تحقیق الاصول المجلد 1

اشارة

سرشناسه:حسینی میلانی، سیدعلی، 1326 -

عنوان و نام پدیدآور:تحقیق الاصول علی ضوء ابحاث شیخناالفقیه المحقق والاصولی المدقق آیةالله العظمی الوحیدالخراسانی/ تالیف علی الحسینی المیلانی.

مشخصات نشر:قم: مرکزالحقائق الاسلامیه، 1432 ق.= 1390 -

مشخصات ظاهری:ج.

شابک:دوره 978-964-2501-52-6 : ؛ ج.1 978-964-2501-93-9 : ؛ ج.2 978-964-2501-94-6 : ؛ ج.3 978-964-2501-39-7 : ؛ ج. 4 978-964-2501-54-0 : ؛ 70000 ریال : ج.5 978-964-2501-55-7 : ؛ 130000 ریال: ج.6 978-600-5348-78-1 : ؛ ج.7: 978-600-5348-91-0 ؛ ج.8 978-600-8518-02-0 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج. 2- 4 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390) .

یادداشت:ج.5 (چاپ اول: 1431ق.= 1389).

یادداشت:ج.6 (چاپ اول: 1435ق. = 1393).

یادداشت:ج.7 (چاپ اول: 1436ق. = 1393).

یادداشت:ج.8 (چاپ اول: 1437ق. = 1395) (فیپا).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:وحیدخراسانی، حسین، 1299 -

شناسه افزوده:مرکز الحقائق الاسلامیه

رده بندی کنگره:BP159/8/ح56ت3 1390

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:1093921

ص: 1

اشارة

ص :2

ص :3

ص :4

کلمة المؤلّف

الحمد للّٰه ربّ العالمین و الصلاة و السلام علیٰ محمّد و آله الطاهرین ، و لعنة اللّٰه علی أعدائهم أجمعین من الأولین و الآخرین .. و بعد

فقد کان من منن اللّٰه علیَّ أنْ حبّب إلیّ العلم و رغّبنی فیه و جعلنی من طلّابه ، و یسّر لی سبل تحصیله و طرق الوصول إلیه و هیّأ لی المهم من أسبابه ، فلمّا صرفت فیه عمری و أعطیته کلّی أنالنی بعضه و لم یخیّب سعیی .

و کان لی فی کلّ مرحلةٍ دراسیة أساتذة محقّقون أعلام ، حضرت علیهم بحوثهم و عطف اللّٰه علیَّ قلوبهم ، فاعتنوا بی أشدّ عنایة و اهتمّوا بشأنی أبلغ اهتمام ، حتی بلغت المرحلة النهائیة التی استفدت فیها من أفذاذ الاُمّة و کبار الأئمّة ، فکان أوّلهم سیدنا الجد الأعظم آیة اللّٰه العظمیٰ السید محمّد هادی المیلانی قدّس سرّه ، فی مدینة مشهد المقدّسة ، ثم نزلت قم حیث الحوزة العلمیّة الکبریٰ ، فأخذت من أشهر أعیان علمائها فی الفقه و الاصول ، و لازمت غیر واحدٍ منهم ، و دوّنت ما تلقّیته من وافر علومهم ، و أخصّ بالذکر سیّدنا الاستاذ آیة اللّٰه العظمیٰ السید محمد رضا الگلپایگانی قدّس سرّه ، إذ لازمته فی

ص:5

دروسه الفقهیّة ، و طبعت عدّة مجلّدات ممّا حرّرته منها بأمرٍ منه . و شیخنا الاستاذ آیة اللّٰه العظمیٰ الوحید الخراسانی دام ظلّه ، الذی لازمته فی الفقه و الاصول ، و حرّرت إفاداته کلّها .

لقد حضرت علیٰ شیخنا فی علم الاصول دورةً کاملةً ، و تقرّر إعدادها للنشر لکثرة الطلب لها من الأفاضل ، بعد قراءتها علیه ، لیبدی ملاحظاته حولها و لیضیف إلیها من المطالب ما لم یتّسع الوقت لإلقائه فی مجلس الدرس ، إلّا أنّه قد توقّف العمل ، لقلّة الفرص ، بسبب قیامه بأعباء المرجعیّة ، و لتبدّل جملةٍ من آرائه فی الدورة اللاحقة التی لم اوفّق لحضورها لکثرة الأشغال .

و لمّا راجعنی بعض الفضلاء یطلبون منّی الدرس ، و أذن شیخنا بذلک ، جعلتُ موضوع البحث و عنوانه بیان ما قرّرته من إفاداته فی الدورة السابقة ، و ما حرّرته من أشرطة بحثه فی الدورة اللاحقة ، مضیفاً إلی ذلک فوائد من سیّدنا الاستاذ آیة اللّٰه العظمیٰ السید محمد الروحانی قدّس سرّه من کتاب منتقی الاصول ، و فوائد اخریٰ من غیره .

و جاء هذا الکتاب حاویاً لأهمّ ما طرحته فی الدرس ، و کان ما ذکرته هو السبب فی تسمیته ب ( تحقیق الاصول علی ضوء بحوث شیخنا الاستاذ ... ) و قد عزمت علی نشره بعد الاستخارة عند بیت اللّٰه الحرام فی الحج عام 1422 ه .

فإنْ کان فیه نقص أو سهو فهو منّی .

و اللّٰه أسأل أن ینفع به أهل الفضل ، و أن یحفظنا من الخطأ و الزلل ، إنه سمیع مجیب .

علی الحسینی المیلانی

ص:6

تمهیدات

اشارة

ص:7

اعتاد الأساتذة الأعلام کصاحب ( الکفایة ) قدّس سرّه و جماعة ، علی الابتداء بالبحث عن أمور ، کموضوع علم الاُصول ، و المائز بینه و بین غیره من العلوم ، و ضابط المسألة الاُصولیّة ، و غیر ذلک ، و تعرّضوا بهذه المناسبة لموضوع کلّ علم ، و المائز بین العلوم علی وجه الإطلاق ، و قضایا أخریٰ .

فمنهم من أطنب فی البحث عن تلک الاُمور ، و منهم من اقتصر علی قدر الحاجة ، و منهم من أعرض عن الدخول فی ذلک لعدم الفائدة العملیّة .

لکنّا رأینا من الأفضل التعرّض لها بقدر الحاجة ، لئلّا یخلو بحثنا عن تلک الفوائد العلمیّة ... فنقول و باللّٰه التوفیق :

ص:8

موضوع العلم

اشارة

قال فی ( الکفایة ) :

« موضوع کلّ علم - و هو الذی یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة ، أی بلا واسطة فی العروض - هو نفس موضوعات مسائله عیناً و ما یتّحد معها خارجاً ، و إنْ کان یغایرها مفهوماً ، تغایر الکلّی و مصادیقه و الطبیعی و أفراده » .

فهنا مطالب :

الأوّل : هل لکلّ علم موضوع ؟

اشارة

أقوال ، فعن المشهور القول بذلک ، و ظاهر عبارة ( الکفایة ) أنه مفروغ عنه بین العلماء .

و قد استدلّ القائلون به بوجهین :

أحدهما : إنّ فی کلّ علمٍ غرضاً ، و الغرض أمر واحد هو معلولٌ لمسائله المختلفة ، لکنّ الموضوعات المتعدّدة المتباینة لا تؤثر أثراً واحداً ، فلا بد من وجود جامعٍ بینها ، لیکون هو العلة و المؤثر فی حصول الغرض الواحد ، لأنّ الواحد لا یصدر إلّا عن الواحد .

ص:9

و قد حاول فی ( المحاضرات ) إبطال هذا الاستدلال بما لا یخلو بعضه عن النظر .

و الثانی : إنّ تمایز العلوم بتمایز موضوعاتها ، فلو لم یکن لکلّ علم موضوع واحد لتداخلت العلوم فیما بینها .

و هذا الوجه یبتنی علی کون تمایزها بالموضوعات ، لا بالأغراض و لا المحمولات ، و هذا أوّل الکلام ، و سیأتی توضیح ذلک .

و لما أشرنا إلیه من الکلام فی الدلیلین المذکورین لقول المشهور ، ذهب فی ( المحاضرات ) إلی أنّه لا دلیل علی اقتضاء کلّ علمٍ وجود الموضوع ، و أنّه لا حاجة إلی ذلک .

رأی الاستاذ

و الذی اختاره شیخنا هو أنّه إنْ ارید من قولهم : « لکلّ علم موضوع » ضرورة وجوده لکلّ علمٍ ، بنحو القضیّة الحقیقیّة - أی : کلّما وجد و تعنون بعنوان العلم فلا بدّ و أن یکون له موضوع - فهذا ما لا دلیل علیه . و إنْ ارید منه القضیّة الخارجیّة ، بمعنیٰ أن العلوم المدوّنة - کعلمی الطب و الهندسة و غیرهما لها موضوعات تجمع بین مسائلها ، فهذا حق ... لکنّ هذا إنّما هو فی العلوم ذات المحمولات الحقیقیّة ، و أما العلوم الاعتباریّة کعلم الفقه فلا ، و لذا خصّ الشیخ فی ( الشفاء ) و کذا تلمیذه بهمنیار و الخواجه و غیرهم هذا البحث بالعلوم الحقیقیّة .

أقول :

فی کلامه - دام ظلّه - أمران ، أحدهما : التردید المذکور فی المراد من قول المشهور « لکلّ علم موضوع » ، و الآخر : الموافقة علی ضرورة وجود

ص:10

الموضوع فی العلوم المدوّنة الحقیقیّة دون الاعتباریّة منها .

و لعلّ السبب فی ذلک هو التسلیم للإشکال الرابع من إشکالات ( المحاضرات ) ، حیث نقض قول المشهور ببعض العلوم ، کعلم الفقه ، إذ لا یعقل وجود موضوع واحد یجمع بین موضوعات مسائله ، لکونها قضایا اعتباریّة ، و لا یعقل الجامع الحقیقی بین القضایا الاعتباریة ، أو لکون موضوعاتها من مقولات متباینة بل متنافرة ، فکیف یکون بینها جامع ذاتی ؟ فقال شیخنا : هذا الإشکال حق ، إلّا أنه یرد علی صاحب ( الکفایة ) القائل بأنّ الموضوع الجامع یتّحد مع موضوعات المسائل اتّحاد الطبیعی مع أفراده ، أمّا المشهور فلا یقولون بهذا کما أشرنا .

و قد اجیب عن الإشکال المذکور بأنّ الأحکام الشرعیّة ، و إنْ کانت قضایا اعتباریّة بلحاظ المعتبَر و المنشأ ، إلّا أنها حقیقیّة بلحاظ نفس الاعتبار و مبادئ الحکم ، لکونها من مقولة الکیف النفسانی ، و هی بهذا الاعتبار تکون مورداً لحکم العقل بحقّ الطّاعة و العبودیّة الذی هو الغرض الملحوظ فی علم الفقه . و أمّا تباین موضوعات المسائل الفقهیّة فجوابه : إنّه لا بدّ و أن یراد بالموضوع الواحد لکلّ علمٍ وجود محور واحدٍ تدور حوله کلّ بحوث العلم الواحد ، و هذا قد لا یتطابق مع ما یجعل موضوعاً للمسائل بحسب التدوین خارجاً ... فالمقصود من الموضوع الواحد هو المحور الواحد للبحوث فی المسائل لا ما جعل موضوعاً لها فی مرحلة التدوین ، و هذا المحور لا یلزم أنْ یکون موضوعاً فی تلک المرحلة ، فقد تتطابق الموضوعیّة - أی المحوریّة - مع الموضوعیّة فی مرحلة التألیف ، و قد لا تتطابق ، و التطابق بینهما غیر لازم (1) .

فإنْ کان ما ذکر نظریّةً جدیدة ، فقد یمکن المساعدة علیها ، لأنّ وجود

ص:11


1- (1)) بحوث فی علم الاصول ، مباحث الدلیل اللفظی 41/1 .

محورٍ لکلّ علمٍ تدور علیه بحوثه أمر ارتکازی غیر قابل للإنکار ، و أمّا إن کان شرحاً و توجیهاً لقول صاحب ( الکفایة ) و المشهور ، ففیه تأمّل لأنه لا یتحمَّل هذا التوجیه و التفسیر ، و أمّا کلمات أعلام المعقول فی المقام ، فلا بدّ من مراجعتها ... و اللّٰه العالم .

المطلب الثانی : ما هی حقیقة موضوع العلم ؟

اشارة

قالوا : هو ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة ، ثم اختلفوا فی المراد من « العرض الذاتی » هنا ، فأمّا « العرض » فالمراد منه : ما کان خارج عن الذات و محمولاً علیه و ان کان جوهراً کالذات ، کالناطق بالنسبة إلی الحیوان ، حیث یحمل علیه و هو خارج عنه ، و هو نفسه جوهر .

رأی المشهور

أمّا « الذاتی » منه ، فالمشهور علی أنّه ما کان خارجاً عن الذات ، لکنه لاحق للذات و ثابت له باقتضاء جوهر الذات . و ذهب جماعة من المتأخّرین - و تبعهم المحقق صاحب ( الکفایة ) - إلیٰ أنّ العرض الذاتی ما لا واسطة له فی العروض ، فی مقابل ما له واسطة فیه ، ففی قوله رحمه اللّٰه « أی بلا واسطة فی العروض » إشارة إلی اختیار هذا القول خلافاً للمشهور .

ثم إنّ المشهور قسّموا ما کان باقتضاء جوهر الذات إلی قسمین :

أحدهما : ما کان باقتضاء جوهر الذات بلا واسطة فی العروض ، و سمّوه بالعارض الذاتی الأوّلی ، کعروض الناطق علی الحیوان ، حیث أنه خارج عن ذات الحیوان محمول علیه ، و لا واسطة فی هذا الحمل و العروض و اللحوق ، اذ علّة لحوق الفصل للجنس لیس إلّا الجنس ، و علّة لحوق الجنس للفصل

ص:12

لیس إلّا الفصل .

و ثانیهما : ما کان باقتضاء جوهر الذات لکن مع الواسطة فی العروض ، و الواسطة :

تارةً : أمر مساوٍ للموضوع داخلی ، و هذا منحصر بالفصل ، مثاله :

التعجّب العارض علی الإنسان بواسطة أمرٍ مساوٍ داخلی و هو الناطق ، لأن الإنسان متعجّب بعلّة کونه ذا نفس ناطقة .

و اخریٰ : أمر مساوٍ له خارجی ، و مثاله : الضاحک العارض علی الإنسان بواسطة التعجّب ، و التعجّب واسطة خارجیة مساویة للإنسان .

قالوا : و ما کان غیر ذلک فهو عرض غریب ، فالأعراض الغریبة ثلاثة :

ما کان خارجاً عن الذات عارضاً علیه بواسطة أمر أعم ، و هو تارةً :

داخل فی الذات ، مثل « الحیوان » یکون واسطة لعروض الإرادة علی الإنسان ، و الحیوان أعم من الإنسان ، و اخری : خارج عن الذات ، « کالجسم » یکون واسطة لعروض التحیّز علی الأبیض ، و الجسم أعم من الأبیض . فهذا قسمان .

و ما کان خارجاً عن الذات عارضاً علیه بواسطة أمر خارجی أخص .

و هذا هو القسم الثالث من أقسام العرض الغریب ، کالتعجّب العارض علی الحیوان بواسطة الإنسان ، و الإنسان أخص من الحیوان .

و علی الجملة ، فهنا تعریفان ، أحدهما للمشهور ، و هو أن موضوع کلّ علم ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیة ، أی عمّا یلحق الموضوع باقتضاء ذاته ، إمّا بلا واسطة و إمّا بواسطة أمرٍ مساوٍ ، سواء کان المساوی داخلیّاً أو خارجیاً .

و الثانی : ما اختاره صاحب ( الکفایة ) من أنّ موضوع کلّ علمٍ ما یبحث فیه عن عوارضه العارضة علیه بلا واسطة .

ص:13

و یظهر الفرق بین المسلکین فی علم الاصول فی کثیر من المسائل ، فمثلاً نقول : هل الأمر بالشیء ، الوارد فی الکتاب و السنّة ، یقتضی النهی عن ضدّه الخاص أو العام ؟ فاقتضاء النهی أو استلزامه یعرض علی الأمر ، فعلی مسلک المحقق الخراسانی یکون هذا العروض بلا واسطة ، و یکون الاقتضاء حقیقیّاً و بلا عنایة ، أما علی مسلک المشهور ، فإنّ هذا العروض إنما هو بواسطة أمر أعم ، لأنّ ذلک لا یختص بالأمر الکتابی بل کلّ أمر کذلک - بناءً علی القول به - سواء وقع فی الکتاب أو لا ؛ و کذا فی السنّة ، فهناک عروض بواسطة أمر أعم ، و العارض علی الشیء بواسطة الأمر الأعم من العوارض الغریبة عندهم کما تقدّم .

و أیضاً : لا یلزم بناءً علی مذهب صاحب ( الکفایة ) أنْ یکون العروض باقتضاء ذات المعروض ، إذ الملاک عندهم هو أن لا تکون واسطة فی العروض ، وعلیه ، فالحجیّة تثبت للخبر مثلاً ، لعدم الواسطة فی عروضها علیه ، مع أنها لیست باقتضاء ذاته .

السبب فی عدول الکفایة

ثم إنّ السبب فی عدول أصحاب هذا القول - کصاحب ( الکفایة ) - عمّا قاله المشهور ، هو التخلص من اشکالٍ یلزم علیه ، و توضیح ذلک هو : إنّ المحمولات فی مسائل العلوم تعرض علی موضوعاتها ، و تلک الموضوعات هی الواسطة لعروضها علی موضوع العلم ، فمثلاً - فی علم النحو - یعرض الرفع علی الفاعل ، و بواسطته یعرض علی الکلمة التی هی موضوع علم النحو ، لکنّ « الفاعل » أخص من « الکلمة » فیلزم أن یکون هذا البحث فی علم النحو بحثاً عن العرض الغریب . و کذا فی غیره من العلوم ، کالفقه مثلاً ،

ص:14

فبناءً علی أن موضوعه « فعل المکلَّف » یکون الوجوب عارضاً علی الصّلاة ، و بتوسّط الصلاة یعرض علی موضوع العلم الذی هو فعل المکلَّف و هو أعم من الصّلاة . و کما یکون موضوع المسألة أخص من موضوع العلم - کما فی علمی النحو و الفقه کما ذکرنا - کذلک قد یکون أعم ، و ذلک کما فی علم الاصول ، فیکون العروض بواسطة أمر أعم ، لأن الموضوع فیه - علی المشهور - الأدلّة الأربعة ، لکن البحث عن وجوب المقدمة و عدمه - مثلاً - غیر مختص بالخطابات الشرعیّة ، و کذا فی مسألة اقتضاء الأمر للنهی عن الضد ، أو ظهور الأمر فی الوجوب ، و نحو ذلک .

أمّا بناءً علی تفسیر العرض الذاتی بما لا واسطة له فی العروض ، فالإشکال مندفع ، إذ المناط عدم الواسطة فی العروض ، و هو حاصل ، لکون موضوع العلم متحداً وجوداً مع موضوع المسألة ، لأن « الفاعل » متّحد وجوداً مع « الکلمة » ، و کذا « الصّلاة » مع « فعل المکلّف » ، و إنْ اختلفا مفهوماً ، و لذا قال فی ( الکفایة ) : « هو نفس موضوعات مسائله عیناً و ما یتّحد معها خارجاً ، و إنْ کان یغایرها مفهوماً ... » .

یعنی : إن نسبة موضوع المسألة إلی موضوع العلم نسبة النوع إلی الجنس ، فموضوع العلم إنْ لوحظ لا بشرط بالنسبة إلی موضوعات المسائل ، کان العرض فیها عرضاً ذاتیّاً لموضوع العلم ، و إنْ لوحظ بشرط لا ، صار عرضاً غریباً . مثاله : « الحیوان » فإنّه إن لوحظ بشرط لا بالنسبة إلی الناطق و الصاهل ، کان التعجّب العارض علیه عرضاً غریباً و إسناد التعجّب إلیه مجازیّاً ، و إنْ لوحظ متّحداً مع الناطق و کان وجودهما واحداً ، کان التعجّب العارض بواسطة الناطق عرضاً ذاتیّاً بالنسبة إلی الناطق و بالنسبة إلی الإنسان .

ص:15

کان هذا بیان الإشکال و شرح طریق المحقّق الخراسانی لدفعه .

و قد حقّق شیخنا دام ظلّه هذا الطریق و فصّل فی المقام بما حاصله : أنّ هذا الطّریق إنّما یفید فی الواسطة التی هی أعم ، و علم الاصول من هذا القبیل کما تقدّم ، إذ العروض و إنْ کان بواسطة أمر أعم ، لکنّ الصّدق حقیقی عرفاً و لیس مجازیّاً . أمّا فی سائر العلوم التی یکون موضوع المسألة فیها أخص ، فالإسناد لیس حقیقیّاً لا عقلاً و لا عرفاً ، فیکون الإشکال فیها باقیاً علی حاله .

کما أنّ جواب صدر المتألّهین - و المحقق الأصفهانی - عن الإشکال ، إنما یفید فیما إذا کانت الواسطة و العارض موجودین بوجودٍ واحدٍ ، کالجوهریة و الجسمیّة ، فإنّهما موجودان بوجودٍ واحدٍ و مجعولان بجعل واحد ، الجوهر یوجد بنفس تعلّق الجعل بالجسم ، فالجسم و إنْ عرض علی « موجود » بتوسط « جوهر » لکنّ « جوهر » واسطة للعروض بحسب الترتیب العقلی ، إذ الموجود عقلاً یکون ممکناً و الممکن یصیر جوهراً ، و الجوهر یصیر جسماً ، لکنّ الإمکان و الجوهریّة و الجسمیّة کلّها موجودة بوجود واحد .

فنفس هذه الجسمیّة تصیر من العوارض الذاتیّة للموجود بتوسط الجوهریّة التی هی عارضة بتوسط الإمکان - أی الإمکان الفقری - إلاّ أنّ کلّ ذلک عروض ذاتی ، لأنها جمیعاً موجودة بوجودٍ واحد .

بخلاف ما إذا کانت الواسطة و العارض موجودین بوجودین ، کالتعجّب العارض علی الحیوان بواسطة الإنسان ، فالعارض غریب لا ذاتی ... و الإشکال حینئذٍ باق .

و المحقق النائینی حاول دفع الإشکال بالنزاع فی الصغری ، فأنکر أنْ یکون العارض علی الجنس بواسطة النوع عرضاً غریباً .

ص:16

لکنّ ما ذکره قدّس سرّه لا ینسجم مع تصریحات أکابر الفلاسفة ، کالشیخ و الخواجه و غیرهما ، فی تعریف العرض الذاتی ، و کلّهم یجعلون ما ذکر من العرض الغریب لا الذاتی .

رأی السید الخوئی

و فی ( المحاضرات ) ما ملخّصه : إن أساس الإشکال أمران هما : الالتزام بأنّ البحث فی العلوم لا بدّ و أن یکون من الأعراض الذاتیّة لموضوع العلم .

و الالتزام بأن العارض علی الشیء بواسطة الخارج الأخص أو الداخل الأعم ، من الأعراض الغریبة لا الذاتیّة .

قال : و یمکننا منع کلا الأمرین علی سبیل منع الخلو ، بأنْ یقال : کلّ مسألة ترتّب علیها الغرض الذی لأجله دوّن العلم فهی من مسائل ذاک العلم ، سواء کان المحمول فیها من العوارض الذاتیّة لموضوع العلم أو لا ، و الاختصاص فی البحث عن الذاتی فقط لا دلیل علیه بالخصوص .

قال : و لو سلّمنا لزوم ذلک ، لأمکن دعوی أنّ العارض بواسطة الخارج الأخص أو الداخل الأعم ، من العوارض الذاتیّة .

قال الاستاذ :

أمّا منع الأمر الثانی فکما تری ، لأنه ینافی ما اصطلحوا علیه .

و أمّا منع الأمر الأول ، فقد سبقه إلی ذلک المحقق الأصفهانی ، حیث ذکر أنّ کثیراً من مسائل العلوم یشتمل علی البحث عمّا لا یکون عرضاً ذاتیاً لموضوع العلم ، من أجل دخله فی الغرض المطلوب من تدوین ذاک العلم و بحوثه .

و قد قرّر شیخنا الاستاذ هذا الإشکال ، حیث ذکر أن أدلّة القوم علی تلک

ص:17

الدعوی أربعة :

الأول : إن لم یکن کذلک ، لم تکن العلوم متباینة .

و الثانی : إن لم یکن کذلک ، لا یکون للعلم موضوع خاص به .

و الثالث : أنه إذا بحث فی العلم عن العرض الغریب ، لزم أن یکون العلم الجزئی کلیّاً .

و الرابع : أنّه إذا بحث فی العلم عن العرض الغریب ، لزم تداخل العلمین .

ثم ناقش هذه الأدلّة ، و أوضح عدم وفاء شیء منها لإثبات الدعوی المذکورة .

و هذا تمام الکلام فی المطلب الثانی .

المطلب الثالث : فی الاتحاد و التغایر بین موضوع العلم و موضوعات المسائل

ذکر المحقق صاحب ( الکفایة ) : أن موضوع العلم متّحد مع موضوعات مسائله خارجاً ، و إن کان بینهما تغایر مفهوماً ، کتغایر الکلّی و مصادیقه و الطبیعی و أفراده .

و قد اورد علی الاتّحاد الذی ذکره ، بوجوهٍ لا جواب عن بعضها ، کالإشکال بأنّ موضوع علم الطب هو بدن الإنسان ، و نسبته إلی موضوعات مسائله نسبة الکلّ إلی الأجزاء لا الکلّی إلی المصادیق .

ص:18

تمایز العلوم

اشارة

و اختلف الأعلام فی الجامع بین موضوعات مسائل العلم الواحد و المائز بین العلوم ، فقیل : الوحدة الاعتباریة ، و قیل : الموضوعات ، و قیل :

المحمولات ، و قیل : الأغراض .

و هذا الأخیر هو مختار صاحب ( الکفایة ) حیث قال : « و المسائل عبارة عن جملةٍ من قضایا متشتّتة جمعها اشتراکها فی الدخل فی الغرض الذی لأجله دُوّن هذا العلم ... و قد انقدح بما ذکرنا أن تمایز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعیة إلی التدوین ، لا الموضوعات و لا المحمولات ... و إلّا کان ... » .

فنقول : کلّ علمٍ مدوّن فله موضوع یبحث عنه فیه ، فی مسائل متشتّتة متکوّنة من موضوعات و محمولات ، و هذا التشتّت قد یکون من جهة الموضوع ، و قد یکون من جهة المحمول ، و قد یکون من جهة الموضوع و المحمول معاً ، فما هو الجامع بین هذه المسائل المتشتتة ؟ و ما هو المائز بین هذا العلم و غیره من العلوم ؟

الآراء فی المقام :

مذهب المشهور هو أنّ التمایز بالموضوعات ، لأنّ هناک بین مسائل کلّ علمٍ من العلوم جهة اتّحاد ، عبّر عنها الشیخ ابن سینا و غیره بالتناسب ، و هذا التناسب غیر حاصل بالمحمولات ، لأنّها إنّما تکون ملحوظة بالعرض ، و کلّ ما بالعرض ینتهی إلیٰ ما بالذّات ، و کذا الأغراض ، فلا بدّ و أن یکون

ص:19

بالموضوعات ، فهی الجامعة و المائزة .

و اختار المحقق البروجردی أنه بالمحمولات ، و نسبه إلی مشهور القدماء .

و بما ذکرنا یظهر ما فیه و فی النسبة إلیهم .

و قد خالفهم المحقق الخراسانی ، مع قوله بأنّ موضوع کلّ علمٍ ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة ، و مقتضاه : أن تکون الموضوعات هی الجامعة بین شتات المسائل ، لأمرین :

أحدهما : إن فی علم الاصول مسائل کثیرة هی من مسائل علوم اخری ، فجعل الغرض هو الجامع فراراً من هذا المشکل ، لأن المسائل - و إنْ تداخلت بین العلوم - تختلف من ناحیة الغرض الداعی إلی تدوینها ، فلا مانع من کون المسألة الواحدة من مسائل علمین ، و هما متمایزان لاختلاف الغرض .

و الثانی : إنّه و إنْ کان لکلّ علمٍ موضوعاً یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة ، إلّا أنّ لازم القول بتمایز العلوم بالموضوعات أنْ یکون کلّ بابٍ من کلّ علمٍ علماً علی حده ، و کذا بناءً علیٰ کونه بالمحمولات ، فجعل الغرض هو الجامع فراراً من هذا المشکل .

و فصّل المحقق الخوئی فی المقام ، فوافق صاحب ( الکفایة ) - من کون المائز هو الغرض لیس إلّا- فی بعض الصور و خالفه فی البعض الآخر ، فقال :

بأنّه تارةً یراد من التمایز مرحلة الإثبات لمن یجهل العلوم ، و اخری یراد منه التمایز فی مرحلة الثبوت و فی مقام التدوین .

أما المقام الأول : فحقیقته أن کلّ شخص إذا کان جاهلاً بحقیقة علمٍ من العلوم و أراد الإحاطة به و لو بصورة إجمالیة ، فللعالم بذاک العلم أنْ یمیّزه له

ص:20

عن غیره من العلوم بما شاء من التمییز ، بالموضوع أو المحمول أو الغرض ، کأن یقول له فی مقام تعریف علم النحو : إن موضوعه الکلمة و الکلام ، أو یقول : غایته حفظ اللسان عن الخطأ من المقال ، أو یقول : محموله الإعراب و البناء .

و أما المقام الثانی : فلأن المؤلّف و المدوّن للعلم یختلف تمییزه له عن غیره باختلاف الدواعی .

فتارة : یکون هناک غرض خارجی یترتب علی العلم و المعرفة بتلک المسائل التی دوّنها ، فلا بدَّ من البحث عن کلّ مسألةٍ اشتملت علی ذلک الغرض ، کما أن التمییز حینئذٍ لا بدّ و أن یکون بالغرض ، و لیس له التمییز بالموضوعات ، إذ لا عبرة - فی الغرض - بوحدة الموضوع و تعدّده ، علی أنه یقتضی أن یکون کلّ باب بل کلّ مسألة علماً علی حدة ، کما ذکر صاحب ( الکفایة ) .

و أخری : یکون الداعی إلی التدوین نفس العلم و المعرفة ، دون أنْ یکون هناک غرض خارجی یدعوه إلی تدوین المسائل . و هذا یکون علی نحوین ، فتارةً هناک موضوع یرید أن یبحث عن أحواله ، کما فی علم الطب ، فلا بدّ من التمییز بالموضوع ، و اخری هناک محمول یرید أن یبحث عمّا یعرض علیه ذلک المحمول ، کالحرکة و السکون ، فلا بدّ من التمییز بالمحمول فقط (1) .

و حاصله : الموافقة مع صاحب ( الکفایة ) فی خصوص ما إذا کان الغرض من التدوین هو غرض خاص ، کالصحّة و المرض فی علم الطب ،

ص:21


1- (1)) تعلیقة أجود التقریرات 11/1 مؤسّسة صاحب العصر علیه السلام ، مصابیح الاصول 19 - 20 .

و حفظ اللّسان فی علم النحو ، و صیانة الفکر فی علم المنطق ، و المخالفة فیما إذا لم یکن الغرض من التدوین إلّا المعرفة .

مناقشة الاستاذ

و أورد شیخنا الاستاذ علی دلیل مائزیّة الغرض بنحو الإطلاق - کما علیه فی ( الکفایة ) ، أو موجبةً جزئیّة کما علیه المحقق الخوئی - بأنّ ما ذکر من :

لزوم کون کلّ باب علماً علی حده لو کان التمایز بالموضوع ، لازم القول بمائزیّة الغرض کذلک ، لأنّ الغرض الحاصل من حجیّة الاستصحاب مغایر للغرض الحاصل من مسألة منجّزیة العلم الإجمالی ، هذا فی علم الاصول ، و فی المنطق کذلک ، إذ الغرض الحاصل من مباحث المعرّف مغایر للغرض الحاصل من مباحث القضایا ، فهما غرضان ، و هکذا .

فإن قیل : الأغراض المترتبة علی المباحث و الأبواب لها جامع ، و ذلک الغرض الجامع غیر داخل تحت غرض جامع آخر ، فالأغراض المترتّبة علی الأبواب فی علم الاصول و إن کانت مختلفة ، لکنّها کلّها تجتمع تحت غرضٍ واحدٍ جامعٍ لها ، و هو التمکّن من استنباط الوظیفة الشرعیة - بالمعنی الأعم ، من العلم و العلمی و الأصل العملی - و لیس هناک غرض فوقه .

و کذا الأمر فی علم المنطق و غیره .

قلنا : القائل بکون التمایز بالموضوعات أیضاً یقول نظیر هذا ، فهو یقول بأنّ هناک موضوعاً جامعاً بین موضوعات المسائل و الأبواب ، یبحث فی العلم عن العوارض الذاتیّة لذلک الموضوع ، فالافتراق بین العلوم یکون باختلاف الموضوعات فی العوارض الذاتیّة ، حیث أنّ فی کلّ أبواب هذا العلم یبحث عن العوارض الذاتیة للموضوع الجامع بین الموضوعات ، ذلک الموضوع

ص:22

الذی لا یبحث فی غیر هذا العلم عن عوارضه ... و بالجملة : فإنّه لا یقع فی علم آخر بحث عن العوارض الذاتیة للموضوع المبحوث عن عوارضه فی هذا العلم ، و هذا الملاک موجود فی موضوعات العلوم ، و لا یوجد فی موضوعات الأبواب .

فما ذکره صاحب ( الکفایة ) - و وافقه فی ( المحاضرات ) موجبةً جزئیة - مخدوش نقضاً و حلّاً .

آراء الاستاذ

ثم إن شیخنا الاستاذ اختلفت کلماته فی هذا المقام ، فقد اختار فی الدورة الاولی : أن الفرق بین الأبواب و المسائل ، و بین العلوم ، بأن العلوم یمکن أنْ تتعدّد بتعدّد الموضوعات ، لعدم الجامع المشترک بین الموضوعات الموجبة لتعدّد العلوم ، بخلاف الأبواب و المسائل ، فقولهم - فی علم النحو مثلاً - الفاعل مرفوع ، و المفعول منصوب ، و المضاف إلیه مجرور ، یمکن تصویر جامع بینها و هو الکلمة و الکلام ، لصدقه علی کلٍّ من الموضوعات الثلاثة علی حدٍّ سواء .

ثم إنّه عدل عن هذا ، لکونه إنّما یتمّ فی بعض العلوم دون الجمیع ، فقد تکون النسبة بین موضوعی علمین نسبة العموم و الخصوص کالطب و الطبیعی ، فبینهما جامع مشترک کالجامع بین البابین من العلم الواحد أو المسألتین ، فلیس الموضوع ما به التمایز فی مثل ذلک .

و اختار فی الدورة الثانیة - التی حضرناها : أنّ التمایز یمکن أن یکون بالموضوعات ، کما ذکر المشهور ، أمّا فی المسائل و الأبواب من العلم الواحد فالمحمولات فیها عوارض ذاتیّة للموضوع دائماً ، فلا یلزم من کون الموضوع

ص:23

ملاکاً للتمایز أنْ تکون الأبواب و المسائل من کلّ علمٍ علوماً علی حده ، کما ذکر صاحب ( الکفایة ) .

لکنّ هذا إنّما یتم علی مبنی المشهور فی حقیقة موضوع کلّ علم .

و أفاد فی الدورة المتأخّرة - فی مقام المناقشة مع مبنی صاحب (الکفایة) - أن هناک - بالضرورة - ارتباطاً بین الأغراض المختلفة و المسائل المختلفة ، و هذا الارتباط فی العلوم الاعتباریة - کعلم النحو - اعتباری ، و فی العلوم غیر الاعتباریة کعلم الطب ذاتی ، و الذاتی إمّا هو من ارتباط الشیء بمقتضیه و إمّا من ارتباط الشیء بشرطه ، فالغرض الحاصل من العلم یحصل من ترتّب المحمولات علی الموضوعات ، و هذا الترتّب إنما یکون لأجل الارتباط ، کما أنّ حصول الغرض لا یکون إلّا بارتباطٍ بینه و بین الموضوع .

و مقتضی القاعدة أنْ یکون التمایز فی الدرجة الأولی بما هو متقدّم علی الغرض ، و هو المنشأ فی تمایز الأغراض ، و هو المسائل .

أقول : فیکون ما ذهب إلیه أخیراً قولاً آخر فی البحث ، و حاصله : أنّه إن کان للعلم موضوع - کعلم الطبیعی الذی موضوعه الجسم من حیث الحرکة و السّکون - فالتمایز بینه و بین غیره یکون بموضوعه الجامع بین موضوعات مسائله ، و إن لا یکون له موضوع بسبب اختلاف مسائله اختلافاً لا جامع ذاتی بینها ینطبق علی موضوعات مسائله ، فالتمایز یکون بالمسائل .

ثم ذکر إشکال المحقق الخراسانی فی ( الکفایة ) بأنّه لو کان الامتیاز بالمسائل لم یبق أیّ تداخل لعلم الاصول مع بعض العلوم فی بعض المسائل ، مع وجود هذا التداخل بالضّرورة و کونها مشترکة بینه و بینها ... فاضطرّ إلی إنکار الاشتراک قائلاً ما حاصله : بأنّ المسألة المطروحة فی علم الاصول و غیره

ص:24

و إنْ کانت متّحدةً فی ظاهر لفظها و عنوانها ، إلّا أن الجهة المبحوث عنها فی کلّ علم تختلف عن الجهة المبحوث عنها فی غیره ، و مثّل لذلک بمسألة جواز اجتماع الأمر و النهی المطروحة فی الاصول و الفقه و الکلام معاً ، و أفاد بأنّها و إنْ کانت بهذه الصیغة إلّا أنها فی الحقیقة تعدّ فی کلّ علمٍ مسألة مستقلّة عنها فی غیره .

أقول : لکنْ یمکن المناقشة فیه : بأنّ المسألة تتشکّل من الموضوع و المحمول و النسبة ، و کما أنّ المسألة متقدّمة علی الغرض ، و ما به الامتیاز یکون قبل الغرض ، کذلک الموضوع فهو متقدّم علی المحمول و علی المسألة المتشکّلة منهما ، فلولا الموضوع لم یکن المحمول و لا المسألة ، و بالجملة ، فالذی ذکره فی جواب مسلک صاحب ( الکفایة ) ینفی ذلک المسلک و لا یثبت ما ذهب إلیه ، بل یقوّی مبنی التمایز بالموضوعات کما اختاره فی الدورة الثانیة ، و فی بعض العلوم فی الدورة المتأخّرة ...

و أمّا ابتناء ذلک علی مسلک المشهور من ضرورة وجود الموضوع لکلّ علم ، فواضحٌ أنّ جمیع هذه البحوث إنما هی علی أساس ذاک المبنی ، و إلّا فقد تقدم منه دام ظلّه أنْ لا برهان علی ضرورة وجود موضوع جامع بین موضوعات المسائل ، و علی أن البحث فی العلوم لا بدَّ و أنْ یکون عن الأعراض الذاتیّة .

القول بالوحدة الاعتباریّة :

و أمّا القول بالوحدة الاعتباریّة ، فقد جاء فی ( نهایة الدرایة ) - لدی الجواب عن إشکال صاحب ( الکفایة ) علی قول المشهور بلزوم کون کلّ باب من أبواب علم واحدٍ بل کلّ مسألة منه علماً برأسه لتمایز موضوعاتها - ما

ص:25

حاصله : إن تمایز العلوم یمکن أن یکون بالموضوع الجامع بین المسائل ، لأن العلم عبارة عن مرکّب اعتباری من قضایا متعدّدة بینها وحدة اعتباریة ، و الموضوع الجامع بین مسائله هو المائز بینه و بین غیره من العلوم ، و لا یلزم من ذلک أن یکون کلّ بابٍ أو کل مسألةٍ علماً علی حدة ، لوجود نوع سنخیّة بین أبواب کلّ علم ، بالإضافة إلی اشتراکها جمیعاً فی تحصیل الغرض الواحد .

و قد أجاب عنه شیخنا الاستاذ بأنّه - فی الحقیقة - التزام بما جاء فی ( الکفایة ) و لیس جواباً عنه ، إذ اللّازم حینئذٍ هو التحقیق عن منشأ تلک الوحدة و التعدّد ، و أنها لوحدة الموضوع و تعدّده أو لوحدة الغرض و تعدّده .

القول بالتمایز بالمحمولات :

و أمّا القول بکون التمایز بالمحمولات ، فقد اختاره السید البروجردی ، وعلیه حمل کلام القدماء ، قال : « الحق مع القدماء حیث قالوا : إن تمایز العلوم بتمایز الموضوعات ، إذ المراد بموضوع العلم هو ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیة ، و لیس هو إلّا عبارة عن جامع محمولات المسائل الذی یکون تمایز العلوم بتمایزه » (1) .

و قد مهّد لتوضیح هذا القول خمس مقدمات ، و لعلَّ عمدة کلامه فی بیان مرامه هو : « إن جامع محمولات المسائل فی کلّ علمٍ هو الذی ینسبق أوّلاً إلی الذهن و یکون معلوماً عنده ، فیوضع فی وعاء الذهن ، و یطلب فی العلم تعیّناته و تشخّصاته التی تعرض له ، مثلاً : فی علم الإلهی بالمعنی الأعم یکون نفس الوجود معلوماً لنا و حاضراً فی ذهننا ، فنطلب فی العلم تعیّناته

ص:26


1- (1)) نهایة الاصول : 8 .

و انقساماته اللاحقة له ، من الوجوب و الإمکان ... فصورة القضیّة و إنْ کان هو قولنا : الجسم موجود مثلاً ، و لکن الموضوع حقیقةً هو عنوان الموجودیة ، و کذلک فی علم النحو ، فإنّ أوّل ما ینسبق إلی ذهن المتتبّع لاستعمالات العرب إنما هو إعراب آخر الکلمة ، فیطلب فی علم النحو الخصوصیات التی بسببها یتحقّق الإعراب و اختلافاته ، فالموضوع حقیقةً فی « الفاعل مرفوع » هو وصف المرفوعیة ، و کذا فی غیر هذا المثال .

فالحاصل : إن تمایز العلوم بتمایز الموضوعات ، أعنی بها جامع محمولات المسائل ، و تمایز المسائل بتمایز الموضوعات فیها » .

و هذا الذی ذکرناه عنه هو عمدة کلامه رحمه اللّٰه و ربما یوجد بین هذا الکلام ، و ما ذکره فی المقدّمة الأولی - حول موضوع علم الإلهیات بالمعنی الأعم - منافاة ، و من هنا أشکل الشیخ الاستاذ علی المقدّمة الأولی ، فراجع ، و لکنّ هذا الکلام إنّما یتمّ فی علم الاصول فقط ، حیث أنّ المتبادر إلی الذهن فیه و الذی یبحث عن تعیناته هو « الحجّة » ، إلّا أنّ الواقع فی سائر العلوم هو أخذهم الشیء موضوعاً ثمّ بحثهم عن خصوصیاته و تعیّناته ، فالموضوع فی علم الحساب هو « العدد » و فی علم النحو « الکلمة و الکلام » و فی الإلهیّات بالمعنی الأعم هو « الوجود » باتّفاق الفلاسفة ، فلم یکن « الوجود » عندهم محمولاً أصلاً ، و نسبة القول بکون الموضوع هو الجامع بین المحمولات إلی القدماء غیر تامّة کما ذکر شیخنا الاستاذ دام ظلّه .

ص:27

موضوع علم الاصول

اشارة

لا یشترط أن یکون لکلّ علمٍ موضوع ، لعدم الدلیل التام علی ذلک ، مؤیّداً بما حکاه شیخنا عن الشفاء و شرح الإشارات و أساس الاقتباس و الجوهر النضید ، من أن العلوم تارةً تتشکّل من موضوع واحدٍ و اخری من موضوعات .

و علی هذا ، فلا یعتبر أن یکون لعلم الاُصول موضوع خاص ، بل لا یکون له موضوع لأمرین :

أحدهما : إن علم الاصول لیس من العلوم المطلوب منها المعرفة فقط ، بل الغرض منه هو التمکّن من استنباط الأحکام الکلیّة الإلهیّة ، و کلّ علمٍ یدوَّن لغرضٍ ، فالمقصود تحصیل الغرض و الوصول إلیه ، سواء کان له موضوع أو لم یکن .

و الآخر : إنَّ موضوعات مسائل هذا العلم مختلفة و غیر قابلة لتصویر جامع بینها ، إذ یستحیل تصویر جامع بین الخبر و الشهرة و الیقین - و هو موضوع الاستصحاب - و الوجوب ، و هو موضوع مسألة مقدمة الواجب ...

و هکذا ..

رأی صاحب الکفایة

و من هنا أیضاً یظهر ما فی مختار ( الکفایة ) من وجود الجامع ، و أنّ نسبته إلی موضوعات المسائل نسبة الکلّی إلی المصادیق ، و إنْ لم یکن له عنوان خاص و اسم مخصوص ... . فَجَعَلَ موضوع علم الاصول : الکلّی المنطبق علی موضوعات مسائله المتشتّتة .

ص:28

رأی المشهور

و منه أیضاً یظهر ما فی القول المعروف من جعله « الأدلّة الأربعة » ، علی الوجوه الأربعة و هی : احتمال أن تکون هی الموضوع بوصف الدلیلیّة ، و أنْ تکون هی الموضوع لا بوصف الدلیلیّة ، فالدلیلیّة علی الأول جزء من الموضوع و علی الثانی من أحواله ، و احتمال أن یکون المراد من « السنّة » منها هو المحکی بها ، و هو قول المعصوم و فعله و تقریره ، و یکون المراد منها الأعم من المحکی و الحاکی ، و هو الخبر .

مضافاً إلی وجود الإشکال فی کلٍّ من هذه الوجوه الأربعة .

و توضیح الإشکال فی ذلک هو أنّه :

إن کانت الأدلّة الأربعة موضوع العلم بوصف دلیلیّتها ، بمعنی أن البحث یکون عمّا یعرض الدلیل بعد الفراغ عن دلیلیّته ، کما عن المحقق القمّی ، ففیه : أنّه لا یتناسب مع قولهم : لکلّ علم موضوع جامع بین موضوعات مسائله ، یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة ، إذ لا جامع بین العقل و الإجماع ، کما أن « السنّة » عنوان مشیر إلی « القول و الفعل و التقریر » و لیس جامعاً ، إذ لا جامع بین الثلاثة .

فهذا الوجه ینافی قولهم بذلک ، لکن صاحب ( الحاشیة ) جمع بین هذین المتنافیین .

و أیضاً : فإن لازم هذا الوجه خروج أکثر مسائل علم الاصول ، عدا مباحث الألفاظ ، إذ البحث عن الخبر و الشهرة و الاستصحاب و غیرها إنّما هو عن أصل الدلیلیّة و الحجیّة .

و إنْ کانت هی الموضوع لکنْ لا بوصف الدلیلیّة ، کما علیه صاحب

ص:29

( الفصول ) ، ارتفع الإشکال الثانی ، بناءً علی کون المراد من « السنّة » هو الأعم من الحاکی ، بالنسبة إلی قسم من المسائل ، و هی التی یکون البحث فیها عن أصل الدلیلیّة ، لکن مباحث الاستلزامات العقلیة ، و مباحث الإطلاق و التقیید ، و العموم و الخصوص ، و نحوها من مباحث الألفاظ ، کلّها تخرج ، لأنّ البحث لیس عن عوارض الأدلة الأربعة ، فیکون من العوارض الغریبة ، لکون الموضوع فی کل هذه المباحث أعمّ من الکتاب و السنّة ، کما أنّ الشهرة أیضاً تخرج ، إلّا أن تدخل فی السنّة ، لکونها - کالخبر - حاکیة .

و أمّا بناءً علی کون المراد من « السنّة » خصوص المحکی ، و هو « القول و الفعل و التقریر » فیضاف الإشکال بخروج مباحث حجیّة الخبر ، و مباحث باب التعارض ، لأنّ البحث هناک إنما هو عن حجیّة الخبر الحاکی ، و المفروض عدم کونه سنّةً ، فلا یکون البحث بحثاً عن عوارض الأدلة الأربعة .

و قد حاول الشیخ الأعظم دفع هذا الإشکال بإرجاع البحث عن خبر الواحد إلی البحث عن ثبوت السنّة ، بأنّ البحث فی الحقیقة : أنّه هل السنّة - التی هی عبارة عن قول المعصوم و فعله و تقریره - کما تثبت بالخبر المتواتر و بالقرینة القطعیة ، تثبت بخبر الواحد الثقة أو لا تثبت ؟ فیکون بحثاً عن عوارض السنّة .

لکنّ هذه المحاولة غیر مفیدة ، لأنّه إنْ ارید بالثبوت : الثبوت الواقعی الخارجی ، فقد أورد علیه شیخنا - تبعاً للمحقق الخوئی - بأن الخبر حینئذٍ حاک و کاشف عن السنّة ، و الکاشف عن الشیء فی رتبةٍ متأخرة عنه ، و یستحیل أن یکون علةً له .

ص:30

و أمّا ما أجاب فی ( الکفایة ) - و تبعه المیرزا و العراقی - من أنّه حینئذٍ بحث عن الثبوت بمفاد کان التامة و لیس بحثاً عن عوارض السنّة ، الذی هو بحث عن العوارض بمفاد کان الناقصة ، فقد أجاب عنه شیخنا بإمکان إرجاعه إلی العوارض ، لأنّ البحث لیس عن الوجود الخارجی للشیء ، بل هو عن وجوده بعلّةٍ خاصّة ، و أنّه هل توجد السنّة و تثبت خارجاً بالخبر أو لا ؟ فهو بحث بمفاد کان الناقصة .

و إن ارید بالثبوت : الثبوت العلمی ، بأنْ یکون الخبر واسطةً فی الإثبات ، أی علةً للعلم بالسنّة - لا لوجودها - فیکون بحثاً عن العوارض ، و عن مفاد کان الناقصة . ففیه : إنّ المبحوث عن حجیّته و هو خبر الواحد - یقبل الصّدق و الکذب ، و لا یوجب العلم کما فی المتواتر و المحفوف بالقرینة .

و إنْ ارید بالثبوت : الثبوت التعبّدی ، بمعنی أنّ الشارع هل جعل خبر الواحد حجةً کاشفةً عن ثبوت السنّة ؟ کان البحث بحثاً عن العوارض ، لکن عن عوارض الخبر لا عن عوارض السنّة التی هی الموضوع .

قاله فی ( الکفایة ) و تبعه غیره .

و أجاب المیرزا : بأنْ عنوان کون السنّة محکیّة یعرض لها بواسطة الخبر الذی هو مباین لها ، فیکون من العوارض الغریبة (1) .

قال شیخنا دام ظلّه : أمّا جواب ( الکفایة ) عن کلام الشیخ فوارد ، لکنْ بناءً علی أن مدلول أدلّة اعتبار خبر الثقة هو إنشاء الحکم المماثل . فهو جوابٌ مبنائی . و أمّا جواب المیرزا ففیه : إنّ حجیة الخبر علی مسلکه اعتبار الشارع الخبر علماً ، لکنّ حصول هذه الصفة للخبر - أی : صفة العلمیة الاعتباریة له -

ص:31


1- (1)) أجود التقریرات 1 / 9 - 10 .

إنما کان باعتبار الشارع ، فکان اعتبار الشارع واسطة فی ثبوته ، وعلیه ، فإن هذا المعتبر یکون عرضاً غریباً للخبر .

ثم إنّ المحقق الأصفهانی حاول توجیه کلام الشیخ - علی فرض إرادة الثبوت التعبّدی - علی المسلکین : إنشاء الحکم المماثل ، و المنجزیّة و المعذریّة ، أمّا علی الأول : فبأنّ الحکم الذی یجعل من قبل الشارع علی طبق الحکم الذی أتی به المخبر کقول زرارة : صلاة الجمعة واجبة ، له وجود حقیقی ، فالحکم و إنْ کان اعتباریاً ، إلّا أن الوجوب الصادر طبق قول زرارة وجوب حقیقی للحکم الظاهری الذی أخبر به زرارة ، و هذا الوجود الحقیقی وجود تنزیلی للسنّة ، فالبحث عن ثبوت السنّة بخبر الواحد بحث عن الثبوت التنزیلی لها بخبر الواحد ، أی : هل السنّة تثبت تنزیلاً بالخبر أو لا ؟

و أمّا علی الثانی ، فإنّ المنجزیّة و المتنجزیّة متضایفتان ، فجعل الخبر منجزاً یلازم جعل السنّة متنجّزة ، فیصحّ البحث عن کلٍّ منهما ، بل الثبوت التعبّدی أکثر مساساً بالسنّة من التنجّز ، حیث أن اعتبار الثبوت هو اعتبار کون الخبر وجوداً للسنّة (1) ، و الحاصل : إنّ المسألة تکون اصولیّة ، لأن البحث یقع عن أنه هل السنّة تصیر متنجّزة بالخبر أو لا ؟

لکن لا یخفی أنّ ما ذکره طاب ثراه إخراجٌ لعناوین المسائل المطروحة فی العلم عن ظواهرها ، و إرجاعٌ لها إلی قضایا و معانٍ اخری ، لأنّ موضوع العلم - کما هو مفروض - هو « السنّة » و المسألة هی : هل خبر الواحد حجة أو لا ؟ فالحجیّة محمولة علی الخبر ، و هو حاکٍ عن السنّة و لیس بمصداقٍ لها ...

و لو أنّا أردنا إرجاع صور القضایا فی العلم إلی قضایا اخری ، للزم خروج کثیر

ص:32


1- (1)) نهایة الدرایة 1 / 37 .

من مسائله عنه ، فلو أرجعنا قولنا فی الاصول : هل وجوب ذی المقدّمة یستلزم وجوب المقدّمة أو لا ؟ إلی قولنا : هل مقدمة الواجب واجبة أو لا ؟ لخرجت المسألة عن الاصول و دخلت فی الفقه .

قال الاستاذ :

و التحقیق : إن الإشکال لا یندفع علی أیّ المسالک الموجودة فی باب حجیّة خبر الثقة ، و هی أربعة :

أحدها : ما ذهب إلیه المشهور ، و هو إنشاء الشارع الحکم فی مورد الخبر و غیره من الأمارات ، کما قال العلّامة : ظنّیة الطریق لا تنافی قطعیّة الحکم ، و اختاره المحقق الخراسانی و المحقق العراقی فی باب المجعول فی الاستصحاب .

و الثانی : انّ المجعول فی مورد الأمارات هو المنجزیّة و المعذریّة . و هو ما یستفاد من بعض کلمات المحقق الخراسانی .

و الثالث : إن مدلول أدلّة اعتبار الخبر مثلاً جعله علماً و کاشفاً عن الواقع ، و هو ما یعبّر عنه بمسلک تتمیم الکشف ، و هو مختار المیرزا .

و الرابع : تنزیل المؤدّیٰ منزلة الواقع .

و البحث عن حجیّة الخبر - علی جمیع هذه المسالک - بحث عن عوارضه لا عن عوارض السنّة ... و هذا هو مقتضیٰ الأدلة أیضاً ، کقوله علیه السلام : « لا عذر لأحدٍ من موالینا فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا » (1) و قوله علیه السلام : « العمری ثقتی ، فما أدّیٰ إلیک عنّی فعنّی یؤدّی و ما قال لک عنّی

ص:33


1- (1)) وسائل الشیعة 150/27 ط مؤسّسة آل البیت ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی رقم : 40 .

فعنّی یقول » (1) و التشکیک من عوارض الخبر لا من عوارض السنّة ، و مقتضی الخبر الثانی هو تنزیل کلام الراوی منزلة کلامه ، لا أنّ کلامه یثبت بکلام الرّاوی .

و تلخص : عدم تمامیة القول بموضوعیّة الأدلّة الأربعة للاصول ، مطلقاً .

هذا ، و لا یخفی أن هذا ما استقرّ علیه رأی شیخنا أخیراً ، أمّا فی الدورة السابقة التی حضرناها ، فقد اختار أنّ الموضوع ذوات الأدلة مع أعمیّة السنّة ، و أجاب عن الإشکال بخروج عدّةٍ من المباحث المهمة کالشهرة و مباحث الألفاظ و الاستلزامات العقلیّة ، بأنّه یبتنی علی القول بکون العرض الداخلی غریباً لا ذاتیّاً ، و هو خلاف التحقیق ، لعدم الواسطة فی العروض فی هذه المسائل ، و عدم صحّة السّلب .

لکنّ هذا الجواب إنما یتمُّ فی مباحث الألفاظ و نحوها ، أمّا فی الشهرة مثلاً فلا ، و لذا التزم بکون البحث عنها فی علم الاُصول استطرادیّاً ، و هو کما تری .

و أما ما ذهب إلیه صاحب ( الکفایة ) - و تبعه المیرزا - من أنه کلّی منطبق علی جمیع موضوعات مسائله ... فغیر صحیح أیضاً ، لما عرفت من أن الصحیح أنْ لا جامع بین موضوعات مسائل علم الاصول .

رأی السید البروجردی و المحقق الأصفهانی و الکلام حولهما

و ذهب المحقق البروجردی إلی أنّ الموضوع هو « الحجّة فی الفقه »

ص:34


1- (1)) وسائل الشیعة 138/27 ط مؤسّسة آل البیت ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی رقم : 4 .

و تلقّاه بعضهم بالقبول و تعبیره : « ما هو الدلیل علی الحکم الشرعی » ، و سیأتی ذکر رأی المحقق الأصفهانی .

و تقریب الاستدلال کما فی تقریر بحثه (1) هو : إنا نعلم بوجود الحجج الشرعیّة علی الأحکام الشرعیّة ، فلکلّ حکم من الأحکام دلیلٌ ، غیر أنّا نجهل بتعیّنات تلک الأدلة و الحجج ، و قد جعل علم الاصول للبحث عنها ، و أنّه هل الدلیل و الحجة علی الأحکام الفقهیة العملیة هو خبر الواحد أو لا ؟ ظاهر الکتاب أو لا ؟ الشهرة أو لا ؟ و هکذا . فالموضوع فی الحقیقة هو ما یکون عندنا معلوماً ، و المحمول ما یکون مجهولاً و نرید رفع الجهل عنه ، مع لحاظ أن المراد من « العارض » هنا هو العارض المنطقی لا الفلسفی ، فالمقصود ما کان خارجاً عن الشیء و محمولاً علیه ، أی : فکما یکون الوجود خارجاً عن ذات الجوهر و محمولاً علیه کذلک نقول : الخبر حجة ، بمعنی أن الحجیّة خارجة عن ذات الخبر و محمولة علیه .

و الکلام علی هذا الرأی یقع فی جهتین ، جهة الکبری و أصل المبنی فی موضوع کلّ علمٍ ، وجهة التطبیق علی علم الاُصول ، أمّا الجهة الأولی ، فقد تقدّم الکلام علیها . و أمّا فی الجهة الثانیة ، فقد طبق رحمه اللّٰه ما ذکره علی الخبر و الشهرة و الإجماع ، و هذا لا کلام فیه .

أمّا علی القطع ، فیرد علیه أنّ القطع بالحکم الشرعی إنّما هو نتیجة المسألة الاصولیّة ، أی : إن المسائل فی هذا العلم مبادی تحصیل القطع بالحکم الشرعی و انکشافه ، و النتیجة دائماً متأخرة ، فلا یصح جعل حجیّة القطع مبحثاً من مباحث علم الاصول .

و کذا علی المفاهیم ، فإنه یرد علیه بأنّ المراد من « الحجة » فی باب

ص:35


1- (1)) نهایة الاصول : 11 .

المفاهیم هو أصل وجود المفهوم لا حجیّته - بعد وجوده - کما فی باب الأخبار مثلاً .

ثم إنه یرد علی ما أفاده خروج مباحث الألفاظ من الأوامر و النواهی ، و العام و الخاص ، و المطلق و المقیّد ، و المشتق ، و الصحیح و الأعم ... لأنّ البحث فی هذه المسائل لیس عن تعیّنات الحجّة .

و النکتة المهمّة الجدیرة بالذکر هی : جعله تحصیل الحجّة علی الحکم الشرعی هو الغرض من علم الاُصول ، فیکون الموضوع لهذا العلم هو « الحجة » لأنه الموافق للغرض ، مع أنّ شأن علم الاصول ، بالنسبة إلی الأحکام الفقهیّة ، شأن علم المنطق بالنسبة إلی الفکر الصحیح و الاستدلال المتین فی سائر العلوم ، فعلم الاصول کالآلة بالنسبة إلی علم الفقه ، و لذا عبّر المحقق الخراسانی بالصّناعة ، کما سیأتی ... فعلم الاصول - بالنظر الدقیق - هو المبادئ التصدیقیّة لمحمولات موضوعات الفقه ، ففی الاصول یتمّ وجه صحّة حمل « الوجوب » علی « الصلاة » مثلاً ... و هناک تقوم الحجة علی ثبوته لها ...

و هکذا .

فالحق فی المسألة : إنّ لموضوع علم الاصول خصوصیّة الصّلاحیّة للاتّصاف بالحجیّة للحکم الشرعی ، و کلّ مسألةٍ یکون لموضوعها هذه الخصوصیّة فهی مسألة اصولیّة ، و الجامع بین هذه الموضوعات عرضی و لیس بذاتی ، و حینئذٍ لا یرد الإشکال الثالث بخروج کثیر من المباحث ، لأن الموضوع فی مسألة « الإجزاء » هو إتیان المأمور به ، فإذا ثبت کونه مجزیاً کان حجةً علی صحّة العمل و سقوط القضاء ، فکان الموضوع المذکور صالحاً لانطباق عنوان الحجة علیه ، و الموضوع فی مسألة المقدّمة یصلح - بعد ثبوت

ص:36

الاستلزام - لأنْ یکون حجةً ، علی القول بوجوب المقدمة ، و الخبر موضوع یصلح - بعد ثبوت حجیّته - لأن یکون حجةً علی الحکم الشرعی .

و علی هذا الأساس قال المحقق الأصفهانی بأنه لیس لعلم الاصول موضوع معیَّن ، بل هو موضوعات مختلفة لها جامع عرضی ، و هو کونها منسوبة إلی غرض واحدٍ هو إقامة الحجّة علی الحکم الشّرعی ، نظیر علم الطب الذی لا جامع ذاتی بین موضوعات مسائله ، و إنّما یجمعها عنوان عرضی ، و هو ما یعبّر عنه بما یکون منسوباً إلی الصحّة .

و لا یرد علی هذا البیان شیء مما ذکر ، و إن کان فی التنظیر بین الاصول و الطب نظر ، نظراً إلی أن ما ذکره یتم فی علم الطب ، فکلّ ما یکون له علاقة بصحّة البدن فهو من مسائله ، لکنْ لیس کلّ ما له علاقة بإقامة الحجّة یعدّ من مسائل علم الاُصول ، فعلم الرجال - مثلاً - له نسبة و علاقة بإقامة الحجة علی حکم العمل ، مع أنّه علم مستقل عن الاصول .

إنما الکلام فی کیفیّة هذه العلاقة و الدخل ، فإنا إذا قلنا بأنْ المعتبر أنْ تکون العلاقة مباشرة و الدخل بلا واسطة ، لزم خروج عمدة المباحث الاصولیة ، لکون دخلها فی إقامة الحجة مع الواسطة ، فلا یبقی تحت التعریف إلّا مثل الخبر و الشّهرة مما یکون دخله بالمباشرة ، و تحمل « الحجیّة » علیه بلا واسطة ، أمّا مثل مباحث العام و الخاص و الإطلاق و التّقیید و ظهورات الأوامر و النواهی ، فلا یکون شیء منها حجةً ما لم تنطبق علیها و یضمّ إلیها حجیّة الظاهر ، فعندئذٍ یمکن إقامة الحجّة علی الحکم الشرعی بها ... نظیر علم الرّجال فإنّه إذا ثبت وثاقة زید احتیج إلی کبری حجیّة خبر الثقة ، فیکون دخیلاً فی إقامة الحجّة علی الحکم الشرعی .

ص:37

ثم لا یخفی الفرق بینه و بین مسلک المحقق البروجردی ، فإنه اتّخذ عنوان الحجّة فی الفقه جامعاً بین محمولات المسائل و جعل المحمول الکلّی موضوعاً ، أمّا المحقق الأصفهانی ، فقد جعل الموضوع جامعاً بین موضوعات المسائل ، فهو من هذه الجهة موافق للمشهور غیر أنه جعله عرضیاً لا ذاتیّاً خلافاً لصاحب ( الکفایة ) .

و الحاصل : إنه و إنْ لم یقم برهان علی ضرورة وجود الموضوع الجامع بین موضوعات العلم ، إلّا أن البیان المذکور غایة ما یمکن أنْ یقال .

أقول :

هذا ما أفاده مدّ ظلّه ، لکنّ ما أورده فی الدورة السابقة باق علی حاله ، و حاصله : إن الجامع العنوانی لا یتّحد مع معنونه فی الخارج ، لأن موطنه الذهن دائماً ، فجعله موضوعاً - و الحال هذه - یؤول إلی إنکار الموضوع ، فلیتدبّر .

ص:38

تعریفُ علم الاُصول

اشارة

و اختلفت کلماتهم فی تعریف علم الاصول :

فقال المشهور : هو العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحکام الشرعیّة .

و قال فی ( الکفایة ) : صناعة یعرف بها القواعد التی یمکن أنْ تقع فی طریق الاستنباط أو التی ینتهی إلیها فی مقام العمل .

و قال الشیخ الأعظم : هو القواعد التی تطبیقها بید المجتهد .

و قال المیرزا : هو العلم بالقواعد التی إذا انضمّت إلیها صغریاتها أنتجت نتیجةً فقهیة .

و قال المحقق الأصفهانی : هو العلم بالقواعد التی تقع فی طریق إقامة الحجّة علی حکم العمل .

و قال المحقق العراقی : هو العلم بالقواعد التی تقع فی طریق تعیین الوظیفة العملیّة .

تعریف المشهور

و قد أشکل علی تعریف المشهور بزیادة لفظة « العلم » ، لأنّ هذه القواعد علم سواء علم بها أولا ، و بزیادة « الممهّدة » ، لعدم دخل التمهید فی العلم ، فهی العلم سواء کانت ممهّدة للاستنباط أو لا ، و فی جملة « لاستنباط الأحکام الشرعیة » بأنها مستلزمة لخروج کثیر من الأدلة الدالة علیه ، یطبّق فی

ص:39

موارده الخاصة به ، و تخرج الاُصول العملیة العقلیّة ، کقبح العقاب بلا بیان ، و کالتخییر عند دوران الأمر بین المحذورین ، و کالظنّ الانسدادی بناءً علی الحکومة لا الکشف ، فإنّها أحکام عقلیّة تطبَّق فی مواردها .

تعریف الکفایة

و لهذه الاُمور عدل صاحب ( الکفایة ) إلی التعریف الذی ذکره ، فیکون جامعاً بالقید الذی أضافه لما کان یخرج من تعریف المشهور ، و لا یرد علیه شیء مما ورد علیه ... لکن یرد علی تعریفه : أوّلاً : إنه قال « صناعة » لإفادة آلیّة علم الاُصول کما أشرنا سابقاً ، لکنّ علم الاصول هو نفس القواعد لا أنّه صناعة تعرف بها القواعد . و ثانیاً : ان ما یعرف به القواعد ، یکون من المبادی التصدیقیّة ، و هی خارجة عن مسائل العلم . أورده السید الحکیم (1) .

ثمّ إنّ المحقق الأصفهانی [ بعد أنْ بیّن وجه الأولویّة فی قول (الکفایة) :

« الأولی تعریفه بأنه صناعة یعرف بها القواعد .. » - بأنّ من وجوه الأولویّة تبدیل تخصیص القواعد بکونها واسطة فی الاستنباط - کما عن القوم - بتعمیمها لما لا یقع فی طریق الاستنباط ، بل ینتهی إلیه الأمر فی مقام العمل ، و ذکر أن وجه الأولویّة استلزام التخصیص خروج جملة من المسائل المدوّنة فی الاصول ، لأنه لا ینتهی إلی حکم شرعی ، بل ظن به أبداً ، و إنما یستحق العقاب علی مخالفته عقلاً کالقطع ، و مثل الاصول العملیّة فی الشبهات الحکمیّة ، لکون مضامینها بأنفسها أحکاماً شرعیّة و لیست واسطةً فی استنباطها فی الشرعیة منها . و أما العقلیّة فلا تنتهی إلی حکم شرعی أبداً ] أجری الإشکال الذی یستلزمه التخصیص - کما عن القوم - فی جلّ مسائل الاصول ،

ص:40


1- (1)) حقائق الاصول 16/1 .

فذکر الأمارات غیر العلمیّة سنداً کخبر الواحد ، أو دلالةً کظواهر الألفاظ ، و قال بأنّ مرجع حجیّة الأمارات غیر العلمیة مطلقاً إمّا إلی الحکم الشرعی ، أو غیر منتهیة إلیه أبداً ، و علی أی تقدیر لیس فیها توسیط للاستنباط .

فالحاصل : إن عدول صاحب ( الکفایة ) عن تعریف القوم لیس لأجل خروج الاصول فقط ، بل لأجل خروج الأمارات أیضاً .... فیکون تعریفه أولی من تعریفهم لدخول ذلک کلّه به فی علم الاصول .

لکنّه بعد أن أوضح کیفیة لزوم خروج الأمارات عن تعریف القوم ، استدرک قائلاً :

« إلّا أن یوجّه مباحث الأمارات غیر العلمیّة .

أمّا بناءً علی إنشاء الحکم المماثل ، بأنّ الأمر بتصدیق العادل مثلاً لیس عین وجوب ما أخبر بوجوبه العادل ، بل لازمه ذلک ، و المبحوث عنه فی الاصول بیان هذا المعنی الذی لازمه الحکم المماثل ، و هذا القدر کاف فی التوسیط فی مرحلة الاستنباط .

و أمّا بناءً علی کون الحجیّة بمعنی تنجیز الواقع ، بدعوی أن الاستنباط لا یتوقّف علی إحراز الحکم الشرعی ، بل تکفی الحجیّة علیه فی استنباطه ، إذ لیس حقیقة الاستنباط و الاجتهاد إلّا تحصیل الحجّة علی الحکم الشرعی . و من الواضح دخل حجیّة الامارات - بأی معنیً کان - فی إقامة الحجّة علی حکم العمل فی علم الفقه » .

قال : « وعلیه ، فعلم الاصول : ما یبحث فیه عن القواعد الممهّدة لتحصیل الحجة علی الحکم الشرعی . من دون لزوم التعمیم ، إلّا بالإضافة إلی ما لا بأس بخروجه ، کالبراءة الشرعیة التی معناها حلیّة مشکوک الحرمة

ص:41

و الحلیّة ، لا ملزومها ، و لا المعذّر عن الحرمة الواقعیة » (1) .

ثم إنه أشکل علی تعریف ( الکفایة ) باستلزامه محذورین :

أحدهما : لزوم فرض غرضٍ جامع بین الغرضین ، لئلّا یکون فن الاصول فنّین .

ثانیهما : إن مباحث حجیّة الخبر و أمثاله لیست مما یرجع إلیها بعد الفحص و الیأس عن الدلیل علی حکم العمل ، و أما جعلها مرجعاً من دون تقیید بالفحص و الیأس فیُدخل فیها جمیع القواعد العامّة الفقهیّة ، فإنّها المرجع فی جزئیّاتها .

و قد ذکر شیخنا الاستاذ دام ظلّه هذین المحذورین و قرّبهما .

أقول : لکن فی ( المنتقی ) ما ملخّصه عدم لزوم شیء من المحذورین .

أمّا الثانی : فبأنه یلتزم بإضافة القید المذکور - و هو قول صاحب ( الکفایة ) : أو التی ینتهی الیها فی مقام العمل - و الأمارات و إنْ کانت خارجة عن القید ، أی ذیل التعریف ، فهی داخلة فی صدره ، بناءً علی أنّ المراد من الاستنباط هو تحصیل الحجة علی الواقع . و المحذور إنّما کان یلزم لو فسّر الاستنباط بإحراز الحکم الشرعی و استخراجه بحیث لا یشمل تحصیل الحجّة علیه ، لأن المجعول فی الأمارات ، إمّا المنجزیّة و المعذریّة ، و إما الحکم المماثل ، و هی بکلا المسلکین لا تقع فی طریق استنباط الأحکام ، فیلزم خروجها عن علم الاصول .

و أمّا الأول : فهو یرتفع بتصوّر غرضٍ خارجی جامعٍ بین الغرضین ، و یترتّب علی جمیع مسائل علم الاصول ، و ذلک الغرض هو ارتفاع التردّد

ص:42


1- (1)) نهایة الدرایة 1 / 42 ط مؤسّسة آل البیت ، بتصرف قلیل .

و التحیّر الحاصل للمکلَّف من احتمال الحکم ، فمسائل الاصول کلّها تنتهی إلی غایة واحدة ، و هی ارتفاع التردّد الحاصل من احتمال الحکم الشرعی ، سواء کانت نتیجتها الاستنباط أو لم تکن کذلک . و بذلک یرتفع المحذور المذکور .

ثم أوضح شمول هذا التعریف لجمیع المسائل الاصولیّة ، من الاصول و الأمارات و غیرها .

ثم قال : « نعم یبقی هاهنا سؤال و هو : لم عدل صاحب ( الکفایة ) إلی هذا التعریف المفصل و ذکر کلا القیدین ، مع أن نظره لو کان إلی هذه الجهة المذکورة لکان یکفی فی تعریف علم الاصول أن یقول : هو القواعد التی یرتفع بها التحیّر الحاصل للمکلّف من احتمال الحکم الشرعی ، إلّا أن الأمر فی ذلک سهل ، فإنّه لا یعدو کونه إشکالاً لفظیّاً . و لعلّ نظره قدّس سرّه إلی الإشارة إلی قصور تعریف المشهور و أنه یحتاج إلی إضافة قید ، لا إلی بطلانه ، کما قد یشعر به تبدیله و تغییره » (1) .

لکن لا یخفی أنّ لفظیّة هذا الإشکال إنّما هی علی فرض تمامیّة إرجاع تعریفه إلی ما ذکره و أتعب نفسه الشریفة ، و هذا أوّل الکلام .

و أمّا تعریفه دام ظلّه ، فإنّما أفاد دخول الاُصول الجاریة فی الشبهات الموضوعیّة ، لکونها رافعة للتحیّر و التردّد فی مقام العمل . و أمّا الأمارات فهی جاریة و متّبعة سواء قلنا بالمنجزیّة و المعذریّة ، أو جعل الحکم المماثل ، أو الطریقیّة ، بلا أیّ تردّد و تحیّر فی مقام العمل ، فتأمّل . هذا أوّلاً . و ثانیاً : إنه یستلزم خروج عدّةٍ من المسائل عن علم الاصول ، کما سیجیء الاعتراف منه و الالتزام بذلک .

ص:43


1- (1)) منتقی الاصول 1 / 27 - 29 .

تعریف المحقق الأصفهانی

تقدّم أنّه عرّف علم الاصول بالقواعد الممهّدة لتحصیل الحجّة علی الحکم الشّرعی ، و هو تعریف یدخل به ما کان خارجاً عن تعریف صاحب ( الکفایة ) ، کما أنه یصلح لأن یکون جامعاً بین الغرضین ، فلا یلزم تعدّد علم الاصول .

لکنّه صرّح فی ( نهایة الدرایة ) و فی ( الاصول علی النهج الحدیث ) بخروج البراءة الشرعیة و أصالة الحلّ عن تعریفه ، فلا بدّ من جعلها بحوثاً استطرادیة ، لکون مفادها بنفسها أحکاماً شرعیّة . لکنّ ینقض علیه بالاستصحاب - بناءً علی أن مدرکه هو الأخبار - فهو أیضاً حکم شرعی ، و الملاک فی الاصول العملیة أنْ تکون حجّة علی الحکم الشرعی ، فما کان حجةً فهو من مسائل الاصول ، و ما لا فلا ، فالبراءة الشرعیّة داخلة ، لکونها حجّة شرعیّة ، فلا وجه للاستطراد ... و کذا قاعدة الحلّ .

ثم إنّ الإشکال المهمّ المتوجّه علی هذا التعریف هو : أنّه إنْ أرید من إقامة الحجّة علی حکم العمل إقامتها بلا واسطة ، و أنّه بمجرّد الوصول إلی تلک القاعدة تحصل الحجّة و تقام علی الحکم ، لزم خروج کثیر من المسائل ، ففی بحث دلالة ألفاظ العموم مثلاً لا تکون النتیجة إقامة الحجّة بلا واسطة ، و کذا نتیجة مباحث حجیّة الظهور . و إنْ ارید من ذلک إقامتها علی الحکم ، أعمّ من أن تکون مع الواسطة أو بلا واسطة ، لزم دخول بعض العلوم کعلم الرّجال - مثلاً - فی علم الاصول .

تعریف المحقق العراقی

بل إنّ هذا الإشکال یتوجّه علی تعریف المحقق العراقی بأنّه القواعد

ص:44

الخاصّة التی تعمل فی استخراج الأحکام الکلیّة الإلهیّة أو الوظائف العملیة الفعلیة ، عقلیّة کانت أم شرعیّة (1) .

و لذا تعرّض له المحقق المذکور ، و أجاب بما حاصله : أنا نختار الشق الثانی ، و مع ذلک نلتزم بخروج الامور المزبورة عن مسائل الاصول . و ذلک :

أمّا أولاً : فلوضوح أن المهم و المقصود فی العلوم الأدبیة کالنحو و الصرف لیس هو إثبات الظهور للکلمة و الکلام ، بل المهمّ فیها هو إثبات کون الفاعل مرفوعاً و المفعول منصوباً ، بخلاف مباحث الأمر و النهی و العام و الخاص ... فی علم الاصول ، فإنها تتکفّل إحراز الظهور فی الکلمة و الکلام .

و أمّا ثانیاً : علی فرض أن المقصود فی العلوم الأدبیّة أیضاً إحراز الظهور فی شیء کظهور المرفوع فی الفاعلیة ، و المنصوب فی المفعولیة ، فإنّ غایة ما یقتضیه ذلک حینئذٍ إنّما هو وقوع نتیجتها فی طریق استنباط موضوعات الأحکام ، لا نفسها ، و المسائل الاصولیة إنما کانت عبارة عن القواعد الواقعة فی طریق استنباط نفس الأحکام الشرعیّة العملیة . و توهّم استلزامه خروج مثل مباحث العام و الخاص أیضاً ، مدفوع بأنّها و إنْ لم تکن واقعةً فی طریق استنباط ذات الحکم الشرعی ، إلّا أنها باعتبار تکفّلها لإثبات کیفیة تعلّق الحکم بموضوعه کانت دخیلةً فی مسائل الاصول ، کما هو الشأن أیضاً فی مبحث المفهوم و المنطوق ، حیث أن دخوله باعتبار تکفّله لبیان إناطة سنخ الحکم بشیء ، الذی هو فی الحقیقة من أنحاء وجود الحکم و ثبوته . و هذا بخلاف المسائل الأدبیة ، فإنّها ممحّضة لإثبات موضوع الحکم ، بلا نظر فیها إلی کیفیّة تعلّق الحکم أصلاً .

ص:45


1- (1)) نهایة الافکار 1 / 20 .

و بهذا البیان یظهر الوجه فی خروج مباحث المشتق ، لأنّها لا تتکفّل الحکم لا بنفسه و لا بکیفیّة تعلّقه بموضوعه .

هذا کلّه لدفع الإشکال بالنسبة إلی سائر العلوم . أمّا علم الرجال، فقد التزم بدخوله فی مسائل علم الاصول ، غیر أنّه بحث عنه علی حده .

لکن یرد علی جوابه بالنسبة إلی العلوم الأدبیّة ، بأنه لا فرق - بناءً علی ما ذکره - بین البحث عن مفاد لفظ « کلّ » و البحث عن مفاد لفظ « الصعید » مثلاً ، ففی الثانی أیضاً یبحث عن کیفیّة تعلّق حکم التیمّم بموضوعه ، و أنّه هل هو خصوص التراب أو مطلق وجه الأرض ؟ فلما ذا یکون البحث عن مفاد « کلّ » من الاصول ، دون البحث عن مفاد « الصّعید » ؟ قاله شیخنا الاستاذ دام بقاه .

أقول : و فیه تأمّل ، لأنّ البحث عن مفاد « کلّ » مثلاً ، بحث عن کیفیّة تعلّق الحکم بموضوعه من حیث کونه عامّاً ، أمّا البحث عن مفاد « الصعید » فهو بحث عن المعنی الموضوع له هذا اللّفظ ، و أنّه التراب أو وجه الأرض ، و لم یلحظ فی هذا البحث حیثیة سعة المفهوم أو ضیقه ، و إنّما توجد هذه الحیثیّة عندنا ، فعند ما ننظر إلی المعنیین نجد بینهما هذا التفاوت .

تعریف المحقق الخوئی

و عرّف المحقق الخوئی علم الاصول : بالعلم بالقواعد المحصّلة للعلم بالوظیفة الفعلیة فی مقام العمل ، و قصد « بالقواعد » القواعد التی تقع نفسها فی طریق الاستنباط ، فیکون قد اختار الشق الأول - خلافاً للمحقق العراقی - و بذلک تخرج بقیّة العلوم ، لکونها إنّما تقع فی طریق الاستنباط بضمّ قاعدةٍ اصولیّة ، قال :

ص:46

« و الفارق بین القواعد الاصولیّة و غیرها هو : إنّ القواعد الاصولیّة ما کانت صالحةً وحدها - و لو فی موردٍ واحد - لأنْ تقع فی طریق استنباط الحکم الشرعی ، من دون توقّف علی مسألةٍ اخری من مسائل علم الاصول نفسه أو مسائل سائر العلوم ، و هذا بخلاف سائر العلوم ، إذ لا یترتب علیها وحدها حکم کبروی شرعی ، و لا توصل إلی وظیفةٍ فعلیة و لو فی موردٍ واحد ، بل دائماً تحتاج إلی ضم مسألةٍ اصولیة إلیها . فمثل العلم بالصعید و أنه عبارة عن مطلق وجه الأرض أو غیره لا یترتب علیه العلم بالحکم ، و إنما یستنبط الحکم من الأمر أو النهی و ما یضاهیهما » (1) .

و حیث اختار الشق الأوّل ، اضطرّ إلی الالتزام بخروج کثیر من مباحث الألفاظ ، قال : « إنّما هی مسائل لغویّة ، لعدم إمکان وقوعها فی طریق الاستنباط وحدها ، و بما أنّ القوم لم یعنونوها فی اللّغة فقد تعرض لها فی فن الاصول تفصیلاً » (2) .

تعریف المحقق النائینی

و المحقق المیرزا بتعریفه العلم بأنّه العلم بالکبریات التی لو انضمّت إلیها صغریاتها استنتج منها حکم فرعی کلّی (3) ، أخرج المسائل غیر الاصولیة ، لکونها لا تقع کبری قیاس الاستنباط ، فعلم الرجال الباحث عن أحوال الرجال من حیث الوثاقة و عدمها ، یقول : زید ثقة مثلاً ، فیقع هذا صغری للقیاس فی قولنا : هذا ما أخبر بوجوبه زید الثقة ، و کلّ ما أخبر الثقة بوجوبه فهو واجب ، فهذا واجب .

ص:47


1- (1)) مصابیح الاصول : 8 - 9 .
2- (2)) مصابیح الاصول : 10 .
3- (3)) فوائد الاصول 1 / 2 .

قال شیخنا :

لکنّه قد اعترف فی ( فوائد الاصول ) ، فی الأمر الثّانی من مبحث الاستصحاب ، بأن لازم هذا التعریف خروج مباحث ظهور الأمر و النهی فی الوجوب و الحرمة عن علم الاصول ، و التزم بکونها استطرادیّة . (1)

قال شیخنا دام بقاه : بل یستلزم خروج مباحث ظهور الأمر فی الفور أو التراخی ، و المرّة أو التکرار ، و کذا مباحث العمومات و المفاهیم ، لأنّ البحث فی هذه کلّها فی الصغریات ، بل یسری الإشکال إلی مباحث الإطلاق و التقیید بناءً علی کون الإطلاق بدلالة اللّفظ لا بحکم العقل .

و أضاف شیخنا إشکالاً آخر علی القیاس الذی یشکّله المیرزا ، و هو أنّه باطل لا یتلائم مع مبناه فی حجیة الخبر ، لأنّه یکون علی مبناه - و هو الطریقیة - علی الشکل التالی : هذا ما قام علی وجوبه الخبر ، و کلّ ما قام علی وجوبه الخبر فهو معلوم الوجوب ، فهذا معلوم الوجوب ، فتکون النتیجة کون المخبر به معلوماً وجوبه شرعاً ، لکنّ هذا مقتضی مبنی جعل الحکم المماثل لا مبنی الطریقیّة ، و هذا مطلب مهم ، و من هنا أیضاً یقع الإشکال علی مبنی التنجیز و التعذیر فی وجه الفتوی بالوجوب أو الحرمة أو الاستحباب أو الکراهة .

و علی الجملة ، فهذا التعریف و إنْ أخرج علم الرّجال و غیره من العلوم ، إلّا أنه یستلزم خروج مسائل کثیرة عن علم الاصول .

التحقیق فی المقام

و بعد ، فلم نجد التعریف المانع عن دخول علم الرجال و غیره ، و الجامع

ص:48


1- (1)) فوائد الاصول 4 / 308 .

لجمیع المسائل ، بین التعریفات المذکورة ، إذ منها ما یکون مانعاً عن دخول علم الرجال مثلاً ، مع الالتزام بالاستطراد فی جملة من المسائل المطروحة فی علم الاصول ، و منها ما یکون جامعاً لجمیع المسائل تقریباً ، مع الالتزام بکون علم الرجال من مسائل العلم .

و بالجملة ، یدور الأمر بین اعتبار قید عدم الواسطة بین المسألة و استنباط الحکم الشرعی منها ، و هذا یستلزم خروج بعض المسائل ، و بین إلغاء هذا القید فتدخل المسائل لکنّه یستلزم دخول غیر المسائل الوصولیة أیضاً فی علم الأصول .

أمّا سیّدنا الاستاذ دام ظلّه فحاول إرجاع تعریف ( الکفایة ) إلی مختاره - مع فارق واحدٍ ، و هو شمول تعریفه للاصول و الأمارات الجاریة فی الشبهات الموضوعیّة أیضاً ، و خروجها عن تعریف ( الکفایة ) - و اختار الشق الأوّل ، أعنی اعتبار القید المذکور ، ثم التزم بخروج مسألتی الصحیح و الأعم ، و المشتق ، و حاول إدخال غیرهما من مسائل الألفاظ ، لأنَّ الواسطة المعتبر عدمها فی اصولیّة المسألة هی الواسطة النظریة ، أمّا فی هذه المسائل فترتب الحکم علیها هو بواسطة کبری ارتکازیة مسلّمة . کما حاول إدخال مسألة اجتماع الأمر و النهی - مع اعترافه بأنّها علی اثنین من المذاهب الثلاثة فیها ، و هما الامتناع من جهة اجتماع الضدین ، و الامتناع من جهة التزاحم ، لا تنتهی إلی رفع التردّد فی مقام العمل ، بل تحقّق موضوع المسألتین - بأنّ الدخول و لو علی مذهبٍ واحدٍ کاف لشمول التعریف لها ، و هی بناءً علی المذهب الأول - و هو الجواز مطلقاً - داخلة .

و أمّا شیخنا الاستاذ دام ظلّه ، فقد اختار فی الدورة السابقة تعریف

ص:49

صاحب ( الکفایة ) ، ثم عدل عنه فاختار فی المتأخّرة تعریف المحقق العراقی و هو : الالتزام بالشق الثانی ، الذی لازمه دخول مباحث علم الرّجال ، أما بقیّة العلوم فلا تدخل لکونها باحثة عن موضوعات الأحکام الشرعیة ، کما یخرج مبحث المشتق لکونه بحثاً عن الموضوع کذلک .

إلّا أن شیخنا أخرج مباحث العام و الخاص و نحوهما ، ممّا وصفه العراقی بما یبحث فیه عن کیفیة تعلّق الحکم بالموضوع ، بعد ورود النقض علیه بمثل « الصعید » ، إلّا أن لنا تأملاً فی ذلک کما تقدّم .

فظهر أنّ تعریف المحقق العراقی ، و تعریف المحقق الأصفهانی ، و کذا تعریف المحقق صاحب ( الکفایة ) - علی ما فسّره السید الاستاذ - کلّها تصبُّ فی مصبٍّ واحدٍ ، و أنْ لا اختلاف بینها تقریباً إلّا فی اللّفظ و التعبیر ، لکن الأقرب هو الالتزام بالشرط المذکور و اعتباره کی یخرج علم الرجال و نحوه ، کما فعل السیّد الاستاذ دام علاه ، و اللّٰه العالم .

ص:50

الفرق بین القواعد الفقهیّة و القواعد الاصولیّة

اشارة

بقی الکلام فی الفرق بین القواعد الفقهیة و القواعد الاصولیّة ، و کیفیة إخراج الفقهیة عن علم الأصول ، علی ضوء التعاریف المذکورة .

