ماساه الزهرا سلام الله عليها شبهات و ردود المجلد 1

اشارة

نويسنده:عاملی، جعفر مرتضی

ماساه الزهرا سلام الله عليها شبهات و ردود

تعداد جلد:2

زبان:عربی

ناشر:دار السیرة - بیروت - لبنان

سال نشر:1418 هجری قمری

سال نشر:1997 میلادی

کد کنگره: BP 27 / 2 / ع 2 م 2

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الجزء الأول

تقديم

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله،و الصلاة و السلام على محمد رسول الله،و على آله الطاهرين.

و بعد..

فإن ما جرى على الزهراء من أحداث،و ما واجهته من بلايا، لم يكن يستهدف شخصها أو شخصيتها كفرد،بقدر ما كان يستهدف القفز فوق ثوابت إسلامية للوصول الى ما لم يكن صانعوا تلك الاحداث مؤهلين للوصول إليه،أو الحصول على ما لا يحق لهم الحصول عليه.

و ذلك لأن الزهراء كانت-في واقع الامر-ذلك السد المنيع و القوي الذي يعترض سبيل تحقيق طموحات غير مشروعة و لا مبررة.

و هي تلك القوة المؤثرة و الحاسمة في إظهار زيف تلك الطموحات، و تأكيد و ترسيخ بطلانها،و عدم مشروعيتها في وعي الامة،و في وجدانها،و في ضميرها الاسلامي و الانساني.

و قد يجد الانسان في سياق الفهم التاريخي ان البعض يتظاهر بأنه يعيش حالة من التردد أو الترديد في أن يكون ثمة مبررات معقولة،

ص: 5

أو فقل:فرصا موضوعية تمكّن لتلك الاحداث و الوقائع،من أن تنطلق على أرض الواقع،و ذلك ما يثير لديه أكثر من سؤال حول دقة أو حتى صدق النقل الحديثي و التاريخي لأحداث كهذه.

و لأجل ذلك،فهو لا يجد حرجا في التشكيك في ذلك كله، إن لم يمكن له رفضه و إدانته بصورة علنية و صريحة.

على أن موقف هذا النمط من الناس يختزن في داخله أيضا مسلّمة لا مراء فيها،تقول:إن الاجابة على تلك التساؤلات،ثم التثبت من صحة تلك الوقائع بجدية و حسم،سوف يعني بالضرورة إدانة قاطعة،و رفضا صريحا لشرعية كل الواقع الذي نشأ،و تخطئة صريحة و مرّة لصانعي تلك الاحداث،و المتسببين بتلك البلايا التي حاقت بالصدّيقة الطاهرة صلوات الله و سلامه عليها.و هذا ما يريدون تلافيه،و الابتعاد عن الوقوع فيه.

و ما تهدف إليه هذه المطالعة الموجزة هو عرض تلك التساؤلات التي أنتجت نوعا من الشك و التشكيك لدى هذا البعض.ثم تسجيل ملاحظات،و تقديم إيضاحات تضع الامور في نصابها،و تسهم-إن شاء الله-في جلاء الصورة الصحيحة،و في استكمالها ملامحها الضرورية،مع تقديم ايضاحات أو إجابات أخرى على أسئلة،أو شبهات طرحت حول قضايا أخرى تتعلق بالزهراء عليها السلام..

فنحن نقدم ذلك مع التأكيد على أننا نحترم و نقدر الميزات الشخصية للجميع،و على أن اختلاف الرأي و تسجيل الموقف في مسائل بهذا المستوى من الاهمية و الخطورة لا ينبغي أن يفسد في الود قضية.

ص: 6

و من الله نستمد القوة و العون،و نسأله تعالى أن يلهمنا سداد و صواب القول،و صحة القصد،و خلوص النية،و طهر و صفاء العمل.

و هو ولينا،و الهادي الى سواء السبيل.

بيروت:10 شعبان 1417 ه.ق.

جعفر مرتضى العاملي

ص: 7

ص: 8

تمهيد

اشارة

بداية و توطئة:

قد تعرض هذا الكتاب الى أمور أثيرت في الآونة الاخيرة، حول مأساة الزهراء(عليها السلام)،و ما جرى عليها بعد وفاة رسول الله(ص)،و حول أمور أخرى لها نوع ارتباط بها صلوات الله و سلامه عليها-أثيرت-بطريقة تطلبت منا توضيحا،أو تنقيحا.

و قد أحببنا قبل الدخول في ما هو المهم:ان نذكّر القارئ العزيز بأمور و بنقاط،يرتبط اكثرها بإثارات في دائرة البحث العلمي لا بد له من الاطلاع عليها،كنا قد أوردنا قسما منها في مقال لنا نشر قبل أشهر بعنوان:«لست بفوق أن أخطئ».

و نعيد عرض بعضها للقارئ الكريم في هذا التمهيد أيضا لأهميتها،و لانه قد لا يتيسر له المراجعة إليها في ذلك المقال،فإلى ما يلي من نقاط معادة أو مزادة،و الله ولي التوفيق:

نقاط لا بد من ملاحظتها:

1-لقد وردت النقاط التي ألمحنا إليها و ناقشناها في هذا الكتاب في مؤلفات،و مقالات،و محاضرات،و مقابلات صحافية،أو إذاعية،أو تلفزيونية.

ص: 9

و قد حرصنا على أن لا نصرح باسم قائلها من أجل الحفاظ على المشاعر،حيث لم نرد أن نتسبب بأدنى دغدغة للخواطر،و قد كنا و لا نزال نحرص على صداقتنا مع الجميع،و حبنا لهم،و إرادة الخير لكل الناس.و لو لا اننا رأينا ان من واجبنا المبادرة الى توضيح بعض الامور،لكنا أعرضنا عن نشر هذه المطالعة من الاساس.

فإذا ما أراد شخص أن يعتبر ان ما يرد في هذا الكتاب يعنيه دون سواه،على قاعدة:«كاد المريب أن يقول:خذوني»،فذلك شأنه، و لكننا نسدي له النصح بأن لا يفعل ذلك،لأننا،إنما نقصد بذلك نفس القول من أي قائل كان.

2-قد تصادف في حياتك العلمية بعض المتطفلين على الثقافة و المعرفة،ممن قد يحملون بعض الالقاب أو العناوين يشن حملة تشهيرية ضد من يخالفه في الرأي أو يناقشه فيه،و لو على القاعدة التي أطلقها بعض هؤلاء بالذات منتصرا ليزيد بن معاوية،حين اعتبر لعنه سقوطا،فقال:«و لكن تلك المحافل سقطت في جوانب منها الى السباب و اللعن،فلم تكتف بالشمر اللعين،بل طالت فيمن طالت معاوية و يزيد و بني أمية» (1).

فاذا واجهنا نحن أيضا هذا النوع من الناس،فان ذلك لن يرهبنا،و لن يمنعنا من اتباع هذا الكتاب بنظائر له،تناقش شتى الموضوعات المطروحة بطريقة علمية و موضوعية،و هادئة،إذا كان ثمة ضرورة لمناقشتها،أو إذا تبلور لدينا شعور بالتكليف الشرعي الملزم باتخاذ موقف تجاهها،إذ قد بات من الواضح:انه لا مجال للمجاملة أو المهادنة في أمر الدين،و قضايا العقيدة،و ما يتعلق بأهل البيت(ع).ة.

ص: 10


1- جريدة السفير:1996/6/27 م من مقال لاحد الاساتذة.

و لن نلتفت الى مهاترات بعض هؤلاء،أو أولئك.فما ذلك إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء..

و ليحق الله الحق بكلماته،و يبطل كيد الخائنين.

3-و بعد..فقد يقول البعض: إن مناقشة الافكار و نقدها يعتبر تشهيرا بصاحب الفكرة،مع ان اللازم هو حفظه،و التستر على أخطائه،و عدم الاعلان بها.

و نقول:

1-أولا: إذا كانت مناقشة الافكار و نقدها تشهيرا،فاللازم هو إغلاق أبواب المعرفة و العلم،و منع النقد البنّاء من الاساس،مع ان نقد أفكار حتى كبار العلماء عبر التاريخ هو الصفة المميزة لأهل الفكر و العلم،خصوصا أتباع مدرسة أهل البيت(ع).

2-ثانيا: إن التشهير الممنوع هو ذلك الذي يتناول الامور الشخصية،و ليس النقد البناء و الموضوعي و تصحيح الخطأ في الامور العقيدية،و الايمانية و الفكرية،معدودا في جملة ما يجب فيه حفظ الاشخاص،ليكون محظورا و ممنوعا.

لا سيما إذا كان هذا الخطأ سينعكس خطأ أيضا في عقائد الناس،و في قضاياهم الدينية و مفاهيمهم الايمانية،فإنها تبقى القضية الاكثر إلحاحا،و إن حفظ الناس في دينهم هو الاولى و إلا وجب من حفظ من يتسبب بالمساس بذلك،أو يتطاول إليه.

و لا بد للإنسان أن يعرف حده فيقف عنده،و لا يحاول النيل من قضايا و ثوابت الدين و العقيدة،و الايمان.

ص: 11

3-و ثالثا: ان المبادرة الى نقد الفكرة ليس تجنيا و لا تشهيرا، بل إن الاصرار على طرح الامور التي تمس الثوابت الدينية أو المذهبية أو التاريخية،أو غيرها بطريقة خالية من الدقة العلمية،و تجاوز الحدود الطبيعية هو الذي يؤدي إلى التشهير بصاحبها.

4-قد يرى البعض ان التعرض الى بعض الثوابت يمثل نوعا من التجديد في الفكر،أو في الثقافة الاسلامية أو التاريخية،و ما الى ذلك.

و لكن الحقيقة هي أن ما قد اعتبر من هذا القبيل هو-على العموم-يمثل عودة الى طرح أمور سبق الآخرون الى طرحها في عصور سلفت،بل لا يزال كثير منهم يذكرون أبعاضا منها في مناقشاتهم مع الشيعة الإمامية الى يومنا هذا،و هو مبثوث في ثنايا كلماتهم،و احتجاجاتهم الكلامية و المذهبية في مؤلفاتهم..كما لا يخفى على المتتبع الخبير.و قد أجاب عنها الشيعة الامامية و لا يزالون، بكل وضوح و دقة،و مسئولية،و وعي،و لله الحمد.

5-هناك مقولة سمعناها و قرأناها أكثر من مرة تفيد:أن علينا أن لا نخشى من طرح القضايا على الناس،فإن القرآن قد نقل لنا أفكار المشككين في النبي:

«و كيف لنا أن نعرف ما قالوه فيه(ص)من أنه مجنون، و ساحر،و كاذب لو لم يستعرض القرآن مواقفهم المعادية».

و نقول:

أولا: ان قولهم:ساحر،و كاذب،و مجنون،ليس أفكارا للمشككين،بل هو مجرد سباب و شتائم،و إهانات منهم لرسول الله

ص: 12

(ص)،في نطاق الحرب الاعلامية ضد الرسول(ص)،و الذين قالوا ذلك أنفسهم كانوا يعرفون كذبها و زيفها أكثر من غيرهم.

ثانيا: ان إثارة التساؤلات و إلقاء التشكيكات و السباب،و كيل التهم للنبي(ص)أو لغيره لا يعتبر فكرا،فضلا عن أن يكون تجديدا في الفكر،أو حياة له و فيه.

ثالثا: ان القرآن حين تحدث عن مقولات هؤلاء فإنما تحدث عنها في سياق الرد عليها،و تهجينها فلم يكتف بمجرد إثارتها و لا تركها معلقة في الهواء،لتتغلغل و تستحكم في نفوس الناس الذين لا يملكون من أسباب المعرفة ما يمكنهم من محاكمتها بدقة و وعي و عمق.

6-يقول البعض: ان مسئولية العالم أن يظهر علمه إذا ظهرت البدع في داخل الواقع الاسلامي و خارجه،و إذا لم يفعل ذلك«فعليه لعنة الله»كما يقول النبي(ص)،و الله تعالى قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى،مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ،فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ (1).

و نقول:اننا عملا بهذه المقولة بالذات،قد ألزمنا أنفسنا في كل حياتنا العلمية بالتصدي العلمي لأي تساؤل يثار في داخل الواقع الاسلامي و خارجه،إذا كان يمثل إدخالا لشيء جديد في تراثنا الفكري،أو في الدين الحنيف،أو في المذهب الحق الذي حقق حقائقه رموز الاسلام،و روّاد التشيع الاصيل،و أساطين العلم و جهابذته، بالادلة الواضحة و البراهين اللائحة.9.

ص: 13


1- سورة البقرة:159.

7-قد يجعل بعض الناس دعواه هي نفسها دليله القاطع عليها،فليتأمل المتأمل في ذلك،و ليلتفت إليه.

8-إذا كان ثمة من يحاول هدم الادلة التي أقامها العلماء على قضية عقيدية أو غيرها،فبقطع النظر عن فشله أو نجاحه في ذلك، فإنه حين لا يقدّم الدليل البديل،فإنه يكون بذلك قد قرر التخلّي عن تلك العقيدة التي زعم أنه هدم دليلها،حيث لا يمكنه ان يلتزم بعقيدة ليس له دليل عليها،إلا إذا كان مقلدا في الامور العقائدية،و هو أمر غير مقبول من أحد من الناس.

9-و قد يقول البعض: انه ليس من حق أحد أن ينصحه،بأن لا يطرح على الناس العاديين بعض آرائه و تساؤلاته حول الامور العقيدية،و الايمانية،و التاريخية التي يخالف فيها ما أجمع عليه علماء المذهب،و رموزه و جهابذته،حتى لو كانت هذه النصيحة تهدف الى صيانته عن الوقوع في المحذور الكبير اذا كان ما سيطرحه يمثل خروجا خطيرا،يفرض على العلماء الذين يحرم عليهم كتمان العلم و البينات مواجهته بالدليل القاطع،و بالحجة البالغة،و بالاسلوب المماثل،بل بأي أسلوب مشروع يجدي في التوضيح و التصحيح.

هذا عدا عن أنه يستتبع أيضا أمورا خطيرة فيما يرتبط بآثار هذه المخالفات و تبعاتها،و ما يفرضه على الآخرين من طريقة تعامل معه، و أسلوب التعرض لتساؤلاته و آرائه و طروحاته.

10-و يقول أيضا:«يخاف البعض أن يؤدي طرح المسائل الفكرية و العقائدية الى مسّ أفكار متوارثة قد تكون صحيحة،و قد لا تكون».

ص: 14

ثم يتوجه الى الناس بقوله: «لا تبيعوا عقولكم لأحد،و لا تبقوا على جمودكم على غرار ما ذكرته الآية الكريمة: إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ،وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (1)،لأن كل جيل يجب أن ينفتح على الحقيقة وفق ما عقله،و فكر به».

ثم يستدل على لزوم طرح أفكاره و تساؤلاته بحديث:إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه و إلا فعليه لعنة الله،و بالآية الكريمة المتقدمة إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى...

الخ...

و نقول:

إننا لا ندري ما هو المبرر لهذا التصريح الخطير الذي ضمنه اتهاما بأن بعض أفكار و عقائد مذهبنا الحق قد لا تكون صحيحة!!

و ما كنا نظن أن اتباع هذا المذهب يتوارثون أفكارهم و عقائدهم من دون دليل و حجة،و إنما لمجرد التقليد الاعمى غير المقبول و لا المعقول!!و لم نكن نحسب أن أتباع هذا المذهب قد أصبحوا موردا لقوله تعالى:إنا وجدنا آبائنا على أمة الخ..!!

و الأدهى من ذلك كله: تصنيف عقائدنا(المتوارثة!!)على حد تعبيره في عداد البدع التي ظهرت.فاحتاج الى إظهار علمه انطلاقا من حديث:إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه!!

11-و ربما يلجأ البعض إلى اظهار أية معالجة علمية للمقولات التي تصدر عنه،على أنها تتصل بدوافع شخصية،ثم تبدأ التحليلات،3.

ص: 15


1- سورة الزخرف:13.

و التكهنات،و تصاغ التهم؛فينشغل الناس بها،و ينسوا ما وراء ذلك.

و نحن لا نريد أن نفرض على أحد أن يحسن ظنه بأي كان، و إن كنا نعتقد:أن إحسان الظن-خصوصا-على المستوى العلمي هو ما تدعو إليه الاخوة الاسلامية و الايمانية.

و لكننا نذكّر المشتغلين بالشأن العلمي بأمر يوجبه الله سبحانه و تعالى على الجميع،و هو أن عليهم أن ينأووا بأنفسهم عن التكهنات، و التهم و الرجم بالغيب،مع ما يتضمن ذلك من تعد على كرامات الناس من دون اثبات له بالطرق الشرعية.و هذا التعدي مرفوض،و يعد مخالفة لاحكام الشرع و الدين،و للضمير و الوجدان.

ثم إننا نذكّر أيضا بأمرين:

أحدهما: ان هذا النوع من الفهم للامور،لا يقلل من قيمة الطرح العلمي أو الفكري الذي تقدمه تلك المعالجة،التي ربما يراد حجب تأثيرها بأساليب كهذه،بل تبقى الروح العلمية،و متانة الدليل هي المعيار و الميزان في الرد أو في القبول،إذا اقتضى الأمر أيا من هذين الامرين في أي مسألة من المسائل التي هي في صلب اهتماماتنا،و تقع في سلّم الاولويات عندنا.

الثاني: اننا قد لا نجد مبررا لإساءة الظن هذه،لأن المعايير الشرعية هي التي يجب أن تحكم أي موقف أو سلوك،لا سيما إذا كانت العلاقة فيما بين طرفي الحوار حميمة و سليمة على مدى حين طويل من الدهر،لو لا هذه المعارضة للافكار،يريد أن يروّج لها، و يستظهر بها،و ينتصر لها بقوة و بحماس،فحرك الطرف الآخر شعوره بالمسؤولية العلمية أو الشرعية لبيان ما يراه حقا و صدقا،و لا حرج و لا غضاضة في ذلك،بل انه لو لم يفعل ذلك لكان للريب في صلاحه

ص: 16

و استقامته مجال و مبرر،مقبول و معقول.

12-يقول البعض: ان ما يصدر عنه من مقولات هو مجرد اجتهاد،و يحق لكل أحد أن يمارس الاجتهاد،و يخالف الآخرين في آرائهم..

و نقول:

لا حرج في أن يجتهد فلان من الناس،و يخالف الآخرين في آرائهم أو يوافقهم..إذا كان الامر يقتصر عليه هو،و ينحصر به،و يمثل عقيدة شخصية له،لا تتعداه الى غيره.

أما إذا كان هذا الشخص يريد أن ينشر بين الناس اجتهاده المخالف لثوابت المذهب التي قامت عليها،البراهين القاطعة،و دلت عليها النصوص الصريحة و الصحيحة و المتواترة،فيدعوا الناس إلى مقالاته المخالفة لها،فالموقف منه لا بد أن يختلف عن الموقف من ذاك، حيث لا بد من التصدي له،و تحصين الناس عن الانسياق معه،في أفكاره التي تخالف حقائق الدين و ثوابته التي حققها رموز المذهب و أعلامه،و لا بد من وضع النقاط على الحروف،و توضيح التفاوت و الاختلاف فيما بينه و بينهم.

و يتأكد لزوم مواجهة طروحاته حين نجده يقدمها للناس بعنوان أنها هي الفكر المنسجم مع ما تسالم عليه علماؤنا تحت شعار التجديد و العصرنة،و لا يعترف أبدا بأنها تختلف مع كثير من الحقائق الثابتة في النواحي العقيدية و الايمانية،الامر الذي لا ينسجم مع الأمانة الفكرية و لا مع خلقية الانسان الناقل و الناقد.

13-قد يلاحظ على البعض إيغاله في الاعتماد على عقله،

ص: 17

و في إعطائه الدور الرئيس،و القرار الحاسم،حتى في أمور ليس للعقل القدرة على الانطلاق في رحابها،بل ربما جعل من عقله هذا معيارا و مقياسا،مدعيا أنه يدرك علل الاحكام،فيعرض النصوص عليه،فإن أدرك مغزاها،و انسجم مع محتواها قبلها و رضيها،و إلا فلا يرى في رفضها،و الحكم عليها بالوضع و الدس أي حرج أو جناح.

و نوضح ذلك في ضمن فرضيتين يظهر منهما موضع الخلل:

إحداهما: ان ظاهر النص قد يتناقض مع حكم العقل،تناقضا ظاهرا و صريحا في أمر هو من شئون العقل،و يكون للعقل فيه مجال، و له عليه إشراف.ففي هذه الحالة لا بد من تأويل النص بما يتوافق مع العقل،و ينسجم مع قواعد التعبير.

فإن لم يمكن ذلك فلا بد من رده،و رفضه،و هذه الفرضية هي الصحيحة و المقبولة لدى العلماء.

الثانية: ان يعجز عقل الفرد عن إدراك وجه الحكمة أو العلة في ما تحدث عنه النص،كما لو تحدث النص عن أن المرأة الحائض تقضي الصوم و لا تقضي الصلاة،أو تحدث عن ان الله سبحانه سيرجع في آخر الزمان أناسا من الاولياء،و أناسا من الاشقياء،فينال الاولياء الكرامة و الزلفى،و يعاقب الاشقياء ببعض ما اقترفوه،و يشفي بذلك صدور المؤمنين.

فإذا عجز عقله عن تفسير ذلك الحكم،أو هذا الحدث الذي أخبر عنه النص،رأيته يبادر الى رفضه،أو يطالب بتأويله،و يقول:ان المراد هو رجعة الدولة و النفوذ مثلا.

مع انه لا مورد لذلك الرفض،و لا لتلك المطالبة بالتأويل.

ص: 18

إذ ليس من المفترض أن يدرك عقل هذا الشخص جميع العلل و الحكم لكل ما صدر أو يصدر عن الله سبحانه.

كما انه إذا لم يستطع عقله أن يدرك بعض الامور و الاسرار اليوم،فقد يدرك ذلك غدا،بل قد لا يتمكن الآن أحد من إدراكها، ثم تدركها أجيال سوف تأتي بعد مئات السنين،كما هو الحال بالنسبة لكثير مما تحدث عنه القرآن من أسرار الكون و الحياة التي عرفنا بعضها في هذا القرن.

و حتى لو لم ندرك ذلك،و بقي في دائرة ما استأثر الله لنفسه بمعرفته،و ربما علّمه أنبياءه و أولياءه،فما هو الاشكال في ذلك؟!

و يبدو لنا أن الاسراف في تقديس العقل،باعتباره هو مصدر المعرفة الاوحد،و جعله مقياسا لرد أو قبول النصوص حتى في هذه الفرضية الاخيرة-ان ذلك-مأخوذ من المعتزلة،و قد كان هو الداء الدوي لهم،و من اسباب انحسار تيارهم،و خمود نارهم في العصور السالفة.

و ها هو التاريخ يعيد نفسه،حيث نشهد العودة الى نفس مقولتهم،التي أثبت الدليل بطلانها،كما عادت مقولات أخرى أكل الدهر عليها و شرب لتطلع رأسها من خبايا التاريخ و زواياه؛لتطرح من جديد باسم التجديد،تارة،و باسم العصرنة و الفكر الجديد أخرى، و الله هو الذي يبدئ و يعيد،و هو الفعّال لما يريد.

14-قد يحاول البعض ان يدعي:ان السبب في نقد افكار هذا الشخص أو ذاك هو إرادة إثارة الاجواء ضده،لأنه يحتل موقعا متميزا،فتحركت العصبيات في هذا الاتجاه أو ذاك،بهدف اسقاطه..

ص: 19

و نقول:

اولا:ان من الواضح: ان الكثيرين ممن أعلنوا رفضهم لتلك الاقاويل و يناقشونها لا يعيشون فكرة أو هاجس«المقامات، و العناوين»،حتى و لو كان هو عنوان او فكرة المرجعية بالذات،و لا يقع ذلك كله في دائرة اهتماماتهم.

ثانيا: اننا قد نجد أن أصحاب تلك الاقاويل المتهمة نفسها هم الذين يبادرون الى طرح الامور المثيرة،و يعيشون هاجس نشر طروحاتهم بكل الوسائل،و يرفعون من مستوى التوتر و الحماس تارة، و يخفضونه أخرى.و قد أثبتت الوقائع ذلك.

ثالثا: عدا عن ذلك كله،فإن المعيار و الميزان في الفكرة المطروحة هو عناصر الاقناع فيها،و حظها في ميزان الخطأ و الصواب، و مدى قربها و بعدها عن حقائق الدين و المذهب.

و ليس لاحد أن يدعي علم الغيب بما في ضمائر الناس، و حقيقة دوافعهم،فلتكن دوافعهم هذه أو تلك،فإن ذلك لا يؤثر في تصحيح أو تخطئة الفكرة،و لا يقلل أو يزيد من خطورتها.

15-ما زلنا نسمع البعض يطرح مسائل في مجالات مختلفة، لا تلتقي مع ما قرره العلماء،و لا تنسجم مع كثير مما تسالموا عليه استنادا الى ما توفر لديهم من أدلة قاطعة تستند الى قطعي العقل،أو صريح النقل أو ظاهره..

و قد بذلت محاولة تهدف الى بحث هذه الامور مع نفس أولئك الذين بادروا الى إثارتها،و طلب منهم في أكثر من رسالة،و عبر أزيد من رسول الدخول في حوار علمي مكتوب و صريح،توضع فيه

ص: 20

النقاط على الحروف،و يميز فيه الحق من الباطل بالدليل القاطع، و بالحجة الدامغة.

و ذلك على أمل أن يؤدي ذلك لو حصل الى أن تجنّب الساحة سلبيات إعلانهم المستمر بما لا يحسن الاعلان به،قبل التثبت و اليقين، و سد جميع الثغرات فيه.

و لكن-للاسف الشديد-قد جاءنا الجواب منهم برفض الحوار،إلا أن يكون ذلك بين جدران أربع،و خلف الابواب،و هذا ما يسمونه بالحوار!!

لقد أبوا أن يكتبوا لنا و لو كلمة واحدة تفيد في وضع النقاط على الحروف،متذرعين بعدم توفر الوقت لديهم،للكتابة،رغم أنهم قد كتبوا و ما زالوا يكتبون حتى هذه المسائل بالذات،و يوزعون ذلك في أكثر من اتجاه،لا ناس بأعيانهم تارة،و للناس عامة أخرى...و في مقالاتهم،و خطاباتهم،و محاضراتهم عبر وسائل الاعلام المختلفة ثالثة.

و حين لمسوا منّا الاصرار على موقفنا،لم يتحرجوا من العودة الى قواميسهم ليتحفونا بما راق لهم منها،مما له لون،و طعم،و رائحة، من قواذع القول،و عوار الكلم،و توجيه سهام الاتهام.

و كأن طلبنا للحوار العلمي كان كفرا بالله العظيم.أو ربما أقبح لو كان ثمة ما هو أقبح.

و لعل أيسر ما سمعناه و أخفه و أهونه هو أننا نتحرك بالغرائز، أو نعاني من التخلف و العقد،و الوقوع تحت تأثير هذا و ذاك،هذا عدا عن وصفنا بالذهنية الايرانية،و بالتعصب.و هذه هي التهمة المحببة إلينا، لأننا إنما نتعصب للحق،و ندافع عنه،و هو أمر ممدوح و مرضي عند الله

ص: 21

و رسله،و عند أوليائه و أصفيائه صلوات الله عليهم أجمعين.

هذا،مع العلم:اننا كنا و ما زلنا الى ما قبل أشهر يسيرة من تاريخ كتابة هذه الكلمات من خير الاحباب و الاصحاب لهم و معهم، و لم يعكر صفو هذه المحبة و المودة إلا أننا اكتشفنا في هذه الآونة الاخيرة ما رأينا ان تكليفنا الشرعي يفرض علينا أن نطلب منهم الحوار العلمي الهادئ و الرصين لحل معضلته.

16-إن هذا الكتاب الماثل أمام القارئ الكريم يقدم قدرا كبيرا من النصوص المأخوذة من عشرات بل مئات المصادر،رغم أنه أنجز في أشهر لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة،و هي مدة قصيرة، لا تسمح بكثير من التنقيب و التقصي،لا سيما مع وجود كثير من الصوارف عن القيام بأدنى جهد في الايام ذات العدد،خلال تلك المدة..

و نجدنا بحاجة الى تذكير القارئ الكريم،بأن المصادر الموضوعة في هوامش الكتاب كانت كثيرة الى درجة بتنا نخشى معها أن نكون قد وقعنا في أخطاء في أرقام الاجزاء و الصفحات، كما اننا أخذنا في موارد كثيرة من طبعات عدد للكتاب الواحد فليلاحظ ذلك..

هذا..و إن اهتمامنا بالمصادر-كما هو ديدننا-يأتي على قاعدة وضع القارئ أمام أدق جزئيات الحدث و تفاصيله ليكون هو الذي يوازن،و يفكر،ثم يستنتج و يقرر،من خلال تشبثه بأسباب المعرفة،و إشرافه المباشر على الامور المطروحة،و اطلاعه على ما لها من مناخات و ظروف و أحوال،لتكون نظرته الى الامور-من ثم- تتّسم بالدقة،و العمق،و من منطلق الوعي و الاحاطة،و تمتاز

ص: 22

بالاصالة و الثبات.

و هذه الطريقة قد لا يستسيغها بعض الناس،الذين قد تقرأ لهم مئات بل آلاف الصفحات،فتجدهم يستغرقون بالانشائيات،التي تعتمد على الكلمة الرنانة،و على الدعاوى العريضة،من دون أن يوثق ذلك بالنص الصريح،أو أن يفتح لك آفاق المعرفة المباشرة و الشاملة، إلا نزرا يسيرا مما يتداوله عامة الناس أو خصوص ما يؤيد فكرته منها!!

إنه يكتم عنك الكثير مما يرى ان من المصلحة أن لا تهتدي إليه،أو أن تطلع عليه،و إن أردت شيئا من ذلك فلن تجد في نفسك معطيات التفكير فيه،حيث لن تملك من وسائله شيئا،و لن يجعلك- إن استطاع-تحصل على شيء يمكنك أن تمسك به،و تطبق يدك عليه.

إنه يريد منك أن تقرأ ثقافته هو،و تجربته كفرد،و تهوّم في آفاقه،و تتلمّس آلامه،و آماله،و أحلامه،و حتى تخيلاته و أوهامه،و ليس ثمة شيء وراء ذلك إلا السراب،و السراب فقط.

17-و بعد،إننا نأسف كل الاسف إذا قلنا:إن هذا الكتاب لم يقدّر له أن يعالج موضوعا محددا له بداية و نهاية،و عناصر لها ما يجمع بين متفرقاتها،و يؤلف بين مختلفاتها،بل هو يعالج شتاتا من المسائل المختلفة،استخدمها البعض للتشكيك في أحداث جرت على الزهراء(ع)،أو أثارها في مناسبة الحديث عنها(ع)،لسبب أو لآخر.

ص: 23

النقاط المعادة

و من النقاط التي ذكرناها في مقال سابق، و نشرناها،نختار ما يلي:

1-إن طرح الاحاديث المتشابهة،أو التي يصعب فهمها على الناس،ثم الاصرار على الاستمرار في هذا الطرح،من دون تقديم التفسير المعقول و المقبول،ليس بالامر المرضي،و لا هو محمود العواقب،خصوصا إذا كان ذلك من قبل أناس يتوقع الناس منهم حلّ المشكلات،و توضيح المبهمات.

و على الاخص إذا كانت هذه الاحاديث،أو القضايا المشكلة لا تطرح على أهل الاختصاص من أهل الفكر،و إنما على الناس السذّج و البسطاء،بمن فيهم الصغير و الكبير،و المرأة و الرجل،و العالم و الجاهل.و ذلك عبر وسائل الاعلام العامة،و في الهواء الطلق.

2-إن إثارة المسائل الحسّاسة،و طرح التساؤلات على أولئك الذين لا يملكون من أسباب المعرفة ما يمكّنهم من حل العقدة بصورة سليمة و قويمة.و من دون تقديم إجابات كافية،أو حتى من دون إجابات أصلا،إن ذلك يفرض على العلماء المخلصين أن يبادروا الى رفع النقيصة،و سد الثغرات،و تقديم الاجوبة الصحيحة،بكل ما يتوافر لديهم من وسائل،لئلاّ يقع الناس الابرياء الغافلون في الخطأ الكبير و الخطير.

مع الحرص الاكيد على الاقتصار على نقد الفكرة،و دون أن تصدر أية إساءة،أو تجريح شخصي،أو انتقاص لاي كان من الناس.

ص: 24

و إنما مع حفظ الكرامة و السؤدد،و بالاسلوب العلمي المهذّب و الرصين.

مع التذكير و الإلماح الى أن تبعة إثارة هذا المواضيع تقع على عاتق مثيرها الاول.لا على الذين تصدوا للتصحيح و التوضيح.

و ليس من الانصاف أن تثار هذه الامور في الهواء الطلق،ثم يطلب من الآخرين أن يسكتوا عن التعرّض لها،إلاّ في الخفاء،و بين جدران أربع،و خلف أبواب مغلقة أو مفتوحة،فإن طلبا كهذا لا بد أن يفهم على أنه أمر بالسكوت،بصورة جبرية،بل هو ابتزاز و حصر لحق الكلام بصاحب السيادة أو السماحة دون سواه.

3-إنه لا مجاملة في قضايا الدين و العقيدة،فلا يتوقعنّ ذلك أحد من أي كان من الناس،حتى لو كان قريبا و حبيبا،و مهما كان موقعه و دوره،فإن الحق و الدين فوق كل الاعتبارات.

4-إن قضايا الدين و العقيدة ليست حكرا على فريق بعينه،بل هي تعني كل الناس على اختلاف حالاتهم و مستوياتهم،فمن حق كل أحد أن يظهر حساسية تجاه أي مقولة تمس هذه القضايا،و لا بد أن يلاحق ذلك باهتمام بالغ و مسئول،ليحدد موقفه.و لكن ضمن حدود الاتزان،و بالاسلوب العلمي الموضوعي و الرصين و المسئول.

و يتأكد هذا الامر إذا عرفنا:

أ-ان قضايا العقيدة لا يجوز التقليد فيها،بل لا بد لكل فرد من الناس أن يلتمس الدليل المقنع و المقبول..فليست مسائل العقيدة على حد مسائل الفقه التي يرجع فيها الجاهل الى العالم ليأخذ الفتوى.

استنادا الى الادلة العامة على لزوم التقليد.

ص: 25

و ليس من الجائز منع الناس من التعرض لمثل هذه القضايا،و لا يصح أن يطلب منهم مجرد الاخذ الاعمى لها،و تقليد الآباء و الاجداد،أو هذا العالم أو ذاك بها.كما لا يصح،بل لا يجوز استغلال غفلتهم،و طهرهم و عرض هذه القضايا لهم بصورة ناقصة، و غير متوازنة،فان ذلك لا يتوافق مع الامانة العلمية و الشرعية التي لا بد من مراعاتها.

ب-إن تحسّس الناس لقضايا الدين و العقيدة،و متابعتهم لها بحيوية و حماس لهو من علامات العافية،و دلائل السلامة،و من المفترض تشجيعه و تنميته فضلا عن لزوم الحفاظ عليه.

و لا يصح مهاجمته،و مواجهته بالاتهامات الكبيرة،و الخطيرة، بهدف كبته و القضاء عليه،بل اللازم هو تأكيده،و تحصينه،و توجيهه بصورة قويمة و سليمة،لتصبح تلك العقيدة أكثر رسوخا،و أعمق تأثيرا في السلوك و في الموقف،لا سيما في مواجهة التحديات.

5-إن العلوم الاسلامية كثيرة،و فيها سعة و شمولية ظاهرة، بالاضافة الى أنها بالغة الدقّة في كثير من تفاصيلها،فلا غضاضة على العالم أن يتريّث في الاجابة على كثير من الاسئلة التي توجه إليه في كافة العلوم،إذ ليس بمقدوره الاجابة على جميع الاسئلة،إلا أن يكون في مستوى الأنبياء و الائمة.و قد قيل:رحم الله امرأ عرف حدّه فوقف عنده.

فإذا كان المسئول لم ينجز بحث تلك المسائل و تحقيقها، و دراستها بصورة دقيقة و وافية،تمكنه بعد ذلك من أن يعرضها على الناس بدقة و شمولية فليس له ان يصدر فيها أحكاما قاطعة.و لا يجوز له أن يتصدى للاجابة عنها،و إن كان لا بد من ذلك؛فعليه أن يلتزم

ص: 26

حدود العرض و البراءة من العهدة،و تقديم العذر بعدم التوفر على دراستها و تمحيصها.

و لا غضاضة عليه لو اكتفى بعرض ما توافق عليه أعاظم علماء المذهب و أساطينه،من دون التفات الى ما تفرّد به هذا العالم أو ذاك، حيث لا يمكن التزام الشاذ،و ترك المشهور و المنصور.

أما أن يثير كل ما يخطر على باله،أو يجيب على كل سؤال بطريقة تشكيكية،تحقق له الهروب (1)،و توحي للناس بأنه عالم بكل تفاصيل القضايا،و بأنه يثير التساؤلات حولها من موقع الخبرة، و المسئولية،و الاطلاع الدقيق،و الفكر العميق،مع أنه ربما لم يطلع على النص أصلا،فضلا عن أن يكون قد درسه أو حقق فيه-إن هذا الاسلوب-غير مقبول،و غير منطقي و لا معقول.

6-انه ليس من حق أحد أن يطلب من الناس أن يقتصروا في ما يثيرونه من قضايا على ما ورد عن النبي(ص)و الأئمة(ع)بأسانيد صحيحة،وفق المعايير الرجالية في توثيق رجال السند...لأن ذلك معناه أن يسكت الناس كلهم عن الحديث في جل القضايا و المسائل، دينية كانت أو تاريخية أو غيرها.

بل ان هذا الذي يطلب ذلك من الناس،لو أراد هو أن يقتصر في كلامه على خصوص القضايا التي وردت بأسانيد صحيحة عن المعصومين،فسيجد نفسه مضطرا الى السكوت،و الجلوس في بيته، لأنه لن يجد إلا النزر اليسير الذي سيستنفده خلال أيام أو أقل من ذلك.ا.

ص: 27


1- كقوله:إذا سئل عن أمر ورد في نص:هذا غير ثابت.أو صحة الرواية غير معلومة.أو يوجد أحاديث لم تثبت صحتها.

على أننا نقول،و هو أيضا يقول:ان ثبوت القضايا لا يتوقف على توفر سند صحيح لها برواية عن المعصومين،فثمة قرائن أخرى تقوي من درجة الاعتماد أحيانا،ككون الرواية الضعيفة قد عمل بها المشهور،و استندوا إليها مع وجود ذات السند الصحيح أمام أعينهم، ثم لم يلتفتوا إليها و كذا لو كان النص يمثل اقرارا من فاسق بأمر يدينه أو يناقض توجهاته،فانه لا يصح ان يقال:إن هذا فاسق فلا يقبل قوله.

و على هذا،فلا بد من ملاحظة القرائن المختلفة في قضايا الفقه، و الاصول،و العقيدة و التاريخ و غيرها من قبل أهل الاختصاص،حيث يستفيدون منها في تقوية الضعيف سندا،أو تضعيف القوي،بحسب الموارد و توفر الشواهد.

7-إنه ليس أسهل على الانسان من أن يقف موقف المشكك و النافي للثبوت،و المتملص من الالتزام بالقضايا،و الهروب من تحمل مسئولياتها.و ليس ذلك دليل علمية و لا يشير الى عالمية في شيء.

و العالم المتبحر،و الناقد،و المحقق هو الذي يبذل جهده في تأصيل الاصول،و تأكيد الحقائق.و إثبات الثابت منها،و إبعاد المزيف.

8-إن نسبة أي قول إلى فئة أو طائفة،إنما تصح إذا كان ذلك القول هو ما ذهب إليه،و صرح به رموزها الكبار،و علماؤها على مر الاعصار،أو أكثرهم،و عليه استقرّت آراؤهم،و عقدوا عليه قلوبهم.

و يعلم ذلك بالمراجعة الى مجاميعهم،و مؤلفاتهم،و كتب عقائدهم،و تواريخهم.

أما لو كان ثمة شخص،أو حتى أشخاص من طائفة،قد شذوا في بعض آرائهم،فلا يصح نسبة ما شذوا به الى الطائفة بأسرها،أو

ص: 28

الى فقهائها،و علمائها.فكيف إذا كان هؤلاء الذين شذوا بأقوالهم من غير الطليعة المعترف بها في تحقيق مسائل المذهب.

و كذا الحال لو فهم بعض الناس قضية من القضايا بصورة خاطئة و غير واقعية و لا سليمة،فلا يصح نسبة هذا الفهم الى الآخرين بطريقة التعميم،لكي تبدأ عملية التشنيع بالكلام الملمع و المزوّق و المرصّع و المنمق،مع تضخيم له و تعظيم،و تبجيل و تفخيم،يؤدي إلى احتقار علماء المذهب و تسخيف عقولهم،بلا مبرر أو سبب.ثم هو يقدم البديل الذي أعدّه و مهد له بالكلام المعسول مهما كان ذلك البديل ضعيفا و هزيلا.

9-إن طرح القضايا التي يطلب فيها الوضوح،على الناس العاديين بأساليب غائمة،و إن كان ربما يسهّل على من يفعل ذلك التخلّص و التملص من تبعة طروحاته الى حد ما..

و لكنه لا يعفيه من مسئولية تلقي الناس العاديين للفكرة على أنها هي كل الحقيقة،و هي الرأي الصواب الناشىء عن البحث و الدراسة،و ما عداه خطأ.

نعم،لا يعفيه من مسئولية ذلك،ما دام ان الكل يعلم:ان الناس يفهمون الامور ببساطة،فلا يلتفتون الى كلمة:ربما،لعل،لنا أن نتصور،يمكن أن نفهم،نستوحي،علينا أن ندرس،و ما الى ذلك..

و بعد...

فإننا نحترم و نقدر جهود العاملين و المخلصين،و ندعو لهم بالتوفيق و التسديد،و نشكر كل الاخوة العاملين المخلصين الذين بذلوا جهدا في سبيل انجاح هذا الكتاب،و أخص منهم بالذكر الاخ العلامة

ص: 29

الجليل الشيخ رضوان شرارة،فشكر الله سعي الجميع،و حفظهم و رعاهم.و وفقنا و اياهم لسداد الرأي،و خلوص العمل.و هو ولينا، و هو الهادي الى الرشاد و السداد.

ص: 30

الباب الأول: الزهراء و مأساتها

اشارة

ص: 31

ص: 32

الفصل الأول: الزهراء(ع)مقامها و عصمتها

اشارة

ص: 33

ص: 34

بداية و توطئه:

سنبدأ حديثنا في هذا الفصل عن تاريخ ميلاد الزهراء(ع)لأن البعض يحاول ان يتحاشى،بل يأبى الالزام أو الالتزام بما ورد عن النبي الكريم(ص)،و عن الائمة الطاهرين عليهم السلام،من انها(ع)قد ولدت من ثمر الجنة بعد الاسراء و المعراج،أو يحاول تحاشي الالتزام بأنها عليها السلام قد تزوجت من علي(ع)في سن مبكر، لأنه يشعر بدرجة من الاحراج على مستوى الاقناع،يؤثر أن لا يعرّض نفسه له..و قد لا يكون هذا و لا ذاك،بل ربما أمر آخر،هو الذي يدعوه الى اتخاذ هذا الموقف و الله هو العالم بحقائق الامور،و المطلع على ما في الصدور.

ثم نتحدث بعد ذلك ،عن أمور لها ارتباط قريب بشأن عصمة الأنبياء،و الأوصياء،و الأولياء عليهم السلام لا سيما عصمة الصديقة الطاهرة صلوات الله و سلامه عليها.

و سيكون حديثنا هذا عن العصمة مدخلا مقبولا و تمهيدا لعرض بعض الحديث عن منازل الكرامة،و درجات القرب و الزلفى لسيدة نساء العالمين عليها الصلاة و السلام،في ظل الرعاية الربانية،و التربية الالهية،دون أن نهمل الاشارة الى موضوع ارتباطها بالغيب،الذي تمثّل بما حباها الله سبحانه و تعالى به من صفات و خصوصيات،

ص: 35

و كرامات ميزتها عن سائر نساء العالمين. فكانت المرأة التي تحتفل السماء قبل الارض بزواجها من علي عليه الصلاة و السلام،و كانت أيضا المرأة الطاهرة المطهّرة عن كل رجس و دنس و نقص،حتى لقد نزهها الله عما يعتري النساء عادة من حالات خاصة بهنّ دون أن يكون لذلك أي تأثير سلبي على شخصيتها فيما يرتبط بشأن الحمل،و الولادة.

ثم إننا:قبل أن نخرج من دائرة كراماتها الجلي،و ميزاتها و صفاتها الفضلى،كانت لنا إلمامة سريعة بما حباها الله به من علم متصل بالغيب،أتحفها الله به بواسطة ملك كريم كان يحدثها و يسليها بعد وفاة أبيها،الأمر الذي أنتج كتابا هاما جدا،كان الائمة الاطهار عليهم الصلاة و السلام يهتمون،بل و يعتزون به،و كانوا يقرءون فيه، و ينقلون عنه و هو ما عرف ب«مصحف فاطمة»عليها السلام، بالاضافة الى كتب أخرى اختصت بها صلوات الله و سلامه عليها.

إننا سنقرأ لمحات عن ذلك كله في هذا الفصل،مع توخي سلامة الاختيار و مراعاة الاختصار قدر الامكان..و بالله التوفيق،و منه الهدى و الرشاد.

متى ولدت الزهراء عليها السلام؟

ان أول ما يطالعنا في حياة الصدّيقة الطاهرة هو تاريخ ولادتها عليها السلام.حيث يدعي البعض أنها عليها السلام قد ولدت قبل البعثة بخمس سنوات؟!

ص: 36

و نقول:ان ذلك غير صحيح.

و الصحيح هو ما عليه شيعة أهل البيت(ع)،تبعا لأئمتهم(ع) (1)-و أهل البيت أدرى بما فيه-و قد تابعهم عليه جماعة آخرون،و هو:أنها عليها السلام قد ولدت بعد البعثة بخمس سنوات،أي في سنة الهجرة الى الحبشة،و قد توفيت و عمرها ثمانية عشر عاما.و قد روي ذلك عن أئمتنا(ع)بسند صحيح (2).

مضافا الى هذا:

فمن الممكن الاستدلال على ذلك أو تأييده بما يلي:

1-ما ذكره عدد من المؤرخين من أن جميع أولاد خديجة رحمها الله قد ولدوا بعد البعثة (3)،و فاطمة(ع)كانت أصغرهم.

2-الروايات الكثيرة المروية عن عدد من الصحابة،مثل:

عائشة و عمر بن الخطاب و سعد بن مالك و ابن عباس و غيرهم،التي تدل على أن نطفتها عليها السلام قد انعقدت من ثمر الجنة،الذي2.

ص: 37


1- راجع ضياء العالمين:ج 2 ق 3 ص 2«مخطوط»و جامع الأصول لابن الأثير: ج 12 ص 9 و 10.
2- البحار:ج 43 ص 1.10 عن الكافي بسند صحيح،و عن المصباح الكبير، و دلائل الامامة و مصباح الكفعمي،و الروضة،و مناقب ابن شهرآشوب، و كشف الغمة:ج 2 ص 75 و إثبات الوصية و راجع:ذخائر العقبى:ص 52 و راجع أيضا:تاريخ الخميس ج 1 ص 278 عن كتاب تاريخ مواليد أهل البيت للامام أحمد بن نصر بن عبد الله الدراع،و راجع:مروج الذهب ج 2 ص 289 و غير ذلك.
3- راجع:البدء و التاريخ:ج 5 ص 16 و المواهب اللدنية:ج 1 ص 196 و تاريخ الخميس:ج 1 ص 272.

تناوله النبي(ص)حين الاسراء و المعراج (1)،الذي أثبتنا أنه قد حصل في أوائل البعثة (2).

و إذا كان في الناس من يناقش في أسانيد بعض هذه الرواياتج.

ص: 38


1- تجد هذه الروايات في كتب الشيعة،مثل: البحار:ج 43 ص 4 و 5 و 6 عن أمالي الصدوق،و عيون أخبار الرضا، و معاني الاخبار،و علل الشرائع،و تفسير القمّي،و الاحتجاج.و غير ذلك، و راجع:الانوار النعمانية:ج 1 ص 80.و أي كتاب حديثي أو تاريخي تحدث عن تاريخ الزهراء(عليها السلام). و تجدها في كتب غيرهم،مثل:المستدرك على الصحيحين:ج 3 ص 156 و تلخيص المستدرك للذهبي(مطبوع بهامش المستدرك)نفس الجزء و الصفحة، و نزل الابرار:ص 88 و الدر المنثور:ج 4 ص 153 و تاريخ بغداد:ج 5 ص 87 و مناقب الامام علي بن أبي طالب لابن المغازلي:ص 357 و تاريخ الخميس: ج 1 ص 277 و ذخائر العقبى:ص 36 و لسان الميزان:ج 1 ص 134 و اللآلئ المصنوعة:ج 1 ص 392 و الدرة اليتيمة في بعض فضائل السيدة العظيمة: ص 31. و نقله في إحقاق الحق(قسم الملحقات):ج 10 ص 1-10 عن بعض من تقدم و عن ميزان الاعتدال،و الروض الفائق،و نزهة المجالس،و مجمع الزوائد، و كنز العمال،و منتخب كنز العمال،و محاضرة الاوائل،و مقتل الحسين للخوارزمي،و مفتاح النجاة،و المناقب لعبد الله الشافعي،و إعراب ثلاثين سورة، و أخبار الدول. و قد تحدث في كتاب ضياء العالمين:ج 4 ص 4 و 5«مخطوط»عن هذا الأمر،و ذكر طائفة كبيرة من المصادر الأخرى. و ثمة مصادر أخرى ذكرناها حين الحديث حول الاسراء و المعراج في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الاعظم(ص)،فراجع.
2- راجع كتابنا:الصحيح من سيرة النبي الاعظم(ص):ج 3 مبحث الاسراء و المعراج.

على طريقته الخاصة،فإن البعض الآخر منها لا مجال للنقاش فيه، حتى بناء على هذه الطريقة أيضا.

و اما ما يزعم من ان هذه الرواية لا تصح ،لأن الزهراء قد ولدت قبل البعثة بخمس سنوات،فهو مصادرة على المطلوب،اذ ان هذه الروايات التي نحن بصدد الحديث عنها-و قد رويت بطرق مختلفة- أقوى شاهد على عدم صحة ذلك الزعم.

3-قد روى النسائي:انه لما خطب أبو بكر و عمر فاطمة(ع) ردّهما النبي(ص)متعللا بصغر سنها (1).

فلو صح قولهم :إنها ولدت قبل البعثة بخمس سنوات،فان عمرها حينما خطباها بعد الهجرة-كما هو مجمع عليه عند المؤرخين-يكون حوالي ثمانية عشر أو تسعة عشر سنة،فلا يقال لمن هي في مثل هذا السن:انها صغيرة.

4-قد روي:أن نساء قريش هجرن خديجة رحمها الله،فلما حملت بفاطمة كانت تحدثها من بطنها و تصبرها (2).

و قد يستبعد البعض حمل خديجة بفاطمة(ع)بعد البعثة بخمس سنوات،لأن عمر خديجة(رض)حينئذ كان لا يسمح بذلك.

و لكنه استبعاد في غير محله،إذ قد حققنا في كتاب الصحيح من سيرة النبي الأعظم(صلى الله عليه و آله و سلم)أن عمرها كان2.

ص: 39


1- راجع:خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ص 228 بتحقيق المحمودي، و المناقب لابن شهر اشوب:ج 3 ص 393(ط دار الأضواء)و تذكرة الخواص: ص 306 و 307،و ضياء العالمين:ج 2 ق 3 ص 46«مخطوط».
2- البحار:ج 43 ص 2.

حينئذ حوالي خمسين سنة،بل أقل من ذلك أيضا،على ما هو الاقوى،و إن اشتهر خلاف ذلك.

و احتمال ان يكون ذلك-اي ولادتها بعد سن اليأس-قد جاء على سبيل الكرامة لخديجة و لرسول الله(ص)على غرار قوله تعالى:

أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ .

غير وارد هنا،اذ لو كان الامر كذلك لكان قد شاع و ذاع،مع اننا لا نجد أية اشارة تدل على ذلك.

5-و يدل على ذلك أيضا الاحاديث الكثيرة التي ذكرت سبب تسميتها بفاطمة،و بغير ذلك من أسماء،حيث تشير و تدل على ان هذه التسمية قد جاءت من السماء بأمر من الله عز و جل.

و هي روايات كثيرة موجودة في مختلف المصادر، فلتراجع ثمة (1).1.

ص: 40


1- راجع:ينابيع المودة و كنز العمال:ج 6 ص 219 و المناقب لابن المغازلي: ص 221 و 229 و راجع كتاب ضياء العالمين«مخطوط»:ج 4 ص 9/6 ففيه بسط و تتبع،و البحار:ج 43 ص 13 و في هامشه عن علل الشرائع:ج 1 ص 178 و راجع:ذخائر العقبى:ص 26 و ميزان الاعتدال:ج 2 ص 400 و ج 3 ص 439 و لسان الميزان:ج 3 ص 267 و طوالع الأنوار:ص 113/112 ط سنة 1395 ه تبريز ايران،و معرفة ما يجب لآل البيت النبوي،لأحمد بن علي المقريزي:ص 51 ط دار الاعتصام بيروت سنة 1392،و البتول الطاهرة لأحمد فهمي:ص 15/11.

مريم أفضل أم فاطمة عليهما السلام؟

قد يجيب البعض عن سؤال:أيهما أفضل مريم بنت عمران(ع)أم فاطمة بنت محمد(ص)بقوله:

هذا علم لا ينفع من علمه و لا يضر من جهله،و إنما هو مجرد ترف فكري أحيانا،أو سخافة و رجعية و تخلّف أحيانا أخرى.ثم يقول:

و إذا كان لا خلاف بين مريم و فاطمة حول هذا الامر،فلما ذا نختلف نحن في ذلك؟فلفاطمة فضلها،و لمريم فضلها،و لا مشكلة في ذلك.

أما نحن فنقول:

اولا:لا شك في أن الزهراء عليها السلام هي أفضل نساء العالمين،من الأولين و الآخرين،أما مريم فهي سيدة نساء عالمها.و قد روي ذلك عن رسول الله(ص)نفسه،فضلا عما روي عن الأئمة عليهم السلام (1).

و يدل على أنها أفضل من مريم كونها سيدة نساء أهل الجنة،

ص: 41


1- راجع:ذخائر العقبى:ص 43 و سير أعلام النبلاء:ج 2 ص 126 و الجوهرة: ص 17 و الاستيعاب(مطبوع بهامش الاصابة):ج 4 ص 376 و تاريخ دمشق (ترجمة الامام علي بتحقيق المحمودي):ج 1 ص 247-248 و المجالس السنية: ج 5 ص 63 عن أمالي الصدوق و الاستيعاب و شرح الاخبار:ج 3 ص 56 و مقتل الحسين للخوارزمي:ج 1 ص 79 و نظم درر السمطين:ص 178 و 179 و معاني الاخبار:ص 107 و علل الشرائع:ج 1 ص 182،و البحار:ج 43 ص 37 و ج 39 ص 278 و ج 37 ص 68،و مناقب ابن شهرآشوب.

و مريم من هؤلاء النسوة (1).

و يدل على افضليتها أيضا،ما روي عن الصادق(ع):لو لا ان الله تبارك و تعالى خلق أمير المؤمنين لفاطمة ما كان لها كفؤ على ظهر الارض من آدم و من دونه (2).

و هذا الخبر يدل على افضلية امير المؤمنين(عليه السلام)أيضا.

ثانيا:إن سؤالنا عن الافضلية لا يعني أننا نختلف في ذلك،بل هو استفهام لطلب المزيد من المعرفة بمقامات أولياء الله تعالى التي ورد الحث على طلب المزيد منها،لأنه يوجب مزيدا من المعرفة بالله تعالى.

و نحن لو اختلفنا في ذلك فليس هو خلاف الخصومة و العدوان،و إنما هو الخلاف في الرأي،الذي يأخذ بيدنا الى تقصي الحقيقة و ازدياد المعرفة،و تصحيح الخطأ و الاشتباه لدى هذا الفريق أو ذاك.

ثالثا:ان علينا ان ندرك-كل بحسب قدرته-ان كل ما جاء في كتاب الله تعالى،و كل ما قاله رسول الله(ص)و أوصياؤه عليهم السلام،و أبلغونا إياه،و كل ما ذكر في كتاب الله العزيز،لا بد أن نعرفه بأدق تفاصيله إن استطعنا إلى ذلك سبيلا،و هو علم له أهميته، و هو يضر من جهله،و ينفع من علمه.و لا ينحصر ما ينفع علمه بماس.

ص: 42


1- راجع الرسائل الاعتقادية:ص 459 عن صحيح البخاري:ج 5 ص 36 و عن الطرائف:ص 262 عن الجمع بين الصحاح الستة و مرآة الجنان:ج 1 ص 61 و ضياء العالمين:ج 2 ق 3 ص 20/19 و 21.
2- راجع الكافي:ج 1 ص 461 و البحار:ج 43 ص 10 و 107 و ضياء العالمين «مخطوط»:ج 2 ق 3 ص 11 عن عيون المعجزات:و ص 48 عن كتاب الفردوس.

يرتبط بالامور السياسية فقط،أو المالية،أو الاجتماعية،أو التنظيمية، و الممارسة اليومية للعبادات أو ما الى ذلك.

و ذلك لأن للانسان حركة في صراط التكامل ينجزها باختياره و جدّه،و بعمله الدائب،و هو ينطلق في حركته هذه من إيمانه،و يرتكز الى درجة يقينه،و هذا الايمان و ذلك اليقين لهما رافد من المعرفة بأسرار الحياة،و دقائقها،و بملكوت الله سبحانه،و بأسرار الخليقة،و من المعرفة بالله سبحانه،و بصفاته،و أنبيائه و أوليائه الذين اصطفاهم،و ما لهم من مقامات و كرامات،و ما نالوه من درجات القرب و الرضا،و ما أعده الله لهم من منازل الكرامة،كمعرفتنا بأن الله سبحانه هو الذي سمى فاطمة (1)،و هو الذي زوجها في السماء قبل الارض (2)،و بأنها كانت تحدّث أمها و هي في بطنها (3)،و غير ذلك.

و هذه المعرفة تزيد في صفاء الروح و رسوخ الايمان،و معرفة النفس الموصلة الى معرفة الرب سبحانه.

و من الواضح: أن مقامات الأنبياء و الاوصياء و الاولياء، و درجات فضلهم قد سمت و تفاوتت بدرجات تفاوت معرفتهم بذلك كله.».

ص: 43


1- البحار:ج 43 ص 13 ح 7 عن علل الشرائع:ج 1 ص 178 ح 2.
2- ذخائر العقبى:ص 31 و راجع كشف الغمة:ج 2 ص 98 و كنوز الحقائق للمناوي بهامش الجامع الصغير:ج 2 ص 75 و البحار:ج 43 ص 141 و 145.
3- فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد للقزويني:ص 39 و البحار:ج 43 ص 2 و نزهة المجالس:ج 2 ص 227 و ضياء العالمين:ج 2 ق 3 ص 27.38 «مخطوط».

غير ان بعض المعارف قد تحتاج الى مقدمات تسهّل علينا استيعابها،و تؤهلنا للاستفادة منها بالنحو المناسب،فتمس الحاجة الى التدرج في طي مراحل في هذا السبيل،تماما كطالب الصف الاول، فإنه لا يستطيع عادة أن يستوعب-بالمستوى المطلوب-المادة التي تلقى على طلاب الصف الذي هو في مرحلة أعلى كالطالب الجامعي مثلا،بل لا بد له من طي مراحل تعدّه لفهم و استيعاب ذلك كله تمهيدا للانتفاع به.

و كلما قرب الانسان من الله،زادت حاجته الى معارف جديدة تتناسب مع موقعه القربى الجديد،و احتاج الى المزيد من الصفاء،و الطهر،و الى صياغة مشاعره و أحاسيسه و انفعالاته،بل كل واقعه وفقا لهذه المستجدات.

و هذا شأن له أصالته و واقعيته و لا يتناسب مع مقولة:هذا علم لا ينفع من علمه و لا يضر من جهله.

و إذا كان الامام الصادق عليه السلام لم يترفع عن الخوض في أمر كهذا،حين سئل عن هذا الموضوع فأجاب.فهل يصح منا نحن أن نترفع عن أمر تصدى للإجابة عنه الامام(ع)دون ما اضطرار،و هو الاسوة و القدوة؟!.

إذن..نحن بحاجة لمعرفة ما لفاطمة(ع)من مقام علي و كرامة عند الله،و معرفة ما لها من فضل على باقي الخلائق،و بحاجة الى معرفة أنها سيدة نساء العالمين من الأولين و الآخرين،و أنها أفضل من مريم(ع)،و من كل من سواها،حتى لو كانت مريم(ع)سيدة نساء عالمها.

ص: 44

اننا بحاجة الى ذلك،لأنه يعمق ارتباطنا بفاطمة عليها السلام، و يدخل فاطمة الى قلوبنا،و يمزجها بالروح و بالمشاعر و بالاحاسيس، ليزداد تفاعلنا مع ما تقول و ما تفعل،و نحس بما تحس،و نشعر بما تشعر،و نحب من و ما تحب،و نبغض من و ما تبغض،و يؤلمنا ما يؤلمها و يفرحنا ما يفرحها،فيزيدنا ذلك خلوصا و طهرا و صفاء و نقاء،و من ثم هو يزيد في معرفتنا بحقيقة ظالميها و المعتدين عليها،و يعرّفنا حجم ما ارتكب في حقها،و مدى سوء ذلك و قبحه.

قيمة الزهراء عليها السلام:

قد يتساءل بعض الناس،و يقول:

إن إشراك الزهراء(ع)في قضية المباهلة لا دلالة له على عظيم ما لها(ع)من قيمة و فضل،فإنه(ص)إنما جاء بأهل بيته(ع)،لأنهم أعز الخلق عليه،و أحبهم إليه،ليثبت أنه على استعداد للتضحية حتى بهؤلاء من أجل هذا الدين،و لا دلالة في هذا على شيء آخر.

و نقول في الجواب: لقد أشرك الله سبحانه الزهراء في قضية لها مساس ببقاء هذا الدين،و حقانيته،و هي تلامس جوهر الايمان فيه الى قيام الساعة،و ذلك لأن ما يراد اثباته بالمباهلة هو بشرية عيسى عليه السلام،و نفي ألوهيته.

و قد خلّد القرآن الكريم لها هذه المشاركة لكي يظهر أنها عليها السلام قد بلغت في كمالها و سؤددها و فضلها مبلغا عظيما،بحيث جعلها الله سبحانه و تعالى بالاضافة الى النبي و الوصي و السبطين، وثيقة على صدق النبي(ص)فيما يقول،حيث ان الله سبحانه هو

ص: 45

الذي أمر نبيه(ص)بالمباهلة بهؤلاء،و لم يكن ذلك في اساسه من تلقاء نفسه(ص).

إذن،لم يكن ذلك لأنهم عائلته،و اهل بيته صلى الله عليه و آله و سلم،بل لأن فاطمة صلوات الله و سلامه عليها،و النبي(ص)و علي و الحسنان عليهم السلام،كانوا-و هم كذلك-أعز ما في هذا الوجود،و أكرم المخلوقات على الله سبحانه،بحيث ظهر أنه تعالى يريد أن يفهم الناس جميعا ان التفريط بهؤلاء الصفوة الزاكية هو تفريط بكل شيء،و لا قيمة لأي شيء في هذا الوجود بدونهم،و هو ما أشير إليه في الحديث الشريف (1).

ثم ان إخراج أكثر من رجل و حصر عنصر المرأة بالزهراء عليها السلام في هذه القضية انما يشير الى أن أيّا من النساء لم تكن لتداني الزهراء في المقام و السؤدد و الكرامة عند الله سبحانه و تعالى فلا مجال لادعاء أي صفة يمكن أن تجعل لغيرها عليها السلام امتيازا و فضلا على سائر النساء.

فما يدّعى لبعض نسائه(ص)-كعائشة-من مقام و فضل على نساء الأمة،لا يمكن ان يصح خصوصا مع ملاحظة ما صدر عنها بعد وفاة رسول الله(ص)من الخروج على الامام امير المؤمنين(ع)،و التصدي لحرب وصي رسول رب العالمين،مما تسبب بازهاق عدد كبير جدا من الأرواح البريئة من أهل الايمان و الاسلام، فأطلع الشيطان قرنه من حيث أشار النبي(ص)و صدق الله العظيمم.

ص: 46


1- راجع الكافي:ج 1 ص 179 و 198 و الغيبة للنعماني:ص 139 و 138 و بصائر الدرجات:ص 488 و 489 و راجع:الصحيح من سيرة النبي الأعظم(ص): ج 8 ص 359 عنهم.

و صدق رسوله الكريم.

إذن،فلا يصح اعتبار ما صدر عنها من معصية اللّه مسوغا لممارسة المرأة للعمل السياسي-كما ربما يدعي البعض-و لا يكون قرينة على رضى الاسلام بهذا الأمر،او عدم رضاه.

اما ما صدر عن الزهراء(ع)فهو المعيار و هو الميزان لأنه كان في طاعة اللّه و هي المرأة المطهرة المعصومة التي يستدل بقولها و بفعلها على الحكم الشرعي،سياسيا كان أو غيره.

سيدة نساء العالمين:

من الواضح: أن التنظير،و اعطاء الضابطة الفكرية،أو إصدار الاحكام لا يعطي الحكم أو الفكرة او الضابطة من الثبات و القوة و التجذر في النفوس ما يعطيه تجسيدها،و صيرورتها واقعا حيا و متحركا،لأن الدليل العقلي أو الفطري مثلا قد يقنع الانسان و يهيمن عليه،و لكن تجسّد الفكرة يمنح الانسان رضا بها،و ثقة و سكونا إليها، على قاعدة: قالَ:أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ؟قالَ:بَلى،وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (1).

فالقناعة الفكرية و العقلية و العملية،التي تستند إلى البرهان و الحجة القاطعة متوفرة و ليس فيها أي خلل أو نقص؛و لكن سكون النفس قد يحتاج الى تجسيد الفكرة في الواقع الخارجي ليتلاءم السكون النفسي و يتناغم مع تلك القناعة الفكرية و العقلية الراسخة، ليكونا معا الرافد الثر للمشاعر و الأحاسيس.

و قد كانت الزهراء عليها السلام أول امرأة تجسدت فيها الاسوة

ص: 47


1- سورة البقرة:260.

و النموذج و المثل الاعلى لكل نساء العالمين،بعد مسيرة طويلة للإنسانية،كمل فيها عدد من النساء حتى كانت فاطمة ذروة هذا الكمال.و كما تجسّد الانسان الكامل بآدم عليه السلام أولا ليكون واقعا حيا،يعيش انسانيته بصورة متوازنة،لا عشوائية فيها،يعيشها بكل خصائصها و ميزاتها،و بكل خلوصها و صفائها و طهرها،و بكل طاقاتها:فكرا،و عقلا،و ادبا،و حكمة،و تدبيرا،حتى كان أسوة و قدوة للبشر كلهم من حيث هو آدم النبي و الانسان،لا آدم التراب من حيث هو تراب،بل التراب الذي اصبح انسانا كاملا بما لهذه الكلمة من معنى.

و استمرت المسيرة نحو الكمال في الانسانية،فكمل رجال انبياء(ع)كثيرون،و كملت أيضا نساء،مثل آسية بنت مزاحم، و مريم،و خديجة(ع)،ثم بلغ الكمال أعلى الذرى في رسول الله صلى الله عليه و آله،الرجل،و في الزهراء المرأة،و لم تستطع أهواء النفس و شهواتها،و كذلك الطموحات و الغرائز و غير ذلك من مغريات و تحديات،بالاضافة الى الضغوطات البيئية و الاجتماعية و غيرها،ثم بغي و جبروت الطواغيت،لم يستطع ذلك كله ان يمنع الانسان من ان يجسد انسانيته،و يعيش حياة الايمان،و حياة الكمال و السلام الشامل.

و كانت اسوة بني البشر و قدوتهم هذه النماذج الماثلة أمامهم التي استطاعت ان تقنع الانسان بأن عليه ان يتحدى،و ان يواجه،و أن يقتحم،و أن باستطاعته ان ينتصر أيضا،و مثله الاعلى هم الأنبياء و الاولياء بدءا من آدم،و انتهاء برسول الله(ص)و أهل بيته الطاهرين؛ فهو لا يتلقى الفكرة فقط،بل هو يرى الحركة و الموقف في الرسول و الوصي،و الولي.

ص: 48

و لأجل ذلك فهو لم يقتصر على الامر و الزجر كما في قوله تعالى: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (1)،بل تعداه ليقول:و لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (2)،فهو يريه الحركة و الموقف و الصفاء و الطهر متجسدا أمامه في النبي و الوصي، و في نسوة واجهتهن أعظم المحن و البلايا كامرأة فرعون،و في الزهراء فاطمة(ع)،حيث واجهتها أجواء الانحراف و الشدة و الظلم،و في مريم بنت عمران التي واجهت ضغوط البيئة في أشد الامور حساسية بالنسبة لجنس المرأة بصورة عامة.

النشاط الاجتماعي للزهراء عليها السلام:

اشارة

قد يورد البعض ملاحظة ذات مغزى!تقول: «إننا لا نجد في التاريخ ما يشير الى نشاط اجتماعي للسيدة فاطمة الزهراء في داخل المجتمع الاسلامي إلا في رواية أو روايتين».

و تعليقا على هذا نقول:

كل زمان له متطلباته و تقنياته،و أطر نشاطه.و انما يطالب كل من الرجل و المرأة و يحاسب وفقا لذلك،و يتم تقويم نشاطاته أيضا على هذا الأساس،من حيث حجم تأثيرها في الواقع الإسلامي كله.

و بالنسبة لعصر النبوة،فإن تعليم الزهراء القرآن للنساء، و تثقيفهن بالحكم الشرعي،و بالمعارف الإلهية الضرورية.ثم مشاركتها الفاعلة و المؤثرة في الدعوة إلى الله سبحانه و تعالى في المواقع المختلفة،

ص: 49


1- سورة الحشر:7.
2- سورة الاحزاب:21.

حتى في المباهلة مع النصارى.ثم دورها الرائد في الدفاع عن القضايا المصيرية،و منها قضية الإمامة.ثم خطبتها الرائعة في المسجد،التي تعتبر مدرسة و معينا يرفد الأجيال بالمعرفة...

هذا،عدا عن اسهامها المناسب لشخصيتها و لقدراتها، و لظروفها في حروب الإسلام المصيرية.و عدا عن طبيعة تعاملها مع الفئات المحتاجة الى الرعاية كاليتيم،و الأسير،و المسكين،و هو ما خلده الله سبحانه قرآنا يتلى إلى يوم القيامة.

و أعظم من ذلك كله.. موقفها القوي و المؤثر،الذي وظفت فيه حتى فصول موتها و دفنها لصالح حفظ ثمرات الجهاد،في سبيل قضية الاسلام الكبرى،تماما كما فعلته ابنتها زينب(ع)في نطاق حفظها القوي و المؤثر لثمرات الجهاد و التضحيات الجسام للامام الحسين عليه السلام و صحبه في كربلاء..

نعم ،إن ذلك كله،و نظائره،يدل على ان الزهراء(عليها السلام)،قد شاركت في العمل الإنساني،و السياسي،و الثقافي، و الايماني بما يتناسب مع واقع،و حاجات،و ظروف عصرها.و في نطاق أطر نشاطاته،وفقا للقيم السائدة فيه..

و قد حققت انجازات أساسية على صعيد التأثير في حفظ الدعوة،و في نشرها،و تأصيل مفاهيمها،و سد الثغرات في مختلف المجالات التي تسمح لها ظروف ذلك العصر بالتحرك فيها.

و هذا الذي حققته قد لا يوازيه أي انجاز لأية امرأة عبر التاريخ، مهما تعاظم نشاطها،و تشعبت مجالاته،و تنوعت مفرداته؛لأنه استهدف تأصيل الجذور.فكان الأبعد أثرا في حفظ شجرة الاسلام، و في منحها المزيد من الصلابة و التجذر،و القوة.و في جعلها اكثر غنى

ص: 50

بالثمر الجني،و الرضي،و الهني..

فيتضح مما تقدم: ان الاختلاف في مجالات النشاط و حالاته، و كيفياته بين عصر الزهراء عليها السلام و هذا العصر،لا يجعل الزهراء في دائرة التخلف و النقص و القصور.و لا يجعل إنجاز المرأة في هذا العصر أعظم أثرا،و أشد خطرا.حتى و لو اختلفت متطلبات الحياة، و اتسعت و تنوعت آفاق النشاط و الحركة فيها..لأن من الطبيعي أن يكون عصر التأصيل لقواعد الدين.و التأسيس الصحيح لحقائق الايمان،و قضايا الإنسان المصيرية هو الأهم،و الأخطر،و الانجاز فيه لا بد أن يكون أعظم و أكبر..

و هكذا يتضح: أنه لا معنى للحكم على الزهراء عليها السلام بقلة النشاط الاجتماعي في عصرها قياسا على مجالات النشاط للمرأة في هذا العصر..

و بعد ما تقدم فاننا نذكر القارى الكريم بالامور التالية:

أولا: ليته ذكر لنا الرواية أو الروايتين لنعرف مقصوده من النشاط الاجتماعي.فان كان المقصود به هو أنها قد تخلفت عن وظيفتها و لم تقم بواجبها كمعصومة و بنت نبي،و زوجة ولي.

فقد كان على خصومها أن يعيبوها بذلك و كان على أبيها و زوجها أن يسددوها في هذا الأمر و ان كان المقصود بالنشاط في داخل المجتمع الإسلامي هو إنشاء المدارس،و المؤسسات الخيرية،أو تشكيل جمعيات ثقافية،أو خيرية،أو إقامة ندوات،و احتفالات،أو إلقاء محاضرات،و تأليف كتب تهدى أو تباع،فإن من الممكن ان لا تكون الزهراء(عليها السلام)قد قامت بالكثير من هذا النشاط كما يقوم به بعض النساء اليوم،و لا يختص ذلك بالزهراء عليها السلام،بل

ص: 51

هو ينسحب على كل نساء ذلك العصر،و العصور التي تلته.فإن طبيعة حياة المجتمع و امكاناته و كذلك طبيعة حياة المرأة آنذاك كانت تحدّ من النشاط الذي يمكنها أن تشارك فيه إلا في مجالات خاصة تختلف عن المجالات في هذه الايام،بقطع النظر عن المبررات الشرعية التي ربما يتحدث عنها البعض بطريقة أو بأخرى.

اما إذا كان المقصود هو أن التاريخ لم يذكر: أنها كانت تجهر بالحق،لمن أراد معرفة الحق،و لا تقوم بواجباتها في تعليم النساء و توجيههن و في صيانة الدين،و حياطته،على مستوى قضايا الاسلام الكبرى،و غيرها خصوصا ما أثير عنها من معارف نشرتها،حتى و لو في ضمن اعمالها العبادية و غيرها.فإن ما أنجزته في هذا المجال كالنار على المنار،و كالشمس في رابعة النهار.

و ان خطبتها في مسجد النبي(صلى اللّه عليه و آله و سلم)،و مع نساء الأنصار تعتبر بحد ذاتها مدرسة للأجيال،و منبعا ثرا للمعرفة على مدى التاريخ لو احسن فهمها،و صحت الاستفادة منها.

هذا مع وجود أبيها رسول الله(صلى اللّه عليه و آله و سلم)، و ابن عمها أمير المؤمنين عليه السلام،اللذين هما محور الحركة الاجتماعية،و الانسانية و الاسلامية و كان نشاطها(ع)جزءا من مجموع النشاط العام الذي كان آنئذ.

على أن قوله«الاّ في رواية أو روايتين»يبقى غير واضح و غير دقيق.فهناك العديد من الروايات التي ذكرت مشاركتها في أنشطة مختلفة،اجتماعية و سياسية و ثقافية و تربوية،و قد ذكرنا بعضا من ذلك فيما سبق،بل ان بعض الروايات تذكر:أنها كانت تشارك حتى في مناسبات غير المسلمين.و ذلك حينما دعاها بعض اليهود إلى

ص: 52

حضور عرس لهم.

