خلفيات مأساه الزهراء (المجلد 2)

اشارة

نويسنده : آية الله السيد جعفر مرتضى العاملي

ناشر : آية الله السيد جعفر مرتضى العاملي

موضوع : حضرت فاطمه زهرا (س)

مع الأنبياء والرسل

انبياء الله تعالي و رسله

بداية

قد ذكرنا في المقصد السابق ما يتضح به الصورة العامة لدي البعض حول النبوة وحقيقتها وخصوصياتها، وهي تشكل القاعدة الفكرية والمنهج العقيدي لديه بالنسبة للخط العام الذي يحكم مسيرة الأنبياء (عليهم السلام) وحركتهم وأساليبهم في التعاطي مع القضايا ومع الناس، وعلي هذا الأساس سيكون تفسيره لجميع ما نقل من تصرفات الأنبياء (عليهم السلام) ومواقفهم في القضايا المختلفة ما يوحي مسبقاً بالنتيجة التي سيخرج بها عند تعرضه لأمثال هذه الأمور.

ومن هنا فإن المقصد الثالث معقود لذكر جملة من كلمات البعض التي ذكرها في سياق تفسير الآيات المرتبطة بقصص الأنبياء (عليهم السلام) بغرض اظهار ما فيها من خلل وزلل.

فإلي ما يلي من مطالب وموارد..

آدم و نوح

اشاره

معصية آدم كمعصية إبليس.

الفرق بين آدم وإبليس هو في الإصرار والتوبة.

آدم ينسي ربّه وينسي موقعه منه.

آدم استسلم لأحلامه الخيالية وطموحاته الذاتية.

آدم طيب وساذج: لا وعي لديه.

آدم يعيش الضعف البشري أمام الحرمان.

آدم يمارس الرغبة المحرمة.

الدورة التدريبية لآدم عليه السلام.

إن جميع النقاط السابقة قد سجلها البعض في كلماته المكتوبة، وليست مجرد استنتاجات أو افتراضات.. فتلك هي ملامح صورة آدم النبي المبعوث من قبل الله سبحانه باعتراف وتصريح ذلك البعض نفسه. فلنقرأ معا كلماته التالية، لنجد كل هذه المعاني تتحدث عنها الكلمات بصراحة ووضوح. إنه يقول:

".. وغفر لهما وتاب عليهما، ولكنه أمره بالخروج من الجنة، كما أمر إبليس بالخروج منها، لأنهما عصياه كما عصاه، وإن كان الفرق بينهما: أنه ظل مصرا علي المعصية، ولم يتب، فلم يغفر له الله، بينما وقف آدم وزوجته في موقف التوبة إلي الله، فغفر لهما" [1] .

ويقول:

"فانطلقا إليها بكل شوق ولهفة، وأطبقت عليهما الغفلة عن مواقع أمر الله

ونهيه، لأن الإنسان إذا استغرق في مشاعره، وطموحاته الذاتية، واستسلم لأحلامه الخيالية، نسي ربّه، ونسي موقعه منه".

ويقول:

"كيف نسيا تحذير الله لهما؟ كيف أقبلا علي ممارسة الرغبة المحرمة؟" [2] .

ويقول عنه:

"كان يعيش الضعف البشري أمام الحرمان" [3] .

كان عاصيا ولم يكن مكلفا؟؟؟.

ويقول:

"فالله أراد أن يدخل آدم في دورة تدريبية، ولذلك لم يكن أمراً جدياً. ولكنه كان أمراً امتحانيا، اختباريا تجريبيا. وكان أمرا تدريبيا، تماما كما يتم تدريب العسكري، ولذلك فالجنة لم تكن موضع تكليف وما يذكر لا يرتبط بالعصمة أبدا، نعم إن الأنبياء من البشر وهم يعيشون نقاط الضعف، ولكن نقاط الضعف التي لا تدفعهم إلي معصية الله، أما مسألة الجنة وقصة آدم في الجنة فهذا خارج عن نطاق التكليف. لقد أراد الله أن يدخله في دورة تدريبية حتي يستعد للصراع القادم عندما ينزل هو وإبليس إلي الأرض ليكون بعضهم لبعض عدوا حتي يتحرك في مواجهة العداوة التاريخية" [4] .

ويقول:

"الله أراد لآدم أن يمر في دورة تدريبية في مواجهة إبليس، لأن آدم طيب وساذج، ولم يدخل معترك الحياة" [5] .

وقفة قصيرة

تلك هي الصورة التي قدمها ذلك البعض عن النبي آدم عليه السلام في بعض جوانب شخصيته، فهل ذلك كله يليق نسبته إلي نبي من أنبياء الله؟ بل هل يرضي أحد من الناس بأن ينسب إليه بعض من ذلك، كأن يقال عنه: إنه ساذج أو يمارس الرغبة المحرمة أو غير ذلك مما تقدم؟..

ونحن قبل أن ننتقل إلي الحديث عن موارد أخري نسجل ما يلي:

إن الموافق لأصول العقيدة أن يقال: إن معصية آدم ليست كمعصية إبليس، وان تصرف آدم عليه السلام لم يكن تمردا علي إرادة الله

سبحانه.. وهو المروي عن أئمة أهل البيت (ع).

كما أن الفرق بين آدم (ع) وإبليس (لعنه الله) ليس هو في التوبة وعدمها، وإنما هو في خصوصيات ذاتية، وملكات وحوافز لا تدع مجالا لقياس أحدهما بالآخر..

كما أننا لا نوافق علي التعبير بأن آدم (ع) قد نسي ربه سبحانه وتعالي، ونسي موقعه منه، فلم يكن آدم النبي لينسي ربّه، بل كان دائم الحضور معه، وفي غاية الإنقياد والإستسلام له.. كما هو حال الأنبياء والأولياء سلام الله عليهم.

تفسير الآيات

ونري أن المناسب لأصول العقيدة هو تفسير الآيات التي تحكي قصة آدم علي النحو التالي:

1 _ إن آدم عليه السلام حين نهاه الله سبحانه عن الأكل من الشجرة، قد عرف من خلال ذلك وجود مضرة من أكلها يصعب عليه تحملها، لكن إبليس قال له: إن هذا الضرر وإن كان صعبا، ولكن لو تحملت ذلك الضرر فثمة نفع عظيم ستحصل عليه وهو الخلود.

وليس من حق آدم أن يكذّب أحدا لم تظهر له دلائل كذبه، فكان من الطبيعي أن يقبل آدم منه ما أخبره به، ورضي أن يتحمل هذه الصعوبة البالغة من أجل ذلك النفع، وكانت له الحرية في أن يقرر ويختار هذا النفع في مقابل ذلك الضرر، وتلك الصعوبة البالغة، أو لا يختار ذلك.

وهذا كما لو أخبرك طبيب بأن جلوسك في الشمس قد يتسبب لك بآلامٍ حادة في الرأس، ولكنه سيضفي أثرا جماليا علي لون البشرة، أو يشفيك من مرض جلدي معين.

أو كما لو أجريت لك عملية زرع شعر، أو عملية تجميلية، أو أعطاك الطبيب دواء مرا، للتخلص من وجع معين، فلم تطعه، أو ما إلي ذلك.. مما يتوقف علي الألم والعناء الشديدين، فإن فعلت هذا

الأمر تحصل علي ذاك الامتياز، وإن أردت السلامة وعدم التعرض للأوجاع والمتاعب، فلن تحصل علي شيء.

2 _ إنك حين تفعل ذلك الأمر لا تكون متمردا علي إرادة الذي نهاك عن الفعل ليرشدك إلي مشقته، وليجنبك التعب والشقاء.. ولا تكون بذلك خارجا عن زي العبودية والانقياد، ولا مخلا بمولوية سيدك وآمرك.

وهذا كما لو قال السيد لعبده أو الأب لولده: لا تركض حتي لا تتعب، ثم قال له رفيقه: أركض لتصبح أقوي، فإذا علم بالتعب، وعلم بالقوة، فإن اختياره العمل بقول رفيقه لا يعني التمرد علي إرادة أبيه.

3 _ في هذه الصورة الأخيرة يصح أن يقال: عصيت أبي فتعبت وعرقت، ولو أنك لم تقبل بشرب الدواء المر، أو لم تبادر إلي إجراء عملية التجميل، فإنه يصح أن يقال: إنك عصيت أمر الطبيب.

4 _ وحين لا يتحقق ذلك الهدف الذي توخي الفاعل الحصول عليه، وهو الحصول علي الخلد، أو الحصول علي بعض المنافع، فمن الصحيح أن يقال: إنه عصي فغوي، أي لم يحقق مراده ولم يصل إلي هدفه، بل غوي عنه ومال.

5 _ أما سذاجة آدم فلا ندري كيف يكون هذا النبي ساذجا وبسيطا مع أن المفروض بأي مؤمن أن يكون كيّسا فطنا، فهل هي سذاجة من أصل الخلقة؟! أم هي ناشئة عن نقص في إيمان آدم؟!

ولعل هذا البعض قد حسب أن عدم معرفة آدم (ع) بأمر خفي، لم يجد السبيل إلي معرفته، نوعٌ من السذاجة والبساطة..مع أن هناك فرقاً بين السذاجة التي تعني التطلع إلي الأمور بنظرة حائرة بلهاء كما سيأتي في كلام نفس هذا البعض عن إبراهيم (أبي الأنبياء) عليه السلام أو تعني نوعا من القصور في الوعي والفهم، كما

يقول عن آدم (ع)، وصرح به في خطبة ليلة الجمعة بتاريخ (29 _ ج2 _ 1418ه_) وبين عدم الإطلاع علي الواقع لسبب أو لآخر.

وكيف يكون آدم ساذجا وقد خلقه الله تعالي بيديه وعلمه الأسماء كلها، وباهي به ملائكته، وأثبت لهم أنه أوسع علما ومعرفة منهم، وأمرهم أن يجعلوه قبلة في سجودهم لله سبحانه، وذلك تكريما منه تعالي لآدم وتعظيما له؟ أم يعقل أن الله سبحانه _ بالرغم من ذلك كله _ لم يتقن خلق آدم، ولم يتدارك مواقع الخلل فيه، وهو الذي يقول: (تبارك الله أحسن الخالقين)؟!

"أن غيبة الإمام المهدي عليه السلام إنما هي ليكتسب خبرة قيادية".

6 _ أما الدورة التدريبية التي تحدث عنها بالنسبة لآدم، ولغيره من الأنبياء، فنحن نخشي أن يكون ثمة رغبة في الحديث عن دورات مماثلة لعيسي، وللإمامين الجواد والهادي والإمام المهدي عليهم السلام!! حيث، إن تصديهم للمقامات الإلهية لم تسبقه دورة تدريبية فيها أوامر امتحانية وعسكرية.

إلا أن يقال: إن إمامتهم لم تبدأ في ذلك السن، وبقي مقام النبوة والإمامة شاغرا إلي أن انتهت دوراتهم التدريبية. ولعل ما يعزز هذا الاحتمال ما قالوه من:

فلما أوردنا عليهم الإشكال قالوا:

"إن الشهيد الصدر هو الذي قال ذلك..".

فراجعنا كلام الشهيد الصدر، فوجدناه يقول:

"وعلي هذا الأساس نقطع النظر مؤقتا عن الخصائص التي نؤمن بتوفرها، في هؤلاء الأئمة المعصومين.." [11] أي: من أجل تقريب الفكرة لمن لا يعتقد بما نعتقده، كذا وكذا..

وهكذا يتضح: أن آيات القرآن لا تريد أن تنسب لآدم (ع)، ما ينسبه إليه البعض من هنات ونقائص.

إستسلم آدم ولم يشعر أن استسلامه يمثل تمرداً علي الله وعصياناً لإرادته.

آدم يسقط إلي درك الخطيئة.

آدم أصبح

منبوذاً من الله.

أراد الله تدريب آدم في مواجهة حالات السقوط ليتنبه لأمثالها.

أراد الله تدريب آدم ليعي كيف تتحرك الخطيئة في نفسه في المستقبل.

آدم لا يحمل أية فكرة فطرية عن التوبة فتلقاها من الله.

الأقرب أن الكلمات التي تلقاها آدم ليست هي أسماء الأئمة.

الله يتحدث عن آدم في كل مورد للإيحاء بالضعف الإنساني.

آدم يسقط أمام تجربة الإغراء فيتعرض للحرمان الأبدي.

آدم و تجربة الإنحراف بتسويل إبليس.

آدم لم يأخذ الموضوع مأخذ الجدية والإهتمام ولم يتعمق في وعيه.

آدم انحرف من موقع الغفلة وأجواء الحلم لا من موقع الوعي.

آدم لم يفكر جيداً.

آدم استسلم للجو الخيالي المشبع بالأحاسيس الذاتية المتحركة مع الأحلام.

آدم ابتعد عن خط الرشد.

معصية آدم معصية تكليف (لا إرشاد).

كان أمراً إرشادياً (لا تشريعيا).

شعور آدم وحواء بالخزي والعار.

آدم غير متوازن.

يخصفان من ورق الجنة للتخلص من العار.

إبليس أسقط آدم لئلا يبقي هو الساقط الوحيد في عملية التمرد علي الله.

جريمة آدم تمثّلت له في مستوي الكارثة.

إبليس نجح في إثارة الضعف في شخصية آدم.

آدم عاد إلي الله في عملية توبة وتصحيح.

آدم أساء إلي نفسه بانحرافه عن خط المسؤولية في طاعة الله.

إبليس أوصل آدم وحواء إلي مرحلة السقوط، بسبب الغرور الذي أوقعهما فيه.

سقط آدم في الامتحان، وأخفق في التجربة.

إبليس قاد آدم إلي الموقف المهين.

خطيئة آدم أبعدته عن الله.

آدم والشجرة المحرمة، والرغبة المحرمة.

إبليس هبط بقيمة هذا المخلوق الذي كرمه الله.

إنحراف آدم طارئ بسيط.

آدم ثاب إلي رشده ودخل عالم الإستقامة من جديد.

يقول البعض:

".. وتبدأ الآيات من جديد في هذه السورة، لتضع الإنسان أمام بداية الخلق،

ليعيش التصور الإسلامي عن تكريم الله للإنسان، وعن شخصية إبليس في خصائصه الذاتية، وفي طريقته في التفكير، وفي مخططاته من أجل إغواء الإنسان وإضلاله من خلال عقدة الكبرياء المتأصلة فيه.. ثم في محاولاته الناجحة، في البداية _ فيما قام به من إثارة نقاط الضعف في شخصية آدم _ حتي أخرجه وزوجه من الجنة.. ثم.. في عودة آدم إلي الله في عملية إنابة وتوبة وانطلاقة تصحيح، وموقف قوة في حركة الصراع مع إبليس وذلك من أجل أن يعيش الانسان الوعي لدوره المتحرك في آفاق الصراع مع الشيطان في كل مجالات حياته.. فكيف عالجت هذه الآيات القصة..؟" [12] .

ويقول أيضاً:

"وأراد الله أن يوحي إلي آدم بكرامته عليه، فيما ي_مهد ل_ه من سبل رضوانه ونعمه.. فقال ل_ه.. (اسكن أنت وزوجك الجنة) وخذا حريتكما في التمتع بأثماره_ا فيما تختاران منها ممّا تستلذانه أو تشتهيان_ه.. (فكلا من حيث شئتما) لا يمنعكما منه مانع (ولا تقربا هذه الشجرة) فهي محرمة عليكما.. هذه هي إرادة الله التي انطلقت من موقع حكمته في توجيهكما إلي أن تواجها المسؤولية من موقع الالتزام والإرادة، في الامتناع عن بعض ما تشتهيانه من أجل إطاعة الله فيما يأمر به أو ينهي عنه فلا بد من تجربة أولي لحركة الإنسان في عملية الإرادة.. فلتبدأ تجربتكما الأولي.. في هذه الأجواء الفسيحة التي منحكما الله فيها كل شيء.. مما يجعل من النهي الصادر منه إليكما، تكليفا ميسرا لا صعوبة فيه ولا حرج.. فبإمكانكما السير في نقطة البداية من أيسر طريق.. فلا تقربا هذه الشجرة (فتكونا من الظالمين) الذين يظلمون أنفسهم، ويسيئون إليها بالانحراف عن خط المسؤولية في طاعة الله.. ولم يكن لديهما أي حافزذاتي يدفعهما إلي المعصية، لأنهما

لا يشعران بالحاجة إلي هذه الشجرة بالذات.. ما دامت الشجرة لا تمثل شيئا مميزا في شكلها وثمرها.. فليست هناك أية مشكلة في ذلك" [13] .

ويقول أيضا:

"ولم يكن عندهما أية تجربة سابقة في مخلوق يحلف بالله ويكذب، أو يؤكد النصيحة ويخون.. أو يغش، فصدقاه، وأقبلا علي تلك الشجرة المحرمة يذوقان من ثمرتها ما شاءت لهما الرغبة أن يذوق_ا.. (فَدَلاّهُما بغرور) أي أنزلهما عن درجتهما الرفيعة فأوصلهما إلي مرحلة السقوط بسبب الغرور الذي أوقعهما فيه، فيما استعمله من أساليب الخداع (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوأتهما) وشعرا بالعري.. الذي بدأ يبعث في نفسيهما الشعور بالخزي والعار، في إحساس جديد لم يكن لهما به عهد من قبل.. وقيل.. إنهما كانا يلبسان لباس أهل الجنة فسقط عنهما بسبب المعصية.. (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة..) ليستراها في إحساس بالحاجة إلي ذلك، بطريقة غريزية من خلال شعورهما بالدور الخجول للعورة.. أو لأمر آخر يعلمه الله.. وسقطا في الامتحان وأخفقا في التجربة.. وبدأ هناك شعور خفي بالخيبة والمرارة.. فيما بدا لهما أنهما ارتكبا ما لا يجب أن يرتكباه.. وربما تذكرا نهي الله لهما عن الأكل من الشجرة.. وربما يكونان قد عاشا بعض الحيرة فيما يفعلانه في موقفهما هذا.. فه_ذا أمر جديد لا يعرفان كيف يتصرفان فيه.. وهنا جاءهما النداء من الله مذكرا ومؤنباً (وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة..) فكيف خالفتما هذا النهي وعصيتماني.. ما هي حجتكما في ذلك؟.. هل هي وسوسة الشيطان..؟ وكيف لم تنتبها إلي وسوسته..؟ ألم أحذركما منه (وأقل لكما إن الشيطان لكما عدوّ مبين) يضمر لكما الحقد والعداوة والحسد.. منذ رفض السجود مع الملائكة وخالف أمر الله بذلك.. ووقف وقفة التحدي للإنسان ليغويه ويضره

ويقوده إلي عذاب السعير.. وها أنتما تريان كيف قادكما إلي هذا الموقف المهين.. وتمثلت لهما الجريمة في مستوي الكارثة.. كيف نسيا تحذير الله لهما.. كيف أقبلا علي ممارسة الرغبة المحرمة وغفلا عن عداوة الشيطان لهما.. وكيف خالفا أمر الله الذي خلقهما وانعم عليهما.. وبدءا يعيشان الندم كأعمق ما يكون.. في إحساس بالحسرة والمرارة والذعر.. ولكنهما لم يستسلما لهذه المشاعر السلبية طويلاً ولم يسقطا في وهدة اليأس.. فلهما من الله أكثر من أمل" [14] .

ويقول مشيراً إلي إحساس آدم بالخزي والعار:

"(ينزع عنهما لباسهما) الذي يستر عورتيهما.. فيما ألقي الله عليهما من ألوان الستر (ليريهما سوآتهما) ليعيشا الإحساس بالخزي والعار" [10] .

ويقول أيضاً مشيراً إلي نفس الموضوع:

".. وجاءت هذه الآيات التي تبدأ النداءات بكلمة (يا بني آدم) للإيحاء إليهم بالتجربة الحيّة التي عاشها آدم مع إبليس.. لئلا يكون التفكير في المسألة في المطلق.. بل يكون من موقع التاريخ الحي.. وقد استوحت الآيات قصة العري الذي شعر به آدم بسبب معصيته، في حالة من الإحساس بالخزي والعار.. لتوجه بنيه إلي النعمة التي أنعم الله بها عليهم، فيما خلق لهم من اللباس الذي يصنعونه من أصواف الأنعام وأوبارها وشعورها" [11] .

ويقول أيضاً:

".. كانت أول تجربة لهما في الوجود.. وانسجما مع التجربة في بساطة وعفوية.. وكان الشيطان لهما بالمرصاد. فقد عرف أن الفكر الذي يملكه الإنسان لا يقوي علي مواجهة التحديات إلا من خلال التجارب المريرة التي يتعرف من خلالها أن الحياة لا تتمثل في وجه واحد، فهناك عدة وجوه وألوان.. ولم تكن لهذين المخلوقين الجديدين أية تجربة سابقة مع الغش والكذب والخداع واللف والدوران.. كان الصدق.. وكانت البساطة في مواجهة الأشياء، وكانت العفوية

في تقبل الكلمات.. هي الطابع للشخصية البريئة الساذجة التي تتمثل في كيانهما..

وبدأت العملية من موقع حقده وحسده وعداوته.. فمشي إليهما في صورة الملاك الناصح ليقول لهما: إن هذا النهي عن الأكل من الشجرة لا يلزمهما، بل سيحصلان _ من خلال تجاوزه _ علي لذة الخلود والانطلاق في أجواء الملائكة.. وبدأت الكلمات الجديدة المغلفة بغلاف من البراءة والنصح تأخذ مفعولها في نفسيهما، فهما لم يتصورا أن هناك غشا في النوايا، وخداعاً في الأساليب.. بل كل ما عندهما الصفاء والنقاء والنظر إلي الحياة من وجه واحد، هو الحقيقة بعينها.. فاستسلما للكلمات من دون أن يشعرا بأن ذلك يمثل تمردا علي الله وعصيانا لإرادته فقد كان لأساليبه فعل الساحر في نفسيهما تماما كما هي الأحلام عندما تغرق الإنسان في أجواء روحية لذيذة فتبعده عن واقعه وعن حياته.

وسقطا أمام أول تجربة.. ونجح إبليس في التحدي الأول للإنسان، فأهبطه من عليائه وأسقطه من مكانته.. لئلا يبقي الساقط الوحيد في عملية التمرد علي الله.. فها هو يشعر بالزهو والرضا، لأنه استطاع أن يهبط بقيمة هذا المخلوق الذي كرمه الله عليه، إلي درك الخطيئة ليصبح منبوذا من الله.. وجاء الأمر من الله إليهم جميعا.. آدم وحواء وإبليس أن يهبطوا جميعا.. وان يعيشوا في الأرض إلي المدي الذي يريد لهم أن يعيشوا فيه، ويتمتعوا فيما هيأه الله لهم من صنوف المتع واللذات.. وان يواجهوا الموقف بين الفريقين، فريق الانسان.. الخ.." [12] .

ويقول أيضا في مورد آخر:

".. ويعود القرآن إلي حديث الإنسان الأول آدم في كل مورد للإيحاء بالضعف الإنساني الذي قد يسقط أمام تجربة الإغراء حتي يخيّل إليه أنه يمثل الفرصة السانحة السريعة التي إذا لم يستفد منها وينتهزها

فإنه يتعرض للحرمان الأبدي.. ولذلك فإنه يبادر إلي انتهازها مدفوعا بهذا التصور الوهمي.. ثم يكتشف _ بعد الوقوع في المشكلة _ بأن المسألة ليست بهذه السرعة، وأن النتائج الإيجابية الموعودة ليست بهذا الحجم، فقد كان بإمكانه أن يصبر ويحصل علي نتائج جيّدة أفضل وأكثر دواماً وثباتاً".

إلي أن قال:

"(ولقد عهدنا إلي آدم من قبل) وأوصيناه وحذرناه مما قد يواجهه من تجربة الانحراف بتسويل إبليس الذي يحمل له أكثر من عقدة منذ إبعاده عن رحمة الله بابتعاده عن الاستجابة لأمره بالسجود لآدم.. في الوقت الذي لم يحمل له آدم أي شعور مضاد.. ولكن آدم لم يتعمق في وعي الموضوع، ولم يأخذ مأخذ الجدّية والاهتمام، وبقي مستمراً علي خط العفوية والبساطة الصافية في مواجهته للأشياء (فنسي) ما ذكرناه به فترك الامتثال للنصيحة الإلهية التي لم تكن أمرا تشريعيا يستتبع عقابا جزائيا، بل كان أمرا إرشاديا يتحرك من المنطق الطبيعي للأمور فيما ترتبط به النتائج بمقدماتها".

إلي أن قال:

"(فوسوس إليهما الشيطان قال يا آدم هل أدلك علي شجرة الخلد) التي إذا أكلت منها أعطتك خلود الحياة التي لا فناء فيها (وملك لا يبلي) فيما يشتمل عليه من سلطنة دائمة مطلقة لا تسقط أمام عوامل الاهتزاز والسقوط.

وهكذا حاول الالتفاف علي أحلامهما الإنسانية في الخلود والملك الباقي من دون أن يثير فيهما عقدة الخوف من المعصية لله، ولهذا كان أسلوبه هو أسلوب التحذير الذاتي، والغفلة الروحية عن النتائج السلبية التي تنتظرهما، إذا استسلما إليه.

وهذا هو الذي يجب أن ينتبه إليه الإنسان في مواقفه العملية، فيما قد يوسوس إليه الشيطان من التأكيد علي حركة الحلم الوردي في مشاعره بطريقة غير واقعية، مستغلا حالة الاسترخاء الروحي، والغفلة الفكرية

التي يخضع لها في وجدانه، مما يجعله مشدودا إلي الجانب الخيالي من أفكاره من دون مناقشة لها في قليل أو كثير فينحرف من موقع الغفلة لا من موقع الوعي، ومن أجواء الحلم لا من أجواء الواقع، كما حدث تماما لآدم وحواء عندما كانا ينعمان بسعادة الجنة ونعيمها في ظلال عفو الله ورحمته ورضوانه، يتبوءان من الجنة حيث يشاءان، فليس لديهما مشكلة هناك.. فلم يكن من إبليس إلا أن وسوس إليهما مستغلاً جانب الغفلة، فعزلهما عن الواقع، ودفعهما إلي التفكير بالخلود والملك الباقي من خلال الأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها.. ولو فكرا جيدا لعرفا أن الخلود والملك ليسا من الأشياء التي تحصل بفعل الأكل من شجرة، بل هما نتيجة الإرادة الإلهية التي تملك أمر الموت والحياة، والملك الباقي أو الفاني، ولكنهما استسلما للجو الخيالي المشبع بالأحاسيس الذاتية المتحركة مع الأحلام.

إن الموقف المتوازن هو الموقف الذي ينطلق من القرار المبني علي الدراسة الموضوعية للأشياء، وعلي النظرة الواقعية لموقعها من المستقبل مما يفرض علي الإنسان أن يتخفف كثيرا من أحلامه، لمصلحة الكثير من أفكاره ومواقفه الثابتة في الحياة.

(فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما) فيما يعنيه ذلك من الإحساس بالعري الذي لا يغطيه شيء، فيما يعيشان الشعور معه بالعار والخزي في الوقت الذي كانا يتحركان ببساطة من دون مراعاة لوجود شيء في جسديهما يوحي بالستر، لأن مسألة الخطيئة في أفكارها وأحلامها لم تكن واردة في منطقة الشعور لديهما.. ولهذا كانا لا يشعران بوجود عورة.. لأن ذلك هو وليد الشعور بالمنطقة الخفية من شخصية الإنسان فيما يختزنه في داخله من أفكار وأحاسيس كامنة في الذات. (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) في عملية تغطية وإخفاء وتخلص من

العار (وعصي آدم ربه فغوي) وابتعد عن خط الرشد الذي يقود الإنسان إلي ما فيه صلاحه في حياته المادية والمعنوية ولكن هذا الانحراف الطارئ البسيط لم يكن حالة معقدة في عمق الذات تفرض عليه الاستسلام للخطيئة كعنصر ذاتي لا يملك الإنفكاك منه بل هو حالة إنسانية تستغرق في الغفلة لحظة ثم تثوب إلي رشدها لتدخل في عالم الاستقامة من جديد..

إلي أن قال:

"(ثم اجتباه ربه) واصطفاه إليه واختاره لنفسه فلم يتركه ضائعا حائرا في قبضة فرعون.. (فتاب عليه) ورضي عنه (وهدي) وفتح له أبواب رحمته، ودله علي الطريق المستقيم وأراده أن يواجه الحياة من مواقع قوة الإرادة في ساحة الصراع مع الشيطان، ولعل الله سبحانه أراد أن يجعل له من تجربة العصيان في الجنة، فترة تدريبية يمارس فيها حركة الوعي للجو الشيطاني الذي يتحرك فيه الكذب والغش والدجل والخيانة والرياء.. ليختزن الفكرة قبل أن ينزل إلي الأرض التي أعده الله ليكون خليفة له فيها، فيستفيد من تجربة سقوطه وخروجه من الجنة علي أساس ذلك، كيف يعمل علي أن يتفادي السقوط في الأرض أمام الشيطان الذي غره من موقع العقدة الشيطانية المستعصية، وكيف يجعل من دوره الرسالي، موقع قوة للحياة وللإنسان لا موقع ضعف. وهكذا أراد الله له أن يعيش الشعور برضا الله عنه وهدايته له فيما يريد له أن يتحرك فيه.." [13] .

ويقول أيضاً:

".. قد يثور أمامنا سؤال: إننا نعرف في قصة خلق آدم، في حوار الله مع الملائكة، ان الله قد خلقه للأرض ولم يخلقه ابتداء ليعيش في الجنة، فكيف نفسر هذا الأمر الذي يوحي بأن الجنة كانت المكان الطبيعي له لولا العصيان؟ والجواب عن ذلك.. هو أن الأمر الإلهي كان

جزءاً من عملية التدريب الإلهي المرتكزة علي فكرة الربط بين الجنة والطاعة في وعي الإنسان مع علم الله بأنه لن ينجح في الامتحان، فكان تقديره في خلقه للأرض من اشتراط البقاء في الجنة بشرط غير متحقق، فلا منافاة بين الأمرين.

وقد نستوضح الصورة في إطار الفكرة الأصولية التي يبحثها علماء الأصول في موضوع صيغة الأمر.. وهي أن دوافع الأمر قد تختلف، فقد يكون الدافع له هو إرادة حصول الفعل من المأمور وقد يكون الدافع هو امتحان اخلاص المأمور وطاعته، أو إظهار قوة إيمانه وإخلاصه، من دون أن يكون هناك أي غرض يتعلق بالفعل، كما نلاحظه في أمر الله لإبراهيم بذبح ولده، لا لأن الله يريد ذلك (ولذلك رفعه قبل حصوله) بل ليظهر عظمة التسليم المطلق لله في سلوك الأب والابن ليكونا مثلا وقدوة للناس، وقد يكون الداعي أمرا آخر، وهو تدريب الإنسان علي مواجهة حالات السقوط بتعريضه لتلك التجربة ليتنبه إلي أمثالها في المستقبل كما في حالة آدم (ع). ونحن لا نجد أي مانع عقلي في ذلك بل هو واقع كثيرا في أفعال العقلاء وأساليبهم في الأوامر والنواهي..

ولا مجال للاعتراض هنا بأن الله كلف آدم بما يعلم أنه لا يمتثل من خلال الظروف الموضوعية المحيطة به، أولا، لان العلم بعدم الامتثال لا يمنع من التكليف أساسا باعتبار أن العلم معلول للمعلوم وليس الأمر بالعكس.. وثانياً: أن التكليف لم يستهدف حصول الفعل، بل استهدف وعي التجربة المستقبلية من خلال التجربة الحاضرة وعلي ضوء هذا نجد أن الأمر هنا يشبه الأمر في قصة إبراهيم ولكن بطريقة متعاكسة في الموضعين.

التوبة ومدلولها في حياة الإنسان

(فتلقي آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم..) إنه

هو لعل في هذه الآية بعض الدلالة علي أن الموقف كله في قضية آدم كان تدريبا من أجل أن يعي الإنسان في مستقبل حياته كيف تتحرك الخطيئة في نفسه وكيف تدفعه بعيدا عن الله.. فقد عالجت هذه الآية قضية التوبة، ووضعها في نطاق الأشياء المتلقاة من الله مما يوحي بأن آدم لا يحمل أية فكرة فطرية عنها، فكان الإيحاء والإلهام من الله من اجل أن يتعلم كيف يتراجع عن الخطأ فلا يستمر عليه.. أما طبيعة الكلمات فقد اختلف المفسرون فيها، ولكن الأقرب إلي الذهن هو ما حدثنا عنه القرآن في سورة الأعراف في قوله تعالي: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين)(الاعراف/23).

انه الشعور العميق بطبيعة الخطأ وعلاقته بنفس الخاطئ وحياته وانعكاساته علي قضية مصيره فليست القضية متصلة بالله باعتبارها شيئا يسيء إليه أو يمس سلطانه، ولكنها متصلة بالموقف الإنساني من الله بقدر علاقته بموقفه من مصلحة نفسه، مما يجعل من بقاء الذنب في موقعه خسارة كبيرة للإنسان في الدنيا والآخرة، ويكون طلب المغفرة والرحمة منطلقا من الرفض الكبير للمصير الخاسر. فلا خسارة اعظم من خسارة الإنسان علاقة القرب إلي الله لأنه يخسر بذلك امتداده الإنساني في الطريق المستقيم [14] .

وقفة قصيرة

1 _ إننا لا نريد أن نعلق علي كل ما ورد في الصفحات المتقدمة حول آدم عليه السلام، ولا سيما قوله: إن شخصية آدم بريئة وساذجة. وهو الأمر الذي اكده من جديد في محاضرته في قاعة الجنان بتاريخ 20 جمادي الثانية 1418 ه_. وطبعت بعنوان: الزهراء المعصومة النموذج للمراة العالمية، ط سنة 1997 ص 50. وليعلم القارئ الكريم أن ما تركناه من أقاويل هذا الرجل المشتملة علي أمثال ما ذكر

هنا، هو اكثر مما أوردناه في هذا الموضع من الكتاب.

2 _ إن هذا البعض قد ذكر في ما نقلناه عنه: أن الله سبحانه أراد أن يضع الإنسان أمام بداية الخلق، ليعيش التصور الإسلامي عن تكريم الله للإنسان.

ولكن ليت شعري أي تكريم هذا الذي يتحدث عنه هذا البعض، وهو نفسه يقدم لنا في كتابه (من وحي القرآن) بل وسائر كتبه _ التي جدد التزامه بكل ما اورده فيها في محاضرته المشار اليها في قاعة الجنان _ أوصافاً وأفعالا ينسبها إلي الانبياء ما يقزز النفس، ويثير الغثيان، ويبعث علي القرف، حتي ليتمني أي إنسان عادي لو أن الله خلق شيئا آخر بدلا عن هذا الإنسان الأضحوكة والمسخرة والساقط والمهان. وإن ما ذكرناه هنا وفي مواضع أخري من هذا الكتاب يكفي للدلالة علي نوع الأفكار التي يقدمها هذا البعض عن أنبياء الله وأصفيائه، فهي إلي التوراة أقرب منها إلي القرآن.

وليس ثمة مجال للاعتذار عن ذلك بكونه ظاهر القرآن لأننا قد شرحنا فيما تقدم من الآيات الكريمة المرتبطة بقضية النبي آدم (عليه السلام) كيفية عدم انطباق ما يقوله هذا البعض علي تلك الآيات.

وسيأتي عند الحديث عن الآيات المتعلقة بسائر الأنبياء (عليهم السلام) ما يقطع العذر عن مثل هذا الوهم.

3 _ علي أن من الطريف أن نشير هنا إلي أن الحديث عن شعور آدم وحواء بالخزي والعار، لا موقع له، إذ إنهما كانا وحدهما في الجنة، ولم يكن ثمة ناظر لهما غيرهما، وهما زوجان لا محذور من نظر أحدهما إلي الآخر..

إلا أن يقال: إن الجن والملائكة، وحتي الشيطان كان أيضا موجوداً، ولا يريدان أن ينظر أحد _ خصوصاً هذا المخلوق الشرير _ إليهما، أو

يقال: إن إحساسهما بظهور عورتيهما كان هو المرفوض من قبلهما. وعلي أي حال، فإننا لا نتفاعل!! مع تعبيره عن آدم النبي عليه السلام، أنه شعر "بالخزي والعار [15] " فإن ذلك غير لائق في حقه عليه السلام.

كما أن ذلك مجرد دعوي بلا دليل، ولم يكن هذا البعض حاضرا ولا ناظرا، ولا مطلعا علي آثار هذا الخجل الناشئ عن الشعور بالخزي والعار، ولا رأي عليهما آثار الاضطراب ولا شاهد حمرة الخجل في وجهيهما، ولا غير ذلك من علامات.

وبعد، فإن من الواضح أن آدم عليه السلام، قد أكل من الشجرة، فواجه آثارا سلبية في جسده لم تكن قد مرت به من قبل. وقد كانت هذه الآثار متعددة عبّر عنها القرآن الكريم بكلمة "سوءات" التي هي صيغة جمع، وقد نسب هذا الجمع إلي آدم وحواء كل علي حدة، ومعني ذلك أنه قد ظهرت سوآت عديدة لكل واحد منهما، لا سوءة واحدة لينحصر الأمر بموضوع ظهور العورة منهما، إذ لو كان المراد هو خصوص ذلك لكان الأنسب أن يقول: بدت لهما سوأتاهما. وتبديل المثني بالجمع إنما يصار اليه في الموارد التي يقطع فيها بإرادة المثني، بحيث يكون العدول غير موهم.

4 _ إن العناوين التي ذكرناها في بداية كلام هذا البعض، والمأخوذة من كلماته وتعابيره، تعطينا فكرة عن طبيعة اللغة واللهجة التي يتحدث بها عن أنبياء الله سبحانه وتعالي؛ فإنها ليست لغة سليمة ولا مقبولة، مهما حاولنا التبرير والتوجيه، والالتفاف علي الكلمات بالتأويل أو بغيره.

فهل يصح أن يقال: إن آدم عليه السلام وهو النبي المعصوم قد سقط أمام التجربة، أو أنه أساء إلي نفسه بانحرافه عن خط الرشد والمسؤولية في طاعة الله؟

أو إن آدم قد

تعرض للحرمان الأبدي حين سقط في تجربة الإغراء؟!

أو إن الله حذر هذا النبي من تجربة الانحراف بتسويل إبليس؟!.

وهل يصح وصف آدم بالمنحرف؟، وما جري له بالإنحراف؟!

أم يصح أن يقال عن نبي: إنه لم يفكر جيداً؟!

أو يقال إنه لم يشعر أن ذلك يمثل تمردا علي الله وعصيانا لإرادته؟!

أو إنه لم يأخذ الموضوع _ فيما يرتبط بالأمر الإلهي _ مأخذ الجدية والاهتمام؟!

أو إن جريمة آدم تمثلت له في مستوي الكارثة؟!

وماذا يعني أن ينسب إلي آدم استسلامه للجو الخيالي المشبع بالأحاسيس المتحركة مع الأحلام؟!

أو أن يقال: إن الله تعالي أراد تدريبه ليعي كيف تتحرك الخطيئة في نفسه في المستقبل؟! وكيف تبعده عن الله؟!

وهل يصح أن يقال عن نبي من الأنبياء: إنه سقط إلي درك الخطيئة؟!

أو أن يقال: إن إبليس قاد آدم إلي الموقف المهين؟!

أو إن هذا النبي قد أصبح منبوذا من الله سبحانه؟!

ألا تري معي أنها عبارات تستعمل عادة لأقل الناس و أحطهم؟!

5 _ وهل يمكن أن يقبل أحد مقولة أن هذا النبي لا يحمل فكرة فطرية عن التوبة فاحتاج إلي أن يتلقاها من الله سبحانه وتعالي؟!. وأية آية دلّته علي هذا النفي؟! فإن تلقي الكلمات من الله وتعليم الله سبحانه لآدم كلمات (هي أسماء أصحاب الكساء) أو دعاءً مخصوصاً، لا يعني أنه كان لا يدرك حسن التوبة، ومطلوبيتها، فإن وجوب التوبة امر عقلي، ثابت في الشرع، والعقل يدرك حسنها كما هو معلوم لدي العلماء إذن فالذي علمه الله إياه من الكلمات _ كما ورد في روايات أهل البيت (ع) _ هو الدعاء، والإستشفاع بأهل البيت من أجل أن يتوسل بذلك إلي الله في توبته

التي يدرك بعقله حسنها ومطلوبيتها لله سبحانه وليس في الآية أنه تعالي علّمه ان يتوب.

6 _ كما أننا نلاحظ: أنه يستقرب أن تكون الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، هي خصوص قوله تعالي (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) [16] .

فإن هذه الكلمات تفيد أن آدم (ع) قد دعا بها ربه، طالبا أن يغفر له ويرحمه حتي لا يكون من الخاسرين. وليس هناك ما يدل علي أنها هي الكلمات التي علمها الله لآدم.

7 _ إن الأنسب والأوفق بسياق الآيات هو أن تكون الكلمات التي علمها الله لآدم هي تلك التي وردت في الروايات الكثيرة عن اهل بيت العصمة عليهم السلام، وهي أسماء الأئمة والحجج علي الخلق عليهم أفضل السلام، لأنها هي الكلمات التي تحتاج إلي تعليم في مقام كهذا لكي يستشفع آدم (ع) بمسمياتها لما لهم (ع) من كرامة علي الله.

وتكون هذه مناسبة جليلة يتعرف فيها آدم وذريته اكثر فاكثر علي مقام هؤلاء الصفوة ليكون تعلقهم بهم أقوي، ومحبتهم لهم أشد، وتقربهم منهم ومن خطهم ونهجهم أولي وأتم..

ولا ندري لماذا لم يشر هذا البعض إلي هذه الأحاديث الكثيرة جدا التي صرحت بأن الكلمات التي علمها الله لآدم هي اسماء هؤلاء، وكيف ولماذا استقرب أنها – أي الكلمات _ آية 23 من سورة الأعراف: (قالا ربنا ظلمنا انفسنا..) مع أنه لا إشارة إلي ذلك أصلا لا في الآية ولا في الرواية. بل إن ما ورد في هذه الآية هو الموقف الطبيعي والعفوي الذي ينتظر صدوره من آدم عليه السلام من دون حاجة إلي أي تعليم [17] .

8 _ علي أن لنا أن

نتوقف قليلا عند قصة سجود إبليس لآدم، التي سبقت قضية الأكل من الشجرة، لأنها كانت في بدء خلقة آدم، فهل بقي آدم غافلا عن حقيقة موقف إبليس منه؟ ألم يطلعه الله سبحانه علي سوء سريرة إبليس، وعلي أنه عدو لهما (و أقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين).

أليس في قول الله سبحانه هذا لهما إشارة إلي أن هذا المخلوق ليس مأمونا، وغير مرضي الطريقة، ولا يسير في الصراط المستقيم؟.

وألا يكفي آدم التوجيه الإلهي الصريح والواضح، حتي يحتاج إلي التدريب والتجربة؟!.. ولماذا اقتصرت تجربة آدم علي الكذب والغش، ولم تتعد ذلك إلي سائر أنواع الفواحش؟!

أم أن هذا البعض يلتزم بأن آدم في نطاق دورته التدريبية قد واجه إبليس وعاينه حين ارتكابه لسائر الفواحش وممارسته لها عمليا؟!

وما هو السر في أن التجربة قد اقتصرت علي الكذب والغش ولم تتجاوزه إلي الفتنة والغيبة والنميمة وغير ذلك، بل اكتفي في الباقي بالتوجيه والتعليم؟! ولماذا لم يستغن عن هذه الدورة التدريبية أيضا بتعليم مناسب بالنسبة إلي الغش والكذب، يتفادي معه حصول ما حصل؟! أم أن الأساليب الإلهية قد استنفدت مع آدم (ع) ولم يفد معه إلا هذا الأسلوب الصعب والقاسي؟!

ولعل قوله: "الظاهر أنه استمر في الخط المستقيم" [18] يشير إلي صحة هذا الاحتمال الأخير لأنه ألمح إلي أنه حتي هذا الأسلوب لم يكن مجدياً إلي درجة يقطع معها باستقامة آدم علي الطريق المستقيم.

الظاهر أن آدم استمر في الخط المستقيم.

عدم حديث الله عن خطأ آخر لآدم دليل عدم وقوعه من بعد ذلك.

ويقول البعض:

".. وانتهت قصة إبليس مع آدم.. واستطاع آدم بعد نزوله إلي الأرض أن يعي _ تماما _ معني الدور الشيطاني

لإبليس في الإضلال والإغواء، من موقع العقدة المستحكمة في نفسه ضدّه.. وأن يحفظ نفسه منه فلم يحدّثنا الله عن خطأ آخر في مخالفة أوامر الله ونواهيه.. بل الظاهر، أنه استمر في الخط المستقيم الذي ترتبط فيه كل ممارسات حياته وتطلعاته بالله، بعيداً عن وساوس الشيطان وأضاليله.. [19] .

وقفة قصيرة

1 _ لا ندري كيف نعتذر عن هذا البعض في نسبة الخطأ في مخالفة أوامر الله ونواهيه إلي النبي آدم عليه الس_لام. وقد تحدثنا عن المراد من الآيات فيما تقدم من الفصل، فنذكره..

2 _ كما أننا لا ندري كيف لم يجزم بعصمة آدم عليه السلام عن الخطأ في مخالفة أمر الله ونهيه، بل احتاط، وحمله علي الأحسن!! فاعتبر أن الظاهر من أمر آدم أنه استمر علي الخط، ولم يقطع بذلك وأبقي باب احتمال المعصية، والانحراف عن خط الرشد مفتوحاً، مع أنه يقول: إن العصمة عن الخطأ في الأنبياء تكوينية!! إلا أن يريد: أن ذلك في خصوص العصمة عن الذنوب، أما الخطأ فلا عصمة عنه و هو الظاهر من كلماته التي نقلناها و ننقلها.

3 _ والذي لفت نظرنا أنه اعتبر عدم حديث الله سبحانه عن خطأ آخر لآدم عليه السلام دليلاً علي عدم وقوع أي خطأ منه.. فهل هذا الدليل يصلح للإعتماد عليه في ذلك يا تري.!؟.

إهبطا أنتما وإبليس لفشلكم في الإستقامة علي خط أوامر الله ونواهيه.

إهبطا أنتما وإبليس لعصيانكم الله.

أدرك آدم الهول الكبير الذي يواجهه في البعد عن رحمة الله.

أدرك آدم الهول الكبير في الخروج من مواقع القرب لله.

التحول الإنساني لآدم في الإعتراف بالذنب.

التحول الإنساني لآدم في العزم علي التصحيح.

التحول الإنساني لآدم في الرجوع إلي الله بالعودة إلي

طاعته.

الأوامر الإرشادية تتصل بمحبة الله لعبده كي لا يقع في قبضة الفساد.

الكلمات التي تلقاها آدم هي: ربنا ظلمنا أنفسنا.. الخ..

الحديث المروي يؤكد تفسيره للكلمات المتلقاة ويستبعد أسماء أهل البيت.

آدم وحواء سقطا في التجربة الصعبة.

السقوط في التجربة كان بعد التحذير الإلهي من الشجرة، ومن الشيطان.

ويقول البعض:

"(وقلنا اهبطوا) إلي الأرض أنتما وإبليس لعصيانكم الله، وفشلكم في الإستقامة علي خط أوامره ونواهيه، (بعضكم لبعض عدو) بفعل الحرب المفتوحة بينكما وذريتكما وبينه، وجنوده، لأنه يستهدف إبعادكم عن رحمة الله، وعن جنته، بينما تعملون علي التمرد عليه والخروج من سلطته والسعي إلي دخول الجنة والبعد عن النار.(ولكم في الأرض مستقر) أي مقام ثابت لأن الله جعلها قرارا، (ومتاع) تستمتعون فيه في حاجاتكم الوجودية العامة والخاصة، (إلي حين) إلي الأجل الذي جعله الله لكم في مدة العمر التي حددها لكم في هذه الدنيا.

وهكذا عرف آدم، ومعه زوجته معني الشيطان في وسوسته، وقسوة التجربة في نتائجها، وأدرك الهول الكبير الذي يواجهه في البعد عن رحمة الله، وفي الخروج من مواقع القرب إليه، ومقامات الروح في رحابه.

آدم يتوب إلي الله

(فتلقي آدم من ربه كلمات) ترتفع إلي الله من روح خاشعة خاضعة، وقلب نابض بالحسرة، والندم ولسان ينطق بالتوبة، وكيان يرتجف بالتوسل، وذلك بالإلهام الإلهي من خلال الفطرة التي توحي بالمعرفة في علاقة النتائج بالمقدمات، وفي طريقة تغيير الموقف من دائرة السلب إلي دائرة الإيجاب، ليكون التحول الإنساني في الإعتراف بالذنب والإستسلام للندم، والعزيمة علي التصحيح، والرجوع إلي الله بالعودة إلي طاعته في ما يكلفه به من مهمات، وفي ما يرشده إليه من إرشادات، لأن أوامر الله الإرشادية تتصل بمحبته لعبده لئلا يقع في قبضة الفساد، كما تتصل

أوامره المولوية بحرصه عليه في البقاء في خط الإستقامة، وابتعاده عن خط الإنحراف الذي يؤدي إلي الزلل ويقوده إلي الهلاك.

ولكن ما هي هذه الكلمات؟

إن الرجوع إلي القصة في سورة الأعراف يوحي بأن آدم الذي انطلق نحو التوبة في عملية تكامل مع حواء، وقف معها ليقولا في توبتهما (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) (الاعراف: 23) ويبدو من خلال هذه الآية، أن التوبة كانت قبل الهبوط إلي الأرض، بعد التوبيخ الإلهي والتذكير لهما بأن سقوطهما في التجربة الصعبة لم يحصل من حالة غفلة، لا تعرف الطريق إلي الوعي، بل كان حاصلاً بعد التحذير الإلهي من الأكل من الشجرة، ومن الشيطان، باعتباره عدواً لهما، وذلك قوله تعالي:

(فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) (الأعراف: 22).

ويؤكد هذا التفسير للكلمات الحديث المروي في قوله تعالي:

(فتلقي آدم من ربه كلمات) و(قال: لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني وأنت خير الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم.).

وهذا ما ينسجم مع الآية في أصل الفكرة، ولكنه يختلف عنها في التفاصيل" [20] .

وقفة قصيرة

ونقول:

1 _ قد تحدثنا فيما مضي من هذا الفصل بما فيه الكفاية عن قصة آدم عليه السلام، ولأجل ذلك، فإننا سوف نصرف النظر عن الإعادة ولعل نفس العناوين التي استخرجناها من طيات كلام هذا البعض توضح لنا مدي جرأته علي انبياء الله وأوليائه.

2 _ قد أشرنا حين الحديث عن تفسيره لقوله تعالي: (عفا الله عنك لم أذنت لهم..) وذلك

عند الحديث عن كلام البعض حول نبينا محمد (صلي الله عليه وآله) إلي أن مخالفة الأولي لا مجال لقبولها في حق الأنبياء، بأي وجه لأنها تنتهي إلي الطعن بهم، أو الطعن في عظمة الله وجلاله، جل وعز..

3 _ إننا لم نستطع أن نفهم السبب في استبعاده أسماء اهل البيت (عليهم السلام) وحصره الكلمات التي تلقاها آدم من ربه في خصوص هذا الدعاء، فإن التجاء الإنسان إلي الله، والإعتراف أمامه بالقصور، وبالتقصير، وطلب العون والستر والمغفرة، لا يحتاج إلي التلقي من الله سبحانه، وإلي التعليم، إذ إن ذلك هو ما تسوق إليه طبيعة الإنسان الذي يعرف الله، ويقف أمام جلاله، وعظمته، مدركاً عجزه في مقابل قدرته، وضعفه في مقابل قوته، وفقره، وحاجته في مقابل غناه، و. فكان من الطبيعي أن يدعو آدم ربه، وقد نقلت الروايات لنا ذلك.

ثم تفضل الله عليه بتعليمه اسماء أهل البيت (عليهم السلام) ليكونوا شفعاءه ووسيلته. فيكون قد جمع بين الدعاء وبين التوسل.

ولماذا يستبعد الروايات التي تحدثت عن أن الكلمات هي محمد، وفاطمة، وعلي، والحسنان.. فإن بإمكانه أن يجمع بين الروايات باعتبار انه عليه السلام قد جمع بين الدعاء وبين التوسل فيكون دعاؤه عليه السلام قد اشتمل علي الأمرين معاً.

4 _ من قال: إن هبوط آدم (ع) وحواء من الجنة كان قد جاء علي سبيل العقوبة لهما.. فلعله قد جاء من خلال: الحالة التي استجدت لهما بسبب الأكل من الشجرة، من خلال تبلور الطبيعة البشرية بما لها من عوارض في شخصيتهما حيث أصبحا يشعران بالحر والبرد، وبالقوة والضعف، وبالصحة والمرض، وبالجوع والشبع، وبالري والعطش.

وأصبح الواحد منهم يعرق، ويبول، ويتغوط، وينام إلي غير ذلك من حالات تعرض للبشر

العاديين.

فلم يعد يمكنهما البقاء في الجنة من أجل ذلك فكان لا بد من التوجيه الإلهي لهما باختيار المكان المناسب، دون أن يكون ذلك إبعاداً لهما عن ساحة الرحمة والقرب، والزلفي.

أما إبليس، فإن خروجه كان عقوبة له.. فإن طبيعة كينونته، وتكوينه لا تقتضي أن يحصل له ما كان يحصل لآدم من العطش والجوع والحر والبرد والمرض وما إلي ذلك. فإذا طرد من الجنة، فإن طرده يمثل إبعاداً عن ساحة القرب والزلفي والرحمة الإلهية، وحرمانا من مقام الكرامة الربانية.

وسيتضح الفرق بين الموقفين، الذي يبرر اعتبار هذا عقوبة وذاك كرامة.

5 _ وقد روي عن الإمام الصادق (ع) أو الإمام الباقر (ع) قوله عن آدم (ع): (إنه لم ينس وكيف ينسي وهو يذكره، ويقول له إبليس: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين)) [21] .

وذلك يفيد، أن المراد من قوله تعالي: (ولقد عهدنا إلي آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً) إن كانت الآية تتحدث عما جري بين آدم وإبليس _ أن المراد بالنسيان هو أنه قد عمل عمل الناسي، بأن ترك الأمر وانصرف عنه، كما يترك الناسي الأمر الذي يطلب منه.

لكن الظاهر من الرواية المتقدمة هو: أن آدم (ع) لم ينس نهي الله عن الشجرة، كما أنه قد روي عن الإمام الصادق (ع) ما يدل علي أن نسيان العهد في هذه الآية لا يرتبط بالنهي عن الشجرة، بل هو يرتبط فيما أخذ عليه في الميثاق.. وللبحث في هذه الآية مجال آخر.

6 _ قد ذكرنا أن ما فعله آدم لم يكن تمرداً علي إرادة الله ولا كسراً لهيبته، بل ما فعله (ع) يشبه مخالفة

المريض لأمر الطبيب الذي نهاه مثلاً عن المشي لمدة ساعة وأعطاه دواء، فظن المريض المشي دواء له كما أن الدواء يقوم بمهمة المشي ويؤدي وظيفته، لكن المشي ساعة هو الأسرع في تحقيق الغرض من الدواء الذي يحتاج إلي عشرة أيام، فآثر المريض أن يتحمل مشقة المشي ليحقق غرض الطبيب وليفرح بالشفاء العاجل. وإذ بالنتيجة تكون عكسية حيث يظهر للمريض أن المشي ليس هو الدواء بل هو سبب الداء.

فيصح القول بأنه عصي أمر الطبيب، وإن لم يكن الطبيب سيداً له ولا نشأ أمره من موقع السيادة، بل من موقع الإرشاد والنصيحة، ولا تستحق مخالفة النصيحة، ولا مخالفة أمر الناصح أية عقوبة.

7 _ إن إقدام آدم (ع) علي الأكل من الشجرة، وكل ما جري له عليه السلام، قد جاء ليثبت أهلية آدم(ع) للنبوة، وامتلاكه للمواصفات التي تحتاجها في أعلي درجاتها، تماماً كما حصل لموسي (ع) مع الخضر (ع). إذ إن ما كان يطمح إليه آدم (ع) ويطمع به لم يكن أمراً دنيوياً، ولذة عاجلة، كالسلطة، والمال، والجاه، والنساء، والمأكل، والملبس، وما إلي ذلك، بل كان طموحه منسجماً مع شخصيته الإيمانية والنبوية، وهو أن يعيش مع الله سبحانه وتعالي، وأن يكون خالصاً له. وأن يستأصل من داخله حتي ميوله وغرائزه الذاتية التي من شأنها أن تشده إلي أمور أخري، ليصبح تماماً كما هو الملاك الذي يكون الخير طبيعته وسجيته، ولا يحمل في داخله أي شهوة أو غريزة يمكن أن يكون لها أدني أثر في صرفه عن وجهته، أو أدني أثر في وهن عزيمته.

كما أنه حين أراد الحصول علي ملك لا يبلي، فإنه لم يرده حباً في الدنيا وإيثاراً لها.. وإنما ليكون قوة له في طاعة

الله سبحانه، ووسيلة لإقامة العدل المحبوب لله فيما استخلفه سبحانه وتعالي فيه.

أضف إلي ذلك أن طموح آدم (ع) وسعيه هو أن يبقي يعيش مع الله، وأن يكون عمره مديداً ومديداً جداً يصرفه كله في عبادته سبحانه، وفي رضاه، فهو لا يريد الخلود لأجل الدنيا، أو استجابة لشهوة حب البقاء..

نعم هذه هي أهداف وطموحات آدم (ع) النبي العاقل والحكيم، وهذا هو كل همّه، وغاية سعيه، ولو أنه لم يرد ذلك، لكان فيه نقص، ولما استحق مقام النبوة، لأنه بذلك يريد أن يبقي بعيداً عن الله، مستجيباً لغرائزه وشهواته..

وفوق ذلك كله، فإنه إذا كان قادراً علي التصرف في الأمور وكان ملكاً فإنه سيكون قادراً علي التقلّب في طاعة الله في مختلف الحالات، وينال بذلك أعظم مواقع القرب والزلفي منه تعالي.

ولأجل ذلك نجد أن إبليس اللعين قد ضرب علي هذا الوتر الحساس بالذات، حين قال لهما وهما لا يريانه _ كما روي عن الإمام العسكري عليه السلام _ أو علي الأقل لا دليل علي رؤيتهم له ولا علي معرفتهم به [22] .

نعم، لقد ضرب إبليس اللعين علي هذا الوتر فقال: (هل أدلكما علي شجرة الخلد وملك لا يبلي).

وقال لهما أيضاً: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) [23] ، فوعدهما بثلاثة أمور هي: الملك الباقي.. والخلود ونيلهما صفة الملائكية.

ولعل هذا الذي ذكرناه هو السر في أن إبليس لم يتحدّث لحواء وآدم (ع) عن الملذات التي يندفع إليهما الإنسان بدافع غريزي أو شهواني، كالطعام والشراب والنكاح وما إلي ذلك. بل تحدث لهما عن الملك الذي لا يبلي، وعن الحصول علي صفة الملائكية وعن الخلود في

كنف الله سبحانه وتعالي.

8 _ إن من يراجع الآيات يجد: أن الله سبحانه حين نهاهما عن الاقتراب من الشجرة لم يقل لهما إني أعذبكما عذاباً أليماً، أو فتكونا من العاصين، ليكون في ذلك إشارة إلي أن في الاقتراب منها هتكاً لحرمة المولي، وجرأة علي مقامه وتعدّياً عليه وتمرداً علي إرادته، وكسراً للهيبة الإلهية، بل قال لهما: (فتكونا من الظالمين) وهو تعبير يمكن فهمه علي أن المقصود منه صورة ما لو كان الظلم للنفس، ولو بأن يحملها فوق ما تطيقه، بحسب العادة، كأن يحملها خمسين كيلو بدلاً من عشرين مثلاً وهذا بطبيعة الحال سيرهقها ويشق عليها، ويتعبها.

ويمكن فهمه أيضاً في صورة الظلم للناس والمعني الأول هو الذي أراده الله سبحانه حين خاطب آدم عليه السلام بهذه الكلمة.

فلا يلام آدم (ع) إذن إذا حمله علي معني ظلم النفس، بإرهاقها في أمر تكون نتيجة المعاناة فيه محققة لا محالة لآماله وطموحاته _ كنبي _ وهي التخلص من كل الغرائز والدواعي التي قد يجد فيها عائقاً عن الوصول إلي الله، ثم الخلود علي صفة الملائكية في طاعته وعبادته سبحانه، لا الخلود من حيث هو شهوة بقاء خصوصاً إذا حصل علي القدرات، والملك الذي لا يبلي الذي من شأنه أن يوصله إلي الطاعات بصورة أيسر وأكبر وأكثر.. وإلي الأبد، وليس إلي مدة محدودة.

9 _ ثم إن الله سبحانه قد قال لآدم وزوجه: (لا تقربا هذه الشجرة) و(ألم أنهكما عن تلكما الشجرة) فكلمة هذه وتلكما.. تشيران إلي أن ثمة عناية إلهية في بيان أن المنهي عنه أمر محدود وخاص وجزئي بعينه، ولم يتعلق النهي بالطبيعة الكلية، ولا كان الحكم الصادر من قبيل الأحكام الشرعية العامة.

ولأجل ذلك

ورد في الحديث الشريف عن الرضا(ع) أنه قال للمأمون: ((ولا تقربا هذه الشجرة) واشار لهما إلي شجرة الحنطة (فتكونا من الظالمين)، ولم يقل لهما: لا تقربا هذه الشجرة ولا ما كان من جنسها، ولم يقربا تلك الشجرة، وإنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما، وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة، وإنما نهاكما عن أن تقربا غيرها، ولم ينهكما عن الأكل منها إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما من الناصحين، ولم يكن آدم وحواء شاهدا من قبل ذلك من يحلف بالله كاذباً، فدلاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه بالله) [24] .

والنتيجة هي:

أولاً: إن الشجرة المنهي عنها هي شجرة مخصوصة ومحددة، ولم ينههما عن جنسها، وهما إنما أكلا من غير التي حددت لهما.

ثانياً: وجود القسم _ كما سنري.

ثالثاً: وجود التعليل الذي ينسجم مع طموح آدم كنبي، كإنسان كامل.

10 _ لقد كان الله سبحانه قد أعطاهما حياة تناسب الجنة، وتحمل الخصائص التي تحقق السعادة الواقعية (فكلا منها رغداً حيث شئتما).