لا یخفی أن القواعد الفقهیة تنقسم إلی قسمین ، منها ما یجری فی الشبهات الموضوعیة ، و تکون نتیجته الحکم الفرعی الجزئی ، کقاعدة الفراغ و التجاوز ، المتخذة من قوله علیه السلام : « کلّما شککت فیه ممّا قد مضی فامضه کما هو » (1) و تفید مضیّ هذه الصلاة المشکوک فی ابتلائها بمانع عن الصحة . و منها : ما یجری فی الشبهات الحکمیة ، و تکون نتیجته الحکم الکلّی الإلهی ، کقاعدة : ما یضمن بصحیحة یضمن بفاسده ، حیث تفید مثلاً ضمان فاسد القرض ، لأنّ صحیحه موجب له . و هذه القواعد منها ما یکون مفاده حکماً بالعنوان الأوّلی ، کالقاعدة المذکورة ، و منها : ما یکون مفاده حکماً بالعنوان الثانوی کقاعدة نفی الضرر ، بناءً علی نوعیّة الضرر المنفی ، و أمّا بناءً علی شخصیّته فتدخل القاعدة فیما یجری فی الشبهات الموضوعیّة .

و من الواضح أیضاً : انقسام الأصول العملیّة إلی : ما یجری فی الشبهات الموضوعیّة فقط ، و إلی ما یجری فی الشبهات الحکمیّة فقط ، و إلی ما یجری فی کلتیهما کالاستصحاب .

ص:51


1- (1)) وسائل الشیعة 237/8 ط مؤسّسة آل البیت ، الباب 23 من أبواب الخلل رقم : 3 .

أمّا ما یجری فی الشبهات الموضوعیّة ، و ینتج حکماً جزئیّاً [ مثل الاستصحاب الجاری فی کریّة هذا الماء ، من الاصول العملیة ، و مثل قاعدة الفراغ من القواعد الفقهیّة ، الجاریة فی هذه الصلاة مثلاً ]فهو خارج عن المسائل الاصولیّة ، لأنّ کلّ أحدٍ یمکنه تطبیق القاعدة أو الأصل علی المورد المشکوک فیه ، و استنتاج الحکم الشرعی المتعلّق به ، من غیر فرقٍ بین الفقیه و العامی ... فهذا القسم من القواعد و الاصول خارج .

و أمّا ما یجری فی الشبهات الحکمیة ، فالأصل العملی الجاری فی الحکم الأصولی لا ریب فی اصولیّته ، کاستصحاب حجیّة العام بعد التخصیص ، أو استصحاب عدم تحقّق المعارِض للروایة ، فهذا القسم من الاصول العملیّة الجاریة فی الشبهات الحکمیّة خارج عن البحث .

إنّما الکلام فی الاُصول العملیّة و القواعد الفقهیّة التی یتشارکان فی التطبیق علی الموارد و استخراج الأحکام الکلیّة الفرعیّة منها ، فما الفارق بینهما ؟ و کیف تخرج الثانیة عن المسائل الاصولیّة ؟

و لک أنْ تقول : إن تعریف علم الفقه - و هو : العلم بالأحکام الشرعیّة الفرعیّة عن أدلّتها التفصیلیّة - کما ینطبق علی القواعد الفقهیة فتکون من مسائله ، کذلک ینطبق علی الاصول العملیة الجاریة فی الشبهات الحکمیّة ، إذ الحکم بنجاسة الماء المتغیّر بالنجاسة الزائل تغیّره ، حکم شرعی فرعی ، أنتجه الاستصحاب المستفاد عن دلیلٍ تفصیلی ، و هو صحیحة زرارة مثلاً ، الدالّ علی بقاء الحکم السابق فی الماء المذکور ، و علی الجملة : فکما أن قاعدة ما لا یضمن حکم فرعی ، کذلک الحکم ببقاء نجاسة الماء ، و کما أنها مستنبطة من الدلیل التفصیلی و هو الإجماع ، کذلک الحکم المذکور مستنبط من الدلیل

ص:52

التفصیلی و هو الأخبار . فانطبق علیها تعریف علم الفقه ، فتکون هذه الاصول العملیة خارجة عن علم الاُصول و داخلة فی علم الفقه ، فما هو الجواب ؟

جواب الشیخ الأعظم و المیرزا

أجاب الشیخ الأعظم بأنّ إجراء الاصول العملیة فی الأحکام الکلیّة الفرعیة من عمل المجتهد و وظیفته ، بخلاف القواعد الفقهیة . و هذا هو الفرق (1) ، و عن المیرزا النائینی موافقته فی ذلک (2) .

و قد أشکلوا علیه بأنّ القواعد الفقهیة - کالاصولیّة - لا یمکن إلقاؤها إلی العامّی ، فأیّ عامی یمکنه تشخیص الشرط المخالف للکتاب من غیره ، کی یطبق قاعدة : کلّ شرط خالف الکتاب و السنّة فهو باطل ؟ و هکذا القواعد الاخری .

جواب المحقق العراقی

و أجاب المحقق العراقی بأنّ کلّ قاعدةٍ تُعمل فی استخراج الأحکام الکلیّة الإلهیّة من دون اختصاصٍ لها ببابٍ دون بابٍ من أبواب الفقه ، فهی مسألة اصولیّة ، فیخرج مثل قاعدة الطهارة بلحاظ عدم سریانها فی جمیع أبواب الفقه (3) .

و أشکل علیه شیخنا دام بقاه بعدم الدلیل ، و بالنقض ببعض المسائل الاصولیّة من جهة کونها مختصّةً ببعض الأبواب ، کمسألة الملازمة بین النهی و الفساد ، لوضوح اختصاصها بأبواب العبادات فقط .

ص:53


1- (1)) الرسائل 319 - 320 . أوّل رسالة الاستصحاب ، و لیلحظ کلامه فإنه طویل مفید .
2- (2)) محاضرات فی اصول الفقه 11/1 .
3- (3)) نهایة الأفکار 1 / 20 - 21 . و یلاحظ أنّه أرجع الیه جواب الشیخ ، من جهة اشتراط تطبیق قاعدة الطّهارة بالفحص ، و اشتراط تطبیق قاعدة الشروط بمعرفة الکتاب و السنّة ، و من الواضح أن لا سبیل فی ذلک للعامی الذی لا یتمکن من الفحص و لا یعرف ظواهر الکتاب و السنّة .

جواب المحقق الخوئی

و أجاب المحقق الخوئی بأنّ الفرق أمّا بین القواعد الفقهیة الجاریة فی الشبهات الموضوعیة ، و بین القواعد الأصولیّة ، فبأنّ القواعد الفقهیّة تنتج فی تلک الشبهات الأحکام الجزئیّة الشخصیّة ، کقاعدتی الفراغ و التجاوز ، و قاعدة الید ، و نفی الضرر ... فقاعدة الفراغ مثلاً تفید عدم الاعتناء بالشک بعد الفراغ من العمل ، و هذه الکبری إذا انضمّت إلی صغراها و هو عمل الشخص المشکوک فی صحّته ، أنتجت صحّة ذاک العمل . هذا حال هذا القسم من القواعد الفقهیة . و أمّا المسائل الاصولیّة ، فالناتج منها حکم کلّی عام ثابت لجمیع المکلّفین ، کمسألة حجیّة خبر الواحد .

و أمّا القواعد الفقهیّة الجاریة فی الشبهات الحکمیة ، کقاعدة ما لا یضمن ، فإنّها و إنْ انتجت حکماً کلیّاً - کالقواعد الاصولیة - إلّا أن الفرق عدم وقوعها فی طریق الاستنباط ، و إنّما هی أحکام مستنبطة تطبّق فی مواردها ، بخلاف القواعد الاصولیّة ، فإنّها تقع فی طریق استنباط الحکم الشرعی أو تکون مرجعاً للفقیه فی تعیین الوظیفة العملیّة . فهذا هو الفرق (1) .

أقول : و قد أورد علیه تلامذته ، کالسید الصدر و شیخنا الاستاذ بالنقض و الحلّ .

و حاصل الکلام عدم تمامیّة هذا الجواب ، لکون بعض القواعد الفقهیّة الجاریة فی الشبهات الموضوعیّة تفید حکماً کلیّاً لا جزئیّاً (2) ، کما أنّ من

ص:54


1- (1)) مصابیح الاصول 11 - 13 .
2- (2)) قد وقع الخلاف بین الأعلام فی مفاد أدلة قاعدتی نفی الضرر و الحرج ، فی أن الحرج و الضرر المنفیّین شخصیّان أو نوعیّان، فالسیّد الخوئی مثّل بهما لإفادة الحکم الشخصی بناءً علی کونهما شخصیین ، و المستشکل علیه یشکل بأنهما یفیدان الحکم الکلی بناءً علی کونهما نوعیّین . فالحاصل کون الاستدلال و الإشکال کلیهما علی المبنی .

المسائل الاُصولیّة ما یطبّق فی مورده و لیس واسطةً فی الاستنباط ، و من ذلک الاستصحاب و البراءة و الاحتیاط ، و هذه من أهم المسائل ، ففی الاحتیاط مثلاً نستنبط من « احتط لدینک » و « قف عند الشبهة » حکماً شرعیّاً ثم نطبّقه علی مورده و مصداقه .

جواب المحقق الأصفهانی

و أجاب المحقق الأصفهانی عن السؤال علی ضوء ما ذهب إلیه فی تعریف علم الاصول و علم الفقه ، فعلم الفقه عنده : إقامة الحجّة علی الحکم الشّرعی . و علم الاصول عنده : هو العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الاحکام الشرعیّة ، بمعنی : إن القواعد الاصولیّة واسطة فی إثبات التنجیز للأحکام الشرعیة ، و الإعذار للعبد أمام الشارع المقدّس [ لا بمعنی کونها واسطة فی إثبات الحکم الشرعی ، المستلزم لخروج کثیر من المسائل عن علم الاصول ، لعدم کونها واسطةً کذلک ، کقاعدة الاشتغال مثلاً ] .

و علی الجملة ، فعلم الاصول تحصیل الحجّة ، و علم الفقه تطبیق الحجّة و إقامتها . و هکذا یظهر الفرق بوضوح ، ففی الاستصحاب مثلاً : جعل الشارع الیقین السابق منجّزاً للبقاء ، فیکون البحث عن المنجزیّة و المعذریّة .

نعم ، یبقی حدیث الرفع ، فهناک لا تنجیز و لا تعذیر ، بل رفع للحکم .

و کذا أصالة الحلّ ، حیث جعل الشارع هناک الحلیّة ، فلا تنجیز و لا تعذیر .

و لذا یلتزم قدّس سرّه بکون البراءة الشرعیة و أصالة الحلّ من المسائل الفقهیة لا أنهما من المسائل الاصولیة .

هذا مطلب المحقق الأصفهانی .

ص:55

اختاره شیخنا الاستاذ مع تعدیل

و هذا مختار شیخنا الاستاذ مع تعدیل لما ذکره ، بحیث تدخل البراءة و قاعدة الحلّ ، إذ المختار عنده أن علم الاصول هو کلّ المسائل التی لها دخل فی تشکیل و تحقیق النّسبة بین الموضوع و المحمول فی صغری قیاس الاستنباط و کبراه ، و إنْ بحث عن بعض ذلک فی خارج علم الاصول .

و أمّا ما ذکره المحقق الأصفهانی فی تعریف الفقه فلم یناقشه فیه .

فکان مختاره فی الفرق بین القواعد الاصولیة و القواعد الفقهیّة - فی کلتا الدورتین - :

إن کلّ قاعدة ذات خلفیّة تکون حجّةً للّٰه علی العبد أو للعبد أمام اللّٰه ، فهی قاعدة أصولیّة ، و کلّ قاعدة لیست کذلک ، فهی قاعدة فقهیّة .

أقول :

لکنّ لازم هذا المبنی أن یکون إجراء القواعد الفقهیّة و القواعد الاصولیّة معاً بید المجتهد فقط ، إذ لا سبیل للعامی للفحص عن « ما وراء » القاعدة ، و تشخیص ما یکون له « ما وراء » ممّا لا یکون ، ثم معرفة « ما وراء » القاعدة ...

و الحال أنّ بعض القواعد الفقهیّة یجریها العوام بلا توقّف . فتدبّر .

ص:56

فائدة علم الاصول

لا یخفی أن لعلم الاصول جهة آلیّة ، و أنّه لیس البحث عن المسألة الاصولیّة إلّا وسیلةً ، فمعرفة مسائل هذا العلم لیست بمطلوبٍ نفسی ، بل مطلوب غیری ، و ذلک المطلوب هو تحصیل الحجّة علی الحکم الشرعی ، ففائدة هذا العلم و نتیجته تتعلّق بعلم الفقه و معرفة الأحکام الشرعیّة ، لأن الفقه - کما عرّفوه - هو العلم بالأحکام الشرعیة الفرعیة عن أدلّتها التفصیلیّة .

إلّا أن الفقه فی اصطلاح الکتاب و السنّة هو أعمّ من الأحکام الشرعیّة ، و یشمل المعارف الدینیّة و الأخلاق أیضاً .

فی علم الاصول یبحث عن النسب الواقعة بین الأحکام الشرعیّة ، و النصوص المتعلّقة بها فی الکتاب و السنّة ، لتفهم تلک النسبة فهماً تحقیقیّاً لا تقلیدیاً .

فعلم الاصول وسیلة لفهم نصف الدین ، و هو الفقه .

فهذه فائدة هذا العلم .

و هذا تمام الکلام فی التمهیدات .

ص:57

ص:58

حقیقة الوضع

اشارة

ص:59

ص:60

اختلفت کلمات المحقّقین فی حقیقة الوضع علی ستة أقوال أو أکثر ، و نحن نذکرها و نتکلّم علیها ، فنقول :

صاحب الکفایة

أمّا صاحب ( الکفایة ) قدّس سرّه فلا یظهر من کلامه شیء عن حقیقة الوضع ، و إنما قال :

« الوضع هو نحو اختصاصٍ للّفظ بالمعنی و ارتباط خاص بینهما ، ناشٍ من تخصیصه به تارةً و من کثرة استعماله فیه أخری ، و بهذا المعنی صحّ تقسیمه إلی التعیینی و التعیّنی » (1) .

فهذا الکلام - کما لا یخفی - لیس فیه بیانٌ لحقیقة الوضع ، و لهذا قد لا یذکر کلامه فی هذا المبحث إلّا للإشارة إلی الخصوصیّات التی لحظها فیه ...

کالسرّ فی عدوله عن « التخصیص » إلی « الاختصاص » ، و أنّه لما ذا قال : « نحو اختصاص » ؟ أمّا العدول المذکور فلأنّه و إن کان الوضع التعیینی « تخصیصاً » من الواضع ، لکنّ الوضع التعیّنی یحصل علی أثر کثرة استعمال اللّفظ فی المعنی ، فهو « اختصاص » لعدم المعنی للتّخصیص التعیّنی . و أمّا التعبیر ب « نحو اختصاص » فلأنّ الاختصاص علی نحوین ، فتارةً : یوجد أثر تکوینی فی

ص:61


1- (1)) کفایة الاصول : 9 .

المختصّ و المختصّ به ، کالاختصاصات الواقعیّة ، و اخری : لا یوجد ، و من هذا القبیل وضع الألفاظ ، فهو « نحو اختصاص » .

هذا ، و الکلام فی المقام حول حقیقة هذا الاختصاص ، لأنه علقة بین اللّفظ و المعنی موجودة بلا ریب ، و لیست من سنخ الجواهر و الأعراض ، لأنّها امور موجودة ، و العلقة بین اللّفظ و المعنی - کلفظ الماء و ذاک الجسم البارد بالطبع السیّال - غیر قائمة بالوجود ، فإنّها موجودة سواء وجد المعنی أو لا ...

إلّا أنّ وجودها یکون بالاعتبار کما لا یخفی ، لکن لا من سنخ الاعتبارات الشرعیّة و العقلائیّة لکون موضوعها هو الوجود الخارجی للبیع مثلاً فی اعتبار الملکیّة و لزید عند اعتبار الزوجیّة ، لما تقدّم من عدم تقوّم العلقة الوضعیّة بین اللّفظ و المعنی بالوجود ، لا ذهناً و لا خارجاً ... و لعلّ هذه الاُمور مقصودة لصاحب ( الکفایة ) فی قوله : « نحو اختصاص » (1) .

المحقق النائینی

و ذهب المحقق المیرزا إلی أنّ حقیقة الوضع : تخصیص الخالق الألفاظ بالمعانی ، و هذا التخصیص أمر متوسّط بین التکوین و التشریع .

و توضیحه : إن الألفاظ و المعانی غیر متناهیة ، لکنّ الوضع للامور غیر المتناهیة غیر ممکن ، هذا من جهةٍ ، و من جهةٍ اخریٰ : المناسبة الموجودة بین اللّفظ و المعنی ، کلفظ الماء و معناه لیست بذاتیّة - کالمناسبة الذاتیة بین النار و الحرارة - بل هی جعلیّة ، لکنّ أفراد الإنسان و أهل اللسان لا یعلمون بتلک المناسبة ، فلا بدّ و أن یکون الجاعل هو اللّٰه سبحانه ، فإنّه الملهِم لأن یعیّنوا اللّفظ الکذائی للمعنیٰ الکذائی ، و هذا معنی کونه وسطاً بین التکوین

ص:62


1- (1)) أجود التقریرات 1 / 11 .

و التشریع .

و لا یخفی ما فیه ، فإنّه - بغض النظر عن عدم قابلیّة التخصیص للتعیین و التعیّن معاً - لیس الامور الواقعیّة إلّا ما یوجد فی الخارج بإزائها شیء ، کالجواهر و الأعراض - عدا الإضافة - أو ما لا یوجد ذلک ، بل یوجد المنشأ للانتزاع کالفوقیّة و التحتیّة و نحوهما . و أمّا وجود أمر ثالثٍ یکون وسطاً بین الامور الخارجیة الواقعیة و بین التشریعیة فهو غیر معقول . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ الوضع یتبع احتیاج البشر فی إفادة أغراضه و مقاصده ، فهو فی الحقیقة یحلُّ محلّ الإشارة المفهمة ، فإذا ولد له مولود وضع له اسماً کی ینادیه به متی أراده ، و کذا لو اخترع جهازاً ، و هکذا ... فلیس الواضع هو اللّٰه و لا أحد معیّن من أفراد البشر . اللّهم إلّا أن یثبت بدلیلٍ یقینی أنّ المراد من قوله تعالی : «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء کُلَّهَا » (1)هو أسماء الکائنات ، و لکن دون إثبات ذلک خرط القتاد .

المحقق العراقی

و المحقّق العراقی ذهب إلی أنّ الوضع عبارة عن : نحو إضافة و اختصاص خاص یوجب قالبیّة اللّفظ للمعنی و فنائه فیه فناء المرآة فی المرئی ، بحیث یصیر اللّفظ مغفولاً عنه و بإلقائه کأنّ المعنی هو الملقی ، بلا توسیط أمرٍ فی البین ، قال : و من جهة شدّة العلاقة و الارتباط بین اللّفظ و المعنی و فناء الأول فی الثانی تری سرایة التعقید من اللّفظ إلی المعنی ، و سرایة الحسن و القبح من المعنی إلی اللّفظ .

و أورد علیه فی ( المحاضرات ) بما حاصله : إنّ هذه الملازمة المجعولة

ص:63


1- (1)) سورة البقرة : 31 .

إمّا هی مطلقة للعالم و الجاهل بها ، أو أنها مختصّة بالعالم بها ، فإن کانت مطلقة لزم أنْ یدرکها الجاهل باللغة أیضاً ، و إنْ کانت لخصوص العالم بالوضع ، فإنّ العلم بالوضع متأخر عن الوضع ، فجعل العلقة الوضعیّة للعالم بها محال ، بل لا بدّ من أن یتحقق الوضع ، ثم یحصل العلم به ، ثم تجعل الملازمة لخصوص العالم .

و أجاب شیخنا دام ظلّه : بأنّ هذا الإیراد بعد الدقّة فی کلام العراقی غیر وارد ، لأنّه یری أن الجعل هنا هو کسائر المجعولات الأدبیّة ، فکما أن الجاعل یضع المرفوعیة للفاعل و المنصوبیّة للمفعول ، کذلک یجعل اللّفظ مبرزاً للمعنی ، و علی هذا ، فکما أنّ القواعد فی العلوم الأدبیّة قابلة لتعلّق العلم و الجهل فکذا الاختصاص الوضعی بین اللّفظ و المعنی ، و کما لا معنی للسؤال عن أن تلک القواعد مجعولة لمطلق الناس أو لخصوص العالمین ، فکذلک اختصاص اللّفظ بالمعنی ، و علی الجملة ، فإنّ هنا اعتباراً خاصّاً بین طبیعیّ اللّفظ و المعنی ، بغضّ النظر عن العلم و الجهل . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن حلّ المطلب أنّه لا مانع من القول بکون المجعول فی باب الوضع هو : اختصاص اللّفظ بالمعنی من باب الملازمة ، بأن تکون هذه الملازمة نظیر الملازمات الخارجیّة ، کالتی بین النار و الحرارة ، فإنها موجودة سواء علم بها أولا ، و هنا یجعل الجاعل الملازمة بین اللّفظ و المعنی ، و هو جعل مهمل بالنسبة إلی العالم و الجاهل ، و السرّ فی ذلک هو : إن الاهمال لیس بغیر معقول علی الإطلاق ، بل کلّ انقسامٍ کان من خصوصیّات نفس الجاعل فالإهمال فیه غیر معقول ، مثلاً : الرقبة تنقسم إلی المؤمنة و الکافرة و اعتبار وجوب العتق تعود کیفیّته إلی المعتبر ، فتارةً یجعله مع لحاظ الرقبة لا بشرط

ص:64

من الخصوصیّتین و اخری یجعله بشرط ، فهنا الإهمال غیر معقول ، لأنّ المجعول المنقسم موضوعه إلی قسمین مثلاً لا بدّ و أن یلحظ فی مرحلة الجعل . لکن هذه القاعدة لیست مطّردة فی جمیع الموارد ، فالماهیّات مثلاً بالنسبة إلی الوجود و العدم لا هی مطلقة ، و لا هی مشروطة ، بل الماهیّة بالنسبة إلی الوجود مهملة .

و علی الجملة ، فإن الجاعل للملازمة یعتبر تلک الملازمة - الثابتة بین اللوازم و ملزوماتها - بین اللّفظ و المعنی ، و هذا الشیء المعتبر تارة یکون معلوماً و اخری مجهولاً .

فما ذکره فی المحاضرات غیر وارد علی المحقق العراقی ، عند شیخنا الاستاذ ، و کذا عند سیدنا الاستاذ ، لکنْ ببیان آخر ، فراجع ( المنتقی ) .

و أورد شیخنا دام بقاه فی الدورة السابقة - التی حضرناها بأنّ عملیّة الوضع من الامور المألوفة عند کلّ فردٍ ، فإن الشخص عند ما یضع اسماً علی ولده ، فإنّه لا یعتبر هذا الاسم ملازماً لذات الولد ، بل إنها - أی الملازمة - لا تخطر بباله أبداً ، غیر أن أثر هذه التسمیة هو تبادر المسمّی إلی ذهن السّامع عند سماع الاسم بعد العلم بالتّسمیة ، فتکون الملازمة حینئذٍ موجودة لکنها غیر مقصودة لا للواضع و لا لغیره .

ثم عدل عن هذا الإشکال فی الدورة المتأخّرة بعد التأمّل فی کلام المحقق العراقی فی ( المقالات ) تحت عنوان « إیقاظ فیه إرشاد » فذکر أنّه و إنْ تکرّرت کلمة « الملازمة » فی کلامه ، إلّا أنه قد أوضح تحت العنوان المزبور أنّ حقیقة الوضع : تعلّق الإرادة بنحو اختصاص ، و بهذا النحو من الاختصاص تتم مبرزیّة اللّفظ للمعنی و قالبیّته له ، فالمعتبر عنده هو هذه

ص:65

المبرزیّة لا الملازمة بین اللّفظ و المعنی . إذن : فالاعتبار متعلِّق بجعل اللّفظ مبرزاً للمعنی لا بالملازمة ، ثم قال : و القائل بالتعهّد إنْ کان مراده هذا فنعم الوفاق (1) .

لکنّه أورد علیه فی کلتا الدورتین فی قوله بأنّ هذا الاختصاص بعد تحقّقه بالاعتبار یصبح مستغنیاً عن الاعتبار و تکون له واقعیّة و خارجیّة . بعدم معقولیّة حصول الخارجیّة للشیء المعتبر بعد اعتباره ، بحیث لا یزول بزوال الاعتبار أو باعتبار العدم ، لأنّه یعنی الانقلاب ، و هو محال .

أقول :

و قد دافع السید الاستاذ فی ( المنتقی ) (2) عن نظریّة المحقق العراقی ، فی قبال ما جاء فی ( المحاضرات ) ، و قد اشتمل کلامه علی الالتزام بالأمرین ، أعنی :

أوّلاً : إن المجعول فی نظر المحقق العراقی هو « الملازمة » .

و ثانیاً : إن ما یتعلق به الاعتبار یتحقق له واقع و یتقرّر له ثبوت واقعی کسائر الامور الواقعیّة .

و قال فی آخر کلامه : إن هذه الدعوی لا محذور فیها ثبوتاً و لا إثباتاً .

أقول :

لکنّی أجد اضطراباً فی کلامه فیما یرتبط بالأمر الثانی - و لا بدّ و أنه من المقرر رحمه اللّٰه - و ذلک لأنّه فی أوّل البحث یقول ما لفظه : « إن الإنصاف یقضی بأن نظر المحقق العراقی یمکن أن یکون إلی جهةٍ اخری ، و هی أن

ص:66


1- (1)) مقالات الاصول 47/1 .
2- (2)) منتقی الاصول 47/1 .

الوضع أمر اعتباری إلّا أنّه یختلف عن الامور الاعتباریة الاخری بأنّ ما تعلّق به الاعتبار یتحقق له واقع و یتقرّر له ثبوت واقعی ، کسائر الامور الواقعیّة ، فهو یختلف عن الامور الواقعیّة ، من جهة أنه عبارة عن جعل العلقة و اعتبارها ، و یختلف عن الامور الاعتباریة ، بأن ما یتعلّق به الاعتبار لا ینحصر وجوده بعالم الاعتبار ، بل یثبت له واقع فی الخارج .

و یقول فی أثناء البحث ما نصّه : « فالمدعی : إن الجاعل اعتبر مفهوم الملازمة و العلقة بین اللّفظ و المعنی ، و قد نشأ من اعتبار هذه الملازمة ملازمة حقیقیة واقعیة بین طبیعی اللّفظ و طبیعی المعنی ، بلحاظ أن ذلک الاعتبار أوجب عدم انفکاک العلم بالمعنی و تصوّره عن العلم باللّفظ و تصوره ، و تلازم الانتقال إلی المعنی مع الانتقال إلی اللّفظ ، و هذا یعنی حدوث ملازمة واقعیة بین اللّفظ و المعنی ... » .

فکم فرق بین العبارتین ؟

إنه علی الأولی یتوجّه إشکال شیخنا الاستاذ ، أمّا علی الثانیة فلا ، بل یکون الوضع حاله حال التبادر ، کما تقدّم فی کلام شیخنا .

و یبقی الإشکال علی المحقق العراقی و السید الاستاذ فی تعلّق الجعل بالملازمة ، بل إنّ هذا الإشکال یقوی بناءً علی العبارة الثانیة من أن تلک العلقة الواقعیّة تنشأ من العلقة الاعتباریة ، لوضوح أنّها حینئذٍ غیر مقصودة للواضع ، و لا مستندة إلیه ، فکیف تکون الملازمة من فعله ؟

المحقق الفشارکی و جماعة

قال المحقق الحائری فی ( درر الاصول ) :

« الذی یمکن تعقّله : أنْ یلتزم الواضع أنه متی أراد معنیً و تعقّله و أراد

ص:67

إفهام الغیر ، تکلَّم بلفظ کذا ، فإذا التفت المخاطب بهذا الالتزام ینتقل إلی ذلک المعنی عند استماع ذلک اللّفظ منه ، فالعلاقة بین اللّفظ و المعنی تکون نتیجة لذلک الالتزام ، و لیکن منک علی ذکر ...

الدالّ علی التعهّد تارةً یکون تصریح الواضع ، و اخری : کثرة الاستعمال ، و لا مشاحة فی تسمیة الأول وضعاً تعیینیّاً و الثانی تعینیّاً » (1) .

و قد استدلّ لهذا القول - الذی اختاره جمع من المحققین ، کالنهاوندی و الخوئی - بوجوه هی :

أوّلاً : مساعدة الوجدان .

و ثانیاً : إن الوضع مساوق للجعل لغةً ، و من هذا الباب وضع القانون مثلاً .

و ثالثاً : إن الغرض من الوضع هو قصد التفهیم ، و هو - أی هذا القصد - من اللّوازم الذاتیّة للالتزام ، و هذا الارتباط بین الغرض و عمل الإنسان - أعنی قصده - یوجب القول بکون الوضع عبارة عن الالتزام .

هذا ، و لا یخفی أنّ الوضع بناءً علی هذا أمر تکوینی ، لأنّ الالتزام من أفعال النفس و له واقعیّة ، فلیس الوضع من الامور الاعتباریة .

و أیضاً : فإنّ هذا المبنی إنما یتمشّی علی القول بأنّ کلّ مستعملٍ واضع ، لأنّ المستعمل کلّما قصد تفهیم معنیً أبرزه باللّفظ الموضوع له ، فلا محالة لا یتعلّق الالتزام من الإنسان إلّا بما یکون تحت اختیاره ، و یستحیل تعلّق الالتزام بفعل الغیر ، بأنْ یلتزم الواضع مثلاً أنَّ کلّ من أراد الجسم البارد السیّال فهو یبرز قصده و مراده بلفظ الماء .

ص:68


1- (1)) درر الاصول 35/1 ط جامعة المدرّسین .

و أیضاً : مما ذکره فی کیفیّة تقسیم الوضع إلی التعیینی و التعیّنی یظهر أنّ کلّ من لم یکن تعهّده مسبوقاً بالغیر فهو الواضع الأوّل للّفظ ، و هذا لا ینفی أن یکون المستعملون کلّهم واضعین کما ذکرنا من قبل .

هذا هو المهمّ من الکلام فی أدلّة هذا القول و مزایاه .

ثم إنّه قد أورد علی هذا المبنی بأن الالتزام باستعمال اللّفظ عند إرادة تفهیم المعنی فرعٌ للعلم بالوضع ، فلا بدَّ أولاً من العلم بالوضع ثم الالتزام بالاستعمال کذلک ، فإنْ کان الوضع هو الالتزام نفسه لزم الدور ، لأن الالتزام موقوف علی العلم بالوضع ، و هو موقوف علی الالتزام .

و قد أوضح شیخنا دام ظلّه الجواب عن هذا الایراد بأنّ الالتزام تارةً کلّی و اخری شخصی ، و الوضع من قبیل الأول ، بمعنی أنّ الواضع یلتزم التزاماً کلیّاً بأنّه متی أراد المعنی الکذائی استعمل اللّفظ الکذائی ، و للشخص فی نفس الوقت التزام شخصی أیضاً ، لکونه أحد المستعملین ، و الذی یتوقف علی العلم بالوضع هو الالتزام الشخصی دون الکلّی .

نقد نظریة التعهّد

هذا ، و قد ردّ شیخنا الاستاذ فی کلتا الدورتین ، و کذا سیّدنا الاستاذ فی ( المنتقی ) - بعد أنْ کان یوافق علیه من قبل - علی مبنی الالتزام و التعهّد ، و أبطلاه بالتفصیل .

أمّا شیخنا فقد ناقش فی الأدلّة واحداً واحداً :

فأجاب عن الدلیل الأول - و هو مساعدة الوجدان - بأنّ المستعمل للّفظ فی معناه له علم بالوضع ، و له إرادة للمعنی ، و له قصد لتفهیم المخاطب بمراده ، فهذه الامور موجودة عند کلّ مستعمل ، و منها التزامه باستعمال اللّفظ

ص:69

الخاص عند إرادة معناه الخاص ، و لکن ما الدلیل علی أن الوضع هو نفس هذا الالتزام و لیس شیئاً آخر غیره ؟

إنه بعد أن سمّی ولده بالحسن مثلاً ، یلتزم باستعمال هذا الاسم متی أراد ولده ، و لکن هل هذا الالتزام هو الوضع أو أنه شیء آخر و الالتزام المزبور من مقارناته ؟

و أجاب عن الدلیل الثانی - و هو کون الوضع فی اللّغة : الجعل - بأن الضابط فی کون لفظ بمعنی لفظ صحّة استعمال أحدهما فی مکان الآخر ، فلنلاحظ هل یمکن استبدال کلمة « الوضع » بکلمة « الجعل » فی موارد استعمالها ، کما فی قوله تعالی : «فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّی وَضَعْتُهَا أُنثَی وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ » (1)و نحو ذلک ؟ هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن « الوضع » یقابله « الرفع » و هما ضدّان ، و « الجعل » یقابله « التقریر » و هما نقیضان ... و هذا برهان آخر علی اختلاف المعنی .

و من هنا یظهر أن کلّ مورد جاز فیه استبدال أحدهما بالآخر فهو بالعنایة ، ...

و مما یشهد بالمغایرة بحث العلماء فی حدیث الرفع بأن الرفع یقابل الوضع ، فلِمَ استعمل الرفع و ارید به عدم الجعل ؟

و أجاب عن الدلیل الثالث بما حاصله : قبول وجود الالتزام ، و التسلیم بتحقق العلقة بین اللّفظ و المعنی ، و لکنْ لا دلیل علی أنّ المحصّل لتلک العلقة الوضعیة هو الالتزام بالخصوص لا شیء آخر .

و من هنا ذکر فی ( المحاضرات ) فی أدلّة هذا القول : بطلان الأقوال

ص:70


1- (1)) سورة آل عمران : 36 .

الاخری ، و من الواضح أنّ هذا غیر تام ، لوجود غیر تلک الأقوال فی المسألة .

و أمّا السید الاستاذ (1) فقد قال : إنّ المراد من التعهّد یتصوّر بأنحاء ، فذکر ثلاثة أنحاء و أبطلها ، النحو الأول : أن یراد به التعهّد و البناء علی ذکر اللّفظ بمجرّد تصوّر المعنی و الانتقال إلیه ، فمتعلَّق التعهّد هو ذکر اللّفظ .

و النحو الثانی : أن یراد به التعهّد و البناء علی ذکر اللّفظ عند إرادة تفهیم المعنی . و النحو الثالث : أن یراد به التعهد و البناء علی تفهیم المعنی باللّفظ عند إرادة تفهیمه ، فیکون متعلَّق التعهّد هو نفس التفهیم لا ذکر اللّفظ .

أقول : و الثالث هو ظاهر عبارة ( الدرر ) المتقدّمة ، و عبارة ( المحاضرات ) الذی قال : بأنّه التعهّد بإبراز المعنی باللّفظ عند إرادة تفهیمه .

فأشکل علیه :

أوّلاً : بأنّه یستلزم اللغویّة ، لأنّ المفروض أنْ لا مفهم للمعنی إلّا اللّفظ الخاص ، فالتفهیم به حاصل قهراً ، سواء کان هناک تعهّد أو لم یکن .

و ثانیاً : بأنّه یستلزم الدور ، لأن التعهّد یتوقف علی کون متعلَّقه - و هو التفهیم - مقدوراً ، و القدرة علی تفهیم المعنی بهذا اللّفظ إنما تحصل بالتعهّد - بناءً علی هذا القول - فالقدرة المذکورة متوقّفة علی التعهّد ، و التعهّد متوقّف علی القدرة .

أقول :

أمّا إشکال اللغویة ، فالظّاهر عدم لغویّة التعهّد ، فصحیحٌ أنْ المفهم للمعنی هو اللّفظ الخاص لا لفظ آخر ، لکنّ متعلّق التعهّد هو إبراز هذا اللّفظ الخاص متی ارید تفهیم معناه .

ص:71


1- (1)) منتقی الاصول 61/1 .

و أمّا إشکال الدور ، فقد ذکر شیخنا جوابه بتعدّد متعلّق التعهّد و البناء ، فأحدهما : البناء الکلّی ، و هو التعهّد بنحو القضیة الحقیقیّة بأنه کلّما أراد تفهیم المعنی و قصد ذلک أظهر قصد التفهیم باللّفظ الخاص الموضوع لذاک المعنی ، و بهذا البناء یصیر اللّفظ مقدمةً لإبراز قصد تفهیم المعنی ، ثم إنه فی الاستعمالات الخاصّة یکون ذلک اللّفظ الذی کان مقدمةً بسبب التعهّد الکلّی متعلَّقاً للإرادة المقدمیّة و التوصلیّة ، و بهذا البیان یندفع إشکال الدور ، فکلّ واضع لا بدّ و أنْ یکون عنده إرادة و تعهّد کلّی ، و ذلک البناء الکلّی یستتبع البناءات و الإرادات الجزئیّة ، إذ له عند کلّ استعمال إرادة جزئیّة .

لکنّه دام بقاه أورد علیه بالنقض : بأنّ الأطفال و المجانین و حتی بعض الحیوانات لهم وضعٌ أیضاً ، و لا تتمشّی من هؤلاء الإرادة و التعهّد الکلّی .

و أورد علیه أیضاً : بأنّ کون کلّ مستعمل واضعاً - کما صرّح به فی ( المحاضرات ) - خلاف العرف و اللّغة ، و ما ذکره من أنّ عنوان « الواضع » ینصرف عن سائر المستعملین إلی المستعمل الأوّل لکونه السّابق ، یخالف مبناه فی الانصراف ، فإنّه لا یری - فی جمیع بحوثه فی الفقه و الاصول - للانصراف منشأً إلّا التشکیک فی الصّدق ، فلا تکون الأسبقیّة منشأً له .

هذا ، و فی ( المحاضرات ) فی نهایة المطلب :

إن مذهبنا هذا ینحلّ إلی نقطتین ، النقطة الاُولی : إن کلّ متکلّم واضع حقیقة ، و تلک نتیجة ضروریّة لمسلکنا بأن حقیقة الوضع : التعهّد و الالتزام النفسانی . النقطة الثانیة : إنّ العلقة الوضعیّة مختصة بصورةٍ خاصّة ، و هی ما إذا قصد المتکلّم تفهیم المعنی باللّفظ ، و هی أیضاً نتیجة حتمیة للقول بالتعهد ، بل و فی الحقیقة هذه هی النقطة الرئیسیة لمسلکنا هذا ، فإنّ علیها یترتب نتائج ستأتی فیما بعد .

ص:72

قال : و أما ما ربما یتوهّم هنا من أن العلقة الوضعیّة لو لم تکن بین الألفاظ و المعانی علی وجه الاطلاق ، فلا یتبادر شیء من المعانی منها إذا صدرت عن شخصٍ بلا قصد التفهیم ، أو عن شخص بلا شعور و اختیار ، مع أنّه لا شبهة فی تبادر المعنی منها .

فأجاب : بأن هذا التبادر غیر مستند إلی العلقة الوضعیة ، بل إنما هو من جهة الانس الحاصل بینهما بکثرة الاستعمال أو بغیرها (1) .

أقول :

أمّا النقطة الاولی ، فقد عرفت ما فیها من کلام شیخنا .

و أمّا النقطة الثانیة ، فیظهر ما فیها من کلامه أیضاً ، مضافاً إلی أنّ دعوی کون الانتقال من اللّفظ إلی معناه عند سماعه - حتی من الأطفال و المجانین الذین لا یقصدون التفهیم - إنما هو علی أثر الأُنس الحاصل بین اللّفظ و المعنی بکثرة الاستعمال أو غیرها أوّل الکلام .

و تلخّص :

أنه لا دلیل علیٰ هذا القول ، بل الدلیل علی خلافه .

الفلاسفة

و هو مبنی : الوجود التنزیلی ، أی : اعتبار اللّفظ وجوداً للمعنی .

و حاصله : إن للشیء أربعة أنحاء من الوجود ، اثنان منها تکوینیّان ، و هما الوجود الخارجی و الوجود الذهنی ، و اثنان اعتباریّان ، و هما الوجود الکتبی و الوجود اللّفظی .

فحقیقة الوضع عبارة عن اعتبار اللّفظ وجوداً للمعنی ، فإنّه و إنْ کان

ص:73


1- (1)) محاضرات فی علم الاصول 51/1 .

وجود اللّفظ من مقولة الکیف المسموع ، و وجود المعنی وجوداً جوهریّاً ، لکنّ اعتبارهما واحداً ممکن ، لکون الاعتبار و التنزیل خفیف المئونة .

و قد أورد علی هذا القول : بأنّ التنزیل لا بدّ و أنْ یکون لأجل أثرٍ یترتب علیه ، ففی مثل « الطواف بالبیت صلاة » حیث ینزّل الطواف بمنزلة الصلاة ، یوجد الأثر ، و هو اشتراط الطهارة فی الطواف کما هی شرط فی الصلاة ، أمّا فی الوضع فلا یمکن دعوی التنزیل بلحاظ الأثر ، فأثر « النار » الخارجیّة هو « الإحراق » فإذا نزّلنا « ن ا ر » بمنزلتها لم یترتب الأثر المذکور علی اللّفظ .

فأجاب عنه شیخنا دام ظلّه : بأنّ القوم یرون « الوجود » مظهراً ل « الماهیّة » فإذا اعتبر اللّفظ مثل « الشمس » وجوداً للمعنی ، حصلت للفظ تلک المظهریّة ، فکما کان وجودها الخارجی مظهراً لماهیّتها ، کذلک یکون لفظ الشمس ... و هذا الأثر کاف لصحّة التنزیل و الاعتبار .

و الإشکال الوارد عند شیخنا - تبعاً ( للمحاضرات ) - هو أن التنزیل و الاعتبار أمر عقلی دقیق ، لا یتأتّی من کلّ أحدٍ ، مع أن الوضع یتحقّق حتی من الأطفال .

المحقق الأصفهانی

و یقول المحقق الأصفهانی : إن حقیقة الوضع هو الوضع الاعتباری لا غیر ... و توضیح ذلک :

إن العلقة الوضعیة بین اللّفظ و المعنی لیست من الامور الواقعیة التی یوجد بإزائها شیء فی الخارج کالجواهر و الأعراض ، و لا من الامور الواقعیّة التی لیس بإزائها فی الخارج شیء ، کالامور الانتزاعیة - کالفوقیة ، فإنّها لیست فی الخارج ، و إنما منشأ الانتزاع موجود و هو السقف - و الدلیل علی مغایرة

ص:74

العلقة الوضعیة للامور الواقعیة بقسمیها هو أن تلک الامور لا تختلف باختلاف الأنظار بخلاف العلقة الوضعیّة ، و أیضاً : فإنّ لوجود أو عدم تلک الامور أثراً ، فوجود السواد علی الجدار و عدم وجوده ذو أثر ، کما أنّ السقف مثلاً إذا عدمت فوقیّته و سلبت عنه صار تحتاً ، بخلاف العلقة الوضعیّة ، فإنّ وجودها و عدم وجودها بالنسبة إلی طرفیها سواء .

و علی الجملة ، فإن العلقة الوضعیّة لیست من الامور الواقعیّة ، بل هی من الامور الاعتباریّة .

ثم إن المحقق الأصفهانی یستعین علی مدّعاه بمطلبین :

الأوّل : إن سنخ دلالة اللّفظ علی المعنی سنخ دلالة الأعلام و العلائم الموضوعة علی الطرق لتحدید المسافات ، فکما توضع العلامة علی رأس الفرسخ للدّلالة علی ذلک ، کذلک وضع اللّفظ علی المعنی ، فهو للدلالة علیه .

و الثانی : إنّه کما أنّ الکلمة المستعملة لذلک العمل التکوینی هو « الوضع » کذلک هذه الکلمة هی التی تستعمل للدّلالة علی هذا العمل الاعتباری ، فیقال : هذا اللّفظ « موضوع » للمعنی الکذائی ، و الذی جعله دالّاً علیه یسمی ب « الواضع » .

فظهر :

1 - إن العلقة الوضعیّة أمر اعتباری .

2 - إن هذا الأمر الاعتباری من سنخ وضع الدلالات و العلائم و الأعلام ، فکما أنّ هناک وضعاً لکنه تکوینی ، فهنا أیضاً وضع لکنه اعتباری .

فحقیقة الوضع : جعل اللّفظ و نصبه و وضعه علی المعنی فی عالم الاعتبار .

ص:75

مختار شیخنا الاستاذ

و ذهب شیخنا دام بقاه فی الدورتین إلی أن حقیقة الوضع هی العَلامیَّة و الدلیلیّة .

قال : بأن الإنسان فی بادئ الأمر کان یبرز مقاصد النفسانیة و أغراضه القلبیة و الباطنیة بواسطة الإشارة ، و حتی الآن أیضاً قد یلتجئ إلی ذلک إذا لم یتمکن من التلفّظ ، فکانت الإشارة هی الوسیلة و السبب و العلامة لتفهیم مقاصده ، فلما وجد اللّفظ ، کان دوره نفس دور الإشارة ، و قام مقامها فی الوسیلیّة ، فکان اللّفظ هو العلامة و الوسیلة لإفادة المعنی المتعلق به الغرض ، فکان وضع لفظ علی معنیً علامةً له و وسیلةً لإفهامه ، و کان اسماً لذلک المعنی یُطلق عند إرادته ، و العلامیة و الدلیلیّة و التسمیة - ما شئت فعبّر - عنوان عام یشمل الوضع للاسم و للفعل و للحرف .

هذا وجداناً .

و یدلّ علیه من الکتاب ، قوله تعالی : «لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِیّاً » (1)أی :

لم یکن فی الوجود قبل « یحیی » أحد یُعرف بهذا الاسم . و کذا قوله تعالی :

« هُوَ سَمَّاکُمُ الْمُسْلِمینَ » (2)أی : هو الذی وضع علیکم هذا الاسم ، هذه العلامة.

و من الأخبار ، ما رواه الشیخ الصدوق بسند معتبرٍ فی ( العیون ) و (التوحید) و ( معانی الأخبار ) عن ابن فضّال عن الرضا علیه السلام عن بسم اللّٰه . قال : معنی قول القائل بسم اللّٰه ، أی اسمّی نفسی بسمةٍ من سمات اللّٰه عز و جلّ و هی العبادة ، فقلت : و ما السمة ؟ قال : العلامة (3) .

ص:76


1- (1)) سورة مریم : 7 .
2- (2)) سورة الحج : 78 .
3- (3)) معانی الأخبار : 3 ط مکتبة الصدوق .

إن العلامة علی قسمین ، تارة : هی ذاتیة مثل «وَبِالنَّجْمِ هُمْ یَهْتَدُونَ » (1)و اخری : هی جعلیة مثل الصّبح الصّادق حیث جعل علامة شرعیّةً للصّلاة .

فواقع التسمیة - و هو الذی یسأل عنه ابن فضّال ، لا مفهوم التسمیة - هو العلامة .

و من کلمات اللغویین ، ما جاء فی ( القاموس ) و ( لسان العرب ) من أنّ الألفاظ علامة للمعانی و الاسم علامة للمسمّی .

و من هنا ، فقد قُسمت الدلالة إلی العقلیّة و الطبعیّة و اللفظیّة ، فکما أن « ا ح ا ح» علامة - بالطبع - علی وجع الصدر ، کذلک لفظ « الحسن » علامة - بالوضع علی المسمّی بهذا الاسم .

فحقیقة الوضع : جعل العلامة و الاسم التسمیة و العَلامیّة ...

و الفرق بین هذا المبنی و مبنی المحقق العراقی قابلیّة مختارنا للتقسیم إلی التّعیینی و التعیّنی ، و أن الجعل بناءً علیه أمر اعتباری و لیس من سنخ الجعل التکوینی ، و إنما هو امتداد للإشارة کما ذکرنا .

ص:77


1- (1)) سورة النحل : 16 .

ص:78

أقسام الوضع: و المعنی الحرفی

اشارة

ص:79

ص:80

قُسّم الوضع من حیث اللّفظ إلی : الوضع الشخصی و الوضع النوعی .

و قُسّم من حیث المعنی إلی : الوضع العام و الموضوع له العام ، و الوضع الخاص و الموضوع له الخاص ، و الوضع العام و الموضوع له الخاص .

ثم وقع الکلام فی المعنی الحرفی .

و الأصل فی التّقسیم المذکور هو : إن الوضع یتعلّق باللّفظ و المعنی ، و هو - علی جمیع الآراء فی حقیقته - عمل اختیاری ، و کلّ عمل اختیاری فإنّه یتصوَّر هو إنْ کان وحده ، و هو و أطرافه إن کان ذا أطراف .

و اللّفظ عند ما یتصوَّر ، فتارةً : یکون موضوعاً للمعنی بمادّته و هیئته ، و أخری : یکون موضوعاً له بمادّته دون هیئته ، و ثالثةً : یکون موضوعاً له بهیئته دون مادّته .

فالأول : کزید و غیره من الأعلام الشخصیّة ، و کأسماءِ الأجناس .

و الثانی : کالضربْ مثلاً ، الدالّ علی الحدث المعلوم ، فإنّه موضوع لذاک المعنی بمادّته فقط .

و الثالث : کالضارب مثلاً ، فإنّ مادّته لا تدلّ علی معناه الموضوع له ، و إلّا لزم دلالة مثل یضرب علیه أیضاً .

هذا ، و قال المحقّقون بأنّ وضع الألفاظ فی أسماء الأجناس ، و فی

ص:81

الأعلام ، و کذا فی الموادّ شخصیٌّ ، أمّا فی الهیئات - کهیئة فاعل مثلاً - فهو نوعی ، فإنّ هذه الهیئة موضوعة لکلّ من قام به الفعل و صدر عنه .

فوقع الإشکال فی المواد ، و أنّه کیف یکون الوضع فیها شخصیّاً ؟ لأنّه إنْ کانت المادّة موضوعة لکلّ من یقوم المعنی به فیکون الوضع شخصیّاً ، لزم أنْ یکون الوضع فی الهیئات - کضارب و مضروب مثلاً - کذلک ، لأنها موضوعة لذلک أیضاً ، مع أنْ الوضع فیها نوعی لا شخصی .

توضیحه : إنهم قالوا فی المادّة بأنّ وضعها شخصی ، یعنی : کما أن لفظ « زید » موضوع لهذه الذات ، کذلک المادة ، کمادّة الضرب و نحوها . و لیس المراد من الشخص هنا هو الفرد ، بل المراد نفس المادة و لو بطبیعتها ، فی ضمن أیّ هیئَةٍ کانت ، فهذه الخصوصیّة أینما وجدت فهی موضوعة لهذا الحدث . و قالوا فی الهیئات مثل هیئة الفاعل و المفعول و غیرهما بأن الوضع نوعی ، و المراد من ذلک أنّ الواضع عند ما یجد هیئة « ضارب » مندکّة فی مادة « الضرب » فمن هذه الهیئة المندکّة فی المادّة ینتقل إلی عنوانٍ انتزاعی یکون هو الموضوع من قبل الواضع عند لحاظ الهیئات ، فهو یلحظ هیئة ضارب فینتقل إلی عنوانٍ کلّی هو : کلّ ما کان علی زنة الفاعل فهو موضوع لهذه النسبة ، و یلحظ هیئة المفعول فینتقل إلی عنوانٍ انتزاعی کلّی هو : کلّ ما کان علی زنة المفعول فهو موضوع لهذه النسبة .

فالملحوظ فی وضع المادّة هو المادة « ض ، ر ، ب » علی الترتیب بین هذه الحروف ، یلحظها و یضعها للحدث الخاص ، الذی هو المعنی لها فی اللّغة ، فیکون حال الوضع فیها حال الوضع فی مثل زید . أمّا فی وضع الهیئات فالملحوظ الموضوع له هو العنوان الانتزاعی الجامع : « کلّ ما کان علی زنة

ص:82

فاعل » أو « علی زنة مفعول » و هکذا .

فالإشکال هو : لما ذا یمکن لحاظ المادّة بنفسها و وضع اللّفظ للحدث الخاص ، و لا یمکن لحاظ الهیئة بنفسها ، و ما هو الفارق بینهما ؟

جواب المحقق الأصفهانی

و الوجه الذی ذکره المحقق الأصفهانی رحمه اللّٰه - و هو خیر ما قیل فی المقام لبیان الفرق هو : إن الامور الواقعیّة منها الجوهر و منها العرض ، و الجوهر غیر محتاج فی وجوده إلی العرض و إنْ کان غیر منفک عنه ، إذ لا وجود للجسم فی العالم بلا شکل ، بخلاف العرض فإنّه فی وجوده محتاج إلی الجوهر ، فبین الوجودین تلازم ، لکن الجوهر فی حدّ ذاته لا یحتاج إلی العرض بخلافه فإنه محتاج إلی الجوهر .

و کذلک المعانی .. فقسم منها غیر محتاجٍ فی ذاته إلی الغیر ، کالمعانی الاسمیّة ، و قسم منها محتاج إلی الغیر فی حدّ ذاته ، و هو المعنی الحرفی .

إذا اتضح هذا ، فإنّ الهیئة مثل ضارب محتاجة إلی المادّة و هو الضرب ، کما أنَّ معناها - و هو النسبة الصدوریة - محتاج إلیها کذلک ، فضاربٌ هیئة مندکّة هی و معناها فی المادة و هی الضرب ، و لأجل هذا الاندکاک و الفناء الذاتی لا یکون للهیئة قابلیة اللّحاظ الاستقلالی ، فلا محیص فی ناحیة لفظها أنْ یکون الملحوظ و المتصوَّر عنوان « کلّ ما کان علی هیئة فاعل » أو « علی هیئة مفعول » و هکذا .

و علی الجملة ، فإنّ المادّة غیر مندکّة فی الهیئة ، لذا کانت قابلة للّحاظ ، لذا کان الوضع شخصیّاً ، و أمّا الهیئة فإنها مندکّة فی المادّة ، فهی غیر قابلة للّحاظ ، لذا یکون الوضع نوعیّاً .

ص:83

مناقشة الاستاذ

هذا غایة ما أمکن ذکره فی بیان الفرق بین المواد و الهیئات ، من حیث قابلیّة المواد للوضع الشخصی دون الهیئات .

و قد أورد علیه شیخنا فی کلتا الدورتین بما حاصله : أنّ الهیئة إن کانت قابلة للّحاظ کانت قابلةً للوضع الشخصی و إلّا فلا ... ثم أکّد علی قابلیّتها لذلک بأنّ حقیقة الهیئة هو الشکل ، فکما أنّ هیئة الدار مثلاً شکل طارئ علی المواد الإنشائیّة و البنائیة ، کذلک هیئة ضارب و مضروب مثلاً شکل طارئ علی « ض ر ب » و إذا تحقّق کونها شکلاً ، فالشکل من الأعراض ، و الأعراض إنما تحتاج إلی المادة فی وجوداتها ، أمّا فی اللّحاظ و التصوّر فلا .

ثم أوضح دام ظلّه ذلک : بأن ملاک القابلیّة للّحاظ الاستقلالی و عدمها هو الصلاحیّة للوقوع طرفاً للنّسبة ، فما لا یصلح لأن یقع طرفاً للنسبة لا یصلح لأن یلحظ باللّحاظ الاستقلالی - کما هو الحال فی واقع الرَّبط ، فلا یقع طرفاً لها و لا یمکن لحاظه إلّا بطرفیه - و الهیئات صالحة لوقوعها طرفاً للنسبة ، لصحّة قولنا : « هیئة مقتول عارضة علی مادة القتل » و « هیئة ضارب عارضة علی مادة الضرب » و هکذا . و أیضاً ، فإنّا نلحظ هیئة فاعل مثلاً فی قبال سائر الهیئات و نقول : هذه غیر تلک ! و هذا هو ملاک شخصیّة الوضع ، و یؤیّد ذلک أیضاً قولهم : کلّما کان علی زنة فاعل ... و کلّ ما کان علی زنة مفعول ... فإنّه لا ریب فی لحاظهم المادّة ثم الحکم بأنها إن وجدت فی هیئة کذا دلَّت علی کذا ...

و تلخّص ، إمکان اللّحاظ الاستقلالی فی الهیئات ، و بهذا ظهر أن حکمها یختلف عن المعانی الحرفیّة .

ص:84

و إن کان الدلیل علی نوعیّة الوضع فی الهیئات : عدم انفکاکها عن المادّة - بخلاف المادّة فتنفکّ عن الهیئة ، فلذا کان الوضع فیها شخصیّاً - فقد ذکر شیخنا أنه لا حاجّة أشد من احتیاج الماهیّة إلی الوجود ، فتقوّمها به أشدّ بمراتب من تقوّم العرض بالجوهر ، لأنّ الماهیّة أینما وجدت لا یمکن ظهورها إلّا بالوجود ، و لذا قالوا : تخلیتها تحلیتها ، و مع ذلک کلّه ، فللعقل القدرة علی تجرید الماهیّة من الوجود ، و أن یحکم بأنّ الماهیة غیر الوجود ...

و تلخّص :

أن التفریق بین الهیئات و المواد غیر صحیح ، و أن حکمها واحد ، و الحقّ أن الوضع فی کلیهما شخصی .

و البحث فی أقسام الوضع فی جهات :

الجهة الاولی

أقسام الوضع بلحاظ المعنی الملحوظ حین وضع اللّفظ أربعة ، و الحصر عقلی ، إذ المعنی الملحوظ إمّا أنْ یکون عامّاً أو خاصّاً ، فإنْ کان عامّاً فإمّا یکون الموضوع له نفس ذلک العام أو جزئیّاته ، و إنْ کان خاصّاً فإمّا یکون الموضوع له نفس ذلک الخاص أو کلّی ذلک الخاص .

فالأقسام فی مقام الثبوت أربعة .

الجهة الثانیة

لا إشکال فی قسمین من الأقسام الأربعة ، و هما : الوضع الخاص و الموضوع له الخاص ، و هو وضع الأعلام الشخصیّة . و الوضع العام و الموضوع له العام ، و هو وضع أسماءِ الأجناس کالفرس و الأسد و غیرهما .

إلّا أن هناک بحثاً فی المراد من الوضع العام و الموضوع له العام ، فقد

ص:85

یلحظ المعنی القابل للوجود و العدم ، و الإطلاق و التقیید ، و یوضع اللّفظ لذاته المعرّاة عن کلّ ذلک ، و یعبَّر عن هذا بالماهیّة المهملة . و قد یلحظ المعنی مع تلک الخصوصیّات ، و یوضع للماهیّة اللّابشرط عنها ، و یعبَّر عن هذا بالماهیة المطلقة ، و یسمّی هذا العام بالعام الفعلی ، کما یسمّی ذاک بالعام الشأنی .

إنّ کلّاً من العامّین یقبَل الوضع و یمکن تحقّقه ، لکنّ مذهب المشهور هو العموم الفعلی ، و مذهب سلطان المحققین هو العموم الشأنی .

ثم إنه إن کان اللّفظ فی العام موضوعاً للماهیّة القابلة للصّدق علی کثیرین مع لحاظ اللّابشرطیة بالنسبة إلی الخصوصیّات ، دَخَلَ الإطلاق و اللّابشرط فی حیّز الموضوع له ، و حینئذٍ فلو ارید تقیید الماهیّة کالرقبة بالإیمان مثلاً ، لزم تجریدها عن خصوصیة اللّابشرطیّة ، فکان التقیید مجازاً .

أمّا بناءً علی الوضع للعموم الشأنی فلا تلزم هذه المجازیّة .

و أیضاً : إذا کانت اللّابشرطیّة داخلةً فی حیّز المعنی الموضوع له ، کانت الدّلالة علی الإطلاق و الشمول بالوضع ، بخلاف مبنی السّلطان ، فإنها ستکون بمقدّمات الحکمة .

قال الاستاذ

قد ذکرنا إمکان الوضع علی کلٍّ من النحوین ، إلّا أنّ الحق مع السّلطان فی أن الذی صدر من الواضع هو الوضع بنحو الماهیّة المهملة ، لأنّا نحمل علی تلک الماهیّة کلّاً من التقیید و الإطلاق ، و نقسّم الماهیّة إلی المهملة و المطلقة و المقیَّدة .

هذا ، و لا یخفی أنه إن کان الموضوع له هو الماهیّة المهملة - الماهیّة من حیث هی هی - فإنّها غیر قابلة للّحاظ ، و الإهمال فی الموضوع فی مرحلة

ص:86

الجعل غیر معقول عندهم ، فلا محیص عن القول بأنها تلحظ بواسطة الماهیّة اللّابشرط القسمی ، أمّا الماهیّة اللّابشرط فلا تحتاج فی لحاظها إلی واسطة ، و قد أشار المحقق العراقی إلی هذا الفرق .

الجهة الثّالثة

فی الوضع العام و الموضوع له الخاص ، بأنْ یکون المعنی الملحوظ عامّاً یقبل الصّدق علی کثیرین ، فیوضع اللّفظ بواسطته علی کلّ فردٍ فرد .

قالوا : بإمکانه ، لأن العام وجه للخاص ، و معرفة وجه الشیء معرفة الشیء بوجه ، إذْ لا یلزم فی الوضع معرفة المعنی بالکنه .

قال الاستاذ

فی هذا الاستدلال نقاط ، أمّا أنّ معرفة المعنی علی الإجمال تکفی لصحّة الوضع ، و لا یلزم المعرفة التفصیلیة و الوقوف علی کنه المعنی ، فهذا صحیح . و أمّا أنّ معرفة وجه الشیء معرفة للشیء بوجهٍ ، فهذا أیضاً صحیح .

إنما الکلام فی أنّ العام وجه للخاص ، و توضیح الإشکال هو :

إنّ للعام مفهوماً ، و للخاص مفهوم ، فمفهوم « الإنسان » غیر مفهوم « زید » ، و هذه المغایرة مغایرة تباین ، و إذا کانت المفاهیم متباینات ، استحال أنْ یکون بعضها حاکیاً عن الآخر ، و مع عدم الحکایة کیف تحصل المعرفة و لو بوجه ؟

و أیضاً ، فإنّ مفهوم العام هو الصّدق علی کثیرین ، و مفهوم الخاص هو الإباء عن الصّدق علی کثیرین ، فکیف یکون الصدق علی کثیرین حاکیاً عن الإباء عن الصدق ؟

فما ذکره صاحب ( الکفایة ) غیر وافٍ بحلّ المشکلة .

ص:87

فقال المحقق العراقی بأن المفاهیم العامة علی قسمین ، أحدهما :

المفاهیم العامّة التی لیس لها قابلیّة الحکایة عن المصادیق ، مثل « الإنسان » ، فإنه إنما یحکی عن ذات الإنسان و هو الحیوان الناطق ، و لا یحکی عن زید و عمرو ... و القسم الآخر : المفاهیم العامة المنتزعة من نفس الخصوصیّات ، فهذا القسم یکون وجهاً لها ، مثل : مفهوم مصداق الإنسان ، و فرد الإنسان ، و شخص الإنسان . فداعی هذا القسم من المفاهیم من حیث انتزاعه عن الفردیّة هو الحکایة عن الفرد ، و حینئذٍ أمکن الوضع العام و الموضوع له الخاص .

و أشکل علیه شیخنا بأن « مصداق الإنسان » إن کان عین مفهوم « زید » و « عمرو » و « بکر » فلا یصحّ صدقه علیه ، کما لا یصحّ صدق مفهوم « زید » علی « عمر » و إنْ کان غیره فکیف یحکی مفهوم عن مفهوم ؟ و مفهوم « مصداق الإنسان » إنما یحکی عن « زید » من حیث أنه مصداق الإنسان ، و لا یحکی عنه من حیث أنه زید ، و کلّ جامع فإنه یحکی عن الأفراد من حیث انطباقه علیها و لا یحکی عنها من جهة کونها أفراداً .

و ذکر المحقق الشیخ علی القوچانی ، و تبعه المحقق المشکینی فی ( حاشیة الکفایة ) ما حاصله :

إنه إنْ ارید وضع اللّفظ بواسطة العام علی الأفراد بما لها من الخصوصیات ، فهذا غیر ممکن ، لکون مفهوم العام مبایناً لمفهوم الخصوصیة ، و لا یکون المباین وجهاً لمباینه ، و لکن الموضوع له هو مفاهیم الجزئیات بلحاظ وجوداتها ، فالمفهوم الخاص هو الموضوع له بلحاظ وجوده لا بلحاظ مفهومه ، و حینئذٍ ، فلمّا کان الکلّی متّحداً وجوداً مع الفرد صار

ص:88

عنواناً له ، و کانت معرفة المعنون بالعنوان .

و أورد علیه شیخنا :

أوّلاً : بأن کون الموضوع له هو الوجودات لا المفاهیم ، غیر معقول ، إذ الموضوع له هو ما یکون قابلاً لأنْ تتعلّق به الإرادة الاستعمالیّة ، فالموضوع له لا بدّ و أنْ یکون قابلاً للتفهیم ، و الوجودات غیر قابلة لذلک ، بل القابل للتفهیم ما یقبل الدخول فی الذهن و هو المفهوم .

علی أنّ معانی الألفاظ قابلة للوجود و العدم ، فکیف تکون الألفاظ موضوعةً للوجودات الخاصّة ؟

و ثانیاً : إنّ المقصود أنْ نری الجزئیّات و الخصوصیّات بتوسط المعنی العام الکلّی الملحوظ لدی الوضع ، و الاتحاد فی الوجود لا یعقل أن یصیر منشأً للعنوانیّة ، بأنْ یکون أحد المتحدین مرآة لرؤیة الآخر و لحاظه ، و من هنا ، فإن الجنس و الفصل الموجودین بوجودٍ واحدٍ ، لا یکون الاتحاد الوجودی بینهما مصحّحاً لحکایة أحدهما عن الآخر ، و أوضح من ذلک مقولة الإضافة ، فإنها متّحدة مع المضاف فی الوجود ، مع أنه لا یعقل أن یحکی أحدهما عن الآخر ، فلا تعقل حکایة الفوقیة عن السقف و الابوّة عن الأب .

طریق آخر ذکره بعض الفلاسفة :

و لا یخفی أن مورد الکلام هو الوضع لخصوصیّات الماهیّة القابلة للصدق علی الکثیرین ، لا الخصوصیات مع أمارات التشخّص ، فالبحث هو أن یکون الإنسان مرآة ینظر به حصص الإنسان من زیدٍ و عمرو و بکر ، لا تلک الحصص مع مشخّصاتها و أعراضها ، بأنْ یحکی الإنسان عن زید مع ما له من الکم و الکیف ، فإنّه لیس للعام هذه الصلاحیّة أصلاً ... فنقول :

ص:89

إن المفاهیم علی أقسام :

فمنها : ما هو کلّی و هو مصداق لمفهوم الکلّی أیضاً ، مثل : « الإنسان » و سائر أسماء الأجناس ، فإنه مفهوم قابل للصّدق علی کثیرین ، و هو مصداق لمفهوم الکلّی أیضاً .

و منها : ما هو جزئی مفهوماً ، فلا یقبل الصّدق علی کثیرین ، و هو مصداق لمفهوم الجزئی أیضاً ، مثل الأعلام الشخصیّة .

و منها : ما هو جزئیٌ مفهوماً ، لکنه مصداق لمفهوم الکلّی ، مثل « الشخص » و « الفرد » فهذا السنخ من المفاهیم مفاهیم جزئیة و شخصیّة من حیث المفهومیّة ، و لکنها مصادیق لمفهوم الکلّی ، لذلک نقول : الجزئی جزئی مفهوماً و کلّی مصداقاً ، فهی جزئیّة بالحمل الأوّلی و کلیّة بالحمل الشائع .

فهذا القسم الثالث له صلاحیّة الحکایة و الکشف عن الحصص ، و ذلک لأنّ هذه المفاهیم و إنْ کانت کلیّةً من حیث الوجود ، إلّا أن الوضع إنما هو للمفاهیم لا للوجودات ، و حینئذٍ تری الاتحاد المفهومی بین مفهوم الفرد و واقع الفرد ، و بین مفهوم الشخص و واقع الشخص ، و لأجل هذا الاتحاد المفهومی تکون صالحةً للحکایة .

و هذا هو الأساس فی صحة الأحکام علی المفاهیم التی لها حکم بالحمل الأوّلی ، و لها حکم آخر بالحمل الشائع ، مثل قولنا : شریک الباری ممتنع ، فما لم یکن للموضوع وجود ذهنی لا یحمل علیه « ممتنع » فشریک الباری موجود بالحمل الشائع ، و الامتناع حکم واقع شریک الباری لا شریک الباری المتصوَّر ذهناً . و کذا مثل قولنا : اجتماع النقیضین محال ، المعدوم غیر موجود ، و هکذا . فکما أن مفهوم اجتماع النقیضین له الصلاحیّة لأنْ یحکی

ص:90

عن اجتماع النقیضین الذی هو موضوعٌ لقولنا « محالٌ » فکذا عنوان « مصداق الإنسان » و کذلک « الفرد » و « الشخص » ... فله الصلاحیّة لأنْ یحکی عن الحصّة الواقعیة للإنسان التی هی مصداق جزئی حقیقی .

و تلخّص : إمکان الوضع العام و الموضوع له الخاص ، عن طریق التفصیل المذکور بین المفاهیم العامّة ، و تحقّق الوحدة المفهومیّة فی قسمٍ منها ، فإنّه بالوحدة المفهومیة و بالحمل الأوّلی تصیر منشأً للحکایة عن الحصّة .

أقول :

هذا ما استقرّ علیه رأیه فی الدورة المتأخّرة .

إلّا أنه فی الدورة السابقة أشکل علی هذا الوجه بما حاصله : وجود الفرق بین مفاهیم « الفرد » و « الشخص » و « الجزئی » و مصادیقها ، لأن مفهوم الفرد مثلاً من حیث أنّه مفهوم الفرد یحکی عن جمیع الأفراد واحداً واحداً ، أما واقع الفرد و مصداقه فلا حکایة له عن هذا و ذاک من الأفراد ، و الذی نحن بصدده هو الوصول إلی الواقع عن طریق المفهوم ، فالإشکال یعود ، لأنّ حیثیّة الواقع حیثیة الإباء عن الصدق علی کثیرین ، و مفهوم الفرد حیثیّته القبول للصدق علی کثیرین ، فبینهما تناقض ، و النقیض لا یحکی عن نقیضه .

فإنْ قیل :

إنا إذا لم نتمکّن من لحاظ الجزئیات ، یلزم بطلان القضایا الحقیقیّة ، لأن الأفراد الحقیقیة غیر متناهیة ، و لو لا لحاظها بواسطة العام - و هو العنوان الکلّی المتناهی - لم یمکن الوضع لها ، فلا تتحقق القضیة الحقیقیة .

قلنا :

ص:91

لیس الحکم فی القضایا الحقیقیة بلحاظ الخصوصیات دائماً ، فلا یلزم فی مثل : « کلّ من کان مستطیعاً فیجب علیه الحج » لحاظ أفراد المستطیع ، بل الحکم یتوجّه إلی کلّ مستطیع من حیث أنه مستطیع ، لا من حیث أنه زید و عمرو و بکر ... و هذا القدر کاف فی صحّة القضیّة الحقیقیّة .

لکنّ الکلام فی المقام فی لحاظ الخصوصیّة - بما هی خصوصیّة - بواسطة العام ، فبین المقام و مسألة القضیة الحقیقیّة فرق ، و إنکار الوضع العام و الموضوع له الخاص لا یضرّ بتلک المسألة .

الجهة الرابعة

فی الوضع الخاص و الموضوع له العام ، بأنْ یکون المعنی الملحوظ حین الوضع خاصّاً ، فیوضع اللّفظ بواسطته علی العام القابل للصّدق علی کثیرین .

و قد أنکر الکلّ هذا القسم إلّا المیرزا الرشتی فی ( بدائع الاصول ) (1)و حاصل کلامه :

إنه کما أن الجزئی یری بواسطة الکلّی ، کذلک الکلّی یری بواسطة الجزئی ، فإنّ « الإنسان » یری مع « زید » غیر أنّه تارةً یوضع اللّفظ علیه من حیث أنه «زید» ، و اخری یوضع علیه اللّفظ من حیث أنه « إنسان » .

و قد أوضح ذلک بأن من یصنع معجوناً مرکّباً من أجزاء ، تارة یلحظ المعجون بلحاظ کونه معجوناً خاصّاً ، و اخری یلحظه بلحاظ الخاصیّة التی فیه ، فالوضع باللّحاظ الثانی خاص و الموضوع له عام ، فالفرق بین الوضع العام و الموضوع له العام ، و بین الوضع الخاص و الموضوع له العام ، هو الفرق

ص:92


1- (1)) بدائع الاصول : 39 .

بین قولنا : کلّ مسکر حرام ، و قولنا : الخمر حرام لإسکاره ، فوزان القضیّة الاولی وزان العام و الموضوع له العام ، لأنه یلحظ العام المسکر و یجعل الحرمة لهذا العام ، أما فی القضیّة الثانیة فالموضوع الملحوظ هو إسکار الخمر ، لکنْ لا یضع الحکم للإسکار المختص بالخمر ، بل إنّه یری بإسکار الخمر عموم الإسکار و یضع الحکم لهذا العام .

و أشکل علیه شیخنا الاستاذ :

بأن الخاص و العام متقابلان متعاندان ، و کاشفیّة المعاند و المباین لمباینه محال .

و أمّا ما ذکره من المثال ، فجوابه - کما ذکر صاحب ( الکفایة ) - أنه لو کان الملحوظ فی : « الخمر حرام لإسکاره » هو إسکار الخمر فقط ، فإن الحکم لن یتجاوز هذا الموضوع ، أی الخمر المسکر ، و إنْ ارید مِن « الخمر حرام لإسکاره » أن یکون إسکار الخمر وجهاً للإسکار ، فهذا غیر معقول ، لأن إسکار الخمر لا یصیر مرآة للإسکار ، کما أن إنسانیة زید لا تصیر مرآة للإنسان . و إنْ أرید أنّا نلحظ إسکار الخمر و من لحاظه ننتقل إلی طبیعة الإسکار و نجعل الحکم لهذه الطبیعة ، أو نضع اللّفظ للطبیعة التی انتقلنا إلیها بسبب هذه الخصوصیّة ، فهذا لیس من قبیل الوضع الخاص و الموضوع له العام ، بل هو من قبیل الوضع العام و الموضوع له العام .

إذن ، الخصُوصیّة - سواء فی الأحکام أو الأوضاع - لا تصیر مرآةً و حاکیةً عن العام .

غایة ما هناک : إن الخصوصیّة تصیر وسیلةً للانتقال ، و منشأ للّحاظ ، فیکون العموم فی الوضع و الموضوع له کلیهما ، بأن یُلحظ الفرد و تُلحظ بذلک

ص:93

الإنسانیّة الموجودة فیه ، و تصیر الإنسانیة الموجودة فی هذا الفرد منشأً للانتقال إلی مفهوم الإنسان ، مثاله : أنْ یلحظ الشخص الذی فی المسجد ، و ینتقل إلی « الشخص » و إلی « مَن فی المسجد » و یصیر « مَن فی المسجد » جامعاً انتزاعیّاً ، و هذا انتقال من الخصوصیّة إلی الجامع ، و هو أمر ، و الحکایة و المرآتیّة أمر آخر ، إلّا أنه قد وقع الخلط بین الأمرین فی کلام المحقّق المذکور .

ص:94

المعنی الحرفی

اشارة

ثم إنه قد وقع البحث بینهم فی وقوع الوضع العام و الموضوع له الخاص بناءً علی إمکانه ، فقال جماعة بأن وضع الحروف من هذا القبیل ، و قال المحقق صاحب ( الکفایة ) بأن الوضع فیها عام و الموضوع له فیها عام کذلک .

فالکلام فی جهتین ، إحداهما : حقیقة المعنی الحرفی ، و الاخری : وضع المعنی الحرفی .

الجهة الاولی

اشارة

قد ذکرت أقوال فی معنی الحروف :

فقیل : إنها لا معنی لها أصلاً .

و قال الأکثر : إنها ذات معان .

فقال صاحب ( الکفایة ) : إن معنی الحروف و معنی الاسم واحد ذاتاً .

و قال الآخرون : بالاختلاف الجوهری بین الاسم و الحرف .

ثم اختلفوا فی ذلک ، علی أقوال .

و إلیک التفصیل :

القول الأول :

أمّا القول الأول ، فهو مردود عند الکلّ ، إنه یجعل الحروف کعلامات الإعراب و حرکات الکلمات ، فلا تفید إلّا خصوصیات المعانی .

ص:95

فیرد علیه : بأن تلک الخصوصیة هی المعنی لا محالة .

القول الثانی :

و المهمّ نظریّة صاحب ( الکفایة ) ، و الکلام حولها یکون بذکر مقدمات ، ثم بیان المدّعی ، و الدّلیل ، ثم الإشکالات علی هذه النظریّة الوارد منها و غیر الوارد .

أمّا المقدمات فهی :

أوّلاً : إن المعانی علی قسمین ، فمنها ما لا یختلف باختلاف اللحاظ کمفهوم الانسان و الحجر ، و منها ما یقبل الاختلاف باختلاف اللحاظ ، مثل من و الابتداء ، فی و الظرفیة ... و هکذا . و مورد البحث هذا القسم .

و ثانیاً : إن ذات المعنی لا یختلف باختلاف اللحاظ ، فهو کالمرآة ، فإنها لا تختلف سواء لوحظت بما ینظر أو لوحظت بما به ینظر ، و المثال الدقیق هو الأعراض ، فالبیاض علی الجدار تارةً ینظر وصفاً للجدار ، و اخری ینظر إلیه فی مقابل الجدار ، و هو فی کلتا الحالتین هو البیاض ، و لا تختلف حقیقته .

و ثالثاً : إن کلّ ماهیّة ما لم توجد لم تتشخّص ، إذ الخصوصیّة مساوقة للوجود ، کما أنها ما لم تتشخّص لم توجد .

و رابعاً : إن عمل الواضع هو لحاظ المعنی و وضع اللّفظ علیه ، و عمل المستعمِل هو لحاظ المعنی و استعمال اللّفظ الموضوع له فیه ، فتکون مرحلة الاستعمال متأخرة عن مرحلة الوضع ، کما أنّ الوضع متأخّر رتبةً عن المعنی الموضوع له اللّفظ ، وعلیه ، فلا یمکن أن یتجاوز لحاظ المعنی فی مرحلة الاستعمال إلی مرحلة الوضع ، و یستحیل أن یصیر لحاظ المستعمِل عند الاستعمال جزءاً من المعنی الموضوع له اللّفظ .

ص:96

و خامساً : إن لحاظ المعنی فی مرحلة الاستعمال من المستعمل ، یعنی وجود المعنی فی ذهن المستعمل ، و هذا الوجود لا یمکن أن یرد علی المعنی الموجود ، بل یرد علی المعنی ، لأن الماهیّة الواحدة لا تقبل الوجود مرّتین ، و الموجود لا یقبل الوجود بموجودٍ آخر .

هذه هی المقدمات .

و المدّعی هو :

إن کلّ ما یأتی إلی الذهن من لفظ « من » هو الآتی إلیه من لفظ « الابتداء » و کذا « فی » و « الظرفیة » و « علی » و « الاستعلاء » و هکذا .

و توضیحه مع إقامة الدلیل علیه : إن الموضوع له إنما هو ذات المعنی ، و لیس اللّحاظ داخلاً فی حیّز المعنی ، فلا یمکن أن یکون اللّفظ موضوعاً للمعنی الملحوظ ، لأنه یستلزم أن یکون کلّ معنیً ملحوظاً عند الاستعمال ، و الحال أنّ الملحوظ لا یصح أن یلحظ مرةً اخری .

إن الواضع یضع لفظ « الابتداء » و لفظ « من » لذات المعنی ، غیر أن المستعمل تارةً ینظر إلی المعنی شأناً و صفةً لغیره فیستعمل « مِن » و اخری ینظر إلی المعنی بالنظر الاستقلالی فی مقابل المعانی الاخری فیستعمل « الابتداء » تماماً کما هو الحال فی المرآة و « البیاض » کما تقدم .

فکون المعنی معنیً اسمیاً أو حرفیّاً یرجع إلی مرحلة الاستعمال و کیفیّة لحاظ المستعمل فی ظرف الاستعمال ، أمّا فی مرحلة الوضع فلا اختلاف جوهری بینهما ، بل الموضوع له واحد و هو ذات المعنی .

فالآلیّة الموضوع لها الحرف ، التی تخصّص المعنی ، هذه الآلیّة إنما جاءت من ناحیة اللّحاظ ، و اللّفظ لیس موضوعاً لا للحصّة الخارجیّة و لا

ص:97

للحصّة الذهنیّة .

أمّا أنه غیر موضوع للحصّة الذهنیّة ، فلأن الدلالة علی هذه الحصّة إنما تکون نتیجة اللّحاظ باللّحاظ الآلی ، و اللّحاظ الآلی إنما یکون فی ظرف الاستعمال ، و هذا یستحیل أن یکون هو الموضوع له ، لکونه متأخّراً رتبةً کما تقدَّم ، فالحرف غیر موضوع للمعنی الخاص الملحوظ الآلی الذهنی .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إذا کان اللّحاظ الآلی جزءاً للمعنی الموضوع له ، فإنه یستلزم أن یکون اللّحاظ الاستقلالی فی وضع الأسماء أیضاً جزءاً للموضوع له ، و التالی باطل لعدم التزام أحدٍ به ، فالمقدّم مثله .

و ثالثاً : إذا کان اللّحاظ الآلی و الجزئیّة الذهنیّة داخلةً فی وضع الحرف ، لزم أنْ یکون جمیع استعمالاتنا مجازیّة ، و ذلک لأنا نجرّد المعانی لدی استعمالها عن تلک الجزئیّة ، فیکون استعمالاً فی غیر ما وضع له .

و أما أنه غیر موضوع للحصّة الخارجیّة ، فلأنّ کثیراً ما تستعمل الحروف فی المعنی الجزئی الحقیقی ، لا الخارجی . ففی قولنا مثلاً : سرت من البصرة إلی الکوفة ، لیس المستعمل فیه لفظة « من » النقطة الخارجیّة . و لذا جعله بعض الفحول - و هو المحقق صاحب ( الحاشیة ) علی المعالم - جزئیّاً إضافیّاً فقال صاحب الکفایة : « و هو کما تری » أی : لأن الجزئی الإضافی کلّی لا جزئی .

و تتلخّص نظریة صاحب ( الکفایة ) فی :

1 - الحروف لها معان .

2 - إنها متّفقة مع الأسماء المستعملة فی معانیها . خلافاً للمشهور .

ص:98

3 - إن الاختلاف إنما یأتی فی الاستعمال من جهة لحاظ المستعمِل فی ظرف الاستعمال ، و هذا لا یوجد اختلافاً جوهریّاً بین الاسم و الحرف .

4 - إنه لیس الموضوع له فی الحروف المعنی الجزئی و الخصوصیة ، لا ذهناً و لا خارجاً ، فالوضع فیها عام و الموضوع له عام .

هذا ، و الجدیر بالذکر : إن المحقّق الخراسانی یجعل الآلیّة و الاستقلالیّة عبارةً عن الآلیّة و الاستقلالیّة فی المفهومیّة ، یعنی : کما أنّ الجواهر مستقلّة فی الوجود خارجاً و لا تحتاج إلی شیء فی تحقّقها ، و أن الأعراض بخلافها ، کذلک الاسم و الحرف فی التعقّل ، فالاسم یتعقّل مستقلّاً ، أی : یأتی مفهوم « الابتداء » إلی الذهن غیر قائم بشیء ، بخلاف الحرف ، فإنّه لا یأتی إلی الذهن إلّا إذا کان معه « السیر » مثلاً .

هذا تمام الکلام فی بیان هذه النظریّة .

ما لا یرد علیه من الإشکال :

و إذا تبیّن واقع نظریة صاحب ( الکفایة ) ، فلا یرد علیه :

1 - أنه إذا کان بین الآلیّة و الاستقلالیّة فرق ، فمن المفاهیم الاسمیّة ما یلحظ فی الذهن آلةً للغیر ، فیلزم أنْ یکون حرفاً ، کالتبیّن فی قوله تعالی :

« وَکُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ » (1)فإنّه ملحوظ آلةً و مرآةً للفجر ، مع أنه اسم .

وجه عدم الورود : أن مراده من الآلیّة - کما تقدّم - عدم الاستقلالیّة فی المفهومیّة ، و « التبیّن » فی الآیة الکریمة و إنْ کان طریقاً لمعرفة الفجر ، إلّا أنه مستقلّ فی التعقّل عن « الفجر » و لا یحتاج فی ذلک إلیه و لا إلی غیره ، فهو

ص:99


1- (1)) سورة البقرة : 187 .

اسم و لیس بحرف .

2 - إنّه تارةً یکون المعنی الحرفی ملحوظاً بالاستقلال ، کما لو علم بمجیء زید ثم شک فی أنه وحده أو معه أحد ، فیقال : مع عمرو . فإن هذه المعیّة أصبحت ملحوظة بالاستقلال و مقصودة بالتفهیم .

وجه عدم الورود : أن معنی « مع » أی الحرف ، غیر مستقلّ فی التعقّل ، فلو ارید مجیؤه إلی الذهن ، فلا بدّ من کونه قائماً بغیره من « مجیء » و نحوه ، أمّا حیث یراد إفادة معناه و هو المعیّة فهو اسم و لیس بحرف .

3 - قوله : بأن المعنی یتغیّر بحسب تعدّد اللّحاظ ، فیه : إن حقیقة اللّحاظ لیس بشیءٍ غیر الوجود الذهنی ، فإذا کان المعنی قابلاً لوجودین ذهنیّین - الوجود الآلی و الوجود الاستقلالی - لزم أنْ یوجدا فی الخارج کذلک ، أی یلزم أن تکون ذات المعنی خارجاً قابلةً للتقسیم إلی القسمین ، فإذا وجد المعنی الحرفی خارجاً بالوجود الاستقلالی ، احتاج إلی معنیً حرفی لیکون رابطاً ، و هکذا .

و لکنّ اللّازم و التالی باطل ، فالملزوم و المقدّم مثله .

أورده المحقق الأصفهانی .

و أجاب شیخنا الاستاذ بعدم الملازمة بین البابین ، فقد یکون المعنی قابلاً للنوعین من الوجود فی الذهن ، لکنه لا یکون فی الخارج کذلک ، فالأعراض مثلاً لا تقبل فی الخارج إلّا الوجود بالغیر ، لکنّها فی الوجود الذهنی تقبل النوعین ، و کالإنسان ، فإن الماهیّة واحدة ، و هی تقبل الوجود الذهنی بنحوین : القابل للصّدق علی کثیرین ، و غیر القابل له ، فهی تقبل الوجود فی الذهن بوجود الفرد الذهنی ، و تقبل الوجود فی الذهن بوجود الکلّی الطبیعی ،

ص:100

لکنها فی الخارج لا تقبل الوجود إلّا بنحو الصدق علی کثیرین .

ما یرد علیه من الإشکال

أوّلاً : فی قوله : الآلیّة و الاستقلالیة تأتی من ناحیة اللّحاظ ، و إلّا فلا فرق جوهری بینهما .

فإنّ اللّحاظ لیس إلّا الوجود الذهنی ، فإذا لم یکن فی حاقّ المعنی و ذاته لا آلیّة و لا استقلالیّة ، فإنّ لحاظه - أی وجوده - لا یغیّره عمّا هو علیه .

و بعبارةٍ اخری : لیس الوجود إلّا أن ینقلب النقیض إلی النقیض ، بأنْ یکون الشیء موجوداً بعد أنْ کان معدوماً ، فالوجود لا یغیّر الماهیّة و الحقیقة بل یُظهرها بعد أنْ لم یکن لها ظهور .

و إذا کان اللّحاظ - سواء من الواضع أو المستعمِل - لیس إلّا وجود المعنی ، فکیف یکون المعنی باللّحاظ آلیّاً تارةً و استقلالیّاً اخری ؟

و ثانیاً : إنْ کان الموضوع له اللّفظ ذات المعنی ، و کان الاستقلال و عدم الاستقلال خارجین عنه ، غیر أنْ الواضع اشترط علی المستعمل استعمال الاسم إن کان المعنی ملحوظاً بالاستقلال ، و الحرف إنْ لم یکن .

ففیه : أنه إذا کان المعنی الموضوع له اللّفظ مطلقاً غیر متقیَّد لا بالآلیّة و لا بالاستقلالیّة ، فکیف یصبح بالاستعمال مقیّداً بهذا تارةً و بذاک اخری ؟

و ثالثاً : إذا کان الموضوع له هو ذات المعنی فقط ، لصحّ استعمال الحرف فی محلّ الاسم و بالعکس ، و من عدم صحّة هذا الاستعمال یستکشف وجود الفرق الجوهری بینهما .

قال صاحب ( الکفایة ) : وجه عدم الصحّة هو : إنّ هذا الاستعمال و إنْ کان فی الموضوع له ، إلّا أنه بغیر ما وضع علیه .

ص:101

فقالوا فی شرح هذا الکلام : إن مراده تقیید الواضع للعلقة الوضعیّة .

قلنا : إنْ ارید أنّ الوضع مقیَّد ، فلیس من المعقول کون الوضع مقیّداً و الموضوع له غیر مقیَّد ، لأن الوضع من مقولة الإضافة ، فیکون التقیید فی ناحیة الإضافة موجباً للتقیید فی متعلَّقها ، فتقیید الموضوع مع عدم تقیید الموضوع له غیر ممکن .

و إنْ کانت العلقة الوضعیّة مطلقة غیر مقیَّدة ، فلا بدّ من کون الموضوع و الموضوع له کلیهما مطلقین ، و حینئذٍ جاز استعمال کلٍّ فی مکان الآخر ، و بطل منع ذلک بناء علی تقیید الوضع .

فلا یندفع هذا الإشکال ، اللهم إلّا بأنْ یقال : إن الواضع شرط علی المستعملین لدی الاستعمال لحاظ الاسم مستقلاًّ و لحاظ الحرف آلةً . و یردّه :

عدم وجود الموجب لاتّباع شرط الواضع و الالتزام به .

