بها مع وجوده ، لزم وجود الأهم و عدمه و هو اجتماع للنقیضین ... فإیجاب الجمع یستلزم الاستحالة من وجهین أحدهما : لزوم الخلف ، و الآخر : لزوم اجتماع النقیضین . و کلّما استلزم المحال فهو محال .

قال الأُستاذ :

فی کلامه نقص لا بدّ من تتمیمه ، إذ للمنکر للترتب أن یقول : حاصل البرهان عدم مطلوبیّة المهم مع وجود الأهم ، لکنّ الأهمّ مع وجود المهم مطلوبٌ ، و ما ذکرتموه لا یثبت استحالة مطلوبیّته . و بعبارة أُخری : إن إطلاق الأهم یقتضی مطلوبیّته مع وجود المهم ، فیلزم اجتماع الضدّین و یعود الإشکال ، و إن کان مندفعاً بالنظر إلی تقیّد المهم بعدم الأهم .

و تتمیم البرهان یکون بالاستفادة ممّا ذکره المیرزا فی المقدمات السابقة ، من أن مطلوبیّة المهم إنّما هی فی حال ترک الأهم ، إذ أصبح ترکه موضوعاً لمطلوبیّة المهم ، و إذا تحقق ترک الأهم تحقق مطلوبیّة المهم فی ظرف عدم الأهم .

هذا تمام الکلام فی مطالب المیرزا فی هذا المقام .

الترتّب ببیان الشیخ الحائری :

و الشیخ عبد الکریم الحائری ذکر فی ( الدرر ) (1) مستفیداً من المحقق السیّد

ص:225


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 140 ط جامعة المدرسین .

الفشارکی أربع مقدّماتٍ ، و قد شارک المیرزا فی بعض الخصوصیّات ، کقولهما بکون الأمر بالمهم مقیّداً - خلافاً للمحقّق العراقی القائل بأنّه مطلق ، کما سیأتی - و نحن نتعرّض للمقدّمتین الأولی و الثانیة ، و حاصل کلامه فیهما :

إن الإرادة المتعلّقة بالعناوین تنقسم إلی قسمین ، فقد تکون مطلقةً لم یؤخذ فیها أیّ تقدیر ، بل الشیء یجب إیجاده بجمیع مقدّماته ، کأن یرید إکرام زید بلا قیدٍ ، فهذه إرادة مطلقة تقتضی تحقّق الموضوع و هو مجیء زید لیترتب علیه إکرامه . و قد تکون الإرادة علی تقدیرٍ ، وجودی أو عدمی ، فتکون منوطةً بذلک التقدیر ، فلو لم یتحقّق التقدیر فلا إرادة بالنسبة إلیه ... و تنقسم هذه الإرادة إلی ثلاثة أقسام بحسب حصول التقدیر الذی أُنیطت به :

فتارةً : تتعلّق بالشیء بعد حصول التقدیر ، کتعلّقها بإکرام زید علی تقدیر مجیئه . و ثانیةً : تتعلّق به عند حصوله ، کتعلّقها بالصوم عند الفجر . و ثالثةً : تتعلّق به قبله ، کتعلّقها بالخروج إلی استقبال زید الذی سیصل إلی البلد بعد ساعات مثلاً .

ففی هذه الأقسام تکون الإرادة منوطة بالتقدیر ، فإذا علم به کان لها الفاعلیّة ، کما لو علم بوقت قدوم المسافر خرج إلی استقباله ، و لو علم بالفجر صام ، و لو علم بالمجیء أکرم ... فکان للعلم بالتقدیر دخل فی فاعلیة الإرادة و تأثیرها .

و هذه هی المقدمة الأولی ... و نتیجتها فی الترتب هو :

إنّ الإرادة المتعلّقة بالأهم مطلقة و لیس فیها تقدیر ، و المتعلّقة بالمهم منوطة غیر منوطة بتقدیر ترک الأهم ، و موجودة قبل حصول التقدیر المذکور ، غیر أنّ فاعلیّتها متوقّفة علی حصوله . و علی هذا ، فمورد الترتب فی طرف الأهم من قبیل الإرادة المطلقة ، و من طرف المهم من قبیل الإرادة المنوطة ، فکما لا فاعلیّة لإرادة الصّوم قبل طلوع الفجر ، کذلک لا فاعلیّة لإرادة الصّلاة قبل ترک إزالة النجاسة من

ص:226

المسجد ، بل عند تحقق ترکها تتحقّق الفاعلیّة بالنسبة إلی الأمر بالمهم .

قال الأُستاذ :

و هذا بیانٌ آخر لمطلب المیرزا ، غیر أنه قال : بأنّ الأمر بالمهم لا تحقّق له ما لم یتحقق الشرط - و هو ترک الأهم - فلا فعلیّة له و لا فاعلیة ، و الحائری یقول بوجود الفعلیّة له ، و إنما الفاعلیّة منوطة بترک الأهم .

و قد خالفا صاحب الکفایة ، إذ جعل الترک شرطاً متأخّراً ، و قد جعلاه مقارناً ، غیر أنّه عند المیرزا هو شرط مقارن للفعلیّة فما لم یتحقق فلا فعلیّة ، و عند الحائری هو شرط مقارن للفاعلیّة فما لم یتحقق فلا فاعلیّة ، أمّا الفعلیّة فهی محققة قبل الشرط للأمر بالمهم کما هی محقّقه للأمر بالأهم .

ثم ذکر الشیخ الحائری فی المقدّمة الثانیة : إنه لمّا کانت الإرادة فی المهم منوطةً بالتقدیر ، فإنه یستحیل تحقق الفاعلیّة لها قبل تحقّقه ، فلیس لها أی تأثیر فی تحرّک العبد إلا بعد تحقق التقدیر ، إذ لو فرض لها فاعلیّة قبله للزم الخلف و هو محال .

قال :

قد توافق الشیخ الحائری و المحقق العراقی علی أن حقیقة الواجب المشروط هی الإرادة المنوطة ، و قد أخذا هذا من فکر السید المحقّق الفشارکی ، و السرّ فی الالتزام بذلک فی الواجب المشروط هو : إنه إذا قال : إذا زالت الشمس فصلّ ، فهل قبل الزوال یوجد إیجابٌ و وجوبٌ أو کلاهما یحصلان عند الزوال ، أو یحصل الإیجاب بهذا الإنشاء و الوجوب عند الزوال ؟

فإن قلنا : بحصولهما عند الزوال ، فالإنشاء قبله لغو . و إن قلنا : بحصول الإیجاب عند الإنشاء و الوجوب عند الزوال ، لزم التفکیک بین الإیجاب

ص:227

و الوجوب .

فتعیّن القول بحصولهما عند الانشاء ... و هذا هو الواجب المشروط . لکن یرد علیه :

أوّلاً : إن هنا إرادة قد أُنیطت بقیدٍ و تقدیرٍ ، و معنی الإناطة هو الابتناء و الاشتراط ، فإن لم یکن للقید دخلٌ فی الإرادة فهی مطلقة و لا إناطة ، و إن جعل دخل القید فی الفاعلیة فقط ، لزم أن تکون الإرادة مطلقةً کذلک . فلیس الواجب مشروطاً بل هو مطلق ... نعم ، للمحقق الحائری أن یقسّم الواجب المطلق إلی قسمین ، أحدهما : ما کانت للإرادة فیه فعلیّة بلا فاعلیّة ، و الآخر : ما کانت للإرادة فیه فعلیّة و فاعلیّة .

و ثانیاً : إنّ شروط الوجوب تختلف عن شروط الواجب ، لأنّ شروط الوجوب لها دخل فی الغرض من الحکم ، فما لم یتحقق الشرط فلا غرض ، کالزوال بالنسبة إلی الصّلاة ، و شروط الواجب لها دخل فی فعلیّة الغرض ، کالطهارة بالنسبة إلی الصّلاة ، إذ الغرض من الصّلاة موجود سواء وجدت الطهارة أو لا ، لکنّ فعلیّة الغرض موقوفة علیها .

و علی ما ذکره من تحقّق الإرادة و فعلیتها فی الواجبات المشروطة قبل حصول الشرط ، یلزم تخلّف الإرادة عن الغرض ، فکیف تتحقّق الإرادة و الغرض غیر حاصل لکونه مشروطاً بشرط غیر حاصل ... و بعبارة أُخری : کیف تتحقّق الإرادة مع العلم بعدم تحقق الغرض و الحال أنّ الإرادة تابعة للغرض ؟

إیراد المحقق الأصفهانی و جوابه :

و أمّا إیراد المحقق الأصفهانی : بأن تخلّف الإرادة عن المراد محال ، سواء کانت الإرادة تکوینیّة أو تشریعیّة ، لأنّ الإرادة التکوینیّة هی الجزء الأخیر للعلّة

ص:228

التامّة ، و التشریعیّة هی الجزء الأخیر لإمکان البعث ، و لا یتخلّف إمکان البعث عن امکان الانبعاث .

فقد أجاب الأُستاذ عنه : بأنه یبتنی علی إنکار الواجب المعلّق و عدم تخلّف البعث التشریعی عن الانبعاث ، و قد تقدّم فی محلّه إثبات الواجب المعلّق و إمکان التخلّف فی التشریعیّات ... فمن الممکن أن یکون الوجوب حالیّاً و الواجب استقبالیّاً .

الترتّب ببیان المحقق العراقی :

و قد جوّز المحقق العراقی (1) طلب الضدّین بنحو العرضیّة مضافاً إلی جواز ذلک بنحو الترتب ، خلافاً للمحققین الآخرین ، إذ خصّوا ذلک بالترتب فقط ، و نحن نذکر محصّل کلامه فی کلتا الجهتین کما فی ( نهایة الأفکار ) :

أمّا تصویره طلب الضدّین علی نحو العرضیّة ، فقد ذکر أنّ الأهم و المهم یُطلبان فی عرض واحدٍ - و بلا تقیید لا فی الطلب و لا فی المطلوب - إلّا أنّ إیجاب الأهمّ تام ، و إیجاب المهمّ ناقص .

و الأصل فی هذه النظریّة هو المحقق صاحب الحاشیة فی تعریف الواجب (2) التخییری ، فقد ذهب إلی أنّه أمر بالشیء مع النهی عن بعض أنحاء التروک ، فی قبال الواجب التعیینی فهو الأمر بالشیء مع اقتضائه للنهی عن جمیع أنحاء التروک ، و ذلک : لأن لکلّ وجوب تروکاً متعددةً بالنظر إلی مقدّماته و أضداده ، فالصّلاة تنتفی بانتفاء الطهارة التی هی من شروطها ، و بوجود المزاحم ، فیکون وجود الصّلاة موقوفاً علی وجود شرائطها و عدم جمیع الموانع لها ،

ص:229


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 375 ط جامعة المدرّسین .
2- 2) هدایة المسترشدین : 247 ط حجری .

و یتعدّد عدمها بعدد کلّ مقدمةٍ مقدمةٍ إذا عدمت ، و بعدد کلّ مزاحم مزاحم إذا وجد ... و علی هذا ، فالواجب المطلق ما انسدّ فیه جمیع الأعدام ، و مقتضی تعلّق الطلب به هو سدّ أبواب الأعدام کلّها . و کذلک الواجب التعیینی ، فهو یقتضی سدّ التروک ، لأنّ ترک العتق یتحقّق بترک الصوم و بفعل الصوم ، فإذا وجب العتق علی نحو التعیین ، کان وجوبه مقتضیاً لانتفاء ترکه مع فعل الصوم و انتفائه مع ترک الصوم . لکنه إذا وجب علی نحو التخییریة یسدّ باب ترکه مع ترک الصوم لا مع فعله ، إذ له أن یصوم و لا یعتق ... فهذا معنی أنّ الواجب التخییری هو الأمر بالشیء مع النهی عن بعض أنحاء ترکه .

و نتیجة هذا التحقیق فی حقیقة الوجوب التخییری هو أن متعلّق الطلب فیه هو الحصّة الملازمة لترک العدل ، فمتعلّق الطلب فی العتق مثلاً هو الحصة الملازمة لترک الصوم و الإطعام ، دون الحصّة الملازمة لفعلهما . و من هنا اتّخذ المحقق العراقی مصطلح الحصّة التوأمة .

و علی ضوء ما تقدم ، قال هنا :

إنّ الضدّین إمّا لا ثالث لهما کالحرکة و السکون ، و إمّا لهما ثالث کالصّلاة و الإزالة .

فإن کانا من قبیل الأول ، فالتخییر الشرعی مستحیل بل هو تخییر عقلی من باب لابدیّة أحد الأمرین ، إذ التخییر الشرعی إنما یکون حیث یمکن ترک کلا الطرفین و لا یکون أحدهما قهری الحصول ، فلیس الحرکة و السکون من موارده .

و إن کانا من قبیل الثانی ، فالمجموع مقدور علی ترکه و لیس شیء منه بقهریّ الحصول ، و حینئذٍ ، فالحکم هو التخییر شرعاً ، لأن المفروض إمکان استیفاء الملاک بکلٍّ من الطرفین ، فمع أن ملاک الصّوم یغایر ملاک العتق ، و بینهما

ص:230

تضاد ، لکن مجموع الملاکات یمکن استیفاؤه کما یمکن تفویته ، فلو لم یجعل الشارع خطاباً تخییریاً لزم انتفاء المجموع ، و جعل الخطاب التعیینی غیر ممکن ، لفرض التضادّ بین الملاکات ، فیجب وجود الخطاب التخییری ... و من هنا یقول هذا المحقق : إن المجعول فی الواجبات التخییریة متمّم الوجود و الوجوب ، لأنّ الوجوب فی کلّ فردٍ من التخییری ناقص - بخلاف الوجوب فی الواجب التعیینی - إذ ینسد باب العدم عن أحد الفردین حیث یترک الفرد الآخر ، أمّا مع فعله فلا یلزم سدّ باب العدم .

و المهم أن نفهم کیفیة الوجوب التخییری ، و أنه کیف یکون أحد الوجوبین فی الأهم و المهم ناقصاً ، و یکون کلاهما تامّاً فی المتساویین ؟

یقول : إن الضدّین إمّا متساویان فی الملاک و إمّا مختلفان ، و الواجبان إمّا مضیّقان و إمّا موسّعان ، و إمّا أحدهما مضیّق و الآخر موسّع .

فإن کانا مضیّقین و تساویا فی الملاک - و لا أهم و مهم - احتمل اشتراط الطلب فی کلّ منهما بترک الآخر ، و احتمل اشتراط المطلوب فی کلّ منهما بترک الآخر ، لکنّ کلیهما مستحیل ، و ینحصر الأمر بکون وجوبهما وجوباً ناقصاً .

و وجه الاستحالة هو : أنه لو کان الغریقان متساویین فی الملاک و لا یمکن انقاذهما معاً ، فإن اشتراط طلب انقاذ هذا بترک انقاذ ذاک محال ، لأنه إن ترک انقاذ کلیهما تحققت المطاردة بین الطلبین ، لحصول شرط وجوب کلٍّ من الطلبین بترک کلیهما ، و یصبح الطلبان فعلیین ، و الطلبان الفعلیّان مع وحدة القدرة محال .

و اشتراط طلب انقاذ کلٍّ منهما بمعصیة الأمر بإنقاذ الآخر محال کذلک ، للزوم تأخّر المتقدّم بمرتبتین ، لأن المفروض کون طلب انقاذ هذا مشروطاً بمعصیة طلب إنقاذ الآخر ، و المعصیة متأخّرة عن الطلب ، و المشروط متأخّر عن الشرط ،

ص:231

فکلّ طلبٍ متأخّر بمرتبتین و متقدّم بمرتبتین ، و هذا محال .

فتحصّل : استحالة اشتراط طلب أحد الضدّین المتساویین ملاکاً بترک الآخر أو بمعصیة الأمر المتعلّق بالآخر .

فلا یمکن أن یکون الطلب مشروطاً .

و أمّا المطلوب فکذلک ، لأن المطلوب - و هو الواجب - متأخّر عن الشرط ، فلو اشترط المطلوب الواجب - و هو إنقاذ هذا الغریق - بترک إنقاذ الآخر ، کان المطلوب متأخّراً عن الترک ، و الترک یتقدّم علی وجود الإنقاذ تقدّم الشرط علی المشروط ، لکن وجود إنقاذ هذا متّحد رتبةً مع ترک إنقاذ الآخر و کذا العکس ، لکون النقیضین فی مرتبةٍ واحدة .

فتکون النتیجة تأخّر وجود هذا الإنقاذ عن وجود انقاذ الآخر ، و قد عرفت تأخّر وجود الآخر عن وجود هذا کذلک ... فیستحیل اشتراط الواجب بترک الواجب الآخر .

و هکذا الحال لو اشتراط الواجب المطلوب بمعصیة الأمر المتعلّق بالمطلوب الآخر ، لما ذکرناه فی اشتراط الطلب بمعصیة طلب الآخر .

و إذا استحال اشتراط الطلب و اشتراط المطلوب ، فلا مناص من الالتزام - فی المضیّقین المتّحدی الملاک - بوجوبین ناقصین ، و المقصود هو : إن کلّاً من الإنقاذین واجب ، بحیث یطرد هذا الوجوب عدم نفسه إلّا من جهة وجود انقاذ الآخر ، فلو أنقذ الغریق الآخر لم یجب انقاذ هذا ، و کذا العکس .

قال : إنّ وجوب شیء علی تقدیر وجود شیء آخر ، - کما لو وجب إکرام زید علی تقدیر مجیئه - هو فی الحقیقة إلزام من جهةٍ و ترخیص من جهة أُخری ، إذ الإکرام یکون واجباً إن جاء ، و یکون مرخّصاً فیه فی فرض عدم مجیئه ، فاجتمع

ص:232

الإلزام مع الترخیص فی الترک ، و کذلک یمکن أن یجتمع الإلزام بفعل شیء مع الإلزام بترک نفس الشیء ، لأنّ کلّ شیء له أضداد و موانع عن وجوده ، فیصح الإلزام بفعل شیء علی تقدیر وجود ضد من أضداده ، و الإلزام بترک الشیء نفسه علی تقدیر وجود ضد آخر ، کأن یلزم بإتیان الصّلاة علی تقدیر النوم ، بمعنی أن النوم لا یرفع وجوب الصّلاة ، و أن یلزم بترک الصّلاة علی تقدیر ضدّ آخر و هو الإزالة ، بمعنی أنه مع الإتیان بالإزالة مأمور بترک الصّلاة .

فظهر إمکان الأمر بالضدّین المتساویین فی الملاک بالوجود و الوجوب الناقص .

و أما إنْ کانا غیر متساویین ، بل کان أحدهما أهم من الآخر فکذلک ... لما تقدّم من أن للشیء أنحاء من العدم بأنحاء الإضافات و الأضداد و المقدّمات ، فلو حصل التمانع بین طلب الإزالة و طلب الصّلاة ، و کانت الإزالة أهم ، تحقق للصّلاة عدم من ناحیة وجود الإزالة ، و عدم من ناحیة وجود غیر الإزالة کالأکل و النوم و غیرهما .

إلّا أنه لمّا کان المفروض کون طلب الصّلاة ناقصاً ، کان المقصود هو عدم مطلوبیّة الصلاة فی حال تحقق الإزالة ، لکنّها مطلوبة من ناحیة وجود غیر الإزالة من الأضداد ، فاجتمع فی طلب الصّلاة جهة الإلزام بفعلها و الإلزام بترکها . أمّا الإلزام بفعل الصّلاة فمن غیر ناحیة وجود الإزالة ، و أما الإلزام بترکها فمن ناحیة وجود الإزالة ... هذا بالنسبة إلی طلب الصّلاة .

و أمّا الإزالة - و هی الأهم - فإن طلبها تام و لیس بناقص ، فهو یریدها من جمیع النواحی ، أی یرید الأعدام کلّها ، عدم الصّلاة ، عدم الأکل ، عدم النوم ... فقد توجّه الأمر بالإزالة بهذا الشکل ... .

ص:233

و بهذا البیان لا یلزم أیّ محذور من أن یجتمع الأمر بالضدّین - الإزالة و الصّلاة - و یکونا فی عرضٍ واحد ... لأن المحذور لا یکون إلّا فی مرحلة الاقتضاء أو فی مرحلة الامتثال و الطاعة ، و مع کون أحد الطلبین تامّاً و الآخر ناقصاً فلا یلزم أیّ محذور ، لأنّ مقتضی الأمر بالأهم إعدام المهم بلحاظ وجود الأهمّ لتمامیّة اقتضاء وجوده من هذه الناحیة ، بخلاف الأمر بالمهم فلیس له هذا الاقتضاء بالنسبة إلی الأهم ، و إنما یقتضی إعدام الأضداد الأُخری ... فلا مطاردة بین الطلبین ... فی مرحلة الاقتضاء . و کذلک فی مرحلة الامتثال ، لأنّه مع امتثال الأمر بالأهمّ لا یبقی الموضوع للأمر بالمهمّ حتی تصل النوبة إلی امتثاله ، لأنّ الأهمّ یقتضی سدّ باب عدمه من ناحیة المهم ، أمّا الأمر بالمهم فقد کان ناقصاً ، لفرض کونه محفوظاً بالنسبة إلی غیر الإزالة من الأضداد ، أمّا بالإضافة إلی الإزالة فلا ...

اللّهم إلّا أن تصل النوبة إلی إطاعته بالتمرّد و المعصیة للأمر بالأهمّ ، و هذا شیء آخر غیر المطاردة بین الأمرین .

فظهر : أن الأمر بالأهمّ لا یطرد إطاعة الأمر بالمهمّ ، بل إنه مع إطاعة الأمر بالأهم لا یبقی موضوع لطاعة الأمر بالمهم ، و إن الأمر بالمهم لا یطرد إطاعة الأمر بالأهم ، لأن الأهم إن لم تتحقّق إطاعته فذلک علی أثر العصیان لا علی أثر الأمر بالمهم ... .

فلا مطاردة بین الأمرین ، لا اقتضاءً و لا امتثالاً .

إشکال المحقق الأصفهانی

و أورد المحقق الأصفهانی (1) علی نظریة المحقق العراقی بما توضیحه :

إنه إن کان المراد من « التام » و« الناقص » أنّ إمکان الترتّب غیر موقوفٍ علی

ص:234


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 222 - 223 .

اشتراط وجوب المهم و ترک الأهم و عصیانه ، و أنه یمکن بنحو الواجب المعلّق ، فلا حاجة إلی هذا التقریب الغریب ، حیث صوّرتم الحصص للعدم و أنّ للشیء - الذی له وجود واحد - أعداماً عدیدة ، بل نقول : إنه من المعقول أن یکون الوجوب فعلیّاً و یکون الواجب مقیّداً بظرف معصیة الأهم ، کما هو الحال فی کلّ واجب معلّق ، حیث الوجوب مطلق و الواجب حصّة خاصة . هذا أولاً . و ثانیاً : إن کان المقصود أن المهمّ غیر مشروط بمعصیة الأهم ، و أنه یصوّر وجوب المهم بنحو الواجب المعلّق ، فیرد علیکم لزوم التفکیک بین فعلیّة الوجوب و فاعلیّته ، و هذا باطل ، إذ الطلب الفعلی یتقوّم بأن یجعل المولی ما یمکن أن یکون محرّکاً و باعثاً للعبد ، فهذا معنی إمکان الباعثیّة ، لأن العبد لو خلّی عن الموانع یکون للطلب إمکان الباعثیّة له ، فقولکم بوجود الأمر و الطلب و بفعلیّته لکن بلا فاعلیة ، یستلزم التفکیک بین البعث و الانبعاث ، و هذا غیر معقول .

و إن کان المراد من تصویر « التام » و« الناقص » رفع المطاردة و التمانع بین الأهم و المهم ، فهذا غیر متحقّق ، لأن المفروض إطلاق الأمر بالأهم ، فهو موجود فی حال وجود المهم و فی حال عدمه ، و حینئذٍ ، فالحصّة من عدم الأهم الملازمة مع وجود المهم مطرودة من قبل الأهم و لا یبقی الاقتضاء للمهم ، و أمّا الحصّة من عدم الأهم الملازمة لعدم المهم ، فیتحقّق فیها المطاردة . مثلاً : لو ترک الأهم مع عدم المهم لوجود بعض الأضداد الأُخری ، کان الأمر بالمهم مقتضیاً لطرد عدمه من ناحیة غیر وجود الأهم ، لأنه یدعو إلی نفسه من غیر ناحیة الأهم من سائر الأضداد ، لکن الأمر بالأهم موجود بإطلاقه ، فهو یقتضی عدم نفسه ، فالطّرد یحصل من طرف الأهم و المهم کلیهما ، إذ الأهم یقول بطرد عدم نفسه و المهم یقول مع وجود بعض الأضداد الأُخری بطرد عدم نفسه ، و المفروض أن القدرة

ص:235

واحدة و الوقت ضیّق .

دفاع الأُستاذ عن المحقق العراقی

و قد أجاب شیخنا الأُستاذ ، أمّا عن الإشکال الأوّل : فبأنّ المحقق العراقی لا یقصد إثبات المطلب عن طریق الواجب المعلّق ، بل یرید أن هنا طلبین بلا اشتراط من طرف المهم ، و أحدهما تام و الآخر ناقص ، فلا علاقة للبحث بالواجب المعلّق . و بعبارة أُخری : إنه لو أنکرنا الواجب المعلّق فما الإیراد علی نظریّة المحقق العراقی ؟

إنه یقول : بأن أحد الطلبین ناقص و الآخر تام ، أمّا فی الواجب المعلّق فالطلب تام و لیس بناقص ، و إنما المتعلّق له هو الحصّة ... فکم الفرق ؟

هذا أوّلاً . و ثانیاً : إن المحقق العراقی من القائلین بالواجب المعلّق ، فالإشکال علیه من هذا الحیث مبنائی .

و أمّا عن الإشکال الثانی : فبأن معنی « المطاردة » هو « التمانع » و قد بیّن المحقق العراقی عدم حصوله فی مرحلة الاقتضاء و فی مرحلة الامتثال ، فهو یقول باقتضاء الأهم إعدام المهم دون بقیّة أضداد المهم ، إذ لا نظر للأهم إلی الأکل و الشرب و النوم و أمثالها ، و إنما یدعو إلی نفسه و ترک المهم ، و المهم یقتضی الاتیان به من ناحیة بقیّة الأضداد لا من ناحیة وجود الأهم ، فلا تمانع بین الاقتضائین . و کذلک یقول فی مرحلة الإطاعة بمعنی : أن الأهم یدعو إلی نفسه و یرید الإطاعة له ، لکنّ المهمّ لا اقتضاء له للإطاعة مع وجود الأهم ، لأنه مع تأثیر الأهم فی الإطاعة لا یبقی موضوع للأمر بالمهم ، حتی یمکنه طرد الأهم ... و لو فرض سقوط الأمر بالأهمّ علی أثر التمرّد و العصیان له ، فلا فاعلیّة له لیکون طارداً للأمر بالمهم ، لفرض کون الأمر بالأهم منطرداً حینئذٍ - حسب تعبیره - فأین

ص:236

المطاردة ؟

اشکال الأُستاذ

هذا ، و أورد الاستاذ علی المحقق العراقی : بأنّ العمدة فی الفرق بین نظریّته و أنظار المحققین الآخرین هو عدم الاشتراط و التقیید بین الطلبین ، بل إنّ کلاً منهما بالنسبة إلی الآخر مطلق ، غیر أنّ أحد الطلبین تام و الآخر ناقص فالإشکال هو : إنّ الإطلاق و عدم التقیید فی الطلب یرجع إلی المولی ، کما أنّ أصل الطلب یرجع إلیه ، و کما یعتبر فی أصل الخطاب و الطلب أن لا یکون لغواً - لفرض کون المولی حکیماً لا یفعل اللغو - کذلک یعتبر فی الاطلاق وجود الأثر و عدم اللّغویة ، لکنّ وجود الأمر بالمهم مع امتثال الأمر بالأهم لغو ، فلا یمکن أن یکون مطلقاً ، إذ لا أثر لطلبه مع امتثال الأمر بالأهم ، فإمّا یکون الأمر بالمهم مهملاً ، لکن الإهمال أیضاً محال ، و إمّا أن یکون مشروطاً و مقیّداً بترک الأهم ، و هذا هو المعقول و المتعیّن ، فعاد الأمر إلی الترتّب و انتهی الاشتراط الذی هو مبنی المیرزا .

و قد فرغنا - حتی الآن - من طرح نظریّات المیرزا ، و الحائری تبعاً للفشارکی ، و العراقی ... و قد عرفت أن أمتن البیانات هو بیان المیرزا ، و بقی :

الترتب ببیان المحقق الأصفهانی

و قد ذکر تحت عنوان ( و التحقیق الحقیق بالتصدیق ) (1) مقدمتین :

إحداهما : إن ثبوت المقتضیین للضدّین جائز ، و إنما المحال وجود الضدّین ، بل یجب تحقق المقتضیین لهما ، فلو فرض عدم المقتضی لأحدهما لم تصل النوبة فی عدم الضدّ إلی وجود الضدّ الآخر و مانعیّته له ... مضافاً : إلی أن ذلک کذلک فی الوجدان ، إذ الشیء الواحد یمکن أن تتعلّق به إرادة زید و إرادة عمرو

ص:237


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 241 .

فی وقت واحد ، و الجسم الواحد یصلح لأن یکون لونه أسود أو أبیض ... .

و علی الجملة ، فإنه لا تمانع بین المقتضیین ، بل هو بین مقتضی هذا و ذاک .

الثانیة : إن النسبة بین الأمر و إطاعته هی نسبة المقتضی إلی المقتضی ، لا العلّة إلی المعلول ، لأنه لو کان من قبیل العلّة و المعلول لکان منافیاً للاختیار ، و الحال أن اختیار المکلّف محفوظ ، و أمر المولی إنما هو جعلٌ لما یمکن أن یکون داعیاً و محرّکاً للمکلّف نحو الامتثال ، و لذا تتوقّف فعلیّة الامتثال و تحقّقه علی خلوّ نفس العبد من موانع العبودیّة .

و بعد المقدمتین :

فإن أمر المولی بأمرین ، و لم یکن لأحدهما قید ، تحقّق المقتضی التامّ للفعلیّة لإیجاد الدّاعی فی نفس العبد ، فإذا کان العبد مستعدّاً للامتثال صلح کلّ من الأمرین لأن یصل إلی مرحلة الفعلیّة ، و حینئذٍ ، تقع المطاردة بینهما ... أمّا لو کان أحد الأمرین غیر مطلقٍ . بل علی تقدیر ، - و المقصود هو التقدیر فی مرحلة الاقتضاء لا مرحلة الفعلیّة - فیکون الأمر بالمهم مقدّراً و مقیّداً بسقوط الأمر بالأهم عن المؤثّریة ، بمعنی أن أصل الإنشاء بداعی جعل الدّاعی فی طرف المهم مقیّد بأن لا یکون الأمر بالأهم مؤثّراً ، و حینئذٍ ، یکون الاقتضاء فی أحد الأمرین معلّقاً ، و علی هذا تستحیل المطاردة بینهما ، لأن اقتضاء الأمر بالأهم تنجیزی و اقتضاء الأمر بالمهم تعلیقی ... ففی حال تحقّق الأمر بالمهم یکون الأمر بالأهم منطرداً مطروداً ، فلا تصل النوبة لأن یکون الأمر بالمهم طارداً له .

أقول :

إن هذا الوجه هو عین الوجه الذی ذکره المحقق العراقی ، و قد عرفت ما فیه ، فالصحیح ما ذهب إلیه المیرزا .

ص:238

الکلام فی ما أُشکل به علی الترتّب

اشارة

و الکلام الآن فیما أُشکل به علی القول بالترتّب :

الإشکال الأوّل

فقد قال فی ( الکفایة ) : ثم إنه لا أظن أن یلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق فی صورة مخالفة الأمرین لعقوبتین ، ضرورة قبح العقاب علی ما لا یقدر علیه العبد ، و لذا کان سیدنا الأُستاذ - قدّس سرّه - لا یلتزم به علی ما هو ببالی ، و کنّا نورد به علی الترتّب و کان بصدد تصحیحه (1) .

و توضیحه : إنه علی القول بالترتّب ، یکون هناک تکلیفان وجوبیّان ، أحدهما بالأهم و الآخر بالمهم ، و کلّ تکلیف یستتبع استحقاق العقاب علی ترکه ، ففی صورة مخالفة التکلیفین و ترک الواجبین یستحق العقوبتین ، و الحال أن المکلّف لم یکن له القدرة علی امتثال کلیهما ، فکیف یستحق العقاب علی ترک ما لا یقدر علیه ؟

الجواب

و قد أُجیب عن هذا الاشکال بجوابین : أما نقضاً : فبموردین ، أحدهما : فی الواجب الکفائی ، حیث أنه لو تُرک الواجب کفایةً ، یستحق کلّ المکلّفین به العقاب علیه ، مع أن القیام به لم یکن مقدوراً إلّا لواحدٍ منهم . و المورد الآخر : هو صورة تعاقب الأیدی علی مال الغیر ، فلو أنّ أحداً غصب مالاً ثم انتقل المال إلی

ص:239


1- 1) کفایة الأُصول : 135 .

غیره و منه إلی ثالثٍ و هکذا ، فإن الأیدی المتعاقبة هذه تستحق العقاب علی الغصب ، مع أن الغاصب هو واحد منهم و لیس کلّهم ... .

و أمّا حلّاً : فإنّ تعدّد العقاب لا محذور فیه ، إذ العقاب لیس علی الفعل کی یقال بأن الجمع بین الأهم و المهم فی الإتیان غیر مقدور - لکون القدرة علی أحدهما فقط - بل العقاب هو علی الترک للتکلیف ، و الجمع بین التکلیفین - الأهم و المهم - فی الترک مقدور ، فکان العقاب علی أمرٍ مقدورٍ صادر عن اختیار .

و کذلک الحال فی الواجب الکفائی .

و ببیانٍ آخر : إنّه لمّا ترک الأهم و استحق العقاب علی ترکه ، کان بإمکانه الإتیان بالمهم ، فلمّا ترکه استحق عقاباً آخر غیر استحقاقه له علی ترکه للأهم .

و تلخص : اندفاع الإشکال ، و حاصله الالتزام بتعدّد العقاب .

قال الأُستاذ

إن ملاک استحقاق العقاب یکون تارةً هو « ترک الفعل المقدور » و أُخری :

« الترک المقدور » ففی الواجب الکفائی یستحق المکلّفون العقاب لتحقّق « ترک فعلٍ مقدور » کدفن المیت أو الصّلاة علیه مثلاً ، فقد کان فعلاً مقدوراً لم یقم به أحد منهم ، فاستحقّوا العقاب علی ترکهم له .

أمّا فیما نحن فیه ، فإن المقدور لیس الفعل ، أی امتثال الأمرین ، بل هو الترک ، فإنّ ترک هذا و ذاک مقدور ، فهما ترکان مقدوران ... .

وعلیه ، فإن کان مناط استحقاق العقاب هو الجمع بین الترکین المقدورین ، فالجواب صحیح ، و یتمّ الالتزام باستحقاق العقابین . و أمّا إن کان المناط فی استحقاق العقاب هو ترک ما هو المقدور ، فالمفروض عدم کون کلیهما مقدوراً لیتحقق الترکان و یُستحق العقابان ... لکن ما نحن فیه من قبیل الثانی ، لأن

ص:240

المطلوب فیه هو الفعل لا الترک . و بعبارة أُخری : إن بحثنا فی الواجب لا الحرام ، و من المعلوم أنّ العقاب فی الواجبات یکون علی ترک الفعل ، و لا بدّ و أن یکون الفعل مقدوراً حتی یجوز علی ترکه ، لکنّ المقدور فعل واحد ، فلیس إلّا عقاب واحد .

و تلخّص : إن العقاب یتبع کیفیّة التکلیف ، فإذا کان مناطه ترک الفعل المقدور - لا الترک المقدور - فإنّ الفعل المقدور واحد و لیس بمتعدّد ، و ترکه یستتبع عقاباً واحداً ، فکیف یلتزم المیرزا و غیره باستحقاق العقابین ؟

و یؤکّد ذلک : إن لازم کلامهم عدم الفرق بین القادر علی امتثال کلا الأمرین التارک لهما ، کما لو قدر علی إنقاذ الفریقان فلم یفعل لهما ، و القادر علی امتثال أحدهما التارک له ، کما لو تمکّن من إنقاذ أحدهما و ترک ، فهل یفتی المیرزا و أتباعه بتساویهما فی استحقاق العقاب ؟

الإشکال الثانی

إنه لا ریب فی استحالة تعلّق الإرادتین التکوینیّتین العرضیین بالضدّین ، و کذا الطولیّتان ، بأن تکون احداهما مطلقة و الأُخری مشروطة ، و وزان الإرادة التشریعیّة وزان الإرادة التکوینیّة ، فإذا استحال الترتّب فی التکوینیّة فهو فی التشریعیّة کذلک .

و الجواب : هو إنّ الإشکال یبتنی علی عدم الفرق بین الإرادتین فی جمیع الأحکام ، لکن لا برهان علی ذلک ، بل هو علی خلافه ، لأن النسبة بین الإرادة و الفعل فی التکوینیّات نسبة العلّة التامّة إلی المعلول ، و لا یعقل تصویر الترتّب هناک ، بأن تکون علّة مطلقة و أُخری مترتبة علیها ، للزوم الخلف . أمّا فی التشریعیّات ، فإنّ الإرادة بالنسبة إلی الفعل من العبد لیست بعلّةٍ تامّة بل هی

ص:241

مقتضیةٌ له ، و أین الاقتضاء من العلیّة التامّة ؟ إن العلّة التامّة لا حالة منتظرة لها ، بخلاف المقتضی فإنّ شرط تأثیره اختیار العبد للامتثال ، فلو لم یتحقّق بقیت الإرادة التشریعیّة فی مرحلة الاقتضاء ، وعلیه ، یصحّ وجود مقتضیین یکون مؤثریّة أحدهما فی تحقّق الفعل متوقّفة علی عدم مؤثریّة الآخر ، کما تقدّم فی تصویر المحقق الحائری للترتب ، أو یکون أصل فعلیّة أحدهما متوقفاً علی عدم مؤثریّة الآخر ، کما تقدّم فی تصویر الترتب علی مسلک المیرزا و هو المختار ...