ومن الواضح: أن الإنسان المتوازن والمدرك والعاقل، الذي هو في مستوي نبي، ويليق بأن يكون اباً للبشرية ويكون النموذج للكمال البشري، حين جعله الله في الجنة فإنه أهّله بما يناسب الجنة من حالات وخصائص ومواصفات ولكنه حين أكل هو وزوجه من الشجرة ظهرت صفاتهما البشرية وغيّر من حالهما بصورة أساسية ما فاجأهما، حيث صارا يحسان بالجوع وبالعطش وبالصحة، وبالمرض والخوف والحزن والتعب والحرّ والبرد، واحتاجا إلي النكاح وغير ذلك، مع أن الله سبحانه حين أسكن آدم عليه السلام في الجنة قال له: (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعري وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحي)

ف_ه_ذه الآي_ة الشريفة _ فيما يظهر _ لا تريد حصر الوعد الإلهي بهذه الأربعة، بل هي تشمل كل ما هو من هذا السنخ، حتي الصحة والمرض والخوف والحزن و.. الخ، ولعل هذه الأربعة قد خصصت بالذكر.. لتكون مثالاً، أو لتكون هي الأصول التي ينشأ عنها كل ما يدخل في هذا السياق فإن الله حين يتعهد بأن يمنع عن الإنسان حتي ما يضايقه من حر الشمس، فهل يرضي له بالحزن والخوف والمرض.. وما إلي ذلك؟!!

والحاصل: أنه بعد أن ظهرت عليهما هذه الأعراض لم تعد الجنة هي المكان المناسب لحياتهما. فكان لا بد لهما من الهبوط إلي مكان آخر يناسب الجسد، وحالاته، حيث أضحي بحاجة إلي ما يسد الجوع ويشفي من المرض، ويرفع العطش، ويقي من الحر والبرد، ويؤمن من الخوف، ويدفع أسباب الحزن والتعب، وما إلي ذلك.

ولعل بعض الروايات قد قصدت هذا المعني حيث أشارت إلي أمر الخلقة وتحولاتها، فقد روي عن الإمام الصادق (ع) قوله:

(فلما اسكنه الله الجنة، وأتي جهالة إلي الشجرة، أخرجه الله، لأنه خلق خلقة، لا يبقي إلا بالأمر والنهي، والغذاء، واللباس، والا.. والنكاح ولا يدرك ما ينفعه مما يضرّه إلا بالتوفيق من الله..) [25] ثم تذكر الرواية تفاصيل ما جري له مع إبليس..

وفي نص آخر عن أبي جعفر (ع)، عن رسول الله (ص): أن آدم عليه السلام قال مخاطباً ربّه:

(وبدت لنا عوراتنا، واضطرنا ذنبنا إلي حرث الدنيا، ومطعمها، ومشربها) [26] .

وعن الإمام الصادق (ع): (لما هبط بآدم (ع) إلي الأرض احتاج إلي الطعام والشراب، فشكا إلي جبرئيل إلخ) [27] .

فتجد أن هذه الروايات تشير إلي أن أكلهما من الشجرة هو الذي اضطرهما إلي الطعام والشراب

واللباس.. وأيقظ غرائزهما، فاحتاجا إلي النكاح..

وربما يكون في قوله تعالي: (ينزع عنهما لباسهما) إشارة أخري إلي ذلك أيضاً.

11 _ وأما بالنسبة لمعني توبتهما التي تحدث عنها الكتاب الكريم، فلعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن المقصود بها هو عودتهما إلي الله سبحانه بعد أن أحسّا أنهما الآن بأمس الحاجة إلي عونه، وإلي تدبيره فالتجأا إلي الله، وعادا إليه يطلبان منه أن يعود عليهما بإحسانه وفضله، وعونه في مواجهة هذه المشكلات الجديدة، ورفع تلك الحاجات، وخشعا إليه وخضعا، وابتهلا، فاستجاب لهما لأنه هو مصدر اللطف والرزق والشفاء وستر جميع النواقص، وسد سائر الثغرات.

ومن مظاهر هذه الاستجابة ما تجلي في قوله تعالي: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوي ذلك خير) [28] .

فهي إذن ليست علي حد توبة العصاة والمتمردين، بل هي بمعني الالتجاء من موقع الإحساس العميق بالحاجة إلي اللطف والعون.

12 _ وبعد أن اتضح لزوم أن يبادر آدم عليه السلام إلي الأكل من سنخ الشجرة، وفقاً للمعطيات التي توفرت لديه.. فإنه يبقي سؤال آخر يلح بطلب الإجابة، وهو: أن الله قد حذره من إبليس، ومن أن يخرجه من الجنة. فكيف قبل منه قوله؟!

ونقول في الجواب:

أولاً: إننا نجد في الروايات، ما يدل علي أن آدم وحواء عليهما السلام لم يعرفا أن مخاطبهما هو إبليس، لأن إبليس كان قد خاطبهما من بين لحيي حيّة وكان آدم (ع) وحواء يظنان أن الحية هي التي تخاطبهما، وأن إبليس قال لهما: إن الله قد أحل لهما تلك الشجرة بعد تحريمها عليهما، لما عرف سبحانه من حسن طاعتهما، وتوقيرهما إياه. وجعل لهما علامة علي صحة قوله: أن الملائكة الموكلين بالشجرة

لا يدفعونهما عنها كما يدفعون غيرهم عنها. ولم تدفعهما الملائكة عنها لأنهم كانوا موكلين بدفع من لا يملك اختياراً وعقلاً [29] فإذا صحت هذه الرواية فلا يبقي إشكال في القضية بمجملها.

ويلاحظ هنا: أنه تعالي قد قال لهما:(إن هذا عدو لك ولزوجك) فحدّد له العدو، وأراه إياه، وجسّده له. ولم يقل له: إن إبليس عدو له. وحين تخفّي عنه، فإن آدم (ع) لم يخاطب الذي أخبره الله بعداوته، بل خاطب مخلوقاً آخر هو الحية.

وربما يؤيد ذلك: أن الله سبحانه وتعالي قال: فوسوس إليه الشيطان، قال: يا آدم.. الخ، فإن الآية تشير إلي وجود التفاف وتمويه في أسلوب التعاطي، ليصبح التعبير بالوسوسة التي تعني إلقاء الكلام من طرف خفي.. وليس الخفاء إلا في إخفاء إبليس لنفسه عنه بطريقة أو بأخري.. ليصبح كلامه معه، وكأنه لا يحس بأن أحداً يدفعه إلي الأكل من الشجرة، فإن الحية بحسب الظاهر قد أخبرته بأن في هذه الشجرة ثلاث خصوصيات، ولم تطلب من آدم (ع) أن يأكل منها بصراحة.

وقد جاءت هذه الخصوصيات بحسب نتيجة التحليل الذي انطلق منه آدم عليه السلام من موقع إيثاره رضي الله سبحانه، وشوقه إلي مقامات القرب منه حسبما أوضحناه _ جاءت لتمثل العناصر التي ارتكز إليها قرار آدم عليه السلام بالأكل من سنخ الشجرة المنهي عنها.

وثانياً: إنه إنما أكل من شجرة أخري تشبه الشجرة التي نهي عنها بالإشارة الحسية إلي الخارجي، فلا يري أنه قد عصي أمر الله الذي انصب علي شجرة محددة بكلمته هذه. ولأجل ذلك جاء تعبير إبليس بكلمة تلكما التي أشارت إلي الشجرة البعيدة عنها والمحددة لها بشخصها، والوصف، والإغراء، إنما وقع بهذه الشبيهة لا بتلك التي نهاه الله عنها

مباشرة.

وثالثاً: يقول الله عز وجل عن إبليس: (وقاسمهما إني لكما من الناصحين) وقد صرحت روايات عديدة عن الأئمة عليهم السلام، بأن آدم عليه السلام إنما تقبل قول إبليس لأنه أقسم له، قال آدم (عليه السلام): إن إبليس حلف بالله أنه لي ناصح، (فما ظننت أن أحداً من خلق الله يحلف بالله كاذباً) وهذا المعني قد ورد في عدة روايات [30] .

ولعل السر في ذلك هو: أن الحلف بالله معناه إيكال الأمر إلي الله، وجعله في عهدته، والقبول بأن يكون سبحانه هو المتولي للتوفيق للصادق، ولإنزال العقوبة بالكاذب والتعويض علي من يلحقه الضرر نتيجة ذلك..

وقد جاء التعبير ب_: (قاسمهما) ربما ليشير بذلك من خلال إيراده بصيغة المفاعلة إلي مشاركة من قبل آدم (عليه السلام) وحواء في الوصول إلي هذا القسم ولو عن طريق اشتراطهما للعمل بالنصيحة أن يقسم لهما علي صدقه وصحة ما يقول.. ولعلهما قد أقسما أن لا يعملا بنصيحته إلا إذا أقسم لهما علي أن يقول الحق والصدق في محاولة منهما لإلجائه إلي جعل الأمر بين يدي الله سبحانه، والقبول بتحمل كامل المسؤولية أمام العزة الإلهية القادرة علي ملاحقة المجرم في صورة ظهور زيف ما جاء به.

فأقسم هو لهما علي ذلك أيضاً، فصح التعبير بقاسمهما.

13 _ وعن دخول إبليس إلي الجنة فعلاً، قد يرجح بعض الأعلام، أن لا يكون إبليس ممنوعاً من الاقتراب منها فاقترب منها وبقي في خارجها، وألقي الكلام إلي آدم (ع) وهو _ أي آدم _ في داخلها قرب الباب، فلما كان منه في حق آدم (ع) ما كان، أهبطه الله عن هذا المقام أيضاً، وحرمه حتي من الإقتراب من الجنة عقوبة له.

كما أنه قد

أهبط آدم (ع) وزوجه منها، لكن لا علي سبيل العقوبة لهما، وإنما بسبب عدم ملائمة حالهما لها بعد أن ابتليا بما ابتليا به، من ظهور حالات البشر في طبيعة التكوين، حسبما أوضحناه.

كما أن هناك من يقول: إن آدم (ع) إنما كان في جنة من جنان الدنيا، ولعلها هي المكان الذي تكون فيه أرواح المؤمنين، ولم يكن دخولها حتي ذلك الوقت ممنوعاً علي إبليس، فلما كان منه ما كان في حق آدم عليه السلام حرمه الله سبحانه حتي من دخول جنان الدنيا.

14 _ ويتضح من جميع ما ذكرناه هنا وفيما تقدم من هذا الكتاب أن تفسير الآيات التي تحدثت عما جري لآدم عليه السلام لا يفرض نسبة المعصية الحقيقية إليه.. وأن ثمة إشارات في الروايات وفي الآيات نفسها إلي وجوه من التفسير الصحيح، والمنسجم مع قداسة هذا النبي الكريم ومع الضوابط العقلية والإيمانية.. فلماذا الإصرار إذن علي نسبة النقائص له صلوات الله وسلامه عليه وعلي نبينا وآله؟!

لا طريق إلا تزويج الإخوة بالأخوات.

لا مناعة جنسية حتي بين الأم وولدها.

بامتداد النسل يحصل الجو النظيف جنسيًا.

وفي إجابة له عن كيفية توالد أولاد آدم (ع) نجده يقول:

"يمكن القول _ كما نتبني نحن هذا الرأي وثابت بالأدلة الشرعية _ يمكن القول بأن الإخوان تزوجوا الأخوات".

ثم يذكر أن ذلك لم يكن حراما فيقول:

"أول الخلق كان هذا الشيء حلال،لماذا؟ لأن هذا هو الذي يفسح المجال لانطلاقة البشرية، ولا يوجد طريق غيره" [31] .

ثم يفلسف هذا الموضوع فيقول:

"فنظام العائلة مكون من أب وأم وأخوة وأخوات، وهو إنما يتوازن ويستقيم عندما تكون هناك مناعة عند الأب وعند الأم وعند الأخ وعند الأخت ضد أي

إحساس جنسي تجاه الآخر، لأنه لو فرضنا أن الأحاسيس الجنسية كانت موجودة في حياة الأب والأم تجاه أولادهما، أو في حياة الأولاد تجاه بعضهما البعض فلن تستقر حياة عائلية ولن تنسجم في خصوص الجو العائلي المغلق، حيث يفسح المجال لهذه الأمور بشكل فوق العادة. لذلك فإن الله سبحانه وتعالي بعد أن صار هناك أبناء عم أو أبناء خال وخالة، أي عندما امتد التناسل وأصبحت هناك علاقات طبيعية، حرم الله ذلك ليستقيم نظام العائلة ولتنمو العائلة في جو طاهر نظيف من الناحية الجنسية، و بعد ذلك تنطلق لينشئ كل واحد منهم عائلة" [32] .

وقفة قصيرة

1 _ إن هذا الكلام معناه أن عائلة آدم (ع) أو العائلة في عهد آدم لم تكن تعيش في جو طاهر نظيف من الناحية الجنسية.. ولم يكن ثمة مناعة عند الأب والأخ والأخت والأم ضد أي إحساس جنسي تجاه الآخر. فهل يفترض هذا البعض وجود انفلات جنسي إلي هذا الحد فيما بين عائلة آدم، بحيث كان الكل لديه أحاسيس جنسية تجاه بعضهم البعض حتي الأم تجاه ولدها.. ثم لما تكاثرت العائلة وأصبح هناك أبناء عم وأبناء خالة حصلت المناعة؟!.. وكيف حصلت؟!..

2 _ إن هذا البعض يقول، إن تزويج الأخ بأخته في أولاد آدم ثابت بالأدلة الشرعية، ويزعم أنه لم يكن ثمة طريقة يمكن بواسطتها حل هذه المشكلة وانطلاقة البشرية من خلالها..

ونقول له: أليس من الممكن أن يخلق لكل ولد زوجته، كما خلق آدم وحواء من قبل؟

وقد روي الصدوق رحمه الله في العلل عن الصادق عليه السلام في حديث له ينكر فيه عليه السلام حديث زواج الأخ بأخته:

"سبحان الله عن ذلك علوا كبيرا، يقول من يقول هذا: إن

الله تعالي جعل أصل صفوة خلقه، وأحبائه وأنبيائه، ورسله، وحججه، والمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات من حرام!! ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال، وقد أخذ ميثاقهم علي الحلال والطهر الطاهر الطيب؟!" [33] .

وأما خبر "الإحتجاج" و "قرب الإسناد" حول تزويج الإخوة بالأخوات فيضعفه مطابقته في هذا الأمر لمذهب غير الشيعة [34] .

الله يؤنب ويوبخ نبيه.

نوح لم يلتفت إلي "إلا من سبق عليه القول".

كلمة "من سبق عليه القول" لم تكن واضحة.

وعن عدم التفات نوح عليه السلام إلي ما قاله الله تعالي حين أوحي إليه بشأن ولده، نجد البعض يقول في سؤال وجواب:

"كيف يمكن له أن يعيش لحظة الضعف أمام عاطفة البنوة، ليقف بين يدي الله ليطلب منه إنقاذ ولده الكافر، من بين كل الكافرين؟!

وكيف يخاطبه الله بكل هذا الأسلوب الذي يقطر بالتوبيخ والتأنيب؟ ويتراجع نوح، ليستغفر، ويطلب الرحمة لئلا يكون من الخاسرين.

ويمكن لنا أن نجيب عن ذلك: أن المسألة ليست مسألة عاطفة تتمرد، ولكنها عاطفة تتأمل وتتساءل، فربما كان نوح يأمل أن يهدي الله ولده في المستقبل.

وربما كان يجد في وعد الله له بإنقاذ أهله ما يدعم هذا الأمل لأنه من أهله ولم يلتفت إلي كلمة: (إلا من سبق عليه القول) لأنها لم تكن واضحة" [35] .

ويقول في موضع آخر عن نوح الذي كان السؤال يلح علي قلبه:

"والحسرة تأكل قلبه علي ولده أن الله وعده أن ينقذ أهله"

إلي أن قال:

"ولم ينتبه إلي كلمة: (إلاّ من سبق عليه القو ل) فأقبل إلي ربه بالنداء الخ.." [36] .

وقفة قصيرة

إننا نسجل هنا ما يلي:

أولا: إنه ليس ثمة من دليل ملموس يدل علي أن

نوحا صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم بكفر ولده، فلعله كان قد أخفي كفره عن أبيه، فكان من الطبيعي أن يتوقع عليه السلام نجاة ذلك الولد الذي كان مؤمنا في ظاهر الأمر، وذلك لأنه مشمول للوعد الإلهي، فكان أن سأل الله سبحانه أن يهديه للحق، ويعرفه واقع الأمور، فأعلمه الله سبحانه بأن ولده لم يكن من أهله المؤمنين، وأنه من مصاديق (من سبق عليه القول) فتقبل نوح ذلك بروح راضية [37] .

ثانيا: إنه ليس ثمة ما يدل علي أن نوحا عليه الصلاة والسلام قد عاش الحسرة علي ولده، من حيث إنه ولده.. فإن الأنبياء يعيشون الحسرة علي الكافرين لما يفعلونه بأنفسهم، لا لقرابتهم منهم.

والشاهد علي ذلك ما حكاه القرآن عن نبينا الأكرم صلي الله عليه وآله وسلم، حيث خاطبه الله بقوله: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات).

ويقول: (فلعلك باخع نفسك علي آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا).

ويقول: (لعلك باخع نفسك ألاّ يكونوا مؤمنين).

غير أننا إن تأكد لدينا أن نوحا عليه السلام كان واقفا علي كفر ولده، فإن من المعقول والمقبول جدا فهم موقف نوح، علي أنه عليه السلام قد أراد أن يفهم الناس الذين نجوا وهلك أبناؤهم وآباؤهم وإخوانهم وأحباؤهم،أراد أن يفهمهم من خلال الوحي الإلهي: أن لا خصوصية لمن نجا من أهل نوح، كما لا خصوصية لمن هلك منهم ومن غيرهم، إلا ما يدخل في دائرة الإيمان، فلهم النجاة، أو في دائرة الكفر فلهم الهلاك..

وأراد أن يفهمهم أيضا أن القضية قد نالت فيمن نالت حتي نبي الله نوحا في ولده.. وأن هلاك ذلك الولد لم يكن فيه خلف للوعد الإلهي، لأن المقصود بالأهل الذين صدر الوعد بنجاتهم هم

أهله المؤمنون.

ثالثا: إذا راجعنا الآيات نفسها، فلا نجد فيها أنه عليه السلام يطلب من ربه نجاة ولده، بل فيها أنه عليه السلام قد اعتبر رحمة الله ومغفرته هي الربح الأكبر، وبها تكون النجاة من الخسران.

ولأجل ذلك نجده عليه السلام قد قال: (إن ابني من أهلي) توطئة للرد الإلهي الذي سيحدد خصوصية الأهل الموعود بنجاتهم، وهم المؤمنون، دون الكافرين.. حيث قد سبق القول بإهلاك الكافرين سواء أكانوا من أهل نوح أو من غيرهم.

رابعاً: بالإضافة إلي ما تقدم نقول: إن نوحا عليه السلام قد طلب من ولده أن يركب معهم، فقال:

(يا بني اركب معنا، ولا تكن مع الكافرين، قال سآوي إلي جبل يعصمني من الماء، قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم) [38] .

وهذا _ أعني قوله تعالي: (ولا تكن مع الكافرين) يشير إلي أنه يراه مؤمنا، وأنه هو الذي رفض الركوب معهم، وعرض نفسه للهلاك مع علم نوح بأن التخلف عن ركوب السفينة معناه التعرض للهلاك المحتم، وكان هذا هو خيار ولده نفسه..

ثم أشار (عليه السلام) إلي ما يفيد أنه لم يكن بصدد طلب نجاة ولده، ولا كان يتهم الله تعالي بخلف وعده، حيث صرح (ع) أن وعد الله هو الحق..

وقبل أن يتقدم بأي طلب من الله كان التعليم الإلهي له: أن لا يسأله ما ليس له به علم.

إذن، فهناك شيء لم يكن نوح مطلعا عليه، حسب دلالة الوحي الإلهي، فجاءت استجابة نوح لتؤكد علي أنه عليه السلام لم يسأله، ولن يسأله في المستقبل:

(فلا تسألن ما ليس لك به علم، إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال ربّ إني أعوذ بك أن أسألك ما

ليس لي به علم) [39] .

ثم جاء قوله عليه السلام: (وإلا تغفر لي، وترحمني أكن من الخاسرين) [40] ، ليؤكد هذه الحقيقة، حيث إنه قد استعمل كلمة (لا) ولم يستعمل كلمة (لم)،ليفيد أنه لا يتحدث عن الماضي، حيث لم يصدر منه ما يحتاج إلي ذلك، بل هو يتحدث عن المستقبل.

ويتضمن هذا التعبير إشارة إلي أن طلب الأنبياء للمغفرة، إنما يراد منه طلب دفع المعصية عنهم، لا رفعها، كما هو معلوم عند أهله..

خامساً: إنه ليس ثمة ما يدل علي أن نوحا عليه السلام، لم يلتفت إلي كلمة (إلا من سبق عليه القول) أو أن هذه الكلمة لم تكن واضحة حين الوحي، علما أن ذلك يخالف العصمة في البلاغ وفي التبليغ، وهي أمر عقلي، مسلّم وقطعي، عند جميع المسلمين، وليس في الآيات أيضا: أن نوحا قد عاش الحسرة علي الكافر، حتي لو كان ذلك الكافر هو ولده بالذات.

سادساً: وأخيراً، هناك الكثير من الاحتمالات التي تتحملها الآيات بحيث تكون بعيدة عن وصم الأنبياء (ع) بهذه النقائص، ولا تتنافي مع (بلاغة القرآن)، فلماذا اختيار التفاسير التي تظهر أو تنسب نقيصة للنبي أو الولي، دون غيرها من التفاسير التي تنزههم عن مثل هذه النقائص؟!

ابراهيم و لوط

اشاره

التأكيد علي سذاجة إبراهيم عدة مرات.

خشوع إبراهيم للكوكب، وقناعته بربوبيته.

إبراهيم (ع) في وهم كبير.

إبراهيم يعبد القمر ويتصوف له.

ضياع إله إبراهيم في الأجواء الأولي للصباح.

(لا أحب.. هذا أكبر) صرخة طفولية.

يقول عن إبراهيم عليه السلام، في ما قصه الله تعالي، من خطابه عليه السلام للكوكب ثم للقمر والشمس: إن هناك احتمالين في تفسير الآيات التي تعرضت لذلك:

أحدهما: أن يكون ظاهر الآيات هو حقيقة موقفه، فيكون إبراهيم قد

صدق بأن الكوكب والقمر والشمس آلهة..

الثاني: أن يكون إبراهيم (ع) قد قام بحالة استعراضية أمام قومه ليقنعهم بالحقيقة.

وقد ذكر لكلا الاحتمالين ما يقربه.. ولكنه شرح الآيات شرحا مسهبا علي أساس الاحتمال الأول، ثم بعد أن ذكر ما يؤيد كل واحد من الإحتمالين، وذكر ما يمكن استفادته من الآيات، عاد وختم كلامه وفق الاحتمال الأول..

ومن الواضح: أننا وإن كنا نستظهر من ذلك ميله إلي ذلك الاحتمال الفاسد، ولم يذكره لمجرد كونه احتمالا، إلا أن مجرد توهم أن يكون نبي الله إبراهيم(ع) قد عبد غير الله، أو اعتقد بألوهيته وربوبيته، هو توهم واحتمال باطل في حق الأنبياء، ويلزم التصريح بتسخيفه وبطلانه، فضلا عن تأييده بالشواهد، ثم شرح الآيات بما يناسبه، ثم إنهاء الكلام والخروج من الموضوع من خلاله..

ونحن نذكر فيما يلي كلماته كلها.. فنقول:

يقول البعض:

"وتطالعنا _ في هذا المجال _ شخصية إبراهيم _ النبي.. التي يقدمها لنا القرآن في أجواء الصفاء الروحي، والبساطة الإنسانية.. والطبيعة العفوية.. التي تلامس في الإنسان طفولته البريئة فيما تلتقي به من حقيقة الأشياء.. ليفكر من خلال براءة النظرة في عينيه، وسلامة الحس في أذنيه ويديه، فيما يري أو يسمع أو يلمس، فيما لديه من أدوات الحس الواقعي.. فنحن لا نري فيه _ من خلال الصورة القرآنية _ شخصية الإنسان الذي يتكلف الكلمات التي يقولها للآخرين، ولا نلمح لديه روحية الشخص المشاكس الذي يبحث عن المشاكل في أفعاله وعلاقاته.. بل نشاهد فيه الشخصية البسيطة الواقعية التي ترتبط بالأشياء من جانب الإحساس، فتسمي الأشياء بأسمائها بعيدا عن تزويق الألفاظ، وزخرفة الأساليب، بقوةٍ وصدقٍ وواقعيةٍ وإيمان.

ففي الصورة الأولي، نلتقي به في موقفه من أبيه الذي يعبد الأصنام التي

يعبدها قومه.. فيواجهه بالإنكار القوي الرافض للموقف من الأساس، لرفضه الفكرة التي يرتكز عليها.. فهذه الأصنام، هي أحجار جامدة، كبقية الأحجار الموجودة في العراء.. ولا ميزة لها إلاّ أنّ يد الإنسان قد أعطتها بعض ملامح الصورة، فحولتها إلي تماثيل.. فإذا كان الإنسان هو الذي أعطاها تلك الميزة التي تختلف بها عن سائر الأحجار.. فهي صنع يده، فكيف تكون آلهة له.. ومن الذي أودع فيها سر الألوهة..؟ وهل الألوهة شيء يصنع ويخلق، أو هي قوة تصنع وتخلق.. ثم.. إن الألوهة تعني القدرة والعلم والحياة والغني المطلق فيما تعنيه من ملامحها الحقيقية.. فما هي ملامح ذلك كله في هذه التماثيل؟.. ولكنها الأوهام التي حولت الأشياء غير المعقولة.. إلي عقائد وتصورات ورموز قداسةٍ في مستوي الآلهة.. فكيف تتخذ هذه الأصنام آلهة..؟ كيف..؟.. إن فكري لا يلمح أيّة إشراقة للحقيقة فيما تسير عليه.. ولو من بعيد بعيد.. بل كل ما هناك الظلام والتيه والضياع.. وهنا يتحول التساؤل.. إلي حكم قاطع في مستوي وعيه للحقيقة المنطلقة من خط الهدي.. التي تحدد ملامح الضلال في خطوط الآخرين..

إني أراك وقومك في ضلال مبين

إنه الموقف الصلب الذي لا يهادن ولا يجامل.. ولا يغلف الأشياء بغلاف سحري، بل يدفع الموقف إلي الأمام، بكل وضوح وصراحة.. بعيدا عن المجاملة واللياقة التي تفرضها علاقة الإبن بأبيه.. لأن قضية العقيدة لا تخضع للجانب العاطفي للعلاقات لأن علاقة الإنسان بالحقيقة التي تربطه بالله أقوي من أية علاقة بأي إنسان كان.

وفي الصورة الثانية نشاهد إبراهيم يتطلع إلي السماء، كما لو كان شاهدها أول مرة، فهو _ فيما توحيه الآية _ يواجهها كتجربة جديدة لم يلتق بها من قبل، وذلك فيما تعنيه التجربة من المعاناة في حركة

الحس البصري كمادة للتفكير، للانتقال من المحسوس إلي المعقول، ومن المادة إلي المعني.. فقد كان يشاهدها سابقا، في رؤية جامدة، لا تعني له شيئا، إلا بمقدار ما يعنيه انعكاس الصورة في العين _ لمجرد تجميع الصور في الوجدان.. فيما يلتقي به الإنسان من مألوفاته العادية في حياته اليومية.. وهكذا نجد أن الرؤية التي يتحدث عنها القرآن في قوله تعالي: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض..) هي الرؤية الواعية الفاحصة المدققة التي تثير في الداخل المزيد من التأمل والحوار والاستنتاج.. بدليل قوله تعالي: (وليكون من الموقنين..)، مما يوحي بأنها الرؤية التي تبعث علي القناعة من خلال اليقين.. وبدأ يفكر في استعراض عقلي للعقائد التي يعتقدها قومه في عبادتهم للكواكب والقمر والشمس.. ومحاكاة ذاتية تتحرك من أجل إثارة التساؤل.. وهكذا التقي بالكواكب المتناثرة في السماء، في صورة بديعة في روعة التنسيق والتكوين.. فما أن لمح كوكبا يتلألأ ويشع في قلب هذا الظلام المترامي.. حتي سيطرت عليه أجواء الروعة، واستولي علي فكره الخشوع الروحي أمام هذا الشعاع الهادئ في الأفق البعيد.. فخيل إليه أن هذا هو الإله العظيم الذي يتعبد الناس إليه.. لأن الفكرة الساذجة تجعله في الأفق الأعلي البعيد، الذي تتطلع إليه الأبصار برهبة وخشوع ولا تستطيع الخلائق أن تصل إليه أو تدرك كنهه.. (فلما جن عليه الليل رأي كوكبا قال هذا ربي..).. في صرخة الإنسان الطيب الساذج الذي خيل إليه أنه اكتشف السر الكبير الذي يبحث عنه كل الناس، كما لو لم يكتشفه أحدغيره.. وكأنه أقبل إليه في خشوع العابد، وفي لهفة المسحور.. وفي اندفاعة الإيمان.. وربما ردد هذه الكلمة (هذا ربي..) في سره كثيراً.. ليوحي لنفسه بالحقيقة التي اكتشفها ليؤكدها في ذاتها.. بعيدا عن كل

حالات الشك والريب.. وبدأ الليل يقترب من نهايته.. وبدأت الكواكب تشحب وتفقد لمعانها.. ثم بدأت تبهت.. وتبهت حتي غابت عن العيون.. وحاول أن يلاحقها هنا وهناك.. لقد ضاع الإله في الأجواء الأولي للصباح.. وانكشفت له الحقيقة الصارخة.. فقد كان يعيش في وهم كبير.. فقد أفل الكوكب.. ولكن الإله لا يأفل لأنه القوة التي تمثل الحضور الدائم في الحياة كلها فلا يمكن أن تبتعد عن حركتها المتنوعة لأن ذلك يتنافي مع الرعاية المطلقة للكون ولما فيه من موجودات حية وغير حية.. واهتزت قناعاته من جديد.. وبدأ يسخر بالفكرة والعقيدة في عالمه الشعوري الصافي.. (فلما أفل قال لا أحب الآفلين..).

(فلما رأي القمر بازغا..) في صفاء الليل، ووداعة السكون.. وكان الشعاع الفضي الساحر يلقي علي الكون دفقا من النور الهادئ الذي يتسلل إلي العيون فيوحي إليها بالخدر اللذيذ ويخترق القلوب فيوحي إليها بالأحلام اللذيذة الساحرة.. ويطل علي الطبيعة فيغلفها بغلافه الشفاف الوادع الذي يثير في آفاقها الكثير الكثير من اللذة والأحلام.. وبدأت المقارنة بين ذلك النور الكوكبي الذي يأتي إلينا متعبا واهنا في جهد كبير.. وبين هذا النور القمري الذي يتدفق كشلال في قلب الأفق.. فأين هذا من ذاك.. فهذا هو السر الإلهي الذي كان يبحث عنه.. (قال هذا ربي..) وعاش معه في حالة روحية من التصوف والعبادة لهذا الرب النوراني الذي يتمثل في السماء قطعة فضية من النور الهادئ الساحر.. وفجأة بدأ الشعاع يبهت.. ثم يغيب.. وانطلقت الحيرة في وعيه من جديد.. أين ذهب الإله وأين غاب.. وهل يمكن للإله أن يغيب ويأفل.. وضجت علامات الاستفهام في روحه تتساءل من هو الإله؟ وأين هو.. وعاش في التصور الضبابي المبهم الغارق في الغامض.. يتوسل بالرب الذي لا

يعرف كنهه، أن يهديه سواء السبيل لئلا يضل ويضيع.. (فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين..) وما زال ينتظر وضوح الحقيقة.. وفجأة أشرقت الشمس بأشعتها الذهبية الدافئة فأخذت عليه وجدانه.. (فلما رأي الشمس بازغة قال هذا ربي.. هذا أكبر..) فأين حجم الشمس.. من حجم القمر والكواكب.. فلا بد أن تكون هي الإله الذي يبحث عنه، لأنها تتميز عنهما بصفات كثيرة.. وبدأ يتابعها وهي تتوهج وتشتعل.. وتملأ الكون كله دفئا وحياة وإشراقا وجمالا.. فإذا به يهتز ويتحرك في قوة وامتداد وحيوية دافقة.. ولكن.. ماذا..؟ وبدأ يفكر.. فها هي تبهت وتبرد وتكاد تتضاءل.. ثم تغيب وتأفل.. وتترك الكون في ظلام دامس.. فكيف يمكن أن تكون إلها تعيش الحياة في قدرته وقوته.. ما دامت تغيب مع المجهول تاركة الكون كله في ظلام وفراغ؟

.. وأطلق الصرخة فيمن حوله من هؤلاء الناس الذين يعبدون الكواكب والقمر والشمس.. فيما خيل له، في وقت من الأوقات، أنه الحقيقة المطلقة التي لا يعتريها شك ولا ريب.. (فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون..) من هذه المخلوقات التي انطلقت من العدم، ولا يزال العدم يعشش في كل حركة من حركاتها، أو خطوة من خطواتها.. وتمرد علي كل هذه الاتجاهات الإشراكية لأن الله لا يمكن أن يكون هذه الأشياء المحدودة.. بل لا بد أن يكون شيئا أعظم من ذلك وأكبر.. في القوة والقدرة.. لا في الحجم.. (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض.. حنيفا وما أنا من المشركين..).

وهكذا تدفقت إشراقة الإيمان في وعيه وفي قلبه، فأحس بأن الله هو شيء لا كالأشياء لأن الأشياء نتاج قدرته.. وأدرك أن الله لا يحس كما تحس الموجودات الأخري بالسمع والبصر

واللمس، ولكنه يدرك بالعقل وبالقلب وبالشعور.. من خلال كل هذه المخلوقات التي تحيط بالإنسان في الكون الكبير.. من السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن.. فتترك لديه انطباعا بان الله هو الذي فطرها وأوجدها.. ومن خلال هذه الإنطلاقة الإيمانية الرائعة التي أحس معها بالراحة والطمأنينة والإنفتاح.. وقف بكل كيانه _ ليحول كل وجهه _ والوجه هنا كناية عن الذات بجميع التزاماتها وعلاقاتها وتطلعاتها _ إلي الله، حنيفا، مخلصا مائلا عن خط الإنحراف.. فهو وحده الذي تتوجه إليه العقول والقلوب والوجوه بالخضوع والطاعة المطلقة.. بإحساس العبودية.. وحركة الإيمان.. الذي يعلن هذا التوحيد بما يشبه الصرخة الهادرة الرافض_ة لكل الوجودات المحدودة، التي تتأله أو التي يحسبها الناس في عداد الآله_ة.. وم_ا أن_ا من المشركين..

وماذا بعد ذلك؟

هل هي الرحلة الأولي في طريق الإيمان، لدي إبراهيم.. أو هي محاكاة استعراضية للأجواء المحيطة به، فيما يعتقده الناس من ألوهية الكواكب والقمر الشمس.. في محاولة إيحائية لمن حوله بسخافة هذه العقائد وتفاهتها وضعفها أمام المنطق الوجداني الصافي، وذلك من موقع ابتعاده عنها بعد اقترابه منها، مما يعطي لموقفه بعض القوة في الإيحاء، باعتباره الموقف الذي عاش التجربة وعاناها.. ثم تمرد عليها..

ربما كان هذا هو الرأي الأقرب الذي يلتقي مع شخصية إبراهيم فيما حدثنا القرآن عن حياته.. فنحن لم نلمح _ في غير هذه الآية _ حالة تأثر بالجو المحيط به.. بل ربما نري الأمر _ بالعكس من ذلك _ حالة تمرد علي البيئة حتي فيما يتعلق بالجو العائلي المتمثل في أبيه الذي نقل لنا القرآن موقف إبراهيم منه.. وقد نستطيع استيحاء الآية السابقة التي حدثنا القرآن فيها عن كلام إبراهيم لأبيه حول الأصنام التي يعبدها أن هذا الموقف سابق

لموقفه من هذه العقائد.. هذا بالإضافة إلي أن الرؤية التي حدثنا الله عنها لملكوت السماوات والأرض.. لا بد أن تكون الرؤية الوجدانية الواعية التي تحاول أن تثير التفكير من خلالها وليست الرؤية البصرية الساذجة.. لأنها تبدأ مع الإنسان منذ اللحظة التي يفتح فيها عينيه علي الحياة ليتطلع إلي ما فيه من موجودات يدركها البصر.. وربما كانت كلمة (وليكون من الموقنين) إشارة إلي ذلك، لتلتقي بكلمة (.. رب أرني كيف تحيي الموتي قال أولم تؤمن قال بلي ولكن ليطمئن قلبي..) مما يوحي بأن إبراهيم كان يعيش حالة الفكر الذي يريد أن ينمي من خلاله معلوماته وأفكاره، بكل الأشياء التي تركز قوتها وفاعليتها وثباتها وحركتها أمام التحديات التي تواجهها.. حتي فيما يشبه الأوهام.. ليواج_ه الصراع الذي يعيشه بانفتاح وقناعة وقوة لا تعرف الضعف ولا التراجع في كل المجالات..

أما الإحتمال الأول، فقد يقربه، أن تكون الحادثة قد حدثت في بداية طفولته، عندما بدأ يتطلع للأشياء، ويفكر في الإله.. في عملية تأمل وتدبر.. في مستوي ذهنية الطفل.. ولعل هذا هو الذي نستوحيه من الجو النفسي الساذج الذي توحي به الآية.. فهذا هو إبراهيم يواجه الكوكب الذي يبدو عاليا عاليا، بعيدا بعيدا.. ولكنه يشرق في قلب الظلام.. فيشعر بالرهبة والروعة.. فيصرخ _ في مثل اللهفة _ هذا ربي.. انطلاقا مما كان يسمعه بأن الإله بعيد بعيد عن الإنسان، فلما أفل.. أحس بالإنقباض وقال: (لا أحب الآفلين..) فقد نجد في كلمة (لا أحب..) بعض كلمات الطفولة البريئة، التي تحب أو لا تحب من خلال مشاعرها الساذجة إزاء الأشياء.. وتتكرر التجربة مع القمر..وتنطلق الصرخة الطفولية من جديد.. تماما كمثل الهتاف الذي يهتف به الطفل عندما يجد شيئا قد أضاعه، أو شيئا

قد طلبه.. وتتكرر خيبة الأمل من جديد.

ولكن الوعي يتنامي هنا _ فلا نجد ردّ الفعل طفوليا.. بل نلاحظ في ردّة الفعل حالة حيرة وذهول وتوسل إلي هذا الرب الغامض الذي يتمثله في وعيه هاديا لعباده، أن يهديه إلي الحق لئلا يكون من القوم الضالين.. وتشرق الشمس في هذا الدفق اللاّهب من النور الذهبي في إطار هذا الوجه الواسع الذي يتفايض بالشعاع كما يتفايض الينبوع بالماء الصافي الرقراق.. فتكبر الصرخة في طفولية بارزة.. (هذا ربي.. هذا أكبر..) وينطلق الحجم ليؤكد الفكرة، فيما لا توحي به إلا أفكار الطفل، أو ما يشبه الطفل.. لأن الأشياء الكبيرة توحي للفكر الساذج بالهيبة والعظمة.. بما لا توحي به الأشياء الأقل حجما.. وتتجدد خيبة الأمل بالأفول.. ولكن تلك الإشراقة الساطعة للشمس استطاعت أن تبعث في قلبه إشراقة الإيمان الرافض لكل هذه الأوهام والظنون.

وفي كلا الاحتمالين.. يمكن للعاملين في حقل التوجيه، إستيحاء الفكرة العملية في أسلوب التربية.. من خلال الأسلوب الإستعراضي، فيما يتمثل فيه من مناجاة ذاتية تجعل الإنسان يواجه الأفكار المطروحة في الساحة، مواجهة المؤمن بها.. ثم يقوم بمناقشتها بالطريقة التي توحي باكتشاف مواطن الضعف والخلل فيها، بالمستوي الذي يجعلها بعيدة عن الحقيقة، و عن إمكان اعتبارها عقيدة ترتبط بها قضية المصير.. ولا يختص الأمر بالأفكار المتصلة بالعقيدة الإلهية بل يمتد إلي جميع المجالات التي تمثل الخط العملي للحياة.. ويمكن لنا ممارسة هذا الأسلوب في القصة والمسرح والسينما وغيرها من الأساليب التي تخاطب الجمهور لتوجيه قناعاته.. وقد لا نحتاج إلي التأكيد علي ضرورة دراسة المستوي العقلي والروحي للناس من أجل تركيز هذا الاتجاه علي قاعدة متحركة في الفكرة والأسلوب.. كما يمكن استيحاء القصة في مدلولها الرسالي في عدم خضوع

الإنسان للبيئة فيما تحمل من أفكار وعادات ومشاعر، بل يعمل علي ممارسة دوره الذاتي المستقل، كإنسان يفكر بحرية.. ويقتنع علي أساس الدليل.

وتبقي لنا _ في هذا المجال _ هذه البراءة الفكرية من إبراهيم.. حيث نتمثله إنسانا يواجه العقيدة من موقع البساطة الوجدانية، والعفوية الروحية، التي تلتقي بالقضايا من وحي الفطرة لا من وحي التكلف والتعقيد.. ثم هذه اللهفة الحارة المنفتحة ع_لي الله _ سبحانه _ عند اكتشافه للحقيقة في توحيده في كل شيء، وفي الإقبال عليه بكل وجهه، وبكل فكره، وبكل روحه وانطلاقه العملي في الحياة.. لأن توجيه الوجه لله.. لا يعني _ في مدلوله العميق _ هذا الموقف الساذج الذي يتطلع فيه الإنسان نحو الأفق الممتد في السماء بنظرة حائرة بلهاء.. بل يعني انطلاقة حياة الإنسان وكيانه مع الله فيما يحمل من عقيدة، وفيما يرتبط به من فكر، وفيما يتحرك معه من خط، وفيما يستهدفه من أهداف.. وفيما يعيشه من علاقات وأوضاع وتطلعات.. إنه الاندماج في الحقيقة الإلهية، بأن تكون الحياة كلها لله.. وفي خدمة الله..

ولعل قيمة هذه الفكرة.. هي أنها لا توحي إلينا بآفاقها وخطواتها العملية، من وحي التجريد لنعيش معها في متاهات النظريات التجريدية.. بل هي حركة الإنسان _ النبي الذي يعيش حركة الإيمان والفكر في حياته من موقع إنسانيته البسيطة.. ليوحي إلينا بأن دور الإنسان الذي يريد أن يحقق إنسانيته، هو أن ينعزل عن كل الحدود المادية الضيقة التي تشده إلي الأرض في استسلام ذليل، ويرتبط بالحقيقة المطلقة التي يحلق من خلالها مع الله" [41] .

وقفة قصيرة

ونقول: إن احتمال عبادة إبراهيم (ع) للكوكب وغيره، مناف للعصمة،ولا يصح إبداؤه في حق المعصومين عموما، ولا يمكن أن يقرّبه شيء، لا في

الطفولة ولا فيما بعدها، علي ما هي عليه عقيدة علماء المذهب القطعية، المأخوذة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، ونحن نشير هنا إلي بعض ما يوضح ذلك، وعدم صحة تفسير الآيات بما فسرها به ذلك البعض.

تفسير الآيات

إننا نستفيد من الآيات الكريمة، ما يدل علي عدم صحة ما ذكره هذا البعض، فلاحظ ما يلي:

1 _ إننا لا نجد أي دليل علي أن هذه القضية قد حصلت لإبراهيم في زمان طفولته، بل في الآيات ما يشير إلي خلاف ذلك، وأن ذلك كان في مقام الاحتجاج علي قومه.

2 _ إن ما يلفت نظرنا أنه حين طلع الصباح علي إبراهيم (ع)، ورأي أفول الكوكب وانحسار نوره، لم يتوجه إلي الشمس التي ظهرت له، بل انتظر إلي الليل، ليتوجه إلي القمر، ليخاطبه بذلك الخطاب: (هذا ربي)!! فلما أفل، وطلع الفجر مرة أخري، وأشرقت الشمس، توجه إليها ليعتقد أنها هي ربه الحقيقي. حسبما شرحه لنا ذلك البعض(!!).

فلماذا تركها في اليوم الأول حين أفول النجم، وانتظر إلي الليل ليعتقد بألوهية القمر دونها؟!. أم أنه قد نام النهار كله من شروق الشمس إلي غروبها، فلم ير الشمس، حتي ولو في ساعة من نهار؟!. أو أنه قد دخل كهفاً مظلماً، ولم يتذكر وجود الشمس، ولا التفت إليه؟!

3 _ إن نفس ذلك البعض يقر بأن إبراهيم (ع) كان يري الشمس قبل ذلك في سنوات طفولته، وكان يري القمر والكواكب أيضا _ فلماذا لم يعتقد بربوبيتها منذئذٍ؟!. أو لماذا لم يتساءل عن هذا الأمر؟!. ولماذا لم يدرك أن الشمس أكبر من القمر والكواكب فور رؤيته لها طالما أنه قد رآها؟. أم أنه يريد تأكيد طفولة وبراءة إبراهيم من خلال عبارة (هذا اكبر)

أو (لا أحب)؟.

4 _ لماذا التزم إبراهيم بربوبية هذا الكوكب بعينه، دون سائر الكواكب الطالعة وما أكثرها؟!.

5 _ إن ذلك البعض يصرح بأن الظاهر أن قصة إبراهيم (ع) مع أبيه آزر، كانت أسبق من هذه القضية، فكيف كان مؤمنا هناك، ويدعوه للإيمان بالله وترك الأصنام؟ وكافرا ومشركا هنا يعبد الكواكب والنجوم تارة ولا يعرف إلهه تارة أخري؟!، فهل كان يدعوه إلي إله لا يعرفه؟! أم أن إبراهيم (ع) كفر بعد إيمانه؟!. وهل يصح منه بعد هذا أن يحتمل في حقه عليه الصلاة والسلام أن يكون قد عبد الكوكب حقيقة؟!. علما أن عبادة الكواكب خروج عن الفطرة، ومعصية ما بعدها معصية، والأنبياء معصومون عنها قبل البعثة وبعدها.

6 _ ثم إن إبراهيم (ع) استدل علي بطلان ألوهية الكوكب بالأفول، لان الله لا يأفل. فالذي يدرك مثل هذا الأمر الدقيق في ما يتعلق بصفات الإله، كيف لا يدرك صفة أوضح منها وهي استحالة الجسمية علي الله؟ مع أنه كان يعرف هذا الأفول قبل ذلك لأنه كان قد رأي الكواكب سابقا، وعرف أنها تطلع وتغيب باعتراف القائل نفسه.

7 _ إن إبراهيم (ع) بعد أن استدل بالأفول علي بطلان ألوهية الكوكب، كيف عاد واعتقد بألوهية القمر؟ مع علمه بأنه يأفل ويغيب، ثم كيف عاد ليعتقد بألوهية الشمس مع علمه بأنها تغيب أيضا؟!.

8 _ أما التعليل ب_ (هذا اكبر)، فلا ينفع مع الاستدلال ب_ (لا أحب الآفلين)، لان الآفل لا يصلح للألوهية سواء كان كبيرا أو صغيرا.

أضف إلي ذلك كله أن القمر قد كان اكبر من الكوكب أيضا فلماذا لم يلتفت إبراهيم إلي ذلك في حينه؟.

9 _ إن ذلك البعض لم يذكر لقارئه ما

روي عن الإمام الرضا (ع)، من أنه قد رفض أن يكون إبراهيم عليه السلام قد أشرك بالله، وقرر أن إبراهيم (ع) إنما قال ذلك علي سبيل الإنكار علي قومه لتسخيف معتقدهم. والرواية هي التالية:

إبن بابويه قال حدثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي رضي الله عنه، قال حدثنا أبي عن حمدان بن سليمان النيسابوري، عن علي بن محمد بن الجهم، قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليه السلام، فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟

قال: بلي.

قال: فسأله عن آيات من القرآن في الأنبياء، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله عز وجل في إبراهيم (فلما جن عليه الليل رأي كوكبا قال هذا ربي).

فقال الرضا (ع): إن إبراهيم وقع إلي ثلاثة أصناف، صنف يعبد الزهرة، وصنف يعبد القمر، وصنف يعبد الشمس، وذلك حين خرج من السرب الذي أخفي فيه، فلما جن عليه الليل رأي الزهرة قال هذا ربي علي الإنكار والإستخبار، فلما أفل الكوكب قال لا أحب الآفلين، لأن الأفول من صفات المحدث لا من صفات القديم.

(فلما رأي القمر بازغا قال هذا ربي) علي الإنكار والإستخبار، (فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين).

فلما أصبح (رأي الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر) من الزهرة والقمر علي الإنكار والإستخبار، لا علي الإقرار والإخبار..

(فلما أفلت) قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس (يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين).

وإنما أراد إبراهيم بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم، ويثبت عندهم أن العبادة لا تحق

لما كان بصفة الزهرة والقمر والشمس، وإنما تحق العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض. وكان ما احتج به علي قومه مما ألهمه الله عز وجل وآتاه، كما قال عز وجل (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم علي قومه)، فقال المأمون: لله درّك يا ابن رسول الله [42] .

10 _ إن قوله تعالي: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين)، قد فرع عليه قوله: (فلما جن عليه الليل رأي كوكبا قال هذا ربي)، فهذا التفريع علي إراءته ملكوت السماوات والأرض، وعلي كون إبراهيم (ع) من الموقنين، يشير إلي أنه لم يقل هذا ربي عن اعتقاد، بل قاله عن إنكار واستهزاء.

11 _ هذا غيض من فيض مما ورد في النص المنقول عن (من وحي القرآن)، ونترك الكثير الكثير من المداليل والملاحظات الموجودة لقارئنا الكريم، ليستخلصها بنفسه بعد أن عرف الضابطة في الفرق بين أوصاف الأنبياء وأحوالهم، وأوصاف الأشقياء وخصالهم.

أنا أقول: إن آدم ساذج.

أنا لا أقول: إن إبراهيم ساذج.

قلنا: إن آدم لم يكن عنده تجربة.

سئل البعض:

نريد منكم توضيحاً من أجل أن نطمئن، فالعلم حاصل والحمد لله، ولكننا نريد توضيحاً للبعض، والأمور التي نأمل توضيحها، والتي ينسبونها إليكم: أن إبراهيم ساذج؟

فأجاب:

"أنا أصحح، إنّا نقول: إن آدم ساذج، ول_يس إبراهيم، ولكن هم يقولون إني قلت: إن إبراهيم كان كافرا في بداية حياته، وأما عن آدم كان ساذجاً، فنحن قلنا: إن آدم لم يكن عنده تجربة بعد، فقد خلقه الله بعلم أولي لكن بدون تجربة ميدانية يختبر فيها قوته، وقدرته وعزيمته.. الخ" [43] .

وقفة قصيرة

ونق_ول:

1 _ إن تصحيح هذا البعض غير صحيح، فإنه قد اتهم إبراهيم بالسذاجة أكثر من ثلاث مرات، بل

خمس مرات، فراجع كتابه (من وحي القرآن ج 9 _ ص 115 و 120 و 121 _ الطبعة الأولي) فهل نسي هذا البعض ما كتبته يداه؟!.

2 _ إن تأويله لمعني السذاجة غير مقبول وذلك لما يلي:

أولاً: إنه هو نفسه قد طلب من الناس أن لا يكونوا ساذجين _ يضحك الناس عليهم _ وذلك في بعض خطبه التي بثت من إذاعة تابعة له.

كما أنه قد فسر السذاجة التي يقصدها في حديثه عن شيخ الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) بأنها النظرة الحائرة البلهاء [44] .

وثانياً: لنفترض جدلاً أن تفسيره للسذاجة بالنسبة للنبي آدم يمكن غض النظر عنه، باعتبار أنه لم يكن لديه اطلاع علي مكر إبليس.. فما هو مراده منها حين أطلقها خمس مرات علي شيخ الأنبياء إبراهيم _ عليه وعلي نبينا وآله الصلاة والسلام.

وثالثاً: لو أردنا أن نصف هذا البعض نفسه بالسذاجة، بأي معني أراد، وبغير ذلك من أوصاف أطلقها علي أنبياء الله وعلي الأوصياء، فضلاً عما وصف به مراجع الأمة وأساطين العلم فيها، ثم نثبت ذلك في مؤلفاتنا، لتقرأه الأجيال، وليتدارسوه ويتناقلوه، فهل سيكون راضياً هو ومحبوه ومناصروه؟ أم أنهم سوف يقيمون الدنيا ثم لا يقعدونها؟!!

ليس من التناقض:

وقد ذكر البعض:

في الفقرة السابقة والتالية: أننا قلنا عنه: إنه يقول: إن:

إبراهيم كان كافراً في بداية حياته..

فيجيب:

" إنه لم يقل ذلك، بل ذكر احتمالين.."

وقال:

الأقرب: أن فعل إبراهيم كان طريقة ذكية للإقناع:

ونقول:

نعم إن هذا البعض يذكر بالنسبة لإبراهيم احتمالين اثنين:

"أحدهما: أنه لما رأي الكوكب بازغاً اعتقد أنه ربه علي الحقيقة، ثم لما رأي القمر بازغاً غيّر رأيه، واعتقد أنه هو الإله، وعاش معه حالة

روحية من التصوف والعبادة لهذا الرب، فلما أفل غيّ_ر رأيه ثالثة فاعتقد أن الشمس هي ربه، فلما أفلت اتضحت له الحقيقة..

الثاني: أن إبراهيم قد قال ذلك علي سبيل المحاكاة الاستعراضية، ليؤكد لقومه فساد آرائهم واعتقاداتهم".

ثم اعتبر أن الاحتمال الثاني ربما يكون أقرب من الإحتمال الأول [45] وهذا يعني أن الاحتمال الأول لا يزال موجوداً وقائماً.

وذلك يتنافي مع اليقين والقطع، والإعتقاد بالعصمة، وعدم كفر الانبياء، ولو قبل البعثة.. والغريب أنه وهو ينكر علينا ما نقلناه عنه قد عاد فقرر نفس ما أخذناه عليه فقال:

"يأتي الثاني ويقول: إن السيد يقول: إن إبراهيم كان يعبد الكواكب في بداية حياته، أنا أقول في تفسيري من وحي القرآن وهو مطبوع من 15 سنة وهو ليس جديداً، أنا أقول هناك تفسيران: بعض الناس يفسرون أن إبراهيم (عليه السلام) كان يسمع أناساً يعبدون الكواكب، فتدور الأفكار في رأسه وتحيره، فهو قد أراه الله ملكوت السموات والارض. رأي كوكباً، قال: هذا ربي، رأي قمراً، قال: هذا ربي، وبعدها انتهي إلي نتيجة تلتقي بالدين الصحيح.

وهنا فكرة ثانية تقول: إن إبراهيم (عليه السلام) حاول أن يواجه قومه بطريقة ذكية، وبأسلوب منفتح. كيف ذلك؟ بأن يصور نفسه وكأنه واحد منهم، أي أنه يعبد الكواكب، ثم يجلس أمامهم وهم قاعدون ويقول: هذا ربي فيرتاحون لقوله..ولما أفل قال: لا أحب الآفلين، لا يمكن أن يكون الرب كوكباً، فالرب يجب أن يكون موجوداً دائماً، ولما رأي القمر بازغاً.. كذلك، لما رأي الشمس.. كذلك.. فهو حاول أن يرد علي أفكارهم كما لو كان ممن يتبني هذا الفكر ليحصل علي فرصة مناقشته دون إثارة حساسياتهم.

أنا ذكرت هذين الإحتمالين في تفسير (من وحي القرآن) قبل خمسة

عشر عاماً، وكل منكم يمكن أن يعود إلي هذا التفسير ويراجعه، أنا قلت: الأقرب من هذين الاحتمالين هو أن هذا أسلوب من أساليب النبي إبراهيم (عليه السلام) من أجل أن يهدم هذه الفكرة بالطريقة الذكية.

حتي أني قلت: يجب أن نستفيد من هذا الاسلوب في مجال الرواية والقصة والمسرح.. إذا أردنا أن نثبت هذا المعني.

فجاء من يقول: إن السيد يقول بأن إبراهيم (عليه السلام) كان كافرا، ونحن نعرف أن الأنبياء (عليهم السلام) لا بد من أن يكونوا معصومين، وأنا قلت: إن إبراهيم (عليه السلام)، من الأساس تمرد علي بيئته، تمرد علي أبيه أو عمه" [46] .

وسئل البعض أيضا:

في قوله تعالي: (وكذلك ن_ُري إبراهيم ملكوت السموات والأرض) (الأنعام: 75) فهل كان إبراهيم (عليه السلام) غير مقتنع بظواهر الكون الدالة علي وجود خالق منظم؟ أم هي واردة بمثابة الحجة؟.

فأجاب:

"الأقوي أن إبراهيم كان يستعرض العقائد الباطلة الموجودة في زمانه.. وكان يحاول أن يطرحها كما لو أنها كانت متبناة من قبله حتي يستمع الناس اليه وهو يناجي نفسه..الخ [47] .

وقفة قصيرة

وإننا ننبه القارئ العزيز إلي أنه إذا كان يقصدنا بقوله "يقولون:.. "، فإننا نعلن أننا لم نقل: إنه قال عن إبراهيم: إنه كان كافراً.. بل قلنا: إنه يقول: يحتمل أن يكون إبراهيم قد عبد الكوكب والشمس والقمر.. فراجع عباراتنا حول هذا الموضوع تجد صحة ذلك.

وخلاصة القول: إنه قد أنكر شيئاً لم يتهمه به أحد.

ثم إنه عاد وقرر نفس مقولته التي اعتبرناها خروجاً علي الإعتقاد بعصمة الأنبياء عن الكفر والشرك، لما تتضمنه من احتمال ذلك في حق إبراهيم (عليه السلام)، فإن احتمال عبادة الشمس والقمر والكوكب لا ينسجم مع اليقين بالعصمة عن ذلك.

وها هو نفسه هنا يعترف بما قلناه، وإن كان يمكن القول بأنه قد عاد وناقض نفسه من جديد في آخر كلامه الذي نقلناه عن: "الزهراء المعصومة"، ويمكن رفع هذا التناقض ببيان أن كلمة الأقوي لا تزال تستبطن وجود الإحتمال الآخر الذي هو قوي أيضاً، لكن هذا الإحتمال أقوي منه.

النبي يخاف لأنه يعيش الضعف البشري.

لا مشكلة في الإستسلام للخوف.

الملائكة لم يأتوا ليخلقوا عقدة الخوف والقلق لدي إبراهيم.

الحالة فاجأت إبراهيم بما يشبه الصدمة.

يقول البعض:

"(وأوجس منهم خيفة) نظراً للغموض الذي لف الموقف، فهو لا يعرفهم بأشخاصهم، والإمتناع عن الأكل يوحي _ في عرف الناس آنذاك _ بالعداوة وبإضمار الشر للمضيف، مما جعله يحس بالخوف والقلق، ولا مانع من حدوث مثل ذلك للأنبياء الذين يعيشون الضعف البشري الذي تخضع له المشاعر الذاتية، ولكن بالمستوي الذي لا يؤدي إلي السقوط في المعصية، ولا يوحي بالانسحاق، ولا يمنع من العصمة.

ولعل سر عظمتهم في تمثلهم خط التوازن بين نقاط الضعف التي تؤكد بشريتهم، ونقاط القوة التي تنطلق من حركة الإيمان والرسالة في روحيتهم، فلا مشكلة في إحساس الإنسان بالخوف، بل في الاستسلام له، وليس الخوف حالة سلبية في ذاته، بل قد يكون حالة إيجابية بما يشكله من حماية للإنسان من الأخطار المهلكة التي تحيط به. ولذا كان إبراهيم خاضعاً لتأثير هذه الحالة الطبيعية من الإحساس بالخوف أمام ظاهرة غامضة فاجأته بما يشبه الصدمة، ولكن الملائكة لم يأتوا ليخلقوا عقدة الخوف، وليثيروا في داخله القلق، (قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلي قوم لوط) فلسنا من البشر، ولا نريد بك شراً، بل نحن مرسلون إلي قوم لوط لأداء مهمة إلهية، تستهدف إهلاكهم بالطريقة التي أمرنا الله بها"

[48] .

وقفة قصيرة

ونقول:

1 _ لو قبلنا جدلاً أن الضعف البشري الذي تخضع له المشاعر الذاتية هو الذي يتسبب بحدوث الخوف لدي الأنبياء.. فإننا نسأل: من أين عرف هذا البعض: أن هذا الخوف لا يصل إلي درجة يؤدي إلي السقوط في المعصية، ولا يوحي بالانسحاق، ولا يمنع من العصمة؟! فهل هذا الا رجم بالغيب، وحديث في أمور لا سبيل للإطلاع علي مقاديرها إلا لعلام الغيوب؟!

ويزيد الأمر إشكالاً أن هذا البعض نفسه يشترط الدليل المفيد للقطع في كل أمر هو من هذا القبيل، فأين هو هذا الدليل الذي قدمه علي أن الخوف يكون بهذا المقدار أو ذاك؟!.

2 _ من أين عرف هذا البعض: أن منشأ خوف نبي الله إبراهيم (عليه السلام) هو ضعفه البشري. ولماذا لا يقول: إن التكليف الإلهي لإبراهيم (عليه السلام) هو أن يقف موقف الحذر، وأن يحتاط لنفسه كما يحتاط الخائف في المواقع المماثلة.. حتي وإن لم يكن قد اختلج في نفسه أي خاطر؟!

3 _ من أين عرف: أنهم قد امتنعوا عن الأكل.. فإن الآية الشريفة تقول:(فلما رأي أيديهم لا تصل إليه نكرهم، وأوجس منهم خيفة..) فإن ظاهر الآية أنه رآهم يتظاهرون بأنهم يأكلون، ويمدون أيديهم إلي الطعام بحسب الظاهر. ولكن أيديهم لا تصل إلي ذلك الطعام، فكان أمراً غير طبيعي، وهو يدعو إلي الحذر.. وذلك هو الواجب الشرعي، وهو الحزم في مثل هذه الحالة.