و ثمة رواية تحدثت عن ذلك الأعرابي الذي أعطته عقدها، و فراشا كان ينام عليه الحسن و الحسين(ع)،فاشتراهما عمار بن ياسر...في قصة معروفة.

بل إن الله سبحانه قد تحدث انها و أهل بيتها(ع)من طبيعتهم إطعام الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا.

و حين خطبت خطبتها في المسجد جاءت في لمّة من النساء كانوا يؤيدونها في ما تطالب به،بل و يتحدث البعض عن وجود تكتل نسائي لها(ع)في مقابل تكتلات مناوئة.

هذا كله عدا عن أن اهتمامها«بالجار قبل الدار»يعطينا صورة عن طبيعة اهتماماتها،و أنها لو وجدت أية فرصة لأي نشاط اجتماعي أو نشاط إنساني أو ثقافي فستبادر إليه بكل وعي و مسئولية و حرص.

و ثانيا: إن تأكيدات النبي(صلى الله عليه و آله و سلم)للمسلمين بصورة مستمرة قولا و عملا،على ما لها من مقام و دور،و موقع في الاسلام و الايمان،و المعرفة،قد جعل لها درجة من المرجعية للناس، و أصبح بيتها موئلا للداخلات و الخارجات (1)و كان«..يغشاها نساء المدينة،و جيران بيتها (2)».و صار الناس يقصدونها لتطرفهم بما عندها من العلم و المعرفة (3).ر.

ص: 53


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي:ج 9 ص 198.
2- المصدر السابق:ج 9 ص 193.
3- ستأتي حين الحديث عن«مصحف فاطمة»قصة مجيء احدهم يطلب منها شيئا تطرفه به،فطلبت صحيفة كان رسول الله(ص)قد اعطاها اياها،فلم تجدها في بادئ الامر.فانتظر.

و كان النبي(صلى اللّه عليه و آله و سلم)نفسه يوجّه حتى باصحاب الحاجات المادية إلى بيت فاطمة(عليها السلام)،كما في قضية الاعرابي الذي أعطته عقدها،و فراشا للحسنين كما أسلفنا.

و كان الناس يترددون عليها لطلب المعرفة أيضا،و كل ذلك من شأنه ان يملأ حياتها عليها السلام بالحركة و النشاط،الذي يضاف إلى نشاطاتها البيتية،حيث كانت تطحن حتى مجلت يداها...

ثالثا: انه لا يمكن تقييم إنسان ما على اساس انجازاته و نشاطاته الاجتماعية،أو ذكائه السياسي،فهناك أذكياء سياسيون كثيرون، و لكنهم لا يتمتعون بالقيمة الحقيقة للإنسان،لأن النشاط الاجتماعي و الذكاء لا يعطي الموقف السياسي أو غيره قيمة،و انما تتقوم السياسة بمنطلقاتها و مبادئها،و هي انما تؤخذ من المعصوم:

كالنبي و الوصي،و من الزهراء أيضا.فهي عليها السلام تحدد لنا ما به تكون القيمة للسياسة،أو لأي عمل آخر،اجتماعيا كان أو غيره،و لا تكتسب الزهراء قيمتها من سياساتها،أو من نشاطاتها الاجتماعية، و الا لكان بعض المجرمين او المنحرفين أعظم قيمة حتى من الأنبياء، و الاولياء،و الاصفياء،إذا قام بنشاط اجتماعي أو سياسي كبير،بسبب توفر المال،أو الجاه،أو السلطة له،مع عدم توفر ذلك للنبي أو الولي عليهم السلام.

و الحقيقة: أن قيمة الانسان إنما تنبع من داخل ذاته،و من قيمه التي يجسدها،و من مثله و إنسانيته،و من علمه النافع المنتج للتقوى و الخشية من الله سبحانه،و ما سوى ذلك فهو في سياق الاسباب و النتائج،و قد يكون في الطرف الآخر من المعادلة.

رابعا: إننا لا بد أن نتحقق أولا من حقيقة موقع الزهراء عليها

ص: 54

السلام فيما يرتبط بإيمان الانسان المسلم،و نتحقق أيضا من حقيقة المهام التي يفترض فيها ان تضطلع بها في تأييد هذا الدين و تشييده؛فنقول:

إن ولاء الانسان المسلم للنبي و الائمة و الزهراء(ع)له دور أساسي و مفصلي في بلورة إيمانه،و تحقيق هويته و شخصيته الرسالية و الانسانية،فوجود الزهراء-المرأة-التي ليست هي بإمام و لا نبي، بصفتها المرأة الكاملة في انسانيتها هو الذي نحتاجه كضرورة حياتية، و اعتقادية،و سلوكية،و حتى منهجية في حياتنا،أمّا نشاطها الاجتماعي أو السياسي،فليس له هذه الدرجة من الاهمية أو الحساسية مع وجود ابيها و زوجها.

اننا نحتاج الى هذا الوجود لنرتبط به،و تحنو عليه قلوبنا،و هو يجسّد لنا القيم و المثل،و الكمال الانساني الذي نحتاج إليه هو الآخر، لتحتضنه قلوبنا من خلال احتضانها للزهراء(ع)،و ليسهم-من ثمّ- في بناء عقيدتنا،و تركيز المفاهيم الاسلامية و القيم و المثل في قلوبنا و عقولنا،لتنتج و لتصوغ عواطفنا و أحاسيسنا و كل وجودنا،هذا هو دور فاطمة عليها السلام،و ليس دورها و دورهم هو بناء المؤسسات،أو إنشاء الجمعيات الخيرية أو الانسانية،أو ما الى ذلك!!.

خامسا: إنه لا شك في أن للزهراء عليها السلام الدور الكبير و الحساس في بقاء هذا الدين و نقائه،و لولاها لطمست معالمه و عفيت آثاره،فالزهراء هي نافذة النور،و هي برهان الحق،و هي-كما هو زوجها علي أمير المؤمنين(ع)-مرآة الاسلام التي تعكس تعاليمه، و أحكامه،و مفاهيمه،و نظرته للكون و للحياة.فهي مع الحق يدور معها كيفما دارت و تدور معه كيفما دار.

ص: 55

إنها المعيار و الميزان الذي يوزن به إيمان الناس،و درجة استقامتهم على طريق الهدى و الخير و الخلوص و الاخلاص.و نعرف به رضا الله و رسوله،و غضب الله و رسوله(ص).و هذا ما يشير إليه قول النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم:هي بضعة مني و هي قلبي الذي بين جنبي،من آذاها فقد آذاني و من آذاني فقد آذى الله،أو يرضيني ما أرضاها و يسخطني ما أسخطها،او نحو ذلك.

و الملاحظ: انه(ص)قد جعل المرتكز لمقولة يرضيني ما يرضيها أو من آذاها فقد آذاني هو كونها بضعة منه(ص) (1).ر.

ص: 56


1- هذا الحديث لا ريب في تواتره و صحته.و صرح بتواتر نقله بين الفريقين الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتابه المعروف كشف الغطاء:ص 12 فراجعه.و بما أن هذا الحديث قد ذكر في مختلف المصادر التي تحدثت عن الزهراء،فإن استقصاء مصادره متعسر لنا الآن بل متعذر،و لا نرى حاجة الى ذلك،و لذا فسوف نكتفي هنا بذكر ما تيسر منها.و من أراد المزيد،فعليه بمراجعة الكتب التي تتحدث عن سيرة الزهراء(ع)أو عن كراماتها و مزاياها،فسيجد هذا الحديث أمامه أينما توجه. أما المصادر التي نريد الاشارة إليها فهي التالية: فرائد السمطين:ج 2 ص 46،و مجمع الزوائد:ج 9 ص 203،و مقتل الحسين للخوارزمي:ج 1 ص 52 و 53،و كفاية الطالب:ص 364 و 365، و ذخائر العقبى:ص 37 و 38 و 39،و أسد الغابة:ج 5 ص 522،و صحيح البخاري،و صحيح مسلم،و ينابيع المودة:ص 173 و 174،و 179 و 198، و نظم درر السمطين:ص 176،و 177 و مستدرك الحاكم:ج 3 ص 154 و 158 و 159،و تلخيصه للذهبي مطبوع بهامشه،و كنز العمال:ج 13 ص 93 و 96 و ج 6،ص 219،و ج 7 ص 111،و الغدير:ج 7 ص 231- 236،و سير أعلام النبلاء:ج 2 ص 132 و الصواعق المحرقة:ص 186 و 188 و شرح المواهب للزرقاني:ج 4 ص 335 و غير ذلك كثير.

و من الواضح: أن كونها جزءا من كيانه الجسدي و المادي من حيث بنوتها النسبية له،ليس هو السبب في كون ما يرضيها يرضيه، و ذلك لأمرين:

الأول: انه(ص)لا ينطلق في مواقفه من موقع العصبية للقرابة أو للعرق أو ما الى ذلك،بل هو(ص)انما يريد ان يكون كل ما لديه من خصوصيات،أو امتيازات،أو قدرات مادية أو معنوية في خدمة هذا الدين،و من أجله،و في سبيله.

الثاني: إن البنوة النسبية أو بالتبني لا تكفي بحسب طبيعتها لاكتساب امتياز بهذا المستوى من الخطورة،و ان كانت لها أهميتها من حيث أنها تشير الى صفاء العنصر،و طهارة العرق،لأنها(ع) كانت نورا في الاصلاب الشامخة،و الارحام المطهرة،و لكن من الواضح ان الحفاظ على هذا الطهر بحاجة الى جهد،و حين لم يبذل ابن نوح(ع)-الذي تحدثت بعض الروايات عن أنه ابن له(ع)بالتبني لا بالولادة (1)-هذا الجهد هلك و ضل،حتى قال الله عنه لأبيه نوح:

إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ،و لذلك لم يكن رضا ابن نوح رضا الله و رسوله،و لا غضبه غضب الله و رسوله.

فالمراد بكونها(بضعة منه)لا بد أن يكون معنى يصلح أن يكون مرتكزا لكون رضاها رضاه(ص)،و أذاها أذاه،خصوصا مع علمنا بأنه(ص)قد قال ذلك حينما أجابت عن سؤال:ما خير للمرأة؟فقالت:أن لا ترى الرجال و لا يراها الرجال،كما سيأتي0.

ص: 57


1- فلا موقع لما يقوله البعض من أن العاطفة الأبوية لنوح قد أثرت عليه فانساق معها حتى إنه لم يلتفت لخطاب الله له بهذا الشأن.راجع:البرهان في تفسير القرآن:ج 2 ص 220.

إن شاء الله تعالى.

أو أنه(ص)قد قال ذلك لعلي(عليه السلام)بحضور اولئك الذين تسببوا في أذى فاطمة(عليها السلام)،حين اخبروها بأنه قد خطب بنت ابي جهل.

فقال له علي(ع):و الذي بعثك بالحق نبيا ما كان مني مما بلغها شيء،و لا حدثت بها نفسي.

فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:صدقت و صدقت.

ففرحت فاطمة عليها السلام بذلك و تبسمت حتى رأى ثغرها.فقال احد الرجلين لصاحبه:ما دعاه إلى ما دعانا في هذه الساعة الخ...

فالنبي إذن أراد أن يقول لمن أخبر فاطمة هذا الخبر الكاذب أنه آذاها و آذاه.

و مهما يكن من أمر، فإن المراد بهذه الكلمة لا بد أن يكون معنى منسجما مع كون أذاها أذاه.و هو أن مزاياها من مزايا رسول الله(ص) و كمالها من كماله،فالحديث عنها بما هي جزء من كيان النبي(ص) و وجوده الانساني و الرسالي بكل ميزاته،و دقائقه،و خصوصياته التفصيلية،كإنسان إلهي كامل،يمثل الانسانية و الفطرة،و الكمال و الصفاء،و الحق و الصدق،بأجلى و أدق هذه المعاني و أسماها.

و واضح أن فاطمة إنما تغضب إذا انتقصت الانسانية،و القيم و اعتدي عليها،و ترضى إذا كرّمت و تكاملت هذه الانسانية و القيم و تجذرت،فالاعتداء عليها لا يغضبها من حيث هي شخص بل يغضبها من حيث أنه اعتداء على الانسانية،و على الكمال الروحي و السمو المعنوي؛و لكون ذلك محاولة للانتقاص،من هذا

ص: 58

الوجود الكريم.

ان العدوان عليها عدوان على الحق،و على الفطرة و على الانسانية،و على الفضل،و ذلك هو الذي يغضبها،و يغضب الله و رسوله،و كل عمل يأتي على وفق الفطرة،و يصون هذا الوجود،فهو الذي يرضيها و يرضي الرسول و يرضي الله.و بذلك تصلح ان تكون معيارا و ميزانا حين ترضى،و حين تغضب.

و لنا ان نقرب هذا المعنى بالاشارة الى شاهد قرآني و هو قوله تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ،فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً،وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً (1).

فإن الجسد الذي هو لحم و عظم لا يزال موجودا،و الذي فقد هو إرادته،و اختياره،و عقله،و خصائصه الانسانية،من نبل و كرم، و عواطف،و مشاعر،و...إن الجسد قد أفرغ من محتواه بواسطة ازهاق روحه.

الزهراء أم أبيها:

و من أغرب ما سمعناه مقولة اطلقها البعض مفادها:

ان الزهراء عليها السلام قد عوضت النبي(ص)عن عطف الأم،حيث إن أمه ماتت،و هو لا يزال طفلا،فلأجل ذلك أطلق عليها لقب:أم أبيها.

إنه يقول بالحرف الواحد: «..بدأ النبي حياته و هو يشكو فقد

ص: 59


1- سورة المائدة:32.

حنان الأم،لأن حنان الأم ليس شيئا يمكن أن تتكفله مرضعة أو مربية...إلى أن قال:و لذلك أعطته أمومتها باحتضانها له.و قالها رسول الله،و هو يشعر:أن ذلك الفراغ الذي فقده بفقدان أمه استطاع أن يملأه من خلال ابنته (1)».

و نقول:

إن هذا الكلام لا يمكن قبوله اذ لا يمكننا قبول مقولة:أن النبي(ص)كان يعاني من عقدة نقص،نشأت عن فقده أمه،فاحتاج الى من يعوضه ما فقده..

بل معنى هذه الكلمة: أن الزهراء كانت تهتم بأبيها،كما تهتم الام بولدها،و هذا لا يعني:أن ذلك سيعوض النبي عن عاطفة فقدها، أو سيكمل نقصا يعاني منه.

و بعد،فهل يمكن أن يقبل هذا البعض ان غير الزهراء عليها الصلاة و السلام كان بامكانها أن تملأ هذا الفراغ.لو حدبت على رسول الله(ص)،و منحته قسطا من العاطفة التي هو بحاجة إليها؟!

إن الكلمة المذكورة:«أم أبيها»تريد أن تبين لنا حقيقة و ابعاد تعامل السيدة الزهراء،مع أبيها،و لا تريد أن تتحدث عن ملء فراغات او حل عقد نقص في الشخصية النبوية المقدسة،و العياذ بالله.

العصمة جبرية في اجتناب المعاصي،؟!!

1-يتحدث البعض: عن أن العصمة التي تجلّت في الزهراء

ص: 60


1- كتاب الندوة:ص 58.

عليها السلام قد انتجتها البيئة و المحيط الايماني الذي عاشت و ترعرعت فيه،لأنها كانت بيئة الايمان و الطهر و الفضيلة و الصلاح.

و من الواضح: ان هذه المقولة فيما تستبطنه تستدعي سؤالا حساسا و جريئا،و هو:

ما ذا لو عاشت الزهراء في غير هذه البيئة،و في محيط ملوث بالرذيلة و الموبقات؟!

و ما ذا لو عاش غير الزهراء في هذه البيئة بالذات؟

هل سوف تكون النتيجة هي ذاتها؟!و قد عاش البعض فعلا في هذه البيئة بالذات،فلما ذا لم يكن الامر كذلك؟

2-و مع كل ذلك نرى هذا البعض نفسه يتحدث عن تكوينية العصمة،الأمر الذي يستبطن مقولة«الجبر»الإلهي،التي ثبت بطلانها،و نفاها أهل البيت(ع)،بقولهم:لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين.

و نقول:

إن ذلك يثير أكثر من سؤال جريء و حساس أيضا.و هو أنه لو كانت البيئة هي المؤثرة،فما معنى كون العصمة تكوينية؟!و ممنوحة بالفيض الالهي المباشر،و بلا وساطة شيء،من محيط أو غيره؟!

ثم هناك سؤال آخر عن:

السبب في تخصيص هؤلاء بهذه العصمة الاجبارية التكوينية؟

و لما ذا لم ينلها غيرهم معهم من سائر بني الانسان؟!!

ص: 61

و لما ذا نحن نتعب و نشقى،و نحصل على القليل،و تكون لهم هم الدرجات العالية،مع أنهم لم يتعبوا و لم يجاهدوا أنفسهم مثلنا؟!

و سؤال آخر؛و هو: أ لا يكون الشخص الذي يقوم بالامتناع- من تلقاء نفسه-عن سيئة واحدة،أو المبادرة الى عمل حسنة واحدة في حياته،يجاهد بها نفسه و غرائزه،أفضل من جميع النبيين و الاوصياء المعصومين بالتكوين و الاجبار؟!

يضاف الى ذلك سؤال آخر و هو: أ لا يعني ذلك أن لا يستحق المعصوم مدحا و لا أجرا على عباداته،و لا على أي شيء من طاعاته للأوامر و الزواجر الإلهية؟! (1).

الى غير ذلك من علامات استفهام لا يمكن استيفاؤها عرضا وردا في هذا البحث المقتضب.

3-و لعله من أجل دفع غائلة هذا السؤال الاخير،عاد هذا البعض ليقول:ان العصمة التكوينية انما هي في الاجتناب عن المعاصي،حيث لا يقدر المعصوم على اقترافها.أمّا الطاعات فالاختيار فيها باق له على حاله،و ليس ثمة جبر إلهي عليها..و هذه نفس مقولة الأشاعرة الذين فسروا العصمة بأنها«القدرة على الطاعة،و عدم القدرة على المعصية» (2).

و نقول:

اننا لا نريد ان نناقش هذا التفصيل(بين الطاعات و بين9.

ص: 62


1- هذا السؤال قد سأله علماؤنا رضوان الله تعالى عليهم لأولئك القائلين بعدم قدرة المعصوم على المعصية.راجع اللوامع الإلهية:ص 169.
2- راجع اللوامع الإلهية:ص 169.

المعاصي)!!باسهاب،بل نكتفي بالالماح الى ما يلي:

أولا: إن ترك الطاعات أيضا معصية،فهو إذن لا يقدر على هذا الترك تكوينا فكيف يكون مختارا في فعلها،و ما معنى كونه مختارا في خصوص الطاعات؟!.

ثانيا: ان هذا التفصيل لا دليل عليه،و لا توجيه له بل هو تحكم محض فلما ذا لا تكون القضية معكوسة،فيكون مختارا في ترك المعاصي مكرها على فعل الطاعات..

و الملفت للنظر هنا: أنه حين واجهته هذه الاسئلة التجأ تارة الى مقولة البلخي بأن الثواب على الطاعة إنما هو بالتفضل،لا باستحقاق العبد.و تارة اخرى الى ما يتحدث عنه البعض بزعمه من ان الاستحقاق بالتفضل و هي مقالة كمقالة البلخي لا يلتفت إليها لقيام الدليل على أن الطاعة بالاستحقاق لا بالتفضل.

و هذا الدليل هو: أن الطاعة مشقة ألزم الله العبد بها؛فإن لم يكن لغرض كان ظلما و عبثا،و هو قبيح لا يصدر من الحكيم.و إن كان لغرض،فإن كان عائدا إليه تعالى فهو باطل لغناه و إن كان عائدا الى المكلف،فإن كان هذا الغرض هو الإضرار به كان ظلما قبيحا، و ان كان هو النفع له فإن كان يصح أن يبتدئ الله به العبد،فيكون التكليف حينئذ عبثا،و ان كان لا يصح الابتداء به بل يحتاج الى تكليف ليستحق أن يحصل على ذلك النفع فهو المطلوب.

فالنتيجة إذن هي: أن الثواب بالاستحقاق لا بالتفضل.

و أما قول البلخي فهو باطل من الأساس،لأنه يستند فيما ذهب إليه الى أن التكاليف إنما وجبت شكرا للنعمة،فلا يستحق بسببها

ص: 63

مثوبة،فالثواب تفضل منه تعالى.

و لا شك في عدم صحة هذا القول،إذ أن الكلام انما هو في مرحلة الحسن و القبح،و يقبح عند العقلاء أن ينعم شخص على غيره، ثم يكلفه و يوجب عليه شكرها من دون إيصال ثواب على هذا التكليف،فإنهم يعدون ذلك نقصا،و ينسبونه الى حب الجاه و الرئاسة و نحو ذلك من المعاني القبيحة التي لا تصدر من الحكيم،فوجب القول باستحقاق الثواب.

غاية ما هناك أنه يمكن ان يقال، و ان كان ذلك لا يلائم كلام البلخي أيضا بل هو أيضا ينقضه و يدفعه:انه و ان كانت مالكية الله سبحانه لكل شيء تجعله،متفضلا في تقرير أصل المثوبة لمملوكيه على أفعالهم،و لكنه بعد أن قرر لهم ذلك بعنوان الجزاء،و تفضل عليهم في زيادة مقاديره،حتى لقد جعل الحسنة بعشرة أمثالها،أو بسبع مائة ضعف،و الله يضاعف لمن يشاء و بعد ان دخل ذلك في دائرة القرار،و أصبح قانونا إلهيا مجعولا،فقد دخل في دائرة الاستحقاق بعد أن لم يكن.

و لأجل ذلك لم يجز في حكم العقل أن يعطي الله العاصي، و يمنع المطيع،و لو كانت المثوبة من باب التفضل لجاز ذلك،و هذا نظير ما لو قرر رجل أن يجعل لولده جائزة على نجاحه في الامتحان في مدرسته،فإذا نجح الولد،فسيطالب أباه بالجائزة،و يرى انه مظلوم و مهان لو لم يعطه إياها،فضلا عن أن يعطيها لأخيه الراسب.

ص: 64

هل للمحيط و البيئة تأثير في العصمة:

و أما بالنسبة لما قيل عن تأثير البيئة و المحيط الايماني في شخصية الزهراء عليها السلام:

فإننا نقول فيه:

ان الزهراء النور التي خلقت من ثمر الجنة،و كانت تحدث أمها و هي في بطنها،قبل أن تولد.هي خيرة الله سبحانه،قد اصطفاها لتكون المعصومة (1)الطاهرة،و الصفوة الزاكية،قبل دخولها في هذه البيئة التي يتحدث البعض عنها على أنها هي السبب الرئيسي في ما للزهراء من مقامات و كرامات.و حديثه هذا يستبطن:أن الزهراء نفسها عليه السلام لو عاشت في بيئة أخرى ليست ببيئة صلاح و خير و إيمان،فلسوف تطبعها بطابعها الخاص،فتكون المرأة الشريرة و المنحرفة،و العياذ بالله!!فهل هذا مقبول أو معقول؟!..

اننا نصرّ على ان المحيط الذي عاشت فيه الزهراء عليها السلام،

ص: 65


1- العصمة في الأنبياء و الاوصياء ثابتة بدليل العقل،لاقتضاء مقام النبوة و الامامة لها.و يؤيدها النقل،و قد يتعرض النقل أيضا لبيان حدودها و آفاقها،و غير ذلك من خصوصيات.. أما عصمة الزهراء عليها السلام،فهي ثابتة بالنقل الصحيح الثابت عن الرسول(ص)،و بنص القرآن الكريم،و هي من ضروريات المذهب و ثوابته. و بديهي أن لا تعرف العصمة إلا بالنقل،لأن الاوامر و الزواجر الالهية لا تنحصر بأعمال الجوارح الظاهرية،بل تتعداها الى القلب و النفس و الروح،و الى صياغة مواصفات الانسان،و مشاعره و أحاسيسه،مثل الشجاعة و الكرم و الحسد،و الحب و البغض،و الايمان و النفاق،و النوايا و غير ذلك مما لا سبيل لنا للاطلاع عليه بغير النقل عن المعصوم.

لم يكن هو محض السبب في وصول الزهراء الى مقام الكرامة و الزلفى،و لا كان هو الذي صاغ و بلور شخصيتها الايمانية،و حقق عصمتها،و كمالها الانساني،بل إن فطرتها السليمة،و روحها الصافية،و عقلها الراجح،و توازنها في خصائصها و كمالاتها الانسانية،ثم رعاية الله سبحانه لها،و مزيد لطفه بها،و تسديده و توفيقه،و سعيها باختيارها الى الحصول على المزيد من الخلوص و الصفاء،و الطهر،و الوصول الى درجات القرب و الرضا،إن ذلك كله هو الذي انتج شخصية الزهراء المعصومة و المطهرة.

فالعصمة لا تعني العجز عن فعل شيء،و إنما تعني القدرة و المعرفة،و الاختيار الصالح،و الارادة القوية الفاعلة مع العقل الكبير، و اللطف و الرعاية و التسديد الالهي.أما كبر السن أو صغره،أو مقدار النمو الجسديّ،فليس هو المعيار في صفاء الروح،أو كمال الملكات، و الخصال الانسانية،و لا في فعلية التعقل،أو قوة العقل و الادراك،و لا في سعة المعرفة،و استحقاق منازل الكرامة؛فقد آتى الله يحيى عليه السلام الحكم صبيا،كما أن عيسى عليه السلام قد تكلم في المهد:

قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ،وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا، وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ،وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا، وَ بَرًّا بِوالِدَتِي،وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا (1) .

و لم تكن الزهراء(عليها السلام)في أي وقت من الاوقات بعقلية طفل،و لا بمستوى ملكات و إدراكات و طموحات وليد.

و قد تكلم علي،و الزهراء عليهما السلام حين ولادتهما، و حدثت الزهراء أمها قبل أن تولد.0.

ص: 66


1- سورة مريم:22/20.

و قد ذكرت لنا الروايات و كتب التاريخ و غيرها عن مصادر الفريقين كثيرا من هذا و امثاله مما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام.مما يدل على هذه الحقيقة فيهم و فيها صلوات الله و سلامه عليهم و عليها، و على شيعتها و محبيها الى يوم الدين.

إمكانية التمرد على البيئة و المحيط:

اشارة

أمّا فيما يرتبط بالمحيط و البيئة،فلسنا ننكر ما له من تأثير على روح الانسان و سلوكه و أخلاقياته و نفسيته.

و لكننا نقول:إن ذلك ليس مطردا في جميع الناس،و لا هو حتمي الحصول،الى درجة ان يفقد الانسان معه إرادته،و يأسره، و يمنعه من الاختيار و يقيده عن الحركة باتجاه الخير،و الصلاح، و النجاح و الفلاح.

و قد أوضح القرآن الكريم لنا ذلك بما لا يدع مجالا للشك حينما تحدث عن نساء جعلهن مثلا يحتذى كمريم بنت عمران، و آسيه بنت مزاحم ثم تحدث عن أخريات مثلا للعبرة و الحذر كامرأة نوح و لوط.

فقد قال سبحانه و هو يتحدث عن إحدى زوجات النبي (ص)،كان النبي(ص)قد أسر إليها حديثا هاما جدا فأفشته و زادت فيه:

ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ،وَ امْرَأَتَ لُوطٍ،كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ،فَخانَتاهُما،فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئاً،وَ قِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ. وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَة

ص: 67

فِرْعَوْنَ،إِذْ قالَتْ:رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ،وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ،وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ. وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها،فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا،وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها،وَ كُتُبِهِ،وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (1) .

فنجده سبحانه قد ضرب مثلا للذين آمنوا-و ليس لخصوص النساء المؤمنات-بآسية بنت مزاحم،و مريم بنت عمران.

و ضرب مثلا للذين كفروا-و ليس لخصوص النساء الكافرات- بزوجتي نوح و لوط-و لتوضيح ذلك نقول:

ألف:زوجتا النبي نوح و النبي لوط(ع):

إن الذي يساعد على وضوح ما نريد بيانه في معنى الآيات، هو ملاحظة الامور التالية:

1-أشار في الآية الى وقوف امرأة في مقابل رجل،و لعل البعض يرى للرجال على النساء تميزا في جهات معينة،تعطي للرجل الافضلية و الأولوية في أمور كثيرة.

2-ان هذين الرجلين هما في موقع الزوجية،و للزوج موقعه القوي في داخل بيت الزوجية على الأقل.

3-و مع صرف النظر عما تقدم،فإن الزوج عادة هو أعرف الناس حتى من الأم و الأب،بأحوال زوجته،و بطبائعها،و بنقاط ضعفها و قوتها،لأنه على احتكاك عملي مستمر معها،و هي تعيش معه

ص: 68


1- سورة التحريم:12/10.

-عادة-الوضوح بأقصى حالاته و أرفع درجاته.

4-و هذا الرجل يملك من صفات الكمال الانساني كل اسباب القوة خصوصا في وعيه،و تدبيره،و عقله و حكمته،و من حيث مستواه الفكري،و سلامة هذا الفكر،و من حيث قدراته الاقناعية، فضلا عما سوى ذلك،بل هو القمة في ذلك كله،حتى استحق ان يكون نبيا،بل رسولا،بل ان أحدهما و هو نوح،من أولى العزم الذين يملكون أعلى درجات الثبات و الحصانة و القوة.

و هل هناك أعرف من النبي الرسول بأساليب الاقناع و وسائله و أدواته؟أم هناك أكثر منه استجماعا للمفردات الفكرية و غيرها مما يحتاج إليه في ذلك؟!.

5-كما ان هذه المرأة تعيش في محيط هدى،و في أجواء الطهر،و الصفاء،و الاستقامة،و الفضيلة،و الايمان،و الخير،و الصلاح، حيث يتجسد ذلك كله واقعا تتلمسه بصورة مباشرة،و ليس مجرد نظريات.

أما الانحراف و السوء و الشرك فلن يكون في هذا المحيط الا غريبا،مرفوضا،و منبوذا،لا يجد حرية الحركة،و لن ينعم بالقبول و الرضا ابدا.

6-ان هذين الرجلين النبيين،و أحدهما من أولى العزم، يتحملان مسئولية هداية الأمة،و الذب عنها،و إبعادها عن مزالق الانحراف و آفاته.

بل ان هذه الهداية هي مسئوليتهما الاولى و الاساس،و هي كل شيء في حياتهما الرسالية الهادية.و ليست أمرا عارضا،كالمال

ص: 69

الذي يمكن تعويضه،أو الجاه الذي يمكن العيش بدونه،و لا هي من قبيل السلطة،و النفوذ،و ادارة البيت و لا هي مصلحة مادية،و لا اي شأن من شئون الحياة،مما يمكن التغاضي عنه.بل المساس بها مساس بالمصير،و بالوجود،و بالمستقبل،و بالآخرة و الدنيا.إنه ينظر الى هذه المهمة و يتعامل معها من موقع التقديس،و من موقع التعبد و التدين.

و تتحداه زوجته التي لا تدانيه في شيء مما ذكرناه،و تتمرد عليه في صميم مسئوليته،و في أعز و أغلى و أقدس شيء لديه.

7-و هذا التحدي هو للمحيط و للبيئة؛لأنه ينبع من داخل بيئة الصلاح،و الايمان و الخير،و الهدى.

8-و يزيد في الألم و المرارة،أنها تتحداه في شيء يندفع إليه بفطرته،و يرتبط به بقلبه و وجدانه،و بأحاسيسه،و بعمق مشاعره، و بهيمنات روحه،و بكل وجوده.

و الأكثر مرارة في هذا الامر،انها تريد ان تكون النقيض الذي لا يقتصر على مجرد الانحراف،بل هي تعمل على تقويض و هدم ما يبنيه،مستفيدة من المحيط المنحرف الذي قد يعينها على تحقيق ما تعمل من أجله،و يعطيها نفحة قوة،و فضل عزيمة.

و من جهة أخرى:فإن هذا الامر لا يختص بمورد واحد يمكن اعتباره حالة عفوية أو استثناء أو حالة شاذة،فقد تكررت القضية ذاتها و شملت نوحا و لوطا عليهما السلام اللذين ضرب الله المثل بما جرى لهما.

ص: 70

ب:زوجة فرعون:
اشارة

و في الجهة المقابلة تقف المرأة المجاهدة الصابرة آسية بنت مزاحم الشهيدة.و نوضح ما نرمي إليه في حديثنا عنها فيما يلي من نقاط:

1-ان آسية بنت مزاحم امرأة في مقابل رجل،هو فرعون بالذات.

2-و فرعون هذا هو الزوج المهيمن و القوي،و هو يتعامل مع هذه المرأة الصالحة من موقع الزوجية.

3-و فرعون الرجل و الزوج،لا يملك شيئا من المثل و القيم الانسانية و الرسالية،و لا يردعه رادع عن فعل أي شيء،في أي موقع من مواقع حياته،فهو يسترسل مع شهواته،و طموحاته،و مصالحه،بلا حدود و لا قيود،و دون ما وازع أو رادع.

أما آسية فعلى النقيض من ذلك،ترى نفسها محكومة لضوابط الدين و القيم و المثل،و هي تهيمن على كل وجودها فلا تستطيع أن تسترسل في حركتها،و لا يمكنها أن تتوسل بكل ما يحلو لها.

4-و فرعون يمثل أقصى حالات الاستكبار في عمق وجوده، و ذاته،حتى ليدعي الربوبية،و يقول للناس:«أنا ربكم الأعلى»،فلا يرى أن أحدا قادر على أن يخضعه،أو أن يملي عليه رأيه و إرادته،بل تراه يحمل في داخله الدوافع القوية لسحق كل من يعترض سبيل أهوائه و طموحاته.

فرعون هذا تتحداه امرأته!!في صميم كبريائه،و في رمز استكباره و علّوه،و عنفوانه،و عمق طموحاته،في ادعائه الربوبية،و في

ص: 71

كل ما يرتكبه من موبقات،و ما يمثله من انحراف.

5-و فرعون ملك لديه الجاه العريض،و غرور السلطان، و عنجهيته،و جاذبيته،و عنفوانه،و زهوه.و ما أحب تلك المظاهر الخادعة الى قلب المرأة،و ما أولعها بها.

و إذا كانت المرأة تميل الى الزهو،فإنها الى زهو الملك العريض أميل،و إذا كان الجاه العريض يستثيرها،فهل ثمة جاه كجاه السلطان، فكيف و هو يدعي الربوبية لنفسه؟!.

6-أما المغريات فهي بكل صنوفها،و في أعلى درجات الاغراء فيها،متوفرة لفرعون،فلديه الدور و القصور،و البساتين، و الحدائق الغنّاء،ولديه اللذائذ و الأموال،و الخدم و الحشم،و لديه الزبارج و البهارج و زينة الحياة الدنيا.

و هل ثمة أحب الى قلب المرأة من القصر الشاهق،و من الأثاث الفاخر،و اللائق،و من وصائف كالحور،و غير ذلك من بواعث البهجة و السرور؟!

7-و عند فرعون الرجال و السلاح،و كل قوى القهر، و التسلط،و الجبروت،و الهيمنة،و لذلك أثره في بث الرهبة،و الرعب في قلب كل من تحدثه نفسه بالتمرد،و الخلاف.

8-و عند فرعون أيضا المتزلفون،و الطامعون،و الطامحون، الذين هم وسائله و أدواته الطيّعة،التي تحقق رغباته،و تلبي طلباته، مهما كانت،و في أي اتجاه تحركت.

9-و هناك الواقع المنحرف الذي تهيمن عليه المفاهيم الجاهلية، و الجهل الذريع،و الافتتان الطاغي بالحياة الدنيا،هذا الواقع الذي تفوح

ص: 72

منه الروائح الكريهة للشهوات البهيمية،و تنبعث فيه الاهواء،و تضج فيه الجرائم.

10-و في محيط فرعون،تريد امرأة فرعون أن تتخلى عن لذات محسوسة و حاضرة من أجل لذة غائبة عنها،مع ان الانسان كثيرا ما يرتبط بما يحس و يشعر به،أكثر مما يرتبط بما يتخيله او يسمع به،بل هو يستصعب الانتقال من لذة محسوسة الى لذة أخرى مماثلة لها،فكيف يؤثر الانتقال الى ما هو غائب عنه،و لا يعيشه إلا في نطاق التصور و الامل بحصوله في المستقبل،ثقة بالوعد الالهي له.

بل إنها عليها السلام تريد ان تستبدل لذة و سعادة و نعيما حاضرا بألم و شقاء،و بلاء،بل بموت محتم لقاء لذة موعودة.

11-و بعد ذلك كله،إن هذه المرأة لا تواجه رجلا كسائر الرجال،بل تواجه رجلا عرف بالحنكة،و الدهاء،و الذكاء.

فكما كان عليها أن تواجه استكباره،و سلطانه،و بغيه،و كل إرهابه و إغرائه،فقد كان عليها أيضا ان تواجه مكره،و أحابيله، و تزويره،و أساليبه الذكية الخداعة،و هو الذي استخف قومه فأطاعوه.

و قد ظهرت بعض فصول هذا الكيد و المكر في الحوار الذي سجله الله سبحانه له مع موسى،و مع السحرة الذين جاء بهم هو، فآمنوا بإله موسى (1).

ص: 73


1- إن حنكة فرعون كانت عالية الى درجة أنه-كما قال القرآن الكريم-استخف قومه فأطاعوه،أي انه قد تسبب في التأثير على مستوى تفكيرهم،و خفف من مستوى وعيهم للامور.. كما اننا حين نقرأ ما جرى بينه و بين موسى و السحرة،نجده أيضا في غاية الفطنة و الدهاء،فقد قال تعالى: قٰالَ فِرْعَوْنُ:وَ مٰا رَبُّ الْعٰالَمِينَ؟! قٰالَ:رَبُّ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. قٰالَ لِمَنْ حَوْلَهُ:أَ لاٰ تَسْتَمِعُونَ؟! قٰالَ رَبُّكُمْ،وَ رَبُّ آبٰائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. قٰالَ:إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ .سورة الشعراء،الآيات 23-27. فيلاحظ:انه حاول في بادئ الامر ان يسفّه ما جاء به موسى بطريقة إظهار التعجب و الاستهجان.فلما رأى إصرار موسى على مواصلة الاعلان بما جاء به لجأ الى اتهامه بالجنون.و لكنه أيضا وجد أن موسى يواصل بعزم ثابت، و إصرار أكيد،إعلانه المخيف لفرعون فالتجأ الى استعمال اسلوب القهر و القمع،فقال لموسى: قٰالَ:لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلٰهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ .فواجهه موسى(ع)بإبطال كيده هذا،و جرده من هذا السلاح، حيث قال له: أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بسلطان مبين فاضطره أمام الناس الى الرضوخ لذلك فقال: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّٰادِقِينَ فأظهر موسى المعجزة التي جردته من سلاح المنطق و الحجة.و لكنه مع ذلك لم يستسلم بل التجأ الى سلاح آخر،يدلل على حنكته البالغة و دهائه العظيم و على درجة عالية من الذكاء،حيث نقل المعركة فورا من ساحته هذه الى ساحة الآخرين،و أخرج نفسه عن دائرتها،و جعل من نفسه إنسانا غيورا على مصلحة الناس،يريد أن يدفع الشر عنهم،و أن يحفظ لهم مواقعهم فأظهر أن ما جاء به موسى(ع)لا يعنيه هو و لا يهدد موقعه،و إنما هو يستهدفهم دونه فالقضية إذن هي قضيتهم، فلا بد أن يبادر كل منهم لمواجهتها،و ليست هي قضية يمكن التفريط في شأنها،و لا هي تسمح لهم باللامبالاة،أو التأجيل،أو التواكل،مستفيدا من طبيعة المعجزة عنصر التمويه عليهم و التشويه للحقيقة،حيث اعتبر ان انقلاب العصا الى ثعبان و خروج اليد بيضاء،سحرا يريد موسى أن يتوسل به الى إخراجهم من أرضهم،فهو قد حوّل المعجزة القاهرة الى دليل له،يبطل به دعوى موسى التي جاءت المعجزة لاثباتها و تأكيدها،ثم ألقى الكرة في ملعبهم،و جعل القرار لهم.و استطاع من خلال ذلك أن يقتنص فرصة جديدة يستدرك بها شيئا من القوة لمواجهة موسى.. و هذا هو ما أوضحته الآيات التالية: قٰالَ:فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّٰادِقِينَ. فَأَلْقىٰ عَصٰاهُ فَإِذٰا هِيَ ثُعْبٰانٌ مُبِينٌ. وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذٰا هِيَ بَيْضٰاءُ لِلنّٰاظِرِينَ. قٰالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ:إِنَّ هٰذٰا لَسٰاحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ،فَمٰا ذٰا تَأْمُرُونَ. قٰالُوا:أَرْجِهْ وَ أَخٰاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدٰائِنِ حٰاشِرِينَ سورة الشعراء:28 و 36 و راجع سورة طه:57/47. فكل ذلك يشير الى أن فرعون لم يكن رجلا عاديا،بل كان على درجة عالية من الذكاء و المكر و الدهاء،و انه في حين كان قد استخدم كل قدراته من مال و جاه و جيوش،و قمع و قهر،في سبيل الوصول الى مبتغاه،فإنه أيضا قد استخدم ذكاءه و أساليبه المماكرة في سبيل ذلك،حتى فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطٰاعُوهُ سورة الزخرف:54. و لننظر بدقة الى قوله تعالى وَ قٰالَ فِرْعَوْنُ:ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسىٰ وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ، إِنِّي أَخٰافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسٰادَ سورة غافر:26. و لنتأمل في موقف فرعون من السحرة،و طريقة مواجهته للصدمة التي نتجت عن إيمانهم بما جاء به موسى،فإنه هو الآخر،دليل آخر يضاف الى ما تقدم على حنكته و ذكائه،و طبيعة أساليبه الماكرة و الفاجرة.و لسنا هنا بصدد التوسع في هذا الموضوع،و لم نرد إلا التنويه و الاشارة لندلل من خلال ذلك على عظمة الانجاز،و قيمة النصر الذي حققه نبي الله موسى(ع)على هذه الطاغية المستكبر و الماكر.

ص: 74

خلاصة:

كانت تلك بعض لمحات الواقع الذي واجهته امرأة فرعون،التي هي من جنس البشر،و من لحم و دم،لها ميولها،و غرائزها، و طموحاتها،و مشاعرها،و أحاسيسها.

و قد واجهت رحمها الله كل هذا الواقع الصعب بصبر و ثبات، و لم تكن تملك الا نفسها،و قوي ارادتها،و قويم وعيها،الذي جعلها تدرك:أن ما يجري حولها هو خطأ،و جريمة،و انحراف و خزي،

ص: 75

فرفضت ذلك كله من موقع البصيرة و الإيمان،و واجهت كل وسائل الإغراء و القهر،و لم تبال بحشود فرعون،و لا بأمواله،و لا بجاهه العريض،و لا بزينته و مغرياته،و لا بمكره و حيله و حبائله..

و طلبت من الله سبحانه و تعالى أن يهيئ لها سبل النجاة من فرعونية فرعون،و من اعمال فرعون،و من محيط القوم الظالمين.

و لم يؤثر شيء من ذلك كله،من البيئة و المحيط و غير ذلك،في زعزعة ثقتها بدينها و ربها،او في سلب إرادتها،او في سلامة و صحة خيارها و اختيارها.

و كان دعائها:«رب ابن لي عندك بيتا في الجنة،و نجني من فرعون و عمله،و نجني من القوم الظالمين».

فهي تعتبر الابتعاد عن فرعون،و عن ممارسات فرعون نجاة، و تعتبر الابتعاد عن دنس الانحراف و الخروج من البيئة الظالمة نجاة أيضا..

و هي لا تريد من الله قصورا و لا زينة،و لا ذهبا و لا جاها،بل تريد أن تفوز بنعمة القرب منه تعالى،(عندك)،و بمقام الرضا،على قاعدة:(رضا الله رضانا أهل البيت).

ج:مريم(ع)في مواجهة التحدي:

أما التحدي في قضية مريم عليها السلام فهو الآخر قاس و مرير، إنه تحد في أمر يمس شخصيتها و كيانها،و هو من أكثر الامور حساسية بالنسبة إليها كأنثى،تعتبر نفسها أمام قومها رائدة الطهر و الفضيلة، و تنعى عليهم رجسهم و انحرافهم،إنه التحدي في أمر العفة و الطهر،

ص: 76

و قد جاء بطريقة تفقد معها كل وسائل الدفاع عن نفسها،إذ كيف يمكن لامرأة أن تأتي قومها بمولود لها،ثم تزعم لهم أنها لم تقارف إثما،و لا علاقة لها برجل.

انها تزعم:أنها قد حملت بطفل و لم يمسسها بشر،و تصر على أنها تحتفظ بمعنى العفة و الطهارة بالمعنى الدقيق للكلمة،بل هي لا تقبل أي تأويل في هذا المجال،و لو كان من قبيل حالات العنف التي تعذر فيها المرأة.

بل و حتى المرأة،المتزوجة حين تلد فإنها في الايام الاولى تكون خجلى الى درجة كبيرة،لا سيما أمام من عرفوها و عرفتهم و ألفوها و ألفتهم.

فكيف إذا كانت تأتي قومها بطفل تحمله،و قد ولدته و لم تكن قد تزوجت،ثم هي تصر على انها لم يمسسها بشر!!أو لا ترضى منهم أن يعتقدوا أو حتى أن يتوهموا غير ذلك.

و لم يهتز إيمان مريم،و لم تتراجع،و لم تبادر الى إخفاء هذا الطفل،و لا الى إبعاده و لا الى التبري منه،بل قبلت،و رضيت، و صبرت،و تحملت في سبيل رضا الله سبحانه،فكانت سيدة نساء زمانها بحق،و بجدارة فائقة،لأنها صدّقت بكلمات الله،و كانت من القانتين.

أما الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء صلوات الله و سلامه عليها، فقد أخبر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم انها أفضل من جميع نساء العالمين من الأولين و الآخرين بمن فيهم مريم و آسية و سواهما،رغم كل ما قاسوه و ما واجهوه مما ينبئك عن عظيم مكانتها

ص: 77

و بلائها لقوله(ع):إن اشد الناس بلاء هم الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الأمثل فالأمثل (1).

من نتائج ما تقدم:

و نستخلص مما تقدم نتائج كثيرة،نذكر منها هنا ما يلي:

1-قد ظهر مما تقدم من خلال عرض ما ضربه الله مثلا:أن البيئة و المحيط ليس هو الذي يصنع شخصية الانسان،و ان كان ربما يؤثر فيها احيانا،إذا فقدت الرقابة الواعية،حيث يستسلم الانسان للخضوع و الخنوع.

فلا مجال إذن لقول هذا البعض: إن شخصية الزهراء عليها السلام،هي من نتاج المحيط و البيئة التي عاشتها،و لن نقبل أن يقال:

إنها عليها السلام لو عاشت في محيط آخر-فاسد مثلا-لكانت قد عاشت واقع محيطها الفاسد أيضا.

2-إن مواجهة مريم لضغوطات محيط الانحراف،في أشد الامور حساسية و أهمية بالنسبة إليها،و هي لا تملك أي وسيلة مألوفة للدفاع عن نفسها،سوى هذا الإيمان الصافي،و الثقة الكبيرة بالله تعالى.

ثم تحرك آسية بنت مزاحم في عمق و كر الانحراف و الشرك، و في صميم محيطه،و بيئته،لمواجهة أعتى القوى،و أكثرها استجماعا لوسائل القهر،و الاغراء،و التحدي،و أشدها بغيا،و ظلما،و استكبارا..

ص: 78


1- راجع البحار:ج 64 ص 200.

إن هذا و ذاك يدل على أنه لا مجال لتبرير الانحراف بضغوطات المحيط،و البيئة،أو السلطة،أو الخضوع لإرادة الزوج،و ما الى ذلك.

3-قد ظهر مما تقدم: أن للمرأة كما للرجل،قوّة حقيقية، و قدرة على التحكم بالقرار النهائي في أية قضية ترتبط بها،و أنها في مستوى الخطاب الالهي،و تستطيع ان تصل الى أرقى الدرجات التي تؤهلها لأسمى المقامات،في نطاق الكرامة و الرعاية الالهية.

4-إن الاندفاع نحو إحقاق الحق،و إقامة شرائع الله،و العمل بأحكامه،و التزام طريق الهدى و الخير أمر موافق للفطرة و العقل دون ريب،و ان الانحراف عن ذلك ما هو إلا تخلف عن مقتضيات الفطرة،و استخفاف بأحكام العقل،و تفريط بمعاني الانسانية و السداد و الرشاد.

ص: 79

ص: 80

الفصل الثاني: الزهراء(ع)و الغيب

اشارة

ص: 81

ص: 82

الجوانب الغيبية في حياة الزهراء(ع):

هناك من يقول: انه لا حاجة لنا فيما يفيض فيه التاريخ في مسألة زواج الزهراء عليها السلام،و الجوانب الغيبية في ذلك الزواج، فيما احتفلت به السماء،و غير ذلك مما يتعلق بهذا الأمر،كما أنه يتحفظ على الحديث الذي يقول بوجود عناصر غيبية أو خصوصيات غير عادية في شخصية الزهراء عليها السلام،و ما ذا ينفع أو يضر-على حد تعبيره-أن نعرف أو نجهل:أن الزهراء(ع)نور أو ليست بنور؟ فإن هذا علم لا ينفع من علمه و لا يضر من جهله.

و يضيف على هذا قوله: و لا نجد ان هناك خصوصية غير الظروف التي كفلت لها النمو الروحي و العقلي،و الالتزام العملي، بالمستوى الذي تتوازن فيه عناصر الشخصية بشكل طبيعي في مسألة النمو الذاتي،و لا نستطيع اطلاق الحديث المسئول القائل بوجود عناصر غيبية مميزة تخرجها عن مستوى المرأة العادي،لأن ذلك لا يخضع لأي اثبات قطعي.

ص: 83

و نقول:

إننا بالنسبة لضرورة الثقافة الغيبية نسجل ما يلي:

اولا: إن إثارة الامور بهذه الطريقة،التي يخشى أن تسبب بإثارة صراع داخلي،من حيث أنها ترمي إلى التشكيك بضرورة الثقافة الدينية الغيبية و ذلك غير مقبول و لا معقول؛لأن ذلك من بديهيات الدين و العقيدة،و لا شك أن إبعاد جانب مهم جدا من قضايا الدين و الايمان عن دائرة الاهتمام،بطريقة التسويف أو التسخيف،أو التقليل من أهميته،يعتبر تقويضا لركن مهم من أركان الدين،و هو إرباك حقيقي للفكر الاسلامي الرائد،و هو يستبطن وضع علامات استفهام على الكثير من مفردات المعارف الدينية الاخرى، الامر الذي سينتهي الى أن يضعف إيمان الناس،و أن تنحسر معرفتهم بالله سبحانه و تعالى و برسله و أصفيائه،و يتزعزع واقع اعتقادهم بحقائق الاسلام و الايمان،و يثير تساؤلات كثيرة حول أمور كان الاجدر أن لا يثار حولها جدل غير منهجي و لا علمي،حيث لا ينتج عن ذلك الا إرباك الحالة العامة،و صرف اهتمامات الناس الى اتجاهات بعيدة عن الواقعية،و عن التفكير الجدي في أمور مصيرية،تهدد مستقبلهم و وجودهم،و تبعدهم عن التخطيط و العمل لمواجهة الاخطار الجسام التي تنتظرهم في حلبة الصراع مع قوى الحقد و الاستكبار، التي لا بد من تشابك الايدي،و تضافر الجهود في مواجهتها.

عصمنا الله من الخطل و الزلل في الفكر و القول و العمل إنه ولي قدير،و بالاجابة حري و جدير.

ثانيا: لا شك في ان النصوص التي تثبت عناية إلهية،و رعاية

ص: 84

غيبية للزهراء،بل كرامات و معجزات (1)،و ميزات لها،هي بدرجة من الكثرة تفقد الإقدام على انكارها مبرره من الناحيتين العلمية و الوجدانية.

و اذا كان هذا الحجم من النصوص لا يثبت ميزة و كرامة و رعاية غيبية،فلا مجال بعد لإثبات أية حقيقية اسلامية أخرى.

و قد سبقه المعتزلة الى إنكار كرامات الاولياء،بحجة اشتباهها بمعجزات الأنبياء،فلا يعرف النبي من غير النبي (2).

و لم يلتفتوا الى ان ظهور الكرامة إنما هو للولي الذي يلتزم خط الايمان بصورة يمتنع معها من ادعائه النبوة،و إلا فإنه ليس بولي و لا يستحق كرامة الله،و لن يظهر الله له هذه الكرامة يوما.

ثالثا: قال الله سبحانه و تعالى: الم، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ،وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ،وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3).

و مما لا شك فيه أن للامور الغيبية تأثيرا قويا على الحالة الايمانية للإنسان المسلم،و أن الغيب هو من الامور الاساسية في موضوع الايمان،الذي يريده الله سبحانه من عباده.3.

ص: 85


1- فقد ذكر أبو الصلاح الحلبي في الكافي:ص 102 و 103 ان المعجزات تظهر لغير الأنبياء أيضا،و لا يقتصر الامر فيها على التحدي للانبياء في نبوتهم-كما يحاول البعض أن يدعيه-و قد مثل لذلك أبو الصلاح بقصة آصف بن برخيا و مجيئه بعرش بلقيس قبل ارتداد الطرف.و ما ظهر لمريم من معجزات كحصولها على الرزق و معجزات تلاميذ عيسى،و غير ذلك.
2- شرح عقائد النسفي للتفتازاني:ص 177.
3- سورة البقرة:1 و 3.

كما أن مما لا شك فيه أيضا: أنه لا يكفي في الايمان بالغيب أن يكون مجرد إحساس مبهم و غامض بوجود غوامض و مبهمات في بعض جوانب الحياة،ثم شعور بالعجز عن نيل تلك الغوامض،و من ثم شعور بالخوف و الخشية منها.

و لا يكفي أيضا في تحقق الايمان،بحد ذاته،و بكل حالاته و مفرداته،غيبية كانت أو غيرها مجرد الحصول على قناعات فكرية جافة،و معادلات رياضية،تستقر في عقل و وعي الانسان ليرسم على اساس ذلك خريطة سلوكية،أو حياتية منفصلة عن الغيب،أو غير منسجمة أو متناغمة معه،لا يكفي هذا و لا ذاك،فإن الايمان فعل اختياري،يتجدد،و يستمر حيث ان الله سبحانه قال: يُؤْمِنُونَ و لم يقل آمنوا،ليفيد بالفعل المضارع التجدد،و الاستمرار أي أنهم يختارون هذا الايمان،و يحدثونه،و يوجدونه،و يجسدونه باستمرار.

و اذا كان من الواضح أيضا: أن الخشية من المجهول،و الاحساس المبهم بالامور الغائبة عن حواسنا ليس إيمانا،بل هو ينافي الايمان الذي هو عقد القلب على أمر،و احتضانه له بعطف و حنان،و محبة و تفهم، ثم سكون هذا القلب الى ما يحتضنه،و اطمئنانه إليه،و معه،و رضاه به، أَلا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ و يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً .

إذا كان الأمر كذلك:

و حيث لا يمكن احتضان الفراغ و لا السكون إليه،أو الرضا به فلا بد من توفر الدلالة القريبة على ذلك الغامض،و التجسيد له في وعي الانسان،لكي يخرج عن حالته الغيبية في الواقع الايماني و الشعوري،و يصبح شهودا إيمانيا،و ان كان في واقعه و كينونته لا

ص: 86

يلتقي مع الحسّ،و لا يظهر عليه،بل يبقى منفصلا و غائبا عنه.

و من هنا: تبرز ضرورة ربط هذا الغيب بالواقع الموضوعي، ليصبح بذلك أشد تأثيرا في الوعي،و أكثر رسوخا و تجذرا في الايمان، حيث تخرجه تلك المفردات المعبرة عنه و المشيرة إليه،عن أن يكون مجرد حالة غائمة و هائمة،ليصبح أكثر تركيزا و تحديدا الى درجة التجسيد الحقيقي للمعنى الغيبي،الذي يهيء للانسان أن يعقد قلبه عليه،ليكون ذلك المسلم المؤمن بالغيب،وفق ما يريده الله سبحانه، و على اساس الخطة الالهية لتحقيق ذلك،و بذلك نستطيع ان نفهم بعمق مغزى قول علي عليه الصلاة و السلام:«لو كشف لي الغطاء،ما ازددت يقينا» (1).

و حين سئل عليه السلام عن انه كيف يعبد ربا لم يره،أجاب:

ما كنت لأعبد ربا لم أره،لم تره العيون بمشاهدة الابصار،و إنما رأته القلوب بحقائق الايمان (2).

و لأجل ذلك: أيضا تطمئن القلوب بذكر الله سبحانه أَلا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ فإن القلب لا ينال حقيقة الذات الالهية نفسها،بل ينال آثارها و أفعالها و يطمئن بذكر الله سبحانه،و قد قال الله سبحانه: وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها (3)،و اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (4)،و بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ .1.

ص: 87


1- البحار:ج 40 ص 153 و ج 46 ص 135.
2- البحار:ج 4 ص 27 و 32 و 33 و 44 و 52 و 54 و 304 و ج 10 ص 118 و ج 36 ص 406.
3- سورة الاعراف:180.
4- سورة العلق:1.

فيتضح من جميع ما تقدم: أن الاسلام حين ألزم بالايمان بالغيب،فإنه لم يرده غيبا هائما،و خاويا و مبهما،بل أراده الغيب الهادف و الواعي،الذي يتجسد على صفحة القلب و النفس،و يزيد وضوحا و تجذرا و رسوخا،من خلال الوسائل التي اراد الله سبحانه أن ينقل بواسطتها العنصر الغيبي الى و عينا ليستقر فيه مقترنا بها،و معتمدا عليها،و مستندا إليها.

فالثقافة الغيبية إذن،من شأنها أن تبعد الايمان بالغيب،عن أن يكون حالة خوف من المجهول،ليكون الغيب شهودا قلبيا حقيقيا، يعقد عليه القلب،و يتقوم به الايمان،و تخضع له المشاعر،و ينطلق ليصبح حياة في الوجدان،و يقظة في الضمير،و ليكون موقفا،و حركة و سلوكا،و سجية و بادرة عفوية صريحة و خالصة.

مع أنه في الوقت نفسه لا يزال هذا الغيب منفصلا عن إحساس الحواس،حيث لا يمكنها أن تناله،و تبقى عاجزة حياله،اذ هو متصل بما هو أسمى منها،و يغنيه عنها،مستمسك بأسبابه،و منطلق في رحابه.

و بنظرة اجمالية على الوسائل و الدلائل التي تجسّد هذا الغيب في قلب الانسان،و تحوله الى عنصر ايماني مؤثر و فاعل...نجد:ان الاسلام في تعاطيه التربوي مع هذه الناحية الحساسة،قد أراد للغيب أن ينطلق من بوتقة الفكر و الوعي ليستقر في القلب،و ليحتضنه هذا القلب بحنان ليجد معه الرضا و السكينة،و ليهوم-من ثم-في رحاب الروح،في تفاعل مشاعري،و عاطفي متوهج و عارم.

ثم هو لا يزال يسري في كل كيان الانسان،ليصوغ أحاسيسه،و مشاعره،و ليصبح من ثم سمعه و بصره،و فكره،و بسمته،

ص: 88

و لغته و لفتته العفوية،و سلوكه،و موقفه،بل كل شيء في حياته.

و لأجل ذلك كله،كان لا بد أن يمتزج الفكر بالعاطفة،لتصبح مأساة الزهراء،و ذكرى الحسين(ع)في عاشوراء،و مأساة طفله الرضيع و...جزءا من الحقيقة الايمانية،و هكذا يصبح كل ما قاله الرسول(ص)و الائمة الطاهرون عليهم السلام يمثل ضرورة ثقافية لاستكمال الايمان بحقائق الاسلام،و منها الايمان بالغيب.

فلا غرو إذن أن يتجسد هذا المعنى الغيبي معجزة و كرامة إلهية و واقعا حيا و مؤثرا في وعي الانسان-يتجسد-بالحجر الاسود،حيث أودعه الله مواثيق الخلائق،و بالاسراء و المعراج،و باستقرار يونس في بطن الحوت،و في حديث النملة،حيث تبسّم سليمان ضاحكا من قولها،و بالاتيان له بعرض بلقيس من اليمن قبل ارتداد طرفه إليه، و بحديث فاطمة مع امها و هي في بطنها،و بإعراس السماء بمناسبة زواجها من علي(ع)،و بحديث الملك معها حتى كتب علي(ع)عنه «مصحف فاطمة».

و بأن الملائكة كانت تناديها كما تنادى مريم ابنة عمران، فتقول:يا فاطمة ان الله اصطفاك و طهرك الخ..فسميت«محدّثة لأجل ذلك» (1).

و لا غرو ان يتجسد لنا هذا الغيب في ان فاطمة نور،و بأنها حوراء إنسية قد خلقت من ثمر الجنة (2)،الذي يمتاز عن ثمر الدنياا.

ص: 89


1- كشف الغمة:ج 2 ص 94.و دلائل الامامة:ص 56 و راجع:علل الشرائع:ج 1 ص 182 و 183 و روضة المتقين:ج 5 ص 345.
2- راجع:علل الشرائع:ج 1 ص 183 و 184 و مصادر ذلك كثيرة جدا لا مجال لتعدادها.

بنقائه و صفائه و خلوصه و طهره،و قد زادته فاطمة صفاء على صفاء، و طهرا على طهر،بما بذلته من جهد موفق من خلال معرفتها بالله،و ما نالته من إشراف على أسرار الخلق و نواميس الحياة،ففازت بالتأييد و التسديد و اللطف الالهي،فكانت المرأة المعصومة التي يرضى الله لرضاها،و يغضب لغضبها،حتى باتت سيدة نساء العالمين من الأولين و الآخرين،الى غير ذلك من أمور دلت على أن لها(ع)ارتباطا وثيقا بالغيب،و مقاما و موقعا،و كرامة إلهية،لا تنالها عقولنا،و لا تصل إليها أفهامنا.

فيتضح مما تقدم: أنه إذا تجسد هذا الغيب برموز معينة،كأنبياء الله،و أصفيائه،و أوليائه و اصحاب كراماته،و بما لهم من مآثر و كرامات،و برموز كثيرة أخرى،فإن قلوبنا ستحتضنها و ستحتضن معها الغيب المودع فيها لتكون محور الايمان و معقد القلب لتعيش حالة السكينة و الرضا أرواحنا،و لتحنو عليها مشاعرنا،فتدغدغ أحاسيسنا، و يكون العلم بذلك كله ينفع من علمه،و الجهل به يضر من جهله بدرجة كبيرة و خطيرة.

و ليس بالضرورة أن يستتبع اختلاف مفردات تجسيد الغيب في الاشخاص كالانبياء و الأوصياء و الأولياء تفاضلا لهذا على ذاك أو بالعكس،اذ قد تكون طبيعة المرحلة،أو ظروف معينة هي التي فرضت هذه الخصوصية الغيبية هنا و تلك هناك.

أما التفاضل فله معاييره الخاصة به،التي نطق بها القرآن العظيم،و الرسول الكريم (1)،و ليس هذا منها فكل هذه الغيوبى.

ص: 90


1- فإن مقامات الأنبياء و الاوصياء درجات،بحسب درجات معرفتهم التي تستتبع مزيدا من الخلوص و الخشية،و الجهد،و القرب الى الله،و نيل درجات،و الرضا و الزلفى.

المرتبطة بالزهراء عليها السلام و بغيرها هي جزء من هذا الدين،و لها أهميتها البالغة في صياغة الشخصية الايمانية،و الانسانية،و الرسالية،بما لها من خصائص تحقق للانسان وجوده،و تخصصه،و تميزه،و تجعله على درجة عالية من الصفاء و النقاء و الطهر،كما أنها تحقق درجة من الارتباط الوجداني بأولياء الله و أصفيائه،و المزيد من الحب لهم و بهم، و التفاعل الضميري و الوجداني مع كل ما يقولون و ما يفعلون.

و قد أخبر الائمة(ع)بعض الخلّص من أصحابهم ببعض الغيوب،من أمثال ميثم التمار،و زرارة،و محمد بن مسلم،و غيرهم، فما أنفع الغيوب لمن علمها و تعلمها،و ما أروع هذه الكرامات،و ما أجلّها و أشد تأثيرها،و ما أعظم الحاجة إليها،و ما أروع القرآن العظيم، و هو يركز على كثير من المفردات التي تدخل في هذا السياق،معلنا بذلك أهميتها البالغة،في بناء الشخصية الانسانية و الايمانية و الرسالية.

الارتباط الفكري لا يكفي:

فلا يصح إذن ما يردده البعض من أن المطلوب هو مجرد الارتباط الفكري بهم(ع)من خلال معرفتنا بسياساتهم،و أنماط سلوكهم الشخصي،و بأنشطتهم الاجتماعية ليكونوا لنا أسوة و قدوة على طريقة التقليد و المحاكاة،و ليثير ذلك فينا حالة من الزهو و الاعجاب بهم كأشخاص،كإعجابنا بغيرهم من العباقرة و المفكرين، مثل أديسون أو ابن سينا.

إذ أن المطلوب هو الارتباط الفكري،و الضميري،و الوجداني الذي تشارك فيه المشاعر،و تستجيب له الاحاسيس بعفوية و انقياد،

ص: 91

و يهتز له كل كيان الانسان و عمق وجوده بطواعية و استسلام.

المطلوب هو أن يدخل هؤلاء الاصفياء الى قلوبنا ليكونوا حياة لها،و الى أرواحنا لتكون أكثر توهجا و تألقا،و الى نفوسنا لتصبح أكثر صفاء و نقاء و خلوصا.

المطلوب هو أن يكون لهم الحظ الأوفر في صياغة شخصيتنا الايمانية و ان يسهموا في صنع مشاعرنا و تكوين أحاسيسنا.

و لنستبعد نهائيا إذن مقولة: هذا علم لا ينفع من علمه،و لا يضر من جهله،فإنها مقولة مضرة بالتأكيد لا تجلب لنا الا الخسران،و البوار و الخيبة.

و لو غضضنا النظر عن ذلك كله، فإن ميزان النفع و الضرر الذي يتحدثون عنه غير واضح المعالم،فهو يختلف في حالاته و موارده،فقد يكون الحديث عن الطب غير نافع للنجار في مهنته،و الحديث عن الفلك غير نافع للحداد،أو الحائك في حرفته،أو للإداري في دائرة عمله..

لكن الامر بالنسبة لقضايا الايمان و السلوك ليس بالضرورة من هذا القبيل و ان كانت درجات المعرفة و مقتضياتها تختلف من شخص لآخر على قاعدة:أمرنا ان نحدث الناس على قدر عقولهم.

تنزه الزهراء(ع)عن الطمث و النفاس:

اشارة

يقول البعض: إن عدم رؤية السيدة الزهراء للعادة الشهرية يعتبر حالة مرضية تحتاج الى العلاج؟أو هي على الاقل حالة نقص في

ص: 92

أنوثتها و في شخصيتها كامرأة،و لا يمكن عدها من كراماتها و فضائلها،و كذا الحال بالنسبة للنفاس.

بل يصف هذا البعض القول بتنزه الزهراء عن الطمث و النفاس بأنه من السخافات.

و نقول:

أولا: قد يحدث لبعض النساء-و ان كان ذلك قليلا-أن لا ترى دما حين الولادة،أو ترى شيئا يسيرا منه،و لا يعد ذلك نقصا في أنوثتها و شخصيتها كامرأة.

و أما بالنسبة لتنزه الزهراء(ع)عن العادة الشهرية،فإننا نقول:

ان الخروج عن مضائق الطبيعة لا يعد نقصا،بل هو كرامة و فضل،ككرامة مريم عليها السلام حيث حملت بعيسى(ع)و لم يمسسها بشر،و زوجة ابراهيم(ع)أيضا قد حملت و هي عجوز، و حملت زوجة زكريا(ع)و هي عاقر.

و أمثال ذلك من الكرامات و خوارق العادات كثير..

و إن تنزّه الزهراء(ع)عن ذلك يشير الى علو مقامها،و الى خصوصية تميزها عن كل من سواها،ما دام ان المحيض من الأذى، كما قال سبحانه (1).

و حصول هذا الأذى للمرأة يجعلها في حرج و في وضع نفسي و جسدي غير طبيعي.انه اعتلال للمرأة،كما في بعض الروايات،2.

ص: 93


1- قال تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ.قُلْ:هُوَ أَذىً،فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ سورة البقرة:222.

و حالة مرضية لها-كما يذكره الاطباء في ابحاثهم حول هذا الموضوع-و هو يقعدها عن الصوم،و عن الصلاة،و يمنعها من الدخول الى المساجد،و ما الى ذلك من أمور تشير الى أن المرأة ليست في وضع يمكنها من ان تعيش الاجواء الروحية بكل حيويتها،و صفائها، و نقائها،و قوتها..

ان هذا الحدث المستمر الذي لا يرفعه وضوء و لا غسل و لا تيمم،الى ان يرتفع هو بنفسه و يزول.قد نزه الله عنه سيدة النساء التي طهرها الله من الرجس تطهيرا،إكراما لها،و حرصا على تأكيد تميزها عن كل من عداها،و تخصيصها من الله سبحانه بفضيلة و كرامة، دون أن يكون في ذلك أي تغيير في طبيعتها الانثوية،و الله تعالى هو مسبب الاسباب،و هو القادر على ان يتجاوز قانون العلية و التسبيب، لا بالخروج عنه و تحطيمه،و انما بقانون العلية نفسه،حيث إنه تعالى يوجد حتى معجزات الأنبياء،بواسطة اسباب و علل لها،استأثر بعلمه بها،في حين ان البشر لم يطلعوا عليها،و لا هي معهودة لديهم،و هذا هو معنى خرق العادة الذي يتحدثون عنه في موضوع المعجزات و الخوارق.

و لعل ذلك أظهر من ان يحتاج الى مزيد بيان،أو الى اقامة دليل أو برهان.

ثانيا: ان اعتبار القول بتنزيه الزهراء عن الحيض و النفاس من السخف غير مقبول ممن يتعبد و يعمل بأقوال النبي(ص)،بل و الأئمة (ع)لأن كل ما يقوله النبي(ص)و الأئمة الطاهرون(ع)لا يمكن ان يكون سخيفا على الاطلاق،و لا غير نافع لمن علمه.

و قد روي ذلك التنزّه من طرق الشيعة و السنة عن رسول الله

ص: 94

(ص)و عن الائمة الطاهرين في نصوص كثيرة،تخرج عن حد الاستفاضة لتصل الى حد التواتر،و هي تدل على أن الله سبحانه قد نزه الزهراء عليها السلام عن رؤية دم الحيض و النفاس.

و نذكر من هذه الروايات ما يلي:

1-عن النبي(ص):انما سميت فاطمة«البتول»لأنها تبتلت من الحيض و النفاس (1).

2-و عنه(ص):إن ابنتي فاطمة حوراء لم تحض،و لم تطمث (2).

3-و روى الصدوق بسنده عن عمر بن علي(ع)عن أبيه علي(ع):أن النبي(ص)سئل ما البتول؟!فإنا سمعناك يا رسول الله تقول:إن مريم بتول،و فاطمة بتول؟

قال:البتول التي لن(لم)تر حمرة قط-أي لم تحض-فإن الحيض مكروه في بنات الأنبياء (3).

ص: 95


1- ينابيع المودة:ص 260 و إحقاق الحق(الملحقات):ج 10 ص 25 عنه و عن مودة القربى:ص 103.
2- ذخائر العقبى ص 26 و شرح بهجة المحافل ج 2 ص 138.و راجع:عوالم العلوم: ج 11 ص 54 و في هامشه عن:تاريخ بغداد:ج 12 ص 331 و عن كنز العمال:ج 12 ص 109 ح 3426 و عن مصادر كثيرة أخرى،و إسعاف الراغبين و مطبوع بهامش نور الابصار:ص 173.
3- معاني الاخبار:ص 64 و مناقب آل أبي طالب:ج 3 ص 330 عن أبي صالح المؤذن في الاربعين و تاج المواليد:ص 20 و كشف الغمة:ج 2 ص 90 و البحار ج 43 ص 15/16 راجع:ج 78 ص 112 عنهما،و ينابيع المودة:ص 260 و مستدرك الوسائل:ج 2 ص 37.و علل الشرائع:ج 1 ص 181 و عن مصباح الانوار:ص 223 و مصباح الكفعمي:ص 659 و روضة الواعظين:ص 149 و دلائل الامامة:ص 55 و الروضة الفيحاء في تواريخ النساء:ص 252 و حبيب السير:ج 1 ص 433 و ضياء العالمين«مخطوط»:ج 2 ق 3 ص 7 و إحقاق الحق: ج 10 ص 25 و 310 و ج 19 ص 11 عن مصادر أخرى و العوالم:ج 1 ص 641 و راجع:إعلام الورى:ص 148.

4-و روى القطان،عن السكري،عن الجوهري،عن العباس بن بكار،عن عبد الله بن المثنى،عن عمه ثمامة بن عبد الله،عن أنس بن مالك،عن أمه،قالت ما رأت فاطمة دما في حيض،و لا في نفاس (1).

5-و روي عن أبي جعفر عن آبائه(ع):أنها عليها السلام إنما سميت«الطاهرة»لعدة أمور،و منها:«و ما رأت قط يوما حمرة و لا نفاسا» (2).

6-الصادق عليه السلام:تدرى أي شيء تفسير فاطمة؟! قال:فطمت من الشر،و يقال:إنما سميت فاطمة لأنها فطمت من الطمث (3).

7-و قال(ص)لعائشة:يا حميراء،إن فاطمة ليست كنساء الآدميين،لا تعتلّ كما تعتلّنّ و في لفظ آخر:كما يعتللن (4).

8-و عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام:حرم الله النساء7.

ص: 96


1- الامالي للصدوق:ص 154 و البحار:ج 43 ص 21 و راجع:العوالم:ج 11 ص 153 و في هامشه عن العديد من المصادر.
2- البحار:ج 43 ص 19 عن مصباح الانوار و عوالم العلوم:ج 11 ص 66.
3- و دلائل الامامة:ص 55 و الروضة الفيحاء في تواريخ النساء:ص 252 و حبيب السير:ج 1 ص 433 و ضياء العالمين«مخطوط»:ج 2 ق 3 ص 7 و إحقاق الحق: ج 10 ص 25 و 310 و ج 19 ص 11 عن مصادر أخرى و العوالم:ج 1 ص 641 و راجع:إعلام الورى:ص 148.
4- المصدران السابقان و مجمع الزوائد:ج 9 ص 202 عن الطبراني و إعلام الورى: ص 148 و مرآة العقول:ج 5 ص 345 و الطرائف:ص 111 و العوالم(قسم حياة الزهراء):ص 64 و ضياء العالمين«مخطوط»:ج 2 ق 3 ص 7.

على علي(ع)ما دامت فاطمة حية،لأنها طاهرة لا تحيض (1).

و لصاحب البحار شيخ الإسلام العلامة المجلسي الثاني كلام جيد يتعلق بهذا الأمر فليراجع..ثمة.

9-عن عائشة قالت:إذا أقبلت فاطمة كانت مشيتها مشية رسول الله(ص)،و كانت لا تحيض قط،لأنها خلقت من تفاحة الجنة (2).

10-و في دلائل الإمامة بأسناده عن أسماء بنت عميس، قالت:قال لي رسول الله،و قد كنت شهدت فاطمة،و قد ولدت بعض ولدها فلم نر لها دما،فقلت:يا رسول الله(ص):ان فاطمة ولدت و لم نر لها دما؟

فقال رسول الله(ص):يا أسماء،إن فاطمة خلقت حورية إنسية (3).

11-و عن علي عليه السلام:قال رسول الله(ص)إن فاطمةة.

ص: 97


1- راجع:مقتل الحسين للخوارزمي:ج 1 ص 64 و مناقب آل أبي طالب:ج 3 ص 330 و البحار:ج 43 ص 16 و 153 عنه و عن أمالي الطوسي:ج 1 ص 42 و مستدرك الوسائل:ج 2 ص 42.و راجع:التهذيب:ج 7 ص 475 و بشارة المصطفى:ص 306 و راجع:عوالم العلوم ج 11 ص 66 و 387،و ضياء العالمين«مخطوط»:ج 2 ق 3 ص 7..
2- أخبار الدول:ص 87 ط بغداد على ما في إحقاق الحق(الملحقات):ج 10 ص 244.و راجع:عوالم العلوم:ج 11 ص 60.
3- دلائل الامامة:ص 53 و 55 و البحار:ج 78 ص 112 و راجع:ج 43 ص 7 عن كشف الغمة.

