خلفيات مأساه الزهراء (المجلد 1)

اشارة

نويسنده : آية الله السيد جعفر مرتضى العاملي

ناشر : آية الله السيد جعفر مرتضى العاملي

موضوع : حضرت فاطمه زهرا (س)

الاهداء

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم

وله الحمد والصلاة والسلام علي محمد وآله.

سيدي.. يا بن النبي.. ويا حفيد علي.. بحق أمك الزهراء المظلومة.. إلا ما كنت الشفيع لي إلي الله سبحانه.. في يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتي الله بقلب سليم.

سيدي.. إن هذا الجهد الذي أرفعه إليك، وأضعه بين يديك.. ومعه كل هذا الأذي الذي أتحمله، وكل ما أتعرض له من خيانة وكيد.. وكل ما يرميني به الموتورون من سهام الحقد والشحناء، وقوارص الضغينة والبغضاء. إن ذلك كله.. لم يكن منافسة منا في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام.. ولكن لنرد المعالم من هذا الدين.. نعم.. لنرد المعالم من هذا الدين، ونظهر كلمة الحق والهدي بين العباد، ونحملها وهي أمانة الله في أعناقنا لننشرها في مختلف البلاد..

سيدي.. فكن لي المعين والنصير، والولي، والمؤيد. فأنت باب الله وخيرة الله من خلقه، وصفوته، وحجته علي عباده. وأنت المظهر للعدل والناشر للهدي في بلاده..

سيدي، هذه حاجتي إليك، وطلبتي وضعتها بين يديك، فبحق أمك الزهراء، وعمتك زينب، إلاّ شملتني بعين عطفك ومحبتك ورعايتك.

14شعبان 1418 ه_.ق.

تنبيه من كلام البعض

يقول البعض:

"نحن ندعو إلي الحوار بين العلماء والنقد بينهم، وعلينا أن لا نعتبر النقد عداوة.. ولكننا لا نزال متخلفين نعتبر النقد عداوة". (نشرة فكر وثقافة، عدد 3ص 4)

فنحن عملا بهذه المقولة نبادر إلي عرض بعض ما طرحه هو نفسه من مقولات وأفكار، ونرجو من الله أن لا يعتبر ذلك عداوة حتي لا نكون متخلفين.

ويقول البعض أيضاً:

"أنا لا أدعي لنفسي العصمة، ولكنني أستطيع أن أقول: إن 99, 99% مما يقال وينشر ضدي هو كذب، وافتراء، وبهتان" [1] .

ونقول:

إننا نطلب من القاريء الكريم

أن يراجع ويقارن فقط!!!.

وسئل البعض:

هل علي المفكرين العظام أن ينظروا إلي ردود الفعل الآتية حول كلماتهم أم أن لهم نظرة أخري؟

فأجاب:

"لابد لهم أن ينظروا إلي ردود الفعل لا أن يتعقدوا منها، ولكن عليهم أن يبحثوا في الأمر جيداً فقد يكون فيها شيء من الحقيقة، فليس معني هذا أن من يرد عليك هو عدو، فنحن نقول كما علمنا أئمتنا (رحم الله امرءاً أهدي إلي عيوبي) فقد يكون الشخص الذي ينقدك أو ينقد فكرك يحبك أكثر مما يحبك الشخص الذي يمدحك.

لذلك فنحن سعداء أن ينتقدنا الناس، ونحن نسمع ردود الفعل ونقرؤها، ونفكر فيها، فإن كان فيها خير أخذنا بها، وإن لم يكن فيها خير دعونا لصاحبها بالهداية. وتبقي النظرة المستقبلية تتحرك علي أساس متابعة الواقع" [2] .

ونقول:

إننا لم نجده أعلن عن تراجعه ولو عن مفردة واحدة مما أثير، مما يعد بالمئات، بل بالألوف، كما يظهر من كتابنا هذا، مما يعني أن كلامه هذا لم يزل في مستوي الشعار، ولم يتحول إلي عمل وممارسة خصوصاً وهو يعلن أن أفكاره ما تزال أفكاره، وأنه يتحمل مسؤوليتها مائة بالمائة. مما يعني أنه ملتزم حتي بالمتناقضات، وسنري الكثير منها في هذا الكتاب.

وقد سئل البعض:

كثير من الأفكار والطروحات بدأ البعض يطرح التأويل والشكوك حولها منذ فترة، علماً أنها كانت موجودة في مقالاتكم وكتبكم منذ الثمانينات، وكانوا يرون بأنها مميزة ومهمة. ما هو سر الانقلاب؟

فأجاب ذلك البعض بقوله:

"إسألوا هؤلاء الأشخاص فهم يتحملون مسؤولية ما يقولونه، فمن جهتي أفكاري ما تزال أفكاري، ومستعد أن أتحمل مسؤوليتها مائة بالمائة _ وأنا مستعد أن أشكر كل من يدلني علي خطأ في قول وفعل، وأعتبر أنه

قدّم لي هدية في هذا المجال _ ولكن الكثير من الناس يشتمون ويشتمون، ولا يحاورون، ولا يناقشون" [3] .

ونقول:

سبحان من يغير ولا يتغير!! فهل يعقل أن يعلن أحد عن عدم حدوث أي تغيير في أفكاره طيلة ما يقرب من عقدين من الزمن، ولا تتكامل أفكاره ولا يطرأ عليها أي تطور نحو الأفضل أو أي تقليم أو تطعيم، علماً أن في تلك الأفكار الكثير من الاختلاف والتناقض أو نحو ذلك؟.

يقول البعض:

"إنه عندما تطرح القضية ويكون فيها موقفان فإن صاحب الموقف الذي يري الحق له يتكلم علي أساس أنه لا يخاطب شخصاً ولكن يخاطب موقفاً ويخاطب رأياً ويخاطب اتجاهاً، مضافاً إلي أنه في الحق لا مجال للمجاملة، ذلك أن المجاملات والديبلوماسيات والكلمات الضبابية إنما هي في العلاقات الإنسانية التي تتصل ببعض الأوضاع التي يعيشها المجتمع في خطوطه، أما عندما تكون القضية قضية إثبات حق ودحض باطل، فإن المجاملة تكون خيانة، وإن الإعتبارات الإجتماعية حينئذٍ لا تسقط الإعتبارات الموضوعية العلمية، ولذلك كانوا يتكلمون بكل صراحة الحق الذي يعتقدونه، ومن المفارقات أن هذا الحق الذي يطرحونه بكل صراحة وبكل موضوعية لا يثير رد فعل اجتماعي سلبي كما لو يتساءل البعض: كيف تتجرأ علي هذا وكيف تتكلم مع هذا بهذه اللغة لأنهم كانوا يعيشون المسألة في أجواء الصراحة في الحق، ولم تؤثر فيهم كل هذه الأساليب التي جاءت بها الحضارات من تغطية الحق بكلمة هنا وبعاطفة هناك" [4] .

هكذا هو شعورنا

يقول البعض في كتابه "من وحي القرآن" ج2 ص171:

"وقد يكون الأساس في اختيار النبي للخطاب، ثم اتباع أقسي الأساليب شدة في خطاب الله معه، هو الإيحاء بأن هذه القضية هي من القضايا التي تبلغ مرحلة كبيرة

من الأهمية والخطورة بالمستوي الذي لا يمكن فيها مراعاة جانب أي شخص، وإن كان عظيماً في مستوي عظمة النبي محمد صلي الله عليه وآله وسلم لأن عظمة الأشخاص وقداستهم مستمدة من طاعتهم لله فيما يريد وفيما لا يريد فإذا انحرفوا عن الخط، ولن ينحرفوا عنه، سقطت عظمتهم وتحولوا إلي أشخاص عاديين خاطئين لا يملكون لأنفسهم من دون الله ولياً ولا نصيرا.

ويعتبر هذا أسلوب من الأساليب البارزة في القرآن في القضية التي تتخذ جانب الخطورة علي أساس العقيدة وصدقها وسلامتها من الانحراف".

قبل المقدمة

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي محمد وآله الطاهرين واللعنة علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين.

لولا كتاب مأساة الزهراء

لم أكن أقرأ له.. لأنني _ شأن كثيرين غيري عاشوا في حواضر العلم _ أعتبر كتبه ومقالاته تخصّ جيلا بعينه، وتعنيه، وتريد أن ترشده وتهديه.

وقبل أكثر من أربع سنوات.. وفي مسجد بئر العبد بالذات، وأمام كاميرا الفيديو.. تحدث إلي طائفة من النساء عن الزهراء (ع)، وعن مأساتها..

فأثار تساؤلات، علي حدّ تعبيره.. وأصدر أحكاما، أثارت عاصفة من الإحتجاج، و وُوجهت بالإدانة والرفض..

فتراجع في رسائل له مكتوبة، وعبر وسائل مسموعة..

ولكنه بعد أن هدأت العاصفة، عاد ليثير نفس الأفكار عن الزهراء (ع)، ويحرك قضايا، ويطرح مسائل هي الأخري حسّاسة وهامة.

ورأيت أن من واجبي أن أطّلع علي بعض مقولاته وطروحاته، فقرأت له بعض ما كتب ونشر، وسمعت نزرا يسيرا مما بثّته إذاعة محليّة تابعة له..

ففوجئت بما قرأت وسمعت، إلي درجة كبيرة.. وأدركت خطورة الأمر.. فبذلت محاولات كثيرة للدخول في حوار مثمر ومفيد، يمنع من تفاقم الأمور، ويعيدها إلي نصابها، فلم أوفق في ذلك.

وكان كتاب (مأساة الزهراء (عليها السلام): شبهات وردود) بمثابة إعلانٍ لفشل تلك الجهود، ودق ناقوس الخطر بالنسبة للموضوع برمّته..

وكان أن تحرّكت بعنف وشراسة حرب الإشاعات والاتهامات، وقيل ما قيل، ونُشِر ما نُشِر، وأصدروا عددا من الكتب.. وبدا واضحا أن ذلك كله _ تقريبا _ يهدف إلي تعمية الأمر علي الناس، وإبعادهم عن الموضوع الأساس والحساس جدّا، والمصيري من الناحية الإيمانية، والعقائدية..

وكان خيارنا الوحيد لإنجاز التكليف الشرعي الملقي علي عواتقنا، تقديم نبذة يسيرة من مقولات يعرف كل عالم بصير: أنها لا تنسجم مع مدرسة أهل البيت عليهم

السلام.. فكان هذا الكتاب..

ونحن علي يقين بأن حملاتهم التشكيكية وغيرها ضدّنا، ستكون هذه المرة أشدّ ضراوة وأقسي.. غير أننا نريد لكل المخلصين أن يطمئنوا إلي أن ذلك يزيدنا معرفة، وسيعزز من صلابتنا في نصرة الحق، وتوخّي المزيد من الصراحة في بيان الحقيقة، مهما كان الثمن..

ومن جهة أخري، وقبل حوالي ثلاثة أشهر سرقت إحدي مسوّدات هذا الكتاب، ورغم أنها كانت ناقصة بدرجة كبيرة، وغير منقحة، فقد بيعت لمن يهمهم الأمر بمبلغ كبير من المال، هو _ علي ذمة الشهود _ يعد بآلاف الدولارات!.

وعلي أثر ذلك نشطت مساع من هنا وهناك، كان من بينها ما شارك فيه عدد من أهل العلم، الأعزاء والأحباء، يطالبوننا بتأخير إصدار هذا الكتاب، ولو لمدة وجيزة، آخذين علي عاتقهم إقناع البعض بإصدار كتاب يشتمل علي تصحيحات من شأنها أن تحل الإشكال القائم وتعيد الأمور إلي نصابها. علي اعتبار: أن ثمة خطأ يحتاج إلي تصحيح ولا نُصِرّ أن يكون ذلك بأيدينا، فرحبنا بهم جميعا، وقطعنا علي أنفسنا وعدا بتأخير إصدار هذا الكتاب مدة عشرة أو خمسة عشر يوما، إذ لا يحتاج هذا المهم إلي أكثر من ذلك.

ثم مدّدت المهلة مرة ثانية. وفي المرة الثالثة مددناها لمدة شهر، ومضي أكثر من شهرين، وذهبت تلك الأيام التي حددت في تلك المرات، ولحقتها أيام عديدة أخري.. ونحن ننتظر الفرج..

وجاء الفرج أخيرا علي شكل كتاب تخيّل مؤلفه أنه يرد علي كتابنا "مأساة الزهراء (ع)" وكتاب "لماذا كتاب مأساة الزهراء (ع)" وتعرض أيضا لكتاب "الصحيح من سيرة النبي الأعظ_م صلي الله عليه وآله".

ولم يفاجئنا كل ذلك في حد نفسه. ولكن ما لفت نظرنا هو أنه قد تعرض بصورة مبطنة، فيها شيء من

إظهار (الشطارة) لكتابنا هذا بالذات، مستفيدا _ كما هو ظاهر _ من تلك النسخة التي سرقت وبيعت بذلك المبلغ الكبير من المال..

ومهما يكن من أمر، فقد أحببنا أن نعرف القارئ الكريم بحقيقة ما جري وأن ينتظر المزيد من أمثال هذه الأمور، فإن ذلك من حقه علينا..

وإذا كان ذلك قد أزعجه، فنحن نعتذر إليه وعليه منّا سلام الله، ورحمة منه وبركات.

وعودا علي بدء، نكرر ونقرر: أن الزهراء عليها السلام في مأساتها ومعاناتها، ومواقفها الرسالية، كما عرّفتنا الحق بعد وفاة النبي (ص)، ها هي في غيبة الولي توضح المكنون، وتظهر ما كنا عنه غافلين..

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

فصلوات الله وسلامه علي الزهراء، وأبيها، وعلي بعلها وبنيها..

المقدمة

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي الرسول المسدد، والمصطفي الأمجد، المحمود الأحمد، حبيب إله العالمين، سيدنا وشفيع ذنوبنا أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد..

لا نريد أن نتجنّي علي أحد، ولا أن نسيء إلي أي كان من الناس، وما نريده هو فقط أن نسهم في حفظ السلامة العامة من الوقوع تحت تأثير بعض الأفكار التي سجّلها البعض في مؤلفاته، وطرحها ليتداولها الناس في شرق الأرض، وغربها.

ونحن نري أن كل مؤلّف يحب نشر أفكاره، ولاسيما التجديدية منها.. ويرغب في أن يتداولها الناس، ليستفيدوا منها، أو لينقدوها، لتصبح أكثر دقةً، وأعمق تأثيرا..

ولكن الأمر في هذا المورد بالذات قد يكون علي عكس ذلك، فقد ينزعج البعض من نشر ما لديه من أفكار، رغم أنها كانت منشورة مسبقا في ثنايا الكتب، والنشرات، وعلي صفحات الجرائد والمجلات.

ولا ندري إن كنا سنتّهم من جديد بأننا نهدف من وراء ذلك إلي التشهير،

أو الإسقاط، أو أننا لم نفهم كلامه، ولم ندرك مقاصده، مع أنه يتكلم بلسان عربي، لا تشوبه عُجمة، ولا يعاني من لُكنة. كما أن من يستمعون ويقرؤون له إنما يفهمون الكلام العربي باللغة العربية ولا يفهمونه بغيرها من اللغات كالصينية أو الهندية أو الكردية، وهم في أكثرهم _ أعني من يستمعون لذلك البعض _ أناس عاديون، فيهم الكبير والصغير، والمرأة والرجل، والمثقف وغير المثقف.

ومهما يكن من أمر، فإننا قد صرّحنا والمحنا إلي أن ما دعانا إلي كتابة كتاب (مأساة الزهراء (ع) شبهات وردود) ليس هو خصوص قضية كسر الضلع الشريف للزهراء البتول، والصديقة الشهيدة. بل هو دفع ما أثير من شبهات خطيرة حول ظلم الزهراء وما جري عليها، ثم الإلفات والتحذير مما هو أوسع وأشمل، وأكبر وأخطر، وأمرّ وأدهي..

ونحن في ضمن كتابنا هذا بأقسامه المختلفة، نعرض مجموعة من مقولات "جريئة" سجلها البعض في مؤلفاته المنتشرة في مختلف البلاد، وبين أصناف شتي من العباد، وللقارئ الكريم الحق في أن يؤيد ما فهمناه واستفدناه منها، أو يرده، إذا اقتضي الأمر _ بنظره _ أياً من الرد أو القبول، شرط أن يكون ذلك وفق المعايير الصحيحة والموضوعية، ووفق النصوص القرآنية، والتوجيهات الثابتة عن أهل بيت العصمة (ع)، وما هو ثابت ومعروف في مذهب الشيعة الأمامية.

ولنا أن نوفّر علي القارئ الكريم الجهد والوقت، لنقول له إن هذه المقولات التي أوردناها، إنما أوردناها للتدليل علي أنها مقولات لا يصح القبول بها، وتبنيها كجزء من تكوينه الفكري والإيماني، ومن أراد ذلك فعليه إن لم يكن قادرا علي تمحيصها بالوسائل العلمية الصحيحة، أن يرجع إلي علماء الأمة ليوقفوه علي ما فيها من هنّات، وما تشتمل عليه من إشكالات وثغرات.

وغني عن القول: أن ما سوف نورده هنا يتفاوت ويختلف الأمر فيه من حيث الأهمية، ثم في طريقة التعاطي معه، فقد نورده لخطأ الرأي فيه بحيث يحتاج إلي التصحيح، وقد نورده لفساد طريقة التعاطي معه، ولوجود خطأ أساسي في معالجته له.

وبعدما تقدم نقول: لنفترض أننا استطعنا أن نجد لكلام هذا البعض تأويلات بعيدة، ومحامل شاذة وغير سديدة. ولكن ما يثير تعجبنا، وتساؤلنا هو أن يكون كل هذا الحشد الهائل الذي يعد بالمئات _ بل الألوف _ مما لا بد من تأويله أو حمله علي خلاف ظاهره، بالإضافة إلي الكثير الكثير مما يأبي عن أي حمل أو تفسير مقبول أو معقول!!!

ولقد كان بالأمكان التغاضي عن ذلك لو كان الخطاب شخصيا وفي نطاق محدود، أما حين يصبح الخطاب للناس كلهم، ثم يسجل في عشرات الكتب والنشرات وفي مختلف الوسائل المقروءة والمسموعة، ليتناقله الناس ويتداولوه جيلا بعد جيل، حيث سيفهمونه بعفوية، وبسلامة نية، وبالطريقة التي يستظهرها منه أهل المحاورة، فإن الأمر يصبح أكثر حساسيةً، وأهميةً وخطرا.. ويجعل الجميع أمام واجباتهم، ويفرض عليهم التعاطي مع الموضوع بصورة أكثر جدية ومسؤولية، حيث لا بد من التنبيه علي هذا الخطأ، وتحصين الناس من الوقوع فيه.

وحيث تتأكد الحاجة إلي إصلاح ما يحتاج إلي إصلاح، وإلي توضيح ما يحتاج إلي إيضاح، من دون أن يكون ثمة أية خصوصية للجهة التي تتولي تحقيق هذا الغرض النبيل، والعمل بهذا الواجب الشرعي والإنساني الجليل، فإن ما لا بد من مراعاته في عملية الإصلاح والإيضاح هذه، هو شموليتها لكل ما كتب ونشر، ولكل ما تتداوله الأيدي وتتناقله الألسن، أو استقر في الأسماع والقلوب.

ولا يكفي لتحقيق هذا الغرض حديث خاص هنا، أو حديث خاص

أو حتي عام هناك، يتضمن تأويلا أو تعديلا في مورد أو موارد يسيرة، قد لا تكون هي الأهم والأولي بالإصلاح من غيرها؛ فان ذلك لا يكفي في نفسه، بالإضافة إلي أن معناه أن تبقي نفس تلك الموضوعات، هي وغيرها مما يعد بالعشرات والمئات، مبثوثة في عشرات الكتب والنشرات، وفي مختلف وسائل الإعلام، يتداولها الناس في شرق الأرض وغربها، ويتوارثونها جيلا بعد جيل.

وهذا ما يؤكد الحاجة إلي إجراء تعديلات وإصلاحات مباشرة علي كل تلك المكتوبات والمنشورات، وفي كل ما قيل وأذيع، ثم إعادة نشره مع التأكيد _ توضيحا وتصريحا _ علي أن أي رأي أو قول قد يختلف عما ورد في هذه الطبعات الأخيرة لا اعتداد به ولا اعتبار له.

وفقنا الله جميعا للعمل بما يرضي الله ونسأله أن يجعلنا ممن ينتصر به لدينه، وان لا يستبدل بنا غيرنا، وان يثبتنا علي طريق الهدي، ولنا برسول الله صلي الله عليه وآله، وبأهل بيته الطاهرين أسوة حسنة، ومنار رشاد، وصلاح وسداد.

هذا الكتاب

وبعد كل ما تقدم نقول: إننا نقدم للقراء الكرام هذا الكتاب (خلفيات كتاب مأساة الزهراء) علي أمل أن يجدوا فيه ما ينفع ويجدي في توضيح الحقيقة، وتمييزها عن شوائب يحاول البعض لسبب أو لآخر إلحاقها بها.

ولكن من المحتمل: أن الأمر لن يقف عند هذا الحد، إذ قد يظهر أنّ ثمة حاجة لمتابعة إصدارتٍ أخري تبين موارد الخلل فيما ينشره هذا البعض بين الناس من مقولات.

وبما أن هذا البعض يقول تارة:

"إن 99، 99 % هو كذب وافتراء وبهتان.."

ويقول تارة أخري:

"إن 90% كذب وافتراء، وعشرة بالمئة تحريف للكلام عن مواضعه.."

فقد التزمنا في هذا الكتاب أن لا نأتي من كلمات هذا البعض

إلا بما هو مكتوب أو منشور ومتداول، ولا نتعرض إلي ما يذاع أو يباع علي شكل أشرطة تسجيل أو فيديو. إلا في حالات يسيرة تبلغ عددها أصابع اليد الواحدة.. وإن كنا نعلم أن ذلك لن يردعهم عن التمادي في الاتهام الظالم لنا بدبلجة الكلام مخابراتياً أو بغير ذلك!!!

الدوافع والنوايا

إننا لا نريد أن نتحدث عن الخلفيات، والدوافع، والنوايا التي تدفع لتسجيل هذا النوع من السعي لاقتحام المسلمات _ علي حد تعبير البعض _ لأن همنا هو لفت نظر القارئ إلي أن عليه أن لا يأخذ من أقوال هذا البعض شيئاً إلا بعد البحث والتمحيص، لأنه يتبني آراء خاصة به، ويلقيها إلي الناس، دون أن يبين لهم: أنها آراؤه الشخصية التي لا تتوافق مع مذهب أهل البيت عليهم السلام.

لا سباب ولا شتائم

وفي اتجاه آخر نشير إلي أن بيان آراء هذا البعض وطرح أقاويله علي بساط البحث ليس سباباً ولا شتماً له.. ولا يمكن أن يدخل في دائرة الخلافات الشخصية معه.. فلماذا يحاول هذا البعض الخلط بين هذين الأمرين وتصوير الأمر للناس علي أنه هجوم علي شخصه ثم هو يدعي: أنها هجمة مخابراتية، وان منشأها العقدة والغريزة وقلة الدين.. وأن من يناقشونه في أفكاره (كمثل الحمار يحمل أسفارا)، وان (مثلهم كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث).. وأنها إسقاط للرمز وو الخ… وأنهم حاقدون وحاسدون ومعقدون لا يخافون الله.

وإن كانت مناقشة أفكار هذا البعض تعني كل ذلك.. فإنه هو نفسه لم يزل يناقش أفكار العلماء _ الشيعة وغيرهم _ وينتقدهم.. ويوجه لهم أبشع الإهانات، وقد ذكرنا طائفة من كلماته في حقهم في بعض فصول هذا الكتاب.

فهل يرضي منا _ ولأجل هذا بالذات وفقا لمنطقه _ أن نجعل ذلك في دائرة العقد النفسية، والكيد المخابراتي، وعدم التدين وفقدان التقوي.. إلي آخر ما هنالك مما ألمحنا إلي بعض منه؟.

علي أن مناقشتنا لا تهدف إلي تسجيل أي هنات في شخصه، ولا في شخصيته، ولا في ممارساته العملية..

كما أنها لم تتضمن أية قائمة، لا طويلة، ولا

قصيرة في أي شأن من الشؤون _ لا في دائرة تعامله مع الناس ولا في نطاق المواقف والممارسات العملية للشأن العام، ولا في محيط الأخلاق والالتزام.

وذلك لأننا نربأ بأنفسنا عن الانجرار إلي هذه المزالق، أو الوقوف عند مثل هذه الأمور علي أننا قد تحيرنا مع هذا البعض، فتارة هو يقول:

"إنه هو المستهدف شخصياً، وإن المسألة تنطلق من أجواء عقد نفسية وحالات غرائزية".

وأخري يقول:

"إن الهدف هو إرباك (الحالة) وإن المخابرات الإقليمية والمحلية والدولية _ وحتي قمة شرم الشيخ هي رائدة هذا التوجه البغيض".

وأخري يقول:

"إن الصراع إنما هو بين ظاهرتي التخلف والتجديد".

ورابعة يقول:

"إن مرجعيته هي المستهدفة..".

إلي آخر ما هنالك من مفردات احتوتها قائمة البالونات الاعلامية، الهادفة إلي تمييع القضية الأساس، التي هي تلك المخالفات الخطيرة في أمور الدين والعقيدة.. والتي سنقدم في هذا الكتاب طائفة وفيرة منها..

ولا ندري إذا كان الإصرار علي تشويه الحقيقه سوف يضطرنا إلي متابعة إطلاع الأخوة الأبرار علي المخالفات التي ارتكبت والتي أثارت عاصفة من الاعتراضات القوية في الساحة..

الردود في الميزان

والذي يلفت نظرنا: أن هذا البعض يعمل باستمرار علي نشر ردود، علي كتبنا تهدف إلي إثارة الغبار، وذر الرماد في العيون.

ونلاحظ علي هذه الردود أموراً كثيرة نذكر منها ما يلي:

1 _ إنه يتم انتقاء موارد يسيرة جداً، يرون أن بإمكانهم المداورة، والمناوره فيها.. ولكنهم يتركون الأمور الأساسية، ولا يجرؤون علي الاقتراب منها..

2 _ إن هذه الأمور اليسيرة التي يتعرضون لها يحاولون أيضاً تغيير اتجاه البحث فيها ثم الإطالة في الحديث، والذهاب يمينا وشمالا حتي يضيع القارئ الكريم في فوضي الأقوال..

ونذكر نموذجاً علي ذلك، وللقارئ أن يقيس عليه الكثير من الموارد

_ ما ذكره البعض حول امتداد نسل آدم..

فإن إشكالنا الأساسي عليه هو في ثلاثة أمور هي:

أولاً: قوله:

"إنه لا طريق إلي امتداد النسل إلا تزويج الأخوة بالأخوات"

مع أن الله الذي خلق آدم وحواء، قادر علي أن يخلق لأبنائهما أناسي أجمل من الحور، ليمتد النسل من هذا الطريق..

ثانياً: قوله:

"إنه بعد امتداد النسل، استقام نظام العائلة، ولتنمو في جو طاهر من الناحية الجنسية"

فإن هذا يستبطن اتهاماً خطيرا لبيت نبي الله آدم عليه وعلي نبينا وآله الصلاة والسلام.

ثالثاً: قوله:

"إنه لا مناعة جنسية بين الأم وولدها.."

فتري: أن الذين تصدوا للدفاع عنه قد أقاموا الدنيا ولم يقعدوها في عمل خداعي يهدف إلي صرف نظر القارئ عن الإشكال الحقيقي إلي أمر آخر غير ذلك كله، وهو أنه هل يجوز تزويج الأخوة بالأخوات أم لا، مع أن هذا الأمر لم نبحث فيه، ولم نورده في جملة العناوين التي تحدثنا عنها وإن كنا قد أشرنا إليه إشارة عابرة.

3 _ إن عمدة ما يستدلون به هو أن فلانا قال كذا، وفلانا الآخر قال كذا.. وكأن الأدلة أصبحت خمسة هي:

الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، وقول فلان، أو فلان.

ونقول لهم: إذا قال أهل الأرض كلهم بأمر يخالف قول الله ورسوله والأئمة وقواعد الدين والمذهب الثابتة فإنهم يكونون مخطئين ولا بد من رد أقوالهم جميعاًً.

4 _ إن الكثير مما ينسبونه إلي العلماء يعاني من التحريف في معناه أو لفظه.. كما أوضح ذلك الذين واجهوهم بالأمر، وصدعوا بالحق فراجع كتاب (جاء الحق) و (الفضيحة) و (حتي لا تكون فتنة).. وغير ذلك من الكتب التي بينت ذلك حين ردت علي تلك المقولات التي أطلقها البعض.

5 _

إن ما ينقلونه أيضاً من أقوال العلماء لا ينسجم في معظمه مع ما يريدون، بل إن أكثره لا يشبه كلام هذا البعض في شيء، ولا يتضمن أية جرأة علي الأنبياء والمرسلين، وعلي الأئمة الطاهرين، ولا ينال من مقاماتهم التي وضعهم الله فيها.

فمثلاً لو قارنت بين كلام من يقول: إن سورة عبس وتولي نزلت في رسول الله (ص)، وبين ما قاله هذا البعض في هذا المورد لرأيت البون شاسعاً، والفرق كبيراً.. فإن من قال بنزولها فيه (ص) لم يزد علي ذلك أي توصيف.

فلم يقل مثلاً:

"لا تفعلوا مثل فعل النبي (ص)..".

ولا تكن "تكون (باللهجة العراقية أو اللبنانية العامية) [5] منطلقاتكم منطلقات النبي (ص)".

ولا قرر:

أن النبي يترك الأهم وينشغل بالمهم.

وأن النبي (ص) يقوم بتجربة غير ذات موضوع..

وأن الله يربي رسوله تدريجاً بعد الوقوع في الخطأ.

وأن النبي يستغرق فيما فيه مضيعة للوقت.

ويفوت الفرص المهمة.

ويخطئ في التشخيص.

ولا يعرف مسؤوليته المباشرة..

6 _ إنهم يحاولون التشكيك في النوايا فيما يرتبط بالإعتراض علي مقولات البعض:

فتارة يقولون: هي عقد شخصية.

وأخري إنها: خطط مخابراتيه.

وثالثة: إنها لأجل الطعن بمرجعية بعينها.

أو أي سبب آخر.…

ونقول لهم: ليكن الدافع أي شيء تفرضونه، فإن ذلك لا يبرئ صاحبكم من الأخطاء التي وقع فيها، ولا يجعل خطأه صوابا، ولا يعفيه من مسؤولية التصحيح والتراجع.

7 _ إنهم يتهمون من يعترض علي هذا البعض، الذي يريد صدم الواقع، ويسعي لاقتحام المسلمات، بأنه يثير فتنة.

ونقول لهم: إن إطلاق الاتهام بهذه الطريقة يذكرنا بقصة قتل عمار بن ياسر الذي قال رسول الله (ص) له: تقتلك الفئة الباغية، فلما قتل، وطولب معاوية بذلك قال: نحن قتلناه؟!

إنما قتله من وضعه بين أسيافنا.

دعوات فاشلة إلي الحوار

وبعد.. فإن ما يثير العجب حقا: أن هذا البعض لا يكل ولا يمل من التلفظ بالدعوة إلي الحوار في الهواء الطلق.. فإذا ندبناه إلي ذلك، وسيرنا إليه وسطاء الخير، وأصحاب النوايا الطيبة وتكررت المحاولات، واختلفت حالات الوسطاء في مواقعهم الاجتماعية، وفي ميزاتهم وسماتهم، وتكرر الذهاب والإياب، زرافات تارة، ووحداناً تارة أخري.. وبعد الكثير من الأخذ والرد والجلسات الطويلة، وحين يبلغ الحق مقطعه، فإنك تجده حين يجد نفسه محاصراً ومحرجاً يعلن رفضه لهذا الأمر، ويريح نفسه ويريحهم حين يطلب منهم إقفال الموضوع.

مع أننا لم يكن لدينا أي شرط سوي شرط واحد يتيم، وهو أن يتم الحوار أمام ثلة كبيرة من العلماء الذين هم من الطراز الأول، يختار هو نصفهم، ونختار نحن النصف الآخر، وذلك ليكونوا الحكم والمرجع حين تتباين وجهات النظر، وهم الذين يضعون حدا للمكابرة، أو التجني، إن حدث أي شيء من ذلك.

لا بد من إعلان التصحيح

وآخر ما نذكره هنا هو أن من حقنا جميعا أن نطالب من يقول: إن أفكاره ما تزال أفكاره منذ الثمانينات، وأنه يتحمل مسؤوليتها، نطالبه لتصحيح أفكاره، وبأن يعلن هذا التصحيح. كما أعلن الإصرار خصوصاً بالنسبة لكتابه "من وحي القرآن" حيث يقول عنه:

"إن جميع ما ورد في كتابه (من وحي القرآن) في الطبعة الأولي والطبعة الثانية التي هي طبعة دار الملاك، فهو صحيح، والإختلاف إنما هو في الأساليب".

مما يعني أن كل فكرة وردت في الطبعة الأولي فهي صحيحة، حتي لو حذفها من الطبعة الثانية، لأن الأسلوب يكون هو السبب في الحذف..

فكيف يفسر لنا إذن إنكاره لنبوة يحيي عليه السلام في الطبعة الأولي، وسكوته عن ذلك في الطبعة الثانية، فإن كل ما فيهما صحيح علي حد قوله.

وكيف يفسر لنا

ما قاله من أن فواتح السور (ألم وكهيعص) وغيرها هي من إضافات النبي في القرآن _ إن كانت السور التي وردت فيها هذه الأحرف مكية في أغلبها _ وهي كذلك.

وقد سكت عن هذا الأمر في طبعة دار الملاك، ولم يصرح بخطئه فيه ولا بخطئه في قضية يحيي، وإذا كان كل ما في هذه الطبعة وتلك صحيحاً.. فإن معني ذلك أنه منكر لنبوة من صرح القرآن بنبوته، وأنه يقول بأن النبي قد زاد في القرآن، وأن القرآن محرف بالزيادة فيه.

لماذا السباب، ولماذا الاتهام؟

علي أننا نقول:

إننا من جهة: نتوقع من هذا البعض الذي يعلن أنه سعيد بنقد الناس له، وأنه يقول: رحم الله امرءاً أهدي إلي عيوبي _ نتوقع منه _ أن يترحم علينا، وأن يكون سعيداً بهذا النقد.. وأن يعفينا من قوله عن مراجع الأمة وعلمائها في إذاعة تابعة له:

_ كمثل الحمار يحمل أسفارا.

_ كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث.. الخ.

_ بلا دين، بلا تقوي.. ولا تثبّت.

_ يفهمون الكلام بغرائزهم..

_ يعانون من عقدة وحسد..

_ متخلفون..

وما إلي ذلك..

هذا عدا عن وصمهم بأنهم عملاء مخابرات إقليمية، أو دولية، أو محلية… أوأنهم واقعون تحت تأثير المخابرات.

ثم هو يصور المراجع للناس علي أنهم (ألعوبة بلهاء شوهاء) بأيدي بعض المحيطين بهم، وأنهم يأتيهم الناس بقصاصات:

ما رأيكم بمن يقول كذا..

فيكتب هذا كذا وكذا. علي طريقة ويل للمصلين..

نعم.. إن الأمر أجل من ذلك وأخطر.

لا بد من الإنصاف

ومن جهة ثانية:

فإننا نتوقع من أي مؤمن ومنصف أن لا ينظر إلي هذا الأمر علي أنه خلاف شخصي بين فريق وفريق..

فكما يستبعد أن يكون شيء من ذلك قد صدر من هذا البعض، ويستبعد أن يكون هذا البعض لا يصرح له بالحقيقة حين يقول له: إن هذه الأمور مكذوبة أو محرفة..

فإننا نطلب منه أن يستبعد أيضاً أن يكون العلماء، ومراجع الدين في شتي بقاع الأرض قد كذبوا علي هذا الرجل.. أو أنهم يتحاملون عليه من موقع الحقد والضغينة، فإنهم أيضاً علماء مسلمون مؤمنون لهم حق علينا أن ننصفهم، وأن لا نظن بهم سوءاً، وأن نسمع منهم كما نسمع من غيرهم، وأن نحتمل الخير والصلاح فيهم كما نحتمل ذلك في من عداهم.

فلا يظن السوء بفريق

بعينه، ولا يتهمه ويتحامل عليه، ولا يرفض قراءة ما سجله من مخالفات، بل يقرأ لكل فريق، ويسمع من الطرفين، ويراجع المصادر ليطمئن إلي صحة ما يقال له.

موقف مراجع الأمة

ومن جهة ثالثة:

إن موقف المراجع وعلماء الأمة مما يجري.. لم يكن لأجل جر النفع إلي أنفسهم، إذ إنهم أتقي، وأجل من أن يظن في حقهم ذلك، وهم حفظة هذا الدين، والأمناء علي حقائقه، وأحكامه..

وإنما هدفهم هو تحصين أهلنا وأبنائنا من الانسياق وراء الخطأ في أمور لا تختص بفريق دون فريق.. ولا بطائفة دون طائفة، ولا بجيل دون جيل.

ويلاحظ: أن الإعتراضات قد انصبت بصورة أكبر علي الجانب العقائدي، وعلي المفاهيم والقيم، وعلي التفسير وعلي المناهج التي تحكم التوجه الفكري والعقيدي والمفاهيمي ولم تركز اهتمامها _ بصورة جدية _ علي المخالفات في نطاق الأحكام.

وما ذلك إلا لأن دائرة الأحكام تبقي محصورة في نطاق جماعة بعينها استطاع ذلك الشخص بأساليبه أن يؤثر عليها ويربطها بنفسه. وينتهي الأمر عند هذه الفئة، ولا يتعداها إلي الجيل الذي بعدها، حتي من أبنائها.

أما المفاهيم والحقائق الايمانية، وشؤون العقيدة، والتفسير فلا تقتصر علي من اليه يَرجع في التقليد. بل يأخذ ذلك الناس كلهم وقد يأخذونها من الحي ومن الميت علي حدّ سواء.

فإذا كان ثمة من خطأ فإن هذا الخطأ سينتشر في هذه المجالات، ولسوف لا يقتصر الأمر علي فئة دون فئة، أو جيل دون جيل.

فكان أن وقف مراجع الدين، وعلماء الأمة ليصونوا حقائق هذا الدين، حتي ولو أهينوا وحقّروا علي شاشات التلفزة، وصوروا علي أنهم ألعوبة في يد بعض المقربين منهم، أو يقعون تحت تأثير سياسات المخابرات.. وما إلي ذلك.

فإنا لله وإنا إليه راجعون...

خطر التحصن بالمرجعية

إن المشكلة هي أنه بعد أن افتضح الأمر في ما يرتبط بمقولات البعض الكثيرة جداً، والتي تعد _ ربما _ بالألوف، والمتنوعة جداً والتي تتعلق بقضايا العقيدة، وحقائق الدين والإيمان، والشعائر،

والتفسير، والتاريخ وما إلي ذلك.. ونشرت طائفة من هذه المقولات، وتصدّي لها العلماء ومراجع الأمة في النجف الأشرف، وفي قم المشرفة.. وسائر البلاد لجأ هذا البعض إلي أمر بالغ الخطورة، وهو التطلع إلي سدّة المرجعية، ليصبح كلامه أشد تأثيراً، وأكثر قبولاً عند الناس، حيث يضفي عليه هذا المقام مسحة من القداسة، وليدخل من ثم إلي وجدان الناس بطريقة عفوية، وبتسليم بعيد عن أي إحساس بالحاجة أو الميل إلي مناقشة الأمر، أو إلي التفكير فيه..

ورغم أن ظهور هذه الأمور، وقيام العلماء ضدها قد بدأ قبل إعلانه عن طموحاته في المرجعية بسنوات فقد ارتفعت الضجة العارمة ضد مقولاته في سنة 1993 م وهو إنما أعلن عن طموحات للمرجعية في سنة 1995 م.

نعم رغم ذلك، فإنه ما فتئ يقول للناس عبر الإذاعات، وأجهزة التلفاز، وفي الجلسات الخاصة: إن السبب في قيام الضجة هو تصدّيه لمقام المرجعية المقدس..

ما يهمنا هنا

ومهما يكن من أمر، فإننا لم نزل نؤكد علي أن ما يهمنا بالدرجة الأولي هو مقولات هذا البعض العقائدية، ولا تهمنا كثيراً آراؤه الفقهية، لأنها لا ولن تجدلها مكاناً مرموقاً بين فقهاء الأمة وأساطينها بعد أن كانت مرتكزة إلي منهجية بحث مرفوضة لدي علماء المذهب. غير أننا أحببنا أن نعطي القارئ الكريم صورة متكاملة ومتقاربة الملامح عن نهج هذا الرجل وعن آرائه، ولسوف يجد أنه حتي في مجال الفقه، لم يزل يقدم الدليل تلو الدليل علي أنه بعيد كل البعد عن مسلك فقهاء مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في منهجه الاستنباطي غير المرضي عندهم، لأنه يعتمد القياس والاستحسان وغيرهما من مناهج غير مرضية.

اعتذاراته الموجهة إعلاميا

ونضيف إلي جميع ما تقدم أن هذا البعض كان في بدايات ظهور مقولاته إلي العلن، وتنديد مراجع الدين بها.. واعتراض علماء الأمة عليها، ورفضها وتفنيدها.. _ كان _ يقول:

"إنهم يقطّعون كلامي..".

ويقول:

"إن ذلك مكذوب علي..".

ويقول:

"إن الأشرطة مدبلجة مخابراتياً..".

ويقول.. ويقول..

ولكن الذي شهدناه أخيراً هو تبدل قوي وملفت في السياسة مع المعترضين علي هذه المقولات. حيث توجهت أنظاره هو ومؤيدوه إلي الإعتراف والتسليم بأنها من مقولاته، واتجهت هممهم وجهودهم إلي إثبات: أن ثمة من يوافقه عليها من أهل العلم أو من المفسرين، أو ما إلي ذلك.. وارتكبوا في هذا السبيل الكثير من جرائم التزوير، والتحريف، حتي لكلام نفس هذا البعض صاحب المقولات الذي يناصرونه، ويدافعون عنه.

ونحن إذ نشكر الله علي هذا الإعتراف، فإننا نعيش أشد أنواع الأسي والألم تجاه هذه الفاجعة التي تحل بالدين من جراء هذا التزوير المتعمد والفاضح من قبل أناس يصح أن يقال فيهم: إنهم باعوا دينهم بدنيا غيرهم.

ونري في هذا الأمر خطورة

قصوي لا تماثلها خطورة.. ولا ندري كيف نوقف زحف هذا التزوير، ولا كيف نكافحه، ونقضي عليه..

وهذا الأمر لا يختص بنوع من مقولات هذا البعض دون نوع، بل هو منتشر في كل اتجاه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

هذه هي قناعاته

ومهما يكن من أمر فإننا نذكر في هذا الكتاب موارد كثيرة من أقوال البعض توضح لنا:

أن ما ذكرناه عنه لم يكن مجرد هفوة عابرة، نشأت عن عدم إلتفات منه أو أي سبب آخر، ليقال: إنها لا تمثل قناعة راسخة عنده..

بل إن ذلك الذي ذكرناه، وأمثاله كثير، يبين بما لا مجال معه للشك: أن هذه المقولات هي صفوة ما عنده من فكر، وأنه يتبناها، ويرددها وينشرها، وأنه يعتقد بها، ويدافع عنها بكل ما أوتي من قوة وحول..

شاهدنا علي ذلك: أنه قد أعاد طبع بعض كتبه، ومنها كتابه المعروف باسم (من وحي القرآن) ولم يغير منه شيئا ذا بال، ولا أصلح أياً من مقولاته الخطيرة والهامة، وإنما بدل بعض العبارات التي لا تحمل في طياتها أهمية تذكر، وإذا كان يقول علي المنابر وفي المناسبات، ما ربما يظهر منه خلاف ذلك، فإن إعلانه عن أن أفكاره لم تتبدل منذ الثمانينات كما أشرنا قريباً، ثم إصراره علي إبقاء ما كان علي ما كان يدلنا علي أنه يعرف أن ما يبقي هو المكتوب، أما الخطب والمقابلات، والمداولات في المجالس فإنها تتلاشي، وتزول، وهو يسعي لإرضاء الناس بكلام مبهم من جهة، ويصر من جهة أخري علي إبقاء كل شيء علي ما هو عليه، لتتداوله الأجيال من بعده، ومن يريد التأثير عليهم في العالم الإسلامي الكبير.. ليفرض علي الآتين أن يفهموا ما ورد في خطبه ومداولاته الشخصية، علي أنه إنما كان

تحت وطأة الضغوط التي واجهها..

انظر إلي ما قيل

ولي رجاء أكيد من القارئ الكريم، هو أن يراجع كتاب "مأساة الزهراء" في طبعته الثانية التي تشتمل علي كتاب "لماذا كتاب مأساة الزهراء".

وثمة رجاء آخر آمل أن لا يردّه القارئ عليّ، وهو أن ينظر إلي ما قيل في هذا الكتاب وفي غيره، ولا يكن همه النظر إلي من قال... ولتكن القاعدة القوية والحاسمة عنده هي "إن الحق لا يُعرف بالرجال، وإنّما يعرف الرج_ال ب_الحق". و "إعرف الحق تعرف أهله" و (أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع أمّن لا يهدّي إلا أن يُهدي فما لكم كيف تحكمون) [6] .

فليراجع النصوص التي نقلناها في مصادرها، وليقارن، ليتأكد من أننا لم نقطّع أوصال الكلام، ولا أخللنا بالنقل.

وليكن رائده هو معرفة الحق ليحدد موقفه من خلال معرفة تكليفه الشرعي الذي سيطالبه الله به يوم يلقاه، حيث (لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتي الله بقلب سليم). وإنا علي ثقة ويقين أن من يعمل بهذه القاعدة بصدق، وينطلق منها بإخلاص، فإن الله سيشرح صدره للحق وللحقيقة، وسيكون إن شاء الله مسدداً ومؤيداً من الله سبحانه...

قال تعالي: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).

ويلاحظ هنا:

ألف: يقول بعض الأخوة: إنك إذا تتبعت مقولات هذا البعض فستجد أنه قد تعرّض لمختلف الحقائق الإسلامية بالتشكيك، وربما إلي درجة النفي القاطع أحياناً.. لكن الملفت _ والكلام لبعض الأخوة _ أنه لم يتعرض حتي الآن بالتشكيك في الموضوعات التالية:

1 _ الخمس..

2 _ الصدقات والمب_رّات..

3 _ المرجعية، وفقاً لبعض المواصفات المناسبة!!

ويضيف هؤلاء الأخوة أموراً أخري، لا نحب أن نتعرّض لها، لأنها قد تصل إلي حد الاتهام..

ونحن لا نريد أن نتهم أحداً،

لأننا نعتقد: أن الأهم من كل شيء هو إلفات نظر الناس إلي مقولات نري أنها علي غاية في الخطورة لأنها تمسّ جوهر مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وتهدف إلي إثارة التساؤلات والشكوك حول أهم مفردات العقيدة، والكثير من حقائق الدين..

ب: إنه ربما يشعر البعض أن ثمة درجة من الجفاء، أو الجفاف في تعابيرنا، الأمر الذي قد يفسح المجال أمام التعللات الهادفة إلي التهرب من مواجهة الحقيقة، حيث يتمكنون من إثارة عواطف الناس، وتحريك مشاعرهم، وصرفهم عن حقيقة المشكلة حيث يصوّر هو للناس أو يصورون لهم أنه مستهدف، وأنه مظلوم.. وأنه وأنه..

ونقول:

لا بد من ملاحظة الأمور التالية:

أولاً: إن اللغة العلمية هي بطبيعتها لغة جافة، لأنها تسعي إلي وضع النقاط علي الحروف، بصراحة تامة، وبأمانة ودقّة.

ثانياً: إننا نرتاب كثيراً في صدقية كثير من الألقاب والمقامات والقداسات التي يحاط بها بعض الناس، ويتخذون منها ذريعة لمنع الناس من توجيه النقد، وحتي الإتهام المستند إلي الوقائع، وإلي الشواهد المكتوبة وغيرها.. التي يعطيها ذلك البعض لنفسه.. بل نقطع بما لا نحب التصريح به في هذا المجال..

ثالثاً: انه لا مجال لمجاملة من يجترئ علي مقامات الأنبياء والأوصياء، ويسعي لاقتحام مسلمات الدين والعقيدة والمذهب، ولا يصح: تعظيمه وتبجيله، وهو يصف الأنبياء بكثير من أوصاف المهانة، ويصورهم بصورة، هي اقرب إلي صورة المتخلفين عقلياً منها إلي صورة الإنسان العادي حتي إن شيخ الأنبياء فيها عنده بدرجة من السذاجة أنه ينظر إلي السماء نظرة حائرة بلهاء.

مع أنهم هم الذين اصطفاهم الله لرسالاته، وانتجبهم، واختارهم ليكونوا الأسوة والقدوة، والقادة، والهداة للعباد و.. وقدّمهم علي أنهم الإنسان النموذج، والأكمل والأفضل والأرقي، والأمثل..

إن الصورة التي يقدّمها هذا البعض للأنبياء

قد تجعل الإنسان العادي يعيد النظر في ما عرّفه وهداه إليه عقله عن الذات الإلهية، فيظن بالله الظنون _ والعياذ بالله _ فينسب إليه الجهل بمخلوقاته.. أو العمل علي غشهم، وعدم النصيحة لهم. حيث يختار أناساً غير لائقين بما يختارهم له.

وإن ما نورده في هذا الكتاب من مقولات هذا البعض يوضح هذه الحقيقة بجلاء تام.

هذا كله.. عدا عما يصف به هذا البعض أئمة الدين، وأولياء الله. وكذلك ما يصف به السيدة الزهراء عليها السلام، مما سيمر علي القارئ الكريم بعضه أيضاً في قسم مستقل إن شاء الله تعالي..

والحمد لله رب العالمين.

جعفر مرتضي العاملي

الفات نظر

إننا كنا قد اعتمدنا في بعض موارد هذا الكتاب علي الطبعة الأولي من كتاب البعض والمسمي _ زوراً _ (من وحي القرآن)، ولكن بعد أن صدرت الطبعة الثانية، آثرنا أن نعتمد عليها في سائر ما نورده من عباراته في كتابه المذكور لأن الوصول إليها أيسر، فعلي القارئ الكريم مراعاة هذه الجهة وملاحظة الطبعة الأولي فيما لا يجده في الطبعة الثانية، راجين منه أن يقبل اعتذارنا عن هذا الأمر.

تمهيد

_ حيث لا بد من الإشارة:

قد عرفنا: أن البعض قد أفصح في كتبه ونشراته، وفي محاضراته، ومحاوراته الإذاعية وغيرها عن أمور أثارت جوّا معيّنا.. وقد كتبنا كتابنا "مأساة الزّهراء (ع) شبهات وردود"، للردّ علي بعضٍ من ذلك..

وقبل أن نضع أمام القاريء بعضا آخر مما قاله ذلك البعض، مما يحتاج إلي توضيح أو تصحيح، نذكّر بالأمور التالية:

الأمر الأول:

إن بعض مسوّدات هذا الكتاب قد سرقت وبيعت بمبالغ كبيرة، في محاولة لعرقلة صدور هذا الكتاب والحد من تأثيره، ولنا أن نتوقّع في نطاق الإصرار علي هذه المقولات بعضا مما عرفناه وألفناه، كما كان الحال حين صدر كتابنا: "مأساة الزهراء (ع) شبهات وردود".

الأمر الثاني:

إن ما يحويه هذا الكتاب من مؤاخذات، ليس هو من الأمور التي يمكن إغماض النظر عن أي مورد منها، فلو فرضنا _ وفرض المحال ليس محالا _ أنه أمكن تلمّس بعض التأويلات لموارد قليلة مما ذكر، فإنه لا يمكن الإكتفاء بذلك، وغض النظر عن الباقي، لأن كل مورد فيه له أهميّة كبيرة، وقسم منه يتمتع بدرجة عالية من الحساسية والخطورة، فيما يرتبط بالتكوين الفكري، علي مستوي المذهب.

الأمر الثالث:

إننا نتوقّع أن تنصب ردودهم وإثاراتهم علي الأمور التالية:

1ً _ سيقولون إنها

نصوص مجتزأة لا تمثّل الحقيقة كلّها.

ونحن نرجو من القاريء الكريم أن يتأكّد من الأمر بنفسه، ليجد: أن هذا الكلام ليس دقيقا.

2ً _ سيقولون إن كلام ذلك البعض لم يفهم علي حقيقته، أو إنه لا يقصد ما فهم منه..

ونقول:

أولاً: إننا نطلب من القاريء الكريم أن يراجع كلام ذلك البعض، ليفهمه بنفسه، ليتبين له هل يصح أن يعتمد علي ما يقال له من تأويلات بعيدة عن ظهور الكلام ودلالاته، أم لا يصح له ذلك.

ثانياً: ليكتب صاحب تلك المقولات إيضاحات لمقاصده، ويضمها إليها، ليقرأها القاريء معا مباشرةً، ويكون بذلك قد حصّنه عن الوقوع في فهم خلاف مقصوده.

3ً _ قد يقال: إن هذا الكلام قد قيل في مقامات مختلفة تختلف وتتفاوت، ولكل مقامٍ مقال..

ونقول:

لا بدّ من بيان خصوصيات المقام الذي قيل فيه، إذا كانت تلك المقامات بمثابة قرائن متصلة علي المراد؛ ليعرف الناس ذلك؛ فإن الناس لا يعلمون الغيب، ومن سيولد بعد مئة سنة سيكون أبعد عن هذه المقامات، وعن معرفة تأثيرها في دلالة الكلام.

كما أنّ لنا أن نسأل هنا:

هل المقام الذي قيل فيه هذا الكلام يفرض هذه التنازلات، أو تلك الإعترافات؟!

وهل ستستمر سلسلة التنازلات هذه في المقامات المختلفة؟!

وهل سيأتي يوم نتنازل فيه عمّا هو أهمّ وأعظم؟!

وهل هذا الحشد الهائل هو من بوادر ذلك وإرهاصاته؟!

وهل كل هذا الكم الهائل وسواه أضعاف كثيرة، قد اقتضته المقامات المختلفة؟!

أم أنّ أكثره قد كتب ونشر بمبادرة مباشرة، ومن دون أن يكون ثمّة مقام يقتضيه؟ أو يفرض له وعليه قيودا وحدودا؟!..

4ً _ قد يقال: لماذا تتمسّك بهذا القول بالذات، وتترك ما سواه من أقوال أخري لهذا البعض نفسه؟.

وجواب ذلك واضح:

أولاً: إن الطبيب إنما يلاحق موضع الداء، ويضع إصبعه علي الجرح ويعالجه، ولا شغل له بما هو صحيح وسليم.

ثانياً: إن ذلك البعض قد أعلن في ندوة له قبل مدّةٍ يسيرة: أنه مسؤول عن كل ما كتبه منذ ثلاثين سنة وهو ملتزم به [7] .

وقال أيضا:

"إنني عندما انطلقت في العمل الإسلامي والفكري منذ ما يقارب ال 45 عاما كنت أعتقد في كل ما كتبت وحاورت وحاضرت وكانت حصيلة ذلك عشرات الكتب وآلاف المحاضرات" [8] .

وهذا الذي نقدّمه هو بعض ما صدر منه وعنه.

ثالثاً: إذا كانت أقوال هذا البعض متناقضة، فليدلّ علي الصحيح منها، ليؤخذ به، وليبين للناس الفاسد ليُجتنب عنه، فإنّ بيان ذلك من مسؤولياته، أيضاً، كما أن من مسؤولياته أن لا يتكلم بالمتناقضات.

5ً _ قد يقال: إن بعض الموارد التي يرد عليها الإشكال، قد ذُكرت لها في مواضع أخري حدود وقيود تجعلها مقبولة ومعقولة..

ونقول: إن من الواضح أن من يكتب شيئا في مقالة ما، فإنه لا يصح له أن يطلب من الناس أن يقرأوا ما كتبه طول عمره، ليعرفوا ماذا يقصد بكلامه في مقالته تلك، وليس له أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فيفصل بين مراده وبين الشاهد والقرينة عليه؟!

وما هو الداعي له ليجعل البيان في كتب أخري، فإن الأولي هو إصلاح نفس الكتاب الذي يشتمل علي الخطأ، ثمّ إعادة طباعته، أمّا تسجيل الإصلاح في كتب قد لا تصل إلي جميع من سيقرأ له؟.. أو في محاضرة أخري قد لا يسمع بها قرّاء مقالته تلك، ولا تمرّ عليهم؟! فلا أثر له، ولا يمكن أن يحل المشكلة، لاسيما مع تكرر صدور هذه المقولات عنه.