4 _ من أين عرف هذا البعض: أن ما جري قد فاجأ إبراهيم بما يشبه الصدمة. وربما نجد في قوله تعالي (أوجس منهم خيفة)، والخيفة هي نوع من الخوف.. _ ربما نجد فيه _ اشارة إلي أنها خيفة ضعيفة استحقت الإشارة إليها بتنوين التنكير المفيد

للضعف والوهن، نظير قوله تعالي عن اليهود: (لتجدنهم أحرص الناس علي حياة..) أو أنها كانت خيفة خاصة _ وهي ذلك الإدراك لأمر خفي يدعو إلي الحذر الحازم الذي هو واجب شرعاً..

5 _ وأما قوله:

"ولكن الملائكة لم يأتوا ليخلقوا عقدة الخوف.."

فهو مما لا يمكن الموافقة عليه.. لأن ذلك يستبطن إمكانية ابتلاء أنبياء الله بالعقد النفسية، وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلاً، بالنسبة لأي نبي كان، فكيف بشيخ الأنبياء الذي هو من أولي العزم، وأفضل رسل الله بعد نبينا الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلم).

6 _ ونلفت النظر أخيراً.. إلي أن ثمة عدة آيات تحدثت عن خوف حصل لبعض الأنبياء في بعض المواقع الحساسة، كقول الله سبحانه: (وأوجس في نفسه خيفة موسي)، وقوله تعالي (قلنا: لا تخف إنك أنت الأعلي) ونحو ذلك..

فمن الواضح: أن خوفهم (عليهم السلام) ليس خوف الضعفاء والجبناء، وإنما هو خوف المسؤولية، حيث يخاف النبي علي الرسالة، وعلي الدين، وعلي مستقبل الدعوة إلي الله سبحانه، فيحزن لذلك، ويتألم، وهو يري بطش الجبارين وكيد المبطلين، وقد تحدثنا عن ذلك في مكان آخر من هذا الكتاب.

7 _ وأما بالنسبة لقول هذا البعض:

"ان إبراهيم أحس بالخوف أمام ظاهرة فاجأته بما يشبه الصدمة.."

فهو كلام مرفوض، لأن الصدمة تعبير يختزن معني العجز عن التصرف، والإستئسار للمفاجأة، وفقدان البصيرة تحت وطأة الحدث الصاعق، ولو للحظات، ولا يمكن قبول ذلك بالنسبة للأنبياء الذين يعيشون حالة اليقظة التامة، والتوازن في جميع الأحوال فلا تأسرهم المفاجآت، ولا تذهب بأحلامهم [49] مهما عظمت.

إبراهيم يتحير في أمر نزول العذاب علي القوم ولوط فيهم.

إبراهيم لا يعرف أن الله ينجي أنبياءه من عذاب الإستئصال.

إبراهيم تصرف انطلاقاً من

النظرة السريعة للموقف.

التسرع سبب الإعلان المفاجئ عن تعذيبهم.

إبراهيم تسرع في البشارة فاستغرب ذلك واستبعده.

لا يستحض_ر في نفسه كل ما يتصل بالاحداث.

قد تكون فكرة هلاك لوط مع قومه واردة عند إبراهيم.

الرواية تؤيد الرأي المخالف.. الذي ناقشه ولا يأخذ بها.

يقول البعض:

"(قال إن فيها لوطاً) فإذا كانوا ظالمين، فإن لوطاً ليس منهم، فكيف ينزل العذاب عليها وهو فيها، فإن عذاب الله إذا نزل علي أهل بلد شمل الجميع، فلا ينجو منه أحد(قالوا نحن أعلم بمن فيها) فقد عرفنا وجود لوط، وقد خططنا لإخراجه منها مع أهله _ ما عدا امرأته _ قبل إنزال العذاب، فإن الله قد أنزل العذاب عليهم لإستحقاقهم ذلك ولتمردهم علي لوط واستخفافهم به، ولاستجابة دعائه بالنصرة عليهم، فكيف يناله العذاب و(لننجينه وأهله، إلا امرأته كانت من الغابرين) الهالكين الذين يضمهم غبار الموت لأنها كانت مؤيدة لقومها ضد لوط.

هل كان إبراهيم يعلم أن لوطاً يعذب؟

وهناك لفتة جيدة، ذكرها صاحب تفسير الميزان في تفسير كلام إبراهيم للملائكة (إن فيها لوطاً) قال: إن إبراهيم _ عليه السلام _، لم يكن ليجهل أن الله سبحانه لا يعذب لوطاً وهو نبي مرسل، وإن شمل العذاب جميع من سواه من أهل قريته، ولا أنه يخوفه ويذعره ويفزعه بقهره عليهم، بل كان (عليه السلام) يريد بقوله:(إن فيها لوطاً) أن يصرف العذاب عن أهل القرية كرامة للوط لا أن يدفعه عن لوط، فأجيب بأنهم مأمورون بإنجائه وإخراجه من بين أهل القرية ومعه أهله إلا امرأته كانت من الغابرين.

والدليل علي هذا الذي ذكرنا قوله تعالي في سورة هود في هذا الموضع من القصة: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشري يجادلنا في قوم

لوط، إن إبراهيم لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا، إنه قد جاء أمر ربك، وإنهم ءاتيهم عذاب غير مردود) (هود: 74 _ 76) [50] .

وقد نلاحظ علي ذلك، أن الآية لا يظهر فيها ما ذكره، ولهذا كان جواب الملائكة بياناً لمصير لوط، لا لمناقشة مصير قومه، كما ذكر في سورة هود، ولا مانع من أن يكون إبراهيم _ عليه السلام _ قد أثار مصير قوم لوط معهم كما أثار مصير لوط، انطلاقاً من النظرة السريعة للموقف علي أساس الإعلان المفاجئ عن تعذيبهم، تماماً كما كان رد فعله السريع علي البشارة، باستغراب ذلك واستبعاده، وليس من الضروري أن يكون النبي مستحضرا في نفسه لكل الأمور المتصلة بالاحداث، بحيث يفقد عنصر المفاجأة في كل شيء، فقد تكون فكرة هلاك لوط مع قومه واردة علي أساس أن الأمور التكوينية لا تفرق في بلاء الدنيا بين الصالحين، وغيرهم، والله العالم.

وقد جاء في الكافي ما ربما يؤيد التفسير السابق الذي ناقشناه، بإسناده عن أبي زيد الحماد، عن أبي عبدالله جعفر الصادق _ عليه السلام _ في حديث نزول الملائكة علي إبراهيم بالبشري قال: فقال لهم إبراهيم: لماذا جئتم؟ قالوا: في إهلاك قوم لوط فقال لهم: إن كان فيها مائة من المؤمنين أتهلكونهم؟ فقال جبرئيل لا، قال: فإن كان فيها خمسون؟ قال: لا، قال: فإن كان فيها ثلاثون؟ قال: لا، قال: فإن كان فيها عشرون؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها عشرة؟ قال: لا، قال: فإن كان فيها خمسة؟ قال: لا، قال: فإن كان فيها واحد؟ قال: لا، قال: فإن كان فيها لوطاً؟ قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجيه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، قال الحسن

بن علي (عليه السلام): لا أعلم هذا القول إلا وهو يستبقيهم، وهو قول الله تعالي (يجادلنا في قوم لوط) [51] .

وقفة قصيرة

ونقول:

إننا نلاحظ الأمور التالية:

1 _ قوله:

"إن قلق إبراهيم عليه السلام إنما كان علي مصير النبي لوط (عليه السلام) وذلك استناداً إلي قول إبراهيم للملائكة: (إن فيها لوطاً..).."

غير صحيح فإن هذا القول لا يدل إلا علي توقعه أن وجود لوط سيمنع من أن ينالهم العذاب.. ولا يدل علي اعتقاده أن العذاب _ لو نزل _ سيحيق بلوط أيضاً.

2 _ إن الله سبحانه قد صرح بأن جدال إبراهيم إنما كان في قوم لوط، قال تعالي: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع، وجاءته البشري، يجادلنا في قوم لوط، إن إبراهيم لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا) أي عن رفع العذاب عن قوم لوط (إنه قد جاء أمر ربك، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) [52] .

3 _ هذا بالإضافة إلي الرواية المروية عن الامام الصادق، والتي أوردها هذا البعض نفسه حيث تدل _ كما اعترف هو نفسه _ علي أن إبراهيم كان مهتماً برفع العذاب عن قوم لوط، وأنه اتخذ من وجود لوط فيما بينهم ذريعة إلي ذلك فلماذا يصر هذا البعض علي مخالفة الرواية، بل الآية أيضا؟!

ولماذا أشار إلي دلالة الرواية علي خلاف ما يذهب إليه، مع مزيد من التضعيف، وإثارة الشك والإرتياب في تلك الدلالة، حيث قال: "ما ربما يؤيد".

4 _ لماذا يتهم إبراهيم (عليه السلام) شيخ الانبياء، وأفضلهم بعد نبينا محمد (صلي الله عليه وآله) بأنه كان متسرعاً في موقفه، وواقعاً تحت تأثير المفاجأة، حتي إنه حينما جاءته الملائكة بالبشري استغرب ذلك واستبعده..

كما أنه قد

عرّض به (عليه السلام) حين اعتبر أن ليس من الضروري أن يكون إبراهيم (عليه السلام) مستحضراً في نفسه لكل الأمور المتصلة بالأحداث بحيث يفقد عنصر المفاجأة في كل شيء.

فإن هذا التعريض مرفوض جملة وتفصيلاً، إذ مهما كان وقع المفاجأة علي إبراهيم (عليه السلام) قوياً، فإنه لا يمكن أن لا يمر في وهمه: أن الله سبحانه رحيم بالعباد، ولا يفعل إلا الحق، ولا ينزل العذاب إلا بمن يستحق.

ولا يمكن أيضاً أن تختلط عليه الأمور فيظن أن الله سبحانه ينزل العذاب بحيث يشمل حتي نبيه الذي أرسله.. فإن غضب الله سبحانه ليس عشوائياً بحيث لا تبقي ثمة ضوابط أو معايير لما يصدر عنه ومنه، وحاشا إبراهيم أن يظن بالله ذلك.

5 _ وإذا كان هذا البعض قد أدرك هذه الحقيقة، وهي إساءة القوم واستحقاقهم نزول العذاب عليهم، ثم نزوله بالفعل، ونبي الله فيهم معناه هلاك ذلك النبي الأمر الذي لا بد أن يمنع من نزول العذاب _ نعم إذا أدرك هذا البعض ذلك فكيف لم يدركه ابراهيم النبي _ صلوات الله وسلامه عليه _؟!..

6 _ وقد كان من المفروض: أن يثور احتمال لدي إبراهيم، إن يخرج الملائكة لوطاً من بين قومه، ثم يهلكونهم بما فعلت أيديهم.

7 _ ومن الواضح: أن إبراهيم كان يعلم: أن للشفاعة تأثيراً في رفع العذاب، وهي من أسباب غفران الذنوب حتي الكبيرة..

وقد كان الموقف يحتاج إلي إظهار وتجسيد حقيقة أن عذاب قوم لوط قد اصبح من المحتوم، وأن جرائمهم هي من الخطورة إلي درجة أنها حجبت حتي عنصر الشفاعة عن التأثير في رفع العذاب عنهم.. وقد كان من واجب إبراهيم أن يبادر إلي ذلك الموقف من أجل أن

تستنفد جميع الأسباب، من جهة، ومن أجل إظهار وتجسيد هذه الحقيقة بالذات من جهة أخري..

8 _ إن هذا البعض قد ادعي أن إبراهيم خاف علي لوط، ولم يكن يعرف أن الله ينجي أنبياءه من عذاب الإستئصال.

ونقول:

إن العقل يرفض أخذ البريء بذنب المجرم، كما أن النصوص القرآنية قد ألمحت وصرحت مراراً وتكراراً بأن الله لا يظلم أحداً، ولا يعامل البريء والمذنب علي حد سواء، (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) [53] . وصرحت الآيات أيضاً بأنه تعالي إنما يهلك أهل القري بظلمهم، ويأخذهم بذنوبهم.. [54] .

بل صرحت بأن الله ينجي المؤمنين، ويهلك من عداهم فقد قال تعالي:

(واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر، إذ يعدون في السبت، إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون. وإذ قالت أمة منهم: لم تعظون قوماً الله مهلكهم، أو معذبهم عذاباً شديداً، قالوا: معذرة إلي ربكم، ولعلهم يتقون. فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) [55] .

وبعدما تقدم نقول:

صحيح أن السنة الإلهية جارية علي أن عذاب الإستئصال إذا نزل، فإنه يعم كل من نزل عليهم..

ولكن من الواضح أيضاً: ان العذاب إنما ينزل علي خصوص المجرمين، إما لارتكابهم الجرائم فعلاً، أو لأجل رضاهم بها وعدم قيامهم بواجبهم في رفعها، وعدم تحريكهم ساكناً في مواجهتها.

فيأخذهم الله بذنوبهم نفسها.. فهل يمكن اتهام لوط بأنه مقصر في واجباته، أو أنه مرتكب للجرائم أو راض بارتكابها؟! أو هل يمكن اتهام إبراهيم بأنه يجهل هذه الحقيقة أعني حقيقة أن الله لم

يكن ليعذب نبيه بعذاب الاستئصال؟ بل ينجيه منه وينجي من آمن معه؟!

ولأجل ذلك نجد أن الله سبحانه لم يغرق قوم نوح حتي صنع نوح السفينة، وحمل بها كل من آمن معه، فلماذا لم يتعلم ابراهيم _ عليه السلام _ من هذه القضية بالذات.

وقد سئل الرضا (عليه السلام): لأي علة أغرق الله عز وجل الدنيا كلها في زمن نوح عليه السلام وفيهم الأطفال، وفيهم من لا ذنب له؟ فقال عليه السلام: ما كان فيهم الأطفال، لأن الله (عزوجل) أعقم أصلاب قوم نوح (عليه السلام)، وأرحام نسائهم أربعين عاماً، فانقطع نسلهم، فغرقوا ولا طفل فيهم، وما كان الله _ عز وجل _ ليهلك بعذابه من لا ذنب له.

وأما الباقون من قوم نوح (عليه السلام) فأغرقوا لتكذيبهم نبي الله نوحاً (عليه السلام)، وسائرهم أغرقوا برضاهم بتكذيب المكذبين.

ومن غاب عن أمر، فرضي به كان كمن شهده وأتاه [56] .

وسأل سدير أبا جعفر (عليه السلام): أرأيت نوحاً (عليه السلام) حين دعا علي قومه، فقال: يا رب لا تذر علي الأرض من الكافرين دياراً، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك، ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا)؟.

قال (عليه السلام): علم أنه لا ينجب من بينهم أحد، قال: قلت: وكيف ذلك؟! قال: أوحي الله إليه: (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) فعند هذا دعا عليهم بهذا الدعاء [57] .

وعن ابن عباس: قال عزير: يا رب، إني نظرت في جميع أمورك وإحكامها، فعرفت عدلك بعقلي، وبقي باب لم أعرفه، إنك تسخط علي أهل البلية، فتعمهم بعذابك، وفيهم الأطفال!

فأمره الله تعالي: أن يخرج إلي البرية، وكان الحر شديداً، فرأي شجرة فاستظل بها ونام، فجاءت نملة فقرصته،

فدلك الأرض برجله، فقتل من النمل كثيراً، فعرف أنه مثل ضرب، فقيل له:

(يا عزير، إن القوم إذا استحقوا عذابي قدرت نزوله عند قضاء آجال الأطفال، فماتوا أولئك بآجالهم، وهلك هؤلاء بعذابي) [58] .

قال المجلسي:

(إن الله تعالي كما أنه يميت متفرقاً، إما لمصلحتهم، أو لمصلحة آبائهم، أو لمصلحة النظام الكلي، كذلك قد يقدر موتهم جميعاً في وقت واحد لبعض تلك المصالح.

وليس ذلك علي جهة الغضب عليهم، بل رحمة لهم، لعلمه تعالي بأنهم يصيرون بعد بلوغهم كفاراً، أو يعوضهم في الآخرة، ويميتهم لردع سائر الخلق عن الإجتراء علي مساخط الله، أو غير ذلك.

مع أنه ليس يجب علي الله تعالي إبقاء الخلق أبداً، فكل مصلحة تقتضي موتهم في كبرهم، يمكن جريانها في موتهم عند صغرهم، والله تعالي يعلم) [59] .

وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (إن الله أوحي إلي يونس حين دعا علي قومه: إن فيهم الحمل، والجنين، والطفل، والشيخ الكبير، والمرأة الضعيفة، والمستضعف المهين، وأنا الحكم العدل سبقت رحمتي غضبي، لا أعذب الصغار بذنوب الكبار من قومك، وهم يا يونس عبادي، وخلقي، وبريتي، في بلادي، وفي عيلتي، أحب أن أتأناهم، وأرفق بهم، وأنتظر توبتهم.. الخ) [60] .

وهذه الرواية وإن كان فيها مواضع مشكلة، ولكن هذه الفقرة فقط هي موضع الحاجة، وليس في الأخذ بها محذور.. لأنها آتية وفق القواعد والأصول العامة العقلية وغيرها، كما أنها مؤيدة بسائر الروايات الآنفة الذكر.

وقد رأينا:

أن العذاب لم ينزل علي قوم يونس حتي خرج عليه السلام من بينهم مغاضباً لهم، فرأوه قد دنا منهم، ثم رفع عنهم بسبب توبتهم.

وأخيراً، فقد قال الله تعالي مخاطباً نبيه الكريم (وما كان الله ليعذبهم) أي أهل مكة

(وأنت فيهم). قال ابن عباس: إن الله لم يعذب قومه حتي أخرجوه منها، (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون)، أي وفيهم بقية المؤمنين بعد خروجك من مكة.

وذلك أن النبي (صلي الله عليه وآله) لما خرج من مكة بقيت فيها بقية المؤمنين لم يهاجروا لعذر، وكانوا علي عزم الهجرة، فرفع الله العذاب عن مشركي مكة لحرمة استغفارهم، فلما خرجوا أذن الله في فتح مكة.

وقيل: معناه: وما يعذبهم الله بعذاب الإستيصال في الدنيا، وهم يقولون: غفرانك ربنا. وإنما يعذبهم علي شركهم في الآخرة [61] .

8 _ بقي أن نشير إلي أن ثمة آية ورواية، قد يتوهم متوهم: أنهما تدلان علي خلاف ذلك.

ألف: أما الآية فهي:

قوله تعالي: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا: أن الله شديد العقاب) [62] .

ولكن الحقيقة هي: أن هذه الآية ليست ناظرة إلي عذاب الاستئصال، بل المقصود بالفتنة هو البلاء الناشئ عن المعاصي في الدنيا، كالفتن والحروب، والأمراض، وما أشبه ذلك، فإن ضررها لا يقتصر علي من يثيرها.

باء: وأما الرواية فهي:

ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: ما عذب الله قرية فيها سبعة من المؤمنين.. [63] .

فالجواب: أنها لا يمكن الإستدلال بها علي أن عذاب الاستئصال يمكن أن ينال المؤمنين، إذ لا تأبي أن يكون المراد أن القرية لا تستحق العذاب ما دام فيها سبعة من المؤمنين يقومون بواجبهم في إنكار المنكر، والأمر بالمعروف.. فإذا قلّ عدد المؤمنين عن هذا استحقت عذاب الإستئصال.. فيؤمر هؤلاء بالخروج منها، ويمهلون من أجل ذلك، فإذا خرجوا نزل عليها العذاب، تماماً كما جري لقوم نوح، ولوط، ويونس، ومشركي مكة أعزها الله تعالي. وإن كان

الله قد رفع العذاب عن قوم يونس بعذ أن دنا منهم ورأوه رأي العين، فكان ذلك سبب توبتهم.

جبرائيل لم يكن ينزل علي لوط (ع).

لوط (ع) يتلقي الأوامر من إبراهيم (ع).

وقد أعلن البعض في إذاعة محلية تابعة له، إنكاره نزول جبرائيل عليه السلام علي نبي الله لوط(ع).. وأنه إنما كان ينزل علي إبراهيم عليه السلام، وهو الذي كان يصدر الأوامر إلي لوط(ع)، وذكر أن ذلك يعطي أسلوبا تنظيميا جيدا، واعتبر ذلك كشفا مهمّا منّ الله به عليه!!

مع أن الله سبحانه يقول: (وإن لوطا لمن المرسلين) [64] ، فهل يكون لوط مرسلا ولا ينزل عليه الوحي؟! ومن أين صحّ له أن الوحي لم يكن ينزل علي لوط؟!

فاستمع إليه يقول (ونحن نعتذر للقاريء الكريم لأنّا سنورد كلامه، الذي جاء باللغة العامية، ولم نتدخل في صياغة عبارته):

"إن إبراهيم من أولي العزم، يعني هو رسول الله إلي الناس جميعا، وكان يرسل ذاك الزمن مثلا إبراهيم عليه السلام، مثلا يرسل أشخاص أنبياء محليين، يعني مثلا أرسل لوط إلي هذه القرية التي انتشر فيها الفساد والشذوذ الجنسي المذكر (اللواط) علي أساس أن يذكرهم بالله، وان يركز لهم القاعدة الإيمانية، وان يواجه هذا الإنحراف الشاذ عندهم، ف_.. هناك أنبياء محليون، هؤلاء الأنبياء المحليون لا يرتبطون بالوحي مباشرة وإنما يرتبطون بالوحي العام، ما تسمعوا بأولي العزم؟ أولي العزم يعني هم إبراهيم وموسي نوح وإبراهيم وموسي وعيسي ومحمد صلي الله عليه وآله وسلم، هؤلاء أولياء.. أنبياء أولي العزم، هؤلاء هم كأن الأنبياء الموجودين، في أنبياء ضيع، في أنبياء قري مثلا، فكأن لوط.. إبراهيم هو مسؤول لوط، كأنه لوط ليس نبيا بشكل مباشر، ولكن نبوته من خلال أنه وكيل إبراهيم

عليه السلام في هذا المجال، فاستئذانهم من لوط من إبراهيم باعتبار أنه يتحمل مسؤولية لوط، فمن الناحية التنظيمية، الله سبحانه وتعالي راعي الناحية التنظيمية، أنه يستأذن إذا أراد أن.. العذاب علي الجماعة أولئك فيستأذن إبراهيم بعدما إبراهيم يفهم القضية يذهبون إلي ل_وط ويحدثونه ويتولوا المهمة ويدبروا الوضع مع لوط هذا.

وهذا المعني إذا صح هذا الفهم من هذه المسألة هذا نفهم من عندها الجانب التنظيمي أنه عندما يكون هناك مسؤولية لإنسان عن إنسان آخر فما يجوز إحنا نتصل بالإنسان الآخر بشكل مباشر إذا كان أي شخص يعني أي عمل يتصل بالشخص الثاني سواء فيما يوكل إليه من مهمات أو فيما يوكل إليه من مهمات للقاعدة التي يعيش فيها لازم يتصل حتي القيادة لا تتصل بالأشخاص الثانويين بشكل مباشر تتصل بالأشخاص الأساسيين حتي تتحدث معهم حول القضية فهنّي يذهبون هذا.. وبعد ذلك عندما يفهم يروحوا إلي تلك الديار، هذا الجانب التنظيمي جدا مهم يعني لما الواحد.. أنا مثلا مكلف واحد.. أستوحي هذا المعني من هذا الجوّ ولم أجد أحدا، استوحي هذه القضية فيما قرأت من تفاسير.. حتي أنني لم أذكرها في تفاسيري، لكن كما يقولون: (العلم يزكو علي الإنفاق) [65] .

وحاصل كلامه _ كما هو ظاهر _ أنه ينكر نبوة لوط (ع) بالمعني المعروف للنبوة، وجعله له نبيا بمعني من المعاني _ وهو كونه نبياً بالمعني العام بهذا المقدار _ وهذا المعني يصدق في حق الكثيرين ممن سبق، ممن يصدق في حقهم أنهم وكلاء للأنبياء ومتعاونون معهم، وينفذون أوامرهم.. فلا بد علي هذا التقدير من عدِّهم في جملة الأنبياء، كما أنه ينبغي _ بناءً علي هذه المقولة _ أن يصح القول في وكلاء الإمام صاحب

الزمان (ع) بأنهم أئمة أيضا، فهل يلتزم هذا البعض بذلك؟!!.

موسي وهارون

اشاره

موسي (ع) ينكث العهد.

موسي (ع) غير منضبط.

خطأ موسي (ع) في موقفه.

موسي (ع) لا يستفيد من التجربة الخاطئة الأولي.

موسي (ع) لم يفهم الحدث ولم يفكر.

علم الأنبياء والأئمة (ع) محدود بحدود مسؤولياتهم.

نسيان موسي عليه السلام.

النسيان حالة اضطرارية.

موسي (ع) في دورة تدريبية.

عدم أهلية موسي لمرافقة الخض_ر.

ويقول عن موسي (ع) والخضر (ع):

".. وأحس موسي بالحرج الشديد لمخالفته للمرة الثانية، ونكثه بالعهد، قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني لأنني لن أكون أهلا لمرافقتك فيما يمثله ذلك من عدم الإنضباط أمام الكلمة المسؤولة التي التزمت بها أمامك" [66] .

وقال عنه:

"وها هو يعود إلي الإخلال بكلمته من جديد" [67] .

ويقول حكاية لقول العبد الصالح لموسي عليه السلام:

(ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا) ولماذا لم تستفد من التجربة الأولي التي عرفت فيها خطأ موقفك في اهتزاز مشاعرك أمام الحدث الذي لم تفهمه، ولم تفكر بأن من الممكن أن يكون له وجه آخر" [68] .

"ففي قصة الخضر هو العبد الصالح، هي أن الله أراد أن يدخل موسي في دورة تدريبية، حتي يفهم الجانب الثاني من الصورة" [69] .

وعن علم الأنبياء (ع) والأئمة (ع) ببعض مفردات علوم الحياة والإنسان، أو ببعض خفايا الأمور البعيدة عن عالم المسؤولية يقول:

"أما هذه الجوانب فلا دليل علي ضرورة إحاطته بها، ولا يمنع العقل أن يكون لشخص حق الطاعة في بعض الأمور التي يحيط ب_ه_ا علي الناس الذين يملكون إحاطة في أشياء أخري لا يحيط بها، ولا تتعلق بحركة المسؤولية وربما كانت هذه القصة دليلا علي صحة هذا

الرأي الذي نميل إليه" [70] .

ويقول:

".. قال لا تؤاخذني بما نسيت، من عهدي لك، هذا موقف ثان للنسيان يعيشه موسي في ذاته، لأن النسيان حالة اضطرارية، لا يملك الإنسان معها عنصر الاختيار" [71] .

وقفة قصيرة

ونقول:

قال الله تعالي حكاية لما جري بين موسي عليه السلام والعبد الصالح:

(قال له موسي هل أتبعك علي أن تعلمني مما علمت رشدا، قال إنك لن تستطيع معي صبرا، وكيف تصبر علي ما لم تحط به خبرا، قال: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا. قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتي أحدث لك منه ذكرا. فانطلقا حتي إذا ركبا في السفينة خرقها، قال أخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا. قال ألم أقل: إنك لن تستطيع معي صبرا، قال لا تؤاخذني بما نسيت، ولا ترهقني من أمري عسرا. فانطلقا حتي إذا لقيا غلاما فقتله، قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا، قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنّي عذرا، فانطلقا حتي إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها، فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه، قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال هذا فراق بيني وبينك، سأنبّئ_ُك بما لم تستطع عليه صبرا، أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) [72] .

تفسير الآيات

قد قلنا: إنه إذا كان ثمة وجه صحيح ومعقول، ومنسجم مع دلالات الآيات القرآنية، فلماذا اللجوء إلي تفسير الآيات بطريقة توجب الشبهة، وتوقع في المحذور.

ونحن نذكر فيما يلي عرضا موجزا لما ترمي إليه الآيات، دون أن يكون ثمة أي محذور عقائدي، فنقول:

1_ إن المراد بالقصة المشار إليها في كلام هذا البعض هي قصة ال_عبد الصالح وموسي(ع)، ومن الواضح أن نسبة النسيان _ بهذا المعني _ إلي موسي تعني نفي العصمة عنه من هذه الجهة، كما أن موسي لم

ينكث العهد، لأنه لم يكن قد عاهد الخضر (ع) علي السكوت علي ما يراه مخالفا لأحكام الشريعة، وحقائق الدين، وقد كان تكليفه الإلهي أن يعترض وأن يسأل.. وأن يظهر حساسية بالغة لصالح الإلتزام بالحكم الشرعي، ولو لم يعترض (عليه السلام) لم يكن أهلا لمقام النبوة والرسالة.

2_ إن قول موسي عليه السلام: لا تؤاخذني بما نسيت، لايعني: أن المبرر لاعتراضه علي الخضر هو النسيان وأنه يعتذر له منه، ولأجل ذلك لم يقل له: لا تؤاخذني بنسياني، بل قال: بما نسيت، أي: بتركي العمل في المورد الذي كان علي أن أهمل الوعد فيه، وأزيحه عن ذاكرتي، لكي أبادر لمواجهة ما أراه من مخالفة للشرع، إذ لا يجوز لي في هذا الموقف إلاّ أن أبادر للردع عن المنكر الظاهر، فالمراد بالآية الإعتذار بالإنشغال بالأهم عن غيره..

3_ وحين أكّد له الخضر (ع) بصورة ضمنية علي أن عمله ليس فيه مخالفة للحكم الشرعي، وأنه سيعرف باطن الأمر في الوقت المناسب، قبل منه ذلك، فلما تكرر ما ظاهره المخالفة كان لا بد من تكرار الإعتراض، عملا بالتكليف الإلهي، ولم يستعجل الحكم، ولا نكث العهد، ولا كان ذا فضول كما يقوله البعض.. ولا هو يعاني من عدم الإنضباط أمام الكلمة المسؤولة..

وأما بالنسبة للمرة الثالثة، فلم تكن امتدادا لما سبقها، بل كانت نتيجة اتفاق جديد بين العبد الصالح وبين موسي عليه السلام، حيث توافقا علي الإلتزام بمضمون قوله تعالي: (قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنّي عذرا) [73] .

حيث قد أصبح بإمكان موسي عليه السلام أن يعترض علي العبد الصالح إن شاء، فتكون المفارقة بينهما، وبإمكانه أن يستمر معه.

فاختار موسي الإنفصال، لا عن

نسيان للوعد، بل عن معرفة به، والتفات إليه..

والمراد بالنسيان في الآية هو: الترك والإهمال، ولو ظهر بصورة العمل الذي يصفه الناس _ عادة _ بأنه نسيان، ولم يكن في واقعه وحقيقته كذلك، وهذا العمل هو وضع هذا الوعد جانبا، والمبادرة لإنجاز التكليف الشرعي الحاضر، الذي هو الأهم.

فالتعبير بالنسيان لا يراد به الإخبار عن حدوثه، بل الإخبار عن العمل الذي يراه الناس كذلك، وإن لم يكن في واقعه كذلك.

4_ ولعل نجاح موسي (ع) الباهر في هذا الإمتحان هو الذي أظهر أهليته لمقام النبوة والرسالة، وعرّفنا علي سر اصطفاء الله له من بين سائر قومه ليكون نبيا من أولي العزم.

5_ كما انه لا ربط لهذه الآية بموضوع علم الأنبياء والأئمة، وإنما هي ترتبط بموضوع تنجز التكليف في ما يرتبط بالمعذرية أمام الله سبحانه، لكي يكون العمل عن حجة ظاهرة لكي لا يصبح ذريعة للجبارين والظالمين.

إحتمال ارتكاب النبي موسي (ع) جريمة دينية.

الآلام النفسية لموسي (ع) بسبب عملية القتل.

جريمة موسي (ع) في مستوي الخطيئة.

الخطأ غير المقصود لموسي (ع).

موسي(ع) يستجيب للوسوسة الخفية بالقتل.

ثم إن هذا البعض يقرر أن النبي قد يكون مجرما، ويحتمل أن يكون قد ارتكب جريمة قتل نفس بريئة، فهو يقول عن موسي:

"ولكن هل كان يشعر بالذّنب لقتله القبطي، باعتبار أن ذلك يمثل جريمة دينية في مستوي الخطيئة التي يطلب فيها المغفرة من الله؟!.. أو أن المسألة هي أنه يشعر بالخطأ غير المقصود الذي كان لا يجب أن يؤدي إلي ما انتهي إليه مما يجعله يعيش الألم الذّاتي تجاه عملية القتل..".

إلي أن قال:

"إننا نرجح الإحتمال الثاني" [74] .

وهذا يعني أن الإحتمال الأول لا يزال

واردا، ولكنه مرجوح!!!

ويقول عن وسوسة الشيطان لموسي(ع) بقتل القبطي:

"أما حديث التأثير الشيطاني في الأشياء من خلال آية المائدة فلا يدل علي المقصود، فإن الظاهر إرادة الإرتباط بهذه الأشياء في الجانب العملي من خلال وسوسته للإنسان في الأخذ بها بالطريقة المضادة لمصلحته، وهذا هو الذي نفهمه من آية موسي(ع) لأن قتله للقبطي قد يكون ناشئا من الوسوسة الخفية فيما تصنعه من حالة الإثارة التي تقود إلي ذلك" [75] .

(ولما بلغ أشده واستوي آتيناهُ حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين، ودخل المدينة علي حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته علي الذي من عدوه فوكزه موسي فقضي عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين، قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم، قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين، فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسي إنك لغوي مبين، فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال ياموسي أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن ت_كون جبارا في الأرض وم_ا تري_د أن تكون من المصلحين) [76] .

وإذا قرأنا هذه الآيات الشريفة، فإننا نذكر القارئ بما يلي:

1ً_ إن الاحتمال الأول باطل جزما، إذ لا يحتمل في حق نبي أو وصي أن يكون قاتلا أو مرتكبا لجريمة دينية..لأن احتمال المعصية الكبيرة في حق المعصوم كالقول _ بوقوعها _ مناف للقول بالعصمة.

فلو أن ذلك البعض قد ذكر هذا الإحتمال وبادر إلي ردّه وإبطاله بصورة حاسمة، لم يكن ثمّة إشكال.. ولكنه لم يفعل

ذلك، بل أبقاه احتمالا واردا، وله درجة من المقبولية، إلي درجة أنه بعد التأمل يكتفي بترجيح الإحتمال الآخر عليه، ولا يمكن قبول هذا الأمر في حق الأنبياء ولو علي مستوي الإحتمال.

2ً_ إن من البديهي: أن الآيات الكريمة لا تؤيد ما ذكره، بل فيها ما يدل علي خلافه، وأن الشيطان لم يوسوس لموسي (ع)، ولا ارتكب موسي (ع) جريمة دينية، ولا أخطأ، ولا غير ذلك مما احتمله هذا البعض. وذلك لأن هذه الآيات بدأت بذكر إعطاء موسي عليه السلام حكما وعلما جزاءً علي إحسانه، ثم ذكرت ما جري له مع ذلك الرجل الذي هو من عدوه، فهي تقول: (ولما بلغ أشده واستوي آتيناه حكما وعلما، وكذلك نجزي المحسنين) [77] .

3ً_ ثم ذكرت الآية التي بعدها هذه القصة، وصرحت بأن المقتول كان رجلا من الأعداء، فهي تقول: (فاستغاثه الذي من شيعته علي الذي من عدوّه، فوكزه موسي فقضي عليه).

والمراد بالعداوة عداوة الدين والإيمان.

4ً_ وقوله: (هذا من عمل الشيطان) يقصد به أن الاقتتال بين الرجلين قد نشأ من وسوسة الشيطان، الذي حرّض علي الفتنة، حتي انتهي الأمر إلي القتال بين الرجلين، اللذين أغاث موسي (ع) أحدهما، الذي كان من شيعته علي الذي من عدوّه، ولا يقصد به أن موسي (ع) نفسه قد تأثر بالشيطان، فإن كلمة هذا ليست إشارة إلي القتل، وإنما هي إشارة إلي القتال الذي بدأه العدو، وانتهي بمبادرة موسي (ع) لنصرة ذلك المظلوم.

5ً_ إن موسي (ع) بنص_رته ل_ذلك المظلوم، لم ي_كن مجرما ولا مخطئا، وإنما كان يطيع أمر الله، ويعمل بتكليفه وواجبه الشرعي في دفع الكافر الظالم عن المؤمن المظلوم ولو أدي ذلك إلي قتل هذا الكافر.

وقد روي عن

الإمام الرضا عليه السلام قوله: "فقضي علي العدوّ بحكم الله تعالي ذكره، فوكزه موسي فقضي عليه"، وحينما قال له فرعون: (وفعلت فعلتك وأنت من الكافرين) أجابه هازئا ومستنكرا مرددا قول فرعون بصيغة السؤال: (فعلتها إذا وأنا من الضالين)؟!.

ولو لم يكن ذلك، فلا معني لإقحام كلمة (إذا) التي يراد بها ردّ الكلام علي قائله، علي سبيل الإنكار عليه.

6ً_ ومما يشير إلي ذلك أيضا: أن موسي (ع) حين قتل الذي من عدوه لم يكن من الضالين.. بل كان الله قد آتاه حكما وعلما.. كما ذكرت الآيات.

كما أنه عليه السلام قد كان من عباد الله المحسنين، فاستحق المكافأة علي إحسانه، فلم يكن ليظلم غيره، فيقتل نفسا بريئة ويرتكب جريمة دينية!!!

7ً_ فما حكاه الله سبحانه عن موسي(ع) بعد تلك الحادثة بقوله: (قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فغفر له)، يراد به: أنه قد انتهي به الأمر بدخوله المدينة، ثم بقتله للذي من عدوّه، إلي أن يحتاج إلي تدخل إلهي ليستره عن عيون الفراعنة، الذين يطلبونه.. فقد صدر منه فعل له عواقب تعود علي النفس بالمشقة والمتاعب، ويحتاج إلي ستر الله سبحانه، وإلي معونته، وقد روي عن الإمام الرضا عليه السلام في تفسير هذا الموضع قوله: (فاغفر لي)، أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي، فيقتلوني، (فغفر له، إنه هو الغفور الرحيم)، ومعني الغفران الستر، وسمي المِغفَر – الذي يستعمل في الحرب _ مغفرا لأنه يستر الرأس، ويقيه ضرب السيوف.

ولو صح منه (ع) طلب المغفرة من الذنوب، فقدعرفت أنها إنما تكون من المعصومين بمعني دفع المعصية عنهم، لا رفع آثارها بعد وقوعها منهم.

8ً_ ثم إن موسي (ع) يصر علي مواصلة الطريق في نصرة

المظلومين، ويقطع علي نفسه عهدا بذلك فيقول: (رب بما أنعمت علي) أي بهذه الحماية والستر، (فلن أكون ظهيرا للمجرمين) وسوف أستمر.. يقول الإمام الرضا عليه السلام: رب بما أنعمت علي من القوة حتي قتلت رجلا بوكزة، فلن أكون ظهيرا للمجرمين بل أجاهدهم بهذه القوة حتي ترضي.

9ً_ ثم وجد موسي(ع) ذلك الرجل الذي استنصره بالأمس يستصرخه اليوم علي آخر، فعاتبه علي دخوله في هذا النزاع الجديد بقوله: (إنك لغوي مبين)، لا تسلك سبيل الرشد ولماذا لا تتفادي المشكلات مع أعداء الله بحكمة وروية؟ ثم بادر موسي عليه السلام ليبطش بعدوّ الله، فظن المؤمن أنه يريد البطش به هو، لأنه كان قد أنّبه قبل ذلك، لا البطش بعدوّه، فقال له (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس)، فسمعها الذي من عدوّه وذهب إلي فرعون وأخبره بالأمر.

وهكذا يتضح: أن الآيات المذكورة بعيدة عن إفادة تلك القضايا التي حاول البعض استفادتها منها، حتي احتمل بحق نبي من أولي العزم ما لا يصح نسبته إلي من رتبته دون ذلك بكثير، والإستيحاء من الآيات إذا كان علي هذا النحو، فهو غير مقبول، لا عقلا ولا شرعا.

خطأ الأنبياء في تقدير الأمور.

العصمة إنما هي فيما يعتقد أنه معصية.

الجهل المركب عند الأنبياء.

نقاط ضعف الأنبياء في حياتهم العملية.

الضعف البشري عند الأنبياء.

جهل النبي بتكليفه الشرعي.

ثم هو يتحدث عن خطأ الأنبياء في تقدير الأمور، فيقول:

"وتبقي لفكرة العصمة بعض التساؤلات: كيف يخطئ هارون (ع) في تقدير الموقف وهو نبي؟ أو كيف يخطئ موسي (ع) في تقدير موقف هارون(ع)، و هو النبي العظيم؟!. وكيف يتصرف معه هذا التصرف؟!

ولكننا قد لا نجد مثل هذه الأمور ضارة بمستوي العصمة، لأننا

لا نفهم المبدأ بالطريقة الغيبية التي تمنع الإنسان من مثل هذه الأخطاء في تقدير الأمور، بل كل ما هناك أن لا يعصي الله فيما يعتقد أنه معصية، أما أنه لا يتصرف تصرفا يعتقد أنه صحيح ومشروع، فهذا ما لا نجد دليلا عليه.

بل ربما نلاحظ في هذا المجال أن أسلوب القرآن في الحديث عن حياة الأنبياء(ع)، في نقاط ضعفهم في حياتهم العملية قد يؤكد الحاجة إلي الإيحاء بأن الرسالة لا تتنافي مع بعض نقاط الضعف البشري في الخطأ في تقدير الأمور" [78] .

ونقول:

إذا جوّزنا علي النبي أن يقع في التصرف الخاطئ، وإن اعتقد أنه صحيح ومشروع، فلازم ذلك أن لا يكون فعل النبي حجة، مع أن من المسلّم به: أن سيرة المعصومين بأجمعهم حجة وطريق إلي أحكام الله تعالي.. هذا كله عدا عما تقدم في مختلف العناوين التي استخلصناها من كلمات ذلك البعض فلتراجع.

وسنتحدّث بإيجاز بعد الفقرة التالية عن حقيقة موقفي ه_ارون (ع) وموسي (ع) حيث سيظهر: أن الآيات تدل علي خلاف ما ينسبه هذا البعض إلي أنبياء الله سبحانه، فانتظر.

إختلاف نبيَّين في الرأي في مسألة واحدة.

موسي (ع) يغضب لله سبحانه علي هارون (ع).

موسي (ع) يحمّل هارون مسؤولية ضلال قومه.

هارون (ع) يتساهل مع قومه وموسي يعنف.

موسي (ع) يشعر بالحرج مما صدر منه.

لو احتاط موسي وهارون لكانت النتائج أفضل.

خطأ موسي أو هارون (ع) في تقدير الموقف.

مرة أخري العصمة لا تمنع من الخطأ في تقدير الأمور.

الجهل المركّب لدي الأنبياء (ع).. ثانية.

لا يفهم العصمة بالطريقة الغيبية.

هارون (ع) مقصر لكنّه ليس بعاصٍ.

ويقول ذلك البعض:

"وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، في تعبير صارخ عن الحالة

النفسية التي كان يعيشها موسي إزاء ما حدث،.. وربما تحدّث الكثيرون عن مبدأ العصمة في شخصيته كنبيّ.. وعن التساؤل الإيماني، في مدي انسجام هذا التصرف الغاضب مع هذا المبدأ.. ولكننا لا نجد هناك تنافيا بينهما إذا أردنا أن نأخذ القضية ببساطة تحليلية بعيدا عن التعقيد والتكلف.. فموسي بشر يغضب كما يغضب البشر، ولكن الفرق بينه وبينهم، أن لغضبه ضوابط في التصرفات، فلا يتصرف بما لا يرضي الله وفي الدوافع فلا يغضب إلا لما يرضاه الله.. وقد غضب علي قومه لله.. وعلي أخيه هارون لنفس الغرض.. لأنه اعتبره مسؤولا عما حدث، من خلل التساهل معهم، وعدم ممارسة الضغط الشديد عليهم، ومنعهم من ذلك، فقد كان تقديره، أن رفع درجة الضغط يمكن أن تساهم في منع ما حدث.. ما لم يقم به هارون.. فكان موسي منسجما مع نفسه، ومع دوره، وصفته.. فيما اتخذه من إجراء مع هارون.. ولكن هارون كان له رأي آخر.. فقد وقف ضدّهم، وواجههم بكل الوسائل التي يملكها في الضغط عليهم.. ولكنهم كانوا لا يهابونه كما يهابون موسي من خلال شخصيته القوية، فيما عاشه من عنف المواجهة مع فرعون، حتي قهره".

إلي أن قال:

"(قال ابن أم إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء..) فلم أفعل ما أحاسب عليه، لأن الظروف كانت أقوي من قدرتي.. فقاومت حتي لم يعد هناك مجال للمقاومة.. وجابهت.. حتي كدت أن أقتل.. فإذا تصرّفت معي بهذه الطريقة.. فإن ذلك سوف يكون دافعا لشماتة الأعداء بي.. لأنني قاومتهم وجابهتهم.. وها هم يرونني أمامك واقفا وقفة المذنب من دون ذنب.. فلا تفعل بي ذلك (ولا تجعلني مع القوم الظالمين)، لأني قمت بما اعتقدت انه مسؤوليتي من دون تقصير..

وشعر

موسي بالحرج.. وسكن غضبه.. فرجع إلي الله يستغفره، لنفسه ولأخيه، لا لذنب ارتكباه.. ولكن للجوّ الذي ابتعد فيه القوم عن الله، من خلال الفكرة التي كانت تلح عليهما.. فيما لو كان الإحتياط للموقف أكثر، فقد تكون النتائج أفضل..".

إلي أن يذكر هنا ما تقدم قوله آنفاً من قوله:

"وتبقي لفكرة العصمة.. بعض التساؤلات"

إلي قوله:

"في الخطأ في تقدير الأمور" [79] .

ويقول البعض أيضا:

"ربما كانت القضية علي أساس أنه اعتبر أن هارون قصّر، وليس من الضروري أن يكون تقصيره معصية..".

إلي أن قال:

"هارون عنده تقييم معين للمسألة، وانطلق فيها من حالة أنه قال: (إني خشيت أن تقول: فرقت بين بني إسرائيل)، ولهذا واجه القضية بطريقة لينة.

وكان موسي (ع) يعتقد علي أنه لازم تواجه القضية بقوة، لأن بني إسرائيل لا يفهمون إلاّ بلغة القوة.. الخ.." [80] .

وقفة قصيرة

إن من الواضح: أن مخالفة هارون لموسي، الذي هو إمام لهارون، إنما تعني التأسيس لتجويز مخالفة كل مأموم لإمامه، وتبرير خروجه عليه. أضف إلي ذلك أن الإختلاف في الرأي هنا يستبطن وجود مخطئ ومصيب، فبأيهما تكون الأسوة والقدوة للناس والحالة هذه، والمفروض أن كلاً منهما نبي ومعصوم!!؟

وأضف إلي ذلك أيضا: أنه إذا كان اختلاف الرأي يرتبط بالدعوة وأسلوبها، فذلك يعني أن هذا النبي يجهل تكليفه الشرعي، فكيف يمكنه تبليغه للناس، وإعلامهم به؟! ألا يلزم من ذلك تبليغ حكم خاطئ لا واقع له؟!

والذي نقوله نحن هنا هو: أنه لم يكن ثمة اختلاف في الرأي، فيما بين موسي وهارون عليهما السلام، ولا كان ثمّة جهل بالتكليف الشرعي، ولا غير ذلك مما تقدم، فان الإختلاف في الموقف تجاه الواقعة الواحدة، ينبئ عن جهل بالحكم الشرعي، في

كيفية التعاطي مع بني إسرائيل.

كما أن اتهام نبي بالتساهل في القيام بمهماته، وتسببه في ما حصل للناس، من انحراف وضلال تعتبر تهمة خطيرة علي مستوي الإعتقاد في الأنبياء وفي النبوات بصورة عامة، بل في هذا اتهام صريح لحكمة الله تعالي، حيث أرسل مع موسي من ينقض غرضه في تبليغ الرسالة، ويكذب توقعاته فيه، كما جاء في الآية الكريمة: (واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، أشدد به أزري) [81] .

ومهما يكن من أمر فإن الآيات الشريفة قد فسرت علي غير وجهها الصحيح، إذ إنّ ما أظهره موسي (ع) تجاه أخيه هارون (ع) لم يكن سببه الإختلاف في الرأي بينهما في كيفية المعاملة، بل كان من أجل إظهار خطر ما صدر منهم، ومدي بشاعة الجريمة التي ارتكبوها.. ثمّ من أجل إظهار براءة هارون(ع)، وتحصينه من نسبة القصور أو التقصير إليه.

وقد بين موسي (ع): أنه لم يتهمه بمعصية أمره ليستحق _ بزعم البعض _ هذه المواجهة القاسية، وهذا العتاب والتوبيخ بهذه القوة، بل وجّه إليه سؤالا عن ذلك ليسمع الناس جوابه الذي يتضمن برهانا إقناعيّا يدل علي دقّته، وحسن تقديره للأمور، وقد قبل موسي منه ذلك بمجرد تفوهه به، ودعا لنفسه وله، كما جاء في قوله تعالي: (ربي اغفر لي ولأخي، وأدخلنا في رحمتك، وأنت أرحم الراحمين).

وأما ما زعمه هذا البعض من أن هارون عليه السلام كان يري لزوم معاملتهم باللين، وكان موسي عليه السلام يري لزوم الشدة في ذلك، فهو لا يصح، وذلك لما ذكرناه آنفا، ولأن هارون قد وصل معهم إلي درجة المواجهة، حتي لقد قال لأخيه موسي: (إنّ القوم استضعفوني، وكادوا يقتلونني)

وأما القول بأن موسي عليه السلام قد غضب

علي أخيه هارون عليه السلام، وكان غضبه لله سبحانه وتعالي، فذلك يعني أنه عليه السلام كان يتهم أخاه النبي هارون صلوات الله وسلامه عليه بارتكاب المعصية، ويحمّله مسؤولية ما جري، ويتهمه بالتساهل والتخلف عن أن يكون عضدا له، يشد أزره، ويشركه في أمره، وذلك مما لا يمكن قبوله في حق الأنبياء.

وهكذا يتضح أن كل ما ذكره ذلك البعض أجنبي عن دلالة الآيات.

أصول العقيدة تعرف بالسمع لا بالعقل.

لا دليل يصرف معني الرؤية عن الرؤية الحسية.

النبي موسي(ع) لا يعرف: أن الله لا يري.

الله يعلّم أنبياءه أصول العقيدة بالتدريج.

لا يبعد أن سؤال موسي عن رؤية الله الحسية.

وأيضا.. نقاط الضعف لدي الأنبياء.

الله يسلط نوره علي الجبل فكيف لو تسلط عليه بنفسه؟

موسي والتحاليل الفلسفية والمعادلات العقلية في استحالة تجسد الإله وإمكانه.

ويقول ذلك البعض:

"ولما جاء موسي لميقاتنا وكلمه ربه قال رب ارني انظر إليك،.. ووصل موسي إلي الموعد الذي أعطاه الله له.. وكلمه ربه.. فيما يريد أن يوحي به إليه.. واندمج موسي في الجوّ الإلهي.. وشعر بالسعادة الغامرة تغمر قلبه.. ففاضت روحه بالأشواق الروحية، فيما توحيه كلمات الله إليه.. وفيما تمثله من معاني القرب من الله، والوصول إلي الدرجة العليا من رضوانه.. وبما توهج في كيانه من إشراق النور الإلهي في لحظة روحية حالمة.. فطلب من ربه أن ينظر إليه.. فقال: رب ارني انظر إليك فقد خيل إليه أن من يسمع كلام الله، يستحق أن يراه.. أو يمكن له أن يطلب رؤيته.. وهنا يقف المفسرون وقفة حيرة فلسفية كلامية.. فكيف يمكن لهذا النبي العظيم أن يطلب مثل هذا الطلب المستحيل من ربه.. وهو يعرف من خلال سموّ درجته، ورفعة منزلته

في عالم المعرفة بالله.. أن الله ليس جسدا ماديا محسوسا لتمكن رؤيته.. فهو ليس كمثله شيء.. وأجاب بعضهم أن المراد بالنظر.. الرؤية القلبية التي هي كناية عن العلم الواسع بالحقيقة الإلهية.. وأجاب آخرون.. بأنه لم يسأل انطلاقا من قناعة بالسؤال، أو انسجام معه.. بل كان سؤاله استجابة لسؤال قومه الذين رافقوه إلي الموعد الإلهي.. فأراد أن يجعلهم وجها لوجه أمام الجواب الصاعق علي هذا السؤال.. ولكننا لا نستبعد أن يسأل موسي هذا السؤال.. فقد لا نجد من البعيد في مجال التصور والإحتمال أن لا يكون قد مرّ في خاطر موسي مثل هذا التصور التفصيلي للذات الإلهية.. لأن الوحي لم يكن قد تنزل عليه بذلك.. ولم يكن هناك مجال للمزيد من التحاليل التأملية للجانب الفلسفي من المعادلات العقلية التي تتحدث عن استحالة تجسد الإله أو إمكانه.. لأن ذلك قد لا يكون مطروحا لدي موسي (ع).. ونحن نعرف، تماما، معني التكام_ل التدريجي للتصور الإيماني في شخصية ال_رس__ول ال_ف_كري_ة.. ولهذا فإننا نح_اول هنا أن نسجل تحفظنا علي الكثير من الأحكام المسبقة التي تحاول تطويق النص القرآني ببعض الإستبعادات الذاتية.. كما في مثل هذه الآية.. فإننا نلاحظ أن تصورنا لشخصية الأنبياء، يبدأ من القرآن، فيما يحدثنا عنهم من أحاديث، ويسبغه عليهم من صفات فهو المصدر الأساس الأمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. ونحن نري أن الحديث القرآني يركز في بعض نقاطه علي نقاط الضعف لدي الأنبياء كما يركز علي نقاط القوة عندهم.. من موقع البشرية التي يريد القرآن أن يركزها في التصور القرآني في أكثر من اتجاه.. فهل نريد أن ندخل في مزايدة كلامية علي القرآن، فيما يتعلق بمثل هذه الأمور.. فنفرض لأنفسنا تصورات

معينة للأنبياء ثم نحاول تأويل كلام الله بطريقة لا يتقبلها النص في بعض الأحيان.. إننا نفهم التأويل حملا للفظ علي خلاف الظاهر، علي أساس المجاز أو الكناية أو ما يقترب منهما.. ولا بد للخروج من الظاهر أن يكون هناك دليل لفظي أو عقلي حتي نصرف اللفظ عن الظاهر من خلاله.. ولا نجد شيئا من هذين في موضوع هذه الآية، فليس هناك مانع من إرادة النظر بالمعني الحسي فيما طلبه موسي بل هو الظاهر الواضح جدا في أجواء الآية من خلال التجربة التي قدمها الله أمامه، فيما تعطيه كلمة التجلي من أجواء استحالة الرؤية البصرية فيما وجّهه الله للجبل من نوره الذي لا يستطيع الجبل أن يتماسك معه.. فكيف لو كان التجلي له _ سبحانه _.. ثم لو كان المراد الرؤية القلبية لما كان هناك وجه قريب لهذه التجربة في انهيار الجبل، فيما تعطيه من معني مادي للمسألة.. لأن الجبل لا يحمل أي جوّ للجانب القلبي في الموضوع في تأثره بنور الله.. (قال لن تراني..) لأن الرؤية لا تكون إلا للمحدود الذي يحمل خصائص مادية، فيما يستحيل فرضه بالنسبة إلي الله الذي لا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء.. (ولكن انظر إلي الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني..) إنها التجربة التي تعطي لموسي فكرة توضيحية للمسألة المطلوبة.. ولكن من جانب آخر.. فقد أراد الله له أن ينظر إلي هذا الجبل العظيم.. وهو يتهاوي قطعة قطعة حتي يتحول إلي رميم أمام التجلي الإلهي الذي قد يكون كناية عن تسليط نوره عليه.. فكيف يمكن لمخلوق مثله أن يواجه نور الله.. فضلا عن أن يواجه الله بذاته _ لو كان ذلك أمرا ممكناً [82] .

وقفة قصيرة

إن موضوع رؤية الله سبحانه،

وصفاته، وأصول العقيدة، هي من الأمور التي يدركها العقل، وبه تعرف، وليست مما يعرف بالسمع، إلا من حيث تأكي_د حكم العق_ل، والإرش_اد إليه.

إذن كيف لم يكن موسي النبي (ع)، الذي سبق له مواجهة فرعون، المدعي للربوبية، كيف لم يكن يعرف _ علي حد قول البعض _ إلي مضي زمن طويل من نبوته أن الله سبحانه لا يري؟.

فهل يعقل أنه لم يخطر في بال موسي أن يستعد لمواجهة طلب محتمل جدا من فرعون ومن بني إسرائيل رؤية هذا الإله الذي كان يأتيه جبرئيل بالأوامر والتوجيهات والتوجهات من قبله، ولم يطلب من جبرئيل أن يجمعه به ويتحدث إليه!!

ويقول:

" لذلك فإن الله تعالي لم يعرِّف موسي حتي ذلك الوقت أنه لا يري" [83] .

ولا ندري لماذا لم يكن قد مر في خاطر موسي هذا التصور التفصيلي للذات الإلهية؟ وكيف خيّل إليه ذلك في هذا الوقت بالذات، ولم يخيل ذلك قبل هذا الوقت؟! ولماذا لم يعرفه الله ذلك في بدايات نبوته وانتظر إلي أن مضت هذه المدة كلها؟! وهل يمكن أن يرسل تعالي نبيا لا يعرفه حق المعرفة؟ وهل يمكن أن نقبل ممن لا يعرف أصول الدين وصفات الباري تعالي أن يكون مرشدا دينيا في قرية؟ فكيف نرتضي أن يكون نبيا لله سبحانه _ فضلا عن أن يكون نبيا من أولي العزم _ أرسله الله إلي فرعون مدعي الربوبية؟ وكيف نسي فرعون، ومن معه، أن يسألوه عن هذا الإله الذي أرسله، من هو، وأين وكيف هو؟..

وكيف يمكن أن نفهم تعليل ذلك البعض وتوضيحه لهذا الأمر بقوله: إن الله كان يعرف أنبياءه أصول العقيدة وصفاته بالتدريج [84] .

ومن أين عرف هذا البعض، هذا

الأمر التاريخي المرتبط بالتعاطي التعليمي لله سبحانه مع أنبيائه؟!! وهل صحيح: أن أصول العقيدة تعرف بالسمع؟! وبالتدريج؟! أَوَلا يوجد دليل عقلي يمنع عن الأخذ بظاهر الآية ويصرف الرؤية عن ظاهرها؟!..

وهل كان هذا الطلب اقتراح_ا من موسي مباشرة؟ أم كان استجابة لطلب قومه منه، ليؤكد لهم بصورة عملية ع_دم صحة طلب كهذا؟

ربما كان القبطي مستحقا للقتل (أي وربما كان لا يستحق القتل فيكون قتله جريمة).

موسي يفعل أمرا محرّماُ بغير قصد.

موسي (ع) يقر علي نفسه بالضلالة وعدم الهدي.

موسي يعترف بجهله بالنتائج السلبية لقتله القبطي.

كان موسي حين قتل القبطي ضالاً، لم يحدد لنفسه الطريق المستقيم المنطلق من قواعد الشريعة.

الضعف البشري قبل النبوة بسبب فقد الهداية التفصيلية.

موسي ارتكب ما لو كان في الموقع الذي هو فيه بعد النبوة لما فعله.

لم يكن قتل القبطي ضروريا.

يقول البعض:

".. كيف اعترف موسي علي نفسه بالضلال؟

(قال فعلتها إذاً) أي حينئذ (وأنا من الضالين) أي الجاهلين بالنتائج السلبية التي تترتب عليّ فيما أدي إلي أكثر من مشكلة اعترضت حياتي وأبعدتني عن أهلي وبلدي، مع أن القضية كانت تحل بغير ذلك.. فلم أفعلها في حال الرسالة لتكون تلك نقطة سوداء تسجلها علي في موقعي الرسالي، بل فعلتها قبل أن يلهمني الله الهدي المتحرك في خط الرسالة، عندما كنت ضالاً لم أحدّد لنفسي الطريق الواضح المستقيم المنطلق من قواعد الشريعة المنزلة القائمة علي التوازن فيما يصلح الإنسان أو يفسده.. وبذلك نستوحي من الفقرة في الآية أن الضلال ليس بالمعني الوجودي المضاد الذي يعبر عن الإنحراف، بل بالمعني السلبي المعبر عن عدم معرفة طريق الهدي، الذي يضيء عمق الأمور علي أساس المصلحة الحقيقية للإنسان.

القرآن يثير

نقاط الضعف البشري في الأنبياء وفي ضوء ذلك، نفهم كيف يقدّم لنا القرآن شخصية النبي من نقاط الضعف البشري قبل النبوة، عندما كان بعيدا عن الإهتداء التفصيلي بالشريعة والمنهج، خلافا للفكرة المعروفة لدي الكثيرين من العلماء الذين لا يوافقون علي أن النبي يمكن أن يضعف أمام عوامل الضعف الذاتي قبل النبوة أو بعدها، حتي فيما لا يشكّل معصية، أو انحرافاً خطيراً عن الخط المستقيم.

وهكذا واجه موسي الموقف بشجاعة الإعتراف بما فعله قبل أن يُبعث بالرسالة، ويهتدي بالحق من خلال الوحي النازل من الله.. فلم يسقط أمام التحدي الذي وجهه فرعون للرسالة علي أساس ما وجهه لشخصه من عمل سابق.. بل أكده في مواقعه الذاتية قبل الرسالة قبل أن ينزل عليه الهدي الذي يدعو إليه الناس الآن، فارتكب ما ارتكبه في الجوّ الذي لو كان في الموقع الذي هو فيه الآن لما فعله، لا لأنه فعل حراماً فلم يكن متعمداً للمسألة، وربما كان الشخص يستحق القتل، بل لأنه لم يكن ضروريا بالمستوي الذي وصلت إليه القضية في نتائجها السلبية علي مستوي حياته الشخصية فيما أدت إليه من إرباك وتعقيد.." [85] .

وقفة قصيرة

إن ما ذكره هذا البعض قد تضمن عدة نقاط لا يمكن قبولها وهي التالية:

1 _ قلنا فيما تقدم من هذا الكتاب: إن جواب موسي(ع) لفرع_ون، حين ذك_ر فعلته بقتله للقبطي: (قال فعلتها إذن، وأنا من الضالين) يراد به السخرية من كلام فرعون بقرينة كلمة (اذن). وقد شرحنا ذلك هناك بما يناسب المقام فليراجع.