خلقت حورية في صورة أنسية،و إن بنات الأنبياء لا يحضن (1).

12-و في رواية عن أبي جعفر:«فسماها فاطمة،ثم قال:إني فطمتك بالعلم،و فطمتك عن الطمث»،ثم قال أبو جعفر عليه السلام:و الله،لقد فطمها الله تبارك و تعالى بالعلم،و عن الطمث بالميثاق (2).

و قد وصف المجلسي الأول هذا الخبر بالقوي (3).

13-و روى الصدوق رحمه الله عن أبيه،عن سعد،عن ابن عيسى،عن علي بن الحكم عن أبي جميلة،عن أبي جعفر عليه السلام،قال:إن بنات الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم لا يطمثن إنما الطمث عقوبة الخ.. (4).

14-و عن أبي عبد الله(ع)قال:إن بنات الأنبياء لا يحضن (5).

15-قال السيوطي:«من خصائص فاطمة(ع)أنها كانت لا7.

ص: 98


1- دلائل الامامة:ص 52،و البحار ج 78 ص 112 و مستدرك الوسائل:ج 2 ص 37.
2- البحار:ج 43 ص 13 عن مصباح الانوار و كشف الغمة:ج 2 ص 89.و علل الشرائع:ص 179 و عوالم العلوم:ج 11 ص 55 و في هامشه عن المصادر التالية:الكافي:ج 1 ص 46 و المحتضر:ص 132 و 138 و المختصر:ص 172 و 218 و غير ذلك.
3- روضة المتقين:ج 5 ص 349.
4- علل الشرائع:ج 1 ص 290 ح 1 و البحار:ج 43 ص 25 و ج 12 ص 107 و ج 81 ص 81.و عوالم العلوم:ج 11 ص 153 و مستدرك الوسائل:ج 2 ص 38.
5- الخرائج و الجرائح:ج 2 ص 527.

تحيض» (1).

16-و قال الصبان:«سميت الزهراء أي الطاهرة،فإنها لم تر لها دما في حيض و لا في ولادة» (2).

17-و روي في حديث عن النبي صلى الله عليه و آله قال:

و سميت فاطمة بتولا،لأنها تبتلت و تقطعت عما هو معتاد العورات في كل شهر الخ.. (3).

18-عن اسماء بنت عميس،قالت:قبلت فاطمة عليها السلام،فلم أر لها دما،فقلت:يا رسول الله،إني لم أر لفاطمة دما في حيض و لا نفاس.

فقال لها رسول الله(ص):أ ما علمت أن ابنتي طاهرة مطهرة لا يرى لها دم في طمث،و لا في ولادة (4).

19-و قال في عمدة الاخبار:مولد الحسن بن علي عليه السلام في منتصف رمضان،و علقت أمه بالحسين عليه السلام عقب الولادة بالحسن عليه السلام؛لأن فاطمة عليها السلام لا ترى طمثا7.

ص: 99


1- إحقاق الحق(الملحقات):ج 10 ص 309 عن الشرف المؤبد للسيوطي و راجع: عوالم العلوم:ج 11 ص 63.
2- راجع:إسعاف الراغبين(مطبوع بهامش نور الابصار):ص 172،و نسب ذلك الى المحب الطبري،و الى صاحب الفتاوى الظهيرية الحنفي.
3- إحقاق الحق:ج 10 ص 25 عن المناقب المرتضوية:ص 78 و عوالم العلوم: ج 11 ص 64.
4- راجع:العوالم(حياة الزهراء):ص 66 و 153 عن صحيفة الرضا(ع)و ذخائر العقبى:ص 44 و إتحاف السائل:ص 90 و تاريخ الخميس:ج 1 ص 417 و نزهة المجالس:ج 2 ص 183،و ضياء العالمين«مخطوط»:ج 2 ق 3 ص 7.

و لا نفاسا (1).

20-و عن ابن عباس قال:قال رسول الله(ص):إن ابنتي فاطمة حوراء،إذ لم تحض،و لم تطمث.

قال المحب الطبري:الطمث،الحيض،و كرّر لاختلاف اللفظ (2).

21-و في الصحيح:عن علي بن جعفر،عن أخيه أبي الحسن عليه السلام،قال:ان فاطمة صديقة شهيدة،و إن بنات الأنبياء لا يطمثن (3).

22-عن أنس بن مالك،عن أم سليم زوجة أبي طلحة الأنصاري:أنها قالت:لم تر فاطمة(ع)دما قط في حيض و لا نفاس، و كانت من ماء الجنة،و ذلك ان رسول الله(ص)لما أسري به دخل الجنة،و أكل من فاكهة الجنة،و شرب من ماء الجنة«رواه أيضا عن النبي» (4).

23-و قد روي عنهم عليهم السلام:أن سبيل أمهات الأئمة عليهم السلام سبيل فاطمة عليها السلام في ارتفاع الحيض عنهنّ إلخ.. (5).ن.

ص: 100


1- العوالم(حياة الزهراء):ص 66 عن عمدة الاخبار:ص 349.
2- ذخائر العقبى:ص 26 عن النسائي.و فرائد السمطين:ج 2 ص 48 و راجع تاريخ بغداد:ج 12 ص 331.
3- روضة المتقين)ج 5 ص 342 و الكافي:ج 1 ص 458.
4- إعلام الورى:ص 148.
5- تاج المواليد للطبرسي ص 20 مطبوع ضمن مجموعة رسائل نفيسة،انتشارات بصيرتي-قم-ايران.

24-و عن النبي(ص)-مرسلا-أنه قال:إن فاطمة ليست كإحداكنّ،إنها لا ترى دما في حيض و لا نفاس،كالحورية (1).

تأويل النصوص:

و حين تواجه البعض،هذه النصوص الكثيرة في أمر كهذا، فيقع في حيرة من أمره،حيث لا مجال له لردها،لأنها متواترة أو تكاد،فإنه يقول لك:إن اللازم هو تأويل هذه النصوص،تماما كما هو الحال بالنسبة للنصوص الدالة على الرجعة،أو غيرها..

و نقول:

انه لا مجال للتأويل،لا في هذه النصوص و لا في تلك،بل علينا-إذا لم نستطع فهمها-ان نرد علمها الى الله،كما قاله الخواجوئي المازندراني؛و هو يتحدث عن موضوع الرجعة،و إليك عبارته:

«و ليس ينبغي ان يعجب من ذلك،فالامور المجهولة العلل لا يعجب منها.أ لا يرى إلى قول سيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه -و قد سبق-:هذا علم يسع الناس جهله،ورد علمه الى الله؟!

على ان بعضه كفوز الأولياء بثواب النصرة و المعونة،و بهجتهم بظهور الدولة و السلطنة،و كالانتقام من الاعداء،و نيل بعض ما يستحقونه من العقاب و العذاب في الدنيا،إلى غير ذلك،مذكور في

ص: 101


1- رواه الصّدوق في كتاب الفقيه باب غسل الحيض من كتاب الطهارة.

الاخبار الخ..» (1).

نعم لا مجال للتأويل،و ذلك لما يلي:

1-ان النص اذا تضمن أمرا توقيفيا،لا مسرح للعقل فيه،و لا يخالف الثوابت العقلية و لا الدينية،فلا بد من قبوله.

2-اذا لم نفهم نحن هذا النص،و لم نستطع إدراك الحكمة فيه،فليس لنا أن نردّه،و ليس لنا أن نأوله،اذ قد يأتي زمان تترقى فيه قوانا الفكرية،و عقولنا،و يزيد فيه علمنا،و نعرف الحكمة فيه.و قد تمر عشرات السنين بل المئات ليقطع البشر شوطا بعيدا في التقدم الفكري و العلمي ليمكن لنا أن تتحقق من السرّ أو من الحكمة،أو من المعنى الدقيق لبعض النصوص.

و نحن إنما فهمنا العديد من معاني آيات القرآن الكريم، كالآيات الكونية و سواها في هذا القرن العشرين،و في خصوص هذين العقدين الأخيرين و ما لم نفهمه أكثر.

3-إن تأويل النص انما يتم في صورة ما لو جاء مخالفا في ظاهره البدوي لما يحكم به العقل،أو مخالفا للثوابت و المسلمات الشرعية و غيرها؛شرط ان يكون هذا التأويل مقبولا و معقولا و ممكنا.

4-إذا كان النص الوارد غير قابل للتأويل المقبول عند أهل اللسان.و كان نصا صريحا مخالفا للمسلمات،العقلية و الشرعية، و مخالفا لصريح القرآن،فلا بد حينئذ من رفضه،و رده،و ضربه على الجدار،للعلم حينئذ بأن المعصوم لم يقله،و لم يتفوه به.5.

ص: 102


1- الرسائل الاعتقادية:ص 115.

و هكذا يتضح: أن الاستناد الى الاستبعادات و الاستحسانات في أمور ترتبط بالغيب،و ما لا طريق لنا الى الاطلاع عليه،و كذا عدم القدرة على تعقل او فهم بعض الامور،الواردة في النصوص،لا يبرر رفض النص،و لا يلزمنا بتأويله،و ذلك واضح و ظاهر (1).هم

ص: 103


1- الرجعة المثال الآخر: و يشبه ما نحن فيه،ما يقوله البعض عن موضوع الرجعة أيضا و ذلك لأن من الواضح ان هناك أمورا تثبت بالاجماع أو بالدليل العقلي،و هما دليلان لبّيان و لا مجال للتأويل في الدليل اللبي،كما ذكره السيد المرتضى(قدس سره)ردا على من قال بلزوم تأويل أحاديث الرجعة برجوع الدولة،و الامر و النهي،حيث قال ما لفظه: «إن قوما من الشيعة لما عجزوا عن نصرة الرجعة،و بيان جوازها و أنها تنافي التكليف عولوا على هذا التأويل للاخبار الواردة بالرجعة. و هذا منهم غير صحيح،لأن الرجعة لم تثبت بظواهر الاخبار المنقولة، فيطرق التأويلات عليها،فكيف يثبت ما هو مقطوع على صحته بأخبار الآحاد التي لا توجب العلم؟ و إنما المعول في إثبات الرجعة على إجماع الامامية على معناها،بأن الله تعالى يحيي أمواتا عند قيام القائم(ع)،من أوليائه و أعدائه على ما بينّاه، فكيف يطرق التأويل على ما هو معلوم»رسائل الشريف المرتضى ج 1 ص 126. فالسيد المرتضى رحمه الله يقول إذن: 1-ان الرجعة ثابتة بإجماع الامامية. 2-ان الاجماع دليل لبي،و الدليل اللبي غير قابل للتأويل،لأنه ليس من النصوص ليمكن تأويله. 3-ان الذين خالفوا،إنما خالفوا بعد القطع بتحقق اجماع الامامية على هذا الامر،فلا تضر مخالفتهم بالاجماع،بل هو يحتج عليهم به،و يلزمهم بموافقته،و باعتماده. 4-ان الرجعة ليست من المدركات العقلية،ليحتكم فيها الى العقل،أو لكي يسأل العقل عنها،بل هي أمر غيبي لا يعرف إلا بالنقل أو الاجماع الكاشف عن إبلاغ المعصوم لهذا الامر للناس،و إجماع المجمعين-كما يقول السيد المرتضى-قد كشف لنا عن معرفتهم بهذا الامر التوقيفي،الذي أخذوه عن المعصومين(ع). و إذا كانت الرجعة ثابتة بالأخبار المتواترة،فإن ما ذكرناه من عدم جواز الالتجاء الى تأويل أخبارها،إلا إذا صادمت الحكم العقلي الفطري،و هي لا تصادمه،قطعا،غاية ما هناك عجز بعضهم عن إدراك مغزاها،و ذلك لا يبرر تأويل أخبارها كما قلنا. ان هذا الذي ذكرناه جار هنا و لا مجال لإنكاره. و للتدليل على ما ذكرناه من ثبوت الرجعة بالدليل القطعي،نذكر هنا كلام بعض الاعلام. فنقول: قال ابن البراج في كتابه جواهر الفقه ص 250،و هو يعدد العقائد الجعفرية: يرجع نبينا و أئمتنا المعصومون في زمان المهدي مع جماعة من الامم السابقة و اللاحقة،لاظهار دولتهم و حقهم،و به قطعت المتواترات من الروايات و الآيات. و يقول السيد عبد الله شبّر في كتابه حق اليقين ص 2 و 3: اعلم ان ثبوت الرجعة مما اجتمعت عليه الشيعة الحقة و الفرقة المحقة،بل هي من ضروريات مذهبهم،و قال العلامة المجلسي رحمه الله:أجمعت الشيعة على ثبوت الرجعة في جميع الاعصار و اشتهرت بينهم كالشمس في رابعة النهار حتى نظموها في أشعارهم و احتجوا بها على المخالفين في جميع أمصارهم و شنع المخالفون عليهم في ذلك و أثبتوه في كتبهم و أسفارهم منهم الرازي و النيشابوري و غيرهما.و كيف يشك مؤمن بحقية الأئمة الاطهار فيما تواتر عنهم في قريب من مائتي حديث صريح رواها نيف و أربعون من الثقات العظام و العلماء الاعلام في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم كثقة الاسلام الكليني و الصدوق محمد بن بابويه و الشيخ أبي جعفر الطوسي و السيد المرتضى و النجاشي و الكشي و العياشي و علي ابن ابراهيم و سليم الهلالي و الشيخ المفيد و الكراجكي و النعماني و الصفار و سعد بن عبد الله و ابن قولويه و علي بن عبد الحميد و السيد علي بن طاوس و ولده صاحب كتاب زوائد الفوائد و محمد بن علي بن ابراهيم و فرات بن ابراهيم و مؤلف كتاب التنزيل و التحريف و أبي الفضل الطبرسي و أبي طالب الطبرسي و ابراهيم بن محمد الثقفي و محمد بن العباس بن مروان و البرقي و ابن شهر اشوب و الحسن بن سليمان و القطب الراوندي و العلامة الحلي و السيد بهاء الدين علي بن عبد الكريم و أحمد بن داود بن سعيد و الحسن بن علي بن أبي حمزة و الفضل بن شاذان و الشيخ الشهيد محمد بن مكي و الحسين بن حمدان و الحسن بن محمد بن جمهور و الحسن بن محبوب و جعفر بن محمد بن مالك الكوفي و طهر بن عبد الله و شاذان بن جبرئيل و صاحب كتاب الفضائل و مؤلف الكتاب العتيق و مؤلف كتاب الخطب و غيرهم من مؤلفي الكتب التي عندنا و لم نعرف مؤلفه على التعيين. و إذا لم يكن مثل هذا متواترا ففي أي شيء دعوى التواتر مع ما روته كافة الشيعة خلفا عن سلف و ظني ان من يشك في أمثالها فهو شاك في أئمة الدين و لا يمكنه إظهار ذلك من بين المؤمنين فيحتال في تخريب الملة القويمة بإلقاء ما يتسارع إليه عقول المستضعفين من استبعادات المتفلسفين و تشكيكات الملحدين يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللّٰهِ بِأَفْوٰاهِهِمْ وَ اللّٰهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكٰافِرُونَ و قد صنّف جماعة من القدماء كتبا في حقية الرجعة فمنهم أحمد بن داود بن سعيد الجرجاني قال الشيخ في الفهرست له كتاب المتعة و الرجعة و منهم الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني و عدّ النجاشي من جملة كتبه كتاب الرجعة.و منهم الفضل بن شاذان النيشابوري ذكر الشيخ في الفهرست و النجاشي ان له كتابا في إثبات الرجعة و منهم الصدوق محمد بن علي ابن بابويه فإنه عدّ النجاشي من كتبه كتاب الرجعة.و منهم محمد بن مسعود النجاشي ذكر النجاشي و الشيخ في الفهرست كتابه في الرجعة.و منهم الحسن بن سليمان و ستأتي الرواية عنه. (أقول)و لذا تضافرت الاخبار عن الائمة الاطهار(ع):ليس منا من لم يؤمن برجعتنا ففي الفقيه عن الصادق(ع)قال:ليس منّا من لم يؤمن بكرتنا و يستحل متعتنا. و الرجعة عبارة عن حشر قوم عند قيام القائم ممن تقدم موتهم من أوليائه و شيعته ليفوزوا بثواب نصرته و معونته و يبتهجوا بظهور دولته و قوم من أعدائه لينتقم منهم و ينالوا بعض ما يستحقونه من العذاب و القتل على أيدي شيعته و ليبتلوا بالذل و الخزي بما يشاهدون من علو كلمته و هي عندنا تختص بمن محض الايمان و محض الكفر و الباقون مسكوت عنهم كما وردت به النصوص الكثيرة و يدل على ثبوتها مضافا الى الاجماع بل ضرورة المذهب، الكتاب و السنة.

ص: 104

ص: 105

هل الزهراء(ع)أول مؤلفة في الاسلام؟

قد يقال:ان الزهراء(عليها السلام)هي أول مؤلفة في الاسلام،اذ قد دلت الروايات على أنه قد كان لها مصحف،عرف باسم«مصحف الزهراء»،فإن هذه التسمية تدل على ما ذكرناه،لأننا اذا قلنا:«مصحف الزهراء»فذلك يعني أن لها دورا في تأليف و كتابة هذا المصحف.

و بعبارة أخرى: «ان نسبة الكتاب الى فاطمة(ع)يدل على انها صاحبة الكتاب،كما ان نسبة الكتاب الى علي(ع)في ما ورد عن الائمة(ع)عن كتاب علي يتبادر منه ان صاحبه علي(ع).

و خلاصة ذلك: انه لا مانع من القول:إنها أول مؤلفة في الاسلام».

ص: 106

و نقول في الجواب:

ان نسبة المصحف الى الزهراء،و قولهم:«مصحف فاطمة»لا يعني بالضرورة أنها هي التي ألّفته و كتبته،فأنت تقول:هذا كتاب فلان،اذا كان له نوع ارتباط به و لو من حيث ملكيته له،و تقول:هذه ساعة فلان،و قميص فلان،و بيت فلان،و لا يعني ذلك انه هو الذي صنع الساعة،أو بنى،أو ملك البيت،أو حتى خاط القميص،فضلا عن أن يكون قد نسجه،أو ما الى ذلك.

و في الرواية: مسجد المرأة بيتها،و يقال:لا تخرج المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها،مع ان لها مجرد السكن في البيت.

و لأجل ذلك يقال أيضا: زبور آل داوود،و توراة موسى،و انجيل عيسى،و يقال أيضا:مصحف عثمان.و يقال كذلك:صحف ابراهيم و موسى،و دعاء كميل و عهد الأشتر.

قال الله تعالى: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى .

فهل هذا يعني ان هذه الصحف كانت من تأليفهما عليهما السلام؟!أو أنهما كتباها بيديهما؟!

و قد ذكر هذا القائل نفسه روايات تدل على: أن مصحف فاطمة قد كتب في زمن الرسول،و بعد وفاته بخط علي،و إملاء الملك او النبي،فما معنى قوله بعد ذكره لتلك الروايات:و خلاصة ذلك:أنه لا مانع من القول:إنها أول مؤلفة في الاسلام؟.

فالمصحف اذن قد كتب لأجلها و بسببها،و هي التي ستستفيد منه،و ملكيته أيضا تعود إليها،و فيه وصيتها،فهذا كله يكفي في

ص: 107

صحة نسبة المصحف إليها(عليها السلام)،و لا حاجة الى أن تكون قد شاركت في كتابته و تأليفه.

هذا بالاضافة الى عدم توفر ما يثبت مشاركتها في كتابته من وجهة نظر تاريخية،أو روائية،مع عدم وجود ضرورة تحتم اثبات ذلك،كما لا وجه للاصرار على استيحائه من نسبته إليها،أو غير ذلك.

و أما الاعتذار عن ذلك بأن المقصود هو إبراز صورة للمرأة المسلمة تنال إعجاب الآخرين بها.

فهو غير وجيه و لا مقبول،إذ هو يتضمن الايحاء بأمر لا واقعية له..هذا بالاضافة الى أن سيرة الزهراء(ع)و طهرها،و علمها الذي أثبتته الروايات المتضافرة و المتواترة و لا سيما خطبتها في المسجد و غير ذلك يغني عن التشبث بأمر و همي لا حقيقة له،فلا حاجة الى ايهام الناس بأنها عليها السلام كانت مؤلفة أو غير مؤلفة.

هل في مصحف فاطمة(ع)أحكام شرعية؟

يزعم البعض:أن مصحف فاطمة يحوي أحكاما شرعية،و هو يستند في ذلك الى رواية عن الامام الصادق عليه السلام،تقول:

«و عندي الجفر الابيض،قال:قلت:فأي شيء فيه؟!قال:زبور داود،و توراة موسى،و إنجيل عيسى،و صحف ابراهيم عليهم السلام، و الحلال و الحرام،و مصحف فاطمة،ما أزعم ان فيه قرآنا،و فيه ما يحتاج الناس إلينا،و لا نحتاج الى أحد،حتى فيه الجلدة و نصف

ص: 108

الجلدة،و ربع الجلدة،و أرش الخدش» (1).

و نقول:

أولا: ان قوله:«و فيه ما يحتاج الناس إلينا»ليس معطوفا على قوله:«ما أزعم ان فيه قرآنا»،ليكون بيانا لما يحتويه المصحف،و إنما هو معطوف على قوله:زبور داود،و توراة موسى الخ..أي ان في الجفر الابيض:زبور داود،و توراة موسى،و مصحف فاطمة،و فيه الحلال و الحرام،و فيه ما يحتاج الناس إلينا.

و ثمة رواية أخرى عن عنبسة بن مصعب ذكرت:ان في الجفر سلاح رسول الله،و الكتب،و مصحف فاطمة (2).

ثانيا: لقد روى الكليني عن:عدة من أصحابنا،عن أحمد بن محمد،عن عمر بن عبد العزيز،عن حماد بن عثمان،عن الامام الصادق عليه السلام،حديثا ذكر فيه أنه كان ملك بعد وفاة النبي يحدث الزهراء،و يسلي غمّها؛فشكت ذلك الى أمير المؤمنين،فقال لها:اذا أحسست بذلك،و سمعت الصوت قولي لي،فأعلمته ذلك، و جعل أمير المؤمنين(ع)يكتب كل ما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفا،ثم قال:

«أما إنه ليس فيه شيء من الحلال و الحرام،و لكن فيه علم ما يكون» (3).

ص: 109


1- الكافي:ج 1 ص 240 و البحار:ج 26 ص 37 باب 1 حديث 68 و بصائر الدرجات:ص 150.
2- بصائر الدرجات:ص 154 و 156.و البحار:ج 26 ص 45 و 42 و ج 47 ص 271.
3- الكافي:ج 1 ص 240 و بصائر الدرجات:ص 157،و بحار الانوار:ج 26 ص 44،و ج 43 ص 80 و ج 22 ص 45 باب 2،حديث 62 و عوالم العلوم: ج 11 القسم الخاص بالزهراء.

و قد ناقش البعض في هذا الحديث،فقال: «ان المفروض في الملك انه جاء يحدثها،و يسلي غمّها،ليدخل عليها السرور،فكيف تشكو ذلك الى أمير المؤمنين؟مما يدل على أنها كانت متضايقة من ذلك.

كما ان الظاهر منه ان الامام عليه السلام لا يعلم به،و أن المسألة كانت سماع صوت الملك،لا رؤيته».انتهى.

و نقول:

ليس ثمة مشكلة من حيث رؤية الملك أو سماع صوته فقط، و لا في أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يعلم ذلك أو لا يعلم.

و ليس هذا هو محط النظر،و إن كان اثباته في غاية السهولة، لكن لا دور له في اثبات مصحف فاطمة أو نفيه،و لا في كونها أول مؤلفة في الاسلام أو عدمه؛فلا داعي لطرح الكلام بهذه الكيفية.

و أما تضايقها عليها السلام فلم يكن من حديث الملك معها، بل كان لأجل ان الملك كان يذكر لها أيضا ما سيجري على ذريتها؛ ففي كتاب المحتضر:أن فاطمة(ع)لما توفي أبوها(ص)قالت لأمير المؤمنين(ع):إني لأسمع من يحدثني بأشياء و وقائع تكون في ذريتي، قال:فإذا سمعتيه فأمليه عليّ،فصارت تمليه عليه،و هو يكتب.و روي أنه بقدر القرآن ثلاث مرات،ليس فيه شيء من القرآن.

فلما كمّله سماه«مصحف فاطمة»لأنها كانت محدثةء.

ص: 110

تحدثها الملائكة» (1).

بل ان هذا المستشكل نفسه يذكر بعد كلامه السابق مباشرة رواية ابي عبيدة و فيها:«و كان جبرائيل يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها،و يطيب نفسها،و يخبرها عن أبيها و مكانه،و يخبرها بما يكون بعدها في ذريتها،و كان(ع)يكتب ذلك،فهذا مصحف فاطمة (2)».

و قد وصف المجلسي الأول هذه الرواية بأنها صحيحة (3).

فحكم البعض على هذه الرواية بالضعف موضع نظر و تأمل،إذ أن الظاهر ان المراد بابي عبيدة هو أبو عبيدة الحذاء أي زياد بن ابي رجاء،و هو ثقة،و لا ندري السبب في استظهار البعض:انه المدائني!! مع اننا لم نجد لابن رئاب رواية عن المدائني هذا،و لم يرو عن المدائني سوى رواية واحدة فيما يظهر.و لعلها من الاشتباه في النسبة من قبل الرواة.

فاذا اطلق ابو عبيدة فالمقصود هو الحذاء،لا سيما مع تعدد رواية ابن رئاب عنه،و مع عدم وجود شيء ذي بال يرويه عن المدائني (4).

و الملفت للنظر أيضا: ان هذا البعض قد علق على هذا الحديث3.

ص: 111


1- عوالم العلوم:ج 11 ص 583(مسند فاطمة)عن المحتضر:ص 132.
2- الكافي:ج 1 ص 240 و241 و 457 و 458.و البحار:ج 22 ص 545 و راجع المناقب لابن شهرآشوب:ج 3 ص 337 ط المطبعة العلمية-قم-ايران.
3- روضة المتّقين:ج 5 ص 342 و مرآة العقول ج 3 ص 59 و ج 5 ص 314.
4- و لا بأس بمراجعة معجم رجال الحديث:ج 21 ص 236/233.

بأنه«ظاهر في اختصاص العلم بما يكون في ذريتها فقط،بينما الرواية الأخرى تتحدث عن الأعم من ذلك،حتى إنها تتحدث عن ظهور الزنادقة في سنة ثمان و عشرين و مائة،و هو ما قرأه الامام(ع)في مصحف فاطمة».انتهى.

و نقول:

غاية ما هناك: أن الرواية قد أثبتت أن جبرائيل(ع)قد حدث فاطمة بما يكون في ذريتها،و ليس فيها ما يدل على نفي وجود إخبارات غيبية أخرى فيه.

و من الواضح: أن اثبات شيء لا ينفي ما عداه.

و ليس في الرواية أيضا ما يدلّ على أنها في مقام نفي وجود علوم و أمور أخرى في المصحف،لكنها أرادت ان تنبه على شيء جعل فاطمة عليها السلام تهتم له،و تذكره لعلي،لكونه يتعلق بما سيجري على ذريتها.

ثالثا: هناك حديث حبيب الخثعمي،الذي يذكر:أن المنصور كتب الى محمد بن خالد:ان يسأل أهل المدينة عن مسألة في الزكاة، و منهم الامام الصادق عليه السلام؛فأجاب الامام عليه السلام،عن السؤال،فقال له عبد الله بن الحسن:من أين اخذت هذا؟

قال:قرأت في كتاب أمك فاطمة (1).

و قد علق هذا البعض على هذا الحديث بقوله:

«ظاهر هذا الحديث ان كتاب فاطمة-و هو مصحف7.

ص: 112


1- البحار:ج 47 ص 227 باب:7 حديث:17.

فاطمة-يشتمل على الحلال و الحرام».

و نقول:

أولا: إن هذا الحديث ضعيف السند.

ثانيا: إن التعبير ب:«كتاب فاطمة»قد ورد أيضا في رواية فضيل بن سكرة،عن الامام الصادق(عليه السلام) (1)و ليس بالضرورة أن يكون المقصود به«مصحف فاطمة»الذي هو موضع البحث،فضلا عن الجزم بذلك،ثم إرساله إرسال المسلمات،إذ قد كان لفاطمة عليها السلام كتب أخرى غير المصحف.

1-فقد روى الكليني في الكافي عن:علي،عن أبيه،عن ابن أبي عمير،عن اسحاق بن عبد العزيز،عن زرارة،عن أبي عبد الله عليه السلام،قال:

جاءت فاطمة تشكو الى رسول الله صلى الله عليه و آله بعض أمرها؛فأعطاها رسول الله صلى الله عليه و آله كربة (2)و قال تعلمي ما فيها،و اذا فيها:

«من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره،و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر،فليكرم ضيفه،و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر،فليقل خيرا او ليسكت (3).ه.

ص: 113


1- الكافي:ج 1 ص 242.
2- كرب النخل:أصول السعف،أمثال الكتف.
3- عوالم العلوم:ج 11(الجزء الخاص بالزهراء(ع):ص 187 و الكافي:ج 2 ص 667 ح 6 و راجع:ص 285 ح 1.و البحار:ج 43 ص 51 ح 52، و الوسائل:ج 8 ص 487 ح 3 و في الجنة الواقية:ص 508 قطعة منه.

2-و روى في دلائل الامامة بسنده عن ابن مسعود،قال:جاء رجل الى فاطمة عليها السلام.

فقال:يا ابنة رسول الله،هل ترك رسول الله عندك شيئا تطرفينيه؟

فقالت:يا جارية،هات تلك الحريرة،فطلبتها،فلم تجدها.

فقالت:ويحك اطلبيها،فإنها تعدل عندي حسنا و حسينا.

فطلبتها؛فإذا هي قد قممتها في قمامتها،فإذا فيها:

قال محمد النبي(ص):ليس من المؤمنين،من لم يأمن جاره بوائقه،و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذي جاره،و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرا أو يسكت.

إن الله يحب الخيّر الحليم المتعفف،و يبغض الفاحش الضنين السأّل الملحف.

إن الحياء من الايمان،و الايمان في الجنة،و ان الفحش من البذاء، و البذاء في النار (1).

و هذه الرواية أيضا و سابقتها أيضا لا تدل على انها(ع)هي التي كتبت و ألّفت.بل في الرواية الاولى دلالة على عكس ذلك، لأنها ذكرت:انه(صلى اللّه عليه و آله و سلم)أعطاها«كربة»مكتوبةظ.

ص: 114


1- دلائل الامامة:ص 1 و عوالم العلوم:ج 11 ص 188 و 620 و 621.(الجزء الخاص بالزهراء(ع).و في هامشه عن مسند فاطمة(ع):ص 113. و راجع مستدرك الوسائل:ج 18 و سفينة البحار:ج 1 ص 229 و 231 و المعجم الكبير للطبراني:ج 22 ص 413 مع اختلاف في اللفظ.

من عنده،و قال:تعلمي ما فيها.

3-و روى الصدوق بسنده الى أبي نضرة،عن جابر،رواية مفادها:انه دخل على فاطمة عليها السلام ليهنئها بمولودها الحسين (ع)،فإذا بيدها صحيفة (1)بيضاء،درة،فسألها عنها،فأخبرته:أن فيها أسماء الأئمة من ولدها،و انها قد نهيت عن ان تمكن أحدا من أن يمسها إلا نبي،أو وصي،أو أهل بيت نبي،و لكنه مأذون أن ينظر الى باطنها من ظاهرها،فنظر إليها،و قرأ..ثم ذكر ما قرأه (2).

لا تعارض في أحاديث مصحف فاطمة(ع):

اشارة

ثم إن هذا البعض قد ادّعى:

ان الاحاديث حول مصحف فاطمة عليها السلام متعارضة..؟ لأن بعضها يذكر أنه من املاء رسول الله و كتابة علي عليه السلام (3)، و البعض الآخر يذكر انه كان ملك يأتيها بعد وفاة أبيها يحدثها،و كان علي عليه السلام يكتب ذلك،فكان مصحف فاطمة (4).

ص: 115


1- عبرت بعض النصوص الواردة في المصادر التي في الهامش باللوح.
2- عيون أخبار الرضا:ج 1 ص 40 و 44 و 46.و الاختصاص ص 210 و الامالي للطوسي ج 1 ص 297 و الخصال ج 2 ص 478/477 و كمال الدين ص 305-313.
3- راجع:بصائر الدرجات:ص 153 و 155 و 161 و البحار:ج 46 ص 41 و 42 و 47 و 48،49 و 271.
4- الكافي:ج 1 ص 41 و 240،و 457 و 458.بصائر الدرجات:ص 157 و 153،159 و الخرائج و الجرائح:ج 2 ص 526.و بحار الانوار:ج 26 ص 41 و 240 و ج 43 ص 79 و 80 و ج 22 ص 545 و 546.و راجع:ج 47 ص 65.و في هامش الخرائج و الجرائح عن مصادره كثيرة جدا،فليراجعها من أراد.و عوالم العلوم:«القسم الخاص بالزهراء(ع)»ج 11 ص 583 و 447 عن المحتضر:ص 132 و ضياء العالمين«مخطوط»:ج 2 ق 3 ص 38 و 39.

و نقول في الجواب:

ان معنى التعارض في الروايات هو أن تكون الروايات متكاذبة في ظاهرها؛تثبت هذه شيئا و تلك تنفيه،أو العكس،فإذا لم يمكن الجمع بينها،فلا بد من الطرح لهما،أو لإحداهما،اذا وجد مرجح للآخر..

و الاحاديث التي تحدثت عن مصحف فاطمة ليست كذلك، حيث يمكن الجمع بينها،إذ قد يكون هذا الكتاب«المصحف»-سمي بذلك لأنه صحف مجتمع بعضها الى بعض-قد كان قسم منه بإملاء رسول الله(ص)و كتابة علي(ع)،و القسم الآخر من إملاء الملك لفاطمة و كتابة علي(ع).و قد كتب بعد وفاة رسول الله(ص)، حيث كان ذلك الملك يأتيها فيسليها.و في هذا المصحف وصية فاطمة(ع)أيضا،فراجع (1).

و خلاصة الامر:

انه قد يتعلق الغرض ببيان أن الرسول كان قد تصدى لاملاء قسم مما في الكتاب،ليثبت بذلك أنه مقبول و ممضى منه(ص)؛إيذانا بصحة ما في المصحف،و بعظيم أهميته و مزيد شرفه.

أما الحديث الذي يتضمن:أن جبرائيل(ع)هو الذي كان يسلّي فاطمة(ع)،فلا يعارض الحديث الذي يقول:إن ملكا كان1.

ص: 116


1- بصائر الدرجات:ص 157 و 158 و البحار:ج 26 ص 43 و الكافي:ج 1 ص 241.

يسليها و يحدثها.

اذ قد يكون هذا الملك هو نفس جبرائيل (1)،على أن المجلسي قد وصف هذا الحديث بالصحيح (2)فراجع.

تصوير التعارض بنحو آخر:

و ذكر البعض نحوا آخر للتعارض بين روايات مصحف فاطمة، فقال:

«إن هناك روايتين تقولان:إنه بخط علي(ع)عما يحدثه الملك للزهراء(ع)،و لكن الروايات الأخرى لا تدل على ذلك،و هي المشتملة على الحلال و الحرام،و وصية فاطمة،فلا بد من الترجيح بينها».انتهى.

و نقول:

قد ذكرنا فيما سبق بعض ما يتعلق بكلامه هذا،و نزيد هنا:أن قوله الأخير:«فلا بد من الترجيح بينها»معناه أنها أخبار متعارضة،و لا يمكن الأخذ بها كلها،فلا بد من طرح البعض منها،و الأخذ بالبعض الآخر وفقا للمرجحات.

ص: 117


1- البحار:ج 43 ص 79 و ج 26 ص 41،بصائر الدرجات:ص 153 و الكافي: ج 1 ص 241.و الخرائج و الجرائح:ج 2 ص 526.و في هامشه عن مصادر كثيرة جدا و ضياء العالمين«مخطوط»:ج 2 ق 3 ص 38.
2- راجع:روضة المتقين:ج 5 ص 342.و مرآة العقول:ج 3 ص 59.و جلاء العيون:ج 1 ص 183.

و هذا كلام غير مقبول:

أولا: لأن وجود روايتين تصرحان بأنه بخط علي(ع)لا يعني أن الرواية الاخرى الساكتة عن ذلك تنفي هذا الامر،بل هي لم تتعرض له؛لأنها بصدد بيان جهات أخرى،لم يكن معها داع أو ملزم لذكر الكاتب او المملي.

و إذا كان هناك روايتان تصرحان بأن عليا عليه السلام هو كاتب المصحف،فهل هناك و لو رواية واحدة تصرح بأن فاطمة عليها السلام هي التي كتبته و ألّفته؟!

فلما ذا الجزم بكون مصحف فاطمة انما كتب بخط يدها،مع كونه مخالفا لما دل على كونه كتب بخط علي عليه السلام.

ثانيا: لم نعرف كيف تعارضت الروايات التي ذكر بعضها:أن كاتب المصحف هو علي(ع)،و ذكر بعضها الآخر:أن هذا الذي كتبه علي(ع)فيه الحلال و الحرام،ثم ذكرت روايات أخرى:أن في هذا«المصحف وصية فاطمة»!!.

فهل عدم ذكر الطائفتين الأخيرتين لكون عليّ(ع)هو الكاتب يوجب ان تصبح هاتان الروايتان معارضتين لروايات كتابة علي(ع) للمصحف؟!.فأين التعارض؟و اين التنافي؟!

ثالثا: إننا حين راجعنا الروايات وجدنا:أن رواية حماد بن عثمان قد ذكرت ان مصحف فاطمة ليس فيه شيء من الحلال و الحرام،ثم راجعنا رواية الحسين بن ابي العلاء،فوجدنا ان الضمير في قوله:و فيه ما يحتاج الناس إلينا،لا يعود الى مصحف فاطمة،بل يعود الى الجفر.و نتيجة ذلك كون الحلال و الحرام في الجفر لا في

ص: 118

المصحف،و راجعنا رواية الخثعمي،فوجدناها تتحدث عن كتاب فاطمة،لا عن مصحف فاطمة.

و قد تقدم إنه قد كان لها عليها السلام مكتوبات اخرى غير المصحف.

و إن ما ذكرناه حول اختلاف الأغراض من ذكر الخصوصيات يشبه في بعض وجوهه نقل وقائع ما جرى على الزهراء عليها السلام، فنجد أن بعضهم ينقل التهديد بالاحراق..

و بعض آخر ينقل: جمع الحطب..

و ثالث ينقل: الاتيان بقبس من نار..

و رابع ينقل: إحراق الباب،و اشتعال النيران..

و خامس ينقل: كسر الباب،و دخول البيت..

و سادس ينقل: عصر الزهراء،بين الباب و الحائط،و إسقاط الجنين..

و سابع ينقل: لطمها على خدها،أو ضربها على يديها،أو جنبها،أو متنها،أو عضدها،حتى صار كالدملج..

و ثامن ينقل: كسر ضلعها..

و تاسع ينقل: أن عمر قد ضربها..

و عاشر ينقل: ضرب المغيرة أيضا لها..

و حادي عشر ينقل: ضرب قنفذ لها بأمر من عمر..

و ثاني عشر ينقل: ضرب خالد بن الوليد لها.

ص: 119

و لا تكاذب بين هذه الروايات،بل ان كل واحد ينقل شطرا مما جرى،اما لتعلق غرضه به،او لأنه هو الذي ثبت لديه،أو مراعاة لظرف سياسي،او غيره،و لا غرابة في ذلك.

على أن الاختلاف في جزئيات النقل لا يضر بأصل ثبوت الحادث،بل هو يؤكده،إذا كان الكثيرون لا يتحققون من الجزئيات، فضرب فاطمة ثابت،و اختلاف الرواة إنما هو في شخصية الضارب مع احتمال أن يكون الجميع قد اشتركوا في هذا الأمر الفظيع و الشنيع و اختلطت الأمور في زحمة المعركة و هيجانها.

و هكذا الحال بالنسبة لمصحف فاطمة صلوات الله و سلامه عليها..

مع فارق واحد،هو ان السبب في التنوع في نقل ما جرى عليها هو في الاكثر الميول السياسية،و المذهبية أو غيرها..أما بالنسبة لمصحف فاطمة،فالسبب فيه هو القصد الى بيان حيثية ترتبط بمقام الزهراء(ع)،أو بأهمية المصحف المنسوب إليها،و صحة ما فيه،أو ما هو قريب من هذا و ذاك..

و لكننا لم نستطع: أن نقف على دوافع الإصرار على تضمين مصحف فاطمة للأحكام الشرعية،كما لم نوفق لفهم أسباب و مبررات كثير من الأمور التي ذكرت في هذا المجال و في مجالات أخرى كثيرة و متنوعة.

ص: 120

الفصل الثالث: إرهاصات و محاولات التفاف و طعن في كتاب سليم

اشارة

ص: 121

ص: 122

بداية و توطئة:

اشارة

نقرأ في هذا الفصل بعض تساؤلات،و علامات استفهام اثيرت حول مهاجمة أتباع السلطة،و هم يتابعون انجاز فصول الانقلاب على القرار الالهي،و البلاغ النبوي و انتزاع الحق من صاحبه المنصوص عليه، الذي بايعوه في يوم الغدير،و أعطوا عهدا لله على الوفاء،و عدم النكث به.

فقد أنكر البعض أو شكك بحدوث أي شيء سوى تهديدهم بإحراق بيت فاطمة عليها السلام،و ذكر أمورا عديدة عدها مبررات لموقفه هذا الذي اعتبر فيه ان هذه القضية لا تمس العقيدة،مؤكدا أن علينا أن نناقش نحن قضايانا قبل ان يناقشها الآخرون و يسقطوها.

و هذا الاسلوب من الكلام يوحي بسقوط هذه القضايا واقعا، و كأنه يقول:فلنسقطها نحن إذن،قبل ان يسقطها الآخرون.

و نحن نذكر في هذا الفصل،ما يشير الى عدم سلامة هذه المقولة،و نتحدث عن جانب من هذه التساؤلات و الاستبعادات المبتنية على استحسانات و اعتبارات و ترجيحات لا يصح الاعتماد عليها، لأنها-إن لم تكن تبرّعيّة-قد لاحظت بعض الجوانب،و أهملت

ص: 123

جوانب أخرى هي الأجدر بالملاحظة،لأنها هي الموافقة لأسس دراسة المواضيع الحساسة كالذي نحن بصدده،كما سنرى..

نقاط البحث:

و ما سنورده في هذا الفصل من كلام هذا البعض ما يمكن تلخيصه في النقاط التالية:

1-إن علينا أن نناقش نحن قضايانا قبل ان يناقشها الآخرون و يسقطوها.

2-مدى واقعية قول البعض:إنه قد ناقش كل العلماء فلم يقنعوه!.

3-هل إنكار ضرب الزهراء يعني تبرئة الظالمين.

4-إن ضرب الزهراء لا يرتبط بالعقيدة،فلما ذا الاهتمام له؟.

5-إن العمدة في هذا الموضوع الخطير هو كتاب سليم بن قيس،و هو غير معتمد لا في هذا الموضوع و لا في غيره.

و كأن هذا البعض تخيّل:أنه إذا شكك في كتاب سليم،و أبعده عن ساحة البحث العلمي،فإنه يكون قد ارتاح من القسم الأهم من النصوص التي تحرجه بسبب ما تتضمنه من اتهام القوم بجرائم لا يمكن الدفاع عنها،أو توجيهها.

و سنرى:أن التشكيكات التي ذكرت حول هذا الكتاب الجليل،و التي بدأها ابن الغضائري-و هو معروف بكثرة طعونه

ص: 124

و تشكيكاته-غير قابلة للاعتماد،و لا تصلح أن يكون إليها الاستناد.

هذا الى جانب توضيحات مختلفة اقتضاها تنوع الحديث، و فرضتها ضرورة البيان الوافي،و الصريح و الكافي.فالى ما يلي من مطالب،و من الله نطلب العون و السداد،و الفلاح و الرشاد.

فلنسقط نحن قضايانا،قبل أن يسقطها الآخرون؟!

ما زلنا نسمع البعض يقول:

«لا بد ان نناقش نحن قضايانا بطريقتنا الخاصة،و ان لم نفعل ذلك فسيناقشها الآخرون و يسقطونها».

و معنى ذلك: اننا اذا ناقشنا بعض المسائل،فليس من مبرر للتشهير بنا،لا سيما و أن القضية ليست من أصول الدين،و نحن نعتبر غصب الخلافة أكبر من كل جريمة،لأنها تتعلق بالواقع الاسلامي كله.

علما بأن ما قلناه حول قضية الزهراء(ع)،لم يكن انطلاقا من إحساسنا بضرورة الوحدة الاسلامية..

و نحن لا زلنا على استعداد لمناقشة كل من يرغب في ذلك في بيتنا،فليتفضل و ليناقشنا في كل شيء.

و الجواب:

أولا: إن ما جرى على الزهراء عليها السلام،من بلايا ليس بعيدا عن غصب الخلافة،لأن ما جرى عليها،إنما جاء في نطاق آلية

ص: 125

غصب الخلافة،و ليس هو أمرا منفصلا عنها.

و إذا كان غصب الخلافة جريمة كبرى-على حد تعبير هذا البعض-فإن الأسلوب الذي تم فيه سوف يزيدها فظاعة و بشاعة.

إذن فلتكن معرفة ما فعلوه بالزهراء عليها السلام من أجل الحصول على الخلافة دليلا قاطعا على واقع ممارساتهم و طبيعة الظروف التي احاطت باغتصاب هذا الامر الهام جدا،الذي يتعلق بالواقع الاسلامي كله..

و ثانيا: لم نعرف الملازمة بين عدم تعرضنا لمناقشة قضايانا و بين إسقاطها من قبل الآخرين،فهل هي بهذه الدرجة من الضعف و الهشاشة؟!

أم يعقل أن يكون هذا السائل يريد أن يقول:إن علينا نحن أن نسقط قضايانا قبل ان يسقطها الآخرون كما تقدم؟!

و ثالثا: إن هذا البعض-و في أحاديث أخرى له-يقول:إنه يطرح تساؤلات،و لا يريد أن يناقش القضية،و لا يريد أن يبحث عن أجوبتها،بل هو يطلب من الآخرين أن يجيبوا عنها،و هو لا يثبت و لا ينفي،فمن لا يثبت و لا ينفي هل يعتبر في جملة من يناقشون القضايا بطريقة خاصة؟!

بل هو يصرح بأنه لا يهمه البحث حول كسر ضلع الزهراء عليها السلام؛فلما ذا الإصرار إذن على اثارة التساؤلات حول هذا الامر بالذات؟!

و من الواضح:أن الذي يقتصر على طرح التساؤلات استفهاما و تعلما فقط،لا يجوز التشهير به،و لذا لم يشهّر أحد بمن فعل ذلك.

ص: 126

نعم،يصح التشهير،بل قد يكون لازما بذلك الذي يحاول طرح الموضوع بطريقة غير علمية،أي أنه يطرحه على العموم،ليثير الشبهة في نفوس الناس السذج و البسطاء الذين لا يملكون القدر الكافي من العلم و المعرفة،دون أن يقدم لهم الحل الحاسم،بل تراه يستدل بعشرات الأدلة لهم على النفي،بأسلوب:إثارة تساؤلات!!

فجاء من يريد أن ينجز محاولة إيصال الرد العلمي الى الناس، فاعتبروا ذلك تشهيرا!!

و رابعا: انه ليس من العدل أن يطلب البعض من الناس مناقشة القضايا معه في بيته خلف جدران أربعة،و يحتفظ هو لنفسه بحق الاعلان بكل ما يتوفر لديه من وسائل إعلام مرئي و مسموع و مكتوب عن كل ما يخطر على باله،أو يجول في خاطره،حتى و لو كانت مجرد تساؤلات،أو آراء تمس قضايا اسلامية أساسية أو غير اساسية، مفتخرا بكون ذلك من عادته و في الهواء الطلق.

ثم اذا أراد أحد أن يعلن عن رأيه المخالف له،حتى و لو لم يشر الى شخصه بأدنى كلمة،فانه قد يعتبر ذلك تحديا له،و خروجا على المسلمات،و تشهيرا به.ثم هو يوجه إليه مختلف التهم،و يواجهه بالحرب النفسية و بالكلمات الجارحة و غيرها،باعتبار أنه قد ارتكب الجرم العظيم،و عرّض نفسه للخطر الجسيم..

و خامسا: إن اسلوب تعامل هذا البعض مع بعض القضايا،يشير الى أن ثمة رغبة في مغازلة بعض الاطراف على الساحة الاسلامية، لسبب أو لآخر،و إلا فلما ذا الاصرار على دعوى أن المهاجمين الذين جاء بهم عمر كانوا يحبون الزهراء عليها أفضل الصلاة و السلام، و يحترمونها،ثم التفوه بأن عليا عليه السلام معارضة!!و أنه متمرد على

ص: 127

الخلافة!!و انه يراد اعتقاله لأجل ذلك،و ان طبيعة الأمور تقتضي اخضاع المتمردين،و ان المسلمين فهموا نص الغدير بطريقة أخرى و الخ...كما سنرى ذلك كله.

سادسا:صحيح ان قضية الهجوم على الزهراء،ليست من أصول الدين،لكن ذلك لا يعني أنها ليس لها مساس بالناحية العقيدية..بل هي واحدة من أهم مسائل الاسلام و الايمان لأنه تمس قضيه الامام و الإمامة بعد رسول الله(ص)،و تعطي للناس رؤية واضحة في أمر لم يزل هو المحور الاساس في الخلافات الكبرى التي وقعت في هذه الامة في قضايا الدين و العقيدة.إذن فهو حدث تاريخي سياسي،له مساس بالإمام و الامامة،و هو امر عقائدي خطير و هام جدا.

ناقشت كل العلماء:

ثم إنك ترى هذا البعض يقول:

قد ناقشت كل العلماء في ايران و غيرها حول مسألة ضرب الزهراء و غيرها..فلم يقنعوني!

و تعليقنا على هذا القول:

اننا لا ندري مدى صدقية هذا الكلام،و ذلك لما يلي:

1-اننا نشك كثيرا،بل نحن نجزم بعدم حصول هذا الامر، فإن العلماء في ايران الاسلام وحدها دون غيرها يعدون بعشرات الألوف؛فمتى تسنّى له الاجتماع بهم،فضلا عن مناقشتهم جميعا..

ص: 128

2-لما ذا لم نطلع نحن و لا غيرنا ممن يهتم لهذه القضايا و يلاحقها على هذه المناقشات،و لم يصلنا خبرها،رغم طول إقامتنا في تلك البلاد،و التي قاربت الثلاثين عاما.

بل وجدنا الكثيرين من العلماء الكبار قد انكروا عليه ما سمعوه من مقولات،و قد عبر عدد من مراجع الشيعة عن رفضهم لها مشافهة حينا،و بصورة مكتوبة حينا آخر،و هذا يدل على انه لم يناقش هؤلاء العلماء و المراجع و لم يناقشوه،و لا سمعوا بمقولاته من قبل.

3-اننا لم نعرف نتيجة هذا النقاش،فهل استطاع أن يقنع جميع العلماء في ايران،و في غيرها،أم أنهم أقنعوه؟!أم بقي كل منهم على موقفه و رأيه!!أم أن البعض قد اقتنع دون البعض الآخر!!

فلو كان قد اقنعهم جميعا لبان ذلك و ظهر،و لضجت الدنيا و عجّت بهذا الامر الخطير الذي أجمع عليه علماء الشيعة عبر العصور و الدهور.

و ان كان قد بقي الجميع على موقفه،ففي هذا إدانة لهذا القائل،حيث لم يجد و لو عالما واحدا يوافقه على ما يذهب إليه، و يحشد الأدلة و الشواهد عليه،و يعرضها كلها على جميع العلماء لإثباته لهم.و إن كان البعض قد اقتنع برأيه-فلو كان لبان-و ليدلّنا على واحد من هؤلاء العلماء المقتنعين بكلامه،ممن يحمل صفة العالمية بحق و صدق!!.

بقي احتمال-و لعله الاقرب-:أن يكون هو الذي اقتنع منهم.-كما اعلنه في بعض رسائله التي طلب هو توزيعها و نشرها- و نتوجه حينئذ بالسؤال:لما ذا تراجع الآن و عاد الى طرح الرأي المخالف،

ص: 129

ثم هو يدافع عنه بحرارة و إصرار؟!

انكار ضرب الزهراء(ع)تبرئة للظالمين:

و يقول البعض:إن نفي ضرب الزهراء،و اسقاط جنينها،و كسر ضلعها،و غير ذلك لا يعني تبرئة أحد ممن ظلموها،فما هو الحرج في ذلك؟!

و نقول:

لم نفهم مقصود هذا القائل بالتحديد،فإن نفي ضرب الزهراء (ع)،معناه الصريح هو تبرئة الآخرين من الاقدام على الضرب،و نفي اسقاط الجنين،و نفي كسر الضلع أيضا معناه تبرئتهم من ذلك،و هكذا الحال بالنسبة لإحراق البيت،و اقتحامه،و ما الى ذلك(!!).

فإن المتهم بعشر تهم اذا برىء من تسعة فهل يعني ذلك:انه لا يزال مجرما في التسعة نفسها التي ثبتت براءته منها؟!

و إذا كانوا أبرياء من ذلك كله،و لم يفعلوا شيئا إلا مجرد التهديد،الذي هو الآخر قد يقال فيه:إنه صوري،من أجل التخويف، و لا ينبغي أن يحمل على محمل الجد،خصوصا مع قولهم:ان مكانة الزهراء(ع)تمنع من الاقدام على أي شيء في حقها..

نعم..اذا كانوا كذلك،لم يبق ثمة شيء يطالبهم الناس به،بل قد يقال لنا في وقت لاحق إنهم كانوا يقومون بواجبهم الديني، و سيثيبهم الله على هذا التهديد،لأنهم أرادوا به حفظ بيضة الاسلام،

ص: 130

و لمّ شعث المسلمين،و تجنيب الامة مشاكل و خلافات خطيرة،تماما كما فسروا قول البعض للنبي(ص)في مرض موته:إن النبي(ص) ليهجر،بأنه كان هو الموقف الصحيح و الرائد،لأن النبي(ص)لو كتب الكتاب لثارت الخلافات،و انقسم المسلمون،و لأدى ذلك الى مشاكل كبيرة و خطيرة (1)،و لم يلتفتوا الى ان النبي(ص)نفسه قد قال للناس:لن تضلوا بعده.فهل غاب عن بالهم أن النبي(ص)كان يقدر الأمور أيضا بصورة صحيحة،و يعرف مسبقا نتائج ما يريد أن يقدم عليه..

أنا لا أهتم لضرب الزهراء(ع)و هو لا يرتبط

بالعقيدة:

يقول البعض: ان ضرب الزهراء،و اسقاط جنينها،و كسر ضلعها قضية تاريخية و ليست متصلة بالعقيدة.

و لهذا فهو لا يهتم لهذا الامر شخصيا،فسواء كسر ضلع الزهراء(ع)أم لم يكسر،فإن ذلك لا يقع في دائرة اهتماماته،على حد تعبيره!!.

و نقول:

اننا نلاحظ ما يلي:

1-اذا كان ذلك لا يقع في دائرة اهتمامات هذا الشخص أو

ص: 131


1- تاريخ الاسلام للذهبي:ج 284/2-286.تحقيق:حسام الدين القدسي،مطبعة المدني،القاهرة.

ذاك،فلما ذا هو يحشد الادلة و الشواهد من كل حدب و صوب على نفي هذا الامر،أو التشكيك فيه على الاقل،و لما ذا إذا ثارت العاصفة ضده يتراجع و يستعمل التقية،-كما قال-و يقول كلاما يلائم رأي الطرف الذي يوجه إليه النقد،ثم يعود لإثارة هذا الأمر من جديد بكل عنف و إصرار،و يواجه التحديات،و يثير المشكلات،بل هو يتهم الآخرين بأنواع التهم لمجرد أنهم سألوه عن رأيه في هذا الامر و علة إبدائه علنا و بهذا الشكل،و في هذا الظرف،و في هذا الزمن بالذات، فضلا عن أن يعترض عليه فيه،فيقول:انهم لا يفهمون،و بأن طريقتهم غوغائية،و بأنهم معقدون،و ينطلقون من غرائزهم و...

هذا فضلا عن اتهامه لهم بما يعتبر إهدارا لدمهم،و اغراء للناس بالاعتداء على حياتهم،و ذلك حين يجعلهم في دائرة العمالة للمخابرات الاسرائيلية أو غيرها؟!فضلا عن جعلهم في دائرة الاتهام المستمر،و خدش اعتبار شخصيتهم المعنوية بذلك.

2-لما ذا لا يهتم لما جرى على الزهراء؟و لما ذا يكون كسر ضلعها أو اسقاط جنينها سيان بالنسبة إليه.

و هل كل قضية مرت في التاريخ لا يصح أن نهتم لها؟!أو أن اللازم أن لا تقع في دائرة اهتماماتنا؟!

فلما ذا إذن اهتم الائمة و النبي(ص)قبلهم بما يجري على الزهراء(ع)،و بما يجري على الامام الحسين(ع)و صحبه في كربلاء؟!

و لما ذا يهتم هو نفسه بالتذكير بحدث جرى قبل سنوات يحتمل ان يكون له نوع ارتباط به و يعتبره من الشؤون و القضايا

ص: 132

الاسلامية الكبرى،ثم لا يهتم بغيره من نظائره كمجزرة مكة، و اسقاط الاميركيين للطائرة الايرانية بركابها الثلاثمائة الأبرياء.

و كذلك لا يهتم بما ربما يعد أخطر قضية مفصلية في تاريخ هذا الاسلام العزيز،و له ارتباط مباشر و عضوي في مساره العام على جميع الصعد و في مختلف المجالات ألا و هو ضرب الزهراء،أو كسر ظلعها.

3-إن الذين ارتكبوا ما ارتكبوه بحق الزهراء عليها السلام قد تصدوا لأخطر مقام بعد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم،و هو مقام الامامة و الخلافة،و قد قال الشهرستاني:

«و أعظم خلاف بين الأمة خلاف الامامة إذ ما سلّ سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثلما سلّ على الامامة في كل زمان (1)».

و يقول الخضري:ان هذه المسألة (2)كانت«سببا لأكثر الحوادث التي أصابت المسلمين،و أوجدت ما سيرد عليكم من أنواع الشقاق،و الحروب المتواصلة،التي قلما يخلو منها زمن،سواء كان بين بيتين،أو بين شخصين (3)».7.

ص: 133


1- الملل و النحل:ج 1 ص 24.
2- أي ان ترك مسألة الخلافة و الاستخلاف من غير حل محدد ترضاه الامة،و تدفع عنه،كان هو السبب لأكثر الحوادث التي أشار إليها. و قد قلنا-تعليقا على كلامه هذا: إذن،كيف جاز للنبي(ص)أن يترك الامة هكذا هملا،ثم لا يضع حلا لأعظم مشكلة تواجهها،و تسلّ عليها السيوف،و تزهق لاجلها الارواح.مع ان شريعته كاملة و شاملة.و قد بين فيها كل ما تحتاجه الامة،حتى أرش الخدش؟! ان الحقيقة هي انه(ص)قد بين ذلك،و حدده.و لكن الآخرين لم يقبلوا منه ذلك،و ردّوا أمر الله سبحانه،فإنا لله،و إنا إليه راجعون..
3- محاضرات في التاريخ الاسلامي:ج 1 ص 167.

و من الواضح: أن معرفة هؤلاء الذين أبعدوا أهل البيت عن مقاماتهم،و أزالوهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها و ظهور امرهم و وضوح مدى جرأتهم على الله سبحانه،و على رسوله أمر ضروري و مطلوب لكل مسلم،لأن ذلك يمس أخطر قضية في تاريخ الاسلام.

و بعبارة أوضح: إن لوازم الحدث هي التي ترتبط بالعقيدة،و ان لم يكن ذات الحدث يرتبط بها،فمثلا حينما نقرأ في القرآن عن زوجة لوط عليه السلام:أنها قد وشت بضيوف زوجها لقومها،الذين يسعون الى ارتكاب الفاحشة مع الرجال.

قد نتعجب،و نقول: هل يليق بالقرآن أن يؤرخ لقوم لوط في خصوص هذه الخصلة السيئة و الدنيئة؟!.

و هل يمكن لأحد أن يقول:

انني لا أهتم شخصيا بهذا الامر التافه المذكور في القرآن؟!

أم أننا نفهم القضية بطريقة أخرى،فنقول:لو كان الله سبحانه يريد أن«يؤرخ»لقوم لوط،لكان أرخ لسائر الشعوب كالفينيقيين و الكلدان و الآشوريين،و الرومان،و الساسانيين،و غيرهم،و لكنا رأيناه يتحدث عن كثير من سياساتهم و شئونهم و ما مرّ بهم من أحداث كبيرة و خطيرة.و لكن ذلك لم يكن،فاقتصاره على خصوص هذا الامر بالنسبة لخصوص قوم لوط يدلنا على أنه سبحانه و تعالى قد أراد لنا أن نستفيد من لوازم الحدث أمورا قد يكون لها مساس بالعقيدة،أو بالشريعة،أو بالمفاهيم الاخلاقية و الحياتية في أكثر من مجال؟!

إننا لا شك سوف نتجه هذا الاتجاه الثاني،و نبحث عن كل تلك اللوازم،و الحيثيات و المعاني التي أراد لنا القرآن أن نعيشها،و أن

ص: 134

نلتفت إليها في ما حكاه لنا عن امرأة لوط و قومها،لنستفيد منها المزيد من المعرفة و الوعي،و المزيد من الايمان،و المزيد من الطهر و الصفاء.

و نجد في هذه القضية أكثر من معنى حياتي هام جدا،لا بد لنا من الاطلاع عليه،و تثقيف انفسنا به،و يكفي أن نشير الى ما تحمله هذه القصة-بعد الالفات الى بشاعة فعلهم ذاك-من تحدّ قوي،من قبل المرأة،و الزوجة،التي لم تكن تملك قدرات علمية،و فكرية بمستوى،تتحدى رجلا،نبيا،يملك كل القدرات و الطاقات، و خصوصا قدرة التحدي في مجال الاقناع،و في أمر يملك الدافع لمقاومته من خلال الدين،و العقيدة و القداسة و الاخلاق،و العنفوان الانساني؛حيث كان التحدي له في ضيوفه(ع)،و فيما يمس الشرف، و الكرامة و الدين،و الاخلاق،و الرسالة...

خلفيات صرحت بها الكلمات:

و قضية الزهراء أيضا، و ما جرى عليها بعد رسول الله(ص) سيكون حدثا تاريخيا مفيدا جدا من حيث دلالاته الالتزامية،اذ فرق بين أن يقال لك:إن الذين اغتصبوا الخلافة قد ضربوا الزهراء(ع)فور وفاة أبيها الى درجة أنهم اسقطوا جنينها،و كسروا ضلعها الشريف، الى غير ذلك مما هو معروف،و بين أن يقال لك كما يقول البعض:

إنهم ما زادوا على التهديد بإحراق بيتها.

ثم يقال لك: انهم كانوا يحترمونها،و يجلونها،أو على الاقل يخشون من الاساءة إليها بسبب موقعها و احترام الناس لها،الامر الذي يعنى ان تهديدهم لها صوري لا حقيقة له،ثم يتسع المجال لمن

ص: 135

يريد أن يقول لك بعدها:إنهم في أمر الخلافة،قد اجتهدوا فأخطئوا.

ثم هو يقول لك مرة أخرى،لكي يمهد لإقناعك بأنهم مأجورون على غصب الخلافة:

«ان النبي(ص)نص على عليّ عليه السلام،لكن الصحابة قد فهموا ذلك بطريقة أخرى».

أي أن القضية لم تكن عدوانا،و لا هي غصب حق معلوم، و انما كانت مجرد سوء فهم لكلام الرسول(ص)،و لم يكن سوء الفهم هذا منحصرا بالمعتدين،و الغاصبين،بل الصحابة كلهم قد فهموا نفس ما فهمه الغاصبون حيث يقال لك في مورد آخر:ان النبي (ص)قد نص على عليّ عليه السلام يوم الغدير،لكن طبيعة الكلام الذي قاله النبي تجعل الناس في شك.

إذن،هم يريدون منك أن تقول«ألف»لكي تقول«باء»،ثم ينتزعون منك«التاء»و هكذا الى«الياء»..

العقبة الكؤود:

و أعظم عقبة تواجه هؤلاء هي ضرب الزهراء(ع)،و اسقاط جنينها،و احراق بيتها،و اقتحامه بالعنف و القسوة البالغة،دون ما مبرر مقبول أو معقول.و لو أن عليا هو الذي كان قد واجه القوم لأمكن ان تحل العقدة،باتهامه بأنه هو المعتدي على المهاجمين(!!).

و يزيد الامر تعقيدا ما قاله النبي(ص)في حق فاطمة عليها السلام،و كون هذه الامور قد حصلت فور وفاته صلى الله عليه و آله،

ص: 136

و في بيت الزهراء بالذات،و بطريقة لا يمكن الدفاع عنها أو توجيهها.

فإن ما فعلوه مخالف للشرع و الدين من جهة،و مخالف للاخلاق الانسانية و للوفاء لهذا النبي الذي أخرجهم من الظلمات الى النور،و كانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها من جهة أخرى.

ثم هو يصادم المشاعر النبيلة و العواطف و الاحاسيس الانسانية، و هو يصادم الوجدان،و الضمير أيضا،و كل الاعراف و كل السجايا و حتى العادات،من جهة ثالثة.

و يراد لمرتكب هذه الأمور العظيمة أن يجعل اماما للأمة،و في موقع رسول الله(ص)،و أن يؤتمن على الدين،و على الانسان،و على الاخلاق،و القيم،و على أموال الناس،و أعراضهم و أن يوفر لهم الأمن و الكرامة و العزّة،و أن يربي الناس على الفضيلة و الدين و الأخلاق.

فإذا كان نفس هذا الشخص يرتكب ما يدل على أنه غير مؤهّل لذلك كله،لأن ما صدر منه قد لامس كل ذلك بصورة سلبية صريحة؛فإن ذلك يعني ان معرفة هذه العظائم تصبح ضرورية لكل الناس الذين يجدون لهذا الشخص أثرا في كل الواقع الفكري، و السياسي و المذهبي الذي يعيشونه،و له دور حساس في كل مفاهيمهم و في كل واقعهم الديني،و الايماني،بل و حتى على مستوى المشاعر و الاحاسيس.

إذن،فإن ما صدر عن هذا الشخص ليس أمورا شخصية تعنيه هو دوننا،إذ أن ما ارتكبه لم يكن مجرد نزوة عارضة،أو شهوة جامحة،بل هو يعبر عن روحيته،و عن نظرته لتعاليم الدين،و عن قيمة رسول الله(ص)في نفسه،و عن قسوته و عن حقيقة مشاعره

ص: 137

الانسانية،و أحاسيسه البشرية،و عن أخلاقياته،و عن قيمه،و ليست القضية هي انه اجتهد فأخطأ فله أجر،أو أصاب فله أجران (1)،كما رواه لنا اتباع مدرسة الخلفاء،و أخذناه عنهم،و صرنا نردده من دون تثبت،ثم إنهم بنفس هذه القاعدة(!!)برروا لنا قتال عائشة و معاوية لعلي عليه السلام،و ثبت لهما الاجر الواحد بقتاله،و بقتل عشرات الالوف من المؤمنين و المسلمين.

بل قد ادّعوا:أن عبد الرحمن بن ملجم قد اجتهد فأخطأ في قتل علي،فهو مأجور أجرا واحدا على جريمته (2)و أبو الغادية قاتل عمار بن ياسر أيضا قد اجتهد فأخطأ،فهو مأجور أجرا واحدا على قتل عمار (3).

فقضية الزهراء إذن اساسية في حياتنا الفكرية و الايمانية،و لها ارتباط بأمر اساسي في هذا الدين،فلا ينبغي الاستهانة بها،أو التقليل من أهميتها.

اجتهد فأخطأ؟!:

و بعد،فإن أول من طرح مقولة الاجتهاد،و الخطأ في الاجتهاد، لتبرير جرائم ارتكبها الآخرون هو-فيما نعلم-الخليفة الأول،حينما طالبه الخليفة الثاني بإصرار بمعاقبة خالد بن الوليد لقتله الصحابي

ص: 138


1- هذه الرواية رويت من غير طرق الشيعة في الاكثر..
2- المحلى:ج 10 ص 484.و الجوهر النقي:(مطبوع بهامش سنن البيهقي)،ج 8 ص 58 عن الطبري في التهذيب.
3- الفصل:ج 4 ص 161.

المعروف مالك بن نويرة،حينما امتنع عن الاعتراف بشرعية الحكم الجديد،و أصر على الالتزام بالوفاء للخليفة الذي أقصي عن موقعه،ثم نزا على امرأة ذلك القتيل في الليلة التي قتله فيها بالذات،فإن أبا بكر أطلق في هذه المناسبة بالذات كلمته المعروفة:«تأول فأخطأ»أو «اجتهد فأخطأ» (1).

ثم جاء من روى حديثا يجعل لمن أصاب في اجتهاده أجرين، و للمخطئ أجرا واحدا،كما رواه عمرو بن العاص،و أبو هريرة، و عمر بن الخطاب (2).

و كانت هذه المقولة بمثابة«الاكسير»الذي يحول التراب الى ذهب،بل هي أعظم من الاكسير،فقد بررت أفظع الجرائم و أبشعها، حتى جريمة قتل الابرياء في الجمل،و صفين،و قتل علي بن أبي طالب، و عمار بن ياسر كما قدمنا،ثم بررت جريمة لعن علي(ع)على ألوف المنابر ألف شهر،ثم جريمة قتل الحسين(ع)و ذبح أطفاله،و سبي عقائل بيت الوحي و سوقهن من بلد الى بلد..الى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه و استقصائه..

و من أجل تتميم الفائدة و تعميمها،فقد منح جيل من الناس9.

ص: 139


1- وفيات الاعيان:ج 6 ص 15 و المختصر في أخبار البشر:ج 1 ص 158 و روضة المناظر،لمحمد بن الشحنة(مطبوع بهامش الكامل في التاريخ):ج 7 ص 167 و الكامل في التاريخ:ج 3 ص 49 و شرح نهج البلاغة للمعتزلي:ج 1 ض 179،و تاريخ الطبري ط ليدن:ج 4 ص 1410.
2- راجع:مسند أحمد ج 4 ص 198 و 204 و راجع:ص 205 و راجع:ج 2 ص 187 و راجع:صحيح البخاري ج 4 ص 171،و صحيح مسلم:ط دار احياء التراث العربي،ج 3 ص 1342 و سنن أبي داود:ج 3 ص 299 و الجامع الصحيح للترمذي:ج 3 ص 615 و المحلى:ج 1 ص 70/69.

بأكمله و سام الاجتهاد (1)،الذي يبرر له كل أخطائه،مع ان فيهم مرتكب الزنا،و شرب الخمر،و القتل،و السرقة،و غير ذلك فضلا عن الخروج على امام زمانه،ثم فيهم العالم و الجاهل الى درجة أنه لا يحسن ان يتوضأ،أو أن يطلّق امرأته.

بل لقد قالوا:إن ما فعلوه كان بالاجتهاد و العمل به واجب، و لا تفسيق بواجب (2).

بل قال البعض:يجوز للصحابة العمل بالرأي في موضع النص، و هذا من الامور الخاصة بهم دون غيرهم (3).

الى أمور و مقولات كثيرة تحدثنا عنها في كتابنا«الصحيح من سيرة النبي(ص)»في الجزء الاول منه،فراجع..

العمدة هو كتاب سليم و هو غير معتمد:

اشارة

هناك من لا يرضيه الاستشهاد بما جاء في كتاب سليم بن قيس من أحاديث تذكر ما جرى على الزهراء،و يقول:جئني بغير ما روي في هذا الكتاب؟.

ص: 140


1- راجع:التراتيب الادارية:ج 2 ص 366/364.
2- راجع:فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت:ج 2 ص 158 و 156 و سلم الوصول:(مطبوع مع نهاية السول)ج 3 ص 176 و 177 و السنة قبل التدوين: هامش ص 396 و 404 و 405. و حول ثبوت الاجر للمشتركين في الفتنة،راجع:اختصار علوم الحديث (الباعث الحثيث):ص 182.و ارشاد الفحول:69.
3- أصول السرخسي:ج 2 ص 134 و 135.ثم ناقش هذه المقولة وردها.

فما هو السر يا ترى في هذا الموقف من سليم و من كتابه؟!

بل هو يقول: «ان كتاب سليم بن قيس-الذي هو العمدة في الموضوع على حد زعمه-ليس بمعتمد في صيغته بشهادة الشيخ المفيد و غيره،مع أن فيه خلطا لا يخفى على أحد».

و نقول:

أولا:ليس كتاب سليم هو العمدة في نقل ما جرى على الزهراء(ع)في الجملة.بل مضافا الى ما جاء في كتاب سليم هناك روايات كثيرة بل متواترة عن المعصومين(ع)،و نصوص تاريخية متضافرة اوردها المؤرخون في كتبهم على اختلاف مذاهبهم،و سنذكر في هذا الكتاب طائفة كبيرة من ذلك ان شاء الله تعالى.

ثانيا:كتاب سليم يعد من أوائل ما ألفه قدماء الاصحاب،و هو يعبر عن اصول و ثوابت المذهب بصورة عامة،و قد تلقاه العلماء بالقبول و الرضا،و لا نجد فيه أي أثر لهذا الخلط المزعوم،و لم يقدّم لنا مدّعيه أي مورد يصلح شاهدا على مدعاه،حيث لم يظهر لنا من هذا الخلط سوى دعواه ذلك.

و لعل عدم رضا البعض بما فيه ينشأ عن انه لا ينسجم هو شخصيا مع كثير مما ورد فيه،بل هو يناقض بعض طروحاته،و نحن لا نرى أي مبرر لاستثناء كتاب سليم من ثقافتنا التاريخية و الاعتقادية، بل ان قدمته،و اتصال مؤلفه بعلي أمير المؤمنين عليه السلام،و بعدد من الائمة بعده يرجّحه على كثير مما عداه من كتب ألفت بعده بعشرات السنين.

و في محاولة منا لتقريب الصورة،بحيث تصبح أكثر وضوحا

ص: 141

و دقة و تعبيرا عن حقيقة هذا الكتاب و مدى اعتباره،و مبررات التشكيك،فيه.

نقول:

كتاب سليم معتمد:

ان ما ذكره هذا البعض لا يمكن قبوله،و ذلك لما يلي:

أولا: ان مجرد التشكيك في كتاب لا يكفي لتبرير رفض ما فيه،ما لم يصرح بمبررات تشكيكه،و يقدم الشواهد و الدلائل الموجبة للتشكيك في نسبة الكتاب،أو تثبت وجود تخليط أو دس فيه،أو تدل على أنه كتاب موضوع،أو غير ذلك،و من دون ذلك،فلا يلتفت الى دعوى الشك هذه،و ذلك بديهي و واضح لكل أحد.

ثانيا: إننا إذا رجعنا الى كتاب سليم بن قيس،فلا نجد فيه الاّ ما هو سليم و موافق للمذهب،و ليس فيه ما يحتمل أن يكون غلوا في شأن الائمة حتى على زعم من يرى ذكر بعض هذه المعجزات غلوّا و مع هذا فانك ترى في الكافي و غيره من كتب الشيعة أضعاف ما ورد في كتاب سليم و لا طريق لنا إلى رده.

و قد روي عن الامام الباقر(ع)،و هو يتحدث عن أصحابه،أنه قال:

«إن أسوأهم عندي حالا،و أمقتهم إليّ الذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا،و يروى عنا فلم يعقله،و لم يقبله قلبه اشمأز منه،و جحده، و كفر بمن دان به،و هو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج،و إلينا

ص: 142

أسند،فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا» (1).

و قال عليه السلام:

«لا تكذبوا بحديث أتاكم أحد،فإنكم لا تدرون لعله من الحق؛فتكذبوا الله فوق عرشه» (2).

ثالثا: ان كلمات العلماء عن كتاب سليم تدل على أنه من الاصول المتقنة التي هي في غاية الاعتبار.

