رسائل آل طوق القطيفي المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ أحمد آل طوق

المحقق: شركة دار المصطفى (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

الناشر: شركة دار المصطفى (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

المطبعة: شركة دار المصطفى (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1422 ه.ق

الصفحات: 538

المكتبة الإسلامية

رسائل آل طوق القطيفي

المحرّر الرّقمي: محمّد علي ملك محمّد

ص: 1

اشارة

ص: 2

رسائل آل طوق القطيفي

مجموعة مؤلفات العلامة المحقق الشيخ أحمد بن الشيخ صالح آل طوق القطيفي

المتوفی بعد سنة 1245 ه

المجلد الثالث

تحقيق ونشر

شركة دار المصطفی صلی اللّه عليه وآله لإحياء التراث

ص: 3

اسم الكتاب... رسائل آل طوق القطيفي ج3

تأليف... العلامة الشيخ أحمد آل طوق

تحقيق ونشر وتوزيع... شركة دار المصطفی (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

صف وإخراج... شركة دار المصطفی (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

الطبعة... الأولی 1422 ه- 2001 م

يطلب من:

لبنان - بيروت - ص.ب: 4/197 - هاتف

سوريا - دمشق - ص.ب: 733 - السيدة زينب - تلفاكس: 6420085 011

إيران - قم - ص.ب: 37185/3156 - هاتف: 778865 - فاكس: 778855

تحقيق و نشر شركة دار المصطفی صلی اللّه عليه وآله لإحياء التراث

بيروت - لبنان - ص.ب: 24/197

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 5

جميع الحقوق محفوظة لشركة دار المصطفی (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

ص: 6

الرسالة الثامنة عشرة : نزهة الألباب ونُزُل الأحباب

اشارة

ص: 7

ص: 8

المقدمة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين ، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم ، وصلّى اللّه على محمّد : وآله الطيّبين ، والحمد لله ربّ العالمين.

أما بعد :

فهذه فوائد متفرّقة من فنون شتّى ، كتبتها في أوقات متعدّدة ، على تشتّت بال ، وشدّة بلبال ، فأحببت أن أنظمها في عقد ، لعلّ اللّه ببركة محمّد : وآله صلّى اللّه عليه وعليهم أن يقبلها وينفع بها طالبها.

ص: 9

ص: 10

[1] مسألة في حقيقة النفس الإنسانيّة

اعلم أن النفوس البشرية خلقت مفطورةً على كمال الاختيار ؛ ولذا كان لها بأصل فطرتها القدرة على الاختراع والابتداع ، والصدق والكذب ، والفعل والانفعال ، والتصوير وإحداث الصور المتخيّلة والمتوهّمة ، وذلك ما سألتْهُ بلسان إنّيتها (1) وافتقارها من بارئها ، فقد أعطى كلّ شي ء خلقه ثمّ هدى (2) ؛ لأنّ أفعاله عزوجل مبنيّة بحكمته على كمال الاختيار إيجاداً وتكليفاً ( وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ) (3) في كلّ مقام.

فالنفس لها ذلك في عالم الغيب والشهادة ، كما يشاهد من فعل النائم والبَرْهَمِ والساحر والعيّان وأهل الصنائع العجيبة ، وحمرة الخجل وصفرة الوجل ، وما يحدث من أبصار بعض الحيوانات ، إلى غير ذلك.

و [ لمّا ] كانت النفس الأمّارة وجه الإنيّة التي هي الماهيّة ، ومادّة آلتها هي المطاعم التي للشيطان فيها نصيب ولامسها (4). والمعصية من جنس الأمّارة وإلفاً لها ،

ص: 11


1- الإنّيّة : الوجود ، شرح المواقف 1 : 55.
2- إشارة إلى قوله تعالى : ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) . طه : 50.
3- إبراهيم : 34.
4- كذا في المخطوط.

فأوّل ما يعرف المكلّف نفسه يقول : أنا ، ويميل إلى الفعل والأمر دون الانفعال والائتمار ، فشأنها تصوير ما لا أصل له في الوجود وابتداعه ، فلم تزل الأمّارة تشتدّ فعليّتها إلى زمن البلوغ أو قريب منه ، فيظهر أثر شعاع العقل ، ولكنّه مقهور بالأمّارة ؛ لقوّتها حينئذٍ وضعفه. وهي لا تميل إلّا إلى المعصية ؛ لأنّها فعل ، ولأنّها مناسبة لها ومشاكلة.

وأوامر الشرع حينئذٍ فعل وقهر لها ، واستعباد وحبس لها عن مقتضى ذاتها ، ومادّة آلتها بل مادّتها ، فمن أجل ذلك تجد أكثر النفوس حتّى الأطفال مائلة لفعل المعصية والبدعة والشبهة ؛ لما بينهما من المناسبة والمشاكلة. ممتنعةً عن قبول الأوامر الشرعيّة ؛ لما بينهما من المباينة ، ولضعف العقل وانقهاره حينئذٍ ، ولما فيها عليها من لزوم ذلّ العبوديّة بعد رسوخ حبّ القاهريّة والاستقلال والأمر والنهي.

فالطاعة صعود ، والمعصية هبوط. والطاعة انفعال وقبول لأنها من اللّه ، والمعصية فعل لأنّها من الشيطان. فالخمر والميسر رجس من عمل الشيطان (1). ( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) (2).

فما منها [ من ] (3) ] الهبوط والفعل أخفّ وأشهى لها وعليها من أضدادها ، [ فبهذا ] (4) ظهر سرّ تسارع النفوس أكثرها إلى قبول المعصية والباطل والميل إليه ، ونفرة أكثر النفوس من قبول أوامر الشرع ومناهيه ، واللّه العالم.

ص: 12


1- إشارة إلى ما في سورة المائدة : 90.
2- النساء : 79.
3- في المخطوط : ( و ).
4- في المخطوط : ( فبهلا ).

[2] كشف حال وبيان إجمال ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ .. )

قوله تعالى : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ ) (1).

الذي يقتضيه النظر في الروايات (2) الواردة في تفسيرها عن أهل العصمة عليهم السلام أن المراد بالعباد فيها هم آل محمَّد صلى اللّه عليه وآله : خاصّة ، لكن بالمعنى الأعمّ ، وهم أهل الإيمان من ذرّيّة عليّ : وفاطمة : سلام اللّه عليهما وأَضافهم لنفسه تعالى إظهاراً لشرف أبَوَيْهِم ، وأن الضمائر الثلاثة في الأقسام الثلاثة [ راجعة (3) ] للعباد المذكورين لا للمصطفَين خاصّة ، فقد نطقت الأخبار أنّها ليست عامّة بل خاصّة بهم. فالسابق : الإمام ، والمقتصد : العارف بحقّ الإمام منهم ، والظالم لنفسه : الجالس في بيته لا يعرف حقّ الإمام. وأن من قام بالسيف ودعا الناس إلى الضلال خارج من مدلول الآية الكريمة.

ص: 13


1- فاطر : 32.
2- تفسير القمي 2 : 210 ، الكافي 1 : 214 - 215 / باب أنّ من اصطفاه اللّه من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمة عليهم السلام ، مجمع البيان 8 : 526 ، البرهان في تفسير القرآن 4 : 546 ، كنز الدقائق 8 : 348 - 355.
3- في المخطوط : ( راجع ).

ص: 14

[3] جمع وتنبيه ( ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ )

قوله تعالى : ( وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) (1) ، لا ينافي ما تضاعف على ثبوته البرهان عقلاً ونقلاً (2) من علمه صلى اللّه عليه وآله بجميع كلّيّات العالَم وجزئيّاته ممّا كان أو يكون ؛ [ فإنّه (3) ] في الآية الكريمة نفى الدراية والعلم عن نفسه من تلقاء نفسه استقلالاً وبالذات ، فأشار بذلك أن ليس لنفسه عند نفسه اعتبار ، بل إنه مستغرق في عبوديّة اللّه والتلقّي منه على كلّ حال. فعلمه ودرايته أعلى مراتب اليقين ، لا يشوبه ظنّ ولا وهم ولا تخمين ، ولا ينطق عن الهوى (4) بحال ، وليس بينه وبين عالم السرّ وأخفى (5) واسطة سوى نفسه المقدّسة عن جميع نقائص الخلق طرّاً.

وبهذا يعلم أنه عالم بجميع الخلق بدئهِ ومعاده ، وهو الواسطة لكلّ عالم في علمه ، ومفيدُهُ العلمَ عن اللّه تعالى ، فلا إشكال ، واللّه العالم.

ص: 15


1- الأحقاف : 9.
2- الكافي 1 : 260 - 261 / 1.
3- في المخطوط : ( بأنه ).
4- إشارة إلى قوله تعالى : ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) . النجم : 3.
5- إشارة إلى قوله تعالى : « فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ». طه : 7.

ص: 16

[4] إنارة وهم وإفادة فهم : وحدانيّة العدد

اعلم أن وحدانيّة العدد التي هي روح واحديته ملك لله وحده لا شريك له ، كما قال سيّد العابدين : لَكَ يَا إلهِي وَحْدَانِيّةُ العَدَدِ (1).

فكلّ ما دخل تحت العدد فهو ملك لله عزّ اسمه وحده ، وظاهرها الواحد المعبّر عنه في عالم الأَحرف بالألف القائم ، فإنّه كالروح والمادّة لما سواه منها ، وكلّها في الحقيقة صور له وجزئيّات ، وهو لها كالمادّة ، فلا يوجد في شي ء منها صرفاً ولا تفقد حقيقته. وكذلك الواحد العدديّ.

ومن هنا توهّم أن الواحد ليس من العدد بل هو أوّل الأعداد ومادّتها وهي مظاهرة ومراتبه ، لكنّه متجرّد عمّا فيها من معنى التعدّد. فالوحدانيّة التي لجميعها أعني : روحها لله ملك ، وروح جميع الوحدات أعني : الوحدانية الحقيقية هي واحدة الأمر.

فجميع الوحدانيّات والواحديّات منها برزت ، وإليها تعود في باب كلّ جود ، فوحدة الكثرات ومنتهى الوحدات وأوّل المخترعات لله وحده خالصة له في ذاتها وصفاتها ، وأفعالها وأطوارها وأوطارها ، سرّها وعلانيتها ، لا تلتفت إلى سواه ، حتّى نفسها ، منقادة مستغرقة في عبوديّته بحقيقتها وكلّيّتها وشراسيفها ، لم تلبسها المدلهمّات أثوابها ، خالصة لله في إقبالها وإدبارها. فهي أبداً في الإقبال على اللّه

ص: 17


1- الصحيفة السجّاديّة الكاملة : 135.

وإليه ، لم تخرج ولن تخرج عن حقيقة عبوديّتها له ، فهي بجميع شؤونها ملك لله وحده ، لم يسبقها إليه سابق ، ولا يلحقها لاحق ، ليس بينها وبين اللّه سبب وحجاب سواها ، فهي سبب الأسباب لربّ الأرباب.

فمعنى قول زين العابدين عليه السلام : « لَكَ يَا إلهِي وَحْدَانِيّةُ العَدَدِ » أن وحدانيّة العدد التي هي أصل الكثرات ، وعنصر المعدودات والوحدات ، وبها قوامها بل هي أرقاها ملك لك وخلق ، وحدك لا شريك لك. ووقع بذكرها الاهتمام من الإمام لأنّ بها القوام ، وهي رابطة عقد النظام في كلّ مقام. وفيه إشارة إلى إبطال قول بعض الملحدين في أسمائه : ( إن أُصول الأعداد الحقيقية هي الصانع ) ، تعالى اللّه عمّا يقول المشبّهون علوّاً كبيراً. فبطل ما توهّم بعضهم من أن وحدانيّة العدد صفة لله تعالى وتقدّست أسماؤه.

وهذا يردّه العقل والنقل ؛ لما يستلزمه من التشبيه والتركيب تعالى اللّه عنهما. وممّا يصرّح بإبطاله قول أمير المؤمنين : عليه سلام اللّه في وقعة الجمل للأعرابي كما رواه في ( معاني الأخبار ) (1) وغيره (2) ، حيث قال : أتقول أن اللّه واحد؟ فقال سلام اللّه عليه - يا أعرابي ، إنّ القول في أنّ اللّه تعالى واحد على أربعة أقسام ، فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزوجل ، ووجهان يثبتان فيه :

فأمّا اللذان لا يجوزان عليه ، فقول القائل : واحد ، يقصد به باب الأعداد. فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، ألا ترى أنّه كفر من قال : ثالث ثلاثة؟ وقول القائل : هو واحد من الناس ، يريد النوع من الجنس. فهذا ما لا يجوز ؛ لأنه تشبيه ، وجلّ ربّنا عن ذلك وتعالى.

وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه ، فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه. كذلك ربّنا.

وقول القائل : إنّه عزوجل أحديّ المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزوجل. فافهم ولا تتوهّم ، واللّه العالم.

ص: 18


1- معاني الأخبار : 5 - 6 / 2.
2- التوحيد : 83 / 3.

[5] فوائد نحويّة وثمار محويّة

أ - هل يشترط في الكلام النحوي إفادة المخاطب؟

اشترط بعضهم في الكلام النحويّ إفادة المخاطب شيئاً يجهله. والحقّ عدمه ، بل شرطه أن الكلام مفيد في نفسه. ويرد على ذلك المشترط أنه أخذ حال المخاطب في تعريف الكلام.

واشترط بعضهم فيه قصد المتكلّم. ويرد عليه أيضاً أنه أخذ حال المتكلّم في تعريف الكلام ، وهما خارجان عن حقيقته ، وفسادهما ظاهر.

ويلزم الأوّل أن يكون ( قام زيد ) كلاماً وغير كلام في حالة واحدة ومقام واحد إذا تكلّم به من يخاطب من علمه ومن لا يعلمه دفعةً واحدةً. ويلزم الثاني خروج مثل هذا مع إفادته إذا تكلّم به الساهي والغالط وشبههما ، واللّه العالم.

[ ب ] فائدة : هل دلالة الكلام وضعيّة أم عقليّة؟

اختلف النحويّون : هل دلالة الكلام وضعيّة ، أم عقليّة؟ والذي عليه المحقّقون أن دلالته المطابقيّة والتضمّنيّة وضعيّة ، والالتزاميّة عقليّة ، وهو الحقّ.

وممّا يؤيّد ذلك أنه ليس دلالته على معناه إلّا دلالة أجزائه على معانيها ؛ إذ لا ريب في بقاء معانيها الوضعيّة بعد التركيب ، وإنّما زاد بالتركيب نسبة بعضها لبعض على جهة تخصيص أحدهما بالآخر ، ولم يضع الواضع المفردات إلّا لتستعمل

ص: 19

مركّبة ، فقد وضعها للتركيب ، واللّه العالم.

[ ج ] فائدة : هل في الممنوع من الصرف تنوين مقدّر؟

صرّح جماعة من النحويّين في باب الإضافة بأنّ ما لا ينصرف فيه تنوين مقدّر (1). والظاهر أنّهم أرادوا أنه إذا أُريد إضافته نُويَ تنوينه ثمّ حُذِفَ. وخالف في ذلك أبو حيّان : ، وتبعه الدمامينيّ :

ووجه قوله بما حاصله أنه لا يمكن أن يكون هذا التنوين تنوين التمكين ؛ للمنافاة الظاهرة بينهما ؛ إذ هو يدلّ على أمكنيّة الاسم بحيث لا يشبه الحرف فيبنى ، ولا الفعل فيمنع [ من ] الصرف. ولا تنوين تنكير ؛ لأنه وضع في بعض المبنيّات للفرق بين معرفتها ونكرتها ، فلا يدخل في الممنوع من الصرف ؛ لأنه معرب. ولا شيئاً من بقيّة أقسام التنوين ، والعلّة واضحة. انتهى.

قلت : لهم أن يختاروا أنه للتمكين ؛ حيث إنّهم إذا أرادوا إضافته سلبوا عنه ما يوجب منعه تقديراً ، فيدخله تنوين التمكين تقديراً. لكن حصول التخفيف المعلّل به حذفُ التنوين للإضافة بشي ء فرضيّ متوهّم بعيدٌ عن التحقيق ، ويأباه الذوق السليم ، واللّه العالم.

[ د ] فائدة : في اسمي الفعل والصوت

الظاهر أن معنى قول النحاة : اسم الفعل مركّب واسم الصوت مفرد أن اسم الفعل يدلّ وضعاً على الحدث والزمان ، بخلاف اسم الصوت. ولكنّي لم أقفْ على مَنْ صرّح بذلك ، واللّه العالم.

ص: 20


1- حاشة الصبّان على شرح الأشموني 3 : 237.

[6] دفع إشكال وبيان حال ( قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ )

قوله تعالى : ( قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ) (1). يخطر بالبال واللّه العالم بحقيقة الحال أنه لعلّ المراد أنه إنْ فُرِضَ للرحمن ولد لزم أن يكون هو أوّل العابدين له ، لا يسبقه إلى عبادته سابق ؛ لأنه أوّل صادر منه ، فلا أخصّ بالوالد من ولده ولا أقرب له منه ، فأوّل ما يتحنّن بالهداية على ولده ؛ لذا وجب شكر الولد لوالديه. وقد قرنه اللّه تعالى بشكره.

فإن فرض أن للرحمن ولداً فهو أوّل العابدين له ، وأنا أوّل العابدين لم يسبقني إلى عبادته سابق ، ولست له بولد ؛ فليس له ولد.

وبعبارة اخرى : إن فرض للرحمن ولد فهو أنا ؛ لأَنّي أوّل العابدين له ، ولا يسبق الولد إلى عبادة والده أحد ، وأنا لست له بولد ، بل عبد مخلوق ؛ فليس له ولد.

وبعبارة اخرى : إن فرض للرحمن ولد ، فأوّل العابدين للرحمن عالم به ؛ إذ لا أقرب إليه من أوّل العابدين له ، ولا أعلم به منه ، وأنا أوّل العابدين له ، ولست أعلم أن له ولداً ، بل أعلم أنه ليس له ولد ؛ فليس له ولد.

ويمكن على بعد من الظاهر أن تكون إن نافية على الوجوه الثلاثة ، والتقدير : ما كان للرحمن ولد ، فلو كان له ولد لكان الأوّل ، وأنا أوّل العابدين ،

ص: 21


1- الزخرف : 81.

ولست له بولد ، أو فهو أنا ؛ لأني أوّلهم ، أو فأنا عالم به. والتقدير ما مرّ في الوجه الأوّل ، وهو ظاهر.

ولعلّه عبّر بلفظ الرحمن لأنه الاسم المختصّ في مقام الأفعال والصفات ، والوالديّة والمولديّة أمر إضافيّ يقتضي الرحمة ، فهو أولى برحمة الهداية للشكر ، فالولد بجهة الرحمة أظهر من جهة الأُلوهيّة ، واللّه العالم.

ص: 22

[7] كشف حال وبيان إجمال ومبارزة مع أبطال : عبارة النظّام

قال النظّام : في ( شرح شافية ابن الحاجب ) في باب الإمالة : ( وإنّما أثّرت الكسرة قبل الألف مع الفاصلة قبل الألف ولم تؤثّر بعدها مع الفاصلة ؛ لأنّ الانحدار بعد الصعود أهون من العكس ) (1) ، انتهى.

وأقول : الكسرة أخفض من الفتحة ، والألف كفتحتين ، والياء ككسرتين ، وحقيقة الإمالة الأنحاء بالألف نحو الياء ، فالانتقال من الحرف الفاصل بين الكسرة والألف الممالة نحو الياء انحدار بعده صعود ، وهو سهل ، فأثّرت سببيّة الكسرة المتقدّمة مع الفاصلة. والانتقال من الألف الممالة إلى الفاصل بين الكسرة وبينها صعود بعد انحدار ، وهو عسر ، فلم تؤثّر الكسرة بعد الفاصلة حينئذٍ لمعاوقة ذلك الثقل لسببيّتها ، واللّه العالم.

وكتب عليها شيخنا الشيخ أحمد بن منصور : ( اللسان كما ينخفض بالياء والكسرة يرتفع بمقابليها ، ففي النطق بأحدهما قبل أحد المتقابلين لو لم يمل صعود بعد انحدار ، وبأحد المتقابلين قبله عكسه. والصعود بعد الانحدار أثقل من عكسه ، فلا جرم أن قصد التخلّص من الأوّل بالإمالة وإن ضعف بالفصل السبب. فاشتراط ملاصقة الكسرة للألف في إمالتها بتلك الكسرة واجب ، فقوله ( لأنّ الانحدار بعد

ص: 23


1- شرح شافية ابن الحجب : 234.

الصعود أهون ) تعبير بالملزوم ) ، انتهى.

ووجّهها الشيخ عبد الباقي ابن العلّامة الشيخ أحمد العسكريّ : رحمه اللّه بما حاصله : الضمّة أعلى الحركات لأنّها أثقلها ، ثمّ الكسرة لأنّها دونها في الثقل ، ثمّ الفتحة لأنّها أخفّها ؛ فلذا اغتفر الفصل حال سبق الكسرة ؛ لأنّ الناطق حينئذٍ منحدر من الكسرة إلى الفتحة. والمنحدر يمكنه أن يتخطّى الفاصل لسهولة الانحدار ، بخلاف تأخّر الكسرة ، فإنّه حينئذٍ صاعد ، والصاعد لا يقدر على تخطّي الفاصل. انتهى.

وفيه أن لفظ الإمالة ينبئ عن أن المُمَال هو الصاعد العالي ، فلا يقال في الرفع : أماله. والممال هو الفتحة أو الألف ، فيقتضي أن تكون هي العالية الصاعدة ، والممال إليه ، أعني الكسرة أو الألف. فالإماله انحدار كما يشعر به لفظها ، فالانتقال من غير الممال إليه يشبه الانحدار ، وهو أسهل ، وتخطّي الفاصلة معه أيسر ، وعكسه يشبه الصعود ، فهو أعسر ، وتخطّي الفاصلة فيه أشقّ ، واللّه العالم.

على أنه لا يخفى ما في كلام الشيخين من التكلّف والخروج عن الظاهر ، واللّه العالم.

ص: 24

[8] زبرجدة خضراء : برهان العصمة

ثبت بالبرهان المتضاعف عقلاً ونقلاً ، [ أن اللّه هو (1) ] الحكيم القادر الحقيقيّ الحقّيّ ، فلا بدّ أن يصان فعله عن المرجوح مع قدرته البالغة التامّة العامّة على الراجح ، وعلمه به كذلك ، فيجب ألّا يكون خليفته إلّا أحكم رعيّته من حين الولادة ، وفي جميع أطوار وجوده ؛ فيجب أن يكون خليفته معصوماً كذلك ؛ لأنّ حكمته الموهوبة من اللّه تأبى له أن يفعل المرجوح مع قدرته على الراجح ، فضلاً عن المعصية وإن كان قادراً على فعلها ، وإلّا لانتفت حكمته ، فيلزم نفي حكمة من اختاره واستخلفه.

وبهذا تبيّن أن النبيّ والإمام لا يكون إلّا معصوماً عن القبائح في جميع أطوار وجوده ، بل عمّا لا يليق بخلافة اللّه وخليفته ، وظهر لك بهذا معنى العصمة ، واللّه العالم.

ص: 25


1- في المخطوط : ( هو أنّه ).

ص: 26

[9] فيروزجة بهيّة ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى )

يخطر بالبال واللّه العالم بحقيقة الحال في وجه الاستثناء في قوله عزّ اسمه خطاباً لحبيبه المصطفى المصفّى صلى اللّه عليه وآله ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلّا ما شاءَ اللّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ) (1) وجهان :

أحدهما : أن تنسى بمعنى تترك ، أي نُوحي إليك فلا تترك شيئاً ممّا اوحي إليك تبليغه إيجاداً أو تكليفاً إلّا وأنت مبلّغه أمراً ونهياً ، فعلاً وتركاً ؛ فلا تترك شيئاً ، ولا تتخلّف عن مشيئة اللّه بحال إلّا ما شاء اللّه أن ينسخه ، فيوحي إليك بتركه ، فتتركه بعد الوحي إليك بفعله.

والكلام خبر في معنى النهي ، فعلى هذا يكون معنى الاستثناء إثبات كمال القدرة والحكمة والعلم لله ، وأن حبيبه صلى اللّه عليه وآله حكيم لا يفعل إلّا ما أُمر به ، تدور مشيئته على مشيئة اللّه ، مقدّس عن دعوى الاستقلال بوجه.

الثاني : أن يكون النسيان ضد الذكران ، أي أنّك علمك كلّه من اللّه بلا واسطة له إلّا ذاتك ، فلا يمكن عليك السهو والنسيان عن شي ء ؛ لأنّ من كان علمه كذلك لا يغيب عنه معلومه بحال. فهو برهان على عصمته عن السهو والغلط والنسيان ، ومن عصمهُ اللّه عن ذلك فهو معصوم عن العمد بطرق أولى.

فمعنى الاستثناء على هذا إثبات كمال القدرة والحكمة والاختيار لله تعالى

ص: 27


1- الأعلى : 6 - 7.

واحداً عليه وعلى من تحته ، بإثبات البداء لله في كلّ شي ء. فهذا يثبت علوّ درجة المصطفى صلى اللّه عليه وآله : على كلّ مخلوق ، علماً وحكمةً وعبوديّةً لله في كلّ مقام.

أمّا قوله عزوجل ( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ) فجملة تعليليّة ، فعلى الأوّل تعليل للاستثناء أي أنه تعالى هو العالم بالسرّ وأخفى فما يكن وجه الحكمة في نسخه وتركه ينسخه ، وما يكن في إمضائه يمضِه ، ولله المشيئة في البداء.

وعلى الثاني تعليل لنفي النسيان عنه صلى اللّه عليه وآله ؛ لأنه تعالى المفيض عليه بلا واسطة إلّا نفسه ، وهو تعالى عالم السرّ وأخفى ، فلا يعزب عن نائبه الأعظم شي ء من الخلق ؛ لأنه بابهم طرّاً إلى اللّه ، وشفيعهم ، واللّه العالم.

ص: 28

[10] كشف حال وإبطال مقال : الوجود العام

اعتبر بعض المنطقيّين وجوداً عامّاً يشترك فيه الممكن والواجب ، فقال : ( مفهوم الموجود يعم الواجب والممكن ).

و [ قلت (1) ] : هذا الاعتبار إن طابق الواقع وما في نفس الأمر وإلّا فهو كذب باطل ، لا يبنى عليه حكم.

فإن كان ذلك المعتبر عدماً محضاً ، بطل الحكم بكلّيّته ؛ إذ لا يحكم على العدم البحت بكلّيّة ولا بجزئيّة ولا بحكم ؛ لعدم إمكان تعقّله بالكلّيّة. وعلى فرضه وإن كان فرضا مستحيلاً يلزم صدق العدم على الواجب بوجه ، وفساده ظاهر.

وإن كان موجوداً في الجملة ؛ فإما أن يكون واجباً ، [ أو (2) ] لا ، فعلى الثاني يلزم صدق الإمكان على الواجب بوجه ، وفساده لا يخفى. وعلى الأوّل يلزم تعدّد الواجب ، وتركيبه من جنس وفصل ، وفساده ضروري.

وقد قام البرهان المتضاعف على أن الاشتراك بين الواجب والممكن إنّما هو في حروف لفظ ( موجود ) ؛ لضيق ساحة العبارة ؛ لحصر الحروف في ثمانية وعشرين حرفاً ، ولا يعمهما مفهومه ؛ لأنه « خلوّ من خلقه وخلقُه خلوّ منه » (3) لا بمزايلة ، هذا بحسب الظاهر.

ص: 29


1- في المخطوط : ( قلته ).
2- في المخطوط : ( أم ).
3- الكافي 1 : 82 / 3 ، و 83 / 5.

وللعارفين مقام تنتفي فيه عن الواجب جلّ قدسه حتّى العبارة ، ينبّهك عليه حدوث الأحرف والعبارة والمعبر ، فافهم.

نعم الوجود العامّ المعبّر عنه (1) بالوجود المطلق ممكن حادث مخلوق ، واللّه العالم.

والمفهوم المصدريّ الاشتقاقيّ عام لجميع الممكنات لا يعدوها ، واللّه العاصم.

ص: 30


1- في المخطوط بعدها : ( عند ).

[11] دفع وهم وبيان فهم معنى الأيام السعيدة من الشهر

ورد في الأخبار (1) الحكم على بعض أيام الشهر بالسعد وبعضها بالنحس ؛ عامّاً في بعضها وخاصّاً في آخر ، [ فهل (2) ] المراد بالشهر : العربي ، أو الفارسي؟ والشهور الفارسيّة هي التي أوّلها الحمل وآخرها الحوت ، وهي البروج المعروفة.

المعروف بين العامّ والخاص والعالم والجاهل أن المراد به الشهر العربيّ. وصرّح محسن الكاشاني : في ( تقويم الحسنين ) بأن المراد به : الشهر الفارسي.

ولم يستدلّ بما تطمئنّ به النفس ، ولم أرَ من قال بذلك ، ولا من وافقه عليه ، بل العمل في سائر الأزمان والأصقاع على أنه الشهر العربيّ.

وممّا يدلّ عليه أن الشارع خاطب بذلك خاصّة الناس ومن يعرف الشهور الفارسية ومدخلها ومخرجها من العربية ، وعامّتهم ومن لا يعرف ذلك ، ومحال أن يخاطب الحكيم به من يستحيل منه معرفته ، فلم يخاطب أحداً إلّا بما يفهم بحسب عقله. وأين العوامّ من معرفة الشهور الفارسيّة الّتي لا يعرفها إلّا علماء الرصد والتقويم أو من قلّدهم؟ ما ذاك إلّا تكليف ما لا يطاق ، فمتى قال الشارع : يكره الجماع في ليلة النصف مثلاً ، علم كلّ من سمعه أن المراد نصف الشهر العربي بلا ارتياب ، واللّه الهادي.

ص: 31


1- الدروع الواقية : 259 - 266.
2- في المخطوط : ( فهو ).

ص: 32

[12] كشف حال وبيان إعضال : نوم النبي صلى اللّه عليه وآله : عن الصلاة

إعضال : نوم النبي صلى اللّه عليه وآله : عن الصلاة (1)

اعلم أن اللّه سبحانه وتعالى لما كان هو الواحد الأحد من كلّ وجه ، وبكلّ اعتبار ، وهو أرحم الراحمين ، وجميعُ أفعاله جرت على كمال الاختيار ، إيجاداً وتكليفاً ؛ لأنه المختار ، ولذلك خلق الخلق على فطر مختلفة كلّا بحسب وسعه من القبول ، ( أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) (2) فاقتضى (3) عدله وحكمته ورحمته أن يجعل له خليفة وباباً لا يؤتى إلّا منه ، وهو وجهه ودليله وحجابه الأعظم.

وقد استفاض أن اللّه خلق محمَّداً صلى اللّه عليه وآله : وأهل بيته المعصومين من نور عظمته قبل أن يخلق شيئاً من خلقه ، فمكثوا ألف دهر ، ثمّ خلق الأشياء وأشهدهم خلقها ، وأجرى عليها طاعتهم ، وفوض أمر الأشياء إليهم في الحكم والتصرّف والإرشاد والأمر والنهي في الخلق ؛ لأنهم الولاة ؛ فلهم الولاية المطلقة العامّة في كلّ شي ء. فلا جود من اللّه إلّا وهم بابه وسبيله ومصدره ، فهم علّموا الملائكة وجميع الخلق توحيد اللّه وعبادته (4) وجميع ما يصلحهم في جميع النشئات والتطورات ، وجود اللّه متصل الفيض لا ينقطع بحال.

ص: 33


1- انظر الفقيه 1 : 233 - 234 / 1031.
2- طه : 50.
3- جواب قوله : ( لما كان .. ) أي فقد اقتضى ..
4- الاختصاص ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 12 : 91 ، بحار الأنوار 25 : 1 / 2.

فمن توهّم أن محمّداً : الذي هو نائب اللّه في كلّ شي ء ، ونوره الّذي أشرقت من نوره الأكوان ، ونبعت منه عيون الرحمة والجود ينام كما ننام ، ويذهب النوم بحسّه وعقله ، حتّى إنه نام عن صلاة الصبح ، حتّى طلعت الشمس ، فقضاها بعدُ ، لحديثٍ شاذ نادر (1) جرى [ على (2) ] سبيل التقيّة الّتي عصم اللّه بها دماء أهل الإيمان عن التلف ، فقد جهل مقامه الأقدس المطهّر عن جميع النقائص والحظوظ البشريّة ويلزمه من المفاسد في التوحيد وجميع أُصول الإيمان ما لا يحصى ، [ ويحطّ ] (3) مقامه عن الخلافة العامة ، ويفسد باب الجود ، وتنقطع السعادة بين الحقّ والخلق ، ولا يكون أفضل الكلّ في الكلّ من كلّ وجه ، كذلك في تلك الحال.

ويلزم أن يكون لله خليفة وحجة على جميع الموجودات غيره ؛ لعدم إمكان خلوّ الإمكان بحال عمّن هو كذلك ، وذلك يستلزم التركيب في الواحد الحقّيّ ، فيجر إلى مفاسدَ لا تحصى. فعليك بتأمّل هذا الإجمال ينكشف لك الحال.

ومن قال : إنه فعل ذلك تعليماً فقد حكم على المبعوث في كلّ مقام لتكميل النواقص بتعليم النقائص باختياره. ومن توهّم أنه في تلك الحال ، مشغول بالفناء في البقاء الّذي هو أعلى من الصلاة فقد نصر ضُلّال الصوفية الأشقياء المحجوبين عن اللقاء ، ونصر القول بالتناسخ من حيث لا يدري ، بل مال إلى وحدة الوجود ، نعوذ باللّه من ذلك.

وإياك أن تنسب هذا لأحد من علماء الفرقة ، فتظلمهم ؛ فيخاصموك عند اللّه ورسوله بعد أن يخاصمك الرسول صلى اللّه عليه وآله : عن اللّه وعن نفسه ، واللّه الهادي والعاصم.

فهذا الوهم ترده جميع قوانين الشريعة المقدّسة وبراهين المعقول ، واللّه اعلم.

ص: 34


1- الفقيه 1 : 233 / 1031.
2- في المخطوط : ( من ).
3- في المخطوط : ( فعليه ).

[13] جواب سؤال ودفع إشكال نسبة المعصية لآدم عليه السلام والبدن

اشارة

قد سألني في أيام الشبيبة بعض أهل المناصب عن مسألتين :

أحدهما : نسبة المعصية لآدم عليه السلام : ظاهر القرآن أن آدم عليه السلام : عصى اللّه تعالى ، وأُصول المذهب على أن جميع الأنبياء معصومون من آن الولادة ، وعليه إجماع الفرقة.

والجواب أن الكتاب العزيز قد اشتمل على المجازات اللغويّة كما اشتمل على الحقائق اللغويّة ، فنسبة المعصية إلى آدم : وسلام اللّه عليه وعلى المعصومين من ذرّيّته من قبيل المجاز اللغوي ، والعاصي في الحقيقة إنّما هم فراعنة ذرّيّته في كلّ زمان كفلان وفلان ، لكنه لمّا كانوا حينئذٍ في صلبه قبل التميّز نسبت له المعصية مجازاً ، فوجب إنزال آدم عليه السلام : من الجنّة لوجوب إنزال فراعنة ذرّيّته من الجنة ، ليميز اللّه الخبيث من الطيب ، فيجعل الخبيث بعضه على بعض ، فيركمه في جهنم جميعاً.

فلعل بكاء آدم عليه السلام : لما لحقهُ بالعرض من المحنة بالخروج من الجنّة ، بسببهم ولكونهم من صلبه ، ولما يُنسب إليه ظاهراً من معصيتهم ، فقيل : عصى آدم عليه السلام : ، وإنّما العاصي بعض من خرج من ظهره ، فهو كالذهب المغشوش بالنحاس ، يلقى في النار ليصفى من الخلط ، فتلحقه المحنة بسبب ما مازجه من الخلط.

ويمكن أن يراد بآدم عليه السلام : في القرآن الجنس المتحقّق بتحقّق فرد منه ، فيراد بكلّ

ص: 35

فرد من فراعنة البشر آدم [ الّذي نسبت (1) ] المعصية إليه ، بل يمكن أن كونهم يخرجون من ظهره هي المعصية المنسوبة إليه ، فإن إطلاق المعصية على ذواتهم صحيح وإن كان مجازاً لغويّاً. وسمّي تخليصه منهم وتميّزهم منه ومن أطائب ذرّيّته توبةً واجتباء ؛ إذ بدونه لا يكمل الاجتباء والرّجوع إلى ما منه بدأ ، واللّه العالم.

نسبة المعصية للبدن

المسألة الثانية : كيف يثاب البدن ويعاقب ، وهو مستخدم للنفس مقهور لها ، لا يستطيع مخالفتها ، لأنه آلة لها كالمنشار في يد النجّار؟

والجواب ومن اللّه استمداد الصّواب أن المكلّف هو الإنسان ، وهذا اللفظ لا يصدق على النفس وحدها ولا على البدن وحده ، وإنّما يراد به شي ء (2) مركّب هو مجموع النّفس والبدن ، كالسّكنجبين إنّما يطلق عَلى شي ء مركّب من أجزاء ثلاثة ، لا يصحّ إطلاقه على شي ء من أجزائه على الانفراد.

فالنفس إنّما تعصي وتطيع بالبدن ، والبدن إنّما يعصي ويطيع بالنفس ، فكلّ منهما لا يتحقّق منه أحدهما على الانفراد ، فكلّ منهما إنّما صدر من كلّ منهما دفعة على الاجتماع ، ولكلّ منهما [ قسط (3) ] من الاختيار فكلّ منهما إنّما صدر منهما باختيارهما معاً ، وليس البدن بمثابة المنشار في يد النجّار من كلّ وجه ، بل لغلبة النفس وكونها منبع الاختيار ؛ ربما نسب لها الفعل. بل خواصّ الحكماء ينفون القسر والطبع بوجه وإن أثبتوه بوجه. فجميع الحركات عندهم اختيارية بوجه ، حتّى إن الأصنام المنحوتة إنّما عبدت بنوع من اختيارها.

فلذا ظاهر القرآن (4) إنها تعذّب في النار مع عابديها ؛ فظهر استحقاق البدن للثواب والعقاب كالنفس ، واللّه الهادي ، وهو العالم.

ص: 36


1- في المخطوط : ( التي نسبة ).
2- في المخطوط : ( بشي ء ).
3- في المخطوط : ( قصط ).
4- إشارة إلى ما جاء في قوله عزوجل ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ) الأنبياء : 98.

[ 14 ] كشف غمة ودفع ملمة ( ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي )

لعل نفي الدراية في قوله عزّ اسمه ( وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) (1) نفي درايته صلى اللّه عليه وآله من تلقاء نفسه [ المقدّسة (2) ] استقلالاً لا بإفاضة العليم القادر ، أي أني لا علم لي ولا دراية بشي ء ما أصلاً ، حتّى أحوال نفسي وأصحابي من قبل نفسي ، بل كلّ علم لي وكلّ كمال فهو لي من اللّه بلا واسطة سوى نفسي.

فإذن هو صلى اللّه عليه وآله أعلم الخلق بجميع الخلق وصفاته ، ولذا كان أولى بهم من أنفسهم ؛ لأنه الواسطة لكل الخلق في كلّ كمال ووجود ، فنفى بذلك الربوبيّة عن نفسه ، وأثبت أنه أعلم الخلق وأكملهم ، حيث أشار إلى أنه ينبوع كلّ جود ووجود.

وبوجه آخر حاصله أن نفي الدراية في الآية الكريمة إشارة إلى إثبات البداء لله في كلّ شي ء ، فإنه عنوان كمال القدرة لله تعالى وسرّه.

وبوجه آخر هو أنه نفى الدراية بجهة مفهوم البشريّة المحضة العامّ ؛ فهو إثبات لأن درايته إنّما هي من لدن حكيم عليم في مقام ( قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ) (3) وإن كان هو يشمل جميع مراتب الوجود ، إلّا إنه في كلّ رتبة بما يناسبها. وفي مقام البشرية المحضة لا يكون إلّا بالوحي الجزئي التدريجيّ الآتي على لسان ملك. فهو إثبات لكمال جامعيّته لكلّ كمال.

ص: 37


1- الأحقاف : 9.
2- في المخطوط : ( المقدّس ).
3- النجم : 9.

فلا منافاة بين الآية الكريمة وبين ما ثبت بالبرهان المتضاعف عقلاً ونقلاً (1) من أنه صلى اللّه عليه وآله عالم بجميع ما كان وما يكون من جميع العالم ؛ لأنه باب الكلّ وسبيله إلى اللّه ، واللّه العالم.

ص: 38


1- الكافي 1 : 251 - 252 / 8.

[15] نكته لطيفة تعدد المعاذيّة في سورة الناس

يمكن أن تكون النكتة في تعدّد لفظ المعاذيّة بصفات مختلفة المفهوم ، وفي الإتيان بالظاهر دون الضمير [ ثلاث (1) ] مرّات في سورة ( الناس ) هو التنبيه على افتقار الإنسان إلى تدبير اللّه وعنايته وإمداده وحده لا شريك له ، وعدم غناه عن بارئه بحال في كلّ نشأة ودرجة من منازل وجوده.

فالإنسان أوّل أمره بعد الولادة لا يعرف سوى من يقوم بتربيته من أُمّ أو أب أو ما يقوم مقامهما ، ويتوهّم أن مربية قادر على دفع جميع المكروهات عنه ، وعلى جلب جميع الملائمات والمحبوبات له. ولذا لا تراه يفزع ويلجأ في جميع حوائجه ومهمّاته إلّا لمربّيه ؛ لأنّه لا يرى قادراً سواه.

ثمّ إذا ترقّى إلى إدراك أقوى وأعلى من الأوّل يرى أن الملك الذي مُربّاه تحت قهره هو القادر على جميع ذلك دون من سواه ، فهو لا يفزع في مهماته إلّا له ؛ لأنه لا يرى لغيره قدرةً على شي ء ، ولا يعرف ملكاً هو أقدر من ملك أرضه.

ثمّ إذا بزغ فيه نور العقل واستعدّ [ للتكليف (2) ] الشرعي ، ونظر في آيات اللّه عرف أن لا قادر على شي ء من ذلك إلّا اللّه تعالى وحده ، وعرف أن اللّه عزّ اسمه هو

ص: 39


1- في المخطوط : ( أربع ) ، ويدلُّ على ما أثبتناه ما سيأتي من كلامه في موضعين.
2- في المخطوط : ( التكليف ).

المربّي له وأنه الملك وأنه الإله المعبود وحده فلا مُدبّر له في جميع حالاته ولا قاهر ومألوه سواه. فإن قبل الهداية الأوّليّة العامّة انقطع إلى اللّه في جميع أحواله ، وإن أباها واستحبّ العمى على الهدى كان شيطاناً موسوساً مضلا عن الهدى ، وكان تعويله وانقطاعه إلى هواه الذي اتّخذه إلهه.

فانقسم الناس بهذا إلى [ ثلاثة (1) ] أقسام ، كلّ قسم منها مباين لغيره بوجه وإن كان يجمعها في الظاهر بحسب البنية نوع الإنسان :

فالإنسان أوّل بروزه في الدنيا مربّى بحت ، لا يجد لنفسه اعتباراً ولا [ تدبيراً ] (2) ولا اختياراً [ فلذلك ] دلّ عليه بلفظ الربّ المربّي والمدبّر.

ثمّ إذا كان صبيّا وظهر فيه سلطان الوهم ، كان مملوكاً مقهوراً لما فيه من شره النفس ، لخلوّها حينئذٍ من الارتياض بالنواميس الشرعيّة ، فناسب أن يدلّ عليه بلفظ الملك.

ثمّ إذا عرف اللّه وعبده وانقاد له كان اللّه إلهه ومولاه في كلّ أحواله.

فلمّا تباينت حقائق الأقسام الثلاثة ناسب التعبير بالظاهر دون الضمير المتّحد المعنى بمرجعه. والخانس عن هذه الأنواع الثلاثة هو من جملة ما أمر اللّه بالاستعاذة به منه في كلّ الحالات. وهذا التقسيم يدلّ على كلّيّات مراتب النفس من الهيولاني إلى العقل بالفعل ، وعلى ترتّب كلّ درجة على سابقتها ، وعلى تباين حقائق النفوس بتباين الملكات ، واللّه العالم.

ص: 40


1- في المخطوط : ( أربعة ).
2- في المخطوط : ( تبدير ).

[16] جواب سؤال وبيان حال انقسام العلم إلى تصوّر وتصديق

إن قيل : إنّهم قالوا : ( العلم بشي ء هو حصول صورته في النفس ) (1) ، فلذا قيل : إنه يرادف التصوّر بالمعنى العامّ ، فهو من مقولة الكيف عند محقّقي أهل النظر (2) ، أو الانفعال كما هو عند جماعة (3). فحقيقته واحدة بالنوع ، فكيف ينقسم إلى تصوّر ، وإلى تصديق ، وهما نوعان مختلفا الحقيقة ؛ لاختلاف الجواب عن السؤال عنهما ب- ( ما هو ) مع أن وجداننا يحكم بعدم الفرق بين صورة ما يسمّى تصوّراً وما يسمّى تصديقاً عند النفس العالمة أو آلتها ، فكلاهما حصول صورة في المدركة (4) ، فما وجه التقسيم؟

قلت : اعلم أن لفظ العلم عندهم يطلق بالاشتراك على معنيين :

أحدهما : العلم الإشراقيّ ، وهو إضافة ، وحالة الشراقيّة بها تنكشف حقيقة العلوم عند العالم بدون حصول صورة منه في المدرك ، أو في آلته كعلم المجرّد بنفسه ،

ص: 41


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 225.
2- الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة 1 : 325.
3- جوامع الكلم 1 : 151.
4- المدركة : من القوى الخمس الباطنة للنفس ، وهي قسمان : مدركة الصور ، وتسمّى حسّا مشتركاً ؛ لأنها تدرك خيالات المحسوسات الظاهرة بالتأدية. ومدركة المعاني ، وتسمّى وهماً ومتوهّمة. الإشارات والتنبيهات 2 : 332.

وبغيره ، وكعلمنا بأنفسنا. وهذا لا ينقسم إلى تصوّر وتصديق ؛ لأنّهما حصول صورة ، ولا صورة هنا.

الثاني : العلم بما غاب ، وهو المتجدّد المتوقّف حصوله على حضور حقيقة المعلوم أو مثاله أو صورته بين يدي المدرِك ، ومنه ما يتوقّف حصوله على حضور المدرَك بين يدي آلة المدرك حتّى الحسّيّة. وجميع المنطقيّات لا يتجاوز هذا القسم كما صرّح به العلّامة الشيرازي ، وهذا القسم ينقسم أيضاً إلى ثلاثة أقسام متباينة الحقائق بوجه وإن آلت إلى شي ء واحد بوجه :

أحدها : الصورة الذهنيّة المنطبعة في النفس ، ومتعلّقُهُ ذو الصورة الذي هو حقيقة المعلوم بحسب نفس جوهر الماهيّة.

الثاني : الانكشاف المصدريّ ، ومتعلّقه المنكشف من حيث هو منكشف.

وهذان النوعان لا يمكن انقسامهما أيضاً إلى تصوّر وتصديق ؛ لاتّحاد معناهما بالنسبة لكلّ منهما وتساويهما فيهما.

الثالث : الحالة الإدراكيّة للنفس العاقلة ، ومتعلقها الصورة الذهنيّة الانطباعيّة. فالصورة المنطبعة في النفس علم بالنسبة إلى سنخ جوهر حقيقة المعلوم ، ومعلوم بالنسبة إلى العلم المتعلّق بها وهو الحالة الإدراكيّة. وهذا هو المنقسم إلى تصوّر وإلى تصديق كما صرّح به في ( القبسات ) (1) ، وذلك أن النفس إذا تصوّرت وأدركت مفهومين ونسبة بينهما حصل لها حالة إدراكيّة للمتصوّرات الثلاثة ؛ فإن بقين معها على الحالة الاولى من بحت التصوّر فهو تصوّر ، وإن عرض لها ما يجعلها محتملة للتصديق والتكذيب في إيقاع تلك النسبة أو وقوعها أو انتزاعها بحيث تكون ملحوظة من تلك الحيثيّة فهي تصديق.

قال العلّامة الشيرازيّ : ( الأثر الذي هو حصول صورة الشي ء في العقل سواء اقترن به حكم أم لا يسمى تصوّراً ؛ إذ الحكم باعتبار حصوله في العقل من

ص: 42


1- القبسات : 387.

التصوّرات أيضاً. وخصوصيّة كونه حكماً وهو ما يلحق الإدراك لحوقاً يجعله محتملاً للتصديق والتكذيب يسمّى تصديقاً. فالتصوّر : هو حصول صورة الشي ء في العقل مع قطع النظر عن الحكم.

لست أقول : مع التجرّد عن الحكم ؛ لأنّ ذلك ينافي كونه شرطاً أو شطراً ) (1) ، انتهى.

وهذا التفصيل يدفع إشكالات كثيرة ، ولم أرَ من تعرّض له ولا لهذا السؤال ، واللّه العالم.

ص: 43


1- رسالة التصوّر والتصديق ، ضمن ( رسالتان في التصوّر والتصديق ) : 58 - 59 ، بتفاوت.

ص: 44

[17] تأويل آية وكشف رواية : موسى : والخضر عليهما السلام

روي أن الخضر عليه السلام : حمل علماً لم يُطق موسى عليه السلام : حمله ، وحمل موسى عليه السلام : علماً لم يطق الخضر عليه السلام : حمله (1). ويحتمل أن معناه أن كلّا كُلّف بتكليف لا يحتمله [ الآخر ولا يناسبه (2) ].

فموسى عليه السلام : كُلّف بالعمل بحكم التنزيل ؛ لأنه المناسب لرعيّته ، ولم يطق الخضر عليه السلام : التكليف بحمل أثقال الرسالة التي شأنها العمل بالتنزيل والظاهر ، فهو بحسبها رعيّة لموسى عليه السلام : ومكلّف بالعمل بشريعته حتّى تنسخ.

والخضر عليه السلام : كلّف بإظهار العمل بالتأويل والباطن في جزئيّات مخصوصة ، ولم يكلّف موسى عليه السلام : بالعمل بها بنفسه ، بل بواسطة العبد الصالح ؛ مراعاة لمصلحة العموم ، وللنظام الجمليّ ، فلم يطق موسى عليه السلام : العمل بها بنفسه لأجل ذلك.

وهذا لا ينافي كون موسى عليه السلام : أفضل وأعلم من الخضر عليه السلام : مطلقاً ، والخضر عليه السلام : من رعيّته مطلقاً ، فالرسول : يُلقي الوحي للملك في مقام ويتلقّاه منه في مقام ، وهو أفضل وأعلم من الملك في كلّ مقام. فعمل الخضر عليه السلام : بإلقاء موسى عليه السلام : له في مقام ، وتلقّاه في مقام. ومن جملة إسرارها دفع دعوى الربوبيّة فيه ، والحكمة الإلهية اقتضت حصر إظهار ذلك العمل في تلك المواد الخاصّة في ذلك الطريق.

ص: 45


1- تفسير العيّاشي 2 : 356 / 41 ، تفسير القمّيّ 2 : 37.
2- في المخطوط : ( ولا يناسب الآخر ).

أمّا قوله تعالى : ( وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ ) (1) فيمكن حمل النسيان على الترك ، أي ما حملني على ترك اصطياد الحوت بعد ما حيّ إلّا طلب ظهور علم تضمحلّ به حجّة الشيطان ، فكأنّ الشيطان حمله على ترك الحوت فنسبه إليه ؛ لأنه لا سبب لذلك في الحقيقة سواه ، واللّه العالم.

ص: 46


1- الكهف : 63.

[18] كنز مذخور وبيان مشهور اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وسلم

اشارة

مسألة : هل يعود من صلاة المصلّي على محمّد وآله وسلامِه عليهم ودعائِه لهم نفع عليهم صلى اللّه عليهم وسلم أم يختصّ نفعه بالمصلّي والمسلّم والداعي؟

الجواب ومن اللّه الهداية بهم إلى الصواب أن هذه المسألة من الخلافيّات ، فالأكثر بل قيل : إنه المشهور (1) على أنه يختصّ النفع بالداعي والمصلّي والمسلّم ولا يعود من دعائه وصلاته وسلامه على محمّد : صلى اللّه عليه وآله نفع.

ويدلّ عليه من الاعتبار أنه لو عاد من صلاة المصلّي عليهم نفع عليهم بسببها ، فحصل لهم من القرب والكمال ما لم يكن ، كما هو شأن دعاء بعضنا لبعض ، ودعاء أهل البيت : لنا ، لزم أن يكون المصلّي منّا عليهم واسطة لهم ، وشفيعاً إلى اللّه في إيصال فيضه وجوده لهم ، فينقلب المتبوع تابعاً ، والفرع أصلاً ، والمفضول بحقيقته من كلّ وجه فاضلاً من وجه.

ويؤدّي إلى أن محمَّداً صلى اللّه عليه وآله : ليس هو الواسطة الكلّيّة والشفيع المطلق من كلّ وجه ، وإلى أنه صلى اللّه عليه وآله ليس غنيّاً عن جميع رعيّته من كلّ وجه في كلّ شي ء ، وليس هو أكملهم وأفضلهم في كلّ شي ء من كلّ وجه ، فليس جميع من دونه مفتقراً إليه من كلّ وجه في كلّ كمال.

ص: 47


1- الأنوار النعمانية 1 : 137.

والكلّ باطل بالبرهان المتضاعف المحكم عقلاً ونقلاً ، بل بديهي البطلان عند أهل العيان.

ومن الأخبار ما رواه في ( الكافي ) عن صفوان بن يحيى : عن الرضا : عليه سلام اللّه أنه قال : « أليس تقول : صلّى اللّه على محمّد : وآل محمّد؟ » قلت : بلى. قال : « ارحم محمّداً : وآل محمّد؟ ».

قال (1) : « بلى ، وقد صلّى عليه ورحمه ، وإنّما صلاتنا عليه رحمة لنا وقُربة » (2).

وما في الجامعة الكبيرة : « وجعل صلاتنا عليكم وما خصّنا به من ولايتكم طيباً لخلقنا ، وطهارةً لأنفسنا ، وتزكيةً لنا ، وكفّارةً لذنوبنا » (3).

ومثل عموم ما دلّ على حاجة كلّ رعيّة لإمامهم في كلّ شي ء وغناه عنهم في كلّ شي ء (4) ، فهو شفيعهم إلى اللّه في كلّ جود ووجود ، ومحمَّد صلى اللّه عليه وآله : شفيع الكلّ في الكلّ.

وقيل : إنه كما يحصل بذلك نفع للمصلّي والمسلّم عليهم والداعي لهم ، يحصل به نفع لهم أيضاً ، ويستمدّون به من جود اللّه تعالى الذي لا يتناهى ، ولا ينقطع أبداً. واختاره السيّد نعمة اللّه الجزائري : في ( شرح السجّاديّة ) ، وفي كشكوله (5) أيضاً ، وعزا القول الأوّل في الشرح إلى طائفة ، وفي ( الكشكول ) (6) نسبه إلى الشهيد : ونقل عبارته ثمّ ردها بوجوه ، منها : أن الأخبار دالّة على خلافه.

ومنها : أن ما قاله غير معهود من غيره من الأصحاب ، وإنّما قال بعض أهل الحديث : ( إنه من أقوال العامّة ) فكأنّه أراد بالطائفة في عبارة الشرح هو مع القائل به من العامّة.

ويدلّ عليه من الأخبار كلّ ما دلّ على الأمر بالصلاة والسلام عليهم والدعاء لهم

ص: 48


1- في المخطوط بعده : ( قلت ) ، وما أثبتناه موافقٌ للمصدر ولعلّ فيه سقطاً كما أُشير له في الهامش : 1 من المصدر.
2- الكافي 2 : 653 - 654 / 4.
3- تهذيب الأحكام 6 : 98.
4- بحار الأنوار 23 : 50 / 100.
5- الأنوار النعمانية 1 : 137 - 138.
6- الأنوار النعمانية 1 : 137 - 140.

بطلب الوسيلة والدرجة الرفيعة ، وقرب المنزل من اللّه ، وتقبل الشفاعة ، وغير ذلك ممّا في كتب الدعوات (1).

ومثل ما دلّ على الأمر بإهداء ثواب أعمال العاملين لهم. ومثل ما رواه ابن طاوس : في ( جمال الأسبوع ) (2) من استحباب ركعات في كلّ يوم من الأسبوع تهدي ثوابها لواحد من أهل البيت عليهم السلام : ، الى غير ذلك. وهو كثير ، مثل « من سنّ سنّة حسنة فله أجرها ، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة » (3).

ومثل قوله صلى اللّه عليه وآله : « أعينونا بورع واجتهاد » (4).

ومثل ما دلّ على أن أعمال العباد تعرض عليهم كلّ يوم ، فيسرّهم صالحها ويسوؤهم قبيحها (5). إلى غير ذلك ، فإنّه كلّه بظاهره يدلّ على وصول نفع لهم بذلك كما لا يخفى.

ومن الاعتبار أن الدعاء لهم بذلك إمّا أن يكون مجاباً فيستلزم أن يحصل لهم به نفع ، أو غير مجاب فلا أثر له حتّى للدّاعي ، ولا كلام لنا فيه.

وأيضاً صلاتنا وسلامنا عليهم ودعاؤنا لهم بعلوّ الدرجات وأفضل الكمالات طاعة وحسنة ، وكلّ حسنة فمن اللّه ، وهم معلّموها وسبيلها ، فهم باب اللّه الذي لا يؤتى إلّا منه ، ومنهم بدْء كلّ كمال وجمال ، وإليهم معاده ، فبسبيل معرفتهم عرف اللّه ، وبعبادتهم عبد اللّه ، فكأنّ جميع الصالحات أعمالهم.

وأيضاً كما أن جميع الوجودات من فاضل صفات وجودهم ، وكلّ حسنة من فاضل حسناتهم ، فقد ورد أن اللّه حمّلهم ذنوب شيعتهم فغفرها لهم (6) ؛ لأنّهم ذواتهم من فاضل ذواتهم ، وحسناتهم من فاضل أعمالهم.

ص: 49


1- انظر : وسائل الشيعة 7 : 92 - 103 ، أبواب الدعاء ، ب 36 ، 37.
2- جمال الأُسبوع : 29.
3- الكافي 5 : 9 - 10 / 1 ، وسائل الشيعة 15 : 24 - 25 ، أبواب جهاد العدو ، ب 5 ، ح 1.
4- نهج البلاغة : 573 / الكتاب : 45 ، وفيه : « أعينوني ».
5- بصائر الدرجات : 424.
6- تفسير القمّيّ 2 : 321 ، بحار الأنوار 17 : 89 / 19.

فإذن لهم قسط من ثواب العاملين ؛ لأنّهم عللهم ، وأعمالهم علل حسنات العاملين ، فهم عناصر [ الأبرار (1) ] ، الذات للذات والصفة للصفة ، فلهم القسط الأكمل من ثواب العاملين ، بل ثوابُ المحسنين فاضلُ ثوابهم على حسنة المحسنين. ففي الحقيقة جميع الحسنات حسناتهم ؛ لأنّها منهم بدأت وإليهم تعود بقدر رتبتها.

وأيضاً دعاؤنا لهم يلزمه الدعاء على أعدائهم بذهاب دولتهم وتطهير الأرض منهم ، فيؤدّي إلى طلب إظهار دولتهم ، فهو دعاء لنا ولهم ؛ لما فيه من سعادتنا بإظهار كلمة الحقّ ومحو الباطل. فلا بعد أن يزيدهم اللّه من فضله على حبّنا لهم ، وعلمنا وعملنا اللذين بهدايتهم ونورهم ، فكلّ ما في الوجود من كمال وجمال وجلال فهو لمعة من أنوارهم ، وأثرٌ من آثارهم ، بل الكلّ حكايتهم ذاتاً وصفة ، فهم المعنى والمسمّى ، وما سواهم الاسم والعبارة. فظهر أنه لا منافاة بين هذا وبين ما ذكر من الاعتبار في القول الأوّل ؛ لأنّا نسلّم أنه لا يصل لهم نفع بشفاعة الداعي ووساطته لهم ، بل على ما قرّرناه ، فلا منافاة.

وأمّا الجامعة فنقول بمقتضاها ، وليس فيها ما ينافي ما قرّرناه في القول الثاني. ثمّ نقول : إن صلاة المصلّي عليهم ، ودعاء الداعي لهم ، من حيث هو عمله وحسنته يختصّ نفعه به ؛ لأنه [ عمله لا عملهم (2) ] ، ولأنّ كلّ ما يدعو به لهم من الكمالات وعوالي الدرجات فهو قد حصل لهم ، فطلبه لهم تحصيل حاصل.

ولو لم يكن حاصلاً لهم على أعلى درجة لزم ما مرّ في القول الأوّل من لزوم وجود واسطة لهم في حصول كمال وشفيع لهم ، فينقلب الرائس من كلّ وجه والأفضل من كلّ وجه مفضولاً ومرؤوساً بحال ، إلى غير ذلك من المفاسد المستحيلة ، ومن حيث إنّهم السبيل إليه بدءاً وعوداً ، والهداةُ إليه والأدلّاء عليه ، وهو من فاضل حسناتهم كما عرفت ، فلهم به النصيب الأوفى.

فظهر وجه الحصر في حديث ( الكافي ) بأن يراد اختصاص نفعه بنا من حيث هو

ص: 50


1- في المخطوط : ( الابر ).
2- في المخطوط : ( علمه لا علمهم ).

عملنا ، ونفيه عنهم على وجه شفاعة المصلّي عليهم ، وكونه السبب والواسطة لهم في تحصيل مضمونه لهم ، فلا منافاة فيه للقول الثاني ولا منافاة بين القولين ، فكلاهما صحيح ، بل لا اختلاف في الحقيقة بينهما ، واللّه العالم.

تنبيه

هل هذا التقرير مختصّ بمحمّد : وآله صلّى اللّه عليه وعليهم أم يجري في سائر المعصومين؟

الظاهر أن هذا يجري بالنسبة إلى كلّ إمام ورعيّته البتّة ، ولا يجري بالنسبة إلى دعاء الأفضل من المعصومين لمن دونه ؛ لصحّة توسّط الأفضل لمن دونه وشفاعته له. أمّا العكس ودعاء هذه الأُمّة لمن دون محمّد : وآله صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين من المعصومين فيحتمل الوجهين أيضاً ، ولا منافاة في توسّط مثل الكليم بيننا وبين نبيّنا ، بل يدلّ على وقوعه مثل : حديث المعراج (1) الدالّ على شفاعة موسى عليه السلام : لنا عند نبيّنا صلى اللّه عليه وآله ، واللّه العالم.

ص: 51


1- بحار الأنوار 18 : 235.

ص: 52

[19] بيان إجمال وكشف مقال : اللّه المنّان بالإحسان

لا ريب أن المنّان من أسمائه تعالى ، فلا ريب أنه صفة كمال ، وقد جاء في الدعاء « إنْ أعْطَيْتَ لَمْ تُشِبْ عَطَاءَكَ بِمَنّ » (1).

وأيضاً ، لا ريب أن المنّ من الممكن صفة ذمّ ، فهنا سؤالان.

الأوّل : ما الجمع بين نفي المنّ عن عطائه وبين وصفه بالمنّان؟

الثاني : ما الوجه في كون المنّان صفة مدح في الواجب ، وصفة ذمّ في الممكن؟

والجواب عن الأوّل : أن المنّان الموصوف به الواجب عزّ اسمه معناه الجواد المظهر جوده الدالّ عليه خلقه بلا شوب نكد ولا كدر ، ولا نفع يصل إليه من المنعم عليهم ، ولا مكافأة لهم على إحسان منهم ، بل تفضّل بحت بلا شوب أداء ولا إنقاص. والمنفيّ عن عطائه هو العطاء المشوب ببعض ذلك ، كما هو معنى المنّ بالنسبة إلى الممكن ، فإذا كان للمنّ معنيان متباينان (2) صحّ الإثبات والنفي إذا لم يتواردا على موضوع واحد.

والجواب عن الثاني : أن حقيقة المنّة وأجلى أفرادها تذكير المنعَم عليه بما انْعِمَ به عليه ؛ ليدوم علمه بالمُنْعِم والنعمة ، فيرى له وجوب الشكر ، ويرى له الطول والعلوّ عليه ، والقاهريّة له ، ويرى نفسه في ذلّ المقهوريّة والافتقار له.

ص: 53


1- الصحيفة السجاديّة الكاملة : 191.
2- في المخطوط : ( متبائنات ).

فتذكير اللّه للعبد نعمه عليه ظاهرةً وباطنةً ، وإظهار أنوارها في أُفق قلبه ، يؤدّي [ بالعبد (1) ] إلى دوام معرفته ببارئه ، وشدة فاقته إليه على الدوام ، ومعرفته بنفسه وربّه وكمالاته اللائقة به ، وإلى أن جميع المحامد لا يستحقّها أحد سواه ، وأن جميع النعم منه خالصة لا يشوبه نقص ، بل محض رحمته ، وذلك يُعِدّ العبدَ إلى قبول الفيض بعد الفيض ، وإلى المزيد من فضل اللّه الذي لا ينقطع ، ولشروق أنوار المحبّة والمعرفة في أُفق قلبه ، ولفعليّة العبوديّة.

فظهر أن تذكير اللّه للعبد بنِعَمه عليه إظهار لأشعّة نور رحمة وجوده في مشكاة قلبه ، فهي أيضاً نعمة اخرى بها يحصل للعبد بَرد اليقين ، وفتق ريق النفس ، وفعليّة العقل وطمأنينة العبوديّة. بل تصوّر النعمة ، وقول : ( الحمد لله ) نعمة يجب شكرها ؛ لما يلزمها من مزيد التفضيل وانشراح الصدر وأُنس القرب ، فالمنّة من اللّه جود محض ، وكمال بحت.

وأمّا المنّة من العبد فلا بدّ أن تشتمل نوع نقص كأن يرى نفسه منعماً ، وإنّما هي نعمة من اللّه عليه ، وعلى من أنعم عليه ، أو يرى في نفسه كبراً واستصغاراً لمن أنعم عليه ، ورفعة له ، وضعة للمنعَم عليه ، أو ينسب المنعَم عليه لعدم المروءة.

وبالجملة ، ينظر نفسه ويرى لها فضلاً وعلوّاً ، وينسى من أنعم عليه ، وأن إنعامَهُ وما أنعم به نعمةٌ من اللّه عليه ، ولا بدّ من استلزام ذلك نوع استنقاص وإهانة وذلّ لمن يمنّ عليه ويذكّره فقره لمن هو مثله.

وأيضاً إذا منّ عبد على عبد بما أولاه وذكّره به ؛ فإن كان لا يستشعر حينئذٍ أن ما أولاه نعمة من اللّه عليه ، وأن صرْف ما استخلفه فيه مولاه فيما يحبّ نعمة من مولاه أيضاً فهو جاهل محض أو أحمق أو جاحد لنعمة اللّه ، وهذا كلّه قبيح بالضرورة.

وإن كان مع تصوّر النعمة بذلك من اللّه عليه وأنّها نعمة يجب شكرها ، فالمنّ منه حينئذٍ محال ؛ إذ لا يرى نفسه منعِماً بحال ، بل منعَماً عليه على كلّ حال ، فإنّ المانّ

ص: 54


1- في المخطوط : ( العبد ).

المتطوّلَ بعطائه الذي يرى نفسه منعِماً كافرٌ بنعمة اللّه ، كاذب في دعواه ، جاهل بمقام نفسه ، غير عارف بربّه.

وبهذا ظهر حسن المنّ من الواجب ، وقبحه من الممكن ، وأن المنّان صفة كمال ، والمنّ المنفي عن عطائه هو ما استلزم النقص وإهانة المنعَم عليه وتكدير النعمة.

وبهذا ظهر أن مَن نعمته نعمةُ اللّه ، وإفضالُه مِنَ اللّه ، كمحمّدٍ : وآله صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين لا يكون تذكيره بفضله وإحسانه نقصاً في شأنه ؛ لأنه يد اللّه المبسوطة بالرحمة ولسانه المعبّر عنه ، و [ وجهه (1) ] الذي لا يؤتى إلّا منه ، لا ينطق عن الهوى بوجه ، فجميع أقواله وأفعاله رحمة من اللّه لخلقه ، فمنّه منّ اللّه ، فهو نعمة من اللّه خالصة لا يشوبها نقص بوجه ، واللّه العالم.

ص: 55


1- في المخطوط : ( وجه ).

ص: 56

[20] كشف حال وبيان مقال : « يا قَيّوم فلا يفوت شيئاً علمه »

اشارة

ورد في دعاء إدريس عليه السلام : « يا قيوم فلا يفوت شيئاً علمه ولا يؤوده » (1).

هكذا بنصب « شي ء » ورفع « علم ». فتتبّعنا جملة من كتب الدعوات ، فوجدناها هكذا ، وكان الظاهر رفع شي ء ، ونصب « علم » ؛ إذ الظاهر أن المقصود أن علمه تعالى أحاط بكلّ شي ء فلا يشذّ منه شي ء ولا يخرج عنه. والعبارة الصريحة في هذا ما قلناه أنه الظّاهر.

والجواب من وجوه :

أحدها : ما قاله مولانا الشيخ مبارك بن عليّ : ، وهو أن من الأفعال ما يصحّ إسناده إلى كلّ من فاعله ومفعوله لتكافئهما في النسبة إليه ؛ لكونه إضافياً مثل قوله تعالى : ( فَتَلَقّى آدَمُ : مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ) (2) فقد قرئ برفع ( آدم ) ونصب ( كلمات ) ، وبالعكس.

وقوله تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (3) ، فقد قرئ بالوجهين.

وعنوان هذا صحّة العكس ، وإقامة صيغة التفاعل والمفاعلة مقام الفعل المذكور

ص: 57


1- مصباح المتهجد : 544 ، بحار الأنوار 92 : 168 ، و 95 : 98 / 2.
2- البقرة : 37.
3- البقرة : 124.

مع بقاء المعنى بحاله ك- ( لقيتُ زيداً ولاقيته وتلاقينا ) ، فلعلّ الدعاء المسئول عنه من هذا القبيل.

[ بقي (1) ] السؤال عن النكتة في نسبة الفوت المنفي إلى علمه في العبارة دون الشي ء. ولعلّه التنبيه فيها على أنه الفاعل المطلق ، وما سواه قابل مقهور بالذات فلا يحمل نسبة الفوت إلى الأشياء في العبارة ، بل المشيئة والمقدرة لله حتّى في الأُمور الإضافيّة ، فلو عكس لأوهم العكس. على أن مصحّح العكس إنّما هو كونه في مقام النفي ، وتقديم الشي ء. [ و ] لعلّ النكتة في الاهتمام بيان انقهار الأشياء تحت علمه ، فإنّ قاهريّته أظهر ، واللّه العالم.

الثاني : أن يكون هذا من قبيل : ( خرق الثوبُ المسمارَ ) ، و: ( كسر الزجاجُ الحجرَ ) (2).

الثالث : أن يكون « علمه » مضافاً إلى مفعوله ، وهذا على ثلاثة أوجه :

أحدها : لا يفوت شيئاً أن يعلم خالقه.

الثاني : لا يفوت شيئاً أن يدلّ على خالقه ، فكلّ الممكنات دالّة عليه وشاهدة بوحدانيّته.

الثالث : لا يفوت شيئاً الدليل على خالقه.

والفرق بينه وبين الأوّل أن الأوّل من دليل ( الأنفس )، وهذا من دليل ( الآفاق ).

الرابع : أن يكون معناه : لا يفوت شيئاً علمه. أي لا ينقطع إمداده الخلق والرزق والحياة والموت ؛ لعدم استغناء المعلول عن علّته بحال ، وعدم انقطاع الأمداد منه للموجود بالوجود والإيجاد ولوازمه الذاتية. فسبحان من لا يحويه مكان ولا شي ء ، ولا يخلو منه مكان ولا شي ء ، العليم بما خلق ، القائم على كلّ نفس بما كسبت ،

ص: 58


1- في المخطوط : ( لفي ).
2- وهي قاعدة نصب الفاعل ورفع المفعول به عند أمن اللبس ، غير أنه ليس خاضعاً للقياس بل يقتصر فيه على السماع. انظر شرح ابن عقيل 2 : 147.

وهو على كلّ شي ء وكيل.

ثمّ انظر إلى تفريعه : « فلا يفوت شيئاً علمه » على قوله : « يا قيّوم » ، فإنّ القيّوم مَن قامت الأشياء كلّها بعلمه ، فيه قوام كلّ شي ء وجوداً وبقاءً وشيئيّةً وثبوتاً واستمراراً ودواماً ، خلقاً ورزقاً وحياةً وعلماً. فحقيقة ما سواه تقويم القيّوم له بعلمه وإمداده له من جوده ورحمته ، فهو الغنيّ بذاته عمّن سواه ، وجميع ما سواه مفتقر إليه بذاته في تنشئته وبقائه في مراتب وجوده.

هكذا شأن الصنعة وصانعها الحقيقيّ ، فبعلمه قامت الأشياء وتقوّمت ، أحاط بكلّ شي ء قدرةً وعلماً ، فبعلمه وقدرته أمسك العرش وما حوى ، فهو القيّوم بذاته. فظهر وجه التفريع وبان ما قرّرناه ، واللّه العالم بكلّ شي ء.

ص: 59

ص: 60

[21] كشف فيه لطف نسخ ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ )

قال القمّيّ في قوله عزّ اسمه ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ ) (1) - : خلقهم للأمر والنهي والتكليف ، وليس خلقه بجبران لهم ، بل الاختيار لهم في الأمر والنهي. وفي حديث آخر : هي منسوخة بقوله تعالى : ( وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) (2).

فإن قيل : ظاهر أن الآية الكريمة الاولى محكمة للإجماع الضروريّ ومحكمات الكتاب والسنّة المشهورة المستفيضة بل المتواترة مضموناً ، والبرهان المتضاعف المحكم الضروريّ ، فما معنى نسخها بالآية الكريمة الثانية؟

ولعلّ الجواب أن اللّه سبحانه وتعالى خلق الجنّ والإنس طرّاً على فطرة الإسلام ، وهي فطرة اللّه التي فطر الناس عليها ، فكلّ مولود يولد على الفطرة ، وإنّما [ أبواه يهوّدانه إن تهوّدا وينصّرانه إن تنصّرا (3) ] (4) ، فلمّا وردوا موارد آبائهم ، واعوجّت فطرهم بإدبار نفوسهم ورين أعمالهم وامتدادهم ممّا امتدّ منه آباؤهم ، اختلفوا ( وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) (5) لاختلاف موادّهم.

ص: 61


1- الذاريات : 56.
2- هود : 118.
3- انظر : الفقيه 2 : 26 - 27 / 96 ، وسائل الشيعة 15 : 125 - 126 ، أبواب جهاد العدو وما يناسبه ، ب 48 ، ح 3.
4- في المخطوط : ( يهوّدانه إن تهود وينصّرانه إن تنصّر أبواه ).
5- هود : 118.

فالضلال سبل ، والهدى سبيل واحد ( إِلّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ ) ، أي للرحمة ( خَلَقَهُمْ ) (1) ، أي خلقهم من رحم الرحمة لمّا استعدّ لها وأخذ بأسبابها وسلك سبيل هدى اللّه ، فبقي على الفطرة الأُولى. فلعلّه سمّى اعوجاج فطرهم ، وتغيّر قوابلهم الاولى ، وانتكاس قلوبهم ، وامتدادهم من الجهل المركّب ، نسخاً لخلقهم الأوّل ، وهو الفطرة الاولى ، فذلك نسخ في حقائقهم وخلقهم ، لا في التكليف ولا لعلّة خلقهم.

فليس معناه النسخ المتعارف بين أهل الأُصول من رفع حكم الآية الأُولى بالأُخرى ؛ إذ ليس بين الآيتين تنافٍ.

ووجه آخر ، هو أن ظاهر الآية الأُولى إخبار عن الخلق أنّهم يعبدونه طرّاً ، والثانية إخبار عن عدم اتّفاقهم على ذلك ، وأن فيهم من لا يعبده.

ووجه آخر ، هو أن الآية الأُولى إخبار عن أن الجنّ والإنس يعبدونه طرّاً في مقام وإن اختلفت عبادتهم إخلاصاً ونفاقاً ، والثانية إخبار عن اختلافهم وإعلان بعضهم بسريرته.

ووجه آخر ، هو أن الآية الأُولى إخبار عن اتّفاقهم على عبادته بدلالة وجوداتهم على وحدانيّته والإقرار برسله ، والثانية إخبار عن اختلاف اختياراتهم في قبول التكليف التشريعيّ.

وفي كلّ هذا يصدق النسخ ، لا بالمعنى الأُصولي وإن تلازما بوجه ، واللّه العالم.

ص: 62


1- هود : 119.

[22] كشف بيان وإسرار وإعلان الوجه في عدّ الولاية من أركان الإسلام

إن قيل : ورد في بعض الأخبار (1) عن الأئمّة الأطهار عد أركان الإسلام خمسة : الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحجّ ، والولاية ، وفي بعضها (2) إبدال الولاية بالجهاد ، فما وجه الجمع؟

قلت : لعلّه واللّه الهادي أن الولاية وإن كانت هي أصل الإسلام وأُسّه لا من أركانه الفروعيّة ، لكنّها عدّت من أركانه جرياً على ظاهر أحكام الرسالة ، فإنّ الإسلام أعمّ من الإيمان ، كما استفاض الدليل عليه (3) بل تواتر مضموناً بحسبها وهو المشهور بين فقهائنا.

فالولاية بهذا الاعتبار من أركانه ؛ لصدقه ظاهراً بحسب الأحكام الدنيويّة المحضة أعني : ظاهر الرسالة بدونها. وحذف الجهاد ؛ لأنه مخصوص بزمان ظهور المعصوم ، والإذن له فيه ، فليس بعد الحسين سلام اللّه عليه إذن فيه حتّى يقوم قائمهم ، عجّل اللّه فرجه.

فهو في هذا الزمان ليس من أركان الإسلام ؛ لسقوط الكليف به حينئذٍ ، فالولاية

ص: 63


1- انظر : وسائل الشيعة 1 : 13 ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب 1.
2- انظر كنز العمّال 1 : 28 - 29 / 28 - 29 ، وفي غيره كثير.
3- الكافي 2 : 25 - 27 / 1 - 5.

حينئذٍ هي الخامس.

أمّا إذا أذن اللّه لقائمهم سلام اللّه عليه وارتفع المانع من مشروعيّة الجهاد ، وترادف اسم الإسلام والإيمان كانت الولاية حينئذٍ أُسّ الإسلام وأصله ، لا من أركانه الفروعيّة ، بل يكون الجهاد حينئذٍ هو الركن الخامس ، فكلّ منهما ركن خامس باعتبار ، فلا منافاة. وبهذا ظهر الوجه في عدّ الولاية من أركان الإسلام ، مع أنها أصل الإيمان الأعظم ، واللّه العالم.

ص: 64

[23] دفع وهم وإبانة فهم العرش سقف الجنة ومنزل أهل البيت في الجنّة

إن قيل : ورد أن الجنّة « سقفها عرش الرحمن » (1) ، وأرضها الكرسي ، ومنزل محمّد : وآله صلّى اللّه عليهم أجمعين في الجنة ، فيلزم أن يكون شي ء من الخلق أعلى من منزلهم ؛ لأنّ السقف أعلى من المسقوف.

ولعلّ الجواب ، وبمحمّد : وآله أستمد الصواب أن ذلك العرش يراد به : باطن [ باطن (2) ] المحدّد ، وذلك الكرسيّ : باطن باطن الكوكب ؛ فإن العرش والكرسيّ يطلقان في الأخبار (3) على معانٍ متعدّده ، فقسط كلّ فرد من ذلك العرش هو سقف جنّته ، فإنّها متعدّدة بتعدّد سكّانها بوجه ، متّحدة بوجه ، وسقفها داخل فيها بوجه خارج منها بوجه ، كالكلّيّ وجزئيّاته. والرتبة العالية من رتب الوجود بالنسبة إلى مظهرها وما دونها من معلولاتها ، وكلّ فرد عقله أعلى مقاماته ، أو سره بوجه.

وبوجه آخر هو أن يراد بالعرش الذي هو سقف الجنّة بأسرها : منزلة محمّد : وأهل بيته صلّى اللّه عليهم أجمعين وبالكرسي : البرزخ بين الباطن والظاهر ، وهو آخر مظاهر العرش من حيث هو عرش ، وهو أوّل منازل الجنّة ودرجاتها ، واللّه العالم.

ص: 65


1- بحار الأنوار 8 : 84.
2- في المخطوط : ( باض ).
3- التوحيد : 321 - 326 / 50 ، معاني الأخبار : 29 - 30 / باب معنى العرش والكرسيّ.

ص: 66

[24] إزاحة وهم : مرتبة أزواج النبيّ صلى اللّه عليه وآله في الجنّة

إن قيل : إن محمّداً : صلى اللّه عليه وآله وسلم له أزواج في الجنّة ، فيلزم أن يكون أزواجه في رتبته لتحقّق المزاوجة وذلك يستلزم مساواة [ رتبهن (1) ] لرتبته ، وأن يكون أزواجه من الحور والآدميّات أعلى رتبة من النبيّين سواه ، والعقل والنقل يحيلانه.

قلت : لعلّ الجواب من وجهين :

أحدهما : أنا لا نسلّم ذلك التلازم ؛ لإمكان المزاوجة مع اختلاف الرتبة ، ولا مانع عقلاً ولا نقلاً من ذلك كما يشهد به سير اختلاف رتب المتزاوجات من الخلائق أجمع في كلّ مقام.

الثاني : أن محمَّداً صلى اللّه عليه وآله : لمّا كانت جميع مراتب الوجود والجود من فاضل وجوده وجوده وحكايات نوره وظهوره ؛ لأنه وآله صلّى اللّه عليهم أجمعين جود اللّه ، وهو تعالى الجواد فهو مع كلّ أحد من الخلائق في كلّ رتبة من رتب الوجود ، وليس أحد منهم معه. وهكذا شأن العلّة والمعلول ، والظاهر والمظهر ، بل والجنس وأنواعه ، والنوع وأشخاصه ، فإنّهما مع كلّ فرد من أفراده مع بقائهما في أنفسهما في مرتبتهما الصرفة على وحدتهما الصرفة ، ليس شي ء من أشخاصهما معهما فيها ، واللّه العالم.

ص: 67


1- في المخطوط : ( رتبهم ).

ص: 68

[25] إنارة ظلمة وسدّ ثلمة : التحريم بعد التحليل

إن قيل : لا ريب أن الحسن والقبح عقليّان وأنهما ذاتيّان ، فما الوجه في قوله تعالى : ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) (1) فإن كانت حسنة بذاتها عقلاً فلم حرّمها؟ وإن كانت قبيحة كذلك فلم أحلّها؟ فتحليلها وتحريمها يقتضي حسنها وقبحها ذاتاً ، وهو تناقض. وهذا الإشكال بعينه جارٍ في المنسوخ ، وفي غنائم أهل الحرب ؛ لاشتمالها قبل أن يغنمها المسلمون غالباً على محرّمات كالربا والسرقة والغصب ونحو ذلك ، وبعد ذلك أباحها الرسول صلى اللّه عليه وآله : واستباحها. وفي المال المختلط بالحرام وبعد التخميس هو وخمسه حلال ، ومثل المال المجهول المالك وبعد الصدقة به هو حلال ، وما أشبه ذلك.

ولعلّ الجواب ، ومن اللّه ونوّابه استمداد الصواب من وجوه :

أحدها : أن التحريم بَعْد التحليل في جميع موارده وباب النسخ برمّته دائر مدار مصالح المكلّفين ، وكمال النظام الجمليّ وحكمة اللّه في خلقه بما يخرجهم من القوّة إلى الفعل على كمال الاختيار ، فالعقل يحكم بحسن ما به وفيه استقامة الوجود وكماله ، وما به كمال التكليف بالعدل ، وكمال اختيار المكلّفين ، وقبح أضداد ذلك. وهذا يختلف باختلاف الأزمان والأصقاع والأشخاص ، وحالات المكلّف ، و [ أن ]

ص: 69


1- النساء : 160.

ما (1) لا يختلف فيه كذلك وهو ما يتساوى فيه مصلحة الخلق طرّاً ، ويقوم به نظام الكلّ ، وهو صفة الوجود الذاتيّة لا يقع فيه النسخ ولا التغيير بوجه وهو التوحيد والعدل ولوازمهما الذاتيّة.

الثاني : كثيراً ما يدور التحليل والتحريم والصحّة والفساد على الصفات والشرائط والقيود ، بل ذلك أغلبيّ في أبواب الفقه ، فما زال المكلّف متّصفاً بذلك الوصف وقائماً بذلك الشرط ، فالمشروط حلال له وحسن بالنسبة إليه عقلاً ؛ لأنّ الصفة والشرط علّة لما عُلّق عليهما من الحكم ، فحسنة وقبحه [ يدوران (2) ] على الشرط والصفة وعدمهما ، فجاز كون ما ذكر في السؤال كلّه من هذا الباب.

فإذن قد اتّضح أنه لم يقبّح ما هو حسن ، ولم يحسّن ما هو قبيح ، ولا يتخلّف الذاتي عن ملزومه. فالصلاة مثلاً حسنة بشرط حصول جميع شرائط الصحّة ، وقبيحة بدونها ؛ ولذا قبحت من الحائض. فالصلاة الحسنة وهي المستجمعة الشرائط لا تقبح بحال ، ومع اختلالها فهي قبيحة لا تحسن بحال. فالقبيحة غير الحسنة ، فتحريم دخول المسجد على الجنب مثلاً ليس فيه انقلاب الحسن وهو دخوله مع الحدث الأكبر ؛ لعدم تحقّقه.

الثالث : قد يكون سبب التحريم حدوث المعصية أو الكفر ، أو كفر النعمة عقوبة ، ومضمونه يرجع إلى الجواب الثاني بوجه ، وهو أن حِلّ هذا الشي ء وحُسْنه مشروط بالاتّصاف بالإيمان ، أو عدم المعصية مثلاً.

الرابع وهو يختصّ بالآية الكريمة - : أن التحريم فيها بمعنى الحرمان ، كما يستفاد من خبر العيّاشي (3) ولعلّه عقوبة لهم بكفرهم بنعمة اللّه فسلبها منهم ، واللّه العالم.

ص: 70


1- في المخطوط : ( أنه أما ).
2- في المخطوط : ( يدور ).
3- تفسير العيّاشي 1 : 310 - 311 / 303.

[26] جمع لفرقة ( أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ )

إن قيل : ما معنى ( أو ) في قوله عزّ اسمه ( أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) (1).

قلت : لعلّ الجواب أن ( أو ) بمعنى : الواو ، وهو عربيّ شائع (2).

أو بمعنى : ( بل ) (3) ، وأشار به إلى أنه أرسله إلى مائة ألف ستزيد بالتوليد ، أو تزيد بالتبعيّة ، فالمخاطبون بالأصالة بتلك الرسالة مائة ألف ، ولهم أتباع كالنساء وأشباههن.

أو أن معنى الإضراب : الإشارة إلى زيادتهم من المحتوم.

أو أن الإضراب على حقيقته ، وهو إشارة إلى أن الزيادة ليست من المحتوم ، بل لله فيه البداء.

وإخباره رسوله صلى اللّه عليه وآله بذلك وكذلك بعد مضيّ الأمر وتحقّقه بروز لما سبق على إرساله يونس عليه السلام : ، أو إخبار عن تجدّد مثل قوم يونس عليه السلام : في العقائد على الختم والبَدء ، واللّه العالم.

ص: 71


1- الصافّات : 147.
2- انظر مغني اللبيب : 88.
3- انظر مغني اللبيب : 91.

ص: 72

[27] تنفيس نفيس : ( فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ )

إن قلت : ما الوجه في إدخال حرف التنفيس في قوله تعالى : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) (1)؟

قلت : لعلّ الجواب من وجوه :

أحدهما : أنه عبّر بالرؤية عن لازمها ، وهو العقاب على ما وقع التهديد عليه من العمل ، وظهوره للعاملين المهدّدين متأخّر. والقرينة على إرادة العقاب من الرؤية أن مجرّدها لا يهدّد به المجرمون ، واللّه سبحانَه هُو المعذّب لهم بيد رسوله والمؤمنين الذين هم خلفاؤه ، وهم الأئمّة المعصومون.

الثاني : أن ظهور رؤية اللّه ورسوله لعمل العاملين للعاملين على اليقين متأخّر إلى أن تبلغ أرواحهم التراقي ويحتضرون.

الثالث : أن عرض عملهم ذلك على اللّه ورسوله والمؤمنين ورؤيتهم له واقع في جميع رتب الوجود منذ أخذ عليهم العهد بالإقرار لله بالوحدانيّة ، فأشار لذلك بحرف التنفيس.

الرابع : أنه إشارة إلى أن رؤية اللّه ورسوله والمؤمنين لعملهم غير منقطع ، واللّه العالم.

ص: 73


1- التوبة : 105.

الخامس : أن ظهور عملهم متجوهراً مصوّراً إلى جميع الخلائق متأخّر ، فعبّر عنه بحرف التنفيس ، واللّه العالم.

ص: 74

[28] بيان إجمال وتحقيق مقال : لم يُبعث نبيّ إلّا بعد الأربعين

إن قيل : ما الوجه فيما روي أنه : « لم يبعث نبيّ إلّا بعد الأربعين »؟ (1)

قلت : لعلّ ذلك من وجهين :

أحدهما : أن « الأربعين » هي عدد أيّام تخمير طينة آدم عليه السلام (2) : ، وأيّام ميعاد ميقات موسى عليه السلام (3) : ، وعدد أجزاء الإيمان بما يشمل رتبة العصمة ، وعدد إدارة الأفلاك في إيجاد الطبائع الأربع ، فإنّها أُديرت عشر مرّات بعدد القبضات العشر الكلّيّة التي خلق منها الإنسان.

فإذن لا يظهر كمال بلوغه أشُدّه الذي به يبلغ عالمه ورعيّته ومن هو تحت حيطته أشُدّه الكلّيّ إلّا بعد الأربعين.

الثاني : أن ذلك أكمل لقبول رعيّته منه ، ولاختيارهم لما تقرّر في عامّة النفوس أن الأربعين نهاية زيادة عقل الإنسان وأوان كماله ، واللّه العالم.

ص: 75


1- بحار الأنوار 13 : 50 ، وفيه : « لم يبعث نبيّ إلّا على رأس أربعين ».
2- الكافي 2 : 7 / 2.
3- إشارة لقوله تعالى : ( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) . الأعراف : 142.

ص: 76

[29] هداية لمشورة : « شاوروهنّ وخالفوهن »

إن قيل : ما معنى ما روي عن أمير المؤمنين سلام اللّه عليه في النساء « فشاوروهنّ وخالفوهنّ »؟ (1).

قلت : لعلّ الجواب من وجوه :

أحدها : أنه أراد عليه السلام أنه إذا عمي وجه المصلحة في أمر عند تساوي المرجّحات بين الأمرين أو النقيضين من كلّ وجه ، أو لم يظهر مرجّح في أحدهما أصلاً فاجعلوا المرجّح وأمارة الصلاح أو الأصلح هو الأخذ بخلاف ما تشور به النساء ، باعتبار الجنس فإنّهن من أعظم سبل الشيطان المضلّ الصارف عن الرشاد. فالمرأة ضلع أعوج ، و « خلقت من ضلع أعوج » (2) ، فطبعها الاعوجاج وهي من فاضل الرجل (3) ، فنفسها أقرب إلى الأمّارة ، وإلى موافقة الشيطان ؛ فما أتى إبليس : لآدم عليه السلام : إلّا بسبيل مشورة حوّاء.

فكما جعل الشارع من المرجّحات في الأخذ بأحد المتعارضين عند عدم المرجّحات مخالفة قضاة الجور [ واطّراح (4) ] ما وافقهم (5) ، كذلك جعل ميزان الرشد

ص: 77


1- بحار الأنوار 100 : 262 / 25 ، وفيه : « شاوروا النساء وخالفوهن » ، وهو مرويّ عن النبي 9.
2- الاختصاص ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 12 : 339 ، بحار الأنوار 13 : 429 / 23.
3- بحار الأنوار 11 : 116 / 46.
4- في المخطوط : ( واضطراح ).
5- انظر : الكافي 1 : 68 / 1 ، عوالي اللآلي 4 : 134 / 231.

عند عدم المرجّحات في خلاف النساء.

الثاني : « شاوروهنّ » [ يطمأننّ (1) ] إليكم وتسلموا من كيدهنّ ومكرهنّ وغرورهنّ وخدعهنّ ، وخالفوهن إذا ظهر لكم الصلاح في خلافهنّ ؛ فلعلّه تظهر المصلحة في الأمر بمعرفة [ مشورتهنّ (2) ] وإن خالفتها ، فكثيراً ما تتنبّه النفس لبرهان الحقّ من إدراك شبهة الباطل.

الثالث : شاوروهنّ لتطيب أنفسُهنّ وتتمكّنوا من الاستمتاع بهنّ ، ولا تعملوا إلّا بما قام الدليل على رجحانه ، وذلك بمثابة مشورة الرسول صلى اللّه عليه وآله : لرعيّته مع أنه لا يفعل إلّا بأمرٍ إلهي في كلّ جزئيّ حركةً وسكوناً ، واللّه العالم.

ص: 78


1- في المخطوط : ( يطمئنوا ).
2- في المخطوط : ( اشوارهن ).

[30] قسمة عادلة : الزلزلة نصف القرآن والإخلاص ثلثه والجحد ربعه

إن قيل : ما الوجه فيما رواه ابن أبي جمهور : في العالي من أن « الزلزلة نصف القرآن ، والإخلاص ثلثه ، والجحد ربعه »؟ (1).

قلت : لعلّ الجواب أن الزلزلة تضمّنت حكم النشأة الأُخرى ، والقرآن نزل بأصلين هما حكم الآخرة ، وحكم الاولى لا غير ، فليس فيه ما يخرج عنهما ، والزلزلة تضمّنت أحدهما فهي نصفه ، فمن عرف معناها عرف أحد قسميه.

وأنه روي عنهم عليهم السلام : « إنّ القرآن على ثلاثة أقسام : معرفة اللّه ، ومخلوقاته ، وأحكامه » ، فهو : قسم قصص وأمثال ، وقسم أحكام وتكاليف ، وقسم توحيد وعقائد ، والإخلاص تضمّنت بيان التوحيد لا غير ، فهي ثلثُه ؛ لأنّها تضمّنت بيان ثلثه.

وهذه القسمة لا تنافي الاولى.

وأنه قد روي عنهم عليهم السلام أن القرآن أربعة أقسام : ربع فيهم ، وربع في عدوهم ، وربع قصص وأمثال ، وربع فرائض وأحكام (2) ، والجحد تضمّنت بيان حكم عدوّهم خاصّة فهي ربعه.

أو أن القرآن يدور على أصلين : عقائد وأعمال ، والعقائد الحقّة لا تتحقّق إلّا

ص: 79


1- عوالي اللآلي 1 : 187 / 263 ؛ بتفاوتٍ يسيرٍ.
2- تفسير العيّاشي 1 : 20 / 1 ، بالمعنى.

بالكفر بأضدادها ونقائضها ، فلزم بيان أحكامها ، فلا يتمّ الولاء ولا يتحقّق بدون البراءة ، فالجحد نصف النصف فهي ربعه ؛ لما تضمّنته من الكفر بالطاغوت الذي لا يتحقّق الإيمان باللّه إلّا به.

وهذه القسمة أيضاً لا تنافي الأُوليين ، واللّه العالم.

ص: 80

[31] إنارة بهمة وإسفار ظلمة قول أمير المؤمنين عليه السلام : « يا جبرئيل : »

إن قيل : ما الوجه فيما روي أن أمير المؤمنين : سلام اللّه عليه قال يوم أحد : « يا اللّه ثلاثاً يا محمّد ثلاثاً يا جبرئيل » - ثلاثاً » ، فكيف يستعين ويستغيث بجبرئيل؟

قلت : لعلّ الجواب من وجوه :

أحدها : أن جبرئيل عليه السلام : من خدّام أمير المؤمنين (1) : سلام اللّه عليه وهذا أمر منه له كأمر السيّد لعبده ، لا استغاثة ودعاء ، بل تشريف له بتكليف.

الثاني : أنه تلقّى منه كتلقّي الرسل الوحي منه ، فكأنّه استأذن اللّه بلسان جبرئيل عليه السلام : فيما فعل يومئذ. وهذا منه تشريف لجبرئيل عليه السلام : أيضاً.

وبعبارة اخرى : أنه من قبيل استمداد جهة الملك لجهة الملكوت ، وهما جهتاه.

الثالث : أنه عليه السلام فعل ذلك ليظهر للناس ويعلمهم أن اللّه تعالى أمدّه برؤساء الملائكة ، أو ليظهر للناس أنه متمكّن في أفعاله كإهلاك من أهلكه يومئذ للقوّة الربّانيّة والجبروتيّة والملكوتيّة والملكيّة البدنية.

الرابع : أنه عليه السلام أراد بذلك تعليم البشر وهدايتهم إلى أنهم يلجئون في حوائجهم

ص: 81


1- انظر : بحار الأنوار 39 : 92 - 114.

ونوازلهم إلى اللّه ويتوسّلون له برسله وملائكته وأوليائه ، ويأتونه من أبوابهم ، فهم الدعاة إليه والأدلّاء عليه ، واللّه العالم.

ص: 82

[32] حكمة منطقيّة زيادة لفظة ( إنما ) في الحمليات

قال ابن سينا : في ( الإشارات ) : ( إنه قد يزاد في الحمليات لفظة ( إنّما ) ، فيقال : ( إنّما يكون الإنسان حيواناً ) و: ( إنّما يكون بعض الناس كاتباً ) فيتبع ذلك زيادة في المعنى لم تكن مقتضاه قبل هذه الزيادة بمجرّد الحمل ؛ لأنّ هذه الزيادة تجعل الحمل مساوياً أو خاصّاً بالموضوع.

وكذلك قد تقول : ( إن الإنسان هو الضاحك ) بالألف واللام في لغة العرب فيدلّ على أن المحمول مساوٍ للموضوع.

وكذلك تقول (1) : ( ليس إنّما يكون الإنسان حيواناً ) ، أو تقول : ( ليس الإنسان هو الضاحك ) ، فيدلّ على سلب الدلالة الاولى في الإيجابين ) (2) ، انتهى.

وقال المحقّق الطوسيّ : في شرح هذه العبارة : ( المحمول قد يكون أعمّ من موضوعه كالأجناس والأعراض العامّة ، وقد يكون مساوياً له كالفصول والخواصّ المساوية ، وقد يكون أخصّ منه كالخواصّ غير المساوية ، فلفظة ( إنّما ) إذا دخلت على القضية دلّت على نفي العموم عن المحمول ، وهو معنى قوله ( تجعل الحمل مساوياً أو خاصّا بالموضوع ، وليس إذا دخلت عليها دلّت على نفي دلالتها تلك ، فأثبت العموم.

ص: 83


1- ورد في المخطوط بعدها : ( قد تقول ) ، ولم ترد في نسختي المصدر اللتين بين يدينا من ( الإشارات ).
2- الإشارات والتنبيهات ( المتن ) 1 : 138 ، باختلاف يسير.

وقوله (1) : ( وتقول أيضاً : ( ليس الإنسان إلّا الناطق ) ، فيفهم منه أحد معنيين :

أحدهما : أنه ليس معنى الإنسان إلّا معنى النّاطق ، وليس تقتضي الإنسانيّة معنى آخر.

والثاني : أنه ليس يوجد إنسان غير ناطق ، بل كلّ إنسان ناطق ) (2) ، يريد أن هذه الصيغة تفيد أمّا المساواة في المعنى كما بين الإنسان والحيوان الناطق ، وإما المساواة في الدلالة كما بين الضاحك والناطق ) (3) ، انتهى.

وقال قطب الدين : في ( المحاكمات ) : ( قوله : وقد تزاد في الحمليّات لفظة : ( إنّما ) وتفيد أن المحمول إمّا مساوٍ للموضوع أو خاصّ به ، فهو دالّ على نفي العموم ، أي على أن المحمول ليس أعمّ من الموضوع ، وإذا دخلها حرف السلب سلب دلالتها على نفي العموم عن المحمول ، وإذا سلب نفي العموم ثبت العموم.

وهناك نظر ؛ لأنّ لفظة ( إنّما ) في قولنا : ( إنّما الإنسان حيوان ) على ما تقتضيه قواعد العربيّة لا تفيد إلّا حصر الإنسان وهو المسند إليه في الحيوان الذي هو المسند حتّى يجوز أن يكون غير الإنسان حيواناً ، لا على حصر المسند في المسند إليه ، ليمتنع أن يكون غير الإنسان حيواناً. فهي لا تدلّ على مساواة الحيوان للإنسان ، ولا على كونه أخصّ منه.

وعلى هذا ليس ( إنّما ) لا يدلّ على العموم ، بل لمّا كان معنى الحصر إيجاباً وهو في المثال المذكور أن الإنسان حيوان ، وسلباً وهو ليس الإنسان غير حيوان ، فليس ( إنّما ) إمّا رفعاً لذلك الإيجاب ، أو رفعاً لهذا السلب.

وإذا قلت : ( ليس الإنسان إلّا الناطق ) ، يفهم منه حصر الإنسان في الناطق ؛ إمّا بحسب المعنى ؛ حتّى لا يكون للإنسان معنًى غير الناطق ، وإمّا بحسب الصدق ؛ حتّى لا يكون إنسان غير ناطق ، وهذا مستقيم على قاعدة العربيّة.

ص: 84


1- أي ابن سينا.
2- الإشارات والتنبيهات. ( المتن ) 1 : 139
3- الإشارات والتنبيهات ( الشرح ) 1 : 138.

والعجب أن ( إنّما ) عندهم منزل بمنزلة ( ما ) و ( إلّا ) وهما ليسا يدلّان (1) على حصر المسند إليه في المسند ، وإنّما [ يدلّان (2) ] على حصر المسند في المسند إليه.

[ وعنى (3) ] الشارح (4) بقوله : ( وإمّا المساواة في الدلالة .. ) : المساواة في الصدق حتّى يصدق ( كلّ إنسان ناطق ) ، وهو شرح ليس يطابق المتن ؛ فإن المساواة ليست تفهم من ( ليس ) و ( الّا ) [ إلّا ما (5) ] ذكره في المتن ) (6) ، انتهى.

وقال العلّامة الحلّيّ : في ( بسط الإشارات ) في هذا المقام ما ملخّصه : الأدوات ألفاظ تلحق القضايا ، هيئاتٍ زائدةً على ما يفهم من طرفيها ، ولمّا كان المنطقيّ إنّما ينظر بالذات في المقاصد للهيئات دون الأدوات بالذكر ، ثمّ في التفصيل بحث عن الأدوات ، مثل ( إنّما ) تزاد في الحمليّات ، فيقال : ( إنّما يكون الإنسان حيواناً ) ، و: ( إنّما يكون بعض الناس كاتباً ) ، فيتبع ذلك زيادة في المعنى لم تكن مقتضاه قبل هذه الزيادة بمجرّد الحمل ؛ فإن المحمول قد يكون أعمّ من الموضوع ، وقد يكون مساوياً ، وقد يكون أخصّ كالخواصّ القاصرة.

فلفظ ( إنّما ) يدلّ على نفي العموم عن المحمول ويجعله مساوياً أو خاصّاً بالموضوع.

وكذلك قد تقول : ( إن الإنسان هو الضاحك ) بالألف واللام في الخبر فيدلّ في لغة العرب على مساواة المحمول للموضوع. وإذا دخل حرف السلب دلّ على نفي الزيادة ، فأثبت العموم ، مثل ( ليس إنّما يكون الإنسان حيواناً ) ، و: ( ليس الإنسان هو الضاحك ). وقد يدخل حرف السلب على القضيّة وينقض بحرف الاستثناء ، ويفهم منه أمران :

أحدهما : المساواة في المفهوم ، مثل : ( ليس الإنسان إلّا الحيوان الناطق ).

ص: 85


1- في المخطوط بعده : ( الا ).
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( يدل ).
3- في المخطوط : ( على ).
4- يعني : المحقّق نصير الدين الطوسيّ.
5- من المصدر ، وفي المخطوط : ( ولا ممّا ).
6- الإشارات والتنبيهات 1 : 138 - 139 / الهامش : 1.

والثاني : المساواة في العموم ، مثل : ( ليس الإنسان إلّا الناطق ) ، فلا يوجد أحد إلّا مع صاحبه. انتهى.

وقال السيّد الداماد : في حواشيه على كتابه ( الأُفق المبين ) : ( من العجائب أن برعة علماء (1) اللسان لم يسع قسطهم من العلم أن يذهلوا عن إدراك الحمل الأوّل ، وبعض من يدرج نفسه في علماء الحقائق يتكلّف أن يستنكره.

قال إمام فَنّي المعاني والبيان وهما سيّدا علوم اللسان الشيخ البارع الفائق عبد القاهر الجرجانيّ : في كتاب ( دلائل الإعجاز ) قولاً مبسوطاً تلخيصه أن الخبر المعرّف باللام قد يراد به العهد ، كقولك : ( زيد المنطلق ) ، لمن علم أنه كان الانطلاق ولم يعلم أنه ممّن كان.

وقد يراد به حصر مفهومه في المبتدأ على أنه لم يحصل لغيره أصلاً أو على الكمال ، كقولك : ( زيد الشجاع ).

وقد يراد به ظهور اتّصاف المبتدأ كقوله : ( والدك العبد ) ، أي ظاهر اتّصافه بالعبديّة.

وقد يراد به معنًى آخر دقيق يكون المتأمّل عنده كما يقال : ( يعرف [ وينكر (2) ] ) ، كقولك : ( هو البطل المحامي ) ، فإنك لا تريد به عهداً ولا حصر جنس ، ولا ظهور اتّصاف ، بل تريد أن تقول لصاحبك : ( هل سمعت بالبطل المحامي؟ ) ، و: ( هل تتصوّر حقيقته ما هي؟ ) فإن كنت أحطت بكنهه خبراً فعليك بعلان واشدد به يدك ، فهو ضالّتك وعنده بغيتك. وطريقته طريقة قولك : ( هل سمعت بالأسد؟ ) ، و: ( هل تعرف ما هو؟ ) فإن كنت تعرفه فزيد هو هو بعينه ، لا حقيقة له وراءه (3).

وقال بعض من لحقه وسبق اللاحقين في العلوم العربية : ( المسند المعرّف بلام الجنس قد يقصد به تارة حصره في المسند إليه ؛ إمّا حقيقة ، أو ادّعاء نحو : ( زيد

ص: 86


1- في المخطوط : ( العلماء ).
2- في المخطوط : ( دينك ).
3- دلائل الإعجاز : 140 - 141.

الأمير ) ، إذا انحصرت الإمارة فيه ، أو كان كاملاً فيها ، كأنّه قيل : ( زيد كلّ الأمير ). وقد يقصد به اخرى أن المبتدأ هو غير ذلك الجنس ومتّحد به ، لا أن ذلك الجنس مفهوم مغاير للمتبدإ منحصر فيه على أحد الوجهين. فهذا معنى آخر للخبر المعرّف بلام الجنس ).

فهذا ملخّص أقوالهم ، فهم قد أوردوا هذا المعنى الدقيق ، لكنّهم اعتبروا في التعبير عنه تعريف الخبر بلام الجنس. وعلماء الحقيقة ليسوا يوجبون في هذا الحمل إدخال اللام على المحمول اللّهجي ، فقولنا : ( الجزئيّ جزئيّ ) على معنى أن حقيقة الجزئيّ هي بعينها مفهوم ما يمنع نفس تصوّره الشركَة فيه - [ يفيد (1) ] هذا المقصود عند علماء الحقيقة ، وليس يفيده ما لم يعرف المحمول باللام عند علماء اللسان ) انتهى.

وأقول : لعلّ الوجه في ذلك أن المحمول ؛ إمّا أخصّ ، أو مساوٍ ، أو أعمّ ، فحصر الموضوع فيه على الأوّلين لا ريب في إفادته المساواة ، لا يختلف فيه أهل العربيّة والمعاني والبيان ولا غيرهم. وعلى الثالث ، فوجهه أن الخاصّ هو العامّ مع قيد هو المميّز له من أفراد العامّ.

ومعنى حصر شي ء في شي ء : نفي ما سوى المحصور فيه عن المحصور ، فيكون معنى حصر الخاصّ في العامّ نفي جميع ما عدا العامّ عن الخاصّ وليس إلّا المخصّص. فإذا انتفى المخصّص عن الخاصّ بقي التساوي ، فإذا قلت : إنّما الإنسان حيوان ، كان معناه : أنك تنفي ما عدا الحيوانيّة عن الإنسان ، إمّا حقيقةً أو ادّعاءً ، ومفاده التساوي. ولنا أن نقول : لا يكون المحمول باعتبار أصل الوجود ورتبه الكلّيّة والجزئيّة إلّا أخصّ من الموضوع.

هذا باعتبار هذا الموضوع ووضعه لهذا المحمول ، وباعتبار هذا المحمول من حيث هو محمول على هذا الموضوع ، فإذا وُجدت أداة الحصر أفادت المساواة.

ص: 87


1- في المخطوط : ( تعيد ).

وبرهان [ هذه (1) ] الدعوى أنه لا يجوز بل لا يمكن أن يحمل على الشخصيّ إلّا صفته ولازمه الخاصّ به ، فلا يحمل على الإنسان حيوانيّة الفرس عند قولك : الإنسان حيوان ، بل الحيوانيّة من حيث هي حيوانيّة الإنسانيّة ، وبالضرورة الإنسان أعمّ منها ، وهذا لا ينافي كلام أهل البيان واللسان.

هذا كلّه في حمل ( ذو ) ، وأمّا حمل ( هو هو ) فالحقيقيّ منه خارج عن موضوع المنطق وما يدخل منه فيه فمجاز ؛ لأنّ حقيقة الحمل من حيث هو تقتضي المغايرة بحسب الحقيقة إلّا في المترادف ، بل وفي المترادف بوجه.

وهذا جارٍ في كلّ ما قصد به الحصر سواء دلّ عليه بأداة أم بقرينة حاليّة أو مقاليّة ليست من أدوات الحصر. وقد يقصد الحصر بغير الأدوات التي وضعت لذلك كما لا يخفى على متتبّع مقاصد العقلاء. وهذا لا ينافي كلام أهل العربيّة وفنون البلاغة ؛ لأنّ هذا باعتبار الصدق والمصدوقيّة بحسب الواقع والتحقّق ، وكلام أهل فنون العربيّة بحسب مجرّد مفاهيم الألفاظ ووضعها بإزاء ما وضعت له ، فلا منافاة. أو أن الاختلاف بحسب مقاصد العقلاء كما عرفته من كلام عبد القاهر (2) : وغيره ؛ فلا منافاة ، واللّه العالم.