ولم يكن موسي (ع) بصدد الإعتراف بالجهل بالنتائج السلبية لما فعله، فإنه حتي الإنسان الغبي يدرِك النتائج المترتبة علي قتل إنسان مّا من أيّ فئة كانت، فكيف إذا كان يعلم

أن وراء هذا المقتول أمة بأسرها، بما فيها حاكمها المستكبر المدعي للألوهية؟.

2 _ ولا ندري كيف حكم هذا البعض علي موسي (ع) أنه حين قتل القبطي كان ضالاً لا يعرف قواعد الشريعة؟!..

مع أن هذا البعض قد فسر قوله تعالي: (لقد جئت شيئاً نكراً) (في مسألة قتل الغلام مع العبد الصالح بحضور موسي) بأنه قتل النفس أمر ينكره العقل و الشرع و العرف الأمر الذي يبطل كلامه هنا.

ألم يكن موسي (ع) علي علم بشريعة إبراهيم التي كان البشر كلهم مطالبين بالعمل بها؟!..

ولنفترض أنه لم يكن علي علم بتفاصيل أحكام الشريعة الربانية، فهل كان ما فعله من الأمور الغامضة، التي تحتاج في الإقدام عليها إلي معرفة تفاصيل الشريعة؟!.

وهل كان يحتمل أحد أن تأبي الشريعة قتل هذا الكافر المحارب المتعدي علي الأبرياء، والذي يحاول قتلهم؟!

3 _ كيف عرف هذا البعض أن موسي (ع) قد ارتكب قبل النبوة ما لا يفعله بعدها؟! فإن هذا الحكم الجازم ليس له ما يبرره! كما أن هذا مخالف لما عند الشيعة الامامية من أن النبي معصوم مطلقاً قبل البعثة وبعدها.

4 _ ومن أين عرف أن موسي (ع) لم يكن نبيا من أول أمره.؟

5 _ ومن أين عرف أيضا أن قتل القبطي لم يكن ضروريا حتي أدركه هو، ولم يدركه موسي آنذاك؟!.

6 _ ومن أين استنتج أن قتل القبطي عائد إلي وجود ضعف بشري لدي موسي (ع) قبل نزول النبوة، ثم استنتج من ذلك بطلان ما يذهب إليه البعض من تنزيه الأنبياء عن أي ضعف بشري قبل النبوة وبعدها؟.

وهل هذه إلا دعوي ليس لها ما يبررها، لا من عقل ولا من نقل؟.

كما أنه

هو نفسه يصرح في نفس كتابه (من وحي القرآن) بأن كل ما كان يريده موسي هو أن يدافع عن الذي من شيعته، ويخلصه من بين يدي القبطي، فحصل القتل منه من دون قصد.

إذن فلم يكن في الأمر جريمة ناتجة عن ضعف بشري ولا غيره..

7 _ وأخيراً فإن هذا البعض يجوّز علي الأنبياء أن يرتكبوا جرائم قبل النبوة حتي بمستوي قتل النفس البريئة، وفقا لما احتمله في كتابه في هذا المورد بالذات، وهذا امر مرفوض في عقائد الشيعة الإمامية كما هو معلوم، إذ قتل النفس المحترمة هو من الكبائر التي توعّد الله فاعلها بالنار؟!.

غريزة الفضول لدي موسي عليه السلام.

لا دليل علي ضرورة علم النبي بما لا يتصل بمسؤولياته من علوم الحياة والإنسان.

يمكن أن يكون لمن لا يعلم بعض الأمور حق الطاعة علي العالم بأمور أخري.

القرآن لا يتحدث عن الأنبياء، من خلال الكمال القريب من المطلق.

القرآن لا يتحدث عن الأنبياء من خلال الأسرار الخفية.

موسي استعجل المعرفة قبل توفّر عناصر النضوج لديه.

استعجال موسي من شأنه أن يحوّله إلي إنسان سطحي في تفكيره.

يقول البعض:

".. ولكنّ هنالك رأياً، يقول: إن العقل لا يفرض، في مسألة القيادة والإمامة والطاعة، إلا أن يكون الشخص الذي يتحمل هذه المسؤوليات محيطا بالجوانب المتصلة بمسؤولياته، فيما لا يحيط به الناس إلا من خلاله..أما الجوانب الأخري من جزئيات حياتهم العامة، أو من مفردات علوم الحياة والإنسان، أو من خفايا الأمور البعيدة عن عالم المسؤولية، أماّ هذه الجوانب فلا دليل علي ضرورة إحاطته بها.. ولا يمنع العقل أن يكون لشخص حق الطاعة في بعض الأمور التي يحيط بها، علي الناس الذين يملكون إحاطة في أشياء أخري

لا يحيط بها ولا تتعلق بحركة المسؤولية..

وربما كانت هذه القصّة دليلاً علي صحة هذا الرأي الذي نميل إليه، كما يميل إليه بعض العلماء القدامي.. لأنه يلتقي بالجو القرآني الذي يتحدث عن الأنبياء بطريقة معينة بعيدة عما اعتاده الناس في نظرتهم إليهم من خلال الأسرار الخفيّة، والكمال القريب من المطلق."

إلي أن قال:

"..(وكيف تصبر علي ما لم تحط به خبرا) مما قد تري فيه انحرافا عن الموازين التي تزن بها الأمور علي أساس ما تراه قاعدة للشرعية أو فيما تتصوره منسجما مع طبيعة الواقع الذي تخضع في تقييمك له، لرؤية معينة..الأمر الذي يجعلك تنتفض وتحتج وتستثير فضولك لتطرح السؤال تلو السؤال لتتعرف طبيعة المسألة، لأن الإنسان الذي رُكّب تكوينه علي أساس غريزة الفضول، فيما أراده الله من إثارة قلق المعرفة في ذاته كسبيل من سبل الحصول عليها، أو الذي يملك قاعدة معينة للتفكير، قد تختلف عن غيره، لا بد له أن يعبّر عن موقفه بطريقة متوترة لا تملك الصبر علي ما يواجهه من علامات الاستفهام، أو علي ما يراه من مظاهر الإنحراف.. ولكن موسي يصرّ علي الحصول علي شرف مرافقته، لأن الله يريد له ذلك، فهو مأمور باتباعه.

(قال ستجدني إن شاء الله صابراً) فيما يصبر عليه طالب المعرفة من الجهد النفسي والعملي الذي يتحمله في سبيل الحصول عليها.. إنه العزم الذي يتحرك في إرادتي التي لا أضمن امتدادها في خط الإلتزام العملي إلا بمشيئة الله، فيما يقدّره من أسباب، وفيما يخلقه من ظروف، وفيما يثيره في حياتي من أفكار ومشاعر، قد تغير العزم، وتسقط الالتزام، إن القضية هي أني أعدك بالصبر، فسأكون صابرا، أتحمل كل النوازع الذاتية الصعبة (ولا أعصي لك أمرا) كما

هو دور التلميذ مع أستاذه الذي يثق بكفاءته وحسن تقديره للأمور، وإخلاصه في سبيل رفع مستواه.

ولكن العبد الصالح يريد أن يحدد المسألة في دائرة محددة في خط الأسلوب العملي للمعرفة.. فهو لا يريد أن يبادر تلميذه بالمعرفة، ولا يريد له أن يبادره بالسؤال.. بل يريد له أن يتأمل، ويثير الفكرة في داخله، ويحاول أن يحصل علي طبيعة التعمّق في القضايا من خلال المعاناة الفكرية التي تمنحه قوّة عقلية متقدمة، كما يريد له أن يحصل علي ملكة الصبر في مواجهة المشاكل الفكرية المعقدة، فلا يستعجل الوصول إليها قبل توفر عناصر النضوج لديه فيتحول إلي إنسان سطحي في تفكيره..

(قال فإن اتبعتني فلا تسألن عن شيء) مما لم تعرف وجهه، ولم تحط بخفاياه (حتي أُحدِثَ لك منه ذكرا) وأبدأ حواري معك، عندما تحين اللحظة المناسبة، التي أري فيها المصلحة للحديث عن الموضوع معك.. وهذا هو شرطي الوحيد الذي أضعه أمامك للموافقة علي أن تصاحبني في هذا الطريق" [86] .

وقفة قصيرة

ونقول:

1ً _ إن موسي (ع) لم يسأل العبد الصالح انطلاقا من غريزة الفضول لديه، بل انطلاقا من الإحساس بالتكليف الشرعي القاضي بعدم السكوت علي ما يخالف أحكام العقل والفطرة والدين. ولو بحسب الظاهر، فبادر إلي السؤال ليستطيع علي ضوء ذلك أن يحدد موقفه الشرعي.

وهذا الأمر هو الذي أعطي موسي (ع) وسام الإستحقاق لمقام النبوة، فإنه قد نجح في الامتحان الذي استهدف تجسيد مدي حساسيته تجاه قضايا الحق والدين.

2ً _ إن اتهام نبي من أنبياء الله بأنه يتخذ مواقفه من خلال تحرّك غريزة الفضول لديه ناشئ عن عدم الاهتمام باحترام مقام الأنبياء في مقام الخطاب والحديث عنهم، وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلا.

3ً _ إن

ما استقربه من أنه لا دليل علي لزوم معرفة النبي بأكثر مما يتصل بمسؤولياته في القيادة والإمامة والطاعة.

وأنه يمكن أن يكون هناك من هو أعلم من النبي في مفردات علوم الحياة والإنسان.

إن ذلك مما لا مجال لقبوله منه، وذلك لوجود أحاديث متواترة في مجالات مختلفة تدل علي خلاف هذا الكلام. ففي الكافي _ كتاب الحجة _، وفي بصائر الدرجات وفي البحار طائفة كبيرة جدا من هذه الأحاديث فليراجعها من أراد، وتلك هي الدليل القاطع علي عدم صحة هذه المقولة.. وسيأتي حين الحديث عن الولاية التكوينية للمعصوم ما يفيد في هذا المجال..

4ً _ أما قوله:

"إن استعجال موسي (ع) بالسؤال يحوله إلي إنسان سطحي في تفكيره"

فلو صح لمنع من مبادرة الأنبياء والأوصياء والأولياء والعلماء وغيرهم إلي طرح أسئلتهم في مختلف المجالات، لأن ذلك يحولهم إلي سطحيين، مع أن من يراجع آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة يجد أن الأمر قد جري منهم علي خلاف هذا التوجيه، حيث نراها زاخرة بالأسئلة منهم عليهم السلام في مختلف الشؤون، ولم يتحولوا بسبب ذلك إلي أناس سطحيين.

5ً _ لا ندري من أين عرف هذا البعض: أن موسي (ع) قد استعجل المعرفة قبل توفّر عناصر النضوج لديه. فهل دله علي ذلك آية أو رواية؟ أم أنه كان حاضراً وناظراً آنذاك؟! أم هو الاستيحاء، والتظني الذي لا يقوم به حجة، ولا يستند إلي برهان؟ ام ماذا؟!.

هذا مع الإغماض عما ذكرناه آنفاً من أن تكليف موسي عليه السلام كان هو المبادرة إلي السؤال، ولولا ذلك، لم ينل عليه السلام هذا المقام العظيم..

ولعل هذه هي الحكمة في إرساله عليه السلام إلي العبد الصالح، أو أنها أحد عناصر حكمة

ذلك.

شخصية موسي غير متوازنة.

موسي (ع) يعاني من عقدة نفسية ذاتية.

موسي ارتكب ذنبا أخلاقياً.

قتل القبطي خطأ أخلاقي مبرر بطريقة ما.

مغفرة الله لموسي لطف في توازن الشخصية لا عفو عن ذنب.

ويقول عن موسي عليه السلام في موضوع قتله القبطي:

".. كان كل همه أن يدافع عن الإسرائيلي ويخلّصه من بين يدي القبطي الذي كان يريد أن يقتله، فيما يبدو،.. وبهذا لم يكن في الأمر جريمة، بل كان الدخول شرعياً، ولم تكن النتيجة مقصودة له.. ولكنه كان يفضّل أن لا يحدث ما حدث.. وبذلك كان يري في ذلك نوعا من الذنب الأخلاقي، أو الاجتماعي الذي يحسّ بالعقدة الذاتية منه.. وعلي ضوء هذا كان التعبير بأنه ظلم للنفس، تعبيراً عن الحالة الشعورية أكثر مما كان تعبيرا عن حالة المسؤولية وربما كان تعبيرا عن القلق من النتائج الواقعية السلبية التي يمكن أن تترتب علي ذلك في علاقاته الاجتماعية بمحيطه فيما يحمله من أخطار مستقبلية علي شخصه بالذات. أم_ا طلب المغفرة من الله، فقد يكون ناشئا من الرغبة الروحية العميقة للإنسان المؤمن، أن يضع أعماله بين يدي الله _ حتي التي لا تمثل انحرافا عن أوامره ونواهيه،.. بل تمثل نوعا من الخطأ الأخلاقي المبرر بطريقة ما، ليحصل علي لمسة الرحمة الإلهية العابقة بالحنان والعطف، فيبلغ _ من خلال عصمته له _ الكمال في سلوكه، والتوازن في أخلاقه.. مما يجعل من المغفرة لطفا في توازن الشخصية لا عفواً عن ذنب.. وهكذا كان اللطف الإلهي بموسي.. فيما يعلمه الله من حاله في ظرفه الواقعي مما يحقق له الكثير من العذر في حساب المسؤولية (فغفر له إنه هو الغفور الرحيم) الذي تتحرك مغفرته من عمق رحمته لتفيض علي

الإنسان الراجع إليه بكل خير وإحسان [87] .

وقفة قصيرة

إن ما ذكره هذا البعض لا يحتاج إلي تعليق، ولكننا نرشد القارئ الكريم إلي ما شرحنا به الآيات التي تحدثت عن قتل القبطي فيما تقدم من هذا الكتاب فليراجع.

غير أن ما يحزّ في النفس ألمه، ويدمي كَلْمُه أمور:

1ً _ أن ينسب إلي موسي عليه السلام وهو كليم الله و نبي من أولي العزم يقول تعالي في حقه (و اصطنعتك لنفسي) _ ينسب إليه _ أنه ارتكب ذنبا أخلاقيا.

2ً _ وأنه كان يحس بالعقدة الذاتية منه!!.

3ً _ والأغرب من ذلك أن يصرح في كلامه: أن شخصية هذا النبي العظيم غير متوازنة فاحتاج إلي اللطف الإلهي لتتوازن شخصيته.

4ً _ ويبقي هنا سؤال حول الطريقة المجهولة التي أشار إليها والتي تبرر وقوع موسي عليه السلام في الخطأ الأخلاقي المتمثل في قتله للقبطي.

5ً _ وأي خطأ أخلاقي في قتل الإنسان لرجل يهاجمه ويحاربه ويبطش بالناس ليقتلهم، لا لشيء إلا لأنهم مؤمنون، وهو كافر وعدو؟!.

6ً _ بل إن هذا البعض نفسه قد صرح في كلامه بأن موسي (ع) لم يقصد قتل القبطي، فأي خطأ أخلاقي صدر عن موسي (ع) إذن؟!.

خوف موسي كان بسبب الضعف البشري الذي كان يعيشه في حالات الغفلة.

كاد موسي أن يتأثر بسحرهم من خلال طاقته البشرية.

ويقول البعض:

".. وكانوا يملكون الفن العظيم الذي يسحر العيون ويخلب الألباب حتي كاد موسي أن يتأثر بها من خلال طاقته البشرية.. وطاف به خيال الإنسان الذي يتأثر بسرعة، بما يحيط به (فخيل إليه من سحرهم أنها تسعي) في صورة سريعة متلاحقة (فأوجس في نفسه خيفةً موسي) من خلال الضعف البشري الذي يعيشه الإنسان

في حالات الغفلة.. لا سيما أن موسي لا يعرف ماذا يحدث له من خلال التفاصيل الجزئية لأن المسألة ليست اختيارية له، بل هي مسألة التدبير الإلهي الذي يثق بحصوله، ولكنه لا يعرف طبيعته.. ولذا فانه كان ينتظر نداء الله وتعليماته " [88] .

وقفة قصيرة

إن من الواضح أن موسي عليه السلام: لم يخف علي نفسه، فإنه كان يعلم أنها حبال وليست حيات حقيقية، كما أنها احتيالات وتخييلات لاواقع لها. (يخيل اليه من سحرهم أنها تسعي).

وإنما خاف عليه السلام علي الناس أن يتأثروا بسحرهم، وأن يتسبب ذلك بضلالهم عن الحق، وابتعادهم عن سبيل الرشاد والهدي.

ولذلك نجد الآيات القرآنية تشير إلي أن الله تعالي قد طمأن موسي إلي حقيقة أن الله سيبطل سحرهم وكيدهم، ويكون موسي عليه السلام هو الغالب، حيث قال الله تعالي له (لا تخف انك أنت الأعلي) [89] ، إذن فموسي عليه السلام قد خشي من أن تكون الغلبة لهم وان يكون لهم العلوّ الذي سينشأ عنه غواية الناس عن طريق الحق والهدي.

وبذلك يتضح أيضا أن خوف موسي عليه السلام لم يكن ناشئا عن ضعف طاقته البشرية، بل كان خائفا علي الناس كما قلنا.

و عن علي عليه السلام:

"لم يوجس موسي عليه السلام خيفة علي نفسه، بل أشفق من غلبة الجهال، و دول الضلال" [90] .

نقاط ضعف طبيعية ونقاط ضعف انفعالية أيضاً.

بشرية النبي قد تدفعه إلي نقاط الضعف الطبيعية.

قد يغفل النبي عن يعض المناسبات الشكلية أو المعنوية.

موسي (ع) ينساق مع نقاط الضعف الانفعالية.

ويقول البعض:

"لنا ملاحظة في موقف موسي من هارون: ولنا ملاحظة، في هذا الموقف الذي انطلق فيه موسي ضد أخيه، من موقع غضبه لله

وانفعاله بالوضع الجديد الذي عاش فيه بنو إسرائيل مبدأ الصنمية..

إننا لا نجد في موقفه هذا ابتعاداً عن خط الطاعة لله ليكون منافيا للإستقامة الشرعية في دائرة العصمة، ولكننا نجد فيه انسياقا مع نقاط الضعف الإنفعالية التي توحي بأن بشرية النبي قد تدفعه إلي نقاط الضعف الطبيعية التي قد يغفل فيها عن بعض المناسبات الشكلية أوالمعنوية (قال فما خطبك يا سامري) كيف فعلت ما فعلته من هذا الأمر الخطير الذي جئت به وهذا هو معني الخطب الذي هو الأمر الخطير الذي يهمك (قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها) [91] .

وقفة قصيرة

قد تحدثنا فيما مضي من هذا الكتاب عن أن غضب موسي عليه السلام لم يكن علي أخيه هارون صلوات الله وسلامه عليه، بسبب جرم ارتكبه، أو تقصير منه في القيام بالواجب، وإنما كان من أجل أن يعرّف بني إسرائيل بخطر ما أقدموا عليه، وبمدي بشاعة الجريمة التي ارتكبوها.. ثم هو قد أراد أن يسمع الناس إجابة هارون عليه السلام من أجل إظهار براءته وتحصينه من نسبة القصور أو التقصير إليه، وتكون النتيجة هي التالية:

1 _ لم يكن موسي عليه السلام يقف ضد أخيه.

2 _ إن موسي عليه السلام لم يغفل عن بعض المناسبات الشكلية ولا المعنوية _ كما يقول هذا البعض _ بل كانت الأمور واضحة لديه وضوحا تاما، لا سيما أن المسألة هي من جملة ما يتعلق بأمر التبليغ الذي ليس لمسلم أن يشكك في القول بعصمة الأنبياء فيه.

3 _ إن موسي عليه السلام قد انساق مع نقاط القوة، وحقق الهدف الإلهي، ولم يكن لديه نقاط ضعف انفعالية لينساق معها.

وإن نسبة ذلك كله وسواه

إلي هذا النبي العظيم هي مجرد تبرّع من هذا البعض لا مستند له فيه، فضلا عن كونه مخالفاً للقواعد العقلية الصحيحة، وليست الآيات ظاهرةً ولا ناظرة في شيء من معانيها إلي شيء مما ذكره.

رأي موسي (ع) يخالف ما قرره الله له.

موسي (ع) يقول لربه: لا فائدة من إرسالي لأن النتيجة معلومة.

إحتباس كلام موسي (ع) يمنعه من الحوار والجدال بالكلمات القوية.

إحتباس كلام موسي (ع) يمنعه من الأسلوب اللبق.

موسي (ع) يعاني من نقص في الصفات التي يحتاج إليها.

ويقول هذا البعض:

".. (قال رب إني أخاف أن يكذبون) لأنني أعرف فيهم الطغيان الذي يمنعهم من الإذعان بالرسالة ويدفعهم إلي احتقار الناس من حولهم، ممن هم دونهم في الطبقة الاجتماعية، الأمر الذي يدعوهم إلي تكذيبي فيما أبلّغهم من رسالاتك.. فلا فائدة من إرسالي إليهم لأن النتيجة معلومة بالرفض (ويضيق صدري) في مواجهة الضغط الذي أتعرض له منهم، مما لا أستطيع تحمّله في قدرتي الذاتية (ولا ينطلق لساني) فيما أعانيه من حالات احتباس الكلام، مما لا يسمح لي المجال معه _ بالحوار والجدال، وإدارة الصراع بالكلمات القوية، والأسلوب اللبق (فأرسل إلي هارون) ليكون عونا لي علي أداء الرسالة، لما يتميز به من صفات تسد النقص الذي يعاني منه كفصاحة اللسان ونحوها (ولهم علي ذنب) فقد قتلت شخصا منهم (فأخاف أن يقتلون) ثأراً له" [92] .

وقفة قصيرة

إن هذا البعض قد لا يكون الوحيد الذي فسر الآيات بهذه الطريقة. ولكننا نسجل عليه وهو داعية دراسة الأمور بعقلانية وموضوعية، ما يلي:

1ً _ إن هذا البعض يقول: إن احتباس الكلام لدي موسي كان إلي درجة لا يسمح له بإدارة الصراع بالأسلوب اللبق.

كما أن هذا الإحتباس قد

بلغ حداً لا يسمح له بالحوار والجدال.

ولا ندري كيف استطاع عليه السلام أن يحاور فرعون حينما واجهه بالدعوة التي انتهت بجمع السحرة في يوم الزينة؟ وكيف استطاع أن يحاور بني إسرائيل في شأن البقرة وغيرها؟ بل كيف استطاع تأدية الرسالة التي بعث من أجلها لا سيما إن هارون الذي أرسل ليسد النقص الموجود عند موسي _ كما يزعم هذا البعض _ قد توفي قبل موسي (ع)، فماذا صنع موسي (ع) بنقصه الذي يعاني؟ ومن الذي قام مقام هارون في هذا الأمر؟

2ً _ هذا بالإضافة إلي أن هذا البعض يتحدث عن موسي (ع) ويصوره لنا كأنه يعترض علي الله، ويدلّه علي أنه غير مصيب في إرساله، لأن ذلك سيكون أمراً عقيما، وعبثيا، ومن دون فائدة.فانظر إلي قول هذا البعض:

"إنني أعرف فيهم الطغيان.. مما يوحي بأن سبب مبادرة موسي باقتراح إرسال أخيه معه هو معرفته بطغيانهم ".

وكأن الباري تعالي لا يعرف ذلك.

3ً _ مع أن موسي (ع) حين تحدث عن خوفه من تكذيبهم، وعن أن صدره يضيق بهذا التكذيب، وأن لسانه لن ينطلق معهم في البيان لأنهم سيتعاملون معه من موقع المعادي والحاقد، الذي لا يصغي إلي الحجة، ولا يخضع للدليل _ نعم إن موسي (ع) حين تحدّث عن ذلك، فإنما أراد به أن يعرف من الله سبحانه أوجه معالجة الموقف في هذه الحالات والظروف الصعبة، ولا يريد أن يعرّف الله _ والعياذ بالله _ أن إرساله لا فائدة منه، لأن النتيجة معلومة علي حد زعمه.

4ً _ أما بالنسبة لاحتباس لسان موسي (ع)، إن المراد ليس هو اللكنة في اللسان، التي تمثل عائقا عن الإفصاح في الكلام، بل المراد هو أن

قتل القبطي، وكونه قد تربي عندهم سيجعلهم يتعاملون معه بطريقة حاقدة وغير عقلانية تمنعه من الإفصاح عن مراده ولذا فهو يطلب من الله أن يهديه إلي الطريقة المثلي في التعامل مع هذا الواقع الذي يواجهه.

علي أن هذا الإحتباس، لا ربط له باللباقة، وبالأسلوب،كما هو معلوم.

وسيأتي المزيد من توضيح هذا الأمر فيما يرتبط بالعقدة في لسان موسي عليه السلام في تعليقنا علي الفقرة التالية.

القرآن يوحي بما لا يتفق مع كون النبي أعلم الناس وأشجعهم وأكملهم في المطلق.

الرسالة تتصل بحركة الكلام في لسانه، وطريقة التعبير في كلامه.

ضعف موسي في طبيعة الكلمة، والمنهج، والأسلوب، وقوة هارون في ذلك.

لكنة في لسان موسي تؤدي إلي ضعف موقفه.

نقاط ضعف بشري تتحرك بشكل طبيعي في شخصية النبي، حتي في مقام حمل الرسالة.

لكنة موسي تمنعه عن إفهام ما يريد للناس.

الجانب الغيبي لا يتدخل في تضخيم شخصية النبي علي حساب بشريته العادية.

اللكنة في لسان موسي تثير السخرية ونحوها.

وبعد ما تقدم نقول:

يتحدث البعض عن طلب موسي من الله أن يشد عضده بأخيه هارون، فكان مما لاحظه في هذه القصة ما أجمله بقوله:

".. (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) فقد كان يعيش حبسا في لسانه بحيث يمنعه من الطلاقة التي تفصح الكلمة بحيث يفهم الناس ما يريد أن يقوله.. لأن الرسالة تتصل بحركة الكلام في لسانه، وطريقة التعبير في كلامه.

وتلك هي مشكلته الخاصة التي أراد الله أن يساعده في حلها وترويضها وتيسيرها وتسهيل صعوباتها.. فيما يريد أن يمارسه بجهده الذاتي (واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري) لأن المهمة تحتاج إلي جهد آخر يشترك مع جهده

في الدعوة والحركة والانطلاق.. ليعاون أحدهما الآخر فيما يمكن أن يواجههما من مشاكل وقضايا وصعوبات، خصوصا في جانب الدعوة في طبيعة الكلمة والمنهج والأسلوب، الذي يتمتع هارون بمميزات جيدة لأن لسانه أفصح من لسان موسي، كما جاء في سورة أخري.. وتلك هي الروح المتواضعة الجادة التي تدرس حجم المسؤولية، وحجم إمكاناتها فإذا رأت بعضا من الخلل الذي قد يصيب المسؤولية أمام ضعف الإمكانات، فإنها لا تتعقد ولا تهرب من الواقع لتلجأ إلي الذات في عملية استغراق في الإيحاء بالقدرة الشاملة غير الموجودة لينعكس ذلك سلبا علي حركة الموقف العملي، بل تعمل علي أن تستكمل القوة من جانب آخر لمصلحة العمل المسؤول.. وهذا هو ما فعله النبي موسي (ع) عندما أراد من الله أن يضيف إليه شريكا في أمره، لأنه يعيش بعض نقاط الضعف التي يملك فيها هارون نقاط قوة..

وهذا هو الذي يوجب علي العاملين في سبيل الله، أن يواجهوه فيما يتحملونه من مسؤوليات ليعملوا علي الإخلاص للدور العملي في استكمال كل الإمكانات التي يحتاجها، ولو كانت لدي الآخرين.. لأن ما نعانيه في ساحة العمل، هو أن بعض العاملين قد يدفعهم الشعور الأناني بالعظمة الفارغة، فيسيئون إلي مسؤولياتهم للحفاظ علي ذواتهم لأنهم لا يريدون الاعتراف بالحجم المحدود لقدراتهم، وبالإمكانات المتوفرة لدي الآخرين" [93] .

ويقول البعض أيضاً:

"وقد نلاحظ في هذه القصة، أن النبوة لا تتنافي مع الضعف البشري الذي يعيشه النبي ويعترف به، فيطلب إلي الله أن يقويه بإنسان آخر في أداء مهمته لا بواسطة تنمية قدراته الذاتية.. مما يوحي بأن الجانب الغي_ب_ي لا يتدخل في تضخيم شخصية النبي علي حساب بشريته العادية، بل يترك المسألة للطبيعة البشرية لتتكامل بطريقة عادية.. وهذا ما قد

يحتاج إلي مزيد من الدراسة فيما يطلقه علماء الكلام فيما يتصل بصفات النبي، بأن يكون أعلم الناس وأشجعهم وأكملهم في المطلق.. فإن تأكيد القرآن علي نقاط ال_ض_ع_ف ال_ب_شري ف_ي شخصية الأنبياء، لا سيما في شخصية موسي (ع) قد توحي بما لا يتفق م_ع ذلك" [94] .

ويقول أيضا:

".. وهناك نقطة أخري، وهي أن الرسالة تفرض الدخول في جدل مرير مع هؤلاء القوم يمكن أن يثيروه من شبهات، أو يطالبوه بالحجة، فيحتاج إلي التحدث بطريقة مقنعة حاسمة، بلسان فصيح.. وهذا ما لا يملكه موسي لِلَكْنة كانت في لسانه، مما يؤدي إلي ضعف موقفه الذي ينعكس سلباً، علي موقف الرسالة فيما قد يثيره ذلك من سخريةٍ ونحوها.. لذلك كان بحاجة إلي شخص آخر يشاركه المسؤولية، ليواجه مثل هذا الموقف الطارئ معه، أو ليكون بديلا عنه في مقارعة الحجة بالحجة.. ولهذا فقد أراد أن يكون أخوه هارون معه (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءاً) أي ناصراً ينصرني ويشد ظهري "يصدقني" ويشرح بفصاحته مواقع ال_ص_دق ف_ي رسالتي، ومواطن القوة في م_وق_ف_ي، (إني أخاف أن يكذبون) فيفرض ذلك عليّ الدفاع والجدال حول مفاهيم الرسالة ومواقعها" [95] .

ونجد هذا البعض يقول أيضا في موضع آخر في تفسير قوله تعالي (إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغي) [96] :

"ونلاحظ في هذه الآية الإشارة إلي ما يعيشه النبي من نقاط الضعف البشري التي تتحرك في شخصيته بشكل طبيعي، حتي في مقام حمل الرسالة.. فيتدخل اللطف الإلهي م_ن أجل أن يمنحه القوة ال_روحية التي تفتح قلبه، بعمق علي التأييد الإلهي في أوقات الشدة الأمر الذي يعطي الفكرة بأن النبي يتكامل في وعيه وقوته وحركته في الرسالة." [97]

.

وقفة قصيرة

ونقول:

إننا رغم أننا لم نذكر في العناوين المستخرجة من كلام هذا البعض ما ذكره عن الضعف البشري في شخصية الأنبياء، فإننا نذكّر القارئ الكريم بما يلي:

1ً _ إن هذا البعض قد فسّر الآيات بطريقة أوصلته إلي أن ينسب إلي الأنبياء ما ألمحنا إليه في العناوين التي صدّرنا بها كلامه هذا الأخير..

ونحن نذكر هنا ما يشير إلي المراد م_ن أفصحية هارون (ع)، ليظهر للقارئ أن الآية ليست ناظرة إلي موضوع طلاقة اللسان من الأساس..

ولو سلمنا أنها ناظرة إلي طلاقة اللسان من حيث البلاغة والفصاحة الكلامية، فذلك لا يستلزم ما ذكره ذلك البعض.

ونحن نشرح ذلك ضمن النقاط التالية، فنقول:

أ _ لقد طلب موسي (عليه السلام) من الله أن يشد عضده بأخيه هارون (عليه السلام). وهو طلب طبيعي، ليس فيه أية مشكلة، وهو لا يعني وجود نقص في شخصية النبي موسي (ع) يحتاج إلي رفعها بواسطة الاستعانة بهارون (ع)، ويدل علي ذلك ما روي من أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قد طلب أيضا مثل ذلك من الله تعالي فقال (ص): واجعل لي وزيرا من أهلي، عليا أخي، أشدد به أزري..

وقد صحت الرواية بذلك من طريق الفريقين علي حد تعبير صاحب الميزان [98] .

".. وعن أسماء بنت عميس قالت: رأيت رسول الله (ص) بازاء ثبير وهو يقول " أشرق ثبير، أشرق ثبير، اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسي أن تشرح لي صدري، وأن تيسر لي أمري، وأن تحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، وأن تجعل لي وزيرا من أهلي علياً أخي. أشدد به أزري، وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيراً إنك كنت بنا بصيرا"

[99] .

فالمراد من الأمر في قول موسي(ع) (وأشركه في أمري) غير النبوة، بدليل أن رسول الله (ص) دعا الله بأن يشرك علياً(ع) أمره مع أن عليا ليس نبيا قطعا، بل المراد هو آثار النبوة، كافتراض الطاعة وغير ذلك والله العالم.

ب _ كما أن رسول الله (ص) قد طلب من الله سبحانه حل العقدة من لسانه حيث قال (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) مع أن ذلك لم يكن لقلة فصاحة فيه، ولا لعقدة أو لكنة في لسانه، ولا لكون علي عليه السلام أفضل منه، وهو القائل (ص): (أنا أفصح من نطق بالضاد).

وهذا يشهد بأن المراد من الفصاحة في دعاء موسي (ع) ليس هو المعني الذي يذكرونه في علم المعاني والبيان، وإلا لما صح أن يدعو به أفصح من نطق بالضاد، فالمراد إذن شيء آخر وهو أنه أكثر انطلاقا في الحديث معهم حيث لم يقتل منهم رجلا من عدوه كما فعله أخوه موسي(ع)، بالإضافة إلي جدالهم في أمر إحسانهم لموسي وتربيتهم له (ع) وليداً كما ذكر الله تعالي حكاية ذلك في قوله (..ألم نُرَبّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين).

وهكذا يتضح أن ذلك لا ينافي كون موسي (ع) أعلم الناس وأكملهم وأشجعهم كما يقول هذا البعض.

2 _ وحتي لو سلمنا _ جدلا _ بأفصحية هارون من الناحية الكلامية، ولم نحمل كلامه علي ما ذكرناه آنفاً، أو علي أن ذلك كان منه تواضعاً وهضماً للنفس، فلا مشكلة في ذلك، لأن هذه الآية نفسها تثبت صفة الفصاحة لموسي (عليه السلام) أيضا غير أنه يمهد للحصول علي مطلوبه و هو أن يكون أخوه هارون وزيرا له.

وأين هذا مما ذكره هذا البعض من كون لكنة موسي تمنعه من إفهام ما يريده للناس، الأمر الموجب للنقص في الصفات التبليغية المتوجب توفرها في المبلغ لدين الله.

فافصحية هارون (ع) كمال له، وفصاحة موسي (ع) لا تعتبر نقصا ولا تضر في أفضلية موسي (ع)، حيث إن ملاك الأفضلية هو التقوي الناشئة عن العلم و التي تقترن بالعمل.

وأما بالنسبة للصفات الجسدية ونحوها فقد ذكر العلماء أن المطلوب هو الكمال وعدم النقص، وهذا متحقق في موسي عليه السلام.

ثم إن هذه الافصحية قد حازها نبي بالقياس إلي نبي آخر لا أنها ثابتة لشخص عاديّ بالقياس إلي النبي، ليقال: لا بد أن يكون النبي أكمل من سائر الناس. فموسي وهارون (ع) أكمل أهل زمانهما لكن موسي أفضل عند الله وأكمل من أخيه في كثير من الصفات. فكما أن أكملية موسي (ع) لا تضر في نبوة هارون. كذلك أفصحية هارون _ مع كون الفصاحة الكاملة موجودة عند موسي _ لا تضر في نبوة موسي، ولا في أفضليته عند الله بمعرفته بالله سبحانه حتي علي هارون نفسه. وإلا لكان الدعاء من الرسول (ص) بدعاء موسي (ع) بلا معني.

هذا كله، لو سلمنا _ جدلاً _ بأفصحية هارون (ع). فيتضح مما تقدم أن ما ذكره ذلك البعض من ضعف بشري لدي الأنبياء، وأن موسي (ع) كان يعاني من حبس في لسانه يمنعه من الطلاقة المفهمة لمراده غير صحيح.

ملاحظة:

واللافت للنظر هنا: ان الله سبحانه قد اتخذ موسي كليما، واعطاه الكرامة عن سائر الانبياء، فهل اختاره كليما لأجل لكنته هذه تعويضا له عما فيه من نقص؟ إن هذا الأمر عجيب حقاً، وأي عجيب!! و اذا كان هناك من احتمال

آخر فليطلعنا عليه.

2ً _ انه إذا كانت مشكلة موسي (ع) هي في احتباس لسانه المانع له من الطلاقة المفهمة لمراده كما يقول البعض، فما هو ربط ذلك بالمنهج واللباقة في الأسلوب؟ومن أين عرف أن منهج هارون (ع) وأسلوبه، كان أحسن من منهج وأسلوب موسي (ع)؟!!ومن اين علم ان موسي استعان بهارون كي لا يهزأ ولا يسخر منه قومه لعدم قدرته علي افهامهم!؟.

مع أن القرآن سجل لنا في تساؤل بني اسرائيل عند امره لهم بذبح البقرة موقفا معاكساً حيث اتهموه بأنه يهزأ بهم (قالوا أتتخذنا هزواً، قال اعوذ بالله ان أكون من الجاهلين).

3ً _ إن قول موسي وهارون عن فرعون: (إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغي) لا يستلزم وجود نقاط ضعف بشري تتحرك في شخصية النبي بشكل طبيعي، حتي في مقام حمل الرسالة، كما يقوله ذلك البعض.

فإن معرفتهما بشخصية فرعون، ثم ذكرهما لما يحتمل أن يواجهاه معه، ليس معناه أنهما يعانيان من وجود ضعف في شخصيتهما. بل ذلك يعني أنهما وهما يتحسبان لما سيواجههما به فرعون إنما يريدان إعداد العدّة لمواجهة أي احتمال.. وهذا هو غاية القوة في مقام حمل الرسالة..

فما هو نقاط قوة في الحقيقة أصبح _ بنظر هذا البعض _ نقاط الضعف في شخصية النبي التي تتحرك بشكل طبيعي حتي في مقام حمل الرسالة!!.

يعقوب و يوسف

اشاره

364 _ يعقوب والصدمة وتأثيرها المؤلم فيه.

365 _ يعقوب لم يفعل أي شيء يؤذي جسده.

366 _ العوارض الطبيعية هي التي أوجبت عمي يعقوب.

367 _ كان يعقوب يعيش الحزن الهادئ دون أن يؤثر علي حياته.

368 _ ظنوا أن أباهم قد نسي يوسف..

يقول البعض:

"ولكن يوسف أصر علي موقفه، وعادوا

إلي أبيهم من دون أخيهم، وكم كان وقع الصدمة قاسياً علي يعقوب _ عليه السلام _، واجه الصدمة فأثرت به تأثيراً مؤلماً، لأنها أيقظت أحزانه وأثارت أشجانه وذكرياته، فتولي عنهم (وقال يا أسفي علي يوسف، وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) (يوسف: 84)، وهنا ربما يتساءل البعض ويقول: كيف يجزع يعقوب، وهو نبي؟ نجيب علي ذلك بأنه (عليه السلام) لم يفعل أي شيء يؤذي جسده، ولكن كان يعيش الحزن الهادئ حيث ابيضت عيناه من البكاء كنتيجة طبيعية للعوارض التي أوجبت فقدان بصره، لذلك عندما قالوا له: (تالله تفتأ تذكر يوسف حتي تكون حرضاً أو تكون من الهالكين) (يوسف: 85) أجابهم بأنه لا يشكو لهم، ولا يسبب أي مشكلة معهم (إنما أشكو بثي وحزني إلي الله) (يوسف: 86) فلست إنساناً يشكو أمره للعباد، فالقادر علي قضاء حاجتي، وتفريج همي وكربي هو الله، فيعقوب (عليه السلام) كان يملك الإحساس العميق بعدم اليأس، فوهبه الله معرفة أن يطل علي المستقبل، لذلك علي الرغم من مرور السنوات الطوال علي غياب يوسف ومحاصرته بكثيٍر من المشاكل بقي منفتحاً.. الخ [100] .

ويقول البعض أيضاً:

"(وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) ورغم كل شيء فهو يحبس غيظه وحزنه في نفسه، ولم يتصرف تصرف الجازعين الذين يتمردون علي إرادة الله، ولكنه يعطي للحزن دوره الهادئ في قلبه وإحساسه وشعوره، من دون أن يترك الحزن تأثيره علي حياته وعلي دوره في رسالته وحركته في الحياة (قالوا تالله) لقد فوجئوا بذكره ليوسف الذي يقال بأنه غاب عنهم مدة ثمانية عشر عاماً، وظنوا أن أباهم قد نسيه، لأن الذكريات الماضية تذوب وتزول وتذهب (قالوا تالله تفتأ) أي لا تفتأ ولا تزال (تذكر يوسف حتي تكون

حرضاً) أي مشرفاً علي الهلاك قريباً من الموت (أو تكون من الهالكين) أو يؤدي بك ذلك إلي الهلاك (قال إنما أشكو بثي وحزني إلي الله) أنا لا أشكو بثي وحزني إليكم، فأنا لا أشكو لبشر، وأنا عندما أتذكر يوسف وآسف علي غيابه، فإنما أجلس في حالة مناجاة مع الله، ولذا فإني أرجع شكواي إلي الله وأقدم حزني بين يديه سبحانه، فهو الذي يملك إزالة حزني عني ويبدله إلي فرح، وعندما أعبر عن حزني فليس لإثارة الإشفاق علي من الناس، أو لأفرض حزني عليهم (وأعلم من الله ما لا تعلمون) أعلم من الله أنه رحيم بعباده، فهو يعطي الأمل من قلب اليأس وهذا ما أعلمه من خلال معرفتي به تعالي، لذلك لم أفقد ثقتي بربي أو إيماني به، ولا أري أن التعبير عن الحزن يتنافي مع استسلامي له، فالتعبير عن الحزن حالة إنسانية، والإستسلام إلي الله هو حركة هذه الحالة بين يدي الله حتي تعين الإنسان علي أن ينفتح علي المستقبل أكثر من خلال الله، لا من خلال غيره [101] .

وقفة قصيرة

ونلاحظ:

1 _ من الواضح: أن الجزع المذموم والمرفوض من قبل الشارع هو الذي يستبطن الإعتراض علي الله سبحانه حين يعتبر الجازع أن ما حدث يمثل ظلماً، وتعدياً وتصرفاً غير سديد.. كما أن من الواضح أيضاً: أن إظهار الحزن الشديد لا يستبطن الإعتراض علي الله بحيث لا ينفك هذا الإظهار عن ذلك الإعتراض، إذ كثيراً ما ينطلق الجزع من حب الله ومن شدة الإهتمام بالحفاظ علي الدين ورموزه الكبري، وهذا يكون جزعاً ممدوحاً، ومحبوباً له تعالي، ومندوباً إليه، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (كل الجزع والبكاء مكروه سوي علي الحسين) [102]

.

وقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: (إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا الخ..) [103] .

وذلك يدل علي أنهم عليهم السلام قد بكوا علي الحسين حتي تقرحت جفونهم.. والقرح هو الجرح وذلك معناه أنهم عليهم السلام قد فعلوا أمراً قد نشأ عنه أمر لم يكن ليجوز لهم في الحالات العادية تماماً كما بكي يعقوب علي فراق يوسف حتي ابيضت عيناه من الحزن.

وفي زيارة الناحية المقدسة: (ولأبكينك بدل الدموع دماً).

وذلك يدل علي جواز فعل ما يؤدي إلي مثل الجرح والعمي، فلا معني للمنع من ضرب الرأس بما يدميه تفجعاً علي الحسين (عليه السلام)..

فإن عمي يعقوب وتقرح جفون الأئمة أعظم ضرراً من إدماء الرأس أو اللطم علي سيد الشهداء (عليه السلام).

وعن اللطم بالخصوص نجد الإمام الرضا عليه السلام لا يعترض علي دعبل حينما أنشد قصيدته. وقد جاء فيها:

أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً وقد مات عطشاناً بشط فرات

إذن للطمت الخد فاطم عنده وأجريت دمع العين في الوجنات

فلم يقل له إن فاطمة لا تفعل ذلك، لأنه حرام. بل نجده _ كما تذكر بعض الروايات _ قد زاد له بيتين في قصيدته يؤكد أن الحزن العظيم والمستمر إلي يوم القيامة عليه هو عليه السلام. والبيتان هما:

وقبر بطوس يا لها من مصيبة الحت علي الأحشاء بالزفرات

إلي الحشر حتي يبعث الله قائماً يف_رج عنا الهم والكربات

كما أن النساء حين رأين جواد الحسين خرجن من الخدور.. علي الخدود لاطمات، كما جاء في زيارة الناحية المقدسة.

وقد لطم النسوة خدودهن ليلة العاشر أمام الحسين (ع)، فقال الحسين (ع): يا أختاه، يا أم كلثوم، يا فاطمة، يا رباب، انظرن إن

انا قتلت فلا تشققن علي جيباً ولا تخمشن وجهاً ولا تنطقن هجرا [104] فهو إنما نهاهن عن ذلك بعد موته.

وعن الإمام الصادق (ع) أنه قال: وقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات علي الحسين بن علي وعلي مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب.

كما أن الحديث عن الأئمة (عليهم السلام) قد عد يعقوب من البكائين الخمسة، أو الثمانية [105] .

ويروي أن الإمام الصادق عليه السلام: جزع علي ابنه إسماعيل جزعاً شديداً [106] و أن آدم عليه السلام جزع علي ابنه هابيل [107] .

2 _ إن من الواضح: أن حبس الإنسان غيظه وحزنه في قلبه لا يوجب عمي عينيه، كما زعم هذا البعض.. ولم نسمع، ولم نر إنساناً حبس غيظه وحزنه في قلبه قد أصيب بالعمي رغم الكثرة الكاثرة في كل هذا التاريخ الطويل، لمن يصابون بأفدح المصائب ثم يكظمون غيظهم وحزنهم..

3 _ ما معني قوله:

"إن يعقوب قد أعطي الحزن دوره الهادئ في قلبه وإحساسه وشعوره، من دون أن يترك تأثيره علي حياته ودوره في رسالته وحركته في الحياة.."

ألم يصب يعقوب بالعمي في عينيه من شدة حزنه، وهل العمي ليس له تأثير سلبي علي حياة الإنسان.

4 _ ما معني قول أبناء يعقوب له (تالله تفتأ تذكر يوسف حتي تكون حرضاً) أليس معني الحرض هو (الإشراف علي الهلاك قريباً من الموت) حسب تفسير هذا البعض نفسه، ثم قولهم له: (أو تكون من الهالكين).

ألا يدل ذلك علي أن حزن يعقوب كان ظاهراً قوياً، وليس هادئاً، ولا محبوساً في داخل نفسه _ حسبما يدعيه هذا البعض _.

وهل ثمة من جزع أكبر من أن يشرف الإنسان علي الهلاك من شدة الحزن، أو أن

يهلك بالفعل بسبب ذلك؟!

وإذا كان يعقوب قد حزن علي يوسف إلي درجة العمي، أو حتي اشرف علي الهلاك، فما بال البعض ما فتئ يقبح الجزع علي الإمام الحسين (عليه السلام) رغم ورود الرواية الصحيحة _ عن أهل بيت العصمة في أنه لا محذور فيه؟!

ولماذا يعتبر أن مظاهر الحزن واللطم في عاشوراء غير حضارية ولا واعية؟! بل هي من مظاهر التخلف، ومن دواعي السقوط، كما أن بعض مفرداتها محرمة لأنها بنظره من مصاديق الإضرار بالنفس؟.

5 _ ما معني قول هذا البعض عن يعقوب: مجيباً علي سؤال: كيف يجزع يعقوب، وهو نبي؟!

"إنه لم يفعل أي شيء يؤذي جسده، ولكن كان يعيش الحزن الهادئ حتي ابيضت عيناه من البكاء، كنتيجة طبيعية للعوارض التي أوجبت فقدان بصره".

فهل إن البكاء الذي صدر من يعقوب لا يدخل في دائرة الفعل أصلاً أم أنه فعل لكنه لم يكن من فعل يعقوب؟!

وإذا كان العمي قد نشأ عن البكاء الذي هو من فعل يعقوب، فكيف يقول: إنه لم يفعل أي شيء يؤذي جسده؟! وهل العمي بسبب البكاء لا يعد أذي للجسد؟!

ألم يكن العمي نتيجة لفعل البكاء؟

وكيف يمكن الجمع بين قوله:

"إن العمي كان نتيجة العوارض الطبيعية"

وقوله:

"إنه قد عمي من البكاء"؟!

6 _ إن التعبير بالصدمة بالنسبة لنبي الله يعقوب غير سديد جزماً، فإن هذا النبي المجاهد الصابر لم يفاجأ بما حدث، وقد حكي الله عنه: أنه أخبر أبناءه بخوفه علي ولده، وأخذ عليهم المواثيق أن يأتوه به إلا أن يحاط بهم، وهم لم يأتوا بجديد عما كان يتوقعه، بل اقتصروا علي شرح ما جري لهم، وإنما تكون الصدمة في أمر لم يكن متوقعاً.

7

_ من أين علم أن أبناء يعقوب (عليه السلام) قد ظنوا أن أباهم قد نسي يوسف (عليه السلام) فإن قولهم له: (تالله تفتؤ تذكر يوسف) يدل علي أنه كان مستمراً علي ذكره، مثابراً عليه، وأنهم كانوا يعلمون ذلك وينكرونه عليه فمن أين جاء ظنهم ذاك.. إن قوله هذا يحتاج إلي إثبات قطعي _ حسبما يقرر هذا البعض نفسه _ وإن أي إثبات يأتي به سيكون مخالفا للقرآن، فلا بد من رده عليه..

369 _ النبي يعقوب يحب ولده لجماله.

370 _ النبي يحب ولده لذكائه ووداعته.

يقول البعض:

".. وجاء يوسف إلي أبيه.. وكان أثيرا عنده حبيبا إليه، لجماله ووداعته وصفاء روحه.. وجلس عنده يقص عليه رؤياه الغريبة التي أثارت في نفسه القلق لما تشتمل عليه من جو يوحي بالسمو ولكنه حافل بالغموض" [108] .

ويقول أيضا:

".. ولكن يعقوب يعرف أن أولاده الآخرين يحسدون يوسف علي ما تميز به عنهم من جمال وذكاء ووداعة وصفاء.. وعلي ما له من المنزلة عند أبيه، كنتيجة لما يملكه من هذه الصفات وغيرها مما يجعله أهلاً للمعاملة المميزة " [109] .

وقفة قصيرة

ونقول:

أ _ إننا لا نريد أن نرهق القارئ بالتعليق علي هذه الفقرات، لكننا نلفت نظره إلي أننا ما كنا نحسب أن علاقة نبي الله يعقوب عليه السلام بولده النبي يوسف عليه السلام كانت بسبب جمال صورة ولده، أو بسبب ذكائه، ووداعته، فنحن نجل الأنبياء عن أمر كهذا.

وإنما نعتقد أنه ينطلق في حبه له مما يلمسه فيه من معان إنسانية، وصلاح وهدي، واستقامة علي طريق الخير والرشاد.

ب _ وإذا كان الله سبحانه قد أعطي يوسف عليه السلام جمالا خصه به، ولم يعط سائر إخوته، فإن

ذلك لم يكن بسوء اختيارهم ليستحقوا هم ذلك الإبعاد، ويستحق يوسف(ع) هذا القرب.

وإنما هي مشيئة الله سبحانه التي ليس لهم أو ليوسف (ع) معها أي اختيار، أو خيار.

ج _ ولو أردنا أن نفسح المجال لموضوع الانجذاب للجمال، بحجة أن هذا يعبر عن الذوق الرفيع، ليكون هذا الأمر من المعايير والضوابط التي يعتمدها الأنبياء في حبهم وفي ارتباطهم العاطفي بالأشياء وبالأشخاص لا سيما بعد ملاحظة ما يذكره هذا البعض عن يوسف وامرأة العزيز، فإن ذلك قد يدفع من لا تقوي لديه من أعداء الإسلام أمثال سلمان رشدي إلي كتابة "آيات شيطانية"جديدة تهدف إلي طرح وتسويق مثل أكذوبة زوجة أوريا، حينما رآها النبي داود في حالة مثيرة كما يزعمون، وكذلك الحال بالنسبة لقضية زينب بنت جحش وما افتروه من أن النبي قد عشقها بعدما رآها بصورة مثيرة.. وغير ذلك.

وهذا باب خطير، لا يمكن فتحه، ولا مجال للقبول به.

عذاب يوسف (ع) في مقاومة الإغراء.

الإنجذاب إلي الحرام والقبيح لا ينافي العصمة.

جسد يوسف (ع) تأثر بالجو (الجنسي).

عزم علي أن ينال منها ما أرادت نيله منه.

همّ بها، ولكنه توقف، ثم تراجع.

إيمان يوسف (النبي) يستيقظ.

إستنفد كل طاقاته في المقاومة.

وأما حديث ذلك البعض عن يوسف (ع) فهو أشهر من أن يذكر، ونقتصر هنا علي قوله في بيان ما جري لهذا النبي(ع) مع امرأة العزيز:

"التفسير الذي نميل إليه ونستقربه، هو الإنجذاب اللاشعوري، تماما كما ينجذب الإنسان إلي الطعام".

إلي أن قال:

"فالعصمة لا تعني عدم الإنجذاب إلي الطعام المحرم، والشراب المحرم، أو الشهوة المحرمة، ولكنها لا تمارس هذا الحرام، فالإنجذاب الغريزي الطبيعي هنا لا يتحول إلي ممارسة، وتتضح الصورة أكثر عندما جمعته

مع النسوة، اللاتي قلن: (حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم)، عند ذلك شعر أن الطوق بدأ يضيق ويحاصره إلي درجة لا يستطيع فيها أن يتناسي، علي اعتبار أنه إستنفد كل طاقاته في المقاومة".

" وهذا يجعلنا نشعر بالعذاب الذي كان يعيشه يوسف في مقاومته لإغراء هذه المرأة".

ويقول:

"خلاصة الفكرة: إن يوسف (ع) لم يتحرك نحو المعصية، ولم يقصدها، ولكنه انجذب إليها غريزيا، بحيث تأثر جسده بالجوّ، دون أن يتحرك خطوة واحدة نحو الممارسة" [110] .

وذكر في بعض ما بثته بصوته إذاعة تابعة له:

"عزم علي أن ينال منها ما كانت تريد نيله منه" [111] .

ويقول:

"(وهمّ بها) في حالة لاشعوريّة، فيما يتحرك فيه الإنسان غريزيا بطريقة عفوية من دون تفكير.. لأن من الطبيعي لأي شابٍّ يعيش في أجواء الإثارة أن ينجذب إليها، تماما، كمن يتأثر بالروائح الطيبة أو النتنة التي يمر بها، أو كمن تتحرك غريزة الجوع في نفسه بكل إفرازاتها الجسدية عندما يشم رائحة الطعام".

إلي أن قال:

"وهكذا نتصور موقف يوسف، فقد أحس بالإنجذاب في إحساس لاشعوري وهمّ بها استجابة لذلك الإحساس، كما همّت به، ولكنه توقف ثم تراجع.. ورفض الحالة بحزم وتصميم، لأن المسألة عنده ليست مسألة تصور سابق، وموقف متعمد، وتصميم مدروس، كما هي المسألة عندها، ليندفع نحو خط النهاية، كما اندفعت هي، ولكنها كانت مسألة انجذاب جسدي يشبه التقلص الطبيعي، والإندفاع الغريزي.. إنها لحظة من لحظات الإحساس، عبّرت عن نفسها ثم ضاعت وتلاشت أمام الموقف الحاسم، والعقيدة الراسخة، والقرار الحازم.. المنطلق من حساب دقيق لموقفه من الله، فيما ينطلق فيه من عقيدة، وفيما يتحرك فيه من خط، وفيما يقبل عليه من عقاب الله،

لو أطاع إحساسه.. وهذا ما عبر عنه قوله تعالي: (لولا أن رأي برهان ربّه..)، فيما تعنيه كلمة "البرهان" من الحجة في الفكرة التي تقوده إلي وضوح الرؤية، فتكشف له حقيقة الأمر، فيحس، بعمق الإيمان، أنه لا يملك أية حجة فيما يمكن أن يقدم عليه، بل الحجة كلها لله.. وربما كان جوّ هذه الآية هو جوّ قوله تعالي: (إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون..) وقد نستوحي ذلك من مقابلة كلمة (همّ بها)، لكلمة (همّت به) فقد اندفعت إليه بكل قوة وضراوة واشتهاء، فحركت فيه قابلية الإندفاع.. وكاد أن يندفع إليها لولا يقظة الحقيقة في روحه، وانطلاقة الإيمان في قلبه.. وبذلك كان الموقف اليوسفي، فيما هو الإنجذاب، وفيما هو التماسك والتراجع والإنضب_اط، مستوحي من الكلم_ة، ومن الج_وّ ال_ذي يوح_ي به السي_اق مع_ا" [112] .

وقفة قصيرة

إن آيات القرآن الكريم لا تؤيد ما ذكره هذا البعض، إن لم نقل: إنها تدل علي عدم صحته. ونحن نبين المراد من الآيات الشريفة بمعزل عما ذكره ذلك البعض، فنقول:

1 _ إننا قبل كل شيء هنا نذكر سؤالا وجه إلي ذلك البعض، وأجاب عليه.. والسؤال والجواب هما كما يلي:

س: إذا نوي الإنسان أن يفعل فعلا سيئا مثلا، وصمم أن يرتكب فاحشة الزنا فهل يحاسب هذا الإنسان وكيف يمكن أن نتخلص من مقولة (إنما الأعمال بالنيات) إذا كان الجواب بالنفي؟

"ج: المعروف أن الإنسان لا يحاسب علي نيته إذا لم يحولها إلي واقع فالإنسان تخطر في باله أعمال يعبرون عنها في علم الأصول بالقول (فعل قبيحٌ وفاعل قبيحٌ) بمعني أن هذا يدل علي قبح الفاعل، أي أنه إنسان سيئ ذاك الذي يفكر بالجريمة لكنه لم يفعل"

[113] .

فهل يلتزم هذا البعض بنسبة القبح إلي نبي الله يوسف عليه السلام؟ وهل يجوز أن يقول عنه: إنه (إنسان سيئ) أو إنه (فاعل قبيح)؟! لا سيما وأن هذا القائل قد صرح في مورد آخر بأن يوسف (ع) قد عزم علي أن ينال منها، ما كانت تريد هي أن تناله منه [114] .

2 _ إن قوله تعالي: (لولا أن رأي برهان ربّه) يفيد: أنه لم يحصل منه أي شيء مما ذكره هذا البعض، فإنك إذا قلت: لولاي لوقع الطفل عن السطح، فمعناه أن الطفل لم يقع، فيوسف عليه السلام _ إذن _ لم ينو هذه المعصية، ولم تدخل في دائرة اهتماماته.. فالله سبحانه ينفي أن يكون قد صدر عن النبي يوسف أي فعل قلبي، ويقول: إن هذا الأمر قد كان خارج دائرة نواياه..

3 _ أضف إلي ما تقدم أن الشيطان قد استثني عباد الله المخلصين من إمكانية تأثيره فيهم، فقال: (لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين) [115] ، وقال تعالي: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان) [116] .

وقد صرحت الآية هنا بأن بُعْدَ يوسف عن هذا الأمر، وإبعاده له عن دائرة نواياه، إنما هو لأنه كان من عباد الله المخلصين. فقد قال تعالي: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عبادنا المخلصين) [117] حيث ظهر من الآية: أن سبب صرف ذلك عنه هو كونه مخلَصاَ.

4 _ إن وجود نوايا قبيحة مرفوضة ستكون نتيجتها سقوط الإنسان عن درجة الإعتبار وأنه سينظر إليه بعين الإحتقار والنقص، فلو أنّ إنسانا نوي الفاحشة مع امرأة محصنة، فإنه لن يكون محترما عند الذين يعلمون منه ذلك، فكيف إذا كانت هذه النية من أحد الأنبياء المخلصين،

فإنها تكون أشنع وأقبح، وقد تقدّم تصريح البعض: بأنّ من ينوي ذلك، فهو إنسان سيء، وأن ذلك من مصاديق القبح الفاعلي علي حد تعبيره، وفقا لما عند علماء الأصول.

5 _ إن المخلَص _ بالفتح _ هو الخالص لله، بحيث لا يكون فيه أية شائبة لغيره، فمن ينجذب نحو الفاحشة انجذاب الجائع إلي الطعام، ومن عزم علي أن يفعل ما طلبته منه امرأة العزيز، ومن تتحرك فيه قابلية الإندفاع نحو الفعل الحرام، هل يكون خالصا لله، وصافيا بحيث لا تكون فيه أية شائبة؟!.

6 _ هذا مع العلم: أن الله سبحانه قد قرر قبل ذلك مقام يوسف، وعلوّ درجته حيث قال: (..ولما بلغ أشدّه آتيناه حكما وعلما، وكذلك نجزي المحسنين) [118] ولم يُشِرْ بعد ذلك، لا من قريب ولا من بعيد ولو حتي بالعتاب، إلي ما ربما يتوهم منه عزمه علي أن ينال منها ما كانت تريد نيله منه كما يدعيه ذلك البعض.

7 _ ومع غض الطرف عن ذلك كله، فإن كلمة (همّ به) ليس معناها همّ بنكاحه، بل معناها: همّ بضربه وإيصال الأذي إليه، حيث يقال: جاء فلان وتكلم بكلام سيء، فهممت به، أي هممت بإيصال الأذي إليه أو بضربه.

وقد ذكر هذا المعني في الروايات عن الأئمة الطاهرين عليهم السلام، وأن المراد: همّ يوسف(ع) بضربها.

مناقشة وردّها:

قال المرجع الديني سماحة الشيخ التبريزي وهو يرد علي مقولات ذلك البعض: (إن لفظ "لولا" دال علي امتناع همّه بالمعصية لرؤية برهان ربه)..

فردّ عليه ذلك البعض بقوله:

".. إن التعبير الصحيح أو البليغ لهذا المعني هو: لولا أن رأي برهان ربه لهمّ بها، لتفيد معني حصول الفعل الذي يحصل بالمستقبل، فلا يصح أن نقول:

(جاء زيد لولا القوم)، بل الصحيح أن نقول: (لولا القوم لجاء زيد)" [119] .