و فيما يلي شطر من أقوالهم هذه:

قال النعماني في كتاب الغيبة (3)بعد ما أورد من كتاب سليم أخبارا كثيرة،ما هذا لفظه:

«كتابه أصل من الاصول (4)التي رواها أهل العلم،و حملة حديث أهل البيت عليهم السلام و أقدمها؛لأن جميع ما اشتمل عليه هذا الكتاب (5)إنما هو عن رسول الله صلى الله عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السلام،و المقداد،و سلمان الفارسي،و أبي ذر،و من جرى مجراهم ممن شهد رسول الله،و أمير المؤمنين عليهما السلام،و سمع منهما.ل.

ص: 143


1- البحار:ج 2 ص 186،حديث 12 و الكافي:ج 2 ص 223 حديث 7.
2- البحار:ج 2 ص 186.و راجع:ص 187 و 188.و راجع:المحاسن:ص /230 231.
3- راجع:غيبة النعماني:ص 101 و 102-باختلاف يسير-تحت عنوان:ما روي في أن الائمة اثنا عشر إماما و راجع أيضا،الذريعة:ج 2 ص 152.
4- في الاصل:من أكبر كتب الاصول.
5- في المصدر:هذا الاصل.

و هو من الاصول التي ترجع الشيعة إليها،و تعول عليها.

انتهى» (1).

أما العلامة المتبحر الشيخ الطهراني فهو يقول:«روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال:من لم يكن عنده من شيعتنا و محبينا كتاب سليم بن قيس الهلالي فليس عنده من أمرنا شيء،و لا يعلم من أسبابنا شيئا،و هو أبجد الشيعة،و هو سر من أسرار آل محمد صلى الله عليه و آله» (2).

و قال:«عن مختصر البصائر:أنه قرأ أبان بن أبي عياش كتاب سليم على سيدنا علي بن الحسين عليه السلام،بحضور جماعة من أعيان أصحابه،منهم أبو الطفيل؛فأقرّه عليه زين العابدين عليه السلام، و قال:هذه أحاديثنا صحيحة (3)».

و ذكر الكشي عرض الحديث المذكور آنفا على الباقر عليه السلام-بعد أبيه السجاد-و انه اغرورقت عيناه،و قال:صدق سليم، و قد أتى أبي بعد قتل جدي الحسين،و أنا قاعد عنده فحدثه بهذا الحديث بعينه،فقال أبي:صدق.و قد حدثني أبي و عمي الحسن بهذا الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام (4)».

و قد أشار الى هذا الكتاب أيضا أحمد بن حنبل في7.

ص: 144


1- البحار:ج 30،ص 133 و 135.
2- الذريعة:ج 2،ص 152.
3- الذريعة:ج 2،ص 153.
4- الذريعة:ج 2 ص 153 ط مؤسسة اسماعيليان.و راجع:اختيار معرفة الرجال: ص 104 و 105.الحديث رقم 167.

مسنده (1).

و قال عنه ابن النديم:هو أول كتاب ظهر للشيعة (2)و مراده:

أنه أول كتاب ظهر فيه أمر الشيعة (3).

و قال بدر الدين السبكي:«أول كتاب صنف للشيعة هو كتاب سليم» (4).

و نقل عن كتاب سليم كثير من قدماء الاصحاب،مثل:ثقة الاسلام في الكافي،و رئيس المحدثين الشيخ الصدوق في الخصال، و فرات في تفسيره،و من لا يحضره الفقيه،و عيون المعجزات، و الاحتجاج،و اثبات الرجعة،و الاختصاص،و بصائر الدرجات، و تفسير ابن ماهيار،و الدر النظيم في مناقب الائمة اللهاميم.

فقد رووا عنه بأسانيد متعددة تنتهي أكثرها الى أبان بن عياش، الذي أعطاه سليم كتابه مناولة،و يرويه أيضا عن سليم بغير مناولة (5).

و قد اعتبره النجاشي في جملة القلائل المتقدمين في التصنيف من سلفنا الصالح (6)،و أشار إليه شيخ الطائفة الشيخ الطوسي رحمه الله (7)و ابن شهر اشوب المازندراني (8).8.

ص: 145


1- مسند أحمد:ج 2 ص 332.
2- الفهرست:ص 275.و الذريعة:ج 2 ص 153.
3- الذريعة:ج 2،ص 153.
4- المصدر السابق،عن محاسن الوسائل في معرفة الاوائل.
5- راجع:الذريعة:ج 2 ص 154 و 155.
6- رجال النجاشي:ص 6.
7- الفهرست:ص 162.
8- معالم العلماء:ص 58.

أما المسعودي فقال:«و القطعية بالامامة،الاثنا عشرية منهم، الذي أصلهم في حصر العدد ما ذكره سليم بن قيس الهلالي في كتابه (1).

و قال العلامة السيد ابن طاوس:«تضمن الكتاب ما يشهد بشكره و صحة كتابه (2)».

و قال المولى محمد تقي المجلسي:«إن الشيخين الاعظمين حكما بصحة كتابه،مع أن متن كتابه دال على صحته (3)».

و قال:«كفى باعتماد الصدوقين:الكليني و الصدوق:ابن بابويه عليه..و هذا الاصل عندي،و متنه دليل صحته (4)».

و قد اعتبره المحدث المتبحر الشيخ الحر من الكتب المعتمدة التي شهد بصحتها مؤلفوها و غيرهم،و قامت القرائن على ثبوتها،و تواترت عن مؤلفيها،أو علمت صحة نسبتها إليهم (5).

و راجع ما نقله الفاضل المعاصر الشيخ محمد باقر الانصاري الزنجاني الخوئيني في مقدمة كتاب سليم بن قيس:ج 1 ص 109- 113 عن العلامة السيد مصطفى التفريشي،و العلامة السيد هاشم البحراني و المدقق الشيرواني،و الفاضل المتبحر مير حامد حسين صاحب كتاب عبقات الانوار،و غيرهم.2.

ص: 146


1- التنبيه و الاشراف:ص 198.
2- التحرير الطاوسي:ص 136.
3- روضة المتقين:ج 14 ص 372.
4- تنقيح المقال:ج 2 ص 53.
5- راجع:وسائل الشيعة:ج 20 ص 36 و 42.

كما ان العلامة السيد محسن الامين رحمه الله قد اعتمده و نقل عنه في كتاب المجالس السنية الذي يقول في آخره:«..و أخذه من المصادر و الموثوقة و المصنفات المشهورة» (1)و هو إنما كتب كتابه هذا«المجالس السنية»ليكون عملا اصلاحيا،يبعد فيه عن سيرتهم عليهم السلام عما يعتقد فيه أنه مدسوس أو مكذوب (2).

منشأ الطعن في كتاب سليم:
اشارة

إن منشأ الطعن في كتاب سليم بن قيس،أمران:

الأمر الأول:ما قاله محمد بن أبي بكر لأبيه عند موته:
اشارة

فقد جاء في كتاب سليم:أن سليما التقى بعبد الرحمن بن غنم فأخبره عما قاله معاذ بن جبل،و سالم مولى أبي حذيفة،و أبو عبيدة عند حضور أجلهم،حيث ذكروا:أنهم رأوا رسول الله(ص) و عليا(ع)عند موتهم فبشرا كل واحد منهم بالنار.

ثم التقى سليم بمحمد بن أبي بكر،فأخبره بما قاله أبو بكر أيضا عند موته،ثم أخبره محمد بن أبي بكر،بأن عبد الله بن عمر قد سمع من أبيه عند موته مثل ذلك،و ذكر له تفاصيل عما جرى بينه و بين أبيه.و هي من الامور الجليلة التي لا يعقلها طفل عمره سنتان أو ثلاثة، بل يحتاج الى وعي كامل،و معرفة و تدبر للأمور.

ثم أخبر محمد سليما أيضا بأنه أتى أمير المؤمنين(ع)فحدثه بما

ص: 147


1- المجالس السنية:ج 5 ص 762.
2- أعيان الشيعة:ج 10 ص 173.

سمعه من أبيه،و بما حدثه به ابن عمر عن أبيه،فقال له أمير المؤمنين عليه السلام:

«قد حدثني عما قاله هؤلاء الخمسة (1)من هو أصدق منك و من ابن عمر،يريد عليه السلام بذلك رسول الله صلى الله عليه و آله قبل موته أو بعده بالمنام،أو أخبره الملك الذي يحدث الائمة عليهم السلام.

و بعد شهادة محمد بن ابي بكر بمصر التقى سليم بأمير المؤمنين عليه السلام،و سأله عما أخبره محمد بن أبي بكر،فقال عليه السلام:

«صدق محمد رحمه الله،أما إنه شهيد حيّ يرزق»،ثم قرر عليه السلام كلام محمد بأن أوصياءه كلهم محدثون (2)».

أما تفاصيل ما جرى بين محمد و بين أبيه عند موت أبيه فهو في كتاب سليم بن قيس نفسه (3)فليراجعه من أراد..

و نقول:

قال شيخ الاسلام العلامة المجلسي رحمه الله و هو العالم المتبحر و العلم الفذ:

«هذا الخبر أحد الامور التي صارت سببا للقدح في كتابي.

ص: 148


1- الخمسة هؤلاء هم:معاذ بن جبل،و سالم مولى أبي حذيفة،و ابو عبيدة،و عمر، و أبو بكر،و هم الذين كتبوا الصحيفة التي تعاقدوا فيها على إبعاد الامر عن علي(ع).
2- راجع:مقدمة كتاب سليم للشيخ محمد باقر الانصاري الخوئيني.ج 1 ص 187 و 188.و ج 2 ص 816-824.
3- راجع:كتاب سليم بن قيس،ج 2 ص 821-823.تحقيق الشيخ محمد باقر الانصاري الخوئيني.

سليم؛لأن محمدا ولد في حجة الوداع-كما ورد في أخبار الخاصة و العامة-فكان له عند موت أبيه سنتان و أشهر؛فكيف كان يمكنه التكلم بتلك الكلمات،و تذكّر تلك الحكايات؟!

و لعله مما صحّف فيه النساخ أو الرواة.

أو يقال:إن ذلك كان من معجزات أمير المؤمنين عليه السلام ظهر فيه.

و قال بعض الافاضل:رأيت فيما وصل إلي من نسخة هذا الكتاب:أن عبد الله بن عمر وعظ أباه عند موته.

و الحق أن بمثل هذا لا يمكن القدح في كتاب معروف بين المحدثين،اعتمد عليه امثال الكليني،و الصدوق،و غيرهما من القدماء، و أكثر أخباره مطابقة لما روي بالاسانيد الصحيحة في الاصول المعتبرة.

و قلّ كتاب من الاصول المتداولة يخلو عن مثل ذلك (1)».

يضاف الى ما ذكره العلامة المجلسي النقاط التالية:

1-إن الشيخ محمد باقر الزنجاني يقول:«إن الصفار، و الصدوق،و الشيخ المفيد،و ابراهيم بن محمد الثقفي قبلهم حكوا هذا الحديث بعينه بالاسناد الى سليم من غير طريق كتابه (2)».6.

ص: 149


1- البحار:ج 30 ص 133 و 134.
2- راجع:بصائر الدرجات:ص 372،،و علل الشرائع:ج 1 ص 182،، و الاختصاص:ص 324.و الكافية في إبطال توبة الخاطئة للشيخ المفيد على ما رواه عنه المجلسي في البحار(طبع قديم):ج 8 ص 199 و الغارات للثقفي:ح 1 ص 326.

2-قد روي بعض ما ورد في هذا الحديث في كتب أخرى، مثل:تقريب المعارف للفقيه الجليل الشيخ أبي الصلاح،و الامالي لأستاذه الشيخ المفيد،و الكافية في ابطال توبة الخاطئة للمفيد أيضا، و مدينة المعاجز للعلامة المقدس السيد هاشم البحراني عن ابن عباس و كعب الاحبار (1).

و قضية تكلم محمد بن ابي بكر مع أبيه حين الموت ذكرها كل من العماد الطبري في كتابه:كامل بهائي (2)و الغزالي في سر العالمين، و ابن الجوزي في تذكرة الخواص (3).

3-بقي أن نشير الى أن ما ذكر عن مقدار عمر محمد بن ابي بكر حينئذ ليس هو الكلام النهائي فيه،فقد ذكروا انه كان له من العمر حين وفاة أبيه حوالى خمس سنوات،إن كان قد ولد في سنة ثمان،أو أربع سنوات،ان كانت ولادته في حجة الوداع سنة تسع للهجرة،فلعل هذا الطفل كان من النوابغ.

و احتمل العلامة المجلسي ان تكون هذه معجزة اظهرها الله سبحانه لأمير المؤمنين عليه السلام (4).1.

ص: 150


1- راجع:مقدمة كتاب سليم بن قيس للانصاري الخوئيني:ج 1 ص 191 و 192.
2- كامل بهائي:ج 2 ص 129.الفصل الخامس،و عنه في مقدمة كتاب سليم للانصاري الخوئيني،ج 1 ص 194.
3- راجع:مقدمة كتاب سليم للانصاري الخوئيني،ج 1 ص 194،و في هامشه عن:استقصاء الافهام:ج 1 ص 514،و عن كشف الحجب:ص 445 و تذكرة الخواص ص 62.
4- راجع:مقدمة كتاب سليم:ج 1 ص 196/91.
الخلاصة:

و مهما يكن من أمر فإن وجود حديث معضل في كتاب لا يبرر الخدشة في الكتاب كله،مع احتمال وجود تصحيف أو سهو من الكاتب نفسه بأن يكون المقصود هو عبد الرحمن بن ابي بكر،أو غير ذلك من احتمالات.و في الكتب المعتبرة موارد كثيرة من هذا القبيل و لم يقدح ذلك في اعتبارها.

الامر الثاني:الائمة ثلاثة عشر:

قد جاء في كتاب سليم راويا ذلك عن النبي(ص)قوله(ص):

«ألا و إن الله نظر الى أهل الارض نظرة فاختار منهم رجلين:أحدهما انا،فبعثني رسولا،و الآخر علي بن أبي طالب..الى ان قال:ألا و إن الله نظر نظرة ثانية،فاختار بعدنا اثني عشر وصيا من أهل بيتي، فجعلهم خيار أمتي،واحدا بعد واحد (1)».

و نقول:

إن ذلك لا يصلح سببا للطعن في الكتاب،و ذلك لما يلي:

1-إن من القريب جدا ان تكون كلمة«فاختار بعدنا اثني عشر»تصحيفا لكلمة بعدي،لا سيما و ان حرف(نا)و حرف(ي) يتقاربان في الرسم الى حدّ ما.

بل لقد قال العلامة المجلسي و غيره:«و قد وجدنا في بعض

ص: 151


1- كتاب سليم بن قيس:ج 2 ص 857.

النسخ«بعدي»من دون تصحيف (1).

و احتمل المجلسي أيضا: انه كان أحد عشر فصحفه النساخ (2).

و مما يدل على ذلك أيضا:أن هذا الحديث قد ذكر بعينه في موضع آخر من الكتاب،و فيه«بعدي»بدل بعدنا (3).

2-إن في كتاب سليم حسب إحصائية البعض (4)أربعة و عشرين موردا غير ما نحن فيه قد نص فيها على أن الائمة هم اثنا عشر اماما بصورة صريحة و واضحة (5).

فلا معنى للتمسك بهذا النص الأخير للطعن على الكتاب كله بحجة أنه قد جعل الائمة ثلاثة عشر..

فإذا كان هذا المورد الواحد دليل وضع الكتاب؛فليكن أربعة و عشرون موردا آخر دليل صحته و أصالته،لا سيما مع الاحتمال القوي جدا بحصول التصحيف في كلمة«بعدنا»،كما ألمحنا إليه.

3-قال آية الله السيد الخوئي(قدس سره):«إن اشتمال الكتاب على امر باطل في مورد أو موردين لا يدل على وضعه،كيف و يوجد أكثر من ذلك في أكثر الكتب حتى كتاب الكافي،الذي هو2.

ص: 152


1- البحار:ج 22 ص 150 و مقدمة كتاب سليم:ج 1 ص 181.
2- راجع البحار:ج 22 ص 150.
3- راجع:كتاب سليم بن قيس:ج 2 ص 686.
4- هو الشيخ محمد باقر الانصاري الخوئيني.
5- راجع:محمد باقر الانصاري الخوئيني:مقدمة كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 1 ص 180/172.

أمتن كتب الحديث و اتقنها (1)».

و قال العلامة المجلسي:«..و هذا لا يصير سببا للقدح،إذ قلما يخلو كتاب من أضعاف هذا التصحيف و التحريف،و مثل هذا موجود في الكافي و غيره من الكتب المعتبرة،كما لا يخفى على المتتبع (2)».

4-قال المسعودي المتوفى سنة 345 ه.:«..و القطعية بالامامة الاثنا عشرية منهم،الذين أصلهم في حصر العدد ما ذكره سليم بن قيس الهلالي في كتابه (3)».

و قد ذكره عدد من العلماء في عداد الاصول القديمة التي نصت على الائمة الاثني عشر عليهم سلام الله،فراجع (4).

و ذلك يؤكد وقوع التصحيف في هذا الحديث.

5-ذكر المحقق الشيخ محمد تقي التستري العديد من الموارد المشابهة في الكافي،و نحن ننقل هنا عبارة الشيخ التستري (5)رحمه الله،قال:

«إنه من سوء تعبير الرواة،و الا فمثله في الكافي أيضا موجود،ه.

ص: 153


1- معجم رجال الحديث:ج 8 ص 225.و عنه في مقدمة كتاب سليم للشيخ محمد باقر الانصاري الخوئيني ص 170.
2- بحار الانوار:ج 22 ص 150.و عنه في مقدمة كتاب سليم للشيخ محمد باقر الانصاري:ص 170.
3- التنبيه و الاشراف ص 198.
4- مقدمة كتاب سليم بن قيس،للانصاري الخوئيني:ج 1 ص 172.
5- مقدمة كتاب سليم بن قيس:ج 1 ص 183،للانصاري الخوئيني،نقلا عن المحقق الشيخ التستري رحمه الله.

ففي باب ما جاء في النص على الائمة الاثني عشر في خبر عن النبي صلى الله عليه و آله:«إني و اثني عشر من ولدي و أنت يا علي زرّ الارض..فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخت الارض بأهلها (1)».

و في خبر آخر عنه صلى الله عليه و آله:«من ولدي اثنا عشر نقباء نجباء مفهّمون آخرهم القائم (2)».

و رواهما أبو سعيد العصفري في أصله بلفظ«أحد عشر» (3).

و في خبر ثالث عن جابر الانصاري قال:«دخلت على فاطمة عليها السلام و بين يديها لوح فيه أسماء الاوصياء من ولدها فعددت اثنى عشر» (4).و رواه الصدوق في الاكمال و العيون و الخصال بدون كلمة«من ولدها» (5).

و في خبر رابع عن الباقر عليه السلام:«الاثنا عشر إماما من آل محمد كلهم محدّث من ولد رسول الله صلى الله عليه و آله،و ولد علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما» (6).و رواه في الخصال و العيون:«كلّهم محدّث بعد رسول الله صلى الله عليه و آله و علي بن أبي طالب منهم» (7).9.

ص: 154


1- الكافي:ج 1 ص 534 ح 17.
2- الكافي:ج 1 ص 534 ح 18.
3- أصل أبي سعيد العصفري:الصفحة الاولى.
4- الكافي:ج 1 ص 532 ح 9.
5- اكمال الدين:ص 311 ح 3،عيون الاخبار:ج 1 ص 37 ح 6،الخصال: ب 12 ح 42.
6- الكافي:ج 1 ص 533 ح 14.
7- عيون الاخبار:ج 1 ص 46 ح 24،الخصال:ب 12 ح 49.

و في خبر خامس عن أبي سعيد الخدري في سؤالات اليهودي (عن الائمة)بعد النبي و أمير المؤمنين صلوات الله عليهما،فقال عليه السلام له:«إنّ لهذه الامة اثنى عشر إمام هدى من ذريّة نبيّها و هم منّي-الى أن قال:-و أمّا من معه في منزله فهؤلاء الاثنى عشر من ذريته» (1).

و قد روى مضمون هذا الخبر النعماني بدون قيد«من ذرية نبيّها» (2).هذا هو نصّ كلام الشيخ التستري في قاموس الرجال (3).2.

ص: 155


1- الكافي:ج 1 ص 232 ح 8.
2- الغيبة للنعماني:ص 67.
3- قاموس الرجال:ج 4 ص 452.

ص: 156

الفصل الرابع: ما ذا يقول المفيد(ره)

اشارة

ص: 157

ص: 158

توطئة و بداية:

اشارة

هناك من يحاول إثارة الشك بكل ما جرى على الزهراء عليها السلام،باستثناء التهديد بإحراق البيت و غصب فدك.

و حتى هذا التهديد،فإنه يحاول أن يخفف من وقعه،و يجعله صوريا بدعواه:«أن الذين جاء بهم الخليفة الثاني ليهاجموا الزهراء عليها السلام،كانت قلوبهم مملوءة بحبها فكيف نتصوّر ان يهجموا عليها».

هذا بالاضافة الى ان قوله:«إن الناس كانوا يحترمونها و يجلونها،و لن يكون من السهل القيام بأي عمل ضدها».

يعني:ان يصبح التهديد شكليا،ثم يضيف قوله:ان رأس المهاجمين قد استثنى الزهراء عليها السلام،و أخرجها عن دائرة التهديد،حيث فسر كلمة:«و إن»في جواب من قال:إن فيها فاطمة، قائلا:«إن المراد بقوله«و إن»:لا شغل لنا بفاطمة،انما جئنا لاعتقال علي».

ثم استشهد لذلك كله بما تقدم في الفصل السابق،و بما سنذكره في هذا الفصل و ما يأتي بعده.

ص: 159

و الذي نريد أن نلم به في فصلنا هذا هو ما رأى أنه يؤيده من أقوال بعض أساطين المذهب،و روّاد العلم،حيث استشهد بكلام ثلاثة من هؤلاء و هم:

1-الامام الشيخ المفيد قدس الله نفسه الزكية.

2-آية الله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رحمه الله.

3-آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين طاب ثراه.

فنحن نورد أولا كلام المفيد(قدس سره)،ثم نوضح انه لا ينفعه فيما يريد اثباته،و ذلك فيما يلي من مطالب.

الاستناد الى أقوال العلماء:

قلنا:ان البعض يستشهد لتأييد تشكيكاته فيما جرى على الزهراء عليها السلام،من بلايا و مصائب بأقوال ينسبها إلى بعض كبار العلماء،كالمفيد،و كاشف الغطاء،و شرف الدين.

و قبل ان ندخل في مناقشة صحة ما ينسب إليهم،نود التذكير بأمر هام يرتبط بالاستشهاد بأقوال العلماء بصورة عامة.

فنقول:

إن البعض قد يعتذر عن مخالفاته الكثيرة في أمور الدين لما عليه عامة جهابذة العلم و أساطينه،بأن فلانا العالم يقول بهذا القول،و أن فلانا العالم الآخر يقول بذلك القول..و هكذا..

و قد لا يقتصر في اعتذاره هذا على امور الفقه بل يتعداها الى

ص: 160

العقائد،و التاريخ،و التفسير،و غير ذلك،و قد يحتاج أحيانا،قبل أن يجهر ببعض قناعاته الى أن يمهد لها بما يبعدها عن الاستهجان و الاستغراب بأنواع التمهيدات؛فيسرب رأيه أولا عن طريق بعض المقربين له،ثم يعلن في مناسبات متوالية أنه لا يزال يدرس الموضوع، و يلمح في الوقت نفسه الى فرص انتاج الرأي المطلوب بطريقة أو بأخرى.و حين لا يجد أحدا من الفقهاء يوافقه على ما يقول،فإنه يلجأ الى اعتبار الاحتياط الوجوبي بنقيض قوله اشارة بل اتجاها نحو موافقته بالفتوى في المستقبل. فالقول بأن الاحوط هو حرمة حلق اللحية مثلا،يعتبره خطوة على طريق القول بالحلية،و يصلح للاستشهاد به لها.

ثم إنك قد تجده يقول: ان فلانا العالم و الفقيه المعروف لدى عامة الناس،هو أول من قال بكذا،فإذا راجعت الكتب و الموسوعات الفقهية،تجد أن الامر ليس كذلك،بل قد سبق هذا الفقيه الى هذا القول كثيرون آخرون.

فقد يقال لك مثلا في العديد من المرات و المناسبات أن المرجع الديني الكبير السيد محسن الحكيم رحمه الله هو أول من أفتى بطهارة الكتابي،مخالفا بذلك الاجماع،و القصد من هذا القول هو تبرير مخالفات الاجماع التي تصدر من قبل من يهمه أمثال هذه التبريرات، مع ان ابن أبي عقيل،و ابن الجنيد،و الشيخ المفيد في أحد قوليه،و ربما نسب الى الشيخ الطوسي أيضا القول بذلك-و جميع هؤلاء من كبار قدماء فقهاء الإمامية-،و قد أفتوا بطهارة الكتابي قبل السيد الحكيم رحمه الله.

و مثال آخر نذكره هنا،و هو أن البعض حين يسأل عن السبب

ص: 161

في تحليله اللعب بآلات القمار نجده يبادر الى الاستشهاد بالسيد الامام الخميني(ره)على انه قد خالف الاجماع حين حلل اللعب بالشطرنج و هو من آلات القمار..

مع أن السيد الامام لم يحلل الشطرنج الذي هو من آلات القمار،بل قال رحمه الله:«إن الشطرنج إن كان قد خرج عن كونه من آلات القمار،جاز اللعب به».و هذه قضية تعليقية شرطية،و صدق الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها.

على ان من الواضحات كون الافتاء بالجواز معلقا على شرط، لا يعني المخالفة لمن أفتى بالحرمة بدون ذلك الشرط.

و حين تجتمع لدى البعض نوادر من الفتاوى،على نحو ملفت للنظر،نجده يبرر ذلك بأن فلانا العالم قد قال بهذه الفتوى،و قال فلان العالم الآخر بتلك،و هكذا.

و لكننا لا ندري لما ذا يكون الحق في ذلك كله مع هؤلاء في خصوص المسائل التي شذوا فيها مما وافقهم عليه،و لكنهم يخطئون في فتاواهم و المشهور يخطئ معهم،في غير ذلك من فتاوى تخالفه، فضلا عن خطأهم فيما شذوا فيه عن المشهور،و لم يوافقهم هذا البعض أيضا عليه؟!

على ان اجتماع فتاوى شاذة كثيرة لدى شخص واحد،قد يؤدي إلى أن يصبح هذا الشخص خارج دائرة المذهب الفقهي الذي ينتمون إليه..

و إن كان لا يخلو فقيه من الموافقة في بعض فتاواه لبعض الفتاوى الشاذة اليسيرة جدا،و التي لا تضر،و لا تخرجه عن النهج

ص: 162

العام للمذهب الذي ينتمي إليه.

و بعد هذه المقدمة،ندخل الى الموضوع الذي هو محط نظرنا، فنقول:

الاجماع على المظلومية:

هناك من يقول:بأن ثمة اجماعا على أن الزهراء عليها السلام قد ظلمت،و ضربت،بل و أسقط جنينها،لكن البعض حاول التشكيك في إجماع كهذا،و لم يقنعه ما جاء في تلخيص الشافي، من نص شيخ الطائفة الشيخ الطوسي على أنه لا خلاف بين الشيعة، في أن فاطمة عليها السلام قد تعرضت للضرب،و اسقاط الجنين.

و لم يقنعه أيضا،رواية ذلك بكثرة ظاهرة في مصنفات شيعة أهل البيت(ع)،و لا ورود ذلك أيضا بصورة مستفيضة من طرق غيرهم.

بل ان روايات الشيعة عن المعصومين،فضلا عن غيرهم،حول مظلوميتها عليها السلام من الكثرة و التنوع بحيث يمكن القول بتواترها.

و نحن نذكر هنا كلام الشيخ الطوسي،و العلامة كاشف الغطاء حول هذا الامر،ثم نعقب ذلك بمناقشة ما قاله هذا البعض حول ذلك.

فنقول:

1-قال شيخ الطائفة الامام الشيخ محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460 ه.و هو تلميذ الشيخ المفيد،و الشريف المرتضى:

ص: 163

«و مما أنكر عليه:ضربهم لفاطمة عليها السلام.و قد روي أنهم ضربوها بالسياط.

و المشهور الذي لا خلاف فيه بين الشيعة:أن عمر ضرب على بطنها حتى اسقطت،فسمي السقط«محسّنا»،و الرواية بذلك مشهورة عندهم.و ما أرادوا من احراق البيت عليها،حين التجأ إليها قوم،و امتنعوا من بيعته.

و ليس لأحد أن ينكر الرواية بذلك؛لأنا قد بيّنا الرواية الواردة من جهة العامة،من طريق البلاذري،و غيره.و رواية الشيعة مستفيضة به،لا يختلفون في ذلك (1)».

2-و قال العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء:

«طفحت و استفاضت كتب الشيعة،من صدر الاسلام،و القرن الأول،مثل كتاب سليم بن قيس،و من بعده الى القرن الحادي عشر و ما بعده،بل و الى يومنا هذا،كل كتب الشيعة التي عنيت بأحوال الائمة،و أبيهم الآية الكبرى،و أمهم الصديقة الزهراء صلوات الله عليهم أجمعين،و كل من ترجم لهم،و ألّف كتابا فيهم،و أطبقت كلمتهم تقريبا،أو تحقيقا في ذكر مصائب تلك البضعة الطاهرة:أنها بعد رحلة أبيها المصطفى ضرب الظالمون وجهها،و لطموا خدها،حتى احمرّت عينها،و تناثر قرطها،و عصرت بالباب حتى كسر ضلعها، و أسقطت جنينها،و ماتت و في عضدها كالدملج.

ثم أخذ شعراء أهل البيت سلام الله عليهم،هذه القضايا و الرزايا،و نظموها في أشعارهم،و مراثيهم،و أرسلوها إرسال6.

ص: 164


1- تلخيص الشافي:ج 3 ص 156.

المسلمات:من الكميت،و السيد الحميري،و دعبل الخزاعي، و النميري،و السلامي،و ديك الجن،و من بعدهم،و من قبلهم الى هذا العصر الخ... (1)».

3-يقول المقدسي:«و ولد محسنا،و هو الذي تزعم الشيعة:

أنها أسقطته من ضربة عمر (2)».

4-و قد نسب المعتزلي الشافعي ضربها(ع)و اسقاط المحسن الى الشيعة،و أن الشيعة تنفرد به (3).

5-و يقول العلامة المظفر:يكفي في ثبوت قصد الاحراق رواية جملة من علمائهم له،بل رواية الواحد منهم له،لا سيما مع تواتره عند الشيعة (4).

فالمقدسي و المعتزلي الشافعي اذن ينسبان رواية المظلومية و القول بها الى طائفة الشيعة،لا الى جمهورها،أو الى المشهور في هذه الطائفة،و ذلك يشير الى هذا الاجماع الذي أشار إليه الطوسي و كاشف الغطاء رحمهما الله تعالى.

و بعد ما تقدم نقول:

لقد حاول البعض التشكيك بالاجماع المذكور،و ذلك استنادا الى امور ثلاثة.

الأول: إن الشيخ المفيد لا يلتزم به،بل هو يذكر في«الارشاد»1.

ص: 165


1- جنة المأوى:ص 78-81.
2- البدء و التاريخ:ج 5 ص 20.
3- شرح نهج البلاغة للمعتزلي:ج 2 ص 60.
4- دلائل الصدق:ج 3 قسم 1.

ما ينقض هذا الاجماع.

الثاني: إن الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء،لم يلتزم بمفاده.

الثالث: إن السيد شرف الدين كذلك لم يلتزم بمفاده.

و في الصفحات التالية في هذا الفصل و ما يأتي بعده نذكر كلامهم،و نناقشه مع توخي الاختصار و الاقتصار على المهم فنقول:

مراد الشيخ المفيد في كتاب الارشاد:

يقول البعض:

يقول الشيخ المفيد(قده):«و في الشيعة من يذكر:أن فاطمة صلوات الله عليها أسقطت بعد النبي صلى الله عليه و آله ولدا ذكرا، كان سماه رسول الله عليه السلام-و هو حمل-محسّنا؛فعلى قول هذه الطائفة أولاد أمير المؤمنين عليه السلام ثمانية و عشرون.و الله أعلم (1)».

و قد نقل السيد الامين كلام الشيخ المفيد-هذا-في كتابه:

أعيان الشيعة.و نقله المجلسي في البحار و آخرون.

فإذا كان الشيخ الطوسي ينقل اتفاق الشيعة على ان عمر ضرب على بطن فاطمة حتى اسقطت محسنا،و الرواية بذلك

ص: 166


1- الارشاد:ج 1 ص 355(ط مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.سنة 1416 ه.ق.بيروت لبنان)و البحار:ج 42 ص 90 عنه و كشف الغمة:ج 2 ص 67.

مشهورة عندهم (1).فالشيخ المفيد يخالف الطوسي،و هو معاصر له، بل هو أستاذه،و كلامه«يوحي بأنه لا يتبنى الاسقاط من الاساس».

و الجواب:

أولا: ان العبارة المذكورة لا تدل على مخالفة المفيد للطوسي في هذا الامر؛لأن كلمة«الشيعة»كانت في زمن الشيخ المفيد تطلق على العديد من الفرق،مثل:الزيدية،و الاسماعيلية،و الامامية، و غيرهم،بل و على المعتزلة أيضا الذين كانوا هم الحاكمين في بغداد، و هم الذين سمحوا بإقامة مناسبة عاشوراء بالطريقة المعروفة و المتداولة حتى يومنا هذا.

و كان يطلق على الشيعة الامامية من قبل خصومهم اسم:

الرافضة.

و قد تحدث النوبختي في كتابه فرق الشيعة،و الأشعري في المقالات و الفرق،و الشيخ المفيد نفسه في الفصول المختارة،و غيرهم عن فرق الشيعة،و من أراد التفصيل فليراجعها،و غيرها من كتب المقالات و الفرق،بل إن العلامة الفاضل المازندراني الخواجوئي قد ردّ على من ادعى ان اطلاق كلمة الشيعة على خصوص من يعتقد بإمامة علي،و ان لم يعتقد بإمامة سائر الائمة،بقوله:«هذا منه غريب،يدل على قلة تتبعه و عدم تصفحه.فإن في كثير من الاخبار دلالة على اطلاق الشيعة على الزيدية و الواقفية،و من يحذو حذوهم (2)».

بل روي عن الامام الصادق عليه السلام:«انه حدث عمر بن7.

ص: 167


1- تلخيص الشافي:ج 3 ص 156.
2- الرسائل الاعتقادية:ص 27.

يزيد في فضائل الشيعة مليا»،ثم قال:«ان من الشيعة بعدنا من هم شرّ من النصاب،قلت:جعلت فداك،أ ليس ينتحلون حبكم و يبرؤون من عدوكم؟!

قال:نعم الخ.. (1)».

فالمفيد هنا لا يريد ان ينسب حديث اسقاط المحسّن الى جميع الشيعة بالمعنى الأعم،بل الى خصوص الامامية منهم.و لعله رحمه الله اختار التعبير بكلمة«الطائفة»بعد ذلك،ليشير الى ان طائفة من الشيعة تروي ذلك،و ليس كل الطوائف التي يطلق عليها اسم شيعة.

و الملفت انه رحمه الله لم يقل:«ان بعض الشيعة يروي حديثا» بل قال:«و في الشيعة من يذكر:ان فاطمة صلوات الله عليها اسقطت بعد النبي الخ..»فلم يشر رحمه الله الى حديث واحد أو أكثر،و لا أشار الى حجم القائلين بذلك من الشيعة من حيث القلة و الكثرة.

بل أشار الى انهم يصح وصفهم بكلمة«طائفة»حين قال:

«فعلى قول هذه الطائفة الخ..».

و قد لقب الشيخ الطوسي رحمه الله«بشيخ الطائفة»، و المقصود هو طائفة الامامية،لا مطلق الشيعة.

و ثانيا: لقد كان عصر المفيد رحمه الله بالغ الحساسية و من أصعب العصور في تاريخ شيعة أهل البيت(ع)،حيث كانت الفتن تتجدد في كل عام في يوم الغدير،و في خصوص مناسبة عاشوراء، حيث كانت الشيعة تقيم ذكريات لا يصبر عليها خصومهم من حنابلة بغداد المتشددين و المتعصبين فيها جمونهم،و تكون المصائبق.

ص: 168


1- المصدر السابق.

و النكبات،و البلايا و المذابح الخطيرة،حسبما أوضحناه في كتابنا «صراع الحرية في عصر المفيد»الفصل الاول،و قد أحرقوا في بعض السنين بيوت الشيعة في الكرخ،فمات بسبب ذلك ثمانية عشر ألف انسان،و عند ابن خلدون:عشرون ألفا بين طفل و شاب و امرأة.

فكان رحمه الله يريد أن يتعامل مع الأمور بمنتهى الحكمة و الدقة.و كان كتابه«الارشاد»الذي ألفه في أواخر حياته،قد راعى فيه ان يكون كتاب تاريخ يتوخى فيه بالاضافة الى الدقة و الأمانة العلمية،ان يكون مقبولا لدى الكافة،و يمكن للجميع ان يستفيدوا منه،و لم يرد له أن يتخذ صفة غير صفة تحديد الحدث بتفاصيله،بعيدا عن المذهبيات،بل هو يتجاوز الحدود و التعصبات المذهبية ليكون كتابا للناس جميعا.

فلأجل ذلك لم يذكر فيه الامور المثيرة و الحساسة بصورة ملفتة للنظر،حتى انه لم يذكر شيئا عن تفاصيل حادثة السقيفة،و كل ما يرتبط بشأن البيعة لأبي بكر (1)،و يبدو أن ذلك منه رحمه الله يدخل في نطاق سياساته المتوازنة،التي تراعي الظروف،و الأجواء،و تتعامل معها بواقعية هادفة،و بمسئولية و وعي.

أمّا الشيخ الطوسي فكان كتابه دفاعا عن خصوص الشيعة الامامية،لأن الشافي قد ردّ فيه السيد المرتضى على القاضي عبد الجبار المعتزلي،فلخّصه الطوسي رحمه الله.فالطوسي اذن كالسيد المرتضى قد كتب كتابه بصفته اماميا،يدافع عن مذهبه،و يثبت صحته؛فهو يريد أن ينتهي الى الحد المذهبي الفاصل بينه و بين غيره،بينما أراد الشيخ المفيد لكتابه الارشاد أن يتجاوز هذه الحدود،ليكون تاريخا).

ص: 169


1- راجع كتاب الارشاد:ج 1 ص 189(طبع مؤسسة آل البيت«ع»).

للجميع،يمكنهم الاطلاع عليه،و الاستفادة منه دون حرج أو تهمة..

فإذا كان الامامية فقط هم المجمعون على ذلك دون غيرهم من فرق الشيعة،كالاسماعيلية و الزيدية الخ..فلا يصح من المفيد نسبة ذلك الى غير الامامية من الطوائف التي لم تجمع عليه.

و الملاحظ:ان المفيد رحمه الله قد تجنب ذكر ما يثير العصبيات من جهة،ثم أشار هنا الى أمر حساس بصورة خفية و ذكية من جهة أخرى،حيث أثبت وجود حمل سماه النبي(ص)محسنا،و ترك للقارئ حرية البحث عن دور هذا الولد،و عن مصيره.

ثالثا: أما القول بأن المفيد يخالف الطوسي في هذا الامر فسيأتي في الاجابة على السؤال الآتي،في العنوان التالي:انه لا يخالفه بل هو يوافقه فلا حاجة الى الاستعجال بالامر هنا.

رابعا: لقد كان الشيخ الطوسي تلميذا للمفيد،و كان المفيد رحمه الله هو الرجل الأول في الشيعة آنئذ،فلا يعقل ان يدّعي الطوسي اجماع الشيعة بهذا الجزم و الحزم و الوضوح،مع مخالفة استاذه و أعظم رجل في الشيعة على الاطلاق في ذلك؟!

و على الأقل كان المفترض فيه أن يذكر لنا:أن استاذه مخالف لهذا الاجماع،بل إن استاذه ينفي هذا الاجماع و لا يقبل بأصل وجوده!!

و هل يستطيع الطوسي ان يقرر اجماعا ينفيه استاذه صراحة و ينكره،و يقول:ان بعض الشيعة فقط هم القائلون؟!أم أن الطوسي لم يطلع على رأي استاذه؟!!

او أنه اطلق دعواه الاجماع جزافا،و من دون تثبت؟!

ص: 170

ان ذلك كله مما لا يمكن قبوله،و هذا ما يؤكد ان مراد المفيد من كلامه في الارشاد هو ما قلناه،و لا يريد به ما ينقض أو يعارض الاجماع الذي تحدث عنه الطوسي ابدا.

المفيد لم يذكر ما ذكره الطوسي:

يقول البعض:

«اذا كان الشيخ الطوسي ينقل اتفاق الشيعة على ضرب و إسقاط جنين الزهراء،فإن الشيخ المفيد الرجل الشيعي الصلب في حجاجه مع مخالفيه في المذهب معاصر للطوسي،و هو لم يذكر في كتبه ما عدا الاختصاص-الذي يشك في نسبته إليه-قضية كسر الضلع و غيرها مما يقال في هذا المجال أبدا».

و يزيد هذا البعض فيقول: «لقد تتبعت الموارد التي ذكرت فيها الزهراء في كتبه-أي في كتب الشيخ المفيد-فلم أجد حديثا عن كسر الضلع،و إسقاط الجنين،و نحو ذلك..و لا أدري اذا كان تتبعي دقيقا».

و الجواب:

اننا قبل كل شيء نود ان نسجل هنا الملاحظة التالية:

و هي:ان هذا البعض يصرّ هنا على التصريح بكسر الضلع مع ان نقضه لكلام الطوسي بكلام المفيد في عبارته الأولى،يدل على أنه بصدد إنكار كل ما ذكره الطوسي من ضرب الزهراء و إسقاط المحسّن.

و لم يتحدث الطوسي عن كسر الضلع في تقريره للاجماع،و تقريره لتضافر الروايات به:فما المبرر لإقحام كسر الضلع في هذا المورد؟!.

ص: 171

و بعد هذه الملاحظة نقول: إن الشيخ المفيد قد ذكر مظلومية الزهراء،و كثيرا مما جرى عليها في كتبه.

و في مجال مناقشة ما قاله ذلك البعض حول هذا الامر نقول:

أولا: لم نفهم المقصود بالامور التي أشار إليها هذا المتحدث بكلمة«و غيرها»التي عطفها على«كسر الضلع»فهل المقصود هو ضربها عليها السلام؟أو إسقاط جنينها؟أو إحراق بيتها،حتى أخذت النار في خشب الباب؟!

ثانيا: ان عدم ذكر المفيد لشيء من ذلك في كتبه-لو سلمنا صحته-لا يدل على انه ينكره،لأن السكوت و عدم ذكر شيء لا يدل على إنكاره من الاساس.

بل قد قلنا:إن تقرير الطوسي الذي هو تلميذ المفيد،للإجماع، و إرساله ذلك إرسال المسلمات،يدل على أن أستاذه كان على رأس القائلين به،و المتحمسين له؛إذ لا يصح من الشيخ الطوسي ذكر هذا الامر بهذا الجزم و الحزم و الوضوح التام،إذا كان أحد أساتذته الذين لا يشك أحد،من موافقيه و مخالفيه،في تضلّعه في هذه القضايا يخالف في هذا الامر و ينكر وجود الاجماع من الاساس.

أما إذا كان هذا الاستاذ-الذي هو المفيد بالذات-يقول بأن أفرادا قليلين قد قالوا بهذا القول،فان القضية-أعنى دعوى الاجماع- تصبح أكثر اشكالا،لأن دعوى الطوسي للإجماع في هذه الحالة..، ستكون من أوضح مصاديق الكذب و الافتراء منه على شيوخ المذهب و رموزه،و الطوسي أجلّ من أن يتوهّم في حقه ذلك.

ثالثا: ان المفيد حين يريد أن يخاطب الشيعة،و يؤلف كتابا لهذه

ص: 172

الطائفة؛فإنه لا يتوانى عن الجهر و التصريح بتفاصيل ما جرى على الصديقة الطاهرة عليها السلام.

فقد روى في«الاختصاص»،عن عبد الله بن سنان عن الامام الصادق عليه السلام انه قال:ان أبا بكر كتب للسيدة الزهراء عليها السلام كتابا بردّ فدك،فخرجت و الكتاب معها،فلقيها عمر.

فقال:يا بنت محمد ما هذا الكتاب الذي معك؟

فقالت:كتاب كتب لي أبو بكر بردّ فدك.

فقال:هلميّه إلي.

فأبت أن تدفعه إليه،فرفسها برجله،و كانت حاملة بابن اسمه «المحسّن»فأسقطت المحسّن من بطنها،ثم لطمها،فكأني أنظر الى قرط في أذنها حين نقفت (1).

ثم أخذ الكتاب فخرقه.

فمضت و مكثت خمسة و سبعين يوما مريضة مما ضربها عمر، ثم قبضت (2).

و روى أيضا رحمه الله في ذلك الكتاب-أعني الاختصاص- رواية ثانية ذكرت:ان«الثاني»قد ضرب الباب برجله فكسره،و أنه رفس فاطمة برجله،فأسقطت المحسّن (3).0.

ص: 173


1- نقفت:كسرت.
2- الاختصاص:ص 185 و البحار:ج 29 ص 192.
3- راجع الاختصاص:ص 344.و البحار:ج 29 ص 192،و ج 28 ص 227 و ج 7 ص 270.

و روى أيضا حديثا آخر في الكتاب نفسه،جاء فيه:عن أبي عبد الله(ع)قوله:«و قاتل أمير المؤمنين،و قاتل فاطمة،و قاتل المحسّن، و قاتل الحسن و الحسين» (1).

و أما عن صحة نسبة كتاب الاختصاص للشيخ المفيد،فقد قلنا في الاجابة على سؤال يأتي:إن التشكيك في صحة نسبته للشيخ المفيد في غير محله،و بلا مبرر مقبول أو معقول،و قلنا أيضا:إنه يظهر أن المفيد قد اختار هذا الكتاب من كتاب الاختصاص،لابن عمران، و بناء على هذا يصبح اختياره رحمه الله لهذا الحديث بالذات،لأجل مزية رآها فيه رجحته على غيره.

رابعا:قد تحدث الشيخ المفيد رحمه الله عما جرى على الزهراء في اكثر من مورد في كتبه الاخرى أيضا.

فلاحظ ما يلي:

1-قال الكنجي الشافعي عن الشيخ المفيد رحمه الله:«إنه قد زاد على الجمهور:ان فاطمة عليها السلام اسقطت بعد النبي ذكرا، و كان سماه رسول الله(ص)محسّنا،و هذا شيء لم يوجد عند أحد من أهل النقل الا عند ابن قتيبة (2)».

فالكنجي اذن،ينسب القول بإسقاط المحسن الى المفيد رحمه الله بالذات،الا ان يكون مراده الاشارة الى نفس ما ذكره رحمه الله في الارشاد.مع الاحتمال القوي بأن يكون قد أشار إلى ما ورد في3.

ص: 174


1- الاختصاص:ص 344،و كامل الزيارات:ص 327 بسند آخر،و البحار:ج 7 ص 270 و ج 8 ص 213.و نقل أيضا عن بصائر الدرجات للصفار.
2- كفاية الطالب:ص 413.

الاختصاص.

غير اننا نقول للكنجي هنا:ان مراجعة بسيطة للنصوص المنقولة عن أهل النقل،تظهر أن كثيرين غير ابن قتيبة قد نقلوا ذلك أيضا، و سنذكر ان شاء الله شطرا كبيرا من هذه النصوص في بعض فصول الكتاب.

2-لقد ذكر الشيخ المفيد في كتابه«المقنعة»الذي هو كتاب في الفقه الشيعي،و كذا في كتاب«المزار»زيارة الصديقة الطاهرة، التي تنص على انها عليها السلام قد كانت شهيدة،فقد جاء فيها:

«السلام عليك أيتها البتول الشهيدة الطاهرة» (1).

فهل هناك من سبب لاستشهادها عليها السلام سوى ما جرى عليها من هؤلاء القوم؟فهل استشهدت عليها السلام بمرض ألم بها!! أم بحادث عرض لها،كسقوطها عن سطح منزلها!!أو أنها تعرضت لحادث اغتيال من مجهول؟!!

و ستأتي النصوص التي أوردها المفيد رحمه الله،في مواضعها في قسم النصوص ان شاء الله.

3-قد ذكر المفيد قدس الله سره الشريف محاولات إحراق بيت الزهراء في كتابه«الأمالي»:عن الجعابي،عن العباس بن المغيرة، عن أحمد بن منصور الرمادي،عن سعيد بن عفير،عن ابن لهيعة،عن خالد بن يزيد،عن أبي هلال،عن مروان بن عثمان،قال:«لما بايع الناس أبا بكر دخل عليّ عليه السلام و الزبير،و المقداد،بيت فاطمة عليها السلام،و أبوا أن يخرجوا.فقال عمر بن الخطاب:أضرموا8.

ص: 175


1- المقنعة:ص 459،و راجع البحار:ج 97 ص 195.و البلد الامين:ص 198.

عليهم البيت نارا،فخرج الزبير،و معه سيفه..الى أن قال:

و خرج عليّ بن أبي طالب عليه السلام نحو العالية،فلقيه ثابت بن قيس بن شماس،فقال ما شأنك يا أبا الحسن؟!.

فقال:أرادوا أن يحرقوا عليّ بيتي،و أبو بكر على المنبر يبايع له و لا يدفع عن ذلك و لا ينكره الخ...

فقال له ثابت:لا تفارق كفي يدك حتى أقتل دونك.فانطلقا جميعا حتى عادا الى المدينة،فإذا فاطمة عليها السلام واقفة على بابها، و قد خلت دارها من أحد من القوم،و هي تقول:لا عهد لي بقوم أسوأ محضرا منكم،تركتم رسول صلى الله عليه و آله و سلم جنازة بين أيدينا و قطعتم أمركم بينكم لم تستأمرونا،و صنعتم بنا ما صنعتم،و لم تروا لنا حقا (1)».

و هذا الحديث صريح بمحاولة اقتحام البيت،و بأنهم قد اعتدوا على أهله،و ذلك لقوله(ع):«و أبو بكر على المنبر يبايع له،و لا يدفع عن ذلك و لا ينكره»،فقد كان هناك هجوم يحتاج الى دفع،و اعتداء يحتاج الى انكار.

كما أن التعبير ب«أرادوا أن يحرقوا»يستبطن أنهم قد بذلوا المحاولة،و جمعوا الحطب مثلا.

خصوصا مع قوله عن أبي بكر:«لا يدفع ذلك و لا ينكره»،أي لا ينكر و لا يدفع ما أرادوا أن يفعلوه من إحراق بيته.إذن فلم تكن القضية مجرد تهديد بالقول.

و يؤيد ذلك أيضا انه قال:«أرادوا»حيث لم يقل:«هددوا9.

ص: 176


1- الامالي للمفيد:ص 50/59.

بإحراق بيتي».

كما أن هذه الرواية صريحة في أن البيت الذي هم بصدد مهاجمته قد كان في داخل المسجد،في مقابل منبر رسول الله صلى الله عليه و آله،حيث كان أبو بكر جالسا على المنبر يبايع له هناك،بعد أن عاد من السقيفة مع أصحابه يزفونه الى المسجد،و يجبرون الناس على البيعة له،ثم جرى أمامه ما جرى و لم يدفع ذلك و لم ينكره.

و من الواضح: أن قبر رسول الله(ص)قد كان في بيت فاطمة لا في بيت عائشة كما حققناه (1)،فلم يراعوا حرمة القبر،و لا المسجد،و لا البيت،و لا الزهراء.

4-و قال المفيد أيضا في كتاب الجمل:

«لما اجتمع من اجتمع الى دار فاطمة عليها السلام،من بني هاشم،و غيرهم،للتحيّز عن أبي بكر،و اظهار الخلاف عليه،أنفذ عمر بن الخطاب قنفذا،و قال له:أخرجهم من البيت؛فإن خرجوا،و إلا فاجمع الأحطاب على بابه،و أعلمهم:أنهم إن لم يخرجوا للبيعة أضرمت البيت عليهم نارا.

ثم قام بنفسه في جماعة منهم المغيرة بن شعبة الثقفي،و سالم مولى أبي حذيفة،حتى صاروا الى باب عليّ عليه السلام،فنادى:يا فاطمة بنت رسول الله،أخرجي من اعتصم ببيتك ليبايع،و يدخل فيما دخل فيه المسلمون،و إلا-و الله-أضرمت عليهم نارا (2)،في حديث مشهور».8.

ص: 177


1- راجع:كتابنا دراسات و بحوث في التاريخ و الاسلام:ج 1 ص 169.البحث الذي هو بعنوان:أين دفن النبي،في بيت عائشة أم في بيت فاطمة(ع).
2- الجمل:ط جديد،ص 117 و 118.

و قد تقدم ما ذكره رحمه الله في كتاب الارشاد،فلا داعي للإعادة.

كتاب الاختصاص للشيخ المفيد:

اشارة

تقدم أن البعض:قد جعل التشكيك في نسبة كتاب «الاختصاص»للشيخ المفيد(قده)،ذريعة لرفض الاعتماد عليه فيما يرويه عن مظالم الزهراء عليها السلام،و لرفض نسبة رواية ذلك الى المفيد رحمه الله.

و نقول:اننا بعد التأمل فيما يثار حول كتاب«الاختصاص» للشيخ المفيد،وجدنا ان تلك التساؤلات لا تصلح للاعتماد عليها للطعن في صحة هذه النسبة الى ذلك العالم الجليل.

و نحن نجيب فيما يلي بإيجاز عن بعض الامور التي أثيرت حول هذا الكتاب فنقول:

1-ان في الكتاب روايات كثيرة تبدأ هكذا:«حدثني جعفر بن الحسين المؤمن»؛فظن البعض:ان الكتاب من تأليف هذا الرجل.

و نقول:إن هناك روايات كثيرة وردت في الكتاب و هي لا تبدأ باسم هذا الرجل،بل تبدأ بأسماء آخرين،أو تضيف اشخاصا آخرين بواسطة واو العطف،و هذا لا يناسب نسبة الكتاب الى الرجل المذكور.

2-ان اصحاب الفهارس،مثل النجاشي في رجاله،و الطوسي في فهرسته،و ابن شهرآشوب في معالم العلماء،لم يذكروا هذا

ص: 178

الكتاب،في عداد مؤلفات المفيد.

و يجاب بأن جميع هؤلاء لم يذكروا جميع مؤلفات المفيد،بل كل منهم قد عدّ جملة منها،و ليكن كتاب الاختصاص من جملة ما لم يذكروه.

و سيأتي وجه عدم ذكرهم له في عداد مؤلفاته إن شاء الله.

3-ان النسخ الخطية لهذا الكتاب فيها تشويش،فإن خطبة الكتاب في نسخة تجدها بعد صفحات من الكتاب في نسخة أخرى.

و يجاب عن ذلك بأنه قد تكون بعض النسخ قد انفرط عقدها، فنظمها منظّموها حسبما تيسر لهم.

4-و هنا سؤال آخر أيضا،و هو أنه يقول:«قال محمد بن محمد بن النعمان»فمن الذي قال ذلك يا ترى؟!

و الجواب:أنه من قول المؤلف نفسه،كما جرت عليه عادة المؤلفين القدامى،و ليس قول آخرين نقلوا ذلك عنه رحمه الله.

و احتمال ان تكون هذه العبارة قد كتبها البعض توضيحا،ثم أدخلها النساخ في الأصل اشتباها لا يعتد به،و هو يحتاج إلى إثبات.

فإن كان اختياره للمفيد دون سواه لأجل وجود بعض مشايخ المفيد في الكتاب،فإنه يقال له:كما كان هؤلاء من مشايخه فقد كانوا أيضا من مشايخ غيره.

مع ان في الكتاب آخرين لم يعلم أنهم من مشايخ المفيد و هم ثلاثة أضعاف أولئك،فلما ذا استفاد من ذلك العدد القليل من المشايخ، أن الكتاب للمفيد،و لم ينظر الى من تبقى منهم،و هم أكثر عددا؟!

ص: 179

5-كون الكتاب اشبه بكشكول روائي قد جاء معظمه في فضائل أهل البيت عليهم السلام،و لا يسير الكتاب في ترتيبه،وفق منهج منطقي منسجم،و المفيد يمتاز بالدقة و الابداع.

و نقول:

ان هذا ليس عيبا في الكتاب،اذ قد يتعلق غرض بعض المؤلفين بتأليف مجموعات كشكولية،روائية أو غيرها.و المفيد نفسه هو صاحب كتاب الأمالي الذي هو كتاب حديثي كشكولي أيضا.و دقة و ابداع الشيخ المفيد لا يجب أن تتجلى في كتبه الحديثية كما هو ظاهر.

هذا،مع غض النظر عن حقيقة:ان الكتاب هو اختيار و انتخاب من الشيخ المفيد لكتاب الاختصاص لابن عمران،كما سنرى..

6-توجد في هذا الكتاب بحوث لا تنسجم مع آراء المفيد في سائر كتبه،و لا يدل اطار الكتاب العام على انه من تأليف متكلم عقلي كالشيخ المفيد،بل هو أقرب الى تأليف أحد المحدثين كالشيخ الصدوق مثلا.

و قد عرف الجواب على هذا مما قدمناه آنفا،من ان الغرض قد يتعلق بحفظ بعض الاحاديث في ضمن مجموعة كشكولية كما هو الحال في كتب الأمالي-مثلا-التي الف الشيخ المفيد واحدا منها.

بالاضافة الى انه قد يكون جمع هذه الاحاديث قد حصل قبل ان يصبح المفيد اماما في العقائد و الفقه و غير ذلك.

ص: 180

و قد لا يكون الهدف من جمعها هو أن تكون كتابا منسقا بصورة فنية يتداوله الناس و يعتمدونه.

هذا عدا عن أن الرأي الكلامي و العقيدي لا يمنع من إيراد ما يعارضه،كإيراد ما يوافقه من أحاديث،و من ميزة العالم ان يتقيد بقواعد البحث الكلامي حينما يتصدى للكلام،و ان يلتزم أيضا بكل الضوابط،و يراعي كل الاصول المرعية في الحديث،و نقله و اختياره، حينما يتخذ لنفسه صفة المحدث،و لأجل ذلك نجد المحدثين يروون الاخبار المتعارضة في كتبهم،رغم تبنيهم و قبولهم بطائفة منها بخصوصها،و على الأخص في المجال الفقهي،و بمراجعة كتب الكليني و الصدوق و غيرهما من المحدثين يعلم ذلك.

هذا،و قد رأينا: ان بعض العلماء يؤلف كتبه بأكثر من صفة، فالفقيه يكتب بصفة المحدث كما وقع للطوسي(قده)،حيث كتب النهاية،و هي متون أخبار.و قد يكتب الفيلسوف بلسان العرفاء كما وقع للشيخ نصير الدين الطوسي في بعض رسائله،و قد يكتب المتكلم بلسان الفيلسوف،كما جرى للفخر الرازي،و المتصوف بلسان الفلاسفة كما جرى للغزالي،و غير هؤلاء كثير.

و من جهة أخرى نقول: إن بعض الآراء قد تتغير على مر الزمن، و لا سيما إذا كان صاحب الرأي من العلماء الذين يتمتعون بحيوية فكرية،و يسيرون في صراط التكامل في وعيهم و في فكرهم،و في معرفتهم.و قد تختلف درجات تنبه المؤلف الى الحيثيات التي يلاحظها في تآليفه بين فترة زمنية و أخرى.

مع اننا سنذكر ان هذا الكتاب هو اختيار للمفيد من كتاب آخر.

ص: 181

7-قد سجلت ملاحظة أخرى على كتاب«الاختصاص»، و هي وجود خلل أو عدم وضوح احيانا في ارجاع بعض الضمائر فيه، أو وجود فاصل كبير بين الضمير و بين مرجعه.

و قد أجيب عن ذلك بأن هذا الخلل لا ينحصر في هذا الكتاب،بل هو موجود في مختلف الكتب و منها الكافي و التهذيب، و الوسائل أيضا.

و لهذا الامر اسباب مختلفة،منها: أن المؤلف قد يعثر على رواية فيضعها في مكان من الكتاب،ثم لا يلتفت الى ضرورة إعادة النظر في التناسق المفترض ان يكون فيما بين الضمير و مرجعه بين روايتين قد فصل بينهما حديث جديد،أو كلام جديد.

8-و من ايراداتهم على هذا الكتاب:أن مؤلفه قد نقل تارة من الكتب ككتب الصدوق،و بصائر الدرجات،و أخرى عن المشايخ، و اذا نظرنا الى المشايخ الذين نقل عنهم فسنجد ان خمسة منهم هم من مشايخ المفيد،و ثمة ستة عشر آخرون لم يعثر على رواية المفيد عنهم في غير كتاب الاختصاص اصلا.

و من جهة أخرى: هناك مشايخ للمفيد لهم مكانتهم المميزة و ليس في كتاب«الاختصاص»أية رواية عنهم،كالجعابي،و أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد،و الصيرفي،و غيرهم.

و الجواب عن ذلك:

أولا: إن مؤلف الكتاب هو ابن عمران على الظاهر،و المفيد قد انتخب و اختار منه ما أعجبه،فمشايخ الكتاب هم مشايخ ابن عمران، اذن،لا مشايخ المفيد.و سيأتي مزيد تأييد لهذا إن شاء الله تعالى.

ص: 182

ثانيا: ان من الجائز ان يكون مؤلف الكتاب قد كتبه قبل ان يصبح له مشايخ كثيرون،بل قد يكون رحمه الله قد اختار كل رواياته أو بعضها من الكتب التي توفرت لديه،و ليس في ذلك أي محذور.

ثالثا: قولهم:إن بعض من روى عنهم مؤلف الكتاب لم نجد المفيد يروي عنهم في سائر كتبه،لا يصلح دليلا على نفي نسبة الكتاب إليه،اذ قد يروي عن شيخ له هنا شيئا،لم ينقله له مشايخه الآخرون،و قد يستفيد شيوخا جددا فيكتب عنهم،ثم يتركهم،و يلتزم شيوخا آخرين،لأسباب تتفاوت بحسب الحالات و الظروف، و الاغراض عبر الازمان...

و هل في علماء الحديث من يشترط في الراوي أن يروي في كل كتاب عن كل فرد فرد من شيوخه الذين يأخذ عنهم في كل تاريخه العلمي الطويل.؟

و بعد ما تقدم نقول:

هناك عدة نسخ لكتاب الاختصاص،

و هي التالية:

1-النسخة المكتوبة عن نسخة الشيخ الحر (1)و قد نسبت الكتاب الى الشيخ المفيد،دون أي غموض،حيث كتب عليها.

«كتاب الاختصاص للشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان،منتخب من الاختصاص لأحمد بن الحسين بن عمران».

ص: 183


1- و هي نسخة موجودة في الروضة الرضوية المقدسة في مدينة مشهد في ايران، و سنة كتابة هذه النسخة هو 1085 ه.أو 1087 ه.

و كتب في آخرها:«تم كتاب الاختصاص للشيخ المفيد قدس سره».

أما نسخة الشيخ الحر نفسه فقد كتب عليها تملك الشيخ الحر رحمه الله في سنة 1087 ه.و أما تاريخ كتابتها فغير معلوم،و هي موجودة في مكتبة آية الله الحكيم رحمه الله في النجف الاشرف.

2-هناك نسخة أخرى توجد في مكتبة سپه سالار طهران، تاريخ كتابتها هو سنة 1118 ه.و ذكر ناسخها أن هذا الكتاب هو مختصر كتاب الاختصاص لأحمد بن الحسين بن عمران.

و هذه العبارة لا تختلف مع ما كتب على نسخة الشيخ الحر، لأن المقصود بهذه العبارة أن الاختصاص نفسه لابن عمران؛و ذلك لا ينافي ان يكون مختصره للشيخ المفيد أيضا.

3-هناك نسخة قديمة توجد في مكتبة الروضة الرضوية في مشهد الرضا(ع)،تاريخ كتابتها سنة 1055 ه.و هي تذكر بعد عدة صفحات العبارة التالية:

«كتاب مستخرج من كتاب الاختصاص،تصنيف أبي علي أحمد بن الحسين بن أحمد بن عمران رحمه الله».

و لا تنافي هذه العبارة أيضا ما كتب على نسخة الشيخ الحر لعين ما ذكرناه آنفا،من أن الاختصاص نفسه من تأليف ابن عمران، و تلخيصه للشيخ المفيد.

و يبدو أن في هذه النسخة تقديما و تأخيرا في أوراقها،كما يظهر من ملاحظتها،و هذا الامر يحصل لأسباب مختلفة.

ص: 184

إذن،لا مانع من نسبة ما في كتاب الاختصاص المطبوع، الموافق للنسختين الاوليين الى الشيخ المفيد،باعتبار انه قد اختاره من كتاب ابن عمران و ارتضى منه ما راق له.

و قد يكون هذا الاختصار هو السبب في عدم ذكر هذا الكتاب في جملة مؤلفاته رحمه الله،حيث انه لم يبادر هو الى تأليفه، و إنما استخرجه و اختاره من كتاب شخص آخر..و عليه فهذا يدل على مدى اهتمامه بالكتاب،حتى انه ليبادر الى انتخاب ما فيه من نفائس الآثار،و استخراج ما تيسر له منه من درر الأخبار.

و يشهد لذلك:أن كتاب الفصول المختارة،الذي هو اختيار الشريف المرتضى من كتاب«العيون و المحاسن»للمفيد،لم يذكر في عداد مؤلفات الشريف.بل بقيت نسبته إلى المفيد أظهر و أوضح،و لا يزال يعد من مؤلفاته كما هو معلوم.

ص: 185

ص: 186

الفصل الخامس: كاشف الغطاء و شرف الدين

اشارة

ص: 187

ص: 188

كاشف الغطاء ما ذا يقول؟!:

اشارة

قد استدل البعض، بإجابة العالم العلم الحجة الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء-الذي وصفه بأنه من المفكرين-على سؤال حول هذا الموضوع،معتبرا ان كلام كاشف الغطاء يثبت عدم صحة ما يقال من كسر ضلع الزهراء عليها السلام،بسبب ضرب المهاجمين لها،كما أن ذلك ينفي ما يقال من دخولهم بيتها،و ضربها و ما لحق او سبق ذلك من أحداث.

و ما استدل به كاشف الغطاء هو ما يلي:
اشارة

1-قال رحمه الله:«أنا لا أبرئ هؤلاء القوم،لكن ضرب المرأة كان في ذلك الزمان عيبا،فمن يضرب امرأة يصبح ذلك عارا عليه و على عقبه،ففي نهج البلاغة عن عليّ عليه السلام:

..و لا تهيجوا النساء بأذى،و إن شتمن أعراضكم،و سببن امراءكم؛فإنهن ضعيفات القوى،و الأنفس،و العقول؛إن كنا لنؤمر بالكف عنهن و إنهن لمشركات،و إن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر،أو الهراوة،فيعير بها و عقبه من بعده (1)»..

ص: 189


1- نهج البلاغة:قسم الرسائل(شرح محمد عبده):ج 3 ص 16 ط دار المعرفة، بيروت،لبنان.

2-و قال رحمه الله:«و لكن قضية الزهراء،و لطم خدها مما لا يكاد يقبله وجداني،و يتقبله عقلي،و يقنع به مشاعري،لا لأن القوم يتحرجون و يتورعون من هذه الجرأة العظيمة،بل لأن السجايا العربية، و التقاليد الجاهلية التي ركزتها إلخ.. (1)».

3-ثم اعتبر أنهم لو فعلوا ذلك لوجدوا من الصحابة،من يمنعهم و يردعهم عن ذلك.

4-و استدل أيضا بأنها عليها السلام ما ذكرت أنهم قد اعتدوا عليها بالضرب،أو أسقطوا جنينها،و لا أشارت إليه في شيء من خطبها و مقالاتها المتضمنة لتظلمها من القوم،و سوء صنيعهم معها، مثل خطبتها في المسجد،بحضور المهاجرين و الانصار«مع أنها كانت ثائرة متأثرة أشد التأثر».

و قد خاطبت عليا(ع)بأن فلانا«يبتزني نحلة أبي،و بلغة ابنيّ»،و لم تقل:انه أو صاحبه قد ضربني.

و كذلك الحال حين كلمت نساء المهاجرين و الانصار،حيث بدأت كلامها بقولها:أصبحت و الله عائفة لدنياكن،قالية لرجالكن الخ...فلم تشك إلا من غصب فدك،و غصب الخلافة،مع أن ضربها،و لطم خدها،و كسر ضلعها،و نبات المسمار في صدرها،-لو صح-أعظم من غصب فدك.

كما أنها حين جاء أبو بكر و عمر،و استأذنا عليا،و دخلا عليها لاسترضائها لم تذكر لهما شيئا مما يقال إنه قد جرى عليها.

و علي أمير المؤمنين عليه السلام أيضا لم يشر الى ذلك في شيء1.

ص: 190


1- راجع:جنة المأوى:ص 81.

من خطبه و مقالاته.و قد هاجت أشجانه بعد دفنها،و خاطب النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله:السلام عليك يا رسول الله،عني، و عن ابنتك النازلة في جوارك..إلخ..

و قد كان المقام يقتضي ذكر ذلك،لو أنه قد كان؛لأنه حجة قوية عليهم،و فيه اثارة عاطفية ضدهم من جميع الجهات (1).

ثم اعتبر رحمه الله أن هذا الأمر إنما صدر عن قنفذ الوردي دون سواه.

هذا،ما ذكره كاشف الغطاء،و تمسك به و أعاده بعض من يريد التشكيك،و اثارة غبار الريب حول هذه القضية.

و نقول في الجواب:
اشارة

ان كلام الشيخ كاشف الغطاء،الذي استفاد منه هذا البعض للتشكيك بما جرى على الزهراء،يتضمن العديد من النقاط،نذكرها على النحو التالي:

1-كاشف الغطاء لا ينكر ما جرى:

اننا على الرغم من اننا نعتقد ان كاشف الغطاء لا ينكر ما جرى على الزهراء من أحداث و بلايا.

فإننا نقول:

ص: 191


1- راجع المصادر المتقدمة.

أولا: إنه رحمه الله،و ان كان عالما مبرزا،لكن ذلك لا يجعله في مأمن من الوقوع في الخطأ و الاشتباه،لا سيما في امر يحتاج الى مزيد من التتبع للآثار و النصوص في مصادرها،و قد رأيناه حين ذكر رأيه في مسألة الهجوم على بيت الزهراء عليها السلام،و ضربها و اسقاط جنينها،قد ذكر ما استند إليه،و اعتمد عليه.فالعمدة هو ذلك الدليل،فلا بد من النظر فيه و محاكمته،فقد لا يكون صحيحا..

و كونه من الامامية لا يجعله في منأى عن النقد العلمي و الموضوعي لآرائه،و لما يستدل به.

ثانيا: لعل الشيخ كاشف الغطاء يخاطب أولئك الذين يقدسون هؤلاء المهاجمين،و يرون فيهم معيار الحق و ميزان الصدق،فأراد افهامهم حقيقة الامر،دون أن يثير حفيظتهم و عصبياتهم،و لذا نراه يظهر استبعاده لحصول هذا الامر،ثم يلقي التبعة على شخص لا حساسية لهم منه،و لا قداسة كبيرة له في نفوسهم،و هو قنفذ العدوي.

و يؤيد هذا المعنى انه رحمه الله انما كتب ذلك جوابا على سؤال ورد إليه،فهو قد راعى حال السائل،أو الحالة العامة التي لا يريد أن يثير فيها ما يهيج أو يثير،لا سيما مع ما ظهر من اهتمامه الكبير بأمر الوحدة فيما بين المسلمين.

ثالثا: اننا نجد هذا العالم الجليل بالذات يصرح بحقيقة رأيه حينما لا يكون ثمة مبرر للمجاراة،و المداراة،حيث لا يكون خطابه موجها الى أولئك الذين يفترض فيه ان لا يجرح عواطفهم،فتراه رحمه الله يجهر منددا بإسقاط المحسن،و باضرام النار بباب فاطمة عليها الصلاة و السلام،فهو يقول:

ص: 192

و في الطفوف سقوط السبط منجدلا

من سقط محسن خلف الباب منهجه

و بالخيام ضرام النار من حطب بباب دار ابنة الهادي تأججه (1)

رابعا:انه هو نفسه رحمه الله يذكر أن هناك اجماعا على هذا الامر،و قد تقدم شيء من عبارته حول ذلك،و نحن نعيدها كاملة هنا مرة أخرى،و هي التالية:

«طفحت و استفاضت كتب الشيعة،من صدر الاسلام و القرن الاول،مثل كتاب سليم بن قيس،و من بعده الى القرن الحادي عشر و ما بعده بل و الى يومنا هذا،كل كتب الشيعة التي عنيت بأحوال الائمة،و أبيهم الآية الكبرى،و أمهم الصديقة الزهراء صلوات الله عليهم أجمعين،و كل من ترجم لهم،و ألف كتابا فيهم،أطبقت كلمتهم تقريبا أو تحقيقا في ذكر مصائب تلك البضعة الطاهرة:أنها بعد رحلة أبيها المصطفى(ص)ضرب الظالمون وجهها،و لطموا خدها،حتى احمرت عينها و تناثر قرطها،و عصرت بالباب حتى كسر ضلعها،و أسقطت جنينها،و ماتت و في عضدها كالدملج.

ثم أخذ شعراء أهل البيت سلام الله عليهم هذه القضايا و الرزايا و نظموها في أشعارهم و مراثيهم،و أرسلوها إرسال المسلمات:من الكميت و السيد الحميري،و دعبل الخزاعي،و النميري،و السلامي، و ديك الجن،و من بعدهم،و من قبلهم الى هذا العصر.

و توسع أعاظم شعراء الشيعة في القرن الثالث عشر،و الرابعن.

ص: 193


1- راجع:مقتل الحسين،للسيد عبد الرزاق المقرم:ص 389،منشورات قسم الدراسات الاسلامية-طهران-ايران.

عشر،الذي نحن فيه،كالخطي،و الكعبي،و الكوازين،و آل السيد مهدي الحليين،و غيرهم ممن يعسر تعدادهم،و يفوق الحصر جمعهم و آحادهم.

و كل تلك الفجائع و الفظائع،و ان كانت في غاية الفظاعة و الشناعة،و من موجبات الوحشة و الدهشة،و لكن يمكن للعقل أن يجوزها،و للاذهان و الوجدان أن تستسيغها،و للافكار أن تقبلها، و تهضمها،و لا سيما و أن القوم قد اقترفوا في قضية الخلافة،و غصب المنصب الالهي من أهله ما يعد أعظم و أفظع (1)».

2-ضرب النساء:
اشارة

ان ما اعتبره رحمه الله مبررا لاستبعاد ضرب العربي للمرأة لا يصلح للتبرير،و ذلك:

أولا:لأن كلمة أمير المؤمنين عليه السلام عن العار في ضرب المرأة لا يعني استحالة صدور هذا الامر منهم،اذا كان ثمة داع أقوى، يدفع الى ارتكاب أفظع الجرائم،و هتك أعظم الحرمات.

و لا سيما اذا كان هذا الداعي هو شهوة الحكم و السلطة، و خصوصا إذا كانت الحكومة تستطيع بعد توطيدها ان تمحو العار بما تفرضه من هيبة،و بما تملك من مال و جاه،و حيث تعنو لها الرقاب خوفا أو طمعا،ثم بما يحيط المتصدي لمقام خلافة النبوة من شعور بالتقديس،و الاحترام من منطلق التدين و الايمان لدى عامة الناس.

و من جهة أخرى:قد كان و لا يزال وأد البنات عارا؟!و كان و لا يزال قتل الابن و الأخ من أجل الدنيا عارا؟و قد قتلت الخيزران ولدها

ص: 194


1- لاحظ جنة المأوى:ص 83-84 و 78-81.

من أجل الملك كما يزعمون،و قتل المأمون أخاه.و عرفت عنهم مقولة:

الملك عقيم لا رحم له (1).

و لو كان ثمة تقيد بعدم صدور القبيح منهم لما قالوا للنبي (ص)،و هو يسمع:إن النبي ليهجر،مع ان الوازع الديني يفترض ان يكون أقوى من وازع التقاليد و العادات.

بالاضافة الى أن إطلاق هذه الكلمة بحق النبي أدعى للصوق العار الابدي بهم،و هو أعظم من تجرؤهم على امرأة بالضرب،أو باجتياح بيتها،أو باسماعها قواذع القول،و عوار الكلام.