القول الثالث :
اشارة

إنّ المعنی الحرفی یختلف و المعنی الاسمی اختلافاً جوهریّاً ، و إلیه ذهب جمهور المحققین ، غیر أنهم اختلفوا فی تصویر هذا الاختلاف و بیان حقیقته :

* رأی المیرزا

فقال المحقق النائینی : إنّ المعنی الحرفی یباین المعنی الاسمی ، و التباین بینهما هو بالإیجادیّة و الإخطاریّة ، فالمفاهیم الاسمیّة إخطاریّة ، و المفاهیم الحرفیّة إیجادیّة .

و قد ذکر لإثبات مدّعاه خمس مقدّمات ، و بناه علی أربعة أرکان :

و ملخّص کلامه هو :

ص:102

إن المعانی علی قسمین ، منها : إخطاریّة ، و منها : غیر إخطاریّة ، فما یکون صالحاً لأنْ یخطر فی الذهن بنفسه فهو معنًی اسمی ، و ما لا یصلح لذلک بل لا بدَّ من کونه ضمن کلامٍ مرتّب بترتیب معیّن فهو معنی حرفی .

و المعانی غیر الإخطاریة إیجادیّة ، غیر أنّ هذه المعانی الإیجادیّة تنقسم إلی قسمین ، فمن الحروف ما یوجد مصداق لمعناه فی الخارج ، کحروف النداء و التشبیه و نحوها ، فإنّه لمّا یستعمل حرف النداء و یقال : یا زید ، یوجد مصداقٌ للنداء خارجاً ، و کذا فی : زید کالأسد ، و من الحروف ما لا یوجد مصداق لمعناه فی الخارج مثل « من » و « علی » و « إلی » ، فهی حروف نسبیّة ، أی أن معناها لیس إلّا إیجاد النسبة و الربط بین المعانی المتباینة التی لا ربط بینها ، کما فی : سرت من البصرة إلی الکوفة .

فالحروف کلّها إیجادیّة ، غیر أنْ بعضها لمعناه مصداق فی الخارج و بعضها لا ، بل هی لإیجاد الربط و النسبة فقط ، فما فی کلام صاحب (الحاشیة) من تقسیم الحروف إلی إیجادیة و غیر إیجادیة غیر صحیح .

و بالجملة ، فلا شیء من الحروف بإخطاری .

ثم قال : إن النسبة بین المعنی الاسمی و المعنی الحرفی هی النسبة بین المفهوم و المصداق ، فالمعنی الاسمی له خاصیّة المفهوم ، و المعنی الحرفی له خاصیّة المصداق ، فالتفاوت بین « النداء » الذی هو معنی اسمی ، و بین « یا زید » الذی هو معنی حرفی ، هو التفاوت بین « مفهوم الماء » و « مصداق الماء » ، مع الالتفات إلی أنا بواسطة الحرف نوجد المعنی ، و لا ظرف لمعناه إلّا ظرف الاستعمال ، و هو موطن تحقّقه ، بخلاف مثل صیغ العقود و الإیقاعات التی موطن تحقّق المنشأ فیها هو وعاء الاعتبار .

ص:103

فظهر أن الاختلاف بین المعنیین - الاسمی و الحرفی - جوهری ، إذ المعنی الاسمی إخطاری مستقل فی التعقّل غیر محتاج إلی شیء ، و المعنی الحرفی إیجادی غیر مستقل و هو یفید الربط بین المعانی الإخطاریة المتباینة ، فهو غیر إخطاری ، إذ لیس إلّا فی عالم الاستعمال ، فالمعانی الاسمیّة دائماً مقصودة بالاستقلال ، و المعانی الحرفیّة دائماً آلیّة و ینظر إلیها بالتبع ، بل إنها حین الاستعمال فانیة فناء اللّفظ فی المعنی ، و هی توجد الربط بین الأسماء - کربط « علیٰ » بین « زید » و « السطح » - فی مقام التکلّم ، لا فی الخارج ، و هذا الربط و النسبة من قبیل النسبة بین الظلّ وذی الظل ، و لذا قد تطابق و قد تخالف - و لیس من قبیل النسبة فی الخارج ، التی هی النسبة بین الدّال و المدلول و حقیقة هذه النسبة فی الحروف عبارة عمّا یؤخذ من قیام احدی المقولات التسع بموضوعاتها ، فإنْ لم تؤخذ هذه الخصوصیّة فی المقولات التسع لم تکن هناک نسبة ، فالعرض لو لم یکن فیه جهة قیام بالجوهر فلا نسبة ، کما هو الحال بین جوهرٍ و جوهرٍ آخر ، إذ حقیقة النسبة ناشئة من قیام احدی المقولات التسع بموضوعاتها (1) .

مناقشات الشیخ الاستاذ

و ذکر شیخنا الاستاذ علی هذا القول إشکالات ، فقال :

1 - أمّا قوله : إن حقیقة النسبة لیست إلّا قیام احدی المقولات التسع بموضوعاتها ، فإن معناه انحصار النسبة بین المقولات العرضیّة ، و یلزم منه انکارها فی مثل « شریک الباری ممتنع » لعدم وجود المقولة فیه ، و لا یخفی ما فیه .

ص:104


1- (1)) أجود التقریرات 25/1 - 32 ط مؤسّسة صاحب الأمر (عج) .

2 - و أمّا قوله بأنّ جمیع الحروف إیجادیّة ، و لیس فیها جهة الحکایة أصلاً ، إذ لیس لها ما وراء کی تحکی عنه ، فما معنی الصّدق و الکذب فی مثل : زید علی السطح ، عمرو فی الدار ... ؟

أجاب رحمه اللّٰه : بأنّ مناط الصّدق و الکذب هو وجود و عدم وجود المطابق .

و فیه : إن موضوع الصّدق و الکذب هو الخبر ، و حیث لا یکون خبرٌ فلا یکون صدق و کذبٌ ، و لازم کلامه انتفاء الخبر فی مثل زید فی الدار ، لأن الخبر إن کان له مطابَق فهو صدق و إلّا فهو کذب . و توضیح ذلک : إن فی الجملة الخبریة مسلکین : أحدهما : إنّها تدل علی ثبوت أو عدم ثبوت النسبة ، و هذا هو المشهور - و ربّما ادّعی علیه الاتفاق کما عن التفتازانی - و الآخر : إن الجملة الخبریة دالّة علی قصد الحکایة . و سوف نوضح الفرق بین المسلکین فی مسألة الإنشاء و الإخبار .

و کیف کان ، فإن قوام الإخبار هو الإعلام و الإنباء ، قال تعالی : «إِن جَاءکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ » (1)فإذا لم یکن هناک منبأ عنه ، و مدلول ، و محکی ، فلا موضوع للإعلام و الإنباء و الإخبار ... و هذا هو المهمّ ، و إذا کان شأن الحروف هو الربط و أنه لیس للحروف ما وراء ، فعن أیّ شیء یخبر و ینبئ ... و العجیب أنه قد ناقض نفسه فی ضمن کلامه ، عند ما ذکر انقسام الألفاظ إلی المستقل و غیر المستقل ، و غیر المستقل إلی قسمین ، حیث عبَّر عن بعض الهیئات و الحروف بأنّها تفید کذا و تدل علی کذا ، فإذا لم یکن للحروف معنیً مطلقاً ، فما معنی الإفادة و الدلالة ؟

ص:105


1- (1)) سورة الحجرات : 6 .

3 - و أمّا قوله بأنّ النسبة بین المعنی الاسمی و الحروف نسبة المفهوم إلی المصداق ، فغیر صحیح ، لأن المصداق و المفهوم لا اختلاف بینهما إلّا فی الوجود ، و إلّا فالذات واحدة ، کزید و الإنسان ، فکلاهما حیوان ناطق و النسبة نسبة الکلّی و الفرد ، فالنسبة المذکورة تختص فی وحدة الذات ، و لا تجتمع مع الاختلاف الذاتی بین مفهوم الاسم و مفهوم الحرف ، کما هو الحق الذی اختاره فی مقابل مبنی صاحب ( الکفایة ) ، بل علی هذا المبنی تکون النسبة هی النسبة بین العنوان و المعنون ، کمفهوم الوجود و المصادیق الخارجیّة للوجود .

4 - و أمّا قوله بأن المعنی الحرفی فانٍ فی مقام الاستعمال و غیر ملحوظ أصلاً . ففیه : أنه خلاف الوجدان ، فقد یکون تمام النظر فی موردٍ إلی إفادة معنی حرف من الحروف ، کلفظة «من » فی « سرت من البصرة إلی الکوفة » .

و هذا الإشکال من المحقق الخوئی فی ( حاشیة أجود التقریرات ) .

5 - إنه لا ریب فی أن الحروف موجدة للربط بین المفاهیم الاسمیّة ، فالسیر بما له من المفهوم مغایر للبصرة بما له من المفهوم ، لکنّها بدلالتها علی معانیها توجد الربط ، لا أنها توجده من غیر أنْ تدل علی معنی .

و علی الجملة ، فإن دعواه بأنّ الحروف إیجادیّة فقط ، دعوی بلا دلیل ، بل الدلیل قائم علی بطلانها . أمّا وجداناً ، فلأن قولنا زید فی الدار ، یشتمل علی « زید » الحاکی عن الجوهر و هو المکین ، و علی « الدار » الحاکی عن الجوهر و هو المکان ، و علی « فی » المفید للظرفیّة الحاکی عن الربط ، فکلّ من الاسمین یفید معناه الخاص ، و « فی » یفید الربط بینهما ، و لو لا هذا الحرف لما انتقل إلی الذهن الربط بین الاسمین المذکورین . و أمّا برهاناً ، فلأن

ص:106

حکمة الوضع التی اقتضت أنْ یفاد معنی « زید » بهذا اللّفظ ، و معنی « الدار » بهذا اللّفظ ، کذلک هی تقتضی إفادة النسبة و الربط بینهما بحاکٍ ، إذْ لا وجه لأنْ یکون لذینک المعنیین حاک و لا یکون هناک حاکٍ عن معنی الربط ، فلا محالة ، توجد فی الأسماء و الحروف جهة الحکایة ، غیر أنّ الأسماء تحکی عن معانٍ مستقلّة ، و الحروف تحکی عن معانٍ غیر مستقلّة و هذا هو الفرق .

فالأسماء و الحروف مشترکة فی الإخطاریّة و الحکایة ، و الاختلاف فی الاستقلال و عدم الاستقلال .

إشکال المحقق العراقی و دفعه

و أمّا ما أورده المحقّق العراقی علی المیرزا من أنه : إنْ کان المراد من إیجاد الحرف الربط بین المفهومین إیجاده بین مفهومین مرتبطین فهو تحصیل للحاصل ، و إنْ کانا غیر مرتبطین فإیجاده للربط بین غیر مرتبطین محال .

فقد أجاب عنه الاستاذ بأن مراد المیرزا أن الحروف توجد الربط بین المفاهیم ، بمعنی أنه لو لا الحروف لما وجد الارتباط بینها .

* رأی المحقق العراقی

إن الحروف موضوعة للأعراض النسبیّة الإضافیّة (1) ، کمقولة الأین و الإضافة و نحوهما . و توضیح کلامه هو :

إن المعانی علی أقسام :

1 - المعانی الموجودة فی نفسها لنفسها ، و هی الجواهر ، کزید .

2 - المعانی الموجودة فی نفسها لغیرها ، و هی الأعراض ، کالبیاض .

3 - المعانی التی لا نفسیّة لها مطلقاً ، لا فی نفسها و لا لنفسها ، بل فی

ص:107


1- (1)) نهایة الأفکار 42/1 - 52 ط جامعة المدرّسین .

غیرها لغیرها بغیرها ، مثاله : وجود الرابط ، کالرابط بین زید و قائم ، و هو المعبَّر عنه ب « است » بالفارسیّة .

ثم إنّ القسم الثانی ینقسم إلی قسمین : الأعراض النسبیّة ، و الأعراض غیر النسبیّة .

العرض لا یکون بغیر نسبة ، لأنه لغیره ، لکن بعض الأعراض لیس له إلّا نسبة واحدة ، و هی النسبة إلی الموضوع ، کالبیاض القائم بالجدار ، و بعضها ذو نسبتین ، کمقولة الأین ، فمثل « فی » له نسبة إلی المکین و هو « زید » ، و إلی المکان و هو « الدار » فیسمّی القسم الأول بالعرض غیر النسبی ، و الثانی بالعرض النسبی .

فالأسماء موضوعة للجواهر کلفظ الجسم ، و للأعراض غیر النسبیّة کلفظ البیاض .

و الحروف موضوعة للأعراض النسبیّة ، ک « من » و « علی » و « فی » و «إلی» ...

و الهیئات موضوعة للرابط ، و هو « است » .

فالموضوع له الحرف عبارة عن العرض النسبی ، و عن الوجود الرابطی ، و الموضوع له الهیئة عبارة عن وجود الرابط ، فالحروف مثل « من » و « إلی » و« فی » هی لأقسام الأین ، الأین الظرفی « فی » و الأین الابتدائی « من » و الأین الانتهائی « إلی » .

قال : و من الحروف ما لا نتمکّن من تصوّر معناه الموضوع له مثل « اللام » فلا ندری هو من أیّ مقولةٍ ، لکن هذا لا یضرّ بالنظریة ، و لا یوجب بطلانها .

ص:108

و علی الجملة ، فالهیئات موضوعة لوجود الرابط ، مفاد « است » .

و الحروف علی قسمین : منها ما هو موضوع للنسبة ، مثل حروف التمنّی و الترجّی ، فهی موضوعة لنسبة تشوّق المترجّی إلی المترجّی ، و المتمنّی إلی المتمنّی ، مثل لیت و لعل . و منها الحروف الاخری ، فهی موضوعة للأعراض النسبیّة مثل « من » و « إلی » و « فی » .

قال : و معانی الحروف متعلّقة بالغیر ، فلا استقلالیّة لها ، لا فی ذواتها و لا فی وجوداتها .

المناقشات

قبل کلّ شیء ، لم یذکر هذا المحقق دلیلاً علی ما ادّعاه من کون المعنی الحرفی عبارةً عن العرض النسبی .

ثم :

1 - إذا کان معنی الحرف عبارةً عن العرض النسبی ، فأین الأعراض النسبیة لحروف التشبیه و العطف و النداء ؟ و قوله بوجود هذا المعنی إلّا أنّا لا نعرفه بالضّبط ، غیر مفید ، لأنّ الأعراض النسبیّة کمقولة الأین و الإضافة و الجدة ... معروفة ، فلما ذا لا نعلم بالعرض النسبی فی مثل کأنّ زیداً أسد ، و مثل : یا زید ... ؟

إن الحقیقة أن هذه الحروف لیس معناها هو العرض النسبی .

2 - ما ذکره من أنّ المعنی الحرفی متقوّم ماهیّةً و وجوداً بالغیر ، فیه : إن کلّ عرض مستقل ماهیّةً و محتاج إلی الغیر وجوداً ، من غیر فرق بین النسبی و غیره .

3 - إنّ العرض النسبی نفسه معنیً اسمی ، ففی ( الأسفار ) (1) فی مبحث

ص:109


1- (1)) الأسفار 215/4 ط مکتبة المصطفوی .

الأین ، فی نقض تعریف هذه المقولة بنسبة الشیء إلی المکان ، قال ما معناه :

ینبغی أنْ نقول بأنّ مقولة الأین هی الهیئة الحاصلة للشیء ، و الهیئة معنی اسمی ، ثم قال : فمقولة الأین عبارة عن الهیئة الحاصلة بالاضافة .

فجمیع الأعراض النسبیة من مقولة الجدة و الوضع ... هیئات حاصلة ، و الهیئات معانٍ مستقلة ، و الحال أن المعنی الحرفی غیر مستقل .

4 - ما ذکره فی لیت و لعلّ ، فیه : إن التشوق صفة نفسانیّة و لیس بنسبة ، غایة الأمر ، هو صفة نفسانیة ذات تعلّق و إضافة إلی الغیر ، مثل الحب و البغض .

5 - و ما ذکره فی « الأین الابتدائی » و « الأین الانتهائی » مخدوش ، لأنّ « الأین » هی الهیئة الحاصلة للشیء من الإضافة إلی المکان ، فلا ابتداء لها و لا انتهاء ، نعم ، لکلّ « أین » إضافة اخری ، ففی « من » إضافة ابتدائیة ، و فی « إلی » إضافة انتهائیة ، لکنّ کلیهما من مقولة الأین ... فجعل « من » للأین الابتدائی ، و « إلی » للأین الانتهائی غیر معقول .

قال شیخنا الاستاذ :

هذا کلّه بناءً علی أن مسلکه فی معنی الحرف هو العرض النسبی .

لکن کلماته مشوّشة ...

* رأی السید الخوئی

قال طاب ثراه فی تعلیقة ( أجود التقریرات ) :

« و التحقیق أن یقال : إن الحروف بأجمعها وضعت لتضییقات المعانی الاسمیّة و تقییداتها بقیودٍ خارجةٍ عن حقائقها ، و مع ذلک لا نظر لها إلی النسب الخارجیة ، بل التضییق إنما هو فی عالم المفهومیّة و فی نفس المعانی ، کان له

ص:110

وجود فی الخارج أو لم یکن ، فمفاهیمها فی حدّ ذاتها متعلّقات بغیرها و متدلّیات بها ، قبال مفاهیم الأسماء التی هی مستقلّات فی أنفسها .

توضیح ذلک : إن کلّ مفهومٍ اسمی له سعة و إطلاق بالإضافة إلی الحصص التی تحته ، و سواء کان الإطلاق بالقیاس إلی الخصوصیات المنوّعة أو المصنّفة أو المشخّصة ، أو بالقیاس إلی حالات شخصٍ واحد ، و من الضروری أن غرض المتکلّم کما یتعلّق بإفادة المفهوم علی إطلاقه وسعته ، کذلک قد یتعلَّق بإفادة حصّةٍ خاصّةٍ منه ، کما فی قولک : الصلاة فی المسجد حکمها کذا . و حیث أنّ حصص المعنی الواحد فضلاً عن المعانی الکثیرة غیر متناهیة ، فلا بدّ للواضع الحکیم من وضع ما یوجب تخصّص المعنی و تقیّده ، و لیس ذلک إلّا الحروف و الهیئات الدالّة علی النسب الناقصة ، کهیئات المشتقات ، و هیئة الإضافة أو التوصیف ، فکلمة « فی » فی قولنا : الصلاة فی المسجد ، لا تدل إلّا علی أنّ المراد من الصلاة لیس هی الطبیعة الساریة إلی کلّ فردٍ ، بل خصوص حصّة منها ، سواء کانت تلک الحصّة موجودةً فی الخارج أم معدومة ، ممکنة کانت أم ممتنعة ، و من هنا یکون استعمال الحروف فی الممکن و الواجب و الممتنع علی نسقٍ واحدٍ و بلا عنایة فی شیء منها ، فنقول :

ثبوت القیام لزیدٍ ممکن ، و ثبوت العلم للّٰه تعالی ضروری ، و ثبوت الجهل له تعالی مستحیل . فکلمة « اللّام » فی جمیع ذلک یوجب تخصّص مدلوله ، فیحکم علیه بالإمکان مرة ، و بالضرورة اخری ، و بالاستحالة ثالثة .

فما یستعمل فی الحرف لیس إلّا تضییق المعنی الاسمی ، من دون لحاظ نسبة خارجیة ، حتی فی الموارد الممکنة ، فضلاً عما یستحیل فیه تحقّق

ص:111

نسبته ، کما فی الممتنعات و فی أوصاف الواجب تعالی ، و نحوهما » (1) .

هذا ، و الأدلّة علی هذا المبنی - کما فی ( المحاضرات ) - هی :

أولاً : بطلان سائر الأقوال .

و ثانیاً : إن المعنی المذکور یشترک فیه جمیع موارد استعمال الحرف ، من الواجب و الممتنع و الممکن ، علی نسقٍ واحد ، و لیس فی المعانی ما یکون کذلک .

و ثالثاً : إنه نتیجة المختار فی حقیقة الواضع ، أی التعهّد ، ضرورة أن المتکلّم إذا قصد تفهیم حصةٍ خاصة فتفهیمه منحصر بواسطة الحرف و نحوه .

و رابعاً : موافقة ذلک للوجدان ، و الارتکاز العرفی (2) .

أقول :

لقد أوضح الاستاذ رأی هذا المحقق فی الدورة السابقة و قرّبه علی البیان التالی :

إن الحروف علی قسمین :

القسم الأول ، الحروف التی وزانها وزان الإنشاء .

یعنی : کما أن صیغة « بعت » مبرزة لاعتبار الملکیة ، و « أنکحت » مبرزة لاعتبار الزوجیّة ، کذلک قسم من الحروف ، فإنها مبرزة ، فمثل « لیت » و « لعلّ » وضعت لإبراز الصفة النفسانیة ، و هی التمنّی و الترجّی .

و القسم الثانی ، الحروف الموضوعة لتضییق المعانی الاسمیة . و کذا الهیئات ، و الجمل التامّة ، الاسمیة منها کزید قائم ، و الفعلیّة منها کقام زید ،

ص:112


1- (1)) أجود التقریرات 27/1 - الهامش ط مؤسّسة صاحب الأمر (عج) .
2- (2)) محاضرات فی اصول الفقه 84/1 .

و الجمل الناقصة کغلام زید ، فهذه کلّها موضوعة لإفادة التضییق .

و توضیحه : إنه قد تتعلَّق إرادة المتکلِّم لأنْ یفید معنیً علی إطلاقه ، و قد تتعلَّق لأنْ یفید حصّةً من المعنی بإیجاد ضیقٍ فیه ، فمرةً یقول : الصلاة ، و اخری یقول :الصلاة فی المسجد ، فأوجد بواسطة « فی » حصّة من الصلاة و أفادها . هذا بحسب الحصص .

و کذا الحال بحسب الحالات ، فهو تارةً : یقول : زید ، و اخری : یرید إفادة زید فی حالةٍ مخصوصة ، فیأتی بحرفٍ أو بهیئةٍ للدّلالة علی ذلک ، کأنْ یقول جاء زید راکباً ، فبذلک یحصل نوع من التضییق فی المعنی .

و کذا الکلام فی الجمل التامّة ، فقد یدلّل علی الجلوس و یفیده ، و قد یرید إفادة حصّةٍ من الجلوس ، فیقول : جلس زید ، أو زید جالس .

و هکذا یتحقق بالحروف التضییق فی المعانی الاسمیة ، و لکلّ حرفٍ معناه الخاص ، و به یتحقق التضیق بحسب معناه .

لا یقال : التضییق معنًی اسمی ، فإذا کان المعنی الموضوع له الحرف هو التضییق ، کان معنی الحرف معنًی اسمیّاً .

لأنا نقول : الموضوع له الحرف لیس مفهوم التضییق ، بل هو واقعه و مصداقه ، فما یأتی إلی الذهن من لفظ التضییق هو مفهوم التضییق ، و لکن التضییق الآتی إلی الذهن من « فی » و « إلی » و « من » و غیرها هو مصداق التضییق .

مناقشات شیخنا الاستاذ

ثم ذکر الاستاذ دام بقاه بأنه : لا ریب فی وجود التضییق و تحقّقه فی

ص:113

الموارد المذکورة ، و لکنْ لا دلیل علی أن ذلک هو الموضوع له الحرف ، بأنْ یکون مدلول الحرف وضعاً هو التضییق ، فلعلّ التضییق هو لازم المعنی الموضوع له الحرف ، و علی الجملة ، فإنّ المدّعی أعم من الدلیل .

ثم إنه لا یمکن أنْ یکون المعنی واقع التضییق ، لأن التضییق قدر مشترک بین الابتداء و الانتهاء و الظرفیّة ، و إلی جانبه یوجد فی کلّ واحدٍ من هذه الموارد تضییق یختصُّ به ، و لذا لا یوجد جامع بین المعنیین الاختصاصیّین لحرفین من الحروف .

مثلاً : کلّ من « من » و « إلی » یفید التضییق ، فهما یشترکان فی هذه الجهة ، لکنْ فی کلٍّ منهما جهة امتیاز ، فهل المعنی الموضوع له فی هذین الحرفین هو الجهة المشترکة بینهما أو الجهة التی یمتاز بها کلّ منهما عن الآخر ؟ إن المدلول هو المعنی الذی فی جهة الامتیاز ، أما التضییق فذاک هو المدلول الأعمّ الذی یشترک فیه الحرفان ، و لا یمکن أن یکون هو الموضوع له ، لأنه الجامع لتلک الموارد کلّها ، فمدلول « فی » لیس تلک الحیثیّة التی بها یکون مصداقاً للقدر المشترک ، بل مدلوله و مفهومه الموضوع له هو حیثیّته المعاندة لحیثیّة « من » ، أعنی تلک الحیثیة الخاصّة ، و إلّا ، فالتضییق موجود فی کلیهما و لا تعاند لهما فیه ، فجعل هذه الحیثیة المشترکة التی هی اللّازم الأعم فی الحروف غیر صحیح .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إذا کانت الحروف موضوعة لواقع التضییق لا مفهومه ، فمن المستحیل أن تکون مضیّقةً لواقع التضییق ، لأن المضیَّق لا یطرأ علیه تضییق ، لأن المماثل لا یقبل المماثل ، هذا من جهة . و من جهةٍ اخری : إن التضیّق إنما

ص:114

یطرق علی ما لیس فیه ضیق ، و کذا التوسعة . و علی ما ذکرنا نقول : إن القضایا علی قسمین ، منها : الشرطیة الإنشائیة ، کقولنا : إذا زالت الشمس فصل ، و منها : الشرطیة الخبریة ، کقولنا : إذا طلعت الشمس فالنهار موجود ، و لا ریب أن الشرط فی القسم الثانی یرد علی مدلول الهیئة - و هو مختار المحققین ، خلافاً للشیخ رحمه اللّٰه القائل برجوع القید فی الواجب المشروط إلی المادّة - فقید : « إذا طلعت » یرجع إلی مدلول الجملة الجوابیة و النسبة الموجودة بین النهار و الوجود .

و حینئذٍ ، فلو کانت الحروف موضوعة لواقع التضییق ، لزم أن یکون التضیق بسبب « إذا » الشرطیة ، وارداً علی مدلول الهیئة و هو الضیّق ، و معنی ذلک أن یضیَّق المضیَّق مرّة اخری ، و هو محال ، لأن التقیید لا یقبل الإطلاق و التقیید ، کما أنّ الإطلاق کذلک ، لأن المقابل لا یقبل المقابل ، و المماثل لا یقبل المماثل .

هذا ما أورده فی الدورة السابقة .

أما فی الدورة اللّاحقة ، فذکر أن أساس هذا المبنی هو دعوی بطلان القول بوضع الحروف للنسب ، لکنْ سیأتی صحّة هذا القول ، فلا أساس لمبنی التضییق . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن الموضوع له الحرف هو ملزوم التضییق ، و قد وقع الخلط فی هذا المبنی بین اللّازم و الملزوم ، و هذا ما أشار إلیه فی تلک الدورة ، أما فی المتأخّرة فأوضح قائلاً : بأنّ « فی » الذی هو « دریت » بالفارسیة یُصیّر « الصّلاة » حصة فی قولنا : الصلاة فی المسجد کذا . و کذا« من » و « إلی » یصیّران « السیر » حصّةً فی قولنا : سرت من البصرة إلی الکوفة ، فهی حروفٌ

ص:115

تخرج المفاهیم و المعانی عن إطلاقها ، و تحصّصها ، لکن لیس معانی هی الحروف هذه التحصیصات و التضییقات ، بل هی النسب ، فمعنی « فی » النسبة الظرفیة ، و معنی « من » النسبة الابتدائیة ، و معنی « إلی » النسبة الانتهائیة ، و هذه المعانی لازمها التضییق . و سیأتی تفصیل ذلک فی بیان الرأی المختار .

* مناقشات السیّد الاستاذ

و تکلّم السید الاستاذ فی ( المنتقی ) (1) علی نظریة التضییق فی جهاتٍ نلخّصها کما یلی :

1 - إنّ التضییق من الأفعال التسبّبیة التولیدیة التی تتحقق بأسبابها ، بلا توسیط الإرادة و الاختیار فی تحقّقها ، و هو مسبّب عن الربط بین المفهومین بلا اختیار ، فهو مسبب و الربط و النسبة سبب ، و لو لا حصول الربط و النسبة بینهما کالربط بین زید و الدار لا یتحقق التضییق فی مفهوم زید .

فإنْ أراد من وضع الحروف لتضییق المعانی الاسمیّة وضعها للمسبَّب ، أی نفس التضییق دون السبب ، فهو غیر معقول ، لأنّ الحرف إمّا أن یوضع لمفهوم التضییق ، أو لمصداقه و واقعه ، لکن الأوّل باطل ، للتباین بین مفهوم التضییق و مفهوم الحرف ، عند العرف ، مع استلزام الوضع له الترادف بین اللّفظین فی المعنی ، مضافاً إلی أن التضییق من المفاهیم الاسمیّة .

و الثانی یبطل بوجوه :

الأول : إن الوضع بإزاء الوجود ممتنع ، لکون الغرض من الوضع هو انتقال المعنی عند إلقاء اللّفظ ، و الوجود سواء الخارجی أو الذهنی ، لا یقبل الانتقال ، و یأبی الوجود الذهنی ، لأن المقابل لا یقبل المقابل ، أو أن المماثل لا

ص:116


1- (1)) منتقی الاصول 114/1 .

یقبل المماثل .

و الثانی : إن مقتضی حکمة الوضع وضع الحروف لنفس الخصوصیة الموجبة للتضییق ، کی یحصل تفهیم الحصّة الخاصة من مجموع الکلام و بضمیمة الاسم إلی الحرف ، لا الوضع لنفس التضییق ، فإنه خارج عن دائرة الغرض من الوضع .

و الثالث : إنه لو کان الموضوع له الحرف نفس المصداق ، لزم الترادف بین لفظ الحرف و بین الألفاظ الاسمیة الدالّة علی مصداق التضییق ، فیکون لفظ « فی » مرادفاً للفظ « مصداق التضییق » و حصّةً منه ، و الوجدان قاض بعدم الترادف .

و إنْ أراد وضع الحروف للسّبب ، أعنی نفس الرّبط و النّسبة - کما قد یظهر من بعض عبارة التقریرات - فهو عبارة اخری عن مبنی المیرزا .

2 - إن ما ادّعاه من صحّة استعمال الحروف حتی فی الموارد غیر القابلة للنسبة و الربط کصفات الباری ، غیر تام ، لأنه بناءً علی کون الموضوع له الحرف هو التضییق ، لیس المراد کلّی التضییق الشامل لجمیع الأفراد ، بل الموضوع له کلّ حرفٍ تضییق من جهةٍ خاصّةٍ للمفهوم ، و الموضوع له لفظ « فی » تضییق المفهوم الاسمی من جهة الظّرفیّة ، و الموضوع له لفظ « من » تضییقه من جهة خاصّة و هی الابتداء ، و هکذا . و ظاهرٌ أنّ التضییق الخاص یتوقّف علی ثبوت خصوصیّةٍ و ارتباطٍ بین المفهومین الاسمیین ، بحیث ینشأ منه التضییق الخاص ، فیصحّ استعمال الحرف فیه ، فلا یحصل تضییق مفهوم زید بکونه فی الدار إلّا بتحقّق الارتباط و النسبة الخاصّة بینه و بین الدار ، فیعبَّر عن ذلک التضییق بالحرف ، وعلیه ، فاستعمال الحرف فی صفات الباری

ص:117

یتوقف علی ثبوت النسبة و الارتباط بین الصفة و الذات ، کی یتحقق التّضییق المعبَّر عنه بالحرف ، فیرجع الإشکال کما هو .

3 - ثم إنه بناءً علی أنْ یکون الموضوع له فی الحروف هو التضییق ، یکون معنی الحرف من المعانی الإیجادیّة ، و هو الأمر الذی فرَّ منه ، و الوجه فی کونه إیجادیّاً : إن المفروض وضع الحروف لواقع التضییق ، لکنّه مسبّب عن النسبة و الربط ، و قد عرفت إیجادیّة الربط و النسبة ، و أنها تحصل فی ذهن السامع بنفس اللّفظ ، فکذلک التضییق یکون إیجادیّاً یحصل فی ذهن السامع بواسطة اللّفظ باعتبار تبعیّة وجوده لوجود النسبة ، و هی معنی إیجادی .

4 - و أمّا ما ذکره فی ( المحاضرات ) من الوجوه المعتَمدة لهذا المبنی ، فکلّها مردودة . فبطلان الوجوه الاخری لا یعنی صحّة هذا الوجه و تعیّنه .

و اختیار التعهّد فی حقیقة الوضع لا یقتضی کون الموضوع له فی الحروف هو التضییق ، بل هذا المبنی فی وضع الحروف - بناءً علی تمامیّته - یصلح علی جمیع المبانی فی حقیقة الوضع . و القول بهذا المبنی لا یصحّح استعمال الحرف فی جمیع الموارد ، بل الإشکال الذی وجّهه علی مبنی المحقق الأصفهانی و المحقق النائینی من عدم صحة استعمال الحرف فی صفات الباری یتوجّه علی هذا المبنی أیضاً . و دعوی الارتکاز مجازفة .

* رأی المحقق البروجردی

و قال السیّد البروجردی طاب ثراه : إنه لا بدّ من البحث عن حقیقة المعنی الحرفی علی ضوء الأمر الواقع ، فما هو واقع الحال فی مثل : سرت من البصرة إلی الکوفة ؟

إن الواقع فی هذا المثال وجود امور فی الخارج ، و وجود معانٍ لا فی

ص:118

الخارج .

أمّا الامور الموجودة فی الخارج فهی :

1 - السیر .

2 - الفاعل .

3 - البصرة .

4 - الکوفة .

فأمّا الامور الاخری ، التی هی معانی غیر موجودة فی الخارج ، بل هی موجودة بالوجود الاندکاکی فهی :

أ - إن السیر الموجود فی الخارج لیس هو مطلق السیر ، بل هو سیر صادر من هذا الفاعل الخاص المعیّن ، و هذا حیث صدوری ، لا یمکن انکاره ، لکنه مندک فی الکلام و لا خارجیّة له .

ب - إن السیر الموجود فی الخارج له جهة ابتداء ، فإنه من البصرة ، و هذا حیث شروعی .

ج - إنّ السیر الموجود فی الخارج له جهة انتهاء ، فإنه إلی الکوفة ، و هذا حیث انتهائی .

فظهر أن فی مثالنا سبعة معان ، أربعة منها خارجیّة و ثلاثة اندکاکیّة ، و الخارج ظرف وجود کلّ هذه المعانی علی هذا الشکل و الترتیب الخاص .

لکنّ ما یتصوَّر و یأتی إلی الذهن من هذا الکلام تارةً یکون علی طبق الموجود فی الخارج ، و اخری یری الذهن کلّ واحدٍ من تلک المعانی الخارجیّة و الاندکاکیّة مستقلّاً عن غیره . فإنْ رآها علی النحو الأوّل فقد رآها مرتبطة ، و إنْ رآها علی النحو الثانی فلا ارتباط بینها ، و لو لا ما یُوجد بینها

ص:119

الارتباط بفعل الذهن ، فإنه یری « سیراً » و « فاعلاً » و « بصرة » و « کوفة » و« حیث شروع » ... و هکذا .

و علی الجملة ، إن هذه المعانی تارةً : تأتی إلیٰ الذهن کما هی مرتبطة فی الخارج ، و اخری : تأتی إلی الذهن متفرقة مستقلّة بلا ارتباط فیما بینها ، فهی بحاجة إلی ما یحقّق الارتباط فیما بینها .

قال : فما کان بحسب اللّحاظ الأوّل [ یعنی اللّحاظ المطابق للخارج ] رابطةً بالحمل الشائع ، یصیر بحسب اللّحاظ الثانی مفهوماً مستقلّاً یحتاج فی ارتباطه بالغیر إلی رابط .

و قال : إن وجدت فی الذهن علی وزان وجودها الخارجی یکون معنیً أدویاً ، و إنْ انتزع عنها مفهوم مستقل ملحوظ بحیاله فی قبال مفهومی الطرفین ، یصیر مفهوماً اسمیّاً (1) .

نقد الشیخ الاستاذ

ذکر شیخنا الاستاذ دام بقاه معلِّقاً علی قول السید البروجردی : بأن ما کان بحسب اللّحاظ الأول رابطةً ، یکون باللّحاظ الثانی معنًی اسمیاً ، فقال :

هل المراد أنّه هو نفسه یصیر معنیً اسمیّاً أو غیره ؟ ظاهر الکلام أنه نفسه ...

و حینئذٍ یستلزم القول بأن الذات الواحدة تصیر بلحاظٍ شیئاً و بلحاظٍ آخر شیئاً آخر ، و هذا معناه ورود الاستقلال و عدمه علی الشیء واحد ، و هو عین مبنی المحقق الخراسانی صاحب ( الکفایة ) .

فکان علی السید البروجردی أن یوافق علی مبنی صاحب ( الکفایة ) ، لکنّه یری الاختلاف الجوهری بین المعنی الاسمی و المعنی الحرفی .

ص:120


1- (1)) نهایة الاصول 16 - 17 .
* رأی المحقق الأصفهانی

إن المعنی الحرفی عبارة عن النسبة الخاصة الموجودة فی مورد تحقّقها ، فالحروف و الهیئات موضوعة للروابط و النسب الخاصة الموجودة فی أنحاء المنسوبات المختلفة و المرتبطة المختلفة (1) .

توضیحه : إن الوجود ینقسم إلی :

1 - الوجود الجامع لجمیع النفسیّات ، و هو اللّٰه عزّ و جلّ ، فإنهم یقولون بأنّه وجود فی نفسه بنفسه لنفسه .

2 - الوجود فی نفسه لنفسه بغیره ، و هو الجوهر .

3 - الوجود فی غیره لغیره بغیره ، و هو العرض .

و فی مقابلها : الوجود الذی لا نفسیّة له أصلاً ، و جمیع أنحاء النفسیّات مسلوبة عنه ، بل نفسیّته بالطرفین و وجوده فی الغیر ، و هذا الوجود غیر محمول علی شیء من الماهیّات ، و إنما هو وجود شیء لشیء ، بخلاف وجود الجوهر ، و وجود العرض ، فإنه وجود محمولی ، نقول : العقل موجود ، القیام موجود ، أما مفاد کان الناقصة : کزید کان قائماً ، فإنه وجود غیر قابل للحمل علی موضوع ، إنه لیس بکون شیء ، بل هو کون شیء - أی القیام - لشیء و هو زید ، فهو کون رابط ، و وجود قائم بوجودین .

و علی الجملة ، ففی الوجودات الخارجیّة وجود شیء ، وجود شیء لشیء ، و الأوّل وجود محمولی دون الثانی .

و کذلک الحال فی المعانی ، فإن هناک معنیً قائماً بنفسه ، و معنیً غیر قائم بنفسه بل ذاته التعلّق بالغیر و القیام بالطرفین ، و هذا القسم هو حقیقة

ص:121


1- (1)) نهایة الدرایة 51/1 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام .

النسبة ، إذ النسب فی جمیع القضایا ذاتها التعلّق و القیام بالمنتسبین ، إذ بمجرد فرض وجود للنسبة فی قبال المنتسبین یلزم احتیاجها إلی النسبة ، و هذا الثالث یحتاج إلی نسبة ، و هکذا .

فوزان حقیقة النسبة وزان الوجود الرابط ، فکما أنّ فی ذات الوجود الرابط التعلُّق و عدم النفسیّة ، فکذا قد وقع التعلّق و عدم الاستقلال فی ذات النسبة . و معانی الحروف من هذا القبیل .

إنّ النسبة التی تحصل بین زید و القیام فی زید القائم - الذی هو مرکّب ناقص - هی مدلول هیئة زید القائم .

و النسبة الحاصلة فی زید قائم - التی هی جملة خبریّة - مدلول هیئة الجملة الاسمیّة .

و النسبة الحاصلة بین السیر و بین المتکلّم هی مدلول هیئة سرت .

و النسبة الحاصلة بین السیر و البصرة - نسبةً ابتدائیةً - هی مدلول کلمة « من » الموجودة فی الکلام .

و النسبة الحاصلة بین زید و الدار - نسبة الظرفیة - مدلول لفظة « فی » .

إذن ، جمیع النسب إما هی مدلولات الحروف أو هی مدالیل الهیئات .

و اتّضح أن المعنی الحرفی هو الواقع الذی یتحقّق به الربط بین أجنبیین ، فهذا الواقع هو معنی الحرف ، و هو غیر مفهوم لفظ النسبة ، و غیر مفهوم لفظ الربط ، بل بین مفهوم الربط و واقعه و مصداقه تباین ، لأن مفهوم الربط مفهوم اسمی ، محتاج إلی الربط ، مستقل فی التعقّل ، بخلاف واقع الربط و مصداقه ، فهو معنی حرفی .

إن هذه النسبة موجودة فی جمیع القضایا ، کقولنا : زید موجود ، و هی

ص:122

مفاد کان التامّة ، و کان زید موجوداً ، و هی مفاد کان الناقصة ، فلا یقال لا نسبة فی مفاد کان التامّة ، ففی کلتا القضیّتین المعنی الحرفی - و هو النسبة - موجود ، لأن المعنی : زید له القیام ، و زید کان له القیام ، فهذه اللّام تجعل زیداً منسوباً إلی القیام .

الکلام علی الاشکالات

و الإشکالات التی أوردت علی هذا المبنی هی :

أوّلاً : إنّه دائماً توضع الألفاظ علی المعانی ، لأن المعانی هی التی تدخل الذهن ، و إذا کانت الحروف موضوعة للوجودات الرابطة ، لزم انتقال الوجود إلی الذهن ، و قد تقرّر فی محلّه أنّ الوجود لا یدخل الذهن ، فلیس معنی الحروف هو الوجود الرابط . و بعبارة اخری : الألفاظ موضوعة للماهیّات ، و الوجود الرابط لا ماهیّة له ، فلا ینتقل إلی الذهن بواسطة الاستعمال معنیً ، لأن الماهیة ما یقال فی جواب ما هو ؟ و هذا لا بدّ و أنْ یکون معنیً مستقلّاً فی المفهومیّة متعقَّلاً ، و لیس الوجود الرابط مستقلّاً فی التعقل ، فهو فاقد للماهیّة ، فلا یقبل الإحضار فی الذهن ، إذن ، لیس هو الموضوع له الحرف .

و فیه : لیس الموضوع له الحرف وجود الرابط ، بل واقع الربط ، و واقع الشیء غیر وجود الشیء ، فالموضوع له « من » - مثلاً - واقع النسبة الابتدائیة لا وجودها .

و ثانیاً : إذا کان الموضوع له واقع النسبة ، فإنه یلزم فی جمیع موارد عدم وجود النسبة أن یکون الاستعمال فی غیر الموضوع له ، و الحال أنّا لا نجد أیّة عنایة فی تلک الموارد ، فینکشف أنه لیس الموضوع له واقع النسبة . مثلاً : فی « وجود الباری فی نفسه واجب » توجد لفظة « فی » و لا فرق بینها [ فی هذا

ص:123

المورد ، الذی لا توجد فیه نسبة ، إذ لا نسبة بین الباری و الظرفیة ] و بین المورد الذی توجد فیه النسبة ، مثل « زید فی الدار » .

و فیه : إنه فی مثل « وجود الباری فی نفسه واجب » لا توجد نسبة فی الخارج ، لکنْ هی موجودة فی الذهن ، و إلّا لم یصح القول بأنّ العلم ثابت للّٰه، فالذهن هو الذی یُوجد النسبة ، و کذلک الحال فی مثل « الإنسان إنسان » حیث أن الذهن یجرّد الإنسان من الإنسانیّة ثم یحمل الإنسان علیه ، و إلّا فلیس یصحّ الحمل ، لأنه فی الخارج إلّا الإنسان .

أقول :

هذا الذی ذکرناه هو خلاصة ما ذکره شیخنا فی الدورة السابقة إشکالاً و جواباً .

لکنه فی الدورة اللّاحقة ، تعرض للإشکالین و أجاب عنهما بتفصیل أکثر و بیانٍ أوسع ، و لإشکال ثالث موجود فی ( المحاضرات ) أیضاً ، و أجاب عنه بالتفصیل کذلک ... و نحن نذکر عمدة المطالب بنحو الإیجاز .

* إشکال ( المحاضرات )

إنه لا دلیل علی نظریّة وجود الرابط سوی البرهان الذی یقولون بأنّ وجود الجوهر معلوم متیقّن ، و کذا وجود العرض ، و لکن وجود العرض للجوهر مشکوک فیه ، و تعلّق الیقین و الشک بشیء واحدٍ فی آنٍ واحدٍ من جهةٍ واحدة محال ، إذن ، متعلّق الیقین هو وجود الطّرفین و متعلّق الشک وجود العرض للجوهر ، فهذا وجود ثالث ، إذن ، تحقّق « الوجود فی نفسه » و هو الجوهر و العرض ، و « الوجود لا فی نفسه » و هو الوجود الرابط ، فی قبال وجود الجوهر و العرض .

ص:124

فأورد علیه فی ( المحاضرات ) بأنّ تحقّق الیقین و الشک فی الذهن لا یکشف عن تعدّد متعلَّقهما فی الخارج ، فإن الطبیعی عین فرده و متّحد معه خارجاً ، و مع ذلک یمکن أن یکون أحدهما متعلَّقاً لصفة الیقین و الآخر متعلَّقاً لصفة الشک ، کما إذا علم إجمالاً بوجود إنسان فی الدار و شکّ فی أنه زید أو عمرو ، فلا یکشف تضادّهما عن تعدّد متعلّقیهما بحسب الوجود الخارجی ، فإنهما موجودان بوجود واحدٍ حقیقة ، و ذلک الوجود الواحد من جهة انتسابه إلی الطبیعی متعلَّق للیقین ، و من جهة انتسابه إلی الفرد متعلَّق للشک .

و ما نحن فیه من هذا القبیل ، فإن متعلَّق الیقین هو ثبوت طبیعیّ البیاض للجدار ، و متعلَّق الشک هو ثبوت حصّةٍ خاصّةٍ من البیاض للجدار ، فلیس هنا وجودان تعلَّق الیقین بأحدهما و الشک بالآخر ، بل وجود واحد حقیقة ، مشکوک فیه من جهةٍ و متیقَّن من جهة اخری .

و تلخّص : إن الممکن فی الخارج إما جوهر أو عرض ، و کلّ منهما زوج ترکیبی ، أی مرکّب من ماهیّة و وجود ، و لا ثالث لهما . و المفروض أن الوجود الرابط سنخ وجود لا ماهیّة له ، فلا یکون لا من الجوهر و لا من العرض ، و لیس فی الخارج إلّا الجوهر و العرض .

مناقشة الاستاذ

قال شیخنا دام بقاه : إن هذا الإشکال ناشئ من عدم ملاحظة کلمات أهل الفن .

إن کان المقصود أنهم یقولون بأنّ هناک فی الخارج للعرض وجوداً غیر وجوده للجوهر - کما فی کلمات البعض - فالإشکال وارد ، لکنّ أعیان أهل الفن لا یقولون مثل هذا الکلام ، و لا حاجة لنقل کلماتهم بالتفصیل ، و إنما

ص:125

نقتصر علی کلمتین من ( الأسفار ) ، ففی مبحث الوجود الرابط ، فی الردّ علی المحقق الدوانی یقول : « فإن الأسود فی قولنا : الجسم أسود ، من حیث کونه وقع محمولاً فی الهلیّة المرکبة ، لا وجود له إلّا بمعنی کونه ثبوتاً للجسم ، و هذا ممّا لا یأبی أن یکون للأسود باعتبار آخر غیر اعتبار کونه محمولاً فی الهلیّة المرکبة وجود ، و إنْ کان وجوده الثابت فی نفسه هو بعینه وجوده للجسم » (1) .

یعنی : إنه لیس فی الخارج إلّا وجود واحد ، و لکنّ هذا الوجود الواحد یتعدّد بالاعتبار ، و هذا الاعتبار الذی یسبب التعدّد یکون فی قضیّتین نحن نشکّلهما .

إحداهما : قضیّة هل البسیطة التی یُسئل فیها عن وجود البیاض ، فهذا اعتبارٌ ، و یقال فی الجواب : البیاض موجود .

و الثانیة : قضیّة هل المرکّبة ، حیث یُسئل فیها عن ثبوت البیاض للجدار و یقال مثلاً : هل الجدار أبیض ؟ فهنا قد جعلنا الوجود محمولاً ، فنقول فی الجواب : الجدار موجود له البیاض .

فالتعدّد إنما جاء من ناحیة الاعتبار ، و إلّا ففی الخارج لیس إلّا وجود واحد ، هذا الوجود الواحد الذی کان قابلاً لأن یکون باعتبار منّا محمولاً علی ماهیّة العرض ، کما فی قولنا : البیاض موجود ، و لأن یکون باعتبارٍ منّا رابطاً فی القضیّة التی نشکّلها نحن و نقول : الجدار موجود له البیاض ، و لأن یقع مفاداً لأحد الأفعال الناقصة ، کأن نقول : الجدار کان له البیاض ، أو یکون له البیاض . و هکذا .

ص:126


1- (1)) الأسفار 331/1 ط مکتبة المصطفوی .

و فی ( الأسفار ) فی فصلٍ قبل الموادّ الثلاث یقول :

« و أمّا الوجود الرابطی الذی هو احدی الرابطتین فی الهلیّة المرکّبة ، فنفس مفهومه یباین وجود الشیء فی نفسه . و فی قولنا : « البیاض موجود فی الجسم » اعتباران ، اعتبار تحقّق البیاض فی نفسه و إنْ کان فی الجسم ، و هو بذلک الاعتبار محمول بهل البسیطة ، و الآخر إنه هو بعینه فی الجسم ، و هذا مفهوم آخر غیر تحقّق البیاض فی نفسه ، و إنْ کان هو بعینه تحقّق البیاض فی نفسه ملحوظاً بهذه الحیثیة ، و إنما یصح أن یکون محمولاً فی هل المرکّبة » (1).

و فی هذا الکلام أیضاً تصریح بما تقدَّم ، فإنه یقول بأن الوجود الرابط یکون فی الهلیّة المرکّبة . و الهلیّة المرکّبة لیست فی الخارج .

و علی الجملة ، فإن المستشکل لو لاحظ هذه الکلمات و تأمّل فیها لما أشکل بما ذکر .

و کذلک کلمات المحقق اللّاهیجی ، الصریحة فی أن الوجود الرابط إنما هو فی التصدیقات المرکبة الإیجابیّة ، فموطن الوجود الرابط لا علاقة له بالخارج ... فإنّه لیس الکلام عن تعدّد الوجود فی الخارج ، نعم صرّح بذلک بعضهم ، لکن هؤلاء لیسوا ممّن یعتمد علی کلامهم فی الفلسفة .

و تحصل :

إن الوجود الرابط فی القضایا و النسب الموجودة فی القضایا هو مدلول الحرف .

فالإشکال مندفع .

و بعد :

ص:127


1- (1)) الأسفار 81/1 ط مکتبة المصطفوی .

فلو فرضنا عدم وجود الوجود الرابط فی عالَمٍ من العوالم أصلاً ، فهل ینهدم بذلک أساس هذه النظریّة ، أعنی نظریّة کون الحروف موضوعةً للنسب ؟

کلّا ...

إنما کان ینهدم لو قال المحقق الأصفهانی بأنّ معانی الحروف هی النسب ، و النسب لیست إلّا الوجود الرابط . لکن هذا المحقق و غیره یقولون بأنّ الوجود الرابط أحد أقسام النسبة ، و إنّه یتحقق فی الهلیّة المرکّبة فقط ، فلو افترضنا أن الوجود الرابط غیر موجود أصلاً ، فإن انتفاء وجوده لا یستلزم انتفاء النسبة .

لقد صرّح فی ( الأسفار ) بأن الوجود الرابط غیر متحقق فی تمام العقود . و الحال أنَّ النسبة متحققة فی تمام العقود . و علی هذا ، فالنسبة بین « الوجود الرابط » و بین « النسبة » هی العموم و الخصوص المطلق .

و کذا صرّح المحقق السبزواری فی ( حاشیة الأسفار ) حیث قال :

« الوجود الرابط إنما یکون فی القضایا الموجبة المرکبة فقط ، و لیس متحقّقاً فی کلّ القضایا » .

فظهر سقوط الإشکال المتقدّم .

* و أمّا الإشکالان الآخران ، فقد تکلَّم علیهما الاستاذ فی الدورة اللّاحقة ، و أجاب عنهما کذلک ، إلّا أنه فصّل الکلام علیٰ الأول منهما ، و هذه خلاصة ما أفاده دام بقاه :

مناقشة الاستاذ

قال : لقد قسّم المحقق الأصفهانی فی ( نهایة الدرایة ) النسبة إلی ثلاثة

ص:128

أقسام : الأول : النسبة التی تکون فی القضایا التی هی مفاد هل البسیطة ، و الثانی : النسبة التی تکون فی القضایا التی هی مفاد هل المرکّبة ، قال : و هذا هو الوجود الرابط ، و منه یظهر أن الوجود الرابط لیس عین النسبة کما جاء فی کلمات بعضهم . و الثالث : النسبة التی تکون من لوازم و مقوّمات الأعراض النسبیّة ، مثل مقولة الأین التی مقوّمها النسبة التی بین زید و الدار ، و هو یری وجود هذه النسبة فی الخارج .

فموطن الوجود الرابط هو القضایا و العقود و الموجبات الحملیّة المرکّبة .

فظهر أن للنسبة أنحاء ثلاثة ، منها : ما یوجد فی الذهن ، و هو النسبة فی جواب هل البسیطة ، و منها : ما یوجد فی الخارج و هو المقوّم للأعراض النسبیّة ، و منها : ما یکون بالاعتبار ، و هو الوجود الرابط ، و هو ما یقال فی جواب هل المرکّبة ، فوجود الوجودات الثلاثة : الجوهر و العرض و النسبة ، إنما هو فی نحوین من الأنحاء الثلاثة ، مع الفرق فی موطن الوجود فیهما ، ففی أحدهما هو الذهن ، و هو ما یقال فی جواب هل البسیطة ، و فی الآخر هو الخارج ، و هو الذی فی الأعراض النسبیة .

ثم نقول : هل للوجود الرابط ماهیّة أو لا ؟

یقول المستشکل : لا ماهیّة له .

و فیه : إن الوجود الرابط وجود إمکانی ، و الوجود الإمکانی یستحیل أن ینفکَّ عن الحدّ ، و إذا استحال انفکاکه عن الحدّ استحال انفکاکه عن الماهیّة .

لکن المهمّ هو : إن الوجود الرابط کما أنّه متقوّم بالغیر وجوداً و لا استقلال له فی الوجود ، کذلک هو غیر مستقل فی حدّ ذاته ، فالوجود الرابط ذات غیر مستقلّة ، ماهیّة غیر مستقلّة ، فله ذات و ماهیّة ، لکنْ بلا استقلال ،

ص:129

و فی کلمات القوم إشارة إلی هذا أیضاً ، و کلام المحقق الأصفهانی فی مواضع عدیدة من کتابه یثبت هذا الذی ذکرناه :

یقول فی ( نهایة الدرایة ) رادّاً علی صاحب ( الکفایة ) : « المعنی الحرفی - کأنحاء النسب و الروابط - لا یوجد فی الخارج إلّا علی نحو واحدٍ ، و هو الوجود لا فی نفسه ، و لا یعقل أنْ یوجد معنی النسبة فی الخارج بوجودٍ نفسی ، فإن القابل لهذا النحو من الوجود ما کان له ماهیّة تامة ملحوظة فی العقل ، کالجواهر و الأعراض » (1) .

فهذا الکلام صریح فی أن النسبة موجودة بالوجود الرابط ، فلو کانت النسبة نفس الوجود الرابط ، فنفس الوجود غیر قابل لأنْ یوجد ، فالمعنی الحرفی معنی قابل لأن یوجد لکنْ لا بالوجود النفسی ، و الوجه فی ذلک : إن ما یقبل الوجود النفسی هو ما یقبل الماهیة التامة .

فهو رحمه اللّٰه ینفی الماهیّة التامّة و یثبت الماهیّة الناقصة ، و المراد من الماهیّة الناقصة هو الماهیّة المتقوّمة بالطرفین .

و یقول : « و الصحیح تنظیرهما بالوجود المحمولی و الوجود الرابط » .

فهو جعل المعنی الاسمی نظیر الوجود المحمولی ، و المعنی الحرفی نظیر الوجود الرابط ، فلو کان المعنی الحرفی نفس الوجود الرابط فما معنی تنظیره به .

و یقول : « مع أن من البدیهی أن حقیقة النسبة لا توجد فی الخارج إلّا بتبع وجود المنتسبین من دون نفسیّة و استقلال أصلاً ، فهی متقوّمة فی ذاتها بالمنتسبین لا فی وجودها فقط » .

ص:130


1- (1)) نهایة الدرایة 51/1 - 52 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام .

فمن هذا الکلام أیضاً یظهر أن النسبة لیست الوجود و إلّا فلا معنی لقوله : فی ذاتها ، لا فی وجودها فقط .

و یقول : « و أما حقیقة المعنی الحرفی و المفهوم الأدوی فهو ما کان فی حدّ ذاته غیر استقلالی بأیّ وجود فرض » .

أی : الذات - سواء فرضت بالوجود الذهنی أو الخارجی - غیر استقلالیّة ، و قد تصوّر المستشکل أن معنی الحرف منحصر بالوجود و الوجود غیر مستقل ، و بین هذا و کلام المحقّق الأصفهانی فرق کبیر .

و تلخّص : إن معنی الحرف ذات غیر مستقلّة فی وجودها ، سواء فی وعاء الذهن أو وعاء الخارج ، و المستشکل تصوّر أن المعنی هو الوجود غیر المستقل ذهناً و خارجاً .

ثم إن المحقّق الأصفهانی ملتفت إلی الإشکال بأن الالتزام بکون وضع الحروف للنسب یتنافی مع المبنی ، و هو أن الألفاظ غیر موضوعة للوجودات ، و لذا یقول فی کتاب ( الاصول علی النهج الحدیث ) : « و لا یخفی علیک : إن ما ذکرنا فی حقیقة المعنی الحرفی لا ینافی ما قدّمناه فی الوضع ، من أن طرفی العلقة الوضعیّة طبیعیّ اللّفظ و طبیعیّ المعنی ، فإن المراد هناک عدم دخل الوجود العینی و الوجود الذهنی فی الموضوع و فی الموضوع له ، و إنْ کان الموضوع له ماهیّة شخصیّة کما فی الأعلام » .

أی : لا یتوهّم أن ألفاظ الحروف إن کانت موضوعة للنسب ، فهو ینافی المبنی فی وضع الألفاظ . قال : « فالنسبة الحقیقیّة و إنْ کانت متقوّمة بطرفیها الموجودین عیناً أو ذهناً ، إلّا أن الموضوع له ذات تلک النسبة المتقوّمة بهما ، من دون دخلٍ لوجود طرفیها فی کونها طرفاً للعلقة الوضعیّة ، و إنْ کان لهما

ص:131

دخل فی ثبوتها ... » (1) .

و تلخّص :

إن معانی الحروف لیس هو الوجود الرابط ، بل الموجود بالوجود الرابط ، و قد وقع الخلط بینهما فی کلمات المستشکل ، و اتّضح بطلان القول بأن الوجود الرابط لا ماهیّة له و لا ذات .

بل للحرف ماهیّة ، لکنها ناقصة ، بمعنی أنها متقوّمة بالطرفین ، فلا تکون قابلة للإحضار فی الذهن إلّا مع الطرفین .

إن الذی یدخل الذهن هو الماهیّة و لیس الوجود ، إذ الوجود إما ذهنی أو خارجی ، فدخول الوجود الذهنی یستلزم اجتماع المثلین ، و دخول الوجود الخارجی یستلزم اجتماع المتقابلین ، فالوجود غیر قابل لدخول الذهن ، و هذا ما صار سبباً للإشکال المتقدم ، إذ جعل المعنی الحرفی الوجود الرابط ، فوقع الإشکال .

إن الذی یدخل فی الذهن هو الماهیّة ، و الماهیّة تارة تکون بحیث تدخل بنفسها ، و تارة تدخل مع غیرها ، فالنسبة بین زید و الدار ، و کونه فیها المدلول بلفظ « فی » هذا المعنی لیس هو الوجود بالوجدان ، لکن دخوله فی الذهن لا یکون إلّا بوجود زید و الدار معه .

فهذا هو مطلب القوم ، و الإشکال المذکور غیر وارد علیه .

تنبیه

قد تقدّم أن ظاهر کلماتهم أو صریحها أن النسبة بین « النسبة »

ص:132


1- (1)) الاصول علی النهج الحدیث (بحوث فی الاصول) : 26 ط جامعة المدرّسین .

و« الوجود الرابط » هو نسبة العام و الخاص ، و أنّ الوجود الرابط مختص بالهلیّات المرکّبة .

لکن المحقق الأصفهانی یصرّح فی موضع آخر بأنّ النسب و الروابط موجودة بوجود رابط ، فکیف الجمع بین الاختصاص المذکور و بین کون النسب موجودة ؟

قال الاستاذ : بأنّ هذا الاختلاف موجود فی کلمات صاحب الأسفار و السبزواری أیضاً ، و هذا هو الموجب لاختلاف کلمات الاصولیین .

فمثلاً : یقول السبزواری فی حاشیة ( الأسفار ) تعلیقاً علی قول الماتن بأن إطلاق الوجود علی الوجود فی نفسه و الوجود الرابط هو بنحو المشترک اللّفظی ، یقول هناک (1) : لو لم یکن للنسبة وجود لانعدم التمییز بین القضیّة الصّادقة و الکاذبة ، حیث یقال فی التمییز بینهما إن الخبر لو کان له مطابق فهو صادق و إلّا فکاذب ، و المطابق و غیر المطابق إنما هو للنسبة ، فالنسبة موجودة لا محالة .

و یقول السبزواری فی مبحث الجواهر و الأعراض ، فی مقولة الأین ، فی حاشیة ( شرح المنظومة ) ردّاً علی اللاهیجی و غیره القائلین بأن الأین عبارة عن نسبة الشیء إلی المکان ، یقول : إن هذا باطل ، لأن النسبة من الاعتباریّات ، فلو کان الأین هو نسبة الشیء إلی المکان ، لزم أن تکون مقولة الأین اعتباریةً (2) .

فظهر أنّ بین کلماتهم تهافتاً واضحاً .

ص:133


1- (1)) الأسفار 80/1 ط مکتبة المصطفوی .
2- (2)) شرح المنظومة : 391 ط دار المرتضی .

و قد یمکن رفع هذا التناقض و التهافت بأنْ یقال :

إنّ قولهم بعدم وجود الوجود الرابط فی الخارج ، ناظرٌ إلی غیر الأعراض النسبیّة ، کما بین الجدار و البیاض ، فإنه لا نسبة بین ذاک الجوهر و هذا العرض ، إلّا أنه فی الاعتبار یربط بینهما و یقال : الجدار أبیض ، أی :

کائن له البیاض ، أمّا فی الخارج فالوجود واحد ، إذ الوجود الذی هو وجود البیاض هو وجود للجدار أیضاً .

و قولهم بالوجود الخارجی للنسبة بالوجود الرابط ، یقصدون منه الأعراض النسبیّة ، حیث أن النسبة مقوّمة للعرض ، و إذا کان العرض موجوداً خارجاً استحال أنْ لا تکون النسبة موجودةً خارجاً .

و لیرجع إلی کلام صاحب ( الأسفار ) بضمیمة کلام ملّا إسماعیل فی ( حاشیة الشوارق ) .

إشکال الاستاذ علی نظریّة المحقق الأصفهانی

أفاد شیخنا الاستاذ بعد ردّ ما ذکره عن ( المحاضرات ) بأنّ نظریّة المحقق الأصفهانی هی أحسن ما قیل فی المقام .

ثم ذکر تأمّلاً فیه فقال : إذا کان الموضوع له الحرف هو حقیقة النسبة ، فکلّ نسبة جزئیة هی موضوع له الحرف ، و کان هناک معنیً اسمی تفهم تلک الجزئیّات بواسطته ، فکیف یمکن وجود جامعٍ بین حیثیّات متباینة ؟

و أیضاً : إذا کان الموضوع له « فی » - مثلاً - حقیقة النسبة ، و أن الذی یدخل الذهن من هذا اللّفظ معنی واحد فی أیّ استعمال ، و الاختلاف إنما هو من ناحیة الطرفین ، کما نقول : زید فی الدار ، و عمرو فی المدرسة ، فما معنی قولهم : الموضوع له واقع کلّ نسبةٍ نسبةٍ منفردةً ؟

ص:134

قال : فهذان إشکالان لا ینحلّان .

هذا فی الدورة السّابقة .

و أمّا فی الدّورة اللّاحقة ، فقد تکلّم علی هذه النظریة بالتفصیل ، و سیتّضح ذلک من خلال بیان مختاره دام ظلّه ، و موارد الافتراق بینه و بین أنظار الأعلام .

رأی شیخنا الاستاذ فی معانی الحروف

قال دام ظلّه : لیس مختارنا مبنی المحقق الأصفهانی علی إطلاقه ، و لا مبنی المیرزا علی إطلاقه ، و بیان ذلک :

إن الحروف تنقسم إلی أقسام ، ( فمنها ) الحروف التی تستعمل فی موارد الأعراض النسبیة ، کقولنا : زید فی الدار و عمرو علی السطح ، و هکذا ...

فإن هذه الجمل تشتمل علی مفاد « است » بالفارسیة ، هو مدلول هیئة الجملة الاسمیة ، و علی معنیً واقعی ، و هو ظرفیّة الدار لزید مثلاً ، یحکی عنه « فی » فإن الظرفیة ، و کذا الفوقیة ، و هکذا - أمر واقعی موجود ، و لیس ممّا یصنعه أو یعتبره الذهن ، غیر أنّ « فی » تدلّ علی تحقّق هذا الأمر الواقعی فی مورد « زید » و « الدار » و تفید الربط بینهما ، ذلک الربط الخاص الذی هو ظرفیّة الدار لزید ، کما هو الحال تماماً فی مثل عمرو علی السطح ، فی معنی الفوقیّة ، و غیر ذلک .

فهذا القسم من الحروف موجدة بهذا المعنی ، أی : موجدة للربط بین المفاهیم بما لها من الحکایة عن الواقع ، فالنسبة موجودة حقیقة ، و لیست بأمرٍ اعتباری ، و قد کان هذا منشأ الإشکالات المذکورة فی ( المحاضرات ) و التی أوضحنا اندفاعها کلّها .

ص:135

و تلخّص : إن قسماً من النسب فی المعانی الحرفیّة متحققة ، و الحروف فی هذا القسم تکون حاکیةً عن النسب ، مثل نسبة الظرفیّة بین الدار و زیدٍ ، و الاستعلائیة بین عمرو و السطح ، و الابتدائیة بین السیر و الکوفة ، و هکذا .

و قد تکون هذه الحروف مفیدةً للنسب ، و لکن لا تحقّق لتلک النسب فی الخارج ، و إنما فی الذهن فقط ، کما فی قولنا : « شریک الباری فی نفسه ممتنع » فإن « فی » هذه مفیدة لمعنی الظرفیّة أیضاً ، لکنها ظرفیّة تعملیّة و بتصرف من الذهن ، فلها مفاهیم ، لکن موطنها الذهن فقد توجد هناک و قد لا توجد .

و بما ذکرنا فی معنی هذا القسم ظهر : أنّ مدالیل هذه الحروف - فی مثل زید فی الدار و نحوه - لیست محصورةً باُفق الاستعمال - کما نقله بعض تلامذة المیرزا النائینی عنه - بل هی امور خارجیّة ، و تلک الحروف حاکیة عنها .

( و منها ) الحروف غیر الحاکیة عن نسبةٍ ، مثل حرف النداء ، فإنه لا نسبة بین المنادی و المنادیٰ تحکی عنها کلمة « یا » بل هی موجدة للنسبة وفاقاً للمحقق النائینی ، فما ذکره حق فی هذا القسم من الحروف ، و یصح تسمیتها بالإیجادیّة بهذا الاعتبار ، فلفظة « یا » - مثلاً - توجد النسبة الندائیّة بین المنادی و المنادیٰ .

( و منها ) الحروف التی لا تدلّ علی النسبة ، لا حکایةً و لا إیجاداً ، مثل « اللّام » التی للعهد الذهنی ، فإنه لا استقلال لمعنی « أل » بل هو قائم بالغیر ، و ذلک المعنی هو التعریف ، و هذا ما نصّ علیه الخواجة فی ( أساس الاقتباس ) . و علی الجملة ، فمدلول هذا الحرف هو الخصوصیّة التی توجد الذهن لمدخوله ، و هی کونه معرفةً فی قبال النکرة .

ص:136

فظهر أن المختار لدی الاستاذ دام بقاه هو التفصیل بین الحروف ، فلا هی إخطاریّة مطلقاً ، و لا هی إیجادیّة مطلقاً .

إلّا أن الذی لا بدّ من التنبیه علیه و الالتفات إلیه هو : أنه هل یوجد فی کلّ موردٍ یکون الحرف إخطاریّاً و لمعناه خارجیةً أمران ، أحدهما : العرض النسبی ، و الآخر النسبة ، و کلّ منهما موجود فی الخارج ، بأنْ یکون فی « زید فی الدار » مثلاً ظرفیّة قائمة بالدار و مظروفیّة قائمة بزید ، و إلی جنب ذلک توجد نسبة بین « الدار » و « زید » هی مدلول « فی » ؟

قیل : نعم . و هو للمحقق الأصفهانی و نسبه إلی أهل التحقیق .

و قیل : الموجود فی الخارج لیس إلّا الظرفیّة و المظروفیّة ، و أما النسبة فهی من صنع الذهن ، و هذا هو المستفاد من کلمات صاحب ( الکفایة ) .

و قیل : إن الموجود فی الخارج هو النسبة فقط ، و هو المستفاد من کلمات الخواجة فی تعریف الأین .

و توضیح کلام المحقق الأصفهانی هو : أنه فی الأعراض النسبیّة یوجد سنخان من المعنی ، أحدهما : الهیئة الحاصلة من کون الشیء فی المکان ، فی مقولة « الأین » و من کونه فی الزمان ، فی مقولة « متی » و هکذا . و الآخر : هو معنی الحرف الموجود بوجودٍ لا فی نفسه - و قد ذهب هذا المحقق إلی أن للوجود درجات ، أقواها وجود الجوهر ، ثم وجود الأعراض غیر النسبیة مثل « الکیف » ثم وجود الأعراض النسبیة مثل « الأین » و « متی » ثم وجود الإضافة ، و أضعف منها وجود النسبة - و بناءً علی ما ذکره ، ففی مثل « زید فی الدار » یوجد :

الجوهر : زید و الدار . و أعراض غیر نسبیّة قائمة بالدار و بزید ، و عرضان

ص:137

نسبیّان ، و نسبة .

و کلّ هذه لها وجود فی الخارج .

لقد حصلت من کون زید فی الدار هیئة لزید هی من مقولة الأین ، و حصلت إضافة هی مظروفیّة زید بالنسبة إلی الدار ، و ظرفیة الدار بالنسبة إلی زید . فتحقّق « أین » و « إضافة » و هناک أیضاً « نسبة » هی نسبة زید إلی الدار .

و یضیف المحقق المذکور أن بین « الظرفیّة » و بین « النسبة » التی هی معنی « فی » - الموجودین خارجاً - تبایناً ، لأن الظرفیّة من مقولة الإضافة ، و هذه المقولة فی ذاتها و حدّها و تعریفها مستقلّة ، و کذا فی وجودها و إن کان قائماً بالغیر ، لأنه وجود محمولی و نفسی . أمّا « النسبة » التی هی مدلول « فی » فهی غیر مستقلّة لا فی ذاتها و لا فی وجودها .

و علی هذا ، فلیست النسبة بین « الظرفیّة » و بین « النسبة » نسبة الکلّی إلی الفرد ، و لا العنوان إلی المعنون ، و ذلک : لأن فرد « الإضافة » له وجود محمولی ، و لکن أنحاء النسب فوجودها وجود رابط و وجود لا فی نفسه ، و لأنّ العنوان یکون دائماً حاکیاً عن المعنون ، و الظرفیّة لا حکایة لها عن النسبة .

فلیست النسبة بینهما نسبة العنوان إلی المعنون و لا الکلیّ إلی الفرد .

و بما ذکرنا ظهر أیضاً : إن المعانی الحرفیّة وجودات هی أضعف جمیع الوجودات ، لأنه وجود فی الغیر ، و لا یقبل الحمل بالاستقلال علی معنی ، و إنه لا معنی له بدون طرفیه ، و ما یکون کذلک یکون ناقصاً فی معنویّته ؛ بخلاف الإضافة ، فإنها فی حدّ معنویّتها لیست ناقصةً .

ص:138

هذا تمام کلام هذا المحقق .

النظر فی کلام المحقق الأصفهانی

و أفاد شیخنا الاستاذ - بعد أن ذکر کلام المحقق الأصفهانی - فی بیان مختاره فی المقام : بأنه لا یوجد فی مورد الحروف التی مدالیلها الأعراض النسبیّة مثل «فی» و « إلی » و « علی » إلّا معنی واحد ، فلا یتبادر إلی الذهن من لفظة « من » - مثلاً - معنیان متباینان أحدهما الابتداء و الآخر معنی « من » ، و لا یتبادر من « فی » معنیان متباینان أحدهما الظرفیّة و الآخر مدلول « فی » و هکذا ، بل لیس هناک إلّا معنی واحد ، هو فی مورد استعمال الحرف آلی و فی مورد استعمال الاسم استقلالی ، و المعنی فی « علی » و « الاستعلاء » و فی « من » و « الابتداء » واحد ، و کذا فی أمثالهما ، و لا تغایر فضلاً عن التباین .

فما ذکره مخدوش بالوجدان .

إنه لا ریب فی إفادة « فی » فی قولنا : زید فی الدار : کون زید فی هذا المکان الخاص ، فهو معنی زائد علی الکون العام و المکان المطلق ، فبواسطة هذا الحرف تحقّق الظرفیّة و المظروفیّة بالاعتبار من الذهن ، و إلّا فالموجود فی الخارج لیس إلّا معنی واحد و هو مدلول الحرف . و یشهد بذلک کلام الخواجة فی مدلول اللّام التی هی للتعریف ، فلیس فی قولنا : « العالم » معنیان متباینان أحدهما التعریف و الآخر مدلول اللّام .

و یدلّ علی ذلک - مضافاً إلی الوجدان - أنا یمکننا إفادة المعنی الواحد بالإتیان بالاسم بدلاً عن الحرف ، و لو کان تغایر بین الاسم و الحرف فی المعنی لتفاوت المعنی ، و الحال أنْ لا تفاوت ، فلنا أن نقول : ابتداء سیری من البصرة إلی الکوفة ، کما نقول : سرت من البصرة إلی الکوفة ، و لا یتغیّر المعنی أصلاً ،

ص:139

کما یصحّ أن یقال : الإناء ظرف للماء ، بدلاً عن : الماء فی الإناء ، بلا فرقٍ فی المعنی أصلاً ، و بکلٍّ منهما یصح الجواب عن السؤال : ما ذا فی الإناء ؟ و لو کان ثمَّ اختلاف فی المعنی لما صحّ الجواب بکلٍّ منهما علی السّواء .

و علی الجملة ، فإنه مضافاً إلی عدم البرهان علی ما ذکره المحقق الأصفهانی ، فالبرهان قائم بالإضافة إلی الوجدان علی خلافه .

و تلخص : إن معانی الحروف فی الحقیقة هی النسب فقط [ و المعانی الاسمیّة المساوقة لها - مثل : الظرفیّة ، الابتداء ، الاستعلاء ، الانتهاء ... - لا وجود لها فی الخارج ] و هی معانی متقوّمة بالغیر .

و هذا التقوّم دخیل فی المعنی خلافاً لصاحب الکفایة إذ قال بعدم دخل التقوّم بالغیر فی المعنی .

و لیس کلّها إیجادیّة خلافاً للمیرزا .

و لیس کلّها إخطاریّة خلافاً للأصفهانی .

و لیس الأعراض النسبیّة خلافاً للعراقی ، علی ما یستفاد من تقریرات بحثه .

و أیضاً : مدالیل الحروف هی النسب فقط وفاقاً للعراقی ، علی ما استفدناه من ( المقالات ) .

و لا یوجد فی مثل « زید فی الدار » إلّا معنی واحد ، و هو النسبة التی هی مدلول « فی » ، خلافاً للأصفهانی ، کما تقدّم .

و نسبة الأصفهانی ما ذهب إلیه إلی المحققین غیر واضحة ، فالشیخ فی إلهیّات ( الشفاء ) یحاول فی بحث المضاف أن یثبت للإضافة وجوداً ، و لا یظهر منه أن یرید إثبات وجودٍ للنسبة ، و بهمنیار فی کتابه ( التحصیل ) - و هو

ص:140

تقریر درس الشیخ - فی تحلیل الوضع ، یصرّح بأن الوضع عبارة عن نسبة الأجزاء بعضها إلی بعض (1) ، و أیضاً ، یصرّح بأنّ الإضافة نسبة ، لکن لیس کلّ نسبة إضافة ، فالإضافة نسبة متکرّرة (2) . و لا دلالة فی کلامه علی تحقّق هیئة للمتضایفین من النسبة المتکرّرة .

ثم إنه بما ذکرنا - من صحّة وضع الحروف للنسب - ینهدم أساس ما ذهب إلیه المحقق الخوئی من أن المعنی الموضوع له الحرف هو التضییق فی المعنی الاسمی ، لأنّ النسبة وجود رابط ، و اللّفظ لا یمکن وضعه للوجود .

فقد عرفت أنّ الصحیح هو الوضع للنسب ، علی أنّ التضییق فی المعانی الاسمیّة بواسطة الحروف مسلَّم ، لکنّ کون ذلک هو المعنی الموضوع له الحرف أوّل الکلام ، فما ذکره خلط بین اللازم و الملزوم .

هذا تمام الکلام فی معانی الحروف ( الجهة الاولی ) .

ص:141


1- (1)) کتاب التحصیل : 33 .
2- (2)) کتاب التحصیل : 409 .

الجهة الثّانیة: فی کیفیة وضع الحروف

اشارة

و ذلک یتفرّع علی الأنظار فی الجهة الأولی .

فأمّا علی مبنی المحقق الخراسانی فی المعنی الحرفی ، من أنه الطبیعی ، فلا ریب فی کون الوضع عامّاً و الموضوع له عامّاً کذلک .

و أمّا علی مبنی المحقّق الأصفهانی ، فالموضوع له عبارة عن الخصوصیّات ، فالموضوع له خاص و الوضع عام .

لکنْ یرد علیه : أنّ المنسبق من « فی » فی « زید فی الدار » هو نفس المعنی المنسبق منه فی « الکتاب فی المدرسة » فلا مغایرة بین الخصوصیّة فی هذه النسبة عن تلک ، حتی یکون الموضوع له نفس الخصوصیّة ، و إنما یکون الفرق بین الجملتین باختلاف الطرفین ، و کذلک الحال فی المعنی الاسمی .

فإذن ، لیس الموضوع له فی الحروف تلک الخصوصیّة ، بل إنّ تلک الجهة المشترکة بین الموارد هی المعنی الموضوع له ، و لذا یکون الموضوع له عامّاً کالوضع .

و من هنا ، فإنّ المیرزا - مع قوله بإیجادیّة الحروف ، و تقوّمها بالطرفین ، المستلزم لأنْ یکون معنی الحرف فی کلّ مرّةٍ من استعماله غیر معناه فی المرّة الاخری - یذهب إلی أن الموضوع له عام و لیس بخاص ، و ذلک ، لأنه یری بأنّ

ص:142

المعنی الحرفی و إن کان متقوّماً بالطرفین ، إلّا أن هذا التقوّم خارج عن ذات المعنی ، و کذا الطرفان ، و إذا کان التقوّم و الطرفان خارجةً عن ذات المعنی لم تبق خصوصیّة فی المعنی ، بل إن تلک الوحدة السنخیّة الموجودة فی جمیع موارد استعمال الحرف هی الموضوع له ذلک الحرف ، فیکون عاماً لا خاصّاً .

و الحاکم بما ذکرناه - من خروج التقیّد و الطرفین عن ذات المعنی ، و إن کان التقوّم بهما ضروریّاً بحسب الوجود ، فیکون المعنی هو القدر المشترک و الوحدة السنخیّة - هو الارتکاز ، إذ مفهوم « الظرفیّة » واحد فی جمیع موارد استعمال «فی» و کذا غیره من الحروف ، وعلیه ، فیکون الموضوع له عامّاً .

و المحقق العراقی القائل بأن المعنی الحرفی غیر مستقل وجوداً و مفهوماً ، یری أنّ الموضوع له عام .

و کذا المحقق الحائری ، فهو یقول بذلک مع قوله بآلیّة المعنی الحرفی .

و هؤلاء الأعلام لم یمکنهم تصوّر أنّ معنی « فی » و مدلولها فی « زید فی الدار » یختلف عنه فی « الکتاب فی المدرسة » ، وعلیه یکون الموضوع له تلک الجهة المشترکة و الوحدة السنخیّة ، و هذا هو الحق ، و من الواضح أن تلک الوحدة لا تحتاج إلی الطرفین ، و إنما المحتاج إلیهما هو الحرف عند تفرّده .

و تلخص :

إن الحروف مدالیلها هی النسب ، و الواحد بالسنخ و القدر المشترک بینها هو الموضوع له ، فالوضع عام ، و الموضوع له عام ، و المستعمل فیه عام .

ص:143

ثمرة البَحث
اشارة

و أما ثمرة البحث عن المعنی الحرفی و کیفیّة الوضع فی الحروف :

فالثمرة الاولی :

تقوّم مفهوم الشرط بکلیّة المعنی فی مفاد الهیئات و الحروف .

و توضیح ذلک : إن مفهوم الشرط أهم المفاهیم المعتمدة فی الفقه ، و إنما یتحقق هذا المفهوم - کما سیجیء فی محلّه - بانتفاء سنخ الحکم عند انتفاء الشرط ، لأن الذی یتوقف علی الجعل هو انتفاء سنخ الحکم ، و أما شخص الحکم فانتفاؤه بانتفاء موضوعه غیر محتاجٍ إلی الجعل .

فإن قلنا بکون معانی الحروف جزئیةً و شخصیّة ، کان معنی الهیئة فی « أکرمه » شخصیّاً ، و انتفاء هذا الشخص بانتفاء « مجیء زید » عقلی . و إنْ قلنا بأن معانی الحروف - و کذا الهیئات - کلیّة ، و إنْ کان لها وحدة سنخیّة ، تحقّق المفهوم للجملة الشرطیّة .

و الثمرة الثانیة :

فی رجوع القید إلی المادّة أو الهیئة ؟

إنه إن کان المعنی الحرفی هو الطبیعی کما قاله صاحب ( الکفایة ) ، فالأمر فی باب رجوع القید إلی الهیئة سهل ، لأنّ المعنی الحرفی حینئذٍ یقبل الإطلاق و التقیید ، فیرجع القید فی الواجب المشروط إلی مفاد الهیئة .

و أمّا بناءً علی جزئیة المعنی الحرفی و شخصیّته ، فیشکل الأمر ، لأن الجزئی غیر قابل للتقیید ، و مع عدم حلّ هذه المشکلة لا مناص من الالتزام

ص:144

برجوع القید فی الواجب المشروط إلی المادة و الواجب ، فلا یبقی « مفهوم الشرط » بل تکون تلک الجمل من مفهوم الوصف و القید .

و الثمرة الثالثة :

هل معانی الحروف تقبل الإطلاق و التقیید ؟

قالوا : إن قلنا بأن معانی الحروف معانی استقلالیة ، فهی قابلة للإطلاق و التقیید ، و إنْ قلنا بأنها آلیّة ، فلا تقبل ذلک ، إذ المتکلِّم یجرّد المعنی عن القید ، فإنْ أخذه لا بشرط بالنسبة إلیه فقد جعله مطلقاً ، و إنْ أخذه فیه فقد جعله مقیّداً .

و بعد :

فعلی ما اخترناه فی المعنی الحرفی و کیفیة وضع الحروف ، فإنّ مفهوم الشرط متحقق ، و توجه التقیید إلی مدلول الهیئة فی الجملة الشرطیة لا غبار علیه ، و اللّٰه العالم .

ص:145

ص:146

الإنشاء و الإخبار

اشارة

ص:147

ص:148

هل یوجد فرق جوهری بین الجملة الإنشائیّة و الجملة الإخباریّة ، أو لا؟

فیه قولان ، قال صاحب ( الکفایة ) بالثانی .

رأی المحقق الخراسانی

قال : لا یبعد أن یکون الاختلاف بین الخبر و الإنشاء من قبیل الاختلاف بین الاسم و الحرف ، فکما أن الموضوع له و المستعمل فیه فی الاسم و الحرف واحد ، و التفاوت هو بکیفیة الاستعمال من جهة اللحاظ الآلی و الاستقلالی ، کذلک الإنشاء و الإخبار ، و قد قیّد الواضع و اشترط علی المستعمل أنه متی کان الداعی للاستعمال هو الحکایة ، فیأتی بالجملة الخبریة ، و متی کان الداعی للاستعمال هو الإنشاء ، فإنه یستعمل الجملة الإنشائیة ، فلا اختلاف جوهری ، بل الاختلاف هو باختلاف دواعی الاستعمال .

توضیحه :

إنه لا یخفی أنّ الجملة علی ثلاث أقسام ، فمنها : الجملة المتمحّضة فی الخبریة ، کقولک : قمتُ . و منها : الجملة المتمحّضة بالإنشائیة ، کقولک : قم ، لا تقم ، و منها : الجملة المشترکة بینهما ، کصیغ العقود و الإیقاعات ، مثل : أنت حر ، و بعت ، و کذا مثل : أطلب منک القیام ، فإنّ هذه الجملة تصلح لأن تکون إخباراً ، و لأنْ تکون إنشاءً .

ص:149

و المفاهیم تنقسم إلی قسمین ، فمنها : مفاهیم توجد بأسبابها و لا دخل للجعل و الاعتبار فیها ، لا فی وجودها و لا فی عدمها ، و هی الجواهر و الأعراض ، و منها : المفاهیم التی یتوقف وجودها علی الجعل و الاعتبار ، کالملکیة و الزوجیّة و أمثالهما . فهذا تقسیم .

و تقسیم آخر للمفاهیم هو : إن من المفاهیم ما لیس له إلّا سنخ واحد من المصادیق ، کالکتابة مثلاً ، و منها ما له سنخان من المصادیق ، مصداق من سنخ التکوین ، و مصداق من سنخ الاعتبار ، کالبعث ، فله فرد خارجی و فرد اعتباری یتحقق بهیئة صلّ مثلاً .

و لا یخفی أیضاً : أن النسب علی أقسام : النسبة التحقّقیة مثل ضَرَبَ ، و التلبسیّة مثل ضارب ، و الإیجادیة مثل : ضربتُ ، و التوقّعیة مثل : یضربُ ، و البعثیة مثل : اضرب .

یقول المحقق الخراسانی : إنّ الإخباریة و الإنشائیة من دواعی الاستعمال لا من أجزاء و قیود المعنی المستعمل فیه ، فالموضوع له و المستعمل فیه فی مثل « بعت » شیء واحد ، ففی هذه الصیغة توجد مادّة هی البیع ، و ضمیر المتکلّم : التاء ، و هیئة وردت علی المادة تربطها بالمتکلّم و تفید نسبة المادة - أی البیع - إلی المتکلّم نسبةً إیجادیة ، فإن أراد تفهیم وقوع البیع منه و وجوده منه من قبل ، کان خبراً ، و إنْ أراد تفهیم وقوع البیع منه و إیجاده بنفس هذا الاستعمال ، فی وعاء الاعتبار ، کان إنشاءً .

إذن ، حصل الاختلاف من ناحیة القصد و الداعی لاستعمال الجملة ، و إلّا فمدلول الجملة و المعنی المستعملة فیه لهما واحد ، إذ المستعمل فیه نفس النسبة فقط ، لکن تارةً بهذا القصد و اخری بذاک القصد ، من غیر دخلٍ للقصد

ص:150

و الداعی علی الاستعمال فی المعنی الموضوع له و المستعمل فیه .

هذا تمام الکلام فی توضیح مبنی صاحب ( الکفایة ) .

رأی المشهور

و قال جمهور الاصولیین بتعدّد مدلول الجملتین ، فمدلول هیئة الجملة الخبریّة ثبوت النسبة خارجاً ، مثل ضربتُ ، حیث یحکی عن تحقّق النسبة فی الخارج ، أو ذهناً حیث یحکی عن ثبوتها فی عالم الذهن ، أو عن ثبوتها فی وعاء الاعتبار عند ما یقال بعتُ . و مدلول الجملة الإنشائیة هو عبارة عن الإیجاد بواسطة الهیئة ، و هو علی نحوین ، فتارةً : توجد المادّة بواسطة الهیئة کما فی ألفاظ العقود و الإیقاعات ، فلمّا تقول : بعت ، فإنک توجد مادّة البیع بهذه الهیئة ، و تتحقق المبادلة بین المالین . و اخریٰ : توجد النسبة البعثیّة ، کما فی قم و اضرب ... فلیس مدلول الهیئة فی الإنشاء ثبوت النسبة بل إیجادها ، و هو إمّا إیجاد النسبة کهیئة قم ، و إما إیجاد المادّة کهیئة بعت .

فالتقابل بین مدلولی الجملتین تقابل الثبوت و الإثبات ، و الإیجاد داخل فی ضمن المعنی و جزء له فی الإنشاء ، کما أن ثبوت النسبة کذلک فی الخبر .