بل

لماذا يجعل الجواب في موضع آخر من الكتاب نفسه، خصوصا إذا كان ذا أجزاء عديدة، قد تصل إلي خمسة وعشرين جزءا، حيث لا يخطر في بال الكثيرين أن يقرأوه كله، وإذا خطر ذلك لبعضهم، فقد لا يمكنه ذلك.

وهل يصح أن يقال: إنه من أجل معرفة المراد من آية قرآنية، لا بد من قراءة تفسير القرآن كله بجميع أجزائه؟!

ثم ما هي الضمانة في أن تصل تلك الموارد التي تتضمن الفكرة الصحيحة للأجيال اللاحقة، فلعلّها تضيع _ كما ضاع غيرها _ وتصل إليهم الأفكار التي هي موضع الإشكال.

6ً _ قد يقال لك في بعض الموارد: قد ذهب فلان من العلماء إلي هذا القول، أو إلي ذاك القول..

ولكن لماذا لا يقال لك: إن ألوفا بل عشرات الألوف علي مرّ التاريخ، وكلّهم من كبار العلماء، وأفذاذ الرجال قد قالوا بخلافه؟!..

ولماذا لا تلاحظ الحقيقة التي تقول: إن معالم المذهب إنما تؤخذ من مشهور علمائه، الذي يمتلك الأدلة القاطعة علي ذلك، ولا يصح نسبة رأي شذّ به هذا العالم أو ذاك العالم إلي المذهب. فمثلا لا يصح أن يقال: الشيعة يقولون ويعملون بالقياس لأن واحدا من علمائهم كان يعمل به – لو صحّت النسبة إليه – فإن رفض القياس معروف من مذهب الشيعة، فمن يقول به يكون مخالفا للتشيع، حتي وإن كان ثمة عالم من السابقين يقول به، وإن الزواج المؤقت معروف من مذهب الشيعة، فلا يصح الخروج علي ذلك، بحجة أن فلانا العالم قد ذهب إلي رأي آخر.

ولو أردنا أن نجمع شذوذات العلماء إلي بعضها البعض، ف_ق_د يتكون لدينا مخلوق جديد، له مواصفات وحالات تجعله أعجوبة، ما دام أنه قد لا يشبه أيّا مما

نعرفه ونألفه.

علي أن من الواضح: أن كثيرا من الأمور الإيمانية، لا بدّ أن تؤخذ من النصوص، وقد جمعت تلك النصوص من كتاب إلي كتاب، ومن عالم إلي عالم، في ذلك الزمان الصعب، وضم بعضها إلي بعض بصورة تدريجية، حيث تبلورت النظرة من خلال ذلك، وقد كان طبيعيا أن يتأخّر الإلتفات إلي بعض القضايا، أو أن يعطي عالم ما رأيا خاطئا فيها، ولاسيما إذا كانت من الأمور التفصيلية، أو تلك التي تحتاج إلي توثيق وتدعيم بالشواهد الكثيرة، والنصوص الغزيرة، خصوصا إذا كان أمرا يقل التعرّض لذكره، أو يصعب الإنقياد له..

وكجزء من التمهيد نذكر ما يلي:

عقائد الشيعة (متوارثة).

عقائد الشيعة قد يكون فيها الخطأ.

هل في عقائد الشيعة بدع؟!!.

أسعي لاقتحام المسلّمات.

لقد قُدّمَ إلي البعض سؤال يقول:

هناك فكرة لدي البعض مفادها لزوم ترك التحدّث في الأمور العقائديّة، حتي ولو كانت محل حاجة الناس الفكريّة، والإقتصار في ذلك علي المجالس الخاصّة للعلماء، وذلك خوفا من أن تتزلزل عقيدة العامة، فهل في الإسلام ما يبرّر كتمان العلم والإقتصار علي تثقيف الخاصة وحسب، وما هو الصحيح في هذه الفكرة؟

فاعتبر أنّ هذا الطرح قد جاء بدافع الخوف علي موروثاتهم.. لا أنّه جاء بدافع الحرص علي عدم إدخال الناس في بلبلة فكريّة واعتقاديّة، فهو يقول:

"يخاف البعض أن يؤدي طرح المسائل الفكرية والعقائدية إلي مس أفكار متوارثة قد تكون صحيحة وقد لا تكون".

ويقول:

"بأنّه ليس من حق أيّ عالم أن يطرح القضايا التي تثير الجدل أمام الناس، وأن عليه أن يقتصر في ذلك علي العلماء الذين يناقشهم ويناقشونه حذرا من (ضياع) الناس.

وربما يلاحظ عليّ بعض إخواننا أنني أطرح القضايا وأثير التساؤلات في الهواء الطلق،

ويعتبرون أن بعض الأفكار المطروحة قد تصدم الذهنية العامّة المتوارثة، ويرون أن ذلك خطا، لأنه يولّد جدلا ومشاكل تضعف عقائد الناس" [9] .

ثم بدأ يستدل علي صوابية موقفه بأن القرآن قد طرح أفكار المشككين في النبي، كقولهم ساحر، مجنون، وكاذب، ثم قال:

"ولو أن كل مصلح أو عالم أخفي أفكاره عن الناس، فكيف ستصل الحقيقة إليهم" [10] .

نعم، لقد قال هذا البعض ذلك، مع أن القرآن إنما ذكر أقوال المشركين في مقام الإنكار والتهجين لها، هذا مع أنها ليست أفكارا وإنما هي شتائم.

ثم إن ذلك البعض خاطب الناس بقوله:

"لا تبيعوا عقولكم لأحد، ولا تبقوا علي جمودكم علي غرار ما ذكرته الآية الكريمة: (أنا وجدنا­ آباءنا علي أمة وإنا علي آثارهم مقتدون)(الزخرف 13)، لأن كل جيل يجب أن ينفتح علي الحقيقة وفق ما عقله وفكر به".

ولكن قد فات ذلك البعض أن عدم إشراك العامّة في البحث الفكري والعقائدي _ عند القائلين بذلك _ إنّما هو في مرحلة التحقيق، لا في إطلاعهم علي النتائج، ولا يلتزم القائلون بهذا القول، بعدم إشراك جميع الناس في ذلك، بل يقتصرون علي من ليس عندهم الأهلية للتحقيق.

وهذا لا ينطبق علي الأمور الفكرية والعقائدية فقط، وإنما علي جميع العلوم، فلا يُتوقع أو يُطلب من باحث الطبّ أن يشرك أو يُطلع جميع الناس علي تدرجه في البحث مرحلة فمرحلة، ولا الباحث الفيزيائي، ولا سواه في أي علم من العلوم، فلا معني لقول البعض:

"لو أن كل مصلح أو عالم أخفي أفكاره عن الناس، فكيف ستصل الحقيقة إليهم".

فإنّ ثمرة جهد الباحثين والمحققين ستصل إلي الجميع، وتكون مشتركة بينهم، وتعمّهم فائدتها.

وسيأتي كلامه بنصه الحرفي والذي يعتبر فيه

أن المشكلة هي: أن الشيعة لا يريدون أن يتنازلوا عن شيء مما ورثوه.

ثم يقول:

"إنني أشعر بأن مسؤولية العالم أن يظهر علمه إذا ظهرت البدع في داخل الواقع الإسلامي وخارجه، وإذا لم يفعل ذلك (فعليه لعنة الله) كما يقول النبي (ص)، والله تعالي قال: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدي من بعد ما بينّاه للناس أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)(البقرة 159) [11] .

إذن، فهو يري أن ما يطرحه هو البينات والهدي،وأن هناك بدعا في عقائدنا، وأن عليه أن يظهر علمه لإزالتها،علي أساس أنه لا يؤمن بأن الناس عوام يجب أن نبقيهم علي جهلهم.

حيث يعقب ذلك بقوله:

"أنا لا أؤمن بأن الناس عوام يجب أن نبقيهم علي جهلهم،إنما يجب أن نثقفهم ليعوا دورهم ومسؤولياتهم في الحياة وأمام الله تعالي.

إني أري أن من الخطأ إثارة القضايا في المجالس الخاصة وحسب،بل لا بد من أن نثيرها في المجالس العامة بالطريقة التي تحقق للناس توازنا في فهمهم وأفكارهم،حتي يعيشوا ثقافة الإسلام بوعي وفهم وتدبر لأن الله لم يخاطب الخاصة ليحولهم إلي طبقة مغلقة، ولكنه خاطب الناس والمؤمنين جميعا.

وإذا كان بعض الناس يختلفون معي في الرأي أوفي فهم القضايا لأن لهم وجهة نظر أخري، فليس معني ذلك أن آرائي التي أطرحها تؤدي إلي نتائج سلبية علي مستوي الحقيقة أو في الواقع،بل قد تكون سلبية علي مستوي آرائهم. وإذا كان هؤلاء لا يجدون مشكلة في طرح أفكارهم علي الناس لأنهم يرون صوابيتها، فما المشكلة في طرح أفكار أخري يعتقد أصحابها بصوابيتها؟ علما أن اختلافك مع الآخر لا يعني أنك تمثل الحق المطلق،ليكون الآخر في موقع الباطل المطلق".

إذن، فهو يعتبرها أفكارا في مق_ابل أفكار،وآراء

في مق_ابل آراء، ووجهات نظرٍ تقابلها وجهات نظرٍ أخري، وعقائد موروثة.. وقد يكون فيها الخطأ.

غير أن الذي لم يتضح بعد، هو أنها إذا كانت كذلك، كيف ثبت له أن ما عدا أفكاره ووجهات نظره وآراءه هو بدع لا بد من إظهار علمه لإزالتها؟!..

ومهما يكن من أمر، فإن ذلك يجعلنا نفهم ما يرمي إليه حين يعلن أنه: "يسعي لاقتحام المسلّمات"، فهو يقول:

"إنني أحاول أن أبحث عن الحقيقة،وأسعي إلي اقتحام المسلّمات،لأن المسلّمات قد تكون ناتجة من حال ذهنية معينة وقد تصير مسلّمات وهي ليست كذلك. بعض الناس يخاف اقتحام المسلّمات وحتي اقتحام المألوف. ولكن عندما نريد أن نصنع تاريخنا وفكرنا علينا أن نفكر علي أساس البحث عن الحقيقة ومراعاة واقع العصر".

وأضاف:

"علي صاحب التفكير المنفتح أن يتحمل ضربات التيار الذي يقف في وجهه،وأن يتحمل الرجم بالحجار الاجتماعية والسياسية" [12] .

المنهج الفكري والإستنباطي (قواعد و مبان للفكر والإستنباط)

قواعد و مناهج

بداية

قبل الشروع في استعراض مقولات هذا البعض علي مختلف الصعُد الدينية، والفقهية، والأصولية، والعقائدية، والتفسيرية، وغيرها، أحببت أن أعطي القارئ الكريم لمحة عن الطريقة الفكرية والمنهج الاستنباطي الذي ارتضاه هذا البعض لنفسه، ليكون لديه هو الآخر صورة عن هذا المنهج فإن ذلك سيساعده علي فهم كثير من الأمور التي سترد عليه في أقسام الكتاب المختلفة، إذ لا ريب أن أولي الأولويات في سياق الهدف الذي ننشده من وراء الكتاب هو إحاطة القارئ الكريم بظوابط البحث وقواعد الإستدلال التي يعتمدها البعض ليسهل عليه بعد ذلك، وفي كل مورد مورد، تطبيق ما عرفه من قواعده وضوابطه _ إن صح تسميتها ضوابط _، وليتضح له أن الأمر ليس مجرد فلتة لسان هنا، أو زلة هناك، بل إن هناك منهجاً كاملاً مضطرب الأركان مختل الركائز، قد نسج

من شذوذ في بعض سماته، ومن شبهات في بعضها الآخر، ومن أباطيل وتزييفات في عمدة ملامحه حتي غدا مخلوقاً عجيباً لا تجد له نظيراً في فكر مفكر أو منهج مذهب من المذاهب، لا يراد به إلا خدمة غرض معيّن يعلمه الله تعالي، ونحن بفضل الله نعلمه، فعسي القارئ الكريم أن يعلمه أيضاً، فإلي ملامح هذا المنهج في العناوين التالية:

المنهج الاستنباطي

إننا فيما يرتبط بالمنهج الإستدلالي لذلك البعض، نكتفي بذكر النقاط التالية:

العمل بالقياس عند الحاجة ولو في مسألة واحدة.

النهي عن القياس لأجل عدم الحاجة إليه.

إنه لا مانع عند البعض من العمل بالقياس وغيره من الطرق الظنية في أي مورد لا يجد في الكتاب وفي الحديث، ما يفيد في إنتاج الحكم الشرعي. علي اعتبار أن نهي الأئمة عن العمل بالقياس إنما هو بسبب عدم الحاجة إليه. فإذا احتاج الناس إليه ولو في مسألة واحدة فلا مانع من العمل به [13] .

وقد صرّح بذلك في كتابه تأملات في آفاق الأمام الكاظم عليه السلام، كما سنري.. مع أن ما ورد عن أئمة أهل البيت من النهي الصحيح والصريح عن القياس لا مجال للنقاش فيه، وهو معروف من مذهب الشيعة الأمامية..

ونختار بعض ما كتبه ذلك البعض حول موضوع القياس، فهو يقول:

"جاء في الحديث عن الأمام موسي الكاظم (ع) ما رواه المفيد بسنده عن الحسن بن فضال عن أبي الفراء عن سماعة عن العبد الصالح: سألته فقلت: إن أناسا من أصحابنا قد لقوا أباك وجدّك وسمعوا منهما الحديث فربما كان شيء يبتلي به بعض أصحابنا وليس عندهم في ذلك شيء يفتيه، وعندهم ما يشبهه، يسعهم أن يأخذوا بالقياس؟ فقال:لا، إنما هلك من كان قبلكم بالقياس، فقلت

له: لم لا يقبل ذلك؟ فقال: لأنه ليس من شيء إلاّ جاء في الكتاب والسنة.

إن هذا الحديث يوحي بأن رفض القياس كان بسبب عدم الحاجة إليه لشمولية الكتاب والسنة لكل ما يحتاجه الناس من الأحكام الشرعية في شؤون الحياة العامة والخاصة بحيث يمكنهم أن يجدوا فيها المعالجة الخاصة للقضايا الجزئية، والمعالجة العامّة للقواعد الكليّة المنفتحة علي أكثر من موقع.. فيكون الرجوع إلي القياس رجوعا إلي ما لا ضرورة له، بالإضافة إلي أنه لا يملك أساسا للحجيّة لأنه يعتمد علي الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، لاسيما أن علل التشريع قد لا تكون واضحة وضوحا كليا بالمستوي الذي يستطيع الإنسان أن يدرك معه أساس التشريع في هذا المورد بشكل قطعي ليستنتج من ذلك حكم المورد الآخر الذي يشابهه، فقد يدرك الإنسان جانبا من المدرك ويغفل عن الكلية التي تزن الأمور بميزان دقيق، حيث يختلف في الموضوع حسب الإنطباعات الذاتية في فهمهم لأسرار الحكم والموضوع معا".

إلي أن قال:

"وقد ورد في بعض الروايات أن الأمام موسي الكاظم سأل أبا يوسف عندما سأله عن الفرق بين التظليل للمحرم في الركوب وفي النزول، فقال له ما تقول في الطامث أتقضي الصلاة؟ قال: لا، قال: فتقضي الصوم؟ قال: نعم. قال: ولم؟ قال: هكذا جاء. فقال أبو الحسن: وهكذا جاء هذا.

وهذا الذي أراد أهل البيت أن يؤكدوه، وهو أن دين الله لا يصاب بالعقول، لأن العقول تدرك بعض الأمور ولكنها قد تغفل عن إدراك البعض الآخر مما يوحي بأن الحكم الشرعي لم يستكمل ملاكه بشكل دقيق وهذا ما نلاحظه في اختلاف الحكم في بعض الموارد المتشابهة في أكثر من وجه كما في الصلاة والصوم اللذين تجمعهما الناحية

العبادية، ولكن حكمهما في القضاء مختلف، وهكذا أمر الله في كتابه بالطلاق وأكد فيه شاهدين ولم يرض بهما إلاّ عدلين، وأمر في كتابه بالتزويج وأهمله بلا شهود.

وربما نستفيد من الحديث الأول الذي يؤكد عدم الحاجة إلي القياس لوفاء الكتاب والسنة بجميع الأحكام، أن الأمر لو لم يكن كذلك بحيث كانت هناك حاجة ملحة إلي معرفة الحكم الشرعي لبعض الأمور ولم يكن لدينا طريق إلي معرفته من الكتاب أو السنة، فإن من الممكن أن نلجأ إلي القياس أو نحوه من الطرق الظنية في حال الانسداد انطلاقا من أن الإعتماد علي الطرق الظنية العقلائية أو الشرعية كان مرتكزا علي الحاجة إليها لإدارة الشؤون العامة للناس بحيث لولاها لاختل نظام حياتهم لأن العلم وحده لا يكفي في ذلك، ولكننا قد لا نحتاج إلي ذلك لأن في القواعد العامة كفاية، ولأن في توسعة الإستظهار بإلغاء الخصوصية التي تجمد الحكم في مورد خاص من جهة الفهم العرفي الذي لا يجد للخصوصية أساسا في الحكم ونحو ذلك" [14] .

ويقول أيضاً:

"إننا نتصور أنه لا بد لنا من أن ندرس هذه الأمور دراسة أكثر دقّة وأكثر حركية باعتبار أننا نستطيع في حال استنطاق الحكم الشرعي الوارد في هذا المورد نستطيع أن نصل إلي اطمئنان في كثير من الحالات من خلال دراستنا لعمق الموضوع الذي نحيط به من جميع جهاته مقارنا بموضوع آخر مشابه له في جميع الحالات مما يجعل احتمال اختلافهما في الحكم احتمالا ضعيفا بحيث لا تكون المسألة ظنية بالمعني المصطلح عليه للظن، بل قد تكون المسألة تقترب من الإطمئنان إن لم تكن اطمئنانا، إن المشكلة هي أن الدراسة الأصولية والفقهية تؤطر ذهنية الإنسان في هذه الدائرة الضيقة. ومن

هنا ينشأ الإنسان وفي قلبه وحشة من أن يمد الحكم الثابت لموضع إلي أمثاله، لأن ما أسميه لغة القياس التي تألفها الذهنية الشيعية تجعل كل شيء قياسا عندهم حتي ولو كان الإحتمال احتمالا بعيدا جدّا، لأنهم إذا لم يستطيعوا أن يشيروا إلي خصوصية الإحتمال في مضمونه، فإنهم يطلقون الإحتمال في المطلق ويقولون إن الله اعلم بالخصوصيات ونحن لا طريق لنا إلي معرفتها بحيث يغلقون الباب علي أي استيحاء واستلهام للملاك الشرعي.

حتي إننا نجد بعض الأصوليين عندما يتحدثون عن مورد من الموارد التي كانت متعلقة بالأمر الذي يكشف عن وجود ملاك ملزم في الموضوع، فإننا نراهم أنهم إذا حدث هناك أي عنوان يسقط الأمر؛ إمّا من جهة عدم القدرة أو من أي جانب من الجوانب أو من جهة التزاحم بأمر آخر أهم مثلا، بحيث يصبح الموضوع من دون أمر، فإنهم يقولون إنه لا يمكننا أن نتقرب، إذا كان المورد مما يتقرب به إلي الله بالملاك عينه لأننا لا نحرز وجود الملاك إلا من خلال الأمر، فإذا سقط الأمر ولو من خلال أشياء أخري طارئة خارجية عن ذات الموضوع فإننا لا نحرز الملاك، ولذلك فنحن لا نستطيع أن نعتبر هذا الموضوع واجدا للملاك الشرعي بحيث نرتب عليه آثار أي موضوع وارد من ملاكه، فيما هي من آثار الملاك.

ما نتصوره أن علينا أن نعيد دراسة الأحاديث التي وردت في رفض القياس عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، لأن الواضح أن بعض القضايا التي رفض فيها نقل الحكم من موضوع إلي موضوع آخر كانت منطلقة من أن السائل اعتقد الملاك في جانب مقاس بينما كان الملاك شيئا آخر لا يسمح بهذا القياس، لأنه لا يحقق عناصر القياس

كما نلاحظ في رواية أبان بن تغلب عن أبي عبد الله الصادق (ع) " قال: قلت له: ما تقول في رجل قطع اصبعا من أصابع المرأة؟

قلت: كم فيها؟

قال: عشر من الإبل.

قلت: قطع اثنتين.

قال: عشرون.

قلت: قطع ثلاثا.

قال: ثلاثون.

قلت: قطع أربعا.

قال: عشرون.

قلت: سبحان الله، يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون!؟... إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان!؟

فقال: مهلا يا أبان! هذا حكم رسول الله (ص) إن المرأة تعاقل الرجل إلي ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلي النصف. يا أبان إنك أخذتني بالقياس. والسنّة إذا قيست محق الدين".

"إذا تنطلق المسألة من جانب آخر، لا من جانب العدد بالمقام، وإنما من جانب طبيعة مشاركة المرأة في العقل الديتي (أي الدية) التي تتحملها العاقلة، فالقضية لها جانب آخر هو تصور الملاك في جانب ولكن هناك ملاك آخر في جانب آخر، ربما نجد بعض الحالات التي لا مجال فيها حتي للقياس، كما في قضية قضاء الصوم بالنسبة إلي ذات العادة وعدم قضاء الصلاة وهكذا.. إنني أتصور أن ثمّة مسلّمات درج عليها الأصوليون والفقهاء في الحكم الشامل بالنسبة إلي القياس.

ويمكننا أن نعيد النظر فيها، فلعلنا نكتشف شيئا جديداً. وفي هذا الإطار، لا بد من الإلفات إلي أحد محفزات العمل بالقياس عند بعض المذاهب، وهو انطلاقه من ضرورة معرفة الأحكام مع قلة الأحاديث الصحيحة، فلجأ هذا البعض إلي القياس لملء الفراغ كما حصل مع الأمام أبي حنيفة الذي كان أول من نظّر للقياس وعمل به، إذ لم يصح عنده من أحاديث النبي (ص) إلاّ ثمانية عشر حديثا حسب ما

أذكر. بمعني أنه لا يملك أي مصدر لاستنباط الحكم الشرعي، وهذا ما نعبر عنه بانسداد باب العلم والعلمي، ومن الطبيعي أنه إذا انسد باب العلم بالأحكام أو باب الحجج الخاصة، أي ما يعبر عنه بالعلمي، فإننا لا بد أن نرجع إلي حجية الظن علي بعض المباني، كمبني الكاشفية، بمعني أن العقل يحكم بذلك عند فقدان كل الوسائل لمعرفة الحكم الشرعي مع وجود علم إجمالي بوجود حكم شرعي لم يسقط. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يجعل الله حجة ويكون الظن حجة، وعند ذلك يكون القياس أقرب الحجج من هذا الموضوع.

ومن خلال هذا نفهم أن مسألة رفض القياس لدي أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد يكون منطلقا من أن هناك أحاديث في السنة الشريفة واردة بشكل واسع جدا لا يحتاج فيه إلي القياس لأن باب العلم مفتوح من جميع الجهات مثلا، سواء أكان من خلال القواعد العامة أم من خلال النصوص الخاصة" [15] .

ونعتقد أن فساد القياس في مذهب أهل البيت أشهر من أن يحتاج إلي بيان أو إقامه برهان..

سيرة العقلاء تشرع للإنسان المسلم أحكامه.

بناء العقلاء يشرع للمسلم أحكامه.

ويقول البعض:

"لا نتحدث عن منهج جديد، فالمنهج هو المنهج، وهو الإنطلاق من كتاب الله، وسنة نبيه (ص)، وما استوحي الفقهاء والأصوليون منهما في عملية تقعيد الفقه أو ما انفتح فيه الفقهاء علي بناء العقلاء وسيرة العقلاء، باعتبارهما المصدرين اللذين لا يشرعان للمسلم أحكامه فحسب، ولكنهما قد يطلان علي جانب من جوانب السنة التي هي قول المعصوم وفعله وتقريره" [16] .

وقفة قصيرة

ونقول:

ظاهر العبارة: أن بناء العقلاء وسيرتهم لهما مهمتان: الأولي، أنهما يشرعان للمسلم أحكامه، والثانية: أنهما قد يطلان علي قول المعصوم

وفعله وتقريره.

فهو إذن يري لبناء ولسيرة العقلاء حق التشريع، استقلالا، تارة، وبإمضاء المعصوم أخري بقرينة قوله الأخير: قد يطلان علي جانب.. الخ.

ولكننا نلاحظ:

إنه قد أسهب في باقي كلامه الذي لم ننقله في الحديث عن الشق الثاني، وربّما أمكنه بذلك أن يدّعي أن هذه كانت زلة لسان، لا تعبيرا صادقا عمّا في الجنان؟!

ربط الناس بالعقل أغني عن النبوّة.

ويقول البعض في جواب علي سؤال:

لماذا تتغير النبوّات، ولماذا اختتمت بالإسلام بالمعني المصطلح؟

الجواب:

"انطلقت النبوات من خلال حاجات الناس إلي خطوطها ومفرداتها العامّة، ثمّ تطورت حاجات الناس فانطلقت نبوّات جديدة حتي كان الإسلام الذي ربط الناس بالعقل، وبالخطوط العامّة ليستطيعوا من خلاله أن يطوّروا حياتهم بحيث لا حاجة بعد ذلك إلي نبوّة جديدة" [17] .

النصوص المتوافقة مع ذهنيات المجتمعات القديمة هي سبب الخطأ.

ونجده يصف النصوص الإسلامية التي كان الفقهاء يتحركون في دائرتها بأنها متوافقة مع الذهنية الإجتماعية التي كانت سائدة في العصور السابقة ويعتبر ذلك هو السبب في عدم كون المعرفة علي هذه الدرجة من الصحة، فهو يقول معللا سبب حصول المعرفة الأصح بالنسبة للنظرة الإسلامية حول المرأة:

"ربما يعود ذلك إلي الآفاق الجديدة التي فتحت في العالم، الأمر الذي جعل العلماء يفكرون في الجانب الآخر من الصورة، وقد كانوا مستغرقين في الجانب الوحيد الذي عاشوه في دائرة مجتمعهم وفي دائرة النصوص المتوافقة مع الذهنية الإجتماعية السائدة" [18] .

الحكم الشرعي يتغير تبعاً لتغير الاجتهاد.

يقول البعض:

".. إنه يعني الرأي المستمدّ من القواعد الشرعية في فهم النصوص الدينية في الكتاب والسنة.. فيما يفهمه المجتهد منها وفيما يستوحيه مما ينسجم مع أجواء النص وإيحاءاته فلا يمكن له أن يعطي رأياً

في مقابل النص، أو يضع حكماً لم يرد به نص، ولم تفرضه قاعدة فقهية مستمدة من الكتاب والسنة.. حتي العقل الذي اعتبره بعض المجتهدين دليلاً من أدلة الأحكام.. لا بد له أن يتحرك في نطاق الأفكار القطعية التي لايقترب إليها الشك فيما يستفيده من ملاكات الأحكام.. فلا مكان للحكم العقلي الظني في ذلك من قريب ومن بعيد..

إن الاجتهاد الإسلامي.. هو اجتهاد في فهم الإسلام.. وليس اجتهاداً ذاتياً يستمد أفكاره من حركة الواقع.. ولا مانع من أن يتغير الحكم الشرعي تبعاً لتغيّر الإجتهاد.. ولكن تغير الاجتهاد لا يخضع للتغييرات الحاصلة من الخارج بل من خلال اكتشاف خطأ في الإجتهاد السابق.. علي أساس خلل في فهم النص أو تطبيقه.. أو في قاعدة شرعية هنا.. ربما لا يكون لها مجال في هذا المورد أو ذاك لأن قاعدة شرعية أخري.. هي الأولي في هذا الموضع.. أو ذاك.. وعلي ضوء ذلك.. يبقي الإجتهاد متحركاً، في نطاق حدود علمية معينة تحفظه عن الإنحراف وتصونه عن الزلل.. وتحركه في اتجاه الاكتشاف الأمين للحكم الشرعي الذي أنزله الله في كتابه، أو أوحي به إلي نبيه.. فلا مجال لتطوير الإسلام من خلال الإجتهاد.. بل كل ما هناك.. أن نجتهد في دراسة مدي انسجام خطوات تطور الإسلام في التشريع، أو ابتعادها عنه.. لنحدد موقفنا من ذلك علي هذا الأساس.. لأن حكم الله هو القاعدة للحياة، وليست القضية بالعكس" [19] .

وقفة قصيرة

إن نظرية التصويب في الإجتهاد التي يقول بها جمهور علماء السنة مرفوضة عند الشيعة، ويرونها نظرية باطلة من الأساس.

والمُراجع لكلمات القائلين بالتصويب الباطل يجدهم فريقين:

أحدهما:

يقول: إنه ليس في الواقعة حكم أصلاً، بل الله ينشئ الحكم وفق اجتهاد المجتهد وظنه، فيتعدّد الحق

بتعدد المجتهدين.

الثاني:

يري: أن كل مجتهد مصيب، وإن كان الحق مع واحد، وهو الذي وافق اجتهاده الحكم الواقعي الذي جعله الله، فلله سبحانه وتعالي حكم واقعي، لكن إذا أدي ظن المجتهد إلي حكم مخالف له فإن الله سبحانه تعالي ينشئ حكماً علي وفق ظنه واجتهاده، فيصير المجتهد بذلك مصيباً، وإن كان قد أخطأ الحكم الواقعي.

ومن تصريحاتهم الدالة علي ما يذهبون إليه من التصويب:

1 _ قول الشهاب الهيثمي في شرح الهمزية علي قول البوصيري عن الصحابة: (كلهم في أحكامه ذوو اجتهاد _ أي صواب _ وكلهم أكفاء).

2 _ وعن العنبري في أشهر الروايتين عنه: (إنما أصوب كل مجتهد في الذين يجمعهم الله، وأما الكفرة فلا يصوبون) [20] .

3 _ وقال الشوكاني: (ذهب جمع جمّ إلي أن كل قول من أقوال المجتهدين فيها، (أي في المسائل الشرعية التي لا قاطع فيها) حق، وأن كل واحد منهم مصيب، وحكاه الماوردي والروياني عن الأكثرين، قال الماوردي: (وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة).

إلي أن قال: (وقال جماعة منهم أبو يوسف: إن كل مجتهد مصيب، وإن كان الحق مع واحد، وقد حكي بعض أصحاب الشافعي عن الشافعي مثله).

إلي أن قال: (فمن قال: كل مجتهد يصيب، وجعل الحق متعددا بتعدد المجتهدين فقد أخطأ) [21] .

4 _ وقال حول حجية الإجماع: (فغاية ما يلزم من ذلك أن يكون ما أجمعوا عليه حقاً، ولا يلزم من كون الشيء حقاً وجوب اتباعه؛ كما قالوا: إن كل مجتهد مصيب، ولا يجب علي المجتهد الآخر اتباعه في ذلك الاجتهاد بخصوصه) [22] .

5 _ وقال الأسنوي حول الإجتهاد في الواقعة التي لا نص عليها: فيها قولان:

أحدهما: أنه ليس

لله تعالي فيها قبل الاجتهاد حكم معين بل حكم الله تعالي فيها تابع لظن المجتهد. وهؤلاء القائلون بأن كل مجتهد مصيب، وهم الأشعري، والقاضي وجمهور المتكلمين الأشاعرة والمعتزلة الخ..) [23] .

ونقل عن الأئمة الأربعة _ ومنهم الشافعي _ التخطئة والتصويب فراجع [24] .

وحين يقول هذا البعض: لا مانع من أن يتغير الحكم الشرعي تبعاً لتغيُّر الاجتهاد، مع تصريحه بوجود حكم واقعي أخطأه من أخطأه وأصابه من أصابه فإن كلامه يحتمل أمرين:

أحدهما: أن يكون قد قال بمقولة الفريق الثاني من المصوِّبة، من غير الأمامية. وهي أن كل مجتهد مصيب لكن الحق مع واحد.

الثاني: أن يكون مراده من الحكم الشرعي الذي يتبدل بتبدل الاجتهاد هو الحكم الشرعي الظاهري كما تقول به الأمامية، لكن إطلاق عبارته، وما عرفناه عنه من جنوحه إلي الأخذ بآراء غير الأمامية، مثل عمله بالقياس، وبأخبار العامة، وبالاستحسان، وبالمصالح المرسلة وغير ذلك من مناهج غير الشيعة الأمامية، كما اتضح في هذا القسم _ نعم _ إن ذلك كله _ يجعلنا غير قادرين علي تأويل كلامه بما يوافق ما عليه الشيعة الأمامية، أو فريق منهم، لأن كلام أي شخص إنما يلتمس له التأويل، أو يحمل علي خصوص أحد المعاني حينما يكون قد عرف عن ذلك الشخص أنه يلتزم نهج أسلافه في آرائه، وفي مناهجه ومقولاته، حيث يكون ذلك قرينة عقلية ومنطقية علي إرادته هذا المعني بخصوصه، أما حين يظهر في موارد كثيرة ومتنوعة في مجالاتها وخصوصياتها جنوحه إلي مقولات الآخرين، فان هذا يصلح لأن يكون قرينة علي تحديد المعني المراد من كلامه هذا، وهو الأمر الذي دعانا إلي أن نضع بين يدي القارئ الكريم هذا النص الذي يومئ إلي مقولة التصويب،

ويظن انطباقه عليها.

كل التراث الفقهي والكلامي والفلسفي فكر بشري.

قد تقدّم أن البعض يعتبر:

أن كل ما جاءنا من تراث فقهي، وكلامي، وفلسفي، وكل الفكر الإسلامي _ باستثناء البديهيات _ هو فكر بشري وليس فكرا إلهيّا علي حدّ تعبيره.. [25] .

فإذا كانت النظرة هي هذه، فإن من الطبيعي أن يكون التعامل في مجال الإستدلال الفقهي منسجما مع هذه النظرة، وأن تصبح أدوات الإستنباط والإستنتاج تحمل معالم هذا التوجه، وسمات هذا الفهم للقضية برمّتها.

لا توجد حقيقة فقهية مطلقة.

لا توجد حقيقة كلامية مطلقة.

كل جهد بشري هو نسبي.

يقول البعض:

".. بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وآله، الذي نعتبر أن فهمه للدين ليس بشرياً. وفي ظل غياب المعصوم أيضاً فنحن نعتقد: أن الاجتهاد في الدين سواء في فهم النص، أو في استيحائه، أو في تقييد القاعدة هو أمر ممكن للمتأخرين أن يناقشوا القدماء فيه، كما كان القدماء يناقشون بعضهم بعضاً.

ليس هناك حقيقة فقهية مطلقة. وليس هناك حقيقة كلامية مطلقة. فكل جهد بشري هو نسبي في النهاية".

وقفة قصيرة

ونسجل هنا ما يلي:

1 _ إن كلام هذا البعض معناه: أن ثمة مجالاً للتغيير والتبديل في الاعتقادات.. فنعتقد مثلاً: أن الله تعالي في جهة، وأن له مكاناً مثلاً.. وبالأمكان الاستغناء عن كثير من العقائد، فتقل مفرداتها يوماً، وتزيد في يوم آخر، حسب تكثر الآراء والاجتهادات. وربما ينجر هذا الأمر إلي الأمامة فيكون الأئمة خمسة عشر أو تسعة، بدلاً من اثني عشر.. ويمكن أن يكون الأمام معصوماً اليوم، فاقداً للعصمة غداً.. وما إلي ذلك.

فإن ذلك كله وسواه من مفردات علم الكلام ليس حقيقة مطلقة.. وإنما هو من الأمور النسبية التي تختلف وتتفاوت حسب الاجتهادات

في العصور المختلفة، من مجتهد لآخر..

وكل ذلك داخل في مفردات الحقيقة التي هي نسبية عنده.

وهذا أمر في غاية الخطورة علي الدين، وعلي العقيدة.. ولا نريد أن نقول أكثر من ذلك.

2 _ وكذلك الحال بالنسبة لمقولته الأخري حول: أنه ليس هناك حقيقة فقهية مطلقة. فهل يمكن أن يأتي يوم تصير فيه صلاة الصبح ركعة واحدة، وصلاة الظهر ركعتين، أو نصلي فيه يوم الجمعة فقط وتسقط الصلاة في سائر الأيام؟

أو يحل فيه اللواط والسحاق؛ باعتبارهما مثل استمناء الرجل والمرأة علي حد تعبير هذا البعض؟!

أو يحل فيه شرب الخمر، إذا لم يصل إلي حد الإسكار، أو يحل فيه مصافحة الرجل للمرأة حيث لا تكون هناك ريبة؟! وغير ذلك..

3 _ وهل يمكن أن يأتي يوم تسقط فيه القواعد والأصول عن الصلاحية، فنستبدل فيه قاعدة بقاعدة، ونعتمد علي القياس، وعلي الاستحسان، وعلي الرأي؟! إن ذلك ليس ببعيد، فها نحن نري هذا الأمر يظهر بكل وضوح في كتب وتصريحات هذا البعض. بل أصبحنا نشاهد آثاره في مختلف ما يصدّره من آراء، توصف بأنها فتاوي!!.

4 _ ما معني إطلاق التعميم بأن كل جهد بشري هو نسبي في النهاية. فهل إذا قام البشر بعَدِّ أوراق كتاب (وهي مائة) يكون ذلك نسبياً بحيث تكون مائة عند شخص وتسعين عند آخر، باعتبار أن عدّها جهد بشري؟!.

وهل يصح أن يقال: إن القول بوحدة الخالق أمر نسبي، فقد يقول مجتهد إنه واحد، ويقول الآخر: إنه أكثر من واحد؟!

وحيث يبذل جهد لإثبات نبوة النبي، فهل تكون هذه النبوة نسبية، وكيف؟!

وهل استنباط حرمة الكذب وكذلك حرمة الزنا يجعل هذه الحرمة نسبية؟! وكيف؟! وكذلك الحال بالنسبة لاستنباط حرمة الخيانة.. وحرمة

الظلم، وحرمة المخدرات؟! وما إلي ذلك..

المشكلة أن الكثير من الفقهاء يقولون: لا دليل يدلنا علي مقاصد الشريعة.

المسألة ترتبط بالمصداق الذي يحقق المفهوم، والثبوت.

ربما أضعنا بسبب ذلك الكثير من مقاصد الشريعة في كثير من الفتاوي..

ض_ياع المقاصد هي فتاوي يكون الحكم الشرعي فيها جسداً بلا روح.

حفظ المقاصد يحتاج إلي دقة في الاجتهاد.

سئل البعض:

ما المقصود بمقاصد الشريعة، وهل إغفالها كشرط للإجتهاد أدي إلي ما يسمي بالحيل الشرعية؟!

وهل هي أساساً شرط للاجتهاد؟.

فأجاب:

"المقاصد (كذا) الشريعة تمثل منطلقات الشرع في أحكامه، أو ما يسمي بعلل التشريع أو ملاكاته. وهو ما يريد الله سبحانه وتعالي للإنسان أن يحققه من أهداف في حياته، من خلال التزامه بهذا الحكم الشرعي أو ذاك.

كما نلاحظ مثلاً أن الله تبارك وتعالي يحدثنا عن الصلاة بقوله: (إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر) (العنكبوت/45) فالنهي عن الفحشاء والمنكر هو من مقاصد تشريع الصلاة، ولذا ورد في الحديث الشريف: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً.

كما أن مقصد الصوم هو التقوي: (كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون) (البقرة/183).

وهكذا، فمقاصد الشريعة هي الأهداف التي تستهدفها الشريعة، من خلال التشريع. ولكن المشكلة في البحث الفقهي الاجتهادي هي أن الكثير من الفقهاء يقولون بأنه ليست عندنا أدلة حاسمة قاطعة تدلنا علي مقاصد الشريعة بشكل صريح، علي نحو يمكننا من تحديد علاقة المقاصد بالتشريع كعلاقة العلة بالمعلول، ولك_ننا نظ_ن ذلك (وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً) (النجم/28).

ولذلك فعلينا أن نأخذ بالشريعة حتي لو لم تحقق ما نظن أنه المقاصد؛ لأن ما نظن أنه كذلك قد لا يكون هو

المقصد الحقيقي.

وهذا يعني أن المسألة ترتبط بالمصداق التي يحقق المفهوم والثبوت، فلا طريق لنا إلي إثبات مقاصد الشريعة علي أنها بمثابة العلل والأسباب للشريعة.

وهذه هي المشكلة في هذا المجال. ولذلك ربما أضعنا الكثير من مقاصد الشريعة في كثير من الفتاوي التي يشعر الإنسان معها بأن الحكم الشرعي يمثل جسداً بلا روح.

ومن الطبيعي أن هذه الأمور تحتاج إلي دقة في الاجتهاد.." [26] .

وقفة قصيرة

ونقول: إن لنا علي كلامه العديد من الملاحظات:

1 _ إننا نجد في كلام هذا البعض ما يلي:

ألف: إنه قد اعتبر قول الكثير من الفقهاء، بأن لا دليل يدلنا علي مقاصد الشريعة بشكل صريح، بحيث تكون تلك المقاصد هي علة التشريع _ اعتبره _ هو المشكلة التي يواجهها..

ب: إنه يقول:

"إن هذه المشكلة هي السبب ربما في إضاعة الكثير من مقاصد الشريعة، في كثير من الفتاوي.."

ج: إن الفتاوي التي ضيّعت فيها مقاصد الشريعة يشعر الإنسان فيها أن الحكم الشرعي يمثل جسداً بلا روح.

د: إن هذه الأمور، تحتاج إلي دقّة في الاجتهاد.

2 _ إن الأحاديث الذي ذكرت بعض العلل للأحكام، علي نحوين:

أحدهما: ما ثبت أنه علة للحكم بصورة قطعية، استناداً إلي تصريح المعصوم بذلك.. أو لأن العلة قد جعلت عنواناً لموضوع الحكم أحياناً.. كالإسكار الذي هو علة لتحريم الخمر. فإن قوله عليه السلام: كل مسكر حرام، يظهر بجلاء أن الإسكار الذي علل به تحريم الخمر علة حقيقية لهذا التحريم، ولذلك دار حكم التحريم مدارها وجوداً وعدماً، حيث جعل المسكر موضوعاً للحكم بالحرمة، وذلك ظاهر.

الثاني: ما جاء علي سبيل بيان فائدة مهمة من فوائد التشريع، التي يريد الشارع صونها وحفظها، فظهر في لسان الدليل بصورة

التعليل للحكم، وإن لم يكن علة تامة للتشريع وذلك مثل عدم اختلاط المياه في ما يرتبط بالعدّة، فليس ذلك هو علة للتشريع، وإنما هو من حكمه وفوائده المهمة، ولذلك تجب العدّة حتي في صورة استئصال الرحم، أو في صورة الوطء في الدبر..

وكما أن الشارع قد استعمل أسلوب التعليل في كلا الموردين ليظهر أهمية تلك الفوائد عنده واهتمامه بحفظها وصونها، لم يمكن الإطمئنان في مقام الاستظهار والاستدلال إلي أن ما يذكر في صورة بيان السبب _ هل هو علة حقيقية؟ أم هو من لوازم العلة، ومن الفوائد المهمة التي يريد الشارع أن يحفظها ويصونها؟!.

3 _ وقد أدرك الفقهاء، من خلال ذلك: أنه حين يكون المقصود هو إعطاء الضابطة، وبيان علل التشريع الواقعية التي يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً، فإن الشارع ملتزم بإزاحة العلة في بيان مقاصده، ولن يترك الأمر بدون استقصاء البيان الكافي والشافي.

وقد ظهر من خلال ممارسة الأدلة أن ما أراد الشارع بيان علله الواقعية قليل جداً، بل هو أقل القليل..

4 _ إن الصلاة وإن كانت قد شرّعت من أجل أن تنهي عن الفحشاء، والمنكر.. وقد اعتبر البعض هذا النهي لها من مقاصد الشريعة. ولكن من الواضح أن ذلك ليس هو علةً التشريع بحيث يدور مدارها وجوداً وعدماً.. ولأجل ذلك لا يحكمون ببطلان صلاة لم تنهَ صاحبها عن الفحشاء والمنكر.. ولا يوجبون عليه إعادتها ولا قضاءها.

وكذلك الصوم، فإنهم لا يحكمون ببطلانه إن لم يحقق التقوي ولا يوجبون إعادته ولا قضاءه..

ويلاحظ هنا ما في التعبير بكلمة (لعلّ) في قوله تعالي: (لعلكم تتّقون) حيث دل علي رجاء حصول ذلك.. مما يشير إلي أن ذلك هو فائدة متوخّاة من التشريع، وإن لم

تكن هي تمام عناصر علته..

ومهما يكن من أمر، فقد قلنا: إنه لو كانت هذه الفائدة وتلك من المقاصد هي تلك التي تمنح مراعاتها توسعاً في الفتوي أو تقييداً في الأحكام.. لوجب أن يكون لها تأثير في البطلان والصحة، أو في الإعادة والقضاء، أو في تحمل أعباء معينة من أي نوع فرضت.. مع أن الأمر ليس كذلك، مما يدل علي أنها ليست من المقاصد التي توجب توسعاً في الفتوي، أو تقييداً في الأحكام.

5 _ وبعد.. فإن هناك مقاصد _ كما في التقوي في الصوم، ونهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر _ تهدف إلي سوق الإنسان نحو مراتب ومقامات في الكمال قد تتجاوز ما يسعي إليه الكثيرون من الناس الذين رضوا بأن يخرجوا أنفسهم من منطقة الخطر، ولا يريدون أكثر من ذلك..

6 _ وأخيراً.. نقول:

ربما يؤدي ما يسعي إليه البعض من فتح باب الأخذ بمقاصد الشريعة، واعتبارها من آليات التشريع.. إلي الوقوع في فخ خطير، وذلك بسبب شيوع العمل بالإستحسان، وبالرأي، وبغير ذلك من ظنون لا قيمة لها في الشرع الحنيف. ويكون الغطاء لذلك هو ادعاء إدراك مقاصد الشريعة، والعمل علي نيلها، وسوق الناس إليها..

ولن يجدي نفعاً إطلاق شعارات برّاقة ورنانة، بأن هذه الأمور تحتاج إلي دقة في الاجتهاد، أو ما إلي ذلك.

كما لا يفيد التباكي علي مقاصد الشريعة، حين تصبح الفتاوي فاقدة لها..

ولن يجدي أيضاً وصف الحكم الشرعي بأنه يمثل جسداً بلا روح.

إن التربية الروحية هي التي تهيئ الإنسان الذي يتصدي لامتثال الحكم الشرعي لأن ينفخ فيه الروح من خلال إقباله علي الله فيه.. وليس بإعطاء الحرية للناس من خلال شعار حفظ مقاصد للشريعة ليعبثوا بالشريعة حسب آرائهم واستحساناتهم.

ما أخذ من القرآن والسنة والقياس شريعة.

اجتهاد الرأي شريعة.

الاستحسان شريعة.

المصالح المرسلة شريعة.

سدّ الذرائع شريعة.

يقول البعض:

"الشريعة هي: كل حكم أخذ من القرآن الكريم، أو من أحاديث النبي، أو أهل بيته صلوات الله تعالي عليه وعليهم، أو ما ثبت عند المذاهب الإسلامية جواز الاعتماد عليه في استنباط الأحكام من الأصول والقواعد الفقهية. ويصطلح عليه بالسنة، ويقابل ذلك مصطلح البدعة" [27] .

وقفة قصيرة

1 _ إن هذا النص قد أوضح بما لا مجال معه للشك أن هذا البعض مصر علي العمل بالقياس، وأضرابه، كالاستحسان، والمصالح المرسلة.. وغير ذلك..

فإن هذه الأمور هي مما ثبت عند المذاهب الإسلامية جواز الاعتماد عليه في استنباط الأحكام..

2 _ إن الملاحظ هو: أن هذا البعض، قد أثبت هذا النص في الطبعة الأولي، ولكنه حذفه من الطبعة الثانية. ولم ينبه علي خطأه فيه، مع تصريحه بالتزامه بكل أفكاره منذ الثمانينات.. أو أنها باقية علي ما هي عليه لم تتغير ولم تتبدل.

وأما سبب حذفه لهذه العبارة، فلعله إحساسه بتداعيات هذا التصريح، من خلال ردّات الفعل التي لمسها لدي أهل العلم.. حيث اعتبروا ذلك من جملة الأدلة الدامغة علي سعيه لاقتحام المسلمات في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وجرّ الناس إلي ما عليه أهل المذاهب الأخري.

3 _ وظهر من ملاحظة جملة من مقولاته الكثيرة جداً، والتي تعدّ بالمئات والألوف: أنه حين قال: أسعي لاقتحام المسلمات، إنما كان يعني بذلك مسلمات مذهب التشيع _ مذهب أهل البيت (عليهم السلام).. دون سواها..

4 _ إن هذا البعض مهما حاول أن يعتذر عن مقولته السابقة، وحتي حين حذفها من الطبعة الثانية.. فإنه قد أثبت من خلال تصريحاته الأخري، كتصريحه الذي أورده

في كتاب تأملات في آفاق الأمام الكاظم عليه السلام.. أنه ملتزم بهذا الأمر. لا يبغي له بدلا، ولا عنه حولاً.

فحذفه للعبارة المذكورة من الطبعة الثانية، لا يدل علي أن رأيه قد تبدل في هذا الأمر، إذ إنه لم يصرح بذلك ولا أشار إلي خطأ هذه الفكرة. لا من قريب ولا من بعيد مما يشير إلي أن هذا الحذف كان مصلحياً لا عن قناعة بفساد رأي.

ويدل علي ذلك ما سنقوله تحت الرقم التالي.

5 _ إنه حين واجه الاعتراضات من هنا وهناك قد حاول التخلص من تبعات هذا التصريح، فأطلق تأويلاً عجيباً وغريباً لكلامه هذا.. حين ادعي:

"أنه لا يقصد في كلامه هذا الشريعة الحقة، بل ما يطلق عليه أنه الشريعة.. وإن كان قد يقع الخطأ والصواب، كما هو الحال في اجتهادات المجتهدين حين تختلف فيما بينها.." [28] .

ومن الواضح: أنه توجيه لا يصح، لأمور عديدة:

فأولاً: تقدم أن عمله _ في مجال الفقه يظهر أنه ملتزم بالقياس، وبغيره، وإن كان لا يسمي الأمور بأسمائها الحقيقية..

ثانياً: إنه حين يقدّم كتابه المشتمل علي المسائل الفقهية لمقلّديه.. إنما يحدثهم عن أمور تعنيهم، وتفيدهم في مجال عملهم.. ولا يتحدث لهم عما تقوله سائر المذاهب..

ولو فرضنا وجود مبرر لذكر قول مذهب ما، فإنه لا مبرر لاستخدام مصطلحات خاصة لا يخاطب بها إلا أهل الاستنباط. وليس دائماً أيضاً، وإنما في خصوص حالات معينة تفرض التعميم لآراء سائر المذاهب..

ثالثاً: إن سياق كلام هذا البعض في كتابه ذاك الذي ضمّنه هذا النص يتجه نحو الحديث عن الشريعة الحقة، التي يكون المكلف معذوراً في اتباعها، والالتزام بالأحكام الشرعية الواردة فيها، والتي استنبطها مجتهدوها.. ويُفْرَضُ علي مقلديهم _ من

خلال تعاليمها _ الرجوع فيها إليهم، وأخذها منهم.

وفي كلامه قرائن كثيرة علي ذلك. فإن أول عبارة قالها في ذلك الكتاب هي:

"إن الشريعة المطهرة قد بينت أحكام أفعال المسلم، وجعلتها موزعة علي خمسة أحكام، هي الواجب والحرام.. إلي أن قال: وهذا المبحث هو المتكفل بتحديد السبل التي بها يتعرف علي ما كلفه الله تعالي به، وسنه له، وتفصيله كما يلي: الخ.."

ثم بدأ بالحديث عن الشريعة، وعن الأحكام الخمسة..

فكلامه صريح في أنه يتحدث عن الشريعة الحقة التي حاول أيضاً تحديد السبل إليها، ليتعرف المكلف علي ما كلفه الله به وسنَّه له. ولا يتحدث عن المذاهب التي يعتقد المكلّف ببطلانها.. ولا عن السبل التي تعتمدها تلك المذاهب..

ورابعاً: إن مصطلح الشريعة الحقة إنما يعني ما يجب العمل به علي المكلف _ من خلال إلزام الشريعة به _ حتي إذا أصاب الواقع فإنه يتنجّز في حقه، وإذا أخطأه يكون معذوراً فيه، علي أساس تعذير الشريعة نفسها له..

فالأمر بالنسبة إلي المكلف هو أن الشريعة قد ألزمته بالأخذ بقول المجتهد.. فقول المجتهد هو الشريعة العملية بالنسبة إليه، وهو حجة في حقه..مع علمه بأن المجتهد قد يخطئ الحكم الواقعي الإلهي..

وأما المذاهب الأخري فيراها من الباطل، ولا يصح مخاطبته بها، في ذات الوقت التي يُدْعي فيها إلي التقليد..

الغاية تنظف الوسيلة و قاعدة التزاحم

اشاره

قاعدة التزاحم هي المصالح المرسلة عند السنة.

وهو يعتبر قاعدة المصالح المرسلة التي يستند إليها أهل السنة في اجتهاداتهم، هي نفس قاعدة التزاحم في مدرسة أهل البيت (ع)! مع أن الفرق بينهما كالنار علي المنار، وكالشمس في رابعة النهار.

فهو يقول:

"هناك قاعدة في العلم الأصولي تسمي بقاعدة (التزاحم) في المذهب الشيعي الأمامي، وتسمي ب_ (المصالح المرسلة) في مذهب

المسلمين السنة" [29] .

ثم يضرب مثالا لهذه القاعدة بالغريق الذي يتوقف إنقاذه علي أن تكسر بابا، أو تهدم غرفة للغير [30] .

ولا يفوتنا التذكير بأن اعتماده لقاعدة (الغاية تبرر الوسيلة) قد كان مبتنيا عنده علي قاعدة التزاحم أيضا.

وقال وهو يتحدث عن ولاية الفقيه، وبعد أن قدّم آية الله العظمي السيد ابو القاسم الخوئي رحمه الله، كنموذج لمن يقول بولاية الفقيه الخاصّة، ثم يتصدّي لهذا الأمر حينما واجهته التطورات في أيام ما عرف باسم (الإنتفاضة) في العراق:

"ولذلك فالذين يقولون بالولاية الخاصّة عندما تجابههم التطورات، فانهم تلقائيا يقولون بالولاية العامة، ولكن بالعنوان الثانوي، أو المصالح المرسلة، أو ما شاكل..".

ولا نورد قوله هذا كشاهد علي ما ذكرناه، ولكننا أحببنا: أن نسأل من أين عرف أنهم استندوا في قولهم بالولاية العامّة إلي المصالح المرسلة؟ وهل يمكن له أن يذكر لنا موردا صرحوا فيه بذلك..؟!

وهو مع ذلك كله يقول: "إنه يلتزم بالمنهج الجواهري في الإستنباط" [31] .

المحرم ما حرّمه القرآن والحلال ما أحله القرآن.

يجب موافقة الحديث للقرآن في حجم دلالته.

وقيل له: ذكرتم أن المحرم هو ما حرم في القرآن، وكذلك الحلال هو ما أحل في القرآن..

فأجاب:

"ما ذكرت ذلك، قلت: هناك بعض العمومات التي تدل علي حصر المحرمات في مورد معين، وهناك أشياء واردة في السنّة، فعلينا أن نكتشف القاعدة التي نستطيع فيها أن نوفق بين ما جاء في القرآن وما جاء في السنة" [32] .

فهل إذا لم يكتشف القاعدة سيرفض ما جاء في السنّة؟!.

ما من عام إلا وقد خص من موارد مسألة التزاحم.

الغاية الكبري تبرّر الوسيلة المحرّمة.

الغاية تجمّد الوسيلة المحرمة.

الأخلاق في الإسلام لا تمثل

قيمة إيجابية.

الأخلاق في الإسلام تمثل قيمة سلبية متغيرة تبعاً للعناوين الثانوية.

وضع يوسف صواع الملك في رحل أخيه يؤكد: إن الغاية تبرّر الوسيلة.

إنما تبرّر الغاية الوسيلة لأنها تنظفها وتطهّرها.

قاعدة الغاية تبرّر وتنظف وتطهّر الوسيلة _ هي مسألة التزاحم.