ص: 88


1- في المخطوط : ( هذا ).
2- دلائل الإعجاز : 140 - 141.

[33] عقد درر : أحاديث مسجد السهلة

في ( الكافي ) بسنده إلى أبي عبد اللّه عليه السلام : أنه قال في مسجد السهلة : « إنّه موضع لإدريس النبيّ عليه السلام : الذي كان يخيط فيه ، ومنه سار إبراهيم عليه السلام : إلى اليمن للعمالقة ، ومنه سار داود عليه السلام : إلى جالوت : ، وإنّ فيه لصخرة خضراء فيها مثال كلّ نبيّ ، ومن تحت تلك الصخرة أُخذت طينة كلّ نبيّ ، وإنّه لمناخ الراكب ». قيل : ومن الراكب؟ قال : « الخضر : عليه السلام » (1).

وفي ( الفقيه ) : أمّا مسجد السهلة فقد قال الصادق عليه السلام : « ذلك موضع بيت إدريس عليه السلام : الذي كان يخيط فيه ، وهو الموضع الذي خرج منه إبراهيم عليه السلام : إلى العمالقة وهو الموضع الذي خرج منه داود عليه السلام : إلى طالوت : ، وتحته صخرة خضراء فيها صورة وجه كلّ نبيّ خلقه اللّه عزوجل ، ومن تحته أُخذت طينة كلّ نبيّ ، وهو موضع الراكب » فقيل له : وما الراكب؟ قال : « الخضر عليه السلام » (2)

وفي ( التهذيب ) عن ابن قولويه : بسنده أن أبا حمزة الثماليّ : قال للصادق عليه السلام : بأبي أنت وأُمّي ، هذا مسجد السهلة؟ قال : « نعم ، فيه بيت إبراهيم عليه السلام : الذي كان يخرج منه إلى العمالقة ، وفيه بيت إدريس عليه السلام الذي كان يخيط فيه ، وفيه صخرة خضراء فيها صورة جميع النبيّين عليهم السلام وتحت الصخرة الطينة التي خلق اللّه منها النبيّين عليهم السلام ، وفيه المعراج وهو الفاروق موضع منه ، وهو ممرّ الناس ، وهو من كوفان ، وفيه ينفخ في الصور ، وإليه المحشر ، ويحشر من

ص: 89


1- الكافي 3 : 494 / 1 ، وسائل الشيعة 5 : 266 - 267 ، أبواب أحكام المساجد ، ب 49 ، ح 3.
2- الفقيه 1 : 151 / 698 ، وسائل الشيعة 5 : 267 ، أبواب أحكام المساجد ، ب 49 ، ح 3.

جانبه سبعون ألفاً يدخلون الجنّة. وفي نسخة : « بغير حساب » (1).

أقول : لعلّه عليه السلام أراد بالصخرة : دائرة رتبة المثال منهم عليهم السلام ، وهي وجههم الذي يستقبلون به الخلق ، وهي صورة نفوسهم ومظهرها وخضرتها ؛ لشوبها من بياض نفوسهم وسواد الجسمانيّة البشريّة وإن كانت أجسامهم عليهم السلام أنور من الشمس ، لكن ذلك بالنسبة لنفوسهم ، ففي بعض ما رواه الشيخ : عن الصادق عليه السلام : « أما تحبّ أن يرى اللّه شخصك وسوادك » (2).

وبالطينة التي تحتها : مادّة نفوسهم ، وهي أدنى درجات أعلى علّيّين إن (3) أخرجنا منهم محمّداً : صلى اللّه عليه وآله وأوصياءه عليهم السلام ، فإنّهم (4) أعلى من ذلك ، وإن أدخلناهم كما هو ظاهر الحديث كان المراد : أعلى علّيّين بالكلّيّة النوعيّة ، ومعراجهم كلّهم من دائرة مثالهم بوجه أو نقطة نفوسهم أو وجودهم بوجه آخر ، ولا منافاة. وكلّ إنسان يحشر إلى ما منه بدأ ومنه [ نشأ ] ، فهو مبدأ محشر النبيّين بوجه وإليه بوجه آخر ، فلا منافاة بينه وبين ما دلّ على أن المحشر في غيره.

فهذا أحد رتب المحشر ، وسمّى ما منه محشرهم : « الفاروق » أي البرزخ ، فمنه مبدأ افتراق الخلائق ؛ ولذا قال : إنه على « ممرّ الناس » ؛ إذ لا يمكن أن يكون أحد من الناس لا يمرّ بالبرزخ. أو لعلّه أراد بالمحشر : قيام القائم عجّل اللّه فرجه فإنّه القيامة الصغرى ، ومنه يبتدئ النفخ في الصور فتحيا الأموات.

أو أراد : أيّام الرجعة بالتقريب المذكور ، ومأوى الخلق منذ يقوم القائم عجّل اللّه فرجه - : الكوفة. أمّا كون ذلك [ منسوباً (5) ] إلى هذا الموضع بخصوصه أعني : مسجد السهلة فلأنّ الأرض لمّا كانت مجمعَ مستجنّ الخلائق وخزانة القوى العلويّة كان فيها مظاهر جزئيّة لعالم الغيب ، ولكلّ بقعة منها مناسبة خاصّة لجهة من

ص: 90


1- تهذيب الأحكام 6 : 37 - 38 / 76 ، وسائل الشيعة 5 : 265 - 266 ، أبواب أحكام المساجد ، ب 49 ، ح 1.
2- تهذيب الأحكام 6 : 47 / 103.
3- في المخطوط بعدها : ( أمرن ).
4- في المخطوط بعدها : ( من ).
5- في المخطوط : ( منوباً ).

جهات الغيب. فكما أن ما بين القبر الأشرف والمنبر الأعظم روضة من رياض الجنّة (1) ، وقبور الأئمّة عليهم السلام روضات من رياض الجنّة ، كذلك برهوت (2) وضجنان واديان من أودية النار (3) ، وبسط هذا ممّا يطول ، واللّه العالم.

ص: 91


1- انظر : كامل الزيارات : 51 / 28.
2- برهوت : وادٍ باليمن يوضع فيه أرواح الكفّار ، وقيل : بئر بحضرموت. معجم البلدان 1 : 405 برهوت.
3- بصائر الدرجات : 285 / 3 ، الوسائل 5 : 157 ، أبواب مكان المصلّي ، ب 23 ، ح 11.

ص: 92

[34] سرّ يَمَاني لنفي أمانٍ : حديث الملكين العادل والجائر

اشارة

روى الكليني : بإسناده إلى أبي عبد اللّه عليه السلام : أنه قال : « إنّ اللّه عزوجل جعل لمن جعل له سلطاناً أجلاً ومدّة من الليالي والأيّام والسنين والشهور ، فإن عدلوا في الناس أمر اللّه عزوجل صاحب الفلك فأبطأ بإدارته فطالت أيّامهم ولياليهم وسنونهم وشهورهم ، وإن جاروا في الناس ولم يعدلوا أمر اللّه تعالى صاحب الفلك فأسرع بإدارته فقصرت أيّامهم ولياليهم وسنونهم وشهورهم ، وقد وفى اللّه بعدد الليالي والشهور » (1).

أقول وباللّه المستعان - : نقل السيّد نعمة اللّه : عن بعض معاصريه في معناه أنه قال : ( لعلّ المراد بسرعة إدارة الفلك وبطئها : تعجيل أسباب زوال الملك أو عكسه ، ويجوز أن يكون لكلّ دولة فلك غير الأفلاك المعروفة الحركات ، فيكون سرعة الأداة وبطؤها عارضين لذلك الفلك ) (2) ، انتهى.

قال السيّد : ( وكأنّه أراد دفع الاعتراض عن ظاهر الحديث من وجهين :

الأوّل : ما ذهب إليه الحكماء والمنجّمون من أن الفلك لا يمكن أن يزول عن الحركة التي هو عليها الآن ، وبرهنوا بزعمهم على هذا.

والثاني : أنه ربّما كان سلطان جائر في بلاد وسلطان عادل في بلاد اخرى ، فكيف

ص: 93


1- الكافي 8 : 226 - 227 / 400. وفيه : « وسنينهم » بدل : « سنونهم » في الموضعين.
2- الأنوار النعمانيّة 3 : 318.

يكون جور هذا وظلمه سبباً في زوال ملك الآخر ونقص عمره مع أن رعيّة الجائر أيضاً ليس لهم ذنب في الجور؟ فكيف تنقضي أيّام أعمارهم على طريقة السرعة؟

والجواب عن الأوّل أنه قد ورد في الأخبار المستفيضة : أن أيّام دولة المهديّ تكون كلّ سنة تعادل سبع سنين. فقيل له : يا بن رسول اللّه ، إن الفلك لا يزول عن حركته هذه ، ولو زال لفسد. فقال عليه السلام : « هذا قول الزنادقة والمنجّمين » (1).

وأمّا الإشكال الثاني ، فالجواب عنه [ أن (2) ] غير الجائر من الرعيّة والملوك إن قدروا على إزالته عن الملك وسكتوا عنه مداهنةً ، فالذي يصيبهم من قصر الأعمار والملك إنّما هو بسبب المداهنة ، وقد عذّب اللّه تعالى في الأُمم السابقة من أذنب ومن داهن ، وجعلهم في العذاب سواء. وأمّا من لم يقدر على إزالته عن الملك فكان ينبغي له أن يفرّ عن بلاده ويطلب بلاد اللّه ؛ لأنّ السكنى مع الظالمين ذنب ، حتّى إنه ورد في الحديث : لو أن الجُعل بنى بيتاً في محلّة الظالمين لعذّبه اللّه تعالى بعذابهم (3).

وأمّا من لم يقدر على الفرار ، أو كان الظلم قد عمّ البلاد والعباد ، فيجوز أن يكون سبحانه وتعالى يضيف إلى أعمار هؤلاء الذين لم يذنبوا بوجه من الوجوه بقيّة أيّامهم التي أسرع عليها الفلك بحركته ، فيعوّضهم أيّاماً ولياليَ بدلها في دولة من يأتي من الملوك.

ويظهر من هذا الخبر وغيره أن أيّام دولة الولاة مكتوب عند اللّه تعالى : لا تزيد ولا تنقص إلّا بالجور والعدل. أمّا لو أراد الناس والرعيّة والعساكر زواله ما قدروا عليه بوجه من الوجوه كما هو المشاهد حتّى تنقضي الأيّام ويأذن اللّه تعالى بزوال ذلك الملك ، فعند ذلك يزول بأنقص الأسباب وأدناها.

فلا ينبغي أن يخطر بخاطر أحد من الولاة أنه إذا فعل الفعل الفلانيّ كان سبباً

ص: 94


1- الإرشاد ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 11 / 2 : 385 ، بحار الأنوار 55 : 91 - 92 / 11.
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( أنّه ).
3- انظر : الكافي 2 : 272 / 15 ، الأمالي ( الصدوق ) : 384 - 385 / 493 ، بحار الأنوار 70 : 372 / 5.

لزوال ملكه إلّا أن يكون ظالماً في ذلك الفعل ، فحينئذٍ يجب على الوالي دفع الظالمين الذين يظلمون الرعية ، فإن لم يدفعهم عن ظلمهم كان له الحظّ الأوفر من العقاب ، وتكون مداهنته معهم [ هي (1) ] السبب الأقوى في زوال ملكه ، مع أنه قد ظنّ أنه سبب لبقاء ملكه ) (2) ، انتهى كلام السيّد وهو من أنواره.

وأقول : إنّا نقرّر الإشكال في ظاهر الحديث من وجهين :

أحدهما : لزوم اجتماع الضدّين باجتماع ملِكين : أحدهما في نهاية العدل والآخر في نهاية الظلم ، وليس للعادل قدرة على زوال الظالم ، فيلزم منه اجتماع البطء والإسراع في حركة الفلك في آنات ملكهما ، فيجتمع الضدّان بالنقيضين وهما عين كلّ منهما. وملزوم الآخر والثاني أنه يلزم مؤاخذة من لا ذنب له بذنب غيره.

وأيضاً فإنّ المحسوس المشاهَد على مرّ الأزمان عدم اختلاف حركة الفلك بالسرعة والبطء حتّى لأصحاب الأرصاد المهرة في فن الفلكيّات مع وجود سببيهما بالضرورة. ولو كان ذلك لعُلم أو نُقل ، ولم يمكن ضبط التقاويم من الكسوفات والأهلّة وغير ذلك من ساعات أيّام السنة ولياليها وغيرها.

فإذا تأمّلت جواب السيّد السند وجدته غير دافع لشي ء من الإشكالات. وأمّا جوابه الأوّل بما ورد من طول سنيّ صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه فهو علاج جرح بقرح ، فإنّ الإشكال الذي صوّره واردٌ أيضاً على ظاهر ما أجاب به من الوارد ، فهو أوّل المسألة ، وبقيّة كلامه ضعفه ظاهر ، أعلى اللّه مقامه وشكر سعيه.

وما استضعفه من جواب معاصره أقوى وأظهر من جوابه ، لكنّه نبّه أخيراً على الرمز الغير المفهوم إلّا [ لأفراد (3) ].

ولعلّ الجواب عن الأوّل من وجوه : منها أن رحمة اللّه وسعت كلّ شي ء ، وحلمه سبق غضبه ، فاللّه بكرمه يدفع عمّن لا يصلّي بمن يصلّي ، وبمن يزكّي عمّن لا يزكّي ،

ص: 95


1- في المخطوط : ( هو ).
2- الأنوار النعمانيّة 3 : 318 - 319.
3- في المخطوط : ( الأفراد ).

ويمهل للظالم حلماً ورحمةً لغيره ، فجاز حينئذٍ أن يأمر الملك بالإبطاء بحركة الفلك ، بمقتضى عدل العادل ، ويمهل للظالم.

ومنها : أنه جاز أن يبطئ بحركته على قوم ويسرع على قوم بحسب اختلاف آفاقهم وأقاليمهم ، وهذا لا ينافي تشابه حركته في ذاته أعني : الكلّيّة واللّه على كلّ شي ء قدير. ولا يستلزم هذا فساد شي ء من عالم الكون والفساد ؛ فإنّ اللّه تعالى سبب من لا سبب له ، ومسبّب الأسباب من غير سبب ، فجاز أن يقيم سبباً مقام سبب.

وإن أردت كسر سَورة الاستبعاد فتأمّل في حركة الشمس تجدها تختلف سرعة وبطئاً بحسب اختلاف الآفاق في برج واحد ، بل في يوم واحد ، بل في أُفق واحد ، بحسب ساعات النهار ، وانظر إلى الخمسة المتحيّرة ، تجدها تارة مقيمة وأُخرى مستقيمة ، وطوراً راجعة مع تشابه حركتها الكلّيّة في ذاتها أبداً. فإذا علمت أن النهار الواحد يكون في أُفقٍ خمسَ ساعات مثلاً ، وفي آخرَ خمس عشرة ساعة ، فلا تستنكر هذا بل ما ذكرناه يجري بحسب قدرة اللّه وحكمته ، فتأمّله.

ومنها : جواز أن يراد بالفلك : غير الجسمانيّ ، وبالأيّام والشهور والسنين : غير المعروفة ، بل يراد بها فلك وأيّام وشهور وسنون غيبيّة ، هي غيب هذه وأُصولها ومبادئها وعللها الغيبيّة ، فإنّ عند اللّه أيّاماً ولياليَ وشهوراً وسنين غير ما يعرف أكثر الناس ( وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ ) (1).

( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) (2).

فجاز ، بل لا بدّ لها من أفلاك من جنسها ، فجاز إرادتها من الحديث الشريف ، فلا بعد في اختلاف فلكي العادل والجائر وأيّامهما سرعةً وبطئاً وطولاً وقصراً. وليس هذا أحد وجهي ما نقله السيّد عن معاصره بحسب الظاهر.

ص: 96


1- الحجّ : 47.
2- التوبة : 36.

ولله تعالى من وراء شمسنا المحسوسة شموس (1) ، ومن وراء عالمنا هذا اثنا عشر ألف عالم (2) ، كلّها مرتبطة بهذا العالم ، ومرتبط بعضها ببعض ، ولكلّ منها شمس وقمر وأفلاك ، وحركات أفلاك هذا العالم متسبّبة عن حركات أفلاكها.

ومنها : أنه جاز أن يكون حركة الفلك تارة بطيئة وتارة مسرعة في يوم واحد ، أو يوماً ويوماً ، أو شهراً وشهراً ، أو سنةً وسنةً بحسب مقتضى عدل العادل وظلم الجائر ، والحسنات يذهبن السيّئات ، وقد سبقت رحمته غضبه. فلا أقلّ من جريه حينئذٍ على الاستقامة من غير ظهور إسراع ولا بطء حتّى تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً ويغلب الجور ، فيجري الحكم على العموم الغالب دون النادر ، فيأتي اللّه بالفرج بظهور وليّ الأمر : والعدل ، فيتأنّى الفلك ويجري على الاستقامة والعدل ، وتظهر آثار برد الرحمة.

على أنه يمكن أن يراد بالعادل : نائب اللّه المعصوم ؛ لأنّ كلّ ملك سواه ظالم غاصب لمنصب المعصوم مبتزّ له ، فلا منافاة بين السرعة والبطء ؛ لاختلاف سنيّ ظهور الدولتين. فاللّه سبب من لا سبب له ، والفلك مطيع أبداً ، ولا دليل على استحالة قبول الفلك لغير هذه الحركة المعهودة المرصودة. وممّا قرّرناه يظهر الجواب عن الثاني ، فتأمّله.

وأمّا الوجه الأخير ، فالإسراع والبطء لا [ ينافيان (3) ] ظهور التساوي والتشابه في حركات الأيّام بحسب مقتضى كلّ زمان. [ و ] نمنع استحالة التغيّر في الحركة ووجوب التشابه من أوّل الخلق إلى آخره ؛ فإنّ حركات الأفلاك طاعات اختياريّة ، وعلى القول بأنها طبيعيّة أو قسريّة ، فلله بحسب حكمته أن يبدّل الطبيعة ويعكس القسر ؛ لأنه [ المطبّع (4) ] والقاسر لها ، فلا ضرر في ذلك ولا يفسد به نظام الكون ؛ لأنّ نظامه بمقتضى حكمة الحكيم ، وتغييره من مقتضاها ، واللّه العالم.

ص: 97


1- انظر بصائر الدرجات : 493 / 9.
2- انظر الخصال 2 : 490 / 68 ، أبواب الاثني عشر.
3- في المخطوط : ( ينافي ).
4- في المخطوط : ( المطيع ).

ثمّ إنّي بعد ذلك وقفت على مجلّد من ( البحار ) ، فيه ما صورته : ( علل الشرائع ) (1) عن الصادق عليه السلام « إنّ اللّه عزوجل جعل لمن له سلطان مدّة من ليالٍ وأيّام وسنين وشهورٍ ؛ فإن عدلوا في الناس أمر صاحب الفلك بإدارته فطالت أيّامهم ولياليهم وسنونهم وأشهرهم ، وإن هم جاروا أمر صاحب الفلك ، فأسرع بإدارته وأسرع فناء لياليهم » إلى آخره.

بيان

لعلّ المراد بالسرعة : تسبيب أسباب زوال ملكهم ، وبالعكس على الاستعارة التمثيليّة ، فالمراد بالوفاء [ بعدد (2) ] شهورهم إلى آخره : أن تلك السنين والشهور الّتي كانت مقدّرة قبل ذلك كانت مشروطة بعدم الإتيان بتلك الأفعال ، وقد أخبر تعالى بنقصان ملكهم مع الإتيان بها ، فلم يخلف ما وعدهم لهم.

ويحتمل أن يكون لكلّ دولة فلك ما سوى الأفلاك المعروفة الحركات ، وقد قدّر لدولتهم عدداً من الدورات. ويحتمل أن يكون إذا أراد إطالة مدّتهم أمر بإبطائه في الحركة ، وإذا أراد سرعة فنائها أمر بإسراعه ) (3) ، انتهى.

قلت : أمّا الوجه الأوّل ، [ فظاهر (4) ] الحديث ينافيه.

وأمّا الثاني ، فلعلّه ما نسبه السيّد لبعض معاصريه.

ثمّ وجدت بعد ذلك كلاماً لرئيس الحكمة شيخنا الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائيّ : على هذا الحديث قال فيه : ( وإنّما العادل هو الحجّة عليه السلام : وهو الآن غير متمكّن من إقامة العدل ، فالحكم لمقتضى الجائر. ولو فرض العادل والجائر فإن كان العادل متمكناً من دفع الجائر ولم يدفعه بالعدل فهو جائر ، وإن لم يتمكّن فلا مقتضى لعدله. وعلى فرض المقتضى يكون الإسراع من المقتضَيَين فيكون أقلّ إسراعاً ممّا لو انفرد الجائر ، فلا تناقض ولا تنافي ) ، انتهى كلامه أعلى اللّه مقامه ، واللّه العالم.

ص: 98


1- علل الشرائع 2 : 288 ، ب 367 ، ح 1 ، باختلاف.
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( بعدهم ).
3- بحار الأنوار 4 : 103 / 16 باختلاف.
4- في المخطوط : ( وظاهر ).

[35] إظهار كمال وتحقيق حال : تفضيل كربلاء على الكعبة

روى الشيخ : في ( التهذيب ) بسنده عن الباقر عليه السلام : أنه قال : « خلق اللّه كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام ، وقدّسها وبارك عليها ، فما زالت قبل أن يخلق اللّه الخلق مقدّسة مباركة ولا تزال كذلك ، وجعلها أفضل الأرض في الجنّة » (1).

قلت : لعلّ المراد بالأعوام هنا : غيب الأعوام المعهودة وعللها ، وهي رتب الوجود المتحرّكة على نقطة ، وهي سنيّ الشهور الاثني عشر التي عند اللّه ، وسنيّ الأيّام التي خلق اللّه فيها السماوات والأرض. وذكر مثل هذه السنين متكرّر في الأخبار جدّاً ، فتلطّف لكلّ موضع ما يناسبه من السرمديّات والدهريّات والزمانيّات.

ولعلّ الجمع بين ما دلّ بإطلاقه وتخصيصه على فضل كربلاء على الكعبة (2) ، وبين ما دلّ بإطلاقه على أن الكعبة أفضل بقاع الأرض (3) وقد نقل على مضمونه الشهيد : رحمه اللّه في قواعده الإجماع (4) أن المراد بالمفضّلة على الكعبة خصوص قبر الحسين عليه السلام : ، وهو محطّ جسده الشريف ، ولا ينافيه مشاركةً محاطّ قبور أجساد

ص: 99


1- تهذيب الأحكام 6 : 72 / 137 ، وسائل الشيعة 14 : 516 ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب 68 ، ح 5.
2- كامل الزيارات : 450 / 675.
3- ثواب الأعمال : 244 / 3 ، بحار الأنوار 27 : 177 / 25.
4- القواعد والفوائد 2 : 117 / القاعدة : 189.

جميع أهل البيت عليهم السلام : له في ذلك ؛ لعدم الحصر ، ولأنّ كربلاء الحقيقيّة هي موضع جميع قبورهم ، فقد روي عنهم عليهم السلام أنهم دفنوا في كربلاء كلّهم ، وأنّها فرّقت على قبورهم.

أو يراد : الكعبة باعتبار ظاهر الأرض وجسدها ، وكربلاء باعتبار نفسها ، فالكعبة للأرض بمثابة القلب الصنوبريّ من جسد الإنسان (1) ؛ فلذا ورد أنها دحيت من تحت الكعبة ، كما أنه أوّل ما يتكوّن من جسم الإنسان قلبه ثمّ يبني عليه الجسم. وكربلاء المشار لها للأرض بمثابة رتبة الخيال أو الروح الحيوانيّ من جسد الإنسان ، فلا تنافيَ ، وبان سبق كربلاء وتقدّسها على سائر الأرض ، واللّه العالم.

ص: 100


1- في المخطوط بعدها : ( لجسد الإنسان ).

[36] بيان شؤون وإظهار مكنون في ليلة نصف شعبان تقسم الأرزاق

روى ابن طاوس : في ( الإقبال ) عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : أنه قال : « كنت نائماً ليلة النصف من شعبان فأتاني جبرئيل عليه السلام : ، فقال : يا محمّد : ، أتنام في هذه الليلة؟ فقلت : يا جبرئيل : ، وما هذه الليلة؟ قال : هي ليلة النصف من شعبان ، قم يا محمّد : ، فأقامني ، ثمّ ذهب بي إلى البقيع ، ثمّ قال لي : ارفع رأسك فإنّ هذه ليلة تفتح فيها أبواب السماء ، فيفتح فيها أبواب الرحمة ، وباب الرضوان ، وباب المغفرة ، وباب الفضل ، وباب التوبة ، وباب النعمة ، وباب الجود ، وباب الإحسان ، يعتق اللّه فيها بعدد شعور النعم وأصوافها ، يثبت اللّه فيها الآجال ، ويقسم فيها الأرزاق من السنة إلى السنة ، وينزل ما يحدث في السنة كلّها » (1) الخبر.

ثمّ قال : وجدت رواية هذا لفظها : قال كميل بن زياد : كنت جالساً مع مولاي أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه : في مسجد البصرة ومعه جماعة من أصحابه فقال بعضهم : ما معنى قول اللّه عزوجل ( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (2)؟ قال عليه السلام : « ليلة النصف من شعبان. والذي نفس عليّ بيده ، إنّه ما من عبد إلّا وجميع ما يجري عليه من خير وشرّ مقسوم له في ليلة النصف من شعبان إلى آخر السنة في مثل تلك الليلة المقبلة ، وما من عبد يحييها ويدعو بدعاء الخضر عليه السلام : إلّا أُجيب له ».

فلمّا انصرف طرقته ليلاً ، فقال عليه السلام : « ما جاء بك يا كميل؟ » قلت : يا أمير المؤمنين : ،

ص: 101


1- الإقبال بالأعمال الحسنة 3 : 331 - 338.
2- الدخان : 4.

علّمني دعاء الخضر عليه السلام : ، فقال : « اجلس. يا كميل ، إذا حفظت هذا الدعاء فادعُ به كلّ ليلة جمعة أو في الشهر مرّة أو في السنة مرّة أو في عمرك مرّة تُكفَ وتُنصرْ وتُرزقْ ولن تُعدمِ المغفرة. يا كميل : ، أوجب لك طول الصحبة لنا أن نجود بما سألت ، ثمّ قال : اكتب : اللّهُمّ إنّي أسألك بِرَحْمَتِكَ الّتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْ ءٍ » (1) إلى آخره.

ونقل من كتاب الطرازي دعاءً يدعى به ليلة النصف من شعبان ، وفيه : « وَارْزُقْنِي ، فَإنّكَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ كُلّ أمْرٍ تَفْرُقُ ، وَمَنْ تَشَاءُ مِنْ خَلْقِكَ تَرْزُقُ » (2).

وروى بسنده عن الشيخ (3) فيما رواه أبان بن تغلب : عن الصادق عليه السلام : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : قال لبعض نسائه ليلة النصف من شعبان : « أما تعلمين أيّ ليلة هذه؟ هذه ليلة النصف من شعبان ، فيها تقسم الأرزاق ، وفيها تكتب الآجال ، وفيها يكتب وفد الحاجّ » (4) الحديث.

وفيما رواه الشيخ : عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : أنه قال لبعض نسائه فيها : « أتدرين أيّ ليلة هذه؟ هذه ليلة النصف من شعبان ، فيها تنسخ الأعمال ، وتقسم الأرزاق ، وتكتب الآجال » (5) الحديث.

قال ابن طاوس : في ( الإقبال ) ( إن قيل : ما تأويل أن ليلة النصف من شعبان تقسم الآجال والأرزاق ، وقد تظاهرت الروايات أن قسم الآجال والأرْزاق ليلة القدر في شهر رمضان؟

فالجواب لعلّ المراد : أن قسمة الآجال والأرزاق التي يحتمل أن تمحى وتثبت ليلة نصف شعبان ، والآجال والأرزاق المحتومة ليلة القدر.

أو لعلّ قسمتها في علم اللّه جلّ جلاله ليلة نصف شعبان ، وقسمتها بين عباده ليلة القدر.

أو لعلّ قسمتها في اللوح المحفوظ ليلة نصف شعبان ، وقسمتها بتفريقها بين عباده ليلة القدر.

ص: 102


1- الإقبال بالأعمال الحسنة 3 : 331 - 338.
2- الإقبال بالأعمال الحسنة 3 : 319.
3- مصباح المتهجّد ( حجريّ ) : 773.
4- الإقبال بالأعمال الحسنة 3 : 325 / 47.
5- مصباح المتهجّد ( حجري ) : 772.

أو لعلّ معناه أن قسمتها ليلة القدر كان ابتداء الوعد به ، أو تقدير : ليلة النصف من شعبان ، فيصحّ أن يقال عن الليلتين : إن ذلك قسم فيهما ) (1).

وقال قدس سره في باب أعمال ليلة تسع عشرة من شهر رمضان من الكتاب المذكور ، بعد أن روى حديثاً عن عليّ بن عبد الواحد النهديّ : في كتاب عمل شهر رمضان بسنده عن عبد اللّه بن سنان : قال أبو عبد اللّه عليه السلام « إذا كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان أُنزلت صكاك الحاجّ وكتبت الآجال والأرزاق » (2) الحديث.

أقول : وقد مضى في كتابنا هذا وغيره أن [ في ] ليلة النصف من شعبان تكتب الآجال وتقسم الأرزاق ، وتكتب أعمال السنة ، ويحتمل أن يكون في ليلة نصف شعبان تكون البشارة بأنّ في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان تكتب الآجال وتقسم الأرزاق ، وتكون ليلة نصف شعبان ليلة البشارة بالوعد ، وليلة تسع عشرة من شهر رمضان وقت إنجاز ذلك الوعد.

أو يكون في تلك الليلة تكتب آجال قوم وتقسم أرزاق قوم ، وفي ليلة تسع عشرة تكتب آجال الجميع وأرزاقهم أو غير ذلك ممّا لم نذكره. فإنّ الخبر ورد صحيحاً صريحاً بأنّ الآجال والأرزاق تقسم في ليلة تسع عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين من شهر رمضان ، وسنذكر هاهنا بعضها فنقول :

روي أيضاً عن عبد الواحد النهديّ : في كتاب ( عمل شهر رمضان ) وساق السند عن إسحاق بن عمّار : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال : سمعته يقول ، وناس يسألونه يقولون : إن الأرزاق تقسم ليلة النصف من شعبان ، [ فقال (3) ] : « لا واللّه ، ما ذلك إلّا في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان ، وإحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين ؛ فإنّ في ليلة تسع عشرة يلتقي الجمعان ، وفي ليلة إحدى وعشرين يفرق كلّ أمر حكيم ، وفي ليلة [ ثلاث (4) ] وعشرين يمضي ما أراد اللّه جلّ جلاله من ذلك وهي ليلة القدر التي قال اللّه ( خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) .

ص: 103


1- الإقبال بالأعمال الحسنة 3 : 322.
2- الإقبال بالأعمال الحسنة 1 : 342 - 343.
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( وقال ).
4- من المصدر ، وفي المخطوط : « ثمان ».

قلت : ما معنى قولك : « يلتقي الجمعان؟ » قال : « يجمع اللّه فيها ما أراد اللّه من تقديمه وتأخيره وإرادته وقضائه ». قلت : وما معنى : يمضيه في ليلة ثلاث وعشرين؟ قال : « إنّه يفرّق في ليلة إحدى وعشرين ، ويكون له فيه البداء ، فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين أمضاه فيكون من المحتوم الذي لا يبدو له فيه تبارك وتعالى » (1). انتهى كلام السيّد.

قلت : [ جواباته (2) ] كلّها قدس سره مشتركة في الضعف ، وظواهر النصوص تردّها خصوصاً الأوّل والأخير ، ولعلّ وجه الجمع أن قسمتها في ليلة نصف شعبان بحسب مقام الولاية المطلقة التي حمل لواءها الوليّ والخليفة وهي باطن باطن الرسالة ، وقسمتها في ليلة القدر بحسب مقام الرسالة ، والأول سابق في قوس البدء ، لاحق في قوس العود ، وهما متلازمان ؛ لأنّ الولاية من لوازم الرسالة المساوية كما أنّها نفسها باعتبار آخر فعلي نفس الرسول.

ولذا كانت ليلة نصف شعبان ليلة مولد خاتم الأئمّة ، ويدلّ عليه ما رواه ابن طاوس : بسنده إلى أبي جعفر الطوسيّ : فيما رواه بسنده عن أبي يحيى : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال : سئل الباقر عليه السلام : عن فضل ليلة النصف من شعبان ، فقال : « هي أفضل ليلة بعد ليلة القدر ، فيها يمنح اللّه العباد فضله » الحديث.

إلى أن قال عليه السلام : « وإنّها الليلة التي جعلها اللّه لنا أهل البيت بإزاء ما جعل ليلة القدر لنبيّنا صلى اللّه عليه وآله » (3) الحديث.

وورد أن فيها تعرض أعمال العباد في الحول ، وذلك لينطبق البدء على العود. ولا ينافي هذا ما ثبت نصّاً (4) وعقلاً وإجماعاً أن الملائكة تنزّل بالروح على إمام الزمان بجميع ما يحدث في السنة ليلة القدر ، فإنّ الأئمّة ورثة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ، فهم في ليلة النصف من شعبان يتلقّون ذلك منه صلى اللّه عليه وآله في مقام الولاية ، وليلة القدر يتلقّونه منه من مقام الرسالة.

ص: 104


1- الإقبال بالأعمال الحسنة 1 : 343 - 344.
2- في المخطوط : ( جوابا ).
3- الإقبال بالأعمال الحسنة 3 : 315.
4- تفسير القمّيّ 2 : 295 ، 466.

فكما أن علومهم أجمع وراثة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : وهم يتلقّونها منه في كلّ مقام ، وهذا من ذاك ، ومؤيّدات هذا كثيرة ، فالأمر في قوس النزول والبدء ينزل إلى مقام الرسالة من مقام الولاية ، وفي قوس الصعود والعود يصعد من مقام الرسالة إلى مقام الولاية ، فجميع ما في الثاني مبادئه وموادّه ، كلّيّاته وجزئيّاته ، وتحقّق الأوّل وكمال ظهوره ووجوده المستجمع لرتب الوجود بجميع كمالاتها بالثاني.

ومن هذا يظهر وجهان آخران :

أحدهما : أن نزول الكلّيّات والمجملات وموادّ الواقعات وجميع ما فيه البداء يكون ليلة نصف شعبان في مقام الولاية العامّة ؛ لأنه منها بدأ ، وتفاصيل ذلك وجزئيّاته وكمال وجوده الظهوريّ الذي لا بدء فيه ليلة القدر ، وأوّل تمايز ما فيه البداء ممّا ليس فيه ليلة تسع عشرة من شهر رمضان ، وكمال تميّزهما ليلة إحدى وعشرين منه ، ويقع الحتم والإمضاء ليلة الثالث (1) والعشرين منه.

الثاني : أن الإمام عليه السلام يتلقّى ذلك في مقام الولاية ليلة النصف من شعبان من الرسول صلى اللّه عليه وآله : مجملاً ، ويتلقّى ذلك منه من مقام الرسالة مفصّلاً ليلة القدر ، بسبيل الإذن الملكيّ البادئ برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ، ثمّ بواحد واحد من الأئمّة حتّى ينتهي إلى إمام الزمان عليه السلام (2) : ، واللّه العالم.

هذا ، وفي الظاهر لم نقف على عامل من الأصحاب بظواهر نصوص ليلة نصف شعبان ، بل الظاهر أنّهم مجمعون على العمل بأخبار ليالي شهر رمضان الثلاث ، وعلى تأويل أحاديث نصف شعبان ، والتأويل طرح الآية مع إمكانه أوْلى من مجرّد الطرح ، واللّه العالم.

نعم ، اشتهر بين العامّة والعوام أن ليلة نصف شعبان تقسم الأرزاق ، واللّه العالم بحقائق أحكامه.

ص: 105


1- في المخطوط : ( الثالثة ).
2- انظر : تفسير القمّيّ 2 : 466.

ص: 106

[37] إيقاظ وتنبيه لا تبقى الأرض بلا عالم حيّ ظاهر

في ( البحار ) من ( العلل ) بسنده إلى يعقوب السرّاج : قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : تبقى الأرض بلا عالم حيّ ظاهر يفزع إليه الناس في حلالهم وحرامهم؟ فقال لي : « إذن لا يعبد اللّه يا أبا يوسف » (1).

ومنه بسنده إلى أبي بصير : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال : « إنّ اللّه لا يدع الأرض إلّا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان ، فإذا زاد المؤمنون شيئاً ردّهم ، وإذا أنقصوا أكمله لهم ، فقال : خذوه كاملاً ، ولو لا ذلك لالتبس على المؤمنين أمرهم ، ولم يفرّق بين الحقّ والباطل » (2).

فإن قلت : ظاهر الخبرين ينافي ما هو ضروريّ وجدانيّ من غيبة إمام الزمان : عجّل اللّه فرجه وما تواتر مضمونه عقلاً ونقلاً وإجماعاً من أنه لا تخلو الأرض من حجّة لله ؛ إمّا ظاهر مشهور أو غائب مستور أو مغمور (3) ، وأن اللّه عزّ اسمه يحب أن يعبد سرّاً كما يحب أن يعبد جهراً ، حيث قال في الأوّل ( ظاهر ) وفي الثاني « فقال : خذوه » ؛ لأنّ ظاهره الشفاه العيانيّ.

قلت : يحتمل الحديثان معنيين :

ص: 107


1- بحار الأنوار 23 : 21 / 18 ، علل الشرائع 1 : 231 / 3.
2- علل الشرائع 1 : 234 - 235 / 22 ، بحار الأنوار 23 : 24 / 31. وفيهما : « لم » ، بدل : « لا ».
3- نهج البلاغة : 686 - 687 / الحكمة : 147.

أحدهما : أن يريد بالعالم : المجتهد ، فإنّ المجتهدين أبواب مَن سواهم ووسائطهم إلى المعصوم ، وهم القرى الظاهرة التي هي بين الناس وبين القرى التي بارك اللّه فيها (1) ، والقرينة : وصفه بالحياة ، والظهور في الأوّل ، وقوله : « فقال خذوه كاملاً » فإنّه ظاهر في الحسّي الشفاهي ، فيكون دليلاً على القول بعدم جواز خلوّ زمن من أزمان التكليف من المجتهد ، كما هو المشهور بين العصابة قديماً وحادثاً ، بل كاد أن يكون إجماعاً ، بل هو إجماع مشهوريّ ، وخلاف بعض متأخّري المتأخّرين (2) شاذّ تردّه الأدلّة عقلاً ونقلاً.

ولفظ الخبر الثاني رواه في ( البحار ) (3) بعدّة طرق تنيف على عشرة من عدّة طرق تزيد على سبعة في باب واحد.

ومثل الحديث الأوّل ما رواه المجلسيّ : من ( كمال الدين وتمام النعمة ) بسنده إلى أبي حمزة الثماليّ : قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام : يقول : « لن تخلو الأرض إلّا وفيها منّا رجل يعرف الحقّ فإذا زاد الناس فيه قال : قد زادوا. وإذا نقصوا منه قال : قد نقصوا. وإذا جاؤوا به صدّقهم ، ولو لم يكن ذلك كذلك لم يعرف الحقّ من الباطل » (4) في احتماله الوجهين كما هو ظاهر.

الثاني : أن يراد بالعالم : المعصوم ، وبالناس في الأوّل والمؤمنين في الثاني : خواصّ المؤمنين ، وهم العلماء العاملون المجتهدون ، فإنّ الزيادة والنقصان إنّما تجري منهم ، والإمام هو الذي خالف بينهم ؛ ليسلموا. ولكن لا بدّ في الأرض من قائل بالحقّ عامل به غير معصوم كما دلّ عليه النصّ (5) والبرهان ، وإطلاق المؤمنين على العلماء العاملين منهم خاصّة غير عزيز في النصّ.

ص: 108


1- إشارة إلى قوله تعالى : ( وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً ) . سبأ : 1. انظر : الغيبة ( الطوسيّ ) : 345 / 295 ، تأويل الآيات الظاهرة : 461 - 462.
2- قوانين الأُصول : 429.
3- بحار الأنوار 23 : 24 - 27.
4- كمال الدين : 223 / 12 ، بحار الأنوار 23 : 39 / 69.
5- كمال الدين : 161 / 20 ، بحار الأنوار 23 : 33 / 54.

والناس يطلق في النصّ بإطلاقات :

منها : عموم البشر ، وهو كثير.

ومنها : خواصّ المؤمنين كما في هذا ، وغيره (1).

ومنها : خصوص أهل البيت كما في ( أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ ) (2) كما ورد أنّهم الناس المحسودون (3) ، وغيرها.

ففي الأخير الشيعة مطلقاً أشباه الناس كما روي ، وأعداؤهم النسناس (4) ، وفي الأوسط سائر الشيعة أشباه الناس ، وما سواهم النسناس ؛ فيكون الخبران مطابقين لما استفاض طريقاً وتواتر مضموناً نصّاً وعقلاً وإجماعاً من أن الأرض لا تخلو من حجّة لله ؛ كيما « إن زاد المؤمنون ردّهم وإن نقصوا [ أكمله (5) ] لهم ».

وعلى كلّ حال ، فما ورد من ذلك كلّه يدلّ على عدم جواز خلوّ زمن من أزمان التكليف من مجتهد هو الحجّة على الناس ، والمعصوم حجّة عليه. والذي يدلّ على هذا مضامين كثيرة ليس هنا موضع بيانها ، كحديث : « انظروا إلى رجل .. » (6) فإنّ الخطاب عامّ لأهل الأزمان وغيره. وهذا وشبهه كلّه يدلّ على اشتراط حياة المجتهد المرجع الذي جعله الإمام حاكماً ؛ فإنّه قال : « انظروا » وهو يقتضي صلوحه للمشافهة حال الحكم. وأيضاً الميّت لا يصلح لأن يكون حاكماً على الأحياء كما هو ظاهر ، وليس هنا موضع بيان المسألة.

بقي الكلام في معنى ظهوره حينئذٍ ، فنقول : لعله ظهوره بالبرهان لدى طالبيه في آيات الآفاق والأنفس ، والكتاب والسنّة ، فمن طلبه من الطريق الذي شرع وجده البتّة ، وظهر له بحسب رتبته من الإيمان. فظهر بهذا عدم منافاة هذا الوجه لما رواه المجلسيّ

ص: 109


1- الكافي 1 : 205 - 206.
2- النساء : 54.
3- تأويل الآيات الظاهرة : 137.
4- تفسير فرات الكوفي : 64 ، وفيه « فقال علي عليه السلام : أجبه يا حسن ». الكافي 8 : 204 / 4. وفيه : « فقال أمير المؤمنين عليه السلام : أجبه يا حسين ».
5- في المخطوط : « أتمه ».
6- الفقيه 3 : 2 / 1 ، وسائل الشيعة 27 : 13 - 14 ، أبواب صفات القاضي ، ب 1 ، ح 5.

من ( الاختصاص ) عن أبي الجارود : ، وعن الحلبيّ : ، كلاهما عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « أنه قال : من مات وليس عليه إمام حيّ ظاهر مات ميتة جاهليّة » (1) ، أي معلوم بالدليل ، واللّه العالم بمقاصد أوليائه.

بقي الكلام في قوله عليه السلام في حديث الثمالي « لن تخلو الأرض إلّا وفيها منّا رجل » (2) فلعلّه أراد بهم أهل البيت عليهم السلام : ، فإنّ أهل البيت يطلق على جميع نوّاب اللّه وحججه المعصومين ، كما يدلّ عليه خبر وصيّة آدم عليه السلام : ، حيث قال فيه جبرئيل لهبة اللّه : « السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت » (3).

أو أراد به رجلاً علّمه منّا معصوم ، فإنّ كلّ شي ء لم يصدر عنهم فهو باطل كليّة عامّة تامّة ، أو منهم حقيقة فإن أئمتنا سلام اللّه عليهم هم الحجّة على جميع الخلق ، فلا يخلو منهم عالَم ، ولا زمان ولا من نور هدايتهم ، كما يشير إليه قوله صلى اللّه عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام : « يا عليّ ، إنّ اللّه أيّد بك النبيّين سرّاً » الحديث.

وما رواه المجلسيّ : من ( إكمال الدين وتمام النعمة ) بسنده إلى الفضل بن يسار : قال : سمعت أبا عبد اللّه : وأبا جعفر عليهما السلام : قالا : « إنّ العلم الذي اهبط مع آدم عليه السلام : لم يرفع ، والعلم يُتوارث ، وكلّ شي ء من العلم وآثار الرسل والأنبياء لم يكن من أهل هذا البيت فهو باطل » (4) الخبر ، واللّه العالم.

ص: 110


1- الاختصاص ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 12 : 269 ، بحار الأنوار 23 : 92 / 37 ، 38.
2- كمال الدين 1 : 222 - 223 / 12 ، وفيه : « رجل منّا » ، البحار 23 : 39 / 69.
3- تفسير العياشي 1 : 337 ، بحار الأنوار 23 : 62.
4- كمال الدين : 223 / 14 ، بحار الأنوار 23 : 29 / 71.

[38] جمع وكشف : لا تنقطع الحجّة من الأرض إلّا أربعين يوماً

لعلّ الجمع بين ما روي عن أهل البيت : سلام اللّه عليهم بعدّة طرق ، كما في البحار وغيره من أنه : « لا تنقطع الحجّة من الأرض إلّا أربعين يوماً قبل يوم القيامة ، فإذا رفعت الحجّة أُغلق باب التوبة ولا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجّة ، أُولئك شرار (1) خلق اللّه وهم الذين تقوم عليهم القيامة » (2). وأمثاله ، وبين ما روي عنهم بطرق أيضاً كما في ( البحار ) : « ولو لم يكن في الأرض إلّا اثنان لكان أحدهما الحجّة ، ولو ذهب أحدهما بقي الحجّة » (3). وأمثاله (4). أن المضمون الأوّل أن الحجّة ترفع بعد رفع التكليف وانقضاء زمنه ، كما يشعر به غلق باب التوبة وعدم قبولها حينئذٍ ، فتكون تلك الأربعون اليوم بالنسبة إلى العالم الكبير كحال بلوغ الروح التراقي ، والمعاينة بالنسبة إلى الإنسان الشخصيّ ، فإنّه يرتفع عنه التكليف الدنيويّ ولا تقبل منه التوبة ، ولا يبقى منه في الدنيا إلّا حثالته.

ويراد بالثاني : في زمن بقاء التكليف الدنيويّ ، فإنّه لا تكليف إلّا بعد البيان ،

ص: 111


1- في المخطوط : « شرار من ».
2- بحار الأنوار 23 : 41 / 78.
3- بحار الأنوار 23 : 43 / 85.
4- بصائر الدرجات : 484 - 487. الكافي 1 :4. 180 / باب أنّه لو لم يبقَ في الأرض إلّا رجلان لكان أحدهما الحجّة.

والبيان والمبيّن هو الحجّة ، فلا بدّ من بقائه في الأرض قبل المكلّفين ومعهم وبعدهم. لكن هذا يشعر بأنّ ارتفاع الحجّة قبل القيامة الكبرى ، كما هو ظاهر ، وأن [ الذين (1) ] يقوم عليهم الساعة الكبرى هم شرار الخلق. وهذا يشكل بما دلّ من الأحاديث المتكثّرة على قتل الشيطان وأتباعه في أوائل الرجعة (2) ، أو زمن القائم عجل اللّه فرجه فإنّ هذا يشعر بأنّ الساعة التي تقوم على شرار الخلق هي الصغرى ، أعني : قيام القائم ، عجّل اللّه فرجه.

ولعلّ الجمع بينهما أن الساعتين تقومان على شرار الخلق ، لكنّهم في الصغرى هم الكفّار الذين طبّق الأرض ظلمهم وملأها جورهم ، والكبرى هي حثالة حثالة البشر كالمذبذبين والمستضعفين. وسمّوا أشراراً لفقدان ظهور أشعّة العقل فيهم. فالمعنيان مختلفان ، فالأوّل حقيقيّ ، والثاني إضافيّ ، واللّه العالم بمراد أوليائه.

ص: 112


1- في المخطوط : ( الذي ).
2- مختصر بصائر الدرجات : 27.

[39] جوهرة سنيّة لا تخلو الأرض من عالم حيّ ظاهر

في ( البحار ) من ( بصائر الدرجات ) (1) بسنده إلى يعقوب السرّاج : قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : تخلو الأرض من عالم منكم حيّ ظاهر تفزع إليه الناس في حلالهم وحرامهم؟ فقال : « يا أبا يوسف : ، ألا إنّ ذلك لبيّن في كتاب اللّه تعالى ، قال ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا ) عدوّكم ممّن يخالفكم ( وَرابِطُوا ) إمامكم ( وَاتَّقُوا اللّهَ ) (2) فيما يأمركم وفرض عليكم » (3).

قلت : لعلّ المراد بقوله : ( ظاهر ) : ظهور صفاته وأدلّة حجّيّته ومعلوميّته باسمه ونسبه وصفته وخواصّه [ التي (4) ] نصّ عليها آباؤه أجمعون ، ومنها ما اتّفق على روايته الخاصّة والعامّة ، أو : ظهوره في قلوب أوليائه ، فإنّها بشعاع نوره ، وهم ينظرونه ويعرفونه يقيناً بنور اللّه ، وهو الذي منه خلقت نفوسهم وقلوبهم ، وهو الذي منه بدؤوا وإليه يعودون.

هذا إن أُريد به المعصوم ، ويمكن أن يراد به : العالم بحلالهم وحرامهم ، وهو المجتهد الآخذ أحكامَه وعلمَه بالدليل الشرعي عن أهل العصمة سلام اللّه عليهم

ص: 113


1- بصائر الدرجات : 487 / 16.
2- آل عمران : 200.
3- بحار الأنوار 23 : 51 / 105 ، وانظر تفسير العياشي 1 : 236 - 237 / 200 - 201.
4- في المخطوط : ( الذي ).

أجمعين فتكون ( من ) في قول السائل : ( منكم ) ابتدائيّة ، أي عالم أخذ علمه منكم ، فيكون من الأدلّة على عدم جواز خلوّ الزمان من المجتهد كما هو الحقّ ، فعلى هذا يستلزم عدم جواز تقليد الميّت ، تأمّل ، واللّه العالم.

ص: 114

[40] بيان حكم وإظهار كتم كبّر شيث عليه السلام على آدم عليه السلام خمساً وعشرين ، وثلاثين ، وخمساً وسبعين

رُوي في ( البحار ) من أمالي الصدوق بسنده عن الصادق عليه السلام : أن آدم عليه السلام : غسّله جبرئيل عليه السلام : وهبة اللّه عليه السلام : ، وأن جبرئيل عليه السلام : قال لهبة اللّه عليه السلام : تقدّم فصلّ على أبيك ، وكبّر عليه خمساً وعشرين تكبيرة ، فتقدّم وصلّى عليه بالملائكة ، وكبّر خمساً وعشرين تكبيرة » (1).

وفي حديث العيّاشيّ : أن هبة اللّه عليه السلام : هو الذي غسّل آدم عليه السلام : ، وأن جبرئيل عليه السلام : أراه كيف يغسّله ، وأنه كبّر على أبيه ثلاثين تكبيرة (2).

وفي ( الوسائل ) من ( قصص الأنبياء ) (3) لسعد بن هبة اللّه الراونديّ : ، بسنده إلى أبي حمزة : عن عليّ بن الحسين عليهما السلام : في حديث وفاة آدم عليه السلام : قال : « فخرج هبة اللّه : وصلّى عليه ، وكبّر عليه خمساً وسبعين تكبيرة ، سبعين لآدم : ، وخمساً لأولاده » (4).

وعن ابن بابويه : بسنده إلى الفضل بن يسار : عن أبي جعفر عليه السلام : في حديثه قال : « فلمّا جهّزوه يعني : آدم : قال جبرئيل : تقدّم يا هبة اللّه ، فصلّ على أبيك ، فتقدّم ، فكبّر عليه

ص: 115


1- بحار الأنوار 23 : 64 / 3.
2- تفسير العيّاشيّ 1 : 339 / 78.
3- قصص الأنبياء : 62 / 34.
4- وسائل الشيعة 3 : 84 - 85 ، أبواب صلاة الجنازة ، ب 6 ، ح 14.

خمساً وسبعين تكبيرة ، سبعين تفضيلاً لآدم عليه السلام ، وخمساً للسنّة » (1).

ولا منافاة بينهما ، لإمكان حمل حديث ( الأمالي ) على أن جبرئيل عليه السلام : أراه كيف يغسّله ، فأطلق عليه أنه غسّله معه ، كما هو ظاهر حديث العيّاشيّ ، أو أنه أعانه على غسله بالتقليب ، وهذا يصدق عليه أنه غسّله في الجملة أيضاً ، أو أنه حقيقة لأنّ جبرئيل عليه السلام : معصوم ، فلا مانع من تغسيله المعصوم.

وأمّا التكبيرات فلعلّه أراد بالخمس والعشرين في حديث ( الأمالي ) : خمساً وعشرين زائدة على أُصول تكبيرات صلاة الأموات وهي الخمس ؛ تكرمة لصفوة اللّه آدم عليه السلام : وقد كبّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : على أُناس أكثر من خمس (2).

وبالثلاثين في حديث العيّاشيّ : الأُصول على الزيادة جميعاً ، وفيه ما يشعر بذلك في الجملة حيث قال فيه : « فأمره جبرئيل برفع خمس وعشرين » ، أي أعلمه أنّها زائدة على أصل صلاة الأموات ، وهي الخمس التي جرت بها السنة.

وقد صرّح بهذا حديثا ( الوسائل ) ، لكن لم أظفر بهما إلّا بعد كتابة هذا المرسوم في الأصل فألحقتهما ، وبهما يظهر وجه آخر ، هو أنه صلّى عليه مرّة بخمس وعشرين ، وأُخرى بثلاثين ، وأُخرى بخمس وسبعين ، أو أنه كبّر خمساً وسبعين مع فوج ، وحضر آخرون فكبّر معهم ثلاثين ، وحضر غيرهم فكبّر خمساً وعشرين ، أو بعكس الترتيب ، وكلّها صلاة واحدة.

وفي حديث العيّاشيّ أن بين نوح : وآدم عليهما السلام : عشرة آباء كلّهم أنبياء (3). وهذا منافٍ لظاهره.

ولعلّ المراد بهم : آباء روحانيّون ، وعلى هذا يمكن أن يراد بآدم فيه : آدم الأوّل عليه السلام : ، فلا منافاة بينه وبين غيره من الأخبار والتواريخ ، واللّه العالم.

ص: 116


1- قصص الأنبياء : 68 / 69 / 44 ، وسائل الشيعة 3 : 85 ، أبواب صلاة الجنازة ، ب 6 ، ح 15.
2- بحار الأنوار 78 : 346 - 347 / 13.
3- تفسير العيّاشيّ 1 : 339 ، بحار الأنوار 23 : 64.

[41] دفع إشكال وبيان إهمال : تكليف الكافر بالفروع

في تفسير عليّ بن إبراهيم : بسنده إلى أبان بن تغلب : قال : قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام : « يا أبان : ، إنّ اللّه لا يطلب من المشركين زكاة أموالهم وهم يشركون به ، حيث يقول ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) (1) قلت له : كيف ذاك جعلت فداك؟ فسّره لي ، فقال ( وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ) الذين أشركوا بالإمام الأوّل وهم بالأئمّة الآخرين كافرون. يا أبان : ، إنّما دعا اللّه العباد إلى الإيمان به فإذا آمنوا باللّه ورسوله افترض عليهم الفرائض » (2).

ورُوي في ( البحار ) (3) أيضاً مثله عن أبان : عن أبي عبد اللّه : سلام اللّه عليه من ( تأويل الآيات الظاهرة ) (4) بطريقين ، ولعلّه يأتي ذكرهما.

قلت : هذا غير منافٍ لما ثبت بالنصّ المستفيض من الكتاب (5) والسنّة ، بل المتواتر مضموناً ، وبالإجماع جيلاً بعد جيل ، وبالبرهان المتضاعف ، من أن الكافر مكلّف بالفروع.

ص: 117


1- فصّلت : 6 - 7.
2- تفسير القمّيّ 2 : 265 - 266.
3- بحار الأنوار 24 : 304 / 17.
4- تأويل الآيات الظاهرة : 521
5- إشارة إلى قوله تعالى في سورة فصّلت : 6 - 7 ، والقيامة : 13 ، والمدّثر : 42 - 46 ، والفرقان : 68. انظر نهج الحقّ :5. 384.

وبيان ذلك أنه لمّا كانت الفرائض كالصفات واللوازم للإيمان باللّه ورسوله ، فالأيمان بهما عنوان ذات الوجود بل حقيقته ، والفرائض كلّها بعده صفات له ، ولو لزم كان التكليف بالإيمان ، ووجوده سابق على التكليف بالفرائض ، ووجودها واقعاً ذاتاً سبق العلّة والموصوف والأصل والملزوم على المعلول والصفة واللّازم في جميع مراتب وجودهما ، فلا تحقّق في رتبة من رتب الوجود المعلول بلا علّته ، ولا صفة بلا موصوفها ، ولا فرع بلا أصله ، ولا لازم بلا ملزومه ؛ إذ التحقيق أن لا لازم أعمّ بل مساوٍ ، ولا اسم بلا مسمى ، ولا مظهر بلا ظاهر.

فمعنى الحديث أنّهم مكلّفون بالأصل أوّلاً وبالذات ؛ لأنه تكليف الحقيقة والوجود ، وبالفروع ثانياً وبالتبعيّة ؛ لأنّ الأصل صفة الذات ، والفرع صفة صفتها. انظر إلى أحاديث الذرّ (1) ، وإلى ترتيبها ، فإنّ اللّه تعالى أخذ على العباد العهد بالإقرار له بالربوبيّة ، ولمحمّد : بالرسالة ، ولخلفائه بالإمامة والولاية قبل أن يؤجّج لهم نار التكليف فيأمرهم بالوثوب فيها.

وهذا مطابق لما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وآله : في ترتيب دعوته الخلق بعد البعثة ، فإنْ لم يظهر التكليف بالولاية ؛ لأنّها نتيجة وغاية ، والنهاية عين البداية ، فالعبادة فرع معرفة المعبود ، فإنّها صفتها وفرعها وحكايتها ، كما قال الحسين عليه السلام : « إنّ اللّه عزوجل ما خلق العباد إلّا ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه ». فقال له رجل : يا ابن رسول اللّه ، بأبي أنت وأُمّي فما معرفة اللّه؟ قال معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته (2).

ففي الحقيقة التكليف بالإيمان تكليف بجميع الفرائض ، فلا يتوهّم بينهما انفكاك زمانيّ ، بل سبق بالرتبة والشرف والعلّيّة ؛ ولذا ورد في تفسير الأمانة (3) أنها الولاية (4)

ص: 118


1- الكافي 1 : 436 / 1 - 2 ، و 1 : 441 / 6 ، و 2 : 10 / 1 ، و: 12 / 1.
2- علل الشرائع 1 : 19 - 20 / 1 ، بحار الأنوار 5 : 312 / 1.
3- الواردة في قوله تعالى : ( إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ .. ) الأحزاب : 72.
4- تفسير القمّي 2 : 198.

وأنها جميع التكاليف. وهما طبق ؛ لأنّ التكاليف صفة الولاية كما عرفت.

فمعنى الحديث أن الكفّار مكلّفون بالإيمان أوّلاً وبالذات ، وبالفرائض ثانياً وبالتبعيّة والاستلزام ، فهم مكلّفون بها في ظاهر التكليف جميعاً في زمان واحد ، ومؤاخذون على ترك الفرائض ؛ لأنّهم تاركون ما كلّفوا به. فظهر الحديث وعدم منافاته لما أجمع عليه المسلمون. ولكنّ الإمام عليه السلام دلّ على أن المراد بالمشركين في الآية خصوص المنافقين أعني : الذين لم يقرّوا بالولاية وهو بيان لبطن من بطون القرآن ، وهذا غير منافٍ لظاهره ولا لغيره من البطون ، واللّه العالم.

ص: 119

ص: 120

[42] بيان حكم ودفع وهم : عدم قبول توبة المرتدّ

في ( المعاني ) بسنده إلى محمّد بن مسلم : عن أبي جعفر عليه السلام : قال : قلت له : أرأيت من جحد إماماً منكم ، ما حاله؟ قال : « من جحد إماماً من اللّه وبرأ منه ومن دينه فهو كافر مرتدّ عن الإسلام ؛ لأنّ الإمام من اللّه ، ودينه دين اللّه ، ومن برأ من دين اللّه فدمه مباح في تلك الحال إلّا أن يرجع ويتوب إلى اللّه ممّا قال » (1).

قلت : ظاهره مشعر بقبول توبة المرتدّ ودرء الحدّ عنه بها ، وهو خلاف مشهور العصابة ، ولعلّه محمول على إسقاط العقاب الأُخرويّ دون الدنيويّ ، أو على من يقبل منه الإمام التوبة ويسقط عنه الحدّ بمقتضى حكمة اللّه ، فقد جرى ذلك للأئمّة عليهم السلام في أُناس كثير. والإمام له العفو والقصاص ، والعطاء والمنع ، فلا ينافي أن نائبه ليس له ذلك. بل لا بدّ أن يقتل المرتدّ إذا تمكّن.

ويمكن حمله أيضاً على الكافر الأصليّ ، فإنّ إسلامه يحقن دمه إجماعاً وإنكاره يُعفى عنه ، دون من أظهر الإسلام وظهرت له دلائل الإمامة فأنكرها ، فلا منافاة.

ويمكن تخصيصه بالملّي في أيام مشروعيّة استتابته ، واللّه العالم.

ص: 121


1- لم نعثر عليه في ( معاني الأخبار ) ، ووجدناه في الاختصاص : 259 ، وبحار الأنوار 76 : 225 / 13 ، نقلاً عن الاختصاص.

ص: 122

[43] بشارة وإنذار من كان من ولد آدم عليه السلام : آمن

روى عليّ بن إبراهيم : بسنده عن أبي جعفر عليه السلام : أنه قال : « من كان من ولد إبليس : فإنّه لا يصدّق بالأوصياء ولا يؤمن بهم أبداً ، وهم الذين أضلّهم اللّه. ومن كان من ولد آدم : آمن بالأوصياء وهُم على صراط مستقيم » (1).

قلت : هذا صريح في أن من أنكر ولاية أهل البيت عليهم السلام : فهو شرك شيطان ، وأن المؤمنين بها لن يشرك الشيطان آباءهم فيهم بوجه ، فيا بشرى للمؤمنين!

والمراد منه الولادة الروحانيّة لا الجسمانيّة ، وأنّها ولادة حقيقيّة في مرتبتها له عليه ، واللّه العالم.

ص: 123


1- تفسير القمّيّ 1 : 228 ، بحار الأنوار 23 : 206 / 1.

ص: 124

[44] إيضاح وبيان

في ( البحار ) من العيّاشيّ (1) : عن عمر بن يزيد : قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : عن قول اللّه تعالى : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) (2) فقال : « كذبوا ما هكذا هي ، إذا كان ينسخها ويأتي بمثلها لم ينسخها ». قلت : هكذا. قال : « ليس هكذا قال تبارك وتعالى ». قلت : فكيف قال؟ قال : « ليس فيها ألف ولا واو قال : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها مثلها يقول : ما نمت من إمام أو ننسِ ذكره نأتِ بخير منه من صلبه مثله » (3).

قلت : قال غائص ( البحار ) : ( لعلّ المراد أنه خير بحسب المصلحة لا بحسب الفضائل ) (4) ، انتهى.

وهو كما ترى تكلّف بعيد ، ولعلّ ( من ) في « منه » ابتدائيّة كما يشعر به إبدال « من صلبه » من « منه » ، أو أن « منه » و « من صلبه » متعلقان ب- « نأت » ، أو الثاني متعلّق بالأول ، ومعاني الجميع واحد.

ولعلّ الحديث يعمّ جميع حجج اللّه من الأنبياء والأوصياء ؛ فالموت والإنساء على ظاهره. والإماتة أعمّ من الإنساء ، فتفطّن ، واللّه العالم.

ص: 125


1- تفسير العيّاشيّ 1 : 74 - 75 / 78.
2- البقرة : 106.
3- بحار الأنوار 23 : 208 / 10.
4- بحار الأنوار 23 : 208.

ص: 126

[45] إيماض فيه إيقاظ : مسألة عرض الأعمال في النصف من الشعبان

في ( البحار ) من ( بصائر الدرجات ) (1) بسنده إلى الحلبي : أن أبا عبد اللّه : عليه سلام اللّه قال : « إنّ الأعمال تعرض عليّ في كلّ خميس ، فإذا كان الهلال أكملت - في نسخة : « أجملت » بدل : « أكملت » فإذا كان النصف من شعبان عرضت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : وعلى عليّ : عليه سلام اللّه ثمّ تنسخ في الذكر الحكيم (2).

قلت : ورد في عدّة روايات (3) أن الأعمال تعرض عليهم عليهم سلام اللّه في كلّ صباح ، وفي كثير منها : في كلّ صباح ومساء ، وفي جملة : في كلّ عشيّة خميس ، وفي الاثنين والخميس.

ولا منافاة بينها ؛ لأنّها تعرض عليهم في كلّ رتبة من رتب وجود العامل. وهذه الأوقات إشارة إلى تلك الرتب ، فإنّ الشهور مظاهر لها ، وكذا الأسابيع وساعات الليل والنهار ، فمنها جزئيّات ومنها كلّيّات ، وكلّيّات كلّيّات ، حتّى تنتهي طاعات أهل الإيمان إلى الذكر الحكيم ، والكفر والمعاصي تنقطع في سجّين ، فتكون مجتثّة ، وليس كلّ طاعة أو معصية تنتهي إلى ذلك ، بل منها ما لا يتجاوز أوّل مرتبة ، ومنها ما لا يتجاوز مرتبتين ، فينقطع ويُرَدّ وهكذا. ولكلّ عرض بنسبته ، وما يصعد أو ينزل

ص: 127


1- بصائر الدرجات : 424 / 1.
2- بحار الأنوار 23 : 343 / 29.
3- بصائر الدرجات : 424 - 426 / ب 4.

يعرض في كلّ مرتبة من مراتبه بما يناسبها من لوازم وجوده فيها حتّى في الكلّيّة والجزئيّة والتفصيل والإجمال ، فلا اختلاف ولا تنافي ، واللّه العالم.

ص: 128

[46] إيقاظ وتنبيه ( تَسْنِيمٍ ) لآل محمّد صلى اللّه عليه وآله : صرف ولغيرهم ممزوج

وفي ( البحار ) من ( تأويل الآيات الظاهرة ) (1) روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : أنه قال : « تسنيم (2) أشرف شراب في الجنّة ، يشربه محمّد : وآلُ محمّد : صرفاً ، ويمزج لأصحاب اليمين ولسائر أهل الجنّة » (3).

وكتب عليه بعض المشايخ من المعاصرين : ( لهذا المزج معارِض أكثر وأقوى ، والعمل به أقرب للتقوى ) ، انتهى.

قلت : لو ساوى آل محمَّد عليهم السلام : غيرُهُم في صرافة ما يشربونه منه لماثلهم شرفاً ، وليس في الخلق من يداني شرفهم بوجه. ولا منافاة بين الأخبار ، فصرفٌ وأصرفُ .. حتّى ينتهي إلى قسطهم وهو الصرف المطلق من كلّ وجه خاصّة ، وصرافة ما سواه إضافية. ومن شرب من ( تَسْنِيمٍ ) جرعة ولو ممزوجة عرف ما قلناه ، وأنه لا منافاة.

ويمكن أن يدخل في آل محمّد صلّى اللّه عليه وعليهم أُولو العزم ومن قاربهم من الأنبياء والرسل ، فقد ورد في شيث عليه السلام : وغيره أنه من أهل البيت : فلا منافاة ، لكن هذا ظاهري ، والأوّل ألصق بالحكمة ، واللّه العالم.

ص: 129


1- تأويل الآيات الظاهرة : 753.
2- المطفّفين : 27.
3- بحار الأنوار 24 : 3 / 8.

ص: 130

[47] تأييد وتسديد ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا )

في البحار من ( تأويل الآيات الظاهرة ) (1) بسنده إلى سماعة قال : سمعت أبا عبد اللّه : سلام اللّه عليه يقول في قوله تعالى : ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) (2) قال : « يعني اسْتَقَامُوا على الولاية في الأصل عند الأظلّة حين أخذ اللّه الميثاق على ذريّة آدم : ( لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) يعني : لَأَسْقَيْنَاهُمْ من الماء الفرات العذب » (3).

قال غائص ( البحار ) : ( أي صببنا على طينتهم الماء العذب الفرات ، لا الماء الملح الاجاج كما مرّ في أخبار الطينة ) (4) ، انتهى.

قلت : يؤيّد هذا البيان ما أخرجه هو من الكتاب بسنده عن جابر عن أبي جعفر : عليهما سلام اللّه في هذه الآية الكريمة قال : « قال اللّه : لجعلنا أظلّتهم في الماء العذب لنفتنهم فيه ، [ و (5) ] فتنهم في عليّ سلام اللّه عليه وما فتنوا فيه وكفروا ، إلّا بما أُنزل في ولايته » (6).

وبمعناه روايات كثيرة (7).

ص: 131


1- تأويل الآيات الظاهرة : 703.
2- الجن : 16.
3- بحار الأنوار 24 : 28 / 5.
4- بحار الأنوار 24 : 28.
5- من المصدر ، وفي المخطوط : « لو ».
6- بحار الأنوار 24 : 29 / 8.
7- بحار الأنوار 24 : 29 / 7.

وذلك الماء الفرات هو الماء الذي كان العرش عليه ، وهو ماء الحياة ، وهو نور اللّه المشار له فيما روي أن اللّه سبحانه وتعالى : « خلق الخلق في ظلمة ، ثمّ رشّ عليهم من نوره » (1) ، وهي ظلمة الإمكان أو الماهيّة ، وهو النور الذي خلق منه المؤمن المشار له في قولهم عليهم سلام اللّه - « المؤمن ينظر بنور اللّه » (2).

وفي قولهم : « النور أبو المؤمن ، وأُمّه الرحمة » (3).

وهو عنصر الأبرار المشار إليه في ( الجامعة الكبيرة ) أعني : عنصر الوجود وعلّته ومادّته على طبقاته وهو نور العلم وشعاع المعرفة ، كما في الكتاب أيضاً بسنده عن أبي بصير : عن أبي عبد اللّه : عليه سلام اللّه في الآية أيضاً ( لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) (4) : « يعني لأمددناهم علماً كي يتعلّموه من الأئمّة عليهم سلام اللّه » (5).

ومنه أيضاً بسنده عن بُريد : عن أبي عبد اللّه : سلام اللّه عليه في هذه الآية أيضاً قال : « ( عَلَى الطَّرِيقَةِ ) يعني على الولاية ، ( لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) قال عليه السلام : لأذقناهم علما كثيراً يتعلمونه من الأئمّة عليهم السلام (6).

قلت : قوله ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) . قال : « إنّما هؤلاء يفتنهم فيه ، يعني المنافقين ».

وقد استفاض تفسير الماء في قوله عزّ اسمه ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً ) (7) الآية بعلم الإمام وبالإمام ، وفي غيرها أيضاً كثير ، فلا منافاة بين الأخبار ولكان كلّ واحد باعتبار مقام ، وأصل الجميع واحد ، واللّه العالم.

ص: 132


1- جامع الأسرار ومنبع الأنوار : 260.
2- الأمالي ( الطوسيّ ) : 294 / 574 ، بحار الأنوار 7 : 323 ، وفيهما : « اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه » ، 24 : 128 / 9.
3- شرح الزيارة الجامعة 1 : 62.
4- الجنّ : 16.
5- بحار الأنوار : 24 : 28 - 29 / 6 ، تأويل الآيات الظاهرة : 703 - 704.
6- بحار الأنوار 24 : 29 / 7.
7- الملك : 30.

[48] إيقاظ وتنبيه ( فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى )

البحار من ( تأويل الآيات الظاهرة (1) ) معاً بسنده إلى أبي عبد اللّه : عليه سلام اللّه - « ( فَأَمّا مَنْ أَعْطى ) الخُمس ، ( وَاتَّقى ) ولاية الطواغيت ، ( وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ) بالولاية ، ( فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ) فلا يريد شيئاً من الخير إلّا تيسر له ، ( وَأَمّا مَنْ بَخِلَ ) بالخُمس ( وَاسْتَغْنى ) برأيه عن أولياء اللّه ، ( وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ) : بالولاية ، ( فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ) (2) ، فلا يريد شيئاً من الشرّ إلّا تيسّر له » (3) الحديث.

قلت : خصّ الخمس من العبادات ؛ لأنّ إعطاءه لأهله واعتقاد وجوبه لهم يدلّ صريحاً بل هو نصّ في التسليم لأهل البيت : سلام اللّه عليهم واعتقاد ولايتهم ، بخلاف غيره من العبادات فإنه ليس مثله في الصراحة والظهور.

ولعلّه أيضاً عبّر بالخمس عن إعطائه الإمام ما يستحقّه على الرعيّة من جميع الطاعات والعقائد ، ومعرفته كلّا بقدر طاقته ووسعه ، فتأمّل.

ص: 133


1- ورد في المخطوط في هذا الموضع وفيما بعده من المواضع التي نقل فيها المصنّف عن ( البحار ) من كتاب ( تأويل الآيات الظاهرة ) الرمزُ ( كنز ) ، وقد أُشير في آخر كلّ جزءٍ من ( البحار ) إلى أنّ رمزُ ( كنز ) يعني ( كنز جامع الفوائد ) و ( تأويل الآيات الظاهرة ) معاً. وأشار الشيخ آقا بزرك في ذريعته إلى أنّ كتاب ( كنز جامع الفوائد ودافع المعاند ) للشيخ علم بن سيف بن منصور الحلي الذي اختصره من كتاب ( تأويل الآيات الباهرة في العترة الطاهرة ) ، وقد اكتفينا في تخريجنا به. انظر الذريعة 18 : 149.
2- الليل : 5 - 10.
3- بحار الأنوار 24 : 46 ، تأويل الآيات الظاهرة : 782.

فليس أحد يؤدّى الخمس أو جميع الطاعة للإمام إلّا المؤمن ، فتأدية الخُمس لأهله متلازم مع الإيمان ، واللّه العالم.

ص: 134

[49] دفع إشكال وإيضاح مقال : « لا تكون الدنيا إلّا وفيها إمامان »

( البحار ) بسنده إلى أبي بصير : قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام : يقول : « إنّ الدنيا لا تكون إلّا وفيها إمامان : برّ وفاجر ، فالبرّ الذي قال اللّه تعالى : ( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) (1) ، وأمّا الفاجر فالذي قال اللّه تعالى : ( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ ) (2) » (3).

ومنه بسنده إلى أبي عبد اللّه : سلام اللّه عليه قال - : « لا يُصلح الناسَ إلّا إمام عادل وإمام فاجر ، إنّ اللّه تعالى يقول : ( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) ، وقال ( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ ) (4) ».

قلت : لعلّه عليه السلام أراد : الدنيا المحض ، فلا تدخل فيها دولة القائم عجّل اللّه فرجه : فإنّها ليست كالبرزخ بين الدنيا والآخرة ، بل أوّل ظهور الحشر والساعة ، بل هي الساعة الصغرى والحشر الأوّل. وقد استفاض إطلاق « الساعة » عليها في الأخبار (5). وقد قال بعض الأعاظم من رؤساء الفرقة : إنّها المشار إليها بالأُولى في ( الجامعة الكبيرة ) حيث قال عليه سلام اللّه - « في الدنيا والآخرة والأولى » فجعلها قسماً ثالثاً

ص: 135


1- الأنبياء : 73.
2- القصص : 41.
3- بحار الأنوار 24 : 157 / 15.
4- بحار الأنوار 24 : 157 / 16.
5- بحار الأنوار 24 : 164 - 166.

بين الدنيا والآخرة.

وإن أدخلناها في الدنيا على النظر الجليل ، فلعلّه أراد أن الدنيا من حيث هي لا تتحقّق وتصلح ويكمل فيها الاختيار والاختبار والحجّة البالغة إلّا بتحقّق وجود دولة للجهل ، وسلاطينها من شياطين الإنس وطواغيتهم ، ليعبد اللّه فيها سرّاً. ودولة للعقل وسلاطينها الذين هم حجج اللّه على خلقه ، ليظهر بهم دينه ويعبد فيها اللّه جهراً ، وإن اختصّ كلّ دولة بزمان ، فأشار إلى الكلّيّتين.

ولمّا كانت أيّام القائم عجّل اللّه فرجه لا تكون إلّا بعد تميّز الذهب من التراب ، والدهن من اللبن ومزايلة الطينتين ، وتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، وتقع المزايلة المشارُ لها في قوله عزّ اسمه ( لَوْ تَزَيَّلُوا ) (1) ، كانت سلطنة الجهل وسلطنة الطواغيت هي السابقة في دار التكليف ؛ لتكمل الحجّة وتتّضح المحجّة ، ويكمل الاختيار ويظهر الاختبار. ولأنّ المزايلة لا تكون إلّا بعد الممازجة والخلط. والنتيجة لا تتحقّق نتيجة إلّا بعد المقدّمات ، وإلّا لم تكن نتيجة ، ولم يقطع بحقّيّتها. فلا يرد أن دولة آل محمَّد عليهم السلام ليس فيها سلطان جور ، بل الحكم كلّه لله العليّ الكبير ، واللّه العالم.

ص: 136


1- الفتح : 25.

[50] دلالة على كنز : الليل والنهار « اثنتا عشرة ساعة » أشرفها ساعة عليّ عليه السلام

اشارة

( البحار ) من ( تفسير القمّيّ ) (1) بسنده عن أبي الصامت : قال : قال أبو عبد اللّه : عليه سلام اللّه - : « إنّ الليل والنهار اثنتا عشرة ساعة ، وإنّ عليّ بن أبي طالب : عليه سلام اللّه أشرف ساعة منها ، وهو قوله تبارك وتعالى : ( بَلْ كَذَّبُوا بِالسّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيراً ) (2) » (3).

قلت : اعلم أن لفظ الساعة واليوم والشهر والعام غير مختصّ بجزئيّات حركة الفلك وأجزائهما كما هو متعارف اللغة ، بل المستفاد من الكتاب والسنّة والعقل الذي هو الحجّة الباطنة والشرع الباطن قال تعالى : ( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ ) (4) أن في العالم أيّاماً إلهيّة هيَ المشار لها بقولهم سلام اللّه عليهم - : « نحن الأيّام فلا تعادوهم : السبت : رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : والأحَد : أمير المؤمنين : ، والاثنين : الحسن : والحسين : والثلاثاء : عليّ بن الحسين : ومحمّد بن عليّ الباقر : وجعفر بن محمّد الصادق : والأربعاء : عليّ بن موسى الرضا : ومحمّد بن عليّ الجواد : وعليّ بن محمّد الهادي : والخميس : أبو محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ : ، والجمعة : الحجّة المهديّ بن الحسن »(5).

ص: 137


1- تفسير القمّي 2 : 112.
2- الفرقان : 11.
3- بحار الأنوار 24 : 330 - 331 / 54.
4- إبراهيم : 5.
5- بحار الأنوار 24 : 239 / 1 ، بتفاوت.

وهم عدد شهور العام (1) ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) (2) الآية.

وأيّاماً (3) سرمديّة ، هي المشار لها في قوله تعالى : ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ ) (4).

وأيّاماً دهريّة هي المشار لها في قوله سبحانه ( وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ ) (5).

وأيّاماً طبيعيّة هي الأيّام التي خلق سبحانه فيها السماوات والأرض :

يوم العقل الأوّل والوجود والنطفة.

ويوم الاثنين العلقة والنفس الكلّيّة والماهيّة.

ويوم الثلاثاء وهو يوم المضغة والطبيعة الكلّيّة.

والأربعاء وهو يوم العظام والمادّة الكلّيّة.

والخميس وهو يوم المثال وكسو العظام اللحم.

والجمعة وهو الجامع لجميع المراتب يومَ الخلق الآخر ، وهو يوم حشر الكلّ.

وأيّاماً برزخيّة فيها مساء وصباح ، وهي التي تروح أرواح المؤمنين في مسائها إلى الجنّة ، وتغدو إذا طلعت الشمس فيها إلى الغريّ.

وأيّاماً زمانيّة هي أعداد دورات المحدّد.

والدنيا كلّها ثلاثة أيّام بوجه : يوم دولة الجهل ، وهو اليوم الذي أحبّ اللّه أن يعبد فيه سرّاً. ويوم القائم ويوم الرجعة ، وهما اللذان أحبّ اللّه أن يعبد فيهما جهراً (6).

ولكل أيّام رتبة أسابيع وشهوراً وأعواماً من صنفها وسنخها وساعات كذلك ،

ص: 138


1- الغيبة ( الطوسيّ ) : 36.
2- التوبة : 36.
3- عطف على قوله : ( أياماً إلهية ).
4- السجدة : 5.
5- الحجّ : 47.
6- انظر : مختصر بصائر الدرجات : 41 ، وفيه : « أيّام اللّه ثلاثة ، يوم قيام القائم ، ويوم الكرّة ، ويوم الرجعة ».

وكلّ رتبة أعلى هي إجمال ما دونها وكلّيّاته ، وكلّ رتبة أنزل هي تفصيل ما فوقها ومظهرها ، ولكلّ رتبة لوازم تخصّها شمس وقمر وكواكب وأفلاك من سنخها ، وكلّها درجات الوجود وطبقاته ، ولكلّ رتبة عكوس وأظلال. والمجرّد له ظهور في المادّيّ والجسمانيّ بحسب قابليّته.

وقد ورد عنهم عليهم السلام نسبة كلّ ساعة من الساعات الاثنتي عشرة المستقيمة لواحد منهم عليهم السلام ، وأن شهر رجب شهر أمير المؤمنين عليه السلام : ، وشعبان شهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ، وشهر رمضان شهر اللّه (1).

وورد تأويل شهور العام الاثني عشر التي فيها أربعة حرم بهم سلام اللّه عليهم والعام برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (2).

إذا عرفت هذا عرفت أن النهار أبداً اثنتا عشرة ساعة مستوية ؛ لأنه العدد الذي دارت له أفلاك الوجود ، وقد خلق اللّه النهار قبل الليل ، بل ليس في نفس شي ء من هذه المراتب كلّها ليل ، بل لا ليل محسوس إلّا في بعض مراتب الزمان ، وهو ما ينقطع دونه مخروط ظلّ الأرض ، بل لا يتجاوز كرة البخار. ومع هذا فالليل إنّما هو من تعاكس النور والظلمة ، فهو ضدّ النهار بوجه ، وعدمه بوجه ، وبينهما نسبة الملكة والعدم بوجه.

فساعات الليل إنّما هي عكوس ساعات النهار ، وأضدادها وأظلالها بوجه ، وحكاياتها بوجه ، ففي الحقيقة ليس في الوجود إلّا اثنتا عشرة ساعة هي ساعات النهار ، وإن كان لنهار كلّ رتبة ليل يناسبه بحكم المقابلة والمعاكسة والتضادّ بين القبضتين أعني : قبضة العقل والجهل فيظهر في عكس العقل عكس بيان نهاره أيضاً ، فلك أن تقول : ليس للنهار والليل إلّا اثنتا عشرة ساعة ، ولك أن تقول : النهار

ص: 139


1- مصباح المتهجّد : 734. ولم يرد فيه الإشارة إلى الساعات الاثنتي عشرة.
2- الغيبة ( الطوسيّ ) : 149 / 110.

اثنتا عشرة ساعة ، والليل اثنتا عشرة ساعة غير ساعات النهار.

فظهر بما قرّرناه معنى قوله عليه السلام : « إنّ الليل والنهار اثنتا عشرة ساعة ، وإنّ عليّ بن أبي طالب : سلام اللّه عليه أشرف ساعة منها » ، كما يشير إليه ما ورد عنهم سلام اللّه عليهم من نسبة كلّ ساعة من ساعات النهار إلى واحد منهم. ولم يرد مثل ذلك في ساعات الليل ؛ لأنه على هذا ليس إلّا ساعات النهار. وقد ورد تسمية الإمام سلام اللّه عليه بالساعة ، كما في هذا الحديث ، واستفاض تسمية القائم صلّى اللّه عليه ، وعجّل فرجه بالساعة (1) ، وهم روح أرواح جميع أيّام الوجود ولياليه.

فلعلّه أيضاً أراد بساعات الليل والنهار : أئمّة الليل والنهار المحسوسين ، أو أراد بالنهار : دولة أهل البيت سلام اللّه عليهم وبالليل : دولة الطواغيت ، فليس في الوجود أئمّة هم خلفاء اللّه ونوّابه سواهم ، أو أئمّة الدنيا والآخرة ، أو الغيب والشهادة ، أو المجرّد والماديّات ، أو العقل والنفس. فكلّ ليل مقابله نهار ، إلّا إن الغيب ليل الشهادة ، والشهادة ليل الغيب في الدنيا.

فظهر السرّ بأنّ القرآن انزل ليلاً في ليلة القدر ، والسرّ في كون القدر ليلاً ، فإنّ الغيب والسرّ لمّا كان ساتراً مستوراً ناسبه اسم الليل ، وناسب الظاهر والمحسوس اسم النهار. وسيكون الغيب شهادة والشهادة غيباً ، فينعكس الأمر بظهور السرّ ، واللّه العالم.

رجب شهر عليّ عليه السلام

بقيت مسألة هي : ما السرّ في نسبة رجب لأمير المؤمنين : سلام اللّه عليه وشعبان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ، وشهر رمضان لله تعالى؟

قلت : لعلّ السرّ في ذلك أن رجباً لمّا كان من الأربعة الحرم وفي الأئمّة أربعة حرم ، وليس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : من الأشهر الحرم ، بل ولا من الشهور ، بل هو العام كلّه ؛

ص: 140


1- تأويل الآيات الظاهرة : 552.

ولذا ورد : « أوّلنا محمّد : ، وأوسطنا محمّد : ، وآخرنا محمّد : ، وكلّنا محمّد » (1) : على بعض وجوهه ، بل أوّلهم أمير المؤمنين : سلام اللّه عليه فكان رجب شهره. ولمّا كان رسول اللّه : هو الواسطة بين اللّه وبين عليّ : صلوات اللّه عليهما وآلهما وسلم وكان شعبان واسطةً بين رجب وبين شهر اللّه شهر رمضان ، كان شعبان شهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ، ولا يمكن أن يكون بين عليّ : وبين اللّه تعالى وتقدّس أكثر من واسطة واحدة هو محمَّد صلى اللّه عليه وآله : ، فاختصّ شعبان به. ولا يمكن أن شهره غير شعبان ؛ لما يلزم من وجود أكثر من واسطة واحدة بين شهر عليّ عليه السلام : وشهر اللّه تعالى.

وأيضاً رجب من الترجيب (2) وهو الضمّ و [ التعظيم (3) ] ، وشعبان من الشعب ، وهو جبر الكسر ، وهمّ جمعِ التفريق ، وإصلاح الفساد ، أو من الشعْب واحد الشعوب (4) ، وهو أصل القبائل الجامع لها ، وكان مقام الرسالة جمع متفرّقات الأهواء ، وجبر كسر القلوب ، ووصل بعضها ببعض. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : الأصل الجامع [ للشهور ] (5) الاثني عشر ، وكان مقام الولاية مقام ضمّ جزئيّات الرسالة وستر إسرارها ، بل هو سرّها الأعظم ووجب إظهار عظمتها إجمالاً. كان رجب شهر الولي ، وشعبان الذي تتشعّب وتتفنّن فيه البركات شهر الرسول.

وأيضاً لمّا كان الوجود إنّما يقوم بالتوحيد وهو التهليل ، وبالرسالة وبالخلافة ، ولا بدّ من اتّصالها وعدم التفرقة فيها ، كان مظهر ذلك في شهور الزمان في ثلاثة شهور متّصلة ، والخليفة يستمدّ من اللّه بواسطة الرسول صلى اللّه عليه وآله : ، كان نظمها كذلك ،

ص: 141


1- بحار الأنوار 26 : 6 - 7 / 1.
2- لسان العرب 5 : 139 رجب ، القاموس المحيط 1 : 209 ، باب الباء / فصل الراء ، مجمع البحرين 2 : 68 ، كتاب الباء / باب ما أوّله الراء ، وفيها : ( ترجيب النخلة : ضمّ أعذاقها إلى سعفاتها ).
3- في المخطوط : ( التفطيم ).
4- المحكم والمحيط والأعظم 1 : 235 / مقلوب العين والشين والباء ، لسان العرب 7 : 125 شعب ، وفيهما : ( شعب : الجمع والتفريق ، والإصلاح والإفساد ) ، وليس فيهما : ( جبر الكسر ).
5- في المخطوط : ( المشهور ).

وإلى اللّه المنتهى.

وأيضاً العرب تعظّم رجباً وتحترمه ، فنسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام : أمراً لهم بتعظيمه بطريق أوْلى ، وإشارة لهم إلى أن عظمته إنّما نشأت من عظمته ، فهو أحقّ بالتعظيم. وهذه وجوه إقناعيّة ، واللّه العالم بأسرار أوليائه.

ص: 142

[51] كشف شبهة وجمع عدم تكليف الكافر بالفروع قبل الأُصول

( البحار ) من ( تأويل الآيات الظاهرة ) (1) بطريقين إلى أبان بن تغلب : عن الصادق سلام اللّه عليه أنه قال وقد تلا قوله تعالى : ( وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) (2) - : « يا أبان : ، هل ترى اللّه سبحانه طلب من المشركين زكاة أموالهم وهم يعبدون معه إلهاً غيره؟ ».

قال : قلت : فمن هم؟ قال : « ( وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ) الذين أشركوا بالإمام الأوّل ، ولم يردّوا إلى الآخر ما قال فيه الأوّل وهم به كافرون » (3).

قلت : لعلّه عليه سلام اللّه أراد : أن نائب اللّه لا يطلب من عبدة الأوثان الطهارة [ للعمل (4) ] بالفروع قبل أن يطلب منهم الإقرار بالأُصول ، كما هو معلوم من سيرة الرسول صلى اللّه عليه وآله : ، وقد مضى الكلام على مثل هذا فراجعه.

ولكن بقي هنا شي ء ، هو أنه ما الجمع بين ما استفاض بل تواتر مضمونه مثل هذا الخبر وشبهه ممّا دلّ على تأويل ( الشرك باللّه ) بالشرك بالإمام ، وتأويل ( إلهين ) بإمامين ، وشبهه من تأويل ( إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ ) (5) بذكر عليّ عليه السلام : واشمئزاز

ص: 143


1- تأويل الآيات الظاهرة : 521.
2- فصّلت : 6 - 7.
3- بحار الأنوار 24 : 304 / 17.
4- في المخطوط : ( العمل ).
5- الزمر : 45.

المنافقين منه ومن ولايته وذكرها (1) ، وهو لا يحصر كثرةً وبين ما في ( البحار ) من ( بصائر الدرجات ) (2) بسنده عن حبيب الخثعميّ : قال : ذكرت لأبي عبد اللّه : عليه سلام اللّه ما يقول أبو الخطّاب : ، فقال : اذكر لي بعض ما يقول ، قلت : في قول اللّه عزوجل ( وَإِذا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ ) (3) الآية ، يقول ( إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ ) : أمير المؤمنين ( وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) : فلان وفلان ، فقال أبو عبد اللّه : سلام اللّه عليه - : « من قال هذا فهو مشرك ثلاثاً أنا إلى اللّه منه بري ء ثلاثاً بل عنى اللّه بذلك نفسه ، بل عنى اللّه بذلك نفسه ».

وأخبرته بالآية التي في حم ( ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ) (4) قلت : يعني بذلك أمير المؤمنين عليه السلام : قال أبو عبد اللّه : عليه سلام اللّه - : « من قال هذا فهو مشرك ثلاثاً أنا إلى اللّه منه بري ء ثلاثاً بل عنى بذلك نفسه » (5).

قلت : لا منافاة بين هذه الأخبار ، فلعلّ المراد من هذا الخبر : الردّ على من اعتقد أن أمير المؤمنين : سلام اللّه عليه ربّ واجب الوجود بذاته ، وهم أكثر الغلاة ، والإنكار على من أذاع سرّهم ، أو كذب عليهم ، أو بيان فساد عقيدة أبي الخطّاب : وكفره وتعمّده الكذب عليهم ، وإضلال شيعتهم عن طريقهم.

وبتلك الأخبار : أن الشرك في الولاية مستلزم للشرك باللّه ، فعبّر بالملزوم عن اللازم.

بل نقول : اعلم أنه لمّا تقدّس الواجب وتعالى عن [ مجانسة (6) ] الخلق ومباشرتهم وعن أن يحيطوا به علماً بوجه فلا يعلم له حال ، ولا تضرب له الأمثال ، وتعالى عن وصف جميع الواصفين ، وعن جميع النسب والإضافات والأحكام ، فرتبة الأزل

ص: 144


1- الكافي 8 : 253 / 471 ، تفسير البرهان 4 : 714.
2- بصائر الدرجات : 536 / 11.
3- الزمر : 45.
4- غافر : 12.
5- بحار الأنوار 24 : 302 / 10.
6- في المخطوط : ( معاناة ) ، وما أثبتناه هو الأوفق بكلمات أهل العصمة عليهم السلام كما ورد في دعاء الصباح لأمير المؤمنين عليه السلام. انظر بحار الأنوار 84 : 339 / 6. و 91 : 243 / 11.

لا يمكن فيها وجود نفي ولا إثبات بوجه ، بل لا يمكن [ اجتماع ] النقيضين ، بل يرتفعان ، فلا حكم هناك ولا لا حكم ، وكان من شأنه الوجود والرحمة خلق خلقاً ألبسه جميع صفات جلاله وجماله ، وفوّض إليه جميع أحكامه ، ليدلّ به عباده عليه ويهديهم به إليه ، فخلطه بنفسه ، وجعل أمره أمره ، ونهيه نهيه ، ورضاه رضاه ، وغضبه غضبه ، وأسفه أسفه ، وطاعته طاعته ، ومعصيته معصيته ، وولايته هي ولاية اللّه العظمى ؛ لأنه حامل لوائها ، وجعل (1) جنبه ووجهه وعينه وأُذنه ويده وقلبه محل مشيئته إلى غير ذلك ممّا هو مذكور في كلمات أهل العصمة (2).

كلّ ذلك على سبيل الحقيقة لا المجاز في الحقيقة ، مثال ذلك أن نفسك لمّا ألبست قواك وجوارحك ثوب قدرتها ، ظهرت منها وبها أفعالها فصحّ نسبة أفعالها إليها ، وجميع ما ينسب لقواك وجوارحك من الأفعال إنّما هي صفات نفسك وأفعالها ، وكلّ من فعل لجسدك شيئاً إنّما يفعله لنفسك التي أنت بها ، أنت والجسد سبيل إليها.

والملوك يضعون بعض العبيد لإنفاذ مناهيهم وأوامرهم تكرّماً عن مباشرة ما لا يليق بدواة الملوك ، وتمتّعاً بحجاب العزّة والعظمة ، فتدين له الرعية لمّا ألبسه الملك ثوب عزّه وهيبته وجلاله ، فلو عزله سقطت هيبته ، واستخفّ بأمره ، ما ذلك إلّا لأن هيبته وجلاله وقدرته وأمره ونهيه هو هيبة الملك ، وقدرته وأمره ونهيه حقيقة ، وخيانته ومصاحبة عدوه خلع لولاية الملك.

فما ورد في تأويل قوله عزّ اسمه وتعالى : ( وَإِذا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ) الآية ، من أن المراد : وإذا ذكر عليّ عليه السلام : وحده بالولاية ، وفي تأويل ( إِذا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ) ب- : إذا دعي عليّ عليه السلام : وحده بولاية اللّه وأمثالهما يراد به : وإذا ذكر وليّ اللّه وإذا دعي وليّ اللّه ، وحذف المضاف شائع. ولعل السرّ في حذف المضاف هو إظهار حقيقة الأمر في المجاز ، وأن ما يثبت أو ينفى

ص: 145


1- في المخطوط : جعله.
2- بحار الأنوار 24 : 191 - 203.

عن حامِل لواء الولاية العظماء ، أو عنه من أحكامها هو للحقّ وعنه (1) ؛ فإنّ الوليّ المطلق هو الظاهر بشؤون ولاية اللّه سبحانه وتقدّس ، وصفاتها وهو كنه العبوديّة التي ألفي المعبود في هويّتها وحقيقتها ومثاله وصفات جلاله وكماله ، فأظهر منها أفعاله ، فهو محل الحكم والإسناد والأمر ، وليس له من نفسه عند نفسه اعتبار بوجهه أصلاً.

فحذف لفظه من هذا الإسناد وشبهه ؛ لعدم ثبوت اعتبار المظهر والصفة والاسم عند ذكر الظاهر والموصوف والمسمّى ، وهو مقام : « لنا مع ربّنا حالات » (2) ، فكلّ ما ظهر منهم في ذلك المقام [ هو (3) ] شؤون الحقّ وصفاته ، فلا تنسب في ذلك المقام إلّا له ؛ لعدم اعتبارهم أنفسهم فيه بوجه ، فأقرب أشعة الشمس لها لا تنسب له ، نور في أدنى مقامات القرب ، بل لا تبقى له نسبة يصحّ اعتبارها حتّى عند نفسها. فدلّ بحذف ذكره على ذلك المقام الأعظم ، واللّه أعلم.

فهذا انموذج تظهر به غوامض وأسرار وكُشف به شبهات ، فتلطّف لكلّ مقام ما يليق به ، فإن بسطه ممّا يطول ، فالتأمت الأخبار ، وظهر السرّ في الإنكار.

فقوله عليه سلام اللّه - : « بل عنى بذلك نفسه » حقّ ، وهو مؤيّد لما قلناه ، وما ورد في التأويل لا منافيَ له ولغيره على من قال : ذلك حقّ ؛ لأنّ من اعتقد أن علياً : سلام اللّه عليه له من نفسه صفة كمال أو قدرة ، ليست هي من اللّه فهو كافر ملعون. فظهرت الأخبار وانكشف الغبار ، واللّه العالم ، ونسأله العفو والعصمة عن زلّة القدم ، فإن المقام بعيد المرام.

ص: 146


1- كذا في المخطوط.
2- شرح العرشية 2 : 132.
3- في المخطوط : ( هي ).

[52] ضياء شمسي ونور قمري ( جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً )

( البحار ) من ( تأويل الآيات الظاهرة ) (1) بسنده عن أبي عبد اللّه : سلام اللّه عليه في قوله تعالى : ( وَلَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً ) (2) ، قال سلام اللّه عليه - : « هم الأئمّة وهم الأعلام ، ولو لا صبرهم وانتظارهم الأمر أن يأتيهم من اللّه لقُتلوا جميعاً قال اللّه عزوجل ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (3) » (4).

ومن ( الكافي ) بسنده عن أبي جعفر : عليه سلام اللّه في قول اللّه عزوجل ( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ) قال : « اقسم [ بقبض (5) ] محمّد إذا قبض »، الحديث.

وفيه : « ( ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ ) بتفضيله أهل بيته ( وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) يقول ما يتكلّم [ بفضل (6) ] أهل بيته بهواه وهو قول اللّه عزوجل ( إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يُوحى ) (7).

وقال اللّه عزوجل لمحمّد صلى اللّه عليه وآله : ( قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي

ص: 147


1- تأويل الآيات الظاهرة : 336.
2- الحجّ : 40.
3- الحجّ : 40.
4- بحار الأنوار 24 : 359 / 83.
5- من المصدر ، وفي المخطوط : ( بقبر ).
6- من المصدر ، وفي المخطوط : « بتفضيله ».
7- النجم : 1 - 4.

وَبَيْنَكُمْ ) (1) قال : لو أني أُمرت أن أُعلمكم الّذي أخفيتم في صدوركم من استعجالكم بموتي ، لتظلموا أهل بيتي من بعدي فكان مثلكم : كما قال اللّه عزوجل ( كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ) (2) يقول : أضاءت الأرض بنور محمَّد صلى اللّه عليه وآله : كما تضي ء الشمس ، فضرب مثل محمَّد صلى اللّه عليه وآله : الشمس ، ومثل الوصي عليه السلام : القمر ، وهو قوله عزّ ذكره ( جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ) (3) » (4) الحديث.

قلت : لعلّ الوجه في كون الشمس مثل الرسول صلى اللّه عليه وآله : وكون القمر مثل الوصيّ : سلام اللّه عليه أن نور القمر من نور الشمس ، كما قام عليه البرهان المتضاعف (5) ، فلك أن تقول : إن نوره نورها حقيقةً وليس له من نفسه اعتبار ، وإنه نوره حقيقة ، فهو غير نورها حقيقة ؛ لأنه مظهره وفاضله ، وكذلك علم الوصيّ ونوره حقيقة من علم النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ونوره ، بل هو هو حقيقةً ؛ لأنه نفسه ، وهو أيضاً منه كرأسه الذي هو ينبوع العلم والإحساس من جسده ، فظهر وجه الشبه وصحّة ضربهما مثلاً لهما ، فأقبل الضياء أثر النور ، وصفته وظاهره ، فكيف توصف الشمس بالضياء ، والقمر بالنور ، مع أن نوره صفة نورها ومظهره وحكايته؟

قلت : لعلّه إشارة إلى أن الشمس تمدّ القمر بالنور ، ومن باطن باطن ظاهرها ومن جميع مراتب وجودها ، فهو حليفها ، وتميد منها في جميع مراتبه حتّى جرمه الظاهر من جرمها الظاهر ، وكذلك الوصيّ بالنسبة إلى الرسول صلى اللّه عليه وآله : ، فرسالة الرسول ظاهر نبوّته ، ونبوّته ظاهر ولايته التي هي ولاية اللّه العظمى ، ومظهرها وحامل لوائها في كلّ مقام الذي هو لواء الحمد هو الوصيّ عليه السلام : حتّى في الدنيا ، فنور الرسالة من نور الولاية وأثره وشعاعه ، فالنور للولاية والضوء للرسالة ، ونور الوصيّ عليه السلام : هو نور ولاية الرسول صلى اللّه عليه وآله : ، فلذا كان نفسَه ورأسَه.

ص: 148


1- الأنعام : 58.
2- البقرة : 17.
3- يونس : 5.
4- الكافي 8 : 311 / 574.
5- انظر غرائب القرآن ورغائب الفرقان 3 : 560.

ولما كانت الأبصار لا تدرك من النور إلّا ضياءَه وظاهره ، وكذلك البصائر لا تدرك نور ولاية الرسول ، وإنّما تدرك ضوءها وظاهرها وهو ضياء الرسالة. فحقيقة النور على الأبصار عمى ؛ ولذا أقرّ أكثرهم بالرسالة ، وأنكر ولاية الوليّ ، فآمنوا بالظاهر وأنكروا الباطن الظاهر بالظاهر ، وذلك لا يغنيهم شيئاً.

وفي هذا الخبر بعد المنقول بلا فصل : « وقوله ( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ ) (1) وقوله عزوجل ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ ) (2). يعني : قبض محمَّد صلى اللّه عليه وآله : ، فظهرت الظلمة فلم يبصروا (3) ، أي عميت بصائرهم بدولتهم عن درك الولاية ، وغيره إشارة إلى ذلك. وإنّما عميت بصائرهم عن درك الولاية لأنّ نور البصائر (4) مكتسب من نور العقل بمقتضى المقابلة وبقدرها. وهم أُمروا باستقباله والاقتباس من نوره ، فاستكبروا واستدبروه ، فاستقبلوا ظلمة الجهل ، فمالهم من نور. فظهر نسبة النور إلى قمر الولاية والضوء لشمسها ، وإن الكلّ نور شمس الوجود وضياؤها ، هذا لباطنها وهذا صفة ظاهرها.

بقي الكلام في نسبة الضياء إلى شمس الآفاق ، والنور لقمرها ، مع أن نوره من نورها ، كما هو مبرهن عند الحكماء ، فقال النيشابوري : ( الضياء أقوى من النور ) (5).

وقال القاضي : ( النور أعمّ من الضياء يعني : أن النور يعمّ ما هو أضعف من الضياء وقيل : ما بالذات ضوء ، وما بالعرض نور ) (6).

وفي ( مجمع البحرين ) : ( الضياء ما كان من ذات الشي ء ، والنور ما كان مكتسباً ) (7).

وفي موضع آخر : ( الضياء أقوى من النور ) (8).

ص: 149


1- يس : 37.
2- البقرة : 17.
3- الكافي 8 : 311 / 74 ، بحار الأنوار : 24 : 371.
4- في المخطوط بعده : ( من ).
5- تفسير غرائب القرآن 3 : 560.
6- تفسير البيضاوي 1 : 428.
7- مجمع البحرين 1 : 272 ضوء.
8- مجمع البحرين 3 : 504 نور.

ومن أهل اللغة من يفسّر النور بالضوء (1).

وعندي في كلّ هذا تأمّل ، فإنّ من أسمائه تعالى النور ، وهو نور السماوات والأرض ولم يرد إطلاق لفظ الضوء عليه تعالى وتقدّس. ولعلّ الوجه في جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً أن الشمس لا تدرك الأبصار نورها ، بل ضياءه وشعاعه وأثره ، والقمر يدرك نوره ، ونور الشمس بسببه ، فأُطلق على القمر النور ؛ لأنّ نوره مدرك بذاته وهو نور الشمس ؛ فبتوسّطه يدرك نورها ، وعلى الشمس الضياء لمّا لم يُدرك من نورها إلّا ضياؤه.

فباعتبار الإدراك كان الإطلاق ، لكنّه ربّ ضياء نور أنور بما شاء اللّه من ذات نور. وكذا لمّا لم يدرك نور الرسالة وإنّما يدرك ضوؤه بالذات ، وإنّما يدرك نور ولاية الرسول صلى اللّه عليه وآله : بواسطة الخليقة ، أُطلق القمر عليه والشمس على الرسول صلى اللّه عليه وآله : ، واللّه العالم.

ص: 150


1- المصباح المنير : 629 نور.

[53] شعب صدع وبيان ردع ضرب المثل بالبعوضة والذباب وقول : ما شاء اللّه وشاء محمّد صلى اللّه عليه وآله

( البحار ) من ( تفسير الإمام العسكري عليه السلام ) (1) في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها ) إلى قوله ( أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) (2) قال الباقر عليه السلام : « فلمّا قال اللّه تعالى : ( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) (3) وذكر الذباب في قوله ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ) (4) الآية ولمّا قال ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ ) (5) الآية وضرب المثل في هذه السورة [ بالذي (6) استوقد ناراً وبالصيّب من السماء ، قالت النواصب والكفّار : وما هذا من الأمثال فتضرب! يريدون به الطعن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : فقال اللّه : يا محمّد ( إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي ) لا يترك حياء ( أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ) ، للحقّ يوضّحه به عند عباده المؤمنين ( ما بَعُوضَةً ) ما هو بعوضة المثل ( فَما فَوْقَها ) فما فوق البعوضة وهو الذباب يضرب به المثل إذا علم أنّ فيه صلاح عباده ونفعهم » الحديث.

ص: 151


1- التفسير المنسوب للإمام العسكري 7 : 204 - 205.
2- البقرة : 26 - 27.
3- الحجّ : 73.
4- الحجّ : 73.
5- العنكبوت : 41.
6- من المصدر ، وفي المخطوط : ( كالذي ).

إلى أن قال عليه السلام : « فقيل للباقر عليه السلام : فإنّ بعض من ينتحل موالاتكم يزعم أنّ البعوضة عليّ : ، وأنّ ما فوقها وهو الذباب محمّد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ، فقال الباقر : عليه سلام اللّه - : سمع هؤلاء شيئاً لم يضعوه على وجهه ، إنّما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : قاعداً ذات يوم وعليّ : ، إذ سمع قائلاً يقول : ما شاء اللّه وشاء محمّد : ، وسمع آخر يقول : ما شاء اللّه وشاء علي : ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : لا تقرنوا محمّداً : ولا علياً : باللّه عزوجل ، قولوا : ما شاء اللّه ثمّ شاء محمّد : ما شاء اللّه ثمّ شاء علي : ، إن مشيئة اللّه هي القاهرة التي لا تساوى ولا تكافأ ولا تدانى ، وما محمّد رسول اللّه : في اللّه وقدرته إلّا كذبابة تطير في هذه الممالك الواسعة ، وما علي : في اللّه وفي قدرته إلّا كبعوضة في جملة هذه الممالك ، مع أن فضل اللّه تعالى على محمّد : وعليّ : هو الفضل الذي لا يفي به فضله على جميع خلقه من أوّل الدهر إلى آخره. هذا ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : في ذكر الذباب والبعوضة في هذا المكان ، فلا يدخل في قوله ( إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً ) (1) » الآية.

ومن ( تفسير علي بن إبراهيم ) (2) بسنده عن أبي عبد اللّه : عليه سلام اللّه - : « إن هذا المثل ضربه اللّه لأمير المؤمنين : سلام اللّه عليه البعوضة : أمير المؤمنين : ، وما فوقها : رسول صلى اللّه عليه وآله : ، والدليل على ذلك قوله ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) يعني : أمير المؤمنين : سلام اللّه عليه كما أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : الميثاق عليهم ( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) ، فردّ اللّه عليهم فقال ( وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا ) الْفاسِقِينَ ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) ، يعني : من صلة أمير المؤمنين عليه السلام : والأئمّة صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين - ( وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) (3) » (4) الآية.

وجمع مستخرج درر ( البحار ) بين الخبرين : ( بأنه عليه سلام اللّه إنّما نفى كون هذا هو المراد من ظهر الآية لا بطنها ، ويكون في بطنها إشارة إلى ما ذكره عليه

ص: 152


1- البقرة : 26.
2- تفسير القمي 1 : 64.
3- البقرة : 26 - 27.
4- بحار الأنوار 24 : 388 - 392 / 112.

سلام اللّه من سبب هذا القول ) (1).

وحاصله أن الأوّل بحسب الظاهر ، والثاني بحسب الباطن ، وهو حسن ، ولعلّ الوجه في تخصيص البعوضة بمثل عليّ عليه السلام : والذبابة بمثل الرسول صلى اللّه عليه وآله : أن الرسالة من ظاهر الوجود ، فلها حكم الظاهر ، والذباب لا يظهر إلّا في النهار ، والولاية غيب غيب الرسالة ، والبعوض لا يظهر إلّا في الليل.

فالرسالة في ظاهر الوجود نهار ، والولاية ليلها ، ومنه يلوح وجه في إنزال القرآن على قلب محمَّد صلى اللّه عليه وآله : جملة وفي ليلة القدر ليلاً لا نهاراً ، فإنّ القدر من السرّ.

وأيضاً البعوض يشتقّ منه البعض ، وعليّ عليه السلام : كالرأس من جسد الرسول صلى اللّه عليه وآله : وهو نفسه ، فناسبه لفظ البعوض ؛ لأنه بعضه.