ونقول:

إننا نسجل هنا ما يلي:

إن السيد المرتضي هو ممن لا يُشكّ في تضلعه في علوم اللغة والبيان والفقه حتي قيل فيه: "لو قيل إن المرتضي أعلم العرب بلغتهم لم نتجاوز" وهو من أبرز أعلامنا.. منذ مطلع القرن الخامس وإلي يومنا هذا.. وقد ذكر هذا العلم هنا عدة أجوبة [120] .

الأول: إن الآية قد علقت _ في ظاهرها _ كلمة (همّ) بذاتيهما، فقالت: (همّت به، وهمّ بها)، ولا يجوز تعلق الهمّ بالذات بمعني الإرادة والعزم، فلا بد من تقدير محذوف، وليس بعض الأفعال أولي بالتقدير من بعضها الآخر، فهل همّ بالضرب؟ أو الإكرام؟ أو أي شيء آخر؟ ويترجح أن يكون يوسف قد همّ بالضرب، كقولك: همّ فلان بفلان، أي بأن يوقع به ضربا أو مكروها..

أما من ناحيتها، فالمحذوف هو الفعل القبيح، وإنما فرّقنا بينها وبينه في هذا الأمر، لما ظهر من أنها قد راودته عن نفسه، فجاز عليها فعل القبيح فهمّت به، أما يوسف (ع) فلا يجوز ذلك عليه، لأنه رفض واستعصم، حسبما دل عليه القرآن..

والسبب في أن برهان ربه قد صرفه عن ضربها هو أنه لو فعل ذلك لأهلكه أهلها وقتلوه، أو أنها تدعي عليه المراودة علي القبيح، وتقذفه به، وأنه إنما ضربها لامتناعها، وسيصدق الناس عليه ذلك.

وعلي هذا التفسير لا يكون جواب (لولا) متقدما عليها، بل هو مقدر ومتأخر عنها، والتقدير: همّت به وهمّ بدفعها أو ضربها، لولا أن رأي برهان ربّه لفعل ذلك.

وحذف الجواب هنا كحذفه في قوله تعالي: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم) [121] ، والتقدير لهلكتم.

أضف إلي ما تقدم:

أن من يقول: المراد أنه عليه السلام قد همّ بالقبيح كما همت هي به، يحتاج هو الآخر أيضا إلي تقدير جواب، كأن يقال: همت بالقبيح وهم به لولا أن رأي برهان ربه لفعله..

الثاني: أن يحمل الكلام علي التقديم والتأخير، أي: لقد همّت به، ولولا أن رأي برهان ربه لهمّ بها، وهذا كقولك: قد كنت هلكت لولا أني تداركتك، وقتلت لولا أني خلصتك، أي لولا تداركي لك لهلكت، ولولا تخليصي لك لقتلت، وقال الشاعر:

فلا يدعني قومي ليوم كريهة لئن لم أعجل طعنه لم أعجل

وقال الآخر:

ولا يدعني قومي صريحا لحرة لئن كنت مقتولا ويسلم عامر

فقدم جواب (لئن) في كلا البيتين.

ومما يشهد علي ذلك أنهم يقولون: قد كان زيد قام لولا كذا كذا (و) قد كنت قمت لولا كذا (و) قد كنت قصدتك لولا أن صدني فلان" وإن لم يقع قيام ولا قصد، وهذا هو الذي يشبه الآية.

وخلاصة الأمر: أن في الآية شرطا، ويحتاج إلي جواب، وليس تقديم جواب (لولا) بأبعد من حذف الجواب من الأساس..

وإذا جاز عندهم الحذف _ لئلا يلزمهم تقديم الجواب _ جاز لغيرهم تقديم الجواب حتي لا يلزم الحذف.

تذكير:

إن الملفت للنظر هنا: أن أبا علي الجبائي المعتزلي _ تبعا لغيره _ هم أصحاب مقولة: أن معني هم بها اشتهاها، ومال طبعه إلي ما دعته إليه.. وقد روي هذا التأويل عن الحسن البصري، من علماء العامة أيضا.

قال المرتضي رحمه الله: "ويجب علي هذا الوجه أن يكون قوله تعالي: (لولا أن رأي برهان ربه)، متعلقا بمحذوف، كأنه قال: لولا أن رأي برهان ربه لعزم أو فعل" انتهي [122] .

هذا مع

أن قوله تعالي: (وأصبح فؤاد أم موسي فارغا إن كانت لتبدي به لولا أن ربطنا علي قلبها لتكون من المؤمنين)، يدل علي صحة تقديم لولا عليها.

لعل يوسف نسي أهله بعد انقطاع أخبارهم.

لعل أهل يوسف قد نسوه بعد انقطاع أخباره.

رؤية يوسف لإخوته كانت بمثابة الصدمة له.

ضغط الأحداث علي يوسف، جعل ذكر أهله يغيب عن فكره.

وفي تفسير قوله تعالي:

(وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه، فعرفهم وهم له منكرون).

يقول البعض:

".. ومرت الأيام.. وابتعد يوسف عن أهله.. وابتعدوا عنه.. وربما نسيهم بعد انقطاع أخبارهم عنه، وربما نسوه بعد انقطاع أخباره عنهم.. وتحول الجميع لدي بعضهم البعض إلي ذكري تغيب عن الفكر أمام ضغط الأحداث المتلاحقة" [123] .

ويقول:

"أما بالنسبة ليوسف، فقد كانت ملامحهم في ذهنه، لأنهم كانوا كباراً عندما فارقهم، ولم يحدث في حياتهم تغيير يذكر، يبعد الصورة البارزة لديه. لهذا كانت رؤيته لهم، بمثابة الصدمة التي أعادته إلي الماضي، وربما يكون قد ساهم في ذلك أنهم كانوا قد ذكروا أسماءهم، ومواقع بلادهم عند قومهم، فمن المتعارف لدي الناس، سؤال الغرباء عن هويتهم وبلادهم" [124] .

وقفة قصيرة

ونقول:

1 _ ما المبرر لطرح احتمال نسيان يوسف لأهله.. وطرح احتمال نسيان أهله له، حتي تحولوا لدي بعضهم البعض إلي ذكري تغيب عن الفكر أمام ضغط الأحداث المتلاحقة؟!.

وإذا كانت الذكري للأهل تغيب عن الفكر أمام ضغط الأحداث المتلاحقة فهل يصح اعتبار الأهل قد نسوا ولدهم، والولد قد نسي أهله في حالات الإنصراف الذهني حين الإنشغال بالعمل، وذلك يكون حتي حين يكون الولد جالساً إلي جنب أبيه وأمه؟!.

وهل الأنبياء كانوا يعانون من ضعف الذاكرة إلي هذا الحد؟! وما معني أن ينسب مثل هذا

الأمر إليهم؟!

2 _ ما معني تصويره لحالة يوسف حينما رأي إخوته، فعرفهم وهم له منكرون.. علي أنها كانت بمثابة الصدمة له؟!! وهل يصح استعمال أمثال هذه التعابير في حق أنبياء الله سبحانه؟!

3 _ من أين استنبط هذا الحدث حتي أخبر عنه علي أنه حقيقة واقعة؟! ومن أين عرف أن ملامحهم لم يحدث فيها تغيير يذكر؟ وما هو الدليل القطعي الذي يثبت له ذلك؟! أو فقل: ما هي الأخبار المتواترة أو غير المتواترة التي تثبت هذا؟

4 _ إننا نعتقد أن يوسف الذي كان يعيش آفاق النبوة لا يمكن أن ينشغل عن أهله، وأن ينساهم مهما طال الزمن، خصوصاً بالنسبة لأبيه النبي العظيم [125] الذي يرتبط به روحياً وإيمانياً، _ قبل أن يرتبط به جسدياً _ وبصورة أعمق وأوثق من أي رباط آخر بنحو يتناسب مع الآفاق التي يعيشها الأنبياء، والمسؤوليات التي يحملونها.

كما أن يعقوب لا يمكن أن ينسي ولده لنفس السبب الذي اشرنا إليه، وقد طال حزنه عليه حتي ابيضت عيناه من الحزن. وقد صرح القرآن بأنه لم يكف عن ذكر يوسف طيلة تلك المدة، حتي قال له ابناؤه: تالله تفتؤ تذكر يوسف حتي تكون حرضاً أو تكون من الهالكين.. فمن كانت هذه حاله كيف يقال: إن أهله نسوه.. وإذا كان بعضهم يوشك أن ينساه فإن حزن يعقوب وبكاءه عليه يمنع من حدوث هذا النسيان.

5 _ قد صرح هذا البعض:

"بأن يوسف قد عرف أسماء اخوته ومواقع بلادهم من خلال أسئلته التي وجهها لهم، فساهم ذلك في تذكره لهم ".

فهل يريد هذا البعض أن يقول: إن يوسف الذي أصبح علي خزائن الأرض، وصار له هذا الشأن العظيم، إنما لم يستخدم

موقعه ونفوذه، والوسائل المتوفرة لديه في السؤال عن أهله، ومعرفة أخبارهم، وكذلك لم يأت بهم من البدو بسبب النسيان الذي طرأ عليه بسبب ضغط الأحداث المتلاحقة؟!

وهل يعقل أن لا يخطر له علي بال أبداً طيلة سنين، وسنين أن له أباً وأماً، وأن له إخوة وأنهم قريبون منه.. وأنهم هم الذين أوقعوه بالمصائب، والبلايا؟!.

ألم يمر في وهمه أي خاطر من هذا القبيل ولو حين يأوي إلي فراشه فيدفعه ذلك إلي السؤال عن منطقتهم، وعن أحوالهم، وعن مصيرهم؟! إن ذلك لغريب حقاً، وأي غريب!!

إننا نبادر إلي القول بأن يوسف الذي هو نبي اصطفاه الله لا يمكن أن ينسي مسؤوليته الشرعية تجاه أبويه علي الأقل، ولزوم التعرف علي أخبارهما، لأداء واجب البر بهما وصلة رحمهما، التي هي من الواجبات..

وإن ما جري لم يكن يجري في صراط النسيان والغفلة _ وحاشاه من ذلك وهو نبي الله سبحانه _ ثم التذكر حين مواجهة الصدمة (!!) علي حد تعبير البعض بل كانت الأمور تجري في نطاق الخطة الإلهية، والرعاية الربانية لأنبيائه ورسله، وتسديدهم فيما يعملون له من نشر راية الحق والهدي، والفلاح والصلاح بنجاح. وهكذا كان..

يونس

اشاره

يونس(ع) ليس لديه الصبر الكافي.

الله يؤدِّب نَبِيَّه يونس (ع).

يونس (ع) تهرَّب من مسؤولياته.

الله يعتبر يونس(ع) هاربا كإباق العبد من سيده.

يونس(ع) يخرج دون أن يتلقي تعليمات من الله.

يتحدث البعض ع_ن تأديب الله ليون_س بسبب عدم صبره، بملاحظة حجم يونس، فيق_ول بلهجة عامية:

"ما كان عنده الصبر الذي تحتاجه المسألة، فتفسير (فظن أن لن نقدر عليه) ليس معناها أنه ظن أن الله لا يقدر عليه، أن لن نقدر عليه، يعني أن نضيق عليه كأنه في هذا المجال، وما

في مانع أن الأنبياء الله سبحانه يتعهدهم بالتربية وبالتأديب في حالة من الحالات، لا سيما إذا كانوا أنبياء في حجم يونس، وأمثال يونس من الأنبياء المحليين الخ.." [126] .

ويتحدث عن هروب يونس(ع) من مسؤولياته، وإباقه من الله، وأنه عندما لم يستجب له فيها منهم الكثيرون:

خرج مغاضبا احتجاجا علي ذلك، من دون أن يتلقي أية تعليمات من الله في ذلك منه (اعتقادا منه) [127] بأن المسألة لا تحتاج إلي ذلك، فقد قام بدوره كما يجب، ولم يدّخر جهدا في الدعوة إلي الله بكل الأساليب والوسائل، ولم يبق هناك شيء مما يمكن عمله. ولكن الله اعتبرها نوعا من الهروب، فيما يمثله ذلك من معني الإباق، تماما كما هو إباق العبد من مولاه" [128] .

ثم هو يقول:

"نستوحي من هذه القصة الخاطفة: أن الله قد يبتلي الدعاة المؤمنين، من عباده ورسله، فيما يمكن أن يكونوا قد قصّروا فيه، أو تهربوا منه من مسؤوليات.

وأن الداعية قد يضعف أمام حالات الفشل الأولي، أو أوضاع الضغط القاسية، أو مشاكل الظروف الصعبة، كنتيجة لفكرة انفعالية سريعة، أو لشعور حاد غاضب.

ثم يلطف الله بهم بعد أن يتراجعوا عن ذلك، ويرجعوا إليه، فينجيهم من بلائه، ويحوطهم بنعمائه، ويسبغ عليهم من ألطافه وآلائه، لئلا يتعقد الخطأ، أو الإنفعال في شخصيتهم، لينطلقوا إلي الحياة من روحية الصفاء الروحي، والنقاء الشعوري، من جديد، ليبدؤا الدعوة من حيث انتهوا، ويتابعوا المسيرة بعزم، وقوة، وإخلاص.

ثم نلتقي في أعماق الموقف بالابتهالات الخاشعة الخاضعة لله في روحية الإحساس بالعبودية، التي يشعر المؤمن معها بأن الله يلتقيه في مواقع الإنابة، مهما كانت الخطايا والذنوب، وأن الخطأ لا يتحول إلي عقدة، بل يتحول إلي فرصة للقاء بالله

من جديد، في مواقع التوبة الحقيقية الخالصة، التي يبدأ فيها التائب تاريخا جديدا، وصفحة بيضاء من حياته" [129] .

وقفة قصيرة

إننا قبل أن نتعرض لشرح الآيات الخاصة بنبي الله يونس عليه الصلاة والسلام، نشير إلي أمرين:

أحدهما: إن ذلك البعض _ حسبما أسلفنا _ قد استوحي من قصة يونس(ع) أمورا ترتبط بما يبتلي الله به الدعاة من عباده ورسله، وذلك يعني: أن ما استوحاه من قصة هذا النبي ظهر له من قصته، وأنه مما ابتلي به هذا النبي نفسه، وذلك يعني أنه يمكن أن ينال جميع الأنبياء الآخرين، كما أنه قد قرر إمكانية ابتلاء الدعاة المؤمنين من عباد الله ورسله، بمثل ما ابتلي الله يونس، فيما يمكن أن يكونوا قد قصّروا فيه، أو تهربوا منه من مسؤوليات.. وها نحن هنا نذكر النقاط التي استوحاها، وهي التالية:

أ _ الدعاة من الرسل قد يقصرون في واجباتهم كدعاة.

ب _ الدعاة والرسل قد يتهربون من مسؤولياتهم.

ج _ قد يضعفون أمام حالات الفشل الأولي.

د _ ضعفهم أمام الفشل قد يجعلهم ينفعلون ويغضبون.

ه_ _ قد يلطف الله بهم لئلا يتعقدوا من الخطأ، أو الإنفعال.

و _ يجب أن لا يتحول خطؤهم إليعقدة بل إلي فرصة للقاء الله.

ز _ توبتهم تكون بفتح صفحة بيضاء جديدة، أو تاريخ جديد.

الثاني: قد ظهر أن هذا البعض يري أن تأديب الله لأنبيائه تابع لأحجامهم!! فثمّة أحجام تستدعي التأديب وتبرره، وقد كان يونس عليه السلام من هذا النوع بالذات!!

ولا ندري إذا كان السبب في اتخاذ يونس لهذا الحجم (!!) وهو كونه نبيا محليا(!!) الأمر الذي يجعله _ بنظر ذلك البعض _ غير جامع للكمالات المطلوبة، وليس في المستوي الذي يؤهله

لتقدير مسؤولياته، ويمنعه من الهروب منها!!

ولكن ليت شعري أَيُّ نبي سَلِمَ من نسبة الخطأ في تقدير الأمور إليه، من قبل هذا البعض؟ فقد تقدم أن موسي عليه السلام – وهو من أولي العزم – وأخاه هارون (ع) قد أخطأا أو أحدهما في تقدير الأمور.. بل قد جُعِلَ الخطأ قاعدة – لدي هذا البعض _ نالت جميع الأنبياء حتي سيّد المرسلين وأفضل الأنبياء نبيّنا محمد(ص).

تفسير الآيات

ومهما يكن من أمر، فإننا نشير هنا إلي تفسير الآيات التي تحدثت عن يونس، فنقول:

إن قصة يونس (ع) من خلال الآيات لا تدل علي تلك المقولات التي أطلقها البعض، فقد تحدث الله سبحانه عن يونس(ع) في أكثر من موضع من كتابه العزيز، ونحن نذكر أولا الآيات التي ذكرت، وهي التالية:

أ _ قال تعالي: (وذا النون إذ ذهب مغاضبا، فظن أن لن نقدر عليه، فنادي في الظلمات: أن لا إله إلاّ أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين. فاستجبنا له، ونجيناه من الغمّ، وكذلك ننجي المؤمنين).

ب _ وقال تعالي مخاطبا نبيّه: (.. فاصبر لحكم ربّك، ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادي وهو مكظوم. لولا أن تداركه نعمة من ربه، لنبذ بالعراء، وهو مذموم. فاجتباه ربه، فجعله من الصالحين).

ج _ وقال سبحانه: (وإن يونس لمن المرسلين، إذ أبق إلي الفلك المشحون. فساهم فكان من المدحضين، فالتقمه الحوت وهو مليم، فلولا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلي يوم يبعثون. فنبذناه بالعراء وهو سقيم. وأنبتنا عليه شجرة من يقطين. وأرسلناه إلي مئة ألف أو يزيدون. فآمنوا فمتعناهم إلي حين).

وهنا نذكرّ القارئ الكريم بنقاط تدل علي براءة يونس(ع) مما ينسب إليه، وهي التالية:

1 _ كلمة مغاضباً التي تعني

حدوث فعل الإغضاب من طرفين، _ أحدهما يونس عليه السلام _ حيث يريد كل منهما أن يغضب الآخر، ولا يصح القول بأن المغاضبة قد كانت بين يونس(ع) وبين الله سبحانه، فإن فرض ذلك لا يليق بمؤمن صالح فضلا عن أن تكون قائمة بين الله سبحانه وبين يونس (ع)، فلم يكن ثمة سعي من يونس (ع) لإغضاب الله تعالي، ولا إرادة من الله سبحانه لإغضاب يونس (ع)، فإذا كان الله سبحانه يقول عن سائر المؤمنين: (رضي الله عنهم ورضوا عنه)، فكيف بالأنبياء الكرام، ومنهم يونس (ع)؟ إن الحقيقة هي أن المغاضبة كانت بين يونس(ع) وبين فريق آخر، والظاهر أنهم قوم يونس (ع)، الذين يئس من هدايتهم، وتنحي عنهم بعد أن علم أن العذاب سينزل عليهم. فالتجأ إلي الفلك المشحون بالناس، وكان قومه يطلبونه، ليوصلوا إليه الأذي، لأنهم كانوا يرونه قد أساء إليهم، فاعتبروه فارّا وآبقا منهم، وكانوا لا يصدقون بنزول العذاب عليهم.

فلما رأوا علائم العذاب استكانوا إلي الله وخضعوا له، فكشف الله عنهم العذاب، ومتعهم إلي حين. وكان ذلك في غياب يونس (ع)، ولم يكن يونس (ع) يعلم بذلك، وتذكر بعض الروايات: أَنَّ جبرئيل عليه السلام كان قد استثني في هلاكهم، ولم يسمعه يونس (ع)، فإن كان ذلك الإستثناء قد حصل حين الوحي ليونس فلا بد من توجيه الرواية أو طرحها، حتي لا يكون ثمة تقصير من قبل جبرئيل (ع) في إيصال الوحي، ولا في يونس (ع) في تلقيه له.

وإن كان ذلك علي سبيل الحديث العادي، الذي يجري بين اثنين، فأراد جبرئيل أن يخبر يونس من عند نفسه، لا علي سبيل إيصال الوحي الإلهي إليه، فلا مانع من أن يكون جبرئيل (ع) قد تعمد

أن لا يسمع يونس (ع) هذا الإستثناء إذ لا يضر ذلك في تلقي الوحي، ولا في إلقائه، لأن هذا ليس من الوحي أساساً، ولكننا لانجد مبررا عقلانيا لتصرف كهذا من قبل جبرئيل (ع). وإن كان حديثه مع الأنبياء في أمور ليست من الوحي الإلهي مما لاشك فيه.

وقد روي أن جبرئيل كان بعد وفاة رسول الله (ص) يأتي إلي فاطمة (ع) ويحدثها بما يسليها، وكان علي عليه السلام يكتب ذلك في مصحف فاطمة(ع) [130] .

2 _ قوله تعالي: (فظن أن لن نقدر عليه) أي: أن نضيق عليه، فالذي يكون آبقا وهاربا من المسؤولية لا يظن أن الله سوف لا يضيق عليه، بل هو يتوقع التضييق، وأن يلاقي جزاء هروبه هذا.. إذن الفقرة تشير إلي أنه (ع) كان واثقا من رضا الله عنه، ولم يكن آبقا منه تعالي، ولا هاربا من مسؤولياته.

وكلمة ظن هنا بمعني: عَلِمَ [131] ، لكن بما أن العلم هو انكشاف للواقع.. وبما أن المتعلق هنا أمر مستقبلي، فإن المستساغ هو استعمال كلمة ظن بدل علمه مراعاة لهذه الخصوصية، في الظواهر التعبيرية، وحسب.

3 _ إن مناداة يونس عليه السلام في الظلمات الثلاث، اعني ظلمة الليل، وظلمة أعماق البحار، وظلمة بطن الحوت (لا إله إلاّ أنت سبحانك) تؤكد علي حقيقة التوحيد الخالص لدي يونس (ع) _ خصوصا في هذا الموقع _ حيث لم يتعلق بغير الله سبحانه كمنقذ له من ذلك البلاء.. فهو العالم به، وهو القادر دون سواه علي إنقاذه.

أما قوله: (إني كنت من الظالمين)، فهو تعبير يشير إلي رسوخ قدم هذا النبي في معرفة الله، فإنه يري نفسه باستمرار مقصرا عن أداء شكر ربه، وعن قيامه بواجبه تجاهه،

وعن عبادته حق عبادته، فكلمة (كنت) قد جاءت مجردة عن الزمان، والمراد بها الحديث عن خصوصية ذاته، كما يقتضيه مقام العبودية.

ويشير إلي ذلك ما روي من تفسير الإمام الرضا (ع) له بقوله: إني كنت من الظالمين بتركي مثل هذه العبادة التي أفرغتني لها في بطن الحوت.

وبكلمة موجزة نقول: لا بد من تنزيه الأنبياء عن ارتكاب الظلم الذي ربما يخطر بالبال حين سماع هذا التعبير، قبل التأمل والتعمق في فهم المراد..

4 _ إنه لو كان سبحانه هو الذي ابتلي يونس (ع) بالتقام الحوت ليؤدبه بذلك علي ما فرط منه، وعلي إباقه منه، فان المناسب أن يقول فرفعنا عنه العقوبة، لا أن يعبر بكلمة أنجيناه من الغم فان ذلك يشير إلي أن الله سبحانه قد نجاه من بلاء ناله من غير جهة الله سبحانه.

5 _ إن قوله تعالي: (وكذلك ننجي المؤمنين) كأنه تعليل لإنجائه تعالي ليونس (ع)، مشيرا بذلك إلي أن إيمان يونس (ع) هو السبب في هذا التدخل الإلهي، وهذا ما لا يتناسب مع ما يقوله هذا البعض من إباق يونس عليه السلام كإباق العبد من سيده، وهروبه من مسؤولياته..

إذ لو كان الهروب من المسؤولية، لكان الأنسب سوق الحديث باتجاه تأكيد التوبة والإستغفار، لأنه هروب يحتاج إلي ندم وتضرع وتوبة، ثم قبول إلهي لها، فيقول مثلا، وكذلك نرحم التائبين، ونحسن إليهم ونتوب عليهم، بدل أن يقول وكذلك ننجي المؤمنين، الظاهر في أن انجاءه له، إنما كان جائزةً ومكافأةً له علي إيمانه..

6 _ أما آيات سورة القلم، التي تقدمت في أوائل هذه الوقفة، فإنما يراد بها أن يتذرع الرسول الأكرم (ص) بالصبر، لينال بذلك مقاما عظيما يفوق مقام يونس عليه السلام.

فان دعاء يونس (ع) وهو مكظوم أي مختنق بغيظه، لم يحط من مقام يونس، ولولا أن تداركته نعمة من الله لنبذ من قبل غير الله سبحانه _ تماما كما هي سنّة الله في هذه المواقع _ بالعراء علي أقبح صورة ممكنة ولناله أعظم السوء، ولكنه لو تحمّل المزيد لحصل علي مقام أسمي مما هو فيه..

فالله يريد لنبيّه أن يتسامي في مدارج القرب ليصل إلي أبعد منازل الكرامة الإلهية، ولا يريد له أن يقف عند هذا الحد، ويرضي بما ناله، وبما وصل إليه، كما كان الحال بالنسبة إلي يونس (ع)، فالتشبيه إنما هو في هذه الناحية.

فالآيات إذن ما هي إلاّ إرشاد من الله للرسول إلي هذه الخصوصية، التي لا يستلزم تركها تنزلا عن المقام الذي هو فيه، غير أن فعلها له آثاره الكبيرة في نيل أسمي درجات القرب والكرامة.

7 _ فيونس (ع) إذن واقع في مأزق، فلحقته نعمة الله فنجا، ولو كان المراد قبول توبته، لكان الأنسب التعبير بالرحمة بدل النعمة.

وقوله: (وهو مذموم) لا يراد به الذمّ من قبل الله سبحانه كما ألمحنا إليه.

8 _ قد ظهر أن الإباق إلي الفلك المشحون، لم يكن إباقا من الله سبحانه، ولا هروبا من المسؤولية، بل هو إباق إليه، من موقع المسؤولية في مواجهة تبعاتها.

9 _ وقوله تعالي: (فلولا أنه كان من المسبحين) يشير إلي عدم إباق يونس(ع) من الله تعالي، لأن من كان كل حياته من المسبحين، حتي استحق بذلك معونة الله له، فإنّه لا يهرب من ربّه، ولا يتمرد عليه.

10 _ إن معني أبق العبد: ذهب بلا خوف، ولا كد عمل، أو استخفي، ثم هرب [132] ، هذا هو المعني

اللغوي لكلمة أبق، فليس فيه أن هروبه لا بد أن يكون من مولاه، علي صفة التمرد، والخروج عن زي العبودية.

نعم قد فسّر في الشرع بذلك، فان الآبق شرعا (مملوك فرّ من مولاه، تمردا أو عنادا لسوء خلقه) [133] .

11 _ قوله: (وهو مليم) أي يلوم غيره، لا أنه يلوم نفسه، فان هذه الكلمة هي اسم فاعل من (ألام) بمعني (لام)، أو بمعني (أتي ما لا يستحق اللوم عليه)، وتلك إشارة أخري تؤكد عدم استحقاق يونس(ع) لأدني لوم، ولو كان آبقا من ربّه لاستحقّ أشدّ اللوم بل العقاب بلا ريب.

يونس استنفد تجاربه في الدعوة إلي الله.

يونس لم يفكر بالمرحلة الجديدة من عمله.

يونس لم ينتظر نتائج التجربة الأخيرة.

يونس يعيش جو الحيرة.

أراد يونس أن يخرج من جو الغم والحزن والحيرة ليجد ملجأ جديدا.

ظن يونس أن لن يضيق الله عليه فجاءت النتيجة عكس ما كان يتصوره.

يونس خرج من دون أن يستأذن الله في ذلك.

يونس يقول ظلمت نفسي في تقصيري في أمر الدعوة من غير قصد.

أنا عائد إليك يا رب لتكشف عني أجواء الحيرة.

كان خروجه السريع سرعة انفعالية في اتخاذ القرار.

قد لا يكون خروج يونس تهرباً من المسؤولية.

يقول البعض:

"ولكن المراد هنا من كلمة (نقدر) المعني الذي يلتقي بالتضييق، أو بالتحديد كما في قوله تعالي: (وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه) (الفجر: 16) وهكذا يكون معني الآية، إن هذا العبد الصالح خرج مغاضباً لقومه، وهو يظن أنه قد ملك حريته، بعد أن انتهت مهمته باستنفاد كل تجاربه في الدعوة إلي الله وعدم تجاوب قومه معه، واستحقاقهم العذاب علي ذلك، وقرب نزوله عليهم، فلم يفكر بالمرحلة

الجديدة من عمله، ولم ينتظر عودتهم إلي الإيمان من خلال التجربة الأخيرة التي قد تحقق نتائج كبيرة علي هذا الصعيد، وهي مسألة تهديدهم بالعذاب الذي ثبت _ بعد ذلك _ أنه كان الصدمة القوية التي أرجعتهم إلي عقولهم، فانفتحت قلوبهم علي الإيمان بالله وبرسالاته من جديد. كما حدثنا الله عن ذلك في آية أخري.

لقد كانت لحظة انفعال تختزن الغضب لله، ولكنها لم تنطلق للتفكير بالمستقبل في آفاق الدعوة إلي الله، التي تعمل علي أن تطل علي الآفاق الواسعة من عقل الإنسان وروحه وقلبه لتنتظر منه انفتاحة إيمان، ويقظة روح، وخفقة قلب.. وفي هذا الجو كان خروجه السريع، سرعة انفعالية في اتخاذ القرار، وقد لا يكون ذلك تهرباً من المسؤولية، وحباً للراحة، وابتعاداً عن أثقال الرسالة ومشاكلها، فربما كان الجو يتحرك في حالة شديدة من الحيرة والغم والحزن، مما يريد معه أن يخرج من هذا الجو الخانق ليجد لنفسه ملجأً جديداً، أو موقعاً آخر للدعوة، أو لأي مشروع جديد، في هذا الإتجاه، وهو يظن أن الله لن يضيق عليه أمره، في رزقه، وفي حركته، وجاءت النتيجة غير ما كان يتصوره أو ينتظره، فالتقمه الحوت، بعد أن وقعت القرعة عليه، وعاش في ظلمات البحر، وجوف الحوت، وظلمات الهم والغم، وانفتحت أمامه من جديد، آفاق إيمانه الواسع، فعاش روحيته مع الله في ابتهال وخشوع، وبدأ يتذكر لطف الله به ورعايته، وتكريمه إياه من خلال ما اختصه به من رسالته وما سهل له من سبل الحياة، وهداه اليه من وسائلها، وكيف خرج من دون أن يستأذن الله في ذلك، أو ينتظر ما يحدث لقومه، فانطلقت صرخته المثقلة بالهم الكبير الروحي والرسالي الذاتي، من كل أعماقه، في استغاثة عميقة

بالله وحده لا سيما في مثل ظروفه التي لا يملك أحد فيها أن يقدم إليه شيئاً.

(فنادي في الظلمات أن لا إله إلا أنت) فلا ملجأ لأي هارب أو ضائع أو حائر إلا إليك، ولا ملاذ إلا أنت، فأنت القادر علي كل شيء، والرحيم لكل مخلوق، والعليم بكل الخفايا والمهيمن علي الأمر كله و الغافر لكل ذنب، والمستجيب لكل داع، والمغيث لكل ملهوف، والمفرج عن كل مهموم ومكروب.. وليس لي غيرك اسأله كشف ضري والنظر في أمري، فأنت ربي وسيدي ومولاي وملاذي في كل الأمور، (سبحانك) إذ يختزن قلبي وعقلي ووجداني الإحساس بعظمتك في كل مواقع العظمة في مجالات التصور، وفي حركة القدرة في الواقع، في مظاهر الخلق والإبداع.. فيتحول ذلك إلي تسبيح منفتح خاشع مبتهل إلي الله، (إني كنت من الظالمين) فقد ظلمت نفسي في تحركي، أو تقصيري في سبيل الدعوة، من غير قصد، ولا عمد، وها أنذا _ يا رب _ راجع إليك بكل قلبي وعقلي وحياتي، لتتقبلني بكل لطفك ورضوانك ورحمتك، ولتكشف عني في كل أجواء الحيرة والغم التي تغمرني بالآلام والمشاكل، فهل تستجيب لي؟ إنك انت الذي تستجيب كل الدعوات لمن دعاك" [134] .

وقفة قصيرة

ونقول:

1 _ إن ثمة إصلاحاً طرأ علي عبارة هذا البعض وهو: أنه كان قد جزم في الطبعة الأولي من كتابه "من وحي القرآن" بأن الله سبحانه قد اعتبر ما فعله يونس تهرباً من المسؤولية، لكنه في هذه الطبعة قال: قد لا يكون ذلك تهرباً من المسؤولية.

ولعله قد ظن أن الناس سوف يعتبرونه قد اصلح وتراجع عن مقولته السابقة، الظاهرة في الإخلال بالعصمة للأنبياء..

ولكن الحقيقة هي أن ما فعله هنا قداظهر إصراره الشديد علي الطعن

بعصمتهم (عليهم السلام) حيث قد نبهنا في الأبحاث السابقة لهذا الكتاب _ وربما أكثر من مرة _ إلي أن احتمال صدور المخالفة من النبي لا ينسجم ولا يجتمع مع اليقين بعصمته، مهما كان ذلك الاحتمال ضعيفاً، حتي ولو بنسبة واحد بالمئة.. فإن عبارة: "قد لا يكون ذلك تهرباً" تعني أن احتمال أن يكون تهرباً، لا يزال باقياً أيضاً. ولا يحتمل في حق المعصوم أن يتهرب من المسؤولية في أي من الظروف والأحوال، لأن احتمال ذلك في حقه معناه: أننا لسنا علي يقين من عصمته.. وذلك واضح..

2 _ من اين علم هذا البعض: أن يونس لم ينطلق للتفكير بالمستقبل في آفاق الدعوة إلي الله، التي تعمل علي أن تطل علي الآفاق الواسعة من عقل الإنسان وروحه وقلبه، لتنتظر منه انفتاحة إيمان، ويقظة روح، وخفقة قلب _ علي حد تعبيره؟!

فإن هذا الكلام يمثل إخباراً غيبياً عن ضمير يونس، وعن خلجات قلبه، كما أنه يمثل إدانة خطيرة له، فلماذا يسيء الظن ولا يحسنه بهذا النبي الفاني في الله، والباذل نفسه، وكل حياته ووجوده في سبيله؟! أم أن الله أطلعه علي قلب نبيه بعد آلاف السنين، فانبري ليخبرنا بهواجسه واهتماماته، وبنجواه، وخلجات قلبه، وما فيه إدانة بل إهانة له؟!

إننا نعتقد أن جميع الأنبياء لا يفكرون بمصالحهم كأشخاص، وإنما يفكرون في مستقبل الرسالة، ويخططون له، ويتحملون مسؤولياتهم في ذلك.

3 _ أضف إلي ذلك: أن هذا البعض قد جزم بأن يونس (عليه السلام) قد خرج من دون أن يستأذن الله في ذلك، أو ينتظر ما يحدث لقومه، ولا ندري من أين، وكيف جاز له الجزم بهذا الخبر التاريخي وهو الذي لا يقبل بخبر الواحد، بل يشترط التواتر

أو كل ما يفيد الجزم واليقين بالأخبار التاريخية سواء من حيث السند أو من حيث الدلالة..

كما أننا قد قلنا فيما ذكرناه سابقاً من قصة يونس (ع): إن قومه هم الذين كانوا يرونه آبقاً منهم وإننا لنن_زه ساحته وهو النبي المعصوم عن أن يعمل عملاً من تلقاء نفسه، ومن دون أن يتحقق من رضا الله سبحانه وتعالي فيه، فإن ذلك مما ينافي انقياده لله سبحانه، ويخلّ بأهليته لمقام النبوة والرسالة..

4 _ إننا نعتقد: أن الأنبياء لا يقومون بتجارب في حقل الدعوة إلي الله سبحانه، لأن هذا التعبير (تجربة _ تجارب) له إيحاءات سيئة _ وهو يؤمن بالإيحاءات، وكتابه موضوع علي أساسها _ لا مجال للإلتزام بها، من حيث إنه يختزن أن من يمارس التجربة لا يملك المعرفة التامة بجدوي ودقة ما يقوم به.. كما أنه يختزن معني الخطأ في إصابة الواقع..

إن الأنبياء لا يقومون بتجارب، و إنما يعملون بوظيفتهم الشرعية التي لا يشكون في أنها المعالجة الصحيحة والدقيقة.. غير أن حالة استكبار قومه _ كما هو الحال في استكبار إبليس _ وجحودهم، هو الذي يمنع من أن يؤثر هذا البلسم الشافي أثره.

5 _ وقول هذا البعض:

"إن يونس (عليه السلام) لم يفكر في المرحلة الجديدة من عمله"

وإنه:

"لم ينتظر نتائج التجربة الأخيرة"

ما هو إلا رجم بالغيب، لا يملك دليلاً قطعياً يثبته _ حسب ما يشترطه هذا البعض _ وهل يمكن أن يجد دليلاً يثبت علي أنبياء الله القصور والتقصير في مسؤولياتهم؟!

أضف إلي ذلك أنه هو نفسه يقول:

"إن النفي يحتاج إلي دليل، كما الإثبات يحتاج إلي دليل".

6 _ إن الله لم يضيق علي يونس، بل كان الله الذي

وثق به يونس هو الذي هون عليه المشكلات التي واجهها، وذلل المصاعب والمصائب التي حلت به وحفظه، ورعاه.. فكان الله معه في كل صغيرة وكبيرة، وكان ظن يونس علماً صحيحاً وقطعياً، قد تحقق كما أراد يونس صلوات الله وسلامه عليه.

7 _ إن يونس لا يمكن أن يقصر في أمر الدعوة وهو النبي والمسؤول الأول فيها وعنها، وذلك معلوم وواضح.

8 _ إن كلام هذا البعض عن حيرة يونس لا يمكن قبوله، فإنه كان يعرف تكليفه الإلهي والشرعي بدقة، وينفذ ما يريده الله منه دون زيادة أو نقيصة.

ولا يمكن أن نتصور نبياً حائراً، ولا يدري ما هو تكليفه الشرعي، ولا يعرف كيف يقوم بواجبه، وكيف ينجز مسؤولياته.

9 _ إن كلامه عن الخروج من جو الحزن والغم والحيرة ليجد لنفسه ملجأً آخر يعطي: أن يونس إنما كان مهتما بنفسه كشخص.. او علي الأقل هو يحتمل ذلك في حقه _ كما ويحتمل أن يكون بصدد البحث عن موقع آخر للدعوة. فلماذا لا يكون واضحاً وصريحاً فيما يريد أن ينسبه إلي يونس ليعرّف القارئ مراده بدقة، ويحفظه من غائلة الريب والشك في أنبياء الله سبحانه وتعالي.

درجات الأنبياء في الكمال تتفاوت حسب مواقعهم الإيمانية.

استعجال يونس العذاب لقومه بسبب ضعفه البشري.

استسلام الأنبياء للضعف البشري تابع لدرجاتهم.

يونس لم يصبر لتبلغ الرسالة مداها في تحقيق شروط النجاح، أو نهاية التجربة.

ليس ضروريا أن يكون الاستسلام للضعف في حجم المعصية.

ويقول البعض:

"من إيحاءات الآية: وقد نستوحي من هذه الوصية للنبي أن لا يكون كصاحب الحوت الذي ضاق صدره بتكذيب قومه، فاستعجل العذاب لهم، ولم يصبر علي الامتداد في تبليغ الرسالة لتبلغ مداها في تحقيق شروط النجاح

أو نهاية التجربة.

قد نستوحي من ذلك، أن الأنبياء يستسلمون لنقاط الضعف البشري تبعا لدرجاتهم.. وقد لا يكون من الضروري أن يكون ذلك في حجم المعصية، لأنهم ربما انطلقوا من معطيات إيمانية في الغضب لله ولرسوله ولكن ذلك يعني أن درجاتهم في الكمال تتفاوت حسب تفاوت مواقعهم الإيمانية الروحية" [135] .

وقفة قصيرة

قد شرحنا هذه الآيات فيما مضي من هذا الكتاب.. وأوضحنا أن الحديث فيها عن صبر يونس لا يتجه إلي اتهام يونس بالاستسلام للضعف البشري وعدم صبره إلي أن تبلغ الرسالة مداها في تحقيق شروط النجاح أو نهاية التجربة ليقول لنا البعض بعد ذلك: هل إن ذلك في حجم المعصية أم لا؟.

1ً _ ولكن الذي لفت نظرنا هنا هو قول هذا الرجل:

"قد لا يكون من الضروري أن يكون ذلك في حجم المعصية، لأنهم ربما انطلقوا من معطيات إيمانية الخ..".

فإن هذا الكلام يستبطن احتمال المعصية في حق يونس عليه السلام كما يفهم من قوله:

" قد لا يكون من الضروري!!".

وقوله:

"لأنهم ربما انطلقوا".

وهذا الأمر مرفوض في حق الأنبياء حتي علي مستوي الاحتمال.

2ً _ ولفت نظرنا أيضا: ما أطلقه في حق الأنبياء من أن استسلامهم لنقاط الضعف البشري يكون تبعا لدرجاتهم.

فلو فرضنا جدلاً: أنهم يستسلمون لنقاط الضعف البشري، فمن أين استنتج أنهم يختلفون في درجات الاستسلام هذه تبعاً لدرجاتهم، فما هي القرينة في الآية المباركة التي تدل علي ذلك؟ فالآية قد جاءت خطابا للنبي (ص) وهي تدل إذن علي أن ذلك ممكن في حق نبينا (ص) كما هو ممكن في حق يونس (ع) مع علمنا باختلاف الدرجة فيما بينهما.

هذا بالإضافة إلي أن هذا البعض يزعم عدم ثبوت تفضيل النبي

(ص) علي سائر الأنبياء [136] ثم يشرح حقيقة ما فضل الله به بعض الأنبياء علي بعض فيقول:

"..(ولقد فضلنا بعض النبيين علي بعض) [137] فيما ميزناهم به من مواقع العمل، وطبيعة المعجزة، ونوعية الكتب، من قاعدة الحكمة التي أقام الله عليها الحياة [138] .

3ً _ ولفت نظرنا أيضا ما زعمه من أن استعجال يونس العذاب لقومه، إنما هو لأن صدره قد ضاق بتكذيبهم.

فهل ذلك يعني أن يونس عليه السلام كان متسرعا، وأن المسألة قد انطلقت من ضعف يونس الذي ألجأه إلي مواجهة ألوف من الناس بالعذاب الماحق، وبالخطر الداهم والساحق، الأمر الذي يعني أن قومه قد ذهبوا ضحية ضعفه البشري.؟!

وهذه تهمة خطيرة في حق أنبياء الله صلوات الله عليهم.

والأدهي من ذلك أن الله سبحانه قد جاري نبيه هذا الضعيف في ذلك حتي رأوا نذير العذاب بالفعل..

4ً _ ثم هو ينسب إلي نبي من أنبياء الله أنه لم يصبر علي الامتداد في تبليغ الرسالة، حتي تبلغ مداها في تحقيق شروط النجاح أو نهاية التجربة.

وهذا معناه تسجيل تهمة علي هذا النبي أنه لم يقم بمهمة التبليغ الرسالي علي الوجه الأكمل والأمثل، لأنه لم يصبر علي الرسالة لتحقق شروط النجاح. مع أنه هو نفسه يسلم بعصمة النبي في مقام التبليغ، ولا بد أن يكون ذلك يشمل صورتي الخطأ والتقصير في التبليغ علي حد سواء.

داود و سليمان و زكريا و يحيي و عيسي

اشاره

قضية داود (ع)كقضية آدم (ع).

داود (ع) يستسلم لعواطفه في قضائه.

داود (ع) يعتمد علي ما لا يصح الإعتماد عليه في القضاء.

داود (ع) يخطيء في إجراء الحكم.

الله هو الذي أراد لداود (ع) أن يقع في الخطأ.

خطأ داود (ع) كانت له نتائج سلبية.

الخطأ لا يتنافي

مع مقام النبوّة.

ويقول البعض عن قصة حكم داود (ع) بين الخصمين:

"وهكذا أطلق داود الحكم، وتدخل في تفسير المسألة من ناحية اعتبارها مظهرا من مظاهر الإنحراف الإجتماعي في العلاقات العامّة في الحقوق المتنازع عليها بين الناس.. ولم يكن قد استمع إلي الطرف الآخر مما تقتضيه طبيعة إدارة الحكم في جانب الشكل والمضمون، فعليه أن يدرس الدعوي، من خلال الإستماع إلي حجة المدعي ودفاع المدّعي عليه.. لأن مسألة الغني والفقر، والكثرة والقلة، لا يصلحان أساسا للحكم علي الغني الذي يملك الكثير لحساب الفقير الذي يملك القليل أو لا يملك شيئا في دائرة الحق المختلف فيه..

ولكن المشاعر العاطفية قد تجذب الإنسان إلي الجانب الضعيف في الدعوي، لتثير فيه الإحساس بالمأساة التي يعيشها هذا الإنسان من خلال ظروفه الصعبة بينما يعيش الإنسان الآخر الراحة والسعة في أجواء اللامشكلة، مما يجعل من الحكم علي الضعيف تعقيدا لمشكلته بينما لا يمثل الحكم عليه لمصلحة الضعيف مشكلة صعبة بالنسبة إليه.. هذا بالإضافة إلي أن طبيعة الواقع الذي يتحرك في حياة الناس تستبعد أن يكون هذا الفقير معتديا علي الغني، لا سيما في هذا الشيء البسيط، بينما يمكن أن يكون الغني في جشعه وطمعه معتديا علي الفقير من موقع قوته، كما هي حال الأقوياء بالنسبة إلي الضعفاء..

(وظن داود إنما فتنّاه) أي أوقعناه في الفتنة، أي في البلاء والإختبار الذي يفتتن به الإنسان فيكون معرضا للخطأ من خلال طبيعة الأجواء المثيرة الضاغطة المحيطة به وانتبه _ بعد إصدار حكمه لمصلحة صاحب النعجة، إلي استسلامه للمشاعر العاطفية أمام مأساة هذا الإنسان الفقير، وخطأه في عدم الإستماع إلي وجهة النظر الأخري (فاستغفر ربّه) علي هذا الخطأ في إجراءات الحكم الشكلية (وخرّ راكعا

وأناب) أي رجع إلي الله وتاب إليه وأخلص إليه.

قصة داود أمام علامات الاستفهام

فغفرنا له ذلك الخطأ الذي لم يؤد إلي نتيجة سلبية كبيرة في الحياة العامة ولم يصل إلي الموقف الحاسم في تغيير الواقع (وإن له عندنا لزلفي) وهي المنزلة والحظوة (وحسن مآب) فيما يرجع إليه من رحمة الله ورضوانه..".

إلي أن قال في جملة نقاط ذكرها:

"النقطة الثانية: كيف نفهم المسألة في دائرة فكرة عصمة الأنبياء، أمام تصريح الآية بالإستغفار والرجوع إلي الله بعد الفتنة التي لم يستطع النجاح فيها، فأخطأ في إدارة مسألة الحكم في الجانب الإجرائي منه..

ربما تطرح القضية، علي أساس أن الخصمين إذا كانا من الملائكة، فإنها لا تكون تكليفا حقيقيا، بل هي قضيّة تمثيلية علي سبيل التدريب العملي ليتفادي التجارب المستقبلية فيما يمارسه من الحكم بين الناس،..

تماما كما هي قضية آدم التي كانت قضية امتحانية لا تكليفا شرعيا، فلم تكن هناك معصية بالمعني المصطلح، وبذلك يكون الإستغفار مجرد تعبير عن الإنفتاح علي الله والمحبة له، والخضوع له فيما يمكن أن يكون قد صدر عنه من صورة الخطيئة، لا من واقعها، وأما إذا كان الخصمان من البشر، فقد يقال بأن القضاء الصادر من داود لم يكن قضاء فعليا حاسما بل كان قضاء تقديريا، بحيث يكون قوله: (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلي نعاجه)، بتقدير قوله: لو لم يأت خصمك بحجّة بيّنة.

ولكن ذلك كله لا يمنع صدور الخطأ منه، فإنّه لم ينتبه إلي أن الخصمين ملكان، بل كان يمارس القضاء بالطريقة الطبيعية علي أساس أنهما من البشر.. وبذلك فلم تكن المشكلة هي إنفاذ الحكم ليتحدث متحدث بأن المسألة قد انكشفت قبل إنفاذه، أو أنها لم تكن واقعية بل

كانت تمثيلية، بل المشكلة هي الخطأ في طريقة إجراء الحكم..

فلا بدّ من الإعتراف بأن مثل هذه الأخطاء لا تتنافي مع مقام النبوّة، لا سيّما إذا كانت الأمور جارية في بداياتها مما قد يراد به الوقوع في الخطأ من أجل أن يك_ون ذلك بمثابة الصدمة القويّة التي تمنع ع_ن الخطأ في المستقبل.

وتابع هذا البعض فقال:

وقد أكّد الإمام الرضا (ع) _ ذلك _ فيما روي عنه في عيون أخبار الرضا، قال الراوي وهو يسأله عن خطيئة داود(ع): يا بن رسول الله ما كانت خطيئته فقال: ويحك إن داود إنما ظن أنه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه، فبعث الله إليه الملكين فتسوّرا المحراب فقالا: (خصمان بغي بعضنا علي بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلي سواء الصراط، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزّني في الخطاب) فعجّل داود علي المدعي عليه فقال: (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلي نعاجه)، ولم يسأل المدعي البيّنة علي ذلك ولم يقبل علي المدعي عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه.

وقد ذكرنا في هذا التفسير أن علينا أن نأخذ الفكر في طبيعة العقيدة من نصوص القرآن الظاهرة، لا من أفكار خارجة عنه، مما قد تتحرك به الفلسفات غير الدقيقة" [139] .

آيات حكم داود

قال الله تعالي: (إصبر علي ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنّه أوّاب. إنّا سخّرنا الجبال معه يسبّحن بالعشيّ والإشراق. والطير محشورة كلٌّ له أوّاب. وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب. وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوّروا المحراب إذ دخلوا علي داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغي بعضنا علي بعض

فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلي سواء الصراط. إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزّني في الخطاب. قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلي نعاجه وإنّ كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم علي بعض إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم، وظن داود إنما فتنّاه فاستغفر ربّه وخرّ راكعا وأناب. فغفرنا له ذلك وإنّ له عندنا لزلفي وحسن مآب. يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوي فيضلّك عن سبيل الله ان الذين يضلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) [140] .

وقفة قصيرة

قد ذكر العلامة الطباطبائي أن اكثر المفسرين يقولون: إن الخصمين كانا من الملائكة، وأيّد رحمه الله ذلك ببعض الشواهد، فلم يكن هناك نعجة ولا متخاصمان في عالم المادة، لأن القضية إنما هي في ظرف التمثل، ولا تكليف هناك، فلا توجد خطيئة ولا حكم، ولا غير ذلك في عالم الشهود..

وأما علي قول بعض المفسرين من أن المتخاصمين كانا بشرا، فينبغي أن يؤخذ قوله تعالي: (لقد ظلمك) الآية.. قضاء تقديريا، أي إنك مظلوم لو لم يأت خصمك بحجةٍ بيّنة [141] .

وإنما ذلك للحفاظ علي ما قامت عليه الحجة من طريقي العقل والنقل: أن الأنبياء معصومون بعصمة من الله، لا يجوز عليهم لا كبيرة ولا صغيرة، علي أن الله صّرح قبل هذا بأنّه آتاه الحكمة، وفصل الخطاب، ولا يلائم ذلك خطأه في القضاء [142] .

ولو أغمضنا النظر عمّا قاله العلاّمة الطباطبائي فإننا نقول:

1 _ إن افتراض الخطأ في ما جري لداود (ع) علي النحو الذي يقوله ذلك البعض، معناه عدم مصداقيّة كونه أسوة وقدوة، ومعناه أنه

يحكم بين الناس بغير الحق، وأنه يتبع الهوي في أحكامه مما ترتب عليه آثار سلبية باعترافه هو نفسه، لكنه قال إنها غير أكيدة، مع أن الله سبحانه قد قال عن داود: (.. وشددنا ملكه، وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) ثم تلتها الآيات التي تتحدث عن نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب وذلك يشير إلي أن الآيات التي تحدثت عن قضية النعاج التسعة والتسعين لم يرد الله منها تخطئة داود (ع)، فان من آتاه الله فصل الخطاب _ الذي هو تفكيك الكلام الحاصل من مخاطبة واحد لغيره، وتمييز حقه من باطله، وينطبق علي القضاء _ لا يعقل أن يخطئ في نفس ما آتاه الله إيّاه.

أضف إلي ما تقدّم: أن دعوي: كون داود (ع) قد استعجل في الحكم انسياقا مع عاطفته، أو نحو ذلك ينافي الحكمة التي آتاه الله إياها، لأنها وضع الشيء في موضعه، كما أنه ينافي القضاء العادل بالحق الذي أعطاه الله إيّاه أيضا..

2 _ إنّه يلاحظ: أن أحد الخصمين قد طرح سؤالا لا يتضمن ادعاء ملكية، ولا يتضمن شيئا خلاف الشرع، حيث ادعي أن أخاه صاحب التسعة والتسعين نعجة قد طلب منه أن يجعلها تحت تكفله، وألحّ عليه في ذلك، ولم يدّع أنّه اغتصبها منه، أو أنه ادّعي ملكيتها، أو أي شيء آخر، ومجرّد طلب تكفّل شيء للاستفادة من منافعه ليس حراما..

3 _ إن قول داود عليه السلام: (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلي نعاجه)، لا يدلّ علي أنه كان في مقام إصدار حكم.إذ يمكن أن يكون ذلك مجرد إخبار له بالواقع الذي عرفه داود (ع) عن طريق الوحي أو عن أي طريق آخر..

4 _ وأم_ا قوله تعالي: (فظن داود إنما فتنّاه) فيراد

به _ والله أعل_م _: أنه ظن أن الله سبحانه قد أرسل إليه من يسأله هذا السؤال، وقد أراد سبحانه امتحانه بذلك، كما انه قد ظن أن مبادرته إلي إخبار السائل بما علمه لم تكن هي المطلوب، بل لعل المطلوب هو رسم الحكم بطريقة محاكمة قضائية.

وهكذا يتضح أنه لا يصح قول هذا البعض إن داود لم يستطع النجاح في هذه الفتنة فأخطأ.

5 _ وربما يكون المتخاصمان قد تخيّلا أن ما قاله داود (ع) قد كان حكما قضائيا منه، من موقع كونه حاكما وقاضيا، لا إخبارا عن معرفة حصلت له من موقع كونه نبيا، لا سيّما وأنهما قد طلبا منه أن يحكم بينهما، فأخبرهما بالواقع، ولم يستجب لطلبهما بإصدار الحكم.. ولعل هذا هو السبب في عدم اعتراض صاحب النعاج التسعة والتسعين، وعدم دفاعه عن نفسه، ولم يذكّر داود (ع) بأن له الحق بذلك.

والنتيجة لما تقدّم هي:

أ _ إن من الطبيعي أن يفكر داود (ع) بأن هذه القضية قد تكون امتحانا له، فطلب من الله سبحانه أن يستر له ما قد يراه الناس تقصيرا، وهو ليس كذلك في الواقع، وأن يعود عليه بالرحمات والألطاف، فكان له ما أراد.

ب _ إن داود(ع) لم يبادر إلي تشكيل محكمة لفصل القضية قضائيا، بل اكتفي بإخبار الخصمين بحكم المسألة. وأخيرا فالرواية إن كانت موافقة لحكم العقل القطعي فلا مانع من الأخذ بها، وإلا فهي مطروحة أو مؤولة، ولا فرق في ذلك بين كونها صحيحة السند أو لا.

ولا ننسي الإشارة أخيرا إلي تناقض كلامه عن آدم (ع) في هذا المقام حيث نفي عنه المعصية هنا، مع كلامه المتقدم في صدر الكتاب والذي قال فيه: إن معصية

آدم كمعصية إبليس.

"إستعراض الخيل" شغل سليمان (ع) ففاتته الص_لاة.

نقاط الضعف في الأنبياء لا تنافي العص_مة.

سليمان ابتعد عن الخط الرسالي قليلا.

الضغط الإلهي أعاد سليمان (ع) إلي الخط.

سليمان (ع) يضرب أعناق الخيل وسوقها ليؤلم نفسه فيما تحبه.

يقول البعض عن سليمان (ع) في تفسير قوله تعالي: (إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد):

"المراد بالخير: الخيل، فيما قد تطلق عليه هذه الكلمة من المعني، وبذلك يكون المعني، أنه استبدل حب الخيل عن ذكر الله حتي شغل عن صلاته (حتي توارت بالحجاب) أي حتي غابت الشمس، وفاتته صلاة العصر بسبب ذلك.. وهذا هو المشهور بين المفسرين، من أن استعراض الخيل أمامه امتدّ بحيث شغله عن صلاته.

وقد أثار بعض المفسرين احتمال تعلق (وحبه لها عن ذكر ربي)، ب_ (حب الخير) بلحاظ انطلاقه عن أمر الله، ليكون استعراضه لها وحبه لها عملا عباديّا ليتهيّأ بها للجهاد في سبيل الله، وبذلك يكون الشاغل له عن عبادة الله، عملا يختزن في داخله عبادة الله.

ولعل الأساس في هذا التوجيه التفسيري، هو الخروج بعمل سليمان عن كونه مخالفا لموقعه الرسالي، في انشغاله باستعراض الخير عن عبادة الله الواجبة في وقت معين..

ولكن ذلك لا يفيد شيئا في هذا الجانب، لأن صلاة العصر إذا كانت موقتةً بوقت معين، بحيث يذهب وقتها بغروب الشمس وتواريها بالحجاب، كما يظهر من بعض الروايات، فإن الإنشغال عنها المؤدي إلي تركها، بعمل آخر مرضي لله، موسّع في وقته، غير مبرر شرعاً.

ولهذا فقد يكون من الأقرب إبقاء الآية علي ظاهرها الذي يوحي بان سليمان كان في مقام توبيخ نفسه أو الاعتذار إلي الله عما حدث له، مما لا يتناسب مع التوجيه المذكور الذي قد

لا يكون له معني، إلا أن يقال، إن ذلك بلحاظ أهمية الصلاة وبذلك يكون قد قدم المهم علي الأهم في الوقت الذي يتسع لها جميعا، مع كون تقديم الصلاة أفضل، بلحاظ الوقت..

كيف نفهم حدود العصمة؟

وقد نلاحظ في هذا المجال، أن مسألة حدود العصمة، فيما يراد من خلاله تأكيد القيمة الأخلاقية المنفتحة علي الله في القيام بما يحقق رضاه في أفق محبته.. لا يكفي فيها التركيز علي ترك المعصية، بل لا بد فيها من الإنفتاح علي العمق الروحي الذي يتناسب مع قيمة النبوّة في جانب القدوة الرسالية منها..

..وقد ينبغي دراسة الأسس التي يحاول الكلاميون الذين يتبنّون مسألة عصمة الأنبياء بالشكل المطلق، لنتعرف ماذا يمكن لنا أن نواجه به الظواهر القرآنية التي تمنح الجانب الإنساني قيمةً واقعية في تقييم شخصية النبي، بالمستوي الذي لا يبتعد عن الإخلاص في الصدق الواعي في خط الرسالة، مع إفساح المجال لبعض نقاط الضعف الإنساني أن تنفذ إلي حياته، بشكل جزئيٍّ طبيعيّ..

(ردّوها عليّ) أي الخيل _ علي ما هو الظاهر _ في عملية استعادة للإستعراض ولكن بروحية أخري (فطفق مسحا بالسوق والأعناق) قيل في معناه: إنه شرع يمسح بيده مسحا بسوقها وأعناقها ويجعلها مسبلة في سبيل الله جزاء ما اشتغل بها عن الصلاة.

وقيل: المراد بمسح أعناق الخيل وسوقها ضربها بالسيف وقطعها، والمسح القطع، فهو، غضب عليها في الله لما شغلته عن ذكر الله فأمر بردّها ثم ضرب بالسيف أعناقها وسوقها فقتلها جميعا ".

ويتابع البعض كلامه فيقول:

"ويعلق صاحب الميزان علي هذا الوجه بأن هذا الفعل مما تتنزه عنه ساحة الأنبياء عليهم السلام فما ذنب الخيل لو شغله النظر إليها عن الصلاة حتي تؤاخذ بأشد المؤاخذة فتقتل

تلك القتلة الفظيعة عن آخرها مع ما فيه من إتلاف المال المحترم" [143] .

"ويذكر في موضع آخر [144] أن الروايات التي تؤكد علي هذه القصة بهذا الشكل تنتهي إلي كعب الأحبار، بالإضافة إلي الإغراق في التفاصيل التي تدخل في دائرة الأعاجيب.

أمّا تعليقنا علي ذلك، فان الظاهر من الآية قد يؤكد فكرة ضرب أعناقها وسوقها، لأن مسألة تسبيلها في سبيل الله لا يتوقف علي ردها عليه وكما أنه لا يفسر مسح أعناقها وسوقها، فان من المتعارف مسح الخيل علي نواصيها كما أن هذه الروايات تلتقي مع ظهور الآية في ردّ الفعل الذي قام به سليمان إزاء انشغاله بها عن الصلاة، مما جعله يفكر بالخلاص منها بقتلها، من غير ضرورة لأن يكون ذلك علي سبيل الإنتقام منها، أو إتلافها كمالٍ محترم لا يجوز إتلافه بل قد يكون ذلك بمثابة ضغط علي نفسه التي أحبت الخيل بهذا المستوي الأمر الذي يريد إيلامها فيما تحبه بهذه الطريقة، مع ملاحظة أن ذلك حلال في شريعته لأن الخيل كانت تذبح كالأنعام، للطعام، والله العالم.

(ولقد فتنّا سليمان وألقينا علي كرسيّه جسدا) إن هذه الآية توحي بوجود فتنة واختبار في حياة سليمان، لتوجيه بعض أوضاعه التي يريد الله له أن يركزها علي أساس من الإستقامة في الفكر والعمل، فيما يبتلي الله به عباده ورسله من أجل أن يربيهم علي الثبات في مواقع الإهتزاز من خلال حركة التجربة في الواقع العملي في حياتهم التي يراد لها أن تطل علي حياة الآخرين من موقع القيادة الرسالية.. وربما توحي الآية من خلال قوله (ثم أناب)، بأنه ابتعد عن الخط قليلا، فيما هو القرب السلوكي من الله، ثم عاد إليه بعد أن رأي الضغط

عليه، فيما ابتلاه به من ناحية فعلية" [145] .