يقول البعض:

"إن القاعدة العقلية التي أقرها الفكر الإسلامي الفقهي، انطلاقاً من آيات الله وسنة رسوله، تفرض اختيار الجانب الأهم في حسابات المصالح والمفاسد. إذا تعارض حكمان شرعيان يأمرنا أحدهما بشيء وينهانا الآخر عنه ولم يكن هناك مجال لامتثالهما معاً، لأن الحكم الشرعي ينطلق من المصلحة الأساسية للإنسان، من خلال ما ثبت لدينا من أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها. فإذا رأينا المصلحة الأهم في جانب، فمعني ذلك أن الحكم الذي لا يصل الموقف فيه إلي هذا المستوي من الأهمية، يفقد معناه في حدود ذلك، وتكون النتيجة تقييد فاعلية الحكم الشرعي وحركته في غير هذا المجال.

وهذا ما واجهناه في الآيات السابقة التي تتحدث عن القتال في المسجد الحرام فيما إذا قاتل المشركون المسلمين فيه، وفي هذه الآية التي تتحدث عن القتال في الشهر الحرام في صور مبرراته الإسلامية.

فلو دار الأمر بين أن تهتك حرمة الشهر أو المكان، وبين أن تهتك حرمة الإسلام ويسقط صريعاً أو مهزوماً أمام ضربات الكفر، فإن من الممكن ان نتجاوز حرمة الشهر والمكان لمصلحة حرمة الإسلام العليا؛ بل قد يجب ذلك في بعض المجالات، إذ وإن كانت حرمتهما جزءاً من التشريع الإسلامي، لكن لا يمكن أن تتقدم علي سلامة الإسلام نفسه. وهذا ما يعبر عنه علماء الأصول، بحالة (التزاحم بين الحكمين).

وقد نجد هذه القاعدة متمثلة في أكثر من مسألٍة فقهيةٍ في نطاق المحرمات الشرعية، التي جاءت

الرخصة فيها في بعض مواردها، وقد تعددت نماذجها حتي أصبحت بمثابة (القاعدة الثانوية الاستثنائية)؛ حتي قال الأصوليون: (ما من عام إلا وقد خُصَّ)، مما يوحي بأن التخصيصات الواردة في العموميّات القرآنية والنبوية تحولت إلي ظاهرة شرعية من خلال تزاحم المصالح العامة، والتي يعبّر عنها بالخاص في دائرة الخصوصيات الحاكمة علي العنوان العام.

وهذا ما نراه في الغيبة التي جاء الاستثناء فيها في قوله تعالي: (لا يُحِبُ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ القَولِ إِلا من ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سِمَيعاً عَلِيماً) (النساء/148) فجعل حالة الظلم استثناء من حرمة الغيبة التي جاء فيها قوله تعالي: (يا أيها الذين أمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسّسُوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه؟! واتقوا الله إن الله تواب رحيم) (الحجرات/12) فأطلق للمظلوم الحرية في أن يتحدث عن ظالمه بالسوء من أجل الضغط عليه لرفع ظلمه، باعتبار أن مصلحة رفع الظلم عن المظلوم أكبر من مفسدة الغيبة في إظهار عيب الظالم؛ كما جاء الاستثناء في مقام النصيحة للمؤمنين، لأن إغلاق باب النصيحة في التحدث عن عيوب الإنسان الذي قد يقع الناس في مشاكل كثيرة نتيجة كتمان عيوبه، أكثر من مشاكل الحديث السلبي عنه؛ وفي مقام تجاهر الإنسان بالفسق الذي تمثل الغيبة وسيلة من وسائل الضغط عليه، وإبعاد الناس عن التأثر به من أجل إصلاحه أو إنقاذ الناس من أضراره؛ وفي مقام تترّس الكفار في الحرب بأسري المسلمين، ليمنعوهم من الهجوم عليهم، خوفاً من تأدية ذلك إلي قتل إخوانهم، وبذلك يفقد المسلمون فرصة النصر، فأجاز الإسلام قتل الأسري المسلمين إذا توقف النصر أو الدفاع علي ذلك؛ وهكذا نجد ذلك في كثير من الموارد

الشرعية.

وهذا باب ينفتح علي أكثر من قضية من قضايا الناس العامة والخاصة، التي قد تؤكد الفكرة القائلة بأن الغاية الكبري تبرر الوسيلة المحرمة، بمعني أنها تجمدها وتنظفها من خلال ارتباطها بسلامة الخط العام، فلا يتجمد الإنسان المسلم في أخلاقياته إذا تحولت إلي خطر علي حياته أو علي مصير الإسلام والمسلمين، كما لو أريد له أن يتحدث، وهو في سجن الكافرين والمستكبرين، عن أسرار المسلمين السياسية والأمنية والاقتصادية، التي يمثل إظهارها خطراً علي السلامة العامة؛ فيجب عليه في هذه الحالة، أن يكذب من أجل حماية القضية الكبري؛ ويحرم عليه الصدق الذي يؤدي إلي السقوط الكبير، لأن الكذب يمثل القيمة السلبية الأخلاقية، كما يمثل الصدق القيمة الإيجابية الأخلاقية في الخط العام.

لا يجوز للإنسان أن يكذب باختياره، بل يجب عليه أن يأخذ بالصدق في أحاديثه في الحالة الطبيعية العامة، لكن الحالات الطارئة الضاغطة تفقد الكذب سلبيته ليكون قيمة إيجابية كما تفقد الصدق إيجابيته ليكون قيمة سلبية، لأن المسألة في السلب والإيجاب لا تنطلق من الطبيعة الذاتية للصدق والكذب، بحيث يكون علة تامة للسلب هنا أو للإيجاب هناك، بل تنطلق من الحالة الاقتضائية المنفتحة علي النتائج بشكل عام، ولكنها قد تصطدم ببعض الموانع التي تمنعها عن التأثير في المقتضي بدرجة فعلية.

وهذا ما يجعلنا نؤكد أن الأخلاق في الإسلام لا تمثل قيمة إيجابية، بل تمثل قيمة سلبية قابلة للتغير في حركتها في الواقع الإنساني، تبعاً للعناوين الثانوية الطارئة التي تختلف الأحكام الشرعية باختلافها.

ولا بد في هذه الحالة من التدقيق كثيراً في المواقف والقضايا قبل الدخول في عملية الموازنة بين الأحكام، لأن المسألة تحتاج إلي وعي عميق واسع في فهم أسس الحكم الشرعي، وفي الواقع الذي يتحرك

فيه، ولا يمكن إخضاعها للأفكار السريعة الانفعالية في مواجهة الواقع في ضغوطه العملية علي حركة الإنسان في الحياة." [33] .

ويقول البعض أيضاً، وهو يفسر وضع صواع الملك في رحال إخوة يوسف (عليه السلام)، (ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون).

"وفي تلك الحادثة يمكننا أن نستوحي فكرة أن الغاية تبرر الوسيلة، إذا كانت الغاية أعظم من ناحية الأهمية، لأنها بذلك تنظّف الوسيلة، وتطهّرها. وهكذا واجه فتيان يوسف إخوته باتهامهم بالسرقة، وفوجئ هؤلاء الشباب" [34] .

ثم يوجَّه إلي هذا البعض سؤال يقول:

_ ما هو المراد من قولكم الغاية تنظّف الوسيلة؟

فأجاب:

"إنَّ الغاية تبرر الوسيلة مبدأ مرفوض من قبلنا؛ لأن الغاية الشخصية التي تبرّر هدم كرامة هذا وهتك حرمة ذاك غير جائزة إطلاقاً. ولكن عندما يكون الهدف كبيراً وله أهمية عند الله، كما لو فرضنا بأن حريقاً شبَّ في بناية كبيرة، وتوقف إنقاذ حياة الناس في البناية أن نهدم كثيراً من البناء ونتلف الأثاث، فهذا جائز لأن الغاية تبرّر الوسيلة، ولأن الغاية هي هنا إنقاذ حياة الناس الموجودين أو إنقاذ الجيران، فذلك أهمّ من البناية.

نحن نقول إن (الغاية تنظف الوسيلة) والفقهاء يضربون في ذلك مثلاً، فلو فرضنا أن شخصاً يغرق، والطريق إلي النهر أرض مغصوبة، وصاحبها لا يقبل أن نجتازها إلي النهر.. وعندنا حكم شرعي يقول بحرمة المرور في الأرض المغصوبة، فهنا يجب عليك أن تنجي الغريق من جهة، ويحرم عليك أن تمر بالأرض المغصوبة من جهة، والحكمان لا يمكن العمل بهما معاً. هنا يقول الفقهاء بأن الغريق أهم وأن الحرام يتجمد عند ذلك لمصلحة الغاية الأهم.

ومن الأمور التي تمثل ذلك: (الكذب) فهو ليس حلالاً، ولكن لو توقف إنقاذ أخيك المؤمن

علي أن تكذب حينما تعرف بأن هناك ظالماً يريد أن يقبض عليه ليقتله أو ليحبسه، وأنت تعرف مكانه فهل تقول بسذاجة بأنّ الكذب حرام، والحديث عن الأمام الصادق (عليه السلام) يقول: (إحلف بالله كاذباً ونجّ أخاك من القتل)!

ومن الأمور التي يذكرها فقهاء السنّة والشيعة: إذا كانت هناك حرب كما هي الحرب بيننا وبين إسرائيل بحيث يترتب عليها نتائج كبيرة، وقد اتخذ العدو من أسري المسلمين دروعاً بشرية، فهنا يجوز لك قتلهم من أجل القضية الكبري إذا كان الإنتصار يتوقف علي ذلك..

من كل ذلك نخلص إلي أن الغاية الكبري المهمة التي تتصل بقضايا المصير تنظِّف الوسيلة" [35] .

وسئل البعض أيضاً:

وفقاً لرأيكم "الغاية تنظِّف الوسيلة" لو أنّ شخصاً يعمل في تهريب المخدرات ويقدم من الربح دعماً للعمل الإسلامي لرفع راية الحق، فهل يجوز له ذلك؟

فأجاب:

"هذا غير ما قلناه. لقد تحدثنا عن القضية التي تتوقف عليها الحياة، أما هذا المثل فإنه يشبه قول الشاعر:

كمطعمة الأيتام من كدّ فرجها لك الويلُ لا تزني ولا تتصدّقي!!

لا تدعم العمل الإسلامي بهذه الطريقة، فالعمل الإسلامي الذي يتوقف علي تهريب المخدرات وعلي بيع الخمور هل تراه يكون عملاً إسلامياً؟!" [36] .

وقفة قصيرة

1 _ إننا قبل أن نسجل بعض تحفظاتنا علي هذا المنحي الخطير، نودُّ التعبير عن رغبتنا الأكيدة والشديدة في أن لا يلجأ هذا البعض إلي نظريته في أن "الغاية تنظف الوسيلة" فيما نناقشه فيه من أمر الدين والعقيدة، وفي تعامله مع الناس.. ومع العلماء.. وفيما يطرحه في وسائل الإعلام التي تقع تحت اختياره، أو يوفّرها له محبّوه في داخل لبنان وخارجه.. سواء في ذلك المنابر، والمؤتمرات، والإذاعات، وأجهزة التلفزيون، أو الجرائد أو المجلات _

حتي تلك المجلة الخلاعية التركية التي أجرت مقابلة معه، ونشرت صورته علي صفحاتها، وهو يهدي صورته لمراسلها..

فإن اعتماده علي نظريته هذه في هذا الأمر، لسوف يفقد كل أقواله ومواقفه مصداقيتها، ويفقد الحوار معه معناه، ومغزاه، وجدواه. وعلينا أن لا ننتظر أية نتائج إيجابية علي مستوي التأكد من رجوعه إلي الصواب والتزامه به.

2 _ إن هذا البعض قد خلط مسائل العام والخاص بمسائل التزاحم، وبمسائل اجتماع الأمر والنهي وغيرها، ونوضح ذلك في ضمن النقاط التالية:

الف: إننا لا نريد أن نناقش هذا البعض في صحة تعابيره وسلامتها حيث قال:

"إذا تعارض حكمان شرعيان، يأمرنا أحدهما بشيء، وينهانا الآخر عنه، ولم يكن هناك مجال لامتثالهما معاً".

إلي أن قال:

"وهذا ما يعبر عنه علماء الأصول بحالة التزاحم بين الحكمين".

فإن ظاهر كلامه: أن الأمر والنهي إذا تعلقا بشيء واحد فهو من موارد التزاحم.. مع أن التزاحم هو في موردٍ وجود حكمين يتعلق أحدهما بأمرٍ ويتعلق الآخر بأمر آخر، وتضيق قدرة المكلف عن الاتيان بهما معاً، فتلزمنا القاعدة العقلية ب_الإتيان بأحدهما وهو الأهم، وترك الآخر..

ب: إننا لتوضيح خلط هذا البعض بين قاعدة التزاحم، وبين موارد العموم والخصوص، وموارد اجتماع الأمر والنهي نقول:

إن كان الأمر والنهي متوجهين إلي شيء واحد، وعنوانٍ فارد، فإنهما يكونان متكاذبين متعارضين، وذلك مثل: صلِّ. ولا تصِلّ.

وإن تعلّق الحكمان بعنوانين، كأن تعلق أحدهما بعنوان إزالة النجاسة عن المسجد، وتعلق الآخر بالصلاة وضاق الوقت عن امتثالهما معاً، فيقع التزاحم بينهما، ويقدم الأهم.

وأما إذا كان الحكمان من قبيل الأمر والنهي وقد تعلقا بعنوانين مختلفين، بأن تعلق الأمر بالصلاة، وتعلق النهي بالغصب، ففي مورد اجتماع الغصب مع الصلاة، وحيث لا بد من

أدائها في الأرض المغصوبة، فهناك حالتان:

إحداهما: أن يكون العنوان المأخوذ في متعلق الأمر والنهي قد لوحظ فانياً في مصاديقه شاملاً لها بما لها من كثرات ومميزات، فهو في حكم النافي لأي حكم آخر، فإذا تصادق مع عنوان آخر في مورد، فإنه يكون نافياً بنحو الدلالة الإلتزامية لحكم ذلك العنوان في ذلك المورد، ويقع التعارض بينه وبين حكم ذاك في مقام الجعل والتشريع لأنهما يتكاذبان في موضع الالتقاء في دلالتهما الإلتزامية. ومع التعارض يتساقط الدليلان في مورد الإلتقاء؛ فلابد من التماس دليل آخر.

الثانية: أن يكون العنوان ملحوظاً في الخطاب فانياً في مطلق الوجود للطبيعة، من دون نظر إلي أفرادها، فلا دلالة فيه علي سعة العنوان للأفراد كلهم. بل المطلوب هو صرف وجود الطبيعة وامتثالها بفعل أي فرد من أفرادها، فلا تعارض بين الدليلين، ولا تكاذب بينهما، إذ لا يتعرض أحدهما للآخر في هذا الفرد أو ذاك، لأن المتعلق هو صرف الطبيعة لا الأفراد كما قلنا.

فإن صادف وابتلي المكلف باجتماع العنوانين في مورد، كما في الصلاة في الأرض المغصوبة.. ولم يكن له بدّ من الجمع بينهما، فيقع التزاحم بين التكليفين الفعليين _ إذ الدليلان لم يتعارضا في مقام الجعل _ بل المنافاة كانت بسبب ضيق قدرة المكلف عن التفريق بين الأمتثالين.

وبعد ما تقدم نقول:

إن هذا البعض قد خلط بين هذه الأمور، فهو تارة يتحدث عن تعلق الأمر والنهي في شيء واحد، ويجعله مورداً للتزاحم، مع أنه من موارد التعارض..

وتارة يطبق قاعدة التزاحم هذه علي موارد العموم والخصوص، مع أن العموم والخصوص لا ربط له بمقام الأمتثال ولا بمقام الجعل، وإنما هو من موارد الجمع الدلالي بين دليلين متخالفين لفظاً وشكلاً، متوافقين

مضموناً، فلا ربط لهما بمقام الجعل.. ليتساقط الدليلان في مورد التعارض، كما لا ربط له بمقام الأمتثال، وضيق قدرة المكلف عن امتثالهما معاً. ليكون من موارد التزاحم ويختار الأهم منهما..

3 _ إننا نعود إلي التأكيد علي أن تطبيق قاعدة التزاحم علي القول المعروف (ما من عام إلا وقد خص) لا معني له.. فان التخصيص ليس فيه اختيار للأهم، كما هو الحال في باب التزاحم في مقام الأمتثال.. بل التخصيص هو جمع دلالي فقط.

وليس جعلاً لحكم مغاير لحكم العام في مورد الخاص.. بل هو استثناء ووضع حد يمنع العام من السريان والشمول في مقام الدلالة.

فإذا قيل مثلاً: أكرم العلماء إلا الفساق _ في المخصص المتصل _ أو قيل: أكرم العلماء.. ولا تكرم الفساق العلماء _ في المخصص المنفصل، فانه ليس من قبيل اجتماع الأمر والنهي علي مورد واحد.. بل من قبيل القول: بأن حكم وجوب الإكرام لا يشمل فسّاق العلماء.. لا أن فساق العلماء قد تعلق بهم وجوب الإكرام أولاً.. ثم تعلق بهم حرمة الإكرام ثانياً.. ثم قدمنا الأهم وهو الحرمة بسبب تزاحم المصالح العامة..، لا، ليس الأمر كذلك.

بل الخاص يريد أن يقول: إن المصلحة التي أوجبت الإكرام للعالم غير موجودة في العالم الفاسق، فشمول العموم للخاص ليس فيه مزاحمة لحكم الخاص، وإنما ذلك مجرد شمول أمر شكلي ولفظي وظاهري، سرعان ما يزول بمجرد النظر إلي الكلامين، والمقارنة بينهما. وذلك ظاهر لا يحتاج إلي مزيد بيان..

4 _ أضف إلي ذلك.. أن هذا البعض تارة يقول: إن المصالح العامة قد تزاحمت _ في مورد تخصيص العموم..

وتارة أخري يقول: إن قاعدة التزاحم كثيراً ما تكون متمثلةً في نطاق المحرمات الشرعية، حتي أصبحت

بمثابة القاعدة الاستثنائية.. حيث تتزاحم المصلحة مع المفسدة، كما صرح به في أمثلته التي أوردها.. مثل قوله: إن مصلحة رفع الظلم اكبر من مفسدة الغيبة.

5 _ بالنسبة للأمثلة التي ساقها نقول: إن ما ذكره من تقديم مصلحة رفع الظلم علي مفسدة الغيبة علي أنه من موارد التزاحم في مقام الأمتثال. ليس من صغريات قاعدة التزاحم، بل هو من باب تقديم الخاص علي العام، فإن حرمة الغيبة تشمل مورد الخاص في نفس الخطاب الإلهي الموجه إلي المكلف.

بل قد يقال: إن هذا المثال لو كان من قبيل جلب المصلحة.. فانه لا يتناسب مع ما هو مقرر في محله، من أن دفع المفسدة أولي من جلب المنفعة..

وإن كنا نناقش في إطلاق وتعميم هذه القاعدة، حيث إن بعض المصالح أهم بكثير من بعض المفاسد، فلا يكون دفع المفسدة أولي من جلب تلك المصالح.

7 _ إن هذا البعض قد قال هنا:

"إن الغاية الكبري تبرر الوسيلة المحرّمة، بمعني أنها تجمدها وتنظفها من خلال ارتباطها بسلامة الخط العام".

ثم عمد إلي تطبيق هذا المبدأ علي اتهام إخوة يوسف بالسرقة.

فإذا أردنا أن نأخذ بهذا الكلام علي إطلاقه. فإننا نخرج بنتيجة مفادها: أن علينا: أن نزني، أو أن نبيح الزنا إذا وجدنا أن الزنا أو إباحته للشباب سوف يزيد من إقبالهم علي دين الإسلام، وهذا يزيد من قوة الإسلام في العالم. وبه يتم تحصينه في مقابل أعدائه، حيث إن كثرة المسلمين وقوتهم ودخول الشعب الأمريكي، والأوروبي في الإسلام سوف يمنع أعداءه من محاولة إبادة المسلمين!!!

أو يمكن إباحة وضع بعض البدع في الإسلام أو حذف بعض الأحكام منه إذا أوجب ذلك حفظ الإسلام والمسلمين!!!

بل ربما يصبح الإبتداع

واجباً، والزنا والسرقة مما يقرب إلي الله، ما دام أن الغاية تنظف الوسيلة!!!

ومجرّد إنكاره ذلك في السؤال الموجه إليه أخيراً لا ينفع! إذ إن ما بني كلامه عليه لا بد أن ينتهي إلي مثل هذه النتائج شاء أم أبي؛ فإن المهم هو القاعدة التي يؤسسها، وعليها يكون المدار وليس المهم هو إطلاق الشعار، إلا إذ أردنا أن نعتبر كلامه الأخير يمثل تراجعاً عن قاعدته التي أسسها ولكن ذلك لم يظهر لنا بعد.

8 _ إن هذا البعض قد أنكر في كتاب الندوة _ حسب النص الذي ذكرناه آنفاً _ أن يكون مبدأ الغاية تبرر الوسيلة مقبولاً عنده.. خصوصاً في الغايات الشخصية التي تبرر هدم كرامة هذا، وهتك حرمة ذاك، مع أننا نلاحظ:

أولاً: إن عبارته الأولي التي أوردها في كتاب: من وحي القرآن، ونقلناها عنه:

"إن الغاية الكبري تبرر الوسيلة المحرّمة. بمعني أنها تجمّدها وتنظفها".

فاستعمل كلمة "تبرر".

وثانياً: إن الأمثلة التي ساقها في كتابه: (من وحي القرآن) وقد نقلناها عنه آنفاً قد كان من بينها ما يرتبط بالحالات الشخصية. كمثال غيبة الفاسق. وجواز تكلم المظلوم بالسوء عن ظالمه.. وكما في مورد النصيحة للمؤمن في تجارة، أو في زواج أو ما إلي ذلك.

وذلك يتضمن هدم كرامة هذا، وهتك حرمة ذاك. وليست هذه الأمثلة مما يتصل بقضايا مصيرية كبري.. حتي لو كان في حجم الحريق الذي ينشب في بناية (كبيرة)، ونريد إنقاذ حياة الناس بإتلاف بعض الأثاث.

تذكير..

قد ذكرنا في هذا الكتاب قول هذا البعض: إن قاعدة التزاحم هي نفس قاعدة المصالح المرسلة عند أهل السنة، وقد قلنا هناك: أنه كلام غير دقيق.. فراجع..

توثيق الحديث واليقين في غير الأحكام

اشاره

أحاديث النبي وأهل البيت تحرّم، ولدينا في ذلك تحفظ

فتوائي.

حرمة أكل لحم الأرنب مبنية علي الاحتياط.

سئل البعض:

لماذا لا يؤكل لحم الأرنب؟

فأجاب:

"لأن الأحاديث الواردة عندنا عن أئمة أهل البيت، والمروية عن الرسول تقول بحرمته ذكراً كان أو أنثي. ولدينا تحفظ فتوائي حول الموضوع فإن الحرمة _ عندنا _ مبنية علي الاحتياط " [37] .

وقفة قصيرة

1 _ إن جوابه هذا يوضح أن المنهج الذي يلتزم به هذا البعض، ويسير عليه هو أن الرسول (صلي الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) يقولون: حرام وهو يتحفظ علي قول الرسول (ص) وأهل بيته عليهم السلام، فلا يفتي في الفتوي بما قالوه، بل تبقي الفتوي عنده مبنية علي الاحتياط.

فهل ثمة من جرأة أعظم من هذه الجرأة؟!

2 _ إن هذا البعض يقول في العديد من الموارد:

"إن الاحتياط عنده ميل إلي القول بالجواز.."

ولم يزل يستشهد بفتاوي العلماء بالإحتياط الوجوبي بالمنع، علي صحة قوله هو بالجواز، فيقول: فلان يوافقنا علي القول بالجواز، لأنه يقول: الأحوط وجوباً الحرمة [38] .. فتبارك الله أحسن الخالقين.. كيف يمسخ: الأحوط وجوباً الحرمة أو النجاسة، فيصير فتوي بالجواز والطهارة، ثم يبقي علي حاله من كونه احتياطاً وجوبياً بالتحريم!!

فهل هذا إلا من قبيل قول البعض للإمام الرضا (عليه السلام): هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو تكسر البيضة لكن الأمام الرضا (عليه السلام) إجابه بقوله: (نعم، وفي أصغر من البيضة، وقد جعلها في عينك وهي أقل من البيضة لأنك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما، ولو يشاء لأعماك عنها..)

وقريب منه مروي عن الأمام الصادق (عليه السلام) أيضاً..

وروي ما يقرب من ذلك عن الأمام علي (عليه السلام)، وعن عيسي

(عليه السلام).. لكن الجواب المروي عنهما يختلف عن هذا، لكنه قاطع ومفحم [39] .

ولو أن الأمام عليه السلام عاش في هذا الزمن لأراه هذا البعض كيف، أنه قد أخطأ _ والعياذ بالله _ في جواب ذلك الشخص. وأن ذلك ليس ممكناً فقط، وإنما هو سهل ويسير علي بعض مخلوقات الله سبحانه.. فها هو الإحتياط الوجوبي بالتحريم قد أصبح قولاً بالجواز، مع أنه باق علي حاله من كونه احتياطاً وجوبياً بالتحريم، كما أنه لا يزال قولاً بالجواز، يؤيد به البعض مقولاته وفتاويه، ولكنه حينما يقول الأحوط وجوباً كذا.. فإنه لا يجيز لك أن تنسب إليه القول بالجواز، وسينكر عليك ذلك أشد الإنكار، وينسب إليك الكذب، والافتراء عليه!. ولا بد من أن نكرر، ونكرر: تبارك الله أحسن الخالقين.

توثيق الأحاديث عاش الكثير من المشاكل التاريخية.

توثيق الأحاديث عاش الكثير من المنازعات المذهبية.

كثرت علامات الاستفهام أمام توثيق أي راوٍ.

كثرت علامات الاستفهام أمام توثيق أي حديث.

لا بد من الحذر في الأخذ بالأحاديث.

يقول البعض في أحد هجوماته علي الحديث الشريف:

"إنّ توثيق الأحاديث قد عاش الكثير من المشاكل التاريخية، والمنازعات المذهبية، بحيث أصبحت علامات الاستفهام كثيرة أمام الباحث الذي يريد أن يوثق راوياً أو حديثاً، فلا بدّ من الحذر في الأخذ بالأحاديث لاسيما إذا كان متضمناً لتغيير الظاهر القرآني" [40] .

وقفة قصيرة

ونقول:

ا _ إن أئمتنا (عليهم السلام)، وعلماءنا الأبرار رضوان الله تعالي عليهم، وبالخصوص من كانوا قريبين من عهد صدور النص قد رسموا لنا ضوابط ومعايير، وبينوا لنا شرائط قبول الرواية، وطرائق توثيق الرواة. وقد بين لنا القرآن، والمعصومون الطاهرون صلوات الله وسلامه عليهم: أن الحديث الشريف حجة لا بد من الأخذ بها في

المعارف والأحكام شرط أن لا يخالف كتاب الله.

2 _ إن المنازعات المذهبية، والمشاكل التاريخية لا تعنينا ولا تهمنا ما دمنا نملك الوسيلة التي رضيها الله سبحانه وتعالي لنا في تمييز الحديث _ الذي هو حجة _ من غيره. ولا نحذر من الأخذ بالحديث في هذه الحالة.. بل الحذر هو من عدم الأخذ به..

3 _ إنه إذا تمت شرائط الحجّية في الحديث فلا بد من الأخذ به، حتي لو كان متضمناً لتغيير الظاهر القرآني، في مستوي تقييد مطلقاته، وتخصيص عموماته. وتبيين مجملاته. وإيضاح مبهماته.

علماً أنه لا بد من التفريق بين دليل حجّية الخبر.. فإنه قد يكون قطعياً. وبين الخبر نفسه، الذي قد يكون ظنياً دلالة، أو سنداً، أو كليهما..

الحديث المتفق علي ضعفه مقبول عنده.

الحديث المتفق علي رفض الاستدلال به مقبول عنده.

" الوثوق الشخصي" بالخبر هو المعيار ولو خالف كل العلماء.

توثيق أحاديث أهل البيت مشكلة معقدة.

مشكلة السند بسبب كثرة الكذب علي أهل البيت (ع).

فتح باب العمل بروايات العامّة.

ثم هو يوثق الحديث الذي ينقل اتفاق العلماء علي ضعفه ورفض الاستدلال به بدعوي أنه لا داعي للكذب فيه [41] .

وهذا يعني أنه يقول بجواز العمل بالروايات بدون وثوق نوعي. إذ مع الاتفاق علي ضعف الحديث ورفض الاستدلال به كيف يمكن الوثوق النوعي به.

ثم هو لنفس السبب، أعني عدم وجود داع للكذب يصحح العمل بروايات العامة [42] غير ملتفت إلي لزوم قيام القرائن العامة والشواهد المفيدة للوثوق النوعي بها، مع أنه قد صرّح في بعض مؤلفاته الأخري بأنه يشترط الوثوق النوعي، فراجع [43] .

أما بالنسبة لروايات أهل البيت عليهم السلام، فله موقف آخر، حيث إنه يعتبر توثيق

أحاديثهم عليهم السلام مشكلة معقدة لوجود الركام الهائل من الكذب في حديثهم (ع). ويري أن كثرة الكذب علي أهل البيت عليهم السلام تجعلنا نواجه مشكلة السند.

ويقول:

"ربما كان توثيق أحاديث أهل البيت عليهم السلام مشكلة معقدة، من حيث اختلاف الرأي في أسس التوثيق للنصوص المأثورة عنهم، وعن النبي محمد (ص)، وفي طبيعة الحقيقة التاريخية، في وثاقة هذا الراوي أو ذاك، مما يجعل الصورة غير واضحة الملامح في التعبير عن الخطوط الفكرية والفقهية في منهج أهل البيت الإسلامي.

وقد تزيد المسألة إشكالا إذا لاحظنا اضطراب الأحاديث المرويّة عنهم، من حيث التعارض والتنافي بين الروايات، لاسيما أن بعضها قد يكون صادرا عن راوٍ واحد، يروي الفكرة برواية، ليروي خلافها برواية ثانية، وهنا يقع الخلاف حول تفسير ذلك، وتوجيهه بالتقية تارة، وبغير ذلك أخري" [44] .

ويقول:

"إن المشكلة هي أن الكذب علي أهل البيت كان كثيرا، ولذلك فهناك مشكلة السند" [45] .

ويقول:

"علينا أن نفهم السنة النبوية الشريفة فهما جديدا، ونفهم ما يأتينا من أحاديث أئمة أهل البيت (ع)، وأن ننقي الأحاديث، لأن هناك ركاما من الأكاذيب، ومن المواضيع التي دخلت إلي واقع الناس، وأصبحت حقائق" [46] .

تصحيح الروايات التاريخية.

ومن جهة أخري فان هذا البعض، بنفس الطريقة، وبنفس الأسلوب، الذي حاول فيه العمل بروايات العامة، وتصحيح الأخذ بها، _ مع مخالفته لما درج عليه علماء المذهب _ حاول ذلك بالنسبة لما يرتبط بسيرة النبي (ص)،باستثناء ما يرتبط بالخلافة، فهو يقول:

"نعتقد أن الكثير من سيرة النبي (ص)، أخذه المسلمون يدا بيد، ولم تكن هناك ضرورة للكذب في بعض الحالات، فيمكن أن يقع التحريف في بعض ما يتعلق بالخلافة، ولكن الأحاديث التي تتحدث عن

أخلاقه لا ضرورة للكذب فيها.

وكان هناك اهتمام كبير، من قبل الصحابة لملاحقة أوضاعه، كيف يأكل، وكيف يلبس، وكيف كان كذا وكذا..

فهناك حالة ارتباط عضوي رائع، ولذلك فقضية نقل سيرة النبي (ص) كان أمرا طبيعيا، بحيث يتناقله الناس جيلا إثر جيل، لأنها كانت محل اهتمامهم.

فنحن نلاحظ: أنه ليس هناك في التاريخ شخصية اتفق عليها المسلمون كشخصية النبي (ص)، ولم يحدث هناك أية حالة سلبية حيال النبي في كل واقع الإسلام" [47] .

ونقول:

قد أشرنا إلي الإشكال في الفقرة الأخيرة في موضع آخر تحت عنوان عدالة الصحابة.

ونشير هنا أيضا إلي أن محاولة حصر التحريف في بعض ما يتعلق بالخلافة غير سديد، فقد روي عن الأمام الجواد (ع) انه (ص) قد قال في حجة الوداع:

(قد كثرت علي الكذّابة، وستكثر، فمن كذب علي متعمدا، فليتبوّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث، فاعرضوه علي كتاب الله وسنتي) الخ.. [48] .

وعن علي عليه السلام أنه قال:

وقد كذب علي رسول الله (ص) علي عهده حتي قام خطيبا، فقال: أيها الناس، قد كثرت علي الكذابة فمن كذب علي متعمدا، فليتبوّأ مقعده من النار، ثم كذب عليه من بعده.. الخ [49] .

وقد تحدثنا في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم عن الكثير من الموارد في سيرة النبي (ص) التي كُذِبَ فيها عليه فراجع ذلك الكتاب.

وإذا كانت كل الفئات والفرق تريد أن تحصل علي الشرعية، وعلي المبررات لمواقفها، وتحتاج إلي الإرتباط برسول الله (ص)، وإلصاق نفسها به، والتقوي علي خصومها، أو منافسيها بما تنسبه إلي رسول الله (ص) وتبرير التصرفات والفتاوي والحركات وغير ذلك، فإن الكذب والحال هذه لا يعرف قيودا ولا حدودا، ولن يقتصر

التحريف علي بعض ما يتعلق بالخلافة كما يقوله هذا البعض، ولسنا ندري كيف يدّعي اقتصار الكذب علي موضوع الخلافة في حديث أهل السنة وهو يؤكد علي الركام الهائل من الروايات الموضوعة في حديث أهل البيت (ع)، حسبما تقدّم، مع أن حديث أهل البيت (ع) ليس بأقل من حديث غيرهم، إن هذا لشييء عجاب.

لا بد من شروط أخري لقبول الأخبار في غير الأحكام.

لا تكفي مطلق الحجة في تفاصيل العقيدة بل المطلوب اليقين.

مفردات الوجود تحتاج إلي اليقين، لا مطلق الحجة.

لعل إهمال تقويم الأحاديث أوقعنا في فوضي المفاهيم في العقيدة.

إهمال تقويم الأحاديث أوقعنا في فوضي المفاهيم في الكون والحياة.

وبعد أن أنكر البعض: أن يكون المعني الباطن للقرآن مخزوناً لدي الراسخين في العلم، وأنه لا فائدة في ذلك حاول.. أن يقرّر قاعدة مفادها: أنه لا بد من تحصيل اليقين في مثل هذه الأمور، فهو يقول:

"والسؤال كيف نفهم ذلك؟

قد يكون من المفيد، أن نتحدث في هذا المجال عن نقطة مهمّة في تكوين أيّة فكرة حول القضايا الفكرية الإسلامية، وهي ضرورة التأكد من صحة الأحاديث المروية عن النبي محمد (صلي الله عليه وآله) وعن الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، من حيث السند أو المتن، بالطريقة التي تتجاوز الشروط المعروفة في حجية الأخبار في عملية الاستنباط الاجتهادي للأحكام الشرعية، لأن تلك الشروط قد تكون مطروحة في دائرة التنجيز والتعذير من خلال الآثار الشرعية العملية للمضمون الخبري، وذلك من خلال النظرية الأصولية العامة التي تري في حجية الخبر لوناً من ألوان التعبّد الذي لا معني له في المضمون الذاتي للخبر، فلا بدّ له من الأثر العملي الذي يكون هو الملحوظ في معني التعبّد.

أمّا

القضايا المتصلة بتفاصيل العقيدة، وبمفردات الوجود، أو بالخصوصية التفسيرية للقرآن، فإنها بحاجة إلي القطع، أو ما يقترب من القطع، ويحقق الاطمئنان؛ لأنه ليس خطاً للعمل، بل هو خطّ للقناعة الفكرية علي مستوي الالتزام الداخلي، في الاقتناع بالمفاهيم المتنوعة التي تحكم الأشياء المطروحة في الواقع، لئلا يكون الموقف متحرّكا في إثباتها.

وقد تكون الخطورة في هذه المسألة، أن الخلل في المسائل العقيدية والمفاهيم العامة في الصورة التي تقدمها للإسلام، أكثر مما يؤدي إليه الخلل في الأحكام الشرعية التي تتصل ببعض جوانب السلوك الفردي والاجتماعي في دائرة خاصة.

ولعلّ إهمال هذا الجانب، هو الذي أوقعنا في فوضي المفاهيم المتنوعة المتصلة بالكثير من قضايا العقيدة في تفاصيلها، وقضايا الكون والحياة، من خلال الأحاديث الكثيرة التي لم تخضع لتقويم علمي في صحتها وضعفها في قاعدتها العّامة.

وفي ضوء ذلك، قد نحتاج إلي الوقوف أمام الأحاديث الواردة في قضايا التفسير بشكل دقيق؛ لأن صورة المضمون التفسيري هي صورة القرآن في الوجه الفكري الذي يتقدّم إلي الناس في تخطيطه للإنسان وللحياة، وفي تكوينه للذهنية العامة للمسلم في نظرته إلي الوجود كله، مما قد يترك تأثيراته السلبية أو الإيجابية لدي الباحثين في حركة الصراع بين الإسلام والكفر، أو بين الهدي والضلال" [50] .

وقفة قصيرة

ونقول:

1 _ إن هذا البعض نفسه يحتج لكثير من الأمور التي يلتزم بها في التفسير وفي المفاهيم، وفي العقائد وفي التاريخ، وفي مفردات الوجود وغير ذلك بأحاديث ضعيفة السند، وبعضها مروي من طرق غير أهل البيت (عليهم السلام)..

ويقول:

"إن الحجة عنده هو الخبر الموثوق، لا خبر الثقة" [51] .

فكيف حصل له القطع أو الاطمينان بصحة كل تلك الأخبار الضعيفة والموهونة، وفقاً للمعايير المعتمدة لديه إلا إذا

كان يري أن الوثوق الشخصي هو المعيار، وليس ما يوجب الوثوق النوعي عند كل من يلاحظ النص، وما احتف به من قرائن تفيد الوثوق به.

فإذا كان يري: أن الوثوق الشخصي هو المعيار فتلك هي الكارثة الحقيقية الكبري لأن دين الله يصبح ألعوبة في أيدي الناس.. ولا تبقي أية ضابطة أو رابطة للقبول أو الرد.

وإذا كان يري: أن الوثوق النوعي هو المعيار كما صرح به في مورد آخر سيأتي بعد صفحتيين، فإن السؤال يبقي الذي طرحناه آنفاً عليه عن الأدلة التي جعلته يقطع أو يطمئن بتلك الأخبار الموهونة التي يطرحها هنا وهناك.

2 _ إنه ليس لديه أي دليل يثبت له هذه الدعوي التي يطلقها حول لزوم تحصيل اليقين أو حتي الإطمينان (العلم العرفي) في تفاصيل العقيدة، وقضايا الوجود والتفسير والمفاهيم العامة وغيرها إلا الاستحسانات العقلية، والتحليلات الذوقية التي يبالغ في تصويرها، ويستخدم الكثير من التهويل والتضخيم للأمور من أجل التأثير علي النفوس لقبولها..

3 _ إن غاية ما استدل هذا البعض به هنا هو: أن الخلل في المفاهيم العامة، في الصورة التي نقدّمها للإسلام وتفاصيل العقيدة أكثر خطورة من الخلل الذي ينشأ من الخطأ في الأحكام الشرعية في قضايا السلوك الخاص والعام في دائرة خاصة..

ونحن لا نجد الكثير من ملامح هذه الخطورة المميزة لهذا عن ذاك، إلا في موارد معينة بقيت مصونة بجهود العلماء الأبرار عن أي خلل.. إلا ما نشأ أخيراً بسبب إثارات هذا البعض نفسه.. ولذلك نجد أن هناك اختلافاً في كثير من المفاهيم العامة بين الناس.. وفي كثير من التفاصيل العقيدية في قضايا الوجود، وفي كثير من خصوصيات التفسير.. ولكن ذلك لم يزد خطر ذلك علي خطر الخلل والاختلاف

في الأحكام الشرعية المتعلقة بالسلوك الخاص والعام..

بل قد يكون للخلل في بعض الأحكام خطورة أكبر بكثير من الخلل في بعض مفردات التفسير أو في التفاصيل في العقيدة، أو المفاهيم أو غيرها..

فإن الفتوي بجواز أو وجوب ضرب الوالدين وحبسهما، والإغلاظ لهما بالقول في مجال النهي عن المنكر، كالكذاب مثلاً مع التساهل في الإلحاد الذي هو من أعظم المنكرات، وعدم إيجاب الإغلاظ لهما فيه..

وكذلك الفتوي بجواز النظر إلي العراة في نوادي العراة، والفتوي بجواز نظر المرأة إلي عورة المرأة، وجواز نظر الرجال إلي عورة المرأة المسلمة إذا كانت لا تنتهي إذا نهيت، ثم القول بأن في الشهادة لعلي بالولاية في الأذان والإقامة مفاسد كثيرة، ثم تجويز قول آمين، و التكتف، دون الإشارة إلي تلك المفاسد، ثم الفتوي بطهارة كل إنسان، وانعقاد الزواج بالمعاطاة، أي بمجرد الفعل والممارسة من دون حاجة إلي عقد، وما إلي ذلك.

نعم.. إن أمثال هذه الفتاوي أشد خطورة علي الإسلام من الخلل في بعض خصوصيات التفسير، أو في فهم بعض مفردات الوجود، وأعظم من الخلل في بعض تفاصيل العقيدة التي قد لا تخطر للإنسان علي بال طيلة حياته، كالاعتقاد بان الملائكة معصومون بالإجبار علي حد زعمه لا بالاختيار، أو ما يشبه هذا.

4 _ إن الذي أزعج هذا البعض ودفعه إلي أن يطلق هذه الدعاوي هو ما ورد عن النبي (صلي الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) في معني الراسخين في العلم وأنهم هم الأئمة من أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)..

وأنهم هم الذين يعرفون المعني الباطني للقرآن.. مما يعني: أن لديهم (عليهم السلام) علوماً ليست لدي غيرهم.

ومن الواضح: أن هذه الأحاديث قد بلغت حداً من الكثرة والوثاقة

بحيث لا يستطيع حتي من يدعي أنه يحتاج إلي تحصيل القطع أو الإطمئنان في كل ما سوي الأحكام الشرعية الفرعية، أن يتملّص أو أن يتخلص منها..

فكيف وهو يقول:

"وإذا كان الحديث ضعيف السند، فإنه لا يخلو من إيحاء بالمضمون في الآية، مع ملاحظة أننا لا نقتصر في حجية الخبر علي خبر الثقة، بل نضيف إلي ذلك الخبر الموثوق به نوعاً، لأن سيرة العقلاء أو بناءهم هو الأساس في حجيته؛ وربما كان ضعف احتمال الكذب، لعدم وجود أساس لرغبة الناقل في تعمّده هو القرينة الطبيعية علي وثاقة الحديث" [52] .

ولا ندري لماذا لم توحِ له كل تلك الأحاديث في المراد من الراسخين في العلم بمضمون الآية الشريفة؟!

ويقول أيضاً:

"ونحب أن نشير هنا إلي مبنانا في حجية خبر الواحد، وهو حجية الخبر الموثوق لا خبر الثقة، فإذا لم تكن هناك أي مصلحة في الك_ذب عند الراوي _ كما في مقامنا _ فلا بأس بالأخذ بالخبر وإن كان ضعيفاً، ولا يعني ذلك أننا نلغي السند بشكل كلي، بل نعتبر أن ضعف السند من القرائن التي قد توجب عدم الوثوق، كما هو الغالب _ وقد لا توجب، وعلي هذا يكون المدار علي الوثوق لا الوثاقة" [53] .

فهذا الكلام من هذا البعض يجعله ملزماً بقبول هذه الأخبار، ولا يبقي له أي عذر لردها أو تجاهلها.

الأخبار كلها ليست حجة في غير الأحكام.

لا يصح الأخذ بالحديث الضعيف في جوانب الحياة.

لا بد من اليقين في الأحاديث عن أسرار الواقع.

لابد من اليقين في الأحاديث عن ملكات الأشخاص.

أخبار الآحاد لا تقوم لها حجة في التفسير.

الإخبارات الكونية لا يكفي فيها خبر الواحد.

الإخبارات التاريخية لا يكفي

فيها خبر الواحد.

لا بد من القطع والاطمئنان في الكونيات وفي التاريخ.

القضايا الدينية المتصلة بأفعال الأنبياء لا بد فيها من اليقين والتواتر.

اشتراط اليقين في غير الشرعيات يخلصنا من كثير من الروايات.

ونقول:

إن البعض يناقش الروايات التي تتحدث عن طبيعة القبضة التي قبضها (السامري) من أثر الرسول، ويقول عن هذه الروايات:

".. وعلي أي حال فهي أخبار آحاد لا تقوم بها حجة في التفسير لأن حجية خبر الواحد، فيما لم يفد القطع والإطمئنان، لا تعني إلا ترتيب الأثر الشرعي علي مضمونه، فيما كان له أثر شرعي.. أما الأمور التي تتضمن أخباراً عن قضايا كونية في السماء أو في الأرض، أو عن أحداث تاريخية فلا مجال للاعتماد علي الخبر الواحد فيها بنفسه، بل يتبع القطع أو الإطمئنان، من باب حجتها في ذاتها بعيداً عن الخبر.. فلنترك الموضوع لعلم الله كالكثير مما أجمله القرآن ولم نصل فيه إلي يقين، لاسيما إذا كان الأمر مما لا يتعلق به خط العقيدة فيما يجب اعتقاده، أو خط العمل، فيما يجب الالتزام به" [54] .

ويقول في موضع آخر:

".. وقد نحتاج إلي أن نثير أمام هذه الأمور، الفكرة القائلة، بأن القضايا الدينية المتصلة بالمفاهيم والأوضاع المختلفة في أجواء الكون وأفعال الأنبياء وغير ذلك مما يتعلق بالأحكام الشرعية، لا بد في الالتزام بها من اليقين، فلا يكفي فيها الظن الحاصل من رواية خاصة لم تبلغ حد التواتر.. وبذلك نستطيع التخلص من كثير من الروايات المتعلقة بالتفاصيل الدقيقة لخصائص الأوضاع، وملكات الأشخاص، وأسرار الواقع، لنرجع الأمر فيها إلي أهلها أو لنأخذ منها بعض الإيحاءات والأجواء بعيداً عن جانب العقيدة.

وربما كان من الضروري أن يتوفر الباحثون في مسالة حجية الخبر

الواحد، في علم الأصول علي إثارة المسألة بشكل واضح أمام الناس، لأن المشكلة أن الكثيرين قد اعتمدوا علي الروايات في الأمور الخارجة عن شؤون التشريع، بنفس الشروط التي اعتمدوا فيها علي التشريع، بل ربما تطور الأمر إلي التوسع في ذلك باعتماد الروايات الضعيفة، مما أدي إلي أن يكون عندنا ركام هائل من الأحاديث المذكورة في الكتب الدينية، التي يعتمد عليها الناس في تكوين التصورات والقناعات الدينية في جانب العقيدة والحياة" [55] .

وقفة قصيرة

إننا نسجل هنا ما يلي:

1 _ تقدم في هذا الكتاب أن الذي يطلب فيه اليقين هو خصوص الأمور العقائدية، التي يجب الإعتقاد بها علي كل حال، وهي التي يتوقف عليها الإسلام والإيمان،كالتوحيد والنبوة واليوم الآخر، وكذا يطلب اليقين في المعجزة التي يتوقف عليها ثبوت أصول العقيدة، كالتي يتوقف عليها إثبات نبوة النبي، أما ما عدا ذلك، فإنما يجب الاعتقاد به لو التفت إليه لا مطلقاًً.

وهذه الأمور التي تحدث عنها هذا البعض هنا، لا دليل علي اعتبار اليقين فيها، بل يكفي أن تثبت بالحجة المعتبرة شرعاً و عند العقلاء، وذلك مثل الاعتقاد بكرامات النبي (ص)، كتسبيح الحصي بيديه (ص)، وسجود الشجر له (ص)، وتكليم الحيوان له، ونحو ذلك.

فإن ذلك لا مدخلية له في تحقق أصل الإيمان والإسلام، نعم لوثبت للإنسان بحجة معتبرة وجب عليه الاعتقاد به، لئلا يلزم رد الخبر علي أهل البيت عليهم السلام، وقد روي عن الأمام الباقر (ع)، وهو يتحدث عن أصحابه:

(إن أسوأهم عندي حالاً، وأمقتهم إليّ، الذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا، ويروي عنا، فلم يعقله، ولم يقبله قلبه، اشمأز منه وجحده، وكفر بمن دان به، وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج، وإلينا أسند،

فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا) [56] .

وعنه عليه السلام:

(لا تكذبوا بحديث أتاكم به أحد، فإنكم لا تدرون لعله من الحق، فتكذبوا الله فوق عرشه) [57] .

2 _ إن هذا البعض يقول بعدم حجية أخبار الآحاد في التفسير، وفي التاريخ وفي الكونيات، وفي القضايا الدينية المتصلة بالمفاهيم والأوضاع المختلفة في الكون، وأفعال الأنبياء، وغير ذلك، وكذا الحال بالنسبة للروايات التي تتحدث عن ملكات الأشخاص وأسرار الواقع.

ونقول: لا ندري السبب في حكمه هذا، فإن حجية خبر الواحد لم تخصص من خلال أدلتها، كبناء العقلاء، أو (آية النبأ) أو غيرها مما يستدل به علي حجيته _ لم تخصص _ هذه الحجية في نوع دون نوع. فمن أين جاء هذا التخصيص البديع _ بل المستهجن _ يا تري؟

3 _ إن هذا البعض يقول بعدم إمكان الأخذ بالحديث الضعيف في جوانب الحياة.

ونقول: إن من يقول بالأخذ بالحديث الموثوق _ وهذا البعض يدعي دائما أنه منهم _ لا بحديث الثقة، لا يحق له أن يقول بلزوم الاقتصار علي الخبر الصحيح سنداً في أمور الشرع، ولا في سائر ما تقدم.

4 _ إن خبر الواحد حين ينقل لنا ملكات الأشخاص، أو حادثة تاريخية لا يزيد عن كونه ينقل خبراً في موضوع من الموضوعات، فإذا كانت حجيته من باب بناء العقلاء، فلماذا لا تشمل ما هو من قبيل الإخبار بعدالة أو بحياة زيد من الناس، أو بوقوع حادثة القتل الفلانية، وكذا الحديث عن الكونيات، والتبدل فيها ووقوع زلزال أو خسف في البلد الفلاني، أو كالشهادة بالهلال..؟

أما القضايا المتصلة بأفعال الأنبياء، فما هي إلا كنقل صلاتهم، وحجهم، وصيامهم (ع) لنا، ومن هذه الأفعال نقل خبر شجاعة النبي،

والإمام الخارقة للعادة في بعض المواضع، كخبر ثباته (ص) يوم أحد، وكخبر قلع باب خيبر، وقتل علي عليه السلام لعمرو بن عبد ود، حيث كانت ضربته تعدل عبادة الثقلين.

5 _ إنه قد اعتبر أنه لا بد من القطع أو الإطمئنان في كل ما ليس حكماً شرعياً، مؤكدا علي أن حجيتهما الذاتية هي المنشأ، للأخذ بهما بعيداً عن الخبر.

وهذا معناه لزوم إلقاء معظم الحديث المنقول عن أهل البيت عليهم السلام من أصله والاستغناء عنه؛ لأنه لا حجية له، بل الحجية لليقين بذاته، وللاطمئنان بذاته كما يقول. (وهذه مقولة خطيرة).

مع ما في هذا الأخير _ أي حجية الاطمئنان بذاته _ من إشكال ظاهر.

ومن الطرائف أن تكون سيرة العقلاء التي يستدل بها هذا البعض علي حجية الخبر هي نفسها التي يستدل بها علي حجية الإطمئنان، فكيف ساغ له قبول حجية الإطمئنان في غير الشرعيات وهجر حجية الخبر فيها وتوصيف الحجية في الأول بالذاتية وإنكار حجية الثاني من رأس؟!

وبعد.. فإن من الواضح: أن الموارد التي يحصل فيها اليقين محدودة ومعدودة، فيبقي هذا الكم الهائل من أحاديث أهل البيت عليهم السلام بلا فائدة ولا عائدة.

ولا ندري مدي ابتعاد مقولة الاكتفاء بما في القرآن، وبما دل عليه العقل، وبالمتواترات، لا ندري مدي ابتعادها عن مقولة _ (حسبنا كتاب الله)، ولا نعرف كثيراً عن المواض_ع التي تخ_تلف فيها هذه عن تلك.

القرآن يوسّع الحديث ويضيّقه.

الحديث لا يخصص ولا يقيد القرآن.

إن البعض يعتبر أن القرآن هو الذي يوسع الحديث أو يضيقه ومعني ذلك أن لا يستطيع الحديث تضييق المفهوم القرآني.

فهو يقول:

"إنه لا بد من أن يرجع الفقهاء إلي القرآن"

علي قاعدة أساسية هي:

"أن العناوين القرآنية هي العناوين الأصلية التي تحكم وتفسر كل مفردات العناوين الموجودة في السنة فهي التي توسعها وتضيقها، لأنها هي الأساس في حركة الأحكام في الموضوعات. كما أن المفهوم القرآني هو المفهوم الحاكم علي كل جزئيات المفاهيم الموجودة في الأحاديث، لأنه هو المقياس لصحة الأح_اديث وفسادها.." [58] .

والذي نلفت النظر إليه هو خصوص الفقرات الأولي من النص المذكور، فإذا كان مراده غير ما هو الظاهر، أو كان لديه توضيحات وقيود، فقد كان عليه أن يذكر ذلك في هذا الموضع بالذات، لأنه موضع الحاجة للتوضيح والتصحيح.

نحن نميل إلي الرأي السلبي في وثاقة أبي هريرة.

اختلف الرأي في توثيق أبي هريرة.

يقول البعض:

"هذا مع التحفظ الذي نسجله علي شخصية أبي هريرة، التي اختلف الرأي في توثيقها وعدم توثيقها. ونحن نميل إلي الرأي السلبي، ونحتمل أن يكون الحديث من موضوعاته" [59] .

وقفة قصيرة

ونقول:

1 _ إن من يقرأ هذه العبارات يظن لأول وهلة: أن الإختلاف في وثاقة أبي هريرة واقع بين علماء الشيعة، وذلك لأن قائل هذا القول يحمل شعار هذا المذهب بل هو يعلن نفسه مرجعاً فيه..

2 _ ولو أغمضنا النظر عما سبق، فإننا نقول:

لماذا لم يجزم بعدم وثاقة أبي هريرة، بل أظهر الميل إلي الرأي السلبي؟!

وهذا الأمر أيضاً يشير إلي وجود درجة من الاعتبار يحظي بها أبو هريرة لديه!!

الاسلام لا يملك وسيلة بيان.. العمل بالرأي

اشاره

عودة إلي نماذج من مناهجه علي النحو التالي:

الإسلام يعاني من مشكلة.

الإسلام لا يملك وسيلة بيان قاطعة ويقينية.

الكلمة والفعل لا تملك روحاً مطلقة تحميها من الاحتمال الآخر.

اختلاف المسلمين بدأ من زمن النبي.

اختلاف المسلمين من زمنه (ص) هو بسبب الاحتمالات في الكلام النبوي وفي الأفعال النبوية.

المختلفون لم يكونوا جميعاً قادرين علي لقاء النبي فبقيت خلافاتهم تأخذ طابع الإسلام.

الاجتهاد بالرأي موجود في زمنه (ص).

النبي _ إذا صحت الأحاديث _ أمرهم بالعمل بآرائهم حيث لا نص.

الأحزاب جعلت الخلافة قض_ية مركزية.

المختلفون علي الخلافة متواصلون _ والأحزاب جعلوا الخلافة سبب انقسام.

يقول البعض، وهو يتحدث عن: هوية الحوار الإسلامي _ الإسلامي:

"وهكذا كان الإسلام الواحد يهييء للأمة الواحدة أن تلتقي علي كل مفاهيمه، لتلتقي من خلال هذه المفاهيم علي كل مواقع حياتها، لكن مشكلة الإسلام كمشكلة أي فكر آخر، سواء كانت دينية أو غير دينية، أنه لا يملك أن يدخل إلي أفكار الناس بطريقة غيبية، وإنما يدخل من خلال الكلمة ومن خلال الفعل. ومن الطبيعي أن الكلمة لا تملك روحاً مطلقة تحميها من الاحتمال الآخر، وهكذا الفعل لا يملك أيضاً انفتاحاً لما يختزنه، ما يجعل الاحتمالات كثيرة في تفسير

طبيعته وخلفياته..