و هنا مرکز الاختلاف بین قول الکفایة و قول المشهور ، فالمدلول علی الأول هو النسبة وحدها ، و الثبوت و الإثبات خارجان عن المعنی الموضوع له ، أما علی الثانی فهما داخلان فی ذات المعنی و المدلول ، فثبوت النسبة مدلول الخبر ، و الإنشاء هو إثبات النسبة و إیجادها ، تارةً بإیجاد المادّة کما فی « هی طالق » مثلاً ، و اخری بإیجاد النسبة کما فی اضرب مثلاً ، إذْ توجد النسبة بین الضرب و المخاطَب .

ص:151

رأی بعض المحققین علی ضوء قول المشهور

و للمحقّقین الأصفهانی و الخوئی أنظار فی قول المشهور فی حقیقة معنی الجملة الخبریّة و معنی الجملة الإنشائیة ، و من خلالها یظهر مختارهما فی معنی الجملتین .

رأی المحقق الأصفهانی

و ذهب المحقق الأصفهانی إلی أن حقیقة الإنشاء و الإخبار هو إیجاد الأمر النسبی بالوجود اللّفظی ، فإن کان له ما وراء و قصد الحکایة عنه باللّفظ فهو خبر ، و إنْ لم یکن له ما وراء حتی یکون اللّفظ حاکیاً عنه فهو إنشاء .

فالفرق بین قوله و قول المشهور هو : إنهم یقولون : فی الإنشاء نوجد المعنی باللّفظ ، فاللّفظ علّة لوجوده ، فهیئة « بعت » موجدة للبیع و الملکیة فی عالم الاعتبار ، و هو یقول : إنه یکون للمعنی وجود مجازی باللّفظ ، لا أن المعنی یوجد بسبب اللّفظ ، فإن کان هذا الموجود المجازی الجعلی له ما وراء قصد الحکایة عنه فهو خبر ، و إلّا فهو إنشاء . و بهذا یظهر الفرق بین « بعت » إنشاءً و إخباراً ، و أن التقابل بین الإنشاء و الإیجاد تقابل العدم و الملکة أو السلب و الإیجاب .

و هذا رأیه الذی اختاره فقهاً و اصولاً ، تعرّض له فی باب الطلب و الإرادة (1) ، و فی ( تعلیقة المکاسب ) (2) .

و عمدة الکلام هو فی حقیقة الإنشاء ، و إلیک توضیح مذهبه فیه :

إن ما ذهب إلیه المشهور فی حقیقة الإنشاء مردود بأنّ الوجود إمّا

ص:152


1- (1)) رسالة الطب و الارادة (بحوث فی الاصول) : 14 . ط جامعة المدرّسین .
2- (2)) حاشیة المکاسب 76/1 - 77 الطبعة الحدیثة المحقّقة .

تکوینی و إمّا اعتباری ، و التکوینی إما خارجی و إما ذهنی ، فالاعتباری الجعلی یتبع الجعل و الاعتبار کما هو واضح ، و التکوینی یتحقق علی أثر علله الواقعیّة ، و الاعتباری علی قسمین : الوجود الکتبی و الوجود اللّفظی .

مثلاً : قولنا : « اکتب » یشتمل علی نسبةٍ ، توجد هذه النسبة تارةً فی الخارج بتحریک العبد نحو الکتابة ، فتکون النسبة خارجیةً بین الکاتب و الکتابة ، و قد توجد هذه النسبة فی الذهن فتکون وجوداً ذهنیّاً ، و قد تلفظ الجملة فتأخذ النسبة وجوداً لفظیّاً ، فإن کتبت کان وجودها وجوداً کتبیّاً .

إذا عرفت هذا ، فمن الواضح أن الألفاظ لیست من مقدّمات الوجود التکوینی لشیء من الأشیاء ، بل الوجودات التکوینیّة تابعة لعللها کما ذکرنا ، فإنْ ارید من إیجاد اللّفظ للمعنی الوجود و الإیجاد تکویناً ، فهذا باطل ، و إنْ کان المراد منه هو الإیجاد الاعتباری ، أی إیجاد المعنی فی عالم الاعتبار ، فإنّ الاعتبار نفسه کاف لتحقق الوجود الاعتباری للشیء ، و لا حاجة إلی توسیط اللّفظ و الهیئة ، فالزوجیة و الملکیة و نحوهما امور اعتباریة موجودة بالاعتبار ، و لا علیّة لقولنا : أنکحت ، و زوّجت ، و ملّکت ، لوجود الزوجیّة و الملکیّة و غیرها فی عالم الاعتبار .

فظهر أنْ لا سببیّة للّفظ فی تحقّق المعنی و وجوده ، لا إیجاداً تکوینیاً و لا إیجاداً اعتباریاً مطلقاً ، فما ذکره المشهور باطل .

نعم ، الذی یمکن تعقّله هو أنّ المعنی یوجد بواسطة اللّفظ بوجودٍ جعلی عرضی ، و الجملتان الإخباریة و الإنشائیة مشترکتان فی هذه الجهة ، أی إیجاد المعنی بالوجود العرضی الجعلی ، فإذا قلنا : زید قائم ، أوجدنا النسبة بین القیام و زید ، لکن بالوجود العرضی لا بالوجود الخارجی الحقیقی ، فإنّه

ص:153

یتبع علله التکوینیّة المعیّنة ، ففی کلتا الجملتین یتحقق إیجادٌ للمعنی بوجود اللّفظ لا بسببیّة اللّفظ ، فوجود اللّفظ وجود جعلی عرضی للمعنی .

و تختلف الإخباریة عن الإنشائیة فی إضافة جهة الحکایة فی الاولی دون الثانیة ، فإذا وجد المعنی بالوجود اللّفظی - من غیر تسبّب للّفظ - و لم یکن فی البین حکایة فهو إنشاء ، و إنْ کان هناک حکایة فهو إخبار ، و یکون التقابل بینهما تارةً : تقابل العدم و الملکة ، کما فی هیئة « بعت » فإنّها قابلة لأن تکون إخباراً فإنْ لم تکن فهی إنشاء . و اخری : تقابل السلب و الإیجاب مثل « اضرب » و « أطلب منک الضرب » خبراً ، حیث أنّ « اضرب » غیر قابلة لإفادة معنی « أطلب منک الضرب » إخباراً ، لکنّ هذه الجملة تفید مفاد « اضرب » إن قصد بها الإنشاء .

فبطل قول المشهور فی حقیقة الإنشاء من أنه إیجاد للمعنی بسبب اللّفظ ، و أنه لا بدّ عند إجراء صیغة النکاح مثلاً من قصد إیجاد علقة الزوجیّة ، و ذلک : لأن هذه العلقة لیست معلولة للّفظ ، بل تتحقّق بالاعتبار فقط .

و بطل قول المحقق الخراسانی من أن للطلب وجوداً إنشائیاً یتحقق بصیغة افعل مثلاً . و ذلک : لأن اللّفظ لا علیّة له لوجود المعنی ، فی أیّ وعاءٍ و عالم من العوالم .

مناقشة الاستاذ

و أورد علیه شیخنا الاستاذ دام بقاه فی کلتا الدورتین :

أولاً : إن هذا الذی ذکره یتناسب مع مبنی أهل المعقول فی حقیقة الوضع ، و هو : کون الألفاظ وجودات للمعانی ، و لا یناسب مبنی المحقق الأصفهانی من أن حقیقة الوضع هو جعل اللّفظ علی المعنی و وضعه علیه فی

ص:154

عالم الاعتبار .

و ثانیاً : إنا لو سلّمنا أن الوضع کون اللّفظ وجوداً جعلیّاً للمعنی ، فإن إیجاد المعنی بالوجود الجعلی لیس إلّا الاستعمال ، فلا محالة یکون الإنشاء نفس الاستعمال ، و إذا کان کذلک ، فإن الاستعمال إنما هو بداعی تفهیم المعنی للمخاطب ، و هذا هو حکمة الوضع ، فالوضع یکون مقدّمة للاستعمال ، و الاستعمال مقدّمة لإحضار المعنی فی ذهن المخاطب ، و إذا لم یکن وراء الإیجاد الجعلی - الذی هو عین الاستعمال - معنیً للّفظ ، فأیّ فائدة لهذا الاستعمال الذی لا یفید المخاطب شیئاً ؟

و بعبارة اخری ملخّصة : إنا فی مقام الاستعمال نستخدم اللّفظ لإفهام المعنی ، و لیس اللّفظ موجداً للمعنی ، و إذا لم یکن هناک إلّا الاستعمال ، فأین المعنی المقصود إفهامه ؟

و بعبارة ثالثة : إذا کان الفرق بین الجملتین مجرّد الحکایة و عدمها ، لزم کون الإنشاء مجرّد التلفّظ ، و هذا ما لا یلتزم به أحد !

رأی السید الخوئی

و ذهب المحقق الخوئی إلی أن الجملة الخبریة مبرزة ، و الجملة الإنشائیة مبرزة کذلک ، و کلّ واحدة تبرز أمراً نفسانیّاً ، فالجملة الخبریة مبرزة لقصد الحکایة ، و هو أمر نفسانی ، و الجملة الإنشائیة مبرزة للاعتبار - أی اعتبار لابدیّة الفعل فی ذمّة المکلّف - و هو أمر نفسانی کذلک ، و لمّا کان مدلول الجملة الخبریّة هو الحکایة ، و هی أمر یقبل الصّدق و الکذب ، کانت الجملة الخبریّة متّصفة بأحد الوصفین ، و أمّا الدالّ و هو الخبر فلا یقبل الصّدق و الکذب ، و کذا الاعتبار فإنه لا یقبل شیئاً من ذلک ، فلذا لا یحتمل الصّدق

ص:155

و الکذب فی الجملة الإنشائیة .

و تفصیل الکلام هنا :

أمّا فی الجملة الإخباریة ، فإن قول المشهور بأن الجملة الخبریّة موضوعة لثبوت النسبة أو لنفیها ، باطل ، لأنه لو کان الموضوع له فی هذه الجملة هو ثبوت النسبة أو نفیها ، فلا ریب فی أن مدلول الجملة الخبریّة تصدیقی و لیس بتصوّری ، فالثبوت فی مثل « بعت داری » مثلاً لیس تصوّریاً ، بل المدلول هو المعنی التصدیقی ، إذن ، لا بدّ أن یحصل للمخاطب بمجرَّد إخباره بذلک تصدیق بثبوته و لو ظنّاً ، و الحال أنه لا یحصل له ذلک ، فلیست الجملة الخبریّة بکاشفة عن التصدیق ، فهی غیر موضوعة لذلک .

و أیضاً ، فقد تقدَّم أن حقیقة الوضع هو التعهّد و الالتزام ، و ثبوت النسبة أو نفیها لیس بأمرٍ اختیاری کی یلتزم به المتکلّم .

فلهذا و ذاک ، فإنّ الجملة الخبریة قد وضعت للدلالة علی قصد الحکایة ، فکلّما قصد المتکلّم الحکایة عن معنیً ما فإنّه متعهّد بأنْ یأتی بجملة خبریة ، و لم توضع هذه الجملة لثبوت النسبة أو عدمه کما عن المشهور .

مضافاً إلی أنه یرد علی المشهور : إن هناک موارد یوجد فیها إخبار و لا توجد نسبة ، کقولنا : « شریک الباری ممتنع » و الاستعمال فی هذه الموارد یکشف عن عدم کون ثبوت النسبة هو الموضوع له الجملة الخبریّة .

هذا تمام کلامه فی الجملة الخبریة ، نفیاً لمذهب المشهور و إثباتاً لمختاره .

مناقشة الاستاذ

و قد تکلّم شیخنا الاستاذ علی ما أفاده السیّد الخوئی فی ( تعلیقة أجود

ص:156

التقریرات ) و فی ( المحاضرات ) ، فی هذه المسألة ، بالتفصیل ، و کان العمدة فی إفاداته دام ظلّه هو النظر فی رأیه ، و التحقیق فی رأی المشهور .

أمّا رأی المشهور ، فالمنسوب إلیهم هو أنّ الجملة الخبریّة موضوعة لثبوت النسبة أو نفیها ، و هذا موجود فی کلمات بعضهم ، لکنّ الذی نسبه إلیهم المحقق الأصفهانی فی کتاب ( الاصول علی النهج الحدیث ) هو أنّ مدلول الجملة هو الحکایة ، و لم ینسب إلیهم کونه النسبة ، و قال الشریف الجرجانی فی بعض ( حواشیه ) (1) فی باب النسبة الإنشائیة و الإخباریة : إن النسب الکلامیّة حاکیة عن النسب الذهنیّة ، فیظهر من کلامه إن هناک نسبة ذهنیّة و نسبة خارجیّة ، و هو لا یقول بأن الجملة موضوعة لثبوت النسبة خارجاً .

علی أن المحققین یصرّحون بأنّ الوضع هو للانتقال ، أی : الألفاظ موضوعة لانتقال المعانی بها إلی الذهن ، و الثبوت لا یقبل الدخول فی الذهن .

فما نسب إلی المشهور فی المقام مسامحة ، بل الألفاظ موضوعه للصّور الذهنیّة ، سواء الجمل أو المفردات ، و أما متن الخارج الذی هو ظرف الثبوت و الوجود فلم یوضع له اللّفظ ، و لا قائل بذلک .

إنّ الألفاظ موضوعة - بتعبیر المحقق العراقی - للصور التی یراها الإنسان خارجاً ، أو بتعبیر بعضهم : للصّورة الفانیة فی الخارج ، و بتعبیر ثالث : للصور الموجودة بالوجود التقدیری .

و تلخّص : إن الموضوع له الجملة لیس هو ثبوت النسبة ، بل النسبة المتّصفة بالثبوت و العدم ، فإن ثبوت النسبة و نفیها أمر ، و النسبة التی تتّصف

ص:157


1- (1)) الحاشیة علی شرح المطول : 43 ط ترکیا .

بالثبوت فی الجملة الموجبة و بالنفی فی السّالبة أمر آخر ، و قد وقع الخلط بینهما و هو منشأ الإشکال .

و تحقیق رأی المشهور هنا هو : إنه عندنا حکایتان ، إحداهما : الحکایة الذاتیّة ، و الاخری هی الحکایة الجعلیّة ، فالحکایة الذاتیّة تکون فی حکایة الصّور الذهنیّة عمّا هو فی الخارج ، فالحاکی عن الوجود هو مفهوم الوجود ، و الحاکی عن الماهیّات هو نفس الماهیّة الموجودة بالوجود الذهنی ، فحکایة مفهوم الوجود عن واقع الوجود حکایة العنوان عن المعنون ، و هی حکایة ذاتیّة ، و حکایة مفهوم الإنسان عن ماهیّة الإنسان الموجود بالوجود الخارجی حکایة ذاتیّة ، سواء قلنا إن نسبة الصّور الذهنیّة إلی الخارج نسبة التمثال و الصورة عن ذی الصورة ، أو قلنا بأن الأشیاء بذواتها تدخل إلی الذهن لا بصورها و أشباحها ، کما هو مسلک المتأخرین القائلین بأن للأشیاء کونین :

کون عند الأذهان و کون فی الأعیان .

و بالجملة ، فحکایة الصّور الذهنیّة عمّا فی الخارج حکایة ذاتیّة ، ثم لمّا نقول : زید فی الدار ، یکون فی الذهن نفس ما فی الخارج ، أو صورة مطابقةٌ لما فی الخارج ، و ما فی الذهن انعکاس لما فی الخارج ، و ألفاظ هذه الجملة موضوعة لنقل هذا الذی فی ذهن المتکلّم إلی ذهن المخاطب ، و هذا هو التفهیم و التفاهم بواسطة الألفاظ ، الذی هو الحکمة من الوضع .

وعلیه ، فکما أنّ مدلول لفظ « زید » هو ذات الشخص ، و مدلول لفظ «الدار» هو ذاتها ، و مدلول « فی » هو النسبة بینهما ، فإن مدلول الجملة عبارة عن الوجود المفهومی المتحقق فی مورد هذه القضیة ، و لیس المدلول هو الوجود الخارجی ، لما تقدّم من أنه لا یقبل الدخول إلی الذهن .

ص:158

دفع الإشکال عن رأی المشهور

هذا ، و إذا کان المدلول فی الهیئة عبارة عن ثبوت النسبة ، فإنّه یتوجّه الإشکال الأول ، و هو : إنه لا بدّ حینئذٍ من حصول التصدیق بتلک النسبة و لو ظنّاً ، و الحال أنه لیس کذلک .

فأجاب شیخنا عن ذلک : بأنّ النسبة الذهنیّة التی ینقلها المتکلّم إلی ذهن السامع بواسطة الهیئة ، هی نسبة تصدیقیّة ، و لکن بمعنی القابلیّة للتّصدیق لا فعلیّة التصدیق - فی مقابل ما لا دلالة له إلّا الدلالة التصوریّة ، و هو مدالیل المفردات اللفظیّة ، أو هیئات النسب الناقصة - فإن الألفاظ ذوات النسب التامّة دوالّ جعلیّة ، و وظیفتها نقل المعانی إلی الأذهان ، فقد یصدَّق بها و قد لا یصدَّق ، و أما فعلیّة التصدیق ، فلیس من وظیفة اللّفظ ، بل ذلک یتبع تحقّق الواسطة فی الإثبات و عدم تحقّقه .

فمنشأ الإشکال هو : الخلط بین الحکایة الذاتیّة ، و هی حکایة الصّورة عن ذی الصّورة ، و بین الحکایة الجعلیة للألفاظ عن المعانی ، و الخلط بین التصدیق و بین القابلیّة للتصدیق ، فإن الإنسان لمّا یری شیئاً بعینه ، ینطبع صورة من ذلک الشیء فی ذهنه ، فیکون ما فی ذهنه حاکیاً عن الشیء الخارجی الذی رآه ، و هذه هی الحکایة الذاتیّة ، التی لا دور للّفظ فیها ، ثم إذا أراد نقل هذه الصورة التی فی ذهنه إلی ذهن شخصٍ آخر ، احتاج إلی اللّفظ ، فیستعمِله لنقله ، و هذه هی الحکایة الجعلیّة ، و المخاطب لمّا یسمع الخبر فقد یصدّق به و قد لا یصدّق ، غیر أنّ اللّفظ له القابلیّة لأنْ یصدَّق به ، و هذا هو مذهب المشهور علی التحقیق .

و حاصل مذهبهم : إن الجملة الخبریّة موضوعة للنسب الذهنیّة الفانیة فی

ص:159

الخارج ، لا النسب الخارجیة ، و هی موضوعة لما یکون قابلاً للتصدیق ، لا لما یوجب التصدیق .

فالإشکال الأول مندفع .

و أمّا الإشکال الثانی ، و هو النقض بموارد وجود الإخبار مع عدم وجود النسبة ، کما فی قولنا : شریک الباری ممتنع ، فقد أجاب عنه شیخنا :

أوّلاً : إنه إن کان المراد عدم وجود النسبة مطلقاً ، فهو یرد علی مبناه أیضاً من أن حقیقة الجملة الخبریة هو قصد الحکایة ، لأن متعلق الحکایة هو النسبة ، و إذا لم تکن نسبة فلا حکایة .

و ثانیاً : إنه لیس مراد القائلین بأن مدلول الجملة الخبریة وجود النسبة بین الموضوع و المحمول فی الخارج ، بل المراد هو النسبة فی ما وراء الکلام ، سواء فی الخارج أو الذهن . فالإشکال مندفع .

و لعلّه قد التفت أخیراً إلی اندفاعه ، فلم یتعرّض له فی ( المحاضرات ) ، و إنما هو مذکور فی ( تعلیقة أجود التقریرات ) .

و أمّا ما ذکره ثالثاً : من أن ثبوت النسبة و نفیها خارج عن الاختیار ، و الحال أن حقیقة الوضع هو التعهّد و الالتزام ، و لا یعقل التعهّد بما هو خارج عن الاختیار .

ففیه : إن مبنی التعهّد فی حقیقة الوضع قد ظهر بطلانه فی محلّه .

و تلخّص : تمامیّة رأی المشهور علی التحقیق المزبور ، و عدم ورود شیء من الإیرادات المذکورة علیه .

فما ذهبوا إلیه هو الحق المختار فی مدلول الجملة الخبریة ، و هو الموافق للارتکاز .

ص:160

نقد مختار المحقق الخوئی فی الجملة الخبریة

ثم إن شیخنا الاستاذ تنظر فی مبنی السید الخوئی فی حقیقة الجملة الخبریة فقال : بأنْ المذکور مکرّراً فی تقریر بحثه و فی تعلیقته هو « إن مدلول الجملة الخبریّة قصد الحکایة » و لا یقول بأن مدلولها هو « الحکایة » و من الواضح أن « قصد الحکایة » غیر « الحکایة » ، فالمدلول هو قصد الحکایة بالدّلالة الوضعیّة - إلّا إذا أقام قرینة علی الخلاف ، کأنْ یکون فی مقام المزاح مثلاً - و قصد الحکایة لا تعلّق له بالخارج ، و ما لا تعلّق له بالخارج لا یوصف بالصّدق و الکذب ، فکیف تتّصف الجملة الخبریّة بالصّدق و الکذب ؟ .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن المناط فی باب الدّلالات اللّفظیة هو التبادر ، و الحق أن المتبادر من قولنا « زید قائم » هو نسبة القیام إلی زید ، لا قصد حکایة المتکلّم عن تلک النسبة . نعم ، المتکلّم الملتفت له قصد ، لکنّ هذا غیر کون مدلول اللّفظ هو القصد .

و ثالثاً : إن قصد الحکایة بدون الحکایة محال ، و الحکایة بدون الحاکی محال أیضاً ، فلو کانت الهیئة دالّةً علی قصد حکایة النسبة ، فأین الدالّ و الحاکی عن ثبوت النسبة ؟

هذا إن کان المدلول قصد الحکایة .

و أمّا لو أراد أنه « الحکایة » نفسها لا قصدها ، فقد تقدَّم أن الحکایة بدون الحاکی محال ، فإن کان الحاکی عن ثبوت النسبة هو الصّورة الذهنیّة ، فهذا هو قول المشهور ، و إلّا فلا حاکی ، لأن مدلول اللّفظ هو نفس النسبة ، فیلزم الحکایة بلا حاکی .

ص:161

فظهر بطلان مبناه حتّی لو کانت اشکالاته علی مبنی المشهور واردةً ، و لکنّک قد عرفت اندفاعها .

هذا تمام الکلام فی الجملة الخبریة .

رأی السیّد الخوئی فی الجملة الانشائیة و موافقة الاستاذ

و أمّا فی الجملة الإنشائیة فالآراء المهمّة هی :

رأی المحقق الأصفهانی

و قد تقدم أنّه لا یمکن المساعدة علیه .

رأی المشهور

و هذا الرأی وجیه ثبوتاً ، فمن الممکن أنْ یجعل و یعتبر الواضع الجملة الإنشائیة وسیلةً و سبباً لتحقق المادّة ، کالبیع فی « بعت » و الصلح فی « صالحت » و الزوجیّة فی « زوّجت » و هکذا ... فی عالم الاعتبار .

إنّ کون الصیغة سبباً اعتباریاً لتحقّق الأمر الاعتباری فی النکاح و البیع ...

أمرٌ معقول ، و لکن لا دلیل إثباتی علیه ، لا من الواضع و لا من العقلاء .

رأی المحقق الخوئی

و هذا هو المختار ، ففی کلّ هذه الموارد اعتبار و إبراز للاعتبار النفسانی .

و المحقّق الأصفهانی - و إنْ اختار الإیجاد کما تقدّم - قد صرّح بذلک فی مبحث الاستصحاب فی الأحکام الوضعیّة ، فی معنی الملکیّة . و لکنّ التحقیق جریانه فی جمیع الموارد و عدم اختصاصه بالملکیّة .

و الدلیل علیه هو الارتکاز العقلائی من المعتبر ، ثم إمضاء العقلاء ، و الشارع قد أمضی ذلک و رضی به ، فللشارع أیضاً اعتبار مماثل .

هذا تمام الکلام فی الإخبار و الإنشاء .

ص:162

أسماء الإشارة و الضمائر و الموصولات

اشارة

ص:163

ص:164

هنا ثلاثة آراء أساسیّة :

الأوّل : رأی المحقق الخراسانی

اشارة

قال : إنه لا اختلاف فی المفهوم و المدلول بین لفظ « هذا » و « المفرد المذکّر » المشار إلیه ، فالمفهوم الموضوع له فیها واحد ، و کذا المفهوم الموضوع له لفظ « أنت » فهو نفس المفهوم و المعنی فی « المفرد المذکّر المخاطب » لکنّ الإشارة فی الأوّل و خصوصیّة الخطاب فی الثانی خارجان عن حدّ ذات المعنی الموضوع له ، غیر أنّ الواضع اشترط أن یستعمل لفظ « هذا » مع الإشارة ، و لفظ « أنت » مع الخطاب ، فالخطاب و الإشارة قیدان من الواضع فی ظرف الاستعمال ، و من الواضح أنّ ما یکون قیداً فی ظرف الاستعمال لیس له دخل فی المعنی الموضوع له .

إلّا أن ظاهر کلامه - حیث بدأ به بکلمة « یمکن » - هو إمکان کون المخاطبیّة و المشاریة جزءاً من المعنی الموضوع له لفظة « هو » و لفظة « أنت »، إلّا أنه لا دلیل علیه فی مقام الإثبات عنده .

و علی الجملة ، فإنّه لا فرق فی المعنی بین « هذا » و « المفرد المذکر » و کذا فی « أنت » ، غیر أنه متی ما أراد هذا المعنی لا مع الإشارة ، استعمل « المفرد المذکّر » و تحقّق مفهومه ، و متی ما أراده مع الإشارة إلیه استعمل

ص:165

« هذا » . تماماً کما فی المعنی الحرفی ، مع فرق أنه لا إمکان هناک لأن یوضع للمعنی الملحوظ باللّحاظ الآلی ، و لذا افتتح کلامه هناک بکلمة « التحقیق » و هنا الإمکان موجود ، فعبّر ب « یمکن » .

و علی هذا ، یکون الموضوع له فی هذه الموارد عاماً کالوضع .

مناقشة الاستاذ

و فیه :

أوّلاً : إن ما ذهب إلیه دعوی بلا دلیل .

و ثانیاً : لو کان المعنی فی « هذا » و « المفرد المذکر » واحداً ، و الخصوصیّة بالإشارة تحصل فی مقام الاستعمال ، کان اللّازم إمکان استعمال کلٍّ من اللّفظین فی مکان الآخر ، و هذا غیر صحیح کما هو واضح .

الثانی : رأی المحقّق الأصفهانی

اشارة

إنّ لفظ « هذا » - مثلاً - موضوع للمعنی مع الإشارة ، فکون الشیء مشاراً إلیه داخل فی المعنی الموضوع له ، و لذا لا تستعمل هذه اللّفظة إلّا توأماً مع الإشارة بالید أو العین أو الرأس أو غیرها . إذن ، فالموضوع له هو حصّة من المعنی ، و هی المشار إلیه ، فالموضوع له خاص لدخل الخصوصیّة .

مناقشة الاستاذ

و فیه : إنه دعوی بلا دلیل ، کسابقه .

الثالث : رأی المحقق البروجردی

اشارة

إنّ هذه الأسماء موضوعة لنفس الإشارة ، فبلفظ « هذا » نشیر ، لا أنه موضوع للمفرد المذکر المشار إلیه الخارجی ، فلفظ « هذا » إشارة لفظیّة ، کما أنّ تحریک الید مثلاً إشارة فعلیّة . نظیر إنشاء المعاملة الذی هو تارة باللّفظ

ص:166

« بعت » و اخری بالفعل و هو « المعاطاة » .

المختار عند الاستاذ

فقد ظهر أنّ الأقوال المهمة فی المقام ثلاثة :

1 - إن الموضوع له هو المفهوم .

2 - إن الموضوع له هو المفهوم المشار إلیه .

3 - إن الموضوع له هو الإشارة .

و المختار هو الثالث ، وعلیه الارتکاز ، و هو الذی نصّ علیه علماء الأدب و العربیة ، کقول ابن مالک :

بذا لمفردٍ مذکّرٍ أشر

فإنه یقول ب « ذا » أشر ، فإنه یقوم مقام الإشارة الفعلیّة ، لا سیّما إشارة الأخرس غیر المتمکّن من التلفّظ .

و قد استدلّ السید البروجردی بروایتین .

ثم إن انضمام الإشارة بالید إلی التلفّظ ب « هذا » إنما هو للتأکید و دفع الالتباس عن المشار إلیه ، فلا یکون قرینةً علی أنْ لا یکون الموضوع له « هذا » هو نفس الإشارة .

و أما الموصولات فموضوعة للإشارة کذلک ، غیر أنها للإشارة إلی المبهم .

ص:167

ص:168

الحقیقة و المجاز

اشارة

ص:169

ص:170

مقدّمات :

اشارة

* ذکر السکاکی فی مبحث الاستعارة من کتابه : إن اللّفظ یستعمل فی المعنی الحقیقی لا غیر ، فلفظ « الأسد » لا فرق بین استعماله فی الحیوان المفترس أو فی الرجل الشجاع ، غیر أنه فی الأول حقیقة واقعاً و فی الثانی حقیقة ادّعاءً ، فکأنّ دائرة المعنی الحقیقی تتوسّع لتشمل الرجل الشجاع کذلک .

و قد وافقه بعض الأعلام کالسید البروجردی . و هو مطلب متین .

و علی هذا ، فإن عملنا فی المجاز هو تعمیم دائرة الموضوع له اللّفظ بالنّسبة إلی فردٍ آخر ، لمناسبةٍ بینه و بین الموضوع له ، کما بین « الرجل الشجاع » و « الحیوان المفترس » فی مفهوم لفظ « الأسد » ، لکنْ مع إقامة القرینة علی هذا الادّعاء علی مذهب السکاکی ، أو علی الاستعمال فی غیر ما وضع له اللّفظ من قبل الواضع ، علی مذهب المشهور .

* إن مورد الکلام فی مبحث الحقیقة و المجاز هو :

1 - ما إذا کان أصل معنی اللّفظ غیر معلوم .

2 - ما إذا کان المعنی معلوماً ، لکن المراد منه غیر معلوم .

ص:171

* و الحقیقة فی مقابل المجاز هی :

تارة : الحقیقة اللّغویة .

و اخری : الحقیقة الشرعیّة .

و ثالثة : الحقیقة العرفیّة .

و الحقیقة العرفیّة تارة : هی الحقیقة العرفیّة العامّة . و أخری : الحقیقة العرفیّة الخاصة .

و کلّ هذه الأقسام مورد حاجةٍ و ابتلاء للفقیه .

و هناک حقیقة متشرعیّة ، یبحث عنها فی مبحث الحقیقة الشرعیّة .

فعلی الفقیه أوّلاً أنْ ینظر فی کلّ موردٍ ، فقد یکون للّفظ حقیقة شرعیّة ، و قد یکون اللّفظ قد استعمل علی أساس حقیقة عرفیّة خاصّة ، فإنه فی هذه الحالة لا یرجع إلی اللّغة و العرف العام ، لأنّ العرف الخاص یتقدّم علی العرف العام فی تشخیص مراد المتکلّم ، فإن لم یوجد العرف الخاص أو لم یقصد ، یرجع إلی الحقیقة العرفیّة العامّة .

* و المهم للفقیه هو تشخیص الحقائق العرفیّة ، و رجوعه إلی اللّغة إنما هو مقدّمة لذلک ، و هو یحتاج إلی ذلک لاستنباط الأحکام الشرعیّة من الأدلّة اللّفظیّة من الکتاب و السنّة ، و من الأدلّة غیر اللّفظیة کالإجماع إنْ کان معقده لفظاً من الألفاظ ، فلا بدّ للفقیه من استکشاف معنی تلک اللّفظة الواردة فی الکتاب و السنّة و الإجماع - علی ما ذکر - لیرتّب الأثر الشرعی علیها ، مثلاً : علیه أن یحقّق عن معنی لفظة « الصعید » هل هو مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب ؟ و لفظة « الشرط » هل هو مطلق الالتزام ، أو خصوص الالتزام فی ضمن الالتزام ؟ و لفظة « العقد » هل هو مطلق العقد الأعم من الجائز و اللّازم أو

ص:172

خصوص اللّازم ؟ و «الزنا» یختصُّ بوطی القبل أو یعمّ الدبر ؟ و کذلک الکلام فی « الوطن » و « الکنز » و « المعدن » و مئات الألفاظ من هذا القبیل الواردة فی الأدلّة الشرعیّة .

و یحتاج إلی ذلک أیضاً فی الموضوعات ، فعنوان « المضاربة » الذی هو أحد العقود العرفیّة الممضاة شرعاً ، ما معناه ؟ و من هو المدّعی ؟ و من المنکر ؟ و لهذا بحثوا عن أن العقود تنعقد بالمجازات أو لا ؟ فقال المحقق الثانی فی ذیل قول العلّامة فی ( القواعد ) فی العقد و أنّه لا بدّ و أن یکون بالصیغة ، قال : « أی : المفیدة لذلک بمقتضی الوضع » (1) و قد یظهر من کلمات بعضهم دعوی الإجماع علی أن العقود اللّازمة لا تنعقد بالمجازات .

* و قد ذکر لتشخیص المعانی الحقیقیّة عن المعانی المجازیّة طرق کثیرة ، منها قطعیّة و منها ظنیّة ، اقتصر صاحب ( الکفایة ) من القطعیّة منها علی أربعة هی : التبادر و صحة الحمل و عدم صحة السلب و الاطراد ، و لم یتعرّض للظنیّة التی منها : تنصیص أهل اللّغة ، ذکره المحقق العراقی ، غیر أنه أجاب بأن اللّغوی یذکر موارد الاستعمال لا الحقیقة عن المجاز ، لکنّ مثل المحقق الکاظمی فی کتاب ( المحصول ) یدّعی الإجماع علی ثبوت الحقیقة بتنصیص أهل اللّغة ، و یقول العلّامة فی ( النهایة ) : المعنی الحقیقی یثبت بأخبار الآحاد .

و الحق : إن تجاوز تنصیص أئمة اللّغة علی أنّ اللّفظ الفلانی موضوع لکذا ، مشکل .

ثم إنّ التنصیص علیٰ المعنیٰ الحقیقی قد یکون مبنیّاً علی مسلک

ص:173


1- (1)) جامع المقاصد 57/1 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام .

خاص ، کالقول بعدم وجود المجاز فی لغة العرب ، کما علیه أبو إسحاق الإسفرائنی ، أو القول بأن الأصل هو الحقیقة و أن المجاز خلاف الأصل ، فیکون مقتضی الأصل هو الحکم بکون المعنی حقیقیّاً ، کما علیه التّاج السّبکی ، أو کان التنصیص مستنداً إلی أمارات غیر معتبرة ، کأن یکون مستنداً إلی التبادر مثلاً و هو غیر معتبر عندنا بالفرض ، ففی مثل هذه الموارد لا یکون التنصیص حجةً .

أمّا إنْ کان النصّ من أهل الخبرة ، فاعتباره مبنی علی الشروط المقرّرة فی مسألة حجیة خبر الثقة فی الأحکام ، لأنّ المراد لیس خصوص الأحکام ، بل الأعم ، لیشمل کلّ لفظٍ وقع موضوعاً للأحکام الشرعیّة ، کلفظ « العقد » و« الشرط » و نحوهما ، و الموضوعات من العدالة و التعدّد و الوثاقة .

و المختار : أنه إنْ کان ثقةً کان خبره حجةً ، و لا یعتبر التعدّد و العدالة فضلاً عن الإیمان .

نعم ، دعوی حجیّة قول اللغوی مطلقاً ممنوعة .

و بعد :

فإنّ هناک مراحل ، فالاُولی مرحلة أصل المعنی الموضوع له اللّفظ ، ثم مرحلة الإرادة الاستعمالیّة من اللّفظ ، ثم مرحلة الإرادة الجدیّة ، فإنْ اجتمعت هذه المراحل فلا إشکال ، و أمّا إن تخلّف بعضها ، کأنْ جهل أصل المعنی ، أو وقع الشک فی أصل الإرادة أو الإرادة الجدیّة ، فلا بدّ من قواعد و طرق یرجع إلیها .

و الطرق المطروحة فی ( الکفایة ) و غیرها من کتب الاصول لکشف المعنی الحقیقی فی المرحلة الاولی هی :

ص:174

1 - التبادر
اشارة

و قد ذکروا نحوین من التبادر لمعرفة المعنی الحقیقی :

أ - التبادر عند أهل اللسان .

ب - التبادر عند المستعلم نفسه .

ثم إن المعنی الذی ینسبق إلی الذهن و یتبادر ، لا بدَّ و أنْ یکون تبادره من نفس اللّفظ ، بأنْ نقطع بکون الانسباق منه لا من غیره ، لأنّه قد ینسبق المعنی من اللّفظ بقرینةٍ ، و القرینة إمّا حالیّة و إمّا مقالیّة ، و کلّ منهما : إمّا خاصّة مثل « یرمی » فی : رأیت أسداً یرمی ، و إما عامّة کمقدمات الحکمة .

فالتبادر الکاشف عن المعنی الحقیقی الموضوع له اللّفظ هو ما إذا علمنا بعدم کونه لأجل قرینةٍ من القرائن ، و مجرّد احتمال دخل قرینةٍ فی حصول الانسباق یسقطه عن الدلیلیّة علی الحقیقة .

الدلیل علی دلیلیّة التبادر

و بما ذکرنا ظهر أنّ دلیلیّة التبادر علی المعنی الحقیقی و کاشفیّته عنه هی من قبیل کشف العلّة عن المعلول ، فهی دلالة إنّیة ، فی مقابل الدلالة اللمیّة ، التی هی کشف المعلول عن العلة ، و تسمّی بالبرهان .

فیقال فی وجه دلالة التبادر علی المعنی الحقیقی :

إن انسباق المعنی إلی الذهن هو أحد المعالیل و الحوادث ، فلا بدّ له من

ص:175

علّةٍ ، فی أصل وجوده ، و فی خصوص تبادر هذا المعنی المعیَّن من هذا اللّفظ المعیَّن ، فما هی تلک العلّة ؟

إن العلّة لا تخلو عن الرابطة الذاتیّة بین اللّفظ و المعنی ، أو القرینة ، أو الرابطة الوضعیّة . أمّا الاُولی فغیر معقولة ، لأن دلالة الألفاظ علی معانیها جعلیّة و لیست بعقلیة و لا طبعیّة ، و أمّا الثانیة فمنتفیة ، لأن المفروض عدم دخل القرینة فی الانسباق ، فتبقی الثالثة ، و تکون النتیجة کشف التبادر عن الوضع ، فهو علامة للمعنی الحقیقی للمستعلم .

المناقشة

لقد کان مبنی هذا الوجه هو الکشف الإنّی ، لکنّ التبادر أمر نفسانی ، و العلقة الوضعیّة بین اللّفظ و المعنی أمر اعتباری ، و قد سبق أن حقیقة الوضع هو التعهّد ، أو جعل اللّفظ وجوداً للمعنی ، أو تخصیص اللّفظ بالمعنی ، أو اعتبار الملازمة بین اللّفظ و المعنی ، أو جعل اللّفظ علامة للمعنی .

فالوضع - علی کلّ تقدیر - أمر حاصل فی الخارج ، و هو معلوم تارةً و مجهول اخری ، و إذا کان الوضع علّةً للتبادر لزم أن یکون الأمر الخارجی علّةً للأمر الذهنی ، و قد تقرّر فی محلّه أن الموجود الخارجی لا یمکن أن یکون مؤثّراً فی الوجود الإدراکی .

علی أنه لو کان التبادر معلولاً للوضع ، فإنه لا بدّ من وجوده ، سواء علم بالوضع أو لا ، لأنه أثر الوضع .

فثبت أن التبادر لیس معلولاً للوضع و کاشفاً عنه ، بل هو معلول للعلم بالوضع .

فالذی أفاده التبادر هو العلم بالوضع لا الوضع ، نعم یکون للوضع أثر

ص:176

الإعداد لحصول العلم به .

هذا ، مضافاً إلی أنهم قد ذکروا : إن هذا التبادر المدّعی ینشأ من العلم الارتکازی بالمعنی عند المستعلم ، وعلیه نقول : إذا کان منشأ التبادر هو العلم الارتکازی ، فإن من الممکن حصول هذا العلم من سببٍ فاسدٍ - کالاطراد الذی سیأتی أنه لیس علامةً للحقیقة - کما یمکن حصوله من سببٍ صحیح ، و إذا جاء احتمال استناد التبادر إلی العلم الارتکازی الحاصل من سببٍ فاسد ، سقط التبادر عن کونه علامةً للمعنی الحقیقی .

ثم إنّه قد أشکل علی هذه العلامة باستلزامها للدور ، و ذلک : لأن التبادر لا یتحقق بدون العلم بالوضع ، فمن کان جاهلاً لا یمکن تبادر المعنی إلی ذهنه ، فالتبادر موقوف علی العلم بالوضع ، و لکنّ العلم بالوضع متوقّف علی التبادر ، من باب توقّف ذی العلامة علی العلامة ، و هذا دور .

و قد أجیب : بأن الموقوف علیه فی التبادر عند المستعلم هو علمه الارتکازی الإجمالی ، و الموقوف هو علمه التفصیلی ، فالعلم الذی یتوقّف علیه التبادر غیر العلم الناشئ من التبادر و المعلول له ، و الغیریّة و التفاوت بالإجمال و التفصیل رافع للإشکال (1) .

و الحاصل : أن العلم الذی هو علّة للتبادر هو العلم البسیط الموجود فی خزانة النفس ، و العلم الحاصل من التبادر هو العلم المرکّب التفصیلی ، بأنْ نعلم بأنا عالمون بالمعنی .

ص:177


1- (1)) مصطلح العلم الإجمالی و العلم التفصیلی فی علم الاُصول معروف ، و قد یطلق « العلم الإجمالی » و یراد به العلم الموجود فی الارتکاز بنحو الإجمال ، و یقابله العلم التفصیلی ، کما ذکر فی المتن ، و قد یطلق علی أساس تعقّل الوحدة فی الکثرة و الکثرة فی الوحدة ، و قد یطلق و یراد به العلم بالوجه فی قبال العلم بالکنه .

فالمتعلّم عالم لکنه جاهل بعلمه ، ثم یعلم بکونه عالماً ، و لا مانع من أن یکون الإنسان عالماً بشیء مع الجهل بوجود هذا العلم عنده ، إذ العلم فی ذاته طریق إلی الواقع ، فإذا رأی الإنسان الواقع بسبب العلم لا یلتفت إلی علمه و لا ینظر إلیه بالنظر الموضوعی . و عن بعض الأکابر : إن العلم کالنور ینظر به و لا ینظر إلیه ، لکن فیه : عدم إمکان النظر إلی الأشیاء به مع عدم النظر إلیه .

و التحقیق : إن ما ذکر لا یدفع إشکال الدّور عند المستعلم ، فإنه لا معنی للجهل فی العلوم الارتکازیة و لو بالنسبة إلی العلم نفسه ، لکون العلم الارتکازی علماً إلّا أنه مغفول عنه و غیر ملتفت إلیه ، و من الواضح أن هذا غیر الجهل ، فالمحتاج إلیه فی العلم الارتکازی هو الالتفات إلیه لا تحصیله و الوصول إلیه . و هذا نظیر ما ذهب إلیه المتأخّرون من الفقهاء فی مسألة النیّة - خلافاً للمحقق قدّس سرّه - من عدم وجوب الإرادة التفصیلیة و أنّ الواجب هو الداعی ، و یکفی فی وجوده أنه إنْ سئل عمّا یفعل أجاب بأنّی اغتسل مثلاً ، و هذا الداعی هو الإرادة الارتکازیة التی یلتفت إلیها بأقل مناسبة ، و ما نحن فیه کذلک ، فإن العلم الارتکازی بالوضع موجود ، و هو یکون المنشأ للالتفات و ارتفاع الغفلة عن المعنی الموضوع له .

فالحق : أنه إنْ کان عالماً بالوضع فلا معنی لتحصیله بالتبادر ، بل اللّازم هو الالتفات إلی علمه ، کما أن السائر علی الطریق یعلم ارتکازاً بمقصده ، فلو غفل عن المقصد لا یسأل عنه لیعلم به ، بل لأنْ ترتفع عنه الغفلة .

فالإشکال عند المستعلم لم یندفع .

و هذا الإشکال غیر وارد علی التبادر عند أهل المحاورة العالمین بالوضع ، لوضوح التغایر بین الموقوف و الموقوف علیه ، إذ التبادر عند أهل

ص:178

اللّسان علّة لعلم الفرد الجاهل بالوضع ، فعلمه معلول للتبادر عندهم ، و لیس التبادر عندهم معلولاً لعلم الفرد .

فالحق : إن التبادر حجّة عند أهل المحاورة فقط ، و علی الجاهل بالمعنی أنْ یرجع إلی أهل اللّسان ، و من انسباق المعنی إلی أذهانهم بدون الاستناد إلی قرینةٍ ، یستکشف المعنی الحقیقی للّفظ ، و دلیل اعتباره هو السیرة العقلائیة .

هذا ، و قد ذکر دام ظلّه « السیرة العقلائیة » دلیلاً آخر علی أن التبادر علامة الحقیقة ، و ذکر أنّه عن طریق الاستدلال الأول - و هو کون التبادر أحد المعالیل - یستکشف نفس المعنی الحقیقی ، أما الاستدلال بالسیرة فیفید قیام الحجّة العقلائیة علی المعنی الحقیقی .

و کیف کان ، فلا بدّ من إثبات هذه السیرة و بیان اعتبارها و حدّ دلالتها .

ذکر بعضهم کالمحقّق الأصفهانی : أن التبادر عند أهل اللّسان علامة للجاهل بالمعنی ، و هو یفید العلم بالمعنی الموضوع له ، لأن المفروض عدم وجود قرینةٍ فی البین ، فلا محالة یکون من الحیثیّة المکتسبة من العلقة الوضعیّة ، فهو - إذن - علامة تفید القطع بالمعنی .

و قد أورد علیه شیخنا بوجهین :

أوّلاً : إنه لا ریب فی أن التبادر لدی العارف باللّسان العالم بالوضع ، لیس بحاکٍ عن الوضع التعیینی للّفظ ، فالذی یمکن تصوّره هو أن یکون عالماً بالوضع التعیّنی الناشئ من کثرة الاستعمال ، فیستعمل اللّفظ فی معناه بکثرةٍ حتی یصل إلی حدّ صیرورة اللّفظ قالباً للمعنی . و علی هذا ، فکیف یمکننا إحراز أنّ هذا العارف باللّسان کان انسباق المعنی إلی ذهنه غیر ناشئ عن کثرة الاستعمال ؟ إن هذا الاحتمال لا طریق إلی نفیه .

ص:179

و بعبارةٍ اخری : لقد اشترطنا فی التبادر أن لا یکون مستنداً إلی قرینةٍ ، و القرینة إمّا خاصّة و إمّا عامّة ، و القدر الممکن نفیه من القرائن هو القرائن الخاصّة ، لأنّا نعلم بعدم وجود کلیّةٍ و جزئیّة ، و سببیّة و مسبّبیة ، و کذا غیر ذلک من القرائن الخاصة ، و أمّا القرائن العامّة - کالشهرة فی المجاز المشهور - فلا سبیل لنفیها .

و قول المحقق العراقی بأن الملاک فی مثلها هو الاطراد و عدمه ، بمعنی أنه إنْ کان المعنی ینسبق من اللّفظ فی جمیع موارد استعماله علی حدّ سواء ، فهو المعنی الحقیقی . ففیه : إنه لا یتصوّر الاطّراد و عدمه فی القرائن العامة ، لأنها دائماً موجودة مع اللّفظ ، و لا یمکن تجریده عنها ، فمن الصعب تحقّق صغری التبادر فی موارد احتمال وجود القرینة العامّة ، فیکون الکلام مجملاً ، و أمّا احتمال انسباق المعنی إلی ذهن العارف باللّسان علی أثر کثرة استعمال اللّفظ فیه ، التی هی مقدّمة للوضع التعیّنی ، فلا دافع له .

و ثانیاً : إنه لو تنزّلنا عمّا ذکر ، و سلّمنا انسباق المعنی من حاقّ اللّفظ بلا دخل لکثرة الاستعمال ، لکن السؤال هو : إن انسباقه من حاقّ اللّفظ أمر حادث لا بدّ له من علّة ، و لا علّة لهذا الانسباق إلّا العلم بالوضع ، فالجاهل بالوضع لا یحصل له انسباق ، لکنّ العلم بالوضع یحتمل أن یکون ناشئاً من التبادر الذی قد عرفت الکلام فیه ، فکیف یحصل القطع بالوضع و المعنی الحقیقی ؟

فالبرهان المذکور علی قطعیّة هذه العلامة کما ذکره المحقّق الأصفهانی مردود بهذین الوجهین .

و الذی یمکن الموافقة علیه و إقامة البرهان له هو : إن التبادر عند أهل اللّسان حجّة للجاهل و حجّة علیه ، لأنه مورد السیرة العقلائیة القطعیّة مع عدم

ص:180

ردع الشارع عنها .

فظهر أن التبادر عند أهل اللّسان حجّة علی الوضع ، لا أنه یفید العلم بالوضع .

ثم إن المتبادر هو المعنی الحقیقی حقیقةً عرفیّة ، إذ المفروض تبادره عند أهل اللّسان ، و أمّا الحقیقة اللغویة بأنْ تکون هی الموضوع له ، فلا یثبت ، لإمکان کونه منقولاً لغةً .

و إذا کانت ألفاظ الکتاب و السنّة ملقاة إلی العرف و أهل اللّسان ، و المعانی المنسبقة منها محمولة علی الحقائق العرفیّة ، فکیف یثبت أن هذه المعانی المنسبقة هی نفس ما کان ینسبق من الألفاظ فی زمن الصّدور ؟

قد یتمسّک لإثبات اتّصال الظهور الفعلی بزمن المعصوم ، بالاستصحاب القهقرائی و أصالة عدم النقل .

لکن فیه : إن الاستصحاب الذی هو أصل عملی ، له رکنان ، أحدهما الیقین السابق و الآخر الشک اللّاحق ، و هذا المورد بالعکس ، فلا تشمله أدلّة الاستصحاب .

فقیل : نستصحب الظهور - لا عدم النقل - و نقول : هذا اللّفظ ظاهر الآن فی المعنی الکذائی بحکم التبادر ، فنستصحبه قهقرائیاً حتی زمن الإمام علیه السلام ، فیکون ظاهراً فی معناه تارةً بالوجدان و اخری بالتعبّد .

و فیه : إنّه لا ریب فی أنّ الظهور هو موضوع ترتیب الأثر عند العقلاء ، و أنّ الشارع قد أمضی هذه السیرة العقلائیّة ، إلّا أن المهم هو تشخیص هذا الظهور ، و أنّه الظهور الأعم من الوجدانی و التعبّدی أو الظهور الوجدانی فقط ؟

إنه لا شک فی أن الظهور الذی هو الموضوع فی السیرة العقلائیة لترتیب

ص:181

الآثار هو الظهور الوجدانی ، و هذا هو الذی أمضاه الشارع ، لکن الاستصحاب لا یفید إلّا الظهور التعبّدی ، فلا مجال لجریانه فی المقام .

إذن ، سقط التمسّک بالاستصحاب مطلقاً .

لکنّ الأصل العقلائی فی أصالة عدم النقل ، لا یمکن إنکاره ، أی : أن دیدن العقلاء هو أنهم متی رأوا کلمةً ظاهرةً فی معنی ، حملوها علی هذا المعنی فی سائر الأزمنة ، و لا یحتملون تبدّل المعنی فیه ، و الشارع المقدَّس قد أمضی هذه السّیرة ، و بذلک أمکن دعوی ظهور الکلمة فی ذلک المعنی فی زمان الأئمة علیهم السلام .

إلّا أن المشکلة هی : أنّ هذا الوجه - المعبَّر عنه بأصل تشابه الأزمنة - لإثبات عدم النقل ، أخصّ من المدّعی ، و ذلک لأنه و إن کان مقتضی الأصل عندهم تقدیم الظهور العرفی علی الظهور اللّغوی ، و کذا تقدیم العرف الخاص - کالحقیقة الشرعیّة - علی العرف العام ، و لکن قد یقع التعارض بین المعنی العرفی الثابت عن الطریق المذکور و بین المعنی اللّغوی الثابت عن طریق تنصیص أئمة اللّغة أو عن طریق التتبّع لموارد استعمال الکلمة ، ففی هذه الصورة لا یوجد سیرة علی تقدیم المعنی الحقیقی العرفی استناداً إلی تشابه الأزمنة .

فتنحصر فائدة الأصل العقلائی المذکور بموارد عدم المخالفة بین الظهور العرفی و الظهور اللّغوی .

هذا أوّلاً .

و أمّا ثانیاً : فإن الظاهر أنّ هذه السیرة العقلائیة لیست تعبّدیة ، و إنما قامت السیرة علی حمل الألفاظ علی معانیها الظاهرة فیها - استناداً إلی الأصل

ص:182

المذکور - عند اطمئنانهم بعدم النقل ، و لذا فإنهم یتوقّفون بمجرّد احتمال کون معنی اللّفظ فی بعض الأزمنة السابقة مخالفاً لما هو الآن ظاهر فیه .

هذا ، و التحقیق فی خصوص الروایات الواردة عن الأئمة الطاهرین علیهم السلام جریان أصالة عدم النقل فیها ، لخصوصیةٍ فیها ، و هی إن علماء الاُمة قد نقلوا هذه الروایات فی مختلف الطبقات ، و لم یختلفوا فی المعانی الظاهرة فیها ، و نحن یمکننا التمسّک بأصالة عدم النقل إلی زمن الشیخ الأنصاری مثلاً ، و قد رأینا أنّه یحمل ألفاظ الروایات علی ما هی ظاهرة فیه الآن ، و من زمنه إلی زمن الشیخ المجلسی ، ثم من هذا الزمان إلی زمان العلّامة مثلاً ، و هکذا إلی زمن الشیخ ، و الکلینی ، و حتی زمن الأئمة ، و فی کلّ طبقة نراهم یستظهرون من ألفاظ الأخبار نفس ما نستظهره نحن الآن .

فالمتبادر من هذه الألفاظ فی جمیع القرون و الطبقات واحد .

إذن ، لا توجد عندنا مشکلة فی خصوص الروایات المشتهرة و المنقولة فی الکتب ، عن أئمة العترة الطاهرة .

هذا تمام الکلام علی التبادر .

و هل عدم التبادر علامة للمجاز ؟

قیل : نعم .

و قیل : تبادر الغیر علامة المجاز .

قال شیخنا دام ظلّه : أما عدم التبادر فالصحیح أنه لیس علامة للمجاز ، لعدم تبادر أحد معانی اللّفظ المشترک مع أنه حقیقة فی کلّها . و أما تبادر الغیر فکذلک ، إذ من الممکن أنْ یغلب استعمال اللّفظ المشترک فی أحد المعنیین أو المعانی ، فیتبادر ذلک المعنی منه ، و المفروض کونه مشترکاً قد وضع له

ص:183

و لغیره معاً .

و خلاصة البحث فی التبادر فی خطوط :

1 - إن التبادر عند أهل اللّسان هو العلّة ، لأنه معلول للعلم بالوضع ، و هم عالمون بالوضع .

أما التبادر عند المستعلم فهو مبتلی بإشکال الدور و غیره .

2 - و المتبادر هو المعنی الحقیقی عند العرف العام .

3 - و الدلیل الصحیح علی ذلک هو السیرة العقلائیّة .

4 - فلا کشف إنّی ، بل إن السیرة تکون حجّةً عقلائیّة علی المعنی الحقیقی .

5 - لکنْ المعنی الحقیقی الموضوع له اللّفظ بالوضع التعیّنی لا التعیینی .

6 - و بشرط أنْ لا یحتمل الاستناد إلی القرینة العامّة التی یصعب نفیها ، بخلاف القرینة الخاصة ، فإن نفیها سهل .

7 - إنما الکلام فی اتّصال هذه السیرة إلی زمن المعصوم و عدم ردعه عنها ، فالاستصحاب لا یجری أو لا یفید .

8 - بل الصحیح إنّه أصل عقلائی ، لکنه مشروط بشرطین ، أحدهما :

حصول الاطمئنان بعدم النقل ، و الآخر : عدم المعارضة من ناحیة اللّغة .

9 - و عدم التبادر لیس علامةً للمجاز ، و کذا تبادر الغیر .

10 - و إنّه لا مشکلة عندنا فی خصوص الروایات عن المعصومین علیهم السلام ، من جهة أصالة عدم النقل بالتقریب الذی قدّمناه ، لکن تبقی مشکلة احتمال وجود القرینة ، لسببین :

أحدهما : التقطیع الواقع فی الروایات ، فإنه ربما یورث الشک فی

ص:184

جریان الأصل المذکور ، لأنه قد یؤدّی إلی وقوع الفصل بین القرینة وذی القرینة أو ضیاعها ، و مع وجود هذا الاحتمال فی الروایات کیف یتمّ الظهور فیها و استنباط الحکم الشرعی منها ؟

و الثانی : ضیاع کثیرٍ من روایات أصحابنا عن الأئمة الأطهار ، ککتب ابن أبی عمیر ، فإذا احتملنا اشتمالها علی قرائن لهذه الروایات الموجودة بین أیدینا ، کیف یتمّ ظهور هذه فی معانیها لتکون مستنداً للأحکام الشرعیة ؟

أمّا الأمر الأوّل ، فیمکن حلّ المشکل من جهته ، بأن العلماء قد جمعوا الروایات ، و أرجعوها إلی أحوالها السابقة بضمّ بعضها إلی البعض الآخر .

و یبقی الأمر الثانی ، و لا بدّ من التأمّل فیه !

ص:185

2 - 3 صحّة الحمل و عدم صحّة السّلب

قالوا : إن صحة الحمل و عدم صحة السلب علامتان للحقیقة ، و عدم صحة الحمل و صحة السلب علامتان للمجاز .

و توضیح ذلک :

إن الحمل علی ثلاثة أقسام : حمل هو هو ، حمل ذو هو ، الحمل الاشتقاقی ، مثال الأول : زید إنسان ، و الثانی : الجدار ذو بیاض ، و الثالث :

الجدار أبیض .

و فی تقسیم آخر - و هو المقصود هنا - : ینقسم الحمل إلی قسمین :

1 - الحمل الأوّلی .

2 - الحمل الشائع الصناعی .

و لا بدَّ فی کلّ حملٍ من وحدة بین الموضوع و المحمول من جهةٍ ، و من تغایرٍ بینهما من جهةٍ اخری ، ففی الحمل الأوّلی الذاتی یکون الاتحاد بینهما فی المفهوم و التغایر بالاعتبار ، مثل قولنا : الإنسان حیوان ناطق ، فباللّحاظ الإجمالی هو « الإنسان » و باللّحاظ التفصیلی هو « الحیوان الناطق » . أما فی الحمل الشائع ، فالاتحاد بینهما یکون فی المصداق ، و التغایر فی المفهوم ، کقولنا : زید إنسان .

و الحمل بکلا قسمیه علامة للحقیقة ، أمّا فی الحمل الأوّلی : فإنا إذا جهلنا معنی اللّفظ ، نجعله محمولاً للّفظ الذی نعلم بمعناه ، فإن صحّ الحمل

ص:186

من دون قرینة فی البین ، ظهر کون الموضوع و المحمول فی تلک القضیّة بمعنی واحد ، و تبیّن المعنی الموضوع له المحمول .

و أمّا فی الحمل الشائع فتقریب الاستدلال هو : أنا لمّا علمنا بأنّ « زید » فرد لطبیعةٍ من الطبائع ، و کان جهلنا فی أن تلک الطبیعة هی طبیعة الإنسان أو طبیعة اخری ، فحینئذٍ نحمل « الإنسان » علی « زید » ، فإنْ صحّ الحمل ظهر أن « زید » فرد من هذه الطبیعة .

* و قد أورد فی ( المحاضرات ) أمّا علی الحمل الأوّلی فبما ملخّصه :

إن المستعمل یری قبل الحمل الاتحاد بین الموضوع و المحمول ، لأنه یتصوّرهما بالتفصیل ، فالمعنی الحقیقی منکشف عنده و لا جهل له به لیرتفع بالحمل ، فصحّة الحمل لا تکون من أمارات کشف المعنی الحقیقی .

و أجاب عنه شیخنا فی الدورة السابقة : بأنه إن کان الغرض من الحمل فی « الإنسان حیوان ناطق » هو الإخبار و إفهام الغیر ، فالإشکال وارد ، لأن المخبر لا بدّ و أن یکون عالماً بمعنی کلامه ، و لکنْ قد یکون الغرض من الحمل استکشاف الاتّحاد بین الموضوع و المحمول ، بأنْ تکون فائدة الحمل تبدّل العلم الارتکازی بالوضع الموجود عند المستعلم إلی العلم التفصیلی ، کما کان الحال فی التبادر ، حیث رأی أن المعنی ینسبق إلی ذهنه من حاقّ اللّفظ من غیر استنادٍ إلی قرینةٍ ، فأصبح علمه الارتکازی بالمعنی علماً تفصیلیّاً ، کما ذکر المستشکل نفسه فی مبحث التبادر ، و علی هذا ، فالإشکال غیر وارد .

* و أورد علیه فی ( المحاضرات ) أیضاً : بأن مقام الحمل یکشف عن المفاهیم بما هی مفاهیم ، و عن المصادیق بما هی مصادیق ، و لا ربط له بالمستعمل فیه حتی یکون علامةً علی المعنی الحقیقی ، فالحمل الأوّلی

ص:187

یحمل فیه المفهوم علی المفهوم بما هما مفهومان ، و یشهد بذلک وجود الحمل عند غیر المتمکّن من التلفّظ ، فإن الأخرس یری مفهوم « الحیوان الناطق » و هو مفهوم تفصیلی ، و یری مفهوم « الإنسان » و هو مفهوم إجمالی ، ثم یحمل هذا علی ذاک ویحکم بالاتحاد . فالحمل الأوّلی یکشف عن الاتحاد بین المفهومین ، و بحث الحقیقة و المجاز إنما یکون فی عالم الاستعمال بالنظر إلی المستعمل فیه بما هو مستعمل فیه .

و أما فی الحمل الشائع ، فإن هذا القسم من الحمل ینتج کون هذا مصداقاً لذاک أو لیس بمصداقٍ له ، کقولنا : « زید إنسان » و قولنا : « زید لیس بجماد » ، و هذا لا علاقة له بالمستعمل فیه اللّفظ ، سواء کان حقیقةً أو مجازاً .

و هذا الإشکال قد ذکره الاستاذ فی الدورة السابقة ، و أجاب عنه بما ذکره المحقّق الأصفهانی فی کتاب ( الاصول علی النهج الحدیث ) من أن الحمل یکشف عن الاتحاد المفهومی - کما فی الأوّلی - أو الوجودی - کما فی الشائع و لکنْ ربما یحصل منه المعنی الحقیقی فی حال کون المحمول مجرّداً عن القرینة . و أوضحه شیخنا بأنّا لا ندّعی أن مطلق الحمل یکشف عن المعنی الحقیقی ، بل هو فیما إذا کان اللّفظ فانیاً فی المعنی و محمولاً علی الموضوع بلا قرینةٍ ، فإنّه حینئذٍ یکشف عن المعنی الحقیقی .

أمّا فی الدورة اللّاحقة ، فقد أورده ، و به أسقط صحّة الحمل عن کونه علامةً ، و الظاهر أنّ هذا هو الصحیح ، فإنی لا أریٰ کلامه المزبور وافیاً بالجواب .

و أسقط شیخنا هذه العلامة فی الدورة السابقة - بعد الجواب عمّا أورد علیها - بأن القابل للاستدلال هو الحمل الشائع ، لکنه - کما قال المحقق الأصفهانی - یرجع إلی التبادر ، و لیس علامةً غیره .

ص:188

4 - الاطّراد

و لیس المراد منه کثرة الاستعمال و شیوعه ، فإن ذلک موجود فی المجاز المشهور أیضاً ، بل المراد - کما ذکر المحقق الأصفهانی ، و لعلّه خیر ما قیل فی المقام - هو : إطلاق اللّفظ بلحاظ معنیً کلّی علی مصادیق و اطّراده - أی الإطلاق علیها مع اختلاف أحوالها و تغیّر الخصوصیّات فیها ، فإنه یکشف عن کون المعنی هو الموضوع له اللّفظ حقیقةً ، فمثلاً : لفظ « العالم » یصح اطلاقه علی « زید » بلحاظ کونه متّصفاً بالعلم ، و کذا علی « عمرو » و « بکر » و غیرهما ، مع ما هناک من الاختلاف بین هؤلاء فی الخصوصیّات و الأحوال ، فلما رأینا صحّة هذا الإطلاق و اطّراده فیهم ، علمنا أنّ المعنی الموضوع له لفظ « العالم » هو « من قام به العلم » ، فکان الإطراد علامةً للحقیقة ، بخلاف لفظ « الأسد » فإنّه یتفاوت اطلاقه بین « الحیوان المفترس » و بین « زید » و« عمرو » و « بکر » بلحاظ وجود الأمر الکلّی فیهم و هو « الشجاعة » ، فهو فی الرجل الشجاع مجاز لعلاقة المشابهة .

و علی الجملة ، فإنّ انطباق اللّفظ علی المصادیق علی حدٍّ سواء - المعبَّر عنه بالاطّراد - لا یکون إلّا لعلقةٍ بین اللّفظ و المعنی ، و بما أنه لا توجد علقة مجازیّة مطّردة ، فالصّدق علی الأفراد باطّراد هو من جهة العلقة الوضعیّة ، فهو کاشف عن المعنی الحقیقی .

ص:189

و قد وقع هذا التفسیر للاطّراد و عدمه موقع الإشکال ، من جهة أنّ عدم الاطّراد فی طرف المجاز إنّما هو لقصور المقتضی ، فمثلاً : فی علاقة الکلیّة و الجزئیّة ، لم یرخّص فی استعمال کلّ « کلّ » فی کلّ « جزءٍ » لیصح الاعتماد علیها فی کلّ استعمال ، و فی علاقة السببیّة - مثلاً - لیس کلّ سببیّة و مسبّبیة بمصحّحة للاستعمال ، فالأب سبب لوجود الابن ، إلّا أن إطلاق الأب علی الابن أو بالعکس - اعتماداً علی تلک العلقة الموجودة بینهما - غیر صحیح ...

و هکذا سائر العلائق ... فالعلقة المصحّحة للاستعمال محدودة ، و هذا هو السبب لعدم الاطّراد ، فلیس عدم الاطّراد علامةً للمجاز .

و لرفع هذا الإشکال أضافوا قید « بلا تأویل » أو « علی وجه الحقیقة » فقالوا : بأنَّ شیوع الاستعمال علی وجه الحقیقة و بلا تأویلٍ علامة الحقیقة .

إلّا أنّه مستلزم للدور ، لأنّ الاطّراد علی وجه الحقیقة موقوف علی العلم بالوضع ، و المفروض أنّ العلم بالوضع متوقف علی الإطراد علی وجه الحقیقة .

و لا یندفع ذلک بما تقدّم فی التبادر فی دفع الدور بالاختلاف بالإجمال و التفصیل ، لأنّ العلم الإجمالی بوجود العلامة للحقیقة لا فائدة له للکاشفیّة عن المعنی الحقیقی .

و کیف کان ، فإنه یرد علی تقریب الاطّراد بما ذکر :

أوّلاً : بالنقض بالمجاز المشهور ، فإنه عبارة عن شیوع استعمال اللّفظ و اطّراده فی المعنی المجازی ، بحیث یکون مانعاً عن تبادر المعنی الحقیقی مجرّداً عن القرینة إلی الذهن ، کلفظ « الطهارة » مثلاً فی لسان الشارع . فما ذکر إنما یتم فی سائر المجازات دون المجاز المشهور .

ص:190

و ثانیاً : إن ما ذکر إنما یتمّ فیما لو کان مصحّح الاستعمال عبارة عن العلائق المقرّرة فی فنّ البلاغة ، لکن مسلک المتأخّرین أن صحة الإطلاق المجازی یدور مدار الاستحسان الذّوقی ، و لذا ، فقد لا تطرّد العلاقة و یکون الاستعمال المجازی مطّرداً بحسب الذوق السلیم .

و قال السید البروجردی فی تقریر الإطراد - بناءً علی مسلک السکّاکی - ، بأنّه دلالة اللّفظ علی المعنی و عدم تخلّفه عنها فی أیّ ترکیبٍ وقع و بانضمام أیّ لفظٍ کان ، کما هو حال لفظ « الأسد » بالنسبة إلی « الحیوان المفترس » بخلافه فی « الرجل الشجاع » ، فإنّا نری صحّة قولنا « زید أسد » و ندّعی کونه حقیقةً فیه ، لکن لا یصحّ ذلک فی کلّ مورد ، فلا یقال مثلاً : کُل هذا الطّعام یا أسد .

فملاک الحقیقة فی الإطراد : صحّة استعمال اللّفظ فی کلّ ترکیب و هیئة ، بخلاف المجاز ، فإنّه و إنْ اطّرد استعمال اللّفظ فیه ، لکن لا یصح فی کلّ موردٍ ، کما فی المثال المذکور .

و أورد علیه شیخنا :

أوّلاً : بأنّ مآله إلی کلام المحقّق الأصفهانی ، و ما ذکره المحقق القمی ، من أن علاقة السببیّة مثلاً قد تکون موجودة و لا یصح الاستعمال استناداً إلیها ، کما بین الأب و الابن .

و ثانیاً : بأنّ من الممکن أنْ یقال - بناءً علی ما ذکره - : لفظ « الأسد » موضوع للرجل الشجاع ، لا فی کلّ ترکیبٍ و سیاق ، بل مقیّداً بخصوصیّات ، وعلیه ، فیکون عدم الإطراد ناشئاً من هذا التقیید فی الوضع ، فلا یکون علامةً.

ص:191

خلاصة البحث فی العلائم
اشارة

و تلخّص : إنّ ما یمکن أن یکون علامةً هو التبادر عند أهل اللّسان فقط ، علامة عقلائیة ، و بالسیرة غیر المردوعة شرعیّة ، مع لحاظ النقاط المذکورة فیه .

هذا ، و إنّ الأخذ بعلائم الحقیقة و المجاز و الاستفادة منها عمل اجتهادی للوصول إلی المعنی الحقیقی الموضوع له اللّفظ متی وقع الجهل به ، إلّا أن المطلوب فی هذا البحث هو قالبیّة اللّفظ للمعنی و عدمها ، کما فی لفظ « الأسد » مثلاً ، فإنه لیس قالباً للرجل الشجاع بل للحیوان المفترس ، فإذا قصد المتکلّم منه الرجل الشجاع احتاج إلی إقامة القرینة ، وعلیه :

فإن کان اللّفظ قالباً للمعنی دالّاً علیه منسبَقاً منه بلا قرینة ، فذاک المعنی هو المعنی الحقیقی عند أهل اللّسان ، فلو تکلّم المتکلّم و تردّدنا فی أنه هو المقصود أو غیره ، فلا ریب فی وجوب حمل کلامه علیه ، إذ المفروض کونه المعنی المنسبق منه إلی الذهن بلا قرینة .

و أمّا مع احتمال وجود القرینة ، أو وجود شیء یحتمل القرینیّة ، فهنا مسلکان :

أحدهما : إنّ أصالة الحقیقة حجّة تعبّدیّة ، وعلیه ، فلا یضرّ احتمال وجود القرینة ، بل اللّفظ یحمل علی معناه الحقیقی المنکشف بالتبادر .

و الآخر : إن أصالة الحقیقة حجّة من باب إفادة الظهور العرفی ، و هذا هو

ص:192

المختار ، وعلیه ، فلا مناص من نفی احتمال وجود القرینة أو قرینیّة الموجود ، حتی ینعقد الظهور ، و لا مجال لنفی الاحتمال بالاستصحاب ، بأنْ نتمسّک باستصحاب عدم وجود القرینة أو باستصحاب العدم الأزلی لنفی قرینیّة الموجود ، لأنّ المطلوب هو الظهور العرفی ، و هو موضوع الأثر فی بناء العقلاء غیر المردوع عنه شرعاً ، و هو لازم عقلی لکلا الاستصحابین ، فالأصل مثبت .

و حینئذٍ ، ینحصر الأمر بالرجوع إلی بناء العقلاء ، و هو علی التوقّف فی حال وجود ما یتحمل کونه قرینةً تحفُّ بالکلام ، و علی عدم الاعتناء باحتمال وجود القرینة .

هذا ، و لا یخفی أنّ هذا البحث کلّی . أمّا فی خصوص ألفاظ الروایات فالأمر مشکل جدّاً علی کلا المسلکین ، لعلمنا بضیاع کثیر من الکتب و وقوع التقطیع فی نصوص الأخبار و غیر ذلک من العوارض ، و کذا الکلام فی الأحادیث النبویّة ، إذ لا ریب فی تحریف الیهود و غیرهم لکثیر من الأحادیث و دسّهم فیها ما لیس منها ، و مع هذه الأحوال کیف یستند إلی الأصل المذکور فی فهم معانی الألفاظ الواردة فی تلک النصوص ؟

هذا تمام الکلام فیما یتعلّق بعلائم الحقیقة و المجاز ، و طرق کشف المعنی الحقیقی و تمییزه عن المعنی المجازی .

تتمیمٌ

فإنْ تمیّز المعنی الحقیقی عن المجازی و شک فی الإرادة الاستعمالیّة ، بأنْ دار الأمر فی الکلام بین حمله علی هذا أو ذاک ، فهل من أصلٍ یرجع إلیه ؟ قیل : إن مقتضی الأصل أن یکون الاستعمال علی الحقیقة ، و قیل :

ص:193

الاستعمال أعمّ من الحقیقة ، و هذا هو الصحیح ، فلا یجوز حمل الکلام علی المعنی الحقیقی لمجرّد کونه مستعملاً ، سواء فی ألفاظ الکتاب أو السنّة أو غیرهما .

و إنْ تمیّز أحدهما عن الآخر و شک فی الإرادة الجدیّة ، تمسّکوا بأصالة الجدّ ، و به نفوا احتمال کونه هازلاً أو کونه فی مقام الامتحان و غیر ذلک .

إلّا أنه یتوقف علی نفی احتمال وجود قرینةٍ منفصلةٍ مانعة عن الحمل علی الإرادة الجدیّة ، و نفیه بالاستصحاب لا یجدی ، فالمرجع بناء العقلاء .

و التحقیق : إن بناء العقلاء فی کلام کلّ متکلّمٍ کان من دأبه بیان مقاصده بالتدریج ، هو الفحص عن القرینة المانعة عن الظهور ، فإن لم یعثروا علیها بنوا علی أصالة الجدّ ، و من کان دأبه بیانها دفعةً تمسّکوا فی کلامه بالأصل المذکور بلا فحص عن القرینة .

ص:194

تعارض الأحوال

اشارة

ص:195

ص:196

ذکروا للّفظ أحوالاً : کالاشتراک ، و التجوّز ، و النقل ، و التخصیص ، و الإضمار ، و النسخ ، و الاستخدام ...

و ذلک ، لأن اللّفظ ینقسم إلی أقسامٍ عدیدةٍ ، فمن حیث کون المعنی الموضوع له واحداً أو أکثر ، ینقسم إلی المشترک و غیر المشترک ، و من حیث الاستعمال فی معناه و غیر معناه ، ینقسم إلی الحقیقة و المجاز ، و من حیث الإضمار فی الإسناد و عدم الإضمار ، ینقسم إلی المضمر و غیر المضمر ، و من حیث طروّ النقل علی المعنی ، ینقسم إلی المنقول و غیر المنقول ، و من حیث کون المعنی مقیّداً أو غیر مقیَّد ، ینقسم إلی المطلق و المقیَّد ، و هکذا .

و لدوران الأمر صورتان :

الصورة الاولی :

أنْ یدور أمر اللّفظ بین کلٍّ من المتقابلین ، کأن یدور بین الإطلاق و التقیید ، أو بین الحقیقة و المجاز ، و نحو ذلک ، ففی هذه الصورة لا بدّ من أصلٍ أو قاعدةٍ یرجع إلیها :

فإن دار الأمر بین الاشتراک و عدمه ، بأنْ یکون اللّفظ موضوعاً لمعنیً خاصّةً أو له و لغیره معاً بنحو الاشتراک لیکون حقیقةً فیهما ، فلا مجال لأصالة الحقیقة ، لأنها المرجع لتمییز الحقیقة عن المجاز ، و المفروض أنْ لا مجاز فی البین ، کما لا مجال للأصل العملی کالاستصحاب ، لکونه أصلاً مثبتاً ، بل

ص:197

المرجع هو بناء العقلاء ، فإن قام علی حمل الکلام علی الاختصاص دون الاشتراک فهو ، و إلّا فلا أصل یرجع إلیه . قال المحقق العراقی بوجود هذا البناء عندهم ، و التحقیق خلافه ، بل نجدهم فی مثل ذلک یتوقّفون .

و لو دار الأمر بین الحقیقة و المجاز ، فلا شبهة فی تحکیم أصالة الحقیقة .

و لو دار الأمر بین الإضمار و عدمه ، فلا ریب فی البناء علی عدم الإضمار .

و لو دار الأمر بین الإطلاق و التقیید ، فبناء العقلاء علی الإطلاق بلا کلام ، فإن فرض وجود محتمل القرینیّة لم یضرّ بالتمسّک بالإطلاق بناءً علی حجیّة أصالة الإطلاق من باب التعبّد ، أمّا بناءً علی حجیّة أصالة الإطلاق من باب إفادة الظهور ، فلا یندفع الاحتمال بالتمسّک به لینعقد الظهور ، و حیث أن الحق هو هذا المبنی ، فمع وجود محتمل القرینیّة لا بدّ من التوقّف .

و لو دار الأمر بین النقل و عدمه ، بأنْ یکون اللّفظ ظاهراً فی المعنی الآن و یشک فی ظهوره فیه فی الزمان السابق ، أو یکون بالعکس ، فبناء العقلاء علی عدم النقل ، إمّا علی الإطلاق کما علیه سائر العلماء ، و إمّا مقیّداً بحصول الاطمئنان کما هو المختار عند الاستاذ .

فإنّ علم بوقوع النقل ، فتارةً یجهل بتاریخ الاستعمال و تاریخ النقل معاً ، بأن استعمل اللّفظ فی معنیً و علم بنقله عنه ، ثم لم یعلم أیّهما المقدّم ، و اخری یکون تاریخ الاستعمال معلوماً و تاریخ النقل مجهولاً ، و ثالثة عکس الثانیة .

قال المحقق العراقی فی الصورة الاولی بوجود البناء العقلائی علی عدم

ص:198

النقل ، و فی الثانیة و الثالثة بالتوقّف .

فقال شیخنا بأنّهم یتوقّفون فی جمیع الصور الثلاثة .

الصورة الثانیة :

فی دوران الأمر بین الأحوال .

و قد ذکر العلماء وجوهاً لتقدیم البعض علی الآخر ، لکن الحق - کما ذکر المحقق الخراسانی - أن تلک الوجوه کلّها خطابیّة استحسانیة .

فالتحقیق : متابعة الظهور أینما حصل ، و إلّا فالکلام مجمل .

مثلاً : لو دار الأمر بین الاشتراک و النقل ، کأن یتردّد لفظ « الصلاة » بین الاشتراک ، فیکون حقیقةً فی المعنی اللّغوی و المرکّب الشرعی - بناءً علی الحقیقة الشرعیّة - و بین النقل عن معناه اللّغوی إلی المرکّب الشرعی ، فإنْ کان مشترکاً بین المعنیین کان : « الطواف بالبیت صلاة » و نحوه مجملاً ، و إنْ کان منقولاً ، حکم بلزوم الطهارة للطواف .

أو دار الأمر بین الاشتراک و التخصیص ، کما فی قوله تعالی : «وَلاَ تَنکِحُواْ مَا نَکَحَ آبَاؤُکُم » (1)لو کان لفظ « النکاح » مشترکاً بین « الوطء » و « العقد » أو مختصّاً ب « العقد » ، فعلی الاختصاص تکون معقودة الأب - و لو بدون الدخول موضوعاً للحرمة ، أما علی الاشتراک فیشکّ فی تحقّق موضوع الحرمة .

أو دار الأمر بین الاشتراک و الإضمار فی مثل : « فی خمسٍ من الإبل شاة » فإن کانت « فی » مشترکة بین الظرفیّة و السببیّة ، فإنّه یتردّد الحکم بین « الشاة » أو مقدار الشاة ، لأنه علی الظرفیّة یلزم إضمار کلمة « مقدار » ، أمّا علی السببیّة فلا یلزم ، بل الواجب إعطاء نفس الشّاة .

ص:199


1- (1)) سورة النساء : 22 .

أو دار الأمر بین العموم و الاستخدام کما فی قوله تعالی : «وَالْمُطَلَّقَاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ... وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ » (1).

و علی الجملة ، فما ذکروه من الوجوه للترجیح کلّه ظنّی ، و الظنّ لا یغنی من الحقّ شیئاً ، ما لم یصل اللّفظ إلی حدّ القالبیّة للمعنی .

ص:200


1- (1)) سورة البقرة : 228 .

الحقیقةُ الشرعیّة

اشارة

ص:201

ص:202

مقدّمات

قبل الورود فی البحث :

هل هذا البحث من المسائل الاُصولیّة أو من المبادئ التصدیقیّة لعلم الاصول ؟

قال المحقق الأصفهانی بالثانی .

و التحقیق هو الأوّل ، و ذلک لأن المسألة الاصولیّة عبارة عن المسألة التی تقع نتیجتها فی طریق استنباط الحکم الشرعی ، فإذا ثبتت الحقیقة الشرعیّة فإن الألفاظ تحمل علی المعانی الشرعیّة المستحدثة من قبله لا محالة ، و إلّا فإنّها تحمل علی المعانی اللّغویة کما تقرر عندهم ، فالبحث عن الحقیقة الشرعیّة هو فی الحقیقة بحث عن الظهور ، کما أن البحث عن دلالة الأمر علی الوجوب یرجع إلی البحث عن الظهور ، فیکون من المسائل الاصولیّة .

نعم ، لو کان البحث عن حجیّة الظواهر ، کان البحث عن الحقیقة الشرعیّة من المبادی ، لکن المفروض وقوع البحث عن الحقیقة الشرعیّة بعد الفراغ عن کبری حجیّة الظواهر ؛ فإذا ثبتت الحقیقة الشرعیّة وجب حمل ألفاظ الشارع علی معانیها الشرعیّة - دون اللّغویة - و استنبط الحکم الشرعی منها ، فهی مسألة تقع نتیجتها فی طریق الاستنباط .

ص:203

و یتمّ البحث عن الحقیقة الشرعیّة بالکلام فی جهات ، و قبل الدخول فیه نقول :

أوّلاً : إن موضوعات الأحکام الشرعیة منها : موضوعات خارجیّة ، کالماء و الخمر ، فی « الماء طاهر » ، و « الخمر حرام » ، و نحو ذلک . و منها :

موضوعات اعتباریّة ، مثل الصّلح فی : « الصلح جائز » ، و البیع فی : «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ » (1)، و هکذا . و منها : ما عبَّر عنه الشهید الأوّل - رضوان اللّٰه علیه - بالماهیّات المخترعة ، کالصّلاة و الحج و الصّوم و الاعتکاف ، و أمثال ذلک .

ثانیاً : المقصود فی البحث هو التحقیق عن أنّه هل للشارع وضعٌ و اختراع فی التّسمیة أو لا ، سواء کانت المعانی مخترعة منه أو غیر مخترعة ، فلا یختصّ البحث بالماهیّات المخترعة ، و إن کانت هی مورد البحث و عنوانه عندهم .

و ثالثاً : لا إشکال فی جریان البحث فی ألفاظ العبادات ، إنما الکلام فی جریانه فی ألفاظ المعاملات مع کون الأدلّة الشرعیة فیها إمضاءً لما هو فی بناء العقلاء ، و أنها لیست تأسیسیّةً ، إلّا أنه لمّا کان الشارع قد اعتبر فی المعاملات خصوصیّاتٍ زائدةً علی ما هو المعتبر عند العقلاء ، و أنّ هذه المعانی مع تلک الخصوصیّات قد انسبقت إلی الأذهان فی بعض الأزمنة ، فلا مانع من وقوع البحث حولها من حیث أنّ ألفاظ المعاملات موضوعة لمعانیها بدون الخصوصیّات أو معها .

فالتحقیق جریان البحث فی ألفاظ المعاملات أیضاً .

ص:204


1- (1)) سورة البقرة : 275 .

و بعد :

فإنه و إنْ وقع البحث من عدّةٍ من الأعیان حول القسم الثانی من الموضوعات ، کالبیع و الصلح و نحوهما فی أنه هل للشارع فیها وضع أو لا ، لکن القسم الثالث - و هو الموضوعات المخترعة - هو مطرح البحث عند الکلّ ، فهل له فیها وضع أو لا ؟

و الوضع - کما هو معلوم - إمّا تعیینی و إمّا تعیّنی ، و التعیینی ینقسم إلی القولی و الفعلی .

أمّا أنْ یکون للشارع وضع تعیینی قولی بالنسبة إلی موضوعات الأحکام ، فهذا ممّا نقطع بعدمه ، لأنه لو کان لنقل إلینا متواتراً .

و أمّا أن یکون له وضع تعیینی بالفعل ، کأنْ یولد له ولد فیقول : ائتونی بولدی حسن ، بأنْ یتحقق وضع لفظ « الحسن » اسماً لهذا الولد بنفس هذا الکلام ، و کما فی الحدیث : « صلّوا کما رأیتمونی أصلّی » بأنْ یقال بأنه قد وضع اسم « الصلاة » علی هذه العبادة بنفس هذا الاستعمال ... فهل هو ممکن أو لا ؟ و هل هو واقع ؟ فالکلام فی مقامین :

ص:205

1 - الکلام فی تحقّق الوضع بالاستعمال
اشارة

أمّا فی المقام الأوّل ، فقد ذهب المحقق الخراسانی إلی إمکان تحقّق الوضع بالاستعمال ، إلّا أنه یحتاج إلی قرینةٍ تفید کونه فی مقام الوضع بواسطة الاستعمال ، قال : و هذا الاستعمال لیس بحقیقةٍ و لا مجاز ، أمّا أنه لیس بمجازٍ ، فلأنّ الاستعمال المجازی مسبوقٌ بالوضع للمعنی الحقیقی ، فتقام القرینة لإفادة المعنی المجازی ، و المفروض هنا صیرورة اللّفظ حقیقةً بنفس الاستعمال ، و أمّا أنه لیس بحقیقةٍ ، فکذلک ، لأنّ الاستعمال الحقیقی فرع للوضع ، و المفروض تحقّق الوضع بهذا الاستعمال . هذا ، و لا مانع من أنْ یکون اللّفظ غیر متّصف بالحقیقة و لا بالمجاز ، لوجود نظائر له ، کما فی استعمال اللَّفظ و إرادة شخص اللّفظ .

اشکال المیرزا علی المحقق الخراسانی

فأورد علیه المحقق النائینی بأنّ تحقّق الوضع بالاستعمال غیر ممکن ، لأنّ مقام الوضع یستدعی لحاظ کلٍّ من اللّفظ و المعنی باللّحاظ الاستقلالی حتی توجد العلقة الوضعیّة بینهما ، أمّا مقام الاستعمال فمتقوّم بلحاظ اللّفظ باللّحاظ الآلی ، لکونه فی هذا المقام طریقاً و مرآةً للمعنی ، فالمعنی هو ما ینظر ، و اللّفظ هو ما به ینظر المعنی ، فلو ارید الوضع بالاستعمال لزم اجتماع اللّحاظ الآلی و اللّحاظ الاستقلالی فی اللّفظ ، و اجتماع هذین اللّحاظین فی

ص:206

الشیء الواحد غیر معقول .

رأیُ الاستاذ فی الإشکال

قال الاستاذ دام ظله : إنّ هذا الإشکال یبتنی علی الالتزام بأمرین :

أحدهما : توقّف تحقّق الوضع علی الإبراز ، و الأمر الآخر : کون لحاظ اللَّفظ فی ظرف الاستعمال آلیّاً و أنه لا یمکن کونه استقلالیّاً .

و حیث أنّ المحقق الخراسانی ملتزم بکلا الأمرین ، لأنه یری بأنّ الوضع لا یکون إلّا بالقول أو الفعل ، و أنّ الاستعمال إفناء اللّفظ فی المعنی ، فالإشکال وارد علیه لا محالة .

جواب المحقق الأصفهانی

و أمّا جواب المحقق الأصفهانی من أنّ اللحاظین غیر مجتمعین فی مرتبةٍ واحدة حتی یلزم المحذور ، و ذلک لأنّ الوضع بالاستعمال یکون من قبیل جعل الملزوم بجعل اللّازم ، ففی مرحلة الوضع یلحظ اللّفظ بالاستقلال ، و فی مرحلة الاستعمال یلحظه آلةً ، نظیر جعل « الملکیة » بجعل « السلطنة » فإنّ السلطنة من لوازم الملکیّة ، فإذا قلنا « سلّطتک علی هذا » فقد جعلنا الملکیّة له علیه ، فالاستعمال من لوازم الوضع ، و بتحقّق الاستعمال - و هو اللّازم - یمکن جعل الوضع و هو الملزوم ، فکان اللحاظ الآلی فی مرحلة جعل اللّازم ، و اللّحاظ الاستقلالی فی مرحلة جعل الملزوم .

مناقشة الاستاذ

فقد أورد علیه شیخنا : بأنه إنْ ارید من کون الوضع بالاستعمال من قبیل جعل اللّازم و الملزوم : کون الجعل واحداً و المجعول اثنین . ففیه : أن الجعل و المجعول واحد حقیقةً و اثنان اعتباراً .