فقیاس الإرادة التشریعیّة علی التکوینیّة قیاس مع الفارق .

الإشکال الثالث

إن المتلازمین یستحیل اختلافهما فی الحکم ، کأنْ یکون أحدهما واجباً و الآخر حراماً مثلاً ، لأنه یلزم التکلیف بالمحال ، إذ فعل الفرد الواجب یستلزم فعل الآخر الحرام ، و ترک الحرام یستلزم ترک الفرد الواجب .

و علی هذا ، فإن القول بالترتب یستلزم القول بالتکلیف بالمحال ، لأنّ الأمر بالأهمّ یستلزم النهی عن ضدّه العام و هو ترکه ، فیکون ترکه حراماً ، لکنّ ترک الأهمّ ملازم لفعل المهم و هو واجب ، فکان المتلازمان مختلفین فی الحکم ، و هو محال کما تقدّم .

و الجواب : صحیحٌ أنّ الأمر بالأهم یستلزم النهی عن ضدّه العام و هو الترک ، و وجوب المهم مشروط بترک الأهم ، و بینهما تلازم ، لکن حرمة الترک حکم استلزامی ، فوجوب الأهم قد استلزم حرمة ترکه و کانت هذه الحرمة نتیجة لوجوبه ، فإن کان وجوبه بنحو الاقتضاء قابلاً للاجتماع مع وجوب المهم ، کانت الحرمة - التی هی حکم ترک الأهم - قابلةً للاجتماع مع المهم بنحو الاقتضاء ، و لا محذور فی هذا الاجتماع .

ص:242

و علی الجملة ، فإن اجتماع حرمة ترک الأهم مع وجود المهم ، فرعٌ لإمکان اجتماع وجوب الأهمّ مع وجوب المهم ، فإن أمکن الاجتماع بین وجوبهما أمکن بین حرمة ترک ذاک و وجوب هذا ... لکنّ إمکانه فی الأصل تام بالترتّب ، فلا محذور فیه بین الحرمة و الوجوب کما تقدّم .

الإشکال الرابع

إن الفرد المهمّ من المتزاحمین - کالصّلاة مثلاً - إذا وجب بالترتّب حرم ترکه بناءً علی اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن الضدّ العام ، و لا أقلّ من مبغوضیّة الترک ، لکنّ هذا الترک تارةً : هو خصوص ما لا ینتهی إلی فعل الأهم - و هو الإزالة - و تارةً :

یکون أعمّ من الموصل إلی فعل الأهم و غیر الموصل إلیه .

فإن کان المحرّم هو مطلق الترک ففیه :

أوّلاً : إن ذلک ینافی أهمیّة الأهم ، لأن حرمة ترک المهم مطلقاً - حتی المنتهی إلی فعل الأهمّ - معناه رفع الید عن الأهم حتی لا یقع فی ترک الحرام ، و هذا ینافی أهمیّة الأهم .

و ثانیاً : إنه بناءً علی الترتّب ، یکون فعل المهم فی فرض ترک الأهمّ ، فکیف یکون الحرام هو ترک المهم المجامع لفعل الأهم ؟ إذن ... بناءً علی الترتب لا یمکن أن یکون الترک المحرّم للمهمّ هو الترک المطلق .

و إن کان الترک المحرّم هو الترک الذی لا یوصل إلی فعل الأهم ، فهذا أیضاً محال ، لأنّ ترک المهمّ غیر الموصل إلی فعل الأهم إن کان حراماً کان نقیضه واجباً ، و نقیض الترک غیر الموصل هو « ترک الترک غیر الموصل » ، و هذا له لازمان ، أحدهما : فعل المهمّ . و ثانیهما : الترک الموصل لفعل الأهم ، ( قال ) و إنما قلنا بکونهما لازمین و لم نقل بکونهما فردین ، لأنّ « ترک الترک غیر الموصل » أمر

ص:243

عدمی ، و فعل المهم وجودی ، و الوجودی لا یکون مصداقاً للعدم و العدمی ، و إذا کانا من اللّوازم ، فقد ثبت أن حکم الملازم لا یسری إلی الملازم ، فإنّ « ترک الترک غیر الموصل » لمّا کان واجباً ، فإنّ هذا الحکم - و هو الوجوب - لا یسری إلی ملازمه - و هو المهم - فمن المحال أن یکون المهم واجباً . و إذا استحال وجوب المهم بطل الترتب من الأساس .

( قال ) و لو تنزّلنا و قلنا بجواز أن یکون فعل المهمّ مصداقاً « لترک الترک غیر الموصل » فالإشکال موجود کذلک ، لأنّه کما کان فعل المهم مصداقاً فیکون واجباً ، کذلک ترکه الموصل لفعل الأهم مصداق فیکون واجباً ، و إذا تعدّد فرد الواجب کان الوجوب تخییریّاً ، و المفروض فی الترتب کون وجوب المهم تعییناً لا تخییریّاً .

جواب المحقق الأصفهانی

أجاب بأنا نختار کلا الشقّین و لکلٍ ّ جواب .

أمّا الشق الأوّل ، فنسلّم بحرمة نقیض الواجب و وجوب نقیض الحرام ، إلّا أن الواجب هو فعل المهم ، لکن لا فعله علی کلّ تقدیر ، بل علی أحد التقادیر و هو ترک الأهم ، فلا یکون نقیضه الترک المطلق لیشمل الترک المنتهی إلی فعل الأهم ، فکان الحرام هو خصوص ترک المهم الذی هو فی تقدیر ترک الأهم .

جواب الأُستاذ

هذا الذی أفاده المحقق الأصفهانی ناظرٌ إلی الشق الثانی من کلام المیرزا الکبیر ، و الصحیح أن یقال فی الجواب عنه :

أولاً : إنّ الأصل هو وجوب المهم و لیس حرمة النقیض - و إن عکس المیرزا و جعل حرمة النقیض هی الأصل - و وجوبه علی ما تقدّم بالتفصیل مشروط بترک

ص:244

الأهم ، فیقتضی - بناءً علی اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن النقیض - حرمة ترک المهم علی تقدیر حرمة الأهم ، و لا یمکن أن یقتضی حرمة الترک المطلق ، لأنّ المفروض کون الواجب خاصّاً غیر مطلق ، و کما کان الأصل - و هو وجوب المهم - ترتبیّاً فحرمة ضدّه أیضاً ترتبیّة لکونها متفرعةً علیه ... فلا یبقی محذور .

و ثانیاً : لو تنزّلنا ، و جعلنا الأصل حرمة ترک المهم ، و یتفرّع علیه وجوب المهم ، فإنّ الأمر لا ینتهی إلی الوجوب التخییری ، لأنّ الحرام علی القول بالترتّب لیس ترک المهم حتی الترک الموصل لفعل الأهم - لأن هذا خلف فرض الترتّب - بل إن الحرام هو ترکه غیر الموصل لفعل الأهم ، و إذا کان کذلک ، فإنّ نقیضه هو ترک الترک غیر الموصل ، و هذا لا یتحقق إلّا بفعل المهم ، و لا یقبل الاجتماع مع الترک الموصل لفعل الأهم ، فتبیّن أن لیس للّازم أو النقیض فردان ، لیرجع الأمر إلی الوجوب التخییری .

فالصحیح أن نختار هذا الشق و نجیب عنه بما ذکرناه ، فإشکاله غیر وارد حتی لو قلنا باقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن الضدّ العام .

الإشکال الخامس

إذا کان شرط وجوب المهم هو عصیان الأمر بالأهم ، فما المقصود من هذا العصیان ؟ إن کان الشرط هو عصیان الأمر بالأهم بنحو الشرط المقارن ، فهو خلف فرض الترتّب ، و إن کان بنحو الشرط المتأخّر ، فهو یستلزم طلب الضدّین ، و إن کان بالعزم ، فیستلزم طلب الضدّین کذلک ، فالترتّب علی جمیع الاحتمالات غیر معقول .

فإن کان المقصود من الشرط هو الشرط المقارن ففیه :

إن الإطاعة و المعصیة لا یکونان إلا مع فرض الأمر ، فلولا الأمر فلا طاعة

ص:245

و لا معصیة .

فقال المیرزا و غیره : بکون العصیان بنحو الشرط المقارن ، فالأمر موجود و إنّما یسقط بعد العصیان .

لکن المشکلة هی : إن الأمر تابع للملاک ، و هو لا یسقط إلّا إذا سقط و تحقق الغرض أو امتنع حصوله فیستحیل وجود الأمر کذلک ، وعلیه ، ففی ظرف العصیان لا یعقل تحصیل الغرض ، إذ لا یعقل وجود الأمر حینئذٍ .

لا یقال : إنّ امتناع الأمر فی هذا الفرض امتناع بالاختیار ، و هو لا ینافی وجود الأمر ، لأن المنافی لوجوده هو الامتناع الذاتی و الوقوعی ، أمّا الامتناع بالغیر الناشئ من عصیان المکلّف للأمر فلا ینافیه .

لأنا نقول : إن الامتناع بالاختیار لا ینافی العقاب ، أمّا الخطاب و الأمر فإنّه ینافیه ، و مع تعذّر الخطاب الناشئ من اختیار العبد ، فالأمر لغو ، لکونه معلولاً للملاک ، و أن الغرض من الأمر هو تحصیله .

و تحصّل : إن الإشکال علی تقدیر کون العصیان شرطاً مقارناً باقٍ علی حاله .

و إن کان المقصود من الشرط هو العزم أو العصیان بنحو الشرط المتأخّر ، بناءً علی وجود الأمر مع العصیان ، فالتحقیق أن یقال :

إن أساس الإشکال فی الترتّب هو مؤثّریة کلا الأمرین معاً ، فإن أمکن تصویر عدم کونهما مؤثّرین فکان المؤثر أحدهما دون الآخر ، ارتفع الإشکال ، فبأیّ طریق أمکن حلّ العقدة یثبت الترتّب ، و علی هذا ، فمن عزم علی معصیة الأمر بالأهم بعد الأمر به ، سقط فی حقّه مؤثریّته و وجب علیه الإتیان بالمهم ، و کذا الحال فی تعقّبه بالعصیان بنحو الشرط المتأخّر .

ص:246

و علی الجملة : فإن العمدة سقوط الأمرین عن التأثیر فی عرض واحد ، و هذا یتحقق بالعزم علی عصیان الأمر بالأهم أو اشتراط تعقّبه بالعصیان ، بل و یسقط باشتراط العصیان بنحو الشرط المقارن .

و تلخّص : إن الإشکال فی الترتّب ثبوتاً و سقوطاً یدور مدار مؤثّریة کلا الأمرین ، فلو انتفت بأیّ طریقٍ من الطرق فلا إشکال ، و المختار عند الأُستاذ تصویر الترتّب باشتراط العزم علی العصیان ، فمن کان مستطیعاً و استقرّ الحج علی ذمّته فعزم علی العصیان و ترک الحج ، یسقط الحج عن ذمته بإتیان النائب عنه به ، و إن کان فی أُجرة النائب إشکال ، و بیانه موکول إلی محلّه .

هذا ، فأمّا أن أساس مشکلة الترتّب هو باعثیّة کلا الأمرین و عدم إمکان الانبعاثین - و لیس طلب الضدّین - فإن سقط أحدهما عن الباعثیّة ارتفعت ... فهذا مذکور فی کلام المیرزا و المحقق الأصفهانی و لیس ممّا انفرد به السید البروجردی کما جاء فی تقریر بحثه و فی حاشیته علی الکفایة .

ثم إنّ هناک بحثاً حول کون الشرط هو « العزم » و قد طرحه الاُستاذ فی الدرس و بیّن وجهة نظره فیه ، ترکنا التعرّض له اختصاراً .

ص:247

تنبیهات الترتب

.التنبیه الأول( فی تسریة کاشف الغطاء الترتّب إلی الجهر و الإخفات )

اشارة

و قبل الورود فی البحث نذکّر بمطلبین :

الأول : إنه بعد الفراغ من إمکان الترتّب لا تبقی حاجة إلی بیان وقوعه ، لکفایة الإمکان ، لأنه بعد رفع الید عن إطلاق أحد الدلیلین و هو المهم و تقییده بعصیان الآخر و هو الأهم ، یکون المقتضی لوجوب المهم موجوداً و المانع مفقوداً ، کسائر الموارد .

و الثانی : إن التضاد الواقع بین متعلّقی الدلیلین فی سائر موارد الترتّب هو تضاد اتّفاقی و لیس بدائمی ، لأنه یکون - مثلاً - علی أثر العجز عن امتثال الأمرین کإنقاذ الغریقین حیث لا قدرة - غالباً - إلّا علی أحدهما ... و لکنّ مسألة الجهر و الإخفات لیست من هذا القبیل ، فالتضادّ بینهما دائمی ، فیقع البحث عن معقولیّة الترتّب فی مثلها ... و تصویر ذلک هو :

إن الجاهل المقصّر یستحق العقاب بلا کلام ، و عباداته محکومة بالبطلان ، فإن انکشف وقوع العمل علی خلاف الواقع فهو غیر مجزٍ ، و عدم الإجزاء حینئذٍ واقعی ، و إن لم ینکشف ذلک کان غیر مجزٍ ظاهراً ، حتی یتبیّن مطابقة عمله للواقع و عدمها ، إن تمشّی منه قصد القربة فی هذه الحالة .

لکنهم حکموا بالإجزاء فی موردین ، أحدهما : الجهر و الإخفات ، و الآخر :

القصر و التمام ، لوجود النصوص بإجزاء الإخفات فیما ینبغی الجهر فیه و بالعکس ، و مع ذلک حکموا باستحقاقه العقاب للتقصیر ، فوقع البحث بینهم فی کیفیة الجمع بین الإجزاء و استحقاق العقاب ، و ذکروا لذلک وجوهاً .

ص:248

منها : ما جاء فی ( کشف الغطاء ) (1) علی أساس قانون الترتّب ، فقال :

إن الخطاب المتوجّه أوّلاً إلی هذا الجاهل المقصّر فی تعلّم الحکم ، هو الجهر فی القراءة فی الصّلاة الجهریّة ، فإن عصی فالواجب علیه هو القراءة إخفاتاً ... و کذا بالعکس فی الصّلاة الإخفاتیة .

و کذا الکلام فی مسألة القصر و الإتمام .

فالصّلاة صحیحة ، لکنه عاصٍ یستحق العقاب ، لأنه قد ترک المأمور به الأهمّ .

قال کاشف الغطاء : بل لا بدّ من تطبیق ذلک علی سائر الفروع فی مختلف الأبواب الفقهیّة ، و إلّا لزم الحکم ببطلان أکثر عبادات المکلّفین . مثلاً : لو کان فی ماله الخمس أو الزکاة ، فلم یؤدّ عصیاناً و صلّی ، صحّت صلاته من باب الترتّب .

و کذا فی الحج و غیره ، و تصویر ذلک هو : إن الواجب علیه أداء الدّین أو دفع الخمس أو الزکاة أو الذهاب للحج أو النفقة ، فإن عزم علی المعصیة فالصّلاة واجبة علیه و مجزیة . و کذا أمثالها . هذا کلامه رحمه اللّٰه ... .

و قد نقله الشیخ فی خاتمة البراءة و الاشتغال ، فی أحکام الجاهل المقصّر ، ثم قال : بأنا لا نعقل الترتّب فی هذه المسائل ، إذ کیف یصدر من المولی الأمر بشیء مشروط بمعصیة أمرٍ آخر ، و المکلّف بعد غیر عاصٍ للأمر الأول ؟

فقال المیرزا رحمه اللّٰه : نحن نعقل الترتّب ... غیر أنّ الإشکال علی کاشف الغطاء فی الصغری .

قال الأُستاذ : الظاهر من الشیخ هو الموافقة علی الصغری ، غیر أنه ینکر هنا الترتّب کبرویّاً .

ص:249


1- 1) البحث رقم (18) من مباحث مقدمة کشف الغطاء .

إشکالات المیرزا علی کاشف الغطاء

و قد أشکل المیرزا من الناحیة الصغرویّة بوجوه (1) :

الأول : إنه قد وقع الخلط علی کاشف الغطاء بین التزاحم و التعارض ، لأنّ بحث الترتب من صغریات التزاحم ، و مسألة الجهر و الإخفات من صغریات التعارض .

تشیید الأُستاذ الإشکال الأوّل

توضیحه : إن قوام باب التزاحم هو أن یکون کلّ من المتعلّقین ذا ملاک و تکون المصلحة تامّةً فیهما ، فلا مشکلة فی مقام الجعل ، و إنما هی فی مقام الامتثال ، من جهة العجز عن تحصیل کلا الملاکین ، فإن کان أحدهما أهم من الآخر تقدّم من باب الترتب . بخلاف باب التعارض ، فإنّه لا یوجد ملاک لأحد الخطابین ... و مسألة الجهر و الإخفات من هذا القبیل ، إذ لا ملاک لإحدی الصّلاتین - القصریّة و التامّة - فی الیوم الواحد ، فإذا انتفی الملاک عن أحد الفردین ، خرجت المسألة عن باب التزاحم و کانت من باب التعارض .

هذا معنی کلام المیرزا . فلا یرد علیه الإشکال (2) : بأن محذور الترتب هو طلب الضدّین ، و کما یرتفع هذا المحذور فی المتضادّین اتفاقاً ، کذلک یرتفع فی المتضادّین دائماً ، عن طریق الترتّب ... .

وجه الاندفاع هو : أن فی کلام المیرزا نکتةً غفل عنها ، و هی أنه قد نصّ علی قیام الضّرورة علی عدم وجوب صلاتین فی یوم واحدٍ و وقت واحدٍ إحداهما قصر و الأُخری تمام . هذا من جهةٍ . و من جهةٍ أُخری : فقد ثبت فی باب

ص:250


1- 1) أجود التقریرات 2 / 91 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 91 الهامش ، محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 468 .

التعارض : أنه قد یکون بالذات و قد یکون بالعرض ، کأن یقوم دلیلٌ علی وجوب صلاة الظهر فی یوم الجمعة و یقوم آخر علی وجوب صلاة الجمعة ، فتجب صلاتان ، و لکن قد قام الإجماع علی عدم وجوب الصّلاتین فی ظهر یوم الجمعة ، فیقع التعارض بین الدلیلین بالعرض ، و یحصل الیقین ببطلان أحدهما ، و مسألة الجهر و الإخفات من هذا القبیل ، فهی من باب التعارض .

ثم ذکر فی ( المحاضرات ) ما حاصله :

إنه کما یتعقّل الترتب فی مقام الامتثال ، کذلک یتعقّل فی مقام الجعل ، و یرتفع المشکل فی مقام الإثبات بالتقیید ، و أمّا فی مقام الثبوت فالنصوص الواردة فی المسألة هی الدلیل علی جعل الحکم بنحو الترتّب ، کصحیحة زرارة فی من جهر فیما لا ینبغی الإخفات فیه أو أخفت فیما ینبغی الجهر فیه (1) .

فأشکل الأُستاذ :

بأن الترتّب فی مقام الجعل فی الضدّین اللذین لهما ثالث معقول ، کأن یقول المولی : تجب علیک الإزالة فإن عصیت وجبت علیک الصّلاة ، إلّا أن مورد البحث من الضدّین اللذین لا ثالث لهما ، فلا یعقل التقیید - مع توقف الترتّب علی التقیید - کأن یقیّد وجوب الحرکة بترک السکون . هذا ثبوتاً .

و أمّا إثباتاً ، فإن نصوص المسألة لا تفی بدعوی کون الجعل بنحو الترتّب ، لأنّ معنی الترتّب فی مرحلة الجعل هو أن یجعل الشارع - بنحو القضیّة الحقیقیّة - وجوب الإخفات لمن وجب علیه الجهر فعصی ، و النصوص و إن احتمل دلالتها علی هذا المعنی ، یحتمل دلالتها علی جعل البدل فی مقام الامتثال کما هو الحال فی قاعدتی الفراغ و التجاوز ، و من الواضح الفرق بین جعل الحکم علی نحو

ص:251


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 482 .

الترتّب مشروطاً بالعصیان ، و جعله من باب بدلیّة العمل الناقص عن التکلیف؛ و لعلّ فی النصوص ما هو ظاهر فی جعل البدل کما فی صحیحة زرارة عن أبی جعفر المذکورة و هذا نصّها : « فی رجل جهر فیما لا ینبغی الجهر فیه أو أخفی فیما لا ینبغی الإخفاء فیه . فقال : أیّ ذلک فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعلیه الإعادة ، و إن فعل ذلک ناسیاً أو ساهیاً فلا شیء علیه و قد تمّت صلاته » (1) فإنّ ظاهر قوله علیه السلام : تمّت صلاته ، هو جعل البدل فی مرحلة الامتثال ، أی لا نقص فی صلاته .

و فی روایة أُخری عن أحدهما علیهما السلام : « إن اللّٰه تبارک و تعالی فرض الرکوع و السجود و القراءة سنّةً ، فمن ترک القراءة متعمّداً أعاد الصّلاة و من نسی فلا شیء علیه » (2) .

و هذه ظاهرة فی جعل البدل کذلک ، و إلّا لزم المستشکل القول بجریان الترتّب فی مورد النسیان أیضاً .

و علی أیّ حالٍ ، فالإشکال من المحقّق السید الخوئی علی المیرزا غیر وارد .

و هذا تمام الکلام علی الإشکال الأوّل .

الوجه الثانی : إن مورد الخطاب الترتبی هو ما إذا کان خطاب المهم مترتّباً علی عصیان الأمر بالأهم ، و هذا لا یکون إلّا فیما إذا لم یکن المهم ضروریّ الوجود عند عصیان الأمر بالأهم ، کما هو الحال فی الضدّین اللذین لهما ثالث .

و أمّا الضدّان اللّذان لا ثالث لهما ، ففرض عصیان الأمر بأحدهما هو فرض وجود

ص:252


1- 1) وسائل الشیعة 6 / 86 الباب 26 من أبواب القراءة فی الصّلاة .
2- 2) وسائل الشیعة 6 / 87 الباب 27 من أبواب القراءة فی الصّلاة .

الآخر لا محالة ، فیکون البعث نحوه تحصیلاً للحاصل .

إشکال السید الخوئی

فأشکل فی التعلیقة : بأنّ إدراج محلّ الکلام فی الضدّین اللذین لیس لهما ثالث ، غیر مطابق للواقع ، لأن المأمور به فی الصّلاة إنما هی القراءة الجهریّة أو الإخفاتیّة ، و من الواضح أن لهما ثالثاً و هو ترک القراءة رأساً ، فلا مانع من الأمر بهما فی زمانٍ واحدٍ مشروطاً أحدهما بعصیان الآخر .

أجاب الأُستاذ

بأنّ ما ذکره خلاف ظواهر النصوص (1) :

« عن أبی جعفر علیه السلام : لا یکتب من القراءة و الدعاء إلّا ما أسمع نفسه » .

« سألته عن قول اللّٰه : «وَلٰا تَجْهَرْ بِصَلٰاتِکَ وَلٰا تُخٰافِتْ بِهٰا » ... المخافتة ما دون سمعک و الجهر أن ترفع صوتک شدیداً » .

« قلت لأبی عبد الله علیه السلام : علی الإمام أن یُسمع من خلفه و إنْ کثروا ؟ قال : لیقرأ قراءةً وسطاً » .

« الجهر بها رفع الصوت و التخافت ما لم تسمع نفسک » .

« الاجهار أن ترفع صوتک تسمعه من بُعد عنک ، و الإخفات أن لا تسمع من معک إلّا یسیراً » .

فالمستفاد من النصوص لیس هو القراءة الجهریّة و الإخفاتیّة ، بل الواجب فی الصّلاة هو الإجهار فی القراءة و الإخفات فیها ... فالإشکال مندفع .

الوجه الثالث : إنّ الخطاب المترتّب علی عصیان خطابٍ آخر ، إنما یکون

ص:253


1- 1) وسائل الشیعة 6 / 96 - 98 ، الباب 33 من أبواب القراءة فی الصّلاة .

فعلیّاً عند تنجّز الخطاب المرتّب علیه و عصیانه ، و بما أنّ المفروض فیما نحن فیه توقف صحّة العبادة الجهریّة - مثلاً - علی الجهل بوجوب الإخفات ، لا یتحقق هناک عصیان للتکلیف بالإخفات لیتحقق موضوع الخطاب بالجهر ، لأن التکلیف الواقعی لا یتنجّز مع الجهل به ، و بدونه لا یتحقق العصیان الذی فرض اشتراط وجوب الجهر به أیضاً .

هذه عبارته .

و بعبارة أُخری : إن شرط التکلیف هو الوصول ، و ما لم یصل لم یصر فعلیّاً ، و الجاهل المقصّر لا یتحقّق فی حقّه هذا الشرط ، فلو کان الخطاب الترتّبی إلیه کأنْ یقول : یجب علیک الإخفات فإن عصیت فعلیک الجهر ، کان وجوب الإخفات علیه فی صورة التفاته إلی العصیان ، و إلّا فالشرط غیر واصل فلا یعقل فعلیّة التکلیف ، و بمجرّد الالتفات منه إلی العصیان صار متعمّداً ، فینعدم موضوع الخطاب الترتّبی .

إشکال السید الخوئی

أجاب السید الخوئی : بأن المدار فی الترتّب علی ترک الأهمّ لا علی عصیانه ، و خطاب الإخفات مشروطاً بترک الجهر قابل للوصول ، إذ الجاهل المقصّر ملتفت إلی کونه تارکاً للجهر .

أجاب الأُستاذ

بأن ما ذکر صحیح کبرویّاً ، فالترتب لا یتوقف علی العصیان ، لکنّ کاشف الغطاء عبّر بالعصیان قال : « کل مولی مطاع یمکنه القول : یجب علیک الجهر فإن عزمت علی المعصیة وجب علیک الإخفات » فإشکال المیرزا وارد من هذه الناحیة ، لأن العزم علی المعصیة یستحیل وصوله و لو التفت صار متعمّداً .

ص:254

لکن لا یخفی أن المیرزا یقول ب« العصیان » و کاشف الغطاء یقول « بالعزم » فنقول :

إنّ القول باشتراط العزم و إن کان هو الصحیح المختار فی الترتّب - کما تقدّم - لکنّ کاشف الغطاء لا یمکنه إجراء الترتب ، لأنه یقول أیضاً باقتضاء الأمر بالشیء النهی عن جمیع الأضداد الوجودیّة للشیء ، فإذا أُمر بالإزالة فقد نهی عن الصّلاة ، و مع النهی عنها کیف تکون مأموراً بها بالعزم علی معصیة الأمر بالإزالة ؟

فتصحیح العبادة عن طریق الترتّب - کما ذکر کاشف الغطاء - موقوف علی أن یرفع الید عن المبنی المذکور ، لأنه لا یتمشّی الترتّب معه ، و هذا هو الإشکال الوارد علیه قدّس سرّه بناءً علی مبناه فی اشتراط العزم علی المعصیة فی الترتّب .

و هذا تمام الکلام علی التنبیه الأوّل .

.التنبیه الثانی( لو اختلف اعتبار القدرة فی الواجبین )

لا یخفی أن القدرة علی الامتثال فی مثل إزالة النجاسة و الصّلاة و نحو ذلک هی القدرة العقلیّة ، و قد أُجری الترتب فی هذه الموارد علی القول به ، کما فی البحوث السابقة .

أمّا إذا کانت القدرة المعتبرة فی الامتثال مختلفة ، بأن یکون أحد الواجبین مشروطاً بالقدرة العقلیّة و الآخر بالقدرة الشرعیّة ، کما لو کان عند المکلّف ماء یکفی إمّا للوضوء و إمّا لرفع العطش عن نفس محترمة ، إذ الأوّل مشروط الشرعیّة ، و الثانی العقلیة ، کما هو معلوم ، فهل یجری الترتّب کذلک أو لا ؟

فعن المیرزا الشیرازی - القائل بالترتّب - الفتوی ببطلان الوضوء إنْ توضّأ

ص:255

بالماء بعد عصیان الأمر بصرفه فی رفع العطش ، و نسب البطلان کذلک إلی الشیخ ، مع أنه غیر قائل بالترتب . قال المیرزا : و أمّا ذهاب السید المحقق الطباطبائی الیزدی قدّس سرّه إلی الصحة فی مفروض الکلام ، فهو ناشئ من الغفلة عن حقیقة الأمر .

و الحاصل : إن المسألة خلافیّة ، و لا بدّ لتحقیق الحال فیها من ذکر مقدّمات .

الأُولی : تارةً : تؤخذ القدرة فی لسان الدلیل کما فی دلیل الحج و الوضوء ، و أُخری : لا تؤخذ کما فی دلیل الصّلاة مثلاً ، فإن أُخذت ، کان مقتضی التطابق بین مقامی الثبوت و الإثبات دخل القدرة فی الملاک و الغرض ، و إن لم تؤخذ فمقتضی ذلک قیام الغرض بنفس ذات المتعلّق .

الثانیة : إنه بمجرّد حصول القدرة العقلیّة بالتمکن من الإتیان بالمادّة کالصّلاة ، یکون المتعلّق واجباً فعلیّاً ، إذ الحاکم هو العقل ، و هو یری کفایة التمکّن من الشیء فی صحّة طلبه ، و حینئذٍ ، فلا یبقی موضوع للواجب الآخر الذی أخذ الشارع القدرة فی لسان الدلیل علیه ... لأن المرجع فی القدرة الشرعیّة هو العرف - لکون الخطابات الشرعیة ملقاةً إلیه - و مع فعلیّة الواجب الآخر ینتفی القدرة العرفیّة العقلائیة .

الثالثة : أخذ القدرة فی الواجب تارة : یکون بالمطابقة مثل آیة الحج ، و أُخری : بالالتزام مثل آیة التیمّم ، و لمّا کان التیمم فی عرض الوضوء ، إذ المکلّف إمّا یکون متیمّماً أو متوضّأً ، فإنه بأخذ العجز عن الماء فی التیمّم یثبت بالالتزام أخذ القدرة فی الوضوء ... و هذه القدرة شرعیّة لا تکوینیّة ، لسقوط الوضوء عن المریض مع قدرته تکویناً علیه .

الرابعة : إن تصحیح العبادة بالأمر الترتّبی موقوف علی أن یکون الأمر ذا

ص:256

ملاک ، لتبعیّة الأحکام الشرعیّة للملاکات عند العدلیّة ، فلولا الملاک فلا أمر . أمّا المنکرون للترتّب فلهم تصحیحها بالإتیان بها بقصد الملاک ، کما علیه صاحب الکفایة قدّس سرّه .

و إذا عرفت هذه المقدّمات ، ظهر الدلیل علی القول ببطلان الوضوء بکلّ وضوح ، و ذلک :

لأنّ وجوب صرف الماء فی رفع العطش عقلی ، و شرط وجوبه هو القدرة التکوینیّة ، بخلاف وجوب الوضوء ، فالقدرة المأخوذة علی الماء فیه شرعیّة ، و إذا صرف فی رفع العطش انتفت القدرة المعتبرة فی الوضوء و تبدّل الحکم إلی التیمّم ، لأنه بمجرّد صرفه فی رفع العطش یکون الوضوء بلا ملاک لانتفاء شرطه و هو القدرة الشرعیّة ، و إذا انتفی الملاک انتفی الأمر ، و بذلک ینتفی الترتّب .

فظهر أنّ وجه فتوی المیرزا القائل بالترتب ، هو عدم الأمر الترتّبی ، لعدم الملاک ، و الشیخ یقول بالبطلان ، مع إنکار الترتب ، لعدم الملاک حتی یصحّح بقصده .

و لا یبقی وجه للقول بصحة هذا الوضوء ، لأنّ طریق تصحیحه إمّا الترتب و إمّا قصد الملاک ، و قد علم أن لا ملاک فیقصد أو یثبت الأمر الترتبی تبعاً له ، و قد نسب المیرزا هذا القول إلی السیّد فی ( العروة ) ، و کلامه فیها - فی السبب السادس من أسباب التیمّم - واضحٌ فی البطلان لا الصحّة ، إذ قال : لو دار الأمر بین الوضوء و بین واجب أهمّ ، یقدّم صرف الماء فی الأهم ، لأنه لا بدل له و الوضوء له بدل (1) .

و فی حاشیته علی نجاة العباد وافق الماتن فی القول بالبطلان .

هذا ، و ذهب السیّدان الحکیم و الخوئی إلی الصحّة من باب الترتّب ، فی

ص:257


1- 1) العروة الوثقی 2 / 178 - 179 ط جامعة المدرسین .

مثال دوران الأمر بین رفع العطش و الوضوء مع عدم کفایة الماء إلّا لواحدٍ منهما .

قال فی ( المحاضرات ) ما ملخّصه بلفظه تقریباً :

إنه لا مانع من الترتّب إلّا توهّم أنّه لا ملاک للوضوء ، فلا یمکن تعلّق الأمر به علی نحو الترتّب ، لاستحالة وجود الأمر بلا ملاک ، لکنه یندفع : بأن القول بجواز تعلّق الأمر بالضدّین علی نحو الترتّب ، لا یتوقّف علی إحراز الملاک فی الواجب المهم ، إذ لا یمکن إحرازه فیه إلّا بتعلّق الأمر به ، فلو توقف تعلّق الأمر به علی إحرازه لدار ، سواء کان الواجب المهم مشروطاً بالقدرة عقلاً أو شرعاً ، لأنّ ملاک الترتّب مشترک بین التقدیرین ، فإذا لم یکن الأمر بالأهمّ مانعاً عن الأمر بالمهم لا عقلاً و لا شرعاً إذا کان فی طوله ، فلا مانع من الالتزام بتعلّق الأمر به علی نحو الترتب و لو کانت القدرة المأخوذة فیه شرعیّة ، وعلیه ، فإذا لم یصرف المکلّف الماء فی الواجب الأهم و عصی الأمر به ، فلا مانع من تعلّق الأمر بالوضوء ، لکونه حینئذٍ واجداً للماء و متمکّناً من صرفه فیه عقلاً و شرعاً .

و قد تحصّل من ذلک : إن دعوی عدم جریان الترتب فیما إذا کانت القدرة المأخوذة فی الواجب المهم شرعاً ، تبتنی علی الالتزام بأمرین :

الأوّل : دعوی أن الترتّب یتوقّف علی أن یکون الواجب المهم واجداً للملاک مطلقاً حتی فی حال المزاحمة ، و إحرازه إنما یکون إذا کانت القدرة المعتبرة عقلیّة ، و أما إذا کانت شرعیّةً ، فبانتفاء القدرة - کما فی المثال - ینتفی الملاک ، و معه لا یجری الترتب .

و الثانی : دعوی أن الأمر بالأهمّ مانع عن الأمر بالمهم و معجّز عنه شرعاً ، حتی فی حال عصیانه و عدم الإتیان بمتعلّقه .

و لکن قد عرفت فساد کلتا الدعویین .

ص:258

أمّا الأُولی ، فلما سبق من أن الترتّب لا یتوقّف علی إحراز الملاک فی الواجب المهم ، فإن إحرازه غیر ممکنٍ مع سقوط الأمر حتی فیما إذا کانت القدرة عقلیّة فضلاً عن کونها شرعیّة ، فلو کان الترتّب متوقفاً علی إحراز الملاک فی المهم لم یمکن الالتزام به علی کلا التقدیرین .

و أمّا الثانیة ، فقد عرفت عدم التنافی بین الأمرین ، إذا کان الأمر بالمهم مشروطاً بعصیان الأمر بالأهم (1) .

جواب الأُستاذ

و قد أجاب الأُستاذ عن ذلک : بأنه کلام غیر مناسب لشأنه ، لأنّ المیرزا إنما یستکشف الملاک عن طریق إطلاق المادّة لا عن طریق الأمر کما علیه المستشکل ، فالمیرزا یقول : بأنه إذا تعلّق الأمر بشیء و لم تؤخذ القدرة فیه فی لسان الدلیل الشّرعی ، فإنّ نفس إطلاق الواجب یکشف عن قیام الملاک بذات المادّة ... فالإشکال أجنبی عن مسلک المیرزا . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : لو سلّمنا أنّ الترتّب لا یتوقّف علی إحراز الملاک فی الواجب المهم - کما قال - فإنّ الواقع فی المسألة هو إحراز عدم الملاک ، فما ذکره خلط بین عدم إحراز الملاک و إحراز عدم الملاک ، و ذلک لأن القدرة المأخوذة فی الواجب قید للواجب ، و کلّ ما یکون قیداً له فهو قید للملاک ، لاستحالة تقیّد الواجب من دون تقیّد الملاک ، وعلیه ، فإنه یستحیل أن تقیّد الصّلاة بالطهارة مع عدم تقیّد المصلحة المترتبة علیها و الغرض منها بالطهارة ، و المفروض اعتبار القدرة الشرعیّة علی الطهارة ، فإذا انتفت هذه القدرة علیها حصل القطع بعدم الملاک ، و القطع بعدمه فی المهم یبطل الترتب ... و قد اعترف المستشکل فی مباحث الضدّ بأنه متی

ص:259


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 394 - 395 .

أُخذت القدرة فی المتعلّق و کانت قیداً للواجب ، فإنّه ینتفی الملاک بانتفاء هذا القید ... و مع قطعاً یستحیل جریان الترتب .