لذلك اختلف المسلمون في زمن النبي (ص)، ولم يكن كل المسلمين قادرين علي لقاء النبي (ص)، لذا بقيت كثير من الخلافات تتحرك في وعي هؤلاء وأولئك علي أنها الإسلام. ونحن نعرف أن الاجتهادات بالرأي كانت موجودة، خاصة إذا صحت الأحاديث التي تقول بأن بعض الناس ممن أرسلهم النبي ليقضوا في بعض المناطق، قد قال لهم ما مفاده أنه إذا لم يجد أحدكم شيئاً في كتاب الله وسنة رسوله _ مما يعرض عليكم _ فإنه يعمل باجتهاد رايه. إنها وجهة نظر علي أي حال.

ثم جاءت الأحزاب بعد النبي (ص)، لتجعل من قضية الخلافة قضية مركزية استطاعت أن تمثل حداً فاصلاً يفصل المسلمين عن بعضهم البعض. ربما لم يتحقق هذا الانفصال في عهد الخلافة، إذ نجد تواصلاً من الذين اختلفوا حول قضية الخلافة" [60] .

وقفة قصيرة

ونقول:

إن ما ورد في هذه الأسطر اليسيرة من مقولات يحتم علينا الوقوف _ ولو للتنبيه والتحذير _ عند النقاط التالية:

1 _ هل يصح لأحد أن يقول: إن الإسلام يعاني من مشكلة أنه لا يملك الدخول إلي أفكار الناس بطريقة غيبية. بل من خلال الكلمة والفعل الخ؟!!

ألا يوحي ذلك:

ألف: أن في الإسلام خللاً أو نقصاً في قدراته وفي وسائله وهو عاجز عن سدّ هذا العجز؟!

ب: أن الوسائل التي اعتمدها الإسلام لم تستطع أن تقوم بالمهمة التي أوكلت إليها علي أتم وجه، بسبب ما تعاني منه من عجز ووهن؟!

ج: أن القول: إن رسول الله (ص) قد جاءهم بها بيضاء نقية، وأن الكتاب يهدي إلي الرشد.. وأنه مبين، وأن الحجة تامة علي الخلائق. وأن لله الحجة البالغة.. وأنه: (قد تبين الرشد من الغي..) ووو الخ.. _

إن ذلك كله _ يصبح بلا معني، وبلا فائدة؟!

بل يكون مجرد شعارات رنّانة خالية من الصدقية!! باعتبار ان الإسلام لا يزال يعاني من مشكلة!! أعاذنا الله من الزلل في القول، وفي الفكر، وفي العمل.

2 _ ما ادعاه من أن الكلمة لا تحمل روحاً مطلقة تحميها من الاحتمال الآخر.. لا مجال لقبوله.. فإن ذلك إنما هو في بعض الموارد، فهو الإستثناء وليس هو القاعدة.. ولولا ذلك لانهارت حياة الناس، واختلط الحابل بالنابل، ولم يعد لهم ما يحل مشاكلهم علي صعيد الخطاب الذي يدخل في صميم حياتهم، وعليه تدور أمور معاشهم ومعادهم. وبه وعلي أساسه يكون الأخذ والعطاء، والفصل في القضاء.

والخلاصة:

أنه لا ريب في وجود ما هو قطعي الدلالة في اللغة العربية، ووجود ما هو ظاهر في دلالته، فلا يضر وجود الاحتمال الضعيف الذي لا يلتفت إليه العقلاء ولا يقدح في حجية ظاهره وفي الإلزام ولزوم الالتزام به.

وإذا كانت بعض الكلمات أو التعابير القليلة لا تأبي احتمالات أخري في معناها فإن بالامكان تجنبها والتزام غيرها مما لا يعاني من هذه المشكلة، إلا إذا أريد للكلام أن يكون علي درجة من الإبهام والإجمال لأكثر من سبب.

ومهما يكن الحال، فإن ثمة نظاماً عاماً يلتزمه الناس في مجال الخطاب في مختلف جهات حياتهم، وإنما يعتني بالاحتمالات، وتقبل في دائرة التداول ما دامت خاضعة لهذا النظام العام، فإذا تجاوزت حدوده وخطوطه سقطت وأهملت، واستبعدت من دائرة الاهتمام والتداول. ولولا ذلك، لانسد باب المعرفة علي الناس، ولم تقم عليهم حجة، وكان اعتبار فعل المعصوم وقوله وتقريره حجة ودليلاً علي الأحكام والحقائق الدينية بلا معني ولا فائدة.

3 _ إن وجود احتمالات متعددة للكلام أو للفعل يحتم

أن يبقي الناس في دائرة تلك الاحتمالات.. ولا يجوز لهم أن يتعدوها إلي آراء أخري يخترعونها من عند أنفسهم..

4 _ قوله:

"إن الإسلام لا يملك الدخول إلي أفكار الناس بطريقة غيبية".

غير مقبول أيضاً فإن الإسلام يقول:

ليس العلم بالتعلم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالي أن يهديه [61] .

وقال تعالي: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم، تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم) [62] .

ويقول الله سبحانه: (والذين اهتدوا زادهم هدي، وآتاهم تقواهم) [63] .

فالهداية بالإيمان وزيادة الهدي، من قبل الله سبحانه – كسائر التوفيقات والتسديدات الإلهية _، إنما هما عمل غيبي، وتصرف إلهي.

وعن الأمام الباقر (ع): (من عمل بما يعلم علمه الله ما لم يعلم) [64] .

ولكن شرط أن تتوفر النية الصادقة لقبول هذا الإيمان، وعدم المقاومة له بتمحل المعاذير.

5 _ علي أن التعليم لا ينحصر بالكلمة وبالفعل الذي ترد فيه الاحتمالات. بل إن اجتراح المعجزات القاطعة الدلالة هو الآخر ينتهي بالناس إلي العلم، ويضطرهم إليه، بحيث تصبح حجتهم داحضة. ولا يجدون ثمة أي مهرب.

6 _ علي أن هناك هداية فطرية كالهداية للتوحيد، ولكثير من الأمور التي تدركها الفطرة، وهداية تكوينية وهداية عقلية.. فلا تنحصر سبل الهداية بالقول وبالفعل..

7 _ قد جعل هذا البعض اختلاف المسلمين في زمن النبي ناشئاً عن أن الكلمة والفعل لا تملك روحاً مطلقة تحميها من الاحتمال الآخر..

فهل يريد بذلك أن يعذر الذين اغتصبوا الخلافة من أمير المؤمنين، واعتدوا علي مقام سيدة النساء؟! وضربوها وأخذوا فدكاً.. وما إلي ذلك؟!

باعتبار أن الكلام الذي ألقي إليهم، قرآناً كان أو توجيهاً نبوياً، لا يملك

روحاً مطلقة تحميه من الاحتمال الآخر!!

8 _ ولنا أن نلزم هذا البعض بما ألزم به نفسه، فهل يقبل بأن نقول له: إن كلامه وفعله لا يملك روحاً مطلقة تحميه من الاحتمالات الأخري. فكلامه يحتمل أن يكون دائماً كلام تضليل، وفعله يحتمل دائماً أن تكون له طبيعة سيئة، وخلفيات شائنة؟!

ولماذا إذن يقيم الدنيا ثم لا يقعدها علي منتقدي مقولاته التي هي صريحة في خلاف الحق. ولماذا يتهمهم بالعقدة تارة، وبالتغفيل أخري، وبالوقوع تحت تأثير المخابرات ثالثة، و بعدم الدين والتقوي رابعة وما إلي ذلك؟

9 _ علي أن هذا الكلام يستبطن أن لا يبقي هناك حق يعرف أو يؤخذ به من أحد من الناس.. كما أنه لا يبقي معني لتشريع العقوبات ولا لوضع المثوبات. وأن كل ما يقال أو يفعل ترد فيه الاحتمالات المثبتة والنافية، وتدخله الشبهات، فلا مجال للاحتجاج به، أو له أو عليه..

ولم يكن أيضاً معني للجهاد، لعدم إمكان قطع العذر، وإقامة الحجة. ولا معني للحد والقصاص لأن الحدود تدرأ بالشبهات لأن كل دليل يستدل به علي تشريع شيء لا يملك روحاً تحميه من الاحتمال الآخر.

10 _ وإذا انجر الكلام إلي هذا الحد، فإنه لا حرج إذا قيل: إن هذا معناه أن تنتفي الفائدة من بعثة الأنبياء والرسل، ومن تشريع الشرائع والأحكام.. ما دام أنه ليس ثمة من سبيل لنيلها، ولا وسيلة للوصول إليها!!!

11 _ ثم ما معني قوله:

"لم يكن كل المسلمين قادرين علي لقاء النبي (ص)، فبقيت الخلافات تتحرك في وعي هؤلاء وأولئك علي أنها الإسلام"؟!

هل يريد أن يقول: إن الذين اختلفوا لم يروا رسول الله (ص) ليسمعوا منه ما يزيل خلافاتهم؟!

إذا كان هذا هو

المقصود فإننا نقول له: إن الاختلاف في معظمه لم يكن بين من لم يكونوا قادرين علي رؤية الرسول.. بل كان في معظمه بين من رأوا الرسول (ص) وعاشوا معه، وسمعوا أقواله وكانوا قادرين علي الرجوع إليه فيما شجر بينهم.

12 _ وحتي لو رجعوا إلي الرسول فإنه _ علي حسب قول هذا البعض _ لن يكون (ص) قادراً علي حسم مادة النزاع، لأن كل كلام سيقوله لهم لا يملك روحاً مطلقة، تحميه من الاحتمال الآخر. وكذلك الحال بالنسبة لما يمارسه من فعل توجيهي وتعليمي. وسيبقي الحرج في انفسهم مما يقضيه، ولا يبقي معني ولا مجال لتحقيق مضمون قوله تعالي: ثم لا يكن في أنفسهم حرج مما قضيت.

13 _ إن هذا البعض يدعي: أنه يعرف:

"أن الإجتهادات بالرأي كانت موجودة خاصة إذا صحت الأحاديث التي تقول: إن النبي أجاز لقضاة المناطق العمل بالرأي.."

ومن الواضح:

أ _ أن وجود الاجتهاد بالرأي في زمن الرسول لا يعني أن الرسول قد أمضاه وقبل به.. بل هو والأئمة من أهل بيته الطاهرين ما زالوا يقبحون العمل بالرأي وينهون عنه، ويعلنون رفضهم له ويخبرون الناس بأن دين الله لا يصاب بالعقول، ويعلمونهم بالعقوبات القاسية التي أعدها الله لمن يفعل ذلك.

ونذكر من هذه النصوص الرواية التالية:

محمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن مثني الحناط، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله، ولا سنة نبيه؛ فننظر فيها؟!

فقال: لا، أما إنك إن أصبت لم تؤجر، وإن أخطأت كذبت علي الله عز وجل [65] .

ب _ لو صح ما ذكره هذا البعض لم تتحقق بدعة

أصلاً.. لأن بإمكان كل أحد أن ينتج رأياً يخالف فيه حكم الله بحجة: أنه لا يستطيع أن يري النبي، وحتي لو رآه، فإن ما يقوله وما يفعله (ص) لا يملك روحاً مطلقة، تحميه من الاحتمال الآخر..

وقد روي عن رسول الله (ص) قوله: (إذا ظهرت البدع في أمتي، فليُظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله) [66] .

وعنه (ص): من أتي ذا بدعة فعظمه، فإنما يسعي في هدم الإسلام [67] .

وعنه (ص): (أبي الله لصاحب البدعة بالتوبة، قيل: يا رسول الله، وكيف ذلك؟

قال: إنه قد أشرب قلبه حبها) [68] .

وروي الكليني، عن محمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد بن عيسي، عن الحسن بن محبوب عن معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

قال رسول الله (ص): (إن عند كل بدعة تكون من بعدي، يُكاد بها الإيمان، ولياً من أهل بيتي، موكلاً به، يذب عنه، ينطق بإلهام من الله، ويعلن الحق وينوّره، ويرد كيد الكائدين، يعبر عن الضعفاء، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكلوا علي الله) [69] .

وعن يونس بن عبد الرحمان عن أبي الحسن الأول: (يا يونس لا تكونن مبتدعاً، من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيه (ص) ضل، ومن ترك كتاب الله وقول نبيه كفر) [70] .

وعن أبي جعفر (عليه السلام): (من أفتي الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضادّ الله، حيث أحلَّ وحرّم فيما لا يعلم) [71] .

وعن محمد بن يحيي، عن بعض أصحابه: وعلي بن إبراهيم (عن أبيه) عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبدالله

(ع): وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب رفعه، عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (إنّ من أبغض الخلق إلي الله عز وجل لرجلين: رجل وكله الله إلي نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف [72] بكلام بدعة، قد لهج بالصوم والصلاة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدي [73] من كان قبله، مضل لمن اقتدي به في حياته وبعد موته، حمّال خطايا غيره، رهن بخطيئته. ورجل قمش جهلاً في جهّال الناس، عان [74] بأغباش الفتنة، قد سماه أشباه الناس عالماً ولم يغن [75] فيه يوماً سالماً، بكّر [76] فاستكثر، ما قلّ منه خير مما كثر، حتي إذا ارتوي من آجن [77] واكتنز من غير طائل [78] جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس علي غيره، وإن خالف قاضياً سبقه، لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي بعده، كفعله بمن كان قبله، وإن نزلت به إحدي المبهمات المعضلات هيّأ لها حشواً من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في منزل غزل العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ، لا يحسب العلم في شيء مما أنكر، ولا يري أن وراء ما بلغ فيه مذهباً، إن قاس شيئاً بشيء لم يكذب نظره وإن أظلم عليه أمر اكتتم به، لما يعلم من جهل نفسه، لكيلا يقال له: لا يعلم، ثم جسر فقضي. فهو مفتاح عشوات [79] ، ركّاب شبهات، خبّاط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم ولا يعضّ في العلم بضرس قاطع فيغنم، يذري الروايات ذرو الريح الهشيم [80] . تبكي منه المواريث، وتصرخ منه الدماء؛ يستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرّم بقضائه الفرج الحلال، لا مليءٌ بإصدار ما عليه ورد [81] ، ولا

هو أهل لما منه فرط، من ادعائه علم الحق) [82] .

14 _ ثم إن هذا البعض قد أشار إلي:

"الأحاديث التي تقول بأن بعض الناس ممن أرسلهم النبي ليقضوا في بعض المناطق، قد قال لهم ما مفاده: أنه إذا لم يجد أحدكم شيئاً في كتاب الله وسنة رسوله _ مما يعرض عليكم _ فإنه يعمل باجتهاد رأيه.."

ونقول:

إنه يشير بكلامه هذا إلي ما يستدل به بعض أهل السنة علي تشريع الرأي والقياس، وهو ما رووه عن الحارث بن عمر، بن أخي المغيرة بن شعبة عن ناس من أصحاب معاذ (من أهل حمص)، عن معاذ، قال:

لما بعثه (ص) إلي اليمن، قال كيف تقضي، إذا عرض لك قضاء؟!

قال: أقضي بكتاب الله.

قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟

قال: فبسنَّة رسوله.

قال: فإن لم تجد في سنّة رسول الله ولا في كتاب الله؟

قال: أجتهد رأيي ولا آلو.

قال: فضرب رسول الله (ص) صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله [83] .

وهذه الرواية قد حكم عليها أهل السنة أنفسهم بالضعف وذلك:

ألف: لجهالة الحارث بن عمر، ولأن الرواية لم تبين من هم أصحاب معاذ، ليمكن التأكد من وثاقتهم أو عدمها [84] .

ب: قال أبو محمد: هذا حديث ساقط، لم يروه أحد من غير هذا الطريق، وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يسموا، فلا حجية في من لا يعرف من هو. وفيه الحارث بن عمرو، (وهو مجهول لا يعرف من هو، ولم يأت هذا الحديث قط من غير طريقه) [85] .

وقد أورد الجوزجاني هذا الحديث في الموضوعات، وقال: هذا حديث باطل، رواه جماعة عن

شعبة. وقد تصفحت هذا الحديث في أسانيد الكبار والصغار، وسألت من لقيته من أهل العلم بالنقل عنه، فلم أجد له طريقاً غير هذا.

إلي أن قال: ومثل هذا الإسناد لا يعتمد عليه في أصل الشريعة [86] .

وقال البخاري عن هذا الحديث: (لا يعرف الحارث إلا بهذا ولا يصح) [87] .

ج: إن هذا الحديث الضعيف لا يقوي علي معارضة ما دل علي الردع عن إعمال الرأي.

د: قد أشار البعض إلي أن من الممكن أن تصح الأحاديث التي تقول: إن النبي قال لبعض من أرسلهم إلي بعض المناطق أن يعملوا بالرأي.

ونقول له: إن حديث معاذ الذي ذكرناه هو المعتمد، بل وحتي لو انضم إليه حديث أبي موسي الأشعري، ومعاذ، أو انضم إليه حديث ابن مسعود أيضاً [88] .

فإنه يبقي غير مقبول.. لأن رواته لم تثبت وثاقتهم عند علماء المذهب. بل ثبت ضدها.

بل إننا نطمئن القاريء الكريم إلي أن أهل السنة أنفسهم يصرحون _ وقد قدمنا بعض تصريحاتهم _ بإرسال تلكم الأحاديث، وبمجهولية رواتها، وتفرّد هؤلاء المجاهيل بنقلها.

إذن، فلماذا هذا التهويل علي الآخرين بوجود أحاديث بصيغة الجمع!! وبأنها يمكن أن تكون صحيحة!!.. فإنها لا يمكن أن تكون كذلك عند السنة أنفسهم، فكيف تصح عند الشيعة..

ه_: قال ابن ماجة: حدثنا الحسن بن حماد، سجّادة، حدثنا يحيي بن سعيد الأموي، عن محمد بن سعيد بن حسان، عن عبادة بن نسيّ، عن عبد الرحمن بن غنم، حدثنا معاذ بن جبل، قال: لما بعثني رسول الله (ص) إلي اليمن قال: لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم، وإن أشكل عليك أمر، فقف حتي تبينه، أو تكتب إليّ فيه [89] .

قال في هامش عون

المعبود: (وهذا أجود إسناداً من الأول، ولا ذكر فيه للرأي) [90] .

و: إن من الواضح: أن الله سبحانه، قد أكمل الدين وأتم النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً بولاية علي عليه السلام.. وكان كمال هذا الدين بحيث أن الأمام الصادق (ع) يقول: إن عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة؟!

قال: قلت (أي الراوي): جعلت فداك، وما الجامعة؟

قال: صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله (ص) وإملائه، من فلق فيه، وخط علي (ع) بيمينه، فيها حلال وحرام، وكل شيء يحتاج الناس إليه حتي الأرش في الخدش. وضرب بيده إلي، فقال: تأذن لي يا أبا محمد؟!

قال: قلت: جعلت فداك، إنما أنا لك، فاصنع ما شئت.

قال: فغمزني بيده، وقال: حتي أرش هذا؟ [91] .

وفي حديث آخر عن الأمام الصادق عليه السلام حول الجفر الأبيض، قال (ع): (فيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلي أحد، حتي فيه الجلدة، ونصف الجلدة، وربع الجلدة، وأرش الخدش) [92] .

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) حول الجامعة:.. فيها كل ما يحتاج الناس إليه، و ليس من قضية إلا وهي فيها) [93] .

وفي نص آخر عنه (عليه السلام): (إن عندنا كتاباً أملاه رسول الله (ص) وخط علي عليه السلام صحيفة فيها كل حلال وحرام الخ..) [94] .

وفي نص آخر يقول عن كتاب علي (ع): (.. ما علي الأرض شيء يحتاجون إليه إلا وهو فيه حتي أرش الخدش) [95] .

وعن الأمام الرضا (ع) حول علامات الأمام قال عليه السلام: (يكون عنده الجفر الأكبر والأصغر)و(أهاب ماعز وأهاب كبش، فيهما جميع العلوم، حتي أرش الخدش، وحتي الجلدة، ونصف الجلدة، وثلث الجلدة) [96] .

15 _ قوله: "إن سبب

بقاء الاختلاف بين المسلمين هو عدم قدرة كثير منهم علي لقاء رسول الله (ص).."

غير صحيح، فإن بعضهم قد خالف رسول الله (ص) نفسه، وتنازعوا عنده، ومعه وقالوا: إن النبي ليهجر، ومنعوه من أن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده..

ونقول أيضاً:

ألف: إن قول رسول الله (ص): إيتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً يوضح: أن تلك الكتابة وذلك الفعل سوف يملك روحاً مطلقة تحميه من جميع الاحتمالات الأخري.. ولولا ذلك لم يصح قوله: لن تضلوا بعده أبداً.

ب: إن الأحاديث التي يراد الإيحاء بصحتها هي تلك التي رواها أتباع غير أهل البيت عليهم السلام والتزموا بها. وهي لا تمت إلي أهل البيت ولا إلي شيعتهم بأية صلة. بل المروي عن أهل البيت مناقض لها، فقد روي عنهم عليهم السلام:

القضاة أربعة: ثلاثة في النار، وواحد في الجنة: رجل قضي بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضي بجور وهو لا يعلم، فهو في النار، ورجل قضي بحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضي بحق وهو يعلم، فهو في الجنة [97] .

فأئمتنا يقولون: إن من قضي بالحق، وهو لا يعلم فهو في النار.. فهل يصح أن يقول هذا البعض:

"أن النبي صرح لهم بأن يعملوا باجتهاد آرائهم"

إذا لم يعلموا؟!

وإذا قال هذا البعض:

إن حكم الله تابع لآراء المجتهدين، وإن تباينت تلك الآراء واختلفت. فإذا لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله كانت آراء الناس هي الحق المعلوم.. وإن الرواية السابقة ناظرة لموافقة أو مخالفة الحق الموجود في كتاب الله وسنة رسوله فقط، دون ما لم يكن وارداً فيهما.

فإن الجواب لهذا البعض هو:

أ _ إن

هذا الكلام يستبطن التصويب في اجتهاد الآراء. والتصويب باطل بلا ريب.

ب _ روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله:

(ترد علي أحدهم القضية في حكم من الأحكام، فيحكم فيها برأيه، ثم يرد تلك القضية بعينها علي غيره، فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الأمام الذي استقضاهم، فيصوّب آراءهم جميعاً وإلِههم واحد! ونبيهم واحد! وكتابهم واحد!.

أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه! أم نهاهم عنه فعصوه! أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم علي إتمامه) [98] .

وروي عن عمر بن أذينة، وكان من أصحاب أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام أنه قال: دخلت يوماً علي عبد الرحمن بن أبي ليلي بالكوفة، وهو قاض، فقلت: أردت أصلحك الله أن أسألك عن مسائل وكنت حديث السن.

فقال: سل يا ابن أخي عما شئت.

فقلت: أخبرني عنكم معاشر القضاة ترد عليكم القضية في المال والفرج والدم فتقضي أنت فيها برأيك، ثم ترد تلك القضية بعينها علي قاضي مكة فيقضي فيها بخلاف قضيتك، وترد علي قاضي البصرة وقضاة اليمن وقاضي المدينة فيقضون بخلاف ذلك، ثم تجتمعون عند خليفتكم الذي استقضاكم فتخبرونه باختلاف قضاياكم فيصوّب قول كل واحد منكم، وإلهكم واحد ونبيكم واحد ودينكم واحد، أفأمركم الله عز وجل بالاختلاف فأطعتموه؟ أم نهاكم عنه فعصيتموه؟ أم كنتم شركاء الله في حكمه فلكم أن تقولوا وعليه أن يرضي؟ أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بكم علي إتمامه؟ أم أنزله الله تاماً فقصّر رسول الله (ص) عن أدائه؟ أم ماذا تقولون؟

فقال: من أين أنت يا فتي؟

قلت: من أهل البصرة.

قال: من أيها؟

قلت: من عبد القيس.

قال: من أيهم؟

قلت: من بني أذينة.

قال:

ما قرابتك من عبد الرحمن بن أذينة؟

قلت: هو جدي.

فرحب بي وقربني وقال: أي فتي لقد سألت فغلظت، وانهمكت فعوّصت. وسأخبرك إنشاء الله.

أما قولك في اختلاف القضايا فإنه ما ورد علينا من أمر القضايا مما له في كتاب الله أصل وفي سنة نبيه فليس لنا أن نعدو الكتاب والسنة، وما ورد علينا ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله فإنّا نأخذ فيه برأينا.

قلت: ما صنعت شيئاً لأن الله عز وجل يقول: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، وقال: (فيه تبيان كل شيء) [99] .

وبديهي أنه إذا لم يستطع الناس أن يكتشفوا الحق بأنفسهم فعليهم أن يرجعوا إلي العالمين به، الذين يتيقنون تأويله.. وهم أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة.

16 _ إنه يقول:

"إن الأحزاب بعد النبي (ص) هي التي جعلت قضية الخلافة قضية مركزية، وحداً فاصلاً فصل المسلمين عن بعضهم البعض.."

ونقول:

من الواضح: أن جعل قضية الخلافة قضية مركزية إنما كان من قبل الله عز وجل ورسوله صلي الله عليه وآله وسلم..

والأحاديث المتواترة عن رسول الله (ص) خير شاهد علي ما نقول. وقد صرحت بذلك الآيات أيضاً.

ومنها قوله تعالي: (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) [100] .

حيث اعتبر أن عدم إبلاغ أمر الإمامة والقيادة من بعده، يوازي عدم إبلاغ الرسالة نفسها من الأساس.. وليلاحظ قوله أخيراً: (والله لا يهدي القوم الكافرين) الذي جاء ليؤكد علي أن من يقف في الموقع المناهض لهذا الأمر، فإنه يصبح في معسكر الكفر. ولا يكون في دائرة الإسلام، فضلاً عن

الإيمان..

ونذكر من الأحاديث التي أكدت علي محورية أمر الإمامة والولاية في الإسلام والإيمان _ وهي أحاديث متنوعة، وكثيرة جداً _ الحديث التالي:

محمد بن يحيي، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيي، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:

(كل من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه، ولا إمام له من الله، فسعيه غير مقبول، وهو ضال متحير، والله شانئ لأعماله) إلي أن قال:

(وكذلك _ والله _ يا محمد، من أصبح من هذه الأمة، لا إمام له من الله جل وعز ظاهراً عادلاً أصبح ضالاً تائهاً، وإن مات علي هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق.

واعلم يا محمد أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله، وقد ضلوا وأضلوا، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا علي شيء، ذلك هو الضلال البعيد) [101] .

17 _ إنه يفهم من كلام هذا البعض:

"أن قضية الخلافة هي التي تفصل المسلمين عن بعضهم البعض".

وقد اعتبر أن:

"هذا الانفصال لم يكن في عهد الخلافة، بل كان هناك تواصل من الذين اختلفوا حول قضية الخلافة.."

ونقول:

ألف: إنه لا شك في أن كل ما يختلف فيه الناس لا يمكن أن يكون جميع الفرقاء محقين فيه، فلا شك _ والحالة هذه _ من وجود مبطل في البين، وإذا كان الطرف الآخر ملتزماً بالحق، فلا بد من وقوع الفصل والانفصال بين الحق والباطل والمحق والمبطل.. وقد تحدث الله سبحانه في كتابه الكريم عن هذا التمايز والإنفصال _ ربما في عشرات الآيات _ كقوله تعالي: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) [102] .

وقوله:

(أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون) [103] .

وقوله تعالي: (وما يستوي الأعمي والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور) [104] .

وقال: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون) [105] .

وقال: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) [106] .

وقال: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون) [107] .

وقال: (لا تستوي الحسنة ولا السيئة) [108] .

وغيره كثير وكثير جداً.

ب _ إنه قد نسب إلي الأحزاب أنهم هم الذين جعلوا قضية الخلافة قضية مركزية، فهل يقصد بالأحزاب: الشيعة؟ أم السنة؟ أم هما معاً؟

إننا نرجح أنه يقصد الشيعة، أو أنهم في جملة من يقصد، ولكن:

هل الشيعة، أتباع أهل البيت حزب بنظره؟ فإذا كانوا كذلك عنده، فإنهم ليسوا كذلك في واقع الأمر بل هم الصفوة المؤمنة، والملتزمة بما جاء به الرسول الكريم (ص) وهم الذين يحملون دين الإسلام الصحيح، وهم المحقون، المدفوعون عن حقهم؟!

وهل تصح مساواة من يصرّ علي الالتزام بالحق بمن يصرّ علي مجانبة الحق، ومحاولة منع أهله من الالتزام به؟!

ج _ إن ما يقوله الشيعة في أمر الخلافة لا يختلف عما يقوله أئمتهم عليهم السلام ونبيهم (ص) فيها. فإذا كان ذلك يجعل الشيعة حزباً، فإنه يجعل أئمتهم عليهم السلام، ونبيهم الأكرم (ص) حزباً..

وليسمح لنا هذا البعض بأن نوجه إليه سؤالاً واحداً هنا: هل هو راض عن هذا الحزب أم ساخط عليه؟!

إننا نرجح أن يجيبنا بأنه ساخط عليه، وماقت له، لأن الأحزاب _ بنظره _ هي السبب في فصل المسلمين عن بعضهم البعض.

ه_ _ ما معني تواصل الذين اختلفوا علي الخلافة؟ هل معناه أنهم قد اعترفوا

لبعضهم البعض بخطأهم فيما يعتقدونه. وأنهم قد تخلوا عن التمسك بالحق لصالح الباطل، أو عن الباطل لصالح الحق؟.

أم أن معناه أنهم لم يواجهوا العنف بالعنف، واهتموا بحفظ بيضة الإسلام، كما صرح به أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه؟!

وهل تجد أن موقف الشيعة اليوم يختلف عن موقف إمامهم الأول علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟.

فهل تجدهم قد حاربوا أحداً ليرغموه علي الاعتقاد بإمامة علي عليه السلام؟

أم تجدهم يدفعون بالتي هي أحسن ما وجدوا إلي ذلك سبيلاً؟ وأنهم ما زالوا مسالمين ومسلمين ما سلمت أمور المسلمين؟

وأن غاية ما يقومون به هو بيان الحق لمن يريد الحق.. وليس ثمة أكثر من ذلك..

التأويل.. استيحاء من الأئمة

اشاره

أقوال الأئمة (عليهم السلام) مجرّد آراء.

عندما ننسب رأياً للإمام لا بد من معرفة وثاقته بسند صحيح.

سئل البعض:

هناك قول للإمام العسكري (ع) يقول: من لم يحسن أن يمنع لم يحسن أن يعطي.

فأجاب:

"من قال: إن الأمام العسكري (ع) قال ذلك؟، فلا بد لنا عندما ننسب رأياً إلي الأمام (عليه السلام) أن يعرف هل هو موثق بسند صحيح؟! الخ.."

وقفة قصيرة

ونقول:

1 _ إنك تلاحظ: أن هذا البعض يعتبر هذه الكلمة "رأياً" للإمام عليه السلام!! [109] .

2 _ إنه قد استنكر علي هذا الرجل نسبة القول إلي الأمام من دون أن تثبت له صحة سنده.. مع أن هذا البعض نفسه ينسب الكثير الكثير من الأقوال والقضايا والأحداث إلي المعصومين وإلي غيرهم. ولا يمكنه أن يثبت صحة كثير من ذلك، بل هو عاجز عن إثبات صحة أكثرها من حيث السند.

بل إنه هو نفسه حين يسأل بعد صفحة واحدة من كلامه هذا فيقال له:

دعوتم كثيراً للتدقيق في الروايات التي تتحدث عن سيرة الحسين (ع)، خاصة المتعلق منها بواقعة كربلاء، والليلة ذكرتم: أن الحسين (ع) بكي علي أعدائه، لأنهم يدخلون النار بسببه، فهل هي موثقة روائياً؟

يجيب بقوله:

"قلت: إن بعض الروايات تتحدث، وأنا لم التزم هذا. ولكن روحية الأمام الحسين (ع) وأخلاقيته وأريحته تسمح بذلك، فهو يعلم ما لا يعلمون، لأنه علي يقين، ولأنه يري الأمور علي اليقين، وهم في الغي سادرون.

وربما كان مضمون الرواية، وانسجامه مع أخلاقيته دليلاً علي وثاقة الرواية" [110] .

ونسجل علي هذا الكلام:

أولاً: إن مضمون الرواية لا يكون دليلاً علي وثاقة الرواية، بل هو يرفع المانع أمام قبولها.. إذا تمت شرائط القبول.

ثانياً: قوله:

"وأنا لم

التزم بهذا".

لا مجال لقبوله منه، لأنه أتي به ليستدل علي قضية أطلقها بصورة يقينية، فكيف تكون الدعوي يقينية، إذا كانت تستند إلي أمر لم يلتزم هو به.

وهذه هي عبارته:

"لأن الأمام الحسين (ع) لا يملك إلا أن يحب، ولذلك يقول بعض رواة السيرة: إنه كان يبكي علي الذين يقاتلونه، لأنهم سوف يتعرضون إلي عذاب الله بسببه؛ فأي قلب أرحب، وأوسع وأرق من هذا القلب؟، ولذلك لا نملك إلا أن نحب الحسين (عليه السلام)" [111] .

ثالثاً: كيف جاز له أن يورد أمراً، ويستدل به، ولا يعّرف الناس أنه لا يلتزم به.

ثم ينكر علي ذلك الرجل نسبة ذلك الحديث إلي الأمام؟! فكيف جرّت الباء عنده، فأورد حديثاً، واستدل به علي الناس العوام.. وأنكر علي العوام نفس ما فعله هو معهم؟!.

رابعاً: إن علي من يصف الحديث المروي عن المعصوم بأنه رأي للمعصوم، أن يعذرنا إذا قلنا: إن هدفه من هذا التوصيف هو إثارة الشكوك، والإيحاء ب_وج_ود أك_اذيب ومختلقات في المروي عنهم (عليهم السلام). وقد قرأنا في هذا الكتاب أنه يقول:

"اعتقد أنه يجب أن نستوحي القرآن، كما كان الأئمة يستوحونه" [112] .

ويقول:

"إن المشكلة هي أن الكذب علي أهل البيت كان كثيراً، ولذلك فهناك مشكلة السند".

ويقول:

"إن هناك ركاماً من الأكاذيب الخ.." [113] .

ثم هو يقول:

"إن علينا أن ننفتح علي أصالة التراث الإسلامي الفكري، الذي تركه أهل البيت (ع) لنتنبّه إلي ما وضعه الوضاعون، وكذب فيه الكذابون. وهذا ما يدعونا إلي رفض الأحاديث التي تنسب زوراً وبهتاناً إلي أهل البيت، وقد حذّرنا الأئمة من ذلك الخ.." [114] .

خامساً: لا ينكر أحد أن هناك من كذب علي الله وعلي

رسوله (صلي الله عليه وآله) حتي صعد (صلي الله عليه وآله) المنبر في حال حياته، وحذر الناس من أنه قد كثرت عليه الكذابة. وكذلك كان هناك من يكذب علي الأئمة الطاهرين (عليهم السلام).

ولكن لماذا ننسي جهود الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، والعلماء الأتقياء الأبرار، الذين تصدوا للوضاعين، ورصدوا الكذابين، وعرفوا الناس بهم، وبيّنوا عبر القرون المتمادية من الجهود المشكورة صحيح الحديث، من ضعيفه، وميزوا الأصيل من الدخيل؟!

هناك ما يشبه الإستيحاء للأئمة!!

إستيحاءات الأئمة مجرد اجتهادات.

الأئمة (ع) يستوحون القرآن.

هو يستوحي القرآن كما يستوحيه الأئمة (ع).

وحول آية: (ومن أحياها، فكأنما أحيا الناس جميعا) [115] ، قال الأمام الباقر (ع): تأويلها الأعظم: من نقلها من ضلال إلي هدي.

فيعقب هذا البعض علي ذلك بقوله:

"فالأمام في ذلك يستوحي الحياة المعنوية من الحياة المادية".

ويتابع قائلا:

"أعتقد: أنه يجب أن نستوحي القرآن كما كان الأئمة يستوحونه" [116] .

ويقول البعض في تفسير قوله تعالي (كهيعص):

"..وقد وردت بعض الأحاديث المأثورة في تأويل هذه الكلمة عن بعض أئمة أهل البيت، فقد جاء فيما روي عن الأمام جعفر الصادق _ فيما رواه عنه سفيان بن سعيد الثوري _ قال: (كهيعص) معناه، أنا الكافي الهادي الولي العالم الصادق الوعد.

وعن ابن عباس _ كما في الدر المنثور _ معناه كريم هاد حكيم عليم صادق وربما كان هذا اجتهاداً من ابن عباس، كما قد يكون الأول استيحاء أو ما يشبه ذلك، علي تقدير صحة الرواية" [117] .

ويقول أيضاً:

"..(ونُري فرعون وهامان) فيما نريهم من مظاهر القوة ومواقعها للمستضعفين الذين يتحركون في خط المواجهة لهما ولسلطتهما (وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) ويخافون، فيما يخافه الطغاة من تنامي قوة المستضعفين

وتعاظمها بحيث تشكل خطراً مستقبلياً علي ما يملكونه من سلطة الظلم وقوة الاستكبار علي يد شخص من بني إسرائيل.

وقد وردت بعض الروايات عن أئمة أهل البيت (ع) في الاستشهاد بهذه الآية في موارد معينة، كما في مسألة الأمام المهدي، ونحوها.. والظاهر أنها من باب الاستيحاء والتطبيق، باعتبار أن الآية توحي بأن سيطرة المستكبرين لا بد أن تعقبها سيطرة المستضعفين.. مما يجعل من القضية سنّة إلهية.. ويوحي بأن النهاية في الدنيا سوف تكون للمستضعفين الذين يك_ونون ورث_ة الأرض وخلفاء الله" [118] .

وقفة قصيرة

إن لنا هنا ملاحظات:

الأولي: إن هذا النص قد عرَّفنا: أن هذا البعض يقصد بكلمة (الإستيحاء): الإجتهاد. وذلك لأن ما نقله عن ابن عباس في تفسير كلمة (كهيعص) قد وصفه بأنه اجتهاد، ثم ذكر أن نفس هذا التفسير منقول عن الأمام الصادق (ع)، ولكنه وصفه بأنه (استيحاء) من قبل الأمام.

ومعني ذلك هو أنه يلطِّ_ف التعبير بالنسبة للأئمة عليهم السلام.

وربما يمكن تأييد ذلك: بأنه هو نفسه يري أن باستطاعته أن يستوحي القرآن كما كان الأئمة عليهم السلام يستوحونه [119] ، فإن كان يريد بالإستيحاء غير الاجتهاد فلابد أن يبيِّن لنا معناه، لنعرف كيف نتعامل معه، فإن كان هذا الأمر من مختصاتهم (ع) فلم ادعاه هو لنفسه إذن؟! فهل إن الله سبحانه وتعالي قد خصه بذلك إلي جانبهم، فادعي لنفسه ما هو لهم و له أيضاً؟! وكيف يمكنه أن يثبت لنا ذلك؟!.

وإن كان الإستيحاء هو نفس الاجتهاد، خرجنا بنتيجة، حبذا لو لم تتراءَ لنا من كلامه، لاسيما وأنه لم يزل يكرر علي الناس قوله: إن الأئمة رواة لما عند رسول الله (ص). فإن نسبة الاجتهاد إليهم عليهم السلام أمر مرفوض جملة وتفصيلا،

بل ما عندهم هو علم من لدن عليم حكيم.

هذا، ولا يفوتنا التنبيه علي أنه حيث نسب الإستيحاء إلي نفسه، وفسر التأويل به، فقد نسب لنفسه تأويل القرآن، وعدّ نفسه من جملة الراسخين في العلم الذين يقول تعالي عنهم: (ولا يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم)، مع أن روايات أهل البيت عليهم السلام وقراءتهم للآية تدل علي أن ذلك من مختصاتهم عليهم السلام.

الثانية: إننا لم نفهم المراد من (ما يشبه الإستيحاء) الذي نسبه إلي الأئمة (ع)، فهل يريد به الإجتهاد في التطبيق للمفهوم العام علي موارده، فهذا لا يصح نسبته إلي الأمام كما هو معلوم، أم أنه يقصد به شيئاً آخر؟

حبذا لو أوضح لنا ذلك لننظر فيه أيضاً.

الثالثة: إن الأمام (عليه السلام) يقول في الرواية المتقدم ذكرها في كلام هذا البعض: تأويلها الأعظم كذا.. وهذا البعض يعتبر هذا استيحاءً، ثم يري لنفسه الحق في استيحاء القرآن كما كان الأئمة يستوحونه!!

التأويل هو الإستيح_اء للمعني من خلال التقاء المعاني في الأهداف.

التأويل لا يعني المعني الباطن للكلمة.

ليس للقرآن بطون، بل أنزل ليفهمه الجميع بشكل طبيعي.

يقول البعض:

قد جاء عن الأمام الباقر عليه السلام فيما رواه عنه الفضيل بن يسار، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: قول الله عزّ وجل في كتابه: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) قال: من حرق أو غرق، قلت: من أخرجها من ضلال إلي هدي، قال: ذلك تأويلها الأعظم ومن خلال ذلك نفهم أن التأويل لا يعني المعني الباطني للكلمة فيما يحاول البعض أن يفسره من بطون القرآن فإنه قد أنزل علي طريقة العرب في التعبير، ليفهمه الجميع بشكل طبيعي.. من دون أن يكون

فيه أي إشارات رمزية.. فيما تعارف عليه الأسلوب الرمزي الذي يحمّل الكلمة غير معناها، ويجري بها في غير مجالها من دون أساس للاستعارة والكناية والمجاز.. بل التأويل يمثل عملية الإستيحاء للمعني من خلال التقاء المعاني ببعضها في الأهداف التي يستهدفها القرآن في القضايا التي يثيرها أمام الناس، والمفاهيم التي يريد أن يوحيها اليهم.. كما في هذه الآية التي تحدثت عن الحياة والموت، وعن الناس الذين يعتدون علي الحياة، وعن الناس الذين ينقذونها.

.. فقد يستوحي منها الإنسان الفكرة فيمن ينقلون الناس من الضلال إلي الهدي، أو بالعكس، أو فيمن ينقلونه من الجهل إلي العلم أو بالعكس، وذلك لأن الله قد أشار إلي ذلك في قوله تعالي: (يا أيها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)، كما عبر عن الذين يعيشون الضلال في واقعهم بالموتي في قوله تعالي: (إنك لا تسمع الموتي ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولّوا مدبرين)، وهكذا يمكن لعملية الإستيحاء هذه أن تأخذ من الحياة والموت كل الأجواء التي تشارك هذين المعنيين في تحويل الإنسان من حالة الجمود إلي حالة اليقظة والحركة علي مستوي الفكر والعمل والحياة" [120] .

وقد قال في موضع أخر عن هذه الرواية المروية عن الأمام الباقر عليه السلام:

"فالإمام في ذلك يستوحي الحياة المعنوية من الحياة المادية" [121] .

وقفة قصيرة

ولنا هنا مع ما ذكره هذا البعض كلام كثير، لكن بما أن المقام ليس مقام تحقيق وتفصيل، فإننا سوف نقتصر علي الإلماح إلي ثلاث نقاط، آثرنا الوقوف عندها، وهي التالية:

1 _ إن هذا الرجل قد حاول أن ينكر بطون القرآن _ واعتبرها من المحاولات التفسيرية لبعضهم _ وقد برهن علي مدّعاه هذا بمقولة أن القرآن قد

أنزل علي طريقة العرب في التعبير، ليفهمه الجميع بشكل طبيعي، من دون أن يكون فيه أي إشارات رمزية الخ..

2 _ قوله:

"بل التأويل يمثل عملية الإستيحاء للمعني من خلال التقاء المعاني ببعضها في الأهداف التي يستهدفها القرآن، في القضايا التي يثيرها أمام الناس، والمفاهيم التي يريد أن يوحيها إليهم."

3 _ ثم إنه قد ذكر في مناسبات عديدة أن الأئمة عليهم السلام كانوا يستوحون القرآن، وعقّب علي ذلك في بعض الموارد بقوله:

"أعتقد أننا يجب أن نستوحي القرآن كما كان الأئمة يستوحونه" [122] .

ونحن نري ذلك كله إخلالاً في جهات هامة، حبذا لو سنحت الفرصة لنا للتوسع في الحديث عنها وفيها، لاسيما بعد أن عرفنا أنه يقصد بالإستيحاء: "الإجتهاد"، غير أن علينا أن نتوقف قليلاً أمام تبسيطه القضايا إلي حد يجعل من فهم القرآن أمراً طبيعياً حيث يقول: فإنه قد نزل علي طريقة العرب في التعبير، ليفهمه الجميع بشكل طبيعي.. إذ إن الأمر ليس بهذه البساطة التي يدعيها، لأنا نبقي جميعاً وبلا استثناء بحاجة إلي النبي (ص)، وإلي الأمام (ع) ليفسر لنا القرآن ويبقي أكثر الناس بحاجة إلي العلماء ليفسروا لهم ما يمكنهم تفسيره. كما أن في القرآن آيات لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم، الذين هم الأنبياء والأوصياء، فليس التأويل الذي يعلمه الأمام مجرد عملية استيحاء للمعني، بل هو علم من ذي علم، علي حد تعبيرهم عليهم السلام.

بطون القرآن و الإستيحاء والتأويل

وعن "أن للقرآن بطوناً" نقول:

قد صرّحت الروايات المتواترة بذلك، فلا معني لإنكار ذلك. ولا صحة لما يحاوله البعض من تفسيره لبطون القرآن بالإستيحاءات، بل هي حقائق ثابتة أخبر المعصوم عنها، وليست مجرد استيحاءات.

ومهما يكن من أمر فإننا نشير هنا إلي

بعض ما يرتبط بالتأويل، ثم إلي بطون القرآن لنؤكد علي حقيقة أننا بحاجة إلي المعصوم، ليعلّمنا التأويل، وليكشف لنا عن غوامضه وبطونه، ويفسره لنا، لأنه لا يتظنّي تأويله، بل يتيقّن حقائقه كما في الرواية عنهم (ع).

أما ما يستوحيه غيرهم فهو من التظني، وربما يصل إلي حد الحدس والتخمين، بل و التخرص و الرجم بالغيب.

تأويل القرآن

قد يطلق التأويل علي التفسير وبيان الوجه الخفي لما ظهر من فعل أو نحوه، وذلك كما في قول العبد الصالح لموسي (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) وفيما عدا ذلك فإن المتأمل في آيات القرآن يجد أنه أطلق وأريد منه معنيان:

أحدهما: تحقّق مصداق ما تحدّث عنه، وظهور حقيقته في المستقبل، كما في قوله تعالي:

(ولقد جئناهم بكتاب فصلناه علي علم هدي ورحمة لقوم يؤمنون. هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء؟) [123] .

وقوله تعالي:

(بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله) [124] .

وقال تعالي حكاية عن يوسف:

(لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله) [125] .

الثاني: رجوع المتشابه إلي المحكم من آيات القرآن، كما جاء في قوله تعالي:

(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذّكّر إلا أولوا الألباب) [126] .

فظهر مما تقدم:

1 _ أن التأويل يحتاج إلي تعليم إلهي ولا يصح فيه التخرص والتخمين والتظنّي، فقد قال تعالي بالنسبة ليوسف:

(وكذلك

يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليك وعلي آل يعقوب) [127] .

وقال تعالي:

(ربِّ قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السموات والأرض، أنت وليّي في الدنيا والآخرة) [128] .

وقال سبحانه:

(وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته، أكرمي مثواه عسي أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض، ولنعلمه من تأويل الأحاديث، والله غالب علي أمره) [129] .

2 _ إن آية سورة آل عمران المتقدمة (لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) تفيد أن العلم بتأويل آيات القرآن مقصور عليه سبحانه وتعالي، وعلي الراسخين في العلم، باعتبار أن الواو عاطفة، كما ظهر من الأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم السلام في تفسير الآية، فعن أبي عبد الله عليه السلام: نحن الراسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله [130] .

وعن الباقر أو الصادق عليهما السلام في تفسير الآية: فرسول الله أفضل الراسخين في العلم، قد علّمه الله عز وجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله، والأوصياء من بعده يعلمونه كله الخ.. [131] .

وعن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (ع): (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم): نحن نَعلَمُهُ [132] .

وثمة روايات أخري تدل علي ذلك فلتراجع في مظانها.

3 _ وعن الأمام الحسن عليه السلام، في خطبة له بعد البيعة له ذكر فيها أنهم أحد الثقلين: التالي كتاب الله فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوَّل علينا في تفسيره، لا نتظني تأويله، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة الخ.. [133] .

وما ذلك إلا

لأن القرآن _ كما قال رسول الله (ص) _ لا تحصي عجائبه، ولا يشبع منه علماؤه.ولعمري بعد قول الأمام (ع):" لا تنتظنّي تأويله، بل نتيقن حقائقه "، كيف يدّعي البعض لنفسه تأويل واستيحاء القرآن كالإمام (ع)!؟.

بطون القرآن

أما بالنسبة لبطون القرآن فنقول:

لقد ثبت وجود بطون للقرآن بالنصوص الكثيرة الواردة من طرق الشيعة وغيرهم، ونذكر منها ما يلي:

في خطبة مروية عن النبي صلي الله عليه واله وسلم يقول: له ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، لا تحصي عجائبه، ولا يشبع منه علماؤه [134] .

وعنه صلي الله عليه واله وسلم:

ما في كتاب الله آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حد مطلع [135] .

قال ابن المبارك: سمعت غير واحد في هذا الحديث:

ما في كتاب الله آية إلا ولها ظهر وبطن، يقول: لها تفسير ظاهر، وتفسير خفي، ولكل حد مطلع، يقول: يطلع عليه قوم يستعملونه علي تلك المعاني، ثم يذهب ذلك القرن، فيجيء قرن آخر، فيطلعون منه علي معني أخر، فيذهب عليه ما كان قبلهم، فلا يزال الناس علي ذلك إلي يوم القيامة [136] .

وعن ابن عباس قال:

إن القرآن ذو شجون، وفنون، وبطون، ومحكم ومتشابه، وظهر وبطن، فظهره التلاوة، وبطنه التأويل [137] .

وعن الحسن البصري:

ما أنزل الله عز وجل آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع [138] .

وعن ابن مسعود:

إن القرآن نزل علي سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وإن علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن.

وأوضح من ذلك في الدلالة علي ما ذكرناه، ما نقل عن أبي الدرداء: "لا تفقه كل الفقه حتي تري للقرآن وجوهاً كثيرة" [139]

.

وقال علي (عليه السلام) لابن عباس، حينما أرسله لِحجاج الخوارج: "القرآن حمال ذو وجوه" [140] .

وليراجع ما روي عن الأمام أبي جعفر (عليه السلام) حول أن للقرآن ظهراً وبطناً في كتب الأمامية أعزهم الله تعالي [141] .

بل قال بعضهم: إن الأخبار تدل علي أن "للقرآن بطوناً سبعة أو سبعين" [142] .

وقد ألفوا كتباً فيما تضمنه القرآن، من علم الباطن [143] .

ومما يدل علي ذلك أيضاً قوله تعالي: (لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) [144] .

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) حول القرآن:

"فيه علم ما مضي، وعلم ما يأتي إلي يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون" [145] .

وعنهم عليهم السلام:

"ظاهره أنيق، وباطنه عميق".

وعنهم عليهم السلام:

"ظاهره حكم، وباطنه علم" [146] .

وما يشير إلي هذا المعني كثير جداً لا مجال لاستقصائه، ولعلّ إلي جميع ذلك يشير ما ورد عن الأمام الصادق عليه السلام، وعن الأمام الحسين عليه السلام: كتاب الله علي أربعة أشياء، علي العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق؛ فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء [147] .

اهل البيت يعلمون بطون القرآن

وقد دلت الأحاديث السابقة علي أن علياً عليه السلام و هو نفس النبي (ص) وأبناءه الأئمة الهداة عليهم السلام يعرفون حقائق القرآن ولطائفه، وبطونه، وهم الواقفون علي أسراره؛ السابرون لأغواره، الخائضون لغماره، والمستخرجون للكنوز من أعماق بحاره.

ومما يدل علي وجود البطون، وعلي أن الأئمة عارفون بها، واقفون عليها ما روي عن علي عليه السلام: لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً في تفسير فاتحة الكتاب [148] .

وعنه عليه السلام: لو شئت لأوقرت بعيراً من تفسير: بسم الله الرحمن الرحيم [149]

.

وفي حديث آخر عنه: لو شئت لأوقرت أربعين بعيراً من شرح بسم الله [150] .

وعن الغزالي عنه عليه السلام أنه لو أذن له الله ورسوله لشرح معاني ألف الفاتحة حتي يبلغ أربعين وقراً أو جملاً [151] .

وفي نص ثالث عنه عليه السلام: لو شئت لأوقرت ثمانين بعيراً من معني الباء [152] .

وعن ابن عباس قال: يشرح لنا علي عليه السلام نقطة الباء من بسم الله الرحمن الرحيم ليلة؛ فانفلق عمود الصبح، وهو بعد لم يفرغ [153] .

و نقول:

1 _ إنه قد لا يكون ثمة منافاة بين حمل البعير الواحد، والأربعين والثمانين بعيراً؛ إذا كان عليه السلام قد قال ذلك في مناسبات مختلفة، واقتضت كل مناسبة منها أن يشير إلي مستوي معين من المعاني والمعارف، فإن ذكر الأقل لا ينافي ذكر الأكثر ولا يناقضه، فهو لو شاء لأوقر بعيراً، ولو شاء لأوقر أكثر من ذلك إلي الأربعين، بل لو شاء لأوقر ثمانين بعيراً أيضاً.

2 _ إن سعة علم علي عليه السلام وغزارته مما لا يختلف فيه اثنان؛ كيف وهو باب مدينة علم النبي (ص)، وقد علمه رسول الله (ص) ألف باب من العلم، يفتح له من كل باب ألف باب. وقد أثبت عليه السلام عملياً ما يقرّب إلي الأذهان معقولية تلك الأقوال والنقول و واقعيتها.

3 _ إنه عليه السلام بقوله هذا يريد أن يفتح الآفاق الرحبة أمام فكر الإنسان لينطلق فيها، ويكتشف أسرار الكون، والحياة، ويتعامل معها من موقع العلم والمعرفة، وليقود مسيرة الحياة من موقع الطموح، والهيمنة الواعية والمسؤولة.

4 _ إن هذه الأرقام ليست خيالية بالنسبة لسورة الفاتحة، التي هي أم القرآن، وهي السبع المثاني التي

جعلت عِدْلاً للقرآن العظيم في قوله تعالي (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم) [154] كما روي [155] .

كما أن ذلك ليس بعيداً عن بسم الله الرحمن الرحيم، أعظم آية في كتاب الله العزيز، كما روي عن الإمامين الصادق، وأبي الحسن الكاظم عليهما السلام [156] .

أما بالنسبة لحديث نقطة الباء فلا ندري مدي صحته، بعد أن كان المؤرخون يذكرون أن تنقيط الحروف قد تأخر عن عهد علي عليه السلام بعدة عقود من الزمن. إلا أن يكون ثمة نقط لبعض الحروف في أول الأمر، ثم استوفي النقط لسائرها بعد ذلك.

مناوئوا علي و حساده

وحين رأي حساد علي عليه السلام، ومناوئوه المتسترون: أن علياً عليه السلام قد ذهب بها فخراً ومجداً وسؤدداً في جميع المواقع، وفي مختلف الجهات، انبروا ليدَّعوا لأنفسهم ما هو أعظم من علي (ع)، ومن علم علي (ع)، رغم أن كل أحد يعرف مبلغهم من العلم، ويعرف نوع ومستوي ما يتداولونه من أمور عادية مبتذلة، أطلقوا عليها اسم العلم، وهي أبعد ما تكون عنه، وذلك بسبب ما فيها من شوائب وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان؛ فلنقرأ ما يقوله هؤلاء عن أنفسهم في انتفاخات وادعاءات استعراضية خاوية.

فقد ادعي أعظم مفسريهم الفخر الرازي: أنه يمكن أن يستنبط من فوائد سورة الفاتحة عشرة آلاف مسألة [157] .

كما يدعون: أن أبا بكر ابن العربي قد استنبط من القرآن بضعاً وسبعين ألف علم [158] .

أما البكري، فقد تكلم علي بعض علوم البسملة في سنين بكرة كل يوم في الأشهر الثلاثة منه، وقال في بعض مجالسه: لو أردت التكلم علي ذلك العمر كله لم يفِ، أو كما قال [159] .