وأيضاً البعوض أغذاؤه من صفو الباطن وخلاصة الأغذية وهو الدم الذي هو مركّب الروح ، والولاية لا يصعد إليها إلّا ما خلص لله وصفا سرّه. والذباب أمّا من الذبّ والحماية والدفع ، يقال : رجل ذبّاب كشدّاد - : دفّاع عن الحريم (2). أو يراد به النحل ، فإنّه يُسمّى ذباباً أيضاً. أو من ذباب السيف وهو حدّه. أو من ذباب العين : إنسانها. أو من رجل أذبّ : طويل. أو من حماية الجوار والأهل عن الأذى. أو من الذبذبة اللسان. أو من الذبابة كثمامة - : البقية من الدين (3). والرسالة تناسبها هذه الاشتقاقات ، فالرسول صلى اللّه عليه وآله : ذابّ ومحامٍ ودفّاع عن الشريعة ، وهو النحل المنتحل لما فيه شفاء للناس ، وحدّ لسيف اللّه القاطع للشرك ، وإنسان عين الرحمة ، وذو الطول على جميع الخلق ، وهو لسان اللّه تعالى المعبّر عنه بالصدق في كلّ مقام ، وهو بقيّة اللّه. فظهر وجه مناسبة المثلين.

ثمّ الوجه في إنكاره صلى اللّه عليه وآله على من قال : ( ما شاء اللّه وشاء محمّد : ، وما شاء اللّه وشاء عليّ ) أن المتكلّم بذلك يعتقد أن لمحمّد صلى اللّه عليه وآله : علي عليه السلام : مشيئةً مستقلّة تقارن

ص: 153


1- بحار الأنوار 24 : 393.
2- لسان العرب 5 : 19 ذبب.
3- القاموس المحيط 1 : 202 ذبّ.

مشيئة اللّه ، ليست هي مشيئة اللّه ولا منها ولا بها بل مثلها. وهذا يستلزم مفاسد كثيرة لا تخفى على الفطن ، فهداه صلى اللّه عليه وآله إلى أن مشيئة اللّه تعالى هي القاهرة ، وأن مشيئة محمَّد صلى اللّه عليه وآله : وعليّ عليه السلام : تابعة لمشيئة اللّه ، وأنّها من اللّه ، فإذا شاء اللّه شاء محمّد : وعليّ : ، وإلى أن مشيئة اللّه ليس لها مثل في المخلوقات فلا تساويها مشيئة مخلوق ولا تشبهها ، فأبان له بهذا وحدانيّة اللّه تعالى وتنزيهه عن كلّ نقص في كلّ مقام بما يفهم من لغة عقله ومعانيها ، فهو يكلّم الناس على قدر عقولهم ، واللّه العالم.

ص: 154

[54] حكمة إسرائيليّة مصطفويّة إسرائيل أحمد وبنو إسرائيل آل محمَّد صلى اللّه عليه وآله

( البحار ) من ( العياشي ) (1) عن هارون بن محمّد الحلبيّ : سألت أبا عبد اللّه : عليه سلام اللّه عن قوله تعالى : ( يا بَنِي إِسْرائِيلَ ) (2) ، قال : « هم نحن خاصّة » (3).

ومنه (4) عن محمّد بن عليّ : سألت أبا عبد اللّه : عليه سلام اللّه عن قوله ( يا بَنِي إِسْرائِيلَ ) قال : « هي خاصّة لآل محمَّد صلى اللّه عليه وآله » (5).

ومنه (6) عن أبي داود : عمن سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : يقول : « أنا عبد اللّه اسمي أحمد : ، وأنا عبد اللّه اسمي إسرائيل ، فما أمره اللّه فقد أمرني ، وما نهاه فقد نهاني » (7).

قلت : إسرائيل بمعنى : عبد اللّه ، وأيّ عبد أعبد من أحمد صلى اللّه عليه وآله : ، فهو أحقّ بمصدوق هذا الاسم الذي هو أصدق الأسماء ؛ لأنّ عبوديّة جميع الرسل من فاضل عبوديّته وشعاعها ، واللّه العالم.

ص: 155


1- تفسير العيّاشيّ 1 : 62 / 43.
2- البقرة : 47 ، وغيرها.
3- بحار الأنوار 24 : 397 / 117.
4- تفسير العيّاشيّ 1 : 62 - 64 / 45 ، وفيه : « وما عناه فقد عناني » ، بدل : « وما نهاه فقد نهاني ».
5- بحار الأنوار 24 : 397 / 118 ، وفيه : « وما عناه فقد عناني » بدل : « وما نهاه فقد نهاني ».
6- تفسير العيّاشيّ 1 : 62 - 63 / 45.
7- بحار الأنوار 24 : 397 / 119.

ص: 156

[55] فائدة هنيّة : الحيطان لها آذان

( البحار ) من ( تفسير فرات بن إبراهيم ) (1) بسنده عن أبي عبد اللّه : عليه سلام اللّه أنه قال في حديث طويل : « إنّ الحيطان لها آذان كآذان الناس » (2).

قلت : لعلّه أراد أنها تسمع من خطابنا وتعيه بما جعل اللّه فيها من القوّة المدركة لذلك بحسب رتبة حياتها ووجودها وإحساسها وإن لم يكن كإحساس الناس ، فكلّ شي ء من الخلق له تكليف يخصّه ، فهو يحسّ ويسمع أوامر اللّه ونواهيه له بقدر رتبته. وهم الواسطة لجميع الخلق (3). وليس في الوجود موات بحت لا يعرف بارئه ولا يعبده ، فتذكّر ، واللّه العالم.

ص: 157


1- تفسير فرات الكوفي : 552 / 707.
2- بحار الأنوار 25 : 2 / 4.
3- كذا في المخطوط.

ص: 158

[56] بيان نعمة فيها دفع نقمة : لا يولد في الليلة التي يولد فيها الإمام إلّا مؤمن

( البحار ) من أمالي الطوسيّ بسنده عن أبي بصير : قال : سمعت أبا عبد اللّه : سلام اللّه عليه يقول : « إنّ في الليلة التي يولد فيها الإمام لا يولد فيها مولود إلّا كان مؤمناً ، وإن ولد في أرض الشرك نقله اللّه إلى الإيمان ببركة الإمام » (1).

قلت : هذه هي الليلة الجزئية لا النوعية ، فلا يجري هذا في مثلها من العام القابل ، وهي كرامة من اللّه للإمام ، ونعمة امتنّ بها على الأنام. هذا بحسب الظاهر ، وبحسب الباطن هي كلّيّة ، فلا يولد في رتبة فاضل طين أبدانهم وشعاع نورهما من النفوس إلّا نفس مؤمنة ، فنفوس شيعتهم خلقت من فاضل طينة أبدانهم (2). وعلى هذا فقوله : « وإن ولد في أرض الشرك » إلى آخره ، معناه : وإن كان أبواه كافرين ، فإن اللّه يخرج الحيّ من الميّت. فاشكر اللّه على هذه النعمة الكبرى ، ولله الحمد.

ص: 159


1- بحار الأنوار 25 : 36 / 1 ، الأمالي : 412 / 925.
2- انظر : الكافي 1 : 389 / 2 ، الأمالي ( الطوسي ) : 299 / 588 ، بحار الأنوار 65 : 24 / 43.

ص: 160

[57] حكمة كليميّة ونكتة انجيليّة : التوراة والإنجيل هي الولاية

( البحار ) من ( بصائر الدرجات ) بسنده عن أبي جعفر : عليه سلام اللّه في قوله تعالى : ( يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ) (1) ، الآية قال : « هي الولاية » (2).

ومنه (3) أيضاً بسنده عنه عليه سلام اللّه في قول اللّه تبارك وتعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ ) الآية قال : « الولاية » (4).

ومن ( تفسير العياشي ) (5) عن محمّد بن مسلم : مثله.

ومن ( الكافي ) (6) محمّد بن إسماعيل : عن الفضل بن شاذان : عن حمّاد : مثله.

قلت : لما كان روح الكتابين وشرط إقامتهما اعتقاد ما شهدا به من ولاية آل محمَّد صلى اللّه عليه وآله : والإقرار بهما ، كما أخذه موسى عليه السلام : وعيسى عليه السلام : على أُمّتهما من العهد بذلك ، كان معنى إقامتهما هو الولاية خصوصاً بعد بعثه محمَّد صلى اللّه عليه وآله : ونسخ العمل بهما لم يبق من الذي يجب العمل به منهما وإقامته إلّا الولاية ، فالتوراة والإنجيل في

ص: 161


1- المائدة : 68.
2- بحار الأنوار 24 : 386 / 109.
3- بصائر الدرجات : 76 / 2.
4- بحار الأنوار 24 : 387 / 110.
5- تفسير العيّاشي 1 : 359 / 149.
6- الكافي 1 : 413 / 6.

الحقيقة [ هما (1) ] الولاية.

وأيضاً لمّا كانت الولاية عبارة عن العمل بجميع تكاليف الشريعة ، كان إقامتهما والعمل بهما أُصولاً وفروعاً هي الولاية ولاية أهل البيت عليهم السلام وكذلك القرآن ؛ لأنّها الأمانة العظمى ، فظهر أن إقامتهما هي الولاية ، واللّه العالم.

ص: 162


1- في المخطوط : ( هي ).

[58] عقد درر وبيان خبر بيان [ أن ] الروح روح القدس

استفاضت الأخبار (1) بأنّ الروح : ليس من الملائكة ، وأنه أعظم من جبرئيل عليه السلام ومن جميع الملائكة ، وأنه الذي تنزّل به الملائكة ، وأنه هو روح القدس : وفي كثير منها أن جبرئيل روح القدس : ، وفي بعضها أن روح القدس : ملك مع الأئمّة يسدّدهم منذ نزل لم يصعد إلى السماء.

وفي خبر عن أبي جعفر : عليه سلام اللّه أنه قال لمّا سئل عن قوله تعالى : ( تَنَزَّلُ ) الْمَلائِكَةُ ( وَالرُّوحُ ) (2) : « جبرئيل الذي ينزل على الأنبياء ، والروح تكون معهم ومع الأوصياء لا تفارقهم ، تفقّههم وتسدّدهم من عند اللّه ، وأنّه لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : وبهما عُبد اللّه واستعبد اللّه على هذا الجنّ والإنس والملائكة ، ولم يعبد اللّه ملك ولا نبيّ ولا إنسان ولا جانّ إلّا بشهادة أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ، وما خلق اللّه خلقاً إلّا للعبادة » (3).

وفي كثير منها أن للإمام خمسة أرواح ، منها روح القدس : ، وَهُوَ مستفيض (4).

قلت : لا ريب في أن الأخبار دلّت على أن جبرئيل : سلام اللّه عليه يسمّى بروح القدس ، وأن الروح التي هي من أمر اللّه ، وهي الروح المختصّة بالإمام التي

ص: 163


1- بصائر الدرجات : 460 - 461 ، الكافي 1 : 273 ، بحار الأنوار 25 : 47.
2- القدر : 4.
3- بصائر الدرجات : 463 / 1.
4- الكافي 1 : 271 - 272 / 1 - 3.

تسدّده ولا تفارقه ، وأنّها عمود من نور بينه وبين اللّه تسمّى بروح القدس من باب الاشتراك اللفظيّ ، أو من باب التشريك ، وهي أعظم من جبرئيل : وجميع الملائكة ، وهي خلق غير الملائكة ، بها ينزلون وإن كان جبرئيل : أيضاً روح مقدّسة ، فلا منافاة.

ولا ينافي كون روح القدس خلقاً أعظم من الملائكة ؛ لأنه عقل المعصوم أو روحه المختصّ به الذي هو مناط عصمته ونور خياله ، وتسميته ملكاً ، فقد أُطلق على المؤمنين أنهم ملائكة من الملك ؛ لأنّهم يملكون العلم من آل محمَّد صلى اللّه عليه وآله : ، فلعلّ هذا من ذلك الاشتقاق ؛ لأنّهم خزّان علم اللّه ، أو لأنّهم ملوك الدنيا والآخرة ، أو أن معنى الملكيّة متحقّق لهم ؛ لأن كمالات جميع الخلق من فاضل كمالهم.

وأمّا تفسير الروح ب- ( لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ) ؛ فلأنّ [ هذه (1) ] عبارة تجمع توحيد اللّه في كلّ مقام ، الذي هو مبدأ الوجود وأوّل الفيوض ، فهي روحهم المقدّسة في كلّ مقام ، ولكلّ مخلوق من فاضلها قسط بحسب وسعه وقابليّته ورتبته ، وهو وجوده الفائض من فاطره ، فما استعبد اللّه الخلق إلّا بها كلّاً بقدر وسعه منها ، وهو جوده البحت ، وتوحيده الخالص وسائر التكاليف فاضله وصفاته وشؤونه وفروعه ، واللّه العالم.

بقي الكلام في أنه ورد بطرق كثيرة كما في ( البصائر ) وغيره أنه لما سئل أبو عبد اللّه : عليه سلام اللّه عن قوله تعالى : ( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) (2) الآية قال ملك ، منذ أنزل اللّه ذلك الملك لم يصعد إلى السماء ، وكان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : وهو مع الأئمّة يسدّدهم (3).

وبسند آخر عنه سلام اللّه عليه أنه قال لمّا سُئِل عن الآية : « منذ أنزل اللّه ذلك الروح على محمَّد صلى اللّه عليه وآله : لم يصعد إلى السماء ، وإنّه لفينا » (4).

وهذا المضمون مستفيض ، فما معنى لم يصعد إلى السماء؟

ص: 164


1- في المخطوط : ( هذا ).
2- الشورى : 52.
3- بصائر الدرجات : 456.
4- بصائر الدرجات : 457 / 11.

قلت : قد عرفت أن المراد به روحهم المختصّ بهم من أمر اللّه فهو لا يفارقهم ، والأرض لا تخلو من حجّة اللّه ، وأهل البيت عليهم السلام : لا تخلو منهم الأرض منذ انزلوا إليها حتّى لا يبقى لله حاجة في الخلق ، فحينئذٍ يرفعهم كما وردت به عنهم الأخبار (1) ، فيكون معناه أن دار التكليف لا تخلو منهم ما دام التكليف ، واللّه العالم.

ص: 165


1- الكافي 1 : 178 - 179 / 1 - 13 ، و: 179 - 180 / 1 - 5.

ص: 166

[59] احتمال سرّ لكشف ضرّ : حديثهم عليهم السلام صعب مستصعب

قد استفاضت الأخبار عن الأُمناء الأبرار أنّهم قالوا : « إنّ أمرنا صعب مستصعب ، لا يحتمله إلّا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان » (1).

ومن تلك الأخبار ما رواه الشيخ حسن بن سليمان الحلّيّ : في كتاب ( الغيبة ) عن أمير المؤمنين عليه السلام : أنه قال : « واللّه ، لو دخلت على عامّة شيعتي الذين بهم أُقاتل الذين أقرّوا بطاعتي ، وسمّوني أمير المؤمنين : ، واستحلّوا جهاد من خالفني ، فحدثتهم ببعض ما أعلم من الحقّ في الكتاب الذي نزل به جبرئيل عليه السلام : على محمَّد صلى اللّه عليه وآله : لتفرّقوا عنّي ، حتّى أبقى في عصابة من الحقّ قليلة » الحديث.

إلى أن قال سلام اللّه عليه - « إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يعرفه ولا يُقرّ به إلّا ثلاثة : ملك مقرّب ، أو نبيّ مرسل ، أو عبد مؤمن نجيب امتحن اللّه قلبه للإيمان » الخبر.

ومضمونه متواتر في كتب الأُصول (2).

فإن قلت : قد ورد في ( البصائر ) (3) وغيرها (4) عن أهل العصمة : أن حديثهم (5) صعب مستصعب « لا يحتمله ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان » ،

ص: 167


1- بصائر الدرجات : 26 / 1 - 2.
2- بصائر الدرجات : 21 / 2 ، 5 ، 22 / 7.
3- بصائر الدرجات : 23 / 11 باختلاف.
4- بحار الأنوار 2 : 194 باختلاف.
5- في المخطوط بعدها : ( وفي بعضها ).

فما وجه الجمع؟

قلت وباللّه المستعان - : نفي الاحتمال عن الثلاثة لعلّه نفي لاحتمال أمرهم الخاصّ بهم ، فحديثهم الخاص بهم وهو تكليفهم الذي لم يكلّف به أحد سواهم ، والذي احتمله الثلاثة الأصناف هو ما أُمروا بتكليفهم به وتحميلهم إيّاه.

يدلّ على ذلك ما رواه في ( البحار ) من كتاب السيد حسن بن كبش : بإسناده عن أبي بصير : قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « يا أبا محمّد : ، إنّ عندنا سرّاً من اللّه ، وعلماً من علم اللّه لا يحتمله ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان. واللّه ما كلّف اللّه أحداً بحمل ذلك غيرنا ، ولا استعبد بذلك أحداً غيرنا ، وإنّ عندنا سرّاً من سرّ اللّه وعلماً من علم اللّه ، أمرنا اللّه بتبليغه فبلّغنا عن اللّه عزوجل ما أمرنا بتبليغه ، ما نجد له موضعاً ولا أهلاً ولا حملةً يحملونه ، حتّى خلق اللّه لذلك أقواماً خلقوا من طينة خلق منها محمَّد صلى اللّه عليه وآله : وذرّيّته ، ومن نور خلق اللّه منه محمَّداً صلى اللّه عليه وآله : وذرّيّته ، وصبغهم بفضل صبغ رحمته التي صبغ منها محمَّداً صلى اللّه عليه وآله : فبلّغناهم عن اللّه عزوجل ما أُمرنا بتبليغه فقبلوه ، واحتملوا ذلك ، وبلغهم ذلك عنّا فقبلوه واحتملوه ، وبلغهم ذكرنا فمالت قلوبهم إلى معرفتنا وحديثنا ، فلولا أنّهم خلقوا من هذا لما كانوا كذلك ، ولا واللّه ما احتملوه » (1) الخبر.

فقد صرّح الحديث بالفرق بين السرّين والأمرين ، وجمع بين الخبرين.

ووجه آخر هو أن يراد بقولهم : « لا يحتمله ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان حتّى يلقيه إلى غيره » : ما (2) رواه الشيخ حسن بن سليمان : عن ابن بابويه : بسنده إلى بعض أجلّاء المدائن قال : كتبت إلى أبي محمَّد عليه السلام : روي لنا عن آبائك عليهم السلام أن حديثكم صعب مستصعب لا يحتمله ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان.

قال : فجاءه الجواب : « إنّ معناه أنّ الملك لا يحتمله في جوفه حتّى يخرجه إلى ملك آخر

ص: 168


1- بحار الأنوار 25 : 385 - 386 / 44.
2- في المخطوط : كما.

مثله ، ولا يحتمله نبيّ حتّى يخرجه إلى نبيّ مثله ، ولا يحتمله مؤمن حتّى يخرجه إلى مؤمن مثله »(1).

ومن البيّن أن الملك غير المقرّب إنّما يأتيه العلم بواسطة المقرّب ، والنبيّ غير المرسل إنّما يأتيه العلم بواسطة المرسل ، والمؤمن غير الممتحن إنّما يأتيه العلم بواسطة الممتحن.

وهذا معلوم من سير حال الملوك ؛ إذ لا يقدر على رتبة الاجتهاد والنيابة العامّة عن المعصوم إلّا الأفراد بعد الأفراد في عامّة الأصقاع والأزمان ، وهم الوسائط إلى كافّة المقلّدين وسبيلهم إلى الإمام ، وهم القرى الظاهرة التي قدّر اللّه فيها السير لكافّة المقلّدين إلى القرى المباركة ، وهم الوسائط إليهم ذوو القلوب المجتمعة ، وهم المدن الحصينة كما هو معلوم ، ذلك كلّه من أخبار أهل البيت عليهم السلام (2) :

فمعناه أنه لا يطيق حمله حتّى يلقيه لما فيه من صعوبة احتمال الأسرار وسترها عن الأغيار الأشرار ، وبإلقائه يخفّ عليه احتماله ؛ لما في إلقائه من الراحة كما هو محسوس كلّ بقدر رتبته.

أو أنه لا يكمل احتماله له حتّى يلقيه إلى أهله ، كما قالوا : « فصُنْهُ إلّا عن أهله »(3).

وكما أخذ اللّه على الجهّال أن يتعلّموا أخذ على العلماء أن يعلّموا من هو أهل (4). وبتعليمهم يكمل احتمالهم ، وإلّا فلو كتموه عن أهله لم يكونوا محتملين.

فالفرق بين الوجهين أن الأوّل أذن لهم في الإلقاء تخفيفاً ، والثاني أمر بالإلقاء تكليفاً. وكلاهما رحمة بالملقى إليه ولطف ، وتسهيل عليه ونعمة.

فإن قلت : بقي إشكال ، وهو أن ظاهر قولهم عليهم السلام : « لا يحتمله إلّا ملك مقرب ، أو نبيّ مرسل ، أو مؤمن ممتحن » يدلّ على فضل المؤمن على النبيّ غير المرسل.

قلت : الجواب من وجوه :

ص: 169


1- مختصر بصائر الدرجات : 127.
2- انظر مختصر بصائر الدرجات : 127 - 128.
3- الكافي 2 : 222 - 223 / 5 ، وفيه : « إنه ليس من احتمال أمرنا التصديق له والقبول فقط من احتمال أمرنا ستره وصيانته من غير أهله ».
4- انظر الكافي 1 : 41 / 1.

الأول : أنه لا شكّ في أن الأنبياء غير المرسلين هم سادات المؤمنين الممتحنين فيعمّهم العنوان ، ويشملهم البيان.

الثاني : أن يراد بالاحتمال المنفيّ عن غير المقرّب والمرسل والممتحن هو الاحتمال الكامل الصادر عن اليقين ، لكن بالنسبة إلى رتبة النبوّة حيث سرّ الرسالة وكمالها ، وبالنسبة إلى رتبة الملكيّة حيث سرّ التقريب وكماله ، وبالنسبة إلى رتبة الإيمان دون رتبة العصمة حيث سرّ الامتحان وكماله. ولا ينافي هذا كون النبيّ غير المرسل يعلم ويحتمل من أمرهم ما لا يحتمله ويعرفه غير المعصوم من المؤمنين الممتحنين. فما يحتمله المؤمن الممتحن إنّما هو بالنسبة إلى غير الممتحن من عامّة المؤمنين ، وكذلك في رتبة الصنفين الأخيرين.

فلا منافاة بين الروايات ، فإنّ نفي الاحتمال عن غير المرسل إنّما هو بنسبة مرتبة النبوّة والرسالة ، لا بالنسبة إلى الإيمان ودرجاته ، ونفيُه عن غير المقرّب إنّما هو بنسبة رتبة الملكيّة خاصّة. والحاصل أن من حديثهم وسيرهم ما لم يخرج إلّا إلى الأنبياء ، فمنه ما لا يحتمله إلّا المرسل منهم ، ومن حديثهم ما اختصّ برتبة الملك ، فمنه ما لا يحتمله منهم إلّا المقرّب ، ومن حديثهم ما خرج للمؤمنين ، فمنه ما لا يحتمله منهم إلّا الممتحن.

الثالث وهو أبعدها عن الظاهر - : أنه يحتمل اختصاص الثلاثة الأصناف بهم ، وإرادتهم منها ، ويراد بأمرهم وحديثهم وسرّهم ما اختُصّوا به من العلم الذي لم يكلّف به أحد غيرهم ، ويكون اشتقاق الملَك من الملِك فإنّهم ملاك الدنيا والآخرة وملوكهما.

وأيضاً فمعنى الملكيّة حاصل لهم ، فقد ورد تسمية روح القدس : المختصّ بهم ملكاً ، كما مرّ (1) ، وكمال الملكيّة صادر منهم ، فهم معلّمو الملائكة ، فلا بعد في إطلاق الملك عليهم ، وهم المقرّبون ، واشتقاق النبيّ من الإخبار ؛ فهم المبلّغون عن اللّه كلّ

ص: 170


1- انظر العنوان السابق.

ذرّة من ذرّات الوجود ما سألته بلسان قابليّتها من معرفتهم ومعرفة بارئهم.

وقد ورد عنهم عليهم السلام أيضاً أن كلّ إمام رسول إلى قرنه (1). وهم المحدّثون وصدق الإيمان الكامل عليهم ، وامتحان قلوبهم للتقوى الذي لا أكمل منه واضح جدّاً ، فيكون المعنى : أن معرفة حقائقهم وما خصّهم به اللّه على الحقيقة مختصّ بهم. فلا تنافي بين الأخبار أيضاً على هذا ، وبه يجتمع النفي والإيجاب أيضاً عن الثلاثة ولهم ، فتنطبق الأخبار وينكشف الغبار ، واللّه العالم.

ص: 171


1- بصائر الدرجات : 30 / 6 ، وفيه : « كلّ إمام هادٍ للقرن الذي هو فيهم ».

ص: 172

[60] تكميل جمع : الروح القدس عامّة وخاصّة

( البحار ) من ( منتخب البصائر ) (1) و ( بصائر الدرجات ) (2) بسنديهما عن هشام ابن سالم : قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام : يقول ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (3) قال : « خلق أعظم من خلق جبرئيل : وميكائيل : ، لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمَّد صلى اللّه عليه وآله : وهو مع الأئمّة يوفّقهم ويسدّدهم وليس كلّما طلب وجد » (4).

ومن ( بصائر الدرجات ) بسند آخر مثله (5).

ومن ( بصائر الدرجات ) بسنده عن الخزّاز : قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام : يقول ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) الآية قال : « ملك أعظم من جبرئيل : وميكائيل : لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمَّد صلى اللّه عليه وآله : وهو مع الأئمّة وليس كلّما طلب وجد » (6).

ومنه بسندٍ آخر مثله (7).

ومن ( بصائر الدرجات ) بسنده عن أبي عبد اللّه عليه سلام اللّه - : في الآية قال : « إنّ اللّه تبارك وتعالى أحد صمد. والصمد : الشي ء الذي ليس له جوف ، وإنّما الروح خلق من خلقه ، له بصر وقوّة وتأييد ، يجعله اللّه في قلوب الرسل والمؤمنين » (8).

ص: 173


1- مختصر بصائر الدرجات : 3.
2- بصائر الدرجات : 460 - 461 / 1.
3- الإسراء : 85.
4- بحار الأنوار 25 : 67 / 47.
5- بصائر الدرجات : 461 / 3.
6- بصائر الدرجات : 461 / 2.
7- بصائر الدرجات : 461 / 4.
8- بصائر الدرجات : 463 / 12 ، بحار الأنوار 25 : 70 / 57.

وفي ( الصافي ) عن أحدهما عليهما سلام اللّه في هذه الآية : سئل ما الروح؟ قال : « التي في الدوابّ والناس ». قيل : وما هي؟ قال : « هي ملكوت من القدرة » (1).

وفيه : روي عن كميل رضى اللّه عنه : أنه قال : سألتُ مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : فقلت : أُريد أن تعرّفني نفسي. قال : « يا كميل : وأيّ الأنفس تريد أن أُعرّفك؟ ». قلت : يا مولاي هل هي إلّا نفس واحدة؟ فقال : « يا كميل ، إنّما هي أربعة : النامية النباتيّة ، والحسّيّة الحيوانيّة ، والناطقة القدسيّة ، والكلّيّة الإلهيّة ، ولكلّ واحدة من هذه خمس قوى ، وخاصّتان.

فالنامية النباتيّة لها خمس قوى : ماسكة ، وجاذبة ، وهاضمة ، ودافعة ، ومربّية. ولها خاصّتان : الزيادة والنقصان ، وانبعاثها من الكبد.

والحسّيّة الحيوانيّة لها خمس قوى : سمع ، وبصر ، وشمّ ، وذوق ، ولمس. ولها خاصّتان : الرضا والغضب ، وانبعاثها من القلب.

والناطقة القدسيّة لها خمس قوى : فكر ، وذكر ، وعلم ، وحلم ، ونباهة ، وليس لها انبعاث ، وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكيّة ، ولها خاصّتان : النزاهة ، والحكمة.

والكلّيّة الإلهيّة لها خمس قوى : بقاء في فناء ، ونعيم في شقاء ، وعزّ في ذلّ ، وفقر في غناء ، وصبر في بلاء. ولها خاصّتان : الرضا ، والتسليم. وهذه هي التي مبدؤها من اللّه وإليه تعود قال اللّه تعالى : ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (2) ، وقال تعالى : ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) (3) ، والعقل وسط الكلّ (4).

وفي ( البحار ) من ( تفسير القمّيّ ) (5) بسنده عن أبي عبد اللّه عليه سلام اللّه - : أنه قال : « يا جابر : إنّ اللّه خلق الناس ثلاثة أصناف ، وهو قول اللّه تعالى : ( كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ) (6) الآية فالسابقون هو رسول اللّه وخاصّة اللّه من خلقه ، جعل فيهم خمسة أرواح ، أيّدهم بروح القدس ، فبه بعثوا أنبياء وأيّدهم بروح الإيمان ، فبه خافوا اللّه وأيّدهم بروح القوّة ، فبه

ص: 174


1- التفسير الصافي 3 : 214.
2- الحجر : 29.
3- الفجر : 27 - 28.
4- التفسير الصافي 3 : 111 - 112.
5- بصائر الدرجات : 446 / 1.
6- الواقعة : 7.

قووا على طاعة اللّه وأيّدهم بروح الشهوة ، فبه اشتهوا طاعة اللّه وكرهوا معصيته ، وجعل فيهم روح المدرج الذي يذهب به الناس ويجيئون ، وجعل في المؤمنين أصحاب الميمنة روح الإيمان ، فبه خافوا اللّه ، وجعل فيهم روح القوّة ، فبه قووا على طاعته من اللّه ، وجعل فيهم روح الشهوة ، فبه اشتهوا طاعة اللّه ، وجعل فيهم روح المدرج الذي يذهب الناس به ويجيئون » (1).

وفي خبر منه عن أبي عبد اللّه عليه سلام اللّه - : بعد أن عدّ أرواح الأنبياء والأوصياء وأرواح المؤمنين قال : « وفي الكفّار ثلاثة أرواح : روح البدن ، وروح القوّة ، وروح الشهوة » (2) الخبر.

ومنه بسنده عن جابر : قال : سألت أبا جعفر عليهما السلام : عن علم العالم ، فقال : « يا جابر : إنّ في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح : روح القدس : وروح الإيمان ، وروح الحياة ، وروح القوّة ، وروح الشهوة. فبروح القدس عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى. يا جابر : إنّ هذه الأرواح يصيبها الحدثان إلّا روح القدس ، فإنّها لا تلهو ولا تلعب » (3).

ومن ( البصائر ) بسنده عن المفضل : قال : سألتُ أبا عبد اللّه عليه سلام اللّه - : عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته مرخًى عليه ستره ، فقال : « يا مفضّل : إنّ اللّه تبارك وتعالى جعل للنبيّ صلى اللّه عليه وآله : خمسة أرواح : روح الحياة فبه دبّ ودرج ، وروح القوّة فبه نهض وجاهد ، وروح الشهوة فبه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال ، وروح الإيمان فبه أمر وعدل ، وروح القدس فبه حمل النبوّة ، فإذا قبض النبيّ صلى اللّه عليه وآله : انتقل روح القدس فصار في الإمام عليه السلام ، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يسهو ، والأربعة الأرواح تنام وتلهو وتغفل وتسهو ، وروح القدس ثابت يَرى به ما في شرق الأرض وغربها وبرّها وبحرها » (4) الخبر.

ومنه بسند آخر عنه عليه سلام اللّه مثله (5).

ص: 175


1- بحار الأنوار 25 : 52 - 53 / 13.
2- بصائر الدرجات : 447 / 3 ، بحار الأنوار 25 : 54 / 12.
3- بصائر الدرجات : 447 / 4 ، بحار الأنوار 25 : 55 / 15.
4- بصائر الدرجات : 454 / 13 ، بحار الأنوار 25 : 57 - 58 / 25.
5- بصائر الدرجات : 447 / 3 ، بحار الأنوار 25 : 54 / 14.

ومنه بسنده عن جابر : عن أبي جعفر عليه سلام اللّه - : أنه قال : « إنّ اللّه خلق الأنبياء والأئمّة على خمسة أرواح : روح الإيمان ، وروح الحياة ، وروح القوة ، وروح الشهوة ، وروح القدس : فروح القدس : من اللّه وسائر هذه الأرواح يصيبها الحدثان ، فروح القدس : لا يلهو ولا يتغيّر ولا يلعب ، وبروح القدس : علموا ما دون العرش إلى ما تحت الثرى » (1).

قلت : قد تبيّن من هذه المضامين وهي مستفيضة أن روح القدس : تطلق على جبرئيل عليه السلام (2) : ؛ لأنه من صقع القدس.

وعلى النفس المطمئنّة بالإيمان التي هي عقل بالفعل أو مستفاد ، وهي التي مددها من نور العقل الفعّال ، والقلم الأعلى يمدّها من نور ما كتب في اللوح المحفوظ بقسطها ممّا كتب فيه. وهذه هي وجود المؤمن الفائض عليه من اللّه سبحانه وتعالى ، وهي نور اللّه الذي ينظر به المؤمن المتفرّس (3) ، وهي النفس التي من عرفها عرف ربّه (4) ، وهي الكلّيّة الإلهيّة ، فهي لاهوتيّة مطمئنّة راجعة إلى ربّها ، ومدبّرها ، راضية مسلّمة لما أدركته من اليقين.

وعلى القدسيّة المقدّسة المنزّهة عن جميع النقائص البشرية ، وهي رتبة الحكمة الإلهيّة والعصمة الذاتيّة الفائضة من لدن حكيم عليم ، أيّد بها الأنبياء والخلفاء أجمعين.

وعلى الأمريّة الحقيقيّة التي هي روح جميع الأرواح وأصلها وعلّتها وسبيلها ووسيلتها إلى اللّه سبحانه وتعالى عمّا يصفون. فجميع الأرواح قبس منها ولمعة من لمعاتها وشعاع من نورها ، وهي المختصّة بمحمّد : وخلفائه صلّى اللّه عليه وعليهم أجمعين وسلم ف- « ليس كلّ ما طُلب وجد » (5) ؛ لاختصاصه بهم ؛ فإنه كمال حروف

ص: 176


1- بصائر الدرجات : 454 / 12 ، بحار الأنوار 25 : 58 / 26.
2- كنز الدقائق 1 : 294.
3- انظر : الكافي 1 : 218 / 3.
4- مصباح الشريعة : 13.
5- انظر : بصائر الدرجات : 460 - 461 / 1 ، مختصر بصائر الدرجات : 3 ، بحار الأنوار 25 : 67 / 47.

الاسم الأعظم الذي آثرهم اللّه به ، فلا يعلمه غيرهم ، وهو نور ( إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (1) ، وهو الولاية العظمى فليس لمن سألهم عنه جواب إلّا إنه من أمر اللّه (2). « وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يسهو ولا يلهو » ؛ لأنه نور اللّه المنزّه عن شوائب النقص ، وتلك الأشياء ظلمة ونقص. وبهذا يعلم فساد القول بجواز السهو على المعصوم (3).

ويطلق الروح أيضاً على الروح النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة ، والكلّ يمتدّ من الأمريّة وإن كان منها ملكوتيّة وجبروتيّة وقدسيّة ولاهوتيّة ، وهي الكلّيّة الإلهيّة ، كلّ بحسب قابليّته وكمال رتبته. والأمر كلّه لله الواحد القهار قد [ استأثر (4) ] به ، فلا شريك له ولا يشبهه شي ء ، وهو السميع البصير ، وهو على كلّ شي ء قدير.

فاجتمعت الأخبار ، وإنّما يكلّمُ الأبرار كلّ سائل بلسان عقله ولغة فهمه ، والكلام على تفصيل ألفاظ الأخبار ممّا يطول ، واللّه العالم.

ص: 177


1- القدر : 1.
2- إشارة إلى قوله تعالى : ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) . الإسراء : 85.
3- انظر الفقيه 1 : 234 / ذيل الحديث : 1031.
4- في المخطوط : ( أستار ).

ص: 178

[61] فائدة فاطميّة : مصحف فاطمة عليها السلام

( البحار ) من ( بصائر الدرجات ) (1) بسنده عن أبي [ عبيدة (2) ] قال : سأل بعض أصحابنا أبا عبد اللّه عليه سلام اللّه - : عن الجفر ، فقال : « هو [ جلد (3) ] نور مملوء علماً ». فقال له : ما الجامعة؟ فقال : « تلك صحيفة طولها سبعون ذراعاً في عرض الأديم مثل فخذ الفالج ، فيها كلّ ما يحتاج الناس إليه ، وليس من قضيّة إلّا وفيها ، حتّى أرش الخدش ». قال له : فمصحف فاطمة ، سلام اللّه عليها؟ فسكت طويلاً ، ثمّ قال : « إنّكم لتبحثون عمّا تريدون وعمّا لا تريدون ، إنّ فاطمة : مكثت بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : خمسة وسبعين يوماً ، وقد كان دخلها حزن شديد على أبيها صلى اللّه عليه وآله ، وكان جبرئيل عليه السلام : يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ، ويطيّب نفسها ، ويخبرها عن أبيها ومكانِه ، ويخبرها بما يكون بعدها في ذرّيّتها ، وكان عليّ سلام اللّه عليه - : يكتب ذلك ، فهذا مصحف فاطمة » (4).

ومنه بسنده عن محمّد بن مسلم : قال : قال أبو عبد اللّه عليه سلام اللّه - : لأقوام كانوا يسألونه عمّا خلّف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ودفعه إلى عليّ عليه السلام : وعمّا خلّف علي عليه السلام : ودفعه إلى الحسن عليه السلام : « ولقد خلّف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : عندنا جلداً ما هو جلد حمار ، ولا جلد ثور ، ولا جلد بقرة ، إلّا إهاب شاة فيها كلّ ما يُحتاج إليه حتّى أرش الخدش والظفر ، وخلّفت فاطمة سلام اللّه عليها - : مصحفاً ما هو قرآن ، ولكنّه كلام من كلام اللّه أنزله عليها ، إملاء رسول

ص: 179


1- بصائر الدرجات : 153 - 154 / 6.
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( عبدة ).
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( جلل ).
4- بحار الأنوار 26 : 41 / 72.

اللّه صلى اللّه عليه وآله وخطّ عليّ ، عليه سلام اللّه » (1).

قلت : قال المجلسي : ( المراد برسول اللّه : في هذا الحديث : جبرئيل عليه السلام ) (2).

وهذا جمع بين الخبرين ، ولا بأس به. ويحتمل أن يكون أباها صلى اللّه عليه وآله في حياته أو بعد وفاته ، فإنّ الموت لا يحجب أحدَهم عن الآخر ، ولا عن الرعيّة. نعم ، موتهم يحجبنا عنهم ولا يحجبهم عنا (3) ، فيمكن أن يكون هذا هو المذكور في خبر أبي عبيدة : وأن جبرئيل عليه السلام : [ أملاه (4) ] ثانياً بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : وأن يكون غيره ، واللّه العالم.

ص: 180


1- بحار الأنوار 26 : 41 - 42 / 73 ، بصائر الدرجات : 156 / 14.
2- بحار الأنوار 26 : 42.
3- يريد قدس سره أن موتهم لا يعني انقطاع عموم إفاضاتهم على شيعتهم ، بل هم وسائط بين اللّه وشيعتهم في قضاء حوائجهم ، وتسديدهم سيّما نوابهم منهم.
4- في المخطوط : ( ملأه ).

[62] نعمة جزيلة ومنّة جميلة ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ )

[62] نعمة جزيلة ومنّة جميلة ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) (1)

( البحار ) من ( العيّاشيّ ) (2) عن عمر بن [ يزيد (3) : ] قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : عن قول اللّه تعالى : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) (4) ، فقال : « كذبوا ما هكذا هي ، إذا كان ينسخها ويأتي بمثلها لِمَ ينسخها؟ » قلت : هكذا [ قال اللّه (5) ] قال : « ليس هكذا قال اللّه تعالى ». قلت فكيف؟ قال : « ليس فيها ألف ولا واو قال : مَا ننسخ من آية أو ننسها نأت بخيرٍ منها مثلها ، يقول : ما نمت من إمام أو ننسِ ذكره نأتِ بخير منه من صلبه مثله » (6).

قال في ( البحار ) : ( لعلّ المراد : أنه خير بحسب المصلحة لا بحسب الفضائل ) (7) ، انتهى.

قلت : هذا تمحّل بعيد ضعيف ، مع أنه يستلزم أن يكون لآخرهم من الفضل ما ليس لأوّلهم ، وقد جاءت الأخبار (8) عنهم أنه لا يكون لآخرهم من الفضل ما ليس لأوّلهم. والظاهر أن ( من ) متعلّقة ب- ( نأت ) ، ويحتمل أن تكون بيانيّة ، فلا إشكال ولا تكلّف ، واللّه العالم.

ص: 181


1- مرّت بمعناها وأكثر ألفاظها في العنوان : 44.
2- تفسير العياشي 1 : 74 / 78.
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( بريد ).
4- البقرة : 106.
5- من المصدر.
6- بحار الأنوار 23 : 208 / 10.
7- بحار الأنوار 23 : 208.
8- بحار الأنوار 25 : 352 - 363.

ص: 182

[63] جوهرة ثمينة وحجّة أمينة : لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن

في ( الفقيه ) عن أبي عبد اللّه عليه سلام اللّه - : أنه قال : « ليلة القدر لو رفعت لرفع القرآن » (1).

قال محمّد تقي : إن ليلة القدر لا ترفع حتّى يُستشهد الحجّة عليه السلام : فإذا استشهد رفع القرآن ورفعت ليلة القدر ؛ لأنّ في ليلة القدر تنزل الملائكة على الإمام كلّ سنة فإذا فقد الإمام رفع القرآن وليلة القدر (2). انتهى.

قلت : اعلم أن القرآن فيه تبيان كلّ شي ء ؛ لأنه خلق محمّد (3) قال تعالى : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ) (4) فهو منطبق على التكوين والزمان ، وحوادثه [ تدريجيّة (5) الوقوع ، وكلّ مكوّن زماني يختصّ بجزء منه ، فالقرآن لا يبرز أحكامه الزمانيّة إلّا تدريجاً بالضرورة طبق بروز حوادث الزمان ، فإنّه اشتمل على أحكام الخلق منذ بُعث محمَّد صلى اللّه عليه وآله : في الذرّ الأوّل إلى أن تقوم الساعة. فكلّ رتبة ونشأة يطابقها القرآن بمقتضى حقيقتها ، فالزمان لمّا لم يبرز إلّا تدريجاً لم يبرز أحكامه القرآنية إلّا كذلك.

ص: 183


1- الفقيه 2 : 101 / 454.
2- روضة المتّقين 3 : 439 ، بالمعنى.
3- كذا في المخطوط.
4- الأنعام : 38.
5- في المخطوط : ( تدريجي ).

فكلّ نجم برز من الزمان برز قسطه من الكتاب ، وأُمر بها إمام العصر ليلة القدر.

فنزوله كلّه ليلة القدر ، وكذا بروزه الجزئيّ لا يكون إلّا ليلة القدر.

يدلّ على هذا بعد صحيح الاعتبار جملة من الأخبار :

ففي العيّاشي : عن الفضل بن يسار : قال : سألت أبا عبد اللّه عليه سلام اللّه - : عن هذه الرواية : « ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن ، وما فيه حرف الّا وله حدّ ، ولكلّ حدّ مطلع » ، ما يعني بقوله : « لها ظهر وبطن »؟ قال : « ظهره تنزيله ، وبطنه تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كما تجري الشمس والقمر ، كلّما جاء منه بشي ء وقع » (1) الحديث.

وفي بصائر الصفّار : بسند صحيح مثله ، إلّا إنه قال فيه بعد « والقمر » - : « كلّما جاء منه تأويل شي ء يقع ، يكون على الأموات كما يكون على الأحياء » (2)كذا في المصدر ، والظاهر أنها « كلّما » ، يدل عليه نقل المصنّف عنه في الهامش نفسه.(3).

وفي غيبة النعماني : عن الصادق عليه سلام اللّه - : أنه قال : « إنّ للقرآن تأويلاً يجري كما يجري الليل والنهار ، وكما يجري الشمس والقمر ، فإذا جاء تأويل شي ء منه وقع ، فمنه ما قد جاء ، ومنه ما لم يجي ء » (4) الخبر.

ومثل هذا المضمون كثير (5).

وأيضاً ما برز مضمونه لا يختصّ بجزئيّ ، بل هو أبديّ التجدّد ، جارٍ في أمثال ما وقع ، كلّما جاء منهم قسط وقع قسطه ، فهو أبداً حيّ طريّ يتجدّد بتجدّد الأزمان والأكوان.

كما يدلّ عليه من الاعتبار ما استفاض مضمونه من الأخبار ، ففي العيّاشيّ عنهم عليهم السلام : « إنّ ظهر القرآن الذي نزل فيهم ، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم ، يجري فيهم

ص: 184


1- تفسير العيّاشيّ 1 : 22 / 5 ، وفيه : « ظهره وبطنه تأويله ».
2- بصائر الدرجات 196 / 7 ، وفيه بعده : « كما
3- ( جاء تأويل شي ء منه ، يكون على الأموات كما يكون على الأحياء » ..
4- الغيبة : 134 / 17 ، وفيه « للقرآن تأويل ».
5- انظر بحار الأنوار 89 : 78 - 106 / 1 - 84.

ما نزل في أُولئك » (1).

وفي تفسير فرات بن إبراهيم : عن خيثمة : عن أبي جعفر عليه السلام : أنه قال : « لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أُولئك القوم ماتت الآية لَما بقي من القرآن شي ء ، ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض ، ولكلّ قوم آية يتلونها هم منها في خير أو شرّ » (2).

وفي خبر آخر عن أبي بصير : عن الصادق عليه السلام : قال : « لو كانت إذا نزلت آية في رجل ثمّ مات ذلك الرجل ماتت الآية ، مات الكتاب ، ولكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى » (3).

وهذا المضمون مستفيض ، وهو صريح في أن ما يعلمه الإمام من أحكام القرآن [ ومقتضياته (4) ] يؤذن له في إبراز ما يطابق كلّ نجم وكلّ سنة بالإذن الكلّيّ في ليلة القدر ، فيؤمر فيها بأحكام السنة وحوادثها بحسب ما يخصّها من القرآن ، وبكلّ جزئي في آنه.

فإذن لكلّ ليلة قدر في الزمان قسط منه يطابقها جديد ، فإذن ظهر لك تلازم ليلة القدر والقرآن ، وهما مع الإمام ما بقي التكليف ، فلا يرتفع القرآن ولا ليلة القدر إلّا إذا ارتفع الإمام ، وذلك قبل النفخة الاولى بأربعين يوماً ، كما رواه في ( البحار ) من ( كمال الدين ) (5) بسنده إلى عبد اللّه بن سليمان العامري : عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « ما زالت الأرض إلّا ولله تعالى ذكره فيها حجّة يعرف الحلال والحرام ، ويدعو إلى سبيل اللّه ، ولا تنقطع الحجّة من الأرض إلّا أربعين يوماً ، فإذا رفعت الحجّة أُغلق باب التوبة ، ولا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجّة ، أُولئك شرار خلق اللّه ، وهم الّذين تقوم عليهم القيامة » (6).

ص: 185


1- تفسير العيّاشيّ 1 : 22 / 4.
2- تفسير فرات الكوفي : 138 - 139 / 166 ، باختلاف.
3- الكافي 1 : 192 / 3.
4- في المخطوط : ( مقتضيا ).
5- كمال الدين 229 / 24.
6- بحار الأنوار 23 : 41 / 78.

ومثله من ( المحاسن ) (1).

وفي ( الكافي ) وغيره عن عبد اللّه بن جعفر الحميريّ : قال : اجتمعتُ أنا والشيخ أبو عمرو رحمه اللّه عند أحمد بن إسحاق : فغمزني أحمد بن إسحاق : أن أسأله عن الخلف عليه السلام ، فقلت له : ( يا أبا عمرو : إني أُريد أن أسألك عن شي ء ، وما أنا بشاكّ فيما أسألك عنه ، فإن اعتقادي وديني أن الأرض لا تخلو من حجّة ، إلّا إذا كان قبل القيامة بأربعين يوماً ، فإذا كان ذلك رفعت الحجّة وأُغلق باب التوبة ، فلم يك ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ، أُولئك شرار من خلق اللّه ، وهم الذين تقوم عليهم القيامة ) (2) الخبر.

وتلك الأربعون اليوم في الآفاق نظيرها في الأنفس بلوغ الروح التراقي في لحظة المعاينة ، وعندها يسقط التكليف ، فيرتفع القرآن من الزمان والإمام وليلة القدر.

وأمّا كلام الفاضل التقيّ (3) فلا يخفى ضعفه ؛ فإنّه إن أراد بالحجّة المستشهد الذي ترتفع ليلة القدر باستشهاده : القائم عليه السلام : فهذا لا دليل عليه ، بل الأخبار والاعتبار [ يردّانه (4) ] ؛ فإن رجعة أهل البيت عليهم السلام : وأيّامها بعدد أيام القائم عليه السلام : وبالضرورة التكليف فيها باقٍ ، فالحجّة والقرآن وليلة القدر كذلك.

وأيضاً الحجّة الذي يُرفع لا يُرفع بطريق الشهادة والقتل ، وإنّما يرفع ويقبض. وآخر مَن يُقبض عليّ عليه السلام : يدلّ عليه ما رواه الشيخ حسن بن سليمان : بسنده عن أبي عبد اللّه عليه سلام اللّه - : أنه قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : لقد أسرى بي ربّي عزوجل ، فأوحى إليّ من وراء حجاب ».

إلى أن قال فيما كلّمه به ربّه أن قال : « يا محمّد : عليّ : أوّل من آخذ ميثاقه من الأئمّة ،

ص: 186


1- بحار الأنوار 23 : 41 / ذيل الحديث 78 ، المحاسن 1 : 368 / 802.
2- الكافي 1 : 329 - 331 / 1.
3- انظر الصفحة : 183.
4- في المخطوط : ( يرده ).

يا محمّد : عَلي : آخر من أقبِضُ روحه من الأئمّة » (1).

وإن أراد غير القائم عليه السلام : فليس يرفع بالقتل ، وإنّما آخر من يرفع منهم بفقد ، فإنّه ليس بعده إمام يلي أمره لو مات ، ولا يلي الإمام إلّا إمام (2) ، وقد دلّ على هذا جملة من الأخبار. وبالجملة فظاهر عبارته ضعيف ، واللّه العالم.

ص: 187


1- مختصر بصائر الدرجات : 36.
2- انظر الكافي 1 : 384 - 385 / باب أن الإمام لا يغسله إلّا الإمام من الأئمّة عليهم السلام.

ص: 188

[64] ذكر وترك : انسيَ الطعام المسموم

غيبة الشيخ حسن بن سليمان : بسنده عن إبراهيم بن أبي محمود : عن بعض أصحابنا قال : قلت للرضا عليه سلام اللّه - : الإمام يعلم إذا مات؟ فقال : « نعم ، حتّى يتقدّم في الأمر ».

قلت : علم أبو الحسن عليه سلام اللّه - : بالرطب والريحان المسمومين اللذين بعث بهما إليه يحيى بن خالد :؟ فقال : « نعم ».

فقلت : فأكله وهو يعلم؟ فقال : « إنسية لينفذ فيه الحكم » (1).

وبسند آخر عنه مثله ، إلى أن قال : فأكله وهو يعلم فيكون معيناً على نفسه؟ فقال عليه السلام : « لا ، إنّه يعلم قبل ذلك ليتقدّم فيما يحتاج إليه ، فإذا جاء الوقت ألقى اللّه على قلبه النسيان » (2).

قلت : يمكن أن يراد بالنسيان رفع التفاته إلى الدنيا ، ورفع قلبه منها ؛ لعلمه بانتهاء أجله ، فيترك الدنيا وأسباب العيش فيها. والنسيان بمعنى الترك أو الرفع قد يقع لطفاً من اللّه بعبده ، فليس من الشيطان ؛ لأنّ هذا من قبيل البداء والنسخ ، واللّه العالم.

ص: 189


1- مختصر بصائر الدرجات : 6.
2- مختصر بصائر الدرجات : 7.

ص: 190

[65] طلب كنز وبيان عِزّ « لا يحتمل حديثهم ملك » إلى آخره

[65] طلب كنز وبيان عِزّ « لا يحتمل حديثهم ملك » إلى آخره (1)

روى الشيخ حسن بن سليمان : بسنده عن أبي الصامت : قال : قال أبو عبد اللّه سلام اللّه عليه - « حديثنا صعب مستصعب ، شريف كريم ، ذكوان [ ذكي (2) ] وعِر ، لا يحتمله ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا مؤمن ممتحن ».

قلت : فمن يحتمله جعلت فداك؟ قال : « من شئنا يا أبا الصامت » (3).

قلت : لعلّه عليه سلام اللّه أراد : أنه لا يحتمله ملك مقرّب حتّى يلقيه إلى من دونه ، ولا نبيّ مرسل حتّى يلقيه إلى من دونه ، ولا مؤمن ممتحن حتّى يلقيه إلى من دونه ، فإنّه قد روي عنهم ذلك. وفي الرخصة لهم بذلك رحمة وتخفيف لثقل حمل ما حملوا ، فإنّ حمل أسرارهم لا أشقّ منه في التكليف.

وأيضاً أُخذ على العلماء أن يعلّموا من دونهم كما أُخذ على أتباعهم أن يتعلّموا (4) ، أي لعلّه عليه السلام أراد أن أمرهم عليهم السلام لا يحتمله إلّا من تأهّل للعون منهم على احتماله ، فلا يحمّلونه إلّا من شاؤوا وعلموا منه الإطاقة لذلك.

ووجه آخر لا يحتمله ، يراد به تكليفهم الخاصّ بهم ، ومن شاؤوا تحميله ما دون ذلك.

ص: 191


1- مرّ بمضمونه في العنوان : 59.
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( ذكر ).
3- مختصر بصائر الدرجات : 125.
4- انظر الكافي 1 : 41 / 1.

وقال الشيخ حسن بن سليمان : ( لعلّه عليه السلام أراد ب- « من شئنا » : هم صلوات اللّه عليهم لأنّ علمهم الذي استودعهم اللّه سبحانه منه ما لا يصل إلى غيرهم ، بل خصّهم به ).

ثمّ استدلّ رحمه اللّه على ذلك الاختصاص بحديث تقسيم الاسم الأعظم ، وحديث « يا عليّ ، ما عرف اللّه إلّا أنا وأنت ، وما عرفني إلّا اللّه وأنت ، وما عرفك إلّا اللّه وأنا ». وغيرهما من الأخبار.

ثمّ قال : ( وصاحب الدرجة العليا يطيق حمل الدنيا ، وصاحب الدنيا لا يطيق حمل العليا كما في حديث أبي ذرّ : وسلمان : ؛ إذ كان أبو ذرّ : في التاسعة وسلمان : في العاشرة من درجات الإيمان ) (1). انتهى ملخّصاً.

ولا يخفى ما فيه من التكلّف والمنافرة لقوله عليه السلام : « من شئنا يا أبا الصامت ».

ص: 192


1- مختصر بصائر الدرجات : 125

[66] دفع إشكال لداء عضال « لا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء »

الشيخ حسن بن سليمان : بسنده عن مشايخه إلى زرارة : عن أبي جعفر عليه السلام : قال : « لو علم الناس كيف كان ابتداء الخلق ما اختلف اثنان ، إن اللّه تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخلق قال : كن ماءً عذباً أخلق منك جنّتي وأهل طاعتي ، وكن ملحاً أُجاجاً أخلق منك ناري وأهلَ معصيتي ، ثمّ أمرهما فامتزجا ؛ فمن ذلك صار يلد المؤمن الكافر ، والكافر المؤمن. ثمّ أخذ طيناً من أديم الأرض وعركه عركاً شديداً ، فإذا هم كالدبر (1) يدبّون ، فقال لأصحاب اليمين : إلى الجنّة بسلام ، وقال لأصحاب الشمال : إلى النار ولا أُبالي. ثمّ أمر ناراً فاسعرت ، فقال لأصحاب الشمال : ادخلوها ، فأبوها ، فقال لأصحاب اليمين : ادخلوها ، فدخلوها ، فقال : كوني برداً وسلاماً. فكانت برداً وسلاماً. فقال أصحاب الشمال : يا ربّ أقلنا قال : قد أقلتكم فأدخلوها. فذهبوا أن يدخلوها (2) فهابوها ، فثمّ ثبتت الطاعة والمعصية ؛ فلا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ، ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء » (3).

قلت : أجاب الشيخ حسن : عن قوله سلام اللّه عليه - : « فلا يستطيع هؤلاء .. » إلى آخره ، بثلاثة أوجه :

حاصل الأوّل أن هذا إخبار عمّا علم اللّه منهم من اختيار الحقّ أو الباطل وإقامتهم

ص: 193


1- في المصدر « الذر ».
2- قوله : « أن يدخلوها » ليس في المصدر.
3- مختصر بصائر الدرجات : 150.

وإصرارهم عليه ، وهذا لا ينافي التكليف والاختيار ، وأن بدْأه من عالم الذرّ. ومثّل لذلك بأمثلة كثيرة منها إخبار الرسول صلى اللّه عليه وآله : عمّن قتل يوم بدر من أهل مكّة أنهم لا يُسلِمون ، أي علم اللّه منهم أنهم لا يختارون الإسلام ، بل يصرّون على الكفر.

وحاصل الثاني أن المراد بنفي الاستطاعة : صعوبة الانتقال من خلقه المتّصف به من الإيمان والكفر ، لا التعذّر. ومثّل له أيضاً بأمثلة كثيرة منها قوله صلى اللّه عليه وآله : « يا عليّ : ثلاث لا يطيقها أحد من هذه الأُمّة : المواساة للأخ في ماله ، وإنصاف الناس من نفسه ، وذكْر اللّه على كلّ حال ».

ومنها قول أمير المؤمنين سلام اللّه عليه - : « ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ».

وحاصل الثالث أن أحاديث أهل البيت سلام اللّه عليهم - : تحذو حذو القرآن ، ففيها المحكم والمتشابه ، والخاصّ والعامّ ، والناسخ والمنسوخ ، والمجمل والمفصّل ، وغير ذلك. ولا يحلّ لأحد أن يكذّب الحديث ويردّه إذا لم يستبن له معناه ، بل يسلمه ويردّه إلى أهله (1).

قلت : وهناك جواب آخر هو أن كلّا منهما بعد ذلك بكونه نفسه بل حقيقته من مادّة اختياره هناك باختياره ؛ فالمؤمن من مادّة العقل والنور والإيمان ، والكافر من أضدادها ، فكلّ منهما اختار تكوينه من مادّة ، فليس في حكم اللّه جبر ، حتّى في الخلق ، فلا يخلق شيئاً إلّا بعد طلبه الخلق وقبوله له باختياره.

وجواب آخر هو أن المؤمن لا يستطيع أي لا يختار ولا يطلب أن يكون على غير ما ظهر له بالبرهان الحقّ المحكم المطابق لأصل فطرة الوجود ، فإنّه قد قام عنده البرهان بالسبل الثلاثة على ما اختاره. فعدم استطاعته تشبه عدم إمكان صدور المعصية من المعصوم عليه السلام ؛ لما علمه من حقائق الخلق على اليقين ، مع أنه قادر على فعلها البتّة ؛ لأنه أكمل المكلّفين بالاختيار ، واختياره أكمل الاختيار ، كما

ص: 194


1- مختصر بصائر الدرجات : 151 - 154 ، باختلاف.

أنه أكمل المختارين. فعدم استطاعة المؤمن أن ينتقل عن الإيمان شعاع من نور احتجاب المعصوم عمّا ينافي زينة العصمة ، والكافر لا يستطيع ترك كفره للطبع على قلبه وانتكاسه من أجل اختياره هناك ، فهو في ظلمة لا يبصر ، [ أصمّ أبكم أعمى (1) ] ، قد استدبر الحقّ باختياره ، واستحبّ العمى على الهدى باختياره ، فكان أيضاً مألوفاً. وطبعاً لا يستطيع الانتقال عنه على حدّ عدم استطاعة مفارقة الطبائع والمألوف ، أي يعسر ذلك ويشقّ جدّاً. وهذا وجه آخر.

ووجه آخر هو أن المراد بالاستطاعة المنفيّة هي الاستطاعة التي يكون مع الفعل حال الفعل لأصل القدرة أي إنه لا تتحقّق منه تلك الاستطاعة ؛ لأنّها مع الفعل حال الفعل ، وهو لا يختار ضدّ ما هو عليه ولا يقصده باختياره فلا تتحقّق منه تلك الاستطاعة ، واللّه العالم.

ص: 195


1- في المخطوط : ( صم بكم عمي ).

ص: 196

[67] إغاثة لهفان وتعريف عرفان : « أراهم نفسه »

الشيخ حسن بن سليمان : بسنده عن زرارة : عن أبي جعفر عليه سلام اللّه - : قال : سألته عن قول اللّه عزوجل ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) (1) ، الآية قال : « أخرج من ظهر آدم عليه السلام ذرّيّته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذرّ ، فعرّفهم ، فأراهم نفسه ، ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربّه عزوجل »(2).

قلت : ظاهر لفظ الحديث أن فاعل أراهم والمضاف إليه في « نفسه » يعود ل- آدم عليه سلام اللّه بقرينة قوله : « عرّفهم فأراهم » ؛ فإنّ الظاهر أن « عرّفهم » يعود ل- « آدم عليه السلام ». وتفريع « فعرّفهم .. نفسه » عليه قرينة أُخرى على ذلك. فإذن « أراهم نفسه » أي عرّفهم إيّاها ، فقد عرّفهم نفوسهم لمقام المناوعة والرحمة العامّة ، بل نفوسهم حينئذٍ مندرجة في قوّة نفسه كالجزئيّات للكلّيّ.

والحاصل أن تعريفهم نفسه هو تعريفهم نفوسهم ، و « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » (3).

فظهر وجه تعقيبه بقوله سلام اللّه عليه - : « ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربّه ».

وحمله الشيخ حسن (4) : على أن المعنى أراهم نفسه أي عرّفهم إيّاه بالدليل الحازم الرافع للشكّ الموصل إلى اليقين.

وهو حسن إن حملناه على أن ربّهم سبحانه وتعالى أراهم نفسهم ، وهو أحد الوجهين.

ص: 197


1- الأعراف : 172.
2- مختصر بصائر الدرجات : 158.
3- مصباح الشريعة : 13.
4- مختصر بصائر الدرجات : 158.

و (1) هناك وجه آخر هو أن نفسه يراد به : نائبه العامّ ورسوله إلى كافّة الخلق ، وباب الجود والوجود. فلا ريب أن اللّه سبحانه وتعالى أخذ الميثاق منهم بأنه ربّهم ومحمّداً رسول اللّه : وعليّاً أمير المؤمنين : والمعنى على حدّ ما قال أمير المؤمنين عليه السلام : « أنا عين اللّه ، وأنا قلب اللّه ، وأنا يد اللّه » (2).

وشبه ذلك من الإضافات التي خصّهم اللّه بها إظهاراً لعظيم شأنهم ، فيكون المعنى : أراهم نائبه العامّ ووجهه ودليله الأعظم ، وعرّفهم إيّاه ، وأنه هو في كلّ مقام حتّى في رتبة الحسّ الظاهريّ والمشعر البصريّ ، ولله الحجّة البالغة ، فهو الدليل [ إلى (3) ] اللّه في كلّ مقام.

وهذا قانون ينفع الناظر في موارد كثيرة ، ويظهر به معنى كثير من أخبار أهل العصمة عليهم السلام مثل : « ما رواه الشيخ حسن بن سليمان : بسنده عن زُرارة : قال : قلت لأبي جعفر عليهما سلام اللّه - : أصلحك اللّه ، قول اللّه عزوجل ( فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها ) (4)؟ قال : « فطرهم على التوحيد عند الميثاق على معرفة أنّه ربّهم ». قلت : عاينوه؟ فطأطأ رأسه ثمّ قال : « لولا ذلك لم يعلموا مَن ربّهم ، ولا مَن رازقهم؟ » (5).

فهذه المعاينة على سبيل ما قال أمير المؤمنين - سلام اللّه عليه - : لمّا سئل : أرأيت ربّك يا أمير المؤمنين :؟ قال : « لم أكن لأعبد ربّاً لم أرَه ». قال : وكيف رأيته؟ قال لم ترَه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان (6).

أي إنهم عرّفهم نفسه ، فعرفوه في مجالي صفاته وأسمائه الحسنى وآياته ومقاماته التي لا تعطيل لها. فهو سبحانه الشاهد بأنه لا إله إلّا هو ، لا معبود سواه ، ولا ربّ غيره ، الظاهر لعباده بأسمائه وصفاته. قال الحسين سلام اللّه عليه - :

ص: 198


1- في المخطوط بعده : ( عليك ).
2- التوحيد : 164 / 1 ، وفيه : « أنا علم اللّه ، وأنا قلب اللّه الواعي ، ولسانه اللّه الناطق ، وعين اللّه ، وجنب اللّه ، وأنا يد اللّه ».
3- في المخطوط : ( على ).
4- الروم : 30.
5- مختصر بصائر الدرجات : 160.
6- المصدر نفسه.

« تعرّفتَ لكلّ شي ء في كلّ شي ء حتّى لا يجهلك شي ء » (1).

وقال : « أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟ عميتْ عين لا تراك عليها رقيباً » (2).

فالمراد : معاينة الدليل الجامع ، والاسم الأعظم ورؤيته ، واللّه العالم.

ص: 199


1- الإقبال بالأعمال الحسنة ( حجريّ ) : 350 ، وفيه : « تعرّفت لكل شي ء فما جهلك شي ء ».
2- الإقبال بالأعمال الحسنة ( حجريّ ) : 350. فائدة: قال العلامة المجلسي في (بحار الأنوار): (قد أورد الكفعمي رحمه اللّه هذا الدعاء (دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة) في (البلد الأمين)، وابن طاووس رحمه اللّه في (مصباح الزائر) كما سبق ذكرهما، ولكن ليس في آخره فيهما بقدر ورق تقريباً، وهو من قوله: «إلهي أنا الفقير في غناي»، إلى آخر هذا الدعاء، وكذا لم يوجد هذه الورقة في بعض النسخ من (الإقبال) أيضاً، وعبارات هذه الورقة لا تلائم سياق أدعية السادة المعصومين عليهم السلام أيضاً، وإنما هي على وفق مذاهب الصوفية. ولذلك قد مال بعض الأفاضل إلى كون هذه الورقة من مزيدات بعض مشايخ الصوفية). بحار الأنوار 95 : 227 / 4. وهاتان العبارتان الواردتان في هذا الكتاب واقعتان في هذه الورقة التي نقل المجلسي رحمه اللّه احتمال بعضهم أنها من زيادات بعض مشايخ الصوفية، ونسخة (الإقبال) المطبوعة حديثاً تخلو من هذه الزيادة.

ص: 200

[68] تمليح وتلميح الاسم في البسملة وفي الحمد

سألني بعض مشايخنا مذاكرة : هل لفظ الجلالة في بسملة ( الحمد ) ، وفي ( الْحَمْدُ لِلّهِ ) (1) واحد أم بينهما فرق؟

فأجبت على تشتّت من البال في تلك الحال أن الذات تسمى بجهة صفة ، فالصفات معاني الأسماء بهذا الاعتبار فهي سابقة عليها. ولعلّ إضافة اسم في البسملة يشعر بكون المضاف إليه من مقام معاني الأسماء ؛ وعليه يحتمل كون وصفي الرحمة للاسم وللمضاف إليه.

ومقتضى لازم الملك والاستحقاق والتربية والحمد كون اسم الجلالة في ( الْحَمْدُ لِلّهِ ) باعتبار تلك المعاني والصفات المتحقّقة في البسملة الناشئة منها ، فالثاني أخصّ باعتبار الأوصاف.

وأيضاً البسملة في مقام افتتاح الكتاب وهو من مقام ابتداء الخلق ، فالاسم فيها هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى التي لا يسمّى به إلّا ذات الواجب تعالى ، وفي الْحَمْدُ للهِ هو باعتبار المحامد والنعمة والتربية ، واللّه العالم.

ص: 201


1- الحمد : 1.

ص: 202

[69] كشف وإنارة : الليل قبل النهار والنهار قبل الليل

ما الجمع بين ما دلّ من الروايات والبراهين العقلية على أن النهار خلق قبل الليل (1) ، والنور قبل الظلمة (2) ، وبين ما دلّ منهما على أن ليلة اليوم الحاضر هي الماضية ، وعليه انعقد إجماع الأُمّة شرعاً واتّفقت كلمة أهل اللغة ، وتفاهم أهل العرف في كلّ زمان ومكان. فهو ملحق بالضروري ؛ إذ لا يرتاب أحد في أن أوّل الشهر غروب شمس آخر يوم من الذي قبله ، وأنه آخر الشهر الماضي؟

قلت - وباللّه المستعان - : اعلم أن اللّه تعالى بحكمته أوّل ما ابتدأ خلق ما هو أشدّ وجوداً وأجمع فعليّة وأكمل نوراً ، وهو بابه الأعظم ، فتنازل الوجود إلى مرتبة الأرض والتراب ، ثمّ عاد إلى ما منه بدأ ، فانقسمت الدائرة إلى قوسي بدءٍ وعودٍ. فقوس البدء كلّ درجة سابقة فيه أعلى ممّا تحتها وهي نهارها ، بخلاف قوس العود فإنّه على العكس من ذلك. فكلّ سافل في قوس النزول وإدبار العقل يظهر بعد العالي ، وعكسه في قوس إقبال العقل ، فالفعل في قوس إدباره قبل القوّة ، والقوّة في قوس إقباله وهو العوديّ قبل الفعل.

وبالجملة ، فهذا العالم على التعاكس من عالم الأنوار ، فكلّ رتبة تظهر أوّلاً في قوس إدبار العقل تظهر بعد ظهور ما بعدها في قوس إقباله ، والفعل في قوس

ص: 203


1- الاحتجاج 2 : 249 ، مجمع البيان 8 : 548.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 241 / 1.

التكليف الإيجادي يسبق القوّة ، والقوّة في قوس الإيجاد التكليفي تسبق الفعل. وبذلك يكمل الاختيار والاختبار ، و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) فيهما ، وما كان عن الوسع لا يمكن كونه عن جبر واضطرار.

فآخر القوس البدئيّ وأوّل العوديّ مرتبة الهيولى الصرف والهيولانيّ البحت. ولعلّ من أسرار ذلك وجوب المناسبة بين الفاعل من حيث هو فاعل أي بجهة فاعليّته التي هي علّة المفعول - [ و ] القابل من حيث هو كذلك ، فلا يلزم من ذلك تشابه حقيقة الفعل لذات الفاعل لذاته ، فلا يشبه ذات الفعل ذات فاعله من غير مزايلة ، ولا ينافيها من غير ممازجة ومشابهة. وكذلك النتيجة والشكل ، والدليل والمدلول ، والاسم والمسمّى ، والعلّة والمعلول ، إلى غير ذلك.

فظهر بهذا أن النهار في صقع الإبداع الأوّل سابق على ليله ، والليل في صقع القوّة الاستعداديّة ودائرة الزمان وعرصة المكان سابق على نهاره. فسبق النهار في ابتداء الخلق هو سبق الليل في عالم الزمان ، لأنّ هذا ظلّ ذاك ، والظلّ لا يظهر إلّا على عكس شكل ذي الظلّ ، فأسفله أعلاه ، وأعلاه أسفله ، كما هو محسوس.

فدليل كلّ منهما هو دليل الآخر ، فالمجرّد سابق الأجسام بدءاً ، ولاحقها عوداً. وعند كون أحدهما شهادةً يكون الآخر غيباً فيه ، فكلّ منهما ليل للآخر بوجه ، الظاهر نهار والغائب ليل. ومن هنا يظهر لك الوجه في موارد كثيرة ، فآدم عليه السلام : سكن الجنّة قبل الدنيا وبعدها ، ولو لم يسكنها أوّلاً لم يسكنها آخراً ؛ لأنه لا يعود شي ء إلّا لما منه بدأ.

ولذا من لم يسكنها من بني آدم عليه السلام : أوّلاً ولم يدخل نار التكليف المؤجّجة في الذرّ لا يسكنها آخراً ، وإنّما عود إلى بدء. وكانت دولة الجهل في دار الخلط سابقه على دولة العقل ، فلا يقوم العدل حتّى يستحكم الجور ويخلص ، وذلك بعد انتهاء الأقاليم السبعة ، وكمال عمارة الدنيا. فإذا سامتَ القطب الرأس ، واستولى على الحواسّ ، وانطبقت دائرة المعدّل على الأُفق الحقيقيّ ، عُدم الميل وانسلخ النهار من

ص: 204

الليل. وكالوجه في أن الروح أوّل ما تلج من الرأس ، وتجمع الحواسّ وآخر ما تخرج منه ، وكبَدْأة خروج رأس الجنين قبل جسده من بطن امّه ، وكإدخال رأس الميّت الذكر في قبره قبل جسده.

وأمّا المرأة فلمّا كانت من فاضل طينة الرجل كانت مادّتها جانبه الأيسر ، وأُدخلت القبر بجانبها أجمع ، فهي كالبارزة دفعة بجميعها فترد القبر كذلك. ومن أجل ذلك كانت تابعة للرجل وكلّفت بطاعته ، ولكثافة طينتها بالنسبة إليه لكونها من فاضله ؛ احتاجت إلى زيادة تصفية ، فكان سنّها في البلوغ أقلّ من سنّ الرجل لما في التكليف وزيادته من التصفية ، واللّه العالم.

ص: 205

ص: 206

[70] نزل كريم وفضل من اللّه عميم : « زيادة كبد الحوت »

روي أن أوّل نزل أهل الجنة يوم القيامة زيادة كبد الحوت (1) ، ولعلّ بعض وجوهه أن الحوت بارد رطب ، والكبد فيه حرارة بالنسبة إلى حيوانه ، والرطوبة مادّة تكوّن الأجسام المركّبة ، والحرارة مادّة روحها وحياتها ، وحرارة كبد الحوت أولى مراتب الحرارة وأضعفها. وأوّل ما يبدو في درجات تكوّن الإنسان حرارة تتعلّق برطوبات مادّة جسمه مثل حرارة كبد الحوت ، وهي مثل آخر حرارة ، فبقي عند نزع روحه ( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) (2).

وبوجه آخر : الحوت حامل الأرض ، ولكلّ أرض حوت تناسبه [ هي (3) ] روحه ، والممدّة للجسد غذاءه ، ولكلّ عضو هو الكبد ، وزيادتها : مظهر قوّتها ، وآلتها التي بها تقسم صفو الكيلوس إلى أربعة أخلاط ، وهي القابضة الممسكة المعدة ، فالإنسان دائماً أول غذائه ومدد حياته من زيادة الكبد ، فزيادة حوت أرض محشرهم تمدّهم أوّل حرارة الحياة الأُخرويّة.

ص: 207


1- علل الشرائع 1 : 117 - 118 / ب 85 ح 3. بحار الأنوار 8 : 173 / 1. صحيح البخاري 3 : 1211 / 3151 ، وفيها : « وأمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنّة ، فزيادة كبد الحوت ». وهي : قطعة منفردة متعلّقة بالكبد ، وهي أطيبها وألذّها ، بل هي أهنأ طعام وأمرؤه. عمدة القارئ شرح صحيح البخاري1. 211.
2- الأعراف : 29.
3- في المخطوط : ( هو ).

ولا يبعد أنه في عالم الدنيا يستمدّ أوّل درجات حرارة حياته من زيادة كبد حوت أرض الدنيا معرفة المحيص به الواصل له به ، لكن بحسب الغيب ؛ حتّى يكون في أوّل مراتب الحياة الآخرة شهادة تفكّر في أن آخر دائرة البروج الاثني عشر برج الحوت الذي به تشقّ الأرض بالنبات والمعدن والحيوان. وهو برج الثاني عشر من صفوة الأبدال الذي هو عمد من نور أو فضّة وبه ومنه المدد. ولا تنكر أن يكون أوّل نزلهم كبد حوت محسوسة ، وزمن الحوت زمن الاعتدال الأشرف الربيعيّ ، واللّه العالم.

ص: 208

[71] نور قرآني وخطاب بياني : تواتر القراءات السبع

كلّ واحدة من القراءات السبع متواترة بالنصّ والإجماع.

أمّا الأول فحديث : « اقرأوا كما تقرأ الناس » (1). ووجه الدلالة أن الشارع أمر المكلّفين بقراءة القرآن وجوباً عينيّاً أو كفائيّاً أو استحباباً ليدّبّروا آياته فيعملوا بها. والضرورة قاضية بوجوب ذاته على نحو ما أمر به الرسول صلى اللّه عليه وآله : وبلّغه عن اللّه ، ونزل به جبرئيل ، حتّى يحصل يقين أن هذا المتلوّ هو كلام اللّه ، فلا يجوز قراءته كيفما اتّفق ، ولا بأي لغة اتّفق ، ولا بأيّ ترتيب اتّفق ، ولا بأيّ إعراب اتّفق ، بل بمثل ما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وآله : عن اللّه تعالى. فالقراءة بالرواية لا بالرأي إجماعاً.

فإذن ، لا بدّ أن يعيّن الشارع إلى معرفة ذلك طريقاً يوصل المكلّفين إليه ؛ إذ لا تكليف إلّا بعد البيان ؛ لأنّ التكليف بالمجهول تكليف بالمحال ، وهو ظلم ؛ فهو باطل بالضرورة ، فحينئذٍ نقول : الطريق إلى ذلك هو قراءة السبعة القرّاء المشهورين ، فإنّ قراءة كلّ واحد منهم ؛ إما أن تكون متواترة فالأمر فيها واضح ، أو غير متواترة فلا يبقى سبيل إلى العلم بكتاب اللّه الذي كلّف اللّه عباده بتدبّره والعمل بما فيه ، وجعله معجزة الرسول صلى اللّه عليه وآله المستمرّة الكبرى ، والحجّة بينه وبين عباده. فلو لم تكن السبع متواترة لما حصل القطع بشي ء من القراءات أنه كلام اللّه بعد الترجيح بينها ، فتسقط

ص: 209


1- بصائر الدرجات 193 / 3 ، بحار الأنوار 89 : 88 / 28 ، وفيهما : « اقرأ كما يقرأ الناس ».

حجّيّته وهو ضروري البطلان.

مضافاً إلى أن الشارع أذن للمكلّفين أن يقرءوا كما تقرأ الناس ، ولا ريب أن الناس قد أطبقوا على القراءة بقراءة السبعة ، والاجتزاء بكلّ واحدة منها في الصلاة ، والاحتجاج بكلّ واحدة منها في الأُصول والفروع بلا نكير ، وهذا فرع تواتر كلّ منها. ولو قيل بالإطلاق بكلّ ما يقرأ الناس لزم عدم انحصار المتواتر منها ، ولم تخرج السبع منها.

أمّا القول بتواتر العشر كما هو قول جمع من المحقّقين ، بل قال الشيخ بهاء الدين : في حاشية تفسير البيضاوي : ( أن تواتر قراءة العشرة هو مشهور الإماميّة ) فقول بتواتر قراءة السبعة من غير عكس.

فظهر بهذا أن القراءة بقراءة السبعة لا ريب أنّها قرآن وإن حصل الشكّ في غيرها ؛ إذ لم يقل أحد من الأُمّة : إن القراءة المتواترة خارجة عن السبعة ، وإن السبعة آحاد ، فإنّ ذلك يوجب سدّ باب العلم بمعرفة ألفاظ القرآن الذي هو معجز نبيّنا صلى اللّه عليه وآله ، ويوجب سدّ باب التكليف به.

فإذن وجب أن يكون هناك سبيل يعرف به على اليقين ، وقد اتّفقت الأُمّة على تواتر قراءة السبعة وغيرها ممّا حصل الشكّ فيه في الجملة ، فقد تبيّن أن قراءة السبعة هي قراءة الناس التي أمر أهل البيت عليهم السلام : بالرجوع إليها والقراءة بها.

وأيضاً ظاهر قولهم عليهم السلام : « كما تقرأ الناس » أن الأمر إنّما ورد بالقراءة بما يقرأ به جميع الناس ؛ لأنّ لفظ الناس بمنزلة الجمع المحلّى ، وهو يفيد العموم ، ولم يقرأ جميع الناس إلّا بقراءة السبعة ، فخرج الثلاثة المكمّلة للعشرة فضلاً عن الشواذّ عن الخبر ، وانحصر مدلوله فيها. ولا يمكن أن يراد منه الأمر بالقراءة بكلّ ما قُرِئ به لبطلانه إجماعاً.

وأمّا الإجماع [ فقد (1) ] ثبت في سائر الأعصار والأمصار قولاً وعملاً من الاجتزاء

ص: 210


1- في المخطوط : ( فلا ).

بأيّ قراءة من السبعة في الواجب والندب ، وجميع أهل العصر يستدلّ بها في الأحكام ويقول : ( دلّ كلام اللّه الذي أنزله على نبيّه ) في كلّ عصر ، طبقة فطبقة.

وأيضاً وجدنا كلّ من صنّف في هذا الباب في كلّ عصر يروي قراءة السبعة بطرق متعدّدة عمّن يثق به عن مشايخه الذين يعتمد على روايتهم من أهل الضبط والمعرفة وغيرهم ، بل ربّما تجد كلّ مصنّف من المصنّفين يرويها بطرق غير طرق الآخر على اختلاف أطوارهم وأزمانهم ، ومساكنهم وأهويتهم ، ومطاعمهم ومشاربهم ، بل لا يشكّ كلّ واحد بتواترها في كلّ عصر من أهل فرق مذاهب الإسلام ؛ لأنه لا يرتاب أحد في أنّها كلّها كلام اللّه المنزل على محمَّد صلى اللّه عليه وآله : بعنوان القرآن بحيث [ لا يشوبه (1) ] شكّ ، وهذا فرع ثبوت تواترها في كلّ نفس ، فلو لم يكن ذلك حقّا لوجب على الإمام عليه السلام بيانه.

ولم أجد ولا أظنّ أن أحداً وجد قرينة فضلاً عن دليل تُشعر بأنّ قراءة أحد السبعة في آية ليست بقرآن ، وبذلك علم يقيناً دخول قول المعصوم في جملة الأُمّة القائلين بتواتر قراءة السبعة وأنّها قرآن وكلام اللّه. وهذا هو معنى الإجماع ، ولأنّ تقرير الإمام للأُمّة على ذلك دليل على رضاه به ، ورضاه به دليل على أنه حقّ لا يحتمل النقيض.

هذا ، وكم إجماع حصل عند أفاضل العلماء وتواتر ثبت لديهم بأقلّ ممّا ثبت به تواتر قراءة السبعة وأنّها إجماع بكثير (2). وبذلك تبيّن تواتر قراءة كلّ واحد من السبعة بالنصّ (3) والإجماع الذي لا شكّ فيه.

وأيضاً فممّا لا ينبغي بل لا يمكن الشكّ فيه أن القرآن قطعيّ المتن ، وأن ذلك إجماع ، وهو فرع تواتره ، فلا بدّ فيه من قراءة متواترة. وهذا في غير السبع ممنوع ؛ لعدم الدليل عليه ، فانحصر المتواتر فيها.

وأيضاً يلزم القائل بعدم تواتر السبع أنه لا متواتر في شي ء من القراءات ، فينسدّ

ص: 211


1- في المخطوط : ( شوبه ).
2- كذا في المخطوط.
3- وسائل الشيعة 6 : 162 ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب 74.

باب العلم بأنّ شيئاً منها كلام اللّه ، فتبطل [ حججه (1) ] أجمع.

نعم قال الشيخ الرضيّ : ( لا نسلّم تواتر كلّ واحدة من قراءة السبعة ) وهذا إن أراد به أن المتواتر منها ما اجتمعت السبعة عليه دون ما اختلفوا فيه ، فقد خرج بهذا شطر القرآن أو نحوه عن كونه قرآناً على اليقين ، والظنّ لا يغني هنا شيئاً ؛ فلا يحترم ، ولا يجوز الاستدلال به ولا قراءته في الواجب. وهذا ضروريّ الفساد من وجوه ، ومستلزم للتكليف بالمجهول ، ومخالف لضروريّ الملّة ، فضلاً عن المذهب ، مع أن الطريق الذي ثبت به تواتر ما اتّفقوا عليه حاصلٌ فيما اختلفوا فيه ؛ فإنّ مجرّد اتّفاقهم لا يدلّ على تواتر ما اتّفقوا عليه.

وإن أراد أن المتواتر هو ما اتّفقوا عليه وأحد ما اختلفوا فيه غير معلوم بعينه ، لزم التكليف بالمحال وحجّيّة ما لا سبيل إلى معرفته والاستدلال بما لا يستطاع التوصّل إليه على كلّ حال. فشطر القرآن لا يعلم كونه قرآناً ؛ إذ كلّ واحدة من قراءة السبعة مشكوك في كونها قرآناً وفي تواترها.

نعم ، هذا ينطبق على القول بأنّ الحقّ واحد غير معلوم ، وهذا ضروريّ البطلان إجماعاً.

وإن أراد معنًى غير هذا فهو أعلم به.

وبالجملة ، فظاهر هذا الكلام اجتهاد في مقابلة الدليل ، ومنعٌ للدليل بلا دليل ، فإنّ جميع الأُمّة منذ كُتبت المصاحف العثمانيّة إلى عصرنا هذا مطبقة على اليقين من حرّها وعبدها ، ذكرها وأُنثاها ، صغيرها وكبيرها ، جاهلها وعالمها ، مؤمنها ومسلمها أن ما بين الدفتين كلام اللّه ، وأنه يجب احترامه وتعظيمه ، وأنه لا يمسّه إلّا المطهّرون ، وعلى أنه كلّه حجّة ودليل ومعجزة في سائر الأعصار والأمصار.

فلو فرض أن الرضيّ : مخالف في جزئيّ وحاشاه لم يضرّ بالإجماع الذي سبقه ولحقه وعاصره.

ص: 212


1- في المخطوط : ( حجية ).

فثبت بما قرّرناه تواتر كلّ واحدة من قراءات السبعة بلا شكّ ، ولا نسلّم تواتر العشرة.

وقد وقفتُ بعد هذه الكتابة على كلام للنيسابوري : في تفسيره يؤيّدها قال : ( القراءات السبع متواترة ، لا بمعنى أن سبب تواترها إطباق القرّاء السبعة عليها ، بل بمعنى أن ثبوت التواتر بالنسبة إلى المتّفق قراءته كثبوته بالنسبة إلى كلّ من المختلَف في قراءته ، ولا مدخل للقارئ في ذلك إلّا من حيث أن مباشرته لقراءته أكثر من مباشرته لغيرها ، حتّى نسبت إليه. وإنّما قلنا : إن القراءات السبع متواترة ؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكان بعضٌ غير متواتر ك- ( ملك ) ، ( ومالك ) (1) ونحوهما ؛ إذ لا سبيل إلى كون كليهما غير متواتر ، فإنّ أحدهما قرآن بالاتّفاق. وتخصيص أحدهما بأنه متواتر دون الآخر تحكّم باطل ؛ لاستوائهما في النقل ، فلا أولويّة به ، فكلاهما متواتر ، وإنّما يثبت التواتر فيما ليس من قبيل الأداء كالمدّ ، والإمالة ، وتخفيف الهمزة ، ونحوها ) (2) ، انتهى.

وهو موافق لما قلناه وإن كان في استثناء بعض ما استثناه نظر ، واللّه العالم بحقيقة الحال.

ص: 213


1- الحمد : 4.
2- تفسير غرائب القرآن 1 : 23.

ص: 214

[72] نور فرقاني وضياء بياني ( فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً )

قوله تعالى في سورة ( النساء ) ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً ) (1).

قلت : لعلّ المراد : نفي أن يكون للذين أُوتوا نصيباً من الكتاب نصيب من الملك الحقيقيّ ؛ بدلالة الاستفهام الإنكاريّ ، فمن ليس له نصيب من ملك لا يفيض منه جود ولا وجود بوجه أصلاً. فإذا عجز الإنسان عن نفع نفسِهِ فمن أين يأتي مَن يلوذ به النفع؟ وذلك أن المُلك لله الواحد القهّار ، فلا جود ولا وجود إلّا من لدنه ؛ إذ لا ملك إلّا له. ومن ليس له ملك بوجه وهو في ذاته معدم فقير لا يؤتي النقير. بل المعطي هو المالك حقيقةً وإن كان في صورة الظاهر من ذلك عطاء ، فلا يرد ما أورده النيسابوري (2) : من أنّا نجدهم يعطون في حال عدم ملكهم ، ومن كان في حال ملكه بخيلاً فهو في حال عدمه أبخل.

هذا إنْ ارجع الضمير المجرور باللام إلى الذين ، أمّا لو رجع إلى ( بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ ) لم يرد الإيراد من أصله ؛ لأنّ الجبت والطاغوت من حيث هما كذلك لم

ص: 215


1- النساء : 51 - 53.
2- تفسير غرائب القرآن 2 : 427.

يصدر منهما إيتاء بوجه أصلاً ، مع أنه لو أُورد عليه الإيراد جرى فيه الجواب.

لنا أن نقول : الآية خاصّة بأعداء آل محمَّد صلى اللّه عليه وآله ، فإنّ الناس هم آل محمَّد صلى اللّه عليه وآله فلا اعتراض ، واللّه أعلم بالصواب.

ص: 216

[73] فصّ يماني ونور برهاني : برهان العصمة

[73] فصّ يماني ونور برهاني : برهان العصمة (1)

الرسول صلى اللّه عليه وآله معصوم في جميع حالاته ، حتّى عن السهو والغلط ؛ وذلك لأنه رسول اللّه : مطلقاً في جميع حالاته وحركاته وسكناته فلا ينطق عن الهوى ، ولا يسكن ولا يتحرك إلّا بوحي يوحى ، فلا يصدر إلّا عن اللّه عزوجل ، فهو رسول اللّه : في جميع حالاته ، بل وبكل جوارحه. والعاصي والساهي والغافل وشبهه من غيبة السكر والإغماء ، بل والنوم من حيث المتعارف منها ، جميع أفعالهم من حيث هم كذلك ، ليست عن اللّه ولا ينطقون عنه ولا بوحيه ، فليس العاصي والساهي وشبههما رسول اللّه في تلك الحال من الجهة ، وقد كان الرسول رسول اللّه في جميع حالاته مطلقاً من كلّ وجه ؛ إذ لا يصحّ تجزّؤه لأنه كلّه لله ، هذا خلف. وهذا بعينه جارٍ في الخليفة والإمام حرفاً بحرفٍ ، واللّه العالم.

ص: 217


1- مرّ هذا في العنوان : 8.

ص: 218

[74] تعشير وتخميس فيه تزكية وتقديس : الفرق بين الزكاة والخمس

مسألة : ما الفرق بين الزكاة والخمس ؛ حتّى كانت الزكاة أوساخ الناس وحرمت على بني هاشم وأهل البيت عليهم السلام دون الخمس حتّى خصهم اللّه بالخمس وحرّم عليهم الزكاة مع أنّهما مشتركان في أن كلّاً منهما جزء من مال الناس؟

قلت وباللّه الاعتصام - : لعلّ الفرق بطريقين :

أحدهما : أن الزكاة لا تخلو من شوب امتنان ؛ لأنّها بالعاملة أشبه ، ولذا سمّيت صدقة ، والصدقة لا تخلو من شائبة انكسار في نفس المتصدّق عليه ، والخمس حصّة على سبيل الشركة والاختصاص ؛ فالخمس بحقوق الشركاء أشبه ، وهي بحقوق واجبي النفقة أشبه. وأكثر الطباع تشحّ بأطايب المال في الصدقة ، وتحرص على الاختصاص به وعلى اصطفائه ، فلذا خفّف اللّه عنهم وأمر بترك أخذ كرائم الأموال في الزكاة ، فأطلق عليها أوساخاً أي فضلات والخمس حصّة شائعة تؤخذ من كلّ عين ، بل خصّ الإمام بالأنفال وبصفو المال.

الثاني : أن هذا العالم الذي أُمر فيه بإخراج الزكاة والخمس لمّا كان عالم الخلط والمزج كان كلّ ما يزكّى فيه قسطاً من الحلو وآخر من المالح ، وقسطاً من الطيّب وآخر من الخبيث.

ص: 219

يدلّ على ذلك حديث غرْس آدم ونوح عليهما السلام للكرم والحبلة (1) ، فما غرسا غرساً إلّا ولإبليس : لعنه اللّه فيه نصيب (2) ، فجعلت الزكاة في مقابلة سهم الشيطان ، فكانت أوساخاً ، وكان الخمس في مقابلة سهم آدم عليه السلام ، فكان ملكاً صافياً لا درن فيه ، وكان كلّ منهما بالقدر المعين ، لعلّة كون ذاك صرفاً خالصاً أو هو خالص في الخمس ، وفي الزكاة كفى المقدّر لخلوصه وما زاد. وإن أُشيب فقد أُبيح لطفاً ورحمةً وعفواً ، أو لكفاية المقدّر في رفع ضرورة المضطر ، فهي تشبه أكل الميتة وهي اولى منها من وجوه ، فأُبيحت للمضطرّ بقدر دفعها. والخمس لله ولرسوله وأهل بيته مع الغناء الحقيقي ، ولباقي الأصناف معاً فأُعطوا ما يكفيهم ؛ لأنهم عيال الإمام. هذا على سبيل الإجمال ، واللّه العالم بحقيقة الحال.

ص: 220


1- الحَبَلة : بالتحريك ، وربما يسكّن : القضيب من الكرم. والصحاح 4 : 1665 حبل.
2- تفسير العياشي 2 : 284 / 40 ، وفيه غرس نوح عليه السلام للحبلة دون آدم عليه السلام ، الكافي 6 : 393 - 394 / 2 ، 394 / 3.

[75] جمع ودفع : خمسة أشياء تفرّد بعلمها الباري تعالى

ما الجمع بين ما دلّ من الأخبار (1) على أن خمسة أشياء تفرّد بعلمها الباري تعالى لم يُطلع عليها نبيّاً ولا ملكاً ، وهي المشار لها في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (2) ، وبين ما دلّ على أن أهل البيت عليهم السلام عندهم علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى آخر الدهر (3) ، وهذا مستفيض جدّاً بل متواتر المضمون؟

الجواب ومن اللّه استمداد الصواب من وجوه :

أحدها : أن ما دلّ على عدم علمهم بشي ء من ذلك آحاد ، أو متشابه ، أو مؤوّل بنفي علمهم به من أنفسهم ذاتاً ؛ إذ لا علم لهم إلّا ما علّمهم اللّه.

الثاني : أو أنّهم لا يعلمونها بحسب المقام البشري الذي سكنوه مع أبناء النوع ، وإن علموها من مقامٍ آخر. وعلى هذا يحمل ما ورد من طلبهم الجارية وقد تستّرت في بعض البيوت ، وقال لا أدري أين هي (4).

ص: 221


1- تفسير القمي 2 : 167.
2- لقمان : 34.
3- انظر الكافي 1 : 260 - 261 / باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون ..
4- الكافي 1 : 257 / 3.

ويمكن أن يكون بعض وجوه قوله عزّ اسمه ( ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ) (1).

الثالث : أو معنى نفي علمهم بها : اشتراط البداء فيها ، وإخبار بأنّها ليست من المحتوم.

الرابع : أو أنّهم لا يعلمونها بالجزئيّة الخاصّة الشخصيّة من كلّ وجه ؛ لأن ذلك لا يكون إلّا بعد الوجود الخارجي الجزئيّ ؛ إذ لا يكون علم بأنّ هذا الشي ء وقع في الزمان خارج الحسّ إلّا بعد كونه كذلك.

الخامس : أو أنّهم لا يعلمونها باعتبار مقام ( فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ) (2) ، ويعلمونها باعتبار مقام ( إِلّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ) (3).

وهذه الوجوه جاريات في جميع الجزئيات.

وإنّما خصّت الخمسة بالذكر ؛ لأنّ أربعة منها هي أركان الوجود وموادّه : الخلق ، والرزق ، والحياة ، والموت ( خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) (4).

فإنزال الغيث إشارة إلى مادّة الحياة ؛ لأنّ منه مدد حياة المركّبات ؛ لأنّ به يحيي اللّه الأرض بعد موتها.

وعلم ( ما فِي الْأَرْحامِ ) إشارة إلى الخلق.

و ( ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ) إشارة إلى الرزق.

( وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) من أراضي الآفاق والأنفس والطبائع ؛ لأنّها فطرت على الاختيار [ وكمال تحقّقه حين الوقوع (5) ].

فهذه الأربع جمعت كلّيّات [ مواد (6) ] العالم من الكلّيّ والجزئيّ.

ص: 222


1- الشورى : 52.
2- الجن : 26.
3- الجن : 27.
4- الروم : 40.
5- هذه الإضافة من موضوع ( جمع وبيان ) اللاحق ، وهو في المطلب نفسه.
6- في المخطوط : ( موارد ).

وأمّا الساعة فهي غاية الأربع الجامعة لعللها ، وهي سرّها وباطنها وغيبها ، فيجري فيها ذلك كلّه بما يناسبها ، فوقتها ومكانها يرجع إلى الرتبة مثلاً ، فإنّها ليست من الزمانيّات والمكانيّات المعروفة ( لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلّا بَغْتَةً ) (1) ولهذا ترى الرسول صلى اللّه عليه وآله : إذا سئل عن زمانها أو مكانها يجيب بمثل هذا لعلمه صلى اللّه عليه وآله من السائل أنه يطلب لها زماناً ومكاناً (2) بما يعقله منهما.

فنفي علمه بها على معنى أن ليس لها زمان ولا مكان ، وليست من الزمانيات ولا من المكانيات ، بل يستحيل كونها كذلك بالمعنى المتداول ، فهو يقول للسائل إنّها ليست زمانية ، فلا أعلم لها زماناً ، ولا مكانية فلا أعلم لها مكاناً حتّى أُخبرك بذلك ، بل هي فوق دائرتهما. والسائل يطلب بسؤاله عن زمانها ومكانها المستحيل ، لأنه يطلب زمان ما لا زمان له ، ومكان ما لا مكان له ، بل يستحيل أن يحويه الزمان والمكان ، والرسول صلى اللّه عليه وآله : يجيبه بألطف جواب وأجمع صواب ، وأبلغ خطاب وأجمل جلباب ، واللّه العالم بالصواب.

ص: 223


1- الأعراف : 187.
2- أي أعلم أن ليس لها زمان وليس لها مكان فكيف أُخبرك عن هذا؟ فهو من قبيل ( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) الرعد : 2 بناء على القول بأن ( تَرَوْنَها ) صفة لعمد فيكون المعنى : بعمد لا ترونها. انظر مجمع البيان 5 : 354، الكشاف 2 : 512.

ص: 224

[76] جمع وبيان ( إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ )

[76] جمع وبيان ( إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ) (1)

مسألة : ما الجمع بين ما دلّ من الأخبار على أن خمسة أشياء تفرّد بعلمها الباري تعالى لم يُطلِع عليها نبيّاً مرسلاً ولا ملكاً مقرّباً ، وهي المشار لها في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ .. ) (2) وبين ما دلّ منها على أن الأولياء والأنبياء أخبروا عن علمهم بذلك بل ربما أخبر غيرهم عن بعض الأربعة الأخيرة؟

والجواب ، وعلى اللّه التكلان من وجوه : منها أن ما دلّ على علم الأنبياء وخلفائهم بذلك لا يضبط كثرةً ، فهو مستفيض بل متواتر المضمون ، وأكثره نصّ محكم ، وما دلّ على عدمه آحاد أو من المتشابه ، ولا معارضة إلّا بعد المقاومة.

ومنها أن ما دلّ على نفي علمهم بذلك نفي علمهم من تلقاء أنفسهم ، وهذا لا ينافي علمهم به بتعليم العليم الخبير.

ومنها أنّهم لا يعلمون ذلك بحسب المقام البشري الصرف ويعلمونه مِن مقامٍ فوقه كقوله تعالى : ( ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ) (3) ، ومن هذا نفيه عليه السلام (4) علمه بالجارية حين هربت منه وتستّرت ببعض بيوت الدار (5) ، ومنه نفي علمهم بالغيب ولعنهم من يدّعي فيهم ذلك (6) ، وهذا يجري في الوجه الأوّل أيضاً ، وهو نفي علمهم

ص: 225


1- مرّ الكلام عليه في العنوان السابق.
2- لقمان : 34.
3- الشورى : 52.
4- الكافي 1 : 257 / 1.
5- الكافي 1 : 257 / 3.
6- الاحتجاج 2 : 550 / 347 ، بحار الأنوار 25 : 267 / 9.

من تلقاء أنفسهم. وله وجه آخر هو أن يراد بالغيب : رتبة الوجوب.

ومنها أنّهم لا يعلمون ذلك ؛ [ لأنه (1) ] من المحتوم قبل أن يصل إلى رتبة الإمضاء لسرّ البداء ، ومنه سرّ خوفهم عليهم السلام كخوف موسى عليه السلام من العصا ، فإنّ البداء يجري في كلّ رتبة قبل إمضائها من جميع المراتب السبع ، فالبداء يجري في القضاء ما دام الشي ء مراداً ، وفي القدر ما دام مقضياً ، وهكذا. وهذا لا ينافي علمهم بما كان وما يكون ، فإنّهم يعلمون الشي ء وشروطه وعلله وإن كان ذلك مخزوناً في ينبوع البداء ، وهو باطن المشيئة ومقام منقطع الصفات.

ومنها أنّهم لا يعلمونها بمقام الإذن الجزئي من كلّ وجه ، أي لم يؤذن لهم بعد باعتبار عاشرة الوقوع مثلاً ، فإنّ كلّ واحدة من السبع في نفسها درج ورتب حتّى الإمضاء ، ونهايته نهاية كمال العلم. وهذا لا ينافي علمهم بها من كلّ وجه بمقام آخر.

ومنها أنّهم لا يعلمونها باعتبار مقام ( فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ) (2) ويعلمونها باعتبار مقام ( إِلّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ) (3) الآية.

والوجوه في هذه كثيرة.

وهذا كلّه عام لجميع جزئيّات العالم وكلّيّاته.

وإنّما خصّت هذه الخمسة بالذكر ؛ لأنّ أربعة منها هي أركان الوجود وموادّه : الخلق ، والرزق ، والحياة ، والموت ( خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) (4).

فإنزال الغيث إشارة إلى الإحياء ؛ لأنّ اللّه تعالى يحيي به الأرض بعد موتها فهو مادّة الحياة.

وعلم ( ما فِي الْأَرْحامِ ) إشارة إلى الخلق ، لأنه تعالى : ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ) (5).

ص: 226


1- في المخطوط : ( أنه ).
2- الجنّ : 26.
3- الجن : 27.
4- الروم : 40.
5- الزمر : 6.

و ( ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ) إشارة إلى الرزق ، ( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (1).

( وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) من أراضي الآفاق والأنفس والطبائع ؛ لأنها فطرت على الاختيار وكمال تحقّقه حين الوقوع.

فهذه الأربع جمعت كليّات العالم وجزئياته.

وأمّا الساعة : فهي غاية الأربع ومقام جامعيّتها وروحها وسرّها وباطنها وغيبها ، فيجري فيها ذلك كلّه بطريق أوْلى ، إلّا إنه في الرابع بالنسبة إليها [ بمعنًى (2) ] غير الآن الزماني ، فإنّ زمانها ووقتها غير المعنى الزماني ، بل هو روحه وغيبه وباطنه وسرّه ، بل بمعنى الرتبة ظاهراً ، وإلّا فالزمان كغيره له روح في عالم الغيب وحقيقة ، فتزيد بأنّهم لا يعلمون زمانها ؛ لأنّها ليست من الزمانيّات ، فلا زمان لها حتّى يعلموه ( لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلّا هُوَ ) (3).

ولهذا ترى الرسول صلى اللّه عليه وآله إذا سأله سائل عن زمانها أو مكانها يجيبه بمثل ذلك في القرآن ، فليس هو يهمل الجواب ولا يردّ سائلاً عن بابه بل يجيب بأعلى جواب ، ويكشف الحال بأبلغ مقال ، ويخبره حينئذٍ أنها لا زمان لها ؛ إذ ليست من الزمانيات حتّى يخبره بزمانها ، ولا من المكانيّات حتّى يوقفه على مكانها ؛ لأنّها فوق نقطتي الزمان والمكان.

نعم لها مكانة ، والسائل يطلب معرفة زمانها أو مكانها ، وهو يطلب المحال ؛ لأنه يسأل عن زمان ما لا زمان له ومكان ما لا مكان له ، فيجيبه الرسول صلى اللّه عليه وآله بألطف خطاب وأصوب صواب وأجمل جلباب ، واللّه العاصم والهادي.

ص: 227


1- الذاريات : 58.
2- في المخطوط : ( جمعنا ).
3- الأعراف : 187.

ص: 228

[77] نور فقهي وبيان جلي : مسألة تحريم [ إدخال ] شي ء ليس من جسد الناكح [ في ] فرج المنكوحة

هل يجوز للرجل أن يُدخل في فرج منكوحته شيئاً ليس من جسده ؛ كأن يربط على ذكره أو إصبعه شيئاً من خشبة أو نحوها من المستطرفات أو غيرها ، أو لحماً أو جلداً أو خرقة أو جرماً أو عظماً ، أو يلبس ذكره أو إصبعه شيئاً من ذلك أو يلفّه عليه ، فيدسّه في فرجها مع ذكره أو إصبعه ، أو وحده بدون إصبعه أو ذكره؟

الجواب أنه لا يجوز شي ء من ذلك بوجه من الوجوه ، ولا كيفيّة من الكيفيّات ولا نحو من الأنحاء أصلاً ما لم يكن لمعالجة داء كإخراج جنين ونحوه ممّا سوّغه الشارع للناكح أو غيره حال الضرورة ؛ حفظاً للحياة ، لأصالة عصمة الفروج وتحريمها إلّا فيما دلّ الدليل عليه من الكتاب أو السنّة أو الإجماع ، ولخصوص ما رواه الشيخ : في ( التهذيب ) بسنده عن عبيد اللّه بن زرارة : قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : الرجل يكون عنده جوارٍ فلا يقدر على أن يطأهن ، يعمل لهنّ شيئاً يلذذهن به؟ قال : « أمّا ما كان من جسده فلا بأس به » (1).

وما رواه في ( الكافي ) بسنده عن عبيد اللّه بن زرارة : أيضاً قال : كان لنا جار شيخ

ص: 229


1- تهذيب الأحكام 7 : 457 / 1829 ، وسائل الشيعة 20 : 111 ، أبواب مقدّمات النكاح ، ب 51 ، ح 3 ، وفيهما : ( عبيد بن زرارة ).

له جارية فارهة قد أعطى بها ثلاثين ألف درهم ، وكان لا يبلغ منها ما يريد ، وكانت تقول له : اجعل يدك كذا بين شفري ؛ فإنّي أجد لذلك لذّة. وكان يكره أن يفعل ، فقال لزرارة : سل أبا عبد اللّه عليه السلام : عن هذا فسأله ، فقال لا بأس أن يستعين بكلّ شي ء من جسده عليها ، ولكن لا يستعين بغير جسده عليها (1).

فدل الخبران بمفهوميهما ومنطوق الثاني على تحريم ما يلذذهن به ممّا هو خارج عن جسده مطلقاً بأي نحو كان ، وتحريم الاستعانة على ذلك منهن بجميع ما ليس من جسده على كلّ حال ، فيدخل جميع ما ذكر في التحريم.

تنبيه : يستفاد من هذين الخبرين جواز استمتاع الزوجة وتلذّذها واستمنائها بجميع جسد الزوج ، وكذا كلّ منكوحة بنكاح صحيح مشروع ، وله أدلّة ومؤيّدات يأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى ، واللّه العالم.

ص: 230


1- الكافي 5 : 497 / 1 ، وسائل الشيعة 20 : 111 ، أبواب مقدّمات النكاح ، ب 5 ، ح 3 ، وفيهما : ( عبيد بن زرارة ).

[78] فواكه لذيذة ونور طورسيني ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ )

( البحار ) من ( تأويل الآيات الظاهرة ) (1) عن أبي عبد اللّه عليه السلام : أنه قال : « ( التِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) : الحسن والحسين عليهما السلام ( وَطُورِ سِينِينَ ) عليّ بن أبي طالب عليه السلام : والدين ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام (2).

ومنه (3) بسنده عن محمّد بن الفضيل : قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام : أخبرني عن قول اللّه عزوجل ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) (4) : فقال : « التين والزيتون : الحسن والحسين ». قلت ( وَطُورِ سِينِينَ ) (5)؟ قال : « ليس هو طور سينين ، ولكنه طور سينا ». قلت : وما طور سينا؟ فقال : « نعم ، هو أمير المؤمنين ». قلت ( وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) (6)؟ قال : « هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : أمن الناس به إذا طاعوه ». قلت ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) (7)؟ قال : « ذاك أبو فضيل حين أخذ اللّه ميثاقه له بالربوبيّة ولمحمّد صلى اللّه عليه وآله بالنبوّة ولأوصيائه بالولاية ، فأقرّ وقال : نعم ، ألا ترى أنّه قال ( ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ) (8)؟ يعني الدرك الأسفل حين نكص

ص: 231


1- تأويل الآيات الظاهرة : 787 ، بتفاوت.
2- بحار الأنوار 24 : 105 / 3014.
3- تأويل الآيات الظاهرة : 788.
4- التين : 1.
5- التين : 2.
6- التين : 3.
7- التين : 4.
8- التين : 5.

وفعل بآل محمّد ما فعل ». قلت ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) (1)؟ قال : « واللّه ، هو أمير المؤمنين : وشيعته فلهم أجر غير ممنون ». قلت ( فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ) (2)؟ قال : « مهلاً مهلاً لا تقل هكذا ، هذا هو الكفر باللّه ، لا واللّه ما كذب رسول اللّه باللّه طرفة عين » قلت : فكيف هي؟ قال : « أفمن يكذبك بعد بالدين؟ والدين أمير المؤمنين » (3).

أقول وباللّه المستعان - : اعلم أنّ لكلّ شي ء ظاهراً وباطناً ، والباطن الحقيقة ، والمظهر المجاز ، فكلّ ما في عالم الأجسام له حقيقة روحانيّة عقليّة هي كالروح والعلّة للجسمانيّ. ولعلّ تخصيص الحسن عليه السلام : بالتين ؛ لما فيه من كثرة المنافع والطيب واللذّة والسهولة ، والزيتون بالحسين عليه السلام : ؛ لما استجنّ فيه من النتيجة النورية والدهن المبارك. والحسين سلام اللّه عليه - : خصّ بكون الإمامة في صلبه ، وهذا هو الفرق بين التين والزيتون.