و ثالثاً : کیف الجمع بین قوله هنا فی المحاضرات بعدم لزوم إحراز الملاک و أنّ عدمه لا ینافی الترتّب بین الواجبین ، و قوله فی کتاب الحج بشرح ( العروة ) (1)« لعدم جریان الترتب فی أمثال المقام » و هذا نصّ عبارته :

« الظاهر عدم وجوب متعلّق النذر حتی فی مثل الفرض ، لعدم جریان الترتب فی أمثال المقام ، لأن الترتب إنما یجری فی الواجبین اللذین یشتمل کلّ منهما علی ملاک ملزم ، غایة الأمر لا یتمکن المکلّف من الجمع بینهما فی مقام الامتثال » (2) ؟

فالحق مع المیرزا ، لأنّه قد أُخذ فی لسان أدلّة التیمّم عدم التمکّن من استعمال الماء ، فکان وجوب التیمّم و التکلیف به رافعاً لموضوع حکم الوضوء ، فلو توضّأ - و الحال هذه - بطل .

.التنبیه الثالث( فی ما لو کان أحد الواجبین موسّعاً و الآخر مضیّقاً )

هل یجری الترتب فیما لو کان أحد الواجبین موسّعاً و الآخر مضیّقاً ، کما لو وجب علیه إزالة النجاسة عن المسجد و وجبت الصّلاة فی سعة الوقت ، بعد العلم بأنهما لو کانا مضیّقین فهما داخلان فی البحث ، و لو کانا موسّعین فخارجان یقیناً ؟ وجوه :

ص:260


1- 1) العروة الوثقی 4 / 393 المسألة 32 شرائط وجوب الحج: إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن یزور الحسین علیه السلام فی کلّ عرفة ثم حصلت، لم یجب علیه الحج ...
2- 2) شرح العروة 26 / 119 کتاب الحج ، مسألة تزاحم الحج و النذر .

1 - عدم جریان الترتب مطلقاً .

2 - الجریان مطلقاً .

3 - التفصیل بما إذا کان اعتبار القدرة فی الخطاب بحکم العقل کما علیه المحقق الثانی فلا یجری ، و أمّا بناءً علی اعتبارها باقتضاء الخطاب کما علیه المیرزا النائینی فیجری .

و لا بدّ من النظر فی أصل تحقّق التزاحم فی هذه الصّورة ، فالمیرزا علی أنّ التزاحم موجود بین إطلاق الأمر بالموسّع و أصل الأمر بالمضیّق - بخلاف المضیّقین فهو بین أصل دلیل کلٍّ من الواجبین - و لکنّ هذا إنما یتم علی مسلکه ، أمّا علی مسلک المحقق الثانی ، حیث اعتبرت القدرة فی جواز التکلیف بحکم العقل من باب قبح تکلیف العاجز ، فلا تزاحم أصلاً ، إذ یکفی فی صحّة التکلیف عند العقل تمکّن المکلّف علی فردٍ ما من أفراد الطبیعة ، و علی هذا ، فإن الفرد المزاحم بالمضیّق غیر مقدور ، أمّا غیره من الأفراد فمقدور ، و هذه القدرة تکفی لصحّة الخطاب المتعلّق بالطبیعة ، فلا موضوع للترتب ، لکونه فرع التزاحم ...

و نتیجة ذلک علی مسلک المحقق الثانی اختصاص الترتب بالمضیّقین .

و أمّا علی مبنی المیرزا ، فإنّ مقتضی نفس الخطاب توجّه التکلیف إلی الفرد المقدور من الطبیعة ، لأنّ حقیقة التکلیف هی البعث ، و البعث یقتضی الانبعاث ، و هو لا یتحقق إلّا بالنسبة إلی الفرد المقدور ، فلا محالة یتقیّد المأمور به بذلک ، و یخرج غیر المقدور عن دائرة اطلاق المأمور به ، و یتوقف شموله له علی جواز الترتب ، فإن جوّزناه کان داخلاً فی الإطلاق عند عصیان الأمر بالأهم ، و إلّا کان خارجاً عنه . یعنی : إن شمول الإطلاق للفرد المزاحم غیر ممکن ، لکونه ممتنعاً شرعاً بسبب مزاحمة الأمر بالمضیّق له ، فینصرف الإطلاق عنه ، فلو أُرید جعله

ص:261

مأموراً به فلا مناص من الالتزام بالترتب ، بأن یتقیّد الاطلاق بالعصیان کما لو قال :

أزل النجاسة عن المسجد فإن عصیت تجب علیک الصّلاة .

کلام المحاضرات

و جاء فی المحاضرات - بعد الإیراد علی المیرزا و المحقق الثانی ، بأن القدرة غیر مأخوذة فی متعلّق التکلیف لا من جهة اقتضاء الخطاب و لا من جهة حکم العقل ، بل هی معتبرة فی ظرف الامتثال و الطاعة - إن جریان الترتب فی المقام مبنی علی مسلک المیرزا من أن استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق ، و بما أنّ تقیید المهم فی المقام بخصوص الفرد المزاحم محال ، لکون هذا الفرد ممتنعاً شرعاً ، و الممتنع الشرعی کالممتنع العقلی ، فالإطلاق أیضاً محال ، لکون النسبة بینهما نسبة العدم و الملکة .

ثم أورد علیه : بأنّ التقابل بین الإطلاق و التقیید من تقابل التضادّ ، فلا یستلزم استحالة أحدهما - فی موردٍ - استحالة الآخر و لمّا کان التقیید بالفرد المزاحم غیر معقول ، و الإهمال کذلک ، کان الإطلاق ضروریّاً ، فیمکن الإتیان بالفرد بداعی امتثال الأمر المتعلّق بالطبیعة .

( قال ) فجریان الترتب هنا مرتکز علی أحد أمرین : الأوّل : دعوی اقتضاء نفس الخطاب اعتبار القدرة فی المتعلّق ، و أنه یوجب تقییده بالحصّة المقدورة .

و الثانی : دعوی أن استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق . لکنّ الدعویین فاسدتان کما تقدّم .

فالصحیح : أن یقال بخروج المسألة عن کبری التزاحم ، لتمکّن المکلّف فیها من الجمع بین التکلیفین فی مقام الامتثال (1) .

ص:262


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 491 - 492 .

قال الأُستاذ

أمّا ما ذکره من النسبة بین الإطلاق و التقیید فتام ، إذ الصحیح کون الإطلاق رفض القیود لا جمعها ، فبناءً علیه و بالنظر إلی أنّ الحکم یستحیل أن یتجاوز عن متعلّقه ، یثبت وجوب الإطلاق ، و مجیء الحکم علی طبیعی الصّلاة لا علی أفرادها ، فلیس الواجب هذا الفرد أو ذاک ، بل الفرد مصداق للواجب ... فما جاء فی المحاضرات متینٌ ، إلّا أنّ النظر فی إیراده علی المیرزا ، و ذلک :

أوّلاً : إن الذی استند إلیه المیرزا لاستحالة الإطلاق ، لیس کون النسبة بینه و بین التقیید هو العدم و الملکة ، کما لا یخفی علی من راجع ( أجود التقریرات ) و( فوائد الأُصول ) (1) ، بل مستنده هو القصور الذاتی للخطاب ، و لذا جوّز الاطلاق علی مسلک المحقق الثانی ، فلو کان وجه عدم جواز الإطلاق استحالة تقیید التکلیف بالفرد المزاحم ، لما تعقّل المیرزا الإطلاق علی ذاک المسلک ، لأن استحالة تقییده واضحة علی کلا المسلکین .

و ثانیاً : لقد ذکر المیرزا فی وجه نظره : إن البعث إنما یکون نحو الفرد المقدور فالإطلاق محال ، و لذا یقع التزاحم هنا بین إطلاق الواجب الموسّع و أصل وجوب الواجب المضیّق ، أمّا علی مبنی المحقق الثانی فلا تزاحم .

و إذا کان المیرزا یعبّر بالتزاحم ، فلا بدّ و أن یکون وقوعه هنا معقولاً ، أمّا لو کان الاطلاق مستحیلاً - لکونه عدم ملکة - فکیف یصح التعبیر بالتزاحم ؟

فظهر : أن کلامه فی المقام مستند إلی الضیق الذاتی للخطاب ، و لیس مستنداً إلی تقابل العدم و الملکة بین الاطلاق و التقیید ... فالإشکال علیه من هذه الناحیة غیر وارد .

ص:263


1- 1) أجود التقریرات 2 / 97 فوائد الأُصول (1 - 2) 373 - 374 ط جامعة المدرسین .

بل الإشکال الوارد علی المیرزا : أمّا من ناحیة المبنی ، فالصحیح أن اعتبار القدرة فی التکلیف هو بحکم العقل وفاقاً للمحقق الثانی ، لأنّ التکلیف لیس هو البعث - کما ذکر المیرزا - بل هو جعل الشیء فی الذمّة - وفاقاً للسید الخوئی - کما هو ظاهر الأدلّة اللفظیّة من قبیل «کُتِبَ عَلَیْکُمُ ... » و نحوه ، و هو المرتکز عند العرف ، و البعث و الانبعاث من آثار جعله فی الذمّة ... .

و أمّا من ناحیة البناء بعد فرض صحّة المبنی : فقد تقرّر أن متعلّق التکلیف هو الطبیعة ، و الأفراد خارجة ، فلو کان اعتبار القدرة بنفس الخطاب و کان حقیقة التکلیف هو البعث ، فلا بدّ من إمکان الانبعاث نحو المتعلّق ، و من المعلوم أن القدرة علی المتعلّق - و هو الطبیعة - تحصل بالقدرة علی فردٍ ما من أفرادها ، فما أمکن الانبعاث نحوه هو الفرد ، لکنّ الفرد غیر متعلّق للتکلیف ، و ما تعلّق به التکلیف هو الطبیعة ، و هی ملغًی عنها الخصوصیات الفردیة لا یمکن الانبعاث نحوها ، و إذا کان الامتثال یحصل بفردٍ ما من أفرادها فلا یتحقق التزاحم ، فلا مورد للترتب .

.التنبیه الرابع

( فی الترتب فی التدریجیات )

هل تجری مسألة الترتب فی الواجبین التدریجیین أو أحدهما تدریجی و الآخر آنیّ أو لا ؟

و الکلام فی ثلاث صور :

1 - أن یکونا تدریجیین .

2 - أن یکون الأهم آنیّاً و المهم تدریجیّاً .

ص:264

3 - أن یکون المهم آنیّاً و الأهم تدریجیّاً .

فإن کان الأهمّ آنیّاً و المهم تدریجیّاً ، کان الجزء الأوّل من المهم التدریجی مزاحماً للأهم الآنی ، فعلی الترتّب یکون وجوب هذا الجزء مشروطاً بمعصیة الأمر بالأهم الآنیّ ، و تکون معصیته شرطاً مقارناً للوجوب الفعلی للمهم ، فإن عصی الأهم و أتی بالمهم صحّ ... و لا کلام .

و إن کان المهم و الأهم تدریجیّین ، وقع الإشکال و البحث - بالإضافة إلی مسألة الترتب - من جهة لزوم الالتزام بالشرط المتأخّر أو بالواجب المعلّق . إذن ، یتوقّف الفتوی بصحّة العمل - علاوةً علی القول بالترتب - بالالتزام بالشرط المتأخّر .

و ذلک : لأنّ المفروض أن هنا واجبین تدریجیّین کإزالة النجاسة من المسجد فی أوّل الوقت - و هی الأهم - و الصّلاة و هی المهم ، و من الواضح أنّ فعلیّة الأمر بالصّلاة متوقفة علی معصیة الأمر بالإزالة ، لکن معصیتها تدریجیّة ، و تستمرّ إلی آخر الصّلاة ، بأن یُعصی الأمر بالإزالة فی وقت التکبیر و القیام و الرکوع و السجود ... و هکذا إلی التسلیم ، و لو لا معصیة الإزالة فی وقت کلّ جزءٍ فلا فعلیّة للجزء ... وعلیه ، فإنّ فعلیّة الأمر بالتکبیرة مشروطة بعِصیان الأمر بالإزالة فی وقت الأجزاء اللّاحقة لتکبیرة الإحرام ، و هذا معناه الالتزام بالشرط المتأخّر .

کما یلزم الالتزام بالواجب المعلّق ، لأنّ فعلیّة الوجوب للتکبیرة متوقفة علی امکان الواجب المعلّق ، لأنّ وجوب الجزء الآخر للواجب التدریجی استقبالی ، و لو لا وجوبه لما ثبت وجوب لتکبیرة الإحرام .

فظهر أنّ تصویر الترتّب فی هذه الصّورة یتوقّف علی القول بالشرط المتأخّر و القول بالواجب المعلّق ، فمن قال بجوازها کلّها فهو فی راحة ، و من قال

ص:265

بالترتب و أنکر الشرط المتأخّر و الواجب المعلّق - کالمیرزا قدّس سرّه - لم یمکنه إجراء الترتب ، و کان مورد الترتب المتزاحمین الآنیّین فقط ، کإنقاذ الغریقین و ما شابه ذلک .

تفصّی المیرزا

لکن المیرزا قدّس سرّه تفصّی عن هذه المشکلة (1) بأنّ مشکلة التزاحم کانت من ناحیة عدم القدرة علی امتثال کلا الأمرین ، فکان القول بالترتّب - بأن یکون شرط التکلیف بالأمر بالمهم هو عصیان الأمر بالأهم - هو الطریق لحلّ المشکلة ، لأن اشتراط التکلیف بالقدرة حکم عقلی ، و هو یری أن بتحقّق هذا الشرط یتحقّق الامتثال ... .

و علی هذا ، فإنّ الشرط - فی صورة التدریجیّین - هو القدرة علی الجزء الأوّل من أجزاء الواجب التدریجی المتعقّبة بالقدرة علی سائر أجزائه ، فشرط وجوب الصّلاة - مثلاً - هو القدرة علی التکبیرة المتعقّبة بالقدرة علی سائر أجزائها حتی التسلیمة ، و هذا العنوان - عنوان التعقّب - حاصل بالفعل ، فیندفع بهذا البیان محذور الالتزام بالشرط المتأخّر ، فیکون شرط فعلیّة وجوب الأمر بالمهم عصیان الأمر بالأهم فی الآن الأوّل متعقّباً بعصیانه فی بقیّة الآنات ، و قد فرض تحقّق عصیانه فی آن أوّل امتثال الأمر بالمهم المتعقّب بعصیانه فی سائر أزمنة امتثال المهم ، فیکون من الشرط المقارن لا من الشرط المتأخر .

اشکال السید الخوئی

و قد أشکل علیه فی ( المحاضرات ) : بأن لا محصّل لجعل عنوان التعقّب

ص:266


1- 1) أجود التقریرات 2 / 98 - 99 .

هو الشرط ، لعدم الدلیل علیه (1) .

دفاع الأُستاذ عن المیرزا

فقال الأُستاذ : بأن کلام المیرزا دقیق ، و ذلک ، لأن أساس حکم العقل هو استحالة تعلّق الأمر بالضدّین ، للزوم التکلیف بالمحال أو التکلیف المحال ، و أساس ذلک هو عجز المکلّف عن الامتثال ، فکان الحاصل عدم وجود القدرة علی امتثال الأمر بالمهم ، أمّا مع عصیان الأمر بالأهم فالقدرة تحصل ، و إذا حصلت تحقق الشرط لوجوب المهم ، فیجب امتثاله ... و هذا هو الأساس فی نظریة الترتب .

وعلیه ، فإن العصیان للأهم إنما یکون شرطاً للمهم من جهة حصول القدرة علی المهم بذلک ، و إلّا فالمکلّف عاجز عن امتثاله ، ففی المورد الذی یستمرّ فیه الأمر بالأهم إلی آخر جزءٍ من أجزاء المهم ، - کما هو الفرض فی الإزالة بالنسبة إلی الصّلاة - تتحقّق القدرة علی المهم فیما إذا استمرت معصیة الأهمّ إلی الآخر ، و إلّا ، فلا تحصل القدرة التی هی شرط التکلیف بالمهم بحکم العقل ، فیعتبر فی فعلیّة وجوب الصّلاة القدرة المستمرة ، و هی لا تتحقّق إلّا بالعصیان المستمر للأمر بالإزالة ، و مع فرض تعقّب معصیة الجزء الأوّل من الأهم ، أو المعصیة فی الآن الأول من آناته بالمعصیة إلی الآن و الجزء الأخیر ، تکون القدرة علی المهمّ حاصلةً علی الصّلاة ، ویحکم العقل بوجوب الامتثال .

و إن کان الأهم تدریجیاً و المهم آنیّاً ... فالإشکال علی حاله ، لأنّ المفروض استمرار الأهم ، و بالاشتغال به من الآن الأوّل تنتفی القدرة علی المهم الآنی .

ص:267


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 2 / 406 فی الدلیل اللّمی علی الترتّب .

.التنبیه الخامس( فی حکم الاطلاع علی الأهم بعد الاشتغال بالمهم)

اشارة

إنه تارةً : یطّلع علی الأهم قبل الاشتغال بالمهم ، و أُخری : بعده . فإن کان الأوّل فالترتّب جارٍ ، و إن کان الثانی فصورتان ، إحداهما : ما إذا لم یکن قطع المهم محرّماً ، فالترتب جارٍ کذلک . و الثانیة : ما إذا کان قطعه حراماً ، فالمیرزا علی أن لا ترتب بل الأمر بالمهم متوجّه و الامتثال له متحقق .

و المثال الواضح هو الإزالة و الصّلاة ... فلو التفت إلی النجاسة فی المسجد و هو فی الصّلاة ، فالصّلاة مأمور بها حتی بناءً علی انکار الترتب ، فإن کان دلیل وجوب الأهم هو الإجماع ، کان المورد خارجاً عن القدر المتیقّن ، و هو صورة الاشتغال بواجبٍ ، و المفروض کونه فی الصّلاة . و إن کان دلیله لفظیّاً و کان مطلقاً ، قطع الصّلاة و عمل بمقتضی الترتب .

إشکال السید الخوئی

فأشکل علیه : بأن دلیل حرمة قطع الصّلاة إن کان هو الأخبار فی أن تحلیلها التسلیم ، فالأمر کما أفاد المیرزا ، لأن القدر المتیقّن من الإجماع علی وجوب إزالة النجاسة عن المسجد فوراً ، إنما هو فی غیر ما دلّ الدلیل اللّفظی بإطلاقه علی وجوب المضیّ فی الصّلاة ، المستلزم لتأخیر الإزالة إلی زمان الفراغ منها . و أمّا إن کان دلیل حرمة قطع الصّلاة هو الإجماع فقط ، لعدم دلالة تلک الأخبار إلّا علی الحکم الوضعی فلا تفید الحرمة التکلیفیّة ، فلا موجب لتقدّم وجوب المضیّ فی الصّلاة علی وجوب الإزالة ، بل مقتضی القاعدة هو الحکم بالتخییر . فقول المیرزا بوجوب المضیّ فی الصّلاة لا دلیل علیه (1) .

ص:268


1- 1) أجود التقریرات 2 / 100 الهامش .

جواب الأُستاذ

و قد أجاب الأُستاذ عن ذلک : بمنافاته لما بنی علیه المستشکل فی الفقه ، فقد ذهب إلی أن معنی کلمة « الحل » لغةً و عرفاً هو « الإرسال » کما أن « الحرمة » هی « الحرمان » و مقتضی ذلک : ظهور اللّفظتین فی الإطلاق الشامل للحکم الوضعی و التکلیفی معاً ، و تخصیصها بأحدهما یحتاج إلی قرینةٍ ، کأن لا یکون المورد قابلاً للحکم الوضعی کما فی «أُحِلَّ لَکُمُ الطَّیِّبٰاتُ » (1)و «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَالدَّمُ » (2)و أمّا مع عدم القرینة ، فمقتضی القاعدة هو الحمل علی الجامع بین الحکمین کما هو مختاره فی «وَأَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبٰا » (3).

وعلیه ، فإن المستفاد من الأخبار هو مبطلیّة فعل المنافی للصّلاة و حرمة ذلک تکلیفاً ، إلّا فی النّافلة لقیام الدلیل علی جواز قطعها فیکون مخصّصاً للأخبار المذکورة ، و أمّا الخدشة فی أسانیدها فمردودة ، کما أوضحناه فی محلّه .

و تلخّص : أن الحق مع المیرزا ... و اللّٰه العالم .

و هذا تمام الکلام فی مسألة الضدّ .

ص:269


1- 1) سورة المائدة : 4 .
2- 2) سورة المائدة : 3 .
3- 3) سورة البقرة : 275 .

ص:270

هل الأوامر و النواهی

اشارة

متعلّقة بالطبائع أو الأفراد ؟

ص:271

ص:272

نظریة صاحب الکفایة :

قال : الحق أن الأوامر و النواهی تکون متعلّقة بالطبائع دون الأفراد .

و لا یخفی أن المراد أن متعلّق الطلب فی الأوامر هو صرف الإیجاد ، کما أنّ متعلّقه فی النواهی هو محض الترک . و متعلّقها هو نفس الطبیعة المحدودة بحدود و المقیّدة بقیود تکون بها موافقة للغرض و المقصود ، من دون تعلّق غرض بإحدی الخصوصیّات اللّازمة للوجودات ، بحیث لو کان الانفکاک عنها بأسرها ممکناً لما کان ذلک ممّا یضرّ بالمقصود أصلاً ، کما هو الحال فی القضیّة الطبیعیّة فی غیر الأحکام ، بل فی المحصورة علی ما حقق فی غیر هذا المقام .

و فی مراجعة الوجدان للإنسان غنیً و کفایة عن إقامة البرهان علی ذلک ، حیث یری إذا راجعه أنه لا غرض له فی مطلوباته إلّا نفس الطبائع ، و لا نظر له إلیها من دون نظرٍ إلی خصوصیّاتها الخارجیّة و عوارضها العینیّة ، و إنّ نفس وجودها السّعی - بما هو وجودها - تمام المطلوب ، و إن کان ذاک الوجود لا یکاد ینفکّ فی الخارج عن الخصوصیّة . فانقدح بذلک أن المراد بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الأفراد أنها بوجودها السّعی بما هو وجودها قبالاً لخصوص الوجود متعلّقة للطلب ، لا أنها بما هی هی کانت متعلّقة له کما ربما یتوهّم ، فإنها کذلک لیست إلّا

ص:273

هی ، نعم هی کذلک تکون متعلقة للأمر فإنه طلب الوجود . فافهم (1) .

توضیحه

عند ما یتعلّق الأمر بالصّلاة - مثلاً - فإنّها إذا وجدت کان لها لوازم ، من المکان و الزّمان الخاصّین بها ، و من غیر ذلک ، فعلی القول بتعلّق الأمر بالطّبیعة تکون هذه الخصوصیّات اللّازمة للوجود خارجةً من تحت الطلب ، و علی القول بتعلّقه بالفرد داخلة تحته ... هذا ما ذکره أوّلاً . لکنّه غیّر التعبیر فقال : إن الغرض متعلّق بنفس الطبیعة ، و إن نفس وجودها السعی - بما هو وجودها - تمام المطلوب ، من دون نظرٍ إلی خصوصیّاتها الخارجیّة و عوارضها العینیّة ، و إن کان ذاک الوجود لا یکاد ینفکّ فی الخارج عن الخصوصیّة .

و الحاصل : تارةً : ننظر إلی الطبیعة بما هی موجودة فنقول : المطلوب فی ب « أَقِمِ الصَّلٰاةَ » (2)مثلاً هو وجود طبیعة الصّلاة ، لا هذا الوجود منها أو ذاک من الوجودات الخاصة ، و أُخری : ننظر إلیها مجرّدةً عن لوازم وجودها و أمارات تشخّصها و نقول بأن المطلوب هو وجود الطبیعة ، و تلک العوارض و اللوازم غیر داخلة فی الطلب ... و علی کلّ تقدیرٍ ، فإنّ تمام المطلوب هو الطبیعة - لا هذا الفرد أو ذاک - تلک الطبیعة التی هی ملزوم اللّوازم و المشخّصات ، أمّا هی ، فخارجة عن تحت الطلب و إن کانت الطبیعة غیر منفکّة عنها .

هذا ، و قد أشار بأمره بالفهم إلی أنه لا یمکن أن یکون الأمر طلب الوجود ، بل الأمر نفس الطلب ، فالوجود خارج من الأمر .

ص:274


1- 1) کفایة الأُصول : 138 .
2- 2) سورة الإسراء : 78 .

و أمّا دلیله علی ما ذهب إلیه من أن متعلّق الأمر هو الطبیعة ، فالوجدان ، یعنی أنّا لمّا نراجع الوجدان - فی المرادات التکوینیّة ، کإرادتنا للأکل و الشرب و الضّرب ، و التشریعیّة ، کإرادتنا صدور تلک الأفعال من الغیر - نری أن متعلّق الطلب و الإرادة لیس إلّا وجود الطبیعة و لا دخل للزمان و المکان ... غیر أنّ الفرق بین الأمر و النّهی هو أنّ متعلّق الطلب فی الأولی هو صرف الإیجاد و فی الثانی محض الترک ، و لا یخفی وجود الخلاف فی حقیقة الأمر و النهی ، فقیل : الأمر هو البعث نحو المادّة و النهی هو الزجر عنها ... و علی هذا لا دخل للوجود و العدم فی المتعلّق . و قیل - و هو مسلک الکفایة - أن المدلول فی الأمر و النهی لیس إلّا الطلب ، غیر أن متعلّقه فی طرف الأمر هو الوجود و فی طرف النهی هو الترک و العدم .

أمّا صاحب الفصول و المحقق القمی ، فقد استدلّا للمدّعی بالتبادر ، و بأن مادّة المتعلّق - مثل الصّلاة - لیست إلّا الصّلاة ، و الخصوصیّات الزائدة علیها لا دخل لها فی المادّة .

فظهر أنّ الأدلّة للمدعی ثلاثة :

1 - تبادر الطبیعة إلی الذهن .

2 - مادّة متعلّق الأمر .

3 - الوجدان .

الإشکال علی المحقق الخراسانی

ثم إنّ الأُستاذ أورد علی ما تقدّم عن الکفایة بما یلی :

أوّلاً : إنه جعل مدلول الأمر طلب الفعل ، و مدلول النهی طلب الترک . فیرد علیه الإشکال فی الأوامر التی هی هیئات عارضة علی المواد - و هی الأکثر فی الأوامر - بأنّ الهیئات معانی حرفیّة ، و« الطلب » معنی اسمی ، فکیف یصیر المعنی الاسمی مدلولاً للهیئة ؟

ص:275

فإن قیل : إن المحقق الخراسانی لا یفرّق بین المعنی الاسمی و المعنی الحرفی .

قلنا : نعم ، لکنّه یری الاختلاف بینهما باللّحاظ ، و هذا یتمّ فی مثل الابتداء و الانتهاء و نحوهما ، أمّا الطلب فلا یقبل اللّحاظین .

و ثانیاً : إنه جعل الاختلاف بین الأمر و النّهی فی ناحیة المتعلّق ، فکلّ منهما طلب ، لکن الأمر طلب الفعل و النهی طلب الترک . و فیه : إن هذا خلاف الارتکاز العرفی ، إذ العرف العام علی أنهما متغایران بالذات .

و ثالثاً : إنه أدخل الوجود و العدم فی مدلولی الأمر و النهی ، لکنّ کلّاً من الأمر و النهی مرکّب من المادّة و الهیئة ، و لا دلالة لشیءٍ منهما علی الوجود فی طرف الأمر ، و العدم فی طرف النهی ، و قد عرفت أنّ المعنی الاسمی لا یمکن أن یکون مدلولاً للهیئة التی هی معنی حرفی ، و لا یعقل وجود مدلولٍ بلا دالٍ ، فلا یدلّ الأمر علی طلب الوجود و النهی علی طلب الترک و العدم .

و رابعاً : قوله : بأن متعلّق الطلب هو وجود الطبیعة ، لأن الطبیعة من حیث هی لیست إلّا هی ، لا مطلوبة و لا لا مطلوبة . و فیه : إن الطلب علی مسلکه هو طلب الوجود ، و قد طرأ علی الطبیعة - و هو أمر زائد علی ذاتها - فلما ذا لا یطرأ علی الطلب ؟ و علی الجملة ، فإنّ المناط لصحّة تعلّق الطلب بوجود الطبیعة هو المناط لتعلّقه بها ، و إذا کانت الطبیعة من حیث هی لیست متعلّقة للأمر ، فهی غیر متعلّقة للطلب أیضاً .

و خامساً : ما أورده المحقّقان الأصفهانی و العراقی ، و هو یرتبط بجوابه عن الوهم . و توضیح ذلک :

إنه قد ذکر تحت عنوان « دفع وهم » ما حاصله : إن الأمر طلب وجود

ص:276

الطبیعة ، فیرد علیه : أنّه إنْ کان المراد وجودها الذهنی ، ففیه : أن الوجود الذهنی لیس بحاملٍ للغرض حتی یطلب . و أیضاً : یرد علیه ما یرد علی الوجود الخارجی إن کان المراد ، و هو : إن الطلب من المفاهیم ذات التعلّق ، کسائر الصفات النفسانیة من الحبّ و البغض و نحوهما ، فلو تعلّق بالوجود الخارجی ، یلزم أن یصیر هو - أی الطلب - خارجیّاً ، أو یصیر المتعلّق الخارجی نفسانیّاً ، و کلاهما محال .

و أیضاً : فإنّ الخارج ظرف سقوط الطلب ، فکون الوجود الخارجی مقوّماً للطلب محال .

فأجاب فی الکفایة : بأن کون وجود الطبیعة أو الفرد متعلّقاً للطلب هو أن یرید المولی صدور الوجود من العبد و إفاضته بالمعنی الذی هو مفاد کان التامّة ، لا أنه یرید ما هو صادر و ثابت فی الخارج کی یلزم طلب الحاصل کما توهّم ...

فلیس متعلّق الطلب هو الوجود الخارجی ، لأنه مسقط للطلب و لأنّه تحصیل للحاصل ، بل المتعلّق هو الإفاضة .

و الإشکال علی هذا الجواب هو : إن الإفاضة عین المفاض ، و الصدور عین الصادر ، و الإیجاد عین الوجود ، لأنّ اسم المصدر و المصدر واحد حقیقةً و الاختلاف بالاعتبار ، فرجع الأمر إلی الوجود الخارجی ، فالإشکال باق علی حاله .

نظریة المیرزا

و أمّا المیرزا النائینی (1) ، فقد جعل البحث فی المقام من صغریات مبحث أنّ الکلّی الطبیعی موجود فی الخارج أو لا ؟ فعلی القول بعدم وجوده خارجاً ، یکون متعلّق الطلب هو الفرد ، إذ المفروض أنه موجود غیره ، فهو المطلوب و الغرض

ص:277


1- 1) أجود التقریرات 1 / 305 .

قائم به . أمّا علی القول بوجود الکلّی الطبیعی ، فهو متعلّق الغرض بقطع النظر عن مشخّصاته ، بحیث لو تمکّن المکلّف من إیجاده خارجاً بدونها لحصل الغرض .

و علی هذا ، فتظهر الثمرة بین القولین فی مسألة اجتماع الأمر و النهی ، ففی الصّلاة فی الدار المغصوبة - مثلاً - یبقی الطلب علی القول بتعلّقه بالطبیعة علی الصّلاة و لا یتجاوزه إلی متعلّق النهی و هو الغصب ، لکونهما طبیعتین مستقلتین ، غایة الأمر ، أن کلّ واحدةٍ منهما قد أصبحت مشخّصةً للأُخری فی مورد الاجتماع ، و المفروض خروج المشخّصات عن دائرة المتعلّق ، وعلیه ، فیقال بجواز اجتماع الأمر و النهی . و أمّا علی القول بتعلّق الطلب بالفرد ، و هو الصّلاة مع المشخّصات فی المثال ، فقد أصبح الفرد - و هو هذه الصّلاة فی الدار المغصوبة - هو المطلوب ، فیلزم اجتماع الأمر و النهی فی الشیء الواحد ، و هو محال ... و هذه ثمرة مهمّة .

و المختار عند المیرزا هو : تعلّق الأمر بالطبیعة ، و أنّ المشخّصات لها إنما توجد فی عرض وجودها خارجاً ، و لیست من ذات الطبیعة و ماهیّتها قبل وجودها ، لتدخل فی دائرة المتعلّق .

اشکال السید الخوئی

و قد أشکل علیه فی ( المحاضرات ) : بأن هذه النظریة خاطئة ، لأنّ کلّ وجود - سواء کان جوهراً أو عرضاً - یتشخّص فی الخارج بذاته ، فلا یعقل أن یکون متشخّصاً بوجود آخر ، لأن الوجود هو التشخص و تشخّص کلّ شیء بالوجود ، فلا یعقل أن یکون تشخّصه بشیء آخر أو بوجود ثان و إلّا لدار أو تسلسل ، وعلیه ، فتشخّصه - بمقتضی قانون کلّ ما بالغیر وجب أن ینتهی إلی ما بالذات - یکون بنفس ذاته ، و هذا بخلاف الماهیّة فتشخّصها یکون بالوجود .

وعلیه ، فإنّ الأمور المتلازمة مع الطبیعة خارجاً من الکم و الکیف و غیرها ،

ص:278

موجودات أُخری فی عرض وجود الطبیعة و متشخّصات بنفس وجوداتها ، و هی أفراد لطبائع مختلفة ، فلا یعقل أن تکون مشخّصات لوجود الطبیعة ، وعلیه ، ففی إطلاق المشخّصات للطبیعة علیها مسامحة واضحة .

( قال ) و بعد بیان ذلک نقول : إن تلک اللّوازم و الأعراض کما أنها خارجة عن متعلّق الأمر علی القول بتعلّقه بالطبیعة ، کذلک هی خارجة عن متعلّقه علی القول بتعلّقه بالفرد ، بداهة أنه لم یقصد من القول بتعلّقه بالفرد تعلّقه بفردٍ ما من هذه الطبیعة و فردٍ ما من الطبائع الأُخری الملازمة لها فی الوجود الخارجی کالغصب مثلاً .

( قال ) و کیف کان ، فالعجب منه قدّس سرّه کیف غفل عن هذه النقطة الواضحة و هی : أن الأعراض و اللوازم لیست متعلّقة للأمر علی کلا القولین ، و لکنک قد عرفت أن هذا مجرّد خیال لا واقع له ، و إن مثل هذا الخیال من مثله غریب ، لما سبق من أن تلک الأعراض لا تعقل أن تکون مشخّصات الوجود خارجاً ، فإن تشخّص الوجود بنفسه لا بشیء آخر ، بل إنها وجودات أُخری فی قبال ذلک الوجود و ملازمة له فی الخارج (1) .

جواب الأُستاذ عن الاشکال

و أجاب الشیخ الأُستاذ : بأن السیّد قد اشتبه فی تقریب کلام المیرزا فقال ما لا ینبغی أن یقول ، فإنّ المیرزا یصوّر النزاع علی أساس أن التشخّص بالوجود : بأنّه إن کانت المشخّصات عارضةً علی الطبیعة قبل عروض الوجود ، فالوجود لا محالة یکون طارئاً علی الماهیّة المشخّصة ، و تکون العوارض موجودة بعین وجود الفرد ، و إن کانت غیر عارضة علی الطبیعة قبل وجود الفرد ، بل فی نفس

ص:279


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 198 .

تلک المرتبة التی طرأ فیها الوجود علی الفرد ، فالماهیّة حینئذٍ غیر متشخصة بالعوارض بل یکون تشخّصها بالوجود .

فالقائلون بتعلّق الأمر بالفرد یقولون بأن الماهیّة تتشخّص بالعوارض من الکم و الکیف و الأین ، فتکون موجودة . و القائلون بتعلّقه بالطبیعة یقولون بأن متعلّق الأمر هو الماهیّة و التشخّص غیر داخل فیه .

و بهذا تظهر الثمرة فی مسألة اجتماع الأمر و النهی ، فعلی القول بخروج التشخصات عن المتعلّق یکون متعلق النهی غیر متعلق الأمر ، و أمّا علی القول بدخولها کان الأمر و النهی واردین علی الشیء الواحد ، و یلزم الاجتماع و لا بدّ من القول بالامتناع .

و مختار المیرزا هو أن العوارض المشخّصة لیست عارضةً من قبل ، بل إنها تشخّص الماهیّة فی عرض الوجود ، فالمتعلّق هو الطبیعة .

و الحاصل : إن المیرزا یصرّح بأن التشخّص لیس إلّا بالوجود ، و نسبة تشخّص الماهیّة بالعوارض إلیه هو الأمر الغریب .

إلّا أن یشکل علی المبنی ، فینکر أن تکون العوارض و المشخّصات فی عرض الوجود ... و هذا أمر آخر .

نظریّة المحقّق العراقی

و قال المحقق العراقی قدّس سرّه : إن الطلب علی کلّ تقدیر یحتاج إلی متعلّق ، و هو مورد النزاع .

و الطبیعة تلحظ : تارةً بما هی هی ، ففی الانسان - مثلاً - لا یلحظ إلّا الحیوان و الناطق . و أُخری : تلحظ موجودةً بالوجود الذهنی کقولنا : الإنسان نوع . و ثالثةً :

تلحظ بما هی خارجیّة .

ص:280

فیقول : إن متعلّق الطلب فی الأمر هو العنوان ، لکن العنوان المرئیّ خارجاً ، و کذلک الصفات النفسانیّة کالحبّ و الشوق و الإرادة ، فإنها تتعلّق بالعناوین الفانیة فی المعنونات . فمراد القائلین بتعلّق الأمر بالفرد هو أن المتعلّق نفس المعنون الموجود فی الخارج ، و مراد القائلین بتعلّقه بالطبیعة أن المتعلّق هو العنوان - لا المقیّد بالوجود الذهنی ، لأنه لا یقبل الوجود فی الخارج ، و لا بما هو هو ، لأنه لیس بحاملٍ للغرض کی یتعلّق به الغرض و الأمر ، و لا الموجود فی الخارج ، لأنه فرد و هو منشأ لانتزاع عنوان الطبیعة ، - أی العنوان المتّحد مع الخارج ، کالإنسان المتحد مع زید ... فظهر الاختلاف بین القولین ... فالقول الأول : هو تعلّق الأوامر بالأفراد الموجودة خارجاً ، کزید المعنون بعنوان الإنسان . و القول الثانی : هو تعلّقها بالعناوین کعنوان الإنسان الملحوظ فانیاً فی زید .