و خلاصة الامر:اذا كان ثمة شخص يخاف من العار فلا بد أن يخاف منه في كل شئونه و حالاته،أما أن يخاف من العار هنا،و لا يخاف منه هناك كما في جرأته على رسول الله(ص)فذلك غير واضح و لا مقبول..

بل ان جرأته على العار في مورد تجعلنا نتريث في تكذيب ما ينسب إليه منه في مورد آخر،فكيف اذا كان ذلك ثابتا بالادلة القاطعة،و البراهين الساطعة.

و هل يسع هذا المشكك إنكار تهديدهم للزهراء عليها السلام باحراق الدار عليها و على أولادها؟فهل هذا الامر ليس عارا على من هدد به؟!و هل يمكن أن يكون ضربها على خدها هو العار فقط دون سواه؟!.

ثانيا: ان هذا البعض الذي يستدل بكلام كاشف الغطاء،هو5.

ص: 195


1- الكامل في التاريخ،لابن الاثير:ج 6 ص 100/99.تاريخ الطبري:ج 8 ص 205.

نفسه يضع علامات استفهام كبيرة حول صحة النصوص الواردة في نهج البلاغة،و في غيره،اذا كانت تشير الى اي ضعف في شخصية المرأة،و قد تحدث هذا النص المستشهد به عن هذا الضعف،فهو يقول:«فانهن ضعيفات القوى و الانفس و العقول».

و قد شكك هو نفسه في صحة خصوص هذا النص اكثر من مرة!!فكيف يستدل هنا بأمر يرفضه جملة و تفصيلا في مقام آخر؟!.

ثالثا: لقد ضربت بنات رسول الله(ص)بالسياط في يوم كربلاء حين وجد الحقد الاسود الذي أعمى بصائرهم و أبصارهم، و صدهم عن التفكير بما يترتب على ذلك من عار في الدنيا،و من التعرض لغضب الجبار في الدنيا و الآخرة..

و هناك شواهد تاريخية كثيرة تؤكد:انه اذا وجد دافع أقوى من دافع دفع العار،فإنهم لا يتورعون عن قبول هذا العار.

و نحن نذكر من الشواهد ما يلي:

1-لقد كان أحدهم يدفن ابنته في التراب،و هي حية،مخافة ان تأكل من طعامه،و قد قال تعالى: وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (1).

2-إن هذا القائل نفسه يذكر:ان ابن زياد لعنه الله همّ بأن يبطش بالسيدة زينب،حينما خاطبته بما أثار حفيظته،فتدخّل عمرو بن حريث،و صدّه عن ذلك بقوله:انها امرأة،و المرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها (2).

ص: 196


1- سورة التكوير:8.
2- جنة المأوى:ص 82.

3-بل لقد ذكر هذا المستدل بكلام كاشف الغطاء:ان زينب (ع)قد جلدت بالسياط و كذلك غيرها من بنات الوحي (1)صلوات الله و سلامه عليهم؛فراجع كتبه و مؤلفاته و خطاباته.

4-و قد قتلت سمية والدة عمار تحت وطأة التعذيب في مكة، من قبل«فرعون قريش»أبي جهل لعنه الله؛فكانت أول شهيدة في الاسلام (2).

5-و كان عمر نفسه يعذب جارية بني مؤمل أيضا؛فكان يضربها حتى اذا ملّ،قال:اني اعتذر إليك اني لم اتركك الاّ ملالة (3).و عذبت أيضا أمّ شريك رحمها الله؛فلما ذا لم يكن خوف لحوق العار به عائقا له عن اقتراف هذا الامر الموجب للعار.

6-و تحدثنا كتب الحديث و التاريخ:أنه لما مات عثمان بن مظعون بكت النساء،فجعل عمر يضربهن بسوطه؛فأخذ رسول الله (ص)يده،و قال:مهلا يا عمر،دعهن يبكين الخ (4).

7-ثم ضرب عمر النساء اللواتي بكين على أبي بكر،حتى7.

ص: 197


1- الانسان و الحياة:ص 271.
2- راجع:الاستيعاب(هامش الاصابة):ج 4 ص 330 و 331 و 333 و الاصابة: ج 4 ص 334 و 335 و السيرة النبوية لابن كثير:ج 1 ص 495 و أسد الغابة: ج 5 ص 481 و اليعقوبي:ج 2 ص 28.
3- السيرة النبوية لابن هشام:ج 1 ص 341،و السيرة الحلبية:ج 1 ص 300: و السيرة النبوية لابن كثير:ج 1 ص 493 المحبر:ص 184.
4- مسند أحمد بن حنبل:ج 1 ص 237 و 335،و مستدرك الحاكم:ج 3 ص 190،و صححه و قال الذهبي في تلخيصه المطبوع بهامشه:سنده صالح. و مسند الطيالسي:ص 351،و مجمع الزوائد:ج 3 ص 17.

قال المعتزلي:«أول من ضرب عمر بالدرة أم فروة بنت أبي قحافة، مات أبو بكر فناح النساء عليه،و فيهن أخته أم فروة؛فنهاهنّ عمر مرارا و هن يعاودن،فأخرج أم فروة من بينهن،و علاها بالدرة،فهربن و تفرّقن (1).و ذكر هذه القصة آخرون فليراجعها من أراد (2).

8-و لما مات خالد بن الوليد اجتمع في بيت ميمونة نساء يبكين،فجاء عمر...فكان يضربهن بالدرة،فسقط خمار امرأة منهن، فقالوا:يا أمير المؤمنين خمارها،فقال:دعوها،فلا حرمة لها الخ.. (3).

9-و قد أهدر النبي(ص)دم هبار بن الأسود لما كان منه في حق زينب.و ذلك معروف و مشهور.

رابعا:لما ذا لا يقبل وجدان هؤلاء ان يكون عمر هو الذي ضربها(ع)،معللين ذلك بأن ضربه لها يوجب لحوق العار به،ثم يقبل وجدانهم أن يلحق العار بقنفذ؟!فكما أن عمر عربي يخاف من العار، فإن قنفذا عربي و يخاف من ذلك أيضا!!.

و كما أن عمر من قبيلة بني عدي،فإن قنفذا أيضا هو من نفس هذه القبيلة،فلما ذا تجر الباء هنا و لا تجر هناك يا ترى؟.

لكن المحقق التستري (4)قد ذكر:ان قنفذا تيمي لا عدوى، و أن المراد أنه عدوي الولاء لأنه مولاهم،و سواء كان عدويا أو تيميا فإنه إذا كان ضرب المرأة قبيحا عند العرب،فلا بد أن ينكره الانسان العربي،و يرفضه سواء صدر من هذا الشخص أو ذاك..بل ان صدوره3.

ص: 198


1- شرح نهج البلاغة:ج 1 ص 181.
2- الغدير:ج 6 ص 161 عن كنز العمال:ج 8 ص 119 و الاصابة:ج 3 ص 606.
3- الغدير:ج 6 ص 162.عن كنز العمال:ج 8 ص 118.
4- راجع:قاموس الرجال:ج 7 ص 394/393.

من المولى بحق العربية سيواجهه العربي-وفقا لمفاهيمهم-بحساسية اكبر و رفض أشد.

خامسا:لقد روى عن علي عليه السلام:أنهم لم يصادروا أملاك قنفذ،كما صنعوا بسائر ولاتهم؛لأنهم شكروا له ضربته للزهراء (1).

فشكرهم له لكونه قد ضرب امرأة،هي الزهراء عليها السلام، سيدة نساء العالمين،هو الآخر عار عليهم،و هو يدينهم،و يهتك الحجاب عن خفيّ نواياهم،و عن دخائلهم.و يظهر أنهم لا يهتمون لهذا العار و لا لغضب الله و رسوله(ص)،بسبب غضب الزهراء(ع)، اذا وجد لديهم داع أقوى،و لا سيما اذا كان هو تحقيق شهوة هي بمستوى حكم العالم الاسلامي بأسره،و الحصول على مقام خلافة النبوة،و هو مقام له قداسته و خطره بنظر الناس.

و ذلك يبطل أيضا دعوى البعض: أنهم كانوا يجلون فاطمة و يحترمونها و يسعون لرضاها،و ما الى ذلك.

و اما استرضاؤهم لها،فسيأتي أنه كان مناورة سياسية،فاشلة و غير مقبولة..

3-قبول الناس بضرب الزهراء(ع):

أما بالنسبة الى قول المستدل:

ان الناس لن يوافقوا على التعرض للزهراء(ع)بسوء أو أذى.

ص: 199


1- جنة المأوى:ص 84 و البحار:ج 30 ص 302 و 303 و كتاب سليم بن قيس: ج 2 ص 674 و 275 و العوالم:ج 11 ص 413.

فإننا نقول:

أولا: لو صح ان الناس سوف يواجهونهم لو أرادوا بالزهراء (ع)سوءا،فإن محاولتهم احراق الباب،و جمعهم الحطب،قد كان يجري بمرأى من الناس،و قد امتلأت شوارع المدينة بالناس،كما جاء في بعض النصوص،فلما ذا لم يتدخل احد لمنعهم من ذلك؟!

و ثانيا: حين قال فلان للنبي(ص)لما طلب الدواة و الكتف ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده:ان النبي ليهجر.لما ذا لم يجد أحدا يعترض عليه،و يدينه،أو يلومه،أو يواجهه بما يكره،أو حتى من يعبس في وجهه؟!

أ لم يكن النبي(ص)أعظم و أقدس في نفوس الناس من الزهراء(ع)،و من علي عليه السلام،و من كل أحد؟!.

و ثالثا: لو قبلنا بأن الناس لا يوافقونهم على ذلك،لكن هل كان بوسع الناس و بمقدورهم الإنكار على الحكام الجدد،الذين بدءوا حياتهم السياسية بالعنف و اقاموا حكمهم بقوة السيف؟!..أ لم يكن الناس مغلوبين على أمرهم؟!.

4-احتجاج الزهراء(ع)بما جرى!

و أمّا بالنسبة للاحتجاج على القوم بما اقترفوه في حق الزهراء عليها السلام فإننا نقول:

أولا: انه لا تصح مقولة:أن عدم الاحتجاج تلازم عدم وقوع الحدث؛إذ أن الحدث يقع ثم تحصل موانع من ممارسة الاحتجاج به

ص: 200

أحيانا،و بعبارة أخرى اذا حدث أمر،و شهده الناس و عاينوه،و تحققوه بأنفسهم،فلا تبقى ثمة حاجة الى ذكره،و لا فائدة من الاخبار به،و لا سيما لمقترف ذلك الجرم نفسه،الا اذا كان ثمة ضرورة أخرى كإلزامه بالأمر أو ما شاكل.

ثانيا: قد ذكرنا انها عليها السلام لو جعلت هذا الامر محور اعتراضها على الغاصبين للخلافة،فإنها تكون قد وقعت في محذور تضييع القضية المحورية الكبرى،و هي قضية الخلافة؛لأنهم سوف يتمكنون من أن يصوروا للناس:أن النزاع معها(ع)نزاع شخصي على أمور صغيرة،و لن يعود نزاعا على الدين،أو على من هو أحق بالخلافة،أو على مصلحة الامة.

و اذا صارت المسألة شخصية،فإن الواجب يفرض على الزهراء (ع)العفو عن المسيئين،حين جاءوا إليها،و طلبوا العفو منها،لأن العفو في الامور الشخصية مما يفرضه الخلق الانساني و الاسلامي،و قد قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ،وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (1)، و قال: وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا؛أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ (2)،و قال:

فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (3) .

ان تحويل النزاع الى نزاع على أمر شخصي هو أعظم هدية تقدمها الزهراء(ع)إليهم،مع أن القضية ليست شخصية،و لم يرجعوا الحق الى نصابه،فلم يرجعوا الخلافة الى صاحبها الشرعي،و لا فعلوا اي شيء يدل على انصياعهم للحق،إذن،فلم يكن من حق الزهراء5.

ص: 201


1- سورة الاعراف:199.
2- سورة البقرة:109.
3- سورة الحجر:85.

عليها السلام ان تعفو عنهم،أو أن تهادنهم،و تظهر لهم القبول و الرضا.

ثالثا: إنها عليها السلام قد ذكرت ذلك و ذكره علي أمير المؤمنين عليه السلام أيضا.فلنلاحظ معا النصوص التي ستأتي في القسم المخصص للنصوص و الآثار.

و نشير هنا إلى بعض من ذلك أيضا:

5-احتجاج الزهراء(ع):

روى الديلمي:انها عليها السلام قالت:«فجمعوا الحطب الجزل على بابنا،و أتوا بالنار ليحرقوه و يحرقونا،فوقفت بعضادة الباب، و ناشدتهم بالله،و بأبي:أن يكفوا عنا و ينصرفوا،فأخذ عمر السوط من يد قنفذ-مولى أبي بكر-فضرب به عضدي،فالتوى السوط على عضدي،حتى صار كالدملج (1).

و ركل الباب برجله،فردّه عليّ و أنا حامل فسقطت لوجهي و النار تسعر،و تسفع وجهي؛فضربني بيده،حتى انتثر قرطي من اذني، و جاءني المخاض،فأسقطت محسّنا قتيلا بغير جرم» (2).

ص: 202


1- الدملج:حلي يلبس في العضد.محيط المحيط:ص 293.
2- البحار:ج 8 ط حجرية ص 231 عن إرشاد القلوب و ستأتي المصادر في قسم النصوص.
6-ذكر علي(ع)لهذا الأمر:

و بالنسبة لما روي عن علي عليه السلام نقول:

أولا: روى الصدوق بسنده عن علي عليه السلام؛انه قال:بينا أنا و فاطمة،و الحسن،و الحسين عند رسول الله(ص)إذ التفت إلينا فبكى،فقلت:و ما ذاك يا رسول الله؟!

قال:أبكي من ضربتك على القرن،و لطم فاطمة خدها (1).

ثانيا: ثمة حديث آخر يقول:«و خرج علي بن أبي طالب عليه السلام نحو العالية،فلقيه ثابت بن قيس بن شماس فقال:ما شأنك يا ابا الحسن؟قال:أرادوا أن يحرقوا علي بيتي،و ابو بكر على المنبر يبايع له،و لا يدفع عن ذلك و لا ينكره (2).

فهو عليه السلام يشكو و يظهر ما فعلوه معه،بطريقة عرض ما حدث،لا بطريقة الاحتجاج،بحيث يكون ذلك هو محور الاخذ و الردّ،و الجزم و الحسم،بل كانت الاحتجاجات تتجه دائما نحو احقاق الحق في الامر الاهم،و القضية الكبرى،قضية الانقلاب الذي استهدف الخلافة(التي ترتبط بالواقع الاسلامي كله)على حد تعبير المستدل.و ثمة روايات أخرى ستأتي في فصل النصوص و الآثار،ان شاء الله.

ص: 203


1- أمالي الصدوق:ص 118 و البحار:ج 28 ص 51 و ستأتي المصادر في قسم النصوص.
2- الامالي للمفيد:ص 50/49.
7-مبررات الاحتجاج غير متوفرة:

أمّا بالنسبة لتساؤل البعض عن السبب في عدم استفادة علي عليه السلام من هذا الامر في حجاجه و احتجاجه،مع ان فيه حجة قوية و هامة عليهم،و اثارة عاطفية من جميع الجهات ضدهم على حد تعبير المستدل.

فإننا نقول:

1-لم يكن هذا الامر خافيا على الناس ليذكره(ع)لهم، و يخبرهم به.

و ليس بالضرورة استيعاب جميع الوقائع للاحتجاج بمضمونها لا سيما مع وضوحها و ظهورها.

2-لم يكن الموقف يتحمل اثارة،العواطف،بل كان لا بد من المداراة،و تهدئة العواطف الثائرة حتى لا يبلغ السيل الزبى،و يقع في مخالفة أمر رسول الله(ص)له بالسكوت،و عدم المواجهة المسلحة لهم؛لما في ذلك من أضعاف للدين،و تهيئة لأجواء الردة عن الاسلام، كما صرح به أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة و غيره.

3-قد تقدم انه عليه السلام قد ذكر ذلك حين لم يكن ثمة ما يمنع من ذكره،و لكن بطريقة هادئة،لا تجعل الخلافة خلافا على امر شخصي،يمكن الاعتذار منه،و العفو عنه.

4-ان مخالفتهم لأمر الله و لأمر رسول الله(ص)هي الأهم، و الأولى بالتذكير بها؛لأنها هي المعيار و المقياس للحق و للباطل،أما الجراح الشخصية،و الآلام الروحية فيمكن حلّ عقدتها ببعض من

ص: 204

الكلام المعسول منهم،و بالخضوع الظاهري بإظهار العذر و الندم، بحيث يظهر للناس أنه ليس ثمة مبرر للاصرار على ادانتهم.و ما ذكر من محاولة استرضائهما لها(ع)قبل وفاتها خير دليل على ذلك.

و سنوضح هذا الأمر في موضع آخر إن شاء الله تعالى.

8-لم تذكّر الزهراء(ع)أبا بكر بما جرى:

و قد تساءل المستدل بكلام كاشف الغطاء عن السبب في عدم ذكرها ما جرى-من ضرب و اسقاط الجنين-لأبي بكر و عمر،حينما جاءا إليها ليسترضياها.

و نقول في الجواب:

1-انها لم تذكر أيضا لهما حين جاءا غصب فدك،و لا غصب الخلافة،اللذين اشار إليهما المستدل في سؤاله،و هو نفسه يعتبر غصب الخلافة أعظم من أي جريمة.

2-ان ذكر هذا الامر لهما لا بد أن يكون له غرض،وداع.

و لم يكن غرضها آنئذ يتعلق بالذكر نفسه،بل ارادت إقامة الحجة عليهما بانتزاع اقرار منهما بما سمعاه من أبيها،فرفضت أن تكلمهما قبل هذا الاقرار،ثم سجلت الموقف الحاسم و الدائم لها بإدانتهما على مر الاعصار و الازمان،و لم تفسح لهما في المجال لطرح أية قضية أخرى على الاطلاق،و لم تكن جلسة حساب أو عتاب،أو تعداد لما فعلاه معها،لأن ذلك لن يجدي شيئا،فقد يعتذران عن ذلك بأنها كانت فلتة،فرضتها ظروف الهيجان و الغضب غير المسئول،فلم تعطهما عليها السلام الفرصة لذلك،و هذا من بالغ الحكمة،و صواب

ص: 205

الرأي منها(ع).

و لأجل ذلك:نجدها عليها السلام تكتفي بإجمال الأمور، و تعرض عن تفاصيلها،فهي تقول:اللهم اشهد أنهما آذياني الخ..

الثابت عند السيد شرف الدين:

اشارة

ينقل البعض عن العالم العلم الحجة السيد عبد الحسين شرف الدين:أنه قال له:الثابت عندنا أنهم جاءوا بالحطب ليحرقوا باب البيت؛فقالوا:إن فيها فاطمة،قال:«و إن»...

و يضيف هذا البعض في تأييد ذلك قوله :«و لم يذكر السيد عبد الحسين في النص و الاجتهاد،و لا في المراجعات،أي شيء من هذا الذي يقال.راجعوا!!».

و نقول في الجواب:

أولا: ان السيد عبد الحسين شرف الدين لم يكن في تآليفه بصدد تفصيل هذا الامر و تحديد ما هو الثابت منه،و ما ليس بثابت، بل إنه لو أراد أن يبحث بهذه الطريقة فلربما كان قد أساء الى الهدف الذي كان يسعى له،من وراء تآليفه تلك.و قد قال الله سبحانه:

اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ،وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (1) و مراعاة المشاعر،و عدم تكدير الخواطر من هذا القبيل،الا اذا كان المقام مقام وضع النقاط على الحروف،حتى في الامور الحساسة حيث يخاف من ضياع الحق،و تمس الحاجة الى عملية جراحية حتى في المواضع الحساسة و الخطيرة،و لم يكن الامر بالنسبة

ص: 206


1- سورة النحل:124.

للسيد شرف الدين فيما تصدى له من هذا القبيل.

و لأجل ذلك: نجده رحمه الله يذكر هذا الامر بصورة عابرة و سريعة،فيقول:

«فهل يكون العمل بمقتضيات الخوف من السيف،أو التحريق بالنار إيمانا بعقد البيعة؟!و مصداقا للاجماع المراد من قوله(ص):لا تجتمع أمتي على الخطأ؟!» (1).

و يقول:«و ما إن فاءوا الى مواراته حتى فاجأوا أولياءه و أحباءه بالبيعة،منهم أو التحريق عليهم،كما قال شاعر النيل حافظ ابراهيم في قصيدته السائرة:

و قولة لعلي قالها عمر

أكرم بسامعها أعظم بملقيها.

حرقت دارك لا ابقي عليك بها

إن لم تبايع و بنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفص بقائلها

أمام فارس عدنان و حاميها (2)»

ثم انه رحمه الله قد قال في هامش كتابيه:المراجعات،و النص و الاجتهاد:«تهديدهم عليا بالتحريق ثابت بالتواتر القطعي» (3).6.

ص: 207


1- المراجعات:ص 346،تحقيق و تعليق،الشيخ حسين آل راضي.
2- النص و الاجتهاد:ص 79،منشورات مؤسسة الاعلمي.
3- هامش كتابي النص و الاجتهاد:ص 79.و المراجعات:ص 346.

ثم ذكر رحمه الله في هامش الكتابين المذكورين مصادر كثيرة تعرضت لضرب«الثاني»لها عليها السلام،و اسقاط جنينها،و غير ذلك من أمور،فإذا اطلع عليها مراجعها،فلسوف يدرك أنه قد أحسن إليه حين لم يحرجه بهذا الامر الخطير،و لو انه أحرجه بأمر كهذا فلسوف نجده يلتمس المسارب،و المهارب،و التأويلات،بعصبية و انفعال،يمنعه من استيعاب الفكرة بصورة عفوية و طبيعية.

و لو كان السيد شرف الدين رحمه الله لا يهدف إلى ذلك لكان عليه أن يقتصر على المصادر التي تحدثت عن خصوص التهديد بالاحراق.و اهمال ما عداها..

و الخلاصة:ان النقاش و الاحتجاج و الحوار يستبطن معه شعورا بالتحدي للشخص في قناعاته،فيندفع بطريقة لا شعورية للدفاع عن أمرين:عن الفكرة،و عن نفسه.

فإن كان ثمة مستمع للمتحاورين فإنه سيستوعب الفكرة مجردة عن حالة التحدي،و سوف يقبل و يستسلم للحق قبل ذينك المتحاورين،لأنه لا يشعر بحساسية،و لا يواجه مشكلة وراء فهم الحوار و تقييمه،و لا يطلب منه التراجع عن شيء،و لا يشعر بالتقصير، أو بالادانة الشخصية على قلة التثبت،أو عدم الدقة،أو ما اشبه ذلك.

و قد كان السيد شرف الدين يحرص على أن لا يحرج من يحاوره،و أن لا يضطره إلى هذا الخيار الصعب.

ثانيا: ان ما نقل شفاها عن السيد شرف الدين،لا يمكن التعويل عليه هنا؛إذ لعله رحمه الله لم يكن في مقام نفي الثبوت لما سوى التهديد بالتحريق،بل كان رحمه الله يريد التأكيد على ثبوت هذا

ص: 208

الشق و السكوت عما عداه لمصلحة يراها في هذا السكوت،هي نفس المصلحة التي منعته عن الدخول في تفاصيل هذا الامر في كتبه.

و الشاهد،بل الدليل على ما نقول ما يلي:

1-ان هذا الامر لم يسجله السيد في كتبه،و لم ينقل لنا أحد من العلماء الآخرين أنه قاله له،فلما ذا اختصه-إذن-بهذا السر الخطير،الذي يطال قضية حساسة جدا،مع انه كان لا يزال شابا مراهقا،في مقتبل عمره،حيث كان له من العمر حوالى سبعة عشر عاما،إذا كان قد قاله له في أوائل الخمسينات،و إن كان قد عاد فقال:أنه ذكر له ذلك في أواسطها أي في سنة 1955 م،لكن الغريب أنه قال هنا أيضا:ان عمره 23 أو 24 سنة مع العلم بأنه قد ولد في سنة 1935 م!!و لم يبلغ هذا المقدار من العمر حتى في سنة وفاة السيد شرف الدين أي سنة 1957 م.

2-إن الرواية التي ذكرها بعنوان«الثابت عندنا..الى ان قال:

فقالوا إن فيها فاطمة فقال:و إن..!!»انما ذكرت في كتاب الامامة و السياسة،و هو لم يذكر لها سندا،و غيرها من الروايات أكثر تداولا و نقلا،و أصح سندا،و أكثر عددا،حتى إنها لتعد بالعشرات،و لها طرق و أسانيد كثيرة و متنوعة؛فكيف يعتبر السيد شرف الدين تلك الرواية هي ما ثبت عندنا،و يترك سائر الروايات و النصوص الكثيرة و المسندة،و التي تعد بالعشرات فلا تكون ثابتة؟!

و بالنسبة لروايات التهديد بالاحراق لما ذا تكون هي الثابتة،و لا تكون روايات ضربها،و اسقاط جنينها ثابتة معها أيضا.مع ان الروايات تلك ليست بأكثر و لا أصح من هذه؟!و قد ذكر عدد من الروايات ان كل تلك الامور قد حصل.كما يتبين لك في هذا

ص: 209

الكتاب.

ثالثا: من الذين يقصدهم آية الله شرف الدين بقوله:«عندنا» هل يقصد«عندنا»نحن الشيعة؟!أم يقصد نفسه فقط؟!.

فإن كان مراده الاول،فإن ذلك لا يصح،و قد تقدم كلام الطوسي و كاشف الغطاء حول ذلك،كما أن تتبع كلمات علماء المذهب في مؤلفاتهم-و قد اوردنا شيئا منها في هذا الكتاب-يكشف لنا ان ما قاله الطوسي في تلخيص الشافي هو الاجدر بالرضا،و بالنقل، و القبول.

و إن كان مراده الثاني،فقد يكون صحيحا إذا أخذنا بنظر الاعتبار:حجم المصادر التي كانت بحوزته رحمه الله تعالى،و التي يستشفّ من هوامش كتبه أنها قليلة و محدودة بالنسبة لما هو متوفر في أيدي الناس في هذه الايام.

بالاضافة الى ما استجد من مصادر كانت في عداد المخطوطات،غير المتداولة ثم أخذت طريقها الى التحقيق و النشر،و لم يتسنّ للسيد شرف الدين أن يطلع على شيء منها،و هذا يجعلنا نستبعد أن يكون قد اكتفى بما نسب إليه«انه ثبت عنده،و هو رواية:

و إن»،فإن المفروض فيه و هو العالم البحاثة ان يستقصي البحث في المصادر،و لا يستعجل في اصدار حكمه لو صح أنه قد حكم.

رابعا: ان عدم ثبوت ذلك عند آية الله شرف الدين،لا يعني انه لا يمكن ان يثبت اصلا،اذا أمكن للباحث ان يتتبع نصوص هذه القضية و يحشد لها من القرائن و الشواهد ما يكفي للعالم المنصف.

فربما كانت له رحمه الله انشغالات كبيرة و كثيرة تحجزه عن

ص: 210

التتبع في كثير من القضايا التي تحتاج الى ذلك،اذا كانت لا تقع في دائرة اهتماماته الفعلية.

و حتى لو لم يكن الامر كذلك،فإن الاشكال العلمي يرد على السيد شرف الدين،كما يرد على غيره،فإن القضايا العلمية و الدينية تابعة للدليل و البرهان.إلا إذا كان المعصوم هو الذي يقرر و يتحدث.

خامسا: إننا لا نستطيع أن نحدد طبيعة السؤال الذي وجّه الى السيد،لأن السؤال هو الذي يتحكم في وجهة الجواب و مداه.

فقد يكون السؤال: هل أحرقوا دار الزهراء؟!

فيأتي الجواب هكذا: الثابت عندنا هو التهديد بالاحراق لا نفس الاحراق،أما اسقاط الجنين،فلا سؤال عنه و لا جواب،أي أن الجواب يريد أن ينفي الاحراق فعلا،و يثبت التهديد به فقط،و لكنه ساكت بالنسبة لاسقاط الجنين،و بالنسبة لضربها،و غير ذلك من أمور حيث لا يتعرض لها لا بنفي و لا بإثبات،فهو كما لو قلت:زيد طويل،فإنه لا يعني انه ليس بأسمر اللون،أو ليس بعالم.

و قد يكون السؤال هكذا: هل ضربت الزهراء و اسقط جنينها.

فيأتي الجواب: الثابت هو التهديد بالاحراق..

فيدل على نفي ثبوت ما عدا التهديد،و هو ما ينقله ذلك البعض عن السيد شرف الدين.

و عليه فمع عدم احرازنا طبيعة السؤال الموجّه فلا نستطيع ان ننسب للسيد شرف الدين أنه ينفي ما عدا التهديد بالاحراق.

و سادسا: ان الناقل لهذا الكلام الخطير قد كان شابا حين وجّه

ص: 211

السؤال الى للسيد و سمع منه الجواب،و ربما لا يزيد عمره آنئذ على السبعة عشر عاما-كما أشرنا إليه-و لم يكن قد خبر الأساليب العلمية التي تمتاز بالدقة و لا اعتاد عليها،فلعله قد وقع في خطأ في فهم الاسلوب العلمي،أو قدم كلمة أو أخرها،فاختلف المعنى،و هو انما ينقل عن امر يقول انه قد كان قبل حوالى خمسة و اربعين عاما،كما صرح به في بعض رسائله المؤرخة في سنة 1414 ه.

على أن احتمال النسيان،أعني نسيان نص الاجابة وارد هنا.

و الشاهد على ان السؤال: إنما كان عن وقوع الاحراق،او التهديد به-كما هو الاحتمال الثاني-أن الامام السيد شرف الدين نفسه،قد اشار-كما تقدم-الى انه قد كان ثمة خوف من السيف أو من التحريق.

مع أنه لم يشر الى السيف في اجابته لسائله عن هذا الامر.

ثم ان قول هذا البعض: إنه عثر أخيرا على رواية في البحار...

يدل على أنه لم يكن منذ وفاة السيد شرف الدين بصدد التحقيق في هذا الامر،إذ لا يعقل أن يبقى اكثر من أربعين سنة يبحث في هذا الامر الذي تدل عليه عشرات الروايات عن المعصومين،و عشرات بل مئات النصوص عن غيرهم..ثم لا يعثر في هذه المدة كلها إلا على رواية واحدة!!.

شواهد و دلائل أخرى:

و بعد،فان نفس السيد شرف الدين رحمه الله قد ذكر انهم

ص: 212

اخرجوا عليا كرها،و ذكر أيضا كشف بيت فاطمة (1)ثم هو يذكر مهاجمتهم البيت،و كانوا جمعا كثيرا،أرسلهم أبو بكر ردءا لعمر و خالد،و أن الناس اجتمعوا ينظرون،و امتلأت شوارع المدينة بالرجال، فلما رأت فاطمة ما صنع عمر صرخت،و ولولت،و اجتمع معها نساء كثير من الهاشميات و غيرهن،فخرجت الى باب حجرتها،و نادت:يا أبا بكر،ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله الخ.. (2).

و ذكر أيضا رحمه الله حديث أبي الاسود:أن عمر و أصحابه اقتحموا الدار و فاطمة تصيح و تناشدهم (3).

فهو يذكر ذلك كله،و يذكر اسماء المشاركين في الهجوم على بيت الزهراء،و يذكر الخوف من السيف،و يرسله ارسال المسلمات، و لا يبدي أي تحفظ تجاهه.

فكيف اذن يقول البعض: ان السيد شرف الدين رحمه الله تعالى.«لم يذكر في المراجعات و لا في النص و الاجتهاد،أي شيء من هذا الذي يقال-راجعوا»فها نحن قد راجعنا و وجدنا خلاف ما يقول!!

و الخلاصة: ان ذلك كله يدل على انه رحمه الله يقول:انهم قد تجاوزوا حدود التهديد الى الممارسة العملية،التي وصلت الى درجة اقتحام البيت،و غير ذلك مما ذكرناه آنفا.

و لعله رحمه الله قد قال لهذا الناقل نفس ما قاله في كتابيهن.

ص: 213


1- النص و الاجتهاد:هامش ص 82،ط مؤسسة الاعلمي.
2- المصدر السابق،و شرح نهج البلاغة للمعتزلي:ج 6 ص 50 عن كتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري.
3- المصدران السابقان.

المراجعات،و النص و الاجتهاد من أن التهديد بالتحريق ثابت بالتواتر القطعي.

و هذه العبارة تختلف عن عبارة:الثابت عندنا هو التهديد بالتحريق..و كل ما ذكرناه يؤيد العبارة الاولى و يشد من أزرها، و يضعف العبارة الاخرى،فان ذكره للمصادر في الهامش في صفحة واحدة و منها ما يشير الى كل الموضوع و منه قضية الضرب و إسقاط الجنين يشير الى رغبته في اطلاع المراجع عليها...إلى آخر ما قدمناه..

ص: 214

الفصل السادس: الحب و الاحترام يردعهم

اشارة

ص: 215

ص: 216

توطئة و اعداد:

ان يستبعد إقدام زعماء الانقلاب على مهاجمة بيت فاطمة الزهراء صلوات الله و سلامه عليها،على اعتبار ان مكانتها عليها السلام كانت تمنعهم من الاقدام على أمر كهذا..

و يحاول الاستدلال على هذه المكانة بالعديد من الامور،التي هي الأخرى إما مجرد دعاوى لا دليل عليها،أو أنها لا تصلح للاستدلال بها على ما يريد.

غير أنه لا يستبعد أن يكونوا قد هددوا من في البيت بإحراق البيت عليهم بهدف التأثير النفسي عليهم،لينصاعوا لما يطلبونه منهم، مع تأكيده على أنهم كانوا لا يقصدون إلا اعتقال علي أمير المؤمنين عليه السلام،أما الزهراء و سواها،فلا شغل لهم بها!!

و نحن نتحدث في هذا الفصل عن هذه الامور التي ذكرها هذا المستدل و اعتبرها كافية لتبرير ما يتظاهر به من شك لا يصل الى درجة النفي الصريح،و إن كان يحاول حشد ما أمكنه من الادلة و الشواهد لنفي ذلك كله،لا لمجرد الشك،و فيما يلي نذكر شواهده و دلائله هذه مع بيان وجه عدم صلاحيتها للاستشهاد أو الاستدلال بها.

ص: 217

نقاط البحث في هذا الفصل:

و نحن قبل الدخول في التفاصيل نشير الى أن الحديث في هذا الفصل سوف يكون عن جانب من النقاط التالية:

1-إن الخصومة مع شخص لا تمنع من أن يكون من يخاصمه يحترم زوجته و يجلها لسبب أو لآخر.

2-إن حمل علي عليه السلام لفاطمة الى بيوت الانصار لطلب نصرتهم،يدل على مكانتها و احترامها في المجتمع الاسلامي.

3-ان الذين جاء بهم عمر الى بيت الزهراء قد اعترضوا عليه حينما هدد بإحراق الدار بمن فيها،فقالوا له:إن فيها فاطمة؟!فقال:

و إن،و ذلك يدل على عدة أمور:

أحدها: ان للزهراء مكانة لا يمكن تجاهلها.

الثاني: ان قلوب الذين جاء بهم عمر كانت مملوءة بحب الزهراء فكيف نتصور أن يهجموا عليها؟.

الثالث: إنهم حتى لو كانوا لا يحبون الزهراء عليها السلام، أولا يحترمونها،فإنهم إنما جاءوا لإخضاع المعارضة،و اعتقال علي، و لا شغل لهم بالزهراء(ع)،حتى و لو كانت موجودة،و هذا ما قصده عمر بقوله:و إن..

الرابع: هناك أكثر من خبر يتحدث عن احترام الناس للزهراء عليها السلام،فكيف يجرأ القوم على الاعتداء عليها؟

الخامس: إن مجيئهم-أعني أبا بكر و عمر-الى بيت الزهراء

ص: 218

(ع)،و طلبهم المسامحة منها،يدل على عظم مكانتها في المجتمع الاسلامي و لا سيما عند كبار الصحابة.

السادس: ان الزهراء عليها السلام قد رضيت على الشيخين حينما جاءا إليها لطلب رضاها.

السابع: ان استقبال الزهراء(ع)للشيخين يدل على عدم صحة الحديث الذي يقول:«خير للمرأة أن لا ترى الرجال،و لا يراها الرجال».

خصومتهم لعلي(ع)و احترام الزهراء(ع):

هناك من يقول: ان خصومة المهاجمين مع علي(ع)،لا تمنع من كونهم يحبون الزهراء عليها السلام و يحترمونها،إذ قد يكون هناك مرشح ينافس مرشحا آخر،و يريد إسقاطه في الانتخابات،و لكن خصومته له لا تمنع من أنه يحترم زوجة منافسه و يجلها،لسبب أو لآخر.

و الجواب:

اننا نلاحظ على هذه المقولة أمورا عديدة:

أولا: إن قضية علي عليه السلام مع هؤلاء القوم المعتدين عليه و على بيته،و الغاصبين لحقه،و المخالفين لأمر الله تعالى و رسوله(ص)لا تشبه التنافس بين مرشحين،بل هي بالانقلابات العسكرية بالقوة العادية و المدمرة أشبه،إن لم تكن أكثر وضوحا،و أعمق في ايحاءاتها و دلالاتها.

ثانيا: إن احترام زوجة المنافس لا يعرف بالتكهّن و التظنن،بل

ص: 219

يعرف بالممارسة و الموقف و الحركة على أرض الواقع،و قد رأينا من هؤلاء القوم ممارسة قاسية و شرسة ضد زوجة من يصفه هذا المستدل بالمنافس(!!)إنها ممارسة لا تنم عن أي رحمة أو شفقة في قلوبهم، فليقرأ القارئ وصف ما جرى في مختلف النصوص و الآثار..التي لا نغالي إذا قلنا بتواترها،كما سيرى القارئ الكريم.

ثالثا: حتى لو سلمنا ان المهاجمين يحترمونها،أو حتى يحبونها(عليها السلام)،فإن الاحترام و الحب لم يمنعاهم إذ وقفت في وجههم،و هددت طموحاتهم،و كانت سببا في إفشال خطتهم الخطيرة،من أن يقلبوا لها ظهر المجن،و يعاملوها بكل قسوة.

و حتى لو كان الفاعل هم اخوتهم و أولادهم،فإنهم سيواجهونهم بنفس القدر من العنف،فإن حب السلطة و خطورة ما يقدمون عليه،يجعلهم في مأزق مصيري،يدفعهم الى حسم الامور بقوة،فالامر بالنسبة إليهم أعظم خطرا،و أقوى من تجاهل ذلك الاحترام.

و نحن نعلم ان من يحب انسانا أو يحترمه فإنه لا يحبه-عادة -أكثر من حبه لنفسه،فإذا تعارض الحبان لديه،فلن يحب السوار أكثر من يده،و لن يقطع اليد من أجل حفظ السوار بل يكسر الف سوار غال و ثمين،لتبقى يده سالمة باقية له..

مكانة الزهراء(ع)عند الانصار،و عند مهاجميها:

يدعي البعض:

ان هؤلاء الجماعة الذين هاجموا بيت الزهراء(ع)كانوا

ص: 220

يحبونها،و يحترمونها،بل ان الذين جاء بهم عمر كانت قلوبهم مملؤة بحبها،فكيف نتصور أن يهجموا عليها؟!

ثم يستدل على ذلك:

بأن عليا عليه السلام-كما في البحار و كثير من المصادر الأخرى-كان يدور بالزهراء(ع)على بيوت المهاجرين و الانصار لتدافع عن حقه،فهي إذن تريد أن تستفيد من موقعها و احترامها لكسب نصرتهم،فكيف يجرأ أحد على مهاجمتها؟!

و الظاهر: أن هذا الكلام مأخوذ من الفضل بن روزبهان،الذي يرد به على العلامة الحلي،بقوله:«ان امراء الانصار و أكابر الصحابة كانوا مسلمين منقادين محبين لرسول الله،أ تراهم سكتوا و لم يكلموا أبا بكر في هذا؟و أن احراق أهل بيت النبي(ص)لا يجوز و لا يحسن؟ (1)».

و الجواب:

أولا: هناك فرقاء ثلاثة،كانوا في المدينة.

1-فريق لا يمنعه شيء لا الدين و الاخلاق،و لا المشاعر و الاحاسيس الانسانية من مواجهة أهل البيت(ع)بالأذى،و لو بإحراق بيوتهم،و احراقهم مع بيوتهم و كل من يلوذ بهم.

2-فريق آخر يكنّ شيئا من الحب و التقدير لذلك الفريق المظلوم الذي يواجه هذه المصائب الكبيرة،و لكنه يحب السلامة، و ليس مستعدا للتضحية بشيء من أجله و في سبيله،بل حتى من أجل7.

ص: 221


1- راجع:ابطال نهج الباطل(مطبوع ضمن دلائل الصدق):ج 3 قسم 1 ص 47.

الحق و الدين الذي يدعوهم إليه.

و لا تفيد هذه العوامل مجتمعة-الحب،الاحترام،الدين، المظلومية،الانسانية،-في تحريكه ليتخذ موقفا حاسما تجاه الفريق المهاجم،بهدف اجبار عليّ(ع)على البيعة له،و قد حاول عليّ و الزهراء عليهما السلام استنهاض،و تحريك هذا الفريق بالذات،فلم يمكنهم ذلك..فضاعت بذلك وصية رسول الله(ص).

3-فريق ثالث كان يقف الى جانب الزهراء(ع)،و هو على استعداد للتضحية بكل غال و نفيس في سبيل احقاق الحق،و ابطال الباطل،حيث يجدي الإقدام و المبادرة،و هؤلاء كانوا قلة،كأبي ذر، و سلمان،و المقداد،و عمار..

و بهذا فقد اصبح واضحا: أن ليس ثمة ما يدل على ان المهاجمين كانوا هم الفريق الذي يحب الزهراء(ع)،دون الفريق الثالث،أو الثاني،بل إنا نرى في فعلهم،و هجومهم،و ممارساتهم دلالة ظاهرة على انهم هم الفريق الذي لا يحترمها،بل و يبغضها،و لا يتورع عن مباشرة إحراقها مع كل من يلوذ بها،و قد تسببوا بذلك بالفعل حين ضربوها،و اسقطوا جنينها،فاستشهدت بعدها بسبب من ذلك، و ان كانوا يحاولون عدم الجهر بهذا البغض في سائر أحوالهم،سياسة منهم،و مداراة للناس؛لكي لا يتسبب ذلك في المزيد من ميلهم الى آل علي(ع)،و اقتناعهم بمظلوميته و أهل بيته،و بأحقية نهجهم.

و خلاصة الامر:

إنه لا معنى للاستدلال على مكانة الزهراء(ع)و احترامها لدى الفريق الثاني الذي كان يحب السلامة،و لا يريد أن يدخل حلبة

ص: 222

الصراع،بان للزهراء،مكانة و احتراما في نفوس الفريق المهاجم،الذي لم يتورع عن مهاجمة الزهراء(ع)،و مواجهتها بالسوء و الاذى.

ثانيا: لو كان المهاجمون يحبون الزهراء(ع)و يقدرونها لم يكن ثمة حاجة لأن يدور بها عليّ(ع)على بيوت المهاجرين و الانصار للظفر بنصرتهم،و لإقناعهم بالدفاع عن حقه عليه السلام،بل كان يكفي ان تواجه عليها السلام المهاجمين أنفسهم،و تستخدم نفوذها لديهم،و مكانتها في نفوسهم ليتراجعوا،أو ليرجعوا من جاء بهم خائبا غير قادر على تحقيق أي مكسب،يخالف رغبة الزهراء(ع)،أو يسخطها.

و عدا عن ذلك،فإنهم اذا كانوا جميعا يحبون الزهراء(ع) فهل تستنصر بباقي الانصار لكي يهاجموا محبيها و يقاتلوهم؟!

و هل يمكن للزهراء عليها السلام ان تتسبب بالعداء بين محبيها،و ضرب بعضهم ببعض،ثم تقف هي لتتفرج على الفريقين راضية مسرورة بذلك؟!

ثالثا: اذا كان هؤلاء الناس يحبون الزهراء(ع)،فلما ذا ماتت و هي مهاجرة لهم و لمن جاء بهم؟!ثم أوصت أن لا يحضر الشيخان و لا أحد ممن ظلمها جنازتها؟و دفنت-من أجل ذلك-ليلا.و بسبب ذلك خفي قبرها على الناس كلهم (1)،و هي البنت الوحيدة لرسول الله(ص)،و هي سيدة نساء العالمين من الأولين و الآخرين؟!.

فكيف تقابل حبهم بالجفاء،و يأمرهم الله سبحانه و تعالى بحبها!.

ص: 223


1- ستأتي المصادر لذلك إن شاء الله تحت عنوان:هل رضيت الزهراء على الشيخين؟!.

و إرضائها(ع)و هي تجافيهم و تسخط عليهم!!

من الذي قال لعمر:إن فيها فاطمة؟

هناك من يقول:إن الذين اعترضوا على عمر،حين هدد بإحراق بيت الزهراء(ع)هم نفس الذين جاءوا معه ليهاجموا البيت،فقالوا له:

ان فيها فاطمة!!فقال:و إن.

و اعتراضهم هذا يدل على أن للزهراء محبة في نفوسهم،و على أنهم يحترمونها و يجلونها؛لأن معناه:أن بنت رسول الله(ص)في البيت،فكيف ندخل عليها و نروّعها و نخوّفها.

بل تقدم ان هذا البعض يقول: ان المهاجمين الذين جاء بهم عمر كانت نفوسهم مملؤة بحب الزهراء(ع)،فكيف يمكن أن نتصور ان يهجموا عليها؟!

و قبل الجواب ننبه على أمرين ذكرهما هذا البعض:

أحدهما: إن المعترضين على عمر هم نفس الذين جاء بهم ليهاجم بهم أهل بيت الوحي(ع).

الثاني: إن اعتراضهم يدل على مكانة الزهراء(ع)في نفوسهم.

و نحن نجيب على كلا هذين الامرين،فنقول:

أولا: من الذي قال:ان الذين اعترضوا على عمر هم نفس المهاجمين؟!و ما الدليل على ذلك؟!فقد كان بيت فاطمة عليها السلام في المسجد النبوي نفسه،و كان الناس يترددون على المسجد و يتواجدون فيه في معظم الاوقات،و حين هاجموا بيت الزهراء(ع)

ص: 224

«اجتمع الناس ينظرون،و امتلأت شوارع المدينة بالرجال» (1)فلما ذا لا يكون المعترض على المهاجمين هو بعض هؤلاء المجتمعين لمراقبة ما يجري،أو بعض المؤمنين الطيبين الحاضرين في مسجد النبي(ص)؛ فإن ذلك هو الانسب بظاهر الحال،حيث إن ظاهر حال المهاجمين هو انهم لا يقيمون وزنا للبيت،و لا لمن فيه،و لا للمسجد،و لا لقبر رسول الله(ص)الذي كان أيضا في بيت الزهراء(ع).

ثانيا: لو سلمنا:أن بعض المهاجمين قد قال ذلك،و لكن من الواضح أن ذلك لا يدل على انهم يحترمون الزهراء(ع)و يجلّونها، بل قد يكون هذا الاعتراض مبعثه الخوف من عواقب الاقدام على أمر خطير كهذا..فإنه اذا كان الناس يقبلون منهم الاعتداء على علي(ع) باعتبار انه هو القطب الحساس المواجه لهم،و لأطماعهم في السلطان، و اذا كانوا يعذرونهم لكون عليّ(ع)قد قتل آباءهم و أبناءهم و إخوانهم في سبيل الله،فإن الزهراء عليها السلام ليس لها هذه الصفة،فالاعتداء عليها بالاحراق،و هي البنت الوحيدة لرسول الله (ص)،و المعروفة في العالم الاسلامي كله لن يمكن تبريره امام الناس، و قد يقلب الامور ضدهم،لو ظهر ان الزهراء قتلت نتيجة لذلك.

ثالثا: لقد اعتدى المهاجمون على الزهراء(ع)بالضرب و غيره الى درجة اسقاط جنينها،و لم يعترض أحد من المهاجمين و لا من غيرهم على من فعل ذلك،و اذا كانوا يخافون من عمر فهل يخافون من قنفذ،أو من المغيرة بن شعبة،أو من أمثالهما؟!.

رابعا: اذا كان المهاجمون يحترمون الزهراء(ع)الى هذا الحد، فإن سبب تصديها لهم،و جلوس عليّ(ع)و بني هاشم في البيت0.

ص: 225


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي:ج 6 ص 50.

يصبح واضحا،لأن تصديها و الحال هذه سيمنع من وصول المهاجمين الى عليّ(ع)،و اعتقاله،على حد تعبير المستدل،و بحسب معاييره!! و بذلك يعرف سبب اقدامها على فتح الباب بنفسها،دون عليّ(ع) أو غيره ممن كان حاضرا.

و ليت هذا كان نافعا في ردعهم عن كسر الباب و اقتحام البيت!!و إن كان له بالغ الاثر في تحصين الحق و حفظه عن الضياع، و اظهار زعماء الانقلاب على حقيقتهم.

خامسا: ان تاريخ و سياسة الذين جاء بهم عمر للهجوم على بيت الزهراء(ع)لا تدل على أنهم كانوا يحبونها عليها السلام،إن لم نجد أن ثمة ما يدل على عكس ذلك.فقد ذكر لنا التاريخ أسماء عدد من المهاجمين،مثل:

أبي بكر،عمر،قنفذ،ابي عبيدة بن الجراح،سالم مولى ابي حذيفة،المغيرة بن شعبة،خالد بن الوليد،عثمان،أسيد بن حضير، معاذ بن جبل،و عبد الرحمن بن عوف،و عبد الرحمن بن أبي بكر، و محمد بن مسلمة،-و هو الذي كسر سيف الزبير-و زيد بن اسلم، و عياش بن ربيعة،و غيرهم (1).ممن سيأتي ذكرهم في قسم النصوص.ى.

ص: 226


1- كنز العمال:ج 5 ص 597،و مستدرك الحاكم:ج 3 ص 66.و قال:صحيح على شرط الشيخين،و أقره الذهبي:و حياة الصحابة:ج 2 ص 18 و الشافي لابن حمزة ج 4 ص 171 و 173،و الاختصاص:ص 186 و تفسير العياشي: ج 2 ص 66 و 67.و الرياض النضرة:المجلد الثاني ص 241.و ستأتي النصوص الكثيرة في قسم النصوص،التي تفصح عن المشاركين في الهجوم،و هناك تجد مصادرها بصورة أتم و أوفى إن شاء الله تعالى.

أخبار عن احترام الصحابة للزهراء(ع):

يقول البعض:

إن الزهراء عليها السلام كانت تحظى بمكانة متميزة لدى المسلمين جميعا،فالتعرض لها و الاعتداء عليها بهذا الشكل الفظيع قد يثير الرأي العام ضد المهاجمين.

و يدل على هذه المكانة الكبيرة لها أكثر من خبر يتحدث عن تعامل الناس معها بطريقة الاحترام و التبجيل،و ذلك يثير علامات استفهام كثيرة حول صحة ما يقال عن اعتداء شنيع عليها.

و الجواب:

أولا: لقد كان أبوها رسول الله(ص)أعظم مكانة في نفوس المسلمين منها و من كل أحد،و لكن هذا لم يمنع البعض من مواجهة رسول الله(ص)بالقول المشهور:ان النبي ليهجر (1)أو نحو ذلك.

و قائل ذلك كان على رأس المهاجمين لبيت الزهراء عليها السلام.

و لم نسمع و لم نقرأ: أن أحدا ممن كان حاضرا أو غائبا اعترض عليه،أو حتى أبدى تذمره و انزعاجه من ذلك.

و قد عصى جماعة من الصحابة أمره(ص)بأن يكونوا في جيش اسامة،و لم يجهزوا هذا الجيش،رغم انه(ص)قد لعن المتخلف عن جيش اسامة،كما هو معلوم (2).

ص: 227


1- ستأتي المصادر لذلك تحت عنوان:طلب المسامحة يدل على مكانة الزهراء (ع).
2- راجع:البحار ج 27 ص 324 و الاستغاثة:ص 21 و شرح نهج البلاغة للمعتزلي:ج 6 ص 11 و 52 و 50 و مواضع أخرى عديدة.و منار الهدى للبحراني:ص 433 و مفتاح الباب الحادي عشر ص 197،تحقيق الدكتور مهدي محقق.و حق اليقين:ص 178 و 182.و إثبات الهداة:ج 2 ص 343 و 345 و 346،عن منهاج الكرامة و عن نهج الحق.و الملل و النحل للشهرستاني:ج 1 ص 23 و شرح المواقف:ج 8 ص 376 و مجموع الغرائب للكفعمي ص 288.

كما أنهم قد نفروا برسول الله(ص)ليلة العقبة،و قذفوا زوجته.

الى غير ذلك من أمور كثيرة،ظهرت منهم تجاه النبي(ص) و عترته الطاهرين.

أضف الى ذلك: ان قتل الحسين عليه السلام و سبي عياله كان هو الآخر جريمة كبرى لا تقل عن اقتحام بيت الزهراء(ع)و الاعتداء عليها بالضرب.و القوم هم ابناء القوم.

و قد تآمروا أيضا على قتل عليّ عليه السلام،على يد خالد بن الوليد،و هو يصلي في مسجد رسول الله(ص)حينما نطق أبو بكر قبل التسليم (1)قائلا:لا يفعلن خالد ما أمرته...

ص: 228


1- راجع:مجمع الرجال للقهبائي:ج 2 ص 264 في الهامش.و الشافي:لابن حمزة:ج 4 ص 173 و 202.و ذكر ان الجاحظ رواه في الزيدية الكبرى عن جماعة من أهل الحديث منهم الزهري.و الايضاح:لابن شاذان ص 155- 158.و جلاء العيون:ج 1 ص 201،و كتاب سليم بن قيس:ج 2 كما سيأتي. و إثبات الهداة:ج 2 ص 360.و مرآة العقول:ج 5 ص 339 و 340،و الرسائل الاعتقادية ص 455،و شرح النهج للمعتزلي ج 17 ص 222 و المسترشد ص 451 ط.ايران،و البحار ج 29 ص 126 و 133 و الاحتجاج ج 1 ص 234 و علل الشرائع ج 1 ص 182 و رجال الكشي ص 695 ترجمة سفيان الثوري..

و قد أفتى أبو حنيفة بجواز التكلم قبل التسليم،استنادا الى هذه القضية كما يقال (1).

و أفتى سفيان الثوري-استنادا الى هذه القضية أيضا-بأن من أحدث قبل التسليم و بعد التشهد،فصلاته تامة (2).

ثانيا: هناك احترام يظهر في الظروف العادية،حيث لا يكون ثمة ما يرهب منه،أو يرغب عنه،أما حين يكون الامر كذلك،فإن الناس كما قال الامام الحسين عليه السلام:عبيد الدنيا و الدين لعق على ألسنتهم،فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون (3).

فالاحترام في الرخاء لا يعني النصرة عند البلاء،حين تصبح مصالحهم مهددة،و ذلك معلوم لدى كل أحد.

ثالثا: ان مما يدل على عدم صحة ما ذكروه من ان الجميع كانوا يحترمون الزهراء(ع)و يجلونها،بل كان فريق من الناس يجترئ عليها الى درجة لا يمكن تصورها،ما رواه الشيخ الطوسي عن أبي العباس ابن عقدة،عن محمد بن المفضل،عن الحسن بن علي الوشاء، عن عبد الكريم بن عمرو الخثعمي،عن عبد الله بن أبي يعفور،و معلى بن خنيس،عن أبي الصامت،عن أبي عبد الله عليه السلام،أنه قال:

أكبر الكبائر سبع..الى أن قال:«و اما قذف المحصنات،فقد قذفوا فاطمة على منابرهم الخ..» (4).).

ص: 229


1- راجع:شرح النهج للمعتزلي:ج 1 ص 222.
2- المسترشد في إمامة علي(ص):ص 90.و الايضاح:ص 190.
3- البحار:ج 44 ص 195-383 و ج 75 ص 117.
4- تهذيب الأحكام:ج 4 ص 149 و معادن الحكمة ج 2 ص 122 و 123 عنه و عن من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 366(ط النجف).

عليّ(ع)متمرد لا بد من اخضاعه:

يطرح البعض مقولة مفادها:

1-ان المجتمعين في بيت الزهراء(ع)،و هم عليّ(ع)و بنو هاشم هم معارضة للحكم،فطبيعة الامور تقتضي:أنه إذا اجتمعت المعارضة ليتمردوا على الخلافة،أن يبادر الحكام لمواجهتهم، و إخضاعهم،فمجيئهم إنما كان لاعتقال عليّ(ع)كي تنتهي المعارضة.

2-ان غرض المهاجمين هو اعتقال عليّ(ع)،و أمّا فاطمة(ع) فلا شغل لهم بها؛لأن هناك رأي عام موجود،فقول عمر«و إن»، جوابا لمن قال له:إن فيها فاطمة،يكون طبيعيا،و معناه:ما لنا شغل بفاطمة،نحن نريد القضاء على المعارضة باعتقال عليّ،فإن كانت الزهراء موجودة فنحن لا نقصدها بشيء،و قصدنا هو اعتقال عليّ فقط.

و الجواب:

أولا: اننا نستغرب جدا وصف عليّ عليه السلام بأنه«متمرد»!! و كذا وصفه و من معه من بني هاشم و غيرهم بأنهم«معارضة»!!و متى استقرّ للغاصبين حكم،و استقام لهم سلطان،حتى يوصف الآخرون بأنهم معارضة؟!فإن الاعتداء على بيت الزهراء(ع)قد كان فور عودة أبي بكر من سقيفة بني ساعدة الى المسجد،حيث جلس على منبر النبي(ص)للبيعة،و بدأ الهجوم في هذا الوقت بالذات،و حتى بعد تمكنهم من الامساك بأزمة الامور،فهل يحسن أو يصح وصف صاحب الحق الشرعي،و الذي يباشر المعتدون الاعتداء عليه؛بهدف ابتزاز حقه و منصبه الذي وضعه الله تعالى فيه،و التغلب عليه بالقوة

ص: 230

و القهر،و الحيلة و الدهاء،و بالوسائل غير المشروعة،هل يصح وصفه بأنه«معارضة»؟!و بأنه متمرد؟!و لا بد من إخضاعه؟

هل كل ذلك ليكون الغاصب المعتدي هو«الشرعية»؟!.

و ثانيا: لو صح ذلك كله،فهل يصبح معنى قول عمر:لتخرجن أو لأحرقنّ البيت بمن فيه،فقالوا له:إن فيها فاطمة،فقال:و إن..

هل يصبح معناه:إننا لا شغل لنا بفاطمة،نحن نريد اعتقال علي؟!

و هل يعني ذلك:أنهم سوف ينقذون فاطمة من الاحتراق بالنار،و يوجهون النار نحو عليّ دون سواه؟!و بذا تكون فاطمة محترمة و مبجلة عند المهاجمين،و قد حفظوا فيها والدها رسول الله (ص)؟!

ثالثا: هل يعني وجود الرأي العام:أنه سوف يمنعهم من احراق فاطمة؟!

و إذا كان الرأي العام يسمح بإحراق عليّ(ع)،فلما ذا لا يسمح بإحراق فاطمة(ع)و الحسنين(ع)معه؟!و هم مناصروه، و معاضدوه،و إذا كانت أقوال النبي(ص)في حق الزهراء(ع)تمنعهم، فلما ذا لم تمنعهم أقواله(ص)في حق عليّ(ع)؟!و أي رأي عام ذاك الذي يسمح باعتقال علي(ع) الاعتداء عليه؟

و إذا كان هناك رأي عام موجود،فلما ذا لم يمنع من قول بعضهم لرسول الله(ص):إن النبي ليهجر؟!

و لما ذا لم يعاقب القائل؟!أو على الاقل لما ذا لم يبادر الى تأنيبه،

ص: 231

و ملامته؟!بل لم نجد ما يدل على أنهم عبسوا في وجهه.و هو اقل ما كان يفترض فيهم في تلك الحال،الا إذا كان هذا البعض يريد ان ينكر حتى صدور ذلك من هذا الرجل بحق النبي الاعظم صلى الله عليه و آله و سلم!!

ثم لما ذا لم يمنع الرأي العام من ضرب الزهراء(ع)،و اسقاط جنينها بعد ذلك؟؟!

و لما ذا لم يمنع الرأي العام من قتل الامام الحسين(ع)،و من معه من نجوم الارض من بني عبد المطلب،و من خيرة المؤمنين و المخلصين؟! ثم سبي بنات رسول الله(ص)و ذريته،و الطواف بهن في البلاد، و العباد على رءوس الاشهاد؟!..

و لما ذا؟؟و لما ذا؟؟..

رابعا: من الواضح:أن كلمة«و إن»وصلية،يعاد ما قبلها الى ما بعدها،أي و إن كان في البيت فاطمة،فإني سأحرق البيت بمن فيه..

و ليس معنى هذه الكلمة:«لا شغل لنا بفاطمة نحن جئنا لنعتقل عليا» على حد تعبير هذا القائل،فإن هذا المعنى لا تساعد عليه أي من قواعد اللغة العربية،و ليس له أي وجه مقبول في علوم البلاغة أو غيرها..

و أما كلمة(بمن فيه)؛فإن كلمة«من»التي يراد بها العقلاء، تؤكد على انه سيحرق البيت و يحرق جميع من فيه من الناس،و فيهم فاطمة و الحسنان و عليّ عليهم سلام الله.

و لو سلمنا صحة هذا التفسير؛فإذا كان لا شغل لهم بفاطمة، فهل لا شغل لهم أيضا بمن فيه من بني هاشم،و الزبير،و العباس،الذين

ص: 232

يقول هذا البعض:إنهم كانوا موجودين أيضا؟!.

فهل كلمة(بمن فيه)قد وضعت في اللغة العربية لخصوص عليّ عليه السلام،و خرج الحسنان عليهما السلام،و فضة و الزبير، و الهاشميون و فاطمة و العباس و..و..و..

أضف الى ذلك:أنه لو كان ليس له شغل بفاطمة،فلما ذا لم يطلب منها مغادرة البيت الذي جاء بالحطب ليحرقه بمن فيه؟!بل هو عوضا عن ذلك قال في جواب:إن فيها فاطمة:«و إن».

طلب المسامحة يدل على مكانة الزهراء(ع):

و يتساءل البعض،فيقول:

أ لا يدل طلب الشيخين-أبي بكر و عمر-المسامحة من الزهراء (ع)،على أن الزهراء عليها السلام كانت تحتفظ بقيمتها في المجتمع المسلم بين كبار الصحابة؟.

الجواب:

أولا: إن طلب المسامحة نفسه هذا يدل على أنهم قد آذوها، و أغضبوها،الى درجة احتاجوا الى طلب المسامحة منها و لو ظاهرا.

و ثانيا: لا شك في أن الزهراء(ع)كانت تحتفظ بقيمتها في المجتمع المسلم،و هذا ما اضطر الذين آذوها و اعتدوا عليها الى محاولة امتصاص النقمة،و ازالة الآثار و النظرة السلبية التي نشأت و ستنشأ تجاههم بسبب ما فعلوه و ما ارتكبوه في حقها(ع).

و ثالثا: إنهم حين استرضوها لم يقدموا أي شيء يدل على أنهم

ص: 233

كانوا جدّيين في ذلك الاسترضاء،بل إن كل الدلائل تشير الى انهم قد أقدموا على ذلك من أجل الاعلام و للاعلام فقط،فهم لم يرجعوا إليها فدكا،و لم يتخذوا خطوات عملية لإزالة آثار اعتدائهم الآثم عليها،و لا تراجعوا عن تصميمهم الأكيد على اغتصاب حق عليّ عليه السلام،و كذلك هم لم يعترفوا بأي خطأ أمام الصحابة بصورة علنية،حيث ارتكبوا ما ارتكبوه بصورة علنية أيضا.

و رابعا: إن«احتفاظها بقيمتها»لم يمنعهم من الاعتداء عليها بالضرب و بغيره،كما أن أباها قد كان أعظم في نفوس الناس منها، و أقدس.و لم تمنعهم عظمته و قداسته،و قيمته-حين اقتضت طموحاتهم و مصالحهم-من توجيه أقسى قواذع القول له(ص)، حينما تصدى بعضهم لمنعه(ص)من كتابة الكتاب بالوصية لعليّ عليه السلام و كان(ص)على فراش المرض،في ما عرف برزية يوم الخميس!و قال قائلهم:إن النبي ليهجر!أو:غلبه الوجع! (1).

هذا بالاضافة الى أنهم كانوا قبل ذلك قد واجهوا ذلك64

ص: 234


1- الايضاح:ص 359 و تذكرة الخواص:ص 62 و سرّ العالمين:21،و صحيح البخاري:ج 3 ص 60 و ج 4 ص 5 و 173 و ج 1 ص 21 و 22 و ج 2، ص 115،و المصنف للصنعاني:ج 6،ص 57 و ج 10،ص 361،و راجع ج 5 ص 438 و الارشاد للمفيد:ص 107 ط النجف،و البحار:ج 22،ص 498. و راجع:الغيبة للنعماني:ص 81 و 82 و عمدة القاري:ج 14،ص 298 و ج 2 ص 170 و 171 و ج 25 ص 76 و فتح الباري:ج 8 ص 100 و 101 و 102 و 186 و 187 و البداية و النهاية:ج 5،ص 227 و 251 و البدء و التاريخ:ج 5 ص 59 و الملل و النحل:ج 1،ص 22،و الطبقات الكبرى:ج 2،ص 244، و تاريخ الامم و الملوك:ج 3،ص 192-193 ط-الاستقامة،و الكامل في التاريخ:ج 2،ص 320،و أنساب الاشراف:ج 1،ص 562،و شرح النهج للمعتزلي:ج 6،ص 51،و ج 2 ص 55،و تاريخ الخميس:ج 2،ص 164

الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم بالصراخ و الضجيج في موسم الحج (1)حين قال لهم الائمة بعدي اثنا عشر..حتى لم يستطع السامع أن يسمع ما يقوله الرسول(ص)بعد ذلك،«كلهم من

ص: 235


1- راجع:مسند أبي عوانة:ج 4 ص 394 و 400،و مسند أحمد،ج 5 ص 99 و 93 و 90 و 96 و 98 و 101،و سنن أبي داود:ج 4 ص 106،و الغيبة للنعماني:ص 122 و 124 و 121 و 123،و إرشاد الساري:ج 10 ص 273، و صحيح مسلم:ج 6 ص 4 ط مشكول،و الغيبة للشيخ الطوسي:ص 88 و 89 و فتح الباري:ج 13 ص 181 و 182 و 183 و 184،و أعلام الورى: ص 38،و البحار:ج 36 ص 239 و 235 و 240 و ج 63 ص 236،و منتخب الاثر:ص 20،و إكمال الدين:ج 1 ص 272 و 273،و تاريخ الخلفاء:ص 10 و 11،و الصواعق المحرقة:ص 18،و ينابيع المودة:ص 444 و 445،و الخصال أبواب الاثني عشر.و راجع ج 2 ص 474 و 470 و 472،و عن عيون أخبار الرضا،و عن كتاب مودة القربى،المودة العاشرة.و إحقاق الحق(الملحقات): ج 13 ص 1،و العمدة لابن البطريق:ص 421.و راجع:النهاية في اللغة:ج 3 ص 54،و لسان العرب:ج 12 ص 343.و عن كتاب:القرب في محبة العرب:ص 129.

قريش» (1)و ذلك حين أحسّوا منه أنه يريد أن يؤكد على إمامة عليّ عليه السلام و خلافته من بعده.

كما ان قيمة و عظمة و قداسة هذا النبي لم تمنعهم من الاصرار على مخالفة أمره الاكيد لهم بأن يلتحقوا بجيش أسامة،مع انه(ص) قال لهم:لعن الله من تخلف عن جيش أسامة (2)،كما ان ذلك لم يمنعهم من محاولة اغتياله(ص)بتنفير ناقته به في العقبة (3).7.

ص: 236


1- راجع:حول عدم سماع الراوي لكلمة:«كلهم من قريش»،أو«من بني هاشم» المصادر التالية: صحيح مسلم:ج 6 ص 3 بعدة طرق.ط مشكول.و مسند أحمد ج 5 ص 92 و 93 و 94 و 90 و 96 و 95 و 89 و 97 و 98 و 99 و 100 و 101 و 106 و 107 و 108،و مسند أبي عوانة:ج 4 ص 394،و حلية الاولياء ج 4، ص 333،و أعلام الورى:ص 382،و العمدة لابن البطريق ص 416-422، و إكمال الدين ج 1 ص 272،و 273،و الخصال:ج 2 ص 469 و 275،و فتح الباري:ج 13 ص 181-185 و الغيبة للنعماني:ص 119-125،و صحيح البخاري:ج 4 ص 159،و ينابيع المودة:ص 444-446،و تاريخ بغداد:ج 2 ص 126 و ج 14 ص 353،و المستدرك على الصحيحين:ج 3 ص 618، و تلخيصه للذهبي(مطبوع بهامشه)نفس الصفحة،و منتخب الاثر: ص 10-23 عن مصادر كثيرة،و الجامع الصحيح للترمذي:ج 4 ص 501،و سنن أبي داود:ج 4 ص 116،و كفاية الاثر من ص 49 حتى نهاية الكتاب،و البحار:ج 36 ص 231،الى آخر الفصل،و إحقاق الحق(قسم الملحقات)ج 13 ص 1-50،عن مصادر كثيرة.
2- تقدمت المصادر لذلك.
3- راجع:المسترشد في امامة علي(ع):ص 146،و الفرق بين الفرق:ص 147.

و خامسا: أي مكانة لها في نفوسهم و عمر يقول لأبي بكر، و هو يبكي عند ما زجرته الزهراء لما دخلا عليها لاسترضائها:أ تجزع لغضب امرأة.؟

و سادسا: انه لا يمكن تقويم أحداث التاريخ على اساس تحكيم عامل واحد في صنع الحدث كالعامل الانساني فقط،أو الاخلاقي،أو الديني،أو المصلحي،أو الاقتصادي،أو العقلي،أو ما الى ذلك،و ان كان لكل واحد منها درجة من التأثير في صنع هذا الحدث،و تحديد دوافعه و آثاره.

و لو صح هذا لكان اللازم تكذيب قتل يزيد للحسين مثلا،أو ادعاء فرعون للربوبية،لأن ذلك لا ينسجم مع الدين و لا مع الاخلاق، و لا يقره عقل أو وجدان!!

و الحقيقة هي أن المؤثر في صنع الحدث قد يكون تلك الامور المتقدمة كلها،و قد يكون السبب هو جنون الشهوات أيضا،بل قد ينتج الحدث عن حماقة،أو عن توهج عاطفي،أو عن امراض و عقد نفسية،أو عن طموحات صحيحة أو خاطئة،و قد يكون بعض ما تقدم،منضما الى هذا أو الى غيره،واحدا كان أو أكثر،هو المؤثر في صنع الحدث.

إذن،فتعظيم الزهراء عليها السلام و احترامها قد لا يمنعهم من غصب فدك منها مثلا،اذا اقتضت سياساتهم،أو مصلحتهم،أو شهوتهم للحكم،أو للمال ذلك.

و كلنا يعرف ان حب الولد و العطف عليه لا يمنع أباه من قتله اذا نازعه الملك،و قد سمعنا العديد من الحكام يقول:الملك عقيم لا

ص: 237

رحم له (1)و قد يضرب احدهم ولده ضربا مبرحا،لسبب شخصي،أو لوقوفه في وجه بعض طموحاته و شهواته.

و يقال:إن بعض النساء في العهد العباسي قتلت ولدها في سبيل الملك،و المأمون قد قتل أخاه في سبيل ذلك،كما قدمنا.

و هكذا يتضح:أن العوامل و المؤثرات قد يقوى بعضها على بعض،و يلغي بعضها تأثير البعض الآخر.

هل رضيت الزهراء على الشيخين؟!

و يضيف هذا البعض:أن القضية قد انتهت في حينها،فإنها صلوات الله و سلامه عليها قد رضيت على أبي بكر و عمر حينما استرضياها قبل وفاتها.

و نقول:

أولا: صحيح أن رضا الزهراء عليها السلام هو أمنية محبي التيار الذي هاجم فاطمة عليها السلام و آذاها،حرصا منهم على أن لا يظهر ذلك الفريق في جملة من آذى رسول الله،و أغضبه،ليكون في العلن مؤذيا و مغضبا لله سبحانه.و قد حاول بعضهم أن يزوّر في الرواية التي ذكرت هذه القضية،لصالح من يحبونهم،فذكروا:أنها رضيت

ص: 238


1- راجع:شرح ميمية أبي فراس:ص 73،و 74،و البحار:ج 48 ص 131، و عيون أخبار الرضا:ج 1 ص 91،و ينابيع المودة:ص 383،و مقاتل الطالبين: ص 453،و المناقب للخوارزمي:ص 208،و الطبقات الكبرى لابن سعد:ج 5 ص 227 ط صادر،و البداية و النهاية:ج 8 ص 316،و تتمة المنتهى:ص 185، و راجع:قاموس الرجال:ج 10 ص 370.

عنهم (1).و هو ما ورد في حديث الشعبي الذي هو حديث موقوف، لأنه لم يدرك زمن الحادثة.

و سكت فريق آخر:عن التصريح بشيء من الرضا و عدمه (2).

و أغرب من ذلك دعوى البعض:أن الذي صلى عليها حين ماتت هو أبو بكر (3)و علي عليه السلام.

و لكن العلماء الذي يلتقون مع نفس هؤلاء في التوجه المذهبي، هم الذين ذكروا لنا الرواية على وجهها الصحيح،و لم يلتفتوا الى ما أضافه أولئك،بل قالوا:انها حينما جاءا ليسترضياها لم تأذن لهما، حتى توسلا بعلي عليه السلام،فكلمها فلم تأذن أيضا،بل قالت له:

البيت بيتك،أي:فأنت حر في أن تدخل فيه من تشاء،بحسب ما تفرضه الظروف القاهرة عليك،أما هي فتحتفظ برأيها و بموقفها،و ليس ثمة ما يفرض عليها غير ذلك.

فأذن لهما علي(عليه السلام)،من موقع أنه صاحب البيت، و لم تأذن لهما الزهراء عليها السلام.9.

ص: 239


1- راجع:دلائل النبوة للبيهقي:ج 7 ص 281،و الرياض النضرة:ج 1 ص 176، و سير أعلام النبلاء:ج 2 ص 121،و تاريخ الخميس ج 2،ص 174،عن الوفاء،و عن السماني في الموافقة و السنن الكبرى:ج 6 ص 301،و السيرة الحلبية:ج 3 ص 361 و طبقات ابن سعد:ج 8 ص 27،و البداية و النهاية:ج 5 ص 289،و حياة الصحابة:ج 2 ص 473،و شرح نهج البلاغة للمعتزلي:ج 6 ص 19 و 49 و ج 2 ص 57،و فتح الباري:ج 6 ص 139،و نزهة المجالس: ج 2،ص 183.
2- راجع:كنز العمال:ج 12،ص 515،و ج 13،ص 687.
3- كنز العمال:ج 5 ص 605،عن البيهقي،و قال:هذا مرسل حسن بإسناد صحيح و طبقات ابن سعد:ج 8 ص 29.

و لما دخلا عليها أبت أن تكلمهما،و كلمت عليا و قررتهما، فأقرّا انهما سمعا رسول الله(ص)يقول:رضا فاطمة من رضاي، و سخط فاطمة من سخطي؛فمن أحب فاطمة ابنتي فقد احبني،و من أرضى فاطمة فقد ارضاني،و من اسخط فاطمة فقد اسخطني.

فقالت لهما:فإني اشهد الله و ملائكته:أنكما اسخطتماني و ما أرضيتماني،و لئن لقيت النبي لأشكونكما إليه (1).

و حين بكى أبو بكر لأجل ذلك زجره عمر و قال له:تجزع لغضب امرأة الخ.. (2).

و حسب نص سليم بن قيس:

«و كان عليّ عليه السلام يصلّي في المسجد الصلوات الخمس؛ فكلما صلى قال له أبو بكر و عمر:«كيف بنت رسول الله»؟

إلى أن ثقلت:فسألا عنها و قالا:«قد كان بيننا و بينها ما قد علمت،فإن رأيت أن تأذن لنا فنعتذر إليها من ذنبنا»؟7.