وعبّر عن علي عليه السلام : بطور سينا ؛ لأنه مظهر تجلّي الولاية العظمى. وطور سينا : من عرصات التجلي ومهابط الوحي ؛ ولأنه الذي تجلّى لموسى عليه السلام : في طور سينا من نوره مثل سم الإبرة ؛ ولذا ورد أن الغريّ المقدّس من طور سينا (4) ، والنبيّ صلى اللّه عليه وآله : عُبّر عنه بالبلد الأمين (5) ؛ لأنه مدينة العلم كما قال (6) ، وما كان اللّه معذبهم وهو فيهم (7) ، فهو الأمين الجامع ، والأمان الشافع ، فمن استقام على طاعته سلك سبيل الأمن في الدنيا والآخرة.

وأمّا خلق الإنسان في أحسن تقويم ؛ فلأنّ اللّه خلقه في أكمل صورة وجامعيّة وقابليّة ليكمل له الاختيار لما هداه له من النجدين وتتمّ عليه الحجّة في الاختيار.

ص: 232


1- التين : 6.
2- التين : 7.
3- بحار الأنوار 24 : 105 - 106 / 15.
4- معاني الأخبار : 364 - 365 / 1 ، وفيه : « ( وَطُورِ سِينِينَ ) : الكوفة ».
5- مناقب آل أبي طالب 3 : 444.
6- مناقب أمير المؤمنين ( ابن المغازلي ) : 80 - 85 / 120 - 126.
7- إشارة إلى قوله تعالى : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) الأنفال : 33.

فكلّ مولود يولد على فطرة اللّه القابلة لكمال الاختيار ؛ ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيّ عن بينة.

وأبو فضيل وجميع فروعه أقرّوا لله بما أخذ عليهم من لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه : عليّ أمير المؤمنين : في مقام إيجادهم لغلبة وجودهم هناك على ماهيّتهم ، ولعلّه مقام ( أدبر ) ، فإنّه أدبر ولم يقدر على الامتناع ، لكنّه أجنّ الكفر ونافق. فإقراره هناك كإقراره في دار التكليف حين [ ظهور (1) ] نور الإسلام فطمع ، فظلاله (2) هناك ساجد وقد ظهر منه الإنكار في الذرّ الثاني فأبى أن يثب في النار التي باطنها نور.

وأمّا قوله تعالى : ( فَما يُكَذِّبُكَ ) (3) إلى آخره ، فظاهره أن ( ما ) بمعنى ( من ) ، وأنه استفهام إنكاري. وإنكار الإمام إنّما هو على من يعتقد أنها بمعنى : ( أي شي ء يكذّبك ) أي يحملك على التكذيب بالدين؟ وهو كما قال عليه السلام : « كفر » ، فلا منافاة بين ظاهرها [ وما في ] الخبر.

ص: 233


1- في المخطوط : ( ظهره ).
2- كذا في المخطوط.
3- التين : 7.

ص: 234

[79] ثمرة يمانيّة ورزق حسن ( كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً .. )

قال اللّه تعالى وتقدّس في صفة أهل الجنّة ( كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ) (1). قيل : كيف يقولون هذا مشيرين إلى ثمار الجنّة ، ويخبرون عنه بأنه الذي رزقوه من قبل ، مع تغاير الحقيقتين الدنيوية والأُخرويّة ذاتاً وصفة ، ولازماً وملزوماً. وأهل الجنة في تلك الحال لا تجري عليهم الظنون والأوهام والخيالات الفاسدة ؛ لكشف الغطاء عنهم ، وحدّة أبصارهم ، وفعليّة بصائرهم ، وخلوصها من الأغيار ، وارتفاع الغواشي عنهم ، وظهور الحقائق لديهم؟

قلت وباللّه المستعان - : لعلّ الجواب من وجوه منها : أن الإشارة إلى ثمار الجنّة المتجدّدة ، [ والتي هي (2) ] عبارة عن ثمارها السابقة المأكولة ، فهم يحكمون على الرتبة الأُخرى أو الصنف الآخر أو المأكول الآخر بأنه السابق المحصّل لهم قبله ، حيث إن ثمارها تقطف وتعود ، كما كانت ولا تنقص ، ومثلها كالسراج يشعل منه ألف سراج ، ولا ينقص منه ، وحيث إنه يؤتى لهم بثمرة فيأكلون منها ، ويشتهون اخرى فيؤتى لهم بتلك فيقال : كلوا فاللون واحد والطعم مختلف.

فإنّ قلت : هذا لا يصحّ بالنسبة إلى أوّل شي ء يأكلونه من ثمارها.

فالجواب من وجهين :

ص: 235


1- البقرة : 25.
2- في المخطوط : ( والذي ).

أحدهما : عدم ضرر ذلك ، فلعلّهم إنّما قالوا ذلك عند ثاني مأكول ، ولعلّ في قوله ( كُلَّما رُزِقُوا ) إشارة إلى التجدّد المخرج لأوّل مرزوق عن ذلك القول ، ولا منافاة.

الثاني : أن يراد بالقبْليّة حالة البدء ، فأخبروا بأنّهم انكشف لهم أنّهم عادوا إلى ما بدؤوا منه ؛ فكلّ شي ء عائد إلى ما منه بدأ ، والبداية طبق الغاية ، بل هي هي بوجه ، والغاية علّة فاعليّة الفاعل ، قال اللّه تعالى : ( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) (1).

وورد أن الجنّة ما خلت من سكّانها ، وممّا رزقوه من قبل ما رزقوه حين الميثاق ، وقيل لهم ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) (2) فدخل أوّل رزق منها أيضاً.

ومنها أن يراد بضمير مِنْهَا : الجنة ، و ( بِمَا رُزِقُوه مِنْ قَبْلُ ) : ما رزقوه من حقائق العلم والعمل وثمراتهما في الدنيا ، ف- ( إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3). وإنّما هي أعمالهم ردّت إليهم (4) ، وإنّما هو العالم وما يخرج منه ، ومن سبّح تسبيحة غرست له شجرة في الجنة ، ولله ملائكة يبنون في الجنة كلّما عمل ابن آدم : كذا ، فإذا أمسك أمسكوا ، وقالوا ننتظر الميرة والمادة. ومن هذا يظهر وجه في قوله تعالى : ( الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) (5).

فالأرض هي المعهودة وغراستهم إيّاها (6) ، فهم الكاملون المستكملون لقواها المستجنّة ، الجامعون لما فيها من المراتب الوجوديّة ، الباسطون فيها العدل ، المطهّرون لها من الشرك ؛ فهم سكّان الجنّة أبداً يتبوّأون منها فنون علومهم وأعمالهم في جميع الطبقات.

ولعلّ في قوله ( فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) (7) إشارة إلى ذلك ، فالأرض جامعة لجميع قوى العالم ورتبه القابلة لجميع آثار الفواعل ، فإنّها نهاية الوجود الحسّيّ.

ص: 236


1- الأعراف : 29.
2- الأعراف : 172.
3- الطور : 16.
4- انظر : توحيد المفضل : 50 ، بحار الأنوار 3 : 90.
5- الزمر : 74.
6- كذا في المصدر.
7- آل عمران : 136.

ويمكن أن يراد بها : أرض الجنّة [ التي (1) ] أرضها الكرسي ، وسقفها عرش الرحمن. وأن يراد بها : الأرض التي يحشرون فيها ؛ فإنّ لكلّ أرض سكّاناً تناسبها. وعلى هذا كلّه فسكّان هذه الأرض المذكورة يتبوّأون من ثمار الجنّة بلا إشكال ، والكتاب والسنة على هذا كثير ، والاعتبار محكم.

ومنها أن هذا القول صدر منهم حين ترقّيهم في درجات العلم والعمل ، ويراد بها : صفة الذكرى ، فالقرآن تذكرة وذكر وذكرى ، واللبيب يحسّ من نفسه إذا أدرك شيئاً من المعارف أن المدرك الوارد على قلبه من وراء حجب الغيوب كأنّه شي ء مخزون في نفسه قد نسيه وذهل عنه ثمّ ذكره واستحضره. فيراد ب- ( من قبل ) أن العالم لا يدرك إلّا فيما وسعه قوّته (2) وقابليّته ، واستجنّ بالقوّة في طبيعته وقابليّته ونفسه وعقله ، فهو اعتراف لله تعالى بكمال العدل والعبوديّة له ، فهو شكر ، وهو من جملة ( آخِرُ دَعْواهُمْ ) (3) لتطابق الشكر والحمد حينئذٍ ، وترادفهما ، و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) وما تستطيعه وتقبله اختياراً ؛ إيجاداً وتكليفاً ، وحياة وموتاً ورزقاً.

أو يراد به المراتب السابقة على تلك الحالة من مراتب وجوده ، كرتبة عالم الذرّ ، ومقام أخذ العهد والميثاق الأوّل (4) ، وامتثال الأمر بالإقبال والإدبار (5). وهم في أطوارهم لا يتعدّونها أبداً ، فتعدّيها ظلم.

ويمكن أن يراد ب- ( ما رُزقوا منْ قبلُ ) : ثمار الدنيا وأرزاقها الحلال ؛ لأنّ جميع ما في عالم الشهادة والأجسام له حقائق وأرواح وأشباح وعلل ووجود في عالم العقول والغيب بوجه أعلى.

فأمّا قوله ( مُتَشابِهاً ) فيحتمل معنيين :

ص: 237


1- في المخطوط : ( و ).
2- في المخطوط : ( وقوّته ) بدل : ( قوّته ).
3- يونس : 10.
4- إشارة إلى قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) الأعراف : 172.
5- انظر الكافي : 1 : 10 / 1 ، و 1 : 20 - 21 / 14 ، و 1 : 26 / 26 ، و 1 : 27 - 28 / 32.

أحدهما : أنه بمعنى يشبه بعضه بعضاً ، فإنّ ثمار الجنّة وأُصول المعارف والأعمال غير متباينة بل متناسبة ترجع إلى أصل واحد كما بدأت منه ، فهي واحدة بالصنف أو النوع أو الجنس بحسب المراتب. والمشبّه عين المشبّه به من وجه ، وغيره من وجه ، لكن لا يباينه ، بل في الحقيقة هو هو ؛ إذ لا يصحّ التشبيه من جهة المباينة ، بل من جهة الاتّحاد.

وورد في ثمرات الجنة : اللون واحد والطعم مختلف ، وإن الشجرة الواحدة تحمل أصنافاً متعدّدةً ، بل اللون الواحد كلّما أراد الآكل منه لوناً آخر كان هو ، والشراب الواحد في الكأس الواحد يشرب منه الشارب أيّ نوع شاء من الشراب (1).

وورد في غيرها ( يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ) ، و ( نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ) (2).

الثاني : أن يكون من الاشتباه ، فإنّ في اتّحاد الأصناف المتمايزة في حقائقها بوجوداتها الخاصّة ، واتّحاد شجرتها ، وفي اتّحاد أصناف العلوم والأعمال ، مع رجوعها كلّها مع تمايزها بوجوداتها الخاصّة إلى شي ء واحد هو مادّة وجود الإنسان بما هو إنسان ، وإلى وجود العقل بالفعل ، وهو في مرتبته شي ء واحد ، وفي كونها بحسب الغاية والمعاد جواهر قائمة [ كما (3) ] صرّح بها الكتاب والأخبار ، وأسفر عنها واضح الاعتبار فاللّه تعالى يخلق من كلّ قطرة من ماء الغسل ملكاً يسبّحه نوع (4) اشتباه وغرابة بالنسبة إلى أوّل الفكر والنظر. ونظيرها كون النتيجة عين المقدّمات نهاية ، وغيرها بداية ، وحال الاستدلال عليها بها ورجوع العلل الثلاث إلى الغائيّة ، واتّحادها بها ضرب من الاتّحاد في النهاية ، مع تمايزها بمراتبها فيها ، واللّه العالم.

ص: 238


1- في صفة الجنة ونعيمها انظر بحار الأنوار 8 : 116 - 221.
2- الرعد : 4.
3- في المخطوط : ( كلّما ).
4- اسم ( إن ) المؤخر عن خبرها في قوله : ( فإن في اتحاد الأصناف المتمايزة .. ).

[80] أجل حقّ ووعد صدق ( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ )

قال تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (1). قيل : إن وقت حضور الأجل يمتنع عقلاً وقوعه قبله ، فمعنى ( لا يَسْتَأْخِرُونَ ) ظاهر ، فما معنى ( لا يَسْتَقْدِمُونَ ) ؟ وأي فائدة في هذا ونفي الاستقدام ملحق بالضروريات ، فمن الضروري نفي إعادة ما عدم من الزمان؟

قلت : قال النظّام النيسابوري : ( أُجيب بأنّ مجي ء الأجل محمول على قرب حضوره ؛ كقول العرب : ( جاء الشتاء ) إذا قارب وقته ، ومع مقاربة الأجل يصحّ التقدّم على ذلك الوقت تارة ، والتأخّر عنه أُخرى ) (2) ، انتهى.

وفيه أن مقتضاه أن الآية مجاز ، والأصل الحقيقة حتّى يقوم دليل المجاز ؛ لأنّ معنى الإشكال : أنه كيف يترتّب السبق على المجي ء ؛ إذْ الاستقدام معطوف على جواب الشرط الذي هو مجي ء الأجل؟

ويمكن أن يجاب بأنّ الدليل العقليّ قائم على [ استحالة (3) ] الحقيقة بحسب الظاهر وبادئ الرأي ، وهو قرينة المجاز. وفيه ما لا يخفى ، فهو ضعيف.

وقال القاضي : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) مدّة أو وقت لنزول العذاب بهم ، ( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ ) : انقرضت مدّتهم ، أو حان وقتهم ، ( لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (4)

ص: 239


1- الأعراف : 34.
2- غرائب القرآن ورغائب الفرقان 3 : 228.
3- في المخطوط : ( استقالة ).
4- الأعراف : 34.

لا يتأخّرون ولا يتقدّمون أقصر وقت ، أو لا يطلبون التأخّر والتقدّم ؛ لشدّة الهول ) (1) ، انتهى.

وفيه أنه حمل على المجازيّة أيضاً مع أنه غير دافع ؛ لأنّ امتناع ترتّب السبق على الحضور من ضروريّ فطر العقول فلا يطلب حينئذٍ بالضرورة.

وقيل : إنّ ( يستقدمون ) معطوف على جملة الشرط والجزاء وهو وجه ، ولكنّه ظاهريّ ، وعليه يكون التقييد بالساعة للتأخّر ، فيطلب له وجه أيضاً.

ويمكن الجواب عن أصل الإشكال بوجوه :

منها : أن الأجل يطلق على معنيين :

أحدهما : مجموع ما بين البداية والنهاية ، فأجل الدين ومدّة الإجارة مثلاً ، وكذا مجموع عمر الإنسان من أوّله إلى آخره مع البداية والنهاية.

والثاني : نفس النهاية فقط ، كأوّل جزء تحلّ فيه المطابقة بالدين المؤجّل مثلاً ، وكآخِر آنٍ من عمر الإنسان ، هذا بالنسبة إلى الزمان ، وفي غيره يراد به : مجموع الرتبة والطبقة أو نهايتها ، وهو طرف الحدّ المشترك بين الدرجتين. ولكلّ كور ودور سكّان ، فلا يستأخر موجود من الخلق عن رتبته ولا يستقدم ؛ زمانيةً كانت أو غيرها.

فعلى الأوّل إذا وصل قوس الوجود إلى رتبة ، أو دور الفلك إلى زمان لا يستأخر أهله عنه ساعة ولا يستقدمون ، بمعنى : أن كلّ موجود له رتبة أو زمان لا يتعدّاه بسبق ولا لحوق ، ( وَما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ ) (2) أفاض الوجود على قدر وسع القابليّات وطاقتها فقبلته باختيار رحمة منه تعالى ، فهو مختار ، فليس في صنعة جبر بوجه ولا اعتبار أصلاً.

فلو تعدّى موجود رتبته ، لزم كون أهل الرتبة المعيّنة والزمان المعيّن [ ليسوا (3) ]

ص: 240


1- تفسير البيضاوي 1 : 337.
2- فصّلت : 46.
3- في المخطوط : ( ليس ).

أهله من كلّ وجه ، بل ليسوا أهله بوجه ، والمفروض أنهم أهله من كلّ وجه ، هذا خلف.

ولزم أيضاً زيادة أهله عليه إنْ تأخّروا عن أوّله ، أو تقدّموا عن آخره ، أو تقدّموه أو تأخّر عنهم ، أو تقدّمهم أوّلهم أو آخرهم ، وهذا لازم الأوّل ، وعلى كلّ فرض لا يكون ما فرض أجلهم ، هذا خلف ، فلزم أيضاً قيام صفات الرتبة المعيّنة من الزمان أو غيره ولوازمها بالأُخرى من حيث هي صفات الأُخرى ولوازمها ، وهذا محال.

وعلى الثاني يلزم ذلك كلّه أيضاً ، وأن يكون ما فرض حدّا ونهايةً للشي ء ليس بحدّ ولا نهاية له ، فما فرض أجله ليس بأجله ، هذا خلف.

ولزم أيضاً تحقّق صفات الرتبة ولوازمها من حيث هي صفاتها ولوازمها فيما هو برزخ بين الرتبتين من حيث هو برزخ ، فترتفع البرزخيّة عمّا فرض برزخاً ، هذا خلف محال ؛ لما يلزم من الغناء عن الوسائط والمعدّات وهو محال ؛ ولأنه تكليف بما لا يطاق.

وعلى الوجهين يمكن أن يراد بمجي ء الأجل : مجيئه لوليّ الأمر ليلة القدر أو غيرها وعلمه به ، وأنه من المحتوم ؛ إذ لا يتحقّق الإمضاء ، وأنه أجله إلّا بذلك ، كما دلّت عليه رواية العيّاشيّ : عن الصادق عليه السلام : في تفسير الأجل المذكور في الآية « هو الذي سمّى لملك الموت » (1) في ليلة القدر. ومن المعلوم أن الذي يسمّيه لملك الموت إنّما هو وليّ الأمر.

وفي ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام في تفسيره : « تعدّ السنين ، ثمّ تعدّ الشهور ، ثمّ تعدّ الأيّام ، ثمّ تعدّ النفس ( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ ) (2) الآية » (3).

وهذا يدلّ أن المراد به انتهاء رتبة الدنيا ، وتجلّي الآخرة ، ولا منافاة ، واللّه العالم.

ومنها على الوجهين أيضاً - : أنه يمكن أن يراد بمجيئه : تحقّقه في رتبة

ص: 241


1- تفسير العياشي 2 : 21 / 39 ، وفيه : « يسمّى » بدل : « سمّي ».
2- الأعراف : 34.
3- الكافي 3 : 262 / 44.

الإمضاء ؛ لأنه حينئذٍ لا بداء.

وحاصله أنه إذا وصل إلى هذه الرتبة فلا بداء في تقديمه ولا في تأخيره.

ومنها : أن الواجب تعالى منزّه ومقدّس عن النقص في ذاته وصفاته وأفعاله من كلّ وجه ، فليس في أمره قهر لا إيجاداً ولا تكليفاً ولا موتاً ولا حياةً ولا رزقاً ، يمنّ على كلّ شي ء بما يقبله وسعه اختياراً ، فإذا جاء أجل كلّ امّة لا يطلبون التأخّر ولا التقدّم باختيارهم ؛ لعدم طاقتهم وقابليّتهم لذلك فلا يختارونه. ولأنّ من وافى إن كان على الفطرة جاد بنفسه لما ينكشف عن بصر بصيرته ، فلا يطلب التأخّر ولا الاستقدام ؛ لأنه يرضى بما يرضاه اللّه له ، بل يختار ما يرضاه اللّه على ما ترضاه نفسه. وإن كان على غير الفطرة فهو يطلب الاستئخار على هذا يطلبه الكافر ولا يطلب التقدّم ، والمؤمن على العكس من ذلك.

بقي السؤال عن وجه تقديم نفي التأخّر على نفي التقدّم؟ وهل التقدّم معطوف على جملة الشرط والجزاء ، أو على الجزاء وحده؟

فنقول وباللّه المستعان - : لعلّ الوجه في تقديم نفي التأخّر أن طلب الاستئخار أهمّ ؛ لأنه أوضح فائدةً من الآخر ؛ ولأنّ النفوس بطباعها وفطرها تكره الموت وتحبّ البقاء ، وتكره مفارقة المألوف من الحياة الدنيا.

فالمألوف انس النفوس به ، وكراهيّتها فراقه لا تخفى ، والعادات قهّارات ، فوصف حالهم يقتضي هذا الترتيب.

وأيضاً البقاء في نفسه أهون من الإيجاد ، والسكون أهون من الحركة ، والاستقرار أهون من الانتقال ، وظهور الرتبة الثانية والصورة الأُخرى في المادّة في نفسها أشقّ وأغمض من الأُولى.

أو لأنّ نفي طلب الدنيا بعد معاينة جمال الأُخرى أظهر وأولى من العكس. هذا بالنسبة إلى المؤمن ، فَرُوعِيَ في الترتيب حاله لشرفه ، ولأنّ كون الكافر إنّما هو بالتبعيّة له.

ص: 242

وأمّا الثاني فيحتمل الوجهين إلّا إن كون ( يستأخرون ) معطوفاً على جواب الشرط أظهرُ بحسب العبارة ؛ بقرينة دخول ( لا ) عليهما وبحسب الظاهر حينئذٍ.

ويرجّح الثاني أنه يكون حينئذٍ خبراً مستقلا دلّ به وبالأوّل على أن لكلّ حيّ عند اللّه أجلٌ لا يزيد ولا ينقص. وعليه يرتفع الإشكال من أصله ، واللّه العالم بحقائق أحكامه.

ص: 243

ص: 244

[81] حكمة يمانية : الفرق بين الدعاء والأمر

ممّا يفرّق به بين الدعاء والأمر والنهي أن حقيقة الدعاء طلب الإفاضة بالاستعداد لقبول الفيض ، فهو إذن عين الإفاضة. وحقيقة الاستكمال على قدر استعداد الداعي وتأهّله لظهور فعليّته بالاستفاضة وترقّيه في درجات الوجود والكمال والفعليّة ، وتحقّقه بذكره الأوّل ومناسبته للفواعل مجانسة أو مُناوعة أو مصانفة أو مشابهة ، ودخوله في زمر المدبّرات ، تطيعه الأكوان والقوابل ، وتفيض عليه الفواعل ، وتظهر فيه من قواه ودرجاته ما استجنّ في طباع الأوّل ، والثاني يكون فاعلاً بإذن القيّوم تعالى. وكلّما اشتدّت فعليّته وقابليّته وكانت بالفعل ، اشتدّ طاعةُ مَن دونه له وقبوله منه طوعاً أو كرهاً.

فدعاء كلّ داعٍ لا يتجاوز رتبته الوجوديّة بالفعل ، فإنّه لا يؤثر [ في ] غير قوسي دائرته. فكنه الدعاء محض العبوديّة لله تعالى وفعليّة الامتثال لأمر الإقبال ، فهي فاعليّة بوجه وقابليّة بوجه و ( فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) حتّى ينتهي الأمر إلى مقام العبوديّة المطلقة التي هي محض فيض الجواد بذاته.

فالداعي من حيث إنه قابل آمل خاضع مستكين جامد منزّه مقرّ بتقصيره غير ناظر إلى نفسه ، هو سمعه الذي يسمع به إلى آخره ، حتّى ينتهي إلى رتبة الدعاء اللساني المحض ، فهو أدنى درجات الداعين ، فهو استكمال ما بوجه ، وفيض ما واستفاضة ما بوجه.

أمّا دعاء الناطق للكامل فهو استكمال واستفاضة منه واستشفاع به وتوسّل بوجه ، ويلزمه استكمال المدعوّ له به ، حيث إن مبدأه من الكامل ؛ لأنه مقتبس من

ص: 245

نوره ، فهو نور أشرق على الناقص من الكامل بحسب رتبة قربه منه ، فهو فيض منه ، وإفاضته استكمالٌ واستفاضة ، وهكذا حقيقة الأمل تكميل للأدنى واستكمال واستفاضة من المبدأ الفيّاض بوسط وغير وسط ، فكل آمر مفيض على مَن دونه مكمّل له مستفيض ممّن فوقه مستكمل ، حتّى ينتهي الأمر إلى الآمر الحقيقيّ وهو [ اللّه (1) ] سبحانه الحقّيّ الغنيّ عمن سواه ، والمفتقر إليه مَنْ سواه.

فالدعاء من قوس ( يحبّونه ) ، والأمر من قوس ( يحبّهم ). ويمكن إدخال الأوّل في الثاني بوجه. والالتماس لا يخرج عنهما ؛ لما بينهما من التقابل ، أو هو كالبرزخ. وبذلك ظهر الفرق بين الدعاء والنهي ، فهما استكمال وتكميل أيضاً ، إلّا إنه برفع الموانع والمنافيات ، الذي هو عين وجود نقائضها وأضدادها بوجه ، وأقلّه الاستعداد بالفعل لقبول الضدّ أو النقيض.

والحاصل أن الدعاء ب- ( افعل ) أو ( لا تفعل ) هو نهاية حقيقة الداعي وتكليفه بوجه في الظهور ، فإنّ آخر مراتبه الوجوديّة والتكليفيّة هو الحسّي المتعلّق بالجوارح المحسوسة والحاسّة المحسوسة ، فهو نهاية مراتب ظهور ذكره الأوّل وظهوره وفعليّته به ، وهو النور الذي خلق منه. فكما أن حقيقته إيجاد واستمداد وقبول اختياري بحسب طاقته ووسعه ، فصفته وتكليفه هو طلبه بحقيقته الأمداد والبقاء على الفطرة الأوّليّة ( فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها ) (2) [ التي (3) ] فيها ترتفع المنافيات ، وبها وعندها تتحقّق فعليّة السبيلين ، وتكمل القدرة على الاختيار.

فآخر مراتب ظهوره واستكماله الوجوديّ طلبه الجسميّ بلسانه اللحميّ وبجميع جوارحه الحسّيّة الجسميّة. والأمر والنهي صفة الفاعليّة ، كما أن الدعاء صفة المفعوليّة ، وحقيقة المفعول من حيث هما كذلك ، واللّه العالم.

ص: 246


1- في المخطوط : ( أمره ).
2- الروم : 30.
3- في المخطوط : ( الذي ).

[82] شهاب ثاقب لرجم شيطان كاذب : شبهة لبعض الحشويّة في الإمامة

رأيت منقولاً عن ابن القيّم أنه قال : ( جرى بيني وبين بعض النصارى مناظرة ). وذكر صورتها ، وحاصل ما ذكره أن محمَّداً صلى اللّه عليه وآله : ادّعى النبوّة ، وأنه رسول اللّه : وأبطل الشرائع ، وقتل أتباع الرسل ، واستحلّ دماءهم وأموالهم وفروجهم ، وقال : إنه بأمر اللّه ، وبقي ثلاثاً وعشرين سنة كذلك ، وأمره لا يزال في علوّ وظهور واستحكام ، وأسباب النصر والغلبة تتأتّى له وتتيسّر ، ودعوته مستجابة ، ونصره يتزايد خارجاً عن عادة البشر ، وأعداؤه في الهلاك والذلّ ؛ تارة بدعائه ، وأُخرى بدونه ، وحاجته مقضيّة ، وأمانيه حاصلة على أتمّ وجه وأكمله ، واللّه سبحانه وتعالى لا يقهره ، ولا يأخذ منه باليمين ، ولا يقطع منه الوتين ؛ فإمّا أن يكون صادقاً ، أو ليس للعالم صانع ولا مدبّر ؛ إذ لو كان للعالم صانع مدبّر قدير حكيم لقابلة على شدّة ظلمه وافترائه على اللّه أعظمَ مقابلة ، وجعله نكالاً للصالحين ؛ إذ لا يليق بالملوك غير هذا ، فكيف بملك الأرض والسماوات؟

أو أن للعالم صانعاً ، لكنّه متّصف بأشدّ الظلم والسفه وإضلال الخلق ونصرة الكاذب ، والتمكين له وإجابة دعوته وإقامة أمره من بعده ، وإعلاء كلمته وإظهار دعوته ، والشهادة له بالنبوّة قرناً بعد قرن على رؤوس الأشهاد في كلّ مجمع ، وذلك ليس من فعل أحكم الحاكمين ، بل ذلك قدح وطعن وإنكار لربّ العالمين بالكليّة.

ص: 247

ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذّابين أقام (1) في الوجود وظهرت له شوكة ، ولكن لم يتمّ له أمره ولم تطل مدّته ، بل سلّط عليه الرسل ومحقوا أثره واستأصلوا شأفته ، هذه سنّة اللّه في عباده منذ قامت الدنيا وإلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها. انتهى ملخّصاً ، بحيث لا يشذّ من معناه شي ء ، بل أكثر العبارة بحروفها.

وقد استغنم الظفر بهذا بعض من تمنّى بهواه هدم أساس مذهب الشيعة ، فكتب عليه ما صورته : ( تفكّر في هذه الحجّة ، وافطن أن مثلها وارد في شأن الرافضة في دعوة الإمامة ، وأنّها حقّ لعليّ : ثمّ لولده من بعده ، وأنّهم قهروا وغصبوا إلى يوم القيامة ، ثمّ مع ذلك إذا ذكر الغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين ، يقولون : كيف هذا ، ونحن نرى الدولة تارة تكون لأهل السنّة وتارة تكون للرافضة في بلدان عديدة؟

وبيان الفساد أن الدولة إنّما تكون لإمام الطائفة وإلّا فلا يستقيم كون الطائفة في عزّة ، وإمام الطائفة في الذلّ باعترافكم ، فلو كان كما تقولون لزم الإمام القيام عند ذلك ؛ للعزّ ، ولكن ليس لهم إلّا الذلّ والخزي في الدارين ، فتدبّره فإنّه نفيس جدّاً ) ، انتهى.

وأقول وباللّه الاعتصام - : قد تدبّرناه بأدنى ملاحظة في حال شدّة الاشتغال ، وتلاطم أمواج البلبال ، وتراكم سحائب الزلزال ، فوجدناه مبنيّاً على شفا جُرف هارٍ فانهار به في نار جهنّم ، من وجوه :

الأوّل : (2) أن أصله الذي عوّل عليه ، وأخلد إليه مبنيّ على أن من بغى على اللّه وعصاه وتقوّل عليه لا تمدّ له دولة ولا تعلو له كلمة ولا يتمكّن من أسباب النصر ، بل لا بدّ من أن يعاجله بالعقوبة والاستئصال ، وأن علوّ الكلمة وتيسير أسباب النصر وظهور القهر والغلبة وطول مدّتها دليل على [ حقيّة (3) ] الدعوة ، وأن امتداد دولة المفتري على اللّه وظهور كلمته وتيسير أسباب النصر له ينافي قدرة اللّه وعدله وحكمته بل وجوده.

وهذه الحجّة مع كونها واهية هاوية في نفسها ، لا تتمّ حجّة على الرافضة في

ص: 248


1- كذا في المخطوط.
2- في المخطوط : ( أحدها ).
3- في المخطوط : ( حقيقة ).

دعواهم اختصاص الإمامة بعليّ عليه السلام : وخواصّ بنيه عليهم السلام من وجوه :

أحدها : منع الدعوى الذي بنى عليه وهمه ، وهو سراب حسبه ماء ؛ إذ لا برهان له عليه ، ولا دليل من الطرق الثلاثة والكتب الأربعة (1).

الثاني : معارضتها بالبرهان المتضاعف المحكم عقلاً ونقلاً كتاباً (2) وسنةً (3) على وجوب عصمة الإمام ؛ لأنه خليفة اللّه وحجّته على عباده ، وبابه وسبيله الذي لا يؤتى إلّا منه ، وخليفته الذي ألبسه ثوب عزّه ، وجعله خليفة رسوله على أُمته ، والقائم مقامه ، والسادّ مسدّه في كلّ شي ء تحتاج له الخلق.

فإذن كلّ ما دلّ على وجوب عصمة الرسول دلّ على وجوب عصمة الإمام ؛ لأنّ حاجة الخلق لهما سواء ، خصوصاً في بيان معاني الكتاب والسنّة ، والسياسة والرياسة.

وقد أمر اللّه بالكون مع الصادقين (4) ، ولا يتحقّق الصدق الكامل من كلّ وجه ، وهو الذي يجب صرف المطلق إليه مع إمكان صدور المعصية ، فضلاً عن وقوعها في حال. ولو كانت مطلقةً عامّة لدخل فيها كلّ كافر ؛ للجزم بوقوع الصدق منه في حالٍ ما ، وهو غير مراد بالضرورة ، وقال تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (5).

والمراد بها : عليّ : وفاطمة : وابناهما عليهم السلام ، كما استفاضت بها النصوص من الطرفين (6) ، بل تواتر مضمونها.

ص: 249


1- كذا في المخطوط.
2- البقرة : 124.
3- بحار الأنوار 25 : 191 - 211 / 1 - 20.
4- في قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ) . التوبة : 119.
5- الأحزاب : 33.
6- تفسير القمّيّ 2 : 193 ، التبيان في تفسير القرآن 8 : 339 ، عمدة عيون صحاح الأخبار : 31 - 47 / الفصل الثامن ، مسند أحمد بن حنبل 4 : 107 ، صحيح مسلم 4 : 1501 / 61 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 158 - 160 / 4705 - 4707 ، 4709.

واستفاض أيضاً أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : قال في شأن علي عليه السلام : دون من سواه : « عليّ : مع الحقّ » (1) إلى آخره.

ولا يكون كذلك من تصدر منه [ معصية (2) ] بحال ، فضلاً عن الكفر ؛ لأنهما من الباطل بالضرورة.

وأنه قال صلى اللّه عليه وآله « أهل بيتي كسفينة نوح في قومه » (3) إلى آخره.

و « كباب حطّة » (4) إلى آخره.

و « أمان لأهل الأرض » (5) إلى آخره.

وأنهم « لا يفارقون القرآن ولا يفارقهم » (6).

وأنّهم « الثقل الأصغر » (7).

إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ، ممّا هو نصّ في عصمتهم.

وقد أقام الرافضة البرهان المتضاعف المحكم على عصمة عليّ : وخواصّ بنيه عليهم السلام ، وأنّهم حجّة اللّه على عباده ، ومستودع سرّه ، وعيبة (8) علمه ، كما يؤيّده ما أثبته مخالفوهم ، فضلاً عن أتباعهم من معاجزهم وكراماتهم التي لم تُدّعَ في غيرهم وبين أتباعهم أيضاً على لسان الخصم وغيره ، ما ثبت في غيرهم ممّن تغلب منه المعاصي والكفر والأُمور المنافية لمنصب الإمامة التي هي خلافة اللّه ورسوله العامّة ، وقطب رحى دائرة الوجود.

الثالث : النقض بما هو ضروريّ من تعمير إبليس : وإنظاره وغلبة جنده على أكثر

ص: 250


1- مناقب آل أبي طالب 3 : 76 ، 77 ، 297 ، تاريخ بغداد 14 : 321 / 7643.
2- في المخطوط : ( معصيته ).
3- عمدة عيون صحاح الأخبار : 359 - 360 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 163 / 4720.
4- الأمالي ( الطوسيّ ) : 733 / 1531.
5- فرائد السمطين 1 : 45 / 11 ، وفيه : « أهل » بدل : « لأهل ».
6- كمال الدين : 241 / 64.
7- تفسير العياشي 1 : 15 / 3.
8- العيبة : مستودع السر. لسان العرب 9 : 491 عيب.

الجنّ والإنس واستمرار دولته ، وكذا النصارى وعبدة الأوثان على تباين أصنافهم ، وتيسير أسباب الغلبة والنصر لهم في أكثر المعمورة كما هو مشاهد محسوس. فإذا أمكن بل وجد إمهال اللّه تعالى لمثل فرعون : ونمرود : وأضرابهم من عتاة الأُمم السالفة المئات من السنين بل الأُلوف كما هو معلوم يقيناً بالاستفاضة.

ولمثل إبليس إلى يوم الوقت المعلوم مع ظهور الغلبة وتيسير أسباب النصر ، بل ولمثل أهل الضلال من هذه [ الأُمّة (1) ] ، ولمثل قتلة الرسل ولمن سباهم وشرّدهم. وما جرى على ذرّيّة محمَّد صلى اللّه عليه وآله : معلوم بالضرورة.

فإذا جاز أن يمهل مثل هؤلاء المذكورين طرفة عين لأمرٍ هو بالغه ، وحكمة هو أعلم بها ، وتكميلاً للحجّة البالغة ، وتحقيقاً لكمال اختيار المكلّفين وغير ذلك ، فلِمَ لا يجوز أن يمهل راصد الخلافة برهة من الزمان ؛ ليستنطق صامت الإمكان وتبلغ الحجّة ويستحكم البرهان ، ويحيا من حيّ عن بيّنة ، ويهلك من هلك عن بيّنة ، ويكمل الاختيار ويظهر الاختبار ، كما هو مقتضى ذلّ العبوديّة ورحمة المعبود وغير ذلك؟

الرابع : أن دعواه لا يتم إلّا بإثبات أن من سوى عليّ عليه السلام : وخاصّة بنيه عليهم السلام يقولون عن اللّه ويأتون بما يدلّ على صدق دعواهم من الكرامات والمعاجز ؛ ليكون قولهم عن اللّه ورسوله بيقين ، وبأنّ علياً عليه السلام : وخاصّة بنيه عليهم السلام لا تكون لهم العاقبة ، وليسوا من ورثة الأرض بيقين. وهذا باطل بيقين ؛ إذ ليس له عليه سلطان مبين ، وليس أحد يدّعي ذلك من جميع المكلّفين فضلاً عن أن يقيم عليه شبهة فضلاً عن البرهان.

نعم ، أطبقت الأُمّة على أن عليّاً عليه السلام : وخواصّ بنيه عليهم السلام من خاصّة اللّه وخالصته من خلقه ، ومن سادات الصالحين الذين هم شهداء اللّه ، وأولياء اللّه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وأنّهم سفينة النجاة ، وباب حطّة ، والنجوم التي يُهتدى بها ، وهي الأمان والثقل الذي لا يفارق القرآن بوجه ، وغير ذلك ممّا لا يحصى من خواصّهم العليّة ومزاياهم الجليّة ، فهم الذين يورّثهم الأرض بطريق أولى من جميع من سواهم.

ص: 251


1- في المخطوط : ( الإمامة ).

وقد أوضحنا بحمد اللّه في غير هذه [ العجالة (1) ] أن العزّة لله ولرسوله ، ولهم ولأتباعهم ، وأنّهم المخصوصون بنصر اللّه أبداً من حين بعث اللّه محمَّداً صلى اللّه عليه وآله : إلى أن يورّثهم اللّه الأرض ومن عليها بالبرهان المتضاعف.

الخامس : أنه لو ثبت دعواه لثبت عكسه ، ونقيضه وعكسه ، فثبت أن كلّ من لم تنشر دعوته وتعلُ كلمته وتمتدّ دولته وتحصل على كلّ حال نصرته ، فهو ليس بصادق ولا من أهل الحقّ ؛ فيخرج جلّ الأنبياء والرسل عليهم السلام على هذا عن أهل الحقّ والصدق ؛ إذ لم تسمع لأكثرهم دعوة ، ولم تقبل منهم موعظة ، ولم تثبت لهم في ظاهر الحال نصرة ، ولا علت لهم في ظاهر الحال كلمة ، ولا حصلت لهم على أهل زمانهم غلبة.

وفي الخبر عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : أنه رأى النبيّ ومعه الرهط ، والنبيّ ومعه الرجلان والرجل ، والنبيّ وليس معه أحد. مع أنه لا شكّ في كونهم هم الدعاة إلى اللّه ، وذلك لا ينافيه.

بل ويلزم أن الرسول صلى اللّه عليه وآله : مدّة مقامه في مكّة لم يعلم بأنه من أهل الحقّ والصدق ، بل ولم يكن منهم لعدم غلبته في الظاهر على عتاة قريش.

بل ويلزم كون قريش في ذلك الحال هم أهل الحقّ.

بل ويلزم انقلاب الحقّ باطلاً وبالعكس ، وذلك كلّه باطل بالضرورة.

الثاني : (2) أن قوله : ( ومع ذلك نراهم إذا ذكرت الغلبة ) إلى آخره ، بهتان عليهم وزور ؛ إذ لم يقل أحد منهم بذلك ، ولا وجد في شي ء من كتبهم ، والكذب لا يؤسّس دعوى.

نعم كلّ مسؤول عن شهادته يوم تبلى السرائر ، بل من تصفّح زبرهم وجدهم قد أقاموا البرهان المتضاعف عقلاً ونقلاً على أن العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين منذ بدأ اللّه الخلق إلى أن يرجع كلّ شي ء إلى ما منه بدأ.

ص: 252


1- في المخطوط : ( العزالة ).
2- في المخطوط : ( السادس ).

وأدنى ذلك ما يشاهد من حال الأنبياء وأتباعهم مع قلّة عددهم ، وضعف أتباعهم ، وعدم ناصريهم في دولة الجهل مع حرص سلاطين الجور وأتباعهم على إبادتهم عن جدد الأرض ؛ إذ لا ضدّ لهم غيرهم ، ومع ذلك لا تنقطع دعوتهم إلى اللّه وهدايتهم الخلق وبيان الدليل إلى السبيل وإقامة الحجّة ، ومع ذلك يعيشون في الأرض بين ظهراني أضدادهم ، بل وكثيراً ما يخدمهم أعداؤهم خدمة العبد ، ويهابونهم ويعظّمونهم تعظيم العبد للمولى.

فيكفي في ثبوت نصر اللّه لهم بقاؤهم على وجه الأرض بين أظهر أضدادهم الجبابرة العتاة داعين إلى اللّه دالّين عليه بالبرهان والحجّة ، وعلى بطلان عقائد من سواهم وكفرهم ، والحال أنّهم تحت سلطنتهم.

الثالث : (1) أن قوله : ( إن الدولة إنّما تكون لإمام الطائفة ) إن أراد بهذا الحصر أن الدولة تختصّ بالإمام دون المأموم ، فهو واضح الفساد ؛ لوضوح التلازم بين دولة التابع والمتبوع. وإن أراد أنه يجد للرافضة دولة في بعض البلاد ، والدولة يختصّ بها الإمام دون المأموم ، فهو أوضح فساداً ؛ لأنّ دولة المأموم من حيث هو مأموم لازم مساوٍ لدولة الإمام ، وإلّا لم يكن مأموماً ولأنّ دولة الراعي علّة لدولة الرعيّة من حيث هم رعيّة ، فدولتهم دليل دولته ، وبالعكس. فتسليمه وجود اللازم المساوي والمعلول وإنكار الملزوم والعلّة جهل أو عناد. هذا مع أنه منافٍ لحصره الدولة في الإمام.

وإن أراد أنّهم لا دولة لهم ، وإلّا لوجدت دولة إمامهم ؛ لأنّها أوّلاً وبالذات ولهم بالتبعيّة ، فقد أثبت الرافضة بالبرهان المتضاعف عقلاً ونقلاً دولة إمامهم وأنه سلطان الدنيا والآخرة ، وأن العالم بأسره في قبضته ، وأنه عين اللّه ويده (2) وخليفته المطلق ونائبه الخاصّ الخالص وسبيل خلقه طرّاً إليه. ولا ينافي ذلك عدم ظهوره لكلّ عين بحيث تراه وتعرفه بشخصه ، فإنّه المؤيّد بنصر اللّه المستر بسرّ اللّه إلى أمدٍ اللّهُ أعلم

ص: 253


1- في المخطوط : ( السابع ).
2- بحار الأنوار 24 : 199 / 27 ، و 25 : 174 / 38.

به ، وحكمة هو أعلم بها.

فهذه سائر ملوك الأرض ممّن يدّعي الإسلام وغيرهم لم نرهم ، بل ولا جُلّ رعاياهم ؛ [ لاحتجابهم (1) ] بحجاب الملك والتعظّم والتجبّر ، فعدم الرؤية لا يستلزم نفي السلطنة والنصر والعزّة ، وإلّا لما كان لإبليس وحزبه دولة.

الرابع : (2) أن قوله : ( لا يستقيم ) إلى آخره ، مسلّم ، ومنه يعلم أن ثبوت عزّ الرافضة ودولتهم في وقتٍ وبوجه ما يستلزم عزّ إمامهم ، ووجود دولته في جميع الأوقات ، وبجميع الجهات والحالات ؛ لأنّهم الأقلّون عدداً ، مع شدّة حرص جميع من على وجه الأرض ممّن خالفهم على إبادتهم. والحال أنّهم معروفون بأعيانهم وبلدانهم ، وكتُبهم منتشرة ، وبراهينهم على الحقّ ظاهرة مشهورة ، قد ملأت ما بين الخافقين ، ومع هذا لم يُخلِ اللّه الأرض منهم ، ولا من علمائهم الداعين إلى اللّه ، المبطلين للباطل ، الموضّحين للحقّ في كلّ زمان مع شهرتهم. فذلك من أوضح البراهين على عزّ إمامهم ، ودوام نصره ووجوده ، وقهره لعدوّهم عنهم بقدرة اللّه تعالى.

الخامس : (3) أن قوله : ( فلو كان كما تقولون ) إلى آخره ، تقوّل على اللّه بغير علم ، وتخرّص في الأديان بغير برهان. كيف ، والدعاة إلى اللّه في كلّ زمان من أزمنة ظهور دولة الباطل وغلبة الجهل وجنوده يخفون أشخاصهم في كثير من الأزمان عن أهل الطغيان ، ولكلّ رسول غيبة ، كما يعرف ذلك من وقف على السير والأخبار ، خصوصاً أكابرهم كإدريس : ويونس : وموسى : وإبراهيم : وعيسى : ومحمّد : صلى اللّه عليه وآله وعليهم أجمعين وغيرهم؟

هذا وقد تواتر البرهان المحكم عقلاً ونقلاً (4) ، وأطبقت العقلاء على عدم جواز خلوّ زمان من أزمنة التكليف من حجّة لله من البشر ؛ إما ظاهر مشهور ، أو خائف

ص: 254


1- في المخطوط : ( لاحتجاجهم ).
2- في المخطوط : ( الثامن ).
3- في المخطوط : ( التاسع ).
4- بحار الأنوار 23 : 20 / 16 ، 17.

مغمور ، وهو شهيد اللّه وعينه في بريّته ، ولسانه المعبّر عنه بالصدق ، وسبيل خلقه إليه ، مع وقوع الفترات بين الرسل. وما ذاك إلّا لأنّ الحجّة غير ظاهر مشهور معروف بشخصه ، بل مغمور لا معدوم ، وإلّا لارتفع التكليف لارتفاع الحجّة المبيّن الحافظ للشرع القويم. فيكون الخلق حينئذٍ عبثاً ، ولا يجوز على اللّه العدل القادر الرحيم التكليف بما لا يطاق.

فتبيّن أن هذا المُشَبّه قد حكم على خليفة اللّه وأمره بما لم يأمره اللّه ، وطلب منه فعل ما لم تقتضِه حكمة اللّه وعدله ورحمته في تدبيره عباده ، بل اقتضت عكسه. وقد عرفت أن عدم ظهوره للأبصار الحسّيّة لا ينافي عزّه وظهوره للبصائر القدسيّة وتأييده الإلهي. فله شبه بالرسل كيوسف عليه السلام : ومن ذكرنا منهم فقد أخفوا أنفسهم ، حتّى إن أسباط يعقوب عليه السلام : لم يعرفوا يوسف عليه السلام : أخاهم ، والحال أنهم لم يُزايلهم عزّ اللّه ونصره.

فما أورده هذا المُشَبّه وارد عليه في شأن هؤلاء الرسل ، بل وفي شأن محمَّد صلى اللّه عليه وآله : قبل الهجرة ، مع أنه المجاب الدعاء ، المؤيّد بنصر اللّه وعزّه منذ خلق اللّه السماوات ، وإلّا لكان يحيى عليه السلام : وأضرابه أفضل منه بوجه ، فلا يكون أشرف الكلّ في الكلّ مطلقاً ، وهو كذلك مطلقاً ، هذا خلف.

السادس : (1) أنه إن سُلّم دعواه وتمّ ثبت به حقيقة مذهب الرافضة ودعواهم اختصاص عليّ عليه السلام : وبنيه الأطياب المعصومين : بالإمامة ؛ لظهور هذه الدعوى من الرافضة وغيرها ممّا اختصّوا به ، وانتشاره ودوامه واستمراره واشتهار ما برهنوا به عليه ، مع استمرار وجودهم ، وتزايد اشتهار دعواهم على مرّ السنين. والحال أنهم عدد نزر قليل جدّاً في كلّ زمان بالنسبة لأعدائهم ، مع شدّة حرص أعدائهم على إبادتهم.

ما ذاك إلّا نصر إلهيّ ، وتأييد ربّانيّ ، وإلّا للزم بمقتضى دعواه أن يأخذهم اللّه ويستأصلهم كسائر من تقوّل عليه ، فإنّهم يقولون : إن إمامة عليّ عليه السلام : والأحد عشر من بنيه جاءت من اللّه بنصّ من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله.

ص: 255


1- في المخطوط : ( العاشر ).

وهذا المفتري وأضرابه يعتقدون في الرافضة أنّهم يسبّون أولياء اللّه وخلفاء رسوله ؛ فإذن على هذا يجب في حكمة اللّه استئصالهم ، وإذا مهّل اللّه لهم وأمدّهم باشتهار الذكر والنصر ، فإذن هم الفرقة الناجية المحقّة.

السابع : (1) أنه إن أراد بالدولة : العزّ (2) الدنيوي ، وباستمراره : استمراره برهة ما معلومة أو غير معيّنة ، فلا خفاء ولا ريب في ثبوت ذلك لمن ثبت كفره وعتوّه على اللّه بالضرورة من الدين والتواتر المحكم ، كفرعون : ونمرود : وإبليس : وغيرهم من الفراعنة ؛ لأسباب اقتضتها حكمة الحكيم القادر العليم ، فأمهلهم وأملى لهم ، لتكمل الحجّة ويتمّ الاختيار ، ويظهر الاختبارُ كامنَ ما في النفوس. فثبوت ذلك لهم لا يدلّ على [ حقيّة (3) ] الدعوى ولا عدمه على بطلانها بضرب من ضروب الدلالات ، بل الوجدان يشهد بخلافه.

وإن أراد العزّ الإلهيّ والدولة الربّانيّة ، فعدم ظهور صاحبها للأعين الحسّيّة لا ينافي ثبوته له في الواقع ، كما هو معلوم من سير الأنبياء والرسل عليهم السلام والأولياء حتّى محمَّد صلى اللّه عليه وآله : فإنّهم يدورون في جميع أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم وحركاتهم وسكناتهم مطلقاً على مشيئة اللّه تعالى وحكمته ( عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (4) في جميع أحوالهم مطلقاً.

فلو كان صبرهم على أذى الأعداء ينافي عزّهم ونصرهم الإلهيّ الحقّيّ لكان ما فعل بهم الأعداء من القتل وغيره ينافي قدرة القادر العليم بذاته ، بل ولكان كفر من كفر ، بل ومعصيةُ من عصى مع إمهال اللّه له ، كما هو بالوجدان ينافي قدرة اللّه وعزّه.

فإذن صبر أوليائه على الأذى وعلى مخالفة من خالف أمرهم ، وخالف أمر اللّه لا يدلّ على ذلّهم ولا على عجزهم عن قهر الأعداء واستئصالهم ، بل يدلّ على أنّهم يعاملون الخلق بما اقتضته فيه حكمة الحقّ. فرحمة اللّه ورأفته بعباده وحكمته فيهم

ص: 256


1- في المخطوط : ( الحادي عشر ).
2- في المخطوط : ( والعز ).
3- في المخطوط : ( حقيقة ).
4- الأنبياء : 26 - 27.

أمرت نوّابه بالصبر على ذلك مع قدرتهم على استئصالهم أعداءهم ؛ لأنّ قدرتهم من قدرة اللّه ، وناصرهم هو اللّه القاهر فوق عباده.

هذا مع أن ذلك القاطع للطريق ، الملقي نفسه في أضيق المضيق ، ليس له سلطان ولا برهان ولا أثارة من علم على أن دولة غير عليّ عليه السلام : وبنيه المعصومين عليهم السلام وعزّهم بنصرٍ إلهي وتأييد ربّانيّ ، ولا على أنّها مستمرّة أبداً ، فلِمَ لا يجوز أن تكون دولة أئمّته كدولة نمرود : وفرعون : وبخت نصر : وإبليس : وغيرهم من الفراعنة؟ ولا على أن عليّاً عليه السلام : والأئمّة من بنيه عليهم السلام ليس لهم عزّ ونصر إلهيّ ولا تقوم لهم دولة وعزّ ، ونصر مستقرّ ، وكلمة عليا ظاهراً محسوساً.

وإنّما أدلّة الرافضة وبراهينهم العقليّة والنقليّة على دعواهم في عليّ عليه السلام : مشهورة مستمرّة الظهور بلا تناقض ولا منافٍ. وجميع الأُمّة مطبقة على شدّة علوّ درجتهم في العلم والعمل والسياسة والرياسة وجميع المكارم والمآثر ، وعلى شدّة براءتهم وتقدّسهم عن كلّ منقصة ورذيلة ، وتعاليهم عن [ الحظوظ (1) ] البشريّة ، ولم يكن ذلك في سواهم من الأُمّة أصلاً ، فهم كباب حطّة (2) وكسفينة نوح عليه السلام (3) : وكنجوم السماء (4) ؛ فهم الأمان ومنهم ظهر نور الإيمان ، ولهم دعا الرسول صلى اللّه عليه وآله : بقوله : « اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً » (5).

فهم المطهّرون على الإطلاق ، وقد أنزل اللّه تعالى فيهم ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) (6) ، الآية.

وهم أحد الثقلين اللذين لا يفترقان (7) ، فأيّ برهان على عصمتهم أوضح من

ص: 257


1- في المخطوط : ( الخصوص ).
2- الأمالي ( الطوسيّ ) : 733 / 1531.
3- عمدة عيون صحاح الأخبار : 359 - 360 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 163 / 4720.
4- فرائد السمطين 2 : 244 / 517.
5- مناقب أمير المؤمنين ( ابن المغازلي ) : 301 - 307 / 346 - 351.
6- الأحزاب : 33.
7- انظر ينابيع المودّة 1 : 95 - 106 / فصل في حديث الثقلين والغدير.

هذا؟ مع أن براهين عصمتهم لا تحصى ، وقد نصّ الرسول صلى اللّه عليه وآله : باتّفاق الفريقين على أن منهم المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً (1) ، وعلى أن عليّاً عليه السلام مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار (2).

وقال فيه : « وصيّنا خير الأوصياء ، وهو بعلكِ يا فاطمة » ، رواه الطبراني (3) : وغيره (4) من أكابر المحدّثين ، فقد فضّله على جميع أوصياء المرسلين مثل شيث : وشمعون الصفا : ويوشع : وهارون : عليهم السلام وأضرابهم.

فلعمري ما أصرّح هذه الأخبار المستفيضة في عصمتهم! كيف لا يكون عليّ عليه السلام : سيّد الأوصياء : بل سيّد الخلق بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : وهو وصيّ أشرف الخلق مطلقاً في كلّ كمالٍ وفضيلةٍ؟ فلو لم يكن وصيّه كذلك لما كان له الشرف والسيادة على من سواه من الخلق في كلّ شي ء مطلقاً ، وهو كذلك مطلقاً.

ولم يثبت لغير عليّ عليه السلام : والأئمّة من بنيه عليهم السلام معشار عشر سهم من ألف ألف ألف سهم ممّا ثبت لهم من الكمالات والكرامات الثابتة بالاستفاضة. بل ولم يثبت لغيرهم شي ء يدلّ على حقيقة دعواه من جميع من ترأس في هذه الأُمّة أو ادّعيت له الرئاسة. فأمكن أن يكون اعتقاد إمامة غير علي عليه السلام : والأئمّة عليهم السلام من بنيه كاعتقاد ربوبيّة فرعون : وأن المسيح عليه السلام : ابن اللّه ، وأن أصنام المشركين شفعاء إلى اللّه ، وغير ذلك ممّا يُفترى على اللّه ، فإنّ مدّعي ذلك موجود إلى الآن ، ولبعضهم دولة وعزّ ظاهر كالنصارى وعبدة الأوثان.

الثامن : (5) أن قوله : ( فليس لهم إلّا الذلّ ) إلى آخره ، سبّ وفحش مجرّد لا يؤسّس دعوى ، فضلاً عن أن يؤصّل ديناً ويبطل آخر ، فهو من قبيل قول الكفّار

ص: 258


1- كفاية الأثر : 47.
2- انظر مناقب آل أبي طالب 3 : 76 ، 77 ، 297 ، تاريخ بغداد 14 : 321 ، 7643.
3- المعجم الكبير 3 : 57 / 2675 ، بتفاوتٍ يسيرٍ.
4- ذخائر العقبى : 135 - 136 ، بتفاوتٍ يسيرٍ.
5- في المخطوط : ( الثاني عشر ).

للرسل : إنّهم سحرة ، وإنّهم يقولون باجتهاد لا بوحي ، وإنّهم يعصون ، وإن القرآن أساطير الأولين.

ولكن من انسلخ عن آيات اللّه ومُسخ جُعلاً بعد أن كان رجلاً ، يحكم بنفاسة القاذورات ويستطيب ريحها ؛ لأنه من سنخها ويستبزّ الحقّ ؛ لأنه ليس من أهله. واللّه متمّ نوره ولو كره الكافرون ، وصلّى اللّه على محمّد : وآله الطيّبين ، والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 259

ص: 260

[83] هداية نوريّة في مسألة فقهيّة : مسألة ما لو قطع المصلّي بعد القيام بأنّه ترك سجدة وشكّ في محلّها

لو قطع المصلّي بعد استقلاله قائماً بأنه ترك سجدة ، وشكّ في أنّها من الركعة التي قام عنها أم من ركعة قبلها؟ مضى في صلاته وقضى سجدة بعد التسليم وسجد للسهو ؛ لأنّها إن كانت من الركعة التي قام منها فهو شاكّ في السجدة بعد استقلاله قائماً ، فلا عبرة بشكّه ؛ لأنه شاكّ في سجدة من الركعة التي قام منها بعد استقلاله قائماً ، فلا عبرة بشكّه.

وإن كانت من ركعة قبلها فقد تجاوز محلّ استدراكها ؛ لدخوله في ركن آخر ، فيقضيها بعد التسليم ، ويسجد للسهو. والأحوط حينئذٍ الإتمام هكذا والإعادة ، بل هو أولى.

ولو كان هذا الشكّ قبل القيام سجد ؛ لأنه شاكّ في سجود الركعة التي هو فيها وهو في محلّ التلافي ، وبعد التسليم يقضي سجدة ؛ ليخلص من محذور كونها من (1) ركعة قبلها ، ثمّ يجسد للسهو ، واللّه العالم.

ص: 261


1- في المخطوط بعدها : ( سجدة قبلها ).

ص: 262

مسائل الشيخ عبد اللّه ابن الشيخ عباس الستراوي

اشارة

ص: 263

ص: 264

[84] درر بحرانية

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين ، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم.

الدرّة الأُولى : هل تحريم الكلام في الصلاة من حين فرضها أم كان محلّلاً فنسخ؟

قوله : ( ما تقول في تحريم الكلام في الصلاة ، هل هو في ابتداء الإسلام ، أم كان محلّلاً فنسخ إلى التحريم؟ وهل بحث في هذه المسألة أحد من أصحابنا أم لا؟ ).

الجواب وباللّه المستعان - : لا يحضرني من بحث في ذلك من أصحابنا ، ولا أرتاب في أن الكلام الخارج عن أجزاء الصلاة وعن ذكر اللّه والدعاء ينافي حقيقة الصلاة ؛ فإنّها « معراج المؤمن » (1) ، وعمود خيمة الأعمال (2) الذي إذا سقط سقط سائرها ، وإن قبلت قبل ما سواها (3). وهي الناهية عن الفحشاء والمنكر (4) بحقيقتها وكنهها كما هو ظاهر لمن شمّ طيب عرفها.

ص: 265


1- انظر بحار الأنوار 79 : 303 / ذيل الحديث : 2.
2- عوالي اللآلي 1 : 322 / 55 ، وفيه : « الصلاة عمود الدين ».
3- الكافي 3 : 268 / 4 ، وسائل الشيعة 4 : 108 ، أبواب المواقيت ، ب 1 ، ح 2 ، باختلاف.
4- إشارة إلى قوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) .

وقد ورد تأويلها بالإمام (1). ولا ريب عند ذي لبّ أنه لا يتحقّق العروج ولا المعراج حال الالتفات والاشتغال بغير الغاية ، فلا يمكن أن يحلّ في حال من الأحوال فيها الكلام الخارجيّ حتّى يدخله النسخ.

نعم ، وقفت على حديثين من طرق العامّة أخرج كلّاً منهما مسلم : في صحيحه بطريقين ، لفظ أحدهما :

عن عبد اللّه : قال : كنّا نسلّم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : في الصلاة فيردّ علينا ، فلمّا رجعنا من عند النجاشيّ : سلّمنا عليه ، فلم يردّ علينا ، فقلنا : يا رسول اللّه : كنّا نسلّم عليك في الصلاة فترد علينا فقال : « إنّ في الصلاة شغلاً » (2).

وثانيهما : عن زيد بن أرقم : قال : كنّا نتكلّم في الصلاة ، يكلّم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة ، حتّى نزلت ( وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ ) (3) ، فأُمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام (4).

وظاهر الأوّل وصريح الثاني ذلك. ولم أقف على هذا المعنى من طرق أصحابنا. وكيف يحلّ الكلام في أثنائها في حال أو زمان بغير ذكر اللّه ، وهي الجامعة لجميع عبادات المكلّفين من الملائكة الحافّين حول العرش إلى قرار الثرى ، ولجميع تكاليف الإسلام من العبادات ، كما يعلم ذلك أهل الأفئدة؟ ولا يسع الحال البيان. وقد بيّنا ذلك في بعض رسائلنا ، فتطلّب ، واللّه العالم.

الدرّة الثانية : هل يجب على الكافر الجنب الغسل بعد إسلامه أم لا؟

قوله سلّمه اللّه تعالى - : ( وفي الكافر إذا أسلم وهو يجنب حال كفره ، أعليه الغسل بعد إسلامه ، أم لا ؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله؟ وإن قلتم : إنه يجب عليه الغسل ، هل رأيتم ذلك في عبارة فقهيّة ، أو خبر في خصوص ذلك أم لا؟ ).

الجواب أنه يجب عليه الغسل إذا وجبت عليه الصلاة أو ما هو مشروط بالطهارة.

ص: 266


1- تفسير العياشي 1 : 147 / 422.
2- صحيح مسلم 1 : 319 / 34.
3- البقرة : 238.
4- صحيح مسلم 1 : 319 - 320 / 35.

والدليل على ذلك إجماع الطائفة المحقّة في كلّ زمان ومكان وعمومات أوامر الكتاب والسنّة المحكمات من غير معارض ، وهي ظاهرة عند المتدبّر.

أمّا أن الإسلام يجبّ ما قبله فحقّ ، لكنّه لا يرفع الحدث ؛ إذ لا ريب أن رافع الحدث محصور في الطهارة وليس هو من أقسامها. فإذا أسلم بعد تحقّق الجنابة فهو جنب قطعاً بالفعل ، واستصحاباً لحاله السابق ، فإن كان إسلامه لا في وقت عبادة مشروط بالطهارة لم يجب عليه غسل ، فإذا حضر وقت عبادة مشروطة بها وجب عليه الغسل ؛ لأنه محدث قطعاً ، والإسلام ليس من روافع الحدث بالضرورة ، وإنّما هو مسقط [ لعقاب (1) ] الآخرة والدنيا ، ولِما يلزم قضاؤه من العبادات بالدليل ؛ تفضّلاً من اللّه.

ولا يتوهّم إمكان سقوط الغسل عنه على القول بوجوب غسل الجنابة لنفسه ، فإنّ القائل بذلك لا يقول بارتفاع حدثه بمجرّد إسلامه ، وإنّما يرتفع حدثه عنده كغيره بالغسل.

وأمّا من ذكر ذلك فغير واحد من أكابر العصابة كالعلّامة في ( قواعد الأحكام ) (2) و ( التلخيص ) (3) ، والشيخ علي في ( شرح القواعد ) (4) وغيرهما (5) ، كما يظهر للمتتبّع ، واللّه أعلم بحقائق أحكامه.

الدرّة الثالثة : طلاق من تضع ولم ترَ دماء

قوله سلمه اللّه تعالى - : ( وفي امرأة ولدت ولم يكن لها نفاس ؛ لعدم رؤية دم في ولادتها ، هل يصحّ لزوجها طلاقها من حيث مجرّد الولادة ، أم لا يصحّ لصدق كون الطلاق في طهر المواقعة وليست حاملاً الآن؟ وأفيدونا هل في خصوص هذه المسألة بحث أحد من أصحابنا أم لا؟ ).

ص: 267


1- في المخطوط : ( لعتاب ).
2- قواعد الأحكام 1 : 210 ، ( حجري ).
3- تلخيص المرام ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 26 : 265.
4- جامع المقاصد 1 : 270.
5- مدارك الأحكام 1 : 276 - 277.

الجواب : لم أقف على من بحث في هذه المسألة ولا من ذكرها ، نعم سألتُ عنها شيخنا الشيخ محمّداً آل عبد الجبار : أيّده اللّه تعالى وشيخنا الشيخ محمّد بن أحمد آل سيف : نوّر اللّه ضريحه فحكما بصحّة الطلاق حينئذٍ ولو واقعها قبل الولادة بلا فصل. والظاهر أن وجهه استصحاب صحّة طلاقها حال حملها ، والاستصحاب يجري في موضع المسألة أيضاً كما هو المعروف بين العصابة ، وقام عليه الدليل عقلاً ، ونقلاً (1).

على أن الاستصحاب في الحكم آئل إلى الموضوع كما يظهر بالتأمّل. والذي يظهر لي على كثرة إضاعتي وقلّة بضاعتي ، فلست من أهل الاختيار ولا الاختبار أن المسألة فيها تفصيل ؛ فعلى القول بعدم مصاحبة الحيض للحمل لا يصحّ طلاقها ؛ لأنّها في طهر المواقعة ؛ لأنّ ذلك هو المفروض ، وليست من اللاتي يطلّقن على كلّ حال.

وعلى القول بالمصاحبة ؛ فإنْ حاضت بعد أن واقعها وطهرت ثمّ ولدت ولم ترَ نفاساً فإنّه يصحّ طلاقها لصدق أنّها في طهر لم يقربها فيه ، وإن لم تحض بعد المواقعة ولم تمض عليها ثلاثة بيض ، فولدت ولم تنفس لم يصحّ طلاقها ؛ لأنها لم تكن حاملاً فيصحّ طلاقها على كلّ حال مع أنها في طهر قد [ قاربها فيه (2) ]. والقول بالمصاحبة أقوى ، واللّه العالم.

الدرّة الرابعة : هل يحرم على الحائض بعد تمام حيضها دخول المسجد قبل الغسل أم لا؟

قوله سلمه اللّه تعالى - : ( وأيضاً إن الحائض إذا طهرت يحرّمون عليها دخول المساجد ، مع أن ذلك إنّما هو محرّم على الحائض ، وهذه ليست بحائض لصحّة طلاقها إجماعاً ، وجواز نكاحها للشبق أو مطلقاً على كراهية على قول ).

الجواب ومن اللّه استمداد الصواب - : أن المشهور بين علمائنا أن استقرار

ص: 268


1- انظر : وسائل الشيعة 22 : 59 ، أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه ، ب 27.
2- في المخطوط : ( قربها ).

الحائض في المساجد ووضع شي ء فيها ومطلق دخول المسجدين محرّم حتّى تتطهّر. وذلك غاية من غايات الغسل كما هو ظاهر ، أو أنه عبادة مشروطة بذلك ، والطلاق والنكاح خرجا بدليل ؛ ولأنّهما غير عبادة.

والدليل على هذا بعد الأخبار (1) الإجماع ؛ إذ لم ينقل الخلاف فيه إلّا عن الشيخ إبراهيم القطيفيّ (2) : فلا يضرّ به.

ولهم أيضاً ما هو المشهور ، بل نقل عليه الإجماع جماعة وظاهر عبارات جمع أيضاً أنه إجماع من صحّة إطلاق الحائض عليها حقيقة وإن كنّا حقّقنا خلاف المشهور ، ورجّحنا قول الأسترآبادي (3) : من عدم صحّة إطلاق المشتقّ بعد زوال مبدأ الاشتقاق في بعض الرسائل ، لكنّه لا يضرّنا هنا بعد قيام الدليل نصّاً وفتوى على منعها من ذلك حتّى تتطهّر ، واللّه العالم.

الدرّة الخامسة : معنى : « لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام »

قوله سلّمه اللّه تعالى - : ( وما مَعْنى هذا الحديث « لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام » فإنّ بعض الفضلاء ذكر أن للجلب والجنب تأويلين : تأويلاً في الزكاة ، وتأويلاً في المسابقة؟ ففسّروا لنا حقيقتهما ).

الجواب اعلم أن الحديث ذكره الصدوق : في ( معاني الأخبار ) ، وعنون له باباً قال : ( باب : معنى قول الصادق عليه السلام « لا جَلَب ولا جَنَب ولا شغار في الإسلام » ).

وساق السند عن غياث : ( قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « لا جَلَب ولا جَنَب ولا شغار في الإسلام ».

قال : « الجَلَب : الذي يجلب مع الخيل يركض معها. والجَنَب : الذي يقوم في أعراض الخيل

ص: 269


1- انظر وسائل الشيعة 2 : 205 ، أبواب الجنابة ، ب 15.
2- انظر الهادي إلى الرشاد في شرح الإرشاد ، الورقة : 153. مخطوط في مكتبة آستانة قدس برقم 468 / 2. ومصوّرته في دار المصطفى صلى اللّه عليه وآله لإحياء التراث.
3- عنه في الحدائق الناضرة 1 : 122.

فيصيح بها ، والشغار : كان يزوّج الرجل في الجاهلية ابنته بأُخته ».

قال محمّد بن علي : مصنّف هذا الكتاب : يعني أنه كان الرجل في الجاهلية يزوّج ابنته من رجل على أن يكون مهرها أن يزوّجه ذلك الرجل أُخته ) (1) ، انتهى.

وقال الهروي : في ( الغريبين ) : ( في الحديث : « لا جَلَب ولا جَنَب ». قال أبو عبيد : الجلب يكون في شيئين : في سباق الخيل وهو أن يتبع الرجل فرسه فيزجره ويجلب عليه ، فيكون في ذلك معونة للفرس على الجري ويكون في الصدقة ، وهو أن يقدم فينزل موضعاً ثمّ يرسل إلى المياه من يجلب أغنام المياه فيصدقها ، فنهى النبيّ صلى اللّه عليه وآله : عن ذلك ، وأمر أن يصدقوا على مياههم ) (2) ، انتهى.

وقال في موضع آخر : ( في الحديث : « لا جلب ولا جنب » ، الجنب أن يجنب فرساً عرياً إلى فرسه الذي يسابق عليه ، فإذا فتر المركوب تحوّل إلى المجنوب ) (3) ، انتهى.

وقال الفيروزآبادي : ( « لا جَلَب ولا جَنَب » هو أن يرسل في الحلبة [ فيجتمع (4) ] له جماعة تصيح به ، ليردّ عن وجهه. أو هو ألّا تجلب الصدقة إلى المياه والأمصار ، ولكن يتصدّق بها في مراعيها. أو أن ينزل العامل موضعاً ثمّ يرسل من يجلب إليه الأموال من أماكنها ليأخذ صدقتها. أو أن يتبع الرجل فرسه فيركض [ خلفه ويزجره (5) ] ويجلب عليه ) (6).

ثمّ قال في موضعٍ آخر : ( والجَنَب محرّكة شبه الظّلَع : أن يشتدّ عطش الإبل حتّى تلزق الرئة بالجنب والقصير. وأن يجنب فرساً إلى فرسه في السباق ، فإذا فتر المركوب تحوّل إلى المجنوب. وفي الزكاة أن ينزل العامل بأقصى مواضع الصدقة ، ثمّ يأمر بالأموال أن تجنب إليه. أو أن يجنب ربّ المال بماله ، أي يبعده عن موضعه

ص: 270


1- معاني الأخبار : 274 / 1.
2- غريب الحديث 1 : 434 - 435.
3- غريب الحديث 1 : 435.
4- من المصدر ، وفي المخطوط : ( فيجمع ).
5- من المصدر ، وفي المخطوط : ( خلفها ويزجرها ).
6- القاموس المحيط 1 : 172 الجلب.

حتّى يحتاج العامل إلى الإبعاد في طلبه ) (1) ، انتهى.

وقال الفيّوميّ : ( وفي حديث « لا جَلَبَ ولا جَنَبَ » بفتحتين فيهما فسّر بأنّ ربّ الماشية لا يكلّف جلبها إلى البلد ليأخذ الساعي منها الزكاة ، بل تؤخذ زكاتها عند المياه. وقوله : « ولا جنب » أي إذا كانت الماشية في الأفنية فتترك فيها ولا تخرج إلى المرعى ليخرج الساعي لأخذ الزكاة لما فيه من المشقّة ؛ فأمر بالرفق من الجانبين. وقيل : معنى « ولا جنب » أي لا يجنب أحدٌ فرساً إلى جانبه في السباق ، فإذا قرب من الغاية انتقل إليها ليسبق صاحبه. وقيل غير ذلك ) (2) ، انتهى.

وقال السيوطيّ : في ( مجرّد النهاية ) : ( قال أبو عبيدة : الجلب يكون في شيئين : في سباق الخيل وهو أن يتبع الرجل فرسه فيزجره ويجلب عليه ، فيكون ذلك معونة للفرس على جريه.

ويكون في الصدقة وهو : أن يقدم المصدّق فينزل موضعاً ثمّ يجلب إليه الأموال من أماكنها ليأخذ صدقتها ، فنهى عن ذلك وأمر أن يصدّقوا على مياههم.

وقال في موضع آخر : ( الجنب معروف ).

إلى أن قال : ( وفي السباق أن يجنب فرساً إلى فرسه الذي يسابق عليه ، فإذا فتر المركوب تحوّل إليه. وفي الزكاة : أن ينزل العامل بأقصى مواضع أصحاب الصدقة ثمّ يأمر بالأموال أن تجنب إليه ، أي تحضر.

وقيل أن يجنب ربّ المال بماله أي يبعده عن موضعه حتّى يحتاج العامل إلى الإبعاد في اتّباعه ) ، انتهى.

فظهر لك من هذا معنى « الجلَب والجنَب » في الزكاة والسباق.

وأما ( الشغَار ) فعرفت معناه وهو في أكثر كتب الفقه (3) مصرّح به ، وظنّي أن الحديث المشار إليه أخرجه الصدوق في ( العيون ) (4) أيضاً ، واللّه العالم.

ص: 271


1- القاموس المحيط 1 : 175 الجنب.
2- المصباح المنير : 104 جلبت.
3- المبسوط 4 : 244 ، مسالك الأفهام 7 : 420.
4- لم نعثر عليه.

الدرّة السادسة : معنى عزل المرأة لماء الرجل.

قوله سلمه اللّه تعالى - : ( وفي عزل المرأة لنطفة الرجل ما حقيقته؟ فإنّ شارح ( اللمعة ) ذكره وذكر فيه قولاً بالكراهة وقولاً بالتحريم ؛ فإن كان حقيقته كعزل الرجل فكيف يتحقّق فيه الخلاف ، مع أن ذلك نشوز وهو محرّم قطعاً ، وإن كان له حقيقة أُخرى فتفضّلوا في التمثيل بها واذكروا ممّ (1) اخذتموها ).

الجواب ومن اللّه إلهام الصواب - : عبارة ( شرح اللمعة ) هكذا : ( وكذا [ يكره ] (2) لها العزل بدون إذنه ، [ وهل (3) ] يحرم لو (4) قلنا به [ فيه (5) ]؟ مقتضى الدليل الأوّل ذلك ، والأخبار خالية عنه. ومثله القول في دية النطفة ) (6).

وهذه العبارة مجملة ولفظها محتمل (7) لمعنيين :

أحدهما أن يراد : عزلها لنطفة الرجل. وهذا يتصوّر بأن تجذب نفسها حين تحسّ بتوجّه إنزال ماء الرجل ؛ فإن كانت قصدت به التبعّل والملاعبة فلا إشكال في حلّه ، وإن قصدت به الامتناع من تمكين الرجل من استكمال نكاحها واستكماله للذّته ؛ فإن تحقّق به عدم التمكين التامّ فلا إشكال في حرمته ؛ لما يلزمه من النشوز ، وإلّا ففي حرمته إشكال ؛ للأصل وعدم المعارض ، فلا دليل على الحرمة.

وإن قصدت به التحرّز من الحَبَل ؛ فإن استلزم النشوز أو ما يلزمه النشوز فلا شكّ في حرمته أيضاً ، وإلّا اجري فيه احتمال القولين : من الكراهة [ والحرمة (8) ] إن لم يأذن لها. ولا شكّ في الكراهية ؛ لما في ذلك من تفويت أعظم مقاصد النكاح. ولا دليل على التحريم.

ص: 272


1- في المخطوط : ( ممّا ).
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( مكره ).
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( وهو ).
4- في المخطوط : ( ولو ).
5- من المصدر ، وفي المخطوط : ( منه ).
6- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 5 : 103 - 104.
7- في المخطوط : ( محتملين ).
8- في المخطوط : ( والحرم ).

ويتصوّر أيضاً بأن تساحق اخرى بعد إنزال الزوج بلا فصل وتُلقي نطفته في رحم الأُخرى. وهذا لا شكّ في حرمته ؛ لما يستلزمه من فعل المحرّم إجماعاً لا من حيث إلقاء نطفة الزوج ؛ إذ لا دليل على تحريمه وإن كان مكروهاً.

والثاني : أن يراد به : عزلها ماءها ، ويتصوّر بطريقين :

أحدهما : ما مرّ في تصوير الأوّل ، وتجري فيه الوجوه المذكورة ؛ إباحة وكراهة وحرمة.

والثاني : أن تستمني هي ببعض أعضاء الرجل ، غير الذكر. وهذا إن قصدت به الملاعبة والتبعّل أو قضاء شهوتها حين امتناعه عن نكاحها ، أو لشدّة استعجالها ؛ لشدّة شبقها ، فلا شك في حلّه ، للأصل المعتضد ببعض الأخبار (1).

وإن قصدت به التوصّل إلى عدم الحَبَل ، فلا شكّ في كراهته ؛ لمنافاته لأعظم مقاصد النكاح. ولا دليل على التحريم ، واللّه العالم.

الدرّة السابعة : ما الدليل على نقض المس للطهارة؟

قوله سلمه اللّه تعالى - : ( والأكثر من أصحابنا يقوّي أن مسّ الميّت ينقض الوضوء ، ما الدليل في ذلك؟ ).

الجواب وباللّه المستعان - : أن وجوب الغسل على مَنْ مَسّ الميّت الآدميّ بعد برده وقبل غسله الصحيح ثابت بالنص (2) والإجماع ، لا نعلم فيه مخالفاً ، ولا تعارض فيه نصّاً ولا فتوًى ، ويجب معه الوضوء على الأشهر الأظهر فتوًى (3) ودليلاً.

أمّا أنه حدث ناقض للوضوء فيتوقّف عليه كما يتوقّف على الوضوء ، فجميع غاياته غاياته فثابت بالإجماع في سائر الأزمان والأصقاع. ولا دليل عليه غير

ص: 273


1- انظر : وسائل الشيعة 2 : 189 ، أبواب الجنابة ، ب 7.
2- وسائل الشيعة 3 : 289 ، أبواب غسل المسّ ، ب 1.
3- انظر : مختلف الشيعة 1 : 339 - 343.

ذلك ، بل ظاهر بعض النصوص ينافي هذا ، كالحاصرة لنواقض الوضوء (1). ولكن تلك الظواهر لا تعارض مثل هذا الإجماع ، على أنه يمكن تأويلها بنوع عناية.

وأمّا توقّف غايات الغسل عليه وإن اقتضاه أكثر عبائر الأصحاب ، حيث أطلقت أن غايات الغسل على الإطلاق خمس فلا دليل عليه ؛ لا من العقل ، ولا من النصّ ، ولا من الإجماع. ولو قيل بأنه واجب لنفسه فقط ، كان قويّاً ؛ لأنّ ظواهر أكثر النصوص لا تدلّ على أكثر من ذلك ، ولكنّه لم يقل به أحد ، فعلم يقيناً أنه ليس من مذهب أهل البيت عليهم السلام ، واللّه العالم.

ص: 274


1- وسائل الشيعة 1 : 245 - 298 ، أبواب نواقض الوضوء.

[85] مسألة الشيخ محمّد الفرساني: درّة صفوانية في نور بحراني النكتة في تقديم ( لَمْ يَلِدْ ) على ( لَمْ يُولَدْ )

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه نستعين ، والحمد لله ربّ العالمين.

لعلّ النكتة في تقديم ( لَمْ يَلِدْ ) على ( لَمْ يُولَدْ ) (1) في سورة ( الإخلاص ) وفي كثير من الأدعية والخُطب أنه لمّا كان لا ريب لعاقل في أن جميع الموجودات منتهية لواجب وجود هو مفيض كلّ كمال ووجود. والبرهان على ذلك متواتر من الكتب الثلاثة بالطرق الثلاثة ( قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (2) ، أي التي تبلغ كلّ مكلّف ويفهمها اختياراً.

وفي كلّ شي ء له آية *** تدلّ على أنه واحد (3)

فإذن النكتة في ذلك تظهر بطرق :

أحدها : أنه لمّا خلق الإنسان في ابتداء ولادته الدنيويّة عقلاً هيولانيّاً كان المناسب له الاستدلال بالأثر ، وهو برهان ( لِمَ ) ليقبله اختياراً ؛ لطفاً من اللّه ورحمة ،

ص: 275


1- الإخلاص : 3.
2- الأنعام : 149.
3- ديوان أبي العتاهية : 104 ، وفيه : ( الواحد ) بدل : ( واحد ).

و ( لَمْ يَلِدْ ) برهان ( لِمَ ) حتّى إذا كمل انتقل إلى برهان ( إن ) وهو ( لَمْ يُولَدْ ) ؛ ولذلك أشار مولانا الحسين عليه السلام : بقوله : « أمرتَ بالرجوع إلى الآثار ، فانقلني إليك منها نقيّ السر من الأغيار » (1).

فالرجوع إلى الآثار هو برهان ( لم ) ، والانتقال برهان ( إن ) ، والأوّل هو السفر الثاني من الأسفار الثلاثة.

والثاني : هو أن رؤساء الفلاسفة من الزنادقة والصوفيّة فتنتهم أعظم الفتن ، وشبهتهم أعضل الشبه حيث زعموا أن الخلق من الحقّ كالموج من البحر والثوب من الغزل ، وسيعود الخلق إلى الحقّ ، وكلّ ما في الوجود شؤون الحقّ ومراتب ظهوره وتنزّلاته ، فليس في الوجود إلّا الحقّ وشؤونه ، وسبحان اللّه عما يصفون.

فالآية اقتضت الردّ عليهم حيث بدأت ب- ( لَمْ يَلِدْ ) وهو القوس البدئيّ ، وأُردفت ب- ( لَمْ يُولَدْ ) وهو قوس العود ، فأبطل وصفهم واعتقادهم فيهما معاً حيث زعموا أن الخلق من الحقّ أوّلاً ، والحقّ من الخلق ثانياً ، والترتيب الطبيعيّ المطابق لترتيب الوجود هو الابتداء بذكر قوس البدء ؛ إذ لا يمكن العكس.

الثالث : أنه لم يتوهّم أن واجب الوجود كان من شي ء ، بل وقع الوهم بأنّ شيئاً كان منه ، وهو أمر تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً. فناسب الترتيب أن يبدأ بنفي ما ظهر الوهم فيه ، ثمّ أردفه ببيان أنه الأوّل قبل كلّ شي ء ، والواحد بلا مثل ، والصمد الذي إليه تصمد الأشياء بأجمعها.

الرابع : أنه لمّا دلّ على وحدانيّته من كلّ جهة ، وعلى صمدانيّته كذلك والصمد : الذي لا جوف له (2) بكلّ معنى ، والذي تصمد إليه الخلائق في جميع الحوائج (3) -

ص: 276


1- الإقبال بالأعمال الحسنة : 349 وفيه : « إلهي أمرت بالرجوع إلى الآثار ، فأرجعني إليك بكسوة الأنوار وهداية الاستبصار ؛ حتّى أرجِع إليك منها كما دخلت إليك منها مصون السرّ عن النظر إليها ».
2- التوحيد 93 / 8 ، معاني الأخبار : 6 / 7 ، 7 / 7 ، لسان العرب 7 : 404 صمد.
3- مختار الصحاح : 369 صمد ، لسان العرب 7 : 404 صمد.

ناسب أن يردفه بأنه ( لَمْ يَلِدْ ) حيث منافاة الصمدانيّة له بمعنييها. ثمّ دلّ على أنه الأوّل قبل كلّ أوّل بقوله ( لَمْ يُولَدْ ) . فظهر أن الترتيب المناسب أن يلي وصف الصمدانيّة ( لَمْ يَلِدْ ) ؛ فإنّ من يلد له جوف بوجه لكلّ معنًى أخذت الولادة.

الخامس : أنه لمّا دلّ على الوحدانيّة والصمدانيّة ، عقّبه بنفي ما يستلزم الكثرة. ولمّا كان الوالديّة أظهر في استلزام الكثرة من المولوديّة ، وأسرع إلى الأوهام الشيطانيّة حتّى قيل : الملائكة بنات اللّه سبحانه وتعالى ، والمسيح عليه السلام : ابن اللّه ، وعزير عليه السلام : ابن اللّه تعالى وتقدّس عمّا يصفون ، قدّم الدلالة على نفيها.

وأيضاً الوالديّة تنافي الوحدانيّة ، والصمدانيّة أوّلاً بالذات ، والمولوديّة ثانياً بواسطة. فهي لازم لازمها ، والأولى لازمها بلا واسطة ، فكان تقديم ( لَمْ يَلِدْ ) أوّلاً.

ص: 277

ص: 278

[86] مسألة السيّد حسين الكويكبي كواكب درّيّة : الرياء قنطرة الإخلاص

بسم اللّه الرحمن الرحيم

روى الحكيم الربّاني الشيخ ميثم البحراني : في شرح ( النهج ) عنه صلى اللّه عليه وآله أنه قال : « الرياء قنطرة الإخلاص ».

ولعلّ معناه واللّه الهادي أن يريد صلى اللّه عليه وآله ب- الرياء : الدنيا ، وب - الإخلاص : الأُخرى من باب المجاز المرسل أو الاستعارة. ووجه الشبه كون كلّ من الرياء والدنيا مضمحلا فانياً لا قرار له ولا أصل ، بل هو كالسراب يحسبه الظمآن ماء ، وأن كلّاً من الأُخرى والإخلاص ثابت ؛ لأن كلّاً منهما الحقائق الثابتة الخالصة. والدنيا معبر الآخرة ومزرعتها والسبيل إليها.

أو يريد صلى اللّه عليه وآله بالرياء : إظهار الإسلام قهراً أو نفاقاً لغلبة أهل الإسلام كما هو معلوم من حال صدر الإسلام ، فإنّ إسلام من أسلم في زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : خوفاً أو طمعاً من المنافقين منه ما كان سبيلاً إلى [ إخلاص (1) ] صاحبه بعدُ ، ومنه ما كان سبيلاً إلى إخلاص ذرّيّته ولو بعد طبقات. وربّما كان بعض النفاق والرياء سبيلاً إلى إخلاص صاحبه أو إخلاص عن صاحبه من ذرّيّته أو أتباعه أو نظرائه أو غيرهم.

ويمكن أن يريد صلى اللّه عليه وآله بالرياء : مثل أعمال الأطفال وعقائدهم التي أخذوها من

ص: 279


1- في المخطوط : ( خالص ).

المربّين المعلّمين لهم أو قهروهم عليها ؛ فإنّها سبيل إلى إخلاصهم بعد بلوغهم أوان التكليف والمعرفة بالدليل.

أو أن يريد صلى اللّه عليه وآله بالرياء : دولة الباطل والجهل ، وبالإخلاص : دولة الحقّ والعقل. فإنّه لا بدّ من سبق الاولى على [ الثانية (1) ] وهي الثانية في الدنيا ؛ لأنّها على العكس من عالم الغيب. فلا بدّ في الدنيا أن تسبق القوّةُ الفعلَ ، والعدمُ الوجودَ ، عكسه عالم النور والظهور. ووجه الشبه ظاهر ممّا مرّ ، فلا بدّ أن يظهر اللّه عبادته علانية كما أحبّ أن يعبد سرّاً.

وقال الحكيم الشيخ ميثم : بعد إيراد الخبر : ( معناه : أن الزهد الظاهريّ المشوب بالرياء والسمعة مطلوب للشارع أيضاً إذا كان وسيلةً إلى الزهد الحقيقيّ كما قال صلى اللّه عليه وآله ) ، انتهى.

وأقول : كأنّه بعد التأمّل أراد ما قرّرناه ، فإنّه لا ريب في أن ذلك مطلوب للشارع ، فعادة اللّه أن يدفع بمن يصلّي عمّن لا يصلّي ، [ وإبقاء (2) ] من لا يزكّي رحمة وكرامة لمن يزكّي ، لكنّه يحتاج إلى إبدال لفظ الزهد بالإخلاص ليظهر كمال المطابقة لما قرّرناه. وإن أراد غير ذلك ، فلا يخفى أن العمل المشاب بالرياء والسمعة في نفسه غير مطلوب للشارع على حال ، بل لا يتصوّر كونه وسيلة إلى الإخلاص بوجه إلّا على نحو ما قرّرناه فتأمّل ، واللّه العالم.

ص: 280


1- في المخطوط : ( الاولى ).
2- في المخطوط : ( وأبقى ).

[87] مسألة : الدنيا طالبة مطلوبة

في الخبر : « الدنيا طالبة مطلوبة ، والآخرة طالبة ومطلوبة » (1). فما الوجه في حذف الواو من الاولى وإثباتها في الأُخرى؟

ولعلّ الجواب أن الدنيا لمّا كانت ظلّاً للأُخرى ومعلولة لها ، والأُخرى نتيجة للدنيا وغاية لها فمن الغيب وردنا وإليه نصير كانت طالبيّة الدنيا و [ مطلوبيّتها ] (2) شيئاً واحداً ك- ( حلو حامض ) ؛ فطالبيّتها عين [ مطلوبيّتها ] (3) بوجه وإن كانت غيرها بوجه. والأُخرى لمّا كانت [ علّة (4) ] فاعليّة أو مادّيّة أو غائيّة للدنيا تغاير طالبيّتها ومطلوبيّتها بوجه. وهو المعني في الحديث.

وأيضاً يمكن أن يقال : إن الآخرة [ لمّا كانت ] باعتبار المبدأ والمعاد قوسين متقابلين ، كانت طالبيّتها غير مطلوبيّتها ظاهراً. والدنيا لمّا كانت نهاية قوس البدء ومبدأ قوس العود ، فهي كالنقطة الجامعة بينهما كالحدّ المشترك كانت طالبيّتها عين مطلوبيّتها ، أو هي حقيقتها مركّبة من جهتي القوسين كالبرزخ ، كانت حقيقتها طالبة مطلوبة ك- ( حلو حامض ) ، واللّه العالم.

ص: 281


1- الكافي 1 : 18 / 12.
2- في المخطوط : ( ومطلوبتها ).
3- في المخطوط : ( ومطلوبتها ).
4- في المخطوط : ( على ).

ص: 282

[88] مسألة : أبى اللّه أن يجعل رزق المؤمن إلّا من حيث لا يحتسب

ورد في عدّة أخبار أنهم عليهم السلام قالوا : « أبى اللّه أن يجعل أرزاق المؤمنين إلّا من حيث لا يحتسبون » (1).

وفي بعضها : « وذلك لأن العبد إذا لم يعرف وجه رزقه كثر دعاؤه » (2).

وورد في بعض الأدعية : « اللّهم ارزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب »(3).

فما وجه الجمع؟

ولعلّ الجواب ومن اللّه الهداية إلى الصواب أنه أراد بالمؤمنين في الأوّل : الخلّص ، وبالثاني : سائر المؤمنين.

أو يراد بالأرزاق في الأوّل : ما يرزق المؤمن من العلم والمعرفة ، فقد أُطلق عليها اسم الرزق في كثير من الأخبار (4). وبالرزق في الثاني هو أرزاق الأبدان.

أو يراد بالأوّل : مطلق الأرزاق الدنيويّة والأُخرويّة ، ولكنّه لا يعلم وجهها حتّى يطلبها منه إلّا بعد دعائه ، فبعد أن يلحّ في الدعاء يفتح اللّه له باب الطلب ، فحينئذٍ

ص: 283


1- بحار الأنوار 100 : 35 - 36 / 72.
2- الأمالي ( الصدوق ) : 248 / 268 ، بحار الأنوار 100 : 36 / 73.
3- الأمالي ( الصدوق ) : 672 / 902 ، بحار الأنوار 12 : 256 / 20 ، وليس فيهما : « اللّهم ».
4- تفسير القمّيّ 1 : 59.

مقام « ارزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب » فكلّ منهما بمقام ، فلا منافاة.

ويمكن أن يريد بالحسبان في الأوّل : اليقين ، فليس للمؤمنين يقين بباب رزقهم لما أخذ عليهم من الإيمان بالبداء ، وعلى قدر إيمان المرء بالبداء ينتفي يقينه بمحلّ رزقه ، ويراد بالحسبان في الثاني : الظن ، فلا منافاة ؛ لأنّ الظنّ لا ينافي الإيمان بالبداء ولو رجح الظنّ ، واللّه العالم.

ص: 284

[89] جمع تفريق وبيان تحقيق : نزل القرآن أوّل ليلة من شهر رمضان

مسألة : ما الجمع فيما رواه الكليني رحمه اللّه : في ( الكافي ) عن أهل العصمة سلام اللّه عليهم من أن القرآن نزل في أوّل ليلة من شهر رمضان (1) وبيان صريح الآيات المحكمة (2) والسنة المستفيضة المحكمة (3) وإجماع المسلمين كافّة على أن القرآن نزل في ليلة القدر؟

قلت : لعلّ الجواب - وباللّه الاعتصام أنه نزل في ليلة القدر إلى البيت المعمور جملةً كما دلّ عليه صرائح الأخبار المحكمة ، وعليه إجماع الأُمّة ، فإنّ نزوله إلى عالم الحسّيّ وقع مفرّقاً في العام الحسّيّ مطبقاً على أجزائه كما هو معلوم بالنصّ والإجماع. فمعنى أنه نزل أوّل ليلة من شهر رمضان : أن أوّل شي ء برز منه إلى عالم الحسّيّ نزل في أوّل ليلة منه ، فإنّها أوّل العام شرعاً وهو العام الحقيقيّ المطابق لترتيب عدّة الشهور عند اللّه.

ولا ينافي ذلك سبق نزوله إلى البيت المعمور على نزوله إلى عالم الحسّيّ وتأخّر ليلة القدر عن أوّل ليلة من شهر رمضان ؛ إذ بين النزولين مرتبتان كلّيّتان ؛ لأنّ الأوّل مرتبة قلب السفير به ، والثاني مرتبة لسانه الشريف التبليغيّ الحسّيّ.

ص: 285


1- الكافي 4 : 66 / 1.
2- كقوله تعالى : ( إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) . القدر : 1.
3- الكافي 4 : 157 / 5 ، 158 / 7.

وبينهما مرتبة خيالة (1) المطلق.

أو قل : الأوّل مرتبة الإذن ، والثاني مرتبة الأجل وهو الإمضاء وما بينهما الكتاب. وشهور العام ضعف ست من السبع التي لا يكون شي ء إلّا بها ؛ لكون العام رتبة الحسّ المستجنّ فيها بالقوّة ما قبله من الرتب ؛ فكانت ستّاً ، وكان اثني عشر ، والسابعة سابقة شاملة للكلّ ؛ لأنّها روح الكلّ فلا ينافي تأخّرَه إلى أوّل ليلة من شهر رمضان سبقُ نزوله جملةً في ليلة القدر إلى البيت المعمور.

وبوجه آخر هو أن يراد بأوّل ليلة من شهر رمضان ليلة القدر ؛ لأنّها كذلك باعتبار الغيب ، أو لأنّها مرتبة القلب الذي هو العرش المحيط ، وهو أوّل كائن بمعناه العقليّ والحسّيّ. وأوّل كائن وبارز من الإنسان قلبه ، ثمّ يُبنى عليه الجسد كما هو الحقّ ، وهو المشهور بين أهل التشريح.

وإن كان القول : إنه (2) الدماغ [ فله (3) ] وجه في الجملة أيضاً.

وأوّل كائن من الأرض الكعبة (4) زادها اللّه شرفاً ثمّ دحيت الأرض من تحتها ، فهي من الأرض كالقلب من جسد الإنسان ، فهي أشرف بقعة من الأرض باعتبار الجسدانيّة الصرفة وإن كانت كربلاء زادها اللّه شرفاً أفضل منها بمقام آخر (5) ؛ فلا منافاة بين الأخبار. وقد سبق بعض بيان ذلك.

وليلة القدر قلب شهر رمضان ، فلا ينافي كونَها وسطه في خارج الزمان كونُها أوّله باعتبار آخر وبحسب ترتيب الوجود الواقعيّ ، بل يؤكّده ، واللّه العالم.

ص: 286


1- كذا في المخطوط.
2- في المخطوط : ( لأنه ).
3- في المخطوط : ( له ).
4- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 90 / 1 ، بحار الأنوار 54 : 64 / 39.
5- وسائل الشيعة 14 : 446 - 454 ، أبواب المزار ، ب 45.

[90] تحفة بيانيّة : « جعل السماوات عماداً لكرسيّه »

مسألة : ما معنى ما روي عن أمير المؤمنين : سلام اللّه عليه في بعض مدحه لباريه عزوجل أنه قال : « جعل السماوات عماداً لكرسيّه » (1)؟

قلت وباللّه المستعان - : الجواب من وجوه :

أحدها : أن البرهان قائم عقلاً ونقلاً (2) على أن جميع العالم مرتبط بعضه ببعض ، ومعتمد بعضه على بعض ؛ فالعالي معتمد على السافل في قبول الفيض منه ، وفي كونه مظهراً له ، وفي تأديته فيضه إلى من دونه ؛ إذ لا بدّ من الواسطة بين كلّ رتبتين ، ومن المناسبة بين المفيض والمستفيض من حيث هما كذلك. وكلّ متوسط برزخ به يكمل قبول من دونه لفيض من فوقه بواسطته بكمال الاختيار ؛ لما في الواسطة من المناسبة لهما بجهتيه.

والسافل معتمد على العالي في الاستفاضة والإفاضة والاستكمال وحفظ الكمال ووجود الحقيقة والإمساك ؛ إذ لا وجود للمعلول إلّا مع وجود علّته ، فلا يمكن استغناؤه عنه ذاتاً وصفةً بوجه وعلى حال أصلاً ؛ إذ حقيقة المعلول عند التأمّل الصافي هو عين إفاضة العلّة ، وتحت ذلك سرّ يظهر على أهل الاستيضاح المتفكّرين. فالسافل كالبدن والعالي روح له ومظهر.

ص: 287


1- الفقيه 1 : 335 / 1504 ، بحار الأنوار 55 : 6 / 3 ، وفيهما : « جعل السماوات لكرسيه عماداً ».
2- التوحيد : 440 / 1.

الثاني : أن يراد بالسماوات : سماوات العقول العالية ، وبالكرسي المكوكب أو مطلق الأجسام ؛ الكلّيّ للكلّيّ والجزئيّ للجزئيّ.

الثالث : أن يراد بالسماوات : الأئمّة من آل محمّد : صلى اللّه عليه وعليهم فإن الإمام هو السّماءُ الظليلة (1) كما ورد مستفيضاً ، وبالكرسيّ أي معنى أُريد ، فهم الأعضاد والأشهاد وأعمدة الفضة الّتي رفعت بها السماوات.

الرابع : أن يريد بالسماوات : العقول ، وبالكرسي : النفس الكلّيّة ، وهي الصدر ، واللّه العالم.

ص: 288


1- بحار الأنوار 21 : 123.

[91] زبرجدة يمانيّة

لعلّ الوجه في غسل الميّت أن إفاضة الماء الذي هو مثل وحكاية وظلّ ومظهر لماء الحياة الحقيقيّة يفيد البدن بعد خروج النطفة التي خلق منها منه استعداداً لملاحظة النفس له في البرزخ ، وإعداداً له في مناسبتها ، فهو أوّل التصفية حتّى يصلح لتعلّقها به تعلّقاً تامّاً ثانياً.

ولعلّ الوجه في سائر الأغسال هو تنقية البدن عن أثر القدر الحاجب لإشراق نور النفس عليه ، وظهور آثارها من حيث هي مقدّسة فيه حتّى يصلحا معاً لعبادة اللّه ، والوقوف بين يديه ؛ إذ العمل منهما جميعاً بعد مناسبتهما له في الجملة ، ومناسبة كلّ منهما للآخر ، وبإفاضة الماء على الوجه المشروع تحصل في الجسد حياة يناسب بها حياة النفس ويستعدّ لارتباطها به ، فتهتزّ أرضه وتربو ، وتنبت ما يثمر ثمرات الجنان ، واللّه المنّان ، وهو أعلم بأسرار أحكامه.

ص: 289

ص: 290

[92] في بيان بعض أسرار الصلاة

اعلم أن الصلاة خطرها عظيم ؛ ولذا ورد فيها أنّها معراج المؤمن (1) ، وأنّها معراج كلّ تقيّ (2) ، وأنّها « عمود دينكم » (3). وهي بالنسبة إلى عبادات العالم بأجمعه كالإنسان بالنسبة إليه. فكما أن الإنسان نسخة مختصرة من جميع العالم ، فهو كتاب مستقلّ ودائرة تامّة ، وكلّ نوع سواه قوس ، كذلك الصلاة نسخة مختصرة من جميع عبادات العالم فعلاً وتركاً. ينبّهك على ذلك ما هو ظاهر منها ؛ فقد اشتملت على ركوع وسجود وقيام وقعود وحركة وسكون ، وترك لجميع ما سوى ذكر اللّه وجوباً ، وتحريم جميع لذّات الدنيا من الأكل والشرب والنكاح وغير ذلك.

وبالجملة ، جميع ما يشغل عن اللّه. فروحها الإقبال على اللّه ، ومادّتها ذكر اللّه ، وصورتها التواضع والاستكانة والخضوع لله. فهي محض القبول للاستكمال بأنوار الملكوت ، والمصلّي من حيث هو قابل محض ؛ فهي أصل الدعاء وحقيقته. فالصلاة أشارت ونعتت كلّيّات جواهر العالم ، ورتبه وحقيقة عباداته أجمع ، وأشارت إلى رتب الوجود بدءاً وعوداً.

وكانت اليوميّة التي هي أصل الصلوات وأُمّها قد فرضت فوق العرش في مقام قاب قوسين خمساً عدد أهل الكساء ، وأُولي العزم ، والمتحيّرة السيّارة ، وعدد كلّيّات العالم :

ص: 291


1- بحار الأنوار 79 : 303 / ذيل الحديث : 2.
2- الخصال 2 : 620 ، حديث أربعمائة ، وفيه : « قربان ».
3- المحاسن 1 : 116 / 117.

العقل ، والنفس ، والروح ، والخيال ، والجسم ، وغير ذلك من الانقسامات المخمّسة.

ولأنّ الخمسة نهاية الكثرة العدديّة ؛ فهي كأنّها برزخ بين القوسين ، وجامعة بين النشأتين ، وعدد خمسة الأصابع التي هي مظهر القدرة في القبض والبسط ومظهر الجود ، وعدد ضمير الغيب المشير إلى ينبوع الوجود ، وعدد القوى الخمس الباطنة ، وعدد الخمس الظاهرة (1). ومجموعها بأصل الفرض عشر ركعات [ كعدد (2) ] القوى العشر (3) ، وعدد القبضات العشر التي تكوّن منها الإنسان المصلّي ، وعدد الكلّيّات العشر المجرّد ، والتسعة المادّيّات ؛ باعتبار أن عالم الكون والفساد واحد [ لإمكان ] (4) انقلابات العناصر واستحالة بعضها إلى بعض.

وكان منها أصل فرضها ثنائيّاً ؛ لتجمع قسمة العالم الثنائيّة : مجرّد وجسمانيّ ، وظاهر وباطن ، وغيب وشهادة ، ومبدأ ومعاد ، ودنيا وآخرة ، وجوهر وعرض ، وغير ذلك. وكان أصلها كلّها ثنائيّةً خمساً بعشر ركعات مقابلة للعشر الحسنات ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) (5). ولكن الرسول صلى اللّه عليه وآله : بمقتضى ( هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (6) أزاد سبعاً ردماً لسبعة أبواب الجحيم ، وليكون فيها بسيطاً ومركّباً كانقسام العالم كذا إلى ذلك.

فالبسيط منها ما أُبقيَ على الأصل ، والمركّب ما أُزيد فيه ، ولوحدة البسيط بوجه كان منها البسيط واحداً ، وتعدّد المركّب لتعدّده في العالم. وكانت الزيادة اثنتين لتطابق أصلها ، وتحكي قيام الخليفة مقام الرسول صلى اللّه عليه وآله : وكانت المغرب زيادتها واحدة لتكون كالبرزخ بين الرتبتين لوجوب وجود البرزخيّة بين البسيط المحض والمركّب المحض ، بل بين كلّ رتبتين.

وقد فسّرت المغرب بالزهراء سلام اللّه عليها - : لأنّها منبت الأنوار وسفط

ص: 292


1- انظر التفسير الصافي 3 : 111.
2- في المخطوط : ( وعدد ).
3- انظر الهامش الأول في هذه الصفحة.
4- في المخطوط : ( الإمكان ).
5- الأنعام : 160.
6- ص : 39.

الأسرار ، فهي كالبرزخ بين النبيّ صلى اللّه عليه وآله : والوليّ. وأشارت الزيادة بتسبيعها إلى القسمة السباعيّة في العالم ؛ إذ لا يكون شي ء في السماء والأرض إلّا بسبعة أشياء. والأفلاك سبعة ، وأملاكها سبعة ، وأيّام الأُسبوع التي جمعت أيّام الدهور والأعوام والشهور سبعة ، تشير إلى أربعة عشر هي الأيّام الحقيقيّة التي نهينا عن معاداتها. وهي ضعف السبعة بالتثنية التي هي جهة تثنية الصلاة بأصل الفرض.

وأيضاً أُبقيت منها واحدة على الأصل ؛ لئلّا تخلو من صورة أصلها ، ولتكون مبدأً لها وغايةً ، ولئلّا تخلو مرتبة من المبدأ. فالغاية هي البداية ، وكان أصلها ثنائيّاً أيضاً ؛ لأنّ مقام فرضها وظهور التكليف بها ثنائيّ ، وهو مقام العقل والنفس. أو قل : الروح ، وهو المقام الجامع بينهما ، أو قل : مقام ( نحن نحن وهو هو ) (1) ، ومقام منتهى العابدين ، ومقام وقوف العابد بين يدي المعبود ، بل هي في المقام الأرفع ، وهو مقام الإرادة المطلقة ومنقطع الصفات.

والبرزخ الكلّيّ الأعظم ركعة واحدة ، بل هي في مقام المشيئة المطلقة والوجود المطلق ذكر مجرّد سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح. فلمّا وصل الأمر بالإدبار في قوس البدء إلى آخر المراتب النزوليّة ، ومجمع القوابل ، ومنتهى الكثرة ، وابتداء قوس العود ، وتكافأت القوابل ، واشتدّ المزج ، وتضاعفت الأغشية ، وكان الخلق كما قيل :

تنكر منها عرفها فاهيلها *** غريب وفيها الأجنبيّ اهيل

وابتدأ السفر الرابع وحان أوان تبليغ الرسالة العظمى ظهر تضاعفها ، ونسبت الزيادة للرسول صلى اللّه عليه وآله : وإن كان التكليف في الاثنتين تكليفاً بالأربع ، والتكليف بالخمس تكليفاً بالخمسين لجامعيّتها لها وثوابها عليها ، فلا نسخ لأصل أصلاً بل ظاهراً ، وإنّما هو إرجاع الجزئيّات إلى الكلّيّات. على أن نسبتها للرسول صلى اللّه عليه وآله : حقيقةٌ ؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ، فهو ممّا فوّضه اللّه إليه وقال له ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ) (2).

ص: 293


1- انظر شرح العرشية 2 : 132.
2- ص : 39.

وخُصّت الصبح بعدم الزيادة لأنّها في ساعة ليست من الليل ولا من النهار (1) ، وهي تشبه ساعات الآخرة ، فهي تحاكي رتبة أوّل فرضها ، ولأنها برزخ بين النور والظلمة ، والوجود والعدم ، والغيب والشهادة ، فهي تجمع المقامين ؛ ولذلك يجتمع فيها ملائكة الليل [ والنهار (2) ]. وهي بمنزلة دولة الصاحب : عجّل اللّه فرجه وفرّج عنّا به فإنّها كالبرزخ بين المقام الذي أحبّ اللّه بحكمته أن يعبد فيه سرّاً وهو زمن دولة الجهل وبين المقام الذي أحبّ اللّه بحكمته أن يعبد فيه بكمال الإعلان ، وهو زمن دولة العقل ، وهو زمن الرجعة.

فساعة الفجر من الليل بوجه ؛ ولهذا اعتبرها الشارع تارة من الليل وأُخرى من النهار. فهي كرتبة الخيال الجامع لخواصّ المجرّد والمادّيّ ، لا من حيث هما كذلك كما هو شأن البرزخ والغيب والشهادة ، والظاهر والباطن. فأشبهت مقام بدئها ومعادها ، وبوجهٍ مقام المزج بين الطينتين وعركهما. ولضيق وقت الصبح بالنسبة إلى غيرها ، وكونها واقعة على أثر كسل النوم المضعف للقوى النفسانيّة التي هي مادّة العبادة ؛ أُبقيت على أصل الفرض ، واللّه رؤوف رحيم.

وكان منها ثلاثيّة إشارة إلى قسمة الوجود الثلاثي أيضاً : العقل والنفس والجسم ، والمجرّد والخيال والجسمانيّ. وإلى عدد الأجزاء الثلاثة الذين هم الثلاثة الظاهرة من الأربعة ، الّذين هم أركان الاسم الأعظم الّذي خلقه اللّه بالحروف ، غير متصوّت إلى آخره. وإلى تدويرات القبضات العشر الثلاث (3) التي هي طينة المصلّي ، وبكمال الثلاث لكلّ واحدة من العشر يبلغ الغلام الحلم فيستحقّ أن تدفع إليه أمواله.

فإذا تمّت الثلاثة للعشر كملت ثلاثين عدّة شهر الميقات ، وأيّام الصيام التي صومها يصفّي النفس من أثر ما أكل آدم عليه السلام : من الشجرة ، والذرّيّة في صلبه.