عرض الآيات

قال الله تعالي: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد انه أوّاب. إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد. فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتي توارت بالحجاب. ردّوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق. ولقد فتنّا سليمان وألقينا علي كرسيه جسدا ثمّ أناب. قال ربّ اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنّك أنت الوهّاب. فسخّرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب. والشياطين كل بنّاء وغوّاص. وآخرين مقرنين في الأصفاد. هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب. وإن له عندنا لزلفي وحسن مآب) [146] .

وقفة قصيرة

إننا بالنسبة إلي الآيات الشريفة، نذكر القارئ بما يلي:

1 _ قال السيد المرتضي: ظاهر الآية لا يدل علي إضافة قبيح إلي النبي، والرواية إذا كانت مخالفة لما تقتضيه الأدلة لا يلتفت إليها لو كانت قوية ظاهرة فكيف إذا كانت ضعيفة واهية [147] .

2 _ وإذا رجعنا إلي الآيات الكريمة نفسها نجدها تصرح بان عرض الخيل علي سليمان (ع) قد كان بالعشي، ولا دلالة فيها علي أن العرض قد حصل في حين كانت الشمس ظاهرة..

3 _ إن ضمير ردّوها يرجع إلي الصافنات (وهي الخيل) وكذلك ضمير توارت بالحجاب، فما معني إرجاع الضمير إلي الشمس، وهي لم تذكر في الكلام..

4 _ إن عبارة (أحببت حب الخير) قد أريد به بيان نوع الحب الذي أحبّه، فهو لم يحب حب الشهوات، أو حب الدنيا الذي هو باطل وغير مشروع، بل كان حبه من نوع حب الخير، إذن، فليست كلمة (حب الخير) مفعولا به (لأحببت).

وقوله (عن ذكر ربي) بيان لمنشأ ذلك الحب، وأنه حب ناشئ عن ذكر الله سبحانه..

5 _ إن قول سليمان(ع): (إني أحببت) الآية..

قد جاء تفريعاً بالفاء علي قوله (عرضت).. أي أن الخيل عرضت عليه فقال هذا القول، ولعله ليدفع أي تصور خاطئ عنه يريد أن يتهمه بان استعراضه للخيل قد كان من منطلق حب الهوي وحب الدنيا ولذّاتها، فأوضح لهم سليمان (ع) أن الأمر ليس كذلك، بل هو من منطلق حب آخر، هو حب الخير، وتقوية الدين، لأن الخيل من أهم وسائل الجهاد، ومن أسباب القوة للمؤمنين علي أعدائهم.

6 _ وحين انتهي العرض، أمر الموكلين بالخيل بأن يردّوها عليه، فطفق يمسح سوقها وأعناقها إيناسا لها، وتحببا وإعجابا بها.

7 _ وقد ظهر مما تقدّم: أنه ليس في الآيات ما يشير إلي قتل الخيل.

8 _ إن تعلق نفس سليمان بالخيل، لا يخوله أن يقطع قوائمها ورؤوسها، فهل يصح أن يكون هو المذنب، والخيل هي التي تعاقب؟!!

9 _ قال السيد المرتضي: إن الله تعالي ابتدأ الآية بمدحه والثناء عليه، فقال: (نِعْمَ العبد إنّه أوّاب)، وليس يجوز أن يثني عليه بهذا الثناء، ثم يتبعه من غير فصل بإضافة القبيح إليه، وأنه تلهّي بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة [148] .

10 _ هل يمكن لنبي معصوم أن ينسي واجبا مكلفا به إذا كان أهم من العمل الذي يتصدي له؟ وإذا لم يكن أهم فلماذا يقطع أرجل الخيل ورؤوسها؟.

11 _ لو كان المقصود أنه آثر حب الخيل وقدّمه علي ذكر ربه، فالمناسب أن يأتي بكلمة (علي) لا بكلمة (عن).

الولاية التكوينية لسليمان: (خدمات غير عادية).

سليمان احتاج هذه الخدمات لمشاريعه العمرانية وتنقلاته، وحاجاته الإنسانية والاجتماعية.

ونقول:

يقول البعض عما أكرم الله به نبيه سليمان بن داود عليه السلام:

".. وهذه إطلالة سريعة علي النبي سليمان

الذي جعل الله له ميزة معينة في الخدمات غير العادية التي هيأها الله له فيما كان يحتاجه لتنقلاته أو مشاريعه العمرانية، أو في حاجاته الإنسانية والاجتماعية."

وقفة قصيرة

نلاحظ هنا أمرين:

أحدهما: أنه سمي الولاية التكوينية لنبي الله سليمان عليه السلام ب_ (الخدمات غير العادية)..!

ثانيهما: أنه جعل ذلك من باب الخدمات التي يحتاجها سليمان (ع) في تنقلاته وفي مشاريعه العمرانية الخ..

والسؤال هو: هل كان لدي سليمان(ع) عليه السلام حاجات إنسانية اجتماعية، ولم يكن لدي غيره من الأنبياء حاجات كهذه؟.

وهل كان سليمان (ع) بحاجة إلي تنقلات، ولم يكن غيره من الأنبياء بحاجة إلي ذلك؟.

وهل كان لدي سليمان (ع) مشاريع عمرانية، ولم يكن لدي أي من الأنبياء حتي نبينا الأكرم (ص) مثل هذه المشاريع؟

وإذا كانت بشرية سليمان (ع) لم تمنعه من الحصول علي هذه الخدمات غير العادية، فهل إن بشرية نبينا الأكرم (صلي الله عليه وآله) قد منعته منها؟

وما هو الفرق بين بشرية هذا وذاك يا تري؟..

هذا وأين التحدي في كل هذه الخدمات غير العادية المعجزة. فإذا كانت المعجزة لا تحصل في غير موارد التحدي _ كما صرح ب_ه البعض _، فلماذا حصلت كل هذه المعجزات لسليمان ولداود عليهما السلام.؟!

معركة أو (إشكال) بين الله تعالي والنبي زكريا.

زكريا يعتقد باستحالة أن يولد له.

فوجئ زكريا لأنه لم يحسب أن يتم الأمر بهذه السهولة.

ربما يتصور أن دعاءه مجرد تمنيات.

زكريا ينطلق في سؤاله ربه بما يشبه الصراخ العنيف.

زكريا يعتقد أن الله لا يتدخل في الأمور بشكل غير عادي.

زكريا لا يطمئن إلي أن ما يلقي اليه هو الوحي الا بآية ومعجزة.

زكريا يتفاجأ بالقدرة الإلهية في مخالفة السنن.

يقول البعض:

"(يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيي لم نجعل له من قبل سميا) فقد أراد الله أن لا يخيّب أملك فيه ورجاءك في رحمته فرزقك ولدا ذكرا سويا، ومنحه اسما لم يحمّله أحدا من قبله.. فماذا تريد بعد ذلك.. وقد أكرمك الله بكرامته التي يكرم بها عباده الصالحين، وأنبياءه المرسلين..

زكريا يتساءل متعجبا

(قال رب أني يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا) فقد غيرني الزمان إلي الحالة التي لم يبق لي معها شيء من الحيوية تماما كالعود اليابس الذي لا خضرة فيه ولا حياة، فكيف أن أهب الحياة لغيري في مثل هذه الظروف المستحيلة. وكأن زكريا قد فوجئ بأمر لم يكن منتظرا لأنه لم يحسب أن المسألة تتم بمثل هذه السهولة، وأن الدعاء يستجاب بهذه السرعة، وأن ما كان مستحيلاً في نظره أصبح واقعاً في حياته.. وربما كان يتصور أن دعاءه بالولد يدخل في نطاق التمنيات التي يتحدث بها الإنسان إلي ربه، من دون أن يكون له طمع كبير في حصولها، لا لأنه يشك في قدرة الله علي ذلك بل لأنه لا يعتقد أن الله يتدخل في الأمور بشكل غير عادي لمصلحة شخص معين، بعد أن جعل الحياة كلها خاضعة للسنن الكونية في وجود الأشياء وفي حركتها العامة والخاصة.. وهذا هو ما جعل السؤال ينطلق منه فيما يشبه الص_راخ العنيف، فيما توحي به الآية (قال كذلك قال ربك) وهذا هو ما سمعه من الصوت الخفي الذي كان يتحدث إليه من دون أن يري أحدا أمامه.. فليس هو الله الذي كان يكلمه بل هو شخص آخر غير الله، قد يكون ملكاً، أو يكون أي شيء آخر (هو عليً هيّن) فلن يصعب

علي الله أن يبدع الحيوية فيك وفي زوجتك لتستطيعا إنجاب ولد، بعد هذا العمر الطويل) وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا(فكيف تواجه المسألة بما يشبه المفاجأة..

وربما أراد زكريا أن يعيش الطمأنينة القلبية التي توحي إليه بأن هذا الوحي الذي يلقي إليه، بالواسطة، فيما يسمع من صوت، لا يري صاحبه، هو وحي الله فأراد أن يستوثق لقناعته، فطلب آية لا يستطيع غير الله أن يحققها، لأنها تتصل بوحدانية القدرة لديه.

(قال رب أجعل لي آية) ترتاح إليها نفسي ويطمئن لها قلبي، فأعرف أن هذه البشارة، المعجزة، هي منك، وحدك، لا من غيرك لتكون المعجزة في حياتي هي الدليل علي المعجزة القادمة و (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) وذلك بأن يحتبس لسانك فلا تقدر علي النطق في هذه المدة، من دون علة أو صدمة، ولكن بقدرة الله، فتلك هي الآية المطلوبة في الدلالة علي أن كل ما بك وما ينتظرك فهو من الله [149] .

وقفة قصيرة

إن هذا البعض يطرح أمورا لم نعرف ما هي المبررات لطرحه لها بهذه الطريقة، فنلاحظ ما يلي:

1 _ إنه يذكر: أن زكريا عليه السلام لم يطمئن إلي أن ذلك الذي يكلمه هو ملك يوحي إليه من عند الله، حتي طلب معجزة تركّز عنده القناعة، وترتاح إليها نفسه، فكان له ما أراد..

وهذا الأمر يطرح أموراً:

أولها: إن ذلك يجعل كثيراً من موارد الوحي المشابه تتطلب إظهار معجزة تبعث الطمأنينة في نفس الموحي إليه في أن يكون الذي يكلمه هو جبرئيل.

الثاني: إننا لم نعرف من أين عرف ذلك البعض أن طلب الآية قد كان لأجل الحصول علي الطمأنينة لزكريا عليه السلام بحقيقة الوحي.

فلعل الآية كانت

لأجل أمر أو أمور أخري غير ذلك، مثل أن يقنع قومه بالحقيقة التي سيفاجئهم بها.

الثالث: من أين عرف ذلك البعض: أن زكريا عليه السلام لم يكن يعرف طبيعة الذي كان يكلمه، هل كان ملكا أو غيرها؟ ومن أين عرف ذلك البعض أيضا أنه كان علي شكل صوت لا يري صاحبه؟ فليس في الآية ما يدل علي ذلك.

ومن الممكن أن يكون ذلك الوحي قد جاء به الملك الذي يعرفه، ولم يزل يأتيه طيلة عشرات السنين التي مضت من نبوته، حيث كان قد بلغ من الكبر عتيا، حسب نص الآيات القرآنية التي هي مورد البحث.

علي أن قوله في الآية (كذلك قال ربك) ليس بالضرورة أن يقوله غير الله، فلعل ربه هو الذي كلمه بهذه الطريقة.

2 _ من أين عرف ذلك البعض أن السؤال قد انطلق من زكريا بما يشبه الصراخ العنيف.. فيما توحي الآية!! حتي إن المرء ليخال أن ثمة مشادة أو معركة كلامية يفتعلها زكريا (ع) مع أنه في مقام يتكلم فيه مع ربه والمقام مقام بشارة؟

ولا ندري كيف انتهي هذا الإشكال دون عزل زكريا عن منصبه!.

وكيف توحي الآية بذلك؟ وأي كلماتها يوحي بالصراخ العنيف؟!

3 _ من أين عرف أن زكريا (ع) كان لا يعتقد أن الله يتدخل في الأمور بشكل غير عادي لمصلحة شخص معين؟ فلعله كان يعتقد أنه تعالي يفعل ذلك، لكنه أراد بسؤاله أن يعرف إن كانت حالته ستكون هي الأخري من بين مفردات ذلك أم لا..

ومن الواضح: أن زكريا (ع) كان يعرف أن ولادة إسماعيل (ع) كانت بعد شيخوخة أبيه إبراهيم.

وكان يعرف أيضا أن النار كانت بردا وسلاما علي إبراهيم، حينما ألقي إبراهيم

فيها.

ويعرف أيضا ما جري لمريم (ع)، وهي تري المعجزات حين حملها بعيسي (ع) وولادتها له، كتساقط الرطب الجنيّ عليها في غير أوانه.. وأوضح من هذا كله أنه عليه السلام كان كلما دخل علي مريم المحراب (وجد عندها رزقا قال يا مريم اني لك هذا، قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة).

..وهو نفسه يعرف قصة يونس والحوت، ويعرف ما جري لأهل الكهف، وغير ذلك مما لا يكاد يحصي..

4 _ وأما قوله: إنه كان يعتقد باستحالة أن يولد له، ثم قوله: إنه ربما كان يتصور أن دعاءه بالولد كان يدخل في نطاق التمنيات.. من دون أن يكون له طمع كبير في حصولها. ثم قوله: إن زكريا كان يعتقد: أن الله قد جعل الحياة كلها خاضعة للسنن الكونية في وجود الأشياء وفي حركتها العامة والخاصة.

إن ذلك كله يرد عليه: أن من يعتقد ذلك لا يمكن أن يكون له ادني طمع في استجابة دعائه. فما معني ذلك الدعاء إذن؟ وما هو المبرر لتلك التمنيات التي تصبح مجرد خيالات لا مورد لها من نبي يفترض فيه أن يفكر فيما ينفع ويجدي؟.

5 _ لا نعرف المبرر لأن يكون زكريا(ع) "لا يعتقد أن الله يتدخل في الأمور بشكل غير عادي لمصلحة شخص معين، بعد أن جعل الحياة كلها خاضعة للسنن الكونية في وجود الأشياء وفي حركتها العامة والخاصة".

ومن قال إن ما حصل له كان منافيا للسنن الكونية؟!.

فهل كان زكريا يجهل كل تلك التدخلات الغيبية في الشؤون العامة والخاصة التي لا تكاد تحصي، بدءا من قضية الطوفان ومروراً بما

جري علي إبراهيم (ع)، وموسي (ع)، وعيسي (ع)، ونوح (ع)، ويونس (ع)، ولوط (ع)، وصالح (ع)، وسليمان (ع)، وداود (ع).. وغير ذلك مما ذكره الكتاب العزيز.

أم أنه عليه السلام كان _ والعياذ بالله _ يذهب مذهب اليهود والضالين الذين قال الله عنهم: (وقالت اليهود، يد الله مغلولة، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان، ينفق كيف يشاء) [150] .

يحي ليس نبياً.

يقول البعض:

"أولئك الذين أنعم الله عليهم فكيف جزاء من بعدهم: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلي عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيّا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا الا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب انه كان وعده مأتيا لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) [151] .

(اولئك الذين أنعم الله عليهم) وهم هؤلاء الذين تقدمت الإشارة إليهم، فيما قصه الله من أمرهم، بالإجمال أو التفصيل، وهم زكريا ويحيي ومريم وعيسي وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسي وهارون وإسماعيل وإدريس الذين انعم الله عليهم بالإيمان الخالص التوحيدي الذي ينفتح علي الله بروحية العبد الطائع الذي أخلص لله في العقيدة، وفي الطاعة واعطي من فكره وعمله الرضا لله، فلم يغضب عليه لتمرده ولا لضلاله ومن النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح من البقية الصالحة من المؤمنين الخالصين الذين آمنوا بنوح النبي واتبعوه من ذرية ابراهيم واسرائيل الذين امتدت النبوة فيهم وتحولت إلي خط

متحرك في الدعوة إلي الله والجهاد في سبيله (وممن هدينا واجتبينا) من الذين هداهم الله بما أفاض عليهم من نور البصيرة، وانفتاح العقل، وصفاء الروح، ومسؤولية الحركة، واستقامة الطريق، ووضوح الهدف، وتقوي الفكر والعمل.

وقد يكون المراد من كل هؤلاء هم النبيون الذين أنعم الله ك_ما قد يلوح من عنوان الآية التي حددت المشار إليهم بالنبيين، ولكننا عندما نلاحظ ذكر اسم مريم، ويحيي، وهما ليسا من الأنبياء فقد نستوحي من ذلك ان المسألة اشمل من ذلك وتكون الإشارة إلي هؤلاء علي أساس انهم يمثلون النموذج الأكمل للمهتدين الذين انعم الله عليهم بالإيمان والتقوي، واجتباهم لرسالته ولدينه (إذا تتلي عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) فيما يمثله السجود من خضوع لله في الشعور العميق بالعبودية، وفيما يعبر عنه البكاء من إحساس بالروحية الفياضة الخاشعة إمام خوف الله، ومحبته في انفعال إيماني عميق بالمضمون الروحي لآيات الله، والإشراق الفكري لمعانيها.. وهكذا كان هؤلاء الرواد طليعة البشرية [152] .

وقفة قصيرة

ومن الواضح: أن يحيي عليه السلام كان من أنبياء الله المرسلين، كما صرح به القرآن، حيث يقول لزكريا: (إن الله يبشرك بيحيي مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) [153] وراجع الآيات التي نزلت في سورة الأنعام (83 _ 90) حيث عدت يحيي عليه السلام في جملة الأنبياء.

هذا البعض يري: أن يحيي عليه السلام لم يكن نبيا وذلك مخالف لصريح القرآن، ولإجماع المسلمين كافة.

ولا ندري السبب في حكمه هذا، وقد كان يحيي (ع) معاصرا لعيسي (ع)..

إنكار نبوة عيسي وهو في المهد صبيا

رد كلام الأئمة في الاستدلال بالآية علي إمامة الجواد(ع).

يقول البعض:

".. (قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا) وهكذا أراد

أن يتحدث إليهم عن صفته المستقبلية فيما يريد الله أن يمارس من دور أو يقوم به من مسؤولية، فهو مهما أحاط به من أسرار في خلقه وفي قدراته لا يبتعد عن عبوديته لله" [154] .

وقفة قصيرة

إن من الواضح أن كلمة (آتاني الكتاب) تدل علي أن ذلك قد حصل في الماضي أي أن الله سبحانه قد أعطاه ذلك في وقت سابق علي موقفه هذا الذي يكلمهم فيه.

وقد استدل الأئمة (ع) بهذه الآية بالذات علي إمامة الإمام الجواد (ع) في صغره وفقا لما هو ظاهرها الذي هو حجة فراجع [155] .

كما أنه لا شك في صلاحيتها للاستدلال علي إمامة الإمامين الهادي والمهدي (ع)، فتأمل وتنبّه.

أضف إلي ذلك أن كلمة جعلني وآتاني إذا كانت تتحدث عن المستقبل، فإن قوله: وجعلني مباركا أيضا هي إخبار عن المستقبل، وهي تشعر بنفي البركة الفعلية عنه، مع أن كونه مباركا بالفعل وفي كل لحظات حياته، مما لا شك فيه ولا شبهة تعتريه، فلماذا هذا الإشعار بأمر لا حقيقة له؟!

فما معني حمل الآية علي أن عيسي (ع) أراد أن يخبرهم عن أنه سيحصل علي درجة النبوة في المستقبل. وأن الله سيؤتيه الكتاب، وسيجعله نبيا. وقد كان بالإمكان أن يقول: سيؤتيني الكتاب، وسيجعلني نبيا، وسيجعلني مباركا. مع عدم وجود قرينة حالية و لا مقالية علي إرادة زمن الاستقبال في الآية.

بل في صحيحة يزيد الكناسي قال: سألت أبا جعفر (ع) أكان عيسي بن مريم(ع) حين تكلم في المهد حجّة لله علي أهل زمانه؟

فقال: كان يومئذ نبياً حجّة لله غير مرسل. أما تسمع لقوله حين قال: (إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت

حيا) [156] .

النبي الأكرم محمد

ثقافة ومعارف نبينا الأعظم

اشاره

النبي لا يعرف اللغات.

النبوة لا تقتضي التفوق المطلق في كل شيء.

لا مانع من التفوق كميزة شخصية لا كميزة نبوية قيمة.

التفوق الشخصي في أكثر الصفات لا في جميعها.

يقول البعض:

"وتتحدث بعض الآيات عن موضوع العلم باللغات، لتشير إلي أن ذلك وارد بالنسبة إلي النبي، وذلك في قضية اتهام الكفار للنبي، بأن هناك إنساناً يقوم بتعليمه، فيجيء الرد القرآني عليها حاسما، علي أساس أن هذا الشخص الذي ينسبون إليه تعليم النبي م_ن الأعجميين، بينما نجد القرآن عربيا مبينا.. فكيف يمكن أن تصح التهمة.. ومن الطبيعي أن هذا الرد لا يصلح لإفحام الكفار إلا إذا كان النبي لا يعلم لغة هذا الأعجمي.. لأنه _ في هذه الحالة _ لا يستطيع أن يفهم منه، أو يقوم بمهمة الترجمة لما يمليه عليه ذلك من أحاديث التوراة والإنجيل وغيرهما.

قال تعالي: (ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (16/103)

إننا نتحفظ في ذلك، في إطار الفكرة التي تربط النبوة بالتفوق المطلق في كل شيء، لأن النبوة لا تقتضي ذلك الذي يقررونه كله.. ولكننا لا نمانع في أن يكون للنبي أكثر الصفات المذكورة من ناحية واقعية موضوعية.. كميزة شخصية خاصة، لا كميزة نبوية حتمية في حساب الحكم العقلي القاطع _ كما يقولون" [157] .

وقفة قصيرة

ونقول:

1 _ إن الآية التي استدل بها لا ربط لها بمسألة معرفة النبي (صلي الله عليه وآله) باللغات؛ لأنها إنما تتحدث عن دعواهم: أن هذا القرآن المعجز لهم في بلاغته الفائقة هو من صنع إنسان بعينه، فهو ليس وحياً من الله سبحانه، ولا هو من إنشاء النبي محمد (صلي الله عليه وآله)..

وكأنهم لا

يريدون نسبة ذلك إليه، لأن ذلك يستبطن الإعتراف له بالتفوق عليهم، حين قام بما عجزوا هم عنه، كما أنهم يدعون: إن منشئ القرآن هو رجل أعجمي _ وربما يقصدون أنه من أهل الكتاب، لأنهم كانوا مبهورين بهم، ويعتبرونهم هم مصدر المعارف الدينية، وينظرون إليهم نظر التلميذ إلي معلمه، وعلي هذا الأساس فإنهم ينسبون ما جاءهم به من معارف دينية، وتفصيلات إيمانية وغيرها إليهم، علي اعتبار أنه لابد أن يكون قد أخذه من واحد من هؤلاء.

فجاء الرد القرآني الإلهي علي هذه الدعوي الزائفة ليقول: إن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من إنشاء بشر، بل البشر يعجزون عنه، فكيف إذا كان هؤلاء البشر لا يعرفون اللغة العربية، وهذا القرآن لسان عربي مبين؟!.

ولم تتحدث الآية عن أمر الترجمة لما يمليه ذلك الأعجمي علي النبي (صلي الله عليه وآله) من أحاديث التوراة والإنجيل.

2 _ ما هو المبرر لحكمه بأن النبوة لا تقتضي التفوق المطلق علي سائر البشر من غير الأنبياء؟!، فإن النبوة إذا كانت اصطفاءً إلهياً، واجتباءً ربانياً، فما هو معني أن يختار الله سبحانه _ المفضول ويترك الفاضل؟! كما قرره هذا البعض _ حسبما نقلناه عنه في هذا الكتاب _ وكيف رجح ذاك علي هذا؟!. ما دام أن من يري لنفسه امتيازاً علي غيره في أي مجال كان، ولو في مجال اللغات، سيجد في نفسه حالة من الترفع والإباء عن الإنقياد وإخلاص الطاعة لذلك الغير الأقل منه، ولن يكون ذلك السخي بكل شيء، حتي بروحه وولده امتثالا لأوامره.

بل سيجد نفسه غالياً ونفيساً لا يدرك الآخرون قيمته، ولذلك يفرطون فيه خصوصاً وأن ذلك النبي سيكون معذوراً بجهله، الذي اذا فتح بابه فإن احتمالاته سوف

ترد في مختلف الشؤون والحالات..

نقول هذا بغض النظر عما يستند إليه علماؤنا من أدلة قاطعة وبراهين ساطعة، ومنها الروايات الكثيرة، والمتنوعة بدرجة كبيرة، مما دل علي أكملية الأنبياء والأوصياء علي البشر جميعاً في جميع الحالات والشؤون، وعلي تفوقهم عليهم في مختلف العلوم والفنون، حتي أن الله سبحانه قد علم أنبياءه حتي منطق الطير، والحيوان، وسخر لهم الريح، وعفاريت الجان.

ولهذا البحث مجال آخر..

3 _ إن الآية إنما تنفي علم النبي باللغات من خلال تعلمه إياها من البشر.. فلو أنه (صلي الله عليه وآله) قد علم اللغات بواسطة التعليم الإلهي، فإن ذلك يكون دليلا علي ارتباطه بالغيب.. وكفي في ذلك دليلا علي أنهم مبطلون في ما يوجهونه إليه من اتهامات.

وبنفس هذا التقرير نجيب علي السؤال الذي يطرح عن أمّية النبي (ص)، حيث نقول: إن المقصود: هو أن الناس يرون أمّية رسول الله (ص)، فإذا جاء وحي معجز، وعلم غيبي، واطلاع عظيم علي أسرار الخلق والخليقة ومعرفة باللغات وعلم مفاجئ بالقراءة والكتابة فإن ذلك لابد أن يبهرهم، ويقهر عقولهم، ويضطرهم للبخوع والتصديق بنبوته، وليس المراد أنه لابد أن يبقي أمياً عاجزاً عن القراءة والكتابة إلي آخر حياته، كما ربما يتخيل البعض.

4 _ يضاف إلي جميع ذلك: أن العرب هم الذين ادعوا: أن أهل الكتاب قد علّموا النبي هذا القرآن، وإذا كان الذي قصدوه ذا لسان أعجمي، فإن الرد يكون عليهم، بأن هذا القرآن لسان عربي مبين، فكيف يحسن ذلك الأعجمي الترجمة بهذا المستوي من الإعجاز، ويعجز العربي نفسه عن إنشاء مثل هذا القرآن.

مهمة الأنبياء هي _ فقط _ التبشير والإنذار _.

الله يعلم الأنبياء ما يحتاجونه في نبوتهم، لا أزيد من ذلك.

لا دليل علي لزوم كون النبي (ص) أعلم الأمة في كل شيء.

قد يعلم الله نبيه ما يحتاجه في مهمته الرسالية _ وقد لا يعلمه.

ليس من الضروري أن يعلم النبي علم الذرة والكيمياء.

علم الذرة والكيمياء والفيزياء، لا صلة لها برسالات الأنبياء.

سئل البعض:

النبي أو الإمام إما أن يكون هو الأعلم أو لا يكون، فإذا لم يكن الأعلم، فهناك من يستحق هذا المنصب غيره لأنه أعلم وأفضل منه.

وإن كان هو الأعلم، فبناء علي ذلك يجب أن يكون أعلم أمته، وأعلم السابقين واللاحقين، وذلك طبعا بلطف من الله، وهذا يعني أيضاً أن يكون مستوعباً لآخر العلوم والمكتشفات، وبالتالي يكون لديه علم الغيب، فكيف يكون ذلك؟

فأجاب:

"نحن نتكلم استناداً إلي القرآن، فالله أرسل الأنبياء مبشرين، ومنذرين (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين) (الانعام: 48)، (وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً) (الفرقان: 65)، (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلي الله بإذنه وسراجاً منيراً) (الأحزاب: 45 _ 46)، والله يعلم نبيه، ويعلم أولياءه من الغيب، ما يحتاجونه في نبوتهم، وليس من الضروري أن يعلموا الغيب كله، كما يقول السيد المرتضي.. فليس من الضروري أن يعلم النبي علم الذرة، وعلم الكيمياء، وعلم الفيزياء، لأنها ليست ذات صلة برسالتهم، أما وجوب ان يكون النبي أعلم الأمة، في كل شيء حتي ما لا علاقة له بمهمته الرسالية، ولكن الله قد يعلمه من ذلك ما يحتاجه فيه أو إذا أراد علم، فليس لدينا دليل علي هذا" [158] .

وقفة قصيرة

ونلاحظ هنا ما يلي:

1 _ اذا كان الله سبحانه قد أرسل أنبياءه مبشرين ومنذرين، فلا يعني ذلك أن مهمتهم محصورة في ذلك.. وما ورد من ذلك في

بعض الآيات القرآنية لابد أن يتكامل وينضم إلي ما ورد في الآيات الأخري، كقوله تعالي:

(هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم، يتلو عليهم. آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة) [159] .

وفي هذا الكتاب تبيان كل شيء.

وقوله تعالي: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله لقوي عزيز) [160] .

وقال سبحانه: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً و نذيراً) [161] .

والمراد بكافة للناس، أي من يكف الناس عن تجاوز الحدود..

وقال: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [162] .

وقال: (يسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لله والرسول) [163] .

وقال سبحانه: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي، إن الله قوي عزيز) [164] .

وكل ذلك يدل علي أن مهمة الأنبياء لا تقتصر علي التبشير والإنذار، بل فيها سلطة، وتحتاج إلي نصرة بالغيب. وسيكون فيها غلبة من موقع العزة والقوة.. كما أن جعل الانفال والخمس لرسول الله (صلي الله عليه وآله)، واعتباره كافة ومانعاً للناس عن تجاوز الحدود، واعطاءه مقام الشفاعة، وإعطاءه مقام الشهادة علي الخلق.. ان كل ذلك وسواه مما يضيق المقام عن تعداده يعني أن النبي ليس مجرد بشير ونذير، وشهادته علي الخلق تستدعي أن يملك قدرات يستطيع من خلالها أن يطلع علي أعمال الخلائق الجوارحية والجوانحية، ومنها عقائدهم ونواياهم وأحاسيسهم ومشاعرهم من حب وبغض وحقد وحسد ورأفة وقسوة قلب وما إلي ذلك مما يدخل في دائرة الأمر والنهي.. وذلك ليستطيع أن يشهد عليهم، (رسولاً شاهداً عليهم) [165] (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) [166] وكذلك الإمام، وكذلك السيدة الزهراء _

عليها السلام _ باعتراف هذا البعض، ولأجل ذلك فإننا لا نستغرب إذا سمعنا، وقرأنا أن النبي (صلي الله عليه وآله) كان يري من خلفه، كما يري من أمامه، وأنه تنام عيناه، ولا ينام قلبه.. وأنه يرفع للإمام عمود من نور فيري أعمال الخلائق، وأنها تعرض عليه دورياً..

وأنه (صلي الله عليه وآله) كان يكلم النمل، والشجر والحجر، وأنواع الحيوانات، وكل قوم بلغتهم.. وإلي آخر ما هنالك مما يفوق حد الحصر والإحصاء.

ولو كانت القضية تنتهي عند حدود التبشير والإنذار اللذين قد يقوم بهما حتي غير النبي. أو حتي لو كان الأمر ينتهي عند حدود الشهادة، لم يكن ثمة حاجة إلي أن يخلق الله أرواح النبي والأئمة قبل خلق الخلق بألفي عام، وأن يجعلهم أنوارا معلقين بساق العرش، فإن هذا وسواه كثير مروي في كتب الفريقين من سنة وشيعة.

ولم يكن ثمة حاجة إلي المعراج.. ولا كان لدي وصي سليمان علم من الكتاب يأتي به بعرش بلقيس من اليمن إلي بيت المقدس..

وكذلك فإن سليمان وداود (عليهما السلام) لم يحتاجا إلي علم منطق الطير، ولا إلي أن يلين الله الحديد لداود، ولا إلي تسخير الريح وغيرها لسليمان..

فإن التبليغ والإنذار، وحتي حكومة الناس بالعدل لا تحتاج إلي شيء مما ذكرناه.. لو كانت مهمة الأنبياء محصورة بذلك ومقصورة عليه..

2 _ إن ما أوكله الله إلي أنبيائه لا يعرف عن طريق العقل فلا بد من النقل فيرد السؤال: ما هي الآية أو الروايات المفيدة للقطع _ حسب ما قرره ذلك البعض _ التي دلت هذا البعض علي أن النبي والإمام لا يحتاجان إلي علم الذرة والكيمياء، والفيزياء؟! أو أن ذلك ليس ضرورياً لهما في مهماتهما التي أوكلها

الله إليهما؟!، وفي معارفهما؟! وفي ما يرتبط بتكوين شخصية النبي والإمام؟!، وفي مقام إعدادهما لهذا المقام؟!.

3 _ ما الدليل الذي أقامه هذا البعض علي: أنه لا يجب أن يكون النبي والإمام أعلم الأمة في كل شيء.. فإن النفي عنده يحتاج إلي دليل يفيد اليقين بالنفي ولا يكفي مطلق الحجة.

4 _ إن غاية ما عند هذا البعض هو قوله: "ليس لدينا دليل علي هذا" فالذي ليس لديه دليل علي الإثبات هل يكون عدم دليله علي الإثبات دليلا علي النفي؟!..

5 _ ان هذا البعض يدعي أن علوم الذرة والكيمياء والفيزياء لا صلة لها برسالتهم..

ومن الواضح أن نفي الصلة بين الرسالات وبين العلوم المذكورة يحتاج إلي اطلاع علي حقائق الكون، ومعرفة الغيوب بصورة مباشرة وذلك غير متيسر لنا نحن البشر علي الأقل فهل هو متيسر لهذا البعض؟!

وعلي كل حال، فإن السؤال يبقي هو السؤال:

ما هو الدليل علي نفي هذه الصلة، فإن هذا البعض نفسه يقول: إن "النفي يحتاج إلي دليل كما الإثبات يحتاج إلي دليل".

النبي لم يكن ملما بتاريخ الأنبياء قبل النبوة.

قلة وعي النبي للمشاكل التي تواجهه هي بسبب جهله بتاريخ الأنبياء.

لو كان ملماً بتاريخهم لتصرف علي سنة الله في رسله ورسالاته.

لو كان ملماً لعرف كيف يخطط علي ضوء تجارب الأنبياء.

الله أراد لكل مرحلة أن تستفيد من التاريخ الرسالي للمرحلة السابقة.

الاستفادة لكل مرحلة لا تتحقق الا بالوحي الإلهي الذي يقص عليه أنباء الرسل.

الله لم يكن قد زوّد رسوله بكل تعليماته وتشريعاته وتوجيهاته.

القرآن يؤكد جهل النبي بالأديان السماوية قبله.

النبي كان له مستوي ثقافي عال.

المستوي الثقافي للنبي هو من خلال تجاربه.

المستوي الثقافي للنبي

هو من خلال تأملاته.

المستوي الثقافي للنبي هو من خلال ملكاته الفكرية والروحية.

ويقول البعض في تفسير قوله تعالي: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك)(13/130).

وقوله: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك، ورتلناه ترتيلا)(35/33).

_ يقول _ ما يلي:

"وربما كان المراد به التقوية للروح النبوية في حركة التفاصيل ليواجه المواقف من خلالها بالصلابة الثابتة التي لا تهتز أمام التحديات من خلال الحديث عن تاريخ الأنبياء الذي لم يكن ملما به قبل نزول القرآن ليزداد بذلك وعيا للمشاكل التي تعيش في حركة الرسالة في الواقع، وليتصرف _ من خلال ذلك _ علي سنة الله ورسله ورسالته ليعرف كيف يخطط الخطة في اتجاه الوصول إلي الهدف علي ضوء تجارب الأنبياء في واقع النبوات، لأن الله أراد للتاريخ الرسالي أن تقدم كل مرحلة تجربتها للمرحلة الأخري، وأن يوحي كل نبي من خلال تاريخه بنتاج حركته للنبي الآخر، ولن يكون ذلك إلا بالوحي الإلهي الذي يقص عليه أنباء الرسل ما يثبت به فؤاده.

أما في الآية الثانية فإنها تتحدث عن جزئيات التحديات في التطورات السلبية أو الإيجابية التي تعيشها الرسالة، ويواجهها الرسل في التجربة الرسالية في الحرب والسلم، لتمنح كل موقف حكمه، ولكل مشكلة حلها، ولكل معركة سلاحها، ولكل تجربة درسها، لأن الله كان ين_زل آياته تبعاً لحاجة الواقع الذي يبحث عن الأجوبة في أكثر من علامات الاستفهام، ولم يكن قد زود رسوله بكل تعليماته، وكل تشريعاته وتوجيهاته له وللمسلمين، ولذلك كان النبي (ص) يردد كلمته المأثورة _ عند إلحاح المسلمين عليه في إصدار الموقف الحاسم _ (إني أنتظر أمر ربي) لأن ذلك هو الذي يعمق في

نفوس المسلمين أن النبي لم يصدر فيما يبلغه أو يعالجه من موقف ذاتي، بل من وحي إلهي، حتي لا تختلط لديهم شخصية الذات في تصورهم للجانب الذاتي للرسل مما قد يملكون الحرية في قبوله أو رفضه _ كما يتخيلون _ وشخصية الرسول في حديثه عن الله مما لا بد لهم أن يقبلوه من دون مناقشة علي اساس الخط الشرعي الإسلامي الذي جاء في قوله تعالي: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)(33/ 36).

ولذلك كانوا يسألونه _ حسب رواية السيرة _ عن كل ما يصدره: هل هو رأي ارتأيته أو هو وحي من الله ليحددوا موقفهم منه علي أساس تحديد ذلك، لكننا نري أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لم يكن له شخصيتان في حركته الرسالية في الشؤون الخاصة والعامة، لأنه كان يمثل التجسيد الحي للرسالة فهو القرآن الناطق الذي يتمثل القرآن الصامت في كل سيرته قولاً أو تقريراً: (وما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي) (فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيها شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)(4/64).

(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)(33/31).

فهو القدوة والأسوة في كل شيء فكيف يكون له شخصيتان في سلوكه العملي مع الناس، لتختلف فيه شخصية الإنسان عن شخصية الرسول، أما تثبيت الله للذين آمنوا فإنه يحصل من خلال القرآن الذي يعمق فيهم الإيمان بالله، ويفتح لهم آفاق المعرفة بالله، وبخلقه وبمنهجه ورسالته وشريعته.." [167] .

ويقول في مورد آخر:

"وعلي ضوء ذلك كله لا بد لنا من استيحاء

القرآن في سيرة النبي محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) لنبدأ من ثقافته قبل النبوة، هل درس الانجيل في تلك المرحلة؟ وهل كان مطلعاً علي التفاصيل التاريخية للأنبياء، وهل كان يقرأ أو يكتب؟

إن الصورة القرآنية تؤكد أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لم يكن ملماً بذلك كله، فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالي: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة، وعلمك ما لم تكن تعلم)(113)" [168] .

ويسأل هذا البعض أيضاً:

ما المستوي الثقافي الذي كان عليه النبي (ص) قبل نبوته؟

فيجيب:

"لا بد لنا من استيحاء القرآن في سيرة النبي محمد (ص) لنبدأ من ثقافته قبل نبوته، فالصورة القرآنية تؤكد أن النبي (ص) لم يكون (كذا) ملماً بالاديان السماوية التي جاءت من قبله، وانه لم (كذا) يجيد القراءة أو الكتابة فقد جاء في القرآن الكريم: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً) (النساء/113). (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلي صراط مستقيم) (الشوري: 52). (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) (آل عمران: 44). (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) (يوسف: 102). (وما كنت ترجوا أن يلقي إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيراً للكافرين) (القصص: 86). (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) (يونس: 16).

وهكذا جاء القرآن ليؤكد أن النبي (ص) لم (كذا) يمارس القراءة والكتابة: (وما

كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون) (العنكبوت: 48).

وقد كان ذلك كحجة علي النبوة في عمقها الغيبي لأن هذه الشمولية الثقافية لا يمكن أن تكون منطلقة من الجهد البشري من إنسان لم تكن له أية تجربة ثقافية من خلال اطلاعه علي مصادر المعرفة الكتابية أو غيرها.

ولكن ليس معني ذلك أن النبي (ص) كان لا يملك المستوي الثقافي العالي من خلال تأملاته وتجاربه والألطاف الإلهية عليه في ملكاته الفكرية والروحية من خلال إعداد الله له للمهمة الكبري في الرسالة الإسلامية" [169] .

وقفة قصيرة

ونقول:

1 _ ان الصورة القرآنية تؤكد أن النبي (صلي الله عليه وآله) كان يعرف ملة أبيه إبراهيم شيخ الأنبياء (عليه السلام)، وكان متبعاً لها وملتزماً بها قال تعالي: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة ابراهيم حنيفا، وما كان من المشركين) [170] .

2 _ إن الآيات التي استشهد بها علي أقواله لاتدل علي ما يرمي اليه، وذلك لأن بعضها _ كآية سورة النساء: 113 وفيها: (وعلمك ما لم تكن تعلم) يدل علي أن ما عند رسول الله (صلي الله عليه وآله) من معارف إيمانية ومن حكمة وكتاب إلهي هو من الله سبحانه، وقد علم الله سبحانه نبيه بالإضافة إلي ذلك أموراً لم يكن (صلي الله عليه وآله) عالماً بها.. وذلك لا يعني: أن النبي (صلي الله عليه وآله) لم يكن ملماً بالأديان قبل أن يبعثه الله رسولاً، إذ إن قوله تعالي: (علمك ما لم تكن تعلم) لم تبين لنا متي علمه ذلك، كما أنها لم تحدد الأمور التي علمه إياها، فهل علمه الأديان السماوية التي سبقته؟!، أو أنه علمه التفاصيل التاريخية لحياة الأنبياء؟!، أو علمه أسرار

الخلق والخليقة، وألف باب من العلم يفتح له من كل باب ألف باب.. وهي التي علمها (صلي الله عليه وآله) لأمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام)؟!.

إن ذلك لم يتضح من الآية.. فكيف اتضح لذلك البعض أن المقصود هو هذا دون ذاك؟!

علي أن قوله(ص): (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين). وكونهم أنواراً بعرشه محدقين او معلقين بساق العرش قبل خلق الخلق بألفي عام يشهد بأن علمهم سابق حتي علي خلق الخلق فلماذا العجب إذن إذا حدثت فاطمة أمها وهي في بطنها وما إلي ذلك؟!..

3 _ وأما آية سورة الشوري 52 فإن قوله: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) لا يريد به نفي ذلك عنه قبل بعثته كرسول، وإلاّ لزم أن يكون (صلي الله عليه وآله) _ والعياذ بالله _ كافراً قبل البعثة، لأنه نفي عنه صفة الإيمان أيضاً.. وذلك لا يمكن أن يصح. مما يعني: أن المراد بالآية أنه (صلي الله عليه وآله) إنما تلقي الوحي بواسطة الروح من قبل الله سبحانه.. فقولهم: إنها أساطير الأولين اكتتبها، وقولهم: إنما يعلمه بشر، ونحو ذلك، باطل لا يصح.

فالمراد بالآية: أنك يا محمد لولا وحينا لك بواسطة الروح، وهو جبرئيل لم تكن تدري ما الكتاب. ولولا هدايتنا لك بالفطرة، وبحكم العقل الصر يح لم تكن تدري ما الايمان.

ويبقي سؤال: متي كان هذا الوحي له (صلي الله عليه وآله)..

ويأتي الجواب: أن الروايات قد دلت علي أنه (صلي الله عليه وآله) قد كان نبياً قبل أن يكون رسولاً بل دلت الروايات علي أن نبوته قد بدأت من حين ولادته (صلي الله عليه وآله وسلم).

4 _ وأما آية سورة آل عمران /44: (وما كنت

لديهم إذ يلقون أقلامهم)، فهي واضحة الدلالة علي أن المراد أن الوحي هو الذي أعلمك يا محمد بأنهم قد ألقوا اقلامهم أيهم يكفل مريم إلخ.. ولولا الوحي فإنك لا تستطيع معرفة ذلك، أما متي كان هذا الوحي فقد أشرنا إلي أن الروايات هي التي تحدِّد ذلك فقد يكون منذ الولادة حيث بدأت النبوة، وقد يكون بعدها.

5 _ وكذلك الحال بالنسبة لآية (102) من سورة يوسف، وهو قوله تعالي: (ذلك من انباء الغيب نوحيه إليك..) فإنها دالة علي أن معرفته (صلي الله عليه وآله) بتلك الأخبار الغيبية إنما كانت عن طريق الإنباء والوحي، لكنها لا تعين لنا متي كان ذلك، فلعله كان قبل سنوات من البعثة، لكنه لم يؤمر بإبلاغه إلي أن يحين وقته، وقد حان وقته الآن..

6 _ ونفس هذا الكلام يجري بالنسبة للآية (86) من سورة القصص: أعني قوله تعالي:(وما كنت ترجو أن يلقي اليك الكتاب إلا رحمة من ربك)، فإن المراد بها أن إنزال القرآن عليه كان رحمة من الله، فرجاؤه إنما هو سبيل رجاء الرحمة الإلهية.

ولا دليل يثبت أن حدوث هذا الرجاء كان حين البعثة، فلعل رجاءه هذا قد بدأ في أول لحظات حياته، ومنذ امتلك الشعور والإدراك.

7 _ أما آية سورة يونس: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به) فإنها تدل علي أنه إنما أذن الله سبحانه له في تلاوة القرآن عليهم بعد مضي وقت طويل قبل ذلك..، ولكن ذلك لا يعني أن القرآن قد نزل عليه في أول يوم بعثته إليهم كرسول، فلعله نزل عليه قبل سنين كثيرة، لكن الله لم يأذن له بتلاوته عليهم إلا في هذا الوقت..

8 _ وأما آية

سورة العنكبوت (48): (وما كنت تتلو من قبله من كتاب، ولا تخطه بيمينك).. فلا تدل علي أنه لم يكن يعرف القراءة، بل هي تتحدث عن التلاوة التي هي إلقاء الكلام ولو عن ظهر قلب.

فالمقصود: أنه لم يتل أياً من كتب السابقين.. كالتوراة والإنجيل ونحوهما قبل أن ينزل القرآن عليه، فالقرآن هو أول كتاب تلاه وألقاه.

بل هي لا تدل أيضاً علي أنه لم يكن يعرف الكتابة، لأنها إنما تتحدث عن أنه (ص) لم يكن يخط الكتب السالفة بيمينه.. فكيف يتهمونه بأمر ما رأوه قد مارسه، ولا يوجد أي دليل علي أنه اطلع علي أي كتاب سابق.. لا من خلال تلاوته له، ولا من خلال كتابته لمضامينه، فما هو المبرر لاتهامه بأنه قد استفاد من تلك الكتب إلا مجرد الحدس والتخمين، والرجم بالغيب.

الأمر الذي من شأنه أن يسقط اتهاماتهم عن أية قيمة، لعدم وجود أساس معقول لها.

فاتضح مما تقدم: أن ما ذكره في معني الآيات ليس هو المعني النهائي، الذي لا محيص عنه فيها، بل إن هناك معاني محتملة، وقريبة لها، فلا مبرر للإستدلال بها.

هذا.. وقد أشرنا فيما سبق أن أمّية النبي لا تعني نقصاً فيه، بل هي غاية الكمال، لأنها تعني أن هذا الذي لم يقرأ ولم يكتب ها هو في لحظة واحدة يصبح عارفاً أدق المعرفة وأشملها لعلوم ولأمور لم تمر عليه من قبل.. حتي إن لم يكن يقرأ فصار يقرأ ولم يكتب فصار يكتب مع عدم تعلمه لهذه الأمور من قبل.. مما يدل علي أن قد حدث له حدث فريد، وهو اتصاله بالغيب وصدقه فيما يدعيه من الوحي الإلهي، فعدم معرفته بالقرآءة والكتابة وعدم تلقيه معارفه عن طريقها غاية

الكمال له.. لأنه قد أصبح يملك أدق المعارف والعلوم وأوسعها من دون الإستعانة بكتابة أو قرآءة وهذا غاية الكرامة والفضل، ولكن جهلنا نحن بالقرآءة والكتابة يعد نقصاً فينا لأننا نحرم والحالة هذه من نيل المعارف ونبقي في دائرة الجهل.

9 _ إن العبارة الأخيرة لهذا البعض تشير إلي أن مصدر معارفه (ص) قبل النبوة هو تأملاته، والألطاف الإلهية عليه في ملكاته الفكرية والروحية.

ومن الواضح: أن ذلك لا يكفي في اعتباره (ص) مثقفاً، فضلاً عن أن يملك المستوي الثقافي العالي علي حد تعبير هذا البعض رغم تحفظنا الشديد علي مثل هذه التعابير بالنسبة للأنبياء (عليهم السلام) فإن التأمل، والملكات الفكرية والروحية للنبي لا تجعله عالماً بما جري للسابقين، ولا مطلعاً علي شيء من التفاصيل التاريخية لمن سبقه من الأنبياء، كما أن ذلك لا يجعله ملماً بالأحكام والشرائع والحقائق الدينية وغيرها وبالآيات السماوية التي جاءت أو نزلت من قبله..

بل يكون علماء أهل الكتاب والحالة هذه، وكذلك غيرهم أعلم منه في ذلك، لأنهم يملكون ولو مقداراً ضئيلاً من تلك المعارف مهما كان مشوباً بغيره من الأباطيل.

10 _ ولو سلمنا: أن التأملات والملكات الفكرية تجعله عالماً، فإن علم الأنبياء يصبح منوطاً بمراتبهم المعنوية، فهي التي تؤهلهم لخوارق العادات، حتي مثل الإتيان بعرش بلقيس، بإذن الله.. وما إلي ذلك مع أن النص القرآني يقول: (عنده علم من الكتاب) مما يشير إلي أن هذا العلم الذي حصل عليه من الكتاب، لا من التأمل، هو الذي مكّنه من الإتيان بالعرش من اليمن إلي بيت المقدس.

11 _ لا ندري لماذا فقد النبي (صلي الله عليه وآله) هذه المعرفة.. وقد كان حرياً بأن يكون عالماً بالشيء الكثير من ذلك، ولو

من خلال معاشرته لجدّه عبدالمطلب، وعمه أبي طالب، وسواهما من الناس الذين عرفوا شيئاً من تواريخ الأنبياء السابقين، وما عرفوه وألموا به من تعاليم الأديان السماوية..

قبل البعثة لا تجربة ثقافية للنبي (ص).

عناوين الشكّ في شخصية النبي (ص).

يقول البعض:

"عندما ندرس حياة النبي تبدو لنا هذه الحياة بسيطة، ليست فيها أية حالة ثقافية، وإن القرآن كان أمينا في نقل الأفكار المضادة تماما كما هو أمين في نقل الأفكار المناصرة، لقد استطاع القرآن أن يحدثنا بأمانة عن عناوين الشك في شخصية النبي الذي لم يستطع أن يحصل تجربة ثقافية كافية قبل النبوة أو اية معلومات تاريخية يستطيع من خلالها التأثر بما قبله من الأنبياء" [171] .

وقفة قصيرة

ونقول إن النبي قد كان نبيا منذ صغره، ولقد قرن الله به (ص) من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره [172] .

وعلي هذا الأساس، فإنه لولا هذا الوحي الإلهي، وهذا الملك المسدد له، فإنه (ص) لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان، قال تعالي: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلي صراط مستقيم) [173] وذلك هو معني قوله تعالي: (ووجدك ضالا فهدي).

إذن.. فما معني وجود عناوين للشك في شخصية النبي (ص)، استطاع القرآن أن يحدّثنا عنها بأمانة؟!!

وإذا كان الله قد قرن به ملكا يسدده منذ أن كان فطيما، ويسلك به سبيل المكارم، فما معني عدم حصوله علي تجربة ثقافية كافية قبل نبوّته؟!!..

عتاب يكشف عن الخطأ غير المقصود للتصرف.

المصلحة الغالبة كانت في عدم الإذن لهم.

النبي يخالف الأولي في التصرف.

وسائل النبي في تعامله تخطئ وتصيب كوسائل القضاء.

النبي يخطئ في رصد الأشياء الخفية.

عدم وضوح وسائل المعرفة توقع النبي في الخطأ.

الغيب محجوب عن النبي، إلا فيما يوحي إليه.

القرآن يتحدث كثيراً عن مخالفة الأولي للانبياء.

الأنبياء يخالفون الأولي بسبب غموض ظواهر الأشياء.

يقول البعض: في تفسير قوله تعالي: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) [174] :

"لأن مثل هذه الكلمة تستعمل في مقام العتاب الخفيف الذي يكشف عن طبيعة الخطأ الغير مقصود [175] للتصرف، كما أن الحادثة لا تحمل في داخلها أية حالة من حالات الذنب، فالنبي يملك أمر الحرب، فيأذن لمن يشاء بالخروج أو لا يأذن، فليس للمسألة واقع خارج نطاق إرادته، وليست هناك أوامر إلهية في مسألة خروج هؤلاء، وعدم خروجهم، ليكون تصرفه (عليه السلام) مخالفة لها، بل كل ما هناك أن الله أراد أن يضع القضية في نصابها الصحيح من المصلحة الغالبة في ترك الإذن لهم ليفتضح أمرهم ويتبين زيفهم بشكل واضح، فيتعرف المسلمون علي حقيقتهم، فيرفضوهم من موقع الحقيقة الداخلية التي تنكشف من خلال تصرفاتهم فالمسألة تدخل في دائرة مخالفة ما هو الأولي في التصرف، وليس في ذلك انتقاص من عصمته وانسجامه مع الخط الذي يريد الله له أن يسير فيه.

فقد ترك الله للنبي (صلي الله عليه وآله) مساحة يملك فيها حرية الحركة من خلال ما يدبِّر به أمر الأمة بالوسائل العادية المألوفة التي قد تخطئ في بعض مجالاتها، لا بالوسائل الغيبية التي لا يملكها بطريقة ذاتية، لم يكشفها الله له بشكل مطلق، تماما كما هي الحال في ممارسته القضاء بين الناس حيث قال: (إنما أقضي بينكم بالأيمان والبينات)" [176] .

معني خطأ

النبي

"وليست هناك مشكلة أن يقع الخطأ، في ما هو الواقع في رصد الأشياء الخفية من خلال غموض الموضوع لعدم وضوح وسائل المعرفة لديه، ما دام الغيب محجوباً عنه، إلا في ما أوحي به الله إليه من أسرار علمه، وهذا ما أراد القرآن تأكيده في أكثر من آية في توضيحه لكثير من حقائق الامور بعد وقوعها وتحركها في دائرة خلاف الأولي، في ما كان وجه الصلاح غامضاً فيه من جهة ظواهر الأشياء، كما في هذه المسألة التي أراد الله أن يوحي من خلالها بالحقيقة إلي نبيه، الذي أذن لهم في عدم الخروج انطلاقا من سمو أخلاقه، وسعة صدره، ومواجهته الحالة بالرفق واللين، من خلال ما حدثنا الله به عن أسلوبه في الحياة، ولكن القوم لم يكونوا بالموقع الذي يستحقون فيه ذلك، وهكذا كان خطابه لنبيه بأسلوب العتاب المحبب "لِمَ أذنت لهم" في ترك الخروج، فقد اعتبروا ذلك حجة لهم أمام المسلمين الآخرين في تأكيد صدقهم في الإيمان، وانسجامهم مع خط الطاعة لله وللرسول" [177] .

وقفة قصيرة

ونقول:

1 _ إن ما ذكره هذا البعض هنا عن خطأ النبي الكريم (صلي الله عليه وآله)، مردود عليه ومنبوذ إليه فإن الخطأ ممنوع علي النبي حتي لو لم يكن هناك أمر ونهي إلهي صريح.. ويزيد الإصرار علي رفض هذه المقولات أنه قد قرر أن النبي لم يكن يعرف المصلحة والمفسدة فيما أقدم عليه فكانت النتيجة أن أقدم النبي (ص) علي ترك الأولي، فتركه للأولي ناشئ والعياذ بالله عن جهله به، إلي آخر ما ذكره..

2 _ إن الكثيرين حين لا يهتدون إلي معرفة الوجه في تعابير الآيات القرآنية في العديد من الموارد التي تتحدث عن بعض مواقف الأنبياء وحركتهم

وتصرفاتهم، يلجأون إلي القول: بأن هذا التصرف المنسوب للنبي أو الولي هو من قبيل مخالفة الأولي في مقام التصرف، ومخالفة الأولي لا تنافي العصمة..

مع أن هذا الكلام غير سديد، فإن مخالفة الأولي إن كانت ناشئة عن الجهل بوجوه الحسن والقبح، وبما ينبغي أن يكون عليه.. فنحن نجل الأنبياء عن أن يكونوا غير قادرين علي التمييز بين الأمور التي لا يحتاج التمييز ومعرفة الراجح منها إلي أكثر من التدبر في جهات الحسن الظاهرة في هذا العمل أو ذاك، والموازنة بينهما..

وإن كان النبي والوصي يدرك رجحان هذا علي ذاك، ولكنه يتبع هواه في الأخذ بالمرجوح منهما، فالمصيبة تكون أفدح، وأعظم، والخطب أمرّ، وأدهي.

وإن كان يأخذ بالمرج_وح من دون سبب سوي الإستهتار، وعدم المبالاة.. فإن ذلك أيضاً مرفوض في حق الأنبياء، والأولياء، فلا يقبل في حقهم أن يكونوا يرجحون غير الراجح، أو يرفضون الأخذ بما هو أولي بالأخذ، فإن ذلك يكشف عن عدم وجود توازن في شخصية هذا الإنسان المعصوم، وعن أنه يفقد الضوابط والمعايير التي يفيده الإلتزام بها ومراعاتها في هذه الحياة..

وما أعظمها من كارثة، وما أخطره من نقص أن يكون الإنسان غير قادر علي اختيار الأفضل والأمثل..

ومن يكون هذا حاله كيف يصح أن يختاره الله ليكون الأسوة والقدوة، والمربي، والحافظ.. فقد يتخلي عما هو الأولي في أشد المواقف حساسية، وأعظمها خطراً، كما يذكرونه بالنسبة لآدم (عليه السلام).

وبعبارة أخري: إن اختياره للمرجوح لا ينسجم مع حكمته، وعقله، ومع توازن شخصيته، كما أن الله سبحانه لا يمكن أن يختاره نبياً، ولا ولياً خصوصاً إذا كان ثمة من يختار الراجح والأولي ويترك المرجوح، فإن اختيار ذاك علي هذا ينافي الحكمة، والتدبير، والرحمة بالبلاد

وبالعباد.. تعالي الله عن ذلك علواً كبيراً..

ومهما يكن من أمر فإن العلماء إذا غفلوا عن هذا الأمر، وتحدثوا عن إمكانية مخالفة النبي للأولي فإنهم بمجرد أن نلفت نظرهم إلي هذه المحاذير سوف يبادرون إلي التخلي عن قولهم ذاك لصالح القاعدة التي يلتزمون بها.

ولكن هذا البعض بملاحظة هذا الكم الهائل من المقولات قد اتخذ له منهجاً آخر، وتكوّنت لديه نظرة أخري للأنبياء وقد جاءت مقولاته هذه منسجمة مع هذه النظرة وذلك المنهج، فلا يصح قياس أمره عليهم وما ذكرناه عنه في هذا الكتاب خير شاهد علي ذلك.

3 _ إن قياس هذا البعض سلوك الأنبياء، وتعاملهم مع الناس، ومع الله، ومع أنفسهم، وفي جميع المواقع، علي أمر القضاء بين الناس قياس مع الفارق..

فإن الله سبحانه قد شاء أن يعتمد نبيه، ووليه وسائل معينة في القضاء، لأن الإعتماد علي الغيب في القضاء وفقاً للتحليل التاريخي _ حسب مصطلح البعض _ من شأنه أن يفسح المجال أمام قضاة السوء، وحكام الجور لأن يدّعوا علي الناس ما ليس بحق، وتكون حجتهم هي: أن النبي (صلي الله عليه وآله) قد فعل ذلك، ونحن خلفاؤه، ونجلس في موقعه، ونقوم بمهماته، فإذا كان هو يقتل القاتل، ويقيم الحد علي السارق، استناداً إلي علمه، ومن دون حاجة إلي شهود فنحن أيضاً نفعل ذلك..

فيأخذون الناس بهذا الأمر، ويقتلون من يشاؤون، وينكلون بالناس حسبما يشتهون، ويستفيدون من هذا الغطاء الشرعي _ بحسب ظواهر الأمور _ لتأكيد سلطانهم، والقضاء علي خصومهم ومعارضيهم، وابتزاز الناس في أموالهم، وأعراضهم و ومواقفهم، وما إلي ذلك..

وقد يكون هذا مدخلاً للقضاء علي كل عناصر الفضل والخير والدين، وإبادة قوي الصدق، والإيمان، والصلاح، والتخلص من كل ما

يخافون منه..

3 _ أما بالنسبة لمعني الآية، فإننا قد بيّناه فيما سبق من هذا الكتاب فراجع..

النبي لا يملك أية مقومات ذاتية كبيرة.

النبي لا يملك أية قدرات شخصية مطلقة.

الدرس الفكري: أن لا نغرق انفسنا بالأسرار العميقة التي يحاول البعض إحاطة شخصية النبي بها.

يحيطون النبي بالأسرار للإيحاء بأنه يرتفع فوق مستوي البشر.

النبي ليس فوق مستوي البشر في إمكاناته الذاتية.

النبي ليس فوق مستوي البشر في قدراته الكبيرة.

هو فوق البشر بأخلاقه، وخطواته، ومشاريعه المتصلة برسالته.

علينا أن نشعر أن النبي قريب منا بصفاته البشرية التي هي اساس التمثل والإتباع، والإقتداء.

الأبحاث السائرة في هذا الإتجاه، إنحراف عن الخط القرآني في دراسة شخصية النبي.

الله قد يطلع النبي علي بعض غيبه، مما قد يحتاجه في نبوته من علم المستقبل، أو خفايا الأمور.

التصور القرآني ينفي فعلية علم النبي للغيب من الناحية الوجودية.

النبي ليس مجهزاً في تكوينه البشري بالقدرة علي علم الغيب.

الله يطلع رسله علي الغيب بطريقة التعليمات التدريجية.