قال : نظیر الحال فی الجهل المرکب ، حیث توجد الإرادة عند الجاهل کذلک ، لکنّ متعلّق الإرادة عنده هو العنوان و الصورة الفانیة فی الخارج فی ذهنه ، لا الخارج ، لأن الخارج ظرف سقوط الأمر ، فلا یکون متعلّقاً للطلب و الإرادة التی هی صفة نفسانیة .

ثم أورد علی الکفایة قوله : بأن متعلّق الطلب هو إیجاد الطبیعة فقال : إن متعلّق الطلب متقدّم علی الطلب تقدّماً طبعیّاً ، فلا یعقل وجود الطلب بلا متعلّق ، و إن أمکن وجود المتعلّق بلا طلب ، کأن یتعلّق الطلب بالأکل ، فإنه بدون الأکل محال ، لکن قد یوجب الأکل بلا طلب ، فلا ریب فی تقدّم متعلّق الطلب علی الطلب تقدّم الواحد علی الاثنین ، إذ لا یعقل وجود الاثنین بدون الواحد ، لکن یمکن وجوده بدون الاثنین ... هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن إیجاد الطبیعة معلولٌ للطلب فیکون متأخّراً عنه رتبةً ، فلو کان هو

ص:281

المتعلّق کان متقدّماً رتبةً علی الطّلب ، فیلزم تقدّم المتأخّر ، و هو محال .

و أورد علیه أیضاً قوله : بکون المتعلّق هو الوجود السعی للطبیعة : بأنّ هذا غیر ممکن ، لأنه قد تؤخذ مادة الوجود فی الأمر ، فیلزم حضور الوجود فی الذهن قبل الأمر بمرتبتین ، کما لو قال - بدل : « صل » - أوجد الصّلاة ، و هذا ضروری البطلان .

و تلخّص : إنه لیس متعلّق الإرادة هو الخارج ، إذ الخارج ظرف سقوط الطلب و الارادة ، و لیس الوجود الذهنی ، بل إن الحامل للمصلحة و الغرض هو الوجود الخارجی و متعلّق الطلب هو الوجود الزعمی ، کما ذکر ، أی الوجود المرئی خارجاً ، فلمّا یقول : « جئنی بماءٍ » یتصوّر الماء خارجاً ، أمّا لدی التّصدیق فالصّورة غیر خارجیّة و إنما هی مرئیّة خارجاً ، فالصّورة فی النظر التصوّری خارجیّة و فی النظر التّصدیقی غیر خارجیّة ، لأن الخارج ظرف للسقوط ، فهی غیر منعزلة عن الخارج ، کما أن الماهیّة غیر منعزلة عن الوجود ، لکنّ التحلیل العقلی یعزل الماهیّة عن الوجود ، فالصّور کذلک ، هی بالتحلیل العقلی منعزلة عن الخارج ، لکنّ الصورة متّحدة مع الخارج ، فیکون الخارج هو الحامل للغرض ، و لکن الصّورة هی متعلّق الطلب (1) .

نظر الأُستاذ

و تنظّر الأُستاذ فی هذه النظریّة : بأنه صحیحٌ أن الخصوصیّات لا تتعلّق بها الإرادة ، سواء فی الأوامر الشرعیّة أو العرفیّة ، لکنّ القول بأن متعلّق الإرادة هی الصّورة الفانیة فی الخارج بالنظر التصوّری - أمّا بالنظر التصدیقی فخلاف الواقع ، لکون الصورة فی الذهن و لا علاقة لها بالخارج - لا یمکن المساعدة علیه ، لأنه

ص:282


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 383 ط جامعة المدرسین .

خلاف الوجدان ، لأنا لا نجد فی أنفسنا فی مختلف مراداتنا تعلّق الطلب و الإرادة بالصّورة الفانیة فی الخارج ، و کیف یکون للإنسان طلب و إرادة و لا یجد فی نفسه و لا یلتفت إلی متعلّق طلبه ؟ هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ المفروض فی کلامه قدّس سرّه هو : أجنبیّة الصّورة الفانیة فی الخارج عن الخارج الواقعی ، و أنّ ذلک لیس إلّا فی النظر التصوّری أمّا بالنظر التصدیقی فهو باطل . فیرد علیه : أنه کیف یعقل تعلّق الإرادة بعنوانٍ و صورةٍ یراها بالنظر التصدیقی غیر موجودة فی الخارج ؟

و أمّا إیراده علی نظریّة تعلّق الأمر بإیجاد الطبیعة ، فیمکن دفعه بأن : الإیجاد ذهنی تارةً و أُخری هو ذهنی فانٍ فی الخارج ، فکما عندنا وجود خارجی و وجود ذهنی هو مرآة للوجود الخارجی ، کذلک الإیجاد ، لأن الوجود و الایجاد واحد حقیقةً ، فلقائل أن یقول بأن متعلّق الطلب هو الایجاد المفهومی الفانی فی الخارج ... و بذلک یندفع الإشکال و إن کانت عبارة الکفایة قابلةً له .

و أمّا إیراده الثانی من لزوم تصوّر الوجود مرّتین فی مثل : أوجد الصّلاة ، لکون الهیئة مشتملةً علی الوجود علی مسلک الکفایة ، و لکون مادّة الوجود فی حیّز الطلب ... فقد یجاب عنه : بأنّ الوجه فی إشراب الوجود فی الهیئة هو أن العقل یری عدم قابلیّة الطبیعة من حیث هی لتعلّق الطلب بها ، فلا مناص من أخذ الوجود لتصیر قابلةً لذلک ، سواء کانت المادّة هی الوجود أو غیره من المواد ، فإن کانت المادّة هی الوجود فلا ضرورة عقلیّة لإشرابه فی المادّة ، فلا یتکرّر تصوّر الوجود .

ص:283

نظریّة السید البروجردی

و أمّا السیّد البروجردی ، فقد قدّم علی بیان ما ذهب إلیه (1) مقدّماتٍ ، ذکر فی الأولی المراد من الحصّة و الطبیعة و الفرد فقال : بأن المراد من الحصّة تارةً : هو الطبیعة المضافة کقولنا : الانسان الأبیض ، و أُخری : الماهیّة المتشخّصة بالوجود ، أی الإنسانیة الموجودة بوجود زید حصّة من الإنسان ، و کذا فی عمرو و غیره ، فلهم فی الحصّة اطلاقان فی قبال الطبیعة بقطع النظر عن الإضافة ، کقولک الانسان نوع ، الصادق علی الخارج من زید و عمرو ... فیقال : زید إنسان ، و ذلک لأنهم وجدوا فی الأفراد - کقولنا زید موجود - حیثیّتین ، حیثیّة الوجودیّة ، و هی تشمل عمراً و بکراً و السماء و الأرض أیضاً ، و حیثیّة خصوصیّة فی زید ، فهو زید و مع الإنسانیة التی یشارکه فیها عمرو و بکر ، فالطبیعة لها وجود فی القضیّة الذهنیّة - و هی قولنا : الإنسان نوع - یشترک فیها زید و عمرو و بکر من حیث الوجود کما یشترکون من حیث الانسانیة ... و هذه هی الطبیعة .

( قال ) و الماهیّة التی هی عبارة عن الطبیعة موجودة فی الخارج ، و لا یصح القول بعدم وجودها ، غیر أنّ للوجود إضافتین ، احداهما : إلی الفرد ، و الأُخری :

إلی الطبیعة ، فهو یضاف أوّلاً و بالذات إلی الماهیّة المتشخّصة التی هی حصّة من الطبیعة ، ثم إلی الطبیعة فی الرتبة الثانیة ، فبناءً علی أصالة الوجود یکون المتحقق بالذات فی الخارج هو الوجود ، إلّا أنه لیس بغیر حدّ ، بل الحدّ أیضاً موجود حقیقةً ، فالوجود موجود بالذات و الإنسانیّة الموجودة فی زید حدّ لهذا الوجود ، و کذلک الوجود فی عمرو ... و ذلک الحدّ هو الماهیّة الشخصیّة أی الإنسانیة الموجودة بوجود زید المرکّبة من جنس هو « حیوان » و فصل هو « ناطق » . و هکذا

ص:284


1- 1) نهایة الأُصول : 217 .

فی غیره ... لکن الإنسانیة الموجودة بوجود زید غیر الموجودة بوجود عمرو ...

و هکذا ، کما أنّ وجود کلّ منهم یغایر وجود الآخر ... إلّا أن الإنسانیّة - الحیوانیّة الناطقیة - موجودة و وجودها یکون أوّلاً و بالذات ، و یکون وجود الإنسان : زید و عمرو ... ثانیاً و بالعرض ، أی بتبع وجود الإنسانیّة ، و هذا معنی قولهم : « الحق أن الطبیعی موجود بوجود فرده » .

فظهر المراد من الحصّة و الطبیعة و الفرد ، و خلاصة ذلک أن :

الحصّة عبارة عن الإنسانیة الموجودة بوجود خاص :

و الطبیعة عبارة عن الجهة المشترکة بین الإنسانیّات الموجودة ، و وجود هذه الجهة یکون بوجود الأفراد ، کنسبة الآباء إلی الأبناء .

و الفرد قد یطلق و یراد منه الوجود ، بناءً علی أصالة الوجود ، إذ الوجود متفرّد بذاته و هو عین الفردیة ، و قد یطلق و یراد منه الماهیّة ، و هو الفرد بالعَرَض .

و قد ذکروا أن الماهیّة علی قسمین : ما یقبل الصّدق علی کثیرین و هو الطبیعة غیر المتحصّصة ، و ما لا یقبله و هو الماهیّة المتحصّصة أی المتشخّصة . فالإنسانیة تصدق علی کثیرین ، أمّا إنسانیة زید فلا ، کما أن الوجود کذلک ، فلا یقبل الصّدق علی کثیرین لأنه سالبة بانتفاء الموضوع ، بخلاف الماهیّة المتشخّصة ، فهی فی ذاتها تقبل الصّدق علی کثیرین ، لکنّها بإضافتها إلی الوجود سقطت عن القابلیّة لذلک ، فکان عدم القابلیّة للصّدق علی کثیرین فیها بالعرض ، کما کان فی الوجود بالذات .

المقدمة الثانیة : تارةً : نجعل الموضوع فی القضیّة مفهوم الوجود کأن نقول : « مفهوم الوجود من أعرف الأشیاء » ، أی: إنه بدیهی التصوّر ، و هذا من أحکام مفهوم الوجود ، - لا من أحکام واقع الوجود ، لاستحالة تصوّر واقع الوجود

ص:285

حتی یحکم علیه بحکمٍ - بأن یجرّد المفهوم من الوجود و یتصوّر وحده فی الذهن ، ثم یحکم علیه .

و أُخری : نجعل الموضوع واقع الوجود ؟ کأن نقول : « کنه الوجود فی غایة الخفاء » . لکن إذا کان واقعه غیر قابلٍ للتصوّر ، فکیف یجعل موضوعاً ویحکم علیه بحکم من الأحکام ؟

إن غایة ما قیل فی الجواب هو : إن مفهوم الوجود ، إن لوحظ بلحاظ ما فیه ینظر ، کان موضوعاً لأحکام نفس المفهوم ، و إن لوحظ بلحاظ ما به ینظر ، کان موضوعاً لأحکام واقع الوجود ، و فی قولنا : « کنه الوجود فی غایة الخفاء » جعلنا مفهوم الوجود بما فیه ینظر بالنسبة إلی واقع الوجود .

فقال : بأن متعلّق الطلب هو مفهوم وجود الطبیعة ، لکن بلحاظه مرآةً لوجود الطبیعة ، خلافاً لصاحب الکفایة ، إذ قال بأن المتعلّق هو وجود الطبیعة .

المقدمة الثالثة : إن متعلّق الطلب لا بدّ و أن یکون فیه جهة وجدان وجهة فقدان ، و أمّا الفاقد من جمیع الجهات فلا یصلح لأن یتعلّق به الطلب ، لأنه معدوم و المعدوم لا یتقوّم وجود الطلب به ، و کذا لو کان واجداً من جمیع الجهات ، فإن طلب ما کان کذلک طلب للحاصل و هو محال .

و بعد المقدمات : إن متعلّق الطلب و الإرادة هو الوجود الفرضی للموجود التحقیقی الخارجی ، فإنّه فی عالم الفرض یفرض وجود شیء فیتعلّق الإرادة و الطلب و الشوق به لأن یوجد خارجاً ، فالمتعلّق هو ما فی یفرض أنه موجود فی الخارج ... و کذلک الحال فی جمیع الإرادات التکوینیّة ، إذ المتعلّق لها هو الموجود بالحمل الشائع لکن بالوجود الفرضی ، و وزان الإرادة التشریعیّة وزان الإرادة التکوینیّة ، فیکون المتعلّق لها هو الوجود التحقیقی الموجود بالوجود

ص:286

الفرضی ... و أمارات المشخّصات خارجة عن دائرة المتعلّق ... و علی هذا ، یکون تطبیق المکلّف للمتعلّق علی الأفراد بنحو التخییر ... لأنه لیس المتعلّق إلا وجود الطبیعة بالوجود الفرضی بتعبیر المحقق الأصفهانی ، و بتعبیر السید البروجردی :

مفهوم وجود الطبیعة الفانی بوجود الطبیعة ، فیکون التطبیق بید المکلّف ، و هذا تخییر عقلی ، بخلاف ما لو قلنا بتعلّق الطلب بالأفراد و الماهیّة الشخصیّة ، فإن التخییر یکون شرعیّاً . فظهر ما فی کلام المحاضرات من جعل التخییر عقلیّاً علی کلّ تقدیر .

إشکال الأُستاذ

قال الأُستاذ بعد بیان کلام المحقق الأصفهانی و السید البروجردی : بأن الإشکال السّابق یعود ، لأن مفروض الکلام کون الآمر ملتفتاً إلی أن متعلّق طلبه لیس خارجیّاً و أنه یستحیل ذلک ، لکن غرضه من الطلب قائم بالوجود الخارجی لا الفرضی ... .

و علی الجملة ، فإنّ مشکلة کیفیّة تعلّق الطلب باقیة ، و لم تحل بوجهٍ من الوجوه المذکورة فی المقام فی الکتب الأُصولیّة ... بل إن حلّها موقوف علی فهمنا لکیفیّة علمنا بالأشیاء ، و أنه هل یمکن المعرفة أو لا ؟

و کیف کان ، فعلی القول بتعلّق الأمر بأمارات التشخّص و کونها داخلةً فی المتعلّق ، فلا محالة یلتزم بالامتناع فی مسألة اجتماع الأمر و النهی ، لکون المورد حینئذٍ صغری لباب التعارض ، و علی القول بخروجها ، یکون صغری لباب التزاحم ، و تکون النتیجة هو القول بالجواز .

لکن الحق خروجها عن المتعلّق ، لأن محلّ البحث هو تعلّق الأمر بذات الطبیعة ، المرئیة خارجاً کما علیه المحقق العراقی ، أو الموجودة بالوجود الفرضی

ص:287

کما علیه السید البروجردی ... فالمتعلّق هو القدر المشترک بین الحصص ، لأنّه الذی یقوم به الغرض ، ... وعلیه یکون التخییر عقلیّاً ... خلافاً للعراقی فإنّه - مع ذهابه إلی أن المتعلّق عبارة عن الطبیعة و أن الحصص غیر داخلة فیه - قال بأن التخییر شرعی ، لکون المتعلّق و إن کان الطبیعة ، لکنه الطبیعة بالحدود الطبیعیّة ، کالإنسان مثلاً ، فإنه یمتاز عن غیره من الأنواع بحدودٍ طبیعیّة ، فإذا کان کذلک ، کان التخییر شرعیّاً .

فأورد علیه الأُستاذ : بأنّ الحدود للطبیعة لیست إلّا الجنس و الفصل ، لأنّ الحدّ المضاف إلی الطبیعة المقوّم لها لیس إلّا ذلک ، فعلی القول بتعلّق الأمر بالطبیعة ، یکون المتعلّق هو الطبیعة النوعیّة ، و هی متّحدة مع الحدود ، غیر أنّ الاختلاف یکون بالإجمال و التفصیل ، کالإختلاف بین « الإنسان » و« الحیوان الناطق » فلیست حدود الطبیعة شیئاً زائداً علیها ، و لمّا کان متعلّق الطلب هو الطبیعة و هی الحامل للغرض ، فکیف یکون التخییر شرعیّاً ؟ إنّ التخییر الشرعی یتقوّم بکون الخصوصیّة داخلةً تحت الطلب بنحو علی البدل ، بأن یصلح دخول « أو » علیه ، کما فی : أعتق رقبةً أو صم ستّین یوماً . أمّا حیث یکون متعلّق الطلب هو « الصّلاة » فلا تکون الصّلاة هنا أو هناک داخلةً تحت الطلب .

و تلخّص :

إن الأمر یتعلّق بالعنوان فیما لا طبیعة له ، کعنوان الصّلاة و الصّوم و الحج ، فإن کان للمتعلّق طبیعة قابلة للوجود خارجاً فإنها هی المتعلّق و هی الحاملة للغرض ، و یکون التخییر عقلیّاً .

ص:288

النسخ

اشارة

ص:289

ص:290

.کلام الکفایة :

اشارة

« إذا نسخ الوجوب ، فلا دلالة لدلیل الناسخ و لا المنسوخ علی بقاء الجواز بالمعنی الأعم و لا بالمعنی الأخص ، کما لا دلالة لهما علی ثبوت غیره من الأحکام .

ضرورة أنّ ثبوت کلّ واحدٍ من الأحکام الأربعة الباقیة بعد ارتفاع الوجوب واقعاً ممکن ، و لا دلالة لواحدٍ من دلیلی الناسخ و المنسوخ - بإحدی الدلالات - علی تعیین واحدٍ منها ، کما هو أوضح من أن یخفی ، فلا بدّ للتعیین من دلیلٍ آخر » (1) .

أقول :

للبحث أمثلة کثیرة ، منها : قوله عزّ و جلّ : «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِکینَ حَیْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » حیث قیل إنّ الآیة منسوخة بقوله عز و جلّ «لا إکراهَ فی الدِّین » .

فهل یبقی جواز القتل بعد زوال الوجوب أو لا ؟ فههنا مقامات ، أحدها : بقاء الجواز ثبوتاً ، و الثانی : الجواز إثباتاً ، و الثالث : فی مقتضی الأُصول فی المسألة ... .

و قد أشار المحقق الخراسانی فی کلامه المزبور إلی أنّ للجواز معنیین ، أحدهما : الجواز بالمعنی الأعمّ ، و هو ما یجتمع مع الوجوب و الاستحباب

ص:291


1- 1) کفایة الأُصول : 140 .

و الإباحة ، و الآخر : الجواز بالمعنی الأخص ، و هو الإباحة . و لفظ « البقاء » یقتضی أن یکون المراد من « الجواز » هو المعنی الأعم لا الأخص .

فما ذکره المحقق المذکور من عدم الدلالة علی بقاء الجواز ، لا بالمعنی الأعم و لا بالأخص ، مخدوش ، لأن الجواز بالمعنی الأخص لیس بقائیّاً أصلاً بل هو حدوثی .

.المقام الأوّل

اشارة

إن البحث الثبوتی فی المسألة یبتنی علی تشخیص حقیقة الوجوب ، فهل هو بسیطٌ أو مرکّب ، و علی الثانی هو مرکّب من جواز الفعل مع المنع عن الترک ترکیباً انضمامیّاً ، أو مرکّب منهما ترکیباً اتحادیّاً من قبیل الترکیب بین الجنس و الفصل ، فیکون موجوداً بوجودٍ واحدٍ منحلٍّ إلی جزءین ؟ أقوال .

فعلی القول بالبساطة - و هو الحق - لا بقاء للجواز بعد ارتفاع الوجوب ، لأنّ الحقیقة شیء واحد ، إمّا موجود و إمّا مرتفع ، إذ البسیط لا یتبعّض و الواحد لا یتعدّد .

و کذا علی القول بالترکیب الاتّحادی ، لأن بقاء الجنس بعد زوال الفصل غیر معقول إلّا متفصّلاً بفصلٍ آخر .

و أمّا علی القول بالترکیب الانضمامی ، فیمکن بقاء الجواز ثبوتاً بعد زوال الوجوب ، و هذا واضح .

تصویر المحقق العراقی بقاء الجواز علی القول بالبساطة

و حاول المحقق العراقی رحمه اللّٰه (1) تصویر بقاء الجواز ثبوتاً علی القول بالبساطة ، بأنّ الوجوب عبارة عن الإرادة غیر المحدودة بالحدّ العدمی ، و هذه

ص:292


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 390 - 391 .

الإرادة - مع کونها بسیطة - مشتملة علی ثلاثة أُمور هی : أصل الرجحان ، و الجواز ، و الحدّ الوجوبی و هو شدّة الرجحان ، فلو ارتفع شدّة الرجحان - و هو الوجوب - أمکن بقاء الرجحان و الجواز ، نظیر اشتمال اللّون الأبیض علی : اللّونیة ، و البیاض ، و شدّة البیاض ، فإن ارتفعت الشدّة ، کان اللون و البیاض باقیین .

و یشهد بذلک قولهم بجریان الاستصحاب فی المراتب ، کما فی النور ، فلو کان هناک نور شدید ، ثم علم بارتفاع الشدّة و شکّ فی بقاء أصل النور و الضوء ، فإنّه یستصحب النور .

مناقشته

و قد یورد علیه بناءً علی أنّ الوجوب أمر منتزعٌ من اعتبار الشارع اللّابدیّة علی ذمّة المکلّف ، و الأُمور الانتزاعیة لا مراتب لها و لیست مشکّکة . لکنّه إشکال مبنائی .

فیرد علیه - مع حفظ المبنی - أولاً : إن الإرادة ، و هی الشوق الأکید غیر المحدود ، کیف نفسانی تکوینی ، و الترخیص أمر جعلی اعتباری ، فکیف یکون من أجزاء الأمر التکوینی ؟

و من هنا یظهر أن الإرادة لیست إلّا الشوق و شدّة الشوق ، و لا ثالث .

و ثانیاً : إنه علی فرض کون الترخیص أمراً واقعیّاً ، فإنّ الإرادة عبارة عن الشوق کما تقدّم ، فإن أُبرزت مع الحدّ فهو الاستحباب ، و مع عدمه فهو الوجوب ، فهی متقوّمة بالرجحان ، لکنّ الترخیص هو اللّااقتضاء ، فاجتماع الترخیص مع الإرادة و دخالته فیها غیر معقول ، وعلیه ، فلو نسخ الوجوب أمکن بقاء الاستحباب - علی مبنی المحقق العراقی - لا الجواز بالمعنی الأعم الذی هو مورد البحث .

ص:293

دلیل المحاضرات علی الامتناع الثبوتی

قال : إن الجواز و الوجوب لیسا مجعولین شرعیین ، بل هما أمران انتزاعیّان ، و المجعول الشرعی إنما هو اعتبار المولی لا غیره ، و المفروض أنه قد ارتفع بدلیل الناسخ ، فإذن ، لا موضوع للاستحباب ( قال ) : و لو تنزّلنا عن ذلک و سلّمنا أنّ الوجوب مجعول شرعاً ، فمع ذلک لا دلیل لنا علی بقاء الجواز ، و الوجه فی ذلک :

أمّا أوّلاً : فلأن الوجوب أمر بسیط و لیس مرکّباً من جواز الفعل مع المنع من الترک .

و أمّا ثانیاً : فلو سلّمنا أن الوجوب مرکّب ، إلّا أن النزاع هنا فی بقاء بالجواز بعد نسخ الوجوب و عدم بقائه ، لیس مبنیّاً علی النزاع فی تلک المسألة ، أعنی مسألة إمکان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل و عدم إمکانه ، و ذلک ، لأن النزاع فی تلک المسألة إنما هو فی الإمکان و الاستحالة العقلیین ، و أمّا النزاع فی مسألتنا هذه إنما هو فی الوقوع الخارجی و عدم وقوعه ، بعد الفراغ عن أصل إمکانه (1) .

توضیحه :

إنّ الأمر الواقع بالنسبة إلی الوجوب هو اعتبار ثبوت الفعل فی ذمّة المکلّف ، فإن اعتبر مع الترخیص فی الترک ، کان المنتزع عقلاً هو الاستحباب ، فالوجوب فی الحقیقة أمر منتزع من الاعتبار الشرعی لا مع الترخیص ، فلیس مجعولاً شرعیّاً ، فلا موضوع للبحث عن أنه بعد النسخ هل یبقی الجواز أو لا ؟

و أیضاً : فإنّ حقیقة النسخ لیس الرفع ، لأنه یستلزم الجهل فی الباری ، و إنما هو الدفع ، بمعنی أنّه بیانٌ لانتهاء أمد الحکم ، و هذا مفاد الدلیل الناسخ .

ص:294


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 204 - 205 .
إشکال الأُستاذ

و أورد علیه شیخنا - فی کلتا الدورتین - بأن ما ذکره یناقض ما ذهب إلیه - تبعاً للمحقق العراقی - من عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة الکلیّة الالهیة الإلزامیّة - خلافاً للمشهور بین المحققین - من جهة المعارضة بین استصحاب بقاء المجعول مع استصحاب عدم الجعل ، کما لو شک فی جواز وطئ المرأة بعد انقطاع الدم و قبل الغسل ، فالأصل بقاء الحکم المجعول و هو حرمة الوطء فی حال الحیض ، لکن هذا الأصل معارض باستصحاب عدم جعل الحرمة لهذه الحال بالخصوص ، فالوجوب و الحرمة أمران مجعولان شرعاً . بینما یقول هنا بأنهما غیر مجعولین من قبل الشارع ، فکیف یقع التعارض ؟

و أمّا قضیّة أن حقیقة النسخ هو الدفع ، بمعنی انتهاء أمد الحکم ، فإنّه لا منافاة بین انتهاء أمد الحکم الوجوبی و بقاء أصل الجواز .

فالمختار فی المقام

هو عدم البقاء ثبوتاً ، من جهة أنّ الوجوب أمر بسیط ، سواء کان انتزاعیّاً أو واقعیّاً . و ما ذکره المحقق العراقی من تصویر المسألة بناءً علی هذا القول ، قد عرفت ما فیه .

هذا تمام الکلام فی المقام الأول .

.المقام الثانی

إنه بناءً علی تمامیّة بقاء الجواز ثبوتاً - کما علیه المحقق العراقی - تصل النوبة إلی مقام الإثبات و البحث عن دلالة الدلیل علی البقاء ، و لا دلیل إلّا الناسخ و المنسوخ . و تقریب الاستدلال هو : إن حکم الدلیل الناسخ بالنسبة إلی الدلیل المنسوخ حکم دلیل الاستحباب بالنسبة إلی دلیل الوجوب ، فکما یقتضی ذاک

ص:295

الدلیل رفع الید عن ظهور ما دلّ علی الوجوب و حمله علی الاستحباب ، کذلک ناسخ الوجوب ، فإنه یزاحم المنسوخ فی دلالته علی الوجوب ، أی شدّة الارادة ، و یبقی دلالته علی أصل الرجحان .

و قد أورد علیه المحقق العراقی (1) : بأن هذا إنما یتمّ فی الدلیلین المتعارضین ، کأن یقوم الدلیل علی الوجوب ثم یأتی دلیل آخر مفاده « لا بأس بالترک » ، فبمقتضی نصوصیّة الثانی أو أقوائیّة ظهوره یتقدّم علی الأوّل ، لا فی دلیلین أحدهما حاکم علی الآخر ، لأنه لا یلحظ فی الحکومة جهة النصوصیّة أو الأقوائیة بل الحاکم یتقدّم علی المحکوم و إن کان أضعف ظهوراً منه . و ما نحن فیه من هذا القبیل ، فإنّ الدلیل الناسخ ناظر إلی الدلیل المنسوخ ، و هذا معیار الحکومة ، فلا یتم تنظیر محلّ الکلام بالوجوب و الاستحباب .

ثم قال : و بناءً علی الحکومة ، و أن الحاکم یتقدّم علی المحکوم و إن کان أضعف ظهوراً ، فإنّ الظهور العرفی قائم علی کون الناسخ ناظراً إلی المنسوخ بجمیع مراتبه لا بعضها ، و علی هذا ، فإن المنسوخ یرتفع بتمام مدلوله - و هو الإرادة - و حینئذٍ لا یبقی شیء بعد ارتفاع الوجوب .

قال : اللّهم إلّا إذا کان الناسخ مجملاً ، فإنه یقتصر فیه علی القدر المتیقّن ، و هو نسخه لمرتبة الشدّة من الإرادة ، فیبقی أصل الإرادة ، إلّا إذا سری إجمال الناسخ إلی المنسوخ فیسقط من الأساس .

قال الأُستاذ

و لا یرد علی المحقق المذکور : أن ما ذکره إنما یتم فی صورة کون الظهور ذا مراتب ، و هذا أول الکلام ، إذ لا ینبغی الاختلاف فی مراتب الظهور ، و إلّا لما أمکن

ص:296


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 391 .

تقدم النصّ علی الظاهر ، إذ النصوصیّة لیست إلّا الشدّة فی مرتبة الظهور .

لکنّ الإشکال الوارد علیه فی استثنائه صورة إجمال الناسخ ، إذ فیه :

أوّلاً : إن الناسخ دلیل منفصلٌ عن المنسوخ ، فیستحیل سرایة إجماله إلیه ، و إلّا لزم سرایة إجمال کلّ مخصّص منفصل مجمل إلی العام ، و عدم جواز التخصیص ... .

و ثانیاً : إن بقاء الرجحان فی حال عدم سرایة الإجمال - إن کان مجملاً - إلی المنسوخ ، موقوف علی دلالة المنسوخ علی الرجحان ، و هی إمّا بالالتزام و إمّا بالتضمّن - و هو یقول بالثانی لأنه یری أن الرجحان من مراتب الوجوب ، و التحقیق هو الأول - لکنّ الدلالة التضمنیّة و الالتزامیة فرعٌ للدلالة المطابقیّة ، فی الحدوث و الحجیّة ، فلو سقطت فلا تبقی الدلالتان ، و فیما نحن فیه : تقع المزاحمة بین الناسخ و المنسوخ ، إمّا فی أصل مدلول المنسوخ و إمّا فی حجیّته ، و علی کلّ تقدیرٍ ، فإنّه یسقط ، و إذا سقط المدلول المطابقی استحال بقاء شیء .

فالحق ، أنه علی مسلک المحقق العراقی فی حقیقة الوجوب : لا یبقی دلالة علی الرجحان المستلزم للجواز بالمعنی الأعم .

.المقام الثالث

فإنّه - بعد الفراغ عن مرحلة الثبوت ، و عن البحث الإثباتی - هل یجری استصحاب بقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب أو لا ؟

إن المستصحب تارة شخصی و أُخری کلّی ، و قد ذکروا للکلّی أقساماً :

أحدها : الکلّی الموجود فی الفرد المشکوک بقاؤه ، فیصح استصحاب الکلّی و استصحاب الفرد .

الثانی : أن یکون الفرد مردّداً بین مقطوع الزوال و مقطوع البقاء ، و هذا هو

ص:297

القسم الثانی من أقسام الکلّی .

و الثالث : أن یکون الفرد معیّناً ، و هو زائل یقیناً ، لکن یحتمل وجود فردٍ آخر للکلّی مع ذاک الفرد . و هذا هو القسم الأوّل من القسم الثالث .

و الرابع : أن یکون الفرد معیّناً ، و هو زائل یقیناً ، لکن یحتمل حدوث فردٍ آخر للکلّی مقارناً لزوال ذاک الفرد . و هذا هو القسم الثانی من القسم الثالث .

و الخامس : أن یکون المتیقّن حقیقة واحدة لکن ذا مراتب ، فیقطع بزوال مرتبة و یشک بذلک فی بقاء الحقیقة و عدم بقائها .

فهذه مقدمة .

و مقدمة أُخری : إنه یعتبر فی الاستصحاب وحدة القضیة المتیقّنة مع القضیّة المشکوکة ، وحدةً عرفیّة لا عقلیة .

و بعد المقدمتین ، نذکر أوّلاً کلام المحقق الخراسانی فی هذا المقام؛ قال :

« و لا مجال لاستصحاب الجواز إلّا بناءً علی جریانه فی القسم الثالث من أقسام الکلّی ، و هو ما ، إذا شک فی حدوث فرد کلّی مقارناً لارتفاع الحادث الآخر ، و قد حقّقنا فی محله أنه لا یجری الاستصحاب فیه ما لم یکن الحادث المشکوک من المراتب القویّة أو الضعیفة المتّصلة بالمرتفع ، بحیث یعدّ عرفاً - لو کان - أنه باق ، لا أنه أمر حادث غیره . و من المعلوم أن کلّ واحدٍ من الأحکام مع الآخر - عقلاً و عرفاً - من المتباینات و المتضادّات ، غیر الوجوب و الاستحباب ، فإنه و إن کان بینهما التفاوت بالمرتبة و الشدّة و الضعف عقلاً ، إلّا أنهما متباینان عرفاً ، فلا مجال للاستصحاب إذا شکّ فی تبدّل أحدهما بالآخر ، فإن حکم العرف و نظره یکون متّبعاً فی هذا الباب » (1) .

ص:298


1- 1) کفایة الأُصول : 140 .

و حاصل کلامه :

1 - إن المورد من قبیل القسم الثالث من أقسام الکلّی ، و لا یجری فیه الاستصحاب ، إلّا إذا کان الباقی من مراتب الزائل ، کما فی الشدّة و الضّعف مثلاً .

2 - إن الأحکام الخمسة متباینات عقلاً و عرفاً ، إلّا فی الوجوب و الاستحباب ، فإنهما متباینان عرفاً و مختلفان فی المرتبة عقلاً ، فإذا ارتفع الوجوب لا یصح القول ببقاء الاستحباب من باب الاستصحاب ، للتباین العرفی بینهما ، إذ الملاک فی الاستصحاب هو الوحدة العرفیّة فی موضوع القضیّتین .

قال الأُستاذ

و التحقیق هو النظر فی المسألة علی ضوء المبانی (1) فی حقیقة الوجوب :

فإن قلنا : بأنه مرکّب من البعث إلی الفعل مع المنع من الترک ترکیباً انضمامیّاً ، فإنه إذا نسخ الوجوب و شک فی أنّ الزائل هو الجزءان أو خصوص المنع من الترک ، کان هذا الجزء مقطوع الزوال و الآخر - و هو البعث إلی الفعل - مشکوک فیه ، وعلیه فلا إشکال فی جریان الاستصحاب ، و هو استصحاب فرد واحدٍ شخصی .

و بعبارةٍ أُخری : الزائل مردّد بین الأقل و الأکثر ، و قد کان زوال الأقل متیقّناً ، و زوال الأکثر مشکوک فیه ، فیستصحب .

و إن قلنا : بأن الوجوب بسیط لا مرکّب ، فهنا لا یتصوّر إلّا القسم الثانی من القسم الثالث من استصحاب الکلّی الذی اتّفقوا علی عدم جریانه .

و إن قلنا : بمسلک المحقق العراقی ، کان المورد - علی تقدیرٍ - من قبیل القسم الأخیر من أقسام الکلّی ، و هو کون المستصحب ذا مراتب ، و من قبیل القسم

ص:299


1- 1) تقدّم ذکرها فی المقام الأول .

الأوّل علی تقدیر آخر . و توضیحه : إنّه قد استثنی الشیخ الأعظم من أقسام الکلّی ما لو کان الفرد الموجود مرتبةً شدیدةً ، ثم علم بزوال الشدّة و شکّ فی بقاء أصل المرتبة ، فقال بجریان الاستصحاب فیه . و قال المتأخّرون عنه بأن هذا من القسم الأوّل لا من أقسام الکلّی ، لأن الشدّة إن کانت من المقوّمات لم یجر الاستصحاب لکونه من القسم الثالث ، و إن کانت من الحالات جری لبقاء الحقیقة ، کالعدالة الموجودة بالمرتبة العالیة ثم حصل الیقین بزوال تلک المرتبة ، فإنه تستصحب العدالة ، لکون تلک المرتبة من الحالات لا المقوّمات ، فیکون - علی هذا - من القسم الأوّل .

فبناءً علی أن حقیقة الوجوب هی الإرادة ، یکون أصل الإرادة هو المشکوک فیه بعد زوال الحدّ ، فیستصحب بقاؤها ، و لذا قال المحقق العراقی هنا بجریان الاستصحاب ، کما لا أنه لا یری التباین العرفی بین الاستحباب و الوجوب خلافاً لصاحب الکفایة .

و أمّا إن قلنا بالترکیب الاتّحادی ، فإنّه مع زوال الفصل لا یعقل بقاء الجنس ، فلا مجال للاستصحاب ، و ما أفاده المحقق الأصفهانی قدّس سرّه - من أنه مع انعدام الفصل ینعدم الجنس بما هو جنس ، لکنّه بما هو متفصّل بفصلٍ عدمی یکون باقیاً ، فلو قطعت « الشجرة » ینعدم « النامی » فالجهة الجنسیّة و هی حیثیة استعداد الشجر للنمو منعدمة ، إلّا أن تلک الجهة تبقی مع الفصل العدمی ، أی: فإن مادّة الشجر و هی الخشب موجودة مع عدم الاستعداد للنموّ ، فعلی القول بترکّب حقیقة الوجوب یکون الجواز باقیاً - بعد نسخ الوجوب - لکن مع الحیث العدمی ، أی الجواز مع عدم المنع من الترک - فقد عَدَل عنه فی تعلیقته ، و نصّ علی عدم معقولیّته ، قال : « لأن الترکّب الحقیقی من جنس و فصلٍ خارجیین ، لا یتصوّر إلّا فی الأنواع الجوهریّة دون الأعراض التی هی بسائط خارجیة ، فضلاً عن

ص:300

الاعتبارات » (1) .