وإشارة إلى أوّل فرد من العدد بعد الواحد على ما هو الأقوى من دخول الواحد

ص: 294


1- تفسير القمّيّ 1 : 126 ، بحار الأنوار 80 : 107 / 4.
2- إشارة الى ما ورد في الكافي 3 : 283 / 2.
3- كذا في المخطوط.

في الأعداد ، وأوّل الأفراد على قول. وله وجه في الجملة ، فهي روح كلّ عدد بوجه. وكالهيولى لجميع الأعداد بوجه ، وكالصورة بوجه. وإلى أوّل فرد ظهر فيه التركيب من الوجود ، وإلى مقام أمر العقل بالإدبار. ففيه حينئذٍ ثلاث جهات : جهة إلى ربّه ، وجهة [ إلى ] نفسه ، وجهة إلى الخلق. ولتكون المغرب والعشاء وهما مجموع صلاة الليل المحض سبعاً فيُسدّ بكلّ ركعة منهما باب من جحيم الهيولى التي تشبهها ظلمة الليل ؛ ولهذا تستوحش نفوس عامّة البشر (1) من الأموات في الليل ، وتنفر منهم طباعهم أشد من النهار بكثير ؛ لرجوع الميّت إلى شبه الهيولى الصرفة ، والليل كذلك ، [ فتشتدّ (2) ] الوحشة ؛ لشدّة وحشة عرصات الهيولى وظلمة سبلها. فالنفوس تستوحش من اجتماعهما أشدّ من استيحاشها من كلّ منهما منفرداً ؛ لما في اجتماعهما من تضاعف علّة الوحشة.

فالثلاثيّة برزخ بين أصل فرضها ونهاية زيادتها ، وبسيطها ومركّبها ، وخصّت بالمغرب ؛ لضيق وقت فضيلتها ، وهو أضيق الأوقات ؛ ولأنّها واقعة بعد التكليف برباعيّتين ؛ إذ أوّل ما فرض منهما الظهر ؛ ولذا كانت هي الوسطى على الأشهر الأظهر. وفيه إجماع منقول ، ولأنّ المغرب واقعة أيضاً في الحدّ المشترك بين محض النور والظهور والظلمة والستور ، فهي كرتبة البرزخيّة بين الهيولى المحض والصورة التامّة ، ولأنّ وقتها أيضاً برزخ بوجه ، والبرزخ يجمل فيه بعض ما فصّل في الكثرة ، ويصنّف بعض ما شخّص ، وينوع بعض ما صنّف ، ويجنّس بعض ما نوّع.

ومن هذا يظهر أيضاً وجه في كون الصبح ثنائيّة. ولأنّ المغرب والصبح في حال يشبه السفر ، بل هو سفر بوجه ؛ لأنه حركة ونقلة من ضدّ إلى ضد : من النور إلى الظلمة ، ومن الظلمة إلى النور ، ومن وقت الحياة وهي اليقظة إلى وقت الموت وهو النوم وبالعكس ، ومن شأن السفر التخفيف والقصر بمقتضى رأفة اللّهِ بالعباد.

وكان الصبح بلا زيادة أصلاً ؛ لأنّ وقتها أعلى من وقت المغرب ، وهي أشرف

ص: 295


1- في المخطوط : ( البشري ).
2- في المخطوط : ( فتشد ).

منها ؛ لأنّها في وقت انفلاق الصبح وذهاب غسق الليل ، كقيام القائم : عجّل اللّه فرجه. فوقتها أشدّ جامعيّة ، وأكمل برزخيّة بين الضدّين ؛ ولذا تجتمع فيه ملائكة الليل والنهار ، وتقسم فيه أرزاق العباد ، دون المغرب. فأشبه الانتقالَ من قوس البدء إلى قوس العود بحسب النشأة الدنيا.

والمغرب وقتها أشبه الانتقالَ من المبدأ وهو الغاية طالباً له في القوس النزوليّ ، فناسب فيها الزيادة بالجملة ، ليحصل به تكليس (1) وتصفية في الجملة.

وكان منها رباعيّاً إشارةً إلى قسمة الوجود الرباعيّة : عقل ، ونفس ، وخيال أو قل : روح وجسم. أو قل : عقل ، ونفس ، وهيولى ، وصورة ، إلى غير ذلك ، كالأركان الأربعة للاسم الأعظم ، وإلى العرش المحيط والخلفاء الأربعة ، والجبال الأربعة ، والطيور الأربعة ، وأركان البيت المعمور ، والكعبة المشرّفة التي هي مأوى العهود التي التقمها الحجر.

ولتربيعها ؛ كان القبر الذي هو مأوى الأجسام ومستودعها مربّعاً ؛ ليتطابق مأوى الجسد والروح ، والنفس والعقل ، والسر [ والنور ] ، والظاهر والباطن ، فقد خلق اللّه أسماء بالحروف غير متصوّت ، وباللفظ غير منطق ، وجعل له أجزاء أربعة أخفى منها جزءاً وأظهر ثلاثة ، وجعل لكلّ جزء من الثلاثة أربعة أركان. فالأركان اثنا عشر عدد الخلفاء الاثني عشر. وعدد الركعات الرباعيّات منها اثنا عشر ، فأشارت كلّ واحدة منها إلى عللها الأوّلية التي هي علّة القسمة الرباعيّة في الوجود ، ومجموعها إلى أركان الاسم الأعظم الاثني عشر الذين هم خلفاؤه ، وهم أركان الوجود وأقطابه.

وكانت الرباعيّات ثلاثاً ؛ إشارةٌ إلى عدد الأجزاء الظاهرة من أركان الاسم الأعظم.

وأيضاً أشار عدد كلّ واحدة منها إلى عدد الأربعة الحرم ، ومجموعها إلى عدّة الشهور عند اللّه ، و [ عدّة (2) ] شهور السنة ، وعدد البروج الغيبيّة والحسّيّة.

ص: 296


1- كذا في المخطوط.
2- في المخطوط : ( عد ).

وأيضاً كانت الرباعيّة ثلاثاً ليقابل كلّ واحدة منها واحدة من الثلاثيّة ، فكان كلّ ركعة منها إجمالَ رباعيّة بأجمعها وغيبها ، وكان كلّ رباعيّة تفصيلَ ركعة منها وظاهرها.

ومن هذا يظهر وجه في وجود ثلاثيّة فيها أيضاً ؛ ولهذا أيضاً لم تقصر في السفر ، فكأنّه روعي في كلّ ركعة منها وجود رباعيّة بأسرها نوعاً فلم تقصر ؛ لما يلزم من ارتفاع الرباعيّات بأسرها. فكونها ثلاثية كالذاتيّ لها بهذا التقريب ، فلم تقبل القصر.

وأيضاً كان في الخمس رباعيّة إشارة إلى تدويرات القبضات العشر الأربع (1) التي تبلغ بها أربعين هي تمام الميقات وكماله وأوان بلوغ الأشدّ ، وعدد أيّام تخمير طينة آدم عليه السلام : ورتبها ، وعدد أجزاء الإيمان ، « فمن أخلص لله أربعين صباحاً تفجرت من قلبه ينابيع الحكمة » (2).

و « من أكل لقمة حراماً لم ترفع له دعوة أربعين يوماً » (3).

وبهذا العدد تكمل التصفية ، وتستعدّ طينة نفسه لقبول الآثار الملكوتيّة.

وإشارة إلى العبادات : الصلاة والزكاة والصوم والحجّ. وإلى نقط الجهات الأربع التي بنيت عليها أركان الكعبة زادها اللّه شرفاً وليتطابق فيها حكاية قوسي البدء والعود ، فمبدؤها ثنائي.

وأيضاً كرّر التربيع ثلاثاً ؛ ليطابق كمال ظهور العقل والنفس والروح في الجسد. أو قل : كمال ظهور العقل وتنزّلاته في المراتب الكلّيّة : النفس ، والخيال والهيولى والصورة. أو قل : الروح ، والنفس والهيولى والجسم.

وخُصّت تلك الزيادة بالظهرين والعشاء لوقوعهم في محض النور والظهور ، ومحض الظلمة والإسرار ، وخصّ القصر بهم ؛ لأنّ المسافر من حيث هو كذلك لا يستقرّ على حال ؛ فأشبه حاله سفر الإنسان بذاته وكدحه إلى ربّه ، فإنّه من تلك الجهة دائم الحركة الجوهريّة والسير ، والنقلة في الرتب الوجوديّة ، فلا يتمّ فيه ظهور

ص: 297


1- كذا في المخطوط.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 69 / 321 ، باختلاف.
3- بحار الأنوار 63 : 313 / 7.

رتبة بالفعل من كلّ وجه ، لأنّ سيره في صفو كلّ رتبة وخالصها دون لوازمها وظواهرها ، فلو كملت فيه رتبة بجميع لوازمها لتقيّد بها ولم يتجاوزها ؛ ولهذا وصف الإنسان بالضعف في أصل خلقة ، كما قال تعالى : ( وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ) (1).

ولا ينافي ذلك أن وجود الرتبة الّتي يبلغها باعتبار وجودها له وتحقّقه بها أشدّ من وجودها الظهوريّ في نفسها بوجه ، بل في الحقيقة ؛ فإنها فيه روح لها في نفسها ، فهي أشدّ وجوداً وبَساطة وجامعيّة.

فإذن لا يناسب للإنسان حال سفره ولا يتمّ له كمال ظهور الصلاة ونهاية كثرتها ، فأنقص منها ما به يكمل الظهور الوجوديّ والكثرة الخارجيّة ليتناسب التطابق دون ما لم يكن.

وأيضاً مبنى التكليف على التخفيف ؛ لأنه لطف ورحمة واللّه أرحم الراحمين ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (2) ؛ لأنه مقتضى العدل ، والوسع دون الطاقة. ومن شأن السفر المشقّة ؛ ولذا رتّب على شقّ الأنفس ، وفيه أشدّ الشغل ، فخفّف اللّه فيه على العباد من الصلاة لأنها عمل بدنيّ كما أنها نفسانيّ بأن أسقط عنه بعض التكليف البدنيّ ، وهو ما فيه نهاية التكليف ، ولم يخلِه من الزيادة الّتي هي رحمة ، وبها الكمال الظهوريّ ، فأسقط زيادة الاثنتين وأبقى زيادة الواحدة ؛ إذ لا تعذر النفس عن ذلك الكمال ؛ لما فيه [ من (3) ] الإعراض عن اللّه تعالى بوجه في حال. فأبقى تكليفه بالأصل وبشي ء من الزيادة وأسقط شيئاً.

كلّ ذلك رحمة منه بالعبد ، ولئلّا يحرمه فضلاً مَنّ به عليه بالكلّيّة ، واللّه العالم بحقيقة أحكامه ، والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 298


1- النساء : 28.
2- البقرة : 286.
3- في المخطوط : ( عن ).

[93] أذاقه رحمة وإنارة ظلمة ( وَإِذا أَذَقْنَا النّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُمْ )

قال النظّام النيسابوري : في تفسير قوله تعالى : ( وَإِذا أَذَقْنَا النّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُمْ ) (1) - : ( وفي تخصيص الإذاقة بجانب الرحمة دليل على أن كثيراً من الرحمة قليل بالنسبة إلى رحمته الواسعة.

وفيه أن الإنسان لغاية ضعفه الفطريّ لا يطيق أدنى [ الرحمة (2) ] ، كما أنه لا يطيق أدنى الألم الذي يمسه ) ، انتهى (3).

وأقول وباللّه المستعان - : حاصل الفرق على ما فهمه هذا الفاضل أن ما ينال العبد من الرحمة بالنسبة إلى رحمة اللّه التي وسعت كلّ شي ء يكون كالإذاقة ، والإنسان لمّا كان ضعيفاً في فطرته لا يطيق ورودها إلّا قليلاً متزايداً بحسب [ استعداده (4) ] على سبيل الإذاقة.

وحاصل النظر أن الإنسان خلق ضعيفاً هيولانيّاً ، عقله وإدراكه بالقوّة ، فهو حينئذٍ كما يمسّه أدنى الألم ولا يطيقه ؛ لضعف قواه حينئذٍ عن تحمّله ، ولمنافاته ومضادّته بالكلّيّة لقواه ؛ لأنه بالفعل في الجملة وهي بالقوّة كذلك ، فإذن لا وجه

ص: 299


1- يونس : 21.
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( الراحة ).
3- تفسير غرائب القرآن 3 : 571.
4- في المخطوط : ( استداده ).

[ لما (1) ] وجّه به التخصيص.

ولعلّ الجواب أن الفارق (2) بذلك لم ينظر لما نظر له صاحب [ التفسير ] من ضعفه الفطري ، وتساوي عدم طاقته ، لثاني مرتبة الرحمة والضرّاء ، وإنّما نظر إلى أن كلّ ما ينال البشر من الرحمة الواسعة وإن كثر فهو قليل بالنسبة إلى سعة رحمة اللّه وعظمتها ، فكلّ ما يرد عليهم من الرحمة تضمحلّ نسبته إلى ينبوع الرحمة والجود ، فناسبه الإذاقة لقلّتها بالنسبة إلى المسّ. وناسب الضرّاء المسّ ؛ لأنّ القليل منها لا يحتمله البشر ؛ لضعفه ومنافاتها لأصل فطرته وعدم ملاءمتها لقواه وحواسّه ونفسه.

ويدلّ على هذا أن ذلك الفارق نظر إلى حال البشر في عموم الإذاقة والمسّ وإن بلغوا أشُدّهم كما هو ظاهر الآية الكريمة. فأين هذا ممّا فهمه المنظر على أن قوله : ( إن ضعفه الفطريّ يقتضي عدم إطاقته لأدنى الرحمة كالألم ممنوع ) (3)؟ فإن ذلك الضعف يلائمه راحة الرحمة ، كما هو ظاهر مع أن الرحمة والألم ضدّان بل نقيضان بوجه ، فكيف يرتفعان ولا واسطة ، ولا بدل لهما؟

وأيضاً الضعف الفطريّ الثابت للإنسان ، ليس هو ما فهمه وأدركه نظره ، فإنّ الوجدان يدفعه ، بل ضعفه الفطريّ عدم كمال ظهور رتبة من رتب الوجود من حيث هي ، وعدم فعليّتها من حيث هي بحسب الكمال الظهوريّ فيه ، وعدم تقيّده بها. وذلك عين القوّة والشرف الذي امتاز به الإنسان عن جميع الخلائق و [ فُضّل عليهم (4) ] به.

وعليه لا يتمّ النظر ، فنقول : لمّا كانت الضرّاء لا تأصّل لها في الوجود ، وإنّما هي بالعرض ، فهي لا تتجاوز الحسّيّات لأنها أصلها ومحتدها ، والرحمة عامّة لا نفاد لها لأنها وجدت أوّلاً وبالذات ، ولأنّ مبدأها من اللّه الذي لا ينقطع جوده ؛ لكون

ص: 300


1- في المخطوط : ( بما ).
2- كذا في المخطوط.
3- نقله بالمعنى ، وهو قول النظام المار في الصفحة السابقة.
4- في المخطوط : ( وفضلهم ).

[ محتدها (1) ] ومبدئها من نفسه ماسّة له ومخالطة لكلّه ، كحاسّة اللمس التي لا يفقدها جزء منه حلّته الحياة من حين ولوج الروح فيه ، فهي أوّل قبس من الروح البخاريّ [ الذي (2) ] يشتعِلُ به فتيلة زيت بدنه ، فتظهر فيه كالدفعة لفعليّتها فيه كلّه وإن كانت أيضاً مراتب لقبولها كأصلها الشدّة والضعف.

وكانت الرحمة لقلّتها بالنسبة إلى مبدئها ، ولظهورها فيه بالتدريج لأنّ اللّه تعالى لا يكلّف نفساً إلّا وسعها ، ولأنّها ضعة الوجود الذي لا تقبله إنّيّته اختياراً إلّا تدريجاً ؛ لأنه في الإيجاد دائماً بوجه ، وأصل وجوده بوجه ناسبها الإذاقة.

وأيضاً لمّا كان الإنسان في ابتداء أمره متكوّناً من الجسمانيّات التي هي محتد ظهور الضرّاء فهو حينئذٍ معدن ونبات وحيوان بالفعل ، والعقل إنّما يظهر فيه متدرّجاً كان ما يناله من الضرّاء التي هي من سنخ موادّ جسمه تعمّه وتمسّه ، وكانت الرحمة التي تناله كالإذاقة ؛ لعدم وسعه وقابليّته لقبول ما يمسّه منها في كلّ درجة اختياراً ، وإلّا لجاز الترجيح لا لمرجّح ، ولانتفت فائدة البعثة.

وأيضاً الرحمة منه حال كونه إنساناً من حيث هو حيوان غريبة ، كان ما يرد عليه منها أذاقه متصاعداً مشتدّاً في كلّ درجة بخلاف الضرّاء ، فإنّ كلّ ما يرد عليه حينئذٍ منها يمسّه ؛ لما مرّ وبالوجدان.

وأيضاً الذوق أعلى من اللمس ؛ لأنّ اللمس أقرب الحواسّ إلى الجسمانيّة الحيوانيّة وأنزلها ؛ لأنّها أوّل قوس الصعود ، ونهاية نزول النفس إلى الجسدانيّة ، وأوّل مراتب ظهور الحياة والروح الحيوانيّة ؛ ولذا لا يعيش حيوان بدونها أصلاً ، ويعيش مع فقدانه لما سواه من الحواسّ الخمس الجسمانيّة. فاللمس كالرحمة والهداية العامّة التي دخل فيها البرّ والفاجر ، وقد لا يوجد في بعض الحيوانات من الخمس سواه بخلاف الذوق. فكانت الضرّاء أنسب بالمس لعمومهما ، وقرب مبدئها من مبدئه ، ولدركها له بكلّه. والإذاقة أنسب بالرحمة التي هي أثر من آثار رحمة اللّه

ص: 301


1- في المخطوط : ( محتداها ).
2- في المخطوط : ( التي ).

التي هي صفة الوجود الأوّل ولازمه.

وأيضاً الرحمة من حيث هي [ لما كانت ] لا يدركها الإنسان إلّا بعقله ، فهي لا ترد عليه إلّا من جهة عقله ، فناسبها الإذاقة الّتي لا تدركها النفس إلّا بجهة العقل ، ولا البدن إلّا بجهة النفس ، والذوق مختصّ بلسانه الذي هو مغراف قلبه ، ومظهر صفة نفسه ، وكيفيّة فكره ، كانت الإذاقة أنسب للرحمة. ولمّا كانت الضرّاء الواردة عليه لا تختصّ بجهة منه ولا جارحة ولا يفقدها إلّا العقل من حيث هو لاحتجابه عنها حينئذٍ ، كان المسّ بها أنسب.

وأما قول الفاضل النظّام : ( إن كثيراً من الرحمة قليل بالنسبة إلى رحمته ) فحقّ ، لكن لا تلازم بينه وبين تخصيص الإذاقة بالرحمة ، والمسّ بالضرّاء ، بل ما يرد عليه من الرحمة وإن قلّ بالنسبة إلى سعة رحمة اللّه في نفسه أكثر بكثير ممّا يرد عليه من الضرّاء وإن كثرت. ولهذا ربّما نسبت الإذاقة إلى العذاب وإن كان الأوّل أكثر وروداً ، واللّه العالم.

ص: 302

[94] حكمة يمانية في لطيفة ربانية : الرسول يعاين والإمام لا يعاين

لعلّ السرّ فيما أطبق عليه أهل العرفان وتطابقت فيه الروايات (1) ومحكم البرهان من أن الإمام لا يعاين الملك المبلّغ للوحي في تلك الحال ، من حيث هو مبلّغ ، وإنّما يسمع كلامه ولا يعاين شخصه ، ملقياً له الوحي الجزئيّ ، والرسول يعاينه كذلك ، ويسمع كلامه الملقى إليه منه أن الإمام لمّا كان مظهر الولاية المطلقة التي هي ولاية الرسول صلى اللّه عليه وآله : التي هي باطن النبوّة التي هي باطن الرسالة ، فالإمام لا يتلقّى الوحي إلّا من مقامه. ومقام الولاية لا يمكن التلقّي فيه للوحي من الملك شفاهاً بمعاينة شخصه ، فهو يتلقّاه من الرسول من مقام ولايته التي هي باطن باطن الرسالة ، فإنّ الرسول لا يتلقّى الوحي فيها كذلك ، ولكنّه يلقي الوحي فيها إلى خليفته.

ومن هنا يظهر سرّ ما ورد : « إنّ الوحي يمرّ به جبرئيل عليه السلام أوّلاً على أمير المؤمنين عليه السلام ».

فإنّ مقام الرسالة يتلقّى من النبوّة المتلقّية من مقام الولاية ، فتفطّن.

وأيضاً مقام أخذ الوحي شفاهاً حسّيّا من شخص الملك المعاين مقام الرسالة ، التي هي مقام آخر مراتب ظهور كمال الرسول ، فلو عاين الإمام أيضاً كذلك كان رسولاً وانتفت الإمامة ، وهو محال. وانتفى الفرق أيضاً بين مقام الولاية والرسالة ومظهريهما ، فمقام الرسالة نهاية مراتب الكمال الوجوديّ ، والخلافة دونه بدرجة.

ص: 303


1- الكافي 1 : 176 - 177 / 1 - 4.

فأمير المؤمنين سلام اللّه عليه - : يتلقّى الوحي من الرسول بمقام ولايته المطلقة ، فإنّه مظهرها وحامل لوائها ، وهو لواء الحمد. فلا يمكن أن يستقلّ بأخذ الوحي شفاهاً من الملك حال كونه مرئيّاً له ، وإلّا لساوى الرسول وباينه ، فلم يكن نفسه التي بين جنبيه ، ولا كان منه كالرأس من الجسد ، ولم يكن خليفته مطلقاً ولا تابعاً كذلك وهو كذلك مطلقاً.

هذا كلّه في مقام الوحي التبليغي للرسالة ، وإلّا فقد استفاض أن الأئمّة عليهم السلام : يعاينون الملائكة ، ومع هذا فلا تتوهّم أن ذلك يقتضي أفضليّة سائر الرسل غير محمَّد صلى اللّه عليه وآله : على عليّ عليه السلام : وخلفائه عليهم السلام ، فإنّ جميع رسالات ما سوى : محمَّد صلى اللّه عليه وآله : معلولة لولاية عليّ عليه السلام : ومن فاضلها ، وقبس من نورها ، فلا يقاس المعلول بعلّته ، وحقيقة النور بالمستنير به.

أمّا محمَّد صلى اللّه عليه وآله : فولاية عليّ عليه السلام : معلولة لولايته ، ونوره شعلة من نوره ، فهو مظهر ولايته ، وحامل لوائه في الدنيا والآخرة ، آدم عليه السلام : فمن دونه تحته (1) ، واللّه العالم.

ص: 304


1- انظر بحار الأنوار 16 : 402 / 1 ، و 39 : 213 / 5 ، و 39 : 217 / 9 ، و 40 : 82 / 114.

[95] سرّ خفّي ووعد وفيّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر

مسألة : ما الوجه في أن الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ، والآخرة على العكس؟

والجواب من وجوه :

أحدها : أن الكافر في الدنيا وإن اشتدّ بلاؤه وتتابع وتنوّع واتّصل ، فإنّه بالنسبة لما يلاقيه في الآخرة في جنّة ، والمؤمن على العكس من ذلك وإن تواترت عليه النعم في الدنيا وتنوّعت واتّصلت ، بل ولو ملك الدنيا بحذافيرها وعمّر في عافية إلى أن ينفخ في الصور ، فهو في سجن بالنسبة لما يلاقيه من فسحة الآخرة ، وأنواع النعم فيها.

الثاني : أن الدنيا على العكس من الآخرة في كلّ شي ء ؛ لأنّها بالنسبة للآخرة كالظلّ الحاكي لذي الظلّ ، والظلّ يحكي ذا الظلّ معكوساً ، ولأنّها نقيض لها بوجه ، وهما على التعاكس مطلقاً. والمؤمن في الآخرة في أتمّ السرور والأمن والفسحة ، والكافر على العكس من ذلك ، فما أضيق مقرّه وأوحش مسلكه وأثقل قيوده فيها! فلا بدّ أن يتعاكسا في الدنيا وإن لم يظهر للحسّ.

الثالث : أن المؤمن لمّا كان باقياً على فطرة اللّه المستقيمة ، مخلوق من طينة الجنّة ، والكافر معوجّ الفطرة ، مخلوق من طينة جهنّم. فالمؤمن من حيث إيمانه مسجون من حيث هو في الدنيا ، والكافر من حيث كفره في نعيم من حيث هو في الدنيا.

ص: 305

الرابع : أن السرور والأمن والراحة والفسحة وأضدادها إنّما تكون بإدراك الملائم والمناسب والمجانس أو المناوع والمصانف للنفس أو المزاج أو الطبع أو العقل أو الحقيقة والهوية من حيث هي. فالمؤمن لمّا كان لا يدرك من الدنيا من حيث هي دنيا إلّا ما ينافي وينافي أو يضادّ أو يناقض ذاته وصفاته وطباعه ومزاجه ونفسه وعقله ؛ لأنه ليس من سنخ الدنيا من حيث هي دنيا ، بل من سنخ الجنّة وصفاتها كان في الدنيا في سجن ، والكافر لمّا كان من سنخ المجتثّ الذي لا أصل له ولا قرار ، وخلق من طينة النار لم يدرك من الدنيا إلّا ما يلائمه ويناسبه لقرب المشابهة ؛ فإنّ الدنيا لا قرار لها بل هي فانية مضمحلّة دائمة الذوبان والسيلان ، وهو في جنّته.

فإذا زالت الدنيا عنهما وكان بصرهما حديداً ، وأدرك كلّ منهما حقيقة الدنيا والآخرة انكشف لكلّ منهما أنه كان على العكس بل الضدّ بل النقيض ممّا كان فيه في الدنيا.

الخامس : قد تقرّر بالدليل عقلاً ونقلاً ، كتاباً وسنّةً إن الآخرة نتائج الأعمال ، بل هي هي و ( إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (1).

و « إنّما هي أعمالهم ردّت إليهم » (2).

فالمؤمن في الجنّة وفسحتها وإن كان في الدنيا ، والكافر في النار وضيقها وخوفها وأحزانها وإن كان في الدنيا ، إلّا إن النفس محجوبة عن مشاهدة ذلك بالعيان غير مشعرة به ما دامت مشغولة بتدبير البدن الطبيعيّ. فهي محجوبة به عن ملاحظة أصلها ، مأسورة بأسر المواد والطبائع ، مسجونة في مطمورة الزمان والمكان ، فإذا انكشفت الدنيا لكلّ منهما ، وظهرت الحقائق ، ووقعت المزايلة التامّة ، ونظر كلّ منهما وسمع ببصر بصيرته وسمع عقله ، رأى وعلم أنه كان على العكس ممّا كان عليه في الدنيا.

ص: 306


1- الطور : 16 ، التحريم : 7.
2- انظر : توحيد المفضّل بن عمر : 50 ، بحار الأنوار 3 : 90 ، باختلاف.

السادس : لعلّ المراد بالدنيا محض الدنيا ، وهي دولة الباطل والجهل ، وبالآخرة دولة العقل وهي دولة آل محمَّد صلى اللّه عليه وآله : فإنّها القيامة الصغرى ، وليست من محض الدنيا ، ولذا كان الغالب فيها أحكام العقل ، ولا ريب أن المؤمن في دولة الجهل في سجن وأي سجن ؛ لأنه لا يقدر أن يعبد اللّه إلّا سرّاً ، والكافر في جنّة ؛ لأنّ دولة الجهل دولته ، وهي جنّته وجزاؤه ، وهما على العكس في دولة آل محمَّد صلى اللّه عليه وآله : كما هو ظاهر لمن عرف بعض سيرتها ، وعرف حقيقة دولة الجهل ، وقام بتكليف التقيّة فيها ، واللّه العالم.

ص: 307

ص: 308

[96] نور شرقي في حديث مدني « ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة »

مسألة : قد استفاض بين الأُمّة بلا معارض أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : قال ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ، فمن صلّى في تلك الروضة ضمنت له على اللّه الجنّة (1).

فكيف يكون هذا بعمومه وقد صلّى فيها المنافقون على اختلاف أصنافهم؟

والجواب ما وقفت عليه منقولاً من الجزء الثاني من كتاب ( أزهار الرياض ) روي عن داود بن القاسم الجعفري ، قال : كنت جالساً عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام فقال : « يا هؤلاء إن النبي صلى اللّه عليه وآله قال : ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ، فمن صلّى في تلك الروضة ضمنت له على اللّه الجنّة. وقد صلّى فيها المخالف والمؤالف فما الذي ترونه في ذلك؟ ». فقلنا : اللّه ورسوله أعلم. فقال عليه السلام : « ليس كما تظنون ، إنما القبر مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ؛ لأنه قبر علم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، وأما المنبر فقائمنا أهل البيت ، وأمّا الروضة فنحن الأئمّة ، ف- ( من صلى فيها ) أي من تولّانا ». فقلت : يا مولاي حضرني في ذلك المكان شعر ، فقال : « أنشد ». فأنشدته :

يا حجةَ اللّهِ أبا جعفر *** وابنَ البشيرِ المصطفى المنذر

انتهى.

ص: 309


1- الكافي 4 : 553 / 1 ، تهذيب الأحكام 6 : 7 / 12 ، عوالي اللآلي 1 : 35 / 16 ، وسائل الشيعة 14 : 344 - 345 ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب 7 ، ح 1.

فقد دفع الإمام عليه السلام الإشكال بحذافيره ، فأمّا على هذا التأويل فظاهر ، وأما على الظاهر فإن قول المصطفى صلى اللّه عليه وآله : « من صلّى » إلى آخره إنما يريد : من صلّى صلاة صحيحة شرعاً ، وذلك لا يتم إلّا بولايتهم ، فقد انحصر ضمانه صلى اللّه عليه وآله فيمن صلّى فيها من أهل ولايتهم. بل في الحقيقة مَن ليس من أهلها لا يدخل تلك الروضة ولا بجسمه كما يظهر بالتأمّل في الأدلّة العقليّة. فليس الرجلان بمقبورين في حجرته بل في سنخهما وطبائعهما وما يناسبهما من الأرض ، واللّه العالم.

ص: 310

[97] هداية وبيان وإسرار وإعلان نسخ ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها )

العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن أبي جعفر عليهما السلام في قوله تعالى : ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) (1) قال عليه السلام : « نسختها ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) (2) » (3).

قلت وباللّه المستعان : أراد بالصلاة في هذا الباطن : ولاية عليّ عليه السلام ، وقد استفاضت مضامين الأخبار بتأويل الصلاة بالولاية ، بل ورد عنهم عليهم السلام [ أن ] الصلاة [ على ] عليّ أيضاً بمعنى ولايته.

ويمكن بقاؤه على ظاهره أيضاً كما يظهر [ للعارف (4) ] ، فيراد بنسخ الآية ب- ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) : إظهار ولايته وفرضها على الخلائق ، ويراد بالنهي عن الجهر بها : إخفاؤها عن سائر الخلق غير أهل البيت المطهّرين ، وبالنهي عن الإخفات بها : إظهارها لأهل البيت المطهرين خاصّة.

ويدلُّ على هذا كلّه أيضاً ما رواه العياشيّ عن الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال : سألته عن قوله عزوجل ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) ، قال عليه السلام : « ( لا تَجْهَرْ ) بولاية علي ولا بما أكرمته به حتّى آمرك بذلك ، ( وَلا تُخافِتْ بِها ) يعني : ولا تكتمها

ص: 311


1- الإسراء : 110.
2- الحجر : 94.
3- تفسير العياشي 2 : 341 / 176.
4- في المخطوط : ( على العارف ).

عليّاً ، أو أعلمه بما أكرمته به » (1).

فقد كشف هذا الخبر عن [ المعنى (2) ] الأوّل ، وهذا كلّه لا ينافي كون الآية الأُولى محكمة غير منسوخة بحسب التنزيل والتفسير ، فقد تنسخ الآية على بطن من السبعين دون ما سواه ، وقد تنسخ في الظاهر وبحسب التفسير دون الباطن والتأويل ، كما يظهر كلّ ذلك [ لمن (3) ] يميز أخبار أهل البيت عليهم السلام ، واللّه العالم.

ص: 312


1- تفسير العياشي 2 : 342 / 178.
2- في المخطوط : ( معنى ).
3- في المخطوط : ( على من ).

[98] هداية ربانيّة : الكلام في كراهية الإدغام الكبير في الصلاة

قال البهائي قدس سره في اثني عشرية الصلاة ، في الفصل الّذي عقده في التروك المستحبّة اللسانية : ( العاشر : ترك [ الإدغام (1) ] الكبير فإن الحرف الواحد في الصلاة قائماً بمائة حسنة ، وقاعداً بخمسين كما في الخبر (2) ) (3) ، انتهى.

وأقول : أراد قدس سره : أن الإدغام الكبير يفوّت النطق بالحرف المدغم وبفواته يفوت أجر المنطق به المذكور. ولي في ذلك نظر فإنّ ذلك يستلزم القول بكراهية الإدغام الكبير في مطلق قراءة القرآن ولو لم تكن في الصلاة كما هو ظاهر. وهذا (4) لا أعلم به قائلاً من العصابة.

وأيضاً الإجماع قائم على أن من أخلّ بالتشديد عمداً بطلت صلاته ؛ لإهماله حرفاً عمداً. ومقتضى هذا أن الإدغام لا يوجب إسقاط حرف كما هو ظاهر.

وأيضاً ما قاله قدس سره يستلزم القول بكراهية ترك المدّ في المنفصل ، وذلك لا أعلم به قائلاً من العصابة حتّى البهائي قدس سره : و [ التفريق (5) ] بين المسألتين تحكّم ظاهر ؛ فإنّه

ص: 313


1- من المصدر ، وفي المخطوط : ( إدغام ).
2- ثواب الأعمال : 126 / 1 ، ثواب من قرأ القرآن قائماً في صلاته ، وفيه : عن أبي جعفر عليه السلام أن « من قرأ القرآن قائماً في صلاته كتب اللّه له بكل حرف مائة حسنة ، ومن قرأه في صلاته جالساً كتب اللّه له بكل حرف خمسين حسنة ».
3- الاثنا عشرية في الصلاة اليوميّة : 63.
4- في المخطوط : ( هذا ).
5- في المخطوط : ( الفرق ).

دليل جارٍ في المدّ أيضاً ، فإنّه يستلزم إسقاط حرف إلى ستّة أحرف بيقين. هذا مع أنه منافٍ لكلام أهل العربيّة.

قال ابن الحاجب : ( الإدغام أن تأتي بحرفين ساكن فمتحرّك من مخرج واحد من غير فصل ) (1). وأقرّه على ذلك كافّة شرّاح كلامه (2).

وأنا لي في أصل المسألة كلام هو أنه لا يخلو إدغام أحد الحرفين في الآخر ؛ إمّا أن يكون لإعدام أحدهما بالكليّة ، وليس كذلك إجماعاً ، وإلّا لما كان فرق بين المشدّد وغيره ، والفرق محسوس.

أو بتداخلِ الحرفين وامتزاج أحدهما بالآخر. واتّحادُ الاثنين وصيرورتُهما شيئاً واحداً باطل عقلاً ونقلاً ، كما قرّر في الحكمة ؛ لأنه يلزم من فرضه رفعه والبيان في غير هذا الفن أو بالإتيان بحرفين متعاقبين متمايزين في النطق ، بحيث يتكرّر إخراجهما من المخرج الواحد. وهذا يلزمه أن يكون بينهما سكت ما يحسّ به ذو الذوق السليم من نفسه بلازم تحقّق التمايز بينهما حينئذٍ حسّا. وليس كذلك ؛ لتحقّق الفرق بين النطق بهما كذلك.

والنطق بالمدغم أو بحذفهما معاً والإتيان بحرف آخر يشبههما زمان النطق به أقصر من زمان النطق بالحرفين ، وأطول من زمان النطق بالحرف الواحد. وليس كذلك ، لمغايرته لمفهوم لفظ الإدغام ، ولمنافاته ، ولما يفهم قطعاً من مقاصد أهل الصناعة كما يظهر على فطنة المتأمل.

فإذن الإدغام : إلصاق أحد الحرفين بالآخر إلصاقاً شديداً حتّى يتّصل النطق بهما فيصير في الحسّ كأنّه نطق واحد وإخراج واحد بحيث لا يتميّز عنده النطق بأحدهما عن الآخر ، وكأنّهما عنده خرجا من المخرج دفعة بسبب شدّة الاتّصال والتلاصق. فإطلاق الإدغام عليه إذن مجاز لغويّ صار حقيقة عرفيّة ، وبدون هذا لا

ص: 314


1- شرح شافية ابن الحاجب ( المتن ) 3 : 233 - 234 ، شرح النظّام ( المتن ) : 331.
2- شرح شافية ابن الحاجب ( الأسترآبادي ) 3 : 234 - 235 ، شرح شافية ابن الحاجب ( النظام ) : 331.

يستقيم تعريف ابن الحاجب : وشبهه.

وعلى كلّ حال فليس في الإدغام إسقاط حرف من الحرفين باتّفاق أهل العربيّة ، فلا كراهة فيه ؛ لعدم انطباق دليل البهائيّ : عليه ، وليس له دليل غير ذلك ، واللّه العالم.

ص: 315

ص: 316

[99] حكمة يمانيّة : « عليك بالحسنة بين السيّئتين »

( نور الثقلين ) عن ( العيّاشي ) (1) عن الباقر عليه السلام : أنه قال لابنه الصادق عليهما السلام « يا بنيّ عليك بالحسنة بين السيّئتين تمحوها » (2) ، قال عليه السلام : « وكيف ذلك يا أبتِ » (3)؟ قال عليه السلام : « مثل قوله تعالى : ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) لا تجهر بصلاتك : سيّئة ، ولا تخافت بها : سيّئة ( وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) (4) حسنة » (5).

قلت واللّه المستعان - : لعلّه عليه السلام أراد بذلك أمره لابنه عليه السلام بالاقتصاد في جميع الأحوال ، فيكون أراد بالحسنة الصراط المستقيم بين طرفي الإفراط والتفريط. فالسيّئتان هما الطرفان ، والنمرقة الوسطى هي الحكمة. وهذا جارٍ في كلّ شي ء من الأفعال والأعمال والعقائد ؛ فإنّ التوسّط بين طرفي الإفراط والتفريط هو الصراط المستقيم. فمن استقام عليه وسلكه كما أمر اللّه سبحانه انمحت عنه سيّئتا الإفراط والتفريط. وهذا مطلق أُريد به العموم.

ومن القرائن على إرادة ذلك قوله عليه السلام : « مثل قوله تعالى : ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) .. سيئة » ، فأشار إلى أن السيّئة الجهر والمخافتة على الإطلاق ، وهما

ص: 317


1- تفسير العيّاشي 2 : 342 / 179.
2- في المصدر : « تمحوهما ».
3- في المصدر : ( يا أبه ).
4- الإسراء : 110.
5- نور الثقلين 3 : 234 / 483.

طرفا الإفراط والتفريط. ويزيدك بياناً ما رواه في ( نور الثقلين ) عن ( العياشي ) (1) أيضاً عن الباقر عليه السلام : أنه قال : « يا بنيّ ، عليك بالحسنة بين السيئتين تمحوها » (2) ، قال : « وكيف ذلك يا أبه »؟ قال : « مثل قوله تعالى : ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) (3) » (4).

فأشار إلى أن غلّها إلى العنق وبسطها كلّ البسط هما السيّئتان ، وابتغاء السبيل بين ذلك هي الحسنة بينهما. فتمثيله عليه السلام بالآيتين قرينة على إرادة ما قلناه وعلى أن المراد من الإطلاق : العموم في كلّ شي ء. وإنّما أفرد الضمير في « تمحوها » (5) ؛ لأنه لا يمكن أن يسلك شخص الطرفين معاً في شي ء واحد من جهة واحدة شخصيّة.

فإذن لا يتحقّق عليه إلّا سيّئة واحدة هي إمّا طرف الإفراط ، أو التفريط ، فالحسنة تمحوها ، واللّه العالم بمقاصد أوليائه.

ص: 318


1- تفسير العيّاشي 2 : 342 / 179. وليس هو حديثاً مستقلا بل هو الحديث الأوّل عينه ، وقد استشهد به الإمام عليه السلام في الآية 1. من الإسراء أوّلاً ، ثم في الآية (29) من السورة نفسها تحت الرقم : 179.
2- في المصدر : « تمحوهما ».
3- الإسراء : 29.
4- تفسير نور الثقلين 3 : 159 / 179.
5- لاحظ أن في تفسير العياشي ونور الثقلين : « تمحوهما ».

[100] نور مقدسي : وسط الدنيا بيت المقدس

( نور الثقلين ) عن ( روضة الواعظين ) (1) ، للمفيد (2) أن عبد اللّه بن سلام : قال للنبيّ صلى اللّه عليه وآله : أخبرني عن وسط الدنيا قال : « بيت المقدس » قال : ولم؟ قال : « لأنّ فيه المحشر والمنشر ، ومنه ارتفع العرش ، وفيه الصراط والميزان ». قال : صدقتَ يا محمّد (3) :

قلت : لعلّه صلى اللّه عليه وآله أراد بكونه وسط الدنيا أنه قلبها الغيبيّ بحسب البرزخ والمحشر. فلا منافاة بينه وبين ما ورد أن الكعبة وسط الأرض (4) ، فإنّ هذا بحسب جسمها الحسّي. أو أنه فرق بين وسط الدنيا ووسط الأرض.

والأوّل أعمّ ، فالكعبة بالنسبة إلى الأرض كالقلب الصنوبريّ لجسد الإنسان ؛ ولذا دحيت الأرض من تحتها على مثال دحو جسد الإنسان من تحت قلبه ؛ فإنّه أوّل كائن منه. وبيت المقدس بالنسبة للأرض كالدماغ لجسد الإنسان ، فهو [ يستمدّ (5) ] من القلب أصفى الأبخرة ، وهو الروح البخاريّ ، ويمدّه [ بالإحساس (6) ] الشعوري.

ولعلّه أراد بارتفاع العرش منه معراج الرسول صلى اللّه عليه وآله : إلى السماء ، فإنّه العرش

ص: 319


1- روضة والواعظين 2 : 409.
2- كذا في المخطوط ونور الثقلين. وجاء في بحار الأنوار 1 : 8 في بيان مصادره : ( وكتاب روضة الواعظين وتبصرة المتعظين للشيخ محمّد بن أحمد الفارسي ، وأخطأ جماعة ونسبوه إلى الشيخ المفيد .. ).
3- نور الثقلين 3 : 265 / 107.
4- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 90 / 1.
5- في المخطوط : ( يمتد ).
6- في المخطوط : ( الإحساس ).

المحيط بالأكوان ، وخزانة العلم ، وعرش المشيئة ، وعرش الكيفوفة ، والعرش الذي هو مستوى الرحمة.

أو يريد بالعرش : عرش العلم ، وببيت المقدس : حضيرة القدس ؛ فإنها مظهر العلم وخزانته ، أي مقام المشيئة المطلقة.

أو يريد بالعرش : جملة العالم ، وببيت المقدس : باب المشيئة. فيكون معنى « ارتفع » : ظهر.

أو يريد به : العقل الأوّل ، وببيت المقدس : النفس الكليّة ، أو بالعكس.

أو يريد بالعرش : المحدّد ، وببيت المقدس : النفس الكليّة ، ويريد ب- « ارتفع » : ظهر عالياً ، أو بالعكس بحسب ملاحظة القوسين : قوس البدء والعود ، كلّ وجه باعتبار قوس ، وعكسه باعتبار الآخر ، واللّه العالم.

ص: 320

[101] حكمة عرشيّة العرش محيط بالكرسي وبالعكس

مسألة : ما الجمع بين ما اتّفق عليه ذوو الرصد العقليّ والنفسيّ والحسيّ وأيّدته الأحاديث المستفيضة المضمون من أن العرش محيط بالكرسي ، كحديث عاصم بن حميد : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : أنه قال : « الشمس جزء من سبعين جزءاً من نور الكرسيّ ، والكرسي جزء من سبعين جزءاً من نور العرش ، والعرش جزء من سبعين جزءاً من نور الحجاب ، والحجاب جزء من سبعين جزءاً من نور السرّ » (1) الحديث.

وكحديث العطّارة (2) : وغيره ، فإنّها دلّت على إحاطة العرش بالكرسيّ غيباً وشهادة ، وعلى انغمار الكرسيّ في العرش غيباً وشهادةً.

وبين ما دلّ على أن الكرسيّ أكبر من العرش ، كحديث الفضيل : عن الصادق عليه السلام : أنه قال : « يا فضيل : كلّ شي ء في الكرسيّ السماوات والأرض ، وكلّ شي ء في الكرسيّ » (3).

وحديث زرارة : عن الصادق عليه السلام : أنه سأله : السماوات والأرض وسع الكرسيّ أم الكرسيّ وسع السماوات والأرض؟ قال عليه السلام : « بل الكرسي وسع السماوات والأرض

ص: 321


1- التوحيد : 108 / 3 ، وفيه : ( من نور الستر ).
2- التوحيد : 276 - 277 ، وهو حديث زينب العطّارة التي كانت تأتي نساء النبيّ صلى اللّه عليه وآله وتبيع منهن العطر ، وطلبت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن يحدثها عن عظمة اللّه فكان أنه حدّثها بهذا من بعض ما حدّثها به.
3- التوحيد : 327 / 3 ، وفيه : « يا فضيل ، السماوات والأرض وكل شي ء في الكرسي ».

والعرش وكلَّ شي ء وسع (1) الكرسيُّ » (2). وأمثال هذا.

أقول وباللّه اعتصم - : قال الكاشاني : ( المراد من الكرسيّ في مثل [ هذين ] الحديثين : العلم ، فإنّه يطلق ويراد به : العلم كما رواه في ( التوحيد ) عن حفص بن غياث : عن الصادق عليه السلام : قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : عن قول اللّه عزوجل ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) (3) ، قال : « علمه » (4) الحديث ) (5) انتهى ، وهو حسن.

وقال الصدر الشيرازي : ( اعلم أن كون العرش في الكرسيّ لا ينافي كون الكرسيّ في العرش ؛ لأنّ كون كلّ منهما بنحو غير الآخر ، فكون الكرسيّ في العرش كون عقليّ إجماليّ على وجه أعلى وأشرف من كونه في نفسه ، وكون العرش في الكرسيّ كون بصورة نفسانيّة تفصيليّة. فلا منافاة في كون كلّ منهما في الآخر ولا في كون جميع الأشياء في كلّ منهما ) (6) ، انتهى.

وقال شيخنا أيّده اللّه - : ( لمّا كان العرش أعلى الأجسام وأشرفها وأقربها إلى عالم النور والبساطة جعل علمه للكرسي إجمالاً ، والعلم النفساني أقلّ بساطةً فجعله للكرسي.

وقال الكاشي : ( قد يراد بالكرسي : وعاء العرش كما مرّ في الحديث. وكأنه أشار به إلى العلم أو إلى عالمي الملك والجبروت ؛ لاستقرار مجموع العالم الجسمانيّ الذي يعبّر عنه بالعرش عليهما وقيامه بهما. وقد يراد به : العلم الذي لم يطّلع عليه سوى اللّه.

وربّما يقال : كون العرش في الكرسيّ : كون الكرسيّ في العرش ، إلّا إن أحد الكونين بنحو والآخر بنحو آخر. وقد يجعل الكرسي كناية عن الملك ) (7) ) ، انتهى.

ص: 322


1- في التوحيد : ( في ).
2- الكافي 1 : 132 / 4 ، التوحيد : 327 / 4.
3- البقرة : 255.
4- التوحيد : 327 / 1.
5- الوافي 1 : 504 / ذيل الحديث : 400 ، باختلاف.
6- شرح أُصول الكافي 1 : 361.
7- الوافي 1 : 504 - 505 / ذيل الحديث 400 ، باختلاف.

وقد أزاد على ما قرره الصدر : والكاشاني : إرادة العلم المكنون بالعرش.

وأقول : أنت إذا تأمّلت الأخبار وجدت العرش والكرسي فيها يطلقان على معانٍ متلازمة ولو بحسب العلّيّة والمعلوليّة ، فيمكن أن يراد بالعرش المحيط بالكرسي : الأطلس ، وبالكرسي : المحاط المكوكب. وبالعرش : العقل الكلّيّ ، وبالكرسي : النفس الكلّيّة.

وبالعرش : مستوى الرحمة وينبوع الجود ومنقطع الصفات ، وبالكرسي : مجموع المرحومات.

وبالعرش : العلم المحيط بكل [ الموجودات ] ، وبالكرسي : جملة المعلومات.

وبالعرش : جملة العالم من حيث رتبته الإجمالية ، وبالكرسي : جملة أجزائه من حيث هي أجزاؤه وتفاصيله.

وفي هذا كلّه العرش محيط بالكرسي.

وأن يراد بالكرسي : المحيط بكلّ شي ء ، وبالعرش : جسم الكلّ ، أو طبيعة الكلّ ، أو شكل الكلّ ، أو جسم الأطلس بما فيه ، أو جملة ما دونها حتّى الروح.

وأن يراد به أيضاً : مستقرّ الرحمة ، وهو الاسم المشار إليه في بعض الأدعية بقوله عليه السلام

أسألُكَ بالاسمِ الذي استويتَ به على عرشِكَ ، واستقرَرْت به على كرسيِّك (1).

وهو الاسم الجامع لجميع الأسماء من حيث هو كذلك ، وبالعرش : جملة العالم من العقل الأوّل إلى الثرى.

أو يراد به : أرض الجنّة ، وبالعرش : مجموع ما دونها.

أو : صدور العلماء ، وبالعرش : معلوماته ، ولذا يسمّى العلماء : الكراسي من باب تسمية الشي ء باسم بعضه.

وبالجملة ، فمن تدبّر الأخبار ظهر له إطلاق العرش على الجسم المحيط ، وعلى

ص: 323


1- مصباح المتهجّد : 385 ( حجري ) ، المصباح ( الكفعمي ) : 144. بحار الأنوار 87 : 145، وفيها : « وباسمك الأكبر الذي سمّيت به نفسك ، واستويت به على عرشك ، واستقررت به على كرسيّك ».

جملة الخلق ، وعلى القلم المحيط بكلّ شي ء وهو المشيئة المطلقة ، وعلى عقل الكلّ ، وعلى القلم. وظهر له إطلاق الكرسيّ على جسم المكوكب ، وعلى المشيئة المطلقة أيضاً ، وعلى [ رتبه (1) ] الإرادة منها ، وعلى : النفس الكليّة ، وعلى اللوح المحفوظ وعلى مبدأ الظهور وهو باطن المشيئة ومستقرّ الرحمة.

وفي الأخبار غير ما مرّ عن زرارة : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال : « الكرسيّ وسع السماوات والأرض ، والعرش ، وكلّ شي ء وسع الكرسي » (2).

وروى عنه أيضاً أنه قال : « إن كلّ شي ء في الكرسي » (3).

وفي ( التوحيد ) (4) مثله.

وفيه حديث حفص : وقد مرّ ، وفيه عن ابن سنان : عنه عليه السلام في قوله تعالى : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) قال : « السماوات والأرض وما بينهما في الكرسي ، والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره » (5).

وروى عليّ بن إبراهيم : مثله (6).

وروى ابن بابويه : عن المفضّل : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : أنه قال : « العرش في وجه هو جملة الخلق ، والكرسي وعاؤه. وفي وجه آخر العرش هُوَ العلم الذي أطلع اللّه عليه أنبياءه ورسله ، والكرسي هو العلم الذي لم يطلع اللّه عليه أحداً من أنبيائه ورسله وحججه عليهم السلام »(7).

وفي ( العياشي ) عن زرارة : قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : « إن السماوات والأرض وما فيهما من خلق مخلوق في جوف الكرسي ، وله أربعة أملاك يحملونه بإذن اللّه تعالى » (8).

وفي ( الاحتجاج ) عن الصادق عليه السلام : أنه قال : « كلّ شي ء خلقه اللّه في جوف الكرسيّ خلا عرشه فإنّه أعظم من أن يحيط به الكرسيّ ».

ص: 324


1- في المخطوط : ( رتبته ).
2- الكافي 1 : 132 / 4.
3- الكافي 1 : 132 / 5.
4- التوحيد : 327 / 4.
5- التوحيد : 327 / 2.
6- تفسير القمّيّ 1 : 112.
7- معاني الأخبار : 29 / 1 ، باختلاف.
8- تفسير العيّاشيّ 1 : 157 / 459.

ثمّ قال عليه السلام : « خلق النهار قبل الليل ، والشمس قبل القمر ، والأرض قبل السماء ، فوضع الأرض قبل الحوت في الماء ، والماء في صخرة مجوّفة ، والصخرة على عاتق ملك ، والملك على الثرى ، والثرى على الريح العقيم ، والريح على [ الهوء (1) ] ، و [ الهواء (2) ] تمسكه القدرة ، وليس تحت الريح العقيم إلّا [ الهواء (3) ] والظلمات ، وليست وراء ذلك سعة ولا ضيق ولا شي ء يتوهّم. ثمّ خلق الكرسيّ فحشاه السماوات والأرض ، والكرسيّ أكبر من كلّ شي ء خلق ، ثمّ خلق العرش ، فجعله أكبر من الكرسيّ »(4).

وأنت إذا تأمّلت هذه الأخبار وجدتها غير متنافية إذا وضعتَ كلّ شي ء موضعه ، وفهمت المراد منه ، واللّه العالم بمقاصد أوليائه.

ص: 325


1- في المخطوط : ( الهوى ).
2- في المخطوط : ( الهوى ).
3- في المخطوط : ( الهوى ).
4- الاحتجاج 2 : 249 - 250 / 223.

ص: 326

[102] تنزيه تقديسي

( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ. قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها ) (1)

يمكن أن يريد شعيب عليه السلام : بالعود المنفي في كلامه عليه السلام : مقابل البدء [ الإيجادي (2) ] ؛ فيكون معنى العود المطلوب من الملأ غير ما نفاه شعيب : عليه السلام ، وإن كان العود في ملّتهم بما أرادوه من الدخول فيها بعد إظهاره مفارقتها يستلزم ما أراده. وفي المعاريض مندوحة عن الكذب ، واللّه العالم بالحقائق.

ص: 327


1- الأعراف : 88 - 89.
2- في المخطوط : ( لايجادي ).

ص: 328

[103] سرّ عرشي : من زار الحسين عليه السلام « كمن زار اللّه في عرشه »

مسألة : ما معنى ما رواه أبو القاسم بن قولويه : بسنده عن زيد الشحّام : قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : ما لمن زار الحسين عليه السلام :؟ قال : « كمن زار اللّه في عرشه » (1).

وعنه بإسناده عن جابر : عن بشير الدهّان : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : أنه قال : « يا بشير : من زار قبر الحسين بن علي صلّى اللّه عليهما : عارفاً بحقّه كان كمن زار اللّه في عرشه » (2).

وعنه بإسناده عن جابر : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : مثله (3).

وعنه (4) ، وعن الصدوق (5) : عن الحسين بن محمّد القمّيّ : عن الرضا عليه السلام : قال : قال لي « من زار قبر أبي عبد اللّه عليه السلام : بشطّ الفرات كان كمن زار اللّه فوق عرشه ».

وعنه بسنده عن الحسين بن محمّد القمّيّ : عن الرضا عليه السلام : قال : قال لي

من زار قبر الحسين : بشطّ الفرات كان كمن زار اللّه فوق كرسيّه؟ (6).

قلت وباللّه الاعتصام - : لعلّ معنى زيارة اللّه تعالى تكون على وجهين :

أحدهما : طلب القرب منه ورضاه والزلفى لديه ، فإن حقيقة الزيارة لغةً هو طلب القرب المكاني مع رضا المزور وسروره وقضاء حقّه ، لكن اللّه تعالى وتقدّس عن

ص: 329


1- كامل الزيارات : 278 / 437.
2- كامل الزيارات : 281 - 282 / 447.
3- كامل الزيارات : 282 / 448.
4- كامل الزيارات : 280 / 443.
5- ثواب الأعمال : 110 / 1.
6- كامل الزيارات : 280 / 424.

المكان ، فبقي حقيقة في طلب قربه العقليّ والنفسيّ والسرّيّ ورضاه كذلك.

الثاني : أن يراد بزيارة اللّه عزّ اسمه زيارة وليّه ونائبه العامّ الخاصّ وخليفته في عباده ، فإنّ رضا حامل ولاية اللّه العظمى رضا اللّه ، وقربه قربه ، وغضبه غضبه ، وأسفه أسفه ، وطاعته طاعته ، ومعصيته معصيته ، حقيقة لا غير ، فكذا زيارته زيارته ، والقرب منه القرب منه لا غير حقيقة بكلّ معنى.

إذا عرفت هذا ، فظاهر الخبر أن الضمير المتّصل الغائب المضاف له العرش يعود إلى لفظ ( اللّه ) ، فيكون معناه على هذا الوجه : أن المتقرّب إلى اللّه تعالى بزيارة قبر الحسين عليه السلام : وهو في الأرض كمن يتقرّب إلى اللّه بزيارة الحسين عليه السلام : وهو كائن ؛ فإنّ الأعمال تتفاضل بتفاضل أمكنتها وأزمنتها ، والعرش أفضل مكان في العالم بأسره. ولذلك خصّ اللّه حبيبه محمَّداً صلى اللّه عليه وآله : بالمناجاة والوحي إليه بجسمه فيه ؛ لأنه سيّد الخلق ، وأشرف الكلّ في الكلّ ، فناجاه وأوحى إليه ما أوحى بجسمه في أشرف مكان في العالم وأعلاه.

ففضل من زار الحسين عليه السلام : بشطّ الفرات مخلصاً عارفاً بحقّه ، وتقرّب إلى اللّه بزيارته في أرض كربلاء ، كمن تقرّب إلى اللّه بزيارته وهو فوق عرشه ، أو في عرشه ، أو فوق كرسيّه على حسب اختلاف درجات العارفين بحقّه في معرفتهم.

هذا على الوجه الأوّل. وعلى الثاني يكون معناه : من زار الحسين عليه السلام : بشطّ الفرات كمن زار الحسين عليه السلام : والحسين عليه السلام : فوق عرش اللّه تعالى ، وهذا بحمد اللّه واضح.

ويحتمل وجه آخر على هذا الوجه ، هو أن معناه أن من زار الحسين عليه السلام : زار اللّه ، واللّه فوق عرشه أي متعالٍ عن معاناة الخلق منزّه عن لوازم الإمكان وصفاته ونسبه اللازمة للزائر والمزور.

وحاصله أن المتقرّب إلى اللّه بزيارة الحسين عليه السلام : كمن يتقرّب إلى اللّه ، ويطلب رضاه منزّهاً له كمال التنزيه والتقديس. وهذا لا يكون إلّا لمن له نور المعرفة ، كما

ص: 330

يشير إليه قوله عليه السلام « عارفاً بحقه » وإن تفاضل العارفون في درجة المعرفة. وعلى تفاضلهم يبنى اختلاف ألفاظ [ هذه (1) ] الأخبار.

ويمكن أنه أراد على هذا : عرش الاستواء ، أي من زار الحسين عليه السلام : عارفاً بحقّه كان عارفاً بأنّ اللّه مستولٍ على ما دقّ وجلّ ، قاهر فوق عباده. فإذن الزائر في تلك الحال في كمال الذلّ والانكسار والخضوع المناسب لحال شهادة الحسين عليه السلام : وهو في غاية القرب من اللّه حينئذٍ وتحت قبّة الإجابة.

ويحتمل إرجاع الضمير المذكور المضاف إليه العرش إلى الحسين سلام اللّه عليه - : والمعنى : من زار الحسين عليه السلام : بشطّ الفرات كان كمن زار اللّه ، على الأوّل ، أو الحسين عليه السلام : على الثاني ، وهو أو الحسين عليه السلام : في عرش الحسين عليه السلام : وأراد بعرش الحسين عليه السلام : قبة الإجابة أو منزله في الجنة ، فقد ورد أن زائره كذلك في جواره ، أو في درجته في الجنّة (2) ، أو منزله في العرش عن يمين العرش (3) ، أي فوقه.

واحتمل بعضهم إرجاع ذلك الضمير إلى الزائر ، فإن أراد أن المعنى : من تقرّب إلى اللّه بزيارته في كربلاء كان له من الأجر كأجر من عرف اللّه حقّ معرفته بنور المعرفة الذي يكون العلم شعاعها في رتبة يقين الفؤاد فوق طور العقل ، كان وجهاً ، لكنه بعيد عن ألفاظ الأخبار المذكورة كما لا يخفى ، وإن أراد غير هذا طالبناه ببيانه حتّى نعرف قوّته أو ضعفه.

ص: 331


1- في المخطوط : ( هذا ) ، ويحتمل أنه يريد : ( هذا الإخبار ).
2- كامل الزيارات : 269 - 270 / 418 ، وانظر في ثواب زيارة الإمام الحسين وكراهة تركها كامل الزيارات : 252 - 357 / ب 49 - 78.
3- قريب منه في بحار الأنوار 98 : 75 / 25 ، وفيه : « في ظل العرش ».

ص: 332

[104] صمت عقلي ونطق برهاني : محمّد الناطق وعليّ الصامت

مسألة : ما معنى ما رواه في ( البحار ) من جملة حديث طويل من قول أمير المؤمنين سلام اللّه عليه - « يا سلمان : ويا جندب : فأنا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : كنّا نوراً واحداً ، صار رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : محمّد المصطفى : وصرت أنا وصيّه المرتضى : وصارم محمّد : الناطق وصرت أنا الصامت ، وإنّه لا بدّ في كلّ عصر من الأعصار أن يكون فيه ناطق وصامت » (1).

وروى هذه البرسيّ (2) : بإبدال « صار » ب- « كان » ، وعصر ب- « زمان ».

وكيف يأتي هذا والصاحب عجّل اللّه فرجه - : ليس معه في زمن غيبَتِه معصوم لا صامت ولا ناطق؟ وأيضاً ، فبعض آبائه قد مضى له زمن بعد وفاة أبيه ، قبل مولد الحجة عليه السلام : بعده ، وهو كذلك ، مثل : الصادق : والرضا : وأبو محمّد : عليهم السلام؟

والجواب من وجهين :

أحدهما : أن يراد بالناطق : الرسول المبلّغ لأحكام الشريعة في مقام الرسالة ، وبالصامت : خليفته ؛ إذ لا بدّ لكلّ رسول من خليفة. فالمعنى : أنه لا بدّ لكلّ زمن أو عصر من أعصار التكليف من رسول ناطق بأحكام الشريعة الظاهرة (3) ، بالرسالة لجميع من بعث لتبليغه ، ومن خليفة له هو مظهر ولايته ومستودع سرّه الذي لا يطيق

ص: 333


1- بحار الأنوار 26 : 4 / 1.
2- مشارق أنوار اليقين : 161 ، باختلاف فيه.
3- في المخطوط بعدها : ( هي ).

حمله غيره ، وهو منه كنفسه ؛ فإنّ الولاية من الرسالة كالنفس بالنسبة إلى سائر القوى الإنسانيّة ، فالنفس صامتة بالنسبة إلى مرتبة اللسان مثلاً ؛ لأنّ نطقها غيب ونطقه شهادة ، و [ هي (1) ] ظاهر الرسالة ، وهي حكم ما يعمّ الجسد صامتة (2).

فحينئذٍ يراد بال - عصر : [ زمن (3) ] حكم الشريعة العامّة ، حتّى يأتي شرع ينسخها ، فيكون زمان آخر. فالزمان زمان محمَّد صلى اللّه عليه وآله : منذ بعث حتّى الساعة ، فهو الناطق بذاته أبداً ، وعلي عليه السلام : الصامت بذاته أبداً وإن جرى لخلفائه ما جرى له من ذلك ، فإنّه من اللوازم الذاتية للولاية في مقام الرسالة. ويشير إلى ذلك قوله في الحديث إنهما كانا نوراً واحداً انقسم إلى ناطق وصامت فإنّه قال « صار » ، و « صرت » ، أو « كان » و « كنت » أي بالانقسام ، فهو بحسب كونه وصيرورته كذلك.

أما نطق الوصيّ بعد الرسول صلى اللّه عليه وآله : فإنّما هو حكاية نطق الرسول ، وبيان لما نطق به لا نطق الولاية في مقام الرسالة ، فإنّه مؤدٍّ عن الرسول ما أُرسل به ، ومبيّن له لمن يأتي بعده ، فلا ناطق في عصر رسالة محمَّد صلى اللّه عليه وآله : وزمانها إلّا محمَّد صلى اللّه عليه وآله : ولا صامت فيه إلّا وصيّه علي : وإن ورث خلفاؤه صمته فنطقهم ببيان الشريعة بعد محمّد : إنّما هو تأدية عنه لأُمّته ، ونطق محمَّد صلى اللّه عليه وآله : بالرسالة حقيقةً لا بحسب مقام ولايتهم.

الثاني : أن يراد بالناطق : الإمام والحجّة بما يعمّ الرسول الناطق بروح القدس بالذات ، وبالصامت : خليفته ما دام ناطقاً ، فإذا كان في آخر عمر الأوّل انتقل روح القدس لخليفته بلا واسطة ، فكان ناطقاً وكان له خليفة صامت ، وحينئذٍ يراد بالعصر أو الزمان : زمن إمامة الأوّل بأسره. ولا بدّ أن يوجد فيه صامت يقوم مقام الناطق بعده بحجج اللّه ، وإلّا لصحّ أنه يموت قبل أن يوجد من يقوم بحجج اللّه عزّ اسمه بعده ، وهذا جارٍ حتّى في الصاحب عجّل اللّه فرجه - : فإنّه يغسّله الحسين عليه السلام : ويقوم بعده بحجج اللّه ؛ إذ لا يمكن خلوّ زمن من حجّة لله.

ص: 334


1- في المخطوط : ( في ).
2- كذا في المخطوط.
3- في المخطوط : ( مرّة ).

[105] نور نفسي وبيان قدسي ( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ )

قوله تعالى : ( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) (1) العيّاشيّ : في تفسيرها عن الباقر عليه سلام اللّه - : « إن الاسم الأكبر ثلاثة وسبعون حرفاً ، فاحتجب الربّ تبارك وتعالى بحرف ، فمن ثمّ لا يعلم أحد ما في نفسه عزوجل ، أعطى آدم : اثنين وسبعين حرفاً فتوارثها الأنبياء ، حتّى صارت إلى عيسى عليه السلام : فذلك قول عيسى عليه السلام : ( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ) يعني اثنين وسبعين حرفاً من الاسم الأكبر ، يعني : أنت علّمتنيها فأنت تعلمها ، ( وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) يقول : لأنك احتجبتَ من خلقك بذلك الحرف فلا يعلم أحد ما في نفسك » (2).

وفي ( الكافي ) بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السلام : أنه قال : « إنّ عيسى بن مريم : عليه السلام اعطي حرفين كان يعمل بهما ، وأُعطي موسى : عليه السلام أربعة أحرف ، وأُعطي إبراهيم : عليه السلام ثمانية أحرف وأُعطي نوح : عليه السلام خمسة عشر حرفاً ، وأُعطي آدم : عليه السلام خمسة وعشرين حرفاً ، [ وإن (3) ] اللّه جمع ذلك كلّه لمحمد صلى اللّه عليه وآله : وإنّ اسم اللّه الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً ، اعطي محمَّد صلى اللّه عليه وآله : اثنين وسبعين حرفاً ، وحُجب عنه حرف واحد » (4).

فإن قلت : ما الجمع بينهما؟

فالجواب من ثلاثة أوجه :

ص: 335


1- المائدة : 116.
2- تفسير العياشي 1 : 230 / 2.
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( فإن ).
4- الكافي 1 : 230 / 2.

أحدها : أن في حديث العياشي : ذكر الاسم الأكبر ، وفي حديث ( الكافي ) ذكر الاسم الأعظم. ولعلّ بينهما [ فرقاً ] ، فآدم : والأنبياء بعده أُعطوا اثنين وسبعين حرفاً من الاسم الأكبر ، ولم يعطوا من الاسم الأعظم إلّا العدد المعيّن في حديث ( الكافي ) أمّا محمَّد صلى اللّه عليه وآله : فإنّه أُعطي جميع الاثنين : الأكبر والأعظم (1).

الثاني : لعلّ آدم عليه السلام : اعطي معرفة الاثنين والسبعين الحرف [ التي (2) ] توارثها أصحاب الشرائع العامّة من الرسل ، لكنه لا يعمل إلّا بخمسة وعشرين منها ؛ لاشتمالها على جميع ما كلّف بتبليغه وما يحتاج إليه رعيّته ، وفي تأسيس الشرائع ، ولا يعمل بالباقي من أحرف الاسم في ذلك لخروجها عن مقتضى تكليف رسالته وعدم أطاقه رعيّته بالعمل بها ، و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (3) كما يشير إليه قيد « يعمل بها » في الحديث الثاني.

وكذا نوح عليه السلام : عليه اذن له في العمل بخمسة عشر حرفاً ممّا اذن لآدم عليه السلام : في العمل به ؛ لأنّ آدم : مؤسّس الشرائع فاحتاج إلى العمل بأكثر من غيره أو بالأصالة مع ما اذن لآدم عليه السلام : فيه ، لكنّه بالوراثة ظاهر ، أو الجميع بالأصالة. وعلى هذا يجري الكلام في شأن إبراهيم : وموسى : وعيسى : سلام اللّه عليهم وإن كانوا كلّهم ورثوا الاثنين والسبعين الحرف ، لكن كلّ واحد منهم اذن له في العمل بأحرف مخصوصة منها ؛ لأنّ ذلك مبلغ وسع رعيّته من التكليف وتمام حاجتهم فيما يحتاجون إليه في عمارة الدارين ، وكمال الحجّة عليهم.

الثالث : أنّ مجموع الاثنين والسبعين عند كلّ واحد من الخمسة أوّلهم آدم : لكن المعيّن في الحديث الآخر تفصيلاً ، وما سواه إجمال مع إرث اللاحق ما فضل للسابق ، مع الإذن له بالعمل به كلّه أو ببعضه.

ويحتمل أيضاً أن يجمل اللاحق بعض ما فُصّل لسابقه إلّا نوحاً عليه السلام بالنسبة إلى

ص: 336


1- على تقدير اتحاد الاسم الأكبر والأعظم. 1. . هامش المخطوط.
2- في المخطوط : ( الذي ).
3- إشارة إلى الآية : 286 من سورة البقرة.

آدم عليه السلام : فإنّه أفضل الأربعة بعده مع أنّهم أفضل من آدم عليه السلام : مع أن آدم عليه السلام : ليس من اولي العزم ، فلا يمكن أن يجمل له ولا للثلاثة بعده بعض ما فصّل لآدم عليه السلام :

نعم ، يمكن أن يجمل لمن بعد نوح : عليه السلام من الثلاثة بعض ما فصّل له. هذا بالنسبة لآدم عليه السلام : ونوح عليه السلام : وإبراهيم عليه السلام : وموسى عليه السلام : وعيسى عليه السلام.

وأمّا بالنسبة لمحمّد صلى اللّه عليه وآله : ولآل محمّد : صلوات اللّه وسلامه عليه وعليهم فهم أُعطوا الاثنين والسبعين كلّا تفصيلاً ، وأُذن لهم في العمل بها أجمع ؛ لأنّهم حجّة اللّه على جميع من دونهم ، فليس شي ء من الخلق إلّا وهو محجوج بهم. فكل جود ووجود في الخلق فمن فاضلهم ، وكلّ تكليف وكمال في شي ء من الخلق فهم مصدره وأئمّته ومعلّموه.

وأما الحرف الذي لا يعلمه إلّا اللّه تعالى [ فهو (1) ] معنى أسماء اللّه كلّها ، وهو الدليل الجامع لجميع أسماء اللّه تعالى وصفاته ، فلا يطيق أحد من الخلق التكليف بمعرفته وحمله ، فهو المكنون عن جميع الخلق ، المخزون عند اللّه ، فهو خزانة علم اللّه العظمى ، وغيب غيوب المخلوقات ، لا يحتمله ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا عبد امتحن اللّه قلبه للإيمان.

ص: 337


1- في المخطوط : ( فهم ).

ص: 338

[106] هداية بعد لبس وإطلاق من حبس ( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً )

قوله عزّ اسمه في سورة النبإ ( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) (1) العيّاشيّ : عن الباقر عليه السلام : أنه سئل عن الآية ، فقال : « هذه في الذين يخرجون من النار » (2).

والقمّيّ : عن الصادق عليه السلام : قال : « هذه في الذين لا يخرجون من النار »(3).

والجمع بينهما من وجوه :

أحدها : أن لا حذفت من خبر العيّاشيّ : أو زيدت في خبر القمّيّ : ؛ غلطاً من الناسخ أو سهواً من الراوي ، والأوّل أقرب.

الثاني : أن يراد بخبر العيّاشيّ : ظاهره من أنها « في الذين يخرجون من النار » ، ويكون معنى خبر القمّيّ : ب- « الذين لا يخرجون

: الذين لا ينجون من النار بالكلّية ؛ فإنّه الخروج الحقيقيّ. والمراد : مَن يدخل فيخرج ، دون المخلّد.

الثالث : أن القرآن بطون ، فرواية القمّيّ : بحسب بطن : ( وهم المخلّدون ) ، ورواية العيّاشيّ : بحسب بطن : ( وهم الذين يدخلون فيخرجون ) ، وكلاهما على ظاهره. لكن معنى ( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) أي أحقاباً متناهية على خبر العيّاشيّ : أو أحقاباً غير

ص: 339


1- النبإ : 23.
2- المصدر الموجود عندنا غير تامّ ، عنه مجمع البيان 10 : 540.
3- تفسير القمّيّ 2 : 427.

متناهية على خبر القمّيّ : أو في كليهما متناهية ، لكن على الوجه الثاني وحذف النعت.

الرابع : أن كلّاً منهما على ظاهره ، لكن معنى الأحقاب في إحدى الروايتين غير معناه في الأُخرى ، وكلّ منهما بحسب بطن وإن لزم التناهي لأحدهما وعدم التناهي للآخر ، واللّه العالم.

ص: 340

[107] كشف سرّ : لا يكون إمام إلّا وله عقب إلّا الحجّة عليه السلام

( البحار ) من غيبة الشيخ (1) : بسنده إلى الحسن بن علي القزاز : قال : دخل علي بن أبي حمزة : على أبي الحسن الرضا عليه السلام : فقال له : أنت إمام؟ قال : « نعم ». فقال له : إنّي سمعت جدّك جعفر بن محمَّد عليهما السلام : يقول : « لا يكون الإمام إلّا وله عقب ». فقال : « أنسيت يا شيخ أم تناسيت؟ ليس هكذا قال جعفر : إنّما قال جعفر : لا يكون الإمام إلّا وله عقب إلّا الإمام الذي يخرج عليه الحسين بن علي عليهما السلام : فإنّه لا عقب له ». فقال له : صدقت جعلت فداك ، هكذا سمعت جدّك يقول (2).

قلت : المراد واللّه العالم بمقاصد أوليائه - : « أنّه لا عقب له » إمام معصوم أي أنه خاتم الأوصياء ، بما استفاضت به الأخبار ، بل تواتر مضمونها أن الأئمّة المعصومين خلفاء الرسول صلى اللّه عليه وآله : اثنا عشر (3) هم الشموس الظاهرة (4) آخرهم الحجّة عجّل اللّه فرجه وإلّا فقد ورد عدّة أخبار أنه يولد لكلّ واحد منهم بالكوفة مائه ، ولد حتّى القائم عليه السلام : وورد أنه يولد له بعد قيامه على الإطلاق ، واللّه العالم.

ص: 341


1- الغيبة : 224 / 118 ، وفيه عن الخزاز.
2- بحار الأنوار 53 : 75 - 76 / 77 ، وفيه عن الخزاز أيضاً.
3- انظر عمدة عيون صحاح الأخبار : 416 - 423.
4- المزار الكبير : 578 ، بحار الأنوار 99 : 87 ، 107.

ص: 342

[108] نور فقهي : طلاق أُمّ فروة بعد موت الكاظم عليه السلام

( البحار ) من ( بصائر الدرجات ) (1) بسنده عن أحمد بن عمر : قال : سمعته يقول يعني أبا الحسن الرضا عليه السلام : - « إني طلّقت أُم فروة بنت إسحاق في رجب ، بعد موت أبي بيوم ». قلت له : جعلت فداك ، طلّقتها وقد علمت بموت أبي الحسن عليه السلام :؟ قال : « نعم » (2).

وفي ( الكافي ) : الحسين بن محمّد : عن المعلّى : عن الوشاء : قال : قلت لأبي الحسن : الحديث إلى أن قال - : وسمعته يقول : « طلّقت أُمّ فروة بنت إسحاق في رجب بعد موت أبي الحسن عليه السلام : بيوم ». قلت : طلّقتها وقد علمت بموت أبي الحسن عليه السلام :؟ قال : « نعم » (3). الخبر.

قال باقر ( البحار ) : ( الظاهر أن أُمّ فروة : كانت من نساء الكاظم عليه السلام : وكان الرضا عليه السلام : وكيلاً في تطليقها ، فطلاقها بعد العلم بالموت إمّا مبنيّ على أن العلم الّذي هو مناط الحكم الشرعي هو العلم الحاصل من الأسباب الظاهرة لا ما يحصل بالإلهام ونحوه ، أو على أن هذا من خصائصهم عليهم السلام ، كما طلّق أمير المؤمنين عليه السلام : عايشة (4) : لتخرج من عداد أُمّهات المؤمنين. ولعلّ قبل الطلاق لم يحلّ لهنّ الأزواج.

ص: 343


1- بصائر الدرجات : 467 / 4.
2- بحار الأنوار 27 : 292 / 4.
3- الكافي 1 : 381 / 3.
4- انظر : مناقب آل أبي طالب 2 : 153 ، المجلي : 386 ، بحار الأنوار 38 : 75 / 1 ، وليس فيها أنه عليه السلام طلّقها ، بل هدّدها بالطلاق إن لم ترجع إلى المدينة حيث أقرّها اللّه ورسوله. وذلك بعد وقعة الجمل في البصرة.

ويحتمل أن يكون المراد بالتطليق : المعنى اللغوي أو يكون الطلاق ظاهراً للمصلحة ، لعدم التشنيع في تزويجها بعد انقضاء عدّة الوفاة من يوم الفوت بأن يكون عليه السلام أخبرها بالموت عند وقوعه. ومن المعاصرين من قرأ « طلّعت » بالعين المهملة بمعنى : أطلعتها أي أعلمتها بموته عليه السلام ولا يخفى ما فيه ) (1) ، انتهى كلام المجلسي.

وكتب عليه الشيخ خلف آل عصفور : ما لفظه : ( عليه قدس سره أن يشير أو يذكر قبل بيانه ما يدلّ على بطلان الوكالة بالموت على وجه كلّيّ ؛ حتّى يرتكب في هذه الرواية ما يرتكب لأنا لم نرَ سوى حديثين في الوكالة في النكاح ، وليس فيهما عموم حتّى ينظر في معارضهما ، والاعتبارات العقلية لا تقوم بها حجّة في الأحكام الواجب أخذها من الكتاب والسنّة ) ، انتهى.

وأقول : العمدة على الوجهين الأوّلين ، وهو أن مناط الحكم بالظاهر هو العلم الشرعيّ الظاهر المترتّب على الشفاهيّ الحسّيّ أو السماع من العدلين ، أو الاستفاضة ، أو أنه من خصائصهم. وسرّ الوجهين الكاشف لصحّتهما هو أن الموت لا يغيّر من أحوالهم شيئاً.

ووجه آخر هو أن الطلاق ليس من الزوجية الظاهرة ، بل من العلاقة الباطنة الحادثة بسببها ، لطلاق أمير المؤمنين : سلام اللّه عليه بعض أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله : بعد موته ؛ إذ ليس هو الطلاق المعروف بين المتشرّعة. وهو أوفق من الأوّلين ، فتأمّل فيه ؛ فإنّه ليس الثاني ؛ فإنّ ملخّصه عدم انعزال الوكيل بموت الموكّل ، وصحّة الطلاق بعد الموت خصوصية لهم ، صلّى اللّه عليهم.

وأما قوله : ( ولعلّ ) إلى آخره فظاهره أن أزواج الأئمّة سلام اللّه عليهم لا تحلّ للأزواج بالموت ، بل بالطلاق ، ولو بعد الموت ، وهو خلاف المعروف من امّة الإجابة.

ص: 344


1- بحار الأنوار 27 : 293.

نعم من خصائص الرسول صلى اللّه عليه وآله : أن أزواجه لا تحلّ بموته.

وأمّا قوله : ( أو يكون الطلاق ظاهراً للمصلحة ) إلى آخره ، فضعيف ، [ لأنّ (1) مقتضاه حلّ الأزواج لها قبل انقضاء عدّة الموت ، وهو باطل إجماعاً إلّا أن يكون قد خرجت عدّة طلاقها قبل أن يرد خبر موته ، وهو بعيد جدّاً. وعلى فرضه إنّما يتصحّح على الوجه الأوّل ، بل هو هو لا وجه آخر ، ولكن يدفع وجه تصحيحه على توجيهه ما قاله أخيراً من بنائه إيّاه على إخباره لها بالموت قبل الطلاق أو بعده إن كان رجعيّاً.

وأمّا كلام شيخنا الشيخ خلف : فضعفه لا يخفى :

أمّا أوّلاً ؛ فلمخالفته إجماع الفرقة في جميع [ الأعصار (2) ] والأمصار على بطلان الوكالة بالموت.

وأما ثانياً ؛ فلأنّ مقتضاه صحّة طلاق المتوفّى عنها زوجها بعد موته. وهو بديهي البطلان ، مخالف للإجماع قديماً وحديثاً ، واللّه العالم.

ص: 345


1- في المخطوط : ( لا ).
2- في المخطوط : ( الأصار ).

ص: 346

[109] نور مشرقي : تلازم ليلة القدر مع القرآن

[109] نور مشرقي : تلازم ليلة القدر مع القرآن (1)

في ( الفقيه ) عن أبي عبد اللّه عليه السلام : أنه قال : « ليلة القدر لو رفعت لرفع القرآن » (2).

قال محمّد تقي : رحمه اللّه : ( إن ليلة القدر لا ترفع حتّى يستشهد الحجة عليه السلام : فإذا استشهد رُفع القرآن ورفعت ليلة القدر (3) ) ، انتهى.

قلت : اعلم أن الكتب الثلاثة متطابقة ، فكتاب التدوين طبق كتاب التكوين ، فكما أن التكوين لا يطيق الزمان بروزه فيه اختياراً إلّا تدريجاً وبالعكس لضيق ساحة الزمان وعرصته عن جميع الأكوان دفعة ، فإنّه في الحقيقة نقطة بحسب وجوده ، ولحظة بحسب ظاهر الحسّ كان القرآن لا يبرز مضمونه في صقع الزمان دفعة ؛ لضيق وسعه عن ذلك ، فلا تقع أحكامه وتبرز فيه إلّا تدريجاً طبق بروز المكوّنات عاما فعاماً ، وشهراً فشهراً ، ويوماً فيوماً ، ولحظة فلحظة ، فإنّ القرآن منطبق على جميع الخلائق ، ففيه أحكام الخلق منذ بُعث محمَّد صلى اللّه عليه وآله : في الذرّ الأوّل إلى أن تقوم الساعة. فهو يقع ويبرز أحكامه طبقه فطبقة ، بحسب بروز طبقات الوجود ، ولحظة فلحظة بحسب بروز مطابق كلّ نجم من التكوين.

وقد دلّ على هذا جملة من الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام ، مثل : ما رواه

ص: 347


1- مرّ بمضمونه في العنوان : 63.
2- الفقيه 2 : 101 / 454 ، وقد وردت كلمة : « ليلة القدر » في مفروض السؤال لا في جواب الإمام عليه السلام.
3- روضة المتّقين 3 : 439 ، ( بالمعنى ).

العيّاشي : عن الفضيل بن يسار : قال : سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام : عن هذه الرواية : « ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن ، وما فيه حرف إلّا وله حدّ ، ولكلّ حدّ مطلع » ، ما يعني بقوله : « لها ظهر وبطن »؟ قال : « ظهره تنزيله (1) ، وبطنه تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كما تجري الشمس والقمر ، كلّما جاء منه شي ء وقع »(2) الخبر.

وفي بصائر الصفّار : بسند صحيح عن أبي جعفر عليه السلام : مثلُه ، وزاد فيه : «كلّما جاء منه تأويل شي ء [ وقع (3) ] يكون على الأموات كما يكون على الأحياء » (4).

وفي غيبة النعمانيّ : عن الصادق عليه السلام : أنّه قال : « إنّ للقرآن تأويلاً يجري [ كما يجري ] (5) الليل والنهار وكما يجري الشمس والقمر ، فإذا جاء تأويل شي ء منه وقع ، فمنه ما قد جاء ومنه ما لم يجي ء » (6) الخبر.

وهذا المضمون كثير جدّاً. بل وما وقع مضمونه منه في الخارج فهو جارٍ أبداً على أمثال أُولئك الذين وقع فيهم ، وإلّا لكان كلّ ما مضى منه نجم مات ، ولا موت في القرآن بوجه ، بل هو أبداً حيّ طري يتجدّد بتجدّد الأزمان والأكوان ، كما يدلّ عليه ما استفاض مضمونه من النصوص. ففي ( العيّاشيّ ) عنهم عليهم السلام: « إن ظهر القرآن : الذين نزل فيهم ، وبطنه : الذين عملوا بمثل أعمالهم ، يجري فيهم ما نزل في أُولئك » (7).

وفي تفسير فرات بن إبراهيم : عن [ خيثمة (8) : ] عن أبي جعفر عليه السلام : أنه قال : « لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أُولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شي ء ، ولكن القرآن

ص: 348


1- ليست في المصدر ، وقد وردت في ( بصائر الدرجات ).
2- تفسير العياشي 1 : 22 / 5.
3- في المخطوط : ( يقع ).
4- بصائر الدرجات : 196 / 7 ، وفيه نصّ الزيادة : « كما جاء تأويل شي ء منه يكون على الأموات كما يكون على الأحياء. قال تعالى : ( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، نحن نعلمه ».
5- من المصدر.
6- الغيبة : 134 / 7 ، بحار الأنوار 23 : 79 / 13 ، وفيها : « للقرآن تأويل » بدل : « إن للقرآن تأويلاً ».
7- تفسير العياشيّ 1 : 22 / 4 ، وفيه : « ظهر القرآن : الّذين نزل فيهم ، وبطنه : الذين عملوا بمثل أعمالهم ».
8- في المخطوط : ( خثيمة ).

يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض ، ولكلّ قوم آية [ يتلونها (1) ] ، هم منها [ في ] (2) خير أو شر »(3).

وفي خبر آخر عن أبي بصير : عن الصادق عليه السلام : قال : « لو كان إذا نزلت آية في رجل ، ثمّ مات ذلك الرجل ماتت الآية ، مات الكتاب ، ولكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما يجري فيمن مضى » (4).

وهذا المضمون مستفيض ، وهو يدلّ على أن ما يعلمه الإمام من أحكام القرآن ومقتضياته يؤذن له في إبراز ما يطابق كلّ نجم وكلّ سنة وكلّ يوم في ليلة القدر ، ففيها يؤمر بأحكام السنة المستقبلة وحوادثها ، بحسب ما يخصّها من القرآن.

فإذن لكلّ ليلة قدر مناسبة لقسط من الزمان يطابق التكوين [ الجديد (5) ]. فإذن بروز كلّ قسط من القرآن الجامع لأحكام الخلائق يتوقّف على بروز طبقه من التكوين ، وحضور قسطه من الزمان ؛ فمنه ما مضى ، ومنه ما هو باقٍ منتظر.

فظهر تلازم ليلة القدر والقرآن ما بقيَ الزمان ، فلو رفع القرآن رفعت ؛ لأنّ قسط السنة منه لا يؤمر الإمام بإظهاره إلّا ليلة القدر منها ، فلا يرتفعان من هذا العالم إلّا بفنائه وانقطاع التكليف منه ، وذلك عند ما يرفع آخر من يرفع من الأئمّة وهو أمير المؤمنين سلام اللّه عليهم أجمعين : قبل النفخة الاولى بأربعين يوماً كما دلّ عليه بعض الأخبار (6). وتلك [ الأربعون (7) ] اليوم في الآفاق نظيرها في الإنسان الجزئيّ بلوغ الروح التراقي ولحظة المعاينة. وقد مضى لهذا مزيد بحث ، وأُعيد هنا هذا الأمر (8) ، واللّه العالم.

ص: 349


1- في المخطوط : ( يتلوها ).
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( من ).
3- تفسير فرات الكوفي : 138 - 139 / 166 ، باختلاف في بعض ألفاظه.
4- الكافي 1 : 192 / 3 ، بحار الأنوار 2 : 279 / 43.
5- في المخطوط : ( جديد ).
6- انظر الأنوار النعمانيّة 2 : 109.
7- في المخطوط : ( الأربعين ).
8- في المخطوط بعده لفظة ( ما ).

ص: 350

[110] بيان حال وكشف إجمال : بعد الدنيا دار ليست كالدنيا

روى الشيخ حسن بن سليمان الحلّيّ : في غيبته بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السلام : أنه قال : « أُفّ [ للدنيا (1) ] ، إنّما الدنيا دار بلاء ، سلّط اللّه فيها عدوّه على وليّه ، وإنّ بعدها داراً ليست هكذا ». فقلت : جعلت فداك ، وأين تلك الدار؟ فقال : « هاهنا ». وأشار بيده إلى الأرض (2).

قال الشيخ حسن : أراد بالدار التي ليست هكذا : هو يوم الرجعة ، بقرينة الإشارة في جواب ( أين ) إلى الأرض.

قلت : أوجه من هذا وأظهر أنه أراد بها دار البرزخ. والقرينة : إشارته إلى الأرض أي أنها دار القبور لأنه البرزخ ، وهو الظاهر من قوله [ بعدها (3) ] يعني : الدنيا ، فإنّها القرينة ؛ لأنّها الحاضرة ، واللّه العالم.

ص: 351


1- في المخطوط : ( لدنيا ).
2- مختصر بصائر الدرجات : 49 ، وفيه : « أُف للدنيا أُفّ للدنيا » ، بالتكرار.
3- في المخطوط : « بعد هذه » ، وما أثبتناه موافق لنصّ الحديث أعلاه.

ص: 352

[111] كشف حال وبيان مقال : أُنزلت سبح فنسيها

روى الشيخ حسن بن سليمان : بسنده في غيبته عن سعد بن [ طريف (1) ] الخفّاف قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : ما تقول فيمن أخذ عنكم علماً فنسيه؟ قال : « لا حجّة عليه ، إنّما الحجّة على من سمع منّا حديثاً فأنكره ، أو بلغه فلم يؤمن به وكفر. فأمّا النسيان فهو موضوع عنكم ؛ إنّ أوّل سورة نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) (2) فنسيها ، فلم (3) يلزمه حجّة في نسيانها ، ولكنّ اللّه تعالى أمضى له ذلك ، ثمّ قال ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ) (4) » (5).

قلت : لعلّ معنى « نسيها » : تركَ إظهارها ، وأخّر تبليغها ، أو أخّر العمل في أُمّته بها عن أوّل نزولها بمقتضى مشيئته تعالى وحكمته ، أو أنه بظاهره يدلّ على ما ينسب للصدوق (6) : وهو مهجور بين الفرقة.

والظاهر أنه أراد : أوّل السورة إلى أُخرى ؛ بقرينة قوله : « ثمّ قال : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ) .

ص: 353


1- في المخطوط : ( ضريف ).
2- الأعلى : 1.
3- في المصدر : ( فلا ).
4- الأعلى : 6.
5- مختصر بصائر الدرجات : 93 - 94.
6- انظر الفقيه 1 : 234 / ذيل الحديث : 1031 ، وكذلك قال به من المتأخرين السيد نعمة اللّه الجزائري في أنواره ، انظر الأنوار النعمانية 4 : 35 ، عنه في الكشكول ( البحراني ) 1 : 328 - 329.

ص: 354

[112] نور فقهي وميزان قسطي : لو جامع زوجته ثمّ يئست

مسألة : لو وُطئت المرأة في طهر فيئست ، هل تطلّق قبل أن تستبرئ بثلاثة أشهر أم لا؟ وجهان :

الأوّل : يصحّ طلاقها حينئذٍ بلا استبراء بثلاثة أشهر ؛ لدخولها في اسم مَن يئست. وإطلاق الأخبار المستفيضة والإجماع في سائر الأعصار أن من يئست تطلّق على كلّ حال ، وهذا الحال من جملة أحوالها. وأن طلاقها بائن من غير استثناءِ مَن جامعها زوجها قبل اليأس فيئست (1). وهذا هو المختار.

والثاني : أنه لا بدّ من استبرائها بعد الجماع بثلاثة أشهر ، وله استصحاب المنع قبل اليأس حتّى يثبت المسوّغ ، وهو الاستبراء بذلك. ونظيره أن المطلّقة إذا يئست في أثناء العدّة وجب عليها إكمالها ولو ملفّقة من القرء والشهور ، مع قيام النصّ (2) والإجماع إلّا من شاذّ (3) على أن اليائسة لا عدّة عليها. وكأنّ ذلك نظراً إلى أنّها بعد تلبّسها بالعدّة ، وتحريم الأزواج عليها لزمها ذلك مستصحباً إلى ثبوت المخرج المبيح ، وهو كمال العدّة. ولعلّ هذا مؤيّد لا بطريق القياس ، بل بجهة اتّحاد المأخذ ، وعدم ظهور الفرق لا [ يضير (4) ].

ص: 355


1- وسائل الشيعة 22 : 181 ، أبواب العدد ، ب 3.
2- انظر الهامش السابق.
3- الانتصار : 334 - 335 / المسألة : 188.
4- في المخطوط : ( نظير ).

ويضعف هذا بأنّ الأصل والاستصحاب [ يخرجان (1) ] عنه بالدليل ، بل لا حجّيّة فيهما مع قيام دليل أقوى منهما يعارضهما ، وهو هنا قائم ، وهو ما ذكر. وحديث المعتدّة أيّد الاستصحابَ ، فيه الدليلُ ، ولا منافي لهما.

هذا مع أن الأصل إباحة النكاح وغيره ممّا حرّمته العدّة ، لكن قام الدليل على الخروج عنه ، وهو أقوى منه ، فعارضه ونفى الأخذ به وأثبت استصحاب حالها قبل اليأس. ولولاهما لكان أصل الإباحة أقوى من الاستصحاب ، ونمنع جريان مأخذ المعتدّة ودليله في حكم الطلاق.

فإذن هو أشبه بالقياس ، واللّه العالم ، وهو الغفور الرحيم.

ص: 356


1- في المخطوط : ( يخرج ).

[113] كوكب درّي : « نحن صُبّر وشيعتنا أصبر منّا »

ما معنى ما ورد في بعض الأخبار : « نحن صبّر ، وشيعتنا أصبر منّا ؛ لأنّهم أُوذوا فينا ولم نؤذَ فيهم »؟

وفي آخر : « لأنّهم صبروا على ما لا يعلمون ، وصبرنا على ما نعلم » (1)؟

والجواب وباللّه المستعان من وجوه :

منها : أن « من » [ ابتدائيّة (2) ] أي صبرهم مبدؤه منا ، ونحن المفيضون له عليهم ، وأفعل حينئذٍ مجرّد عن معنى التفضيل. ومثله في كلامهم عليهم السلام وكلام اللّه عزّ اسمه كثير مع وجود ( من ) فيه.

ومنها : أن ( من ) [ ابتدائيّة (3) ] كما ذكر ، و ( أفعل ) على حقيقته من التفضيل ، والمفضّل عليه محذوف ، والمعنى حينئذٍ : نحن صبّر على صيغة المبالغة أي أن صبرنا أشرف الصبر وأعظمه وأشدّه وشيعتنا أصبر من غيرهم ؛ لأنّ صبرهم مفاض عليهم من فاضل صبرنا ، وإذا خفّ ميزانهم في كلّ حسنة وكمال ، ثقّلناه بفاضل حسناتنا.

والمراد بغيرهم حينئذٍ : إمّا سائر شيعة جميع الأنبياء ، أو مطلق الخلق غيرهم.

وأشير بالتعليلين إلى الدلالة على تناهي شدّة صبرهم وعظم شرفه. وهو في

ص: 357


1- الكافي 2 : 93 / 25 ، باختلاف في بعض ألفاظه.
2- في المخطوط : ( ابتدائه ).
3- في المخطوط : ( ابتدائه ).

الثاني أظهر ؛ فمن كان صبره مبدؤه من صبرهم كان أشدّ وأشرف من غيره.

ومنها : أن يبقى التفضيل في الخبرين على ظاهره ، والمفضّل عليه صبرهم عليهم السلام ، و « من » على ظاهرها من التفضيل ، لكن في مقام البشريّة الحيوانيّة من حيث هي ، لا البشريّة الإنسانيّة من حيث هي إنسانيّة ، بل من حيث هي حيوانيّة ، وهي مرتبة شيعتهم العامّة التي يشترك فيها خاصّهم وعامّهم على الإطلاق ؛ من هو في أدنى أداني أوّل درجة من الإيمان ، ومن هو في أعلى أعالي الدرجة التاسعة منه ، فإنّ الذي يظهر للأوهام والنفوس الضعيفة أن صبر شيعتهم على ولايتهم مع أنّهم أُوذوا فيهم ، أو مع عدم علمهم بحقيقة نتيجة ذلك الصبر علماً يقينيّاً شفاهيّاً أشدّ من صبرهم عليهم السلام على ولايتهم لشيعتهم وقبولهم لهم ، مع تقصيراتهم في شأنهم وفي أنفسهم ، وذلك لعدم أذاهم فيهم ، أو لشدّة علمهم بعاقبة صبرهم عليهم لهم ، وصبر شيعتهم.

فإنّ الأوهام والنفوس الضعيفة تعدّ صبر المريض المستيقن لحسن عاقبة العلاج أضعف من صبر المريض الذي لم يستيقن ذلك وإن شقّ العلاج وعسر. وكذلك صبر الطبيب المستيقن وغير المستيقن على النصر في العلاج مع خطره.

وهذا لا ينافي كون صبرهم أشدّ وأعلى وأشرف من كلّ صبر لسواهم على الإطلاق والعموم ؛ وذلك لأنه في معنى أن صبرهم على نفوسهم أخفّ وأسهل من صبر شيعتهم على نفوسهم أي أنّهم لا يجدون من ثقل التكليف بصبرهم على شيعتهم ما يجد شيعتهم من الثقل وشدّة الكلفة في صبرهم على ولايتهم وذلك لأنّهم أعلم بحسن النتيجة منهم ، بل لا علم لشيعتهم بحقيقتها بالنسبة لعلمهم ؛ ولذا قال : « على ما لا يعلمون ».

أو لأنّه في معنى أنّ صبر شيعتهم بجهتهم الإنسانية من حيث هي حيوانية ؛ لأنّ ذلك في الرتبة العامّة الجامعة لهم أشدّ من صبرهم من تلك الجهة ؛ لأنّهم الجامعون لجميع كمالات جميع مراتب الوجود ؛ فإنسانيّتهم من حيث هي حيوانيّة أضعف

ص: 358

أي أقل فعليّة فهي أشرف ، فيؤول إلى أنّ إنسانية شيعتهم من حيث هي حيوانية ، لا مِن حيث هي إنسانية أشدّ تحققاً.

فهذا في الحقيقة تنزيه لهم عن نقائص البشرية طرّاً حتّى شيعتهم ، فيلزمه إثبات علوّ رتبة صبرهم على صبر شيعتهم ، وصبر كافّة الخلق ؛ لأنّ الصفة تكون من جنس مرتبة الذات ؛ لأنّها فاضلها وصفتها.

وسرّ هذا أنّ الصبر الإنساني من حيث هو حيواني جمود ووقوف وعجز عن الاستفاضة ، ومن حيث هو إنساني ترقّ وظهور وشدّة لفعليّة القابلية أي الإحاطة والجامعيّة فضلاً عن مرتبة من هو فوق الإنسانية من حيث هي إنسانيّة ، بما لا يعلمه إلّا اللّه ، واللّه العالِم.

وأنا أسأله برحمته العفو عن خطئي وعمدي ، والحمد لله ، وصلّى اللّه على محمّد وآله.

ص: 359

ص: 360

[114] بهجة حوريّة ولذّة نوريّة : معنى الثيبوبة

في ( الصافي ) عن ( ثواب الأعمال ) (1) و ( المجمع ) (2) عن الباقر عليه سلام اللّه أنه قال : « مَن قرأ هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ (3) كلّ غداة خميس زوّجه اللّه من الحور العين ثمانمائة عذراء ، وأربعة آلاف ثيّباً وكان مع محمَّد صلى اللّه عليه وآله » (4).

: فإن قيل : ظاهر الخبر أن في الحور العين ثيّبات ، وقد قال اللّه تعالى في وصفهن ( إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً ) (5) ، فما الجمع؟

قلت : الجمع بطريقين :

أحدهما : أن معنى الأبكار في الآية هن اللواتي لم ينكحهن أحد قبلَ مَن خصّهن اللّه به وخصّه بهن ؛ بدليل قوله تعالى : ( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) (6).

وذلك أعمّ من أن [ يكون ] (7) على صفة الأبكار ، وهيئة البكارة المعروفة خلقةً. أو على صفة الثيّبات ، وهيئة الثيبوبة المعروفة خلقةً. ويكون معنى البكر في الحديث هي التي خلقت على هيئة خلقة البكارة المعروفة لكنّها بكر أبداً كلّما واقعها المؤمن عادت بكراً ؛ وذلك لأنّ البكارة فيها من لوازم فطرة وجودها وخلقتها الذاتيّة. والثيب

ص: 361


1- ثواب الأعمال : 148.
2- مجمع البيان 10 : 511.
3- الإنسان : 1.
4- التفسير الصافي 5 : 266.
5- الواقعة : 35 - 37.
6- الرحمن : 56.
7- في المخطوط : ( يكن ).

فيه : ما كانت على هيئة الثيبوبة بأصل فطرة وجودها وخلقتها ، فهي أبداً كذلك.

والنفس كما تشتهي نكاح البكر ومن هي على صفة البكارة المعروفة ، قد تشتهي نكاح الثيّب ومن هي على صفة الثيبوبة ، ولأهل الجنّة ما يشتهون. ومن شأن النفس شهوة التبدّل والتغيّر في جميع ملاذّها ، فإنّه أشهى لها من الدوام على صنف واحد. وقد فطرت على ذلك باختيارها ، وطبعت على الحركة إلّا إنّها لا تشتهي إلّا ما في قوّتها ولها القدرة على نيله وإبرازه من القوّة إلى الفعل. وهذا يجده كلّ ذي ذوق في نفسه وغيره ، فارتفع التنافي.

الثاني : أن معنى البكر في الخبر هي الّتي لا مثل لها ، بل هي صنف مستقلّ مخترع بلا مثال سبق ، فهي المخترعة لمستحقّها من غير أن يسبق لها مثل. ومعنى الثيّب فيه : من كان لها نظير ، وقد سبقها أو لحقها مثل لها وإن كان الجميع منشآت ، ومعنى الآية كما سبق ، فلا منافاة ، واللّه العالم.

ص: 362

[115] كشف التباس وتأسيس أساس : بيان أوّل وقت نافلة الليل

في ( الفقيه ) : سأل عمر بن حنظلة : أبا عبد اللّه عليه السلام : فقال له : زوال الشمس نعرفه بالنهار ، فكيف لنا بالليل؟ فقال عليه السلام : « لليل زوال كزوال الشمس » قال : فبأيّ شي ء نعرفه؟ قال : « بالنجوم إذا انحدرت » (1).

أقول : هذا الخبر مجمل ، فإنّه عليه السلام لم يبيّن فيه انحدارها من أيّ شي ء. ولكن الظاهر أن المراد بمعونة العرف والإطلاق انحدارها عن دائرة نصف النهار ، وهي الدائرة القاسمة لدائرة الأُفق قسمين [ متساويين (2) ] ، مقاطعة لها على نقطتي الجنوب والشمال ، حيث إن النجم يسمّى صاعداً من حين طلوعه ، حتّى يبلغ تلك الدائرة ، ثمّ يأخذ في الانحدار فيسمّى بعد تجاوزها إلى جهة المغيب منحدراً.

وهذا يختلف باختلاف الآفاق ؛ لاختلاف دائرة [ نصف (3) ] النهار باختلاف الليل ، للقطع بكرويّة الأرض بالبراهين المتضاعفة (4) نقلاً وعقلاً ورصداً وحسّاً ، ومع هذا لم يبيّن في الخبر انحدار أيّ النجوم. ومن المقطوع به كما يشهد به الحسّ أنه لا تخلو دقيقة من دقائق الملوين (5) من انحدار نجم عن تلك الدائرة. فاحتجنا إلى بيان

ص: 363


1- الفقيه 1 : 146.
2- في المخطوط : ( متساوين ).
3- في المخطوط : ( النصف ).
4- انظر الأنوار النعمانية 1 : 334 - 339.
5- الملوان : الليل والنهار. لسان العرب 13 : 190 ملا.

النجوم التي يعرف بانحدارها انتصاف الليل وأوّل وقت نافلة الليل.

والذي وقفت عليه في كلام جملة من الفقهاء أن المراد بها في الخبر : النجوم التي تطلع وقت غروب الشمس. وهذا أيضاً مجمل وإن كان أقلّ إجمالاً من لفظ الخبر ؛ إذ ليس كلّ نجم يطلع وقت الغروب ينحدر عن تلك الدائرة نصفَ الليل ؛ لمخالفته الحسّ والبرهان ، ولأنه يلزمه تساوي قوسي طلوع نجم هو على ما قرب من القطب الشمالي وطلوع نجم هو على ما قرب من القطب الجنوبي من المدارات في الآفاق المائلة إذا طلعا دفعة أو مطلقاً ، والبرهان والحسّ والوجدان تردّه.

والحقّ أن المراد بالنجوم المشار في الخبر إلى أنه يعرف زوال الليل وانتصافه بانحدارها عن تلك الدائرة في كلّ أُفق ووقت هي خصوص رقيب منزلة الشمس من المنازل الثمانية والعشرين ، وذلك يكون في كلّ ثلاث عشرة ليلة لمنزلة منها هي مدّة حلول الشمس في منزلتها إلّا الهنعة في المشهور ، فإنّ لها أربع عشرة ليلة ، ورقيب منزلة الشمس هي الخامسة عشرة ، عشر منها على جهة التوالي أبداً.

هذا إجمالاً ، وتفصيلاً ما ذكره بعض أهل هذه الصناعة حيث قال : مهما طلع برجٌ أو منزلة غاب رقيبه ، ومهما اعتدل برج أو منزلة فرقيبه الوتد تحت القدم ، ورقيب البرج سابعه ، ورقيب المنزلة خامس عشرها ؛ فرقيب الحمل الميزان ، ورقيب الثور العقرب. وقد جمعها بعض المتقدّمين حيث قال :

أرى الكبش بالميزان يقسم لحمه *** وبين بنات الثور عقربُ يعقرُ

وفي منكب الجوزاء قوس معلّق *** وإن ظهر السرطان فالجدي ينفرُ

أرى الليث نحو الماء يرسل دلوه *** وفي قبضة العذراء حوت ميسّرُ

وممن أحسن في جمع رقائب المنازل الشيخ عبد اللّه بن أبي بكر بن عفيف المكّيّ : في قوله :

( يا ناطحاً غفر اللّه الكريم له *** من نثر ذبح الكرى في الوجنتين دما

ص: 364

قد أضمر البطن فاستولى الزباد على *** ما تحته واستفاد الطرف بلعهما

وللثرى كلل الدمع المصون له *** من جهة السعد في الداجي إذا انقسما

تدبّر القلب آيات الزبور وفي *** تلك الزوايا خبايا أغلت القيما

ما هقعة الشول تغني المستبدّ بها *** شيئاً إذا انصرف المقدام منهزما

أيضاً ولا هنع الأنعام ساكرة *** إذا عوى صاحب التأخير وانفحما

وكم ذرعنا بأخفاف المطي بلداً *** وأعللنا سماك الحوت إن نجما (1)

ومهما كان النطح طالعاً كان الغفر غارباً والنثرة وتداً ، والذابح متوسّطاً على الرأس.

أو كان الغفر طالعاً فالنطح غارباً ، والنثرة متوسّطاً والذابح وتداً.

أو كان النثرة طالعاً فالذابح غارباً ، والنطح متوسّطاً والغفر وتداً.

أو كان الذابح طالعاً فالنثرة غارباً ، والغفر متوسّطاً والنطح وتداً.

وقس على هذا ) ، انتهى.

وقد بان بهذا أن المراد من نصف الليل الذي هو أوّل وقت النافلة : نصف الليل باعتبار ما بين الغروب إلى الطلوع ، فزواله المشار إليه في الخبر هو بهذا الاعتبار لا ما بين الغروب إلى طلوع الفجر ؛ فإنّ ذلك ليس له ضابط كلّيّ يعرف به لأكثر المكلّفين بنافلة الليل ، بل لا يعرفه إلّا أفراد من أفاضل علماء الفلك بآلاتهم وقوانينهم ، فلا يدخل تحت هذا الخبر المشير إلى قاعدة يعرفها أكثر المخاطبين بصلاة الليل.

وأيضاً فالاحتياط اعتبار أوّل وقت نافلة الليل نصف الليل باعتبار ما بين الغروب والطلوع لحصول اليقين فيه وارتفاع الشّك ، دون اعتبار نصف الليل بالنسبة إلى زمان ما بين الغروب إلى طلوع الفجر ؛ لسبقه على الأوّل وعدم انضباطهِ إلّا لأفراد مخصوصين.

ص: 365


1- كذا في المخطوط ، وهو مختلّ الوزن.

ويؤيّد الأوّل جميع ما دلّ من الشرعيّات على أن الليل من الغروب إلى الطلوع ، والنهار من الطلوع إلى الغروب. وهي كثيرة جدّاً لا يسع المقام نقلها.

ومنها : الأخبار المستفيضة المُؤيَّدة بإجماع [ الفلكيّين (1) ] والمقوّمين على أن النهار والليل ما ذكرناه الدالّة نصوصها المستفيضة على أن نصف النهار هو الحدّ الذي إذا بلغته الشمس كان القدر الماضي من طلوعها يساوي الباقي إلى غروبها ، وهو المعبّر عنه بدائرة نصف النهار. وقد استفاضت الأخبار بتسمية ذلك : نصف النّهار (2) ، والزّوال (3) ، والظّهر (4) ، وكلّها بمعنى ، والعرف العامّ والخاصّ يحكم به ، بل الضّرورة حاكمة بأنّ نصف النهار هُوَ وسط ما بين الطلوع والغروب ، بل بتسمية ما بينهما نهاراً فإنّه المتبادر إلى عامّة الأفهام من الخواصّ والعوامّ.