بل إن البكري قد تكلم في

نقطة البسملة في ألفي مجلس ومائتي مجلس.

ونقول:

حدث العاقل بما لا يليق له، فإن لاق له فلا عقل له، ونحن لا ندري كيف لم تظهر فرق ومذاهب من الغلاة في البكري يقدسونه، ب_ل ويؤلهونه، كما غ_لا بعض الناس في علي عليه السلام حتي ألّهُوه؟!!

ولا ندري أيضاً كيف ضاعت تلك العلوم التي نشرها البكري في محاضراته تلك؟!

وكيف لم يحفظها تلاميذه ولم ينشروها في سائر الأقطار والأمصار، ليستفيد منها الناس، في أمور معاشهم ومعادهم؟!!

وليت الناس قد نقلوا لنا ولو أسماء وهمية للعلوم التي استنبطها أبو بكر ابن العربي من القرآن !! وتلك هي مؤلفات هذا الرجل متداولة بين الناس، ولا نجد فيها أي رائحة لهذه العلوم، بل لا نجد فيها أي تميز لها عما سواها من مؤلفات أقرانه، ومن هم علي شاكلته، إن لم نقل: إن في الآخرين من هو أكثر براعة منه، وأدق نظراً.

ومهما يكن من أمر، فإن هذه الأكاذيب والأباطيل لن تستطيع أن تنال من المقام الشامخ والباذخ لعلي عليه السلام، ونقول هنا نفس ما قالته الحوراء زينب عليها السلام ليزيد لعنه الله:

(فكد كيدك واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، وهل رأيك إلا فند وجمعك إلا بدد، وأيامك إلا عدد)؟!!

فصلوات الله وسلامه عليها، وعلي جدها النبي الأعظم، وأمها الزهراء وعلي أبيها أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وقائد الغرِّ المحجلين إلي جنات النعيم، ورحمة الله وبركاته.

خلاصة و بيان

وبعد ما تقدم كله نقول:

لماذا ينسب القول بأن للقرآن بطناً وظهراً إلي الشيعة فقط؟!!

ولماذا أيضاً يشنعون علي الشيعة إذا تفوهوا بهذا الأمر، أو كتبوه، إذا كانت الروايات الدالة عليه موجودة عند غيرهم، كما هي موجودة عندهم؟!

وإذا

كان معني الظهر والبطن هو أن يكون ذلك المعني الذي يزاح عنه الستار مما يمكن للفظ أن يتحمله، و للمتكلم أن يقصده ليكون بالنسبة للبعض بمنزلة البطن لهذا المعني المكشوف؛ فأي محذور عقلي أو شرعي يحصل من الالتزام بهذا؟!!

فليكن _ و الحال هذه _ للقرآن بطون سبعة بل سبعون، أو أكثر، يكتشفها هذا الإنسان كلما ترقي في مدارج العلم والمعرفة، أو يكشفها له الأئمة الأطهار (ع) الراسخون في العلم و السابقون في العمل، الذين أشار إليهم _ كما تقدم _ القرآن الك_ريم _ صلوات الله و سلامه عليهم.

النبوة و معالمها و أمور عقائدية عامة حول الأنبياء

سمات الأنبياء.. و مستوياتهم

بداية

نذكر في هذا الفصل مقاطع من كلمات البعض حول ملامح النبوة العامة وحول أنبياء الله (عليهم السلام) وتصرفاتهم وحالاتهم مع الله سبحانه وتعالي، ومع الناس، وحركتهم في الحياة وأساليبهم، نحسب إنها تكفي لإعطاء تصور دقيق عن نظرة هذا الرجل إليهم وإلي دورهم، ومواقفهم، ولتقديم الدليل الحي علي حقيقة ما وكيف يفكر هذا البعض تجاه القضايا الإسلامية والإيمانية وغيرها.

وحيث إن فريقاً من الناس هم في منأي عن وعي هذه الحقيقة بصورة كافية وسليمة، فقد رأينا من اللازم الوقوف عند العهد الذي قطعناه علي أنفسنا بضرورة ذكر طائفة كبيرة من الموارد تعطي بمجموعها تصوراً أوفي عن تشعب وتخالف وتنوع القضايا التي تعرض لها، وعن أن ذلك يدخل في دائرة نهج تشكيكي عريض له ميزاته وخصائصه، التي تهيء من خلالها الفرصة لتكوين تيار يحاول الإنفصال عن القاعدة الإيمانية الأم، ليواصل هجرته عنها إلي غيرها.

ولربما نلمح في ضمن أسطر يسيرة إلي بعض أوجه الخلل ومواقع الإشتباه فيما يرتبط بتفسير الآيات القرآنية، وقد نهمل ذلك اعتماداً علي وضوح فساد الفكرة المطروحة، فإلي ما يلي من مطالب وموارد نقرؤها في

الصفحات التالية:

ضعف النبي بشريا في أكثر من موقع.

النبوة لا تفرض الكمال.

القرآن لا يريد إعطاء النبوة هالة مقدسة.

وبعد، فإن نظرة هذا البعض للنبوة وللأنبياء نظرة عجيبة وغريبة، فهو يقول في قصة النبي آدم عليه الصلاة السلام:

"إننا نستفيد منها نقطتين:

الأولي: أن النبوة تلتقي بمواقع الضعف البشري في الإنسان في أكثر من موقع،ولا تفرض الكمال الذي يبتعد عن المواقع الطبيعية لديه.

الثانية: أن القرآن لا يريد إعطاء النبوة هالة مقدسة،غائمة في مجال التصور" [160] .

وظاهر العبارة لا يأبي عن القول: إن النبي قد يقع في ما يخالف العصمة،مما يلتقي في مواقع الضعف البشري، وإرادة خلاف ذلك تحتاج إلي بيان.

أما حديثه عن "الهالة المقدسة والغائمة"، فإن كان يقصد به: أن القرآن لا يعطي انطباعا عن الرسول يفيد أن لديه قدرات تفوق قدرات البشر.. فكيف يجيب عن ما يذكره القرآن من إحضار عرش بلقيس من قِبَلِ من لم يكن نبيا، بل كان من أتباع أحد الأنبياء؟ وماذا يصنع بإحياء عيسي (ع) للموتي، وإبراء الأكمه والأبرص؟ وبقاء يونس (ع) في بطن الحوت؟ والإسراء والمعراج؟ وما إلي ذلك.

وإن كان يقصد به أنه ليس للأنبياء أي تميز في أنفسهم، فذلك معناه عدم صحة ما ذكره القرآن من أمر الله للملائكة بالسجود تحية وتكريما له، وكذلك ما ورد حكاية عن قول عيسي عليه السلام (وجعلني مباركا أينما كنت..) (الآية)، وعدم صحة ما ورد من أن النبي (ص) والأئمة (ع) كانوا أنوارا قبل خلق الخلق، أو في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة. أليس هذا الأمر مقبولاُ ومتواترا عند الشيعة وعند السنة أيضا؟!! ألا يعطيهم ذلك هالة مقدسة، ويفرض كمالا يبتعد عن المواقع الطبيعية لديهم؟! فهل الاقتراب من

تصور مواقع الأنبياء الطبيعية الواقعية، يقتضي منا أن نكذب كل ما دل علي قداستهم؟!

لا أسرار فوق العادة في شخصية الأنبياء.

الضعف في طبيعة الروح للأنبياء.

أوضاع سلبية في التصور والممارسة لدي الأنبياء.

وهو يقول:

"إن الأسلوب القرآني لا يريد أن يعمق في ذهننا الإسلامي الفكرة التي تتحدث عن شخصية الأنبياء، بالمستوي الذي يوحي بأنّ هناك أسرارا فوق العادة تكمن في داخل شخصيتهم، في ما هي الخصائص الذاتية للشخصية، فهناك أكثر من نقطة ضعف خاضعة للتكوين الإنساني في طبيعة الروح والجسد. ويمكن أن تتحرك لتصنع أكثر من وضع سلبي علي مستوي التصور والممارسة" [161] .

ونلاحظ أننا لا نعرف مدي هذا الضعف الروحي للأنبياء،الذي تنشأ عنه أوضاع سلبية علي مستوي التصور والممارسة. فقد يظهر ذلك في صورة أخطاء في السلوك وفي تلقي الوحي، أو في سلوكهم الأخلاقي، وحتي في دائرة الإيمان والكفر وغير ذلك مما قد يناله هذا الضعف الروحي ويؤثر فيه. حيث لا يوجد أية ضمانة، وأية حدود يمكن أن ينتهي إليها.. وقد ظهر ذلك فيما يأتي من أمور نسبها إلي الأنبياء، إذا لوحظت جميعا فإنها تظهر أن الضعف الذي يتحدث عنه لا حدود له ولا قيود..

ومع غض النظر عن ذلك، فإن مراجعة التراث الإسلامي تعطينا أن لأنبيائنا ولأئمتنا عليهم السلام مقامات عظيمة،وأن هناك أسرارا فوق العادة في شخصياتهم،حتي لقد روي عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) أنه قال لعلي (عليه السلام):

"يا علي ما عرف الله حق معرفته غيري وغيرك،وما عرفك حق معرفتك غير الله وغيري".

ويكفي أن نشير إلي حديث الأنوار المروي عن نبينا (ص) عند الشيعة والسنة،بل لقد رواه السنة عن ثمانية من الصحابة، فضلا عما روي عن أئمة

أهل البيت عليهم السلام، كما أن الأئمة وفاطمة عليهم السلام هم موضع سر الله سبحانه كما صرحت به الأحاديث الشريفة.

نسيان المعصوم في أمور الحياة الصغيرة.

وعن نسيان المعصوم يقول:

"لا نجد هناك أي دليل عقلي أو نقلي يفرض امتناع نسيان النبي لمثل هذه الأمور الحياتية الصغيرة، لأن ذلك لا يسيء إلي نبوته من قريب أو بعيد.

ولكن ربما نلاحظ _ في هذا المجال _ أن النبي إذا كان لا ينسي أمر التبليغ كما هو المتفق عليه بين المسلمين _ فلا بد أن يكون ذلك من خلال ملكة ذاتية تمنعه من النسيان بحيث تجعل وجدانه واعيا للأشياء فلا تغيب عنه عندما ينفصل عنها.. مما يجعل المسألة غير قابلة للتجزئة، كما هي القضايا المتصلة بالملكات النفسية..

وقد يثير البعض أمام هذه الملاحظة أن مسألة التبليغ قد تكون موضعا لتدبير إلهيّ غير عادي من أجل حفظ الرسالة عن الضياع أو التحريف بحيث يعطي وجدانه الرسالي إشراقة قوية، تختلف عن وعيه للأشياء الأخري والله العالم" [162] .

فهو إذن لا يجد أي دليل عقلي أو نقلي يمنع من نسيان هذه الأمور الحياتية الصغيرة..

وحين تحدث عن أن عدم النسيان في التبليغ يدل علي وجود ملكة تمنع من النسيان في كل شيء، سجل إشكالا نسبه إلي البعض، مفاده: أن عدم النسيان في التبليغ لا يكشف عن وجود ملكة،بل قد يكون نتيجة تدبير إلهي.. ثم لم يتحفظ علي هذا الإشكال ولا أجاب عليه.

ونتيجة لذلك فإن قوله:

"لا نجد هناك أي دليل عقلي أو نقلي يفرض امتناع نسيان النبي لمثل هذه الأمور الحياتية الخ.."

يبقي محتفظا بقوته وبدرجة اعتباره.

سهو المعصوم في الأمور الحياتية.

ويقول:

"علي أن هناك من يتحدث

عن أن السهو عن بعض الأشياء التي لا تتصل بالتبليغ علي أنه لا ينافي العصمة، وطبعا هناك وجهة نظر أخري لا تقول ذلك.

وهذا الرأي ليس رأيا مطلقا بالنسبة للسهو والنسيان، بل هناك من يقول أن السهو ليس منافيا للعصمة في القضايا الحياتية، ونحن نقول بذلك" [163] .

لا يجب أن يكون النبي هو الأعلم في كل شيء.

يقول البعض:

"أما وجوب أن يكون النبي أعلم الأمة في كل شيء، حتي ما لا علاقة له بمهمّته الرسالية، ولكن الله قد يعلمه من ذلك ما يحتاجه فيه، أو إذا أراد علم، فليس لدينا دليل علي هذا " [164] .

أحاديث الأسرار الخفية في الأنبياء أحاديث مبالغة.

أحاديث الأجواء النورانية في أجواء القدس للأنبياء مبالغة.

أحاديث الأسرار والأجواء النورانية لا تملأ الوجدان.

أحاديث الأسرار والأجواء النورانية لا تغني الفكر.

يقول البعض:

"ونلاحظ في هذا الإتجاه كيف يتحدث الله عن إبراهيم (ع) كنموذج حي للنبي المطيع والموحد له والذي اختاره الله لرسالته وهداه إلي صراط مستقيم وذلك هو الحديث عن الأنبياء في الدائرة الإنسانية المنفتحة علي ساحة المسؤولية بين يدي الله.. من دون الدخول في أحاديث المبالغة التي تتحدث عن الشخصية الغامضة ذات الأسرار الخفية والآفاق النورانية السابحة في أجواء القدس.. وغير ذلك من الكلمات التي قد تثير في داخلك الكثير من مشاعر التعظيم ولكنها لن تثير في نفسك المعرفة التفصيلية التي تملأ وجدانك وتغني فكرك" [165] .

وقفة قصيرة

لا ندري كيف سوّغ هذا البعض لنفسه أن يحكم علي الأحاديث المروية عن رسول الله (ص) وعن أهل بيته الطاهرين (ع)، والتي لا يملك دليلاً صالحاً بأنها "أحاديث مبالغة" ومن أين عرف أنها كذلك؟! وكيف ولماذا؟!.

فهل أطلعه الله علي

غيبه، فعرف أنها أحاديث لا حقيقة لها ولا واقع وراءها؟

وهل يصح من رسول الله (ص) والأئمة الطاهرين (ع) أن يبالغوا في الأمور، ويتكلموا بغير ما هو حق وواقع؟!.

أم أنه يريد أن يحكم علي هذه الأحاديث بأنها موضوعة ومكذوبة. لمجرد استبعادات ذهنية خطرت له!؟.

وهل يستطيع أن يحكم علي هذه المئات بل الألوف من الأحاديث التي تتحدث عن قدسيتهم ومقاماتهم الشريفة عليهم سلام الله وما أعده الله لهم، وما لهم من شأن عند الله، هل يستطيع أن يحكم علي ذلك كله بالوضع والافتعال؟.

أليست هذه الأحاديث فوق حد التواتر الإجمالي الذي يعلم معه علي نحو اليقين صدور جزء من هذه الأحاديث عنهم عليهم السلام، مما يعني قطع الطريق علي ردها وتكذيبها.

وقد تقدم في أوائل هذا الفصل ما ينفع هنا فليراجع.

وإذا كان سبب حكمه علي هذه الأحاديث بأنها مبالغة هو أنها لن تثير في نفسه المعرفة التفصيلية، فهل يصلح هذا مبرراً لإصدار حكمه هذا عليها؟.

وهل إن كل ما لا نستطيع معرفته بالتفصيل تطرح معرفته الإجمالية ويحكم عليه بأنه مبالغات؟

وهل نستطيع أن نجري هذه القاعدة حتي بالنسبة إلي ما ورد في القرآن من حديث عن أمور لا نملك معرفة تفصيلية فيها؟!.. كما صرح هو نفسه بهذا الأمر في موارد تعد بالعشرات في كتابه (من وحي القرآن)، حيث يطلب باستمرار أن نجمل ما أجمله القرآن، ولا نرجع إلي التفاصيل التي تكفّل بها الحديث الشريف.. فهل تعتبر تلك الموارد القرآنية من أحاديث المبالغة؟ فنطرح ما علمناه منها بالإجمال؟!.

الدور الرسالي.. يفجر المشكلة من الداخل، ويحولها إلي صراع يثير النزاع والخلاف والإهتزاز..

ويقول البعض:

"ذلك لأن الدور الرسالي يمثل إرادة التغيير في المفاهيم والوسائل والأهداف..

وتفجير المشكلة من الداخل وتحويلها إلي حالة صراع يثير النزاع والخلاف والإهتزاز وتجاذب المواقف.. من أجل أن تكون النتائج النهائية خاضعة لعملية غربلة وتقييم وتفتيت للواقع الذي يراد تغييره.. لئلا تبقي الرواسب الماضية عقبة نفسية أمام التغيير الداخلي الذي يفسح المجال لتغيير الواقع.. وهكذا أراد الله لرسوله (ص) أن يتجاوز كل المخاوف التي قد تعطل الحركة وتمنع المبادرة وتربك المسيرة.. يا أيها الرسول بلّغ ما انزل إليك من ربك.." [166] .

وقفة قصيرة

لا نريد أن نتهم هذا البعض بأنه يريد التسويق للفكرة التي تقول: "إن كل شيء يحمل نقيضه في داخله".

ولكننا نقول: إننا لا نتفاعل كثيراً مع قوله: إن الدور الرسالي يعمل علي تفجير المشكلة من الداخل وتحويلها إلي حالة صراع يثير النزاع والخلاف والاهتزاز.. فهل يسمح لنا بهذا المقدار من التحفظ علي هذا القول؟ إذ كيف نقبل بأن يقال: إن الدور الرسالي هو دور يثير النزاع، والخلاف، والإهتزاز، نعم ربما استلزم الدور الرسالي ذلك أحيانا؛ لكن هل هذا الأمر أعني إثارة النزاع والخلاف هو من مقدمات الدور الرسالي كما يظهر من كلام هذا الرجل؟! كلا، وحاشا!.

عجز النبي عن الإتيان بالخوارق، إلا في مواقع قريبة من التحدي.

الوحي هو الفارق بين النبي وبين والناس.

لم نعهد تحدُّث النبي عن المغيبات في المجتمع لا في الشؤون العامة ولا الخاصة.

لم تحتج الرسالة إلي الحديث عن المغيبات العامة أو الخاصة.

ويقول البعض:

".. وقد يلاحظ المتأمل في القرآن أن الآيات تؤكد دائما علي جانب الوحي كفارق بين الناس و بين النبي، كما تثير مسألة عجزه الذاتي عن القيام بكل الأمور الخارقة للعادة في غير النطاق المحدود للمعجزة في طبيعتها القريبة من مواقع التحدي الذي يجتذب ذلك

للمحافظة علي شخصية الرسالة وفاعليتها في المجتمع.. كما أن هناك نقطة مهمة في سيرته، وهي أنه لم يُعهد عنه التحدث بالمغيبات في مجتمع المسلمين فيما يتعلق بشؤونهم العامة والخاصة لأن رسالته لم تحتج إلي ذلك " [167] .

وقفة قصيرة

1 _ لا نريد أن نقول: إن مما يؤسف له اشد الأسف أن يكون مقام النبي (ص) قد نزل إلي درجة أنه لم يعد الفارق _ بنظر البعض _ بينه وبين الناس إلا الوحي.

فقد يتهمنا البعض _ كما عودنا _ بأننا نفهم كلامه بطريقة غرائزية أو من خلال العقدة، أو ما إلي ذلك.

ولكننا نريد أن نقول: ماذا تعني دعوي كون هذا النبي عاجزاً ذاتاً عن أي أمر خارق للعادة في غير النطاق المحدود للمعجزة، فيما هو قريب من مواقع التحدي.

فهل معني ذلك هو أن كل ما ورد من أحاديث في مناقبهم، وخوارق عاداتهم في غير مواقع التحدي مكذوب ومخالف للواقع؟!.

أو هل أن هذا البعض يري.. أن هذه المئات من خوارق العادات التي صدرت عن النبي (ص) وعن الأئمة (ع) قد كانت كل مفردة منها في مواقع قريبة من التحدي؟.

فهل كان ذلك الرجل الذي دخل علي الأمام الصادق (ع) وكان قد ارتكب مخالفة مع الجارية علي الباب، فأخبره الأمام (ع) بما كان منه [168] ، هل إن ذلك الرجل كان في مواقع قريبة من التحدي؟!

وهل كان ذلك الرجل الذي دخل علي الأمام الصادق (ع) والإمام الحسين (ع) وهو جنب، فنهاه (ع) عن ذلك [169] ، هل كان هو الآخر في موقع قريب من مواقع التحدي؟!

وحين جاء رجل إلي النبي ليفدي أسيراً له وكان معه عدد من الجمال فاستحسن جملا منها وخبأه

في الطريق، فأخبره النبي (ص) بذلك، هل كان ذلك الرجل في موقع التحدي؟!.

وحين اشتكي ذلك الجمل صاحبه إلي النبي (ص)، هل كان النبي (ص) في موقع التحدي؟ [170] .

وحين سبّح الحصي بيده الشريفة، وحين حنّ الجذع إليه، ونبع الماء من بين أصابعه، وأطعم الجيش كله من فخذ شاة، وكلّمه كتف الشاة بأنه مسموم، وطلبت الغزالة منه أن تذهب لإرضاع ولدها ثم تعود، وغير ذلك مما يعد بالمئات من المنقول عنه (ص)، وكذا الكثير مما نقل عن الأئمة الطاهرين عليهم صلوات الله وسلامه، وكذلك حين تحدثت النملة عن سليمان وجنوده، وغير ذلك، هل كان ذلك كله في مواقع التحدي. أو أن ذلك من الأكاذيب والموضوعات!؟.

2_ إن الآيات حين أكدت علي افتراق النبي (ص) عن سائر الناس بالوحي، فإنما أرادت أن تحصن كلامه عن التشكيك والريب: (وما ينطق عن الهوي إن هو الا وحي يوحي). أو أرادت أن تنفي عنه (ص) صفة الألوهية، أو صفة الملك، التي يريد الكفار أن يجدوها فيه.

ولم تذكر هذه الآيات أبداً.. أن الفارق بين النبي (ص) وبين الناس محصور بالوحي بحيث لا يملك أية ميزة أخري سوي ذلك.

علي أنه إذا كان الفارق بين النبي وبين الناس يقتصر علي خصوصية الوحي _ كما هو صريح كلام هذا الرجل هنا ولم يزل يردد ذلك في كثير من المواضيع _ فإن السؤال الذي نطلب الإجابة عليه هو:

ما هو الفارق بين الأمام وبين سائر الناس يا تري، فإن الأمام لا يملك خصوصية الوحي التي يتحدث عنها هذا الرجل؟!..

3 _ إن تعبير هذا الرجل ب_ (العجز الذاتي) لا يغير في الحقيقة شيئا، لأن من يثبت هذه الكرامات والمعجزات للأنبياء والأصفياء،

لا يدعي استغناء هذا النبي عن قدرة الله تعالي، لأن الفقر هو قوام كل من عداه سبحانه.

والأنبياء والأصفياء هم أولي الناس بتذكر هذه الحقيقة، وبالتذكير بها علي الدوام.

4 _ وأما أنه لم يعهد من النبي (ص) التحدث في المغيبات في الشؤون العامة والخاصة. لأن الرسالة لم تحتج إلي ذلك.

فلا ندري كيف نفسره، وتلك هي كلمات النبي (ص) والأئمة (ع) التي يخبرون فيها عن العشرات بل المئات من المغيّبات في الشؤون العامة والخاصة، قد زخرت بها المجاميع الحديثية السنية والشيعية، وغيرها من مؤلفات علماء الإسلام.

فكيف يقول: لم نعهد أن النبي تحدث بشيء من ذلك؟.

هذا عدا عما ورد في القرآن من إخبارات غيبية كثيرة، يتداولها الناس ويسألون عنها باستمرار، كما في قوله تعالي (الم غلبت الروم في أدني الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) وقوله تعالي (وقضينا إلي بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا، أولي باس شديد فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولا..).

فكيف يقول: إن الرسالة لم تحتج إلي الحديث عن المغيّبات، لا العامة منها ولا الخاصة؟. ولماذا امتدح تعالي في كتابه المؤمنين بالغيب؟

إلا أن يدّعي هذا البعض: أن الله سبحانه قد تحدَّث بأمور لا فائدة فيها، ولم تكن لها مناسبة تقتضيها.

أو أن يكذّب بكل هذا المنقول الذي لا يرتاب أحد في تواتره الإجمالي.!

أو أن ينكر كل ما نقل عن الأئمة عليهم السلام في هذا السبيل.!

فإنه إذا لم يحتج مجتمع المسلمين إلي الحديث عن المغيّبات في المجتمع في الشؤون العامة أو الخاصة؛ فهل احتاج المسلمون إلي ذلك بعدها حتي زخرت كتب الحديث والتاريخ بما

أخبر به علي عليهم السلام من بعده.؟

وما الفرق بين أن يحدثنا الكتاب العزيز عن هذه المغيّبات، أو يحدثنا بها وعنها أحد المعصومين عليهم السلام. سوي قطعية الصدور في الكتاب ولزوم التثبت والتأكد من السند في الثاني.

تفضيل نبي علي نبي مبعث خصام وانقسام.

تفضيل الأنبياء علي بعضهم هو في مواقع العمل.

تفضيل الله لبعض الأنبياء لا يمثل مسؤوليةً لأتباعهم.

التفضيل هو في نوعية الكتب.

التفضيل في طبيعة المعجزة.

لا تستغرقوا في الأنبياء كأشخاص (كلام تكرر عشرات أو مئات المرات في خطبه وفي كتبه).

لا فائدة في الوقوف عند تفضيل نبي علي نبي.

يقول البعض:

"(ولقد فضلنا بعض النبيين علي بعض..) فيما ميزناهم به من مواقع العمل، وطبيعة المعجزة، ونوعية الك_تب، من ق_اعدة الحكمة التي أق_ام الله الحياة عليها.." [171] .

ويقول في موضع آخر:

".. وربما كان لنا أن نستوحي من ذلك.. أن الله يريد أن يعلمنا ويقول لنا.. لا تستغرقوا في الأنبياء كأشخاص، بل استغرقوا فيهم، كخط وكهدي وكرسالة.. ولا تقولوا إن هذا النبي أفضل من ذاك، ليكون ذلك مبعث خصام وخلاف وانقسام فيما بينكم، لأنهم لا يعيشون في حياتهم هذا الهاجس، ولا يتحركون من أجل تأكيده، وإن كان الله قد فضّل بعضهم علي بعض، لكن ذلك لا يمثل مسؤولية أتباعهم، ولا يباعد بين خطواتهم.. بل كل ما هناك هو السير علي الخط الذي ساروا عليه، في اتجاه الهدف الذي استهدفوه، لأن الله هو الذي يفاضل بينهم، في الدرجات عنده، بعد أن فاضل بينهم في المسؤوليات في الحياة، وليس لنا في ذلك دخل من قريب أو من بعيد، فلنقف حيث يريد الله لنا أن نقف، ولنوفّر علي أنفسنا جهد البحث فيما لا سبيل

لنا إلي الإحاطة به ولا فائدة لنا في الوقوف عنده، ولندّخر تفكيرنا لما أرادنا الله من الخوض في معرفته، والجهاد في سبيله، وهو الرسالة من خلال قيادة الرسول، في الفكر والحركة والعمل" [172] .

وقفة قصيرة

أما بالنسبة للحديث عن تفضيل نبي علي نبي، فإننا نقول:

أولاً: قد ادعي هذا البعض أن الحديث عن تفضيل نبي علي نبي يوجب الخلاف والخصام والإنقسام.

مع أننا لم نجد في كل الحقب التاريخية أي مفردة تشير إلي أي نزاع نشأ عن الحديث عن تفضيل نبي علي نبي، فضلا عن أن يكون، هناك خصام أو انقسام بسبب ذلك.

ثانياً: إننا لم نعرف كيف تكون نوعية الكتب من أسباب تفاضل الأنبياء، فأيهما أفضل إبراهيم (ع) الذي جاء بالصحف فقط؟! أم موسي (ع) الذي جاء بالتوراة والألواح والصحف أيضا؟! وأيهما أفضل موسي (ع) صاحب التوراة أم عيسي (ع) صاحب الإنجيل؟!

ثالثاً: قوله إن الأنبياء يتفاضلون بحسب طبيعة المعجزة أيضا، يثير لدينا السؤال، كيف نفهم أن التفاضل بين إبراهيم (ع) وعيسي (ع) وموسي (ع) عن طريق المعجزة؟ وهل أنزال التوراة والألواح زيادة علي الصحف، يعني أن موسي (ع) كان أفضل من إبراهيم (ع)؟ إن ذلك لا يقبل به أحد.

رابعاً: قوله إن التفاضل بين الأنبياء إنما هو فيما ميزهم به من مواقع العمل، فإن ذلك يطرح امامنا أسئلة كثيرة؛ فهل كان موقع العمل من الأنبياء مختلفاً، فيشتغل أحدهما بتبليغ الدين، ويشتغل الآخر بأمر آخر غير ذلك؟!.

أم أن المقصود بمواقع العمل، هو أن يكون شغل هذا مع بني إسرائيل، وشغل ذاك مع آخرين، وهذا مع عاد، وذاك مع ثمود.. وهكذا؟!..

ثم إننا لا ندري لماذا يصر هذا الرجل علي كون المفاضلة هي في المسؤولية

في الحياة، ولا ربط لها بمقاماتهم الغيبية سلام الله عليهم. مع انه لا يملك دليلا علي دعواه هذه.. سوي الادعاء والاستحسان!.

خامساً: إن كان يريد: أن التفاضل في المسؤولية هو الموجب للتفاضل في الآخرة وعلو الدرجات؛ بسبب كثرة العمل الناشئ عن حجم المسؤولية، فمعني ذلك:هو أن لا يبقي ثمة من فرق في ذات الأنبياء بين نبي ونبي، وذلك يعني، أن ما جوّزه هذا البعض علي يونس (ع) وآدم (ع)، ونوح (ع)، وموسي (ع) والخ.. لا بد أن يجوّز صدوره من نبينا الأكرم (ص)، فيمكن أن يكون نبينا (ص) ساذجاً وأن يرتكب معاصي، تشبه معصية إبليس، ثم يتوب كما جري لآدم (ع)، وأن يرتكب جرائم دينية، ويقتل انفساً بريئة، وأن لا يعرف تكليفه الشرعي فيما يرتبط بهداية الناس، كما يزعم البعض جريانه في حق موسي (ع) وهارون (ع)، وأن.. إلي آخر القائمة التي سنذكرها قريباً.

فان كان مراده غير ذلك، فعليه أن يشرح لنا كيف ومن أين جاء ارتفاع الدرجات وتدانيها في الآخرة.

سادساً: ليت هذا البعض يدلنا علي وجه التفاضل بين مسؤولية إبراهيم (ع) ومسؤولية نبينا الأكرم (ص)، أو مسؤولية عيسي، ومسؤولية سليمان عليهم السلام.

سابعاً: إن قول هذا البعض: إن تفضيل الله تعالي بعض الأنبياء علي بعض لا يمثل مسؤولية أتباعهم..غير سديد،فقد حدثنا النبي والأئمة عليهم السلام عن أفضلية السيدة الزهراء، عليها السلام علي مريم بنت عمران، وعن أفضلية الأمام المهدي (عجل الله تعالي فرجه الشريف) علي بقية التسعة من ذرية الأمام الحسين عليه السلام. وعن أفضلية الأمام أمير المؤمنين علي الحسن والحسين عليهم السلام: (وأبوهما خير منهما).

وحدثونا أيضاً عن أفضلية سلمان إلي غير ذلك مما لا مجال لاستقصائه، أضف إلي ما تقدم

أن علي الإنسان المؤمن أن يلتزم خط القرآن، ونهج أهل البيت عليهم السلام في كل تفاصيله وحيثياته،فلا يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه الآخر. بل عليه أن يؤمن بكل ما جاء به، ولا حرج عليه من الجهر بحقائقه، رضي الناس لأجل ذلك أم غضبوا، وكذا الحال فيما جاء به الرسول الكريم، والعظيم، لا بد من الالتزام به ولا حرج من التصريح به ونشره وإشاعته.

ثامناً: لو سلمنا حصول نزاع بسبب الجهر ببعض الحقائق الدينية؛ فإن ذلك لا يمنع من نشرها وبلورتها في أذهان وعقول الناس علي نحو لا توجب التنازع، لا أن تلغي هذه المعاني من أساسها واللازم علي المتنازعين الذين يخالفون أمر الله أن يكفّوا عن نزاعهم الذي لا يرضاه الله، وان يلتزموا بحقائق الدين مهما كانت، ولولا ذلك للزم الكف عن تبيان أية حقيقة دينية اختلف عليها المسلمون، فلا نتحدث عن الإمامة والإمام، ولا عن غير ذلك من التعاليم والأحكام، لأن ذلك يغضب فريقا من الناس وهو من أسباب انقسام الناس قطعا إلي فريقين.

ولنفرض جدلا، صحة ما يدّعي من نزاع أو خصام؛ وصحة لزوم التحاشي عن ذكر مثل هذه الأمور، فإنما تقدّر الضرورات بقدرها، وبالتالي يكفّ عن ذلك حيث ينشأ عنه خصام وحيث يلزم منه تضييع الدين الواجب حفظه والعمل به، ولا يكفّ عنه حيث لا يلزم ذلك.

تاسعاً: قوله: إنه لا فائدة من هذا الأمر فلا داعي للوقوف عنده. لا يصح: لأن الله سبحانه لا يتحدث عن شيء بلا فائدة، وكذلك النبي (ص) الذي لا ينطق عن الهوي، وفي حكمه (ص) الأئمة الأطهار (ع).

عاشراّ: لا ندري كيف عرف هذا البعض أن تفضيل الله سبحانه نبياً علي آخر إنما هو فيما ميزهم

من مواقع العمل، وطبيعة المعجزة ونوعية الكتب، وأين هي القرينة التي اعتمد عليها في حكمه هذا.

الرسالة الإلهية تجربة واقعية في مستوي التطبيق.

حركة الأنبياء مجرد تجارب عملية.

لا مصلحة في إعطاء الصورة الإنسانية للنبي _ ثم إعطائه قدرات مطلقة تمتد من الله في ذاته.

يقو ل البعض:

وهو يتحدث عن صفة الرسولية في الرسول، وأن دراسة هذه القضية.

"من خلال القرآن في ظواهره من حيث يريد للناس أن يفهموه، ويعتقدوه، ويعيشوه، لاسيما في عهد الرسالة الأول في المرحلة التي كان يعيشها النبي مع الناس من أتباعه وخصومه، مما كانت تثير الكثير من المشاكل، والتعقيدات، وعلامات الإستفهام، لأن الوحي كان ينطلق من الفكرة العامة في مستوي النظرية، ومن حركة التجربة الواقعية في مستوي التطبيق، فكان الناس يرون النبي في مضمون الآيات..الخ" [173] .

ويتحدث عن الصورة النبوية في الوجدان الإسلامي، فيقول:

"ما هي المصلحة في أن يقدم الله لنا الصورة في ملامحها الإنسانية المنسجمة مع الواقع الإنساني في قدراته المحدودة، وفي تجاربه العملية، في الوقت الذي قد تكون الصورة الحقيقية تنطلق في البعد الإلهي، الذي يمتد في القدرات المطلقة، التي تحلق بعيدا في أجواء الغيب، الذي يقترب من قدرة الله بفارق واحد، وهو ذاتية القدرة في ذاته، وامتدادها منه في ذات النبي.." [174] .

وقفة قصيرة

ونقول:

1 _ ماذا يعني تعبير هذا البعض عن حركة الرسالة، التي تحظي بالتوجيه والرعاية الإلهية من خلال جهد النبي (صلي الله عليه وآله) وتضحياته ومواقفه.. ما معني التعبير عنها ب_: "التجربة الواقعية في مستوي التطبيق".

وعن حركة النبي الرسالية ب_: "تجاربه العملية".

إنه تعبير غير سليم وله إيحاءاته التي تختزن مفهومي الخطأ، والإصابة، والقصور عن إدراك ما يصلح، وما يفسد..

وتختزن أيضاً جهلاً، وضعفاً.. وما إلي ذلك.. مما لا يصح نسبته إلي التوجيه الإلهي والتسديد الرباني الذي ما زالت حركة الأنبياء تعيش آفاقه.

2 _ لماذا يصر هذا البعض علي إظهار محدودية قدرات الأنبياء، وأنها قدرات تقترب، بل هي لا تزيد عن قدرات أي إنسان عادي.

وما هو دليله علي: أن الله لم يعط أنبياءه وأولياءه فوق ما أعطي البشر من قدرات، ومن طاقات، وذلك من خلال طاعتهم لله سبحانه، وفقاً لقوله تعالي: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) وهو عام مطلق لم يحدد أي سبيل..

كذلك وفقاً للحديث القدسي المأثور الذي أيده هذا البعض، والذي سنذكر كلامه حوله فيما يأتي من فصول: (عبدي أطعني تكن مثلي تقول للشيء كن فيكون).

فطاعة الله إذن _ حسب اعتراف هذا البعض _ تضاعف قدرات المطيع لتصل بها إلي درجات لم يكن ليتصورها هذا البعض وسواه مع أن هذا المطيع هو واحد من الناس المؤمنين، فكيف بالأنبياء، والأوصياء؟!

3 _ أي محذور في أن يعطي الله عباده الصالحين قدرات هي فوق قدرات البشر، وإن كانت لا تقترب من قدراته، والفارق هو أنها ممتدة من الله في ذات النبي، وأي محذور في أن يمتد في القدرات المطلقة التي تحلّق بعيدا في أجواء الغيب..

فإن كل شيء يعود إلي الله، ومنه، وليس في ذلك أي شرك أو غلو، بل هو محض التوحيد، وخالص الإستقامة علي جادة المعرفة بالله سبحانه، والتسليم له، واعتباره هو المبدأ، والمنتهي، والأول والآخر، وسوف نتحدث عن ذلك فيما يأتي.

4 _ إن جهل هذا البعض بالمصلحة لا يعني عدم وجودها، ومن الواضح: أن الله سبحانه لا يستأذنه إذا أراد أن يفعل ذلك، لمصلحة يعلمها هو تعالي ويجهلها

هذا البعض، كما يجهل ما هو أهون وأبسط..

جو النبي قد يعيش نوعا من الإهتزاز والضعف فلا يؤثر كثيراً في عائلته.

ضغط الدعوة قد يشغل النبي في بيته.

قد ينغلق النبي عن أهله.

المجتمع المنحرف قد يأخذ من النبي أهله دون مقاومة، لأن مقاومته كانت متجهة للمجتمع الكبير.

المرأة تدخل الإنحراف إلي بيت النبي، بحيث تحاصر النبي.

قد تملك الزوجة فعاليات لا يستطيع النبي أن ينقذ نفسه منها.

الفرق بين إسماعيل، وابن نوح أن إبراهيم عزل ابنه عن ضغط البيئة.

إسماعيل عاش في بيئة لا يضغط عليها الإنحراف لأن أمه كانت صالحة.

فساد وصلاح البيئة مكّن من حماية التجربة في إسماعيل ومنع من ذلك في ابن نوح.

سئل البعض:

في قبال صورة إبراهيم وإسماعيل طرح القرآن صورة نوح وابنه، هناك دعوة للذبح، وهنا دعوة للنجاة.. هناك امتثال وطاعة، وهنا رفض وتمرد.. ماذا نستوحي من ذلك؟..

فأجاب:

"إن أبناء الأنبياء والأوصياء والعلماء هم بشر كبقية البشر يتأثرون بالأجواء الإيجابية كما يتأثرون بالأجواء السلبية.. وقد يعيشون في ساحة الصراع عندما تتدافع العوامل الإيجابية والسلبية لتكسب هذا الإنسان أو ذاك، بحيث يعيش في صراع داخلي من خلال الصراع الخارجي بما فيه من مؤثرات وإيحاءات، وعلي هذا الأساس فليس من الضروري أن يكون ابن النبي صالحاً، أو أن يكون ابن الوصي أو العالم أو المجاهد مثله، لأن الأب يمثل جزءاً من البيئة وهو واحد من العوامل الكثيرة التي تؤثر في شخصيته، وقد يعيش جو الأب نوعاً من الإهتزاز، والضعف الذي قد لا يستطيع فيه أن يترك التأثير الكبير علي عائلته بفعل العوامل المضادة الأخري أو بفعل الضغط علي مواقع حركته، إنها قد تكون مشكلة الكثيرين من الدعاة سواء كانوا

أنبياء أو أوصياء أو علماء و ذلك أن ضغط الدعوة في تعقيداتها وتحدياتها ومشاكلها قد يشغل الإنسان عن بيته بحيث يعيش منفتحاً علي العالم ومنغلقاً عن أهله من خلال طبيعة ما يفرضه هذا الإنفتاح من ابتعاد عن مواقعه الذاتية باعتبار أن أهله يمثلون أحد هذه المواقع.

ومما يجدر بالذكر أن المجتمع المنحرف قد يأخذ من النبي أهله دون مقاومة علي اعتبار أن مسألة المقاومة كانت موجهة للمجتمع الكبير، وربما تكون المسألة أن القوي المضادة تملك من القوي المادية والتحدي ما لا تستطيع العناصر الرسالية أن تصمد أمامها بفعل الظروف الطبيعية الطارئة بحيث لا يصمد الرسول في حركته أمام هذه القوي الكبيرة لأن الرسول، أي رسول كان، لا يملك كل الوسائل، وإنما يملك بعض الوسائل المنطلقة من معطيات قدراته الذاتية فعالم الرسالة ليس هو عالم الغيب، وإنما عالم القدرة البشرية التي يطل الغيب عليها في بعض مواقعها إلي حد معين، وقد لا يطل عليها بالكامل بالمعني الحركي لهذه الإطلالة.

وفي هذا الجو يتحول المجتمع إلي قوة ضاغطة حتي علي بيت النبي أو بيت الوصي أو بيت العالم، علي اعتبار أنه يملك من عناصر الضغط ما يستطيع معه أن يجتذب جوانب الإنحراف لدي هؤلاء بالمستوي الذي يمكن أن يهزم فيه الحركة الرسالية، وقد يبتلي بعض الأنبياء أو العلماء أو الأولياء بزوجات تقف في الموقف المضاد من حركة الرسالة بحيث إنها تقف ضد حركة النبي، وهذا ما حدثنا القرآن عنه بالنسبة لامرأة نوح وامرأة لوط: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين) (التحريم:10).

إننا نستطيع أن نستوحي من

ذلك أن الخيانة ليست خيانة العرض في الجانب الجنسي، ولكن الخيانة خيانة الرسالة، وخيانة الأمانة الرسالية.

ومن الطبيعي أن مثل هذا يترك تأثيراً سلبياً علي أولاد الأنبياء، أو أولاد الأوصياء أو أولاد العلماء، وأن للأم تأثيرها الكبير إذا كانت خاضعة في أفكارها، وسلوكها للتيار الكافر المنحرف المضاد حيث إنها تدخل كل التيار إلي بيتها علي نحو يجد النبي فيه نفسه محاصراً كما أنه محاصر في مجتمعه لأنه لا يستطيع أن يحمي بيته علي أساس أن امرأته جزء من هذا البيت، وقد تملك من الفعاليات ما لا يستطيع أن ينقذ نفسه منها.

كما أننا لا نجد إشارة في القرآن إلي تاريخ ابن نوح لكننا نلاحظ أن أباه خاطبه أن يركب معه، وأن لا يكون من الخاسرين: (إركب معنا ولا تكن مع الكافرين) (هود: 42).

ولكنه لم يستجب لوالده: (قال سآوي إلي جبل يعصمني من الماء) (هود: 43)، فأجابه نوح الذي فقد الأمل في تلك اللحظة: (لا عاصم اليوم من أمر الله) (هود: 43)، وعندما نادي ربه فإنه لم يناد ربه معترضاً، ولكنه كان متسائلاً لأن الله سبحانه وعده بأن ينجي ابنه: (قال: رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال: يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) (هود: 46).

وهكذا نستطيع أن نربط قرآنياً بين امرأة نوح، وابن نوح فنجد أنه كان خاضعاً لتأثيرات تربية أمه أكثر من خضوعه لأبيه لقربه أكثر منها وتعلقه بمجتمعها.

وبهذا نستطيع أن نفهم الفرق بين مسألة إسماعيل وبين مسألة ابن نوح من أن إسماعيل عاش في بيئة استطاع إبراهيم أن يعزل فيها الولد عن ضغطها، بحيث عاش في بيئة لا يضغط عليها الإنحراف

بقوة في الوقت الذي كانت أمه صالحة أيضاً، وبذلك أمكن حماية التجربة هنا، ولم يمكن حماية التجربة هناك" [175] .

وقفة قصيرة

ونقول:

قد ذكر هذا البعض:

"أن دور البيئة في صنع شخصية ابن نوح كان قوياً إلي درجة يعجز النبي نوح عن مواجهة تأثيراتها، حتي كانت النتيجة هي الهلاك والبوار لولده.."

وذكر هذا البعض أيضاً أن ضغط الدعوة علي النبي والوصي والعالم في تعقيداتها وتحدياتها ومشاكلها قد يشغل الإنسان عن بيته، بحيث يعيش منفتحاً علي العالم ومنغلقاً عن أهله.. وأن المجتمع المنحرف قد يأخذ من النبي أهله دون مقاومة، باعتبار أن مسألة المقاومة كانت موجهة للمجتمع الكبير.

ثم مثل لذلك بامرأة نوح، وامرأة لوط، وبابن نوح، الذي تأثر بتربية أمه أكثر من خضوعه لأبيه، لقربه منها أكثر من قربه من أبيه..

ونقول له:

إن كلامه هذا يعطينا كل الحق في أن نرفض ما قاله في حق الزهراء (عليها السلام) من أنه لا يجد فيها، ولا في أمها خديجة الكبري، وابنتها زينب _ لا يجد _ خصوصية إلا الظروف الطبيعية التي كفلت لهن إمكانيات النمو الروحي والعقلي، والإلتزام العملي بالمستوي الذي تتوازن فيه عناصر الشخصية بشكلٍ طبيعي في مسألة النمو الذاتي، ولا نستطيع إطلاق الحديث المسؤول القائل بوجود عناصر غيبية مميزة تخرجهن عن مستوي المرأة العادي، لأن ذلك لا يخضع لأي إثبات قطعي، علي حد تعابيره في كتابه: تأملات حول المرأة.

وقد تحدثنا عن ذلك بالتفصيل في محله من هذا الكتاب.. فراجع.

وكلامه هنا يثبت صحة ما فهمناه من كلامه هذا، وأنه لا يري للزهراء عصمة، إلا بمقدار ما حققته ظروفها الطبيعية لها، بحيث إنها لولا تلك الظروف لكان سبيلها سبيل ابن نوح، وغيره من الجناة والعصاة.

2 _ إن بيت النبي والوصي يعتبر جزءاً من المجتمع الذي بعث لهدايته ورعايته، وتربيته، وإقامة الحجة عليه.

فلا معني لأن ينغلق عنه _ علي حد تعبير هذا البعض _ ولا لأن يشغله المجتمع الكبير عن الصغير..

كما أن علي النبي المبعوث أن يقاوم الإنحراف أينما كان، وحيثما وجد، فلا معني لأن يوجه مقاومته إلي جهة، ويترك جهة أخري، وإلا لكان مقصراً _ والعياذ بالله _ في أداء مهماته الرسالية، أو غير قادر علي القيام بها، فلا مبرر لبعثته، بل اللازم هو بعث سواه، أو إرسال رسول آخر معه ليعينه، كما كان الحال بالنسبة لهارون وموسي عليهما وعلي نبينا وآله الصلاة والسلام..

إن هذا البعض يقيس الأنبياء علي الناس العاديين، سواء أكانوا علماء أو غير علماء، فيصفهم بأوصافهم فالحق الذي لا محيص عنه هو أن امرأتي نوح ولوط، وكذلك ابن نوح كانوا غير مستعدين للهداية ولا للصلاح، ولا شك في أن نوحاً ولوطاً (عليهما السلام) قد بذلا مختلف المحاولات في سبيل هدايتهم وإصلاحهم، ولكن قد ران علي قلوب أولئك الكفرة ما كانوا يكسبون، وغرتهم الحياة الدنيا، وراقهم زبرجها.

3 _ والغريب في الأمر مقارنته إسماعيل (عليه السلام) بابن نوح، حيث استطاع إبراهيم (عليه السلام) أن يعزل ولده عن الضغط القويّ للإنحراف في البيئة التي عاش فيها، مع كون أمه صالحة أيضاً، وبذلك أمكن حماية التجربة هنا، ولم يمكن حماية التجربة هناك، علي حد تعبيره..

مما يعني أنه لو كانت أم إسماعيل غير صالحة لما أمكن حماية التجربة، ولكان إسماعيل قد اتخذ سبيل الكفر والإنحراف _ والعياذ بالله _ كما فعل ابن نوح.

وهذا ما يؤكد طبيعة ما كان يرمي إليه هذا البعض حين تحدث عن

أنه ليس في الزهراء أي خصوصية إلا الظروف الطبيعية التي كفلت لها إمكانات النمو الروحي والعقلي والإلتزام العملي.. وأنه ليس فيها أي عنصر غيبي مميز يخرجها عن مستوي المرأة العادي..

4 _ إننا لا نوافق علي اعتباره ما يقوم به الأنبياء من واجبات، وتكاليف حتي في مجال التربية مجرد تجارب تخطئ وتصيب، بل هي إنجازات جاءت وفق التكليف الإلهي الشرعي الصائب لكبد الحقيقة، دون أي تقصير أو ضعف في ذلك..

وقد أشرنا إلي هذا الأمر أكثر من مرة في نظائر المقام.

5 _ ما الدليل علي أن امرأة نوح قد حاصرت النبي في فعالياتها فإن التصويرات التي قدمها عن بيت نوح، وعن فعاليات زوجته، ومحاصرتها له.. وغير ذلك، ما هي إلا رجم بالغيب، لم يقدم عليها أي دليل مهما كان ضعيفاً وهزيلاً.. مع أنه يشترط في أحداث التاريخ الدليل المفيد لليقين كأن يكون متواتراً، ولا يكفي مطلق ما هو حجة حسب زعمه..

وكذلك الحال فيما ذكره بالنسبة إلي إسماعيل عليه السلام، فقد أشرنا إلي عدم مقبوليته أو معقوليته.. كما أن عليه _ حسب ما قرره هو _ أن يأتي بالدليل القاطع عليه.. وأين ذلك منه، وأني له!!

القول بلزوم كون النبي أجمل الناس تطرّف.

نتحفظ علي قاعدة قبح قيادة المفضول للفاضل.

لا يجب تفوق النبي في كل صفة ذاتيه.

لا يجب تفوق النبي في كل علم.

لا ضرورة تفرض قدرات غير عادية للنبي.

لا ضرورة في أن يصنع النبي كل شيء خارق للعاده في أي وقت ومناسبة.

المطلوب في النبي القدرة فيما يحتاج اليه الداعية والمشرّع والحاكم.

الربط بين النبوة وبين القوة الخارقة تصور منحرف.

القول بلزوم أن يكون النبي أشجع الناس تطرّف.

القول بلزوم

التفوق فيما لا يرتبط بالقيادة والنبوة تطرّف.

قد يكون الجنود أشجع من قائدهم في قيادات العالم.

المهم تفوق القائد في الفكر القيادي، وليس المهم خوض المعركة.

المهم هو التفوق والكمال في المسائل التي تدخل في قيادة النبي.

ليس دور النبي التأسيس للعلوم الطبيعية والرياضية، ولا المعلم للألسن واللغات.

دور النبي هو الإبلاغ والإنذار، والهداية، والتعليم، وقيادة الناس إلي تطبيق ذلك.

يقول البعض:

"فقد نلاحظ _ بوضوح _ تحديد المهمات الرسالية للأنبياء في وضع الخطوط العامة للفكر والتشريع من أجل أن ينطلق الحكم علي أساس الحق، وميزان العدل، وفي رعاية الناس بما يخفف عنهم أغلالهم، وأثقالهم التي ترهقهم وتعطل مسيرتهم في بناء الحياة علي قاعدة ثابتة، وفي تركيز الأسس التي تلتقي عليها مصالح الناس وأفكارهم، من أجل إخضاع الإختلافات إلي الحكم العدل الذي لا ينحرف ولا يجور. وبالتالي، إشاعة السلام القائم علي الرحمة والعدل..

وفي ضوء ذلك، لا نجد أمامنا _ في هذا الإطار _ أي ضرورة تفرض اتصاف النبي بالقدرات الغير عادية [176] التي يستطيع _ معها _ أن يصنع كل شيء خارق للعادة في أي وقت وفي أية مناسبة.

بل كل ما هناك، أن يملك النبي القدرة علي حمل الرسالة وإبلاغها وتطبيقها بالحكمة والمرونة والقوة، في كل ما يحتاج إليه الداعية والمشرّع والحاكم فيما يتعلق بدعوته وشريعته وحكمه.. وبذلك يبطل التصور المنحرف الذي يربط بين النبوة وبين القوة الخارقة التي تصنع ما تشاء، بلا حدود.

النبوة والتفوق المطلق

وقد يمكن لنا في هذا المجال أن نتحفظ فيما يفيض فيه الكثيرون من علماء الكلام عندما يتحدثون عن صفات النبي _ أي نبي كان _ فيوجبون له التفوق في كل علم، وفي كل صفة ذاتية علي

أساس القاعدة العقلية المعروفة لديهم وهي قبح قيادة المفضول للفاضل.. فإذا لم يكن النبي في مستوي القمة في كل شيء، لم يصلح لمركز القيادة الحياتية للناس.

وقد يتطرف البعض فيوجب أن يكون النبي أجمل الناس، وأشجعهم، وأقواهم في عضلاته إلي غير ذلك من الصفات الجسمية التي لا ترتبط بالنبوة ولا بالقيادة من قريب ولا من بعيد.. فإننا نلاحظ في أوضاع القيادات في العالم.. حتي العسكرية منها.. أن القائد لا يفرض فيه أن يكون أكثر شجاعة من جنوده، فربما يكون الكثيرون من جنوده أشجع منه، لأن دوره الأساسي _ كقائد _ ليس هو خوض المعركة، بل قيادتها التي تتمثل في الفكر العسكري القيادي الذي يعرف كيف يخطط للمعركة وكيف يواجه التطبيق العملي للخطط المرسومة.

وهكذا نجد القضية في كل جانب من الجوانب الحياتية التي لا تتطلب في القيادة إلا أن تكون في مركز التفوق والكمال في القطاع الذي تتولي قيادته.

إننا نسجل تحفظنا الشديد حول هذا كله.. لأن دور النبي، لم يكن هو دور المؤسس للعلوم الطبيعية والرياضية وغيرها، ولم تكن مهمته هي مهمة المعلم للألسن واللغات، يجب أن يكون مُلماً بجميع العلوم، وبجميع اللغات، فضلاً عن أن يكون متفوقاً من زاوية نبوته، بل المهمة الأساسية _ كما حددها القرآن الكريم، في الآيات المتقدمة، هي الإرشاد والإبلاغ والإنذار وتعليم الناس الكتاب والحكمة، وقيادتهم إلي تطبيق ذلك كله علي حياتهم، ليخرج الناس من الظلمات إلي النور، ويهديهم إلي صراط العزيز الحميد" [177] .

وقفة قصيرة

ونقول:

1 _ إن هذا البعض: قد نفي وجود ضرورة تفرض اتصاف الأنبياء بهذه الصفة، أو بتلك، ومن الواضح: أن نفي وجود شيء من هذا القبيل يحتاج إلي الإطلاع علي أسرار كل الواقع القائم،

ليتمكن من تحديد وجود ضرورة فيه، أو عدم وجودها.

فهل أطلع الله هذا البعض علي غيبه، وأوقفه علي أسرار خلقه، حتي استطاع أن ينفي وجود ضرورة، تفرض اتصاف الأنبياء بقدرات غير عادية؟!

2 _ إن هذا البعض قد حدد المهمات الرسالية للأنبياء، وفق فهمه الخاص للأمور.. واعتبر نفسه قد استوفي المعرفة بكل الأهداف الإلهية من الخلق والخليقة، ومن بعثة الأنبياء.

وعلي هذا الأساس فإن لنا كل الحق في أن نوجه إلي هذا البعض الأسئلة التالية:

إذا كان ما ذكره هو المبدأ والمنتهي، ويبرر له أن يحكم بعدم وجود أية ضرورة تفرض اتصاف النبي (ص) بالقدرات غير العادية.. فلماذا، أو ما هو السر في حدوث الإسراء والمعراج؟!

ولماذا سخر الله الريح والجن، والطير. و.. و.. لسليمان. الخ؟!

ولماذا يرفع الله للنبي والوصي عموداً من نور، فيري أعمال الخلايق؟!

ولماذا علم الله داود (ع) منطق الطير؟!.

ولماذا وصف الله داود (ع) بذي الأيد، أي القوة؟!.

ولماذا تطوي الأرض للأنبياء وللأئمة عليهم السلام؟!.