مختار الأُستاذ

قال الأُستاذ : إنه إن کان الوجوب هو الإرادة ، و کانت الشدّة و الضعف من الحالات ، جری الاستصحاب بلا إشکال ، لکنّ الکلام فی المبنی ، فإنّ الحق هو بساطة الوجوب ، و أنه غیر الإرادة ، لکونها من التکوینیّات ، بل هو إمّا من الأُمور الاعتباریّة و إمّا من الانتزاعیّات ، فلا یجری فیه الاستصحاب ، لکونه من قبیل القسم الثانی من قسمی الثالث من أقسام الکلّی .

نظریّة السید الحکیم فی الاستصحاب

و قال السید الحکیم - معلّقاً علی قول ( الکفایة ) : فلا مجال للاستصحاب - ما نصّه :

« یکفی فی إثبات الجواز استصحاب الرضا بالفعل الثابت حال وجوبه ، إذ لو ثبت الرّضا به بعد ارتفاع الوجوب لا یکون وجوداً آخر للرضا ، بل یکون الرضا الأوّل باقیاً ، و إذا ثبت الرضا به - و لو بالاستصحاب - کان جائزاً عقلاً ، لأنّ الأحکام التکلیفیّة إنما تکون موضوعاً للعمل فی نظر العقل بمناط حکایتها عن الإرادة و الکراهة و الرضا لا بما هی هی ، و یکفی فی إثبات الاستحباب استصحاب نفس الإرادة النفسانیة ، إذ مجرّد رفع الوجوب لا یدلّ علی ارتفاعها ، و إذا تثبت الإرادة المذکورة ثبت الاستحباب ، لأنه یکفی فیه الإرادة للفعل مع الترخیص فی الترک الثابت قطعاً بنسخ الوجوب » (2) .

و توضیح کلامه :

أوّلاً : إنه قد کان مع الوجوب الرضا بالفعل ، و بعد النسخ یبقی الرّضا السّابق

ص:301


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 263 .
2- 2) حقائق الأُصول 1 / 331 .

بالاستصحاب . لا یقال : الرضا لیس من المجعولات الشرعیّة کی یجری فیه الاستصحاب . لأن الوجوب - کغیره من الأحکام التکلیفیّة - إنما یکون موضوعاً للعمل فی نظر العقل بمناط حکایته عن إرادة المولی ، فکلّ ما بالعرض ینتهی إلی ما بالذات ، و هذا روح الحکم فی نظر العقل .

و ثانیاً : إنه مع بقاء الرضا السابق یتمّ الجواز العقلی .

و ثالثاً : إنه یکفی فی إثبات الاستحباب استصحاب نفس الإرادة النفسانیّة .

و بناءً علی ما ذکر ، فإنه مع بساطة الوجوب یکون رضا المولی متحقّقاً ، فإذا نسخ الوجوب استصحب الرضا ، و یترتّب علیه الأثر ، و هو حکم العقل بلزوم العمل اتّباعاً لإرادة المولی و رضاه ، و یفتی بالاستحباب .

أقول :

العمدة فی هذه النظریّة ، هی أنه قد أجری الاستصحاب فی الإرادة التی هی منشأ الوجوب ، فأثبت بها موضوع حکم العقل ، بخلاف المحقق العراقی ، حیث أجراه فی نفس الوجوب و جعله بمعنی الإرادة ، فلا یرد علی هذه النظریّة ما ورد علی المحقّق المذکور .

لکنّ التأمّل فیها هو : أنّ الوجوب - علی کلّ حالٍ - إمّا بسیط و إمّا مرکّب ، و ظاهر الکلام أوفق بالثّانی ، فإن أراد الترکیب الانضمامی بأنْ یکون الوجوب مرکّباً بالانضمام من الرضا بالفعل مع المنع من الترک ، فقد عرفت تمامیّة الاستصحاب بناءً علیه ، و إن أراد الاتحادی ، فقد عرفت ما فیه . و أمّا علی القول بالبساطة ، فما هو المراد من قوله « الرضا بالفعل الثابت حال وجوبه » ؟ الظاهر أن « الرضا » حالة نفسانیّة خارجة عن الوجوب لازمة له ، فإذا زال الوجوب زال الرّضا بتبعه ، فلا یبقی شیء لکی یستصحب .

و هذا تمام الکلام فی النسخ .

ص:302

الوجوب التخییری

اشارة

ص:303

ص:304

.مقدمة

اشارة

إنّ هذا البحث مهم علماً و عملاً ... .

إنه لا ریب فی أنّ فی الشریعة واجبات یجوز ترکها إلی بدلٍ کخصال الکفارة ، و واجبات لا یجوز ترکها إلی بدل کالصّلاة ، و تسمّی الأُولی بالواجبات التخییریّة و الثانیة بالواجبات التعیینیّة ، و لکلٍّ من القسمین أحکام و آثار ، ففی الأوّل یستحق العقاب لو ترک جمیع الأفراد ، لکن استحقاق الثواب یکون بالإتیان بواحدٍ منها ، و من ذلک یظهر أن متعلّق الإرادة و حامل الغرض هو أحد الأفراد ، و لذا وقع الکلام فی تصویر هذا التکلیف ، و إذا أمکن ذلک فی الأحکام التکلیفیّة طبّق فی الأحکام الوضعیّة کذلک ، کما فی مسألة الضمان فی تعاقب الأیدی علی الماء المغصوب و المأخوذ بالعقد الفاسد .

و الإشکال العمدة ینشأ من نقطتین :

الأُولی : کیف یمکن أن تتعلّق الإرادة المشخّصة الموجودة ، بأحد الأشیاء أو الشیئین ، لأن الأحد مبهم ، فکیف یُعقل تعلّق المعیّن المتشخّص بالمبهم ؟

و الثانیة : إنه لا ریب فی أن الواجب التخییری بعث مولوی ، فکیف یکون البعث نحو « الأحد » ؟ مضافاً إلی أنه مضایف للانبعاث ، و الانبعاث بالمردّد غیر معقول .

ص:305

فإمّا یصوّر الوجوب التخییری بحیث یتلاءم مع هذه البراهین ، و إمّا یرفع الید عن ظواهر الأدلّة من أجلها و ینکر من أصله !

فلننظر فی الکلمات و الأقوال ... .

کلام المحقق الخراسانی و شرحه

اشارة

قال فی ( الکفایة ) : إذا تعلّق الأمر بأحد الشیئین أو الأشیاء ، ففی وجوب کلّ واحدٍ علی التخییر ، بمعنی عدم جواز ترکه إلّا إلی بدلٍ ، أو وجوب الواحد لا بعینه ، أو وجوب کلّ منهما مع السقوط بفعل أحدهما ، أو وجوب المعیّن عند اللّٰه . أقوال .

و التحقیق أن یقال : إنه إن کان الأمر بأحد الشیئین بملاک أنه هناک غرض واحد یقوم به کلّ واحد منهما ، بحیث إذا أتی بأحدهما حصل به تمام الغرض و لذا یسقط به الأمر ، کان الواجب فی الحقیقة هو الجامع بینهما ، و کان التخییر بینهما بحسب الواقع عقلیّاً لا شرعیّاً ... . و إن کان بملاک أنه یکون فی کلّ واحدٍ منهما غرض لا یکاد یحصل مع حصول الغرض فی الآخر بإتیانه ، کان کل واحدٍ واجباًَ بنحوٍ من الوجوب یستکشف عنه تبعاته ، من عدم جواز ترکه إلّا إلی الآخر ، و ترتب الثواب علی فعل الواحد منهما و العقاب علی ترکهما (1) ... .

أقول :

لقد ذکر رحمه اللّٰه أربعة أقوالٍ فقط ، لکنّها فی المسألة أکثر منها ، و اختار منها القول الرابع و حاصله : إن المتعلّق فی الوجوب التخییری لا یختلف عنه فی التعیینی إلّا من جهة سنخ التکلیف ، فإنّ التخییری مشوبٌ بجواز الترک إلی بدلٍ بخلاف التعیینی ، فکانا مشترکین فی عدم جواز الترک ، لأن الواجب ما لا یجوز

ص:306


1- 1) کفایة الأُصول : 140 .

ترکه ، غیر أنّ التخییری یجوز ترک أحد فردیه مثلاً بالإتیان بفردٍ آخر ، و التعیینی لا یوجد له بدیل .

إذن ، لا یرد الإشکال : بأنّ البعث و الإرادة لا یتعلّق بالمردّد ، لأنه لا ماهیّة له و لا وجود . و الإشکال : بأن البعث و الانبعاث متضایفان ، فکیف یکون الانبعاث مردّداً ؟

و یبقی اشکال اختلاف الآثار فأجاب : بأن هذا الاختلاف ینشأ من اختلاف سنخ الوجوب ، فإنّ سنخ الوجوب فی التخییری هو ترتب العقاب علی ترک الکلّ و الثواب علی الإتیان بأحدها ... أما فی التعیینی ، فإنهما یترتبان علی ترک أو فعل نفس ذاک المتعلّق المعیّن .

و قد ذکر أنّه إذا کان هناک غرض واحدٍ یقوم به کلّ واحد من الفردین ، فإنّ التخییر حینئذٍ عقلی لا شرعی ، أی یکون المتعلّق هو الطبیعة ، و البرهان علی ذلک هو قاعدة أن الواحد لا یصدر إلّا من الواحد ، فیکون ذلک الواحد بین تلک الأفراد هو الطبیعة . و إمّا إذا کان هناک غرضان ، بأن یقوم بکلّ من الفردین غرض مستقل عن الآخر ، لکن بینهما تزاحم و لا یمکن اجتماعهما فی الوجود ، فلا محالة تکون الإرادة متعلّقة بکلٍّ من الفردین مع جواز ترکه إلی الفرد الآخر .

ثم إنّه ذکر الأقوال الأُخری و ناقشها .

فأمّا القول : بأنّ المتعلّق للإرادة هو « الأحد لا بعینه » فقد أجاب عنه : بأن هذا « الأحد » لیس مفهومیّاً ، إذ لیس هو متعلّق الغرض حتی تتعلّق به الإرادة ، بل هو « الأحد » المصداقی ، لکنّ « الأحد لا بعینه » لا مصداق له . و قد أوضح هذا فی الحاشیة : بأن « الأحد » یصحّ تعلّق العلم به کما فی موارد العلم الاجمالی ، و کذا یصحّ تعلّق الأمر الانتزاعی به کتعلّق الوجوب بأحد الشیئین ، لکنّ الإرادة لا تتعلّق

ص:307

بالمردّد ، لأنّها علّة الوجود و لا یمکن أن یکون معلولها مبهماً ، و لا یعقل البعث و التحریک نحو المبهم ... فظهر الفرق بین العلم و الوجوب و بین البعث و الإرادة .

و أجاب عن القول بأن الوجوب التخییری هو وجوب کلا الشیئین ، لکن وجوب أحدهما مسقط لوجوب الآخر : بأن الفرضین إن کانا یقبلان الوجود ، فإسقاط أحدهما للآخر مستحیل ، و إن کانا متزاحمین لا یقبلان الوجود معاً ، فأحدهما لا یتحقق و لا تصل النوبة إلی إسقاط الآخر إیّاه .

و عن القول بأن الواجب هو « أحدٌ » معیّن لکن عند اللّٰه ... بأنّ المفروض کون کلّ واحدٍ من الشیئین أو الأشیاء حاملاً للغرض و وافیا به ، فکیف یکون « أحد » معیّن هو الواجب دون الآخر أو الأفراد الأُخری .

هذا بیان کلام ( الکفایة ) فی هذا المقام .

إشکال المحقق الأصفهانی
اشارة

و قد أشکل المحقق الأصفهانی (1) - و تبعه فی ( المحاضرات ) (2)و( المنتقی ) (3) - بأنّ مستند مبنی المحقق الخراسانی هو قاعدة أن الواحد لا یصدر إلّا من الواحد ، و لکنّها إنما تجری فی الواحد الشخصی دون النوعی ... و توضیحه :

إن البرهان علی تلک القاعدة هو : إنّ کلّ معلول حدّ ناقص للعلّة ، و کلّ علّةٍ فهو حدّ کامل للمعلول ( و قد وضع أهل الحکمة هذه القاعدة فی باب صدور العقل الأوّل أو الفیض الأقدس من الباری عز و جلّ . لکنّ الحق جریانها فی الفاعل الطبیعی . أمّا اللّٰه سبحانه و تعالی فیفعل ما یرید و کلّ الأشیاء توجد بإرادته مع تکثرها ... ) وعلیه ، فالمعلول موجود فی رتبة وجود العلّة ، کالحرارة الحاصلة من

ص:308


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 266 .
2- 2) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 216.
3- 3) منتقی الأُصول 2 / 485 .

النار ، فإنها موجودة فی رتبة وجودها ، و إلّا یلزم الترجّح بلا مرجّح ، فیقال : لما ذا وجدت هذه الحرارة و لم توجد تلک الأُخری ... فإذا کان وجود المعلول و وجوبه واحداً ، فلا بدّ و أن تکون علّته کذلک ، لأن العلّة إذا تعدّدت تعدّد وجود المعلول و وجوبه ، و المفروض أنه واحد ، و الواحد لا یتعدّد .

هذه هی القاعدة .

فقال المحقق الأصفهانی : بأنها إنما تجری فی الواحد الشخصی ، أما النوعی ، فیمکن فیه صدور الواحد عن الکثیر مع الاختلاف فی حقیقة الکثیر ، فإن الحرارة قد تحصل من النار و هی من الجواهر ، و قد تحصل من العرض کالحرکة ، فقد صدر الواحد من الکثیر ... و أیضاً ، فإنّ تحقق الأجناس بالفصول ، إذ الفصل علّة لوجود الجنس کالناطقیّة بالنسبة إلی الإنسان ، مع أن الناطقیّة مباینة للفصل الموجد لنوع الفرس مثلاً ، فکانت المتباینات علةً لوجود الشیء الواحد و هو الجنس .

و تلخّص : إن ما ذهب إلیه المحقق الخراسانی من کون الجامع هو المتعلّق غیر صحیح .

تحقیق الأُستاذ

و أفاد الأُستاذ دام بقاه حول القاعدة بقدر ما یرتبط بعلم الأُصول : أنّ للواحد أنحاءً من الوجود :

1 - الواحد بالشخص ، مثل زید و عمرو ، من حیث کونه زیداً و کونه عمراً .

2 - الواحد بالنوع ، مثل زید و عمرو من حیث الإنسانیّة .

3 - الواحد بالعنوان ، مثل وجود زید و وجود عمرٍو و هکذا ... فإنّ العنوان مفهوم الوجود ، و حقیقة الوجود هو المعنون ، و النسبة بینهما نسبة العنوان

ص:309

و المعنون ، لا الکلّی و الفرد ، و لا الطبیعی و المصداق .

فهذه مقدمة .

و المقدمة الثانیة : إنّ الطبیعی موجود فی الخارج بلا ریب ، فلیس من الأُمور الانتزاعیّة العقلیّة ، و لیس من الاعتباریات کالزوجیّة و الملکیّة ، غیر أنّ وجوده وجود فرده ، کما أن الأُمور الانتزاعیّة موجودة لکن بوجود منشأ الانتزاع ...

و الحاصل : إن الطبیعی کالإنسان موجود فی الخارج ، لکن بوجود زید مثلاً .

و المقدّمة الثالثة : إن « الوحدة » و« التعدد » متقابلان ، و الاجتماع بینهما فی أیّ عالمٍ محال ، فلا یجتمع الواحد بالشخص مع المتعدّد بالشخص ، و کذلک الواحد بالنوع ، و الواحد بالعنوان .

و بعد المقدّمات نقول :

إنّ المحقق الأصفهانی یعترف بوجود الطبیعی خارجاً ، و أنّ نسبته إلی الخارج نسبة الآباء إلی الأبناء - لا نسبة الأب الواحد إلی الأبناء کما قال الرجل الهمدانی - فنقول : هذا الطبیعی إمّا مختص أو مشترک ؟ و الأول خلف الفرض ، و علی الثانی : هل لوجود هذا الطبیعی علّة أو لا ؟ و الثانی محال ، و منافٍ لقوله بأنّ الاجناس موجودة و عللها هی الفصول ، و إذا کان له علّة ، فهل لتلک العلّة حیثیّة غیر حیثیّة الخصوصیّة ؟ إنّه لا بدّ و أن یکون فیها حیثیّة تصلح بها لأن تکون علةً لماهیّةٍ مشترکة ، إذ ما لیس فیه إلّا حیثیّة الخصوصیّة لا یمکن أن یکون علةً لماهیّة ذات حیثیّة مشترکة ... .

إذن ، لا مناص من الالتزام بأنّه : لو حصل غرض و کان فیه حیثیّة القدر المشترک ، فلا بدّ و أن یکون له منشأ هو القدر المشترک ... و هذا معنی کلام المحقق الخراسانی حین یقول باستحالة حصول الأثر الواحد من کلّ واحدٍ من الفردین أو

ص:310

الأفراد و یکون مبدأ الأثر متعدّداً ... لأنّ الأثر موجود فی مرتبة المبدإ ، فإذا کان واحداً و المبدأ متعدّد ، لزم اجتماع الوحدة و التعدّد فی الشیء الواحد ، و هو محال .

و بالجملة ، فإنّ قاعدة الواحد و إن طرحت فی الواحد الشخصی ، لکن الملاک لها موجود فی الواحد النوعی و الواحد العنوانی أیضاً ، فإنّه - علی القول بثبوت الواحد النوعی و الواحد العنوانی - یکون للمعلول وحدة نوعیّة ، فلو لم یکن فی العلّة وحدة نوعیة کذلک ، یلزم عدم السنخیّة بین العلّة و المعلول .

فظهر اندفاع الإشکال علی ( الکفایة ) فی هذا القسم من کلامه .

اشکالات المحاضرات علی الکفایة
اشارة

و أورد فی المحاضرات (1) علی القسم الآخر من کلامه حیث قال : أنه إذا کان هناک غرضان متزاحمان ، فلا بدّ من الالتزام بالوجوبین ، إلّا أن کلّاً منها مشوب بالترک ، بوجوه :

أوّلاً : إن ذلک مخالف لظواهر الأدلّة ، فإن الظاهر من العطف بکلمة « أو » هو أن الواجب أحدهما لا کلاهما .

و ثانیاً : إن فرض کون الغرضین متضادّین فلا یمکن الجمع بینهما فی الخارج ، مع فرض کون المکلّف قادراً علی إیجاد کلا الفعلین ، بعید جداً ، بل هو ملحق بأنیاب الأغوال ، ضرورة أنا لا نعقل التضادّ بین الغرضین مع عدم المضادّة بین الفعلین ، فإذا فرض أن المکلّف متمکّن من الجمع بینهما خارجاً ، فلا مانع من إیجابهما معاً عندئذ .

و ثالثاً : إنا لو سلّمنا ذلک فرضاً و قلنا بالمضادّة بین الغرضین و عدم إمکان

ص:311


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 220 .

الجمع بینهما فی الخارج ، إلّا أن من الواضح جدّاً أنه لا مضادّة بین ترکهما معاً ، فیتمکّن المکلّف من ترک کلیهما بترک الإتیان بکلا الفعلین خارجاً . هذا من ناحیة . و من ناحیة أُخری : إن العقل مستقلّ باستحقاق العقاب علی تفویت الغرض الملزم ، و لا یفرّق بینه و بین تفویت الواجب الفعلی . و من ناحیة ثالثة : إن فیما نحن فیه و إن لم یستحق العقاب علی ترک تحصیل أحد الغرضین عند تحصیل الآخر ، من جهة عدم إمکان الجمع بینهما فی الخارج ، إلّا أنه لا مانع من استحقاق العقاب علیه عند ترکه تحصیل الآخر . فالنتیجة أنه یستحق العقابین عند جمعه بین الترکین .

جواب الأُستاذ

و أجاب الأُستاذ دام بقاه :

أمّا عن الأوّل فبأنه : خلاف القاعدة ، لأن صاحب الکفایة یری أن التکلیف غیر متعلّق بأحدهما ، لا مفهوماً و لا مصداقاً ، لأن الأحد المفهومی غیر حاملٍ للغرض حتی تتعلّق به الإرادة ، و الأحد المصداقی هو المردد ، و المردّد لا یقبل الوجود حتی یتعلّق به التکلیف و الإرادة ، و إذ لم یمکن ثبوتاً تعلّق الإرادة بالأحد ، فلا بدّ من التصرّف فی مقام الإثبات و ظواهر الأدلّة ... فالإشکال غیر وارد علیه .

علی أنّ القول بتعلّق التکلیف بالأحد أیضاً خلاف ظواهر الأدلّة ، لعدم وجود هذا العنوان فیها ، بل الموجود هو العطف ب« أو » و هی فی أمثال المقام للتردید ، و أمّا « الأحد » فانتزاع من العقل و لیس من ظاهر الأدلّة .

و أمّا عن الثانی فبأن : التباین بین الأغراض شائع تکویناً و عقلاءً ، فقد یستعمل دواء لغرض العلاج من مرضٍ فیکون سبباً لحصول مرضٍ آخر .

و أمّا عن الثالث ، فقد تقدّم فی بحث الترتب بأنّه : لو لم تکن قدرة علی

ص:312

الفعلین فلا استحقاق للعقابین ... و هذا کلام المحقق الخراسانی . و لقد أشکل هناک علی السیّد المیرزا الشیرازی بلزوم تعدّد العقاب ، و کان السیّد لا یلتزم بذلک مع قوله بالترتب . أمّا المحقق الخراسانی ، فقد أنکر الترتب و صحّح عبادیّة المهم عن طریق الغرض ، فهو قائل بوجود الغرضین فی الأهم و المهم ، و غیر قائل بتعدّد العقاب بترک الغرضین ، بل یتعدد بمخالفة الأمرین ... فالإشکال علیه خلاف القاعدة کذلک .

الاشکال الوارد علی الکفایة

ثم قال الأُستاذ : بأن الإشکال الوارد علی الکفایة . أمّا فی الشق الأوّل فهو : إنّه لا دلیل علی الوحدة بالنوع فی الأغراض ، فی الواجبات التخییریّة فی الشریعة المقدسة ، فما ذکره موقوف علی تمامیّة الصغری ، و إن تصوّرت الوحدة فهی لیست إلّا الوحدة العنوانیّة .

و أمّا فی الشق الثانی ، فالإشکال علیه - کما فی المحاضرات أخیراً - أنه لا ریب فی سقوط التکلیف فی الواجبات التخییریّة - العقلیّة منها و الشرعیّة - بالإتیان بکلا الطرفین أو کلّ الأطراف ، و حصول الامتثال بذلک ، فلو کان الغرضان متباینین لم یکن الامتثال حاصلاً ، و کان الأمر باقیاً ، و الحال أنه لیس کذلک یقیناً .

فما ذکره غیر صحیح .

کلام المیرزا النائینی

اشارة

و ذهب المحقق النائینی فی تصویر الواجب التخییری ، کما فی ( أجود التقریرات ) (1) إلی أنّ الواجب هو الفرد المردّد و الواحد علی البدل ، أی هو أحد الشیئین أو الأشیاء ، و ذلک ، لأنّه لا مانع من تعلّق الإرادة التشریعیّة بالمردد ،

ص:313


1- 1) أجود التقریرات 1 / 265 .

و توضیحه :

إن الإرادة التکوینیة و التشریعیة تشترکان فی أن کلتیهما إرادة ، لکنهما تفترقان من جهة التکوینیّة و التشریعیّة ، و لکلٍّ منهما أحکام و أقسام . مثلاً : الإرادة من المولی لا فاعلیّة لها ، بل الفاعلیّة هی لإرادة المکلّف ، و الإرادة التشریعیّة تنقسم إلی التعبّدی و التوصّلی ، و هذا غیر معقول فی التکوینیّة .

و من ذلک : إن الإرادة التکوینیّة لا یعقل أن تتعلّق بالکلّی ، بل متعلّقها دائماً هو الجزئی الحقیقی ، لأن الإرادة التکوینیّة علّة للوجود ، و العلّة یستحیل تعلّقها إلّا بالوجود و هو عین التشخّص ، بخلاف الإرادة التشریعیّة ، فإنّها تتعلّق بالکلیّات حتی لو قیّد المتعلّق بقیودٍ کثیرة ، کأن یقال : صلّ فی المسجد یوم الجمعة ظهراً جماعةً فی أوّل الوقت ... و السرّ فی ذلک : أنه ما لم یوجد فی الخارج أو الذهن فلا تتحقّق له الجزئیّة ... .

إذن ... الإرادة التی لا تتعلّق بالمبهم المردّد هی التکوینیّة ، و أما التشریعیّة فإنّها تتعلّق به ، إذ التکوینیّة هی العلّة التامّة للوجود ، و المردّد غیر قابلٍ للوجود أی لا وجود له ، أمّا التشریعیّة فلیست بعلةٍ للوجود ، و إنما أثرها هو إحداث الداعی الإمکانی فی نفس العبد ، فقد یمتثل و قد لا یمتثل ، و من هنا تکون التشریعیّة تابعة للغرض و الملاک ، فإن کان الغرض یحصل بأحد الأفراد جاءت الإرادة متعلّقة به کذلک ، و کان الخطاب علی طبق الإرادة ، إذ یأمر بالعتق أو الإطعام أو الصوم لیدلّ علی أنّ المکلّف به لیس معیّناً ، و لیس هو الجامع ، بل المطلوب خصوصیّة کلّ واحدٍ من الأفراد لکن علی البدل ، و کذلک الحال فی الوصیّة ، إذ یوصی بأحد الشخصین أن یعطی کذا ، أو ینوب عنه فی الحج مثلاً ، أو یُعتق فی سبیل اللّٰه .

إذن ، فما ذهب إلیه المیرزا متوافق مع ظهور الأدلّة فی الواجب التخییری فی

ص:314

مقام الإثبات ... .

فظهر أنْ لا محذور لهذا المبنی حتّی یذکر و یدفع ، فلا یبقی مجالٌ لاستغراب السیّد الأُستاذ من المیرزا قائلاً : « و هذا غریب من مثل المحقق المذکور ، فإنّ اللازم علیه کان بیان ما یحتمل أنْ یکون محذوراً و دفعه ، لا مجرّد عدم وجود المانع لا أکثر من دون بیان وجه ذلک ، فإن ذلک لا یتناسب مع علمیّة البحث » (1) .

و لا یخفی أنه أیضاً قد اختار هذا المبنی فی الواجب التخییری (2) .

الأنظار فی کیفیة تعلّق الإرادة و نحوها بالمردّد

و قد فصّل شیخنا الاستاذ الکلام فی أصل البحث و ذکر الأنظار فیه ، و ذلک لضرورة الوصول إلی منشأ الخلاف فی أنّ المردّد هل یمکن أن یقع متعلّقاً للإرادة أو للاعتبار أو لصفةٍ وجودیّة ، أو لا ؟

لقد ذکر الشیخ فی ( المکاسب ) (3) مسألة ما لو باع صاعا من الصبرة ، فهل یحمل علی الکسر المشاع ، فلو کان عشرة أصوع یکون المبیع هو العشر ، أو یکون کلّیاً معیّناً ، أو یکون فرداً من أفراد الأصوع علی البدل ؟ ثم أشکل علی الوجه الأخیر بوجوه ، منها : إن التردّد یوجب الجهالة ، و أنه یوجب الغرر ، و أنه غیر معقول ، و هذا محلّ الشاهد هنا .

إن تعلّق البیع بفردٍ مرددٍ من أفراد الأصوع غیر معقول ، لأنّ الملکیّة صفة وجودیّة ، و الصفة الوجودیّة لا یعقل أن تتعلّق بالشیء المردد ... و هذا هو الإشکال .

ص:315


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 490 .
2- 2) منتقی الأُصول 2 / 495 .
3- 3) کتاب المکاسب : 195 ط 1 .

و قد أجاب عنه : بأنّ الصفة الوجودیّة علی قسمین : فتارةً : هی صفة وجودیّة خارجیّة ، کالسواد و البیاض ، فهذه لا تقبل التعلّق بالمردد ، لأنها عرض خارجی و هو لا یوجد إلّا فی موضوع ، و المردّد لیس له وجود حتی یتحقّق فیه العرض و یقوم به . و أُخری : هی أمر اعتباری ، و هذه تقبل التعلّق بما لیس له وجود خارجی ، کما فی بیع الکلّی فی الذمة ، و المبیع فی باب السّلم .

فالشیخ یری أن الصّفة الوجودیّة إن کانت اعتباریةً فهی تقبل التعلّق بالمردّد .

و خالفه المحقق الخراسانی (1) ، فذهب إلی أن الصفة الوجودیّة الحقیقیّة أیضاً تقبل التعلّق بالمردّد ، و قد تقدّم کلامه فی حاشیته علی الکفایة ، إذ صرّح بأنّ العلم یمکن تعلّقه بالمردّد کما فی موارد العلم الإجمالی ، بخلاف مثل البعث ، لأنه لیس بصفةٍ بل إنه إیجاد للدّاعی فی نفس العبد ، و إیجاده نحو المردّد محال .

و بعبارة أُخری : کلّما یکون له جهة الباعثیّة و المحرّکیّة ، فلا بدّ و أن یکون متعلّقه مشخصاً ، و أمّا ما یکون - مثل العلم - لا جهة باعثیّة له ، فلا مانع من تعلّقه بالمردّد .

و أمّا المیرزا ، فقد جعل ملاک الافتراق فی الإرادة جهة التکوینیّة و التشریعیّة ، فخالف المحقق الخراسانی القائل بعدم تعلّق ما کان له باعثیة - و إنْ کانت تشریعیّة - بالشیء المردّد .

و لکنّ المحقق الاصفهانی خالف الکلّ ، و أنکر التعلّق بالمردد ، سواء فی الصفة الحقیقیّة أو الاعتباریّة ، و فی الإرادة التکوینیّة أو التشریعیّة ، و سواء فیما له جهة الباعثیّة و غیره ... و له علی هذا المدّعی برهانان :

( الأول ) : إن الوجود عین التشخّص و الواقعیّة ، فکلّ موجود متشخّص ،

ص:316


1- 1) کفایة الأُصول : 141 .

و لا یعقل فیه أیّ إبهامٍ و اجمال ، حتی لو کان الوجود اعتباریّاً ، فلا یعقل أن یکون مردّداً ، لأنّ الوجود هو التعیّن ، و بینه و بین التردد تقابل و لا یمکن اجتماعهما أبداً .

و( الثانی ) : إن المردّد المصداقی محال ، لأنّ التردّد إمّا یکون فی ذات الشیء و إمّا فی وجوده ، أمّا الذات ، فهی متعیّنة و لا یعقل الإبهام و التردد فیها . و أمّا الوجود ، فقد تقدّم .

و بعبارة أُخری : إنه لو کان للمردّد مصداق خارجی ، وقع الإشکال فی الأُمور ذات التعلّق ، کالإرادة و البعث و الحبّ و الملکیّة و أمثالها ، - سواء التکوینیّة منها و الاعتباریة - فهی أُمور لا یحصل لها الوجود إلّا بالمتعلّق ، لکنّ الوجود لا یقبل التردّد ، فلو تعلّقت الإرادة مثلاً بمردّد لزم إمّا تعیّن المردد أو تردّد المعیّن ، و کلاهما محال ، لأنّ الأوّل انقلاب ، و الثانی خلف .

و بالنظر إلی هذین البرهانین نقول - وفاقاً للمحقق الأصفهانی - بعدم صلاحیّة المردّد لأن یکون متعلّقاً للإرادة - ... و تبقی المناقشة بذکر نقوض ، من قبیل الوصیة بعتق أحد العبدین ، و تملیک أحد الولدین ، أو هبة أحد المالین ، أو بیع المعدوم کما فی بیع السلف . و لا بدّ من حلّها فی کتاب البیع .

نظریّة السیّد الاستاذ

لکن السیّد الاستاذ بعد أنْ ذکر آراء الأعلام قال :

هذا محصل الإیرادات علی تعلق التکلیف بالفرد المردّد و هی فی الحقیقة ثلاثة ، إذ الأول یرجع إلی الثالث کما لا یخفی .

و شیء منها لا ینهض مانعاً عن تعلّق التکلیف بالفرد المردد ، و لأجل ذلک یمکننا أن ندّعی أن متعلّق الوجوب التخییری هو أحد الأمرین علی سبیل البدل ، فی الوقت الذی لا ننکر فیه أن الفرد المردد لا واقع له ، و أن کلّ موجود فی الخارج

ص:317

معیّن لا مردّد .

و بتعبیر آخر نقول : إن المدّعی کون متعلّق الحکم مفهوم الفرد علی البدل ، أو فقل هذا أو ذاک ، بمعنی أن کلاً من الأمرین یکون مورد الحکم الواحد ، لکن بنحو البدل فی قبال أحدهما المعین ، و کلاهما معاً بنحو المجموع .

و وضوح ذلک یتوقف علی ذکر مقدمتین :

الأُولی : إن مفهوم الفرد علی البدل أو الفرد المردد الذی یعبّر عنه بالتعبیر العرفی ب : « هذا أو ذاک » من المفاهیم المتعینة فی أنفسها ، فإن المردّد مردّد بالحمل الأوّلی لکنه معیّن بالحمل الشائع ، نظیر مفهوم الجزئی الذی هو جزئی بالحمل الأولی کلّی بالحمل الشائع ، فالفرد علی البدل مفهوم متعین ، و لذا نستطیع التعبیر عنه و الحکم علیه و تصوّره فی الذهن کمفهوم من المفاهیم ، فهو علی هذا قابل لتعلّق الصفات الحقیقیّة و الاعتباریة به کغیره من المفاهیم المتعینة .

الثانیة : إن الصفات النفسیّة کالعلم و نحوه لا تتعلّق بالخیارات ، بل لا بدّ و أن یکون معروضها فی أُفق النفس دون الخارج ، و إلا لزم انقلاب الخارج ذهناً أو الذهن خارجاً و هو خلف ، فمتعلق العلم و نحوه لیس إلا المفاهیم الذهنیة لا الوجودات الخارجیة .

و إذا تمت هاتان المقدّمتان ، تعرف صحّة ما ندّعیه من کون متعلّق العلم الإجمالی فی مورده و الملکیة فی صورة بیع الصاع من صبرة و البعث فی الواجب التخییری هو الفرد علی البدل و مفهوم هذا أو ذاک ، فإنه مفهوم متعین فی نفسه کسائر المفاهیم المتعینة ، و لا یلزم منه انقلاب المعین مردداً ، إذ المتعلق له تعین و تقرر ، کما لا یلزم کون الصفة بلا مقوّم ، إذ المفهوم المذکور له واقع .

یبقی شیء ، و هو : إن الصفات المذکورة و إنْ تعلقت بالمفاهیم ، لکنها

ص:318

مرتبطة بالواقع الخارجی بنحو ارتباط و مأخوذة مرآتاً للواقع ، و المفروض أنه لا واقع لمفهوم الفرد المردد ، فکیف یتعلق به العلم ؟ ! و حلّ هذا الإشکال سهل ، فإن ارتباط المفهوم المعلوم بالذات بالواقع الخارجی لیس ارتباطاً حقیقیاً واقعیاً ، و یشهد له أنه قد لا یکون العلم مطابقاً للواقع ، فکیف یتحقق الربط بین المفهوم و الخارج ؟ إذ لا وجود له کی یکون طرف الربط ، و لأجل ذلک یعبّر عن الخارج بالمعلوم بالعرض . إذن ، فارتباطه بنحو ارتباط لا یستدعی أن یکون له وجود خارجی کی یشکل علی ذلک بعدم الواقع الخارجی لمفهوم الفرد المردد .

و مما یؤیّد ما ذکرناه من امکان طرو الصفات علی الفرد المردد : مورد الإخبار بأحد الأمرین ، کمجیء زید أو مجیء عمرو ، فإنه من الواضح أنه خبرٌ واحدٌ عن المردد ، و لذا لو لم یأت کلّ منهما لا یقال إنه کذب کذبتین ، مع أنه لو رجع إلی الإخبار التعلیقی لزم ذلک و لا تخریج لصحة الإخبار إلا بذلک .

یبقی إشکال صاحب الکفایة و هو : إن التکلیف لتحریک الإرادة ، و الإرادة ترتبط بالخارج ارتباطاً تکوینیاً ، فیمتنع التکلیف بالمردّد ، إذ لا واقع له کی یکون متعلق الإرادة (1) .

و الجواب عنه : إنّه لا ملزم لأن نقول بأن التکلیف لأجل التحریک و البعث و الدعوة نحو متعلّقه بجمیع خصوصیّاته و قیوده ، بل غایة ما هو ثابت إن التکلیف لأجل التحریک نحو ما لا یتحرک العبد نحوه من دون التکلیف المزبور بحیث تکون جهة التحریک و سببه هو التکلیف المعین و إن اختلف عن متعلّقه بالخصوصیّات .

و من الواضح : أن تعلق التکلیف بالفرد المردد یستلزم الحرکة نحو کلّ من

ص:319


1- 1) کفایة الأُصول : 141 .

الفعلین علی سبیل البدل ، فیأتی العبد بأحدهما منبعثاً عن التکلیف المزبور ، و هذا یکفی فی صحة التکلیف و کونه عملاً صادراً من حکیم عاقل .

و نتیجة ما تقدم : إنه لا مانع من تعلّق التکلیف بالفرد علی البدل و بأحدهما لا بعینه ، بمعنی کون کلّ منهما متعلقاً للتکلیف الواحد ، و لکن علی البدل لا أحدهما المردد و لا کلاهما معاً . و بذلک یتعین الالتزام به فیما نحن فیه لفرض ثبوت الغرض فی کل من الفعلین علی حدّ سواء و من دون مرجح ، فلا بدّ من کون الواجب فی کلّ منهما بنحو البدلیة و التردد .