وذلك كلّه يقضي بأنّ حقيقة النهار ذلك ، وحقيقة الليل ما يقابله ، وهو ما بين الغروب إلى الطلوع ؛ فإنّك لا تشكّ ألّا معنى لهما عند إطلاق تساوي الملوين ، وزيادة الليل ساعة مثلاً على آن النهار. وبالعكس أن المراد منهما ذلك من الضروريات التي تتبادر إلى الأفهام.

وبهذا ومثله يعلم أن الليل والنهار حقيقة في ذلك وإن كنّا لا ندفع أن الشارع أطلق الليل على ما بين الغروب إلى طلوع الفجر ، والنهار على ما بين طلوع الفجر إلى الغروب في موارد كثيرة كنهار الصائم ، والبير (5) ، وليل الزوجة وغير ذلك. ولكنّه أيضاً أطلق الليل على ما بين الغروب إلى الطلوع ، والنهار على ما بين الطلوع إلى الغروب في موارد أكثر.

وقد بيّنّا أن هذا هو الحقيقة اللغويّة والعرفيّة عموماً وخصوصاً ، ولم نعلم في ذلك

ص: 366


1- في المخطوط : ( الفلكين ).
2- الكافي 4 : 121 / 1 ، تهذيب الأحكام 4 : 187 / 524 ، وسائل الشيعة 10 : 17 ، أبواب وجوب الصوم ونيته ، ب 4 ، ح 7.
3- تهذيب الأحكام 4 : 187 / 527 ، وسائل الشيعة 10 : 17 - 18 ، أبواب وجوب الصوم ونيته ، ب 4 ، ح 8.
4- الكافي 3 : 281 - 282 / 16.
5- كذا في المخطوط.

حقيقة شرعيّة. والأصل عدم النقل ، فإذا ورد من الشارع إطلاق الليل من غير قرينة تعيّن أحد المعنيين منه ، ووجب حمله على الحقيقة اللغويّة والعرفيّة ؛ للتبادر وأصالة عدم التجوّز.

وفي المبحوث عنه لم نقف على دليل من الشارع أنه أراد بحكمه أن أوّل وقت نافلة الليل بعد الانتصاف غير المعنى العرفيّ اللغويّ ؛ فيجب حمل إطلاقات الأخبار وفتاوى العصابة عليه ؛ فإنّها دليل على إرادة العرفيّ مع موافقته للّغة ، فيجب حمله عليه.

وأيضاً فحمله عليه أحوط ؛ لحصول اليقين به أنه وقت نافلة الليل دون الثاني ؛ لسبقه عليه بكثير.

وأيضاً فالمتبادر من الأخبار والفتوى أن المراد من نصف الليل الذي هو آخر وقت العشاء هو نصف ما بين الغروب والطلوع ، وهو الذي يدخل بعده وقت نافلة الليل بلا فصل ، مع أن الأصل يقتضي بقاء وقت الأداء حتّى يثبت خروجه.

ولا ينافيه أن آخر وقت نافلة الليل طلوع الفجر الثاني كما هو واضح ، ولا ينافيه أيضاً أن السحر قبيل الصبح كما عبّر به أكثر أهل اللغة (1) ، أو أنه السدس الأخير من الليل كما عبّر به النظام (2) : في تفسيره ، والزمخشري (3) : في ( الكشاف ) ، والطبرسيّ : في ( جامع الجوامع ) ، واختاره السيد مهدي :

أمّا على الأوّل فظاهر ؛ لعدم التلازم بين كون السحر قبيل الصبح وبين كون آخر الليل الطلوع.

وأمّا على الثاني فلجواز التجوّز بإطلاق الليل على ما بين الغروب إلى طلوع الفجر ، لشيوع استعمال هذا المجاز.

ولعلّ وجه العلاقة ووجه استعمال الشارع لهما بالمعنيين أن الساعة الفجريّة لمّا

ص: 367


1- انظر لسان العرب 6 : 190 سحر.
2- تفسير غرائب القرآن 6 : 221.
3- الكشاف 4 : 438.

كانت كالبرزخ المركّب من محض ضياء الشمس ومحض ضياء الليل والبرزخيّات فيصحّ إطلاق اسم كلّ من طرفيها عليها وإفرادها باسم ؛ ولهذا سمّاها الشارع تارة ليلاً ، وتارة نهاراً (1) وتارة قال : « إنها ساعة ليست من ساعات الليل ، ولا من ساعات النهار » (2).

وهذا شأن جميع البرزخيات وإن كان حقيقة النهار زمن طلوع الشمس ، والليل زمان غروبها ، ولا ثالث بينهما بالضرورة ، وإلى ذلك أشار قوله تعالى : ( فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ) (3).

ولا شكّ أن آية النهار الشمس ، فيختصّ النهار بزمان ظهورها ، ويقابله الليل.

ولعلّك إذا تأمّلت الآيات والأخبار وكلام أهل اللغة (4) والفلكيّين والمنجّمين وأصحاب الأرصاد والتقاويم ظهر لك أن هذا هو الحقيقة فيهما لغة وشرعاً وعرفاً ، والمعنى الآخر مجاز فيهما لم يرد استعماله إلّا مردفاً بالقرينة.

هذا ، ولو قلنا : إن أوّل نافلة الليل بعد انتصافه باعتبار ما بين الغروب إلى الفجر لم يكن له ضابط يعرف على حال ، وظاهر كلّ من قال : إن نصف الليل يعرف بانحدار النجوم الطالعة وقت الغروب أراد (5) ما حقّقناه.

وممّا يدلّ عليه أيضاً الأخبار (6) المقدّرة لمسافة القصر ، وتعليلها بأنه شغل يومه ؛ إذ لا ريب أن المراد من اليوم يوم المسافر ، وأنه من الطلوع إلى الغروب والليل يقابله ؛ لعدم الواسطة ، واللّه العالم بحقيقة أحكامه.

وكان الجعفي : قد صرّح بذلك كما نقل عنه في ( الذكرى ) قال الشهيد رحمه اللّه : فيها بعد

ص: 368


1- علل الشرائع 2 : 17 / 1 ، بحار الأنوار 80 : 107 - 108 / 5.
2- تفسير القمّيّ 1 : 126 ، بحار الأنوار 80 : 107 / 4.
3- الإسراء : 12.
4- انظر لسان العرب 14 : 303 نهر ، وقد أورد كون أوله طلوع الفجر وطلوع الشمس.
5- في المخطوط : ( أراده ).
6- تهذيب الأحكام 3 : 209 / 503 ، الإستبصار 1 : 255 / 799 ، وسائل الشيعة 8 : 455 ، أبواب صلاة المسافر ، ب 1 ، ح 16.

أن ذكر الحديث المبحوث عنه : ( والظاهر أنه عنى به انحدار النجوم الطوالع عند غروب الشمس.

والجعفي : اعتمد على منازل القمر الثمانية والعشرين المشهورة ، فإنّه قال : إنّها مقسومة على ثلاثمائة وأربعة وستّين يوماً لكلّ منزلة ثلاثة عشر يوماً .. ثمّ ينتقل إلى ما بعدها وهكذا. فإذا جعل القطب الشماليّ بين الكتفين نظر ما على الرأس وبين العينين من المنازل ، فيعدّ منها إلى منزله الفجر ، ثمّ يؤخذ لكلّ منزلة نصف سبع.

قال : والقمر يغرب في ليلة الهلال على نصف سبع من الليل ، ثمّ يتزايد كذلك إلى ليلة أربع عشرة ، ثمّ يتأخّر ليلة خمس عشرة نصف سبع ، وعلى هذا إلى آخره.

قال : وهذا تقريب ) (1) ، انتهى.

قلت : هذا وإن كان تقريباً لا يضبط غالباً لما يعرض للقمر من البطء والإسراع بسبب ما يعرض له من الإقامة والاستقامة والرجوع ؛ لأنّ له حامل تدوير. لكن غرضنا أنه صريح في أن المراد من الليل في هذا المقام هو ما بين الغروب إلى الطلوع ، فتدبّر واللّه العالم.

وممّن مال إلى ما حقّقناه من أن المراد بنصف الليل هنا : نصف ما بين الغروب والطلوع السيّد الأعظم السيّد مهدي الطباطبائي : على ما تقتنصه عبارة الإيرواني : في مختصر كتابه ( الإصلاح ) ، حيث نقل أن بعضهم صرّح بذلك ولم يردّه ولم ينقل فيه خلافاً. وممّن جزم بذلك إمام المحقّقين في زمانه محمّد أكمل بن محمّد تقي القاشاني : في ( شرح المفاتيح ) ، من غير نقل خلاف السيد عليّ : في ( شرح النافع ) ، بعد أن ادّعى الإجماع على أن أوّل نافلة الليل بعد انتصافه قال : ( والمتبادر من الليل في النصّ والفتوى هو ما بين غيبوبة الشمس إلى طلوع الفجر ، وقيل : إلى طلوع الشمس. وهو أحوط وأنسب بتوزيع الصلوات اليوميّة على أوقاتها ) (2) ، انتهى.

قلت : التبادر ممنوع كما عرفت ، وكيف يكون هو المتبادر مع أن الآخر أنسب

ص: 369


1- ذكرى الشيعة 2 : 368 - 369.
2- الشرح الصغير 1 : 85.

وأحوط؟ وممّا يدلّ على ما قلناه أنّ الضرورة وإجماع البشر والنصوص (1) المستفيضة على أنّ آخر النهار غروب الشمس وأنّه أوّل الليل ، فبحكم المقابلة آخر الليل طلوعها ، وأنّه أوّل النهار ؛ إذ مقتضى أنّ آخر النهار غروب الشمس وأنّه أوّل الليل أنّ النهار عبارة عن طلوع الشمس ، والليل عبارة عن غيبتها. وأيضاً المتبادر من إطلاقات عبارات الأصحاب في اشتراطهم في وجوب القصر على من قصد أربعة فراسخ أنه يشترط فيه الرجوع ليوم أو ليلته [ على ] ما ذكرناه ، فتأمّلها.

وفي صحيح زرارة : عن أبي جعفر عليه السلام : أنه قال في حديث طويل : « دلوك الشمس زوالها ، وفي ما بين دلوكها إلى غسق الليل أربع صلوات ».

إلى أن قال عليه السلام : « وغسق الليل انتصافه ».

إلى أن قال : « وقال تعالى : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ) (2) ، فطرفاه المغرب والغداة » (3) الخبر.

وقد قابل أوّلاً بين الزوال والغسق ، ومقتضاها قسمةُ نقطةِ الغسقِ الليلَ على وفق قسمةِ نقطةِ الدلوكِ النهار.

ونصّ ثانياً على أنّ طرفي النهار وقت صلاة المغرب ووقت صلاة الغداة. ولا ريب في خروج وقت المغرب عن النهار ، قيل : [ منه (4) ] خروج الطرف المقابل ؛ إذ لا يحدّ شي ء بطرف داخل وطرف خارج بالضرورة. ولا ينافيه ما في آخر هذا الخبر من الحكم بأنّ الغداة من صلاة النهار ؛ لما عرفت من حال البرازخ ؛ فهو مجاز ، وإلّا لتناقض أوّل الخبر وآخره ، وهو محال.

وممّا يدلّ على المطلوب صريحاً ما رواه الصدوق : في ( الفقيه ) عن أبي جعفر عليه السلام

ص: 370


1- وسائل الشيعة 4 : 172 - 183 ، أبواب المواقيت ، ب 16.
2- هود : 114.
3- الكافي 3 : 271 / 1 ، تهذيب الأحكام 2 : 241 / 954 ، وسائل الشيعة 4 : 10 - 11 ، أبواب أعداد الفرائض ، ب 2 ، ح 1 ، باختلاف فيها.
4- في المخطوط : ( مه ).

أنه قال : « كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : لا يصلّي بالنهار شيئاً حتّى تزول الشمس » (1).

ويؤيّده ما ورد عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : أنه قال : « صلاة النهار عجماء » (2).

وَما في ( نهج البلاغة ) من قول أمير المؤمنين عليه السلام : لمّا سئل كم بين المشرق والمغرب؟ فقال : « مسير يوم للشمس » (3).

وجميع (4) الأخبار الناصّة على أن الصائم إن خرج قبل نصف النهار أفطر ، وإن سافر بعده أتمّ يومه (5) وهي كثيرة وعليها عمل المشهور.

وقول أبي عبد اللّه عليه السلام : لأبي حنيفة : « إنّ الشمس تقطع ما بين المشرق إلى المغرب في يوم أو أقلّ » (6).

والأخبار به كثيرة ، ولنا في المسألة رسالة مفردة (7).

ص: 371


1- الفقيه 1 : 146 / 678 ، وسائل الشيعة 4 : 61 ، أبواب أعداد الفرائض ، ب 14 ، ح 6.
2- بحار الأنوار 56 : 14.
3- نهج البلاغة : 718 / الحكمة : 294 ، وفيه : « مسيرة ».
4- معطوف على الاسم الموصول ( ما ) من قوله : ( ويؤيّده ما ورد عن النبي صلى اللّه عليه وآله .. ).
5- وسائل الشيعة 10 : 185 - 189 ، أبواب من يصح منه الصوم ، ب 5.
6- الاحتجاج 2 : 272 / 239.
7- هي رسالة تحديد أوّل النهار المطبوعة ضمن الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

ص: 372

[116] ماء معين ودرّ ثمين ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً )

قوله تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) (1) ، القمّيّ بسنده عن الرضا عليه السلام : أنه قال لمّا سئل عن هذه مَاؤُكُم : أبوابكم ، والأئمّة أبواب اللّه ، ( فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) يعني : يأتيكم بعلم الإمام (2).

وفي ( البحار ) من غيبة الشيخ (3) : بسنده إلى علي بن جعفر : أنه سأل أخاه موسى عليه السلام : عن تأويل هذه الآية ، فقال : « إذا فقدتم إمامكم فلم تروه فماذا تصنعون؟ » (4).

وفيه من ( تأويل الآيات الظاهرة ) (5) بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السلام : في هذه الآية أنّه قال : « إن غاب إمامكم فمن يأتيكم بإمام جديد؟ » (6).

ومثله في ( الكافي ) (7) عن الكاظم عليه السلام.

وفي ( الإكمال ) عن الباقر عليه السلام : أنه سئل عن تأويلها فقال : « إذا فقدتم إمامكم فلم تروه فماذا تصنعون؟ » (8).

ص: 373


1- الملك : 30.
2- تفسير القمّيّ 2 : 397.
3- الغيبة : 160 / 117.
4- بحار الأنوار 24 : 100 / 2.
5- تأويل الآيات الظاهرة : 683 ، وفيه : « إن فقدتم إمامكم ».
6- بحار الأنوار : 24 : 100 - 101 / 3.
7- الكافي 1 : 340 / 14 ، وفيه : « إن غاب عنكم .. ».
8- كمال الدين 2 : 360 / 3.

وعنه عليه السلام أنه قال : « نزلت في الإمام القائم عليه السلام : يقول : إن أصبح إمامكم غائباً عنكم لا تدرون أين هو ، فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السماوات والأرض وحلال اللّه وحرامه؟ ».

ثمّ قال : « واللّه ما جاء تأويل هذه الآية ، ولا بدّ أن يجي ء تأويلها » (1).

أقول وباللّه المستعان - : لا ريب في أن الإمام عليه السلام يطلق عليه لفظ ( الماء ) ، وهو كثير في الأخبار ؛ لأنه الماء الذي حمّله اللّه علمه ، وهو أول الكائنات ، ولأنه مادّة حياة جميع الخلق ؛ فإنّ حياة الأرواح به ، والأجساد بها ؛ فهو روح الأرواح وعلّة النجاح. فإمام كلّ قوم ماؤهم أي مفيض علمهم ، وعلّة علمهم ، وعلمهم حياتهم ، فحياة كلّ شخص بقدر علمه شدّةً وضعفاً ، بل هي علمه. فعلم كلّ مخلوق وجوده ، فوجوده حياته. فظهر بهذا صحّة تسمية إمامنا ماءَنا ، وتسمية علمنا المفاض منه ماءنا ، فإنّ علمنا من فاضل علمه بلا تنافٍ.

وأمّا تأويل غوره بغيبته فظاهر ؛ إذ لا يمكن عدمه بحال ؛ فالحجّة مع الخلق ، وقبل الخلق ، وبعد الخلق ، فأقصى ما يقال في معنى غوره : غيبته عن الحواسّ والأبصار ، لا عن العقول والبصائر. ومن الظاهر أن تأويلها بذلك لم يقع إلى زمن الرضا سلام اللّه عليه : وإنّما وقع بعد مضيّ أبي محمّد سلام اللّه عليه : نسأل اللّه الفرج برحمته ، وأن يجعلنا ممّن سقاهم ربّهم شراباً طهوراً بعفوه وكرمه ، والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 374


1- كمال الدين : 325 - 326 / 3.

[117] لطائف فقهيّة وبراهين جليّة وحلّ إشكال ودفع إعضال : مسألة الاستظهار

اعلم أنه أُورد على القول باستحباب الاستظهار لذات العادة ، مع عبور دمها العادة ، وعلى القول بوجوبه مع عدم تعيين حدّ شخصيّ لأيّام الاستظهار أيضاً ، إشكال مشهور هو أنه يلزمه أرجحيّة ترك العبادة على العبادة ، وكون ما هو مفروضٌ منها ندباً ومباحاً لجواز تركه حينئذٍ لا إلى بدل ، أو كون الغسل علّة لوجوب المباح أو المندوب ، والكلّ غير معهود في أُصول الشريعة.

والجواب ومن اللّه الهداية - : اعلم أنه قد ثبت بالنصوص المستفيضة والإجماع الذي لا ريب فيه أن أقلّ الحيض ثلاثة وأكثره عشرة فما بينهما (1) ، فإذا كانت ذات عادة أقلّ من أكثره قد تجاوز دمها في شهر عن عادتها ، كان الزائد مشكوكاً فيه ؛ هل هو حيض أم استحاضة ؛ لاحتمال كلّ منهما فيه إلى تمام العشرة. أمّا ما بعد العشرة فلا شبهة ولا ريب في أنه ليس بحيض ؛ للإجماع نصّاً وفتوى على أن أكثر الحيض عشرة لا تزيد ولا لحظة ، وأقلّه ثلاثة لا تنقص ولا لحظة. فحكمة الحكيم اقتضت أن الدم الطبيعيّ وهو الحيض لا يزيد على العشرة ، ولا ينقص عن الثلاثة.

وأما أيّام العادة فلا شبهة أيضاً في أنّها حيض ؛ للإجماع على ذلك نصّاً وفتوى ولأنّ الشارع جعل العادة دليلاً شرعيّاً على الحيض ؛ ولذا تتحيّض صاحبتها بمجرّد رؤية

ص: 375


1- وسائل الشيعة 2 : 293 - 297 ، أبواب الحيض ، ب 9.

الدم فيها ، وقدمت على التمييز والصفة ، وأمر بالرجوع إليها في عدّة موارد عند الاشتباه ، جعلها فيها دليلاً على الحيض (1) ، فهي تدلّ على أن ذات العادة طبيعتها في حيضها ذلك.

وبقي الاشتباه فيما زاد عن العادة إلى تمام العشرة ، لإمكان كلّ منهما فيه ، فكلّ جزء من ذلك الزمان يحتمل أن يكون دمه هو الطبيعيّ وهو الحيض وأن يكون دمَ الاستحاضة وهي المرض العارض وقد تعارض فيه الدليلان بلا مرجّح. فالإجماع على أن كلّ دم أمكن أن يكون حيضاً فهو حيض يرجّح كونه حيضاً.

ويؤيّده قضاء الوجدان باختلاف العادة في الحيض باختلاف المزاج بالسنّ وغيره.

ويؤيّده أيضاً أن آخر لحظة من العادة دمها حيض بلا شبهة ، فمن البعيد جدّاً أن تكون اللحظة الّتي تليها بلا فصل استحاضة. وهكذا تتوالى اللحظات متصاعدة إلى تمام العشرة. بل قطع بعض الأفاضل بأنّ اللحظة الثانية بل ما هو أكثر من لحظة ولحظتين وَثلاث حيض ، بل ظاهره نسبة القطع بذلك إلى الفقهاء.

ويدلّ أيضاً على كونه حيضاً استصحابُ حيض العادة فيما زاد عنها إلى تمام العشرة ، حتّى يثبت الناقل عنه.

ويدلّ عليه أيضاً الأخبارُ الكثيرة الآمرة لها حينئذٍ بالاستظهار ، حتّى قال جماعة (2) بوجوبه عملاً بظاهر الأمر ؛ إذ لا معنى للاستظهار إلّا الحكم بكون الدم حيضاً ؛ لما يلزمها في مدّته من أحكام الحيض.

ويدلّ عليه أيضاً أصالة عدم حدوث المرض ، وهو دم الاستحاضة ، ويدلّ على كونه حينئذٍ دم الاستحاضة كون العادة دليلاً شرعيّاً على أن ما زاد عنها ليس بحيض عند الاشتباه في موارد كثيرة معلومة عند الفقيه ، بل عادة الأهل والأقران جعلها الشارع دليلاً على عادة الأمثال ، وعلى أن ما زاد عنها ليس بحيض عند الاشتباه. وقدّمت العادة على الصفة والتمييز كما مرّ ، فلا شبهة في أن العادة دليل

ص: 376


1- وسائل الشيعة 2 : 281 ، أبواب الحيض ، ب 5.
2- النهاية ( الطوسيّ ) : 24 ، وهو المنقول عن المرتضى في مصباحه. انظر المدارك 1 : 333.

شرعيّ على أن ما زاد عنها ليس بحيض ، وما وقع فيها من أقلّ الحيض حيض.

ويدلّ عليه أيضاً أصالة شغل الذمّة بالعبادة ، خرجت أيام العادة بدليل ، فيقين البراءة لا يحصل فيما زاد عن العادة إلى تمام العشرة إلّا بكون دمه استحاضة.

ويدلّ عليه أيضاً الأخبار الدالّة بإطلاقها أو نصّها على أن ما بعد العادة استحاضة مطلقاً (1) ، والأخبار الآمرة لها حينئذٍ بالتعبّد من غير تعرّض لذكر الاستظهار (2) ، فقد تعارض الدليلان فيما زاد عن العادة إلى العشرة بلا مرجّح لأحدهما مع تقاومهما. والذي حقّقه المحقّقون في الأُصول ، واقتضته رحمة الحكيم من رفع الحيرة وعدم التكليف بالمحال وبالعمل بالنقيضين أنه إذا تعارض الدليلان ، أو اختلف المجتهدان ، أو تساوت الأمارتان في القبلة مع تساويهما و [ تقاومهما (3) ] وعدم وجدان المرجّح وحضور وقت العمل ، وتضيّقه [ فإنّ (4) ] المكلّف مخيّر في الأخذ بأيّهما شاء (5).

وهذا جارٍ في أشباه ما ذكرناه ، فإذا اختار المكلّف العمل بأحدهما حينئذٍ لزمه حكمه ولوازم حكمه ؛ فعلاً وتركاً ، وأجراً وإثماً ، ووجوباً وتحريماً حتّى يظهر الناقل عنه توسعة من الرحيم الحكيم وإن كان استمرار الاشتباه وعدم ظهور المرجّح مع استفراغ الوسع في الطلب بسلوك التي شرعت له في الطلب مع إمكانه ، وسعة الوقت منظور فيه ، وليس هذا محل بيانه.

فمن عبر دمها عادتها فهي من هذا القبيل إلى تمام العشرة فخيّرت بين التكليفين ؛ فمتى اختارت الاستظهار أي أخذت بأدلّة كون دمها حيضاً حينئذٍ ، لزمها الجلوس وجميع أحكام الحيض ، فإنّ ذلك معنى الاستظهار ، ومتى اختارت العمل بدليل كون دمها استحاضة لزمها غسل الحيض وجميع أحكام الاستحاضة فعلاً وتركاً. ومعنى ذلك أنّها اختارت حينئذٍ العمل بدليل كون دمها استحاضة ، فلا ريب

ص: 377


1- تهذيب الأحكام 1 : 172 / 491 ، وسائل الشيعة 2 : 303 ، أبواب الحيض ، ب 13 ، ح 10.
2- وسائل الشيعة 2 : 343 ، أبواب الحيض ، ب 39.
3- في المخطوط : ( تعادمهما ).
4- في المخطوط : ( ان ).
5- عوالي اللآلي 4 : 133 / 229.

في وجوب العبادة عليها حينئذٍ ، فارتفع الإشكال ، وشفى اللّه الداء العضال ، وظهر عدم لزوم علّيّة غسلها لوجوب ما كان مندوباً أو مباحاً كما تخيّل.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه لا يمكن استمرار اشتباه دم ما زاد على العادة ، لما يلزم من ارتفاع التكليفين أو أحدهما أو التكليف بالنقيضين ، وللقطع بأنّ أكثر الحيض عشرة ، فجعل الشارع بحكمته برهان تعيين أحدهما وإظهار ما هو الواقع منهما في ذلك الحال في نفس الأمر هو الانقطاع على العشرة والعبور عنها ؛ فإن انقطع عليها ترجّح دليل الحيض وانكشف أن ما زاد على العادة حيض ، وإن عبرها ترجّح دليل الاستحاضة وانكشف أن ذلك الدم استحاضة ، ليظهر بذلك ما في نفس الأمر منهما.

فهذا ملجأ وميزان عدل ، ويؤيّد أنه مع عبور العشرة استحاضة إن اللحظة التي تلي العشرة بعدها بلا فصلٍ استحاضة بالإجماع ، فبعيدٌ كون اللحظة التي [ تسبقها ] (1) من العشرة قبلها بلا فصل حيضاً لبعد تغيّر المزاج وحدوث المرض بين ذينك اللحظتين جدّاً. بل قَطَع بعض الأفاضل بأنّهما استحاضة ، بل نقل القطع به عن الفقهاء. وهذا واضح في المشهور بين الفقهاء ؛ لحكمهم بأنه مع العبور استحاضة كلّه ، بل الظاهر أن ذلك إجماع. فهكذا اللحظات المتوالية متنازلاً حتّى تصل إلى أيّام العادة.

وبما أوضحناه ظهر دليل الفقهاء على وجوب قضاء عبادة أيّام الاستظهار مع العبور بلا شبهة ؛ لأنّ ذلك جعله الشارع دليلاً على أن ما زاد على العادة استحاضة فتجب فيها العبادة ، وقد فاتت ؛ فيجب قضاؤها بالدليل العامّ من وجوب قضاء الفوائت من العبادات ممّا دلّ الدليل على وجوب قضائه.

فلا وجه لاستشكال بعض المتأخّرين في ذلك ، وليس الدليل منحصراً في الدليل الجزئيّ بالضرورة ، واللّه العالم.

ص: 378


1- في المخطوط : ( تليها ).

[118] لطيفة فقهيّة : الأصل في الشهر التمام

لو أن رجلاً أفطر شهر رمضان فنسي هل كان ذلك الشهر تامّاً أو ناقصاً ، ما يلزمه؟

أقول : الذي يظهر من الدليل أنه يلزمه قضاء ثلاثين يوماً ؛ لأنّ به يقين خلوّ العهدة ، حيث إن ذمّته مشغولة بقضاء شهر ، ولا يحصل يقين براءة ذمّته ممّا اشتغلت به إلّا بقضاء ثلاثين يوماً ، ولأنّ الأصل في الشهر التمام ، فإنّا إذا كنّا في شهر رمضان مثلاً بيقين ، فالأصل بقاؤه واستصحابه حتّى يأتي ناقل قطعيّ يرفع اليقين السابق ، وليس إلّا إكمال ثلاثين أو ثبوت رؤية هلال شوّال.

وبعبارة أُخرى : إذا تحقّق المحاق واختفاء القمر بيقين ، فالأصل بقاؤه وعدم رؤيته ، فيستصحب حتّى يحصل الناقل عنه ، وليس إلّا ما ذكرناه.

فإذا لم يثبت رؤية شوّال في ذلك الشهر بيقين ، بقيت الذمّة مشغولة بثلاثين ؛ ولهذا وجب صوم يوم الثلاثين من شهر رمضان إلّا أن تثبت رؤية هلال شوّال. فلو لم يكن التمام هو الأصل لما وجب صومه حتّى تثبت الرؤية لهلال شوّال ؛ لعدم يقين التكليف بصومه لولا ذلك الأصل. وهذا أعني وجوب صوم يوم الثلاثين ما لم تثبت رؤية هلال شوّال قد أطبقت عليه الأُمّة في كلّ زمان واتّفقت عليه أخبار السنّة الغرّاء (1) بلا معارض مع استفاضة مضمونها بل تواتره.

ص: 379


1- وسائل الشيعة 10 : 261 - 275 ، أبواب أحكام شهر رمضان ، ب 5.

وأيضاً لا ينبغي الريب في أن من نذر صوم شهر على الإطلاق ، وابتدأ من أثناء شهر هلاليّ وجب صوم ثلاثين ؛ لأنّ به يقين براءة الذمّة ، وكذا لو ابتدأ من أوّل هلاليّ وفرّق صومه. وهو الأحوط أيضاً إن لم يكن متعيّناً فيما لو ابتدأ من أوّل هلاليّ ووالى.

ولو لا ذلك الأصل لما وجب هذا ، ولأنّ الفرقة أيضاً متّفقة مجمعة في كلّ عصر على أنه إذا غمّ الشهران أو الشهر أو الثلاثة حسبت تامّة كلّها ، بل الأكثر على أنه لو غمّ الحول حسبت شهوره كلّها تامّة ، وإن كان لا يخلو من إشكال.

ويؤيّده أيضاً ما ورد عنهم سلام اللّه عليهم أن المتردّد في بلد يقصر إلى شهر (1).

وورد أنه يقصر إلى ثلاثين يوماً (2).

و [ المجمل (3) ] يحمل على المبيّن ، فدلّ على أنّهم عليهم السلام أرادوا بالشهر ثلاثين. فهذا يؤيّد أن الأصل في الشهر التمام إن لم تدلّ عليه. بل لعلّه يشعر بأنّ الثلاثين حقيقة عرفيّة فيه إن لم نقل شرعيّة ، فتأمّله.

ويؤيّد ما قلناه أيضاً إن لم يَدلّ عليه الأخبارُ الكثيرةُ الناصّة على أن شهر رمضان لا ينقص أبداً (4).

ولا يضرّ اختصاص دلالتها بشهر رمضان وإن كان لها تأويلٌ بحسب المعقول. ولعلّه إشارة إلى أن رتبة الوجوب لا يمكن أن يدخلها نقص بوجه ما أصلاً ، بل هو فرض مستحيل ذاتيّ. ورتبة الإمكان لا يمكن أن تتمّ أبداً ؛ لافتقارها بهويّتها في تحقّق وجودها ولوازمه إلى إمداد علّتها ، فحقيقتها الفقر لذلك. وهذا نقص إضافيّ بالنسبة لعلّتها ، وإلّا فهو أشرف الكمال الإمكانيّ.

ص: 380


1- تهذيب الأحكام 3 : 219 / 546 ، الإستبصار 1 : 237 / 847 ، وسائل الشيعة 8 : 500 ، أبواب صلاة المسافر ، ب 15 ، ح 9.
2- تهذيب الأحكام 3 : 219 / 548 ، الإستبصار 1 : 238 / 849 ، وسائل الشيعة 8 : 501 ، أبواب صلاة المسافر ، ب 15 ، ح 12.
3- في المخطوط : ( المحل ).
4- وسائل الشيعة 10 : 268 - 274 ، أبواب أحكام شهر رمضان ، ب 5 ، ح 24 - 37.

فشهر رمضان شهر اللّه ، وشهر شعبان شهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (1) ، أو إنه إشارة إلى رتبة الولاية المطلقة ، وباطن المشيئة تامّة في ذاتها أبداً لا يمكن أن يلحقها شي ء من نقائص الخلق ، ورتبة الرسالة قد يلحقها ما يوجب إخفاء بعضه وطيّه تحت الإشارات وخلال العبارات ، أو التقية في الإعلان ببعضٍ وإظهاره بكمال الفعليّة ، بحسب ما تقتضيه الحكمة من الدعوة إلى اللّه بكمال الاختيار.

ويؤيّد ما نحن بصدده أيضاً من أن الأصل في الشهر التمام أن العام يوم خلق اللّه السماوات والأرض « ثلاثمائة وستّون يوماً » (2) فكلّ شهر منه في أصل وجوده ثلاثون يوماً. فيحمل عليه ما أمكن حتّى يثبت خلافه ممّا عرض للحول من اختزال ستّة أيّام ، وكونها بالقوّة في نفس فلك القمر ، وهو العاد (3) للحول.

ويحتمل ضعيفاً أنه لا يلزمه إلّا قضاء تسعة وعشرين يوماً ؛ للشكّ في التكليف بالزائد. وما قدّمناه يزيل هذا الشكّ.

ويحتمل أيضاً وإن كان أضعف كفاية قضاء شهر هلالي تمّ أم نقص ؛ لأنه مشغول الذمّة بشهر ، وهذا شهر بيقين. وفيه أنه مشغول الذمّة بقضاء شهر يمكن أن يكون ثلاثين ، بل هو الأصل فيه كما عرفت.

وعلى كلّ حال ففي قضاء الثلاثين خروج من خلاف الصدوق (4) ، فهو أحوط ، واللّه العالم.

ص: 381


1- الأمالي ( الصدوق ) : 71 / 38 ، بحار الأنوار 93 : 364 / 35.
2- وسائل الشيعة 10 : 272 ، أبواب أحكام رمضان ، ب 5 ، ح 33.
3- كذا في المخطوط.
4- الفقيه 2 : 111 / ذيل الحديث : 6.

ص: 382

[119] لطيفةٌ فقهيّة : الإقلال بالقيام من حقيقته أم واجب فيه

مسألة : لو نسي المصلّي الاستقلال في قيام ركعة حتّى ركع ، فهل تصحّ صلاته أم لا؟

الجواب : هذه المسألة لم أقف على تصريح بها في كلام الأصحاب ، وهي مبنيّة على مسألة لم أقف على من بحث عنها أيضاً ، هي أنه هل القيام المعتبر شرعاً في الصلاة هو المعنى العرفي ، والاستقلال من واجباته كالطمأنينة ، أو مركّب منهما ؛ فالاستقلال جزء من ماهيّة القيام المعتبر شرعاً في الصلاة؟

وظاهر الفتوى الأوّل ، وأن الاستقلال واجب فيه كما يظهر من تأمّل عبارات الفقهاء كعبارة السيّد علي المعاصر في ( شرح النافع ) (1) ، والبهائيّ في ( الاثنا عشريّة ) (2) ، والعلّامة في ( التلخيص ) ، وابن حمزة في ( الوسيلة ) (3) ، والمحقّق في ( الشرائع ) (4) ، وغير واحد بلا استشكال ولا نقل خلاف. بل هذه العبائر صريحة في ذلك ، وهو ظاهر عبائر الأكثر ، كما يظهر بالتدبّر.

ويؤيّده أو يدلّ عليه وقوع الخلاف في وجوبه مع الاتّفاق على وجوب القيام. ويمكن حمل نفي اليأس عن تركه في صحيحة علي بن جعفر (5) وخبري سعيد بن

ص: 383


1- رياض المسائل 2 : 280.
2- الاثنا عشرية : 58.
3- الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 94.
4- شرائع الإسلام 1 : 70.
5- الفقيه 1 : 237 / 1045 ، تهذيب الأحكام 2 : 326 / 1339 ، وسائل الشيعة 5 : 500 ، أبواب القيام ، ب 10 ، ح 1.

يسار (1) ، وابن بكير (2) ، وهو محمول على تركه سهواً. فهي تدلّ على ما قلناه من صحّة الصلاة مع نسيانه ، وعلى أنه ليس جزءاً من ماهيّة القيام بل واجب فيه.

وقال الفاضل في ( شرح الروضة ) بعد قول الشهيدين : ( ويجب القيام مستقلا مع المكنة ، فإن عجز عن الاستقلال في الجميع ففي البعض ، فإن عجز عن الاستقلال أصلاً اعتمد على شي ء ، مقدّماً على القعود ) (3) ، قال الفاضل : ( مقدّماً على القعود وعلى ترك الانتصاب ؛ فإنّ الانتصاب داخل في ماهيّة القيام بخلاف الاستقلال ، فحين الاعتماد يتحقّق القيام ، وإن ما فقد أمر خارج عنه ليس في تأكّد الوجوب ، وظهوره مثل القيام والانتصاب ، وحين ترك الانتصاب ينبغي القيام حقيقة ) ، انتهى.

وقال في ( البحار ) : ( المشهور وجوب الاستقلال في القيام ، وذهب أبو الصلاح (4) إلى جواز الاستناد على كراهية ، ولا يخلو من قوّة. ثمّ على تقدير الوجوب ، إذا أخلّ بالاستقلال عمداً بطلت صلاته ، والظاهر عدم البطلان بالنسيان ) (5).

وبقي الإشكال في عبارة ( التحرير ) حيث قال : ( القيام ركن مع القدرة ؛ فإن أمكنه الاستقلال به وتركه عمداً أو سهواً بطلت صلاته. ولو تعذّر وأمكنه أن يعتمد على حائط أو عكّاز أو شبهه وجب ) (6) ، فإنّها صريحة أو كالصريحة في أن الاستقلال جزء من ماهية القيام المعتبر شرعاً في الصلاة ، فإنّ الظاهر أن مفعول ( تركه ) يعود إلى ( الاستقلال بالقيام ) بقرينة عود المستكنّ في ( تعذّر ) عليه قطعاً ، وهو متأخّر عنه.

ومن العبائر المتشابهة في هذا المقام عبارة ( القواعد ) حيث قال : ( القيام ركن في الصلاة الواجبة لو أخلّ به عمداً أو سهواً مع القدرة بطلت صلاته ، وحدّه الانتصاب مع الاستقلال فإن عجز عن الاستقلال انتصب معتمداً على شي ء ) (7) ، انتهى.

ص: 384


1- تهذيب الأحكام 2 : 327 / 1340 ، وسائل الشيعة 5 : 501 ، أبواب القيام ، ب 10 ، ح 3.
2- التهذيب 2 : 327 / 1341 ، وسائل الشيعة 5 : 501 - 502 ، أبواب القيام ، ب 10 ، ح 4.
3- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 1 : 250 - 251.
4- الكافي في الفقه : 125.
5- بحار الأنوار 81 : 341.
6- تحرير الأحكام : 36 ( حجري ).
7- قواعد الأحكام 1 : 267 ، حجري.

وقريب منها عبارة ( معالم الدين ) ، قال : ( القيام : وهو في جميع الصلوات ركن ، وحدّه الانتصاب مستقلا مع القدرة ).

ولعلّه محمول على عموم الفرائض ، وإن احتمل عموم النافلة كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

وقريب منهما عبارة ( الذكرى ) (1).

وظاهر قولهم : ( حدّه الانتصاب مع الإقلال أو مستقلا ) أن الاستقلال جزءٌ من المحدود. فعلى ظاهر هذه العبارات أنه لو فات الاستقلال سهواً بطلت الصلاة ؛ لفوات القيام الشرعيّ فيها بفوات أحد جزأي حقيقته. ولكن هذا الظاهر لا دليل عليه ؛ إذ الأصل عدم النقل عن المعنى العرفيّ ، ولم يدلّ دليل أن له حقيقة شرعيّة مركّبة من العرفيّ والإقلال. وظاهر الفتوى أيضاً يدفعه كما عرفت.

وهل الإقلال واجب في حال الركوع والجلوس والسجود على المعنى المذكور في القيام؟ الظاهر ذلك ؛ لأنه الكيفيّة المتلقّاة من الشارع ، فيجب اتّباعها وبها يحصل يقين البراءة ، وخلافها مشكوك فيه ، ولا دليل عليه ، واللّه العالم بحقيقة أحكامه.

ص: 385


1- الذكرى 3 : 266 ( حجري ).

ص: 386

[120] لطيفة فقهيّة : هل يجوز فعل مستحبّات قيام الركعة من جلوس اختياراً أم لا؟

مسألة : هل يجوز فعل مستحبّات قيام الركعة من جلوس اختياراً ، أم لا ، وذلك كالقنوت والستّ الافتتاحيّة ووظائفها والسورة على القول باستحبابها؟

الجواب لا يجوز الإتيان بذلك وأمثاله ، ولا بالدعاء العارض الخارج عن أفعال الصلاة في خلال قيام الركعة ، بل ولا القعود في أثنائه قبل الركوع والرفع منه ولو ساكتاً أصلاً اختياراً ؛ لما في ذلك من مخالفة المعهود من الشارع ، والكيفيّة المتلقّاة منه. والعبادة كيفيّة متلقّاة ، فما وقع على خلافها لا يخرج به المكلّف من عهدة التكليف إلّا بدليل ، ولا دليل على جواز الجلوس قبل الركوع مطلقاً اختياراً.

وأيضاً الأصل في كيفيّة الصلاة المتلقّاة من فعل الشارع خصوصاً في محلّ البيان الوجوب بلا خلاف نجده ، ولا دليل على جواز الجلوس مطلقاً اختياراً قبل الركوع. فإذن الأصل فيه الوجوب. فالقيام حال الستّ الافتتاحية مثلاً يشبه الواجب الشرطيّ في تحقيق الاستفتاح الشرعيّ ، كالتحريمة في النافلة ، بل الظاهر أن الجلوس اختياراً قبل الركوع فعل خالٍ من أفعال الصلاة ، ولم يقم دليل على جوازه فهو يبطلها.

ص: 387

ويعضده إطلاق [ أكثر (1) ] الفتاوى بوجوب القيام ، بل في بعضها ركنيّته ، ولا ينافي ما قلناه تصريح جماعة بأن القيام في مندوب قيام الركعة مندوب ؛ لأنّ معناه أن القيام في القنوت مندوب ، أي يجوز تركه مع القنوت لا إلى بدل ، لا أنه يجوز القنوت في الفريضة جالساً اختياراً.

بل يمكن أن يقال : لو قيل بجواز الجلوس في القنوت مثلاً اختياراً لزم أن يكون القيام واجباً تخييريّاً بينه وبين الجلوس ، بل وبين [ الاضطجاع (2) ] ؛ لأنه حينئذٍ لا يجوز تركه أصلاً مع تحقّق القنوت ، ومعه لا يجوز تركه إلّا إلى بدل. وهذه خاصّة [ الواجب (3) ].

والظاهر بطلان هذا كلّه ؛ لعدم الدليل على شي ء منه. وفي مداومة الرسول صلى اللّه عليه وآله وخلفائه الهداة على فعل مستحبّات قيام الركعة من قيام ، وقوله صلى اللّه عليه وآله : « صلّوا كَمَا رأيتموني أُصلّي » (4) ، وفعلهم لها كذلك في مقام البيان دليل على ما حقّقناه.

وأيضاً الأصل في فعلهم في الصلاة إلّا تجوز مخالفته إلّا بدليل.

وممّا يؤيّده أيضاً ما رواه عاصم بن حميد في أصله المشهور عن عمرو بن أبي نصر : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : المؤذّن يؤذّن وهو على غير وضوء؟ قال : « نعم ، ولا يقيم إلّا وهو على وضوء ». قلت : يؤذّن وهو جالس؟ قال : « نعم ، ولا يقيم إلّا وهو قائم » (5).

وقد صرّح الشيخ محمّد ابن الشيخ أحمد الدرازيّ بصحّة هذا الخبر.

وما رواه البزنطيّ عن أبي الحسن عليه السلام قال : « يؤذّن الرجل وهو جالس ولا يقيم إلّا وهو قائم ، وتؤذّن وأنت راكب ولا تقيم إلّا وأنت على الأرض » (6).

وما رواه سليمان بن صالح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا يقم أحدكم الصلاة وهو ماشٍ ،

ص: 388


1- في المخطوط : ( البرء ).
2- في المخطوط : ( الإضجاع ).
3- في المخطوط : ( الواجب ).
4- عوالي اللآلي 1 : 198 / 8 ، صحيح البخاري 1 : 226 / 605.
5- عنه في بحار الأنوار 81 : 119 / 18.
6- الكافي 3 : 305 / 16 ، وسائل الشيعة 5 : 402 ، أبواب الأذان ، ب 13 ، ذيل ح 6.

ولا راكب ولا مضطجع إلّا أن يكون مريضاً ، وليتمكّن في الإقامة كما يتمكّن في الصلاة » (1) الخبر.

فإذا ثبت هذا في الإقامة وهي من مستحبّات الصلاة الخارجة عنها فثبوته في مستحبّاتها الداخلة أولى ، لا أقلّ من المساواة ؛ لاتّحاد طريق المأخذ. بل ما قدّمناه من الأدلّة يثبت طريق الأولويّة هنا ؛ فإنّ الإقامة كمندوب من المندوبات الداخلة ، كما يظهر من الأخبار ، وإنّما لحقها من أجل شبهها بها ، فكيف بها نفسها.

ويؤيّده أيضاً أنّ جملة من العلماء يذكرون القنوت والستّ الافتتاحيّات من مستحبّات القيام ، ومقتضاه أنه لا يكون افتتاح ولا قنوت من جلوس اختياراً ، بل هي تابعة للقيام ، وبدله مع [ العجز (2) ] عنه ، فلا تكون من جلوس إلّا مع العجز عن القيام ، ولا تكون مع الاضطجاع إلّا مع العجز عن الجلوس.

واعلم أن هذا كلّه جارٍ في الجلوس المندوب حال الإتيان بمندوبات الجلوس ، فلا يجوز فعله من قيام ولا مضطجعاً اختياراً ؛ لما ذكر كلّه من مخالفة الكيفيّة المعهودة من الشارع ، وخروجه عن أفعال الصلاة ، وغير ذلك. ولم يرد دليل على جوازه ؛ فهو مبطل.

ص: 389


1- الكافي 3 : 306 / 21 ، وسائل الشيعة 5 : 404 ، أبواب الأذان ، ب 13 ، ح 12 ، وفيهما : « لا يقيم » بدل : « لا يقم ».
2- في المخطوط : ( الجفر ).

ص: 390

[121] كلمة جامعة وحكمة لامعة : « عند الامتحان يكرم المرء أو يهان »

من كلام مولى الخلائق بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الّتي جمعها الآمديّ في درره قوله صلوات اللّه وسلامه عليه - : « عند الامتحان يكرم المرء أو يهان » (1). وهي من جوامع الكلم.

فإن قلت : مقتضى الظاهر أن استحقاق الإكرام أو الإهانة إنّما هو بعد ظهور ما يوجب أحدهما ، وذلك إنّما يتحقّق بعد الامتحان.

قلت وباللّه المستعان - : كما تكون قبل ، تكون بعد ، فيحتمل أنه سلام اللّه عليه أراد : العنديّة البعديّة ، أي أن المرء يستحقّ الإكرام أو الإهانة بعد أن يمتحن ويختبر ؛ هل هو من أهل هذا ، أو هذا بلا فصل؟

ويحتمل أنه عليه سلام اللّه أراد : العنديّة القبليّة على معنى أنه إذا أُريد امتحان امرئ ، أو استنطاق صامت طباعه ، أُكرم ؛ ليظهر شكره أو كفره ، أو اهين ؛ ليظهر صبره ورضاه أو سخطه للقضاء ، فهو مبتلىً بالخير والشرّ ، ومفتون بهما ، ليظهر أنه مستحقّ للثواب أو العقاب. وفي هذا حثّ على الشكر والصبر والرضا بالقضاء ، وأمر للممتحن بهما بألّا يقنط الممتحن بالشرّ من رَوح اللّه ، ولا يأمن الممتحن بالخير من مكر اللّه ، وبيان لما وعد اللّه به الشاكرين من الثواب وتوعّد به الكافرين من العقاب.

ص: 391


1- غرر الحكم ودرر الكلم : 454 / 7.

ويحتمل إرادتهما معاً على معنى أن المرء ممتحن [ بالإكرام (1) ] أو الإهانة ، ومجاز بعدُ بما يظهر منه من الكفر والشكر والصبر والرضا والسخط ، فما أجمعها من كلمة لمكارم الأخلاق!.

ص: 392


1- في المخطوط : ( الكرام ).

[122] حكمة يمانيّة في خاصّة إنسانيّة : الإنسان ناطق

أطبق أهل اللسان والميزان [ على ] أن ( الناطق ) فصل الإنسان المميّز له عن سائر الحيوان. وهذا كلام مجمل يحتاج إلى بيان ؛ فإن أُريد : أن الناطق خاصّة مساوية للإنسان ، ورد عليهم مشاركة الملك ، بل والفلك ، والجانّ ، فإنّهم فسّروا الناطق بالمدرك للكلّيّات (1) ، ولا ريب أن من ذُكر كلّهم يدرك ولو كلّيّاً واحداً.

ونحن نقول وباللّه المستعان - : الفصل هو الصورة التي يدور عليها الاسم ، وتتحقّق بها الماهيّة. ولا ريب أن الناطق فصل الإنسان المميّز له من الأكوان ، فهو مساوٍ له ، ومعناه : أن الإنسان من بين الخلائق له قابليّة النطق ، أي مخاطبة جميع أهل درجات الوجود.

فحقيقة الناطق بالفعل من لا يزال ناطقاً أبداً. وكيف لا يكون كذلك ، وهو المخلوق أوّلاً وبالذات من قول ( كُنْ ) (2)؟ فهو الذي قبلها بكمالها وحقيقتها ، وما سواه فمن فاضله ، فهو مجبول على تلك الحركة. كيف لا ، وقد عرفت أن الرحمن بلطيف حكمته ركّب في قوى الإنسان وطبيعته بل في كونه الأول قوّة النطق ب- ( بَلى ) (3) في الذرّ الأوّل وب- ( بلى ) و ( لا ) (4) في الثاني ، وهداهم النجدين (5) هناك.

ص: 393


1- الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة 9 : 19.
2- البقرة : 117 ، آل عمران : 47 ، 59 ، الأنعام : 73 ، النحل : 40 : مريم : 25 ، يس : 82 ، غافر : 68.
3- الأعراف : 172.
4- إشارة إلى قوله تعالى : ( إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) . الإنسان : 3.
5- إشارة إلى قوله جل من قائل ( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) . البلد : 10.

فالإنسان دائماً أبداً ؛ إمّا مناجٍ ربّه ، أو نفسه الأمّارة والشيطان ، أو الخلق في كلّ طبقة من درج وجوده ، بدءاً وعوداً ، إلّا إنه في كلّ مقام وصقع ينطق بلسان سكّانه ولغتهم ، لا يسكت عنه حتّى ينتقل منه ويسافر إلى غيره بعد استعداده لمعرفة لسانهم والنطق بلغتهم ، فيكون له لسان من نوع ألسنتهم ، ونطق يشبه نطقهم ، ويعرف لغتهم.

فالحقيقة الإنسانية بما هي إنسانية قد علمت الأسماء كلّها ، فهو أبداً ناطق [ بلغة (1) ] صامت عن اخرى ، فلو سكت لسانه اللحمي فهو ناطق بلسانه الفكري أو الوهمي. وهكذا في رتب وجوده وكمالاته وحواسه ، حتّى ربّما كان متكلّماً بحواسّه الظاهرة بما يناسب كلّاً منها من النطق واللسان.

فكلّه ناطق ؛ إمّا بالفعل أو القوّة القريبة أو البعيدة ، فليس في جميع الموجودات من هو كذلك غيره ، وإن لم يخل شي ء منها من شي ء من فاضل كمالاته ؛ إذ ليس من صنع الحي القيّوم موات من كلّ وجه ؛ لأنه كالغيث. على أن الفرد الكامل من الإنسان ناطق أبداً بكلّ لسان بالفعل. وقد ثبت بالنص (2) والبرهان أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان يقرأ ويكتب بكلّ لسان كليّة كاملة شاملة ، [ وكلّما (3) ] نطق سواه بلسان صمَت عن آخر. وحقيقة العزل أن تصمت عن كلّ ما سوى اللّه لله ، ولا تنطق إلّا عن اللّه مخلصاً.

فظهر بهذا أن الناطقية فصل الإنسان ، فإن أراد أهل اللسان والميزان بإدراك الكليات : هذا فنعم ما قالوا ، وإلّا ورد عليهم ما ذكرناه. والظاهر أنّهم إنّما أرادوا أن الإنسان امتاز وتشخّص في أصل وجوده بقابلية إدراك جميع الكليّات ، حتّى كلّي نفسه ف- « من عرف نفسه عرف ربّه » (4) وليس من هو بهذه المنزلة سواه ، فلا نقض ولا منافاة ، فتأمّل ، وأحسن كما أحسن اللّه إليك بنطقك ، واللّه العالم.

ص: 394


1- في المخطوط : ( بلغت ).
2- بصائر الدرجات : 225 - 227.
3- في المخطوط : ( وكلمن ).
4- بحار الأنوار 58 : 99.

[123] جمع شتات في حكم من أحكام الأموات : مسألة نقل الأموات

ورد في الأخبار (1) أن لله عزّ اسمه ملائكةً ينقلون الأموات من دار إلى [ دار ].

وورد أن طينة ابن آدم : التي خلق منها جسده مستديرة ، وهي تحجب الذنب (2).

ويمكن الجمع بينهما أن المراد بالأوّل : تنقّل جسده المثاليّ في مراتب المثال من رتبة إلى رتبة ومن مثال بقعة إلى مثال اخرى ، فكلّما تكلّس وصفا نقل إلى رتبة اخرى ، فالسعيد صاعد في مراتب جنان المثال ، والشقي نازل في دركات نيرانه ، بحسب خلوص كلّ منهما وصفائه من شوب خلط الآخر ومزجه به. وأن المراد بالثاني : بقاء طينة جسده مستديرة في قبرها و [ مادّتها (3) ] ومبدئها الذي قبضت منه ؛ ولذا حكمت الأخبار المستفيضة المضمون أن المكان الذي يدفن فيه الجسد هو قبره الذي [ يستدار (4) ] فيه (5) ، وعلى ذلك إجماع البشر فتوًى وعملاً ، فلا تدافع ، واللّه العالم.

ص: 395


1- الكافي 3 : 243 / 1 ، 2.
2- بحار الأنوار 7 : 43 / 21.
3- في المخطوط : ( مادها ).
4- في المخطوط : ( بسترار ).
5- انظر الهامش : 2 أعلاه.

ص: 396

[124] كشف التباس ونفي بأس : معنى التفضيل

بسم اللّه الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على محمّد : وآله الطيّبين الطاهرين.

مسألة : كيف يصحّ التعبير باسم التفضيل في أسمائه تعالى فيقال : أحسن الخالقين ، وأكرم المعطين ، وأرحم الراحمين ، وما أشبه ذلك ، واسم التفضيل يقتضي المشاركة ، وتعالى اللّه عن الشبه؟

والجواب وباللّه المستعان من وجهين :

الأول ، وهو يحتاج إلى تقديم مقدّمة هي أن ذاتيّات الشي ء الشخصيّ ، وذاتيّات ذاتيّاته ، ولوازم الكلّ وجميع صفاته ، ولو كانت بالعرض سواء ، كانت جنسيّة أو نوعيّة أو شخصيّة لا يشاركه فيها شخص آخر ، وكذلك صفات الأنواع وذاتيّاتها ولوازمها لا يشارك نوع منها نوعاً آخر ، ولا شخص منها شخصاً آخر ، من حيث هي منسوبة لذلك الشخص أو ذلك النوع. فإنسانيّة زيد مثلاً من حيث هي إنسانية زيد لا تكون لعمرو ، وكذا ناطقيّته وحيوانيّته وعالميّته وسامعيّته إلى غير ذلك من صفاته وخواصّه وذاتيّاته ولوازمه لا تكون لشخص غيره في الوجود وإلّا لزم ؛ إمّا اتّحاد الذاتين ، أو صحّة تعدّد المعلول لعلّةٍ واحدة من حيث هي واحدة. وقد برهن على أنه لا يجوز.

ص: 397

وعلى هذا قياس أحوال الأنواع في مرتبة نوعيّتها ، فحيوانيّة الإنسان لا يشاركه فيها نوع آخر من الحيوان.

ومن هنا يتبيّن صحّة القول بأنّ كلّ لازم مساوٍ لملزومه ؛ إذ ما يوجد في الغير ليس على الحقيقة بلازم. فالحركة بالإرادة ليست في الحقيقة لازم الإنسان من حيث هو إنسان ، بل من حيث هو حيوان. فإذن هي في الحقيقة لازم الحيوان وهو مساوٍ ، وعلى هذا فقس.

وإن كان أكثر أهل الميزان (1) يطلقون على هذا أنه لازم أعمّ ، ويقسّمون اللوازم إلى مساوٍ وأعمّ ، ويعنون بالأعمّ لازم بعض ذاتيّات الحقيقة ، وبالمساوي لازمها من حيث هي. فإطلاقهم أن الحركة بالإرادة لازم الإنسان كأنّه من باب المجاز ، ولا منافاة بين القولين.

هذا كلّه باعتبار المصدوق ، وواقع نفس الأمر ، والحقيقة الوجوديّة باعتبار خارج الذهن. أمّا باعتبار مفاهيم الألفاظ ووجودات معانيها ذهناً التي اقتضتها مميّزات الأنواع ومشخّصات نوعيّتها في مرتبتها ، وهي التي تتحقّق وتتقوّم بها في عمومها وكلّيّتها. وهي الوجودات العامّة باعتبار وجودها الذهني الذي به يتحقّق عمومها وكلّيّتها ، فهو كالمادّة المطلقة المرسلة الصرفة لجزئيّاتها وإن كان لا يتحقّق الحكم بأنّها مادّة لهذا الجزئيّ إلّا بلحوق صورته الشخصية المختصّة به ، فبها قوام وجود النوع في الخارجيّ.

والمفهوم الذهنيّ هو المنقسم إلى الكلّيّ والجزئيّ ، والنوع والجنس ، وهو بنظر آخر بمثابة الوجود العامّ الساري في طبيعة كلّ شي ء يصدق عليه الإيجاد ، ولكن لا يظهر ويتحقّق في شخص إلّا بحسب ما يناسبه ويقبله بالاختيار ، وهو قسطه الّذي لا يليق بغيره.

هذا ، ومراتب وجود الأجناس والأنواع والأشخاص متفاضلة في نفسها

ص: 398


1- انظر التعريفات : 83.

بالأشديّة والأشرفيّة والعليّة والمعلوليّة والأقربيّة لمبدإ الكلّ وغير ذلك. بل المرتبة الواحدة من مراتب قوسي البدء والعود متفاضلة الدرجات والأجزاء بأبعد ممّا بين السماء والأرض ، مع كلّ جزء ودرجة ورتبة ، لا تشاركها الأُخرى في سنخ حقيقتها ولوازمها وصفاتها وأحكامها. وكيف يشارك الظاهرَ المظهَرُ والعلّةَ المعلولُ والأصلَ والصفوةَ الفاضلُ وذا الظلّ ظلُّه؟ ومتى كانت الذات فاضل الذات ، كانت صفاتها ولوازمها وأحكامها فاضل صفاتها ولوازمها وأحكامها.

وبهذا يتبيّن أنّه يحرم حمل أحكام أحد الرتبتين على الأُخرى ، [ فحمل (1) ] أحكام العليا على ما دونها تكليف بما لا يطاق ، وحمل أحكام الدنيا على العليا يستلزم نسبة التقصير ، بل الذنب الّذي يجب الاستغفار منه ، كما دلّ عليه الاعتبار (2) ، والأخبار.

إذا تبيّن هذا ظهر أن معنى ما أطبق عليه أهل اللسان والبيان من إثبات أسماء التفضيل ، إنّما هو على معنى أن المفهوم الذهنيّ الذي لا يأبى الشركة والانطباق على جزئيّات وإن كان بحسب ما ينسب لكلّ منها يباين الآخر فعليّةً ورتبة وغير ذلك كأعلم وأقدر وأحسن مثلاً إنّما هو على معنى أن قادريّة زيد وعالميّته مثلاً أشدّ فعلية وشرفاً وأعلى رتبة من عالميّة [ عمرو (3) ] وقادريّته.

فالاشتراك إنّما هو باعتبار المفهوم الذهنيّ العامّ الذي منه نشأ صحّة التفضيل والاختصاص والتمايز بحسب الرتبة في نفسها نوعاً أو شخصاً ، فاشتركت في

ص: 399


1- في المخطوط : ( كحمل ).
2- هو مقام ( حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ) كشف الخفاء 1 : 357 / 1137 فالنبي لمّا كان أعلى شرفاً ورتبة من بني جنسه خصّه اللّه بأحكام لم يخصّ بها أحداً من خلقه ، وسوّغ له ما لم يسوّغ لأحد من خلقه كوجوب صلاة الليل ، وجواز الزواج بأكثر من أربع ، فترك صلاة الليل في حقه ذنب تنزّه صلى اللّه عليه وآله عن ذلك يوجب الاستغفار. انظر : تهذيب الأحكام 2 : 242 / 959، وسائل الشيعة 4 : 68 ، أبواب أعداد الفرائض ، ب 16 ، ح 6. وانظر العنوان : 146 في عبارة القاضي إلا من ظلم والعنوان : 130 من هذه الرسالة.
3- في المخطوط : ( زيد ).

مفهوم عامّ بحسب ملاحظة العقل تحليل الأشخاص إلى مشخّصاتها وأنواعها وأجناسها حتى تنتهي إلى الهيولى الكلّيّة ، التي توجد فيها الشخصيّات بالإمكان المحض والقابليّة المحضة.

وهذه بمثابة مفهوم الوجود العامّ لكلّ موجد ، مع أن الوجودات الجزئيّة متباينة متفاضلة فيه إذا لاحظ العقل أقساطها منه لقبوله الشدّة والضعف في كماله وفعليّته وشرفه ، وهو ينبوع صحّة التفضيل وإن اختصّ كلّ برتبة ، لا أن معنى التفضيل أن زيداً يشارك عمراً في حقيقة عالميّته وقادريّته ورتبتهما في أنفسهما وقسطهما بحسب قابليّتهما من الرحمة العامة والخاصّة ، لثبوت التمايز بينهما ، بل التباين بوجه وعدم الاشتراك ، بل على معنى أن المفهوم من العالميّة [ أن ] قسط زيد منها أشرف وأكمل وأشدّ فعليةً من قسط عمرو منها. فصحّ التفضيل وصحّ عدم المشاركة.

فمحمّد صلى اللّه عليه وآله : أشرف الخلق في كلّ كمال وإن لم يشاركه أحد في وصفه وشرفه لاختصاصه صلى اللّه عليه وآله بتلك الرتبة التي لا يدانيه فيها أحد من الخلق. هذا كلّه باعتبار نسبة الممكنات بعضها إلى بعضٍ.

أما بالنسبة إلى صفات الباري جلّ اسمه فعدم المشاركة أظهر ، كما دلّت عليه براهين التوحيد من أنه الواحد الأحد ليس كمثله شي ء ، ذاتاً وصفةً ، وإنّما الاشتراك في مجرّد الحروف المعبّر بها على عالم وقادر مثلاً ، لتضيّق ساحة الحروف والعبارات واضطرار الخلق إلى وصف بارئهم بصفات الكمال ، وأن يدعوه بأسمائه الحسنى ، ولم يجدوا عبارة عن ذلك إلّا ما عبّروا به عن أمثالهم ، وليفرّقوا بين الكمال والجلال اختياراً ، ويتمكّن بعضهم من تعليم بعضٍ ، و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) .

فأذن لهم برحمته أن يعبّروا عن أسمائه وصفاته بالحروف التي علّمهم إيّاها وعبّروا بها عن أسمائهم ، فقد جمع الاسم واختلف المعنى ، فمعنى اللّه أعلم وأقدر : أن علمه وقدرته فوق الكمال بما لا يتناهى ولا يدرك ، بل فات هواجس العقول ، بحيث علمت العقول أنه لا يشبهه شي ء ، وعلى هذا فقس.

ص: 400

الوجه الثاني : جريان التفضيل بما سبق ، لكن باعتبار اسمه الأعظم الذي هو غير ذاته ، وهو الجامع لباقي الأسماء والصفات ، فجرى التفضيل في سائر الأسماء والصفات من ذلك الاسم المكنون المخزون ، الذي استأثر اللّه به في علم الغيب عنده ، فلا يعلمه إلّا هو في مقام أنه هو ، وهو في ذاته ليس هو ، وهو الوجود المطلق. فصحّ التفضيل باعتبار هذا المقام ، لا باعتبار الذات المقدّسة عن إطلاق الصفات.

فالتفضيل على نحو ما سبق من معنى أفضلية محمَّد صلى اللّه عليه وآله : على جميع من خلق اللّه دونه.

فعلى هذا إذا قلت : اللّه أحسن الخالقين مثلاً ، كأنّك قلت : اسمه الأعظم المشار إليه أحسن الخالقين ؛ لأنه لا يعرف اللّه إلّا بسبيل معرفته. أمّا الذات المقدّسة عمّا يصف الواصفون ، فلا توصف بحال ولا تضرب لها الأمثال ، حتّى يجري إطلاق التفضيل هناك ؛ لأنه فرع الوصف بما له مفهوم في الجملة. فسبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 401

ص: 402

[125] إظهار نور وماء طهور : الماء المصعّد من الماء

مسألة : هل الماء المستخرج بالتصعيد من الماء المطلق مطلق أم مضاف؟

وجهان : للأوّل إطلاق عبائر الفقهاء (1) في تعريف المضاف بأنه الذي لا يصلح إطلاق الماء عليه [ مجرّداً ] عن الإضافة ، ولا يتميّز عن المطلق بدونها ، كماء الورد وماء الزعفران وشبههما ، وجعلوه العلّة في تسميته مضافاً. والمتبادر من هذا أن المضاف غير الماء المطلق ، مع أن مطلق الإضافة التغاير بين المتضايفين حقيقةً ، ولا مميّز ظاهراً بين الماء وما يصعّد منه حقيقة.

وماء الماء ، وإن صحّ فهو من قبيل ماء المطر ، وماء البحر وماء البئر وشبهه ، ولا يضاف هذا المصعد من الماء إلى غير الماء المطلق. ونمنع انحصار المطلق في النابع من الأرض والنازل من السحاب حسّا. فالصقيع ، وما نبع من بين أصابع الرسول صلى اللّه عليه وآله (2) : وما نبع بكربلاء من خاتم الحسين : عليه السلام (3) ، ومن النهر الذي شقّه من ظهره (4) ، إذا قلنا : إنهما محسوسان ، ماء بلا شكّ. ولا نسلّم أن كلّ ما أصله بخار صاعد أو نازل ماء مضاف ، فالصقيع ماء مطلق بلا شكّ ، وهو كذلك ، بل والمطر أصله كذلك.

وللثاني إطلاق عبائرهم في تعريف المضاف أنه الماء المعتصر من الأجسام أو المخالط لها مخالطة تسلبه إطلاق الإطلاق عليه عرفاً ، مع تصريحهم في المعتصر

ص: 403


1- قواعد الأحكام 1 : 185 ، المدارك 1 : 110 ، الحدائق الناضرة 1 : 391.
2- بحار الأنوار 18 : 38 - 39.
3- مدينة معاجز الأئمّة 3 : 496 / 497 / 1010.
4- مدينة معاجز الأئمّة 3 : 495 - 496 / 1009 وفيه أنه عليه السلام شقّه خلف ظهره.

بعدم الفرق بين المستخرج بالشدخ والمرس وشبههما ، وبين المستخرج بالتصعيد بالقرع والإنبيق ، فإنّه أيضاً معتصر من جسم فيدخل فيه المصعد من الماء المطلق ، فهو إذن مضاف ؛ لأنه مصعّد من جسم.

ويؤيّده أنه مساوٍ للمياه المصعّدة في صحّة إطلاق اسم العرق عليه. ونمنع صحّة إطلاق اسم الماء عليه بالإطلاق ، بل يقال : عرق الماء أو ماء الماء كماء الورد ، فيصحّ سلب الماء على الإطلاق عنه ، فيقال : ليس هذا بماء ، بل عرق ماء أو ماء ماء.

ولعلّ الأوّل أرجح ؛ لما ذكر ، أمّا إطلاق العبائر بأنه المعتصر من الأجسام ، فالظاهر منها والمتبادر إرادة الأجسام التي ليست بماء مطلق. ولو أُريد منها ما يشمل الماء المطلق لنبّهوا عليه ؛ لأنه فرد خفيّ جدّاً لا ينصرف الإطلاق ولا تتبادر الأذهان إليه ، وللزم سلب اسم الإطلاق عن ماء بحر وماء فرات مُزجا مزجاً يغيّر أحدهما إلى طعم الآخر أو لونه أو ريحه ، حيث قالوا في تعريف المضاف : إنه المصعّد من جسم أو المخالط له كذلك. وأيضاً فالظاهر أن المصعّد من المطلق لو أُضيف إلى المطلق غير المصعّد لم يسلبه اسم الإطلاق عرفاً وإن زاد قدره عليه.

وأمّا مساواته لغيره من المصعّدات في صحّة إطلاق العرق عليه فلا نسلّم أنّها تخرجه عن صحّة إطلاق المطلق عليه لغة وعرفاً. ولا نسلّم أن كلّ ماء أصله بخار يصحّ سلب إطلاق المطلق عليه عرفاً أو لغة ، بل ولا شرعاً ؛ لعدم الدليل عليه ، فهذا الصقيع أصله بخار [ استحال (1) ] ماءً ، بل والمطر أيضاً كذلك. بل لو قال قائل : إن كلّ ماء ينتفع به البشر في الأرض أصله بخار قد [ استحال (2) ] ماءً ، لصدق.

فظهر ضعف صحّة سلب الماء عنه على الإطلاق وكذا تسميته عرفاً ماءً ، فإنّها ممنوعة على الإطلاق. هذا ، وللتوقّف مجال ، والأخذ بالاحتياط ويقين البراءة في العبادات مطلوب ، بل واجب مهما أمكن ، واللّه العالم.

ص: 404


1- في المخطوط : ( احتال ).
2- في المخطوط : ( احتال ).

[126] نور فقهيّ وبيان جليّ هل تعود ولاية الأب على الراشد بعد ذهاب عقله

مسألة : لو جنّ البالغ الرشيد ، أو سفه بعد رشده وبلوغه ، فهل تعود ولاية الأب والجدّ له عليه أم لا؟ قولان : أظهرهما وأشهرهما أنّها تعود. وهو مختار العلّامة : في ( التذكرة ) (1) و ( التحرير ) (2) في الجنون ، واستقربه الفاضل في ( كشف اللثام ) ، قال رحمه اللّه : ( أمّا إنْ تجدّد الجنون بعد البلوغ ، ففي عود ولايتهما يعني : الأب والجد له نظر.

وفي ( التذكرة ) و ( التحرير ) أنّها تعود ، وهو الأقرب ، بل لا عود حقيقة ؛ لأن ولايتهما ذاتيّة منوطة بإشفاقهما وتضرّرهما بما يتضرّر به الولد ) (3) ، انتهى.

وهو من الحسن بمكان ؛ إذ لا شكّ أن العلّة في ثبوت ولاية الأب والجدّ له على الولد القاصر عن درجة البلوغ والرشد ، هو الأُبوّة الذاتيّة المتحقّقة بالتوالد الصوريّ مع قصور المولى عليه عن كمال رشده ومعرفة صلاحه. فإذا كانت ذاتيّة ، فهي لا تزول ، بل هي بمثابة العلّة للبنوّة ، فلازمها تكميل المعلول وتدبيره وتعليمه ، وهي متحقّقة حال الجنون الطارئ بعد البلوغ والرشد. وإنّما منع من ظهورها فعليّة عقل المولى عليه ورشده المتحقّقة ببلوغه ، فيتحقّق معلولها وقعود صفة طفوليّة الابن

ص: 405


1- تذكرة الفقهاء 2 : 587 ( حجري ).
2- تحرير الأحكام 2 : 8 ( حجري ).
3- كشف اللثام 2 : 15 ( حجري ).

فيعود تدبير الأب وتربيته كما كان أوّلاً.

ومن أجل ذلك لم يكن للحاكم ولاية على الصغير ولا على من اتّصل قصوره ببلوغه ، واستمرّ مع وجود الأب والجدّ له ، وإن كانا فاسقين ، ما لم يكونا سفيهين ، فإنّ الحاكم حينئذٍ وليّ عليهما فيما تحت سلطنتهما ، فلا يثبت لهما حينئذٍ ولاية على شي ء في أنفسهما ولا في غيرهما.

وأيضاً أنت إذا تأمّلت جميع موارد ما تسقط به ولايتهما ، وجدتها تعود بعد زوال المانع بلا خلاف يظهر فيما سوى المسألة المبحوث عنها ، كما لو منع من ولايتهما جنون أو إغماء طويل أو سفه أو كفر أو رِقّ لهما أو للولد أو إحرام منهما أو من الولد في التزويج. وما ذاك كلّه إلّا لأنّ ولايتهما ذاتيّة هي من لزوم الأُبوّة الذاتيّة.

والفرق بين هذه الموارد كلّها وبين المبحوث عنها غير معقول ، ولا دليل عليه. فما قيل من أن ولايتهما في المبحوث عنها عُدمت بالبلوغ والرشد ، وفيما سواها لم تُعدم ، وإنّما حال بينها وبين الظهور حجاب غير معقول ، لا دليل عليه ، بل حجاب البلوغ والرشد من المولى عليه أرقّ وأصفى من حجاب ذهاب عقل الوليّ ؛ لبقاء متعلّق تدبيره وتكليفه كما يشهد له قول جماعة ببقاء ولايته في النكاح مستقلا (1) أو مشتركاً بينها وبينه (2). ويؤنس به الإجماع على رجحان عدم خروجها عن رأيه وما يختاره ، كما تشهد به الأخبار المتكثرة (3).

وبالجملة ، فلا دليل على الفرق بين تلك الموارد ، بل ينبوعها واحد ، فالفرق تحكم.

فإن قلت : دليل الفرق أنه لا خلاف يظهر في عودها بعد زوال المسقط المانع في ما عدا محلّ النزاع.

قلت : إذا تمّ الإجماع في غير محلّ النزاع ، فهو مؤيّد للقول بعودها في محلّ

ص: 406


1- الفقيه 3 : 250 / 251 / ذيل الحديث : 1193 ، النهاية ( الطوسيّ ) : 464 - 465.
2- الكافي في الفقه : 292.
3- انظر وسائل الشيعة 20 : 284 - 286 ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ب 9.

النزاع ، بل دليل كما قد لاح لك من وجوه دلالته ؛ فإنّه يدلّ على أن ولايتهما عليه لازم لُابوّتهما وبنوّته ما لم يمنع من ظهور فعليّتها مانع. وأُبوّتهما وبنوّته لازمتان لذاتيّهما مدّة الحياة.

فمتى تحقّقتا تحقّقت الولاية الذاتيّة التي مناطها الشفقة الذاتيّة بجهة المصدريّة والبعضيّة ، ما لم يمنع من ظهور فعليّتها مانع. فحال المانع هي بالقوّة القريبة من الفعل في طباع الأُبوّة والبنوّة ، وغريزة لهما بالذات أبداً ، بل إذا تأمّلت وجدت السرّ في تضايف الأُبوّة والبنوّة ، ولاية الأُبوّة على البنوّة وقاهريّتها لها وتابعيّة [ البنوّة للُابوّة (1) ] بحسب طباع ذلك التضايف. فالأب من حيث هو أب أولى إذن بالابن من حيث هو ابن من نفسه.

فمن تأمّل هذا يلوح له وجه لكون النبيّ صلى اللّه عليه وآله والوليّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؛ لأنّهما [ أبواهم (2) ] حقيقةً ؛ لأنّهما أبداً مربّيان ومدبّران للعقول والنفوس ، بل وللأبدان. لكن ذلك بالفعل من كلّ وجه ، إنّما هو في اتّباعهما ؛ إذ الكافر قطع كفرُه علاقةَ بنوّته ومحا نورها من نفسه وإن كان تحت قاهريّتهما أبداً كالمؤمن.

لكن انقهار المؤمن على سبيل الاختيار والإيمان والرضا ، والكافر بطريق القسر ؛ لأنه إنّما [ اختار ] الخروج عن طاعتهما والإنكار لأبوّتهما ولنعمة تربيتهما ، ورضي بذلك ؛ ولذلك قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم » (3) ؛ لأنّ أولويّته بهم بالفعل من كلّ وجه وقد اختارها المؤمنون وسلّموها طوعاً ، بخلاف الكافر فإنّه اختار أن يخرج نفسه عن تلك الأولويّة والتبعيّة بكفره وإدباره عن الحقّ ، فلا تظهر فيه تلك الأولويّة بالفعل في الخارج وظرف الزمان.

وفي ذلك أيضاً من تعظيم المؤمنين وإبعاد الكافرين من تلك الرحمة ما لا يخفى ؛ لأنه خصّ المؤمنين بها فقال : « أولى بالمؤمنين » ولم يقل : أولى بالناس وإن كانوا في

ص: 407


1- في المخطوط : ( الأُبوة للبنوة ).
2- في المخطوط : ( أبواهما ).
3- تفسير العياشي 1 : 15 / 3 ، بحار الأنوار 43 : 141 / 92.

الواقع كذلك ، لكنه بطريق قوله تعالى : ( وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ) (1).

والحاصل أن القول بأنّ ولاية الأب والجدّ له لا تعود بعد زوال الجنون الطارئ بعد البلوغ والرشد يفوح منه ترجيح المرجوح ، وأن البلوغ والرشد رافع لما في الذات في طباع الأُبوّة والبنوّة ، بل ولتحقّقها في الخارج ومزيل للتضايف الذاتيّ بينهما ، وموجب لمباينة كلّ منهما للآخر ومزايلتهما ، والكلّ محال.

وممّن اختار عدم العود الشهيد : واحتجّ عليه في مسالكه (2) بعدم الدليل على عودها ، مع أنه رحمه اللّه استدلّ للقول بعودها بإطلاق النصّ بولايتهما.

ونحن نقول : تلك الإطلاقات كافية في الدلالة على تحقّق ولايتهما حال الجنون الطارئ بعد البلوغ والرشد ، لعدم انحصار الدلالة في الخاصّ بإجماع أهل البيت وأتباعهم بل العلماء. ولا معارض لتلك الإطلاقات والعمومات المؤيّدة بالاعتبار ، فلا معدل عنها ، كعموم قول أبي عبد اللّه عليه السلام : في خبر إبراهيم بن ميمون : « الجارية بين أبويها ليس لها مع أبويها أمر » (3).

ولعلّه أراد : الأب والجدّ له ؛ إذ لا أمر للُامّ إجماعاً ، وعموم قول أحدهما عليهما السلام في خبر محمّد بن مسلم : « لا تستأمر الجارية إذا كانت بين أبويها ، ليس لها مع الأب أمر » (4).

وأمثالهما ممّا يطول نقله ؛ لشمولها محلّ النزاع قطعاً. ولا فرق في ذلك كلّه بين الجنون والسفه لو عرض بعد البلوغ والرشد ثمّ زال ؛ لجريان الأدلّة فيه أيضاً ، ولأنه ضرب من الجنون ، حتّى على القول بتوقّف الحجر على السفيه ، ورفعه عنه على حكم الحاكم ؛ إذ لا ملازمة بوجه بين كون وصفيّة الحجر للحاكم وولايته لأبيه

ص: 408


1- الرعد : 15.
2- مسالك الأفهام 7 : 144.
3- تهذيب الأحكام 7 : 380 / 1536 ، الإستبصار 3 : 235 / 848 ، وسائل الشيعة 20 ، 284 ، أبواب عقد النكاح ، وأولياء العقد ، ب 9 ، ح 3.
4- الكافي 5 : 393 / 2 ، وسائل الشيعة 20 : 273 ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ب 4 ، ح 2.

وجدّه له ؛ إذ لا يستلزم كون وصفيّته له كونه وليّاً عليه بوجه ، ولا تدلّ عليه بشي ء من ضروب الدلالات ، لا منطوقاً بأقسامه ولا مفهوماً بأقسامه ولا فحوًى بأقسامه ، فكثير من تصرّفات الأب في حال الطفل والمجنون والسفيه حال تحقّق ولايته عليهم موقوف على حكم الحاكم كما يظهر بالتأمّل.

وممّا يستأنس به لعودها ما جاء في الخبر من قولهم عليهم السلام : « أنت ومالك لأبيك » (1) ، وشبهه.

فرع : مسألة ولاية جد الأب لأُمة

لا ولاية للأُمّ ولا لإبائها على الولد مطلقاً بحال ما سوى الحضانة والإرضاع بوجه. وهل لأبي أُمّ الأب ولاية على ولد ولد ابنته أم لا؟

وجهان من صدق أنه جدّ لأب ، ومن أنه لا ولاية له على ولد ابنته وهو أب الطفل فأولى بذلك ألّا يكون له ولاية على ولده وهو ولد ولد ابنته ؛ لأنّ ارتفاع [ ولايته ] عن أبيه تدلّ على ارتفاع ولايته عنه بطريق أولى.

ويؤيّد الأوّل إطلاقات الفتوى بولاية الجدّ للأب وإن علا ؛ لشمولها له ، وصدق كونه جدّ الأب في الجملة. والمسألة قويّة الإشكال واللّه الهادي.

ولعلّ الثاني أرجح ؛ لما ذكر ، ولأنّ المتبادر من إطلاق الجدّ للأب لعلّه هو أبو الأب وأبوه وأبوه فصاعداً.

ويؤيّده جعل جماعة ميراث أجداد الأب لُامّه كقرابة الامّ مطلقاً فلهم الثلث ، كما هو الأشهر ، وجماعة : إنّهم يقسمونه بالسويّة ، وأيضاً قال في ( كشف اللثام ) : ( في ( التذكرة ) (2) : الوجه أن جدّ أُمّ [ الأب (3) ] لا ولاية له مع جدّ أبي الأب ، ومع انفراده نظر ) (4) ، انتهى.

ص: 409


1- الكافي 5 : 395 / 3 ، وسائل الشيعة 20 : 290 - 291 ، أبواب عقد النكاح ، ب 11 ، ح 5.
2- تذكرة الفقهاء 2 : 587 ( حجري ).
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( أب ).
4- كشف اللثام 2 : 15 ( حجري ).

ومع تسليم عدم ولايته مع الاجتماع يحتاج ثبوتها مع الانفراد إلى دليل ، ولا دليل.

وأيضاً الأصل عدم ولايته ، فثبوتها يحتاج إلى دليل.

وأيضاً إذا سلّم أنّه ليس له مع جدّ الأب ولاية (1) فمات جدّ الأب ، استصحبنا عدم ولايته. ولا فرق بين هذا الفرض وغيره من حالات وجوده ، فحال انفراده ابتداءً يكون كذلك.

وأيضاً إذا كان ابن بنته وهو أبو الطفل ليس له عليه ولاية ؛ لأنّه جدّه لأُمّه ، فليس له ولاية على ما تحت يده من أطفاله. فإذا مات استصحبنا تلك الحالة ، فتحتاج إلى تجدّد ولاية جدّه لأُمّه على أطفاله إلى دليل ، ولا دليل.

ص: 410


1- في المخطوط : ( ولايته ).

[127] نور فقهيّ وبيان جليّ هل للحاكم ولاية تزويج الصغيرين أم لا؟

مسألة : المشهور بين المتأخّرين أن الحاكم لا ولاية له في تزويج الصغيرين. قالوا : للأصل وعدم حاجتهما للنكاح. وفسّروا الحاكم بالإمام العادل ، أو نائبه الخاصّ ، أو العامّ ومنه الفقيه الجامع لشرائط الفتوى. واتّفقت العصابة على إثبات الولاية له عليهما في المال ، وعلى ثبوت ولايته في المال والنكاح على من بلغ فاسدَ العقل ، أو سفيهاً ، أو تجدّد له ذلك بعد البلوغ والرشد ، وليس له أب ولا جدّ لأب ، واختلفوا في عود ولاية الأب والجدّ له بعد زوالها ، والحقّ عودها كما حقّق في غير هذا المحلّ (1). واستدلّوا على ثبوت ولاية الحاكم في النكاح على من بلغ قاصراً أو تجدّد له ذلك كذلك بأُمور ، منها : أنه وليّه في المال ، فيكون وليّه في النكاح ؛ لأنه من جملة مصالحه.

ومنها : صحيحة ابن سنان : عن الصادق عليه السلام : أنه قال : « الذي بيده عقدة النكاح هو وليّ أمرها » (2) ، ولا فارق بين الذكر والأنُثى.

ومنها : ما عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : أنه قال : « السلطان وليّ من لا وليّ له »(3).

ص: 411


1- انظر العنوان السابق : ( هل تعود ولاية الأب على الراشد بعد ذهاب عقله ).
2- تهذيب الأحكام 7 : 392 / 1570 ، وسائل الشيعة 20 : 282 ، أبواب مقدّمات النكاح ، ب 8 ، ح 2.
3- سنن أبي داود : 2 : 229 / 2083.

ومنها : أنه إن كان الحاكم هو الإمام عليه السلام فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وإن كان الفقيه فهو نائبه ، و [ القائم (1) ] مقامه ، بنصبه له ، والأمر بالرجوع إليه ، فيده يده.

وأقول : هذه الأدلّة كلّها جارية في الصغيرين مثبتة لولاية الحاكم عليهما حتّى في النكاح ، فكما أنه وليٌّ البالغ في المال فهو وليّ الطفل فيه إجماعاً ، فيكون وليّه في النكاح أيضاً كالبالغ. ولا ريب في إمكان وجود مصلحة للطفل في النكاح ، بل ربّما كان البالغ لا ترجى له حاجة في النكاح كالعنّين والخصيّ ومجبوب الذكر ، كلّه بخلاف الطفل ، فإنّه يُرجى له تجدد حاجة في النكاح ، وكما أن الحاكم وليّ أمر البالغ فهو وليّ أمر الطفل ، بل ولايته على أمر الطفل أولى وأوكد ؛ فدخل الطفل في دلالة صحيحة ابن سنان :

ولها مؤيّدات من النصّ (2) وأُصول المذهب ، وصحيح المعقول لا تخفى على الفطن المتتبّع ، والطفل كالبالغ ليس له وليّ ، فالسلطان وليه. والإطلاق يشمل أمر النكاح ، فاستثناؤه من إطلاق ولاية السلطان يحتاج إلى دليل. والإمام عليه السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم ولو كانوا بالغين رشيدين علماء حكماء ، فما ظنّك بالقاصرين خصوصاً الأطفال.

وقد فرضوا أنه لا ولاية له على الأطفال في النكاح. وهذا غريب عجيب ، لظهور مخالفته لأُصول الدين من المعقول الصحيح ، والمنقول الصريح. وإذا ثبت أن له الولاية في تزويج الصغيرين ثبت ولاية نائبه الخاصّ ، أو العامّ ومنه الفقيه الجامع في ذلك ؛ لعدم الفارق بينه وبينه في ذلك.

فالحقّ ثبوت ولاية الحاكم في تزويج الصغيرين ؛ لاقتضاء الأدلّة لعدم الفرق بين الصغير والكبير ، ولقيام الأدلّة الشاملة لهما. والفرق لا دليل عليه سوى الأصل المدّعى ، والأدلّة المتنوّعة ناقلة عنه ومسقطة لاعتباره.

ص: 412


1- في المخطوط : ( قائم ).
2- انظر وسائل الشيعة 26 : 246 - 251 ، أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة ، ب 3.

على أنّا نقول : الأصل ثبوت ولايته في نكاح الصغيرين كغيره من أحوالهما ؛ لأنّ المفروض أنه الإمام ، فالأصل ثبوت ولايته في كلّ شي ء.

وممّا يدلّ عليه ما اشتهر من حديث : « أنا وأنت يا عليّ أبوا هذه الأُمّة » (1).

ولا ريب أنّهما الأبوان الحقيقيان ، فإذا ثبت بالإجماع ولاية الأب الصوريّ في تزويج الصغيرين ، ثبت ولاية الأب الحقيقيّ فيه بطريق أولى. ونائبه في ذلك تابع له.

أمّا أنه لا حاجة للصغيرين في النكاح ، فكلام لا يخفى سقوطه في المقام ؛ لأنّ المدار على المصلحة ، وهي قد تتحقّق فيه للصغيرين ، والوجدان شاهد ، واللّه العالم.

ويمكن الاستدلال على عدم ولاية الحاكم على الطفل في النكاح بما دلّ على أن الصبيّين إذا زوّجهما غير أبيهما أو جدّهما له فهما بالخيار إذا كملا ، وإن مات أحدهما قبل ذلك بطل النكاح ، فلا مهر ولا ميراث ولا عدّة ، وهي أخبار عديدة في ( التهذيب ) (2) و ( الكافي ) (3) و ( الفقيه ) (4). وعليها إجماع العصابة ؛ فلا معارض لها ، بل تضمّنت أن الحكم كذلك وإن زوّجهما وليّان غير الأب والجدّ له وهو شامل للحاكم. ولكن هذا غير جارٍ في ولاية الإمام عليه السلام ، فإنّه أولى بجميع الناس من أنفسهم ، واللّه الهادي. ولم أقف على من [ استند (5) ] على هذا بهذه الأخبار فدخل عليهم الاعتراض ، واللّه العالم.

ص: 413


1- بحار الأنوار 36 : 11 ، وفيه : « يا عليّ ، أنا وأنت أبوا هذه الأُمّة ».
2- تهذيب الأحكام 7 : 388 / 1555.
3- الكافي 7 : 131 - 132 / 1.
4- الفقيه 4 : 227 / 4.
5- في المخطوط : ( أسند ).

ص: 414

[128] جمعُ بيان : مسألة استقرار النطفة في الرحم : كم يوماً

مسألة : الذي يقتضيه البرهان العقليّ وأُصول الحكمة أن النطفة تكون في الرحم نطفةً أربعين يوماً ، ثمّ تصير علقة أربعين يوماً ، ثمّ تصير مضغة أربعين يوماً ، ثمّ عظماً ذا روح فتلجه الروح بعد كمال أربعة أشهر ، كما هو المشهور بين الفقهاء.

والدليل عليه من الاعتبار أن جسد الإنسان الحقيقيّ المستعدّ لقبول إفاضة روح عليه مركّب مجموع من صفو عشر :

طين واحدة من صفو مادّة جسم الأطلس ، وهي المعبّر عنها بما دون أعلى علّيّين في أخبار خلق المؤمن (1).

وواحدة من صفو مادّة المكوكب ، وهكذا إلى سماء الدنيا.

والعاشرة من صفو العناصر الأربعة.

ولا بدّ لكلّ واحدة منها أو لمجموعها باعتبار كلّ واحدة من أربعة أدوار حتّى يتحقّق بروزه في خارج الزمان. فهذه أربعون [ و ] هي التي عبّر عنها بتخمير طينة آدم : عليه السلام أربعين صباحاً ، والأدوار الأربعة المتضمّنة لحلّين وعقدين وتزويجات ثلاثة ؛ لأنّ اللّه سبحانه بكمال حكمته وسعة رحمته بنى الوجود وفطره على كمال الاختيار إيجاداً وتكليفاً رحمةً منه بالخلق ؛ ليطيقوا بلوغ كمال معرفته كلّاً بحسب

ص: 415


1- الكافي 1 : 389 - 390 / 1 - 4 ، 2 : 4 / 4.

وسعه وطاقته الاختيارية ، فلا تطيق النواة أن تحمل رطباً حال كونها نواة اختياراً ، بل بعد أن تكون نخلة.

فلمّا أراد إبراز المكوّنات لينتجها كون الإنسان ، اخترع الحرارة التي حقيقتها صفة حركة الوجود الكونيّة ، أو هي هي ، أو قل : إقبال العقل وإدباره. فلمّا أدار الحرارة التي هي طبيعة الطاعة على نفسها ظهرت البرودة بجهة التضادّ ؛ إذ بوجود الضدّ يكمل ظهور الضدّ ، ومن لا ضدّ له لا تحيط به العقول بوجه. وبوجود العقل وجد الجهل بالعرض. ثمّ أدار الحرارة على البرودة وزوّجها بها ؛ فالحرارة ذكر والبرودة الأُنثى ، واستلزم إدارة البرودة على الحرارة بسرّ المزج. ولأن كلّاً من الزوجين لباس للآخر.

فظهر من النسبتين الرطوبة واليبوسة ، وبذلك يتحقّق دور ثانٍ ، وبه يظهر كون الطبائع الأربع ، وبإدارة بعضها على بعض. ومزج بعضها ببعض [ هو (1) ] إدارة كلّ واحدة منها على الباقين ، فيكمل للحرارة التي هي مادّة الحياة أربعة أدوار ، ومن تزويج الطبائع ومزج بعضها ببعض أربعة أطوار هي الرتب الأربع : المعدن والنبات والحيوان [ والإنسان ].

ومن ثمّ ظهر (2) بهذا الإجمال أنه لا بدّ من أربعة أدوار في كمال تكوّن بدن الإنسان المستعدّ لقبول إفاضة روح الحياة والناطقة الجامعة للأرواح الأربعة ، وهي النفوس الأربع.

فمقابلةُ كلّ دور نفسٌ. ويختصّ المعصوم بخامسة هي أعلى من أعلى علّيّين ، فإذا تمّ لكلّ طينة أربعة أدوار كمل لتخمير طينته أربعين صباحاً هي كمال تخمير طينة آدم عليه السلام :

وكذا النطفة لا تنتقل عن الصورة النطفيّة ، و [ تتحقّق (3) ] بكمال الحقيقة العلقيّة ،

ص: 416


1- في المخطوط : ( هي ).
2- في المخطوط : ( فظهر ).
3- في المخطوط : ( وتحققه ).

وصورتها إلّا بعد أربعين يوماً ، وكذا العلقة هي علقة أربعين يوماً ، ثمّ تصير مضغة أربعين يوماً ، وبعدها تكون عظاماً فيها روح هي مادّة النفس الإنسانية. فلا تزال تشتدّ إلى أوان كمال [ علقته (1) ].

فظهر وجه ما روي أن شارب الخمر لا يرفع له دعاء أربعين صباحاً (2) ؛ لأنه لا تفنى الحقيقة الخمريّة ولوازمها من بدنه إلّا بعد تلك المدّة ، فما ظنّك بحال من شرْبُها ديدنه.

[ وكذا وجه (3) ] ما ورد أن من أخلص لله أربعين صباحاً تفجّرت منه ينابيع الحكمة (4) ؛ لأنه لا يخلص بالإخلاص من شوائب غيره وتتحقّق إخلاص عبوديته إلّا بعد الإخلاص أربعين صباحاً يتخمّر فيها الإخلاص في فطرته.

ويدلّ على أن لكلّ من النطفة والعلقة والمضغة أربعين صباحاً أخبار ، منها : ما في ( الكافي ) عن الباقر عليه السلام : « النطفة تكون بيضاء مثل النخامة الغليظة ، فتمكث في الرحم إذا صارت فيه أربعين يوماً ، ثمّ تصير إلى علقة أربعين يوماً ، ثمّ تصير مضغة لحم حمراء فيها عروق خضر مشتبكة ، ثمّ تصير إلى عظم [ شقّ (5) ] له السمع والبصر ورتّبت جوارحه » (6).

وفيه أيضاً عنه عليه السلام : « إنّ النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً .. ثمّ مضغة أربعين يوماً ، فإذا كمل أربعة أشهر بعث اللّه ملكين خلّاقين فيقولان : ربّ ما نخلق ؛ ذكراً ، أم أُنثى؟ فيؤمران ، فيقولان : شقيّاً أم سعيداً؟ فيؤمران ، فيقولان : ما أجلُه وما رزقُه وكلّ شي ء من حاله؟ .. ويكتبان الميثاق بين عينيه » (7).

وغير ذلك من الأخبار.

ويؤيّده إن لم يدلّ عليه مثل : مرسل أحمد بن محمّد : « إذا تمّ للسقط أربعة أشهر

ص: 417


1- في المخطوط : ( علقة ).
2- بحار الأنوار 76 : 150.
3- في المخطوط : ( كدوحه ).
4- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 69 / 321.
5- من المصدر ، وفي المخطوط : ( ويشقّ ).
6- الكافي : 345 / 10.
7- الكافي 6 : 13 / 3.

غسّل ، وإذا تمّ له ستّة أشهر فهو تامّ » (1).

وعلى هذا مشهور العصابة فتوًى وعملاً. ولا يغسّل إلّا من ولجته الروح ثمّ خرجت ، كما تشير إليه أخبار تعليل غسل الميّت (2).

أما قوله : « وإذا تمّ له ستّة أشهر فهو تامّ » ، فلعلّ معناه : أنه إذا غسّل الميت [ فيعني أنه (3) ] تمت خلقته ، بتمام تحقّق جميع قواه التي لا يمكن أن يعيش بدون تحقّقها بالفعل ؛ من الطبائع الأربع ، وآلاتها ، وجميع القوى من الماسكة والهاضمة والغاذية والدافعة والمعدنيّة والمولدة ، وقوى الحيوانيّة أجمع ، والشهوة ، والغضب ، ونفس المدرج والقوى المدركة العشر ، وغير ذلك ؛ فإنّه قبل بلوغ ستّة أشهر لو سقط لا يمكن بقاؤه ؛ وما ذاك إلّا لعدم وجود جميع القوى التي لا يمكن أن يعيش الّا بها.

وإذا تمّت له ستّة أشهر أمكن أن يتمّ وجود تلك القوى ، فيعيش حينئذٍ.

وقد وجد من ولد لستّة أشهر فعاش. والظاهر أن الأجنّة تختلف في مدّة تحقّق وجود تلك القوى ؛ فلذلك ربّما عاش ابنُ ستّة ومات ابنُ سبعة فأكثر. فأطلق التمام على ابن ستّة لذلك ، وإن كان ذلك التمام ربّما كان بالفعل وربّما كان بالقوّة القريبة من الفعل.

وفي رواية أُخرى عن الصادق عليه السلام : « إذا [ سقط لستة (4) ] أشهر فهو تام ، وذلك أنّ الحسين عليه السلام ولد [ وهو ابن ستة (5) ] أشهر » (6).

وأمّا حديث أبي شبل : المروي في ( من لا يحضره الفقيه ) عن الصادق عليه السلام : أنه سئل عن ذكر الحامل [ توكز ] فيسقط جنينها فلا تدري حيّاً كان أم لا ، فقال : « هيهات

ص: 418


1- تهذيب الأحكام 1 : 328 / 960 ، وسائل الشيعة 2 : 502 ، أبواب غسل الميّت ، ب 12 ، ح 2.
2- وسائل الشيعة 2 : 501 - 503 ، أبواب غسل الميّت ، ب 12.
3- في المخطوط : ( أشهر ) ، والظاهر ما أثبتناه.
4- من المصدر ، وفي المخطوط : ( أسقط الستة ).
5- من المصدر ، وفي المخطوط : ( به لستة ).
6- تهذيب الأحكام 1 : 328 / 959 ، وسائل الشيعة 2 : 502 ، أبواب غسل الميّت ، ب 12 ، ح 3.

يا أبا شبل : إذا تمّت خمسة أشهر فقد صار فيه الحياة ، وقد استوجب الدية » (1) - [ فغير (2) معارض لما سبق ؛ لأنّ الأوّل هو مشهور الفتوى ، ولأنه أكثر رواية ، ولأنه أوفق بالمعقول وبالطبيعي. وإن هذا ليس فيه حصر.

ويمكن أن يراد بالحياة التي تصير فيه بتمام خمسة أشهر : هي النفس الناطقة الإنسانيّة ، وقبلها هو بمنزلة الحيوان وإن كان مستعدّاً لقبول الناطقة ، فباستعداده التامّ لها يثبت على مسقطة بغير حقّ دية الإنسان ، فبعد تحقّقها بكمال الخامس بطريق أولى.

أو لعلّ المراد بها : تركيب عقله فيه ، فمن البشر من خلط عقله بنطفته ، وهم الأقلّون عدداً الذين إذا القي لهم أوّل الكلام فهموا آخره.

ومنهم من ركب عقله فيه بعد تمام خلقته في بطن امّه ، وهم الأكثر الذين إذا القي لهم الكلام بتمامه فهموه.

ومنهم لا يركّب عقله فيه إلّا بعد الولادة.

فالكلّ درجات أيضاً ، فلعلّ الخبر جرى على حال الأكثر ، ونهاية تأخير تركيب عقله فيه كمال خمسة أشهر ، لأنه بعد كمال الخمسة يمكن أن يولد فيعيش مع أنه ممن ركّب [ عقله (3) ] فيه وهو في بطن امّه ، فلا مخالفة في حديث أبي شبل.

وأمّا ما رواه في ( قرب الإسناد ) عن البزنطيّ : أنه سأل الرضا عليه السلام : أن يدعو اللّهَ لامرأته ، فقال عليه السلام : « الدعاء ما لم تمضِ أربعة أشهر » ، ثمّ قال عليه السلام : « إنّ النطفة تكون في الرحم ثلاثين يوماً ، وتكون علقة ثلاثين يوماً ، وتكون مضغة ثلاثين يوماً ، وتكون وغير مخلّقة ثلاثين يوماً ، فإذا تمّت الأربعة الأشهر بعث اللّه إليها ملكين خلّاقين يصوّرانه ويكتبان رزقه وأجله وشقيّاً أو سعيداً » (4) ، فلعلّ معناه أنها تكون نطفة خالصة ثلاثين يوماً ، ثمّ عشرة برزخاً [ علقة

ص: 419


1- الفقيه 4 : 109 / 366 ، باختلاف.
2- في المخطوط : ( غير ).
3- في المخطوط : ( علق له ).
4- قرب الإسناد : 352 - 353 / 1262.

مخلّقة (1) ] ، وهو أقصى مقام البدء في كونها علقة ، ثمّ ثلاثين يوماً علقة خالصة ، ثمّ عشرة برزخاً ، ثمّ مضغة خالصة ثلاثين يوماً ، ثمّ برزخاً بينها وبين العظام التي تلجها الروح عشرة ، فتمّ للبرازخ الثلاثة ثلاثون يوماً ، هي فيها مخلّقة رتبة أعلى ، أو غير مخلّقة ، وتمّ وكمل استعداده لنفخ الروح أربعة أشهر بتمامها ، يظهر [ فيها (2) ] أوّل شعاع الروح والحياة ، فلا منافاة فيه.

ص: 420


1- في المخطوط : ( مخلقة علقة ).
2- في المخطوط : ( فيه ).

[ 129 ] خبر طريف وسرّ منيف مسجد الكوفة أفضل من البيت المعمور

في مزار ( البحار ) عن ( العياشي ) (1) عن الصادق عليه السلام : أنه قال : « مسجد الكوفة أفضل من بيت المعمور » (2) انتهى.

لعلّه أراد به : غيبه باعتبار أنه مصلّى جميع النبيّين فما من نبيّ إلّا وقد صلّى فيه ، أو أراد به : قبر أمير المؤمنين : عليه السلام أو ما يعمّه ؛ لأنّ قبره عليه السلام روح له أو غيبة من ظاهر الكعبة ، واللّه العالم.

ص: 421


1- تفسير العياشي 2 : 302 / 13 ، وفيه أنه عليه السلام سئل عن بيت المقدس فقال سلام اللّه عليه - : « مسجد الكوفة أفضل منه ».
2- بحار الأنوار 97 : 405 / 63 ، وفيه ما في تفسير العياشيّ.

ص: 422

[130] حكمةٌ قدسيّة وكلمة إنسيّة : كراهية الدعاء للدنيا في الصلاة

في ( قرب الإسناد ) عن عليّ بن جعفر : عن أخيه موسى عليه السلام : قال : سألته عن الرجل يقول في صلاته : اللّهم ردّ إلىّ مالي وولدي ، هل يقطع ذلك صلاته؟ قال : « لا يفعل ، ذلك أحبّ إليّ » (1).

قلت وباللّه المستعان - : ظاهر هذا الخبر أن الدعاء للدنيا في أثناء الصلاة مكروه ، وعليه فهو من باب مكروه العبادة ، ففيه أجر ؛ لأنه عبادة وكلّ عبادة لها أجر ، ولكن هذا الظاهر معارض بما استفاض مضمونه من الرخصة في الدعاء حال الصلاة للدين والدنيا ، والآخرة والأولى ، فإنّ اللّه عزّ اسمه ربّ الدنيا والآخرة ومالكهما.

ولعلّ وجه الجمع أن الدعاء للدنيا وذكر المال والولد لا يخلو من شائبة الالتفات لما هو المطلوب منها وتعلّق القلب به في الجملة ، وهذا مرجوح في نفسه بالنسبة إلى كمال الإخلاص ، والتوجّه إلى اللّه ، والإقبال عليه ، والتحقّق بمحض العبوديّة ، والذلّ بها بين يديه ، الذي هو حقيقة الصلاة الجامعة لعبادات جميع الخلق على تباين أصنافها ، لأنّها صفة الوجود الجامعة لجميع صفاته ، وهي التي يتحقّق بها عروج المصلّي وطيرانه في أُفق القدس والرحمة بالأجنحة التي هي ركعات الصلاة ،

ص: 423


1- قرب الإسناد : 194 / 735.

وأجنحة الأتقياء ، فإنّها مثنى وثلاث ورباع.

فلا تنافي بين هذه الكراهة والمرجوحيّة المأخوذة من مقام كمال الإخلاص ، ومرتبة الفؤاد ، وعدمها في مقام آخر ؛ فحسنات الأبرار سيّئات المقرّبين (1). فربّما كان الشي ء مكروهاً في مقام بالنسبة لشخص بل حراماً ، ومستحبّاً في مقام ولشخص آخر بل واجباً. فصاحب الخمس من درج الإيمان لا يطيق حمل التاسعة ويحرم تحميله إيّاها ، وصاحب التسع لا يقبل منه تكاليف صاحب الخمس ، بل ربّما كانت في حقّه ذنباً يستغفر اللّه منه ، واللّه العالم.

ص: 424


1- كشف الخفاء 1 : 357 / 1137 ، ونقل عن ابن عساكر أنه من كلام أبي سعيد الخرّاز ، كما نقل عن الزركشي أنه للجنيد.

[131] بيان إجمال ورزق حلال ( معنيان للرزق الحلال )

محمّد بن أبي نصر : عن الرضا عليه السلام : قال : قلت له : جعلت فداك ادعُ اللّه أن يرزقني حلالاً. قال : « تدري ما الحلال؟ » قلت له : جعلت فداك ، أمّا الذي عندنا فالكسب الطيّب قال : « كان علي بن الحسين : عليهم السلام يقول : الحلال هو قوت المصطفين ، ولكن قل : أسألك من رزقك الواسع ». رواه في ( قرب الإسناد ) (1).

وأقول : هذا بظاهره يعطي المنع أو الكراهية من سؤال الرزق الحلال ، وهذا بظاهره يدفعه ما استفاض في الأخبار والدعوات المأثورة عن الأبرار التي أمروا الناس أن يدعوا اللّه بها (2).

ولعلّ وجه الجمع أن الحلال له في الأخبار معنيان :

الأوّل : ما خلص من شوب سهم الشيطان ، فإنّ له سهماً في مطاعم البشر كما أشارت إليه قصته مع آدم (3) : ومع نوح : عليهما السلام (4) في غرس الكرم أو النخل ، وما ورد في شمّه عنقود العنب مع حوّاء ، وما ورد من مشاركته لهم فيما لم يسمّ عليه من المطاعم والمشارب (5) ، وسهمه في المطاعم الحلال من كلّ مطعم ومشرب قدر خلطه في

ص: 425


1- قرب الإسناد : 380 / 1342.
2- الكافي 2 : 550 - 553 / 1 - 13.
3- الكافي 6 : 393 - 394 / 2 ، قصص الأنبياء ( الجزائري ) : 45.
4- الكافي 6 : 394 / 3.
5- المحاسن 2 : 208 / 1621.

أصل الخلق من الماء المالح ، كما ينبّهك عليه اختلاف قابليّة البشر للمعاصي وللكفران ، فإنّ تلك المطاعم والمشارب مادّة نطفة الكافر والمؤمن ، والبرّ والفاجر ، والطائع والعاصي.

فالحلال الحقيقيّ ما خلص من ذلك المزج بالكلّيّة ، والمعصوم لا يأكل إلّا الحلال بهذا المعنى ، حتّى لو أكل شقّ تمرة وأكل غيره الشقّ الآخر كان ما أكله المعصوم هو الحلال الخالص دون ما سواه. فإنّه ربّما كان مشوباً ، ولا يلزم من خلط جزء السمسمة خلط الجزء الآخر ، ولا من خلوص جزء خلوص جميع الأجزاء ، ولا يتيسّر قوت المعصوم لغيره ، ولا يعرفه إلّا هو ولا يخفى عليه بحال.

الثاني : ما هو المتعارف بين الفقهاء ، وهو الذي عبر عنه السائل بالكسب الطيّب ، وعبّرت عنه الآية الكريمة بقوله عزّ اسمه ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (1) ، وما حرّمه الكتاب والسنة من الطاعم والشارب.

ص: 426


1- البقرة : 188.

[132] كشف وبيان : وجه تقييد الطاعة بالمفترضة في قول الجواد عليه السلام

مسألةٌ : ما فائدة القيد في قول مولانا الجواد صلوات اللّه وتسليماته عليه وعلى آبائه وأبنائه الكرام - : « وبموالاتكم تقبل الطاعة المفترضة » (1) ، فلو أطلق الطاعة لكان أعمّ بحسب بادئ الرأي ، مع أن واقع نفس الأمر أن موالاتهم شرط في قبول جميع الطاعات ؛ واجبها وندبها ، فما فائدة التقييد بالمفترضة؟

والجواب ومن اللّه الهداية لسبيل الصواب وبه العصمة من وجوه :

الأوّل : اعلم أمدّنا اللّه وإيّاك بهدايته أن اللّه عزّ اسمه خلق الوجود المطلق نوراً بحتاً لا يشوبه ظلمة بوجه ، إلّا إنه في ذاته ممكن مخلوق. وهو أوّل فائض من الواجب عزوجل ، وله فواضل نوريّة ، منها ما هو من لوازم ذاته ، وهي أصل جميع التكاليف الواجبة ، ومجمعها وجامعها الكلّيّ ، والعبارة عنه بلا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه : علي أمير المؤمنين : فإنّ جميع التكاليف الواجبة تفاصيل هذه الكلمة التي عبّر بها عن التوحيد والعدل.

ولذلك أطلقت الأمانة تارة على الولاية ، وأُخرى على التكاليف بأجمعها. وأصل التكاليف الذاتيّة أركان الإسلام الخمسة. ثمّ إن لهذه الفرائض نوراً له فاضل وصفات مكمّلات له ومتمّمات يتمّ بها نوره في نفس العامل إذا انقضت فرائضه بما لم يقل

ص: 427


1- تهذيب الأحكام 6 : 100 / 177 ، وهي ضمن الزيارة الجامعة المنسوبة للهادي عليه السلام : وليس للجواد :

بصحّتها. فبها يثبت أصلها ، ويظهر بالفعل للمكلّف ، وتسلّم بها الفرائض ؛ لأنّها حماها ، وهي النوافل والسنن ؛ ولذا ورد أن النوافل متمّمات للفرائض فما نقص منها أُكمل بالنوافل (1).