ص:207

و إنْ ارید من ذلک أن هنا جعلین و مجعولین ، أحدهما جعل اللّازم و الآخر جعل الملزوم ، و هو الذی صرّح به فی ( الاصول علی النهج الحدیث ) (1) بأنْ یکون لازم الوضع ، هو استعمال اللّفظ فی المعنی بنحوٍ یکون اللّفظ حاکیاً عن المعنی بنفسه - لا بالقرینة - و بجعل هذا اللّازم یتم جعل الملزوم و هو الوضع ، فکان اللّحاظ الآلی فی مرحلة جعل اللّازم ، و اللّحاظ الاستقلالی فی مرحلة جعل الملزوم ، فلم یجتمع اللّحاظان .

ففیه : إن هذا خروج عن البحث ، لأن المفروض فیه اتحاد الوضع و الاستعمال ، و هذا غیر متحققٍ فیما ذکر . هذا أوّلاً . و ثانیاً : إن نسبة الملزوم إلی اللازم نسبة العلّة إلی المعلول ، فکیف یتصوّر استتباع جعل اللّازم - مع الاحتفاظ علی کونه لازماً - جعل الملزوم ؟ إنّ فرض کونه لازماً هو فرض التأخّر له ، و فرض استتباعه جعل الملزوم هو فرض التقدّم له ، فیلزم اجتماع التقدّم و التأخّر فی الشیء الواحد .

جواب المحقق العراقی

و أجاب المحقق العراقی باختلاف متعلَّق اللّحاظین ، فقال ما حاصله - کما فی آخر بحث الوضع من ( المقالات ) تحت عنوان « تتمیم » (2) - بأنّه فی مرحلة الاستعمال یکون الفانی فی المعنی هو شخص اللّفظ ، فالملحوظ باللّحاظ الآلی هو شخص اللّفظ ، لکن الملحوظ فی مرتبة الوضع هو طبیعة اللّفظ ، لأن الواضع یضع طبیعیّ اللّفظ لطبیعیّ المعنی لا لشخصه ، فما أشکل به المحقق النائینی خلط بین المرتبتین .

ص:208


1- (1)) الاصول علی النهج الحدیث : 32 .
2- (2)) مقالات الاصول 67/1 .
مناقشة الاستاذ

فردّ علیه الاستاذ بکونه خروجاً عن البحث کذلک ، فمورد البحث هو تحقّق الوضع بالاستعمال ، و هو لیس من قبیل استعمال الشخص فی النوع ، بل المدّعی وضع لفظ « الصّلاة » علی العمل المعیّن الشرعی بنفس « صلّوا کما رأیتمونی اصلّی » .

التّحقیق فی الجواب

قال شیخنا دام ظله : و الحقُّ فی الجواب هو إنکار الأمر الثانی من الأمرین المذکورین فی أساس الإشکال ، إذ الاستعمال غیر متقوّم فی کلّ کلامٍ بکون اللّفظ آلةً و فانیاً فی المعنی ، فقد یمکن لحاظه بالاستقلال فی هذه المرتبة أیضاً ، و لذا نری أن کثیراً من الناس عند ما یتکلَّمون یتأمّلون فی الألفاظ التی یستعملونها فی أثناء التکلّم ، و یلتفتون إلی الجهات المحسّنة للألفاظ و یتقیّدون بها.

فالإشکال مندفع .

و الوضع بالاستعمال ممکن .

بقی جواب المحقّق الخوئی

و أجاب السید الخوئی فی ( المحاضرات ) (1) بأنّ الوضع أمر نفسانی ، و الاستعمال عمل جوارحی ، و الوضع یکون دائماً قبل الاستعمال ، فاللّحاظ الاستقلالی یکون فی مرحلة الوضع ، و اللّحاظ الآلی فی مرحلة الاستعمال ، فاختلفت المرتبة ، و لم یجتمع اللّحاظان فی مرتبة واحدةٍ .

ص:209


1- (1)) محاضرات فی اصول الفقه : 135/1 .
رأی الاستاذ فی هذا الجواب

و هذا الجواب إنکار للأمر الأوّل من الأمرین ، و قد قرّبه الشیخ الاستاذ فی الدّورة اللّاحقة بأنّه إذا کان الوضع أمراً غیر إنشائی ، بل یحصل بمجرّد الالتزام النفسی و البناء من المعتبر ، فلو قال « جئنی بولدی محمد » قاصداً تسمیته بهذا الاسم ، فقد حصل الوضع و وقع الاستعمال من بعده ، فلا یبقی مجال للإشکال ، فهذا الجواب یتُم علی مبنی التعهّد ، و کذا علی مبنی المحقق الأصفهانی ، و هو التخصیص النفسانی للّفظ بالمعنی .

و أمّا قیاس السید الحکیم (1) هذا المورد علی مسألة حصول الفسخ للمعاملة بالفعل ، کبیع الشیء المبیع أو وطء الأمة و نحو ذلک ، ففی غیر محلّه ، لأن الفسخ من الإیقاعات ، و الإیقاع متوقّف علی الإنشاء .

لکنّه فی الدورة السابقة أورد علی هذا الجواب بأنّ العلقة الوضعیّة هی قالبیّة اللّفظ للمعنی ، و هل تتحقّق القالبیّة بمجرَّد الاعتبار النفسانی و قبل الإبراز ؟ فهل تتحقّق الزوجیّة بین هند و زید قبل إبرازها بصیغة زوّجت مثلاً ؟ کلّا ، إنّه لا برهان علی هذه الدعوی بل الوجدان و بناء العقلاء علی خلافها ، فإنّ الوضع عندهم کسائر الامور الاعتباریّة المحتاجة إلی الإبراز ، فهم لا یرون تحقّق الوضع بنفس الاعتبار و مجرد البناء .

و إذا احتاج الوضع و تحقّق العلقة الوضعیّة إلی مبرز عاد الإشکال .

أقول :

و عندی أن الحق ما ذهب إلیه فی الدورة السابقة ، و یکون حلّ المشکل منحصراً بإنکار الأمر الثانی من الأمرین .

ص:210


1- (1)) حقائق الاصول 48/1 ط مکتبة البصیرتی .

و تلخّص : إمکان الوضع بالاستعمال ، خلافاً للمحقق النائینی و من تبعه .

و علی الإمکان فهل هو حقیقة أو مجاز ؟

و اختلفوا فی هذا الاستعمال المحقق للوضع ، هل هو استعمال حقیقی أو مجازی ، أو لا حقیقی و لا مجازی ؟ علی أقوال .

قیل : إنه حقیقة ، لأن کون الاستعمال حقیقیاً لا یشترط فیه تحقّق الوضع قبل الاستعمال ، فلو تحقّقا معاً کان الاستعمال حقیقیّاً ، إذ الملاک هو الاستعمال فی المعنی الموضوع له ، و هذا مع مجرد وجود الموضوع له فی ظرف الاستعمال متحقق ، إذ العلة و المعلول یکونان فی ظرفٍ واحدٍ زماناً و إن اختلفا رتبةً ، و المفروض کون الاستعمال علّة للوضع فزمانهما واحد ، و باستعمال اللّفظ فی المعنی الموضوع له تتحقّق الحقیقة ، و لیس الاتحاد فی المرتبة مقوّماً للوضع حتی یکون اختلافهما مضرّاً ، هذا ما جاء فی ( المحاضرات ) .

و فیه : إن الاستعمال متأخّر عن المعنی المستعمل فیه بالتأخّر الطبعی ، إذ لا یتحقق الاستعمال إلّا مع وجود ذلک المعنی المستعمل فیه ، بخلاف المعنی ، فقد یوجد من غیر استعمالٍ له ، فإن کان المعنی السابق فی المرتبة علی الاستعمال قد وضع له لفظ فی تلک المرتبة ، کان استعمال ذاک اللّفظ فیه حقیقیاً ، و إن لم یکن له وضع کان استعمالاً فی المعنی المجازی .

لکن المفروض فی بحثنا تحقّق الوضع بنفس الاستعمال ، فالاستعمال أصبح علّةً للوضع و الوضع معلول له ، فکون المعنی موضوعاً له اللّفظ إنما هو فی رتبةٍ متأخرة عن الاستعمال ، و الاستعمال متقدّم علی کون المعنی موضوعاً له ، و المستعمل فیه مقدَّم علی نفس الاستعمال ، فلا محالة یستحیل کون

ص:211

المعنی موضوعاً له ، لأن کونه کذلک فی رتبة متأخرة عن الاستعمال لأنه معلول للاستعمال ، لکن کون المعنی مستعملاً فیه فی رتبة قبل الاستعمال ، فالمستعمل فیه لیس موضوعاً له ، و حینئذٍ کیف یتّصف الاستعمال بکونه استعمالاً فی المعنی الحقیقی ؟

و العجب ، أن القائل بهذه المقالة یلتزم بکون الوضع معلولاً للاستعمال ، و أن کون المعنی موضوعاً له یتحقق بتحقّق الاستعمال .

فسقط القول بکونه حقیقةً ، و ثبت کونه لا حقیقة و لا مجاز ، کما علیه المحقق الخراسانی .

و الحاصل ممّا تقدّم هو : أنّ الاستعمال الحقیقی هو استعمال اللّفظ فی ما وضع له ، و المفروض هنا تحقّق الوضع بنفس الاستعمال ، فلا معنی حقیقی له فلیس باستعمالٍ حقیقی ، و لیس بمجازی أیضاً ، لأن الاستعمال المجازی هو استعمال اللّفظ فی المعنی المناسب لما وضع له ، و المفروض عدم وجود ما وضع له قبل هذا الاستعمال ، فلیس بمجاز .

و قد اختار شیخنا هذا القول فی الدّورة اللّاحقة .

أمّا فی الدّورة السابقة ، فقد أشکل علیه بأن لفظ « الصلاة » - مثلاً - قد استعمل فی لسان الشارع فی المعنی الشرعی الجدید ، و هذا الاستعمال مجاز ، لأنّ لهذه اللّفظة معنیً حقیقیّاً فی اللّغة قبل المعنی الحادث ، و من المعلوم وجود التناسب بین المعنی الحقیقی اللغوی لهذه اللّفظة و بین المعنی الحادث المستعمل فیه ، فیکون مجازاً .

أقول :

لکن الصحیح ما اختاره فی الدورة المتأخرة ، فإنه لیس مطلق التناسب

ص:212

بین المعنیین بمصحّحٍ للاستعمال المجازی ، إذ المقصود من هذا التناسب هو علاقة الکلّ و الجزء ، لکون « الصلاة » بالمعنی الشرعی مشتملةً علی « الدعاء » و هو معنی الکلمة لغةً ، لکن لیس کلّ علاقة الکلّ و الجزء بمصحّح للاستعمال المجازی ، فالرقبة جزء الإنسان و تستعمل هذه الکلمة فی الإنسان بالعلقة المذکورة ، و لیس سائر أجزاء الإنسان کذلک .

ص:213

2 - الکلام فی وقوع الوضع بالاستعمال

و بعد الفراغ من مقام الثبوت و بیان الإمکان ، فهل هو واقع أو لا ؟

قد تقدم سابقاً أن البحث یدور حول وضع اللّفظ علی المعانی الشرعیّة من قبل الشارع ، سواء کانت معانی الألفاظ موجودةً من قبل أو لا ، وعلیه ، فوجودها قبل شرعنا لا ینفی الحقیقة الشرعیّة ، و فی القرآن الکریم آیات تدلّ علی وجودها کذلک ، و أنها کانت بنفس هذه الألفاظ ، کقوله عزّ و جلّ «وَأَذِّن فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ » (1)و «کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ کَمَا کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ مِن قَبْلِکُمْ » (2)و «أَوْصَانِی بِالصَّلاَةِ وَالزَّکَاةِ مَا دُمْتُ حَیّاً » (3)، فهذه الآیات تدل علی وجود هذه المعانی من قبل ، و بنفس هذه الألفاظ ، و یشهد بذلک أنهم لم یسألوا النبی صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم أنه ما ذا کان الصّیام ؟ و ما ذا کان الصّلاة ... ؟

وعلیه ، فلا معنی للوضع ، إلّا إذا کان المعنی حادثاً ، کالأشیاء المخترعة الآن ، أو کانت المعانی لا بهذه الألفاظ ... و نتیجة ذلک أن لا وضع من الشارع فی مقام الإثبات ، بل إنه قد استعمل الألفاظ فی نفس تلک المعانی ، غایة الأمر أنه اعتبر فیها بعض الخصوصیّات ... نعم ، مقتضی قوله تعالی : «وَمَا کَانَ

ص:214


1- (1)) سورة الحج : 27 .
2- (2)) سورة البقرة : 183 .
3- (3)) سورة مریم : 31 .

صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَیْتِ إِلاَّ مُکَاء وَتَصْدِیَةً » (1)هو التغایر بین صلاتهم و صلاتنا تغایراً جوهریّاً ، فللبحث فی مثل هذا مجال ، أمّا أن یدّعی أن المعانی کلّها مستحدثة - کما عن المحقق الخراسانی - فدون إثباتها خرط القتاد .

و ذهب المحقق العراقی - و تبعه السید الخوئی - إلی وقوع الوضع بالاستعمال ، فقال المحقق المذکور : بأن الطریقة العقلائیة قائمة علی أنه لو اخترع أحد شیئاً فإنه یضع علیه اسماً ، و لو أنّ الشارع قد تخلَّف عن هذه الطریق لنبّه و بیّن ، و حیث أنه قد تحقّق منه الوضع التعیینی و لم یکن بالقول ، فهو لا محالة بالاستعمال .

هذا حدّ دلیله ، و لا یخفی ما فیه ، فإن الطریقة العقلائیّة هذه لیست بحیث لو تخلَّف عنها أحد وقع من العقلاء موقع الاستنکار ، بل قد یخترع أحد شیئاً و یستعمل فیه لفظاً مجازیّاً ، ثم یشتهر المجاز فیصیر حقیقة .

و الألفاظ فی شرعنا لمّا استعملت فی معانیها الشرعیّة بکثرةٍ ، أصبحت حقیقةً فیها ، و دلّت علیها بلا قرینة .

فتحصّل : أن وقوع الوضع بالاستعمال فی الشرعیّات لا دلیل علیه ، بل إن الشارع فی بدء أمره استعمل تلک الألفاظ فی معانیها اللغویّة ، ثم إنها علی أثر کثرة الاستعمال فی المعانی الشرعیّة أصبحت حقائق فیها ، حتی فی زمن الشارع ، فلفظ « الصلاة » مثلاً فی اللّغة عبارة عن العطف و التوجّه ، و فی هذا المعنی استعمله الشارع ، ثم بیّن الخصوصیّات المعتبرة فی هذا المعنی بدوال اخر ، فقوله « صلّوا کما رأیتمونی اصلّی » معناه : ادعوا و توجّهوا إلی اللّٰه ، لکنْ

ص:215


1- (1)) سورة الأنفال : 35 .

بالکیفیّة التی رأیتمونی أدعو و أتوجّه إلیه ، ثم بعد فترةٍ غیر طویلة و مع تکرار اللّفظ مراراً فی هذا المعنی ، أصبح المعنی الجدید الخاص هو المتبادر منه ... .

هذه حقیقة الأمر ، و لا ملزم للالتزام بالاستعمال المجازی ، کما لا دلیل علی الوضع الحقیقی منه له بالنسبة إلی المعنی الشرعی ، و الشاهد علی ذلک ما نراه من عمل الرؤساء و کبار الشخصیّات المتنفّذین و أعلام العلماء ، فمثلاً : قد استعمل الشیخ الأنصاری کلمة « الورود » فی معناه الخاص المصطلح فی علم الاصول ، ثم بعد یومین أو ثلاثة - مثلاً - أصبحت هذه الکلمة محمولة علی هذا المعنی الجدید الاصطلاحی کلّما سمعت فی الأوساط العلمیّة .

ص:216

ثمرة البحث
اشارة

و اختلفوا هل لهذا البحث ثمرة أو لا ؟

ذهب المحقق الخراسانی - و تبعه المحقق العراقی - إلیٰ الأوّل ، و حاصل کلام المحقق الخراسانی هو :

إنه إنْ قلنا بثبوت الحقیقة الشرعیّة تظهر ثمرة البحث إذا علمنا بتاریخ وضع اللّفظة و استعمالها ، فنحمل اللّفظة الصادرة عن لسان الشارع قبله علی المعنی اللغوی و الصادرة بعده علی المعنی الشرعی . و إن قلنا بعدم ثبوتها تحمل الألفاظ الصادرة علی المعنی اللغوی . أمّا لو جهلنا تاریخ الاستعمال فمقتضی القاعدة هو التوقّف ، إذ لا طریق لدعوی کون الاستعمال متأخّراً عن زمان الوضع الشرعی إلّا أصالة تأخر الاستعمال ، بتقریب أنه قد صدر الوضع و الاستعمال من الشارع یقیناً ، و الاستعمال أمر حادث ، فنستصحب عدم تحقّق الاستعمال إلی زمان الوضع . و لکن هذا الاستصحاب فیه :

أوّلاً : إنه أصل مثبت ، إذ لیس الاستعمال حکماً شرعیّاً و لا موضوعاً لحکم شرعی ، و لازم عدم الاستعمال إلی زمان تحقّق الوضع هو کون اللّفظ مستعملاً فی المعنی الشرعی ، و هذا لازم عقلی .

و ثانیاً : إنه معارض باستصحاب عدم الوضع إلی زمان الاستعمال ، لأن الوضع أیضاً أمر حادث .

ص:217

و إنْ ارید التمسّک ببناء العقلاء لحمل الاستعمال علی الحقیقة ، بدعوی أنهم مع الشک فی کونه حقیقة أو مجازاً یحملونه علی الأوّل ، ففیه : إن هذا البناء موجود عندهم ، بالإضافة إلی أصل النقل عن المعنی اللّغوی إلی المعنی الشرعی ، أما مع العلم بتحقق النقل و الشک فی تاریخه فلا یوجد هکذا بناء .

ثم إنه أمر بالتأمّل .

و قال السید الحکیم (1) فی وجه التأمّل : لعلّه وجود البناء منهم فی مورد العلم بالنقل و الشک فی تاریخه کما نحن فیه ، فتکون النتیجة الحمل علی المعنی اللّغوی .

قال شیخنا : لا ریب فی توقّف العقلاء فی مثله ، فلیس هذا وجه التأمّل ، بل الأولی أن یقال : لعلّه یتأمّل فی أصل المطلب ، و هو ترتّب الثمرة فی صورة العلم بالتاریخ ، و أنه یحمل علی المعنی الشرعی إذا علم تاریخ الاستعمال ، لإمکان الحمل فی ما صدر قبل الوضع الشرعی علی المجاز المشهور بسبب کثرة الاستعمال لا الحمل علی المعنی الحقیقی اللّغوی .

أو لعلّه أراد التنبیه علی الخلاف بینه و بین الشیخ فی مثل المورد ، حیث أن الشیخ یری تعارض الأصلین فیه ، و هو یقول فی مثله بعدم المقتضی للجریان ، فلا تصل النوبة إلی المعارضة ، إذ مع الجهل بتاریخهما لا یحرز اتّصال المشکوک بالمتیقَّن .

هذا تمام الکلام علی وجه ترتّب الثمرة .

و ذهب المحقّق النائینی و من تبعه إلی نفی الثمرة من أصلها ، و قال بعدم ترتّبها حتّی مع ثبوت الحقیقة الشرعیّة ، و ذلک لعدم الشک عندنا فی کون

ص:218


1- (1)) حقائق الاصول 52/1 ط مکتبة البصیرتی .

المراد بهذه الألفاظ الواردة فی الکتاب و السنّة هو المعانی الشرعیّة ، أمّا الآیات فلا ریب فی کون المراد من « الصلاة » و « الزکاة » و غیرهما هو المعانی الشرعیّة لا اللغویّة و لا المعانی التی اریدت منها فی الشرائع السابقة .و أما الروایات ، فالوارد منها من طرق المخالفین لیس بحجّة عندنا ، و الوارد من طریق الأئمّة فإنّهم قد بیّنوا معانیها ، و قد ثبت لزوم حملها علی المعانی الشرعیّة .

و قد أشکل علی المیرزا : بأنّ « الصلاة » فی قوله تعالی «قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَکَّی * وَذَکَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّی » (1)مرددة بین المعنی اللّغوی و الشرعی ، فالبحث عن الحقیقة الشرعیّة یثمر فیها .

و فیه : إنه قد جاءت روایات عدیدة فی أن المراد منها هی الزکاة بعد صلاة الفطر ، منها صحیحتا زرارة و أبی بصیر (2) ، فلا شبهة فی المراد منها ، و لیس هناک غیرها مورد للشبهة ، فالإشکال یندفع .

و أشکل الاستاذ فی الدورة السابقة : بأنّه لیس کلّ ما ورد عن طریق المخالفین فلیس بحجّة ، إذ الملاک للحجیّة هو الوثوق بالصدور ، فتظهر ثمرة البحث عن الحقیقة الشرعیّة فیها .

و هذا الإشکال لم یذکره فی الدورة اللّاحقة ، و لعلّه لعدم حصول الوثوق بالصّدور من طرقهم ، أو لعلّه لعدم کفایة الوثوق بالصدور ، أو لعلّه لوجود ما ورد عن طرقهم مورداً للوثوق بالصدور فی طرقنا مع تبیین الأئمة له .

هذا ، و قد اختار شیخنا عدم ترتّب الثمرة ، من جهة أن ترتّبها یتوقّف

ص:219


1- (1)) سورة الأعلی : 14 .
2- (2)) وسائل الشیعة 318/9 الباب 1 من أبواب زکاة الفطرة ، رقم : 5 .

علی العلم بالتاریخ کما تقدَّم ، و لا طریق لنا إلی ذلک ، وعلیه ، فمن المحتمل صدورها قبل صیرورتها حقیقةً فی المعنی الشرعی ، و مع وجود هذا الاحتمال - حتی مع القول بثبوت الحقیقة الشرعیّة - لا یمکن حمل الألفاظ علی المعانی الشرعیّة .

نعم ، الألفاظ الصادرة فی أواخر عهد الرسالة کلّها محمولة علی المعانی الشرعیّة قطعاً ، سواء قلنا بثبوت الحقیقة أو لا ، کذلک .

فالحقّ أنه لا ثمرة للبحث .

تتمّة

هناک فی الأبواب الفقهیّة المختلفة روایات أجاب فیها الأئمة علیهم السلام عن السؤال عن معانی ألفاظٍ معیّنة ، کلفظ « الکثیر » و « الجزء » و « السهم » و « الشیء » و « القدیم » .

فلو أوصی بمالٍ کثیرٍ لشخص فما معنی « الکثیر » ؟ فی الخبر أنه « ثمانون » استناداً إلیٰ قوله تعالی : «لَقَدْ نَصَرَکُمُ اللّهُ فِی مَوَاطِنَ کَثِیرَةٍ » (1)بلحاظ أن المراد من « المواطن » هو غزوات رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم ، و قد کانت 80 غزوة .

و لو أوصی بسهمٍ من ماله لفلان ، ففی الخبر أنه یعطی « الثُمن » لقوله تعالی : «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاکِینِ » (2)فالسّهام فی الآیة ثمانیة .

و لو أوصی بجزءٍ من ماله ، ففی خبر إنه « العُشر » و فی آخر « السُّبع » .

و لو أوصی بشیء ، حکم ب « السُّدس » .

ص:220


1- (1)) سورة التوبة : 25 .
2- (2)) سورة التوبة : 60 .

و لو أوصی بعتق کلّ عبد قدیمٍ من عبیده ، اعتق من کان عنده منذ « ستة أشهر » أو أکثر .

و اختلفت کلمات العلماء فی هذه الموارد ، فالسید عبد اللّٰه شبّر حملها علی الحقیقة الشرعیّة ، و بناءً علی ذلک ، فإن هذه الألفاظ تحمل علی المعانی المذکورة أینما جاءت فی لسان الأدلّة . أمّا بناءً علی إنکار الحقیقة الشرعیّة فإنها تکون خاصّة بمواردها و یؤخذ بها من باب التعبّد .

و قال صاحب ( الجواهر ) (1) فی المسألة الخامسة من کتاب العتق - بعد کلام المحقق فی معنی « القدیم » بأنّ هذه النصوص محمولة علی المعانی العرفیّة ، فکأن الإمام عیَّن للّفظ المصداق العرفی ، ( قال ) : و کل لفظٍ شک فی معناه العرفی أوکل الأمر فی معناه إلی اللّٰه و الراسخین فی العلم ، ثم جعل هذه الألفاظ نظیر « الوجه » و « المسافة » و « الرکوع » .

و علی الجملة ، فهو ینفی الحقیقة الشرعیّة فیها ، و یری أن هذه الألفاظ تحمل علی تلک المعانی فی سائر الموارد لأنها المعانی العرفیّة لها .

قال شیخنا : و الحق هو القول بلزوم الأخذ بالخبر إذا صحّ سنده فی خصوص مورده تعبّداً ، فلا یصح التعدّی عنه إلی سائر الموارد ، لعدم الحقیقة الشرعیّة ، و عدم تمامیّة کلام صاحب ( الجواهر ) ، المبنی علی کون الواضع للألفاظ هو اللّٰه تعالی ، و قد تقرّر بطلان هذا المبنیٰ .

ص:221


1- (1)) جواهر الکلام 133/34 .

ص:222

الصَّحیح و الأعم

اشارة

ص:223

ص:224

و یقع البحث فی الصحیح و الأعم فی المقدمات ، و الأدلّة ، و الثمرة .

مقدّمات البحث
اشارة

أما المقدّمات فهی کما یلی :

المقدمة الاُولی

(فی جریان البحث بناءً علی عدم الحقیقة الشرعیّة أیضاً) .

الحقّ : جریان هذا البحث علی جمیع الأقوال فی مسألة الحقیقة الشرعیّة ، لإمکان تصویر الثمرة علی کلّ واحدٍ منها .

أمّا بناءً علی القول بأنّ الألفاظ مستعملة فی معانیها الشرعیّة استعمالاً حقیقیّاً ، و هو القول بثبوت الحقیقة الشرعیّة ، فجریان البحث واضح ، فإنه یقال : هل الشارع قد وضع الألفاظ لخصوص المصادیق الصحیحة من المعانی أو للأعم منها و من الفاسدة ، فإن کان الموضوع له خصوص الصحیح فلا یتمسّک بالإطلاق لدی الشک ، و إنْ کان للأعم تم التمسّک .

و أمّا بناءً علی القول بعدم الحقیقة الشرعیّة ، و أن الألفاظ استعملت فی هذه المعانی استعمالاً مجازیّاً ، فإنّه یقال : أن الشارع الذی استعمل لفظ « الصلاة » مثلاً فی هذا المعنی الجدید مجازاً ، هل استعمله أولاً فی خصوص

ص:225

الحصّة الصحیحة بمعونة القرینة ، و القرینة التی أقامها علی المجاز هی قرینة عامّة بالنسبة إلی الصحیح فقط ، أو أنه استعمله فی الأعم و کانت القرینة عامّة بالنسبة إلی الأعم .

فإن کانت القرینة المصحّحة للاستعمال المجازی فی المعنی الشرعی ، - مع کون اللّفظ موضوعاً للمعنی اللّغوی - قد لوحظت أوّلاً بین المعنی الحقیقی و خصوص الفرد الصحیح ، احتاج استعماله فی الأعم إلی قرینةٍ اخری ، و کذا بالعکس .

فعلی الأوّل - و هو الاستعمال المجازی فی خصوص الصحیح - لا یجوز التمسک بالإطلاق عند الشک ، و علی الثانی یجوز .

و أمّا بناءً علی القول الثالث - و هو قول الباقلّانی - من أنّ الألفاظ مستعملة فی لسان الشارع فی معانیها اللّغویّة ، لا الشرعیّة ، لا حقیقة و لا مجازاً ، إلّا أنه قد أفاد الخصوصیّات الجدیدة المعتبرة من قبله بألفاظٍ أخری ، کما فی أعتق رقبةً مؤمنةً ، حیث استعمل لفظ الرقبة فی معناه ، و لمّا أراد خصوص المؤمنة دلّ علیه بلفظ آخر ، فکان دالّان و مدلولان ، و فی لفظ « الصلاة » کذلک ، فإنه أراد المعنی اللّغوی فقط ، و هو الدعاء ، أما بقیة الأجزاء و الشرائط المعتبرة فقد دلّ علی إرادتها بدوالّ اخر ، فیقال : هل الدوالّ الأخر ارید منها خصوص الأجزاء الصحیحة أو الأعم منها و من الفاسدة ؟ فإن ارید الصحیح لزم الإتیان بدوالٍّ أُخر عند إرادة الأعم ، و هکذا العکس .

إذن ، یجری هذا البحث علی جمیع المبانی فی مسألة الحقیقة الشرعیّة ، و یمکن تصویر الثمرة علی کلّ واحدٍ منها ، و إنْ قیل بانتفائها بناءً علی القول الأخیر ، من جهة أنه إن کانت الدوالّ الأخر مفیدةً لإرادة الأجزاء و الشرائط

ص:226

کلّها ، فلا شک حینئذٍ حتی یتمسّک بالإطلاق ، و إن کانت مجعولة منه بنحو الإهمال فکذلک ، فلا ثمرة للبحث . لأنّا نقول بناءً علی هذا القول : هل الدوالّ التی استخدمها الشارع لإفادة الخصوصیّات الزائدة علی المعنی اللّغوی ، جاءت لتفید تلک الخصوصیّات الملازمة لتمامیّة الأجزاء و الشرائط أو للأعم من الأجزاء و الشرائط التامّة و غیر التامّة ؟ إن کان الأول فلا یتمسک بالإطلاق ، و إن کان الثانی تمّ التمسّک به .

المقدّمة الثّانیة

( فی معنی الصحیح و الفاسد )

اختلفت کلمات العلماء فی معنی « الصحیح » و « الفاسد » .

فعن أهل الحکمة : أن « الصحیح » هو المحصّل للغرض ، و ما لیس بمحصّلٍ له ففاسد .

و عن المتکلّمین : إن « الصحیح » هو الموافق للأمر أو الشریعة ، و الفاسد غیره .

و عن الفقهاء : إن « الصحیح » هو المسقط للإعادة و القضاء ، و الفاسد غیره .

و قال المحقق الأصفهانی : إن « الصحّة » هی : التمامیّة من حیث الأجزاء و الشرائط ، و من حیث إسقاط الإعادة و القضاء ، و من حیث موافقة المأتی به للمأمور به .

قال شیخنا : بل الحقّ هو أنّ « الصحّة » تمامیّة الأجزاء و الشرائط ، فالبحث فی الحقیقة هو : هل الألفاظ موضوعة لتامّ الأجزاء و الشرائط أو للأعم منه و من الفاقد لبعضها ، فالصحیح عندنا هو الواجد لها ، و الفاسد ما فقد جزءاً أو قیداً ، فیکون « الصحة » و « الفساد » أمرین إضافیّین ، فالصلاة قصراً

ص:227

بالإضافة إلی المسافر صحیحة و إلی الحاضر فاسدة .

فالصحّة عبارة عن التمامیّة و الفساد عدم التمامیّة ، و من الواضح أن من آثار التمامیّة و لوازمها : سقوط الإعادة و القضاء ، و موافقة المأتی به للمأمور به ، و محصّلیّة الغرض ، فهذه الامور لوازم و لیست بمقوّمات ، و یشهد بذلک تخلّل الفاء التفریعیّة حیث نقول : کانت هذه العبادة تامّة الأجزاء و الشرائط فهی محصّلة للغرض ، فهی موافقة للمأمور به ، فهی مسقطة للإعادة و القضاء ، و لا یصح أن یقال مثلاً : قد سقط الأمر فالعبادة کانت تامّة الأجزاء و الشرائط ...

المقدمة الثالثة

(1)

( فی عدم دخول ما یتفرّع علی الأمر فی البحث )

لا ریب فی دخول الأجزاء فی محلّ النزاع ، بأن یقال : هل اللّفظ موضوع لواجد جمیع الأجزاء - الذی هو المراد من الصحیح - أو الأعمّ منه و من فاقد بعضها ؟

و کذلک الشرائط ، سواء قلنا بأن التقیّد داخل و القیود خارجة أو قلنا بأن القیود أیضاً داخلة ، إذْ لا فرق بین الأجزاء و الشرائط من هذه الناحیة ، لکون الأجزاء و الشرائط فی مرتبةٍ واحدة و إن اختلفا فی کیفیّة التأثیر ، حیث بالجزء یتمّ المقتضی و بالشرط یتمُّ فاعلیّة المقتضی فی المقتضی ، وعلیه ، فإنه یمکن تصویر النزاع بأن لفظ « الصلاة » موضوع للمرکّب الجامع للأجزاء فقط أو لها بضمیمة الطهور مثلاً ، أو بضمیمة عدم الاستدبار ، مثلاً ؟

إنّما الکلام فی مثل قصد القربة و قصد الوجه - علی مسلک صاحب الجواهر و غیرهما من الامور المتفرّعة علی الأمر ، فهل هذه أیضاً داخلة فی محلّ النزاع ، بأنْ یقال : هل لفظ « الصلاة » موضوع للحصّة الصحیحة ، أی

ص:228


1- (1)) هذه المقدمة لم تذکر فی الدورة السابقة .

الواجدة لقصد القربة أو للأعم منها و الفاقدة ؟

و کذا بالنسبة إلی عدم المزاحم ، فإنه یعتبر فی صحّة الصلاة أن لا تکون مزاحمة بالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد - إلّا أن تصحّح عن طریق الترتّب - فهل عدم المزاحم یدخل فی محل النزاع بأن یقال : هل لفظ الصلاة موضوع للحصّة الصحیحة أی غیر المزاحمة بالأمر بالإزالة أو للأعم منها و من المزاحمة ؟

الحق - وفاقاً للمحقق النائینی - هو عدم الإمکان ، بتقریب : إن الابتلاء بالمزاحم و عدم الابتلاء به متوقّف علی الامتثال ، فهو من انقسامات مقام الامتثال ، و مقام الامتثال فرع وجود الصّلاة و تعلّق الأمر بها ، فإذا کان هناک أمر و تعلّق بالصّلاة و اتّفق وجود مزاحم لها فی مقام الامتثال ، فإنّ رتبة المزاحمة متأخّرة عن الأمر بالصّلاة ، و الأمر بها متأخّر عنها ، فلا یعقل أن یکون عدم الصحّة - الناشئ من وجود المزاحم - مأخوذاً فی معنی الصّلاة .

فظهر أنّه بناءً علی إنکار الترتّب ، و أنّ الأمر بالإزالة یوجب عدم الأمر بالصّلاة أو النّهی عنها ، فالصّلاة فاسدة .

نعم ، یمکن تصویر النزاع فی عدم المزاحم بأن یقال : قد تعلّق بکلٍّ من الرکوع و السجود و القراءة و سائر الأجزاء إلی التسلیم أمرٌ بضمیمة عدم المزاحم ، ثم جعل لفظ « الصلاة » علی هذه المجموعة .

إلّا أن هذا لا واقعیّة له فی الشّریعة ، و بحثنا إنما هو فی دائرة ما هو الواقع فیها .

و تلخّص :

عدم إمکان أخذ الصحّة من ناحیة عدم المزاحم ، کما علیه المیرزا ، و لا

ص:229

یرد علیه شیء .

المقدمة الرابعة

( فی تصویر الجامع )

إنّه - سواء قلنا بالوضع لخصوص الصحیح أو الأعم - لا بدّ من تصویر جامع بین الأفراد ، و ذلک ، لأن الوضع الخاص و الموضوع له العام غیر معقول ، و کذلک الوضع الخاص و الموضوع له الخاص ، لأنّ الالتزام بوضع لفظ « الصّلاة » لکلّ حصّةٍ حصّةٍ من الصلاة ، یستلزم أوضاعاً کثیرة و یلزم الاشتراک اللّفظی ، و هذا لا یلتزم به أحد ؛ بقی الوضع العام و الموضوع له العام ، و الوضع العام و الموضوع له الخاص ، و إذا کان الوضع عامّاً لزم تصویر الجامع بین الأفراد لیکون هو الموضوع له لفظ « الصلاة » .

فإن قیل - کما ذکر شیخنا فی الدورة السّابقة - : إن الجامع العنوانی کعنوان « الناهی عن الفحشاء و المنکر » یجمع بین مصادیق الصّلاة ، و هی المعنون له ، و لا حاجة إلی تصویر جامع بین الأفراد لیکون هو الموضوع له لفظ « الصلاة » .

قلنا : المقصود تصویر جامع یکون الموضوع له لفظ « الصلاة » و یمکن تصویر الثمرة معه ، و أمّا الجامع العنوانی کما ذکر فلا ثمرة للبحث معه ، لأنّ اللّفظ إن کان موضوعاً للعنوان لزم القول بعدم الوضع للمعنون ، و إن کان موضوعاً للمعنون بواسطة العنوان أصبح الموضوع له خاصّاً ، فیکون اللّفظ مستعملاً فی الخاص ، و الخاصّ لا إطلاق فیه و لا إجمال ، فلا ثمرة للبحث .

إنّ المهمّ تصویر جامع بحیث یتمکن من التمسّک بالإطلاق معه ، لأنه - علی القول بالصحیح - یکون الخطاب مجملاً ، بخلاف ما إذا قلنا بالوضع للأعم ، فإنه یتمکن من التمسک بالإطلاق ، لکون الموضوع له معلوماً و کذا

ص:230

المستعمل فیه ، فلو شک فی اعتبار جزءٍ أو شرطٍ فی الصلاة فلا ریب فی صدق الطبیعة علی ما عدا المشکوک فیه ، و حینئذٍ أمکن التمسّک بالإطلاق لرفع الشک ، بخلاف ما إذا قلنا بالوضع لخصوص الصحیح ، فإنه یحتمل دخل الجزء أو الشرط المشکوک فیه فی ذات الموضوع له و صحة العمل ، فیکون المعنی مجملاً ، فلا مجال حینئذٍ للتمسک بالإطلاق ، لدفع جزئیّة المشکوک فیه أو شرطیته ، لأنَّ شرط التمسّک به إحراز صدق المعنی .

إذن ، لا بدَّ من تصویر جامع ذاتی لیکون محور البحث فی الصّدق و عدم الصّدق علی کلا القولین ، و الجامع العنوانی لا یصلح لذلک ، لکون الوضع فیه إمّا للعنوان فالمعنون لا اسم له ، و إمّا للمعنون فیکون فرداً فلا جامع له .

و کیف کان ... فلا بدَّ من تصویر الجامع علی کلا المسلکین .

ص:231

تصویر الجامع علی الصّحیح
1 - تصویر المحقق الخراسانی

إنا نری أنه یترتّب علی الصلاة - بعنوان أنها صلاة - أثر واحد ، من غیر فرقٍ بین الحالات و الکیفیّات ، مع عرضها العریض ، من الصلاة التی تقع بتکبیرة واحدةٍ فقط ، حتی الصلاة التامّة الأجزاء و الشرائط ، و ذاک الأثر هو کونها عمود الدین - مثلاً .

فهذه مقدّمة .

و المقدّمة الاخری هی : إنه لا بدّ من السنخیّة بین المقتضی و المقتضیٰ ، و الأثر و المؤثر .

و المقدمة الثالثة هی : أن بین الواحد بما هو واحد ، و الکثیر بما هو کثیر تعاند و تقابل ، للتقابل بین الوحدة و الکثرة ، و معه یستحیل صدور الواحد عن الکثیر ، فیستحیل صدور « عمود الدین » الواحد بالوحدة النوعیّة عن المتکثّرات ، إذن ، لا بدّ و أنْ تنتهی الکثرة إلی وحدة ، کی تتم السنخیّة بین الأثر و المؤثّر .

إذن ، یوجد بین جمیع أشخاص و أصناف الصّلاة الصحیحة جامع یکون هو المنشأ لهذا الواحد النوعی من حیث الأثر ، و هو الموضوع له لفظ « الصلاة » .

ص:232

و اورد علیه :

إنّ القاعدة المقرّرة عند أهل الفن من أن الأثر الواحد لا بدّ و أن ینتهی إلیٰ مؤثّر واحدٍ - ببرهان امتناع صدور الواحد عن الکثیر - إنّما تتعلَّق بالواحد من جمیع الجهات و الحیثیّات ، أی البسیط الحقیقی ، فموردها الواحد الشخصی البسیط ، و أمّا فرض المحقق الخراسانی فهو الواحد النّوعی ، فإن « معراج المؤمن » و « الناهی عن الفحشاء » و نحو ذلک لیس واحداً شخصیّاً .

و فیه :

إن المذکور عند أهل الفن قاعدتان ، إحداهما : القاعدة المذکورة ، و موردها الواحد الشخصی و البسیط من جمیع الجهات و الحیثیات کما ذکر ، و الاخری : قاعدة لزوم السنخیّة بین المعلول و العلّة ، الأثر و المؤثر ، و موردها مطلق الواحد لا خصوص الواحد الشخصی ، فالواحد النوعی مثل « معراج المؤمن » إذا کان أثراً یلزم أن یکون بینه و بین المؤثّر له سنخیّة ، فلا بدّ من وجود وحدة نوعیّة بین أفراد الصّلاة المختلفة ، - من صلاة الحاضر الجامعة بین الأجزاء و الشرائط ، و المسافر التی هی قصر ، و المریض الذی یصلّی من جلوس ، و المحتضر ، و الغریق - تکون تلک الوحدة هی العلّة لهذا المعلول « معراج المؤمن » و المؤثر لهذا الأثر .

فهذا مقصود المحقق الخراسانی ، و لا یرد علیه الإشکال .

و أورد علیه :

بأن الواحد المذکور لیس بواحدٍ نوعی ، بل هو واحد عنوانی ، و البرهان المذکور لا یجری فی الواحد العنوانی ، إذ إن الواحد العنوانی لا یتّحد مع أفراده ، لا فی الوجود و لا فی المفهوم ، فعنوان « الربط » مثلاً لا یقبل الاتحاد

ص:233

مع مصادیق الرّبط و أفراده ، لکونه معنًی اسمیّاً و المصادیق معانٍ حرفیّة ، و مصادیق الواحد النوعی متّحدة حقیقةً ، أما مصادیق الواحد العنوانی کعنوان « الناهی عن الفحشاء » الذی هو من عناوین « الصلاة » مختلفة بالحقیقة ، و منها : الزنا و الکذب و شرب الخمر و الغیبة و السرقة ...

و فیه :

إن الأثر للجامع هو « النهی » فقط ، و هو الزجر ، و هذا أثر نوعی ، إلّا أنّ متعلَّقات النهی مختلفات ، لکنّ الأثر شیء و متعلَّقه شیء آخر ، و ما نحن فیه من قبیل « العلم » ، فإنّه حقیقة واحدة ، لکنّ متعلّقه یختلف فیکون جوهراً تارةً و عرضاً اخری ...

فالإشکال غیر وارد .

و أورد علیه :

بأنّ تأثیر المتکثّرات فی الأثر الواحد الفعلی محال ، أمّا تأثیرها فی القابلیّة فلا مانع منه ، فالنهی عن الفحشاء بالفعل لا یمکن صدوره من متعدّد ، أمّا القابلیة للنهی فیمکن ، بدلیل أن عدم المانع و وجود الشرط أمران متغایران ، إلّا أنهما یؤثّران فی القابلیّة ، بأن یکون المحلّ قابلاً لأنْ یتحقق فیه أثر المقتضی و هو المقتضی . إذن ، یمکن تصویر قابلیّة النهی عن الفحشاء المترتبة علی الصّلاة ، فترتّب الأثر الواحد من المتعدّد .

و فیه :

إن القابلیّة من الامور الإضافیّة ، فهناک قابل و مقبول و قابلیّة ، و مقولة الإضافة من الأعراض الموجودة بعین وجود الموضوع کالفوقیّة و التحتیّة - و من الأعراض ما یوجد بغیر وجود الموضوع لکنه قائم بالموضوع کالبیاض

ص:234

و السواد - و إذا کانت من الأعراض الوجودیة ، فکیف یکون الأمر العدمی ، أعنی عدم المانع ، مولّداً للأثر ؟

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن القابلیّة الحاصلة من الشرط غیر القابلیّة الحاصلة من عدم المانع ، فمن کلٍّ منهما تحصل درجة من الأثر ، فلم یتحقق الواحد من المتعدّد .

الإشکال العمدة

هو ما تعرّض له المحقق الخراسانی و حاول ذبَّه ، و هو فی (تقریرات) (1)الشیخ الأعظم قدّس سرّه :

إن هذا الجامع إما مرکّب و إما بسیط ، و علی الثانی فإمّا هو عنوان « المطلوب » أو عنوان ملزوم لعنوان « المطلوب » . فهو غیر خارج عن هذه الشقوق ، و کلّها باطلة ، فالتصویر باطل .. و ذلک لأنه :

إن کان مرکّباً ، فإن کلّ مرکّب فرض فهو مردّد بین الصحیح و الفاسد ، لأنه بالإضافة إلی حالٍ أو مکلَّف صحیح و بالإضافة إلی آخر فاسد ، فکان جامعاً بین الصحیح و الفاسد لا الصحیح فقط .

و إن کان بسیطاً ، و کان عنوان « المطلوب » فیرد علیه :

أوّلاً : إن هذا العنوان إنما یحصل فی رتبة الطلب ، فلولاه لم تکن مطلوبیّة ، و المعنی و المسمّی دائماً مقدَّم رتبةً علی الطلب و المطلوبیّة ، فکلّما وجدت المطلوبیّة وجد المعنی بتلک المرتبة ، فلو کان الجامع هو عنوان « مطلوب » یلزم تقوّم ذات المعنی بعنوانٍ متأخّر بالذات عن المعنی .

ص:235


1- (1)) مطارح الأنظار : 6 .

و ثانیاً : إنه یلزم الترادف بین لفظ « الصلاة» و لفظ « مطلوب » و هو باطل کما لا یخفی .

و ثالثاً : إنه یرد علیه ما یرد علی الشق الأخیر الآتی .

و إن کان بسیطاً ، و کان عنواناً ملزوماً مساویاً لعنوان « المطلوب » ، فإنّه حینئذٍ یصیر معلوماً ، و لا یقع فیه الشک کی یتمسّک بالبراءة عن وجوب ما شک فی جزئیته أو شرطیّته ، لأن البسیط لیس فیه أقل و أکثر حتی یدور الأمر بینهما فیتمسّک بالبراءة ، و الحال أن القائل بالصحیح یتمسّک بها .

و أیضاً : فإن مجری البراءة هو صورة عدم معلومیّة التکلیف بنحوٍ من الأنحاء ، و مع العلم به بعنوانٍ من العناوین یتنجّز ، فلا موضوع للبراءة .

و هذا ما یرد علی الشق السابق - و هو کون العنوان هو « المطلوب » - لأنّ العنوان المذکور لیس فیه أقل و أکثر .

و کیف کان ، فإنه مع العلم بالعنوان الذی تعلَّق به الأمر ، وجب علی المکلَّف الاحتیاط ، کی یحرز تحقّق ذلک العنوان .

هذا هو الإشکال .

جواب المحقق الخراسانی

فأجاب باختیار الشقّ الأخیر ، لسلامته عن اشکال تقدّم ما هو المتأخّر ، و عن إشکال الترادف ، و یبقی إشکال سقوط البراءة ، فأجاب بجریانها ، لأن العنوان و إن کان فی نفسه بسیطاً لا أقلّ و أکثر له ، إلّا أنه متّحد مع الأجزاء و الشرائط بنحوٍ من الاتحاد ، و لما کانت مردّدة بین الأقل و الأکثر کانت البراءة جاریةً بلا إشکال .

ص:236

قال شیخنا :

إذن ، فمختار المحقق الخراسانی کون الجامع بسیطاً لا مرکّباً ، و یکون المحذور منحصراً بعدم جریان البراءة ، و قد أجاب عنه بما تقدّم . و توضیحه :

إنه إن کانت النسبة بین العنوان البسیط و متعلّق التکلیف نسبة السبب و المسبب ، کالنسبة بین الغسلات و المسحات و بین الطّهارة - بناءً علی أنّ الطهارة و هی عنوان بسیط هی المأمور به - فهنا یرجع الشک إلی المحصّل ، و هو مجری قاعدة الاشتغال . و أمّا إنْ لم یکن العنوان البسیط المأمور به مسبّباً عن أجزاء المرکّب ، بل کان متّحداً معها فلا مناط للاشتغال ، بل مع الشک فی الأکثر تجری البراءة .

و فیما نحن فیه ، یکون عنوان « الصحیح » هو ملزوم « المطلوبیّة » و هذا العنوان لیس نسبته إلی الأجزاء نسبة « الطهارة » إلی « الغسلات و المسحات » بل هو خارجاً متّحد مع أجزاء المرکّب و وجوده عین وجودها ، فمتعلّق الأمر حینئذٍ هو المعنون بعنوان الصحیح ، و هو الموجود فی الخارج ، و یتردّد أمره بین الأقل و الأکثر ، و تجری البراءة بلا إشکال .

فالجامع هو الصحیح ، و هو البسیط الماهوی ، و البراءة أیضاً جاریة .

فهذا حاصل ما ذکره الشیخ و المحقق الخراسانی .

لکنْ یرد علیه :

أوّلاً :

إنه کیف یکون اتّحاد الواحد البسیط مع المرکّبات المختلفة ؟

لقد ذکر أنهما یتّحدان نحو اتّحاد ، لکنّ الاتّحاد لا یخلو إمّا هو اتّحاد الماهیّة مع الوجود ، و هذا لا مورد له هنا ، و إمّا الاتحاد بین الأمر الانتزاعی مع

ص:237

منشأ انتزاعه فی الوجود ، و إمّا الاتّحاد بین الکلّی و الأفراد ، و هذان منتفیان أیضاً هنا ، فلقد صوّر صاحب ( الکفایة ) الاتحاد بین الجامع الواحد البسیط ، و بین المرکّبات المختلفات ، إذْ « الصلاة » مشتملة علی مقولاتٍ مختلفة کالوضع و الکیف و الأین - بناءً علی دخولها فی الصلاة - و هی مرکّبة من أجزاء ، فمقولة الکیف مثلاً فیها هی القراءة و هی مرکّبة من أجزاء .

فمع وجود هذا الاختلاف المقولی ، و مع وجود الترکیب ، فإنّه یلزم إمّا ترکّب البسیط - و هو الجامع المفروض - و إمّا بساطة المرکّب ، إمّا وحدة الکثیر و إمّا کثرة الواحد ، و کلاهما محال ، لأن النسبة بین البساطة و الترکّب و بین الوحدة و التعدّد و الاختلاف ، هی نسبة التقابل ، و اتّحاد المتقابلین محال .

و علی الجملة ، فإن کلامه فی المقام - حیث صوّر الجامع الواحد البسیط بین أفراد الصلاة ، و الاتحاد بینه و بینها بنحوِ اتّحادٍ - یستلزم محالین : اتّحاد البسیط مع المرکّب ، و اتّحاد البسیط الواحد مع المقولات المختلفة .

و ثانیاً :

إن الجامع المحتمل هنا لا یخلو عن أحد أقسامٍ ثلاثة : فإمّا هو الجامع العنوانی ، و إمّا الجامع النوعی ، و إمّا الجامع الجنسی . أمّا الأوّل فغیر مقصود منه ، لأن الجامع العنوانی غیر قابل للاتّحاد مع المعنون ، لأن موطنه هو الذهن فقط ، مثل عنوان « مفهوم النسبة » ل « لواقع النسبة » . و أمّا الثانی و الثالث فکذلک ، لأن أجزاء الصّلاة أنواع من أجناس مختلفة ، فالرّکوع من مقولة الوضع و القراءة من مقولة الکیف ، و المقولات أجناس عالیة ، و إذا کانت أجناساً عالیة فالجامع الجنسی غیر ممکن ، و مع عدم إمکانه لا مورد لاحتمال الجامع النوعی . فما هو الجامع الذی تصوّره جامعاً بسیطاً متّحداً مع المرکّبات

ص:238

نحو اتّحاد ؟

و ثالثاً :

إن المقصود تصویر الجامع بناءً علی الصحیح ، و هذا مستحیل ، لأنّ کونه علی الصحیح یعنی أخذ جمیع الخصوصیّات ، و کونه جامعاً یعنی إلغاء الخصوصیّات ، مثلاً : صلاة المسافر متقوّمة بخصوصیّة « بشرط لا » بالنسبة إلی الرکعتین ، و صلاة الحاضر متقوّمة بخصوصیّة « بشرط شیء » بالنسبة إلیهما ، فکیف یصوَّر الجامع بینهما مع حفظ الصحّة ؟ کیف یجمع بین رفض الخصوصیّات و أخذها ؟

و لا یخفی ورود هذا الإشکال ، سواء کان الجامع ذاتیّاً کما علیه المحقق الخراسانی ، أو عرضیّاً کما علیه الشیخ الحائری و تبعه السید البروجردی .

و سیأتی ذکره .

و رابعاً :

إن الغرض من الوضع هو التفهیم ، فباستعمال اللّفظ یتمّ إحضار المعنی إلی الذهن و یتحقّق التفهیم ، و الوضع لمعنیً مستخرجٍ ببرهانٍ فلسفی لا یصلح لأنْ یکون سبباً لإحضار المعنی فی الذهن و حصول التفهیم ، و کیف یأتی إلی أذهان المتشرّعة معنی « معراج المؤمن » و « الناهی عن الفحشاء » و« عمود الدین » من لفظ « الصّلاة » ؟

إن هذا التصویر لا یناسب عرف المتشرّعة .

و هذا الإشکال یرد علی التصویرات الآتیة أیضاً .

2 - تصویر المحقّق العراقی

و ذهب المحقق العراقی إلی الجامع الوجودی ، فراراً مما ورد علی

ص:239

التّصویر السابق ، فأثبت وجود الجامع بین الأفراد الصحیحة عن طریق الأثر کما ذکر صاحب ( الکفایة ) ، لکن مع إصلاحٍ له ، بإرجاع الآثار المتعددة من « معراج المؤمن » و « قربان کلّ تقی » و « الناهی عن الفحشاء » إلی أمرٍ واحدٍ بسیط ، و هو بلوغ العبد فی الصلاة إلی مرتبةٍ یحصل له فیها جمیع هذه الخصوصیّات ، من القربانیّة و المعراجیّة و غیر ذلک ، فکان الأثر واحداً کالمؤثر .

و أثبت الجامع بین الأفراد الصحیحة بأنه مرتبة من الوجود تجمع بین المقولات المختلفة و الکیفیّات المتشتّتة ، حیث أنّ لکلّ صلاةٍ أفراداً عرضیّة و أفراداً طولیّة ، و کلّ صلاة تشتمل علی مقولات ، لکنّ تلک المرتبة من الوجود یکون صدقها علی الأفراد العرضیة بنحو التواطی ، و علی الأفراد الطولیّة بنحو تشکیکی .

فالجامع بین الأفراد هو مرتبة من الوجود ، بنحو الوجود الساری ، مع إلغاء الخصوصیّات ، فإن لکلّ ماهیّة من الماهیّات الموجودة وجوداً خاصّاً ، فإذا الغیت خصوصیّة موجودٍ و خصوصیّة موجود آخر ، تحقّق وجودٌ جامعٌ بینهما سارٍ فیهما ، فی قبال الموجودات الاُخری .

إن الوجود الخاص فی الحین الذی مع السجود قد تضیَّق بالسجود ، و کذا الذی مع الرکوع ، و القراءة ، و غیرهما ، فإذا الغیت هذه الخصوصیّات ، و لم یکن الرکوع و السجود و القراءة و غیرها قیوداً ، لم تکن داخلةً فی المسمّی ، بل یکون المسمّی بلفظ « الصّلاة » هو ذلک الوجود الواحد المجتمع مع هذه الامور بنحو القضیة الحینیّة ، و هذا صادق علی جمیع الأفراد ، العرضیّة و الطولیّة ، إلّا أن الصّدق علی العرضیّة بنحو التواطی و علی الطولیّة بنحو

ص:240

التشکیک ، و هو - أی الوجود - لا ربط له بالوجود الذی فی العبادات الأخری ، فإنّ المسمّی للفظ الحج مثلاً و إنْ کان هو الوجود کذلک ، إلّا أنه وجود یتخصّص بالطواف و السّعی و غیرهما من أعمال الحج .

و تلخّص : إن الجامع بین الأفراد الصحیحة من الصلاة مثلاً هو الوجود الساری الموجود فیها ، فإنّه یجمع بینها بعد إلغاء الخصوصیّات ، و هذا الوجود هو مسمّی لفظ الصلاة ، و هذا اللّفظ یصدق علی جمیع الأفراد العرضیّة و الطولیّة ، من صلاة الغریق إلی الصلاة الجامعة لجمیع الأجزاء و الشرائط ، فیکون الوجود مأخوذاً بالنسبة إلی الأقل من الأجزاء بشرط شیء و بالنسبة إلی الأکثر لا بشرط ، نظیر « الکلمة » فی علم النحو ، فإنّ المسمّی لهذه اللفظة یتحقق بالحرف الواحد ، و لکنّه بالنسبة إلی الأکثر لا بشرط . و کذا لفظ «الجمع» فإنّ أقلّه الثلاثة ، فهو مشروط بذلک ، إلّا أنه بالنسبة إلی الأکثر لا بشرط .

فالمسمّی الموضوع له لفظ « الصلاة » هو الوجود المنطبق علی جمیع الأفراد ، و الأفراد محقّقة للمأمور به ، بحسب اختلاف حالات المکلّفین .

فالجامع بسیط و لیس بمرکّب ، و لا مشکلة من ناحیة الاتّحاد مع الأفراد ، فإنّه یتّحد مع مختلف الأفراد و الحالات ...

هذا تقریب تصویر المحقّق العراقی و إنْ استدعی بعض التکرار لمزید التوضیح .

اُورد علیه :

أوّلاً : بعدم عرفیّة هذا الجامع .

و فیه :

إن الموضوع له اللّفظ هو الوجود الجامع بنحو الوجود الساری ،

ص:241

و الوجود أمر یعرفه أهل العرف و یفهمه ، فهم کما یعرفون الرکوع و السجود و ... و یفهمونها ، کذلک وجود هذه الأشیاء واضح عندهم بل أوضح و أبین .

و ثانیاً : بأن الألفاظ إنما توضع علی ما هو قابلٌ للوجود ، و حقیقة الوجود لیست من الامور القابلة للوجود .

توضیحه : إنّ الحکمة من الوضع هو الانتقال ، و الانتقال هو وجود الشیء فی الادراک ، و لیس للموجود وجود فی الإدراک - لأن الوجود إما ذهنی و إمّا خارجی ، فالخارجی لا یأتی إلی الذهن ، لأن المقابل لا یقبل المقابل ، و الذهنی لا یأتی کذلک ، لأن المماثل لا یقبل المماثل - وعلیه ، فلیس لحقیقة الوجود لفظ موضوع له .

إذن .. لا یمکن أنْ یکون اللّفظ موضوعاً لواقع الوجود .

و فیه :

إنّ الموضوع له اللّفظ هو واقع الوجود و حقیقته ، و لیس الماهیّة ، و إلّا لزم أن لا یکون لفظ یعبّر عن الباری تعالی ، لأنّه لا ماهیة له . هذا أولاً .

و ثانیاً : إنه لو کان حکمة الوضع هو القابلیّة للانتقال بالکنه ، فللإشکال وجه ، لکنّ المراد هو القابلیّة بالوجه ، و هذا بالوجود حاصل ، ففی الوجود یمکن الانتقال بالوجه ، و لذا کان معرفة الشیء بوجهه معرفة بوجهٍ .

فما أورده المحقق الأصفهانی و تبعه فی ( المحاضرات ) غیر وارد .

و أورد شیخنا بما یلی :

أولاً :

إن هذا ینافی مختار المحقق العراقی فی حقیقة الوضع ، فقد قال هناک بأن الوضع عبارة عن ملازمةٍ بین طبیعی اللّفظ و المعنی ، أو اختصاصٍ بین

ص:242

الطبیعتین ، فلیس اختصاصاً و ملازمةً بین الوجودین .

و ثانیاً :

إن الذی یلغی الخصوصیّات هو الذهن ، فهو موطن إلغائها و لیس الخارج ، فالوجود الساری إنما یکون فی الذهن ، فهو وجود عنوانی لا خارجی ، فهو رحمه اللّٰه قد فرّ من الوجود العنوانی و کرّ علیه .

و ثالثاً :

إن امتیاز صلاة الصبح عن صلاة المغرب - مثلاً - هو بکون الاُولی مقیَّدةً بعدم الثالثة ، فهی بالنسبة إلیها بشرط لا ، و الثانیة - أی المغرب - مقیَّدة بوجود الثالثة ، فهی بالنسبة إلیها بشرط شیء ، فهنا وجود و هناک عدم ، و الجامع بین الوجود و العدم غیر معقول .

فإنْ أراد من الجامع : الجامع اللّابشرط المقسمی ، فهذا جامع ماهوی و لیس بوجودی .

و رابعاً :

إن الصحّة متقوّمة بأخذ الخصوصیّة ، فکیف یکون الجامع - المفروض کونه الموضوع له الصحیح - لا بشرط بالنسبة إلی الزیادة المحتمل دخلها فی الصحة ؟

هذا کلّه فی مرحلة الثبوت .

و أورد علیه شیخنا : بأن هذا التصویر لا یتناسب و مرحلة الإثبات ، فإن ما ذهب إلیه من القول بأنّ الخصوصیّات من الرکوع و السجود و غیرها لا دخل لها فی المسمّی ، و إنما هی مشخّصات فردیّة ، تخالفه النصوص الکثیرة الصریحة فی : أن الصلاة افتتاحها - أو تحریمها - التکبیر و تحلیلها التسلیم ،

ص:243

لأنّ لسانها کون هذه الأمور مقوّمة لحقیقة الصّلاة .

3 - تصویر المحقق الأصفهانی

و ذهب المحقق الأصفهانی إلی أنّ الموضوع له لفظ الصّلاة - بناءً علی الصحیح - هو الجامع الترکیبی الذاتی المبهم .

و الترکیبی ما له جزء ، و یقابله البسیط ، و هو تارةً : یکون جزءاه موجودین بوجود واحدٍ ، کالإنسان المرکّب من الحیوان و الناطق ، و هما موجودان بوجودٍ واحد ، و اخری : یکونان موجودین بوجودین ، أو تکون أجزاء موجودة بوجودات و بینها وحدة اعتباریة ، و ما نحن فیه من هذا القسم .

فالموضوع له « الصلاة » مرکّب من الأجزاء ، و هی عبارة عن التکبیرة و الرکوع و السجود ... فهو جامع ترکیبی و هو ذاتی ، و لیس بعرضی ، کما علیه صاحب ( الدرر ) و غیره ، و هو أیضاً مبهم ، بمعنی أنّ لکلّ جزءٍ من أجزائه عرضاً عریضاً ، فالرکوع مثلاً یعمّ رکوع المختار إلیٰ إیماء المحتضر ، و القراءة تشمل القراءة التامّة الکاملة ... و ما یقوم مقامها ، حتی الإخطار الحاصل فی القلب بدلاً عنها ... و هکذا .

و ذکر لمزیدٍ من التوضیح لمعنی الإبهام : أن الإبهام فی الوجود یختلف عن الإبهام فی الماهیّة ، فهما فیه متعاکسان ، ففی الوجود کلّما ازدادت الشدّة نقصت السّعة و الشمول و الإطلاق ، فکلّما قوی الوجود کان الشمول أقل ، فالإنسان مثلاً وجوده أشدّ من وجود الحیوان ، لکنه لا یصدق علی الحیوان و النبات و الجماد ، بخلاف الماهیّة فإنها بالعکس ، فکلّما ضعفت زادت سعتها ، فالجنس - کالحیوان أضعف من النوع - کالإنسان - ، لوجود التعقّل فی الإنسان دونه ، إلّا أنّ سعة الحیوان أکثر .

ص:244

و علی هذا ، فإن الماهیّة تصلح لشمول جمیع الأفراد علی الرغم من الاختلاف الکثیر فیها کمّاً و کیفاً .

قالوا : و الإبهام فی الماهیّة یکون بالخصوصیّات الخارجة عنها ، فحقیقة الحیوان - مثلاً - معلومة ، لکن الإبهام یقع من جهة العوارض ، و کذا الإنسان فإنه الحیوان الناطق ، إلّا أن الإبهام یکون من حیث الکمّ و الکیف و العوارض ، و کلّما کان الإبهام فی الماهیّة أکثر کان الصدق أوسع .

إلّا أن المحقق الأصفهانی ذکر عن بعض الأکابر - صدر المتألّهین - الإبهام و التشکیک فی نفس الذات ، کأن تکون الشدة و الضعف داخلةً فی ذات ماهیّة البیاض ، لا أن تکون من عوارضها .

قال : فهذا هو الجامع الموضوع له اللّفظ ، و إنْ لم یمکن لنا التعبیر عنه إلّا بخواصّه ، کما لو جعل لفظ « الخمر » لتلک الذات المبهمة من حیث الإسکار و اللون و منشأ الاتخاذ ، إلّا أن تلک الذات مسمّاة بهذا الاسم .

فهو جامع مرکّب لا بسیط ، خلافاً لصاحب ( الکفایة ) و المحقّق العراقی .

و هو جامع ذاتی وفاقاً لصاحب ( الکفایة ) و خلافاً لغیره .

قال شیخنا :

فما أورد علیه من أنه غیر عرفی ، فی غیر محلّه ، فإنّ الموضوع له لفظ « الرکوع » نفس هذا المعنی الذی یفهمه العرف ، غیر أنه مبهمٌ بالمعنی المذکور لیشمل جمیع الأفراد .

و کذا الإیراد بأنه لیس بجامعٍ علی الصحیح ، لأن الصّحیح ما هو الجامع لجمیع الأجزاء و الشرائط المعتبرة ، و ما ذکره غیر منطبق علیه ، نعم ، هذه

ص:245

الصّلاة علی اختلاف مراتبها صالحة للنهی عن الفحشاء ، فالجامع لم یکن علی الصحیح .

و فیه : إن المحقق الأصفهانی یقول بأن مفاد الأدلّة کون الصلاة مقتضیةً للنهی عن الفحشاء لا أنها تنهی عنه بالفعل ، فیکون الموضوع له هو الناهی عن الفحشاء الاقتضائی لا الفعلی ، و هذا ینطبق علی کلا القولین ، الصحیحی و الأعمّی .

و کذا الإیراد باستلزام ما ذکره للفرد المردّد ، و هو باطل .

ففیه : إنه یقول بأن المردّد لا ماهیّة له و لا هویّة ، لکنّ الإبهام فی الماهیّة غیر الإبهام فی الفرد ، نعم لو کان الإبهام فی الماهیّة ملازماً للإبهام فی الوجود فالإشکال وارد ، لکن لا ملازمة ، فالرکوع عبارة عن ذاتٍ لها مراتب ، فإذا وجدت تعیّنت بمرتبةٍ منها ، فتوجد برکوع المختار أو برکوع المضطر ، و هکذا ... و مثله النور و اللّون ...

الحق فی الإشکال

بل الإشکال الوارد هو : إن التشکیک فی الماهیّة عبارة عن الاختلاف فی المرتبة ، کالشدّة و الضّعف ، و خصوصیّة الشدّة - مثلاً - لا تخلو إما أن تکون داخلةً فی الماهیّة أو خارجة عنها .

فعلی الأوّل : یکون البیاض هو الشدید منه فقط ، و لا یصدق هذا الاسم علی البیاض الضعیف ، و یکون رکوع المختار هو الرکوع ، و ذات هذه الرکوع غیر ذات الرکوع من المضطر ، لعدم وجود ذاتٍ واحدةٍ تنطبق علی درجتین .

و علی الثانی : تکون الخصوصیّة خارجةً عن الذّات ، فالماهیّة متعیّنة و لا إبهام فیها .

ص:246

فما ذکره من أنّ الماهیّة کلّما ضعفت کانت أشمل و أعم [ و إنْ کان صحیحاً ، لکون الجنس لا متحصّل ، و النوع متحصّل ، کالإنسان المتحصّل بالناطقیّة فلا یتحصّل بشیء آخر ] إلّا أنها فی أیّ مرتبةٍ کانت غیر مبهمة فی الذات ، فنفس « الإنسان » لا إبهام فیه ، فهو الحیوان الناطق ، و الحیوان و إن کان مبهماً من حیث البقریة و الإنسانیة ، إلّا أنه فی حدّ نفسه غیر مبهم .

و الموضوع له لفظ « الصلاة » إن لم یکن له ذات فلا کلام ، و إن کان للصلاة ذات و هی مرکّبة کما قال ، فلکلّ جزء منه ذات ، و لا إبهام فی حدّ الذات ، فانهدم أساس التصویر .

بقی الکلام فی رأی الشیخ و المیرزا

قد فرغنا من ذکر تصویرات المحققین الخراسانی و العراقی و الأصفهانی بناءً علی الوضع للصحیح .

أمّا المحقق النائینی فلم یتصوَّر الجامع ، لا بناءً علی الصحیح و لا بناءً علی الأعم .

أما علی الصحیح ، فلأن مراتب الصحّة متعدّدة ، فأقلّ مراتب الصّلاة الصّحیحة صلاة الغریق ، و أعلی مراتبها صلاة الحاضر القادر المختار ، و بینهما وسائط کثیرة ، و تصویر الجامع الحقیقی الذی یتعلَّق به الأمر و یجمع تمام المراتب صعب . و أمّا علی الأعم فأصعب ، فإنّ کلّ صلاة فرضت إذا بدّل بعض أجزائها إلی غیرها بقی الصّدق علی حاله .

قال : و یمکن دفع الإشکال عن کلا القولین بالالتزام بأن الموضوع له لفظ الصّلاة هو عبارة عن صلاة العالم العامد القادر ، و أمّا باقی الصلوات فهی أبدالٌ للموضوع له ، و إنّما تسمی بالصلاة ادّعاء أو مسامحة ، نعم ، یمکن

ص:247

تصویر جامعٍ بین القصر و الإتمام فقط .

و لمّا کان الأصل فی کلامه هو ما جاء فی (تقریرات) الشیخ الأعظم قدّس سرّه فلا بدّ من التعرّض لذلک ، و هذا حاصله (1) :

إنّ « الصلاة » معناها عبارة عن الصلاة ذات الأجزاء و الشرائط ، فهل المراد منها خصوص ما یأتی به المکلّف العالم العامد القادر المختار ، أو الأعم منه و من الجاهل و الناسی و العاجز و غیر المختار ؟ فهل الموضوع له هو الأجزاء و الشرائط بالمعنی الأخص ، و قد عبّر عنه بالأجزاء و الشرائط الشخصیّة ، أو بالمعنی الأعم الذی عبّر عنه بالأجزاء و الشرائط النوعیّة ؟

قال الشیخ : فیه وجهان ، أحدهما : القول بأنّ الصلاة هی الواجدة للأجزاء و الشرائط لمن هو عالم قادر مختار ، وعلیه ، فصلاة غیره من المکلَّفین لیست بصلاةٍ بل هی بدل عن الصلاة .

و الوجه الثانی : القول بأن الصّلاة هی الواجدة للأجزاء و الشرائط من سائر المکلَّفین ، وعلیه ، فلا بدّ إمّا من القول بالاشتراک اللفظی ، و إمّا من القول بالاشتراک المعنوی . أمّا الأوّل فباطل ، و أمّا الثانی فالجامع إن کان مرکّباً لزم تداخل الصحیح و الفاسد ، و إن کان بسیطاً فهو إمّا « المطلوب » أو الملزوم المساوی له ، أمّا الأوّل فمحال ، للزوم أخذ ما هو المتأخّر عن المسمّی فی المسمّی ، و أمّا الثانی فهو خلاف الإجماع القائم علی جریان البراءة فی دوران الأمر بین الأقل و الأکثر فی الأجزاء و الشرائط ، و هذا المعنی البسیط لا یتصوَّر فیه ذلک .

و علی الجملة ، فإن لفظ « الصلاة » موضوع لصلاة القادر المتمکن من

ص:248


1- (1)) مطارح الأنظار : 9 .

جمیع الأجزاء و الشرائط ، و هی المرتبة العلیا من مراتب الصلاة ، و تصویر الجامع لجمیع المراتب غیر ممکن ، غیر أنّ المتشرعة لمّا رأوا أن صلاة العاجز مثلاً وافیة أیضاً بالغرض من الصلاة - و هو النهی عن الفحشاء مثلاً - استعملوا هذا اللّفظ فیه ، تنزیلاً لفاقد الجزء مثلاً بمنزلة الواجد له ؛ بلحاظ الاشتراک فی الأثر ، و کان حقیقةً عرفیّة ، و نظیره لفظ « الإجماع » فی الاصول ، فقد ارید منه أوّلاً اتّفاق الکلّ ، ثم لمّا وجدوا اتّفاق البعض الکاشف عن رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر یشارک المعنی الأصلی فی حصول الغرض منه ، فأطلقوا علیه لفظ الإجماع و کان صادقاً علیه ؛ و کذلک لفظ « الخمر » فی العرف ، فإنه قد وضع أوّلاً للمتّخذ من العنب ، ثم إنه لأجل حصول الأثر من المتّخذ من التمر مثلاً سمّوا هذا أیضاً خمراً ، فکان المعنی الأعم ، للحاظ الأثر و هو الإسکار .

قال شیخنا :

فی کلامه قدّس سرّه نظر من جهتین :

الاولی : إنه جعل الإطلاق الأوّلی للفظ الصلاة ، للصلاة الواجدة للأجزاء و الشرائط من العالم العامد المختار القادر ، فکان الموضوع له هو الأجزاء و الشرائط الشخصیّة حسب تعبیره ، و أمّا غیر هذا الفرد فقد أطلق علیه اللّفظ بسبب حصول الغرض منه - کما فی لفظ الإجماع - و حینئذٍ ، فقد واجه الشیخ إشکالاً فی تعمیم الشرائط ، فدلیل اعتبار الطهارة یتعذر التمسک به لاشتراطها فی صلاة الناسی و العاجز ، و کذا أدلّة الموانع و القواطع ، فالتزم هناک بالتمسّک بالإجماع علی الاشتراط .

لکنْ یرد علیه : إن نفس صلاة العالم القادر المختار لها أفراد ، کصلاة الجمعة المشتملة علی الأجزاء من الخطبتین و غیرهما ، و علی الشرائط کالعدد

ص:249

و السلطان العادل ، و کصلاة الظهر الفاقدة لجمیع هذه الأجزاء و الشرائط ، و کصلاة العیدین المعتبر فیها أجزاء اخری ، و کصلاة الآیات ، و کصلاة المسافر التی هی بشرط لا عن الرکعتین فی مقابل صلاة الحاضر التی هی بشرط شیء ، فکیف یمکن فرض الأجزاء الشخصیّة ؟ فإن قال الشیخ بذلک فی مرتبة العالم القادر المختار فقط ، لزم القول فی غیر هذه المرتبة إمّا بالاشتراک اللّفظی و إمّا بالاشتراک المعنوی ، و الثانی إما بسیط و إما مرکّب . فیعود الإشکال و یرجع ما ذکره علی نفسه .

و الثانیة : إن ما ذکره لا یتناسب مع مقام الإثبات ، فجمیع النصوص تسمّی صلاة العاجز بالصّلاة ، و کذا صلاة الناسی ، تماماً کما فی صلاة العالم القادر المختار ، و لا وجه لتخصیصها بصلاة القادر العالم المختار ، فإن اعتبار الطهارة فی صلاة العاجز مثلاً إنما هو لإطلاق دلیل « لا صلاة إلّا بطهور » و لیس بالإجماع .

و تلخص : أن کلام الشیخ غیر مقبول ، و کلام المیرزا المبتنی علیه أیضاً غیر مقبول .

ثم إنّ المحقق النائینی - بعد أنْ قال بصعوبة تصویر الجامع کما فی ( أجود التقریرات ) و أن لفظ الصلاة موضوع للمرتبة العالیة ، و أنه یستعمل فی غیره ادّعاءً أو مسامحةً - قال : بأن وضع الأسماء للمرکّبات کأسماء المعاجین هو من هذا القبیل ، فإن اللّفظ قد وضع للمرتبة العالیة الکاملة ، و مع ذلک یستعمل فی الفاقد لبعض الأجزاء ، من جهة الاشتراک فی الأثر ، و أما الفاقد للتأثیر فإنّه یستعمل فیه من باب تنزیل الفاقد بمنزلة الواجد ، أو من جهة المشابهة فی الصورة .

ص:250

و فیه :

أوّلاً : إنّ التنظیر المذکور فی غیر محلّه ، فصانع المعجون لا إحاطة له بما یطرأ علی صنعه ، بخلاف الشارع .

و ثانیاً : إنّ تشخیص المرتبة العالیة فی مثل الصلاة غیر ممکن ، لعین ما تقدّم من الاختلاف بین أفراد الصّلاة ، فإنه مع ذلک لا یمکن تصویر مرتبة واحدة من المراتب العالیة لتکون الموضوع له .

4 - تصویر الشیخ الحائری و السید البروجردی

و بعد الفراغ عن صور الجامع البسیط الماهوی ، و الجامع البسیط الوجودی ، و الجامع الذاتی الترکیبی ، تصل النوبة إلی الجامع العَرَضی ، و هو تصویر جماعة منهم : الشیخ الحائری و السید البروجردی ، غیر أنّ الأول جعله « التعظیم » و الثانی : « التخشّع » .

قال السید البروجردی (1) بعد ما نصَّ علی أن لا سبیل لتصویر الجامع الذاتی أصلاً - :

و أمّا الجامع العرضی ... الذی یخطر ببالنا : إنّ حال المرکّبات العبادیّة کالصلاة و الصوم و الزکاة و أمثال ذلک ، حال المرکّبات التّحلیلیة ، کالإنسان و نظائره ، فکما أنّ الإنسان محفوظ فی جمیع أطوار أفراده ، زادت خصوصیّة من الخصوصیّات أو نقصت ، کان فی أقصی مراتب الکمال أو حضیض النقص ، و ذلک لأن شیئیّة الشیء بصورته لا بنقصانه و لا بکماله ، کذلک حال المرکّبات الاعتباریة العبادیّة ، بمعنی أنه یمکن اعتبار صورة واحدة یمتاز بها کلّ واحدٍ من هذه المرکّبات عن غیرها ، و تکون تلک الصّورة ما به الاجتماع

ص:251


1- (1)) الحجة فی الفقه : 57 .

لتمام الأفراد و جمیع المراتب ، و ما به الامتیاز عن غیرها ، و تکون محفوظةً فی جمیع المراحل و المراتب ، و إنْ کان فی غایة الضعف ، مثل صلاة الغریق و العاجز ، أو فی منتهی الکمال مثل صلاة الکامل المختار الواجدة لجمیع الأجزاء و الشرائط ، إذ بعد فرض ما به شیئیة هذه المرکبات الاعتباریّة ، فکلّما کان هذا موجوداً فأصل الشیء کان موجوداً لا محالة .

و هذا الشیء - علی ما یؤدّی إلیه النظر - هو التخشّع الخاص فی الصلاة ، فإنّ التخشّع الخاص هو الذی یکون محصّل شیئیة الصّلاة ، و به تصیر الصلاة صلاةً ، و هو محفوظ فی جمیع أفراد الصلاة و مراتبها المختلفة ، و هذا هو المناسب لمقام عبودیّة العبد بالنسبة إلی مولاه .

و أمّا فی سائر المرکّبات ، فیمکن أیضاً افتراض جامعٍ من قبیل ما فرضناه فی الصلاة ، علی حسب الخصوصیّات و المقامات . و لعلّ هذا هو المراد من الوجه الثالث الذی استدلّ به القائلون بالأعم ، إلّا أن تمثیلهم بالأعلام الشخصیّة مما لا یناسب هذا الکلام .

و حاصل هذا الوجه :

إن الجامع عرضی لا ذاتی ، و هو « التخشّع » ، و هو یتّحد مع جمیع المراتب و الحالات ، و نسبته إلی الأجزاء نسبة الصّورة إلی المادّة ، نظیر إنسانیّة الإنسان الموجودة معه فی جمیع الأحوال و الأطوار .

الإشکال علی هذا التصویر

و أورد علیه شیخنا بوجوه :

أحدها : إن المفروض کون الخصوصیّات مقوّمة للصحّة ، فصلاة الصّبح متقوّمة بعدم الرکعة الثالثة ، و صلاة المغرب متقوّمة بوجودها ، فواقع الصحّة

ص:252

متقوّم بالخصوصیّة ، وعلیه ، فالتخشّع و التوجّه فی صلاة الصبح متقوّم بعدم الثالثة ، و هو فی صلاة المغرب متقوّم بوجودها ، فکیف یمکن أن یکون جامعاً بینهما ؟

و الثانی : إن هذا التصویر لو کان للأعم أو کان مشترکاً بینه و بین الصحیح کان له وجه ، لکن المفروض کونه علی الوضع للصحیح فقط ، و حینئذٍ یرد علیه بأنه جامع متداخل بین الصحیح و الفاسد ، إذ الصلاة ذات الأربع من المسافر فاسدة و هی من الحاضر صحیحة ، و التخشّع موجود فی کلیهما .

و الثالث : إنّ ما ذکره من کون نسبة التخشع إلی الأجزاء نسبة الصّورة إلی المادّة ، فیه : إن الصورة إمّا هی الصورة الجوهریّة ، و هی عبارة عن الفصل ، و إمّا الصورة العرضیّة ، و هی عبارة عن الشکل ، فإنْ أراد « الشکل » فإنّه غیر متّحد مع المتشکّل ، لأنه عرض و هو یقوم بالأجزاء و لا یتّحد معها ، و إنْ أراد الصورة الجوهریّة ، فإنّها تکون جامعاً ذاتیّاً لا عرضیّاً ، و الجامع الذاتی لا یجتمع مع المتقابلات ، فتعود الإشکالات کلّها .

ص:253

تصویر الجامع بناءً علی الأعم
اشارة

و تلخّص عدم معقولیّة الجامع بناءً علی الوضع للصحیح مطلقاً .

و قد ذکرت وجوه لتصویر الجامع بناءً علی الوضع للأعم من الصحیح و الفاسد :

الوجه الأول

و أوّلها و أهمّها تصویر المیرزا القمّی رحمه اللّٰه (1) ، فإنه قال : بأن الموضوع له لفظ الصلاة هو عبارة عن أرکان الصلاة فقط ، و أمّا ما زاد عنها فلیس بداخل فی المسمی الموضوع له ، بل هو من متعلَّق الأمر و الطلب ، و إذا کان الموضوع له هو الأرکان فهی موجودة فی الصلاة الصحیحة و الفاسدة معاً .

الإشکالات

و قد أورد علیه المحقّق الخراسانی بوجهٍ ، و المحقق النائینی بوجهین :

قال المحقق الخراسانی : بأنّ لازم هذا القول أن یصدق « الصلاة » علی الأرکان بوحدها ، و الحال أن الأمر لیس کذلک ، لصحّة سلب « الصلاة » عمّا لا یشتمل إلّا علی الأرکان ، هذا من جهةٍ ، و من جهةٍ اخری ، فإن « الصّلاة » صادقة علی ذات الأجزاء و الشرائط عدا الرکوع مثلاً .

فظهر أنّ الموضوع له لفظ « الصلاة » لیس الأرکان وحدها .

ص:254


1- (1)) قوانین الاصول 44/1 .

و قال المحقق النائینی :

أوّلاً : إن الأرکان لها مراتب متعدّدة ، فیلزم تصویر جامع ذاتی أو عرضی بین جمیعها ، و حینئذٍ تعود الإشکالات .

و ثانیاً : إنّ خروج ما عدا الأرکان لا یخلو من أحد حالین :

إمّا أن تکون خارجة عن حقیقة الصّلاة ، و لازمه أن یکون صدق « الصّلاة » علی تام الأجزاء و الشرائط مجازیّاً ، بعلاقة الکلیّة و الجزئیة ، و هذا خلف ، لأن المفروض تصویر جامع یکون صادقاً علی الصحیح و غیره علی وجه الحقیقة .

و إمّا أن تکون إذا وجدت داخلةً فی حقیقة الصلاة و إذا عدمت خارجة عنها ، و لازمه أن تکون الذات مردّدةً ، و أن یکون شیء عند وجوده مؤثّراً و عند عدمه غیر مؤثّر ، و هذا غیر معقول .

دفاع السیّد الخوئی

و قد تبع السید الخوئی المحقّق القمی فی هذا التصویر و اختار هذا الوجه ، و أجاب عن الإشکالات المذکورة (1) :

الجواب عن إشکال المحقق النائینی

فأجاب عمّا أورده المحقق النائینی : بأنّ الصّلاة مرکّب اعتباری ، و الموضوع له هذا اللّفظ هو الأرکان لا بشرط عن الزیادة ، و الإشکال مندفع ، و ذلک ، لأنّ المرکّب الذی لا تقبل أجزاؤه التغیّر و التبدّل و الزیادة و النقیصة هو المرکّب الحقیقی ، لأنّ جزئیّة کلّ جزءٍ فیه حقیقیّة و غیر مرتبطة باعتبار معتبر .

أمّا المرکّب الاعتباری ، فمنه ما یکون محدوداً بحدٍّ من ناحیة القلّة

ص:255


1- (1)) محاضرات فی اصول الفقه 168/1 .

و الکثرة معاً کالعدد ، فإن الترکیب فیه اعتباری ، و أن عنوان الأربعة - مثلاً - قد وضع لهذه المرتبة المعیّنة من العدد ، فلو زاد أو نقص انتفی . و منه ما یکون محدوداً بحدٍّ من ناحیة القلّة فقط ، أما من ناحیة الکثرة فلیس بمحدودٍ ، کالکلمة و الکلام ، فحدّ الکلام من ناحیة القلّة أنْ یکون مفیداً ، و هو یحصل بالفعل و الفاعل ، لکنه من ناحیة الکثرة فهو لا بشرط ، و کمفهوم « الدار » فإنّه مرکّب اعتباری یتقوّم بقطعةٍ من الأرض و من السقف و الغرفة مثلاً ، لکنّه لا بشرط بالنسبة إلی الزائد ، من الغرف و المرافق و غیر ذلک ، و أیضاً : هو لا بشرط من حیث المواد المصنوع منها الجدار و السّقف ...

و« الصّلاة » من هذا القسم ، فهی مرکّب اعتباری ، و الأمر فیها بید المعتبر ، و قد جعل قوامها الأرکان ، لا بشرط بالنسبة إلی الزائد علیها ، و کلّ ما فیها معها کان جزءاً و إلّا فلیس بجزءٍ ، و هذا مقصود الأعلام - مثل المحقق الأصفهانی ، و السید البروجردی - من فرض التشکیک فی المرکّبات من الصّلاة و الحج ، و من الدار ، و الجَمع ... و أنه لا مانع من الإبهام فی ناحیة الکثرة مع وجود الحدّ فی ناحیة القلّة .

و علی الجملة ، فإنه تسمیة و وضع ، و للواضع أن یضع اللّفظ علی الشیء الذی اعتبره کیفما اعتبره ، فله أنْ یضع اسم « الصلاة » علی أجزاءٍ معیّنةٍ مخصوصةٍ هی الأرکان ، بحیث لو انتفی واحد منها انتفی الموضوع له ، لکنْ لا یحدّد المعنی و الموضوع له من ناحیة الکثرة بحدٍّ ، فإن جاء شیء زائداً علی الأرکان کان جزءاً و إلّا فلا ، و له أن یضع اسم « الدار » علی کذا ، و کلمة « الجمع » علی کذا ، علی ما عرفت .

فاندفع الإشکال الثانی بکلا شقّیه ، فإن الاستعمال فی المشتمل علی

ص:256

الأکثر حقیقی و لیس بمجاز ، و أنّ المحذور المذکور - و هو کون شیء عند وجوده داخلاً فی حقیقة الموضوع له و خارجاً عنها عند عدمه - غیر لازم ، بناءً علی کون الحقیقة بشرط بالنسبة إلی الزائد .

و أمّا إشکاله الأوّل - و هو کون الأرکان کلّ واحدٍ منها ذا مراتب - فیندفع علی ما ذکر ، بأنّ المقوّم للحقیقة هو أحد المراتب علی البدل ، فإمّا الرکوع الحاصل من القادر ، و إمّا الإیماء الحاصل من العاجز ، و کذا القیام و القراءة ... إذْ التردید فی القضایا الاعتباریة ممکن .

هذا تمام الکلام علی ما ذکره المحقق النائینی ، و قد کان یتعلَّق بمقام الثبوت .

الجواب عن إشکال المحقق الخراسانی

و أما إشکال المحقق الخراسانی فیرجع إلی مقام الإثبات ، و یظهر الجواب عنه بالنظر إلی النصوص الواردة فی الصلاة و التأمّل فیها .

فأمّا ما ذکره من صحّة سلب « الصلاة » عمّا لا یشتمل إلّا علی الأرکان ، ففیه : إن مقتضی خبر « لا تعاد الصّلاة إلّا من خمسة » (1) صدق الاسم علی ما اشتمل علی الأرکان ، و عدم صحّة سلبه عنه .

و أمّا ما ذکره من لزوم عدم الصدق علی الفاقد لواحدة من الأرکان فقط ، ففیه : أنه لمّا کانت الصلاة أمراً اعتباریّاً ، فإن الصّدق و عدمه یدور مدار الاعتبار من المعتبر ، فلا بدّ من لحاظ النصوص ، فصحیحة الحلبی « الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث طهور و ثلث رکوع و ثلث سجود » (2) تدلّ علی دخول الثلاثة

ص:257


1- (1)) وسائل الشیعة 371/1 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام باب 3 من أبواب الوضوء رقم : 8 .
2- (2)) وسائل الشیعة 366/1 . باب 1 من أبواب الوضوء رقم : 8 .

و اعتبارها فی الصّلاة ، و صحیحة زرارة : « عن الرجل ینسی تکبیرة الإحرام ؟ قال : یعید » (1) تدلّ علی رکنیّة التکبیرة .

فحقیقة الصّلاة متقوّمة بهذه الامور .