و هذا المعنی لا محیص عنه فی کثیر من الموارد ، و لا وجه للالتزام ببعض الوجوه فی العلم الإجمالی ، کدعوی أن المتعلّق هو الجامع و التردید فی الخصوصیات . و فی مسألة بیع صاع من صبرة ، کدعوی أن المبیع هو الکلّی فی الذمة و لکن مع بعض القیود ، أو دعوی اخری لا ترجع إلی محصل . و تحقیق الکلام فی کلّ منهما موکول إلی محلّه .

فالمختار علی هذا فی الواجب التخییری کون الواجب أحدهما لا بعینه ، کما التزم به المحقق النائینی ، و إن خالفناه فی طریقة إثباته » (1) .

أقول :

أمّا ما ذکر فی المقدمة الأُولی من أن « الفرد علی البدل مفهوم متعیّن ، و لذا نستطیع التعبیر عنه و الحکم علیه و تصوّره فی الذهن کمفهومٍ من المفاهیم » فهذا صحیح ، و لکن التفریع علیه بقوله : « فهو - علی هذا - قابلٌ لتعلّق الصّفات الحقیقیّة و الاعتباریّة به کغیره من المفاهیم المتعیّنة » فیه :

أوّلاً : کیف تتعلّق الصفات الاعتباریّة من البعث و التحریک و نحوهما

ص:320


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 492 - 495 .

بالوجود الذهنی ما لم یکنْ له مطابق فی الخارج ؟

و ثانیاً : کیف یکون المردد متعیّناً کغیره من المفاهیم المتعیّنة ؟ إن أراد المتعیّن خارجاً ، فإن کلّ ما فی الخارج معیّن غیر مردد ، و إنْ أراد التعیّن ذهناً ، فالمفروض أنه مردد غیر معیّن .

و أمّا ما ذکر فی المقدّمة الثانیة من صحّة تعلّق العلم و نحوه بالمردد ، فقد تقدّم أنه رأی صاحب الکفایة ، و ما أجاب به من أنّ الارتباط بین المفهوم و المتعلّق الخارجی لیس ارتباطاً واقعیّاً غریب ، فإنّ الارتباط بین الشّیئین إمّا واقعی و إمّا اعتباری ، و هل الارتباط بین الصورة الذهنیة و مطابقها الخارجی اعتباری لا واقعی ؟

و الاستشهاد لذلک بأنّه « قد لا یکون العلم مطابقاً للواقع » أعجب ، فإنه یتضمّن الاعتراف بلزوم وجود المطابَق و لزوم المطابقة بینهما ، و أمّا عدم المطابقة أحیاناً فمن الخطأ فی التطبیق ، و أین هذا عن المدّعی حتی یستشهد به ؟ و کذلک الاستشهاد بتعبیرهم عن الخارج بالمعلوم بالعرض ، فإنّ هذا التعبیر یفید خلاف المدّعی کما لا یخفی .

و تأیید ذلک بالإخبار عن أحد الأمرین ، واضح الضعف ، للفرق بین الإخبار ، و العلم و البعث و التکلیف ، علی أن المخبر عنه هو « الأحد » الجامع بین الفردین لا الفرد المردد ، و هذا هو المرتکز العقلائی .

الطریق الثالث

اشارة

إنه فی الواجب التخییری یوجد وجوبان ، لکن کلّاً منهما مشروط بترک الآخر ، فالإطعام واجب مشروط بترک الصوم ، و هکذا بالعکس . و الحاصل : إن هنا غرضین قائمین بالعدلین ، لکنّهما متزاحمان و لا یمکن استیفاؤهما معاً ،

ص:321

فیجب استیفاء أحدهما علی النحو المذکور ، و إن کان ظواهر الأدلّة لا تساعد علیه - لعدم دلالتها علی وجود الغرضین و الوجوبین - لکن لا مناص من تصویر الواجب التخییری بهذه الصّورة .

الاشکالات علیه

و قد أورد علیه بوجوه :

الأوّل : إن دعوی التمانع بین الغرضین مع القدرة علی الفعلین و هم محض .

قاله المیرزا و تبعه السیّد الخوئی (1) .

و فیه : لیس الأمر کذلک ، فقد یقدر الإنسان علی استعمال دواءین یکون الغرض من کلٍّ منهما مضادّاً للغرض من الآخر .

و الثانی : إن هذا الطریق یستلزم القول بالترتّب ، و من القائلین بالواجب التخییری من لا یقول بالترتب ، کصاحب الکفایة .

و فیه : أولاً : إن المحقق الخراسانی قد أنکر الترتب بین الأهمّ و المهم . و أما لو کانا متساویین - کما فی الواجب التخییری - فقد لا ینکره .

و ثانیاً : قد صوّر فی الکفایة الواجب التخییری بوجهٍ آخر - کما تقدّم - لأنّ القول بشوب الوجوب بجواز الترک یغایر القول باشتراط وجوب أحدهما بترک الآخر .

و الثالث : إنه فی حال ترک کلا الواجبین ، یتحقّق الشرط لهما معاً فیکونان فعلیین ، فیلزم الإتیان بکلیهما بعنوان الوجوب ، و هذا مناف لحقیقة الواجب التخییری . قاله المحقق الإیروانی (2) .

ص:322


1- 1) أجود التقریرات 1 / 268 .
2- 2) نهایة النهایة 1 / 200 .

و فیه - کما تقدّم سابقاً - إن المفروض کون وجوب کلٍّ منهما مشروطاً بترک الآخر ، فلا یلزم من ترکهما معاً کون کلیهما مطلوباً .

و الرابع : إنه فی صورة ترک کلیهما یلزم تعدّد العقاب ، و هو خلاف الضرورة .

و فیه : إنه إشکال مبنائی ، لأنّ تعدّد العقاب إنما هو فی تعدّد الواجب المنتهی إلی تعدّد الغرض ، و لیس الأمر فی الواجب التخییری کذلک .

الخامس : إن لازم هذا القول أن لا یتحقق الامتثال بالإتیان بکلا الفردین ، مع الیقین بحصول الامتثال بذلک .

و هذا هو الإشکال الصحیح .

و السادس : إن هذا الوجه لا تساعده ظواهر الأدلّة فی مقام الإثبات ، فقد جاءت الأفراد معطوفةً ب« أو » لا مشروطاً بعضها بترک البعض الآخر . و القول بضرورة حمل الأدلّة علی هذا المعنی موقوف علی سقوط جمیع الوجوه . و هذا الإشکال الإثباتی وارد کذلک علی هذا الوجه .

الطریق الرّابع

اشارة

إنّ الواجب التخییری ما کان وجوبه مشوباً بجواز الترک إلی بدلٍ . ذهب إلیه المحقق الأصفهانی رحمه اللّٰه (1) .

إن قیل : فما الفرق بین هذا الطریق و طریق صاحب الکفایة ؟

قلنا : إنّ المحقق الخراسانی قد اختار ذلک علی أساس قوله بتباین الأغراض ، أمّا المحقق الأصفهانی فقد ذهب إلی ما ذکر سواء کانت متباینة أو متسانخة ، فالاختلاف بینهما فی منشأ الجعل ، کما بینهما اختلاف فی التخییر کما

ص:323


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 271 .

سیظهر .

و توضیح هذا الطریق :

أوّلاً : إنه یمکن أن یکون الغرض فی کلّ من العتق و الإطعام و الصّوم من سنخ واحدٍ ، و یکون لزومیّاً ، فالمقتضی لکونه لزومیّاً موجود - و إلّا لما کان هناک وجوب - إلّا أنّ مصلحة الإرفاق و التسهیل علی المکلّفین قد زاحمت هذا الغرض اللّزومی فی حدّ الجمع بین الأُمور لا فی حدّ جمیع الأُمور ، و کان مقتضی الجمع أن لا یجب الإتیان بالجمیع کما لا یجوز ترک الجمیع ... و هذا معنی کون وجوب کلٍّ من الأُمور مشوباً بجواز ترکه إلی البدل . و قد لا یکون الغرض قابلاً للإرفاق فلا یقع التزاحم بین مصلحة التسهیل و مصلحة الأُمور ، فیجب الجمیع کما فی کفارة الجمع ، خلافاً للمحقق الخراسانی القائل بعدم إمکان تحقق الغرضین أو الأغراض فی الخارج ، لکونها متباینة .

و ثانیاً : إنّ الأغراض قد یکون لها وحدة نوعیّة ، کما هو الحال بین الإطعام و العتق ، فإن الغرض الجامع بینهما هو الإحسان ، و قد تکون متباینة کما هو الحال بین العتق و الصّوم ... خلافاً للمحقّق الخراسانی القائل بالتقابل بین الأغراض دائماً .

و ثالثاً : إنه یظهر مما تقدّم عدم توجّه الإشکال الوارد علی المحقق الخراسانی ، من أن لازم کلامه أن لا یکون المکلّف ممتثلاً لو جمع بین الأفراد مع أنه ممتثل یقیناً ، لأنّ المحقق الأصفهانی لم یؤسّس طریقه علی التقابل بین الأغراض ، بل ذهب إلی إمکان تحقّقها ، لأنّ المزاحم لیس إلّا مصلحة التسهیل ، فکان المکلّف مرخّصاً فی ترک الغرضین ، لا ممنوعاً من الجمع بینهما .

ص:324

الإشکالات علی هذا الطریق و النظر فیها

هذا ، و قد أورد علی هذا الطریق بوجوه کلّها مندفعة :

الأول : إنّ الوجوب المشوب بجواز الترک لا یعقل إلّا بنحو الواجب المشروط ، وعلیه ، فلو ترک کلا الفردین فقد تحقق الشرط لها ، فیجب الجمع بینهما ، و هو خلف فرض الواجب التخییری ، قاله المحقق الإیروانی .

و فیه : إنّ هذا الإشکال لا یرد علی صاحب الکفایة ، لقوله بالتقابل بین الأغراض کما تقدم ، و لا یرد أیضاً علی طریق الأصفهانی - و إن کان لا یری التقابل المذکور - لأن المفروض وقوع التزاحم بین الأغراض و بین مصلحة التسهیل ، و مع فرض التزاحم ، لا یبقی الفردان أو الأفراد علی الوجوب ، و الجمع موقوف علی وجوبها کما هو واضح ، فیکون الواجب واحداً من الفردین أو الأفراد فقط ، فأین الجمع ؟

الثانی : إنه فی حال ترک کلا الفردین یلزم تعدّد العقاب .

و فیه : إنه قد عرفت أنّ الباقی بعد التزاحم هو أحد الغرضین أو الأغراض ، فلو ترک الکلّ فات الغرض الملزم الواحد ، فلا یُستحق إلّا عقاب واحد .

و الثالث : إن القول بوجود واجبین یجوز ترک أحدهما إلی بدل ، موقوف علی تعدّد الغرض ، لکنّ الکاشف عن تعدده هو تعدّد الوجوب ، و الحال أنّ الخطاب الشرعی فی الواجب التخییری جاء بکلمة « أو » الدالّة علی کون الواجب هو الجامع الانتزاعی ، و هذا یکشف عن غرض واحدٍ مترتب علی هذا الجامع ، أی : هذه الأُمور ، لا علی کلّ واحد واحد .

و قد أجاب شیخنا - فی الدورتین - عن هذا الاشکال : بأنه لیس المقصود هو الکشف عن الغرض حتی یقال : ما هو الکاشف کذلک ؟ بل المقصود تصویر

ص:325

الوجوب التخییری و حلّ مشکلته فی مقام الثبوت ، و حاصل ذلک : إنّه لیس الحامل للغرض هو الأحد المصداقی ، لعدم معقولیته ، و لا المفهومی ، لأنّه جامع انتزاعی و لیس له وجود فی الخارج ، بل إنّا نکشف من مذاق الشارع و أدلّة الأحکام أن یکون لکلّ من العتق و الصّوم و الإطعام ملاک ، لکن مصلحة التسهیل توجب أن لا یکون المکلّف مأموراً بتحصیل جمیعها ، إلّا المفطر عمداً فلا یقع مورد الإرفاق و التسهیل ... إذن ، الکاشف عن الغرض موجود بهذه الصّورة .

و الرابع : إن هذه المزاحمة إما أن تصل إلی حدّ اللّزوم ، فلا یجب شیء من الخصال ، و إمّا لا ، فلا تزاحم .

و فیه : إن هذه المزاحمة لزومیّة ، لکنّها بین مصلحة التسهیل و تحصیل جمیع الأغراض ، کلّ واحدٍ واحدٍ .

و الخامس : إن سقوط التکلیف یکون إمّا بالامتثال و إمّا العجز و إمّا النسخ ، و الإتیان بالفرد الآخر من الواجبین لیس بواحدٍ من هذه الأُمور .

و فیه : إنّ ما ذکر یتمّ فیما لا یجوز ترکه أصلاً و هو التعیینی ، لا فی الواجبین اللذین یجوز ترک أحدهما إلی بدل .

و یبقی الإشکال الإثباتی ، فقد قال فی الدورة اللّاحقة : إنّ الإشکال الوارد علی هذا الطریق هو الإشکال الإثباتی ، فإن ظواهر الأدلة هو مطلوبیّة « الأحد » لکنّ مقتضی هذا الطریق هو عدم التردید ، فهو یری وجوب کلٍّ من الأفراد .

أمّا فی الدورة السابقة ، فقد أجاب بأنّ المحقق الأصفهانی فی مقام التصویر ثبوتاً و لا یدّعی مطابقة الأدلّة لما ذهب إلیه ، و لعلّ ذلک هو الظاهر من قوله :

« یمکن فرض » أی أنه غیر ملتزم لأن یکون التصویر متطابقاً مع مقام الإثبات ...

فلو انسدّت الطرق کلّها و بقی هذا ، فلا مناص من رفع الید عن الظواهر بحیث

ص:326

تناسب مقام الثبوت .

الطریق الخامس

قال المحقق العراقی (1) : إذا تعلّق الأمر بأحد الشیئین أو الأشیاء علی وجه التخییر ، فالمرجع فیه - کما عرفت - إلی وجوب کلّ واحدٍ لکن بإیجابٍ ناقص ، بنحو لا یقتضی إلّا المنع عن بعض أنحاء تروکه و هو الترک فی حال ترک البقیة ، من غیر فرقٍ فی ذلک بین أن یکون هناک غرض واحد یقوم به کلّ واحد فرد - و لو بملاحظة ما هو القدر الجامع - أو أغراض متعددة ، بحیث کان کلّ واحد تحت غرضٍ مستقل و تکلیف مستقل ، و کان التخییر من جهة عدم إمکان الجمع بین الغرضین ، إما للتضادّ بین متعلّقهما کما فی المتزاحمین أو بین نفس الغرضین فی عالم الوجود ، بحیث لا یبقی مع استیفاء أحد الغرضین فی الخارج مجال لاستیفاء الآخر ، أو فی مرحلة أصل الاتّصاف ، بحیث مع تحقق أحد الموجودات و اتّصافه بالمصلحة لا تتصف البقیّة بالغرض و المصلحة و الحاصل : إن الواجب التخییری ما یکون وجوبه وجوباً ناقصاً .

قال الأُستاذ : لا فرق جوهری بین هذا الطریق و طریق المحقّق الأصفهانی ، لأن الوجوب الناقص - فی الحقیقة - هو الوجوب المشوب بجواز الترک .

نعم ، بینهما فرق من جهة أنه علی القول بالوجوبین المشوبین بجواز الترک ، یکون العقاب المترتب فی حال ترک کلّ الأطراف عقاباً واحداً ، أمّا علی قول المحقق العراقی ، فقد صرّح بلزوم تعدّد العقاب فی بعض الصّور ، فهو یقول بأنه لو ترک الجمیع و کان الغرض منها غرضاً واحداً یقوم بالجامع بینها ، کان العقاب واحداً لا متعدّداً ، و کذا لو کان لکلٍّ غرضٌ ، لکن الغرضین کانا بحیث أنه مع تحقّق

ص:327


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 391 - 392 .

أحد الغرضین أو الأغراض ینتفی الغرض من غیره . أمّا لو کان لکلٍّ من الأطراف غرض مستقل تام فترک جمیع الأطراف ، فالعقاب متعدّد .

و بلحاظ هذا الفرق یصلح لأن یکون طریقاً آخر .

و یرد علیه أنّ تعدّد العقاب خلاف الضرورة الفقهیّة .

الطریق السادس

اشارة

قال المحقق الإیروانی - بعد المناقشة لکلام الکفایة و الطرق المذکورة فیها - ما نصّه : فلا محیص عن الالتزام بأن الواجب هو الواحد الجامع ، و أنّ التخییر فی جمیع الواجبات التخییریة عقلیّ لا شرعی ، أو الالتزام بأن الواجب أحدهما لا بعینه مصداقاً ، مع عدم القول بتبعیّة الأحکام للمصالح فی المتعلّق ، و الالتزام بکفایة المصلحة فی الحکم ، و ذلک لأن توجّه الحکم إلی أحدهما لا بعینه معقول ، کتوجّه التملیک إلی الواحد المردّد ، لکن لا یعقل قیام المصالح التی تکون فی الأغراض المتّصلة بالواحد المردّد ، فلا بدّ أن تکون المصلحة إمّا فی واحدٍ معین أو فی الجمیع ، فإن کان الأوّل ، تعیّن ذلک الواحد للوجوب ، و إن کان الثانی ، وجب الجمیع عیناً (1) .

الإشکال علیه

و أورد علیه الأُستاذ بوجوه :

الأوّل : إن إرجاع موارد الوجوب التخییری فی الشریعة إلی التخییر العقلی بعید کلّ البعد عن ظواهر الأدلّة فی مقام الإثبات ، بأن یکون المراد منها کون متعلّق التکلیف هو القدر المشترک ، ثم العقل یحکم بکون المکلف مخیّراً فیما بین الأفراد ، کالأمر بالصلاة و حکم العقل للمکلّف بالصّلاة فی الدار أو فی المسجد أو

ص:328


1- 1) نهایة النهایة 1 / 201 .

فی المدرسة ، و أنّ واحدةً منها محقّق للامتثال ... وعلیه ، فتکون الأدلّة فی الوجوب التخییری إرشاداً إلی حکم العقل .

و هذا ما لا یمکن المساعدة علیه .

علی أنّه یستلزم القول بکون العقل حاکماً ، و قد تقرّر أنه مدرک فحسب و لا حکم له .

الثانی : إنه یستلزم القول بوجود الواحد المردّد خارجاً . و قد تقرّر أنه محال .

و الثالث : إنّ الالتزام بکفایة المصلحة فی الحکم الوضعی لا إشکال فیه ، بأن تقوم المصلحة فی حکم الشارع بصحّة البیع أو لزومه ، أمّا فی الحکم التکلیفی - کما فیما نحن فیه - فغیر معقول ، لأن معنی قیام المصلحة فی جعل الوجوب حصولها بنفس جعله ، و کذا فی جعل الحرمة ، و الحال أن الغرض فی التکلیفیّات لا یحصل إلّا بالإتیان بالمتعلّق فی الواجب و ترکه فی الحرام .

الطریق السابع

قال السید البروجردی : و أمّا أصحابنا الإمامیّة ، فلما توجّهوا إلی الفرق بین الوجوب التعیینی و التخییری ، و أن الوجوب التعیینی هو تحتّم المولی عبده بإتیان شیء ، و الوجوب التخییری هو تحتّم المولی عبده بإتیان شیئین أو الأشیاء علی سبیل التردید النفس الأمری ، زادوا علی تعریف الواجب التخییری بأنه هو الذی یستحق تارکه لا إلی بدلٍ العقاب .

فالوجوب التخییری حقیقة هو : إیجاب المولی عبده نحو شیئین أو أشیاء علی سبیل التردید النفس الأمری و تعلّقه بالأطراف علی وجه التردید الواقعی ، کتردّد العلم الإجمالی بین الأطراف .

و لیعلم أن تردید الوجوب هاهنا تردید واقعی کما أشرنا إلیه ، و التردید فی

ص:329

المعلوم بالعلم الإجمالی ظاهری ، و إن کان فی نفس العلم واقعیاً أیضاً .

و لا یخفی المراد بقولهم « لا إلی بدلٍ » فی تعریف الوجوب التخییری ، لیس هو البدل فی قبال الأصل کما هو المصطلح فی بعض المقامات الأُخر ، بل معناه هو الفرد التخییری کما هو واضح .

فهذا نظره کما فی تقریر بحثه (1) .

و من هنا نسب إلیه الأُستاذ القول بأن حقیقة الوجوب التخییری عبارة عن تعلّق التکلیف بالمردد ، فی قبال التعیینی حیث یتعلّق بالمعیّن .

و إذا کان هذا رأیه ، فلا یمکن المساعدة علیه أصلاً .

الطریق الثامن

اشارة

قال فی ( المحاضرات ) (2) : الذی ینبغی أن یقال فی هذه المسألة - تحفّظاً علی ظواهر الأدلّة - هو : أن الواجب أحد الفعلین أو الأفعال لا بعینه ، و تطبیقه علی کلٍّ منهما فی الخارج بید المکلّف ، کما هو الحال فی موارد الواجبات التعیینیّة ، غایة الأمر أن متعلّق الوجوب فی الواجبات التعیینیة هو الطبیعة المتأصّلة و الجامع الحقیقی ، و فی الواجبات التخییریة هو الطبیعة المنتزعة و الجامع العنوانی .

( قال ) و لا مانع من تعلّق الأمر بالجامع الانتزاعی ، بل إنه تتعلّق به الصفات الحقیقیة کالعلم - کما فی مورد العلم الإجمالی - ، فضلاً عن الشرعی و هو أمر اعتباری ، فإنّه لا ریب فی تعلّقه بالجامع الاعتباری کتعلّقه بالجامع الذاتی کالإنسان ، فلا مانع من اعتبار الشارع ملکیّة احدی الدارین للمشتری إذا قال البائع :

بعت إحداهما ، بل ذلک واقع فی الشریعة کما فی باب الوصیّة .

ص:330


1- 1) الحجة الفقه 1 : 209 - 210 .
2- 2) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 222 .

إذن ، یکون متعلّق الأمر عنوان « الأحد » ، و مجرّد عدم الواقعیة له لا یمنع من تعلّق الأمر به ، إذ المفروض تعلّقه بالطبیعی الجامع ، و لا فرق بین الجامع المتأصّل و الانتزاعی ... و هذا هو مقتضی ظواهر الأدلّة من جهة اشتمالها علی « أو » ، و حینئذٍ یکون الغرض قائماً بهذا العنوان ، و هو یتحقق بالإتیان بأیٍّ من الفردین أو الأفراد ، بلا دخل خصوصیّة شیء منها ... فالمراد من تعلّق الأمر بالجامع الانتزاعی - لیس تعلّقه به بما هو موجود فی النفس ، و لا یتعدی عن أُفق النفس إلی الخارج ، ضرورة أنه غیر قابل لأن یتعلّق به الأمر و یقوم به الغرض - إنما هو بمعنی تعلّق الأمر به بما هو منطبق علی کلّ واحدٍ من الفعلین أو الأفعال فی الخارج ، و یکون تطبیقه علی الخارج بید المکلّف .

و من هنا یظهر أنه لا فرق بین الوجوب التعیینی و التخییری إلّا فی نقطةٍ واحدة ، و هی کون المتعلّق فی الأول الطبیعة المتأصّلة کالصّلاة مثلاً ، و فی الثانی الطبیعة المنتزعة کعنوان أحدهما .

و هذا ملخّص هذا الطریق .

مناقشة الأُستاذ

إن العمدة فی هذا المسلک کون متعلّق الأمر هو الجامع الانتزاعی ، لکن لا بما هو موجود ذهنی ، بل بما هو ملحوظ مرآة لما فی الخارج ، فنقول :

إذا کان المتعلّق کذلک ، فما معنی قوله : « مرادنا من تعلّق الأمر به بما هو منطبق علی کلّ واحدٍ من الفعلین أو الأفعال فی الخارج و یکون تطبیقه علی ما فی الخارج بید المکلّف » ؟

إن الجامع الانتزاعی موطنه النفس و لیس له خارجیّة - بل ما فی الخارج هو الجامع الحقیقی - فإن أراد سرایة الأمر بتوسّط هذا الجامع إلی الخارج ، فهذا أیضاً

ص:331

محال ، لأنّ الخارج لیس بظرفٍ لثبوت الأمر و تعلّقه بل هو ظرف سقوطه ، و بعبارة أُخری ، فإن الجامع قبل التطبیق أمر ذهنی لا خارجیة له ، و أمّا بعده ، فإنّ الخارج ظرف سقوط الأمر لا تحقّقه .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن هذا الجامع ینتزعه العقل ، فإن کان مصداق هذا الأحد المفهومی فی الخارج هو الأحد المردّد ، فهو یعترف بأن الأحد المردّد لا یتعلّق به التکلیف و لا یقوم به الغرض ، فلا بدّ و أن یکون المصداق و ما بإزائه فی الخارج هو المعیّن ، غیر أن هذا المکلّف یطبّقه علی هذا الفرد ، و المکلّف الآخر یطبّقه علی فردٍ آخر ، فإن کان الغرض قائماً بالقدر المشترک بین الأفراد أصبح التخییر عقلیاً ، و إن کان قائماً بفردٍ معیّن خرج عن التخییریّة و کان الواجب تعیینیّاً ، و إن کان لکلّ واحدٍ واحدٍ منها غرض غیر أن مجموع الأغراض تزاحمها مصلحة التسهیل ، عاد المطلب إلی طریق المحقق الأصفهانی ... و قد تقدّم سلامة طریقه ثبوتاً عن کلّ ما أُورد علیه ، و مع التنزّل عنه ، فإن طریق السید الخوئی یکون أحسن الطرق و المسالک فی الباب .

و تلخّص : إن هذا الطریق و إن کان أحسن الوجوه و أقربها إلی النصوص ، لکنّ الإشکال فیه من جهة الغرض باق ، لأنّ العنوان الانتزاعی لا یحمل الغرض بل المعیّن هو الحامل له ، لکن المفروض أنّ الواجب هنا غیر معیّن . لأنه الأحد الخارجی ، و الأحد المردد خارجاً محال ... فلا مناص من أن یکون الواجب کلّ من الأفراد بخصوصه ، و یکون فی کلّ فردٍ فردٍ مصلحة ، فیقع التزاحم بین تلک الأغراض و المصالح و مصلحة التسهیل ، و هو مبنی المحقق الأصفهانی .

لکن تقدّم أن فی مبنی المحقق الأصفهانی اشکالین :

ص:332

أولاً : إنه غیر متطابق مع الأدلّة فی مقام الإثبات .

و ثانیاً : إنّ الوجوب المشوب بجواز الترک مرجعه إلی الوجوب المشروط ، إلّا أن یرفع بالتحقیق الأتی إن شاء اللّٰه .

تحقیق الأُستاذ

و اختار الشیخ الأُستاذ دام ظلّه الطریق الأخیر فی الدورة السابقة ، و ذکر أنه کان مختاره فی الدورة الأُولی - فی النجف الأشرف ... و کان حاصل ما أفاده : أنّه إذا کان متعلّق التکلیف هو الجامع الانتزاعی ، فلا بدّ و أن یکون هو الحامل للغرض ، و أن یصحّ البعث إلیه ... فهنا ثلاثة مراحل .

أمّا أن الجامع الانتزاعی هو المتعلّق ، فهو مقتضی ظواهر النصوص ، کما أنه سالمٌ من محذور تعدّد العقاب . و أمّا البعث و التحریک نحوه ، فهو بلحاظ تطبیقه علی الفرد ، و هو بید المکلّف ، فلا مشکلة فی هذه المرحلة . و تبقی مرحلة قیام الغرض ، لأنّ الغرض یکون قائماً بما یتعلّق به التکلیف ، و إذا کان المتعلّق هو الجامع الانتزاعی فهل یصلح لأن یقوم به الغرض ؟

قال دام ظلّه : إنّ بیان ( المحاضرات ) غیر وافٍ لحلّ المشکلة فی هذه المرحلة . فلا بدّ من التحقیق فی ملاک ما یقال من ضرورة قیام الغرض بنفس متعلّق التکلیف ، فأفاد - فی کلتا الدورتین - بأن صور المسألة مختلفة :

فقد : یتّحد المتعلّق و الحامل للغرض کما فی الأمر بالصّلاة ، فإنّها هی متعلّق التکلیف و هی حاملة الغرض .

و قد یقع التخلّف ، بأن یکون العنوان متعلّق التکلیف و المعنون هو الحامل للغرض ، کما فی الأمر بإکرام من المسجد ، حیث یکون الغرض قائماً بالفرد المعیّن خارجاً .

ص:333

و قد یکون المتعلّق هو الملازم لعنوانٍ کان الغرض مترتباً علیه ، کما فی التکلیف الناسی ، بناءً علی مسلک المحقق الخراسانی ، إذ لا یعقل توجّه التکلیف إلی « الناسی » لأنه بذلک ینقلب ذاکراً ، بل یتوجّه إلی عنوان « کلاه قرمز » - کما مثّل هو فی الدرس - و هذا العنوان ملازم للناسی و هو موضوع الغرض .

فعلیه ، لا یلزم أن یکون حامل الغرض هو المتعلّق ، و لا برهان علی ذلک ، بل اللّازم أن یکون تعلّق التکلیف بالعنوان منتهیاً إلی التحریک نحو الموضوع الحامل للغرض .

و ما نحن فیه کذلک ، فإنّ التکلیف قد تعلّق بالجامع الانتزاعی ، و موطنه الذهن ، فلیس حاملاً للغرض ، إلّا أن تعلّقه به موجب للتحرک نحو المصداق الخارجی ، و یکون المصداق هو الحامل له .

و بهذا البیان یرتفع الإشکال عن طریق المحقق الخوئی ، و ما ذکره من أن تعلّق التکلیف بالجامع الانتزاعی یکشف عن کون الغرض قائماً به ، فلیس برافعٍ له .

الرأی النهائی

و بعد أن رفع الأُستاذ الإشکال عن مسلک السید الخوئی ، و الذی کان قد اختاره سابقاً ، لکونه الأقرب إلی ظواهر النصوص ، ذکر أنّ مقتضی الدقّة فی النصوص شیء آخر غیر المسلک المزبور ... فأورد بعض النصوص ، و استظهر منها کون المجعول فی موارد الوجوب التخییری - الذی هو مفاد « أو » - هو « التخییر » :

* محمد بن أحمد بن یحیی ، عن أحمد بن محمد ، عن علی بن الحکم ، عن أبی حمزة : عن أبی جعفر علیه السلام قال : سمعته یقول : « إنّ اللّٰه فوّض إلی

ص:334

الناس فی کفارة الیمین ، کما فوّض إلی الإمام فی المحارب أن یصنع ما یشاء .

و قال : کلّ شیء فی القرآن « أو » فصاحبه فیه بالخیار » (1) .

فالخبر ظاهر فی أنّ المجعول فی هذه الموارد هو « تخییر المکلّف » و« تفویض الأمر إلیه » و لا فرق بین لسانه و لسان جعل الخیار فی أبواب الخیارات ، کقوله علیه السلام : « البیّعان بالخیار ما لم یفترقا » (2) و قوله : « صاحب الحیوان بالخیار بثلاثة أیّام » (3) .

فإن قیل : هذا ما یرجع إلیه الوجوب التخییری .

نقول : حمل المبدإ علی النتیجة خلاف الظاهر ، بل مفاد الخبر جعل المکلّف مختاراً کما جعل الإمام علیه السلام مختاراً فی المحارب ، و لسانهما واحد ، و ظاهرهما واحد ... فیکون الحاصل : کما أن البیّعین بالخیار بین الفسخ و عدمه ، کذلک من علیه الکفّارة بالخیار بین العتق و الصیام و الإطعام ، نعم الفرق هو أنّ المجعول هناک هو الخیار الحقّی ، و المجعول هنا هو الخیار الحکمی ، و حکم الأول أنه قابل للإسقاط ، و حکم الثانی أنه مثل الخیار فی الهبة غیر قابلٍ للإسقاط .

و الظاهر تمامیّة سند الروایة ، و« أبو حمزة » هو « الثمالی » .

و عن أبی عبد الله علیه السلام : « فی کفّارة الیمین ، یطعم عشرة مساکین ، لکلّ مسکین مدّ من حنطة أو مدّ من دقیق و حفنة أو کسوتهم لکلّ انسان ثوبان أو عتق رقبة ، و هو فی ذلک بالخیار أی ذلک شاء صنع » (4) .

ص:335


1- 1) وسائل الشیعة 22 / 377 الباب 12 من أبواب الکفارات .
2- 2) وسائل الشیعة 18 / 6 الباب الأول من أبواب الخیار .
3- 3) وسائل الشیعة 18 / 5 الباب 3 من أبواب الخیار .
4- 4) وسائل الشیعة 22 / 375 ، الباب 12 من أبواب الکفارات .

فالمجعول الشرعی کونه بالخیار .

و السند صحیح بلا کلام .

قال الأُستاذ : إن هذا هو الظاهر من الأخبار ، و إذ لا مانع ثبوتاً و إثباتاً من الأخذ به ، فمقتضی الصناعة العلمیّة هو الأخذ بالظهور .

و یبقی الکلام فی ضرورة تصویر الجامع بین الأفراد ... .

و لنرجع إلی الروایات فی ذلک ، فإنّا نری أنّ التخییر فی الوجوب التخییری شرعی - و لیس بعقلی - و قد وجدنا أن مقتضی الظواهر هو « الکفارة » و« الفدیة » و هذا هو الواجب لا « أحد الأُمور » :

و عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال : « سألته عن المحرم یصید الصید بجهالةٍ . قال : علیه کفّارة » .

فالمجعول علی ذمة المکلّف هو « الکفارة » ... فکان ما یکفر به الذنب أن « یصوم ستین یوماً » أو « یطعم ستین مسکیناً » أو « یعتق رقبةً » و کلّ واحدٍ من هذه الأُمور مصداق للجامع و هو « الکفارة » ، و قد فوّض الأمر إلی المکلّف فی التطبیق و العمل ، کما فوّض إلی الإمام علیه السلام فی المحارب إذ قال تعالی «إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذینَ یُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَرَسُولَهُ ... » .

ثم قال الراوی :

قلت : إنه أصابه خطأ .

قال : و أیّ شیء الخطأ عندک ؟

قلت : ترمی هذه النخلة فتصیب نخلةً أُخری .

قال : نعم ، هذا الخطأ وعلیه الکفارة » .

فکان ما « علیه » هو « الکفارة » .

ص:336

قلت : إنه أخذ طائراً متعمّداً فذبحه و هو محرم .

قال : علیه الکفارة .

قلت : جعلت فداک ، أ لست قلت إن الخطأ و الجهالة و العمد لیسوا بسواء ... » (1) .

و سندها صحیح .

و عن أبی عبد الله علیه السلام : مرّ رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم علی کعب بن عجرة الأنصاری و القمّل یتناثر من رأسه . فقال : أ تؤذیک هوامک ؟ فقال :

نعم . قال : فأنزلت هذه الآیة «فَمَنْ کٰانَ مِنْکُمْ مَریضًا أَوْ بِهِ أَذًی مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْیَةٌ » .

فالواجب هو عنوان « الفدیة » «مِنْ صِیٰامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُکٍ » و« من » هذه بیانیة .

( قال علیه السلام ) : « فأمره رسول اللّٰه بحلق رأسه و جعل علیه الصیام ثلاثة أیام و الصدقة علی ستة مساکین ، لکلّ مسکین مدّان ، و النسک شاة .

( قال علیه السلام ) : « و کلّ شیء فی القرآن « أو » فصاحبه بالخیار یختار ما شاء » (2) .

و عن أبی عبد الله علیه السلام :

« فی رجلٍ أتی امرأته و هی صائمة و هو صائم . قال : إن کان استکرهها فعلیه کفّارتان ، و إن کانت مطاوعته فعلیه کفارة و علیها کفارة » (3) .

و عن أبی عبد الله علیه السلام : « فی الرجل یلاعب أهله أو جاریته و هو فی قضاء شهر رمضان ، فیسبقه الماء فینزل . قال : علیه من الکفارة مثل ما علی الذی

ص:337


1- 1) وسائل الشیعة 13 / 69 الباب 31 من أبواب کفّارات الصید .
2- 2) وسائل الشیعة 13 / 166 الباب 14 من أبواب بقیة کفّارات الإحرام .
3- 3) وسائل الشیعة 28 / 377 الباب 12 من أبواب بقیّة الحدود و التعزیرات .

یجامع فی رمضان » (1) .

قال الأُستاذ :

و لو تنزلنا عن هذا ، فالمختار من بین الوجوه المتقدمة هو مسلک السید الخوئی .

هذا تمام الکلام فی الواجب التخییری بین المتباینین .

التخییر بین الأقل و الأکثر

اشارة

و قد وقع الکلام بین الأعلام فی جواز التخییر بین الأقل و الأکثر ، و اختلفت کلماتهم فیه ، بین قائل : بالجواز مطلقاً ، و قائل بالاستحالة مطلقاً ، و مفصّل بین ما کان تدریجیّ الحصول فلا یجوز کالتسبیحات ، و ما کان دفعیّ الحصول فیجوز ، کدوران الأمر بین رسم الخط القصیر أو الطویل ، علی أن یوجد الخط دفعةً .

و منشأ الخلاف هو :

أوّلاً : إنه إن وجب الأقل ، فإنّه دائماً موجود فی ضمن الأکثر ، فإذا تحقق حصل الغرض من الأمر ، و یکون الأکثر حینئذٍ بلا غرض ، فلما ذا یکون واجباً ؟

و ثانیاً : إن معنی « الوجوب » و حقیقته : ما لا یجوز ترکه - اللّهم إلّا فی الوجوب التخییری ، حیث یجوز ترک أحد العدلین مثلاً بالإتیان بالعدل الآخر - و لکنّ التخییر بین الأقلّ و الأکثر یستلزم القول بجواز ترک الواجب ، لأنّه مع الإتیان بالأقل یسقط الأکثر عن الوجوب .