ومعناه أن العامل إذا لم يأتِ بالفريضة على أكمل أحوالها التي أمر بها الشارع لم يبرز نورها في نفس العامل كمال البروز ؛ فإذا كان ذلك منه على وجه لا يوجب فساد الفريضة وإنّما ينقص فعليّة نوريّتها في نفس العامل وأتى بالنوافل ، أكمل اللّهُ له برحمته وكرمه نوريّة الفريضة بنوريّة النافلة ، وأتمّه له ، فأدرك ثواب الفريضة الكاملة بفعل النافلة ، لا أن الفريضة في نفسها تتحقّق في الخارج ناقصة الذات ، والنافلة تكمل ذاتها ؛ لأنه يلزم من هذا كون النافلة حينئذٍ جزء ذات الفريضة ، وهذا خلف محال ؛ لأنّ عنوان الفرض والنفل ذاتيّ لهما ، وما بالذات لا يزول ، ولا تنقلب الحقائق.

إذا عرفت هذا فاعلم أنه عليه سلام اللّه أشار بالقيد إلى أن الأصل في الطاعة الفريضة ، وأن النافلة تبع لها ، فإذا لم يقبل الأصل لم يقبل الفرع ؛ فنفي الأصل نفي الفرع بطريق أولى. والإطلاق لا يدلّ على هذا كمال الدلالة.

وأيضاً لو أطلق الطاعة عليه السلام لكان ربّما يتطرّق إلى بعض الأوهام احتمال أن الولاية شرط في قبول النفل دون الفرض ، فيكون الفرض تكليفاً ذاتيّاً لا يتوقّف على شي ء خارج ، بخلاف النفل ، فإنّ الوهم لا يعلم أن جميع الفرائض صفات ذاتيّة للولاية الكبرى التي هي الوجود المطلق.

فجميع فرائض الرسالة تفاصيل لَها وجزئيّات منها وفروع عليها باختلاف المقامات.

فلما عبّر عليه السلام بالقيد عُلم أن الولاية شرطٌ لقبول النفل أيضاً ؛ لأنه فرع الفرض وفاضل نوره ، وهي شرط في قبول الأصل بالذات ، وهي شرط في قبول الفرع

ص: 428


1- وسائل الشيعة 4 : 71 - 74 ، أبواب أعداد الفرائض ، ب 17 ، ح 2 ، 3 ، 4 ، 8 ، 12.

بطريق أولى. ففي التقييد دلالة على لزوم الفرض الولاية لذاته ، وإلى تبعيّة النفل له ، بخلاف الإطلاق.

الثاني : لعلّه عليه السلام أراد بالطاعة المفترضة : كلمة ( لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ) ، أعني : الشهادتين [ اللتين (1) ] هما مناط الحكم في مقام ظاهر الرسالة في الإسلام ، وحقن الدماء وعصمة الفروج والأموال. فهما الفريضة الجامعة لكلّ فرض ، والنوافل تبع الفرائض وزيادة في كمالها للعالم العامل ، فأشار عليه السلام إلى أن كلمة الشهادتين لا تقبل إلّا بالولاية ، بل لا وجود لها ولا تتحقّق في مقام من مقامات الوجود إلّا بها ، فإنّ الولاية قطبها الأعظم وجزؤها الأتمّ وسرّها الأعلى.

بل الكلمتان بوجه عبارة عنها ؛ إذ هي باطن النبوّة التي هي باطن الرسالة ، فلا يتحقّق ( لا إله إلّا اللّه ) ولا يقبل ( محمّد (2) رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ) إلّا بالولاية ، فهي ركن التوحيد الأعظم وسرّه الأتم.

الثالث : لعلّه عليه السلام أراد بالطاعة المفترضة : طاعة اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وآله المذكورة في قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (3).

وفي قوله تعالى : ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (4).

وهذه الطاعة المفترضة جامعة لجميع التكاليف ؛ فرضها ونفلها. ففي القيد إشارة إلى تلك الجامعيّة ، فلو ردّ أحد على الرسول صلى اللّه عليه وآله : قوله في فرضٍ أو نفلٍ ما كَفَرَ ولم ينفعه قبوله غيره. فأشار عليه سلام اللّه بالقيد إلى أن هذه الطاعة مفترضة على كلّ حال ، وإن اختلفت جزئيّاتها في عنوان الوجوب والنفل ، وأنّها لا تقبل أي لا تتحقّق إلّا بالولاية ، فلا ينفع نفساً إيمانها بكلّ شي ء ما لم تؤمن بالولاية ؛ لأنّها قلب ما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وآله : ولبّه وأُسّه وسنامه ، فلا تحقّق لشي ء من طاعة اللّه ورسوله ، ولا أخْذ لشي ء ممّا أتى به الرسول صلى اللّه عليه وآله : بدون طاعة اللّه ورسوله في قبول

ص: 429


1- في المخطوط : ( التين ).
2- في المخطوط : ( الا بمحمد ).
3- النساء : 59.
4- الحشر : 7.

الولاية والتسليم لأُولي الأمر وطاعتهم. والإطلاق لا يفيد هذا.

الرابع : لعلّه عليه السلام أراد بالطاعة المفترضة : ما أخذه اللّه على العباد في الذرّ الأوّل والذرّ الثاني من العهد بالإقرار له بالوحدانيّة ، ولمحمّد صلى اللّه عليه وآله : بالرسالة الكبرى الشاملة لجميع رتب الوجود ؛ فإنّها لا تثبت ولا تتحقّق تلك الفريضة المفترضة هناك إلّا بالولاية والإيمان بها في كلّ مقام من مقامات الوجوب ، حتّى تظهر هنا ويعمل بمقتضاها ويؤمن بها. وتلك الفريضة شاملة لجميع تكاليف طبقات الوجود بأسرها ؛ فرضها ، ونفلها ، والإطلاق لا يفي بهذا التصريح والدلالة على هذا الأصل وتفرّع ما سواه عليه.

الخامس : لعلّه عليه السلام أراد بالطاعة : طاعة الرسل فيما أتوا به عن اللّه عزوجل على نهج ما أُمروا أو أمروا به من صفة وهيئة وزمان ومكان وغير ذلك ؛ أعمّ من أن تكون بعنوان الوجوب أو الندب. وكثيراً ما أُطلق الفرض في الأخبار على النفل وحده ، فإطلاقه على الواجب والندب أولى. وتلك هي الطاعة المشروط قبولها وتحقّقها بالولاية ، فمن أتى بطاعة كما أمر اللّه وكان موالياً قبلت طاعته ، وثبتت الطاعة في كلّ رتبة من الرتب العشر ، وإلّا ردّت. فيكون القيد احترازاً عن طاعة لا تأتي كما أمر اللّه من كلّ وجه ، فإنّها غير مقبولة ولو كانت من موالٍ ؛ فإنّ اللّه سبحانه إنّما يعبد من حيث أحبّ لا من حيث يحبّ العابد.

فما يعملُهُ العابد بقصد العبادة إذا لم يكن على الصفة التي جاءت بها الرسل كما أمر اللّه وأحبّ يسمّى عبادة أيضاً ، وصاحبها يثاب عليها لكن في الدنيا ، فإنّ اللّه لا يضيع عمل عامل ، وأقلّه عصمة دمه وماله وفرجه ، ودرء الحدّ عنه ، وإمهاله ، ورزقه بقاؤه ولو طرفة عين.

فيكون القيد في كلام الإمام عليه السلام لإخراج ما هو في صورة الطاعة ، أو أُريد به : الطاعة والقربة ، ولم يكن في صورة الطاعة ؛ فإنّ هذه تسمّى طاعة لكنّها غير مفترضة أي غير نازلة من اللّه على لسان خلفائه ، فهي تسمّى طاعة مجازاً ؛ لأنّ

ص: 430

العامل قصد بها الطاعة والقربة أو أتى بها في صورة الطاعة ، وإن لم يقصد بها الطاعة فهي جسد بلا روح.

السادس : لعلّ التقييد ب- « المفترضة » لبيان الفرق بين الطاعة المتأصّلة التي هي صفة الوجود ، وهي ما أتت به الشريعة من الأوامر والنواهي ، وهي المفترضة ، وبين الطاعة بالعرض مثل علّان حيث استشار الإمام عليه السلام في الحجّ فنهاه عن الحجّ تلك السنة ، فخالف فذهب فقتل (1) ، فإن مثل هذا يصدق عليه طاعة ومعصية ، وإن لم تأتِ الشريعة بفرضها ، ولم يبلغ أمرها إلى الآخرة من الثواب والعقاب ، بل هو في الدنيا ما لم يبلغ المخالفة إلى الاستحقاق بأمر المعصوم ، فتؤول إلى الاولى من تلك الجهة.

وهذه ليست شرط قبولها ، وهو ترتّب الأثر من المصلحة الدنيويّة وعدمه ، وهو الضرر الدنيوي. فتحقّق الموالاة ، بل النجاة ، والعطب مترتّبان فيها بحسب الدنيا على نفس الفعل أو الترك ، واللّه العالم.

ص: 431


1- هو أبو الحسن علي بن محمّد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني المعروف بعلّان. وهو ثقة عين ، له كتاب أخبار القائم عليه السلام ، وقد استأذن الإمام الصاحب عليه السلام للحجّ في سنته التي قتل فيها ، فجاء الجواب من الناحية المقدّسة : « توقف عنه في هذه السنة ». فخالف ، فقتل بطريق مكة. انظر رجال النجاشي :1. 261 / 682.

ص: 432

[133] حكمة يمانية وجوهرة سنيّة حديثٌ في ظاهره أن شوّال من الأشهر الحرم

في ( الفقيه ) عن أبي جعفر عليه السلام : أنّه قال : « ما خلق اللّه في الأرض بقعة أحبّ إليه من الكعبة، ولا أكرم عليه منها ، ولها حرّم اللّه عزوجل الأشهر الحرم الأربعة في كتابه يوم خلق السماوات والأرض، ثلاثة منها متوالية للحجّ، وشهر مفرد للعمرة » (1).

أقول : يحتمل هذا الخبر وجهين :

أحدهما : أن المراد بقوله عليه السلام : « متوالية للحجّ » أي مكتنفة له ، وأنه واقع في وسطها ، فإنّ شهر الحجّ واقع في وسط الثلاثة ، والحجّ في وسطه أيضاً ، فإنّه قريب من وسطه الحقيقيّ.

الثاني : أن اللام في « للحجّ » تعليليّة ، علّل بها توالي الثلاثة أي أنه جعل ثلاثة منها متوالية لأجل الحجّ فيحجّ المسلمون في حال أمنٍ من قتال المشركين والكفّار ؛ فحجّ البيت علة [ توالي الثلاثة (2) ] منها. ولمّا كانت المبتولة غير مرتبطة بالحجّ المعلوم في الأيام المعيّنة ، أفرد لها من الأشهر الحرم شهراً ؛ لأنّها حجّ للبيت أيضاً ، أي قصد له بنسك معلوم ، يشبه نسك الحجّ عند الكعبة من الطواف والصلاة والسعي.

ص: 433


1- الفقيه 2 : 278 / 1359.
2- في المخطوط : ( التوالي ثلاثة ).

واعلم أن الصدوق : قال في باب علل الحجّ من كتاب ( من لا يحضره الفقيه ) (1) : ( وإنّما صار الحاجّ لا يكتب عليه ذنب أربعة أشهر من يوم يحلق رأسه ؛ لأنّ اللّه عزوجل أباح للمشركين الأشهر الحرم أربعة أشهر ؛ إذ يقول ( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) (2) فمن ثمّ وهب لمن يحجّ من المؤمنين البيت مسك الذنوب أربعة أشهر ) (3) ، انتهى.

وقد قال في أوّل الباب إنه أخرج أسانيد الباب في كتاب ( جامع علل الحجّ ) (4).

وظاهره أن أشهر السياحة تسمّى حرماً أيضاً ، أي أن اللّه حرّم القتال للمشركين فيها أو أراد أن اللّه أباح للمشركين مقداراً لأشهر الحرم أربعة أشهر ، وجعل للحاجّ أن يقيه مقارنة الذنب أربعة أشهر مقابلةَ ذلك ، واللّه العالم.

ص: 434


1- في المخطوط بعده لفظة : ( قال ).
2- التوبة : 2.
3- الفقيه 2 : 128 / ذيل الحديث : 548.
4- الفقيه 2 : 142.

[134] كنز ثمين في حصن حصين : حديث الثقلين

اشارة

مسألة : قد استفاض بين الأُمّة استفاضة أكيدة جدّاً لا يستطاع إنكارها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : قال : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي » ، وأن اللطيف الخبير نبّأه (1) أنّهما لن يَفْترقا حتّى يردا عليه (2) الحوض.

وأنه قال : « إنّ الثقل الأكبر كتاب اللّه ، والأصغر أهل بيتي » (3).

وأنه قال : « لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض كهاتين » وجمع بين مسبّحتيه « ولا أقول كهاتين فيفضل أحدهما على الآخر » وجمع بين المسبّحة والوسطى (4).

وفي هذا الحديث الشريف المتلقّى بين الأُمّة بالقبول أسئلة :

الأوّل : ما معنى : أنّهما ثقلان؟

فنقول : الثقل في اللغة يطلق بإطلاقات كثيرة ، منها خزائن الأرض والسماوات وكنوزهما الخفيّة ، وكلّ عظيم كبير الشأن ثقل ، وكلّ شي ء نفيس مصون ثَقَل ، وكلّ خطير نفيس ثقل (5) ، وكلّ ما لا تدرك حقيقته للخلق من الخلق ثقل ، وكلّ ما شقّ

ص: 435


1- من المصدر ، وفي المخطوط : ( ونبأه ).
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( عليّ ).
3- تفسير القمّيّ 1 : 30 جواهر العقدين : 239 ، باختلاف.
4- المصدر نفسه.
5- انظر : النهاية في غريب الحديث والأثر 1 : 216 ثقل ، لسان العرب 2 : 114.

تحمّله ثقل ، وكلّ ثقيل الوزن عظيم القدر ثقل. وكلّ واحد من هذه المعاني يناسب الحديث الشريف بوجه. بل قيل به في معناه.

وبالجملة ، لما كان الكتاب والعترة أعظم خزانة خزنت في السماوات والأرض لأنهما غاية الموجودات ، ولِما اشتملا عليه من خزائن أسرار اللّه ، وعلم الأوّل والآخر ، والظاهر والباطن ، والغيب والشهادة والمبدأ والمعاد كان أعظم الخلق وأكبره شأناً ، وأنفس نفائس الخلق وأكبره خطراً ، وأصون مصون في الخلق ، وأغمض شي ء فيه.

وقد اصين سرّهما وعلانيتهما عن جميع نقائص الخلق ، وعن أن يدرك حقيقتهما إلّا اللّه ورسوله ، وشقّ على الخلق تحمّل أسرارهما ، بل امتنع تحمّل جميع أسرارهما وتكاليفهما على من دون العترة ، وثقلا في ميزان الحقّ عملاً وصفة ؛ فإنّهما أخلص شي ء لله ، وأثقله في ميزان العدل.

فلمّا جمعا تلك الفواضل والأسرار والفضائل سمّي كلّ منهما ثقلاً بكلّ معنى من تلك المعاني ، على أنه متى كان أحدهما ثقلاً كان الآخر ثقلاً ، لتلازمهما وعدم إمكان افتراقهما عقلاً ونقلاً.

الثاني : كيف يكون الكتاب هو الثقل الأكبر والعترة هم الثقل الأصغر مع أن الإمام خازن الكتاب ومترجمه والسفر به من الحقّ إلى الخلق؟

والجواب من وجوه :

أحدها : أن الكتاب من حيث هو مضاف لله عزّ اسمه أكبر ثقلاً من العترة : من حيث هي مضافة لرسوله ، فالإضافة للمعبود أكبر من الإضافة للعابد. وهذه نكتة لفظيّة بيانيّة وإن كانت لا تخلو من مناسبة حكميّة إذا اصعدت ولوحظت بالنظر الدقيق ، وسقيت شجرتها بماء الحكمة.

الثاني : أنه لمّا كان كلّ واحد من العترة هو كتاب اللّه الناطق ، والقرآن هو كتاب اللّه الصامت ، والكتاب الصامت عربيّ عجزت البلغاء عن فصاحة ألفاظه ودرك بلاغة

ص: 436

نظمه ، وله تخوم ، ولتخومه تخوم ، إلى سبعين بطناً ، لا تنقضي عجائبه ، ولا تفنى غرائبه ، ليس شي ء أبعد من عقول الرجال من درك معاني ألفاظه ، ومعرفة مقاصده ، أوّل الآية في معنى ، وآخرها في آخر ، هو نجوم مطبقة على مراتب التكليف وأزمانه ، [ كان (1) ] الكتاب الناطق هو القيّم بالصامت ، الخازن له ، المبيّن لمعانيه لكلّ أحد بحسب قسطه منه بلسان ، وما يناسب عقله وتكليفه ومصلحته وقبوله الهداية بكمال الاختيار ، بطناً فبطناً ، كلّ بحسب درجته من الإيمان ، ورتبته من الوجود والخلق مكلّفون بالعمل بأوامر الكتابين ونواهيهما ، فإنّهما حجّة الحقّ على الخلق ، ومناسبة المكلّفين للناطق أشدّ منها للصامت ، فقبولهم منه أيسر وأخفّ عليهم ، وفهمهم لمعاني خطابه أسهل وهم بلسانه أعرف ، وطبائعهم له أميل ؛ لأنه يخاطب كلّ واحد بلغته ولسانه وصفة عقله ولوازم وجوده ، بل يخاطب كلّ عقل بلسانه ، وكلّ نفس بلسانها ، وكلّ جسم بلسانه ، وكلّ شي ء بحسب فطرته ، والخلق إنّما يخاطبهم الكتاب الصامت بلسان من خاطبه اللّه به أوّلاً وبالذات ، وهو الحافظ له والخازن المبيّن لمعانيه المترجم عنه ، وهو الإمام.

ويكفيك في بيان ذلك ملاحظة صفتي النطق والصمت.

ولو كان المكلّفون يفهمون لسان القرآن ، ويقدرون على أخذ التكاليف واستنباط الحكم والمعارف منه بكمال الاختيار لا بواسطة الناطق السفير به لانتفت فائدة البعث.

وبالجملة ، فما خزن في الكتاب الصامت وأصين فيه وذخر وكنز من نفائس حقائق المعارف الدينيّة والدنيويّة ، والسياستين والرياستين ، والأخلاق والحكم الربانيّة ، أشدّ خفاء وأشقّ دركاً ، وأثقل استخراجاً وتحمّلاً ممّا في نفس الكتاب الناطق ؛ لأنّ القرآن له سبعون بطناً ، وفيه المحكم والمتشابه ، والخاصّ والعامّ ، والمجمَل والمبيّن ، والناسخ والمنسوخ ، والظاهر والباطن ، والتنزيل والتأويل ، وهو

ص: 437


1- في المخطوط : ( و ) ، وما أثبتناه هو الأوفق ظاهراً ، فإنه جواب ( لما ) المار في قوله : ( أنه لما كان كل واحد من العترة هو كتاب اللّه الناطق .. ).

مطبق على جميع طبقات العالم كل بحسب قسطه من الوجود والتكليف ؛ الأجناس ، والأنواع ، والأصناف ، والأزمان ، والأصقاع ، والأشخاص ، منه ما قد مضى ومنه ما هو حاضر ، ومنه ما هو آتٍ مستقبل لم يأتِ بعد وهو الغابر ، ولذا قال اللّه عزّ اسمه ( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (1).

والإمام مكلّف بأن يبيّن لكلّ شخص وصنف ونوع وجنس وطبقة وأهل كلّ زمان ومكان ما يخصّه منه بلسانه ، وقدر وسعه ، وما يقبله بكمال الاختيار بالبيان واللسان الذي يصلحه ، وتكمل به حجّة اللّه عليه ، ويقوم به وجوده بما لا يحتمل في حقّه في تلك الحال من تلك الجهة سواه.

فإذن صار أخذ المعارف والحكم والأخلاق والتكاليف من الإمام أخفّ ثقلاً ، وأقلّ خفاءً ، وأيسر تناولاً ، وأظهر بياناً. فصون ذلك واكتنازه وخفاؤه في القرآن ، وثقل استخراجه منه أكبر وأشدّ منها في نفس الإمام الناطق ؛ لأنّ عليه ومنه البيان ، فإذا بيّن كلّف بعد التبيين ، ولا يكلّف اللّه نفساً الّا وسعها.

فإذن ظهرت المناسبة والحكمة في وصف العترة : بأنّهم الثقل الأصغر ، والكتاب أنه الثقل الأكبر ، بكلّ معنى من المعاني المذكورة للثقل.

الثالث : اعلم أن القرآن العظيم صفة عقل العترة ، فهو عقل.

فمن حيث إن معناه عقلهم هو ثقل أثقل وأعظم من أجسامهم ؛ لأنّ عقل كلّ شخص أثقل وأعظم من جسمه بكلّ معنى ، لكن العاقل أشرف وأفضل من عقله ، فلا منافاة بين كونهم أفضل من القرآن وكون القرآن ثقلاً أثقل من أجسامهم وإن كانت أجسامهم ثقلاً ؛ لأنّ نفس المؤمنين خلقت من فاضل طينة أجسامهم ، فأجسامهم ثقل بكلّ معنى من معانيه.

ومن حيث إنه قرآن متلوّ ، والإمام هو الخازن المبيّن التالي له وإنه خُلُقهم وصفة نفوسهم ، هم أكبر وأفضل.

ص: 438


1- آل عمران : 7.

ومن حيث إنه في مقام التفرقة مادّة علومهم ، وحجّتهم على الخلق ، ومرجعهم في الأحكام من الأُصول والفروع إليه ، هو أثقل وأكبر في النفوس ؛ لأنه حينئذٍ كتاب اللّه وكلامه.

وقد وقفت في هذا الحديث على كلام للشيخ الرئيس الشيخ أحمد بن زين الدين : منقولاً من ( شرح الجامعة الكبرى ) ، وصورة المنقول منه بخطّ بعض السادة [ الثقات (1) ] ، هكذا : ( قوله صلى اللّه عليه وآله : « الثقلين : الأصغر والأكبر ».

فنقول : المعنى : عقلهم ، واللفظ : قرآنهم ، فعقلهم قرآن ، وقرآنهم عَقل ، فلمّا تنزّل إلى عالم الشهادة كان الإمام شريك القرآن. فإن قسّمت هذه الحجّة الظاهرة إلى عقل وجسم كان العقل الذي هو القرآن الثقل الأكبر ، والجسم الحامل للقرآن الثقل الأصغر. فالعقل أكبر من الجسم وأفضل ، والعاقل أكبر من العقل وأفضل. ومن حيث إن القرآن قسيم عقلهم ، وإن جميع علومهم مستندة إليه ، فمن حيث ذلك حَسُنَ أن يقال : هو الثقل الأكبر ، مع أنه بالنسبة إلى أجسامهم عند الانقسام كذلك ، ومن حيث إنّهم الكتاب الناطق والعاقلون فهم مجموع القسمين أكبر وأفضل ، مع أن الحقيقة الجامعة للكلّ حقيقتهم ، وأن العقل والقرآن نور تلك الحقيقة وصفتها ، فهم أكبر وأفضل.

ولكن لمّا كان ما أخبروا به من العلوم وما أضمروه مستنداً إلى القرآن وإلى الوحي ، صحّ كون نسبته إليهم ثناءً عليهم وفخراً لهم. ولا منافاة ؛ فإنّ الشخص جميع ما عنده من العلوم ينسب إلى عقله ) (2) ، انتهى صورة (3) ما رأيته منقولاً منه ، وظنّي أن كلامي لا يخرج عنه.

الرابع : ورد أن القرآن خُلُق محمَّد صلى اللّه عليه وآله : ؛ فمن حيث هو خُلُق محمَّد صلى اللّه عليه وآله : وصفة عقله هو أكبر من العترة : باعتبار موضوعه ؛ لأنّ موضوعه حينئذٍ أكبر ثقلاً من

ص: 439


1- في المخطوط : ( الثقات ).
2- شرح الزيارة الجامعة الكبيرة 3 : 330 - 332.
3- في المخطوط : ( الصورة ).

عترته ، ومن حيث إنه قرآن محمَّد صلى اللّه عليه وآله : وآية من آياته ، ومعجز من معجزاته ، هم أكبر وأثقل ؛ إذ ليس لله آية هي أكبر من علي عليه السلام : وأولاده الأحد عشر عليهم السلام ، والزهراء عليها السلام في هذا المعنى [ مثلهم و (1) ] على مراتبهم في الفضل.

الثالث : كيف يكون أحدهما أكبر من الآخر ثقلاً وقد مثّل لهما بالمسبّحتين دون المسبّحة والوسطى ، فقال : « لا يفضل أحدهما على الآخر » ، ومقتضى التشبيه تساويهما مطلقاً مع أنه صلى اللّه عليه وآله قال : « الثقل الأكبر كتاب اللّه ، والأصغر عترتي » ، على أنه في الحقيقة الإمام أكبر من القرآن ؛ لما ذكر وغيره؟

والجواب أن المراد بالتمثيل بالمسبّحتين دون الوسطى والمسبّحة في الورود : أنهما يردان عليه الحوض دفعة ووروداً واحداً (2) لا يفضل أحدهما على الآخر بالسبق إلى الورود عليه. وبرهانه ما أشرنا له من أنّهما يردان بعنوان الوحدة ، فالوارد العترة المتّصفة بالقرآن ، فالقرآن حينئذٍ صفة ذات ، أو جزء ذات هي وصفتها أو جزؤها موضوع الورود.

وبوجه آخر : معاني القرآن : عقلهم ، وألفاظه : قرآنهم كما عرفت من كلام معلّم الزمان ، وليس مقام الورود مقام تلاوة قرآن ، فلا ألفاظ هناك متلوّة ، فالوارد العاقل ؛ إذ لا يمكن أن يرد عليه الحوض العقل بدون الجسم ، ولا الجسم بدون العقل ، وإنّما يردان معاً.

فالوارد مجمعهما أو مجموعهما وهو العاقل.

فقد تبيّن أنه لا يمكن أن يسبق أحدهما بالورود عليه الآخر ، فأشار صلى اللّه عليه وآله بالتمثيل بالمسبحتين دون الوسطى والمسبحة في صفة الورود إلى ذلك ، فلا منافاة بين التفاضل في مقام التعدّد وبين المساواة وعدم السبق لأحدهما في مقام الورود.

الرابع : ما معنى تَغَيّي نفي الافتراق عن العترة والكتاب بورود الحوض؟ فما فائدة التقييد بذلك؟

ص: 440


1- في المخطوط : ( و ).
2- في المخطوط بعدها : ( بل ورود واحد ).

وربّما أوهم القيد إمكان الافتراق بعد الورود ، مع أنه قد ثبت بالبرهان المتضاعف عقلاً ونقلاً عدم إمكان افتراقهما.

والجواب من وجهين :

أحدهما : أنه إذا ثبت التلازم وامتنع الافتراق إلى تلك الغاية والرتبة وهي ورود الحوض ثبت أبداً ، لأنّ ذلك المقام هو غاية إمكان الافتراق بين المتلازمين بالإمكان العامّ ونهايته. ولا أعني بالإمكان العامّ معناه باصطلاح مشهور متأخّري أهل الميزان ، فإنّ إطلاق الإمكان على ذلك المعنى منظور فيه. فإذا تحقّق التلازم بينهما وانتفى الافتراق عنهما إلى تلك الحال تحقّق التلازم وانتفى الافتراق أبداً.

فما ثبت تلازمهما إلى تلك الغاية لا يمكن افتراقهما أبداً ؛ لأنه مقام ظهور اللازم الذاتي وملزومه بعنوان الوحدة وضرب من الاتّحاد.

الثاني : قد عرفت أنّهما قبل الورود بحكم مقام الرسالة العامّ أعني : مقام كتاب وإمام ، وقارئ وقرآن شيئان متعدّدان متمايزان ، الإشارة لأحدهما تغاير الإشارة للآخر في مقام الحسّ ، وأنّهما متلازمان لن يفترقا في حال بوجه أصلاً ، حيث إن ثبوت التلازم بين الشيئين وصدق إطلاقه عليهما يقتضي التعدّد والاثنينيّة. وبعد ورودهما عليه صلى اللّه عليه وآله الحوض يظهر حكم وحدتهما واتّحادهما ، فهناك يصدق أن يقال : لا قرآن وإمام قارئ ، ولا اثنينيّة ، بل الكتاب حينئذٍ يظهر كونه صفة الموصوف ، وهو ذات العترة ، والعترة ذات صفتها الذاتيّة الكتاب ، أو قل : جسد عقله الكتاب.

فالوارد ذات صفة ذاتيّة ، هما شي ء واحد بضرب من الاتّحاد ، أو قل : عقل وجسد. فالوارد عليه الحوض هو العاقل. وحينئذٍ لا يتصوّر إمكان افتراق عاقل عن عقله بعد ورود الحوض.

على أنه قد ثبت بالبرهان المتضاعف المحكم عقلاً ونقلاً عدم إمكان افتراقهما بحال في مقام من مقامات الوجود. فإذن ثبت عدم إمكان افتراقهما في إقليم التعدّد ، وإلّا لانتفت عصمتهم وحجّيّتهم والبرهان بكلّ طريق أثبتهما ، فلأن لا يمكن

ص: 441

الافتراق بعد الوصول إلى مقام الوحدة والثبات أعني دار القرار بطريق أولى.

وممّا ذكرناه من الوجهين يعلم وجه تغيّي لعنة إبليس : بيوم الدين وما أشبه ذلك ؛ فإنّ إبليس : لعنه اللّه قبل العرض على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : يوم الدين شخص ملعون ، فهنا ذات لها لعن ، أي ذات ملعونة. وبعد ثبوت اللعن له وتلازمهما إلى ذلك المقام لا يمكن انتفاؤه عنه أبداً. وما بالذات لا يزول ؛ لأنّه حينئذٍ يظهر ويتحقّق ويثبت أن حقيقته ذات صفتُها الذاتيّة اللعن ، بل حقيقتها في الحقيقة اللعنُ ، فتمتنع المزايلة بينهما ؛ لأنّها دار القرار. فلا ينفكّ حينئذٍ من أنه ملعون عليه لعنة اللّه أبداً.

وقس على هذا أمثاله ، وتلطّف لكلّ مقام بما يناسبه ، فإنّ هذا باب ينفتح منه أبواب ، واللّه الهادي للصواب.

خاتمة

قد دلّ هذا الحديث الشريف على عصمة العترة : عليهم السلام بمقتضى تلازمهم مع القرآن ، فإنّ من أمكن منه غفلة أو سهو فضلاً عن المعصية فإنّه مفارق للقرآن حال غفلته أو سهوه بالضرورة ؛ لأنّه حينئذٍ مع غير الحقّ ، ولا يكون القرآن مع غير الحقّ. فأمّا مفارقتهم في تلك الحال للقرآن ، وقد نفاه هذا النصّ الصريح وغيره ممّا استفاض نقلاً (1) وعقلاً ، أو كون القرآن حينئذٍ [ مع غير الحقّ ] وهو باطل بالضرورة. فإذا ثبت ذلك ثبت أنه لا يمكن أن يقع منهم غفلة أو سهو فضلاً عن المعصية.

وبالضرورة أن هذه الأُمّة لم يثبت لأحد منها هذا التلازم مع القرآن غير العترة المطهّرة : بنصّ الكتاب (2). وله مؤيّدات كثيرة تدلّ على عصمتهم صريحاً كحديث

ص: 442


1- انظر عمدة عيون صحاح الأخبار : 68 - 76 / الفصل : 11 ، بحار الأنوار 23 : 106 - 147.
2- في قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) ، المائدة : 3 ، وقوله عزّ من قائل ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) ، المائدة : 67. انظر : مناقب أمير المؤمنين ( ابن المغازلي ) :2. 19 / 24 ، تأويل الآيات الظاهرة : 151 - 152 ، 161 - 165.

« عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ : يدور معه حيثما دار » (1) ، وحديث الطائر (2) ، وحديث « أهل بيتي كسفينة نوح » (3) ، وحديث : « من كنت مولاه فعلي : مولاه »(4).

وآية التطهير (5) ، وغير ذلك من الكتاب والسنّة ممّا أوضحنا دلالته في كتابنا ( نعمة المنّان في إثبات صاحب الزمان ) (6) ، وغيره ، وباللّه الاعتصام.

ص: 443


1- مناقب آل أبي طالب : 3 : 77 ، وفيه : « لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض يوم القيامة » بعد قوله : « والحق مع عليّ : ».
2- عمدة عيون صحاح الأخبار : 242 - 253 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 141 - 142 / 4650 ، 4651 ، كنز العمّال 13 : 166 / 36505 ، و 13 : 167 / 36507.
3- عمدة عيون صحاح الأخبار 358 - 360 ، المعجم الكبير 3 : 45 / 3626 ، و 12 : 27 / 12388 ، كنز العمّال 12 : 95 / 51 - 341 ، الصواعق المحرقة : 152 ، 186.
4- عمدة عيون صحاح الأخبار : 92 - 116 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 126 / 4601.
5- الأحزاب : 33 ، وانظر عمدة عيون صحاح الأخبار : 31 - 46 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 158 - 159 / 4705 - 4707.
6- كتاب يقع في مجلّد كبير. انظر الذريعة 24 : 234 / 1208.

ص: 444

[135] تنزيه فيه توحيد وتحميد : « الأوّل بلا أوّل كان قبله »

قال زين العابدين سلام اللّه عليه : « الحمد لله الأوّل بلا أوّل كان قبله ، والآخر بلا آخر يكون بعده » (1). ومعنى هذه الكلمة عبارتان :

أحدهما : أنه عزّ اسمه أوّل كلّ شي ء وآخر كلّ شي ء ، أي مبدأ كلّ شي ء ومنتهى كلّ شي ء ، لا يسبقه شي ء ، ولا يلحقه شي ء ، محيط بكلّ شي ء بأوّليّة [ التي ] هي عين آخريّته.

الثانية : أن مستكنّ الكونين وفاعلهما يعود إلى اللّه عزّ اسمه وحده ، والمضاف إليه القبليّة للأوّل ، والبعديّة للآخر ، فلا فصل بينه وبين شي ء من خلقه ، ولا شي ء أقرب إليه إلّا بالعلم والعمل. أو قل : المضاف إليه القبليّة والبعديّة ، للأوّل الآخر ، والآخر الآخر ، أو للأوّل الأوّل ، والآخر الأوّل.

وبالجملة ، فمعناها أن أوّليّته عزّ اسمه وآخريّته لا تشبههما أوّليّة ولا آخريّة ، [ وليس قبل أوّليته أوّلية ولا بعدها أوّلية ، وليس بعد آخريّته آخريّة ولا قبلها آخريّة (2) ] ؛ إذ ليس معه جلّ شأنه شي ء ، لا إيجاباً ولا سلباً ، ولا وجوداً ولا عدماً ، حتّى تلي أوّليتهُ أوّليةً ، [ أو تعقّب (3) ] آخريتَه آخريةٌ ، بل أوّليته عين آخريته ، وآخريته عين

ص: 445


1- الصحيفة السجّاديّة : 33.
2- في المخطوط : ( بعد أوليته بعد ).
3- في المخطوط : ( ولا ).

[ أوّليّته (1) ] ، فهو عزّ اسمه أوّل بما هو آخر ، وآخر بما هو أوّل ، لا تحيط بأوّليّته وآخريّته العقول ، ولا تمثّلها الأوهام بالحدود والفصول. فهو عليه سلام اللّه نزّه بارئه عزّ اسمه وجلّ عن الشبه والنظير حتّى في أوّليّته وآخريّته ، بل هي أوّليّة تفرد بها ، وآخريّة تفرّد بها ، لا تشبههما أوّليّة ولا آخريّة ، فأوّليّته لا شي ء يسبقها ، ولا أوّليّة تلحقها حتّى تضاف إليها وتشبهها ، وآخريّته لا شي ء بعدها ، ولا آخريّة بعدها تلحقها حتّى تضاف إليها وتشبهها.

سبحان من لا تختلف عليه الصفات ، ولا تختلف عليه الحالات ، ولا تغيّره الدهور ، ولا تلحقه الإضافات ، ولا ينظمه حدّ ولا عدّ ، توحّد بالتوحيد في توحّده.

وقال الشارح السيّد نعمة اللّه : ( المراد نفي الأوليّة الإضافيّة والآخريّة الإضافيّة ). وما قرّرناه أعمّ منه وأشمل ، فتأمّل ، واللّه العالم.

ص: 446


1- في المخطوط : ( اضربته ).

[136] شهاب ثاقب لرجم شيطان كاذب استدلال الكتابي بالاستصحاب على بقاء نبوّة موسى وعيسى : عليهما وعلى نبيّنا وآله : وعليهما السلام

مسألة : رأيت منقولاً بخطّ بعض الثقات من مبحث الاستصحاب من قوانين الميرزا أبي القاسم : ما صورته : ( وينبغي التنبيه لأُمور :

الأوّل : أن الاستصحاب يتبع الموضوع وحكمه في مقدار قابليّة الامتداد وملاحظة العلّيّة ، فلا بدّ من التأمّل في أنه كلّيّ أو جزئيّ ، فقد يكون الموضوع الثابت حكمه أوّلاً مفهوماً كلّيّاً مردّداً بين أُمور ، وقد يكون جزئيّاً حقيقيّا معيّناً ؛ وبذلك يتفاوت الحال ؛ إذ قد يختلف أفراد الكلّ في قابليّة الامتداد ومقداره ، [ فالاستصحاب (1) ] حينئذٍ ينصرف إلى أقلّها استعداداً للامتداد ) (2).

أقول : قوله : ( ينصرف ) إلى آخره ، ينبغي أن يقيد بما إذا كان حكم الموضوع بعنوان الكلّيّة بأفراده ؛ لأنه يختلّ حكم الكلّي بل يرتفع من أصله بخروج فرد. أمّا لو كان حكم الموضوع بعنوان الإطلاق فإنّه لا صارف عن صرفه لأطولها استعداداً للامتداد. هذا كلّه مع عدم ظهور العلّيّة ، وإلّا فإنّه معها يدور مدارها ، كما هو ظاهر.

ثمّ قال أبو القاسم : ( هاهنا لطيفة ، هي أن بعض الفضلاء (3) من أصحابنا ذكر أن

ص: 447


1- من المصدر ، وفي المخطوط : ( الاستصحاب ).
2- قوانين الأُصول : 299 ( حجري ).
3- في هامش ( القوانين ) أنه السيّد محمّد مهدي الطباطبائي.

أحداً من أهل الكتاب تمسّك بأنّ المسلمين قائلون بنبوّة نبيّنا وحقّيّته ، فعلى المسلمين أن يثبتوا بطلان دينه (1). وذكر أنه أجابه : إنّا لا نسلّم ولا نقرّ بنبوّة نبيّ لا يقول بنبوّة محمَّد صلى اللّه عليه وآله : وهو حاصل ما ذكره الرضا عليه السلام : في جواب الجاثليق (2).

قال الفاضل فأجابني بأنّ عيسى بن مريم : عليها السلام المعهود الذي لا يخفى على أحدٍ حاله وشخصه أو موسى بن عمران : عليه السلام الذي لا يشتبه حاله على أحد من المسلمين ولا أهل الكتاب جاء بدين اللّه وأرسله اللّه نبيّاً ، وهذا القدر مسلّم عند الكلّ. فنقول : دين هذا الرجل المعهود ورسالته باقيان بحكم الاستصحاب ، فعليكم إبطالَه. فأفحم الفاضل المذكور ) (3).

قلت : إذا تأمّلت جواب الرضا عليه السلام : للجاثليق : وجدت هذا غير مبطل له ، وإلّا لما كان حجّة الإمام عليه السلام تامةً بالغة فنقول : إن عيسى : عليه السلام أو موسى : عليه السلام وهو الشخص المعلوم الذي جاء برسالة اللّه ، وهو الشخص المعهود المعروف بين المسلمين وأهل الكتاب ، إن سلّم الكتابيّ أنه جاء بالبشارة برسالة محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطلب : وهو الشخص المعهود بين الخلائق ، وأخذ العهد على أُمّته بالإقرار به واتّباعه كما هو الواقع ، فرسالته حقّ ونحن نقرّ به ، وإلّا أنكرنا رسالته. فكلّ موسى أو عيسى لم يبشّر بذلك فهو ليس برسول ، لكن موسى أو عيسى : عليهما السلام وهو الشخص المعهود المعروف قد بشّر بذلك ، وأخذ العهد على أُمّته به ، فقد لاح من هذا أن الاحتجاج بالاستصحاب لا يبطل تلك الحجّة ، بل لا تحقّق له معها.

ثمّ قال أبو القاسم : ( فقلت في إبطال الاستصحاب بعد فرض تسليم جواز التمسّك به في أصول الدين : إن موضوع الاستصحاب لا بدّ أن يكون متعيّناً حتّى يجري على منواله ، ولم يتعيّن هنا إلّا النبوّة في الجملة ، وهو كلّيّ قابل للنبوّة إلى الأبد ، بأن يقول اللّه تعالى : أنت نبيّ وصاحب دين إلى يوم القيامة ، وللنبوّة الممتدّة

ص: 448


1- أي دين الكتابيّ.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 : 157.
3- قوانين الأُصول : 299 - 300 ( حجريّ ).

إلى زمان محمَّد صلى اللّه عليه وآله : بأن يقول له : أنت نبيّ ودينك باقٍ إلى زمان محمّد : صلى اللّه عليه وآله ؛ ولأن يقول أنت نبيّ بدون أحد القيدين فعلى المخالف أن يثبت ؛ إمّا التصريح بالامتداد إلى الأبد ، وأنّى له بإثباته؟ والمفروض أن الكلام أيضاً ليس فيه ، وإمّا الإطلاق وهو أيضاً في معنى القيد ، ولا بدّ من إثباته.

ومن الواضح أن مطلق النبوّة غير النبوّة المطلقة ، والذي يمكن استصحابه هو النبوّة المطلقة لا مطلق النبوّة ؛ إذ الكلّيّ لا يمكن استصحابه إلّا بما يمكن من أقلّ أفراده امتداداً أو استعداداً ، فبذلك بطل تمسّك أهل الكتاب ؛ إذ على فرض التسليم والتنزّل والمماشاة معهم نقول : إن القدر الذي ثبت لنا من نبوّتهما هو القدر المشترك بين أحد المقيّدات الثلاثة ، فمع إمكان كونها النبوة الممتدّة إلى زمان محمَّد صلى اللّه عليه وآله : كيف يجري الاستصحاب إلى آخر الأبد ) (1).

أقول : لا يخفى ضعف هذا التقرير ، فإنّ أهل الكتابين لا يدّعي أحد منهم استمرار نبوّة موسى : أو عيسى : عليهما السلام إلى الأبد ، فلا كلام معهم فيه ، وإنّما ادّعى عرفة اليهود ارتفاع النسخ والاحتجاج ليس عليه ، وإنّما الاحتجاج بالاستصحاب على فرض أن رسالة موسى : أو عيسى : عليهما السلام ثابتة على الإطلاق ؛ لأنه القدر المتيقّن بعد ارتفاع البرهان على تعيين أحد الثلاثة بخصوصه ، ولأنه القدر المسلّم بين المسلمين وأهل الكتاب ، فادّعى جريان الاستدلال بالاستصحاب فيه.

ونحن نقول : لا يصحّ التمسّك بالاستصحاب في هذا المقام.

أمّا أوّلاً ؛ فلأنه ظنّيّ الدلالة ، فلا يصحّ التمسّك به في الأُصول ؛ لأنّ دليل مسائله لا بدّ أن يكون برهاناً عقليّاً فلا بدّ من كونه يقينيّاً.

وأما ثانياً ؛ فلأنّ الاستصحاب على ثلاثة أقسام :

أحدها : استصحاب نفي الحكم الشرعيّ إيجاباً أو تحريماً ، وهو المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة ، وهذا ليس ما عناه واستدلّ به الكتابي على بقاء التكليف بشريعة

ص: 449


1- قوانين الأُصول : 300 ( حجري ).

موسى : وعيسى : عليهما السلام إلى وقت الاحتجاج قطعاً.

الثاني : استصحاب حكم ثبت لموضوع في زمن أوّل إلى زمن ثانٍ مع طريان وصف على الموضوع أو ارتفاع وصف ثابت له وقت ثبوت الحكم في ثاني الأزمان ، يوجب طريان ذلك الوصف أو ارتفاعُه الشكّ في بقاء ذلك الحكم وثبوته للموضوع. والظاهر أن هذا لم يعنه الكتابيّ أيضاً ، فإن عناه قلنا : زال من مقتضيات الطبائع والأزمان في زمن الخطاب ما ثبت في زمن بعثة موسى : أو عيسى : عليهما السلام في وقت الخطاب ، وثبت فيه ما انتفى في وقت بعثة أحدهما ممّا لا يخفى على الحكيم بل الذكي المتأمّل.

ومعه يحصل الشكّ في بقاء الحكم باستمرار التكليف بشرع موسى : أو عيسى : فيبطل الاستدلال بالاستصحاب ؛ لأنّ هذا في الحقيقة في مثل المقام يرجع إلى اختلاف الموضوع ، ومعه لا يصحّ الاستدلال بالاستصحاب.

الثالث : استصحاب حكم ثبت لموضوع معيّن بيقين ، ولم يطرأ على الموضوع في الزمن الثاني ، فما يوجب الشكّ في بقاء الحكم الثابت بيقين في الزمن الأوّل واستمراره إلى الزمن الثاني فيه. والظاهر أن هذا هو مناط استدلال الكتابيّ ؛ إذ لا يتمّ له الاستدلال بالاستصحاب في الظاهر على المعنيين في الأوّلين.

فنقول : لا يتمّ الاستدلال بالاستصحاب على معنى من الثلاثة الأقسام ؛ أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الأخيران فنحن نشرط في صحّة الاحتجاج بالاستصحاب اتّحاد الموضوع الذي ثبت له الحكم في الزمن الأوّل بيقين ، وألّا يطرأ عليه في الزمن الثاني ما يوجب الشكّ في بقائه ، أو ما يحصل به يقين ارتفاعه ولو بحسب الظنّ الغالب لرجحان الدليل الرافع له.

فإذا كان هذا هكذا فنحن نمنع اتّحاد الموضوع أوّلاً ، ونقول : حدث ما يوجب الشكّ في بقاء التكليف بشرع موسى : أو عيسى : عليهما السلام إلى زمن الاحتجاج ، وأدنى ذلك يقين اختلاف الطبائع البشرية ومقتضيات حركات الأفلاك والأزمان ، ولا يكلّف اللّه

ص: 450

نفساً إلّا وسعها أي بما في وسعها قبوله بكمال الاختيار وكذلك جاءنا هذا النبيّ الكريم : صلى اللّه عليه وآله بدعوى الرسالة العامّة ، وأقام البراهين وأظهر المعجزات الدالّة على صدق دعواه بيقين ، وهي ثابتة بالتواتر على الإجمال.

وناهيك بالقرآن العظيم الذي عجز البلغاء عن أن يأتوا بمثل آية منه ، وغير ذلك ممّا يوجب يقين صدق دعواه.

ولا أقلّ من آية توجب الشكّ في بقاء التكليف بشرع موسى : أو عيسى : عليهما السلام إلى زمان محمَّد صلى اللّه عليه وآله :

ثمّ نقول أيضاً : لا يخلو إمّا أن يكون موضوع التكليف ببعثة موسى : أو عيسى : عليهما السلام حين قال أحدهما : إنّي رسول اللّه وأظهر المعجزات الدالّة على صدق دعواه ، شخصاً جزئيّاً أو أشخاصاً محصورة ، فلا ريب في قصره على ذلك ما أمكن تكليفه به ، وإن كان كلّيّاً من حيث هو كلّيّ في محصورة أو عامّة باعتبار تحقّقها بالأفراد فيرجع الحكم إلى الأفراد ، كان الحكم مصروفاً لقدر زمن أقلّها زمناً ، وإن تعلّق بالحقيقة الكلّيّة عمّ الحكم أزمان تلك الحقيقة ، وإن كان الحكم مطلقاً أي تعلّق به الحكم بعنوان الإطلاق ، لا بخصوص جزئيّة ولا كلّيّة ، عمّ الحكم أيضاً ؛ إذ لا يظهر صارف عن صرفه لأطولها استعداداً للامتداد.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه على الكتابيّ أن يبيّن أن موضوع التكليف برسالة موسى : أو عيسى : عليهما السلام من أي الأقسام بالدليل ، وحيث لا دليل على تعيين قسم منها لا يتمّ الاستدلال له على دعواه بالاستصحاب.

ثمّ إن قال : إن موضوع التكليف برسالة موسى : أو عيسى : عليهما السلام شخص معيّن أو أشخاص معيّنة محصورة كان مقصوراً عليهم ، ففناؤهم وانقطاعهم يبطل احتجاجه بالاستصحاب.

وإن قال : إنه كلّيّ باعتبار تعلّقه بالأفراد ، أجبنا :

أوّلاً بمنع تكليف المعدوم وصحّة خطابه حتّى يقوم دليل على عموم إرادة تكليف

ص: 451

جميع من سيوجد من أفراد الطبيعة من خارج. ولا دليل له على أن هذا لا يصحّح خطاب المعدوم.

وبالجملة ، نمنع اتّحاد الموضوع فيبطل الاستدلال.

وثانياً بمنع تعلّق ذلك التكليف بكلّيّ النوع كذلك ، ولا يتمّ احتجاجه به إلّا بعد إثبات ذلك بالدليل ، ولا دليل.

وهذا وإن كان في الحقيقة آئلاً إلى منع اتّحاد الموضوع إلّا إنه بطريق خاصّ.

وإن قال : إن موضوع التكليف بشريعة موسى : أو عيسى : عليهما السلام هو الحقيقة النوعيّة من حيث هي ؛ فإن أراد أنه باعتبار تعلّقها بالأفراد ، فالجواب ما تقّدم من طلب الدليل على ذلك ومنع اتّحاد الموضوع. وإن أراد تعلّقه بها في نفسها ، من حيث هي كلّيّة لا بذلك الاعتبار أعني تعلّقها بالأفراد فذلك محال ؛ لأنه يؤدّي إلى تكليف ما لا تحقّق له في الخارج ، بل لا تحقّق له إلّا في الذهن بالتكاليف الخارجة ، واستحالته ظاهرة.

هذا ، ولنا أن نمنع عموم بعثتهما لجميع الموجود من أفراد الحقيقة حين بعثتهما بالذات.

وإن قال : الموضوع مطلق غير متعيّن في قسم من هذه الأقسام بطل استدلاله بالاستصحاب ؛ إذ لا يتمّ إلّا بعد إقامة الدليل على إرادة قسم معيّن منها ، ولا دليل ، مع أنه في الواقع غير خارج من الأقسام المذكورة. وقد أبطلنا الاستدلال على ذلك بكلّ قسم منها.

وأيضاً إن كان دعوى الكتابي أن موسى : عليه السلام أو عيسى : عليه السلام المعهود المعروف متّصف في نفسه بأنه رسول اللّه ، وأن وصف الرسالة ثابت له ، فنحن نسلّم ذلك ونؤمن به ونوجب اعتقاده على كلّ مكلّف ، لكن اتّصافه بذلك لا يستلزم تعدية تكليف من دعاه للعمل بشريعته لمّا بعثه اللّه إلى من لم يدعه.

وأيضاً إن صحّ للنصرانيّ الاستدلال بالاستصحاب على بقاء التكليف بشريعة

ص: 452

عيسى : عليه السلام إلى زمن الاحتجاج صحّ لليهوديّ الاستدلال به على بقاء التكليف بشريعة موسى عليه السلام : إلى زمن الاحتجاج ، وهكذا بالنسبة لإبراهيم ونوح وآدم : عليهما السلام ، بل جريان شريعة كلّ رسول في ذرّيّة قومه.

فإذن لا يتحقّق التكليف إلّا بشريعة آدم عليه السلام : فقط ، وما يجيب به النصرانيّ اليهوديّ نجيب به في رفع التكليف بما سوى شريعة محمَّد صلى اللّه عليه وآله.

وأيضاً الاستصحاب حجّة ما لم يعارضه دليل أقوى ، وقد ثبتت رسالة محمَّد صلى اللّه عليه وآله : بالأدلّة القاطعة.

ثمّ قال أبو القاسم رحمه اللّه : ( ثمّ إنّك بعد ما بيّنا لك لا أظنّك رادّاً علينا أمر الاستصحاب في الحكم الشرعيّ بما ذكرنا في هذا المقام بأن تقول : يمكن أن يرد الاستصحاب فيها بمثل ذلك فيقال : إن الأحكام الواردة في الشرع إنّما يسلّم جريان الاستصحاب فيها إن ثبت كونها مطلقات لم تكن مقيّدة إلى وقت خاصّ واختفى علينا ، أو ممتدّة إلى آخر الأبد. والذي يجوز إجراء الاستصحاب فيه هو الأوّل ؛ وذلك لأنّ التتبّع والاستقراء يحكمان بأنّ غالب الأحكام الشرعيّة في غير ما ثبت في الشرع له حدّ [ ليست بآنية ولا (1) ] محدودة إلى حدّ معيّن ، وأن الشارع [ يكتفي في (2) ] ما ورد عنه مطلقاً في استمراره. ويظهر من الخارج أنه [ أراد (3) ] منه الاستمرار إلى أن يثبت الرافع من دليل عقلي أو نقلي.

فإن قلت : هذا مردود عليك في حكاية النبوّة.

قلنا : ليس كذلك ؛ لأنّ الغالب في النبوّات هو التحديد ، بل إنّما الذي ثبت علينا ونسلّمه من الامتداد القابل لأن نمتدّه إلى الأبد هو نبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله ، مع أنا لا نحتاج في إثباته إلى التمسّك بالاستصحاب حتّى يتمسّك الخصم بأن نبوّته أيضاً مردّدة بين الأُمور الثلاثة. بل نحن متمسّكون بما نقطع به من النصوص والإجماع.

ص: 453


1- من المصدر ، وفي المخطوط : ( غير ).
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( يكفي ).
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( راد ).

نعم ، لو كنّا تمسّكنا بالاستصحاب في الدوام ، لاستظهر علينا الخصم بما نبّهناه عليه ) (1).

أقول : ورود ما ردّ به الاستصحاب في أمر النبوّة بعد تسليم جريانه في الأُصول وارد عليه في التمسّك به في الشرعيات قطعاً ، وحكم التتبّع والاستقراء بأن الغالب في الأحكام الشرعيّة في غير ما ثبت له حدّ في الشرع بعدم المحدوديّة غير دافع له :

أمّا أوّلاً ، فلجواز كون الفرد المتنازع فيه منها من غير الغالب.

وأما ثانياً ، فلأن ما أثبت الاستقراء والتتبع عدم تحديده بحدّ معيّن خارجٌ عن موضوع الاستدلال بالاستصحاب ، وكذلك القول في استفادة الاستمرار فيما ورد عن الشارع مطلقاً في كفاية الإطلاق في الحكم باستمرار الحكم. وكذا ما يظهر من الخارج أنه أراد من الإطلاق الاستمرار ؛ فإنه بعد تسليم ذلك واستفادته من تتبّع أكثر الموارد واستقرائها يخرج بالمسألة عن محلّ الاستدلال بالاستصحاب ؛ للغناء عنه حينئذٍ بما هو أقوى منه ، وليس البحث إلّا فيما لم يثبت استمراره بدليل غير الاستصحاب من المطلقات.

وردّه عليه في حكاية النبوّة لا يخلّصه منه دعوى أغلبيّة تحديد النبوات ، كما هو ظاهر. وليس البحث مع الكتابي في استصحاب نبوّة نبيّنا بعد ثبوتها ، فليس هو متمسّكاً في نفي استمرارها بالترديد الذي ذكره ، والمعصوم من عصمه اللّه.

ثمّ قال أبو القاسم :

( فإن قيل : قولكم بالنّسخ يعيّن الإطلاق ، ويبطل التحديد ؛ لان إخفاء المدة و [ عدم (2) ] بيان الأمر مأخوذ في ماهيّة النسخ ، وهو بعينه مورد الاستصحاب.

قلنا : ما سمعت من مخاصمتنا مع اليهود في تصحيح النسخ وإبطال قولهم في بطلانه ، إنّما هو من باب [ المماشاة (3) ] معهم في عدم تسليمهم [ التحديد (4) ] وإبطال

ص: 454


1- قوانين الأُصول : 300 ( حجري ).
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( عدوم ).
3- في المخطوط : ( المماشات ).
4- من المصدر ، وفي المخطوط : ( تحديد ).

قولهم لقبح النسخ. وإلا فالتحقيق أن موسى وعيسى : عليهما السلام أخبرا بنبوّة محمَّد صلى اللّه عليه وآله : و [ كتاباهما ناطقان (1) ] به ، لا أن نبوّتهما مطلقة ونحن نبطلها بالنّسخ. فلمّا كان اليهود منكرين لنطق كتابهم ونبيّهم بذلك ، وزعموا دوام دينهم ، وإطلاق النبوّة ، وتمسّكوا بالاستصحاب من باب [ المماشاة (2) ] معنا ، وتمسّكوا ببطلان النسخ ، بناء عليه أيضاً ، فنحن نخاصمهم على هذا الفرض في تصحيح النّسخ ، وهذا لا يضرّ ما رددنا عليهم في تمسّكهم بالاستصحاب.

فإن قيل : أحكام شرع عيسى عليه السلام : مثلاً مطلقات ، والنسخ يتعلّق بالأحكام.

قلنا : إطلاق الأحكام مع اقترانها ببشارة عيسى عليه السلام : برسول بعده اسمُه أحمد صلى اللّه عليه وآله لا ينفعهم ، لاستلزامه وجوب قبول رسالته صلى اللّه عليه وآله ، وبعد قبولها لا معنى لاستصحاب أحكامهم كما لا يخفى ، فافهم ذلك واغتنم ) (3). هذا آخر ما رأيته منقولاً من عبارة ( القوانين ).

وأقول : ثبوت الإطلاق بالنسخ إن حقّق محلّ دعوى الاستصحاب مدفوع جريانه فيه بما ذكرناه من منع اتّحاد الموضوع وبعدم جريان شي ء من أقسام الاستصحاب في الاستدلال على المسألة. وفيه غنى عن التسليم ، والردّ بإخبار موسى وعيسى عليهما السلام : ؛ لأن ذلك بعد التسليم لا يقلع الشبهة ، لمنع الخصم من بشارتهما به.

وأيضاً الظاهر أن النصارى مُقِرّون بأن نبوّة عيسى عليه السلام : ليست مطلقة ، بل مغيّاة برسالة رسول [ اللّه ] أحمد صلى اللّه عليه وآله : وكذلك أحبار اليهود مقرّون يتغيّى رسالة موسى عليه السلام : وعدم إطلاقها إلّا المحرفين (4) منهم.

وبما ذكرناه يندفع احتجاج المحرّفين منهم بالاستصحاب ، وبإبطال دعواهم ( قبح النسخ ) يبطل احتجاجهم به على انتفاء نبوّة عيسى عليه السلام : ومحمَّد صلى اللّه عليه وآله : والاحتجاج لثبوت نبوّة محمَّد صلى اللّه عليه وآله : بثبوت ظهور المعجزات مع دعواه الرسالة وإخبار موسى

ص: 455


1- في المخطوط : ( كتابهما ناطق ).
2- في المخطوط : ( المماشات ).
3- قوانين الأُصول : 300 - 301 ( حجري ).
4- في المخطوط : ( المحرفون ).

وعيسى عليهما السلام : بنبوته ، وتغيّيهما له بما تحقّق فيه دون من سواه من الأوصاف والسجايا طريقان آخران خارجان عن محلّ مسألتنا ، واللّه العالم.

ص: 456

[137] إخراج كنز : « وهي لنا خاصّة »

مسألة : روى الكلينيّ : بإسناده عن أبي الجارود : قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام : يقول وذكر هذه الآية ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ) (1) - : « رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : أحد الوالدين ». فقال عبد اللّه بن عجلان : من الآخر؟ قال : « علي عليه السلام ونساؤه علينا حرام ، وهي لنا خاصّة » (2).

فما معنى : « وهي لنا خاصّة »؟

والجواب ، وباللّه المستعان من وجوه :

أحدها : إرجاع ضمير « وهي » لتحريم نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : بعده على جميع البشر أي ذلك من خواصّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : دون غيره من بني آدم : فيحتمل حينئذٍ رجوعُ « لنا » [ إلى ] هذه الأُمّة عامّة أي اختصّوا بتحريم نساء نبيّهم بعده دون الأُمم ولأهل البيت خاصة أي أنا أهل بيت اختُصصنا بهذا الشرف ، بأن حرّم اللّه نساء نبيّنا وأبينا ومن نحن خلفاؤه دون أهل بيوتات الأنبياء وشرف محمَّد صلى اللّه عليه وآله : شرفهم ، فكان في معنى وهي لأبينا دون البشر طرّاً.

الثاني : أن يرجع المبتدأ (3) لتحريم نساء النبي صلى اللّه عليه وآله : وضمير « لنام » لأهل البيت عليهم السلام : -

ص: 457


1- العنكبوت : 8.
2- الكافي 5 : 420 / 2 ، وسائل الشيعة 20 : 413 ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب 2 ، ح 3.
3- أي الضمير : ( وهي ).

أي أنا ورثنا ذلك الشرف ، فنساؤنا محرّمة على من سوانا من البشر ، كما كان ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : وإن اختص هو بظهور هذا الشرف له من حين بعثته ، وهم لا تظهر وراثتهم له في ذلك. وأظن ظنّاً متاخماً للعلم أنه ورد ما يدلّ صريحاً على عموم تحريم نسائهم بعدهم كرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : فالجامع بينه وبين الإجماع على حلّ نسائهم بعدهم في دولة الباطل ، تخصيص ظهور ذلك التحريم بالنسبة لهم ، والتكليف به بزمن الرجعة.

الثالث : إرجاع المبتدإ إلى أُبوّة الرعيّة ، فرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : أبٌ لجميع من دخل تحت دعوته غيباً وشهادة ، وكلّ إمام من خلفائه هو الأب الثاني لرعيّته. فهذه الفضيلة لهم خاصّة ، فإنها الأُبوّة الحقيقيّة ، وهي لهم دون من عداهم. فضمير « لنا » لهم ، ويحتمل حينئذٍ أيضاً إرجاعه للأُمّة على نحو ما تقدّم وإن كان ضعيفاً.

الرابع : إرجاع المبتدإ إلى توصية الإنسان بوالديه حسناً. والتوصية الحقيقيّة إنّما تكون للإنسان الحقيقيّ لا يكلف بها سواه ، وهو هم عليهم السلام خاصّة ، فهم مكلّفون بما لا يكلّف به غيرهم من المعرفة والتعظيم لذينك الأبوين. فابوّة محمّد وعليّ عليه السلام : لغيرهم إنّما هي من فاضل ابوّتهما ، كما أن علم غيرهم بهما من فاضل علمهم بهما ، وتكليفه بالإحسان لهما من فاضل تكليفهم ، واللّه العالم.

ص: 458

[138] هداية رحمن لكسر قلب شيطان : الشمس تغرب بين قرني شيطان

مسألة : شاع بين الأُمّة أن من لا ينطق عن الهوى قال : « الشمس تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان » (1) ، فما معناه؟

فنقول وباللّه المستعان - : اعلم أنه كما أن للعقل جنوداً [ فللجهل (2) ] جنود ، وهي أضداد جنود العقل ؛ للمضادّة بين الأصلين بحسب الذات ، فكما أن للعقل ملائكة يبثّها في عالم الكون والفساد في الليل ، وملائكة اخرى يبثّها فيه في النهار ، [ فكذلك (3) ] للجهل جنود هي شياطين يبثّها في الليل ، وجنود هي شياطين اخرى يبثّها في النهار ، يتعاقبون في البشر غير المعصوم منهم ، كما يتعاقب ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمع جنود الليل وجنود النهار في الساعة البرزخية بينهما.

وأكثر ما تهيج شياطين الليل عند الغروب ، وشياطين النهار عند الطلوع ؛ لأن أكثر ما يهيج [ من ] الأبخرة والأدخنة في عالم الكون والفساد عند الطلوع والغروب. وبغلبة الأبخرة والأدخنة يشتدّ تمكّن الشيطان من النفوس البشريّة ، وطمعه في [ غوايتها (4) ] لأنهما مجراه ومركبه ؛ ولذا ورد أنه أشدّ ما يتمكّن الشيطان

ص: 459


1- بحار الأنوار 53 : 182 / 11 ، 80 : 154.
2- في المخطوط : ( للجهل ).
3- في المخطوط : ( كذلك ).
4- في المخطوط : ( لوايتها ).

من ابن آدم : إذا ملأ بطنه (1).

فهذان الجندان اعني : شياطين الليل وشياطين النهار هما قرنا الشيطان أي مظهر قوته وآلة فعله وغوايته للنفوس ؛ لأن قرني ذي القرن هما مظهر قوته ، كاليدين للإنسان فلما كانت الشمس تطلع وتغرب بين وقتي [ شياطين (2) ] الليل وشياطين النّهار ، قيل : تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان.

ويؤيّد ما قلناه من تفسير القرنين بالجندين : شياطين الليل وشياطين النهار ما في رواية زيد النرسي : « إن الشمس تطلع بين قرني شيطان ، وتغرب بين قرني شيطان ، إلّا ليلة القدر » (3) ، فإن السرّ في استثنائها أن ليلة القدر ينزل فيها من الملائكة على اختلاف أصنافها ما تغصّ به السكك ويملأ [ الهواء (4) ] ، وما بين الأرض والسماء ؛ فيضعف بذلك ظهور قرني الشيطان ، بل لا يتحقّقان ؛ إذ لا محلّ لهما ولا قوة لهما على الظهور حينئذٍ ؛ لما يحصل من نزول تلك الملائكة من القوّة للنفوس المطمئنّة ، ومن الضعف للنفوس الأمّارة ، ومن حيث نزول تلك الملائكة على تلك الحال نفسه فلا يظهر مع ذلك قرنا الشيطان ، فهي لا تطلع تلك الليلة بين قرني شيطان ، ولا تغرب بين قرني شيطان ، واللّه العالم.

ص: 460


1- انظر بحار الأنوار 63 : 331 / 5 ، 336 / 25 ، 337 / 33.
2- في المخطوط : ( شيطان ).
3- بحار الأنوار 80 : 150 / 13 ، باختلاف. وفيه عن كتاب الراوندي ، غير أن في هامشه ذكرت نسخة بدل أنه من كتاب زيد النرسي.
4- في المخطوط : ( الهوى ).

[139] لؤلؤة فقهية : الوصيّة إلى المملوك

مسألة : لو دبّر إنسان مملوكه ، وأوصى له بشي ء فما حكمه؟

والجواب ، ومن اللّه استمداد الهداية : أن التدبير وصيّة للمملوك بثمنه ، فالوصية والتدبير صحيحان وإن وقعا معاً ، ولا يفسد أحدهما الآخر ، لا نعلم فيه مخالفاً ولا يظهر له مانع. وإطلاقات أخبار التدبير والوصيّة لمملوك الموصي (1) تدلّ على صحّتهما معاً ، والظاهر أنه إجماع. ولا تفسد وصيّته وصية أُخرى إذا [ أُخرجا (2) ] من الثلث ، أو أجاز الوارث ، والتدبير وصية.

إذا عرفت هذا ، فلا يخلو إما أن يتقدّم التدبير ، أو الوصية ، وعلى الأوّل ننظر ؛ فإن وسعهما الثلث أو أجاز الورثة أُعتق وأُعطي الوصيّة وإن قصر ، فإن وسع قدر ثمنه أُعتق ، وإن وسع الثلث شيئاً من الوصيّة اعطي أيضاً ، وإلّا اقتُصر على عتقه بالتدبير ؛ لأنهما وصيّتان متعاقبتان فيبدأ بهما الأولى فالأولى ، وإن قصر الثلث عن ثمنه انعتق منه بقدره ، واستسعي في الباقي للورثة.

وعلى الثاني ؛ فإن وسعهما الثلث ، فكما مر من نفوذهما فينعتق ويعطى الموصى له به ، وإلّا فإن وفت الوصيّة أو قيمتها بقيمته انعتق ، وإلّا انعتق منه بقدر الثلث ، واستسعي في الباقي. ولو وفت الوصيّة ببعض قيمته انعتق منه بنسبتها من قيمته ،

ص: 461


1- وسائل الشيعة 19 : 302 - 307 ، كتاب الوصايا ، ب 18.
2- في المخطوط : ( خرجا ).

والباقي بالتدبير إن وفى الثلث بهما ، وإلّا انعتق بالتدبير بقدر ما بقي من الثلث أيضاً ، واستسعي في الباقي.

هذا ما ظهر لي من قواعد الوصيّة والتدبير وأخبار البابين بلا خلاف ولا معارض فيهما ظهر ، ولا يظهر لي خلاف في إجراء التدبير مجرى سائر الوصايا في ترتّبه على ما سبقه ، وترتب ما لحقه عليه. فلا يُتوهّم أن الوصيّة للمدبّر من [ مولاه (1) ] تلغي حكم التدبير ، فيجري مجرى القن الموصى له بشي ء حينئذٍ.

وما في مثل عبارة المحقّق الشيخ علي : في ( شرح القواعد ) (2) والشهيد : في ( المسالك ) (3) و ( الرّوضة ) (4) وابن شجاع : في ( معالم الدّين ) وابن سعيد : في ( الجامع ) (5) في بحث الوصيّة للمملوك ، وأنه ينعتق بالوصيّة من قولهم ، ولا فرق في ذلك بين القنّ وغيره الإشارةُ منهم جميعاً لصحّة الوصيّة للمملوك خاصّة ، كما يشهد به بحثهم في باب التدبير ، فتدبر. واللّه العالم بحقيقة أحكامه وصلّى اللّه على محمّد وآله.

ولو جامع التدبير الاستيلاد انعتقت بالتدبير وإن سبقه الاستيلاد ، فإن وفى الثلث بثمنها ، وإلّا أُكمل من سهم ولدها. ولو أوصى لأُمّ ولده بشي ء مطلقاً انعتقت من نصيب ولدها ، وأُعطيت الوصيّة على أشهر القولين وأظهرهما. ولو اجتمعت ثلاثة : الاستيلاد ، والتدبير ، والوصيّة انعتقت من الثلث بالتدبير إن وسع الثلث ثمنها ، وإلّا أُكمل من نصيب ولدها.

هذا ما يظهر من قواعد الباب وأخباره ، واللّه العالم بحقيقة أحكامه ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على محمّد : وآله الطّاهرين.

ص: 462


1- في المخطوط : ( موالات ).
2- جامع المقاصد 10 : 82.
3- مسالك الأفهام 10 : 511.
4- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 6 : 495.
5- الجامع للشرائع : 408.

[140] رفع وهم وبيان فيه رجم شيطان : هل يمكن أن يوجد أفضل من محمّد صلى اللّه عليه وآله : أم لا؟

مسألة : بلغني أنه سأل بعض ملوك الفرس بعض علمائهم ؛ هل يقدر اللّه عزّ اسمه وتعالى عمّا يصفون أن يخلق أفضل من محمَّد صلى اللّه عليه وآله : أم لا؟

ولعلّ الجواب ومن اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وآله : [ استمداد الصواب ] - : أن من عرف بعض حقيقة الحال ، لم يسأل هذا السؤال ، وذلك أن قدرة اللّه القادر على كلّ شي ء لا تنسب إلى عجز ، ولا توصف بنقص ، و [ لا ] تحدّ بحدّ ، ولا منتهى لها ، فسبحان القادر على أبديّة إمداد أهل الجنة بالنعيم ، وأهل النار بالعذاب الأليم. وهو سبحانه سبب من لا سبب له ، ومسبب الأسباب من غير سبب ، وهو على كلّ شي ء قدير ، وبكلّ شي ء محيط. ولكن خزانة ينبوع الإمكان لا تسع بفطرتها وجوداً مثل وجود محمَّد صلى اللّه عليه وآله ، فضلاً عن [ وجود ] أفضل منه.

والأدلّة على هذا لا تحصى ، وجميع الموجودات بفطرها ووجوداتها وصفاتها ، كما تدلّ على وحدانيّة الباري عزّ اسمه وتعالى تدلّ على ذلك. ولنشر إلى بعض الطرق ؛ ليتبصّر بها النّاظر على سبيل الإجمال :

ص: 463

الأول : أنه قد قام البرهان المتضاعف عقلاً ونقلاً (1) على أنه ليس فوق رتبة وجود محمَّد صلى اللّه عليه وآله : إلّا رتبة الوجوب الذاتيّ ، فهو نور الزيت الّذي يكاد أن يضي ء ولو لم تمسّه نار المشيئة. فإمكانه مستهلك في وجوده ، لشدّة استنارته به ومناسبته (2) له ، فهو أقوى إمكان ؛ لقابليّته لحمل هذا الوجود المطلق ، ولأنه ينبوع فوارة الإمكان على الإطلاق. فكلّ إمكان دونه هو مبدؤه ومنتهاه ، وبابه إلى اللّه ، وأضعف أنواع الإمكان من حيث هو إمكان لشدّة قربه من الوجود ، وقبوله لصفاته ولوازمه ، وهو الّذي له مع ربّه حالات هو فيها هو ، وهو هو ، وهو (3) [ المخاطب (4) ] عن اللّه جميع الخلائق ب- ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) (5).

فإذ ثبت أنه لا يمكن أن يكون لهم ربّان ، لا يمكن أن يقبل الإمكان مثل محمَّد صلى اللّه عليه وآله : ؛ لأنه الّذي أقامه اللّه مقامه في كلّ مقام دليلاً على ذاته وصفاته ، وهو الواحد بكلّ معنًى فلا يكون أوّل صادر منه ، والدليل عليه الجامع لجميع الدلالات إلّا واحداً ، فهو مجمع الشؤون وجامع الصفات [ ومنقطعها (6) ] وهو المثل الأعلى والاسم الأعظم الّذي استأثر اللّه به في علم الغيب عنده ولم يظهره لغيره من جميع الخلق ، فلا يعلمه إلّا هو.

ولا يمكن أن يكون للواحد المطلق مثلان ، فلو وسع عرصة الإمكان أن يكون لوجود محمَّد صلى اللّه عليه وآله : مثل ، لما كان الواجب عزّ اسمه وتعالى واحداً بالوحدة الحقيّة ، بل كان فيه ضرب من التركيب سبحانه وتعالى ، فيؤول السؤال إلى أنه هل (7) يكون الواجب ممكناً أم لا؟ والواحد من كلّ وجه مركّباً أم لا؟ فيكون ولا ينافي عموم قدرة اللّه

ص: 464


1- انظر بحار الأنوار 16 : 299 - 401 ، ب 11.
2- إشارة لقوله تعالى : ( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ) . النور : 35.
3- انظر شرح العرشية 2 : 132.
4- في المخطوط : ( الخاطب ).
5- الأعراف : 76.
6- في المخطوط : ( ومنقطتها ) ، ويحتمل أنه : ( ومنطقتها ).
7- في المخطوط بعدها : ( ان ).

تعالى ؛ إذ من البيّن أن السؤال : هل يمكن اتّصاف الواجب تعالى بصفات الإمكان؟ مع سقوطه لا ينافي عموم قدرة اللّه على كلّ شي ء ، ولا تنسب قدرته تعالى إلى عجز.

الثاني : أن عرصة خزانة الإمكان لا تقبل مثلاً لمحمّد صلى اللّه عليه وآله : وإلّا لوجد ؛ لأنّ الباري عزّ اسمه جواد مطلق ، وقادر مطلق ، وعالم مطلق ، فلا يبخل على مستحقّ بما يستحقّ ، فلو قبلت مادّة الإمكان وجوداً مثل وجود محمَّد صلى اللّه عليه وآله : معه لوجد معه ، ولا يظلم ربّك أحداً ولا يكلّف شيئاً إلّا بما يقبله باختياره ، بل ما يسأله باختياره من بارئه بلسان قابليّته. وإذ لم يوجد لمحمّد صلى اللّه عليه وآله : شبهٌ معه ، عُلم أن مادّة الإمكان غير قابلة له ، ولا يلزم من ذلك عجز في قدرة العليم القهّار.

ولذلك أمثلة كثيرة في الموجودات ، فالثمرة لا تظهر إلّا من الشجرة ، ولا تظهر من النواة قبل أن تكون شجرة ، لا لعجز في القدرة ، بل لعدم أطاقه النواة لذلك ، وعدم قبولها له باختيارها.

فعلى هذا يرجع السؤال إلى أنه هل يمكن اتّصاف الجواد المطلق ببخل أم لا؟ وهذا ساقط متناقض بالضرورة ، فإذا ثبت بالبرهان المتضاعف أنه لا تقبل مادّة الإمكان مثلاً لمحمّد صلى اللّه عليه وآله : ثبت أنه لا تقبل أشرف منه بطريق [ أَولى (1) ].

وأيضاً لو فرض أن مادّة الإمكان تقبل أفضل منه [ للزم (2) ] أنه صلى اللّه عليه وآله ليس هو الباب الأعظم من اللّهِ تعالى ، بل ما فرض هو الواسطة الكلية من اللّه تعالى والدليل الجامع الدلالات على الذات والصفات ، فإذا لم يكن موجوداً بالفعل لزم انسداد باب الجود ، وألّا يوجد شي ء دونه في الرتبة ، وقد وجد الخلق ، فمَن وَاسطتهم وسببهم إلى اللّه؟ ولزم أن [ لا ] يوجد محمَّد صلى اللّه عليه وآله : لأن سببه وبابه إلى اللّه لم يوجد ، ولم ينفتح وانقطعت السفارة من الخلق إلى الحقّ ، ولزم الفصل بين الحقّ والخلق بعدم ، ولزم بخل الجواد المطلق بأعظم جوده ، وأشدّ ما يحتاج إليه الخلق ، ولزم ألّا يوجد أقرب الخلق إلى اللّه.

وكلّ ذلك مستحيل بالضرورة ، ويلزمه مفاسد لا تحصى ، وألّا يعرف أحد ربّه.

ص: 465


1- في المخطوط : ( أولا ).
2- في المخطوط : ( لازم ).

وأيضاً لا تقبل مادّة الإمكان مثل محمَّد صلى اللّه عليه وآله : معه ، بل ذلك مستحيل ذاتيّ ؛ لما يلزمه من تعطيل جود الجواد المطلق بذاته ، أو تركّب ذات الباري عزّ اسمه وتعالى. فإنّا إن فرضنا أن مادّة الإمكان تسع من هو أشرف من محمَّد صلى اللّه عليه وآله : لزم الأوّل ؛ لأن المفروض في السؤال عدم وجود من هو أشرف الممكنات وأقربهم إلى اللّه تعالى ، وهو باب الجود والرحمة العامّة ، وعلّة كلّ موجود ، فإذا عدمت العلّة لم يوجد المعلول ، مع أنه فرض مستحيل بالضرورة ، لضرورة وجود الجود.

وإن منعنا صحّة هذا الفرض واستحالته ، لزم من فرض وجود المماثلة له معه فرض تركّب ذات الواجب عزّ اسمه وتعالى ، لضرورة لزوم تعدّد مبدئهما وجهة صدورهما ؛ إذ لا يمكن صدور شيئين من مبدأ واحد ، من جهة واحدة ، من كلّ وجه ، وقد برهن على هذا في الحكمة (1). فإذا امتنع فرض وجود المماثل امتنع فرض وجود الأشرف بطريق الأولويّة.

وعلى كلّ حال ، [ فمآل ] هذا السؤال إلى أنه هل يصحّ فرض قيام صفات الإمكان والحدوث بذات الواجب أم لا؟ فيلزمه أن السؤال : هل يصحّ فرض إمكان الواجب أم لا؟ وهو ضروري السقوط ، فلا ينافي عموم قدرة اللّه تعالى على كلّ ما يشاء بالضرورة.

وهذا السؤال الساقط المستحيل الذاتيّ يشبه ما سأل به بعضَ المتشبهين بالطلبة بعضُ الجهال في زماننا ألقاه الشيطان على لسانه ؛ لعدم علمه بجهله ، وصورته : هل يقدر اللّه تعالى وتقدّس عمّا يصفون أن يخلق له مثلاً أم لا؟ وما درى المسكين الجاهل أن هذا السؤال أشبه بالزندقة من الإيمان ؛ لأنه سؤال صريحه أنه هل يمكن أن يكون الواجب ممكناً مخلوقاً أم لا؟ وهل يمكن أن يكون للواجب مثل أم لا؟ وهو ساقط بالضرورة ، وفيما ذكرناه كفاية لرده.

ص: 466


1- انظر في ذلك محصل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 152.

[141] بيان نفسيّ لحديث قدسيّ : حديث « كنت سمعه وبصره »

ما الجمع بين ما جاء في الحديث القدسيّ « فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به ، وبصره الّذي يبصر به .. ويده [ التي (1) ] يبطش بها » (2) ، وبين ما جاء عنهم عليهم سلام اللّه - « نحن سمع اللّه وعينه ويده ولسانه؟ » (3) فالأوّل يدلّ على أنه تعالى سمعهم وبصرهم ويدهم ، والثاني يدلّ على أنهم عليهم السلام سمعه وبصره ولسانه ويده.

ولعلّ الجواب بطريقين :

أحدهما : أنه جاء عنهم عليهم سلام اللّه أنهم قالوا « لنا مع ربنا حالات نحن فيها هو ، وهو فيها (4) نحن ، وهو هو ، ونحن نحن » (5) ، ففي تلك الحالات هو سمعهم وبصرهم ولسانهم ويدهم ، وهم سمعه وبصره ولسانه ويده ، وفي غيرها هو سمعهم وبصرهم ولسانهم ويدهم ، دون العكس ، بل يمكن التعاكس في كلّ حال بوجه ؛ فإنهم لا ينطقون عن الهوى ، ولا يبصرون عنه ، ولا يبطشون عنه على حال. كلّ ذلك من غير لزوم تشبيه ولا نقص في وحدانيّة الباري ، تقدّس وتعالى.

الثاني : أن معنى الحديث القدسيّ : أن المؤمن ينظر ويسمع بنور اللّه ، وينطق بنور

ص: 467


1- من المصدر ، وفي المخطوط : ( الذي ).
2- بحار الأنوار 67 : 22 / 21.
3- بصائر الدرجات : 61.
4- ليست في المصدر.
5- شرح العرشيّة 2 : 132 ، وفي رواية فيه : « إلّا إنه هو ، ونحن نحن ».

اللّه وحكمته ، معبّراً عنه أي النور الّذي خلق منه واللّه تعالى يمدّه بعلمِه ، وعلمُه بنوره وقدرته ، ويفجّر من لسانه ينابيع الحكمة بذلك أبداً ، فيظهر ما في قوّته إلى فعله. فهم عليهم سلام اللّه لا يشاؤون الّا ما يشاء اللّه ؛ فقلوبهم وكر مشيئة اللّه تعالى ، ( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) أبداً في كلّ حال.

فهو تعالى بهذا الاعتبار عينهم وسمعهم ويدهم ولسانهم إلى آخره. فأمرهم أمر اللّه ، ونهيهم نهي اللّه ، فطاعتهم طاعته ، ومعصيتهم معصيته. كلّ ذلك على سبيل الحقيقة ، وليس فيه تجوّز بوجه ، وهم عليهم السلام عينه [ الّتي (1) ] ينظر بها عباده نظرة الرحمة ، بل والنقمة ، ويده المبسوطة على بريته بالجود ، بل والقهر والبطش ، ولسانه المعبّر عنه بالحقّ إلى خلقه.

وبالجملة ، فهم عليهم السلام بابه الأعظم ، وسبيله الأقوم لجميع خلقه ، فلا وجود ولا كمال ولا جود مطلقاً إلّا وهم بابه وسبيله وواسطته وشفعاؤه إلى اللّه ، و [ هم (2) ] هداة الخلق إلى كلّ كمال وجمال وجلال ، فلهم النعمة على جميع الخلق ، حتّى في أصل وجود ذاتهم وبقائهم ورزقهم وحياتهم وموتهم ومبدئهم ومعادهم ، فلا منافاة بين الحديثين بوجه ، واللّه العالم.

ص: 468


1- في المخطوط : ( الذي ).
2- في المخطوط : ( هما ).

[142] فصّ يمانيّ في فحص فقهيّ : مسألة ما لو ترك سجدة أو تشهداً وشكّ في تعيينه

مسألة : لو قام رجل للثالثة في رباعية ، وبعد استقلاله قائماً ، تيقّن أنه ترك واجباً : إما سجدة ، وإما التشهد ، ولم يقطع بتعيين المتروك ، [ فما (1) ] ما حكمه؟

الجواب : ما يحضرني لفقهائنا شي ء ، وفيها ثلاثة أوجه :

الأوّل : أنه يهدم القيام ويجلس ؛ لأن من تيقّن أنه ترك واجباً بعد قيامه ، وجب عليه هدم ذلك القيام ، لتلافي ما ترك ، وهذا قد تيقن أنه ترك واجباً ، فيجب عليه هدم هذا القيام ، ولا يجوز له المضيّ فيه ؛ لأنه منهيّ عنه ، والنهي في العبادة يستلزم الفساد. فبقاؤه قائماً حينئذٍ مبطل ، فإذا كان حينئذٍ شاكّاً في السجدة فيجب عليه تلافيها ؛ لأنه في محلّه ، ولم يدخل في عمل آخر. فإذا سجد كان شاكّاً في التشهد فيجب عليه تلافيه ؛ لأنه في محلّه ، ولم يدخل في عمل آخر ينافيه.

وهذا وإن استلزم زيادة واجب في الواقع إلّا إنا نمنع بطلان الصلاة بمثله ؛ إذ ليس هو بركن ، ونمنع شمول أدلّة بطلان الصلاة بتعمّد زيادة واجب لمثل هذا ؛ فإنه ليس عمداً محضاً ، والبطلان إنّما هو لتعمّد زيادة واجب محضٍ ، وهذا إنّما هو فيه

ص: 469


1- في المخطوط : ( ما ).

بحسب اللزوم الواقعيّ ، وهذا هو الأقرب الأوجه عندي.

الثاني : ما يظهر من كلام الشيخ حسين : في ( شرح المفاتيح ) و [ اختاره (1) ] بعض الطلبة من المعاصرين من أهل البحرين ، وهو أنه حينئذٍ يتمّ الصّلاة ولا شي ء عليه. ووجّه بأنه بعد استقلاله قائماً شاكّ حينئذٍ في كلّ من التشهّد والسجدة ؛ لعدم قطعه في كلّ منهما بعدم تركه ، والشكّ في كلّ منهما بعد القيام لا عبرة به.

وهذا وإن استلزم نقصان واجب في الواقع بيقين ، لكنا نقول : بعدم ضرره في مثل هذا ، ونمنع شمول أدلّة بطلان الصلاة بنقص واجب عمداً لمثل هذا ؛ لأنه ليس بعمد محض.

وفيه أنا نمنع صحّة هذا القيام بعد تيقّن ترك واجب ، وهذا قد تيقّن بعد قيامه أنه ترك واجباً بيقين ، فيجب هدم هذا القيام لتلافيه. فالمضيّ فيه منهيّ عنه ، وهو يستلزم الفساد.

فإن قلت : نمنع وجوب هدم القيام لتلافي واجب غير معلوم بشخصه.

قلنا : يكفي في وجوب هدم هذا القيام القطع بترك واجب ولو لم يتشخّص بعينه بل اشتبه بغيره. وهذا حينئذٍ قاطع بأنه أهمل واجباً ، وعموم النصّ والفتوى يشمل المتشخّص والمشتبه بغيره ، والإطلاقات تتناوله.

الثالث : ما أفتى به بعض الطلبة من أهل البحرين المعاصرين أيضاً ، وهو بطلان الصلاة حينئذٍ. ووُجّه بأنه حينئذٍ إن عمل بالوجه الأوّل لزم زيادة واجب في الواقع قطعاً عمداً ، وإن عمل بالثاني لزم ترك واجب في الواقع قطعاً عمداً ؛ فالوجه البطلان.

ونمنع عموم شمول أدلّة البطلان بزيادة مثل هذا الواجب المشتبه بغيره ونقصانه.

وزاد بعض طلبة أهل البحرين على القول بالمضيّ وجوبَ قضاء [ السجدة (2) ] والتشهّد وسجود السهو ، مقدماً للسجود ثمّ التشهّد ثمّ سجود السهو ؛ لأنهما يجب قضاؤهما مع الفوات ولا يعين لفوات واحد منهما بعينه ، فوجب قضاؤهما ؛ ليحصل يقين البراءة منهما.

ص: 470


1- في المخطوط : ( اختار ).
2- في المخطوط : ( سجدة ).

وفيه أن السجدة والتشهّد إنّما يقضيان إذا تركا سهواً ، ولم يذكرا إلّا بعد الدخول في واجب ركني ، وليس هذا كذلك ، ولأن المتروك منهما يجب تلافيه بعد التسليم بلا فصل ، فلا يحصل بقضاء واحد منهما خاصّة أو كليهما يقين البراءة.

وأيضاً نمنع وجوب قضاء مثل هذا الفائت ، ونمنع شمول أدلّة وجب قضاء المتروك منهما في مثل هذه الحالة ، وإنّما يجب قضاء الفائت منهما سهواً محضاً. وهذا ممّا يستأنس به لضعف الوجه الثاني وتقوية الأوّل.

وممّا يضعفه أيضاً ويقوّي الأوّل أنه لو وقع هذا الشكّ قبل أن يستقلّ قائماً ، فإنه لا ينبغي الشكّ في أنه يجب عليه القعود والعمل بالوجه الأوّل من تلافي السجود ؛ لشكّه فيه وهو في محلّه لم يدخل في عمل آخر يوجب إلغاء الشكّ وعدم اعتباره ، فإذا سجد سجدة وجب التشهّد لما ذكرناه.

وتعليله غير جارٍ في هذه الصورة ؛ فلا بدّ حينئذٍ من العمل بالأوّل ، والقول بالبطلان لا يتمّ في هذه الصورة ؛ لعدم جريان دليله فيها ، فإذا هدم القيام المنهيّ عنه ؛ لوقوعه في غير محلّه قطعاً للقطع بترك واجب ، كان كمن عرض له الشكّ قبل استقلاله قائماً ؛ لوجوب هدم هذا القيام.

ومع هذا فالمسألة لا تخلو من الإشكال ، والمخلص منه إكمالها على الوجه الأوّل وسجود السهو ثمّ الإعادة ؛ سواء كان الشكّ واليقين قبل القيام أو بعده. وأحوط منه إضافة قضاء السجدة والتشهّد بعد التسليم مقدّماً لقضاء السجدة ، لسبقها على التشهّد على سبيل الأولويّة ، واللّه العالم.

ص: 471

ص: 472

[143] جمع مفترقين ونكاح جنسين : جواز نكاح الجنّ

مسألة : هل يجوز للبشر نكاح الجنّ أم لا؟

لم أقف على من تعرّض [ لهذه المسألة ] إلّا الشيخ سليمان الماحوزيّ : في ( أزهار الرياض ) ، قال رحمه اللّه : ( لم أقف في هذه المسألة لأصحابنا على كلام نفياً وإثباتاً ).

وذكر اختلاف العامّة في المسألة ، وأدلّة المانِعين منهم والمجوزين ، واختار هو الجواز ، واستدلّ عليه بأصالة الجواز وأصل الإباحة ، وبعموم ما دلّ على شرعيّة النكاح والترغيب فيه (1) ، وعدم ثبوت كون اختلاف الجنس مانعاً ، وبما رواه عن أبي هريرة : قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « إن أحد أبوي بلقيس كان جنّيّا » (2).

وبما رواه الصدوق : في ( من لا يحضره الفقيه ) بإسناده عن القاسم بن عروة : عن بريد العجلي : عن أبي جعفر عليه السلام : قال : « إن اللّه تعالى وتبارك أنزل على آدم عليه السلام : حوراء من الجنة ، فزوّجها أحد ابنيه ، و [ تزوّج (3) ] الآخر ابنة الجانّ ، فما كان في الناس من جمال كثير أو حسن خلق فهو من الحوراء ، وما كان فيهم من سوء خلق فهو من ابنة الجانّ » (4).

قال رحمه اللّه : ( وإذا ثبت جوازه في الشرائع المتقدّمة ثبت جوازه في شريعتنا ؛ لعدم

ص: 473


1- وسائل الشيعة 20 : 13 - 26 ، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ، ب 1 - 2.
2- بحار الأنوار 60 : 312 ، وليس فيه لفظ : « إن ».
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( زوج ).
4- الفقيه 3 : 240 - 241 / 1137 ، وسائل الشيعة 20 : 364 ، أبواب ما يحرم بالنسب ، ب 3 ، ح 2.

ثبوت نسخه ) (1) ، انتهى.

وأقول : ما اختاره رحمه اللّه تعالى من الجواز هو الحقّ ، للأصل السالم من المعارض ، ولظاهر قوله تعالى : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (2).

وظاهر عموم قولهم عليهم السلام : « كلّ شي ء لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه » (3).

ولما رواه في ( من لا يحضره الفقيه ) (4) من الحديث المذكور ، ومضمونه مرويّ بطرق متعدّدة لا تخفى على المتتبع مع عدم ورود نسخه ، [ فاستصحب (5) ] مشروعيّته. حتّى يثبت المزيل الناقل عن يقين المشروعيّة.

ولخبر تزويج أمير المؤمنين عليه السلام [ أحدهم ] جنّية من جنّ وادي نصيبين (6).

ولأن نكاح الجنّيّة بدون أن تكون في صورة البشر محال على البشر ، فإذا صارت في صورة البشر جرى عليها أحكام البشر فصحّ نكاحها ، ودخلت في أدلّة جواز نكاح البشر كتاباً وسنةً وجماعاً ؛ لأن الأحكام الشرعيّة تدور على الصورة النوعيّة الّتي هي مظهر الماهيّة حِلّا وتحريماً ، ونجاسةً وطهارةً.

ولا ينافيه جواز تمكّنها من التشكّل بغير تلك الصورة حينئذٍ ، وإمكان ظهورها في غيرها ؛ فإن المدار على الصورة المنكوحة حال النكاح ، لا على الحقائق العينيّة ، فإنا ننكح بعض المسلمات من البشر ونحن نعلم أن حقيقتها العينيّة وصورتها النفسيّة بل الخياليّة كلب أو خنزير أو قرد أو غير ذلك ، لكن حلّ لنا نكاحها بحسب الصورة الظاهرة المحسوسة.

ص: 474


1- أزهار الرياض : 69 - 70 ( مخطوط ).
2- البقرة : 29.
3- الكافي 5 : 313 / 40 ، الفقيه 3 : 216 / 1002 ، تهذيب الأحكام 7 : 226 / 989 ، وسائل الشيعة 17 : 89 ، أبواب ما يكتسب به ، ب 4 ، ح 4.
4- بحار الأنوار 11 : 236 / 18 ، 244 / 39 ، 40.
5- في المخطوط : ( فستصحب ).
6- انظر : الخرائج والجرائح 2 : 826 / 39 ، الأنوار النعمانيّة 1 : 83 - 84 ، بحار الأنوار 42 : 88 / 16 ، وفيها : جنيّة من أهل نجران يهوديّة اسمها سحيقة بنت جريريّة ، حيث تمثّلت بمثال أُمّ كلثوم ابنة أمير المؤمنين عليه السلام ؛ كي يزوّجه عليه السلام بها بعد أن طلب منه أن يزوّجه من ابنته أُمّ كلثوم.

وأمّا الاستدلال على الجواز بخبر أبي هريرة : ففيه مع شدّة ضعفه وخروجه عن أخبار الفرقة أن دلالته موقوفة على ثبوت نكاح سليمان عليه السلام : لها ، وإلّا احتمل فيه إن سلم أنه نكاح على غير وفق الشريعة. وقد وقفتُ في كلام بعض الأُدباء المأمونين ، نقلاً من حاشية السيد نور اللّه الشوشتري : على البيضاوي : على ما لفظه : ( قال السيد المرتضى : في كتابه الموسوم ( بصحيفة الحقائق ) رواية عن معاوية بن عمار : سألت الصادق عليه السلام : عن آدم عليه السلام : أكان يزوّج ابنته من ابنه؟ فقال : « معاذ اللّه ، لو فعل ذلك ما رغب عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، وما كان دين آدم : إلّا دين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : إن اللّه تعالى لما أهبط آدم : وحوّاء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حواء قابيل : ثمّ ولدت هابيل : فلما أدرك قابيل : أظهر اللّه له جنّيّة من الجنّ يقال لها جمانة : في صورة إنسيّة : فأوحى اللّه إلى آدم : أن زوّجها من قابيل » ) الخبر.

وفيه دلالة واضحة على عدم نسخ ذلك ، وعلى أنه إنّما نكحها في صورة إنسيّة ، فعلى الصورة دار الحكم ، واللّه العالم.

ص: 475

ص: 476

[144] تحقيق حال وإظهار كمال : مسألة التوأمين أيهما أكبر؟

مسألة : لو وضعت امرأة توأماً ، فأيّهما أكبر ؛ أهو الخارج أوّلاً أو أخيراً؟

الجواب الأظهر أن الأكبر هو الّذي خرج أخيراً. والدليل عليه ما رواه الكليني : عن محمّد بن يحيى : عن أحمد بن محمّد بن عيسى : عن علي بن أحمد بن أشيم : عن بعض أصحابه قال : أصاب رجل غلامين في بطن ، فهنأه أبو عبد اللّه عليه السلام : وقال : « أيّهما أكبر؟ » فقال : الّذي خرج أوّلاً. فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : « الّذي خرج أخيراً هو أكبر ، أما تعلم أنها حملت بذلك أوّلاً ، وأن هذا دخل على ذلك ، فلم يمكنه أن يخرج حتّى خرج هذا. فالّذي يخرج أخيراً هو أوّلهما » (1).

ورواه الشيخ بسنده عن محمّد بن يعقوب : إلى آخر السند (2).

وهذه الرواية لم يظهر لها معارض من عقل ولا نقل ولا إجماع ، بل لعلّ الدليل الاعتباريّ يساعدها.

وفي إيراد رائسي الفرقة وشيخيها لهذه الرواية من غير ردّ لها ولا ذكر لما يعارضها من الأخبار ، ولا تصريح يطّرحها وعدم العمل بها دليل على أنهما عاملان بها ، خصوصاً شيخ الطائفة : فان ديدنه في ( التهذيب ) الكلام على ما لا يوافق رأيه

ص: 477


1- الكافي 6 : 53 / 8 ، وسائل الشيعة 21 : 497 ، أبواب أحكام الأولاد ، ب 99 ، ح 1.
2- تهذيب الأحكام 8 : 114 - 115 / 395.

من الأخبار الّتي يوردها فيه ، بتأويل أو طرح وبذكر ما يعارضه من الأخبار.

ويدلّ عليه أيضاً مرسل جامع ابن سعيد : قال : وروى أن أكبرهما آخرهما خروجاً (1).

وممّا يستأنس له به ما في ( الكافي ) بسنده عن الثمالي رضى اللّه عنه : قال : سألت أبا جعفر : عليه السلام الخبر إلى أن قال عليه السلام - « وللرحم ثلاثة أقفال : قفل في أعلاها ممّا يلي السرة من الجانب الأيمن ، والقفل الآخر في وسطها ، والقفل الآخر أسفل الرحم ، فيوضع بعد تسعة أيام في القفل الأعلى ، فيمكث فيه تسعة أيام وعند ذلك يصيب المرأة خبث النفس و [ التهوّع (2) ]. ثمّ ينزل إلى القفل الأوسط ، فيمكث فيه ثلاثة أشهر ، وسرّة الصبي فيها مجمع العروق : عروق المرأة كلّها ، منها يدخل طعامه وشرابه من تلك العروق. ثمّ ينزل إلى القفل الأسفل فيمكث فيه ثلاثة أشهر ، ثمّ تطلق المرأة فكلّما طلقت انقطع عرق من سرة الصبي » (3) الخبر.

وكذلك جميع الأخبار (4) الدالّة على مقادير رتب الجنين ، وهي كثيرة تؤيّده.

فقد علم من الأخبار ، وقواعد الحكمة المتقنة ، وقواعد فنّ الطبيعيات ، وقوانين الفقه ، كما يظهر لمتأمّل أحكام العدد أن أوّل مبدأ مراتب خلق الإنسان الحسّي النطفة ، ثمّ العلقة ، ثم المضغة ، ثم العظام ، ثم كسوة العظام لحماً ، ثم ينشئه اللّه تعالى خلقاً آخر ، كما نصّ عليه الكتاب الحكيم (5).

ولا ريب أن الخارج أخيراً قد تطوّر بهذه الأطوار ، ودار في هذه الأدوار وقرّ في القرار ، وسكن هذه البيوت ، وقفلت عليه هذه الأقفال قبل الخارج أوّلاً. والكبر والصغر الزمانيّ إنّما هو بحسب سبق الحصول في زمان سابق ، فمن سبق زمان وجوده في الزمان ، فهو أكبر. ولا مدخل في ذلك للسبق المكانيّ حتّى يقال : إن من

ص: 478


1- الجامع للشرائع : 460.
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( التموج ).
3- الكافي 6 : 15 / 5 ، باختلاف.
4- الكافي 6 : 12 - 16 / باب بدء خلق الإنسان وتقلّبه في بطن امّه.
5- في الآية : 12 - 14 من سورة المؤمنون.

سبق إلى الحيّز الأرضيّ هو أكبر ، فلا يمكن أن يكون من هو في قرار الرحم ، والقفل الثالث كان نطفة ثمّ علقة إلى آخر المراتب بعد الخارج أوّلاً ؛ لأن الخارج أخيراً سكن هذه الأقفال ، وكمل خلقه ، حتّى كان إنساناً قبل الخارج أوّلاً ، لضرورة تعدّد النطفتين وتعاقبهما في الوصول إلى الرحم.

فالخارج أخيراً كان نطفة حال كون الخارج أوّلاً في قوى أبيه متفرّقاً ، أو في بقلة ، أو في قوى السحاب ، أو في القوى السماويّة ، وإنّما منع الأخير الأوّل عن الخروج بسبب سدّه المخرج.

ولا يرد أنه يلزم بقاء الخارج أخيراً في الرحم أكثر من مدّة الحمل ، ولو بقي أكثر من مدّة الحمل ساعةً قتل امّه كما في الخبر ؛ لجواز أن ينقص الخارج أوّلاً عن أقصى مدّة الحمل ، ولا ضرر فيه أصلاً بل هو كثير الوقوع.

وقال الشيخ سليمان الماحوزي : في ( أزهار الرياض ) : ( هل أكبر التوأمين أوّلهما خروجاً أو آخرهما؟ وتظهر الفائدة في قضاء فوائت الميّت وفي الحبوة وغيرهما.

والجواب : الظاهر أن أكبر التوأمين أوّلهما خروجاً ، قضية [ العرف (1) ] ، ولأن الأكبرية والأصغرية إنّما هما بعد الخروج إلى دار الدنيا وتحقّق الحياة ، وذلك بعد الانفصال. وبه جزم الشيخ نجيب الدين يحيى بن سعيد الأصغر : في ( الجامع ) وهذه عبارته : ( وأكبر التوأمين أوّلهما خروجاً ، وروى : آخرهما خروجاً ) (2) ، انتهى.

ألا تراه كيف جزم بالأوّل ونسب الثاني إلى الرواية بصيغة التمريض؟ والرواية المذكورة ضعيفة الإسناد رواها محمّد بن يعقوب).

وساق الرواية المذكورة ثمّ قال : ( ورواها الشيخ : بإسناده عن محمّد بن يعقوب : إلى آخر الإسناد. وضعف الرواية بجهالة [ ابن (3) ] أشيم : والإرسال وغيرهما من عدم وضوح التعليل بسقط التعلّق بها في إثبات مثل هذا الحكم المخالف لقضيّة العرف.

ص: 479


1- من المصدر ، ويؤيده قول المصنّف : ( أما أن قضيّة العرف .. ) ، وفي المخطوط : ( المعرف ).
2- الجامع للشرائع : 460.
3- في المخطوط : ( بن ).

واعلم أن هذه المسألة ، قلّ من تعرّض لها من الأصحاب ، بل لم أقف عليها الآن في غير ( الجامع ) ، فدعوى الإجماع فيها على أكبرية آخرهما مجازفة محضة لا تقبل ، واللّه الهادي ) (1) ، انتهى كلامه ، رفع اللّه مقامه.

وأقول : أما أن قضية العرف أن الخارج أوّلاً هو الأكبر ، فممنوع في التوأمين وإن سلّمناه فيما إذا تعدّدت الأُمّهات ، ولو سلمنا فيهما في العرف العام منعناه في عرف الشارع ، بدلالة ما ذكرناه ، والعرف العامّ لا يعارض ما ذكرناه من الأدلّة لو لم يثبت به عرف للشارع ، وأمّا أن الأكبريّة والأصغريّة إنّما هما بعد الخروج إلى الدنيا ؛ فإن أراد بالدنيا : خصوص خارج البطن منعناه ، وإن أراد مطلق عالم الأجسام فالخارج أخيراً قد سبق إليه كما عرفت ، وعليه يثبت أكبريّة الخارج أخيراً.

وأمّا أن مدارهما على أسبقيّة تحقّق الحياة ، فالخارج أخيراً قد سبق إليها ؛ إذ ليس أوّلها : الخروج من البطن بالضرورة ، وأمّا جزم ابن سعيد : بذلك فليس بحجّة ، وإمكان كون مرسلته (2) رواية أُخرى غير رواية محمّد بن يعقوب (3) : ظاهر ، بل هو الظاهر.

وأمّا ضعف الرواية ، فليس بمانع من العمل بها إذا لم يظهر لها معارض أقوى من نصّ أو إجماع خصوصاً مع كون ظاهر رائسي الفرقة العمل بها. وكم عمل الأصحاب بالمراسيل والموثّقات والمقطوعات والضعاف! فالخبر المشتمل على مجهول أقوى ممّن عُلم يقيناً عدم إيمانه ، لاحتمال صلاحه ، بل وثاقته ، فهو أقوى العرف العامّ لو سلم في التوأمين. ولم يأت ابن سعيد : بدليل على فتواه حتّى ننظر فيه.

ومع هذا فظاهر عبارة الشيخ سليمان : هنا [ أنه يدّعي أن (4) ] الإجماع على

ص: 480


1- أزهار الرياض : 469 - 470 ( مخطوط ).
2- الجامع للشرائع : 460.
3- الكافي 6 : 53 / 8 ، وسائل الشيعة 21 : 497 ، أبواب أحكام الأولاد ، ب 99 ، ح 1.
4- في المخطوط : ( مدع ).

أكبريّة الخارج أخيراً غير ما ذكر المنقول حجّة ، فيكون دليلاً على أكبريّة الخارج أخيراً غير ما ذكر ، فهو يعضد الخبر ويقوّي ضعفه.

والعجب من الشيخ سليمان : حيث اطّرح الخبر مع روايته في ( الكافي ) و ( التهذيب ) ، ويستند في فتواه بأكبريّة الخارج أوّلاً إلى قضيّة العرف من غير معارض ، وهذا خلاف المعلوم من طريقته. ومع هذا كلّه [ فالمسألة (1) ] لا تخلو من الإشكال ، واللّه الهادي وعليه الاتكال.

ص: 481


1- في المخطوط : ( والمسألة ).

ص: 482

[145] دفع إشكال وبيان حال مسألة لعن الكافر والدعاء عليه

مسألة : ورد في الشريعة التعبّد بلعن الكفار والدعاء عليهم بمضاعفة العذاب ؛ فإمّا أن يكون هذا اللعن والدعاء يزيد في عذابهم وبُعدهم من ساحل الرحمة ، أو لا.

وعلى الأوّل يلزم أنهم يعذّبون زيادة على ما استحقّوه بنيّاتهم وعقائدهم وأعمالهم ، وأنهم يعذّبون بحسنات غيرهم ، وهذا يعاند العدل ويناقضه.

وعلى الثاني تنتفي فائدة اللعن عليهم والدعاء بمضاعفة العذاب عليهم ، وقد تعبّد اللّه الخلق بذلك ، ومحال أن يتعبّد اللّه عباده بدعاء لا يستجاب ، بل يستحيل بروز حقيقته في الوجود بحسب قواعد العدل. والتعبّد بعمل لا تحقّق لحقيقته ولا فائدة فيه عبث ، تعالى الحكيم العدل عن ذلك.

قلت : قد أجاب (1) السيد نعمة اللّه : في حاشية ( الصحيفة ) عن هذا الإشكال حيث قال : ( بقي الكلام في فائدة اللعن لأعدائهم ، فقيل : إنه لا يزيد في عذابهم ، والحقّ خلافه بالتقريب المذكور ).

يعني به وجود الفاعل والقابل ، فكما أن مراتب فيض الفاعل سبحانه للثواب لا تقف [ عند ] حدّ ، فكذلك مراتب نقمته وعذابه لا تقف [ عند (2) ] حدّ بحكم المقابلة والمضادّة.

قال رحمه اللّه : ( وأمّا ما يتراءى من منافاته لقاعدة العدل أنه كيف يكون فعل شخص

ص: 483


1- في المخطوط بعدها : ( عن ذلك ).
2- في المخطوط : ( إلى ).

سبباً لزيادة عذاب غيره ، مع أنه لا اختيار فيه؟ فالجواب عنه من وجهين :

الأوّل : أنه تعالى قدر لهم عذابين : عذاباً بإزاء أفعالهم ، وآخر بإزاء لعن اللاعنين ، وأسمعهم أنهم إن فعلوا ذلك الفعل القبيح أن يعذبهم بهما. وبعد هذا فأين الظلم؟

الثاني : أن لعنهم من باب شكاية المظلوم من ظالمه ، لأن منهم قد ثارت الفتن أوّلاً ، ومنهم استتر إمام العدل وبقي الناس في ظلم الجهالة ، فهم قد ظلمونا معاشر المسلمين. ولعمري إن ظلمهم علينا أشدّ من ظلمهم على أهل البيت عليهم السلام : لأن فوائدهم كانت تصل إلينا ) ، انتهى كلامه.

قلت : أما القول بأنه لا يزيد في عذابهم ، فواضح البطلان لما مرّ من استحالة التكليف والتعبّد بمثله.

وأمّا الوجه الأوّل ، ففيه أن العذاب الثاني إن كان بمقتضى عقائدهم وأعمالهم ونيّاتهم انتفت الاثنينية ، ولم يكن لهم عذاب إلّا بأعمالهم ، وإلّا استحال بمقتضى قواعد العدل والحكمة. فالقول به أشبه بتسليم الإشكال من دفعه.

وأمّا الوجه الثاني ففيه أن الدعاء باللعن ومضاعفة العذاب غيرُ الشكاية بالضرورة ، لتباين الحقيقتين شرعاً وعرفاً ولغةً ، فلا يفهم أحدٌ سمع آخر يلعن شخصاً أو يدعو عليه بمضاعفة العذاب أنه إنّما تشكّى من ظلمه له ، فكم لاعن داعٍ على آخر وليس قبَله ظلامه ، بل لعنه ودعاؤه ظلم.