ولماذا يطعم النبي الجيش كله من شاة عجفاء يذبحها لهم، مع أن معجزته هي القرآن.؟!.

ولماذا، ولماذا، مما لو أردنا استقصاءه، لملأنا مئات الصفحات بالأسئلة التي لابد من الإجابة عنها لمن يدعي، معرفة ما تفرضه المهمات الرسالية للأنبياء.

3 _ إن آصف بن برخيا لم يكن نبياً، وليس لديه مهمات رسالية.. فلماذا أعطاه الله قدرة فوق قدرة عفريت من الجن _ كما تنص الآية _ مكنته من أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلي بيت المقدس، قبل ارتداد الطرف، وذلك بعلم من الكتاب.

4 _ لماذا آثر سليمان (ع) أن يتصرف تصرفا غير عادي تجاه بلقيس، حيث قال لمن حوله (أيكم يأتيني بعرشها قبل أن

يأتوني مسلمين)، فآثر إظهار القوة الخارقة التي تقهر عقولهم. علي استعمال قوة السلاح وفرض السلام أو الإسلام عليهم.

5 _ كيف ثبت لهذا البعض، ثم كيف يثبت لنا أن الربط بين النبوة وبين القوة الخارقة للعادة هو من مصاديق التصور المنحرف؟!

وهل انحرافه عن تصورات هذا البعض؟ أم كان انحرافه عن الحق والحقيقة؟!!

6 _ ما معني رفضه للقاعدة العقلية القاضية.. بقبح قيادة المفضول للفاضل، فهل يريد التمهيد لتصحيح خلافة أبي بكر، وفقاً لمقولة معتزلة بغداد بجواز إمامة المفضول، والتي عبر عنها ابن أبي الحديد المعتزلي في كلمته الشهيرة في مفتتح كتابه (شرح نهج البلاغة) حيث قال: (الحمد لله الذي قدم المفضول علي الفاضل). أي قدم أبا بكر علي علي عليه السلام.

7 _ وانظر إلي دليله الذي ساقه علي عدم صحة مقولة لزوم كون النبي هو الأكمل والأشجع و.. حيث قاس ذلك علي القيادات الظالمة والمنحرفة، حيث لا يفترض فيها _ عندهم _ أن يكون القائد أشجع من جنوده. فإنها مبنية في الغالب علي الأهواء، وعلي الجهل بحقيقة الأشخاص وطاقاتهم.

8 _ ولو صح ما ذكره من أن القيادة لا تتطلب إلا أن تكون في مركز التفوق، والكمال في القطاع الذي تتولي قيادته، لجاز لنا أن نقول له: بل هي لا تتطلب التفوق أصلاً، بل يكفي المساواة بين القائد وبين الآخرين، بل حتي لو كان أقل من الآخرين، فإنه يكفي له ما يحفظ به ما يوكل إليه من أمر قيادته.

9 _ حتي لو كان الآخرون من أعلم الناس بشؤون وشجون ذلك الأمر الذي هو محط النظر.

فمن أين ثبت: أن مهمة النبي والوصي لا تحتاج إلي التفوق حتي في العلوم الطبيعية والرياضيات واللغات

وبجميع العلوم..

وأما الآية القرآنية التي استشهد بها فإنما تدل علي خلاف مقصوده. فإن الحكمة المطلوب تعليمها للناس (ويعلمهم الكتاب والحكمة) [178] لا تقتصر علي مجال دون مجال.. بل هي وضع الشيء في موضعه في كل كبيرة وصغيرة، وفي كل علم وصنعة وحرفة وغير ذلك..

الولاية التكوينية.. إدعاءات و استدلالات واهية

بداية

إن حديث هذا البعض عن قدرات الأنبياء وطاقاتهم، وسعيه إلي تجريدهم عن أية قدرات وطاقات امتن الله بها عليهم، إلا فيما يرتبط باجتراح المعجزات.. التي يصرّح هذا البعض أيضاً.. ويقول: إنها لا ترجع إلي قدرة أودعها الله فيهم، بل ربما تكون بتدخل إلهي مباشر.

إن هذا الحديث قد ذاع عنه وشاع، ولم يعد من الأمور الخفية ولا المستورة، كيف وقد جهر به في أكثر من مناسبة، وسجله في أكثر من كتاب.

ومهما يكن من أمر، فإنهم من أجل التعبير عن قدرة الأنبياء _ الممنوحة لهم من الله سبحانه _ علي التصرف في أمور واقعية خارجية وغيرها، فقد اصطلحوا علي عبارة (الولاية التكوينية) لتفيد أن الله سبحانه قد أقدر أنبياءه علي التصرف في هذه الأمور الواقعية علي سبيل إظهار المعجزة أو غيرها.

ولم يزل هذا البعض ينكر ذلك، ويخصّ قدرتهم علي التصرّف في خصوص دائرة المعجزة وقد يتعدي ذلك إلي ما تتوقّف عليه مهمات النبي كمبلّغ ومرشد وحاكم.. مع احتفاظه بإمكانية أن يكون ذلك حتي في المعجزات بتدخل إلهي مباشر، دون أن يكون للنبي أي دور في ذ لك وهذه بعض كلماته.. ونسجل أيضاً تحفظاتنا عليها:

الولاية التكوينية شرك.

ويقول البعض:

"رأينا في الولاية التكوينية _ بحسب الدلالة القرآنية _ هو أن الله يعطي القدرة للأنبياء من علم الغيب ومن المعاجز والكرامات ما يحتاجونه في نبوّتهم وإمامتهم، ولم يعطهم أكثر من

ذلك" [179] .

ويقول:

"أنا من الناس الذين لا يرون الولاية التكوينية؛ لأنني أتصور كل القرآن دليل علي عدم الولاية التكوينية" [180] .

ويقول عن الولاية التكوينية:

"الولاية التكوينية. نحن نقول ولاية تكوينية، يعني بعض الناس يقول: إنه يعني الأنبياء والأئمة مشاركين الله، مثل ما الله ولي الكون هم أولياء الكون" [181] .

ونقول:

1 _ لا يقول أحد من الأمامية بأن الولاية التكوينية تفويضية علي النحو الذي أشير إليه في النص الأخير، فإذا كان هذا البعض قد درس الموضوع دراسة موسّعة فليدلّنا علي قائل بهذا القول من الأمامية.

2 _ إن هذا البعض نفسه قد كرر عند الكلام عن الحديث القدسي عبدي أطعني) قوله:

"ومن الممكن أن أجعلك تقول للشيء كن فيكون كما جعلت ذلك لعيسي(ع)".

وهو معني الولاية التكوينية.

ولكن ناقض هذا البعض نفسه!! فقال مرّة:

"ومن الممكن أن أجعلك تقول للشييء كن فيكون، كما جعلت ذلك لعيسي (ع)..، فمن الممكن جدّا أن الطاعة تستلزم ذلك أي الحصول علي هذه القدرة".

وقال أخري:

".. ولكن ليس معني ذلك أن الطاعة تستلزم هذه القدرة، وليس كل من أطاع الله حصل علي هذه القدرة".

3 _ إذا كانت الولاية التكوينية تفويضية كما يقول، فكيف كانت ممكنة عنده لعيسي (ع) أو لغيره من عبيد الله المطيعين.؟! وكيف صحت لعبيد الله المطيعين من غير المعصومين بينما منع من صحتها في حق الأئمة الأطهار عليهم السلام؟.

ثم كيف لم تثبت الولاية التكوينية عنده بحسب الدلالة القرآنية –كما يقول – مع أن الله تعالي يصرّح في كتابه فيقول: (إذ قال الله يا عيسي بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلي والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا

وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتي بإذني) وهذه الآية صريحة الدلالة علي إعطاء الله تعالي لعيسي (ع) الولاية التكوينية.

قد يقال: قد قيّد الله تعالي كل ذلك بإذنه، فلا دلالة علي ما تقولون من أنه (ع) يتصرف باختياره من دون إذن الله.

والجواب:

أولا: لم ندعّ أن أصحاب الولاية التكوينية يمكن أن يفعلوا شيئاَ بغير إذن الله.

ثانيا: قال الله تعالي (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) ففي هذه الآية دلالة علي أن الفعل _ وهو الإيمان _ مع كونه اختياريا، فهو صادر عن العبد بإذن الله تعالي. فكذلك الأفعال التي يقوم بها المعصوم صاحب الولاية التكوينية، فهي مع كونها صادرة عنه بكامل اختياره (ع)، كلها حادثة بإذن الله.

4 _ إن من يقرأ القرآن يدرك أنه لا يمكن أن يكون كله دليلا علي نفي الولاية التكوينية، بل في القرآن ما يدل علي إعطاء الولاية التكوينية لمثل آصف بن برخيا، الذي جاء بعرش بلقيس من اليمن قبل ارتداد الطرف.. ودعوي أن الله لم يعطه أزيد من مقدار الحاجة في دوره الموكول إليه تحتاج إلي دليل، فان هذا المستدل نفسه يقول: إن النفي يحتاج إلي دليل كما أن الإثبات يحتاج إلي دليل.

علي انه لم نتبين كيف كانت حاجة سليمان في دوره النبوي لإحضار عرش بلقيس، فهل كانت حاجته الإتيان بعرشها قبل ارتداد الطرف، في حين أن عفريتا من الجن كان قد عرض عليه أن يأتيه به قبل أن يقوم من مقامه. وكل هذا لا ربط له بالدور الظاهري لسليمان النبي (ع).

5 _ إن

ذلك البعض قد ذكر في أجوبته علي المرجع الدّيني الشيخ التبريزي: أن الله لم يعطهم _ أي الأنبياء والأئمة _ أكثر من ذلك، أي أكثر مما يحتاجونه في نبوّتهم وإمامتهم.

ولكنه حين بدأ يستدلّ علي ذلك، قال عن عيسي (ع):

"وليس هناك دليل علي أنه أعطاه غير ذلك في تدبير أمور الكون الأخري، كما أنها لا تدل علي أنه أعطاه الكمال النفسي الذي يتصرف به في أمور الكون بإذن الله، فان هذا وان كان أمرا ممكنا من حيث الثبوت، إلا أن الكلام في إثبات ذلك يحتاج إلي دليل".

فهو تارة ينفي عنهم ذلك بصورة قاطعة، ويجعله من التفويض الباطل قطعا لرجوعه إلي الشرك، وتارة يعترف بالأمكان في مقام الثبوت من دون لزوم محذور، ثم يدّعي بعد ذلك عدم وجود ما يدلّ علي الإثبات! وثالثة يقر بجعل الولاية التكوينية كما أقر بذلك فيما يتعلق بعيسي (ع).

6 _ وقول البعض في أجوبته علي المرجع الديني الشيخ التبريزي [182] :

"وأما الأخبار الواردة في ذلك فهي ضعيفة سندا ودلالةً".

لا يصح لوجود روايات صحيحة وموثّقة، فراجع كتاب: الولاية التكوينية: الحق الطبيعي للمعصوم ص 112_121.

الجزم بأن الله لم يخلق في الانبياء طاقة تكشف الغيب بشكل مطلق.

الجزم بأن الله يفيض عليهم ما يحتاجون إليه في رسالتهم ومواجهة التحديات.

إعطاء الغيب المحدد للأنبياء يبطل الولاية التكوينية لهم.

يقول البعض:

(ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) وتلك هي قصة الخالق في علمه غير المحدود بالنسبة إلي المخلوق المحدود في وجوده المستمد من وجود الله، وعلمه المستمد من علم الله، فيما أعطاه وفتح له من مجالاته وهيأ له أسبابه، فليس للمخلوق أن يحيط بشيء من علم الله في

عالم الشهود، وفي عالم الغيب إلا بما شاء الله، حتي الأنبياء، فإنهم لا يملكون علم الغيب في تكوينهم الذاتي، بحيث أن الله خلق فيهم الطاقة التي تكشف لهم عالم الغيب بشكل مطلق، فينفتحون عليه باستقلالهم بعد ذلك بل إن الله هو الذي يفيض عليهم من هذا العلم بما يحتاجون إليه من ذلك في شؤونهم الرسالية من خلال طبيعة الدور الذي يقومون به والتحديات التي تواجههم، وهذا هو ما نستوحيه من قوله تعالي في الحكاية عن النبي نوح في خطابه لقومه علي ما قصه الله من ذلك في سورة يونس (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب) (الأنعام _ 50).

وقوله تعالي: (عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحداً، إلاّ من ارتضي من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم، وأحصي كل شيء عدداً) (الجن: 26 _ 28).

فإنها ظاهرة في أن الله يمنحهم علم الغيب بما يهيء لهم السبيل لاستقامة أمرهم وسلامة دورهم وحمايتهم من كل ما بين أيديهم وما خلفهم مما هو حاضر عندهم أو غائب عنهم، تأكيداً لبقاء الإشراف الإلهي والسيطرة الربوبية عليهم، بحيث يحتاجونه في كل شيء مما يحدث لهم أو يطرأ عليهم، وهذا ما قد يوحي ببطلان نظرة الولاية التكوينية التي يراها بعض العلماء للأنبياء وللأئمة (عليهم السلام) [183] .

وقفة قصيرة

ونعود فنكرّر القول، لأن البعض ما فتئ يكرّر مقولاته هذه، ويؤكّدها ونقول:

1 _ من الذي قال لهذا البعض:

"إن الله سبحانه لم يخلق في نبيه طاقة تمكنه من معرفة ما هو غائب.. "

وكيف يرفع الله للوصي والولي عموداً من نور فيري فيه أعمال الخلائق، كما

ورد في الرويات.

وكيف يمكن تكذيب ما يدل علي أن النبي كان يري من خلفه كما يري الذي أمامه..

2 _ وكيف جزم بأمر دون أن يقدم دليلاً يفيد اليقين حسب شروطه هو نفسه في مثل هذه الأمور. أليس النفي يحتاج إلي دليل حسبما قرره هذا البعض نفسه؟

3 _ وهل ثبت لديه بشكل قاطع:

"أن الله سبحانه لم يطلع أحداً علي غيبه حتي من ارتضاه من رسول"

ولعله أطلعه علي ذلك بواسطة خلق قوة فيه تعرفه الغيب وتوصله إليه، لينفتح عليه باستقلاله في عين أنه بإذن منه، وبإعطاء إلهي كريم.

4 _ من الذي حدد له مقدار الغيب الذي يعطيه الله لمن ارتضاه من الرسل، حتي جاز له القول: يفيض عليهم من العلم ما يحتاجون إليه، من ذلك في شؤونهم الرسالية، من خلال طبيعة الدور الذي يقومون به.

5 _ ومن الذي قال لهذا البعض:

"إن دور النبي والوصي لا يحتاج إلي الإطلاع علي مختلف حالات الغيب وشؤونه.. "

وكيف يفسر لنا أن طبيعة دور الرسول والتحديات التي تواجهه قد اقتضت المعراج، والاطلاع علي كل تلك الآيات بتفاصيلها حتي بلغ (صلي الله عليه وآله) إلي سدرة المنتهي..

6 _ وكيف استوحي من الآية الكريمة بطلان الولاية التكوينية للأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وما هو ربط الآية بالولاية التكوينية..

بل إن اطلاع النبي علي الغيب، إذا كان له مساس بدوره وبالتحديات التي تواجهه فإنما يكون من أجل أن يحرك الغيب في مواجهة التحديات وللقيام بذلك الدور، وإلا فليس ثمة من فائدة كبيرة في علم الغيب هذا..

وإذا نفي النبي نوح عن نفسه علم الغيب فإنما نفي أن يكون علماً له بالاستقلال عن الله سبحانه ولم ينفه

مطلقاً ولو بتعليم منه تعالي.

وسائل النبي عادية إلا في مواقع التحدي.

إهانة وتحقير الأنبياء بحجّة نفي الولاية التكوينية.

النبي لا يستعمل الوسائل غير العادية للتخلص من المشاكل.

التشريف لا يتمثّل في إعطاء القدرة من دون قضية.

الله لا يشرّف أنبياءه في الدنيا..

الولاية التكوينية إنما تكون في أصعب أوقات التحدي فقط.

في التحدي، يحتمل كونها تدخلاً إلهياً مباشراً، لا من فعل النبي.

لا معني لولاية، لا أثر لها في حياة الانبياء.

لا معني لولاية، لا أثر لها في حماية رسالاتهم.

قراءة تاريخ الأنبياء الصحيح أظهرت أنهم لم يحركوا الولاية لحماية أنفسهم..

دور عيسي في إحياء الموتي كان دور الآلة..

حصر مهمة النبي في الإبلاغ والتبشير والإنذار، والهداية فقط.

الآيات قد تدل علي عدم الولاية التكوينية.

موسي كان خاضعاً للخوف من تجربة السحرة.

موسي كان خاضعاً للحيرة فيما يمكن أن يردّوا به التحدي.

موسي كان ينتظر التدخل الإلهي المباشر.

لا معجزة للنبي (ص) سوي القرآن.

انشقاق القمر أصعب من اقتراحات المشركين عليه..

مظاهر الضعف البشري للأنبياء.

خوف موسي من قتل فرعون له مظهر ضعف.

خوف موسي من موقف التحدّي مع السحرة مظهر ضعف.

خوف إبراهيم حين دخول الملائكة مظهر ضعف.

الله يمنح الرسول بقدر حاجة الرسالة.

لا توجد لدي النبي بالفعل طاقة دفع الشر وجلب الخير.

دفع الشر وجلب الخير يحصل تدريجاً بإفاض_ة مباشرة، لا من خلال قدرة موجودة.

لا يحتاج النبي إلي الغيب إلا في تاريخ رسالات السابقين فقط.

علم الغيب إنما يكون بطريق الوحي التدريجي عند الحاجة.

قد يكون المراد بالغيب الذي يطلع عليه رسله الجو الملائكي الذي يحميه من الشياطين.

علم الغيب الماضي وحي، وفيما يواجهه من حاجات إلهام.

الاستثناء في آية

(إلا من ارتضي من رسول) منقطع.

حصر علم الغيب في مفردات قليلة.

لا يملك النبي فعلية علم الواقع.

الله لم يعط النبي قدرة علي الغيب، لا أصالة ولا تبعاً.

لا ض_رورة أو حاجة تفرض الولاية التكوينية المطلقة.

الرسالة لا تفرض الولاية التكوينية.

الانبياء لم يمارسوا الولاية التكوينية في حياتهم.

لا نجد تفسيراً معقولاً للاحاديث: (إن الله خلق الكون لأجلهم).

هل خلق الكون لأجلهم لأجل التشريف أو في نطاق الدور الرسالي.

الكلام هو في المبررات الواقعية للمض_مون في العلاقة بين النبوة والأمامة وبين الولاية التكوينية.

حديث خلق الكون لأجلهم لا بد من إهماله.

حديث: (خلق الله الكون لأجلهم) لابد من إخراجه عن العقيدة.

ويقول البعض:

"ولكن التأمل يفرض علينا _ بالإضافة إلي ذلك _ أن نجد تفسيرا للمضمون الفكري من حيث انسجامه مع طبيعة الأشياء المتصلة بالمضمون، وذلك كما هو الحديث عن مسألة الولاية التكوينية التي يذهب إليها الكثيرون من علماء الأمامية انطلاقا من الأحاديث الدالة علي ذلك، ومن عدم وجود أية ممانعة عقلية في تجويزها، فقد يبرز سؤال في ذلك، عن ضرورتها، ما دامت الرسالة التي أمروا بالحفاظ عليها، كما أمر النبي (ص) بتبليغها لا تفرض ذلك، وما داموا لا يمارسونها في حياتهم بشكل وبآخر، لاسيما أن النبي (ص) ينفي عن نفسه هذه القدرة فيما حدثنا القرآن عنه في جوابه للمشركين الذين اقترحوا عليه القيام ببعض الأفعال الخارقة للعادة، وذلك بقوله (سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا) (الإسراء: 93) مما يوحي بأن الرسولية لا تفرض وجود مثل هذه القدرة في دوره ومهمته.

وهكذا نجد السؤال يفرض نفسه في الأحاديث التي تدل علي أن الله خلق الكون لأجلهم، فإننا لا نستطيع أن نجد له تفسيرا

معقولاً حتي علي مستوي وعي المضمون في التصور الفكري، فهل القضية واردة في نطاق التشريف، أو في نطاق الدور الرسالي، أو نطاق الهداية أو ما إلي ذلك؟

إن القضية ليست في الحديث عما هو الممكن والمستحيل في الجانب التجريدي من حيث الحكم العقلي، بل هي في إيجاد المبررات الواقعية للمضمون علي أساس العلاقة بين النبوة أو الإمامة وبين هذه الأمور وإذا كان البعض يتحدث بأن ما لا نفهمه من هذه الأمور لا بد أن يردّ علمه إلي أهله، فإن ذلك يفرض علينا إهمالها وعدم اعتبارها من أصول العقائد باعتبار أن العقيدة لا بد أن تمثل وعياً في الفكر وقناعة في الوجدان" [184] .

وفي مورد آخ_ر:

بعد أن اعترف هذا البعض صراحة بأن:

"الله القادر يملك أن يمكّن بعض خلقه من بعض مواقع القدرة ووسائلها، ويمكن أن يوسّع هذه الأمكانات لأكثر من مهمة جديدة في الكون.. كما أنه يمكن أن يبقيها في دائرة خاصة، وليس في ذلك أي انحراف عن العقيدة التوحيدية لأن القضية قضية عطاء إلهي يتحرك في الدائرة الخاصة التي يحدّدها الله لعباده من خلال إرادته المطلقة التي لا يعجزها شيء.."

بعد أن قرّر ذلك.. اتجه نحو الحديث عن وقوع ذلك بالفعل أو عدم وقوعه، فقال:

"جانب الحاجة أو الضرورة لذلك، والسؤال: لماذا يجعل الله لهم الولاية التكوينية؟ هل هناك مهمة تتوقف علي ذلك، بحيث تكون المسألة هي أن يملكوا القدرة الفعلية الشخصية بحيث يصدر الفعل منهم فلا يتحقق الهدف إلا من خلال ذلك، أم هي قضية تشريف إلهي لهم حيث يمنحهم هذا الموقع الكبير الذي لا يملكه أحد في الوجود غيرهم؟

هذه علامات استفهام تطوف في الذهن، فلا نجد لها جواباً إيجابياً

يؤكد النظرية، فنحن نعلم أن دور الأنبياء هو دور تبشير وإنذار وتبليغ، وإذا كان لهم دور تنفيذي فإنهم يتحركون فيه من خلال الوسائل العادية المطروحة بين أيديهم في الحالات العادية، فإذا جاء التحدي الكبير الذي يحول الموقف إلي خطر كبير علي الرسالة والرسول، بحيث كانت الوسائل العادية ذات مردود سلبي علي الموقف والموقع، لأنها تجعل القضية في حالة الضعف الشديد، فإن المعجزة عندئذ تتحرك لتحفظ توازن الرسالة في موقع الرسول، وتصدم واقع الكافرين بالصدمة القوية القاهرة التي ترد كيدهم وتهدم كيانهم وتؤدي بهم إلي الضعف والهزيمة. كما في طوفان نوح (عليه السلام) ونار إبراهيم (عليه السلام)، وعصا موسي (عليه السلام)، أو يده البيضاء، وفلق البحر له، وإحياء الموتي، وإبراء الأكمه، والأبرص لدي عيسي (عليه السلام)، وقرآن محمد (ص)، وتنتهي المسألة عند هذا الحد فتكون بمثابة قضية في واقعة، وتعود الرسالة إلي مجراها الطبيعي، ويعود الرسول إلي الوسائل العادية، ويتحرك الصراع من جديد ليعيش النبي هنا، وهناك أكثر من مشكلة، وهمّ وبلاء، فيتحمل الألم القاسي، ويواجه التحديات الصعبة، كأي إنسان آخر من دون أن يبادر إلي أية وسيلة غير عادية للتخلص من ذلك كله.

أما التشريف، فإنه لا يتمثل في إعطاء القدرة من دون قضية، أو توسيع السلطة من دون مسؤولية، والله يشرف أنبياءه من خلال رفع درجتهم عنده من خلال تقريبهم إليه، ومحبته لهم، وعلو مقامهم في الآخرة، أما الدنيا فلا قيمة لها عنده، ولذلك لم يجعلها أجراً لأوليائه بل أتاح الفرصة الكبري فيها لأعدائه.

إننا لا نجد أية ضرورة أو حاجة تفرض إعطاء الولاية التكوينية المطلقة لهم إلا بالمقدار الذي تحتاجه الرسالة في أصعب أوقات التحدّي مع احتمال أنها ليست من قدرتهم، ولكنها قدرة

الله بصورة مباشرة، ثم ما معني هذه الولاية التي لا أثر لها في حياتهم من قريب أو من بعيد، ولا دخل لها في حماية رسالتهم، فلم يستعملوها في إذهاب الخطر عنهم، ولم يتحركوا بها في الانتصار لرسالاتهم، وذلك من خلال قراءة تاريخهم الصحيح كله؟

أدلة الولاية التكوينية

الناحية الثانية: ناحية الدليل علي ثبوتها من خلال النص القرآني في نطاق المعاجز الخارقة في حياة الأنبياء، فنلتقي في البداية بالنبي نوح في قوله تعالي: (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر، فدعا ربه أني مغلوب فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجرنا الأرض عيوناً فالتقي الماء علي أمرٍ قد قدر) (القمر: 9_12) وهي واضحة الدلالة علي أن المسألة كانت دعاء نوح واستجابة ربه له بإغراق الكافرين بالطوفان، من دون أن يكون لنوح أي دور عملي فيه.

فإذا انتقلنا إلي إبراهيم (ع) فنجد قوله تعالي: (قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين، قلنا يا نار كوني بردا وسلاما علي إبراهيم، وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين) (الأنبياء:68 _ 70)

إنه اللطف الإلهي بنبيه إذ أردوا إحراقه، فأنجاه الله من النار، فحوّلها إلي عنصر بارد، فإذا انتقلنا إلي الطلب الذي قدمه النبي إبراهيم (عليه السلام) إلي ربه أن يريه كيف يحيي الموتي، وذلك قوله تعالي (وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتي قال أولم تؤمن قال بلي ولكن ليطمئ_ن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهنّ إليك ثم اجعل علي كل جبلٍ منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم) (البقرة: 260) فإننا نري أن دور إبراهيم في المسألة هو أن يأتي بالطيور ويذبح_ها، ويقسمها إلي أجزاء ثم يدعوهن لتأتينه سعياً، لنشاهد الصورة الواضحة

في كيفية إحياء الله الموتي، فإن الله هو الذي أحياها بطريقة مباشرة، ولم يكن لإبراهيم دور في ذلك.

ونصل إلي موسي (ع) الذي تمثّلت المعجزة لديه أولاً في مجلس فرعون الذي قال كما جاء في قوله تعالي: (قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين، فألقي عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) (الأعراف: 106_108) ثم في ذروة التحدي الذي واجهه في صراعه مع السحرة، وذلك في قوله تعالي: (وأوحينا إلي موسي أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون) (الأعراف: 117)، ونحن لا نري أي جهد لموسي في الموضوع، فإنه كان يعيش دور المنفعل الذي يحول الله يده السمراء إلي بيضاء، ويحول العصا التي يمسكها إلي ثعبان، وكان خاضعاً للخوف من تجربة السحرة، وللحيرة في ما يمكن أن يقوموا به رداً للتحدي، لأنه كان ينتظر تدخل الله غير العادي في المسألة، وذلك هو قوله تعالي (فأوجس في نفسه خيفة موسي، قلنا لا تخف إنك أنت الأعلي، وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتي) (طه: 67_69).

ثم نلتقي بالنبي سليمان (عليه السلام) الذي قال: (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب) (ص: 35) واستجاب الله دعاءه: (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بنّاء وغواص، وآخرين مقرنين في الأصفاد، هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) (ص: 36_39)، فليس في القصة إلا دعاء واستجابة ربانية أعطته ما يريد من دون أن يكون له أي دور عملي أو قدرة واقعية في تحقيق ذلك.

ونصل _ بعد هذه الجولة الطويلة _

إلي عيسي (ع) الذي يُدّعي ظهور الآية في صدور المعجزة عنه من خلال جهده الذاتي الذي اكتسبه بإذن الله، وهذا هو ما جاء في الآية الكريمة: (أني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتي بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم) فنلاحظ أنه ينسب الخلق إلي نفسه، كما يتحدث عن عملية إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتي، والإخبار بالغيب في أوضاع الناس الخاصة إلي جهده وفعله الشخصي، ولكن بإذن الله.

وربما يجد القائلون بالولاية التكوينية الحجة الدامغة في هذه الآية الكريمة، ولكننا نستوحي من كلمة: (بإذن الله) في هذه الآية، أو كلمة: (بإذني) (المائده: 110) أن دور عيسي كان دور الآلة التي تتحرك لتصنع شيئا كهيئة الطير وتنفخ فيه، فيبعث الله فيه الحياة، وهكذا يضع يده علي الأكمه والأبرص، وعلي الميت، فتحدث العافية في الأولين، وتنطلق الحياة في الثالث من خلال إرادة الله.

من هنا فإن كلمة (بإذن الله) لا تعني معناها الحرفي اللغوي، بل تعني معني القوة التي تنطلق لتحقق النتائج الحاسمة التي لا يملك عيسي (ع) آية طاقة خاصة به فيها.

وهكذا نري أنه لا دليل في كل هذه المواقع علي الولاية التكوينية في النص القرآني، بل ربما نجد الدليل علي خلافها من خلال الآيات التي تدل علي أن النبي لا يملك شيئا في ذلك كله وأن مهمته الأولي والأخيرة هي الرسالة في حركتها في الإبلاغ والتبشير والإنذار، وهداية الناس إلي سبل السلام في الطريق إلي الله، بل إن القرآن يؤكد وجود عناصر الضعف البشري في ذات الرسول، ولكن في المستوي الذي لا ينافي العصمة، فنقرأ في سورة الإسراء قوله تعالي (وقالوا لن

نؤمن لك حتي تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقي في السماء ولن نؤمن لرقيك حتي تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً) (الإسراء:90_93) فنحن نلاحظ أن النبي (ص) لم يتحدث عن رفضه للمعجزات الإقتراحية التي يوجهها الناس الكافرون للأنبياء كوسيلة للتحدي والتعجيز مما يرفضه الأنبياء، لأن مهمة النبي ليست هي إشغال نفس_ه بتنفيذ هذه الطلبات التي لا معني لها بعد إقامة الحجة عليهم من قبله، بل تحدث عن أن ذلك لا يدخل في مهمته الرسالية، كما أنه لا يملك هذه القدرة باعتبار بشريته التي تختزن في داخلها الضعف البشري.

وإذا كان بعض الناس يتحدثون عن أن القائلين بالولاية التكوينية يؤكدون أن النبي لا يختزن في مضمون بشريته أية قدرة ذاتية، بل إن الله هو الذي يمنحه ذلك، فإننا نجيب أن النبي (ص) إنما كان يتحدث عن الواقع الفعلي الذي تمثله طاقته في دوره، فإن الله أعطاه الطاقة المرتبطة بحركية الرسالة في الناس، ولم يعطه الطاقة _ حتي بإذنه _ لمثل هذه الطلبات الصعبة.

وقد نستوحي من هذه الآيات ومن غيرها أن المعجزة الوحيدة للنبي هي القرآن الكريم، فلم يقم النبي بمعجزة أخري كانشقاق القمر، بحيث لو كانت منه لكانت أكثر استجابة للتحدي الذي واجهه النبي (ص) من قبل المشركين، كما أنها أكثر صعوبة من هذه الإقتراحات، وقد تحدث المشركون عن هذه المسألة _ وهي عدم قيام النبي محمد (صلي الله عليه وآله) بالمعجزة المماثلة لما قام به الأنبياء السابقون _

وذلك في قوله تعالي: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه، قل إن الله قادر علي أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون) (الأنعام: 37) وقوله تعالي: (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه، إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) (الرعد: 7) فقد يظهر من هذه الآية، أن إنزال الآيات ليس أمراً ضرورياً للنبوة إلا في حالات التحدي الكبير الذي يهدد حركتها في ساحة الصراع والمواجهة، ولذلك لم ينزل الله علي النبي آية لأن التحدي لم يصل إلي هذه المرتبة الحاسمة، وقوله تعالي (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً) (الإسراء: 59) وظاهرها نفي الإرسال بالآيات بالرغم من أنها كانت مطلبا ملحا للمشركين، كما جاء في آية أخري في قوله تعالي: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) (الأنعام: 109) فإن المسألة لم تكن في مستوي الضرورة، ولم تكن في واقع الحاجة للمهمة الرسالية.

ونلتقي في آيات أخري ببعض مظاهر الضعف البشري الفعلي للأنبياء، وذلك كما في قصة موسي الذي خرج من المدينة خائفاً يترقّب وكان يعيش الخوف من قتل فرعون وقومه له: (ولهم عليَّ ذنب فأخاف أن يقتلون) (الشعراء: 14) والخوف في ساحة التحدي مع السحرة: (فأوجس في نفسه خيفةً موسي، قلنا لا تخف إنك أنت الأعلي) (طه: 68)، ونجد في قصة إبراهيم عندما دخل عليه الملائكة: (فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف) (الذاريات: 28).

ونلاحظ ذلك في خطاب الله للنبي محمد (ص) كيف يقدم نفسه للناس: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله

ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتّبع إلا ما يوحي إلي) (الأنعام: 50)، وقد ورد هذا المضمون في سورة هود في آية: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً) (هود: 31)، فإن هذه الآية ظاهرة في تأكيد بشرية الرسول (ص)، وبأن كل ما لديه إنما هو من الله سبحانه وتعالي، يمنحه إيّاه بقدر حاجة الرسالة إليه في حركتها في الحياة، وثمة إشارة في الآية إلي أن الغيب الذي قد يعلمه الله للنبي إنما ينزل عليه بطريق الوحي، كما جاء التصريح به في آية أخري: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك) (آل عمران: 34)، وقد جاء به في قوله تعالي: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) (الأعراف: 188)، وهذه الآية تدل علي نفي الفعلية في وجود الطاقة التي تدفع عن الإنسان الشر، وتجلب له الخير، بحيث إنها تأتي تدريجاً بمشيئة الله، لا بنحو خلق الطاقة في الكيان النبوي ليتحرك من خلالها إراديا، ويؤكد ذلك أنه يتحدث عن الواقع الذي كان يصيبه بسوء بمختلف ألوانه، أو يمنع منه الكثير من الخير، فكأنه يريد الإيحاء بأن ذلك لا يتصل بدوره لأن دوره البشارة والإنذار لقوم يؤمنون مما لا يحتاج فيه إلي علم الغيب إلا بما يرتبط بحركة الرسالة في تاريخ الرسالات في الأمم السابقة، وهذا مما يوحيه الله إليه في القرآن الكريم من أنباء الغيب، في التاريخ الذي لا يعلمه هو ولا قومه.

وقد ورد في بعض الآيات

الحديث عن أن الله يظهر رسله علي الغيب، وذلك هو ق_وله تعالي:

(عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحداً، إلاّ من ارتضي من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصي كل شيء عدداً) (الجن: 26 _ 28)، فقد استند إليها القائلون بأن الله قد أعطي رسوله وأولياءه العلم بالغيب إما بطريق الفعلية الإستحضارية، وإما بطريق القوة، بمعني أنه لو شاء أن يعلم لعلم.

وذكروا أن ظاهر الإستثناء في قوله تعالي: (إلا من ارتضي من رسول) هو الإطلاق الذي لم يتقيد بشيء مما يوحي بأن المسألة تشمل كل شيء يريد الرسول أن يعلمه من الغيب ويفسرون ما حكي من كلامه تعالي من أن إنكارهم العلم بالغيب أريد به نفي الأصالة، الاستقلال دون ما كان يوحي، ولكننا نحتمل أن يكون قوله تعالي: (فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً) إشارة إلي الغيب الذي يظهر عليه من ارتضي من رسله، وهو الجو الملائكي الذي يحميه من الشياطين، فيطردهم عنه ويعصمه من وساوسهم وتخاليطهم، حتي يبلغ ما أوحي به إليه، فليست الآية في مقام الحديث عن علم الرسول للغيب بل عن حمايته بطريق الغيب، فكأنه بداية كلام جديد في الحديث عن مهمة الرسل في إبلاغهم رسالات ربهم وإطلاعه عليهم وحمايته لهم، وذلك علي أسلوب الاستثناء المنقطع، لأن مثل هذا الاستثناء _ علي حسب ما يري هؤلاء _ يتنافي مع الأسلوب القرآني الذي يؤكد نفي علم الأنبياء بالغيب، الذي لم يكن واردا علي سبيل نفي الاستقلال _ كما ذكر _ بل علي نفي الفعلية بحسب الواقع الفعلي الذي يعيشه في حياته، وفي مهمته الرسالية.

وخلاصة الفكرة أن

هناك فرقاً بين علم الغيب كملكة تدخل في نطاق التكوين الذاتي للنبي _ في خصوصية نبوته _ وهذا ما ينفيه الظاهر القرآني، سواء ذاك المتصل بأخبار الماضين، والذي يمكن إدراجه تحت عنوان علم الغيب، حيث ثمة إشارة واضحة في القرآن الكريم أن أنباءه هي من وحي الله تعالي، أو ذاك المتصل ببعض موارد الحاجة اليه في موارد معينة، فيلهمه الله تعالي إياه إلهاماً، فهذا ما لا ينفيه النص القرآني، بل قد تؤكده بعض الآيات، وقد وردت أحاديث متنوعة في علم الانبياء والأئمة بالغيب، وهي موضع جدل علمي، وربما نتعرض لها في ما يأتي في حديث الغيب في آيات القرآن.

ومن خلال هذا الحديث الطويل نستطيع أن نخرج بالفكرة التي تنفي الولاية التكوينية بمعناها التكويني الذي منحه الله للانبياء وللأئمة، لأن الدليل لم يدل عليه _ حسب فهمنا القاصر _ ولكن يبقي _ في المسألة أن الله يمنح الأنبياء الفرصة التي يواجهون فيها تحديات الكفر بالمعجزات عند الحاجة إليها، والله العالم" [185] .

ويقول البعض أيضاً في موضع آخر عن علم الانبياء ونفي ولايتهم التكوينية ما يلي:

"وقد جاء ذلك في قوله تعالي: (قل: ما كنت بدعاً من الرسل، ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم إن اتبع إلا ما يوحي إلي، إن أنا إلا نذير مبين) (الاحقاف: 9) فإنها تدل علي نفي فعلية علم الغيب في واقع الذات، وحصر المسألة فيما يأتيه من الوحي. فهو خارج هذا النطاق لا يملك علم الواقع من ناحية فعلية.. وبهذا يردّ علي ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن علم الغيب المنفي عن غير الله وارد علي نحو الأصالة، فلا ينافي علم غيره بالتبعية مما يصدر منه، فإن الظاهر

من كل الآيات نفي العلم الذاتي حتي علي نحو التبعية بمعني جعل النبي عالماً بالغيب بحيث يملك علم الغيب في ذاته بقدرة الله في عطائه له كما أعطاه ملكاته الأخري بل المسألة هي مسألة مفردات الغيب في حاجاته له من خلال الوحي بطريقة أخري.

وفي ضوء ذلك نستطيع في النص القرآني الرد علي الفكرة التي تجعل للنبي الولاية علي الكون بأن يغيره ويبدّله ويتصرّف فيه من خلال القدرة العظيمة التي أودعها الله في شخصه مما يطلق عليه اسم (الولاية التكوينية) وإن هذه الفكرة لا تلتقي بالنصوص القرآنية السابقة فإذا كان النبي لا يملك _ في فعلية قدرته الوجودية _ لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يعلم الغيب الذي يهيئ له فرصة استكثار الخير في حياته وإبعاد السوء عن نفسه، فيما يستقبله من أمره، وتزداد المسألة وضوحاً في الآية الكريمة في مواجهة النبي للمشركين في اقتراحاتهم التعجيزية كشرط للإيمان …الخ [186] .

ثم يتابع كلامه شارحاً مقولته هذه وفقاً لما نقلناه عنه في النص السابق، فلا حاجة إلي إعادته بتمامه ما دام أن ذلك لن يفيد شيئاً وسيكون من التكرار الممل، والإطناب المخل.

وقفة قصيرة

ونقول:

1 _ إن هذا البعض قد قرر:

"أن الولاية التكوينية ليست من الضرورات التي تفرضها الرسولية..".

ونقول:

إن الرسولية تعني قيادة الأمة من موقع الهيمنة، كما دلّت عليه طبيعة التشريع الإسلامي، وتعاليمه الغراّء والمشتمله علي جهاد الظالمين، وعلي إقامة الحدود، والقصاص، والقضاء بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما إلي ذلك..

ودلّت عليه أيضاً الآيات الكثيرة مثل قوله تعالي: (لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط. وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس. وليعلم الله من ينصره ورسله

بالغيب، إن الله قوي عزيز) [187] .

بل إن كون النبي شاهداً علي الناس في شرق الأرض وغربها، إنما يعني: أنه لابد أن يكون مطلعاً علي أعمالهم الجوارحية والجوانحية حتي خلجات هذا الإنسان النفسية، وأفعاله القلبية. وحتي في عواطفه، وفي حبه، وفي بغضه، وفي حالاته النفسية، كاليأس والرج_اء.. وما إلي ذلك.. ثم تربيته تربيه صالحة، والهيمنة عليه من موقع المعرفة والوعي وما إلي ذلك..

وبعد ذلك كله نقول:

من الذي قال: إن ذلك كله وسواه مما مرّ ويأتي لا يقتضي ولاية تكوينية سواء في حدها الأدني، أو في حدها الأعلي، فإن هذا البعض ينفيها بجميع مراتبها..

2 _ إن هذا البعض لا بد أن يعترف بأن الله قد سخر لسليمان الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب وسخّر له غير الريح أيضاً..

كما أنه لا يستطيع أن يناقش في أن آصف بن برخيا _ وهو ليس بنبي _ قد جاء بعرش بلقيس _ من اليمن قبل ارتداد الطرف.. وقد نسب الإتيان به إلي نفسه واعتبره فعلاً له..

3 _ قوله:

"إن الأنبياء، لم يمارسوا الولاية التكوينية في حياتهم".

قد عرفت آنفا أنه لا يصح.. وثمة أمثلة كثيرة أخري ستأتي.

4 _ أما بالنسبة لما اقترحه المشركون علي رسول الله (صلي الله عليه وآله) فأجابهم بقوله: (قل: سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً) فقد أشرنا أكثر من مرة إلي أنهم إنما طلبوا منه أن يفعل ذلك لأجل أن يثبتوا أنه (صلي الله عليه وآله) ليس بشراً.. فإجابة طلبهم سوف توجب تضليل الناس، لأنهم سيعتبرونه _ والحالة هذه _ من غير البشر، ولأجل ذلك حكي الله عنهم تعجبهم من بشريته، فقال تعليقاً علي مطالبهم تلك: (وما منع

الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدي، إلا أن قالوا: أبعث الله بشراً رسولاً..) فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالي: (قل: لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً..) [188] .

أضف إلي ما تقدم: أنه لا يجب علي الله إجابة مقترحي الآيات والمعجزات في ما يقترحونه.

5 _ إن عدم وجدان هذا البعض التفسير المعقول _ عنده _ للأحاديث التي تدل علي أن الله سبحانه خلق الكون لأجل النبي (صلي الله عليه وآله) وأهل البيت الطاهرين (عليهم السلام)، لا يعني عدم صحة هذه الأحاديث، وعدم وجود التفسير المعقول لها.

ولا يستطيع هذا البعض ولا غيره أن يدعي: أنه قد فهم كل شيء ورد في كتاب الله، وعن النبي (صلي الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).

وهذا هو القرآن يكتشف العلماء في ك_ل جيل الكثير من حقائقه، ويقفون علي الكثير من دقائقه، وكذلك الحال بالنسبة لكلام المعصومين (ع).

فهل ذلك يعني أن ما لم يفهمه هذا البعض من القرآن، ومن غيره يجب إسقاطه وحذفه وعدم الإهتمام له، والإعتداد به؟!

6 _ إنه يمكن فهم هذه الأحاديث علي أساس التشريف، والتكريم لهم فإنهم هم الحقيقة التامة في ظهورها، والكمال في تجلياته الجمالية في مواقع القرب إلي الله، فإن هذا التجلي، وذلك الظهور هو الغرض من خلق الخلق الذي لا يستحق شيئاً من ذلك في ذاته، وهو مظهر النقص والإنحدار والسقوط فلولا أنه تعالي أراد أن يتجلي ذلك الكمال، وأن تتجسد تلك الحقيقة التامة، فإن هذا الكون الناقص، الذي هو عالم الفساد والإفساد لا يستحق العناية والإهتمام بأي حال..

7 _ وأما بالنسبة لقول هذا البعض: "إن رد علم بعض الأمور إلي

أهله يقتضي إهماله.."

فغير سديد أيضاً، لأن هناك أموراً يطلب العلم والإعتقاد بها علي سبيل الإجمال، حيث قد يمتنع التفصيل فيها لأكثر من سبب.. وقد رأينا: أن هذا البعض يعترف في مواضع كثيرة جداً قد تعدّ بالعشرات بوجود أمور أجملها القرآن، فراجع كلماته.

وخذ علي سبيل المثال قوله عن دابّة الأرض التي يخرجها الله في آخر الزمان بأنها مما أجمله القرآن، فلنجمل ما أجمله القرآن، وكذا الحال بالنسبة لما ذكره حول الرجعة [189] ، وعن الملائكة [190] ، ومفارقة روح الميت جسده [191] ، وغير ذلك..

فهل يجيز هذا البعض أن لا نعتقد بكل تلك الأمور التي اعترف بإجمالها، وأن نخرجها عن دائرة الإعتقاد لمجرّد أنه لا يوجد تفصيلات كافية لها؟! لكي تمثل وعياً في الفكر، وقناعة في الوجدان علي حد تعبيره، ولماذا لا يكون المطلوب هو الوعي والقناعة الإجمالية علي ما هو عليه الواقع؟!

وهل يستطيع هذا البعض أن يتحفنا بتفاصيل دقيقة عن الروح والجن والملائكة وعن حقيقة الذات الإلهية وعن تفاصيل ما يجري في البرزخ وكيفياته …وغير ذلك؟!!

مع أن ذلك كله وسواه كثير جداً.. مما يلزم الإعتقاد به علي ما هو عليه، وعلي سبيل الإجمال!!.

وهل يصح إخراج ذلك كله عن دائرة العقيدة لمجرد عدم قدرتنا علي الإحاطة بتفاصيله؟!

هذا.. وقد روي عن محمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح عن أبي عبيدة الحذاء، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (والله إن أحب أصحابي إلي، أورعهم، وأفقههم، وأكتمهم لحديثنا، وإن أسوأهم عندي حالاً، وأمقتهم للّذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروي عنا فلم يقبله اشمأزّ منه، وجحده، وكفّر من دان به. وهو لا

يدري لعل الحديث من عندنا خرج، وإلينا أسند، فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا) [192] .

8 _ إن ما ذكره من أن المعجزة إنما تكون في مقام التحدّي، وبعدها تعود الرسالة إلي مجراها الطبيعي، ويعود الرسول إلي الوسائل العادية، كأي إنسان آخر من دون أن يبادر إلي أي وسيلة عادية غير دقيق..

فإن ما تقدم يظهر لنا: أن الرسول الشاهد يحتاج إلي الإطلاع المباشر علي ما يشهد به، فيري من خلفه، وتنام عيناه، ولا ينام قلبه، ويري أعمال الخلائق، وذلك يحتاج إلي وسائل غير عادية، والرسول المسؤول حتي عن البقاع والبهائم يحتاج إلي وسائل غير عادية ليعرف لغات البهائم ويحل مشاكلها (علّمنا منطق الطير).

(قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم، لا يحطمنكم سليمان وجنوده، وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكاً من قولها).

ولنتذكر أيضاً حديث سليمان مع الهدهد.. وكذلك ما قدمنا في هذا المورد وموارد أخري من هذا الكتاب حيث تكلّمنا حول هذا الموضوع أكثر من مرة.

9 _ ونجد في سيرة النبي (صلي الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) مبادرات كثيرة إلي الوسائل غير العادية للتخلّص من المشاكل.. وقد طلب سليمان من الذين حوله أن يأتوه بعرش بلقيس بوسائلهم غير العادية، فكان له ما أراد، كما نص عليه الكتاب العزيز.

وفي حرب الخندق أطعم النبي (ص) الجيش الجائع كله من شاة عجفاء، وحطم الصخرة التي اعترضت الجيش في حفر الخندق فعجز عنها _ حطّمها _ بثلاث ضربات، ولو أردنا استقصاء الموارد التي من هذا القبيل لكان علينا ملء عشرات بل مئات الصفحات من تاريخ النبي (صلي الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، ولا يمكن لأي كان من الناس أن يعتبر ذلك كله في عداد

الموضوعات والمختلقات، فكيف أجاز هذا البعض لنفسه: أن يدعي أن معجزة النبي (صلي الله عليه وآله) الوحيدة هي القرآن؟!.

10 _ أما قوله: "إن التشريف لا يتمثل في إعطاء القدرة دون قضية"

فغير مقبول أيضاً.. فإن التشريف نفسه هو القضية، حيث يؤدّي إلي المزيد من الاحترام للرسول، ورفعة شأنه، وتعميق الإرتباط به من موقع التعظيم، والإجلال، والتقديس.. الأمر الذي يؤدّي إلي المزيد من الحرص علي التأسي به، وإلي عمق تأثير كلامه في النفوس، وإلي مزيد من الدقّة في التعامل معه، وما إلي ذلك من قواعد وفوائد جليلة وهامة.

11 _ وأما عن التشريف في الآخرة لا في الدنيا، فإن الله قد شرّفه في كتابه الكريم مزيد تشريف حيث أمر الناس بالصلاة عليه.. وبأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته، وبأن لا ينادوه من وراء الحجرات، وبأن لا يقدّموا بين يدي الله ورسوله. وأن يقدّموا بين يدي نجواهم صدقة.. وبأن لا يكون دعاء الرسول بينهم كدعاء بعضهم بعضاً، وحرم الزواج بنسائه من بعده.. وغير ذلك كثير.

فهل إن ذلك كله من التشريف له (صلي الله عليه وآله)؟! أم إنه قلة مبالاة وعدم اهتمام؟!

وهل نسي هذا البعض قوله تعالي: (ورفعنا لك ذكرك)، فهل رفع الذكر لا يدخل في نطاق التشريف والتكريم، كما وأنه سبحانه قد أعطاه الكوثر من خلال ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام).

بل إن الله سبحانه إذا كان قد كرم بني آدم، وكرم المؤمنين وميّزهم أيضاً علي الكافرين، فهل يعقل أن يكون قد ترك أنبياءه، وأولياءه كسائر الناس، خلواً من أي تكريم..؟!

12 _ أما قوله: "أما الدنيا فلا قيمة لها عنده، ولذلك لم يجعلها أجراً لأوليائه، بل أتاح الفرصة الكبري فيها لأعدائه..".

فهل يعني:

أن المؤمنين حتي الأنبياء يجب أن يكونوا في الدنيا أذلاء حقراء، خالين من أوسمة الشرف التي يستحقونها بظل الله وعنايته، ولا كرامة لهم، ولا قيمة؟!.

وهل إن التكريم في الدنيا، هو عمل دنيوي أم إنه عمل يقصد به شد عزيمة الناس، وتعميق ثقتهم برموزهم الكبار، وبسط الرجاء والأمل لهم فيهم، وتأكيد حالة الإكبار، والإجلال في نفوسهم.. ليتأكد إلتزامهم بهذا، وليعيشوا حالة الإعتزاز به، والإحساس بالمجد، والكرامة، والسؤدد فيه..

13 _ وعن احتماله:

"أن يكون ما يحصل في أوقات التحدّي ليس من قدرة الأنبياء، ولكنها قدرة الله مباشرة..".

نق_ول:

إن ذلك لا ينسجم مع قوله: (إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير، فأنفخ فيه، فيكون طيراً بإذن الله).

(وأبرئ الأكمه، والأبرص، وأحيي الموتي بإذن الله..) (آل عمران: 49) وقوله تعالي ناسباً العمل إلي عيسي (ع): (وتبرئ الأكمه والأبرص) (المائده:100)، وقول آصف بن برخيا: (أنا آتيك به..) وغير ذلك مما يدل علي نسبة الفعل إلي فاعله، لأن الله سبحانه قد أجراه علي يد عيسي، وآصف بن برخيا، من دون أن يكون ذلك باختيارهما بحيث لا يصحّح النسبة إليهما (عليهما السلام) والحال هذه إلا علي أساس نظرية الكسب، التي جاء بها الأشعري.. والتي تقول: إن الله سبحانه يخلق قدرة الإنسان حين صدور الفعل من الله سبحانه، ولكنها ليس لها أي تأثير في الفعل نفسه، بل التأثير منحصر بالله سبحانه [193] .

وتكون هذه القدرة بمثابة الحجر في جنب الإنسان!!.

14 _ إن الإذن الإلهي في الفعل لا ينافي الإختيار، وقد قال الله سبحانه وتعالي: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) [194] فإن الإيمان ليس أمراً إجبارياً.

وقال تعالي: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن

الله) [195] .

والآيات في هذا المجال كثيرة.

15 _ وعن استعمال الأنبياء الولاية التكوينية في حماية أنفسهم من الأخطار، وفي رسالتهم.. نقول: لا ريب في أنهم قد استعملوها في خدمة الرسالة.. وقد أشرنا إلي ذلك فيما ذكرناه آنفا فلا نعيد.

16 _ وأما بالنسبة: "لحماية أنفسهم من الأخطار من خلال الولاية التكوينية، وكذلك حماية رسالتهم.."

فإن ذلك لا ينسجم مع إعطاء الخيار، والإختيار للإنسان العاصي، والمطيع علي حد سواء.. حيث قد ذكرنا أكثر من مرة: أن عدل الله سبحانه يقضي بأن لا يحول بين المرء وإرادته، وأنه إن كان ثمة من حاجة إلي التدخل الإلهي، فإنما يكون في خارج دائرة اختيار الإنسان.

ولأجل ذلك، حين واجه إبراهيم تصميم قومه علي قتله بإحراقه بالنار، اقتضي العدل الإلهي أن يمارس الطغاة حريتهم في جمع الحطب، وفي إضرام النار، وفي أخذ إبراهيم، ووضعه في القاذف (المنجنيق)، وإطلاقه، ووضعه وسط النار، ولم تتدخل الإرادة الإلهية للحيلولة بينهم، وبين ما أرادوه، فلم نجد أيديهم قد تعطلت عن الحركة، ولم نجد المنجنيق (القاذف) استعصي عليهم بل فعلوا كل ما أحبوه، ولكن الإرادة الإلهية تدخلت من خارج هذه الدائرة، وتوجهت إلي النار نفسها وحالت بينها، وبين إنتاج النتيجة المفترضة، وهو الإحراق.. (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً علي إبراهيم..).

وهكذا الحال بالنسبة إلي نبيّنا حين الهجرة، فإن المشركين قد فعلوا كل ما أرادوا، ولكن التدخل الإلهي قد كان خارج دائرة اختيارهم، حيث نسجت العنكبوت علي باب الغار، ونبتت الشجرة، وباضت الحمامة الوحشية علي باب الغار أيضاً، واحتضنت بيضها، فتوهم المشركون: أن لا أحد في داخل ذلك الغار، فانصرفوا عنه..

ولأجل ذلك نجد المسلمين رغم أنهم كانوا يعانون من حفر الخندق، ومن

حرب الأحزاب، فإن الله لا يتدخل لينجز لهم ما هو مطلوب منهم، ولا يحول بصورة جبرية بين أولئك الأشرار، وبين ما يريدونه من شر بالمسلمين..

بل يكون التدخل في دائرة أخري، وهي تكثير الطعام حتي ليأكل الجيش كله من شاة عجفاء، ليزداد المسلمون بصيرة في أمرهم، وثقة بربهم، ولينجزوا أمر الجهاد ومن ثم، يحققون الأهداف الإلهية باختيارهم وبملئ إرادتهم لينالوا ثواب المجاهدين الصابرين..

17 _ ولا ندري بعد هذا.. متي؟ وكيف؟ تسني لهذا البعض أن يقرأ التاريخ الصحيح كلّه للأنبياء..؟

وأين يوجد هذا التاريخ الصحيح؟..

وكيف ميّز صحيح هذا التاريخ من سقيمه؟..

ومتي قام بهذه المهمة الشاقّة والتي تحتاج إلي عشرات السنين، بل المئات؟

وإذا كان قد قرأ التاريخ الصحيح، فلماذا لم يجد بعض ما صرّح به القرآن مما تضمّن تحريك الولاية التكوينية؟

وكذلك ما ذكرناه له من مفردات في هذا المورد من هذا الكتاب؟!