و لا یخفی ورود هذین المحذورین سواء فی مورد التدریجی و الدفعی ،

ص:338


1- 1) وسائل الشیعة 10 / 130 الباب 56 من أبواب ما یمسک عنه الصائم .

فلا وجه لتخصیص المحقق الأصفهانی (1) أحدهما بالتدریجی و الآخر بالدفعی .

رأی المحقق الخراسانی

و ذهب المحقق الخراسانی إلی الجواز مطلقاً ، و حاصل کلامه (2) :

تارةً : یکون الغرض قائماً بالأقل بحدّه ، و بالأکثر بحدّه ، بحیث یکون للحدّ دخلٌ فی الغرض . فهنا لا محیص عن القول بالتخییر .

و أُخری : یکون الغرض قائماً بذات الأقل بلا دخل للحدّ فیه ، و کذا فی الأکثر . فهنا لا یعقل التخییر .

ففی التسبیحات - مثلاً - إن کان الغرض الواحد قائماً بالأقل و بالأکثر بحدّهما ، کانت التسبیحة الواحدة حاملةً للغرض کالتسبیحات الثلاث ، فلو أوجب الأقلّ دون الأکثر لزم الترجیح بلا مرجّح ، فلا محالة یکون المکلّف مخیّراً - بحکم العقل - بین الإتیان بالأقل أو الأکثر ، لأنّ المفروض کون الواجب هو الجامع بینهما ، و کلّ منهما مصداق له بلا فرق .

أمّا لو تعدّد الغرض ، و کان کلٌّ منهما حاملاً لغرضٍ غیر الغرض من الآخر و لا یمکن الجمع بینهما ، کان التخییر شرعیّاً ، إذ یکون کلٌّ منهما واجباً مع جواز ترکه إلی البدل ، کما تقدّم فی المتباینین .

فإن قلت : هذا إنما یتمّ فی الدفعی ، لکون کلٍّ من الأقل و الأکثر طرفاً فیتحقق التخییر ، و أمّا مع الحصول بالتدریج ، بأن یوجد الأقل و یصیر کثیراً حتی یصل إلی الأکثر فلا ، لحصول الامتثال بالأقل .

فأجاب : بعدم الفرق ، لإمکان ترتب الغرض علی التسبیحة بقید الوحدة

ص:339


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 273 .
2- 2) کفایة الأُصول : 142 .

و علیها بقید الثلاثة ، و إذا کان کلّ منهما حاملاً للغرض ، کان تعیین الأقل منهما ترجیحاً بلا مرجّح .

قال الأُستاذ :

و محصّل کلامه هو : إن جمیع موارد التخییر بین الأقل و الأکثر - حیث یکون کلّ منهما مقیّداً بحدّه - ترجع إلی التخییر بین المتباینین ، من قبیل التباین بین البشرطلا مع البشرط شیء ... و علی هذا الأساس قال بالتخییر .

لکنّ هذا خلاف الفرض فی مسألة دوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، إذ یکون الأقل موجوداً فی ضمن الأکثر ، فلیس المراد من الأقل هو البشرطلا عن الأکثر ...

حتی یرجع الحال إلی ما ذکره .

فما أفاده لیس حلّاً للإشکال و رافعاً للمحذور المزبور سابقاً .

المختار

فالمختار فی محلّ الکلام هو القول الثانی ، أی استحالة التخییر .

و العجب من السیّد الاستاذ أنه بعد ذکر محصَّل ما جاء فی الکفایة قال ما نصه : « و به یصحّح التخییر بین الأقل و الأکثر و إنْ کانت النتیجة إرجاعه إلی التخییر بین المتباینین ، لإرجاعه إلی التخییر بین المأخوذ بشرط لا و المأخوذ بشرط شیء .

فهو تصحیح للتخییر بین الأقل و الاکثر بتخریجه علی التخییر بین المتباینین ، لا التزام بالتخییر بین الأقل و الاکثر » (1) فتدبر .

تفصیل المحقق الإیروانی

و قال المحقق الإیروانی (2) : بأن محلّ الإشکال هو ما إذا کان نفس الفعل

ص:340


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 496 .
2- 2) نهایة النهایة 1 / 201.

المتعلّق للتکلیف مردّداً بین الأقل و الأکثر ، و کان للأقل فی ضمن الأکثر وجود مستقل ، کرسم خطٍّ طویل تدریجاً ، و إن عدّ المجموع بعد حصول الأکثر فعلاً واحداً ذا وجود واحد .

فیخرج بالقید الأوّل : ما إذا لم یکن الفعل المتعلّق للتکلیف مردداً بین الأقل و الأکثر ، بل کان متعلّق ذلک الفعل مردّداً بینهما ، کما إذا أمر تخییراً بالإتیان بعصا طولها عشرة أذرع ، أو بعصا طولها خمسة أذرع ، أو بإکرام عشرة دفعةً واحدة ، أو إکرام خمسةٍ کذلک ، فإن ذلک من التخییر بین المتباینین ، لتباین الفعلین المتعلّق بهما التکلیف .

و یخرج بالقید الثانی : ما إذا لم یکن للأقل فی ضمن الأکثر وجود مستقل ، کما إذا أمر تخییراً بالمسح بالکف أو بإصبع واحدة ، فإنه أیضاً من التخییر بین المتباینین .

و من ذلک یظهر عدم الفرق بین الکمّ المنفصل و الکمّ المتصل ، فلو أمر تخییراً بین التسبیحة الواحدة و التسبیحات الثلاث ، أو أمر تخییراً بین المشی فرسخاً واحداً أو فراسخ عدیدة ، أو القراءة و التکلّم و سائر الأُمور التدریجیّة ، کان کلّ ذلک من محلّ الکلام .

ثم إنه أورد علی ( الکفایة ) بإشکالین : ( أحدهما ) : ما تقدّم من أن ما ذکره خارج عن محلّ الکلام ، و أنّ لازم کلامه عدم معقولیّة التخییر بین الأقل و الأکثر .

و( الثانی ) هو : إن ما ذکره من التخییر بین الأقل بشرط لا و الأکثر غیر معقولٍ أیضاً ، و إن کان ذلک داخلاً فی المتباینین ، إذ التباین المذکور تباین عقلی لا خارجی ، و الإشکال لا یرتفع بالتباین الخارجی ، و لذا لا یسع المصنف الحکم بعدم وجوب الأکثر بعد الإتیان بالأقل ، لأن ذلک فی معنی إخراج الأکثر عن طرف التخییر ،

ص:341

و لا الحکم بوجوب الأکثر عیناً ، لأن ذلک فی معنی إخراج الأقل عن طرف التخییر ، و حکمه بالتخییر بین الإتیان بالزائد و عدمه فی معنی عدم وجوب الزائد و انحصار الوجوب بالأقل ، لعدم معقولیّة وجوب فعل شیء و ترکه علی سبیل التخییر .

إشکال الأُستاذ

و قد أورد الأُستاذ - فی کلتا الدورتین - علی هذه النظریّة ، بأن ذات الأقل موجود فی ضمن الأکثر فی الوجود الدفعی کذلک ، و المفروض أن الغرض مترتب علی الذات ، فیکون الأکثر زائداً عن الغرض ، لکنّ هذا یستلزم أن لا تکون ذات الأقل حاملةً للغرض إلّا مع الحدّ و کونه بشرط لا ، و حینئذٍ ینقلب إلی التخییر بین المتباینین ، و هو خلف الفرض کما تقدم فی الإشکال علی ( الکفایة ) .

إذن ، فمورد البحث هو ذات الأقل لا بحدّه ، و هو موجود فی ضمن الأکثر ، من دون فرقٍ بین الوجود الدفعی للأکثر أو التدریجی .

و أمّا إشکاله علی المحقق الخراسانی بأن هذه التباین عقلی لا خارجی .

ففیه : إنّ منشأ اعتبار الأقل بشرط لا مغایر خارجاً مع منشأ اعتبار البشرط شیء ، فکان التباین خارجیاً لا ذهنیّاً .

و هذا تمام الکلام فی الوجوب التخییری .

ص:342

الوجوب الکفائی

اشارة

ص:343

ص:344

و الفارق بینه و بین التخییری هو المتعلّق و الموضوع ، ففی التخییری یتردّد متعلّق التکلیف بین الصوم و الإطعام و العتق - مثلاً - أمّا فی الکفائی ، فإنه یتردّد موضوع التکلیف بین زید و عمرو و بکر ... .

فالتکلیف واحد ، لکن الموضوع متعدّد ، و استحقاق العقاب أو الثواب یکون للکلّ ، بخلاف الواجب التخییری حیث الثواب أو العقاب واحد .

و قد اختلفت کلمات الأعلام فی هذا المقام کذلک علی وجوه :

.الوجه الأوّل

اشارة

فقال المحقق الخراسانی (1) : و التحقیق أنه سنخ من الوجوب ، و له تعلّق بکلّ واحد ، بحیث لو أخلّ بامتثاله الکلّ لعوقبوا علی مخالفته جمیعاً ، و إن سقط عنهم لو أتی به بعضهم ، و ذلک قضیّة ما إذا کان هناک غرض واحد حصل بفعل واحدٍ صادر عن الکلّ أو البعض . کما أن الظاهر هو امتثال الجمیع له أتوا به دفعةً و استحقاقهم المثوبة ، و سقوط الغرض بفعل الکل ، کما هو قضیّة توارد العلل المتعدّدة علی معلول واحد .

و حاصل کلامه هو : أنّ حقیقة الوجوب الکفائی عبارة عن الوجوب المشوب بجواز الترک - کما فی التخییری ، غیر أنه هناک جواز الترک إلی بدلٍ فی

ص:345


1- 1) کفایة الأُصول : 143 .

الفعل ، و هنا جواز الترک إلی بدلٍ فی الموضوع - و قد ذکر وجهین لهذه الدعوی :

( أحدهما ) من جهة العلّة للحکم و هو الغرض ، إذ الغرض واحد و الفعل واحد و هو الحامل للغرض ، و حینئذٍ ، یستوی الحال بالنسبة إلی أفراد المکلّفین ، فکلّ من أتی به فقد حصل الغرض و تحقّق الامتثال .

فالحاصل : إنّ موضوع التکلیف هو کلّ الأفراد - لا جمیعهم ، لوحدة الغرض و الفعل ، و لا الأحد المفهومی المردّد منهم ، لأنه غیر حاملٍ للغرض ، و لا الأحد المردد المصداقی ، لأنه لا وجود له - لکن سنخ التکلیف هو أن الوجوب المتوجّه إلی کلّ واحدٍ مشوب بجواز الترک له فی حال قیام غیره به .

و لو أتی الجمیع بالفعل - کأن صلّوا جماعةً علی المیّت - کان الامتثال حاصلاً بفعل الکلّ ، من باب توارد العلل المتعددة علی المعلول الواحد .

و هذا هو ( الوجه الثانی ) .

الاختلاف بین المحقق الأصفهانی و صاحب الکفایة

ثم إنّ المحقق الأصفهانی (1) قد وافق صاحب ( الکفایة ) فی أصل الرأی ، إلّا أنه خالفه فی الوجه الثانی من الوجهین المذکورین ، لبطلان توارد العلل علی المعلول الواحد فی الصّلاة علی المیت و غیره من الواجبات الکفائیة القابلة للتعدّد ، فلو صلّی کلّ واحدٍ من المکلّفین علی المیت ، کانت صلاته ذات مصلحة ، فلم یتحقّق توارد العلل علی المعلول الواحد ، هذا بالنسبة إلی أصل المصلحة . و أمّا المصلحة اللّزومیّة فهی لیست إلّا واحدة ، تتحقّق بقیام أیّ واحدٍ من المکلّفین بالصّلاة علی المیّت ، فنسبتها إلی جمیع المکلّفین علی حدٍّ سواء ، و لذا یحصل الامتثال بفعل أیّ واحدٍ منهم ... فلا توارد للعلل ، لا فی أصل المصلحة

ص:346


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 277 .

و لا فی المصلحة اللزومیّة .

أمّا فی مثل دفن المیت و نحوه ممّا لا یقبل التعدّد ، فالأمر واضح ، إذ مع عدم تعدّد الفعل کیف یتحقّق توارد العلل علی المعلول الواحد ؟

إشکال الأُستاذ

و قد أورد علیه شیخنا بوجوه :

الأوّل : إنّ الوجوب الکفائی وجوب مشوب بجواز الترک فی طرف الموضوع ، أی المکلّف ، فلو ترک کان المکلّفون کلّهم معاقبین ، لأنّ کلّاً منهم قد ترک لا إلی بدلٍ ، فهو یقول بتعدّد العقاب هنا ، و لا یقول به فی الواجب التخییری مع ترک جمیع الأطراف ، و الحال أنّ نفس الدلیل القائم هنا علی تعدّد العقاب یقتضی تعدّده هناک ، لأنّ جواز ترک الإطعام - مثلاً - کان منوطاً بالإتیان بالعتق أو الصوم ، فلو ترک الکلّ لزم تعدّد العقاب کذلک .

و الثانی : لقد جاء فی کلامه فی ( نهایة الدرایة ) عبارة : إن المصلحة اللزومیّة هذه لا متعیّنة . فیرد علیه :

أوّلاً : إنه لا وجود لغیر المتعیّن ، و قد ذکر هو سابقاً إن الوجود مساوق للتعیّن .

و ثانیاً : إنّ المصلحة اللزومیّة متقوّمة بالفعل الحامل لها ، فکیف یکون المعلول متعیّناً و العلّة غیر متعیّنة ؟ و کیف یکون اللّامتعیّن قابلاً للامتثال ؟

و ثالثاً : إن المصلحة اللزومیّة واحدة لا تقبل التعدّد و إلّا لتعدّد الواجب و هو خلاف الفرض فی الواجب الکفائی ، و لذا یکون نسبتها إلی کلٍّ من المکلّفین علی السواء ، و هی نسبة صدوریّة ، فکیف یعقل أن یکون الصّادر واحداً و من صدر عنه الفعل متعدّداً ؟

ص:347

الإشکال الصحیح علی صاحب الکفایة و المحقق الأصفهانی

هذا ، و الإشکال الوارد علی تصویر الوجوب الکفائی بالوجوب المشوب بجواز الترک ، هو عدم مساعدة مقام الإثبات و الارتکازات العقلائیّة علیه ، و أمّا ثبوتاً فلا یرد علیه شیء .

.الوجه الثانی

هو القول بالوجوب المشروط ، بأن یجب الفعل علی کلّ واحدٍ من المکلّفین مشروطاً بعدم قیام غیره منهم به .

و هذا الوجه ساقط ، لأنّه یستلزم عدم حصول الامتثال لو صلّی الکلّ علی المیّت مثلاً ، لأنّ المفروض اشتراط الوجوب علی کلّ واحدٍ منهم بترک الآخر ، و إذا صلّی الجمیع لم یتحقق الشرط و انتفی الوجوب ، فلا امتثال للأمر ... و هذا باطل .

.الوجه الثالث

إن موضوع التکلیف هو الفرد المردّد ، کما أنّ متعلّق التکلیف فی الوجوب التخییری هو المردّد ، فکما تتعلّق الإرادة التشریعیّة بالمراد المردّد - و هو الفعل - کذلک تتعلّق بالمراد منه المردد و هو الموضوع .

و فیه :

ما تقدّم هناک من أن تعلّق التکلیف بالمردّد غیر معقول ، سواء کان التردّد فی الفعل المکلّف به أو فی المکلّف نفسه ، لأنّ التکلیف - سواء علی القول بأنه الإنشاء بداعی جعل الداعی ، أو القول بأنه الطلب الإیقاعی الإنشائی ، أو القول بأنه البعث و التحریک نحو الإتیان بالمتعلّق ، أو القول بأنه اعتبار الفعل فی ذمّة العبد و إبرازه بالصیغة - أمر ذو تعلّق و ارتباط بالغیر ، و التعلّق بالمردّد محال مطلقاً .

ص:348

هذا ، و لا یخفی أن المیرزا - و إن قال بمعقولیّة تعلّق الإرادة التشریعیّة بالمردّد فی الوجوب التخییری ، من جهة أنّ أثرها إحداث الدّاعی فی نفس المکلّف ، و لا مانع من أن یکون المدعوّ إلیه مردّداً - لا یقول فی الوجوب الکفائی بتعلّقها بالموضوع المردّد ، فهو یفرّق بین الموردین ، و لعلّ السرّ فی ذلک هو تعیّن الموضوع فی التخییری و تردّد المتعلّق ، و لا محذور - عنده - فی إحداث الداعی نحو المتعلّق المردّد ، أمّا فی الوجوب الکفائی ، فالموضوع مردّد و لا یعقل إحداث الداعی مع تردّده ... و لذا قال فی تصویر الکفائی بأنّ الموضوع صرف الوجود - لا الفرد المردد - کما سیأتی .

.الوجه الرابع

اشارة

إنّ موضوع التکلیف عبارة عن الکلّی الجامع بین الأفراد ، غیر أنّه فی مقام التشخّص یتشخص الموضوع بقیام أیّ فردٍ من الأفراد بالمکلّف به ، کما هو الحال فی الوضعیّات ، کملکیّة سهم السّادة مثلاً - بناءً علی أنه لکلّی الهاشمی الفقیر - حیث الموضوع عبارة عن الکلّی ، ویتعیّن بالقبض و الإقباض ، فهنا کذلک ، فقد تعلّق التکلیف بالکلّی غیر أنّه یتعیّن بمن یقوم بالعمل من أفراد المکلّفین .

و هذا ما نقله المحقق الأصفهانی عن السید بحر العلوم صاحب بلغة الفقیه (1) فی تصویر أخذ الأُجرة علی الواجبات .

إشکال المحقق الأصفهانی

ثم أشکل علیه : بأنّ البعث و التحریک لا بدّ و أن یتوجّه نحو الشخص ، و لا یعقل أن یکون الکلّی طرفاً للبعث ، لعدم معقولیّة انقداح الإرادة فی نفس

ص:349


1- 1) بلغة الفقیه 2 / 18 .

الکلّی ، لأن الکلّی لا نفس له (1) .

جواب الأُستاذ

و قد أجاب عنه شیخنا : بأن هذا البعث اعتباری و لیس تکوینیّاً ، و غایة ما یقتضیه البرهان هو انقداح الإرادة علی أثر البعث ، و هذا یحصل فی نفس الفرد بالبعث نحو کلّی المکلّف بعثاً اعتباریاً ، لأنّ الکلّی متّحد مع الأفراد . فالإشکال مندفع ... .

و ما جاء فی کلامه من أنّ متعلّق التکلیف هو المکلّف بالحمل الشائع .

مخدوش عقلاً ، لأنّ التکلیف من الأُمور ذات التعلّق ، فهو فی وجوده محتاج إلی الطرف و هو مقوّم له ، لکن التکلیف و البعث من الموجودات النفسانیّة ، و تقوّم الموجود النفسانی بالموجود الخارجی محال ، لاستلزامه صیرورة النفسانی خارجیّاً أو الخارجی نفسانیاً ، و کلاهما محال .

بل إن متعلّق التکلیف لا بدّ و أن یکون من سنخ التکلیف ، فالتکلیف أمر نفسانی و متعلّقه نفسانی أیضاً ، و هو الداعی فی نفس العبد ، غیر أنّ هذا الداعی یصیر علّةً للمراد الخارجی فیکون المبعوث إلیه بالعرض ... فافهم و اغتنم .

الإشکال الوارد

لکنّ الإشکال الوارد علی هذا الوجه هو : عدم معقولیّته فیما نحن فیه ، و تنظیره بالأحکام الوضعیّة کالملکیّة قیاس مع الفارق ، لأنّ الموضوع لملکیّة الخمس هو کلّی الهاشمی الفقیر ، لکنّه فی ظرف التشخّص تتحقّق ملکیّة شخصیّة بمقتضی الأدلّة الشرعیّة فی المسألة ، بخلاف الأحکام التکلیفیّة ، فإنّه لا موضوعیة

ص:350


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 278 - 279 .

فی ظرف التشخّص ، لأنّ ظرف التشخّص فیها هو ظرف التلبّس بالفعل و القیام به ، فما لم یقم أحد المکلّفین بالفعل لم یتشخص الموضوع ، و إذا قام بالعمل خرج عن الموضوعیّة ، فلا معنی لتوجّه التکلیف إلیه و بعثه نحو الفعل .

.الوجه الخامس

اشارة

إنّ موضوع الوجوب فی الکفائی عبارة عن مجموع المکلّفین ، بنحو العام المجموعی ، فی مقابل العام الاستغراقی حیث یکون الواجب عینیّاً و أنّ المکلّف کلّ واحدٍ من أفراد المکلّفین .

الإشکال علیه

و قد أورد علیه بوجهین :

الأوّل : إنّ المجموع أمر اعتباری ذهنی ، إذ الموجود فی الخارج هو الأفراد ، و التکلیف - کما تقرر - إنما هو لإیجاد الداعی فی نفس المکلّف ، و من الواضح أن الأمر الاعتباری غیر صالح للمبعوثیة .

و الثانی : إنه لیس الموضوع فی الوجوب الکفائی هو مجموع المکلّفین ، و إلّا یلزم أن لا یتحقق الامتثال بإتیان البعض بالمأمور به ، و تحقّقه بامتثال البعض کاشف عن أن الموضوع لیس المجموع .

و هذا الإشکال الثانی وارد .

و أمّا الأوّل فیمکن الجواب عنه : بأنّ الأمر الاعتباری و إنّ لم یکن بنفسه موضوعاً للتکلیف لما ذکر ، إلّا أنه یمکن أن یکون وسیلةً لبعث من فی الخارج ، نظیر عنوان « أحدهما » مثلاً ، فإنه أمر انتزاعی لا یتعلّق به التکلیف و لا یقع موضوعاً له ، إلّا أنه لمّا یقول المولی : لیقم أحدکم بالفعل الکذائی ، یصیر هذا العنوان منشأً للانبعاث فی الخارج ، و قد تقدّم - فی تصحیح جعل الکلّی عنواناً للموضوع - أنه لا برهان علی ضرورة کون المکلّف نفسه قابلاً للانبعاث ، بل یکفی أن یکون

ص:351

لجعل العنوان موضوعاً أثر فی الخارج یخرج أخذه کذلک عن اللغویّة ، فهذا الإشکال من المحقق الأصفهانی (1) غیر وارد .

.الوجه السّادس

اشارة

إن الموضوع صِرف وجود المکلّف ، و کما أنّ الغرض من المکلّف به یترتّب علی صرف وجود الطبیعة - کالإکرام مثلاً - حیث یتحقّق الامتثال بإکرام فردٍ واحدٍ أو علی مطلق وجودها الساری ، فینحلّ التکلیف بعدد أفراد تلک الطبیعة ، کذلک فی طرف المکلّف ، فقد یترتّب الغرض علی صدور الفعل من مکلّفٍ ما ، و قد یترتّب علی مطلق وجود المکلّف ، فإن کان الأوّل فهو الکفائی ، و إن کان الثانی فهو العینی ... .

و هذا مختار المحقق النائینی (2) و قال فی المحاضرات : « و هو الصحیح » (3) .

إشکال المحقق الأصفهانی

و قد تعرّض المحقق الأصفهانی لهذا الوجه فی تعالیقه علی ( نهایة الدرایة ) (4) فقال : إن صرف الوجود بمعناه المصطلح علیه فی المعقول لا یطابق (5)له إلّا الواجب تعالی و فعله الإطلاق ، حیث إنه لا حدّ عدمی لهما و إن کان الثانی محدوداً بحدّ الإمکان . و بمعناه المصطلح علیه فی الأُصول : إمّا أن یراد منه ناقض العدم المطلق و ناقض العدم الکلّی کما فی لسان بعض أجلّة العصر (6) ، و إمّا أن یراد

ص:352


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 279 .
2- 2) أجود التقریرات 1 / 270 - 271 .
3- 3) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 240 .
4- 4) نهایة الدرایة 2 / 278 .
5- 5) کذا، و الظاهر «مطابَق».
6- 6) یقصد الشیخ الحائری الیزدی فی درر الأُصول .

المبهم المهمل من حیث الخصوصیّات ، و إمّا أن یراد منه اللّابشرط القسمی المساوق لکونه متعیّناً بالتعیّن الإطلاقی اللازم منه انطباقه علی کلّ فرد .

( قال ) فإن أُرید منه ناقض العدم المطلق و العدم الکلّی .

ففیه : إنّ کلّ وجود ناقض عدمه البدیل له ، و لیس شیء من موجودات العالم ناقض کلّ عدم یفرض فی طبیعته المضاف إلیها الوجود .

و إرجاعه إلی أوّل الوجودات ، باعتبار أنّ عدمه یلازم بقاء سائر الأعدام علی حاله ، فوجوده ناقض للعدم الأزلی المطلق لا کلّ عدم .

فهو لا یستحق إطلاق الصرف علیه ، فإنه وجود خاص من الطبیعة بخصوصیّته الأولیّة ، مع أنه غیر لائقٍ بالمقام ، فإنه من المعقول إرادة أوّل وجودٍ من الفعل ، و لا تصحّ إرادته من أول وجودٍ من عنوان المکلّف ، فإنّ مقتضاه انطباقه علی أسنّ المکلّفین .

کما لا یصحّ إرجاعه إلی أوّل من قام بالفعل .

فإنّ موضوع التکلیف لا بدّ من أن یکون مفروض الثبوت و لا یطلب تحصیله ، فمقتضاه فرض حصول الفعل لا طلب تحصیله .

و إنّ أُرید المبهم المهمل .

فلا إهمال فی الواقعیّات .

و إنّ أُرید اللّابشرط القسمی ، و هی الماهیّة الملحوظة بحیث لا تکون مقترنةً بخصوصیة و لا مقترنةً بعدمها .

فیستحیل شخصیّة الحکم و البعث - مع لحاظ المکلّف بعد الاعتبار الإطلاقی - إذ لا یعقل شخصیّة الحکم و نوعیّة الموضوع وسعته ، فلا بدّ من انحلال الحکم حسب انطباقات الموضوع المطلق علی مطابقاته و مصادیقه ، فیتوجّه

ص:353

حینئذٍ السؤال عن کیفیة هذا الوجوب الوسیع علی الجمیع مع سقوطه بفعل البعض . و سیأتی توضیح الجواب عنه .

جواب الأُستاذ

و أجاب شیخنا عن الإشکال : بأن المراد من « صرف الوجود » هو ما ذکره من نقیض العدم البدیل ، بمعنی أن وجود زید - مثلاً - رافع لعدم زید لا عدم عمرو ، لکنّ وجود زیدٍ فی نفس الوقت رافع لمطلق العدم ، لا للعدم المطلق حتی یرد الإشکال ، إذ الفرق بین مطلق العدم و العدم المطلق کبیر ، و کذلک الفرق بین الوجود الخاص و مطلق الوجود ، فلما یتحقق زید یتحقق أصل الوجود معه ، کما هو الحال بین الأفراد و الطبائع ، إذ یتحقق مع وجود زید أصل الإنسانیة و مطلق الانسانیة لا الإنسانیة المطلقة .

فالمراد من صرف الوجود هو الوجود الناقض للعدم ، و هذا هو الموضوع للتکلیف ، لا الوجود الناقض لجمیع الأعدام أو المهمل أو الطبیعة لا بشرط و لا من یقوم بالفعل و لا أول الوجود ... فالإشکال مندفع و إنْ تعجّب السید الأُستاذ من التزام المحقق النائینی به و موافقة السید الخوئی له ، فلاحظ (1) .

.الوجه السّابع

اشارة

هو : إن الأمر إذا صدر عن المولی متوجّهاً إلی عبده ، فله أنحاء من الإضافات ، إذ له نحو إضافةٍ إلی الآمر و هو بصدوره عنه ، و نحو إضافةٍ أُخری إلی المأمور ، و هو بتحریکه نحو المطلوب ، و نحو إضافة بالفعل الصادر ، و هو بقیامه فیه شبه قیام العرض فی الموضوع لا مثله حقیقةً ، لما عرفت من أن التکلیف لیس من العوارض الخارجیة ، إذ الخارج ظرف السقوط لا ظرف العروض .

ص:354


1- 1) منتقی الأُصول 2 / 499 .

و معلوم : أنه لا فرق بین الواجبات العینیّة و الکفائیّة من جهة الإضافة الأولی و الثانیة ، إذ فی کلیهما کان الآمر یصدر عنه الطلب و کان المأمور مبعوثاً نحو الفعل ، لکنّ الفرق بین العینی و الکفائی إنما هو فی نحو الإضافة الأخیرة ، حیث أن نحو إضافة التکلیف إلی الفعل فی العینی هو بقید صدوره عن آحاد المکلفین مباشرةً ، فیتعدّد لا محالة بتعدّد المکلّفین بمناسبة هذا القید ، بخلاف الواجبات الکفائیة فلا یتعدّد بتعداد المکلّفین .

فتعلّق التکلیف بالمکلّفین هو علی نحو الاستغراق فی العینی و الکفائی من غیر فرقٍ ، و الفرق بینهما إنما هو بنحو الإضافة الأخیرة ، فکما یمکن أن یکون نحو إضافة التکلیف إلی الفعل المتعلّق بقید أن یکون التعلّق صادراً عن کلّ فردٍ من الأفراد بالمباشرة ، کما فی الصّلاة و الصوم و نظائرهما من الواجبات النفسیّة ، حیث أن المصلحة قائمة فی فعل آحاد المکلّفین بالصّدور المباشری ، کذلک یمکن أن یکون نحو إضافته إلی المتعلّق لا بقید صدوره عن کلّ واحدٍ مباشرة ، بل یکون نحو تعلّقه بصرف الوجود من طبیعة الفعل لا بقید تکثرها بکثرة أفراد المکلفین ، فیسقط الأمر بصرف وجود الطبیعة فی الخارج من أحد المکلفین قهراً ، لأنّ الطبیعة توجد بوجود فردٍ ما . هذا هو حقیقة الوجوب الکفائی فافهم و اغتنم . و هذا مختار السید البروجردی (1) .

و حاصل هذا الوجه هو : أن کلّ التصویرات مردودة ، لأنها کانت متوجّهةً نحو المطلوب منه ، فقیل : هو مجموع الأفراد ، و قیل : الجمیع و یسقط بفعل البعض ، و قیل : الواحد المردّد ... بل الفرق بین العینی و الکفائی هو من ناحیة المطلوب ، إذ هو فی الأول مشروط بصدوره من المکلّف الخاص و الثانی

ص:355


1- 1) الحجة فی الفقه : 216 - 217 .

لا بشرط من ذلک .

وجوه الإشکال

أورد علیه الأُستاذ بوجوه :

الأول : النقض بالواجب التخییری ، حیث ذهب إلی أن الواجب فیه هو الواحد المردّد ... فیقال له : أیّ فرقٍ بین تردید المتعلّق و تردید الموضوع ؟ لوضوح وحدة المناط و هو أنّ المردّد لا وجود له ، و ما کان کذلک فلا یقبل البعث ... و الأحکام العقلیّة لا تقبل التخصیص .

و الثانی : إنّه لا یعقل تقیید المعلول بصدوره عن علّته ، فالحرارة تصدر من النار ، و إذا صدرت لا یعقل تقییدها بالصدور عن النار ، بل إنها تصدر عنها ثم تتّصف بالصّدور . فهذه مقدّمة . و مقدمة أُخری : إنّ الإرادة التشریعیة من المولی إنما تتعلّق بما تتعلّق به الإرادة التکوینیّة من العبد .

و بناءً علی ما ذکر یتّضح عدم إمکان اشتراط الواجب بصدوره عن إرادة المکلّف ، لأن إرادته علّة لتحقق الواجب ، فلو کان الواجب مشروطاً بصدوره عن إرادة المکلّف لزم اشتراط المراد بصدوره عن الإرادة ، و هذا غیر معقول ، فلا یعقل تعلّق الإرادة التشریعیّة به ...

و الحاصل : إن الإرادة تتعلّق بالصّلاة لا بالصّلاة الصادرة عن الإرادة ...

فقوله بأن الواجب العینی عبارة عن الواجب المشروط بصدوره عن فاعل خاص ، یرجع إلی کون الصّلاة الواجبة علی زید هی الصّلاة المقیّدة بصدورها عن إرادته ، و لمّا کان هذا المحقق من القائلین بأن التقابل بین الإطلاق و التقیید من قبیل العدم و الملکة ، فإنه إذا استحال التقیید - کما ذکرنا - یستحیل الإطلاق . فما ذکره فی تصویر الواجب الکفائی و فرقه عن العینی ساقط .

ص:356

و الثالث : إن الغرض فی الواجب الکفائی واحد لا متعدّد ، و قد صرّح بذلک أیضاً ، و مع وحدته یستحیل تعدّد الواجب ، فقوله بتعدّد الوجوب علی عدد أفراد المکلّفین غیر صحیح .

.الوجه الثامن

اشارة

إنه لیس للوجوب حقائق مختلفة متعدّدة ممتازة بذاتیّاتها ، بل هو فی جمیع موارده سنخ واحد ، و یکون تکثّره بالعوارض المصنّفة و الخصوصیّات المشخّصة .

فسنخ الکفائی هو سنخ العینی ، و التکلیف فیه متوجّه إلی الجمیع ، لعدم معقولیّة تکلیف واحدٍ علی البدل ، و الفرض عدم اختصاص التکلیف بواحدٍ معیّن ، و التکلیف المتوجّه إلی الجمیع متعدّد ، لعدم معقولیّة توجّه تکلیفٍ واحدٍ إلی متعدّدین ، فإذا تعدّد التکلیف و المکلّف تعدّد الفعل المکلّف به ، و یکون تکلیف کلّ واحدٍ متعلّقاً بفعل نفسه لا بفعل غیره ... .

فحقیقة الوجوب هنا هی حقیقة الوجوب هناک من غیر تخالف فی الحقیقة الوجوبیّة أصلاً ، فیجب علی کلّ واحدٍ امتثال تکلیف نفسه ، فإذا اجتمع الکلّ علی الامتثال دفعةً واحدة استحق کلّ واحدٍ المثوبة الکاملة ، و إذا اجتمعوا علی المعصیة استحق کلّ واحدٍ عقاباً تامّاً کما فی الواجبات العینیّة .

نعم ، إذا بادر أحدهم إلی الامتثال سقط التکلیف عن الباقین ، علی خلاف الواجبات العینیّة ، و لیس المنشأ لهذا الاختلاف حقیقة الوجوب ، بل الوجه فی ذلک ارتفاع موضوع التکلیف بإتیان واحدٍ ، و ذلک لخصوصیّة أُخذت فی المتعلَّق ، فإنّ متعلّق التکلیف هو الغسل و الکفن و الدفن لمیت لم یغسّل و لم یکفّن و لم یصلّ علیه و لم یدفن . و هذا کلّه ینتفی بإتیان واحد ، فموضوعُ التکلیف

ص:357

غیر باقٍ لیکلّف الباقون .

و حاصل الکلام هو : إن الفرق بین الوجوب العینی و الوجوب الکفائی هو فی طرف موضوع التکلیف ، فهو فی الأول لا بشرط و فی الثانی بشرط ، أی هو المیت الذی لم یغسّل و لم یکفن و لم یصلّ علیه و لم یدفن ، فإذا تحقّق ذلک کلّه فی حقّه من واحد ، فلا موضوع لتکلیف سائر المکلّفین ، و یکون سقوط التکلیف عنهم لانتفاء الموضوع ، خلافاً للسید البروجردی ، إذ جعل العینی مشروطاً بصدوره عن فاعلٍ خاصٍ و الکفائی لا بشرط ... و هذا مختار المحقق الإیروانی (1) .

إشکال الأُستاذ

و قد أورد الشیخ الأُستاذ علی هذا الوجه : بأنّ کلّ موضوع فهو بقیوده مقدّم رتبةً علی الحکم ، و کلّ حکم متأخّر عن موضوعه بالتأخّر الطبعی ، فکان نسبة الموضوع إلی الحکم نسبة العلّة إلی المعلول ، و إن کانت العلّة الواقعیّة هی إرادة المولی .

و أیضاً : فإنّ الرافع للشیء لا بدّ و أن یکون متقدّماً علی الشیء رتبةً ، لأنه العلّة لعدمه ، و إلّا فلا یکون رافعاً له .

و أیضاً : فإنّ الإهمال فی الموضوع و قیوده محال .

و بناءً علی هذه المقدّمات نقول : إذا کان تغسیل المیّت واجباً علی زیدٍ أو عمرو کفایةً ، و کان وجوبه علی کلٍّ منهما مقیّداً بعدم کون المیت مغسّلاً بواسطة الآخر ، کان الرافع للموضوع الموجب لانتفاء تکلیف زید ، هو تغسیل عمرو ، و حینئذٍ یتوجّه السؤال : هل کان تغسیل عمرو - الرافع لموضوع تکلیف زید - مهملاً ، أی هو رافع له سواء کان المأمور به أو لا ؟ لا ریب فی عدم الإهمال بل هو

ص:358


1- 1) نهایة النهایة 1 / 203 .

مقیّد بکونه غسلاً صحیحاً مطابقاً للأمر ، إذن ، کان موضوع الوجوب علی کلٍّ من زید و عمرو هو عدم کون المیت مغسّلاً بالغسل الصحیح بواسطة الآخر ، فیکون الرافع للموضوع هو الغسل الصحیح ، لکنّ قید الصحّة للموضوع متأخّر رتبةً علی الموضوع المتقدم رتبةً علی الحکم .