و الموالاة لا بدّ منها ، و لولاها فالصّلاة منتفیة .

و الاستقبال ، و إنْ ورد « لا صلاة إلّا إلی القبلة » (2) لکن الأظهر عدم اعتباره فی الحقیقة ، و لذا لو وقعت إلی غیر القبلة نسیاناً أو جهلاً فهی صحیحة .

و أمّا التسلیمة ، فالحق عدم دخولها ، فإنّه بالتسلیم یخرج من الصّلاة ، و لعدم ذکرها فی خبر « لا تعاد » . و لا ینتقض بعدم ذکر التکبیرة ، لأن مع عدمها فلا صلاة حتی تصدق الإعادة ، لأن الإعادة هی الوجود الثانی بعد الوجود الأوّل ، فعدم ذکر التکبیرة فی خبر « لا تعاد » یؤکّد رکنیّة التکبیرة .

هذا ، و غیر هذه الامور واجب فی الصلاة و لیس برکن .

إشکالات شیخنا الاستاذ

و قد بحث شیخنا الاستاذ دام ظلّه عن تصویر المحقق القمی و دفاع السید الخوئی عنه ، فی مقامین :

1 - مقام الثبوت

و الإیراد علیه فی مقام الثبوت من وجوه :

( الوجه الأول ) إنه لا ریب فی أنّ أمر الأجزاء و اختیارها فی المرکّب الاعتباری هو بید المعتبر ، فهو الذی یجعل الامور المعیّنة أجزاءً للمرکّب و منها

ص:258


1- (1)) وسائل الشیعة 13/6 . باب 2 من أبواب تکبیرة الاحرام رقم : 1 .
2- (2)) وسائل الشیعة 217/3 ط الاسلامیة ، الباب 2 من أبواب القبلة رقم : 9 .

یتحقق ما اعتبره ، لکنّ النقطة المهمّة هی أنه بعد ما جعل الشیء جزءاً لمرکّبه انطبق علیه قانون الکلیّة و الجزئیّة ، و هو انعدام الکلّ بانعدام الجزء ، و لیس هذا القانون بید المعتبر و لا یمکنه التصرف فیه ، بأنْ یجعله جزءاً لکنْ لا ینعدم الکلّ بانعدامه ، وعلیه ، فإذا کانت القراءة فی ظرف وجودها جزءاً مقوّماً لحقیقة الصّلاة ، فکیف تبقی حقیقة الصّلاة محفوظة فی ظرف انعدام القراءة ؟

( الوجه الثانی ) إن المراد من کون الأرکان لا بشرط بالنسبة إلی الزائد هو اللّابشرط القسمی - لا المقسمی - بأنْ یلحظ وجود القراءة و عدمها و لا یؤخذ شیء منهما فی حقیقة الصّلاة ، فنقول : إن قانون اللّابشرط هو اجتماعه مع الشرط ، لکنْ یستحیل دخول الشرط فی اللّابشرط ، فالرّقبة إن کانت لا بشرط بالنسبة إلی الإیمان و الکفر ، فهی تجتمع مع الإیمان لکن یستحیل تقوّمها بالإیمان ، وعلیه : فإذا کانت الأرکان لا بشرط بالنسبة إلی ما زاد علیها من جهة حقیقة الصّلاة ، استحال دخول الزائد فی حقیقتها فی ظرف وجوده ، و کان لازمه أن یصدق الصّلاة علی مجموع الأرکان و الزائد علیها صِدقاً مجازیّاً ، مع أنّ المدّعی کونه حقیقیّاً ، کصدقه علی الأرکان فقط .

( الوجه الثالث ) لا ریب فی أنّ کون الشیء جزءاً للمعنی بشرط عدم الشیء ، غیر معقول ، و کونه جزءاً له لا بشرط من الوجود و العدم خلف الفرض ، - لأنه افترض کونه جزءاً عند الوجود و خارجاً عند العدم - إذنْ ، کون القراءة جزءاً للصّلاة و مقوّماً لحقیقتها ینحصر بحال وجودها ، فوجودها قد اخذ فی معنی الصلاة الموضوع له هذا اللّفظ ، و هذا یخالف ما تقرّر من أن الألفاظ موضوعة للمعانی الواقعیّة و ذوات الأشیاء ، من غیر دخلٍ للوجود و العدم . فما ذکر من کون القراءة جزءاً للصلاة إذا وجدت و غیر جزءٍ إذا

ص:259

انعدمت ، یخالف القانون المذکور ، مضافاً إلی استحالته من جهة أنّ الموجود لا یقبل الوجود الإدراکی .

( الوجه الرابع ) قد وقع البحث بین الأعلام فی أن التخییر بین الأقل و الأکثر معقول أو لا ؟ و وجه القول الثانی هو : أنّ الأقل إن کان مبایناً لبّاً للأکثر فهو معقول ، کالتخییر بین الرکعتین و الأربع ، فإنه و إنْ کان بین الأقل و الأکثر لکنّ القصر و الإتمام متباینان فی الواقع ، أمّا فی غیر هذه الصورة ، مثل التخییر فی التسبیحات بین المرّة و الثلاثة فغیر معقول ، لأنه بمجرّد الإتیان بالمرّة تحقّق الامتثال و حصل المأمور به الواجب ، لأن الانطباق قهری ، و معه یستحیل أن یکون الزائد علی المرّة جزءاً للمأمور به .

و علی هذا المبنی یبطل کون الزائد عن الأرکان جزءاً .

و أیضاً : فإنّ حقیقة الصلاة لا یتحقّق دفعةً ، بل تدریجاً ، فإذا کبّر و رکع و سجد ، فقد تحققت الأرکان ، و بهذه الرکعة تحقّقت الصلاة ، و المفروض کونها لا بشرط عن الزائد ، فیستحیل أن یکون الزائد جزءاً ... فالبرهان المذکور یجری فی الواجب ، و فی المسمّی الموضوع له اللّفظ ، علی حدٍّ سواء .

( الوجه الخامس ) إن الوجود - سواء الذهنی أو الخارجی أو الاعتباری - یساوق التّعیین ، و لا یجتمع مع التردّد ، إن ذات الرکوع غیر اعتباری فهو متعیّن فی ذاته - و إن کانت جزئیّته للصلاة اعتباریّة - فما معنی أنّ الجزء هو أحد مراتب الرکوع علی البدل ؟ إنّ « أحد الأمرین » إن کان المفهومی ، فهو معقول ، لکنه حینئذٍ جامع مفهومی من صناعة الذهن و لیس بواقعی ، و إن کان المصداقی ، فهو غیر قابل للوجود ، و لا ثالث فی البین . فما ذکر - من أن الجامع بین المراتب هو الأحد علی البدل - باطل .

ص:260

2 - مقام الإثبات

و أمّا فی مقام الإثبات ، فصحیحة الحلبی معارضة بصحیحة زرارة : « إذا دخل الوقت وجب الطّهور و الصّلاة » (1) لکونها صریحة فی خروج الطهارة ، و أخبار التکبیرة فیها صحیحة محمد بن مسلم : « التکبیرة الواحدة فی افتتاح الصلاة تجزی و الثلاث أفضل و السبع أفضل کلّه » (2) و الإجزاء یکون فی مقام الامتثال و لا علاقة له بمرحلة المسمّی و الموضوع له اللّفظ . و أمّا الاستدلال بحدیث « لا تعاد » و کذا کلّ ما اشتمل علی « یعید » و نحوه ، ففیه : أنّها دلیل علی خلاف المطلوب ، لأن الإعادة وجود ثانٍ بعد الوجود الأوّل .

أقول :

قد یناقش فی کلام الاستاذ فی روایة التکبیرة ، بأنّها لا تنافی دخول التکبیرة فی المسمّی ، لظهورها - و بقرینة ذیلها - فی کفایة المرّة الواحدة ، فالرّوایة دالّة علی الأمرین : دخولها فی حقیقة الصّلاة ، و کفایة المرّة ، لکنّ الثلاث و السبع أفضل .

و قد ذکر فی الدورة السابقة أنّ فی بعض الأخبار : إن التکبیرة مفتاح الصّلاة ، فقال : بأنّ ظاهر ذلک خروجها عن حقیقة الصلاة ، لأنّ مفتاح الشیء خارج عنه . لکنْ قد یقال : بأن المراد من المفتاح : ما به یفتح أو یفتتح الشیء ، و هذا قد یکون خارجاً کمفتاح الدار ، و قد یکن داخلاً و منه التکبیرة ، و لذا جاء فی بعض الأخبار : افتتاح الصّلاة ...

و أفاد فی الدورة السابقة أیضاً ما جاء فی الأخبار من أن فرائض الصلاة :

ص:261


1- (1)) وسائل الشیعة 372/1 الباب 4 من أبواب الوضوء ، رقم : 1 .
2- (2)) وسائل الشیعة 10/6 الباب 1 من أبواب تکبیرة الإحرام ، رقم : 4 .

الطهور و القبلة و التوجّه و الدعاء ، قال : فهی فرائض الصّلاة ، و لیست داخلة فی الموضوع له اللَّفظ . لکنْ قد یقال بعدم المنافاة ، لأنّ الإمام علیه السلام لم یکن فی مقام التفصیل بین ما هو داخل فی الحقیقة و ما هو خارج عنها بل هو فرض فیها .

و لعلّه لِما ذکرنا لم یتعرَّض لهذه الأخبار فی الدورة اللّاحقة .

الوجه الثانی

ما نسب إلی المشهور من أنّ الموضوع له لفظ « الصلاة » مثلاً هو :

معظم الأجزاء ، و متی لم یصدق فالمسمّی غیر متحقّق .

و قد ذکر الشیخ الأعظم و المحقق الخراسانی هذا الوجه .

إشکال الشیخ

فأورد علیه الشیخ بأنّه : إن کان الموضوع له هو معظم الأجزاء المفهومی ففیه ، أوّلاً : إن لازمه الترادف بین « الصّلاة » و « معظم الأجزاء » . و ثانیاً : إن الأثر - و هو القابلیّة للمعراجیّة و غیر ذلک - مترتّب علی الموجود الخارجی لا المفهوم الذهنی . و إن کان الموضوع له هو معظم الأجزاء المصداقی ، فإن مصداق معظم الأجزاء متبدّل ، إذ یکون الجزء الواحد داخلاً فی المعنی تارةً و خارجاً عنه اخری ، ففی الفرد ذی العشرة أجزاء مثلاً یکون مصداق المعظم هو سبعة أجزاء ، و فی ذی السبعة یکون خمسة أجزاء ، فکان الجزءان داخلین فی المسمّی عند ما کان مشتملاً علی عشرة أجزاء ، و هما خارجان عنه عند ما یکون ذی سبعة ، فیلزم أن یکون الشیء داخلاً فی المعنی و الکلّ فی صورة ، و غیر داخلٍ فی صورةٍ اخری .

ص:262

إشکال المحقق الخراسانی

و أورد علیه المحقق الخراسانی بوجهین :

أحدهما : أنه إذا کان الموضوع له هو معظم الأجزاء ، فاللّازم أنْ یکون صدق الاسم علی المشتمل علی کلّ الأجزاء مجازیاً ، بعلاقة الکلّ و الجزء .

و الثانی : إن نفس « معظم الأجزاء » لا تعیّن له ، فنحن بحاجةٍ إلی تصویر الجامع بین « معظم الأجزاء » فی الأفراد المختلفة من الصلاة ، فیعود الإشکال .

جواب المحقّق الخوئی

و أجاب المحقق الخوئی کما فی ( المحاضرات ) :

أمّا عن الأوّل ، فبأنّ معظم الأجزاء هو بالنسبة إلی الزائد لا بشرط ، فإن وجد دخل فی المسمّی .

و أمّا عن الثانی ، فبأنّ الجامع المقوّم للمعنی هو المعظم علی البدل .

قال شیخنا :

فی الأوّل : بأنّ المجازیّة لازمة ، کما تقدّم فی التصویر السابق .

و فی الثانی : بأن مراد صاحب ( الکفایة ) هو أن الصلاة التامّة الأجزاء و الشرائط لو فرضت عشرة أجزاء ، فإن المعظم هو سبعة ، لکنّ هذه السبعة غیر متعیّنة ، فهل المراد السبعة من الأوّل ، أو السبعة من الوسط ، أو السبعة من الأخیر ؟ ثم إنّ الأفراد مختلفة کیفیةً أیضاً و متبدّلة ، إذ الرکوع تارةً یکون رکوع القادر المختار ، و اخری یکون بالإیماء ، و بینهما أفراد ، فکیف یتعقّل المعظم مع الاختلاف الکمّی و الکیفی ؟

هذا مراد المحقق الخراسانی ، و الجواب المذکور غیر دافع له .

ص:263

دفاع المحقق النائینی

و قد حاول المحقق النائینی الدفاع عن هذا التصویر بتنظیره ببیع الکلّی فی المعیّن ، کصاعٍ من الصبرة ، فکما أن المبیع إذا کان صاعاً من الصّبرة المعیّنة ینطبق علی کلّ صاعٍ صاعٍ منها و یکون البیع صحیحاً ، کذلک الموضوع له لفظ الصّلاة ، فإنه معظم الأجزاء ، و هو قابل للتطبیق علی أیّ طائفةٍ من الأجزاء یصدق علیها أنها معظمها .

لکن شیخنا لم یرتض هذا الدفاع .

و الجواب

و أجاب : بأنّ حلّ المشکل فی مسألة الکلّی فی المعیّن صعب جدّاً ، و قد أشکل علیه منذ القدیم بأنّه کیف یمکن الجمع بین السلب الکلّی و الإیجاب الجزئی ، حیث أن المشتری لیس بمالکٍ لشیء من أجزاء الصّبرة ، و هو فی نفس الوقت مالک لصاعٍ منها ؟

ثم إنه بغض النظر عن ذلک ، فقیاس ما نحن فیه بتلک المسألة مع الفارق :

أمّا أوّلاً : فلأنّه یحصل التعیین هناک بواسطة البائع ، و لذا لو تصرّف فی الصّبرة ببیعٍ و غیره و لم یبق إلّا صاع واحد ، لم یکن له التصرف فیه لئلّا یفوت حق المشتری ، و علی کلّ تقدیرٍ ، فالتّعیین یحصل هناک ، بخلاف المقام ، إذ لا طریق إلی تعیین المعظم .

و أمّا ثانیاً : إن المبیع هناک کلّیٌّ ، غیر أنه مضاف إلی هذه الصّبرة ، بخلاف ما نحن فیه ، حیث أنّ الموضوع له هو المصداق - لما تقدّم من أنه لیس المفهوم و قد تردّد و لا طریق إلی تعیینه ، و المردّد لا ذات له و لا وجود .

ص:264

الوجه الثالث

إنّ الموضوع له لفظ الصلاة - مثلاً - وزانه وزان الموضوع له فی الأعلام الشخصیّة ، فکما أنّ لفظ « زید » موضوع لهذه الذات ، و هو اسم له فی جمیع حالاته من حین ولادته ، و یصدق علیه بالرغم من تغیّراته کمّاً و کیفاً ، کذلک لفظ « الصلاة » یصدق مع کلّ التبدّلات الحاصلة فی الأجزاء کمّاً و کیفاً .

و الجواب

إنّ المسمّی الموضوع له فی الأعلام الشخصیّة هو ماهیّة شخصیّة ، و شخصیّتها بالصورة لا بالمادّة ، لقولهم : شیئیة الشیء بصورته لا بمادّته ، و صورة زید فی جمیع حالاته و أدوار حیاته محفوظة لا تتغیّر ، و المتغیّر هی المادّة ، فقیاس وضع الأعلام الشخصیّة بما نحن فیه مع الفارق .

و جاء فی جواب صاحب ( الکفایة ) : إن الموضوع له عبارة عن الشخص ، و شخصیّة الشیء بوجوده الخاص .

فهو رحمه اللّٰه یری الصّورة وجوداً ، فیرد علیه : أنّه إذا کان الموضوع له هو الشخص ، و الشخصیّة بالوجود ، فکیف ینتقل الموضوع له إلی الذهن بالاستعمال ، لأنّ الوجود لا یقبل الوجود الذّهنی و لا غیره من الوجودات ؟

و کیف کان ، فالتصویر المذکور مردود .

الوجه الرّابع

إن لفظ « الصّلاة » قد وضع أوّلاً للصّلاة الجامعة لجمیع الأجزاء و الشرائط ، ثم إنه یطلق علی مراتبها الاخری من باب المشاکلة فی الصّورة و المشارکة فی التأثیر و ترتب الأثر المطلوب ، فالإطلاق الأوّل علی المراتب مجازی ، لکنّه بالاستعمال المتکرّر یصیر اللّفظ حقیقةً فیها ، فیکون حال الموضوع له لفظ « الصلاة » حال الاسم الذی یوضع علی المعجون المرکّب

ص:265

من أجزاءٍ معیّنةٍ ، و المصنوع لفائدةٍ معیّنة ، فإنّه الموضوع له أوّلاً ، لکنّ هذا الاسم یطلق مجازاً فیما بعد علی هذا المرکب فی حال تبدّل جزء من أجزائه مثلاً ، فإذا تکرّر إطلاقه علیه مراراً صار حقیقةً فیه .

و علی الجملة ، فلفظ « الصّلاة » وضع للجامع بین الأجزاء ، و للصلاة الصحیحة الفاقدة لبعضها کصلاة العاجز ، ثم یستعمل فی الصلاة الفاسدة أیضاً للمشابهة و المشاکلة فی الصورة ، کما لو صلّاها جامعةً لجمیع الأجزاء لکن ریاءً .

و الجواب

و أجاب المحقق الخراسانی بالفرق بین الصلاة و المعجون ، فالمعجون المصنوع لغرضٍ خاصٍ لا اختلاف فی کیفیّته ، بخلاف الصلاة ، فإنها حتی الصحیح منها تختلف باختلاف الحالات و المراتب و الأشخاص .

الوجه الخامس

إن الوضع فیما نحن فیه نظیر الوضع فی الأوزان و المقادیر ، فإن المثقال و الکرّ مثلاً موضوعان لمقدار خاصٍ معیّن ، لکنهما یطلقان کذلک متی نقص شیء عن المقدار المحدود أو زاد ، فکذا لفظ الصّلاة ، فإنه یصدق مع زیادة جزءٍ أو نقصانه .

و الجواب

أوّلاً : إنّ « المثقال » موضوع ل « 24 » حبّة مثلاً ، فلو نقص حبة واحدة صحّ سلب الاسم عنه ، فما ذکر غیر صحیحٍ فی المقیس علیه .

و ثانیاً : إنه لو سلّم ما ذکر فی المقیس علیه ، ففی المقیس غیر صحیح ، و القیاس مع الفارق ، لأنه مع نقص ثلاث حبّات مثلاً من المثقال ینتفی الموضوع له ، لکنْ فی صلاة العاجز حیث تفقد أکثر الأجزاء یصدق الاسم ، لکونها صلاةً حقیقةً .

ص:266

المختار
اشارة

و استوجه شیخنا الاستاذ دام بقاه فی الدورة السّابقة تصویر السید البروجردی ، لکنْ بجعله جامعاً بناءً علی الأعم ، و هو ظاهر بحثه فی الدورة اللّاحقة ، حیث تعرَّض لهذا الرأی فی نهایة البحث .

و قد قرّبه فی الدورتین ، بأنّه مع کون الجامع هو « التوجّه » أو « الهیئة الخضوعیّة » بناءً علی الأعم ، لا یرد شیء ممّا تقدّم من الإشکالات ، لأنها کانت تتوجّه بناءً علی الوضع للصحیح ، و التوجّه أمر واحدٌ موجودٌ مع جمیع الأفراد ، و سائر الخصوصیّات تکون دخیلة فی متعلَّق الطّلب ، و هو - أی التوجّه - أمر خارجی انتزاعی ، قابل للانطباق علی المتباینات ، فیقوم تارةً بالکیف المسموع و اخری بالوضع ، فالتوجّه و الخضوع یحصل بالتکلّم و بالقیام و بالانحناء ، و هکذا ، و ینتزع من کلّ واحدٍ من هذه الامور ، و یتحقق مع کلّ واحدٍ منها ، نظیر « الغصب » فإنه یتحقّق بالتصرف فی مال الغیر من دون إذنه ، بأی شکلٍ من أشکال التصرف الحاصل من المقولات المتباینة .

هذا بالنسبة إلی مقام الثبوت .

و أمّا إثباتاً ، فإن « الصّلاة » فی اللّغة إما الدّعاء و إمّا العطف و التوجّه ، و علی کلا التفسیرین یتم الجامع المذکور ، لأنّ الدعاء یکون بغیر اللّفظ أیضاً ، و یشهد للمعنی الثانی ما فی بعض الأخبار من أنّ اللّٰه تعالی لمّا علم باندراس

ص:267

الدین شرّع الصلاة حفظاً لها من الاندراس و لیتوجّه الناس إلیه بها .

ثم إن النسبة بین الأذکار الموجودة فی الصّلاة و بین التوجّه لیس النسبة بین المسبب و السبب ، لأن السبب و المسبب موجودان بوجودین لا بوجودٍ واحدٍ ، و الحال أن الموجود خارجاً هو الذکر و لا وجود هناک للتوجّه ، فنسبة التوجّه إلی الذکر نسبة الأمر الانتزاعی إلی منشأ الانتزاع ، لا نسبة السبب إلی المسبب .

و تلخّص : إنه یمکن تصویر الجامع علی الوضع للأعم ، بأنه هو التوجّه و التخشّع و الخضوع ، بالتقریب المذکور .

الإشکال علیه

ثم أورد علیه شیخنا ثبوتاً و إثباتاً :

أمّا ثبوتاً ، فلأن التوجّه إذا کان منتزعاً من هذه الأقوال و الأفعال المتباینة و متّحداً معها وجوداً ، استحال أنْ یکون واحداً . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ « التوجّه » یصدق مع الأجزاء القلیلة ، و هو مع الرکوع غیره مع السجود و القیام و القراءة و هکذا ... و بمجرّد تحقّق الأقل یصدق الصّلاة ، فیکون الزائد علیه خارجاً عن حقیقة الموضوع له المسمی .

و قد کان هذا الإشکال وارداً علی جمیع التصویرات التی اعتبرت الوجود التشکیکی للجامع ، کما تقدّم .

و أمّا إثباتاً : فلأن الصّلاة - بحسب النصوص و ارتکاز المتشرعة - هی نفس الأقوال و الأفعال لا العنوان المنتزع منها کالتوجّه . بل فی خبرٍ صحیحٍ سئل الإمام علیه السلام عن الفرض فی الصّلاة فقال : « الوقت و الطهور و القبلة

ص:268

و التوجّه و الرکوع و السجود و الدعاء » (1) فکان التوجّه من فرائض الصّلاة و لیس الصّلاة .

خاتمة المقدّمة الرّابعة

و التحقیق : أنه لا أثر لتصویر الجامع فی ترتّب الثمرة و عدم ترتّبها ، و ذلک ، لأن الثمرة إمّا جواز أو عدم جواز التمسک بالأصل اللفظی و هو الإطلاق ، و إمّا جواز أو عدم جواز التمسّک بالأصل العملی و هو البراءة ، لرفع ما شک فی جزئیّته أو شرطیّته فی الصّلاة . أمّا الأصل العملی ، فإنّ وجود القدر المتیقّن یکفینا لإجراء الأصل ، و أما الأصل اللّفظی ، فإنّ من النصوص ما یعیِّن الصّلاة بأنّه « ثلاثة أثلاث » فإنْ اعتبر قید آخر بدلیلٍ معتبر أضفناه و إلّا أخذنا بإطلاق النص .

و علی هذا ، فلا حاجة لتصویر الجامع مطلقاً ، لعدم توقف ترتّب الثمرة علی وجوده .

المقدّمة الخامسة( ثمرة البحث )

إنّ أهمّ ما ذکروا فی هذا المقام هو :

1 - جریان البراءة علی الأعم ، و الاشتغال بناءً علی الصحیح .

2 - جواز التمسک بالإطلاق بناءً علی الأعم ، و لزوم الإجمال بناءً علی الصحیح .

ص:269


1- (1)) وسائل الشیعة 365/1 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام الباب 1 من أبواب الوضوء ، رقم : 3 .
1 - البراءة و الاشتغال

لو شک فی جزئیّة شیء أو شرطیّته فی الصلاة - مثلاً - فهل تجری البراءة عنه أو یحکم العقل بالاشتغال فیجب إتیانه ؟ أو یختلف الأمر حسب المبنی فی وضع لفظ الصّلاة ؟

هنا أقوال :

أحدها : جریان الاشتغال ، سواء قیل بالوضع للصحیح أو قیل بالوضع للأعم .

و الثانی : جریان البراءة ، سواء قیل بالوضع للصحیح أو قیل بالوضع للأعم .

و هذا هو المستفاد من ( التقریرات ) و ( الکفایة ) .

و الثالث : جریان البراءة علی الأعم ، و الاشتغال علی الصحیح .

و هذا هو المستفاد من ( القوانین ) و ( الریاض ) و اختاره المحقق النائینی .

و الرابع : التفصیل بین ما إذا کان البیان لفظیّاً فالاشتغال ، أو حالیّاً أو مقامیّاً فالبراءة .

و الخامس : التفصیل بین الصحیح النوعی فالبراءة ، و الصحیح الشخصی - و هو کون الموضوع له صلاة العالم المختار ، و البواقی أبدال - فالاشتغال .

ص:270

هذه هی الأقوال فی هذا المقام .

و المهمّ أنّ جماعة یرون ترتّب الثمرة علی هذا البحث ، و هم المیرزا القمی و المیرزا النائینی و آخرون ، و جماعة یرون أنْ لا ثمرة للبحث ، و هم الشیخ و المحقق الخراسانی و آخرون .

تقریب الثمرة

إنه إنْ کان الموضوع له لفظ « الصلاة » هو خصوص الصحیح ، کان التکلیف - أی الوجوب - معلوماً ، و کذلک المکلَّف به و هو الصحیح ، و مع الشک فی جزئیّة شیء أو شرطیّته ، یرجع الشک إلی تحقّق الامتثال بدون الشیء المشکوک فیه ، و معه یحکم العقل بالاشتغال . و أمّا بناءً علی الوضع للأعم ، فهو صادق علی فاقد الجزء أو الشرط المشکوک فیه ، و مع الشک یدور أمر المکلَّف به بین الأقل و الأکثر ، و قد تقرّر فی محلّه أن الأقل و الأکثر الارتباطیین مجری البراءة ، لکون الأقل متیقّناً و الشک یرجع إلی أصل التکلیف بالنسبة إلی الأکثر .

إشکال الشیخ و الکفایة

إنه لا أثر للوضع للصحیح أو الأعم فی جریان البراءة أو الاشتغال ، بل الملاک هو انحلال العلم الإجمالی فی الأقل و الأکثر الارتباطیین و عدم الانحلال .

فإن کانت النسبة بین المأمور به و بین الأجزاء و الشرائط نسبة السببیّة ، کان الأصل الجاری فی المورد هو الاشتغال ، لأنه یصیر من قبیل سببیّة الغسل و المسح فی الوضوء للطهارة ، حیث أن التکلیف بالمسبَّب معلوم ، لکنْ لا ندری هل یتحقّق بدون الخصوصیّة المشکوک فیها أو لا ؟ فیرجع الشک إلی

ص:271

المحصّل ، و المرجع فیه هو قاعدة الاشتغال .

و أمّا إن کانت النسبة اتحادیة ، أی : لیس المأمور به إلّا نفس الأجزاء و الشرائط - فنسبة المأمور به إلی الأجزاء و الشرائط نسبة الطبیعة إلی الفرد ، و لا توجد فی البین سببیّة و مسبّبیة - فیقع الشک فی الجامع الذی تعلَّق التکلیف به ، المتّحد مع الأجزاء ، من جهة أنه هل الأجزاء عشرة مثلاً أو أقل ، و إذا دار الأمر بین الأقل و الأکثر ، فالأصل هو البراءة عن الأکثر .

فظهر جریان البراءة علی کلا القولین ، فلا ثمرة للبحث .

جواب المحقق النائینی

و أجاب المحقق النائینی بأنّ الأجزاء لا تتّصف بالصحّة إلّا إذا تعنونت بعنوانٍ من ناحیة العلّة أو من ناحیة المعلول ، فالصحیح من الصّلاة ما تکون ناهیة عن الفحشاء و المنکر ، أو ما یکون مسقطاً للإعادة و القضاء ، أو مسقطاً للأمر ، فمسقطیّة الإعادة و القضاء عنوان و لونٌ من ناحیة معلول الحکم ، لکون ذلک فرعاً للامتثال ، و النهی عن الفحشاء و المنکر لون و عنوان من ناحیة علّة الحکم ، لأنه الغرض من التکلیف ، وعلیه ، فعندنا علم بتعلّق التکلیف ب « ما هو الناهی عن الفحشاء » و « ما هو المسقط للأمر » و مع الشک فی تحقّق العنوان بدون ما شک فی جزئیّته یکون الشک فی المحصّل ، و هو مجری قاعدة الاشتغال .

هذا بناءً علی الوضع لخصوص الصحیح .

و أما بناءً علی الوضع للأعم ، فلیس لمتعلَّق التکلیف عنوان و لونٌ من ناحیة العلّة و لا المعلول ، فعلی القول بالانحلال فی دوران الأمر بین الأقل و الأکثر الارتباطیین یکون الأصل الجاری هو البراءة .

ص:272

فالثمرة بین القولین محقّقة ، و لا یجتمع القول بالوضع للصحیح مع القول بالبراءة .

مناقشة المحقق الأصفهانی

و ناقشه المحقق الأصفهانی بأنّ العنوان المذکور لیس قیداً لمتعلَّق التکلیف ، بل هو کاشف عنه و مشیر إلیه ، و لمّا کان المکلَّف به متّحداً مع الأجزاء ، و هی مرددة بین الأقل و الأکثر الارتباطیین ، فالأصل هو البراءة ، فلا ثمرة ، و الوجه فی عدم کون عنوان « الناهی عن الفحشاء » قیداً للمعنی المتعلَّق به التکلیف هو : إن النهی عن الفحشاء الحاصل من قصد الأمر فرعٌ للأمر ، و الأمر فرع للمعنی ، فکون النهی عن الفحشاء قیداً للمعنی و الموضوع له اللّفظ مستحیل .

جواب الاستاذ عن هذه المناقشة

و أورد علیه شیخنا الاستاذ دام ظلّه بأنه لا ریب فی أنّ الناهی عن الفحشاء لیس هو المأمور به کما قال المحقق الأصفهانی ، و لکنه عنوانٌ مبیّن للمأمور به ، و مع تبیّنه و زوال الشک عنه ینتفی مناط جریان البراءة ، بل یکون المورد مجری قاعدة الاشتغال ، إذ مع کون المأمور به مبیَّناً لو شُک فی تحقّق الامتثال بإتیان الصّلاة بدون الخصوصیّة المشکوک فیها ، یحکم العقل بلزوم إتیان الخصوصیّة تحصیلاً للیقین بالفراغ بعد الیقین بالاشتغال .

و هو الجواب عن مناقشةٍ اخری

و ما ذکره هو الجواب عن مناقشةٍ اخری و حاصلها : أنه لو کان الصحیحی یرید الصحیح الفعلی فکلام المیرزا تام ، لکنّ الموضوع له لیس الصحیح الفعلی ، و إلّا لکان قصد القربة دخیلاً فی الصلاة ، و کذا عدم المزاحم - بناءً

ص:273

علی بطلان الترتّب ، لعدم تحقّق الصحیح الفعلی بدون قصد القربة و مع وجود المزاحم - بل القائلون بالوضع للصحیح یریدون التام الأجزاء و الشرائط التی فی مرتبة قبل الأمر ، و هذه الحقیقة یکون فیها الأقل و الأکثر ، و تقبل تعلّق الیقین و الشک الذی هو موضوع أصالة البراءة .

أقول :

لقد وافق دام ظلّه علی هذه المناقشة ، فی الدورة اللّاحقة ، و لأجلها ذهب إلی انتفاء الثمرة ، و إجراء البراءة علی القولین ، أمّا فی الدورة السّابقة فقد أجاب عنها بما ذکر ، و حاصله : إنّا قد عرفنا المأمور به نحو معرفةٍ من ناحیة عنوان « الناهی عن الفحشاء » و « المسقط للأمر » و « للإعادة و القضاء » فکان علینا تحصیل المعنون بهذا العنوان ، فهل یحصَّل بإتیان الفاقد للشیء المشکوک جزئیّته أو لا ؟ فمقتضی القاعدة هو الاشتغال علی القول بالصحیح .

و لعلّ هذا هو الأظهر ، و اللّٰه العالم .

مناقشة الشیخ الحائری مع المحقق الخراسانی

و تعرّض شیخنا لإشکال الشیخ الحائری علی صاحب ( الکفایة ) ، و هو : إنّ الذی تعلَّق به التکلیف و دخل تحت الأمر لیس الصّلاة المرکَّب من التکبیرة و الرکوع و السجود و غیرها ، لأن المرکب ینقسم إلی الصحیح و الفاسد ، فلا یستقیم قول الصحیحی کالمحقق الخراسانی ، بل إن الصلاة معنی بسیط ، و هو غیر التکبیر و الرکوع و السجود ، إلّا أنه متّحد معها وجوداً ، و هذا المعنی البسیط هو الداخل تحت الأمر ، و إذا کان بسیطاً کما تقدَّم فلا یعقل فیه الأقل و الأکثر ، فلا مناص علی القول بالوضع للصحیح من الالتزام بالاشتغال .

ص:274

و جوابها

و أجاب دام ظلّه عن ذلک : بأن من البسیط ما هو آنی الوجود ، و هذا لا یعقل فیه الأقل و الأکثر ، و المتیقَّن و المشکوک ، کما ذکر . و من البسیط ما هو تدریجی الوجود ، و هذا هو مراد صاحب ( الکفایة ) ، و هو متّحد مع الأجزاء من التکبیر و غیره ، یتحقق بالتدریج مع کلّ واحدٍ من الأجزاء ، نظیر الخط ، فإنّه و إنْ کان خطّاً واحداً لکنه ممتد بسبب الوجود ، وعلیه یمکن تصویر الأقل و الأکثر ، بأنْ یقال مثلاً : قد علم بتعلّق التکلیف من التکبیرة إلی السجود ، و ما زاد عن ذلک فمشکوک فیه .

ملخّص المختار :

و تلخص : اختلاف نظر الاستاذ فی الدورتین ، و الأوفق بالنظر هو ما ذهب إلیه فی الدورة السابقة من وجود الثمرة .

تتمّةٌ

إنه قد وقع الکلام فی خصوص مسلک الشیخ و المحقق النائینی من أن الموضوع له اسم « الصّلاة » هو صلاة العامد العالم المختار ، و أنّ الأفراد الاخری من الصلاة إنّما هی أبدالٌ عن المسمّی الموضوع له ، فربما یقال : بأنّ مقتضی القاعدة هو الاشتغال ، لأنّا نشک فی بدلیّة المرتبة الناقصة عن تلک المرتبة التی هی الموضوع له ، و الأصل عدم البدلیّة ، فلا بدّ من الإتیان بالجزء المشکوک فیه .

و أجاب المحقق العراقی : بأن الأصل هو البراءة عن اعتبار الجزء المشکوک فی جزئیّته ، فالعمل الفاقد له یکون بدلاً عن المرتبة الکاملة ، لأنّ الشک فی البدلیّة کان مسبّباً عن الشک فی الاعتبار ، فإذا جری الأصل فی

ص:275

السّبب ارتفع الشک فی المسبّب .

فقال شیخنا دام ظلّه : بأنّ لقاعدة تقدیم الشک السببی علی المسببی رکنین ، أحدهما : وجود السببیة و المسببیّة بینهما ، و الآخر ، أن یکون مجری الأصل من الآثار الشرعیّة للسبب .

إنه لا إشکال فی المقام من جهة الرکن الأوّل ، إذ مع الشک فی وجوب الجزء المشکوک الجزئیة یتمسّک بالبراءة ، و یتقدم هذا الأصل علی أصالة عدم البدلیّة فی طرف المسبَّب ، إلّا أن الإشکال فی الرکن الثانی ، من جهة أن صیرورة هذا العمل المأتی به بدلاً عن العمل الکامل هو من اللوازم العقلیّة لهذا المشکوک و لیس من آثاره الشرعیّة ، لأنه لمّا کان المشکوک فیه غیر واجب ، کان لازم عدم وجوبه صیرورة العمل الفاقد له بدلاً عن المرتبة الکاملة ، و هذا لازم عقلی لمجری الأصل ، لأن مجری الأصل کما تقدم عدم الوجوب ، و بدلیّة العمل الفاقد عن التام لازم عدم الوجوب ، إذ لیس فی شیء من الأدلّة الشرعیّة عنوان « البدل » حتی یکون من الآثار الشرعیّة ... و إذا کان من الآثار العقلیّة لا الشرعیّة فإن إثبات هذا العنوان بالبراءة من وجوب الجزء المشکوک فیه أصل مثبت .

فهذا هو الإشکال علی المحقق العراقی .

و الاشتغال هو المحکّم علی مسلک الشیخ و المحقق النائینی .

ص:276

2 - الإطلاق و الإجمال

و « الإطلاق » تارةً مقامی حالی و اخری لفظی .

مناط الإطلاق المقامی هو السکوت و السکون ، لأنّ المقام إذا اقتضی بیان المولی جمیع المطلوب من العبد ، فسکوته عن غیر ما بیَّن کاشف عن عدم مطلوبیّة ذلک الغیر ، و کذا إذا کان فی مقام التعلیم عملاً - کأخبار الوضوءات البیانیّة - فإنّه عند ما انتهی من العمل انکشف عدم جزئیّة ما لم یأت به فیه .

و کثیراً ما یتمسّک بالإطلاق المقامی ، کما فی موارد القیود المأخوذة بعد تعلّق الأمر ، مثل اعتبار قصد القربة فی العمل .

و مناط الإطلاق اللفظی توفّر ثلاثة امور - علی المشهور - :

1 - کون الحکم وارداً علی المقسم ، و کون المفهوم صادقاً فی المورد مع إحراز الصّدق .

2 - کون المتکلّم فی مقام البیان لا التشریع أو الإجمال و الإهمال .

3 - عدم نصب القرینة علی التقیید ، و کذا عدم وجود ما یصلح للصارفیّة .

و اعتبر المحقق الخراسانی مقدّمةً رابعة هی عدم وجود القدر المتیقّن فی مقام التخاطب .

ص:277

الکلام حول الثمرة

قالوا : إنه بناءً علی القول بالصحیح لا یمکن التمسّک بالإطلاق ، لأنه فی جمیع موارد الشک فی اعتبار شیء و دخله فی المسمّی الموضوع له اللَّفظ ، لا یمکن إحراز صدق المفهوم علی الفرد الفاقد لِما شکّ فی اعتباره ، فلا یجوز التمسّک بالإطلاق ، بل یلزم الإجمال . و أمّا بناءً علی الأعم ، فالمفروض صدق عنوان الصّلاة علی فاقد السّورة مثلاً ، فالصدق محرز ، فلو شکّ فی اعتبار شیء زائداً علی ما علم باعتباره تمسّک بالإطلاق لنفی دخل الخصوصیّة المشکوک فیها .

الاشکالات

و قد اشکل علی هذه الثمرة بوجوه :

الوجه الأول

قال الشیخ ما ملخّصه : إنّه لا یمکن التمسّک بإطلاقات الکتاب و السنّة ، لأنّها بصورةٍ عامّة فی مقام التشریع لا البیان ، فالمقدمة الثانیة منتفیة ، فلا ثمرة للبحث فی مسائل العبادات ، کقوله تعالی : «وَلِلّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً » (1)إذ الآیة فی مقام أصل التشریع ، و کذا ما اشتمل علی بعض الآثار کقوله تعالیٰ : «إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنکَرِ » (2)إذ لا بیان فی الآیة الکریمة لحقیقة الصلاة .

الجواب الأول عن الإشکال

و اجیب عن هذا الإشکال أوّلاً : بتمامیة الإطلاق فی قوله تعالی :

ص:278


1- (1)) سورة آل عمران : 97 .
2- (2)) سورة العنکبوت : 45 .

« یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ کَمَا کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ مِن قَبْلِکُمْ » (1)لأن الصیام عبارة عن الإمساک عن الأکل و الشرب ، و قد وقع فی الآیة موضوعاً للحکم بالوجوب ، فکلّ ما شککنا فی دخله فی الموضوع زائداً علی طبیعة الصّیام ندفعه بإطلاق الآیة بناءً علی القول بالأعم ، أمّا علی القول بالصحیح فلا إطلاق ، لرجوع الشک إلی أصل تحقّق الصیام بدون الشیء المشکوک فیه .

مناقشة الاستاذ

و أجاب شیخنا عن ذلک بوجوه :

أوّلاً : إن الصیام فی اللّغة کما عن بعضهم هو مطلق الإمساک ، فعن أبی عبیدة أنّ الإمساک عن السیر صیام ، و فی الکتاب «إِنِّی نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُکَلِّمَ الْیَوْمَ إِنسِیّاً » (2)فلا اختصاص له بالأکل و الشرب .

و ثانیاً : إن الآیة فی مقام بیان أن وجوب الصیام لیس مختصّاً بهذه الاُمة ، و أنّه کان فی الشرائع السابقة ، فلیس فی مقام بیان حکم الصیام فی هذه الشریعة کی یتمسّک بإطلاقها متی شک فی دخل شیء .

و ثالثاً : إن التمسّک بالإطلاق موقوف علی إحراز کون المتکلّم فی مقام بیان جمیع المراد ، و إلّا فلا یجوز ، و فی الصیام نری ورود قیود کثیرةٍ ، لأنه إمساک عن تسعة امور لا عن الأکل و الشرب فقط ، و إذا کان للموضوع هذه الکثرة من التقییدات المبیّنة فی مجالس لاحقة و بأدلّة اخری ، کیف یصح القول بکونه فی مقام البیان فی قوله : «کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ » (3)؟

ص:279


1- (1)) سورة البقرة : 183 .
2- (2)) سورة مریم : 26 .
3- (3)) سورة البقرة : 183 .
الجواب الثانی عن الإشکال

و اجیب عن اشکال الشیخ ثانیاً : بأنا فی ترتّب الثمرة لا نرید فعلیّتها ، بل یکفی إمکان ترتّبها ، و هذا حاصل فی المقام .

و فیه : کیف یکفی وجود المقتضی لترتّبها و الحال أنه دائماً مبتلی بالمانع ؟ هذا علی فرض تمامیة المقتضی ... إنه لا بدّ من تحقّق الثمرة فی الفقه و لو فی موردٍ واحد .

التحقیق فی المقام

و التحقیق أن یقال : إنه و إنْ کان قسم من الآیات و الروایات فی مقام التشریع و بصدد التقنین ، لکنّ فی الکتاب ما هو فی مقام البیان ، و لذا یمکن التمسّک بإطلاقه ، کآیة الوضوء : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ » (1)... مضافاً إلی تمسّک الإمام علیه السلام بها للتفصیل بین المسح و الغسل بمجیء « الباء » فی « الرءوس » (2) .

و کآیة نفی الحرج و العسر ، حیث تمسّک بها الإمام علیه السلام فی روایة عبد الأعلی مولی آل سام فی حکم الجبیرة (3) .

و کذلک الحال فی بعض آیات المعاملات ، فقد استدل الإمام علیه السلام بقوله تعالی : «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ » لصحّة بیع المضطرّ ، کما فی صحیحة عمر بن یزید (4) . و لو لا ذلک لقلنا بأن الآیة فی مقام المقابلة بین البیع و الربا ، و أنه حلال و الربا حرام فلا إطلاق لها ، کما نبّه علیه المحقق الأصفهانی .

ص:280


1- (1)) سورة المائدة : 6 .
2- (2)) وسائل الشیعة 413/1 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام ، الباب 23 من أبواب الوضوء ، رقم : 1 .
3- (3)) وسائل الشیعة 464/1 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام ، الباب 39 من أبواب الوضوء ، رقم : 5 .
4- (4)) وسائل الشیعة 446/17 ، الباب 40 من أبواب آداب التجارة ، رقم : 1 .

و استدل الإمام علیه السلام لعدم صحّة طلاق العبد بقوله تعالی : «ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوکاً لاَّ یَقْدِرُ عَلَی شَیْءٍ » (1).

فظهر أنّ إشکال الشیخ غیر وارد علی إطلاقه ، ففی الکتاب آیات یمکن التمسّک بإطلاقها ، سواء فی العبادات أو المعاملات ، و أنه لا وجه لتخصیص الإشکال بالعبادات .

علی أنه ینقض علیه بکثرة تمسّکه بإطلاقات الکتاب فی کتبه الفقهیّة ، فقد تمسّک فی ( کتاب الطهارة ) (2) فی مسألة الوضوء الاضطراری بقوله تعالی « إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَکُمْ » لإعادة الوضوء بعد رفع الاضطرار .

و تمسّک فی ( کتاب الصلاة ) (3) فی مسألة تعذّر الإضطجاع علی الطرف الأیمن و أنّه فی هذه الحالة یضطجع علی الطرف الأیسر أو یستلقی ؟ تمسّک بقوله تعالی : «الَّذِینَ یَذْکُرُونَ اللّهَ قِیَاماً وَقُعُوداً وَعَلَیَ جُنُوبِهِمْ » (4).

و هکذا فی غیر هذه الموارد .

و تلخّص : إن فی آیات الکتاب ما هو فی مقام البیان .

و فی السنّة أیضاً کذلک ، فمن السنّة ما جاء فی بدء البعثة ، فهذا القسم من التشریع ، أمّا ما صدر فی أواخره ففی مقام البیان .

و مِمّا ذکرنا یظهر أنْ لا حاجة إلی ما ذکره المحقق الأصفهانی من کفایة ثبوت کون آیةٍ واحدةٍ فی مقام البیان عند مجتهدٍ واحدٍ ، فإنّ هذا الکلام و إنْ کان صحیحاً ، لکن لا تصل النوبة إلیه ، بعد وضوح کون آیاتٍ فی مقام البیان ،

ص:281


1- (1)) وسائل الشیعة 99/22 الباب 43 من أبواب مقدمات الطلاق رقم 2 و الآیة فی سورة النحل : 75 .
2- (2)) کتاب الطهارة للشیخ الأعظم 293/2 ط مجمع الفکر الإسلامی .
3- (3)) کتاب الصلاة للشیخ الأعظم 508/1 ط مجمع الفکر الإسلامی .
4- (4)) سورة آل عمران : 191 .

و أن الأئمة تمسّکوا بها ، و کذا الفقهاء من الشیخ الطوسی إلی الشیخ الأنصاری .

الوجه الثانی

إن الإطلاق و التقیید فی العبادات إنما یلحظان بالنسبة إلی المأمور به و متعلّق الأمر ، لا بالقیاس إلی المسمّی ، ضرورة أن الإطلاق أو التقیید فی کلام الشارع أو غیره إنّما یکون بالقیاس إلی مراده و أنه مطلق أو مقیّد ، لا إلی ما هو أجنبی عنه ، و علی هذا ، فلا فرق بین القولین ، فکما أن الصحیحی لا یمکنه التمسّک بالإطلاق فکذلک الأعمّی ، أمّا الصحیحی فلعدم إحرازه الصّدق علی الفاقد لِما شُک فی اعتباره جزءاً أو شرطاً ، لاحتمال دخله فی المسمّی ، و أمّا الأعمّی فلأجل أنه یعلم بثبوت تقیید المسمّی بالصحة و أنها مأخوذة فی متعلَّق الأمر ، فإن المأمور به حصّة خاصّة من المسمی ، و هی الحصّة الصحیحة ، ضرورة أن الشارع لا یأمر بالحصّة الفاسدة و لا بما هو الجامع بین الصحیح و الفاسد ، وعلیه ، فلا یمکن التمسّک بالإطلاق عند الشکّ فی جزئیّة شیء أو شرطیّته ، للشک حینئذٍ فی صدق المأمور به علی الفاقد للشیء المشکوک فیه کما هو واضح ، فلا فرق بین أنْ تکون الصحّة مأخوذةً فی المسمّیٰ و أن تکون مأخوذةً فی المأمور به ، فعلی کلا التقدیرین لا یمکن التمسّک بالإطلاق ، غایة الأمر ، إن الشک فی الصدق علی الصحیح هو من جهة أخذ الصحّة فی المسمّی ، و علی الأعمّ هو من جهة العلم بتقیید المأمور به بالصحّة لا محالة .

و بعبارة موجزة : إنه بناءً علی الأعم یمکن التمسّک بالإطلاق من حیث الوضع ، و أمّا من حیث الأمر فلا یمکن ، و یکون الکلام مجملاً .

الجواب

و فیه : إنه بناءً علی الأعم ، یکون الموضوع له و المسمّی هو الجامع بین

ص:282

الصحیح و الفاسد ، و من الإطلاق و عدم التقیید لمتعلَّق الأمر بخصوص المشکوک فیه نستکشف أنّ ما تعلَّق به الطلب هو تمام المأمور به ، فنفس الإطلاق رافع للشک فی دخل المشکوک فیه فی متعلَّق الأمر ، و لو لم یرفع الإطلاق هذا الشک لکان الإشکال وارداً ، فالمسمّی و الموضوع له - بناءً علی الأعم - معلوم و المأمور به مجهول ، و متی شکّ فی اعتبار أمرٍ یتمسّک بإطلاق متعلَّق الطلب لإثبات عدم دخل المشکوک فیه فی المأمور به ، و لازم هذا هو أنّ ما تعلَّق به الطلب تمام المأمور به ، و من المعلوم حجیّة مثبتات الاصول اللفظیّة ... و إذا ثبت هذا کلّه بأصالة الإطلاق ، فإنه لا یعامل معاملة المجمل ، بخلاف القول بالصحیح ، فإنه بناءً علیه یکون الشک فی ذلک موجباً للشک فی تحقّق المسمّی ، و لا یوجد عندنا دلیل یحدّد ما هو المسمّی ، و مع الشک فی تحقّقه لا یمکن التمسّک بالإطلاق ، بخلاف القول بالأعم فإنه ممکن ، و بین الأمرین بون بعید .

الوجه الثالث

إنه لا حاجة إلی التمسّک بالإطلاق علی کلا القولین ، بعد أنْ کانت صحیحة حمّاد مبیّنةً لجمیع ما یعتبر فی الصلاة ، فکلّما شک فی اعتبار شیء زائد تمسّکنا بها و زال الشک ، فلا ثمرة للبحث .

الجواب

و اجیب : بأن الإطلاق فی صحیحة حماد مقامی ، و البحث فی الإطلاق اللّفظی .

و فیه : إنه مع فرض وجود الإطلاق المقامی ، لا حاجة إلی تحصیل الإطلاق اللفظی بهذا البحث ، إلّا لأجل ضمّ دلیلٍ إلی دلیل .

ص:283

و الحق فی الجواب :

أوّلاً : إن الصحیحة مختصة بالصلاة ، و بحثنا عام .

و ثانیاً : لا ریب فی اشتمال الصحیحة علی مندوبات إلی جنب واجبات الصلاة ، فلو وقع الشک فی وجوب شیء ممّا اشتملت علیه أو استحبابه ، لم یجز التمسّک بإطلاق الصحیحة لدفع وجوبه ، أمّا إذا تمّ بحث الصحیح و الأعم تمسّکنا بالإطلاق اللّفظی و أسقطنا قسطاً ممّا اشتملت علیه عن الوجوب ، و من هنا أمکن لنا رفع الید عن وجوب الأذکار و الأدعیة التی أتیٰ بها الإمام فی الصحیحة ، و إلّا فلو کنا نحن و الصحیحة لقلنا بوجوبها کذلک .

و علی الجملة ، إنه لو کنّا نحن و الصحیحة لوجب القول بوجوب جمیع ما جاء فیها ، لکنّ التمسّک بالإطلاق بناءً علی الأعم هو طریق القول باستحباب الأدعیة و الأذکار و غیرها من المستحبات المشتمل علیها الصحیحة .

هل بحث الثمرة مسألة اصولیة ؟

لا یخفی أن الملاک فی کون مسألةٍ اصولیّة أمران :

1 - وقوع نتیجتها فی طریق الاستنباط ، بأنْ یکون الحکم الفقهی الکلّی نسبته إلیها نسبة المستنبَط إلیٰ المستنبط منه .

2 - استنباط الحکم الشرعی من نتیجتها ، من دون حاجةٍ إلی مقدمة اخری اصولیّة أو غیر اصولیّة .

و من هنا کان المشهور المعروف کون هذا البحث من مبادئ علم الاصول لا من مسائله ، لأنّ نتیجة البحث فی الثمرة الاولی أنه علی الصحیح تتحقّق صغری قاعدة الاشتغال ، و علی الأعم تتحقّق صغری البراءة .

لکن هذه النتیجة لا تحصل إلّا بعد تمامیّة بحث الانحلال و عدمه ، فی

ص:284

دوران الأمر بین الأقل و الأکثر فی متعلَّق التکلیف .

و کذا الکلام فی الثمرة الثانیة ، فإنّها لا تترتّب إلّا بعد ضمّ مقدّمة حجیّة أصالة الإطلاق التی هی مسألة اصولیّة .

إذن ، لیس البحث عن الثمرة بحثاً عن مسألة اصولیّة ، للاحتیاج إلی ضمّ مقدمة اخری ... نظیر قولنا « فلان ثقة » فإنّه لا ثمرة له إلّا بعد إثبات حجیّة خبر الثقة .

هذا وجه القول المشهور .

و لکنّ التحقیق : أنه إنْ کانت المقدمة الاخری مسلَّمةً لا حاجة فی إثباتها إلی تجشّم مئونة البحث و الإثبات ، فتوقّفها علیها لا یخرجها عن کونها اصولیةً ، و الثمرة الثانیة من هذا القبیل بلا إشکال ، لأنه بحث عن احدی صغریات الظهور ، و حجیّة أصالة الظهور مسلَّمة عند جمیع العقلاء من دون حاجةٍ إلی الإثبات ، فالمقام نظیر البحث عن ظهور صیغة الأمر فی الوجوب ، فإنها مسألة اصولیّة مع أن الحکم الشرعی لا یستفاد منها إلّا بعد انضمام أن « الظاهر حجّة » إلیها ، فکما أن هذه المسألة اصولیّة ، کذلک بحثنا عن الثمرة .

علی أن غرض الاصولی هو الاقتدار علی الاستنباط ، و کلّ مسألةٍ لم یبحث عنها فی غیر علم الاصول ، و توقّف علیها الاستنباط ، فهی مسألة اصولیّة ، و ما نحن فیه من هذا القبیل .

الموضوع له لفظ الصلاة

قد ذکر المحقق الخراسانی أربعة أدلّة للوضع للصحیح هی : التبادر ، عدم صحّة السّلب ، و الروایات مثل « الصوم جُنّة من النار » (1) ، و طریقة العقلاء

ص:285


1- (1)) وسائل الشیعة 395/10 ، الباب 1 من أبواب الصوم المندوب ، رقم : 1 .

فی التسمیة .

و التحقیق أن لا شیء منها بصحیح .

و علی الجملة ، فإنّه لم یتم تصویر الجامع علی القول بالصحیح .

و الممکن ثبوتاً هو الوضع للأعم ، و الدلیل علیه فی مقام الإثبات هو تبادر الجامع بین الصحیح و الفاسد من لفظ « الصلاة » ، فقول الشیخ و المیرزا لا یمکن المساعدة علیه ، و إلّا لزم حمل جمیع إطلاقات الکتاب و السنّة علی المجاز .

فالتبادر دلیل علی الوضع للأعم عند المتشرّعة ، و عند الشارع ، فإنْ قوله علیه الصّلاة و السلام : « لا صلاة إلّا بفاتحة الکتاب » (1) نفی للمعنی ادّعاءً عند العلماء و لیس حقیقةً ، و هذا معناه کون لفظ الصّلاة صادقاً علی الحصّة الفاسدة حقیقةً ، و إلّا لما أمکن نفی کونها صلاةً ادّعاء .

فالموضوع له لفظ « الصّلاة » أعم من الصحیح و الفاسد .

و کما لم یتم مختار الشیخ و المیرزا ، کذلک لم یتم مختار المحقق القمی و من تبعه من أنّ الموضوع له هو الأرکان لا بشرط ...

و قد کان أسلم المبانی مختار السید البروجردی ...

لکن المهمّ هو الرجوع إلی اللّغة و إطلاقات الکتاب و السنّة کما أشرنا .

و المستفاد من کلمات اللّغویین أن « الصلاة » قد اطلقت بمعنیین ، أحدهما : الدعاء و الآخر : التعظیم ، حتی قیل فی : صلیت الحدید بالنار ، انّ المعنی تلیینه ، أی حصول اللینة و الخشوع فی الحدید .

لکن محلّ الکلام هو مادّة « ص ، ل ، و » لا مادّة « ص ، ل ، و هوانه»

ص:286


1- (1)) غوالی اللآلی 196/1 ، رقم : 2 .

فالصّلاة تارة بمعنی الدعاء ، و اخری بمعنی التعظیم . هذا لغةً .

و فی الشّرع یمکن أن یکون هو المعنی ، و أمّا الأجزاء ، فإنّما اعتبرها فی متعلَّق الأمر ، و کذلک لفظ « الصّیام » و « الحج » و غیرهما ، لکنّ المشکلة فی لفظ « الصّلاة » ما جاء فی بعض الروایات من جعل « الدعاء » جزءاً من أجزائها ، فهذا یمنعنا من القول بأنّ الموضوع له شرعاً هو الدعاء أیضاً ، و لو لا ذلک ، فإن إطلاقات الکتاب أیضاً تناسب أن یکون المعنی هو التخشّع و الدعاء کما فی اللّغة ، و أنّ هذا اللّفظ فی الأدیان السابقة أیضاً کان بهذا المعنی .

و قد وقع البحث بین الفقهاء فی حقیقة صلاة المیّت ، و الذی یفیده النظر الدقیق فی الأخبار أنها صلاة حقیقةً ، و من المعلوم اشتمالها علی الدعاء و التخشّع ، و عدم وجود الرکوع و السجود فیها ، ففی الصحیحة : « إنها لیست بصلاةِ رکوعٍ و سجود » (1) فهی صلاةٌ لکن لا صلاة رکوع و سجود .

و من هذه الأخبار أیضاً یظهر أن ذات الأرکان قسمٌ من الصّلاة ، لا أن لفظ الصّلاة موضوع لها فقط ... نعم ، هی معتبرةٌ فی متعلَّق الأمر .

و لو قیل : إنَّ صحیحة الحلبی : « الصلاة ثلاث أثلاث : ثلث طهور ، و ثلث رکوع ، و ثلث سجود » (2) ظاهرة فی دخل الرکوع و السجود فی المسمّیٰ الموضوع له لفظ الصّلاة .

قلنا : فقوله علیه السلام « ثلث طهور » مانعٌ من هذا الاستظهار ، للقطع بعدم کون الطّهور من أجزاء الصّلاة .

فحقیقة الصلاة - بالنظر إلی إطلاقات الکتاب و السنّة - هو التعظیم

ص:287


1- (1)) وسائل الشیعة 90/3 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام ، الباب 8 من أبواب صلاة الجنازة ، رقم : 1 .
2- (2)) وسائل الشیعة 310/6 ، الباب 9 من أبواب الرکوع و السجود ، رقم : 1 .

الجوارحی قولاً و فعلاً ، و حدّها صلاة الخوف .

و لا ینافی ذلک صدق عنوان الصلاة مع وجود ما یزید علی التعظیم و التخشّع ، فإنّ من الماهیّات ما هذا حاله ، کالعدد ، فإنّه یصدق علی الواحد ، فإنْ زاد و صار اثنین صدق أیضاً بلا فرق ، و کذا « الجمع » ، فإنه مفهوم یصدق علی المراتب المختلفة ... و لا یلزم المجاز .

و قد سمّیت صلاة الخوف باسم « الصلاة » فی جمیع الکتب الفقهیّة ، و لا یصح سلب عنوان « الصلاة » عنها ، ممّا یدل علی کونه حقیقةً فیها .

ص:288

الکلام فی ألفاظ المعاملات و التمسّک بالإطلاق فیها
اشارة

و هو فی مقامین

المقام الأول

هل یجری البحث المذکور فی ألفاظ المعاملات کذلک ؟

هل إن ألفاظ المعاملات موضوعة للأسباب أو للمسبّبات ؟

فی هذا المقام أقوال :

1 - قال المشهور : بأنّ نسبة لفظ « بعت » إنشاءً إلی المنشأ ، هی نسبة السبب إلی المسبّب ، یعنی : إن صاحب الإنشاء یرید السبب ، ثم یترتب المسبّب علی السبب ، فالإرادة غیر متعلّقة إلّا بالسبب ، و ترتب المسبّب علیه ضروری کترتّب المسبّبات علی الأسباب التکوینیّة .

و لا فرق فی السببیّة بین قول بعت ، و بین المعاطاة .

2 - و قال المیرزا النائینی : بأنّ النسبة هی نسبة الآلة إلی ذی الآلة ، لا السبب إلی المسبب ، لأن ما یتعلَّق به القصد أوّلاً و بالذات هو معنی التملیک و التملّک ، و یکون اللّفظ أو الفعل آلةً لتحقّقه و حصوله .

3 - و قال السید الخوئی : بأن النسبة هی نسبة المبرِز إلی المبرَز ، فالمعانی المقصودة فی المعاملات اعتبارات مبرَزة ، و من الاعتبار و إبرازه ینتزع عنوان المعاملة ، ففی البیع مثلاً یعتبر البائع ملکیّة المثمن للمشتری بإزاء الثمن

ص:289

المعیَّن ، ثم یبرز الاعتبار بلفظ « بعت » و هکذا .

هذا ، و لا یخفی أنّ صیغة البیع - مثلاً - لیست البیع ، و هی مرکبةٌ من الإیجاب و القبول ، فالسبب أو الآلة أو المبرِز - علی جمیع المبانی - مرکّب ، لکنّ ما یحصل بالصّیغة - و هو المسبب ، أو ذو الآلة ، أو الاعتبار المبرز - أمر بسیط ، و هو البیع ، و کذا الطلاق ، و النکاح و غیرهما من عناوین المعاملات ، فإنها بسائط ، و أمر البسیط یدور بین الوجود و العدم .

و لا یخفی أیضاً : أن المراد من الصحیح هنا هو الأعم من التامّ الأجزاء و الشرائط و مما یترتّب علیه الأثر شرعاً ، فلیس المراد منه خصوص التامّ الأجزاء و الشرائط ، کما أنّ المراد من الفاسد هو الأعم ممّا لیس تامّاً من حیث الأجزاء و الشرائط .

جریان البحث علی جمیع الأقوال

فنقول فی القول الأوّل ، بأن المسبَّبات فی العقود و الإیقاعات من صیغها الخاصّة کالبیع و الطلاق امور اعتباریّة ، و هذا الاعتبار لا یخلو ، إمّا أن یکون اعتبار نفس المنشئ للصّیغة ، أو یکون اعتبار العقلاء ، أو یکون اعتبار الشارع ، و هذه الاعتبارات قد تجتمع و قد لا تجتمع ، فلو باع ما لا مالیّة له عند العقلاء ، فقد تحقّق البیع فی اعتباره ، دون اعتبار العقلاء و الشارع ، و لو باع بیعاً ربویّاً تحقّق البیع فی اعتباره و اعتبار العقلاء دون الشارع ، و قد تجتمع الاعتبارات الثلاثة ، کما فی المعاملة الجامعة للشرائط المؤثرة شرعاً .

فإن قلنا : بأن البیع اسم للمسبّب فی اعتبار المنشئ فقط ، جری فیه بحث الصحیح و الأعم ، لما ذکرنا فی معنی الصحّة و الفساد ، إذ بناءً علیه یکون صحیحاً فیما لو رتّب العقلاء و الشارع الأثر علی اعتبار المنشئ ، و یکون فاسداً

ص:290

فیما إذا لم یرتّبوا الأثر .

و کذا إن قلنا : بأنه اسم للمسبّب فی اعتبار العقلاء ، فإن ترتّب الأثر موقوف علی اعتبار الشارع ، فیکون صحیحاً ، و إلّا فهو فاسد .

فیکون المسبب - و هو البیع - إمّا باعتبار المنشئ و إمّا باعتبار العقلاء ، و أمّا باعتبار الشارع فباطلٌ ، لأن الشارع شأنه شأن الإمضاء ، و لا تأسیس له فی المعاملات .

لکنّ التحقیق أنه باعتبار المنشئ فقط ، لأنه فعله ، و هو البائع ، أو الموجر ، أو المطلِّق ... و هکذا .

و تلخّص : إن البحث علی مبنی المشهور جارٍ فی ألفاظ المعاملات .

و هو أیضاً جارٍ علی القول الثانی ، و هو مبنی المیرزا ، لأن نسبة « بعت » إلی ما یتحقق به - و هو « البیع » - نسبة الآلة إلی ذی الآلة ، وعلیه ، فالمتحقّق بتلک النسبة إمّا یکون فی اعتبار المنشئ للصّیغة و إمّا یکون فی اعتبار العقلاء ، أمّا اعتبار الشارع فلا یوجد ، و کلّ منهما یتّصف بالصحّة و الفساد .

و کذلک الحال علی القول الثالث ، و هو مبنی السید الخوئی ، فإنّه یتّصف بالصحّة و الفساد أیضاً ، لأن ذلک الأمر یکون قائماً باعتبار المنشئ قطعاً ، لأن لفظ « بعت » یصیر بناءً علی ذلک مبرزاً لعمله النفسانی ، و هو الذی یعتبر الزوجیّة بین هند و زید ، ثم یبرز اعتباره بقوله : « زوّجت » ... و هکذا ، ثم هذا الاعتبار یکون نافذاً عند العقلاء تارةً و اخری غیر نافذ ، فإن کان نافذاً عدّ صحیحاً عقلائیّاً ، ثم الشارع تارةً ینفّذه فیکون صحیحاً شرعیّاً ، و إلّا ففاسداً .

فظهر : أنّ البحث یجری فی ألفاظ المعاملات علی جمیع المبانی .

ص:291

المقام الثانی

فی عدم جواز التمسّک بالإطلاق فی ألفاظ المعاملات حتی علی القول بالوضع للأعم .

و ذلک ، لأن الإطلاقات لو کانت إمضاءً للأسباب ، أمکن التمسّک بها ، لأنّ الشارع لمّا أمضی سبب حصول الملکیّة أو الزوجیّة مثلاً ، و لم یقیّده بقیدٍ ، فمقتضی الإطلاق نفی القید لو شکّ فی اعتباره ، لکنّ الأدلّة ناظرة إلی إمضاء المسبّبات دون الأسباب .

إذن ، لا مجال للتمسّک بالإطلاق فی ألفاظ المعاملات ، لکون الأدلّة ناظرة إلی إمضاء المسبّبات لا الأسباب . و توضیح ذلک : إن الأدلّة لسانها لا یوافق إمضاء الأسباب ، فلا معنی لأن یقال فی قوله تعالی «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ » (1)بأنه أمر بالوفاء بصیغة « بعت » مثلاً ، بل الوفاء یناسب ما تحقّق بالصیغة و هو المسبب ، و قوله صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم « النکاح سنّتی » لیس معناه إلّا تلک العلقة الحاصلة بقوله : « أنکحت » .

و إذا کانت الأدلّة ناظرة إلی المسبّبات ، فللمسبّبات وجودات مستقلّة عن الأسباب ، و أن إمضاء أحدهما لا یلازم إمضاء الآخر ، لجواز إنفاذ الشارع المسبّب دون السبب ، کأنْ یأمر بالقتل لکنْ لا بسبب المثلة مثلاً ، فالمسبب مطلوب لکنه لا یلازم مطلوبیّة کلّ سبب ، و إذ لا ملازمة ، فاللّازم هو الأخذ بالقدر المتیقّن .

و تلخّص : عدم ترتّب الثمرة علی البحث .

و قد ذکر المیرزا : بأنّ الثمرة تترتب بإمکان التمسّک بالإطلاق ، بناءً علی

ص:292


1- (1)) سورة المائدة : 1 .

مسلکه من کون النسبة نسبة الآلة إلی ذی الآلة ، بدعوی أن الآلة و ذا الآلة موجودان بوجودٍ واحد ، فیکون الإمضاء لذی الآلة إمضاءً للآلة .

و فیه : إن الاتّحاد إمّا تکوینی و إمّا اعتباری ، أمّا الأول فمحال هنا ، لأن الآلة فی البیع هی الصیغة ، و هی أمر تکوینی ، لکونها من مقولة الکیف ، و إنْ کان بالمعاطاة ففعل تکوینی ، أمّا البیع فأمر اعتباری ، و الاتحاد بین الأمر التکوینی و الأمر الاعتباری محال . و أما الثّانی فأمر ممکن ، کاتّحاد التعظیم مع الانحناء أو القیام ، إذ یتحققان بوجودٍ واحد ، فالاتّحاد الاعتباری بین الآلة وذی الآلة ثبوتاً لا إشکال فیه ، إلّا أن مقام الإثبات لا یساعده ، إذ لا یری أحدٌ الاتحاد بین « بعت » و « البیع » و لا یعتبرون « أنکحت » زوجیّةً ...

بل إن الاتّحاد بین الآلة وذی الآلة فی التکوینیات أیضاً غیر ممکن ، فالآلة هی « المفتاح » و ذو الآلة « الفتح » ، و أین الاتحاد بین الفتح و المفتاح ؟

و کذا الحال بین المنشار و النشر ... و هکذا .

و تلخّص : إن مشکلة التمسّک بالإطلاق لم تنحل بمبنی المیرزا .

فلنرجع إلی أصل البحث علی جمیع المبانی ، فنقول :

لقد ذهب صاحب ( الکفایة ) إلی أنّ ألفاظ المعاملات إن کانت موضوعة للمسبّبات ، فلا مجال لبحث الصحیح و الأعم فیها ، و إن کانت موضوعة للأسباب فله مجال ، و قد تبع المحقق صاحب ( الحاشیة ) فی أن ألفاظ المعاملات موضوعة للأسباب المؤثرة واقعاً ، فههنا بحثان .

البحث الأوّل

هل یوجد فی المعاملات سبب واقعی مؤثّر فی الملکیّة ؟

إنه إن کان یوجد ، فإنّ الاختلاف بین العقلاء و الشارع یکون فی التطبیق

ص:293

علی المصادیق فقط ، فهل یوجد ، أو أنه لیس إلّا الاعتبار العرفی ؟

قال صاحب ( الحاشیة ) بالأوّل و تبعه صاحب ( الکفایة ) .

و علی هذا المبنی لا یمکن التمسّک بالإطلاق اللّفظی ، لأنه فی کلّ موردٍ یشکّ فی دخل شیء فی التأثیر فلا بدَّ من الاحتیاط ... إلّا أن المحقق المذکور یری جواز التمسّک بالإطلاق المقامی ، من جهة أن الشارع لمّا قال «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ » (1)فهو فی مقام البیان للسبب المؤثّر ، فلو أنه لا یمضی ما هو المؤثر عند العرف لزم علیه بیان تخطئته للعرف و التصریح بذلک ، و إذ لا بیان ، فهو موافق لهم فی التطبیق .

قال شیخنا الاستاذ :

و فیه : إن أصل المبنی غیر صحیح ، لأن سببیّة إنشاء البیع لیست من الامور الواقعیّة التکوینیّة ، بل هی اعتباریّة ، و لا معنی للتخطئة و التصویب فی الامور الاعتباریّة .

البحث الثانی

إنه بعد التنزّل عن الإشکال فی المبنی ، فهل یمکن التمسّک بالإطلاق أو لا ؟

و الحق : تمامیّة التمسّک بالإطلاق بالبیان المتقدّم ، فإن برهان حفظ الغرض یثبت أن الشارع أمضی طریقة أهل العرف فی التطبیق .

هذا علی مبنی صاحب ( الکفایة ) .

و أمّا علی مبنی المشهور ، فنقول بعد الفراغ عن کون المولی فی مقام البیان :

ص:294


1- (1)) سورة البقرة : 275 .

إنه و إنْ کان لفظ « البیع » موضوعاً للمسبب ، أی للحاصل من الصیغة ، لکنّ کلّ مسبّب قابل للانقسام من ناحیة السبب ، فمع الشک فی اعتبار العربیّة - مثلاً فی السبب ، یکون للمسبب فردان ، و اللّفظ موضوع للجامع بینهما ، فالبیع الحاصل من اللّفظ الفارسی قسم من البیع ، و إذا احرز صدق لفظ البیع علیه و کان سائر مقدمات الحکمة محرزاً متوفّراً ، فلا محالة یتمّ الإطلاق ، و یندفع الشک فی اعتبار العربیّة .

و علی الجملة ، فإن الإمضاء و إن کان متوجّهاً إلی المسبّب ، لکن المسبّب أصبح ذا حصص بتبع الأسباب ، و مع توفّر المقدّمات یتم الإطلاق .

و أما علی مبنی المیرزا ، بعد الفراغ عن التغایر وجوداً بین الآلة وذی الآلة ، فإن نفس الکلام المتقدّم فی المسبب آتٍ ، فقد یشک فی أن المقصود هو الفتح بهذا المفتاح الخاص أو لا ؟ فذو الآلة ینقسم و یتعدّد بتعدّد الآلة ، نعم ، الفرق بین المسلکین هنا هو : إنه لو کان المسمّی هو السبب ، فإن الإطلاق یرفع الشک بالمطابقة فیه رأساً ، أمّا لو کان هو المسبب أو ذو الآلة ، فإنّ الإطلاق یزیل الشک - من حیث اعتبار العربیّة مثلاً - بالالتزام .

و أما علی مبنی الاعتبار و الإبراز ، فقد ذُکر أنّ البیع مرکَّب من الاعتبار و الإبراز ، و الشارع قد أمضی ذلک و لم یقیّده بقیدٍ ، و المفروض صدقه علی الفارسی کالعربی ، و المفروض أیضاً کون الشارع فی مقام البیان ، فلا إشکال فی الإطلاق .

قال شیخنا :

لا إشکال فی الإطلاق کما ذکر .

إلّا أن الإشکال فی أصل المبنی ، إذ المعاملات کلّها إنشائیّات ، فالبیع

ص:295

أمر یتحقق بالإنشاء ، فلو کان الإنشاء - أی الصیغة - جزء للبیع ، کیف یعقل إنشاء البیع - المرکّب من الاعتبار و الصیغة - بالصیغة ؟

و قد کان هذا إشکال الشیخ علی المحقق الکرکی فی تعریف البیع .

و علی الجملة ، فإنه مع غض النظر عمّا فی المبنی ، فالإطلاق تام .

و تلخّص : تمامیّة الإطلاق علی جمیع المبانی ، و هذا ما استقر علیه رأی الاستاذ فی الدورة اللّاحقة .

بقی الکلام فی تفصیل المحقق الأصفهانی .

قال رحمه اللّٰه فی ( حاشیة المکاسب ) ، فی التمسّک بالإطلاق اللفظی فی أسماء المعاملات ، بناءً علی کونها أسماء للمسبّبات (1) ، ما حاصله :

إن الأدلّة الشرعیّة فی أبواب المعاملات علی قسمین ، قسمٌ منها : ما جاء بلسان الإمضاء ، و قسم منها : ما جاء بلسان ترتّب الأثر وضعاً أو تکلیفاً ، فیدلّ علی الإمضاء بالدلالة الالتزامیة .

فما کان من القسم الأول فالتمسّک بإطلاقه ممکن ، و ما کان من القسم الثانی فلا ، بل یتمسّک فیه بالإطلاق المقامی ، و مقتضاه نفوذ جمیع الأسباب و تأثیرها .

توضیح ذلک : إن من الأدلّة ما لسانه لسان الإمضاء ، کقوله تعالی «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ » و ذلک ، لأن المراد من « البیع » فیه هو البیع العرفی ، إذ لا معنی لأن یقال أحلّ اللّٰه البیع الشرعی ، لأنّ ما کان حلالاً فلا یقبل الحلیّة ، فالآیة إنما جاءت إمضاءً لِما هو عند العرف .

لکنّ نفس هذا العنوان ، و إنْ کان مسبّباً ، إلّا أنّه بإضافته إلی الأسباب

ص:296


1- (1)) حاشیة المکاسب 182/1 الطبعة المحقّقة الحدیثة .

یتحصّص ، فالبیع الحاصل بسبب المعاطاة حصّة من البیع ، و الحاصل من الصّیغة حصّة اخری ، فهو عنوان جامع .

فلمّا جاء دلیل الإمضاء علی المسبّب ، کان مقتضی الإطلاق فیه إمضاء المسبب بجمیع حصصه ، و إلّا لقیَّد الدلیل بکونه عن الصیغة مثلاً ، ...

فالتمسّک فی هذا القسم بلا إشکال .

و هذا الذی ذکره فی هذا القسم موجود عند المحقق العراقی و غیره .

و أمّا ما ذکره فی القسم الثانی فلم یقله غیره ، و هو ما إذا کان الدلیل لسانه لسان ترتیب الأثر تکلیفاً أو وضعاً ، کما لو قال : إذا بعت وجب علیک الوفاء بالعقد و تسلیم المبیع - و لا یخفی أن مقتضی مناسبة الحکم و الموضوع أن یکون موضوع الأثر هو البیع الشرعی ، لأن الشارع لا یرتّبه علی البیع أو النکاح أو ... غیر الشرعی - فإنه مع الشک فی دخل شیء فی ترتّب الأثر لا مجال للتمسّک بالإطلاق اللّفظی ، بل تصل النوبة إلی الإطلاق المقامی ، بتقریب : أن الشارع حکم بترتیب الأثر علی البیع ، و قد علم أنه البیع الشرعی ، لکنّه لم یبیّن البیع الشرعی و لم یعرّفه مع کونه فی مقام البیان و تعریف الموضوع المترتب علیه الحکم ، فیظهر أنّ جمیع حصص البیع عنده موضوع لترتّب الأثر الشرعی ، و کلّها ممضاة عنده .

هذا کلامه قدّس سرّه .

و قد تنظّر فیه شیخنا الاستاذ فقال : بأنّ دلیله علی سقوط الإطلاق اللّفظی فی القسم الثانی لیس إلّا قوله : إن اللّسان إذا کان لسان ترتیب الأثر فما یترتّب علیه الأثر هو البیع الشرعی ، و هو دلیل صحیح بحسب لبّ الواقع ، لأنّ ما لم یکن مورداً للإمضاء الشرعی فلا یترتب علیه الأثر ، لکنّ البحث إنما هو

ص:297

بحسب ظاهر لسان الدلیل ، فهل یوجد تقیید بالشرعیّة فیه ؟

إنه لو کان التّضییق الواقعی موجباً لتضییق موضوع القضیّة الشرعیّة ، بأنْ یکون قوله : « إذا بعت متاعک وجب علیک تسلیمه » راجعاً إلی : إذا بعت متاعک بیعاً شرعیّاً وجب علیک تسلیمه ، کان لما ذکره مجال ، و إلّا کان الموضوع فی هذه القضیة کما هو فی «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ ».

و التحقیق هو عدم التضیّق ، لأن « البیع » فی هذه القضیّة هو البیع عند العرف ، و قد دلّ قوله : « یجب التسلیم » بالدلالة المطابقیّة علی ترتیب الأثر علیه ، و بالالتزامیّة علی الإمضاء ، فالإمضاء لیس فی مرتبة الموضوع بل هو لازم المحمول ، و حینئذٍ یکون هذا اللّازم مقیّداً للموضوع بحسب الواقع ، أمّا بحسب الدلیل فلا .

و لمزید التوضیح قال دام بقاه : إن الشارع لمّا قال «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ » لم یرد مطلق « البیع » الصحیح منه و الفاسد بحسب الواقع ، بل یرید الصحیح فقط ، لکن التقیّد الواقعی غیر مقیّد للموضوع فی ظاهر کلامه ، لأن هذا التقیّد إنما جاء من جهة « أحلَّ » و کذلک الحال فی قوله : إذا بعتَ وجب علیک التسلیم ، حیث اللّسان لسان ترتیب الأثر ، فإن المراد هو البیع الصحیح الشرعی دون غیره ، لکن هذا التقیّد إنما جاء من ناحیة « یجب » و هذا التقیّد الآتی من ناحیة المحمول لا یقیّد الموضوع ، سواء فی هذه القضیّة أو تلک ، لأن مدلول الموضوع بما هو موضوع مقدَّم رتبةً ، و مدلول المحمول بما هو محمول فی رتبةٍ متأخّرة ، بلا فرقٍ بین القسمین . فالتفصیل غیر صحیح .

بل المراد من « البیع » فی القسمین هو البیع العرفی .

هذا کلّه حلّاً .

ص:298

و یرد علیه النقض بألفاظ العبادات ، فإن الموضوع فی « صلّ » هو الصلاة ، لکن وجوبها یقیّدها بالصلاة الصحیحة ، لعدم توجّه الوجوب إلی الحصّة الفاسدة أو الجامع بین الفاسدة و الصحیحة ، فمع الشک یلزم سقوط الإطلاق اللّفظی .

ثم علی فرض التنزّل عن الإشکال المذکور ، نقول : هل یمکن التمسّک بالإطلاق المقامی فی القسم الثانی بعد سقوط الإطلاق اللّفظی .

إن مناط الإطلاق المقامی - کما سبق کون المولی فی مقام البیان و عدم نصبه القرینة علی إرادة حصّةٍ معیّنة ، فلو لم یؤخذ بإطلاق کلامه لزمت اللّغویة.

لکنّ هذا موقوف علی عدم وجود القدر المتیقّن ، و فی المعاملات یوجد القدر المتیقَّن ، و هو کون البیع بالعربیّة ، وعلیه یحمل إطلاق : « إذا بعت وجب علیک التسلیم » ، و علی الجملة : فإن مناط الإطلاق المقامی لزوم اللّغویّة ، لکنّها غیر لازمة مع وجود القدر المتیقن و الأخذ به .

و قوله رحمه اللّٰه بأنّ الإمضاء لازم ترتیب الأثر .

فیه : إن اللّازم متأخّر عن الملزوم ، و ترتیب الحکم متأخّر عن الموضوع و متعلَّق الحکم ، و ما کان متأخراً عن الشیء بمرتبتین یستحیل أخذه فی المقدَّم علیه بمرتبتین .

هذا ، و التحقیق : أن المراد من « البیع » فی لسان الأدلّة هو البیع العرفی ، و الموضوع له هذا العنوان هو الجامع بین الصحیح و الفاسد ، بمناط صحّة تقسیمه إلیهما ، وعلیه ، فالتمسّک بالإطلاق اللّفظی - فی موارد الشک فی دخل شیء فی صحّة البیع شرعاً - صحیح ، بالنظر إلی ما أوردناه علی کلام هذا المحقّق .

ص:299

ص:300

الاشتراک

اشارة

ص:301

ص:302

هل الاشتراک ممکن أو لا ؟ أقوال :

قولٌ باستحالة الاشتراک .

و قولٌ بوجوبه .

و قولٌ بإمکانه .

دلیل القول الأوّل

لا شبهة فی الإمکان الذاتی للاشتراک ، فهو لیس کشریک الباری و اجتماع النقیضین مما هو ممتنع بالذات ، بل الکلام فی الاستحالة الوقوعیّة أو الاستحالة من الحکیم .

فالمستفاد من کلام المحقق النهاوندی فی ( تشریح الاصول ) (1) هو : إن الوضع جعل الملازمة بین اللّفظ و المعنی ، فیلزم جعل ملازمتین مستقلّتین عرضیّتین ، إحداهما : بین لفظ القرء و الطهر ، و الاخری : بین لفظ القرء و الحیض ، فیلزم من إطلاق لفظ القرء حضور المعنیین إلی الذهن .

و فیه :

أوّلاً : إنه مبنیّ علی کون حقیقة الوضع جعل الملازمة بین اللّفظ و المعنی ، و أمّا علی سائر المبانی فلا محذور .

ص:303


1- (1)) تشریح الاصول : 47 .

و ثانیاً : أیّ محذور یترتّب حتی علی المبنی المذکور ؟ إنّ الملازمة بین اللّفظ و المعنی لیست فعلیّة ، بل هی اقتضائیة ، کما نبّه علیه المحقق الأصفهانی ، بمعنی أنه لو حصل العلم بالملازمة ، فإن التلازم بین اللّفظ و المعنی یوجب حضور المعنی عند الذهن عند التلفّظ بالکلمة ، و جعل اقتضائین فی لفظٍ واحدٍ لا یترتب علیه أیّ محال ، لأن معنی الامتناع الوقوعی هو لزوم أمر ممتنع من وقوعه ، بل إن حضور المعنیین ممکن بل واقع ، لأن کلّ تصدیقٍ یتوقّف علی حضور الموضوع و المحمول و النسبة و الحکم ، و کلّ هذه الامور تحصل عند النفس فی آن واحد ، إذْ النفس الإنسانیة لیس کالموجودات المادیّة التی لا تقبل صورتین فی آن واحد .

و استدلّ للاستحالة أیضاً : بأنّ الواضع حکیم ، و الغرض من الوضع هو التفهیم ، و الاشتراک ملازم للإجمال ، و هو ینافی التفهیم ، فوقوع المشترک - لکونه نقضاً للغرض - محال من الحکیم .

و قد اجیب عنه بوجهین فی ( الکفایة ) و غیرها :

الأول : إنه لا یلزم نقض الغرض ، لإمکان حصول التفهیم بالقرینة کما فی المجاز .

و أشکل علیه شیخنا : بأنّ الاشتراک بنفسه موجب للإجمال ، و القرینة کما ذکر رافعة له ، إلّا أن الکلام فی حکمة ذلک ، و أنه ما الغرض من إیجاد المنافی للغرض ثم رفع المنافی بإقامة القرینة ... لقد کان لهذا حسنٌ فی باب المجاز ، فما الدلیل علی حسنه فی باب المشترک ؟

و الثانی : إنه قد یتعلَّق الغرض بالإجمال .

و أشکل علیه الاستاذ : بإمکان الإجمال لا بوضع المشترک ، فکما یقول :

ص:304

« رأیت عیناً » له أنْ یقول « رأیت شیئاً » .

و تلخّص : إن القول بالاستحالة العقلائیّة - لا العقلیّة - له وجه وجیه .

دلیل القول الثانی

إن المعانی غیر متناهیة ، بخلاف الألفاظ ، و المتناهی لا یفی باللّامتناهی ، فلا بدَّ من الاشتراک .

أجاب المحقق الخراسانی :

أولاً : إن کلیّات المعانی متناهیة ، و من الممکن وضع الألفاظ بإزاء الکلیّات ، و إفادة الجزئیّات بواسطة الکلیّات ، کما هو الحال فی أسماء الأجناس ، کلفظ « الأسد » الموضوع لجنس هذا الحیوان ، مع إمکان إفادة نوعه و فرده بنفس هذا الاسم ، مع کون أفراده غیر متناهیة .

و أشکل علیه فی ( المحاضرات ) بما حاصله : إن الکلیّات أیضاً غیر متناهیة ، إذا ضمّت إلیها القیود المختلفة ، نظیر الأعداد ، فإن کلّاً من العشرة و الأحد عشر و الثانی عشر ... کلّی ذو أفراد ، و هذه العشرة المضافة إلی شیء غیر تلک العشرة المضافة إلی شیء آخر .

و أورد علیه الاستاذ : بأنّ الکلّیات العددیّة اعتباریّة و لیست بواقعیّة ، فإنّا نعتبر العشرة مثلاً شیئاً واحداً و نطبّقها علی الأشیاء المختلفة ، و البحث إنما هو فی الکلمات الواقعیّة ، کالإنسان و الأسد و الفرس و هکذا .

و أیضاً ، فإنّ ضمّ القید إلی الکلّی لا یجعله غیر متناه ، لأنّ القید کیفما کان متناه ، فما یضاف القید إلیه متناه أیضاً ، و کیف یحصل اللّامتناهی من ضمّ المتناهی إلی المتناهی ؟

ثانیاً : بأنّه فی وضع اللّفظ المشترک نحتاج إلی أوضاع متعدّدة ، بأنْ

ص:305

یجعل اللّفظ مرّة لهذا المعنی ، و مرّة لذاک ، و اخری للثالث ... فلو کانت المعانی غیر متناهیة فالأوضاع کذلک ، لکنّ صدور الوضع غیر المتناهی عن المتناهی محال .

قال فی ( المحاضرات ) عن هذا الجواب بأنه متین جدّاً .

فأشکل شیخنا :

أوّلاً : إن باب الوضع هو باب الجعل ، و إنه لا ریب فی أنّ المجعول فی القضایا الحقیقیّة أحکام غیر متناهیة کما فرضوا ، إذ الجعل و المجعول فی القضایا الحقیقیّة یتعدّدان بعدد الأفراد بإنشاءٍ واحد ، فأیّ محذورٍ لأنْ یوضع اللّفظ بجعلٍ واحدٍ للمعانی المتعدّدة ؟

فهذا إشکال نقضی .

و أیضاً : لازم ما ذکر هو اتحاد العصیان فی موارده ، و الحال أنّ شرب هذا الخمر معصیة ، و شرب ذاک معصیة اخری ، و هکذا الثالث ... و کذلک الإطاعة .

و تلخّص : إن الأحکام متعدّدة بالبرهان ، و باختلاف الإطاعة و العصیان ، و إذا تعدَّد المجعول تعدّد الجعل ، لأن الجعل و المجعول فی الحقیقة واحد .

و ثانیاً : إن صدور الأفعال غیر المتناهیة من النفس الإنسانیّة لا إشکال فیه ، و الدلیل علیه نفس الدلیل علی المجعولات غیر المتناهیة فی القضیّة الحقیقیّة .

و هذا هو الحلّ .

و أجاب المحقق الخراسانی ثالثاً : بأنّ الوضع مقدمة للاستعمال ، و الاستعمال متناه ، لکونه فعلاً خارجیّاً و لیس کالأفعال النفسانیة ، فجعل الألفاظ غیر المتناهیة للاستعمالات المتناهیة باطل .