وكيف لم يقرأ كيف أن سليمان كان يستخدم الجن: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل، وجفان كالجواب، وقدور راسيات، اعملوا آل داود شكرا، وقليل من عبادي الشكور) (سبأ: 13).

فهل ذلك كلّه لم يكن فيه أي شيء يعود لسليمان نفسه، حتي الجفان، والقدور، والتماثيل، وغيرها..

والذي كان شياطين الجن يبنونه له، ثم الذي كانوا يستخرجونه له بالغوص في قاع البحار (والشياطين كل بنّاءٍ وغوّاص)، وحتي داود حيث ألان الله له الحديد، حين كان يعمل الدروع السابغات، هل كان هو نفسه يستفيد من تلك الدروع في حماية نفسه.

وكيف يثبت أن ذلك كله قد كان بعيداً كل البعد عن إمكانية استفادته الشخصية منه.

18 _ أما بالنسبة لقضية نوح، حيث دعا علي قومه، فاستجاب الله سبحانه له، فكان الطوفان.. فإن

هذا الأمر يتعلق بعقوبة الناس علي كفرهم، وطغيانهم وظلمهم، وليس ثمة من ضرورة لأن يتولي الأنبياء ذلك بأنفسهم من خلال قدرتهم علي التصرف, حيث لم يثبت أن ذلك يدخل في نطاق صلاحيتهم.. بل ربما يكون في إيكال ذلك إليهم إحساس لدي الناس بالقهر وبالجبر بمجرد بعثة الرسل إليهم، ولا تبقي لديهم فرصة للإختيار، حين يشعرون: أنهم أمام أمرين إما الإيمان، أو الموت علي يد هذا الرسول نفسه.

وحتي لو قبل هذا البعض بما ورد عنهم (عليهم السلام) في تفسير قوله تعالي: (إن إلينا إيابهم) فإن ذلك لا يدفع هذا الإشكال، لأنه ناظر إلي عالم الآخرة لا إلي الدنيا.

19 _ وفي قضية طلب إبراهيم عليه السلام من الله أن يريه كيف يحيي الموتي.. قال: فخذ أربعة من الطير.. إنما كان الأمر متعلقاً برؤية التصرّف الإلهي المباشر.. وتجسيد نفس هذه القدرة الإلهية.. وأما تصرّف إبراهيم عليه السلام، فربما لا يحقق النتيجة المتوخّاة.. فإن في نسبة الفعل إلي نفسه، وأن يكون له هو دور في الخلق، إيحاءاته التي لا تنسجم مع ما يسعي إبراهيم (ع) إلي تحقيقه، وهو إخراج قضية الإيمان الراسخ المستند إلي البرهان والحجة، من حالة المعادلة العقلية إلي دائرة التجسد الحي علي صفحة الوجود، سعياً وراء تحقيق السكينة، ليتلاءم، وليتّحد السكون النفسي مع تلك القناعة الفكرية والعقلية الراسخة، ليكونا معا الرافد للأحاسيس والمشاعر.

20 _ وعن موسي عليه السلام نجد الله سبحانه قد نسب الفعل إلي موسي نفسه في بادئ الأمر، (فألقي عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي بيضاء..).

وحين تحدث سبحانه بعد ذلك عن إيحائه له: (أن ألق عصاك) لم يبين: أن هذا الفعل هو لموسي (ع)، بأن يكون تعالي

قد أمره باستخدام الطاقة، والقدرة التي منحه إياها.. أو أنه تعالي، قد تصرّف مباشرة من دون أن يكون لموسي (ع) أية علاقة بذلك.. لا شك أن الخيار الأول هو الأولي بالإعتبار، لأن الإيحاء إلي موسي عليه الإسلام بأن يفعل كذا.. معناه أن موسي نفسه هو الذي يملك القدرة علي الفعل _ وأن الله سبحانه هو الذي منحه هذه القدرة _ كأي إنسان آخر يمنحه الله قدرةً واختياراً، ثم يطلب منه أن يمارس قدرته باختياره..

وحين أوحي الله سبحانه إلي أم موسي: (أن اقذفيه في اليم) فإنه أوحي إليها أن تفعل ذلك باختيارها.

إذن، فلا معني لقول هذا البعض:

"ونحن لا نري أي جهد لموسي في الموضوع فإنه كان يعيش دور المنفعل الذي يحوّل الله يده السمراء إلي بيضاء، ويحوّل عصاه إلي ثعبان الخ.."

إذ ليس في الآية إلا أن الله سبحانه قد أمر موسي بأن يخرج يده من جيبه لتظهر المعجزة.. وليس فيها: أن لا دور لموسي (ع) فيها.. أو أن له دوراً _ ليقال: إنه يعيش دور المنفعل أو لا يعيش.

ولنفرض أن الأمر في خصوص هذا المورد كان كذلك أي أن موسي كان يعيش دور المنفعل فيه.. فهل ذلك يدل علي نفي وجود أي دور له أو أية قدرات عنده في مختلف الموارد؟!.

21 _ وأما عن خوف موسي (ع) من تجربة السحرة، فمن الواضح: أنه لم يكن خوف ضعف، وإنما خاف من أن يؤثر السحرة علي عقول الناس، فيضلّوهم.

22 _ وفيما يتعلق بحيرة موسي (ع) فيما يمكن أن يردّ السحرة به التحدي.. فليس لذلك أثر في الآيات القرآنية، وإنما هو رجم بالغيب، يراد به إظهار ضعف موسي (ع)، وفقدانه أية وسيلة

لمواجهة كيد السحرة.

23 _ وفيما يرتبط بأن موسي كان ينتظر تدخل الله غير العادي لحسم الموقف ورد كيد السحرة، فإنه هو الآخر تخرّص ورجم بالغيب، وليس في الآيات أية إشارة إليه، ولا يصح الإستناد إليه في أي استنتاج.

ولا ندري السبب في إقدام هذا البعض علي تسويق مثل هذه الأمور.

24 _ وأما عن النبي سليمان (ع) فهل يظن هذا البعض أنه قد فتح القسطنطينية حين قال:

"ليس في القصّة إلا دعاء واستجابة ربانية أعطته ما يريد من دون أي دور عملي له.."

فهل ثمة من يدّعي أن سليمان (ع) هو الذي أوجد هذا الملك لنفسه، وأعطي لنفسه القدرة علي تسخير الريح، والجن؟!. أم أن الله هو الذي أعطاه ذلك. وجعل له القدرة علي تحريك الريح _ تجري بأمره رخاء حيث أصاب؟!.

فهل يريد هذا البعض أن لا يطلب الأنبياء من الله أن يعطيهم القدرات التي تمكنهم من القيام بمهامهم الرسالية؟!.

فها نحن نقرأ دعاء إبراهيم (ع): (رب اجعلني مقيم الصلاة، ومن ذريتي، ربنا وتقبل دعاء) [196] .

فهل يصح القول بأنه في إقامته للصلاة ومن ذريته، لم يكن إلا دعاء، واستجابة ربانية، أعطته ما يريد من دون أن يكون له أي دور عملي، أو قدرة واقعية في تحقيق ذلك علي حد تعبير هذا البعض؟!

وكذا بالنسبة للشكر، والعمل الصالح الذي يرضي الله في دعاء الإنسان، وفي مثل دعاء سليمان (ع): (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي، وعلي والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه) [197] .

ولتراجع سائر الآيات التي تتضمن الأدعية فيها ما يشبه ذلك.

25 _ وأما بالنسبة لعيسي (عليه السلام) فكيف يستطيع أن يثبت أن دوره (ع) كان دور الآلة..

ولماذا لا يكون مالكاً لقدرة أفاضها الله عليه، والله هو الذي يأذن له باستعمالها هنا تارة، وهناك تارة أخري؟!

ولماذا خرجت كلمة (بإذن الله) عن معناها الحرفي اللغوي في خصوص هذا المحور، لتصبح دالة علي القوة التي تباشر هي تحقيق النتائج من دون أي دور لعيسي (ع)، سوي كونه آلة؟!

ومن أين عرف أن عيسي (عليه السلام) لم يكن يملك أية طاقة خاصة به.. ألا يحتاج ذلك حسب ما يقوله هو نفسه إلي دليل موجب لليقين، لأن القضية لا تدخل في دائرة الأحكام ليكتفي فيها بمطلق الحجة؟! وألا يحتاج هذا النفي القاطع إلي دليل كما يحتاج الإثبات إلي دليل، علي حد تعبيره؟!

هذا وقد ذُكر عند النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله): أن عيسي (عليه السلام) كان يمشي علي الماء. فقال (صلي الله عليه وآله): لو زاد يقينه لمشي علي الهواء [198] .

مما يدل علي أن وجود هذه القدرة لدي عيسي (عليه السلام) تابع لمستوي اليقين لديه، ولا شك في كونه اختيارياً.

أم أن هذا البعض يتصوّر أن يمشي عيسي (عليه السلام) علي الماء لا باختياره تماماً كما يتمّ تحريك الآلة الجامدة من قبل فاعل مختار قادر؟!.

26 _ إن من جملة ما اقترحه المشركون علي رسول الله (صلي الله عليه وآله) هو أن يرقي في السماء، ثم ينزل عليهم كتاباً يقرؤونه..

فلم يستجب لهم، وقد جعل هذا البعض ذلك دليلاً علي عجزه، وأن الله سبحانه لم يعطه قدرة، فهل ذلك معناه، أن هذا البعض يقول بعدم صحة المعراج الذي تحدث عنه القرآن؟!

وعن عدم قدرته علي تفجير الينابيع نقول:

إنه حين استسقي موسي قومه، ضرب بعصاه الحجر (فانبجست منه إثنتا عشرة عيناً)، كما

أنه (صلي الله عليه وآله) وكذلك الأئمة (عليهم السلام) قد فجّروا الينابيع للناس..

وذلك يدل علي أن رفضه للإستجابة لهم إنما هو لأجل أنهم يريدون اتخاذ ذلك ذريعة للتشكيك في بشريته، لا لأنه لم يكن قادراً عليه.

27 _ إن المعراج الذي حدث لرسول الله فعلاً هو باعتراف هذا البعض مفردة من مفردات رقيّه إلي السماء، بل حيث بلغ العرش، ورجع في ليلة واحدة.. ومن الواضح: أن هذا الأمر ليس بأقل من حيث أهميته وخطورته، وحساسيته وصعوبته من انشقاق القمر.. فإذا كان هذا العروج قد حصل، فلماذا لا يحصل ذلك الإنشقاق؟!

28 _ قد عرفنا حين الحديث عن الولاية التكوينية أن هذه الإقتراحات كانت تهدف إلي إثبات أن النبي الذي يرسله يجب أن لا يكون بشراً، فالإستجابة لهم تستوجب تضليل فريق من الناس فلا بد من رفض طلبهم، وإبطال كيدهم.

هذا بالإضافة إلي أن فتح باب الآيات الإقتراحية خطير للغاية، حيث يصبح الأمر ملعبة بأيدي السفهاء، والجهال، وأصحاب الأهواء..

وقد جاءت السنّة الإلهية لتواجه هذه الظاهرة، بإنزال عذاب الإستئصال..

29 _ إنه لا ضير في أن تكون آية: (لولا نزّل عليه آية من ربه) قد نزلت قبل حادثة المعراج، وانشقاق القمر، وتكليم الشجر، والحجر، وتسبيح الحصي، وتكليم الحيوانات، وغير ذلك من آيات.. فلم يستجب الله سبحانه إلي طلبهم هذا.. ثم حصلت آيات من شأنها أن تعطي اليقين، والدلالة الظاهرة علي صحة هذا الدين، دون أن يكون هناك أي اقتراح من المشركين، من شأنه أن يثير سلبيات من أي نوع.

30 _ وحتي لو أن هذه الآية، وآية سورة الرعد قد نزلتا بعد المعراج، وانشقاق القمر، وغير ذلك من آيات كثيرة، لم يكن ذلك ضائراً، إذ

المقصود هو طلب نزول الآية في تلك الفترة، سواء أكانت قد سبقتها آيات أم لم تسبقها..

31 _ كيف يظهر من آيتي سورتي (الأنعام والرعد): أن إنزال الآيات ليس ضرورياً للنبوة إلا في حالات التحدّي الكبير؟! والحال.. أن المطلوب هو آيات اقتراحية، لا مجال للاستجابة لهم فيها، لأمور أربعة:

الأول: إن الآيات التي من شأنها إزاحة العذر، وإقامة الحجة القاطعة قد جاءتهم، فلم يؤمنوا بها، ومنها القرآن نفسه.

الثاني: إن للإستجابة للآيات الإقتراحية عواقب وخيمة _ لو أنهم لم يؤمنوا بمقتضاها حيث قد جرت سنة الله في إهلاك الأولين بعد الإستجابة إلي مقترحاتهم.. واستمرارهم علي الجحود، فراجع سورة الإسراء: الآية 59، وسورة الأنعام: الآية 8 و 58.

الثالث: إن ذلك يجعل هذا الدين ملعبة بأيدي الأشرار والسفهاء، وأصحاب الأهواء..

الرابع: إن ذلك ربما يساعد علي ضلال كثير من الناس، إذا كانوا يريدون إظهار أن النبي ليس من جنس البشر.

32 _ وعن خوف موسي عليه السلام من قتل فرعون وقومه له، نشير إلي: أن هذا الخوف يدخل في دائرة الحذر الواجب شرعاً.. كما حصل للنبي (ص) حين دخوله الغار، فإن ذلك حذر واجب علي الرسول.. وليس خوف الجبن، والضعف، والإنهزام، ولا يصح احتمال ذلك في حق الأنبياء.

والعجز عن فهم الأمور التي توهم ذلك في ظاهرها الساذج لا يبرر نسبة أمور كهذه لأنبياء الله.

33 _ وكذلك الحال تماما بالنسبة لخوف إبراهيم (ع) من ضيوفه، فإنه خوف الحذر الواجب، لا خوف الضعف، والجبن.

34 _ وخوف موسي (ع) في موقف التحدّي مع السحرة إنما هو علي الناس من أن يقعوا فريسة الوهم، ويؤثر بهم هذا الخداع، فهو خوف علي الرسالة، وعلي الناس لا خوف الجبن،

والإنهزام، والضعف، كما يقوله هذا البعض.

35 _ وفي مقام الجواب عن استدلاله بآيتي الأنعام: (قل: لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم إني ملك، إن أتّبع إلا ما يوحي إلي) وقريب منها في سورة هود.

نقول: إنه إذا كانوا يريدون من خلال إثبات هذه الأمور للأنبياء عليهم السلام التأكيد علي عدم بشريّتهم، فإنه لا مجال لقبول ذلك منهم، إذ يلزم من هذا القبول بتضليل الناس وسوقهم لاعتقاد أمور فاسدة في حق الأنبياء (صلوات الله عليهم).

فالمراد إذن نفي ما يكون من هذه الصفات ملازماً لعدم كون الرسول بشراً، أي نفي صفة علم الغيب مثلا من حالاته الذاتية التي لا صلة لها بالله، فإن بعضهم كان يعبد الملائكة، وبعضهم يعتقد أن للملائكة قدرات خارقة، وعلم غيب ذاتياً فيهم، لا صلة له بالله.

إذن، فلا يريد الله أن يقول في هذه الآية: إن نبيه لا يملك طاقة ذاتية كان الله سبحانه قد أفاضها عليه، بل يريد أن ينفي ما يلزم منه عدم بشرية الرسول، أي أنه يريد أن يقول: إنه لا يقول لهم مثلاً إنه يعلم الغيب بطريقة ذاتية لا صلة لها بالله بحيث تجعله من غير البشر، بل الغيب الذي يعلنه سواء كان قدرة أم غير قدرة هو من فيض الله عليه وإعطائه له مع كونه لا يزال بشراً.

36 _ قوله:

"إن دفع الخير وجلب الشر كان يحصل بصورة تدريجية من دون أن يكون هناك طاقة في ذات الرسول تؤثر في ذلك.."

ما هو إلا رجم بالغيب، فلعل هذا الأثر التدريجي كان يصدر عن طاقة أودعها الله فيه، ويتحرك من خلالها إرادياً بحيث لولا أن الله أودعها فيه فهو

لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً.

37 _ والغريب أنه حصر علم النبي بالغيب بتاريخ الرسالات السابقة، لأن ذلك هو الذي يتصل بالتبشير والإنذار؟! بل لعله الأعظم أثراً في ذلك.

ولماذا لا يكون الإخبار عن الغيب الآتي أيضاً له دوره الأهم في التبشير والإنذار.

38 _ إن هذا البعض حصر علم النبي بالغيب بطريق الوحي الإلهي التدريجي عند الحاجة.

وهذا غير مقبول منه وغير سديد، إذ قد يكون هذا العلم بواسطة إعطاء قوة يستطيع بها أن يحصل علي علم الغيب كلما أراد، كالإلهام مثلا.

39 _ وحين تحدث عن العموم، والشمول لكل علم الغيب في قوله تعالي (فلا يطلع علي غيبه أحداً إلا من ارتضي من رسول..).

أجاب عن ذلك بأنه يحتمل!! أن يكون قوله تعالي: (فإنه يسلك من بين يديه، ومن خلفه رصداً) إشارة إلي أن هذا الغيب، هو الجو الملائكي الذي يحميه من الشياطين.. فالآية لا تتحدّث عن علم الرسول للغيب، بل عن حمايته بطريق الغيب، علي طريقة الإستثناء المنقطع.

ونقول له:

ان من الواضح: أن مجرّد الإحتمال لا يكفي للحكم بالنفي بصورة قطعية، بل لا بد من الدليل القاطع لأن النفي يحتاج إلي دليل، كما الإثبات يحتاج إلي دليل حسبما قرره هذا البعض.

ولا بد أن يكون هذا الدليل مفيدا للعلم، واليقين، لأنه في غير الشرعيات حسبما يقول أيضاً.

40 _ إنا نعرف أن الإستثناء المنقطع يحتاج إلي قرينة تبين أن المستثني غير داخل في المستثني منه.. والقرينة التي ذكرها هي نفس ما يدّعيه من أن القرآن يؤكد نفي علم الأنبياء بالغيب.

وقد عرفنا:

أولاً: إن القرآن لم يؤكّد شيئاً من ذلك، بل هو يتحدث عن نفي العلم الذاتي المنقطع، والمستقل بنفسه

من الله، حيث يريد الكفار إثبات هذا الأمر ليثبتوا أن الأنبياء ليسوا من البشر، بل هم موجودات أخري تنال الغيب بقدراتها الذاتية من دون حاجة إلي الله سبحانه.

ولا أقل من أن ذلك محتمل احتمالاً قوياً، فلا يبقي ثمة لديه ما يصلح لأن يكون قرينة علي ما يقول.

ثانياً: إن ظاهر هذه الآية هو الإستثناء المتصل، وثبوت كونه منقطعاً يتوقف علي ثبوت ما يدّعيه هذا البعض بصورة قاطعة، وثبوت ما يدّعيه يتوقف علي كون الإستثناء منقطعاً.. إذ لو لم يكن كذلك لدلّ القرآن علي أن الأنبياء يعلمون الغيب وذلك بهذه الآية بالذات.

وبعبارة أخري: إنه إذا كان المستثني منه صالحاً للإنطباق علي المستثني، فلا بد من الحكم باتصال الإستثناء، ولا يحكم بكونه منقطعاً إلا بقرينة، ولا يستطيع هذا البعض نفي علم الأنبياء بالغيب قرآنيا إلا إذا ثبت عدم دلالة هذه الآية علي ذلك وأن الاستثناء منقطع، أما الآيات الأخري فلم يثبت فيها ذلك، ومن الواضح أن كون الإستثناء منقطعاً يتوقف علي إثبات أن القرآن ينفي علم الأنبياء بالغيب، ونفي علم الأنبياء بالغيب يتوقف علي كون الإستثناء منقطعاً.

وقد عرفنا: أن جميع ما استدل به من آيات لا يدل علي مطلوبه، وهو نفي فعلية العلم بالغيب.. بل هي ناظرة إلي نفي الإستقلال في مقابل التبعية حسبما أوضحناه.

41 _ ثم إنه قد حسم الأمر في نهايات كلامه حين أكد نفي الولاية التكوينية:

"لأن الدليل لم يدل عليه _ حسب فهمنا القاصر"

علي حد تعبيره..

ولكن.. كيف نقبل ذلك منه، وهو نفسه يقول:

"إن النفي يحتاج إلي دليل كما الإثبات يحتاج إلي دليل.. "

مما يعني: أن مجرد عدم وجود دليل لا يكفي للحكم بعدم وجود ولاية

تكوينية..

هذا بالإضافة إلي أننا قد ذكرنا: أن تشكيكاته بالآيات غير صحيحة، ولا مجال لقبول أي منها..

42 _ أما بالنسبة لمهمة الأنبياء، وأنها مجرد التبشير والإنذار، والإبلاغ، والهداية، فقد ذكرنا فيما تقدم.

أولاً:

أنه كلام مرفوض.. من وجهة نظر القرآن، والحديث القطعي.. فلا حاجة إلي الإعادة.

ثانياً:

أن حصره ذلك في هذه الأمور الأربعة ينافي ما تقدم في فقرة سابقة من أنها: الإبلاغ، والإنذار، والهداية، والتعليم، وقيادة الناس إلي تطبيق ذلك.

43 _ بقي أن نشير إلي ما ذكره هذا البعض حول آية (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم، إن أتبع إلاّ ما يوحي إليّ) (سورة الأحقاف، الآية9)، حيث اعتبرها دالّة علي نفي فعلية علم الغيب في واقع الذات، وأنها تحصر المسألة، في ما يأتيه من الوحي.

ونقول:

أولاً:

إن هذه الآية _ كما أشرنا إليه أكثر من مرة في مثيلاتها _ ليست ناظرة إلي النفي المطلق، بدليل: أن النبي (ص) والأئمة عليهم السلام قد أخبروا عن غيوب كثيرة جداً، وإنما هي تنفي ما يعتقده أولئك الناس، من أن النبوة تقتضي بذاتها علماً للغيب مستقلاً عن الله سبحانه، مما يعني أنها مقام لغير البشر بزعمهم.

فجاءت هذه الآية ومثيلاتها لتؤكد علي أن الأنبياء بشر، وأن علمهم بالغيب ليس ناشئاً عن ذواتهم بالاستقلال، وإنما هو عطاء من الله، واكتساب منه تعالي.

ومجرد الإصرار علي أنها دالة علي نفي فعلية علم الغيب في واقع الذات، أي أنها تنفي علم الغيب بالأصالة، وبالتبعية معاً، لا يكفي في مقام الإستدلال، خصوصاً وأن الله قد صرّح بأنه لا يطلع علي (غيبه أحداً إلا من ارتضي من رسول) [199] .

ثم أخبر عن رسوله بأنه لا يبخل علي الناس

بما عنده من علوم غيبيّة، فقال:

(وما هو علي الغيب بضنين) [200] .

ثم ذكر عن عيسي عليه السلام أنه قال لقومه:

(وأنبؤكم بما تأكلون، وما تدخرون في بيوتكم) [201] .

رغم: أنه لم يثبت أن عيسي عليه السلام حين قال لهم ذلك كان في مقام التحدّي الأقصي لهم، وليس إخباره لهم بذلك بأعظم _ من إحيائه لموتاهم، وإبرائه الأكمه والأبرص. وهذه هي معجزته لهم، وهي تكفي في مقام التحدي.

وقال يوسف عليه السلام لصاحبي السجن:

(.. لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما) [202] .

وما هي حاجة يوسف عليه السلام للعلم بتأويله قبل أن يأتيهما؟، فهل كان في موقع التحدي آنئذ؟! وما هو المنصب والمقام الذي اضطر يوسف لأن يحوز هذا العلم، ومنع غيره منه؟

وقال سبحانه في مواضع: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك) [203] .

وذلك كله يبعد جداً تفسير الآية المذكورة، ومثيلاتها بإرادة النفي المطلق للغيب، إلا ما كان يوحيه الله إليهم في حالات تفرض الحاجة ذلك.

ثانياً:

إن هذا البعض يصرّ علي أن ما يعلمه النبي بالغيب إنما يصله _ حصراً _ عن طريق الوحي _ ونحن نقبل منه ذلك. وإن كنا لا نمنع من أن يكون الله سبحانه قد منح نبيه قوة يعلم بها بعض الغيوب كما دلت عليه الروايات بالنسبة لرؤية الأمام والنبي أعمال الخلائق وشهادته عليهم، غير أننا نقول إن هذا البعض نفسه قد ذكر في النص السابق: أن هذا العلم ما كان منه متصلاً بأخبار الماضين، فالقرآن يشير بوضوح إلي أن أنباءه هي من وحي الله.

أما ما كان متصلاً ببعض موارد الحاجة إليه في موارد معينة، فيلهمه الله تعالي إياه إلهاماً

[204] (إلا أن يفرّق بين الوحي والإلهام).

فيرد عليه سؤال: لماذا فرّق بين الموردين فكان أحدهما بواسطة الوحي، وكان ذاك بواسطة الإلهام؟! ولماذا لا يكون العكس؟!

ثالثاً: لماذا لا يكون هذا الإلهام الذي اعترف به ناشئاً عن قدرة، أو ملكة أودعها الله في نبيه، تجعله قادراً علي أن يعلم ساعة يشاء، حسبما دلّت عليه الروايات الكثيرة.

رابعاً: إن قوله تعالي في نفس آية سورة الأحقاف:

(إن أتبع إلا ما يوحي إليّ) بعد قوله: (ما أدري ما يفعل بي ولا بكم) [205] يفيد أنه قد جاء في موضع الإضراب عما قبله.. ليكون المعني: إني ما أدري شيئاً من هذه الحوادث بالغيب من قبل نفسي. وإنما أتبع ما يوحي إلي من ذلك.

وحسبنا ما ذكرناه، فإن فيه كفاية لمن أراد الرشد والهداية.

الولاية التكوينية للمعصوم

بداية

إننا نذكر في هذا الفصل نموذجاً من أقاويل هذا البعض حول أمور مختلفة ترتبط بالأنبياء والأوصياء.. ثم نعقب ذلك ببيان نحاول أن يكون واضحاً، وموجزاً في آن واحد لما يقوله علماؤنا حول الولاية التكوينية للمعصوم، من خلال ما فهموه من نصوص القرآن ومن أحاديث الرسول وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين)، فنقول:

العلاقة الإلهية المميزة بالنبي تقتصر علي الوحي.

دور النبي هو تبليغ الوحي للناس كرسالة فقط.

دور النبي أن يغير العالم في صفته الفكرية والعملية، لا التكوينية.

من يقول بقدرة النبي علي التغيير الكوني كمن يقول بلزوم كونه ملَكاً.

الإعتقاد بأن الله جعل للنبي ولاية تكوينية مبعث استغراب.

استهجان الاعتقاد بأن النبي يعلم الغيب دون حدود إذا أراد. (مع وروده في أخبار معتبرة وكثيرة عن اهل البيت (ع)).

لا داعي للبحث فيما ليس من الض_روريات في العقيدة والعمل.

ما ليس من ض_رورات العقيدة وفروض

العمل لا قيمة له عقيدية أو عملية.

بعض العقائد التي تثبت بالروايات الصحيحة قد تكون مما لا قيمة له.

أنبياء يبرزون نقاط ض_عفهم البشري بصراحة وتأكيد.

حتي ما يثبت من العقائد بالروايات الصحيحة قد يكون فيه سلبيات (كالغلو، أو ما يشبه عبادة الشخصية).

تحدث القرآن عن الض_عف البشري للأنبياء في واقعهم الداخلي والخارجي.

يقول البعض:

".. كيف يطلب هؤلاء منه أن يقوم بتلك الأعمال الخارقة التي لا يستطيع أي بشرٍ بقدرته العادية أن يحققها.. وهل كانت دعوي النبوة تعني القيام بمثل ذلك، أو تختزن في مضمونها ادعاء القدرات الغيبية، أو العمق الإلهي الذي يمكنه من تحقيق ذلك.. لقد كان النبي يعلن دائما أنه بشر يحمل الرسالة، مما يعني اقتصار العلاقة الإلهية المميزة بشخصه، التي يختلف بها عن بقية الناس، علي الوحي الذي ينزله الله عليه ليبلغه للناس كرسالة إلهية، بعيداً عن كل شيء آخر لأن ذلك هو دور النبي في الحياة، فليس دوره أن يغير صورة العالم في صفته التكوينية، بل كل دوره أن يغيره في صفته الفكرية والعملية، في حركة الحياة والإنسان.. حتي المعجزة، فيما كان يقوم به الأنبياء من معاجز لم تكن غاية في الرسالة، بل كانت وسيلة لمواجهة التحدي الكبير حولها [206] .

ويقول أيضاً:

"ما هي شخصية الرسول؟ وما هي قدراته..؟ هل هو إنسان غيبي في شخصه، وفي إمكاناته.. هل من المفروض في الرسول الذي يرتبط بالله من خلال الوحي، أن يكون _ في طبيعته _ شخصاً غير عادي، كما هو الوحي شيء غير عادي في طبيعته.. أو هو إنسان مثل بقية الناس في شخصيته، وفي قدرته، فلا يملك أن يغير شيئاً من سنن الكون التي أودعها الله في الحياة، ولا

يستطيع أن يكتشف الغيب بخصائصه الذاتية هذه أسئلة كانت تدور في وعي الإنسان الذي عاصر الرسالات؟ عندما كان يطلب من الرسول تفجير الينابيع من الأرض القاحلة، والصعود إلي السماء، والإتيان بكتاب غير عادي منها..وهذه أفكار لا تزال تعيش في وعي الإنسان المتأخر عن عصر الرسالات، في اعتقاده بالنبي، كشخصية غيبية في قدراتها، حتي اعتبرها البعض ذات ولاية تكوينية علي الحياة، وعلي الناس فيما جعلها الله له من ولاية، كما أن الكثيرين يعتقدون، بأنه يعلم الغيب، إذا أراد من غير حدود.. إلي غير ذلك من الاعتقادات ألتي أبعدت النبي في تحديد شخصيتهم عن مستوي شخصية الإنسان في طبيعته وقدرته.

إن الآية _ التي أمامنا تحدد لنا المسألة، كغيرها من الآيات المماثلة، من دون فرق بين أن تكون جواباً عن الفكرة التي تتطلب في النبي، شخصية الملك وبين أن تكون جواباً عن الفكرة التي تتطلب فيه شخصية القادر علي التغيير التكويني للواقع.." [207] .

ويقول في تفسير قوله تعالي:

".. (قُل،لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحي إلي قل هل يستوي الأعمي والبصير أفلا تتفكرون..) (سورة الأنعام، الآية50) وهذه هي الصورة المشرقة الواقعية للشخصية النبوية التي يريد الله للنبي أن يقدم بها نفسه إلي الناس، فهو لا يريده كائناً غيبياً يبرز إليهم من خلال الجو الغيبي الضبابي الذي يوحي إليهم بالأسرار الخفية المقدسة للذات بعيداً عن التصور البشري الطبيعي، ولا يريد له أن يبدو في نظرهم شخصية أسطورية تملك في حوزتها كل خزائن الله الذهبية والفضية ونحو ذلك مما يدخل في عالم التقييم المادي بالمستوي الذي يستطيع أن يغرف منها ما يشاء من المال لمن

يشاء من الناس، ولا يريده إنساناً يقف بين الناس ليتحدث للناس عن أسرارهم الكامنة في صدورهم وعما ينتظر كل واحد منهم من أحداث المستقبل الخاصة والعامة، علي أساس ما يحمل من علم الغيب الإلهي، كما يتصوّر الكثيرون هذا الدور لشخصية النبي، كما هي شخصية الكاهن الذي كان يمثل بعضاً من ذلك.. ولا يريد له الشخصية الملائكية ليأخذ لنفسه دور الملك السماوي الذي يأخذ بألباب الناس فيدهش العقول بأجنحته المتنوعة المتعددة، وقدرته الأسطورية الخارجة عن كل حد.. لأن الله يريد للناس أن يؤمنوا به من خلال رسالته بعيداً عن كل ضغط نفسي أو مادي.. وعن كل ألوان الإغراء الذاتي، أو الاستعراض الانفعالي، الذي يوحي للإنسان بالانجذاب العاطفي، والانسحاق الشعوري.. وهكذا أراده أن يقف بينهم عبداً خاشعاً بين يدي الله، لا يملك أية مقومات ذاتية، كبيرة، أو أية قدرات شخصية مطلقة.. رسولاً أميناً علي الدور الذي أوكله الله إليه فهو ينتظر أمر الله ووحيه في كل صغيرة وكبيرة ليتبعه ويبلغه للناس.. وربما كان الحديث عن الأتباع موحياً بالصفة المطيعة المتواضعة التي تجسدها شخصيته ليكون في ذلك بعض الإيحاء لهم بالطاعة لله من خلال الإستغراق في دور العبد المطيع الذي يتمثل في حركة العبد _ النبي، ليتمثل _ من خلاله _ في شخصية العبد المؤمن.. وإذا كان التوجه الإلهي يفرض علي الرسول أن يقدم نفسه إلي الناس بهذه الصفة فقد نجد فيه الدرس الفكري الذي يريدنا أن لا نغرق أنفسنا بالأسرار العميقة التي يريد البعض أن يحيط بها شخصية النبي، ليحصل له اللون الإيحائي الذي يرتفع به فوق مستوي البشر في إمكاناته الذاتية، وقدراته الكبيرة.. بل يعمل علي أن يربطنا بصفته الرسالية من حيث أخلاقه وخطواته ومشاريعه المتصلة

برسالته.. وذلك هو السبيل للتعامل مع شخصية الأنبياء، والأولياء، بالأسلوب القريب إلي الوعي الإنساني العادي، فيما يمكن للإنسان أن يعيشه ويتصوّره ويتمثله في نفسه، ليشعر بأن النبي قريب منه بصفاته البشرية المثلي التي يمكن أن تكون أساسا للتمثّل والإتباع والإقتداء.. وفي ضوء ذلك.. نجد في الأبحاث السائرة في هذا الاتجاه، انحرافاً عن الخط القرآني الذي يرسمه القرآن للناس في دراستهم لشخصية النبي (ص) [208] .

ويقول أيضاً:

".. وقد نستوحي من هاتين الآيتين.. أن الأنبياء لا يتحدثون عن أنفسهم كثيرا للناس ليثيروا في حياتهم الشعور بالتعظيم والتقديس لهم.. بل هم _ علي العكس من ذلك _ يعملون علي تأكيد جانب البشرية في ذواتهم بشكل صريح مؤكّد.. ويبرزون نقاط الضعف البشري بطريقة واضحة..

كما نجد ذلك فيما حكاه الله عن رسوله في حواره مع المشركين.. الذين طلبوا منه فعل بعض خوارق العادة التي يقترحها للدلالة علي نبوته انطلاقاً من عقيدتهم فيه بأنه مزوّد بطاقات هائلة يستطيع أن يقوم من خ_لالها ب_ك_ل شيء يطلب منه.. فقد أجابهم بقوله (.. قل سبحان ربي هل كنت إلاّ بشراً رسولا..) وفيما حدثنا الله.. قل لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أتّبع إلا ما يوحي إلي ربي وهكذا نلاحظ أن القرآن لم يتحدث عن الأنبياء إلا من خلال صفاتهم الذاتية المتصلة برسالتهم كما حدثنا عن حركة الرسالة في حياتهم وما لاقوا من عنت واضطهاد وتشريد.. وعن بعض نقاط الضعف البشري التي عاشوا في واقعهم الداخلي والخارجي.. من أجل إبعاد الناس عن الضلال والغلوّ ليظل التصور في العقيدة مشدوداً إلي الواقع، بعيداً عن كل ضروب الخيال والمثال الذي قد يطوف في أخيلة الكثيرين وأفكارهم".

ثم هو يقول:

الفكرة في خط التربية الإسلامية

".. وقد نحتاج إلي استيحاء هذا الأسلوب التربوي في دراساتنا وأبحاثنا التي فيها حياة الأنبياء والأئمة والأولياء، فنستغرق في الجوانب العملية في حركة الإسلام في حياتهم الشخصية والعامة لنبقي في خط الارتباط بالشخص من خلال الفكرة والرسالة والعمل، فيزيدنا ذلك ارتباطا بالخط الصحيح وابتعاداً عن مواطن الخطأ والضلال في الطريق ولا نستغرق في الأسرار الخفية والغامضة التي يثيرها البعض في حديثه عن هذه الشخصية أو تلك ممن نعظّم من شخصيات الأنبياء والأولياء. لأن الاستغراق في الجوانب الضبابية الغامضة التي لا نستطيع فهمها ولا تعقلها قد يؤدي بنا إلي الإنحراف في التصور أو الوصول إلي درجة الغلوّ..

إن القضية ليست في واقعية هذه الصفات الممنوحة لهذه الشخصية أو تلك وعدم واقعيتها ليتجه الحديث إلي إثبات صحّة ذلك بالروايات الصحيحة أو غير الصحيحة، في عملية نقاش علمي طويل بل القضية هي.. أن ذلك الأمر ليس من ضرورات العقيدة ولا من فروض العمل، فلماذا نكلف أنفسنا الجهد والتعب في الدخول في أبحاث ليس لها قيمة عقيدية أو عملية، بل قد تؤدي في بعض الحالات إلي ما يشبه عبادة الشخصية، إذا لم تؤدِّ إلي الغلو المفرط عصمنا الله من الزلل ووقانا شر الإنحراف عن الخط الإسلامي في العقيدة والعمل.." [209] .

وقفة قصيرة

إن ما نقلناه عن هذا البعض آنفا من كلام، يتضمن الكثير من الموارد التي تستحق التوقف عندها، وحيث إن ذلك سيدخلنا في بحوث مطولة ومتشعبة، فلا بد من الاقتصار علي ما لا يخل بالحد الأدني من الانسجام في مطالب الكتاب، فنقول:

1ً _ إن هذا البعض لا يزال يؤكد _ في كتبه ومحاضراته _ علي أن مهمة الأنبياء تنحصر في التبليغ والدعوة، وان

كل دورهم هو أن يغّيروا العالم في صفته الفكرية العملية، لا التكوينية.

2ً _ ثم يدعي هذا البعض أن الأنبياء بشر عاديون، لا قدرة لهم علي التصرف والتأثير في الأمور التكوينية. وهو يبدي استغرابه ممن يقول ذلك..

3ً _ إنه لم يزل يستشهد لمقولاته هذه بالآيات التي تضمّنت التصريح بأن النبي بشر،كما في قوله تعالي (وقالوا لن نؤمن لك حتي تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب، فتفجّر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء _ كما زعمت _ علينا كسفا، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا. أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقي في السماء ولن نؤمن لرقيّك حتي تنِّزل علينا كتاباً نقرؤه قل: سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا) [210] .

ثم هو يضيف أن الآيات قد دلت علي أن النبي لا يقدر علي شيء مما ذكر، وليس لديه خارج قدرة البشر أي قدرة ذاتية غير عادية.

ولذا لم تنسب الخوارق في القرآن إلي الشخص إلا في قصة عيسي وإبرائه الأكمه والأبرص، وإحيائه الموتي.

4ً _ فإذا كانت مهمات الأنبياء هي التبليغ والإرشاد، وفقاً لقوله تعالي (يا أيها النبي انا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلي الله بإذنه وسراجاً منيراً) [211] .

فان التصرفات الإعجازية وغير العادية تبقي محصورة في دائرة التحدي وإثبات النبوة وحاجات التبليغ والدعوة.

ثم يستنتج من ذلك أن:كل النصوص التي تثبت كرامات أو معجزات أو تصرفات غير عادية للأنبياء _ خارج هذا النطاق _ لا يلتفت إليها، بل تخرج عن دائرة السيرة والتاريخ الصحيح، أو الذي يمكن أن يكون صحيحا.

5ً _ ثم هو تبعا لذلك لا يرتضي القول بأن النبي (ص) قد يعلم

الغيب _ بلا حدود _ إذا أراد [212] .

6ً _ إنه يقول: من يقول إن بإمكان النبي أن يمارس التغيير الكوني كمن يقول: بأن النبي ملَك.

فكلام هذا الرجل يدور حول هذه الأمور التي قدمناها، ولذلك فإننا سنقتصر علي الحديث عنها.

فنقول:

1 _ آيات التحدي لبشرية الرسول:

إن الآيات التي ذكرت تحدي الناس للرسول بالمطالب التعجيزية، فلم يستجب النبي (ص) لمطالبهم، لكونه بشراً وليس ملكاًً، إنما جاءت رداً علي ما يزعمونه من لزوم كون النبي من غير البشر، ولذلك عقب الله تعالي هذه الآيات بقوله: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدي إلا أن قالوا: أبعث الله بشراً رسولا. قل: لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلّنا عليهم من السماء ملكا رسولا) [213] .

ولأجل هذا نجد أنه (ص) لم يستجب لمطالبهم التعجيزية لأن ذلك يعني ترسيخ اعتقادهم الخاطئ في نفوسهم وإقرارهم عليه بصورة عملية.

علما أنه قد ثبت في علم الكلام أنه لا يجب علي النبي الاستجابة لكل المطالب من المعاجز الاقتراحية التي يطلبها آحاد أو جماعات القوم الذين بعث إليهم ويكفيه في إثبات صدقه معجزته التي يلقيها من تلقاء نفسه.

2 _ مهمة الأنبياء وعلومهم:

إن مهمة الأنبياء لا تنحصر بالتبليغ والدعوة،وإنما تتجاوز ذلك ليكونوا القادة والذادة والحكام علي الناس، المهيمنين علي مسيرة البشرية، حيث يريدون ايصالها إلي الله سبحانه، من خلال تربيتهم وهدايتهم لها، وحاكميتهم وهيمنتهم علي كل شؤونها، في مسيرتها إلي كمالها، الذي ينتهي بها إلي معرفته سبحانه وتعالي. ولهم إشراف علي كل الواقع الروحي، والعقيدي والتربوي، والسلوكي للأمة، وعلي كل علاقاتها بأي شيء في هذا العالم، سواء علي مستوي الفرد أو علي مستوي الجماعة.

ولأجل ذلك

يرفع للإمام عمود من نور يري فيه أعمال الخلائق. وهذا يحتم أن يكونوا علي درجة كبيرة من المعرفة، وان يملكوا قدرات وطاقات كبيرة، تتناسب مع حجم المهمة الموكلة إليهم علي مستوي البشرية بل والعالم بأسره.

والعنصر الأساس والضروري والحساس في هذه الهيمنة الشاملة هو العلم، وهو الأمر الذي ظهر لنا من قصة داود (ع): انه هو الوسيلة الأعظم تأثيراً في ذلك. وقد قال تعالي (ولقد آتينا داود وسليمان علما) [214] .

وقد قال سليمان (ع): (عُلِّمنا منطق الطير) [215] .

و وصف الله سبحانه داود: ب_يس=سورة ص الآية 17.@.

وقال: (وشددنا ملكه، وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) [216] .

بل إن أحد أتباع سليمان (ع) قد جاء بعرش بلقيس قبل ارتداد الطرف، بواسطة العلم، قال تعالي: (قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، فلما رآه مستقراً عنده) [217] .

وحين فهم سليمان (ع) كلام النملة: (تبسم ضاحكاً من قولها)، واعتبر ذلك نعمة إلهية تستوجب الشكر، الأمر الذي يشير إلي أنه هو الذي فهم قولها بما أنعم الله عليه من معرفة لغات الطير والحيوان وتعلّمه لها.

كما أن معرفة سليمان (ع) بوجود عرش بلقيس لم تكن بواسطة المعجزة بل بواسطة الهدهد.

وتسخير الجبال، والجن، الطير، والريح لآل داود (ع)، وحتي لين الحديد لداود (ع) قد كان _ فيما يظهر _ من خلال المعرفة والعلم، لا لمجرد الإعجاز، وإلا لما كان يحتاج سليمان (ع) إلي مراقبة الجن الذين كانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل، ولما كان بحاجة إلي تشغيلهم بالبناء، وبالغوص في البحار لاستخراج خيراتها.

فقد كان بإمكانه إيجاد ذلك بالمعجزة، ولم يكن أيضا بحاجة إلي أن يقرن شياطين

الجن بالأصفاد كما لم يكن بحاجة لتهديد الهدهد ووعيده، ما لم يأته بسلطان مبين..

وكذلك الحال بالنسبة لموسي (ع)، فإن الأمر لو كان يقتصر علي الإعجاز المجرد، لم يكن ثمة حاجة إلي ضرب البحر بعصاه، ولا إلي تحول عصاه إلي ثعبان، بل كان البحر ينفلق وإبطال السحر يتم بدون ذلك، بصورة إعجازية. فهل كانت هذه الأسباب مجرد أدوات صورية لتقريب الفكرة إلي الناس؟!!.أم كانت شيئا آخر لم يدركه البعض، فقال ما قال، وكتب ما كتب!؟.

3 _ المعصوم يعلم إذا أراد:

وأما استغرابه المعبر عن رفضه للقول بأن النبي يعلم الغيب _ بلا حدود _ إذا أراد (ويلاحظ، أنه أقحم كلمة: بلا حدود لغرض لا يخفي).

فهو عجيب منه وغريب، فإن من يراجع الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) يجد أنهم هم الذين صرّحوا بهذا الأمر، وأعلنوه وأشاعوه، فهو مأخوذ منهم وعنهم، فما هو الوجه في استغرابه واستهجانه.

كما أن طبيعة المهمة الموكلة إليهم تق_ضي بصحّة _ ب_ل بضرورة _ مثل هذه العلوم لهم، وأن يتمكنوا من الحصول عليها كلما وجدوا حاجة إلي ذلك..

علي أن الحديث عما لديهم عليهم السلام من علوم، وعن كيفية حصولهم عليها هو بحد ذاته من الأمور الغيبية، التي لا سبيل لعقل البشر إليها، فلا بد من أخذها عنهم (ع)، لأنها لا تعرف إلا من قبلهم.

4 _ معجزات الأنبياء خارج نطاق التحدي:

وملاحظة أخري نسجلها هنا وهي أن ما أسماه ب_" الخدمات غير العادية" لسليمان ولداود (ع)، هي من الأمور المعجزة التي كانت خارج دائرة التحدي واثبات النبوة وقد نطق بها القرآن الذي هو معجزة النبي (ص)، خارج نطاق التحدي وإثبات النبوة، فهل أن حديث القرآن عن غيبيات

الأنبياء يعدّ من الحديث الضبابي الذي لم يفهمه البعض؟!.

أما قضية الإسراء، و قضية المعراج ونحوها مما لا يستطيع ذلك البعض أن ينكره، فليست هذه كلها هي معجزته الرئيسية العامة.

هذا، مع أن كرامات ومعجزات النبي (ص) والأئمة من بعده، تعد بالعشرات، بل المئات، إلي درجة أن إنكارها وعدم ثبوتها يفسح المجال أمام إنكار واحدة من واضحات الإسلام. فراجع ما ينقلونه عنه (ص) من إطعامه (ص) جيشا بأكمله قبضة من تمر، أو من شاة، وتسبيح الحصي بيده، وتسليم الشجر والحجر عليه، وتكليم الحيوانات له، وغير ذلك كثيراً جداً. ولم يكن ثمّة تحدّ يقتضي المعجزة، ولا كان ثمة ضرورة لإقامة الحجة لإثبات النبوة.

مع تذكيرنا بأن المعجزة لا تعني خرق سنن الكون وتغييرها.

أما قولهم: لم يذكر في القرآن ما ظاهره نسبة الفعل إلي الشخص إلا بالنسبة لعيسي (ع). فلا يمكن قبوله. إذ قد تقدم ما يشير إلي مثل ذلك في آل داود وغيرهم بل ثمّة ما يشير إلي ذلك بالنسبة لأحد أتباع سليمان (ع) وهو آصف بن برخيا، الذي نسب الإتيان بعرش بلقيس إلي نفسه: أنا آتيك به.. الخ..

علي أن تعقيب الحديث عن عيسي (ع) بقوله (بإذن الله) لا يمنع من نسبة الفعل إلي هذا النبي، واختياره فيه كما اعترف به،.. فهي علي غرار قوله تعالي، (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله)، مع أن مدار العقاب والثواب،علي الإيمان. وكل ذلك يدل علي أن قوله تعالي (بإذن الله) غير ظاهر الفائدة فيما يرمي إليه البعض، إذ إن كل معجزات وكرامات الأنبياء صدرت بإذن الله تعالي وكانت من فعلهم واختيارهم. وقول الله لموسي: اضرب بعصاك، أو: ألق عصاك. إذن منه تعالي، فلا يختلف الأمر

بالنسبة إليه عن عيسي (ع).

بل ربما كان فعل موسي أظهر في نسبة الفعل إلي صاحبه من فعل عيسي، لأن موسي لم يأتِ بكلمة بإذن الله مع أنه بإذن الله قطعا.

وكل ذلك يدل علي أن لهم قدرة ذاتية،وهبهم الله إياها، وهم يتصرفون فيها في الكون، كما يريد الله وفي طاعته سبحانه، (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون).

وذلك يؤكد علي أن ما يجري ليس لأجل أن لدي الأنبياء والأئمة قدرات ذاتية بمعزل عن إرادة الله تعالي، كما أن ما يجري علي أيديهم بإذن الله هو فعلهم وباختيارهم، لا انه فعل الله أجراه علي أيديهم بصورة جبرية،ومن دون أي اختيار منهم.

5 _ لا قيمة لغير العقائد الضرورية.

إننا نستغرب قوله: إن ما ليس من ضروريات العقيدة ولا من فروض العمل لا قيمة له، لا عقيدية، ولا عملية.

فان معني ذلك هو أن تعّرض النبي (ص) والأئمة (ع) لها كان أمراً عبثياً،لا قيمة له ويكون قد ارتكب أمراً جزافاً.

كما أن الإسلام قد طلب من الناس الاعتقاد بها، وحرم عليهم رفضها وذلك مثل عقيدة الرجعة ونحوها، فهل يصح أن يقال لما هو من هذا القبيل: إنه لا قيمة له:لا عقيدية ولا عملية؟!. وإذا كان البحث في غير العقائد الضرورية لا قيمة له، فلماذا أفتي بوجوب الاعتقاد ب _ (الرجعة) مع حكمه بأنها ليست من ضروريات الدين [218] ثم قوله بلزوم تأويل أحاديثها كما جاء في مقالته: (مع الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد) [219] .

6 _ لا داعي للبحث في غير العقائد الضرورية:

أما قوله بعدم وجود داع للبحث في غير العقائد الضرورية، فلا نري حاجة للتذكير بعدم صحته، فان الكلام المتقدم يكفي

لرده، وبيان بطلانه.

7 _ العلاقة المميزة بين الله وبين اوليائه:

وأما ما ادعاه من أن العلاقة المميزة بين الله وأنبيائه تقتصر علي الوحي، فهو غير صحيح. وكيف نفسر العلاقة المميزة لمريم عليها السلام، مع الله سبحانه، حتي إنها كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، قال: (يا مريم أني لك هذا؟ قالت هو من عند الله).. مع أن مريم ليست من الأنبياء!!

وكيف نفسر قوله تعالي: (واصطنعتك لنفسي) وق_وله تعالي: (ولتصنع علي عيني) وكيف نفسر تكليم عيسي للناس في المهد وجعله مباركا أينما كان.. وإيتاء يحيي الحكم صبيا.. ألا يدل ذلك علي علاقة إلهية مميزة مع كل هؤلاء الأنبياء صلوات الله عليهم خارج نطاق الوحي؟! وكيف نفسر (الخدمات غير العادية) التي أعطاها الله لداود ولسليمان (عليهما السلام). أليست هي الأخري خارج نطاق الوحي. وخارج نطاق المعجزة في مقام التحدي؟!..

8 _ الولاية التكوينية للأنبياء:

ثم إن هذا البعض قد صرّح بمعارضته للقائلين بأن الله قد أعطي الأنبياء والأوصياء القدرة علي التصرف في الأشياء المادية، والهيمنة عليها، وهو ما يعبر عنه بالولاية التكوينية.

وقد صرح أيضا _ كما يأتي في فصول لاحقة من هذا الكتاب وهو متواتر عنه [220] _ بأنه يراها شركاً، وأن القرآن كله دليل علي عدم الولاية التكوينية. وقد ذكرنا هناك بضع نقاط لا تخلو المراجعة إليها من فائدة.

ونحن هنا لا نريد أن نتوسع في الحديث عن هذا الأمر، لأن ذلك يحتاج إلي وقت طويل، وجهد مستقل، وإلي مساحة لا يتسع لها، ولا ينسجم معها هذا الكتاب، بملاحظة طبيعة أسلوبه، وما توخينا معالجته فيه.

ولكننا نذكر القارئ بأمور قد يكون وقوفه عليها مفيداً وسديداً، فنقول:

الولاية التكوينية ضرورة حياتية:

المقصود

بالولاية التكوينية هو المقدرة علي التصرف والتأثير في الموجودات المحيطة إلي حد تجاوز القدرة العادية في التعامل مع النواميس الطبيعية، مثل أن يفجر للناس ينبوعاً، أو أن يرقي في السماء، أو أن يكلم الحيوان، أو أن تطوي له الأرض، أو أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلي فلسطين قبل ارتداد الطرف، أو تحريك الرياح، وما إلي ذلك.

ونحن بغض النظر عما اشتملت عليه الأحاديث الكثيرة من تفاصيل فيما يرتبط بالولاية التكوينية، نستطيع أن نقرب للقارئ الكريم هذا الأمر علي النحو التالي:

مقدمة ضرورية

إن الغاية من تأسيس الدول، هو أن تضطلع بمهمات، وتعالج أموراً، أدرك الناس أنها ضرورية لحياتهم وبقاء وجودهم، فتصدوا لمعالجتها، وتفادي سلبياتها، وللهيمنة عليها في المجالات التي تعنيهم.

وإذا ألقينا نظرة فاحصة علي هذه الأمور فإننا نجد أنها محدودة جداً، ومحصورة في نطاق خاص، وهو عيّنات قليلة مما يتعامل معه هذا الإنسان في حياته العملية الجوارحية، فتنشأ الوزارات، والأجهزة، والمؤسسات العظيمة والواسعة لإنجاز هذا المهم.

ولكنها برغم كل ما توظّفه من إمكانات وقدرات مادية، وبشرية وفكرية، وغيرها، تبقي عاجزة عن حماية حفنة من التشريعات والقرارات المحدودة جدا التي تنشؤها، مع أن ما تضطلع به هذه الدول وتتصدي له ما هو إلا نقطة في بحر بالقياس إلي ما يدخل في نطاق اهتمامات الإسلام، ويأخذ علي عاتقه مهمة التعاطي معه، ويريد أن يفرض نظامه وهيمنته عليه، وأن يجريه وفق مفاهيمه، ويدخله في أطره ومناهجه، التي وضعها بهدف إقرار حالة التوازن العام في مسيرة التكامل باتجاه الهدف الأسمي والأمثل الذي تسعي إليه المخلوقات بحسب مقتضيات خلقتها.

الهدف من الخلقة، و ضروراتها الطبيعية

وإن من الواضح: أن الله قد خلق هذا الإنسان وأراد له أن يدخل هذا الوجود ليقوم بدور هام فيه،وهو أن يعرف الله تعالي، ويعبده؛ قال تعالي (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وقد اباح له في هذا السبيل أن يعمر هذا الكون، ويتكامل فيه،ومعه، ومن خلاله، قال تعالي (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) [221] نعم، إنه أراد له أن ينطلق في هذه الحياة في مسيرة تكاملية سليمة وقويمة، تستطيع أن تحقق الأهداف السامية من خلقته،وهي العبودية المطلقة والحقيقية لله سبحانه وتعالي.

هذا مع العلم أن ما في هذا الكون ليس جماداً بقولٍ مطلق، وقد دلت الآيات الك_ث_يرة، والروايات المتواترة: أن لدي

الكثير من الموجودات إن لم يكن كلها درج_ة من الشعور، تجعل التعاط_ي معه ذا حساسية معينة.

وذلك كله يستدعي رسم ملامح شخصية هذا الإنسان بصورة تتناسب مع الدور الكبير الذي أعده الله له.

كما أنه يتطلب أن يقدم له أطروحة تشتمل علي ضوابط ومناهج تحفظه من الزلل والخطأ في تعاطيه الإيجابي أو السلبي في جميع المواقع والمواضع علي أن تكون تلك المناهج موضوعة من قبل من يملك المعرفة الحقيقية والكافية، ومن له الحق في ذلك.