وعلى فرض تسليمه ، إذا وقع من شيعة أهل البيت : عليهم السلام على ظالميهم لا يعمّ ولا يرفع الإشكال في اللعن والدعاء منا على فرعون : ونمرود : وبخت نصر : إلّا بوجه خفيّ هو إثبات أن كلّ ظلم وقع في العالم فهو ظلم لآل محمّد : صلى اللّه عليه وعليهم وشيعتهم ، فكلّ مؤمن في الخلق فهو شيعتهم ، وكلّ شريعة فهي شريعتهم. ولهذا كان أصل كلّ ظلم في العالم هو عدوهم ، ومنه بدأ وإليه يعود ، حتّى غواية إبليس : في عالم الأرواح ، فإن روحه أغوت روحه. ولكن الظاهر أن الشارح لم يلحظ هذا.

وأمّا أن الناس حال استتار الإمام في ظلم الجهالة ، فكلام ظاهريّ ؛ إذ لا فرق

ص: 484

بين ظهوره وغيبته في وجوب هداية الخلق عليه وحفظه للشريعة ، فنور هدايته واصل [ إلى قلوب (1) ] شيعته ، خصوصاً نوّابه الّذين جعلهم الحجّة على الناس ، وأمرهم بالرجوع إليهم ، والأخذ عنهم. ولو كان الأمر كما هو ظاهر عبارته ، لكان كلّ من لم يرَ الإمام من أهل الآفاق في زمن الظهور في ضلالة ؛ إذ لا فرق بينهم وبين أهل زمن الغيبة.

ففوائدهم وهدايتهم وحفظهم للشريعة زمن ظهورهم وغيبتهم سواء من كلّ وجه ؛ إذ لو اختصّ وصول فوائدهم وهدايتهم إلينا بزمن الظهور ، لارتفع التكليف واندرست الشريعة وفني الخلق ؛ لارتفاع العامل بالحقّ ، وعدم فائدة وجود الحجّة في الأرض.

وأمّا أن ظُلمهم علينا أشدّ من ظلمهم على أهل البيت ، فضعفه ظاهر لكلّ ظلم وقع في العالم ، فهم عليهم السلام المظلومون به بالأصالة ، فكلّ من ظلم في العالم فضلاً عن امّة محمَّد صلى اللّه عليه وآله : فهو فرع ظلمهم وفاضله ، وتبع له. ينبّهك على هذا ما ورد عنهم في تشبيه نسبة شيعتهم منهم بورق الشجرة (2) ، فهم الشجرة المباركة وشيعتهم ورقها ، فتنبه.

وقال المجلسي رحمه اللّه : في حاشية ( الصحيفة ) : ( تذنيب : وممّا يناسب هذا البحث ، حل إشكال يورد في اللعن على أعدائهم وسائر من يستحقّ اللعن ، وهو أنه هل يصير اللعن سبباً لزيادة عقابهم أم لا؟ وعلى [ الثاني (3) ] يلزم أن يكون لغواً ، وعلى [ الأوّل (4) ] يلزم أن يقاسوا من الشدائد والعذاب بفعل غيرهم ما لا يستحقونه.

ونختار في حله مسالك :

المسلك الأوّل أن نختار الشقّ الأوّل ، ويقال : الفائدة إظهار بغض أعداء اللّه ، وليس الغرض منه طلب العذاب ، بل محض إظهار عداوتهم ، فنستحق بذلك المثوبات العظيمة كما في ذكر كلمة التوحيد المخبر عمّا في الضمير من اعتقاد الحقّ.

ص: 485


1- في المخطوط : ( أمد القلوب ).
2- بحار الأنوار 24 : 136 - 143 / ب 44.
3- في المخطوط : ( الأول ).
4- في المخطوط : ( الثاني ).

المسلك الثاني : أن نختار الشقّ الثاني ، ويقال : إن مقادير العقوبات ليس إلّا بتقدير الشارع ، مثلاً الشارع قرّر على ترك الصلاة عقاب ألف سنة ، وقال لعبده : لا تتركها ، وإلّا اعاقبك كذا وكذا سنّة فيجد العقل حسن العقاب في تلك المدّة على تركها ، لأمره بها وتحذيره عن تركها ، وإعلامه كون ذلك العقاب بإزاء تركها ، فكذا هنا قرّر الشارع لهؤلاء الأشقياء على قبائح أعمالهم عقاباً في نفسه ، وعقاباً متوقّفاً على لعن من يلعنهم ، فهم يستحقّون كلّ عقاب [ يترتّب (1) ] على كلّ لعن.

المسلك الثالث : أن يقال : إن اللّه تعالى لا يعاقبهم على قدر استحقاقهم ، فكلّما لعنهم لاعن زيد بسببه في عقابهم لا يزيد على ما يستحقّونه من العقابات.

المسلك الرابع : أن يقال : إن لإعمال هؤلاء قبحاً في نفسه ، من حيث مخالفة أمر اللّه تعالى ، وقبحاً آخر من جهة الظلم على غيرهم ، ومنع الفوائد الّتي كانت تترتّب على اقتدار المعصوم واستيلائه ، وظهوره من المنافع الدنيويّة والأُخرويّة ، والهدايات ، ورفع الظلم ، وكشف الحيرة والجهالات. ولا يوجد أحد لم يصل إليه من ثمرة هذه الشجرة الملعونة شي ء ، بل في كلّ آن يصل إليهم من آثار ظلمهم شي ء ، كما ورد في الأخبار الكثيرة أنه ما زال حجر عن حجر ولا أُريقت محجمة دم إلّا وهو في أعناقهما (2).

فكلّ الشيعة مظلومون ، طالبو حقوق ، وكلّ لعن طلب حقّ واستعداء عن ظلم فيزيد عقابهم على قدر لعن من يلعنهم. اللّهم العن كلّ من ظلم نبيّك وأهل بيته صلوات اللّه عليهم وغصب حقوقهم لعناً وبيلاً ، وعذّبهم عذاباً أليماً ) ، انتهى كلام المجلسي.

وأقول :

أمّا الأوّل ، ففيه أن حقيقة الدعاء تكون ملغاة لا تحقّق لها في الخارج ، وإظهارُ

ص: 486


1- في المخطوط : ( يترب ).
2- الكافي 8 : 88 - 89 / 75 ، بحار الأنوار 46 : 341 / 32 ، وقريب منه في الجزء 82 : 264.

[ بغض ] أعداءِ اللّه وعداوتِهم يتحقّق (1) بدون صورة الدعاء الّذي وعد اللّه المؤمنين إجابته ، ووعْد اللّه لا يُخلف ؛ فإن إظهار بغض أعداء اللّه يتحقّق بإظهار البراءة منهم ، ووصفِهم بما هم أهله ومجانبتِهم ، وشبه ذلك. ففي هذا الوجه إخراج للفظ الدعاء وضيعته عن [ مدلوله (2) ] من غير دليل أيضاً.

وأمّا الثاني ، فهو عين الوجه الأوّل من وجهي السيّد نعمة اللّه : وفيه ما فيه ممّا ذكرنا ، ولا يصحّحه قوله : إني معذّبكم عذاباً بمقتضى كفركم ، وعذاباً بلعن اللاعنين. وإنه تعالى أكرم من أن يعذب أحداً إلّا بعذاب اقتضاه عمله ، بل عذابه بعين عمله ، فلا يزيد عليه ، وإلّا لكان السؤال مسلّماً لا مدفوعاً ، ولا يظلم ربك أحداً.

وأمّا الثالث ، فمحتمل ، لكنه يحتاج إلى تقرير بغير هذه العبارة ، وسيأتي إن شاء اللّه ما يوضح معناه بعبارة لا يرد على ظاهرها ما يرد على ظاهر هذه العبارة ، فإنه يرد عليها أنه يلزمها أن ما يستحقّه الكافر من العذاب بمقتضى كفره وعمله ونيّته ، منه ما هو موقوف على دعاء المؤمنين بإيقاعه بهم ، وليس الأمر كذلك ، فإنه لا ينفك من استلزام ما أُورد من سببيّة عمل الغير في عقابهم ، ولو على سبيل المشاركة ، فإنه ظاهر في أن سبب العذاب المتوقّف على دعاء المؤمن مركّب من عقائدهم وأعمالهم ومن لعن اللاعنين ، وهو عين الإشكال.

وأمّا الرابع ، فهو ثاني وجهي السيد نعمة اللّه : وفيه ما فيه.

ولعمري إنهم استحقّوا العذاب على ظلمهم للناس قبل لعن اللاعنين ، فهم يعذّبون عليه وإن لم يلعنوا ، فلو ظلموا طفلاً أو مجنوناً بقتل وغيره عذبوا بذلك. وإن لم يلعنهم المظلوم. أمّا عذابهم بلعن زيد ؛ لأنهم ظلموا عمراً (3) فممنوع ، والإشكال وارد عليه.

ثمّ نقول وباللّه الاعتصام - : اعلم أن العدل الحكيم سبحانه وتعالى لا يعذب

ص: 487


1- في المخطوط بعدها : ( إظهارها ).
2- في المخطوط : ( مدلولها ).
3- كذا. هامش المخطوط.

أحداً إلّا بما يقتضيه عمله ونيّته واعتقاده ، ولا ينعّم أحداً إلّا بما يقتضيه عمله واعتقاده ونيته وكرم اللّه ؛ فإن عمله واعتقاده ونيّته كرم من اللّه. كلّ ذلك بمقتضى عدله وحكمته ، بل عذاب المعذّبين ونعيم المنعّمين بوجه هو عين أعمالهم قال تعالى : ( إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (1).

وفي الخبر في وصف الجنة ونعيمها : « إنّما هو العالم وما يخرج منه » (2). ودوام نعيم الجنة وعذاب أهل النار بمقتضى نيّاتهم.

وعذاب الكفار متجدد لا ينقطع أبداً قال تعالى : ( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ) (3).

فهي هي ، وهي غيرها ، وكذلك نعيم أهل الجنة متجدّد لا ينقطع أبداً ، وليس شي ء من ذلك النعيم السرمديّ والعذاب الأبديّ بخارج عن مقتضى أعمالهم وعقائدهم ونيّاتهم ، ولا مباين لها ، وإنّما هو من قبيل بروز ما في القوّة إلى الفعل ، كما يدلّ عليه التجدّد والدوام ، ولأهل الجنة مزيد من كرم اللّه ، مع أنه في الحقيقة ليس بخارج عن مقتضى علمهم وعملهم وكرم اللّه. بل لأهل الجنّة أعمال من عبادة اللّه وشكره وحمده ، توجب لهم أن يتفضّل اللّه عليهم بالمزيد.

على أنه يكفي في سببيّة (4) تكرّم اللّه عليهم بالمزيد دوامُ معرفتهم باللّه وصفاته وأفعاله. وقد اقتضت حكمة اللّه وعدله ألّا يبرز ذلك النعيم وذلك العذاب بالفعل من كلّ وجه دفعة ، فإنه يستلزم الفساد ، وهو باطل بالضرورة ؛ لاستلزامه أنه ينتهي إلى حدّ ورتبة من الفعليّة.

إذا عرفت هذا ، قلنا : في حلّ هذا الإشكال ، وعلاج ذلك الدّاء العضال وجوه :

أحدها : أن يكون لعن المؤمنين ودعاؤهم بتضاعف العذاب عليهم معداً لهم لتعجيل بروز ما هو بالقوّة من عذابهم إلى الفعل ، فيتضاعف ما بالفعل من عذابهم ،

ص: 488


1- الطور : 16.
2- بحار الأنوار 24 : 104 / 11.
3- النساء : 56.
4- في المخطوط : ( سبيّته ).

وكذلك دعاء بعض المؤمنين لبعض بزيادة الرفعة في درجات الرضوان ونعيم الجنان ، فإن اللّه عزّ اسمه مستجيب لهم فيهم ، فيعجل به بروز ما هو لهم من ذلك بالقوّة إلى الفعل. وجاز أن اللّه يتكرّم على المؤمن بسبب شفاعة أخيه له بدعائه له بكرامة لم يقتضها عمله ، فيكون هذا من باب ثواب الداعي بمقتضى عمله.

الثاني : أن يكون لعن المؤمن ودعاؤه عليهم نوعاً من دركات عذابهم ، فيكون المؤمن على هذا كالمعذّب لهم بهذا النوع من العذاب ، فهو حينئذٍ كأحد ملائكة العذاب.

الثالث : أن كلّ مؤمن مظلوم ، منهم ؛ فلعن المؤمن ودعاؤه عليهم طلبٌ للأخذ له بظلامته ، فإن اللّه برحمته جاز أن يؤخّر إظهار ما يستحقّه الكافر من العذاب بظلمه للمؤمن على طلب المؤمن لذلك بدعائه ، فإنه لو عُفي عمّن يستحقّ العفو رجي له العفو من اللّه ، كما هو واقع في كثير من الحدود والتعزيرات الدنيويّة.

ص: 489

ص: 490

[146] كشف حال وبيان مقال : عبارة القاضي في ( إِلّا مَنْ ظَلَمَ )

اشارة

قال البيضاوي : في تفسير قوله تعالى : ( يا مُوسى : لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ. إِلّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) : - ( استثناء منقطع استدرك به ما يختلج في الصّدر من نفي الخوف عن كلّهم ، وفيهم من فرطت منه صغيرة ، فإنهم وإن فعلوها اتبعوا فعلها ما يبطلها ، ويستحقّون به من اللّه مغفرة ورحمة ، وقصد تعريض موسى : عليه السلام بوكزة القبطيّ. وقيل : متصل ، و ( ثُمَّ بَدَّلَ ) . مستأنف معطوف على محذوف ، أي من ظلم ثمّ بدّل ذنبه بالتوبة ) (2) ، انتهى.

وأقول : ظاهر العبارة بمقتضى المتعارف عند أكثر النحويين من أن [ الاستثناء (3) ] المنقطع هو إخراج ما ليس من جنس المستثنى منه من حكم المستثنى منه (4) دفعاً لوهم دخوله فيه لمشاركته له في أمر آخر ، يعمه معه. فإن ظاهرها أن المستثنى من الرسل ، فكيف يحكم بأنه منقطع؟ ولا غرابة ، فإن الأشاعرة : مجمعون على أن الرسل غير معصومين عن الصغائر ، فعلى هذا تتناقض عبارته.

ص: 491


1- النمل : 10 - 11.
2- تفسير البيضاوي 2 : 172.
3- في المخطوط : ( من المستثنى ).
4- تمهيد القواعد : 197 / القاعدة : 67 ، حاشية الصبّان على شرح الأشموني 2 : 142 - 143.

ولعلّ الجواب أنه أراد أن المستثنى [ المنقطع (1) ] هو غير الرسل ، وفائدته دفع ما يختلج في بعض الصدور من الاستشكال في عموم نفي الخوف عن كلّ المرسلين ، مع أن فيهم من فرطت منه خطيئة ؛ إذ لا ينبغي ارتفاع الخوف عن العاقل إذا فرطت منه خطيئة ، فضلاً عن الرسل الّذين هم أشدّ الخلق خوفاً من اللّه. فلو لم يستثنِ ، لعمّ نفي الخوف جميع الرسل ، حتّى من فرطت منه صغيرة.

وقصد تعريض موسى عليه السلام : بوكزة القبطيّ ، فبشّره اللّه ورفع عن قلبه الخوف الحاصل من ذلك بما ذكره من الاستثناء المنقطع ، ودفع به ذلك الإشكال ؛ فإنه إذا ثبت أن من ظلم ثمّ بدّل حسناً بعد سوء من سائر الخلق غير الرسل فإنه لا يخاف فإن اللّه غفور رحيم لكلّ من تاب وبدّل حسناً بعد سوء فالرسل أولى بذلك ؛ لأنهم لا بدّ أن يُتبعوها بما يمحوها ، ويستحقّون به الرحمة من اللّه تعالى.

فمن نكت هذا الاستثناء إذا قلنا : إنه منقطع نفي الخوف عمّن فرطت منه صغيرة من الرسل بنفيه [ عمّن (2) ] سواهم. وفيه من اللطف وتعظيم الرسل ما لا يخفى ؛ إذ ليس في لفظه ما يصرّح بوقوع خطيئة من رسول ، بخلاف ما لو كان الاستثناء متّصلاً فإنه يكون تصريحاً بوقوع الخطيئة من بعض الرسل ، وفيه من كسر قلوبهم ، وفضيحتهم وحطّ بعض عالي قدرهم ما لا يخفى.

وقصد به تعريض موسى عليه السلام بوعده المغفرة والرحمة والأمن بوعد غيره من غير تصريح له بما فعل ، ولا أمثاله. وفيه من إعظام موسى عليه السلام : وملاطفته ما لا يخفى.

ومنها أنه إذا كان الاستثناء منقطعاً عمّت البشارة بالأمن ممّن لا يخلف الميعاد سائرَ من عصى من الخلق إذا تاب وبدّل حسناً بعد سوء ، بخلاف ما إذا كان متّصلاً ، فإن هذه النكتة تفوت. هذا كلّه على مقتضى مذهب [ القاضي ].

أما نحن فنقول : لا يمكن أن يفرط من رسول ولا معصوم خطيئة ، لا كبيرة ولا صغيرة في حال من أحواله أصلاً ، فلا يمكن أن يكون هذا الاستثناء متّصلاً بوجه

ص: 492


1- في المخطوط : ( منقطع ).
2- في المخطوط : ( عما ).

أصلاً ، فعمّم نفي الخوف عن جميع الرسل تصريحاً ، وأتبع بشارته للرسل بالأمن بالبشارة لجميع من تاب وعمل صالحاً ثمّ اهتدى وبدّل حسناً بعد سوء من الخلق.

وأشار بهذا الأُسلوب الحكيم [ و ] بهذه التبعيّة إلى أن كلّ من بدّل حسناً بعد سوء كان من أتباع الرسل ، ومختلطاً بهم ، حتّى صحّ استثناؤه بالاستثناء المنقطع ، فإنه لا يصحّ الاستثناء وإن كان منقطعاً لمن ليس له مع المستثنى منه علاقة بوجه أصلاً ، بل لا يصحّ إلّا مع وجود علاقة تجمعهما كما لا يخفى على من تأمّل كتب النحاة.

وممّا يؤيّد أن هذا الاستثناء منقطع أن جماعة من أئمّة العربيّة نصّوا على أن ( إلّا ) تكون عاطفة بمنزلة ( الواو ) ، منهم الجوهري (1) : والفيروزآبادي (2) ، والفيّومي (3) وابن هشام (4) : ونقله غير واحد عن الكوفيين (5). بل ظاهر بعضهم أنهم يقولون بذلك في كلّ استثناء منقطع ، ونقل ذلك عن جماعة من النحويّين القدماء مثل جمع من أئمّة العربية بهذه الآية لذلك كما يظهر من إتقان السيوطي (6) : وابن هشام (7) : وغيرهما ، وأن منه هذه الآية ، والعطف يقتضي المغايرة.

وقال القمّيّ : إن معناه : ( ولا من ظلم ) (8).

والظاهر أن مقصده ومقصدهم واحد.

ومن نكت كون هذا الاستثناء منقطعاً نفي الخوف عن جميع الرسل مطلقاً ، وهذا يستلزم النصّ على أنهم لا تقع منهم معصية بوجه أصلاً ، وأن ما يوهم وقوع المعصية منهم إنّما هو من باب ترك الأولى بمقامهم الأعلى وإن كان ذلك من غيرهم ، بل منهم عند تنزّلهم إلى غير ذلك المقام الأرفع ؛ لغرض إكمال الحجّة على الخلق ، ولو بإبطال شبهة دعوى الربوبيّة فيهم من أقرب القربات وأحسن الحسنات. فهم

ص: 493


1- الصحاح 6 : 2545 إلّا.
2- القاموس المحيط 3 : 484 ألَّ.
3- المصباح المنير : 19.
4- مغني اللبيب : 101.
5- المصباح المنير : 19 ، البحر المحيط 8 : 214 ، ولم يصرّح بنسبته للكوفيين.
6- الإتقان في علوم القرآن 2 : 190.
7- مغني اللبيب : 101.
8- تفسير القمّيّ 2 : 127.

يعدّون التفاتهم لما دون أعلى مقاماتهم ذنباً وتقصيراً ، فيستغفرون اللّه منه ، ويتوبون إليه.

وهذا مضاف لما سبق ذكره في توجيه عبارة القاضي : فلا تظهر هذه النكت لو قال قائل بأن الاستثناء متّصل ، بل يستلزم أضدادها من عدم عصمة الرسل من إظهار فضائحهم وعيوبهم المستلزم [ حطّ ] أقدارهم من القلوب ، المستلزم للاستخفاف بأوامرهم ونواهيهم وعدم الركون إلى صدقهم ، واللّه العالم.

وهذه التوجيهات كلّها على فرض أن ( إلّا ) حرف استثناء ، وأمّا على [ فرض ] أنها حرف عطف كما نصّ عليه كثير من أئمّة اللغة والعربيّة والتفسير بمنزلة الواو ، والمعنى : ( ولا الّذين ظلموا ) ، فالأمر سهل ، والمعنى ظاهر ، وهو الأرجح عندي ، حيث وضوح المعنى وارتفاع جميع الشبه والشكوك والإشكالات عنه ، ولأن المعروف من حال القمّيّ أنه لا يفسر إلّا برواية قد ثبتت عن أهل البيت عليهم السلام : عنده ، بل سمعت من بعض ثقات المعاصرين أنه مرويّ برواية صريحة عن أهل البيت عليهم سلام اللّه - : في غيبة النعماني.

وهذا أيضاً لا ينافر القول بالاستثناء المنقطع ، وهما ينافران القول بأن الاستثناء متّصل ، فيدلّ ذلك بوجه على بطلان القول بالاتّصال.

بقي في القول بالاستثناء مطلقاً [ إشكال (1) ] هو أن [ إلّا ] الاستثنائيّة ، يثبت لما بعدها من الحكم نقيض ما لما قبلها ، والحكم الثابت للمستثنى منه في هذه الآية هو نفي الخوف. فبمقتضى القاعدة المسلّمة يثبت الخوف للمستثنى ، فيكون المعنى : أن الرسل لا يخافون أبداً وأن من ظلم ثمّ بدّل حسناً بعد سوء يخاف أبداً. وهذا ينافي وصفه تعالى نفسه في الآية بأنه غفور رحيم ، مع جميع أدلّة العدل.

ولعلّ الجواب من وجهين :

أحدهما : أن الخوف المنفيّ عن الرسل والمثبَت لمن ظلم ثمّ بدّل حسناً بعد سوء هو خوف عقاب المعاصي ، فهو إشارة إلى عصمة الرسل ، وترغيب في التوبة لغيرهم ،

ص: 494


1- في المخطوط : ( سؤال ).

وبشارة لهم بالمغفرة والرحمة إذا بدّلوا السيّئة بالحسنة. ومن الظاهر أنه لا يخاف من العقاب على المعصية إلّا من صدرت منه وتاب وندم وبدّل سوء المعصية بحسن التوبة وفعل الحسنة ، فهذا يخاف ، فوعده اللّه بالمغفرة والرحمة ليطمئن قلبه ويرغب في فعل الطاعة وترك المعصية.

أمّا من تصدر منه معصيته فلا يخاف عقاباً على معصية. وأمّا من عصى وأصرّ ولم يتب ولم يندم وعزّم على المعاودة ، فهو غير خائف حينئذٍ من عقابها ، ولا متألّم من فعلها ولا من تصوّر عقابها ، بل كثير من العصاة ، أو أكثرهم لا يؤمن بعقابها ، فلا يخاف منه كالكفّار وإخوانهم من امّة محمَّد صلى اللّه عليه وآله :

الثاني : أن التقدير هكذا ( لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) ؛ لأن سبب الخوف من العقاب الظلم ، وهم عليهم السلام لا يقع منهم ظلم بحال لا لأنفسهم ولا لغيرهم ، وكلّ من ظلم يخاف عقابي ويحذر سطوتي إلّا من ظلم ثمّ بدّل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم له. وبهذا يصحّ الاستثناء المنقطع ؛ فإنك ترى أهل العربية يقدّرون في مثل ( ما قام القوم إلّا حماراً ) : ( ما قام القوم ولا غيرهم إلّا حماراً ) حتّى يصحّ الاستثناء لعدم العلاقة بينهما بالكلّيّة ، فإنه حينئذٍ لا فائدة للاستثناء ولا معنى له.

ص: 495

ص: 496

[147] دفع إشكال وبيان حال : « هذه يداي وعيناي »

ورد في بعض أدعية زين العابدين : صلوات اللّه تعالى وتسليماته عليه وعلى آبائه وأبنائه الأدلّاء على مرضاة اللّه أنه قال : « هذه يداي قد مددتهما إليك بالذنوب مملوءة ، وعيناي بالرجاء ممدودة » (1) ، فكيف يخبر عن المثنّى بالمفرد في الفقرتين؟ (2) قلت وباللّه المستعان - : اعلم أن كلّ طبقتين من طبقات الوجود ، أو نوعين ، أو صنفين أو شخصين فإن لكلّ واحد منهما لوازمَ وأحكاماً وصفاتٍ وتكاليفَ تخصّه ، فإذا نزل العالي منهما إلى رتبة النازل بسبب من الأسباب ، أو صعد النازل منهما إلى رتبة العالي بسبب من الأسباب تماثلا [ فتجانسا أو تناوعا (3) ] أو تصانفا أو تشابها في المشخّصات ، كلّ ذلك بقدر درجات الصعود أو النزول ، فيتشابهان في اللوازم والخصائص والصفات والأحكام والتكاليف كذلك. بل ربما صدق نعت الوحدة عليهما إذا اشتدّ قرب أحدهما من الآخر وامتزاجه به ، فالصاعد تغلب عليه أحكام الرتبة التي صعد إليها حتّى يلحق بها وينسب إليها ، والنازل تغلب عليه أحكام الرتبة التي ينزل إليها حتّى يوصف بصفاتها ويحكم عليه بأحكامها.

وهذا باب تنفتح منه أبواب ، وبيان تندفع به شبهات وتنحل به إشكالات. فحينئذٍ

ص: 497


1- الأمالي ( الصدوق ) : 288 / 321 ، بحار الأنوار 91 : 89 / 1.
2- كان الأولى أن يقول رحمه اللّه : فكيف يُعيد ضمير المفرد على المثنّى؟ كما يدل عليه تقريره بعد ذلك.
3- في المخطوط : ( فتجانس أو مناوعا ).

نقول : لمّا حكم عليه السلام بامتلاء اليدين بظلمة الذنوب ، وبامتلاء العينين بنور الرجاء ، ومشابهة كلّ منهما للآخر في صفته وأحكامها كمال المشابهة ، أشار إلى اتّحادهما بذلك بتوحيد الضمير. فإعادته عليه السلام إليهما ضمير المفرد ؛ ليدلّ على هذا القانون ، وأن اليمين لمّا ملئت من الذنوب انسلخت عن وصف اليمينيّة وصانفت الشمال ، فحكم عليها أنها شمال ، فلا يمين لمن امتلأت يداه بالذنوب ، فوُحّد الراجع لهما باعتبار المصانفة.

وكذا الكلام في العينين ، فإنه لمّا امتلأتا بنور الرجاء أُلحقت الشمال باليمين ، وانسلخت بذلك عن وصف الشمالية فوُحّد الراجع لهما حينئذٍ باعتبار المصانفة ، حتّى كأنه لا شمال له. فمن هو كذلك لا يد يمين له ، ولا [ يد (1) ] شمال له ، بل كلّ منهما اتّحد بالأُخرى ضرباً من الاتّحاد يصدق عليهما بسببه نعت الوحدة ، فيعود عليه ضمير الواحد.

هذا وأنت إذا تدبّرت كلمات بلغاء العرب العرباء (2) ، وجدتهم كثيراً ما [ يعيدون (3) ] ضمير المفرد على كلّ ما في الرجل منه اثنان ، بل يعبّرون عنهما بالمفرد الظاهر ، ويشيرون لهما [ بما (4) ] يشار به للمفرد ، فيقولون : هذا تحت يدك ، وبيدك وبعينك ، ومشى برجله ، وأشباه ذلك. فهو عليه السلام لمّا قال : « هذه يداي » وأشار لهما بما يشار به للمفرد أعاد عليهما ضمير المفرد ، وسر كلّ ذلك تماثلهما كمال المماثلة فيما يستعملان فيه ، فكأنهما شي ء واحد.

ص: 498


1- في المخطوط : ( يمين ).
2- انظر فقه اللغة وسر العربيّة : 376 - 377 / 81.
3- في المخطوط : ( يعودو ).
4- في المخطوط : ( ما ).

[148] هداية بيانية لتبصرة فقهية : الهويّ والنهوض ليسا من الصلاة

قال علّامة زمانه ورائس إبّانه [ الآقا (1) ] باقر بن محمّد : أكمل في صلاتيّته : ( اعلم أن الهويّ إلى السجود ليس فعلاً من أفعاله ولا واجباً من واجباته ، وكذلك النهوض إلى القيام ؛ ولذا ما [ عددناهما (2) ] من واجبات الصلاة.

نعم ، هما من مقدّمات فعل الصلاة ؛ إذ لا يتحقّق السجود من القائم إلّا به ، وكذا القيام من القاعد ؛ ولذا قلنا : من شكّ في الركوع وقد دخل في السجود ، ولم نقل : وقد دخل في الهويّ إلى الأرض منه. وكذا قلنا : من شكّ في السجدة أو في التشهّد وقد دخل في القيام ، ولم نقل : وقد دخل في النهوض ) ، انتهى.

قلت : مراده رحمه اللّه أن النهوض إلى القيام والانحطاط إلى السجود ليس شي ء منهما بواجب من واجبات الصلاة ولا جزء من أجزائها بالأصالة ، وإنّما كلّ منهما مقدّمة ضرورية لتحصيل واجب من واجباتها. فالناهض والهاوي حال نهوضه وهويّه ليس بخارج من الصلاة كما ربما [ يتوهّمه (3) ] بعض الطلبة من عبارته ، وربما شنّع به على هذا الإمام المقدّم ؛ لأن النصّ والإجماع من الأُمّة في كلّ عصر بل الضرورة الدينيّة تدفع هذا التوهّم من عبارته.

ص: 499


1- في المخطوط : ( آقا ).
2- في المخطوط : ( عديناهما ).
3- في المخطوط : ( يوهمه ).

وما حقّقه رحمه اللّه هو المعروف من مذهب الإماميّة ، كما صرّح به الشهيد : في ( الروض ) (1) وفاضل المناهج. ولذا ترى كلّ من يقول : من شكّ في فعل من أفعال الصلاة وقد دخل في فعل آخر من أفعالها لم يلتفت ، لا يُمثّل لذلك بمن شكّ في [ السجود (2) ] أو التشهّد وقد استقلّ قائماً لا يلتفت ، ومن شكّ في أحدهما وهو آخذ في النهوض رجع وأتى بالمشكوك فيه ؛ لأنه لم يدخل في فعل آخر من أفعالها حينئذٍ.

و (3) بمن شكّ في الركوع وقد دخل في السجود [ فإنه ] لا يلتفت ، وإن كان آخذاً في الهويّ رجع فركع لأنه حينئذٍ لم يدخل في فعل من أفعاله.

وأيضاً تجدهم يحصرون عدد واجباتها ومندوباتها ولا يعدّون شيئاً من الهويّ والنهوض في شي ء منهما. والأخبار (4) إذا تأمّلتها حقّ التّأمّل وجدتها تدلّ [ على ذلك خصوصاً أخبار الشكوك بل لم نجد خبراً يدلّ على أن النهوض أو الانحطاط واجب من واجبات الصلاة أو جزء منها بالأصالة.

وممّا يؤيّده جواز الانحطاط لمناولة الأعمى عصاه ، وقتل الحيّة والعقرب ، وشبه ذلك. فلو كان الانحطاط واجباً من واجباتها وجزءاً من ماهيّتها بالأصالة لمّا جاز تعمّد زيادته.

وبالجملة ، فالنهوض والهويّ ليسا بقيام ولا سجود بالضرورة ، والفقهاء (5) حصروا واجبات الصلاة التي دلّت على وجوبها الأخبار ولم يعدّوا شيئاً منهما فيها.

فإذن ، ما قرّره ذلك الإمام المشار إليه إجماعيّ ، ومن ادّعى خلاف ذلك فعليه البيان.

ص: 500


1- روض الجنان : 349 - 350.
2- في المخطوط : ( سجود ).
3- أي ولا يمثّل بمن شكّ ..
4- انظر وسائل الشيعة 5 : 459 - 473 ، أبواب أفعال الصلاة ، ب 1.
5- شرائع الإسلام 1 : 68 - 79 ، الغنية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهية ) 4 : 546 - 549.

فإن قلت : ورد في خبر معتبر بل صحيح أنه سئل الإمام عليه السلام عمّن شك في الركوع وقد هوى إلى السجود ، فقال عليه السلام : « بلى قد ركع » (1).

قال الآقا المذكور : ( ليس مراده به : أن الهويّ فعل آخر ، بل مراده : أن الهويّ إلى السجود من دون ركوع بعيد أن يكون الإنسان مجرد أن يفرغ من القراءة مثلاً يبادر بالهويّ إلى السجود ، لكونه خلاف العادة ، بل الظاهر أنه ركع ؛ ولذا قال الإمام عليه السلام : « بلى قد ركع ».

ووقع نظير ذلك في الشكّ في تكبيرة الإحرام أنه بعيد أن يتركها مع كونها أوّل الصلاة ) ، انتهى.

وأقول : ظاهر إطلاق قوله في الحديث : ( وقد هوى ) يقتضي أن الشك إنما عرض له بعد استكمال الهوىّ ، فإنه الفرد الكامل الّذي ينصرف إليه الإطلاق ، ويجب حمله عليه. واستكمال الهويّ إنما يتحقّق بالدخول في السجود ، وهو فعل آخر يقتضي الدخول فيه إلغاء الشك العارض ، فيه وهو وجه ظاهر.

ويدلّ عليه أن أحداً من الفقهاء لم يفهم منه إرادة أن الهويّ فعل آخر يقتضي إلغاء الشكّ العارض حالته ، وإلّا لعُدّ من واجباتها ، ولم يُعدّ منها ، والخبر بمرأى منهم ومسمع. على أن ظاهره متشابه ، وليس فيه دلالة على أن الهويّ من واجبات الصلاة الأصليّة وماهيّتها الحقيقيّة بوجه من وجوه الدلالات ، واللّه العالم.

ص: 501


1- تهذيب الأحكام 2 : 151 / 596 ، الإستبصار 1 : 358 / 1358 ، وسائل الشيعة 6 : 318 ، أبواب الركوع ، ب 13 ، ح 6 ، وفي الجميع : « قد ركع ».

ص: 502

[149] كشف التباس وبنيان أساس : مسألة تحليل الشريك حصّته من الأمة

اشارة

لو حلّل أحد الشريكين في الأمة حصّته لشريكه فهل تحل له أم لا؟ أشهرهما الثاني ، وقد نسبه للسيد المرتضى ، وأكثرِ الأصحاب غيرُ واحد (1) ، والتتبع يشهد به.

يدلّ على ذلك أن المفهوم من الأخبار وفتاوى الفرقة أن سبب حلّ النكاح لا يكون إلّا واحداً بسيطاً ، وقد حصروه في عقد دائماً أو منقطعاً وملك جميع عين المنكوحة ، وإباحة مالك العين له. وكلّ سبب منها مستقلّ بنفسِه بسيط ؛ فإن الإباحة عقد ، بل يمكن حصر سببه في سببين كلّ منهما مستقل بنفسه بسيط. وظاهر المذهب نصّاً (2) وفتوى أن البضع لا يتبعّض ، ولا بسبب مركّب من سببين ؛ بحيث يباح بعضها بسبب وبعضها بسبب آخر. ولا ريب أن الشريك لا يمكن أن يقال فيه : إنه أباح حصّة مالك الحصّة له ؛ إذ لا إباحة إلّا فيما يملك ، وهو لا يملك حصّة شريكه حتّى يحلّها له.

وأيضاً حصّة الشريك مباحة له بالملك قبل تحليل الشريك لولا الشراكة فإن مقتضى الملك إباحة المملوكة لولا شراكة الغير.

ص: 503


1- أجوبة المسائل المهنّائيّة : 153 / المسألة : 26.
2- وسائل الشيعة 21 : 142 - 144 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب 41 ، و 21 : 153 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب 46.

فإذن ، الشريك لا يمكن أن يتحقّق منه إلّا إباحة حصّته خاصّة ؛ فالشريك مع إباحة شريكه لو قلنا بحلها له كان ناكحاً لها بتحليل شريكه له حصّته ، وبملكه هو لحصة نفسه. ولا ريب أنّهما سببان متباينان ؛ فيتبعّض البضع ؛ إذ لا ريب في تباين السببين ، فيلزم تركّب سبب حلّ البضع ، ونحن نمنع حل البضع بسبب مركّب.

فإن قلت : الإباحة تمليك للمنفعة ، فيكون الشريك إنما نكحها بالملك ، وهو سبب بسيط.

قلت : التحليل إباحة ، والإباحة ، تمليك للانتفاع وتسليط عليه. والفرق بينه وبين ملك العين جليّ فإن ملك المنفعة بالتمليك ملك غير حقيقي ولو كان بعقد لازم فضلاً عن العقد الجائز ، وملك العين والمنفعة الناشئ من ملك العين حقيقيّ. فبالضرورة معنيان متباينان ، وحقيقتان متغايرتان ، لا تتّحد أحدهما بالأُخرى ، ولا تستلزمها ولا تدلّ عليها ، فلا شكّ أنهما شيئان. فاستباحة البضع بهما يستلزم استباحته بسببين ، أو قل : سبب مركّب ، ولا شي ء من البضع يحلّ بسببين ، ولا سبب مركّب.

هذا على المشهور المنصور ، وأمّا على مذهب المرتضى : من القول [ بأن ] (1) التحليل عقد متعة (2) ، فالتباين وتعدّد السبب أو تركّبه عليه أوضح.

وأيضاً الإباحة والتحليل في الحقيقة عقد من جملة العقود الجائزة ، فيلزم أن الشريك نكحها بعقد وملك فقد تعدّد السبب ، أو تركّب وتبعّض البضع ، بلا إشكال. وما يدلّ على عدم حلّها لكلّ واحد من الشريكين إطلاق خبر مسعدة بن زياد : عن الصادق : عليه السلام : « يحرم من الإماء عشر ... ».

و [ عدّهن (3) ] إلى أن قال : « ولا أمتك ولك فيها شريك » (4).

ص: 504


1- في المخطوط : ( فان ).
2- عنه في المسالك 8 : 92.
3- في المخطوط : ( عندهم ).
4- الفقيه 3 : 286 / 1360 ، تهذيب الأحكام 8 : 198 / 695 ، وسائل الشيعة 21 : 106 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب 19 ، ح 1.

قال في ( كشف اللثام ) : ( ونحو منه (1) عن مسمع كردين (2) : عنه عليه السلام ).

وفي ( التهذيب ) : مزرعة : عن سماعة قال : سألته عن رجلين بينهما أمة فزوّجاها من رجل ، ثمّ إن الرجل اشترى بعض السهمين. قال حرمت عليه [ باشترائه (3) ] إياها ، وذلك أن بيعها طلاقها ، إلّا أن يشتريهما جميعاً (4).

وذلك صريح في تحريمها على مشتري السهم ، إلّا أن يشري المجموع. فحظر حلّها على الشريك إلّا حالَ شراء الكلّ.

وممّا يؤيّده أنها لا تحلّ للشريك بنكاح دائم ولا منقطع إجماعاً ، وهما أقوى سببيّة في حلّ الفرج من التحليل. فإذا امتنع تأثير السبب الأقوى ولم يعمل امتنع تأثير الأضعف بطريق أولى ، بل هذا عند التأمّل يدلّ على المطلوب.

وبالجملة ، أنت إذا تأمّلت الأخبار وقواعد الفقه ، بل والاعتبار ، وجدتها كلّها دالة بعمومها أو إطلاقها على عدم حلّ الأمة بين شريكين بسبب من أسباب حلّ الفرج ، والأصلُ تحريم الفروج حتّى يقوم دليل قاطع على الحلّ. ولا شكّ أن تجويزه بأيّ سبب من أسباب حلّ النكاح قول بتبعيض ما لا يتبعّض.

وقال في ( أزهار الرياض ) : ( إذا حلّل أحد الشريكين الأمة لصاحبه فهل تحلّ له؟ ذهب السيد المرتضى (5) : وأكثر الأصحاب إلى عدم الحلّ ، وذهب الشيخ (6) : وابن إدريس (7) : إلى الجواز ، وهو الأقوى.

احتجّ الأوّلون باستلزام ذلك تبعيض سبب إباحة البضع بمعنى حصوله بأمرين ،

ص: 505


1- الكافي 5 : 474 / 9 ، تهذيب الأحكام 8 : 198 / 696 ، وسائل الشيعة 21 : 107 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب 19 ، ح 2.
2- في المخطوط : ( مسمع ابن كردين ) ، وما أثبتناه وفق المصدر.
3- في المخطوط : ( واشترابه ).
4- تهذيب الأحكام 8 : 199 / 699 ، وسائل الشيعة 21 : 153 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب 46 ، ح 2.
5- عنه في أجوبة المسائل المهنّائيّة : 153 / المسألة : 26.
6- النهاية : 480.
7- السرائر 2 : 603.

وهو لا يتبعّض ؛ لقوله تعالى : ( إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (1) ، والتفصيل قاطع فلا يكون الملفّق منهما سبباً للإباحة. وهذه المنفصلة وإن احتملت أن تكون حقيقة ومانعة خلوّ إلّا إن هذا يوجب الشكّ في الإباحة ، فيرجع إلى أصل المنع.

وفيه نظر ؛ إذ مآل ذلك إلى أصالة المنع ، وعدم دلالة الآية على جواز التبعيض ، لا على دلالتها على عدمه ، فتأمل.

وتعبيرنا بال - ( حقيقة ) أولى من تعبير الشهيد الثاني : ب- ( مانعة الجمع ) فإنها ظاهرة في مانعته خاصّة ، وليس بمراد. وفي ( شرح الشرائع ) (2) : ( إن المعلوم من الآية إرادة منع الخلو والجمع معاً ؛ لأن المنفصلة وإن احتملت الأمرين ألّا إن هذا المعنى متيقّن ، ومنع الخلوّ خاصّة غير متيقّن ، والأصل تحريم الفروج بغير سبب محلّل ) (3).

وورود الاعتراض عليه لا يخفى.

احتجّ الآخرون برواية محمّد بن مسلم : عن الباقر عليه السلام : في جارية بين رجلين دبّراها جميعاً ثمّ أحلّ أحدهما فرجها لصاحبه قال : « هو له حلال » (4).

وأجاب الشهيد الثاني عنها في الشرحين (5) بأنها ضعيفة السند.

وفيه نظر ؛ فإنها مروية في ( الكافي ) (6) و ( الفقيه ) (7) و ( التهذيب ) (8) في باب السراري وملك الأيمان بطريق واضح الصحّة. ثمّ إنهم أجابوا عن حجّة الأوّلين بأن التحليل شعبة من الملك من حيث إنه يملك المنفعة ومن ثمّ لم تخرج عن الحصر

ص: 506


1- المؤمنون : 6.
2- مسالك الأفهام 8 : 29.
3- مسالك الأفهام 8 : 29.
4- الكافي 5 : 482 / 3 ، وسائل الشيعة 21 : 142 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، ب 41 ، ح 1.
5- مسالك الأفهام 8 : 30 ، الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 5 : 323.
6- الكافي 5 : 482 / 3.
7- الفقيه 3 : 290 / 1380.
8- تهذيب الأحكام 8 : 203 / 717.

المذكور في الآية. وابن إدريس : جعله دليلاً على المدّعى ، وهو بالجوابية أنسب ، وعلى كلّ حال فهو متوجّه.

وأمّا ما قيل في رده من بقاء التبعيض من حيث إن بعضها مستباح بملك الرقبة والآخر بملك المنفعة ، ولا ريب في أنهما متغايران ، وأن التحليل إمّا عقد أو إباحة ، وكلاهما مغاير لملك الرقبة فيلزم التبعيض فمردود ، وبأن التبعيض المنفيّ هو الخارج عن القسمين المذكورين في المنفصلة الواقعة في الآية الكريمة لإمكان [ .. (1) ].

والأوّل منتفٍ ؛ لأن الفرض رجوع ما جعل سبباً للحِلّ إلى أحد القسمين ، وهو تألى المنفصلة. وهذا كما جُعل التحليل راجعاً إلى ملك اليمين لئلّا يخرج من القسمين ، وإذا كان كذلك كان مجموع ما يقع من أفراده سبباً واحداً ، سواء كان مستنداً إلى ملك الرقبة ، أو إلى التحليل ، أو إليهما ، أو نحو ذلك.

وفي جواب ( مسائل السيد مهنا بن سنان ) للعلّامة : قوّى القول بالإباحة قال : ( وكنت رأيت والدي في النوم بعد وفاته وهو يبحث لنا ، فبحث عن هذه المسألة ، ونقل الخلاف ، وذكر أن المرتضى : منع من إباحتها والشيخ : أجاز وطأها ، فقلت له : الحقّ مذهب المرتضى : فقال : لم؟ فقلت : لأن سبب البضع لا يتبعّض ، فلا يقال : زوجتك ، أو أنكحتك نصف هذه الجارية ويكون الباقي مباحاً بالملك ، فقال : هذا غلط ، نحن لا نقول : إنه إذا ملك بعضها يحرم بعضها ويحلّ بعضها ، بل لو كان فيها لغيره أقلّ جزء منها كانت بأسرها حراماً ، فيكون التحليل مبيحاً للجميع لا للبعض ) (2) ، انتهى.

وذكر الشهيد الأوّل : في ( شرح الإرشاد ) (3) أن العلّامة : كتب هذا المنام بخطّه على

ص: 507


1- بياض في المخطوط ، والعبارة في المصدر غير مقروءة.
2- أجوبة المسائل المهنّائيّة : 152 - 153 / المسألة : 26.
3- غاية المراد 3 : 94 ، وقد أورده أحد المحشين على القواعد في هامش النسخة الحجرية وذيّله بالرمز ( ع ل ).

كتاب ( القواعد ) (1) ، وأنت خبير بما فيه ؛ فإن تحريمها قبل التحليل لعدم تمام السبب ، حيث إن بعضها مملوك له ، وبعضها لغيره ، وتحليل الشريك أوجب تمام السبب لا أنه سبب تامّ في الحلّ كما ظنّه ؛ فإنه ظاهر السقوط. ومن ثمّ لو كانت لشريكين فأحلّها أحدهما لم تحلّ قطعاً ، وكذا لو زوّجها أحدهما وأحلّها الآخر.

فعلم أن حلها في الصورة المذكورة إنّما هو تمام السبب حينئذٍ لا لكونه سبباً تامّاً. وهذا كما أن المعلول معدوم قطعاً قبل الجزء الأخير من العلّة التامة ، ومعه يوجد قطعاً بل تمام العلّة ، ولو تمّ ما ذكره من التقريب لجرى في عدم تركّب العلّة التامّة البتّة ، ولأوجب أن يكون العلّة التامّة هو الجزء الأخير.

والحاصل أن اللازم من ذلك كونها تمام السبب أو العلّة التامّة ، لا أنها سبب تامّ وعلّة تامّة. وبين الأمرين بون ظاهر لا يشتبه على ذي مسكة.

والمدّعى إنّما يتمّ بالأمر الثاني لا الأوّل. ويزيد ما ذكرناه وضوحاً ما ذكره الشهيد : في ( شرح الإرشاد ) : ( إن التحليل مخصوص بالشخص المملوك ) (2) ضرورةً ؛ لعدم نفوذ التحليل في شقص الغير بالضرورة ، فلا يتوهّم كونه سبباً تامّاً في الحلّ في الصورة المذكورة. وقد ظهر ممّا حرّرناه أن الحقّ ما اختاره الشيخ : وابن إدريس : ؛ لصحّة الرواية وقصور ما ذكروه من الاعتبار في جنبها مع ما فيه من الكلام ، فتأمّل المقام بالتأمّل التام ) (3) ، إلى هنا كلام ( زهر الرياض ) ، شكر اللّه سعيه.

وأقول : تأمّلناه بما أنعم اللّه به علينا من الأفهام ، وتحريرُ المقام فيما قرّره في هذا الكلام أن المشهور استدلّوا على عدم الحِلّ بالقاعدة المجمع عليها بين الفرقة في سائر الأعصار ، وهي أن ( البضع لا يتبعّض ) بمعنى : أنه لا يحلّ إلّا بسبب واحد بسيط فلا يحلّ بسببين أي بمجموعهما حتّى يكون سبب حله مركّباً من أمرين. وقد عرفت أن سببيّة ملك الرقبة يغاير سببية الإباحة ، بحيث لا يمكن اتّحادهما في

ص: 508


1- انظر قواعد الأحكام 2 : 31 ( حجري ) ، ولم يذيّل الهامش بما يشير إلى كونه من المصنّف رحمه اللّه.
2- غاية المراد 3 : 95.
3- أزهار الرياض 62 - 65 ( مخطوط ).

حال ؛ لما عرفت ، ولأنهما اثنان قطعاً ، والاثنان لا يتّحدان بحيث [ يكونان ] (1) واحداً بسيطاً بالبرهان المتضاعف عقلاً ونقلاً. والقول بأنه شعبة من الملك ، من حيث إنه يملك المنفعة لا يثمر نفعاً في اتّحاد السبب ؛ لوضوح المغايرة بين ملكي الشقصين حينئذٍ ؛ لأنه لا ينتج اتّحاد الملك ، بل هما ملكان متغايران بالضرورة.

ولنا أن نمنع أنه ملك أصلاً حتّى للمنفعة ، لظهور المغايرة بين الملك بالإجارة أو الوقف أو الوصيّة أو العمرى أو الرقبى ، وبين إباحة المنفعة كالعارية ؛ فإن ملك الشقصين لا يمكن أن يكون لاثنين ، فكلّ من ملك شيئاً كان خارجاً عن ملك غيره بالضرورة. وليس منافع المعار والمباح بخارجة عن ملك المبيح والمعير وسلطنتهما البتّة. ولو كان زوج الأمة أو المحلّلة له مالكاً لمنافع بضعها ، لكان له مهرها إذا وطئت بشبهة ، وليس كذلك إجماعاً. وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم.

فاستحقاق السيّد حينئذٍ لمهرها دليل على بقاء ملكه لمنافع بضعها ، وأنها لم تخرج عن ملكه ؛ فالزوج والمحلّل له إنّما يملك الانتفاع كالمستعير. وهذا في الناكح بالتحليل أظهر.

هذا ، مع أن تسليم أن الإباحة شعبةٌ من الملك إقرارٌ بأنها ليست بملك ، فيكون نكاح الشريك بتحليل شريكه حلّا بملك ، وشعبة من الملك ، فيتركّب سبب حلّ الفرج ، فيتبعّض البضع فلا يدخل في شي ء من قسمي المنفصلة ؛ لتركّبه ، وسبب حلّ البضع لا يكون إلّا واحداً بسيطاً ، والتحليل لا يوجب اتّحاد الملك والشعبة من الملك ، حتّى [ يكونا (2) ] سبباً واحداً بسيطاً ، وإلّا لحلّت للشريك بالنكاح من شريكه على [ البتّة (3) ] أو منقطعاً أو بهبة المنفعة والصدقة بها ، وشي ء من ذلك لا يحلّ به نكاح الشريك إجماعاً. وكذا العارية ؛ لأن كلّ واحد ممّا ذكر أقوى في شبه الملك وملك المنفعة من الإباحة.

ص: 509


1- في المخطوط : ( يكونا ).
2- في المخطوط : ( يكونان ).
3- في المخطوط : ( البت ).

وكيف يمكن شي ء ممّا ذكروا من إباحة الشقص وهو غير متميّز عن الشقص الآخر بوجه أصلاً؟ فإن كلّ جزء من فرجها وإن قلّ إلى غير النهاية أو إلى أن ينتهي إلى جزء لا يتجزّأ على رأي المتكلّمين مملوك لهما. فحصّة كلّ واحد منهما غير معلومة بعينها ، فكيف تصحّ إباحته أو إجازته أو تزويجه؟ ولو صحّ من مالك الشقص إباحته لمالك الشقص الآخر لصحّ منها ، وليس لها أن تبيح فرجها ولو لمالك بعضها إجماعاً ، وليس للمرأة فرجان.

وأمّا حديث رؤيا العلّامة : وما قرّره له والده في المنام فأضغاث أحلام ؛ إذ ليس إباحة الشريك سبباً تامّاً لحلّ الفرج كما هو واضح مسلم عند الخصم. وأمّا أنه تمام السبب فسقوطه ظاهر ؛ إذ ليس الفرج سبباً مركّباً كما عرفت ، ولا يحلّ بسبب مركّب ، وإنّما يحلّ بسبب بسيط. فالقول بأنه تمام السبب ، يستلزم القول بجواز تركيب سبب حلّه وهو يستلزم تبعيض البضع.

فظهر أن القول بأن تحليل الشريك سبب تامّ ، ظاهر السقوط ، كما قال العلّامة الشيخ سليمان : وما ذكره هو رحمه اللّه في ردّه كافٍ كالّذي نقله عن الشهيد رحمه اللّه : وإن كان تشبيهه لتحليل الشريك بالجزء الأخير من العلّة المركبة غير جيّد ؛ لأن معلول العلّة المركّبة معلول لمجموع الأجزاء ، لا لجميعها بل للهيئة الاجتماعيّة ؛ فمجموعه علّة لمجموعها ، لا أن جميعه معلول لجميعها ، وإلّا لكان كلّ جزء من العلّة علّة لجزء مخصوص.

هذا ، إن سلمنا وجود علّة مركّبة ، وأنت إذا نظرت بعين الحكمة في كتاب الموعظة ، وتدبّرت آيات الآفاق والأنفس ، لم تجد علّة مركّبة. وعلى كلّ حال ، فهو غير مجدٍ في تسويغ النكاح بسببين مختلفين. وما أورده الشيخ سليمان : على القول بأن التحليل سبب تامّ من قوله : ( ومن ثمّ لو أحلّها أحد الشريكين ) إلى آخره واردٌ على القول بأنه تمام السبب ، فتأمّله.

واستدلّ المشهور أيضاً بالآية الشريفة ، وهي قوله تعالى في سورة قَد أفلح :

ص: 510

( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (1) [ و ] دلالتها إنّما دلّت بمنطوقها على وجوب حفظ الفرج [ عن (2) ] كلّ شي ء إلّا الأزواج وملك اليمين ، فكلّ شي ء محرّم على الفرج من كلّ وجه من وجوه الاستمتاع إلّا الأزواج وملك الأيمان. والملك المطلق فيها يجب صرفه إلى أكمل الأفراد ، وهو ملك جميع المنكوحة ملكاً حقيقيّا ، وهو ملك العين عقلاً ، وإلّا لزم الترجيح لا لمرجح لو صرفناه إلى فرد من أفراد الملك في الجملة دون غيره.

وأمّا صرفه ، [ إلى ] نوع من أنواع الملك المجازيّ ، [ فواضح (3) ] الامتناع ، ولأن الفرد الأكمل هو المتبادر إلى أفهام كافّة المخاطبين بها ، فيجب صرف الإطلاق إليه ، والإلجاء : التكليف قبل البيان ، وهو محال عقلاً ونقلاً (4). ومن أجل هذا وغيره كان المطلق يدلّ على العموم ما لم يقيّد. فدلّت الآية الكريمة على منفصلة حقيقيّة قائلة : إما أن يكون الشي ء حراماً على الفرج ، أو يكون زوجة أو ملك يمين ، فالمحرم على الفرج أحد جزأيها والزوجة وملك اليمين الحقيقيّ الكامل [ جزؤها ] الآخر.

فدلّت بمنطوقها على أن المحلّل على الفرج منحصر في قسمين : الأزواج ، وملك اليمين الكامل ، فتضمّنت منفصلة اخرى حقيقيّة قائله : إن المحلّل للفرج إما الأزواج ، أو ملك اليمين ، بحيث لا يجتمعان في موضع ولا يرتفعان عن موضع من أفراد المحلّل للفرج.

أما مانعة الخلوّ منها فدلّ عليها حصر الآيةِ الكريمة المحلّلَ للفرج في القسمين بمنعها بمنطوقها عمّا سواهما ، وأمّا مانعة الجمع منها فضروريّة ؛ ولأن الإجماع في كلّ زمان ومكان والنصّ المتطابق المستفيض قائمان من غير معارض على عدم

ص: 511


1- المؤمنون : 5 - 7.
2- في المخطوط : ( على ).
3- في المخطوط : ( فوضح ).
4- كما في قوله تعالى : ( وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) الإسراء : 15 ، الخصال 2 : 417 / 9 ، أبواب التسعة.

حلّ الفرج ولوازمه بالملك والتزويج دواماً ومنقطعاً. فدلّت الآية الكريمة بدلالة واضحة على أنه لا تحلّ للفرج إلّا ما كان زوجة خالصة ، أو ملكاً خالصاً ؛ فدلّت على تحريم المركّب منهما ، وعلى عدم جواز تبعيض البضع ؛ فدلّت على عدم جواز نكاح الأمة المشتركة ولو أباح لشريكه حصّته.

فإذا تأمّلت هذا حقّ التأمّل ظهر لك أن مانعة خلوّها تدلّ على منع حِلّ الأمة بين الشريكين لأحدهما ، ولو بتحليل الشريك قسطه منها ، وعلى منع التبعيض ، وكذلك مانعة [ جمعها (1) ] فلا ترجع باحتمال أحدهما إلى أصالة المنع ، بل دليل مستقلّ على عدم حلّ الأمة المشتركة لأحدهما ولو أحلّه الآخر ؛ فإن الكتاب والسنّة المجمع عليها ، والإجماع في كلّ زمان ، والعقل [ نقلتنا (2) ] عن أصل الإباحة في الفروج إلى أصل التحريم إلّا بدليل.

فهذا الأصل والكتاب منع من حلّ الأمة المبحوث عنها إلّا بدليل ، ولا دليل على حلّها ، ورواية محمّد بن مسلم : ولو كانت صحيحة لا تعارض ظاهر الكتاب وهذا الأصل والقاعدة المسلّمين خصوصاً مع مخالفتها لمشهور العصابة في كلّ زمان واطّراحهم لظاهرها. وقد صرّح جماعة بأن حصر المحلّلات على الفروج في الأزواج وملك الأيمان على سبيل الانفصال الحقيقيّ ، منهم [ صاحب (3) ] المسالك كما مرّ النقل عنه في كلام الشيخ سليمان : ومنهم السيوريّ : في ( كنز العرفان ) قال رحمه اللّه : ( الآية صريحة في انحصار سبب الإباحة في القسمين المذكورين ، وهما الزواج ، وملك اليمين على سبيل الانفصال الحقيقيّ أي إمّا زواج ، أو ملك يمين ، بحيث لا يجتمعان ولا يرتفعان وأكّد ذلك بقوله ( فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (4) ).

إلى أن قال رحمه اللّه : ( ظهر ممّا ذكرناه أن البضع لا يتبعّض ، فلو ملك بعض أمة لم

ص: 512


1- في المخطوط : ( خلوها ).
2- في المخطوط : ( نقلنا ).
3- في المخطوط : ( شرح ).
4- المؤمنون : 7.

يحلّ له العقد على باقيها ، وإلّا لزم التبعيض فيستبيح بعضاً بالملك ، وبعضاً بالعقد وهو باطل.

واختلف الأصحاب في تحليل الشريك له حصّته ، هل يبيحه [ الوطء (1) ] ، أم لا؟ قال الجماعة : لا يبيح ، وإلّا لزم التبعيض. وقيل : يبيح ، وهو قول ابن إدريس (2) : والشهيد (3) : وهو الأقوى عندي ؛ لما قلناه : إن الإباحة داخلة في الملك ، فيكون مستبيحاً لها بالملك. ولا يضرّنا كون بعضه تبعاً للعين وبعضه منفرداً ؛ لأن الملك له أسباب كالشراء والانتهاب والإرث ، ومن جملتها التحليل ، إلّا إنه سبب ملك منفعة البضع ، وتبعّض سبب الملك ليس بضارّ ، وإلّا لزم تحريم بضعها إذا كان بعضها بالشراء وبعضها بالإرث ، وليس كذلك اتّفاقاً ) (4) ، انتهى.

وأنت [ بعد (5) ] الإحاطة بما قررناه خبير بضعفه وبما يرد عليه ، وكيف يجتمع القول بحِلّ الأمة المشتركة بتحليل الشريك مع القول بأن المنفصلة حقيقته؟ فالقول والاستدلال بها على حِلّ المشتركة بتحليل الشريك ممّا لا يرجى التئامه؟

أمّا القول بأن التحليل داخل في الملك فلا يجدي نفعاً في دخوله في المنفصلة ، لوضوح مغايرة هذا الملك للملك المذكور فيها ، فلا يرفع تبعيض البضع لمغايرة حقيقتي الملكين بالضرورة ، بل ليس الإباحة تمليكاً حقيقياً ، فليست ملكاً حقيقياً ، فلا توجب [ اتّحاد (6) ] الملكين وصيرورتهما ملكاً واحداً ، بخلاف اختلاف أسباب الملك الحقيقيّ الواقع على العين والمنفعة معاً ؛ فإن شراء البعض وإرث البعض الآخر أو [ إيهابه يصيّرانه (7) ] ملكاً واحداً للعين والمنفعة ، بخلاف ملك البعض وإباحة البعض ، فإنه لا يصيّر الملكين ملكاً واحداً ؛ لاختلاف حقيقتي الملكين.

ص: 513


1- في المخطوط : ( الوطي ).
2- السرائر 2 : 602 - 603.
3- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 5 : 322.
4- كنز العرفان 2 : 145 - 146.
5- في المخطوط : ( بعض ).
6- في المخطوط : ( التحاد ).
7- في المخطوط ( اتهابه يصيّراه ).

والفرق بينهما واضح ، فلا يقاس أحدهما على الآخر ، ولا يدلّ عليه بوجه من وجوه الدلالة ، وليس بينهما تلازم. فالقول بعدم حلّها للشريك بتحليل شريكه لا يستلزم عدم حلّها للمالك لجميعها عيناً ومنفعة بغير وجه التحليل. على أن كون تمليك البعض مثل القبلة المحضة أو اللمس أو النظر فقط غير واضح ، مع أنها تباح بالتحليل ؛ للنصوص الصحيحة وإدخاله في الملك أشكل ، وإدخال المستأجرة بجميع منافعها أولى منها. وهو ظاهر ، فلا بدّ من التخصيص.

ولكن لمّا ثبت التحليل ، فلا بدّ من التأويل وإن كان بعيداً ، فيمكن جعله قسماً آخر بنفسه. و [ أمّا ] تخصيص هذه الآية فإنه غير عزيز على ما اشتهر من أنه ما من عام إلّا وقد خصّ ، حتّى هذا فتأمل ). إلى هنا كلام الأردبيلي رحمه اللّه (1) : وفيه فوائد لا تخفى.

وهو ظاهر في أنه فهم من الآية الكريمة الانفصال الحقيقيّ ، وأن المراد بملك الأيمان : الملك الحقيقيّ للعين والمنافع التابعة له ، وهو الملك المتعارف المتبادر لفهوم جميع المخاطبين ، فيخرج منه المملوكُ جزؤها عيناً المحلّل جزؤها الآخر بالضرورة ، فإنها ليست ملكاً كذلك ولا سُرّيّة بالضرورة ، بل تراه صرّح بخروج المحلّلة كلّها عن المنفصلة مع أنها حلال بالنصّ والإجماع المستفيضين.

وحينئذٍ إما أن نقول بعدم دخول المحلّلة كلّها في المنفصلة وإنّما يثبت كونه سبباً لحلّ الفرج بالنصّ والإجماع ؛ فهما مخصّصان للآية الكريمة ، ونظائره كثيرة في الشرعيات ، وهذا هو الأظهر ، بل الظاهر خروج المتمتّع بها عنها أيضاً وإنّما ثبت حِلّها بالنصّ والإجماع المستفيضين ، وبقوله تعالى : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (2).

وكلّ واحد من الثلاثة صالح لتخصيص هذه الآية ، فإن المتبادر إلى الأفهام من لفظ الزوجة إنّما هو الدوام ، فهو الحقيقة ، وهو المتيقّن. والمنقطعة زوجة مجازاً والدليل

ص: 514


1- لم تسبق الإشارة منه رحمه اللّه إلى الأردبيلي.
2- النساء : 24.

على [ مجازيّتها (1) ] ما ورد في جملة أخبار أنهن مستأجرات (2) ، وأنهن بمنزلة الإماء (3) ، ويدلّ على أن المراد بالأزواج في هذه الآية : المنكوحات بالعقد الدائم قوله ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (4).

وإمّا أن نقول : المراد بالأزواج وما ملكت الأيمان في الآية الكريمة : ما هو أعمّ من الحقيقة فتدخل المتمتّع بها والمحلّلة كلّها ، فإن إطلاق الزوجة على المتمتّع بها ، والملك على المحلّلة كلّها بالنسبة إلى المنافع المقصودة في النكاح من المجاز الشائع ؛ فتكون الآية من باب عموم المجاز ، والقرينة عليه النصّ والإجماع على حلّهما.

وعلى كلّ حال ، لا تدخل [ الأمة (5) ] بين الشريكين إذا أحلّها الشريك لشريكه في محلّل الآية ، ولا محلّل ما قام عليه النصّ والإجماع من عقد المتعة والملك البسيط للعين أو المنفعة ، وإنّما هي داخلة في محرّمات الآية ، والأصل والقاعدة المسلّمة بالإجماع على عدم حلّ الفرج إلّا بسبب واحد بسيط ، فنحتاج في حلّها إلى دليل أقوى ممّا ذكر ، حتّى نخصّص به الكتاب والسنّة المجمع عليها ، ولا دليل.

والعجب من الشهيد : في ( نكت الإرشاد ) حيث قال في شرح قول العلّامة (6) : ( ولو اشترى حصّة من زوجته بطل العقد وحرم وطؤها وإن أباحه الشريك أو أجاز العقد على رأي ) - : ( لا سبيل إلى حلّه بإباحة الشريك أو إجازته العقد ، وهو فتوى ابن الجنيد (7) : والمحقّق (8) : ؛ لعدم تبعيض سبب البضع ، للمنع منه في قوله تعالى :

ص: 515


1- في المخطوط : ( مجازيّته ).
2- الكافي 5 : 472 / 7 ، تهذيب الأحكام 7 : 258 / 1120 ، الإستبصار 3 : 147 / 538 ، وسائل الشيعة 21 : 18 ، أبواب المتعة ، ب 4 ، ح 2.
3- الكافي 5 : 451 / 1 ، وسائل الشيعة 21 : 19 ، أبواب المتعة ، ب 4 ، ح 6.
4- النساء : 3.
5- في المخطوط : ( الآية ).
6- إرشاد الأذهان 2 : 10.
7- عنه في مختلف الشيعة 7 : 268.
8- شرائع الإسلام 2 : 255.

( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) (1).

والتفصيل بقطع الشركة ، والمراد به هنا : منع الخلو في الاستباحة عن الزوجة والملك ، ومنع الجمع بينهما ) (2).

ثمّ ساق تفصيل الخلاف ، ثمّ قال في آخر بحثه : ( والجواز هو المختار ) (3) ، يعني : في حلّها بتحليل الشريك وهو أخبر بما قال ، والمعصوم من عصمه اللّه.

وممّن ظاهره أنها منفصلة حقيقيّة محصورة في الزوجة وملك العين أجمع ملكاً بسيطاً الطبرسيّ في ( جامع الجوامع ) حيث قال في تفسيرها : ( والمعنى : أنهم لفروجهم حافظون في جميع الأحوال إلّا في حال تزويجهم أو تسرّيهم ؛ إذ من اليقين أن المبحوث عنها ليست بزوجة ولا سُرّيّة لا شرعاً ولا عرفاً ولا لغة ) (4) ، انتهى.

ومثل هذه الظواهر في كلام المفسّرين والأصحاب كثير لا يحصى كما لا يخفى على المتتبّع المتأمّل فلا نطوّل بنقل عباراتهم.

تنبيهان

التنبيه الأول : جواز الاستمناء بغير الفرج من أعضاء المنكوحة

كما دلت الآية على وجوب حفظ الفرج عمّا سوى المحلّل بالإجماع والكتاب والسنّة ، وهو المستثنى من المحرمات على الفرج ، وتحريم استمتاع الفرج بغيره مطلقاً إيلاجاً حتّى في الجدر والحشايا واللحم الميّت وكلّ شي ء يقصد به الاستمناء كذلك ولو بالفرك في ظاهر البشرة ، أو الجلد ولو مسلوخاً ، أو الخرق أو غير ذلك مطلقاً. وكذا عن لمس المكلّف ونظره ؛ للأمر بحفظ الفرج عمّا سوى المستثنى على الإطلاق ، ووصف من لم يحفظه مطلقاً عمّا سواه بالعدوانِ ، دلّت أيضاً على عدم قبح عدم حفظه عنه ، بل على حسن عدم حفظه عنه مطلقاً ، بمقتضى المقابلة ، فهي

ص: 516


1- المؤمنون : 5 - 6.
2- غاية المراد في شرح نكت الإرشاد 3 : 63.
3- غاية المراد في شرح نكت الإرشاد 3 : 65.
4- المصدر الموجود لدينا غير تامّ ، انظر مجمع البيان 7 : 132 - 133.

صريحة بإطلاقها في حلّ استمتاع الفرج بجميع جسد الزوجة والسرّيّة إيلاجاً واستمناء ، ما لم يستلزم ضرراً كما هو ظاهر المذهب ، لا نعلم فيه مخالفاً.

ونقلُ الإجماع على جواز الاستمتاع على الإطلاق من الحائض بما فوق السرة وتحت الركبة مستفيض ، قال في ( المدارك ) بعد قول المحقّق : في أحكام الحائض : ( ويجوز له الاستمتاع بما [ عدا (1) ] القبل ) (2) - : ( اتّفق العلماء كافّة على جواز الاستمتاع من الحائض بما فوق السرّة وتحت الركبة ، واختلفوا فيما بينهما خلا موضع الدم ؛ فذهب الأكثر إلى جواز الاستمتاع به أيضاً ، وقال السيد المرتضى : في ( شرح الرسالة ) : ( لا يحلّ الاستمتاع منها إلّا بما فوق المئزر ) (3) ، ومنه [ الوطء (4) ] في الدبر.

احتجّ المجوزون بأصالة الإباحة ، وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) ، وهو صريح في نفي اللوم عن الاستمتاع كيف كان. [ فترك (5) ] العمل به في موضع الحيض بالإجماع ، فيبقى ما عداه على الجواز. وقد ورد بذلك روايات كثيرة ، كموثّقة عبد اللّه بن بكير : عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال : « إذا حاضت المرأة فليأتها زوجها حيث شاء ما اتّقى موضع الدم » (6).

ورواية عبد الملك بن عمرو : قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : عمّا لصاحب المرأة الحائض منها ، فقال : « كلّ شي ء ما [ عدا (7) ] القبل بعينه » (8).

وصحيحة عمر بن يزيد : قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : ما للرجل من الحائض؟

ص: 517


1- في المخطوط : ( عدى ).
2- شرائع الإسلام 1 : 23.
3- عنه في المعتبر 1 : 244.
4- في المخطوط : ( الوطي ).
5- في المخطوط : ( ترك ).
6- تهذيب الأحكام 1 : 154 / 436 ، وسائل الشيعة 2 : 322 ، أبواب الحيض ، ب 25 ، ح 5.
7- في المخطوط : ( عدى ).
8- الكافي 5 : 538 / 1 ، وسائل الشيعة 2 : 321 ، أبواب الحيض ، ب 25 ، ح 1.

قال : « ما بين إليتيها ولا ينقب » (1) ) (2) ، انتهى.

وهو صريح في الإجماع على المدّعى.

ومثل هذه العبارة في دعوى الإجماع على جواز الاستمتاع بجميع جسد المنكوحة مطلقاً ، حتّى الاستمناء كثير لا يحصى ، ولو أردنا نقل عبارات الفقهاء في هذا لطال الكلام وحصل الملالة ، مع أنها [ بمرأى (3) ] من الناظر ، وإنّما أردنا التنبيه على مظانّها ، وهو المطابق لظاهر قوله تعالى : ( نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) (4) ، بل صريحها. والأخبار به مستفيضة ، بل بالغة حدّ التواتر المعنويّ ، كما يظهر لمن تتبّع أخبار موجبات الجنابة (5) ، وأخبار ما يحلّ الاستمتاع به من الحائض (6) ، وأخبار النكاح (7) ، وكلّ باب منها كثير. من ذلك صحيحة الحلبيّ : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : في الحائض ، ما يحلّ لزوجها منها؟ قال : « تتزر بإزار إلى الركبتين ، وتخرج سرّتها ، ثمّ له ما فوق الإزار » (8).

هذا المضمون في أخبار ما يحلّ [ للناكح (9) ] كثير لا نطوّل بذكرها ، منها [ ما ] في باب ما يوجب الجنابة صحيحة الحلبيّ : أو حسنته : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : عن المفخّذ عليه غسل؟ قال : « نعم إذا أنزل » (10).

وفي ( الجعفريات ) على ما نقله في ( الرواشح السماوية ) بسنده المشهور أن عليّاً عليه السلام سُئل عن الرجل يجامع امرأته أو أهله فيما دون الفرج ، فيقضى شهوته قال :

ص: 518


1- تهذيب الأحكام 1 : 155 / 443 ، وسائل الشيعة 2 : 322 ، أبواب الحيض ، ب 25 ، ح 8.
2- المدارك 1 : 351 - 352.
3- في المخطوط : ( بمرئا ).
4- البقرة : 223.
5- وسائل الشيعة 2 : 186 ، أبواب الجنابة ، ب 7.
6- وسائل الشيعة 2 : 321 ، أبواب الحيض ، ب 25.
7- وسائل الشيعة 20 : 141 - 148 ، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ، ب 72 ، ب 73.
8- تهذيب الأحكام 1 : 154 / 439 ، وسائل الشيعة 2 : 323 ، أبواب الحيض ، ب 26 ، ح 1.
9- في المخطوط : ( لناكح ).
10- الكافي 3 : 46 / 4 ، وسائل الشيعة 2 : 186 ، أبواب الجنابة ، ب 7 ، ح 1.

« عليه الغسل ، وعلى المرأة أن تغسل ذلك الموضع إذا أصابها ، فإن أنزلت من الشهوة كما أنزل الرجل فعليها الغسل » (1).

وصحيح ابن بزيغ : عن أبي الحسن عليه السلام : سألته عن الرجل يجامع المرأة فيما دون الفرج ، وتنزل المرأة ، عليها الغسل؟ قال : « نعم » (2).

التنبيه الثاني : جواز استمناء المرأة بسائر أعضاء الرجل

وخبر محمّد بن الفضيل : كما في ( التهذيب ) و ( قرب الإسناد ) عن أبي الحسن عليه السلام : سأله وقال : تلزمني المرأة والجارية من خلفي ، وأنا متّكٍ على جنبي ، فتتحرّك على ظهري ، فتأتيها الشهوة فتنزل الماء أفعليها الغسل أم لا؟ قال : « نعم إذا جاءت الشهوة وأنزلت الماء وجب عليها الغسل » (3).

ولفظ هذه الرواية في ( الكافي ) هكذا : سألت أبا الحسن عليه السلام : عن المرأة تعانق زوجها من خلفه ، فتتحرّك على ظهره فتأتيها الشهوة فتنزل الماء ، عليها غسل ، أو لا يجب عليها الغسل؟ قال : « إذا جاءتها الشهوة فأنزلت وجب عليها الغسل » (4).

وبالجملة ، فالأخبار بهذا المضمون كثيرة ، ووجه الدلالة في الخبر الأخير أنه دلّ على جواز استمناء المرأة بسائر أعضاء الرجل بلازم التقرير. فإذا ثبت جواز استمناء المرأة بسائر أعضاء الرجل جاز استمناء الرجل بسائر أعضاء المرأة بطريق أولى.

ولعلّ في جواز مباشرة الرجل لفرج المرأة بسائر أعضائه كما دلّ عليه النصّ (5) والإجماع دلالة على جواز استمنائها بسائر أعضائه للتلازم غالباً ، أو لدفع الحرج.

ص: 519


1- عنه في مستدرك وسائل الشيعة 1 : 454 ، أبواب الجنابة ، ب 4 ، ح 1.
2- الكافي 3 : 47 / 6 ، وسائل الشيعة 2 : 186 ، أبواب الجنابة ، ب 7 ، ح 3.
3- تهذيب الأحكام 1 : 120 / 320 ، قرب الإسناد : 395 / 1387.
4- الكافي 3 : 47 / 7 ، وسائل الشيعة 2 : 187 ، أبواب الجنابة ، ب 7 ، ح 4.
5- الوسائل 20 : 110 - 111 ، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ، ب 51.

ولا يحضرني من نصّ على هذه المسألة إلّا الكاشاني : في نخبته (1) فإنه صرّح بجواز استمناء المرأة بسائر أعضاء الرجل. ويمكن أن نستدلّ بظاهر الآية عليه إذا التفتنا إلى الإجماع على مساواة المرأة للرجل في ( إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ ) . فما ثبت للرجل من الاستمتاع منها ، ثبت لها منه ، واللّه العالم.

ص: 520


1- النخبة : 223.

[150] نور فقهي : مسألة ما لو أدرك [ الصبيّ ] المسافر ركعة

قال العلّامة الشيخ سليمان : في ( أزهار الرياض ) : مسألة : إذا بلغ الصبي المسافر وقد [ بقي (1) ] من الوقت قدر أربع وجب الظهران ، فإذا نوى الإقامة في تلك الساعة فهل يتعيّن العصر تامّاً وتقضى الظهر قصراً ، أو تسقط الظهر ، أو يقصرهما؟ احتمالات أضعفها الأخير ، ولعلّ الأقرب أنه يصلّي العصر تامّاً ولا يقضي الظهر لانكشاف الحال بعدم وجود غير العصر. واحتمال أن يقال بعدم جواز نيّة الإقامة ؛ لأن نيّتها تسقط فرضاً وجب عليه بعيد ، فتأمّل ) (2) ، انتهى.

أقول : هذا الفرض لا يختصّ ببلوغ الصبيّ ، بل هو جارٍ في السكران المسافر ، والحائض ، والكافر ، والمجنون المسافرين ، إذا زال العذر قبل الغروب [ بمقدار أربع (3) ] مع الطهارة. والظاهر ابتناء هذا الفرع على الخلاف المشهور في أن العبرة في القصر والتمام بحال الوجوب أو الأداء ؛ فلو وجبت وهو حاضر ، وأدّاها وهو مسافر ؛ هل يؤدّيها حينئذٍ تماماً ؛ لأنها وجبت تماماً أو قصراً لأنه حال أدائها مسافر؟ قولان مشهوران أظهرهما الثاني.

فعلى الأوّل يلزم في هذه المسألة الفرضان قصراً ؛ لأن ذمّته قد اشتغلت بهما

ص: 521


1- في المخطوط : ( بلغ ).
2- أزهار الرياض : 479 ( مخطوط ).
3- في المخطوط : ( بأربع ).

قصراً. وعلى الثاني يلزمه العصر خاصّة ؛ لأن العبرة بوقت الأداء ، فهذا لمّا أقام انكشف عدم تكليفه بها مقصورة. وكلّ له وجه. وأمّا احتمال أنه يصلّي العصر تماماً ويقضي الظهر قصراً فلم يظهر لي وجهه ، فهو إلى السقوط أقرب. وأمّا احتمال عدم جواز نيّة الإقامة حينئذٍ فسقوطه ظاهر ؛ لعدم الدليل عليه ، ومنافاته إطلاق النصّ (1) والفتوى.

نعم ، يتمشّى احتمال ثالث يجري على ما نقل عن الشيخ : في ( الخلاف ) (2) بالنسبة إلى الخارج ، وعنه (3) وعن ابن الجنيد (4) : بالنسبة إلى الداخل من القول بالتخيير إذا وجبت حضراً وأُديّت سفراً وبالعكس. ففي هذا الفرع على هذا القول يتخيّر بين إسقاط الظهر وإتمام العصر ، وبين الإتيان بالفرضين قصراً. وأمّا الدليل على المختار من أن العبرة بحال الأداء ، فأخبار كثيرة منها صحيحة ابن مسلم : عن أبي عبد اللّه عليه السلام: قلت له: الرجل يريد السفر فيخرج حين تزول الشمس. قال :« إذا خرجت فقصر »(5).

وصحيحة إسماعيل بن جابر : كما في ( التهذيب ) (6) و ( من لا يحضره الفقيه ) عن الصادق عليه السلام : قلت له : يدخل عليّ وقت الصلاة وأنا في سفر ، فلا أُصلّي حتّى أدخل أهلي ، فقال : « صلّ وأتمّ الصلاة ».

قلت فدخل عليّ وقت الصلاة وأنا في أهلي أُريد السفر فلا أُصلّي حتّى أخرج ، فقال : « صلّ وقصّر ، فإن لم تفعل فقد واللّه خالفت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ».

وصحيحة العيص : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : عن الرجل يدخل عليه وقت الصلاة في السفر ثمّ يدخل بيته قبل أن يصلّيها فقال : « يصليها أربعاً ».

وقال : « لا يزال يقصّر حتّى يدخل بيته » (7).

وصحيحة ابن مسلم : عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يقدم من الغيبة فيدخل عليه

ص: 522


1- وسائل الشيعة 8 : 511 - 512 ، أبواب صلاة المسافر ، ب 20.
2- الخلاف 1 : 576 / المسألة : 332.
3- عنه في المدارك 4 : 479.
4- عنه في المدارك 4 : 479.
5- تهذيب الأحكام 3: 424 - 225 / 566 ، وسائل الشيعة 8 : 512، أبواب صلاة المسافر، ب 21 ، ح 1.
6- تهذيب الأحكام 3 : 222 - 223 / 588 ، وسائل الشيعة 8 : 512 - 513 ، أبواب صلاة المسافر ، ب 21 ، ح 2.
7- تهذيب الأحكام 3 : 162 / 352 ، وسائل الشيعة 8 : 513 ، أبواب صلاة المسافر ، ب 21 ، ح 4.

وقت الصلاة ، فقال : « إن كان لا يخاف أن يخرج الوقت فليدخل وليتمّ ، وإن كان يخاف أن يخرج الوقت قبل أن يدخل فليصلّ وليقصر » (1).

وصحيحة زرارة : كما في ( شرح المفاتيح ) (2) للشيخ حسين : نقلاً من مستطرفات ( السرائر ) (3) عن أحدهما عليهما السلام أنه قال في رجل مسافر نسي الظهر والعصر في السفر حتّى دخل أهله قال : « يصلّي أربع ركعات » (4).

وغير ذلك من الأخبار ، وعليها عمل مشهور العصابة.

قلت : في دلالة خبر ( السرائر ) على المطلوب نظر لا يخفى وإن أمكن الاستدلال به في الجملة ، فإنه إذا ظهر الاحتمال سقط الاستدلال.

وأمّا مثل موثقة منصور بن حازم : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام : يقول : « إذا كان الرجل في السفر فدخل عليه وقت الصلاة قبل أن يدخل أهله فإن شاء قصر ، وإن شاء أتمّ ، والإتمام أحبّ اليّ » (5) ومعناها : إن شاء صلّى وهو مسافر [ فيُقصّر (6) ] وإن شاء صبر إلى أن يدخل أهله [ فيتمّ (7) ] ، والإتمام أفضل ؛ لأنه أشقّ وأكثر ركوعاً وسجوداً وذكراً لله ؛ فهو أفضل الفردين الكاملين فليس فيها دلالة على التخيير بعد دخوله أهله.

ومثلها معتبرة إسحاق بن عمار : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام : يقول في الرجل يقدم من سفره في وقت الصلاة ، فقال : « إن كان لا يخاف فوت الوقت فليتمّ ، وإن كان يخاف خروج الوقت فليقصر »(8).

ص: 523


1- تهذيب الأحكام 3 : 164 / 354 ، وسائل الشيعة 8 : 515 ، أبواب صلاة المسافر ، ب 21 ، ح 8.
2- الأنوار اللوامع 2 : 32.
3- السرائر ( المستطرفات ) 3 : 568.
4- وسائل الشيعة 8 : 516 ، أبواب صلاة المسافر ، ب 21 ، ح 13.
5- تهذيب الأحكام 3 : 223 / 561 ، وسائل الشيعة 8 : 515 ، أبواب صلاة المسافر ، ب 21 ، ح 9.
6- في المخطوط : ( فقصّر ).
7- في المخطوط : ( فأتم ).
8- الفقيه 1 : 284 / 290 ، وفيه : ( في كتاب الحكم بن مسكين قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام ) ، تهذيب الأحكام 3 : 223 / 559 ، وفيه : ( عن إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه السلام ) ، و 3 : 223 / 560 ، وفيه : ( عن الحكم بن مسكين عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السلام ) ، وسائل الشيعة 8 : 514 ، أبواب صلاة المسافر ، ب 21 ، ح 6 ، وفيه سند ، ح 559 من ( التهذيب ).

فإن معناها : أنه إن خاف أن يخرج الوقت قبل أن يدخل أهله فليصلّ قصراً في السفر وإن لم يخف فليصبر إلى أن يدخل أهله ويتمّ ، فإنه أفضل الفردين ؛ من الصلاة في أوّل وقتها قصراً ، والصلاة تماماً مع التأخير عن أوّل الوقت.

وهل المراد : وقت الفضيلة أو الأجزاء؟ وجهان : أظهرهما الأوّل. فدلالة هذين الخبرين على المشهور أظهر إن لم نقل بتعيّنها ، وليس فيهما دلالة على القول بالفرق بين سعة الوقت وضيقه. ومثل هذين الخبرين خبر الحكم بن مسكين (1) :

ويدلّ على ذلك أيضاً صحيح محمّد بن مسلم : عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يقدم من الغيبة فيدخل عليه وقت الصلاة ، فقال إن كان لا يخاف أن يخرج الوقت فليدخل وليتمّ ، وإن كان يخاف أن يخرج الوقت قبل أن يدخل فليصل وليقصر (2).

وعلى هذا لا يظهر دليلُ القول بالتخيير كما عن الشيخ : في ( الخلاف ) (3) ولا دليلُ القول بالتفصيل بين الضيق والسعة ، كما عن الشيخ : في ( النهاية ) (4) وموضع من ( المبسوط ) (5) ، وظاهر الصّدوق : في ( من لا يحضره الفقيه ) (6).

واستُدلّ للقول بأن العبرة بحال الوجوب بصحيحة محمّد بن مسلم : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : عن رجل يدخل من سفره ، وقد دخل وقت الصلاة وهو في الطريق قال : « يصلّي ركعتين ، وإن خرج إلى سفر وقد دخل وقت الصلاة ، فليصلّ أربعاً » (7).

وخبر بشير النبّال : قال : خرجت مع أبي عبد اللّه عليه السلام : فقال : « يا نبّال ، لم يجب على أحد من هذا العسكر أن يصلّي أربعاً غيري وغيرك ، وذلك أنه دخل وقت الصلاة قبل أن نخرج » (8).

ص: 524


1- الفقيه 1 : 284 / 1290 ، تهذيب الأحكام 3 : 223 / 560 ، الإستبصار 1 : 241 / 858 ، وسائل الشيعة 8 : 514 ، أبواب صلاة المسافر ، ب 21 ، ح 7.
2- تهذيب الأحكام 3 : 164 / 354 ، وسائل الشيعة 8 : 515 ، أبواب صلاة المسافر ، ب 21 ، ح 8.
3- الخلاف 1 : 577 / المسألة : 332.
4- النهاية : 123.
5- المبسوط : 1 : 141.
6- الفقيه 1 : 284 / ذيل الحديث : 1289.
7- الفقيه 1 : 284 / 1289.
8- تهذيب الأحكام 3 : 224 / 563 ، وسائل الشيعة 8 : 515 ، أبواب صلاة المسافر، ب 21 ، ح 10.

وصحيحة زرارة : عن أحدهما عليهما السلام أنه قال لمن نسي صلاة الظهر أو العصر وهو مقيم حتّى يخرج قال : « يصلّي أربع ركعات في سفره » (1).

والجواب أن الخبر الأوّل لا يأبى الحمل على حال الفوات ، وأمّا صحيحة زرارة : فظاهرة في إرادة نسيانها حتّى خرج الوقت ، وفرض هذا أن يقضي كما فاتته. وخبر النبّال : ضعيف. والكلّ لا يأبى الحمل على التقيّة.

على أن هذه الأخبار لا تعارض ما ذكر من أدلّة المشهور ، مع أن العمل بها عمل بجميع أخبار الباب ؛ لما سمعت من إمكان حمل هذه الأخبار على ما لا ينافي دليل المشهور ، بخلاف العكس ، واللّه العالم.

واعلم أن للمحقّق الثاني : في ( شرح الشرائع ) و ( شرح الإرشاد ) و ( الجعفريّة ) (2) قولاً بالفرق بين من وجبت عليه وهو حاضر ثمّ سافر وبلغ حدّ الترخص قبل أن يصلي وبين من وجبت عليه وهو مسافر ، فأخّر حتّى دخل بلده ، فإنه يصلي قصراً في [ الثاني (3) ] وتماماً في [ الأوّل (4) ] ولو لم يدرك من الوقت إلّا ركعة ، وهو ضعيف ؛ لندرته وعدم وضوح مأخذه ، وهو أعلم بما قال ، واللّه أعلم بأحكامه.

ص: 525


1- السرائر ( المستطرفات ) 3 : 568 ، وسائل الشيعة 8 : 516 ، أبواب صلاة المسافر ، ب 21 ، ح 14.
2- الرسالة الجعفريّة ( ضمن رسائل المحقق الكركي ) 1 : 124.
3- في المخطوط : ( الأوّل ) ، و ( الثاني ) ، وما أثبتناه هو الظاهر ؛ لأنه المخالف للمشهور القائلين بأن العبرة في وقت الأداء لا في وقت الوجوب. وعليه فإن العبارة وفق ترتيب المخطوط تكون موافقة للمشهور لا مخالفة له ؛ فلا ضعف ولا ندرة.
4- في المخطوط : ( الأوّل ) ، و ( الثاني ) ، وما أثبتناه هو الظاهر ؛ لأنه المخالف للمشهور القائلين بأن العبرة في وقت الأداء لا في وقت الوجوب. وعليه فإن العبارة وفق ترتيب المخطوط تكون موافقة للمشهور لا مخالفة له ؛ فلا ضعف ولا ندرة.

ص: 526

[151] بيان فيه إحسان : في عدّة الأجلين

قال في ( كشف اللثام ) بعد قول العلّامة : في عدّة الحامل من الطلاق : ( وتنقضي العدة من الطلاق والفسخ ) (1) قال الشارح - : ( ووطء الشبهة بوضع الحمل من الحامل وإن كان بعد الطلاق بلحظة بالنّص من الكتاب والسنّة والإجماع ، ولا اعتداد لها بالأقراء والأشهُرِ في الأشهر ، للنصوص خلافاً للصدوق (2) : وابن حمزة (3) : فقالا : إنها تعتد بالأقرب من الأشهر والوضع ، إلّا إنها لا تحلّ للأزواج ما لم تضع ، وإن بانت بمضيّ الأشهر ؛ لقول الصادق : صلوات اللّه عليه في خبر أبي الصباح الكنانيّ : « طلاق الحامل واحدة ، وعدّتها أقرب الأجلين » (4).

وهو من الضعف والمعارضة بالنصوص الكثيرة من الكتاب والسنّة [ ما ] تحتمل [ معه ] إرادة الوضع بأقرب الأجلين على أن يكون الأجلان هما : الوضع والأقراء ؛ لكون الأقراء أصلاً بالنسبة إلى الأشهر. ويؤيّده قوله صلوات اللّه عليه في صحيحة أبي بصير : « طلاق الحامل واحدة ، وأجلها أن تضع حملها ، وهو أقرب الأجلين » (5).

ص: 527


1- قواعد الأحكام 2 : 69 ( حجري ).
2- المقنع : 346.
3- الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 325.
4- الكافي 6 : 81 / 2 ، تهذيب الأحكام 8 : 70 / 232 ، الإستبصار 3 : 298 / 1054 ، وسائل الشيعة 22 : 194 ، أبواب العُدد ، ب 9 ، ح 3.
5- الكافي 6 : 82 / 6 ، وسائل الشيعة 22 : 193 ، أبواب العُدد ، ب 9 ، ح 2 ، وفيهما : « الحبلى » بدل « الحامل ».

ونحوه في حسن الحلبي (1) ) (2) ، انتهى.

أقول : معنى كون وضع الحمل أقرب الأجلين : أن الأصل في عدّة المطلقة الأقراء ؛ فلمّا فارقت المطلّقة الحبلى هذا الأصل وانتقل حكمها إلى الاعتداد بالوضع ، كان الاعتداد به أقرب من الأصل ؛ للزومه لها ومفارقتها للأصل ؛ فكان الأصل بعيداً ، وما انتقلت إليه قريباً.

ثمّ إني بعد هذا ، وقفت على كلام للآقا جمال في ( حاشية الروضة ) في توجيه هذه الرواية قال رحمه اللّه : ( الأولى في توجيه الرواية أن يقال : المراد بأقرب الأجلين هو أقل الأمرين من مضيّ ثلاثة قروء من حين الطلاق ، ومن وضع الحمل. ومصداق هذا العامّ منحصر في وضع الحمل بناءً على أن الحامل لا تحيض ، فيتمّ قرؤها الأوّل من حين الطلاق إلى نفاسها بالولادة ، ويكون تمام ثلاثة قروءٍ فيها برؤية حيضتين بعد الولادة ، فلا تتمّ لها ثلاثة قروء إلّا بعد وضع الحمل ؛ فينحصر أقرب الأجلين من وضع الحمل ، ومضي ثلاثة قروء في الأوّل ) ، انتهى.

وهو وجه محتمل ، لكن تنبيه على الغالب من أن الحبلى لا تحيض ، والتكليف يدور على حال الغالب من أحوال المكلّفين ، أمّا حمله على القول بعدم إمكان حيضها فهو يضعفه ، لشذوذ القائل به ؛ واللّه العالم.

وليكن هذا آخر الجزء الأوّل من كتاب ( نزهة الألباب ونزل الأحباب ) في آخر نهار الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام من سنة (1241) ه- ، وصلى اللّه على محمّد : وآله الطيبين ، والحمد لله ربّ العالمين ، على يد مؤلّفه القاصر المقصّر أحمد بن صالح بن سالم بن طوق : وقد وفدت به على باب اللّه الأعظم : فإن قبله فهو أهل الرحمة ، وأن ردّه فبجرائم مؤلّفه ، غفر اللّه له ولوالديه ولجميع المؤمنين والمؤمنات.

ص: 528


1- الكافي 6 : 82 / 8 ، وسائل الشيعة 22 : 195 ، أبواب العُدد ، ب 9 ، ح 6 ، وفيه ما في سابقه.
2- كشف اللثام 2 : 137 ( حجري ).

وقد وقع الفراغ من نسخ هذا الكتاب الأكمل ، على يد الأحقر الأذلّ أقلّ عباد اللّه زاداً وأكثرهم رقاداً الراجي العفو من ربه الكريم المجيد ، محمّد علي بن إبراهيم بن عبد اللّه بن سعيد : غفر اللّه له ولوالديه ولجميع المؤمنين والمؤمنات ضحى يوم السبت الثامن من شهر شوال سنة (1250) الخمسين والمائتين والألف من الهجرة النبويّة على مهاجرها أفضل السلام وأشرف التحيّة ، برحمتك يا أرحم الراحمين ، والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 529

ص: 530

فهرست الموضوعات

[1] مسألة في حقيقة النفس الإنسانيّة... 11

[2] كشف حال وبيان إجمال ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ ... ) ... 13

[3] جمع وتنبيه ( ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) ... 15

[4] إنارة وهم وإفادة فهم : وحدانيّة العدد... 17

[5] فوائد نحويّة وثمار محويّة... 19

هل يشترط في الكلام النحوي إفادة المخاطب؟... 19

فائدة : هل دلالة الكلام وضعيّة أم عقليّة؟... 19

فائدة : هل في الممنوع من الصرف تنوين مقدّر؟... 20

فائدة : في اسمي الفعل والصوت... 20

[6] دفع إشكال وبيان... 21

[7] كشف حال وبيان إجمال ومبارزة مع أبطال : عبارة النظّام... 23

[8] زبرجدة خضراء : برهان العصمة... 25

[9] فيروزجة بهيّة ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ) ... 27

[10] كشف حال وإبطال مقال : الوجود العام... 29

[11] دفع وهم وبيان فهم معنى الأيام السعيدة من الشهر... 31

[12] كشف حال وبيان... 33

إعضال : نوم النبي صلى اللّه عليه وآله : عن الصلاة... 33

[13] جواب سؤال ودفع إشكال نسبة المعصية لآدم عليه السلام والبدن... 35

نسبة المعصية للبدن... 36

[14] كشف غمة ودفع ملمة ( ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ) ... 37

ص: 531

[15] نكته لطيفة تعدد المعاذيّة في سورة الناس... 39

[16] جواب سؤال وبيان حال انقسام العلم إلى تصوّر وتصديق... 41

[17] تأويل آية وكشف رواية : موسى : والخضر عليهما السلام... 45

[18] كنز مذخور وبيان مشهور اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وسلم... 47

تنبيه... 51

[19] بيان إجمال وكشف مقال : اللّه المنّان بالإحسان... 53

[20] كشف حال وبيان مقال : « يا قَيّوم فلا يفوت شيئاً علمه »... 57

[21] كشف فيه لطف نسخ ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ ) ... 61

[22] كشف بيان وإسرار وإعلان الوجه في عدّ الولاية من أركان الإسلام... 63

[23] دفع وهم وإبانة فهم العرش سقف الجنة ومنزل أهل البيت في الجنّة... 65

[24] إزاحة وهم : مرتبة أزواج النبيّ صلى اللّه عليه وآله في الجنّة... 67

[25] إنارة ظلمة وسدّ ثلمة : التحريم بعد التحليل... 69

[26] جمع لفرقة... 71

[27] تنفيس نفيس : ( فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ ) ... 73

[28] بيان إجمال وتحقيق مقال : لم يُبعث نبيّ إلّا بعد الأربعين... 75

[29] هداية لمشورة : « شاوروهنّ وخالفوهن »... 77

[30] قسمة عادلة : الزلزلة نصف القرآن والإخلاص ثلثه والجحد ربعه... 79

[31] إنارة بهمة وإسفار ظلمة قول أمير المؤمنين عليه السلام : « يا جبرئيل »... 81

[32] حكمة منطقيّة زيادة لفظة ( إنما ) في الحمليات... 83

[33] عقد درر : أحاديث مسجد السهلة... 89

[34] سرّ يَمَاني لنفي أمانٍ : حديث الملكين العادل والجائر... 93

بيان... 98

[35] إظهار كمال وتحقيق حال : تفضيل كربلاء على الكعبة... 99

[36] بيان شؤون وإظهار مكنون في ليلة نصف شعبان تقسم الأرزاق... 101

ص: 532

[37] إيقاظ وتنبيه لا تبقى الأرض بلا عالم حيّ ظاهر... 107

[38] جمع وكشف : لا تنقطع الحجّة من الأرض إلّا أربعين يوماً... 111

[39] جوهرة سنيّة لا تخلو الأرض من عالم حيّ ظاهر... 113

[40] بيان حكم وإظهار كتم كبّر شيث على آدم خمساً وعشرين مرّة... 115

[41] دفع إشكال وبيان إهمال : تكليف الكافر بالفروع... 117

[42] بيان حكم ودفع وهم : عدم قبول توبة المرتدّ... 121

[43] بشارة وإنذار من كان من ولد آدم عليه السلام : آمن... 123

[44] إيضاح وبيان... 125

[45] إيماض فيه إيقاظ : مسألة عرض الأعمال في النصف من الشعبان... 127

[46] إيقاظ وتنبيه في ( تَسْنِيمٍ ) لآل محمّد صرف ولغيرهم ممزوج... 129

[47] تأييد وتسديد ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا ) ... 131

[48] إيقاظ وتنبيه ( فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ) ... 133

[49] دفع إشكال وإيضاح مقال : « لا تكون الدنيا إلّا وفيها إمامان »... 135

[50] دلالة على كنز : الليل والنهار « اثنتا عشرة ساعة »... 137

رجب شهر عليّ عليه السلام... 140

[51] كشف شبهة وجمع... 143

عدم تكليف الكافر بالفروع قبل الأُصول... 143

[52] ضياء شمسي ونور قمري ( جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ) ... 147

[53] شعب صدع وبيان ردع ضرب المثل بالبعوضة والذباب... 151

[54] حكمة إسرائيليّة مصطفويّة إسرائيل أحمد وبنو إسرائيل آل محمَّد... 155

[55] فائدة هنيّة : الحيطان لها آذان... 157

[56] بيان نعمة فيها دفع نقمة لا يولد في الليلة التي يولد فيها الإمام إلّا مؤمن... 159

[57] حكمة كليميّة ونكتة انجيليّة : التوراة والإنجيل هي الولاية... 161

[58] عقد درر وبيان خبر بيان [ أن ] الروح روح القدس... 163

[59] احتمال سرّ لكشف ضرّ : حديثهم عليهم السلام صعب مستصعب... 167

ص: 533

[60] تكميل جمع : الروح القدس عامّة وخاصّة... 173

[61] فائدة فاطميّة : مصحف فاطمة عليها السلام... 179

[62] نعمة جزيلة ومنّة جميلة ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) ... 181

[63] جوهرة ثمينة وحجّة أمينة : لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن... 183

[64] ذكر وترك : انسيَ الطعام المسموم... 189

[65] طلب كنز وبيان عِزّ « لا يحتمل حديثهم ملك » إلى آخره... 191

[66] دفع إشكال لداء عضال « لا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء »... 193

[67] إغاثة لهفان وتعريف عرفان : « أراهم نفسه »... 197

[68] تمليح وتلميح الاسم في البسملة وفي الحمد... 201

[69] كشف وإنارة : الليل قبل النهار والنهار قبل الليل... 203

[70] نزل كريم وفضل من اللّه عميم : « زيادة كبد الحوت »... 207

[71] نور قرآني وخطاب بياني : تواتر القراءات السبع... 209

[72] نور فرقاني وضياء بياني ( فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً ) ... 215

[73] فصّ يماني ونور برهاني : برهان العصمة... 217

[74] تعشير وتخميس فيه تزكية وتقديس : الفرق بين الزكاة والخمس... 219

[75] جمع ودفع : خمسة أشياء تفرّد بعلمها الباري تعالى... 221

[76] جمع وبيان ( إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ) ... 225

[77] نور فقهي وبيان جلي في تحريم إدخال ما ليس من جسد الناكح في فرج المنكوحة 229

تنبيه: يستفاد من هذين الخبرين جواز استمتاع الزوجة وتلذّذها واستمنائها... 230

[78] فواكه لذيذة ونور طورسيني ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) ... 231

[79] ثمرة يمانيّة ورزق حسن ( كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً ... ) ... 235

[80] أجل حقّ ووعد صدق ( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ ) ... 239

[81] حكمة يمانية : الفرق بين الدعاء والأمر... 245

[82] شهاب ثاقب لرجم شيطان كاذب : شبهة لبعض الحشويّة في الإمامة... 247

ص: 534

[83] هداية نوريّة في مسألة فقهيّة فيما لو قطع المصلّي بعد القيام بأنّه ترك سجدة... 261

مسائل الشيخ عبد اللّه ابن الشيخ عباس الستراوي... 263

[84] درر بحرانية... 265

الأُولى : هل تحريم الكلام في الصلاة من حين فرضها أم كان محلّلاً فنسخ؟... 265

الثانية : هل يجب على الكافر الجنب الغسل بعد إسلامه أم لا؟... 266

الثالثة : طلاق من تضع ولم ترَ دماء... 267

الرابعة: هل يحرم على الحائض بعد تمام حيضها دخول المسجد قبل الغسل؟... 268

الخامسة : معنى : « لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام »... 269

السادسة : معنى عزل المرأة لماء الرجل... 272

السابعة : ما الدليل على نقض المس للطهارة؟... 273

[85] مسألة الشيخ محمّد الفرساني في النكتة في تقديم ( لَمْ يَلِدْ ) على ( لَمْ يُولَدْ ) 275

[86] مسألة السيّد حسين الكويكبي كواكب درّيّة : الرياء قنطرة الإخلاص... 279

[87] مسألة : الدنيا طالبة مطلوبة... 281

[88] مسألة : أبى اللّه أن يجعل رزق المؤمن إلّا من حيث لا يحتسب... 283

[89] جمع تفريق وبيان تحقيق : نزل القرآن أوّل ليلة من شهر رمضان... 285

[90] تحفة بيانيّة : « جعل السماوات عماداً لكرسيّه »... 287

[91] زبرجدة يمانيّة... 289

[92] في بيان بعض أسرار الصلاة... 291

[93] أذاقه رحمة وإنارة ظلمة ( وَإِذا أَذَقْنَا النّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُمْ ) ... 299

[94] حكمة يمانية في لطيفة ربانية : الرسول يعاين والإمام لا يعاين... 303

[95] سرّ خفّي ووعد وفيّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر... 305

[96]نور شرقي في حديث مدني في«ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة»... 309

[97] هداية وبيان وإسرار وإعلان نسخ ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) ... 311

[98] هداية ربانيّة : الكلام في كراهية الإدغام الكبير في الصلاة... 313

ص: 535

[99] حكمة يمانيّة : « عليك بالحسنة بين السيّئتين »... 317

[100] نور مقدسي : وسط الدنيا بيت المقدس... 319

[101] حكمة عرشيّة العرش محيط بالكرسي وبالعكس... 321

[102] تنزيه تقديسي... 327

[103] سرّ عرشي : من زار الحسين عليه السلام « كمن زار اللّه في عرشه »... 329

[104] صمت عقلي ونطق برهاني : محمّد الناطق وعليّ الصامت... 333

[105] نور نفسي وبيان قدسي ( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) ... 335

[106] هداية بعد لبس وإطلاق من حبس ( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) ... 339

[107] كشف سرّ : لا يكون إمام إلّا وله عقب إلّا الحجّة عليه السلام... 341

[108] نور فقهي : طلاق أُمّ فروة بعد موت الكاظم عليه السلام... 343

[109] نور مشرقي : تلازم ليلة القدر مع القرآن... 347

[110] بيان حال وكشف إجمال : بعد الدنيا دار ليست كالدنيا... 351

[111] كشف حال وبيان مقال : أُنزلت سبح فنسيها... 353

[112] نور فقهي وميزان قسطي : لو جامع زوجته ثمّ يئست... 355

[113] كوكب درّي : « نحن صُبّر وشيعتنا أصبر منّا »... 357

[114] بهجة حوريّة ولذّة نوريّة : معنى الثيبوبة... 361

[115] كشف التباس وتأسيس أساس : بيان أوّل وقت نافلة الليل... 363

[116] ماء معين ودرّ ثمين ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً ) ... 373

[117] لطائف فقهيّة وبراهين جليّة وحلّ إشكال ودفع إعضال في مسألة الاستظهار... 375

[118] لطيفة فقهيّة : الأصل في الشهر التمام... 379

[119] لطيفةٌ فقهيّة : الإقلال بالقيام من حقيقته أم واجب فيه... 383

[120] لطيفة فقهيّة : هل يجوز فعل مستحبّات قيام الركعة من جلوس اختياراً أم لا؟ 387

[121] كلمة جامعة وحكمة لامعة : « عند الامتحان يكرم المرء أو يهان »... 391

[122] حكمة يمانيّة في خاصّة إنسانيّة : الإنسان ناطق... 393

ص: 536

[123] جمع شتات في حكم من أحكام الأموات : مسألة نقل الأموات... 395

[124] كشف التباس ونفي بأس : معنى التفضيل... 397

[125] إظهار نور وماء طهور : الماء المصعّد من الماء... 403

[126] نور فقهيّ وبيان جليّ هل تعود ولاية الأب على الراشد بعد ذهاب عقله... 405

فرع : مسألة ولاية جد الأب لأُمة... 409

[127] نور فقهيّ وبيان جليّ هل للحاكم ولاية تزويج الصغيرين أم لا؟... 411

[128] جمعُ بيان : مسألة استقرار النطفة في الرحم : كم يوماً... 415

[ 129 ] خبر طريف وسرّ منيف مسجد الكوفة أفضل من البيت المعمور... 421

[130] حكمةٌ قدسيّة وكلمة إنسيّة : كراهية الدعاء للدنيا في الصلاة... 423

[131] بيان إجمال ورزق حلال ( معنيان للرزق الحلال )... 425

[132] كشف وبيان : وجه تقييد الطاعة بالمفترضة في قول الجواد عليه السلام... 427

[133] حكمة يمانية وجوهرة سنيّة حديثٌ في ظاهره أن شوّال من الأشهر الحرم... 433

[134] كنز ثمين في حصن حصين : حديث الثقلين... 435

خاتمة... 442

[135] تنزيه فيه توحيد وتحميد : « الأوّل بلا أوّل كان قبله »... 445

[136] شهاب ثاقب لرجم شيطان كاذب استدلال الكتابي بالاستصحاب على بقاء نبوّة موسى وعيسى عليهما وعلى نبيّنا وآله : وعليهما السلام... 447

[137] إخراج كنز : « وهي لنا خاصّة »... 457

[138] هداية رحمن لكسر قلب شيطان : الشمس تغرب بين قرني شيطان... 459

[139] لؤلؤة فقهية : الوصيّة إلى المملوك... 461

[140] رفع وهم وبيان فيه رجم شيطان : هل يمكن أن يوجد أفضل من محمّد صلى اللّه عليه وآله : أم لا؟     463

[141] بيان نفسيّ لحديث قدسيّ : حديث « كنت سمعه وبصره »... 467

[142] فصّ يمانيّ في فحص فقهيّ فيما لو ترك سجدة أو تشهداً وشكّ في تعيينه... 469

[143] جمع مفترقين ونكاح جنسين : جواز نكاح الجنّ... 473

ص: 537

[144] تحقيق حال وإظهار كمال : مسألة التوأمين أيهما أكبر؟... 477

[145] دفع إشكال وبيان حال مسألة لعن الكافر والدعاء عليه... 483

[146] كشف حال وبيان مقال : عبارة القاضي في ( إِلّا مَنْ ظَلَمَ ) ... 491

[147] دفع إشكال وبيان حال : « هذه يداي وعيناي »... 497

[148] هداية بيانية لتبصرة فقهية : الهويّ والنهوض ليسا من الصلاة... 499

[149] كشف التباس وبنيان أساس : مسألة تحليل الشريك حصّته من الأمة... 503

تنبيه في جواز الاستمناء بغير الفرج من أعضاء المنكوحة... 516

جواز استمناء المرأة بسائر أعضاء الرجل... 519

[150] نور فقهي : مسألة ما لو أدرك [ الصبيّ ] المسافر ركعة... 521

[151] بيان فيه إحسان : في عدّة الأجلين... 527

فهرست الموضوعات... 531

ص: 538

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.