ص: 240


1- الامامة و السياسة:ج 1 ص 14 و 15،و راجع:البحار:ج 36 ص 308،و ج 78 ص 254،و ج 43 ص 170،و 171،و دلائل الامامة:ص 45،و عوالم العلوم: ج 11 ص 411 و 445 و 498،و 499،و كفاية الاثر:ص 64 و 65، و البرهان:ج 3 ص 65،و علل الشرائع:ج 1 ص 186-187،و 189، و الشافي:ج 4 ص 213،و أهل البيت لتوفيق أبي علم:ص 168،و 169، و 174،و مرآة العقول:ج 5،ص 323 و 322.و ضياء العالمين(مخطوط):ج 2 ق 3 ص 85-87 و الجامع الصغير للمناوي:ج 2 ص 122،و الرسائل الاعتقادية:ص 448.
2- راجع عوالم العلوم:ج 11 ص 500،و علل الشرائع:ج 1 ص 187،و ضياء العالمين:ج 2 ق 3 ص 87.

قال عليه السلام:ذاك إليكما.

فقاما،فجلسا بالباب،و دخل علي عليه السلام على فاطمة عليها السلام فقال لها:«أيتها الحرة،فلان و فلان بالباب،يريدان أن يسلما عليك،فما ترين»؟

قالت عليها السلام:«البيت بيتك و الحرة زوجتك،فافعل ما تشاء».

فقال:«شدي قناعك».

فشدت قناعها،و حولت وجهها إلى الحائط.

فدخلا و سلما و قالا:ارضي عنا رضي الله عنك.

فقالت:ما دعاكما الى هذا؟

فقالا:اعترفنا بالإساءة و رجونا أن تعفي عنا و تخرجي سخيمتك.

فقالت:فإن كنتما صادقين فأخبراني عما أسألكما عنه،فإني لا أسألكما عن أمر إلا و أنا عارفة بأنكما تعلمانه،فإن صدقتما علمت أنكما صادقين في مجيئكما.

قالا:سلي عما بدا لك.

قالت:نشدتكما بالله هل سمعتما رسول الله صلى الله عليه و آله يقول:«فاطمة بضعة مني فمن آذاها فقد آذاني»؟

قالا:نعم.

ص: 241

فرفعت يدها إلى السماء فقالت:«اللهم إنهما قد آذياني،فأنا أشكوهما إليك و إلى رسولك.لا و الله لا أرضى عنكما أبدا حتى ألقى أبي رسول الله و أخبره بما صنعتما،فيكون هو الحاكم فيكما».

قال:فعند ذلك دعا أبو بكر بالويل و الثبور و جزع جزعا شديدا.

فقال عمر:تجزع يا خليفة رسول الله من قول امرأة؟» (1)

و نحن لا ندري لما ذا اختار هذا الرجل خصوص تلك الرواية التي رواها غير الشيعة و لم يكلف نفسه عناء المقايسة بينها و بين الرواية الأخرى،بل هو لم يشير إليها أصلا.مع أن هذه الرواية مزورة من قبل من يريدون تبرير ما صدر عن الذين هاجموا الزهراء و آذوها،رغم وضوح التصرف الخياني فيها،نعم،لقد أخذ بها،و ترك هذه الرواية الصحيحة و الصريحة.

و ثانيا: (2) العفو انما يكون عن الشخص الذي يتوب توبة نصوحا مما اقترفه،و التوبة تعني ارجاع الحق الى اهله،و تصحيح الخطأ و ترميم الخراب الذي تسبب به.و إلا فهل تقبل توبة غاصب يمسك بكل شيء،ثم يقول لهم:سامحوني و ارضوا عني،و لن أعيد أي شيء الى أي كان منكم.

إن اعتذارا لهذا سيكون أوجع للقلب لأنه أقبح من ذنب.

فكيف و لما ذا و على أي اساس تسامحهما،و هما لم يتراجعا قيد8.

ص: 242


1- كتاب سليم بن قيس(بتحقيق الانصاري)ج 2 ص 869 و جلاء العيون:ج 1 ص 212 و 213 مع تفاصيل أخرى،و راجع:البحار:ج 43 ص 203/197 و ج 28 ص 357 و علل الشرائع:ج 1 ص 186 و 187.
2- قد أشار الى ذلك أيضا في ضياء العالمين(مخطوط):ج 2 ق 3 ص 108.

أنملة عما اقترفاه في حقها؟!.

فهما لم يرجعا لها فدكا،و لا غيرها مما اغتصباه من ارث رسول الله(ص)و غيره،إلا أن يظن في حقها أنها أخطأت في ادعائها هذا.

كما انهما لم يقرّا بجريمتهما في حق الله و الأمة باغتصاب الخلافة من صاحبها الشرعي،و لم يظهر من أحد أي استعداد للقصاص ممن ارتكب جريمة الاعتداء عليها بالضرب الى درجة اسقاط جنينها.

بل كان الذين فعلوا ذلك هم اركان الحكم و أعوان الحاكم الذي جاء يعتذر،و سيوفه المسلولة على رقاب كل من يعترض أو يشكو،فلم يكن ثمة توبة،بل كان هناك محاولة لتلميع الصورة، و تقوية الأمر،و الحصول على مزيد من القوة في الاحتفاظ بما اغتصبوه.

و لو كان الامر على خلاف ذلك،و كانوا جادين في طلبهم المسامحة،فما الذي منع أبا بكر من أن يعاقب قنفذا أو المغيرة بن شعبة،أو عمر بن الخطاب،أو غيرهم ممن هتك حرمة بيتها صلوات الله و سلامه عليها؟!و لو لم يمكنه ذلك فلا أقل من أن يؤنبهم أو يعبس في وجوههم،أو يفعل أي شيء يشير الى عدم رضاه عما صدر عنهم، و لكنه لم يكتف بأن لم يفعل شيئا من ذلك بل زاد عليه توفير غطاء و مزيدا من الرعاية لهم،و الاهتمام بهم.

و لست أدري،هل كان اعطاؤه المناصب و المزايا و الاموال لفلان و فلان مكافأة لهم على ما اقترفوه من اعتداء؟!.

أما قنفذ فقد اعفوه من مشاطرته أمواله التي اكتسبها في ولاياته

ص: 243

لهم.و كان ذلك-كما روي عن امير المؤمنين(ع)-مكافأة له!!

و لست أدري ان لو كانت الزهراء عليها السلام أرادت أن تأخذ منهم ما اغتصبوه هل كانوا يضربونها من جديد،أم كانوا قد حكموا عليها بالقتل بصورة علنية و ظاهرة؟.

ثالثا: اذا كانت عليها السلام قد رضيت عنهما،فلما ذا أوصت ان تدفن ليلا،و أن لا يحضرا جنازتها،فنفّذ عليّ عليه السلام وصيتها بدقة،و أخفى قبرها،فثارت ثائرتهما و من معهما،و حاولا نبش القبور التي جعلها عليه السلام تمويها،فواجههما بالموقف القوي و الحاسم، فتراجعا (1).

و اذا كانت السلطة قوية و شديدة الهيمنة،فهي قادرة على أن تشيع عنها(ع)أنها قد رضيت بعد السخط؛و لن يجرأ أحد على تكذيب دعاوى السلطة،و ستكون هذه الشائعة مقبولة لدى الكثيرين، خصوصا أنها بوصيتها ان تدفن ليلا،و ان لا يحضرا،و لا أحد ممن ظلمها جنازتها،قد فوتت الفرصة عليهم أيضا لممارسة هذا التزوير للحقيقة؛حيث قدمت الدليل القاطع و البرهان الساطع،على شكل شاهد تاريخي حي على هذا السخط الذي تجسد أيضا في عدم معرفة4.

ص: 244


1- راجع:البحار:ج 30 ص 348 و 349 و 286 و ج 29 ص 193.و نقل وصيتها تلك في هامش في البحار ج:43 ص 171،عن المصادر التالية:حلية الاولياء:ج 2 ص 43،و مستدرك الحاكم:ج 3 ص 162،و أسد الغابة:ج 5 ص 524،و الاصابة:ج 4 ص 379 و 380،و الامامة و السياسة:ج 1 ص 14، و أعلام النساء:ج 3 ص 1214.و راجع أيضا شرح نهج البلاغة للمعتزلي:ج 6 ص 50،و قال:ان الصحيح عندي أنها ماتت و هي واجدة عليهما الخ... مصنف عبد الرزاق:ج 3 ص 521،و الاستيعاب ج 2 ص 751،و مقتل الحسين للخوارزمي:ج 1 ص 83،و دلائل الإمامة:ص 44.

قبرها صلوات الله و سلامه عليها عبر الاحقاب و الدهور،و هي سيدة نساء العالمين،و الكريمة الوحيدة لخاتم الأنبياء و سيد المرسلين.

رابعا: ان من المعقول و المقبول ان يكونوا قد أرادوا من محاولة استرضاء الزهراء عليها السلام هو اظهار الامر على انه مجرد مشكلة شخصية،و قد انتهت كما بدأت،فهي الآن قد رضيت،و لم يعد هناك أية مشكلة معها،كما قد يوحي به كلام هذا البعض.

لقد كانت هناك اساءة لفاطمة عليها السلام،و كان هناك اعتداء على شخصها الكريم،بالضرب أو بغيره،و قد تبذل محاولة تفسير لذلك على انه مجرد تسرّع،أو ثورة غضب عارمة اخرجت الفاعلين عن حد الاعتدال.

و هل السبب في حدوث هذا الغضب هو الزهراء،نفسها؟ بتصرفاتها؟أو بسبب كلماتها؟أو نبرات صوتها؟أو غير ذلك من الاسباب؟انهم سوف يغضون الطرف عن تحديد المسئول عن ذلك.

و قد راجع المعتدون أنفسهم و تابوا،و على الزهراء عليها السلام ان تعفو و تصفح،فإن ذلك هو ما تفرضه الاخلاق الاسلامية،و أكدته الآيات القرآنية،و هي أولى الناس بالالتزام بذلك،و هي المرأة التقية المطهرة المعصومة.

و هذا يعني أن تكون بذلك قد أعطت صك الشرعية للعدوان،و لغصب الخلافة،و الاستئثار بإرث الرسول،فلم يبق إلا أنهم قد تسرّعوا قليلا في ضربها حين المواجهة،و هم معذورون في ذلك!لأنه قد جاء على فورة،و بسبب حالة التوتر و الهيجان، و ربما تكون هي التي تسببت في ذلك(!!)لأنها عليها السلام كانت

ص: 245

هي المخطئة حين وقفت في وجههم.و عليّ مخطئ أيضا،حيث لم يبادر للاعتراف بالحاكم الجديد المتغلب،و لا سبق الى للبيعة، و المؤازرة،و بذلك يتم اعادة الاعتبار لهم،و هذه هي غاية امنياتهم و اغلاها.

و لكن حين ترفض الزهراء حتى دخولهما بيتها،و ترفض توبتهما،و تصر على أن تشكوهما الى رسول الله(ص)،ثم توصي بأن تدفن ليلا،و أن لا يحضرا جنازتها،ثم تطلب إخفاء قبرها،فإنها بذلك قد افسدت عليهما خطتهما تلك.

و سجل التاريخ رغم ما ناله من تزوير و تحريف بعض الحقيقة و هي انها ماتت و هي مهاجرة للذين اعتدوا عليها،فدفنها عليّ(ع) ليلا،و لم يؤذنهم بها و هو ما لهجت به الكتب المعتبرة و الموثوقة لدى فريق كبير من المسلمين (1).

و قد سئل الرضا عليه السلام عن الشيخين،فقال:كانت لنا

ص: 246


1- البداية و النهاية ج 5 ص 285 و 286 و 287 و 250،عن البخاري،و أحمد، و عبد الرزاق،و راجع البخاري كتاب المغازي،باب غزوة خيبر،و باب قول رسول الله لا نورث ما تركناه صدقة،و شرح نهج البلاغة للمعتزلي:ج 6 ص 50/49،و ج 16 ص 232 و 218،و راجع صحيح مسلم،كتاب الجهاد و السير.و الشافي لابن حمزة:ج 4 ص 211 و راجع ص 205،و الثقات ج 2 ص 164 و 165،و تاريخ الامم و الملوك:ط دار المعارف ج 3 ص 208،و أهل البيت لتوفيق أبي علم:ص 172،و مشكل الآثار:ج 1 ص 48،و العمدة لابن البطريق:ص 390 و 391،و السنن الكبرى:ج 6 ص 300 و 301،و التنبيه و الاشراف:ص:250،و تاريخ الاسلام للذهبي:نشر دار الكتاب العربي (قسم السيرة النبوية)ص 591،و في الهامش أشار الى مصادر كثيرة.و طبقات ابن سعد:ج 8 ص 28 و 29.و روضة المتقين:ج 5 ص 349،و الطرائف: ص 257/258/269/262،و تحرير الافكار:ص 228،و القاب الرسول و عترته:ص 44،و راجع:كفاية الطالب:ص 370، و مستدرك الحاكم:ج 3 ص 162،و اثبات الهداة:ج 2 ص 366،و مسند احمد:ج 1 ص 9/6. و راجع:الرياض المستطابة:ص 291،و تاريخ الخميس:ج 1 ص 174،و مرآة العقول:ج 5 ص 323/322،و المصنف للصنعاني:ج 5 ص 472 و ج 4 ص 141 و ج 3 ص 521،و تيسير الوصول:ج 1 ص 209.و راجع ضياء العالمين(مخطوط):ج 2 ق 3 ص 65 و 66 و 91.

أمة (1)بارة خرجت من الدنيا و هي عليهما غضبى،و نحن لا نرضى حتى ترضى (2).

و نقل ما يقرب من ذلك عن عبد الله بن الحسن (3)

و هكذا يتضح:

ان الزهراء التي هي المرأة المعصومة المطهرة،و التي يرضى الله لرضاها و يغضب لغضبها،قد أ فهمت بموقفها الواعي كل احد ممن كان،و ممن ولج أو سيلج باب التاريخ:إن القضية لم تكن قضية شخصية،و إنما هي قضية الدين و الاسلام،قضية الاعتداء على الله و رسوله صلى الله عليه و آله،و على الحق،و على الانسانية،و على الاسلام المتجسد فيها؛لأن العدوان عليها إنما يهدف الى منعها من الدفاع عن الامامة التي بها قوام الدين.و التي هي قرار إلهي قاطع، و هي حق الامة،و حق الانسان،كل إنسان.

و قد سجلت موقفها هذا بعد أن قررتهما بما يوجب ادانتهما الصريحة،التي تبين أن التعدي قد نال رسول الله(ص)،و بالتالي فقد كان تعديا و جرأة على الله سبحانه،و ليس لها أن تسامح من يجترئ9.

ص: 247


1- الامة:لغة في الام،راجع الطرائف:ص 252.
2- ألقاب الرسول و عترته ص 44،و الطرائف ص 252.
3- شرح نهج البلاغة للمعتزلي:ج 16 ص 232 و ج 6 ص 49.

على الله سبحانه،و على رسوله الكريم صلى الله عليه و آله،و قد اعلمتهما بهذه الحقيقة حين قالت لهما:لأشكونكما الى رسول الله (ص).

ثم و لكي لا يقال للناس: إن الزهراء قد عادت فراجعت نفسها بعد ذلك،أو أنها أرسلت إليهم مع فلان من الناس:أنها قد رضيت عنهم،ها هي توصي بأن تدفن ليلا.

و قد يدعى أيضا: -و قد حصل ذلك بالفعل-أن الدفن ليلا سنّة (1)،و تشريع،فلا يكفي لإثبات استمرار غضبها عليهم،فأوصت أن لا يحضروا جنازتها،و لا يصلوا عليها و غيبوا قبرها،فحاولوا نبش عدد من القبور ليصلوا إليها،و يصلوا عليها،فمنعهم علي عليه السلام (2).

ص: 248


1- المغني للقاضي عبد الجبار:ج 20 ق 1 ص 335.
2- راجع:الاستغاثة ص 10 و 11 و عوالم العلوم:ج 11 ص 467 و 505 و 506 و 523 و 508 و 493 و 411 و 501 و 502 و 504 و 404 و 534 و 122 و 515 و 512،و بحار الانوار:ج 78 ص 250 و 256/253 و 310 و 387 و ج 43 ص 201 و 207 و 218 و 181 و 191 و 214 و 199 و 182 و 183 و ج 28 ص 353 و ج 29 هامش ص 192 و 193 و ج 30 ص 349/348 و 286،و المناقب لابن شهر اشوب:ج 3 ص 363 و 362 ط المطبعة العلمية قم-ايران.و روضة الواعظين ص 151-153،و علل الشرائع: ج 1 ص 185 و 188 و 189،و الشافي لابن حمزة:ج 4 ص 211 و 210، و إتمام الوفاء:ص 16 و الثقات:ج 2 ص 170،و روضة المتقين:ج 5 ص 347، و تقريب المعارف:ص 251 و 252،و بشارة المصطفى:ص 258،و اللوامع الالهية للمقداد:ص 300،و المجالس السنية:ج 5 ص 347،و شرح نهج البلاغة للمعتزلي:ج 6،ص 49 و 50 و ج 16 ص 53/52.و ص 214 و217، و كشف الغمة:ج 1 ص 494 و ج 2 ص 130،و تلخيص الشافي:ج 3 ص 138 و 150 و 152،و شرح الاخبار:ج 3،ص 31 و 69،و جلاء العيون: ج 1 ص 214 و 220،و الامالي للطوسي:ص 107،و الكافي للكليني:ج 1 ص 458،و معاني الاخبار ص 356،و إعلام الورى:ص 152،و إثبات الهداة: ج 2 ص 334،عن كتاب:أساس الجواهر،و راجع:تاريخ المدينة لابن شبة: ج 1 ص 197،و تاريخ الائمة،لابن أبي الثلج:ص 31،و عن الامالي للمفيد: ص 281،و تاريخ الصحابة لابن حبان:ص 208،و مرآة العقول:ج 5 ص 322 و 323.و الرسائل الاعتقادية:ص 449 و 450 و 459، و الاختصاص:ص 185 و الوسائل:ج 2 ص 832 و ضياء العالمين:ج 2 ق 3 ص 140/95/92/91/67/66/65(مخطوط)عن مصادر كثيرة و دلائل الامامة:ص 44،و أنوار الملكوت في شرح الياقوت للعلامة الحلي: ص 228.

و في بعض المصادر: «انها اخذت على امير المؤمنين عهد اللّه و رسوله أن لا يحضر جنازتها الا أمّ سلمة،و أم ايمن،و فضة،و الحسنان، و سلمان،و عمار،و المقداد،و أبو ذر،و حذيفة» (1).

و قد صلى عليها علي عليه السلام (2)،و كبر عليها خمسا (3)..8.

ص: 249


1- البحار:ج 78 ص 310.
2- مستدرك الحاكم:ج 3 ص 162،و تهذيب الاسماء للنووي:ج 2 ص 353 و صفة الصفوة:ج 2 ص 14،و تاريخ المدينة لابن شبة:ج 1 ص 197،و تاريخ الصحابة لابن حبان:ص 208.و العمدة لابن البطريق:ص 391/390،و في هامشه عن صحيح مسلم:ج 5 ص 154،و عن صحيح البخاري،باب غزوة خيبر و الروضة الفيحاء للعمري الموصلي:ص 252 و كشف الغمة للاربلي: ج 2 ص 128،و ضياء العالمين(مخطوط)ج 2 ق 3 ص 3 و جامع الاصول: ج 12 ص 10/9.
3- راجع:الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي:ص 131.و جواهر الاخبار و الآثار المستخرجة من لجة البحر الزخار(مطبوع مع البحر الزخار)ج 3 ص 118 و كشف الغمة:ج 2 ص 128.

و لا صحة لزعمهم:أن أبا بكر قد حضر،و صلى عليها (1)،فإنه لم يصل عليها،و لا على الرسول مع انه صلى الله عليه و آله قد مكث ثلاثا (2).و انما تمت بيعتهم بعد دفنه (3).

و ليكن خفاء قبرها الى يومنا هذا،و عدم قدرة أحد على معرفته بالتحديد برهانا ساطعا على هذا الاقصاء،الذي هو إدانة لهما، و جميع الشواهد التاريخية الصحيحة و المعتبرة تؤكد على كذب ما يزعمه مزوروا التاريخ و أعداء الحق.

و هكذا يتضح: أنها عليها السلام قد جعلت حتى من موتها، و من تشييع جنازتها وسيلة جهاد و كفاح من أجل الله و في سبيله، و من أجل الدين و في سبيل توضيح الحقائق للاجيال.

و قد بدأت نتائج هذا الكفاح بالظهور منذ اللحظات الاولى.

فقد روي:انه لما انتشر خبر دفن الزهراء عليها السلام«ضج الناس، و لام بعضهم بعضا.و قال:لم يخلف فيكم نبيكم إلا بنتا واحدة، تموت،و تدفن و لم تحضر وفاتها و لا دفنها،و لا الصلاة عليها،و لم تعرفوا قبرها فتزورونها؟!» (4).ب.

ص: 250


1- راجع:الرياض النضرة ج 1 ص 176 و قال:خرجه البصري،و خرجه ابن السمان في الموافقة.و ذخائر العقبى ص 54،و الاصابة ج 4 ص 479،و تهذيب الكمال:ج 35 ص 252،و تاريخ الهجرة النبوية:ص 58،و مقتل الحسين للخوارزمي:ج 1 ص 86،و تاريخ الخميس:ج 1 ص 278،و السيرة الحلبية: ج 3 ص 361،و المغني للقاضي عبد الجبار:ج 20 ق 1 ص 335.
2- راجع:تقريب المعارف لأبي الصلاح:ص 251.و راجع المناقب لابن شهر اشوب:ج 1 ص 297.
3- مناقب آل ابي طالب ج 1:ص 297.
4- دلائل الامامة:ص 46،و ضياء العالمين(مخطوط):ج 2 ق 3 ص 94/93 عن المناقب.

قال الفتوني:«و اذا تأملت فيما ذكرناه فضلا عما لم نذكره، و عما سيأتي من الشواهد،عرفت أن أصل تأدي فاطمة صلوات الله عليها من الرجلين و اتباعهما اجمالا،بحيث ماتت ساخطة سخطا عظيما مما لا يمكن انكاره بل بحيث يوجب القطع للمتفحص عن الحق،بتحكم الانكار و التعصب جهارا،كما هو شأن ساير المتواترات (1)».

تمحّلات غير ناجحة:

و الغريب في الأمر هنا: أننا نجد البعض يحاول التخلص و التنصل من حقيقة هجران الزهراء عليها السلام لمن ظلمها إلى أن ماتت،بإطلاق القول:

إن معنى أن فاطمة عليها السلام هجرت أبا بكر،فلم تكلمه الى ان ماتت:«أنها لم تكلمه في هذا الامر(أي المال)،أي لم تطلب حاجة و لا اضطرت الى لقائه،و لم ينقل قط أنهما التقيا،فلم تسلم عليه و لا كلمته»حيث تشاغلت بمرضها و غير ذلك (2).

ثم هم يقررون: ان الزهراء أتقى لله من أن يصدر منها ذلك و أورع (3).

و نقول:

ص: 251


1- ضياء العالمين(مخطوط)ج 2 ق 3 ص 95،و الهداية الكبرى:ص 179.
2- شرح بهجة المحافل:ج 1 ص 131 عن الذهبي،و فتح الباري:ج 6 ص 139، و السيرة الحلبية:ج 3 ص 361.
3- فتح الباري:ج 6 ص 139.

إن نفس أولئك الذين يقولون ذلك قد ذكروا:أنها عليها السلام قد التقت بالشيخين،حينما جاءاها لاسترضائها،حينما مرضت،فكلمتهما و رضيت عنهما،حسب زعمهم (1).

كما ان الشاشي قد ردّ على ذلك بأن قولهم:«غضبت»يدل على انها عليه السلام قد امتنعت عن الكلام جملة،و هذا صريح الهجر (2).

هل عرف قبر الزهراء عليها السلام:

و يلاحظ:أن الائمة عليهم السلام لم يتصدوا لتعريف شيعتهم موضع قبرها عليها السلام،كما كان الحال بالنسبة لأمير المؤمنين الذي أظهر الامام الصادق قبره كما هو معلوم،و كذا الحال بالنسبة لسائر الائمة حيث عرفوا شيعتهم بمواضع قبورهم،باستثناء الزهراء عليها السلام،بل إن شيعة أهل البيت أيضا،الذين حضروا تشييع الجنازة و الدفن،مثل عمار و أبي ذر،و سلمان،و العباس،و عقيل، و غيرهم لم يدلوا أحدا على قبرها،وفاء لها،و حبا بها،و هذا ابن أبي قريعة المتوفى سنة 367 ه يقول:

و لأي حال لحّدت بالليل فاطمة الشريفة

و لما حمت شيخيكم عن وطىء حجرتها المنيفة

ص: 252


1- تاريخ الاسلام للذهبي:(عهد الخلفاء الراشدين)ص 47 و فتح الباري ج 6 ص 139.
2- فتح الباري ج 6 ص 139.

أوه لبنت محمد ماتت بغصتها أسيفة (1)

و قال السيد محسن الامين رحمه الله:

و لأي حال في الدجى دفنت و لأي حال الحدت سرا

دفنت و لم يحضر جنازتها أحد و لا عرفوا لها قبرا (2)

و مما تقدم تعرف ان دعوى هذا البعض: أن قبر الزهراء عليها السلام قد عرف الآن،هي دعوى لا وجه لها،و يا ليته يدلنا على هذا القبر الذي عرف الآن،و يبين لنا ما استند إليه من أدلة قطعت له كل عذر،و دحضت كل شبهة،و سوف نكون له من الشاكرين.

و نحن على يقين من أنه غير قادر على ذلك.

جرأة الجاحظ:

و ما أبعد ما بين هذا الرجل الذي يختار خصوص الحديث الذي ظهرت فيه لمحات التحوير،و التزوير،بادعاء رضى الزهراء عليها السلام عن الذين جاءوا لاسترضائها،رغم تكذيب كل الشواهد الواقعية و التاريخية و الحديثية له،و بين ذلك الرجل الآخر المعروف بانحرافه عن علي،ثم باهتمامه بنقض فضائله عليه السلام،و تأييد مناوئيه،و هو الكاتب و الاديب الذائع الصيت،عمرو بن بحر

ص: 253


1- كشف الغمة للاربلي ج 2 ص 131.
2- المجالس السنية ج 5 ص 120.

الجاحظ..الذي يقول في رسالته المعروفة ب«العباسية»-حسبما نقله عنه الشيخ الطوسي رحمه الله:

«فلما منعها ميراثها و بخسها حقها،و اعتدى عليها،و جنح في أمرها،و عاينت الهضم و أيست من النزوع و وجدت مس الضعف و قلة الناصر،قالت:و الله لأدعون الله عليك.

قال:و الله لأدعون الله لك.

قالت:و الله لا أكلمك أبدا.

قال:و الله لا أهجرك أبدا.

فإن يكن ترك النكير منهم على أبي بكر دليلا على صواب منعها،إن في ترك النكير على فاطمة عليها السلام دليلا على صواب طلبها.و أدنى ما كان يجب عليهم في ذلك:تعريفها ما جهلت، و تذكيرها ما نسيت،و صرفها عن الخطأ،و رفع قدرها عن البذاء و أن تقول هجرا أو تجور عادلا و تقطع واصلا.فإذا لم تجدهم انكروا على الخصمين جميعا،فقد تكافأت الامور و استوت الاسباب،و الرجوع الى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا و بكم و أوجب علينا و عليكم.

ثم قال:

فإن قالوا:فكيف يظن بأبي بكر ظلمها و التعدي عليها و كلما ازدادت فاطمة عليها السلام عليه غلظة ازداد لها لينا ورقة،حيث تقول:«و الله لا أكلمك أبدا».

فيقول:«و الله لا أهجرك أبدا».

ص: 254

ثم تقول:«و الله لأدعون الله عليك».

فيقول:«و الله لأدعون الله لك» (1).

ثم يتحمل منها هذا القول الغليظ و الكلام الشديد في دار الخلافة،و بحضرة قريش و الصحابة،مع حاجة الخلافة الى البهاء و التنزيه،و ما يجب لها من الرفعة و الهيبة.ثم لم يمنعه ذلك أن قال- معتذرا أو متقربا كلام المعظم لحقها المكبر لمقامها الصائن لوجهها المتحنن عليها-:فما أحد أعز علي منك فقرا،و لا أحب إلي منك غنى،و لكن سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول:«إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة».

قيل لهم:ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم،و السلامة من الجور،و قد يبلغ من مكر الظالم و دهاء الماكر-اذا كان أريبا و للخصومة معتادا-أن يظهر كلام المظلوم،و ذلة المنتصف،و حدب الوامق،و مقة المحق (2)»انتهى كلام الجاحظ.3.

ص: 255


1- راجع:شرح نهج البلاغة للمعتزلي:ج 16 ص 214،و تلخيص الشافي:ج 3 ص 152 و غير ذلك.
2- تلخيص الشافي ج 3 ص 152 و 153.عن العباسية للجاحظ.و قال المعلق ص 151:ان كتاب العباسية قد طبع ضمن رسائل جمعها و حققها و شرحها الأستاذ حسن السندوبي،و أسماها«رسائل الجاحظ»و رقم هذه الرسالة(12) و قد طبعت في المطبعة الرحمانية بمصر سنة 1352.و ذكر هذه الفقرات أيضا السيد القزويني في كتابه:فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد ص 420 عن رسائل الجاحظ ص 300-303.

دلالة حرجة:

و هكذا يتضح:أن الزهراء عليها السلام لم تكن تعرف لابي بكر إمامة و لا تعترف له بتولية،ما دام أنها قد ماتت و هي غاضبة عليه و على صاحبه،مهاجرة لهما،و قد منعتهما من حضور جنازتها،بل و من معرفة قبرها أيضا.

و لا يمكن أن تكون الزهراء المعصومة المطهرة بآية التطهير،و التي يغضب الله و رسوله لغضبها،قد ماتت ميتة جاهلية،وفق ما جاء في الحديث الشريف:«من مات و لم يعرف إمام زمانه-أ و ليس في عنقه بيعة-،فقد مات ميتة جاهلية» (1).

قال العلامة المحقق الخواجوئي المازندراني:«اعلم أن المليين من المسلمين مع اختلاف مذاهبهم اتفقوا على صحة ما نقل عن النبي (ص)،و هو قوله:«من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة

ص: 256


1- راجع ألفاظ الحديث في:الغدير:ج 1،ص 390،عن التفتازاني في شرح المقاصد:ج 2،ص 275،و كنز الفوائد للكراجكي:ص 151،و المناقب لابن شهرآشوب:ج 3،ص 304،و مجمع الزوائد:ج 5،ص 224 و 225 و 219 و 218،و مسند أحمد:ج 4،ص 96 و ج 3 ص 446،و البحار ج 23،ص 92 و 88 و 80،و 89 و في هوامشه عن الاختصاص:269،و عن إكمال الدين: ص 230 و 231،و منتخب الاثر:ص 15،عن الجمع بين الصحيحين و الحاكم و كشف الغطاء:ص 8،و شرح نهج البلاغة:ج 13 ص 242 عن الاسكافي في نقض العثمانية و منار الهدى للشيخ علي البحراني:ص 83/82 و المحلى:ج 1 ص 46،و صحيح البخاري كتاب الفتن،باب سترون بعدي امورا تنكرونها، و صحيح مسلم،كتاب الامارة،باب الامر بلزوم الجماعة:ج 4 ص 517 ط دار الشعب.

جاهلية» (1).

إذن فلا وقع للمقولة التي اطلقها البعض:إن هذا الحديث ليس فوق مستوى النقد.و التي يلزم منها إما مخالفتها(ع)لما جاء عن النبي(ص)،أو أنه قد كان لها امام آخر غير أبي بكر فمن هو يا ترى؟ و هل يظن أنه غير علي(ع).

و هل يظن الظان ان الزهراء(ع)-و هي التي ماتت و ليس في عنقها بيعة لأبي بكر-قد ماتت ميتة جاهلية؟

ملاقاة الزهراء للرجال و الحجاب:

و بالمناسبة نقول:ان البعض قد استدل على بطلان حديث:خير للمرأة أن لا ترى الرجل و لا الرجل يراها (2)،بأن الزهراء عليها السلام،

ص: 257


1- الرسائل الاعتقادية ص 403.
2- روي هذا الحديث عن النبي(ص)و عن الامام الصادق(ع)و عن علي(ع)، فراجع:وسائل الشيعة ج 20 ص 232 و 67،و مستدرك الوسائل:ج 14 ص 183 و 289،و البحار ج 43 ص 54 و 48 و 84 و ج 100 ص 239 و ج 101 ص 36،و إحقاق الحق:ج 9 ص 203/202 عن البزار و ج 10 ص 224 و 226،عن مصادر كثيرة.و راجع:مجمع الزوائد ج 4 ص 255 و كشف الاستار عن مسند البزار:ج 3 ص 235،و فضائل الخمسة من الصحاح الستة:ج 3 ص 153،و 154 عن كنز العمال:ج 8 ص 315.و راجع كتاب الكبائر للذهبي:ص 176.و دعائم الاسلام:ج 2 ص 124،و 215 و اسعاف الراغبين(مطبوع بهامش نور الابصار):ص 191/172/171، و كشف الغمة:ج 2 ص 92،و مكارم الاخلاق ص 233،و مناقب آل أبي طالب:ج 3 ص 119،و عوالم العلوم:ج 11 ص 197،و مقتل الخوارزمي ج 1 ص 62،و حلية الاولياء:ج 2 ص 41،و مناقب الامام علي لابن المغازلي ص 381،و ثمة مصادر أخرى ذكرها في هامش كتاب العوالم و راجع:مناقب أمير المؤمنين علي(ع)للقاضي محمد بن سليمان الكوفي:ج 2 ص 210 و 211،و ضياء العالمين(مخطوط):ج 2 ق 3 ص 14 عن المناقب،و الدرة اليتيمة في بعض فضائل السيدة العظيمة:ص 31،و دعائم الاسلام:ج 2 ص /214 215.

و هي قائلة هذا القول-كانت تلتقي بالرجال،و تتحدث معهم،أثناء الأزمة التي واجهتها مع الذين هاجموا بيتها،و غصبوا فدكا.

و قد التقت مع أبي بكر و عمر،حينما جاءا ليسترضياها، و تحدثت معهما بشكل طبيعي..

و كانت عليها السلام تخرج مع من يخرجن مع النبي(ص)في غزواته ليقمن بشئون الحرب.

و كان النبي(ص)يستقبل النساء،و لو صح أنه خير للمرأة أن لا ترى الرجال،لكان ينبغي أن يجعل(ص)حاجزا بينه و بين كل امرأة تأتيه،و يقول لها:تكلمي من وراء حجاب.

و الجواب:

أولا: إن هذا الحديث و إن كان ضعيف السند،لكن الاستدلال على تكذيبه بما ذكر لا يصح؛لأن التقاءها عليها السلام بالرجال في أيام الأزمة التي واجهتها مع أبي بكر و عمر لا يعني أنها قد كشفت عن وجهها للناظرين،و حديثها معهم قد يكون من وراء الحجاب،أو في حالة لا تريهم فيها وجهها..

و ليس المقصود من عدم رؤيتها للرجال،و عدم رؤيتهم لها:أن لا ترى و لا يرى كل منهم حجم و شكل الطرف الآخر.

ص: 258

هذا،و قد احتمل البعض أن يكون المقصود بهذا الحديث هو بيان مرجوحية اختلاط الرجال بالنساء.

كما أن خروجها مع النبي(ص)في غزواته،لا يلازم أن يرى الرجال وجهها أو محاسنها،و ليس ثمة أي دليل على أنها عليها السلام-كانت تتولى بنفسها القيام بشئون الحرب،و خروجها على هذا النحو مع النبي(ص)لا يدل على ما ادعي.

و كذلك الحال بالنسبة لاستقبال النبي(ص)للنساء،و لا يلزم في ذلك أن يجعل حاجزا بينه(ص)و بين كل امرأة تأتيه،و لا أن يجعل لها حجابا لتكلمه من وراء الحجاب،إذ يكفي أن تتحفظ هي بما تملكه من وسائل الستر،و تكلّمه و هي مكتملة الحجاب؛فإن الكلام مع شخص لا يلازم شيئا مما نهي عنه من التزين و التبرج،أو الخضوع بالقول.

و ثانيا: إنها حينما خطبت(ع)في حشد من المهاجرين و الانصار و غيرهم قد نيطت دونها ملاءة،كما تذكر النصوص (1).

و ثالثا: ان موضوع رجحان عدم رؤية الرجال لها،و عدم رؤيتها لهم،لا ينحصر ثبوته بالحديث المذكور،فهناك أحاديث و نصوص5.

ص: 259


1- الاحتجاج:ج 1 ص 254،و شرح النهج للمعتزلي:ج 16 ص 211 و 250، و بلاغات النساء:ص 24،و أعلام النساء:ج 4 ص 116،و كشف الغمة:ج 2 ص 106،و إحقاق الحق:ج 10 ص 299،و الشافي للمرتضى:ج 4 ص 69- 71.و ضياء العالمين(مخطوط):ج 2 ق 3 ص 69،و راجع:العوالم:ج 11 ص 468 و شرح الاخبار:ج 3 ص 34 و مقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 77، و شرح نهج البلاغة لابن ميثم:ج 5 ص 105.

أخرى تثبت ذلك،و نذكر منها:

1-ما رواه محمد بن يعقوب،عن عدة من أصحابنا،عن أحمد بن أبي عبد الله،قال:استأذن ابن أم مكتوم على النبي(ص)، و عنده عائشة و حفصة،فقال لهما:قوما فادخلا البيت.

فقالتا:إنه أعمى.

فقال:إن لم يركما فإنكما تريانه (1).

2-و عن أم سلمة قالت:كنت عند رسول الله(ص)،و عنده ميمونة،فأقبل ابن أمّ مكتوم،و ذلك بعد أن أمر بالحجاب،فقال:

احتجبا.

فقلن:يا رسول الله،أ ليس أعمى لا يبصرنا؟

قال(ص):أ فعمياوان أنتما،أ لستما تبصرانه؟! (2).

و من الغرائب استدلال هذا البعض بهذه الرواية على دخول ابن أمّ مكتوم الاعمى على النبي و هو في مخادع زوجاته الكاشف عن وحدة الحال بينهما،على حد تعبيره.

ثم بناؤه على ذلك صحة نزول سورة عبس في حقه(ص).و قد أشرنا الى بطلان هذا القول في الصحيح من سيرة النبي(ص) (3)م.

ص: 260


1- الوسائل:ج 20 ص 232،و الكافي:ج 5 ص 534.
2- الوسائل:ج 20،ص 232،و في هامشه عن مكارم الاخلاق ص 233،و مسند أحمد:ج 6 ص 296،و الجامع الصحيح للترمذي:ج 5 ص 102،و سنن أبي داود:ج 4 ص 63،و الكبائر للذهبي:ص 177.
3- و ليراجع أيضا:كتاب«عبس و تولى فيمن نزلت؟»ط المركز الاسلامي للدراسات سنة 1997 م.

فليراجع.

و اذا كان ابن أمّ مكتوم بدخوله مرة أو مرتين على رسول الله (ص)،قد انتج لنا وحدة الحال هذه،فينبغي أن تتحقق وحدة حال أعمق بكثير بين النبي(ص)و بين جل-إن لم يكن كل-من التقى بهم في حياته.

3-الجعفريات:أخبرنا عبد الله،أخبرنا محمد،حدثني موسى،قال:حدثنا أبي،عن أبيه،عن جده جعفر بن محمد،عن أبيه عليهما السلام:

ان فاطمة بنت رسول الله(ص)استأذن عليها أعمى فحجبته، فقال لها النبي(ص):لم حجبته و هو لا يراك؟!

فقالت:يا رسول الله إن لم يكن يراني فأنا أراه،و هو يشم الريح.

فقال النبي(ص):أشهد أنك بضعة مني.

و في دعائم الاسلام عن أبي جعفر عليه السلام مثله.و في نوادر الراوندي:عن موسى بن جعفر مثله (1).

4-و بالاسناد المتقدم،عن جعفر بن محمد،عن أبيه،عليهما السلام:أن فاطمة بنت رسول الله(ص)،دخل عليها عليّ عليه السلام،و به كآبة شديدة،فسألته عن ذلك فأخبرها:أن النبي(ص)1.

ص: 261


1- مستدرك الوسائل:ج 14،ص 289،و في هامشه عن الجعفريات ص 95،و عن دعائم الاسلام:ج 2 ص 214،و عوالم العلوم ج 11 ص 123،و في هامشه عن نوادر الراوندي:ص 13،و البحار:ج 43 ص 91،و رواه ابن المغازلي: ص 380-381.

سألهم عن المرأة:متى تكون أدنى من ربها؟فلم ندر.

فقالت:ارجع إليه فأعلمه:أن أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها.

فانطلق فأخبر النبي(ص).

فقال:ما ذا؟من تلقاء نفسك يا عليّ؟

فأخبره أن فاطمة عليها السلام أخبرته.

فقال:صدقت،إن فاطمة بضعة مني.

و رواهما السيد فضل الله الراوندي في نوادره بأسناده عنه(ص)مثله (1).3.

ص: 262


1- مستدرك الوسائل:ج 14 ص 182،و في هامشه عن:الجعفريات:95 و عن نوادر الراوندي:ص 14،و البحار:ج 43 ص 92 و ج 100 ص 250،و عوالم العلوم:ج 11 ص 123.

الفصل السابع: لما ذا تفتح الزهراء ع الباب

اشارة

ص: 263

ص: 264

ما ذا في هذا الفصل:

سنقرأ في هذا الفصل مناقشات ترتبط بالنقاط التالية:

1-غيرة عليّ(ع)و حميته تأبى عليه أن يدع الزهراء تفتح الباب للمهاجمين.

2-شجاعة عليّ(ع)تأبى عليه أن يدع الزهراء تواجه الخطر، نتيجة لفتحها الباب أمام القوم.

3-الزهراء(ع)مخدرة،فكيف تواجه الرجال؟!.

4-لما ذا لا يفتح الباب الحسنان،أو فضة،أو عليّ(ع)،أو الزبير أو واحد من بني هاشم الذين كانوا داخل البيت؟!

5-المتحصنون في البيت كانوا مسلحين،فكيف يخشون من المواجهة؟.

6-الزهراء(ع)وديعة الرسول(ص)،فكيف يعرّضها أمير المؤمنين(ع)للخطر؟.

7-ضرب الزهراء مسألة شخصية،لا ربط لها بالخلافة،و لم يوص النبي عليا بعدم الدفاع عن نفسه و عن عياله في المسائل

ص: 265

الشخصية،بل أوصاه أن لا يفتح معركة من أجل الخلافة التي هي قضية عامة تتعلق بالواقع الاسلامي كله.

8-كيف يسمع الحاضرون ما يجري على الزهراء(ع)ثم لا ينجدونها؟.

هذه هي النقاط التي سنتعرض لها في هذا الفصل،و على الله نتوكل،و منه العون و السداد نطلب و نسأل.

أين هي غيرة عليّ(ع)و حميته؟

قد رأى البعض:

ان جلوس عليّ عليه السلام في داخل البيت،و تركه زوجته تبادر لفتح الباب،يتنافى مع الغيرة و الحمّية،و هل يمكن ان يصدر مثل ذلك من عليّ عليه الصلاة و السلام!؟

و نقول في الجواب:

أولا: إنه لا شك في أن عليا عليه السلام هو إمام الغيارى،و هو صاحب النجدة و الحمية،و الحسين(ع)أيضا إمام الغيارى كأبيه..و قد حمل الحسين(ع)نساءه معه،و منهم العقيلة زينب(ع)ليواجهوا المحن و البلايا،و المصائب و الرزايا،لأن الله سبحانه شاء أن يراهن سبايا، فكنّ ينقلن من بلد الى بلد،يتصفح وجوههن القريب و البعيد،في يد الاعداء الذين لا يتورعون عن ارتكاب ابشع الجرائم الموبقة،حتى مثل قتل اوصياء الأنبياء،و ذبح الاطفال،و سبي بنات الوحي.

و اذا كانت الحوراء زينب(ع)قد قالت لابن زياد:رضا الله

ص: 266

رضانا أهل البيت،فإن عليا عليه السلام أولى من ابنته زينب بأن يرضيه ما يرضي الله سبحانه.

و بديهي ان الامام أمير المؤمنين عليا عليه السلام،يريد لهذا الدين أن يستمر قويا راسخا،حتى و لو كلفه ذلك روحه التي بين جنبيه،و هو على استعداد لتحمل أنواع الاذى في هذا السبيل.

و ليس في إجابة الزهراء(ع)للمهاجمين ما يتنافى مع الغيرة و الحمية،كما لم يكن حمل زينب و النساء الى كربلاء مع العلم بسبيهم يتنافى مع ذلك.

ثانيا: لقد كان النبي(ص)يأمر بعض زوجاته و أم أيمن بأن تجيب من كان يطرق عليه الباب (1)حين يقتضي الامر ذلك.و هل هناك أغير من رسول الله(ص)؟!

و ثالثا: المهاجمون هم الذين اعتدوا و فعلوا ما يخالف الدين و الشرع و الغيرة،و الحمية،و حتى العرف الجاهلي،أما عليّ(ع)فلم يصدر منه شيء من ذلك،بل هو قد عمل بتكليفه،و الزهراء(ع) عملت بتكليفها،و الخلاف و التعدي قد جاء من قبل المهاجمين.2.

ص: 267


1- راجع:الاحتجاج:ج 1 ص 471/470،و كشف اليقين:ص 305/260، و البحار:ج 32،ص 347،و ج 39 ص 267 و ج 90 من 272 و ج 37 ص 313 و ج 38 ص 349،350،152،121،122،305،126،356،357،و الطرائف: ص 72،و مناقب الامام علي لابن المغازلي و الدعوات للراوندي:ص 47، و مشارق أنوار اليقين،و كشف الغمة:ج 1 ص 91،و مناقب الخوارزمي: ص 86 و 87،و ترجمة الامام علي من تاريخ دمشق(بتحقيق المحمودي):ج 3 ص 164،و فرائد السمطين،ج 1 ص 331،و كفاية الطالب:ص 312.

أين هي شجاعة عليّ(ع)؟!

قال ابن روزبهان عن حديث الاحراق:«لو صح هذا دل على عجزه،حاشاه عن ذلك؛فإن غاية عجز الرجل ان يحرق هو و أهل بيته،و امرأته في داره،و هو لا يقدر على الدفع الخ..» (1).

و قد أخذ البعض هذا المعنى،فقال:

انه لا يستسيغ ان تفتح الزهراء(ع)الباب،أو تجيب القوم،مع كون عليّ(ع)موجودا معها داخل البيت.

ثم ان هذا البعض يحاول ان يثير العواطف،و يحرك الاحاسيس حين يزيد على ما مرّ و يقول:هل يقبل أحد منكم أن تهاجم زوجته،أو أمه،أو أخته،و هو قاعد في البيت يقول:لا حول و لا قوة إلا بالله؟!.

ما ذا يقول الناس عنه لو فعل ذلك؟هل يقول الناس عنه بطل؟! أم هو جبان؟فكيف تنسبون لعليّ عليه السلام مجندل الابطال ما لا ترضونه لأنفسكم؟!

ثم يؤكد قوله هذا فيقول:لقد عقد في(دبي)مجلس عزاء حول الزهراء،و ذكر القارئ هذه القضية،و كان أحد أهل السنة حاضرا،فقال لرجل شيعي كان هناك:أنتم تقولون:إن عليا بطل شجاع و قد«دوّخ»الأبطال؛فكيف لم يدافع عن زوجته،و هي وديعة رسول الله عنده؟!

و نقول:

ص: 268


1- إبطال نهج الباطل(مطبوع مع دلائل الصدق)ج 3 قسم 1 ص 47.

أولا: هذا الكلام ليس جديدا،و قد أجاب عنه العلماء، و كذلك علماء الزيدية،فقال ابن حمزة:«هو(ع)مع شجاعته لم يخل من النظر في امر الأمة،و طلب استقامة الدين و ترك ما يخشى معه التفاقم» (1).

ثانيا: قال ابن حمزة الزيدي أيضا و هو يرد على بعضهم:«انه لا عار عليه في ان يغلب،إذ ليست الغلبة دلالة على حق،و لا باطل، و لا على جبن.و هو امام معصوم بالنص،لا يفعل بالعصبية،و إنما يفعل بالأمر،و قد أمر بالصبر،فكان يصبر امتثالا لأمر الله سبحانه،و أمر رسوله صلى الله عليه و آله و سلم،لا يقدم غضبا و لا يحجم جبنا» (2).

ثالثا: إن ضرب الزهراء(ع)ليس هو الوحيد في تاريخ علي (ع)مع هؤلاء القوم،فقد ورد أنّ عليّا نفسه قد تعرّض للضرب أيضا.

،لكن لا من أبي بكر،و لا من عمر،بل ممن هو أقلّ منهما شأنا و أثرا، و هو عثمان.فقد روى الزبير بن بكار في كتابه:

عن علي بن أبي طالب عليه السلام،أرسل إليّ عثمان في الهاجرة،فتقنّعت بثوبي،و أتيته فدخلت عليه و هو على سريره،و في يده قضيب،و بين يديه مال دثر:صبرتان من ورق و ذهب،فقال:

دونك خذ من هذا حتى تملأ بطنك فقد أحرقتني.

فقلت:وصلتك رحم!إن كان هذا مال ورثته،أو أعطاكه معط،أو اكتسبته من تجارة؛كنت أحد رجلين:إما آخذ،أو أشكر،أو اوفر فاجهد،و إن كان من مال اللّه و فيه حق المسلمين و اليتيم و ابن السبيل،فو اللّه،ما لك أن تعطينه و لا لي أن آخذه.1.

ص: 269


1- الشافي لابن حمزة:ج 4 ص 188.
2- الشافي لابن حمزة:ج 4 ص 200،و راجع ص 201.

فقال:أبيت و اللّه الا ما أبيت.ثمّ قام إلي بالقضيب فضربني، و اللّه ما أردّ يده،حتى قضى حاجته،فتقنّعت بثوبي،و رجعت إلى منزلي،و قلت:اللّه بيني و بينك إن كنت أمرتك بمعروف أو نهيت عن منكر (1)!

بل هو قد تعرّض للقتل أيضا-و قد تحدّثنا عن ذلك تحت عنوان«أخبار عن احترام الصحابة للزهراء(ع)»- و قد روي في الكافي بسند صحيح عن الامام الصادق عليه السلام:أنه لما خطب عمر أم كلثوم،و قال(ع):انها صبية،قال عمر للعباس:خطبت إلى ابن أخيك فردّني،أما و اللّه،لأعوّرنّ زمزم،و لا أدع لكم مكرمة إلاّ هدمتها،و لأقيمنّ عليه شاهدين بأنه سرق،و لأقطعنّ يمينه.

فأتى العباس فأخبره،و سأله أن يجعل الأمر إليه فجعله إليه. (2)

فهذه الرواية تدل على مدى جرأتهم عليه صلوات اللّه و سلامه عليه.

رابعا: انه لا شك في أن أحدا منا لا يقبل بأن تهاجم زوجته،أو أمه،أو أخته،و هو قاعد في البيت يقول:لا حول و لا قوة إلا بالله..

و لو فعل ذلك لقال الناس عنه:إنه جبان قطعا،و لقلنا نحن عنه ذلك أيضا.

و لكن اذا كان المهاجمون يريدون استدراجنا لمعركة،أو إثارة أحاسيسنا،لكي نتشنج،و نتصرف بردّة الفعل،و من دون وعي لنتائج6.

ص: 270


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي:ج 9 ص 10.
2- الكافي:ج 5 ص 346.

تصرفاتنا؛فإن الكل سوف يلومنا اذا استجبنا لاستدراج هؤلاء المهاجمين،و حققنا لهم اهدافهم.

و المهاجمون كانوا يريدون ذلك من عليّ عليه السلام،و لو أن عليا استجاب لهم،لضاعت فرصة معرفة الحق،و لأمكنهم أن يمتلكوا كل الاسهم الرابحة و كل امكانات التشويه،و التزييف للحقيقة،كما سنوضحه إن شاء الله تعالى.

فبطولة عليّ(ع)هنا هي بصبره على الأذى،و عدم استجابته للاستفزاز الذي مارسوه ضده،فعليّ(ع)هو الذي يضحي بكل شيء في سبيل حفظ هذا الدين،و يعتبر أن هذه هي مسئوليته و واجبه الشرعي،و لم يكن ليفرط في دينه في سبيل أي شيء آخر.

خامسا: و لنفرض جدلا صحة ما يقوله هذا البعض من أن القوم كانوا يحترمون الزهراء(ع)و يقدرونها،فلما ذا لا يفترض أيضا أن يكون الهدف من اجابة الزهراء(ع)لهم على الباب هو الاستفادة من مكانتها و موقعها لدفعهم بأسهل الطرق و أيسرها؟!و هل ترى أن مكانتها و احترامها دفع عنها هجوم القوم و أذاهم؟!

المخدّرة لا تفتح الباب:

و يقول البعض:

اذا كانت الزهراء(ع)مخدّرة،فكيف تبادر هي لفتح الباب؛ فإن التي لا ترى الرجال و لا تقابل أحدا،لا تفعل ذلك..

و الجواب:

ص: 271

أولا: هل المخدرة لا يحق لها أن تدافع عن نفسها،لو هوجمت،أو عن ولدها و زوجها،أو عن شرفها،أو دينها،و رسالتها؟!

ثانيا: أ لم تكن زينب أيضا مخدرة؟فلما ذا أخرجها الامام الحسين(ع)معه الى كربلاء لتواجه السبي،و المصائب،و تواجه الرجال،و تخطب في الكوفة،و في الشام أمام طواغيت و جبابرة الارض في زمانها؟!

ثالثا: هل خدرها يمنعها من الاجابة من خلف الباب،أم أن اجابتها هذه سوف تكشفها للناس،ليروا ما لا يجوز لهم رؤيته منها؟!

رابعا: اذا كانت قد اجابتهم من خلف الباب،فلا يعني ذلك أنها قد قابلتهم وجها لوجه،فإذا كسروا الباب،و لاذت خلفه رعاية للستر و الحجاب،و عصروها بين الباب و الحائط،فهل تكون هي المسئولة عن ذلك؟!..

و يؤيد ذلك أنه قد جاء في بعض النصوص:أنها عليها السلام قد مدت يديها من خلف الباب،فضربوا كفيها بالسوط (1).

خامسا: أ ليست هذه المخدرة نفسها قد خطبت الناس بالمسجد، باعتراف هذا السائل نفسه؟!و سمع صوتها القاصي و الداني؟!

و هل الخدر للمرأة يمنعها من أن تدافع عن القضية العادلة،و عن الحق لو انحصر بها الدفاع عنه و استلزم ذلك الجهر بالمظلومية؟

أ لم يستثن الفقهاء صورة الدفاع عن الحق،من ممنوعية سماع صوت المرأة،لو قيل بتحريمه؟!5.

ص: 272


1- البحار:ج 30 ص 293-295.

و كيف يجوز لها أن تخطب الناس في المسجد،و لا يجوز لها أن تجيب من خلف الباب؟!

و هل يمنعها خدرها من الدفاع عن الامامة و كشف الحقيقة للأجيال حين انحصر انجاز هذا الامر الخطير بها عليها السلام؟.

و هل خدرها يحجزها عن الوقوف في وجه الظالمين و الغاصبين، لتكشف للناس حقيقتهم،و تظهر واقع نواياهم،و جرأتهم على الله و رسوله،و أنهم على استعداد للتعرض حتى للنساء،بل حتى لأقدس امرأة،و هي سيدة نساء العالمين،و البنت الوحيدة لأعظم رسول،حتى فور وفاته صلوات الله و سلامه عليه؟

هل هناك بيان افصح من هذا البيان؟و هل يمكن لو لا ذلك معرفة الظالم من المظلوم،و المهاجم من المدافع؟و من الذي يضمن لنا أن لا يبادر من يجترئ على إهانة الزهراء(ع)،و الرسول(ص)،حتى قيل له:ان النبي ليهجر،من أن يقدم على تحريف الحقائق و تزويرها؟!

سادسا: إن هذا المعترض نفسه ينكر صحة حديث:خير للمرأة أن لا يراها الرجال و لا ترى الرجال؛و يستند في ذلك الى ما ذكرناه من خطبتها عليها السلام في المسجد،و بخروجها مع النساء في الحروب و الغزوات،و بكلامها مع أبي بكر و عمر حينما دخلا عليها ليسترضياها.فما معنى أن يستدل بذلك هنا،و ينكره هناك؟!

لما ذا لا يفتح الباب الزبير،أو فضة؟

اشارة

و من الأمور المستغربة قول هذا البعض:

كل الروايات تقول:لم يكن عليّ عليه السلام وحده في البيت

ص: 273

حينما هاجموه ليخرجوه ليبايع أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و آله،بل كان معه«جميع بني هاشم»،و كانت معهم فضة، و الزبير و العباس.فلما ذا لم يفتح أحدهم الباب دونها(ع)؟.

و الجواب:

إن دعوى:«وجود جميع بني هاشم في داخل البيت وقت الحادثة»،غير معلومة الصحة،و ذلك لما يلي:

أولا: إن النظّام-كما ينقل عنه-يصرّح بأن عمر«كان يصيح:

أحرقوا دارها بمن فيها»،و ما كان في الدار غير عليّ،و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم سلام الله (1).

و قوله:«ما كان في الدار الخ..»سواء أ كان من كلام النظّام، أو من كلام المؤلف فإنه كاف في ما نريده هنا،و هو ينفي وجود فضة و الزبير أيضا.

و ثانيا: لو سلمنا وجود أشخاص آخرين في بعض الأحيان،فإن الهجوم على بيت الزهراء(ع)،قد كان أكثر من مرة،و قد ظهر ذلك صراحة في سياق الحديث الذي ورد في الامامة و السياسة (2).و تدل عليه روايات عديدة أخرى خصوصا مع الجمع و المقارنة بينها، و ملاحظة خصوصيات الاحداث،فإذا كان ثمة اشخاص في بيت الزهراء(ع)في الهجوم الأول،فليس بالضرورة أن يكونوا موجودين في الهجوم الثاني،أو الذي بعده..و ما هو الدليل الذي دل على ذلك؟.2.

ص: 274


1- الملل و النحل:ج 1 ص 84،و البحار:ج 28 ص 271،و راجع بهج الصباغة: ج 5 ص 15.و بيت الاحزان:ص 124.
2- الامامة و السياسة:ج 1 ص 12.

و ثالثا: لا توجد رواية تقول:إن جميع بني هاشم كانوا في البيت،نعم هم يقولون:ان بني هاشم قد قعدوا عن البيعة،و لعل القائل قد اشتبه عليه الامر؛فتخيل أنهم قعدوا عن البيعة في بيت عليّ عليه السلام،و لم يلتفت الى أن معنى(قعدوا)أنهم امتنعوا عنها،لا جلسوا في بيت عليّ(ع)،أو غيره!!

و رابعا: بعض الروايات صرحت بوجود الزبير فقط (1)بالاضافة الى عليّ و فاطمة و الحسنين عليهم الصلاة و السلام،و لم تذكر سوى هؤلاء.

و بعض الروايات اشارت الى وجود عدد أو جمع من بني هاشم لا جميعهم (2).

و هذه الروايات و ان لم تكن متعارضة لعدم التعارض بين المثبتات،و لكنها-خصوصا الاخيرة-تنفي وجود جميع بني هاشم في بيت فاطمة(ع).

و خامسا: البيت صغير،لا يتسع لجميع بني هاشم،و لا حتى لنصفهم،خصوصا مع دفن النبي(ص)في ذلك البيت،حيث لا بد من مراعاة حرمته أيضا.

و سادسا: إن الذي منع عليا عليه السلام،و فضة،و الحسنين عليهما السلام من فتح الباب،هو نفسه الذي منع الزبير،و سائر بني هاشم من ذلك،كما سيتضح في الاجابة على السؤال التالي ان شاء الله تعالى.7.

ص: 275


1- الامالي للمفيد:ص 50/49.
2- راجع:المفيد في الجمل،(ط جديد)ص 118/117.
لو أجابهم عليّ(ع):

يزعم البعض:أنه قد كان على عليّ(عليه السلام)أن يفتح الباب،أو تفتحه فضة أو غيرها.أما الزهراء(عليها السلام)،فلا مبرر لمبادرتها هي لفتح الباب دونهم.

و الجواب:

هناك أمران،لا بد من الحديث عنهما:

أحدهما: هل يمكن لعليّ(عليه السلام)أو غيره أن يفتح الباب؟!

الثاني: لما ذا لا بد للزهراء(عليها السلام)دون سواها أن تتولى هذا الأمر؟

و الإجابة على هذين السؤالين متداخلة،و لأجل ذلك حررناها على النحو التالي:

أولا:لقد كان النبي(صلى الله عليه و آله)يأمر بعض زوجاته بفتح الباب للطارق،كما تقدم،فلا حرج مبدئيا من قيام الزهراء بمهمة اجابة الطارقين.

ثانيا:ان من الواضح:أن فتح عليّ عليه السلام للباب،أو على الأقل إجابته للمهاجمين و لو من خلف الباب لا يخلو من أحد أمرين:

إمّا أن يفعل ما يأمرونه به من المبادرة الى بيعة صاحبهم-أعني أبا بكر-،و يكون في هذه الحالة قد قدم ما يشبه الاعتراف بشرعية ما قاموا به،بل هو يلغي كل دلالة على أن له حقا في هذا الأمر من

ص: 276

الأساس.

و إمّا أن يقتصر على إجابة المهاجمين،ثم الامتناع عن تلبية طلبهم،و هذا سوف يدفع بالمهاجمين الى مجادلته،و محاولة التأثير عليه بالكلمة القوية،أو اللّينة،أو حتى محاولة إخراجه للبيعة بالقوة.

و ذلك منه عليه السلام سوف يعطيهم الفرصة لتشويه الأمور، و اظهارها على غير حقيقتها،و ادعاء ما يحلو لهم عليه،بحيث يكسرونه و يشوهون الحقيقة للناس،و هم المهيمنون و الحاكمون،و إليهم تتلع الأعناق الطامعة،و يتزلف المتزلفون.

انهم سوف يقولون للناس:لقد جئنا للتعزية و السؤال عن الحال، و لكن عليا(عليه السلام)هو الذي واجهنا بالكلمة اللاذعة،أو بالعنف،حسدا منه لنا،و اعتدادا بنفسه،و إدلالا بمواقفه،و بقوته، و بقرابته من رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم)،ثم بفروسيته، و بكونه زوج بنت الرسول،و أبا السبطين،فهو المعتدي و نحن الضحية، و هو الحاسد و الحاقد،و المهاجم و المغرور،و هو الطامع في أمر كان هو بنفسه قد أعلن انصرافه عنه،حيث إنهم كانوا قد أشاعوا عنه بين الناس،و هو منشغل بتجهيز رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم)بأنه لا يريد هذا الأمر،كما يدل عليه قول المنذر بن أرقم في السقيفة، حينما رجحت كفة أبي بكر على سعد،و اختلف الأنصار فيما بينهم، و تنازعوا:

«إن فيهم لرجلا،لو طلب هذا الأمر،لم ينازعه فيه أحد.يعني علي ابن أبي طالب(عليه السلام)» (1).3.

ص: 277


1- تاريخ اليعقوبي:ج 2 ص 123.

و في رسالة ذكر أن عمر بن الخطاب كتبها الى معاوية،يقول فيها عن أبي بكر:«و قدمت الناس الى بيعته و صحبته،لأرهبه و كل من ينكر بيعته،و يقول:ما فعل علي بن أبي طالب؟فأقول:خلعها من عنقه،و جعلها طاعة للمسلمين،قلّة خلاف عليهم؛فصار جليس بيته» (1).

نعم إنهم سيقولون للناس:

اذا كان عليّ عليه السلام قد انصرف عن هذا الأمر،و اذا كان لا بد من ضبط الأمور،خوفا من الفتنة،فقد بادرنا الى ذلك حفاظا على الإسلام،و لكي نحفظ للأمة وحدتها،و للناس كراماتهم،و انتظام أمور حياتهم،لأننا نريد الخير للناس،و الزلفى و القرب من الله،و لا شيء سوى ذلك،و حين واجهنا بالعنف،لم يكن أمامنا خيار،إلا أن اعتقلناه درءا للفتنة،و حفاظا على الدين و الأمة.

و من الذي يستطيع ان ينكر عليهم ما يدّعون،و يرى الناس أنهم حكام متسلطون،ولدى الحكام عادة السياط و السيوف الى جانبها الأموال،و المناصب،و بإمكانهم تلبية المطامح و المآرب،و يبقى إعلامهم هو الأعلى صوتا،لأنه يضرب بسيوف المال و الجاه، و الجبروت،و الأطماع،و الهوى،و هناك الحقد الظالم من الكثيرين على عليّ(عليه السلام)و على كل من يلوذ به،أو ينسب إليه.و عليهم أن يستفيدوا من هذه الأحقاد أيضا لتثبيت أمرهم،و تقوية سلطانهم.

و حين أجابتهم فاطمة عليها السلام،كان جوابها المفاجأة التي ضيعت عليهم الفرصة التي رأوها سانحة؛فواجهوها بالعنف و القوة،4.

ص: 278


1- البحار:ج 30،ص 292-294.

و بانفعال و رعونة،حيث بادروها بالهجوم الشرس،الذي ينمّ عن حنق لا مبرّر له الاّ الإصرار على انتزاع هذا الأمر بالقوة،حتى و لو كان بقيمة قتل«المحسّن»،و هتك حرمة بيتها(عليها السلام)و الاعتداء عليها بالضرب المبرح،و هي امرأة ليست هي بالطامعة،و لا الحاسدة، و لا المغرورة بنفسها،و لا الحاقدة،و لا المشاغبة،انها امرأة جاءت لترى من الطارق؟و لم تكن بصدد اطلاق الكلمات الرعناء بلا حساب،بل لا مبرر لأن تفعل ذلك ابتداء، و هي المرأة المثكولة بأبيها أعظم نبي وجد في هذا العالم،و قد أخرجهم من الظلمات الى النور،و هي ابنته الوحيدة،و الإنسانة المميزة التي هي أفضل نساء العالمين من الأولين و الآخرين،و هي التي يرضى الله لرضاها و يغضب لغضبها.

فلو أنهم حين جاءوا قد تكلموا بالكلام اللّين و المهذّب،و قالوا لها:كيف اصبحت يا بنت رسول الله؟لقد جئنا للاطمئنان على حالكم،و للسؤال عن صحتكم،و لنعزيكم برسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم)،فهل تأذنين لنا بزيارتكم لمباسطة عليّ و مؤانسته، و الاطلاع على أحواله،فهل كانت الزهراء ستواجههم بغير الخلق الرضي،و الكلمة الطيبة،و بغير التأهيل و الترحيب؟!

ثم تطالبهم و تحتج عليهم في ما يحاولونه من اغتصاب أمر الخلافة،او يطالبهم علي(عليه السلام)بذلك بحكمة و أناة بعيدا عن أجواء العنف و القهر،و استعمال السيوف و السياط.

و لكن الحقيقة هي: أن هؤلاء كانوا يريدون الاستعجال بأخذ البيعة من عليّ(عليه السلام)،اذ أنهم سرعان ما سيظهر عدم صحة ما قالوه للناس،و أن عليا(عليه السلام)لم ينصرف عن هذا الأمر،فبما ذا يجيبون الناس على سؤال:لقد بايعتم أمس عليا(عليه السلام)في يوم

ص: 279

الغدير،ثم قلتم لنا:انه قد استقال من هذا الأمر،و ها قد ظهر خلاف ما ادعيتم،فكان أن أسرعوا الى عليّ(عليه السلام)ليأخذوا البيعة منه بالقوة و بطريقة إرهابية،ليتلافوا أي حجاج أو احتجاج يحرجهم، و يفضح ما لا يحبون فضحه،كما أنهم بهذا الجو الإرهابي يظهرون عليا(عليه السلام)على انه متمرد على الشرعية،و خارج على القانون.

فكان موقف الزهراء(ع)مفاجئا لهم فقد أفقدهم القدرة على التصرف المناسب و ضيّع عليهم ما جاءوا لأجله،فتصرفوا معها برعونة و بانفعال و حقد،و تسببت في فضح أمرهم،و هتك المستور من نواياهم و خباياهم؛فأين هي التقوى التي يدعونها،و حب الخير الذي يزعمونه؟!و عرف الناس حقيقة ما أرادوه من و أد الفتنة،و إقامة شرع الله و أحكام الدين الذي يتذرعون به.

ان ما فعلوه مع الزهراء(عليها السلام)،قد أفقدهم القدرة على تلميع الصورة،و كان فتح الزهراء للباب ضربة موفقة محقت كل كيد و زيف،و أبطلت كل تزوير أو تحوير للوقائع و الحقائق.

و كيف يمكن تحصين الأجيال من التزوير الإعلامي،الذي قد يمارسه الحكام بكل ما يملكون من طاقات و إمكانات سلطوية و مادية؟!.

لقد قتل المأمون أخاه الأمين،ثم صوّره إعلامه أنه انسان تافه، جاهل و أحمق،بل و متخلف عقليا،و لم يزل الباحثون يعتقدون فيه نفس هذا الاعتقاد الذي أوحى به المأمون للناس،مع أن الحقيقة هي أنه كان على عكس ذلك تماما،لكن ذنبه:أنه هزم و قتل.

و اذا كنا نحن نملك معايير تمكننا من اكتشاف كثير من الحقائق

ص: 280

فيما يرتبط بما ينسبونه الى النبي(صلى الله عليه و آله)و الأئمة(عليه السلام)و غيرهم،لتصديقنا بالقرآن الذي هو ميزان و معيار،و كذلك الحال بالنسبة للرسول(صلى الله عليه و آله)و لأمور أخرى،فإن غيرنا ممن لا يدين بالإسلام،اذا أراد ان يكتشف الحقيقة من خلال دراسة الشواهد التاريخية المتوفرة لديه،فسيصعب عليه ذلك جدا.

لأنه إذا قرأ:أن هناك انسانا يهتف النبي(صلى الله عليه و آله) باسمه،و يقول:هو وليكم بعدي،و يهتف الخلق و لا سيما الانصار باسمه (1)،و يقولون في السقيفة،لا نبايع إلا عليّا (2)،و هو العالم الشجاع،القوي المجاهد،صاحب المواقف الكبرى،و التضحيات الجسام،و هو صهر النبي و ربيبه،و ابن عمه و حبيبه الخ...

و قرأ في المقابل:ان مناوئيه(عليه السلام)قد اغتنموا فرصة غيابه عن الساحة،و اختصوا بالأمر لأنفسهم ثم جاءوا الى بيته و طالبوه بأن يقرّ لهم بما اغتصبوه،و يسلّم و يعترف لهم،و يخضع لما أرادوه..

ثم قرأ ثالثة:ما يدل على وجود شائعات راجت بين الناس تقول:ان صاحب هذا الأمر قد انصرف عنه،و لم يعد يطلبه لأسباب خاصة أو عامة.

قال المحقق القاضي نور الله التستري:«أوقع بعض المنحرفين عن علي في قلوب الناس أنه(ع)قد تقاعد عن تصدي الخلافة لشدة ما أصابه من مصيبة النبي(ص)،و سكن قعر بيته مشتغلا بالحزن و التعزية، فجاء خزيمة بن ثابت الأنصاري،و قال لقومه من الأنصار ما سمعه من2.

ص: 281


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي:ج 16 ص 215،و احقاق الحق:ج 2 ص 354 و 355 عن تحفة الاحباب للدشتكي.
2- تاريخ الامم و الملوك:(ط دار المعارف)ج 3 ص 202.

حال علي(ع)،و ذكر أنه لا بد ممن يلي هذا الأمر و ليس سواه قرشي يليق بذلك.

فخاف الانصار أن تشتد عليهم البلية،و يلي هذا الأمر قرشي فظ ينتقم منهم للثارات الجاهلية و الأضغان البدرية،فتوجهوا الى سعد بن عبادة سيد الأنصار و حضروا السقيفة ملتمسين منه قبول الخلافة، فأبى سعد ذلك لمكان علي(ع)،و أنه المنصوص بالخلافة عن الله تعالى و رسوله فلما سمع قريش بذلك-و كانوا منتهزين للفرصة-دلسوا في الأمر.و عجلوا في البيعة لأبي بكر إلخ... (1)».

ثم قرأ رابعة:ان هذا الشخص قد ندم على إعراضه،و استيقظ فيه هاجس الطمع من جديد،فواجههم حين أتوه برفض طلبهم، و بالإعلان بالنكير عليهم،بل واجههم بالشتائم و بقواذع القول، و قوارص الكلام،بل أنّبهم على هذه الخيانة العظيمة،و على هذه الجريمة الجسيمة.

ثم قرأ أيضا:انهم قد قابلوا الشتيمة بمثلها،و الشدة و العنف بمثله أيضا،حتى تفاقمت الأمور الى درجة الصدام،و الافتراق و الالتحام، بفعل حدة الغضب.

فإنه أيضا سوف يقبل و يصدق ذلك،و يرى أمامه صورة مكتملة و منسجمة،و سيقول في نفسه:إنّ الملك عقيم لما فيه من الجاه و المال و المناصب و المكاسب،و لما فيه الكرامة و القداسة.و الكل يحب أن يحصل على حكم فيه كل هذا،و سيتذرع لذلك بالحجج و البراهين،و يحشد له الشواهد و الدلائل،و قد يظلم و يعتدي و يزوّر7.

ص: 282


1- احقاق الحق:ج 2 ص 348/347.

الحقائق في سبيل ذلك.

اذن،فلن يستطيع هذا الشخص أن يكتشف الحقيقة،إذا عرض عليه ملك أو سلطان يتنازعه فريقان كل منهما يقول في ظروف كهذه:أنا المظلوم و المعتدى عليه،و الآخر هو الظالم و هو المهاجم؛لأن هذا الشخص-كما قلنا-لا يملك المعايير الكافية التي تمكنه من حصحصة الحق،و تمييزه عن الباطل.

و قد عبّر بعض المستشرقين عن هذه الحقيقة المهمة،حينما قال:

انه لم يدرك مظلومية الإمام الحسين عليه السلام إلاّ من قتل طفله الرضيع،و هو كلام صحيح؛لأنه لا يملك مفتاحا يستطيع بواسطته أن يدخل الى شخصية الإمام الحسين(عليه السلام)،و لا معيارا يعرّفه الحق من الباطل في قضية الحسين(عليه السلام)إلا المعيار العاطفي و الإنساني،أما نحن فلدينا القرآن،و كلام الرسول(صلى الله عليه و آله)و لدينا مثل وقيم،و حقائق،نقيس بها الأمور،و نعرف الحق من خلالها.

و هكذا يتضح:أنه لو كان عليّ عليه السلام هو الذي اجاب المهاجمين لضاع الحق لدى الكثيرين من الناس،و هو ما لم يكن عليّ (عليه السلام)ليقدم على التفريط به في أي ظرف،و لكانوا فعلوا ما أرادوه من اقتحام البيت،و غيره من أمور،و كانوا أعظم شراسة و أشد ضراوة،و أكثر عنفا و فتكا بأهله،و لوقع الناس في أعظم البلاء،حيث تسد عليهم النافذة الوحيدة لمعرفة الحق خصوصا من كان منهم بعيدا عن أجواء المدينة،فضلا عن الأجيال اللاحقة،و الى يومنا هذا،و هل كان يمكن اكتشاف المحق من المبطل،و الطامع،المتغلب،المغتصب، المهاجم من المظلوم،و المضطهد،و المقهور،و المسلوب حقه،و المكذوب

ص: 283

عليه بما راج آنئذ من شائعات و أباطيل؟

نعم،لو كان عليّ(عليه السلام)هو الذي أجاب المهاجمين لضاع الحق،و لطمست الحقيقة.

و لعل أحدا منا،أو فقل:لعل الكثيرين منّا لم يكونوا يتشيعون له،و لا عرفوا حقه و صدقه،و لكان لنا حديث آخر مع هذا الإسلام العزيز.

و قد كان عليّ عليه السلام إماما للأولين و للآخرين و هو مسئول عن تحصين الأجيال الى يوم القيامة في وجه التضليل و التزوير، و لا سيما فيما يمس عقائدهم،و عليه أن يمنحهم الفرصة الحقيقية لاكتشاف هذا التزوير في أي موقع كان،و من أي كان.