ليس علمه بالغيب منطلقاً من قدرة تتحرّك بالفعلية، بحيث يعلم بالغيب كلما أراد من خلالها.

يقول البعض:

"(إن اتبع إلا ما يوحي إلي) وهكذا أراده أن يقف بينهم عبداً خاشعاً بين يديه، لا يملك أية مقومات ذاتية كبيرة، أو أية قدرات شخصية مطلقة، رسولاً أميناً علي الدور الذي أوكله الله إليه، فهو ينتظر أمر الله ووحيه في كل صغيرة أو كبيرة ليتبعه، ويبلغه للناس، وربما كان الحديث عن الإتباع موحياً بالصفة المطيعة المتواضعة التي تجسدها شخصيته ليكون في ذلك بعض الإيحاء لهم بالطاعة لله، والإستغراق في دور العبد المطيع الذي يتمثل حركة العبد (النبي)، في شخصية العبد المؤمن، وإذا كان التوجيه الإلهي

يفرض علي الرسول أن يقدم نفسه إلي الناس بهذه الصفة فقد نجد فيه الدرس الفكري الذي يريدنا أن لا نغرق أنفسنا بالأسرار العميقة التي يحاول البعض أن يحيط بها شخصية النبي، للإيحاء بأنه يرتفع فوق مستوي البشر في إمكاناته الذاتية، وقدراته الكبيرة، بل بصفته الرسالية من حيث أخلاقه، وخطواته، ومشاريعه المتصلة برسالته.

وذلك هو السبيل للتعامل مع شخصية الأنبياء، والأولياء، بالأسلوب القريب إلي الوعي الإنساني العادي، في ما يمكن للإنسان أن يعيشه، ويتصوره ويتمثله في نفسه، ليشعر بأن النبي قريب منه بصفاته البشرية المثلي التي يمكن أن تكون أساساً للتمثل، والإتباع، والإقتداء، وفي ضوء ذلك، نجد في الأبحاث السائرة في هذا الإتجاه انحرافاً عن الخط القرآني الذي يرسم للناس في دراستهم لشخصية النبي (ص)، وهنا نقطة، وهي مسألة نفي النبي في حواره مع المشركين علمه بالغيب، فقد جاء في الميزان، قال: المراد بنفي علم الغيب، نفي أن يكون مجهزاً في وجوده بحسب الطبع بما لا يخفي عليه معه ما لا سبيل للإنسان بحسب العادة إلي العلم به من خفيّات الأمور كائنةً ما كانت [178] .

وهذا هو التصور القرآني الصحيح الذي يؤكد نفي الفعلية لعلم الغيب من الناحية الوجودية بمعني أن يكون مجهزاً في تكوينه البشري بالقدرة الخاصة لعلم الغيب بحيث يتحرك نحوه _ في فعليته _ بشكل طبيعي، بل المسألة هي أن الله قد يطلعه علي بعض غيبه مما يحتاجه في نبوته من أمور المستقبل، ومن خفايا الأمور كما في قصة عيسي (ع)، (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) (آل عمران:49) ونحو ذلك، ولعل هذا هو الذي أشار إليه أمير المؤمنين علي (ع) في إخباره بالمغيبات عن سؤاله: (هل هذا علم بالغيب؟) في

تصورهم للمعني الذاتي من خلال القدرات الخاصة التي يملكها في ذلك.

فأجاب: (وإنما هو تعلم من ذي علم) [179] وهذا هو الذي عبر عنه بعض المفسرين (هو علم الغيب بالعرض) أي تعلم من عالم الغيب.

وخلاصة الفكرة: هي أن الله كان يطلع رسله بطريقة التعليمات التدريجية المحدودة علي الغيب كما في قوله تعالي: (عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحدا) (سورة الجن:26) ولم يكن علم الغيب منطلقاً من قدرة تتحرك بالفعلية ليعلم بالغيب كل ما أراد من خلالها بحيث إن الله أعطاه ذلك من خلال القاعدة المنتجة للعلم في نفسه.. والله العالم [180] .

وقفة قصيرة

إننا نسجل هنا ما يلي:

1 _ من أين؟ وكيف علم هذا البعض أن النبي لا يملك مقومات ذاتية كبيرة، أو قدرات مطلقة، أو أن الأنبياء ليسوا فوق مستوي البشر في قدراتهم الذاتية وإمكاناتهم.

فإن ذلك من الأمور التكوينية، ومن الغيبيات التي لا يعرفها إلا الله سبحانه..، وهو يشترط في معرفة الأمور التكوينية والغيبية وغيرها، قيام الدليل القطعي، الموجب لليقين التام، ولا يكفي فيها مطلق ما هو حجة..

2 _ إذا كان النبي (صلي الله عليه وآله) أفضل من البشر، وإذا كان الله سبحانه قد خلقه هو والأئمة قبل خلق الخلق بألفي عام، وجعلهم أنواراً بعرشه محدقين، وإذا كانوا أنواراً في الأصلاب الشامخة، والأرحام المطهرة.

وإذا كان النبي شاهداً علي الخلق يري أعمالهم الجوارحية، والجوانحية، ويشهد عليهم بها وإذا كان يري من خلفه كما يري من أمامه، وإذا كانت تنام عيناه، ولا ينام قلبه، ثم ما روي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) من أنه قال لعلي (عليه السلام): (يا علي ما عرف الله حق معرفته غيري وغيرك. وما عرفك

حق معرفتك غير الله وغيري) [181] وما إلي ذلك، وهو كثير جداً.

فإن النتيجة تكون هي أن هناك أسراراً عميقة تحيط بهم (عليهم السلام) لا ندرك كنهها، ولا ضير في أن نغرق أنفسنا بها، إذا كان الله ورسوله، والأئمة الأطهار (عليهم السلام) هم الذين أخبرونا عنها في مح_اول_ة لشد أنظارن_ا إليها، وإطلاعنا عليها لحكمة هم يعرفونها.

3 _ إن شعورنا بأن النبي (ص) قريب منا بصفاته البشرية، وكون ذلك هو أساس التمثل، والإتباع، والإقتداء صحيح، ولكنه لا يمنع من اعتقادنا أيضاً بوجود قدرات، وإمكانات غير عادية لدي هذا النبي (صلي الله عليه وآله) في جهات أخري من شخصيته، وحياته.

بل قد يسهم وعينا لهذه الحقيقة في الحرص علي الإتباع له، والتأسي به.. في الجهات العملية، في دائرة السلوك، والأخلاق، والمواقف الرسالية، والإلتزام العقيدي، والإيماني، وغير ذلك..

4 _ إن الخط القرآني في دراسة شخصية النبي يرتفع بهذه الشخصية إلي مراتب لا تبلغها أوهام البشر، حين يأخذ نبيه في رحلة المعراج إلي السماوات العلي، حتي بلغ (عليه الصلاة والسلام) سدرة المنتهي.

وأما الآيات التي يستند اليها هذا البعض في إبعاد الأنبياء عن مواقع الكرامة الإلهية.. فقد فسرها العلماء، وبينوا معانيها.. بطريقة صحيحة، ومنسجمة مع كل المقاييس التي ارتضاها القرآن، وأكدها، والتزم بها الإسلام، وأيدها، وقد يجد القارئ الكريم في هذا الكتاب بعضاً من ذالك.

5 _ وأما أن الله سبحانه قد يطلع نبيه علي بعض غيبه، مما قد يحتاجه في نبوته، فهو كلام صحيح.. ولكنه لا يمنع أيضاً من أن يطلعه علي جميع غيبه، فإن قوله تعالي:(عالم الغيب والشهادة فلا يطلع علي غيبه أحداً، إلا من ارتضي من رسول) لم يحدد فيه مقدار الغيب الذي يطلع

الله عليه بعض رسله، بل إن سياق الآية _ علي غيبه _ ظاهر في إمكانية أن يطلع الله بعض رسله علي كل غيبه.

فمن أين أتانا هذا البعض بالتخصص بخصوص ما يحتاجه النبي في نبوته؟!، ومن اين جاء بكلمة (بعض) في قوله: (بعض غيبه)؟!.

6 _ وأما أن التصور القرآني ينفي فعلية علم النبي للغيب من الناحية الوجودية، أي أنه ينفي وجود قدرة ذاتية تمكنه من العلم كلما أراد، وساعة يشاء.. فذلك أيضاً غير صحيح، فإن التصور القرآني يعطينا إمكانية أن يعلم الله نبيه بجميع غيبه كما ألمحنا إليه آنفا.

ولكنه ينفي أن تكون النبوة من حيث هي نبوة تقتضي علم الغيب بصورة ذاتية..

ولا ينفي إمكانية أن يكون الله قد جهز نبيه بقدرة يستطيع بها الإطلاع علي الغيب ساعة يشاء، وفي كل ما يريد.. وقد دلت الأخبار الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) علي ذلك..

7 _ من أين علم هذا البعض: أن الله يطلع أنبياءه علي الغيب بصورة التعليمات التدريجية، فإن هذا يحتاج إلي دليل يقيني، ولا يكفي فيه مطلق الحجة.. كما يقول هذا البعض نفسه.

إذ لعل الله قد أطلع رسوله علي غيبه كما هو مفاد الآية، لكي يرفع بهذا العلم مقامه، ويكرمه به. لكنه منعه من إخبار الناس به، فصار ينتظر أمر ربه في إبلاغ كل حدث يريد إبلاغه للناس.

8 _ علي أن نفيه وجود قدرة تمكن النبي من علم الغيب يحتاج إلي دليل.. حسبما قرره هذا البعض نفسه، فأين هو دليله القطعي _ حسب رأيه _ الذي أقامه علي هذا النفي؟

معجزات رسول الله المعراج و شق القمر

اشاره

إنكار معجزة شق القمر للرسول (ص).

لا فائدة من إرسال الآيات في هذا الزمان.

الحديث المتواتر إذا لم يوثق

ببعض رجال سنده يتحول إلي خبر واحد.

لا يوجد أساس يقيني للالتزام بروايات شق القمر.

وقوع شق القمر مخالف للظواهر القرآنية.

يقول البعض:

".. كيف نفهم انشقاق القمر من الآية؟

أما انشقاق القمر فقد، جاءت الروايات لتؤكد أن معناه يعبّر عن آية كونية، في نطاق المعجزة المقترحة من قبل المشركين علي النبي (ص) لإثبات نبوته، وقيل: إن أهل الحديث، والمفسرين اتفقوا علي قبولها، ولم يخالف فيه منهم إلا الحسن وعطاء والبلخي حيث قالوا إن معني قوله: (وانشق القمر) سينشق القمر عند قيام الساعة،وإنما عبَّر بلفظ الماضي لتحقق الوقوع.

أما تعليقنا علي ذلك، فهي أن المسألة لا بد أن تُناقش من نقطتين:

النقطة الأولي: من زاوية الإستغراق في مضمون النصوص في ذاتها من حيث إمكانها ومعقوليتها، وفي سند النصوص من حيث وثاقتها وصحتها.

النقطة الثانية: من زاوية المقارنة بين هذه النصوص المفسرة للقرآن بذلك، وبين المفاهيم القرآنية العامة في مسألة المعجزة الحسية الكونية وغير الكونية، الخارقة للعادة، سواءً كانت مقترحة أو غير مقترحة، علي أساس القاعدة القائلة بأن علينا عرض الأحاديث علي ما جاء به القرآن من حقائق بمقتضي الظهور الواضح، لأن ما خالف كتاب الله فهو باطل أو زخرف.

أما النقطة الأولي: فقد تحتاج إلي عرض بعض هذه الروايات كنموذج للمجموع، ففي رواية أنس بن مالك، قال الإمام احمد: حدثنا معمر، عن قتادة عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبي (ص) آية، فانشق القمر بمكة مرتين فقال: اقتربت الساعة وانشق القمر.

ومن رواية جبير بن مطعم، قال الإمام احمد: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: انشق القمر

علي عهد رسول الله (ص) فصار فلقتين، فلقة علي هذا الجبل وفلقة علي هذا الجبل فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فانه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.

وفي أمالي الشيخ _ أبي جعفر محمد بي الحسن الطوسي، بإسناده عن عبيد بن علي عن الرضا عن آبائه عن علي _ عليهم السلام _ قال: انشق القمر، بمكة فلقتين فقال رسول الله (ص): اشهدوا اشهدوا. وقد ذكر في الميزان أن علماء الشيعة ومحدثيهم تسلموا الخبر بانشقاق القمر لرسول الله (ص) من غير توقف. ونقل في روح المعاني عن السيد الشريف في شرح المواقف وعن ابن السبكي في شرح المختصر أن الحديث متواتر لا يمتري في تواتره.

ولكننا لا نستطيع إحراز التواتر من خلال هذه الأخبار التي لم يكن رواة بعضها موجودين في زمن الإنشقاق المفروض ليكونوا شهوداً عليه، مما يعني أنهم نقلوه عن أشخاص آخرين لا نعرف وثاقتهم، الأمر الذي قد يجعل منها أخبار آحاد لا تثبت بها مثل هذه الأمور كما قرر في علم الأصول.. وقد يكون التسالم علي قبولها ناشئا من الاجتهاد التفسيري في معني الآية علي أساس أن الآية الثانية تفسر ذلك فيكون الإعتماد علي القرآن في توثيق المضمون الخبري لا علي طبيعة الخبر.

فإذا تجاوزنا ذلك، إلي موضوع الإمكان، فلا بد أن نسلم بأنه من الأمور الممكنة في ذاتها، وقد حدثنا القرآن عن انشقاق السماء ونحو ذلك من الحوادث التي تتصل بتبدل الظواهر الكونية وتغيّرها عما هي عليه، فإذا صح الخبر فيها ثبت وقوعها.

أما النقطة الثانية، فقد أثير حولها الإشكال من جهة الآيات الكثيرة التي تنفي صدور الآيات المعجزة لا سيما المقترحة م_ن قبل الناس كم_ا في قوله تعالي: (وما

منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرةً فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) [182] فإن مفاد الآية يوضّح بأن الإرسال بالآيات لا يحقق أية نتيجة في دائرة الإيمان، لأن السابقين الذين أرسلت الآيات إليهم لم يتجاوبوا معها، ولم ينتفعوا بها، بالرغم من كل ما تثيره في نتائجها من تهاويل الخوف باعتبار أن نزول الآية التي لا يعقبها الإيمان يؤدي إلي نزول العذاب. ويتأكد الإشكال في الآيات المقترحة التي أراد الله من رسوله أن يعرفهم امتناع استجابة الله لهم في طلبهم إياها، وهو القادر علي ذلك لأنه المهيمن علي الكون كله، فيما يريد أن يخلقه من ظواهر غير موجودة، أو فيما يريد أن يغيّره من حالٍ إلي حال في الظواهر الموجودة، فان الأمر خاضع لحكمته لا لاقتراحهم.. أمّا النبي الذي تُقدَّم إليه تلك الطلبات فليس قادراً علي ذلك، لأن بشريته تمنعه من قدرته علي ذلك كما أن صفة الرسالة لا تجعل له دوراً في تغيير الظواهر من حوله.

ولعلّ هذا الجو هو الذي يتمثل للإنسان القارئ للقرآن في ملاحقته لخطوات الرسالة أمام التحديات الموجهة إليها من المشركين.. وفي ضوء ذلك قد نلاحظ اختلاف هذا التفسير مع المفاهيم القرآنية العامة فيكون الحديث المتضمن لها حديثا مخالفا للظواهر القرآنية.

وقد أجاب هؤلاء المفسرون للآية بما ذكر، بأن الآية التالية لها تؤكد بأن المقصود من انشقاق القمر، هو ما حدث علي يد الرسول (ص) في مكة فيما رواه المفسرون، وذلك لأن الظاهر من قوله تعالي: (وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) أنها آية واقعة قريبة من زمان النزول، أعرض عنها المشركون كسائر الآيات التي أعرضوا عنها وقالوا: سحر مبين.

وقد يورد

عليهم بأن الآية الثانية لا تدل علي أنها من توابع الفكرة التي تثيرها الآية الأولي.. بل ربما كانت الأولي عنواناً للأجواء التي توحي بيوم القيامة، فيما يراد إثارته من تذكير هؤلاء المشركين وغيرهم به، لتنطلق الآيات بعدها لتتحدث عن سلوكهم المنحرف عن الرسالة الذي يعرّضهم للنتائج الصعبة علي مستوي العذاب في نار جهنم.. وبذلك يكون الحديث عن ردهم الآيات بأنها سحر مستمر مماثلا لكل الآيات التي تتحدث عن تهمة النبي (ص) بأنه ساحر من دون أن تكون مرتبطة بحادثة معينة.. وقد نلاحظ، في هذا المجال، ضرورة التدقيق في كلمة (مستمر) التي تعني انطلاق التهمة قبل الآية لتكون مستمرة بعدها.. مما قد يتنافي مع انطلاق تهمة السحر من خلالها.

وقد أجاب بعض المفسرين عن استلزام نزول الآية للعذاب بعدها في حالة الكفر، بأن ذلك لا يشمل كل الناس الموجودين آنذاك، بل الجماعات المقترحة لها المكذبة بنتائجها، وقد أهلك الله هؤلاء وهم صناديد مكة.

إلي أن قال:

علامات استفهام حول معجزة انشقاق القمر

" ويتساءل الرافضون لهذا التفسير، إن القمر لو انشق كما يقال، لرآه جميع الناس ولضبطه أهل الأرصاد في الشرق والغرب لكونه من أعجب الآيات السماوية، ولم يعهد فيما بلغ إلينا من التاريخ والكتب الباحثة عن الأوضاع السماوية له نظير، والدواعي متوفرة علي استماعه ونقله.

وأجيب بما حاصله، أن من الممكن أولاً: أن يغفل عنه فلا دليل علي كون كل حادث أرضي أو سماوي معلوماً للناس محفوظاً عندهم يرثه خلف عن سلف.

وثانياً: أن الحجاز وما حولها من البلاد العربية لم يكن بها مرصد للأوضاع السماوية، وإنما كان ما كان من المراصد بالهند والمغرب من الروم واليونان وغيرهما، ولم يثبت وجود مرصد في هذا الوقت

_ وهو علي ما في بعض الروايات أول الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجة سنة خمس قبل الهجرة.

علي أن بلاد الغرب كانت تختلف بالأفق مع مكة مما يوجب فصلاً زمانياً معتداً به وقد كان القمر، علي ما في بعض الروايات، بدرا وانشق في حوالي غروب الشمس حين طلوعه، ولم يبق علي الانشقاق إلاّ زماناً يسيراً ثم التأم فيقع طلوعه علي بلاد الغرب وهو ملتئم ثانيا.

وقد يُجاب عن هذا بأن من الممكن التسليم بالفكرة التي يثيرها الجواب الثاني.. أما بالنسبة إلي الجواب الأول فليس هناك مجال للتسليم به.. لأن مسألة انشقاق القمر بالطريقة التي تثيرها الروايات تمثل حادثاً خطيراً لم يعهده الناس في حياتهم، مما يجعل إمكان غفلة البعض عنه لا تبّرر غفلة الأكثر لا سيما في تلك المناطق التي يلتقي فيها الناس بالقمر في مراقبة دائمة له باعتباره مصدر الضوء البارز في لياليهم التي لا يملكون فيها إلا الطرق البدائية في مصادر النور.. ولذلك فإن هذا الحدث لو كان لذاع وشاع وملأ الأسماع، كما يقولون، ولاستمر الحديث عنه مدة طويلة.. ولكان يوماً تاريخياً يخلّده الناس فيما يؤقتون به الأمور علي طريقتهم المعروفة في حساب التاريخ بالأيام التي تحمل حدثاً كبيراً لا يختلف الناس فيه لضخامة الأثر الذي يتركه في حياتهم.

وفي ضوء ذلك كله، فإننا نتحفظ في المسألة لأننا لا نجد أساساً يقينياً للالتزام بهذه الروايات، كما لا نجد ظهورا قرآنيا في تحديد الموضوع بزمان الرسالة." [183] .

وقفة قصيرة

1ً _ إن هذا البعض يقول: إن أخبار وقوع انشقاق القمر في عهد رسول الله (ص) متواترة: ونقل لنا عن كتاب "الميزان ": أن علماء الشيعة ومحدثيهم قد تسلموا الخبر بانشقاق القمر لرسول الله (ص)

من غير توقف.

ثم إن هذا البعض قد ناقش في تواتر هذه الأخبار بأن بعض رواتها لم يكونوا موجودين في زمن الانشقاق،مما يعني أنهم نقلوها عن أشخاص آخرين، لا نعرف وثاقتهم، فتكون أخبار آحاد،ولا تثبت هذه الأمور بخبر الواحد.

ونقول:

أ _ لا ندري كيف يصبح الحديث المتواتر من أخبار الآحاد، إذا لم تثبت وثاقة بعض رواته؟! فهل يعتبر في الخبر المتواتر وثاقة رواته؟! وهل يعتبر أن يكون جميع الرواة معروفين لدينا أو موجودين في زمن الحادثة؟! حسبما يشير إليه قوله: (لم يكن رواة بعضها موجودين في زمن الإنشقاق المفروض، ليكونوا شهوداً عليه؛ مما يعني أنهم نقلوه عن أشخاص آخرين، لا نعرف وثاقتهم الأمر الذي قد يجعل منها أخبار آحاد).

وإذا كان رواة بعضها غير موجودين حين حصول الحدث، فإن رواة الباقي المتواتر نقله كانوا موجودين آنئذ.

ومن اين له أن من شروط التواتر هو وثاقة الرواة؟ وأين قرأ ذلك وما الذي دله علي هذا فانكر ما يثبت به؟

ب _ إن هذا الأمر، أعني انشقاق القمر، ليس من أصول العقائد، التي يتوقف عليها الإسلام والإيمان، ليحتاج ثبوته إلي القطع واليقين، وإنما هو حدث تاريخي خارق للعادة له مساس بالعقيدة، يثبت بما هو حجة شرعية كأي حدث حصل في التاريخ خارق للعادة ينقل لنا عن النبي (ص) قولاً أو فعلاً، أو كرامة إلهية له (ص).. فإن مثل هذه الأمور لا تحتاج إلي أكثر من ذلك لا سيما عند هذا الرجل الذي لا ينفك يدعي أنه يلتزم بحجية خبر الواحد من باب طريق العقلاء.

نعم، لو كان ذلك من المعجزات التي يتوقف علي إثباتها إثبات نبوة النبي مثلا احتاج ذلك إلي الثبوت القطعي.

وهذا من الأمور

البديهية والواضحة لدي العلماء.

2 _ إن هذا البعض قد قبل بالمناقشة التي تقول؛ (لو كان الانشقاق قد وقع لكان اللازم نزول العذاب، لأن هذه معجزة اقترحها المشركون، وقد استجاب الله لاقتراحهم حسب الفرض، فحيث لم يؤمنوا فإن اللازم هو نزول عذاب الاستئصال عليهم، كما هو الحال في الموارد المشابهة).

ونقول:

أ _ قال الله سبحانه: (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدّون عن المسجد ال_حرام وما كانوا اولياءه إن اولياؤه إلا المتقون، ولكن أكثرهم لا ي_ع_ل_م_ون) [184] .

فهذه الآية تعطينا أن الله لم يكن لينزل عليهم العذاب ونبي الله الأكرم (ص) موجود فيما بينهم.

ب _ إن هذا البعض نفسه قد ذكر ثلاث روايات عن وقوع حادثة شق القمر، ويلاحظ أن اثنتين منها لم تذكرا أن أهل مكة قد اقترحوا علي الرسول ذلك،فاذا طرحنا الرواية الثالثة،لأجل ضعف سندها، ولم نحمل المطلق علي المقيد، لأجل ذلك، فإن ذلك لا يحتم علينا رفض الروايات المطلقة التي تنسجم مع الظهور القرآني، إذ لعلها كرامة أكرم الله بها نبيه ابتداء منه تعالي بهدف إقامة الحجة علي المشركين تماما كما هو الحال في تسبيح الحصي في يديه، وسجود الشجر له، ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة، وتكليم الحيوانات له (ص)، وغير ذلك.

ج _ ولنفترض أننا حملنا مطلق الروايات علي المقيد منها، وقلنا إن انشقاق القمر قد حصل باقتراح منهم فكما أنه لا يجب علي النبي (ص) قبول كل اقتراح فلا يجب أيضاً أن يرد كل اقتراح.

و مع هذا فليس كل آية مقترحة توجب نزول العذاب، بل ما يوجب ذلك هو ما يكون اقتراحا يمثل التحدي له من قبل عامة الناس، بحيث يكون عدم ظهور الآية دليلاً لهم علي كذب النبي في مدّعاه _ والعياذ بالله _ ويتم حسم القضية بهذه الطريقة من الأساس.

أما إذا كان اقتراحاً من أفراد لا بعنوان التحدي العام له، ولرسالته، فلا يجب أن ينزل العذاب بسبب ذلك.

وكذا لو كان هذا التحدي ليس حاسما كما ذكرنا.

ولم يظهر أن القضية في موضوع شق القمر كانت مستجمعة لهذين الشرطين.

3 _ وأما استدلاله علي أن العذاب لابد أن ينزل بعد الآية المقترحة بآية (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها، وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) [185] .

فهو استدلال باطل، وذلك لما يلي:

أ _ إن ما ذكرناه آنفا كافٍ في إبطال هذا الإستدلال.

ب _ إن قوله تعالي: (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) يدل علي أن باب إرسال الآيات لم يغلق، وإنما هو مفتوح حين يريد الله تعالي تخويفهم بإظهار قدرته وهيمنته.

ج _ إن قوله في تفسير هذه الآية: إن إرسال الآيات لا فائدة فيه.. لو صح: لاقتضي أن لا يكون سبحانه قد أرسل الآيات في السابق أيضاًً، فإنه إذا كانت الآيات بلا فائدة ولا تحقق نتيجة، فكيف يفعل الله سبحانه أمراً لا فائدة فيه، وإن كانت مفيدة في السابق فما الذي منع من فائدتها الآن.

4 _ وبعدما ذكرنا يظهر بطلان قوله عن عدم وقوع انشقاق القمر حسبما تقدم نقله من كتابه:

"وفي ضوء ذلك قد نلاحظ اختلاف هذا التفسير مع المفاهيم القرآنية العامة،

فيكون الحديث المتضمن لها حديثا مخالفا للظواهر القرآنية ".

وكيف انفرد في فهم هذه المخالفة مع أن علماءنا جميعا تسلّموا هذه الاخبار بلا توقف، فيدور الامر بين الطعن فيما فهموه جميعا بلا توقف هذا من جهة، أو الطعن في صحة فهمه هو من جهة أخري، والأمر موكول إلي القارئ المنصف لا سيما بعد ظهور عدم صحة ما استند اليه في فهم هذا وهو لزوم نزول العذاب في المعجزات المقترحة.

5 _ قال فيما تقدم:

"وقد نلاحظ في هذا المجال ضرورة التدقيق في كلمة مستمر، التي تعني انطلاق التهمة قبل الآية لتكون مستمرة بعدها،مما قد يتنافي مع انطلاق تهمة السحر من خلالها".

وقد اعتبر ذلك مؤيداً لمقولة أن يكون المراد بالآية الأولي التذكير بالأجواء التي توحي بيوم القيامة. ويكون قوله تعالي:

(وإن يروا آية يعرضوا..) الخ.. من قبيل قولهم عنه إنه ساحر دون أن تكون مرتبطة بحادثة معينة.

ونقول:

أ _ إن التدقيق في كلمة مستمر لا يجديه نفعا، لأن مقصودهم بها أن هذا الذي يرونه من انشقاق القمر ما هو بزعمهم إلا استمرار لممارساته السحرية التي رأوا العديد من مفرداتها، فهذه الحادثة قد جعلتهم يجددون اتهامهم إياه بهذه التهمة الباطلة. وتكون تهمة السحر له قد انطلقت من هذه الحادثة بالذات، ولكنها تهمة لاحظ من أطلقها مجموعة أحداث أراد أن يبرر بها عودته لإطلاق هذا الاتهام بالذات.

ب _ إن من الواضح أن اعتبار الآيات في سياق واحد أولي من فصلها عن بعضها البعض، لا سيما إذا جاءت الرواية لتؤكد وحدة هذا السياق، وترابط الآيات بعضها مع بعض.

فالإصرار علي تجاهل الرواية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام وعن غيرهم الصالحة للقرينية علي وجود هذا الارتباط

السياقي أمر لا مبرر له علي الاطلاق.

6 _ قد دافع عن القول: بأن غفلة الناس عن هذا الأمر الخطير، وهو انشقاق القمر، تدل علي عدم حصوله.

ونقول في دفاعه هذا:

إن ما ذكره من دلائل وشواهد لا يصلح لذلك، وذلك لما يلي:

أ _ إن هذا الإنشقاق قد حصل في نصف الكرة الأرضية حيث يوجد الليل دون النصف الآخر حيث يوجد النهار.

ب _ في هذا النصف قد لا يلتفت اكثر الناس إلي ما يحصل في الأجرام السماوية، إذا كان ذلك بعد نصف الليل، حيث الكل نائمون.

ج _ لربما يكون في بعض المناطق سحاب يمنع من رؤية القمر.

د _ إن الحوادث السماوية إنما تلفت النظر إذا كانت مصحوبة بصوت كالرعد، أو بأثر غير عادي كقلة نور الشمس في الكسوف، إذا كان لمدة طويلة نسبيا.

ه_ _ هذا كله عدا عن أن السابقين لم يكن لهم اهتمام كبير بالسماء وما يحدث لأجرامها.

و _ لم يكن ثمة وسائل إعلام تنقل الخبر من أقصي الأرض إلي أقصاها بسرعة مذهلة لتتوجه الأنظار لما يحدث.

ز _ إن التاريخ الموجود بين أيدينا ناقص جداً، فكم كان في تلك المئات والآلاف من السنين الخالية من كوارث، وزلازل، وسيول عظيمة، أهلكت طوائف وأمماً، وليس لها مع ذلك في التاريخ أثر يذكر، بل إن زرا دشت _ وقد ظهر في دولة عظيمة وله أثر كبير علي الشعوب علي مدي التاريخ _ لا يعرف أين ولد وأين مات ودفن، بل يشك البعض في كونه شخصية حقيقية أو وهمية.

7 _ وبعد ما تقدم نقول: إنه لا يجب أن يعرف جميع الناس بانشقاق القمر، ولا أن يضبطه التاريخ بشكل دقيق. بل

اللازم هو معرفته من قبل من ظهرت هذه المعجزة عنده من أجل إقناعه.

8 _ إن إنكاره لمضامين الأحاديث التي أجمع عليها المسلمون سوي من استثناهم هذا البعض _ وهم فقط ثلاثة أشخاص: الحسن البصري، وعطاء، والبلخي _ إن إنكاره له _ استنادا إلي هذه الاستبعادات، الاستنسابية مع وجود هذه المعطيات التي قدمناها ليس له ما يبرره.

9 _ قول هذا البعض: (إن الأرصاد لم تسجل هذا الأمر ولا اشارت اليه..) لا يفيد شيئا،لأن هذا الأمر لا حاجة فيه إلي أرصاده،

لأن الأرصاد كانت موجودة عند غير العرب، وكانت من القلة بمكان.. وليس ثمة ما يشير إلي أن القائمين عليها كانوا في تلك الساعة في حالة رصد للسماء ولما يجري فيها.

10 _ إن من الواضح أن إنكار شق القمر سوف يقطع الطريق علي الخوض في أمر رد الشمس إلي علي عليه السلام الثابت هو الآخر بالرواية الصحيحة سندا عند السنة فضلاً عن الشيعة، فإن الاستنسابات والاستحسانات، التي أريد لها أن تنفي حادثة شق القمر تصلح لنفي حادثة رد الشمس لأمير المؤمنين أيضاً.. وربما نجد في كلام هذا البعض ما يشير بخصوصه إلي هذا الإنكار أيضاً. ولكننا لا نثير ذلك هنا، لأننا أخذنا علي عاتقنا الإقتصار في أقاويله علي ما هو مكتوب ومطبوع.

الكثير من الخيال في خصوصيات الرواية المتواترة.

في الروايات ما لا يستطيع الباحث تفسيره بطريقة معقولة فهو من الخيال.

الزمن لا يسمح بتغطية جميع الحوادث المذكورة في الإسراء والمعراج.

المسألة الإعجازية تبقي في دائرة القدرة البشرية المحدودة للنبي (ص).

قدرات النبي (ص) تخضع لعامل الزمان والمكان.

إذا كان الإسراء بالجسد فهو يخضع للقدرات البشرية.

إذا كان الإسراء بالجسد ففي الروايات خيال وإلا

فلا خيال.

ويقول البعض:

قصة الإسراء

وقد أجملت الآية الأولي من هذه السورة مسألة الإسراء ولم تفصل شيئاً من حوادثها.. ولكن الروايات المتواترة أفاضت في الحديث عن ذلك، ربما كان في الكثير مما ذكر في خصوصياتها الكثير من الخيال فيما نلاحظه من بعض القضايا التي قد لا يستطيع الباحث تفسيرها بطريقة معقولة. لا سيما فيما أفاض فيه المحدثون عن قصة المعراج، الذي يذكرون انه كان في ليلة الإسراء في الوقت الذي لا يسمح مثل هذا الزمن القصير في تغطية ذلك كله لأن المسألة إذا كانت تحمل الإعجاز في طبيعتها فإنها تبقي في دائرة القدرة المحدودة للنبي في خصوصيات بشريته التي تخضع لعامل الزمان والمكان في حركته الزمانية والمكانية، إذا كان الإسراء بالجسد كما هو المعروف فيما بينهم" [186] .

وقفة قصيرة

1 _ لا ندري كيف يحكم هذا البعض علي مضمون رواية متواترة أن في الكثير من خصوصياتها الكثير من الخيال؛ ثم يجعل ذلك ذريعة لردها خصوصاً قصة المعراج. فإن تواتر الرواية يعني قطعية صدورها عن المعصوم، فاذا كانت خصوصياتها متواترة ايضاً فإن تلك الخصوصيات تثبت ايضاً. بل إنها حتي لو لم تكن متواترة فإن ذلك لا يبرر له وصف تلك الخصوصيات بأنها خيال، كما سيأتي لأن ثبوتها بما هو حجة بخبر الواحد مثلا يكفي في لزوم التسليم بها والأخذ بمضمونها. فهل هذا الخيال هو خيال المعصوم؟!. أم هو خيالنا نحن في فهم وتقييم كلامه (ع)، وما بيَّنه لنا من حقائق!؟

2 _ إن عدم قدرة البعض علي تفسير أو استيعاب بعض القضايا لا يبرر له اعتبارها أموراً خيالية، بل عليه أن يترك المجال لمن يملك القدرة علي فهم هذه القضايا من خلال ما يعرفه من ضوابط

ومعايير إيمانية وعلمية قادرة علي وضع الأمور في نصابها الصحيح.

3 _ إن ما أفاض فيه المحدثون من تفاصيل في قضية المعراج، إنما هو من الأمور التوقيفية الممكنة التي يفترض أن يأخذوها من المعصوم المطلع علي هذه الأمور التي لا يدركونها بعقولهم، مادام انها ترتبط بعالم الغيب.

4 _ إن الظاهر هو أن هذا البعض لم يستطع تفسير ما يذكر من تفاصيل في قضية الإسراء، فضلا عن قضية المعراج فلجأ إلي الاستبعاد والانكار.

5 _ انه إذا كان الإنسان يري في منامه أحداثاً تفصيلية تحتاج إلي مساحة زمنية واسعة _ نعم يراها _ في زمن قصير للغاية. فلماذا لا تختصر القدرة الإلهية الزمان الحقيقي في نطاق تجسيد الحدث الزماني للأجسام التي تحتاج إلي الزمان والمكان. فإن سيطرة القدرة الإلهية علي الحركة في المادة الزمانية مما لا يصح إنكاره..؟

بل إننا نجد هذا الإنسان قد تغلب علي كثير من المصاعب، واختصر المسافات إلي درجة كبيرة ومذهلة، فكيف بخالق هذا الوجود كله، الذي جعل النار برداً وسلاماً علي إبراهيم (ع) ومكّن آصف بن برخيا وصي النبي سليمان عليه السلام الذي عنده علم من الكتاب أن يأتي بعرش بلقيس، وما إلي ذلك.

وليكن الشاهد الحي علي إمكانية الاسراء والمعراج، هو حدوث نظائر كثيرة له حين تتدخل القدرة الإلهية.

ومن ذلك طيّ الأرض للإمام علي عليه السلام، حينما جاء من المدينة في الحجاز إلي المدائن قرب بغداد في العراق، ليتولي تجهيز سلمان الفارسي ودفنه.. [187] .

وكذا طيّ الأرض للإمام الجواد عليه السلام حيث ذهب من المدينة في الحجاز إلي خرا سان ليتولي مراسم تجهيز ودفن أبيه الإمام الرضا عليه السلام.

وكذلك الحال بالنسبة للإمام السجاد حينما ذهب من

الكوفة إلي كربلاء لدفن الأجساد الطاهرة حيث عاونته قبيلة بني أسد علي ذلك.

وليكن من ذلك أيضا انتقال عرش بلقيس من اليمن إلي فلسطين، قبل ارتداد الطرف مع أن هذا العرش زماني ومكاني.

وليكن من ذلك أيضاً، قصة التقام الحوت ليونس، وبقائه في بطنه برهة من الزمان، (ولولا أن كان من المسبحين للبث في بطنه إلي يوم يبعثون).

6 _ إذا كانت القضية ترتبط بالإعجاز الإلهي فلماذا يجب أن تبقي في حدود القدرة البشرية المحدودة للنبي (ص)، فإن بقاءها كذلك يتنافي مع كونها معجزة الهية.

ومن الذي قال: إن بشرية النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) تحدد قدرته إلي درجة يمتنع معها حصول مثل هذه الأمور له (ص)، حتي لو كان الإسراء بالجسد؟!.

وهل يريد أن يقنعنا أن القول بصحة هذه التفاصيل يلازم القول بأن الإسراء كان بالروح،كما قالت عائشة وغيرها من بني أمية؟!!

وهل يريد أن يقنعنا بعدم قدرة البشر علي فعل الخوارق مع أن علياًً(ع) قال عن عيسي (ع) فيما يرتبط بمشيه علي الماء: لو ازداد يقينا لمشي في الهواء، فهل كان مشيه علي الماء بروحه أم بالروح والجسد؟!.

اهانات لا تحتمل لرسول الله

بداية

إننا نورد في هذا الفصل فقرات من مقولات سجلها البعض حول النبي (صلي الله عليه وآله) سيتضح للقارئ العزيز: أن كثيراً منها يمكن أن تدخل في عدد من الفصول الأخري أيضاً.. ولكننا لم نحاول الإشارة إلي ذلك في تلك الموارد لأننا نعلم: أن القارئ الكريم يدرك أن ما يقوله هذا البعض عن نبينا (ص) لا يمكن استثناء سائر الأنبياء منه، فإن ما يجوز علي أكرم الخلق وأفضلهم لابد أن يكون جائزا علي من عداه من أنبياء الله، الذين لم يدركوا مقامه، ولم يصلوا إلي

درجته.

كما أن القارئ الكريم قادر علي الربط بين الأمور، والإستفادة من المقولة الواحدة في المواقع المختلفة التي تناسبها.

وعليه فإننا نقدم للقارئ الكريم الأمور التالية:

لا تفعلوا مثل فعل النبي (ص).

لا تكن منطلقاتكم منطلقات النبي محمد (ص).

النبي (ص) لا يعرف المهم من الأهم.

النبي (ص) يقوم بتجربة غير ذات موضوع.

الله يربي رسوله تدريجيا بعد الوقوع في الخطأ.

النبي (ص) يحتاج إلي تكامل الوحي، وسعة الأفق، وعمق النظر للأمور.

النبي (ص) يستغرق فيما فيه مضيعة للوقت.

النبي يفوّت الفرص المهمة.

النبي (ص) يخطيء في التشخيص.

النبي (ص) لا يعرف مسؤوليته المباشرة.

ويقول البعض، إن آيات عبس وتولي قد نزلت في النبي محمد(ص)، وكلماته حول هذا الأمر كثيرة، ونحن نختار منها ما يلي:

يقول البعض:

"لكن الله أراد أن يبين طبيعة المسألة، وأن يخاطب الآخرين: إذا ابتليتم بمثل هذه القضية طبعا لا تكن منطلقاتكم منطلقات النبي (ص)، فلا تفعلوا مثل ذلك" [188] .

يقول هذا مع أن الله سبحانه يقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) [189] ، ويقول:

"..(أما من استغني، فأنت له تصدّي، وما عليك ألاّ يزّكي)، للإيحاء له بأن عدم حصوله علي التزكية، بعد إقامة الحجة عليه من قبلك مدة طويلة، لا يمثل مشكلة بالنسبة إليك، لأنك لم تقصر في تقديم الفرص الفكرية بما قدّمته من أساليب الإقناع، مما جعل من التجربة الجديدة تجربة غير ذات موضوع لأنه _ يعني ذلك الغني _ يرفض الهداية من خلال ما يظهر من سلوكه، الأمر الذي يجعل من الإستغراق في ذلك مضيعة للوقت، وتفويتا لفرصة مهمة أخري، وهي تنمية معرفة هذا المؤمن الداعية الذي يمكن أن يتحول إلي عنصر مؤثر في

الدعوة الإسلامية" [190] .

وذكر في موضع آخر كيف أن النبي قد أخطأ في تشخيص ما ينبغي عليه، فهو يقول:

"(فأنت عنه تلهّي) لأنك تحسب أن إيمان هؤلاء الصناديد قد ينفع الإسلام أكثر من نمو إيمان هذا الأع_مي الذي يمكن أن يؤجل السؤال لوقت آخر، ولكن المسألة ليست كذلك.. لأن هذا الأعمي وأمثاله، يمثلون مسؤوليتك المباشرة كرسول يعمل علي تنمية خ_ط الدعوة بتنمية الدعاة حوله، من أجل أن يؤثروا عليك في بعض الجهد، أو يوسعوا ساحة الدعوة في مواقع جديدة.

وهذا هو ما يريد الله أن يفتح قلبك عليه فيما يريد لك من تكامل الوعي، وسعة الأفق، وعمق النظرة للأمور. ولا مانع من أن يربي الله رسوله تدريجيا، ويثبت قلبه بطريقة متحركة الخ.." [191] .

ويقول عن ابن أم مكتوم:

"فأراد أن ينتهز فرصة وجود النبي مع المسلمين أن يأخذ من علمه فيما أنزله الله عليه من كتاب، وما ألهمه من علم الشريعة والمنهج والحياة.. ولكن النبي لم يستجب له لأن هناك حالة مهمة يعالجها في دوره الرسالي المسؤول في محاولة لتزكية هؤلاء الكفار من وجهاء المشركين، طمعا في أن يسلموا ليتسع الإسلام في اتباع جماعتهم لهم، لأنهم يقفون كحاجز بين الناس وبين الدعوة، ولذلك أجّل النبي (ص) الحديث مع هذا الأعمي إلي وقت آخر، فيما كانت الفرص الكثيرة تتسع للقاء به أكثر من مرة فتكون له الحرية في إغناء معلوماته بما يجب في جوّ هادئ ملائم، بينما لا تحصل فرصة اللقاء بهؤلاء دائما، فكانت المسألة دائرة، _ في وعيه الرسالي _ بين المهم، في دور هذا الأعمي، وبين الأهم، في دور هؤلاء الصناديد.

ولكن الله يوجه المسألة إلي ما هو الأعمق في قضية الأهمية

في مصلحة الرسالة، باعتبار أن هذا الأعمي قد يتحول إلي داعية إسلامي كبير، (وما يدريك لعله يزكي) فيما يمكن أن يستلهمه من آيات القرآن التي يسمعها، مما يُغني له روحه، فتصفو أفكاره، وترقّ مشاعره، وتتسع آفاقه" [192] .

وقفة قصيرة

ونقول:

إن آيات سورة عبس هي التالية: (عبس وتولّي. أن جاءه الأعمي. وما يدريك لعله يزّكي. أو يذّكّر فتنفعه الذّكري. أمّا من استغني. فأنت ل_ه تص_دّي. وما عليك ألاّ يزّكّي. وأمّا من جاءك يسعي. وهو يخشي. فأنت عنه ت_لهّي) [193] .

ونحن نشير هنا إلي ما يلي:

1 _ إن الذي يلاحظ الآيات الشريفة لا يجد فيها أي شيء يدل علي أن المقصود بها هو شخص رسول الله (ص) بل فيها ما يدل علي أنها لا تليق به (ص)، فلماذا الإصرار علي ذلك؟ من قبل البعض، وبشكل لا يقول به حتي من يدّعي نزولها في النبي(ص) من العامة.

2 _ إنّ قوله تعالي: (وما يدريك) ليس خطابا لرسول الله، وإنما هو التفات من الغيبة إلي الخطاب، مع العابس نفسه.

3 _ إنّ قوله تعالي: (فأنت له تصدّي) لا يدل علي أنّه كان يتصدي له لأجل الدين، فلعله كان يتصدّي للأغنياء لأهداف دنيوية، ولعل ذلك العابس يتظاهر بأنّه مهتمّ بنشر هذا الدين، وقد جاء مع أولئك الأغنياء مظهرا حرصه علي إيمانهم، فكان يتلهّي بالحديث معهم، مظهرا الضّيق والإشمئزاز من ذلك الفقير.

4 _ وقوله تعالي: وما يدريك لعله يزّكي ليس فيه أن الغني سوف يزّكي علي يد ذلك العابس، فلعله يتزكي علي يد شخص آخر غيره، ممن هم في ذلك المجلس، كالنبي(ص)..

5 _ إن الآيات تشعر _ إن لم نقل تدل _ أنّه قد كان من عادة

العابس أن يتصدّي للأغنياء ويتلهّي عن الفقراء، ولم يكن ذلك من عادة النبي(ص).

6 _ قد روي عن أهل البيت (ع) أن الآيات قد نزلت في رجل من بني أمية، وبعض الروايات قد صرحت باسمه [194] ، وروي الطبرسي أيضا عن الإمام الصادق عليه السلام: أن رسول الله كان إذا رأي ابن أم مكتوم قال: مرحبا مرحبا، لا والله، لا يعاتبني الله فيك أبدا، وكان يصنع به من اللطف، حتي كان يكفّ عن النبي (ص) مما يفعل به. والظاهر أنه (ص) كان يريد بهذا الفعل التعريض بمن صدر منه ذلك في حق ابن أم مكتوم.. كأنه يقول له: والله أنا لا أعاملك كما عاملك فلان..

هذا بالإضافة إلي أن دعوي نزول الآيات في النبي (ص) إنما وردت في روايات غير الشيعة.

واغترار البعض بها، وقبوله لها وترك ما روي عن أهل البيت (عليهم السلام)، لا يعلم له وجه صحيح، علما أن بعض مفسري العامة، ومنهم الفخر الرازي في رسالته في عصمة الأنبياء قد طرح هذه الروايات، وعلل ذلك بأنها أخبار آحاد ومخالفتها للقواعد العقلية.

7 _ إن الإعتذار عن نزول الآية في النبي(ص): بأن ابن أم مكتوم كان أعمي، وليس في العبوس إساءة له، لأنه لا يري، إعتذار غير سديد، لأن الله سبحانه قد طالب العابس بهذا الأمر، واعتبره أمرا يستحق اللوم والعتاب..

وإذا كان ابن أم مكتوم لا يري العبوس، فان الحاضرين قد رأوه وأدركوه، واستقر في أنفسهم أن العابس غير مرتاح من ذلك الأعمي.

8 _ إن الإعتذار عن ذلك بوجود وحدة حال بين الأعمي وبين النبي(ص) هو الآخر اعتذار غير سديد، إذ لا يوجد ما يثبت وجود وحدة الحال هذه، وقصة دخوله

علي بعض زوجات النبي(ص) لا تدل علي وجود وحدة حال.. وذلك لعدة أمور:

أولاً: عدم وجود ما يشهد لتكرر ذلك، فالرواية لا تذكر أزيد من أنه جاء واستأذن، فقال النبي (ص) لزوجتيه قوما وادخلا البيت، فاحتجتا بأنه أعمي، فقال لهما أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ [195] .

ثانياً: إن وقوع مثل هذه الأمور لا يدل علي وحدة الحال، فقد كان الكثيرون من الصحابة يدخلون علي النبي (ص)، في حين تكون زوجاته عنده، لا سيّما مع عدم تعدد الحجرات التي كانت تسكنها النساء مما قد بني حول المسجد.

ثالثاً: إذا كانت هذه الحادثة قد حدثت في مكة وفي أوائل البعثة، فمن أين يثبت لنا وجود وحدة الحال هذه، في تلك الفترة بالذات، فيما بين ابن ام مكتوم وبين النبي(ص)..

رابعاً: إن وجود وحدة الحال المزعومة، لا يبرر تضييع حق ذلك الأعمي، ففي الخبر: لا تضيعن حق أخيك اتكالا علي ما بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه [196] .

خامساً: إن نفس صدور ذلك من النبي (ص) أمام المشركين يعطي انطباعا سيئا عن أخلاق الإسلام، ومنطلقاته في التعامل مع الآخرين.

سادساً: إنه لا معني للنهي عن أن يفعل الناس مثل فعل النبي(ص)، وقد قال تعالي: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).

سابعاً: كيف يمكن أن يقول أحد عن أفضل الرسل: إنه لا يعرف الأهم من المهم، وإنه يستغرق فيما هو مضيعة للوقت، ويفوت الفرص، ويفرط في تنمية المعرفة الإيمانية لدي المؤمنين، وإنه يجهل بحقيقة مسؤولياته، ويخطيء في تشخيص تكليفه، وأي نبي هذا الذي أرسله الله وفيه كل هذه العلل؟!..

الخطأ غير المقصود للنبي (ص).

ويتحدث ذلك البعض عن الخطأ غير المقصود لنبينا محمد(ص)،

فيورد احتمالا يقول:

"(عفا الله عنك) [197] وهذا أسلوب في العتاب لا يعنف في المواجهة، بل يرق ليخفف من وقع الخطأ، انطلاقا من عدم الإطلاع علي مواقفهم الحقيقية، مما يؤدي إلي تصديقهم فيما يقولون" [198] .

وقفة قصيرة

إن من المعلوم: أنه ليس ثمة من خطأ علي الإطلاق، وأن النبي (ص) كان مطلعا علي حالهم، ولا يصح احتمال الخطأ، وغيره مما ذكره في حق النبي (ص)، بل المتعين أن يقال: إن النبي (ص) كان عالما بحقيقة نواياهم، ولكنه كان يظهر تصديقهم لأن عليه أن يعاملهم وفق الأمارات الظاهرية، لا وفق علمه الخاص بحالهم، كما أشارت إليه الآيات، فإذا كان يعرف ذلك، ثم يعاملهم بمنتهي الإحسان والرفق، فانه يكون غاية في الخلق النبوي الكريم..

وقوله: (عفا الله عنك) تعبير يستعمل عادة في مقام إظهار استحقاق الطرف الذي يجري الحديث عنه إلي العقوبة، ولكن استعمال هذا التعبير لا يعني أن العفو عنه كان خطأ، فهو كقولك: سامحك الله لم عفوت عن فلان، فان العفو عنه حسن، لكن المطلوب هو إبراز استحقاقه للعقوبة، وهنا قد جاء التعبير الإلهي عنهم بذلك من أجل فضحهم، واظهار نواياهم، بل إننا إذا رجعنا إلي ما هو المتعارف عند الناس في مجال التعامل، فإننا نجدهم لا يتسامحون مع هذا النوع من الناس، بل يعاملونهم بصرامة وحزم، حين يدركون خبث باطنهم وسوء نواياهم، ومكرهم، واحتيالهم، ويرون أن معاملتهم بهذا المستوي من الصفح واللين خطيئة وذنب، فيكون قوله: (عفا الله عنك) أيضا مشيرا إلي ما بلغته معاملة رسول الله (ص) لهم من نبل وكرامة وصفاء، مع وجود هذا الحجم الهائل من خبثهم، ومن إجرامهم الكبير، ولا ينبغي إغفال حقيقة كون نسبة الخطأ إلي النبي (ص) منافية لعصمته

في مذهب الشيعة الإمامية، لأنهم قائلون بعصمة الأنبياء(ع) عن الخطأ والخطيئة والسهو والنسيان قبل البعثة وبعدها في التبليغ والإعتقاد والأفعال والأحكام.

الزهراء (ع) عوضت النبي (ص) ما فقده من حنان.

جوع النبي (ص) وهو في القمة إلي الحنان.

إن البعض يقول:

".. وإذا كانت كلمة "أم أبيها" تعني الإحساس القوي باستعادة عاطفة الأم التي فقدها في طفولت_ه فعاش فراغها في مشاعره من خلال ابنته فاطمة.. إلي أن يقول: إن النبي استعاد أمه في ابنته، ومعني ذلك، أن_ه عاش الإمتلاء الروحي العاطفي الشعوري الذي يحتاجه في بشريته حتي وهو في قمة الفعلية لأن ال_رسول بشر، يتألم ويفرح، ويحزن ويتعب، ويتحسس كل الأجواء التي تثبت موقفه وتثبت موقعه، وتطلق آفاقه.." [199] .

ونجده يقول أيضا:

"بدأ النبي حياته وهو يشكو فقد حنان الأم، لأن حنان الأم ليس شيئا يمكن أن تتكفله مرضعة أو مربية، إنه شيء من عمق الروح، من عمق القلب، لأن الولد جزء من الأم، ولذلك فإن إحساسه كإحساس الإنسان بنفسه، ليس شيئا خارجا عن حياته، ولكنه شيء داخل في حياته وكانت هي جزءا من الرسول، والجزء يتفاعل مع الأجزاء الأخري، ولذلك أعطته أمومتها باحتضانها له، وقالها رسول الله وهو يشعر أن ذاك الفراغ الذي فقده بفقدان أمه استطاع أن يملأَه من خلال ابنته، فابنته هي أمه بالروح وابنته بالجسد، ولذلك قال عنها إنها (أم أبيها)، كم تحمل هذه الكلمة من دلالات.. ألخ" [200] .

ويقول في نص آخر:

"إن كلمة النبي (ص) عن الزهراء (ع) إنها (أم أبيها) توحي لنا: أن النبي (ص) عاش مع ابنته الزهراء (ع) حنان الأم وعطفها، بحيث عوضته عما فقده من حنان أمه وعاطفتها، حتي إنه (ص)، وهو يتمثلها

كيف ترعاه، وتحنو عليه، وتبكي إذا مسّه سوء، كان يحس كما لو أن أمه كانت تفعل ذلك، وتعيش معه، وليس هذا عقدة نقص في شخصيته (ص) وهو (ص) لم يشكُ عقدة نقص علي الإطلاق".

إلي أن قال:

"فالنبي (ص) يمثل الكمال كله. وعلي هذا، فإن إحساس البشر بالجوع لا يعني نقصا فيه، وليس هناك فرق بين الجوع إلي الطعام، وبين الجوع إلي الحنان. فنحن نعيش الجوع إلي الحنان كما نعيش الجوع إلي الطعام. فهل هناك نقص في النبي (ص) عندما يحس بالجوع، إن كان جوعا للحنان، أو للطعام؟.. الخ" [201] .

ونقول:

إنه ليس في كلام النبي (ص)، ما يشير إلي وجود هذا الجوع إلي الحنان في داخل نفسه كما ينسبه إليه هذا البعض. وإذا صح قياس الجوع إلي الحنان علي الجوع للطعام، صح أيضا قياسه علي الجوع الجنسي أيضا. فهل يصح أن يقال: إن عزوبة النبي التي استمرت سنوات، قد أوجدت عنده جوعا جنسيا يحتاج إلي تعويض؟ ثم يفسّر تعدد زوجاته (ص) علي هذا الأساس؟! وهل إن النبي (ص) قد بقي جائعا إلي الحنان ما يقرب من خمسين سنة، حتي أصبح جوعا (مزمنا) يكتوي (ص) بناره، وفراغا مستمرا، لا يجد ما يدفع غائلته، أو يدفع عنه؟

إننا نقول:

إنه لا يصح قياس الجوع إلي الحنان علي الجوع إلي الطعام. فلو افترضنا أن النبي (ص) قد احتاج في طفولته إلي العطف، فذلك لا يعني أن تستمر حاجته إليه إلي ما بعد خمسين سنة، ولا أن يكون لديه فراغ عاطفي يحتاج إلي ملء وتعويض، وذلك لأن بعض الأمور تفقد مبرراتها ومواقعها ومقتضياتها، ولا يبقي لها مجال، فتزول وتتلاشي.فمن حرم في طفولته من الرضاعة فإنه لا

يعوض عنها برضاعه بعد خمسين سنة بحيث يحتاج إلي أم يلتقم ثديها، ويرتضع من لبنها.

ولا ندري لماذا يقيس هذا البعض الحاجة إلي الحنان في الطفولة علي ال_حاجة للأكل والشرب، ولا يقيسها علي الحاجة إلي الرضاعة، فإنها بها أنسب وإليها أقرب. فإن الكلام هو عن حاجات الطفولة، وليس الكلام عن وسائل بقاء الحياة واستمرارها. وهل إذا كان الطفل يحتاج في حال طفولته إلي ثوب يلبسه ولم يحصل له ذلك، فهل يبقي بعد خمسين سنة بحاجة إلي لبس نفس الثوب؟. واستبعاد كلمة عقدة نقص لا يدفع الإشكال ولا يحل العقدة.

فإن القول بوجود فراغ نفسي في الشخصية الإنسانية للنبي (ص)، أمر مرف_وض.. تمام_ا كرفضنا لمقولة معانات_ه (ص) من عق_دة نقص.. ونحن نعتقد: أنه (ص) هو الإنسان الكامل في عقله، وفي مشاعره، وفي تكوينه النفسي والعاطفي.

ونعتقد: أنه (ص) حتي حين تعطف ابنته عليه، فإنها إنما تقوم بمسؤولياتها وتؤدي واجباتها، وتعبر عن رفيع أدبها تجاهه (ص). والزهراء هي الأسوة والقدوة في ذلك كله..

ويمكن تقريب هذا المعني إذا لاحظنا حال أي إنسان يكرم والديه أو يحترم معلمه، أو يعبد الله تعالي فإنه إذا فعل ذلك وقبل يد والده أو معلمه، أو صلّي لربّه لا يكون قد ملأَ فراغا في نفس والده أو لدي ذلك العالم، كما أن الله ليس بحاجة إلي صلاته، ولا هي تملأ له فراغا، أو تحل له عقدةً تعالي الله وأنبياؤه عن ذلك علوّا كبيرا.

وأما معني قوله (ص) في حقّها سلام الله عليها أنها أمّ أبيها فلا يعني أن أباها كان بحاجة إلي عاطفتها، بل معناه أنها علي صِغَرِ سنّها قد ظهر منها من العطف والحنوّ والتفاعل الروحي والعاطفي معه (ص) كما لو

كانت أمّا تتفاعل مع ولدها، دون أن يكون النبي (ص) بحاجة إلي ذلك، ولا كان يعاني من فراغ ملأته عليه. فلماذا هذا الإصرار علي أن ينسب للنبي(ص) فراغا في تكوينه النفسي وفي شخصيته النبوية؟!!.

قد يكون ما ألقاه الشيطان في أمنية الرسول انفتاحاً في الإنجذاب العاطفي إليهم.

ما ألقاه الشيطان يؤدي إلي اهتزاز الموقف في حركة الرسالة.

ما ألقاه الشيطان يؤثر علي صلابة الفكرة في حركة المواجهة.

ما ألقاه الشيطان يؤدي إلي إض_عاف المؤمنين.

ما ألقاه الشيطان يوجب اهتزاز إيمان المؤمنين.

أسلوب النبي (ص) (وهو ما ألقاه الشيطان) قد يوحي بغير ما يريده.

ألقي الشيطان للنبي (ص) أن يحاول احتواء الساحة بالموقف المهادن.

ألقي الشيطان إليه (ص) أن يجامل عقيدتهم دون اعتراف بها.

القاءات الشيطان هي خطورات ذهنية تبرز في مظاهر السلوك.

النبي يخطئ في تشخيص تكليفه الشرعي.

يزيل القاءات الشيطان، حتي لا يبقي أثر سلبي علي حركة الرسالة في الفكرة والأسلوب.

المجتمع المؤمن يتأثر سلباً بإلقاءات الشيطان.

المجتمع المشرك يتأثر إيجابا بإلقاءات الشيطان.

القاء الشيطان يدخل في فكر النبي وقلبه.

الآتي من الشيطان داخل في عمق الأمنية في داخل الذات.

القاءات الشيطان تطوف بذهن النبي وتتحرك بسرعة في مظاهر سلوكه.

هذه الأفكار كانت تخطر في أذهان الانبياء والرسل السابقين ايض_اً.

قال الله تعالي:

(وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمني ألقي الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم، ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض) [202] .

ويقول البعض في شرح هذه الآية:

".. وقد فسر المفسرون المعترضون علي هذه الرواية، الآية بطريقة أخري. فقد جاء في الميزان أن معني

الآية " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمني" وقدّر بعض ما يتمناه من توافق الأسباب علي تقدم دينه وإقبال الناس عليه وإيمانهم به ألقي الشيطان في أمنيته وداخل فيها بوسوسة الناس وتهييج الظالمين وإغراء المفسدين فأفسد الأمر علي ذلك الرسول أو النبي وأبطل سعيه فينسخ الله ويزيل ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته بإنجاح سعي الرسول أو النبي وإظهار الحق والله عليم حكيم..

وقد نلاحظ علي هذا التفسير، أنه حاول أن ينظر إلي مسألة إلقاء الشيطان في الأمنية النبوية في الواقع الخارجي لحركة الأمنية في ساحة الصراع بين خط الله وبين خط الشيطان.. مما يجعل الآية جارية علي أساس الأجواء التي تتحدث عن إغراء الشيطان للآخرين في إبطال الأمنية في خط الواقع ولم يحاول أن ينظر إليها من الداخل، فيما تختزنه كلمة "فيلقي الشيطان في أمنيته " من معني إدخال شيء فيها بحيث تكون ظرفاً له وموقعاً من مواقعه، لا حركة خارجية من الآخرين في مواجهتها، ليكون النسخ _ من خلال ذلك _ نسخا في حركة الواقع، لا نسخاً في طبيعة خصوصيات الأمنية.