ص:306

و أجاب رابعاً : بأن المجاز باب واسع ، و معه فلا حاجة إلی الاشتراک .

و قال شیخنا

فی الجواب عن استدلال القائلین بوجوب وضع المشترک : بأنّ أساس الاستدلال هو عدم تناهی المعانی ، و هذه الدعوی أوّل الکلام ، و ما أقاموا علیها من الدلیل لا یفی بها ، فقوله تعالی : «مَّا نَفِدَتْ کَلِمَاتُ اللَّهِ » (1)و «وَمَا یَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّکَ إِلاَّ هُوَ » (2)لا ینافی التناهی ، فعدم تناهی المعانی غیر مسلَّم ، نعم ، هی کثیرة إلی ما شاء اللّٰه .

علی أنّ البحث یدور حول الألفاظ الموجودة ، و الألفاظ المشترکة الموجودة محدودة ، کلفظ العین و القرء ، و هی لا تفی بالغرض - و هو التفهیم - بالنسبة إلی المعانی غیر المتناهیة کما قیل .

فالقول بوجوب الاشتراک باطل قطعاً .

فالحق : إمکان الاشتراک .

تفصیلُ المحقق الخوئی

و أفاد السید الخوئی تفصیلاً فی المقام و هو : استحالة الاشتراک علی مبنی التعهّد فی حقیقة الوضع و إمکانه علی سائر المبانی ، أمّا الإمکان ، فلأن الوضع أمر اعتباری ، و الاعتبار خفیف المئونة ، فلا مانع من أن یعتبر المعتبر أن یکون اللّفظ الواحد علامةً لمعنیین ، أو یکون موضوعاً لهما ، أو تکون ملازمة بینه و بینهما ...

و أمّا الاستحالة علی مبنی التعهّد ، فلأن التعهّد أمر نفسانی واقعی غیر

ص:307


1- (1)) سورة لقمان : 27 .
2- (2)) سورة المدثر : 31 .

اعتباری ، إنه یتعهّد متی تلفّظ باللفظ الکذائی أراد تفهیم المعنی الکذائی ، فلو أراد معنیً آخر لزم العدول عن تعهّده بالنسبة إلی المعنی الأوّل .

و أورد علیه الاستاذ دام بقاه : بأنّ البرهان الذی اقیم فی مبحث الوضع علی هذا المبنی کانت نتیجته التعهّد باستعمال اللّفظ الکذائی عند إرادة المعنی الکذائی ، لا أنّه کلّما تلفّظت باللّفظ الکذائی فإنی أقصد المعنی الکذائی ، و کم فرق بین الأمرین ، فإن الثانی ینافی الاشتراک دون الأوّل ، لأنه لا مانع من استخدام اللّفظ کلفظ « العین » عند إرادة الجاریة و عند إرادة الباصرة و هکذا ...

لعدم المحذور من انضمام تعهّدٍ إلی تعهّد ...

خلاصة البحث

و تلخّص : أنّ الاشتراک ممکن ، لا محال و لا واجب .

إنما الکلام فی وقوعه و منشأ وقوعه ، فأیّ غرض للواضع أنْ یضع اللّفظ الواحد لمعانی عدیدة ؟ و ما الدّلیل علی ذلک ؟

ذکر المحقق الخراسانی وجوهاً ، أحدها : نقل أئمة اللّغة .

و فیه : أنّا نرید الوضع التعیینی للّفظ الواحد لأکثر من معنی ، و نقلهم لا یثبت هذا .

و الثانی و الثالث : التبادر و عدم صحة السّلب .

و فیهما ما تقدَّم ، فإنّهما لا یثبتان الوضع التعیینی ، فلعلّه تعیّنی .

و من جهة اخری ، فقد حکی المیرزا النائینی عن جورجی زیدان - و ارتضاه أنّ منشأ الاشتراک هو اختلاط اللّغات بین القبائل العربیّة ، فلا یرجع الأمر إلی الواضع .

و هذا القول - و إنّ کان عقلائیّاً - إلّا أنه لا دلیل علیه ، نعم ، إذا جاء هذا

ص:308

الاحتمال کفی فی سقوط کلّ الاستدلالات علی القول بالاشتراک فی اللّغة العربیّة .

الاشتراک فی ألفاظ القرآن

بعد أنْ ثبت أن فی اللّغة ألفاظاً مشترکة ، و فی الشعر الفارسی : آن یکی شیر است اندر بادیه و ان یکی شیر است اندر بادیه

فهل یوجد فی ألفاظ القرآن ؟

قیل : لا ، لعدم جوازه ، من جهة أنه إنْ نصبت قرینة علی المعنی لزم التطویل بلا طائل ، و هو مناف لشأن کلام اللّٰه الموجز و المعجز ، و إنْ لم تنصب لزم الإجمال ، و کلام الباری منزّه عنه .

و اجیب : بوجود المجمل فی القرآن و هو المتشابه .

قال الاستاذ :

لا یوجد فی القرآن الکریم لفظ مجملٌ ، و المتشابهات مبیّناتٌ عند الراسخین فی العلم ، فلا مجمل فیه علی الإطلاق ، حتی فواتح السّور .

و وجود اللّفظ المجمل فی القرآن سواء لأجل الاشتراک أو غیره ، بالنسبة إلی کلّ البشر هو المحذور ، و هذا غیر متحقق .

ص:309

ص:310

استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی

اشارة

ص:311

ص:312

مقدّمة :

إنه لا اختصاص لهذا البحث بالألفاظ المشترکة ...

و لیس موضوع البحث و محلّ الخلاف هو المتعدّد الذی اعتبر واحداً و استعمل اللّفظ فیه ، فإن هذا جائز بلا خلاف ، کما لو اعتبر الاثنان أو الجماعة واحداً ، و استعمل اللَّفظ فی ذلک الواحد الاعتباری ، کما هو الحال فی الألفاظ الموضوعة للجماعة مثل « قوم » و « رهط » .

و لیس موضوع البحث أن یکون کلّ واحدٍ من المعانی موضوعاً مستقلاًّ للحکم علیه بالنفی أو الإثبات کما ذکر المحقق الرشتی ، لأن مثل لفظ «العشرة» الموضوع لمعنیً واحد ، و المستعمل فی معنیً واحد ، تارةً : یقع موضوعاً لحکم واحد ، کقولنا : هؤلاء العشرة فعلوا کذا ، أی : کلّهم مجتمعین ، و اخری : یقع موضوعاً لأحکامٍ متعدّدة ، کقولنا : هؤلاء العشرة علماء ... فلیس المراد من استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی هو وجود أحکام متعدّدة .

بل المراد - کما ذکر المحقق الخراسانی - أن یستعمل اللّفظ فی کلٍّ من المعانی ، کما لو کان - أی کلّ واحدٍ منها - هو وحده المستعمل فیه فقط ...

فهل هذا الاستعمال - أی : إعمال جمیع مقوّمات الاستعمال حالکون المعنی واحداً فی مورد تعدّد المعنی - ممکن أو غیر ممکن ؟

ص:313

و الکلام فی جهتین :

الاولی : هل یمکن عقلاً أو لا ؟

و الثانیة : هل یمکن عقلاءً أو لا ؟

الجهة الاولی
اشارة

فیها ثلاثة أقوال :

الأوّل : الاستحالة ، و إلیه ذهب المحققون : الخراسانی و المیرزا و الأصفهانی و العراقی .

و الثانی : الجواز ، و هو مختار شیخنا الاستاذ دام بقاه .

و الثالث : التفصیل بین المفرد فلا یمکن ، و بین التثنیة و الجمع فممکن .

و لعلّ هذا القول یرجع إلی الجهة الثانیة .

فالمهمّ القولان :

دلیل القول بالاستحالة

و اختلفت کلماتهم فی بیان الاستحالة العقلیة لاستعمال اللّفظ فی أکثر من معنی :

1 - المحقّق الخراسانی :

یستفاد من کلام المحقق الخراسانی ثلاثة وجوهٍ للاستحالة :

أحدها : إن الاستعمال إفناء اللّفظ فی المعنی ، و ذلک لأن اللّفظ غیر ملحوظ فی ظرف الاستعمال ، بل اللّفظ فانٍ فی المعنی فناء المرآة فی المرئی ، و لذلک یسری حسن المعنی و قبحه إلی اللّفظ ، و إذا کان هذا حقیقة الاستعمال ، فلا یمکن استعمال اللّفظ الواحد فی أکثر من معنی ، لأن إفناء الواحد فی الاثنین محال ، لأنه یستلزم إمّا وحدة الاثنین و إمّا تعدّد الواحد ،

ص:314

و کلاهما خلف .

و الثانی : إن اللّفظ یکون فی مقام استعماله فی المعنی ملحوظاً باللّحاظ الآلی ، فإن لوحظ کذلک بالنسبة إلی أحد المعانی احتاج استعماله فی المعنی الآخر إلی لحاظه بلحاظٍ آلی آخر ، إذ المفروض إفادته لکلٍّ من المعنیین علی سبیل الانفراد و الاستقلال ، فیلزم اجتماع لحاظین آلیّین علی ملحوظ واحدٍ ، و هو من اجتماع المثلین ، و هو محال .

و الثالث : إنه فی کلّ استعمالٍ یلحظ اللَّفظ ، و لحاظه عین وجوده فی الذهن ، و إذا کان المعنی المستعمل فیه اللّفظ متعدّداً ، لزم وجود الماهیّة الواحدة بوجوداتٍ متعددة ، و هذا محال .

عدم ورود اشکال الدرر

قال شیخنا الاستاذ : و بما ذکرنا یتّضح عدم ورود نقض صاحب (الدرر) (1) علی صاحب (الکفایة) ، فإنه قد نقض بوجهین :

أحدهما : بالعام الاستغراقی ، فإنّه لفظ واحد ، و لکنّه یحتوی علی أحکامٍ کثیرة متوجّهة إلی موضوعات کثیرة .

و ثانیهما : بالوضع العام و الموضوع له الخاص ، فکما صحّ أنْ یکون اللّفظ الموضوع لمعنیً واحد وجهاً لمعانی کثیرة فی عالم الوضع ، فلیکنْ اللّفظ الواحد وجهاً لمعانی کثیرة فی عالم الاستعمال .

وجه عدم الورود : هو الغفلة عن حقیقة الاستعمال ، فإنه إفناء اللّفظ فی المعنی ، کما ذکر المحقق الخراسانی ، و إفناء اللّفظ فی آنٍ واحدٍ فی معنیین مستقلّین محال ، و هذا غیر ما ذکر فی العام الاستغراقی من وجود موضوعات

ص:315


1- (1)) درر الاصول 57/1 ط جامعة المدرّسین .

و أحکام متعدّدة ، أو فی الوضع العام و الموضوع له الخاص ، حیث یکون الشیء الواحد وجهاً للمتکثّرات ... فما ذکره صاحب ( الدرر ) أجنبی عمّا فی ( الکفایة ) .

2 - المحقق النائینی

و الطریق الذی سلکه المحقق النائینی یتلخّص فی : أنّ حقیقة الاستعمال عبارة عن إلقاء المعنی و إیجاده فی الخارج بوجود اللَّفظ ، فلا نظر إلی اللّفظ ، بل ینظر إلیه بالنظر التبعی ، کما عبّر مرةً ، أو أنّ النظر إلی اللّفظ هو کنظر القاطع إلی القطع الطریقی ، حیث لا یری إلّا المعنی ، کما عبّر مرةً اخری ، فلو استعمل اللّفظ فی أکثر من معنی لزم أن یکون للوجود الواحد وجودات کثیرة .

و علی کلّ حالٍ ، فإنّ اللّفظ غیر ملحوظ لدی استعماله فی معناه ، و قد عبَّر تارةً عن الاستعمال بإفناء اللّفظ فی المعنی ، کما ذکر فی ( الکفایة ) ، و إفناء الواحد الواحد فی الکثیر محال .

و علی الجملة ، فإن تحقّق الأکثر من اللّحاظ الاستعمالی الواحد - مع وحدة الاستعمال و المستعمل فیه - محال .

اشتباه من المحاضرات

و قد بدّل فی ( المحاضرات ) کلمة « اللّحاظ الاستعمالی » إلی « اللّحاظ الاستقلالی » فأشکل علی المیرزا بإمکان اللّحاظین الاستقلالیین ، کما فی مقام التصدیق بقضیّةٍ ، فإنه یکون بلحاظ الموضوع و المحمول فی آنٍ واحد لحاظاً استقلالیّاً ، و هذا شیء ممکن و واقع من النفس الإنسانیة بسبب بساطتها (1) .

ص:316


1- (1)) هذا الجواب عن کلام المیرزا ، هو الجواب الذی ذکره الاستاذ فی الدورة السّابقة ، إلّا أنه فی الدورة اللاحقة دقق النظر فی کلام المیرزا ، فرأی أن الجواب اشتباه .

أمّا فی ( أجود التقریرات ) (1) حیث قرّر مبنی المیرزا کما ذکرناه ، فقد أشکل فی التعلیقة علی أساس مختاره فی حقیقة الوضع ، و هو مسلک التعهّد .

لکنّه إشکال مبنائی .

التحقیق فی الجواب عن کلام الآخوند و المیرزا

فقال الشیخ الاستاذ : بأنّ الحق فی الجواب هو عدم التسلیم بأنّ حقیقة الاستعمال إفناء اللّفظ فی المعنی ، و نحن - بالوجدان - عند ما نستعمل الألفاظ لإفادة معانیها لسنا بغافلین عن الألفاظ ، و لا یکون حالها حال القطع الطریقی ، بل نلحظ اللّفظ و نحاول أن نراعی فیه جهات الفصاحة و البلاغة فی نفس ظرف استعماله فی معناه .

إیراد المحقق الأصفهانی و ما فیه

و قد أورد المحقق الأصفهانی علی صاحب ( الکفایة ) بعد التسلیم بما ذکره من حقیقة الاستعمال : بأنّ اللّفظ الصادر من المتکلّم الموجود خارجاً لا یمکن أن یکون مقوّماً للّحاظ ، حتی یلزم إفناء الواحد فی الکثیر أو اجتماع المثلین ، بل المقوّم للحاظ اللّفظ هو الصورة النفسانیة لشخص اللّفظ الموجود خارجاً ، و لا مانع من تحقّق صورتین له فی النفس ، فلم یلزم إفناء شیء واحدٍ فی شیئین .

و قد أجاب عنه شیخنا : بأنّ هذا الذی ذکره المحقق الأصفهانی و إنْ کان معقولاً إلّا أنه خلاف الواقع ، لأن الصورة النفسانیة تابعة للوجود الخارجی و هی ظلٌّ له ، و لمّا کان الموجود خارجاً لفظاً واحداً ، فالمتحقّق فی الذهن صورة واحدة ، فیعود الإشکال .

ص:317


1- (1)) اجود التقریرات 76/1 .
3 - المحقّق العراقی

إنّ حقیقة الوضع جعل اللَّفظ مرآة للمعنی ، ثم الاستعمال لیس إلّا إعمال الوضع . و بعبارة اخری : إن الوضع یعطی اللَّفظ المرآتیَّة للمعنی بالقوّة ، و الاستعمال یعطیه المرآتیة له بالفعل ... هذا ، و البرهان علی المرآتیة سرایة الحسن و القبح من المعنی إلی اللّفظ .

و إذا کان مرآة ، فإنه لا یمکن أن یکون الشیء الواحد مرآةً لشیئین .

المناقشة

فقال شیخنا دام بقاه : بأن کلمات هذا المحقق فی حقیقة الوضع مشوّشة ، فتارةً یقول بأنه جعل الملازمة بین اللّفظ و المعنی ، و اخری یقول :

جعل اللّفظ مرآةً للمعنی ، و هل یمکن الجمع بینهما ؟ اللهم إلّا أن یقال بأنه یرید جعل الملازمة مطابقةً و جعل المرآتیة التزاماً .

لکنْ لیس حقیقة الوضع جعله مرآةً للمعنی ، لأن الوضع من فعل الواضع ، و من یضع الاسم علی ولده لا یجعل المرآتیّة ، و جعل الملازمة بین اللّفظ و المعنی لا یلازم المرآتیّة أبداً ، لوجود الملازمة بین النار و الحرارة ، مع عدم وجود المرآتیّة .

و سرایة الحسن و القبح من المعنی إلی اللّفظ لا یختص بالقول بالمرآتیّة ، فعلی القول بالعلامتیّة - الذی اخترناه - توجد هذه السّرایة أیضاً ، و استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی بناءً علیه ممکن ، لعدم المانع من أن یکون الشیء الواحد علامةً لشیئین .

4 - المحقق الأصفهانی

و سلک المحقق الأصفهانی مسلکاً آخر لبیان استحالة استعمال اللّفظ

ص:318

الواحد فی أکثر من معنی ، و هو مرکّب من أُمور :

الأول : إن للشیء وجودین ، وجود حقیقی و وجود جعلی تنزیلی ، فللمعنی وجود حقیقی فی الخارج ، و وجود جعلی یتحقق باللّفظ الموضوع له ، مع کون اللّفظ من الکیف المسموع ، فعند ما نقول « زید » فإن هذا اللّفظ وجود طبیعة کیف مسموع بالذات ، و وجود جعلی للمسمّی بهذا الاسم .

و الثانی : إن حقیقة الاستعمال إیجاد المعنی باللّفظ ، لکنْ بالوجود الجعلی التنزیلی المذکور .

و الثالث : إنّ الإیجاد و الوجود واحد حقیقةً متعدد اعتباراً ، إذ الحقیقة إنْ اضیفت إلی القابل فهو الوجود ، و إنْ أضیفت إلی الفاعل فهو الإیجاد .

و علی هذه الأسس ، فإنه یستحیل استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی ، حتی مع عدم لحاظ اللّفظ أصلاً ، و وجه الاستحالة : إنه لا یوجد عندنا إلّا لفظ واحد ، و له وجود واحد ، فلما استعمل فی المعنی الأوّل حصل له الوجود بالوجود التنزیلی ، فلو ارید استعماله فی الثانی أیضاً کان إیجاداً آخر کذلک ، فیکون استعماله فی المعنیین محصّلاً للإیجادین ، لکنّ الموجود عندنا واحد لا غیر ، فیلزم وحدة الوجود و تعدّد الإیجاد ، و هذا محال ، لکون الوجود عین الإیجاد کما تقدَّم فی المقدّمة الثالثة .

مناقشة الاستاذ

و أورد علیه شیخنا دام بقاه بوجوه :

أمّا أوّلاً : فإنّ مختار المحقق الأصفهانی فی حقیقة الوضع هو « الوضع فی عالم الاعتبار » فی قِبال الوضع التکوینی ، کوضع العَلَم علی المسافة المعیّنة ، و إذا کان کذلک ، فلا یکون اللّفظ وجوداً تنزیلیّاً للمعنی . نعم ، هذا

ص:319

یتمّ علی مبنی الفلاسفة فی حقیقة الوضع .

و أمّا ثانیاً : فإنّ الوضع هو من فعلنا ، و نحن فی أوضاعنا - کوضع الأسماء علی المسمّیات - لا نجعل اللَّفظ وجوداً تنزیلیّاً للمعنی ، بل إنّ الاسم یوضع علی المسمّی لأنْ یکون علامةً له ، ینتقل الذهن بسببه إلیه .

و أمّا ثالثاً : فإن قاعدة الوحدة الحقیقیّة بین الإیجاد و الوجود من أحکام الموجودات الحقیقیّة ، وعلیه ، یستحیل إیجاد الشیئین الحقیقیّین بوجود واحد ، أمّا إیجاد الشیئین فی عالم الاعتبار بوجود واحدٍ ، فلا مانع عقلی عنه .

المتحصّل من البحث

فتحصّل من جمیع ما تقدَّم : عدم قیام برهان صحیح علی استحالة استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی عقلاً .

بل إنّ المختار فی حقیقة الوضع هو جعل اللّفظ علامة للمعنی ، و علی هذا المبنی لا مانع أصلاً من أن یکون الشیء الواحد علامة لشیئین .

فالحق هو الجواز علی المختار .

و أمّا علی مبنی التعهّد ، فکذلک ، لعدم المانع من أن یتعهّد باستعمال اللّفظ إذا أراد الشیئین ، و ما فی ( المحاضرات ) فی مبحث الاشتراک من عدم إمکان الاشتراک علی هذا المبنی ، تقدَّم ما فیه ، من أنّ نتیجة هذا المبنی هو التعهّد باستعمال اللّفظ الکذائی متی أراد المعنی الکذائی ، و هذا لا ینافی أن یکون المعنی الکذائی المراد متعدّداً .

فالحق

جواز استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی عقلاً .

هذا تمام الکلام فی الجهة الاولی .

ص:320

الجهة الثانیة
اشارة

و بعد الفراغ عن جهة الثبوت ، تصل النوبة إلی جهة الإثبات و الظهور العرفی .

و الحق : إن استعمال اللّفظ الواحد فی أکثر من معنی خلاف الأصل العقلائی ، و إطلاق اللّفظ الواحد و إرادة المعانی المتعددة منه بدون نصب قرینةٍ ، شیء غیر متعارف عند أهل المحاورة ، فإنهم لا یقصدون ذلک حتی فی الألفاظ المشترکة ، بل لا بدّ من نصب قرینةٍ ، یقول الشاعر :

بُز و شمشیر هر دو در کمرند

فکلمة « کمر » و إنْ کانت مشترکة بین « سفح الجبل » و « ظهر الإنسان » لکنّ المعنی ظاهر ، لأن « بز » و هو المعز یکون علی « سفح الجبل » و « شمشیر » و هو السیف یکون علی « ظهر الإنسان » .

فلو لم یکن المعنی ظاهراً مفهوماً لم یجز الاستعمال عقلاءً ، بل یکون مقتضی القاعدة عند عدم القرینة علی التفصیل الآتی :

إن لم یکن اللّفظ مشترکاً بین معانٍ متعددة بالوضع ، فلا شبهة فی حمله علی المعنی الحقیقی الواحد ، بمقتضی أصالة الحقیقة ، فإنْ کان له معنی مجازیّاً مشهوراً ، و المفروض عدم القرینة ، فلا یحمل ، لا علی المعنی الحقیقی و لا علی المجاز المشهور ، بل یکون مجملاً .

و إن کان مشترکاً بین معانٍ عدیدة ، کان محکوماً بالإجمال .

فإن علم بتعدّد المعنی المراد ، لکنْ تردّد الأمر بین إرادة المجموع و إرادة الجمیع ، کما لو کان للمولی عبدان باسم « غانم » و قال : بعت غانماً بدرهمین ،

ص:321

فعلمنا إجمالاً ببیعه کلّ واحدٍ أو بیعه کلیهما معاً ، قال فی ( المحاضرات ) (1) :

لا أصل لفظی یرجع إلیه ، بل المرجع هو الأصل العملی .

فقال الاستاذ : إنه بناءً علی کون حجیّة أصالة الحقیقة من باب التعبّد فالمرجع هو أصالة الحقیقة ، وعلیه ، یحمل الکلام علی العام المجموعی ، لأن المفروض إمکان استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی ، و المفروض کونه حقیقة فی کلا الفردین ، وعلیه یحکم باشتغال ذمّة المشتری بأربعة دراهم .

و أمّا بناءً علی القول بحجیّة أصالة الحقیقة من باب الظهور ، فالمفروض عدم الظّهور ، لکون مثل هذا الاستعمال علی خلاف الأصل العقلائی فی مقام المحاورة .

و إنْ کان اللّفظ حقیقةً فی کلٍّ من الفردین و مجازاً فی المجموع ، فالکلام حینئذٍ مجمل .

إلّا أن هذا التفصیل غیر وارد فی ( المحاضرات ) ، لأنه ذهب إلی استحالة الاشتراک ، علی مسلکه فی الوضع و هو التعهّد ، فلا مورد لأصالة الحقیقة بناءً علیه .

تفصیل صاحب المعالم

و فصّل صاحب ( المعالم ) (2) بین اللّفظ المفرد و التثنیة و الجمع ، فقال بأنّ استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی إن کان مفرداً فمجاز ، و إن کان مثنّیً أو

ص:322


1- (1)) محاضرات فی اصول الفقه 221/1 .
2- (2)) معالم الاصول : 52 ط دار الفکر .

جمعاً فحقیقة .

و الحق : عدم الفرق ، لأن هیئة التثنیة تدلّ علی تعدّد مدلول المفرد ، فإن جاز استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی حقیقةً فلا فرق ، و إنْ لم یجز فلا فرق کذلک ، فلفظ « العیون » یدل علی تعدّد « العَین » المفروض کونه موضوعاً بأصل اللّغة لأکثر من معنی ، لا أنه یدل علی « عَینٍ » و « عین » و « عین » ...

بأن یراد من اللّفظ الأوّل الباصرة ، و من الثانی : الجاریة ، و من الثالث : عین الشمس ... و هکذا ...

ثمرة البحث فی استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی

هذا ، و للبحث عن استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی ثمرات :

منها : ما تقدَّم فی مثال بیع غانم ، و کذا عتقه ، و کذا لو کان له زوجتان باسم هند ، فطلَّق هنداً ، و هکذا فی جمیع الألفاظ المشترکة ، الواقعة فی إنشاءٍ ، من البیع و الوصیّة و الصّلح و الهبة و الطلاق .

و منها : البحث فی مدلول قوله علیه السلام : « کلّ شیء هو لک حلال حتی تعلم أنه حرام » (1) هل یفید جعل الحلیّة فقط ، أو یفید جعلها و جعل استمرارها متی شک فیه ؟

و منها : البحث فی مدلول قوله علیه السلام : « کلّ شیء طاهر حتی تعلم أنه قذر » (2) فالبحث المشار إلیه جارٍ فیه کذلک .

و علی الجملة ، هل الخبران یجعلان الحلّ و الطّهارة فقط ، أو یصلحان لجعلهما و جعل استصحابهما لدی الشک فی بقائهما ؟

و منها : فی قوله علیه السلام : « لا ینقض الیقین بالشک » (3) هل یمکن

ص:323


1- (1)) انظر : وسائل الشیعة 89/17 ، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به ، رقم : 4 .
2- (2)) المستدرک 583/2 ، الباب 30 من أبواب کتابة الطهارة عن المقنع ، و فی وسائل الشیعة ، باب 37 من أبواب النجاسات عن التهذیب ، و فیه « نظیف » بدل « طاهر » .
3- (3)) الکافی 352/3 .

إرادة « قاعدة الیقین » و « الاستصحاب » معاً منه ، بأنْ یکون لفظ « الیقین » مستعملاً فی معناه الحقیقی الکائن فی قاعدة الیقین ، و المسامحی الکائن فی

الاستصحاب ، أو لا یمکن ذلک ؟

قالوا : و من الثمرات : جواز قصد إنشاء الدعاء و القراءة معاً فی «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِیمَ » (1)مثلاً ، بناءً علی جواز استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی عقلاً .

لکنّ الاستاذ ناقش بأنّ : القراءة فی الصّلاة هی حکایة ما نزل علی النبی صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم بعنوان القرآن و استعمال ذاک اللّفظ ، و لیست استعمال لفظٍ فی لفظ القرآن الکریم ، فهذا خارج عن البحث ، و لا یعدّ من ثمراته .

نعم یصح طرح البحث بأنّه هل یمکن التلفّظ بکلام الغیر و إبراز القصد به أیضاً أو لا ؟

الحق : إنه ممکن ، وفاقاً للمحقق الأصفهانی ، فیجوز اجتماع قصد القراءة مع قصد الإنشاء .

الکلام فی بطون القرآن

و تعرّض صاحب ( الکفایة ) إلی ما ورد فی أن لألفاظ القرآن الکریم بطوناً ، و ذلک بمناسبة أنّها تدلُّ علی وقوع استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی فی القرآن الکریم ، و أدلّ دلیلٍ علی إمکان الشیء وقوعه ، و قد ذهب هو إلی الامتناع .

رأی المحقّق الخراسانی

ص:324


1- (1)) سورة الفاتحة : 6 .

و أجاب عن ذلک بوجهین :

الأول : إن مدلول هذه الأخبار ، أنّ اللّٰه تعالی قد أراد - فی ظرف إرادة المعنی الواحد من اللّفظ - معانی اخری غیره ، فلیس اللّفظ مستعملاً فی سبعة معانٍ ، بل استعمل فی معنی واحدٍ و اریدت الستة الاخری مقارنةً لهذا المعنی .

قال شیخنا دام بقاه : و هذا أمر ممکن ، لکنّه لا یتناسب مع مدلول تلک الأخبار ، و هو کون بعض المعانی ظاهر اللّفظ و بعضها باطنه ، و أین هذا ممّا ذکره ؟

و الثانی : إن المعنی المطابقی للّفظ هو معنی واحد ، و سائر المعانی التی اشیر إلیها فی الأخبار إمّا لوازم له و إمّا هی ملزومات له ، فلیس الدّلالة من باب الاستعمال ، بل من باب الدّلالة الالتزامیة ، و لا مانع من أن یکون للّفظ الدالّ علی معناه مطابقةً معان عدیدة یَدل علیها التزاماً .

و قد استحسن جماعة من الأعلام هذا الوجه .

و خالف شیخنا فقال : بأنّه جیّد موجبةً جزئیّة ، و إلّا ففی المعانی التی هی من بطون القرآن - بحسب الروایات - موارد کثرة لیست دلالة اللّفظ علیها من باب الدلالة الالتزامیة .

إن اللوازم علی قسمین ، فمنها : لازم جلیّ ، کالحرارة بالنسبة إلی النار ، فمع استعمال لفظ النار فی معناه و دلالته علیه و هی الذات بالمطابقة ، توجد له دلالة علی الحرارة أیضاً ، و لکنَّ هذه الدلالة لا تسمّی « باطناً » لأنّ الملازمة جلیّة لکلّ أحدٍ .

و منها : لازم خفی ، و فی هذا القسم یمکن قبول کلام صاحب (الکفایة)، إلّا أن أخبار بطون القرآن لا ظهور فیها لکون الدلالة بالالتزام ، ففی قوله تعالی

ص:325

« مَرَجَ الْبَحْرَیْنِ یَلْتَقِیَانِ » (1)قد ورد أنهما الحسن و الحسین علیهما السلام (2) ، و أین الملازمة بین « البحرین » و « الحسن و الحسین » ، لیدل اللَّفظ علیهما بالدلالة الالتزامیة ؟ و فی قوله تعالی «ثُمَّ لْیَقْضُوا تَفَثَهُمْ » (3)ورد أن المراد هو زیارة الإمام و لقاؤه بعد أعمال الحج (4) ... و أین الملازمة بین ذلک و ما هو المدلول المطابقی للفظ « التفث » أی : أخذ الشارب و قصّ الظفر ؟ .

و تلخّص : إن ما ذکره صاحب ( الکفایة ) لا یحلّ المشکل .

رأی جماعةٍ من المحقّقین

و أجاب المحقق النائینی و المحقق العراقی - و ذکره الفیض الکاشانی فی أوّل ( تفسیره ) - بأنّ المراد من هذه الأخبار هو : أن المعنی المستعمل فیه اللّفظ هو معنیً کلّی ، و أن مصادیقه متعددة ، لکنّها مخفیّة علی غیر أهل الذکر الذین هم الراسخون فی العلم ، العالمون بتأویل القرآن ، فإنّهم یعلمون بتطبیقات تلک الکلیّات .

و علی الجملة ، فإن بطون القرآن من قبیل استعمال اللّفظ الکلّی و إرادة المصادیق ، کلفظ « المیزان » فإنه لم یوضع هذا اللّفظ لهذه الآلة التی توزن بها الأشیاء فی السّوق ، بل الموضوع له هذا اللّفظ هو « ما یوزن به » و حینئذٍ یصدق علی الإمام المعصوم علیه السلام ، لوصفه بالمیزان فی الأخبار ، و علی

ص:326


1- (1)) سورة الرحمن : 19 .
2- (2)) تفسیر الصافی 109/5 ط الأعلمی .
3- (3)) سورة الحج : 29 .
4- (4)) تفسیر الصافی 376/3 ط الأعلمی .

القرآن ، و علی علم المنطق ، و علی العقل ، و علی المیزان المعروف ... و میزان کلّ شیء بحسبه .

و أورد شیخنا : بأنه أیضاً لا ینطبق علی جمیع الموارد ، مثلاً قوله تعالی :

« إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنکَرِ » (1)لا یوجد للفظ « الصلاة » معنیً کلّی ، لینطبق علی هذه « الصلاة » ذات الأقوال و الأفعال ، و علی أمیر المؤمنین علیه السلام ، و لا یوجد جامع بین الأمرین ، اللّهم إلّا الجامع الانتزاعی مثل « ما یتوجَّه به إلی اللّٰه » لکنّه غیر موضوع له لفظ « الصَّلاة » بالوضع الحقیقی ، و إنْ قلنا بجواز استعماله فیه مجازاً ، لزم القول بکونه فی جمیع موارد استعماله فی القرآن مجازاً ، و هذا لا یلتزم به .

رأی السید البروجردی

و ذکر السید البروجردی معنیً آخر ، و هو : إنّ للقرآن مراتب بحسب مراتب النفوس الإنسانیة ، فهی معانٍ طولیّة یدرکها الأشخاص بحسب مراتبهم النفسیّة ، فکلّما تقدّمت النفس فی الکمال تمکّنت من درک و فهم المعنی الأرقیٰ و الأدق ، کلفظ « التقوی » مثلاً ، حیث یفهم الصدّیقون منه ما لا یفهمه غیرهم .

فقال الاستاذ دام ظلّه : هذا الوجه متین ، و النفس کلّما تقدّمت فی الکمال أدرکت المعانی و الحقائق الأدق و الأعمق و الأجل ، لکنّ المشکل هو أنه لا بدَّ من تصحیح و توجیه استعمال الألفاظ القرآنیة فی تلک المعانی المختلفة المتعدّدة ، و تصحیح الاستعمال فیها لا یکون إلّا عن طریق دعوی کون الألفاظ موضوعةً للمعانی الکلیّة ، و یکون کلّ واحد من المعانی مصداقاً له ، أو دعوی کونها موضوعة لمعانیها الحقیقیة المنفردة الواحدة ، و تلک المعانی لوازم ، و صاحب هذا الوجه قد أبطل کلتا الدعویین ، و لم یوافق علی

ص:327


1- (1)) سورة العنکبوت : 45 .

ذینک الوجهین .

رأی السید الحکیم

و علی الجملة ، فإن هذا الوجه لا یحلّ المشکلة من جهة تصحیح الاستعمال ، فإن اللّفظ الدالّ علی تلک المراتب بأیّ وجهة یدل ؟ إن کانت دلالته حقیقیةً ، کان موضوعاً للکلّی و المراتب مصادیق ، و إنْ کانت دلالته مجازیّةً ، فلازمه أنْ تکون ألفاظ القرآن هذه کلّها مجازاً ، و لا یجوز الالتزام به و إنْ التزم به السید الحکیم ، حیث قال (1) بأن بطون القرآن من قبیل استعمال اللّفظ فی مجموع المعانی ، فکلّ واحدٍ منها لیس الموضوع له بل استعماله فیه مجازی .

و هذا الوجه ممنوع جدّاً .

هذه عمدة الوجوه المذکورة فی حلّ المطلب ، و لم یرتض شیخنا شیئاً منها .

فقال شیخنا :

إن لسان الروایات فی بطون القرآن مختلف ، فمنها : ما یفید أنّ الظاهر عبارة عمّن نزل فیه القرآن ، و الباطن عبارة عن الذین یعملون أعمال من نزل فیه ، و منها : ما یفید أن ظاهر بعض الآیات هو القصّة و الباطن هو الموعظة ، و منها : ما یفید أن الظاهر هو التنزیل و الباطن هو التأویل ، و منها : ما یفید أن الباطن عبارة عن التطبیقات العددیة ، و منها : ما یفید أن المراد من البطون هو الوجوه السبعة ، و منها : ما جاء فیه : إن بطون القرآن عجائبه و غرائبه ، و منها :

ما جاء فیه من أنها التخوم ... و منها : ما یستفاد منه غیر ذلک .

ص:328


1- (1)) حقائق الاصول 95/1 ط البصیرتی .

و علی کلّ حالٍ ، فما ذکره الاصولیون فی معنی هذه الروایات الکثیرة الثابتة لا ینطبق إلّا علی بعضها بنحو الموجبة الجزئیّة .

و الحق - بناءً علی المختار فی حقیقة الوضع من أنه العلامتیّة - هو جواز استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی ، إذ لا مانع من أن یکون اللّفظ الواحد علامةً لمعانی عدیدة ، و اسماً لعدّة امور .

أقول : لکن المشکلة هی أنه إذا کان اللّفظ علامةً لعدّةٍ من المعانی فی عرضٍ واحدٍ ، فکیف لم یعلم أهل اللسان إلّا بواحدٍ منها و هو المعنی الظاهر فیه اللَّفظ ، و المعانی الاخری التی هی البواطن لا یعلم بها إلّا الراسخون فی العلم و هو معدودون ؟ و مَن الواضع للّفظ علی تلک المعانی الباطنة التی استعمل فیها ؟

و هذا تمام الکلام فی استعمال اللّفظ فی أکثر من معنی .

ص:329

ص:330

المشتق

اشارة

ص:331

ص:332

و فی هذا البحث بلحاظ المسائل المطروحة فیه ، أعظم فائدة للفقیه ، کما قال المحقق الرشتی .

مقدّمات البحث

اشارة

و لا بدَّ قبل الورود فیه ، من ذکر مقدمات :

المقدّمة الاولی ( فی أنّ البحث لغوی و کبروی )
اشارة

المشهور هو أنّ هذا البحث بحثٌ لغوی ، لأنّه یبحث من الجهة اللّغویة عن أنّ هیئات المشتقات ، هل هی موضوعة فی اللّغة بأنْ تکون حقائق لغویّة أو فی العرف لحصّة من الذات ، و هی خصوص المتلبّسة بالمبدإ بالفعل ، أو هی موضوعة للأعم منها و من غیرها ؟

وعلیه ، فالمحکّم فی البحث هو العلائم المقرّرة فی باب الحقیقة و المجاز .

أمّا علی ما ذهب إلیه الأکثر من عدم کون الذات مأخوذةً فی مفهوم المشتق ، و أنّ مدلوله هو العرض لا بشرط ، القابل للاتّحاد مع الذات ، فعنوان البحث هو : هل الموضوع له المشتق هو العرض المتّحد بالفعل أو الأعم منه و من غیره ؟

و قد وقع الاتّفاق علی أنّ الإطلاق علی الذات المتلبّسة بالفعل إطلاق

ص:333

حقیقی ، و علی ما تتلبّس فی المستقبل مجازی ، و إنما الخلاف فی الذات التی انقضیٰ عنها التلبّس بالمبدإ .

قول المحقّق الطّهرانی بأن البحث عقلی

و خالف الشیخ هادی الطهرانی فی ( محجة العلماء ) فقال : بأن هذا البحث عقلیّ و لیس لغویّاً ، لاتّفاق الأخصّی و الأعمّی فی مفهوم المشتق ، و إنما الاختلاف فی کیفیة الحمل ، فالأخصّی یراه من قبیل حمل هو هو ، و الأعمّی یراه من قبیل حمل ذو هو ، الذی یکفی فی صحّته وقوع التلبّس بالمبدإ بنحو الموجبة الجزئیّة .

مناقشة الاستاذ

لکنّ البحث عند الاصولیین - کما أشرنا - إنما هو فی أنّ الموضوع له هیئة « فاعلٌ » - مثلاً - عبارة عن خصوص الحصّة المتلبّسة بالفعل بالمبدإ ، أو أن الموضوع له هو الجامع بین المتلبّس و من انقضی عنه التلبّس ... و هذا بحثٌ لغوی .

هذا ، و یرد علیه - کما ذکر المحقق الأصفهانی أیضاً (1) أن کلامه یخالف اصطلاح المناطقة کذلک ، فإنّ الحمل الهوهو عندهم لا یختص بالجوامد مثل : « الجدار جسم » ، بل الحمل فی مثل « الجدار أبیض » و نحوه من قبیل الهوهو ، بلا فرق .

ثم إن الخلاف بین الأخصّی و الأعمّی کبروی و لیس بصغروی ، یقول الأخصّی : بأنّ صحّة إطلاق المشتق تدور مدار اتّصاف الذات و تلبّسها بالمبدإ فی ظرف الإطلاق ، بخلاف الأعمّی القائل بعدم لزوم ذلک ، و أنه یکفی فی

ص:334


1- (1)) نهایة الدرایة 170/1 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام .

صدق المشتق حقیقة تلبّسُ الذات بالمبدإ فی وقتٍ من الأوقات ، و إنْ کان منتفیاً عند الإطلاق .

تجویز المحقق البروجردی کون البحث صغرویّاً

و قد جوّز السید البروجردی أن یکون الخلاف صغرویّاً ، فقال (1) ما حاصله : إن صدق أیّ عنوانٍ علی ذاتٍ من الذوات ، متوقّف علی وجود الملاک المصحّح للحمل ، و هو کون الذات مصداقاً لذلک العنوان المحمول علیها ، فلو فقد الملاک لزم صدق کلّ مفهومٍ علی کلّ ذاتٍ ، أو الترجیح بلا مرجّح ، ففی قولنا : « الجدار أبیض » یعتبر کون « الجدار » مصداقاً لعنوان « الأبیض » و إلّا فلِمَ لا یصدق هذا العنوان علی الجدار غیر الأبیض ؟

و إلی هنا لا خلاف بین الطرفین ، غیر أنّ القائل بأن المشتق أعمّ من المتلبّس فی الحال و من انقضی عنه المبدأ ، یقول : بأنّه یکفی فی تحقّق المِصداقیّة - التی هی المصحّحة للحمل - تلک الحیثیّة الاعتباریة الحاصلة للذات الصادر عنها « الضرب » مثلاً ، بسبب صدوره عنها فی وقتٍ من الأوقات ، و هی حیثیّة باقیة ، کعنوان « من صدر عنه الضرب » علی تلک الذات ، و إنْ لم یکن هناک اتّصاف بالضرب عند الإطلاق . و یقول القائل بوضع المشتق لخصوص المتلبّس : بأنّ المصحّح للحمل و الملاک للمصداقیّة لیس إلّا الاتّصاف بالضاربیّة الفعلیة حین الإطلاق ، و أمّا وصف الذات بلحاظ اتّصافها سابقاً و حمل الضارب علیها فمجاز ...

وعلیه ، فیکون الخلاف صغرویّاً .

ص:335


1- (1)) نهایة الاصول : 58 ط المصطفوی .
مناقشة الاستاذ

و تنظّر الاستاذ دام بقاه فی هذا الکلام : بأنّه ناشئ من الخلط بین الحمل الحقیقی الفلسفی و الحمل الحقیقی العرفی ، فما ذکره یتم بالنظر الفلسفی ، لأنّهم یقولون بمجازیّة : الجدار أبیض ، لأن الحمل الحقیقی عندهم هو :

البیاض أبیض ، لکنّ البحث فی المشتق یدور مدار النظر العرفی و قولنا :

الجدار أبیض ، حقیقة عرفیّة بلا ریب .

و أمّا لزوم الترجیح بلا مرجّح ، أو حمل کلّ شیء علی کلّ شیء ، ففیه :

إنه إنما یلزم ذلک لو لم یکن التلبّس بالمبدإ فی وقتٍ من الأوقات کافیاً للحمل و تحقّق المصداقیّة ، و الحال أنّ هناک فرقاً بین من اتّصف به کذلک و بین من لم یتّصف أصلاً ، فلا ترجیح بلا مرجّح .

و أمّا قوله بضرورة وجود العنوان الانتزاعی بناءً علی القول بالأعم ، ففیه :

أوّلاً : إن اتّصاف الذات بالمبدإ و تلبّسها به فی وقتٍ من الأوقات ، لیس عنواناً انتزاعیّاً ، بل هو عنوان واقعی ، فقد صدر منه الضرب مثلاً سابقاً حقیقةً ، و لیس فی البین اعتبار من أحدٍ - لیدور الاتّصاف به مداره - أصلاً .

و ثانیاً : إن الملاک فی الصّدق هو الصدق العرفی کما تقدّم ، و لفظة « القائم » فی الفارسیّة ترادف « ایستاده » و لیس مفهومها هو الاتصاف بالقیام فی وقتٍ من الأوقات .

و تلخّص :

1 - إنّ البحث لغوی ، و لیس بعقلی .

2 - إنّ البحث کبروی ، و لیس بصغروی .

ص:336

المقدّمة الثانیة ( فی تحریر محلّ النزاع )
اشارة

تارة : یکون لمجموع الهیئة و المادّة - من الألفاظ - وضع واحد .

و اخری : یکون لکلٍّ من الهیئة و المادّة وضع مستقل .

فما یکون من القسم الأوّل ، یسمّی بالجامد ، و الوضع فیه شخصی .

و ما یکون من القسم الثانی ، یسمّی بالمشتق ، و الوضع فی طرف الهیئة نوعی ، و فی المادّة قولان .

و کلّ من القسمین ینقسم إلی قسمین ، فالمشتق ینقسم إلی :

1 - قسم قابلٍ للحمل علی الذات و الاتحاد معها ، کاسم الفاعل و اسم المفعول .

2 - قسم لا یقبل ذلک ، کالأفعال و المصادر و أسماء المصادر .

و لا خلاف بینهم فی أنّ مورد البحث هو القسم الأوّل ، أمّا الثانی فخارج ، فیکون موضوع البحث فی المشتق أخص من العنوان .

إلّا أنّ الظاهر من کلام صاحب ( الفصول ) (1) اختصاص البحث باسم الفاعل و ما یشبهه فقط ، فلا یعمّ کلّ ما هو قابل للحمل ، کأسماء الآلات ، لأن « المفتاح » مثلاً یصدق حتی مع عدم تحقّق الفتح بالفعل ، فالموضوع له فیه أعمّ من المتلبّس و ما انقضی عنه التلبّس . إلّا أن الحق - وفاقاً لصاحب ( الکفایة ) و غیره - عموم البحث لمثله ، لوقوع النزاع فیه ، غیر أن مبادئ المشتقات تختلف ، فقد یکون فعلاً ، و قد یکون حرفةً ، و قد یکون ملکةً ، و قد یکون شأنیّةً ، و یختلف التلبّس و الانقضاء فیها بحسب اختلاف المبدإ .

فإن کان المبدأ هو الحدث ، فالتلبّس یکون تلبّس الفعلیّة و انقضاؤه بانقضائها ، و إنْ کان حرفةً أو ملکة فلیس المبدأ هو الفعلیّة ، فلذا یصدق

ص:337


1- (1)) الفصول الغرویة : 60 .

عنوان « البقّال » علی صاحب هذه الحرفة و إنْ کان نائماً مثلاً ، و کذا یصدق عنوان « المجتهد » علی صاحب تلک الملکة ، و هکذا ...

و الجامد ینقسم إلی :

1 - ما ینتزع من مقام الذّات و الذاتیّات .

2 - ما ینتزع من امورٍ لاحقةٍ متأخّرةٍ عن الذات ، و هذا ینقسم إلی قسمین :

أ - الامور المنتزعة المتأخّرة عن الذات واقعاً ، کالأعراض ، مثل الفوقیّة و التحتیّة .

ب - الامور المنتزعة المتأخّرة عن الذات اعتباراً ، کالزوجیّة و الحریّة و الرقیّة ...

و اتّفقوا علی خروج القسم الأوّل - و أنّ محل البحث هو القسم الثانی بقسمیه (1) - إذْ لا معنی لأنْ یبحث عن صدق « الإنسان » بعد أنْ صار تراباً ،

ص:338


1- (1)) و مراد صاحب (الکفایة) - فی کلامه ص 40 - من « العرض » عبارة عن الأعراض المتأصّلة التی یوجد بإزائها شیء فی الخارج ، مثل البیاض و السواد و غیرهما ، و مراده من « العرضی » لیس الامور الاعتباریة فقط ، بل کلّ ما لا یوجد فی الخارج بإزائه شیء ، أعم من أنْ یکون واقعیاً کالفوقیّة و التحتیّة أو اعتباریّاً کالملکیّة و الزوجیّة . فمراده ما ذکرناه - و هو مقتضی التأمّل فی کلامه حیث مثّل بالزوجیة و الرقیّة و قال فی آخره : من الاعتبارات و الاضافات ، لا ما ذکره بعض المحشّین علی ( الکفایة ) کالمشکینی و السید الحکیم من أن مراده من العرض هو الأمر الواقعی ، و من العرضی الأمر الاعتباری . و لا یتوهّم : أنه بناءً علی کون مقولة الاضافة من الاعتباریات کما هو مسلک بعضهم ، فما ذکراه فی معنی العبارة صحیح ، و ذلک ، لأن صاحب ( الکفایة ) جعل الإضافات مقابلةً للاعتباریات ، فأفاد أن الاضافات غیر داخلة عنده فی الاعتبارات . و علی الجملة ، فمراده من العرض کلّ مبدإ له ما بإزاء خارجاً ، و من العرضی ما لیس له ذلک ، سواء کان اعتباریاً کالزوجیة و الملکیة أو غیر اعتباری کالفوقیة و التحتیّة . و لا یخفی : أنّ هذا اصطلاح من المحقق الخراسانی فی العرض و العرضی ، غیر اصطلاح المناطقة حیث المراد من العرض عندهم هو المبدأ و من العرضی هو المشتق .

لوضوح أنّ البحث إنّما هو عن الهیئة ، من جهة أنها موضوعة لخصوص الذات المتلبّسة أو للأعم منها و من التی انقضی عنها التلبّس ، کما فی مثل « العالم » و « القائم » و نحوهما ، و أمّا فی المثال المذکور و نحوه من العناوین الذاتیّة ، فلیس وراء الإنسانیة أو الکلبیّة شیء حتی یبحث عنها ، نعم ، تبقی الهیولی ، و لیست بذاتٍ ... فالذّات قد زالت ، و ما بقی شیء لکی یبحث عن التلبّس و الانقضاء فیه (1) .

فموضوع البحث کلّ لفظٍ توفّر فیه أمران :

1 - القابلیّة للحمل علی الذات .

2 - الواجدیّة للتلبّس و الانقضاء (2) .

فلا کلّ مشتق بداخلٍ فی البحث ، و لا کلّ جامدٍ بخارج عن البحث .

هذا تحریر محلّ النّزاع .

ص:339


1- (1)) فما فی کلام البعض من أنّ هذا البحث لغویّ ، و لا مجال فیه لمثل هذا الاستدلال العقلی ، و أن من الجائز طرح البحث فی موردٍ لیس التبدّل فیه من قبیل تبدّل الذات ، کالخمر إذا انقلب خلّاً ، بأن یبحث هل هذا خمر أو لا ؟ غیر وارد . لأنّ البحث و إنْ کان لغویّاً ، إلّا أنه یدور حول المفهوم الموضوع له اللّفظ ، و من حیث أنه هو الحصّة الخاصّة من الذات أو مطلق الذات ، فالمورد الذی لا توجد الذات خارج عن البحث موضوعاً ، سواء کانت حقیقة الشیء بصورته أو بمادّته . و أمّا الجواب عن النقض بمثل الخلّ و الخمر ، فإنهما و إنْ کان شیئاً واحداً عقلاً ، إلّا أن الخمر و الخلّ من الحیثیة النوعیّة أمران متغایران .
2- (2)) بالنظر إلی الهیئة لا المادّة ، بأنْ تکون الهیئة قابلةً لأن یبحث عن أنها موضوعة لخصوص المتلبّس أو للأعم ، کهیئة « فاعل » و « مفعول » و « مفعَل » و إنْ کانت الهیئة فی مادّةٍ لیس لها انقضاء مثل « الناطق » حیث المادة هنا نفس الذات ، فلا یخرج مثله عن النزاع ، خلافاً للمحقق النائینی ، کما لم یخرج هیئة « مفعل » ، خلافاً لصاحب الفصول . و علی الجملة ، فمورد البحث هو الهیئة مطلقاً ، سواء کانت المادّة المشتملة علیها من قبیل « القائم » أو من قبیل « الناطق » .
مطالب متعلّقة بتحریر محلّ النزاع

و هنا مطالب متعلّقة بتحریر محلّ النزاع :

1 - الفرع الفقهی الذی استشهد به صاحب الکفایة لعموم البحث

ثم إن صاحب ( الکفایة ) استشهد لعموم بحث المشتق بالنسبة إلی بعض الجوامد ، و تأکیداً لسقوط القول بعدم دخول الجوامد مطلقاً ، بکلام فخر المحققین فی ( إیضاح الفوائد ) (1) فی شرح أحد فروع الرّضاع ، و هو ما لو کان لرجلٍ زوجتان کبیرتان و اخری صغیرة ترضع ، فأرضعتها إحدی الکبیرتین الرضاع الکامل ، فقال الأصحاب بحرمة الکبیرة و الصغیرة کلتیهما علی الزوج ، لأنّ الصغیرة حینئذٍ ابنته من الرّضاع ، و إنه یحرم من الرّضاع ما یحرم من النسب ، و الکبیرة امّ زوجته ، أو تحرم الصغیرة لکونها ربیبته .

ثم لو أرضعت الکبیرة الاخری بعد ذلک هذه الصغیرة ، بنی القول بحرمة الکبیرة الثانیة علی الزوج علی المختار فی مسألة المشتق ، فإن کان حقیقةً فی خصوص المتلبّس ، لم تحرم بسبب الرّضاع ، لأنها قد أرضعت من کانت زوجةً للرجل ، و هی حین الرضاع ابنته أو ربیبته ، و إنْ کان حقیقةً فی الأعمّ من المتلبّس و من انقضی عنه التلبّس ، حرمت ، لأنّها أصبحت أمّ الزوجة ، کما کانت الکبیرة الاولی .

ص:340


1- (1)) إیضاح الفوائد فی شرح القواعد 52/3 .

فهذه المسألة احدی الثمرات الفقهیة للنزاع ، و قد ظهر جریانه فی مثل « الزوجیّة » من الجوامد .

و تفصیل الکلام فی هذه المسألة هو :

إن الأصل فی المسألة هو الشیخ فی ( المبسوط ) و ( النهایة ) ، و قد اختلفت فتیاه فی الکتابین ، و تبعه علی کلٍّ منهما طائفة من الفقهاء ، و هی احدی الفروع الأربعة التی ذکرها :

1 - لو کانت له زوجة کبیرة و اخری صغیرة .

2 - لو کانت له زوجتان کبیرتان و صغیرة .

3 - لو کانت له زوجة کبیرة مع زوجتین صغیرتین .

4 - لو کانت له زوجتان کبیرتان مع زوجتین صغیرتین .

ثم إنّ اللبن تارةً یکون لبن الفحل و هو الزوج ، و أخری لبن غیره .

و أیضاً : تارةً یکون الرضاع مع الدخول بالکبیرة ، و اخری مع عدم الدخول بها (1) .

أدلّة القولین

قال العلّامة و جماعة بحرمة الکبیرة الثانیة ، لأن المشتق حقیقة فی الأعمّ ، و قال آخرون بعدم الحرمة ، لکون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس ، و قد ادّعی الإجماع علی حرمة الاولی ، و لا خلاف فی ذلک إلّا من بعض متأخّری المتأخّرین .

و قد استدلّ للقول بعدم الحرمة بروایة علی بن مهزیار ، و هی نصٌّ فی ذلک .

ص:341


1- (1)) و ما فی نسخ ( الکفایة ) : « مع الدخول بالکبیرتین » غلط من النسّاخ ، و الصحیح : مع الدخول بإحدیٰ الکبیرتین .

و أجاب الفخر و المحقق الثانی و غیرهما عنها بضعف السند .

و هذه هی الروایة : محمد بن یعقوب ، عن علی بن محمد ، عن صالح بن أبی حماد ، عن علی بن مهزیار ، عن أبی جعفر علیه السلام قال :

قیل له : إن رجلاً تزوّج بجاریةٍ صغیرة فأرضعتها امرأته ، ثم أرضعتها امرأة له اخری . فقال ابن شبرمة : حرمت علیه الجاریة و امرأتاه ، فقال أبو جعفر علیه السلام : « أخطأ ابن شبرمة ، تحرم علیه الجاریة و امرأته التی أرضعتها ، فأما الأخیرة فلم تحرم علیه ، کأنها أرضعت ابنته » (1) .

التحقیق فی سند روایة ابن مهزیار

و قد اورد علی سند هذه الروایة بوجهین :

الأول : الإرسال . فذکر لإثبات إرسالها وجوه :

1 - إن المراد ب « أبی جعفر » - متی أُطلق - هو الإمام الباقر علیه السلام ، و ابن مهزیار من أصحاب الرضا و الجواد علیهما السلام ، و لو کان المراد هو الإمام الجواد لقیَّد ب « الثانی » .

2 - إن ذکر ابن شبرمة فی الروایة قرینة علی أن المراد من أبی جعفر فیها هو الباقر علیه السلام ، لأن ابن شبرمة کان معاصراً له لا للإمام الجواد ، فتکون الروایة مرسلة ، لسقوط الواسطة المجهول حالها بینه و بین الإمام علیه السلام .

3 - لو کان المراد هو الإمام الجواد علیه السلام - لأنه من أصحابه - لما جاءت الروایة - کما فی ( الکافی ) - بلفظ « رواه عن أبی جعفر » الظاهر فی النقل مع الواسطة ، و إلّا فلا حاجة إلی هذا اللّفظ ، کما هو الحال فی سائر

ص:342


1- (1)) وسائل الشیعة 14 : 305 . الباب 14 من أبواب ما یحرم بالرّضاع .

الروایات المسندة .

4 - کلمة « قیل له » ظاهرة فی عدم سماع ابن مهزیار من الإمام علیه السلام ، و إلّا لقال : عن أبی جعفر .

و یمکن الذبّ عن الروایة بالجواب عن کلّ ذلک :

أمّا عن الأول ، فإنّ التقیید ب « الثانی » متی کان المقصود من أبی جعفر هو الإمام الجواد علیه السلام ، إنما جاء فی الأعصار المتأخّرة ، أمّا لزوم ذلک علی الرّواة أنفسهم ، فلا دلیل علیه .

و أما عن الثانی - و هو أتقن الوجوه - فإن ابن شبرمة ، المتوفّی سنة 144 ، و إنْ کان معاصراً للصّادقین علیهما السلام ، إلّا أنه کان من القضاة الکبار ، و له تلامذة ، فما المانع من أنْ یقال فی مجلس الإمام الجواد علیه السلام : قال ابن شبرمة کذا ... ؟ لقد ظنّ الشهید الثانی قدّس سرّه و من تبعه أن هذه الکلمة تعنی حضور ابن شبرمة فی المجلس و تکلّمه عند الإمام ... بل الظاهر : وقوع القضیّة فی زمن ابن شبرمة ، ثمّ السؤال عنها و عن رأیه فیها من الإمام الجواد علیه السلام الذی قال فی الجواب : أخطأ ابن شبرمة ...

و أمّا عن الثالث - و هو الذی اعتمده فی ( المحاضرات ) - فإن ظهور « روی » فی النقل مع الواسطة أوّل الکلام ، أمّا لغةً فواضح ، و أمّا اصطلاحاً ، فإنّ عدم قولهم « روی فلانٌ » فی مورد النقل بلا واسطة ، لا یکفی لأنْ یحمل ذلک علی النقل مع الواسطة ... هذا أوّلاً .

و ثانیاً : هذه الروایة فی نقل صاحب ( الوسائل ) بلفظ « عن أبی جعفر » إلّا أنْ یدّعی التعارض بین النقلین ، فیکون المقدَّم لفظ الکافی ، لأصالة عدم الزیادة .

ص:343

و ثالثاً : قد وجدنا فی أخبار الشیخ طاب ثراه أنّه قد یروی الخبر المسند بلفظ « روی » ... قال رحمه اللّٰه : « فأمّا الذی رواه علی بن الحسن ، عن محمد بن الحسن ، عن محمد بن أبی عمیر ، عن بعض أصحابنا ، رواه عن أبی عبد الله علیه السلام ... » (1) ثم إنّه قد أورد نفس هذا السند بلا کلمة « رواه » فقال : « علی ، عن أبیه ، عن ابن أبی عمیر عن بعض أصحابنا ، عن أبی عبد اللّٰه علیه السلام ... » (2) .

و تلخّص : إن کلمة « رواه » لا تنافی الاتّصال .

و أما عن الرابع ، فالجواب واضح ، بأنْ یکون ابن مهزیار حاضراً ، و قد سأل أحد الحضور الإمام علیه السلام عن المسألة ، و نظائره کثیرة جدّاً .

الثانی : الضعف ب « صالح بن أبی حمّاد » ، فقد قال النجاشی : یعرف و ینکر ، و عن ابن الغضائری : ضعیف ، و توقّف فیه العلّامة .

و قد ذکرت وجوه للاعتماد علیه :

1 - روایة أجلّاء الأصحاب عنه .

2 - عدم استثناء ابن الولید و الصّدوق له من مشایخ محمد بن أحمد بن یحیی ، فقد روی الصّدوق عن محمد بن أحمد بن یحیی عن صالح بن أبی حمّاد ، فی کتاب ( عیون أخبار الرضا ) ، فهو مقبول لدی ابن الولید و الصدوق تبعاً له . و قد اعتمد الوحید البهبهانی هذا الوجه .

3 - إنه من رجال تفسیر القمّی .

4 - فی الکشی عن علی بن محمد بن قتیبة : أن الفضل بن شاذان کان

ص:344


1- (1)) تهذیب الأخبار 316/7 ، الباب 27 ، رقم : 14 .
2- (2)) تهذیب الأخبار 336/7 ، الباب 30 ، رقم : 7 .

یرتضیه و یمدحه (1) .

قال شیخنا : و أقواها هو الوجه الرّابع ، لکنّ الاعتماد علیه مشکل :

أمّا من جهة السند ، ففیه : علی بن محمد بن قتیبة ، و لم یرد فی حقّه توثیق ... إلّا أن یدفع ذلک باعتماد الکشی علیه و کثرة النقل عنه ، و قد قال الشهید فی ( الذکری ) (2) فی رجلٍ : إنه و إنْ لم یرد فیه توثیق ، فإن نقل الکشی عنه یفید الاعتماد علیه .

و أمّا من جهة المدلول ، فإنّ ارتضاء الفضل له إنْ کان ارتضاءً لِما ینقل و یرویه ، کان دلیلاً علی وثاقته عندنا ، لا علی مجرَّد الحسن ، خلافاً لعلماء الرجال ، لکنّ من المحتمل أن یکون ارتضاءً منه لعقائده ، بأنْ یراه مستقیم العقیدة ، أو یکون ارتضاءً منه لعقله ، فی قِبال عدم ارتضائه لأبی سعید سهل ابن زیاد الآدمی لکونه أحمق کما قال ، و إذا جاء الاحتمال وقع الإجمال و بطل الاستدلال .

و بعد ، فإنّ المشهور بین الأصحاب - کما فی ( الریاض ) (3) هو القول بعدم الحرمة ، وعلیه الکلینی و الإسکافی و الشیخ ، و لا خلاف من المتقدمین إلّا من ابن إدریس ، بل فی ( الشرائع ) نسبة القول بالحرمة إلی « القیل » (4) ، فالشّهرة مطابقة للروایة ، لکنّ دعوی انجبار ضعفها بعمل المشهور مردودة من جهة الکبری و الصغری .

ص:345


1- (1)) رجال الکشی : 473 ط الأعلمی .
2- (2)) قال فی الذکری 108/4 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام : « الحکم ذکره الکشی و لم یعرض له بذم » ، و هو : الحکم بن مسکین و انظر : اختیار معرفة الرجال ، بتعالیق السید الداماد 758/2 .
3- (3)) ریاض المسائل 92/2 ط القدیمة .
4- (4)) شرائع الاسلام 286/2 ط البقّال .

هذا تمام الکلام فی الاستدلال بالخبر للقول بعدم الحرمة فی الکبیرة الثانیة .

و یبقی الاستدلال بمقتضی القاعدة من کلا الطّرفین .

الکلام فی حکم الکبیرة الأولی

و قد تقدّم أنّ ظاهر الأصحاب هو التسالم علی حرمتها ، بل هو صریح الفخر رحمه اللّٰه ، و قد أذعن صاحب الجواهر (1) و غیره بهذا الإجماع ، و لم ینقل الخلاف إلّا عن ابن إدریس .

و قد تنظّر الاستاذ دام بقاه فی ذلک لوجود شبهة انقضاء المبدإ فیها ، کالکبیرة الثانیة بلا فرق ، ثم أوضح ذلک بالتحقیق فی مدارک هذه الفتوی بأنّه :

1 - روایة ابن مهزیار

إن کان الدلیل هو روایة علی بن مهزیار المتقدّمة سابقاً ، فقد عرفت حالها سنداً .

2 - صدق «أُمَّهَاتُ نِسَائِکُمْ »

و إنْ کان دعوی صدق قوله تعالی «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ ... أُمَّهَاتُ نِسَآئِکُمْ » (2)علیها ، فهو أوّل الکلام ، و ذلک لعدم الریب فی أنّ « الاُمیّة » و « البنتیّة » متضایفتان ، و المتضایفان متکافئان قوّةً و فعلاً . و لا ریب أیضاً فی أنّ « البنتیّة » و « الزوجیّة » متضادّتان ، و بالنظر إلی هاتین المقدّمتین : إنه إذا استکملت شرائط الرّضاع و تحقّقت « الأُمیّة » للکبیرة ، تحقّقت « البنتیّة » للصغیرة بملاک التضایف ، و حینئذٍ ترتفع « الزوجیّة » بملاک التضاد ، فتکون هذه المرأة « امّاً »

ص:346


1- (1)) جواهر الکلام 331/29 .
2- (2)) سورة النساء : 23 .

لمن کانت « زوجة » ، فإنْ قلنا : بأن المشتق حقیقة فی الأعم تمّ الاستدلال بالآیة ، لعدم الشک فی الصّدق ، و إنْ قلنا : بأنّه حقیقة فی خصوص المتلبّس و مجازٌ فی من انقضی عنه ، فإنّ أصالة الحقیقة تقتضی عدم الحرمة ، لانقضاء المبدإ .

فلا فرق بین الکبیرتین ، إلّا من جهة طول الفاصل الزمانی و قصره ، ففی الکبیرة الثانیة خرجت الصغیرة عن الزوجیّة من زمانٍ سابق ، أمّا فی الاُولی فبعد زمنٍ قصیر .

وجوه التخلّص من الإشکال

و قد ذکرت وجوه للتخلّص من هذا الإشکال ، و توجیه قول الأصحاب بحرمة الاولی علی القاعدة :

الوجه الأول

إنه و إنْ لم تکن الکبیرة الاولی « امّ زوجة » الرجل ، من الناحیة العقلیّة ، للبرهان المتقدم ، إلّا أنه یصدق علیها العنوان المذکور عرفاً ، و المناط فی الأحکام الشرعیّة هو الصّدق العرفی .

ذکره جماعة ، منهم صاحب ( الجواهر ) ، و نقله المحقق الخراسانی صاحب ( الکفایة ) فی رسالته ( فی الرضاع ) ، ثم أمر بالتأمّل .

قال الاستاذ : وجه التأمّل هو عدم وضوح کون هذا الصّدق العرفی حقیقةً عرفیّة ، فلعلّهم یطلقون علیها العنوان المذکور من باب المسامحة ، فیکون مجازاً ، و مجرَّد هذا الشک کاف .

الوجه الثانی

إنه لا ریب فی أنّ الأُمومة و البنتیّة مزیلة للزوجیّة ، فزوال الزوجیّة معلول

ص:347

لوصفی الأُمومة و البنتیّة ، و کلّ معلولٍ متأخر رتبةً عن العلّة ، فلا بدَّ و أنْ یفرض وصف الزوجیّة مع الوصفین فی رتبةٍ واحدة حتی یمکن عروض الإزالة مستنداً إلی وصف البنتیّة علی الزوجیّة ، فالزوجیّة مع الأُمومة و البنتیّة مفروضة کلّها فی مرتبةٍ واحدة ، وعلیه ، فإنه تتّصف الأم المرضعة فی هذه المرتبة بأُمّ الزوجة ، فالنزاع یختص بالزوجة الثانیة دون الاولی .

قاله السید البروجردی طاب ثراه (1) .

و قال شیخنا : هذا خیر ما قیل فی المقام ، و حاصله : إن الکبیرة الاولی امّ الزوجة حقیقةً ، و متلبّسة بالمبدإ ، غایة الأمر أن اجتماع الاُمیّة مع الزوجیّة کان فی الرتبة لا فی الزمان .

مناقشة المحاضرات

و ناقشه فی ( المحاضرات ) (2) بأنّ الاتحاد الرّتبی بین الشیئین أو اختلافهما فی المرتبة لا یکون بلا ملاک ، أمّا بین « البنتیّة » و « ارتفاع الزوجیّة » فالملاک للتقدّم و التأخّر الرتبی موجود ، لأن « البنتیّة » علّة زوال « الزوجیّة » و من المعلوم تقدّم العلّة علی المعلول ، فلا إشکال فی تقدم البنتیّة علی عدم الزوجیّة ، أمّا تقدّم « الأُمیّة » علی « عدم الزوجیّة » فلا ملاک له ، لعدم العلیّة ، فلا یتم القول بکون « الأُمیّة » و « الزوجیّة » فی مرتبةٍ واحدة .

و هذا نظیر : أنّ وجود العلّة متقدّم فی الرتبة علی وجود المعلول ، و وجود العلّة و عدم وجودها فی مرتبةٍ واحدة ، لکنّ عدم العلّة غیر متقدّم فی المرتبة علی وجود المعلول ، إذ التقدّم موقوف علی الملاک ، و لیس لعدم العلّة ربط بوجود المعلول .

ص:348


1- (1)) الحجة فی الفقه : 80 .
2- (2)) محاضرات فی اصول الفقه 235/1 .
نقد المناقشة

و أورد علیه شیخنا دام بقاه : بأنّه لا خلاف فی أنّ الاختلاف فی المرتبة یحتاج إلی ملاک ، و هل الاتّحاد فیها أیضاً کذلک أو لا ؟ قال المحقق الأصفهانی فی ( نهایة الدرایة ) و ( الاصول علی النهج الحدیث ) بالأوّل ، و قال السیّد الخوئی فی حاشیة ( أجود التقریرات ) بالثانی ، و علی هذا المبنی نقول : إذا کان عدم الملاک الموجب للاختلاف فی الرتبة - کأنْ لا تکون بین الشیئین نسبة العلیّة و المعلولیّة ، و لا یکون أحدهما موضوعاً و الآخر محمولاً له کافیاً للاتحاد الرتبی بینهما ، لم یکن وجه لإشکاله علی التقریب المذکور ، لأنّ « الامومة » و « الزوجیّة » لمّا لم یکن ملاک الاختلاف الرتبی بینهما ، لعدم کون إحداهما علّة و لا موضوعاً للاخری ، فهما فی مرتبةٍ واحدة ، و حینئذٍ أمکن اجتماعهما إنْ دلّ دلیلٌ علی ذلک ، و أمکن ارتفاع « الزوجیّة » مع بقاء « الامومة » إنْ دلّ دلیل ، لأنّ المفروض کونهما فی مرتبةٍ واحدة ، و إذا تحقّقت « الامیّة » و « الزوجیّة » انطبق دلیل الحرمة بلا إشکال .

فما ذکر فی ( المحاضرات ) ردّاً علی الاستدلال غیر تام .

الحق فی الجواب

بل الحق فی الجواب عن الاستدلال : أنه مبنیّ علی أنّ « البنتیّة » علّة لعدم « الزوجیّة » و هذا باطل ، لأن « البنتیّة » و « الزوجیّة » ضدّان ، و لا تعقل العلیّة و المعلولیّة بین الضدّین ، و لا یمکن أنْ یکون أحدهما علّة لارتفاع الآخر ، بل العلّة هنا هی الرّضاع ، و البنتیّة و ارتفاع الزوجیّة کلاهما معلولان للرّضاع ، فهو العلّة لصیرورة الصغیرة بنتاً للرجل ، و لارتفاع الزوجیّة بینه و بین المرضعة لها ... فما أسّس علیه الاستدلال باطل ، و بذلک یبطل البناء .

ص:349

و هذا الإیراد یتوجّه علی ( المحاضرات ) أیضاً ، لأنَّ ظاهره التسلیم بهذه العلیّة و المعلولیّة .

الوجه الثالث

إن قوله تعالی : «أُمَّهَاتُ نِسَآئِکُمْ » ظاهر فی « امّ الزوجة » بالفعل ظهوراً إطلاقیّاً لا وضعیّاً ، لأن الدّلالة علی الفعلیّة إنما جاءت من ناحیة الإضافة ، و هی لیس موضوعةً للتلبّس الفعلی ، فعند الإطلاق و عدم القرینة یحمل الکلام علی الفعلیّة .

إلّا أن المراد هنا هو الأعمّ من الفعلی قطعاً ، لقرینة السیاق ، فإنّ قوله تعالی : «أُمَّهَاتُ نِسَآئِکُمْ » ورد فی سیاق قوله «وَرَبَائِبُکُمُ اللاَّتِی فِی حُجُورِکُم » و من المسلّم به أن المراد من « الربیبة » هنا هو الأعمّ من بنت الزوجة الفعلیّة المدخول بها ، و التی انسلخت عنها الزوجیّة ، و مقتضی وحدة السّیاق إرادة الأعمّ فی طرف «أُمَّهَاتُ نِسَآئِکُمْ » فتندرج الکبیرة تحت هذا العنوان ، فتحرم علی الزوج .

أقول :

هنا بحثان ، أحدهما صغروی و الآخر کبروی .

أمّا البحث الصغروی ، فقد زعم بعضهم عدم وجود السیاق هنا ، بدلیل أنّ حرمة الربیبة إنّما ثبتت بدلیلٍ خارج .

قال شیخنا : و فیه : أنه قد ورد فی الصحیح أن الإمام علیه السلام قد أخذ بعموم الآیة المبارکة ، و بذلک تتحقّق وحدة السیاق ، فعن محمد بن مسلم قال : « سألت أحدهما علیهما السلام عن رجلٍ کانت له جاریة فأُعتقت ، فتزوّجت ، فولدت ، أ یصلح لمولاها الأوّل أن یتزوّج ابنتها ؟ قال : لا ، هی

ص:350

حرام ، و هی ابنته ، و الحرّة و المملوکة فی هذا سواء .

... و عن صفوان ، عن العلاء بن رزین ، مثله و زاد : « ثم قرأ هذه الآیة :

« وَرَبَائِبُکُمُ اللاَّتِی فِی حُجُورِکُم » ... » (1) .

فقد قرأ علیه السلام الآیة للدّلالة علی أن هذه البنت ربیبة للرجل ، و هی حرام ، و إذا کان المراد من « الربائب » هذا المعنی الوسیع ، فکذلک فی « امّهات النساء » .

فما ذکره فی ( المحاضرات ) لا یمکن المساعدة علیه .

و أما البحث الکبروی ، و هو فی حدّ تأثیر وحدة السیاق ، و قد اختلفت الأنظار فی ذلک ، فقیل : إن أصالة الظّهور محکّمة فی کلّ جملةٍ من الکلام بالاستقلال ، و لا تأثیر لوحدة السیاق ، فقیام القرینة فی جملةٍ علی کون المراد فیها هو العموم لا یؤثر فی مدلول الجملة الاخری . و قیل : بأنّ وحدة السیاق من جملة القرائن الموجبة لحمل اللَّفظ علی غیر معناه الظاهر فیه . و قیل :

بالتفصیل بین الظهور الإطلاقی و الظهور الوضعی .

و اختار شیخنا دام ظلّه القول الأوّل ، اللّهم إلّا إذا کان ظهور اللّفظ فی معناه ظهوراً ، إطلاقیّاً ، فلکونه أضعف من الظهور الوضعی یسقط بمجرّد احتفافه بما یحتمل القرینیّة ، و السیاق إن لم یکن قرینة فإنه یحتمل القرینیّة ، فالقول الثالث - الذی هو مختار الأکثر - غیر بعید .

و إنّ مورد البحث من موارد الظهور الإطلاقی ... وعلیه ، یلزم الإجمال فی « امّهات نسائکم » .

ص:351


1- (1)) وسائل الشیعة 458/20 ، الباب 18 من أبواب ما یحرم بالمصاهرة ، رقم : 2 .
الوجه الرابع

ما ذکره المحقق النائینی (1) فی توجیه فتوی الفخر بحرمة الثانیة ، من أنه یکفی لترتب الحرمة التلبّس بعنوان أمّ الزوجة موجبةً جزئیة ، و لا یشترط صیرورتها أمّ الزوجة بالفعل ، فیکون من قبیل ما نذکره فی معنی قوله تعالی :

« لاَ یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ » (2)من أنّ مجرَّد التلبّس بالظلم - و لو آناً ما - مانع عن حصول الإمامة .

و هذا الوجه یجری فی الکبیرة الاولی أیضاً .

و أورد علیه شیخنا : بأن العناوین المأخوذة فی الأدلّة ظاهرة فی الفعلیّة ، إلّا إذا دلّ الدلیل علی عدمها ، کما هو الحال فی الآیة المذکورة ، و سیأتی توضیح ذلک .

الوجه الخامس

ما ذکره المحقق النائینی فی توجیه فتوی الفخر أیضاً ، من أنّه لو خرجت المرأة عن الزوجیّة للرجل ثمّ ولدت بنتاً من غیره ، فلا ریب فی حرمة البنت علی الزوج الأوّل ، هذا فی البنت بالنسب ، و کذلک الحکم فی البنت بالرضاع ، فلو أرضعتها بعد خروجها عن الزوجیّة کانت البنت محرَّمة علی الزوج ، إذ یحرم من الرضاع ما یحرم من النسب ، و کما أن البنت الرضاعیّة تحرم ، فکذا امّ الزوجة الرضاعیّة بعد زوال الزوجیّة ، فإنّها تصیر امّاً و تحرم علی الرجل .

فأورد علیه شیخنا : بأنّ حرمة البنت إنما کان بدلیلٍ ، کصحیحة محمد ابن مسلم المتقدّمة - فی الوجه الثالث - فإنّها نصّ فی الحکم المذکور ، مضافاً

ص:352


1- (1)) أجود التقریرات 82/1 .
2- (2)) سورة البقرة : 124 .

إلی صحیحة البزنطی الدالّة علیه بالإطلاق (1) .

أما بالنسبة إلی « أمّ الزوجة » فالدلیل هو عنوان «أُمَّهَاتُ نِسَآئِکُمْ » فیعود البحث و الکلام فی صدق هذا العنوان علی المرأة التی انقضی عنها التلبّس بالزّوجیّة ... و هذا هو الفرق .

الوجه السادس

إن الدلیل علی حرمة الاولی هو النص و الإجماع ، و استدلال الفخر بالقاعدة فی المشتق یختص بالثّانیة .

و أورد علیه شیخنا : بعدم النصّ علی حرمة الاولی ، و الروایات الواردة فی أنّ رجلاً تزوّج جاریةً فأرضعتها امرأته فسد النکاح (2) ، ظاهرة فی فساد نکاح الصغیرة دون الکبیرة المرضعة ، و مع التنزّل عن هذا ، فإنّها تفید فساد النکاح و انفساخه ، و مدّعی الفخر تبعاً لوالده هو الحرمة الأبدیّة خاصةً .

بقی الاستدلال بالجماع ، و هو :

الوجه السابع

فقد ادّعاه الفخر ، و فی ( جامع المقاصد ) بکلمة « لا نزاع » (3) و فی (الجواهر) (4) : « لا خلاف أجده » بل « الظاهر الاتفاق علیه » .

فالظاهر عدم الإشکال فی الصغری .

إلّا أنّ من المحتمل قویّاً استنادهم إلی الآیة المبارکة «أُمَّهَاتُ نِسَآئِکُمْ ».

هذا تمام الکلام فی الوجوه المستدل بها لحرمة الکبیرة الاولی ، و قد

ص:353


1- (1)) وسائل الشیعة 457/20 ، الباب 18 من أبواب ما یحرم بالمصاهرة ، رقم : 1 .
2- (2)) وسائل الشیعة 399/20 ، الباب 10 من أبواب الرضاع .
3- (3)) جامع المقاصد فی شرح القواعد 238/12 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام .
4- (4)) جواهر الکلام 329/29 .

ظهر أن أقواها هو الأخیر ، لکنّ شبهة الاستناد باقیة .

قال الاستاذ : و حینئذٍ تصل النوبة إلی الاستدلال لعدم الحرمة بقوله تعالی : «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ » (1)فإن مقتضاه - بعد الإجمال فی قوله : «أُمَّهَاتُ نِسَآئِکُمْ » بالنسبة إلی المورد - وجوب الوفاء بالعقد علیها و بقاء زوجیّتها .

فإنْ نوقش فی ذلک ، فمقتضی الاستصحاب بقاء الزوجیّة ، بناءً علی جریانه فی الشبهات الحکمیّة ، إلّا أنه ینبغی ملاحظة النسبة بینه و بین عمومات الاحتیاط فی الفروج ، و بقیّة الکلام فی الفقه ، و اللّٰه العالم .

2 - هل یجری النزاع فی اسم الزّمان ؟

ثم إنه - بالنظر إلی ما تقدّم فی تحریر محلّ النزاع - یقع الکلام فی دخول اسم الزّمان فی بحث المشتق ، لأن هیئة « مفعل » لیس لها فردان ، أحدهما المتلبّس و الآخر ما انقضی عنه التلبّس ، بل هو بین المتلبّس و غیر المتلبّس أبداً ، لکون الذات فیه - أعنی الزمان - متصرّمة لا بقاء لها ، فأیّ فعلٍ وقع فی أیّ زمانٍ ، فإن ذلک الزمان قد تلبّس بذلک الفعل و انصرم معه ، بخلاف « الضارب » و « الناصر » و ما شاکل ذلک .

فیکون اسم الزمان خارجاً عن البحث .

الوجوه المذکورة لإدخال اسم الزمان

و قد حاول المحقّقون إدخال اسم الزمان فی محلّ النزاع ، و هذه هی الوجوه التی ذکروها مع التأمّل و النظر فیها :

الوجه الأول

إن الهیئة فی اسم الزمان موضوعة لمفهومٍ عامٍ - بناءً علی أنّ الموضوع

ص:354


1- (1)) سورة المائدة : 1 .

له هو الأعم من المتلبّس و ما انقضی عنه - إلّا أنّ هذا المفهوم العام لیس له إلّا مصداق واحد ، نظیر لفظ « واجب الوجود » فهو غیر موضوع للشخص ، بل الموضوع له هو الموجود المستغنی عن الغیر ، لکنْ لیس له فی الخارج إلّا مصداق واحد . و نظیر لفظ « اللّٰه » بناءً علی أنه موضوع لمفهوم المعبود بالحق و لیس علماً للذات المقدسة ، و لکنّ المصداق واحد .

قاله المحقق الخراسانی فی ( الکفایة ) .

فقال الاستاذ :

إنّه واضح الضعف ، أمّا أوّلاً : فلأن لفظ « الواجب » معناه الثابت ، و هو مطلق ، و قد اضیف إلی « الوجود » فی « واجب الوجود » فکان معناه : الوجود المستغنی عن الغیر ، فلیس لهیئة الإضافة هذه وضع علی حده ، للدلالة علی المعنی المذکور ، و لفظ « اللّٰه » لا یتأتّی فیه بحث المشتق ، و کأنه اختلط علیه هذا اللّفظ بلفظ « الإله » و یشهد بذلک التدبّر فی کلمة « لا إله إلّا اللّٰه » .

و أمّا ثانیاً : فإن الغرض من الوضع هو التفهیم ، فلو سلّمنا أن للفظ « واجب الوجود » وضعاً علی حدة ، غیر وضع لفظة « الواجب » و لفظة « الوجود » ، کان جائزاً تعلّقُ غرض الواضع لأن یفهم بهذا اللّفظ - و کذا لفظ « الجلالة » - مفهوماً عامّاً ، و إنْ ثبت بالبرهان العقلی أنْ لا مصداق له إلّا الذات المقدّسة ، و لکنّ وضع « مفعل » للزمان الأعم الجامع بین المتلبّس و ما انقضی عنه التلبّس لغو محض ، و لا یترتب علیه أیّ أثرٍ عقلائی .

فهذا الوجه لا یرجع إلی محصَّل .

الوجه الثانی

إنه کما أن « الشهر » و « السنة » و کذا « السبت » و « الأحد » و نحوها

ص:355

موضوعات لمعانی کلیّة ، فللشهر مصادیق ، و للسبت مصادیق ... و هکذا ، و المصادیق هی التی تتعدّد ، أمّا الأسماء هذه فهی موضوعة للمعانی الکلیّة لا لهذه المصادیق ، کذلک الحال فی أسماء الزمان ، فهی موضوعة للمعانی الکلیّة الباقیة مع زوال الأفراد ، فإن « مقتل الحسین علیه السلام » اسم للیوم العاشر من المحرم ، و عاشر محرَّم غیر موضوع لخصوص الیوم الذی وقعت فیه الواقعة ، أی الیوم المتلبِّس بالقتل ، بل هو موضوعٌ لمفهوم باق بعد انقضاء التلبّس .

قاله المحقق النائینی .

فقال شیخنا دام ظلّه :

أوّلاً : إن قیاس ما نحن فیه بأسماء کلیّات قطعات الزمان ، قیاس مع الفارق ، فمن الواضح أنّ الشهر أو السبت لیس اسماً لهذا الشهر أو ذاک ، أو لهذا السبت أو ذاک ، بل اسم للکلّی و للطبیعی ، کما هو الحال فی وضع « الإنسان » الصادق علی « زید » و « عمرو » و غیرهما ... و کذلک عاشر المحرَّم ...

لکنّ « مقتل الحسین » اسم للزمان الخاص الذی کان ظرفاً لذلک الوصف ، و لتلک الحصّة الخاصة من الزمان ، فلیس « العاشر من المحرم » هو « مقتل الحسین » .

و ثانیاً : إن الأوصاف التی هی المبادئ فی اسم الزمان ، کالقتل فی « المقتل » و البعث فی « المبعث » و الولادة فی « المولد » و أمثال ذلک ، إنما یتحقّق فی الأفراد و المصادیق ، و لیس ظرفها هو الکلّی ، و إن کان وجوده بوجود الفرد ، و کذلک الأمر فی « عاشر محرَّم » فالذی کان ظرفاً للحادثة هو

ص:356

العاشر من المحرم المتخصص بتلک الخصوصیّة ، و أمّا الکلّی بدون التخصّص فلا یعقل أنْ یکون ظرفاً لمکانٍ أو لزمان ، فالقتل قائم بهذه القطعة الخاصّة من الزمان ، لا کلّی العاشر من المحرَّم ، فإن کان الکلّی باقیاً بعد زوال التخصّص لزم وجود الکلّی مع زوال الفرد ، و هذه مقالة الرجل الهمدانی ، و إنْ کان موجوداً بوجود الفرد ، و الفرد ظرفٌ للواقعة ، فلا محالة تزول الذات بزوال الخصوصیّة . فالوجه المذکور غیر مفید .

الوجه الثالث

إنّ الأزمنة و الآنات و إنْ کانت وجوداتٍ متعدّدة متعاقبة متّحدة بالسنخ ، و لکنّه حیثما لا یتخلّل بینها سکون ، فالمجموع یعدّ عند العرف موجوداً واحداً مستمرّاً ، نظیر الخطّ الطویل من نقطةٍ إلی نقطة معیّنة ، فبهذا الاعتبار یکون أمراً واحداً شخصیّاً مستمرّاً من أوّله إلی آخره ، فیصدق علیه کلّما شک فیه : إنه شک فی بقاء ما علم بحدوثه ، فیشمله دلیل حرمة النقض .

و حینئذٍ ، فبعین هذا الجواب نجیب عن إشکال المقام أیضاً ، حیث أمکن لنا تصوّر أمر قارٍ وحدانی ، یتصوَّر فیه الانقضاء ، بمثل البیان المزبور ، و إنْ بلغ تلک الأفراد المتعاقبة ما بلغ ، إلی انقضاء الدهر .

فإنّ مناط الوحدانیّة حینئذٍ إنما هو بعدم تخلّل السکون ، فیما بین تلک الأفراد ، فما لم یتخلَّل عدمٌ بینها یکون المجموع موجوداً واحداً شخصیّاً مستمرّاً .

نعم ، ذلک إنما هو فیما إذا لم تکن تلک القطعات المتعاقبة من الزمان مأخوذةً موضوعاً للأثر فی لسان الدلیل ، معنونةً بعنوانٍ خاص ، کالسنة و الشهر و الیوم و الساعة ، و نحوها ، و إلّا فلا بدَّ من لحاظ جهة الوحدانیّة فی خصوص

ص:357

ما عنون بعنوانٍ خاص من القطعات ، فیلاحظ جهة المقتلیّة مثلاً فی السنة أو الشهر أو الیوم أو الساعة ، بجعل مجموع الآنات التی فیما بین طلوع الشمس مثلاً و غروبها أمراً واحداً مستمراً ، فیضاف المقتلیّة إلی الیوم و الشهر و السنة .

فتدبّر .

قاله المحقق العراقی (1) .

قال شیخنا دام ظلّه :

أوّلاً : کیف یعقل الوجودات فی الزمان ؟ إن القول بأن للزمان أجزاء و وجودات یستلزم القول بالآن فی الخارج ، و بالجزء الذی لا یتجزّأ ، و بطلان الجوهر الفرد ، و الجزء الذی لا یتجزأ ، ضروری عند أهله ، بل الزمان وجود واحد لکنّه متصرّم فی ذاته .