لو أجابتهم فضة؟

و حتى لو أن فضة هي التي أجابتهم على الباب؛فإن الأمر لا يختلف عما ذكرناه،لأن اجابتها لن تعرّف الناس على حقيقة ما يكنّ اولئك القوم من حرص على هذا الأمر،و إصرار أكيد على ابتزاز و انتزاع الحق من صاحبه الشرعي،و قد كان بإمكانهم إزاحتها عن طريقهم باسلوب لن يكون له دور في جلاء الصورة،و لا في معرفة الحقيقة،اذ يمكن ان يتهموها هي بأنها قد واجهتهم بطريقة غير مؤدبة و لا أخلاقية.

و لم يكن لفضة ذلك المقام الرفيع الذي كان للزهراء عليها السلام،و لم يقل النبي(صلى اللّه عليه و آله)في حقها:إن الله يغضب لغضبها.أما الزهراء عليها السلام،فهي المرأة المعصومة و المطهرة بنص

ص: 284

القرآن،و هي التي يغضب الله لغضبها و يرضى لرضاها.

فلو لا الزهراء إذن،لطمست معالم الدين،و لحقق الحاقدون و المنافقون المتربصون بهذا الإسلام العزيز أغلى و أحلى أمنياتهم.

فالزهراء عليها السلام بخطواتها المعدودة تلك نحو الباب قد حصنت حق عليّ عليه السلام،و حفظت الإمامة-لا الخلافة فقط-من التجني و التزوير.ثم هي قد مكّنت الناس حتى غير المسلمين من اكتشاف الحقيقة،سواء من عاش منهم في ذلك العصر،أو الذين جاءوا و يجيئون بعد ذلك.

و التأمل في التاريخ يعطينا:ان كل امام له دور رئيس في حفظ اساس الإسلام الى درجة أنه لو لاه لضاع الدين ضياعا حقيقيا،فلو لا تبليغ الإمامة يوم الغدير،و لو لا صلح الإمام الحسن،و لو لا استشهاد الإمام الحسين عليهما السلام.و لا غرو إذا قلنا أيضا:لو لا موقف الزهراء هذا،الذي تعرضت فيه للأذى،و للضرب و إسقاط الجنين،لم يكن من هذا الإسلام إلا المظاهر و الأسماء و إلا الأشكال و الطقوس الجوفاء.

استطراد،أو مثال و شاهد:

و نذكر هنا شاهدين اثنين،يدخلان في نطاق ما ذكرناه من مسئولية النبي و الإمام عن تحصين الأمة عن أن تقع فريسة التزوير الإعلامي هما:

الأول:ان النبي(صلى الله عليه و آله)قد طلب في مرض موته أن يأتوه بكتف و دواة،ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده،رغم أنه كان

ص: 285

قد نص على امامة عليّ عليه السلام في كثير من المناسبات و المواقف قبل ذلك،و لا سيما في يوم الغدير،حيث أخذ له البيعة من الناس أيضا.

و لكنه صلى الله عليه و آله و سلم أراد ان يحصن الأمة عن أن تقع فريسة التزوير،حتى لا يقال لها:إن النبي(صلى الله عليه و آله)قد عدل عن رأيه،و قد استجدت امور،و نشأت ظروف اقتضت استبعاده عليه السلام عن هذا الأمر.

و قد اظهرت مبادرة النبي هذه حقيقة ما كان يكنّه البعض في نفسه،و ما كانوا يبيّتونه تجاه هذه القضية بالذات،حين قيل و رسول الله(صلى الله عليه و آله)يسمع:إن النبي ليهجر،أو نحو ذلك.و لم يعد مجال للتعلل بأن صحابته صلى الله عليه و آله و سلم اتقياء مخلصون،يحترمون رسول الله(صلى الله عليه و آله)،و يحرصون على تنفيذ.أوامره،و كسب رضاه.فإن قولهم:إن النبي ليهجر،قد أظهر مدى جرأتهم على الرسول الكريم؛فإذا كانت مطامعهم و مصالحهم تدعوهم الى هذه الجرأة،و اذا كانوا يواجهون أعظم نبي بهذا الأسلوب الجاف،فهل يتورعون عن ضرب النساء،و عن طمس الحقيقة في سبيل تحقيق أهدافهم؟!

الثاني:حمل الحسين عليه السلام معه النساء و الأطفال الى كربلاء حتى لا يدّعي الحكام المجرمون أن اللصوص قتلوا الحسين،أو أنه تاه في الصحراء،فمات عطشا،كما جرى لدليلي مسلم بن عقيل،أو أن السباع قد افترسته أو ما إلى ذلك.

ثم يأتي هؤلاء المزورون،و يشيعون جنازته بالاحترام و التبجيل، مع إظهار مزيد من الحزن و الأسى على فقده،و يخدعون الناس بذلك،

ص: 286

و يؤكدون نهجهم الانحرافي و الإجرامي.

و لأجل ذلك أيضا،خرج عليه السلام من مكة في يوم التروية، مع أن المفروض هو أن يتوجه في هذا اليوم الى عرفات،مع العلم أن الحسين عليه السلام هو الوحيد الباقي من ذرية النبي(صلى اللّه عليه و آله)،و هو الرمز،و هو الذي يراه الناس مسئولا عن حفظ هذا الدين و رعايته،و تعليمهم أحكامه،فكيف يخرج و يتركهم،في يوم تبدأ فيه مراسم،شعيرة هي من أعظم شعائر الإسلام؟!فبدل أن يتوجه الى عرفات يتوجه الى جهة أخرى!!.إن ذلك سوف يصرف الانتباه، و يطرح الكثير من التساؤلات.

إنه يخرج من مكة الى غير مكة،و من قلب العالم الإسلامي النابض،الذي يحتضن أعظم المقدسات الإسلامية الى بلد آخر لا مقدسات فيه،و هو يتركها في ايام الحج،لا في الأيام العادية؛ و بالذات،في أول يوم من أيامه،و المفروض أن يكون هو أمير الناس، و قائدهم،و مرجعهم الذي يرجعون إليه،ليعلمهم مناسك حجهم، و أحكامه.

و الحسين عليه السلام نفسه هو ذلك الشخص الذي تتمنى القلوب و العيون ان تراه،و لو مرة في العمر،فضلا عن السعادة الغامرة لكل مسلم بالتحدث إليه،و الجلوس بقربه.

ثم انه عليه السلام يعلن للناس جميعا:أن الله شاء أن يراه قتيلا،و عن النساء:إن الله شاء أن يراهن سبايا.

فهناك إذن جريمة،و هي غير عادية،انها جريمة قتل لانسان عظيم،و في ظروف غير عادية.إنها جريمة تستهدف أعظم انسان على

ص: 287

وجه الأرض،و قتله في حرب مدمرة،تقتل فيها الرجال كل الرجال من ذرية الرسول،و كل من معهم،و تسبى بنات الوحي و أهل بيت النبوة.

اذن،فلا بد أن يتساءل الناس عن هذا المجرم من هو،و عن موقفهم و مسئولياتهم تجاه هذا الواقع الخطير و المرير..و لسوف ينتظرون نبأ الجريمة بفارغ الصبر.

فخروج الحسين(ع)لم يكن لأجل دنيا و سلطان،و لا فرارا من خطر،و لا للاستجمام و النزهة،بل كان لمواجهة الخطر بأعظم مراتبه، و مواجهة التحدي.

و الذين سمعوا من الحسين(عليه السلام)هذا القول،و واجهوا هذا الحدث،قد جاءوا من كل بقاع الإسلام،و ربما من كل مدينة و قرية،و من كل حي و شارع،سيرجعون بذكريات تلامس مشاعرهم و عواطفهم،و عقيدتهم،و تهز ضمائرهم،و توقظ وجدانهم، و سيتحدثون لزوارهم عن هذه الذكريات التي لا تزال نابضة بالحياة،لأنها منذ بدايتها جعلتهم يعيشون حالة الترقب و الانتظار.

و هذا ما سيضعف قدرة سلطات القهر و الظلم على تزوير الحقيقة مهما حاولت ذلك،و ستبقى الشكوك و علامات الاستفهام الكبيرة تواجه ذلك التزوير بقوة،مهما كان خفيا و ذكيا.فصلوات الله على الحسين و على أولاد الحسين و على أصحاب الحسين.

أ يخافون من فتح الباب و هم مسلّحون؟!

و ثمة محاولة أخرى،يبذلها البعض لترجيح مقولة: انه لا مبرر

ص: 288

لأن تفتح الزهراء(ع)الباب دون غيرها ممن كانوا في داخل البيت، فهو يقول:«اذا جاءوا ليعتقلوك،فهل تقول لزوجتك:افتحي الباب،أم تبادر أنت الى فتحه؟!».

و الجماعة قد جاءوا ليعتقلوا عليا،فلما ذا تفتح الزهراء(ع)الباب؟ خصوصا و أن الذين في داخل البيت كانوا مسلحين،فهم لا يخافون من المواجهة مع المهاجمين،و قد خرج الزبير مصلتا سيفه،فكسروا سيفه.

و يظهر ان هذا الإشكال مأخوذ من الفضل بن روزبهان،الذي قال:

«ان عيون بني هاشم،و أشراف بني عبد مناف،و صناديد قريش،كانوا مع عليّ.و هم كانوا في البيت،و عندهم السيوف اليمانية،و إذا بلغ أمرهم الى ان يحرقوا من في البيت،أ تراهم طرحوا الغيرة و تركوا الحمية رأسا،و لم يخرجوا بالسيوف المسلة فيقتلوا من قصد احراقهم بالنار»؟ (1).

و الجواب:

أولا: إنني أعتقد أن ما ذكرناه في الإجابة على السؤال السابق يكفي لبيان ضرورة أن تجيب الزهراء على الباب.

فإن القضية ليست هي مجرد منع المهاجمين من اعتقال عليّ (عليه السلام)،بل القضية هي ان مواجهة عليّ عليه السلام لهم سوف تتسبب بتضييع الحق،و إعطائهم الفرصة لتحقيق مآربهم في6.

ص: 289


1- ابطال نهج الباطل(مطبوع مع دلائل الصدق):ج 3 ص 46.

تزوير الحقيقة و التاريخ..

و قد كان إظهار هؤلاء القوم على حقيقتهم،و تعريف الناس بأنهم هم المعتدون و الظالمون،منحصرا في أن تجيبهم الزهراء عليها السلام،دون سواها حتى و لا فضة،أو غيرها من بني هاشم.

و ليلاحظ: أنه رغم وضوح هذا الأمر،فإن البعض يعبّر بكلمات لا تتناسب مع هذه الحقيقة،مثل قوله«اعتقال علي».و ستأتي عبارات أخرى له من قبيل:«إخضاع المعارضة»و«مواجهة التمرد»،و ما الى ذلك.

و كأنهم يرون أن قعود عليّ(ع)في بيته،و إجابة الزهراء لهم إنما كان خوفا من الاعتقال،لا أنه خطّة تهدف الى إفساد ما كان المهاجمون يريدون تحقيقه في محاولتهم تلك،و قد نجحا عليهما السلام في ذلك أيما نجاح رغم كل ما تعرضا له.

و ثانيا: لقد كان من الواضح:أن مواجهة المهاجمين بالسيف و بالعنف كان هو مطلوب المهاجمين،و هو يخدم مصالحهم بدرجة كبيرة،و هو ما كان يتحاشاه عليّ صلوات الله و سلامه عليه،و قد نهاه عنه رسول الله(صلى الله عليه و آله)أيضا.

و قد اعترف المستدل بأنه: «قيدته وصيته من أخيه»بعدم استعمال السيف و العنف في أمر الخلافة..

فما معنى توقعه ذلك منه عليه السلام؟فهل يريد منه مخالفة امر النبي(صلى الله عليه و آله)،و الاستسلام للفخ المنصوب له،ليضيّع على الأمة فرصة معرفة الحق؟!

و ثالثا: إن عدم الاستجابة الى دعوة العنف لا يعني أن لا يتخذ

ص: 290

أولئك المعتدى عليهم الاحتياطات اللازمة للدفاع عن أنفسهم،لو أريد بهم شر و أذى؛فإن عدم طلب الخلافة بالسيف شيء،و الذبّ عن النفس حينما يراد سفك دمائهم شيء آخر..

و أما ما فعله الزبير،فإنما صدر منه حين أخذوا عليا عليه السلام، فلم يحتمل الزبير ذلك،فحاول ان يهاجمهم لتخليص عليّ(عليه السلام)،فرماه خالد بصخرة،فأصابت قفاه،و سقط السيف من يده؛ فأخذه عمر،و ضربه على صخرة فانكسر (1).

و ذكر في نص آخر:مجيء عمر في جماعة،ثم قال:فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف،فعثر،فسقط السيف من يده؛فوثبوا عليه فأخذوه (2).

أ لا يدافع عليّ(ع)عن وديعة الرسول(ص)؟:

قد يتساءل البعض فيقول:

اذا كانت الزهراء(ع)وديعة رسول الله(ص)عند عليّ(ع) فكيف لم يدافع عنها؟!أ لا يجب حفظ الوديعة؟!

و الجواب:

أولا: إن الجواب السابق يكفي هنا،فإن دين الله كان أعظم وديعة من قبل الله و رسوله عند عليّ عليه الصلاة و السلام.و لا بد من حفظ هذه الوديعة،على ان هذه الوديعة نفسها-أعني الزهراء-لم

ص: 291


1- الاختصاص:ص 187/186،و البحار ج 28،ص 229 ح 15.
2- تاريخ الامم و الملوك:ج 3 ص 202.

تتوان لحظة في الدفاع بنفسها،و بكل ما تملك و تستطيع عن الوديعة الأخرى،اعني دين الله سبحانه و تعالى.

ثانيا: إن عليا(ع)لم يفعل ما يتنافى مع حفظ الوديعة، و الزهراء(ع)قد قامت بواجبها،و عملت بتكليفها،و المهاجمون هم الذين خالفوا حكم الله،و اعتدوا على وديعة رسول الله(ص)، فالخطاب بحفظ الوديعة موجّه إليهم بالدرجة الاولى.

أما القول بأن ترك عليّ(ع)لها لتواجه هي التحدي وحدها، يعتبر تفريطا منه عليه السلام بها...

فليس صحيحا بل هو من سخف القول،لأن تكليفها هي أن تواجه و تدافع عن الامامة،و قد قامت بذلك.

و تكليفه هو أن لا يعطيهم شرعية،و لا مبررا لتمرير مخططهم، و أن يحفظ للناس فرصة تمييز الحق من الباطل،ثم أن لا يعطيهم فرصة الاعتداء على الزهراء(ع)و لا يمكّنهم من تلميع صورتهم،و تخفيف بشاعة ما ارتكبوه و اقترفوه ثم تمريرهم ذلك على الناس بدهاء.

و تكليف المهاجمين هو ارجاع الحق الى نصابه،و أن لا يعرّضوا أنفسهم لغضب الزهراء(ع)،و من ثم لغضب الله و رسوله.

و قد قام عليّ و الزهراء عليهما سلام الله بما يجب عليهما خير قيام،و لم يكن بالإمكان فعل ما هو أفضل من ذلك.

و من يعمل بواجبه الشرعي لا يمكن أن يعتبر مفرّطا بالوديعة، و مخالفا للحكم الشرعي،بل التفريط إنما جاء من قبل الآخرين.

ص: 292

هل ضرب الزهراء(ع)مسألة شخصية؟!

اشارة

و يتابع البعض اعتراضاته،فيقول:

إن كنتم تقولون:إن عليا لم يدافع عن الزهراء،بسبب وصية النبي(ص)له حيث«قيدته وصية من أخيه».

فإننا نقول لكم:إنما أوصاه النبي(ص)أن لا يفتح معركة من أجل الخلافة،و لم يقل له:لا تدافع عن زوجتك.و ضرب الزهراء لا علاقة له بالخلافة،لأنها مسألة شخصية،كما ان الزهراء نفسها لا علاقة لها بالخلافة،أما مسألة الخلافة فهي تتعلق بالواقع الاسلامي كله.

و الجواب:

إننا قبل الاجابة على ما تقدم نسجل ملاحظة هنا مفادها:

أن مسألة الزهراء مع القوم هي مسألة الإمامة،ثم الخلافة؛لأن هؤلاء انما ينصّبون أنفسهم أئمة للناس،و الإمامة مقام الهي جعله الله لغيرهم،و الخلافة هي أحد شئون الامامة.و الدليل على ما نقول:هو محاولتهم تخصيص أنفسهم بحق التشريع،بل يقول أحدهما حينما عوتب على بعض تشريعاته:أنا زميل محمد (1).و قد ذكرنا بعض ما يتعلق بهذا الأمر في كتابنا الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام، فراجع.

ص: 293


1- تاريخ الامم و الملوك:ج 3 ص 291(ط الاستقامة)و الفائق:ج 2 ص 11.

و بعد هذا الذي أشرنا إليه نقول:

أولا: إن القوم إنما جاءوا الى بيت الزهراء(ع)من أجل إجبار امير المؤمنين عليه السلام على البيعة لهم،لكي تثبت خلافتهم،و يتأكد استئثارهم بها دونه عليه السلام،و الزهراء تريد منعهم من تحقيق هذا الامر بالذات،و كذلك عليّ عليه السلام؛فكان القوم يريدون ازاحة الزهراء(ع)من طريقهم ليمكنهم اجبار عليّ(ع)على البيعة.

إذن فهذه معركة يخوضها أعداء عليّ(ع)ضده من أجل الخلافة،و قد أوصاه الرسول(ص)أن لا يخوض معركة من أجل الخلافة (1)باعتراف نفس المعترض،فما معنى قوله:ان الزهراء و ضربها لا علاقة له بالخلافة؟بل الحقيقة هي:أن قضية الزهراء و ما جرى عليها يتعلق بالواقع الاسلامي كله.

و هل يظن هذا القائل أن مطالبتها عليها السلام بفدك أيضا كانت من أجل ان تستفيد منها في إنعاش حياتها المعيشية؟مع أن من الواضح أن حياتها عليها السلام بقيت على حالها قبل ذلك،و معها، و بعدها،فهي لم تبن بأموال فدك قصرا،و لا تزينت بالذهب و الفضة، و لا استحدثت فرش بيتها،و لا اقتنت التحف،و لا ادخرت شيئا7.

ص: 294


1- ذكر المفيد:ان عليا نقل عن النبي(ص)قوله له:«ان تموا عشرين فجاهدهم» الاختصاص:ص 187.و راجع:البحار:ج 28 ص 270/313/229 و فيه:«لو وجدت اربعين ذوي عزم لجاهدتهم»،و تفسير العياشي:ج 2 ص 68،و تفسير البرهان:ج 2 ص 93،و راجع الصراط المستقيم:ج 3 ص 12،و الاحتجاج: ج 1 ص 188 و 213 و المسترشد في إمامة علي(ع):ص 63،و كتاب سليم بن قيس(بتحقيق الانصاري):ج 2 ص 568،و شرح نهج البلاغة لابن ميثم: ج 2 ص 27.

للمستقبل،و لا اشترت البساتين و العقارات،و المراكب الفارهة،كما فعل أو يفعل الآخرون،بل كانت غلّة فدك تصرف في سبيل الله، و على الفقراء و المساكين.

مسألة فدك سياسية:

و مما يدل على أن مسألة فدك كانت سياسية تلك المحاورة التي جرت بين الامام الكاظم عليه السلام و بين الرشيد؛فقد كان الرشيد يقول لموسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام:يا أبا الحسن خذ فدك حتى أردّها عليك،فيأبى،حتى ألحّ عليه،فقال:لا آخذها الا بحدودها.

قال:و ما حدودها؟

قال:يا أمير المؤمنين،إن حددتها لم تردّها.

قال:بحق جدك إلا فعلت؟

قال:أما الحدّ الأول فعدن.

فتغير وجه الرشيد و قال:هيه.

قال:و الحد الثاني سمرقند.

فأربد وجهه.

قال:و الحدّ الثالث إفريقية.

فاسودّ وجهه و قال:هيه.

قال:و الرابع سيف البحر مما يلي الخزر و أرمينية.

ص: 295

قال الرشيد:فلم يبق لنا شيء فتحوّل في مجلسي.

قال الكاظم(ع):قد أعلمتك أني إن حددتها لم تردها.

فعند ذلك عزم على قتله،و استكفى أمره يحيى بن خالد..

الخ.. (1).

أجل،لقد بقيت الزهراء(ع)تلك العابدة الزاهدة،التي تبيت مع زوجها على جلد كبش كانا يعلفان عليه الناضح بالنهار (2).

و لأجل ذلك فنحن لا نوافق على ما يقال:من أنها قد خاطبت عليا بالكلام الذي يتضمن جرأتها عليه(ع)بمواجهته بنوع من التأنيب بأنه:اشتمل شملة الجنين،و قعد حجرة الضنين،الى ان تقول له فيه:

«و هذا ابن ابي قحافة يبتزني نحلة أبي،و بلغة ابنيّ (3)».

إلاّ ان يكون للرواية معنى آخر،لم تصل إليه افهامنا،أو كان ثمة قرينة لم تصلنا.أو لم يحسن الناس نقل كلامها إلينا.فنحن مع وجود احتمال من هذا النوع لا نجرؤ على تكذيب الخبر بصورة قاطعة، كما ربما يظهر من كلام بعضهم.

المهم هو:أننا لا يمكن ان نتصور الزهراء عليها السلام تفكر بهذه الطريقة الشخصية الدنيوية،و هي التي عوضها رسول الله(ص) عن خادم بتسبيح خلّده تشريعا الى يوم القيامة و عرف باسمها،أعني7.

ص: 296


1- راجع:ربيع الابرار:ج 1 ص 315 و 316،و الطرائف:ص 252،و راجع: الكافي:ج 1 ص 543،و البحار:ج 48 ص 144.
2- راجع:تذكرة الخواص ص 308 و 307،و طبقات ابن سعد ج 8 ص 22 و 23.
3- البحار:ج 43 ص 148 ح 4،عن المناقب:ج 208/2،و ضياء العالمين(مخطوط):ج 2 ق 3 ص 77.

«تسبيح الزهراء».

و ان قسوة الخطاب في هذا الكلام يعطينا انها لم تكن تعرف ان عليا(ع)كان مصيبا في كل مواقفه تلك،مع ان الزهراء هي أعرف الناس بأن عليا عليه السلام مع الحق و الحق معه،يدور معه حيث دار،و انه لو فعل غير ذلك لطمست معالم الدين.

و اذا كانت هذه الحقيقة تتضح لكل دارس لتاريخ الاسلام، فيرد سؤال:كيف أمكننا نحن ان نفهم ذلك بعد ألف و أربعمائة سنة، لكن الزهراء المعصومة العالمة،و سيدة نساء العالمين،التي كانت القمة في الوعي الديني و العقيدي و الاجتماعي و السياسي،لم تستطع أن تعرف ذلك؟!

إن مواقف الزهراء(ع)في حياتها و بعد وفاتها تكشف لكل أحد عن غزارة علمها،و عن عمق و صائب تفكيرها،و عن بالغ دقتها في تصرفاتها و مواقفها المؤثرة.

و خلاصة الامر:

أولا: إن الزهراء لا تعتبر ضربها و لا تعتبر أيضا مسألة فدك مسألة شخصية،و لم تكن اجابتها القوم من وراء الباب تصرفا شخصيا،بل كان دفاعا عن الامامة و الخلافة،التي يراد اغتصابها، و تريد هي منع تشريع هذا الاغتصاب،ثم التخلص و التملص من تبعات سلبياته.

ثانيا: إن الاقدام على ما أقدموا عليه في حق الزهراء(ع)،و على القول للنبي(ص)و هو في مرض موته:إن النبي ليهجر،و على غير ذلك من أمور من أجل الحصول على أخطر موقع،و أشده حساسية،

ص: 297

و أكثره مساسا بالواقع الاسلامي كله،إن ذلك يعطينا:أن من يفعل ذلك غير مؤهل للموقع الذي يطلبه،و يعرفنا:انه لا يمثل النموذج الأمثل،و الأفضل للحاكم الاسلامي،و لا تعكس مواقفه أو تصرفاته، الرؤية الاسلامية الدقيقة في كل المسائل.

اذن فمسألة الزهراء هي أهم و أخطر المسائل و أشدها مساسا بالواقع الاسلامي،و لم تكن و لن تكون مسألة شخصية،و اعتبارها كذلك ما هو إلا تصغير لشأنها،و تحريف و تزوير للحقيقة.

ثالثا: ان مما يشير الى ذلك:أن الله سبحانه قد جعل الزهراء(ع) معيارا لمعرفة الحق من الباطل،و الصواب من الخطأ،و بها يعرف الظالم و الآثم من غيره؛و ذلك لأن رسول الله(ص)قد قرر بصورة صريحة:

أن الله يغضب لغضبها عليها السلام،و يرضى لرضاها،و من آذاها فقد آذى النبي،و من آذى النبي فقد آذى الله سبحانه.

فنوع العلاقة بالزهراء إذن،تحدد نوع علاقة الانسان بالله، و بالرسول،و بكل القيم و المثل،و على أساس ذلك يميز الانسان بين ما يأخذ و ما يدع،و يتخذ موقفه،و يحدد نوع علاقته بهذا الشخص أو بذاك.

على الحاضرين أن ينجدوا الزهراء:

قد يقول البعض:

سلمنا انه قد كان على الزهراء عليها السلام ان تتولى هي إجابة القوم،و لكن:كيف يسمع الجالسون في داخل البيت كعلي و الزبير و غيرهم من بني هاشم ما يجري عليها ثم لا ينجدونها،بل

ص: 298

يقعدون،و يقولون لا حول و لا قوة إلا بالله؟!

و نقول:

أولا: من أين ثبت لهذا القائل أنهم لم ينجدوها؟!فإن النجدة لا تعني فتح معركة بالسلاح،و الدخول في حرب.

ثانيا: هناك نص يفيد أنها هي التي أنجدت عليا حين أخذوه، فاعتدوا عليها بالضرب،يقول النص:«فحالت فاطمة عليها السلام بين زوجها و بينهم عند باب البيت،فضربها قنفذ بالسوط الخ...»،ثم تذكر الرواية،كسر ضلعها،و اسقاط جنينها صلوات الله و سلامه عليها (1).

و ثالثا: اذا كان انجادها يوجب تفاقم المشكلة الى درجة كان النبي(ص)قد نهى عليا عليه السلام عن بلوغها،لما في ذلك من خطر على الدين؛فإن هذا الانجاد يصبح معصية لأمر الرسول(ص)،و خيانة للدين،و تفريطا عظيما فيما لا يجوز التفريط به من مصلحة الامة، و على الاخص،اذا كان ذلك يهيئ الفرصة للمهاجمين لافتعال مشكلة تضيع على الناس إمكانية معرفة الحق.

و قد كان من واجب عليّ و الزهراء عليهما السلام-على حد سواء-أن يحفظا للأمة،و للأجيال،حقها في معرفة الحقيقة،و أن يضيعا على الآخرين فرصة تشويه الحقائق،و ذلك هو ما فعله عليّ عليه السلام بالفعل،و هو الامام المعصوم الذي لا يهم و لا يخطئ.

و رابعا: هناك نص يقول:إن عليا عليه السلام قد بادر الى انجادها ففر المهاجمون،و لم يواجهوه،يقول النص المروي عن عمر،2.

ص: 299


1- الاحتجاج:ج 1 ص 212.

و المتضمن كون عمر ركل الباب برجله،و أصيب حمل فاطمة:دخل عمر،و بادرها بضرب خديها من ظاهر الخمار ف«خرج عليّ،فلما أحسست به أسرعت الى خارج الدار،و قلت لخالد،و قنفذ و من معهما:نجوت من أمر عظيم».

و في رواية أخرى:قد جنيت جناية عظيمة،لا آمن على نفسي.

و هذا عليّ قد برز من البيت،و مالي و لكم جميعا به طاقة،فخرج عليّ،و قد ضربت يديها الى ناصيتها لتكشف عنها،و تستغيث بالله العظيم ما نزل بها الخ (1).

و ستأتي نصوص أخرى عن مصادر أخرى في القسم المخصص للنصوص إن شاء الله تعالى.5.

ص: 300


1- البحار:ج 30 ص 393 و 395.

الفصل الثامن: من هنا و هناك

اشارة

ص: 301

ص: 302

هل كان لبيوت المدينة أبواب:

ينقل البعض عن استاذ لمادة التاريخ في جامعة دمشق (1):أنه يقول:

لم يكن لبيوت المدينة في عهد الرسول أو بعده،أبواب ذات مصاريع خشبية،بل كان هناك ستائر فقط توضع على الابواب.

ثم قال:أنا ناقشته:لكن هو لديه دليل!

ثم يعقب ناقل هذا القول على ذلك بقوله:

فكيف عصرت الزهراء إذن بين الباب و الحائط؟و كيف اشتعلت النار في خشب الباب؟!

ثم استدل هذا الناقل بأمرين مؤيدا بهما صحة هذا القول، و هما:

الأول: ان النبي(ص)رجع من بعض أسفاره،فجاء الى بيت فاطمة فوجد على بابه كساء كان قد أهداه إليها عليّ عليه السلام، فرجع(ص)،فعرفت فاطمة(ع)سبب رجوعه،فأعطت الكساء

ص: 303


1- و قال هذا البعض:ان هذا الاستاذ هو الدكتور سهيل زكار.

للحسن و الحسين،ليوصلاه الى أبيها،ليصنع(ص)به ما يشاء.

فقال(ص):فداها أبوها.

فذلك يدل على أن الأبواب كان لها ستائر فقط.

الثاني: إنهم يذكرون في قصة زنا المغيرة بن شعبة:أن الشهود إنما رأوه يزني حين رفع الهواء ستر باب البيت،لا أنهم قد دخلوا عليه البيت فرأوه على ذلك الحال الشنيع،و هذا يدل على أن الأبواب كانت لها ستائر،لا مصاريع خشبية.

و الجواب:

أولا: ان هذا البعض يحيل على استاذ تاريخ في جامعة دمشق دعوى:انه لم يكن لبيوت المدينة أبواب في عهد رسول الله(ص)، و قال:إنه ناقشه لكن هذا الرجل عنده دليل.

و نحن نقول لهذا البعض: هل فندت دليله،أم اقتنعت به؟

فإن كنت قد فندته،فكيف،و بأية طريقة؟!

و ان كنت قد قبلته،كما هو ظاهر استدلالك له،فلما ذا لا تجهر بذلك،و تحيل على غيرك؟!

ثانيا: لعل دعوى:أنه لم يكن في المدينة أبواب مجرد مزحة (!!)أريد بها مداعبة اخوان الصفاء،و تطرية الاجواء بعد الصد و الجفا!!

و هذه المزحة(!!)هي التي دعتنا الى المبادرة الى جمع عشرات أو مئات النصوص الدالة على أنه قد كان لمداخل بيوت المدينة المنورة في عهد رسول الله و بعده أبواب ذات مصاريع تفتح و تغلق،و تكسر

ص: 304

و تحرق،و تقفل و تطرق.

و لها كذلك مفاتيح و اقفال،و رتاج،و حلق يقرع الباب بها.

و قد يكون خشبها من عرعر،أو من ساج،كما كان باب بيت عائشة،و قد تكون من جريد و سعف النخل و قد يكون من خشب، و قد توضع على هذه المصاريع ستائر،الى غير ذلك مما لا مجال لتعداده و حصره،فضلا عن ايراده و ذكره.

إذن،فلا ضير اذا ارجعنا القارئ العزيز الى ذلك البحث الذي سيأتي بعنوان:«أبواب بيوت المدينة في عهد الرسول(ص)»،ليجد فيه بغيته،في نصوص جمة نقلناها عن كتب و مصادر كثيرة،خصوصا عن البحار و جملة من مصادره،و عن كتب الصحاح،و مسند أحمد، و غيرها من مجاميع الحديث عند أهل السنة.

ثالثا: ان الاستدلال بحديث أن رسول الله(ص)قدم من سفر، فوجد على باب بيت فاطمة(ع)سترا،فلم يعجبه ذلك (1)غير كاف للدلالة على المطلوب،فقد كان للابواب عموما مصاريع خشبية و ستائر معا،فقد يفتح الباب و يبقى الستار،و يشير الى ذلك:

1-ما روي عن أبي ذر عن رسول الله(ص)،انه قال:«إن مرّى.

ص: 305


1- راجع المصادر التالية:البحار:ج 43 ص 83 و 86 و 89 و 20 و ج 85 ص 94. و مكارم الاخلاق:ص 95(ط سنة 1392 ه.ق.)،و الامالي للصدوق ص 194(ط الاعلمي سنة 1400 ه.)و كشف الغمة للاربلي:ج 2 ص 76. و نهاية الارب:ج 5 ص 264،و ذخائر العقبى:ص 51 عن أحمد،و ينابيع المودة(ط الاعلمي)ج 2 ص 52،و نظم درر السمطين:ص 177،و مسند أحمد ج 5 ص 275،و مختصر سنن أبي داود:ج 6 ص 108،و إحقاق الحق: (الملحقات)ج 10 ص 291-293 و 234 و ج 19 ص 106 و 107 عن بعض من تقدم و عن مصادر كثيرة أخرى.

رجل على باب لا ستر له،غير مغلق،فنظر،فلا خطيئة عليه،إنما الخطيئة على أهل البيت (1)».

2-ما جاء في حديث عن الامام الصادق عليه السلام،يقول فيه:«فأمر النبي(ص)بإخراج من كان في البيت،ما خلا عليا.

و فاطمة فيما بين الستر و الباب الخ.. (2)».

3-و عن عليّ عليه السلام:أنه كره أن يبيت الرجل في بيت ليس له باب و لا ستر (3).

4-و عن النبي(ص):هل منكم رجل إذا أتى أهله،فأغلق عليه بابه،و القى عليه ستره،و استتر بستر الله الخ.. (4)».

5-و سئل النبي(ص)عن رجل طلق امرأته ثلاثا،ثم تزوجها رجل،فأغلق الباب و أرخى الستر،ثم طلقها قبل أن يدخل بها،تحل لزوجها الأول؟!

قال:حتى تذوق عسيلتها.

و بمعناه غيره (5).

6-عن عائشة،قالت:«فتح رسول الله(ص)بابا بينه و بين الناس،أو كشف سترا.. (6)».0.

ص: 306


1- مسند أحمد:ج 5 ص 153.
2- بحار الانوار:ج 22 ص 479 و 480 و الكافي ج 1 281 و 282.
3- قرب الاسناد ص 146(ط مؤسسة آل البيت)و الكافي:ج 6 ص 533، و البحار:ج 73 ص 157،و الوسائل:ج 5 ص 325.
4- سنن أبي داود:ج 1 ص 234 و 235(ط دار احياء التراث العربي).
5- مسند أحمد:ج 2 ص 62 و راجع:سنن النسائي ج 6 ص 149.
6- سنن ابن ماجة:ج 1 ص 510.

رابعا: بالنسبة لقصة المغيرة بن شعبة،فإن الاستدلال بها غير صحيح أيضا،و ذلك:

1-لأن الطبري و غيره من المؤرخين يذكرون:

أن بيت أبي بكرة كان مقابل بيت المغيرة بن شعبة،بينهما طريق،و هما في مشربتين متقابلتين،فاجتمع عند أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته؛فهبّت ريح ففتحت باب الكوة،فقام أبو بكرة ليصفقه؛فبصر بالمغيرة،و قد فتحت الريح باب الكوة التي في مشربته، و هو بين رجلي امرأة،فقال أبو بكرة للنفر:قوموا،فانظروا،فقاموا و نظروا،ثم قال:اشهدوا الخ.. (1).

2-هذا،بالاضافة الى ما قدمناه من أن وجود الستر لا ينافي وجود مصاريع خشبية للباب أيضا،و لا مانع من أن يكتفي المغيرة بإسدال الستر،و يترك المصاريع مفتوحة،ثم يفضحه الله بواسطة الريح.ل.

ص: 307


1- تاريخ الامم و الملوك:(ط دار سويدان)ج 4 ص 70،حوادث سنة 17 ه. و البحار:ج 30 ص 640.و راجع:فتوح البلدان:ج 3 ص 352،و سنن البيهقي:ج 8 ص 235،و الكامل في التاريخ لابن الاثير ج 2 ص 540 و 541، و وفيات الاعيان:ج 2 ص 455،و البداية و النهاية:ج 7 ص 81،و عمدة القاري:ج 6 ص 340،و شرح نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي:ج 12 ص 234 -237،و الاغاني:(ط دار احياء التراث العربي)ج 16 ص 331 و 332 و كنز العمال.

لم يدخلوا البيت،فكيف ضربوا الزهراء؟

اشارة

يقول البعض:

إن بعض الروايات تقول:إن المهاجمين لبيت الزهراء(ع)لم يدخلوا البيت،فكيف يصح قول من يقول:إنهم ضربوها عليها السلام،و أسقطوا جنينها،و غير ذلك؟!.

و الجواب:

أولا: إن ما جرى على الزهراء من مصائب و بلايا،لا يحتاج الى دخول البيت،فقد تعصر الزهراء بين الباب و الحائط،ثم يضربها المهاجمون دون أن يدخلوا البيت،و هذا هو صريح النصوص التي تحدثت عن هذا الامر.

هذا إذا كان مراده بالدخول معناه المتبادر منه.

و لو اعتذر عنه بأن مراده الهجوم،فقول القائل...وددت أني لم اكشف باب فاطمة.ثم النصوص الكثيرة الدالة على دخولهم الى البيت يرد هذا القول و يدفعه.

و ثانيا: لما ذا يقتصر هذا البعض على رواية عدم دخولهم البيت، مع أنها لم تصرح بعدم الدخول،بل اكتفت بالسكوت و الاكتفاء بذكر جانب مما جرى.

و لو سلمنا صراحة رواية ما بذلك،فهي معارضة بالروايات الكثيرة الاصح سندا،و الاكثر عددا،التي تقول:إنهم قد دخلوا بيتها، و انتهكوا حرمته و حرمتها.

ص: 308

و ثالثا: إن ضرب الزهراء عليها السلام،و اسقاط جنينها،ليس أمرا عاديا،بل هو حدث هائل،لا يمكن أن يقبله منهم أي مسلم صادق الايمان.و لسوف يجهر بالاعتراض عليهم و التقريع لهم،إذا لم يكن ثمة خوف من سيف أو سوط.

فليس من مصلحة الحكام،و لا من مصلحة محبيهم أن يتناقل الناس هذه الواقعة،و لا أن يعرفوا تفاصيلها،فلم يكونوا يسمحون لأنفسهم،و لا لغيرهم بنقلها و تداولها،بل لقد رأينا البعض يعتبرون نقل هذه القضية جريمة لها تبعاتها على ناقلها،و ننقل من شواهد ذلك الموارد التالية:

1-لا تروه عني:

يقول ابن ابي الحديد المعتزلي:إنه قرأ على شيخه أبي جعفر النقيب قصة زينب حين روعها هبار بن الاسود،فقال له أبو جعفر:

«إن كان رسول الله(ص)أباح دم هبار،لأنه روّع زينب، فألقت ذا بطنها،فظاهر الحال انه لو كان حيا لأباح دم من روع فاطمة حتى القت ذا بطنها.

فقلت:أروي عنك ما يقوله قوم:إن فاطمة روّعت،فألقت المحسّن؟!

فقال:لا تروه عني،و لا ترو عني بطلانه،فإني متوقف في هذا الموضع؛لتعارض الاخبار عندي فيه (1)».

ص: 309


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي:ج 14 ص 193،و البحار:ج 28 ص 323،و إثبات الهداة:ج 2 ص 360 و 338/337.

فأبو جعفر النقيب يتراجع عن موقفه بسرعة عند توجيه المعتزلي هذا السؤال الحساس إليه،رغم أنه كان قد اطلق حكمه بصورة قاطعة في أول الامر.و لعل سبب تراجعه أنه رأى أن شيوع هذا الامر عنه سوف يتسبب له بمشاكل هو في غنى عنها.

2-أنا لا أقول،بل عليّ(ع)!

و يشبه هذه الحادثة،ما ذكروه في مورد آخر يتميز بحساسيته و خطورته أيضا،من أن شيخا آخر للمعتزلي قد تراجع بنفس هذه الطريقة،و مع المعتزلي نفسه أيضا،لكي ينأى بنفسه عن مواجهة مشاكل لا يريد أن يواجهها.

فقد ذكر المعتزلي الشافعي:أن أستاذه ذكر له قول عليّ عليه السلام:أن عائشة هي التي أمرت أباها بالصلاة بالناس في مرض النبي (ص)الذي توفي فيه،قال:«فقلت له رحمه الله:أ فتقول أنت:أن عائشة عيّنت أباها للصلاة،و رسول الله(ص)لم يعيّنه؟!

فقال:أما أنا فلا أقول ذلك،و لكن عليا كان يقوله،و تكليفي غير تكليفه،كان حاضرا و لم أكن حاضرا؛فأنا مهجوج بالاخبار التي اتصلت بي،و هي تتضمن تعيين النبي(ص)لأبي بكر في الصلاة، و هو محجوج بما كان قد علمه الخ..» (1).

ص: 310


1- شرح النهج للمعتزلي:ج 9 ص 198.
3-سماع رواية«ضرب فاطمة»أسقطه!

و قالوا عن أحمد بن محمد بن محمد بن السري بن يحيى بن أبي دارم المحدث:«كان مستقيم الامر عامة دهره،ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب،حضرته،و رجل يقرأ عليه:«ان عمر رفس فاطمة حتى اسقطت بمحسّن» (1).

اذن،فقراءة هذه القضية عليه أخرجته عن جادة الاستقامة التي لازمها عامة دهره،و صار ذلك سببا للطعن عليه،و جرحه،و بالتالي إسقاطه عن الاعتبار.

4-الطعن على النّظام:

إنهم يعتبرون رواية ما جرى على فاطمة من أهم الطعون على النظام الذي كان أحد أعاظم شيوخ المعتزلة،حتى إن الشهرستاني يقول عنه:

«و زاد في الفرية،فقال:إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها،و كان يصيح:أحرقوا دارها بمن فيها،و ما كان في الدار غير عليّ،و فاطمة،و الحسن،و الحسين عليهم السلام (2)».

ص: 311


1- ميزان الاعتدال:ج 1 ص 139،و لسان الميزان:ج 1 ص 268،رقم 824، و سير اعلام النبلاء:ج 15 ص 578.
2- الملل و النحل:ج 1 ص 57،و ستأتي إن شاء الله مصادر اخرى في قسم النصوص.

وعد البغدادي قول النظام عن عمر:«أنه ضرب فاطمة،و منع ميراث العترة»من ضلالاته.

5-تحريف كتاب المعارف:

بل إنهم لأجل قضية اسقاط المحسّن،نجدهم لا يتورعون عن تحريف الكتب أيضا،فقد حرفوا كتاب«المعارف»لابن قتيبة حسبما ذكره لنا ابن شهرآشوب المتوفى سنة 588 ه؛حيث قال:

«..و في معارف القتيبي:أن محسّنا فسد من زخم قنفذ العدوي (1)».

و قال الكنجي الشافعي المتوفى سنة 685 ه؛عن الشيخ المفيد:

«و زاد على الجمهور،و قال:ان فاطمة عليها السلام أسقطت بعد النبي ذكرا،كان سمّاه رسول الله(ص)محسّنا،و هذا شيء لم يوجد عند أحد من أهل النقل إلا عند ابن قتيبة» (2).

و يظهر:أنه يقصد بذلك:نقل ابن قتيبة له في كتاب المعارف، لا في الامامة و السياسة،و ذلك بقرينة كلام ابن شهرآشوب المتقدم.

لكن الموجود في كتاب«المعارف»لابن قتيبة المطبوع سنة 1353 ه ص 92 هو العبارة التالية:

«و أما محسّن بن علي فهلك،و هو صغير».

ص: 312


1- مناقب آل أبي طالب:ج 3 ص 407(ط دار الاضواء)،و البحار ج 43 ص 233.
2- كفاية الطالب:ص 413.

و هكذا في سائر الطبعات المتداولة الآن،فلما ذا هذا التحريف، و هذه الخيانة للحقيقة و للتاريخ يا ترى؟!.

رواية«قنفذ»تعارض اجماع«الشيخ»:

يقول البعض:«إن الشيخ الطوسي ينقل اتفاق الشيعة على عبارة النظام من أن عمر ضرب بطن فاطمة حتى أسقطت،في الوقت الذي جاءت الرواية عن دلائل الامامة و غيره أن قنفذا هو الذي قام به».

و هو بذلك يريد أن يقول:إن هذه المنقولات متناقضة فتسقط عن الاعتبار.

و الجواب:

أولا: إن الشيعة قد اتفقوا على الأول،و لكنهم لم ينفوا اقدام قنفذ على هذا الامر أيضا،فرواية دلائل الامامة و غيرها مما سيأتي شطر كبير منه تثبت مشاركته في هذا الفعل أيضا،كما أن المغيرة أيضا قد شارك في ضرب الزهراء حتى أدماها،كما سيأتي في قسم النصوص و الآثار،فلا مانع من أن يشارك الجميع في أمر كهذا،و يتسببون في الاسقاط،فيصح نسبته إليهم جميعا،و الى كل واحد منهم أيضا، لتسببهم به.فهذه النسبة لا تعني أن كل واحد منهم كان علة مستقلة في الاسقاط.

ثانيا: لقد أوضحت النصوص كما سترى:أن الهجوم قد تكرر على بيت فاطمة عليها السلام،كما ان مبايعات أبي بكر قد تكررت أيضا (1)،و قد حصلت إحدى هذه المرات و هي محاولة الاحراق،فيما

ص: 313


1- الشافي لابن حمزة:ج 4 ص 188.

كان أبو بكر جالسا على المنبر يبايع له،و يرى ما يجري و لم ينكر ذلك،و لم يغيره،كما ورد في أمالي المفيد رحمه الله،و حصول هجومات عديدة نجده في العديد من الروايات بصورة صريحة حينا، و هو مقتضى الجمع بين الروايات،حيث تلاحظ خصوصيات الاشخاص و التصرفات التي ميزت كل هجوم حينا آخر.

بل بعض الروايات تؤكد:أن أبا بكر نفسه كان يصدر الأوامر بالهجوم،و قد سبق الهجوم تهديدات بالاحراق،و جمع للحطب.ثم أضرمت النار بصورة جزئية،ثم كسر الباب،و ضربت الصديقة الطاهرة،من أكثر من شخص من المهاجمين،و سقطت الى الارض، و رفسها ذلك الرجل برجله أيضا.

و كل ذلك سيأتي في قسم النصوص الآتي إن شاء الله تعالى..

و بعض روايات اسقاط المحسّن صحيحة السند.

كما أن بعض الروايات المثبتة للضرب و شبهه أيضا صحيحة.

و قد أشار نفس المعترض الى صحة رواية الطبري في دلائل الامامة.

و الروايات بمجموعها متواترة عن أهل بيت العصمة،فإذا ضم إليها ما سواها من نصوص فإنها تفوق حد التواتر.

مع أن ذكر غير الشيعة لأمر كهذا يعتبر أمرا ملفتا،بملاحظة أن ذلك الغير يرغب في تبرئة الفاعلين من ذلك كله.

ص: 314

و قد ورد هذا الامر في كلمات كثير من أعلامهم،كالجويني، و الكنجي،و المسعودي،و النظام،و أبي جعفر النقيب استاذ المعتزلي، و أحمد بن محمد بن السري و غيرهم ممن سنذكر كلماتهم في الفصل المخصص لذلك إن شاء الله تعالى.

و صرح بوجود هجومات عديدة ابن حمزة الزيدي،و هو يجيب على اعتراض بعضهم بوجود تناقض بين الروايات.

حيث إن واحدة تقول:إن عليا قعد عن البيعة في بيته،و فر إليه طلحة و الزبير،و لم يخرجوا من البيت حتى جاء عمر،و أراد إحراق البيت عليهم.

و أخرى تقول:إن أبا بكر خرج الى المسجد يصلي؛فأمر أبو بكر خالد بن الوليد بالصلاة الى جنبه،ثم قتله حينما ينطق أبو بكر بالتسليم في صلاته.

و ثالثة تقول: إنه أتي بعليّ ملببا،فبايع مكرها.

فأجابه ابن حمزة بقوله: «إن ذلك كان في أوقات مختلفة، و ليس بين ذلك تناقض،و لا تدافع (1)».

و ذلك يعني:أن محاولة إحراق البيت قد كانت في وقت و في هجوم،مستقل عن الهجوم الذي تم فيه اخراج عليّ ملببا للبيعة..2.

ص: 315


1- الشافي لابن حمزة:ج 4 ص 202.

لا داعي لمهاجمة الزهراء(ع)و علي(ع)موجود

اشارة

و يقول البعض:

سلمنا أنهم دخلوا البيت،فلما ذا يهاجمون خصوص الزهراء، و يضربونها،و يتركون عليا؟فإن المفروض هو أن يهاجموه هو في غرفته،التي يجلس فيها مع بني هاشم،فإن البيت ليس عشرة كيلومترات،بل هو عشرة أمتار فقط.

و الجواب:

أولا: قد ذكرنا فيما سبق،أن:هذا البعض يقول:إن جميع بني هاشم كانوا مع عليّ في داخل البيت،فكيف وسعتهم غرفة صغيرة بمقدار عشرة أمتار يا ترى؟!

ثانيا: إنهم إنما دخلوا البيت بعد أن فرغوا من مهاجمة الزهراء عند الباب،و لم تعد قادرة على التصدي لهم و منعهم.

ثالثا: كأن هذا البعض يرى أن بيت الزهراء كان مؤلفا من غرف متعددة،أو من دار و غرفة على الأقل..فكيف اثبت ذلك،و ما هي النصوص التي اعتمد عليها؟

رابعا: إن مهاجمتهم لها عليها السلام ليس لأجل أنهم كانوا يقصدونها لذاتها،بل هاجموها لأنها منعتهم من الوصول الى عليّ، و حالت بينهم و بينه،و قد صرحت النصوص بذلك،و بأنها حاولت منعهم من فتح الباب،أو تلقتهم على الباب.

و نحن نشير هنا الى نموذج من كلا الطائفتين:

ص: 316

فمن النصوص التي صرحت بأنها حالت بينهم و بين عليّ (ع)،نذكر:

1-قال الفيض الكاشاني:«فحالت فاطمة بينهم و بين بعلها، و قالت:و الله لا أدعكم تجرون ابن عمي ظلما (1)».

2-و روى المجلسي عن عليّ(ع):«فلما أخرجوه حالت فاطمة عليها السلام بين زوجها و بينهم عند باب البيت،فضربها قنفذ بالسوط على عضدها،فصار بعضدها مثل الدملوج من ضرب قنفذ اياها،و دفعها فكسر ضلعا من جنبها،و ألقت جنينا من بطنها» (2).

3-عن عليّ عليه السلام:إن سبب إعفاء قنفذ من إغرام عمر له،أنه هو الذي ضرب فاطمة بالسوط حين جاءت لتحول بينه(ع) و بينهم،فماتت صلوات الله عليها و ان اثر السوط في عضدها مثل الدملج (3).

و من النصوص التي صرحت بأنها حاولت منعهم من فتح الباب،

نذكر:

1-ما رواه البلاذري و غيره من أن عمر جاء و معه قبس،فتلقته فاطمة على الباب،فقالت:يا ابن الخطاب،أتراك محرقا عليّ بابي؟! قال:نعم،و ذلك أقوى فيما جاء به أبوك (4).

ص: 317


1- علم اليقين في أصول الدين:ص 686 و 687-الفصل العشرون.
2- الاحتجاج:ج 1 ص 212،و فاطمة بهجة قلب المصطفى:ص 529،عن مرآة العقول:ج 5 ص 320.
3- كتاب سليم بن قيس:ص 134.
4- راجع:المصادر التالية:البحار:ج 28 ص 389،و 411 و هامش ص 268،و انساب الاشراف:ج 1 ص 586،و الشافي للسيد المرتضى:ج 3 ص 241، و العقد الفريد:ج 4 ص 259 و 260،و كنز العمال:ج 3 ص 149،و الرياض النضرة:ج 1 ص 167،و الطرائف:ص 239،و تاريخ الخميس:ج 1 ص 178،و نهج الحق:ص 271،و نفحات اللاهوت:ص 79،و تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 156،و غيرها مما سيأتي.

2-و تقول رواية المفضل:و خروج فاطمة،و خطابها لهم من وراء الباب...الى ان تقول:و ادخال قنفذ يده لعنه الله يروم فتح الباب...ثم تذكر أن عمر ركل الباب برجله حتى أصاب بطنها الخ..» (1).

3-و في كتاب سليم بن قيس:«انتهى الى باب عليّ،و فاطمة قاعدة خلف الباب..الى ان قال:فأقبل عمر حتى ضرب الباب،ثم نادى:يا ابن أبي طالب،افتح الباب.

فقالت فاطمة(ع):يا عمر،ما لنا و لك،أ لا تدعنا و ما نحن فيه؟

قال:افتحي الباب و إلا أحرقنا عليكم..الى ان قال:فأحرق الباب،ثم دفعه عمر،فاستقبلته فاطمة،و صاحت:يا أبتاه الخ..» (2).

4-و عن عمر:«فركلت الباب،و قد ألصقت أحشاءها بالباب تترّسه..الى ان قال:فدفعت الباب فدخلت،فأقبلت إليّ بوجه غشى بصري الخ.. (3)».ة.

ص: 318


1- البحار:ج 53 ص 19/17/14.
2- البحار:ج 43 ص 197 و 198 و ج 28 ص 299،و كتاب سليم بن قيس ص 250،(ط الاعلمي).
3- البحار(الطبعة الحجرية):ج 8 ص 227/220 عن دلائل الامامة.

5-و عن عمر أيضا:«فلما انتهينا الى الباب،فرأتهم فاطمة(ع) أغلقت الباب في وجوههم،و هي لا تشك أن لا يدخل عليها إلا بإذنها،فضرب عمر الباب برجله فكسره-و كان من سعف-ثم دخلوا (1)».

6-و تقول عليها السلام:«و أتوا بالنار ليحرقوه و يحرقونا، فوقفت بعضادة الباب،و ناشدتهم بالله الخ.. (2)».

7-و عن عمر بن الخطاب أيضا:«فضربت فاطمة يديها من الباب تمنعني من فتحه؛فرمته،فتصعب عليّ،فضربت كفيها بالسوط فآلمها..الى ان قال:فركلت الباب،و قد ألصقت أحشاءها بالباب تترّسه..الى ان قال:فدفعت الباب و دخلت،فأقبلت إليّ بوجه أغشى بصري،فصفقت صفقة على خديها من ظاهر الخمار،فانقطع قرطها، و تناثرت الى الارض،و خرج علي؛فلما أحسست به أسرعت الى خارج الدار،و قلت لخالد،و قنفذ،و من معهما:نجوت من أمر عظيم.

الى ان قال:و جمعت جمعا كثيرا،لا مكاثرة لعليّ،و لكن ليشد بهم قلبي،و جئت-و هو محاصر-فاستخرجته من داره الخ.. (3)».

و من جهة ثانية:فإن بعض النصوص تشير الى أن المهاجمين كانوا يحاولون الضغط على فاطمة عليها السلام و تخويفها،حتى لا5.

ص: 319


1- تفسير العياشي:ج 2 ص 67،و البحار:ج 28 ص 227 و راجع:الاختصاص: ص 185 و 186،و تفسير البرهان ج 2 ص 93.
2- البحار:ج 30 ص 348،عن إرشاد القلوب للديلمي.
3- البحار:ج 30 ص 293-295.

تقف حاجزا بينهم و بين علي و من معه،بل هم يريدون منها أن تساعدهم في كسر قرار الممتنعين في بيتها،فمن ذلك:

1-قولهم:إن المهاجمين حين جاءوا الى بيتها نادى عمر:«يا فاطمة بنت رسول الله،أخرجي من اعتصم ببيتك ليبايع،و يدخل فيما دخل فيه المسلمون،و إلا-و الله-أضرمت عليهم نارا (1)».

2-و في نص آخر،أنه قال:«يا بنت رسول الله،و الله،ما من الخلق أحب إليّ من أبيك و منك،و أيم الله،ما ذلك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك،أن آمر بهم أن يحرق عليهم الباب الخ.. (2)».

الارتباك و التعارض في الروايات:

و يظهر البعض تحيره هنا و هو يواجه هذا الارتباك الكثير في الروايات-على حد تعبيره-ثم هو يقول:

«إن أحاديث إحراق البيت المذكورة في تلخيص الشافي، و الاختصاص،و الامالي للمفيد متعارضة،بين من يذكر فيه التهديد من دون الاحراق،و هي كثيرة،و بين ما يذكر فيه الاحراق».

ص: 320


1- الجمل:ص 117 و 118(ط جديد)و راجع:نهج الحق:ص 271 و الامامة و السياسة:ج 1 ص 12 و تاريخ ابن شحنة(مطبوع بهامش الكامل)،ج 7 ص 164،و تاريخ أبي الفداء:ج 1 ص 156،و العقد الفريد:ج 4 ص 259، و تاريخ اليعقوبي:ج 2 ص 126.
2- راجع:منتخب كنز العمال:(مطبوع بهامش مسند أحمد)ج 2 ص 174،عن ابن أبي شيبة.و راجع أيضا شرح نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي:ج 2 ص 45، عن الجوهري و المغني للقاضي عبد الجبار:ج 20 قسم 1 ص 335،و الشافي للمرتضى:ج 4 ص 110.

و نقول في الجواب:

لا يوجد أي ارتباك في الروايات،و ليس ثمة تعارض فيما بينها، و ذلك لما يلي:

1-إن أحاديث التهديد بالاحراق لم تنف وقوعه،و قد ذكرنا في إجابة سابقة:أن كل واحد ينقل ما يقتضيه غرضه السياسي،أو المذهبي،أو ما تسمح له الظروف بنقله،أو بالاطلاع عليه،لا سيما في تلك الحقبة القاسية التي كان يجلد فيها الراوي لاجل رواية في فضل علي(ع)الف سوط (1)بل كانت تسمية المولود بعلي كافية لمبادرتهم الى قتل ذلك المولود (2)،و قد ذكرنا في كتابنا«صراع الحرية في عصر المفيد»،امورا هامة تدخل في هذا المجال فلا بأس بالرجوع إليه و الاطلاع عليها.

و الخلاصة:

ان النقل يختلف و يتفاوت بسبب الاّ غراض و الظروف و غيرها.

كما أن هذا المنقول يختلف قلة و كثرة،و حرارة و برودة حسب الظروف و حسب الاشخاص،و حسب الانتماءات و غير ذلك.

فقد ينقل أحدهم التهديد بالاحراق.

و آخر ينقل جمع الحطب:

و ثالث ينقل الاتيان بقبس من نار.4.

ص: 321


1- تاريخ بغداد:ج 13 ص 388/387،و سير أعلام النبلاء:ج 11 ص 135، و تهذيب التهذيب:ج 10 ص 430.
2- راجع:الوافي بالوفيات:ج 21 ص 104.

و رابع ينقل اشعال النار بالباب أو بالبيت.

و خامس ينقل كسر الباب..

و سادس ينقل دخول البيت،و كشفه و هتك حرمته.

و سابع ينقل عصر الزهراء بين الباب و الحائط.

و ثامن ينقل اسقاط الجنين بسبب الضرب.

و تاسع ينقل ضرب جنينها،أو متنها،أو عضدها حتى صار كالدملج،أو ضربها على اصابعها لتترك الباب،ليمكنهم فتحه.

و عاشر ينقل كسر ضلعها أيضا.

و من جهة ثانية نجد:

ان هذا ينقل:ان عمر قد ضربها،و ذاك ينقل ضرب المغيرة بن شعبة لها،و ثالث ينقل ضرب قنفذ و..

فلا تكاذب بين الروايات،و لا ارتباك فيما بينها،بل ان كل واحد ينقل شطرا مما جرى لتعلق غرضه به،لسبب أو لآخر،كمراعاة ظرف سياسي،أو لحوافز مذهبية أو غيرها.

و قد علل الشيخ محمد حسن المظفر ذلك بقوله:

«لأن كثير الاطلاع منهم الذي يريد رواية جميع الوقائع لم يسعه ان يهمل هذه الواقعة بالكلية،فيروي بعض مقدماتها لئلا يخل بها من جميع الوجوه،و ليحصل منه تهوين القضية كما فعلوا في قصة بيعة الغدير و غيرها (1)».3.

ص: 322


1- دلائل الصدق:ج 3 قسم 1 ص 53.

2-إن الذين كتبوا التاريخ،و دونوا الحديث كانوا يراعون الأجواء خصوصا السياسية منها،حيث كان الحكام و غيرهم يرغبون في التخفيف من حجم ما فعلوه في حق أهل بيت العصمة و النبوة أمام الناس،و لو أمكنهم إنكار الواقعة من الاساس لفعلوا ذلك،و لأظهروا:

أن المهاجمين كانت قلوبهم مملوءة بحب الزهراء،بل ذلك هو ما نجده فيما يبذله البعض من محاولات لإظهار حميمية العلاقة بين الزهراء و بين المهاجمين و انكار ما يقال من حدوث أي سوء تفاهم في هذا المجال،فراجع ما ذكره ابن كثير الحنبلي في بدايته و نهايته و كذلك غيره...و لعل ما سمعناه أخيرا من البعض،من شدة حبهم لها قد أخذه من بعض هؤلاء.

و قد بات واضحا:أن نقل حقيقة ما جرى على الزهراء يستبطن ادانة قوية و حاسمة لها أثارها في فهم و وعي التاريخ،و تقييم الاحداث،و هي تؤثر على الذين يتصدون لأخطر منصب و مقام، بالاضافة إلى ما لها من تأثيرات على مستوى المشاعر و الاحاسيس، و الارتباطات العاطفية و الدينية بهذا الفريق أو ذاك.فالسماح بنقل ذلك،و التساهل فيه لم يكن هو الخيار الامثل و لا الأولى و الافضل بالنسبة لكثيرين من الناس.

3-ان حصول الاحراق قد روي من طرق شيعة أهل البيت بطرق بعضها صحيح و معتبر.فلا داعي للتقليل من أهمية هذه الروايات بالقول عن أحاديث التهديد بالاحراق-انها كثيرة-موحيا بعدم اعتبار ما عداها.

و هناك شطر من النصوص الدالة على وقوع الاحراق أوردناه في الفصل المخصص لنقل الآثار و النصوص و سيأتي ان شاء الله تعالى.

ص: 323

4-ان رواية من يهمهم التخفيف من وقع ما جرى،و يهمهم ابعاد من يحبونهم عن أجواء هذا الحدث المحرج،بل و تبرئتهم منه إن أمكن.إن روايتهم لوقوع الاحراق بالفعل يجعلنا نطمئن أكثر الى صحة ما روي من طرق شيعة أهل البيت عليهم السلام.

5-أما بالنسبة لكتب الشيخ المفيد رحمه الله تعالى،فقد تحدثنا في فصل سابق عن نهجه رحمه الله في كتاب الارشاد،و أنه كان يريد في كتابه هذا،ان يتجنب الامور الحساسة و المثيرة،و لذا أعرض عن الدخول في تفاصيل ما جرى في السقيفة،مصرحا بذلك، و قد كان عصره بالغ الحساسية،كما فصلناه في كتابنا:«صراع الحرية في عصر المفيد».

أما الأمالي،فهو كتاب محدود الهدف،و الاتجاه.و لم يكن بصدد ايراد أحداث تاريخية مستوفاة،و بصورة متناسقة.

أما الاختصاص فقد ذكر فيه تفاصيل هامة و أساسية ينكرها المعترض نفسه،أو يحاول التشكيك فيها.

على أنك قد عرفت انه رحمه الله قد اورد في كل من المزار و المقنعة زيارتها عليها السلام المتضمنة لقوله:«السلام عليك أيتها الصديقة الشهيدة»أو«السلام عليك ايتها البتول الشهيدة».

6-و أخيرا،نقول:إنه إذا كان المقصود،أن الذين باشروا إحراق البيت كانوا يريدون أن تحرق النار البيت كله بمن فيه،ثم لم يتحقق ذلك لهم؛فيصح أن يقال:أرادوا أن يحرقوا،أو هموا بإحراق البيت،أو ما أشبه ذلك،فلا تختلف هذه النصوص عن النصوص التي تقول:إنهم أضرموا النار فيه،أو نحو ذلك.

ص: 324

النفي يحتاج الى دليل:

يقول البعض:أنا لا أنفي قضية كسر الضلع،و لكنني أقول:

انني غير مقتنع بذلك.

و كما أن الاثبات يحتاج الى دليل،كذلك فإن النفي يحتاج الى دليل.

ثم ذكر اسباب عدم اقتناعه.

و نحن قد ذكرنا هذه الاسباب كلها في هذا الكتاب،و اثبتنا عدم صحة الاستناد إليها،و لكنا نزيد هنا أمورا على ما تقدم،و هي:

الاول:سلمنا أنه غير مقتنع بكسر الضلع،و لكننا نسأله:هل هو مقتنع بسائر ما جرى على الزهراء،من ضرب،و اسقاط جنين، و تهديد بإحراق البيت بمن فيه،و فيه أولادها و زوجها،ثم بإشعال النار بقصد إحراقهم.

فان كان مقتنعا بكل ذلك،و لم يبق عنده شيء مشكوك سوى كسر الضلع فلا ضير في ذلك،لأن سائر الامور تكفي لإثبات اللوازم التي يثبتها اقدامهم على كسر ضلع الزهراء و لا سيما النصوص التي تنص على انها عليها السلام قد ماتت شهيدة صديقة.

الثاني:ليس ثمة من مشكلة إذا لم يقتنع زيد من الناس بقضية ما،و لكن المشكلة هي:أن يكون هذا الذي يظهر أنه غير مقتنع بثبوت شيء يجهد في سبيل اقناع الناس،بعدمه،و يحشد ما يعتبره ادلة و شواهد من كل حدب و صوب ليثبت هذا العدم،و ذلك تحت شعار و ستار عدم الاقتناع.

ص: 325

و قد قال أحدهم لآخر عن صياد كان يذبح طائرا،و عيناه تدمعان بسبب مرض فيهما:انظر الى هذا الصياد ما أرق قلبه،انه يبكي على الطائر الذي يذبحه رأفة به و رحمة له.

فقال له رفيقه:لا تنظر الى دموع عينيه،بل انظر الى فعل يديه.

فكيف يقنعنا قول هذا البعض بأنه لا ينفي كسر الضلع،و هو يأتي بألف دليل و دليل-بزعمه-على هذا النفي.و على غيره مما ينفي القضية من اصلها.

الثالث:ان مهمة العالم هي أن يحل المشكلات التي يواجهها الناس في حياتهم الفكرية و الثقافية،خصوصا فيما يرتبط بما هو من اختصاصه،و من صميم مهماته،فلا بد أن يحسم أمره؛إما الى جانب الاثبات بدليل،أو الى جانب النفي بدليل (1)أو الانسحاب من الاجابة الى ان يحزم أمره،و يتخذ قراره.

و ليس من حقه أن يثقف الناس بمشكوكاته،التي لم يستطع انجاز دراستها،أو لم يحصّل اليقين فيها،أو لم يعمل هو للحصول على هذا اليقين،و إلا فكيف نفسر قوله:

سألت السيد شرف الدين في اوائل الخمسينات أثناء دراستي للموضوع،ثم يقول في سنة 1414 ه عثرت أخيرا على نص في البحار يقول كذا...فهل استمر بحثه أكثر من أربعين سنة حتى امكنه العثور أخيرا على هذا النص أو ذاك.

و هل يصدق على هذا اسم البحث،و الدرس،و هو لم ينظر إلال.

ص: 326


1- لا سيما إذا كان هو الذي يقول:ان النفي أيضا يحتاج الى دليل.

الى كتاب البحار،و في هذا الوقت المتأخر جدا،و حيث لم يعثر فيه إلا على هذا النص اليتيم.رغم ما حفل به كتاب البحار من نصوص كثيرة جدا،كما سيظهر إن شاء الله تعالى.

و اذا كان قد عثر على هذا النص الذي يريد أن يظهر لنا أنه قد حل له المشكلة،فلما ذا عاد الى التشكيك و الى التساؤل؟

الرابع:ان الذي يثير التساؤلات قد يكون انسانا عاديا غير متعلم،لم يتخرج من جامعة،و لا درس في الحواضر العلمية الدينية، فله عذره،و الحال هذه،و على العالم العارف ان يحل له تلك العقدة، أو العقد و يجيب على ذلك السؤال أو تلك الاسئلة.و أما اذا كان الذي يثير تلك الاسئلة هو العالم المتصدي للاجابة على مسائل الناس، فإن الناس يفهمون من عدم إجابته عليها انه ملتزم بمضمون السؤال، و بكل لوازمه و آثاره.

مصادرة الموقف:

هل ثبت عندكم كسر الضلع؟!

و قد نجد البعض اذا سئل عن رأيه في موضوع الاعتداء على الزهراء و كسر ضلعها،يبادر هو الى سؤال سائله الذي هو انسان عادي و يقول له:هل كسر الضلع ثابت عندكم أنتم؟!و ما الدليل؟! و نقول:

أولا: انه لا يحسن بمن يعتبر نفسه من أهل العلم،و يعتبر نفسه مسئولا عن هداية الناس ان يواجه انسانا عاديا من عامة الناس بهذا

ص: 327

السؤال،الا إذا كان يقصد إثارة الشبهة في ذهنه،لتسهل السيطرة عليه،و اخضاعه لما يريد بأيسر طريق.

ثانيا: إن النصوص المثبتة لما جرى على الزهراء كثيرة،و الكتب المؤلفة في القرون السابقة تطبع باستمرار،و تكتشف المخطوطات هنا و هناك،و نجد فيها المزيد مما يؤيد و يؤكد هذه القضية.

و لا نريد أن نصرّ على هذا الرجل كثيرا بقبول روايات كسر ضلع الزهراء و جرحها،و استشهادها عليها السلام،و إن كانت كثيرة و متنوعة،و لكننا نقدم للقارئ الكريم نموذجا منها هنا،فنقول:

1-قال الطبرسي:«فحالت فاطمة عليها السلام بين زوجها و بينهم عند باب البيت،فضربها قنفذ بالسوط...الى ان قال:فأرسل أبو بكر الى قنفذ لضربها؛فالجأها الى عضادة باب بيتها؛فدفعها فكسر ضلعا من جنبها،و ألقت جنينا من بطنها (1)».

و قد قال الطبرسي في مقدمة كتابه«الاحتجاج»الذي ذكر فيه هذا الحديث ما يلي:

«و لا نأتي في أكثر ما نورده من الاخبار باسناده إما لوجود الاجماع عليه،أو موافقته لما دلت العقول إليه،أو لاشتهاره في السير و الكتب بين المخالف و المؤالف،إلا ما أوردته عن أبي محمد الحسن العسكري(ع) (2).

2-و روى السيد ابن طاوس رحمه الله نص الزيارة التي يقول فيها:«الممنوعة ارثها،المكسورة ضلعها،المظلوم بعلها،و المقتول4.

ص: 328


1- الاحتجاج:ج 1 ص 212،و مرآة العقول:ج 5 ص 320.
2- الاحتجاج:المقدمة ص 4.

ولدها» (1).

3-قد روى الكليني عن محمد بن يحيى،عن العمركيّ بن علي،عن علي بن جعفر،عن أخيه،عن أبي الحسن(ع)قال:إن فاطمة(ع)صديقة شهيدة،و إن بنات الأنبياء لا يطمثن (2)».

4-و روى الصدوق عن علي بن أحمد بن موسى الدقاق،عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي،عن موسى بن عمران النخعي،عن النوفلي،عن الحسن بن علي بن أبي حمزة،عن أبيه،عن سعيد بن جبير،عن ابن عباس؛قال:إن رسول الله كان جالسا إذ أقبل الحسن عليه السلام...الى ان قال:

«و أما ابنتي فاطمة...و إني لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي،كأني بها و قد دخل الذل بيتها،و انتهكت حرمتها،و غصب حقها،و منعت ارثها،و كسر جنبها و اسقطت جنينها الخ... (3)».

و رواه الديلمي (4)و الجويني أيضا (5).

5-و روى سليم بن قيس الهلالي،قال:«فألجأها قنفذ لعنه الله الى عضادة باب بيتها و دفعها،فكسر ضلعها من جنبها،فألقت جنينا من بطنها،فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت صلى الله عليها من ذلك5.

ص: 329


1- إقبال الاعمال:ص 625،و البحار:ج 97 ص 200.
2- الكافي:ج 1 ص 458.عوالم العلوم:ج 11 ص 260.
3- الامالي للصدوق:ص 100 و 101،و ارشاد القلوب للديلمي:ص 295، و البحار:ج 28 ص 39/37 و ج 43 ص 173/172،و العوالم:ج 11 ص 391(الجزء الخاص بالزهراء)،و ستأتي مصادر أخرى.
4- ارشاد القلوب:ج 2 ص 295.
5- فرائد السمطين:ج 2 ص 35.

شهيدة» (1).

6-و ذكر ابن شهرآشوب:أن ابن قتيبة قال:إنها اسقطت محسّنا بسبب زخم قنفذ العدوي.و الزخم هو الجرح.

7-و قال السيد الحميري رحمه الله:

ضربت و اهتضمت من حقها و أذيقت بعده طعم السلع

قطع الله يدي ضاربها و يد الراضي بذاك المتبع (2)

السلع:الشق و الجرح.

و شعر السيد الحميري يدل على شيوع هذا الامر في عهد الامام الصادق عليه السلام،و ذيوعه،حتى لتذكره الشعراء،و تندد به، و تزري به على من فعله.

8-و قد ذكر الامام الحسن أن المغيرة قد ضرب الزهراء حتى ادماها.

9-و نجد الشيعة في عهد الصدوق رحمه الله،يصرون على زيارتها عليها السلام بالزيارة التي تضمنت:انها صديقة شهيدة.

و سيأتي في هذا الكتاب نصوص ذلك،و كذا النصوص الدالة على استشهادها عليها السلام.

و ثانيا:اذا لم يثبت كسر الضلع،فإن ذلك لا يعني نفي هذا الامر من الاساس،و لا يصح منع قراء العزاء من ذكره،ما دام ان المؤرخين قد رووه،و حدثوا به.3.

ص: 330


1- كتاب سليم،بتحقيق محمد باقر الانصاري:ج 2 ص 588.
2- الصراط المستقيم:ج 3 ص 13.

ثالثا: هل يجب توفر سند صحيح لكل قضية تاريخية؟!و كم هو عدد القضايا التي ثبتت كذلك؟و هل ثبوت اية قضية تاريخية يتوقف على وجود سند صحيح وفق المصطلح الرجالي؟!.

و لما ذا يطلب السند الصحيح في خصوص هذه القضية،مع أن نفس هذا المتسائل يقول:

اننا لا نحتاج الى السند الصحيح في اثبات القضايا،و يكفي الوثوق بصدورها،بل هو يكتفي بعدم وجود داع الى الكذب لصحة الاخذ بالرواية،و لو من كتب غير الشيعة الامامية،مع أنه يحاول اثارة الشبهات حول روايات أهل البيت(عليهم السلام)بالتأكيد المستمر على وجود المكذوب و الموضوع فيها،دون أن يشير الى جهود العلماء في تمييز الصحيح و المعتبر عن غيره...

و خلاصة الامر:إنه لا يمكن بملاحظة كل ما ذكرناه تكذيب هذا الامر ما دام ان القرائن متوفرة على أنهم قد هاجموها،و ضربوها، و اسقطوا جنينها:و صرحت النصوص بموتها شهيدة أيضا،الامر الذي يجعل من كسر الضلع أمرا معقولا و مقبولا في نفسه،فكيف اذا جاءت روايته في كتب الشيعة و السنة،بل و أشار إليه الشعراء أيضا، و لا سيما المتقدمون منهم.

رابعا: لو فرضنا أن كسر الضلع لم يثبت،فلما ذا يجعل ذلك ذريعة للتشكيك في ثبوت ضربهم للزهراء عليها السلام،و اسقاط جنينها،و انتهاك حرمة بيتها،مع أن ذلك مما أجمعت عليه طائفة الشيعة الإمامية،و استفاضت به رواياتهم،بل تواترت،و رواه الكثيرون من مؤرخي و محدثي باقي الفرق الاسلامية.

ص: 331

أم أن البحث الموضوعي يقتضي التركيز على أمر،ظن ذلك البعض أنه النقطة الاضعف فأراد التشكيك بها ليسهل التشكيك بما سواها،بأسلوب اطلاق الحكم الكلي،و الحديث بالعمومات و المبهمات،حيث لا يلتفت الناس الى التفاصيل،و بذلك يكون قد تمكن من نسف الثوابت و القطيعات،و ما أجمع عليه علماء المذهب، و رووه متواترا و مستفيضا،بل رواه غيرهم ممن لا يسعدهم ثبوت ذلك لما فيه من إزراء على من يحبونهم و يتولونهم.