إن هذا المعني الذي ذكره صحيح في الإعتبار، ولكنه لا ينسجم مع ظهور الآية في كلماتها، كما نفهمه.. لأنها ظاهرة في وجود شيء ما من الشيطان في طبيعة الأمنية.. وقد لا يكون من الضروري ظاهراً أن يكون هذا الشيء فعليا فيما يصدر عنه من قول أو فعلٍ.. أو يكون منافيا للمبادئ التي يبشّر بها، فقد يكون انفتاحاً في الإقبال عليهم والإستماع لهم والإنجذاب العاطفي إليهم والإيحاء لهم بالتفكير فيما يقولونه مما قد يطمعهم فيه، أو يوحي إليهم بأن موقفه قد أصبح أكثر مرونة.. فيؤدي ذلك إلي

اهتزاز الموقف في حركة الرسالة، من حيث تأثيره علي صلابة الفكرة في خط المواجهة وتبيان الموقع في ساحة الصراع.. وإضعافه للمؤمنين الذين قد تكون المرونة في الموقف في علاقة النبي بالمشركين، موجباً لتخفيف حالة التوتر النفسي لديهم، فيهتز إيمانهم من خلال ذلك.

قد تكون المسألة متحركة في خط الإيحاء في الأسلوب الذي قد يوحي بغير ما يريده.. مما يدخل في محاولة احتواء الساحة، بالموقف المهادن لهم، والمجامل لعقيدتهم، من دون إعطاء أي اعتراف بها أو أي انجذاب إليها، وذلك من باب السكوت عنهم، والاكتفاء بالإعلان عن وحدانية الله من الناحية الإيجابية التي ترتبط بعبادته، لا من الناحية السلبية التي ترتبط برفض عبادة غيره، ليكون ذلك بمثابة الهدنة التي تخف فيها حدة الصراع، من أجل إيجاد الجو الملائم لإدارة الحوار معهم في جو هادئ..

قد تكون هذه الأفكار وأمثالها هي التي كانت تخطر في ذهن النبي محمد (ص) في بعض الحالات الصعبة كما كانت تخطر في أذهان الأنبياء والرسل من قبله، عندما تشتد التحديات أمام الدعوة، ويتعرض المؤمنون للزلزال النفسي من خلال الضغوط التي تضغط عليهم بكل قسوة.

ولكن هذه الإيحاءات لا تترك أثرها في الواقع، ولا تملك موقعا مستقراً في عمق الذات، بل هي خطورات ذهنية تطوف بالذهن، وتتحرك _ بسرعة _ في مظاهر السلوك، فيتأثر بها المجتمع المؤمن بطريقة سلبية، وينجذب إليها المجتمع الكافر، بطريقة إيجابية.. ولكنها سرعان ما تزول أمام الحاجة إلي الموقف الحاسم الذي يفصل بين الإيمان والشرك بفاصل واضح، لا مجال فيها لأية مهادنة، أو لأي لقاء لأن المسألة تتصل بالأسس لا بالتفاصيل.. ولعل هذا هو المعني الإيحائي الذي نستوحيه ف_ي ق_ول_ه تعالي: (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري

علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلا ولولا ان ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً).

إن هذه الآيات وأمثالها قد توحي بأن هناك شيئا ما يخطر بالبال، ولكنه لا يثبت في النفس بل يطفو علي سطح بعض الممارسات، ثم ينتهي بشكل حاسم.. من دون أن يسيء إلي فكرة العصمة في الذات، أو العصمة في التبليغ، لأن تأثر الإنسان بما حوله في مسائل الخطورات الذهنية السريعة الطارئة، تماماً، كما هو تأثره بما حوله من الروائح الطيبة أو النتنة، أو بما تثيره الأطعمة اللذيذة القريبة منه، من افرازات جسدية في حالة الجوع، أو الاشتهاء.. فان العصمة، لا تلغي العنصر الإنساني الذاتي في شخصيته، بل تلغي الحركة المنحرفة في خط العقيدة التي يعتقدها، والفكرة التي يتبناها، والكلمة التي يقولها، والحركة التي يتحرك فيها..

ربما يكون هذا الذي عرضناه تفسيرا للآيات، فيما نستوحيه من معناها، لأنه يتناسب مع طبيعة الأسلوب والكلمات الذي يؤكد أن الشيء الآتي من الشيطان يدخل في عمق الأمنية في داخل الذات، لا أنه يتحرك في دائرة الآخرين الذين يعيشون أجواء الرسالة بحيث يكون الإلقاء حركة في خط الأمنية في خط الآخرين، كما أنه لا يتنافي مع الشخصية النبوية الرسالية في التزامها بالتوحيد وإصرارها عليه، وابتعادها عن كل الإيحاءات والكلمات التي تتنافي معه، حتي بنحو الغفلة والسهو.. والله العالم بحقائق آياته.

(فينسخ الله ما يلقي الشيطان) ويزيله من فكر النبي أو الرسول وقلبه، حتي لا يبقي منه أي أثر سلبي علي حركة الرسالة في الفكرة والأسلوب، لأن الله يتعهد رسله بالرعاية في مشاعرهم وأفكارهم، كما يتعهدهم في حياتهم وحركتهم في خط الرسالة، وذلك من خلال

رعايته لرسالته من خلالهم (ثم يحكم الله آياته) ويثبتها فلا يدع أي مجال للريب فيها، من أية جهة كانت، وذلك من خلال ألطافه التي يغدقها علي رسوله، فيمنع _ بذلك أي تحريف للكلمة، وأي زيادة فيها، لأن ذلك هو السبيل لإحكام الآيات علي أساس الثقة الشاملة بموافقتها للوحي الإلهي".

إلي أن يقول:

"(ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض) من الكفر أو النفاق (والقاسية قلوبهم) الذين تحجرت قلوبهم بالجهل والتخلف حتي لم تعد تنفتح علي شيء من الفكر الحق، وتجمدت مشاعرها بالغلظة والقسوة، حتي لم تعد تنبض بالرحمة والخير. وذلك من خلال هذه الأجواء التي تثيرها الأساليب المتنوعة في الطبيعة الإيحائية لحركة النبي في الساحة.. حيث تأخذهم العزة بالإثم من جهة، باعتبار ذلك مظهر قوة لهم فيما يمثله من التنازلات الإيحائية لحسابهم، أو تحركهم في طريق الفتنة" [203] .

وقفة قصيرة

ونقول:

إن لنا هنا وقفات عديدة نكتفي ببعض منها، روماً للاختصار، كماً وكيفاً، فنقول:

1ً _ إن هذا البعض يصر علي أن إلقاء الشيطان قد كان علي شكل خطورات ذهنية تبرز في مظاهر سلوك النبي (ص) [204] .

وأن الشيطان قد ألقي في فكر النبي (ص) وفي قلبه، مع أن الله سبحانه يقول:

(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبّعك من الغاوين) [205] .

ويقول:

(قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) [206] .

وقال تعالي:

(انه ليس له سلطان علي الذين آمنوا وعلي ربهم يتوكلون) [207] .

وقد يقال: إن الخطور بالبال ليس من الغواية، فلا تشمله الآية الشريفة، غير أننا نقول: إن هذا البعض لا يقتصر علي مجرد الخطور بل هو يقول: إنه ينعكس علي الممارسة ويظهر في سلوك

النبي (ص) أيضا.

2ً _ إن هذا البعض يقول:

"إن ما ألقاه الشيطان في فكر النبي وقلبه قد انعكس علي ممارساته، وتحول إلي سلوك وتجسد انجذابا إليهم، واستماعاً لهم، وقد أدي ذلك إلي إضعاف المؤمنين في ساحة الصراع، وتقوية الكافرين، وإلي اهتزاز الموقف في حركة الرسالة. كما انه قد تمثل بالموقف المجامل لعقيدتهم والمهادن لهم ".

ويقول هذا البعض أيضا:

"إن ذلك يحصل لجميع الأنبياء في المواقف الصعبة التي يواجهونها".

ولا ندري كيف نوفق بين أقواله هذه وبين قوله الذي أورده تتمة له:

"من دون أن يسيء إلي فكرة العصمة في الذات أو العصمة في التبليغ"

إلي أن قال:

"فإن العصمة لا تلغي العنصر الإنساني الذاتي في شخصيته، بل تلغي الحركة المنحرفة في خط العقيدة التي يعتقدها، والفكرة التي يتبناها والكلمة التي يقولها، والحركة التي يتحرك فيها".

فهل يتوافق هذا مع قوله:

"إن الذي ألقاه الشيطان قد انعكس علي بعض ممارسات النبي (ص) وتجسد استماعا وانجذابا عاطفيا إليهم، وإقبالا عليهم، وموقفا مهادناً لهم، ومجاملا لعقيدتهم، وأدي إلي تقوية الكافرين وإلي اهتزاز الموقف في حركة الرسالة، وإلي إضعاف المؤمنين. وإن الشيطان قد ألقي ما ألقاه في فكر النبي وفي قلبه؟!".

وأين هي العصمة في الحركة التي يتحرك فيها هذا النبي، وفي الأسلوب الذي ينتهجه ويمارسه، لا سيما وأنه يلتزم أحياناًً كثيرة بما يسميه بالعصمة التكوينية، فأين العصمة مع كل هذا، وأين تكوينيتها التي الزم نفسه بها!؟.

وأي خلل أعظم من هذا الخلل الذي حصل بسبب ما ألقاه الشيطان؟! وبسبب ممارسات النبي التي نشأت عن ذلك؟!

3ً _ ألا يعتبر كل هذا الذي حدث بسبب ما يطفو علي سطح بعض ممارسات النبي (ص) مما نشأ عن إلقاء

الشيطان، ألا يعتبر ذلك كله ناشئاً عن جهل النبي _ والعياذ بالله _ تكليفه الشرعي، وخطأه في تشخيص الوظيفة في مقام التبليغ؟!.

وإذا كان ذلك قد أوجب كل تلك السلبيات التي ذكرها هذا البعض، حسبما ذكرناه آنفاً، فإن المصيبة تصبح بالنسبة لحفظ الدين ونشره أعظم وأخطر، وأدهي وأكبر. حيث لا يبقي وثوق بالنبي (ص) حتي من ناحية تبليغ الرسالة و حفظ رسوم الشريعة.

لا سيما إذا كان ذلك سيحصل لجميع الأنبياء، ولا يتعلم لاحقهم من سابقهم، وآخرهم من أولهم!.

4ً _ بقي أن نشير إلي أن المراد من الآية الشريفة هو: أن كل نبي من الأنبياء يحب ويرغب (لأن التمني هو الرغبة في الأمر المحبوب) ما يتناسب مع وظيفته كرسول. وأعظم ما يتمناه هو ظهور الحق والهدي، وطمس الباطل، ورد كيد الأعداء.

فيلقي الشيطان في أمنيته (ولم يقل: في فكره ولا في قلبه) وأمنيته هي ظهور الحق. يلقي فيها ما يفسدها ويوجب عدم ظهورها.

فالأمنية هي: الشيء الذي يتمناه الإنسان ويرغب فيه، كما تقول: أمنيتي شفاء ولدي، أو نجاحه في الإمتحان، ثم يحصل ما لم يكن بالحسبان مما يمنع من شفائه أو من نجاحه، كخطأ الطبيب في الدواء، وغيبة معلمه، فنقول: إن الشيء الفلاني ضيّع عليّ أمنيتي تلك وأفسدها، ولا يعني ذلك أن ذلك الشيء وهو خطأ الطبيب مثلا قد دخل في فكرك وقلبك، وأفسد التمني والرغبة.

بل هو قد افسد الأمنية والمتمني. فالرغبة باقية، ولا تزال قائمة، والمتمني لم يزل يحب شفاء ولده ونجاحه بالامتحان.

ولأجل ذلك فإن كل نبي يتمني أمراً وذلك الأمر هو أمنيته، فيلقي الشيطان في تلك الأمنية وفي ذلك الأمر بالذات (لا في نفس التمني والرغبة) ما يفسده ويضيعه، فيراه

الناس ويفتتن الذين في قلوبهم مرض بفعل الشيطان هذا. فتتدخل الإرادة الإلهية لتبطل كيد الشيطان، ويظهر نور الهدي، ويتجلي بطلان الباطل.

والقرينة علي أن المراد بالأمنية هو ظهور الحق وزهوق الباطل هو قوله تعالي بعد هذا (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) أي من شبهات وغوايات (ثم يحكم الله آياته) ويظهر نور الحق و الله عليم حكيم.

وبذلك أيضاً يعرف السبب في أن الله سبحانه قال: ألقي الشيطان في أمنيته ولم يقل في تمنَيه.

5ً _ إن هذا البعض قد رفض ما ذكره العلامة السيد الطباطبائي من أن إلقاء الشيطان في الأمنية النبوية إنما هو في الواقع الخارجي وان الآية تتحدث عن إغواء الشيطان للآخرين.

نعم لقد رفض هذا القول مدعياً أن هذا يخالف دلالة الآية علي وجود شيء ما من الشيطان، في طبيعة الأمنية أي في الداخل عليشكل خطورات في البال أو في الذهن.. الخ.. حيث قال تعالي: (ألقي الشيطان في أمنيته) ثم فسر قوله تعالي:

(فينسخ الله ما يلقي الشيطان) بالإزالة من فكر النبي وقلبه.

ولكنه هو نفسه قد عاد وادعي أن هذه الخطورات تنعكس علي السلوك والممارسة، وتنشأ عنها آثار سلبية في الواقع الخارجي، فيضعف المؤمنون ويقوي الكافرون بسبب ذلك. وذلك ليتمكن من تفسير قوله تعالي: (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض). لأن مجرد الخطورات الذهنية لا توجب الافتتان من أحد ما لم تظهر علي صعيد الواقع حركة وسلوكا وموقفا.

وبذلك يكون هذا البعض قد قرّر للآية معني يسيء إلي العصمة، حيث تستقر هذه الخطورات في النفس وتترجمها بالممارسة كما أنه قد خالف ظاهر الآية أيضا لأن الآية تقول إن نفس ما ألقاه الشيطان هو الذي يكون فتنة للذين في

قلوبهم مرض، فإذا كان هو هذه الخطورات الذهنية وحسب، فإنها لا يعرفها الناس ولا يرونها. فكيف يفتتنون بها!؟ فلا بد من التأويل في الآية لتنطبق علي الحركة والسلوك الخارجي للنبي (ص). بادعاء أنها هي الخطورات الذهنية بسبب تجسدها فيه.

والنتيجة هي: أن ما ألقاه الشيطان له معنيان:

احدهما: الخطور في البال والقلب في قوله تعالي (ألقي الشيطان في أمنيته) وفي قوله تعالي (فينسخ الله ما يلقي الشيطان).

الثاني: الحركة الخارجية والسلوك والممارسة: وذلك في قوله تعالي: (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض).

ثم هو يقصد بالأمنية معنيين:

أحدهما: الرغبة والتمنّي، وذلك في قوله تعالي: (في أمنيته). وقوله (فينسخ الله ما يلقي الشيطان).

الثاني: ما نشأ عن الرغبة من حركة وسلوك، ومن مشاكل وآثار في الواقع الخارجي. وهو الذي افتتن به الذين في قلوبهم مرض، في قوله تعالي: (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض).

والذي ذكرناه نحن في معني الآية، وكذلك الذي ذكره العلامة الطباطبائي لا يلزم عليه شيء من ذلك.حيث قلنا: إن المراد بالأمنية هو الشيء الذي يتمناه الإنسان، وليس المراد بها الرغبة والتمني.. وهذا هو الظاهر المتبادر.

أما ما ذكره ذلك البعض فهو مخالف لظاهر القرآن من اكثر من جهة ولا مجال للأخذ به وليس كلام صاحب الميزان.

6ً _ وقد أورد هذا البعض في سياق كلامه الآيات الكريمة التالية، مستشهدا ب_ه_ا ع_ل_ي م_ا ي_ذه_ب إل_ي_ه: (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره، وإذاً لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا. إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا تجد لك علينا نصيرا) [208] .

ونقول:

إن هذه الآيات لا تؤيد

ما ذهب إليه، لا من قريب ولا من بعيد، لأنها تقول: انه (ص) لم يركن إليهم، بل ولم يقترب من الركون، لأن الله سبحانه قد أعطاه من العزيمة والثبات ما جعله في منأي عن ذلك كله.

وذلك بقرينة كلمة (لولا) الدالة علي أنه لم يكد يركن، ولم يطف في ذهنه أيّ خيال، ولا خطر في باله من هذا الفعل حتي الإحتمال، فضلاً عن أن ينعكس ذلك علي سلوكه، وممارسته، ويتسبب بخلق مشاكل، وتنشأ عنه آثار، أو ما إلي ذلك.

فلا معني للإستشهاد بهذه الآية بأيّ وجه.

إمكانية أن تثير التحديات ض_عفاً في النبي.

قد يكون النبي يبحث دائماً عن الهروب.

قد يحطم هذا الضعف شخصية النبي.

قد يسيء هذا الضعف إلي موقع النبي.

إمكانية أن يتعقد النبي بسبب ضعف تثيره التحديات.

إمكانية أن يتحول النبي إلي مخلوق مختنق بأزمته.

يقول البعض:

"في تفسير قوله تعالي:(فلعلك تارك بعض ما يوحي اليك و ضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، إنما أنت نذير والله علي كل شيء وكيل)" [209] .

"وهنا يكمن سؤال: ماذا تعني هذه الآية في تقييم شخصية النبي محمد (ص) فهل كان يضعف أمام التحديات، لتجيء هذه الآية وأمثالها من أجل أن تقوّي ضعفه، أو تُسند له موقفه، أو تخفف عنه أحزانه، وتطيب به نفسه، وتزيل عنه آلامه؟ وهل جاءت في أجواء التأنيب الإلهي له، أو ماذا؟.

والجواب عنه: إن الآية ليست في مورد الحديث عن الحالة الواقعية الفعلية التي كانت تحيط بموقف النبي (صلي الله عليه وآله) أو تمثل شخصيته، بل كانت في مورد تقييم الطبيعة الموضوعية لما يمكن أن تثيره التحديات التعجيزية في الحالة الإنسانية من

ضعف يبحث دائماً عن الهروب، مما يمكن أن يحطم شخصيته أو يسيء إلي موقعه، أو يتعقد من ذلك، فيتحول إلي مخلوق مختنق بأزمته، وربما كان هذا السبب هو السر في الإتيان بكلمة (لعل) التي توحي بإمكانية الموضوع، لما تختزنه مثل هذه الأمور من نتائج علي مستوي الإنفعالات الإنسانية، في مواجهة عوامل الإثارة.

وبذلك يمكن أن تكون الآية عاملاً وقائياً يريد الله به حماية النبي (ص) من الوقوع في مثل هذه التجربة، أو الخضوع لهذا الإنفعال، أو تكون عملية إيحائية للعاملين _ من خلال النبي _ ألا يستسلموا لهذه الحالة، لو واجهوا مثلها، انطلاقا من فهمهم لطبيعة الدور الذي اوكله الله إليهم من الدعوة إلي سبيله بالوسائل الواقعية المألوفة و مما يجعلهم لا يعيشون الضعف في مواجهة هذه التحديات، لأنهم لا يعتبرونها تحدياً لدورهم أو لقدرتهم الطبيعية، بل كل ما هنالك، أنها التحدي لما يتوهمه أولئك من دور، دون ارتكاز إلي علم أو إيمان" [210] .

وقفة قصيرة

ونقول:

1 _ إن دلالات كلمات هذا البعض ترسم للقارئ طرفاً من الصورة التي تعيش في ذهنه لأنبياء الله _ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين _، وليس هذا المورد الذي نحن بصدد الحديث عنه إلا أحد المفردات الكثيرة التي تجسد هذا المعني، وتؤكده.

فقد استهل كلامه بالإشارة إلي أن الآية الشريفة: لا تتحدث عن حالة واقعية فعلية.. لكنه أكد علي أن الآية تتحدث عن إمكانية حدوث ذلك لنبينا الأعظم (صلي الله عليه وآله)، أي أنه يمكن أن يتعقد أو أن يختنق بأزمته، واعتبر أن هذا هو السبب في الإتيان بكلمة لعل، في قوله تعالي: (فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك).

ولكن من الواضح: أنه حتي احتمال حصول ذلك للأنبياء مرفوض

جملة وتفصيلاً.. فالنبي لا يتعقد، ولا يختنق بأزمته، ولا يضعف إلي درجة أن يبحث دائماً عن الهروب إلي آخر ما هنالك مما ذكره..

2 _ إنه قد ذكر أخيراً احتمال أن يكون ذلك عملاً إيحائياً للعاملين من خلال النبي (صلي الله عليه وآله)، الا يستسلموا لهذه الحالة فيما لو واجهوا مثلها.

ونقول له:

إنه إذا كان هذا الإحتمال كافياً في إعطاء الخطاب في الآية قيمته، وحيويته، فلماذا تثار احتمالات فيها انتقاص لمقام النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعلي آله الطاهرين؟!

3 _ بل إنه حتي لو لم يهتد هذا البعض إلي هذا المعني الذي تشير إليه الآية فإنه لا يحق له إبداء احتمالات لا يشك عاقل في أنها تتنافي مع حقيقة النبوة، ومع مقام النبي المعصوم.. بل عليه أن يعترف بالعجز عن فهم المراد من الآية، ويرجع علمها إلي أهله، وهم الراسخون في العلم من أهل بيت النبوة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

4 _ ولماذا لم يلتفت هذا البعض إلي ما ذكره العلامة الطباطبائي، من أن هذه الآية تريد أن توبخ الكفار علي استمرارهم في العناد، والتحدي.. وضرب مثلاً لذلك، بملك تمرد عليه بعض ضعفاء رعيته، فبعث إليهم عاملاً له برسالة يقرؤها عليهم تدعوهم إلي السمع والطاعة، وتلومهم علي تمردهم، واستكبارهم، فيردون علي رسوله ما بلغهم إياه، فيكتب إليهم رسالة ثانية، ويأمره بقراءتها عليهم، وإذا فيها:

(لعلك لم تقرأ كتابي عليهم خوفاً من أن يقترحوا عليك أموراً تعجيزية، او أنهم زعموا أن الكتاب ليس من قبلي، وإنما هو مفتري منك؟!. فإن كان الأول، فإنما أنت رسول ليس عليك إلا البلاغ. وإن كان الثاني، فإن الكتاب بخطّي، كتبته بيدي، وختمته بخاتمي)..

والآيات القرآنية التي

هي موضع البحث هي تماما في هذا السياق.. والآيات هي التالية:

(فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك، وضائق به صدرك أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز، أو جاء معه ملك، إنما أنت نذيرٌ، والله علي كل شيءٍ وكيل. أم يقولون افتراه؟ قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لكم، فاعلموا إنما أنزل بعلم الله، وأن لا إله إلا هو، فهل أنتم مسلمون) [211] .

لعل انفعال النبي لشخصه يتجاوز انفعاله لأجل الله.

التسلية للنبي لعلها لتخليصه من حالة ذاتية ترهقه.

قد يحزن النبي لمسألة شخصية ككون التكذيب موجهاً إليه كشخص.

قد يواجه النبي الموقف بالمشاعر الذاتية بدلاً من العقلية الواقعية.

قد يواجه النبي الموقف بالمشاعر الذاتية بدلاً من الذهنية المرنة.

تسلية النبي بالإيحاء إليه أن التكذيب موجه إلي الله لا إلي شخصه هو.

محاولة تأكيد الفكرة في ضمير النبي لكي يفرغ ذاته من الإنفعال.

النبي يواجه صدمات انفعالية صعبة _ شخصية _ تثقل حركته في الدعوة.

ردة الفعل لدي النبي يجب أن تبتعد عن الذات والذاتيات.

التكذيب لله وهو فوق الإنفعال لا للنبي الذي ليس كذلك.

النبي قد يري العمل مرتبطاً بذاته لا بمسؤوليته.

لو أن النبي اعتبر العمل مرتبطاً بمسؤوليته لا بذاته لعمل بموض_وعية، وهدوء.

النبي قد يفهم القضية أمراً شخصياً له.. ولا يفهمها مرتبطة بالنطاق العام للرسالة.

هناك حالة بشرية في النبي تحب التمرد.

هناك حالة بشرية في النبي تحب الهروب من المسؤولية.

مواجهة حالة التمرد والهروب بمنطق الواقع.

الواقع يفرض الهدوء النفسي، وحالة النبي البشرية ليست كذلك.

الواقع يفرض الإتزان العاطفي، والحالة البشرية في النبي خلاف ذلك.

الواقع يفرض الثبات العقلي،

والحالة البشرية في النبي ليست كذلك.

يقول البعض:

"هل كان الرسول يشعر بالحزن الروحي علي ما يواجهه به قومه من تكذيب؟ وهل كانت المسألة تمثل بالنسبة إليه حالة ذاتية ترهقه ليحتاج إلي التسلية التي تبعد الموضوع عن التحدي الذاتي، وتجعله بمنأي عن النتائج السلبية المؤثرة علي المشاعر الخاصة، وذلك بالإيحاء له بأن التكذيب ليس موجهاً إليه، بل موجه إلي الله من خلال ما يكذب به الظالمون من آيات الله؟

وهل إن مثل هذا الأسلوب يريح النبي محمداً (ص)؟ وإذا كان الأمر علي هذا الشكل، فهل يمكننا أن نفهم أن انفعاله الشخصي يتجاوز انفعاله لله؟ وأخيراً، هل ينسجم مع شخصية النبي في ما نعرفه عن إخلاصه لرسالته لربه؟

هذه هي علامات الاستفهام التي قد ترتسم أمام القارئ لهذه الآيات عندما يواجه معانيها من خلال الفهم الحرفي لألفاظها.

ولكننا نفهم منها أسلوباً قرآنياً يتحدث عن تحليل الموقف الرسالي للرسول، ولكل الرساليين الذين يتبعون خطاه، في ما يمكن أن يخضع له البشر من نوازع ذاتية أمام التحديات، فهو يوحي بوجود شيء من هذا القبيل، كفرضية قابلة للحدوث، ولكن ليس من الضروري أن تكون قد حدثت بالفعل، لينتقل من خلال ذلك إلي الإيحاء بأن الموضوع لا يتحمل أية صدمة انفعالية صعبة، تثقل حركة الذات في الدعوة.

فإذا كانت صفة الرسالة هي التي تطبع شخصية الرسول فإن كل ردة فعل سلبية أو إيجابية ترتبط بتلك الشخصية يجب أن تكون بعيدة عن الذات والذاتيات.

وبهذا تكون القضية متعلقة بالله الذي لا يضيره شيء من تكذيبهم، وجحودهم كما لا ينفعه شيء من إيمانهم وتصديقهم، لأنه الغني عن ذلك كله، فلا مجال لأي انفعال لأن الذات لا علاقة لها بالموضوع، والرسالة المنزلة من

الله لا تتأثر بذلك، إن الله فوق الإنفعال، فماذا يبقي في الساحة؟

إن المسألة _ بكل بساطة _ هي أن يواجه الرسول الموقف بعقلية واقعية، وذهنية عملية مرنة، بعيداً عن كل الحالات الشعورية الذاتية، وبذلك تستمر القافلة الرسالية في سيرها الطبيعي، لتصل إلي أهدافها الكبيرة في نهاية المطاف.

وفي ضوء ذلك، تتحول هذه الآيات إلي خطة تربوية للعمل الرسالي، يواصل من خلالها ذاك العمل طريقه بكل موضوعية وهدوء، تماماً كأي عمل يرتبط بمسؤوليته ولا يرتبط بذاته، حيث يتحرك الداعية علي أساس المعطيات الواقعية، ومدي انسجامها مع خط المسؤولية في عمله، فيعيش التجرد من كل ما لا يرتبط بالعمل، مما يجعل للحركة فاعلية قوية، ويقود الموقف إلي خطوات الواقع.

وهكذا تخرج القضية من النطاق الشخصي، لتتصل بالنطاق العام للرسالة، وللرسول، فلا تعود شيئاً شخصياً للنبي، بل تتحول إلي قاعدة عامة لكل الرسل، والرسالات، ومن هنا تتساقط كل علامات الاستفهام أمام شمولية القاعدة وثباتها.

إن القرآن يريد أن يؤكد الفكرة _ الخط _ في ضمير النبي الداعية، ليفرّغ ذاته من الإنفعال، فهناك حالة بشرية تحب التمرد والمواجهة، والهروب من المسؤولية، فلا بد من مواجهتها من منطق الواقع الذي يبحث في الأرض عن الإمكانيات الحاضرة، والمستقبلية لانتصار الدعوة في حركتها الفاعلة، مما يفرض المزيد من الهدوء النفسي والإتزان العاطفي، والثبات العقلي.

فالدعوة تمثل رسالة الله، والتكذيب يواجه هذه الرسالة، فهو يواجه الله في النهاية" [212] .

وقفة قصيرة

ونقول:

لقد طرح ذلك البعض أسئلته أولاً حول سبب حزنه (ص) لتكذيب قومه له، وأنه هل هو حالة ذاتية له، أو هل أن انفعاله الشخصي يتجاوز انفعاله لله وغير ذلك..؟ ثم قرر في إجابته عنها: أن ليس من الضروري أن يكون ذلك

كله قد حدث بالفعل، ولكنها تبقي فرضية قابلة للحدوث عنده، واحتمال كونها كذلك يساوق القول بإمكانها، وذلك يعني أنه لا مانع من وقوعها.. ثم أفاض في تفاصيل عناصر هذا الأمر القابل للحدوث لكل من النبي، والداعية علي حد سواء.. فجاء هذا السيل من التصريحات التي حاولنا أن نشير إلي أكثرها في العناوين التي صدّرنا بها الفقرات المنقولة منه حرفياً فاقرأ، واعجب ما بدا لك!!

_ فهل يصح احتمال ذلك كله في حق الأنبياء؟

_ وهل يجتمع احتمال هذه الأمور مع الاعتقاد بعصمتهم؟

_ وإذا كانت عصمتهم إجبارية فما معني احتمال أمور كهذه في حقهم؟!

_ وأي نبي هذا الذي يخلط بين التكذيب لشخصه والتكذيب لله؟!

_ وأي نبي هذا الذي يسلّيه، ويريحه أن يكذّب الناس الله؟ ويحزنه أن يكون التكذيب موجهاً لشخصه..؟!.

إلي غير ذلك من الأسئلة التي لا بد أن تدور بذهن كل منصف عاقل.. وهل يصح بعد هذا كله أن يدعي هذا البعض أنه يعتقد بعصمة الأنبياء، وبكفاءتهم العلمية والإيمانية لتحمل شمولية الرسالة؟!.

المشاعر السلبية للنبي ربما تتحول إلي عقدة.

المشاعر تتحول إلي تساؤل دائم عن سبب إعراض المشركين عن القرآن.

المشاعر السلبية تتحول إلي تساؤلات عن أشياء كثيرة تضغط علي وجدانه.

يقول البعض:

"(فلعلك باخع نفسك علي آثارهم) الخطاب لرسول الله (ص) الذي كان يعيش الألم والحسرة أمام بعد المشركين، وإعراضهم عن القرآن، وعن الدعوة إلي الله، وهذه المواقف تمثل خطوات المشركين العملية علي صعيد خط الرسالة، تماماً كما هي الآثار التي تتركها أقدامهم علي الطريق في حالة السير.

وربما تؤدي به هذه المشاعر السلبية الضاغطة إلي الهلاك، عندما تتعاظم أو تتحول إلي عقدة، وتساؤل دائم عن السبب في هذا الموقف المضاد،

وعن الضعف الذي يحيط بشخصه، وبالساحة أمام قوة هؤلاء، وعن أشياء كثيرة قد تطوف في نفسه، وتضغط علي وجدانه.. إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً.. الخ" [213] .

وقفة قصيرة

ونقول:

إننا نجل مقام رسول الله (صلي الله عليه وآله) عن أن ينسب إليه إمكانية الإبتلاء بالعقد النفسية نتيجة لمشاعر سلبية ضاغطة، ولا بد أن نعطف كلامه هذا علي حكاية الجوع العاطفي للحنان، فإن هذا يوضح ذاك، ويظهر عدم صحة ما يحاول أن يتخلص به من سلبيات ذلك القول العجيب، والغريب، وسيأتي توضيح ذلك حين الحديث عن مقولاته حول الزهراء (عليها السلام). في بعض فصول هذا الكتاب.

كما أننا نجل مقام النبي (صلي الله عليه وآله) عن أن يكون _ والعياذ بالله _ جاهلاً إلي درجة ابتلائه بالتساؤل الدائم عن أسباب الموقف المضاد للمشركين، وجاهلاً بأسباب ضعف الساحة الإسلامية أمام قوة أولئك.

وبعد ما تقدم نقول: إن إيغال هذا البعض في الخيال الذي لا مبرر له جعله يحتمل هذه الأمور الغريبة والعجيبة، مع أن الآية صريحة في أن حزن رسول الله (صلي الله عليه وآله) الناشئ عن صدود الناس عن الحق كان حزناً عظيماً جداً، ولا غرو في ذلك فهو يري الكفر والشرك من أعظم الموبقات بمقدار معرفته بسلبيات هذا الشرك وآثاره البغيضة.

قد يكون آباء النبي (ص) كفاراً.

المهم أن لا يكونوا أبناء زنا.

العقل لا يقبح كفر آباء النبي (ص) بشرط أن يكون النكاح شرعياً لا زنا.

سئل البعض:

السؤال: يدور كلام كثير حول ضرورة أن يتولد النبي عموماً، أو نبينا محمد (ص) خصوصاً من آباء مؤمنين موحدين، فما رأيكم بهذه المسألة؟

فأجاب:

"هناك كلام للشيخ المفيد بإجماع الشيعة، علي أن آباء النبي إلي آدم

(ع) كانوا موحدين علي الإيمان بالله.. ويستند الشيخ المفيد في كتابه تصحيح الإعتقاد في الإحتجاج لذلك إلي قوله تعالي (..الذي يراك حين تقوم، وتقلبك في الساجدين) (الشعراء: 218 _ 219) قال: يريد به تنقله في أصلاب الموحدين.

ولكننا نلاحظ: أن الآية لا تدل علي نفي تقلبه في غير الساجدين من آبائه لأنه يكفي في صدق ذلك أن يكون بعضهم من الساجدين.

مع ملاحظة أخري، وهي أن ظاهر الآية هو الحديث عن قيام النبي (ص) لعبادة الله، وتقلبه في الساجدين من عباد الله، باعتبار استغراقه في السجود لله سبحانه.

وإذا كانت بعض الأحاديث تدل علي إرادة خلاف الظاهر، مما ذكره الشيخ المفيد، فإنها تتحدث عن تقلبه في أصلاب النبيين، كما جاء في رواية محمد بن الفرات عن الإمام الباقر (ع)، وفي رواية أبي الجارود، عن الباقر (ع) قال: (سألت أبا جعفر (ع) عن قول الله _ عزوجل _: (وتقلبك في الساجدين) قال: يري تقلبه في أصلاب النبيين، من نبي إلي نبي، حتي أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم).

ومن المعلوم أنه ليس المقصود بذلك _ علي تقدير صحة الحديث _ أن أجداد النبي بأجمعهم أنبياء، فيكون المقصود به أنه تقلب في أصلاب الأنبياء، من دون أن يكون نافياً لتقلبه في غيرهم.."

إلي أن قال:

"أما الإجماع فقد يكون مدركه كلام المفيد، فلا يكون تعبدياً. ولا قبح من ناحية العقل في كونهم كفاراً، إذا كان النكاح شرعياً، لا زنا" [214] .

وقفة قصيرة

ونقول:

1 _ إننا لا نريد أن نتصدّي في هذه العجالة لبحث هذا الموضوع فنأتي بالروايات التي رويت في كتب الفريقين، مما دل علي إيمان آباء رسول الله (صلي الله عليه

وآله).. فإن هذا الكتاب ليس كتاب بحث واستدلال، وإنما هو مخصص لبيان أقاويل جاء بها البعض.. لا مجال لقبولها في نفسها، أو في سياقها الذي وضعت فيه.

ويكفي أن نشير هنا إلي أنه حتي أهل السنة، فإنهم قد ألفوا كتباً في هذا الموضوع، وذكروا فيها الروايات التي تفيد في بيان هذا الأمر..

ومنه_ا:

الف: مسالك الحنفا في والدي المصطفي.

ب: الدرج المنيفة في الآباء الشريفة.

ج: المقامة السندسية في النسبة المصطفوية.

د: التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله (ص) في الجنة

ه_: السبل الجلية في الآباء العلية.

وكلها مطبوعة بعنوان الرسائل التسع _ للسيوطي في الهند _ حيدر آباد الدكن سنة 1380ه_.

2 _ إنه إذا كان هذا البعض يلتزم بأن النفي يحتاج إلي دليل، كما الإثبات يحتاج إلي دليل.. فأين هو دليله علي النفي، فإن غاية ما جاء به هو أن علق علي بعض أدلة المثبتين.. ولم يأت بدليل يثبت مقولته هذه..

3 _ إن الدليل المطلوب من هذا البعض _ علي الخصوص _ لابد أن يكون مفيداً لليقين، ولا يكفيه الإستدلال بالظواهر الظنية، وبالأدلة المعتبرة في خصوص الأحكام.. لأنه هو نفسه يقرر لزوم هذا النوع من الأدلة فيما يرتبط بالتاريخ، وبالأشخاص، وبالتفسير، وفي مختلف شؤون الحياة، وسائر المعارف.. ويرفض الاستدلال عليها بالأدلة المعتبرة في الأحكام الشرعية الفقهية ويقول: هي حجة فيها دون سواها.

4 _ إن هذا البعض قد ناقش الاستدلال بالآية، علي أساس أنه يكفي في صدق تقلبه أن يكون بعض آبائه من الساجدين.

ولكن من الواضح: إنها مناقشة لا تصح.

فأولاً: ان الظاهر هو أن هذه الآية واردة مورد الإمتنان علي رسول الله (صلي الله عليه وآله)، فحملها علي العموم

والشمول يكون هو الأظهر، والأنسب بمقام الإمتنان الإلهي.. وبيان الرعاية الإلهية له (صلي الله عليه وآله)..

ثانياً: إن الجمع المحلي بالألف واللام يفيد العموم بإجماع العلماء كما هو مقرر في علم الأصول [215] . وكلمة الساجدين جمع محلي بالألف واللام، فهي تدل علي العموم.

5 _ إن دعواه أن ظاهر الآية هو تقلب النبي (صلي الله عليه وآله) بين عباد الله الساجدين باعتبار استغراقه في السجود لله سبحانه.. لا مجال لقبولها.. فإن غاية ما هناك أن يكون ذلك محتملاً في معني الآية بصورة بدوية.. فإذا جاء التفسير عن المعصوم ليعيّ_ن أحد الإحتمالين.. فإنه يتعين، وينتفي الإحتمال الآخر.. لأن الأئمة أعرف بمقاصد القرآن من كل أحد.. فلا تكون الرواية المروية عنهم مخالفة لظاهر القرآن لمجرد أنها عينت هذا الإحتمال وأكدت أنه هو المقصود دون ذاك.

فلا يصح قوله:

"إذا كانت بعض الأحاديث تدل علي إرادة خلاف الظاهر.. الخ"

6 _ بقي أن نشير إلي قوله:

"ليس المقصود أن أجداد النبي (ص) بأجمعهم أنبياء.. بل يكفي في صدق الآية أن يتقلب في أصلاب بعضهم، دون أن تنفي تقلبه في أصلاب غيرهم.."

فقد ظهر: أن إرادة هذا المعني لا تنسجم مع مقام الإمتنان، كما أن نفس الرواية ظاهرة في العموم والشمول لجميع أجداده (صلي الله عليه وآله)، حيث تقول: يري تقلبه في أصلاب النبيين، من نبي إلي نبي حتي أخرجه من صلب أبيه.

فإن التعبير بحتي التي جاءت لبيان الغاية، قد أظهر.. أن تقلبه في الأنبياء قد استمر من نبي إلي نبي حتي أخرجه من صلب أبيه.. ولا يتناسب هذا التعبير مع إرادة الموجبة الجزئية..

7 _ إن من الواضح: أن النبوة لها حالاتها، فهناك نبي مرسل إلي

الأمة وهناك من أرسل إلي قوم، وإلي عشيرة، وإلي حيّ، وقد يكون نبياً يكلمه الملك، ويخبره عن الله، وليس مرسلاً لأحد.. بل يعيش هو حالة الصلاح في نفسه، ويكون الكمال المتجسد الذي يري فيه الناس _ دون أن يكون مأموراً بشيء تجاههم _ الإنسان الإلهي المتوازن، والمرضي في كل حالاته.. فيهيؤهم ذلك لأجواء الإيمان، ويثير في فطرتهم كوامن الخير والصلاح، والإيمان والتقوي..

وعلي هذا الأساس، فلا ضير في أن يكون جميع آباء النبي الذين خرج من اصلابهم أنبياء إلي آدم، وإن لم تكن لهم دعوة، ولا رسالة تختص بهم، فيكون عبد الله والد النبي (صلي الله عليه وآله)، وعبدالمطلب وكذلك آباؤه جميعاً لهم هذه الصفة، وإن اختلفت مقاماتهم، ومهماتهم.. حسبما ذكرنا.

8 _ ويؤيد ذلك أيضاً: ما ورد من أن الأرض لا تخلو من حجة، إما ظاهر مشهور، أو غائب مستور، ومَن أولي من آباء رسول الله (صلي الله عليه وآله) بهذا المقام؟!

9 _ ويبقي إجماع شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، الذي لم يقبل هذا البعض بأن يكون تعبدياً، لأن من المحتمل أن يكون مستندهم فيه هو أدلة الشيخ المفيد..

ونقول:

إن حديثه عن تعبدية الإجماع هنا غريب وعجيب، فإن هذا الإجماع ليس علي حكم شرعي، ليوصف بالتعبدية تارة وتنفي عنه أخري.. بل هو إجماع يكشف لنا عن أن هذا الأمر الذي لا يُعرف إلا من أهله ولا طريق إلي معرفته بالعقل، قد قرره أهله وهم الأئمة الطاهرون المعصومون، وتحدثوا عنه وذكروه للناس وصرحوا به، وقالوا: إن آباء النبي كلهم مؤمنون من آدم (عليه السلام) إلي عبدالله أبي رسول الله (صلي الله عليه وآله)، لأن العلماء لا يقولون ذلك من عند أنفسهم، فهو علم

من ذي علم.

وواضح أن من يريد التعرف علي أي مذهب، فإنه يرجع إلي الأتباع الذين هم أعرف بقول إمامهم.

أضف إلي ما تقدم: أنه لو كان الإجماع تعبّدياً للزم أن يكون الإجماع علي الإمامة تعبّدياً أيضاً، فهل يحكم هذا البعض برده لكونه مستنداً إلي الأدلة؟!.. فهل هذا المنهج الإستدلالي صحيح أيضاً؟!..

10 _ وقال هذا البعض في آخر كلامه:

"لا قبح من ناحية العقل في كونهم كفاراً، إذا كان النكاح شرعياً لا زنا".

وظاهر كلامه هذا: أن القبح موجود فيما إذا لم يكن النكاح شرعياً..

فهل يريد أن يقول: إن شرك الآباء لا قبح فيه من ناحية العقل، أما الزنا ففيه قبح من هذه الناحية العقلية؟!

والسؤال هو: ما هو الفرق بين الأمرين؟ من الناحية العقلية البحتة؟! ولماذا قبح هذا ولم يقبح ذاك؟!

التقلب في أصلاب الآباء الأنبياء لا يدل علي أن أولئك الأنبياء كانوا مؤمنين!!

يقول البعض:

"استدل الشيعة الإمامية علي أن هذه الآية من سورة الشعراء: (وتقلبك في الساجدين) تدل علي أن جميع آباء النبي موحدون وأن معناها تقلبك في الساجدين الموحدين من نبي إلي نبي حتي أخرجك نبياً. وقد روي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا: يري تقلبه في أصلاب النبيين من نبي إلي نبي حتي أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم(ع).

ولكن ذكرنا في تفسيرنا (من وحي القرآن)، أن المراد من الآية بحسب الظاهر من السياق، وقد ذكره جمع من المفسرين: يراك في تقلبك في الساجدين المصلين الذين يصلون معك، أو يراك في تحركك في أجواء السجود مع الفريق الذي يسجد لله خشوعاً، في ما يمثله مجتمع الساجدين العابدين الذي

تتقدمه أنت في الموقع الطليعي فيه، والله العالم. أما الرواية، فلا دلالة فيها إلا علي طهارة الآباء من الولادة بالزنا" [216] .

وقفة قصيرة

ونذكر هنا:

1 _ إن ما قدمناه في الفقرة السابقة يكفي لبيان عدم صحة ما ذكره هذا البعض هنا.. ولسنا بحاجة إلي التذكير بأنه إذا كان أهل البيت قد فسروا الآية الشريفة بأن المقصود بها: أن الله سبحانه يري تقلب نبيه في أصلاب النبيين من نبي إلي نبي حتي أخرجه من صلب أبيه. فلا بد من قبول ذلك منهم؛ فإن أهل البيت أعرف من كل أحد بمعاني القرآن، وبأهدافه ومراميه..

وكما قال الإمام الصادق(ع): (فليذهب الحسن يميناً وشمالاً فوالله ما يوجد العلم إلا هاهنا) [217] .

ولن نصغي ولن نقبل من أحد أن يقول لنا: قال الإمام الصادق عليه السلام. وأقول، فما ذكره هذا البعض في تفسيره لا بد أن يردّ عليه، وأن يؤخذ فقط بكلام أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم.

2 _ والأعجب من ذلك قول هذا البعض هنا: "وأما الرواية فلا دلالة فيها إلا علي طهارة الآباء من الولادة بالزنا".

مع أن الرواية صريحة في أن الرسول لم يزل يتقلب في أصلاب النبيين: من نبي إلي نبي حتي أخرجه من صلب أبيه.

مما يعني: أن جميع آبائه صلي الله عليه وآله قد كانوا مؤمنين أتقياء أبراراً. بل كانوا من الأنبياء، حتي والده عبد الله.. ولا مانع من أن يكونوا كذلك، فقد كان ثمة أنبياء تقتصر نبوتهم علي أنفسهم، وعلي المحيط المحدود الذي يعيشون فيه، وقد تمتد نبوتهم إلي العشيرة أو الحي أو البلد الصغير أو الكبير.. من أجل أن يحفظوا الحق والخير في الناس بالمقدار الممكن لهم، بحسب ما يوجههم

الله سبحانه إليه، ويأمرهم به.

نفي النبوّة عن النبي (ص) قبل سنّ الأربعين.

ومن الواضح: أن هناك روايات رواها السنة والشيعة تدل علي أن النبي (ص) قد كان نبيّا منذ ولد يكلمه الملك ويسمع الصوت ثم أرسله الله رسولا للناس كافّة بعد أن بلغ الأربعين، وكلمه الملك معاينة، ونزل عليه القرآن، قال المجلسي رحمه الله: إن ذلك ظهر له من الآثار المعتبرة والأخبار المستفيضة [218] .

لكن البعض يقول:

"النبوّة الفعلية لا بد لها من الوحي، ومن التكليف الإلهي، ولم يكلفه الله بالنبوّة إلا بعد أربعين سنة" [219] .

وقد كنا نتمني أن يشير إلي تلك الآثار، والأخبار المستفيضة، ومن بينها ما هو معتبر وصحيح، التي اعتمد عليها المجلسي وغيره، خصوصا وأن هذا الأمر يحتاج إلي التعريف والتوقيف، و ليس هو من الامور التي يمكن ان تنالها العقول والأفهام..

پاورقي

[1] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 10 ص 34.

[2] نفس المصدر ص 32.

[3] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 15 ص 171.

[4] الندوة ج1 ص 315.

[5] الموسم عدد 21 _ 22 _ ص 293 _ 294 وعن كونها دورة تدريبية وكيف ذلك؟ راجع من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج15 ص 176 _ 177 والندوة ج1 ص 314 _ 315.

[6] راجع كتاب بحث حول المهدي ص42 وما بعدها.

[7] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 10 ص 22و23.

[8] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 10 ص 28 و 29.

[9] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج10ص32و33.

[10] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج10ص39.

[11] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج10ص37.

[12] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج1ص181و182.

[13] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 15 ص 169 _ 177.

[14] من وحي القرآن:

الطبعة الأولي، ج1ص188 _ 191.

[15] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج10 ص 37و 38.

[16] سورة الأعراف الآية 23.

[17] تفسير البرهان ج1ص 81 _ 89عن مصادر كثيرة.

[18] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 10 ص 36.

[19] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج10 ص 36.

[20] من وحي القرآن: الطبعة الثانية دار الملاك، ج1 ص 250 _ 252.

[21] البحار ج11 ص187 عن العياشي وتفسير البرهان ج2 ص6.

[22] وقد يحجب الله سبحانه عن آدم (ع) معرفته بمن يخاطبه حين يخاطبه من وراء الحجاب، وذلك لكي يظهر آدم (ع) علي حقيقته السامية التي استحق بها مقام النبوة، تماماً كما كان الحال بالنسبة لموسي (ع) مع الخضر (ع) حسبما أشرنا إليه، إذ قد كان يمكن أن يعرّف الله نبيه موسي (ع) بالكنز الذي تحت الجدار، وبالملك الغاصب للسفن، وبحقيقة معاملة ذلك الشاب مع أبويه.

[23] سورة الأعراف الآية: 20.

[24] البرهان في تفسير القرآن ج3 ص46 وج1 ص83، والبحار ج11 ص64 عن عيون أخبار الرضا(ع) ص108 و901.

[25] راجع تفسير القمي ج1 ص43، وتفسير البرهان ج1 ص80 وج2 ص80 وج2 ص6، والبحار ج11 ص161.

[26] تفسير البرهان ج1 ص84، والبحار ج11 ص183 عن تفسير العياشي.

[27] البحار ج11 ص217 عن الكافي.

[28] سورة الأعراف الآية 26.

[29] تفسير الإمام العسكري ص 222 و223 وتفسير البرهان ج1 ص80، والبحار ج11 ص190 و191 وراجع: تعليق العلامة المجلسي ص193 ومستدرك الوسائل ج2 ص 286 ح607.

[30] تفسير البرهان ج1 ص81 و83، وراجع تفسير القمي ج1 ص44 والبحار ج11 ص161 و163 و188 و206 و164، وعيون أخبار الرضا ص108 و109 وعلل الشرائع ص148 وعن الكافي (الفروع) ج1 ص215.

[31] الموسم العددان21و22 ص319.

[32] الندوة ج1 ص 737.

[33] تنزيه الصفوة، ص15 و7 و8 و23 و5 و17 _

19.

[34] تنزيه الصفوة ص 21 و 22 و 10 و 11.

[35] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج12 ص79و80.

[36] الحوار في القرآن ص230 ط سنة 1399ه_ ق.

[37] راجع تفسير الميزان ج10ص232.

[38] سورة هود الآية 42و43.

[39] سورة هود الآية 46و47.

[40] سورة هود الآية 47.

[41] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج9 ص112 _ 123.

[42] تفسير البرهان ج1 ص531.

[43] الزهراء المعصومة: ص 48.

[44] من وحي القرآن: الطبعة الثانية دار الملاك، ج9 ص 122 و 123، وراجع: خلفيات: ج1، ص 80.

[45] راجع من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج9، ص112 _ 123.

[46] الزهراء المعصومة: ص 50 _ 52.

[47] نشرة فكر وثقافة: عدد 167، ص3.

[48] من وحي القرآن: الطبعة الثانية دار الملاك، ج12 ص97.

[49] المقصود: عقولهم.

[50] تفسير الميزان: ج16، ص 128.

[51] من وحي القرآن: الطبعة الثانية دار الملاك، ج18، ص 46 و 47 و 48.

[52] سورة هود: 74 _ 76.

[53] سورة القلم: الآية 35، وسورة النساء: الآية 40.

[54] سورة القصص: الآية 59، والعنكبوت: الآية 31 و 34 و 40، وسورة الأعراف: الآية 100، وسورة النحل: 112 و 113، وسورة الإسراء: 16، وسورة الانبياء: 11، وسورة الحج: 45 و 48.

[55] سورة الأعراف: الآيات 163 _ 166.

[56] علل الشرائع: ص22 وعيون أخبار الرضا: ج1، ص231 – والبحار: ج5 ص283.

[57] علل الشرائع: ص22 _ والبحار: ج5، ص283.

[58] بحار الأنوار: ج5، ص286، عن قصص الأنبياء.

[59] المصدر السابق: ج5، ص 286 و 287.

[60] البحار: ج 14، ص 393، عن تفسير العياشي، والبرهان: ج 2، ص200 و 202.

[61] بحار الأنوار ج18، ص 159.

[62] سورة الأنفال: الآية: 25.

[63] بحار الأنوار: ج70، ص 383 عن الاختصاص، ص 30.

[64] سورة الصافات، الآية 133.

[65] النص الحرفي لكلام البعض مسجلا بصوته علي شريط

موجود عندنا برقم 32 وقد بثتها إذاعة محلية تابعة لذلك البعض.

[66] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 14 ص 393 _ 394.

[67] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج14 ص395.

[68] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج14 ص393.

[69] فكر وثقافة عدد 3 بتاريخ السبت 29_6_1996م.

[70] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج14 ص387.

[71] من وحي القرآن ج14 ص 391و392.

[72] سورة الكهف الآيات 66 _ 79.

[73] سورة الكهف، الآية 76.

[74] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج17 ص310.

[75] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج19 ص301و302.

[76] سورة القصص 13 _ 19.

[77] سورة القصص، الآية 14.

[78] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج10 ص 178و179.

[79] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج10 ص 176 _ 179.

[80] مجلة الموسم عدد21 _ 22 ص321.

[81] سورة طه الآية 29 _ 31.

[82] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج10 ص165 _ 167.

[83] نشرة بينات 21_2_1997.

[84] نفس المصدر السابق.

[85] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج17ص108و109.

[86] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج14 ص386 _ 389.

[87] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج17ص311.

[88] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج15ص135و136.

[89] سورة طه الآية 68.

[90] نهج البلاغة، الخطبة رقم 4.

[91] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج15 ص156.

[92] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج17ص102و103.

[93] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 15 ص108 _ 110.

[94] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 15ص 110و111.

[95] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج17 ص 326 _ 328.

[96] سورة طه الآية 45.

[97] من وحي القرآن ج15 ص119.

[98] تفسير الميزان ج14ص147.

[99] تفسير البرهان ج3ص31 وتفسير الثقلين ج3ص376.

[100] حركة النبوة في مواجهة الإنحراف: ص 253.

[101] حركة النبوة في مواجهة الانحراف ص341.

[102] بحار الأنوار: ج45 ص 313وراجع علل الشرائع ص 264 ومصباح المتهجد، وغير ذلك.

[103]

الأمالي للصدوق ص 11 المجلس 27 ح 2 والبحار: ج44 ص 284.

[104] مقتل الحسين للمقرم ص 264_265 عن الإرشاد، وتهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج8 ص 325 والذكري ص 72 طبعة حجرية.

[105] بحار الانوار: ج 11 ص 204 وج 12 ص 311 وراجع ص 244 و264 و 305 وج 79 ص 86 وج 43 ص 35.

[106] بحار الانوار: ج 47 ص 249 و 250.

[107] بحار الانوار: ج 11 ص 240 و 264.

[108] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج12ص178.

[109] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج12ص179.

[110] دنيا الشباب ص36 وراجع الندوةج1ص304.

[111] هذا الكلام مسجل بصوته، والشريط موجود لدينا.

[112] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 12 ص 206 _ 208.

[113] الندوة ج1 ص 640.

[114] هذا القول قد جاء علي لسان هذا البعض في شريط مسجل بصوته، والشريط موجود أيضا لدي مؤلف هذا الكتاب.

[115] سورة الحجر الآية 40.

[116] سورة الحجر الآية 42.

[117] سورة يوسف الآية 24.

[118] سورة يوسف الآية 22.

[119] راجع رد ذلك البعض علي المرجع الديني الشيخ التبريزي _ الرد علي السؤال السابع.

[120] هذه النقاط مقتبسة مما ذكره علم الهدي في كتابيه تنزيه الأنبياء ص 80 _ 85 ط الأعلمي، وأمالي المرتضيج1ص477 _ 481.

[121] سورة النور الآية: 20.

[122] أمالي المرتضي ج1 ص481.

[123] من وحي القرآن: الطبعة الثانية دار الملاك، ج 12، ص 234.

[124] من وحي القرآن: الطبعة الثانية دار الملاك، ج 12، ص 235.

[125] وكذلك بنيامين، بناء علي كونه نبيا.

[126] الموسم عدد 21 _ 22 ص 322.

[127] أضفنا هذه الكلمة لينسجم الكلام ويتم المعني.

[128] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 19 ص 241.

[129] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 15 ص 284.

[130] راجع كتاب مأساة الزهراء ج1 ص106 _

117.

[131] راجع قواميس اللغة.

[132] محيط المحيط ص 2.

[133] المصدر السابق.

[134] من وحي القرآن: ج15، ص258 و 259.

[135] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 23ص70.

[136] راجع: من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج5 الصفحات 8 _ 14 _ 15.

[137] سورة الإسراء الآية 55.

[138] من وحي القرآن ج14ص157.

[139] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج19 ص278.

[140] سورة ص الآية 17 _ 26.

[141] فكأنه قال له: أرأيت لو كنا واحتكمنا اليك.. فقال له انك مظلوم لو لم يأت خصمك بحجة بينة.

[142] راجع: تفسير الميزان ج17 ص193 _ 194، وراجع تنزيه الأنبياء ص127 _ 130.

[143] الميزان في تفسير القرآن ج17 ص304.

[144] نفس المصدر ص307.

[145] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 19 ص 289 _ 294.

[146] سورة ص الآية 30 وما بعدها.

[147] تنزيه الأنبياء ص132 والبحار ج 14 ص102.

[148] تنزيه الأنبياء ص132 والبحارج14 ص102.

[149] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 15 ص 16 _ 18.

[150] المائدة الآية 64.

[151] سورة مريم الآية 58 _ 63.

[152] من حي القرآن: الطبعة الأولي، ج15ص60 _ 61.

[153] سورة آل عمران الآية 39.

[154] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج15ص37.

[155] راجع الكافي ج1 ص 322 و 494 و 384 و 382 و 383 وبحار الانوار ج 50 ص 23 و 24 و 34 وراجع ص 21 و 35.

[156] الكافي ج 1 ص 382 و 383.

[157] المعارج: ص 656 و 657، والحوار في القرآن، ص 105.

[158] الندوة: ج 1 _ ص 360.

[159] سورة الجمعة: الآية: 2.

[160] سورة الحديد: الآية: 25.

[161] سورة سبأ: الآية: 28.

[162] سورة النساء: الآية: 59.

[163] سورة الأنفال: الاية: 1.

[164] سورة المجادلة: الآية: 21.

[165] سورة المزمل، الآية: 15.

[166] سورة الأحزاب، الآية: 45، وسورة الفتح، الآية: 8.

[167] المعارج: ص

558 و 559.

[168] المعارج: (مجلة) ص 545.

[169] المعارج: 604 و 605.

[170] سورة النحل: الاية: 123.

[171] أسئلة وردود من القلب ص63.

[172] نهج البلاغة الخطبة 190 وهي الخطبة القاصعة.

[173] سورة الشوري آية 52.

[174] قد ذكرنا شطراً من كلام هذا البعض في موضع آخر من هذا الكتاب، فراجع.

[175] الصحيح: غير المقصود.

[176] الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية _ طهران، ج 7، ص 414، رواية 1.

[177] من وحي القرآن: الطبعة الثانية دار الملاك، ج11 _ ص124 و 125.

[178] تفسير الميزان: ج7، ص97.

[179] نهج البلاغة: الخطبة 128.

[180] من وحي القرآن: الطبعة الثانية دار الملاك، ج9، ص114 و 115.

[181] مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 310 والبحار ج 39 ص 84.

[182] سورة الإسراء الآية 95.

[183] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 21 ص 323 _ 331.

[184] سورة الأنفال الآية 32 _ 33 _ 34.

[185] سورة الاسراء_59.

[186] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 14 ص 6.

[187] ومناقشة البعض في هذا الأمر لا أهمية لها، لأنها تدخل في سياق نظرته العامة لمثل هذه الامور إلي حدٍ ادعي معه لزوم تحصيل التواتر القطعي في هذه الأمور وأمثالها.

[188] الموسم العددان 21 _ 22 ص295 وراجع ص86.

[189] سورة الأحزاب الآية 21.

[190] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج24 ص 67.

[191] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج24 ص 76.

[192] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج24 ص73.

[193] سورة عبس الآيات 1 _ 10.

[194] راجع تفسير القمي ج2ص405 وتفسير البرهان ج4ص427و428 وتفسير نور الثقلين ج5 ص508 و509 ومجمع البيان ج10ص437.

[195] مجمع البيان ج10ص437 وتفسير البرهان ج4ص428 وتفسير نور الثقلين ج5ص509.

[196] الوسائل كتاب الحج ابواب العشرة باب 122 حديث12.

[197] سورة التوبة الآية 43.

[198] من وحي القرآن ج 11 ص129.

[199] مقابلة مع

إذاعة النور بتاريخ 22 _ 11 _ 1997. موجود لدينا في شريط رقم 5.

[200] الندوة ج1 ص 58.

[201] نشرة بينات عدد 35 بتاريخ 30 _ 5 _ 1997.

[202] سورة الحج الآية 52و53.

[203] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج16ص108 _ 113.

[204] إننا قد نجد بعض المفسرين يفسر إلقاء الشيطان بالمرور بالخاطر، ولكنه مجرد خطور ذهني، وليس خطور مراودة ولا انعكاس فيه علي تصرفات النبي (ص)، كما يقول هذا البعض.

[205] سورة الحجر الآية 42.

[206] سورة ص الآية 82.

[207] سورة النحل الآية 99.

[208] سورة الإسراء الآيات 73 _ 75.

[209] سورة هود: الآية: 12.

[210] من وحي القرآن: الطبعة الثانية دار الملاك، ج12، ص31.

[211] سورة هود، الآية: 12 _ 14.

[212] من وحي القرآن: الطبعة الثانية دار الملاك، ج9 _ ص82 و 83.

[213] من وحي القرآن: الطبعة الثانية دار الملاك، ج 14 _ ص 271.

[214] المسائل الفقهية: ج2 ,ص 449 و 450.

[215] راجع: مفاتيح الأصول.

[216] بينات عدد 157 بتاريخ 11 شعبان1420ه__ 19 تشرين الثاني 1999م.

[217] الكافي ج1 ص 51.

[218] البحار ج18 ص277، وراجع كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم(ص) ج2 ص195 _ 198.

[219] نشرة فكر وثقافة بتاريخ 3 _ 8 _ 1996، ص2.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.