و ثانیاً : إنّ الزمان و إنْ کان واحداً ، إلّا أن هذه الوحدة لا تنفع فی اسم الزمان ، لأنه لو کان الزمان باقیاً کما قال ، إمّا عرفاً و إمّا عقلاً ، لعدم تخلل العدم ، کان یومنا هذا مقتل الحسین ، مبعث الرسول ، لأن المفروض بقاء الذات و هو واحد شخصی ، فیلزم صدق هذه العناوین علی کلّ یومٍ من الأیام ، و هو باطل ، لما تقدّم من أن « مقتل الحسین » - مثلاً - هو تلک الحصّة الخاصّة من الزمان ، فالزمان و إنْ کان واحداً مستمرّاً ، لکنْ لیس کلّ قطعةٍ منه یسمّی باسم مقتل الحسین ، و من الواضح تصرّم تلک القطعة و زوال تلک الحصّة ، و لا أثر لوجود أصل الزمان .

و ثالثاً : إن فی کلامه تناقضاً ، فهو من جهةٍ یقول : الزمان وجودات و أفراد ، و من جهةٍ اخری یقول : هو واحد شخصی .

و تلخّص : إن هذا الجواب أیضاً غیر مفید .

ص:358


1- (1)) نهایة الأفکار 1 - 2 : 129 ط جامعة المدرّسین .
الوجه الرابع

إن هیئة « مفعل » موضوعة للجامع بین ظرف الزمان و ظرف المکان ، فالمقتل وضع للجامع بین زمان القتل و مکان القتل ، و انحصار المفهوم العام بالمصداق الواحد لا ینافی الوضع لذلک المفهوم و لا یضرُّ بصحّته کما تقدَّم ، و من الواضح أن اسم المکان ینقسم إلی المتلبّس و ما انقضی عنه التلبّس ، و بذلک یتمّ دخول « مفعل » فی محلّ البحث و مورد النزاع فی بحث المشتق .

قاله المحقق الأصفهانی ، و تبعه السید البروجردی ، و هو مختار ( المحاضرات ) (1) .

قال الاستاذ دام ظلّه :

إن هذا الوجه یرفع الإشکال ثبوتاً ، لما تقدّم من أن هذا البحث هیوی لا مادّی ، فإذا کانت هیئة « مفعل » موضوعة لوعاء الفعل ، الأعمّ من الزمان و المکان ، لا لخصوص الزمان و للمکان المتلبس بالمبدإ و المنقضی عنه التلبّس ، و إنْ لم یکن للزمان ذلک ، صحَّ أن یجری النزاع فی تلک الهیئة کسائر الهیئات المطروحة فی البحث .

ردّ الایراد الثبوتی

و ما قیل : من أنَّ مفهوم اسم الزمان لیس ظرفاً لوقوع الفعل و وعاءً له فی الخارج ، بل الزمان أمر ینتزع أو یتولّد من تصرّم الطبیعة و تجدّدها ، کما حقّق فی محلّه ، فقد أجاب عنه شیخنا دام بقاه فقال :

إنّ ما ذکره فی حقیقة الزمان یبتنی علی قول أصحاب الحرکة الجوهریة من أنه مقدار تجدّد طبیعة الفلک ، لکن دعوی تولّده بمعنی کون نسبة الحرکة

ص:359


1- (1)) محاضرات فی اصول الفقه 245/1 .

إلی الزمان نسبة العلّة إلی المعلول ، باطلة قطعاً ، لعدم تولّد شیء فی الخارج اسمه الزمان من الحرکة و التجدّد . و أمّا دعوی کونه منتزعاً - و الأمر الانتزاعی عبارة عن الحیثیّة الوجودیّة لما کان له مطابق فی عالم الأین ، کالفوقیّة ، إذ أنها حیثیّة موجودة بوجود ذات ، و لیس لها وجود فی قبالها ، نعم هی مغایرة مفهوماً لذات الفوق کالسقف مثلاً ، و قد حقق المحقق الأصفهانی هذا المطلب فی ( رسالة الحق ) (1) فیردّها :

إنه قد وقع الاتّفاق علی أنّ الزمان مقدار الحرکة القطعیّة ، و علی أنه یقبل القسمة إلی أقسام کثیرة ، من السنة و الشهر و الیوم و الساعة ، و أن لکلّ واحدٍ من الأقسام أقساماً ، فهذا من جهة ، و من جهة اخری ، فقد اتّفقوا علی أنّ تجدّد الطبیعة أمر بسیط ، و انتزاع المرکّب من البسیط محال .

هذا کلّه من الناحیة العقلیّة .

و أمّا من الناحیة العرفیّة ، و من المعلوم أن بحثنا عرفی لا فلسفی ، فإنّ أهل العرف یرون الزمان ظرفاً للزمانیّات ، و تشهد بذلک إطلاقاتهم فی الکلمات الفصیحة ، حیث یجعلون الزمان ظرفاً للحادثة کما یجعلون المکان ظرف لها ، و قال ابن مالک فی ( ألفیّته ) :

« الظّرف وقت أو مکان ... » .

ثم إنّ مرادنا من « الذات » المأخوذة فی المشتق هو الذات المبهمة من جمیع الجهات إلّا من حیثیة انتساب المبدإ إلیها ، فعند ما نقول « المفتاح » فالذات المأخوذة فیه مبهمة من جمیع الجهات إلّا من جهة نسبة الفتح ، و لذا ینطبق هذا العنوان علی تلک الآلة ، سواء کانت من حدیدٍ أو خشب أو غیرها ،

ص:360


1- (1)) حاشیة المکاسب 26/1 - 27 .

و کذا علی من فتح عقدةً أو حلّ مشکلة . و عند ما نقول « الحادث » فالذات المأخوذة فیه مفهوم مبهم من جمیع الجهات إلّا من جهة نسبة الحدوث إلیها ، فهی حادثة سواء کانت عقلاً أو إنساناً أو ناراً أو بیاضاً ... فإن صدق الحادث علی کلّ واحدٍ من ذلک حقیقی .

فظهر أنْ لا محذور من أخذ مفهومٍ جامعٍ بین الزمان و المکان ، بأن یکون الموضوع له « المفعل » هو « ما وقع فیه الفعل » و یکون المصداق تارةً هو الزمان و لیس له ما انقضی عنه التلبّس ، و اخری المکان ، و له المتلبّس و ما انقضی عنه التلبّس بالمبدإ .

فما ذهب إلیه المحقّق الأصفهانی و أتباعه سالم عن الإشکال الثبوتی .

ورود الإیراد الاثباتی

إلّا أنه ممنوع إثباتاً ، لعدم الدلیل علی ما ذکروه ، إذ لا نصَّ علیه من أئمة اللّغة - إن کان قولهم مثبتاً للوضع - و لا أنّ علائم الحقیقة کالتبادر قائمة علیه .

و علی الجملة ، فلا دلیل علی أن هیئة « مفعل » موضوعة للزمان و المکان معاً بنحو الاشتراک المعنوی .

فهذا الوجه أیضاً لا یرفع الإشکال .

و تلخّص : إن اسم الزمان خارج عن البحث .

3 - هل یجری النزاع فی الأفعال و المصادر المزیدة ؟

و وقع الکلام أیضاً فی المصادر المزیدة و الأفعال .

فصرّح المحقق الخراسانی بعدم جریان البحث فیهما و قال : بأن المصادر المزید فیها - کالمجرّدة - مدلولها عبارة عمّا یقوم بالذات ، و أمّا الأفعال فتدلّ علی النسب الخاصّة ، من النسبة القیامیّة و الحلولیّة و الصدوریّة

ص:361

و الوقوعیّة ، و لا المادّة فیها قابلة للحمل ، و لا الهیئة ، فتکون خارجة عن البحث .

قال شیخنا دام ظله :

و لعلّ الوجه فی تخصیصه البحث بالمصادر المزید فیها : ما قیل فی المجرَّد من أنه الأصل فی الاشتقاق ، فیکون خروجه تخصصیّاً ، لأنه إذا کان مبدأ الاشتقاق فهو غیر مشتق ، ثم إنه أشار إلی المصدر المجرَّد أیضاً للدّلالة علی مسلک التحقیق من أنّه أیضاً مشتق ، لأنّ المشتق ما اخذ من المادّة البسیطة « ض ، ر ، ب » و نحوه ، و کان تحت هیئةٍ من الهیئات ، و المصدر کذلک ، إذ مدلوله النسبة الناقصة ، و له هیئة .

فالصحیح : إن المصادر مطلقاً مشتقّة ، و الأصل فی الاشتقاق هی تلک الهیئة المجرّدة عن المادّة ، و التی نسبتها إلی المادّة نسبة الهیولی إلی الصّورة النوعیّة ، فکما أنّ الهیولی تتخلّی عن صورةٍ لتأخذ صورة اخری ، فکذلک مادة « ض ، ر ، ب » إذا کانت فی هیئةٍ لا یمکن أن تأخذ هیئةً اخری ، فقولهم :

المصدر أصل الکلام لا أصل له .

و قد یقال : بأنّ هیئة اسم المصدر لمّا کانت لا تدلّ علی شیء سوی أنها للتلفّظ ، فهی الأصل فی الکلام ، بخلاف المصدر فإن له نسبة ناقصة ، فإنْ لوحظ بحیثیّته الصدوریّة کان مصدراً ، و إنْ لوحظ بدونها فهو اسم مصدر ، و یقابلهما الفعل ، فإنّ هیئته تامّة یصحّ السکوت علیها ، و المدلول فیه هو النسبة التامّة .

و أمّا الاستدلال علی خروج الأفعال بأنها مشتملة علی النسبة الصدوریّة و الحلولیّة ، فهی غیر قابلة للحمل ، فینقض بهیئة اسم الفاعل مثل « ضارب »

ص:362

الذی نسبته صدوریّة ، و « حلو » الذی نسبته حلولیّة ، بل التحقیق أن المناط هو الصلاحیّة للاتحاد مع الذات ، و هذا موجود فی سائر المشتقات غیر المصادر و الأفعال .

هل فی الفعل دلالة علی الزمان ؟

المشهور بین النحاة ذلک ، و قد نصّ صاحب ( الکفایة ) و جماعة علی أنه اشتباه ، لأنّه لا بدّ لکلّ مدلولٍ من دالٍّ یدلّ علیه ، و الأفعال لیست إلّا الموادّ و الهیئات ، أمّا المادّة فتدلّ علی الحدث فقط ، و أما الهیئة فهی عبارة عن معنیً حرفی ، و هو واقع النسبة الخاصّة ، فلا دالّ علی دخول الزمان فی مدالیل الأفعال .

و ربما یقال : بأن الزمان مدلولٌ التزامی للفعل ، لا مطابقی و تضمّنی .

و فیه : إن الأفعال تستعمل فی موارد کثیرة لا تلازم لها مع الزمان و لا تقارن ، ففی قولنا « مضی الزمان » مثلاً لا توجد ملازمة و مقارنة بین المضیّ و الزمان .

و أیضاً : لا ریب فی إطلاق هذه الهیئات علی اللّٰه و علی المجرَّدات ، فنقول : « علم اللّٰه » ، و علم اللّٰه سبحانه فوق الزمان ، و المجرَّد لا زمان فیه .

فإمّا أنْ یلتزم بالمجاز فی جمیع هذه الاستعمالات ، لکنّها من فعل الإنسان ، و هو لا یری - بالوجدان - فرقاً فی الاستعمال و الإسناد بین « علم اللّٰه » و « علم زید » ، فلا وجه للالتزام بالمجاز ، و لا دلیل علی الدلالة الالتزامیة بل الدلیل دالّ علی عدمها .

و علی الجملة ، فإن هذه الصیغ تستعمل فی جملٍ لا دخل للزمان فی معانیها ، و لیس فی استعمالها فیها أیّة عنایةٍ .

و کلّ ذلک دلیلٌ علی بطلان ما اشتهر علی ألسنة النّحاة .

ص:363

الإشکال المهم

لکنّ الإشکال المهمّ - و قد أشار إلیه فی ( الکفایة ) أیضاً - هو وجود الفرق الواضح بین الفعل الماضی و الفعل المضارع ، فإنّ مدلول الأوّل مشتمل علی قبلیّةٍ ، و مدلول الثانی مشتمل علی بعدیّةٍ ، لأنه إنْ کان موضوعاً للحال و المستقبل معاً ، فمدلوله ما یقابل البعدیّة ، و إن کان موضوعاً للمستقبل فقط ، ففیه دلالة علی البعدیّة .

و هذا کاف لإثبات دلالة الأفعال علی الزّمان ... فما هو الجواب ؟

الأجوبة عن الإشکال

1 - أجاب فی ( الکفایة ) بأنه لا یبعد أنْ یکون لکلٍّ من الماضی و المضارع بحسب المعنی خصوصیّة اخری توجب الدلالة علی المضیّ فی الماضی ، و علی الحال و الاستقبال فی المضارع .

لکنْ ما المراد من الخصوصیّة ؟

ذکر السید الحکیم (1) ما حاصله : أنّها خروج المبدإ من القوّة إلی الفعل فی هیئة الفعل الماضی ، و عدم خروجه فی هیئة الفعل المضارع .

و هذا یرجع إلی ما ذکره المحقق المشکینی من أن هیئة الماضی موضوعة للنسبة التحقّقیة ، و هیئة المضارع موضوعة للنسبة التوقعیّة .

فهذه هی الخصوصیة فی کلٍّ منهما .

و هذا الجواب - کما ذکر شیخنا دام ظلّه - إنّما یفید فی الزمانیّات فقط ، و فیها یتصوّر القوّة و الفعل ، أما بالنسبة إلی ذات الباری سبحانه ، و کذا سائر المجرّدات ، فلا یعقل الخروج من القوّة إلی الفعل ، إذ المجرّد حقیقته الفعل

ص:364


1- (1)) حقائق الاصول 102/1 ط البصیرتی .

و لا تشوبها القوّة أصلاً ، فما ذکرا فی توجیه جواب المحقق الخراسانی یستلزم الالتزام بالمجاز فی جمیع موارد إطلاق صیغ الماضی و المضارع فی کافّة المجرّدات . و هذا هو المحذور المتوجّه علی کلام النحاة .

2 - و أجاب فی ( نهایة الدرایة ) (1) أمّا بالنسبة إلی الزمان و الزمانیّات ، فبأنّ هیئة الماضی موضوعة للنسبة المتّصفة بالتقدّم ، و هیئة المضارع موضوعة للنسبة المتّصفة بالحالیّة أو المستقبلیّة ، و التقدّم و التأخّر فی الزمانیّات یکون بالعرض ، و فی نفس الزمان بالذات ، و قولنا : مضی الزمان الفلانی ، و یأتی الزمان الفلانی و نحو ذلک ، کلّه حمل حقیقی و لیس بمجاز أصلاً .

و أمّا بالنسبة إلی ذات البارئ سبحانه ، فإن إطلاق الماضی و المضارع إنّما هو من جهة أن معیّة الحق سبحانه مع الموجودات معیّة القیومیّة ، و هذه المعیّة مع الموجود السابق سابقة ، و مع اللّاحق لاحقة ، فالسّبق و اللّحوق غیر مضافین إلیه تعالی ، بل هما مضافان إلی ما یقوم به ، فکان إطلاق الماضی و المضارع بالنسبة إلیه بلحاظ هذا السبق و اللّحوق .

و أورد علیه شیخنا : بأنا لمّا نقول « علم اللّٰه » و « یعلم اللّٰه » و نحو ذلک ، نستعمل الهیئة فی نفس الذات المقدّسة ، لا فی السابق أو اللاحق الذی کان مع اللّٰه ، فلا مناص له إلّا الالتزام بالمجاز و العنایة ، و هو کرّ علی ما فرّ منه .

3 - و أجاب فی ( درر الاصول ) (2) بما حاصله :

أوّلاً : إن الفعل الماضی موضوع لمضیّ المادّة التی تحت هیئة الماضی ، بالنسبة إلی حال الإطلاق ، بدلیل قولهم : مضی الزمان .

ص:365


1- (1)) نهایة الدرایة 181/1 .
2- (2)) درر الاصول 60/1 ط جامعة المدرّسین .

و فیه : إن « مضی » فعل ماضٍ ، و المبدأ فیه : « م ، ض ، و هوانه» فإذا کانت الهیئة فی الماضی دالّةً علی المضی ، کان الکلام : مضیٰ المضی ، و هذا غلط .

و ثانیاً : إن الفعل المضارع موضوع للمستقبل و لا دلالة له علی الحال .

و فیه : إن لازم هذا الکلام الالتزام بالمجاز فی قوله تعالی : «یَعْلَمُ مَا یَلِجُ فِی الْأَرْضِ وَمَا یَخْرُجُ مِنْهَا » (1)و قوله : «یَعْلَمُ مَا فِی السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ » (2)و نحوهما من الآیات و غیرها المراد فیها الحال لا المستقبل .

علی أن ما ذکره خلاف المشهور من أن المضارع موضوع للجامع بین الحال و المستقبل .

4 - و أجاب فی ( المحاضرات ) (3) بأنّ مدلول هیئة الفعل الماضی هو قصد المتکلّم وقوع المادة فی الزمان السابق علی التکلّم ، و مدلول هیئة الفعل المضارع قصده وقوعها بعد زمان التکلّم ، اللهم إلّا إذا قامت قرینة علی الخلاف ... فلیس معنی الهیئة وقوع المادّة قبل زمان التکلّم أو بعده ، نعم ، فی الزمانیّات لا بدّ من وقوع المادّة قبله أو بعده ، لکنَّ هذا من لوازم الموجودات الزمانیّة ، و لیس مدلول الهیئة . و علی ذلک ، فلیس مدلول قول القائل « علم اللّٰه » مثلاً تحقّق علمه سبحانه قبل زمان التکلّم ، بل إخبار المتکلّم عن قصده علم اللّٰه قبل زمان تکلّمه ، بداهة أن علمه تعالیٰ لا ینقسم إلی قبل و بعد زمان التکلّم .

و أورد شیخنا دام ظلّه علی هذا الجواب : بأنّه یبتنی علی مسلک صاحبه فی المعنی الحرفی ، من أن الحروف - و کذا الهیئات - موضوعة لإیجاد

ص:366


1- (1)) سورة سبأ : 2 .
2- (2)) سورة التغابن : 4 .
3- (3)) محاضرات فی اصول الفقه 247/1 .

التضییقات فی المعانی الاسمیة ، فإذا أخبر المتکلّم عن علم اللّٰه سبحانه و قصد تضییق إخباره أبرز قصده بهیئة الفعل الماضی أو بهیئة الفعل المضارع ... و قد تقدّم الکلام علی هذا القول فی محلّه ، لکن الإشکال هنا هو : إنه لا ریب أن معانی الهیئات معانٍ حرفیّة ، و المعانی الحرفیّة - تختلف سنخاً و جوهراً عن المعانی الاسمیّة - و إن اختلفوا فی کیفیة هذا الاختلاف و حقیقته - وعلیه ، فلا یعقل أن یکون « القصد » هو المعنی الذی تدلُّ علیه الهیئة ، لأنه - أی القصد - معنیً اسمی ، کما لا یخفی .

المختار فی الجواب لدی الشیخ الاستاذ

و بعد أنْ فرغ شیخنا دام ظلّه من تحقیق الوجوه التی ذکرها الأعلام ، أفاد بلحاظها و بالنظر إلی کلام النحاة :

إنّ هیئة الماضی موضوعة للنسبة الموصوفة بالتقدّم علی زمان النطق ، و هیئة المضارع موضوعة للنسبة الموصوفة بالتأخّر عنه ، من غیر دخلٍ للتقدّم و التأخّر فی مفهومیهما ، فمفهوم « علم » لیس إلّا المعنی الذی هو مدلول المادّة ، أمّا کونه « فی الزمان الماضی » فهذه ضمیمة من عندنا ، نعم ، هذا العلم یقع مقترناً بذاک الزمان ، أو مقترناً مع زمان الحال أو المستقبل فی « یعلم » .

فلیس فی مفهوم الفعل و الهیئة الموضوعة له الدلالة علی الزمان ، و لا الخروج من القوّة إلی الفعل ، أو العدم إلی الوجود ، و إنما المدلول مجرّد تحقّق المادّة قبل أو بعد زمان النطق ، و هذه هی الخصوصیّة المشار إلیها فی کلام ( الکفایة ) ... و من هنا صحّ قولنا علم اللّٰه ، یعلم اللّٰه ، إذ لیس المعنی إلّا وجود علمه تعالی قبلُ و فی الحال و المستقبل .

ص:367

نعم ، لازم ذلک فی المادیّات مثل « وجد زید » ، و « یوجد زید » هو الخروج من القوة إلی الفعل ، و من العدم إلی الوجود ، و هذا لا ینافی ما ذکرناه فی المفهوم الموضوع له الهیئة .

کما أنّ « الاقتران » بالزمان أمرٌ ، و کون الزمان دخیلاً فی المعنی أمرٌ آخر ، و قد جاء فی کلام ابن الحاجب و نجم الأئمة الرضی الأسترآبادی و غیرهما أن الفعل کلمة مدلولها الحدث المقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، و هکذا جاء فی کلام ابن هشام ، إلّا أنّه خالف فقال کبعضهم فی ( شذور الذهب ) (1)بدلالة الفعل علی الزمان ، و لذا ورد الإشکال .

و الحاصل : إن الوقوع فی الزمان و الاقتران به فی الوجود یعتبر قیداً للمفهوم و لیس جزءاً له ، فصحّ إطلاق الهیئة فی الزمانیّات ، و فی المجرّدات ، و بالنسبة إلی الباری سبحانه و تعالی ، فتدبّر .

4 - هل یجری النزاع فی اسم الآلة و اسم المفعول ؟

قد عرفت موضع النزاع فی بحث المشتق ، و أنه بحثٌ هیوی و لیس بمادّی ، فلا دخل لاختلاف المواد فیه ، من کون المبدإ أمراً فعلیّاً ، أو أمراً شأنیّاً ، أو ملکةً من الملکات ، أو حرفةً من الحرف .

ففی مثل « القیام » یکون التلبّس هو التلبّس الفعلی بالمبدإ ، فإذا انقضت الفعلیّة فقد انقضی عنه المبدأ .

و فی مثل « المجتهد » یتحقق التلبّس بتحقق الملکة ، و یکون انقضاؤه بانقضاءِ الملکة ، و لذا یصح إطلاق المجتهد علی صاحب الملکة و إن کان فی حال النوم مثلاً .

ص:368


1- (1)) شرح الکافیة : 218 ط القدیمة .

و فی مثل « البقّال » کذلک .

و کذلک الکلام فی مثل « المفتاح » و نحوه من أسماء الآلات ، فإنّ هیئة « المِفعال » دالّة علی التلبّس حقیقةً ، لأن المناط فی مثله هو التلبس بالشأنیّة للفتح فی « المفتاح » و للکنس فی « المکنسة » مثلاً ... و هکذا ، لا التلبّس بالفتح و الکنس فعلاً ، فأسماء الآلات داخلة فی البحث ، لانطباق الضابط علیها ، خلافاً لمن استشکل فی ذلک .

کما أنّ استدلال المحقق النائینی علی خروج « اسم المفعول » بأنه موضوع لمن وقعت علیه المادّة ، و من وقع علیه المادة لا ینقلب عمّا هو علیه ، فلا مِصداقیة ل « من انقضی عنه التلبّس بالمبدإ » فیه ، فلا یشمله الضابط ، مردود :

أمّا نقضاً ، فباسم الفاعل ، فهو موضوع لمن صدر منه المبدأ ، و من صدر منه المبدأ لا ینقلب عمّا هو علیه ، و قد وافق علی دخوله فی البحث .

و أمّا حلّاً ، فبأنّ البحث هو : هل هذه الهیئة موضوعة لتلک الذات فی حال وقوع المادّة علیها فقط ، أو هی موضوعة لها بِصِرف أنها تلبّست بذلک و انقضی عنها ، کما أنّ اسم الفاعل کذلک ؟

المقدمة الثالثة ( فی المراد من « الحال » فی عنوان البحث)

هل أن « الحال » فی عنوان البحث فی کلام الأعلام - و قولهم : هل المشتق حقیقة فی المتلبّس بالمبدإ فی الحال أو أنه حقیقة فی الأعم ؟ - عبارة عن حال التلبّس بالمبدإ ، أو عبارة عن حال الجری و التطبیق علی المصداق الخارجی ، أو عبارة عن حال النطق و النسبة الکلامیّة ؟

ص:369

قد کرّرنا أن هذا البحث مفهومی ، فهو یدور حول أنّ مفهوم الهیئة هل هو عبارة عن خصوص الحصّة المتلبّسة بالمبدإ من الذات أو أنّه أعمّ من المتلبّسة و التی انقضیٰ عنها التلبّس ، فهو بحث مفهومی مردّد بین الأقل و الأکثر ، أو بین المتباینین .

فالمراد من « الحال » هو حال التلبّس لا محالة ، لا حال النطق و لا حال الحمل و الإسناد ، و مما یوضّح أنْ لیس المراد حال النطق قولنا : زید کان ضارباً بالأمس و سیکون ضارباً فی الغد ، فإنّه إطلاق حقیقی ، مع أنه لیس المراد حال النطق ، کما یوضّح أنّ المراد لیس حال الإسناد صحّة إطلاق المشتقّات فی المجرّدات و هی لا موضوع للزمان فیها .

و تلخّص : إن المراد حال التلبّس ، إلّا أن فعلیّة کلّ مادّةٍ بحسبها ، کما ظهر من المقدمة السابقة .

هذا تمام الکلام فی المقدّمات ...

فما هو مقتضی الأدلّة و الاصول ...

ص:370

مقتضی الأدلّة و الاُصول

فی معنی المشتق

و یقع البحث فی مقامین :

الأول : فی مقتضی الأدلَّة .

و الثانی : فی مقتضی الاصول ، بعد الیأس عن الأدلَّة .

و الکلام فی المقام الثانی فی جهتین :

الاولی : فیما یقتضیه الأصل من الجهة الاصولیّة ، فیبحث عمّا هو مقتضی الأصل فی تنقیح و تعیین المفهوم الموضوع له المشتق .

و الثانیة : فیما یقتضیه الأصل من الجهة الفقهیّة ، فإن لم یقم أصلٌ یوضّح و ینقّح الموضوع له ، فما هو الأصل الذی یرجع إلیه الفقیه فی مقام الفتوی ؟

ص:371

المقام الثانی

اشارة

و قد قدّم فی ( الکفایة ) البحث فی المقام الثانی ، و نحن أیضاً نتبعه فی ذلک :

تأسیس الأصل من الجهة الاصولیّة

و الأصل فی هذه الجهة إمّا عقلائی و إمّا تعبّدی ، و هو - علی کلّ تقدیر - مفقود ، کما سیأتی ، و لنذکر قبل الورود فی بیان ذلک ، ما یلی :

إن المفروض هو الجهل بسعة مفهوم الهیئة و أنه أعمّ من المتلبّس و ما انقضی عنه ، أو ضیقه و أنه خصوص حال التلبّس ، فهل یکون هذا التردّد من قبیل دوران الأمر بین الأقل و الأکثر أو من قبیل المتباینین ؟

قالوا : بأنه من قبیل الأوّل .

فقال الاستاذ دام بقاه : بأنّ النسبة بین العام و الخاص ، و کذا المطلق و المقیّد ، فی مرحلة الصّدق علی الخارج ، هی النسبة بین الأقل و الأکثر ، لأنّ کلّ خاصّ فهو العام مع خصوصیّة إضافیّة فیه ، کما فی أعتق رقبةً مؤمنة ، أمّا النسبة بینهما فی مرحلة اللّحاظ و التصوّر فهی التباین ، و من هنا قال المحقق الأصفهانی بأن التقابل بین الإطلاق و التقیید هو تقابل التّضاد ، فهما بحسب الوجود الخارجی مجتمعان ، أما بحسب اللّحاظ فلا یجتمعان .

و بناءً علی هذا ، فلمّا کان بحث المشتق یدور حول المعنی الموضوع له

ص:372

الهیئة ، و هذا ممّا یتعلَّق بمرحلة التصوّر لا مرحلة الصدق الخارجی ، فالنّسبة بین الأخصّ و الأعم من قبیل المتباینین .

و فائدة هذا المطلب هی : أنه إنْ کان من الأقل و الأکثر ، فالجامع بین المتلبّس و من انقضی عنه التلبس ملحوظ لا محالة ، و یرجع الشک حینئذٍ إلی الزائد ، فیکون خصوص التلبّس مجری الأصل ... إلّا أن القوم قالوا بجریان الأصل فی کلا الطرفین ، و هذا مما یشهد بکون مورد البحث من المتباینین لا من الأقل و الأکثر .

فالبحث من الجهة الاصولیّة شبهة مفهومیّة مردّدةٌ بین متباینین ، لأن کلّاً من المتلبّس و الأعمّ یلحظ بلحاظٍ مستقل . أمّا من الجهة الفقهیّة ، فشبهة مفهومیّة مردّدة بین الأقل و الأکثر ، کما سیأتی .

فهل هناک أصل لیرجع إلیه فی هذه الجهة ؟ إن صورة المسألة هی : إن المشتق إن کان موضوعاً للأعم فهو مشترک معنوی ، و إنْ کان موضوعاً لخصوص المتلبّس ، فاستعماله فی الأعم مجاز ، فیعود الأمر إلی الدوران بین الاشتراک و المجاز ، فهل من أصلٍ عقلائی ؟

کلّا ، لا یوجد عند العقلاء أصل یرجعون إلیه فی مثل هذه المسألة ، إلّا أن یقال بأنّ الغلبة مع الاشتراک ، و الشیء یلحق بالأعمّ الأغلب فی السیرة العقلائیة .

لکن الغلبة غیر ثابتة ، و السّیرة غیر مسلّمة .

هذا ، بغض النظر عن أنّا بصدد تأسیس الأصل ، و الترجیح بالغلبة الذی هو من مرجّحات باب تعارض الأحوال یعدُّ من الأدلّة .

و هل من أصلٍ تعبّدی ؟ و المراد أصالة عدم لحاظ الواضع لدی الوضع

ص:373

خصوص المتلبّس و حال التلبّس مثلاً ، و لکن فیه :

أوّلاً : إنّ موضوع الأثر هو الظهور ، و أمّا اللّحاظ فلیس موضوعاً للأثر ، فلا یجری فیه الاستصحاب .

و ثانیاً : إن استصحاب عدم لحاظ خصوص المتلبّس لازمه لحاظ الأعمّ منه و من انقضی عنه التلبّس ، فلا یثبت الوضع للأعمّ إلّا علی القول بالأصل المثبت .

و ثالثاً : إذا کانت أرکان الاستصحاب فی طرف عدم لحاظ خصوص المتلبّس تامّةً ، فهی فی طرف عدم لحاظ الأعمّ تامّة کذلک ، فیقع التعارض بینهما و یسقطان بالمعارضة .

تأسیس الأصل من الجهة الفقهیّة

أی : إذا لم تفِ الأدلّة فی بحث المشتق لإثبات أحد القولین ، فبأیّ أصلٍ من الاصول یأخذ الفقیه ؟ و ما هی وظیفته بالنسبة إلی المشتق الواقع موضوعاً لحکم من الأحکام الشرعیّة ؟

إن مورد البحث هو الشبهة المفهومیّة ، أی الشبهة الحکمیّة الناشئة من إجمال مفهوم موضوع الدّلیل ، من جهة کونه مشتقاً ، و أنّه لا یعلم أنه وضع لخصوص المتلبّس بالمبدإ أو للأعم منه و من انقضی عنه ، و له فی الفقه أمثلة کثیرة ، کمسألة أمّ الزوجة التی بحثنا عنها بالتفصیل ، و کمسألة کراهة البول تحت الشجرة المثمرة ، و کمسألة کراهة استعمال الماء المسخّن بالشمس ...

و غیرها .

لکن المشتق المجمل قد جاء فی بعض هذه الموارد موضوعاً لدلیلٍ مخصّصٍ لعام ، کما فی مثال ام الزّوجة ، فإنه موضوع لدلیلٍ مخصّصٍ

ص:374

لعمومات حلیّة النکاح ، ففی مثل هذا المورد ، إنْ جاء المخصّص متّصلاً بالعام ، فلا ریب فی سرایة إجماله إلی العام ، و إنْ جاء منفصلاً ، کما فی المثال المذکور ، فإن مقتضی القاعدة هو التمسّک بعموم العام بالنسبة إلی الزائد عن القدر المتیقّن من المخصّص ، و هو فی المثال خصوص المتلبّس ، فیبقی العام حجةً بالنسبة إلی الأعم .

إلّا أن المهمّ فی المقام هو تأسیس الأصل بالنسبة إلی الموارد التی لا یوجد عام فی البین ، أو کان المخصّص متّصلاً به ، فما هو الأصل المحکّم فیها ؟

مثلاً : لو قال المولی : « أکرم العلماء » و شک فی مفهوم « العالم » من حیث أنه حقیقة فی خصوص المتلبّس بالعلم فقط أو فی الأعمّ منه و من انقضی عنه ، فهنا ثلاثة أقوال :

1 - جریان الاستصحاب فی الشبهات المفهومیة مطلقاً .

2 - عدم جریانه کذلک .

3 - التفصیل بین الموضوع فلا یجری ، و الحکم فیجری .

فإنْ قلنا بجریان الاستصحاب فی الشبهات المفهومیّة ، أمکن إجراؤه فی موضوع المثال ، لسبق الاتّصاف و التلبّس بالعلم یقیناً ، و مع الشک فی بقائه یستصحب ، و یترتّب علیه الحکم بوجوب الإکرام ، فلا تصل النوبة إلی إجراء الاستصحاب فی الحکم ، فضلاً عن التمسّک بالبراءة أو الاشتغال .

و کذا لو نهیٰ المولی عن هتک العالم ، فشک فی بقاء تلبّس زیدٍ بالعلم مع الیقین بذلک سابقاً ، فإنّه یستصحب بقاء العلم - کما ذکر المحقق الخراسانی - و لا یجوز هتکه .

ص:375

و إن قلنا بعدم جریان الاستصحاب فی الشبهة المفهومیّة إلّا فی الحکم ، فإنه مع الشک فی بقاء الحکم بوجوب الإکرام - بعد الیقین به سابقاً - ، یجری الاستصحاب ، و لا تصل النوبة إلی البراءة أو الاشتغال .

و إنْ قلنا بعدم جریان الاستصحاب فی الشبهة المفهومیّة مطلقاً ، کما هو المختار - أمّا فی الموضوع ، فلأنه یعتبر فی الموضوع المستصحب أن یکون ذا أثر شرعی ، و المفاهیم لا أثر لها ، و أمّا فی الحکم ، فلأنه یعتبر فی الاستصحاب وحدة الموضوع فی القضیّتین ، و هی هنا مفقودة (1) - .

فتصل النوبة إلی البراءة أو الاشتغال .

ص:376


1- (1)) إن المفاهیم - بما هی مفاهیم و مدالیل للألفاظ - لیست بموضوعات لآثار شرعیّة ، فمفهوم « الخمر » لیس بحرامٍ ، بل الحرام هو الخمر الموجود خارجاً ، و مفهوم « الکر » لیس بذی أثر بل الأثر الشرعی یترتب علی المصداق الخارجی ، و حینئذٍ لا بدّ من توفّر أرکان الاستصحاب - الیقین السابق و الشک اللّاحق - فی المصداق الخارجی ، و کذا « العالم » فی المثال ، فإنه لیس مفهوم هذه اللفظة بما هو موضوعاً للأثر بل واقع العلم ، و مع الشک یدور أمره بین ما انقضی عنه التلبس و هو منتف یقیناً ، و بین کونه حقیقة فی الأعم فیکون باقیاً یقیناً ، فالشک فی البقاء منتفٍ ، فلا یجری الاستصحاب فی طرف الموضوع . هذا بالنسبة إلی الموضوع . و کذلک الحال بالنسبة إلی الحکم . و ذلک ، لعدم صدق نقض الیقین بالشک فی حال اختلاف موضوع القضیّة المشکوکة مع موضوع القضیة المتیقّنة ، فلا بدّ من وحدة الموضوع ، و هی فی الشبهات الحکمیّة منتفیة ، لأن أمر الموضوع فیها یدور بین الزوال تماماً و البقاء یقیناً ، لأن تلک الذات إن کانت متلبّسةً بالعلم ، فإنه مع زوال التلبس یزول موضوع الاستصحاب ، لان المفروض کون التلبّس جزءاً للموضوع ، و بناء علی الأعمّ یکون الموضوع باقیاً یقیناً ، و فی مثله لا یجری الاستصحاب . و بما ذکرنا یظهر أن الدّلیل علی عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة هو قصور المقتضی ، أی عدم شمول أدلّة الاستصحاب لمثل هذه الشبهات ، لا المعارضة بین استصحاب عدم المجعول و استصحاب عدم الجعل ، لأنّ التعارض فرع وجود المقتضی لشمول الأدلَّة للطّرفین ، و تفصیل الکلام فی محلّه .

و هاهنا صور :

1 - أن یرد الحکم علی الموضوع ، و بعد وروده ینقضی المبدأ ، کأن یحکم بإکرام العالم العادل ، و تنقضی العدالة عن الذات بعد ثبوت الحکم .

2 - أن ینقضی المبدأ عن الموضوع ، ثم یرد الحکم .

فبناءً علی عدم جریان الاستصحاب الحکمی فی الشبهات المفهومیّة ، یکون الأصل الجاری هو البراءة ، لکون المورد - فی کلتا الصورتین - من موارد الشک فی التکلیف الزائد ، لرجوع الشک إلی أصل وجوب الإکرام .

3 - أن یتوجَّه الحکم بوجوب الإکرام علی عنوان « العالم العادل » و لم یمتثل بعد ، فإنْ امتثل فی مورد المتلبّس یقیناً سقط التکلیف ، و إنْ اکرم من انقضی عنه التلبس یشک فی حصول الامتثال و سقوط التکلیف ، و بذلک یتّضح أنّ هذه الصورة من صغریات دوران الأمر بین التعیین و التخییر ، فإنْ قلنا بالاشتغال ، حکمنا بوجوب إکرام خصوص المتلبّس ، و به قال المحقق العراقی ، مع قوله بالبراءة فی الصورة الاولی تبعاً لصاحب ( الکفایة ) ، و فی الثانیة بالاستصحاب ، لأنّه یری جریانه فی الشبهات المفهومیّة .

لکنّ المختار فی دوران الأمر بین التعیین و التخییر هو البراءة ، إلّا أن موارد دوران الأمر کذلک مختلفة ، فتارةً : یکون التکلیف غیر معلومٍ تماماً ، کأنْ یکون الإجماع دلیل الوجوب ، و هو دلیل لبّی ، فمثله من صغریات دوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، و الأصل هو البراءة . و اخری : یکون التکلیف معلوماً بوجهٍ من الوجوه ، و معه یصح للمولی الاحتجاج علی العبد ، فلا مجال لأصل البراءة ، و موردنا من هذا القبیل ، إذ التکلیف معلوم ، و التحیّر یعود إلی مقام الامتثال و التطبیق ، و مع الشک فی صدق « العالم العادل » علی من انقضی عنه التلبّس ، لا یجوز الاکتفاء به ، بل المرجع هو الاشتغال .

هذا تمام الکلام فی المقام الثانی .

ص:377

المقام الأوّل

اشارة

و البحث فی جهتین کذلک :

1 - جهة الثبوت .

2 - جهة الإثبات .

و لا یخفی ترتّب الجهة الثانیة علی الاُولی ، ضرورة أن البحث عن دلالة الأدلَّة علی کلّ واحدٍ من القولین ، متفرّع علی إمکان وضع اللّفظ لخصوص المتلبّس أو للأعم ، فلو لم یمکن إلّا وضعه علی هذه الحصّة أو تلک ، لم تصل النوبة إلی البحث الإثباتی ، کما سیتّضح .

الجهة الأولی
اشارة

ذهب المحقّقان النائینی و الأصفهانی إلی عدم إمکان وضع اللّفظ للأعمّ ، و أنه یتعیَّن أنْ یوضع للمتلبّس خاصّة :

الإشکال الثبوتی ببیان المیرزا

قال (1) رحمه اللّٰه ، ما ملخّصه : إمّا أنْ نقول ببساطة المشتق أو نقول بترکّبه .

أمّا علی الأول ، فلا یمکن الوضع للأعم ، لأنّ معنی بساطة المشتق أنْ یکون الموضوع له اللّفظ نفس المبدإ فقط ، مع لحاظه بنحو اللّابشرط ، أی :

ص:378


1- (1)) أجود التقریرات 112/1 .

حالکونه قابلاً للحمل علی الذات و الاتّحاد معها ، و هو اسم الفاعل و اسم المفعول و نحوهما ... لا بنحو البشرطلا ، الذی لا یقبل الحمل و الاتّحاد مع الذات ، و هو المصدر و اسم المصدر ... کالبیاض مثلاً إذا لوحظ وجوداً فی قبال وجود الذات ، فإنّه حینئذٍ لا یحمل علیها ، فلا یقال : الجدار البیاض ، بخلاف ما إذا لوحظ مرتبةً من وجود الجدار ، فیحمل علیه و یتّحد معه و یقال :

الجدار أبیض .

و علی الجملة ، فإنّ القول ببساطة المشتق مع لحاظه لا بشرط ، معناه أن مدلول العالم مثلاً لیس إلّا العلم فقط ، و أن الذات غیر مأخوذة فیه أصلاً ، فلیس هناک من یتلبَّس بالعلم أو ینقضی عنه التلبّس ، بل المدلول هو مبدأ العلم ، و أمره دائر بین الوجود و العدم .

وعلیه ، فاللّفظ موضوع للمتلبّس ، و یستحیل أن یکون موضوعاً لما انقضی عنه التلبّس ، فیصیر وضع المشتقات کوضع الجوامد ، فإذا زال المبدأ لم یبق شیء ، کما لو زالت الإنسانیة فلا شیء یصدق علیه عنوان الإنسان ، بل المشتق أسوأ حالاً ، لبقاء المادّة بعد زوال الصّورة النوعیّة فی الإنسان ، و عدم بقاء شیء بعد زوال المبدإ فی المشتق ، کما تقدّم .

و بما أنّ الحق عند المحقق النائینی هو بساطة المشتق ، فوضع المشتق للأعمّ غیر ممکن ثبوتاً .

و أمّا علی الثانی ، بأنْ یقال بترکّب المشتقّ من المبدإ و الذات المبهمة من جمیع الجهات إلّا اتّصافها بالمبدإ ، فکذلک ، لعدم إمکان تصویر الجامع بین المتلبّس و ما انقضی عنه التلبّس غیر الزمان ، و لو لا أخذه فی المشتق لم یتحقّق الانقضاء ، لکنْ قد تقرّر - کما تقدّم - أنّ الزمان غیر مأخوذٍ فی

ص:379

المشتقات ، و لو فرض اشتمال الهیئة علی الزمان فی الأفعال ، فلا ریب فی عدم أخذه فی أسماء الأفعال و المفاعیل .

هذا ، و لا ینتقض هذا الذی ذکره هنا بما تقدّم عنه فی مدلول هیئة الفعل الماضی من أنه النسبة التحقّقیّة ، و أنّ هذه النسبة تجمع بین المتلبس و ما انقضیٰ ، فلتکن هی الجامع بین جمیع المشتقات . و وجه عدم ورود النقض هو أنه رحمه اللّٰه یریٰ التلازم بین هذه النسبة مع الزمان الماضی فی الزمانیّات ، فلا معنی لوجودها فی اسم الفاعل و اسم المفعول و نحوهما .

فظهر عدم إمکان الوضع للأعم ثبوتاً علی کلا التقدیرین .

الإشکال الثبوتی ببیان المحقق الأصفهانی

أمّا علی القول بالبساطة ، فمطلبه نفس ما ذکره المیرزا ، لکن بتقریب آخر ، قال (1) :

إنّه لا تتصوّر البساطة فی المشتق - و هو مبنی المحقق الدوانی - إلّا بأنْ یلحظ المبدأ فیه من شئون الذات و أحد مراتب وجودها - و ذلک ما ذکرناه من قبل ، من أن المبدأ تارةً : یلحظ فی قبال الذات ، فیکون المصدر کالضرب ، و لا یقبل الحمل علیها ، و اخری : یلحظ من شئون الذات و أطوارها و مراتب وجودها فیکون اسم الفاعل کالضارب ، و یقبل الحمل علیها و یتّحد معها ، فلا فرق بین « الضرب » و « الضارب » إلّا باللّحاظ ، فإنْ لوحظ علی النحو الأوّل فهو المبدأ ، و إنْ لوحظ علی النحو الثانی فهو المشتق - و إذا لوحظ کذلک ، دار أمره بین الوجود و العدم ، و لا جامع بینهما ، فلا یمکن وجود الجامع بین المتلبّس و من انقضی عنه التلبّس .

ص:380


1- (1)) نهایة الدرایة 131/1 .

و أمّا علی القول بالترکّب ، فاستدلاله یختلف عمّا ذکره المحقق النائینی ، قال :

إنّ مدلول المشتق بناءً علیه إمّا « مَن حَصَلَ منه الفعل » کما علیه العلّامة فی ( تهذیب الاصول ) ، و إمّا « من کان له الفعل » کما علیه صاحب ( الفصول ) ، مع إهمال النسبة بین المبدإ و الذات ، و کیف کان ، فیرد علیه :

أوّلاً : إن لازم ذلک صدق المشتق علی من سیتلبّس بالمبدإ حقیقةً ، لأن النسبة المهملة تصدق علی الجمیع ، مع اتّفاقهم علی أنه مجاز و لیس بحقیقة .

و ثانیاً : إن حقیقة النسبة لیس إلّا الخروج من العدم إلی الوجود ، فخروج المبدإ من العدم إلی الوجود هو النسبة ، و هو عین الفعلیّة ، فلا یتصوَّر وجود جامعٍ و لا یعقل الوضع للأعم .

النظر فی مناقشة السیّد الخوئی

و قد أجاب فی ( المحاضرات ) (1) عن استدلال استاذه النائینی ، لأجل إثبات الإمکان بناءً علی الترکّب ، بما حاصله : إنه لا حاجة إلی کون الجامع بین المتلبّس و من انقضی عنه المبدأ جامعاً حقیقیّاً ، لیرد علیه ما ذکر ، بل یکفی الجامع الانتزاعی ، کعنوان « أحدهما » ، فإنه ممکن ، بأنْ یلحظ الواضع الذات المتلبّسة بالمبدإ ، و الذات التی انقضی عنها المبدأ ، و ینتزع منهما جامعاً هو « أحدهما » و یکون کلٌّ منهما مصداقاً له ، و ذلک ، لأن حقیقة الوضع هی الحکم و هو اعتبارٌ لا غیر ، فکما یمکن جعل الوجوب مثلاً للجامع الانتزاعی ، بأن یکون الواجب « أحد الامور الثلاثة » ، فکذا وضع اللّفظ للجامع الانتزاعی بین المتلبس و ما انقضی عنه التلبس بالمبدإ .

ص:381


1- (1)) محاضرات فی اصول الفقه 264/1 .

و أمّا بناءً علی البساطة ، فإن أصل المبنی باطل ، إذ المشتق مرکّب لا بسیط .

و إلی هذا یعود ما أجاب به فی ( المحاضرات ) عن بیان المحقق الأصفهانی .

و أورد علیه شیخنا دام ظلّه :

بأنَّ هذا الجواب غیر صحیح ، لأن المیرزا و إنْ جوّز - فی بحث الواجب التخییری - جعل الوجوب علی أحد الامور ، کما فی خصال الکفّارة ، إلّا أنه قال بأنه خلاف ظواهر الأدلَّة .

أمّا هنا ، فله أن یقول : إنّ حکمة الوضع هی الدّلالة علی المعانی و التفهیم بإحضار المعانی بواسطة الألفاظ عند الأذهان ، فلو کان المشتق موضوعاً حقیقةً لعنوان « أحدهما » الجامع بین الحصّتین ، لکان هذا المعنی هو الآتی إلی الذهن ، إذ من المحال أنْ یوضع المشتق لهذا المعنی من دون أن یکون له حکایة عنه ، مع أنّ هذا العنوان لا یحضر إلی الذهن من المشتق ، کالعالم و الضارب و غیرهما .

فإن قیل : إن الموضوع هو مصداق أحدهما و واقعه ، لا المفهوم .

قلنا : هذا خلاف نصّ کلام المستشکل ، لأنه یقول بالجامع الانتزاعی ، و لیس فیه ذکرٌ لواقع الجامع الانتزاعی ، و أیضاً ، هذا خلف ، لأنّ مورد البحث عند کافّة العلماء هو : هل الموضوع له الحصّة أو الأعم ؟ فالموضوع له عامّ ، و « واقع أحدهما » فردٌ ، فیکون الموضوع له خاصّاً .

التحقیق فی الجواب

قال شیخنا دام بقاه : و التحقیق فی الجواب أن یقال : أمّا علی البساطة

ص:382

فغیر ممکن کما قالا ، لأنَّ الموضوع له بناءً علیه هو نفس المبدإ و المادّة ، فلا یتصوّر فیه المتلبّس و ما انقضی عنه ، و تصویر المحقق العراقی بأن الموضوع له هو المادّة المنتسبة ، مخدوش بأنه خروج عن البساطة و رجوع إلی الترکّب .

إذاً ، لا یجری النزاع فی المشتق بناءً علی هذا القول .

و أمّا بناءً علی القول بالترکّب ، فتارةً : نقول بأنه یوجد لمدلول هیئة المشتق - الذی هو عبارة عن النسبة - له قدر مشترک و جامع ، و اخری : نقول بأنه معنیً حرفی ، و المعنی الحرفی لا جامع له إلّا الجامع العنوانی ، و موطنه الذهن .

فبناءً علی الثانی ، لا یمکن تصویر الجامع ، لأن الموضوع له حینئذٍ خاص ، و لا یعقل أن یصیر جامعاً بین النسبتین ، إذن ، یسقط البحث .

أمّا بناءً علی الأوّل - و القول بأنّ الوضع فی الحروف عام و الموضوع له عام کذلک - فإنّه یصوَّر وضع هیئة المشتق للأعم ، وعلیه ، یمکن تصویر الجامع ، لأنا فی هذا المقام لا نحتاج إلّا إلی ذاتٍ تنطبق علی کلتا الحصّتین - المتلبّس و ما انقضی عنه - ، و هو الذات المبهمة من جمیع الجهات إلّا من حیث الاتّصاف بالمبدإ ، أی الاتّصاف به الموصوف بالوجود ، فی قبال الذات التی لم تتّصف بالمبدإ أصلاً ، لوضوح أن هناک ذاتاً لم تتّصف بالعلم أصلاً ، و ذاتاً اتّصفت و زال عنها العلم ، و ذاتاً اتّصفت به و ما زالت متلبّسةً به ، فالذات التی تنطبق علی الحصّتین - الثانیة و الثالثة - هی الجامع الموضوع له المشتق ، أی : الذات التی هی فی قبال التی لم تتّصف أصلاً .

إن تصویر هذا بمکانٍ من الإمکان ، و لا یترتب علیه أیّ محذور ثبوتی .

و قوله : إنه لیس الجامع إلّا الزمان ، فی غیر محلّه ، لعدم الحاجة إلی

ص:383

الزمان بالنظر إلی ما ذکرناه .

هذا فیما یتعلَّق بکلام المیرزا رحمه اللّٰه .

و العمدة ما ذکره المحقق الأصفهانی رحمه اللّٰه .

فأمّا إشکاله الأوّل ، و هو أنّه إذا کانت النسبة مهملة وجب الصدق علی من سیتلبّس بالمبدإ فی المستقبل . فیجاب عنه : بأنّ النسبة متعیّنة من تلک الجهة ، و إهمالها هو من الجهتین الاخریین ، و لیس الإهمال من جمیع الجهات .

و أمّا إشکاله الثانی ، و هو أن حقیقة النسبة هو الخروج من العدم إلی الوجود ، و هذا عین الفعلیّة . فیجاب عنه : إنه لا ریب فی وجود النسبة فی « الممتنع » و « المعدوم » و ما شابه ذلک ، مع أنّ الامتناع و العدم و نحوهما یستحیل خروجها إلی الوجود ، کما أنّ الخروج من العدم إلی الوجود لا معنی له فی المجرّدات ، مع وجود النسبة فیها کما هو واضح ، و لا وجه للالتزام فی هذه الموارد بالمجاز ...

فظهر بما ذکرنا ... أن المقتضی ثبوتاً موجود .

الجهة الثانیة

و یقع الکلام فی الإثبات :

بعد تصویر الجامع فی مقام الثبوت ، و المراد منه هو الجامع القابل للإثبات العرفی ، فإنْ قام الدلیل فی مقام الإثبات علی الوضع لخصوص الصحیح أو الأعم فهو ، و إلّا کان الکلام مجملاً و المرجع هو الأصل .

و فی هذه الجهة أقوال ، و عمدتها قولان :

1 - الوضع لخصوص المتلبّس مطلقاً .

ص:384

2 - الوضع للأعم من المتلبّس و ما انقضی عنه التلبّس مطلقاً .

و سائر الأقوال تفصیلات :

کالتفصیل بین ما إذا کان المشتق محکوماً به أو محکوماً علیه .

و التفصیل بین ما إذا کان المبدأ فیه الملکة أو الحرفة أو الشأنیّة و ما لیس من هذا القبیل .

و لم یتعرّض المحقّق صاحب ( الکفایة ) للتفصیلات ، و هذا هو الصحیح ، لأنّها ناظرة إلی مبدإ الاشتقاق ، و موضوع البحث - کما تقرّر سابقاً - هو الهیئة ، و لا أثر لاختلاف المواد .

و إلیک أدلّة القولین و التحقیق حولها :

أدلّة القول بالوضع للمتلبّس

اشارة

و احتجّ للقول بوضع المشتق لخصوص المتلبّس - و هو قول المشهور - بوجوهٍ ، ذکر فی ( الکفایة ) ثلاثة منها :

1 - التبادر

بدعوی أنَّ المتبادر و المنسبق إلی الذهن من المشتقّ ، هو عبارة عن الحصّة المتلبّسة و الصّورة التلبّسیة ، و لا دخل فی تبادر هذا المعنی منه لشیءٍ من خارج حاقّ اللّفظ ، و هذا هو علامة الحقیقة .

و تقریب ذلک : أمّا من ناحیة الصّغری ، فلأنّا نری انسباق هذا المعنی خاصّةً من المشتق ، علی جمیع المبانی فی الموضوع له فیه ، من أنّه الحدث لا بشرط ، أو الحدث مع النسبة ، أو الذات مع النسبة ، أو الثلاثة معاً ...

و نری أیضاً انسباقه منه فی جمیع صور استعمالاته ، کأن یکون مفرداً

ص:385

مثل « ضارب » أو یکون مضافاً إلی لفظٍ آخر ، فی نسبةٍ تامّة مثل « زید ضارب » أو ناقصة مثل « ضارب زید » .

فعلی جمیع الأقوال ، و فی مختلف الترکیبات ، لا یفید المشتق إلّا معنی واحداً ، و هو خصوص المتلبّس ، و لا یتبادر إلی الذهن منه غیره ... فیکون هو الموضوع له حقیقةً .

و أمّا من ناحیة الکبری ، فمناط دلیلیّة التبادر هو : أن انسباق المعنی من اللَّفظ أمر حادث ، فلا یکون بلا علّةٍ ، فإنْ کانت العلّة هی القرینة ، فالمفروض عدمها ، و إن کان الوضع الواقعی ، فالوضع کذلک لیس بعلّةٍ و إلّا لزم حصول التبادر عند الجاهل بالوضع ، و بعد بطلان کلا الشقین ، ینحصر الأمر بالعلم بالوضع ، و لا فرض آخر .

و الحاصل : أنا کلّما غیّرنا موقع استعمال المشتق ، وجدنا تبادر المعنیٰ منه ، بلا فرق ، ممّا یدلّ علی عدم استناد الانسباق إلی أمرٍ خارجٍ من قرینةٍ أو غیرها ... و إنما یستند إلی الوضع فقط .

هذا تقریب الاستدلال بالتبادر ، و إنّ مراجعة الکتب اللّغویّة فی اللّغات المختلفة لتؤیّد هذا المعنی ، لأن مدالیل الهیئات لا تختلف فی اللغات ، و المتبادر من « العالم » فی سائر اللّغات هو خصوص المتلبّس بالعلم ، و هکذا غیره من المشتقات ...

لکنْ لا بدَّ من إثبات کون هذا الانسباق من حاق اللَّفظ ، و لا یتم ذلک إلّا بدفع شبهتین :

( الشبهة الاولی ) هی : إن المطلوب هو تبادر المعنی و انسباقه من حاقّ اللّفظ ، و ذلک علامة الحقیقة ، و لکنه قد ینشأ من الإطلاق ، بمعنی أنه کلّما

ص:386

یستعمل اللّفظ الفلانی خالیاً عن القیود یستفاد منه المعنی الفلانی ، أو بمعنی أنّ کثرة استعماله فی ذاک المعنی یوجب انسباقه منه ، و هذا هو المستفاد من کلام المحقق صاحب ( الکفایة ) (1) ، فلعلّ کثرة استعمال المشتق فی المتلبّس هی السبب فی انسباق خصوص هذا المعنی منه إلی الذهن ، فی کلّ موردٍ اطلق فیه المشتق .

و إذا جاء احتمال استناد الانسباق إلی أمرٍ خارجٍ ، سقط الاستدلال بالتبادر علی المدّعی .

و قد أجاب فی ( الکفایة ) عن هذه الشّبهة بأنّ استعمال المشتق فی الأعمّ ، إن لم یکن أکثر منه فی المتلبّس ، فلیس بأقل ، فالتبادر هنا من حاقّ اللّفظ لا من الإطلاق ، لأنّ التبادر الإطلاقی إنما هو حیث یکون الاستعمال فی أحد المعنیین کثیراً و فی الآخر نادراً .

فوقع فی إشکال آخر ، و ذلک أن ما اعترف به من کثرة استعمال المشتق فی المعنی المجازی ، أی الأعم ، علی حدّ استعماله فی المعنی الحقیقی - إنْ لم یکن أکثر - لا یتلائم مع حکمة الوضع المقتضیة لاستعمال اللَّفظ فی المعنی الحقیقی الموضوع له ، و بالمنافاة بین کثرة المجاز کذلک و بین حکمة الوضع ، یستکشف عدم وجود کثرة استعمال المشتق فی الأعم ، بل هی فی خصوص المتلبّس ، و حینئذٍ یعود احتمال استناد التبادر و الانسباق إلی کثرة الاستعمال هذه ، فیرجع الإشکال و یسقط الاستدلال .

فأجاب أوّلاً : إن مجرَّد الاستبعاد غیر ضائر بالمراد ، أی الوضع

ص:387


1- (1)) کفایة الاصول : 47 ط مؤسّسة آل البیت علیهم السلام ، ذیل ارتکازیة التضاد ، و هو الوجه الثالث من وجوه الاستدلال للقول الأوّل .

لخصوص المتلبّس .

و ثانیاً : إنما یلزم غلبة المجاز ، لو لم یکن استعماله فیما انقضی بلحاظ حال التلبّس ، مع أنه بمکانٍ من الإمکان ، فیراد من « جاء الضارب » - و قد انقضی عنه الضرب - : جاء الذی کان ضارباً قبل مجیئه حال التلبس بالمبدإ ، لا حینه بعد الانقضاء لکی یکون الاستعمال بلحاظ هذا الحال و جعله معنوناً بهذا العنوان فعلاً بمجرّد تلبّسه قبل مجیئه ، ضرورة أنه لو کان للأعم لصحّ استعماله بلحاظ کلا الحالین ...

و أفاد الاستاذ دام ظله بعد أن شرح هذا الکلام : بأنه علی هذا أیضاً یعود الإشکال ، لأنّه لمّا صار الاستعمال فیما انقضی بلحاظ التلبّس قلیلاً ، و فی المتلبّس کثیراً ، رجع احتمال کون التبادر و الانسباق ناشئاً من کثرة الاستعمال فی المتلبّس ، و من هنا ذکر المحققون من المحشّین علی ( الکفایة ) من تلامذته أن حاصل کلامه تسجیل الإشکال علی نفسه .

و أمّا ما ذکره من أنّ کثرة الاستعمالات المجازیّة غیر ضائر ، ففیه : إنّه إذا کان اللّفظ یستعمل فی معانی مجازیة متعددة ، فهذا لا إشکال فیه و لا ینافی حکمة الوضع ، لکنّ کثرة الاستعمال المجازی فی مقابل المعنی الحقیقی ، کأنْ یوضع لفظ « الأسد » للحیوان المفترس ثم یستعمل - فی الأکثر - فی الرجل الشجاع ، فهذا ینافی حکمة الوضع ، و ما نحن فیه من هذا القبیل .

ثم قال الاستاذ :

و التحقیق فی المقام : إن التبادر علی قسمین : التبادر عند المستعلم ، و التبادر عند أهل اللّسان ، فإن کان المعیار هو القسم الأوّل ، فإن مجرَّد احتمال کونه ناشئاً من کثرة الاستعمال یسقطه عن الاعتبار ، إلّا أن یحصل القطع بعدم

ص:388

دخل کثرة الاستعمال فی التبادر ، لکنّ حصول مثل هذا القطع بعید ، و لو ارید التمسّک بأصالة عدم استناد التبادر إلی کثرة الاستعمال ، و لازمه کونه مستنداً إلی حاقّ اللّفظ ، کان من الأصل المثبت ، علی أنه معارض بأصالة عدم استناده إلی حاقّ اللّفظ .

و أما إن کان المعیار هو التبادر بالمعنی الثانی ، و هو الصحیح ، کما ذکرنا فی محلّه ، فالإشکال مندفع ، لسقوط احتمال استناد التبادر عند أهل اللّسان إلی کثرة الاستعمال ، لأنَّ سیرة العقلاء - فی استکشاف المعانی الحقیقیّة للألفاظ - قائمة علی الرجوع إلی أهل اللّسان و أخذ المعانی منهم ، فیرجعون إلی استعمالاتهم للَّفظ فی الموارد المختلفة و الترکیبات المتفاوتة ، فإذا رأوا ثبوت المعنی و اطّراده و عدم تغیّره بتغیّر الاستعمالات و الحالات ، و أنه هو الذی ینسبق إلی أذهانهم فی جمیع المقامات ، حصل لهم الیقین باستناد المعنی إلی حاقّ اللّفظ لا إلی شیء آخر .

فحلّ الإشکال یتمّ بأمرین :

أحدهما : أن الحجّة من التبادر ما کان عند أهل اللّسان ، لا ما کان عند المستعلم .

و الثانی : إن بناء العقلاء علی الرجوع إلی أهل اللّسان فی استکشاف المعانی الحقیقیّة للألفاظ ، لا إلی المستعلمین .

فهذا هو الحلّ للإشکال ، لا ما ذکره صاحب ( الکفایة ) و من تبعه ، فافهم و اغتنم .

( الشبهة الثانیة ) هی : شبهة الأولویّة العقلیّة ، و بیانها : إن الواضع لو کان قد وضع المشتق للأعم ، فإنّ مناط وضعه له هو جهة التلبّس ، إذ لولاه لم یکن

ص:389

وضع ، غایة الأمر هو أن الأخصی یقول بأن الوضع لخصوص المتلبّس ، و الأعمی یقول : ذاک أصبح مناطاً و الوضع للأعم منه ، إذن ، یکون لصدق المشتق علی المتلبّس أولویّة عقلیّة بالنسبة إلی الأعم ، و لعلّ هذه الأولویّة هی السّبب فی انسباق المتلبّس خاصّةً ، و معه لا یقین بکونه مستنداً إلی حاقّ اللّفظ ، لیکون حجةً .

قال شیخنا دام ظلّه :

و هذا الاحتمال لا دافع له ، إلّا بأنْ یقال : بأن المهمّ - کما تقدّم - هو الرجوع إلی أهل اللّسان ، لا إلی المستعلم ، و إنه لیس فی ارتکازات أهل اللّسان مثل هذه الأولویّة العقلیّة فی دلالات الألفاظ .

فیکون التبادر ناشئاً من حاقّ اللّفظ لا من غیره .

2 - صحّة السّلب
اشارة

قال فی ( الکفایة ) بعد التبادر : و صحّة السلب مطلقاً عما انقضی عنه ، کالمتلبّس به فی الاستقبال ، و ذلک ، لوضوح أن مثل « القائم » و « الضارب » و« العالم » و ما یرادفها من سائر اللّغات ، لا یصدق علی من لم یکن متلبّساً بالمبادئ و إنْ کان متلبّساً بها قبل الجری و الانتساب ، و یصحّ سلبها عنه ، کیف ؟ و ما یضادّها - بحسب ما ارتکز من معناها فی الأذهان - یصدق علیه ، ضرورة صدق « القاعد » علیه فی حال تلبّسه بالقعود بعد انقضاء تلبّسه بالقیام ، مع وضوح التضادّ بین « القاعد » و « القائم » بحسب ما ارتکز لهما من المعنی ، کما لا یخفی .

و هذا الاستدلال لا یخلو من إبهام ، فإنّ صحّة الحمل و صحة السّلب علی قسمین : صحّة الحمل و السّلب المفهومی ، و صحّة الحمل و السّلب

ص:390

المصداقی . فصحّة الحمل المفهومی بالحمل الأوّلی علامة الحقیقة ، و صحة السّلب کذلک علامة المجاز ، و صحّة الحمل المصداقی بالحمل الشائع علامة الحقیقة ، و یقابله صحة السلب کذلک ، فإنه علامة المجاز ، و التقریر المذکور فی ( الکفایة ) و غیرها إنما هو صحة السّلب بالحمل الشائع الصناعی ، لأنّ « زیداً » الذی انقضی عنه « الضرب » نسلب عنه ذلک بماله من المعنی ، ثم نقول : لو کان الموضوع له « الضارب » هو الأعم ، لکان زید المنقضی عنه التلبس بالضرب مصداقاً له ، إلّا أن صحّة سلب ذلک عنه دلیلٌ علی أنّ هذا الفرد لیس مصداقاً لکلّی « الضارب » فیثبت أن الطبیعة غیر متحققة فیه ، و یثبت أنه غیر موضوع له ، بل هو المتلبّس فقط .

هذا توضیح الاستدلال ، و سیأتی تحقیق الحال فی ذلک عند النظر فی کلام المحقق الأصفهانی .

إشکال المحقق الرشتی و جواب الکفایة

ثم إنّ صاحب ( الکفایة ) تعرّض لإشکال المحقق الرشتی قائلاً : ثم إنه ربما أورد علی الاستدلال بصحة السلب بما حاصله : إنه إنْ ارید بصحّة السلب صحّته مطلقاً فغیر سدید ، و إنْ ارید مقیَّداً فغیر مفید ، لأنَّ علامة المجاز هی صحة السّلب المطلق .

توضیح الإشکال : إن الإهمال فی مقام الحمل و السلب غیر معقول ، فإمّا أن نسلب المطلق ، أو نسلب المقیّد ، مثلاً : لمّا نقول : « زید لیس بضاربٍ الآن » إن کان المسلوب هو « الضارب » المقیَّد ب « الآن » کان السلب المقیَّد غیر مفیدٍ للسلب المطلق ، فلا یثبت الوضع لخصوص المتلبّس ، فلعلّه لیس بضاربٍ الآن ، لکنه ضارب ، فهذا غیر مفید . و إن کان المسلوب هو

ص:391

« الضارب » المطلق ، فهذا أوّل الکلام ، لأنّا لا نسلب « الضارب » بقولٍ مطلق عن « زید » فی ظرف الانقضاء ، فهی دعوی بلا برهان ، و هی غیر سدیدة .

و ملخّصه : إنْ قلنا : زید غیر ضاربٍ مطلقاً ، فهذا غلط ، لأنه ضارب موجبةً جزئیة ، و إنْ قلنا : إنه الآن لیس بضاربٍ ، فهذا نفی للأخص ، و هو لا ینفی الأعم فلا ینتفی الوضع له .

و قد أجاب المحقّق صاحب ( الکفایة ) بما توضیحه : إن قید « الآن » فی قضیّة « زید لیس بضاربٍ الآن » لا یخرج عن ثلاثة أحوال ، فإمّا هو قیدُ المسلوب و هو « الضارب » أی : لیس زید ضارباً الآن . و إمّا هو قید المسلوب عنه و هو « زید » أی : زید الذی هو فی الآن غیر ضارب . و إمّا هو قید السلب ، أی : زید لیس الآن بضارب .

فعلی التقدیر الأوّل ، تسقط صحة السّلب عن کونها علامةً ، و یتوجّه إشکال المحقق الرشتی ، لأنه لیس بسلبٍ للضّارب المطلق عن زید .

أمّا علی التقدیرین - الثانی و الثالث - فلا یرد إشکاله ، بل یکون الحمل فیهما أمارةً علی أنّ « الضارب » غیر موضوع للأعم .

کلام المحقق الأصفهانی

و للمحقق الأصفهانی فی هذا المقام کلام دقیق ، و حاصله : إنّ السّلب یعتبر تارةً : بالحمل الأوّلی الذّاتی ، و هو السّلب المفهومی ، و اخری : یعتبر بالحمل الشائع . فإنْ اعتبر بالحمل الأوّلی ، کان اللّازم سلب ما ارتکز فی الأذهان أو تعارف فی عرف أهل اللّسان من المعنی الجامع - لا من خصوص ما انقضی عنه المبدأ ، فإنّ سلبه لا یستدعی السلب عن الجامع - و یکون هذا السّلب علامة المجاز ، و حیث أنه بلحاظ المفهومین ، فلا حاجة فیه إلی التقیید

ص:392

بالزمان ، کی یورد علیه بما ذکره المحقق الرشتی .

و إنْ اعتبر السّلب بالحمل الشّائع ، فتارةً : یلحظ الزمان قیداً للسّلب ، و هو علامة عدم الوضع للجامع ، و إلّا لما صحَّ سلبه عن مصداقه فی حینٍ من الأحیان ، و اخری : یلحظ المسلوب عنه فی حال الانقضاء و یسلب عنه مطلقاً مطلق الوصف ، و ثالثة : یلحظ المسلوب فی حال الانقضاء فیسلب عن الذات مطلقاً ، فإن ما لا أماریّة لصحّة سلبه هی المادّة المقیّدة ، فإن عدم کونه ضارباً بضرب الیوم لا ینافی کونه فعلاً ضارباً بضرب الأمس ، بخلاف الهیئة المقیَّدة ، فإنّ عدم کونه ضاربَ الیوم - و لو بضرب الأمس - ینافی الوضع للأعم .

فإذن ، تصحُّ أماریّة صحة السلب مقیّداً للمجازیّة ، سواء کان القید قیداً للسلب أو المسلوب أو المسلوب عنه .

و أمّا ما ذکره المحقّق الرشتی - و سلّم به المحقق الخراسانی - من أن القید إنْ رجع إلی المسلوب - أی الضارب - فلا أماریّة ، فإنّما یسلّم به فیما إذا کان للوصف بلحاظ حال الانقضاء فردان ، فإنّ سلب أحد الفردین لا یستلزم سلب المطلق ، لإمکان وجوده فی الفرد الآخر ، مع أنّ المدّعی کون الوصف فی حال الانقضاء فرداً فی قبال حال التلبّس ، فإنْ صحّ سلبه فی حال الانقضاء فقد صحَّ سلبه بقولٍ مطلق ، لانحصاره فیه .

فیسقط إشکال المحقق الرشتی ، و کذا تسلیم المحقق الخراسانی .

ثم جعل یردُّ علی المحقق صاحب ( الکفایة ) قائلاً :

و التحقیق : عدم خلوص کلّ ذلک عن شوب الإشکال ، لأنّه أفاد أن قید « الآن » یمکن إرجاعه إلی المسلوب عنه « زید » و یکون أمارةً علی المجازیّة فی الأعم ، و کذا إنْ رجع إلی نفس السّلب ، فقال المحقّق الأصفهانی : بأنّ

ص:393

« زیداً » المسلوب عنه غیر قابل للتقیّد بالزّمان ، لعدم معنیً لتقیّد الثابت و تحدّده بالزمان ، فإنه مقدَّر الحرکات و المتحرّکات ، و أما الثوابت و الجوامد فلا تقدَّر به حتی بناءً علی القول بالتجدّد فی الجوهر .

قال : و أمّا تقیید السلب ، فغیر سدید ، لأنّ العدم غیر واقع فی الزمان و لو کان مضافاً إلی شیء ، لأنّ الزمان لیس مقداراً لکلّ موجودٍ مهما کان ، بل هو مقدار للموجودات التی فیها الحرکة و التصرّم ، فلا یصحُّ جعل « الآن » قیداً ل « لیس » (1) .

رأی الشیخ الاستاذ

هذا ما حقّقه المحقق الأصفهانی ، فقال الاستاذ دام بقاه بعد تقریبه : لکن الإشکال فی أصل المبنی .

فأمّا الحمل الأوّلی فهو عبارة عن الاتّحاد بین الموضوع و المحمول مفهوماً ، فهو إنما یوجب اتّحادهما فی المفهوم و إنْ کان بینهما تغایر بالإجمال و التفصیل مثلاً ، و لا یتکفّل کون اللّفظ فی المعنی حقیقیّاً أو مجازیّاً ، و بعبارة اخری : إنه لا یرتبط بعالم اللّغة و کیفیّة الوضع أصلاً ، و إنّما یکون فی عالم المفاهیم و المعانی و الموجودات ، سواء کان هناک لفظٌ أو لا .

و أمّا الحمل الشائع ، فهو ناظر إلی الاتّحاد الوجودی بین مفهومی الموضوع و المحمول ، سواء وجد لفظٌ فی البین أو لا ، کذلک .

و علی الجملة ، فإنّه صحّة الحمل و صحّة السلب یرتبطان بالمفاهیم بما هی مفاهیم ، و الحقیقة و المجاز یرتبطان بالمفاهیم بما هی مدالیل للألفاظ ، و ما یرتبط بالمفاهیم بما هی لا یکون دلیلاً علی ما یرتبط بالمعانی بما هی

ص:394


1- (1)) نهایة الدرایة 1 : 197 - 199 .

مدالیل للألفاظ .

و الحاصل : إن الحمل یعطینا نتیجةً عقلیّةً لا لغویّة و وضعیّة .

وعلیه ، یسقط هذا الوجه من الأساس .

3 - التضادُّ بین المفاهیم

و هذا الوجه ذکره صاحب ( الکفایة ) کتتمّة للوجه الثانی ، ثم قال : « و قد یقرَّر هذا وجهاً علی حده و یقال : لا ریب فی مضادّة الصّفات المتقابلة المأخوذة من المبادی المتضادّة علی ما ارتکز لها من المعانی ، فلو کان المشتق حقیقةً فی الأعمّ ، لما کان بینها مضادّة بل مخالفة ، لتصادقها فیما انقضی عنه المبدأ و تلبَّس بالمبدإ الآخر . فزید الذی کان قائماً ثم قعد یصدق علیه الآن عنوان « القاعد » ، فلو کان المشتق حقیقةً فی الأعم لصدق علیه الآن عنوان « القائم » أیضاً ، و کونه قائماً و قاعداً فی الآن الواحد اجتماعٌ للضدّین ارتکازاً ، فهذا التضادّ الارتکازی یکشف عن أن صدق المشتق علی من انقضی عنه التلبس مجاز و لیس بحقیقةٍ .

و فیه :

إن غایة ما یدلّ علیه هذا الوجه وقوع التضادّ علی أثر تبادر خصوص المتلبّس من المشتق ، و لو لا تبادره منه لما وقع ، فلا یکون هذا الوجه دلیلاً علی حدة ، و إنما یتفرّع علی الوجه الأوّل .

هذه هی الوجوه التی احتجّ بها صاحب ( الکفایة ) و غیره من القائلین بالقول الأوّل ، و عمدتها هو الوجه الأوّل ، و قد عرفت اندفاع الشبهات عنه ، فالقول الأوّل هو المختار .

ص:395

أدلّة القول بالوضع للأعم

اشارة

و احتجَّ للقول الثانی ، و هو أن المشتق موضوع للأعم من المتلبس و ما انقضی عنه ، بوجوه کذلک :

الأوّل : التبادر

فالمنسبق إلی الذهن من المشتق هو المعنی الأعم .

و فیه :

إن هذه الدعوی مردودة ، إذ لا ریب فی انسباق القائم بالفعل من لفظ « القائم » و هکذا غیره من المشتقات ، نعم لهم أنْ ینکروا ذلک ، و ینتهی الأمر إلی الإجمال ، أمّا دعوی تبادر الأعم ، فغیر مسموعة أصلاً .

الثانی : عدم صحة السّلب

فلا یصح السّلب فی مثل « مقتول » و « مضروب » و نحوهما من أسماء المفاعیل ، عمّن انقضی عنه المبدأ ، و إذا لم یصح فی اسم المفعول ، فلا یصح فی غیره من الهیئات .

و الجواب :

إنه لا شبهة فی أنّ النسبة بین حیثیّة الصدور و حیثیّة الوقوع هی نسبة التضایف ، فلا یمکن الانفکاک بین صدور القتل من القاتل و وقوعه علی المقتول ، فإذا کان « المقتول » مثلاً صادقاً علی من انقضی عنه التلبّس بالقتل وقوعاً علیه ، لزم صدق « القاتل » حقیقةً علی من انقضی عنه التلبّس بالقتل صدوراً منه ، لکن « القاتل » لا یصدق إلّا علی المتلبّس بالقتل بالفعل .

فإن کان « المقتول » صادقاً علی من انقضی عنه التلبس ، فذلک لأنّ المراد من المبدإ فیه ، أی القتل ، معنیً آخر - غیر معناه الحقیقی - یکون

ص:396

التلبّس به باقیاً فی الحال و لو مجازاً ، بأنْ یراد منه زهوق الرّوح ، فعدم صحّة السلب فی « المقتول » هو لأجل بقاء التلبّس بالمبدإ بالمعنی المذکور فعلاً .

أقول : قد یقال : إن هذا مصادرة بالمطلوب ، لأن دعوی عدم صدق اسم الفاعل علی غیر المتلبّس حقیقةً ، موقوفة علی تبادر المتلبّس خاصّةً من المشتق ، و هذا أوّل الکلام .

الثالث : قوله تعالی : «لاَ یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ »

و الوجه الثالث : استدلال الإمام علیه السلام بقوله تعالی : «لاَ یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ » علی عدم لیاقة من عبد صنماً أو وثناً لمنصب الإمامة و الخلافة ، تعریضاً بمن تصدّی لها ممّن عبد الصّنم ، و من الواضح توقّف ذلک علی کون المشتق موضوعاً للأعم ، و إلّا لما صحَّ التعریض ، لانقضاء تلبّسهم بالظلم و عبادتهم للصنم ، حین التصدّی للخلافة .

قاله صاحب ( الکفایة ) قدّس سرّه .

جواب صاحب الکفایة

و أجاب عنه بما ملخَّصه : إنّ العناوین الواقعة موضوعاتٍ للأحکام الشرعیّة علی ثلاثة أقسام :

( أحدها ) أنْ یکون أخذ العنوان لمجرّد الإشارة إلی ما هو فی الحقیقة موضوع الحکم ، لمعهودیّته بهذا العنوان ، من دون دخلٍ لاتّصافه به فی الحکم أصلاً ، کأن یقول : أکرم من فی المسجد ، إذا کان موضوع الحکم ذوات الأشخاص ، و کان عنوان « الکون فی المسجد » عنواناً مشیراً إلیهم .

( ثانیها ) أنْ یکون لأجل الإشارة إلی علیّة المبدإ للحکم ، مع کفایة

ص:397

مجرّد صحّة جری المشتق علیه ، و لو فیما مضی ، کما فی قوله تعالی :

« السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَیْدِیَهُمَا » (1)و قوله تعالی : «الزَّانِیَةُ وَالزَّانِی فَاجْلِدُوا » (2)حیث أنّ نفس حدوث السّرقة و الزنا علّة لترتّب الحکم ، و لا دخل لبقائهما فیه .

( ثالثها ) أنْ یکون لأجل الإشارة إلی علیّة المبدإ للحکم ، مع عدم کفایة مجرّد صحّة جری المشتق فیما مضی ، بل یکون الحکم دائراً مدار صحّة الجری علیه و اتّصافه به حدوثاً و بقاءً ، کما فی دوران حکم وجوب التقلید مدار وجود الاجتهاد - مثلاً - حدوثاً و بقاءً ، و عدم کفایة وجوده حدوثاً فی بقاء الحکم .

قال فی ( الکفایة ) : إذا عرفت هذا فنقول : إن الاستدلال بهذا الوجه ، إنما یتم لو کان أخذ العنوان فی الآیة الشریفة علی النحو الأخیر ، ضرورة أنه لو لم یکن المشتق للأعمّ لما تمّ بعد عدم التلبّس بالمبدإ ظاهراً حین التصدّی ، فلا بدّ أن یکون للأعمّ لیکون حین التصدّی حقیقةً من الظالمین و لو انقضی عنه التلبس بالظلم . و أما إذا کان علی النحو الثانی فلا ، کما لا یخفی ، و لا قرینة علی أنه علی النحو الأوّل ، لو لم نقل بنهوضها علی النحو الثانی ...

قال شیخنا الاستاذ : فقد وافق صاحب الکفایة علی ابتناء الاستدلال بالآیة علی بحث المشتق ، لو کان أخذ العنوان فیها علی النحو الثالث .

جواب المیرزا النائینی

لکنّ جواب المحقق النائینی أدقّ من الجواب المزبور و هو : إن عنوان

ص:398


1- (1)) سورة المائدة : 38 .
2- (2)) سورة النور : 2 .

« الظالم » المأخوذ فی الآیة المبارکة ، قد أخذ فی الموضوع بنحو القضیّة الحقیقیّة ، فهو علّة للحکم و لیس بعنوانٍ مشیر ، و یکون تحقّقه دخیلاً فی الحکم ، فکلّ من تحقّق منه الظلم و تلبّس به فلا یکون أهلاً لأنْ تناله الإمامة ، فلا ارتباط لاستدلال الإمام علیه السلام بالآیة بالنزاع فی المشتق ، و إنما یبتنی علی کیفیّة دخل العنوان و علیّته للحکم ، و أنه هل یکفی حدوث التلبّس بالظلم لعدم النیل أو یعتبر معه بقاء التلبّس ؟

نعم ، لو کانت القضیّة خارجیّة لا حقیقیّة ، کان للنزاع حول المشتق مجال فیها ، لأن الحکم فی القضیّة الخارجیّة یتوجّه إلی الأفراد المحقّقة الوجود ، فإن کان المشتق حقیقةً فی الأعم وقع النزاع فی شمول الحکم لمن انقضی عنه التلبس بالمبدإ ، فمن انقضیٰ عنه التلبّس بالعلم ، یبتنی شمول الحکم بوجوب إکرام العلماء و عدم شموله له ، علی النزاع فی مسألة المشتق .

و لو تردّد الأمر فی القضیّة الحقیقیّة بین کفایة حدوث التلبّس و عدم کفایته بل یعتبر البقاء أیضاً ، فمقتضی الأصل الأوّلی هو أن حدوث العنوان دخیل فی حدوث الحکم و بقاءه دخیل فی بقائه ، إلّا إذا قامت القرینة علی خلافه ، و قد دلَّت القرینة فی آیة السرقة ، و آیة الزنا ، و نحوهما ، علی کفایة حدوث التلبّس بالمبدإ فی ترتّب الحکم و هو الحدّ .

و الأمر فی قوله تعالی : «لاَ یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ » کذلک ، و القرینة فی هذه الآیة هی مناسبة الحکم و الموضوع ، و ذلک عظمة مقام الإمامة و جلالة قدرها ، و رفعة محلّها ، فمن تلبّس بالشرک و عبادة الأوثان و لو آناً ما فهو ظالم ، و «إِنَّ الشِّرْکَ لَظُلْمٌ عَظِیمٌ » و هو غیر لائق لتصدّی الإمامة ، حتّی لو لم نقل

ص:399

باشتراط العصمة فی الإمام ، لتنفّر الناس منه ، و استهانتهم به (1) .

ردّ الاعتراض علی الاستدلال بالآیة

ثم إنّه قد أورد علی الاستدلال بالآیة المبارکة علی عدم لیاقة من تقمّص الإمامة و الخلافة بعد رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم لها ، بروایة :

« الإسلام یجبُّ ما قبله » ، لکنه مردود سنداً و دلالةً .

أمّا سنداً ، فلأنّ الأصل فی روایة هذا الحدیث هو أحمد بن حنبل ، فی قضیّة عمرو بن العاص ، حیث قال عند ما أسلم : فما الذی یعصمنی من کفری ؟ فقال صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم الإسلام یجبّ ما قبله (2) .

و فی هذا الحدیث أیضاً : « الهجرة تجبّ ما قبلها » .

و دعوی انجبار ضعف السند بعمل الفریقین بهذا الخبر فی عدّة أبوابٍ من الفقه ، کما تری ، لأنَّ عمل العامّة لا یؤثّر فی خروج الروایة عن الضعف ، و أمّا عمل أصحابنا ، فقد ذهب صاحب ( الجواهر ) و المحقق الهمدانی و آخرون إلی أنه یجبر الضعف ، إلّا أن التحقیق خلافه کما یُقرّر فی محلّه (3) ، علی أنَّ الکلام هنا فی الصغری ، إذ یعتبر فی الجبر إحراز عملهم بالخبر و استنادهم فی الفتوی إلیه ، و ذاک أوّل الکلام ، لوجود أخبار و أدلّة اخری فی تلک الأبواب .

ص:400


1- (1)) أجود التقریرات 121/1 - 122 .
2- (2)) مسند أحمد بن حنبل 198/4 - 199 .
3- (3)) و سیأتی - إن شاء اللّٰه - أن الأقوال فی المسألة ثلاثة : أحدها : إن عمل الأصحاب جابر و کاسر ، و هو المشهور وعلیه بعض مشایخنا ، و الثانی : إنه لا یجبر و لا یکسر ، وعلیه السید الخوئی و بعض مشایخنا من تلامذته ، و الثالث : التفصیل فهو یکسر و لا یجبر ، وعلیه الشیخ الاستاذ دام بقاه .

و أمّا دلالةً فبوجوه :

أوّلاً : إنّ ما یرفعه هذا الحدیث هو الحکم التکلیفی ، و أمّا الحکم الوضعی فلا یرتفع ، و لذا قال صاحب ( الجواهر ) بأن إسلام الکافر لا یرفع الجنابة ، بل یجب علیه الغسل من الجنابة ، لأنها أمر وضعی ، و الحدیث لا یعمّ الوضعیّات ، و هذا خیر شاهد علی ما ذکرناه ، و لا یخفی أنّ شرطیّة عدم الظلم للتصدّی للإمامة ، أو مانعیّة الظلم عن التصدّی لها ، من الامور الوضعیّة .

و ثانیاً : إنه علی فرض شمول حدیث الجب للوضعیّات ، فلا ریب فی عدم شموله للتکوینیّات ، و ظاهر الآیة المبارکة أن عدم نیل الإمامة الظالمَ أمر تکوینی ، فمدلولها : أنّ الظالم قاصر ذاتاً عن أن تناله الإمامة و الخلافة ، فکأنّ اللّٰه یقول لسیّدنا إبراهیم علیه السلام إن دعائک لا یستجاب ، لأنه یتنافی مع سنّة تکوینیّة ، کأنْ یدعو الإنسان أنْ تنال یده الشمس ... فالآیة المبارکة ترجع إلی أمرٍ عقلی ، لا علاقة لها بالقضایا الاعتباریّة ، فهی - من هذه الجهة - نظیر قوله تعالی : «لَن یَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَکِن یَنَالُهُ التَّقْوَی مِنکُمْ » (1)فعدم نیل لحم اضحیّة المشرک لیس أمراً اعتباریاً ، بل هو للقصور الذاتی فیه .

و ثالثاً : إنه - بغض النظر عن کلّ ما ذکر - یستحیل جریان قاعدة الجبّ فی هذا المورد ، لأن إبراهیم علیه السلام کان عالماً بما جاء فی قضیّة نوحٍ علیه السلام من قوله تعالی له : «وَلاَ تُخَاطِبْنِی فِی الَّذِینَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ » (2)و بعد ذلک یستحیل أن یطلب من اللّٰه تعالی أن یجعل الإمامة فی المشرک الذی بقی علی شرکه ، فیکون طلبه لخصوص من أسلم من ذریّته و خرج عن الشرک ،

ص:401


1- (1)) سورة الحج : 37 .
2- (2)) سورة المؤمنون : 27 .

و حینئذٍ فلو خصّص لما بقی للآیة مورد ، خذ فاغتنم .

هذا تمام الکلام فی أدلَّة القولین .

المختار

و قد ظهر من مطاوی البحث أنّ المختار هو القول الأوّل ، و الدلیل الصحیح علیه هو التبادر ، فإنّ خصوص المتلبِّس هو المنسبق إلی الذهن من اللّفظ حیث یطلق و توجد قرینة صارفة .

ثمرة البحث

کما ظهر من مطاوی البحث أنْ لا ثمرة لهذا النزاع ، لکون القضایا هذه حقیقیةً لا خارجیّة ، فقضیّة النهی عن البول تحت الشجرة المثمرة - مثلاً قضیّة حقیقیّة ، و البحث فیها راجع إلی أنَّ کلَّ شجرٍ وجد و اتّصف بأنه مثمر ، فالبول تحته منهی عنه ، فما لم یتحقّق وصف الإثمار فلا یترتّب الحکم ، فیرجع الأمر إلی نزاع آخر و هو أنّه : هل حدوث وصف الإثمار کاف لترتّب الحکم أو یشترط لترتّبه بقاء الوصف أیضاً ؟ و هذا غیر النزاع فی المشتق .

و آخر دعوانا أن الحمد للّٰه رب العالمین ، و صلّی اللّٰه علیه محمّد و آله الطاهرین .

تم الجزء الأوّل و یلیه الجزء الثانی بعون اللّٰه .

ص:402

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.