سقوط المحسّن لحالة طبيعية طارئة!

ثم ان البعض يزداد جرأة،إلى درجة أنه يقول:إن سقوط الجنين «محسّن»يمكن أن يكون قد حصل في حالة طبيعية طارئة!و لم يكن نتيجة اعتداء؟!

و الجواب:

لقد دلّت النصوص الكثيرة،بل المتواترة و أجمع الشيعة على سقوط المحسّن بسبب الاعتداء على الزهراء كما قاله الشيخ الطوسي رحمه الله،بل لقد روى ذلك و أشار إليه كثيرون من اتباع و انصار المهاجمين انفسهم،ممن لا يسعدهم حتى توهم نسبة ذلك الى من يحبونهم من المهاجمين-و مع هذا كله-فلما ذا الاصرار من هذا البعض على تبرئة المهاجمين من هذا الامر و كيف نجيز لأنفسنا أن نكون ملكيين اكثر من الملك نفسه؟!.

و هل هناك مبرر علمي لهذا الاصرار،بعد أن كان من يصرّ على ذلك يقول:إن النفي يحتاج الى دليل،كما هو الاثبات؟!

ص: 332

ان هناك دليلا قاطعا للعذر قائما على الاثبات،فهل نرفضه؟ و نصر على النفي بلا دليل اصلا؟!.

ملاحظة:

و الملفت للنظر هنا:أن بعضا آخر قد تجاوز ذلك الى انكار اصل وجود ابن لفاطمة(ع)اسمه«محسّن».

و بعض آخر سكت عن الاشارة إليه بسلب أو بإيجاب،و كأنه يريد أن يوحي بسكوته هذا بأنه لا وجود لطفل بهذا الاسم ينسب للزهراء عليها السلام.

لكن البعض الآخر حين رأى ان انكار هذا الامر غير ممكن، و لم يستطع أن يعترف بما ارتكبوه في حقه،و حق أمه،تخلص من ذلك بدعوى أنه«مات صغيرا»فلم يصرح بإنكار اسقاطه،لكنه المح الى ذلك الإنكار حين قال:«مات صغيرا».

و فريق رابع قد ذكر هذا الطفل،و ذكر كونه سقطا،و لكن سكت عن ذكر حقيقة ما جرى.

و هناك الفريق الذي صرح بالحقيقة المرة و أفصح عنها،و قد أوردنا جملة من أقوال هؤلاء الفرقاء في قسم النصوص،فلتراجع ثمة.

و لم يكن في مصلحة الذين ظلموا و آذوا،و ضربوا،و اسقطوا جنين الزهراء ان يشاع ذلك عنهم و يذاع،لأنه سيهز صورتهم،و ربما يهز أيضا مواقعهم على المدى الطويل،فكان لا بد لهم من طمس الحقيقة،و تزوير التاريخ،و فرض هيمنة قاسية و مريرة على الاعلام،و لا بد من كمّ الافواه بكل وسيلة ممكنة.

ص: 333

و لم يصل إلينا إلا ما أفلت من براثنهم حيث حمله إلينا فدائيون حقيقيون تاجروا مع الله سبحانه بدمائهم،و بكل غال و نفيس،تماما كما أفلت إلينا من براثن المستكبرين الحاقدين الكثير الطيب،بل بحر زاخر من فضائل و مواقف و جهاد عليّ عليه السلام،حتى حديث الغدير،و حديث الثقلين و حديث أهل بيتي كسفينة نوح و حديث المنزلة،-لقد أفلت ذلك كله-من براثنهم رغم كل الجراح،و رغم كل الدماء النازفة و رغم كل الآلام.

لقد افلت إلينا مثخنا بالجراح،غارقا بالدماء،مرهقا بالآلام..

ليجسّد لنا بعمق و بصدق حقيقة اللطف و الرعاية الإلهية للأمة و للأجيال،و لهذا الدين.

فإن كل دعوة حاربها الحكام ما لبثت أن تلاشت و اندثرت الا دعوة الحق،فإنها قد استمرت و احتفظت بأصالتها،و بمعالمها رغم مرور مئات السنين على هذه الحرب الساحقة الضروس،رغم انها تتحدى الحكام في اساس حاكميتهم،و في شرعيتهم،إذ أن عقيدتها بالامام هي رفض للشرعية،و اتهام للحكام بالغاصبية و بالظلم،و بمحاربة تعاليم الله و رسوله(ص)و ادل دليل على ذلك كله و على ارادة التبرير و التزوير و التجني و على اللطف الالهي بحفظ الحق هو كل ما يرتبط بمقام علي(ع)و بمظلومية الزهراء(ع)التي قدمها رسول الله(ص)على انها المعيار للحق و للباطل،و هذا ما جعل دورها عليها السلام بعد وفاته (ص)مؤثرا و فاعلا،حاسما و قويا،عرف به الصحيح من السقيم و المحرف و المزيف،من السليم و القويم.

ص: 334

هل كان بكاء الزهراء(ع)جزعا؟!

و يقول البعض:إنه لا يتصور أن تكون الزهراء،المنفتحة على قضاء الله و قدره انسانة ينزعج أهل المدينة من بكائها (1)-كما يقرأ قراء التعزية-حتى لو كان الفقيد على مستوى رسول الله.

و الجواب:

إننا لا نتصور أن بكاءها على أبيها هو الذي أزعج المعترضين، و اثار حفيظتهم،و إنما الذي أحفظهم و ازعجهم هو ما يثيره وجود الزهراء الى جانب قبر أبيها على حالة من الحزن و الكآبة و الانكسار الذي يذكر الناس بالمأساة التي تعرضت لها عليها السلام فور وفاة أبيها،حيث إن ذلك يمثل حالة اثارة مستمرة للناس الطيبين و المؤمنين و المخلصين،و هو إدانة لكل ذلك الخط الذي لم يتوقف عن فعل أي شيء في سبيل ما يريده.

فلم يكن البكاء على شخص الرسول،بقدر ما كان تجسيدا للمأساة التي حاقت بالاسلام و برموزه بمجرد وفاته و فقده صلوات الله و سلامه عليه.

ص: 335


1- راجع عن تأذي أهل المدينة ببكاء الزهراء(ع):الخصال:ج 1 ص 272،و أمالي الصدوق:ص 121،و العوالم:ج 11 ص 449.و في هامشه عمن تقدم و عن البحار:ج 43 ص 155 و 177 و 35 و ج 46 ص 109 و ج 11 ص 311 و 204 و ج 12 ص 264 و ج 82 ص 86،و إرشاد القلوب:ص 95،و تفسير العياشي:ج 2 ص 188،و روضة الواعظين:ص 520،و مكارم الاخلاق: ص 335،و مناقب آل أبي طالب:(ط المطبعة العلمية)ج 3 ص 322،و كشف الغمة:ج 2 ص 124.

فالبكاء إذن لم يكن بكاء الجزع من المصاب،و استعظام فقد الشخص لكي يتنافى ذلك مع الانفتاح على قضاء الله و قدره.كما يريد هذا القائل أن يوحي به.

الا إذا كان هذا القائل يعتبر الاستسلام للقضاء و القدر و السكوت عن و على الظلم انفتاحا على القضاء و القدر.

«بيت الاحزان»و إزعاج الناس بالبكاء:

و لا يجد البعض حاجة الى بيت الاحزان،لتبكي الزهراء فيه؛ فهو لا يتصورها تبكي على أبيها بحيث تزعج أهل المدينة حتى يطلبوا منها السكوت؟لأن ذلك يعني أنها كانت تصرخ بصوت عال في الطرقات؟!

و هذا الصراخ و الازعاج لا يتناسب مع مكانتها عليها السلام؟! و نقول في الجواب:

أولا: هناك رواية ذكرها المجلسي (1)،مضعفا لها؛لأنه لم ينقلها -كما قال-عن أصل يعول عليه،و هي عن فضة؛و فيها:أن فاطمة(ع)قد خرجت ليلا في اليوم الثاني لوفاة أبيها،و بكت،و بكى معها الناس،و لما رأى أهل المدينة مدى حزنها طلبوا من عليّ(ع)أن تبكي إمّا ليلا أو نهارا،فبنى لها بيت الاحزان في البقيع.

و قد تقدمت الاشارة الى مصادر أخرى لهذه المقولة.

ص: 336


1- البحار ج 43 ص 180/174.

و من الواضح:ان رواية فضة لا يصح الاعتماد عليها كما ذكره المقدسي رحمه الله.لا من حيث السند،و لا من حيث المضمون كما يظهر لمن راجعها.

أما بالنسبة لبيت الاحزان،فهو«باق الى هذا الزمان،و هو الموضع المعروف بمسجد فاطمة،في جهة قبة مشهد الحسن و العباس، و إليه اشار ابن جبير بقوله:ويلي القبة العباسية بيت فاطمة بنت رسول الله(ص)،و يعرف ببيت الحزن،يقال:انه هو الذي آوت إليه، و التزمت الحزن فيه منذ وفاة أبيها(ص)» (1).

ثانيا: إن بكاءها(ع)في الليل اكثر ازعاجا للناس الذين يتفرقون في النهار الى متابعة أعمالهم في مزارعهم،و الاهتمام بمواشيهم،و قضاء حوائجهم،فكان الاولى أن تقيم في بيت الاحزان في الليل دون النهار.

ثالثا: إن الحقيقة هي أن بكاء الزهراء لم يزعج أهل المدينة،و إنما ازعج الهيئة الحاكمة التي كانت بحاجة الى أن تتواجد في مسجد الرسول(ص)الى جانب منبره الشريف،الذي يبتعد امتارا يسيرة تكاد لا تتجاوز عدد اصابع اليد الواحدة.فكان ان منعها الحكام من ذلك (2).

و كان الناس يتوافدون الى هذا المسجد بالذات،و يتواجدون فيه0.

ص: 337


1- أهل البيت ص 167-168،تأليف توفيق أبو علم.و راجع:وفاء الوفاء ج 3 ص 918،و راجع هامش ص 489 من كتاب عوالم العلوم:ج 11،و إحقاق الحق قسم الملحقات:ج 10 ص 476،و فاطمة الزهراء في الاحاديث القدسية: ص 185/184.
2- ضياء العالمين(مخطوط):ج 2 ق 3 ص 140.

منذ الفجر الى وقت متأخر من الليل،من أجل الصلاة،و من أجل متابعة ما يجري من أحداث.

فالمسجد هو مركز البلد،الذي كان صغيرا نسبيا،حيث قد لا يصل عدد سكانه الى بضعة آلاف،لأن مكة التي هي أكبر من المدينة بكثير،و كانت تسمى أم القرى كانت تجنّد أربعة آلاف مقاتل على الاكثر،حسبما ظهر في غزوة الاحزاب،التي جندت فيها مكة كل طاقاتها (1).و كان النفر للحرب يطال كل قادر على حمل السلاح من سن المراهقة الى سن الشيخوخة.

أمّا المدينة فغاية ما جندته في حرب الاحزاب هو ما يقرب من ألف مقاتل،بل أقل من ذلك أيضا (2).

و قد احصي عدد المسلمين في سنة ست للهجرة،و هو الوقت الذي لم يعد فيه لغير المسلمين في المدينة أية قواعد بشرية تذكر؛فكان عددهم ألفا و خمس مائة أو الفا و ست مائة.

و في رواية أخرى:و نحن ما بين الألف و الست مائة الى السبع مائة،و ذلك حينما قال لهم رسول الله(ص):اكتبوا لي كل من تلفظ بالاسلام،قال الدماميني:قيل كان هذا عام الحديبية (3).

و لنفرض أن جميع الذي أحصوهم كانوا رجالا،و أنهم كلهم9.

ص: 338


1- راجع:كتابنا الصحيح من سيرة النبي الاعظم(ص)ج 9.
2- راجع المصدر السابق.
3- راجع:صحيح البخاري:ج 2 ص 116،و صحيح مسلم:ج 1 ص 91،و مسند أحمد:ج 5 ص 384،و سنن ابن ماجة:ج 2 ص 1337،و التراتيب الادارية ج 2 ص 252/251،و ج 1 ص 220-223.و عن المصنف لابن ابي شيبة: ج 15،ص 69.

متزوجون!!و كلهم له أولاد،فكم يا ترى يكون عدد أهل المدينة بكل افرادها.

و قد كان كل أهل المدينة يأتون الى المسجد للصلاة خلف رسول الله(ص)صباحا،و ظهرا و مساء.بل كان الناس يأتون للصلاة من خارج المدينة،من مسافة أميال مشيا على الاقدام،و كان المسجد يستوعبهم،ثم وسّعه رسول الله(ص)في الفترة الاخيرة.

فالمسجد هو مركز هذا البلد الصغير،الذي كانت شوارعه عبارة عن أزقة ضيقة،و أبنية متقاربة،لا سعة و لا انتشار فيها،لأن ذلك هو ما تقتضيه حالة الأمن للناس،الذين كانوا بسبب الحروب الداخلية لا يضعون السلاح لا بالليل و لا بالنهار (1).

و قد أقام سكان المدينة حول شطر كبير من هذا البلد خندقا منع المشركين في حرب الاحزاب من الوصول إليهم،و قد استغرق حفره ستة أيام رغم سعته و عمقه.

و ذلك كله يدل على عدم صحة ما ذكره ابن مردويه و هو يتحدث عن زواج فاطمة عليها السلام:ان النبي دعاهم جميعا فأجابوا:«و هم أكثر من أربعة آلاف رجل» (2)،فإن المدينة لم يكن فيها نصف هذا العدد.

و يدل على عدم صحة هذا الرقم:أن رواية أخرى قد تحدثت عن نفس هذه القضية.و ذكرت أن الذين حضروا كانوا ثلاثة آلاف9.

ص: 339


1- اعلام الورى:ص 55 و البحار:ج 43 ص 8 و 9 و 10.
2- عوالم العلوم:ج 11 ص 298 و 340،و راجع:البحار:ج 43 ص 114،و 94، و أمالي الطوسي:ج 1 ص 39.

و ثلاث مائة في مجموع ثلاثة أيام (1).

فالقول بالاربعة آلاف،لعله يريد هذا المعنى أيضا.

فالمدينة التي بهذا الحجم حين يموت فيها اي انسان عادي فسيكون فيها ما يشبه حالة طوارئ؛حيث سيتوافد أهلها لتعزية و تسلية اصحاب المصاب،و سيهتمون بالتخفيف عنهم،و ابعادهم عن اجواء الحزن،فإذا كان المتوفى له موقع اجتماعي،فإن الاهتمام سيكون اعظم، فكيف اذا كان المتوفى هو أعظم انسان خلقه الله، و أفضل موجود،و أكرم نبي،و هو الذي أخرجهم من الظلمات الى النور،فإن البلد سينقلب،و سيعطل الناس أعمالهم و زراعتهم، و يعيشون جوا مشحونا بالعاطفة،و الترقب و الخوف،و سيكون مركز التجمع و القرار،و كل التحركات هو المسجد،منه الانطلاق الى الحرب،و فيه تحل المشاكل،و تستقبل فيه الوفود،و منه يكون السفر، و إليه العودة..فالمسجد مركز الحكم،و القيادة،و القضاء الخ..و منبر الرسول هو موقع الحاكم،و هو على بعد أمتار يسيرة من مدفن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

و في أجواء وفاة النبي(ص)سيتضاعف الذهاب و الاياب الى المسجد، و حين يأتي الناس الى المسجد،فإن أول ما يبدءون به هو زيارة قبر نبيهم،و السلام عليه و على من في البيت،حيث إنه(ص)قد دفن في بيت فاطمة (2)،و كانت كل الابواب قد سدت سوى بابها، و سيسألون الصديقة الطاهرة عن حالها،و هم يعلمون انها كانتا.

ص: 340


1- عوالم العلوم:ج 11 ص 345،و دلائل الامامة:21.
2- راجع:مقالنا في دراسات و بحوث في التاريخ و الاسلام:ج 1 ص 169 فما بعدها.

البنت الوحيدة لأعظم نبي،و هي ليست امرأة عادية،بل هي سيدة نساء العالمين من الأولين و الآخرين،يرضى الله لرضاها و يغضب لغضبها،و لسوف تذكرهم أجواء الحزن،و الانكسار المهيمنة على جو ذلك البيت و على الزهراء عليها السلام بما ارتكبه الحكام و أعوانهم في حقها فور دفن أبيها الذي لم يحضر المهاجمون دفنه،و لم يهتموا بتجهيزه،و هو الذي أخرجهم من الظلمات الى النور،و من الموت الى الحياة،فقد قال لهم علي(ع):«كنتم على شر دين و في شر دار، تشربون الكدر،و تأكلون الجشب (1)»، فهم بدلا من تعزيتها،و التكريم و التعظيم لها،واجهوها لا بالكلمة اللاذعة و حسب،بل بالقول و بالفعل الكاسر و الجارح،اذن،فلن تكون رؤية الناس للزهراء في كل يوم حزينة منكسرة في صالح الهيئة الحاكمة في اي حال حتى و لو سكتت الزهراء،و لم تبك و لم تندد بمن ظلمها،و هتك حرمتها.

ان كل من يأتي الى المسجد فيراها مكبوتة و متألمة،و غير مرتاحة و منزعجة،ثم يذهب ليجلس في مجلس الخليفة على بعد امتار يسيرة منها سيبقى يشعر بأذاها و بمأساتها،و بما جرى عليها،و سوف يستيقظ ضميره في نهاية الامر.

إذن فجلوسها الحزين و مرارتها عليها السلام ستقض مضاجع هؤلاء الحكام،و سيربكهم ذلك الى درجة كبيرة و خطيرة و سيندم الكثيرون على ما فرط منهم من تقصير في حقها عليها السلام،لأن بكاءها و مرارتها و حزنها يوقظ الضمائر و يثير المشاعر،و يهيج بلابل الناس،و للناس عواطفهم و أحاسيسهم،و سيضعف ذلك من سلطة الحكام و نفوذهم،و هم إنما يحكمون الناس باسم أبيها،و من خلال6.

ص: 341


1- نهج البلاغة:خطبة رقم 26.

تعاليمه فيما يزعمون.

و اذا كان عمر بن سعد قد بكى حين كلّمته الحوراء زينب، و هو كان قد قتل الحسين(ع)قبل لحظات،فكيف اللواتي لم تكن قلوبهم قاسية كما هو الحال في قلب حرملة و الشمر بن ذي الجوشن (قاتل الحسين)و ابن سعد،و إن كانت درجات إيمانهم تتفاوت بحسب الفكر و الوعي و العمل،و هم و ان لم يتكلموا حين الحدث المفجع لسبب أو لآخر لكن قد تأتي ساعة الصحوة،و قد يجدون الفرصة للتعبير عن حقيقة مشاعرهم،و ما يدور في خلدهم، فكان لا بد من اخراج الزهراء من هذا الموقع و ابعادها عن أعين الناس،الذين سوف يزداد وعيهم و سيشتد ندمهم بعد أن تهدأ الامور،و يعودوا الى أنفسهم،و يفكروا بما جرى،و يتذكروا أقوال رسول الله(ص)لهم في حق الزهراء و عليّ عليهما سلام الله..

فلا حاجة إذن الى صراخها عليها السلام في الشوارع،و لا الى ازعاج الناس بذلك.و ليس من البعيد أن يكونوا قد دفعوا بعض الناس لمطالبة الزهراء بالخروج من بيتها متذرّعين بأكثر من ذريعة،ثم استولوا على البيت بعد ذلك بصورة نهائية.

بيت الأحزان أضرهم و لم ينفعهم:

و لكن،هل كان بيت الاحزان هذا في صالح الحكام؟!و هل استطاع ان يحقق بعض ما أرادوا تحقيقه أو ظنوا انه سيتحقق؟!

ان الاجابة الصريحة و الواضحة على هذا السؤال ستكون بالنفي،فإنه كان في الحقيقة وبالا عليهم أكثر مما توقعوه،فلم يكن من

ص: 342

السهل أن يقبل الناس بإخراج الزهراء من بيتها،و منعها من اظهار الحزن،و من الجهر بالمظلومية،لأن ذلك ظلم آخر أشد أذى،و أعظم تأثيرا و خطرا،و أصرح دلالة على مدى الظلم الذي تعاني منه عليها السلام.

و مما يزيد في وضوح ذلك أن الناس سيرون:أن كل ما جرى عليها انما كان بمجرد وفاة أبيها،فبدلا من المواساة،و محاولة تخفيف المصاب عليها و هي الوحيدة لأبيها و سيدة نساء العالمين،تجد نفسها أمام مصاب أمرّ و أدهى،و هو أن من يعتبرون أنفسهم من اتباع هذا الدين،و يعترفون بنبوة أبيها،و يفترض فيهم ان يعظموه و يوقروه، و يقدسوه ان هؤلاء قد بلغ بهم الظلم حدا ضيقوا فيه حتى على أقرب الناس إليه و هي ابنته و هي امرأة لها عواطفها،و منعوها من اظهار الحزن على أب فقدته حرصا على عدم الجهر بظلمهم لها.

النهي عن النوح بالباطل لا عن البكاء:

قال ابن اسحاق في غزوة احد:و مر رسول الله(ص)-حين رجع الى المدينة-بدور من الانصار؛فسمع بكاء النوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله(ص)ثم قال:لكن حمزة لا بواكي له.

فأمر سعد بن معاذ،و يقال:و أسيد بن حضير نساء بني عبد الأشهل:أن يذهبن و يبكين حمزة أولا،ثم يبكين قتلاهن.

فلما سمع(ص)بكاءهن،و هن على باب مسجده أمرهن بالرجوع،و نهى(ص)حينئذ عن النوح،فبكرت إليه نساء الانصار، و قلن:بلغنا يا رسول الله،أنك نهيت عن النوح،و إنما هو شيء نندب

ص: 343

به موتانا،و نجد بعض الراحة؛فأذن لنا فيه.

فقال:إن فعلتن فلا تلطمن،و لا تخمشن،و لا تحلقن شعرا،و لا تشققن جيبا (1).قالت أم سعد بن معاذ:فما بكت منا امرأة قط إلا بدأت بحمزة الى يومنا هذا.

و في نص آخر:إن النساء بكين حين وفاة رقية،فجعل عمر يضربهن بسوطه،فأخذ(ص)بيده و قال:دعهن يا عمر.و قال:

«و إياكن و نعيق الشيطان..الى ان قال:فبكت فاطمة على شفير القبر، فجعل النبي(ص)يمسح الدموع عن عينيها بطرف ثوبه (2)».

المنع من البكاء على الميت:

لقد بكى النبي(ص)على حمزة،و قال:أما حمزة فلا بواكي له.و بعد ذلك بكى على جعفر،و قال:على مثل جعفر فلتبك البواكي.و بكى على ولده إبراهيم،و قال:تدمع العين،و يحزن القلب، و لا نقول إلا ما يرضي الرب.و بكى كذلك على عثمان بن مظعون، و سعد بن معاذ،و زيد بن حارثة،و بكى الصحابة،و بكى جابر على

ص: 344


1- السيرة الحلبية:ج 2 ص 254،و تاريخ الخميس ج 1 ص 444 عن المنتقى، و ليراجع كامل ابن الاثير:ج 2 ص 167،و تاريخ الطبري:ج 2 ص 210، و العقد الفريد،و البداية و النهاية:ج 4 ص 48،و مسند أحمد:ج 2 ص 40 و 84 و 92،و الاستيعاب ترجمة حمزة.و مسند أبي يعلى ج 6 ص 272، و 294/293،و في هامشه عن المصادر التالية:مجمع الزوائد:ج 6 ص 120، و عن الطبقات الكبرى:ج 3 قسم 1 ص 10،و عن سنن ابن ماجة:ج 3 ص 94،و في السيرة و في الجنائز الحديث:رقم 1591،و مستدرك الحاكم: ج 3 ص 195،و عن سيرة ابن هشام ج 2 ص 95،و 99.
2- تاريخ المدينة لابن شبة:ج 1 ص 103 و الاصابة ج 4 ترجمة رقية.

أبيه،و بشير بن عفراء على أبيه أيضا،الى غير ذلك مما هو كثير في الحديث و التاريخ (1).

فكل ذلك فضلا عن أنه يدل على عدم المنع من البكاء،فإنه يدل على مطلوبية البكاء،و على رغبته(ص)في صدوره منهم.

و لكننا نجد في المقابل:أن عمر بن الخطاب يمنع من البكاء على الميت و يضرب عليه،و يفعل ما شاءت له قريحته في سبيل المنع عنه.

و يروي حديثا عن النبي(ص)مفاده:ان الميت ليعذب ببكاء أهله عليه (2).بل هو يضرب حتى أمّ فروة بنت أبي بكر،حينما مات أبوها (3)مع اننا نجد أنه هو نفسه قد أمر بالبكاء على خالد بن الوليد (4)

ص: 345


1- راجع:النص و الاجتهاد:ص 230-234،و الغدير:ج 6 ص 159-167، و دلائل الصدق:ج 3 قسم 1 ص 136/134،عن عشرات المصادر الموثوقة، و الاستيعاب(بهامش الاصابة)ترجمة جعفر:ج 1 ص 211،و منحة المعبود: ج 1 ص 159،و كشف الاستار:ج 1 ص 381 و 383 و 382،و الاصابة: ج 2 ص 464،و المجروحون:ج 2 ص 92،و السيرة الحلبية:ج 2 ص 89، و راجع ص 251،و وفاء الوفاء:ج 3 ص 894 و 895،و راجع ص 932 و 933،و حياة الصحابة:ج 1 ص 571،و طبقات ابن سعد:ج 3 ص 396 و ج 2 ص 313.
2- راجع:العقد الفريد:ج 4 ص 264،و غيره.
3- راجع المصادر المتقدمة و الغدير و غيره عن عشرات المصادر،و كذا منحة المعبود: ج 1 ص 158،و في ذكر أخبار أصبهان ج 1 ص 61،عن ابن موسى، و الطبقات لابن سعد:ج 3 ص 209 و 346 و 362.و راجع:تأويل مختلف الحديث:ص 245.
4- التراتيب الادارية:ج 2 ص 375،و الاصابة:ج 1 ص 415،و صفة الصفوة: ج 1 ص 655،و أسد الغابة:ج 2 ص 96،و حياة الصحابة:ج 1 ص 465 عن الاصابة،و المصنف ج 3 ص 559،و في هامشه عن البخاري و ابن سعد و ابن أبي شيبة،و تاريخ الخميس:ج 2 ص 247،و فتح الباري:ج 7 ص 79، و الفائق:ج 4 ص 19،و ربيع الابرار:ج 3 ص 330،و راجع:تاريخ الخلفاء: ص 88،و راجع:لسان العرب:ج 8 ص 363.

و قد بكت عائشة على ابراهيم (1)و بكى أبو هريرة على عثمان، و الحجاج على ولده (2)و بكى صهيب على عمر (3)،و هم يحتجون بما يفعله هؤلاء.

و بكى عمر نفسه على النعمان بن مقرن،و على غيره (4)،و قد نهاه النبي(ص)عن التعرض للذين يبكون موتاهم (5).

كما أن عائشة قد أنكرت عليه و على ولده عبد الله هذا الحديث الذي تمسك به،و نسبته الى النسيان،و قالت:

يرحم الله عمر،و الله،ما حدث رسول الله:إن الله ليعذب9.

ص: 346


1- منحة المعبود:ج 1 ص 159.
2- راجع:طبقات ابن سعد:ج 3(ط صادر)ص 81،و في الثاني ربيع الابرار:ج 2 ص 586.
3- طبقات ابن سعد:ج 3 ص 362،و منحة المعبود ج 1 ص 159.
4- أبي شيبة،و تاريخ الخميس:ج 2 ص 247،و فتح الباري:ج 7 ص 79، و الفائق:ج 4 ص 19،و ربيع الابرار:ج 3 ص 330،و راجع:تاريخ الخلفاء: ص 88،و راجع:لسان العرب:ج 8 ص 363.
5- راجع الغدير عن المصادر التالية:مسند أحمد:ج 1 ص 237 و 235 و ج 2 ص 333 و 408،و مستدرك الحاكم:ج 3 ص 190 و 381،و صححه هو و الذهبي في تلخيصه،و مجمع الزوائد:ج 3 ص 17،و الاستيعاب ترجمة عثمان بن مظعون،و مسند الطيالسي ص 351،و سنن البيهقي:ج 4 ص 70، و عمدة القاري ج 4 ص 87،عن النسائي،و ابن ماجة،و سنن ابن ماجة: ج 1 ص 481،و كنز العمال:ج 1 ص 117،و أنساب الاشراف:ج 1 ص 157،و طبقات ابن سعد:ج 3 ص 399،و 429،و منحة المعبود:ج 1 ص 159.

المؤمن ببكاء أهله عليه،لكن رسول الله(ص)قال:إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه.قالت:حسبكم القرآن:و لا تزر وازرة وزر أخرى» (1).

و في نص آخر:إنها قالت:إنما مرّ رسول الله(ص)على يهودية يبكي عليها أهلها،فقال:إنهم يبكون عليها و إنها لتعذب في قبرها (2)».

و أنكر ذلك عليه:ابن عباس أيضا،و أنكره أيضا أئمة أهل البيت «عليهم السلام»،و من أراد المزيد،فعليه بمراجعة المصادر (3).

التوراة،و المنع من البكاء على الميت:

و يبدو لنا:أن المنع من البكاء على الميت مأخوذ من أهل الكتاب؛فإن عمر كان يحاول هذا المنع في زمن النبي(ص)بالذات؛ و لم يرتدع بردع النبي له إلا ظاهرا.فلما توفي(ص)بالذات؛ و لم يرتدع بردع النبي له إلا ظاهرا.فلما توفي(ص)و لم يبق ما يحذر منه،صار الموقف السياسي يتطلب الرجوع الى ما عند أهل الكتاب،

ص: 347


1- راجع صحيح البخاري:ج 1 ص 146(ط سنة 1039)،و مستدرك الحاكم ج 3 ص 381،و اختلاف الحديث للشافعي هامش الام ج 7 ص 266،و جامع بيان العلم:ج 2 ص 105،و منحة المعبود:ج 1 ص 158،و طبقات ابن سعد: ج 3 ص 346،و مختصر المزني:هامش الام ج 1 ص 187،و الغدير:ج 6 ص 163 عمن تقدم،و عن صحيح مسلم:ج 1 ص 342 و 344 و 343، و مسند أحمد:ج 1 ص 41،و سنن النسائي:ج 4 ص 17 و 18،و سنن البيهقي:ج 4 ص 73 و 72،و سنن ابي داود:ج 2 ص 59،و موطأ مالك:ج 1 ص 96.
2- صحيح البخاري:ج 1 ص 147.
3- راجع الغدير،و دلائل الصدق،و النص و الاجتهاد،و غير ذلك.

فكان منع الزهراء عن ذلك،كما قدمنا.

و قد جاء هذا موافقا للميول و للدافع الديني و السياسي على حد سواء.

و مما يدل على أن ذلك مأخوذ من أهل الكتاب:أنه قد جاء في التوراة:

«يا ابن آخذ عنك شهوة عينيك بضربة؛فلا تنح و لا تبك،و لا تنزل دموعك،تنهّد ساكتا،لا تعمل مناحة على أموات» (1).

السياسة و ما أدراك ما السياسة؟:

و نشير هنا الى كلمة للامام شرف الدين رحمه الله تعالى قال:

«و هنا نلفت أولي الألباب الى البحث عن السبب في تنحي الزهراء عن البلد في نياحتها على أبيها(ص)،و خروجها بولديها في لمة من نسائها الى البقيع يندبن رسول الله،في ظل أراكة كانت هناك،فلما قطعت بنى لها عليّ(ع)بيتا في البقيع كانت تأوي إليه للنياحة، يدعى:بيت الاحزان،و كان هذا البيت يزار في كل خلف من هذه الأمة» (2).

و أقول:إن من القريب جدا:أن يكون الحديث:«إن الميت ليعذب ببكاء الحي»قد حرّف عن حديث«البكاء على اليهودية المتقدم»؛لدوافع سياسية لا تخفى؛فإن السلطة كانت تهتم بمنع فاطمة عليها السلام من البكاء على أبيها.

ص: 348


1- حزقيال.الإصحاح 24 الفقرة 16-18.
2- النص و الاجتهاد:ص 234.

فيظهر:أن هذا المنع قد استمر الى حين استقر الامر لصالح الهيئة الحاكمة،و لذلك لم يعتن عمر بغضب عائشة،و منعها إياه من دخول بيتها حين وفاة أبي بكر،فضرب أم فروة أخت أبي بكر بدرته، و قد فعل هذا رغم أن البكاء و النوح كان على صديقه أبي بكر،و كان هجومه على بيت عائشة،و كان ضربه لأخت أبي بكر.و هو الذي كان يهتم بعائشة و يحترمها،و هي المعززة المكرمة عنده،و هو الذي يقدر أبا بكر و من يلوذ به،و يحترم بيته بما لا مزيد عليه.

نعم لقد فعل كلّ هذا لأن الناس لم ينسوا بعد منع السلطة لفاطمة(ع)من النوح و البكاء على أبيها و ما أصابها بعده.و لنفرض أن البكاء كان فقط على ابيها؛فما أشده من موقف،و ناهيك بهذا الاجراء جفاء و قسوة:أن يمنع الانسان من البكاء على أبيه،فكيف إذا كان هذا الاب هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم،أعظم، و أكمل،و أفضل إنسان على وجه الارض.

ثم لما ارتفع المانع،و مضت مدة طويلة و سنين عديدة على وفاة سيدة النساء(ع)،و نسي الناس أو كادوا،أو بالاحرى ما عادوا يهتمون بهذا الامر،ارتفع هذا المنع على يد عمر نفسه،و بكى على النعمان بن مقرن الذي توفي سنة 21 ه و على شيخ آخر،و سمح بالبكاء على خالد بن الوليد،الذي توفي سنة 21 أو 22 حسبما تقدم.

و النهي عن البكاء على الاموات يختلف ما ورد عن مصادر كثيرة من النهي عن خمش الوجوه،و شق الثياب،و اللطم،و النوح بالباطل.فإنه غير البكاء و هياج العواطف الانسانية الطبيعية.و ذلك لأن الأول ينافي الخضوع لله عز و جل و التسليم لقضائه؛أما الثاني فهو من

ص: 349

مقتضيات الجبلة الانسانية،و دليل اعتدال سجية الانسان،و شتان ما بينهما.

ص: 350

الفصل التاسع: و لست أدري خبر المسمار

اشارة

ص: 351

ص: 352

خبر المسمار:

قد جاء في كتاب منسوب الى شبل الدولة مقاتل بن عطية، عرف باسم:«مؤتمر علماء بغداد»الفقرة التالية:

«...و لما جاءت فاطمة خلف الباب،لترد عمر و حزبه،عصر عمر فاطمة بين الحائط و الباب عصرة شديدة،حتى أسقطت جنينها، و نبت مسمار الباب في صدرها،و صاحت فاطمة:يا أبتاه،يا رسول الله... (1)».

و قال الفيلسوف المحقق آية الله العظمى الشيخ محمد حسين الاصفهاني قدس الله سره:

و لست أدري خبر المسمار سل صدرها خزانة الاسرار

و نحن لا نستطيع تأكيد أو نفي هذا الامر،رغم أننا نناقش في نسبة كتاب مؤتمر علماء بغداد الى شبل الدولة،و نحتمل أنّه كتاب وضعه بعض من تأخر عنه و لكن ذلك لا يعني:ان ما ورد فيه من معلومات تاريخية أو غيرها غير صحيح أيضا.

ص: 353


1- مؤتمر علماء بغداد:ص 135.

إذن،فقد يكون مؤلف هذا الكتاب قد استقى معلوماته من مصادر لم تصل إلينا،و مناقشتنا في صحة نسبته الى من ينسب إليه، لا تعني أن جميع ما ورد فيه أيضا محل مناقشة و ريب،ففيه كثير من المعلومات الصحيحة،التي تؤيدها الروايات الثابتة و الصحيحة بصورة قطعية،فلا بد من تمييز الغث من السمين،و الصحيح من غيره وفق معايير البحث العلمي و أصوله..و نحن نذكر هنا ما نستند إليه في شكنا في نسبة هذا الكتاب،فنقول..

كتاب مؤتمر علماء بغداد في الميزان:

اشارة

و قد ذكر مؤلف كتاب مؤتمر علماء بغداد:ان كتابه،أو كتيّبه هذا هو خلاصة مناظرة دينية،يقول:إنها جرت بين عشرة من كبار علماء السنة،و كبار علماء الشيعة في بغداد بدعوة من السلطان ملكشاه السلجوقي،و وزيره نظام الملك،و حضورهما،و مشاركتهما.

و قد ظهر في هذه المحاورة:التي دامت ثلاثة أيام أن مذهب التشيع هو الحق،فتشيع السلطان ملكشاه،و أعلن وزيره نظام الملك تشيّعه أيضا،و لحق بهما عدد من القوّاد،و أركان الدولة.

و يطرح هنا سؤال هو:هل هذه المناظرة،واقعية أم افتراضية؟! و هو ينتظر الجواب الصحيح و الصريح.

و إذا جاز لنا أن ندلي بدلونا هنا،فإننا نقول:ان ما نميل إليه هو الخيار الثاني.اي أنها قضية افتراضية.

و نستند في حكمنا هذا الى عدة أمور،و إن لم يمكن اعتبار كل واحد منها بمفرده دليلا قاطعا،و لكنها بمجموعها تمنحنا الجرأة على

ص: 354

تسجيل استبعادنا هذا،الذي يرقى إلى درجة الاطمئنان بكونها قضية افتراضية،قد أراد مؤلفها أن ينتصر لمذهب بعينه،و يصوغ الادلة المذهبية المستندة الى وقائع تاريخية مشهورة في كتب المسلمين، و روايات يعترف بصحتها و بصحة الاستناد إليها المتخاصمون- يصوغها بطريقة مثيرة،و ملفتة،تثير اهتمام القارئ،و تأخذ بمشاعره.

و الامور التي نستند إليها في رأينا هذا هي التالية:

الاسلوب التعبيري:

إن أول ما يلفت نظر القارئ لذلك الكتاب«أو الكتيّب»هو أسلوبه التعبيري،حيث ان كثيرا من الموارد قد استعملت فيها تعابير لم تكن متداولة في تلك الفترة من الزمن.و نحن نذكر هنا جملة منها مع الاشارة الى رقم صفحة الكتاب المطبوع في سنة 1415 ه.ق.

1994 م.دار الارشاد الاسلامي،بيروت-لبنان.تحقيق و تعليق الشيخ محمد جميل حمود.

فنقول:

كلمة«مؤتمر»التي وردت في عنوان الكتاب،و في ص 17 و 25 و 26 و 28 و 37.

«لم يكن رجلا متعصبا أعمى»ص 17.

«كان شابا منفتحا»ص 17.

«ألفت فيها كتب و موسوعات»ص 25.

«و نرى نحن من خلال المحادثات و المناقشات»ص 26،و راجع

ص: 355

ص 32 و 34.

«و أن يكون طلب الحق هو رائد الجميع»ص 37.

«ان الذين يسبون لهم منطقهم»ص 46.

«هذا العمل اللاإنساني»ص 96.

«إن بعض رواة السوء،و بائعي الضمائر»ص 98.

«و اعتبر إيمانه إيمانا مثاليا»ص 101.

«يتصورهم أناسا طيبين مؤمنين»ص 111.

«مزق السيد العلوي ستار الصمت»ص 109.

«و لكن المؤهلات في علي بن أبي طالب كانت قليلة»ص 116.و ثمة مورد آخر في نفس الصفحة أيضا.

«الواقع:ان مؤهلات الخلافة و الامامة كانت متوفرة كاملا في علي»ص 116 و راجع ص 117.

«و أقضي غالب أوقاتي بالصيد،و الشؤون الادارية»ص 153.

«و أخذوا يحيكون المؤامرات ضد الملك،و نظام الملك،و حملوه تبعة هذا الامر،إذ كان هو العقل المدبّر للبلاد،حتى امتدت إليه يد أثيمة»ص 154 و 155.

«و كان لها نتائج سلبية»،«و أعطت نتائج سلبية معكوسة» ص 127.

«أ ليست المتعة هي الحل الوحيد لهم للخلاص من القوة الجنسية

ص: 356

الطائشة،و للوقاية من الفسق و الميوعة؟!أ ليست المتعة أفضل من الزنا الفاحش،و اللواط،و العادة السرية»ص 124.

ركاكة التعابير:

و قد تضمن الكتاب أيضا طائفة من التعابير التي تظهر عليها الركاكة،و الضعف،و ذلك مثل قوله:

«رجلا متعصبا أعمى»ص 17.

«كانت متوفرة كاملا في علي»ص 116.

«و كان يحب أهل البيت حبا جما كثيرا»ص 17.

«ثانيا:رواتها و أسنادها غير صحيحة»ص 76.

«استهزأ به بعض الحاضرين،و غمزه»ص 18.

«كان صغير العمر،بينما كان أبو بكر كبير العمر».ص 113.

«قد كنت أنا حاضر المجلس و المحاورة»ص 156.

«دين التشيع حق لا مراء له»ص 156.

أخطاء نحوية:

و وردت في الكتاب أيضا أخطاء نحوية عديدة،كالموارد التالية:

«و إنما انتخبه ثلاثة أو اثنين»ص 61 مع ان الصحيح:اثنان.

ص: 357

«ان الرسول يفعل ما لا يفعله حتى الناس العاديين»ص 93.

و الصحيح:العاديون.

«حتى يأتي بعض الناس الجهال،فيختاروا الاصلح»ص 115، و الصحيح:فيختارون.

«و كان يحضر مجلسه أربعة آلاف تلميذا»،ص 151، و الصحيح:تلميذ.

«الى غيرها من بدعكم أنتم أيها السنة التابعين لعمر»ص 149،و الصحيح:التابعون.

و لتلاحظ الفقرات التالية:

«و أمره-أي أمر أبو بكر خالدا-أن يقتل مالك و قومه»ص 131.

«و وزعت واردها الكثير،(مائة و عشرون ألف دينار ذهب،على قول بعض التواريخ في الناس»ص 145.

«علما بأن فدك لو بقيت».«غصبا فدك».«غصبا ملكها فدك».

«ورد فدك على أولاد فاطمة»ص 144 و 145.

تصحيح خطأ:

و وقع فيه سهو آخر في آية قرآنية كريمة،حيث قال:إنا هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ص 89.و الصحيح:و هديناه النجدين.

بالاضافة إلى كلمة«و أخذوا يحيكون المؤامرات»و الصحيح:

ص: 358

يحوكون.

ملك شاه:الجاهل المحب للعلم:

و قد وصف ملكشاه السلجوقي بأنه«كان شابا،منفتحا،محبا للعلم و العلماء»ص 17.

مع ان هذا المحب للعلم و العلماء،لم ينتفع من حبه هذا،حيث انه-كما يظهره الكتاب الذي هو مورد البحث-من أجهل الناس حتى بأبسط الامور،و بأبده البديهيات الإسلامية و التاريخية،و كأنه قد عاش في جزيرة ثم دخل بلاد الاسلام لتوّه.حتى انه لا يعرف بوجود طائفة اسمها الشيعة،هي نصف المسلمين الذين يحكمهم،ص 25 و 26،بل هو لا يعرف حتى معنى كلمة شيعي،فضلا عما سوى ذلك من قضايا تاريخية و غيرها.

و لا ندري لما ذا أهمل أبوه السلطان ألب ارسلان تأديبه و إعداده للمنصب الذي سيتصدى له؟و لما ذا لم يحشد له من العلماء و المتخصصين،أفضلهم،و أعلمهم،و أبعدهم صيتا،و أكثرهم خبرة؟.

مع ان الملوك و الخلفاء كانوا يهتمون بتأديب و تعليم أولادهم،و لا سيما الذين يرشحونهم لخلافتهم في المناصب لادارة شئون البلاد و العباد.

رعونة و طيش:

و قد ذكر أيضا:ان ملكشاه السلجوقي يكاد يتخذ قرارا بقتل الشيعة جميعا،إن لم يقبلوا بالتمذهب بمذهب أهل السنة،رغم ان وزيره كان قد أخبره بأنهم«يشكلون نصف المسلمين تقريبا»ص 25.

ص: 359

و لكن وزيره أخبره بأن قتل نصف المسلمين غير ممكن، ص 27.

و ليس ثمة من رعونة و طيش أعظم من هذا،فكيف يذكرون عنه ما يدل على الاستقامة و العدل،و على الحنكة و العقل؟

اغتيال الملك و وزيره

و قد ذكر هذا الكتاب:ان نظام الملك قد اغتيل بإيعاز من أهل السنة،ثم اغتالوا ملكشاه السلجوقي بعد ذلك أيضا.

و المذكور في التاريخ:ان قتل نظام الملك كان على يد غلام ديلمي من الباطنية.و ذكر ابن الأثير قصة تشير الى أن الذي دبّر قتله هو ملكشاه نفسه.أما ملكشاه،فيذكرون انه مرض و مات (1).

الملك لا يثق إلا بوزيره:

و رغم ان المجتمعين قد كانوا كبار علماء أهل السنة في بغداد، لكننا نجد:ان هذا الملك لا يزال يستفهم وزيره عن كل شيء،و هذا الوزير بدوره قد دأب على الاجابة بقوله:هكذا ذكر المفسرون،أو المؤرخون،أو الرواة،أو نحو ذلك.فلما ذا لا يثق بكبار علماء الإسلام، و لا يقبل منهم ما ينقلونه و يتداولونه؟

ص: 360


1- راجع ذلك في:الكامل في التاريخ:ج 10 ص 204-205 و ص 210.
من هم المجتمعون؟!

و الذي زاد في تحيّرنا:انه رغم ان بغداد كانت تعج بالعلماء المعروفين في تلك الفترة،سواء من الشيعة،أو من أهل السنة،فإن هذا الكتاب لم يذكر لنا اسم أيّ من هؤلاء العلماء العشرين المشاركين في المناظرة الذين وصفهم بأنهم كبار العلماء في بغداد من الفريقين.

نعم،وردت أربعة أسماء ادّعى المؤلف انها أسماء علماء هي:

الحسين بن علي،الملقب بالعلوي.أحمد عثمان.السيد جمال الدين.

الشيخ حسن القاسمي.

و لم نستطع أن نحصل على أي معلومات عن أصحاب هذه الاسماء،و عن درجاتهم العلمية،و عن دورهم و أثرهم في البلاد و العباد.

فكيف غاب مشاهير علماء بغداد من سنة و شيعة عن هذه المناظرة الحساسة و المصيرية،أو فقل:كيف لم يعلن أسماء أيّ من هؤلاء المشاهير.

مفارقة أخرى لا مبرر لها:

و قد ذكر الكتاب:ان الوزير نظام الملك،و كذلك العباسي، الذي كان يناظر عن أهل السنة،و كذلك العلماء الذين كانوا معه،قد سكتوا،و أحجموا عن الاجابة على سؤال حول سعي طلحة و الزبير في قتل عثمان.

و علّق المؤلف على ذلك بقوله:«ما ذا يقولون؟!أ يقولون الحق؟!

ص: 361

و هل الشيطان يسمح بالاعتراف بالحق؟!و هل ترضى النفس الأمّارة بالسوء أن تخضع للحق و الواقع؟!أ تظن ان الاعتراف بالحق أمر سهل و بسيط؟!.

كلا،انه صعب جدا،لأنه يستدعي سحق العصبية الجاهلية، و مخالفة الهوى،و الناس أتباع الهوى و الباطل،إلا المؤمنين،و قليل ما هم؟!»ص 109.

و نقول:إننا ندعو القارئ الكريم للتأمل فيما يلي:

أ:ان المؤلف نفسه قد وصف نظام الملك في أول الكتاب بقوله:«كان رجلا حكيما فاضلا،زاهدا،عازفا عن الدنيا،قوي الارادة،يحب الخير و أهله،يتحرى الحقيقة دائما»ص 17.

ب:ان الوزير نظام الملك كان قد أجاب على جميع الاسئلة التقريرية للملك،مع ان الكثير منها كان أشدّ إحراجا له من هذا السؤال العادي جدا،حيث ان بعضها يتعلق بالخليفتين الاولين أبي بكر،و عمر بالذات.

ج:ان نظام الملك قد عاد و اعترف للملك بصحة استدلال العلوي،فلمّا سأله عن سبب سكوته في بادئ الأمر،قال:«لأني أكره أن أطعن في أصحاب رسول الله(ص)»ص 11.

مع انه هو نفسه قد أجاب بالايجاب حين طعن العلوي في إيمان عمر(رض).و عمر عنده قد كان أعظم بكثير من طلحة،و من عثمان أيضا،فراجع ص 100.

ص: 362

خلافة أم إمامة؟

و نلاحظ:ان هذا العلوي قد خلط في حديثه عن أبي بكر، و عمر،و عثمان،بين مفهومي الامامة و الخلافة،و هو يتحدث عن الخلافة بطريقة الحديث عن الامامة،فراجع ما ذكره ص 111 حينما قال:«لم يتخذهم كل المسلمين خلفاء،و إنما أهل السنة فقط».

فإن هذه العبارة تعني:إن الحديث عن الإمامة لا عن الخلافة، لأن خلافتهم و حكومتهم إنما هي حدث تاريخي لا يمكن إنكاره من شيعي أو سنّي.و لكن الكلام و الجدل إنما هو في أن هذه الحكومة هل هي مشروعة أم لا؟كما ان الكلام انما هو في إمامة علي(ع)،التي تكون الحكومة أحد مظاهرها،فغصب الحكومة إنما هو تعد على الامام في بعض شئون إمامته.

تناقضات لا مبرر لها:
اشارة

و نجده يقع أحيانا في تناقضات لا مبرر لها،و قد حصل له ذلك في موردين:

الأول:نفاق الذين انتخبوا عثمان:

فنجده في حين يصف الذين تحيزوا الى عثمان في الشورى، و بايعوه.بالمنافقين.راجع ص 106.

يعود في الصفحة نفسها ليذكر ما يشير الى عدم كونهم من المنافقين،بل هم من الاتقياء المؤمنين،فيقول:انهم«عدلوا عن عثمان

ص: 363

عند ما رأوا طغيانه،و هتكه لأصحاب رسول الله،و مشورته في أمور المسلمين مع كعب الاحبار،و توزيعه أموال المسلمين بين بني مروان، فبدأ هؤلاء الثلاثة بتحريض الناس على قتل عثمان».

و يقصد بهؤلاء الثلاثة:طلحة،و سعد بن أبي وقاص،و عبد الرحمن بن عوف،و قد كنّا نودّ أن نراه يضيف الى الاسباب التي ذكرها:انهم لم يجدوا عند عثمان ما كانوا أملوه من إشراكهم في الامر،حيث آثر أقاربه بكل شيء دونهم.و الكل يعلم:ان طلحة قد حارب عليا أيضا بسبب انه لم يستجب لمطالبه التي تغذي طموحاته، و لسعد بن أبي وقاص،موقف من علي بسبب ذلك أيضا.

الثاني:من الذين انتخبوا عثمان:

و في حين نجده يقول:«ان عثمان لم يأت الى الحكم إلا بوصية من عمر،و انتخاب ثلاثة من المنافقين فقط و فقط،و هم:طلحة،و سعد بن أبي وقاص،و عبد الرحمن بن عوف»ص 106.

فإننا نجده يشكك في هؤلاء الثلاثة و يقول:«إنما انتخبه ثلاثة، أو اثنين(كذا)منهم»ص 61.مع العلم بأن عمر لم يوص بالخلافة الى عثمان كما زعم.

كما أن قوله:انه جاء بوصية من عمر،و بانتخاب ثلاثة غير منسجم و لا متوازن.

إلا أن يكون مراده:ان عمر قد ركب الشورى بحيث يصبح انتخاب عثمان حتميا.فاعتبر ذلك بمثابة وصية بالخلافة له.

ص: 364

موارد تعوزها الدقة التاريخية:

ثم ان هناك العديد من الموارد التي تعوزها الدقة التاريخية، و نذكر منها:

1-قوله عن معاوية:انه كان يسب عليا أمير المؤمنين(ع)، «الى أربعين سنة،و قد امتد سب الامام الى سبعين سنة»ص 48.

و نقول:

أما بالنسبة للنقطة الاولى،فنقول:ان معاوية قد أعلن بسب علي(عليه السلام)حوالى 23 سنة.و هو يقلّ عن العدد الذي ذكره ب 17 سنة.

و أما بالنسبة للنقطة الثانية،فقد امتد سبهم لعلي(ع)أكثر من ثمانين سنة،فراجع كتب التاريخ..

2-قال:«أبو حنيفة،و مالك بن أنس،و الشافعي،و أحمد بن حنبل لم يكونوا في عصر النبي(ص)بل جاءوا بعده بمائتي سنة تقريبا» ص 150.

مع ان أبا حنيفة قد ولد سنة 80 للهجرة،و مات سنة 150 ه.

أما مالك فولد سنة 93 و مات سنة 179 ه.

و الشافعي ولد سنة 150 و مات سنة 204 ه.

و أحمد بن حنبل ولد سنة 164 و مات سنة 233 ه.

3-و ذكر«ان عمر منع أبا هريرة عن نقل الحديث لكذبه على رسول الله.و لكن العلماء يأخذون بأحاديثه الكاذبة»ص 82.

ص: 365

و من المعلوم:ان سياسة الخليفة الثاني كانت تقضي بمنع نقل الحديث عن رسول الله(ص).و قد ضرب أبا هريرة لأجل ذلك،فإنه أكثر من نقل الحديث كما صرح به نفسه،لا لأجل كذبه على رسول الله(ص)كما زعم المستدل.

4-جمع القرآن:

و قد جاء في هذا الكتاب ما يلي:«قال العلوي:بل من بدعكم أنتم السنة أنكم لا تعترفون بالقرآن.و الدليل على ذلك انكم تقولون:ان القرآن جمعه عثمان،فهل كان الرسول جاهلا بما عمله عثمان؟!» ص 48.

ثم يستمر في كلامه الذي يهدف من خلاله الى إبطال جمع عثمان للقرآن،و إثبات انه قد جمع في عهد رسول الله(ص).

و نقول:

أ-ان من الواضح:ان حديث جمع عثمان للقرآن،لا يعني عدم الاعتراف بالقرآن.فالاستدلال بالاول على الثاني في غير محله.

ب:إن عثمان لم يجمع القرآن،و إنما جمع الناس على قراءة واحدة،و ذلك حينما عبر له حذيفة بن اليمان عن تخوّفه من اختلاف قراءات الناس.و قد أيده أمير المؤمنين علي(ع)في ذلك،أي في جمع الناس على قراءة واحدة،و قال-حسبما روي-لو وليت لفعلت مثلما فعل (1).

و لعل هذا المستدل يقصد:ان القرآن قد جمع على عهد رسولم.

ص: 366


1- راجع كتابنا:حقائق هامة حول القرآن الكريم.

الله(ص)،و لكن الخليفتين الاول و الثاني قد رفضا مصحف رسول الله(ص)،لانه كان يتضمن التنزيل،و التأويل و أسباب النزول و التفسير.و غير ذلك مما كان من شأنه ان يحرج الكثيرين ممن لا يرضى الحكام بإحراجهم،و لا بإشاعة حقائق ترتبط بهم.و جمعوا هم آيات القرآن في مصحف واحد،بعد أن أسقطوا التفسير و التأويل و أسباب النزول منه،كما هو معلوم.

طريقة الاستدلال أحيانا:
اشارة

و إن معظم الاستدلالات الواردة في الكتاب.و إن كانت جيدة و صحيحة.و لكن ثمة موارد في الكتاب لم يكن الاستدلال فيها صالحا.رغم انه قد كان بالامكان أن تكون هي الاخرى على درجة عالية من القوة و الصحة،لو استبدلت بعناصر تجعلها أكثر دقة، و أبعد أثرا.

و الموارد التي لاحظناها هي التالية:

1-السب و اللعن:

قد حصل خلط في الكتاب بين السب و اللعن،حيث ادعى الكتاب جواز سب الصحابي المنحرف،و لكنه استدل بما يثبت جواز اللعن لا السب،فراجع ص 47 و 48.

و من الواضح:ان عليا(ع)قد نهى في صفّين أصحابه عن سب معاوية و أصحابه،و طلب منهم بدلا من سبهم أن يصفوا أعمالهم.

ص: 367

كما ان الامام الصادق(ع)قد أمر أصحابه بأن ينزهوه عن السب،و لا يكونوا قوما سبّابين؛ليقال:رحم الله جعفرا قد أدّب أصحابه فأحسن تأديبهم.

أما اللعن الذي معناه الدعاء على الشخص بأن يبعده الله عن رحمته،فهو شأن آخر،و قد لعن الله سبحانه في كتابه الكريم فئات كثيرة.كما انه سبحانه قد أظهر الرضى عن لعن المؤمنين لبعض الفئات،حين قال: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ،وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ .

و لعل سبب ذلك هو أن اللعن يستبطن إعلان البراءة و الادانة للانحراف الذي اختاروه،و لكل سلوك عدواني،أو عمل إجرامي اقترفوه.و لا يستهدف الانتقاص الشخصي منهم،كما هو الحال بالنسبة للسب.

2-شكّ النبي في نبوته:

و ذكر أيضا:«ان السنة يقولون:ان رسول الله كان شاكا في نبوته».و استدل على ذلك بما رووه عن النبي(ص):انه قال:«ما أبطأ علي جبرائيل مرة إلا و ظننته انه نزل على ابن الخطاب»ص 91.

و قد كان بإمكان المستدل أن يضيف الى ما ذكره الآية القرآنية الدالة على أنه(ص)خاتم النبيين،و الحديث الصريح بأنه(ص)لا نبي بعده.ليتم الاستدلال بذلك.إذ بدون ذلك قد يجاب عنه بأنه لا مانع من اجتماع نبيين في آن واحد،مثل موسى و هارون(ع)،و غيرهما من الأنبياء.

ص: 368

3-أهل السنة و تحريف القرآن:

و يقول:«أما السنة فيقولون:ان القرآن زيد فيه و نقص عنه» ص 51 و 52،و راجع ص 92.

و قال:«بل المشهور عندكم أيها السنة:انكم تقولون بتحريف القرآن.

قال العباسي:هذا كذب صريح.

قال العلوي:أ لم ترووا في كتبكم:أنها نزلت على رسول الله آيات حول الغرانيق،ثم نسخت تلك الآيات،و حذفت من القرآن» ص 72 و راجع ص 76.

و نسجل هنا:

أ:لقد أجمعت الامة على عدم الزيادة في القرآن الكريم.

ب:ان نسبة القول بالزيادة و النقيصة الى أهل السنة أو الى المشهور فيهم بعنوان كونهم طائفة،ليس دقيقا أيضا.

و لو أنه قال لهم:ان هناك روايات رواها أهل السنة في صحاحهم الستة و كتبهم المعتبرة،لو التزم أهل السنة بمضمونها لانتهوا الى القول بالتحريف الذي دلت الادلة القاطعة و البراهين الساطعة على عدمه لكان صحيحا و متينا جدا.

ج:ان الرواية التي تتحدث عن مدح الغرانيق،التي هي الاصنام قد ردّها و فنّدها كثير من علماء السنة.و إن كان يظهر من البخاري انه لا يأبى عن قبولها.

ص: 369

د:ان حديث الغرانيق ليس فيه أن عبارة:«تلك الغرانيق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى».آية قرآنية،و ليس فيه و لا في غيره:ان هناك من يدعي:أنها كانت في القرآن ثم نسخت!!و حذفت منه!!.

بل تدعي تلك الرواية المكذوبة:ان الشيطان هو الذي ألقى تلك العبارة على لسان النبي(ص).ثم جاءه جبرائيل فأطلعه على حقيقة الحال.

4-عبس و تولى:

و قال عن آية:عبس و تولى:«الاحاديث الصحيحة الواردة عن أهل بيت النبي،الذين نزل القرآن في بيوتهم تقول:إنها نزلت في عثمان بن عفان».ص 97.

و هو كلام غير دقيق،فإن الرواية إنما ذكرها القمّي في تفسيره، و ذكرها الطبرسي في مجمع البيان،فلا يوجد أحاديث(بصيغة الجمع)،بل ان رواية الطبرسي عن الامام الصادق(ع)لم تصرح باسم عثمان،بل قالت:نزلت في رجل من بني أمية.

كما ان وصف هذه الرواية بالصحة الظاهر بالصحة من حيث السند،قد يعد تساهلا في التعبير.مع التذكير بأن عدم توفر سند يتصف بالصحة بالمصطلح المعروف لا يعني:ان مضمون الرواية باطل و مكذوب.و مهما يكن من أمر،فقد حقق هذا الموضوع الاخ العلامة الشيخ رضوان شرارة في كتاب مستقل بعنوان:«عبس و تولى في من نزلت»فليراجع.

ص: 370

5-إيمان الخلفاء الثلاثة:

و زعم الكتاب:ان«الشيعة يعتقدون أنهم-أي الثلاثة-كانوا غير مؤمنين قلبا و باطنا،و إن أظهروا الاسلام لسانا و ظاهرا».ثم فرع على اسلامهم الظاهري صحة«مصاهرة النبي لهم،و مصاهرتهم للنبي»ص 98 و 99.

و لنا على هذا الامر عدة مؤاخذات،نذكر منها:

أ:ان هذا الاعتقاد لم يسجله الشيعة-كطائفة-في كتبهم الاعتقادية،و لا وقفوا عنده في تكوين البنية العقيدية،و بلورة مفرداتها.

ب:ان مصاهرة النبي لهم إنما تستند الى إيمان بناتهم،و لا ربط لها بإيمان و لا حتى بإسلام والد البنت،إذ لا ضير في زواج المسلم بل و حتى النبي(ص)بابنة غير المسلم،فكيف بمن يظهر الاسلام و الايمان؟!

ج:أما بالنسبة لمصاهرة عثمان للنبي(ص)،فلم تثبت،لاننا قد أثبتنا أن عثمان إنما تزوج ربيبتي النبي،و لم يتزوج بنتيه (1).

6-خيانة أبي بكر كيف تثبت:

و قد استدل في الكتاب على خيانة أبي بكر للنبي(ص)أولا:

بقوله تعالى: لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ .

ثانيا:بلعن النبي(ص)من تخلف عن جيش أسامة،و أبو بكر

ص: 371


1- راجع كتابنا:بنات النبي أم ربائبه.

ممن تخلّف،راجع ص 99.

و هو استدلال غير موفق،لان الآية المباركة لا ربط لها بخيانتهم للنبي(ص).نعم هي تدل على عدم إيمان من لا يرضى بحكم النبي(ص)،إلا إذا كانوا يظهرون القبول،ثم إذا خلو إلى أنفسهم غمزوا في حكمه(ص).

كما ان لعن النبي للمتخلف لا يدل على خيانة المتخلف.بل يدل على عصيانه و مخالفته لأمر النبي(ص).و يدل أيضا على عدم إيمان من يلعنه النبي(ص).

و قد يكون مقصود المستدل:انهم حين رفضوا حكم النبي، و عصوا أمره،لم يفعلوا ذلك بصورة علنية بل بصورة خيانية فيها التفاف و تملّص و احتيال،و إظهار خلاف الواقع،ظهر منه أن ما يظهرونه من إيمان و طاعة و حرص عليه في مرضه لم يكن على حقيقته.

7-شك عمر في النبوة:

و استدل على أن أن عمر كان شاكا دائما في نبوة النبي بقول عمر في الحديبية:«ما شككت في نبوة محمد مثل شكي يوم الحديبية»ص 100.

و نقول:

ان قول عمر هذا لا يدل على أنه كان شاكا دائما في نبوة نبينا (ص)،و إنما يدل على أنه كان يشك كثيرا في النبوة،و ان ذلك قد حصل له مرارا عديدة،لكن شكه في الحديبية كان أشدها و أعمقها.

ص: 372

8-لا تجتمع أمتي على خطأ،و قتل عثمان:

انه استدل بقول النبي(ص):«لا تجتمع أمتي على خطأ»على صحة قتل الناس عثمان بن عفان.و جعل ذلك دليلا على عدم إيمانه ص 103.

و غني عن البيان:ان الإجماع على قتل من ارتكب جريمة يستحق لاجلها القتل،لا يعني الاجماع على سلب صفة الايمان عنه، لان الايمان شيء،و ارتكاب الجرائم الموجبة للقتل شيء آخر،قد يجتمعان،و قد يختلفان.

و الحديث الشريف إنما يدل على استحقاقه للعقوبة،و لا يدل على إجماعهم على عدم إيمانه.

و عدم إيمانه إنما يثبت بدلائل أخرى،لا بد من تلمّسها،و التأمل فيها.هذا كله بالاضافة الى أن عليا،و كثيرا ممن كانوا معه لم يشاركوا في قتله.و ذلك معروف و مشهور.و إن كان قتله لم يسر عليا و لم يسؤه كما روي عنه(ع).

9-حديث العشرة المبشرة:

و قد حكم العلوي ببطلان حديث العشرة المبشرة بالجنة، و استدل على ذلك بعدة أدلة:

منها:ان طلحة قد آذى النبي(ص)حين ذكر انه سينكح زوجته من بعده،فنزل قوله تعالى: وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ،وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً الاحزاب 53.

ص: 373

و منها:ان طلحة و الزبير قد سعيا في قتل عثمان،و قد قال رسول الله(ص)القاتل و المقتول في النار،ص 107.

و نقول:

إننا و إن كنا نؤيد ما ذكره من نزول الآية في طلحة،و إيذائه للنبي(ص)،و ندفع ما يدعيه البعض من أن طلحة قد تاب بعد ذلك، و عمل صالحا،ثم جاء حديث بشارة العشرة،فبشره بالجنة.

ندفعه بأن إثبات توبة طلحة دونه خرط القتاد.

كما ان بشارته بالجنة تصطدم بخروجه على إمام زمانه علي (ع)،بعد ذلك و الخارج على إمام زمانه في النار.كما انها تصطدم بنكثه بيعة أمير المؤمنين(ع).

نعم،اننا و إن كنا نؤيد ذلك،و لكننا نقول:ان الاستدلال بحديث القاتل و المقتول في النار،لا يصح في كل مورد،فلا يصح في مورد خروج طلحة على إمام زمانه المنصوص على إمامته من رسول الله(ص).

و أما خروجه على عثمان،فقد يدعى انه مبرر،من حيث ان خلافة عثمان جاءت مستندة الى صحة خلافة عمر،و خلافة عمر مستندة في صحتها الى خلافة أبي بكر،و هي غير شرعية،لانها جاءت إبطالا للتدبير الإلهي الحاسم،الذي قرر إمامة و خلافة علي دون سواه،فخروجه على عثمان،بعد أن أحدث،له حكم،و خروجه على علي المنصوص على إمامته و خلافته له حكم آخر.

ص: 374

10-المتعة لأجل الحصول على المال:

و نستغرب كثيرا قوله في الكتاب:أ ليس بالمتعة يحصلن على مقدار من المال لمصارف أنفسهن و أطفالهن اليتامى»ص 124.

فإن هذا الكلام قد يوهم ان تشريع المتعة إنما هو لتكون سببا في الحصول على المال و المتاجرة بالاعراض،و هذا أمر غير معقول و لا مقبول.فإن المهر في المتعة كالمهر في الزواج الدائم.و للمتعة أهدافها النبيلة و مبرراتها الموضوعية،كما للزواج الدائم.حيث انه يتضمن حلا شرعيا و صحيا لمعضلات يواجهها هذا الانسان.فراجع كتابنا:

«الزواج المؤقت في الاسلام».

11-أقيلوني فلست بخيركم:

ثم إننا نجده يقول:«إنه(ع)كان مستغنيا عن غيره،و غيره كان محتاجا إليه.أ لم يقل أبو بكر:أقيلوني فلست بخيّر فيكم،و علي فيكم»ص 119.

و الذي يلفت نظرنا هنا:

أولا :ان النص المتداول و المعروف هو قوله:أقيلوني فلست بخيركم و علي فيكم،و هي تفيد معنى يختلف عن قوله:لست بخير فيكم.

ثانيا :إن قول أبي بكر:أقيلوني الخ..لا ربط له بالاستغناء و الحاجة الى علي(ع).فإن أعلم العلماء قد لا يكون هو خير الناس، لأن الخيرية،أمر،الاستغناء و الحاجة أمر آخر.

ص: 375

ص: 376

الفهارس

الفهرس الاجمالي الفهرس التفصيلي

ص: 377

ص: 378

الفهرس الاجمالي

تقديم:5

تمهيد:9

الباب الأول:

الزهراء و مأساتها 31-375

الفصل الاول:

الزهراء(ع)مقامها و عصمتها 33-79

الفصل الثاني:

الزهراء(ع)و الغيب 81-120

الفصل الثالث:

إرهاصات و محاولات التفاف و طعن في كتاب سليم 121-155

ص: 379

الفصل الرابع:

ما ذا يقول المفيد«ره» 157-185

الفصل الخامس:

كاشف الغطاء و شرف الدين 178-214

الفصل السادس:

الحب و الاحترام يردعهم 215-262

الفصل السابع:

لما ذا تفتح الزهراء(ع)الباب 263-300

الفصل الثامن:

من هنا و هناك 301-350

الفصل التاسع:

و لست أدري خبر المسمار 351-375

ص: 380

الفهرست التفصيلي

تقديم 5

التمهيد 9

بداية و توطئة 9

نقاط لا بد من ملاحظتها 9

النقاط المعادة 24

الباب الاول:

الزهراء و مأساتها 31-375

الفصل الاول:

الزهراء(ع)مقامها و عصمتها 33-79

بداية و توطئة 35

متى ولدت الزهراء(ع) 36

مريم أفضل أم فاطمة(ع) 41

قيمة الزهراء(ع) 45

ص: 381

سيدة نساء العالمين 47

النشاط الاجتماعي للزهراء(ع) 49

الزهراء أم أبيها 59

العصمة جبرية في اجتناب المعاصي 60

هل للمحيط و البيئة تأثير في العصمة 65

إمكانية التمرد على لابيئة و المحيط 67

ألف:زوجتا النبي نوع و النبي لوط(ع) 68

باء:زوجة فرعون: 71

خلاصة: 75

ج:مريم(ع)في مواجهة التحدي 76

من نتائج ما تقدم 78

الفصل الثاني:

الزهراء(ع)و الغيب 81-120

الجوانب الغيبية في حياة الزهراء(ع) 83

الارتباط الفكري لا يكفي 91

تنزه الزهراء(ع)عن الطمث و النفاس 92

تأويل النصوص 101

هل الزهراء(ع)أول مؤلفة في الاسلام 106

ص: 382

هل في مصحف فاطمة(ع)أحكام شرعية 108

لا تعارض في أحاديث مصحف فاطمة(ع) 115

تصوير التعارض بنحو آخر 117

الفصل الثالث:

ارهاصات و محاولات التفاف و طعن في كتاب سليم 121-155

بداية و توطئة 123

نقاط البحث 124

فلنسقط نحن قضايانا،قبل أن يسقطها الآخرون 125

ناقشت كل العلماء 128

انكار و ضرب الزهراء(ع)تبرئة للظالمين 130

أنا لا أهتم لضرب الزهراء(ع)و هو لا يرتبط بالعقيدة 131

خلفيات صرحت بها الكلمات 135

العقبة الكؤود 136

اجتهد فأخطأ 138

العمدة هو كتاب سليم و هو غير معتمد 140

كتاب سليم معتمد 142

منشأ الطعن في كتاب سليم 147

الخلاصة 151

ص: 383

الفصل الرابع:

ما ذا يقول المفيد(رحمه الله تعالى)؟ 157-185

توطئة و بداية 159

الاستناد الى أقوال العلماء 160

الاجماع على المظلومية 163

مراد الشيخ المفيد في كتاب الارشاد 166

المفيد لم يذكر ما ذكره الطوسي 171

كتاب الاختصاص للشيخ المفيد 178

الفصل الخامس:

كاشف الغطاء و شرف الدين 179-214

كاشف الغطاء ما ذا يقول؟ 189

1-كاشف الغطاء لا ينكر ما جرى 191

2-ضرب النساء 194

3-قبول الناس بضرب الزهراء(ع) 199

4-احتجاج الزهراء بما جرى 200

5-احتجاج الزهراء(ع) 202

6-ذكر علي(ع)لهذا الامر 203

ص: 384

7-مبررات الاحتجاج غير متوفرة 204

8-لم تذكر الزهراء(ع)أبا بكر بما جرى 205

الثابت عند السيد شرف الدين 206

شواهد و دلائل أخرى 212

الفصل السادس:

الحب و الاحترام يردعهم 215-262

توطئة و إعداد 217

نقاط البحث في هذا الفصل 218

خصومتهم لعلي(ع)و احترام الزهراء(ع) 219

مكانة الزهراء(ع)عند الانصار،و عند مهاجميها 220

من الذي قال لعمر:إن فيها فاطمة 224

أخبار عن احترام الصحابة للزهراء(ع) 227

علي(ع)متمرد لا بد من إخضاعه 230

طلب المسامحة يدل على مكانة الزهراء(ع) 233

هل رضيت الزهراء على الشيخين؟ 238

تمحلات غير ناجحة 251

هل عرف قبر الزهراء(ع)؟ 252

جرأة الجاحظ 253

ص: 385

دلالة حرجة 256

ملاقاة الزهراء للرجال و الحجاب 257

الفصل السابع:

لما ذا تفتح الزهراء(ع)الباب؟ 263-300

ما ذا في هذا الفصل؟ 265

أين هي غيرة علي(ع)و حميته؟ 266

أين هي شجاعة علي(ع)؟ 268

المخدرة لا تفتح الباب 271

لما ذا لا يفتح الباب الزبير،أو فضة؟ 273

لو أجابهم علي(ع) 276

لو أجابتهم فضة 284

استطراد،أو مثال و شاهد 285

أ يخافون من فتح الباب و هم مسلحون؟ 288

أ لا يدافع علي(ع)عن وديعة الرسول(ص) 291

هل ضرب الزهراء(ع)مسألة شخصية؟ 293

مسألة فدك سياسية 295

على الحاضرين أن ينجدوا الزهراء 298

ص: 386

الفصل الثامن:

من هنا و هناك 301-350

هل كان لبيوت المدينة أبواب؟ 303

لم يدخلوا البيت،فكيف ضربوا الزهراء؟308

1-لا تروه عني 309

2-أنا لا أقول،بل علي(ع) 310

3-سماع رواية«ضرب فاطمة»أسقطه 311

4-الطعن على النظام 311

5-تحريف كتاب المعارف 312

رواية«قنفذ»تعارض إجماع«الشيخ» 313

لا داعي لمهاجمة الزهراء(ع)و علي(ع)موجود 316

الارتباك و التعارض في الروايات 320

النفي يحتاج الى دليل 325

مصادرة الموقف 327

هل ثبت عندكم كسر الضلع؟ 327

سقوط المحسّن لحالة طبيعية طارئة 332

هل كان بكاء الزهراء(ع)جزعا؟ 335

«بيت الاحزان»و انزعاج الناس بالبكاء 336

ص: 387

بيت الاحزان أضرهم و لم ينفعهم 242

النهي عن النوح بالباطل لا عن البكاء 243

المنع من البكاء على الميت 244

التوراة،و المنع من البكاء على الميت 247

السياسية و ما أدراك ما السياسة 248

الفصل التاسع:

و لست أدري خبر المسمار 351-375

خبر المسمار 353

كتاب مؤتمر علماء بغداد في الميزان 354

الاسلوب التعبيري 355

ركاكة التعابير 357

أخطاء نحوية 357

تصحيح خطأ 358

ملك شاه:الجاهل المحب للعلم 359

رعونة و طيش 359

اغتيال الملك و وزيره 360

الملك لا يثق إلا بوزيره 360

ص: 388

من هم المجتمعون 361

مفارقة أخرى لا مبرر لها 361

خلافة أم إمامة 363

تناقضات لا مبرر لها 363

موارد تعوزها الدقة التاريخية 365

طريقة الاستدلال أحيانا 367

1-السب و اللعن 367

2-شك النبي في نبوته 368

3-أهل السنة و تحريف القرآن 369

4-عبس و تولى 370

5-ايمان الخلفاء الثلاثة 371

6-خيانة أبي بكر كيف تثبت 371

7-شك عمر في النبوة 372

8-لا تجتمع أمتي على خطأ،و قتل عثمان 373

9-حديث العشرة المبشرة 373

10-المتعة لأجل الحصول على المال 375

11-أقيلوني فلست بخيركم 375

الفهارس 376-390

ص: 389

الفهرس الإجمالي 379

الفهرس التفصيلي 381

ص: 390

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.