و نتیجة ذلک هو : أن یکون وجوب التغسیل علی زیدٍ متأخّراً عن الموضوع - و هو عدم تغسیل عمرو الغسل الصحیح - بمرتبتین ، و أن یکون وجوبه علی عمرٍو متأخّراً عن الموضوع - و هو عدم تغسیل زید له کذلک - بمرتبتین ، فیجتمع التأخّر و التقدّم فی وجوبه علی زیدٍ ، و هو محال .

هذا کلّه أوّلاً .

و ثانیاً : إنه قد نصّ علی وحدة الغرض ، و فی نفس الوقت نصّ علی تعدّد التکلیف ، فکیف یکون الغرض واحداً و المکلّف به واحداً ، - و هو الدفن - و التکلیف متعدّداً ؟

رأی الأُستاذ فی الوجوب الکفائی

و اختلف مختار الأُستاذ فی الدورتین . أمّا فی السابقة ، فقد اختار قول المحقّق الخراسانی ، کالمحققین الأصفهانی و العراقی ، مستشکلاً علی قول المیرزا بأن متعلّق الوجوب هو صرف الوجود - بعد أن ذکر تعبیر ( المحاضرات ) عنه بالجامع لا بعینه - بأن تصویر الجامع الانتزاعی - الواحد لا بعینه - و إن أمکن فی الوجوب التخییری ، فهو غیر ممکن فی الکفائی ، للفرق بینهما من جهة استحقاق العقاب الواحد هناک فی صورة المخالفة للکلّ ، بخلاف الوجوب الکفائی ، فلو ترک کلّ أفراد المکلّفین استحقّوا العقاب جمیعاً ... .

و أمّا فی الدورة اللّاحقة ، فقد ناقش فی طریق صاحب الکفایة و من تبعه ،

ص:359

و اختار طریق المیرزا ، مستشکلاً علی ( المحاضرات ) إرجاع النظریّة إلی الجامع الانتزاعی بأنّه لیس المراد عند المحقق النائینی ، و یشهد بذلک قوله فی التخییری بأن الواجب هو الفرد المردّد ، لأنّ الإرادة التشریعیّة تختلف عن الإرادة التکوینیّة ، فلو کان مراده فی الکفائی ذلک أیضاً لصرّح به ، مع وجود الفرق بین الوجوبین ، حیث أن المردّد هناک هو المتعلّق و المردّد هنا هو الموضوع ... لکنّ بیان المیرزا هنا شیء آخر ، إنه یجوّز أن یکون صرف الوجود موضوعاً للحکم ، کما جاز أنْ یکون متعلَّقاً له ، و من الواضح أنّ « صرف الوجود » غیر « الجامع » و غیر « الفرد المردد » .

و الحاصل : إنه کلّما أمکن تصویر الجامع صحّ صرف الوجود ، و کلّما لم یمکن کان التکلیف متوجّهاً إلی عنوان « الأحد » . أمّا فی التخییری فلا جامع بین أفراد المکلّف به من الصوم و العتق و الإطعام فی الکفارة ، أو القتل و الصّلب و النفی فی حدّ المحارب ، و لذا یکون الواجب هو « الأحد » ، بخلاف الکفائی ، فالجامع موجود ، و هو عنوان الصّلاة ، فکان صرف وجود المکلّف هو الموضوع للتکلیف ... .

و هذه هی النکتة فی اختلاف تعبیر المیرزا فی الموردین ، حیث قال فی الوجوب التخییری بأن المتعلّق هو عنوان « الأحد » و فی الوجوب الکفائی جعل الموضوع هو « صرف وجود المکلّف » ... .

و ما ذهب إلیه هنا لا یتوجّه علیه أیّ إشکالٍ ، بعد ظهور اندفاع مناقشات المحقق الأصفهانی .

و هذا تمام الکلام علی الوجوب الکفائی .

ص:360

الوجوب الموسّع و الموقّت

اشارة

ص:361

ص:362

و البحث فی جهاتٍ ثلاثة :

.الجهة الأُولی : فی تصویر الواجب الموسّع و الواجب المضیّق .

اشارة

إنّه لا ریب فی لابدیّة الزمان فی کلّ أمر زمانی ، و إنما الکلام فی کیفیّة دخله فی الغرض ، لأن من الواجب ما لیس بموقّت ، و الموقّت : منه ما یکون الزمان فیه علی قدر الفعل ، و منه ما یکون أوسع منه ، و الأوّل هو المضیَّق ، و الثانی هو الموسّع .

إنما الکلام فی تصویر هذین القسمین .

إشکال العلامة فی الموسّع و جوابه

فعن العلّامة الحلّی رحمه اللّٰه انکار الواجب الموسّع فی الشریعة ، لأن القول به یستلزم القول بجواز ترک الواجب ، لکونه جائز الترک فی أوّل الوقت ، و ترک الواجب غیر جائز .

فأجاب عنه فی ( الکفایة ) (1) بأنّا نلتزم بعدم وجوب الفعل فی أوّل الوقت ، بل الواجب هو الفعل بین الحدّین ، کالصّلاة بین الزوال و الغروب ، و حینئذٍ ، تکون الصّلاة فی أوّل الوقت مصداقاً للواجب ، و مصداق الواجب غیر الواجب ، فلا موضوع للإشکال .

ص:363


1- 1) کفایة الأُصول : 143 .

و أمّا جواب السید الحکیم (1) : بأنّ الإشکال إنما یرد لو ترکت الصّلاة فی أوّل الوقت لا إلی بدلٍ ، لأنه منافٍ للوجوب ، و أمّا مع وجود البدل و هو الصّلاة فی الوقت الثانی - مثلاً - فلا یرد .

ففیه : إن الإشکال هو أنه مع فرض کون الزمان أوسع من الواجب ، فإنّ ترک الواجب فی أول الوقت ینافی أصل الوجوب ، فلو ترک إلی بدلٍ أصبح الوجوب تخییریّاً ، و الکلام فی الواجب التعیینی لا التخییری .

و تلخّص : تصویر الواجب الموسّع .

الإشکال فی الواجب المضیّق و جوابه

و أمّا الإشکال فی الواجب المضیّق فهو : إن کون الزمان علی قدر الفعل غیر معقول ، لأن الوجوب إن کان قبل الزمان لزم تقدّم المشروط علی الشرط ، و إن کان بعده أو مقارناً له ، فمن الضروری تصوّر البعث و تصدیقه حتی یؤثر فی الإرادة ، لأن الانبعاث من الأمر - و هو فعل اختیاری - یتوقف علی التصوّر و التصدیق ، و کلّ ذلک یحتاج إلی زمان ، فیکون زمان الانبعاث متأخّراً عن زمان البعث ، و یلزم أن یکون زمانه أقل من زمان البعث .

و الجواب هو : إن ورود هذا الاشکال یتوقّف علی أن یکون تأخّر الانبعاث عن البعث زمانیّاً ، لکنّه تأخّر رتبی ، و ذلک : لأن الموجب للانبعاث هو - فی الحقیقة - الصّورة العلمیّة للأمر و البعث ، و هی تتحقّق فی آن الانبعاث و الامتثال ، فیحصل البعث و العلم به و العمل علی طبقه فی الزمان الواحد ، فالواجب المضیّق ممکن ... .

ص:364


1- 1) حقائق الأُصول 1 / 339 .

.الجهة الثانیة

اشارة

فی أنّ الدلیل علی وجوب الفعل فی الوقت المعیّن هل یدل علی وجوبه کذلک فی خارج ذلک الوقت ، أو لا بدّ لوجوبه من دلیل آخر ؟ فإن کان الأوّل ، فالقضاء بالأمر الأوّل ، و إن کان الثانی ، فهو بأمر جدید ... أقوال :

منها : عدم الدلالة مطلقاً .

و منها : الدلالة مطلقاً .

و منها : التفصیل بین ما إذا کان الدلیل الدالّ علی التقیید بالزمان منفصلاً أو متّصلاً .

و منها : التفصیل بین ما إذا کان دلیل التقیید مهملاً و دلیل الوجوب مطلقاً فیدلّ ، و إلّا فلا . و هذا مختار المحقق الخراسانی .

قال فی ( الکفایة ) (1) : إنه لا دلالة للأمر بالموقت بوجهٍ علی الأمر به فی خارج الوقت بعد فوته فی الوقت ، لو لم نقل بدلالته علی عدم الأمر به . نعم ، لو کان التوقیت بدلیلٍ منفصلٍ لم یکن له إطلاق علی التقیید بالوقت و کان لدلیل الواجب إطلاق ، لکان قضیّة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت ، و کون التقیید به بحسب تمام المطلوب لا أصله .

أقول : و حاصل کلامه الأوّل : إن نسبة دلیل التوقیت إلی دلیل أصل الوجوب ، هو نسبة المقیّد إلی المطلق ، فکما یکون الدلیل علی اعتبار الإیمان فی الرقبة مقیّداً لدلیل وجوب العتق ، کذلک الدلیل القائم علی مدخلیّة الزمان الکذائی فی الغرض من التکلیف الکذائی ، و حینئذٍ ، فمقتضی القاعدة عدم الدلالة علی الأمر بالفعل فی غیر ذلک الوقت ، لو لم نقل بدلالته علی عدم الأمر به فیه ، من جهة

ص:365


1- 1) کفایة الأُصول : 144 .

مفهوم التحدید .

و أمّا کلامه الثانی فبیانه هو : إن دلیل التقیید بالزمان إنْ کان متّصلاً بدلیل الوجوب ، فهو إمّا مبیّن فیؤثر التقیید کما هو واضح ، و إمّا مجمل ، فیسری إجماله إلی دلیل الوجوب . و إن کان منفصلاً ، فتارةً یکون الدلیلان مطلقین ، و أُخری مهملین ، و ثالثةً یکون دلیل الوجوب مطلقاً و دلیل القید مطلق ، و رابعةً بالعکس .

فإن کانا مهملین ، فهذا خارج من البحث .

و إن کان دلیل الوجوب مهملاً و دلیل التقیید معیّناً ، أُخذ بمقتضی دلیل التقیید .

و إن کان الدلیلان مطلقین ، یؤخذ بدلیل التقیید أیضاً ، لکون نسبته إلی دلیل الوجوب نسبة القرینة إلی ذی القرینة .

و إن کان دلیل الوجوب مطلقاً و دلیل التقیید مجملاً ، فإن کان مجملاً مردداً بین المتباینین ، سقط دلیل التقیید عن الحجیّة ، و إن کان مجملاً مردداً بین الأقل و الأکثر ، رفع الید عن دلیل الوجوب بالمقدار المتیقن و بقی علی حجیّته فی الزائد عنه .

هذه هی الکبری ، و تطبیقها علی المورد هو أنه :

إن کان دلیل التقیید بالزمان المعیّن مطلقاً ، بأن یکون الوقت دخیلاً فی الغرض من المطلوب فی جمیع الأحوال و الأفراد ، کان مقتضاه عدم الوجوب فی خارج الوقت ، لعدم الغرض .

و إن کان دلیل الوجوب مطلقاً و دلیل التقیید غیر مطلق ، بأن یکون الغرض قائماً بالمرتبة العالیة من الصّلاة مثلاً ، و هی الصلاة فی الوقت - أمّا لو اضطرّ و لم یصلّها کذلک ، فالوجوب فی خارج الوقت باق ، لبقاء الغرض ، بعد انتفاء المرتبة

ص:366

العالیة - فلا حاجة إلی دلیلٍ جدید ، لأن المفروض اطلاق دلیل الوجوب ، و أنّ القید فی المرتبة .

و إن کان دلیل التقیید مجملاً مردداً بین کونه مقیّداً لأصل الوجوب أو للمرتبة ، فیؤخذ بالقدر المتیقّن ، و یبقی أصل الوجوب .

رأی الأُستاذ

و قد وافق الأُستاذ المحقق الخراسانی علی النظریّة ، و أنّها خالیة من الإشکال الثبوتی ، غیر أن مقام الإثبات لا یساعد علیها ، لأنّ مقتضی الارتکازات العرفیّة و العقلائیة ورود القید علی أصل الوجوب ، و أنّه فی غیره لا یبقی وجوبٌ ، و القول بأنّه یقیّد مرتبةً من الطلب یحتاج إلی دلیلٍ زائد ، لأنّ التمسّک بإطلاق دلیل الوجوب فرع الشک فی بقائه و عدم بقائه بعد خروج الوقت ، و العقلاء لیس عندهم شک فی عدم البقاء ... اللّهم إلّا حیث یتحقّق الشک أو یقوم دلیل آخر علی بقاء الوجوب .

هذا ما ذکره فی الدورة اللّاحقة .

و أمّا فی الدورة السّابقة ، فقد وافق ( الکفایة ) علی أصل النظریّة کذلک ، إلّا أنه خالفه فی إطلاقها ، فاختار عدم دلالة دلیل الوجوب علی بقائه بعد الوقت بالنسبة إلی المکلّف الفاعل المختار ، و دلالته علی ذلک بالنسبة إلی العاجز .

و هذا ما أفاده الإیروانی . فلیلاحظ (1) .

ثمرة البحث

هذا ، و تظهر ثمرة البحث فی الصّلاة فی کلّ موردٍ لا تجری فیه قاعدة الحیلولة و قاعدة الفراغ ، و بیان ذلک هو : إنه لو شک فی خارج الوقت فی تحقق

ص:367


1- 1) نهایة النهایة 1 / 204 .

الصّلاة فی الوقت ، فتارةً یشک فی أصل وجودها و أُخری یشک فی کیفیة الصّلاة التی صلّاها ، فإن کان الأوّل ، فتجری - فی خصوص الصّلاة - قاعدة الحیلولة ، و لا یعتبر بالشک . و إن کان الثانی ، فقد تجری قاعدة الفراغ و قد لا تجری ، فیکون مورد ثمرة البحث ، کما لو علم أنّه قد صلّی فی الوقت إلی جهةٍ معیّنة ، ثم شک بعد الوقت فی کونها جهة القبلة ، أمّا قاعدة الحیلولة فلا تجری ، لأنّ مجراها هو الشک فی أصل وجود الصّلاة ، فإن قلنا بجریان قاعدة الفراغ فی خصوصیّات العمل ، سواءً کان مورداً للتعلیل بالأذکریّة الوارد فی النصّ أو لم یکن ، فلا ثمرة للبحث ، لجریان هذه القاعدة . و إن قلنا بعدم جریانها إلّا فی حال کونه حین العمل أذکر ، أخذاً بالتعلیل ، - و هذا هو المختار - فلا مجری للقاعدة ، لفرض عدم کونه حینئذٍ أذکر ، ترتّبت الثمرة . فعلی القول بأن القضاء بالأمر الأوّل ، فهو واجب ، لأن مقتضی الأمر الأول هو الاشتغال بالنسبة إلی القبلة ، و المفروض هو الشک فی وقوع الصّلاة إلیها ، فالفراغ مشکوک فیه ، و مقتضی قاعدة أن الاشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیة هو القضاء . و أمّا علی القول بأنه بأمر جدید ، فیقع الشک فی توجّه أمر جدیدٍ یقتضی القضاء ، لأنه إن کان قد صلّی إلی القبلة فلا أمر ، و إلّا فهو مکلّف بالقضاء ، فهو إذاً شاک فی الاشتغال بأمرٍ جدید ، و هذا مجری البراءة .

.الجهة الثالثة

إنه لو شک فی أنّ دخل الزمان فی الواجب هل هو بنحو وحدة المطلوب أو بنحو تعدّده ، فما هو مقتضی القاعدة ؟

ذهب الشیخ الأعظم و المحقق الخراسانی و أتباعهما إلی البراءة ، لعدم جریان الاستصحاب ، لعدم وحدة الموضوع ، فقد کان مقتضی الدلیل هو الصّلاة فی الوقت و إذا خرج الوقت تغیّر الموضوع .

ص:368

و خالف المحقق الأصفهانی - بعد أن وافق القوم فی متن ( نهایة الدرایة ) فی الحاشیة ، و تبعه السید الحکیم - فقال بجواز استصحاب شخص الموضوع ، إذا کان المستصحب هو الواجب الخاص ، و توضیحه : إن الخصوصیّات قد تکون مقوّمة لحامل الغرض و أُخری تکون ذات دخلٍ فی تأثیر المقتضی کالشرائط مثل المماسّة بین المحرق و المحترق ... و هذا ثبوتاً . و أمّا إثباتاً ، فإن المقتضی للنهی عن الفحشاء هو ذات الصّلاة ، و أمّا خصوصیة الوقت و الطهارة و الساتر و القبلة و نحو ذلک ، فلها دخلٌ فی فعلیّة تأثیر المقتضی ، وعلیه ، فإن الوجوب النفسی متوجّه إلی ذات الصّلاة ، و تلک الخصوصیّات واجبات غیریّة ، فإذا خرج الوقت - و هو من الخصوصیات - أمکن استصحاب وجوب الصّلاة ، و هذه الذات هی نفسها الذات فی داخل الوقت بالنظر العرفی .

و فیه : إن الملاک فی وحدة الموضوع و عدمها فی الاستصحاب هو نظر العرف ، و الموضوع فیما نحن فیه هو الصّلاة مع الطهارة لا ذات الصّلاة ، لأنّ العرف لا یری الإهمال فی الموضوع و لا الإطلاق ، بل یری أنّ متعلّق الوجوب هو الصّلاة المقیّدة بالوقت و بالطهارة ، فکان الوجوب متوجّهاً إلی هذا الموضوع الخاص ، و هو فی خارج الوقت متغیّر عن الذی کان فی الوقت ... .

ثم إنّه بناءً علی أنّ القضاء بأمرٍ جدیدٍ فی الصّلاة و الصیام ، فلو خرج الوقت و شکّ المکلّف فی الإتیان بالواجب فی وقته ، هل یمکن إثبات فوت الفریضة باستصحاب عدم الإتیان بها أم لا ؟ وجهان !

فعلی القول : بأنّ موضوع وجوب القضاء هو « الفوت » و أنه أمر وجودی ، کان استصحابه لإثبات عدم الإتیان بالفریضة أصلاً مثبتاً . أما علی القول : بکونه عدمی ، فلا مانع من جریان الاستصحاب فیه ، لتمامیة أرکانه حینئذٍ .

ص:369

و قد ذهب المیرزا و السید الخوئی إلی الأول ، لکون المتفاهم عرفاً هو أنّ الفوت ذهاب الشیء من الکیس ، و أنه لیس فی نظرهم عین « الترک » ، و لو شکّ فی أنه وجودی أو عدمی ، لم یجر الاستصحاب کذلک ، لکونه حینئذٍ شبهةً مصداقیة لدلیل الاستصحاب .

و ذهب الأُستاذ إلی أنه و إن کان لغةً کذلک ، لکنّ العبرة فی الاستصحاب بنظر العرف ، و کونه وجودیّاً عندهم غیر واضح ، إن لم یکن عدمیّاً .

لکنّ المهمّ هو أنه لیس موضوع وجوب القضاء فی ظواهر النصوص ، فکما جاء فی بعضها عنوان « الفوت » کذلک یوجد عنوان « النسیان » و« الترک » و« عدم الإتیان » أیضاً .

ففی روایة : عن أبی جعفر علیه السلام : أنه سئل عن رجلٍ صلّی بغیر طهور أو نسی صلوات لم یصلّها أو نام عنها . قال : یقضیها ... » (1) .

و فی أُخری : « کل شیء ترکته من صلاتک ... فاقضه ... » (2) .

و فی ثالثة : « إذا أُغمی علیه ثلاثة أیام فعلیه قضاء الصلاة فیهن » (3) .

و فی رابعة : « سألته عن الرجل تکون علیه صلاة فی الحضر هل یقضیها و هو مسافر ؟ قال : نعم ... » (4) .

و فی أبواب الحج :

« سألت أبا جعفر علیه السلام عن رجلٍ مات و لم یحج ... » (5) .

ص:370


1- 1) وسائل الشیعة 8 / 253 الباب الأول من أبواب قضاء الصلوات .
2- 2) وسائل الشیعة 8 / 265 الباب 4 من أبواب قضاء الصلوات .
3- 3) وسائل الشیعة 8 / 265 الباب 4 من أبواب قضاء الصلوات .
4- 4) وسائل الشیعة 8 / 268 الباب 6 من أبواب قضاء الصلوات .
5- 5) وسائل الشیعة 11 / 72 الباب 28 من أبواب وجوب الحج .

و فی أبواب الصوم (1) :

« رجل مات وعلیه قضاء من شهر رمضان . فوقّع علیه السلام : یقضی عنه ... » .

« عن الرجل تکون علیه أیام من شهر رمضان کیف یقضیها ... ؟ » .

و علی الجملة ، فقد قال الأُستاذ بجریان الاستصحاب فی کلّ موردٍ جاء الموضوع فیه عدمیّاً ، و قد ظهر أنه لیس « الفوت » فقط ، لو ثبت کونه وجودیّاً .

إذن ، لا مانع من جریان الاستصحاب فی فرض کون الشک بعد خروج الوقت .

و أمّا لو شک فی الإتیان بالفریضة فی داخل الوقت لا خارجه ، فقد قالوا بوجوب الإتیان ، للاستصحاب و لقاعدة الاشتغال ، فإن مقتضاهما صدق عنوان « الفوت » بالنسبة إلی هذا المکلّف ... و قد جاء فی النصوص « من فاتته الفریضة فلیقضها کما فاتته » و بهذا یظهر الفرق بین هذه الصّورة و الصّورة السّابقة .

و قد أشکل علیه شیخنا : بأنّ قاعدة الاشتغال عقلیّة ، و هی لا تفید الأحکام الظاهریة ، فهی تفید وجوب الإتیان وجوباً عقلیّاً ، و موضوع « من فاتته » هو الفریضة الشرعیّة ، إذن ، القاعدة العقلیّة لا تثبت الفریضة ، و إنّما تدعو إلی السّعی وراء إبراء الذمّة ، و هذا أمر آخر .

و أمّا التمسک بالاستصحاب ، فإنّما یتم بناءً علی مسلک جعل الحکم المماثل ، کما هو مختار صاحب ( الکفایة ) ، فیثبت به وجوب الصّلاة مثلاً و یتحقق موضوع « من فاتته » . أمّا علی القول بأنّ مفاد أدلّة الاستصحاب لیس إلّا التعبّد ببقاء الیقین السابق فی ظرف الشک ، فلا تثبت الفریضة و لا یتحقق موضوع « من فاتته » ،

ص:371


1- 1) وسائل الشیعة 10 / 340 الباب 26 من أبواب أحکام شهر رمضان .

و هذا مختار المحقق الأصفهانی ، وعلیه السید الخوئی نفسه ، وعلیه ، فمفاد الأدلّة إبقاء الیقین بعدم الإتیان بالصّلاة مثلاً ، و هذا لا یثبت الفریضة إلّا علی الأصل المثبت .

و تلخّص : إن مقتضی الأدلّة الأولیّة هو کون القید لتمام المطلوب ، و مع الشک فی کونه لذلک أو أنه قید لأصل المطلوب ، فلا یجری الاستصحاب الشخصی الذی ذکره المحقق الأصفهانی و تبعه السید الحکیم ، و لا الکلّی - القسم الثالث - لعدم تمامیّته من حیث الکبری ... و أمّا القسم الثانی ، فقد اختلفت کلمات السید الخوئی فی جریانه هنا و عدمه فقهاً و أُصولاً . و المختار : هو جریان استصحاب الکلّی ، القسم الثانی ، وفاقاً له فی أُصوله .

ص:372

الأمرُ بالأمر

اشارة

ص:373

ص:374

هل الأمر بالأمر بشیء أمرٌ بالأمر فقط ، أو أنه أمر بذلک الشیء حقیقة ؟

و لعلّ السبب العمدة فی طرح هذا البحث هو الأخبار الآمرة بأن یأمر الأولیاء صبیانهم بالصّلاة إذا کانوا أبناء سبع ، فإنّه علی القول الأوّل لا تکون عباداتهم شرعیّة و علی الثانی فهی شرعیّة ، و تظهر الثمرة فیما إذا صلّی الصبیّ و بلغ الحلم فی داخل الوقت ، هل تجب علیه إعادة الصّلاة أو لا ؟ قولان :

رأی صاحب الکفایة

قال فی ( الکفایة ) :

« الأمر بالأمر بشیء أمر به لو کان الغرض حصوله و لم یکن له غرض فی توسیط أمر الغیر به إلّا تبلیغ أمره به ، کما هو المتعارف فی أمر الرسل بالأمر و النهی ، و تعلّق غرضه به ، لا مطلقاً بل بعد تعلّق أمره به ، فلا یکون أمراً بذاک الشیء ، کما لا یخفی » (1) .

و قد انقدح بذلک أنه لا دلالة بمجرّد الأمر بالأمر علی کونه أمراً به ، و لا بدّ فی الدلالة علیه من قرینة .

و بیان کلامه : أن المحتمل فی مقام الثبوت ثلاثة وجوه :

أحدها : أن یکون الغرض قائماً بنفس الأمر ، کأن یأمر بالأمر لمصلحة إثبات

ص:375


1- 1) کفایة الأُصول : 144 .

آمریّة الثانی .

و الثانی : أن یکون الغرض قائماً بالفعل المأمور به کما فی قوله تعالی «بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَیْکَ » (1).

و الثالث : أن یکون الغرض قائماً بالفعل الحاصل من المأمور - و هو الثالث - بشخصه المنبعث من أمر هذا الآمر الثانی ، فکان تعلّق الغرض مقیّداً لا مطلقاً .

و أمّا فی مقام الإثبات ، فقد ذکر أنه مع وجود هذه الوجوه ، لا یکون لمجرّد الأمر بالأمر دلالة علی کونه أمراً به إلّا بقرینةٍ .

ففی مثل الصحیحة : « فمروا صبیانکم بالصلاة إذا کانوا بنی سبع سنین » (2)یری المحقق الخراسانی وجود الاحتمالات الثلاثة ، وعلیه ، فلو أمر الصبی بالصّلاة ، فصلّی فی الوقت و اتّفق بلوغه بعدها ، فإن شرعیّتها یتوقّف علی القرینة علی کون هذه الصّلاة حاملةً للغرض ، حتی لا تجب إعادتها ، و إلّا احتمل کون الغرض من الأمر به هو التمرین مثلاً ، فلا تکون مسقطةً لوجوب الإعادة ... هذا رأیه و وافقه سیّدنا الأُستاذ (3) .

رأی المحقق العراقی

و خالفه المحقق العراقی (4) قدّس سرّه - و تبعه تلمیذه السید الحکیم (5) - فذهب إلی شرعیّة عبادات الصبیّ ، مستدلّاً بإطلاقات الخطابات الشرعیّة کقوله

ص:376


1- 1) سورة المائدة : 67 .
2- 2) وسائل الشیعة 4 / 19 الباب 3 من أبواب أعداد الفرائض.
3- 3) منتقی الأُصول 2 / 515 .
4- 4) نهایة الأفکار (1 - 2) 399 .
5- 5) حقائق الأُصول 1 / 342 .

تعالی «أَقیمُوا الصَّلٰاةَ » (1)فإنّها تعمّ البالغین و الممیّزین الذین یتمشّی منهم القصد ، خاصّةً الممیّز المقارب للبلوغ ، فهذا مقتضی الإطلاقات ، و لیس فی مقابلها إلّا حدیث رفع القلم . فإنْ کان المرفوع به هو خصوص المؤاخذة ، فلا إشکال کما هو واضح ، و أمّا إن کان المرفوع به هو التکلیف أو هو و المؤاخذة ، فإنّ مقتضی کونه فی مقام الامتنان هو رفع الإلزام لا أصل التکلیف و محبوبیّة العمل ، فیکون العمل منه مطلوباً و مشروعاً .

رأی السید الخوئی

و ناقش السید الخوئی (2) الاستدلال المذکور ، و قال بشرعیّة عبادات الصبیّ بوجهٍ آخر ، و هو الدلالة العرفیّة للنصوص علی ذلک ، لأنّ « الأمر » یفارق « العلم » ، من جهة أنّ العلم قد یؤخذ موضوعاً و قد یؤخذ طریقاً و قد یؤخذ جزءاً للموضوع ، فالوجوه التی ذکرها صاحب ( الکفایة ) فی مقام الثبوت تأتی فی « العلم » و نحوه ، لکنّ « الأمر » لیس إلّا طریقاً عرفیّاً إلی مطلوبیّة الشیء ، فإذا أمر الآمر غیره بأن یأمر الثالث بالقیام بعملٍ ، کان تمام النظر إلی ذلک العمل ، و احتمال أن یکون المصلحة فی نفس الأمر لا یقاوم هذا الظهور العرفی و العقلائی ، و بذلک یستدلُّ علی شرعیة عبادات الصبیّ .

رأی الأُستاذ

و أفاد الأُستاذ دام ظلّه : بأنّ مقتضی الظهور الأوّلی کون متعلّق الأمر الأول هو

ص:377


1- 1) سورة البقرة : 43 .
2- 2) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 264 - 266 .

الأمر من الثانی ، و مطلوبیّة الفعل للآمر الأوّل یحتاج إلی مزید بیان ... .

أمّا التمسک بالإطلاقات ففیه : إن الوجوب بسیط لا یتبعّض ، فهو لیس مرکّباً من طلب الفعل مع المنع من الترک ، وعلیه ، فإنّ حدیث الرفع یکون رافعاً لأصل الجعل ، فلا یبقی دلیل علی المشروعیة ، إلّا أن یقال بأنه یرفع المؤاخذة فقط ، لکنّ المبنی باطل .

و أمّا ظهور الأمر عرفاً فی الطریقیّة ، فإنّه - لو سلّم - لا یکفی لترتّب الثمرة و هو شرعیّة عبادات الصبی ، لأن غایة ما یفید ذلک هو تعلّق غرض للآمر الأوّل بذلک بالفعل کالصّلاة ، و لکن هل الغرض هو نفس الغرض فی عبادات البالغین ، أو أن هناک فی أمر الصبی بالصّلاة غرضاً آخر ؟

إنّه لا یستفاد من نصوص المسألة کون الغرض هو نفس الغرض من صلاة البالغین ، بل إنها صریحة فی أنّه « التعوید » ، ففی صحیحة الحلبی المتقدمة عن أبی عبد الله علیه السلام : « إنّا نأمر صبیاننا بالصلاة إذا کانوا بنی خمس سنین ، و مروا صبیانکم بالصلاة إذا کانوا بنی سبع سنین ، و نحن نأمر صبیاننا بالصوم ...

حتی یتعوّدوا ... » .

و کذا فی مرسلة الصدوق ، و لعلّها نفس روایة الحلبی المذکورة .

و علی هذا ، فإنّ الغرض بالفعل متحقّق ، لکنه غرض آخر غیر الغرض القائم بصلاة البالغین من الناهویة عن الفحشاء و المنکر و نحوها .

فالقول بشرعیّة عبادات الصبی مشکل ، و اللّٰه العالم .

ص:378

الأمر بعد الأمر

اشارة

ص:379

ص:380

هل الأمر بعد الأمر یفید التأسیس أو التأکید ؟

کلام الکفایة :

قال : إذا ورد أمر بشیء بعد الأمر به قبل امتثاله ، فهل یوجب تکرار ذاک الشیء أو تأکید الأمر الأول و البعث الحاصل به ؟

قضیّة إطلاق المادّة هو التأکید ، فإنّ الطلب تأسیساً لا یکاد یتعلّق بطبیعةٍ واحدةٍ مرّتین ، من دون أن یجئ تقیید لها فی البین و لو کان بمثل مرة أُخری ، کی یکون متعلّق کلّ منها غیر متعلّق الآخر کما لا یخفی ، و المنساق من إطلاق الهیئة و إن کان هو تأسیس الطلب لا تأکیده ، إلّا أن الظاهر هو انسباق التأکید عنها فیما کانت مسبوقةً بمثلها و لم یذکر هناک سبب أو ذکر سبب واحد (1) .

توضیح ذلک :

أمّا إن کان هناک أمران و موضوعان ، کقوله : إن ظاهرت فاعتق رقبة ، ثم قوله :

إن أفطرت فأعتق رقبةً ، فلا کلام فی التأسیس و التعدّد ، و کذا لو کرّر الخطاب الواحد لکن مع کلمة « مرة أُخری » مثلاً ... فمورد البحث ما لو أمر بشیء و کرّر الأمر قبل امتثال الأمر الأول ، کما لو قال اعتق رقبةً ، ثم قال بعد ذلک و قبل الامتثال :

اعتق رقبةً ... فیقول صاحب ( الکفایة ) أنّ المادّة و الهیئة مطلقان ، لکن مقتضی

ص:381


1- 1) کفایة الأُصول : 145 .

إطلاق المادّة - و هو العتق مثلاً - هو التأکید ، لأن الواجب الذی تعلّق به التکلیف هو صرف وجود العتق ، فلمّا أعاد الأمر بلا قید « مرة أُخری » مثلاً ، توجّه إلی صرف الوجود کذلک ، و هو للطبیعة الواحدة لا یتعدّد ، فلو جعل الأمر الثانی تأسیسیّاً لزم ورود التکلیفین علی صرف الوجود ، و هو غیر معقول ، إذ البعثان یستلزمان الانبعاثین ، و قد تقدم أنه لا یقبل التکرار ، و التعدّد ، فمقتضی إطلاق المادة هو التأکید .

بخلاف إطلاق الهیئة ، و هو الوجوب ، فإن مقتضی الإطلاق الانصرافی فیه هو التأسیس ، لأنّ إنشاء الوجوب إنما یکون بداعی الطلب ، فلو کان الأمر الثانی بداعی التأکید لاحتاج إلی قرینةٍ ، فمقتضی إطلاق الهیئة هو التأسیس .

و حینئذٍ ، یقع التمانع بین الإطلاقین ، فإن إطلاق المادّة کان الطلب تأکیدیاً ، فإنْ رجّح إطلاق الهیئة کان تأسیسیاً ، و إن لم یرجّح أحدهما فالکلام مجمل ، و المرجع هو الأصل العملی .

رأی المحقق العراقی

و فی ( نهایة الأفکار ) (1) : قد یقال بلزوم الحمل علی التأکید ، ترجیحاً لإطلاق المادّة علی الهیئة ، باعتبار کونها معروضة للهیئة و فی رتبةٍ سابقة علیها ، إذ یقال حینئذٍ بجریان أصالة الإطلاق فیها فی رتبة سابقة بلا معارض .

( قال ) : و لکن یدفعه أن المادة کما کانت معروضةً للهیئة و فی رتبة سابقة علیها ، کذلک الهیئة أیضاً ، باعتبار کونها علّة لوجود المادّة فی الخارج کانت فی رتبة سابقة علیها ، فمقتضی تقدّمها الرتبی علیها حینئذٍ هو ترجیح اطلاقها علی إطلاق المادّة » .

ص:382


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 401 .

ثم انّه احتمل ترجیح اطلاق الهیئة بحسب أنظار العرف ، لکون الهیئة علّةً لوجود المادّة ، ثم قال : « لکن مع ذلک لا تخلو المسألة من إشکال » ثم قال بأنّ « مقتضی الأصل هو التأکید ، لأصالة البراءة عن التکلیف الزائد » .

إشکال الأُستاذ علی المحقق العراقی

و قد أورد شیخنا علی کلام المحقق العراقی بوجوهٍ :

الأول : إنه إنّ لیس العلّة لوجود المادّة هو الهیئة أی الوجوب ، بل هو علم المکلّف بالوجوب ، فلا تقدّم بالعلیّة للهیئة ، لکنّ المادّة متقدّمة علی الهیئة بالتقدّم الطبعی .

و الثانی : إنّ الملاک هو التقدّم و التأخّر فی مقام الجعل ، و من الواضح أن المولی یلحظ المتعلّق ثم یجعل الحکم بالنسبة إلیه ، فیکون إطلاقه - إن أُخذ مطلقاً - مقدّماً علی إطلاق الهیئة إن أُخذت کذلک .

و الثالث : إنّ هذه المسألة عرفیّة و التقدّم و التأخر فیها زمانی ، و لیست بعقلیّة حتی یکون المناط فیها هو المرتبة ، و العرف یفهم توجّه الوجوب إلی « عتق الرقبة » و یلحظهما معاً فی آنٍ واحدٍ و یتحرک نحو الامتثال ، و لیس یوجد فی نظر العرف اختلاف المرتبة أصلاً .

قال الأُستاذ

و التحقیق هو : أنّ هذا الکلام له ظهور - و لا وجه للتوقف کما صار إلیه المحقق العراقی - و هو ظهور مقامی ، لأنّ کلّ أمرٍ صادر من المولی فلا بدّ و أن یکون بداعٍ من الدواعی ، کالبعث ، و الاختبار ، و الاستهزاء و غیر ذلک ، فإذا کان الداعی هو البعث ، أی کان إنشاءً بداعی جعل الداعی فی نفس العبد ، و لم یکن هناک أیّة قرینةٍ ، کان مقتضی هذا الإطلاق داعویّة کلّ واحدٍ من الأمرین ، و استلزامه

ص:383

للامتثال ... لکنّ الأمر الثانی لمّا کان قبل امتثال الأمر الأوّل و حصول الغرض منه ، فإنّ العرف یفهم منه التأکید للأمر الأوّل ، و لا یراه صادراً بداعی البعث ، فکان هذا الفهم العرفی هو الوجه لحمل المادّة علی التأکید .

فما ذهب إلیه فی ( الکفایة ) هو الصحیح ، للوجه الذی ذکره ، و للفهم العرفی الذی ذکرناه .

فإن وصلت النوبة إلی الشک ، دار الأمر بین الأقل و الأکثر ، إذ یشک فی وجوب الزائد علی صرف الوجود و عدم وجوبه ، فیجری استصحاب عدم تعلّق الوجوب بالفرد الآخر ، و یجری البراءة الشرعیة و العقلیة عن التکلیف الزائد ...

و اللّٰه العالم .

هذا تمام الکلام فی المقصد الأول : الأوامر .

و تم الجزء الثالث و یلیه الجزء الرابع و أوّله: المقصد الثانی فی النواهی.

ص:384

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.