كما لا بد من أن يمنحه قدرات وإمكانات تفي بحاجاته، ويستفيد منها في نطاق انطلاقته في هذه الحياة، وتعاطيه الإيجابي مع كل ما يحيط به من منطلق المعرفة التي تمكنه من تسخير ما في هذا الكون، والاستفادة مما أودعه الله فيه من خلال الهيمنة علي نواميسه الطبيعية وتفعيلها، وبث الحياة فيها، وإثارتها، واستكناه الكثير من أسرارها، وتحريك كوامن هذا الكون وتوظيف ذلك كله في مجال تحقيق الهدف الأسمي وبناء الحياة، ومساهمته الحقيقية في إعمار هذه الأرض، وفي إسعاد الإنسان وتكامله، وبإنمائه المطرد في خصائصه الإنسانية، فيما يرتبط بحالاته الروحية، والنفسية، والفكرية، والعقيدية، فضلا عما سواها مما يدخل في تكوينه الإنساني، وله دوره في فاعليته الحياتية، وتأثيره الإيجابي في كل ما يحيط به.

ومن هنا نجد الإسلام يرصد هذا الإنسان ثم يتدخل في أدق تفاصيل وجوده وحياته، ومختلف حالاته، وفي كافة شؤونه وعلاقاته، ويواكبه في حركته نحو الأهداف الإنسانية والإلهية: (يا أيها الإنسان انك كادح إلي ربك كدحاً فملاقيه) [222] . ويفرض عليه أن يلتزم بضوابط محددة، لأنه يريد من خلال ذلك كله أن ينشئه بصورة متوازنة ومتكاملة، تنشئة خاصة، تؤهله للإضطلاع بدوره الكبير والخطير، وتتوازن وتتكامل مع ك_ل ما سخره

الله للإنسان ليفجر من خ_لاله _ وبالايحاء الصحيح _ روافد الحياة في هذا الكون الفسيح، فيشرع له في جميع ميادين الحياة ما يعينه علي السير في هذه الطريق.

ولأجل ذلك نجده يتدخل حتي في أفكاره ونواياه، ويلاحقه حتي في خياله الرحب، بل حتي في خطرات قلبه وأوهامه، فضلا عن طموحاته وأحلامه..

فهو يريد منه أن يكون عطوفاً رحيماً في موضع، وقاسياً وحازماً بل وغليظاً (وليجدوا فيكم غلظة) في موضع آخر. ثم هو يريده أن يحب تارةً، وأن يبغض أخري، وأن يتراجع في موضع، وأن يكون شجاعاً مقداماً في موضع آخر، وأن ينطلق في خياله في حالة، و أن يمحو حتي الصورة التي كان حضورها عفويا في حالة أخري، إنه يريد أن يرافق الإنسان في كل موقع، وفي كل مجال، وأن يكون هو القائد والرائد وله كلمة الفصل، في كل صغيرة وكبيرة من قضاياه.

ومن جهة أخري، إنه تعالي حين سخّر هذا الكون كله لخدمة هذا الإنسان، ليستعين بما أودعه الله فيه علي تحقيق أهدافه، وأراد له أن يعمر الأرض، فإنما أراد أن يتم ذلك من خلال شخصيته الإنسانية التي نمت وتكاملت وتتكامل بعين الله ورعايته وتربيته.

وأراد أيضا لهذا التسخير أن ينبسط علي مساحات شاسعة علي هذا الكون الفسيح من موقع الهيمنة علي نواميسه وتفعيلها إيجابيا في نطاق إعماره، واستكناه الكثير من أسراره..

علي أن يتم ذلك كله من موقع الرعاية الإلهية المتمثلة بمقام الإمامة والنبوة التي تقف في موقع الرصد الدقيق، والمعرفة الواعية، والهادية، والقادرة علي التدخل الحقيقي حيث تمس الحاجة إلي ذلك..

وذلك ينتج أنه لا بد من تزويد النبي (ص) والإمام (ع) الهادي والمهيمن علي المسيرة بحاجاته ووسائله المؤثرة في نجاحه، وفي

نجاح المهمة الموكلة إليه، فلا يتعاطي مع الأمور من موقع القاصر في معارفه وفي إمكاناته، لأن ذلك يجعل دوره دور الواعظ لا دور المربي والراعي، ولا دور المهيمن والحاكم الذي انزل الله معه الحديد فيه بأس شديد، ليقوم الناس بالقسط..

قال تعالي: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) [223] .

فلا غرو إذن في أن يعرف الأنبياء والأئمة لغات البشر، بل أن يعرفوا حتي لغات الطير والحيوان وغيرها.. بل لقد كان الحجر والشجر يكلمهم عليهم الصلاة والسلام، ويسبح الحصي في أيديهم..

ولا غرو أيضا أن تطوي لهم الأرض ليذهب الأمام السجاد (ع) من الكوفة إلي كربلاء لدفن أجساد الشهداء، بمعونة قبيلة بني أسد [224] ، ويأتي أمير المؤمنين علي (ع) بسرعة خاطفة من المدينة في الحجاز إلي مدائن كسري في العراق ليتولي تجهيز سلمان الفارسي رحمه الله والصلاة عليه ودفنه.

وأن يذهب الأمام الجواد النقي (ع) من مدينة الرسول إلي خراسان ليجهّز أباه الأمام الرضا عليه السلام ويصلي عليه، صلوات الله وسلامه عليهما.

إلي غير ذلك من موارد كثيرة حفل بها التاريخ القطعي، والحديث المتواتر، الذي لا ريب في صحته.. لأن ذلك هو من مسؤوليات النبي والإمام عليهما السلام.

ولأجل مسؤولية هذا النبي عن كل شيء في هذه الحياة، كان لابد لسليمان (ع) أن يسمع ما تقوله النملة، وان يتعاطي مع الهدهد، ومع الريح، ومع الجن، ومع الجبال، من موقع مسؤوليته ليقدم نموذجا مصغرا للحكم الإلهي المطلوب تحقيقه علي يد الأنبياء والأوصياء، وليقدم تجسيداً حياً لنوعية تعاطيهم ومستواه في هذا النطاق.

ومن جهة

أخري،إذا كنا نعلم أن الله سبحانه قد أرسل النبي للناس جميعا، حيث قال تعالي (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [225] .

ويقول: (تبارك الذي نزل الفرقان علي عبده ليكون للعالمين نذيرا) [226] .

وقال تعالي: (وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين) [227] .

فلا بد أن يكون هذا النبي قد أبلغ رسالته لكل من علي وجه الأرض، لا لخصوص أهل الحجاز، أو أهل المنطقة العربية، ولا لخصوص الملوك الذين أرسل إليهم رسائل يدعوهم فيها إلي الإسلام.

إننا نقطع بأن النبي (ص) والإمام والأئمة من بعده قد أقاموا الحجة، وقاموا بمسؤولياتهم تجاه كل الناس من ملوك وغيرهم وقد تعاملوا معهم باللغات التي يفهمونها، وبالطريقة التي يتعقلونها.. ولا بد أن تكون لديهم القدرة علي الاتصال بهم، وعلي الانتقال إليهم لهدايتهم ورعايتهم، وتدبير أمورهم، وحل مشاكلهم، لأنهم رعيتهم، فيكون النبي (ص) والإمام (ع) هو المسؤول عنهم، والشاهد عليهم، والمعني بهم.

وحين يصعد هذا الإنسان إلي الأجرام السماوية، فإن عليه أن يكون معه، وأن يهيمن عليه من موقع المعرفة والقدرة علي التصرف في أي موقع كان، و إلي أي جهة اتجه، حتي وهو خارج دائرة السماوات.. فيما لو استطاع هذا الإنسان أن ينفذ بعلمه ووسائله من أقطارها حسبما أشارت إليه الآية الكريمة التي تقول (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض ف_انفذوا لا تنفذون إلا بسلط_ان) [228] .

وذلك كله يفسر لنا ما ينقل عن النبي والأئمة عليهم السلام من كرامات وخوارق للعادات [229] .

ثم هو يفسر لنا قضية الإسراء والمعراج لنبينا الأكرم (ص) حسبما نطق به القرآن الكريم.

ويفسر لنا أيضا علم الأنبياء والأئمة بلغات الحيوان وشكواها لهم

بعض ما تعانيه من مشاكل.

هذا فضلا عن معرفتهم عليهم السلام بلغات جميع البشر كما دلت عليه النصوص الكثيرة.

اعادة توضيح وبيان

إنه ما دام أن المفروض بالإنسان هو أن يتعاطي مع جميع المخلوقات التي سخرها الله تعالي له، فقد كان لا بد من أن يخضع تعامله هذا، وكذلك تعامله مع نفسه ومع ربه ومع أي شيء آخر لضوابط تحفظه من الخطأ أو التقصير أو التعدي.؟

ولأجل قصور الإنسان الظاهر فقد شاءت الإرادة الإلهية من موقع اللطف والرحمة أن تمد يد العون له وأن تقوم بهدايته في مسيرته الطويلة المحفوفة بالمزالق والأخطار، هداية تامة تفضي به إلي نيل رضا الله سبحانه وتثمر الوصول إلي تلك الأهداف الكبري السامية وتحقيقها وهي إعمار الكون وفق الخطة الإلهية، التي تريد من خلال ذلك بناء إنسانية الإنسان وإيصاله إلي الله سبحانه وتعالي حيث يصبح جديراً بمقامات القرب منه تعالي حيث الرضوان والزلفي.

وإذا كان كذلك فانه يصبح واضحاً: أن المثل القرآني الذي يتمثل في تجربة سليمان وداود عليهما السلام، إنما أراد أن يجسّد ولو بصورة مصغّرة هذه الحقيقة بالذات ليتلمس هذا الإنسان الأهداف الإلهية وهي تتجسد واقعا حيا ملموساً، وليس مجرد خيالات أو شعارات أو آمال وطموحات غير عقلانية ولا مسؤولة ولا حتي خدمات غير عادية.

وهي أيضا تجّسد معني القيادة المطلوبة والصالحة لتحقيق هدف كهذا، حتي إن طائراً وهو الهدهد يضطلع بدورٍ حيويٍ، وفي مستوي مُلك بأسره، وكما أن أحد الحاضرين في مجلس سليمان يأتي بعرش بلقيس – ب_واسطة العلم الذي عنده من الكتاب _ قبل أن يرتد الطرف.

كما أن هذه الشواهد القرآنية وتلك الكرامات والمعجزات النبوية قد رسخّت هذه الحقيقة.

سواء بالنسبة لدور الإنسان في الكون وتعاطيه معه، أو

بالنسبة إلي حقائق راهنة لا بد أن تأخذ دورها وحقّها ويحسب حسابها علي مستوي التخطيط وعلي مستوي الممارسة.

أو بالنسبة إلي الدور الذي لا بد لهذه القيادة أن تضطلع به في مقام الرعاية التامة، والهداية العامة.وما يتطلبه ذلك من طاقات، ومن إمكانات ومواصفات قيادية خاصة ومتنوعة، لا تحصل إلا بالرعاية والتربية الإلهية لها،ولا تكون إلا في نبي أو في وصي.

وتصبح معرفة لغات الحيوانات، والوقوف علي كثير من أسرار الخلقة، ونواميس الطبيعة ضرورة لا بد منها لهذه القيادة التي لا بد أن ترعي، وتوازن، وتربي، وتحفظ، لكل شيء حقه، وكيانه ودوره في الحياة، حيث لا بدّ لها من التدخل المباشر، في أحيان كثيرة لحسم الموقف، ولحفظ سلامة المسار، كما لا بد لها من توجيه الطاقات والاستفادة منها في الوقت المناسب وفي الموقع المناسب بصورة قويمة، وسليمة، كما كان الحال بالنسبة لنبي الله داود أو نبي الله سليمان عليهما وعلي نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام.

النقاط علي الحروف

وبذلك يتضح: أنه لا بديل عن قيادة المعصوم إذ إن كل القيادات الأخري حتي إذا كانت عادلة لن يكون لها أكثر من دور الشرطي الذي ينجح في درء الفتنة حينا، ويفشل أحيانا.

أما إذا كانت قيادة منحرفة، فهناك الكارثة الكبري التي عبّرت عنها الكلمة المنسوبة إلي أمير المؤمنين علي عليه الصلاة و السلام حيث يقول (أسدٌ حطوم، خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم، خير من فتنة تدوم) [230] .

وقد اتضح أيضا أن وجود الأمام المعصوم في كل عصر وزمان أمر حتمي وضروري حتي ولو كان غائبا ومستورا، لأن هذا الأمام يحفظ ويرعي كثيراً من المواقع والمواضع في هذا الكون المسخّر للإنسان، والتي لولا حفظه ورعايته (ع) لها وقعت الكارثة،كما أنه

لولاه لساخت الأرض بأهلها، كما ورد في الروايات المعتبرة.

وبذلك نعرف السر في أن الروايات قد ذكرت: (أنه لو بقيت الأرض بغير إمام)، أو (لو أن الأمام رفع من الأرض ولو ساعة لساخت بأهلها، وماجت كما يموج البحر بأهله) [231] .

وأصبح واضحا معني الرواية التي تقول: (وأما وجه انتفاع الناس بي في غيبتي فكالشمس إذا جلّلها عن الأنظار السحاب).

واتضح أيضا سر معرفة الأئمة بعلوم الأنبياء، وسر أنهم يعلمون إذا أرادوا، وسرّ معرفتهم بألسنة جميع البشر وبألسنة أصناف الحيوان أيضا [232] إلي غير ذلك من خصائص وتفصيلات علومهم (ع) وفي حدود ولايتهم ورعايتهم لهذا الإنسان في هذا الكون الأرحب [233] .

وبذلك يتضح أنه لا مناص من الالتزام بالولاية التكوينية للأنبياء وأوصيائهم (ع).

ايضاح لا بد منه

ولكي تصبح الفكرة أكثر وضوحاً فيما يرتبط بالمعجزات والكرامات نقول: هناك معجزات وكرامات في اتجاهات ثلاثة:

الأول: معجزات وخوارق للعادات قد ظهرت للنبي الأكرم (ص) وللأنبياء السابقين، وكذلك الأوصياء، تهدف إلي مواجهة الإنسان المكابر بالصدمة التي توصد أمامه كل أبواب التملّص والتخلّص، والتجاهل للواقع، ودلائله القاهرة وأعلامه الباهرة وحججه الظاهرة، بحيث لو لم تظهر المعجزة أو الكرامة لاستطاع أولئك الشياطين أن يثيروا الشبهات المضعفة للدعوة والموجبة لزعزعة درجة الطمأنينة والوثوق لدي كثير ممن آمن بها، واطمأن إليها، أو يحدث نفسه بذلك.

فتأتي المعجزة لتثبت أولئك، وتشجّع هؤلاء، ولتسحق أيضا كبرياء المستكبرين، وتكسر شوكتهم. ويكون بها خزي المعاند، وبوار كيد الماكر والحاقد.

الثاني: وثمة معجزات وكرامات، وخوارق عادات أكرم الله بها أنبياءه وأولياءه تشريفا لهم، وتجلّةً وتكريماً، وإعزازاً لجانبهم. وقد يستفيد منها المؤمن القوي سموّاً ورسوخ قدم في الإيمان، ومزيد بصيرة في الأمر، حيث تسكن نفسه، ويطمئن قلبه، علي قاعدة قوله تعالي:

(قال: أولم تؤمن؟ قال: بلي ولكن ليطمئن قلبي) [234] . وعلي قاعدة (سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا) [235] .

ونلحق بهذا القسم ما يصدر عنهم عليهم السلام مما تقتضيه قواهم الروحية ومكانتهم النفسية وتعلقاتهم الغيبية، وهذا لا يُسأل عنه إلا علي نحو السؤال عن سبب صدوره عنهم لا عن سبب وجوده فيهم، وليس بالضرورة أن يكون فيه إظهار كرامة من الله لهم أو إعجاز يظهره الله تعالي علي أيديهم، بل هو من آثار طبيعتهم البشرية الصافية، التي تقتضي هذا النوع من الآثار بل تقتضي ما هو أكثر منه.

الثالث: ذلك القسم الذي هو عبارة عن تجلّي السنن والنواميس الواقعية التي تحكم المسار العام، فيما يرتبط بتبلور دور الشخصية القيادية الواقعية في نطاق هيمنتها علي الواقع العام، من خلال تلك النواميس وعلي أساسها، فتجسّد الكرامة والمعجزة بصفتها ضرورة حياتية في نطاق الهداية الإلهية علي أساس نواميس الواقع، وتجليّاتها حسب مقتضياته، الأمر الذي يعني أن تعامل النبي والإمام مع المخلوقات من موقع المدبر والراعي،والحافظ لها، باعتبارها جزءاً من التركيبة العامة، حيث لا بد من التعامل معها علي هذا الأساس.

وهذا القسم الأخير هو الذي يعنينا الحديث عنه هنا.

نقاط لا بد من التأكيد عليها

إن جميع ما قدمناه يمثل جوهر البحث الذي أردنا إطلاع القارئ علي موجز منه. ولكن لكي يتضح ما نرمي إليه بصورة أوفي وأصفي، لا بد من وضع النقاط علي الحروف في الأمور التالية:

1 _ حجم هذا الكون حسب البيان الإلهي.

2 _ الآيات الدالّة علي تسخير الموجودات للإنسان.

3 _ هذا الكون ليس جمادا،بل لديه درجة من الشعور والإدراك.. وذلك يعني أن ثمة مسؤولية ذات طابع

معين يتحمّلها هذا الإنسان في تصرفاته مع كل ما فيه.

4 _ نموذج تجسّدت فيه الخطّة الإلهية فيما يرتبط بالحاكمية التي يريد الله أن يوصل الإنسان إليها _ وهو قصة سليمان (ع).

حجم الكون حسب البيان الإلهي

واستطراداً نقول: إن سعة السموات والأرض التي سخر الله جميع ما فيها لبني الإنسان هي فوق حدود التصّور، وأكثر بكثير مما تشير إليه الإكتشافات التي تعتمد وسائل الرصد والإكتشاف المتطورة جداً في هذا العصر.

ونوضح ذلك علي النحو التالي:

إن لغة العرب، قد وضعت في بداياتها لمعانٍ حسيّة أو قريبة من الحس، فلم تكن قادرة علي تحمّل المعاني الدقيقة والعميقة إلا بالإستعانة، بأساليب بيانية متنوعة باستطاعتها توجيه الفكر والخيال باتجاه الأعماق والآفاق، ليقتنص المعني، أو يتلمسه بصورة أو بأخري.

فكانت الكنايات والمجازات، وكان التطعيم للمعاني الحسيّة بمعان إيمائية، تعتمد علي حالات الألفاظ، وطبيعة التراكيب المختلفة وخصوصياتها، حسبما تشير إليه _ جزئيا _ علوم البلاغة.

ولكن كل ذلك لم يف أيضا بالمطلوب، فكان لا بد من ضم المعاني بعضها إلي بعض في تراكيب متعددة، تشير كل منها إلي جزء أو إلي خصوصية في المعني المقصود بيانه.

ومن الأمثلة الواضحة علي ذلك، ما روي، من أن الأمام عليا عليه السلام قد استنبط أقل الحمل من الجمع بين آيتين قرآنيتين. إحداهما تقول: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) [236] ، والأخري تقول: (وفصاله في عامين) [237] فيكون اقل الحمل ستة أشهر.

أما بالنسبة لحجم السماوات التي سخّر الله كل ما فيها لهذا الإنسان. والتي ورد في الحديث عن النبي (ص): (ما السماوات السبع في الكرسي الا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وفضل العرش علي الكرسي كفضل الفلاة علي تلك الحلقة) [238] .

فقد استخدم لبيان حجمها وسعتها تراكيب

وكنايات متنوعة، فبين في بعض الآيات: أن السماوات سبع، ثم بين أن هناك سماء دنيا، أي قريبة وواطئة يقابلها سموات عالية وبعيدة.

وتحدث مشيراً إلي حجم السماء الدنيا والواطئة والقريبة بأسلوب آخر، حينما أشار إلي أنها هي التي تستوعب الكواكب، وتضم النجوم التي يصل نورها إلينا، حتي لو بقي يسير ملايين السنين الضوئية، فكل ما يصل نوره _ مهما بعد _ فهو من السماء الدنيا.

قال تعالي: (انا زينا السماء بزينة الكواكب) [239] .

وقال: (فقضاهن سبع سموات في يومين، وأوحي في كل سماء أمرها، وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا، ذلك تقدير العزيز العليم) [240] .

وقال سبحانه: (ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين) [241] .

وقال تعالي: (أفلم ينظروا إلي السماء فوقهم: كيف بنيناها وزيناها) [242] .

فالسماء الدنيا إذن أوسع مما نظن، وربما تصل امتداداتها إلي ما لا يعلم من السنين الضوئية، إذا كان ثمّة كواكب ونجوم يمكن أن يصل ضؤها إلينا، ونصير قادرين علي رؤيتها. وأصبحت تزين هذه السماء، وتعطيها المزيد من الرّواء والبهجة والبهاء.

فإذا كان هذا حال السماء الدنيا والقريبة، فما حال سائر السماوات: الثانية، ثم الثالثة، وهكذا إلي السابعة؟!

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتعداه إلي حقيقة علمية أخري تباريه وتجاريه، وهي: أن السماء في اتساع مستمر، كما قال تعالي: (والسماء بنيناها بأيدٍ وإنّا لموسعون) [243] .

ثم إنه تعالي قد قرّر في آية أخري: أن هذا الإنسان قادر علي اختراق جميع السماوات، والخروج منها جميعا إلي عالم جديد، لم يبّيّن ما هو، وما هي طبيعته، وآفاقه، وامتداداته. غير أنه أشار إلي أن هذا الاختراق سيواجه بصعوبات وموانع كبيرة وخطيرة، لن يمكن التغلب عليها إلا بالإعداد،

والحصول علي القوة، وامتلاك قدرات فائقة وكبيرة.

ثم بّين لنا طبيعة هذه الحواجز والعوائق ونوعها، ليفهمنا بأسلوب (بيان الواقع بتفاصيله): أن الكلام ليس مسوقاً علي سبيل الفرض والإدّعاء بهدف التعجيز، بل هو الحقيقة التي لا بد أن تقع في دائرة طموحات هذا الإنسان، وفي متناول أطماعه حين يريد الله له أن يفتح عينيه علي هذا الكون الرحيب، ويثير شهيته للتعامل معه، و للتسلّط والهيمنة عليه.

وقد أشار تعالي إلي ذلك كله في الآية الكريمة التي تقول: (يا معشر الجن والإنس، إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان. فبأي آلاء ربكما تكذّبان؟ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) [244] .

ثم قدّم نموذجاً عملياً لإمكان هذا الاختراق لآفاق السموات، وحدوثه بالفعل، وذلك في قضية المعراج برسول الله (ص). وهي قضية مسلمة عند المسلمين.

ومعني ذلك هو: أن البشرية بالنسبة لاكتشاف أسرار الكون ومعرفة آفاقه الرحبة وامتداداته الهائلة ربما هي اليوم لا تزال في عصرها الحجري السحيق. فكيف بالنسبة لتسخير ما في السموات والأرض، والهيمنة عليه.

تسخير المخلوقات للإنسان في الآيات القرآنية

وقد أشارت الآيات القرآنية إلي تسخير الموجودات للإنسان ويتضح ذلك بالتأمل في الآيات التالية:

(ألم تروا: أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) [245] .

(وسخّر لكم ما في السموات والأرض جميعاً منه) [246] .

(وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخّر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخّر لكم الليل والنهار. وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها) [247] .

(وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طريّاً، وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) [248] .

الشعور والإدراك لدي المخلوقات

ثم إن الإنسان يريد أن يتعامل مع عالمٍ ليس جماداً بقول مطلق، وإنما كل الموجودات فيه تمتلك درجة من الشعور والإدراك، وإن كنّا لا نعرف كنهه، ولا حدوده.

قال تعالي: (إنا عرضنا الأمانة علي السموات، والأرض، الجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، انه كان ظلوما جهولا) [249] .

فليلاحظ كلمة: وأشفقن منها فإن الإشفاق يرتبط بالمشاعر، لا في عالم الإدراك وحسب. وإضافة كلمة "والجبال" في الآية تظهر عدم صحة التفسير الذي يقول بأن المقصود هو العرض علي (أهل السماوات والأرض) من ملائكة وجن وغيرهما لو وجد.

ولو سلمنا جدلا صحة هذا التفسير فإن الآيات الأخري التي ذكرناها، تكفي في إثبات ما نرمي إليه.

وقال سبحانه عن داود (ع): (إنّا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق. والطير محشورة كل له أواب) [250] .

وقال في آية أخري عن داود أيضا: (يا جبال أوبي معه، والطير..) [251] والمراد بالتأويب ترجيع التسبيح علي ما يظهر.

وقال تعالي: (ويسبح الرعد بحمده) [252] .

وقال تعالي: (والنجم والشجر يسجدان) [253] .

وقال تعالي: (تسبح له السماوات السبع، والأرض، ومن

فيهن وإن من شي ء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) [254] .

ولو كان المراد التسبيح التكويني، بمعني تنزيه الله سبحانه فلا يبقي مجال لقوله (ولكن لا تفقهون تسبيحهم).

وتسبيح ما في السموات والأرض، مذكور في عدة آيات [255] .

وقال سبحانه: (لو أنزلنا هذا القرآن علي جبل لرأيته خاشعا متصدعا، من خشية الله) [256] .

وقال تعالي: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض، والشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، والدواب، وكثير من الناس) [257] .

وقال تعالي: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض، والطير صافات، كل قد علم صلاته وتسبيحه) [258] .

فكل ما تقدم يشير بوضوح إلي أن هذه المخلوقات تملك حالة شعورية وادراكية معينة، وليست مجرد جمادات أو حيوانات خاوية.

نماذج حية من تسخير الموجودات العاقلة

فإذا كان الله سبحانه قد سخر المخلوقات لهذا الإنسان، وكانت هذه المخلوقات تمتلك صفة الشعور والإدراك، ولها أعمال عقلانية، ومرتبطة بالشعور، ومستندة إليه، وهي علي درجة من الإدراك، فما علينا إلا أن نذكر هنا نموذجا قرآنياً حياً، وواقعياً لهذا التسخير تجلّت فيه طريقته، وأبعاده ومجالاته بصورة ظاهرة، حيث ذكرت الآيات أن الله سبحانه قد سخّر الريح، والطير، والجبال، والجن، لسليمان، وداود عليهما السلام.

قال تعالي: (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن،والطير، وكنا فاعلين) [259] .

وقال تعالي: (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلي الأرض التي باركنا فيها، وكنا بكل شيء عالمين. ومن الشياطين من يغوصون له،ويعملون عملا دون ذلك) [260] .

(إنا سخّرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق، والطير محشورة كل له أواّب) [261] .

وقال تعالي عن سليمان: (فسخّرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب، والشياطين

كل بناء وغواّصٍ، وآخرين مقرنّين في الأصفاد) [262] .

وقال تعالي: (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون) [263] نلاحظ كلمة: فهم يوزعون. أي يمنعون.

قصة سليمان و داود نموذج فذ

وإذا راجعنا سورة النمل، فإننا نجد فيها نماذج فذة عن تعاطي سليمان وداود (ع) مع ما آتاهما الله سبحانه في هذا المجال. وأول ما يواجهنا في الحديث عنهما عليهما السلام أنه تعالي قد وفّر لهما الأدوات الضرورية للتعامل مع هذه المخلوقات في نطاق رعايتها وهدايتها وتوجيهها. فنجدها تبدأ الحديث بأن الله قد آتاهما علما، وعُلّما منطق الطير، وأوتيا من كل شيء، ثم ذكرت الآيات نماذج تطبيقية لهذا العلم، وللمعرفة بجميع الألسنة.

ثم لتأثير ما آتاهم الله سبحانه في إدارة الأمور، وتوجيهها ورعايتها، والهيمنة عليها بصورة حيوية وبناءة وإيجابية، لا تأتي إلا بالخير، ولا تؤدي إلا إلي الفلاح.

فقد قال تعالي: (ولقد آتينا داود وسليمان علما، وقالا: الحمد لله الذي فضلنا علي كثير من عباده المؤمنين. وورث سليمان داود، وقال: يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء، إن هذا لهو الفضل المبين. وحشر لسليمان جنوده من الجن، والإنس، والطير فهم يوزعون. حتي إذا أتوا علي وادي النمل، قالت نملة: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم، لا يحطمنّكّم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، فتبسم ضاحكا من قولها) [264] .

مع آيات سورة النمل

وقد أظهرت الآيات المتقدمة كيف تم توظيف كل القدرات المادية وغيرها في تحقيق رضا الله سبحانه، وبناء الحياة وتكاملها باتجاه الأهداف الإلهية، ووفقا للخطة الربانية. بدءاً من قصة تبسًم سليمان من قول النملة، مروراً بقصّة الهدهد والدور الذي قام به، والإتيان بعرش بلقيس من قبل أحد أتباع سليمان (ع) بعلم من الكتاب قبل ارتداد الطرف، ثم تنكير عرشها لها، وانتهاءً بأمرها بدخول الصرح الذي حسبته لجة، مع أنه صرحٌ ممرد من قوارير.

وقد تجّسّد ذلك كله من خلال حاكمية وإمامة سليمان عليه وعلي نبينا وآله الصلاة

والسلام،ورعايته وهدايته التامة والشاملة.

وقد كانت هذه الهداية والرعاية مستندة إلي علم آتاه الله إياه، وإلي إمكانات ذات صفة شمولية. (وأوتينا من كل شيء) فلم يكن ثمة أي قصور في القدرات الذاتية، فقد علم سليمان منطق الطير، وأوتي من العلم ما يكفيه في مهمته الكبيرة والخطيرة.

كما أنه لم يكن ثمّة نقصٌ في الأمكانات المادية، كما أشرنا وكان سليمان أيضا يحظي برعاية الله تعالي له، ولطفه به، وتسديده وتأييده له، في درجة العصمة وغير ذلك.

فلم يبق والحالة هذه إلا المبادرة إلي القيام بالدور المرصود له في نطاق الإستفادة الواعية والإيجابية والبناءة من كل المخلوقات المسّخّرة لهذا الإنسان، وتوجيهها لتؤدي دورها في الحياة كاملاً غير منقوص.

وهذا ما حصل بالفعل، فكانت المعجزة الكبري، وكان الإنجاز العظيم وهذا ما سوف يتحقق بحول الله وقدرته بصورة أكثر رسوخاً وشموخاً وعظمة في عهد ولي الأمر قائم آل محمد عجل الله تعالي فرجه الشريف. وجعلنا من جملة العاملين في نصرته والمدركين لأيامه صلوات الله وسلامه عليه وعلي آبائه الطاهرين المعصومين.

پاورقي

[1] رؤي ومواقف، عدد 2، سنة 1417ه_، 1996م، دار الملاك، وجريدة فكر وثقافة.

[2] الندوة، ج2، ص 444.

[3] الزهراء المعصومة: ص 47 و 48.

[4] الزهراء القدوة ص 240.

[5] و قد اعترف هذا البعض: أنه كان يتكلم باللهجة العامية وذلك في شريط مسجل له، مع أحد أصدقائه الموجودين في قطر، وذلك في نفس الشريط الذي قال فيه: لعل الزهراء لم تكن تدري: أنها يجب أن تستيقظ لصلاة الصبح، وقد أراد النبي (ص) أن يعلمها هذا الحكم، حين حركها برجله (!!) وقال لها: قومي يا بنية لا تكوني من الغافلين.فإذا كان يتكلم بالعامية، فيكون قوله لا تكون منطلقاتكم، يريد به: لا تكن

منطلقاتكم.. لأن المقصود هو العامية باللهجة العراقية، وهي اللهجة التي يفضل أن يتحدث بها، وأن لا يتخلي عنها، الأمر في اللهجة اللبنانية أيضاً كذلك. فإن المعني أحذرك أن تكون قد فعلت ذلك سواء باللهجة العامية اللبنانية أو العراقية.

[6] سورة يونس الآية 35.

[7] ندوة في مناسبة ولادة الزهراء في هذه السنة 1418 ه. ق. (قاعة الجنان).

[8] نشرة بينات العدد الصادر في 25 _ 10 _ 1996.

[9] بينات العدد الصادر بتاريخ 25 _ 10 _ 1996.

[10] المصدر السابق.

[11] نفس المصدر.

[12] جريدة النهار بتاريخ 29/7/1997 م.

[13] تأملات في آفاق الإمام الكاظم ص40 _ 44 ولاسيما ص43.

[14] تأملات في آفاق الإمام الكاظم ص40 _ 44. ويلاحظ: أن هذا البعض ينسب هنا كتاب الإختصاص المتضمن للمصائب التي جرت علي الزهراء للشيخ المفيد رحمه الله تعالي الذي ينسب إليه إنكار ذلك أو علي الأقل عدم ذكره لهذا الأمر في مؤلفاته...

[15] مجلة المنطلق عدد111 ص 76 _ 79.

[16] مجلة المرشد عدد 3 _ 4 ص 244.

[17] نشرة فكر وثقافة العدد 22 بتاريخ 23 _ 11 _ 1996.

[18] دنيا المرأة ص29.

[19] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 9 ص 212 و 213.

[20] إرشاد الفحول ص 159.

[21] إرشاد الفحول ص 261.

[22] إرشاد الفحول ص 78.

[23] نهاية السؤل ج 4 ص 560 وراجع ص 558 وراجع: الأحكام للآمدي ج 4.

[24] نهاية السؤل ص 567.

[25] راجع: حوارات في الفكر والسياسة والإجتماع ص 480.

[26] فكر وثقافة عدد 177 ص3 بتاريخ 29 /3 /1421 ه_.ق.

[27] فقه الشريعة ج1 ص7 الطبعة الأولي سنة 1420 ه_.

[28] فكر وثقافة عدد 167 صادر في 17/1/1421 ه_.

[29] المصالح المرسلة: قد يجد المجتهد فعلا من الأفعال ورد من الشارع فيه حكم، ويري فيه وصفا

يناسب حكما آخر، من حظر، أو طلب، أو إباحة، أو لم يرد عنه حكم في ذلك الفعل أو الوصف ليناسب حكما، وهذا الوصف قام الدليل علي اعتباره بنوع من الإعتبارات الثلاثة السابقة بأن ورد عن الشارع ما يؤذن باعتبار عينه في جنس الحكم المراد إعطاؤه له أو اعتبار جنسه في عين ذلك الحكم، أو جنسه.وهذا الحكم يسميه الأصوليون: المناسب المرسل الملائم، ويسميه المالكية المصالح المرسلة، ويسميه الغزالي: الإستصلاح. مجلة المرشد العددان 3و4 هامش ص246 عن محمد الخضري، أصول الفقه ص 311 طبعة دار الفكر.

[30] للإنسان والحياة ص169.

[31] فكر وثقافة بتاريخ 6/7/1996. ص 2.

[32] راجع مجلة المرشد ص 265.

[33] من وحي القرآن الطبعة الثانية، دار الملاك، ج4 ص202 _ 205.

[34] المصدر السابق ج2ص245.

[35] الندوة ج2 ص 460و 461.

[36] الندوة ج2 ص461.

[37] الندوة ج1ص 828 وتحديات المهجر ص139.

[38] راجع: فقه الحياة ص33و34 متناً وهامشاً.

[39] بحار الأنوار ج4ص143 و141 وج58 ص252و253، وكتاب التوحيد للشيخ الصدوق ص122 و123 و127و130 نشر دار المعرفة بيروت لبنان.

[40] المعارج ص 544 و 545.

[41] كتاب النكاح ج1 ص58.

[42] نفس المصدر.

[43] كتاب الوصية ص121.

[44] مجلة المنطلق عدد 113 ص24.

[45] الندوة ج1 ص503.

[46] الندوة ج1 ص 539.

[47] فكر وثقافة عدد 6 بتاريخ 27 _ 7 _ 1996.

[48] البحار ج2 ص 225 وج 50 ص80 عن الاحتجاج.

[49] البحار ج2 ص229 وج34 ص169 عن الخصال وعن نهج البلاغة وعن تحف العقول وعن غيبة النعماني وعن الاحتجاج ج1 ص263 ط بيروت.

[50] تأملات في المنهج البياني للقرآن ص11 _ 13.

[51] كتاب النكاح ج1ص48.

[52] من وحي القرآن، الطبعة الثانية دار الملاك، ج4 ص311.

[53] كتاب النكاح ج1 ص48.

[54] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج15 ص 156 157.

[55] من وحي القرآن: الطبعة الأولي،

ج 14ص 12/14.

[56] البحار ج2 ص 186 والكافي ج2 ص223 حديث 7.

[57] البحار ج2 ص 186 وراجع ص187 و 188 وراجع المحاسن للبرقي ص 230 و231.

[58] مجلة المنطلق، العدد 113 ص32.

[59] من وحي القرآن: الطبعة الثانية دار الملاك، ج 17 ص 313.

[60] بينات عدد 199 بتاريخ 22 جمادي الثانية 1421ه_/ الموافق 22 أيلول 2000م.

[61] بحار الأنوار ج1 ص225.

[62] سورة يونس، الآية: 9.

[63] سورة محمد، الآية: 17.

[64] البحار ج75 ص189.

[65] الكافي ج1 ص56.

[66] الكافي ج1 ص54.

[67] الكافي ج1 ص54.

[68] الكافي ج1 ص54.

[69] الكافي ج1 ص54.

[70] الكافي ج1 ص56.

[71] الكافي ج1 ص58.

[72] في بعض النسخ بالغين المعجمة وفي بعضها بالمهملة وبهما قرئ قوله تعالي: (قد شغفها حباً) وعلي الأول معناه: دخل حب كلام البدعة شعاف قلبه أي حجابه وقيل سويداءه، وعلي الثاني غلبه حبه وأحرقه فإن الشغف بالمهملة شدة الحب وإحراقة القلب (آت).

[73] بفتح الهاء وسكون المهملة أي السيرة والطريقة.

[74] كذا في أكثر النسخ من قولهم عني فيهم أسيراً أي أقام فيهم علي اسارة واحتبس وعند غيره حبسه والعاني: الأسير، أو من عني بالكسر بمعني تعب، أو من عني به فهو عان أي اهتم به واشتغل. وفي بعض النسخ بالغين المعجمة من الغني بالمكان كرضي أي أقام به، أو من غني بالكسر أيضاً بمعني عاش. والغبش بالتحريك ظلمة آخر الليل (آت).

[75] أي لم يلبث يوماً تاماً.

[76] أي خرج للطلب بكرة وهي كناية عن شدة طلبه واهتمامه في كل يوم أو في أول العمر إلي جمع الشبهات والآراء الباطلة.

[77] أي شرب حتي ارتوي، والآجن: الماء المتغير المتعفن.

[78] أي عدّ ما جمعه كنزاً وهو غير طائل. أي ما لا نفع فيه.

[79] العشوة: الظلمة أي يفتح علي الناس ظلمات الشبهات؛

والخبط المشي علي غير استواء.

[80] أي كما أن الريح في حمل الهشيم وتبديده لا تبالي بتمزيقه واختلال نسقه كذلك هذا الجاهل يفعل بالروايات ما تفعل الريح بالهشيم؛ والهشيم ما يبس من النبت وتفتت.

[81] المليء بالهمزة: الثقة والغني، والاصدار الارجاع.

[82] الكافي ج1 ص58 _ 59 والبحار ج101 ص266/267 ونهج البلاغة ج1 الخطبة رقم 17 ومصادر نهج البلاغة عن: غريب الحديث لابن قتيبة وعن قوت القلوب ج1 ص290 وأمالي الطوسي ج1 ص240 وعن الاحتجاج ج1 ص390 وعن الإرشاد للمفيد ص109 وغيرهم.

[83] إرشاد الفحول ص202 عن أحمد، وأبي داود، والترمذي وغيرهم والسنن الكبري ج10 ص114 والإحكام في أصول الأحكام ج7 ص111 وج6 ص26 لابن حزم وأعلام الموقعين ج1 ص202 وسنن أبي داود ج3 ص330 والأحكام السلطانية ص85 والبرهان في أصول الفقه ج2 ص772 و1186 و1356 والإحكام في أصول الاحكام للآمدي ج4 ص123 و280 ونصب الراية ج4 ص63 وسنن أبي داود ج2 ص303 والجامع الصحيح ج3 ص616.

[84] عون المعبود ج9 ص510.

[85] الإحكام في أصول الأحكام ج7 ص112 وراجع ج6 ص35.

[86] عون المعبود ج9 ص510.

[87] الإحكام في أصول الأحكام ج7 ص112 وج6 ص35 ونصب الراية ج4 ص63 وعون المعبود ج9 ص510 و511.

[88] راجع: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج4 ص29.

[89] سنن ابن ماجة ج1 ص21، وراجع: أعلام الموقعين ج1 ص202.

[90] عون المعبود ج9 هامش ص509.

[91] الكافي ج1 ص 239 والوسائل ج 29 ص 356 وبصائر الدرجات ص 151 – 152 حديث 3.

[92] الكافي ج 1 ص 240 وبصائر الدرجات ص150 و151 والبحار ج26 ص37 و38.

[93] الكافي ج1 ص241.

[94] الكافي ج1 ص242.

[95] بصائر الدرجات ص147.

[96] راجع معاني الأخبار ص102 و103 والخصال ج2 ص527 وعيون أخبار الرضا ج1 ص212 و213 والبحار ج25

ص116.

[97] بحار الأنوار ج75 ص247 وج101 ص263 و264 والكافي ج7 ص407.

[98] شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص88، ونهج البلاغة ج1 الخطبة رقم 18 ومطالب السؤل ج1 ص641 والاحتجاج ج1.

[99] بحار الأنوار ج101 ص270 ودعائم الإسلام ج1 ص92 و93 ومستدرك الوسائل ج17 ص245. وبصائر الدرجات.

[100] سورة المائدة الآية: 67.

[101] الكافي ج1 ص375.

[102] سورة يونس الآية 32.

[103] سورة القلم، الآيتان 35 و36.

[104] سورة فاطر، الآيات 19 – 21 وقريب من ذلك في سورة الرعد الآية 16.

[105] سورة الحشر، الآية 20.

[106] سورة الزمر، الآية 9.

[107] سورة السجدة، الآية 18.

[108] سورة فصلت، الآية 34.

[109] نشرة فكر وثقافة عدد 67 بتاريخ 17 _ 1421 ه_، ص 3.

[110] المصدر السابق ص 4.

[111] المصدر السابق ص2.

[112] للإنسان والحياة ص310.

[113] راجع فيما تقدم: هذا الكتاب: خلفيات ج1 ص288و289.

[114] نشرة بينات العدد 184.

[115] سورة المائدة الآية 32.

[116] للإنسان والحياة ص307 _ 310.

[117] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 15 ص 10.

[118] من وحي القرآن ج17ص 298 و 299.

[119] للإنسان و الحياة ص307 و310.

[120] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 8 ص 91/93.

[121] للإنسان والحياة ص 307و310.

[122] للإنسان والحياة ص7 30و310.

[123] سورة الأعراف آية 52و53.

[124] سورة يونس آية 39.

[125] سورة يوسف آية 37.

[126] سورة آل عمران آية 7.

[127] سورة يوسف الآية 6.

[128] سورة يوسف الآية 101.

[129] سورة يوسف الآية 21.

[130] الكافي ج 1 ص213 وتفسير البرهان ج1 ص 270و272 عنه وعن تفسير العياشي ج1 ص164.

[131] الكافي ج 1 ص 213 والبرهان في تفسير القرآن ج 1ص 270 و271 وتفسير القمي ج 1 ص 96و97 وعن العياشي ج 1ص 164.

[132] تفسير العياشي ج1 ص 164 والبرهان في تفسير القرآن ج 1 ص 271.

[133] بحار الأنوار ج

43 ص 359عن الأمالي للشيخ المفيد. وعن الأمالي للشيخ الطوسي ص 120 ط مؤسسة البعثة _ دار الثقافة.

[134] كنز العمال ج2 ص 186، وليراجع ج1 ص 337، وحياة الصحابة ج3 ص 456 عنه وعن العسكري، وراجع: نور القبس ص 268/269.

[135] الزهد والرقائق، قسم ما رواه نعيم بن حماد ص23 وفي الهامش عن المشكاة ص 27، وراجع الإتقان ج2 184 و 128، والموافقات للشاطبي ج 3ص 382 وفي الهامش عن روح المعاني وعن المصابيح، وراجع غرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج 1 ص 23 و21 ولباب التأويل للخازن ج 1 ص 10 والفائق ج 2 ص 381 وراجع التراتيب الإدارية ج 2 ص 176.

[136] الزهد والرقائق، قسم ما رواه نعيم بن حماد ص23.

[137] الإتقان ج2 ص 185 عن ابن أبي حاتم.

[138] كنز العمال ج1 ص 488 عن أبي عبيد في فضائله وعن أبي نصر السجزي في الإبانة.

[139] المصنف للصنعاني ج11 ص 255، والإتقان ج 2 ص 185 عن ابن سبع في شفاء الصدور، وحلية الأولياء ج1 ص 211 والطبقات الكبري ج 2 قس 2 ص 114 والغدير ج3 ص 99 وج 2 ص 45 عن أبي نعيم وعن مفتاح السعادة ج1 ص100.

[140] نهج البلاغة ج 2 ص150بشرح عبده قسم الكتب والوصايا رقم 77.

[141] مثل المحاسن البرقي ص270 والبحار ج92 ص 78 _ 106 وتفسير العياشي ج 1ص 11 وتفسير البرهان ج 1 ص 19 _ 21 وتفسير الصافي ج1 ص 29و 31. ومعاني الأخبار ص 259 والغدير ج7 ص 108 عن ابن مسعود وميزان الحكمة ج1 ص 95.

[142] كفاية الأصول آخر مبحث (استعمال اللفظ في أكثر معني) ووسائل الشيعة للكاظمي ص13.

[143] التراتيب الإدارية ج 2

ص179.

[144] سورة آل عمران، آية 7.

[145] البحار ج92 ص 82 عن تفسير القمي ج1 ص4.

[146] أصول الكافي ج 2 ص 438.

[147] البحار ج92 ص103 و20 وج 78 ص 278 عن كتاب الأربعين، وعن الدرة الباهرة، وجامع الأخبار ص 48/49.

[148] التراتيب الإدارية ج2 ص 183 وبحار الأنوار ج 89 ص 103 و93 عن أسرار الصلاة، ومناقب آل أبي طالب ج 2 ص 53 وتفسير البرهان ج1 ص 3 وينابيع المودة ص 65 وجامع الأخبار والآثار للأبطحي ج2 ص48 وإحقاق الحق (الملحقات ج7 ص 594 كلاهما عن: أسرار الصلاة ص 138 وعن شرح ديوان أمير المؤمنين ص 15 مخطوط، وشرح عين العلم وزين الحلم ص 91 والروض الأزهر ص33 وجالية الكدر ص40 وتاريخ آل محمد ص150.

[149] إحقاق الحق (الملحقات ج 7ص 595 عن ابن طلحة في مطالب السؤل ص26، وراجع: كشف الغمة ج1ص130 والتفسير الكبير للرازي ج1 ص 106 ومستدرك سفينة البحار ج1 ص 231 و316.

[150] بحار الأنوار ج 40 ص 186 عن مشارق أنوار اليقين.

[151] بحار الأنوار ج 89 ص 104.

[152] مستدرك سفينة البحار ج1 ص 231 وإحقاق الحق ج7 ص595 عن الشعراني في لطائف المنن ج1 ص171 وراجع: جامع الأخبار والآثار للأبطحي ج2 ص48.

[153] مستدرك سفينة البحار ج1ص231.

[154] سورة الحجر آية 87.

[155] تفسير البرهان ج1 ص40و41و42 وغرائب القرآن (بهامش جامع البيان) ج1 ص28وتفسير العياشي ج1 ص 21.

[156] راجع البحار ج82 ص 21 و ج89 ص 238 عن العياشي ج1 ص 22 و21 ومجمع البيان ج1 ص 19. وتفسير البرهان ج1 ص 42 والتفسير الكبير ج1 ص 204 ومستدرك الوسائل ج4 ص166و167 وجامع الأخبار والآثار ج2ص62 و61 و63 عن من تقدم وعن مواهب الرحمن ص 21.

[157]

التفسير الكبير ج1 ص5 والتراتيب الإدارية ج 2 ص 183 عنه.

[158] التراتيب الإدارية ج2 ص 183.

[159] المصدر السابق.

[160] من وحي القرآن ج15 ص176.

[161] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 5 ص 171 / 172.

[162] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 14 ص 384.

[163] نشرة فكر وثقافة عدد 1 تاريخ المحاضرة 29 _ 6 _ 1996.

[164] الندوة ج1 ص 360.

[165] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 13 ص 388 و 389.

[166] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 8 ص 170.

[167] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 23 ص 186/187.

[168] الوسائل ج 20 ص 196. ومن لا يحضره الفقيه ج 4 ص 8 والخرائج والجرائح ج 2 ص 190.

[169] الوسائل ج 2 ص 211 و212. وبصائر الدرجات ص 261 وقرب الاسناد ص 21 والارشاد ص 273 وكشف الغمة ج 2 ص 288 والخرائج والجرائح ج2 ص 1166 و226 ورجال الكشي 170 _ 288.

[170] الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص) ج 8.

[171] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 14 ص 157.

[172] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 9 ص 141 _ 142.

[173] المعارج: عدد 28 _ 31، ص 543.

[174] المصدر السابق: ص 544.

[175] المعارج: ص 610 _ 612.

[176] الصحيح: غير العادية.

[177] المعارج: ص 654، 656، والحوار في القرآن ص 103و104.

[178] سورة الجمعة، آية 2.

[179] راجع أجوبة البعض علي فتاوي المرجع الديني الشيخ جواد التبريزي، الجواب رقم11.

[180] المصدر السابق.

[181] راجع الولاية التكوينية ص134 للشيخ جلال الدين الصغير، عن شريط مسجل بصوت البعض، وقد استبدلنا الكلمات العامية بمشابهاتها الفصيحة.

[182] الجواب رقم 11.

[183] وحي القرآن: الطبعة الثانية دار الملاك، ج 5 ص 38.

[184] المعارج: ص 327 _ 328.

[185] من وحي القرآن:

الطبعة الثانية دار الملاك، ج 6، ص 26 _ 34.

[186] المعارج: العدد 28 _ 31، ص 567 و 568.

[187] سورة الحديد، الآية: 25.

[188] سورة الإسراء: الآية 94 _ 95.

[189] الموسم، العددان: 21، 22 ص 243.

[190] المصدر السابق.

[191] المصدر السابق: ص242.

[192] الكافي ج 2 ص 223، والبحار ج 72 ص 76، وراجع: ج 25 ص 365/366، عنه وعن مختصر بصائر الدرجات ص 98.

[193] راجع: نشأة الأشعرية وتطورها ص234 فما بعدها، واللمع ص 76 و78.

[194] سورة يونس، الآية: 100.

[195] سورة البقرة، الآية: 249.

[196] سورة ابراهيم: الآية: 40.

[197] سورة النمل: الآية: 19، وسورة الاحقاف: الآية: 15.

[198] مصباح الشريعة ص 177 وبحار الأنوار ج 67 ص 179.

[199] سورة الجن: الآية 27.

[200] سورة التكوير: الآية 24.

[201] سورة آل عمران: الآية 49.

[202] سورة يوسف: الآية 37.

[203] سورة آل عمران: الآية 44.

[204] قد تقدم ذلك عن كتابه من وحي القرآن الطبعة الجديدة ج6 ص34.

[205] سورة الأحقاف: الآية 9.

[206] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 17 ص21.

[207] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 13 ص 282 و283.

[208] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 9 ص 79 _ 81.

[209] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 6 ص 82/83/84.

[210] سورة الإسراء الآية 90 _ 93.

[211] سورة الأحزاب الآية 45 _ 46.

[212] يلاحظ إقحامه كلمة (بلا حدود) ولا يخفي علي الناقد البصير سبب هذا الإقحام.

[213] سورة الإسراء الآيات 94 _ 95.

[214] سورة النمل الآية 15.

[215] سورة النمل الآية 16.

[216] سورة ص الآية 20.

[217] سورة النمل الآية 40.

[218] المسائل الفقهية ج 1 ص 312.

[219] مجلة المعارج، السنة الثامنة ص 328و329.

[220] وقد سمعنا عن بعض المولعين بالبعض. انه يبني علي شرك القائل بها، تبعال له ولكنه بنفس الوقت

يقول بطهارة القائل بها بناء علي ما يذهب اليه هذا البعض من طهارة كل انسان.

[221] سورة هود الآية 61.

[222] سورة الانشقاق الآية 6.

[223] سورة الحديد الآية 25.

[224] ولعل هذا ما يفسر لنا الحديث الذي يكثر السؤال عن معنا ه: (من رآنا فقد رآنا، فإن الشيطان لا يتمثل بنا) حيث يكون هذا القول قد جاء ليعالج شائعات ربما كان أعداء أهل البيت من الأمويين وغيرهم يطلقونها في مواجهة الناس الذين كانوا يخبرون عن مشاهداتهم للأئمة في المواضع البعيدة جدا عن محل سكناهم، كبني أسد وأهل المدائن. فيتخلص اؤلئك الحاقدون من الاحراجات بالقول: إن الذي رأيتموه شيطان. فيأتي الرد من قبل الأئمة عليهم السلام:: (من رآنا فقد رآنا، فإن الشيطان لا يتمثل بنا).

أما قولهم عليهم السلام: (من رآنا فكذبوه) فربما يكون المراد به رد من يدعي رؤية الإمام قائم آل محمد عجل الله تعالي فرجه الشريف في أيام الغيبة بهدف تضليل الناس واستغلال طهارتهم، فأوصدوا (ع) هذا الباب الذي ق_د يحاول الطامحون أو المستغلون النفاذ منه إلي عقول الناس الأمر الذي تترتب عليه سلبيات كثيرة وخطيرة فيما يرتبط بسلامة المسيرة الإيمانية.

[225] سورة الأنبياء الآية 107.

[226] سورة الفرقان الآية 1.

[227] سورة يوسف الآية 104 _ وراجع سورة الانعام الآية 90.

[228] سورة الرحمن الآية 33.

[229] راجع علي سبيل المثال: السيرة الحلبية الجزء 3 ص: 283 _ 284 _ والسيرة النبوية لدحلان مطبوع بهامش السيرة الحلبية الجزء 3 ص 128وما بعدها.

[230] البحار الجزء 75 ص 359. عن كنز الفوائد للكراجكي وراجع دستور معالم الحكم صفحة 170 وغرر الحكم ودرر الكلم ج1ص437 وج 2 ص 784.

[231] راجع بصائر الدرجات ص 488 _ 489 والكافي ج1 ص 179 _ 198 والغيبة للنعماني

ص 138 _ 139.

[232] راجع كتاب بصائر الدرجات وفيه التفاصيل حول الأئمة عليهم السلام في جميع المجالات وراجع أيضا البحار للعلامة المجلسي والكافي ج1 وغير ذلك.

[233] راجع كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص) ج 8 ص 347 –360.

[234] سورة البقرة الآية 26.

[235] سورة الإسراء الآية 1.

[236] سورة الأحقاف، آية: 15.

[237] سورة لقمان آية: 14.

[238] راجع: البحار: ج 57 ص 5و17 وج77 ص71 و73 عن الآمالي للطوسي ج 2 ص 138 وفي هوامشه عن معاني الأخبار ص 333 وعن الخصال ج 2 ص 103 و 104 والدر المنثور ج 1 ص 328.

[239] الصافات، آية 6.

[240] سورة فصلت الآية 12 وراجع سورة الملك الآية 5.

[241] سورة الحجر، الآية 16.

[242] سورة ق الآية 6.

[243] سورة الذاريات، الآية 47.

[244] سورة الرحمن، الآية 33 _ 35.

[245] سورة لقمان الآية 20.

[246] سورة الجاثية الآية 13.

[247] سورة إبراهيم: الآيات 32 _ 34.

[248] سورة النحل من آية 14 حتي آية 18.

[249] سورة الأحزاب الآية 72.

[250] سورة ص الآية 18 _ 19.

[251] سورة سبأ الآية 10.

[252] سورة الرعد الآية 13.

[253] سورة الرحمن الآية 6.

[254] سورة الإسراء الآية 44.

[255] راجع: سورة الحشر الآيات 1 و 24 والتغابن 1 والصف 1 والجمعة 1 والحديد 1.

[256] سورة الحشر الآية 21.

[257] سورة الحج الآية 18.

[258] سورة النور الآية 41.

[259] سورة الأنبياء الآية 41.

[260] سورة الأنبياء الآيات 81 _ 82.

[261] سورة ص الآيتان 18 _ 19.

[262] سورة ص الآيات 36 _ 38.

[263] سورة النمل الآية 17.

[264] سورة النمل الآيات 15 _ 19.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.